موسوعة الشهيد الثاني المجلد 20

هوية الکتاب

موسوعة الشهید الثاني

الجزء العشرون

مَسَالِكُ الأفهام

إلى تنقيح شرائع الإسلام /4

المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية

مركز إحياء التراث الإسلامي

المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلاميّة

موسوعة الشهيد الثاني

الجزء العشرون (مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام / 4)

الناشر:المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلاميّة

الإعداد والتحقيق:مركز إحياء التراث الإسلامي

الطباعة:مطبعة نگارش

الطبعة الأولى:1434 ق / 2013م

الكمّيّة:1000 نسخة

العنوان:143:التسلسل: 263

حقوق الطبع محفوظة للناشر

العنوان:قم، شارع الشهداء (صفائية)، زقاق آمار، الرقم 42

التلفون والفاكس:7832833. التوزيع:قم 7832834:طهران 66951534

ص. ب:37185/3858،الرمز البريدي: 16439 - 37156

وب سایت: .www.pub.isca.ac.ir البريد الالكتروني: nashr@isca.ac.ir

شهید ثانی زین الدین بن علی. 911 - 965ق.

موسوعة الشهيد الثاني / الإعداد والتحقيق مركز إحياء التراث الإسلامي، المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلاميّة، 1434ق= 2013م.

978-600-5570-74-8 ISBN. (دوره)

(Y). ISBN 978-600-5570-95-3

30 ج.

فهرست نویسی بر اساس اطلاعات فیپا

کتابنامه.

مندرجات: ج . 17 - 28. مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام.-

1. اسلام - مجموعه ها. 2. محقق حلی، جعفر بن حسن، 602 - 676 ق. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام - نقد و تفسير. 3. فقه جعفری - قرن 7ق. 4. محقق حلى، جعفر بن حسن، 602 - 676 ق. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام. شرح،الف، پژوهشگاه علوم و فرهنگ اسلامی مرکز احیای آثار اسلامی، ب، عنوان.

297/08

8م/ 92ش/6/BP4

المحرر: بسم الله قرباني

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

موسوعة الشهيد الثاني

الجزء العشرون

مسالك الأفهام

إلى تنقيح

شرائع الإسلام / 4

المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية

مركز إحياء التراث الإسلامي

ص: 3

المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلاميّة

موسوعة الشهيد الثاني

الجزء العشرون (مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام / 4)

الناشر:المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلاميّة

الإعداد والتحقيق:مركز إحياء التراث الإسلامي

الطباعة:مطبعة نگارش

الطبعة الأولى:1434 ق / 2013م

الكمّيّة:1000 نسخة

العنوان:143:التسلسل: 263

حقوق الطبع محفوظة للناشر

العنوان:قم، شارع الشهداء (صفائية)، زقاق آمار، الرقم 42

التلفون والفاكس:7832833. التوزيع:قم 7832834:طهران 66951534

ص. ب:37185/3858،الرمز البريدي: 16439 - 37156

وب سایت: .www.pub.isca.ac.ir البريد الالكتروني: nashr@isca.ac.ir

شهید ثانی زین الدین بن علی. 911 - 965ق.

موسوعة الشهيد الثاني / الإعداد والتحقيق مركز إحياء التراث الإسلامي، المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلاميّة، 1434ق= 2013م.

978-600-5570-74-8 ISBN. (دوره)

(Y). ISBN 978-600-5570-95-3

30 ج.

فهرست نویسی بر اساس اطلاعات فیپا

کتابنامه.

مندرجات: ج . 17 - 28. مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام.-

1. اسلام - مجموعه ها. 2. محقق حلی، جعفر بن حسن، 602 - 676 ق. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام - نقد و تفسير. 3. فقه جعفری - قرن 7ق. 4. محقق حلى، جعفر بن حسن، 602 - 676 ق. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام. شرح،الف، پژوهشگاه علوم و فرهنگ اسلامی مرکز احیای آثار اسلامی، ب، عنوان.

297/08

8م/ 92ش/6/BP4

ص: 4

دلیل موسوعة الشهيد الثاني

المدخل= الشهيد الثاني حياته وآثاره

الجزء الأوّل = (1) منية المريد

الجزء الثاني = (2 - 6) الرسائل /1 : 2. كشف الريبة : 3. التنبيهات العليّة؛ 4. مسكّن الفؤاد؛ 5. البداية؛ 6. الرعاية لحال البداية في علم الدراية.

الجزء الثالث = (30- 7) الرسائل/ 2 : 7. تخفيف العباد في بيان أحوال الاجتهاد؛ 8. تقليد الميّت؛ 9. العدالة؛ 10. ماء البئر؛ 11. تيقّن الطهارة والحدث والشكّ في السابق منهما؛ 12. الحدث الأصغر أثناء غسل الجنابة؛ 13. النيّة؛ 14. صلاة الجمعة؛ 15. الحثّ على صلاة الجمعة؛ 16. خصائص يوم الجمعة؛ 17. نتائج الأفكار في بيان حكم المقيمين في الأسفار ؛ 18. أقلّ ما يجب معرفته من أحكام الحجّ والعمرة؛ 19. نيّات الحجّ والعمرة؛ 20. مناسك الحجّ والعمرة؛ 21. طلاق الغائب؛ 22. ميراث الزوجة؛ 23. الحبوة؛ 24. أجوبة مسائل شكر بن حمدان؛ 25. أجوبة مسائل السيّد ابن طرّاد الحسيني؛ 26. أجوبة مسائل زين الدين بن إدريس؛ 27. أجوبة مسائل الشيخ حسين بن زمعة المدني؛ 28. أجوبة مسائل الشيخ أحمد المازحي؛ 29. أجوبة مسائل السيّد شرف الدين السمّاكي؛ 30. أجوبة المسائل النجفيّة.

الجزء الرابع = (31 -43) الرسائل /3 : 31. تفسير آية البسْمَلَة؛ 32. الإسطنبوليّة في الواجبات العينيّة : 33. الاقتصاد والإرشاد إلى طريق الاجتهاد؛ 34 وصيّةٌ نافعة؛ 35. شرح حديث «الدنيا مزرعة الآخرة»؛ 36. تحقيق الإجماع في زمن الغَيْبَة؛ 37. مخالفة الشيخ الطوسي (رحمه الله) لإجماعات نفسه؛38. ترجمة الشهيد بقلمه الشريف؛ 39. حاشية «خلاصة الأقوال»: 40. حاشية «رجال ابن داود»؛ 41. الإجازات؛ 42. الإنهاءات والبلاغات؛ 43. الفوائد.

ص: 5

الجزء الخامس = (44) تمهيد القواعد

الجزء السادس - الجزء التاسع = (45) الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقية

الجزء العاشر والجزء الحادي عشر = (46) روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان

الجزء الثاني عشر = (47- 49) المقاصد العليّة وحاشيتا الألفية

الجزء الثالث عشر = (50) الفوائد المليّة لشرح الرسالة النفليّة

الجزء الرابع عشر = (51 و 52) حاشية شرائع الإسلام وحاشية المختصر النافع

الجزء الخامس عشر = (53) حاشية القواعد (فوائد القواعد)

الجزء السادس عشر = (54) حاشية إرشاد الأذهان

الجزء السابع عشر - الجزء الثامن والعشرون = (55) مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام

الجزء التاسع والعشرون = الفهارس

ص: 6

فهرس الموضوعات

كتاب الضمان

حقيقة الضمان...13

أقسام الضمان...14

القسم الأوّل في ضمان المال...14

البحث الأوّل في الضامن...15

ضمان المملوك...15

جواز الضمان المؤجّل...26

البحث الثاني في الحقّ المضمون...32

ضمان ثمن المبيع...32

ضمان مال الجعالة والسبق والرماية...33

ضمان مال الكتابة...36

ضمان نفقة الزوجة...36

ضمان الأعيان المضمونة...37

ضمان الأمانات...37

جواز ترامي الضمان متعدّداً...38

صحة ضمان المجهول...39

ص: 7

البحث الثالث في اللواحق (أحكام ضمان المال)...42

القسم الثاني في الحوالة...54

الكلام في العقد...54

شروط الحوالة...55

شروط المال في الحوالة...60

أحكام الحوالة، وفيه مسائل:...64

القسم الثالث في الكفالة...77

ما يعتبر في صحّة الكفالة...77

ويلحق بهذا الباب مسائل:...89

كتاب الصلح

بيان ماهيّة الصلح...99

في شرائط صحّته وأحكامه...101

أحكام النزاع في الأملاك...116

حكم إخراج الرواشن والأجنحةو ... ...116

حكم وضع الجذوع على حائط الجار...125

إذا تداعيا جداراً...128

حكم الحائط المشترك...130

التنازع في جدران البيت ...134

حكم أغصان الشجر إذا خرجت إلى ملك الجار... 135

التنازع في بيوت الخان...138

التنازع بين راكب الدابّة وقابض لجامها...140

ص: 8

كتاب الشركة

الفصل الأوّل في أقسام الشركة...143

أسباب الشركة...146

شروط الشركة...154

الفصل الثاني في القسمة...161

أحكام القسمة...161

الفصل الثالث في لواحق هذا الباب (أحكام الشركة)...166

هل يشترط في الحيازة نيّة التملّك ؟...168

كتاب المضاربة

تعريف المضاربة...185

الأمر الأوّل في عقد المضاربة...186

بطلان المضاربة بموت المقارض و المقارَض...195

الأمر الثاني في مال القراض...196

الأمر الثالث في الربح...204

الأمر الرابع في اللواحق (أحكام المضاربة)...215

كتاب المزارعة والمساقاة

المزارعة...241

صيغة المزارعة... 242

المزارعة عقد لازم...244

شروط المزارعة...245

ص: 9

الأوّل: أن يكون النماء مشاعاً...245

الثاني: تعيين المدّة...249

الثالث: أن تكون الأرض ممّا يمكن الانتفاع بها...252

أحكام المزارعة...262

المساقاة...271

الفصل الأوّل في عقد المساقاة...272

صيغة المساقاة...272

المساقاة لازمة...272

الفصل الثاني في ما يساقى عليه...275

الفصل الثالث في المدّة...277

الفصل الرابع في عمل المساقاة...278

الفصل الخامس في فائدة المساقاة...285

الفصل السادس في أحكام المساقاة...288

إذا دفع أرضاً إلى رجل ليغرسها على أنّ الغرس بينهما...302

کتاب الودیعه

الأمر الأوّل في عقد الوديعة...305

صيغة الوديعة...306

الوديعة عقد جائز...313

الأمر الثاني في موجبات الضمان...331

القسم الأوّل: التفريط...331

القسم الثاني: التعدّي...335

الأمر الثالث في اللواحق (مسائل في الوديعة)...343

ص: 10

كتاب العارية

عقد العارية...363

الفصل الأوّل في المعير...367

الفصل الثاني في المستعير...368

الفصل الثالث في العين المعارة...373

الفصل الرابع في أحكام العارية...384

كتاب الإجارة

الفصل الأوّل في العقد...399

صيغة الإجارة...400

الإجارة عقد لازم لا تبطل إلّا بالتقايل أو ...402

الفصل الثاني في شرائط الإجارة...407

الأوّل: كمال المتعاقدين...407

الثاني: كون الأجرة معلومة...407

الثالث : كون المنفعة مملوكة...415

الرابع: كون المنفعة معلومة...417

استئجار المرأة للرضاع...438

الخامس: كون المنفعة مباحة...446

السادس: كون المنفعة مقدوراً على تسليمها...447

الفصل الثالث في أحكام الإجارة...451

الفصل الرابع في التنازع...463

ص: 11

كتاب الوكالة

الفصل الأول في عقد الوكالة ...467

الوكالة عقد جائز ...473

الفصل الثاني فيما لا تصحُ فيه النيابة وما تصح فيه...485

الفصل الثالث في الموكّل...490

الفصل الرابع في الوكيل...495

الفصل الخامس فيما به تثبت الوكالة... 511

لو ادّعى الوكالة عن غائب...514

الفصل السادس في اللواحق (أحكام الوكالة)...517

الفصل السابع في التنازع في الوكالة...526

ص: 12

كتاب الضمان

اشارة

•وهو عقد شُرّع للتعهّد بمالٍ أو نفسٍ.

______________________________________

كتاب الضمان

قوله: «وهو عقد شرّع للتعهّد بمال أو نفسٍ».

اعلم أنّ للضمان معنيين، أحدهما أعمّ من الآخَر، وهذا التعريف للضمان بالمعنى الأعمّ، المتناول للضمان بالمعنى الأخصّ ،وللحوالة والكفالة، فتكون هذه الثلاثة أقسامه، والضمان بالمعنى الأخصّ قسيماً للآخَرين.

والكلام في كون الضمان هو العقد الدالّ على التعهّد، أو نفس التعهّد، قد تقدّم البحث على نظيره في البيع(1) ، وأنّ التحقيق أنّه الثاني، وإطلاقه على العقد بطريق المجاز؛ إقامة للسبب

مقام المسبّب.

وشرعيّة العقد المذكور للتعهّد أعمّ من كون أثره يحصل معه وعدمه، فيشمل الصحيح والفاسد.

ولو ادّعي أنّ المقصود حصول التعهّد، وأنّ اللفظ دالُّ عليه كان تعريفاً للصحيح، وهو أيضاً صحيح. واعلم أنّ الضمان عندنا مشتق من الضمن؛ لأنّه يجعل ما كان في ذمّته من المال في ضمن

ص: 13


1- تقدّم في ج 3، ص 47 - 48، الفصل الثاني في عقد البيع.

•والتعهّد بالمال قد يكون ممّن عليه للمضمون عنه مال وقد لا يكون.

فهنا ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل في • ضمان المال

ممّن ليس عليه للمضمون عنه مال، وهو المسمّى بالضمان بقولٍ مطلق.

____________________________________________

ذمّةٍ أُخرى، أو لأنّ ذمّة الضامن تتضمّن الحقّ، فالنون فيه أصليّة ؛ بناءً على أنّه ينقل المال من الذمّة إلى الذمّة، وعند أكثر العامّة أنّه غير ناقلٍ، وإنّما يفيد اشتراك الذمّتين، فاشتقاقه من الضمّ، والنون فيه زائدة؛ لأنّه ضمّ ذمّةٍ إلى ذمّةٍ، فيتخيّر المضمون له في المطالبة.

قوله: «والتعهّد بالمال قد يكون ممّن عليه للمضمون عنه مال - إلى قوله - ثلاثة أقسام».

أحد الأقسام التعهّد بالنفس وهو الكفالة، والتعهّد بالمال ممّن ليس له عليه مال هو الضمان بالمعنى الأخصّ، وممّن عليه هو الحوالة.

وفيه أنّه سيأتي من مذهبه أنّ الحوالة لا يعتبر فيها شغل ذمّة المحال عليه للمحيل، فيدخل هذا القسم في الضمان الأخصّ، ويختلّ التقسيم بالتداخل، ولا يدفعه ما يقوله ثمّ إنّ هذا القسم «بالضمان أشبه»(1) ؛ لأنّ الأشبهيّة لم تخرجه عن معنى الحوالة أيضاً.

ويمكن دفع الإشكال بأنّ التقسيم جار على محلّ الوفاق، أو باعتبار القسم الآخر للحوالة، وهو تعهّد مشغول الذمّة للمحيل؛ ليكون هو أحد الأقسام الثلاثة خاصّة. وكون القسم المشترك ذا جهتين، بحيث يصحّ تسميته ضماناً خاصّاً وحوالة يسهل معه الخطب.

قوله : «ضمان المال ممّن ليس عليه للمضمون عنه مال وهو المسمّى بالضمان بقول مطلق».

لمّا كان الضمان بالمعنى الأعمّ منقسماً إلى الأقسام الثلاثة انقسام الكلّي إلى جزئياته، فإطلاقه على كلّ واحدٍ منها بطريق الحقيقة، فيصحّ إطلاق الضمان على الحوالة والكفالة

ص: 14


1- یأتي في ص 57.

وفيه بحوث ثلاثة:

الأوّل في الضامن

ولا بدّ أن يكون مكلّفاً جائز التصرّف. فلا يصحّ ضمان الصبيّ ولا المجنون.

• ولو ضمن المملوك لم يصحّ إلّا بإذن مولاه، ويثبت ما ضمنه في ذمّته لا في كسبه، إلّا أن يشترطه في الضمان بإذن مولاه.

___________________________________________________

حقيقةً، إلّا أنّ المعنى المتبادر من الضمان شرعاً عند إطلاق لفظه من غير قيدٍ هو الضمان ممّن ليس عليه مال للمضمون، وهو المعنى الأخصّ له، وأمّا الآخَران - وهما الحوالة والكفالة - فإنّما يُفهم منهما معنى الضمان مع انضمام لفظٍ آخَر إليه، وهو ضمان النفس، أو ضمان مشغول الذمّة للمضمون، ونحو ذلك.

ولكن يبقى فيه إشكالُ، وهو أنّ ذلك يقتضي كون إطلاق الضمان عليهما ليس على وجه الحقيقة؛ لأنّ من علاماتها صحّة الإطلاق من غير قيدٍ، كما أنّ توقّف فهم المعنى المراد من اللفظ على قيدٍ ينضمّ إليه دليل المجاز، فكيف يجتمع كونهما من أفراد الكلّي بطريق الحقيقة، وافتقارهما مع ذلك في صحّة الإطلاق إلى التقييد؟

وجوابه: أنّ المنقسم إليهما - بحيث صارا فردين له بطريق الحقيقة - هو مطلق الضمان، وذلك لا ينافي كونهما مجازين بالنظر إلى الضمان المطلق الذي هو قسيمهما.

والحاصل أنّه فرقُ بين الشيء المطلق ومطلق الشيء، ومثل هذا البحث يأتي في الماء؛ فإنّهم قسّموا مطلق الماء إلى الماء المطلق والمضاف، مع أنّ إطلاق الماء على المضاف بطريق المجاز؛ لافتقاره إلى القيد، إلّا أنّه فرد حقيقةً من مطلق الماء، ومنشأ الاختلاف باختلاف الوجهين، ولكن لمّا اشتهر المعنى المطلق وخفي مطلق المعنى لُوحظت الحقيقة والمجاز باعتبار المشتهر خاصّة، وفيه بحث.

قوله: «ولو ضمن المملوك لم يصحّ إلّا بإذن مولاه» إلى آخره.

ص: 15

...

___________________________________________

الكلام هنا يقع في مواضع

أحدها: ضمان العبد بغير إذن سيّده، وفي صحّته قولان:

أحدهما - وبه قطع المصنّف من غير نقل خلافٍ - عدم الصحّة؛ لأنّ العبد لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ كما وصفه الله تعالى به(1)، وذمّته مملوكة للمولى، فلا يملك إثبات شيء فيها إلّا بإذنه، ولأنّ الضمان يستلزم إثبات مال في الذمّة، فيمنع منه بدون إذن المولى، كما يمنع من النكاح كذلك.

ويرد على الأوّل ضمانه لما أتلفه أو غصبه أو جناه في ذمّته بغير إذن المولى، فلو توقّف شغل ذمّته مطلقاً على إذن المولى لم يلزم هنا شيء، إلّا أن يقال: إنّ ذلك لا يعدّ التزاماً، بل هو حكمُ شرعيُ مبنيُّ على القهر ، بسبب وقوعه بغير اختيار مستحقّه، ومن ثَمّ لزم ذلك الصبيّ والمجنون أيضاً، مع عدم صحّة ضمانهما إجماعاً.

وعلى الثاني منع كون مطلق إثبات المال في ذمّته ممتنعاً، وهل هو إلّا محلّ النزاع؟ والتمثيل بالنكاح لا يتمّ؛ لبطلان القياس، ومنع كون المانع فيه استلزامه لإثبات المال في الذمّة، ومن ثَمّ امتنع وإن عرى العقد عن المهر بل وإن بذله أجنبيُ، وإنّما المانع الحجر، واستلزام صحّته وترتّب أثره قدرة العبد الممتنعة، أو الإجماع عليه.

وثانيهما: الصحّة؛ لانتفاء الضرر على المولى؛ لأنّ استحقاق المطالبة له بما يستقرّ في ذمّته بعد العتق لا ضرر فيه عليه، كما لو استدان بغير إذن سيّده ، وإن افترقا بكون صاحب الدَين لو وجد عين ماله كان له انتزاعها منه، ولا يتصوّر ذلك في الضامن؛ لتعلّق حقّه بالذمّة.

لا يقال: إنّ السيّد يستحقّ إرثه بعد العتق بالولاء، وثبوت الضمان يمنع الإرث.

لأنّا نقول: حكم الإرث المذكور لا يمنع الضمان، فإنّ الإرث متأخّر عن الدَين، فمهما قيل: إنّه دَيْن يقدّم عليه؛ ولهذا لا يمنع الإرث إقراره بمال، مع أن الملك يمنع منهما. فدلَ على أنّ الإرث ليس في حكم الملك مطلقاً، كما أنّ الحرّ لا يمنع الضمان لحقّ ورثته،

ص: 16


1- النحل (16): 75.

...

___________________________________________

ويمنع ممّا هو ملكهم، فعلى هذا يتبع به بعد العتق؛ لأنّ كسبه مملوك للمولى، ولا يملك التصرّف في مال مولاه.

وهذا القول قرّبه العلّامة في التذكرة(1)، والأقوى الأوّل.

الثاني: على تقدير ضمانه بإذن المولى وإطلاقه فلم يشترط له الأداء من الكسب، ولا الصبر إلى أن يعتق، فهل يتعلّق بذمّته أم بكسبه؟ قولان:

أحدهما - وهو الذي اختاره المصنّف - تعلّقه بذمّته، فيتبع به بعد العتق؛ لأنّ إطلاق الضمان أعمّ من كلّ منهما، والعامّ لا يدلّ على الخاصّ، فلم يقع من المولى ما يدلّ على التزامه في ملكه، وكسبه ملكه، ولأنّ الإذن في الكلّي ليس إذناً في الجزئي المعيّن وإن كان لا يوجد إلّا في ضمنه، كما حقّق في الأصول.

والثاني: أنّه يتعلّق بكسبه؛ لأنّ إطلاق الضمان إنّما يحمل على الضمان الذي يستعقب الأداء، فإنّه المعهود، والأداء من غير مال السيّد يمتنع، وكذا من ماله غير الكسب، وإلّا لكان هو الضامن لا العبد، و هو خلاف التقدير، فيكون في كسبه، والبحث في ذلك قريب ممّا لو أذن له في الاستدانة، فينبغي ترتّب قولٍ ثالث، وهو أنّ الضمان يتعلّق بالمولى، ولا يختصّ بكسب العبد، ولعلّه أقوى.

الثالث : على تقدير ثبوته في ذمّته لو أذن له مولاه في الضمان في كسبه فقد قطع المصنّف بصحّته؛ ووجهه أنّ كسبه مال مخصوص من أموال السيّد، فيكون بمنزلة ما لو ضمن في ماله بعينه، وحينئذٍ فإن وفي كسبه بمال الضمان فقد تمّ للمضمون له حقّه، وإلّا ضاع عليه ما قصر ، فلو أعتق العبد قبل إمكان تجدّد شيءٍ من الكسب، فهل يبقى التعلّق به، أم يبطل الضمان: لفوات المحلّ المعيّن لأداء المال؛ لانصراف الإطلاق إلى الكسب الذي هو ملک المولى وقد فات؟ الظاهر من كلامهم الأول؛ فإنّ ذلك هو معنى الكسب، فإذا أعتق صار

ص: 17


1- تذكرة الفقهاء، ج 14، ص 297، المسألة 487.

•وكذا لو شرط أن يكون الضمان من مالٍ معيّنٍ.

_____________________________________

كسبه وما في يده سواءً، ومع ذلك لا يُسمّى في اصطلاح الشرع كسباً وإن أُطلق عليه لغةٌ. لكن يشكل على هذا صحّة اشتراطه في كسبه حال عبوديّته؛ لأنّ السيّد لا حقّ له فيه، فلا مدخل لإذنه فيه، والعبد لم يكن حين الضمان يقدر على شيء، إلّا أن يقال بصحّة ضمانه بغير إذن سيّده، كما مرّ، فهنا أولى.

ويتفرّع على ذلك ما لو مات العبد قبل إمكان الأداء، فهل يلزم المولى الأداء لما بقي؟ يحتمله؛ لأنّ إذنه له في الضمان في كسبه كإذنه في الضمان في مالٍ بعينه من أمواله، فإذا تلف

المال يعود الضمان إلى ذمّة صاحب المال، على الخلاف، ولو قلنا بعدم عوده إليه، فلا إشكال. ويحتمل عدم لزومه للمولى وإن قلنا به ثَمّ؛ لأنّ الكسب ليس كمحض مال السيّد، بل حقٌّ له؛ ولهذا قيل: لو أعتق بقي متعلّقاً بكسب المعتق، فدلّ على أنّه لم يتعلّق بالمولى محضاً.

وليس في كلام الأصحاب هنا ما يدلّ على شيءٍ، وإن كان الأوجَه ابتناؤه على مسألة تعيين الأداء من مالٍ بعينه.

قوله: «وكذا لو شرط أن يكون الضمان من مالٍ معيّنٍ».

أي شرط الضامن كون ضمانه من مالٍ معيّنٍ من أمواله، فإنّه يصحّ الضمان، وينحصر وجوب الأداء فيه؛ لعموم قوله(صلی الله علیه و آله و سلم) :«المؤمنون عند شروطهم»(1)، وحينئذٍ فيتعلّق به حقِّ المضمون له.

وهل هو متعلّق به كتعلّق الدَين بالرهن، أو كتعلّق الأرش بالجاني ؟ وجهان، مأخذهما أنّ الضمان ناقل للدين إلى ذمّة الضامن؛ لأنّ موضعه إنّما هو الذمّة، وتخصيص هذا المال أفاد انحصار المطالبة الآن فيه، ولم يخرج الذمّة عن العهدة؛ لأنّ مقتضى الضمان ابتداء التعلّق بها، وهذا وجه تعلّق الرهن.

ص: 18


1- تهذيب الأحكام، ج 7، ص 371، ح 1503؛ الاستبصار، ج 3، ص 232، ح 835.

...

____________________________________________

ومن أنّ الضامن لم يدخل ذمّته مطلقاً، وإنّما حصر الاستحقاق في المال المعيّن، وجعله متعلّق حقّ المضمون له، فينحصر حقّه فيه ابتداءً من غير تعلّق بالذمّة، وأقواهما الأوّل.

وتظهر الفائدة فيما لو تلف بغير تفريطٍ، فعلى الأوّل ينتقل إلى ذمّة الضامن، وعلى الثاني إلى ذمّة المضمون عنه.

أمّا الأوّل فظاهر؛ لأنّ تلف الرهن لا يسقط الحقّ.

وأمّا الثاني؛ فلأنّ فوات العبد الجاني إنّما يسقط الحقّ عن مالكه، ومالك المال هنا هو الضامن فيسقط عنه، وأمّا المضمون عنه فانتقال المال عن ذمّته ليس انتقالاً تامّاً؛ لأنّه لم يتعلّق بذمّته، وإنّما تعلّق بماله تعلّقاً ضعيفاً، فإذا فات عاد إلى ما كان. مع احتمال السقوط عنهما في الموضعين على التقديرين.

أمّا عن الضامن؛ فلأنّه لم يُقدِم على الضمان إلّا في ذلك المال، و لم يلتزم الأداء إلّا منه؛ عملاً بالشرط، وقد فات، فيبطل الضمان، ويعود إلى ذمّة المضمون عنه.

وأمّا احتمال سقوطه عن المضمون عنه على تقدير تعلّقه كالجاني؛ فلأنّ الضمان لمّا كان ناقلاً برئت ذمّة المضمون عنه بالضمان كيف كان، فلم يبق للمضمون له عليه حقُّ ولا الضامن إلّا بما أدّى، ولم يحصل.

إلّا أنّ المبنيّ عليه ضعيف؛ لأنّ الضمان إمّا ناقل من ذمّةٍ إلى ذمّةٍ عندنا، أو ضام ذمّةً إلى أخرى عند غيرنا، فعدم تعلّقه بذمّةٍ أصلاً خارج عن القولين، فيكون المبنيّ عليه أولى بالسقوط.

واختار في التذكرة الرجوع على الضامن مع التلف مطلقاً(1)؛ بناء على الوجه الأوّل.

والشهيد (رحمه الله) في بعض فتاويه اختار بطلان الضمان مع تلف المال من غير بناء له على وجه(2) . وهو متّجه.

ص: 19


1- تذكرة الفقهاء، ج 14، ص 382، المسألة 554.
2- لم نعثر عليه.

•ولا يشترط علمه بالمضمون له، ولا المضمون عنه، وقيل: يشترط ، والأوّل أشبه، لكن لا بدّ أن يمتاز المضمون عنه عند الضامن بما يصحّ معه القصد إلى الضمان عنه.

_____________________________________________

ويمكن دفع المنافاة بين التعلّق بالذمّة والمال المعيّن مع الحكم بالبطلان على تقدير تلفه، بأن يجعل التعلّق بالذمّة مشروطاً بالأداء من المال؛ عملاً بمقتضى الشرط، أو يجعل هذا تعلقاً برأسه خارجاً عن التعلّقين؛ إذ لا دليل على الانحصار فيهما، وإنّما هو من مناسبات الشافعيّة، وحينئذٍ فيجعل التعلّق مخصوصاً بالعين وفاء بالشرط؛ فإنّ التزام المال من غير المعيّن لم يتعلّق به قصد الضامن، ولا دلّ عليه لفظه.

وممّا يبنى على الوجهين ما لو كان المال المعيّن أقلّ من الدَين، فعلى الأوّل يلزم الضامن الإكمال، كما لو نقص الرهن عنه، بناءً على تعلّق الدَين بذمّته، ولم يحصل فيما عيّنه وفاء، وهو الذي قرّبه في التذكرة(1).

ويشكل بما مرّ فإنّه لم يلتزم في ذمّته شيئاً، وغاية التنزّل أن يكون التزم بقدر المال المعيّن، فثبوت الزائد في ذمّته بعيد . وعلى الوجه الثاني لا إشكال في عدم ضمانه.

وممّا يبنى على الوجهين أيضاً من يطالب ببيع المال وتحويله إلى جنس الحقّ المضمون، فعلى الأوّل يطالب الضامن قطعاً كالرهن، وعلى الثاني يحتمل جواز استبداد المضمون له به كالجاني، خصوصاً إن لم يفكّه الضامن.

ويحتمل عليه توقّف التصرّف على الضامن أيضاً؛ لأنّ هذا التعلّق لا يساوي تعلّق الجناية بالجاني بكلّ وجه؛ لأنّ الجناية تعلّقت بالعبد ابتداء، ولم يتعلّق بذمّةٍ أصلاً، بخلاف دَين المضمون له هنا، فإنّه كان متعلقاً بذمّة، وفي تعلّقه بذمّة الضامن ثانياً ما مرّ من البحث، فلم يُفد هذا التعلّق انحصار الحقّ فيه بكلّ وجه.

قوله: «ولا يشترط علمه بالمضمون له ولا المضمون عنه» إلى آخره.

ص: 20


1- تذكرة الفقهاء، ج 14، ص 382 المسألة 554.

...

______________________________________________

القول باشتراط علم الضامن لهما معاً للشيخ (رحمه الله) في المبسوط(1) .

وفي المختلف اعتبر العلم بالمضمون عنه لا المضمون له(2) . ونفى الاشتراط فيهما في غيره(3) ، وهو الأقوى.

أمّا عدم اعتبار العلم بالمضمون عنه؛ فلأنّ الضمان وفاء دَين عنه، وهو جائز عن كلّ مديون.

وأمّا المضمون له فإن اعتبرنا قبوله لفظاً - كما هو مقتضى العقد اللازم - اقتضى ذلك تميّزه(4) ، ولا يعتبر أزيد من ذلك، وإن لم نعتبره -كما يدلّ عليه واقعة الميّت المديون الذي امتنع النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) من الصلاة عليه حتّى ضمنه عليُّ(علیه السلام)(5)- لم يعتبر علمه بوجه. وهذا هو الظاهر من عبارة المصنّف حيث اعتبر رضاه، ولم يعتبر فيه عقداً، ولا قبولاً مخصوصاً، ولا امتيازه هنا مع اعتباره امتياز المضمون عنه.

وبقي الكلام في اعتبار تميّز المضمون عنه كما ذكره المصنّف.

ووجهه أنّ الضمان يتوقّف على القصد، وهو متعلّق بالمضمون عنه والحقّ، فلا بدّ من تمیّزه بوجه تزول معه الجهالة؛ ليمكن القصد إليه، وأمّا الحقّ فسيأتي الكلام فيه.

ويشكل بمنع توقّف القصد على ذلك؛ فإنّ المعتبر القصد إلى الضمان، وهو التزام المال الذي يذكره المضمون له - مثلاً - في الذمّة، وذلك غير متوقّف على معرفة من عليه الدَيْن، والدليل إنّما دلّ على اعتبار القصد في العقد، لا فيمن كان عليه الدَين، فلو قال شخص

ص: 21


1- المبسوط، ج 2، ص 303 - 304.
2- مختلف الشيعة، ج 5، ص 475 المسألة 139.
3- تحرير الأحكام الشرعية، ج 2، ص 557 ، الرقم 3931 و 3933؛ قواعد الأحكام، ج 2، ص157.
4- في حاشية «و»: «يمكن القول بعدم اعتبار تميّزه وإن اشترطنا قبوله لإمكان أن يضمن الضامن المال الذي ذمّة المضمون عنه لمن كان له الحق والمستحق حاضر ليقبل، ولا يعلم به الضامن وبالجملة، فاعتبار قبوله يوجب تمييزه في الغالب لا في جميع الصور، كما لا يخفى (منه رحمه الله)».
5- السنن الكبرى البيهقي، ج 1، ص 121، ح 11398 و 11399.

• ويشترط رضى المضمون له.

____________________________________________

مثلاً: إنّي أستحقّ في ذمّة شخص مائة درهم، فقال له آخَر: ضمنتها لك، كان قاصداً إلى عقد الضمان عن أيّ من كان الدَين عليه، ولا دليل على اعتبار ما زاد عن ذلك.

وإلى ذلك مال في التذكرة حيث قال:

وهل يشترط معرفة ما يميّزه عن غيره؟ الأقرب العدم، بل لو قال: ضمنتُ لك الدين الذي لك على من كان من الناس جاز. نعم، لا بدّ من معرفة المضمون عنه بوصف يميّزه عند الضامن بما يمكن القصد معه إلى الضمان عنه لو لم يقصد الضمان عن أيّ من كان (1).

قوله: «ویشترط رضى المضمون له».

المشهور اشتراط رضى المضمون له في صحّة الضمان ؛ لأنّ حقّه يتحوّل من ذمّة غريمه إلى ذمّة الضامن، والناس تختلف في حسن المعاملة وسهولة القضاء، فربما كان المضمون له لا يرضى بإبداله بغريمه ليقضيه عنه ، فلو لم يعتبر رضاه لزم الضرر والغرر.

وللشيخ (رحمه الله) قول بعدم اشتراطه(2)؛ محتجّاً بأنّ عليّاً(علیه السلام) وأبا قتادة ضمنا الدَين عن الميّت(3)، ولم يسأل النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) عن رضى المضمون له.

وأجيب بأنّها واقعة لا عموم لها، وبأنّ ذلك إنّما يدلّ على عدم بطلان الضمان قبل علمه وردّه، ونحن نقول بموجَبه؛ لأنّه صحيح، ولكن لا يلزم إلّا برضى المضمون له (4).

والأقوى اشتراط رضاه؛ لصحيحة عبد الله بن سنان عن الصادق(علیه السلام)(5).

وعلى هذا القول فهل المعتبر مجرّد رضاه كيف اتّفق ولو مع التراخي، أم لا بدّ من كونه

ص: 22


1- تذكرة الفقهاء، ج 14، ص 306، المسألة 496.
2- الخلاف، ج 3، ص 313 - 314، المسألة 2.
3- سنن أبي داود، ج 3، ص 247، ح 3343؛ سنن النسائي، ج 4، ص 66 - 67، ح 1956 - 1958؛ السنن الكبرى، البيهقي، ج 1، ص 120 - 121، ح 11399 - 11399.
4- أجاب به العلامة في مختلف الشيعة، ج 5، ص 477، المسألة 140.
5- الكافي، ج 7، ص 25 باب مَنْ أوصى وعليه دين، ح 5: الفقيه، ج 4، ص 225، ح 5533: تهذيب الأحكام ج 6 ، ص 187 ، ح 392 .

• ولا عبرة برضى المضمون عنه؛ لأنّ الضمان كالقضاء، • ولو أنكر بعد الضمان، لم يبطل على الأصحّ.

__________________________________________

بصيغة القبول اللفظي؟ قولان، أجودهما الثاني؛ لأنّه عقد فلا بدّ فيه من القبول، ولأصالة بقاء ما كان من شغل ذمّة المضمون عنه، وسلامة ذمّة الضامن، وعدم انتقال حقّ المضمون له إلى أن يتحقّق المزيل، وحينئذٍ فيعتبر فيه ما يعتبر في سائر العقود من التواصل المعهود بين الإيجاب والقبول، وكونه بلفظ الماضي، واللفظ العربي ؛ لأنّه من العقود اللازمة.

ووجه العدم قضيّة عليّ(علیه السلام)، وأصالة عدم الاشتراط، ومخالفته لغيره من العقود المملّكة؛ لأنّ الضمان لا يُثبت ملكاً جديداً، وإنّما يتوثّق به الدَين الذي كان مملوكاً.

وفيه أنّ استحقاق المضمون له عند الضامن حقّاً ضرب من التملّك، ثمّ ينتقض بالرهن، فإنّ فائدته التوثّق مع اشتراطه فيه.

قوله:«ولا عبرة برضى المضمون عنه؛ لأنّ الضمان كالقضاء».

هذا موضع وفاق، ولأنّ أداء الدَين كما يجوز بغير إذنه فالتزامه في الذمّة أولى، ولصحّة الضمان عن الميّت، كما مرّ في واقعة المصلّى عليه(1)، ولا يتصوّر رضاه.

قوله: «ولو أنكر بعد الضمان لم يبطل على الأصحّ».

أي أنكر المضمون عنه الضمان، فإنّه لا أثر له؛ لأنّه إذا لم يعتبر رضاه ابتداءً فلا عبرة بإنكاره بعده. وربما فُسّر الإنكار بعدم رضاه بالضمان. وعلى التقديرين لا عبرة به.

ونبّه ب_«الأصحّ» على خلاف الشيخ (رحمه الله)(2) وجماعة(3)، حيث حكموا ببطلانه بإنكاره، وهو ضعيف جداً.

ص: 23


1- مرفي ص 21.
2- النهاية، ص 314.
3- منهم الشيخ المفيد في المقنعة ص 814 وابن حمزة في الوسيلة، ص 280 وابن البرّاج على ما حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 5 ص 478 المسألة 141 .

•ومع تحقّق الضمان ينتقل المال إلى ذمّة الضامن، ويبرأ المضمون عنه، وتسقط المطالبة عنه.

•ولو أبرأ المضمون له المضمون عنه لم يبرأ الضامن على قولٍ مشهورٍ لنا.

__________________________________________

قوله: «ومع تحقّق الضمان ينتقل المال إلى ذمّة الضامن، ويبرأ المضمون عنه، وتسقط المطالبة عنه».

هذا عندنا موضع وفاق، وقد تقدّمت الإشارة إليه في التعريف(1) ، وخالف فيه كافّة الجمهور.

وتظهر الفائدة في مواضع يأتي بعضها.

ومعنى براءة المضمون عنه براءته من حقّ المضمون له، لا مطلق البراءة، فإنّ الضامن یرجع عليه بما أدّاه إذا ضمن بإذنه، كما سيأتي(2).

ولقد كان الحكم ببراءته مغنياً عن قوله «وتسقط المطالبة عنه»؛ لأنّه لازم للبراءة.

قوله: «ولو أبرأ المضمون له المضمون عنه لم يبرأ الضامن على قول مشهور لنا».

هذا من فروع المسألة السابقة، فإنّ الضمان إذا كان ناقلاً موجباً لبراءة المضمون عنه من حقّ المضمون له فبراءته لا تفيد شيئاً؛ لعدم اشتغال ذمّته حينئذٍ عندنا.

نعم، لو أبرأ الضامن برئا معاً، أمّا الضامن؛ فلأنّ الحقّ عليه، وأمّا المضمون عنه؛ فلانّ الضامن لا يرجع عليه إلّا بما أدّاه، ولا أداء هنا.

وعند الجمهور أنّ كلّ واحدٍ منهما ذمّته مشغولة، فإذا أبرئ المضمون عنه برئ الضامن؛ لسقوط الحقّ، كما لو أدّى المال، ولو أبرأ الضامن لم يبرأ المضمون عنه؛ لأنّ الضامن عندهم كالوثيقة، ولا يلزم من سقوطها سقوط الدَين، كفكّ الرهن.

إذا تقرّر ذلك، فقول المصنّف «على قول مشهورٍ لنا» يشعر بثبوت مخالفٍ منّا، لكن لم نقف عليه.

ص: 24


1- تقدمت في ص 13.
2- يأتي في ص 31.

•ويشترط فيه الملاءة، أو العلم بالإعسار.

•أمّا لو ضمن ثمّ بان إعساره كان للمضمون له فسخ الضمان، والعود على المضمون عنه.

__________________________________________

وفي التذكرة ادّعى إجماع علمائنا على ذلك(1)، ولعلّه أراد بذلك أنّه لم يتحقّق الإجماع وإن لم يجد مخالفاً؛ فإنّ عدم الاطّلاع على المخالف لا يوجب الإجماع وإن كان المتّفقون مائةً، كما نبّه عليه المصنّف في المعتبر(2) .

وسيأتي في آخر الكتاب ما يشعر بخلاف الشيخ (رحمه الله) في ذلك(3).

قوله: «ويشترط فيه الملاءة أو العلم بالإعسار».

إنّما يشترط ذلك في لزوم الضمان لا في صحّته، كما نبّه عليه بَعد بقوله: «كان للمضمون له فسخه».

والمراد بملاءة الضامن - التي هي شرط اللزوم - أن يكون مالكاً لما يوفي به الدَين فاضلاً عن المستثنيات في البيع للدين، ومن جملتها قوت يومٍ وليلةٍ.

وإنّما تعتبر الملاءة ابتداءً لا استدامة، فلو تجدّد إعساره بعد الضمان لم يكن له الفسخ؛ لتحقّق الشرط حين الضمان، فلا يقدح تخلّفه بعد ذلك، كغيره من الشروط، وكما لا يقدح تجدّد إعساره المانع من الاستيفاء، كذا لا يقدح تعذّر الاستيفاء منه بوجه آخَر، فلا يرجع على المضمون عنه متى لزم الضمان

قوله «أمّا لو ضمن ثمّ بانَ إعساره كان للمضمون له فسخ الضمان».

لمّا كان عقد الضمان مبنيّاً على الارتفاق، والقصد منه استيفاء الدَين من الضامن، وإنّما يكون ذلك إذا أمكن الأداء منه بإيساره، فإذا فات هذا المقصود ثبت للمضمون له الخيار بين الصبر على الضامن، وبين فسخ العقد والرجوع على المضمون عنه.

ص: 25


1- تذكرة الفقهاء، ج 14 ، ص 346، المسألة 526.
2- المعتبر، ج 1،ص 31.
3- يأتي في ص 72.

•والضمان المؤجَّل جائز إجماعاً، وفي الحال تردّد، أظهره الجواز.

_____________________________________________

وهل الخيار على الفور ؟ لم أقف فيه على شيءٍ، والأصل يقتضي امتداده إلى أن يثبت المزيل. قوله: «والضمان المؤجّل جائز إجماعاً، وفي الحالّ تردّد، أظهره الجواز».

لمّا كان مبنى عقد الضمان على الارتفاق وتسهيل الأمر على المضمون عنه، كان الضمان المؤجَّل للدَين الحال جائزاً؛ لتحقّق الغرض المطلوب منه، وهو موضع وفاقٍ. وليس هذا تعليقاً للضمان على الأجل، بل تأجيل للدين الحالّ في عقدٍ لازمٍ فيلزم.

وأمّا عكسه بأنّ يضمن المؤجَّل حالاً فهو منافٍ للغرض منه، كما ذكرناه، ومن ثَمّ مَنَعه الشيخ(1) وجماعة(2)؛ لذلك، ولأنّ ثبوت المال في ذمّة الضامن فرع ثبوته في ذمّة المضمون عنه، والفرع لا يكون أقوى من الأصل.

ويضعّف بأنّ المنتقل هو الدَين، وأمّا الأجل فإذا أسقطه المديون وأدّى المال حالاً جاز، فكذا إذا سأل الضمان كذلك؛ لأنّه في معنى الإسقاط له.

ولو كان الضامن متبرّعاً بالضمان فأولى بعدم الاشتراط؛ إذ لا رجوع له على المضمون عنه، فيكون في معنى ما لو أدّى عنه دَينه المؤجَّل قبل الأجل، وهو جائز.

وربما قيل بالمنع مطلقاً (3)، لأنّ شرط صحّة الضمان وجوب الحقّ على المضمون عنه، والأجل حقّ من حقوق الدَين، و تعجيله غير واجبٍ عليه، فيكون ضمانه كذلك ضمان ما لم يجب، وهو غير صحيحٍ.

وفيه نظر؛ لأنّ الممنوع منه الذي لم يجب هو المال لا الأجل؛ لأنّ مدلول «ما» الذي هو متعلّق الضمان هو المال؛ لأنّه المضمون، وأمّا الأجل فلا يتعلّق به الضمان وإن كان من توابع الحقّ وأوصافه، إلّا أنّ دخوله حيث يدخل ليس بالذات، بل بالتبعيّة، وهو حقُّ للمديون،

ص: 26


1- المبسوط ، ج 2، ص 324.
2- منهم فخر المحققين في إيضاح الفوائد، ج 2، ص 81 - 82؛ والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 5، ص 310.
3- في حاشية «و»: «القول للشيخ فخر الدين في الشرح وتبعه المحقق الشيخ علي (رحمه الله). (منه رحمه الله). راجع الهامش السابق.

...

__________________________________________

فإذا رضي الضامن بإسقاطه وتعجيل الإيفاء فقد ضمن ما يجب وهو المال، ورضي بإسقاط الوصف، ولا يرد أنّه غير واجب الأداء بسبب الأجل؛ لأنّه واجب في الجملة غايته أنّه موسّع، وذلك لا يخرجه من أصل الوجوب، خصوصاً إذا انضمّ إلى رضى الضامن بذلك رضى المضمون عنه.

والأقوى الجواز مطلقاً.

إذا تقرّر ذلك فنقول: الحقّ المضمون لا يخلو إمّا أن يكون حالاً أو مؤجّلاً ثمّ إمّا أن يضمنه الضامن حالاً أو مؤجّلاً، وعلى تقدير ضمان المؤجَّل مؤجَّلاً إمّا أن يكون الأجل الثاني مساوياً للأوّل، أو أنقص، أو أزيد، وعلى التقادير إمّا أن يكون الضمان تبرّعاً أو بسؤال المضمون عنه، فالصُور اثنتا عشرة، وكلّها جائزة على الأقوى، إلّا أنّ موضع الخلاف فيها غير محرّرٍ، فإنّ إطلاق عبارة المصنّف أنّ الضمان متى كان مؤجَّلاً فالإجماع منعقد على جوازه، وهو شامل لما لو كان الحق مؤجّلاً مع قصور أجل الضمان ومساواته.

وتعليل المانع من الحلول يقتضي المنع من هاتين الصورتين؛ لأنّهم علّلوا المنع من الحالّ - على ما نقله في المختلف(1) وغيره - أنّ الضمان إرفاق، فالإخلال به يقتضي تسويغ المطالبة للضامن، فيتسلّط على مطالبة المضمون عنه في الحالّ، فتنتفي فائدة الضمان.

وهذا التعليل بعينه آتٍ في الأجل المساوي والقاصر، ويقتضي أّنّ الضامن لو كان متبرّعاً لم يضرّ؛ لانتفاء المانع من التسلّط على المضمون عنه.

والشيخ فخر الدين (رحمه الله) مَنَع من ضمان الحالّ لا لهذه العلّة؛ بل لأنّه ضمان ما لم يجب(2)، وهو شامل للأجل القاصر عن أجل الدين، كما هو شامل للحالّ، ومخرج للمساوي.

ص: 27


1- مختلف الشيعة، ج 5، ص 479، المسألة 142.
2- إيضاح الفوائد، ج 2، ص 81 - 82 .

...

______________________________________

وبالجملة، فإطلاق كلام الشيخ وأتباعه يقتضي ما أفاده المصنّف، وتعليلهم يدلّ على اختصاصه بغير الصورتين المذكورتين.

وأمّا الضمان حالاً فإن كان الدَين مؤجّلاً فقد اتّفق المانعون على منعه نصّاً وتعليلاً، وإن كان حالاً فالشيخ فخر الدين وأتباعه جوّزوه؛ لوجوب الحقّ، والشيخ وأتباعه منعوه؛ لعدم الارتفاق، والمتبرّع عند المعلّل بوجوب الحقّ كغيره، وعند المعلّل بالارتفاق متخلف.

وقد ظهر بذلك أنّ محلّ النزاع غير محرّرٍ، والحقّ أنّ الخلاف واقع فيما عدا المؤجَّل للحالّ، أو الزائد أجله عن أجل الأصل.

بقي في المسألة بحثُ آخَر، وهو أنّه على القول بجواز ضمان المؤجَّل حالاً أو بأجل دون الأجل الأوّل، لو أذن المضمون عنه للضامن في ضمانه كذلك أو مطلقاً، فهل يحلّ عليه الدَين، أو ينقص الأجل على تقدير ضمان الضامن له كذلك، أم يبقى عليه الأجل كما كان، فلا يرجع عليه الضامن إلى حلوله وإن أدّى قبله؟ أوجُه:

أحدها: الرجوع عليه كما أدّى في الحالين، أمّا مع التصريح بالإذن حالاً ؛ فلأنّ الضمان في حكم الأداء، ومتى أذن المديون لغيره في قضاء دينه معجّلاً فقضاه استحقّ مطالبته، ولأنّ الضمان بالسؤال موجب لاستحقاق الرجوع على وفق الإذن، وأمّا مع الإطلاق؛ فلتناوله التعجيل، فيكون مأذوناً فيه ضمناً؛ لأنّه بعض ما يدلّ عليه اللفظ.

وثانيها: التفصيل، فيرجع عليه حالاً مع التصريح، لا مع الإطلاق، أمّا الأوّل، فلما مرّ، وأمّا الثاني؛ فلأنّ الإطلاق إنّما اقتضى الإذن في الضمان، وذلك لا يقتضي حلول الحقّ على المضمون عنه؛ لأنّه لا يحلّ عليه إلّا بإسقاطه، أو اشتراطه في عقد لازم، وهو منتف، ولا دليل في الإذن المذكور على حلول الأصل بإحدى الدلالات، ولأصالة بقاء الأجل.

وهذه الوجوه آتية مع التصريح له في الضمان حالاً إن لم يصرّح له بالرجوع عليه حالاً أيضاً.

ص: 28

• ولو كان المال حالاً فضمنه مؤجّلاً جاز، وسقطت مطالبة المضمون عنه، ولم يطالب الضامن إلّا بعد الأجل،

_______________________________________

وثالثها: عدم الرجوع عليه إلّا بعد الأجل مطلقاً لما ذُكر، ولأنّ الإذن في الضمان وإن كان حالاً إنّما يقتضي حلول ما في ذمّة الضامن، ولا يدلّ على حلول ما في ذمّة المضمون عنه بإحدى الدلالات، وهذا هو الأقوى.

واعلم أنّ العلّامة قطع في المختلف بالأخير(1)، ولم يذكر غيره. وفي القواعد استشكل فى الحلول بالسؤال(2)، فقطع ولده بأنّ الإشكال إنّما هو مع الإطلاق لا مع التصريح بالسؤال حالاً؛ فإنّه يقتضي الحلول على المضمون عنه(3).

وقطع المحقّق الشيخ عليّ بضدّه(4)، وهو أنّ الإشكال إنّما هو مع التصريح بالحلول، أمّا مع الإطلاق فلا إشكال في عدم الحلول.

وهو موافق لما في التذكرة ، فإنّه قطع بعدم الحلول مع الإطلاق، واستشكل مع تصريحه بالتعجيل، ثمّ استقرب عدم الحلول(5) .

والحق أنّ الإشكال واقع على التقديرين، كما بيّنّاه.

قوله: «ولو كان المال حالاً فضمنه مؤجّلاً جاز - إلى قوله - إلّا بعد الأجل».

هذا هو الموضع المتّفق على جوازه، وأعاده لينبه على حكم المطالبة. وحاصلها أنّ المضمون عنه لا يطالب قبل الأجل مطلقاً، أمّا من المضمون له؛ فلانتقال دَيْنه عنه إلى ذمّة الضامن وأمّا من الضامن؛ فلأنّه ليس له المطالبة إلى أن يؤدّي وإن كان حالاً، فهنا أولى، وأمّا الضامن فلا يستحقّ عليه المطالبة قبل الأجل أيضاً؛ عملاً بمقتضى الشرط .

ص: 29


1- مختلف الشيعة، ج 5، ص 490. المسألة 163 .
2- قواعد الأحكام، ج 2، ص 155.
3- إيضاح الفوائد، ج 2، ص 82 .
4- جامع المقاصد، ج 5، ص 311 .
5- تذكرة الفقهاء، ج 14 ، ص 290، ذيل المسألة 479.

• ولو مات الضامن حلّ وأخذ من تركته.

• ولو كان الدَين مؤجَّلاً إلى أجل فضمنه إلى أزيد من ذلك الأجل جاز.

_________________________________________________

وهذه المسألة من فروع القول بانتقال الحقّ إلى ذمّة الضامن وبراءة المضمون عنه، والقائل بالانضمام جوّز هنا مطالبة المضمون عنه حالّاً؛ لبقائه على أصله، ولم يجوّز مطالبة الضامن إلّا بعد الأجل.

قوله: «ولو مات الضامن حلّ وأخذ من تركته».

لمّا كان الميّت يحلّ ما عليه من الديون المؤجَّلة بموته كان هذا من جملة أفرادها. فإذا ضمن الحالّ مؤجَّلاً ثمّ مات قبل الأجل حلّ ما عليه من مال الضمان وأخذ من تركته، وجاز حينئذ للورثة مطالبة المضمون عنه؛ لأنّ الدَين عليه حالّ؛ لعدم حصول ما يقتضي تأجيله عليه؛ لأنّ المؤجَّل هو الدَين الذي في ذمّة الضامن، لا الذي في ذمّته، إلّا أنّ الضامن لمّا لم يستحقّ الرجوع إلّا بالأداء، وكان موته مقتضياً لحلول دَينه، فإذا أخذ من تركته زال المانع من مطالبة المضمون عنه. ومثله ما لو دفع الضامن إلى المضمون له الحقّ قبل الأجل باختياره، فإنّ له مطالبة المضمون عنه؛ لما ذُكر.

وهذا بخلاف ما لو كان الدَين مؤجّلاً على المضمون عنه ، فضمنه الضامن كذلك، فإنّه بحلوله عليه بموته لا يحلّ على المضمون عنه؛ لأنّ الحلول عليه لا يستدعي الحلول على الآخَر، كما لا يحلّ عليه المؤجّل لو ضمنه الضامن حالّاً بإذنه، على ما سبق.

قوله: «ولو كان الدَين مؤجّلاً إلى أجل فضمنه إلى أزيد من ذلك الأجل جاز».

هذا من جملة فروع المسألة السابقة الإجماعيّة؛ لأنّ الأجل الزائد يحصل فيه الارتفاق المطلوب من الضمان، والكلام فيه لو أدّى قبل الأجل أو مات كما مرّ.

وتحريره أنّه إن أدّى قبل حلول أجل الأصل لم يكن له مطالبته إلّا بعده، وإن أدّى بعد حلوله عليه وقبل حلول أجل نفسه فله مطالبته؛ لأنّه قد صار على الأصل حالّاً،

ص: 30

• ويرجع الضامن على المضمون عنه بما أدّاه إن ضمن بإذنه ولو أدّى بغير إذنه، ولا يرجع إذا ضمن بغير إذنه ولو أدّى بإذنه.

• وينعقد الضمان بكتابة الضامن منضمّةً إلى القرينة الدالّة، لا مجرّدةً.

_____________________________________________

والضامن قد أدّى، وأسقط حقّ نفسه من الأجل الزائد.

وكذا القول لو مات فأدّى وارثه.

قوله: «ويرجع الضامن على المضمون عنه بما أدّاه إن ضمن بإذنه ولو أدّى بغير إذنه، ولا يرجع إذا ضمن بغير إذنه ولو أدّى بإذنه».

أحكام رجوع الضامن وعدمه بالنسبة إلى كون الضمان والأداء معاً بإذن المديون، أو أحدهما، أو عدمهما ، أربعة، أشار المصنّف إليها، اثنين بالمنطوق، واثنين بالمفهوم؛ لاقتضاء «لو» الوصليّة ثبوت الحكم في المسكوت عنه بطريق أولى.

وحكم الأربعة كما ذُكر عند علمائنا أجمع، وإنّما نبّه بها على خلاف بعض العامّة في بعض أقسامها(1) ، بناءً على ما سبق(2) من أنّه غير ناقل، فلإذن المديون أثر على بعض الوجوه.

قوله: «وينعقد الضمان بكتابة الضامن منضمّةً إلى القرينة الدالّة، لا مجرّدةً».

إنّما ينعقد بالكتابة مع تعذّر النطق لا مطلقاً، كما صرّح به غيره(3)، ولا بدّ مع ذلك من انضمام ما يدلّ على قصده من إشارةٍ ونحوها؛ لإمكان كونه عابثاً، ولا فرق في ذلك بین الضامن والمضمون له؛ بناءً على اعتبار قبوله لفظاً، وإنّما خصّ المصنّف الضامن؛ لعدم اعتباره القبول اللفظي في الآخر، كما سبق(4) .

ولو عجز عن النطق والكتابة وأشار بما يدلّ عليه صحّ أيضاً كالأخرس.

والظاهر الاكتفاء بها وإن قدر على الكتابة؛ لأنّ المعتبر تبيّن رضاه بالقرائن والكتابة منها.

ص: 31


1- راجع العزيز شرح الوجيز، ج 5، ص 174 - 176.
2- سبق في ص 14.
3- قواعد الأحكام، ج 2، ص 155.
4- سبق في ص 21.

الثاني في الحقّ المضمون

• وهو كلّ مالٍ ثابتٍ في الذمّة، سواء كان مستقرّاً كالبيع بعد القبض وانقضاء الخيار، أو معرّضاً للبطلان كالثمن في مدّة الخيار بعد قبض الثمن، ولو كان قبله لم يصحّ ضمانه عن البائع.

___________________________________________

قوله: «وهو كلّ مال ثابتٍ في الذمّة - إلى قوله - لم يصحّ ضمانه عن البائع».

قد تقدّم أنّ عقد البيع يفيد تملّك البائع للثمن والمشتري للمبيع وإن كان هناك خيار، فالبيع موجب للملك وإن لم يكن مستقرّاً، فيصحّ ضمان الثمن للبائع عن المشتري وللمشتري عن البائع إذا قبضه؛ لجواز ظهور المبيع مستحقّاً، وهو المعبَّر عنه بضمان العهدة. فقول المصنّف «كالثمن في مدّة الخيار بعد قبض الثمن» مراده أنّه يصحّ ضمان الثمن في مدّة الخيار بعد قبضه.

وهذا الضمان قد يكون للبائع القابض له، بأن يضمن له عهدته على تقدير ظهوره مستحقّاً على وجه لا يستلزم بطلان البيع، كما لو كان غير معيّن في العقد، أو على تقدير ظهور عيب فيه ليرجع بأرشه، وقد يكون ضمانه للمشتري على تقدير ظهور المبيع مستحقّاً ليرجع به.

وعلى التقديرين فالضمان إنّما هو لعهدته، لا له نفسه، فقوله «كالثمن» تشبيه للحقّ الثابت المتزلزل، لا للمضمون؛ إذ المضمون عهدته لا هو نفسه.

والفرق يظهر في اللفظ والمعنى.

أمّا اللفظ فالعبارة عن ضمان الثمن: «ضمنتُ لك الثمن الذي في ذمّة زيد» مثلاً، ونحوه، وضمان العهدة:«ضمنتُ لك عهدته أو دركه» ونحو ذلك.

وأمّا المعنى فظاهر؛ إذ ضمانه نفسه يفيد انتقاله إلى ذمّة الضامن وبراءة المضمون عنه منه، وضمان العهدة ليس كذلك، إنّما يفيد ضمان دركه على بعض التقديرات.

ص: 32

• وكذا ما ليس بلازمٍ، لكن يؤول إلى اللزوم، كمال الجعالة قبل فعل ما شرط، وكمال السبق والرماية على تردّدٍ.

________________________________________

وقوله «ولو كان قبله لم يصحّ ضمانه عن البائع» أي لا يصحّ ضمان الثمن عن البائع قبل قبضه له، على تقدير ظهور المبيع مستحقّاً وقد قبض البائع الثمن، فإنّه ضمان ما لم يجب؛ لأنّه لم يدخل تحت يد البائع حال الضمان ليضمن عهدته، فيكون كما لو ضمن ما يستدينه ونحوه، وهو أيضاً ضمان عهدة.

واحترز بقوله «عن البائع» عن ضمانه عن المشتري للبائع، فإنّه جائز، سواء كان الضمان لنفسه بحيث ينتقل إلى ذمّة الضامن، كما لو لم يكن معيّناً في العقد، أم لعهدته، كأن يضمن للبائع عن المشتري عهدة الثمن لو ظهر مستحقّاً، وهذا إنّما يتمّ إذا كان الثمن غير معيّنٍ؛ إذ لا يبطل البيع باستحقاقه، بل يرجع إلى ثمنٍ آخَر، وأمّا إذا كان معيّناً فظهر مستحقّاً فإنّه يبطل البيع، ولا معنى حينئذٍ لضمان عهدته للبائع، وإنّما يحتاج البائع إلى ضمان عهدة المبيع، نعم، لو كان الضمان حينئذٍ لتجويز كونه معيباً صحّ على التقديرين.

وقد ظهر لك أنّ المراد في العبارة ب_«ضمان الثمن» ضمان عهدته في أكثر الصُوَر، وربما أراد ضمانه نفسه في بعض مفهوماتها، فوقعت مجملةً تحتاج إلى التفصيل، وسيأتي فائدة ضمان العهدة (1).

قوله: «وكذا ما ليس بلازم، لكن يؤول إلى اللزوم» إلى آخره.

المشبّه به المشار إليه ب_«ذا» يمكن كونه الحكم بالصحّة في السابق، وهو ضمان الثمن في مدّة الخيار؛ لمناسبة مال الجعالة والسبق له في التزلزل، وكون مآلهما إلى اللزوم، ولأنّ المقصود بالذات في السابق هو ذلك، وأمّا قوله «ولو كان قبله لم يصحّ» فإنّه كالتتمّة والرديف للسابق. ويمكن كونه هو هذا القريب، وهو عدم الصحّة؛ لقربه.

وكلاهما جائز ؛ للخلاف في المسألتين المشبّهتين. وكذا قوله «على تردّد».

ص: 33


1- يأتي في ص 42.

...

______________________________________________

ويمكن تعلّقه بالمسألتين معاً، وبالأخيرة، وهي حكم مال السبق والرماية ، والأوّل فيهما أوضح. وتلخيص الحكم أنّ عقد الجعالة من العقود الجائزة، يصحّ لكلّ من الجاعل والعامل فسخه قبل العمل وبعده، ومن أحكامه أنّ العامل لا يستحقّ المال المجعول إلّا بتمام العمل، فلو بقي منه شيءً وإن قلّ فليس له شيء، بخلاف الإجارة، حيث إنّ أُجرتها موزّعة على العمل بالنسبة، فضمان ماله إن كان بعد تمام العمل فلا ريب في صحّته؛ للزومه حينئذٍ للجاعل، وإن كان قبله فقد أطلق المصنّف الحكم بالصحّة على الأوّل، والبطلان على الثاني.

ووجه الصحّة أنّه وإن كان عقداً جائزاً والمال فيه ليس بلازمٍ حينئذٍ إلّا أنّه يؤول إلى اللزوم بتمام العمل، وقد وُجد سبب اللزوم، وهو العقد، فيكون كالثمن في مدّة الخيار.

وفيه نظر؛ لمنع وجود السبب، فإنّه العقد والعمل معاً، لا العقد وحده، وإنّما العقد جزء السبب، ولم يحصل به ثبوت ولا لزوم، فإنّ ما بقى من العمل أو مجموعه على تقدير عدم الشروع فيه لم يُستحقّ بسببه شيء، وما مضى منه كذلك؛ لأنهّ لو ترك الباقي لم يستحقّ شيئاً، فيكون الباقي بمنزلة الشرط في استحقاق الجميع.

والفرق بينه وبين الثمن في مدّة الخيار واضح؛ لأنّ الثمن حينئذٍ ثابت في ذمّة المشتري،مملوك للبائع، غاية ما في الباب أنّه متزلزل، ومآله - لو أُبقي علی حاله من غير فعل أصلاً - إلى اللزوم، بخلاف مال الجعالة، فإنّه لا ثبوت له أصلاً إلى أن يكمل الفعل، فالمتّجه عدم الجواز.

نعم، في قوله تعالى: ﴿وَ لِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ، زَعِيمٌ)(1) دلالة على جواز ضمان مال الجعالة قبل العمل؛ لأنّه ضمنه قبله، وقد استدلّ الفقهاء بهذه الآية على مسائل من الجعالة والضمان، فليكن هذا منها، إلًّا أنّ للبحث في ذلك مجالاً.

ص: 34


1- يوسف (12): 72 .

• وهل يصحّ ضمان مال الكتابة؟ قيل: لا؛ لأنّه ليس بلازمٍ، ولا يؤول إلى اللزوم، ولو قيل بالجواز كان حسناً؛ لتحقّقه في ذمّة العبد، كما لو ضمن عنه مالاً غير مال الكتابة.

______________________________________________

وفي التذكرة قطع بعدم الجواز قبل الشروع في العمل؛ لأنّه ضمان ما لم يجب، واستقرب الجواز لو كان بعد الشروع (1).

وأمّا مال السبق والرماية فلا شبهة في جواز ضمانه بعد العمل، كما مرّ(2)، وأمّا قبله فيبني على أنّه هل هو جعالة أو إجارة؟ و فيه خلاف يأتي إن شاء الله تعالى.

والأقوى أنّه عقد لازم كيف كان، فيلزم المال فيه بالعقد، ويصحّ ضمانه.

وقول المصنّف «وكمال السبق والرماية» أراد به قبل كمال العمل؛ لأنّه من أمثلة ما يؤول إلى اللزوم.

وقد ظهر أنّ التردّد يجوز كونه في الأمرين معاً، وأنّ عطفهما على الحكم بالصحّة أولى؛ نظراً إلى قوله «لكن يؤول إلى اللزوم» فإنّ فيه إيماءً إلى وجه الصحّة.

قوله: «وهل يصحّ ضمان مال الكتابة؟ - إلى قوله - غير مال الكتابة».

القول بعدم الصحّة للشيخ (رحمه الله)(3)؛ بناءً على أنّ الكتابة المشروطة غير لازمةٍ من قبل العبد، فلا يكون لازماً لذمّته، ولا يؤول إلى اللزوم؛ لأنّه لو عجّز نفسه رجع رقّاً وبطلت الكتابة، والضامن فرع المضمون عنه. والأصحّ أنّها لازمة مطلقاً، فيصحّ ضمان مالها.

ولو تنزّلنا إلى الجواز فالصحّة متّجهة أيضاً؛ لأنّ المال ثابت في ذمّة المكاتَب بالعقد، غايته أنّه غير مستقرّ، كالثمن في مدّة الخيار.

فعلى هذا متى ضمنه ضامن انعتق؛ لأنّه في حكم الأداء؛ بناءً على أنّه ناقل، وامتنع التعجيز، كما لو أدّى المال بنفسه.

ص: 35


1- تذكرة الفقهاء، ج 14، ص 317 - 318 ، المسألة 508 .
2- مر في ص 33 - 34.
3- المبسوط، ج 2، ص 318.

•ويصحّ ضمان النفقة الماضية والحاضرة للزوجة؛ لاستقرارها في ذمّة الزوج، دون المستقبلة.

_________________________________________________

وبهذا يحصل الفرق بينه وبين الثمن في زمن الخيار؛ فإنّ أداء الثمن لا يمنع الخيار، وغاية الضمان أنّه قبض، فلا يمنع بطريقٍ أولى.

من هنا أُشكل الجواز على تقدير الجواز(1)؛ لأنّه يؤدّي إلى اللزوم قهراً على المكاتَب؛ بناءً على عدم اشتراط رضى المضمون عنه في صحّة الضمان، فينافي الغرض من بناءً الكتابة على الجواز من طرف المكاتَب.

واعلم أنّ موضع الخلاف الكتابة المشروطة، كما بيّنّاه؛ إذ لا خلاف في لزوم المطلقة، فإطلاقها من المصنّف غير جيّدٍ.

قوله: «ويصحّ ضمان النفقة الماضية والحاضرة للزوجة» إلى آخره.

لمّا كانت نفقة الزوجة تستقرّ في الذمّة بفواتها؛ لأنّها عوض عن التمكين، وتجب في كلّ يومٍ حاضرٍ بطلوع فجره، صحّ ضمانها في الحالين بخلاف المستقبلة، كنفقة الشهر المستقبل، فإنّها غير واجبةٍ ؛ لاشتراطه بالتمكين، وهو ليس بحاصلٍ في زمنٍ لم يقع بعد، فلا يصحّ ضمانها.

وقوله «الاستقرارها في ذمّة الزوج» يتمّ في الماضية قطعاً، وأمّا الحاضرة فلا إشكال في وجوبها، وثبوتها في الذمّة مع التمكين، أمّا استقرارها ففيه نظر مبنيُّ على أنّها لو نشزت في أثناء النهار هل يستردّ نفقة ذلك اليوم أم لا؟ وفيه خلاف يأتي إن شاء الله الكلام فيه، أمّا لو ماتت أو طلّقها استقرّت.

واحترز بنفقة الزوجة عن نفقة الأقارب ؛ فإنّ الفائت منها لا يثبت في الذمّة، فلا يصحّ ضمانه.

والفرق بينها وبين نفقة الزوجة أنّ الغرض منها البر ّوالصلة والمواساة، فتفوت بفوات

ص: 36


1- في حاشية «و»: «أي أشكل جواز الضمان على تقدير جواز الكتابة. (منه رحمه الله)».

•وفي ضمان الأعيان المضمونة - كالغصب والمقبوضة بالبيع الفاسد - تردّد. والأشبه الجواز.

• ولو ضمن ما هو أمانة ، كالمضاربة والوديعة لم يصحّ ؛ لأنّها ليست مضمونة في الأصل.

____________________________________________

الوقت، بخلاف نفقة الزوجة؛ فإنّها معاوضة، فيسبيلها سبيل الدَين.

وضمان المستقبل منها أولى بعدم الصحّة، أمّا الحاضرة فالأقوى صحّة ضمانها؛ لوجوبها بطلوع الفجر، كالزوجة وإن عرض لها بعد ذلك الزوال لو تركت التمكين.

قوله: «وفي ضمان الأعيان المضمونة - كالغصب والمقبوضة بالبيع الفاسد - تردّد، والأشبه الجواز».

ضمان هذه الأعيان إمّا أن يكون على معنى تكليف الضامن بردّ أعيانها إلى مالكها، أو بمعنى ضمان قيمتها لو تلفت عند الغاصب والمستام ونحوهما، أو الأعمّ منهما، وفي صحّة الكلّ تردّد؛ منشوه وجود سبب الضمان للعين والقيمة، وهو القبض المخصوص، فيصحّ.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّه ضمان مال مضمون على المضمون عنه.

وأمّا الثاني فلثبوت القيمة في ذمّة الغاصب ونحوه لو تلفت، ومن أنّ الثابت في الأول هو وجوب الردّ، وهو ليس بمالٍ، والثاني ليس بواقعٍ، فهو ضمان ما لم يجب وإن وُجد سببه؛ لأنّ القيمة لا تجب إلّا بالتلف، ولم يحصل.

والأقوى عدم الجواز.

وفي ضمان القسم الأوّل فساد من وجهٍ آخر، وهو أنّ من خواصّ الضمان - كما قد عرفت - انتقال الحقّ إلى ذمّة الضامن وبراءة المضمون عنه، وهنا ليس كذلك؛ لأنّ الغاصب مخاطب

بالردّ ومكلّف به إجماعاً، وإنّما يفيد هذا الضمان ضمّ ذمّةٍ إلى ذمّةٍ وليس من أصولنا .

قوله: «ولو ضمن ما هو أمانة، كالمضاربة والوديعة لم يصحّ» إلى آخره.

أشار بالتعليل إلى الفرق بينها وبين ما سبق؛ حيث جوّز ضمانه على تقدير تلفه، مع أنّه ليس بواقع.

ص: 37

• ولو ضمن ضامن ثمّ ضمن عنه آخر هكذا إلى عدة ضمناء كان جائزاً.

______________________________________________

ووجه الفرق أنّ سبب الضمان حاصل فى تلك باليد العادية، بخلاف هذه؛ لأنّها ليست مضمونةٌ وإن فُرض ضمانه لها على تقدير التعدّي؛ لأنّ السبب الآن ليس بواقع.

نعم، لو كان قد تعدّى فيها فحكمها حكم السابقة، بل هي من جملة أفرادها؛ لأنّ البحث فيها عن ضمان الأعيان المضمونة أعمّ من كونها مضمونة بالأصل والعارض.

نعم، في قول المصنّف «ليست مضمونةٌ في الأصل» إشعار بعدم دخول التعدّي في السابق؛ لأنّه ليس بمضمون في الأصل، لكنّه لا يخلو من تجوّزٍ.

ويمكن أن يريد ب_«الأصل» ما يعمّ حالة الضمان، بمعنى أنّ ما ليس مضموناً في أصل عقد الضمان - أي في وقته - لا يصحّ ضمانه، ولا بدّ من التكلّف.

قوله: «ولو ضمن ضامن ثمّ ضمن عنه آخر هكذا إلى عدّة ضمناء كان جائزاً».

لا شبهة في جواز ترامي الضمان متعدّداً ما أمكن؛ لتحقّق الشرط، وهو ثبوت المال في ذمّة المضمون، وهو هنا كذلك، ويبقى حكم رجوع كلّ ضامن بما أدّاه على مضمونه، لا على الأصيل إذا ضمن بإذنه إلى آخر ما يعتبر، ثمّ يرجع الضامن الأوّل على الأصيل بالشرط، وهكذا.

ولا عبرة بإذن الأصيل للثاني وما بعده في الضمان، فلا يرجع عليه به؛ إذ لا حقّ عليه، إلّا أن يقول له: «أضمن عنه ولك الرجوع عَلَيَّ».

وهذه المسألة من فروع القول بالانتقال أو الضمّ، ويتفرّع على القولين فروع جليلة.

وكما يصحّ ترامي الضمان يصحّ دوره، بأن يضمن الأصيل ضامنه، أو ضامن ضامنه وإن تعدّد؛ لعدم المانع، فيسقط بذلك الضمان، ويرجع الحقّ كما كان.

نعم، يترتّب عليه أحكامه، كما لو وجد المضمون له الأصيل - الذي صار ضامناً - معسراً، ونحو ذلك؛ فإنّ له الفسخ والرجوع إلى الضامن السابق، وقد يختلفان بأن يضمن الحالّ مؤجّلاً، وبالعكس.

ص: 38

• ولا يشترط العلم بكمّيّة المال، فلو ضمن ما في ذمّته صحّ على الأشبه.

• ويلزمه ما تقوم به البيّنة أنّه كان ثابتاً في ذمّته وقت الضمان، لا ما يوجد في كتاب، ولا ما يقرّ به المضمون عنه، ولا ما يحلف عليه المضمون له بردّ اليمين.

___________________________________________-

وخالف في ذلك الشيخ (رحمه الله)؛ محتجّاً باستلزامه صيرورة الفرع أصلاً والأصل فرعاً، وبعدم الفائدة (1).

وضعفه ظاهر؛ فإنّ الاختلاف في الأصليّة والفرعيّة لا يصلح للمانعيّة. والفائدة موجودة، كما ذكرناه.

قوله: «ولا يشترط العلم بكمّيّة المال، فلو ضمن ما في ذمّته صحّ على الأشبه».

للأصحاب في ضمان المجهول الذي يمكن استعلامه بعد ذلك قولان، أشهرهما الجواز؛ للأصل، ولإطلاق قوله(صلی الله علیه و آله و سلم) : «الزعيم غارم»(2)، ولظاهر قوله تعالى: ﴿وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ، زَعِيمٌ)(3) مع اختلاف كمّيّة الحمل، ولأنّ الضمان عقد لا ينافيه الغرر؛ لأنّه ليس

معاوضةً ؛ لجوازه من المتبرّع، وضمان العهدة.

والقول الآخر: المنع؛ لأنّه إثبات مال في الذمّة لآدمي، فلا يصحّ في المجهول، كالبيع. ويُنتقض بالإقرار.

و موضع الخلاف في صورةٍ يمكن العلم فيها بعد ذلك، كما لو ضمن الدَين الذي عليه، أو ثمن ما باع من فلان، وإليه أشار المصنّف بقوله «فلو ضمن ما في ذمّته صحّ»، أمّا لو لم يمكن الاستعلام لم يصحّ الضمان قولاً واحداً، كما لو قال: ضمنتُ لك شيئاً ممّا لك على فلان؛ لصدق الشيء على القليل والكثير. واحتمال لزوم أقلّ ما يتناوله الشيء كالإقرار يندفع بأنّه ليس هو المضمون وإن كان بعض أفراده.

له: «ويلزمه ما تقوم به البيّنة أنّه كان ثابتاً فى ذمّته وقت الضمان» إلى آخره.

ص: 39


1- المبسوط، ج 2، ص 324.
2- مسند أحمد، ج 1، ص 357 - 358، ح 21791 و 21792؛ الجامع الصحيح، ج 3، ص 565، ح 1265.
3- يوسف .(12): 72.

...

________________________________________________

هذا تفريع على صحّة ضمان المجهول؛ فإنّه حينئذٍ يلزمه ما يثبت بالبيّنة أنّه كان لازماً للمضمون عنه وقت الضمان، لا ما يتجدّد؛ لأنّه لم يتعلّق به الضمان، ولا ما يوجد في كتاب و دفترٍ ؛ لعدم ثبوته في ذمّته، وإنّما يلزم الثابت، ولا ما يقرّ به المضمون عنه؛ لأنّ إقراره إنّما ينفذ على نفسه، لا على غيره، ولا ما يحلف عليه والمضمون له بردّ اليمين من المضمون عنه؛ لأنّ الخصومة حينئذٍ مع الضامن والمضمون عنه، فلا يلزمه ما يثبت بمنازعة غيره، كما لا يثبت ما يقرّ به.

نعم، لو كان الحلف بردّ الضامن، ثبت عليه ما حلف عليه. وإطلاق المصنّف عدم الثبوت بما يحلف عليه بردّ اليمين منزّلُ على الأوّل.

وهذا محصّل الحكم، وفي المسألة أقوال أخَر:

منها : لزوم ما أقرّ به الغريم أيضاً، ذهب إليه أبو الصلاح وابن زهرة(1).

ومنها: لزوم ما يحلف عليه المضمون له من غير تقييد وهو قول المفيد(2) .

ومنها: تقييده برضى الضامن، وهو قول الشيخ (3).

ويمكن ردّه إلى الأوّل بحمل الرضى على الردّ وإن كان أعمّ منه.

وفي المختلف بنى ذلك على أنّ يمين المدّعي هل هي كالبيّنة أو كإقرار المنكر ؟ فيثبت على الضامن ما حلف عليه عن الأوّل، دون الثاني، إلّا أن يرضى الضامن بها(4) .

ورُدّ بأنّ كونها كالبيّنة إنّما هو في حقً رادٌ اليمين(5) ، كما أنّها إذا كانت كالإقرار تكون كإقراره، فلا يلزم الضامن على التقديرين إذا لم يردٌ أيضاً، وقد مضى ما في الرضى.

ص: 40


1- الكافي في الفقه، ص 340: غنية النزوع، ج 1، ص 260.
2- المقنعة، ص 815-816 .
3- النهاية، ص 315 - 316.
4- مختلف الشيعة، ج 5، ص 482، المسألة 144.
5- الراد هو المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 5، ص 327.

• أمّا لو ضمن ما يشهد به عليه لم يصحّ؛ لأنّه لا يعلم ثبوته في الذمّة وقت الضمان.

______________________________________________

ويمكن دفعه بأنّ البيّنة لا فرق فيها بين أن يكون المنازع المضمون عنه أو الضامن؛ لأنّ الحقّ يثبت بها مطلقاً، بخلاف الإقرار؛ فإنّه لا يثبت إلّا على المقرّ، فالبناء عليها متّجه.

قوله: «أمّا لو ضمن ما يشهد به عليه لم يصحّ؛ لأنّه لا يعلم ثبوته في الذمّة وقت الضمان».

قد عُلم أنّ شرط صحّة الضمان تعلّقه بالدَين الثابت في الذمّة وقت الضمان على ما فيه من الخلاف، فلو ضمن ما يتجدّد في ذمّته لم يصحّ؛ لأنّه ضمان ما لم يجب، وحينئذٍ فضمانه لما يشهد به عليه يشمل ما كان ثابتاً في ذمّته وقت الضمان وما يتجدّد، فلا يصحّ؛ إذ لا يدلّ على ضمان المتقدّم؛ لأنّ العامّ لا يدلّ على الخاصّ، فعلى هذا لو صرّح بقوله «ما يشهد عليه» أنّه كان ثابتاً فى ذمّته وقت الضمان، فلا مانع من الصحّة، كما لو ضمن ما في ذمّته، ولزمه ما تقوم به البيّنة أنّه كان ثابتاً.

وحينئذٍ فتعليله بقوله «لأنّه لا يعلم ثبوته في الذمّة وقت الضمان» لا يخلو من قصورٍ، لأنّه يقتضي أنّه لو ضمن بهذه الصورة وثبت كون المشهود به كان في الذمّة وقت الضمان صحِّ، والحال أنّ مثل ذلك لا يصحّ؛ لعدم وقوع صيغة الضمان موقعها، كما عرفت، والتعليل منزّل على ذلك؛ لأنّ المضمون لمّا كان للأعمّ من الثابت وقت الضمان وعدمه لم يدلّ على أحد الأمرين بخصوصه، فلا يعلم ثبوته في الذمّة وقت الضمان، أي لم يعلم إرادة الثابت من الصيغة، هكذا علّل في القواعد والمختلف(1) وغيرهما(2).

ونبّه بالمنع من هذه الصيغة على خلاف الشيخ (رحمه الله)، حيث ذكر في المبسوط ما يدلّ على جواز ذلك(3).

ويمكن أن لا يكون حكايةً لقول آخر، بل يريد به ما ذكرناه سابقاً من جواز ضمان ما تقوم به البيّنة أنّه كان ثابتاً وقت الضمان في ذمّة المديون.

ص: 41


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 158؛ مختلف الشيعة، ج 5، ص 482، المسألة 146.
2- تحرير الأحكام الشرعية، ج 2، ص 552، الرقم 3917.
3- المبسوط، ج 2، ص 317 .

الثالث في اللواحق

و هي مسائل:

الأولى: • إذا ضمن عهدة الثمن لزمه دركه في كلّ موضعٍ يثبت بطلان البيع من رأسٍ.

_______________________________________________

قوله: «إذا ضمن عهدة الثمن لزمه دركه في كلّ موضعٍ يثبت بطلان البيع من رأسٍ».

لا فرق بين ضمان العهدة وغيره في اشتراط ثبوت الحقّ في ذمّة المضمون عنه وقت الضمان، فإذا ضمن عهدة الثمن للمشتري عن البائع إذا كان قد قبضه البائع اعتبر كونه ثابتاً في ذمّته ولو في نفس الأمر ، وذلك على تقدير فساد البيع؛ ليكون حال الضمان مضموناً عليه، لقبضه له بغير استحقاق، وردّه على المشتري حقٌّ ثابت فيصحّ ضمانه، وذلك على تقدير ظهور المبيع مستحقّاً لغيره ولم يُجز المالك البيع، أو أجازه ولم يرضَ بقبض البائع الثمن.

ومثله ما لو تبيّن خلل في البيع اقتضى فساده، كتخلف شرطٍ فيه، أو اقتران شرطٍ فاسدٍ به؛ فإنّ ضمان الثمن للمشتري يصحّ في جميع ذلك؛ لِما تقدّم من العلّة.

وفي الحقيقة هذا فرد من أفراد ضمان الأعيان المضمونة على تقدير كونه موجوداً حالة الضمان، وقد تقدّم ما في ضمان الأعيان(1) .

والمصنّف هنا إمّا رتّب الحكم على مذهبه هناك، أو أنّ هذا الفرد خارج من البين؛ لمكان الضرورة، فإنّ ظاهرهم الإطباق على جوازه.

واعلم أنّ العهدة في الأصل اسم للوثيقة، أو للكتاب الذي يكتب فيه وثيقة البيع، ويذكر فيه مقدار الثمن وأحواله من وصف وحلول وتأجيلٍ، ثمّ نُقل إلى نفس الثمن وغلب فيه، كذا في التحرير (2)وغيره(3) .

ص: 42


1- تقدّم في ص 37.
2- تحرير الأحكام الشرعية، ج 2، ص 555، ذيل الرقم 3924.
3- حاشية القواعد، ص 287 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 14).

•أمّا لو تجدّد الفسخ بالتقابل أو تلف المبيع قبل القبض لم يلزم الضامن، ورجع على البائع.

_________________________________________

وفي التذكرة :

سُمّي ضمان العهدة لالتزام الضامن ما في عهدة البائع ردّه، أو لما ذكره في الصحاح ، فقال، يقال: في الأمر عُهدة، بالضمّ ، أي لم يحكم بعد، وفي عقله عهدة، أي ضعف ، فكأنّ الضامن ضمن ضعف العقد، والتزم ما يحتاج إليه فيه من غُرْمٍ، أو أنّ الضامن التزم رجعة المشتري عليه عند الحاجة، ويُسمّى أيضاً ضمان الدرك، قال في الصحاح : الدَرَك: التبعة، وقيل: سمّي ضمان الدرك؛ لالتزامه الغرامة عند إدراك المستحقّ عين ماله.

قوله: «أمّا لو تجدّد الفسخ بالتقايل أو تلف المبيع قبل القبض لم يلزم الضامن، ورجع على البائع».

لمّا كان شرط الضمان اشتغال الذمّة بالمضمون على أحد الوجوه السابقة، كان المعتبر في ضمان العهدة وجود الضمان للعين حالته، فلا عبرة بالمتجدّد بعد ذلك، كالفسخ بالتقايل، وتلف المبيع قبل القبض، والفسخ بخيار المجلس والحيوان والشرط ونحوها؛ فإنّه حالة الضمان لم يكن فاسداً فلم يكن مضموناً، فضمانه على هذا الوجه ضمان لما لم يجب، فلا يدخل في مطلق ضمان العهدة، ولا يصحّ على تقدير التصريح به، والمراد من العبارة الأوّل.

واعلم أنّه في التذكرة بني حكم تلف المبيع قبل القبض على أنّ التلف هل يبطل العقد من حينه أو من أصله؟ فعلى الأوّل لا يتناوله الضمان، وعلى الثاني يتناوله، فيطالب الضامن .

وفيه نظر؛ لأنّا وإن حكمنا بكونه مبطلاً من أصله لكن هذا حكمٌ لاحقُ للضمان؛ فإنّ

ص: 43

•وكذا لو فسخ المشتري بعيب سابقٍ.

• أمّا لو طالب بالأرش رجع على الضامن ؛ لأنّ استحقاقه ثابت عند العقد. وفيه تردّد.

____________________________________________

المبيع حالته كان ملكاً للمشتري ظاهراً وفي نفس الأمر، فلا يتناول الضمان الثمن؛ لأنّه لم يكن لازماً للبائع مطلقاً، وإنّما التلف الطارئ كان سبباً في حكم الله تعالى بعود الملك إلى صاحبه من أصله.

قوله: «وكذا لو فسخ المشتري بعيبٍ سابق».

أي لا يدخل ذلك في ضمان العهدة، فلا يلزم الضامن الثمن على تقدير الفسخ بالعيب، بل يطالب البائع؛ لأنّ فسخ العيب إنّما أبطل العقد من حينه لا من أصله، فلم يكن حالة الضمان مضموناً كالسابق حتّى لو صرّح بضمانه فسد؛ لأنّه ضمان ما لم يجب.

وربما قيل: بدخول هذا الفرد في الإطلاق وصحّة ضمانه؛ لتقدّم سبب الفسخ، وهو العيب الموجود حال البيع، ودعاء الحاجة إليه.

وهذا على تقدير صحّته يجب تقييده بعيبٍ سابقٍ، وإلّا فقد يصحّ الفسخ بعيبٍ لاحقٍ، كما لو وقع قبل القبض أو في الثلاثة كما سبق، وهذا لا يكون موجوداً حالة الضمان الواقع عند البيع، فيكون كالمتجدّد من الأسباب لا يصحّ ضمانه قولاً واحداً.

والأصحّ عدم دخوله في الضمان مطلقاً، كما اختاره المصنّف (رحمه الله).

قوله: «أمّا لو طالب بالأرش رجع على الضامن» إلى آخره.

أشار بالتعليل إلى الفرق بين الأرش والثمن، حيث يدخل الأرش في ضمان العهدة دون الثمن على تقدير الفسخ بالعيب؛ فإنّ الثمن إنّما يجب بالفسخ اللاحق للضمان، كما تقدّم، أمّا الأرش فإنّه جزء من الثمن ثابت وقت الضمان فيندرج في ضمان العهدة؛ لكنه مجهول القدر حينئذ، فينبغي بناؤه على صحّة ضمان المجهول الذي يمكن استعلامه، إلّا أن يختصّ ضمان العهدة بحكمٍ زائدٍ، كما خرج من حكم ضمان الأعيان المضمونة.

ص: 44

الثانية: إذا خرج المبيع مستحقّاً رجع على الضامن،• أمّا لو خرج بعضه رجع على الضامن بما قابل المستحقّ، وكان في الباقي بالخيار، فإن فسخ رجع على البائع بما قابله خاصّةً.

__________________________________________

ومثله ما لو ظهر نقصان الصنجة التي وزن بها الثمن أو المثمن، حيث يضمن عهدته أو يصرّح بدخوله؛ لوجود ذلك حالة الضمان في نفس الأمر.

ومنشأ التردّد في الأرش ممّا ذُكر، ومن أنّ الاستحقاق له إنّما حصل بعد العلم بالعيب واختيار أخذ الأرش، والموجود حالة العقد من العيب ما كان يلزمه تعيين الأرش، بل التخيير بينه وبين الردّ، فلم يتعيّن الأرش إلّا باختياره.

ولو قيل: إنّه أحد الفردين الثابتين على وجه التخيير - فيكون كأفراد الواجب المخيّر حيث يوصف بالوجوب قبل اختياره، فيوصف هذا بالثبوت قبل اختياره - لزم مثله في الثمن؛ لأنّه قسيمه في ذلك.

والحقّ ثبوت الفرق بينهما ؛ فإنّ الثمن ما وجب إلّا بالفسخ ، وأمّا الأرش فإنّه كان واجباً بالأصل ؛ لأنّه عوض جزء فائتٍ من مال المعاوضة، ويكفي في ثبوته بقاء المشتري على الشراء، وإنّما ينتقل إلى الثمن بارتفاع آخَر، حيث لم يسلم له المبيع تامّاً .

ومحصّل الإشكال يرجع إلى أنّ الأرش هل هو ثابت بالعقد، وإنّما يزول بالفسخ والرجوع إلى الثمن، أو أنّ سببه وإن كان حاصلاً لا يثبت إلّا باختياره؟ وتظهر الفائدة فيما لو لم يعلم بالعيب، أو علم ولم يطالب، فهل تبقى ذمّة من انتقل عنه المعيب مشغولةً له بالأرش أم لا؟ وقد تقدّم في باب السَلَم لهذه المسألة مزيد بحثٍ(1).

قوله: «أما لو خرج بعضه رجع على الضامن بما قابل المستحقّ» إلى آخره.

إذا ظهر بعض المبيع مستحقّاً، فذلك البعض كان ثمنه ثابتاً في ذمّة البائع حالة الضمان، فصحّ ضمانه، فيطالب الضامن بحصّته من الثمن إن لم يُجز مالكه، ثمّ إن فسخ المشتري في الباقي - لتبعّض الصفقة - طالب بثمنه البائع؛ لعدم تناول الضمان له.

ص: 45


1- تقدم في ج 3، ص 348، المقصد الثالث في أحكام السلف.

الثالثة: • إذا ضمن ضامن للمشتري درك ما يحدث من بناءٍ أو غرسٍ لم يصحّ؛ لأنّه ضمان ما لم يجب،•وقيل : كذا لو ضمنه البائع. والوجه الجواز؛ لأنّه لازم بنفس العقد.

______________________________________________

وخالف في ذلك الشيخ (رحمه الله)، فجوز الرجوع على الضامن بالجميع؛ لوجود سبب الاستحقاق حال العقد كالعيب (1).

ونحن لمّا أبطلنا الحكم في العيب فهنا أولى.

نعم، من قال به فعليه بيان الفرق بين الأمرين؛ فإنّ تبعّض الصفقة الذي هو سبب الفسخ

كان متحقّقاً وقت البيع.

والعلّامة ردّه بأنّ سبب الاستحقاق هو الفسخ لا الاستحقاق الذي كان في بعضه(2)، وفيه نظر.

قوله: «إذا ضمن ضامن للمشتري درك ما يحدث من بناءٍ أو غرسٍ لم يصحّ» إلى آخره.

المراد أنّه ضمن للمشتري ضامن عن البائع درك ما يحدثه في الأرض التي اشتراها من بناءٍ، أو غرس لو ظهرت الأرض مستحقّةً وقلع المالك بناءه وغرسه.

والمراد بدرك ذلك تفاوت ما بين قيمته ثابتاً ومقلوعاً؛ فإنّ هذا الضمان لا يصحّ فلا يستحقّ الرجوع عليه لو ظهر الاستحقاق وقلع؛ لأنّه ضمان ما لم يجب؛ لأنّه حين الضمان لم يكن مستحقّاً للأرش على البائع، إنّما استحقّه بعد القلع، ولكن سببه كان موجوداً وقت الضمان، وهو كون الأرض مستحقّة للغير، فينبغي جريان الاحتمال السابق فيها، ومن ثَمّ ذهب بعض العامّة إلى جواز الضمان هنا(3) ؛ بناءً على أصله السابق.

قوله: «وقيل: كذا لو ضمنه البائع، والوجه الجواز؛ لأنّه لازم بنفس العقد».

إذا قلع المستحقّ غرس المشتري وبناءه في الصورة المذكورة، فله الرجوع على البائع

ص: 46


1- المبسوط، ج 2، ص 309 .
2- مختلف الشيعة، ج 5، ص 485، المسألة 151.
3- في حاشية بعض النسخ: هو أبو حنيفة منه رحمه الله)». وراجع المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 5. ص ،78 ، المسألة 3573؛ والشرح الكبير المطبوع مع المغني، ج 5، ص 86 .

الرابعة:• إذا كان له على رجلين مال، فضمن كلّ واحدٍ منهما ما على صاحبه تحوّل ما كان على كلّ واحدٍ منهما إلى صاحبه، ولو قضى أحدهما ما ضمنه برئ، وبقي على الآخَر ما ضمنه عنه، ولو أبرأ الغريم أحدهما برئ ممّا ضمنه دون شريكه.

__________________________________________

بالأرش، ضمن أم لم يضمن، فعلى هذا لو ضمن البائع ذلك فهل يصحّ الضمان؟ قال المصنف: «الوجه الجواز؛ لأنّه لازم بنفس العقد» وكأنّه أراد أنّه إذا كان لازماً له - وإن لم يضمن كان ضمانه تأكيداً.

وفيه نظر؛ لأنّه لا يلزم من ضمانه لكونه بائعاً مسلّطاً له على الانتفاع مجّاناً ضمانه بعقد الضمان، مع عدم اجتماع شرائطه التي من جملتها كونه ثابتاً حال الضمان، فعدم الصحّة أقوى، وحينئذٍ فالخلاف ليس في ثبوت ذلك على البائع أم لا: فإنّه ثابت بغير إشكالٍ، بل في ثبوته بسبب الضمان.

وتظهر الفائدة فيما لو أسقط المشتري عنه حقّ الرجوع بسبب البيع، فيبقى له الرجوع عليه بسبب الضمان لو قلنا بصحّته، كما لو كان له خياران فأسقط أحدهما، فإنّه يفسخ بالآخَر إن شاء، وفيما لو كان قد شرط على البائع في عقد البيع ضماناً بوجهٍ صحيحٍ، فإن صحّحنا هذا كفى في الوفاء بالشرط وإن لم يحصل للمشتري نفع جديد.

فقد ظهر أنّ هذا الضمان قد يفيد فائدة أخرى غير التأكيد لو قلنا بصحّته.

وبه يظهر ضعف تعليل جوازه بكونه ثابتاً، ضمن أم لم يضمن؛ لأنّ هذه الفوائد الأُخَر لم تكن ثابتة لو لم يضمن.

قوله: «إذا كان له على رجلين ،مال، فضمن كلّ واحد منهما - إلى قوله - دون شريكه».

لا إشكال في صحّة هذا الضمان؛ لأنّ كلّ واحدٍ جامع لشرائط الصحّة، ثمّ إن تساوى المالان، وكان ضمان كلّ واحدٍ بسؤال الآخَر، ولم يتغيّر وصف الدين بالحلول والتأجيل، ففائدة هذا الضمان تعاكسهما في الأصالة والفرعيّة، ويترتّب عليه ما لو أبرأ المضمون له أحدهما فإنّه يبرأ الآخَر. وقول المصنّف «ولو أبرأ الغريم أحدهما برئ ممّا ضمنه دون شريكه» يريد أنّ شريكه

ص: 47

الخامسة : • إذا رضي المضمون له من الضامن ببعض المال أو أبرأه من بعضه لم يرجع على المضمون عنه إلّا بما أدّاه، •ولو دفع عرضاً عن مال الضمان رجع بأقلّ الأمرين.

_____________________________________________

لا يبرأ ممّا ضمنه، لكنّه يبرأ مما كان عليه؛ لاقتضاء الضمان ذلك.

وتظهر الفائدة أيضاً في انفكاك الرهن الذي كان على الدَينين أو على أحدهما؛ لأنّ الضمان بمنزلة الأداء، وإن اختلفا بأحد الوجوه المذكورة ظهرت فوائد أَخَر؛ إذ قد يضمن المؤجَّل حالاً ، وبالعكس، أو يكون أحدهما أيسر ويضمن الأكثر، أو يكون أحدهما متبرّعاً، ونحو ذلك.

وإنّما يتحوّل ما كان على كلّ واحد إلى صاحبه مع ضمانهما دفعةً ورضى المضمون له بهما، فلو ردّ أحدهما بطل، واجتمع على الآخَر الحقّان، وكذا لو ضمنا على التعاقب اجتمعا على الأخير. وعلى قول من جعله ضمّ ذمّةٍ إلى ذمّةٍ يشتركان في المطالبة لكلّ واحدٍ منهما.

قوله: «إذا رضي المضمون له من الضامن ببعض المال - إلى قوله - إلّا بما أدّاه».

قد تقدّم أنّ الضامن إنّما يرجع على المديون مع ضمانه بإذنه(1) ، وعلى تقديره فإنّما يرجع بما أدّاه إن لم يزد عن الحقّ، وإلّا رجع بالحقّ.

والضابط أنّه يرجع بأقلّ الأمرين ممّا أدّاه ومن الحقّ في كلّ موضع له الرجوع.

ولا فرق عندنا في رجوعه بالبعض الذي أدّاه بين كون الزائد سقط عنه بإبراء المضمون له وغيره، خلافاً لبعض العامّة حيث جوّز له الرجوع بالجميع لو أبرأ منه أو من بعضه؛ لأنّه هبة ومسامحة من ربّ الدَين للضامن خاصّةً(2).

نعم، لو قبض منه الجميع ثمّ وهبه بعضه جاز رجوعه به؛ لصدق أداء الجميع، وكذا لو وهبه الجميع.

قوله: «ولو دفع عرضاً عن مال الضمان رجع بأقلّ الأمرين».

ص: 48


1- تقدّم في ص 31.
2- العزيز شرح الوجيز ، ج 5، ص 177 روضة الطالبين، ج 3، ص500.

السادسة • إذا ضمن عنه ديناراً بإذنه فدفعه إلى الضامن فقد قضى ما عليه، ولو قال: «ادفعه إلى المضمون له» فدَفَعه فقد برئا، ولو دفع المضمون عنه إلى المضمون له بغير إذن الضامن برى الضامن والمضمون عنه.

___________________________________________

من قيمته ومن الدَين، ولا فرق في ذلك بين أن يكون قد رضي المضمون له بالعرض عن دَينه بغير عقدٍ، وبين أن يصالحه الضامن به عن دَينه، فلو كان ثوباً يساوي مائةً وصالحه به عن الدَين وهو مائتان لم يرجع إلّا بقيمة الثوب.

هذا إذا جرى البيع على العرض بنفس المال المضمون، أمّا لو صالحه عليه في المثال بمائتين مطلقاً ثمّ تقاصّا فالمتّجه رجوعه بالمائتين؛ لأنّها تثبت له في ذمّته بغير استيفاءٍ، وإنّما وقع الأداء بالجميع.

ويحتمل الرجوع بقيمته خاصّةً؛ لأنّ الضمان وُضع للارتفاق.

وتوقّف في التذكرة في ذلك(1).

قوله: «إذا ضمن عنه ديناراً بإذنه فدفعه إلى الضامن فقد قضى ما عليه» إلى آخره.

قد عرفت أنّ الضامن لا يستحقّ عند المضمون عنه شيئاً إلى أن يؤدّي مال الضمان، فإذا ابتدأ المديون ودفع الدَين إلى الضامن فقد تبرّع بالأداء قبل وجوبه، فلا يستحقّه الضامن، وليس له التصرّف فيه. نعم، له دفعه في الدَين تبعاً للإذن.

وقول المصنّف «فقد قضى ما عليه قد يوهم خلاف ذلك، وأنّه يكون بمنزلة أداء الدَين. وليس كذلك، وإنّما المراد أنّه تخلّص من الحقّ؛ لأنّ الضامن إن دفعه فقد برئ، وإن لم يدفعه كان في يده مساوياً للحقّ إلى أن يؤدّي، فيأخذه من دَينه، وإن أبراً من الدَين أو بعضه وجب عليه ردّ ما قابله إلى المديون، فالمديون قد قضى ما عليه على كلّ حالٍ.

ولكنّ هذا إنّما يتمّ مطلقاً على تقدير أن يكون المقبوض في يد الضامن مضموناً

ص: 49


1- تذكرة الفقهاء ، ج 14، ص 360، ذيل المسألة 538.

السابعة: • إذا ضمن بإذن المضمون عنه ثمّ دفع ما ضمن وأنكر المضمون له القبض كان القول قوله مع يمينه،

___________________________________________

عليه، وإلّا لأمكن أن يتلف في يده بغير تفريطٍ، فلا يكون المديون في هذه الصورة قد قضى ما عليه.

وليس ببعيدٍ كونه مضموناً ، كالمقبوض بالسوم، ولعموم:«على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي»(1) .

واستشكل في التذكرة كونه مضموناً بعد أن حَكَم به(2).

نعم، لو قال المديون للضامن: «اقض به ما ضمنتَ عنّي» فهو وكيل والمال في يده أمانة. والفرق بينه وبين ما سبق واضح؛ لأنّه دفعه في السابق إليه إمّا مطلقاً أو أنّه الحقّ المضمون، وعلى التقديرين ليس بمستحقّ عليه للضامن، بخلاف قوله: «اقض به ما ضمنتَ»؛ لأنّه وكالة في قبضه ودفعه.

وضمير قوله «ولو قال» يعود إلى الضامن، أي قال الضامن للمضمون عنه: «ادفعه أنت إلى المضمون له» فدفعه فقد برئا، أمّا الضامن فلوفاء دَينه، وأمّا المضمون عنه؛ فلأنّ الضامن له»

لم يغرم، فلا يرجع عليه.

ويمكن اعتبار التقاصّ القهري؛ لثبوت ما دفعه المديون في ذمّة الضامن؛ لأنّه المديون وقد أذن في وفائه، وثبوت مثله في ذمّة المضمون عنه لأدائه، فيتقاصّان.

وأمّا لو دفع المضمون عنه إلى المضمون له بغير سؤال الضامن فإنّه يكون قد تبرّع عليه بوفاء دَينه، فيبرأ الضامن، ولا يرجع عليه الدافع لتبرّعه، فلا يرجع هو لعدم غرامته، فيبرءان معاً أيضاً كالسابق، لكن الاعتبار مختلف.

قوله: «إذا ضمن بإذن المضمون عنه ثمّ دفع ما ضمن» إلى آخره.

ص: 50


1- مسند أحمد، ج 5، ص 638، ح 19620؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 296، ح 3561؛ الجامع الصحيح، ج 3، ص 566. ح 1266 .
2- تذكرة الفقهاء، ج 14، ص 350 المسألة 529 .

• فإن شهد المضمون عنه للضامن قُبلت شهادته مع انتفاء التهمة على القول بانتقال المال.

_____________________________________________

لأصالة عدم القبض، وحينئذٍ فلا يرجع الضامن على المضمون عنه بشيءٍ؛ لعدم تحقّق غرمه، واستحقاقه الرجوع مشروط به، ولا فرق في ذلك بين ضمانه بالإذن وعدمه، وإنّما قيّد بالإذن ليترتّب عليه الأحكام الآتية؛ إذ لا تهمة مع عدمها مطلقاً ولا رجوع.

قوله: «فإن شهد المضمون عنه للضامن قبلت شهادته» إلى آخره.

لمّا كان المضمون عنه مع إذنه في الضمان يثبت عليه ما يغرمه الضامن، فشهادته له بالأداء شهادة على نفسه وشهادة لغيره فتُسمع، إلّا أن تفرض عليه تهمة في الشهادة بحيث تفيده فائدة زائدة على ما يغرمه فتردّ.

وقد فرضوا التهمة في صُورٍ:

منها: أن يكون الضامن قد صالح على أقلّ من الحقّ، فيكون رجوعه إنّما هو بذلك، فشهادة المضمون عنه له به تجرّ إلى نفسه نفعاً ، فإنّ ذلك إذا لم يثبت يبقى مجموع الحقّ في ذمّة الضامن.

وفيه نظر؛ لأنّه يكفي في سقوط الزائد عن المضمون عنه اعتراف الضامن بذلك، ولا حاجة إلى الثبوت بالبيّنة كما سيأتي، فتندفع التهمة، فتُقبل الشهادة.

ومنها: أن يكون الضامن معسراً، ولم يعلم المضمون له بإعساره؛ فإنّ له الفسخ حيث لا يثبت الأداء، ويرجع على المضمون عنه، فيندفع بشهادته عود الحقّ إلى ذمّته.

ومنها: أن يكون الضامن قد تجدّد عليه الحجر للفلس، وللمضمون عنه عليه دين؛ فإنّه يوفّر بشهادته مال الضامن، فيزداد ما يضرب به.

ولا فرق في هاتين الصورتين بين كون الضامن متبرّعاً وبسؤالٍ؛ لأنّ فسخ الضمان يوجب العود على المديون على التقديرين، أمّا الأولى فهي مخصوصة بالضامن بسؤالٍ، ليرجع بما غرم.

وإنّما تُسمع الشهادة بوجهٍ على القول بكون الضمان ناقلاً، كما هو المذهب، فلو قلنا بأنّه يفيد الضمّ خاصّةً لم تُسمع مطلقاً.

ص: 51

• ولو لم يكن مقبولاً فحلف المضمون له كان له مطالبة الضامن مرّة ثانيةً، ويرجع الضامن على المضمون عنه بما أدّاه أوّلاً.

•ولو لم يشهد المضمون عنه رجع الضامن بما أدّاه أخيراً.

___________________________________________

وقول المصنّف «على القول بانتقال المال» يشعر بأنّ لأصحابنا قولاً بغيره، وفيما تقدّم أشار إليه أيضاً(1)، وهو نادر.

قوله: «ولو لم يكن مقبولاً فحلف المضمون له كان له مطالبة الضامن» إلى آخره.

عدم قبول شهادة المضمون عنه إمّا لعدم عدالته أو للتهمة، وحينئذٍ فالقول قول المضمون له؛ لِما تقدّم، والمراد أنّه لم تكن بيّنة غيره، وحينئذٍ فيرجع على الضامن بالحقّ، وكونه مرّةً

ثانيةً بالنسبة إلى زعم الضامن، وإلّا فهي أولى عند المضمون له وفي ظاهر الحال.

وإنّما يرجع الضامن على المضمون عنه بما أدّاه أولاً، لاعترافه بأنّه لا يستحقّ سواه، ودعواه أنّ الأداء الثاني ظلم، وموافقة المضمون عنه له على ذلك.

ولا يخفى أنّه مشروط بمساواة الأوّل للحقّ أو قصوره، وإلّا رجع بأقلّ الأمرين؛ لأنّه لا يستحقّ الرجوع بالزائد على الحقّ.

قوله: «ولو لم يشهد المضمون عنه رجع الضامن بما أدّاه أخيراً».

لأنّه لم يثبت ظاهراً أداءُ سواه.

هذا إذا لم يزد على ما ادّعى دفعه أوّلاً ولا على الحقّ، وإلّا رجع بالأقلّ من الثلاثة؛ لأنّ الأقلّ إن كان هو ما غرمه أوّلاً فلزعمه أنّه لا يستحقّ سواه، وأنّ الثاني ظلم، وإن كان الأقلّ ما غرمه ثانياً : فلأنّه لم يثبت ظاهراً سواه، وإن كان الأقلّ هو الحقّ؛ فلأنّه إنّما يرجع بالأقلّ من المدفوع والحقّ.

وفي حكم شهادة المضمون عنه اعترافه بالدفع الأوّل وإن لم يشهد؛ لِما ذكر من الوجه، فقوله «ولو لم يشهد» مقيّد بعدم اعترافه أيضاً.

ص: 52


1- تقدّم في ص 23 - 24.

الثامنة : • إذا ضمن المريض في مرضه ومات فيه خرج ما ضمنه من ثلث تركته على الأصحّ.

التاسعة: • إذا كان الدَين مؤجّلاً، فضمنه حالاً لم يصحّ، وكذا لو كان إلى شهرين، فضمنه إلى شهر؛ لأنّ الفرع لا يرجّح على الأصل. وفيه تردّد.

___________________________________________

ولو جعل مناط الحكم عدم تصديقه كان أجود؛ لتناوله عدم الشهادة وغيره.

قوله: «إذا ضمن المريض في مرضه ومات فيه خرج ما ضمنه من ثلث تركته على الأصحّ».

يمكن أن يكون «الأصحّ» تنبيهاً على الخلاف في أنّ منجّزات المريض هل هي من الأصل أو من الثلث؟ واختياره للثاني، كما سبق من مذهبه (1).

ويمكن كونه إشارة إلى أنّ الضمان هل يُعدّ من التبرّعات المنجزة أم لا ؟

ووجه اختيار كونه تبرّعاً أنّه التزام مالٍ لا يلزمه ولم يأخذ عنه عوضاً، فأشبه الهبة.

وعلى التقديرين إنّما يتمّ الحكم مع تبرّعه بالضمان، أمّا لو ضمن بسؤالٍ فهو كما لو باع بثمن المثل نسيئةً، فالوجه حينئذٍ أنّه متى أمكن الرجوع على المضمون عنه فهو من الأصل، وإن لم يمكن لإعساره ونحوه فهو من الثلث، ولو أمكن الرجوع بالبعض فهو كبيع المحاباة يتوقّف ما يفوت على الثلث.

واحترز بقوله «ومات فيه» عما لو برئ منه؛ فإنّه يخرج من الأصل كالتبرّع ولو مات بعد ذلك.

هذا كلّه مع عدم إجازة الورثة، وإلّا نفذ من الأصل.

قوله: «إذا كان الدَين مؤجّلاً، فضمنه حالّاً لم يصحّ - إلى قوله - وفيه تردّد».

قد تقدّم الكلام في ذلك(2) ، وأنّ الأقوى صحّته فيهما، وهو مختار المصنّف ثَمّ، ولكنّه رجع من الجزم إلى التردّد، أو إلى الحكم بخلافه.

ص: 53


1- سبق في ج 3، ص 548 الفصل الأول في موجبات الحجر.
2- تقدّم في ص 26 وما بعدها.

القسم الثاني في الحوالة

والكلام في العقد وفي شروطه، وأحكامه.

أمّا الأوّل •فالحوالة عقد شرّع لتحويل المال من ذمّةٍ إلى ذمّةٍ مشغولةٍ بمثله.

__________________________________________

القسم الثاني في الحوالة

قوله: «الحوالة عقد شُرّع لتحويل المال من ذمّةٍ إلى ذمّة مشغولةٍ بمثله».

الكلام في كون الحوالة عقداً أو ثمرة العقد كما سبق (1).

ونبّه بقوله «تحويل» على أنّها ناقلة للمال من ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه، ومنه سمّيت حوالة.

وقوله «مشغولة بمثله» صفة للذمّة المتحوّل إليها، وهي ذمّة المحال عليه.

وخرج به الحوالة على البريء من حق المحيل، مع أنّه سيأتي عن قريبٍ القطع بجوازها على البريء (2).

ولا ينفعه حكمه بكونها بالضمان أشبه، فإنّ رجحان الشبه لا يخرجها عن كونها حوالةً في الجملة. ولعلّه عرف الحوالة المتّفق على صحّتها؛ إذ الحوالة على البريء مختلف فيها.

والعلّامة أسقط في تعريفها القيد(3) ، محاولة لإدخال ذلك الفرد؛ لئلّا ينتقض التعريف في عكسه، فوقع فيما هو أصعب منه ؛ لشموله حينئذٍ الضمان بالمعنى الأخصّ ؛ لأنّ المال يتحوّل فيه من ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن، فانتقض في طرده.

ص: 54


1- سبق نظيره في تعريف الضمان في ص 13.
2- يأتي في ص 57 .
3- تذكرة الفقهاء، ج 14 ، ص 429 .

•ويشترط فيها رضى المحيل والمحال عليه والمحتال.

_________________________________________

قوله: «ویشترط فيها رضى المحيل والمحال عليه والمحتال».

أمّا اعتبار رضى المحيل والمحتال فموضع وفاقٍ؛ لأنّ من عليه الحقّ مخيّر في جهات القضاء، فلا يتعيّن عليه بعض الجهات قهراً، والمحتال حقّه ثابت في ذمّة المحيل، فلا يلزمه نقله إلى ذمّةٍ أخرى إلّا برضاه.

وأمّا المحال عليه فاشتراط رضاه هو المشهور بين أصحابنا، بل ادّعى عليه الشيخ الإجماع(1) ، ولأنّه أحد مَنْ تتمّ به الحوالة، فكان كالآخَرَيْن، ولاختلاف الناس في الاقتضاء والاستيفاء، سهولةٌ وصعوبةً، ولأنّ نقل المال من ذمّة المحيل إلى ذمّته يتوقّف على رضاه، ولأصالة بقاء الحقّ في ذمّة المحال عليه للمحيل فيستصحب.

وفيه نظر؛ لأنّ المحيل قد أقام المحتال مقام نفسه في القبض بالحوالة، فلا وجه للافتقار إلى رضى من عليه الحقّ، كما لو وكّله في القبض منه، بخلاف الآخَرين؛ لما ذكرناه، واختلاف الناس في الاقتضاء لا يمنع من مطالبة المستحقّ ومن ينصبه، والتوقّف على رضاه محلّ النزاع، فلا يجعل دليلاً، مع أنّا نمنع من اقتضاء الحوالة النقل، بل هي إيفاء لما في ذمّة الغير، فلا يقصر عن بيعه، ولا يشترط فيه رضاه، والأصل المذكور معارض بأصالة عدم الاشتراط، والاستصحاب انقطع بما ذكرناه، خصوصاً مع اتّفاق الحقّين جنساً ووصفاً.

نعم، لو كانا مختلفين وكان الغرض استيفاء مثل حقّ المحتال توجّه اعتبار رضى المحال عليه؛ لأنّ ذلك بمنزلة المعاوضة الجديدة، فلا بدّ من رضى المتعاوضين، ومع ذلك لو رضي المحتال بأخذ جنس ما على المحال عليه زال المحذور، وحينئذٍ فالقول بعدم اشتراط رضاه مع الموافقة قويُّ، والإجماع على خلافه ممنوعٌ.

ثم على تقدير اعتبار رضى المحال عليه ليس هو على حدّ رضى الآخَرَيْن؛ لأنّ الحوالة عقد لازم من جملة العقود اللازمة، فلا يتمّ إلّا بإيجاب وقبولٍ، فالإيجاب من المحيل

ص: 55


1- الخلاف، ج 3، ص 305 - 306. المسألة .2.

•ومع تحقّقها يتحوّل المال إلى ذمّة المحال عليه، ويبرأ المحيل وإن لم يُبرئه المحتال على الأظهر.

_____________________________________________

والقبول من المحتال، ويعتبر فيهما ما يعتبر في غيرهما من اللفظ والمقارنة وغيرهما، وأمّا رضى المحال عليه فيكفي كيف اتّفق مقارناً أم متراخياً، وربما اكتفي به متقدّماً أيضاً؛ لحصول الغرض المطلوب منه بذلك كلّه.

واعلم أنّه يستثنى من القول بعدم اعتبار رضاه ما لو كان بريئاً من حقّ المحيل، فإنّ رضاه معتبر إجماعاً.

ويستثنى من اعتبار رضى المحيل ما لو تبرّع المحال عليه بالوفاء، فإنّه لا يعتبر رضى المحيل قطعاً؛ لأنّه وفاء دَينه، وضمانه بغير إذنه.

والعبارة عنه حينئذٍ أن يقول المحال عليه للمحتال: «أحلت بالدَين الذي لك على فلان على نفسي» فيقبل، فيشترط هنا رضى المحتال والمحال عليه، ويقومان بركن العقد، بخلاف رضى المحال عليه فيما تقدّم، لقيام العقد بغيره، تأمّل.

قوله: «ومع تحقّقها يتحوّل المال إلى ذمّة المحال عليه» إلى آخره.

هنا حكمان

أحدهما: أنّ الحوالة تفيد نقل المال وتحوّله من ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه.

وهو موضع وفاقٍ منّا ومن العامّة، إلّا من شذّ منهم، فإنّه جعلها كالضمان(1) .

و فساده ظاهر؛ لأنّ الحوالة مشتقّة من التحوّل، بخلاف الضمان؛ فإنّه قد يشتقّ من الضمّ

كما ادّعوه، فيلزم كلّ واحدٍ ما يقتضيه لفظه.

وثانيهما: أنّ المحيل يبرأ من حقّ المحتال بمجرّد الحوالة، سواء أبرأه المحتال أم لا؛ الدلالة التحوّل عليه، وهو المشهور.

ص: 56


1- في حاشية «و»: «هو زفر، فإنّه قال: إنّها لا تنتقل الحق، بل تجري مجرى الضمان عندهم. (منه رحمه الله)». وراجع المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 5، ص 58 - 59 المسألة 3558؛ والشرح الكبير المطبوع مع المغني، ج 5، ص 55.

•ويصحّ أن يحيل على من ليس عليه دين، لكن يكون ذلك بالضمان أشبه.

___________________________________________

وخالف فيه الشيخ(1) وجماعة(2) ؛ استناداً إلى حسنة زرارة عن الباقرين في الرجل يحيل الرجل بمالٍ كان له على رجلٍ، فيقول له الذي احتال: «برئت ممّا لي عليك»، قال: «إذا أبرأه فليس له أن يرجع عليه، وإن لم يُبرئه فله أن يرجع على الذي أحاله»(3).

وحُملت الرواية على ما إذا ظهر إعسار المحال عليه حال الحوالة مع جهل المحتال بحاله؛ فإنّ له الرجوع على المحيل إذا لم يبرىء، وعلى ما إذا شرط المحيل البراءة، فإنّه يستفيد بذلك عدم الرجوع لو ظهر إفلاس المحال عليه، وهو حمل بعيد، وعلى أنّ الإبراء كناية عن قبول المحتال الحوالة، فمعنى قوله: «برئت ممّا لي عليك» أنّي رضيت بالحوالة الموجبة للتحويل فبرئت أنت، فكني عن الملزوم باللازم.

وهكذا القول في قوله « ولو لم يُبرئه فله أن يرجع»؛ لأنّ العقد بدون رضاه غير لازمٍ، فله أن يرجع فيه.

قوله: «ويصحّ أن يحيل على من ليس عليه دين، لكن يكون ذلك بالضمان أشبه».

هذا هو الأقوى؛ لأصالة الصحّة، وعدم الاشتراط.

وللشيخ (رحمه الله) قول بالمنع(4) ، وآخر بالصحّة(5) .

ومبنى القولين على أنّ الحوالة هل هي استيفاء أو اعتياض؟ فعلى الأوّل يصحّ دون الثاني ؛ لأنّه ليس على المحال عليه شيء يجعل عوضاً عن حقّ المحتال.

وإنّما كان أشبه بالضمان؛ لاقتضائه نقل المال من ذمّةٍ مشغولةٍ إلى ذمّة بريئةٍ، فكأنّ المحال عليه بقبوله ضامن لدين المحتال على المحيل، ولكنّه بهذا الشبه لا يخرج عن الحوالة قطعاً، فيلحقه أحكامها.

ص: 57


1- النهاية، ص 316.
2- منهم أبو الصلاح في الكافي في الفقه، ص 340 وابن حمزة في الوسيلة، ص 282.
3- الكافي، ج 5 ص 104، باب الكفالة والحوالة، ح 2 تهذيب الأحكام، ج 1، ص 211 - 212، ح 496.
4- المبسوط، ج 2، ص 300.
5- المبسوط، ج 2، ص 289 و 296.

•وإذا أحاله على الملى لم يجب القبول • لكن لو قَبِل لزم، وليس له الرجوع ولو افتقر، • أمّا لو قبل الحوالة جاهلاً بحاله ثمّ بان فقره وقت الحوالة، كان له الفسخ والعود على المحيل.

___-________________________________________

قوله: «وإذا أحاله على المليّ لم يجب القبول».

لأنّ الواجب أداء الدَين، والحوالة ليست أداءً، وإنّما هي نقل الدَيْن من ذمّةٍ إلى أُخرى. فلا يجب قبولها.

ونبّه بذلك على خلاف بعض العامّة، حيث أوجب القبول(1)؛ لقول النبي (صلى الله عليه و آله و سلم): «إذا أُحيل بحقّ على مليّ فليحتل» (2).

والخبر - على تقدير صحّته - محمول على الاستحباب أو الإرشاد.

قوله: «لكن لو قَبِل لزم وليس له الرجوع ولو افتقر».

لأنّ الحوالة توجب البراءة من الحقّ، فلا يعود إلّا بسببٍ يوجبه، ولرواية عقبة بن جعفر عن الكاظم(علیه السلام)(3) .

وخالف في ذلك جماعة من العامّة (4).

وكما لا رجوع لو افتقر ، كذا لو تعذّر الاستيفاء منه بوجهٍ آخَر.

قوله: «أمّا لو قبل الحوالة جاهلاً بحاله - إلى قوله - والعود على المحيل».

لا فرق في ذلك بين اشتراطه في متن العقد يساره وعدمه؛ لرواية منصور بن حازم عن الصادق (علیه السلام)(5)، ولما فيه من الضرر والتغرير به.

والمراد بالفقر هنا الإعسار وإن كان أعمّ منه، وإلّا فيجوز كونه فقيراً بالمعنى المتعارف وموسراً بالمعنى المعتبر في الدَين.

ص: 58


1- المغني المطبوع مع الشرح الكبير ، ج 5، ص 60، المسألة 3560 .
2- السنن الكبرى البيهقي، ج 1، ص 116، ح 11389.
3- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 212، ح 501.
4- المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 5، ص 60. المسألة 3560.
5- الكافي، ج 5، ص 104، باب الكفالة والحوالة، ح 4 تهذيب الأحكام، ج 1، ص 212، ح 498.

• وإذا أحال بما عليه ثمّ أحال المحال عليه بذلك الدَين صحّ، وكذا لو ترامت الحوالة.

•وإذا قضى المحيل الدَين بعد الحوالة، فإن كان بمسألة المحال عليه رجع عليه، وإن تبرّع لم يرجع، ويبرأ المحال عليه.

___________________________________________

والمعتبر بيساره وإعساره وقت الحوالة، فلو كان حينئذٍ مليّاً ثم تجدّد له الإعسار فلا خيار.

ولو انعكس بأن كان معسراً ثّم تجدّد له اليسار قبل أن يفسخ المحتال، فهل يزول الخيار؟ و جهان من زوال الضرر، وثبوت الخيار قبله فيستصحب. وهو أقوى؛ لأنّ الموجب للخيار ليس هو الإعسار مطلقاً ليزول بزواله، بل الإعسار وقت الضمان، وهو متحقّق، فيثبت حكمه.

قوله: «وإذا أحال بما عليه ثمّ أحال المحال عليه بذلك الدين صحّ، وكذا لو ترامت الحوالة».

كما تصحّ الحوالة الأولى لاجتماع شرائط الصحّة تصحّ الثانية كذلك؛ لتحقّق الشرط، وهو اشتغال ذمّة المحال عليه بدَين المحتال، وغيره من الشروط، ومتى أحال المحال عليه برئ كالأوّل، وهكذا لو تعدّد، وهو المراد بالترامي، بأن أحال المديون زيداً على عمرو، ثمّ أحال عمر و زيداً على بكرٍ، ثمّ أحال بكر زيداً على خالد، وهكذا، وهنا قد تعدّد المحال عليهم والمحتال واحد. وكما يصحّ تراميها يصحّ دورها كالضمان، بأن تعود إلى المحيل الأوّل، بأن تكون ذمّته مشغولةً بدَين لمن أحال عليه، أو مطلقاً على المختار.

قوله: «وإذا قضى المحيل الدين بعد الحوالة - إلى قوله وبرى(1) المحال عليه».

لمّا كانت الحوالة ناقلةً للمال من ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه صار المحيل بالنسبة إلى دين المحتال بمنزلة الأجنبي، لبراءة منه، فإذا أدّاه بعدها كان كمن أدّى دَين غيره بغير إذنه، فيشترط في جواز رجوعه عليه مسألته، وإلّا كان متبرّعاً، وبرئ المحال عليه من الدَين.

ص: 59


1- في المتن: «يبرأ» بدل «برى».

•ويشترط في المال أن يكون معلوماً ثابتاً في الذمّة ،• سواء كان له مثل كالطعام، أو لا مثل له كالعبد والثوب.

•ويشترط تساوي المالين جنساً ووصفاً، تفصّياً من التسلّط على المحال عليه؛ إذ لا يجب أن يدفع إلّا مثل ما عليه. وفيه تردّد.

___________________________________________

قوله: «ويشترط في المال أن يكون معلوماً ثابتاً في الذمّة».

احترز ب_«المعلوم» عن المجهول عند المحيل، كما لو أحاله بما له من الدَين ولا يعرف قدره، فإنّه لا يصحّ؛ للغرر، ولأنّ الحوالة إن كانت اعتياضاً فلا يصحّ على المجهول، كما لا يصحّ بيعه، وإن كانت استيفاء فإنّما يمكن استيفاء المعلوم. ويحتمل على الثاني الصحّة، ويلزم ما تقوم به البيّنة كالضمان. وب_«الثابت في الذمّة» عمّا ليس بثابت وإن وجد سببه، كمال الجعالة قبل العمل، فإنّه لا يصحّ إحالة الجاعل به للمجعول له؛ لعدم ثبوته. أمّا إحالة المجعول له به على الجاعل لمن له عليه دين ثابت فإنّه جائز؛ بناءً على جوازها على البريء. فالحاصل أنّ المعتبر ثبوته للمحتال في ذمّة المحيل، لا في ذمّة المحال عليه.

ولا فرق في الثابت بين كونه مستقرّاً وغيره، كالثمن في مدّة الخيار، وتكون الحوالة مراعاةً

بالبقاء على البيع، فلو فسخ بالخيار ففي بطلان الحوالة وجهان، يأتي الكلام عليهما في نظيره(1).

قوله: «سواء كان له مثل كالطعام أو لا مثل له كالعبد».

نبّه بذلك على خلاف الشيخ في أحد قوليه(2) وجماعة(3) من عدم جواز الحوالة بالقيمي؛ لكونه مجهولاً.

وضعفه واضح؛ فإنّه مضبوط بالوصف، والواجب فيه القيمة، وهي مضبوطة أيضاً تبعاً لضبطه، فالمانع مفقود، وعموم الأدلّة يشمله.

قوله: «ويشترط تساوي المالين جنساً ووصفاً - إلى قوله - وفيه تردّد».

ص: 60


1- يأتي في ص 73.
2- المبسوط، ج 2، ص 289.
3- منهم ابن حمزة في الوسيلة، ص 282 .

...

__________________________________________

ذهب الشيخ(1) وجماعة(2) إلى اشتراط تساوي المالين - وهُما المحال به والمحال عليه - جنساً ووصفاً؛ لأنّ حقيقة الحوالة تحويل ما في ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه، فإذا كان على المحيل دراهم وله على المحال عليه دنانير كيف يصير حقّ المحال على المحال عليه دراهم ولم يقع عقد يوجب ذلك؟ فإنّ الحوالة إن كانت استيفاءً كان بمنزلة من استوفى دَينه وأقرضه المحال عليه، وحقّه الدراهم لا الدنانير، وإن كانت معاوضةً فليست على حقيقة المعاوضات التي يقصد بها تحصيل ما ليس بحاصلٍ من جنس مالٍ أو زيادةٍ قدراً وصفةً، وإنّما هي معاوضة إرفاقٍ ومسامحة للحاجة، فاشترط فيها التجانس والتساوي في القدر والصفة؛ لئلّا يتسلّط على المحال عليه بما ليس في ذمّته.

والتحقيق في ذلك أنّا إن اشترطنا رضى المحال عليه وجوّزنا الحوالة على البريء - كما اختاره المصنّف فيهما - فلا وجه للمنع أصلاً؛ لأنّه لو لم يكن على المحال عليه ذلك الجنس يصحّ، فإذا كان ورضي تعيّن الجواز ، بل يتعيّن القول به متى اعتبرنا رضاه خاصّةً؛ لأنّ الحوالة إن كانت استيفاءً - كما هو الظاهر - فالاستيفاء جائز بالجنس وغيره مع التراضي، وإن كانت اعتياضاً فكذلك؛ لجواز المعاوضة على المختلفين، وليست معاوضة بيعٍ حتّى يعتبر التقابض ونحوه حيث يعتبر في البيع.

نعم، قد يقول مجوّز الحوالة على البريء هنا : إنّ الحق لم يتحوّل إلى الدنانير، وإنّما لزم المحال عليه للمحتال دنانير وبقيت الدراهم في ذمّته للمحيل، فيعتبر في التقابض تراضٍ جديد.

وهذا حسن، إلّا أنّ الأوّل أجود؛ لحصول التراضي سابقاً على تحوّل الحقّ إلى ما في ذمّة المحيل، وحينئذٍ فالتسلّط الذي هربوا منه انتفى منعه بالتراضي.

ص: 61


1- المبسوط، ج 2، ص 289 و 294.
2- منهم ابن حمزة في الوسيلة، ص 282؛ والعلّامة في تذكرة الفقهاء، ج 14، ص 454، المسألة 614.

•ولو أحال عليه فقَبِل وأدّى ثمّ طالب بما أدّاه فادّعى المحيل أنّه كان له عليه مال، وأنكر المحال عليه فالقول قوله مع يمينه، ويرجع على المحيل.

_______________________________________________

وقد تحرّر من ذلك أنّ القائل بعدم صحّة ذلك لا يتمّ له مطلقاً إلّا أن يقول بعدم جواز الحوالة على البريء، وإلّا صحَت الحوالة هنا، إلّا أنّها تكون كالحوالة على من لا دَين عليه، لا أنّها تقع باطلةً مطلقاً؛ إذ لا يقصر عن تلك، وأنّ القائل بعدم اعتبار رضى المحال عليه لا يتوجّه له القول هنا بالصحّة، سواء تحوّل الحقّ إلى جنس المحال به، أم بقي كلّ واحدٍ بحاله؛ لتوقّف كلّ واحدٍ من القسمين على التراضي؛ لأنّ الأول استيفاءُ من غير الجنس أو معاوضةً عليه، والثاني حوالة على البريء، وكلاهما مشروط بالرضى.

نعم، لو قصد بالحوالة تحوّل حقّ المحتال إلى ما في ذمّة المحال عليه اتّجه الجواز من دون رضى المحال عليه، وسقط معه محذور التسلّط الذي جعلوه مانعاً، وأنّ الأقوى الصحّة مع التراضي، وتحوّل الحقّ الذي على المحال عليه إلى جنس المحال به ووصفه.

قوله: «ولو أحال عليه فقَبِل وأدّى ثمّ طالب بما أدّاه» إلى آخره.

لمّا ثبت أنّ الحوالة جائزة على البريء من دين المحيل على المحال عليه لم يقتض بإطلاقها ثبوت دين كذلك، فإذا أدّى المحال عليه وطالب بما أدّى منكراً لثبوت دينٍ عليه للمحيل، فالقول قوله مع يمينه؛ لأصالة البراءة، فيرجع على المحيل بما أدّى.

ولو اعتبرنا في الحوالة شغل ذمّة المحال عليه لم يُقبل قوله في نفيه؛ لاقتضائها ثبوته، فالمنكر وإن كان معه أصالة براءة ذمّته من الدَين إلّا أنّ ذلك يقتضي بطلان الحوالة على هذا التقدير، ومدّعي الدَين يدّعي صحّتها، ومدّعي الصحّة مقدّم.

ويمكن على هذا أن يقال: تساقط الأصلان، وبقي مع المحال عليه أنّه أدّى دين المحيل بإذنه، فيرجع عليه على التقديرين. وهو حسن.

فإن قيل: الإذن في الأداء إنّما وقع في ضمن الحوالة، فإذا لم يحكم بصحّتها لا يبقى الإذن مجرّداً؛ لأنّه تابع، فيستحيل بقاؤه بدون متبوعه.

ص: 62

•وتصحّ الحوالة بمال الكتابة بعد حلول النجم، وهل تصحّ قبله ؟ قيل: لا.

• ولو باعه السيّد سلعةً، فأحاله بثمنها جاز.

_______________________________________________

قلنا: الإذن وإن كان واقعاً في ضمن الحوالة إلّا أنّه أمر يتّفقان على وقوعه، وإنّما يختلفان في أمرٍ آخَر، فإذا لم يثبت لا ينتفي ما قد وقع الاتّفاق منهما عليه؛ على أنّ في زوال الإذن الضمني بزوال ما ثبت في ضمنه بحثُ يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى في الوكالة المعلّقة على شرط (1).

وفى قوله «أدّى ثمّ طالب» إشارة إلى أنّ المحال عليه مع براءة ذمّته لا يرجع على المحيل إلّا مع الأداء كالضامن؛ لما تقدّم من أنّ هذا القسم بالضمان أشبه.

قوله: «وتصحّ الحوالة بمال الكتابة بعد حلول النجم، وهل تصحّ قبله؟ قيل: لا».

لا إشكال في جواز الحوالة بمال الكتابة بعد حلول النجم؛ لثبوته في ذمّة المكاتب، أمّا قبل الحلول فمَنَعه الشيخ (رحمه الله)، بناءً على جواز تعجيز نفسه(2)، فله أن يمتنع من أدائه.

والأقوى الجواز؛ لمنع جواز التعجيز، وعلى هذا فلا يعتق العبد بالحوالة؛ لأنّها ليست في حكم الأداء، بل في حكم التوكيل عليه بقبضها، وإن افترقا بكون الحوالة لازمةً، وحينئذٍ فلو أعتق السيّد المكاتَب بطلت الكتابة، ولم يسقط عن المكاتب مال الحوالة؛ لأنّ المال صار لازماً له للمحتال والبطلان طارئُ، ولا يضمن السيّد ما يغرمه من مال الحوالة.

قوله: «ولو باعه السيّد سلعةً فأحاله بثمنها جاز».

لأن حكم المكاتَب حكم الأحرار في المداينات، فيثبت في ذمّته للسيّد ثمن ما اشتراه منه، وتصحّ له الحوالة للسيّد بالثمن. وإنّما خصّ البيع ولم يذكر حكم مطلق الدَين مع اشتراكهما في المعنى؛ للتنبيه على خلاف الشيخ (رحمه الله) في مسألة البيع، حيث إنّه يمكن فسخ الكتابة؛ بناءً على أصله من جوازها من جهته، فيوجب استحقاق السيّد شيئاً

ص: 63


1- يأتي في ص 470.
2- في حاشية «و»: «في الفرق بين الكتابة قبل حلول النجم وبعده نظر : فإنّ ذلك إنّما يمنع جوازها على ظاهر كلام الشيخ (رحمه الله). (منه رحمه الله)»، وراجع المبسوط، ج 2، ص 299.

•ولو كان له على أجنبي دين فأحال عليه بمال الكتابة صحّ؛ لأنّه يجب تسليمه.

وأمّا أحكامه، فمسائل:

الأولى: • إذا قال: أحلتك عليه فقبض، فقال المحيل: قصدت الوكالة، وقال المحتال: إنّما أحلتنى بما عليك، فالقول قول المحيل؛ لأنّه أعرف بلفظه. وفيه تردّد.

__________________________________________

على عبده، بخلاف ما لو باعه أجنبيُ وأحاله على المكاتَب بثمنه؛ فإنّه لا سبيل له إلى إسقاطه ولو فسخت الكتابة؛ فإنّه يثبت في ذمّته(1) .

قوله: «ولو كان له على أجنبي دين فأحال عليه بمال الكتابة صحّ؛ لأنّه يجب تسليمه».

ضمير «له» يعود إلى المكاتَب والمحال هو السيّد، والمراد أنّه إذا كان للمكاتَب دين على أجنبي غير السيّد، فأحال سيّده بمال الكتابة على ذلك الأجنبي الذي للمكاتَب عليه دین صحّت الحوالة؛ لأنّه يجب على المديون تسليم ما للمكاتَب عليه إليه أو إلى من يرتضيه، وحينئذٍ فتبرأ ذمّة المكاتَب من مال الكتابة ويتحرّر؛ لأنّ الحوالة بمنزلة الأداء، سواء أدّى المحال عليه المال إلى السيّد أم لا، حتّى لو أفلس به لم يتغيّر الحكم؛ لأنّ ما أحاله به دین ثابت.

ولو كانت الحوالة ببعض مال الكتابة كان بمنزلة قبض البعض، حتّى لو أعتقه سقط عن المكاتَب الباقي، ولم تبطل الحوالة(2) .

قوله: «إذا قال: أحلتك عليه فقبض - إلى قوله - وفيه تردّد».

مرجع هذا الاختلاف إلى أنّ لفظة «الحوالة» التي اتّفقوا على استعمالها بينهما هل قصد معناها المتعارف هنا أو معنى الوكالة؟ حيث إنّ الوكالة من العقود الجائزة التي لا تنحصر في لفظٍ ، بل يكفي فيها ما دلّ على الإذن فيما وكّل فيه، ولفظ «الحوالة» صالح له.

ووجه تقديم قول المحيل ما ذكره المصنّف من أنّه أعرف بلفظه، أي بالمقصود من لفظه؛

ص: 64


1- المبسوط، ج 2، ص 299 .
2- في «ق»: «الكتابة» بدل «الحوالة».

...

______________________________________________

إذ لا نزاع بينهما في اللفظ، إنّما النزاع في مدلول اللفظ والمقصود منه، واللافظ أعرف بقصده من غيره، بل عند خفاء دلالة اللفظ لا تُعرف إلّا من قبله، فيكون قوله مقدّماً فيه بيمينه.

ويعضده أيضاً أصالة بقاء حقّ المحيل في المال المحال به، وأصالة بقاء حقّ المحتال على المحيل.

ووجه التردّد ممّا ذُكر، ومن دلالة اللفظ ظاهراً على الحوالة، واحتياج دلالته على الوكالة إلى القرائن، والأصل عدمها.

وربما قيل بأنّ لفظ «الحوالة» حقيقة في العقد المخصوص ومجاز في الوكالة، واللفظ إذا تجرّد عن القرائن إنّما يُحمل على حقيقته دون مجازه؛ حذراً من الإغراء بالجهل لو أريد غير الحقيقة، مع عدم نصب قرينةٍ عليه، وإذا كان كذلك فدعوى المحيل مخالفة للأصل فلا تُسمع، وحينئذٍ فما معه من الأصلين الآخَرين قد زال بالحوالة الصادرة بينهما، التي الأصل فيها الحقيقة والصحّة.

وهذا التوجيه حسن لو سلّمنا كون الحوالة مجازاً في الوكالة، لكنّه محلّ نظرٍ؛ لأنّ الوكالة لمّا كانت تتحقّق في ضمن كلّ لفظٍ يدلّ على الإذن بطريق الحقيقة، وكانت الحوالة مؤدّيةً لذلك؛ لأنّ معنى «أحلتك» كما يحتمل تحويل المال من ذمّةٍ إلى ذمّةٍ، يحتمل إرادة تحويل المطالبة من المحيل إلى المحتال، ففائدتها تسليطه على المحال عليه، أو نقول: إنّ دلالتها على الإذن للمحتال حاصلة على التقديرين، وإنّما الكلام في المعنى الزائد على الإذن، وهو تحويل الحقّ، وكون المراد منها هو الحوالة بالمعنى المتعارف أظهر لا شبهة فيه، لكنّه لا يدلّ على مجازية الآخَر؛ لجواز كونه من باب المشترك الذي يراد منه أحد معانيه بقرينةٍ، فمرجع الأمر إلى أنّه هل هو من باب الحقيقة والمجاز، أو من باب المشترك الذي دلّت القرائن على إرادة أحد معنييه ؟ وتظهر الفائدة في كون الفرد الآخَر حقيقة أو مجازاً، وبواسطة ذلك يختلف الحكم، كما سبق تقريره.

فإن قيل : المتبادر من معنى لفظ «الحوالة» عند إطلاقه هو المعنى المتعارف ،لها ، ولا يُفهم

ص: 65

...

___________________________________________

منه إرادة الوكالة إلّا بانضمام قرائن خارجيّة، فيدلّ على كونها حقيقةً في معناها المذكور، دون الوكالة؛ لما تقرّر في الأصول من أنّ ذلك من علامة الحقيقة والمجاز.

قلنا: هذه العلامة لا تتمّ في المشترك؛ لأنّه مع وجود قرينةٍ تُعيّن أحد معانيه يتبادر الذهن إلى إرادته، مع عدم كون الآخر مجازاً إجماعاً، ومع عدم قرينةٍ معيّنةٍ لا يتبادر أحدها، فيلزم على هذا أن يكون إطلاقه عليها بطريق المجاز، كما أنّ إطلاقه على غير المتبادر إليه بطريق المجاز أيضاً، وهو باطل قطعاً، ألا ترى أن من قال لغيره: اشتر الشيء الفلاني بالعين، يتبادر إلى الذهن قطعاً أنّه لا يريد به عين الركبة ولا الباصرة، مع أنّ إطلاق العين عليهما بطريق الحقيقة.

ثمّ يحتمل أن يريد به ما قابل الدَين، فيصلح لسائر أعيان الأموال، ويحتمل أن يريد به الذهب، فيخرج غيره من الأعيان، ويدخل الدَين إذا كان ذهباً، فلا يدلّ عدم المبادرة إلى أحدهما على أنّهما مجازان فيه.

ثمّ لو ضمّ إلى لفظ الأمر السابق قوله «لا بالدَين» تبادر إلى الذهن إرادة المعنى الأوّل من المعنيين، ومع ذلك لا يدلّ على أنّ إطلاقه على الباقي بطريق المجاز، وحينئذٍ فإطلاق الأصوليين كون ذلك من علامات الحقيقة والمجاز يحتاج إلى التنقيح، وقد تنبّه له بعض الأصولييّن (1).

فإن قيل: الحوالة حقيقة شرعيّة في العقد المخصوص، وإطلاقها على الوكالة إنّما هو بطريق اللغة، وإذا تعارضت الحقيقتان فالشرعيّة مقدّمة، ويعضدها أيضاً دلالة العرف على إرادة المعنى الشرعي والعرفيّة مقدّمة على اللغويّة.

قلنا: دلالتها على الوكالة أيضاً بطريق الشرع؛ لأنّ الوكالة لمّا كانت شرعاً حقيقةً في الإذن في التصرّف كيف اتّفق وبأيّ لفظٍ دلّ عليه، كما هو شأن العقود الجائزة، وكانت

ص: 66


1- نهاية الوصول إلى علم الأصول، ج 1، ص 293 - 294 .

...

_____________________________________________

الحوالة دالّة عليه أيضاً، فإطلاقها عليها إذا أرادها اللافظ يكون بطريق الحقيقة الشرعيّة وإن وافقها مع ذلك اللغة، وترجيح الشرع والعرف للمعنى المتعارف من الحوالة يقتضي ترجيح أحد معنيي المشترك، وهو لا يُخرج الفرد الآخر عن الحقيقة.

فإن قيل: سلّمنا صلاحيّتها لذلك، لكنّه يستلزم كون لفظ «الحوالة» مشتركاً بين المعنيين، ولو حملناها على الوكالة بطريق المجاز يندفع الاشتراك، وقد تقرّر في الأصول أنّ المجاز أولى من الاشتراك عند التعارض.

قلنا: لا نسلّم أولويّته أوّلاً، بل قد قال جمع من المحقّقين بأولويّة الاشتراك. سلّمنا، لكنّ ذلك إذا لم يثبت الاشتراك، وقد أثبتناه، فلا يتمّ الترجيح.

وإذا ثبت ذلك، فدعوى المحيل إرادة الوكالة تكون دعوىً لإرادة بعض أفراد الحقيقة، إلّا أنّه خلاف الظاهر، ودعوى المحتال الحوالة توافقه، ولكن بهذا لا يندفع الأصلان المتقدّمان وهما أصالة بقاء حقّ المحيل وحقّ المحتال ، إنّما ينتفيان لو كانت الحوالة مجازاً في الوكالة كما سلف، أمّا إذا كانت حقيقةً فيها فلم يقع ما يرفع ذينك الأصلين، لكن يرجع الأمر إلى تعارض الأصل والظاهر، فإن قدّمنا الأول - كما هو الراجح في استعمالهم - فالقول قول المحيل، كما اختاره المصنّف وجماعة(1) ، وإن قدّمنا الظاهر فالقول قول المحتال، كما لو جعلناها مجازاً في الوكالة، ويتّفق التوجيهان.

وبعد ذلك كلّه، فالقول بتقديم قول المحتال قويُّ، إمّا مراعاةً للحقيقة، أو لقوّة هذا الظاهر حتّى كاد يلحق بها، وقد رجّحوا الظاهر في موارد لا يقصر هذا عنها، أو لتساقط الأمرين فيحكم له بملك ما تحت يده؛ لأنّ الأصل في اليد الملك.

وبهذا ظهر فائدة تقييد التنازع المذكور بكونه بعد القبض، فقول بعضهم(2): إنّ الاختلاف

ص: 67


1- منهم الشيخ في المبسوط، ج 2، ص 291 والعلّامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 165؛ والصيمري في تلخيص الخلاف، ج 2، ص 128 .
2- في حاشية بعض النسخ: «هو المحقق الشيخ عليّ (رحمه الله) في شرح القواعد. (منه رحمه الله)».

• أمّا لو لم يقبض واختلفا فقال: «وكّلتك» فقال: «بل أحلتني» فالقول قول المحيل قطعاً.

____________________________________________

قبل القبض وبعده لا نجد فيه فرقاً(1)، ليس بجيّدٍ، وإنّما يتّجه عدم الفرق لو سُلّم أنّ الحوالة مجاز في الوكالة، فإذا أُطلقت وحُملت على الحقيقة تعيّن فيه الأداء إلى المحتال؛ لأنّه صار ملكه، سواء قبض أم لم يقبض.

قوله: «أمّا لو لم يقبض ثمّ اختلفا فقال: «وكّلتك» فقال: «بل أحلتني» فالقول قول المحيل قطعاً».

الكلام هنا متفرّع على ما سبق فإن قلنا: إن لفظ «الحوالة» مجاز في الوكالة، فعدم الفرق واضح، والقطع ممنوع بل الوجهان آتيان فيه، وتقديم قول المحتال أوضح؛ لاتّفاقهما على وقوع اللفظ الناقل للملك، فلا تقدح دعوى المجاز، وإلّا لتوجّه في كلّ عقد يدّعى في لفظه إرادة غير معناه الحقيقي، وهو باطل، وإن جعلناها حقيقةً في الوكالة أيضاً تعارض الأصل و الظاهر، ولا ترجيح من جهة القبض، كما تقدّم، فيمكن أن يكون قطع المصنّف من جهة ترجيح الأصل؛ لأنّه الغالب معتضداً ما سبق بأصالة عدم ملك المحتال له، بخلاف ما في يده.

وأمّا توجيه الفرق بأنّ الحوالة استيفاء، والاستيفاء إنّما يثمر الملك بالقبض فقبله لا يتحقّق الملك، فيكون الاختلاف قبل القبض في استحقاق ما هو مملوك للمحيل حين الاختلاف(2) ، فليس بسديدٍ ؛ لأنّ الحوالة وإن جعلناها استيفاءً نقول: إنّها بمنزلته واقعاً، لا بمنزلة التوكيل فيه؛ لأنّ الحوالة تفيد النقل والملك - وإن لم يحصل القبض - إجماعاً، حتّى لو أراد المحيل بعد الحوالة وقبل القبض دفع البدل لم يملك ذلك بدون رضى المحتال.

إذا تقرّر ذلك، فنقول: إن قدّمنا قول المحتال فالحكم واضح، فإن كان قبض برئت ذمّة المديون من مقدار المال؛ لأخذه بزعمه منه قهراً، فيقاصّه في مقداره، وذمّة المحال عليه(3)

ص: 68


1- المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 5، ص 378.
2- في حاشية بعض النسخ: «الموجه المحقق الشيخ علي أيضاً في الشرح». وراجع جامع المقاصد، ج 5، ص 378.
3- عطف على ذمّة المديون، أي برئت ذمة المحال عليه.

• ولو انعكس الفرض فالقول قول المحتال.

________________________________________________

إن كانت مشغولةٌ ؛ لثبوت الحوالة ظاهراً، وإن لم يقبض فله المطالبة.

هذا إذا حلف، وإن نكل حلف المديون وبطلت الحوالة.

وإن قدّمنا قول المحيل ولم يكن المحتال قد قبض، بطلت وكالته بإنكاره وحوالته بحلف المديون، وله أن يطالب المديون بحقّه؛ لبقائه بزعم المديون في ذمّته، مع احتمال عدمه؛ لزعمه أن لا حقّ له على المديون بالحوالة، وأنّ حقّه على المحال عليه.

وإن كان قد قبض وكان المقبوض باقياً فعليه تسليمه للمحيل، وله مطالبة المحيل بحقّه؛ لأنّه إن كان وكيلاً فحقّه باقٍ على المديون، وإن كان محتالاً فقد استرجع المحيل ماله منه ظلماً، فله الرجوع عليه ببدله، وهذا بخلاف ما لو لم يقبض، حيث توجّه احتمال عدم مطالبة المديون؛ لاعترافه ببراءته ثَمّ، وأمّا هنا وإن كان قد برئ بالحوالة بزعمه إلّا أنّ ذمّته اشتغلت بظلمه ثانياً.

ولو كان المقبوض تالفاً، فإن كان تلفه بتفريطٍ، فعليه بدله للمحيل، ويرجع عليه كما مرّ، وإن كان بغير تفريطٍ، ففي ضمانه له وجهان:

أحدهما: عدم الضمان؛ لأنّه إما وكيل بزعم المحيل، فلا يضمن المال إذا لم يفرّط، أو محتال فهو ماله.

والثاني : الضمان؛ لأنّه وإن كان وكيلاً ظاهراً إلّا أنّه قبض المال لنفسه، والوكيل يضمن بذلك؛ لأنّه خيانة.

وعلى الأوّل ليس له مطالبة المحيل بحقّه وإن كان المحيل يزعم بقاءه؛ لاعتراف المحتال باستيفاء حقّه بزعمه .

قوله: «ولو انعكس الفرض فالقول قول المحتال».

بأن قال المديون بعد اتّفاقهما على جريان لفظ الحوالة:«قصدت الحوالة» وقال المحتال: «بل وكّلتني» فيقدّم هنا قول مدّعي الوكالة - وهو المحتال - بيمينه؛ لأصالة بقاء الحقّين السابقين، والمحيل يدّعي خلافهما وانتقالهما، فكان عليه البيّنة.

ص: 69

...

_________________________________________

وتظهر فائدة هذا الاختلاف عند إفلاس المحال عليه، ونحوه.

وتوجيه هذا الحكم كما سبق اعتراضاً وجواباً، فيأتي فيه الوجهان؛ لرجوع الأمر إلى دعوى خلاف الظاهر أو خلاف الحقيقة.

ونقول هنا: إن قدّمنا قول المحتال وحلف، فإن لم يكن قبض المال فليس له قبضه؛ لأنّ إنكار المحيل الوكالة يقتضي عزله لو كان وكيلاً، وله مطالبة المحيل بحقّه.

وهل للمحيل الرجوع على المحال عليه ؟ وجهان، من اعترافه بتحوّل ما كان عليه إلى المحتال، ومن أنّ المحتال إن كان وكيلاً فإذا لم يقبض بقي حقّ المحيل، وإن كان محتالاً فقد ظلم المحيل بأخذ المال منه، وما على المحال عليه حقّه، فللمحيل أن يأخذه عوضاً عمّا ظلم به، وإن كان قد قبض المال فقد برئت ذمّة المحال عليه على التقديرين.

ثمّ إن كان المقبوض باقياً، ففي جواز تملّكه له، أو وجوب ردّه على المحيل، وجهان، مأخذهما أنّه حبس حقّه، وصاحبه يزعم أنّه ملكه، واعترافه بأنّه ملك المحيل، وأنّه المخيّر في جهة الأداء ، والأوّل أجود.

وإن كان تالفاً، فإن كان بتفريط ضمنه للمحيل، وطالبه بحقّه، وقد يمكن التقاصّ، وإن لم يكن بتفريطٍ، ففي ضمانه وجهان، مأخذهما ثبوت كونه وكيلاً ظاهراً، فيده يد أمانةٍ، وأنّه لا يلزم من تصديقه في نفي الحوالة تصديقه في إثبات الوكالة، ليسقط عنه الضمان؛ لأنّ يمينه إنّما كانت على نفي ما يدّعيه المحيل، لا على إثبات ما يدّعيه.

وإن قدّمنا قول مدّعي الحوالة فحلف برئ من دين المحتال، وكان للمحتال مطالبة المحال عليه، إمّا بالحوالة أو بالوكالة، ويتملّك ما يأخذه إمّا قصاصاً على زعمه، أو لأنّه عين حقّه، كما اقتضاه الظاهر.

واعلم أنّ هذا البحث كلّه إذا لم ينضمّ إلى لفظ الحوالة ما لا يحتمل الوكالة، كما لو قال: «أحلتك بالمائة التي لك علَيَّ على المائة التي لي على زيدٍ» فإنّ هذا لا يحتمل إلّا حقيقة

الحوالة، فالقول قول مدّعيها قطعاً؛ لامتناع إرادة المجاز أو الفرد المرجوح.

ص: 70

الثانية: • إذا كان له دَين على اثنين، وكلُّ منهما كفيل لصاحبه، وعليه لآخَر مثل ذلك فأحاله عليهما صحّ وإن حصل الرفق في المطالبة.

_____________________________________________

ولو لم يتّفقا على جريان لفظ الحوالة، بل قال: أحلتك، فقال: بل وكّلتني، أو بالعكس، فالقول قول منكر الحوالة قطعاً؛ لأصالة عدمها من غير معارضٍ.

قوله: «إذا كان له دَيْنٌ على اثنين وكلُّ منهما كفيل لصاحبه - إلى قوله - في المطالبة».

لا بدّ قبل تحقيق الحكم في هذه المسألة من تقرير مقدّمةٍ تبنى عليها، وهي أنّ الضمان عندنا ناقل للمال من ذمّة المضمون إلى ذمّة الضامن، لا ضامّ لذمّته إلى ذمّته ومخالفونا جعلوه بمعنى الضمّ، كما قد سمعته غير مرّةٍ.

وحينئذٍ فنقول: إذا كان لشخص على اثنين دين، ولنفرضه كما فرضه الشيخ (1)(رحمه الله) ألفاً، على كلّ واحدٍ خمسمائة، فإذا كفل كلّ واحد منهما صاحبه، أي ضمن ما عليه، فلا يخلو إمّا أن يقترنا أو يتلاحقا، وعلى التقديرين إمّا أن يجيز المضمون له الضمانين أو أحدهما، أو لا يجيزهما، ثمّ إمّا أن نقول بكون الضمان ناقلاً أو ضامّاً.

فإن أجاز الضمانين وكانا متلاحقين اجتمع الجميع في ذمّة الأخير، وإن كانا مقترنين، انتقل ما في ذمّة كلّ واحد منهما إلى ذمّة الآخر، وبقي الأمر كما لو لم يُجزهما في استحقاقه في ذمّة كلّ واحدٍ خمسمائة. وإن أجاز أحدهما خاصّةً، صار الجميع في ذمّة من أجاز ضمانه، النصف بالأصالة والآخَر بالضمان.

وعلى مذهب مخالفينا لو أجاز ضمانها صار مخيّراً في مطالبة كلٍّ منهما بالألف.

ثمّ لو أحال صاحب الحقّ عليهما ثالثاً بالألف، وقد ضمنا وأجاز ضمانهما، فعندنا يأخذ من كلّ واحدٍ خمسمائة؛ لعدم تأثير الضمان من هذه الحيثيّة، وأمّا من جَعَله ضامّاً ، فاختلفوا

ص: 71


1- في حاشية «و»: «قال الشيخ في المبسوط: لو كان له على رجلين ألف ولرجل عليه ألف، فأحاله بها على الرجلين، وقبل الحوالة كان جائزاً، وإن كان كلّ واحدٍ منهما ضامناً عن صاحبه فأحاله عليهما لم تصح الحوالة؛ لأنه يستفيد بها مطالبة الاثنين كلّ واحدٍ منهما بالألف، وهذا زيادة في حق المطالبة بالحوالة، وذلك لا يجوز. ثمّ قال: وقيل: إنه يجوز له أن يطالب كلّ واحدٍ منهما بألف فإذا أخذه برى الآخر. وهذا قريب. هذا لفظه. (منه رحمه الله) وراجع المبسوط، ج 2، ص 295 - 296 .

...

___________________________________________________

هنا، فبعضهم مَنَع من هذه الحوالة؛ لأنّه لم يكن له إلّا مطالبة واحد منهما، فلا يستفيد بالحوالة زيادةً، كما لا يستفيد زيادة قدرٍ وصفةٍ، وبعضهم جوّز ذلك(1)؛ للأصل، ولعدم اعتبار هذا الارتفاع في المنع ، كما لو أحاله على من هو أملى منه وأحسن وفاءً.

إذا تقرّر ذلك، فالشيخ (رحمه الله) ذكر هذه المسألة في المبسوط، وحَكَم فيها بعدم الصحّة(2) ؛ معلّلاً بما ذكرناه من زيادة الارتفاق.

وهذا لا يتمّ إلّا على القول بأنّ الضمان بمعنى الضمّ، كما قد بيّنّاه؛ إذ على تقدير النقل لم يستفد زيادة ارتفاقٍ، بل بقي الحكم كما كان، ومع ذلك فهو موضع نظر؛ لأنّ هذا الارتفاق لا يصلح للمانعيّة، والمعروف من مذهبنا هو النقل، فالبحث كلّه ساقط.

والمصنّف (رحمه الله) وافق الشيخ على تصوير المسألة، الذي لا يتمّ إلّا على القول بالضمّ، وهو لا يقول به، وخالفه في الحكم، وحَكَم بالصحّة منبهاً على أنّ الرفق المذكور غير مانعٍ بقوله «وإن حصل الرفق في المطالبة». والظاهر أنّ المصنّف (رحمه الله) لم يذكر المسألة إلّا على وجه التفريع، والتنبيه على أنّ ما حَكَم به الشيخ لا يتمّ وإن بني على ذلك الأصل؛ نظراً إلى أنّ زيادة الرفق لا تمنع، كما لو أحال على من هو أكثر ملاءةً.

وأمّا ذكر الشيخ لها فيشعر بذهابه إلى كونه بمعنى الضمّ؛ إذ لا يتمّ إلّا عليه.

والمصنّف (رحمه الله) قد لوّح في المسألة بالخلاف فيما سبق في موضعين، أحدهما قوله «على قول مشهورٍ لنا»(3)، والآخر قوله «على القول بانتقال المال»(4)، كما نبّهنا عليه في الموضعين.

ويمكن أن يكون الشيخ (رحمه الله) فرّع على مذهب المخالفين وإن لم يشر إليه، فقد اتّفق له ذلك في المبسوط في مواضع.

ص: 72


1- المهذب، الشيرازي، ج 1، ص 445.
2- المبسوط ، ج 2، ص 295.
3- سبق في ص 24.
4- سبق في ص 51.

الثالثة • إذا أحال المشتري البائع بالثمن ثمّ ردّ المبيع بالعيب السابق بطلت الحوالة؛ لأنّها تتبع البيع، وفيه تردّد.

______________________________________________

قوله: «إذا أحال المشتري البائع بالثمن ثمّ ردّ المبيع» إلى آخره.

منشأ التردّد من أنّ الحوالة تابعة للبيع، فإذا بطل البيع بطلت؛ لاستحالة وجود التابع من حيث هو تابع بدون متبوعه. وهو مذهب الشيخ (رحمه الله)(1)، ومن أنّ الحوالة ناقلة للمال إلى ذمّة المحال عليه في حال كون المحتال مستحقّاً للدَين في ذمّة المشتري، فلا يزيله الفسخ المتعقّب؛ لأنّه أبطل العقد من حينه لا من أصله. وتردّد العلّامة(2) في ذلك كالمصنّف.

وربما بني الوجهان على أنّ الحوالة هل هي استيفاء ما على المحيل؛ نظراً إلى عدم اشتراط القبض فيها ولو كان الحقّان من الأثمان، ولتحقّق براءة ذمّة الآمر بمجرّدها، ولأنّها لو كانت اعتياضاً كانت بيع دينٍ بمثله، أو اعتياض؛ التفاتاً إلى أنّه لم يقبض نفس حقّه، بل أخذ بدله عوضاً عنه، وهو معنى الاعتياض؟ فعلى الأوّل تبطل؛ لأنّها نوع إرفاقٍ، وإذا بطل الأصل بطلت هيئة الإرفاق، كما لو اشترى بدراهم مكسّرة فأعطاه ،صحاحاً ، ثمّ فسخ، فإنّه يرجع بالصحاح، وعلى الثاني لا تبطل، كما لو اعتاض البائع عن الثمن ثوباً ثمّ فسخ، فإنّه يرجع بالثمن لا بالثوب.

ولا فرق في ذلك بين كون الردّ(3) بالعيب بعد قبض المبيع وقبله، ولا بين أن يتّفق الردّ بعد قبض المحتال مال الحوالة وقبله ولا بين الفسخ بخيار العيب وغيره من أنواع الخيار والإقالة والفسخ بالتحالف ونحوهما ممّا لا يبطل البيع من أصله.

ولكنّ المصنّف والجماعة(4) ، مثّلوا بالعيب تبعاً لمن فرض المسألة.

ص: 73


1- المبسوط، ج 2، ص 294.
2- إرشاد الأذهان، ج 1، ص 402.
3- في حاشية «و»: «نبه بالتسوية في الأمرين على الردّ على بعض العامة حيث فرّق بينهما، فأبطلها لو كان الفسخ قبل القبض لا بعده، وعلى آخر حيث حكم بأنّ الفسخ إذا وقع بعد قبض المحتال لا يبطل وقبله يبطل. وكلاهما باطلان منه(رحمه الله).
4- منهم يحيى بن سعيد في الجامع للشرائع، ص 304 والعلّامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 163.

• فإن لم يكن البائع قبض المال فهو باقٍ في ذمّة المحال عليه للمشتري، وإن كان البائع قبضه فقد برئ المحال عليه، ويستعيده المشتري من البائع.

_________________________________________

وكذا لا فرق بين العيب السابق على البيع واللاحق على وجهٍ يجوز الفسخ، كالعيب قبل القبض وقبل انقضاء الثلاثة في الحيوان.

قوله: «فإن لم يكن البائع قبض المال فهو باقٍ في ذمّة المحال عليه للمشتري، وإن كان البائع قبضه فقد برئ المحال عليه، ويستعيده المشتري من البائع».

هذا تفريع على القول ببطلان الحوالة.

وتحريره أنّ البائع المحتال إن لم يكن قد قبض المال لم يكن له قبضه؛ لبطلان الحوالة، فيبقى في ذمّة المحال عليه للمشتري كما كان، فلو خالف البائع وقبض بعد ذلك لم يقع عنه؛ البطلان حقّه. وهل يقع للمشتري؟ وجهان، مأخذهما بطلان الحوالة فيتبعها الإذن في القبض؛ لأنّه كان من لوازمها، فيستحيل تخلّفه عن ملزومه، وأنّ الإذن الضمني لا يبطل ببطلان ما كان في ضمنه، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الشركة(1) والوكالة(2)، والأوّل أقوى.

والفرق أنّ الحوالة تنقل الحقّ إلى المحتال، فإذا صار الحقّ له مَلَك قبضه لنفسه بالاستحقاق، لا للمحيل بالإذن، بخلاف الوكالة والشركة، فإنّ القبض فيهما للمالك، فإذا بطل خصوص الإذن جاز أن يبقى عمومه، مع أنّ في بقاء الإذن الضمني فيهما أيضاً نظراً؛ لامتناع بقاء المعنى الضمني بعد ارتفاع المطابقي، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه.

وإن كان قد قبض المال من المحال عليه، تعيّن للمشتري؛ لقبضه بإذنه، فلا يقصر عن الوكيل، فليس له ردّه على المحال عليه، فلو ردّه عليه فللمشتري مطالبته.

ثمّ إن كان موجوداً فظاهر، وإن كان تالفاً لزمه بدله وإن تلف بغير تفريطٍ؛ لأنّه قبضه عن الثمن، فيكون مضموناً عليه.

ولو قلنا بعدم بطلان الحوالة وكان قد قبض برئ المحال عليه، ورجع المشتري على

ص: 74


1- يأتي في ص 157 وما بعدها.
2- يأتي في ص 470 و 473 - 474.

• أمّا لو أحال البائع أجنبيّاً بالثمن على المشتري، ثمّ فسخ المشتري بالعيب أو بأمرٍ حادثٍ لم تبطل الحوالة؛ لأنّها تعلّقت بغير المتبايعين، • ولو ثبت بطلان البيع بطلت الحوالة في الموضعين.

_________________________________________________

البائع ولا يتعيّن حقّه فيما قبضه، وإن لم يكن البائع قد قبض، فله القبض، وللمشتري الرجوع عليه قبل القبض؛ لأنّ الحوالة كالمقبوض ومن ثَمّ يسقط حقّ حبس المبيع لو أحال المشتري البائع بالثمن.

ويحتمل عدم جواز رجوعه عليه إلى أن يقبض؛ لعدم وجود حقيقة القبض وإن وجد ما هو بمعناه في بعض الأحكام.

قوله: «أمّا لو أحال البائع أجنبيّاً بالثمن على المشتري - إلى قوله - بغير المتبايعين».

أشار بالتعليل إلى الفرق بين حوالة المشتري البائع وحوالة البائع الأجنبي على المشتري، فإنّ الحقّ في الأوّل كان مختصّاً بالمتبايعين بسبب المبيع، فإذا بطل السبب بطلت التوابع، بخلاف حوالة الأجنبي، فإنّها لا تبطل وإن حكم بالبطلان ثَمّ؛ لتعلّق الحوالة بغير المتعاقدين، حيث إنّ الثمن صار مملوكاً للمحتال الأجنبي قبل فسخ العقد.

ونقل الشيخ هنا الإجماع على عدم البطلان (1).

ولا فرق بين أن يكون المحتال قد قبض وعدمه؛ لأنّ الناقل للملك هو الحوالة لا القبض.

ويحتمل ضعيفاً البطلان هنا أيضاً؛ لأنّ استحقاق المحتال فرع استحقاق المحيل، فإذا بطل حقّ المحيل بطل تابعه

ووجه ضعفه أنّه تابعه حين الحوالة لا بعد ذلك؛ لإفادتها الملك حين وقعت بغير معارضٍ.

قوله « ولو ثبت بطلان البيع بطلت الحوالة في الموضعين».

أي في موضع إحالة المشتري البائع وإحالة البائع الأجنبي على المشتري.

ووجهه أنّ صحّة الحوالة فرع ثبوت الثمن للبائع على التقديرين، فإذا تبيّن بطلان البيع

ص: 75


1- المبسوط، ج 2، ص 291 .

...

_________________________________________________

من أصله، ظهر عدم استحقاق البائع الثمن في نفس الأمر في ذمّة المشتري، وفي الحقيقة الحوالة وقعت في نفسها باطلةً، لا أنّها بطلت بظهور بطلان البيع، و إنّما كشف ظهور بطلانه عن بطلانها من رأسٍ.

وحينئذٍ فإن كان البائع أو المحتال لم يقبض فليس له القبض، وإن كان قد قبض رجع المشتري عليه، وله الرجوع على البائع لو كان القابض محتاله؛ لأنّه قد أوفاه للمحتال عمّا في ذمّته، فقبضه منسوب إليه، وليس للمشتري الرجوع على المحال عليه بعد القبض حينئذٍ لصدوره بإذنه.

ص: 76

القسم الثالث في الكفالة

• ويعتبر رضى الكفيل والمكفول له، دون المكفول.

________________________________________________

القسم الثالث في الكفالة

قوله:« ويعتبر رضى الكفيل والمكفول له، دون المكفول».

لمّا كانت الكفالة من جملة العقود اللازمة فلابدّ من وقوعها بين اثنين ولو حكماً، ورضاهما بذلك.

ومدار الكفالة على ثلاثة:

كفيل، وهو هنا بمعنى الفاعل، وإن كان يصلح للمفعول أيضاً، لكنّهم اصطلحوا على وضعه للفاعل، وتخصيص المكفول باسم المفعول.

ومكفول له، وهو صاحب الحقّ ولو بالدعوى.

ومكفول، وهو مَنْ عليه الحقّ أو الدعوى.

فلابدّ من رضى اثنين منهم ليتمّ العقد، فالكفيل والمكفول له يتعيّن رضاهما، أمّا الأوّل فواضح؛ لأنّ الإنسان لا يصحّ أن يلزمه الحقّ إلّا برضاه، وأمّا الثاني : فلأنّه صاحب الحقّ، فلا يجوز إلزامه شيئاً بغير رضاه، وبهما يتمّ العقد.

وأمّا المكفول فلا يعتبر رضاه؛ لوجوب الحضور عليه متى طلبه صاحب الحقّ بنفسه أو وكيله، والكفيل بمنزلة الوكيل حيث يأمره بإحضاره وغاية الكفالة هي حضور المكفول حيث يطلب، وهذا هو المشهور بين علمائنا وغيرهم.

وللشيخ (رحمه الله) قول باشتراط رضاه(1) ؛ لأنّه إذا لم يأذن فيها أو يرضِ به لم يلزمه

ص: 77


1- المبسوط ، ج 2، ص 320.

•وتصحّ حالّةً ومؤجَّلة على الأظهر، ومع الإطلاق تكون معجَّلة.

•وإذا اشترط الأجل فلا بدّ أن يكون معلوماً.

_________________________________________________

الحضور مع الكفيل، فلم يتمكّن من إحضاره، فلا تصحّ كفالته؛ لأنّها كفالة بغير المقدور عليه، وهذا بخلاف الضمان؛ لإمكان وفاء ديَنه من مال غيره بغير إذنه، ولا يمكن أن ينوب عنه في الحضور، وتبعه ابن إدريس(1)، وقوّاه في التحرير(2).

وهو ضعيف؛ لأنّ مداره على عدم وجوب الحضور معه بدون رضاه، وهو ممنوع؛ لأنّ المستحقّ متى طلبه وجب عليه الحضور وإن لم يكن مكفولاً إجماعاً، وفائدة الكفالة راجعة إلى إلزام الكفيل بالإحضار حيث يطلبه المكفول له، فإن طلبه منه لم يقصر عن وكيله، وإن لم يطلبه منه لا يجب عليه الحضور معه وإن كان برضاه.

إذا تقرّر ذلك، فعلى القول باعتبار رضاه ليس هو على حدّ رضى الآخَرين؛ لأنّ رضاهما لا بدّ معه من اقترانه بالإيجاب والقبول الصادرين على وجههما، أمّا المكفول فيكفي رضاه بذلك كيف اتّفق ،متقدّماً أو متأخّراً أو مقارناً، كما في رضى المضمون.

قوله: «وتصحّ حالّةٌ ومؤجَّلة على الأظهر».

هذا هو الأصحّ للأصل، ولأنّ الحضور حقُّ شرعيُ، فلا يمنعه الحلول.

واشترط الشيخ(3) وجماعة(4) فيها الأجل، كالضمان، وهو ضعيف.

قوله: «وإذا اشترط الأجل فلابدّ أن يكون معلوماً».

هذا موضع وفاق، ولأنّ الأجل المجهول يوجب الغرر؛ إذ ليس له وقت يستحقّ مطالبته فيه كغيره من الآجال.

ص: 78


1- السرائر، ج 2، ص 77.
2- تحرير الأحكام الشرعية، ج 2، ص 567 ، الرقم 3962.
3- النهاية، ص 315 .
4- منهم الشيخ المفيد في المقنعة، ص 815؛ وأبو الصلاح في الكافي في الفقه، ص 339؛ وابن حمزة في الوسيلة . ص 281 .

وللمكفول له مطالبة الكفيل بالمكفول عاجلاً إن كانت مطلقةً أو معجَّلةً و بعد الأجل إن كانت مؤجَّلةً، •فإن سلّمه تسليماً تامّاً فقد برئ، وإن امتنع كان له حبسه حتّى يحضره، أو يؤدّي ما عليه.

____________________________________________

ونبّه بذلك على خلاف بعض العامّة، حيث اكتفى فيها بالأجل المجهول(1)؛ لاشتمالها على التبرّع، فيتسامح فيها، كالعارية.

وفساده ظاهر؛ لأنّ العارية غير لازمةٍ، فلا يقدح فيها الأجل المجهول؛ لجواز المطالبة بالمستعار في الأجل وإن كان معلوماً.

قوله: «فإن سلّمه تسليماً تامّاً فقد برئ، وإن امتنع كان له حبسه حتّى يحضره» إلى آخره. المراد بالتسليم التامّ أن يكون في الوقت والمكان المعيّن إن عيّناهما في العقد، أو في بلد العقد مع الإطلاق، ولا يكون للمكفول له مانع من تسلّمه، بأن لا يكون في يد ظالم، ولا متغلّبٍ يمنعه منه، ولا في حبسه، ولا في موضع لا يتمكّن من وضع يده عليه؛ لقوّة المكفول وضعف المكفول له، ونحو ذلك، فإذا سلّمه كذلك فقد برئ من عهدته، فإن لم يتسلّمه منه وأمكن تسليمه إلى الحاكم، سلّمه إليه وبرئ أيضاً ، ولو لم يمكن أشهد عدلين بإحضاره إلى المكفول له وامتناعه من قبضه.

والأقوى الاكتفاء بالإشهاد وإن قدر على الحاكم؛ لأنّ مع وجود صاحب الحقّ لا يلزمه دفعه إلى من ينوب عنه من حاكم وغيره.

هذا ما يتعلق بالكفيل إذا بذل. أمّا إذا امتنع من التسليم التامّ ألزمه الحاكم به، فإن أبى حبسه حتّى يحضره، وله عقوبته عليه، كما في كلّ ممتنعٍ من أداء الحقّ.

ثم إن سلّمه بعد ذلك فلا كلام، وإن أبى وبذل ما عليه، فظاهر المصنّف الاكتفاء به في براءته، وعليه الشيخ (رحمه الله )(2) وجماعة(3)؛ لحصول الغرض من الكفالة.

ص: 79


1- المهذب، الشيرازي، ج 1، ص 452.
2- النهاية، ص 315 .
3- منهم سلار في المراسم، ص 200؛ وابن إدريس في السرائر، ج 2، ص 78؛ والعلّامة في إرشاد الأذهان، ج 1، ص 403.

...

____________________________________________

وهذا على تقدير تمامه إنّما يصحّ فيما يمكن أخذه من الكفيل كالمال، فلو لم يمكن كالقصاص، وزوجيّة المرأة، والدعوى بعقوبةٍ توجب حدّاً أو تعزيراً، فلا بدّ من إلزامه بإحضاره مع الإمكان إن لم يكن له بدل، أمّا ما له بدل كالدية في القتل وإن كان عمداً، ومهر مثل الزوجة - وجب عليه البدل.

وذهب جماعة من الأصحاب(1)، منهم العلّامة في التذكرة(2) إلى أنّه لا يتعيّن على المكفول له قبول الحقّ، بل له إلزامه بالإحضار مطلقاً؛ لعدم انحصار الأغراض في أداء الحقّ، فقد يكون له غرض لا يتعلّق بالأداء، أو بالأداء من الغريم لا من غيره وخصوصاً فيما له بدل، فإنّه بدل اضطراري لا عين الحقّ الذي يتعلّق الغرض غالباً بحصوله، وهذا هو الأقوى.

إذا تقرّر ذلك، فإن رضي المكفول له بالمال وأدّاه الكفيل، فإن كان قد كفل بإذن الغريم، أو أدّى بإذنه وإن كان كفل بغير إذنه، فله الرجوع عليه، وإن انتفى الأمران فإن أمكنه إحضاره فلم يُحضره لم يرجع عليه، وكذا إن كفل بإذنه وأدّى بغير إذنه مع تمكّنه من مراجعته؛ لأنّ الكفالة لم تتناول المال اختياراً، فيكون كالمتبرّع، وإن تعذّر عليه إحضاره رجع عليه مع إذنه في الكفالة، وفي رجوعه مع عدمها نظر. وظاهرهم أنّه يرجع أيضاً.

والفرق بين الكفالة والضمان - في رجوع من أدّى بالإذن هنا وإن كفل بغير الإذن، بخلاف الضمان - أنّ الكفالة لم تتعلّق بالمال بالذات، فيكون حكم الكفيل بالنسبة إليه حكم الأجنبي، فإذا أدّاه بإذن من عليه فله الرجوع، بخلاف الضامن؛ لانتقال المال إلى ذمّته بمجرّد الضمان، فلا ينفعه بعد ذلك الإذن في الأداء؛ لأنّه كإذن الأجنبي للمديون في أداء دَينه، وأمّا إذا أذن له في الكفالة ولم يأذن له في الأداء مع تعذّر الإحضار، فإن ذلك من لوازم الكفالة. فالإذن في الكفالة، إذن في لوازمها.

ص: 80


1- منهم المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 5، ص 392 - 393.
2- تذكرة الفقهاء . ج 14، ص 411 ، المسألة 577 .

•ولو قال: «إن لم أحضره كان عَلَيّ كذا» لم يلزمه إلّا إحضاره دون المال،

___________________________________________

قوله: «ولو قال: «إن لم أحضره كان عليّ كذا» لم يلزمه إلّا إحضاره» إلى آخره.

هذه المسألة ذكرها الشيخ (رحمه الله) في النهاية(1) ، وتبعه عليها المصنّف وجماعة من الأصحاب(2) .

ومستندهم في ذلك رواية داود بن الحصين، عن أبي العباس، عن الصادق(علی السلام) قال: سألته عن الرجل يكفل بنفس الرجل إلى أجلٍ فإن لم يأتِ به فعليه كذا وكذا درهماً، قال: «إن جاء به إلى الأجل فليس عليه مال، وهو كفيل بنفسه أبداً ، إلّا أن يبدأ بالدراهم، فإن بدأ بالدراهم فهو له ضامن إن لم يأت به إلى الأجل الذي أجّله»(3).

وفي رواية أُخرى في طريقها أبان بن عثمان، عن أبي العبّاس قال، قلت لأبي عبدالله(علیه السلام) : رجل كفل لرجل بنفس رجل، فقال: إن جئتُ به وإلّا فعلَيَّ خمسمائة درهم، قال: «عليه نفسه، ولا شيء عليه من الدراهم» فإن قال: علَيّ خمسمائة درهم إن لم أدفعه إليه، قال: «تلزمه الدراهم إن لم يدفعه إليه»(4).

وإنّما ذكرنا الروايتين ليترتّب عليهما الكلام في حكم المسألتين، والفرق بينهما، وقد عرفت منهما أنّ قول المصنّف في الثانية «لزمه المال» ليس بجيّد، بل يجب تقييده بما قيّد في الرواية بقوله «إن لم يحضره» ونحوه، لكنّ الشيخ (رحمه الله) مع ذكره للروايتين في التهذيب ذكر المسألتين كما ذكره المصنّف من لزوم المال في الثانية من غير قيد(5)، وتبعه المصنّف هنا والعلّامة في القواعد والإرشاد(6).

ص: 81


1- النهاية . ص 315 .
2- منهم العلّامة في تذكرة الفقهاء، ج 14، ص 413، المسألة 580؛ والشهيد في اللمعة الدمشقية، ص 176 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج (13) وابن فهد الحلي في المهذب البارع، ج 2، ص 532 .
3- الفقيه، ج 3، ص 96، ح 3406: تهذيب الأحكام، ج 1، ص 209 - 210، ح 488.
4- الكافي، ج 5، ص 104 ، باب الكفالة والحوالة ، ح 3 تهذيب الأحكام، ج 1، ص 210، ح 493.
5- النهاية ص 315 .
6- قواعد الأحكام، ج 2، ص 169: إرشاد الأذهان، ج 1، ص 403.

ولو قال: «علَيَّ كذا إلى كذا إن لم أُحضره» وجب عليه ما شرط من المال.

________________________________________________

وقد تنبّه المصنّف لذلك في النافع فقال: كان ضامناً للمال إن لم يحضره في الأجل(1)،وكذلك العلّامة في التحرير والتذكرة(2) .

فهذا ما يتعلّق بحكم المسألة والتقصير في تأديتها.

ثمّ يبقى الإشكال في الفرق بين المسألتين بمجرّد تقديم الجزاء على الشرط وتأخيره، فإنّ ذلك لا مدخل له في اختلاف الحكم؛ لأنّ الشرط وإن تأخّر فهو في حكم المتقدّم، إلّا أنّ الجماعة جمدوا على النصّ، ومع ذلك لم يوفوا بقيوده كما عرفت.

ويبقى الكلام في المستند، فإنّ في سند الروايتين ضعفاً وجهالة في بعض رجالهما، فالاستناد إليهما في هذا الحكم المخالف للقواعد الشرعيّة والعربيّة لا يخلو من إشكال.

ثمّ إنّ جماعةً من الأصحاب لهم في الاعتذار عن ذلك وجوه

منها: الجمود على النصّ من غير تعب على تعليلٍ ولا التفاتٍ إلى مخالفٍ، وهو طريقة الشيخ ومتابعيه، ومع ذلك لا يتحاشون من عدم صحّة المستند ، كما قد عُلم ذلك من طريقة الشيخ (رحمه الله)، سيّما في النهاية التي قد ذكر فيها هذه المسألة(3)، فإنّه يذكر فيها ما وردت به النصوص مع ضعف كثير منها .

ولا يخفى ما في هذه الطريقة من الخطر، خصوصاً في مثل هذا الحكم المخالف للأصول، مع ضعف المستند.

ومنها: أنّ الحكم في المسألتين إجماعي، ومع ذلك منصوص، فلا يمكن العدول عنه بمجرّد التباس الفرق بين الصيغتين، وهذا ذكره ابن فهد في المهذّب(4)، وتبعه المحقّق الشيخ عليّ (رحمه الله) في الشرح(5) .

ص: 82


1- المختصر النافع، ص 234 - 235.
2- تحرير الأحكام الشرعية، ج 2، ص 569، الرقم 3971 تذكرة الفقهاء ، ج 14، ص 413، المسألة 580 .
3- النهاية، ص 315 .
4- المهذب البارع، ج 2، ص 532.
5- جامع المقاصد، ج 5، ص 393.

...

________________________________________________

وفيه نظر؛ لمنع الإجماع في موضع النزاع، فإنّ أحداً من الأصحاب لم يدّعه، والموجود كلامهم في المسألة جماعة يسيرة، والباقون لا نعرف حكمهم فيها، ومع ذلك فقد ذكرها العلّامة في المختلف، وحكى فيها كلام الشيخ ومن تبعه، ثمّ قال: وعندي في هذه المسألة نظر، ثمّ نقل فيها عن ابن الجنيد حكماً يخالف ما ذكره الشيخ والجماعة ، وقال : إنّ كلام ابن الجنيد أنسب(1) .

وقد عرفت أنّ للمصنّف وحده فيها قولين هنا وفي النافع، وللعلّامة وحده فيها أربعة مذاهب كما سنبيّنه، فدعوى الإجماع بمثل ذلك عجيب.

ومنها: ما فرّق به ابن إدريس، فقال: إنّه يلزمه ضمان النفس حيث بدأ بضمانها، ويلزمه ضمان المال حيث بدأ بضمانه (2).

وهو فرق بنفس الدعوى لا يتحصّل له فائدة.

قال المصنّف (رحمه الله) في نكت النهاية في ردّه: إنّ الشرط متقدّم على المشروط طبعاً، فلا عبرة بتأخّره وضعاً (3).

ومنها ما ذكره الشيخ عليّ (رحمه الله):

من أنّ السرّ في لزوم المال إذا قدّمه براءة ذمّة المضمون عنه، فتمتنع الكفالة، وإذا قدّم الكفالة كان الضمان المتعقّب لها - لكونه معلّقاً على شرطٍ - باطلاً، ولمنافاة الضمان صحّة الكفالة(4).

وهذا السرّ الذي أظهره ناشئ من ظاهر كلام القواعد(5) وما أشبهها - كعبارة المصنّف في الكتاب - حيث أطلقوا لزوم المال في المسألة الثانية، وقد عرفت أنّه في الرواية مشروط بعدم إحضاره، فتكون الكفالة أيضاً صحيحةً وإن تأخّرت عن ذكر المال.

ص: 83


1- مختلف الشيعة، ج 5، ص 502 - 504 المسألة 183.
2- السرائر، ج 2، ص 75.
3- لم نجده في نكت النهاية.
4- جامع المقاصد، ج 5، ص 393. پ
5- قواعد الأحكام، ج 2، ص 169 .

...

________________________________________________

هذا، مع أنّه مع تقديم المال قد جعل ضمانه مشروطاً بعدم إحضاره، فكيف يقال ببراءة ذمّة المضمون عنه حتّى تمتنع كفالته ؟! وما هذا إلّا رجوع إلى فرق ابن إدريس الذي لم يجد نفعاً.

ومع تقديم الكفالة قد ذكر في الرواية أنّه إن جاء به في الأجل فليس عليه مال، ومفهوم الشرط أنّه إن لم يجيء به لزمه المال، فدلّ بمفهومه على خلاف ما ذكره الجماعة وأبداه من الفرق، إلّا أن لا يقولوا بمفهوم الشرط.

وأيضاً فإنّ المسألة أعمّ من كون المكفول على مالٍ وغيره، من قتلٍ وزوجيّةٍ وغيرهما ممّا لا يقبل الضمان، وعلى تقدير المال فما جعله الضامن عليه من كذا في الأولى. وخمسمائة في الثانية، ومطلقاً في كلام الجماعة، أعمّ من كونه مساوياً للحقّ الذي على المكفول وزائداً وناقصاً، ومماثلاً له في الجنس ومخالفاً، والضمان الذي ادّعوه في بيان الفرق لا يتمّ إلّا في قليل من هذه الأقسام، كما لا يخفى.

وأيضاً ليس في العبارة التي ذكروها في المسألتين لفظ يدلّ على كفالةٍ صحيحةٍ شرعاً، وإنّما الموجود فيهما ضمان معلّق على شرط تقدّم أو تأخّر، وأمّا الكفالة فهي مجعولة شرطاً، ومجرّد ذلك لا يكفي في عقد الكفالة، ولو قيل: إنّه أتى قبل ذلك بلفظٍ يدلّ عليها. فتقدير مثل ذلك خارج عن مدلول المسألتين، ومبطل للسرّ الذي ادعوه في الفرق بينهما.

وأمّا لفظ الرواية فيمكن أن يستفاد منه كونه كفل كفالة صحيحة قبل ذكر الشرط وجزائه، كما يستفاد من قوله: «يكفل بنفس الرجل إلى أجل فإن لم يأت به» إلى آخره، فإنّه جعل الشرط متعقّباً لكفالةٍ فرضها، فلا بدّ من سبق كفالة على ما ذكر في المسألتين، وهذا تقصير آخر في عبارة الجماعة.

ثمّ يقال في دعوى الإجماع على هذا الحكم مع تعليله بالسرّ المذكور: إنّ الإجماع إن كان على الحكم الذي أظهر سرّه، ومن جملته لزوم المال خاصّةً في الثانية، فقد عرفت أنّ القائل به قد خالف نفسه، وأثبت في غير الكتاب حكماً مخالفاً لهذا الحكم، وهو أن اللازم

ص: 84

...

__________________________________________

هو الكفالة، وأنّ المال لا يضمن إلّا إذا لم يحضره، وهو في الحقيقة من لوازم الكفالة - كما تقدّم على بعض الوجوه (1)_ لا دليل على صحّة الضمان، فكيف يتحقّق الإجماع على مسألةٍ قد خالف فيها مثل العلّامة، والمحقّق، وابن الجنيد، والشهيد (رحمه الله) أيضاً ، فإنّه قيّد لزوم المال بعدم إحضاره في اللمعة(2) ، وبعض ما حقّقه على المسألة؟!

وإن كان الإجماع وقع على الحكم مع القيد بطل السرّ المذكور، ومع ذلك یصیر ما خلا عنه من العبارات مخالفاً له في الحكم، وهو قول آخَر في المسألة.

ومنها: ما نقله فخر الدين (رحمه الله)(3) عن والده أنّه حمل الرواية على أنّه التزم في الصورة الأولى بما ليس عليه، كما لو كان عليه دينار فقال: إن لم أحضره فعلَيَّ عشرة دنانير مثلاً، فهنا لا يلزمه المال إجماعاً؛ لأنّه التزم بما ليس عليه، أمّا الثانية فإنّه التزم بما هو عليه وهو الدينار مثلاً، فكأنّه قال: عَلَىَّ الدينار الذي عليه إن لم أُحضره.

ولا يخفى بُعد هذا الحمل عن إطلاق المال في الصورتين المتقاربتين، بل نقول: مقتضى القواعد العربيّة أنّ المالين في الصورتين واحد؛ لأنّه قال في الرواية: «فعليه كذا وكذا درهماً»، ثمّ قال: «إلّا أن يبدأ بالدراهم» فأتى بها معرفةً، ومن القواعد المقرّرة أنّ اللفظ إذا تكرّر وكان الثانى معرّفاً يكون هو الأوّل، حملاً للام على العهديّة، سواء كان الأول منكراً، كقوله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ)(4) ، أم معرّفاً كقوله تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا )(5) ، ومن هنا قيل: «لن يغلب عسر يُسرين»(6)، وأّما الرواية الثانية فالمال فيها في

ص: 85


1- تقدم في ص 83.
2- اللمعة الدمشقية، ص 176 ( ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 13).
3- لم نجده في إيضاح الفوائد.
4- المزّمّل (73): 15 و 16 .
5- الشرح (94): 5 و 6.
6- المستدرك على الصحيحين، ج 3، ص 380 . ح 4004.

...

____________________________________

الصورتين متّحد ،القدر، وهو خمسمائة، فلا يصحّ هذا الحمل على الروايتين.

ومع ذلك فيرد على المجيب السابق في دعواه الإجماع على أنّ المراد هو ما أطلقوه، والحال أنّ هذا قول آخر فى المسألة غير ما سبق.

وقد صار للعلّامة وحده في هذه المسألة أربعة أقوال، هذا أحدها، والثاني: قوله في القواعد بلزوم المال في الثانية مطلقاً (1)، والثالث في التحرير والتذكرة بلزوم المال إن لم يُحضره (2)، والرابع في المختلف بمذهب ابن الجنيد(3)، وهو قول يحتاج تقريره إلى تطويلٍ فأعرضنا عنه هنا. ومنها: ما ذكره المقداد (رحمه الله)، وقال: إنّه حسن لم يذكره أحد من الأصحاب.

وملخّصه :

أنّ المراد من الأولى الإتيان بصيغة الكفالة وتعقّبها بالتزامه بالمال إن لم يأتِ به، وذلك يقتضي صحّة الكفالة؛ لتصريحه بها، وما بعدها من المال أمر لازم للكفالة؛ لما تقدّم من أنّ مقتضاها لزوم المال للكفيل إن لم يأتِ به. وأمّا الثانية فإنّها تشمل على ضمان معلّق على شرط، والشرط متأخّر، فهي إمّا مبنيّة على جواز الضمان المعلّق على شرط، أو أنّ الضمان تمَّ بقوله: «علَيَّ كذا» والشرط بعده منافٍ له، فلا يُلتفت إليه؛ لأنّه كتعقيب الإقرار بالمنافي(4).

ولا يخفى ما في هذا الفرق من الفساد، خصوصاً الكلام في الثانية.

وتحريره أنّ المال المذكور في الشرط أعمّ من كونه هو المقصود من الكفالة وغيره، كما

سبق تقريره، فكونه قد ذكر لازم الكفالة مطلقاً ممنوع.

ص: 86


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 196.
2- تحرير الأحكام الشرعية، ج 2، ص 569، الرقم 3971؛ تذكرة الفقهاء، ج 14، ص 413، المسألة 580.
3- مختلف الشيعة، ج 5، ص 504 المسألة 183.
4- التنقيح الرائع، ج 2، ص 197 - 198.

...

__________________________________________

وأمّا الحكم بصحّة الضمان وإلغاء الشرط مع اتّصاله به وكون الكلام جملةً واحدةً لا يتمّ إلّا بآخره، فعجيب، وقياسه على الإقرار أعجب، فإنّ صيغ العقود كلّها إذا عُلّقت على الشروط المفسدة يُحكم بفسادها وإن تأخّر الشرط إجماعاً، والإقرار خارج من البين من جهة أنّه إخبار لا إنشاء وللإجماع عليه.

إذا تقرّر ذلك، فنقول: الذي يقتضيه ظاهر الرواية أنّ الكفالة وقعت بصيغة تامّة في الموضعين، وتعقّبها ما ذُكر من الاشتراط، بدليل قوله: «رجل تكفّل بنفس رجل» ثمّ قسّمها إلى القسمين، فإنّ التكفّل إذا أُطلق يُحمل على معناه الشرعي، وإنّما يتمّ بذكر لفظ يوجبه. وقوله بعده «فإن لم يأت به فعليه كذا وكذا» إمّا أن يُحمل على كون المكنّى عنه هو الحقّ المكفول لأجله، عملاً بقرينة مقتضيات الكفالة، وحينئذٍ فلا إشكال في الأولى؛ لأنّه يصير كفيلاً أبداً، وما ذُكر بعد الكفالة غير منافٍ.

ثمّ إن عملنا بمفهوم الشرط فهو ضامن للمال إن لم يأتِ به إلى الأجل؛ لأنّ مفهوم «إن جاء به إلى الأجل فليس عليه مال» أنّه إذا لم يجيء به إليه فعليه المال؛ وحينئذٍ فلا فرق بين الصيغتين؛ لأنّه حَكَم في الثانية بهذا الحكم أيضاً؛ لأنّه قال: «إلّا أن يبدأ بالدراهم، فإن بدأ بالدراهم فهو لها ضامن إن لم يأتِ به إلى الأجل»، ويكون الاستثناء منقطعاً؛ إذ لم يحصل به إخراج، لاتّحاد الحكم في المسألتين، فكأنّه بيّن أنّ الحكم هكذا إن قدّم الدراهم أو أخّرها وبقي قوله في الرواية الثانية: «عليه نفسه، ولا شيء عليه من الدراهم» ناظراً إلى نفس حكم الكفالة، لا إلى ما يترتّب عليها عند الإخلال بالإحضار.

وإن لم نعمل بمفهوم الشرط أشكل الفرق بين المقامين بما تقدّم.

وإمّا أن يُحمل المال الملتزم على ما هو أعمّ من الحقّ، فيكون على سبيل الجعالة ، فيلزمه ما التزمه إن لم يأت به في الموضعين بإعمال مفهوم الشرط في الأولى، وللتصريح في الثانية.

ويناسب هذا الحمل كون الكفالة قد لا تكون غايتها المال كالقصاص والزوجيّة.

ص: 87

• ومَنْ أطلق غريماً من يد صاحب الحق قهراً ضمن إحضاره، أو أداء ما عليه ،

• ولو كان قاتلاً لزمه إحضاره، أو دفع الدية.

____________________________________________

ثمّ على تقدير كون المال مجانساً للمكفول لأجله ينبغي الحكم باحتسابه منه؛ نظراً إلى اقتضاء الكفالة ذلك، ولو كان مخالفاً احتُمل ردّه إليه بالقيمة أيضاً، وإن لم تكن الكفالة لأجل مالٍ فهو التزام وتبرّع ،محض وإطلاق الرواية يقتضي صحّته.

وعلى ما قرّرناه فمخالفة الرواية للأصول ليست كثيرةً عند إطلاقها، ولو خصّصناها بالمال المقصود حصل المقصود، وإن بقي في عبارة الرواية قصور في البلاغة، حيث اتّحد الحكم في المسألتين، مع كونه قد ردّد بينهما، إلّا أنّه أسهل من مخالفة الأصول بغير موجبٍ، ومع هذا فإثبات الأحكام الخارجة على تقدير العمل بإطلاقها لا يخلو من بعد؛ لقصور الرواية عن إثبات مثل هذه الأحكام، ولقد كُنّا في سعة من هذا الاختلاف لو أطرحنا أمثال هذه الروايات التي هي من شواذّ الآحاد، وبالله التوفيق.

قوله: «ومن أطلق غريماً من يد صاحب الحقّ قهراً ضمن إحضاره أو أداء ما عليه».

لأنّه غصب اليد المستولية المستحقّة من صاحبها، فكان عليه إعادتها أو أداء الحقّ الذي

بسببه ثبتت اليد عليه.

وينبغي أن يكون الحكم هنا كما سلف في الكفيل الممتنع من تسليم المكفول (1)، فيطالب

بالتسليم مع الإمكان، لا أن يفوّض التخيير إليه.

وحيث يؤخذ منه المال لا رجوع له على الغريم إذا لم يأمره بدفعه؛ إذ لم يحصل من الإطلاق ما يقتضي الرجوع .

قوله: «ولو كان قاتلاً لزمه إحضاره أو دفع الدية».

لا فرق في ذلك بين كون القتل عمداً وغيره؛ إذ القصاص لا يجب إلّا على المباشر، فإذا تعذّر استيفاؤه وجبت الدية، كما لو هرب القاتل عمداً، أو مات.

ص: 88


1- سبق في ص 79.

• ولا بدّ من كون المكفول معيّناً، فلو قال: «كفلت أحد هذين» لم يصحّ، وكذا لو قال: «كفلت بزيد أو عمرو». وكذا لو قال:« كفلت بزيد فإن لم آت به فبعمرو ».

ويلحق بهذا الباب مسائل :

الأولى: • إذا أحضر الغريم قبل الأجل وجب تسلّمه إذا كان لا ضرر عليه، ولو قيل: لا يجب كان أشبه.

ثمّ إن استمرّ القاتل هارباً ذهب المال على المخلّص، وإن تمكّن الولى منه وجب عليه ردّ الدية إلى الغارم وإن لم يقتصّ من القاتل؛ لأنّها إنّما وجبت لمكان الحيلولة وقد زالت، وعدم القتل الآن مستند إلى اختيار المستحقّ.

ولو كان تخليص الغريم من يد كفيله، وتعذّر استيفاء الحقّ من قصاص أو مال، وأخذ المال

أو الدية من الكفيل كان له الرجوع على الذي خلَّصه لعين ما ذكر في تخليصه من يد المستحقّ.

قوله: «ولا بدّ من كون المكفول معيّناً - إلى قوله - فإن لم آت به فبعمرو».

وهذه الثلاثة تشترك في إبهام المكفول، فتبطل الكفالة؛ لأنّه لا يعلم المكفول بعينه ليستحقّ المطالبة بإحضاره، ويزيد الثالث أنّ كفالة عمر و معلّقة على شرطٍ، وهو عدم الإتيان بزيد، فيبطل من هذا الوجه أيضاً، وكفالة زيدٍ ليست متعيّنةً؛ لأنّ الكفيل جعل نفسه فيه في فسحة بإحضار عمر و إن اختار ، فيرجع إلى الإبهام كالسابق. وهذا مما لا خلاف فيه.

قوله: «إذا أحضر الغريم قبل الأجل وجب تسلّمه إذا كان لا ضرر عليه» إلى آخره.

القول بوجوب تسلّمه قبل الأجل للشيخ (رحمه الله) بشرط انتفاء الضرر (1).

والأقوى ما اختاره المصنّف من عدم الوجوب؛ لأنّه غير التسليم الواجب؛ إذ لم يجب بعد، فلا يعتدّ به.

ومثله ما لو سلّمه في غير المكان المشروط، أو الذي يُحمل الإطلاق عليه وإن انتفى الضرر، أو كان أسهل؛ لما ذُكر.

ص: 89


1- المبسوط، ج 2، ص 321.

• ولو سلّمه وكان ممنوعاً من تسلّمه بيد قاهرة، لم يبرأ الكفيل.

•ولو كان محبوساً في حبس الحاكم وجب تسلّمه؛ لأنّه متمكّن من استيفاء حقّه، وليس كذلك لو كان في حبس ظالم.

الثانية: • إذا كان المكفول غائباً وكانت الكفالة حالة أنظر بمقدار ما يمكنه الذهاب إليه والعود به، وكذا إن كانت مؤجَّلةً، أُخر بعد حلولها بمقدار ذلك.

_________________________________________

قوله: «ولو سلّمه وكان ممنوعاً من تسلّمه بيد قاهرة لم يبرأ الكفيل».

المعتبر في التسليم التامّ الذي لا مانع منه بوجهٍ، كما مرّ(1)، فلا يُعتدّ بالتسليم الممنوع مع

من استيفاء ،الغرض، بقاهر وغيره، وهو واضح.

قوله: «ولو كان محبوساً في حبس الحاكم وجب تسلّمه» إلى آخره.

الفرق بين الحبسين واضح؛ فإنّ الحاكم لا يمنعه من إحضاره ومطالبته بحقّه، بخلاف الظالم، فقد يفرض فيه المنع.

ولا بدّ من تقييده بكونه ممنوعاً منه، فلو كان المكفول له قادراً على تسلّمه تامّاً في حبس الظالم، بواسطة صحبته للظالم أو قوّته ونحو ذلك، فهو كما لو لم يكن محبوساً، وإنّما أطلق المصنّف والجماعة(2) ذلك؛ بناءً على الغالب من تعذّر تسلّمه تامّاً كذلك.

وحيث يكون في حبس الحاكم وطالب الحاكم بإحضاره أحضره مجلسه وحكم بينهما، فإذا فرغت الحكومة ردّه إلى الحبس بالحقّ الأوّل، ولو توجّه عليه حقٌّ للمكفول له يوجب الحبس، حَبَسه بهما، وتوقّف فكّه على تخلّصه منهما.

قوله: «إذا كان المكفول غائباً وكانت الكفالة حالّةً» إلى آخره.

محلّ الإنظار ذلك المقدار بعد مطالبة المكفول له بإحضاره لا بمجرّد الحلول.

ص: 90


1- مرّ في ص 79.
2- منهم الشيخ في المبسوط، ج 2، ص 321؛ والعلّامة في تحرير الأحكام الشرعية، ج 2، ص 568، الرقم 3966: والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 5، ص 392 .

الثالثة: • إذا تكفّل بتسليمه مطلقاً انصرف إلى بلد العقد، وإن عيّن موضعاً لزم، ولو دفعه في غيره لم يبرأ، وقيل: إذا لم يكن في نقله كلفة ولا في تسلّمه ضرر وجب تسلّمه، وفيه تردّد.

________________________________________

والمراد من الغائب هنا من يعرف موضعه ولم ينقطع خبره ، فلو لم يعرف لانقطاع خبره لم يكلّف الكفيل إحضاره؛ لعدم الإمكان، ولا شيء عليه؛ لأنّه لم يكفل المال، ولم يقصّر في الإحضار.

ولا فرق في الغائب المعلوم محلّه بين المتجاوز لمسافة القصر وغيره، خلافاً لبعض العامّة(1) .

قوله: «إذا تكفّل بتسليمه مطلقاً انصرف إلى بلد العقد - إلى قوله - وفيه تردّد».

أطلق المصنّف ( رحمه الله) وجماعة (2)انصراف إطلاق الكفالة إلى بلد العقد؛ لأنّه المفهوم عند الإطلاق، وهذا التعليل يتمّ لو كان محلّ العقد بلد المكفول له، أو بلد قرار لا ينافي الإرادة عرفاً، فلو كان برّيَّةً، أو بلد غربةٍ، قصدهما مفارقته سريعاً بحيث تدلّ القرائن على عدم إرادته، أشكل انصراف الإطلاق إليه. وقد تقدم(3) الكلام على نظيره في السّلّم، إلّا أنّهم لم ينقلوا هنا خلافاً.

وعلى كل حال فالتعيين أولى، وحيث يعيّن أو يطلق ويحضره في غير بلد عيّنه هو أو الشارع، لا يجب تسلّمه وإن انتفى الضرر؛ عملاً بالشرط. والمخالف الشيخ (رحمه الله)(4) كما مرّ في الزمان(5) .

ص: 91


1- العزيز شرح الوجيز، ج 5، ص 164 روضة الطالبين، ج 3، ص 490.
2- منهم الشيخ في المبسوط، ج 2، ص 321؛ والعلّامة في تحرير الأحكام الشرعية، ج 2، ص 568، الرقم 3966؛ والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 5، ص 389 - 390.
3- تقدم في ج 3، ص 345.
4- المبسوط، ج 2، ص 321 .
5- مرّ في ص 89 .

الرابعة: • لو اتّفقا على الكفالة، وقال الكفيل: «لا حقّ لك عليه» كان القول قول المكفول له؛ لأنّ الكفالة تستدعي ثبوت حقٍّ.

_________________________________________

قوله: «لو اتّفقا على الكفالة وقال الكفيل: لا حقّ لك عليه» إلى آخره.

إنكار الكفيل الحقّ على المكفول إمّا أن يريد به نفيه ابتداء، بحيث لم يكن وقت الكفالة،

أو يريد به نفيه الآن بأن يكون قد أوفى أو أبرأه المستحقّ.

فإن كان الأوّل - وهو المراد هنا - فالدعوى راجعة إلى صحّة الكفالة وفسادها، فإنّ شرط صحّتها ثبوت حقٍّ للمكفول له عند المكفول، والكفيل يدّعي فسادها، فلا يلتفت إلى قوله؛ لأنّ القاعدة تقديم مدّعي الصحّة لكن مع يمينه.

لا يقال: يكفي في صحّتها مجرّد الدعوى وإن لم يكن الحقّ ثابتاً، وإنكار الكفيل الحقّ لا يرفع الدعوى، فلا يقتضي بطلان الكفالة.

لأنّا نقول: إنكاره لنفس الدَين مع اعترافه بالدعوى لا يؤثّر في سقوط حقّ الإحضار عنه، فلا معنى لإنكاره؛ لأنّ غرضه إبطال الكفالة ليسقط عن نفسه وجوب الإحضار، واعترافه بمجرّد الدعوى كافٍ في وجوبه. والغرض من المسألة إنكاره حقّاً يجوز الكفالة. فيكفي فيه أحد الأمرين: الدعوى وما تضمّنته والحقّ المنفيّ في العبارة نكرة تفيد عموم الحقّ فيشمل الدعوى.

وعلى هذا، فإذا حلف المكفول له، وتعذّر على الكفيل إحضار الغريم، فهل يجب عليه أداء المال من غير بيّنةٍ؟ احتمال، والأقرب عدم الوجوب؛ لأنّ الكفالة إنّما تستدعي ثبوت الحقّ لا المال.

نعم، لو أقام المدعى البيّئة بالحقّ وأغرم الكفيل لم يرجع به على المكفول؛ لاعترافه ببراءة ذمّته وأنّه مظلوم.

وإن كان المراد الثاني - وهو نفي الحقّ عن المكفول الآن، فإنّ مرجع قوله إلى سقوط الكفالة عنه الآن وإن كانت قد لزمت ابتداء - فالقول قول المكفول له أيضاً؛ لأصالة بقاء الحقّ، وسيأتي إن شاء الله بقيّة حكمه.

ص: 92

الخامسة: • إذا تكفّل رجلان برجلٍ فسلّمه أحدهما لم يبرأ الآخَر. ولو قيل بالبراءة كان حسناً.

•ولو تكفّل لرجلين برجلٍ ثمّ سلّمه إلى أحدهما لم يبرأ من الآخَر.

_____________________________________

قوله: «إذا تكفّل رجلان برجل فسلّمه أحدهما لم يبرأ الآخر . ولو قيل بالبراءة كان حسناً».

ما حسّنه المصنّف حسن؛ لأنّ المقصود تسلّمه له وقد حصل، حتّى لو سلّم نفسه أو سلّمه

أجنبيٌ برئ الكفيل؛ لحصول ،الغرض، فإذا سلّمه أحد الكفيلين أولى.

وهل يشترط مع ذلك تسليمه عنه وعن شريكه، أم يكفي الإطلاق، بل تسليمه عن نفسه؟ وجهان يأتي مثلهما فيما لو سلّم نفسه أو سلّمه أجنبيٌ، ومثله يأتي في وجوب قبول المكفول له قبضه عمّن لم يسلّم؛ إذ لا يجب عليه قبول الحقّ ممّن ليس عليه لو بذله، ومن

حصول الغرض وهو التسليم.

وهو

وظاهر إطلاق المصنّف وجماعةٍ (1)الاجتزاء به مطلقاً، وهو متّجه.

والقول بعدم البراءة للشيخ (رحمه الله)(2) : محتجّاً بتغاير الحقّين، ولأنّه لا دليل عليه، و هو ضعيف، وتظهر الفائدة لو ظهر بعد تسليم الأوّل.

قوله: «ولو تكفّل لرجلين برجل ثمّ سلّمه إلى أحدهما لم يبرأ من الآخَر».

الفرق بينه وبين السابق واضح؛ فإنّ العقد هنا مع الاثنين بمنزلة عقدين، فهو كما لو تكفّل لكلّ واحدٍ منهما على انفراده، وكما لو ضمن دَيْنين لشخصين، فأدّى دين أحدهما، فإنّه لا يبرأ من دين الآخَر، بخلاف السابق، فإنّ الغرض من كفالتهما معاً إحضاره وقد حصل.

ص: 93


1- منهم العلّامة في تذكرة الفقهاء، ج 14، ص 406، المسألة 573؛ وفخر المحققين في ايضاح الفوائد، ج 2، ص 101؛ والشهيد في اللمعة الدمشقية، ص 176 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج (13).
2- المبسوط، ج 2، ص 323 .

السادسة:• إذا مات المكفول برئ الكفيل • وكذا لو جاء المكفول وسلّم نفسه.

________________________________

قوله: «إذا مات المكفول برئ الكفيل».

أمّا براءته بموته؛ فلأنّ متعلّق الكفالة النفس وقد فاتت بالموت، ولأنّ المتبادر من الكفالة إنّما هو الإحضار في حال الحياة، فيُحمل الإطلاق عليه.

ويمكن الفرق بين أن يكون قد قال في عقد الكفالة: كفلت لك حضور بدنه، أو حضور نفسه، أو حضوره، فيجب في الأوّل إحضاره ميّتاً إن طلبه منه، وإلّا فلا، ويبنى الثاني على أنّ الإنسان ما هو ؟ فإن كان الهيكل المحسوس فكذلك، وإلّا فلا إلّا أنّ هذا يضعف بانتفاء الفائدة في إحضار الميّت.

هذا كلّه إذا لم يكن الغرض الشهادة على صورته، وإلّا وجب إحضاره ميّتاً مطلقاً حيث تمكّن الشهادة عليه بأن لا يكون قد تغيّر بحيث لا يعرف.

ولا فرق في ذلك بين كونه قد دُفن وعدمه؛ لأنّ ذلك مستثنى من تحريم نبشه.

قوله: «وكذا لو جاء المكفول وسلّم نفسه».

أى سلّم نفسه للمكفول له تسليماً تامّاً، فإنّ الكفيل يبرأ بذلك؛ لحصول الغرض، وهو ردّه إلى المكفول له.

ولا فرق بين وصوله إلى يده بالكفيل وغيره.

وقيّده في التذكرة بما إذا سلّم نفسه عن جهة الكفيل، فلو لم يسلّم نفسه عن جهته لم يبرأ؛ لأنّه لم يسلّمه إليه ولا أحد من جهته(1)، وأطلق في موضع آخر منها البراءة (2)، كما هنا وهو أجود.

ولو سلّمه أجنبيٌ عن الكفيل فكذلك، ولو لم يكن عنه فالوجهان، إلّا أنّه في التذكرة جزم هنا بالتفصيل، وزاد أنّه لا يجب على المكفول له قبوله إلّا أن يكون التسليم صادراً عن إذن الكفيل؛ محتجّاً بعدم وجوب قبض الحقّ إلّا ممّن عليه، لكن لو قبل برئ الكفيل(3) .

ص: 94


1- تذكرة الفقهاء، ج 14، ص 405، الفرع «د» من المسألة 572.
2- تذكرة الفقهاء، ج 14 ، ص 404 ، الفرع «ب» من المسألة 572.
3- تذكرة الفقهاء، ج 14، ص 405. الفرع «ه_» من المسألة 572.

فرع: • لو قال الكفيل: «أبرأت المكفول» فأنكر المكفول له، كان القول قوله، فلو ردّ اليمين إلى الكفيل فحلف، برى من الكفالة، ولم يبرأ المكفول من المال.

السابعة: • لو كفل الكفيل آخَر وترامت الكفلاء جاز.

________________________________________

وفي كلّ من هذه الفروع نظر، وإطلاق المصنّف وجماعة(1) يقتضي عدم الفرق، ولعلّه أوجَه. وكلام التذكرة مختلف، وسياقه يقتضي التفريع عند الشافعيّة، وأنّه لا يرتضيه، إلّا أنّ عبارته وقعت مختلفة.

قوله: «لو قال الكفيل: «أبرأت المكفول» فأنكر المكفول له، كان القول قوله» إلى آخره.

إنّما كان القول قول المكفول له؛ لأصالة بقاء الحقِّ مع اعتراف الكفيل بثبوته ابتداء؛ لاقتضاء دعوى الإبراء ذلك، هذا مع عدم البيّنة للكفيل على الإبراء.

ثمّ إمّا أن يحلف المكفول له على بقاء الحقّ، أو يردّ اليمين على الكفيل، فإن حلف برئ من دعوى الكفيل، وثبتت الكفالة، ثمّ إذا جاء بالمكفول فادّعى البراءة أيضاً لم يكتف باليمين التي حلفها المكفول له للكفيل، بل عليه له يمين أُخرى؛ لأنّ هذه الدعوى مستقلّة مغايرة لذلك، فإنّ دعوى الكفيل إنّما كانت لبراءة نفسه وإن لزمها بالعرض دعوى براءة المكفول.

وإن لم يحلف وردّ اليمين على الكفيل - وهو القسم الذي ذكره المصنّف - فحلف الكفيل برئ من الكفالة، ولا يبرأ المكفول من المال لما ذكرناه من اختلاف الدعويين، ولأنّ الإنسان لا يبرأ من الحقّ بيمين غيره.

نعم، إذا حلف المكفول اليمين المردودة برنا معاً وإن كان قد حلف المستحقّ أوّلاً للكفيل على عدم الإبراء لسقوط الحقّ بيمين المكفول، فتسقط الكفالة، كما لو أدّى الحقّ، وكذا لو نكل المكفول له عن يمين المكفول فحلف هو برنا معاً.

قوله: «لو كفل الكفيل آخَر وترامت الكفلاء جاز».

لمّا كان ضابط جواز الكفالة ثبوت حقّ على المكفول وإن لم يكن مالاً، صحّ كفالة

ص: 95


1- منهم العلامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 168؛ وفخر المحققين في إيضاح الفوائد، ج 2، ص 101 .

الثامنة: •لا تصحّ كفالة المكاتب على تردّد.

الكفيل من كفيل ثانِ؛ لأنّ الكفيل الأوّل عليه حقٌّ للمكفول له، وهو إحضار المكفول الأوّل، وهكذا القول في كفالة كفيل الكفيل، وهكذا، وهو معنى الترامي.

ثمّ يختلف حكم الإحضار فيهم، فإنّه متى أحضر الكفيل الأخير مكفوله برى من الكفالة خاصّةً، وبقي على مكفوله إحضار من كفله، وهكذا.

ولو أحضر الكفيل الأوّل مكفوله، برى الجميع؛ لأنّهم فرعه.

وإن أحضر الكفيل الثاني الكفيل الأوّل، برئ هو وبرئ من بعده من الكفلاء، وهكذا.

ولو أبرأ المكفول له الأوّل غريمه المكفول الأول - وهو الأصيل - برؤوا أجمع لزوال الكفالة بسقوط الحقّ، ولو أبرأ غيره من كفالته - أي أسقط عنه حقّ الكفالة - برئ من بعده دون من قبله.

ومتى مات واحد منهم برئ من كان فرعاً له، فيموت من عليه الحقّ يبرؤون جميعاً، وبموت الكفيل الأوّل يبرأ من بعده، و بموت الثاني يبرأ الثالث ومن بعده دون من قبله، وهكذا بموت الثالث يبرأ من بعده ولا يبرأ الأوّلان.

وقد تقدّم في الضمان والحوالة ورود الترامي والدور فيهما (1)، أمّا الكفالة فلا يصحّ دورها وإن صحّ تراميها؛ لأنّ حضور المكفول الأوّل يوجب براءة من كفله وإن تعدّد، فلا معنى لمطالبته بإحضار من كفله.

قوله: «لا تصحّ كفالة المكاتب على تردّدٍ».

القائل بعدم صحّة كفالة أحدٍ للمكاتب الشيخ (رحمه الله )(2) ؛ بناءً على أصله المتكرّر من جواز الكتابة المشروطة من قبله(3)، فلا يتعيّن عليه أداء مال الكتابة، فلا تصحّ كفالته؛ لأنّ الغرض منها حضوره لأداء ما عليه.

ص: 96


1- تقدم في ص 38 و 59 .
2- المبسوط، ج 2، ص 323.
3- المبسوط، ج 2، ص 356؛ وج 3، ص 11: وج 4، ص 455 و 465.

التاسعة: • لو كفل برأسه أو بدنه أو بوجهه صحّ؛ لأنّه قد يعبّر بذلك عن الجملة عرفاً، ولو تكفّل بيده أو رجله واقتصر لم يصحّ؛ إذ لا يمكن إحضار ما شرط مجرّداً، ولا يسري إلى الجملة.

_________________________________________

وقد تقدّم ما يدلّ على الصحّة(1)، ويزيد هنا أنّه إمّا عبد أو مديون، وكلاهما مجوّز للكفالة وموجب للإحضار.

وقد عرفت أنّ الخلاف في المشروطة خاصّةً وإن أطلق في جميع المواضع.

قوله: «لو كفل برأسه أو بدنه أو بوجهه صحّ - إلى قوله - ولا يسري إلى الجملة».

الأصل فى الكفالة أن تتعلّق بذات المكفول، بأن يقول: كفلت لك فلاناً ، أو أنّا كفيل به، أو

بإحضاره؛ لأنّ الغرض الذاتي منها إحضاره حيث يطلبه المكفول له.

وفي حكم ذاته نفسه وبدنه؛ لأنّها بمعنى واحد في العرف العامّ وإن اختلفت في الحقيقة

تحقيقاً.

وأمّا الوجه والرأس فالمراد منهما بحسب الوضع الجزء المخصوص منه، إلّا أنّهما قد يطلقان عرفاً على الجملة، فيقال: يبقى رأسه ووجهه ونحو ذلك، ويراد ذاته وجملته.

وقد أطلق المصنّف (رحمه الله) الحكم بصحّة الكفالة حيث تعلّق بهما، حملاً على المتعارف. وألحق بهما العلّامة الكبد والقلب وكلّ عضو لا تبقى الحياة بدونه، والجزء الشائع فيه كثلثه وربعه(2)؛ لأنّه لا يمكن إحضار المكفول إلّا بإحضاره كلّه.

وفى الكلّ نظر :

أمّا الأوّل؛ فلأنّ العضوين المذكورين وإن كانا قد يطلقان على الجملة إلّا أنّ إطلاقهما على أنفسهما خاصّةً أيضاً شائع متعارف إن لم يكن أشهر، وحمل اللفظ المحتمل للمعنيين على الوجه المصحّح - مع الشكّ في حصول الشرط، وأصالة البراءة من لوازم العقد - غير واضحٍ.

ص: 97


1- تقدم في ص 36.
2- تحرير الأحكام الشرعية، ج 2، ص 566، الرقم 3957.

...

_____________________________________________

نعم، لو صرّح بإرادة الجملة من الجزءين، اتّجهت الصحّة، كإرادة أحد معنيي المشترك، كما أنّه لو قصد الجزء بعينه لم يكن الحكم كالجملة قطعاً، بل كالجزء الذي لا يمكن الحياة بدونه.

وبالجملة، فالكلام عند الإطلاق وعدم قرينة تدلّ على أحدهما، فعند ذلك لا يصحّ تعليل الصحّة بأنّه قد يعبّر بذلك عن الجملة.

وأمّا الثاني - وهو الأجزاء التي لا يعيش بدونها وما في حكمها - فلانّ إحضاره وإن كان غير ممكن بدونها إلّا أنّ ذلك لا يقتضي صحّة العقد؛ لأنّ المطلوب من الكفالة هو المجموع، أو ما يطلق عليه، كما في السابق على تقدير ثبوته، أمّا إذا تعلّق ببعضه فلا دليل على صحّته وإن توقّف إحضار الجزء المكفول على الباقي ؛ لأنّ الكلام ليس في مجرّد إحضاره، بل في إحضاره على وجه الكفالة الصحيحة، فوجوب إحضار ما لا يتعلّق به الكفالة مترتّب على صحّة كفالة الجزء الذي تعلّقت به، وذلك الجزء ليس هو المطلوب شرعاً، بل الجملة، فلا يتمّ التعليل، ولا إثبات الأحكام الشرعيّة المتلقّاة من الشرع بمثل هذه المناسبات، ولو جاز إطلاق هذه الأجزاء على الجملة مجازاً، لم يكن ذلك كافياً؛ لكونه غير متعارفٍ، مع أنّ في المتعارف ما قد سمعتَ، وحينئذٍ فالقول بعدم الصحّة أوضح.

وأمّا الجزء الذي تبقى الحياة بعد زواله، ولا يطلق عليه اسم الجملة كاليد والرجل، فعدم الصحّة فيه أشدّ وضوحاً، كما جزم به المصنّف.

واستشكل فيه في القواعد(1) ممّا ذكر، ومن عدم إمكان إحضاره على حالته بدون الجملة،

فكان كالرأس والقلب.

ولا يبعد القول بالصحّة فيه لمن يقول بها فيما سبق، وإن كان الحكم فيه أضعف.

ص: 98


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 170.

كتاب الصلح

• وهو عقد شُرّع لقطع التجاذب،

________________________________________

كتاب الصلح

قوله: «وهو عقد شرّع لقطع التجاذب».

الأصل في عقد الصلح أنّه موضوع لقطع التجاذب والتنازع بين المتخاصمين. قال الله تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةً خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صلحا)(1)، وقال الله تعالى: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَقْتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)(2).

لكنّه عندنا قد صار عقداً مستقّلاً بنفسه، لا يتوقّف على سبق خصومة، بل لو وقع ابتداءً على عين بعوض معلوم كان كالبيع في إفادة نقل الملك، وعلى منفعة كان كالإجارة، إلى غير ذلك من أحكامه؛ لإطلاق النصوص بجوازه من غير تقييدٍ بالخصومة، كقول النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) : «الصلح جائز بين المسلمين إلّا صلحاً أحلّ حراماً أو حرم حلالاً»(3)، وقول الصادق(علیه السلام) : «الصلح جائز بين الناس»(4)، والأصل في العقود الصحّة، وللأمر بالوفاء بها(5)، وهذا من الجملة.

ص: 99


1- النساء(4):128.
2- الحجرات(49):9 .
3- الفقیه ، ج3، ص32، ح3270 .
4- الکافي، ج5، ص259، باب اصلحف ح 5، تهذیب الأحکام ، ج6، ص208، ح 497 .
5- المائده(5): 1 .

...

_________________________________________

فإن قيل: مقتضى قول المصنّف - كغيره(1) - إنّه «شُرّع لقطع التجاذب» اشتراطه بسبق خصومةٍ، كما يقوله بعض العامّة(2) ؛ لأنّ القاطع للتجاذب مسبوق به.

قلنا: لا يلزم من كون أصل شرعيّته لذلك ثبوته في كلّ فرد من أفراده، كما أشرنا إليه سابقاً من أنّ القواعد الحكميّة لا يجب اطّرادها في كلّ فردٍ، كالقصر في السفر، فإنّ الأصل فيه وجود المشقّة بدونه، فيثبت مع عدمها في كثيرٍ من أفراده، خصوصاً مع وجود النصوص المتناولة بإطلاقها أو عمومها لما لا نزاع فيه.

فإن قيل: السفر إلى المسافة مظّنة المشقّة، والقصر تابع له، بخلاف الصلح، فإنّه لم يعلّق

بما هو مظنّة التجاذب، بل أجريتموه فيما لا تعلّق له بالمنازعة أصلاً.

قلنا: الموجب لإثبات الصلح وشرعيّته أمران - كما قد عرفت سابقاً - أحدهما يدلّ على أنّه موضوع لقطع التنازع من غير أن يدلّ على انحصاره فيه، والآخَر يدلّ بإطلاقه على جوازه مطلقاً، فيجوز حينئذٍ أن يكون أصل شرعيّته لقطع التنازع مع عدم انحصاره فيه؛ لما دلّ عليه باقي الأدلّة، فمرجع الأمر إلى أنّ الأصل فيه ذلك الحكم، لكنّه يُعدّى إلى غيره بالدليل، كما أنّ الأصل في القصر كان السفر والخوف معاً، تخفيفاً على المكلّف، كما دلّت عليه الآية(3) ، ثمّ يُعدّى إلى ما لا خوف فيه ولا مشقّة، بل إلى ما لا سفر فيه أيضاً على بعض الوجوه، كالموتحل والغريق ونحوهما، وكالفسخ بالعيب الذي هو نقصان في الخلقة؛ لأنّه مظنّة نقصان القيمة، ثمّ عدّي إلى مالا نقصان معه، بل إلى ما فيه زيادة كالخصيّ، إلى غير ذلك من الأحكام.

وبالجملة، فالمرجع في إثبات الحكم الشرعي إلى الدليل الدالّ عليه، لا إلى الحكمة التي شرّع لأجلها، وهو أعمّ من موضع النزاع.

ص: 100


1- كالعلّامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 172؛ والشهيد في اللمعة الدمشقية، ص 179 (ضمن موسوعة الشهيد الأول. ج 13).
2- الوجيز، ج 1، ص 346 - 347: العزيز شرح الوجيز، ج 5، ص 84 - 85 .
3- النساء (4)101.

• وليس فرعاً على غيره ولو أفاد فائدته.

•ويصحّ مع الإقرار والإنكار،

_________________________________________

قوله: «وليس فرعاً على غيره ولو أفاد فائدته».

نبّه بذلك على خلاف الشيخ (رحمه الله) في المبسوط، حيث قال: إنّه فرع على عقود خمسة (1)، وهو مذهب الشافعي(2)، فجعله فرع البيع إذا أفاد نقل الملك بعوضٍ معلوم، وفرع الإجارة إذا وقع على منفعةٍ مقدّرةٍ بمدّةٍ معلومةٍ بعوض معلوم، وفرع الهبة إذا تضمّن ملك العين بغير عوضٍ، وفرع العارية إذا تضمّن إباحة منفعةٍ بغير عوض، وفرع الإبراء إذا تضمّن إسقاط دينٍ أو بعضه.

ونبّه بقوله «وإن أفاد فائدته» على أنّ إفادة عقدٍ فائدة عقد آخر لا تقتضي كونه من أفراده، مع دلالة الدليل على استقلاله بنفسه، كغيره من العقود.

فعلى المختار هو عقد لازم؛ لدخوله في عموم الأمر(3)، وعلى قول الشيخ يلحقه حكم ما ألحق به من العقود في ذلك الفرد الذي ألحق به فيه.

قوله: «ويصحّ مع الإقرار والإنكار».

هذا عندنا موضع وفاقٍ، ولإطلاق النصوص (4)الدالّة عليه.

ونبّه بذلك على خلاف الشافعي حيث مَنَعه مع الإنكار (5)؛ نظراً إلى أنّه عاوض على ما لم يثبت له، فلم تصحّ المعاوضة، كما لو باع مال غيره.

ونحن نمنع بطلان المعاوضة على ما لم يثبت بالصلح؛ فإنّه عين المتنازع، والفرق بينه وبين البيع ظاهر؛ فإنّ ذلك تصرّف في مال الغير بغير إذنه، بخلافه هنا، ولأنّ مبنى شرعيّته

ص: 101


1- المبسوط، ج 2، ص 258 - 259.
2- البيان، أبو الخير العمراني، ج 6، ص 221 - 224.
3- المائدة (5): 1.
4- راجع الهامش 3 و 4 من ص 99 .
5- الأم، ج 3، ص 254: مختصر المزني، ص 115 - 119(ضمن الأم، ج 9): العزيز شرح الوجيز، ج 5، ص 90؛ روضة الطالبين، ج 3، ص 432 .

•إلّا ما أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً.

________________________________________

عندنا وعنده على قطع التنازع، وهو شامل للحالين.

وصورة الصلح مع الإقرار ظاهرة، وأمّا مع الإنكار فبأن يدّعي شخص على غيره ديناً أو عيناً، فينكر المدّعى عليه، فيصالحه على مالٍ آخَر، أو على بعض المدّعى به، أو على غير ذلك من منفعةٍ وغيرها.

والمراد بصحّة الصلح مع الإنكار صحّته بحسب الظاهر، وأمّا بحسب نفس الأمر فلا يستبيح كلُّ منهما ما وصل إليه بالصلح، وهو غير محقٍّ، فإذا أنكر المدّعى عليه المدّعى به ظاهراً، وصولح على قدر بعض ما عليه في الواقع، أو ببعض العين، أو بمالٍ آخَر، لم يستبح المنكر ما بقي له من مال المدّعي عيناً ودَيناً، حتّى لو كان قد صالح عن العين بمالٍ آخَر فهي بأجمعها في يده مغصوبة، ولا يستثنى له منها مقدار ما دفع؛ لعدم صحّة المعاوضة في نفس الأمر، وكذا لو انعكس، وكان المدّعي مبطلاً في نفس الأمر، لم يستبح ما صولح به من عين ودين. وإنّما حكمهم بالصحّة بحسب ظاهر الشرع، لاشتباه المحقّ من المبطل؛ لأنّ هذا كلّه أكل مال بالباطل، وإنّما صالح المحقّ المبطل دفعاً لدعواه الكاذبة، وقد يكون استدفع بالصلح ضرراً عن نفسه أو ماله، ومثل هذا لا يُعد تراضياً يبيح أكل مال الغير.

نعم، لو كانت الدعوى مستندةً إلى قرينةٍ تجوّزها، كما لو وجد المدّعي بخطّ مورته أنّ له حقّاً على أحدٍ، أو شهد له من لا يثبت بشهادته الحقّ، ولم يكن المدّعي عالماً بالحال، وتوجّهت له اليمين على المنكر، فصالحه على إسقاطها بمال، أو على قطع المنازعة، فالمتّجه صحّة الصلح في نفس الأمر؛ لأنّ اليمين حقُّ يصحّ الصلح على إسقاطها.

ومثله ما لو توجّهت الدعوى بالتهمة حيث يتوجّه اليمين على المنكر ولا يمكن ردّها.

قوله: «إلّا ما أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً».

هذا لفظ الحديث النبويّ(1) ، وفُسّر تحليل الحرام بالصلح على استرقاق حُرّ أو استباحة

ص: 102


1- أي قول النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) : الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحلّ حراماً أو حرم حلالاً راجع تخريجه في ص 99 الهامش .

•وكذا يصحّ مع علم المصطلحين بما وقعت المنازعة فيه، ومع جهالتهما به، دَيناً كان أو عيناً.

_______________________________________

بُضعٍ لا سبب لإباحته غيره، أو ليشربا أو أحدهما الخمر، ونحو ذلك، وتحريم الحلال بأن لا يطأ أحدهما حليلته، أو لا ينتفع بما له، ونحو ذلك، والاستثناء على هذا متّصل؛ لأنّ الصلح على مثل هذه باطل ظاهراً وباطناً.

وفُسّر بصلح المنكر على بعض المدّعى أو منفعته أو بدله، مع كون أحدهما عالماً ببطلان الدعوى، كما سبق تحريره، والاستثناء عليه يكون منقطعاً؛ للحكم بصحّته ظاهراً، وإنّما هو فاسد في نفس الأمر، والحكم بالصحّة والبطلان إنّما يطلق على ما هو الظاهر.

ويمكن كونه متّصلاً؛ نظراً إلى بطلانه في نفس الأمر.

وهذا المثال يصلح للأمرين معاً، فإنّه محلّل للحرام بالنسبة إلى الكاذب، ومحرّم للحلال بالنسبة إلى المحقّ.

قوله: «وكذا يصحّ مع علم المصطلحين بما وقعت المنازعة فيه» إلى آخره.

الحكم مع علمهما به واضح من حيث صحّة العقد؛ لارتفاع الجهالة، ويبقى في المبطل بمنازعته ما سلف.

وأمّا مع جهلهما بمقداره بحيث تعذّر عليهما علمه فعندنا أنّه جائز أيضاً، وهو مرويُّ - في الصحيح - عن الباقر والصادق(علیهما السلام) أنّهما قالا في رجلين كان لكلّ واحدٍ منهما طعام عند صاحبه لا يدري كلّ واحدٍ منهما كم له عند صاحبه، فقال كلّ واحدٍ منهما لصاحبه: لك ما عندك ولى ما عندي، فقال: «لا بأس بذلك»(1)، ولأنّ الحاجة تمسّ إلى تحصيل البراءة مع الجهل، ولا وجه إلّا الصلح.

ولو كان أحدهما عالماً به دون الآخَر، فإن كان الجاهل المستحقّ لم يصحّ الصلح في نفس الأمر إلّا أن يُعلمه بالقدر، أو يكون المصالح به قدر حقّه مع كونه غير متعيّن، ومع ذلك فالعبرة بوصول الحقّ لا بالصلح.

ص: 103


1- الكافي، ج 5، ص 258، باب الصلح، ح 2؛ الفقيه، ج 3، ص 33، ح 3271؛ تهذيب الأحكام، ج 6، ص 206، ح 470.

• وهو لازم من الطرفين مع استكمال شرائطه،

_________________________________________

وقد روى أبو حمزة(1) عن أبي الحسن(علیه السلام) في يهودي أو نصراني كان له عند السائل أربعة آلاف درهم ومات، أصالح ورثته ولا أعلمهم كم كان؟ قال: «لا يجوّز حتّى تخبرهم»(2).

نعم، لو رضي صاحب الحقّ باطناً بالصلح بذلك القدر ولو علم قدر حقّه، فحينئذٍ يصحّ الصلح؛ لحصول الرضى الباطني، قطع به في التذكرة(3) .

ولو انعكس الفرض بأن كان المستحقّ عالماً بالقدر والغريم جاهلاً ويريد التخلّص منه. لم يصحّ الصلح بزيادة عن الحقّ، بل بقدره فما دون عكس الأوّل.

واعلم أنّ تقييد الأقسام بكون المصالح عليه متنازعاً فيه غير لازم، بل الحكم آتٍ في مطلق التصالح وإن لم يكن منازعة، مع علمهما بما يتصالحان عليه وجهلهما ،به کوارت تعذّر علمه بمقدار حصّته، وشريك امتزج ماله بمال الآخَر بحيث لا يتميّز ولا يعلمان قدر ما لكلّ منهما، ونحو ذلك، ولو علم أحدهما وجب إعلام الآخَر، أو إيصال حقّه إليه، كما قرّرناه.

ولو كان جهلهما بقدره لتعذّر المكيال والميزان ومسّت الحاجة إلى نقل الملك فالأقرب جوازه، وهو خيرة الدروس(4).

قوله: «وهو لازم من الطرفين مع استكمال شرائطه».

هذا مبنيُّ على ما سلف من كونه أصلاً بنفسه، فيكون لازماً؛ لعموم الأمر بالإيفاء بالعقود (5)المقتضي لذلك، إلّا ما أخرجه دليل خارجي. ويجيء على قول الشيخ(6) أنّه جائز في بعض موارده، كما إذا كان فرع العارية أو الهبة على بعض الوجوه، أو السكنى كذلك، كما إذا لم يقيّد بوقتٍ.

ص: 104


1- في المصادر: «علي بن أبي حمزة».
2- الكافي، ج 5، ص 259 ، باب الصلح ، ح 6: الفقيه، ج 3، ص 33، ح 3272؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 206، ح 472.
3- تذكرة الفقهاء . ج 16، ص 19 - 20، المسألة 1030 .
4- الدروس الشرعية ، ج 3، ص 295 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 11).
5- المائدة (5) 1 .
6- المبسوط، ج 2، ص 258 - 295 .

•إلّا أن يتّفقا على فسخه.

•وإذا اصطلح الشريكان على أن يكون الربح والخسران على أحدهما، وللآخر رأس ماله صحّ.

• ولو كان معهما در همان فادّعاهما أحدهما وادّعى الآخر أحدهما، كان لمدّعيهما درهم ونصف، وللآخَر ما بقي.

__________________________________________

وبالجملة، فإنّه عنده يلحقه حكم ما أفاد فائدته من تلك العقود.

قوله: «إلّا أن يتّفقا على فسخه».

بمعنى دخول الإقالة فيه كما تدخل في البيع، فإذا اتّفقا على التقايل وأوقعا صيغته ،انفسخ فإطلاق استثناء «اتّفاقهما على فسخه» من «لزومه» محمول على ما ذكرناه، لا أنّهما إذا اتّفقا عليه صار العقد جائزاً، بل في قوّته، حيث إنّ أمره بيدهما، كما أنّ البيع اللازم لا يطلق عليه اسم الجواز باتّفاقهما على التقايل.

قوله: «وإذا اصطلح الشريكان على أن يكون الربح والخسران على أحدهما» إلى آخره.

هذا إذا كان عند انتهاء الشركة وإرادة فسخها؛ لتكون الزيادة مع من هي معه بمنزلة الهبة،

والخسران على من هو عليه بمنزلة الإبراء، أمّا قبله فلا؛ لمنافاته وضع الشركة شرعاً. والمستند صحيحة أبي الصبّاح، عن الصادق(علیه السلام) في رجلين اشتركا في مال فربحا فيه ربحاً، وكان من المال دين وعين، وقال أحدهما لصاحبه: أعطني رأس المال والربح لك وما توي عليك، فقال: «لا بأس إذا شرط»(1).

وهذا الخبر مشعر بما شرطناه من كون الشرط عند الانتهاء لا كما أطلق المصنّف.

قوله: «ولو كان معهما در همان فادّعاهما أحدهما» إلى آخره.

المراد بكونهما معهما كونهما تحت يدهما ليتساويا في الدعوى؛ إذ لو كانا في يد مدّعي الدرهمين لقدم قوله فيهما بيمينه، ولو كانا في يد مدّعي الدرهم لقدّم فيه بيمينه ، وأمّا إذا

ص: 105


1- تهذيب الأحكام، ج 6، ص 207، ح 476.

•وكذا لو أودعه إنسان در همين، وآخر درهماً، وامتزج الجميع، ثمّ تلف درهم.

________________________________________

كانا تحت أيديهما فإنّه يقضى لمدّعيهما بدرهم؛ لعدم منازعة الآخر فيه، ويتساويان في الدرهم الآخَر؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهما صاحب يد ودعوىّ لجميعه، فيقسّم بينهما.

والمستند مع ذلك رواية عبد الله بن المغيرة، عن غير واحد، عن الصادق(علیه السلام)(1) .

قال في الدروس:

ويشكل إذا ادّعى الثاني النصف مشاعاً، فإنّه يقوى القسمة نصفين، ويحلف الثاني للأوّل، وكذا في كلّ مشاعٍ، قال: ولم يذكر الأصحاب هنا يميناً، وذكروها - أي المسألة - في باب الصلح، فجاز أن يكون ذلك الصلح قهريّاً، وجاز أن يكون اختياريّاً، فإن امتنعا فاليمين(2).

مع أنّ العلّامة قال في التذكرة :

والأقرب أنّه لابدّ من اليمين فيحلف كلُّ منهما على استحقاق نصف الآخَر الذي تصادمت دعواهما فيه، وهو ما في يده، فمَنْ نكل منهما قضي به للآخَر، ولو نكلا معاً أو حلقا معاً، قسم بينهما نصفين(3).

وما قرّبه حسن؛ لعموم: «واليمين على من أنكر»(4).

قوله: «وكذا لو أودعه إنسان در همين، وآخَر درهماً، وامتزج الجميع، ثم تلف درهم».

أي تلف بغير تفريط لينحصر حقَهما في الدرهمين الباقيين.

وإلحاق هذه بالسابقة هو المشهور بين الأصحاب، ومستنده رواية السكوني، عن الصادق(علیه السلم)(5).

ص: 106


1- الفقيه، ج 3، ص 35، ح 3277؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 208، ح 481.
2- الدروس الشرعية، ج 3، ص 299 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 11).
3- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 137، المسألة 1128.
4- السنن الكبرى البيهقي، ج 10، ص 427، ح 21201.
5- الفقيه، ج 3، ص 37، ح 3281؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 208، ح 483.

• ولو كان لواحدٍ ثوب بعشرين درهماً ولآخَر ثوب بثلاثين ثمّ اشتبها، فإن خيّر أحدهما صاحبه فقد أنصفه، وإن تعاسرا بيعا وقسّم ثمنهما بينهما، فأُعطي صاحب العشرين سهمين من خمسة وللآخر ثلاثة.

_______________________________________

ويشكل الحكم - مع ضعف المستند - بأنّ التالف لا يحتمل كونه منهما، بل من أحدهما خاصّةً؛ لامتناع الإشاعة هنا.

والموافق للقواعد الشرعيّة هنا القول بالقرعة، ومال إليه في الدروس(1) ، إلّا أنّه تحاشىعن مخالفة الأصحاب.

ومقتضى الرواية أنّه يقسّم كذلك وإن لم تتصادم دعواهما في الدينار، وأنّه لا يمين.

وكذا لم يذكر الأصحاب هنا يميناً؛ بناءً على كون الحكم المذكور قهريّاً، كما ذكر في الدروس في المسألة السابقة، وربما امتنعت اليمين هنا إذا لم يعلم كلّ منهما بعين حقّه.

ولو كان بدل الدراهم مال تمتزج أجزاؤه بحيث لا تتميّز، وهو متساويها، كالحنطة والشعير، وكان لأحدهما قفيزان مثلاً، وللآخر قفيز، وتلف قفيز بعد امتزاجهما بغير اختیاره، فالتالف على نسبة المالين وكذا الباقي، فيكون لصاحب القفيزين قفيز و ثلث، وللآخر ثلثا قفيز.

والفرق أنّ الذاهب هنا عليهما معاً، بخلاف الدراهم؛ لأنّه حقٌّ لأحدهما خاصّةً قطعاً.

قوله: «ولو كان لواحدٍ ثوب بعشرين درهماً - إلى قوله - وللآخَر ثلاثة».

هذا الحكم كالسابق مشهور بين الأصحاب.

ومستنده رواية إسحاق بن عمار عن الصادق أنّه قال في ثوبين أحدهما بعشرين والآخر بثلاثين فاشتبها:« يباعان، فيعطى صاحب الثلاثين ثلاثة أخماس الثمن، والآخر خمسي الثمن، وإن خيّر أحدهما صاحبه فقد أنصفه»(2).

ص: 107


1- الدروس الشرعية، ج 3، ص 299 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11).
2- الفقیه، ج3،ص26، ح2280؛تهذیب الأحکام، ج3، ص280، ح482.

•وإذا بان أحد العوضين مستحقّاً بطل الصلح.

____________________________________________

والمصنف (رحمه الله) عمل بمقتضى الرواية من غير تصرّف - وقبله الشيخ (1)- وجماعة(2) .

وفصل العلّامة فقال: إن أمكن بيعهما منفردين وجب، ثمّ إن تساويا فلكلّ واحدٍ ثمن ثوب ولا إشكال، وإن اختلفا فالأكثر لصاحبه، وكذا الأقلّ؛ بناءً على الغالب وإن أمكن خلافه إلّا أنّه نادر لا أثر له شرعاً، وإن لم يمكن صارا كالمال المشترك شركةً إجباريّة، كما لو امتزج الطعامان، فيقسّم الثمن على رأس المال(3)، وعليه تنزّل الرواية.

وأنكر ابن إدريس ذلك كلّه وحكم بالقرعة لأنّها لكلّ أمر ملتبس، وهو هنا حاصل(4).

وهو أوجَه من الجميع لو لا مخالفة المشهور وظاهر النصّ، مع أنّه قضيّة في واقعةٍ يمكن قصره عليها والرجوع إلى الأصول الشرعيّة.

وما ذكره المصنّف من البناء على الغالب(5) ليس أولى من القرعة؛ لأنّها دليل شرعي على هذه الموارد، ومن الجائز اختلاف الأثمان والقيم بالزيادة والنقصان؛ لاختلاف الناس في المساهلة والمماكسة.

وعلى تقدير العمل بالرواية يقصّر حكمها على موردها، فلا يتعدّى إلى الثياب المتعدّدة، ولا إلى غيرها من الأمتعة والأثمان، مع احتماله؛ لتساوي الطريق.

واستقرب في الدروس القرعة في غير مورد النصّ(6)، وهو حسن.

ولو قيل به فيه - كما اختاره ابن إدريس - كان حسناً أيضاً.

قوله: «وإذا بانَ أحد العوضين مستحقّاً بطل الصلح».

ص: 108


1- النهاية، ص314.
2- كما في تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 16 - 17، الرقم 4041؛ والدروس الشرعية، ج 3، ص 298 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11) وفيه: وعليها المعظم.
3- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 139، المسألة 1130 .
4- السرائر، ج 2، ص 69.
5- هذه العبارة لم ترد في عبارة المصنّف بل في كلام العلّامة، ولعله سهو من قلمه الشريف.
6- الدروس الشرعية ، ج 3، ص 298 ( ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 11).

•ويصحّ الصلح على عينٍ بعينٍ أو منفعةٍ، وعلى منفعةٍ بعينٍ أو منفعةٍ.

•ولو صالحه على دراهم بدنانير أو بدراهم صحّ، و لم يكن فرعاً للبيع، ولا يعتبر فيه ما يعتبر في الصرف، على الأشبه.

_______________________________________

المراد به المعيّن في العقد؛ لأنّه المتبادر من العوض في المعاوضة، فلو كان مطلقاً رجع ببدله كالبيع.

ولو ظهر فيه عيب فله الفسخ، وفي تخيّره بينه وبين الأرش وجه.

ولو ظهر غبن لا يتسامح بمثله، ففي ثبوت الخيار وجهان، أجودهما ذلك، دفعاً للإضرار، وإن لم يحكم بالفرعيّة، وهو خيرة الدروس(1).

وقد تقدّم في خيار الغبن من البيع أنّه لا نصّ عليه بالخصوص(2)، فيمكن استفادته هنا كما استفيد هناك من الأدلّة العامّة.

قوله: «ويصحّ الصلح على عين بعين أو منفعة، وعلى منفعة بعين أو منفعة».

حيث كان الصلح مفيداً لفائدة العقود المتقدّمة، ومتعلّق بعضها العين وبعضها المنفعة، لم يمنع من صحّة ما ذُكر هنا، ولا يختصّ جوازه بما ذُكر، بل لو صالح على مثل إسقاط خيار، أو على حقّ أولويّة في تحجير وسوق ومسجد، صحّ أيضاً؛ للعموم.

قوله: «ولو صالحه على دراهم بدنانير أو بدراهم صحّ - إلى قوله - على الأشبه».

الخلاف في ذلك مع الشيخ، حيث جَعَله فرعاً على البيع في نقل الأعيان بعوضٍ(3). فيلحقه حكمه، فلو كان العوضان من الأثمان لحقه حكم الصرف من اشتراط التقابض فى المجلس.

ولمّا كان الأصحّ استقلاله بنفسه لم يترتّب عليه حكم البيع هنا؛ لاختصاص حكم الصرف به.

ص: 109


1- الدروس الشرعية، ج 3، ص 296 ( ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 11).
2- تقدّم في ج 3، ص 111 - 112، الرابع: خيار الغبن.
3- المبسوط، ج 2، ص 258 و 276.

•ولو أتلف على رجل ثوباً قيمته درهم، فصالحه عنه علی در همین صحّ على الأشبه؛ لأنّ الصلح وقع عن الثوب لا عن الدرهم.

• ولو ادّعى داراً فأنكر من هي في يده، ثمّ صالحه المنكر على سكنى سنةٍ صحّ، ولم يكن لأحدهما الرجوع، وكذا لو أقرّ له بالدار، ثمّ صالح. وقيل: له الرجوع؛ لأنّه هنا فرع العارية. والأوّل أشبه.

___________________________________________

هذا من حيث الصرف، أمّا من حيث الربا فإنّ الأقوى ثبوته في كلّ معاوضة، والصلح أحدها، فلا بدّ من استثنائه من قوله «على دراهم بدراهم صحّ».

قوله: «ولو أتلف على رجل ثوباً قيمته درهم فصالحه عنه» إلى آخره.

هذا إنّما يتمّ على القول بضمان القيمي بمثله؛ ليكون الثابت في الذمّة ثوباً، ويكون هو متعلّق الصلح، أمّا على القول الأصحّ من ضمانه بقيمته فاللازم لذمّة المتلف إنّما هو الدرهم. فيستلزم الصلح عليه بدرهمين الربا فيبطل، وهو الأقوى.

قوله: «ولو ادّعى داراً فأنكر من هي في يده إلى قوله - والأوّل أشبه».

الخلاف هنا مع الشيخ كما تقدّم(1) ؛ حيث جَعَله مع كون متعلّقه المنفعة بغير عوض - فرع العارية، فيلزمه حكمها من جواز الرجوع فيه (2).

والأقوى عدمه للزومه وأصالته.

وإنّما قيّد المصنّف بإنكار من هي في يده، مع جواز الصلح مع الإقرار والإنكار؛ ليتصوّر كون الصلح المذكور عارية عند الشيخ؛ لأنّه إباحة منفعة بغير عوض. أمّا لو أقرّ له بها فإنّ الصلح وإن جاز إلّا أنّ المنفعة يقابلها عوض، وهو العين، فلا تتحقّق العارية، مع أنّ الشافعي لمّا شرط في صحّة الصلح الإقرار، وجَعَله فرعاً على العقود الخمسة، مثّل للعارية بما ذُكر هنا، مع كون المدّعى عليه مقرّاً بها(3).

ص: 110


1- تقدّم في ص 109.
2- المبسوط ، ج 2، ص 258 - 259 و 266.
3- العزيز شرح الوجيز ، ج 5، ص 90 روضة الطالبين، ج 3، ص 432 .

•ولو ادّعى اثنان داراً في يد ثالث بسبب موجب للشركة، كالميراث، فصدّق المدّعى عليه أحدهما وصالحه على ذلك النصف بعوض، فإن كان بإذن صاحبه صحّ الصلح في النصف أجمع، وكان العوض بينهما، وإن كان بغير إذنه صحّ في حقّه، وهو الربع، وبطل في حصّة الشريك، وهو الربع الآخر.

• أمّا لو ادّعى كلّ واحدٍ منهما النصف من غير سبب موجب للشركة لم يشتركا فيما يقرّبه لأحدهما.

______________________________________________

ووجهه أنّ العوضين من واحدٍ فكان الحكم راجعاً إلى العارية.

قوله: «ولو ادّعى اثنان داراً في يد ثالث بسبب موجب للشركة - إلى قوله - صحب في حقّه».

إذا اتّفق المدّعيان على كون سبب ملكهما مقتضياً للشركة، فإقرار المتشّبث لأحدهما مقتض لتشاركهما فيما أقرّ به وإن لم يصدّقهما على السبب الذي ادّعيا به؛ لأنّ مقتضى السبب - كالميراث - ذلك؛ لاتّفاقهما على أنّ البعض كالكلّ يستوي ملكهما فيه، فيمتنع استحقاق المقرّ له النصف دون الآخَر، كما أنّ الفائت يكون ذاهباً عليهما بمقتضى إقرارهما.

والحاصل أنّ اشتراكهما في المقرّ به يثبت من جهة اعترافهما بما يوجب الشركة لا من جهة الإقرار، فلا يؤثّر فيه تخصيص المقرّ أحدهما بالملك، وحينئذٍ فإذا صالح المقرّ له المتشبّث على النصف المقرّبه، فإن كان الصلح بإذن شريكه صحّ في جميعه بجميع العوض، وإلّا ففي حصّة المصالح خاصّةً بنسبتها من العوض، وبقي باقي النصف ملكاً للشريك الآخَر.

قوله: «أمّا لو ادّعى كلّ واحدٍ منهما النصف من غير سبب موجب للشركة لم يشتركا فيما يقرّ به لأحدهما».

كما لو ادّعى أحدهما النصف بسبب الإرث مثلاً، والآخر بالشراء، فإنّ ملك أحدهما لا يستلزم ملك الآخَر، فلا يقتضي الإقرار لأحدهما بما يدّعيه مشاركة الآخَر إيَّاه.

ومثله ما لو ادّعى كلُّ منهما أنّه اشترى النصف من غير تقييد بالمعيّة.

نعم، لو قالا: اشتريناها معاً، أو اتّهبناها وقبضنا معاً، ونحو ذلك، فقد قرّب في التذكرة

112 - موسوعة الشهيد الثاني / ج 20

ص: 111

...

____________________________________________

أنّ الحكم فيه كالأوّل(1) ؛ لاعتراف المقرّ بأنّ السبب المقتضي لتملّكه قد اقتضى تملّك الآخر.

ويحتمل العدم؛ لأنّ نقل الملك لاثنين بهذا الوجه بمنزلة الصفقتين.

هذا تقرير ما ذكره المصنّف وجماعة في القسمين.

وفيه بحث؛ لأنّ هذا لا يتمّ إلّا على القول بتنزيل البيع والصلح على الإشاعة كالإقرار، وهُمْ لا يقولون به، بل يحملون إطلاقه على ملك البائع والمصالح، حتّى لو باع ابتداء مالك النصف نصف العين مطلقاً انصرف إلى نصيبه.

ووجهوه بأنّ اللفظ من حيث هو وإن تساوت نسبته إلى النصفين إلّا أنّه من خارج قد ترجّح انصرافه إلى النصف المملوك للبائع، نظراً إلى أنّ إطلاق البيع إنما يُحمل على المتعارف في الاستعمال، وهو البيع الذي يترتّب عليه انتقال الملك بفعل المتعاقدين، ولا يجري ذلك إلّا في المملوك، بخلاف الإقرار، فإنّه إخبار عن ملك الغير بشيء، فيستوي فيه ما هو ملكه وملك غيره، وحينئذٍ فاللازم هنا أن ينصرف الصلح إلى نصيب المقرّ له خاصّةً، فيصحّ في جميع الحصّة بجميع العوض وتبقى المنازعة بين الآخر والمتشبّث.

هذا إن وقع الصلح على النصف مطلقاً، أو النصف الذي هو ملك المقرّ له، أمّا لو وقع على النصف الذي أقرّ به المتشبّث توجّه قول الجماعة؛ لأنّ الإقرار منزّل على الإشاعة، والصلح وقع على المقرّ به، فيكون تابعاً له فيها، وعلى هذا ينبغي حمل كلامهم؛ لئلّا ينافي ما ذكروه من القاعدة التي ذكرناها.

وهذا توجيه حسن لم ينبهّوا عليه، وإنّما ذكر الشهيد (رحمه الله) في بعض تحقيقاته احتمال انصراف الصلح إلى حصّة المقرّ له من غير مشاركة الآخَر مطلقاً (2)، وتبعه عليه الشيخ عليّ (رحمه الله)(3) .

ص: 112


1- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 97، المسألة 1092 .
2- حاشية القواعد، ص 273 و 298 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 14).
3- جامع المقاصد، ج 5 ص 434 .

•ولو ادّعى عليه فأنكر، فصالحه المدّعى عليه على سقي زرعه أو شجره بمائه،قيل: لايجوز؛لأنّ العوض هو الماء، وهو مجهول، وفيه وجه آخَر، مأخذه جواز بيع ماء الشرب.

___________________________________________

وربما فرّق في مسألة الإرث بين كون الصلح قبل قبض التركة وبعده؛ لأنّ الحاصل منها قبل القبض هو المحسوب تركة بالنسبة إلى الورثة، والتالف لا يُحسب عليهم، وكأنّه لم يكن، وامتناع الوصول إليه كتلفه في هذا الحكم.

وهذا الفرق إنّما يتمّ فيما لو قبض أحد الوارثين شيئاً من أعيان التركة أو باعه، أمّا الصلح فيبنى على ما لو صالح أحد الشريكين في الدَين على حقّه فيه هل يختصّ بالعوض أم لا؟ والظاهر الاختصاص؛ لأنّ الذاهب لا يخرج عن كونه حقّاً له، والصلح لم يقع على عين خاصّة حتّى يشتركا في عوضها، وإنّما وقع على حقّه، وهو أمر يمكن نقله بعوض وغير عوض، فالبحث السابق آتٍ في مسألة الإرث قبل القبض وبعده.

وممّا ذكرناه يُعلم حكم المدّعى المذكور الذي قد صولح على بعضه لو كان ديناً، فإنّ قبض عوض الصلح فيه يكون كقبض أحد الشريكين في الدين حصّته بالصلح.

وقد تقدّم الكلام فيه في باب القرض(1) ، ويأتي فيه في كتاب الشركة (2)مزيد بحث.

قوله: «ولو ادّعى عليه فأنكر فصالحه المدّعى عليه على سقي زرعه» إلى آخره.

القول بالمنع للشيخ ( رحمه الله)؛ محتجاً بجهالة الماء(3) .

والجواز أقوى مع ضبطه بمدّة معلومة، ومثله ما لو كان الماء معوّضاً، مع أنّ الشيخ جوّز بيع ماء العين والبئر، وبيع جزء مشاع منه، وجوّز جعله عوضاً للصلح (4). ويمكن أن يكون منعه من الصلح على السقي المذكور مطلقاً، كما يدلّ عليه الإطلاق، والماء فيه مجهول لا يدخل

ص: 113


1- تقدم في ج 3، ص 384، المسألة السادسة من مسائل أحكام القرض.
2- يأتي في ص 179.
3- المبسوط، ج 2، ص 284.
4- المبسوط، ج 2، ص 284.

•أمّا لو صالحه على إجراء الماء إلى سطحه أو ساحته صحّ، بعد العلم بالموضع الذي يجري الماء منه.

•وإذا قال المدّعى عليه: «صالحني عليه» لم يكن إقراراً؛ لأنّه قد يصحّ مع الإنكار،

________________________________________

في أحد الأقسام؛ لأنّه لم يستحقّ جميع الماء ولا بعضاً منه معيّناً، إنّما استحقّ سقياً لا يعرف قدره ولا مدّة انتهائه، ومن ثمّ شرطنا في الجواز ضبط المدّة، وهو لم يصرّح بالمنع حينئذٍ.

ولو تعلّق الصلح بسقيه دائماً، لم تبعد الصحّة؛ لأنّ جهالة مثل ذلك يتسامح فيها في باب الصلح.

قوله: «أمّا لو صالحه على إجراء الماء إلى سطحه أو ساحته صحّ» إلى آخره.

المراد بعلم الموضع الذي يجري منه أن يقدّر مجراه طولاً وعرضاً، لترتفع الجهالة عن المحلِّ المصالح عليه، ولا يعتبر تعيين العمق؛ لأنّ مَنْ مَلَك شيئاً مَلَك قراره إلى تخوم الأرض.

ولا فرق في صحّة ذلك بين جَعْله عوضاً بعد المنازعة وبين إيقاعه ابتداء.

وقد أطلق المصنّف وغيره حكم الماء من غير أن يشترطوا مشاهدته ليرتفع الغرر، ولا بأس باعتباره؛ لاختلاف الأغراض بقلّته وكثرته.

ولو كان ماء مطر اختلف بكبر محلّه وصغره، فمعرفته تكون بمعرفة محلّه، وحيث يقع السطح أو يحتاج الساقية إلى إصلاح وجب على المالك الإصلاح؛ لتوقّف الحقّ عليه وليس على المصالح مساعدته.

قوله: «وإذا قال المدّعى عليه «صالحني عليه» لم يكن إقراراً؛ لأنّه قد يصحّ مع الإنكار».

أشار بالتعليل إلى الردّ على بعض العامّة، حيث زعم أنّ الصلح لا يصحّ إلّا مع الإقرار، وفرّع عليه أنّ المدعى عليه قبل الإقرار لو قال: صالحني على العين التي ادّعيتها، يكون ذلك منه إقراراً؛ لأنّه طلب منه التمليك، وذلك يتضمّن الاعتراف بالملك، فصار كما لو قال: ملّكني (1).

ص: 114


1- العزيز شرح الوجيز، ج 5، ص 91.

•أمّا لو قال: «بغني أو ملكني» كان إقراراً .

_______________________________________

ولمّا كان عندنا الأصل ممنوعاً؛ لجواز الصلح مع الإقرار والإنكار، لم يكن طلبه إقراراً.

قوله: «أمّا لو قال: يعني أو ملكني كان إقراراً».

لأنّه صريح في التماس التمليك، وهو ينافي كونه ملكاً له؛ لاستحالة تحصيل الحاصل، ولا شبهة في كونه إقراراً بعدم ملك المقرّ، وكونه ملكاً لغيره في الجملة، أمّا كونه ملكاً لمن طلب منه البيع والتمليك ففيه نظر: من كونه أعمّ من ملكه؛ إذ قد يكون وكيلاً، وإذا احتمل اللفظ الأمرين لم يحصل المقتضي للملك الذي كان منتفياً؛ لأصالة عدمه.

وبالجملة، فمرجع الإقرار إلى كونه مالكاً للبيع لا مالكاً للمبيع؛ لأنّه أخصّ، فلا يدلّ عليه العامّ. نعم، لو اقترن بذلك كون المطلوب بيعه تحت يد المخاطب، ترجّح جانب ملكه؛ لدلالة اليد على الملكيّة، والأصل عدم مالك آخَر .

وقد تنبّه لذلك العلّامة في المختلف، والشهيد في الدروس(1) ، وهو قويُّ، ويتفرّع عليه ما لو عاد وأقرّ به لآخر ثبت له ولم يغرم للأوّل؛ إذ لم يحكم له به.

ص: 115


1- مختلف الشيعة ، ج 6، ص 186 ، المسألة 129 ؛ الدروس الشرعية ، ج 3، ص 295 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 11).

ويلحق بذلك أحكام النزاع في الأملاك

وهي :مسائل

الأولى: • يجوز إخراج الرواشن والأجنحة إلى الطرق النافذة إذا كانت عاليةً لا تضرّ بالمارة،

__________________________________________

قوله: «يجوز إخراج الرواشن والأجنحة إلى الطرق النافذة» إلى آخره.

الروشن والجناح يشتركان في إخراج خشب من حائط المالك إلى الطريق بحيث لا يصل إلى الجدار المقابل ويبنى عليها، ولو وصلت فهو الساباط.

وربما فرّق بينهما بأنّ الأجنحة ينضمّ إليها مع ما ذكر أن توضع لها أعمدة من الطريق. والمرجع في التضرّر وعدمه إلى العرف.

ويعتبر في المارّة ما يليق بتلك الطريق عادةً، فإن كانت ممّا يمرّ عليها الفُرْسان، اعتبر ارتفاع ذلك بقدرٍ لا يصدم الرمح على وضعه ممالاً عادةً.

واعتبر في التذكرة مروره ناصباً رمحه؛ لأنّه قد يزدحم الفُرسان فيحتاج إلى نصب الرماح (1).

ونفاه في الدروس(2)؛ لندوره، ولإمكان اجتماعهم مع إمالته على وجه لا يبلغهم. وهو أقوى.

وإن كانت ممّا يمرّ فيها الإبل، اعتبر فيها مروره محملاً ومركوباً، وعلى ظهره محملاً إن أمكن مرور مثل ذلك عادة.

ص: 116


1- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 43. الفرع «ب» من المسألة 1050.
2- الدروس الشرعية، ج 3، ص 301 ( ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 11).

•ولو عارض فيها مسلم على الأصحّ.

________________________________________

وهكذا يعتبر ما تجري العادة بمروره على تلك الطريق.

وتقييده بتضرّر المارّة يدلّ بمفهومه على عدم اعتبار تضرّر ،غيرهم كما لو تضرّر جاره بالإشراف عليه، فإنّه لا يمنع لأجله، كما لا يمنع لو كان وضعه في ملكه واستلزم الإشراف عليه، خلافاً للتذكرة؛ حيث ألحق الأوّل بتضرّر المارة، وفرّق بينه وبين وضعه في ملكه بأنّ الروشن في الطريق مشروط بعدم التضرّر؛ لأنّ الهواء ليس ملكه، بخلاف الموضوع في ملكه؛ لأنّ للإنسان التصرّف في ملكه كيف شاء وإن استلزم الإشراف على الجار أو الظلمة عليه، وإنّما يمنع من الإشراف لا من التعلية المقتضية لإمكانه، قال: ولستُ أعرف في هذه المسألة بالخصوصيّة نصّاً من الخاصّة ولا من العامّة، وإنّما صرتُ إلى ما قلتُ عن اجتهادٍ(1).

وفيه نظر؛ لأنّ المعتبر في الموضوع في الطريق عدم الإضرار بأهل الطريق، لأنّه موضوع للاستطراق فيمنع ممّا ينافيه، أمّا اعتبار عدم الإضرار بغيرهم فلا دليل على المنع منه، بل قد تقدّم أنّه لا يمنع مما يضرّ بغير من يعتاد سلوكه خاصّةً فضلاً عن غير المار والجار خارج عن ذلك كلّه، فلا وجه للمنع ممّا يقتضى ،إضراره كما لو أحدث بناءً في مباحٍ يقابله واستلزم الإشراف عليه، وكلام العلّامة(2) وغيره (3)حيث قيّدوا الضرر بالمارة دليل عليه، وإنّما عمّم هو الضرر في فرعه خاصّةً.

قوله: «ولو عارض فيها مسلم على الأصحّ».

نبّه بالأصح على خلاف الشيخ (رحمه الله)، حيث شرط في جواز وضعه عدم معارضة أحدٍ من المسلمين له؛ لأنّه حقٌّ لجميع المسلمين فيمنع بمعارضة واحدٍ منهم له فيه، ولأنّه

ص: 117


1- تذكرة الفقهاء . ج 16، ص 45. المسألة 1052.
2- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 41، المسألة 1050.
3- كالشيخ في المبسوط، ج 2، ص 261؛ والشهيد في الدروس الشرعية، ج 3، ص 301 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 11).

•ولو كانت مضرّةً وجب إزالتها.

•ولو أظلم بها الطريق قيل: لا تجب إزالتها.

__________________________________________

لو سقط منه شيء ضمن به بلا خلافٍ، وهو يدلّ على عدم جوازه إلّا بشرط الضمان، ولأنّه لا يملك القرار وإنّما يملك الهواء (1)، فلمالك القرار المعارضة(2)، وهو مذهب أبي حنيفة (3)أيضاً.

وأجيب بأنّ الغرض عدم التضرّر به للمارة، فالمانع منهم معاند، ومن غيرهم لا حق له، ولا تّفاق الناس عليه في جميع الأعصار والأمصار من غير نكير(4) ، وسقيفة بني ساعدة وبني النجار أشهر من الشمس في رابعة النهار، وقد كانتا بالمدينة في زمن النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) . ويدخل في عدم اعتبار معارضة المسلم جاره، فليس له منعه ليخرج هواء، وليكون الهواء بينهما، بل أيّهما سبق استحقّ، وللآخر إخراج روشن فيما بقي من الهواء، وليس للأوّل منعه وإن استلزم الإشراف عليه إلّا على الفرع السابق.

وكذا يجوز للثاني الإخراج فوقه وتحته إذا لم يضرّ به.

وحدّه في العلوّ أن لا يضرّ بالمارّة في الأوّل إن لم يكن له سقف، أو على سقفه إن كان.

ولو أظلم الطريق بوضع الثاني أزيل خاصّةً وإن كان لكلّ واحدٍ أثر في الظلمة؛ لأنّ الضرر إنّما حصل بالثاني ، وإن كان لو لا الأوّل لم يحصل.

قوله: «ولو كانت مضرّةً وجب إزالتها».

وجوب إزالتها لا يختصّ بواضعها، وإن كان الأمر فيه آكد؛ لكونه غاصباً، فإنّ إزالتها رفع لمنكر، فيجب على كلّ قادر المعاونة عليه بالقول والفعل، ويأثم تارك السعي مع قدرته، كما في كلّ منكرٍ.

قوله: «ولو أظلم بها الطريق قيل: لا تجب إزالتها».

ص: 118


1- كذا في النسخ والصحيح: «فلا يملك الهواء»؛ لأنّ الهواء تابع للقرار. كما في كتاب الخلاف للشيخ.
2- المبسوط، ج 2، ص 261 - 262؛ الخلاف، ج 3، ص 294 - 295، المسألة 2.
3- المبسوط، السرخسي ، ج 20، ص 158؛ المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 5، ص 34، المسألة 3519؛ الشرح الكبير المطبوع مع المغني، ج 5، ص 28 .
4- أجاب به الشهيد في الدروس الشرعية، ج 3، ص 301 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 11).

•ويجوز فتح الأبواب المستجدّة فيها.

• أمّا الطرق المرفوعة فلا يجوز إحداث باب فيها ولا جناح، ولا غيره، إلّا بإذن أربابه، سواء كان مضرّاً أو لم يكن؛ لأنّه مختصُّ بهم.

_________________________________________

القائل بذلك الشيخ في المبسوط(1) .

و موضع الخلاف ما إذا لم يذهب الضياء بالكلّيّة، وإلّا مُنع إجماعاً.

والضابط فيما عداه حصول التضرّر بالمارّة ولو لضعيف البصر؛ لأنّ جواز وضعه مشروط بعدم ضرر المارّة، وعلى هذا فالمنع إنّما يتوجّه إلى إطلاق الشيخ عدم تأثير الظلمة، لا إلى وجودها مطلقاً.

ولا فرق في التضرّر بين وقوعه ليلاً ونهاراً.

قوله: «ويجوز فتح الأبواب المستجدّة فيها».

أي في الطرق النافذة؛ لأنّ المسلمين فيها شرع، فيجوز إحداث الأبواب إليها لمجاورها. سواء كان لتلك الدار باب آخُر إليها أم إلى غيرها من الطرق النافذة أو المرفوعة، ولا يقدح في ذلك صيرورة المرفوعة نافذةً بسبب الباب المفتوح المتّصل بالنافذة؛ لأنّ ذلك یوجب نفوذ داره، لا نفوذ الطريق؛ إذ ليس لأحدٍ دخول داره إلّا بإذنه، فلا يتحقّق نفوذ الطريق.

قوله: «أمّا الطرق المرفوعة فلا يجوز إحداث باب فيها - إلى قوله - لأنّه مختص بهم».

الطريق المرفوع ملك لأربابه كسائر أملاكهم، فيكون كالمال المشترك لا يصحّ لأحدٍ من أربابه التصرّف فيه إلّا بإذن الباقين، سواء كان التصرّف بإحداث الباب والساباط والروشن أم غيرها، وسواء أضرّ بهم أم لم يضرّ، وكذا لا يجوز ذلك لغير أربابه بطريق أولى.

ونبّه بقوله «سواء كان مضراً أو لم يكن» على خلاف بعض العامّة، حيث جوّز لأهل السكّة إحداث ذلك إذا لم يضرّ بالمارّة »(2).

ص: 119


1- المبسوط، ج 2، ص 262 .
2- حكاه الرافعي عن أبي حامد في العزيز شرح الوجيز، ج 5، ص 99؛ والنووي في روضة الطالبين، ج 3، ص 442.

•وكذا لو أراد فتح باب لا يستطرق فيه، دفعاً للشبه

______________________________________________

والمراد بالمرفوعة المسدودة التي لا تنتهي إلى طريق آخر ولا مباح، بل إلى ملك الغير، وبأربابها من له باب نافذ إليها، دون من تلاصق داره ويكون حائطه إليها من غير نفوذ.

وممّا يترتّب على ملكهم لها جواز سدّها عن السكّة والانتفاع بها كغيرها من أملاكهم، مع اتّفاقهم على ذلك، ولو اختلفوا لم يكن لمن أراده ذلك، وإنّما يجوز ذلك إذا لم يكن فيها مسجد أو رباط أو مطهرة موقوفة على العموم قديمة أو حديثة، فإنّه حينئذٍ لا يجوز لهم المنع من الممرّ إليها، ولا إحداث ساباط ونحوه ممّا يتضرّر منه المارّة وإن رضي أهل السكّة؛ لأنّها صارت حقّاً لسائر الناس، وفي حكمه ما لو جعل بعضهم داره أحد تلك الأمور.

وممّا يدخل في المنع من التصرّف في المرفوعة بغير إذن أربابها المرور فيها، والوجه فيه ما تقدّم من الملك، والأقوى الاكتفاء فيه بشاهد الحال، فلو منع أحدهم حرم، أمّا الجلوس فيها، وإدخال الدوابّ إليها، ونحو ذلك فلا، إلّا مع إذن الجميع؛ لأصالة حرمة مال الغير بغير إذنه، وانتفاء شاهد الحال فيه غالباً.

نعم، لو كان الجلوس خفيفاً غير مضرّ، تناوله شاهد الحال.

قوله :«وكذا لو أراد فتح باب لا يستطرق فيه دفعاً للشبهة».

أي لشبهة استحقاقه المرور فيه بعد تطاول الزمان، فإنّه إذا اشتبه حاله يشعر باستحقاق

المرور؛ لأنّه وضع له.

وبهذا حصل الفرق بين فتح الباب ورفع الحائط جملةً، فإنّ الثاني جائز دون الأوّل؛ لأنّ الّا رفع الحائط لا يستدعي استحقاق المرور بوقت من الأوقات؛ إذ ليس فيه دلالة عليه، بخلاف الباب.

ولا فرق في هذا الحكم بين الذي لا حقّ له في الطريق المذكور، كالجار الملاصق لها بحائطه، وبين من له باب فيها إذا أراد إحداث باب آخر أدخل من بابه؛ لاشتراكهما في عدم استحقاق المرور في المحلّ الذي فتح فيه الباب.

ويحتمل ضعيفاً الجواز؛ لما سيأتي

ص: 120

• ويجوز فتح الروازن والشبابيك •ومع إذنهم فلا اعتراض لغيرهم.

•ولو صالحهم على إحداث روشن قيل : لا يجوز؛ لأنّه لا يصح إفراد الهواء بالبيع، وفيه تردّد.

قوله: «ويجوز فتح الروازن والشبابيك».

لأنّ الإنسان مسلّط على التصرّف في ملكه بما شاء، والشبهة المتطرّقة من الباب منتفية هنا.

وكما يجوز فتحهما إلى الدرب المرفوعة يجوز إلى غيرها من الأملاك والدور وإن استلزم الإشراف على الجار؛ لأنّ المحرّم هو التطلّع لا التصرّف في الملك، فيستفيد بذلك الاستضاءة في بيته، وليس للجار سدّ ذلك.

نعم، له وضع شيءٍ في ملكه يمنع الإشراف وإن منع الضوء.

قوله: «ومع إذنهم فلا اعتراض لغيرهم».

إذنهم في ذلك تفيد جواز التصرّف كالعارية، يجوز لهم ولكلّ واحد منهم الرجوع فيها، وتبطل بموته وخروجه عن التكليف بجنون وإغماء ونحوهما، وحينئذٍ فالمراد بغيرهم من خرج عن استحقاق الطريق؛ إذ لا حقّ لهم فيها وإن أمكن استطراقهم وتضرّرهم، وليس المراد بغيرهم من يشمل الطبقة الثانية منهم؛ لبطلان الإذن بموتهم، كما ذكرناه.

قوله: «ولو صالحهم على إحداث روشن قيل: لا يجوز» إلى آخره.

القول للشيخ (رحمه الله)؛ بناءً على ما ذكره من المنع من إفراد الهواء بالبيع، وفرعيّة الصلح له في ذلك (1).

والمقدمتان ممنوعتان، وأدلّة شرعيّة الصلح تتناوله.

وضمير «صالحهم» يعود إلى أهل الدرب المرفوعة، وهو يقتضي بإطلاقه استحقاق الجميع لذلك، وهو مخالف لما سيأتي من اختصاص الداخل بما بين البابين. والذي يلزم

ص: 121


1- المبسوط، ج 2، ص 263.

•ولو كان لإنسان داران باب كلّ واحدة إلى زقاق غير نافذ جاز أن يفتح بينهما باباً.

• ولو أحدث في الطريق المرفوع حدثاً جاز إزالته لكلّ من له عليه استطراق.

______________________________________________

من التفريع على ذلك أنّ الروشن المحدث إن كان خارجاً عن جميع الأبواب فهو حقٌّ لهم أجمع، وإن كان داخلاً عن بعضها لم يتوقّف على إذن الخارج.

وقيل: يتوقّف على رضى الجميع كالأوّل؛ للاحتياج إليه عند ازدحام الدوابّ والأحمال، وقوّاه في الدروس(1) والأوّل أشهر.

قوله: «ولو كان لإنسان داران باب كلّ واحدة إلى زقاق غير نافذ» إلى آخره.

لأنّ له حقّ السلوك في كلّ واحدةٍ ورفع الجدار الحائل بين الدارين وجعلهما واحدة، ففتح باب من إحداهما إلى الأخرى أولى.

ومَنَع منه بعض العامّة؛ لأنّه يثبت له حقّ الاستطراق في درب مملوكة لدارٍ لا حقّ لها فيه، ولأنّه ربما أدّى إلى إثبات الشفعة لو بيعت بعض دور إحدى الطريقين بسبب الاشتراك في الطريق لكلّ واحدٍ من الدارين في زقاق الأخرى، على تقدير القول بثبوتها مع الكثرة(2).

والأقوى أنّ كلّ دار على ما كانت عليه في استحقاق الشفعة بالشركة في الطريق، ولا يتعدّى إلى الأخرى وإن جاز الاستطراق؛ لأن ذلك الفتح لم يوجب حقّاً للدار في الطريق الأخرى، وإنّما أباح الانتقال من داره إلى داره الأخرى، ومتى صار فيها استحقّ المرور في طريقها تبعاً للكون الثاني والدار التي هو فيها لا للأُولى.

قوله: «ولو أحدث في الطريق المرفوع حدثاً جاز إزالته لكلّ من له عليه استطراق».

لا فرق في الحدث بين كونه مضراً وغيره، ولا بين كونه في الهواء كالروشن أو في الأرض كعمل دكّةٍ ووضع خشبةٍ وحجارةٍ ونحو ذلك، ولا بين كونه من أهل تلك الطريق وخارجه؛ لاشتراك الجميع في كون ذلك تصرفاً في ملكهم بغير إذنهم، فكان لهم إزالته.

ص: 122


1- الدروس الشرعية، ج 3، ص 303 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 11).
2- المغني المطبوع مع الشرح الكبير ، ج 5 ص 51، المسألة 3549 .

• ولو كان في زقاق بابان أحدهما أدخل من الآخَر، فصاحب الأوّل يشارك الآخر فى مجازه، وينفرد الأدخل بما بين البابين.

• ولو كان في الزقاق فاضل إلى صدرها وتداعياه فهما فيه سواء.

_______________________________________

وكذا لا فرق بين وقوعه بإذن بعضهم وعدمه، بل لو بقي واحد بغير إذنه فله المنع والإزالة.

والكلام في إذن الجميع والبعض بالنسبة إلى كون الحدث داخلاً أو خارجاً ما تقدّم.

قوله: «ولو كان في زقاق بابان أحدهما أدخل من الآخر» إلى آخره.

هذا هو المشهور بين الأصحاب، ووجهه أنّ المقتضي لاستحقاق كل واحد هو الاستطراق ونهايته ،بابه، فلا يشارك في الداخل.

وقيل: يشترك الجميع في الجميع، حتّى في الفضلة الداخلة في صدرها؛ لاحتياجهم إلى ذلك عند ازدحام الأحمال ووضع الأثقال، ولأنّ اقتصار تصرّف الخارج على نفس ما يخرج عن بابه أمر بعيد، بل متعسّر، والمتعارف الاحتياج حوله إلى جملة من الداخل وإن قلّت، فالقول بالاقتصار على ما حاذى الباب وما خرج ليس بجيّد.

وقوّى في الدروس الاشتراك في الجميع(1) .

قوله: «ولو كان في الزقاق فاضل إلى صدرها، وتداعياه فهما فيه سواء».

لاستوائهم في الارتفاق بها، فلا أولويّة لواحدٍ على غيره، بخلاف ما بين البابين؛ لأنّ أدخليّة الباب تقتضى الاستطراق، وهو مختصّ بالمستطرق، فيتحقّق الترجيح.

ويشكل ذلك على القول باختصاص الداخل بما بين البابين؛ لتوقّف الانتفاع حينئذٍ بالفضلة على استحقاق السلوك إليها، فإذا لم يكن للخارج حقّ السلوك لا يترتّب على تصرّفه الفاسد ثبوت يد على الداخل.

ويندفع بأنّ ثبوت ملك شيءٍ لا يتوقّف على مسلك له. ومع ذلك فيمكن دخول الخارج

ص: 123


1- الدروس الشرعية، ج 3، ص 303 ( ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 11).

• ويجوز للداخل أن يقدّم ،بابه، وكذا الخارج، ولا يجوز للخارج أن يدخل بابه، وكذا .الداخل

__________________________________________

إلى الفضلة بشاهد الحال، كسلوك غيره ممّن لا حقّ له في تلك الطريق به، فإذا انضمّ إلى ذلك اشتراكهم جميعاً في التصرّف في الفضلة حُكم باشتراكها بينهم.

ولا يرد مثله في المسلك بين البابين حيث يجوز للخارج دخوله بذلك؛ لأنّ الداخل له عليه يد بالسلوك المستمرّ عليه، الذي لا يتمّ الانتفاع بداره إلّا به، بخلاف الفضلة، فإنّ يدهم

سواء، إذ لا تصرّف لهم فيها إلّا بالارتفاق، وهو مشترك.

ولو قلنا باشتراكهم في جميع الطرق كما اختاره الشهيد(1) - فالحكم في الفضلة أولى.

قوله «ويجوز للداخل أن يقدّم بابه وكذا الخارج» إلى آخره.

الوجه في ذلك كلّه ما تقدّم من اختصاص كلّ داخل عن الخارج بما دخل عنه ومشاركته فيما خرج، فيجوز للداخل إخراج بابه؛ لثبوت حقّ الاستطراق له في جميع الطريق إلى بابه، فكلّ ما خرج عنه له فيه حقّ، وله حقّ التصرّف في جداره برفعه أجمع، فبعضه أولى.

ولا فرق في ذلك بين أن يسدّ الأول - كما يقتضيه ظاهر العبارة - ويبقيه، ولا يمنع تكثّر الأبواب؛ لعدم تفاوت الحال.

وربما قيل باشتراط سدّ الأول.

وأمّا الخارج فلمّا لم يكن له حقٌّ فيما جاوز مجازه إلى داخل لم يكن له الدخول إلّا بإذن الداخل، إلّا على القول السابق.

وربما احتمل جواز دخوله وإن لم نقل بمشاركته في الداخل؛ نظراً إلى أنّه كان له ذلك في ابتداء وضع الدار ورفع الحائط أجمع فيستصحب.

ويضعّف بأنّ تملّك المباح إنّما يقع على الوجه الذي اتّفق، فإنّه كان له فتح بابه ابتداء إلى أيّ الجهات شاء، فلمّا أحيا ما حوله منع من ذلك؛ لسبق من حوله بالإحياء على فتحه.

ص: 124


1- الدروس الشرعية ، ج 3، ص 303 ( ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 11).

•ولو أخرج بعض أهل الدرب النافذ روشناً لم يكن لمقابله معارضته ولو استوعب عرض الدرب • ولو سقط ذلك الروشن فسبق جاره إلى عمل روشن لم يكن للأوّل منعه؛ لأنهما فيه شرع، كالسبق إلى القعود في المسجد.

الثانية: • إذا التمس وضع جذوعه على حائط جاره لم يجب على الجار إجابته ولو كان خشبةً واحدة، لكن يستحبّ،

_________________________________________

ومثله القول في الجزء الداخل من الطريق، فإنّه بوضع بابه خارجه رفع عنه يده وأحياه، وانفرد به الداخل فقدّم، وأمّا رفع جميع الحائط فلا يتطرّق إليه شبهة، بخلاف الباب كما تقدّم.

قوله: «ولو أخرج بعض أهل الدرب النافذ روشناً لم يكن لمقابله معارضته» إلى آخره.

لمّا كان حقّ الطريق النافذ غير مختصّ بذوي الدور لم يكن للجار المقابل، ولا غيره الاعتراض على واضع الروشن فيه وإن استوعب الدرب إذا لم يكن ضارّاً بالمارّة.

نعم، لو وضع شيئاً منه على جدار المقابل، فله المنع منه.

قوله: «ولو سقط ذلك الروشن فسبق جاره إلى عمل روشن لم يكن للأوّل منعه؛ لأنّهما فيه ،شرع كالسبق إلى القعود في المسجد».

لأنّ الأوّل لم يملك الموضع بوضع الروشن فيه، وإنّما اكتسب أولوية، فإذا زال زالت، كالقعود في المسجد والسوق، حتّى لو فُرض أنّ الثاني أخرب روشن الأوّل ووضع روشنه، لم يكن للأوّل أن يزيل الثاني وإن كان الثاني قد ضمن أرش الأوّل واكتسب الإثم؛ لزوال الأولويّة، ومثله القول في المشبّه به.

قوله: «إذا التمس وضع جذوعه على حائط جاره لم يجب على الجار إجابته» إلى آخره.

هذا عندنا موضع وفاق، ولقوله(صلی الله علیه و آله و سلم) : «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفس منه»(1)ولقضاء العقل بقبح التصرّف في مال الغير.

ص: 125


1- مسند أحمد، ج 7، ص 376 ، ح 20720؛ السنن الكبرى البيهقي، ج 1، ص 166، ح 11545.

•ولو أذن جاز الرجوع قبل الوضع إجماعاً، وبعد الوضع لا يجوز؛ لأنّ المراد به التأبيد، والجواز حسن مع الضمان.

__________________________________________

نعم، يستحبّ استحباباً مؤكداً؛ لما روي عنه(صلی الله علیه و آله و سلم) : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يمنعنّ جاره من وضع خشبة على جداره »(1)، وهو على تقدير ثبوته منزل على الاستحباب المؤكّد.

وذهب بعض العامّة إلى جوازه بغير إذنه؛ عملاً بالحديث (2).

قوله: «ولو أذن جاز له الرجوع قبل الوضع إجماعاً وبعد الوضع لا يجوز» إلى آخره.

الكلام هنا في مواضع:

أحدها: في جواز الرجوع بعد الوضع، وقد منع منه الشيخ(3) ومن تبعه(4) ؛ لاقتضاء الإذن في مثل ذلك الدوام كالإذن في دفن الميّت في الأرض، وللضرر الحاصل بالنقض، حيث يفضي إلى خراب ملك المأذون.

والأقوى الجواز؛ لأنّه عارية، ولأنّ الأصل جواز تصرّف المالك في ملكه كيف شاء، وإلحاقه بالدفن قياس مع الفارق التحريم نبشه دون إخراب البناء.

الثاني: على تقدير الجواز هل ينقض مجاناً أو مع الأرش؟ وجهان، مبناهما على أنّ الإذن إنّما أفادت العارية، ولازمها الرجوع متى أراد، مع أصالة براءة ذمّة المالك من ثبوت مال لغيره على تخليص ملكه منه، بل أصالة البراءة مطلقاً، وأنّه بناء محترم صدر بالإذن فلا يجوز قلعه إلّا بعد ضمان نقضه، ولأنّ فيه جمعاً بين الحقّين، ولأنّه سبب الإتلاف لإذنه، والمباشر ضعيف؛ لأنّه بالأمر الشرعي، وهو أقوى.

الثالث: على تقدير ثبوت الأرش فهل هو عوض ما نقصت آلات الواضع بالهدم، أو

ص: 126


1- مسند أحمد، ج 2، ص 536، ح 7645 وج 3، ص 196 - 197، ح 9477 : السنن الكبرى، البيهقي، ج 6. ص 112 ، ح 11374، وفيهما: «لا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبة على جداره».
2- المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 5، ص 37، المسألة 3525.
3- المبسوط، ج 2، ص 269 .
4- كابن إدريس في السرائر، ج 2 ص 433 - 434: وابن البرّاج على ما في جامع المقاصد، ج 5 ص 422.

• أمّا لو انهدم لم يعد الطرح إلّا بإذن مستأنف، وفيه قول آخر.

• ولو صالحه على الوضع ابتداءً جاز بعد أن يذكر عدد الخشب ووزنها وطولها.

_________________________________________

تفاوت ما بين العامر والخراب ؟ وجهان، مبناهما على أنّ البناء إذا كان محترماً فهو بهيئته حقّ لبانيه، فيكون جبره بتفاوت ما بين كونه عامراً وخراباً؛ لأنّ ذلك هو نقص الماليّة، ومن أنّ نقص هذه الماليّة مستند إلى ملك صاحب الجدار فلا يضمنه، إنّما يضمن نقصان مال الغير الذي كان سبب إتلافه وفواته.

والأوّل أقوى؛ لأنّ جميعه مال للواضع، غايته كونه موضوعاً على ملك الغير، وذلك إنّما أثر جواز النقض لا المشاركة في المالية.

ولو اتّفقا على إبقائه بالأجرة، فلا إشكال في جوازه.

قوله: «أمّا لو انهدم لم يعد الطرح إلّا بإذن مستأنف، وفيه قول آخر».

القول الآخر للشيخ في المبسوط، وهو أنّه إن أعاده بآلته الأولى لم يكن له منعه من ردّ الخشب والسقف عليه، وإن أعاده بغيرها كان له منعه(1) .

والأقوى الأوّل؛ لأنّ المأذون فيه - وهو الوضع - قد حصل، فلا يجوز وضع آخر بدون الإذن، ولأنّها عارية فيجوز الرجوع فيها وإن استلزم الضرر كما مرّ، فهنا أولى غايته أنّه مع الضرر جبر بالأرش، وهنا لا ضرر فلا أرش.

وكثير من الأصحاب لم يذكروا هنا خلافاً، ويمكن أن يكون سببه أنّ الشيخ كان ذكر أولاً في الكتاب أنّه لو انهدم الحائط أو هدمه المستعير لم يكن له الإعادة إلّا بإذن مستأنف(2)، ولم يتردّد في ذلك، فأطرحوا قوله الآخر، وهو قول لبعض الشافعية(3) ، كما أنّ القول الآخر لهم (4)، فجمع الشيخ بين الحكمين المختلفين عن قرب.

قوله: «ولو صالحه على الوضع ابتداءً جاز بعد أن يذكر عدد الخشب ووزنها وطولها».

ص: 127


1- المبسوط ، ج 2، ص 269 - 270.
2- المبسوط ، ج 2، ص 269.
3- العزيز شرح الوجيز، ج 5، ص 105.
4- العزيز شرح الوجيز، ج 5، ص 105.

الثالثة: • إذا تداعيا جداراً مطلقاً، ولا بيّنة، فمَنْ حلف عليه مع نكول صاحبه قضي له، وإن حلفا أو نكلا قضي به بينهما.

______________________________________

إنّما اعتبر ذكر الطول مع الوزن لاختلاف ضرر الحائط به باختلافه في الطول وإن اتّفق وزنه.

والضابط ذكر ما يرفع الجهالة، ولا بدّ مع ذلك من ذكر المدّة المضبوطة، ولو كانت الآلات مشاهدةً، استغني عن اعتبارها بذلك، واكتفي بتعيين المدّة.

واحترز بقوله «ابتداء» عمّا لو وقع الصلح بعد البناء، فإنّه لا يعتبر حينئذٍ إلّا تعيين المدّة؛ لصيرورة الباقي معلوماً، بخلاف ما إذا لم يُبن؛ لتفاوت الضرر، ولا ضابط يرجع إليه عند الإطلاق.

وهذا في الخشب، أمّا الآجر واللبن في الحائط فيكفي فيهما العادة.

نعم، لو كان الصلح على البناء على حائط زيادةً عليه، افتقر إلى ذكر الطول وسمك اللبن ؛

لاختلاف ضرره باختلافهما.

هذا كلّه في الوضع على حائطٍ مملوكٍ للغير، أمّا لو كان موقوفاً على مصالح عامّة بحيث لا يكون له مالك على الخصوص، كالمسجد وشبهه لم يجز لأحد البناء عليه ولا الوضع بغير إذن الحاكم قطعاً، وليس له الإذن بغير عوض.

وفي جوازه به ولا ضرر على الموقوف؛ نظراً إلى المصلحة بفائدة العوض، وعدمه؛ لأنّه تصرف في الوقف بغير موضوعه، ولأنّه يثمر شبهةً على تطاول الأزمان وجهان، أجودهما الأخير، وقواه في الدروس(1).

قوله: «إذا تداعيا جداراً مطلقاً ولا بيّنة - إلى قوله - قضي به بينهما».

المراد بالإطلاق هنا أن لا يكون مقيّداً بوجهٍ يوجب كونه لأحدهما شرعاً، كاتّصاله ببناء أحدهما أو ما في حكمه مما سيأتي، ومن جملة القيود كونه في أرض أحدهما، فإذا خلا

ص: 128


1- الدروس الشرعية، ج 3، ص 306 ( ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 11).

•ولو كان متّصلاً ببناء أحدهما كان القول قوله مع يمينه • ولو كان لأحدهما عليه جذع أو جذوع قيل: لا يقضى بها، وقيل: يقضى مع اليمين، وهو الأشبه.

______________________________________

عن جميع ذلك لم يكن لأحدهما عليه يد، أو يكون لهما بأن يكون بين ملكيهما ولا مرجّح، وحكمه حينئذٍ أن يستوي نسبتهما إليه، فمَنْ أقام بينةٌ حُكم له به وإن فقداها حلف كلّ واحدٍ لصاحبه، وكان بينهما نصفين، وكذا لو نكلا عن اليمين ولو حلف أحدهما ونكل الآخر ثبت للحالف وهو واضح.

قوله: «ولو كان متّصلاً ببناء أحدهما كان القول قوله مع يمينه».

أي متّصلاً به اتّصال ترصيفٍ، وهو تداخل الأحجار واللبِن على وجه يبعد كونه محدثاً، ومثله ما لو كان لأحدهما عليه قبّة أو غرفة أو سترة؛ لأنّه يصير بجميع ذلك صاحب يد، فعليه اليمين مع فقد البيّنة.

ولو اتّصل بهما كذلك، أو كان البناء لهما، أو اختصّ أحدهما بصفة والآخر بأُخرى، فاليد لهما.

وكذا لو كان لأحدهما واحدة والباقي مع الآخر؛ إذ لا أثر لزيادة اليد في الترجيح،فيحلفان ويقسّم بينهما، كما يقسّم لو نكلا، إلى تمام ما تقدّم.

قوله: «ولو كان لأحدهما عليه جذع أو جذوع قيل: لا يقضى بها» إلى آخره.

القول بعدم القضاء بذلك للشيخ(1) : محتجّاً بأن كون الجدار بين الدارين دلالة ظاهرة على أنّه في أيديهما، ووضع الجذوع اختصاص بمزيد انتفاع، كاختصاص أحد الساكنين بزيادة الأمتعة.

ويضعّف بمنع دلالة كونه بينهما على اليد إذا لم ينضمّ إليه تصرّف بوجه من الوجوه السابقة، وحينئذٍ فوضع الجذع يفيد اليد للمواضع، ويبقى الآخر خالياً، ويكون حكم الجذع حكم ما سلف من المرجّحات ولو جامعها اعتبر ما فصّلناه.

ص: 129


1- المبسوط، ج 2، ص 268؛ الخلاف، ج 3، ص 295 - 296، المسألة 4.

•ولا ترجّح دعوى أحدهما بالخوارج التي في الحيطان، ولا الروازن.

•ولو اختلفا في خُصّ قضي لمن إليه معاقد القمط؛ عملاً بالرواية.

الرابعة: • لا يجوز للشريك في الحائط التصرّفُ فيه ببناء ولا تسقيف ولا إدخال خشبة، إلّا بإذن شريكه.

________________________________________

قوله: «ولا ترجّح دعوى أحدهما بالخوارج التي في الحيطان، ولا الروازن».

المراد بالخوارج كلّ ما خرج عن وجه الحائط من نقش ووتد ورفّ ونحو ذلك، فإنّه لا يفيد الترجيح لمالكه؛ لإمكان إحداثه له من جهته من غير شعور صاحب الجدار، ومثله الدواخل فيه، كالطاقات غير النافذة والروازن النافذة؛ لما ذُكر.

قوله: «ولو اختلفا في خُصّ قضي لمن إليه معاقد القمط؛ عملاً بالرواية».

الخُصّ - بالضمّ - البيت الذي يُعمل من القصب والقمط - بالكسر - حبل يشدّ به الخصّ، و - بالضمّ - جمع قماط، وهي شداد الخُصّ من ليفٍ وخوص وغيرهما (1).

والرواية رواها عمرو بن شمر عن جابر، عن الباقر(علیه السلام) ، عن أبيه، عن علىّ(علیه السلام): «أنّه قضى في رجلين اختصما في خُصٌ أنّ الخُص للذي إليه القمط »(2).

ومثله روى العامّة عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)(3). والطريق ضعيف، إلّا أنّ الأصحاب تلقّوها بالقبول.

وردّها بعضهم ومنهم المصنّف في النافع، وقال: إنّها قضيّة في واقعة فلا تتعدّى(4) ، وحينئذٍ فحكم الخُصّ حكم الجدار بين الملكين.

قوله: «ولا يجوز للشريك في الحائط التصرّف فيه - إلى قوله - إلّا بإذن شريكه».

الحكم فيه كغيره من الأموال المشتركة لا يجوز لأحد الشركاء التصرّف إلّا بإذن الجميع وإن قلّ الانتفاع كضرب الوتد وفتح الكوة.

ص: 130


1- لسان العرب، ج 7، ص 26، «خصص»، وص 385، «قمط».
2- الفقيه ، ج 3، ص 100، ح 3416.
3- السنن الكبرى البيهقي ، ج 1، ص 111، ح 11370.
4- المختصر النافع، ص 411.

•ولو انهدم لم يجبر شريكه على المشاركة في عمارته.

______________________________________

قال في التذكرة :

وكذلك أخذ أقلّ ما يكون من ترابه ليترّب به الكتاب، واستثنى من ذلك الاستناد إليه، وإسناد المتاع مع انتفاء الضرر؛ لأنّه بمنزلة الاستضاءة بسراج الغير والاستظلال بجداره(1).

نعم، لو منع المالك والشريك من ذلك كلّه حرم، وفاقاً للتذكرة(2) ؛ لأنّه نوع تصرف بإيجاد الاعتماد عليه.

واستقرب في الدروس عدم المنع؛ لانتفاء الضرر (3)

وموضوع الخلاف ما إذا كان المجلس للمستند ، وإلّا لم يجز إجماعاً.

ولو بنى الشريك في ملكه جداراً متّصلاً بالجدار المشترك أو المختصّ بالجار بحيث لا يقع ثقله عليه جاز، ولم يكن للآخر الاعتراض، ولو ألقى نقله عليه لم يجز بدون إذنه.

قوله «ولو انهدم لم يُجبر شريكه على المشاركة في عمارته».

إذ لا يجب على الشخص عمارة جداره المنهدم، ففي المشترك أولى، وهذا لا كلام فيه، لكن هل تتوقّف العمارة على إذن الشريك، أم يجوز له البناء وإن نهاه؟ قولان:

أحدهما: توقّف العمارة على إذنه ؛ لأنّه مال مشترك، فيمتنع التصرّف فيه بدون إذن الشريك، كما سلف.

والثاني: عدم الاشتراط؛ لأنّه نفع وإحسان في حقّ الشريك حيث يعمر له حائطه ولا يغرمه في نفقته، ولا ضرر فيه عليه بوجهٍ، وهو قول الشيخ (4).

والأوّل أقوى.

وربما فرّق بين إعادته بالآلة المشتركة فلا يشترط رضاه، وبين إعادته بآلةٍ من عنده

ص: 131


1- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 63 - 64. المسألة 1069.
2- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 64، المسألة 1069.
3- الدروس الشرعية ، ج 3، ص 306 ( ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 11).
4- المبسوط، ج 2، ص 273.

•وكذا لو كانت الشركة في دولاب أو بئر أو نهر.

_____________________________________

فيشترط؛ لأنه على الأوّل يبقى شريكاً كما كان، بخلاف الثاني.

ثمّ على القول باعتبار إذنه لو خالف وعمّره، فهل للشريك نقضه؟ احتمال من حيث تصرّفه في ملك غيره، وتغيير هيئته ووضعه الذي كان عليه، فصارت الكيفيّة الثانية كأنّها مغصوبة، فله إزالتها.

والأقوى العدم إن كان بناء بالآلة المشتركة؛ لأنّ هدمه أيضاً تصرّفُ في مال الغير - وهو الشريك الذي بنى - فلا يصحّ كالأوّل.

وإنّما تظهر الفائدة في الإثم والجواز إن كان بناؤه بغير آلته؛ لأنّه عدوان محض، وتصرّف في أرض الغير، فيجوز تغييره.

ثمّ على القول بتحريم نقضه لو هدمه الشريك لزمه الأرش، كما لو هدمه ابتداءً.

ثمّ على تقدير إعادته بآلةٍ مختصّة بالمعيد له منع الشريك من وضع خشبة عليه، دون الأوّل؛ للاشتراك فيه دونه.

وخيّر الشيخ الشريك في الثاني بين مطالبته بهدمه وإعطائه نصف قيمة الحائط ويضع عليه(1) .

والأقوى أنّ التخيير في ذلك للباني لا للشريك.

وحيث يتوقّف البناء على إذن الشريك ويمتنع، يرفع أمره إلى الحاكم ليجبره على المساعدة أو الإذن، فإن امتنع أذن الحاكم.

وهل له الإذن فيه بأجرة يرجع بها على الشريك، أو مجّاناً؟ الأقوى الثاني ؛ لأنّ الشريك إذا لم يجبر على العمارة لا يجبر على الإنفاق، فإن اختار الشريك بناءه مجّاناً فَعَل، وإلّا تركه.

قوله: «وكذا لو كانت الشركة في دولاب أو بئر أو نهر».

الحكم هنا كما سلف في الجدار، ولا فرق بين كون المشترك ذا غلّةٍ تفي غلّته بعمارته وغيره عند الأصحاب.

ص: 132


1- المبسوط، ج 2، ص 273 .

• وكذا لا يجبر صاحب السفل ولا العلوّ على بناء الجدار الذي يحمل العلوّ، • ولو هدمه بغير إذن شريكه وجب عليه إعادته، وكذا لو هدمه بإذنه، وشرط إعادته.

________________________________________

وإنّما خالف فيه بعض العامّة، فحكم بإجبار الشريك على المساعدة على العمارة في هذه المذكورات دون الحائط، فارقاً بينهما بأنّ الشريك لا يتمكّن من المقاسمة فيضرّ به، بخلاف الحائط، فإنّه يمكنه قسمته مع شريكه وقسمة عرصته (1).

ورُدّ بأن قسمة العرصة والحائط قد يكون أكثر ضرراً، فكانا سواء(2).

قوله « وكذا لا يجبر صاحب السفل ولا العلوّ على بناء الجدار الذي يحمل العلوّ».

لأنّه لا يجب على الإنسان عمارة ملكه لأجل الغير ولكن يجب تقييده بما إذا لم يكن حمل جدار العلوّ أو سقفه واجباً على صاحب السفل بعقدٍ لازمٍ، فإن وجب كذلك لزم البناء. نبّه عليه في الدروس(3)، وسبق مثله في عمارة الساقية والمجرى.

ولو طلب صاحب العلوّ بناء جدران السفل تبرّعاً، فهل له منعه ؟ فيه الوجهان السابقان.

وأطلق في التحرير أنه ليس له منعه(4) .

وفي حكم العلوّ ما لو كان له ساباط استحق وضعه على حائط غيره فانهدم. هذا كله إذا انهدم الحائط بنفسه أو هدمناه معاً.

قوله: «ولو هدمه بغير إذن شريكه وجب عليه إعادته» إلى آخره.

أطلق المصنّف وجوب الإعادة تبعاً للشيخ (رحمه الله)(5) .

ويشكل بأنّ النقصان الفائت بالهدم غير مثلي، فينبغي المصير إلى القيمة، وهو الأرش،

ص: 133


1- المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 5، ص 50. المسألة 3547: الشرح الكبير المطبوع مع المغني، ج 5، ص 49.
2- المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 5، ص 50. المسألة 3547: الشرح الكبير المطبوع مع المغني، ج 5، ص 49 .
3- الدروس الشرعية، ج 3، ص 307 - 308 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 11).
4- تحرير الأحكام الشرعية، ج 4، ص 512 ، ذيل الرقم 6128.
5- المبسوط، ج 2، ص 303.

الخامسة: • إذا تنازع صاحب السفل والعلوّ في جدران البيت فالقول قول صاحب البيت مع يمينه، ولو كان في جدران الغرفة فالقول قول صاحبها مع يمينه، • ولو تنازعا في السقف قيل: إن حلفا قضي به لهما، وقيل: لصاحب العلوّ، :وقيل: يقرع بينهما، وهو حسن.

____________________________________

وهو اختيار العلّامة في القواعد(1)، مع أنّه قطع في التذكرة بوجوب الإعادة(2).

وفصل الشهيد (رحمه الله) في الدروس، فأوجب إعادته إن أمكنت المماثلة، كما في جدران بعض البساتين والمزارع، وإلّا فالأرش(3).

وفيه مناسبة، إلّا أنّه خارج عن القواعد الشرعيّة؛ لانتفاء المثلية في الفائت، فإنّه محض صفة؛ إذ الأعيان باقية، والمماثلة في الصفة بعيدة، فالقول بالأرش مطلقاً أوضح.

قوله: «إذا تنازع صاحب السفل والعلوّ في جدران البيت فالقول قول صاحب البيت مع يمينه، ولو كان في جدران الغرفة فالقول قول صاحبها مع يمينه».

هذا هو المشهور، ويعضده أنّ جدران البيت جزؤه، وجدران الغرفة جزؤها، فيُحكم بها لصاحب الجملة.

وقال ابن الجنيد:

إنّ جدران البيت بينهما ؛ لأنّ حاجتهما إليه ،واحدة بخلاف جدار الغرفة، إذ لا تعلّق لصاحب البيت به إلّا كونه موضوعاً على ملكه(4) .

وارتضاه في المختلف(5) ، وهو قول جيّد، لكن الأوّل أجود.

قوله: «ولو تنازعا في السقف قيل: إن حلفا قضي به لهما» إلى آخره.

المراد بالسقف الحامل للغرفة المتوسّط بينهما وبين البيت، والقول باستوائهما فيه للشيخ

ص: 134


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 174 - 175 .
2- راجع تذكرة الفقهاء . ج 16، ص 69، المسألة 1073.
3- الدروس الشرعية، ج 3، ص 307 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 11).
4- مختلف الشيعة، ج 6. ص 190، المسألة 140.
5- مختلف الشيعة، ج 6. ص 190، المسألة 140.

السادسة: • إذا خرجت أغصان شجرة إلى ملك الجار وجب عطفها إن أمكن، وإلّا قطعت من حدّ ملكه، وإن امتنع صاحبها قَطَعها الجار، ولا يتوقّف على إذن الحاكم.

______________________________________

في المبسوط (1)، وقوّاه في الدروس(2)؛ لأنّه سقف لصاحب البيت وأرض لصاحب الغرفة، فكان كالجزء من كلّ منهما.

والقول الثاني لابن إدريس(3)، ورجّحه العلّامة في كثير من كتبه(4) ؛ لأنّ الغرفة إنما تتحقّق بالسقف الحامل؛ لأنّه أرضها، والبيت قد يكون بغير سقف، وهما متصادقان على أنّ هنا غرفة، فلا بدّ من تحقّقها، ولأنّ تصرّفه فيه أغلب من تصرّف صاحب السفل.

والقول بالقرعة للشيخ أيضاً؛ لأنّها لكلّ أمرٍ مشتبه(5)، واستحسنه المصنّف.

وربما مُنع الاشتباه هنا؛ لأنّ رجحان أحد الطرفين في نظر الفقيه يزيل الاشتباه بالنسبة إلى الحكم والأوسط أوسط.

وموضع الخلاف السقف الذي يمكن إحداثه بعد بناء البيت، أمّا ما لا يمكن كالأزج(6) الذي لا يُعقل إحداثه بعد بناء الجدار الأسفل؛ لاحتياجه إلى إخراج بعض الأجزاء عن سمت وجه الجدار قبل انتهائه ليكون حاملا للعقد، فيحصل به الترصيف بين والجدران، وهو دخول آلات البناء من كلّ منهما في الآخَر، فإنّ ذلك دليل على أنّه لصاحب السفل، فيقدّم قوله فيه بيمينه.

قوله: «إذا خرجت أغصان شجرة إلى ملك الجار وجب عطفها» إلى آخره.

ص: 135


1- المبسوط، ج 2، ص 272 .
2- الدروس الشرعية، ج 3، ص 312 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 11)
3- السرائر، ج 2، ص 67.
4- منها: تحرير الأحكام الشرعية، ج 4. ص 510، ذيل الرقم 6127 ومختلف الشيعة، ج 1، ص 185 ، المسألة 128 .
5- الخلاف، ج 3، ص 298، المسألة 8 .
6- الأزج بيت يُبنى طولاً لسان العرب، ج 2، ص 208، «أزج».

...

_________________________________________

يمكن كون الوجوب بمعناه المتعارف، ويكون المحكوم عليه به مالك الشجرة، ووجه الوجوب عليه ظاهر؛ لأنّ دخول شجرته على ملك الغير يوجب التصرّف فيه وشغله بملكه، وهو غير جائز، فيجب التخلّص منه، وقد صرّح العلّامة في التحرير بوجوب ذلك عليه(1) ، وهو حسن.

لكن يبقى في العبارة اشتراط وجوب العطف بالإمكان وترتيب القطع على عدمه، مع أنّ للمالك قطع شجرته بغير هذا السبب فيه أولى، وإنّما يليق ترتّب الأمرين المذكورين بالنسبة إلى مالك الأرض، إلّا أنّ الوجوب فيه لا يتمّ بالمعنى المتعارف منه.

ويمكن كونه بمعنى الثبوت؛ لأنّه أحد معانيه لغةً (2).

وهذا الحكم ثابت له لكن ينافره قوله بعد ذلك «وإن امتنع صاحبها قَطَعها الجار»؛ لأنّ مقتضاه أنّ المأمور بالسابق هو مالك الشجرة.

ويمكن الاعتذار عن الترتيب بأنّ قطع الشجرة مع إمكان عطفها إتلاف للمال، وهو منهي عنه، ويُمنع من جواز قطع المالك كيف اتّفق، بل لا بدّ من غاية مقصودة به؛ للنهي عن إضاعة المال (3)بغير وجه.

ثمّ قوله «قَطَعها الجار» لا بدّ من تقييده أيضاً بعدم إمكان عطفها بطريق أولى، فالعبارة في

الجملة ليست بجيّدةٍ.

والحاصل أنّ الواجب على مالك الشجرة تفريغ أرض الغير أو هواه من ماله كيف ما أمكن، فإن امتنع منه فلمالك الأرض والهواء تولّي ذلك، مقدماً للعطف على القطع مع إمكانه.

وكما يثبت الحكم المذكور في الأغصان كذا في العروق.

ص: 136


1- تحرير الأحكام الشرعية، ج 4، ص 514، ذيل الرقم 6131. .
2- لسان العرب، ج 1، ص 793، «وجب».
3- مسند أحمد، ج 5، ص 305، ح 17727؛ صحیح مسلم، ج 3، ص 1341، ح 1715/14: السنن الكبرى، البيهقي، ج 6، ص 104، ح 11341.

•ولو صالحه على إبقائه في الهواء لم يصح، على تردّد، أمّا لو صالحه على طرحه على الحائط جاز مع تقدير الزيادة أو انتهائها.

________________________________________

ولا يتوقّف مالك الأرض على إذن الحاكم حيث يمنع صاحب الشجرة، كما له إخراج بهيمة تدخل إلى ملكه بدون إذنه.

وربما قيل بجواز إزالة مالك الأرض لها من دون مراجعة المالك؛ لأنّ إزالة العدوان عليه أمر ثابت له، وتوقّفه على إذن الغير ضرر، ويشهد له جواز إخراج البهيمة بدون إذنه، ولأنّه لو توقّف على إذن المالك لتوقّف على إذن الحاكم مع امتناعه؛ إذ لا يجوز التصرّف في مال الغير بغير إذنه أو إذن من يقوم مقامه.

وظاهر التذكرة(1) أنّ مالك الشجرة لا يجب عليه إزالتها وإن جاز لمالك الأرض؛ لأنّه من غير فعله.

والأوّل أجود.

ولو قَطَعها مالك الأرض مع إمكان العطف ضمن لكن هل يضمن جميع ما يقطع، أم تفاوت ما بينه وبين المعطوف؟ وجهان، من التعدّي بالقطع فيضمنه، ومن أنّ العطف حقٌّ له، وما يفوت به في حكم التالف شرعاً.

ولو مضت مدّة طويلة عليها كذلك مع علم المالك به و تفريطه، ضمن أُجرة الأرض والهواء.

وليس لمالك الأرض إيقاد النار تحت الأغصان لتحترق حيث يجوز القطع؛ لأنّه أشدّ ضرراً، فلو فَعَل ضمن ما يتلف بسببه زيادةً على حقّه.

وفي حكم الشجرة التراب المنتقل إلى ملك الغير ، والحائط المائل كذلك، فيجب المبادرة إلى تخليص الأرض منه.

ولو ملّكه التراب وقبله سلم من حقّه، لا مع امتناعه منه وإن شقّ نقله.

قوله: «ولو صالحه على إبقائه في الهواء لم يصحّ على تردّد» إلى آخره.

ص: 137


1- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 91 ، المسألة 1089.

السابعة: • إذا كان لإنسان بيوت الخان ،السفلى ولآخر بيوته العليا، وتداعيا الدرجة قضي بها لصاحب العلوّ مع يمينه.

_____________________________________________

مَنَع الشيخ من الصلح على إبقائها في الهواء؛ بناءً على أصله السابق من عدم جواز إفراد

الهواء بالصلح تبعاً للبيع(1) .

وهذا هو الفارق بين الصلح على إبقائها في الهواء وعلى الجدار؛ لأنّ منفعة الجدار يمكن إفرادها بالمعاوضة كالإجارة.

والأصحّ جواز الأمرين.

والمراد بقوله «مع تقدير الزيادة أو انتهائها» أنّ الأغصان إن كانت قد انتهت في الزيادة بحسب ظنّ أهل الخبرة صحّ الصلح على إبقائها مطلقاً، وإن كانت آخذة في الزيادة فلا بدّ من تقدير الزيادة ليكون الصلح مضبوطاً، ولا بدّ مع ذلك من تقدير مدّة الإقامة، فلا يصحّ المؤبّد على ما ذكره الجماعة (2).

ولو فُرض زيادة ما حُكم بانتهائه على خلاف العادة، كان حكم الزائد حكم الأصل لمّا تعدّى إلى الملك قبل الصلح.

قوله: «إذا كان لإنسان بيوت الخان ،السفلى ولآخر بيوته العليا، وتداعيا الدرجة، قضي بها لصاحب العلوّ مع يمينه».

لاختصاصه بالتصرّف فيها بالسلوك وإن كانت موضوعة في الأرض التي هي لصاحب السفل ؛ لأنّ مجرّد ذلك لا يوجب اليد ، وكما يُحكم بها لصاحب العليا فكذا محلّها.

هذا مع اختلافهما في الخزانة تحتها، أمّا لو اتّفقا على أنّ الخزانة لصاحب الأسفل، كانت الدرجة كالسقف المتوسّط بين الأعلى والأسفل، فيجري فيها الخلاف السابق، وعلى ما اخترناه يقضى بها للأعلى على التقديرين.

ص: 138


1- المبسوط، ج 2، ص 263 و 276.
2- منهم العلامة في تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 91، المسألة 1089.

• ولو كان تحت الدرجة خزانة كانا في دعواهما سواءً .

• ولو تداعيا الصحن قضي منه بما يسلك فيه إلى العلوّ بينهما، وما خرج عنه لصاحب السفل.

_____________________________________

وإنّما يختلف الحكم عند القائل بالاشتراك كالشهيد (رحمه الله)، فإنّه يجعلها هنا مشتركةً بينهما أيضاً(1) .

قوله: «ولو كان تحت الدرجة خزانة كانا في دعواهما سواءً».

لأنّ لكلّ واحدٍ منهما شاهداً بملكها؛ لأنّ الظاهر أنّ الدرجة لصاحب العلوّ، فيكون مكانها كذلك؛ لأنّ الهواء كالقرار، وكذلك هي متّصلة بملك الأسفل، بل من جملة البيوت السفلى، وحينئذٍ فيقضى بها بينهما بعد التحالف أو النكول.

قال في الدروس: ولا عبرة بوضع الأسفل آلاته وكيزانه تحتها(2) .

والخزانة - بالكسر ككتابة قاله في القاموس(3) .

قوله: «ولو تداعيا الصحن قضي منه بما يسلك فيه إلى العلوّ بينهما».

لأنّ صاحب العلوّ لمّا افتقر سلوكه إليه إلى التصرّف من الصحن في قدر الممّر كان له عليه يد دون باقي الصحن، وصاحب السفل يشاركه في التصرّف في ذلك وينفرد بالباقي، فيكون قدر المسلك بينهما.

ثمّ إن كان المرقى في صدر الصحن تشاركا في الممرّ إليه، وإن كان المرقى في دهليزه خارجاً لم يشارك الأسفل في شيءٍ من العرصة؛ إذ لا يد له على شيءٍ منها، إلّا أن نقول في السكّة المرفوعة باشتراكها بين الجميع.

ولو كان المرقى في ظهره اختصّ صاحب الأسفل بالعرصة والدهليز أجمع.

والمراد بالقضاء بما ذُكر بينهما مع حلف كلٍّ لصاحبه أو نكولهما معاً عن اليمين، كما قد عُلم غير مرّةٍ.

ص: 139


1- الدروس الشرعية، ج 3، ص 312 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 11).
2- الدروس الشرعية، ج 3، ص 312 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 11).
3- القاموس المحيط، ج 4، ص 220، «خزن».

تتمّة: • إذا تنازع راكب الدابّة وقابض لجامها قضي للراكب مع يمينه، وقيل: هما سواء في الدعوى والأوّل أقوى.

• أما لو تنازعا ثوباً وفى يد أحدهما أكثره فهُما سواء، • وكذا لو تنازعا عبداً ولأحدهما عليه ثياب،

______________________________________

قوله: «إذا تنازع راكب الدابّة وقابض لجامها قضى للراكب» إلى آخره.

وجه القوّة قوّة يد الراكب وشدّة تصرّفه بالنسبة إلى القابض

ووجه التسوية اشتراكهما في اليد، وقوّتها لا مدخل لها في الترجيح، ولهذا لم يؤثّر في ثوب بيد أحدهما أكثره، كما سيأتي.

نعم، مع الراكب زيادة التصرّف، إلّا أنّه لم يثبت شرعاً كونه مرجّحاً، وتعريف المدّعي والمنكر منطبق عليهما بتفسيراته، وحينئذٍ فالقول بالتساوي أقوى بعد أن يحلف كلٌّ منهما لصاحبه إذا لم تكن بيّنة، ولا عبرة عندنا بكون الراكب غير معتادٍ قنية الدواب والمتشبّث معتاداً لذلك.

وما ذُكر حكم الدابّة، أمّا اللجام فلمن في يده والسرج لراكبه.

قوله: «أمّا لو تنازعا ثوباً وفى يد أحدهما أكثره فهُما سواء».

لاشتراكهما في مسمّى اليد، ولا ترجيح لقوّتها، والتصرّف الذي كان مع الراكب زائداً على اليد منتفٍ هنا، وهذا هو الفارق بين المسألتين عند المصنّف، وأوجب اختلاف الحكم.

نعم لو كان أحدهما متمسّكاً له والآخر لابساً، فكمسألة الراكب والقابض؛ لزيادة تصرّف اللابس على اليد.

وربما قيل هنا بتقديم اللابس؛ لأنّ الظاهر أنّه لم يتمكّن من لُبسه إلّا وهو غالب مستقلّ باليد. قوله « وكذا لو تنازعا عبداً ولأحدهما عليه ثياب».

بمعنى أن لبسها لا يرجّح يد أحدهما إذا كان لهما عليه يد، إذ لا دخل لها في الملك؛ لأنّه قد يلبسها بغير إذن مالكها، أو بقوله، أو بالعارية، فإذا كان لهما عليه يد تساويا في الدعوى.

ومنه يُعلم أّنّه لو كان لأحدهما خاصّة يد وللآخر ثياب، فالعبرة بصاحب اليد.

ص: 140

•أمّا لو تداعيا جملاً ولأحدهما عليه حمل كان الترجيح لدعواه.

•ولو تداعيا غرفةً على بيت أحدهما وبابها إلى غرفة الآخر كان الرجحان الدعوى صاحب البيت.

______________________________________

قوله: «أمّا لو تداعيا جملاً ولأحدهما عليه حمل كان الترجيح لدعواه».

لأنّ وضع الحمل على الدابّة يستدعي كمال الاستيلاء، فيرجّح صاحبه.

والمراد أنّ لكلّ واحدٍ منهما مع ذلك عليه يد، بأن كانا قابضين بزمامه، ونحو ذلك، ليحصل الترجيح، أمّا لو كان لأحدهما حمل ولا يد للآخَر فلا شبهة في الترجيح.

ويمكن أن يكون المراد أنّ أحدهما قابض بزمامه وللآخَر عليه حمل؛ ليكون معادلاً المسألة الراكب وقابض اللجام، فإنّهما وإن استويا في الحكم عنده إلّا أنّ مسألة الحمل أقوى، ولهذا لم يذكر فيها خلافاً.

ووجهه أنّ الحمل أقوى دليلاً على كمال الاستيلاء، فإنّ الركوب أسهل تعلّقاً من الحمل.

وفي الدروس جعل الراكب ولابس الثوب وذا الحمل سواء في الحكم(1) ، وهو كذلك.

قوله: «ولو تداعيا غرفة على بيت أحدهما وبابها إلى غرفة الآخر كان الرجحان لدعوى صاحب البيت».

لأنّها موضوعة في ملكه؛ لأنّ هواء بيته ملكه لأنّه تابع للقرار، ومجرّد فتح الباب إلى الغير لا يفيد اليد ولا الملك، فيقدّم صاحب البيت بيمينه.

هذا إذا لم يكن من إليه الباب متصرّفاً فيها بسكنى أو غيره، وإلّا قدّم؛ لأنّ يده عليها بالذات، لأنّ التصرّف مقتض له، وثبوت يد مالك الهواء بالتبعيّة ليده التي هي على القرار، واليد الفعليّة أقوى وأولى من التابعة.

ويحتمل التساوي حينئذٍ؛ لثبوت اليد من الجانبين في الجملة، وعدم تأثير قوّة اليد، كما سلف.

ص: 141


1- الدروس الشرعية، ج 3، ص 313 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 11).

ص: 142

كتاب الشركة

اشارة

و النظر في فصولٍ:

[ الفصل] الأوّل في أقسامها

• الشركة اجتماع حقوق المُلاك في الشيء الواحد على سبيل الشياع.

_____________________________________

كتاب الشركة

قوله: «الشركة اجتماع حقوق المُلاك في الشيء الواحد على سبيل الشياع».

الشركة - بكسر الشين وإسكان الراء، وبفتحها فكسرها - وهي تطلق على معنيين:

أحدهما: ما ذكر المصنّف في تعريفه من اجتماع الحقوق على الوجه المذكور، وهذا المعنى هو المتبادر من معنى الشركة لغةً(1) وعرفاً، إلّا أنّه لا مدخل له في الحكم الشرعي المترتّب على الشركة من كونها من جملة العقود المفتقرة إلى الإيجاب والقبول والحكم عليها بالصحّة والبطلان، فإنّ هذا الاجتماع يحصل بعقد وغيره، بل بغيره أكثر، حتّى لو تعدّى أحدهما ومزج ماله بمال الآخَر قهراً بحيث لا يتميّزان تحقّقت الشركة بهذا المعنى، و مع ذلك لا ترتبط الشركة به بما قبلها وبعدها؛ لأنّ هذا معنى من المعاني دخوله في باب الأحكام أولى.

ص: 143


1- تاج العروس، ج 7، ص 148، «شرك».

...

__________________________________________

وثانيهما عقد ثمرته جواز تصرّف المُلاك للشيء الواحد على سبيل الشياع فيه.

وهذا هو المعنى الذي به تندرج الشركة في جملة العقود، ويلحقها الحكم بالصحّة والبطلان، وإليه يشير المصنّف فيما بعد بقوله «قيل: تبطل الشركة - أعنى الشرط والتصرّف - وقيل: تصحّ».

ولقد كان على المصنّف أن يقدّم تعريفها على ما ذكره؛ لأنّها المقصود بالذات هنا، أو ينبّه عليهما معاً على وجه يزيل الالتباس عن حقيقتهما وأحكامهما، ولكنّه اقتصر على تعريفها بالمعنى الأوّل، فقوله «اجتماع حقوق المُلّاك» كالجنس يدخل فيه اجتماع حقوقهم على وجه الامتياز، كما لو جمعوا ما لهم مع تميّز بعضه عن بعض ووضعوه في مكانٍ واحدٍ مثلاً.

والمراد ب_«الشيء الواحد» الواحد بالشخص؛ لأنّ ذلك هو المتبادر إلى الأفهام، لا الواحد بالجنس ولا النوع ولا الصنف؛ إذ لا تتحقّق الشركة في شيء مع تعدّد الشخص، والمراد بالواحد ما هو متعلّق الشركة وإن تعدّد؛ لصدق الاجتماع بالمعنى المذكور في كلّ فرد من أفرادالمتعدّد.

وقوله «على سبيل الشياع» خرج به اجتماع حقوقهم في الشيء الواحد المركّب من أجزاء متعدّدة، كالبيت - مثلاً - إذا كان خشبه لواحد وحائطه لآخر وأرضه لثالث، فإنّه لا شركة هنا؛ إذ لا شياع مع صدق اجتماع حقوقهم في الشيء الواحد.

وفي بعض تحقيقات الشهيد (رحمه الله) أنّ قيد الشياع لإخراج اجتماع الحقوق في الشيء الواحد بالشخص على البدل كمستحقّ الزكاة والخمس والمجتمعين على معدن أو مسجد أو مباح يتعذّر فيه الاجتماع، فإنّ ذلك اجتماع لا على سبيل الشياع، ثمّ أورد على نفسه بأنّ هذه خرجت ب_«المُلّاك»، وأجاب بأنّ المراد بالملك الاستحقاق حذراً من المجاز والاشتراك، وهو حاصل في الكلّ (1).

ص: 144


1- حكاه عنه أيضاً المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 8، ص 7.

...

__________________________________________

وفيه نظر؛ لأنّ الملك أخصّ من الاستحقاق مطلقاً، ولو حمل على معناه الخاصّ المتعارف لخرجت هذه الأقسام بالقيد المذكور، وخرج بقيد «الشياع» ما ذكرناه سابقاً، وحينئذٍ فلا مجاز ولا اشتراك.

ويمكن أن يكون (رحمه الله) إنّما حاول بحمل الملك على الاستحقاق - الذي هو أعمّ منه - إدخال الشركة في مثل القصاص والخيار والشفعة وحدّ القذف ممّا لا ملك فيه، وإنّما هو محض استحقاقٍ.

فلو حمل الملك على معناه الخاصّ لا تنقض التعريف في عكسه إن أُريد به المعنى الخاصّ، ولو جُعل مشتركاً بينه وبين الاستحقاق أو مجازاً في الاستحقاق لزم الاشتراك والمجاز، فبحمله على معنى الاستحقاق العامّ يدخل الأقسام ويسلم من محذور المجاز والاشتراك كما ذُكر، لكن يبقى فيه أنّ إطلاق الخاصّ وإرادة العامّ مجاز يجب صون التعريف عن استعماله، ولا يمكن دعوى شيوعه فيه، بل هو معنى خفيّ يعيّب التعريف، ويوقع فيما هرب منه .

وقد يجاب بأنّ إطلاق الملك هنا على الاستحقاق ليس بمجاز، بل معناه متبادر من قولك: فلان يملك الشفعة على فلان ويملك الحدّ ، ونحوه، أو أنّه مجاز ولكن استعماله شائع وإن كان مطلق إطلاق الخاصّ على العامّ ليس شائعاً، والعبرة في رخصة التعريف إنّما هو بالفرد المحتاج إلى استعماله، لا بنوع ذلك الفرد، وهذا هو الظاهر هنا، وينبّه عليه أنّ المصنّف بعده بلا فصل ذكر حكم الاشتراك في الحقّ المذكور، فليس بغافل عن دخوله في التعريف،وحينئذٍ فالمستعمل هنا إمّا المجاز المنصوب على إرادته قرينة أو المشترك اشتراكاً معنويّاً إن جعل ذلك الاستحقاق من أفراد الملك حقيقة، والاشتراك المعنويّ لا يضرّ دخوله في التعريف.

ولو أبدل لفظ الملك بالاستحقاق في التعريف لشمل الجميع، وخرج الاشتراك في استحقاق الزكاة ونحوه ب_«الشياع» كما ذكره المصنّف (رحمه الله).

ص: 145

•ثمّ المشترك قد يكون عيناً، وقد يكون منفعة، وقد يكون حقّاً.

•وسبب الشركة قد يكون إرثاً، وقد يكون عقداً، وقد يكون مزجاً ، وقد يكون حيازة والأشبه في الحيازة اختصاص كلّ واحدٍ بما حازه.

_______________________________________

واعلم أنّ المراد ب_«المُلّاك» هنا ما فوق الواحد بطريق الحقيقة أو المجاز على الخلاف، لئلّا ينتقض بالاثنين، وأنّ هذا التعريف لا ينطبق من الشركات الماليّة إلّا على شركة العنان دون أخواتها من شركة الأبدان وغيرها، فهو تعريف للشركة الصحيحة عندنا.

قوله: «ثمّ المشترك قد يكون عيناً، وقد يكون منفعة، وقد يكون حقّاً».

الاشتراك في العين ،ظاهر وفي المنفعة يتحقّق بالإجارة والحبس والسكني، لا الوقف؛ لأنّه إن كان على محصورين فالاشتراك في العين، وإلّا فلا اشتراك.

والاشتراك في الحقّ كما ذكرناه سابقاً من الخيار والشفعة بالنسبة إلى الورثة والقصاص والحدّ والرهن.

قوله: «وسبب الشركة قد يكون إرثاً، وقد يكون عقداً، وقد يكون مزجاً».

الإرث يجري في الأقسام الثلاثة السابقة، كما إذا أورثا مالاً، أو منفعة دار استأجرها مورّثهم أو عبد موصى بخدمته، أو حقّ شفعةٍ وخيار ورهن، وكذلك العقد، فجريانه في العين بأن يشتريا داراً، وفي المنفعة بأن يستأجراها، وفي الحقّ بأن يشتريا بخيار، فإنّ سبب الشركة العقد، وفي هذا الأخير نظر.

وأمّا المزج فيتصوّر في العين، وقد يفرض في المنفعة، كما إذا استأجرا دراهم للتزيّن بها - إذا جوّزناه - وحق كلّ واحدٍ منهما منفرد، ثمّ امتزجت بحيث لا تتميّز.

قوله: «وقد يكون حيازة والأشبه في الحيازة اختصاص كلّ واحدٍ بما حازه».

من الحيازة أن يشتركا في نصب حبالة الصيد المشتركة، ورمي السهم المثّبت له، وحينئذٍ

فيشتركان في ملكه. وما اختاره من الاختصاص لا يتناوله.

والقول باختصاص كلّ واحدٍ بما حازه هو الأجود مع تميّزه؛ لأنّه في معنى شركة الأبدان، أمّا مع امتزاجه فيكون مشتركاً، لكن لا من حيث الحيازة، بل من جهة المزج

ص: 146

•نعم، لو اقتلعا شجرةً أو اغترفا ماءً دفعةً تحقّقت الشركة.

•وكلّ مالين مزج أحدهما بالآخَر بحيث لا يتميّزان تحقّقت فيهما الشركة اختياراً كان المزج أو اتّفاقاً، •ويثبت في المالين المتماثلين في الجنس والصفة،

________________________________________

الطارئ، كما لو امتزج المالان، وهو خارج عن الفرض.

وينبغي أن يستثنى من ذلك ما لو كان عمل كلّ واحدٍ منهما بنيّة الوكالة لصاحبه في تملّك نصف ما يحوزه، فإنّه حينئذٍ يتوجّه الاشتراك؛ لأنّ ذلك ممّا يقبل النيابة، فإذا نوى أن يكون بينه وبين شريكه، ملك شريكه نصفه وإن لم يعمل، فإذا عمل كذلك أولى، إلّا أنّه سيأتي(1) اختيار المصنّف لعدم استثناء ذلك أيضاً، وأنّ لكلّ واحدٍ ما حازه مطلقاً.

والتنبيه بالخلاف المذكور إمّا على عدم اشتراط النيّة فلا تتحقّق الشركة، أو على خلاف ابن الجنيد المجوّز لشركة الأبدان(2)، والأوّل أولى، وسيأتي البحث فيه(3) .

قوله: «نعم لو اقتلعا شجرةً أو اغترفا ماءً دفعة تحقّقت الشركة».

أي تحقّقت الشركة في الجملة، لكن يكون لكلّ واحدٍ من المجاز بنسبة عمله، ويختلف ذلك بالقوّة والضعف.

ولو اشتبه مقدار كلّ واحدٍ، فطريق التخلّص بالصلح، أو تمليك كلّ واحدٍ ما بقي له عند الآخر؛ بناءً على جواز هبة المجهول.

قوله: «وكلّ مالين مزج أحدهما بالآخر بحيث لا يتميّزان تحقّقت فيهما الشركة، اختياراً كان المزج أو اتّفاقاً».

المراد بالاتفاق هنا عدم الاختيار، كما لو سقط أحدهما على الآخر، أو غيره، بأن ورثا معاً مالاً، ونحو ذلك، فإنّه في حكم المزج بالاختيار.

قوله: «ويثبت في المالين المتماثلين في الجنس والصفة».

ص: 147


1- يأتي في ص 168.
2- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 1، ص 195، المسألة 145 .
3- يأتي في ص 167.

•سواء کانا أثماناً أو عروضاً

•أمّا ما لا مِثْلَ له - كالثوب والخشب والعبد - فلا تتحقّق فيه بالمزج، بل قد تحصل بالإرث أو أحد العقود الناقلة كالابتياع والاستيهاب.

______________________________________

لمّا كان ضابط الامتزاج عدم التميّز اعتبر الاتّفاق في الجنس والصفة، فلو تخلّف أحدهما تحقّق الامتياز، فلا شركة، فلا يكفي مزج الحنطة بالشعير، والدخن بالسمسم وإن عسر التخليص، والدراهم بالدنانير، ونحو ذلك، وكذا لو اتّحد الجنس - أعني النوع الخاص - مع اختلاف الوصف، كما لو مزجت الحبّة الحمراء من الحنطة بغيرها، أو الكبيرة بالصغيرة، ونحو ذلك؛ لإمكان التخليص وإن عسر.

قوله «سواء كانا أثماناً أو عروضاً».

أي عروضاً مثليّةً كالحنطة وغيرها من الحبوب، أمّا غير المثليّة فسيأتي الكلام فيها. ونبّه بالتسوية على خلاف بعض العامّة؛ حيث شرط في الشركة الاختياريّة - أعني ما يترتّب عليها جواز التصرّف والتجارة بالعقد - أن يكون المالان من النقدين كالمضاربة (1)، أمّا الشركة بمعنى اجتماع الحقوق في المال الواحد فلا خلاف في تحقّقه كيف اتّفق الامتزاج.

قوله: «أمّا ما لا مِثل له كالثوب والخشب والعبد - فلا تتحقّق فيه بالمزج».

في عدم تحقّقه بالمزج مطلقاً منع بيّن، بل قد تتحقّق كالثياب المتعدّدة المتقاربة في الأوصاف والخشب كذلك، فتتحقّق الشركة فيه، والضابط عدم الامتياز، ولا خصوصيّة للمثلي والقيمي في ذلك.

ومتى تحقّقت في ذلك فإن عُلمت قيمة ما لكلّ واحد منهما كان الاشتراك على نسبة القيمة، وإلّا ففي الحكم بالتساوي؛ لأنّه الأصل، أو يرجع إلى الصلح وجهان، وبالأوّل قطع في التذكرة(2) .

ص: 148


1- حلية العلماء، ج 5، ص 93؛ المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 5، ص 124. المسألة 3628؛ الشرح الكبير المطبوع مع المغني، ج 5، ص 93.
2- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 330 (تذنيب) ذيل المسألة 149 .

•ولو أراد الشركة فيما لا مثل له باع كلّ واحدٍ منهما حصّةً ممّا في يده بحصّةٍ ممّا في يد الآخر.

• ولا تصحّ الشركة بالأعمال كالخياطة والنساجة.

_______________________________________

وعليه يترتّب حكم ما لو اشتبه مقدار قوّتهما في مثل قلع الشجرة، فإنّهما يستويان على

ما اختاره في التذكرة(1) : لأصالة عدم زيادة أحدهما على الآخر. والأقوى الصلح.

قوله: «ولو أراد الشركة فيما لا مثل له باع كلّ واحد منهما - إلى قوله - في يد الآخر». بناءً على أن الشركة فيه لا تتحقق بالامتزاج، ومثله المثلي مع اختلاف الجنس أو الوصف. وما ذكره من الحيلة أحد الأمثلة.

ومثله ما لو وهب أحدهما صاحبه حصّةً من ماله ووهبه الآخر كذلك، أو باعه حصّةً بثمن معيّن ثمّ اشترى به حصّةٌ من الآخر، إلى غير ذلك من الوجوه الناقلة.

والمراد بالشركة في جميع هذه الموارد الشركة المعرّفة، لا الشركة بالمعنى الخاصّ، وهي الإذن في التصرّف، والحكم فيما عدا الأخير واضح؛ إذ لم يحصل منذلك سوى الامتزاج، وأمّا الابتياع ونحوه فلعدم دلالته على الإذن في التصرّف، خلافاً لبعض العامّة؛ حيث سوّغها به (2)، كما لو قالا اشتركنا ونحوه.

قوله: «ولا تصحّ الشركة بالأعمال كالخياطة والنساجة».

لا فرق في ذلك بين أن يتّفق عملهما بأن يكون كلّ واحدٍ منهما خيّاطاً، أو يختلف بأن يكون أحدهما خيّاطاً والآخر نجاراً، ويعمل كلّ واحدٍ منهما في صنعته، ولا بين كون الشركة البدنية في مال مملوك أو تحصيل مالٍ مباح كالاصطياد والاحتطاب؛ لأنّ كلّ واحدٍ متميّز ببدنه ومنافعه فيختصّ بفوائده، كما لو اشتركا في مالين وهما متميّزان.

ولا خلاف عندنا في بطلان شركة الأعمال، إلّا من ابن الجنيد؛ حيث أجازها مع

ص: 149


1- تذكرة الفقهاء ، ج 16 ، ص 230، ذيل المسألة 149.
2- حلية العلماء، ج 5، ص 97 .

•نعم، لو عملا معاً لواحد بأجرة ودفع إليهما شيئاً واحداً عوضاً عن أجرتهما تحقّقت الشركة في ذلك الشيء،

_____________________________________________

تتاركهما(1) الفضل، أو عمل أحدهما وقسمته على الآخر من غير شركة(2) ، مع أنّه راجع إلى بطلانها؛ لأن تتاركهما (3)الفضل بعد مزج الأجرتين وتحاللهما أمر خارج عن صحّة هذه الشركة، وكذا تبرّع أحدهما على الآخر بمشاركته في عمله.

وأمّا العامّة فمنهم من وافقنا على بطلانها(4)، ومنهم من أجازها مطلقاً(5)، ومنهم من أجازها مع اتّفاق الصنعتين لا مع اختلافهما(6)، ومنهم من أجازها في غير اكتساب المباح (7).

قوله: «نعم، لو عملا معاً لواحد بأجرة ودفع إليهما شيئاً واحداً عوضاً عن أجرتهما تحقّقت الشركة».

إنّما تتحقّق في الأعمال بهذه الجهة لو أجرا أنفسهما في عقدٍ واحدٍ لتشبه شركة الأبدان بحسب الصورة وإن كان في المعنى راجعاً إلى شركة الأموال، أمّا إذا آجر كلّ واحد نفسه منفرداً واستحق أجرةً منفرداً ثمّ أدّى إليهما مالاً مشتركاً، فالشركة في المال خاصّةً صورةً

ومعنى.

ولا فرق في جوازها بالمعنى الأوّل بين أن يكون عملهما مختلفاً ومتّفقاً، ولا بين

ص: 150


1- في «م»: «تشاركهما» بدل «تتاركهما».
2- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 6 ، ص 195 المسألة 145 .
3- في «م»: «تشاركهما» بدل «تتاركهما».
4- الحاوي الكبير، ج 6، ص 479؛ المهذب، الشيرازي، ج 1، ص 455؛ الوسيط، ج 3، ص 262؛ العزيز شرح الوجيز ، ج 5، ص 191؛ روضة الطالبين، ج 3، ص 509 .
5- العزيز شرح الوجيز ، ج 5، ص 191؛ المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 5، ص 111، المسألة 3615؛ الشرح الكبير المطبوع مع المغني، ج 5، ص 185.
6- المدوّنة الكبرى، ج 5 ، ص 40 ؛ بداية المجتهد، ج 2، ص 254: العزيز شرح الوجيز، ج 5، ص 191.
7- في حاشية «و»: «المبطل لها مطلقاً الشافعي، والمجيز لها مطلقاً أحمد، والمفصل مالك، وأجازها أبو حنيفة فيما عدا اكتساب المباح منه رحمه الله)». وراجع تحفة الفقهاء، ج 3، ص 11؛ وبدائع الصنائع، ج 1، ص 87 - 88؛ والمبسوط، السرخسي، ج 11، ص 167؛ والعزيز شرح الوجيز ، ج 5، ص 191؛ والمغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 5، ص 111. المسألة 3615 .

•ولا بالوجوه ،

___________________________________________

أن يعلما نسبة أحد العملين إلى الآخر وعدمه؛ لأنّ الاعتبار في الصفقة المتعدّدة بالعلم بعوض المجموع لا الأجزاء، وأجرة المجموع هنا معلومة، وحينئذٍ فتقسّم عليهما على نسبة العمل. وطريقة معرفته أن تنسب أجرة مثل عمل أحدهما إلى أجرة مثل العملين، ويؤخذ من المسمّى بتلك النسبة.

هذا مع العلم بالنسبة، ومع الجهل يحتمل ما تقدّم من التساوي والصلح، والثاني أقوى.

وكذا القول في كلّ مالين امتزجا وجهل قدر كلّ منهما.

قوله: «ولا بالوجوه».

الشركة الوجوه تفسيرات ، أشهرها أن يشترك اثنان وجيهان عند الناس لا مال لهما بعقد لفظي ليبتاعا في الذمّة إلى أجل على أنّ ما يبتاعه كلّ واحدٍ منهما يكون بينهما، فيبيعان ويؤديّان الأثمان وما فضل فهو بينهما.

وقيل: أن يبتاع وجيه في الذمّة ويفوّض بيعه إلى خامل، ويشترطا أن يكون الربح بينهما (1).

وقيل : أن يشترك وجيه لا مال له وخامل ذو مال، ليكون العمل من الوجيه والمال من الخامل، ويكون المال في يده لا يسلّمه إلى الوجيه والربح بينهما (2).

وقيل: أن يبيع الوجيه مال الخامل بزيادة ربح؛ ليكون بعض الربح له(3).

والكلّ عندنا باطل، خلافاً لابن الجنيد، فإنّه جوّزها بالمعنى الأول(4)، ولأبي حنيفة مطلقاً(5)، وحينئذ فإذا أذن أحدهما للآخر في الشراء فاشترى لهما وقع الشراء عنهما، وكانا شريكين؛ لأنّه بمنزلة الوكيل وقد اشترى بإذنه، فيشترط شروط الوكالة.

ص: 151


1- العزيز شرح الوجيز، ج 5، ص 192 روضة الطالبين، ج 3، ص 513.
2- العزيز شرح الوجيز، ج 5، ص 192 روضة الطالبين، ج 3، ص 513.
3- الوسیط،ج3، ص262؛ العزیز شرح الوجیز، ج5، ص192، روضة الطالبین، ج3، ص513.
4- حکاه عنه العلامة في مختلف الشیعة، ج6، ص195، المسالة 145 .
5- حلیة العلماء، ج5، ص102 .

•ولا شركة المفاوضة • وإنّما تصحّ بالأموال.

_______________________________________

وإذا كان المال لأحدهما وباع الآخر سواء كان خاملاً أم لا، صحّ البيع بوكالة المالك. وللمباشر أجرة المثل لعمله، ولا شيء له في الربح.

قوله: «ولا شركة المفاوضة».

هي أن يشترك شخصان فصاعداً على أن يكون بينهما ما يكتسبان ويربحان ويلتزمان من غُرُم ويحصل لهما من غُنْم فيلزم كلّ واحد منهما ما يلزم الآخر من أرش جنايةٍ وضمان غصب وقيمة متلف وغرامةٍ بضمان وكفالةٍ، ويقاسمه فيما يحصل له من ميراث، ويجده من ركاز ولقطة، ويكتسبه في تجارته بماله المختصّ به، ولا يستثنى من ذلك إلّا قوت يومه وثياب بدنه وجارية يتسراها، فإنّه لا يشاركه الآخر فيها. وكذا يستثنى من الغُرْم الجناية على الحُرّ وبدل الخلع والصداق إذا لزم أحدهما.

وقال صاحب إصلاح المنطق : شركة المفاوضة أن يكون مالهما من كلّ شيءٍ يملكانه بينهما (1)، وهو مخصوص بما ذكرناه؛ لاستثناء القائل بها ذلك، وهي باطلة إلّا عند أبي حنيفة ومن شذّ (2).

قوله: «وإنّما تصحّ بالأموال».

لا خلاف بين المسلمين في صحّة الشركة بالأموال، وهي المعبَّر عنها ب_«شركة العنان» - بكسر العين ككتاب - وهو سير اللجام الذي تمسك به الدابّة.

واختلفوا فيما أُخذت منه هذه اللفظة(3)، فقيل: من عنان الدابّة، إمّا لاستواء الشريكين في ولاية الفسخ والتصرّف واستحقاق الربح على قدر رأس المال، كاستواء طرفي العنان، أو تساوي

ص: 152


1- ترتيب إصلاح المنطق، ص 360.
2- في حاشية بعض النسخ: وتبعه على ذلك الأوزاعي والثوري منه رحمه الله) . وراجع تحفة الفقهاء، ج 3. ص 10 وحلية العلماء، ج 5، ص 100.
3- راجع للأقوال العزيز شرح الوجيز ، ج 5، ص 186؛ والمغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 5، ص 124، المسألة 3627؛ والشرح الكبير المطبوع مع المغني ، ج 5، ص 111؛ وتذكرة الفقهاء، ج 16، ص 310 - 311: وت-اج العروس ، ج 18، ص 387، «عنن».

•ويتساوى الشريكان في الربح والخسران مع تساويه، ولو كان لأحدهما زيادة كان له من الربح بقدر رأس ماله، وكذا عليه من الخسارة.

_______________________________________

الفارسين إذا سوّيا بين فرسيهما وتساويا في السير يكونان سواء، وإمّا لأنّ كلّ واحد منهما يمنع الآخر من التصرّف كما يشتهي ويريد كما يمنع العنان الدابّة، وإمّا لأنّ الآخذ بعنان الدابّة حبس إحدى يديه على العنان ويده الأخرى مطلقة يستعملها كيف شاء، كذلك الشريك مَنَع بالشركة نفسَه عن التصرّف في المشترك كما يشتهي، وهو مطلق اليد والتصرّف في سائر أمواله.

وقيل: من «عنّ» إذا ظهر، إمّا لأنّه ظهر لكلّ منهما مال صاحبه، أو لأنّها أظهر أنواع الشركة، ولذلك أجمع على صحّتها.

وقيل: من المعانّة، وهي المعارضة، فإنّ كلّ واحدٍ منهما عارض بما أخرجه الآخر.

إذا تقرّر ذلك، فالمراد بصحّة الشركة بالأموال يحتمل كونه في الشركة بالمعنى الأوّل، كما يقتضيه السياق، وكونه فيها بالمعنى الآخر؛ لأنّه الغرض الذاتي منها، ولدلالة تعريفها عليه، قال في التذكرة: شركة العنان - وهي شركة الأموال - هي أن يُخرج كلُّ مالاً ويمزجاه ويشترطا العمل بأبدانهما (1)، وينبّه عليه أيضاً قول المصنّف عقيبه «ويتساوى الشريكان في الربح» إلى آخره، فيكون هذا أوّل الشروع في الشركة بالمعنى الثاني، وحينئذٍ فلا بدّ لها بهذا المعنى - مع اشتراكهما في المالين - من صيغةٍ تدلّ على الإذن في التصرّف؛ لأنّهما ممنوعان منه كسائر الأموال المشتركة، وهي كلّ لفظ يدلّ على الإذن فيه على وجه التجارة، سواء كان قبل الامتزاج أم بعده، وسواء وقع من كلّ منهما للآخر أم اختصّ بأحدهما، وبهذا المعنى لحقت بقسم العقود على تكلّف أيضاً، ثمّ تترتّب عليها أحكام يذكرها المصنّف بعد هذا.

قوله: «ویتساوى الشريكان في الربح والخسران مع تساويه» إلى آخره.

لا شبهة في كون الربح تابعاً للمال؛ لأنّه نماؤه، فإذا كان مال أحدهما أزيد من مال

ص: 153


1- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 310، المسألة 141.

•ولو شرط لأحدهما زيادة في الربح مع تساوي المالين أو التساوي في الربح والخسران مع تفاوت المالين قيل : تبطل الشركة، أعني الشرط والتصرّف الموقوف عليه، ويأخذ كل منهما ربح ماله، ولكلّ منهما أجرة مثل عمله بعد وضع ما قابل عمله في ماله، وقيل: تصحٌ الشركة والشرط، والأوّل أظهر.

___________________________________________

الآخَر، فله من الربح بنسبة ماله وإن عملا معاً؛ لتراضيهما بذلك على وجهٍ لا يخالف المشروع، حيث جعلا الربح تابعاً للأصل.

وخالف في ذلك بعض العامّة، فمَنَع من الشركة مع عدم استواء المالين في القدر؛ لاتّفاقهما في العمل، كما لا يجوز أن يختلفا في الربح مع اتّفاقهما في المال(1) .

ويندفع بأنّ المعتبر في الربح المال، والعمل تابع، فلا يضرّ اختلافه، كما يجوز مع تساويهما في المال عند الكلّ وإن عمل أحدهما أكثر.

قوله: «ولو شرط لأحدهما زيادة في الربح مع تساوي المالين - إلى قوله- والأول أظهر».

إذا شرطا تساوي الربح مع تفاوت المالين أو تفاوته مع تساويهما، فللأصحاب فیه أقوال:

أحدها: الصحّة، ذهب إليه المرتضى مدّعياً عليه الإجماع(2) ، وتبعه جماعة منهم العلّامة ووالده(3) وولده(4) ؛ لعموم (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)(5) و (إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَرَةٌ عَن تَرَاضٍ)(6)، وقد وقع على ما اشترطاه، وقوله (صلی الله علیه و آله و سلم): «المؤمنون عند شروطهم»(7) ، ودلالة الإجماع المنقول بخبر

ص: 154


1- الحاوي الكبير، ج 6 ، ص 477 حلية العلماء، ج 5، ص 95 العزيز شرح الوجيز، ج 5، ص 190؛ روضة الطالبین، ج 3، ص 509 .
2- الانتصار، ص 470 - 471. المسألة 265 .
3- مختلف الشيعة، ج 6، ص 196، المسألة 146 ، وفيه حكاية قول والد العلّامة.
4- أيضاح الفوائد، ج 2، ص 301 .
5- المائدة (5) 1 .
6- النساء (4): 29 .
7- تهذيب الأحكام، ج 7، ص 371، ح 1503 : الاستبصار، ج 3، ص 232، ح 835 .

...

_____________________________________

الواحد كما يقبل نقل غيره من الأدلّة به، ولأصالة الإباحة، وبناء الشركة على الإرفاق بكلّ منهما، ومن جملته موضع النزاع.

والثاني: البطلان ذهب إليه الشيخ وابن إدريس(1) والمصنّف وجماعة آخرون(2)؛ لانتفاء دليل يدلّ على الصحّة، ولأنّه أكل مال بالباطل؛ لأنّ الزيادة ليس في مقابلها عوض، لأنّ الفرض أنّها ليست في مقابلة عمل، ولا وقع اشتراطها في عقد معاوضة لتضمّ إلى أحد العوضين، ولا اقتضى تملكها عقد هبة، والأسباب المثمرة للملك معدودة وليس هذا أحدها، فيكون اشتراطها اشتراطاً لتملك شخص مال غيره بغیر سبب ناقل للملك، كما لو دفع إليه دابّه يحمل عليها والحاصل لهما، فيبطل العقد المتضمّن له؛ إذ لم يقع التراضي بالشركة والإذن في التصرّف إلا على ذلك التقدير، وقد تبيّن فساده فلا يندرج في الأمر بالإيفاء بالعقود(3)، ولا في «المؤمنون عند شروطهم»، وليست الشركة تجارة إلّا أن يكون الشرط للعامل، وجوازه مسلّم، فلا تتناوله آية التراضي (4).

وهذا يتمّ مع عدم زيادة عمل ممّن شرطت له الزيادة، وإلّا لكان معاوضة وتجارة، ولم يرد عليه ما ذُكر، فينبغي على هذا تقييد الجواز بذلك.

والثالث: قول أبي الصلاح بصحّة الشركة دون الشرط، وجعل شرط الزيادة إباحة لها يجوز الرجوع فيها ما دامت عينها باقية (5).

وهو مبنيُّ على أنّ الشرط الفاسد لا يفسد العقد، وقد تقدّم ضعفه.

إذا تقرّر ذلك، فمعنى بطلان الشركة على القول به الشركة بالمعنى الثاني، وهي العقد الدالّ على الإذن في التصرّف لا الشركة المعنونة ابتداء؛ لأن امتزاج المالين متحقّق،

ص: 155


1- المبسوط، ج 2، ص 333؛ الخلاف، ج 3، ص 332، المسألة 9؛ السرائر، ج 2، ص 400.
2- كابن البراج في جواهر الفقه، ص 73. المسألة 274 والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 8، ص 25 .
3- المائدة (5) : 1 .
4- النساء (4): 29 .
5- الكافي في الفقه، ص 343.

• هذا إذا عملا في المال، أمّا لو كان العامل أحدهما وشُرطت الزيادة للعامل صحّ، ويكون بالقراض أشبه.

____________________________________

وإليه أشار المصنّف بقوله «أعنى الشرط والتصرّف».

وقال الشهيد (رحمه الله) في شرح الإرشاد:

إنّ الموصوف بالصحّة والبطلان ليس نفس الشركة العنانية؛ إذ لا يمكن وقوعها على وجهين، بل المراد به نفس الشرط وما توقّف عليه، كالإذن في التصرّف (1).

وفيه نظر؛ لأنّ الشركة العنانيّة بالمعنى الذي ذكرناه توصف بالصحّة والبطلان، بل ليس الغرض من الشركة في الأموال إلّا الشرط المدلول عليه بالصيغة وما يلزمه، اللهمّ إلّا أن يمنع من كون الشركة بمعنى العقد المذكور هي العنانيّة، كما يظهر من التذكرة أنّها مركّبة من مزج المالين والعقد(2)، ولكن يشكل بأنّها إذا لم تكن شركة العنان فهي أحد الأقسام الأُخر؛ لاتّفاق الفقهاء على انحصار الشركة الصحيحة في شركة العنان، وانحصار مطلق الشركة في المذكورات، وغاية ما ينزّل أنّها تطلق على المعنيين معاً، لكنّها في الثاني أظهر.

وكيف كان فالباطل هو الشركة بمعنى العقد المذكور.

ثمّ على القول بالبطلان إمّا مطلقاً أو على بعض الوجوه يثبت لكلّ واحدٍ أجرة مثله، ويقتسمان الربح على نسبة المالين ويتقاصان.

ولو اصطلحا بعد ظهور الربح على ما شرطاه أولاً أو على غيره صحّ، على ما سلف في الصلح (3). قوله: «هذا إذا عملا في المال أمّا لو كان العامل أحدهما وشُرطت الزيادة للعامل صحّ، ويكون بالقراض أشبه».

صحّة الفرض المذكور واضحة؛ لكون الربح في مقابلة عمل، فيكون العقد شركة وقراضاً. ويلزم مثله فيما إذا عملا معاً وشُرطت الزيادة لمن زاد في العمل، إمّا مع تساوي المالين

ص: 156


1- غاية المراد، ج 2، ص 220 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 2).
2- تذكرة الفقهاء . ج 16 ، ص 310. المسألة 141 .
3- سبق في ص 105.

• وإذا اشترك المال لم يجز لأحد الشركاء التصرّف فيه، إلّا مع إذن الباقين، فإن حصل الإذن لأحدهم، تصرّف هو دون الباقين ويقتصر من التصرّف على ما أذن له، • فإن أطلق له الإذن تصرّف كيف شاء.

_____________________________________________

وزيادة عمله، أو مع نقصان ماله مع تساويهما في العمل أو زيادته بطريق أولى؛ لاشتراك الجميع في كون الزيادة في الربح في مقابلة عمل، فكان العقد عقد معاوضة من الجانبين بالنظر إلى أنّ العمل متقوّم بالمال، ولكنّ المصنّف أطلق المنع مع عملهما، كما أنّ العلّامة أطلق الجواز معه(1) ، والتفصيل حسن.

قوله: «وإذا اشترك المال لم يجز لأحد الشركاء التصرّف فيه، إلّا مع إذن الباقين».

أراد الشركة بالمعنى الأوّل، وتوقّف التصرّف على إذن الشركاء واضح؛ لقبح التصرّف في مال الغير بغير إذنه.

ولا فرق في ذلك بين كون الشركة بمزج وغيره، ولا في المزج بين كونه بفعلهما وغيره، فإنّ الإذن في التصرّف أمر زائد على مفهوم الشركة بذلك المعنى.

قوله: «فإن أطلق له الإذن تصرّف كيف شاء».

أي كيف شاء من وجوه التجارة والاسترباح، وما فيه مصلحة الشريك من البيع والشراء، مرابحة ومساومة وتوليةً ،ومواضعةً، حيث يقتضيهما المصلحة، وقبض الثمن وإقباض المبيع، والحوالة والاحتيال، والردّ بالعيب ونحو ذلك، كما في الوكيل المطلق.

وهل يتناول إطلاق اللفظ السفر حيث شاء أم يمتنع مطلقاً إلّا بإذن خاصّة؟ وجهان، من دخوله في الإطلاق، واشتماله على مظنّة الربح أكثريّاً، ومن كونه مظنّة الخطر، فيخرج من الإطلاق بدليل منفصل.

ولا يجوز له إقراض شيءٍ من المال إلّا مع المصلحة كمال اليتيم، ولا المحاباة في البيع، ولا المضاربة عليه؛ لأنّ ذلك ليس من توابع التجارة، ولا يتناوله الإطلاق.

ص: 157


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 327.

• وإن عيّن له السفر في جهةٍ لم يجز له الأخذ في غيرها، أو نوع من التجارة، لم يتعدّ إلى سواها.

ولو أذن كلّ واحدٍ من الشريكين لصاحبه جاز لهما التصرّف وإن انفردا، ولو شرطا الاجتماع لم يجز الانفراد.

• ولو تعدّى المتصرّف ما حد له ضمن .

• ولكلّ من الشركاء الرجوع في الإذن، والمطالبة بالقسمة؛ لأنّها غير لازمةٍ، وليس لأحدهما المطالبة بإقامة رأس المال، بل يقتسمان العين الموجودة ما لم يتّفقا على البيع.

_______________________________________

قوله: «ولو عيّن له السفر في جهةٍ لم يجز له الأخذ في غيرها، أو نوع من التجارة لم يتعدّ

إلى ما سواها».

لا فرق مع تعيين الجهة والنوع بين أن ينهاه عن غيرهما أو يسكت عنه؛ لبقاء المتروك على أصل المنع.

ثمّ لو خالف في جهة السفر ضمن وصحّت التجارة؛ لأنّ الإذن لم تبطل.

ولو خالف في نوع التجارة كان فضوليّاً، فيبطل مع ردّه، وكذا يضمن لو عيّن له جهةً من السفر وغايةً معيّنةً فتجاوزها في تلك الجهة.

قوله: «ولو تعدّى المتصرّف ما حدّ له ضمن».

لا فرق في التحديد بين أن يدلّ عليه عموم اللفظ وخصوصه، فلو سافر اعتماداً على إطلاق الإذن، وقلنا إنّه لا يتناوله، ضمن والمحدود قد يكون باعتبار نوع التجارة، وبزمانها ومكانها، وعلى كلّ تقدير يحصل بمخالفة المأذون، ولا تبطل الشركة بذلك.

قوله: «ولكلّ من الشركاء الرجوع في الإذن، والمطالبة بالقسمة؛ لأنّها غير لازمةٍ».

الشركة بمعنييها غير لازمةٍ، وأشار إلى الأولى بقوله «والمطالبة بالقسمة»، وإلى الثانية

بقوله «الرجوع في الإذن».

ص: 158

• ولو شرطا التأجيل في الشركة لم يصحّ، ولكلّ منهما أن يرجع متى شاء.

• ولا يضمن الشريك ما تلف في يده؛ لأنّه أمانة، إلّا مع التعدّي أو التفريط في الاحتفاظ، • ويُقبل قوله مع يمينه في دعوى التلف، سواء ادعى سبباً ظاهراً، كالغرق والحرق، أو خفيّاً كالسرق، وكذا القول قوله مع يمينه لو ادّعى عليه

_____________________________________

أمّا الأولى فظاهر؛ إذ لا يجب على الإنسان مخالطة غيره في ماله، والأصل أن يتصرّف كلّ منهما في ماله كيف شاء، ومن جملته إفرازه(1).

وأمّا الثانية فلأنّ مرجعها إلى الإذن في التصرّف، وهو في معنى الوكالة، فتكون جائزة. والأنسب في قوله «غير لازمةٍ» أن يكون إشارة إلى الثانية؛ لأنّ الموصوف بالجواز واللزوم هو العقد.

قوله: «ولو شرطا التأجيل في الشركة لم يصحّ، ولكلّ منهما أن يرجع متى شاء».

المراد بصحّة التأجيل المنفيّة ترتب أثرها بحيث تكون لازمةً إلى الأجل، وإنّما لم تصحّ لأنّها عقد جائز ، فلا يؤثّر شرط التأجيل فيها، بل لكلّ منهما فسخها قبل الأجل.

نعم، يترتب على الشرط عدم جواز تصرّفهما بعده إلّا بإذن مستأنف؛ لعدم تناول الإذن له فلشرط الأجل أثر في الجملة.

قوله: «ولا يضمن الشريك ما تلف في يده؛ لأنّه أمانة، إلّا مع التعدّي».

لما قد عرفت أنّه وكيل، فيكون أميناً من قبل المالك.

قوله: «ويُقبل قوله مع يمينه في دعوى التلف إلى قوله كالسرق».

الحكم بأمانته يقتضي قبول قوله في التلف، ولأنّه لولاه لأمكن صدقه في نفس الأمر. فلو لم يُقبل منه لطولب بالعين، وأدّى إلى تخليده الحبس.

ونبّه بالتسوية بين الأمرين على خلاف بعض العامّة؛ حيث فرّق بينهما، فقَبِل في الخفيّ دون الظاهر إلّا ببيّنة(2).

ص: 159


1- في «ق»: «إفراده».
2- المهذب، الشيرازي، ج 1، ص 456؛ العزيز شرح الوجيز، ج 5، ص 198 روضة الطالبين، ج 3، ص 518.

الخيانة أو التفريط• ويبطل الإذن بالجنون والموت.

______________________________________

قوله: «ويبطل الإذن بالجنون والموت».

البطلان الوكالة بهما، وفي معناهما الإغماء والحجر للسفه والفلس.

ثمّ في صورة الموت تكون القسمة للوارث إن لم يكن دين ولا وصيّة، وإلّا بني على الانتقال إليه وعدمه.

ص: 160

الفصل الثاني في • القسمة

وهي تمييز الحقّ من غيره، وليست بيعاً، سواء كان فيها رد أو لم يكن.

____________________________________

قوله: «القسمة وهي تمييز الحقّ من غيره، وليست بيعاً، سواء كان فيها رد أو لم يكن».

ذكر في هذا الكتاب نبذة من أحكام القسمة لمناسبة المقام، وأخر باقي الأحكام إلى كتاب القضاء، ولو جمعه هنا لكان أنسب.

واعلم أنّ القسمة عندنا تمييز حقّ أحد الشركاء عن حقّ الآخر، وليست بيعاً وإن اشتملت على ردّ؛ لأنّها لا تفتقر إلى صيغةٍ ويدخلها الإجبار في غير تلك الأفراد التي يدخلها الجبر في البيع، ويتقدّر أحد النصيبين بقدر الآخر مع تساويهما، والبيع ليس فيه شيء من ذلك، واختلاف اللوازم والخواص المطلقة يدلّ على اختلاف الملزومات والمعروضات.

وخالف في ذلك بعض العامّة مطلقاً(1)، وفي قسمة الردّ(2)؛ لشبهة أنّ كلّ جزءٍ يُفرض مشترك بينهما، فتخصيص كلّ واحدٍ بجزءٍ معيّن وإزالة ملك الآخر عنه بعوض مقدّر - وهو ملكه في الجزء الآخر - على جهة التراضي يقتضي البيع؛ لأنّ ذلك حدّه.

وهذا إنّما يتمّ على تقدير تسليم كون البيع كذلك، ومنعه واضح، بل له صيغة خاصّة إيجاباً وقبولاً، بخلاف القسمة، ولا يلزم من المشاركة في بعض الأحكام الاتّحاد.

وتظهر الفائدة في الشفعة وفي بطلانها بالتفرّق قبل القبض فيما يعتبر فيه التقابض قبله في البيع، وفي قسمة الوقف من الطلق وخيار المجلس، وغير ذلك.

ص: 161


1- حلية العلماء، ج 8، ص 167 - 168.
2- بدائع الصنائع، ج 7، ص 25؛ المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 11، ص 492، المسألة 8307.

•ولا تصحّ إلّا باتفاق الشركاء.

ثمّ هي تنقسم • فكلّ ما لا ضرر في قسمته يجبر الممتنع مع التماس الشريك القسمة.

_______________________________________

قوله: «ولا تصحّ إلّا باتّفاق الشركاء».

أي لا تصحّ مطلقاً، أو لا تصحّ من أحد الشركاء بدون مراجعة الشريك أو من يقوم مقامه. وإلّا فسيأتي بعده بلا فصل أنّه يُجبر الممتنع على بعض الوجوه، مع أنّ المجبر غير راض، ولقد كان يغني عن هذا الحكم ما بعده؛ لما فيه من الإبهام.

قوله: «فكلّ ما لا ضرر في قسمته يجبر الممتنع مع التماس الشريك القسمة».

لا خلاف في إجبار الممتنع على قسمة ما لا ضرر فيه في الجملة، ولكن اختلفوا في معنى الضرر المانع من الإجبار - ومنه يُعرف قسيمه - على أقوال:

أحدها: نقصان القيمة نقصاناً لا يتسامح فيه عادةً؛ لأنّ فوات الماليّة مناط الضرر في الأموال، ولقوله(صلی الله علیه و آله و سلم) : «لا ضرر ولا ضرار»(1)، وهو عامُّ.

وثانيها: عدم الانتفاع بالنصيب منفرداً؛ لتضمّنه الضرر والحرج وإضاعة المال المنفيّ والمنهيّ عنه (2).

وثالثها عدم الانتفاع به منفرداً فيما كان ينتفع به مع الشركة، مثل أن يكون بينهما دار صغيرة إذا قسمت أصاب كلّ واحدٍ منهما موضع ضيّق لا ينتفع به في السكنى كالأوّل وإن أمكن الانتفاع به في غير ذلك.

وهذا أعمّ من الثاني بحسب الحمل والثاني أعمّ بحسب الاستغراق.

والأقوى اعتبار الأوّل.

ص: 162


1- الكافي، ج 5، ص 280 ، باب الشفعة، ح4، وص 292 - 293 ، باب الضرار ، ح 2، 6 و 8: الفقيه، ج 3، ص 76 ح 3371، وص 233، ح 3862: وج 4، ص 334. ح 5721: تهذيب الأحكام، ج 7، ص 146 - 147، ح 651، وص 164، ح 727.
2- صحیح مسلم، ج 3، ص 1341 ، ح 1715/14 : السنن الكبرى البيهقي، ج 1، ص 104، ح 11341.

•وتكون بتعديل السهام والقرعة، أمّا لو أراد أحد الشركاء التخيّر فالقسمة جائزة ، لكن لا يجبر الممتنع عنها.

____________________________________________

إذا تقرّر ذلك، فمتساوي الأجزاء كالحبوب والأدهان يقسّم قسمة إجبار على جميع الأقوال، ومثله الثياب المتعدّدة المتّحدة في الجنس التي يمكن تعديلها بالقيمة، وكذا الحيوان والعبيد على الأقوى.

والحمّام الضيّق والرحاذات المدار الواحد ونحوهما لا يجوز قسمته قسمة إجبار على الأوّل والثالث. والجوهرة الواحدة الصغيرة لا تقسّم كذلك إجماعاً؛ لعدم الانتفاع بجزئها.

نعم، لو كانت كبيرة بحيث يعتدّ بدخولها في بعض المركّبات من المعاجين المفرّحة والأكحال خرجت من الثاني.

والمراد بالمجبر للممتنع في هذا ونظائره الحاكم الشرعي، ومع تعذّره ففي جواز استبداد

الشريك بها وجه لخبر الإضرار (1).

واعلم أنّ ما لا ضرر في قسمته أعمّ من كونه مشتملاً على ردّ وعدمه، وإنّما يجبر الممتنع ممّا لا ضرر فيه مع عدم اشتماله على الردّ؛ لأنّه حينئذٍ يكون كبيع جزء من المال، ولا يجبر عليه أحدهما، وإدخاله في قسم الضرر غير مصطلح هنا .

قوله: «وتكون بتعديل السهام والقرعة».

أي تكون القسمة الإجباريّة تامّة بذلك. فمتى حصلت القرعة لزمت، سواء كان المتولّي لذلك قاسم الإمام أم المتقاسمين. ولو اشتملت على ردّ وكان القاسم منصوباً، لزمت بها أيضاً، وإلّا توقّفت على تراضيهما بعدها؛ لاشتمالها على المعاوضة، فلا بدّ من لفظ يدلّ عليها، وأقلّه ما دلّ على الرضى.

ص: 163


1- الكافي، ج 5، ص 280 ، باب الشفعة، ح4، وص 292 - 293، باب الضرار، ح 2 الفقيه، ج 3، ص 76، ح 3371 ؛ تهذيب الأحكام، ج 7، ص 146 - 147 ، ح 651، وص 164، ح 727.

• وكلّ ما فيه ضرر كالجوهر والسيف والعضائد الضيّقة لا يجوز قسمته ولو اتّفق الشركاء على القسمة.

• ولا يقسّم الوقف؛ لأنّ الحقّ ليس بمنحصر في المتقاسمين.

_____________________________________

قوله: «وكلّ ما فيه ضرر كالجوهر والسيف والعضائد الضيّقة لا يجوز قسمته» إلى آخره.

قد عرفت معنى الضرر في مثل ذلك، وأمثلة المصنّف له تشمل(1) الأقوال، فإنّ قسمة الجوهرة تزيل القيمة غالباً، والسيف تنقصها والعضائد تفوّت المنفعة بالجزء على الوجه الذي كان ينتفع بها فيه أولاً، فلا يُعلم مختاره من الأقوال، ولكن سيأتي إن شاء الله في كتاب القضاء أنّه يختار كون الضرر نقص القيمة(2) .

وحكمه هنا بعدم جواز قسمة ما يشتمل على الضرر وإن اتّفقا على القسمة غير معروف، وإنّما المعهود الذي ذكره هو في بابه وغيره أنّ القسمة المشتملة على ضرر لا يجبر الممتنع عليها، لكنّها تصحّ بالتراضي، خصوصاً مع تفسيره الضرر بنقصان القيمة، فإنّ مجرّد ذلك لا يبلغ حدّ المنع.

نعم، لو فسّر بعدم الانتفاع أمكن من حيث استلزامها تضييع المال بغير عوض؛ لأنّه إذا لم ينتفع بالأجزاء لا فائدة في القسمة، بل هو محض الإتلاف.

قوله: «ولا يقسم الوقف؛ لأنّ الحق ليس منحصراً في المتقاسمين».

هذا إذا كان الواقف واحداً وإنّما التعدد في الموقوف عليه، كالبطون المتعدّدة، فإنّ الحقّ يتغير بزيادتها ونقصانها، فربما استحقّ بعض بطون المتقاسمين أكثر ممّا ظهر بالقسمة لمورّثهم، وبالعكس، وكذا لو تعدّد الواقف واتَّحد الموقوف عليه، كما لو وقف جماعة على شخص وعلى ذرّيّته وأراد بعض الذرية القسمة؛ لعين ما ذُكر.

أمّا لو تعدّد الواقف والموقوف عليه، كما لو وقف واقف نصف عين على شخص وذريّته. وآخَر على غيره كذلك، جاز للموقوف عليهما الاقتسام بحيث يميّزان كلّ وقف على حدته،

ص: 164


1- كذا في النسخ ، وفي المطبوع والطبعة الحجرية: «لم تشمل».
2- سيأتي في ج 11، ص 214، الثاني في المقسوم.

• ولو كان الملك الواحد وقفاً وطلقاً صحّ قسمته؛ لأنّه يميّز الوقف عن غيره.

_____________________________________

وكذا الذرّيّتهما، دون الذرّيّة الواحدة.

ولو كان التعدّد فيهما على غير هذا الوجه، كما لو وقف اثنان على كلّ واحدٍ من الاثنين، فحكمه حكم المتّحد.

والضابط أنّ الوقف الواحد لا تصحّ قسمته وإن تعدّد الواقف والمصرف، وهو المراد من العبارة.

قوله: «ولو كان الملك الواحد وقفاً وطلقاً صحّ قسمته؛ لأنّه يميّز الوقف عن غيره».

هذا إذا لم تشتمل على ردّ، أو اشتملت وكان الردّ من الموقوف عليه؛ لأنّه زيادة في الوقف.

ولو انعكس الحال لم يصحّ؛ لأنّه كبيع جزء من الوقف.

ثمّ على تقدير الردّ من الموقوف عليه هل يصير جميع حصّته وقفاً، أم يكون ما قابل الردّ من الحصّة ملكاً له لأنّه معاوض عليها؟ احتمالان، والثاني أوجه.

نعم، لو كان في مقابلة الردّ وصف محض كالجودة كان الجميع وقفاً؛ لعدم قبوله للانفصال.

ولا فرق في جواز قسمة الوقف من الطلق بين كون الجميع لواحد ولمختلف.

وهي :مسائل:

ص: 165

الفصل الثالث في لواحق هذا الباب

وهي :مسائل:

الأولى: • لو دفع إنسان دابَّةٌ وآخر راويةً إلى سقّاء على الاشتراك في الحاصل لم تنعقد الشركة، وكان ما يحصل للسقّاء، وعليه أجرة مثل الدابّة والراوية.

_______________________________________

قوله: «لو دفع إنسان دابّه و آخر راويةً إلى سقّاء» إلى آخره.

بطلان هذه الشركة ظاهر ممّا سبق؛ لأنّها مركّبة من شركة الأبدان وشركة الأموال مع عدم مزجه، فتقع باطلة، ولا يكون من صاحب الدابّة والراوية إجارة؛ لأنّ الأجرة غير معلومة، فالحاصل من العمل للسقّاء(1) وللآخرين عليه أجرة مثل ما لهما لذلك العمل.

وهذا يتمّ مع كون الماء ملكاً للسقاء، أو مباحاً ونوى الملك لنفسه، أو لم ينو شيئاً، أمّا لو نواه لهم جميعاً كان كالوكيل، والأقوى أنّهم يشتركون فيه، وتكون أُجرته وأُجرة الراوية والدابّة عليهم أثلاثاً، فيسقط عن كلّ واحدٍ ثلث الأجرة المنسوبة إليه، ويرجع على كلّ واحدٍ بثلث، ويكون في سقيه للماء بمنزلة الوكيل؛ لإذنهم له في التصرّف إن قلنا ببقاء الإذن الضمني مع فساد المطابقي، وإلّا توقّفت المعاوضة على الماء على إجازتهما، فإن أجازا أو قلنا بعدم الافتقار إليها، فالحاصل من العمل بينهم أثلاثاً، ويرجع كلّ واحد على الآخرين بثلث أُجرة نفسه أو ماله.

ص: 166


1- في حاشية «و»: «السقاء ممدود والراوية: المزادة فيها الماء، ذكره في القاموس. (منه رحمه الله)». راجع القاموس المحيط ، ج 4، ص 339، «روي».

الثانية: • لو حاش صيداً، أو احتطب، أو احتشّ بنيّة أنّه له ولغيره لم تؤثّر تلك النيّة، وكان بأجمعه له خاصّةً.

_________________________________________

فلو فرضنا أنّ السقّاء حصل أربعة وعشرين، وكانت أجرة مثله خمسة عشر وأجرة الدابّة اثني عشر والراوية ثلاثة، فلكلّ واحدٍ منهم من الحاصل ثمانية؛ لأنّه عوض ما لهم؛ بناءً على ما اخترناه من جواز التوكيل في حيازة المباح، وسيأتي تحقيقه، ثمّ يرجع السقّاء على كلّ واحدٍ منهما بخمسةٍ، ويرجع صاحب الدابّة على كل واحد بأربعة، وصاحب الراوية بدرهم، فيأخذان من السقّاء خمسةً، ويعطيانه عشرة، يفضل له ثلاثة عشر، ويأخذان من صاحب الدابّة سنّةً ويعطيانه ثمانيةً تبقى معه عشرة، ويأخذان من صاحب الراوية تسعةً ويعطيانه در همين يفضل له من المجموع درهم، فالمجتمع معهم أربعة وعشرون هي الحاصل من عوض الماء، ولو حسكم بالمجموع للسقّاء، ولم يف بأجرة مثل ما لهما غرم لهما الزائد.

وإنّما حَكَم المصنّف هنا بلزوم الأجرة خاصّة؛ لما سيأتي من حكمه بعدم جواز التوكيل في تملّك المباحات.

بعدم

قوله: «لو حاش صيداً أو احتطب أو احتشّ بنيّة أنّه له ولغيره لم تؤثر» إلى آخره.

هذا الجزم إنّما يتمّ لو لم يكن وكيلاً للغير في ذلك، وإلّا أتى الإشكال الذي ذكره في توقّف تملّك المباح على النيّة، فإنّا لو قلنا بتوقّفه وكان وكيلاً ثبت الملك لهما، ولو قلنا بعدم توقفه، ففي ثبوت الملك للمحيز نظر؛ من حصول علّة الملك، وهي الحيازة، فيثبت المعلول، ومن وجود المانع للملك، وهو نيّة عدمه، بل إثباته للغير.

ولا يلزم من القول بعدم توقّف تملك المُحاز على النيّة عدم توقّفه على عدم النيّة الصارفة عن الملك، وإلّا لكان الملك قهريّاً وإن لم يرده ، كالإرث، ولا دليل عليه، وإلّا لكان من نحىّ حَجَراً عن الطريق أو عَطَف غصن شجرةٍ أو حفر حفيرة وشرب منها تملّكها، ولا يجوز لأحد بعده التعرّض له، وهو بعيد جدّاً.

ص: 167

• وهل يفتقر المحيز في تملّك المباح إلى نيّة التملّك؟ قيل: لا، وفيه تردّد.

_____________________________________

ويمكن اندفاع ذلك على تقديره بأن يُعدّ الإعراض عنه بعد ذلك إباحة له للغير، كما لو أعرض عن المال اليسير وبقايا الثمرات والسنبل ونحو ذلك، بل هنا أولى.

وبالجملة، ففي الحكم بملك المحيز بنيّة أنّه له وللغير أجمع نظر على القولين، ولعلّ الأقوى أنّه لا يملك إلّا ما نواه لنفسه، وبقي في الباقي ما سيأتي.

قوله: «وهل يفتقر المحيز في تملّك المباح إلى نيّة التملّك؟ قيل: لا، وفيه تردّد».

منشأ التردّد أنّ اليد سبب للملك، ولهذا تجوز الشهادة به بمجرّدها، ولأنّها سبب في الجملة قطعاً، وإنّما الشكّ في توقّفه على أمر آخر، والأصل عدمه، والأصل عدمه، ومن أصالة عدم الملك في المباح خرج عنه ما حصل بالحيازة والنيّة معاً، فيبقى الباقي، ولحكمهم بأنّ ما يوجد في جوف السمكة التي أصلها الإباحة يكون لواجده مع تحقّق الحيازة له تبعاً لها، وإنّما تخلّفت النيّة؛ لعدم رؤيته.

وأجيب(1) بأنّ ما في بطن السمكة - ممّا لا يُعد جزءاً لها مثل غذائها - لا يُعد محوراً بحيازتها، ولو سلّم فغاية ما يلزم القصد إلى المحوز أو الشعور به ولو تبعاً، لا النيّة.

وفيه نظر؛ لأنّ الأوّل مصادرة محضة؛ إذ لا شكّ في حصول معنى الحيازة لجميع ما صار تحت يده، فكيف يدفع، واشتراط العلم في تحقّق الحيازة غير واضح؛ لأنّ مرجعها إلى الاستيلاء ووضع اليد، فاعتبار أمرٍ آخر لا دليل عليه، ولأنّ أجزاء السمكة الداخلة غير مشعورٍ بها، والقصد إليها هو الذي نسميه نيّةٌ؛ إذ لا يعتبر في النيّة سوى قصد الحيازة لنفسه. والفرق بين الأجزاء وما في الأمعاء وإن حصل - بالقصد إلى الأجزاء إجمالاً، بخلاف ما في الأمعاء - إلّا أنّه ،محوز والنيّة وإن سلّم عدم تعلّقها به لكنّها لم تنصرف عنه بحيث يعدّ معرضاً عنه، فعدم ملكه للمحيز لم يبق له سبب إلّا فوات النيّة.

قيل: لو اشترطت النيّة في حصول الملك لم يصحّ البيع قبلها؛ لانتفاء الملك، والتالي

ص: 168


1- المجيب هو المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 8، ص 50 .

...

__________________________________________

باطل؛ لإطباق الناس على فعله من غير توقّف على العلم بحصول النيّة، حتّى لو تنازعا في كون العقد الواقع بينهما أهو بيع، أم استنقاذ؛ لعدم نيّة الملك؟ قدّم مدّعي الملك(1) .

قلنا: لا يلزم من دلالة اليد على الملك ظاهراً، وجعل الشارع ذلك علامة عليه كونها دليلاً في الواقع، وإنّما جُعلت دليلاً عند اشتباه الحال ليقوم به نظام النوع؛ إذ لولاه لما قام للمسلمين سوق، ومتى عُلم تخلّف الملك عنها انتفى، حتّى لو وضع المحيز يده على شيءٍ غير ناو ملكه، لم يكن فيما بينه وبين الله مالكاً؛ لعدم حصول ما يوجبه، فإنّه لم يقصد الحيازة ولا الملك، وإنّما اتّفق له قبضه بيده، ومع هذا يُحكم له ظاهراً بالملك، فلو قال: إنّي ما نويتُ الملك ولا الحيازة، وإنّما وضعتُ يدي عبثاً، كيف يُحكم له بالملك قهراً؟ هذا ممّا لا دليل عليه، وعلى هذا فالذي أطبق الناس على فعله البناء في اليد على ظاهر الملك، لا الحكم بالملك في نفس الأمر، والكلام إنّما هو في تحقّق الملك للمحيز فيما بينه وبين تعالى لا بحسب الظاهر، وفرق بين الأمرين.

وقد كان الإمام فخر الدين أورد على والده مسألة بيع المحاز قبل نيّة التملّك، فأجابه بأن نيّة البيع تستلزم نيّة التملّك(2). وهو حقٌّ؛ لأن الغرض من هذه النيّة مجرّد قصد الاختصاص، وإرادة البيع دالة عليه.

ونقض بأنّ بيعه لا ينحصر في المباشرة، بل قد يتّفق من الوكيل والوارث الذي لا يعلم بالحال(3).

وجوابه كما تقدّم من أنّ حكم تصرّفهم مبنيُّ على الظاهر وإن كان في نفس الأمر لم يتحقّق الملك، ومثله كثير.

ص: 169


1- قال به المحقُق الكركي في جامع المقاصد، ج 8، ص 50 - 51.
2- إيضاح الفوائد، ج 2، ص 303 .
3- نقضه بذلك المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 8، ص 51 .

...

_______________________________________

وأُورد(1) أيضاً حيازة الصبيّ والمجنون، فإنّهما لا قصد لهما، ولا يعتدّ بإخبارهما.

وجوابه منع ذلك، فإنّ الصبيّ المميّز يعتبر قصده وإخباره في كثير من الأحكام الشرعيّة. وأمّا المجنون فأمره غير منضبط، فإنّ من المجانين من يقصد إلى الاختصاص بما يحوزه، وهو عليه أشدّ حرصاً من كثير من العقلاء، ولا شكّ في حصول الملك لهذا النوع، ومنهم من لا قصد له، وهذا لا يصلح لتملّك المباح بمجرد الحيازة.

وبالجملة، فالحكم في ذلك إن بني على الحكم في نفس الأمر، فمتى لم يحصل القصد إلى الاختصاص بالمباح، فالأصل يقتضي عدم الملك واستصحاب حكم المباح.

هذا بالنظر إلى المحيز نفسه، وأمّا بالنظر إلى غيره، فإذا رأى تحت يده شيئاً من ذلك يحكم

له به ظاهراً، ولا يجوز له تناوله بغير إذنه؛ لأنّ اليد جعلها الشارع دليلاً ظاهراً على الملك.

و من هذا الباب ما نجده في الجبال من الحطب والخشب ونحوهما من المباحات التي قد حصل عليها أثر اليد، فإنّه يُحكم بها لهم؛ عملاً بظاهر اليد، ولا يلتفت فيه إلى أصالة عدم النيّة؛ لأنّ اليد شرعاً حجّة شرعيّة أقوى من هذه الأصالة وغيرها.

وإذا رأينا أشياء تشهد القرائن الحاليّة على أنّ محيزها لم ينو التملّك - كالمقطوع لغرض من الأغراض، كإصلاح طريق وإطعام دابّةٍ، وتُرك لعدم تعلّق الغرض بالباقي - فالأصل فيه البقاء على الإباحة، مع احتمال المنع هنا؛ عملاً بظاهر اليد، وإن كان الفاعل فيما بينه وبين الله تعالى لم يحصل له الملك.

وتظهر الفائدة فيما لو رأى الفاعل أحداً قد حازه بعد ذلك، ففي ظاهر الشرع يقدّم قوله؛ عملاً بظاهر اليد، وفيما بينه وبين الله تعالى لا يجوز له أخذه منه؛ لعدم حصول ما يقتضي الملك.

واعلم أنّ المسألة موضع تردّد لكثير من أكابر الفقهاء ، كالمصنّف على ما رأيتَ،

ص: 170


1- الإيراد من المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 8، ص 51 .

الثالثة: • لو كان بينهما مال بالسويّة فأذن أحدهما لصاحبه في التصرّف على أن يكون الربح بينهما نصفين لم يكن قراضاً؛ لأنّه لا شركة للعامل في مكسب مال الآمر ولا شركة وإن حصل الامتزاج، بل يكون بضاعةً.

الرابعة • إذا اشترى أحد الشريكين متاعاً فادّعى الآخر أنّه اشتراه لهما وأنكر، فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنّه أبصر بنيتّه، ولو ادّعى أنّه اشترى لهما فأنكر الشريك فالقول أيضاً قوله؛ لمثل ما قلناه.

_____________________________________

والشيخ (رحمه الله)(1) والعلّامة في كثير من كتبه(2)، وجماعة آخرين.

وجملة الأقوال فيها ترجع إلى ثلاثة: الاكتفاء بمجرّد الحيازة والافتقار معها إلى النيّة والاكتفاء بالحيازة مع عدم نيّة عدم التملّك، فلو نوى عدمه أثرت ولم تثمر الملك.

وهذه المسألة لا تتعلّق بكتاب الشركة إلا بواسطة مسألة السقاء والصيّاد ونحوهما؛ لأنّها كالمقدمة لهما، فلو ذكرها قبلهما ورتب حكمهما عليها كان أوفق للوضع.

قوله: «لو كان بينهما مال بالسوية فأذن أحدهما لصاحبه - إلى قوله - بل يكون بضاعةً». المراد بالبضاعة هنا المال المبعوث مع الغير ليتجر فيه تبرّعاً.

قال في الصحاح : البضاعة طائفة من مالٍ يبعثها للتجارة، يقول: أبضعته واستبضعته جعلته بضاعة(3) .

وإنّما كان هذا بضاعةً؛ لأنّه لم يشركه في الربح، فلا يكون قراضاً، ولا شركة؛ لأنّه لم يعمل معه، وبناء الشركة على عمل المشتركين فإذا عمل الشريك وحده كان الربح بينهما على نسبة المال، وعمله معه معونةٌ وتبرّعاً؛ لأنّه لم يشرط لنفسه في مقابلته عوضاً.

قوله: «إذا اشترى أحد الشريكين متاعاً فادّعى الآخر أنّه اشتراه لهما لمثل ما قلناه» إلى

آخره.

ص: 171


1- لم نعثر على تردّد للشيخ في المبسوط، راجع ج 2، ص 331؛ وج 3، ص 97.
2- منها قواعد الأحكام، ج 2، ص 330؛ ومختلف الشيعة، ج 6، ص 203، المسألة 156.
3- الصحاح، ج 3، ص 1186، «بضع».

الخامسة: • لو باع أحد الشريكين سلعة بينهما وهو وكيل في القبض، فادّعى المشتري تسليم الثمن إلى البائع وصدّقه الشريك، برئ المشتري من حقّه، وقبلت شهادته على القابض في النصف الآخر - وهو حصّة البائع - لارتفاع التهمة عنه في ذلك القدر.

__________________________________

الوجه في الأولى أنّه وإن كان وكيلاً إلّا أنّه لا يتعيّن عليه العمل بمقتضى الوكالة؛ لأنّها لیست بملازمة، فإذا نوى الشراء لنفسه وقع له، فيُقبل قوله في دعواه نيّة ذلك مع يمينه؛ لأنّه أبصر بنيّته، وإنّما يتوجّه دعوى الشريك عليه إذا جعلها على وجه مسموع بأن يدّعي إقراره بذلك ونحوه، أمّا لو ادّعى الاطّلاع على نيّة ذلك لم يكن مسموعاً؛ لأنّه محال، ولا يمكن معرفته إلّا من قبله.

نعم، لو جعلها تهمةً، اتّجه فيها ما فى دعوى التهمة؛ لأنّها من الأمور الخفيّة.

وأمّا الثانية فإنه وكيل، والوكيل قوله مقبول في الفعل الموكّل فيه، كما سيأتي(1).

قوله: «لو باع أحد الشريكين سلعة بينهما، وهو وكيل - إلى قوله - لارتفاع التهمة».

أمّا براءته من حقّ المقرّ فلاعترافه بوصول حقّه إلى وكيله، وهو البائع، وأمّا قبول شهادته أعني المقرّ - على القابض - أي المدّعى عليه القبض، وهو البائع - في النصف الآخر، وهو نصيب البائع فلعدم التهمة في هذه الشهادة؛ لأنّه لم يشهد لنفسه، بل على شريكه، والشهادة على الشريك مقبولة.

هذا إذا كانت شهادته بقبضه لحصّته خاصّةً، أمّا لو كانت الشهادة بقبض الجميع، ففي قبولها نظر من عدم سماعها في حصّة الشاهد فتبعّض، والشهادة إذا ردّت في بعض المشهود به هل تسمع في الباقى أم لا؟ وجهان.

واعلم أنّ هاهنا دعويين: إحداهما بين المشتري والبائع، والثانية بين الشريكين، والمصنّف ذكر حكم الأولى دون الثانية، مع أنّ الثانية بباب الشركة أولى.

ص: 172


1- يأتي في ص 528 - 529 .

...

______________________________________

أمّا الأُولى فإن تقدّمت فطالب البائع المشتري بنصيبه من الثمن فادّعى وصوله إليه، فإن أقام البيئة برئ من الحقّين، أمّا من حقّ البائع فبالبينة، وأمّا من حقّ الشريك فيها وبالإقرار، وتُقبل هنا شهادة الشريك المقرّ على البائع بالأداء إليه إن كان عدلاً إذا شهد بحصّة البائع خاصّةً لانتفاء التهمة، وفي الشهادة بالجميع ما مرّ.

وإن لم يكن للمشتري بيّنة بالأداء فالقول قول البائع مع يمينه، فإن حلف استحق أخذ نصيبه خاصّة؛ لاعتراف شريكه ببراءة المشتري من حقّه بقبض وكيله له، وبطلان وكالته بفعل متعلّق الوكالة، ولا يشارك الشريك البائع فيما يقبض وإن كان المال في أصله مشتركاً قد حصل بعضه

وتَوِي الباقي ؛ لاعترافه بأنّ هذا المقبوض ظلم، وأن الحقّ في ذمّة البائع بالقبض الأوّل.

ولو نكل البائع عن اليمين رُدّت على المشتري، فإن حلف أنّه أقبضه الجميع انقطعت عنه المطالبة ، وإن نكل ألزم بنصيب البائع وإن لم نقض بالنكول؛ لأصالة بقاء الثمن في ذمّته حيث لم يثبت الأداء لحصّة البائع.

وحيث يثبت الأداء إلى البائع بالبيّنة فللشريك المطالبة بحصّته، لا أن يثبت ذلك بشاهدويمين، أو باليمين المردودة على المشتري، أو بنكول البائع إن قضينا به؛ لأنّ ذلك إنّما يؤثّر في حق المتخاصمين لا في حق غيرهما.

وأمّا الدعوى الثانية بين الشريكين، فإن أقام الشريك البيّنة بقبض البائع طالبه بحقّه، كما مرّ، وإلّا فالقول قوله في عدم القبض، فإن حلف انقطعت عنه الدعوى، وإن نكل أو ردّ اليمين حلف الشريك المقرّ وأخذ منه حصّته، ولا يرجع البائع بذلك على المشتري؛ لاعترافه بظلم الشريك في فعله، ولانقطاع وكالته بفعل متعلّق الوكالة كما مرّ، ولبراءة المشتري من دين الآذن بإقراره، فلا يتحقّق أنّ البائع أدّى دين المشتري فيرجع به.

هذا حكم الخصومتين إذا تقدّمت الأولى، ولو تأخّرت عن الثانية فالحكم كما مرّ، إلّا أنّ الشريك المقرّ لا تُقبل شهادته على البائع؛ لسبق خصومته، وأمّا المشتري فلا تقبل شهادته للمقرّ على التقديرين.

ص: 173

•ولو ادّعى تسليمه إلى الشريك فصدّقه البائع لم يبرأ المشتري من شيء من الثمن؛ لأنّ حصّة البائع لم تسلّم إليه ولا إلى وكيله، والشريك ينكره، فالقول قوله مع يمينه • وقيل: تُقبل شهادة البائع والمنع في المسألتين أشبه.

____________________________________

قوله: «ولو ادّعى تسليمه إلى الشريك فصدّقه البائع - إلى قوله فالقول قوله مع يمينه». النزاع في هذه المسألة مع شريك البائع الآذن في قبض البائع، وهي في مقابلة الأولى. وجملة أحكامها أنّ البائع إمّا أن يكون قد أذن للشريك في قبض حصّته أو لا، وعلى التقديرين فإمّا أن يكون الشريك المدّعى عليه أذن أيضاً للشريك في القبض أو لا.

فإن كان الشريك مأذوناً له في القبض برئ المشتري من حصة البائع؛ لاعترافه بقبض وكيله.

ثمّ يبقى هنا خصومتان كما تقدّم إحداهما بين البائع والشريك، والأخرى بين المشتري

والشريك.

والمصنّف ترك حكم هذا القسم؛ لإمكان استنباطه ممّا تقدّم.

وإن لم يكن مأذوناً له في القبض لم يبرأ المشتري من حصّة البائع، ولم يتوجّه بينهماخصومة؛ لأنّه لم يدفع حصّته إليه ولا إلى وكيله ولا من حصّة الشريك لإنكاره، فيقدّم قوله بيمينه مع عدم البيّنة.

ثمّ إذا طالب البائع بحصّته، فللشريك مشاركته فيه؛ لإنكاره القبض كما في قبض كلّ مشترك، وله أن لا يشاركه ويطالب المشتري بجميع حقّه، فإن شارك سلّم للبائع ربع الثمن خاصّةً، وليس للبائع مطالبة المشتري بعوضه؛ لاعترافه بظلم الشريك له في المشاركة وبراءة ذمّة المشتري وانعزاله عن الوكالة بقبض الشريك، وأمّا الشريك فيستكمل حصّته من المشتري على تقدير المشاركة للبائع؛ لأنّ حقّه منحصر فيهما.

قوله: «وقي: تقبل شهادة البائع والمنع في المسألتين أشبه».

أي تقبل شهادة البائع للمشتري في قبض الشريك منه؛ لعدم التهمة، حيث إنّ الشريك ليس

وكيلاً للبائع، وحق البائع باقي على المشتري على التقديرين، فليست الشهادة متبعّضة كالأولى.

ص: 174

السادسة:• لو باع اثنان عبدين كلّ واحدٍ منهما لواحدٍ منهما بانفراده - صفقةً بثمن واحدٍ مع تفاوت قيمتهما، قيل: يصحّ، وقيل: يبطل؛ لأنّ الصفقة تجري مجرى عقدين، فيكون ثمن كلّ واحدٍ منهما مجهولاً.

____________________________________

نعم، لو كان الشريك مأذوناً في القبض تبعّضت، إلّا أنّه غير مفروض المصنّف.

ووجه ما اختاره من المنع أنّه وإن لم يكن شريكاً له فيما ،قبضه إلّا أنّ الشهادة تجرّ نفعاً من حيث إنّه إذا قبض نصيبه بعد ذلك يسلم له، ولا يشاركه فيه؛ بناء على استحقاق المشاركة إذا لم يثبت القبض، وهذا هو الأشهر.

ولو قلنا بأنّ الشريك يتمكّن من قبض حقّه من المشترك بانفراده قبلت شهادته؛ إذ لا تهمة حينئذٍ، وسيأتي الكلام في ذلك.

وأشار بقوله «في المسألتين» إلى شهادة البائع في هذه والشريك في السابقة، وقد تقدّم

ما يدلّ على وجه المنع في السابقة، وأنّه يحتاج إلى تفصيل.

قوله: «لو باع اثنان عبدين كلّ واحد منهما لواحد منهما بانفراده» إلى آخره.

القول بالبطلان للشيخ (رحمه الله)؛ لأنّه مع تفاوت قيمتهما يصير ثمن كلّ واحدٍ منهما مجهولاً؛ إذ لا يعرف إلّا بالتقسيط ، والقسط لم يكن معلوماً حال العقد(1) ، وحيث كانا لمالكين فهما بمنزلة مبيعين في عقدين.

ويضعّف بأنّ الثمن إنّما وقع في مقابلة المجموع وهو معلوم، والتقسيط الحكمي لا يقتضي التقسيط لفظاً، والجهالة إنّما تتطرّق بالاعتبار الثاني دون الأوّل، ولهذا لو كان المبيع عبداً واحداً ولأحدهما فيه حصّة والباقي للآخر، ولم يعلم حصّة كلّ واحدٍ منهما، صحّ بيعه صفقةً واحدةً وإن اختلف العوض وجهل ما يخصّ كلّ واحد منهما، وكونهما في حكم العقدين لا يقتضي كونهما عقدين حقيقة، ولهذا لو فسخ في أحدهما تعيّن عليه ردّ الآخر، وليس كذلك لو كانا عقدين، فالقول بالصحّة أوضح.

ص: 175


1- المبسوط، ج 2، ص 341؛ الخلاف، ج 3، ص 335 - 336، المسألة 13.

• أمّا لو كان العبدان لهما أو كانا لواحد جاز.

•وكذا لو كان لكلّ واحدٍ قفيز من حنطة على انفراده فباعاهما صفقة؛ لانقسام الثمن عليهما بالسويّة.

السابعة: • قد بيّنّا أنّ شركة الأبدان باطلة، فإن تميّزت أُجرة عمل أحدهما عن صاحبه اختصّ بها، وإن اشتبهت قسّم حاصلهما على قدر أجرة مثل عملهما، وأُعطي كلّ واحدٍ منهما ما قابل أُجرة مثل عمله.

____________________________________

وقد تقدّم البحث في نظير ذلك من البيع(1) فيما إذا باع ما يملك وما لا يملك في عقدٍ واحدٍ. قوله: «أمّا لو كان العبدان لهما أو كانا لواحد جاز».

لزوال المانع المذكور، حيث إنّهما لا يحتاجان إلى تقسيط الثمن عليهما، بل يقتسمانه على نسبة الحصص، وكذا لو كانا لواحدٍ مع أنّ ذلك التقسيط لو أثّر لأمكن تطرّقه هنا لو عرض لأحدهما ما يبطل البيع، كما لو خرج مستحقّاً أو حُرّاً، فإنّ البيع في نفس الأمر إنّما وقع على المملوك، ولا يعلم قسطه من الثمن.

والوجه في الجميع أنّ ثمن المبيع عند العقد معلوم، والتوزيع لاحق، فلا يقدح.

قوله: «وكذا لو كان لكلّ واحدٍ قفيز من حنطة على انفراده» إلى آخره.

ومثله ما لو كان العبدان متساويي القيمة، فإنّ الشيخ (رحمه الله) إنّما مَنَع من المختلفين

بسبب جهالة ثمن كلّ واحدٍ منهما(2)، وقد نبّه عليه المصنّف بقوله «مع تفاوت قيمتهما».

قوله: «قد بيّنّا أنّ شركة الأبدان باطلة - إلى قوله - أجرة مثل عملهما».

لا إشكال في اختصاص كلّ منهما بأجرته مع تميّزها أجمع، وكذا لو تميّز بعضها اختصّ به، وإنّما الإشكال مع اشتباه الحال، وقد اختار المصنّف هنا قسمة الحاصل على قدر أُجرة مثل عملهما؛ نظراً إلى أنّ الغالب العمل بأجرة المثل، وأنّ الأُجرة تابعة للعمل ؛ ومثله قسمة

ص: 176


1- تقدم في ج 3، ص 66.
2- المبسوط ، ج 2، ص 341 .

الثامنة • إذا باع الشريكان سلعةً صفقةً ثمّ استوفى أحدهما منه شيئاً شاركه الآخَر فيه.

_____________________________________

ثمن ما باعاه مشتركاً بينهما على ثمن مثل ما لكلّ منهما، وعلى هذا لو تميّز بعض حقّ كلّ واحد منهما أو أحدهما ضمّ إلى الباقي في اعتبار النسبة وإن اختصّ به مالكه.

وفي المسألة وجهان آخران ذكرهما العلّامة:

أحدهما: تساويهما في الحاصل من غير نظر إلى العمل؛ لأصالة عدم زيادة أحدهما على الآخر، ولأنّ الأصل مع الاشتراك التساوي، ولصدق العمل على كل واحد منهما، والأصل عدم زيادة أحد العملين على الآخر، والحاصل تابع للعمل.

ويضعّف بمنع كون الأصل في المال أو العمل التساوي، بل الأصل هنا يرجع إليه؛ لأنّ زيادة مال شخص أو عمله على آخر ونقصانه ومساواته له ليس أصلاً، لا بحسب العادة ولا في نفس الأمر، وإنّما يتمّ ذلك لو اشتركا في سبب مملّك كالإقرار والوصيّة والوقف ويشتبه الحال، فهنا يمكن الرجوع إلى الأصل؛ لاشتراكهما في أصل السبب، والأصل عدم التفاوت؛ لأنّ إثبات الزيادة لأحدهما يتوقّف على أمر زائد في لفظ الإقرار أو الوصيّة أو الوقف ونحو ذلك، والأصل عدمه، بخلاف ما نحن فيه؛ لأنّ أحد العملين غير الآخر، والاحتمال قائم في تفاوتهما وتساويهما على حدّ سواء.

وأيضاً ما ذكره من تعليله وارد فيما لو امتاز لأحدهما أكثر عمله واشتبه بعضه بمجموع مال الآخر، فإنّ أصالة عدم زيادة أحد المالين على الآخر وارد فيه، فيلزم اتّحاد الحكم عند اشتباه الجميع واشتباه جزء يسير منه، وهو باطل.

والوجه الثاني: الرجوع إلى الصلح؛ لأنّه طريق إلى تيقّن البراءة، كما في كلّ مال مشتبه(1) .

ولا شبهة في أنّه أولى مع اتّفاقهما عليه وإلّا فما اختاره المصنّف أعدل من التسوية.

قوله: «إذا باع الشريكان سلعةً صفقةً ثمّ استوفى أحدهما منه شيئاً شاركه الآخر فيه».

ص: 177


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 326.

...

______________________________________

موضع البحث ما إذا كان بين شريكين فصاعداً دين مشترك بسبب كون سببه واحداً، كبيع سلعة وميراث وإتلاف ونحو ذلك، والمصنّف فرضه في بيع الشريكين سلعة صفقة ليناسب باب الشركة بالمعنى الثاني، فإنّها عقد يقتضي التصرّف بالبيع ونحوه ممّا يستثمر الربح.

واحترز بقوله «صفقة» عمّا لو باع كلّ واحدٍ منهما نصيبه بعقد، وإن كان العقدان لواحد، فإنّهما لا يشتركان فيما يقبضه أحدهما عن حقّه إجماعاً.

ولا فرق في الصفقة بين كون المشتري واحداً ومتعدداً؛ لأنّ الموجب للشركة العقد الواحد على المال المشترك.

إذا تقرّر ذلك، فلكلّ من الشريكين في المال المذكور مطالبة المشتري بحقّه من الدين، فإذا استوفاه شاركه الآخر فيه على ما اختاره المصنّف والشيخ (1)وأكثر الأصحاب، وهو مروي من طرقهم في عدّة أخبار(2)، إلّا أنّها قاصرة عن الاستدلال بها؛ لإرسال بعضها، وضعف الآخر، وعدم صراحة المطلوب في بعضها.

وعلّلوه مع ذلك بأنّ كلّ جزء من الثمن مشترك بينهما، فكلّ ما حصل منه كان بينهما.

وذهب ابن إدريس إلى أنّ لكلّ واحدٍ منهما أن يقبض حقّه ولا يشاركه الآخر فيه ؛محتجّاً بأنّ لكلّ واحدٍ منهما أن يبرئ الغريم من حقّه ويهبه ويصالح على شيء منه، دون الآخر، ومتى أبرأه برئ من حقّه وإن بقي حقّ الآخر، وكذا إذا صالح عليه، فكما لا يشارك من وهب وصالح للمستوفي الآخر، كذا لا يشاركه هو لو استوفى، ولأنّ متعلّق الشركة بينهما كان هو العين وقد ذهبت ولم يبق عوضها إلّا دين في ذمّته، فإذا أخذ أحدهما حقّه منه لم يكن قد أخذ عيناً من أعيان الشركة، بل من أمر كلّي في الذمّة لا يتعيّن إلّا بقبض المالك

ص: 178


1- المبسوط، ج 2، ص 344: الخلاف، ج 3، ص 336 ، المسألة 15.
2- الفقيه، ج 3، ص 35 - 36 ، ح 3278، وص 97 - 98 ، ح 3409؛ تهذيب الأحكام، ج 6، ص 195 ، ح 430 ،وص 207، ح 477، وص 212 ، ح 500 : وج 7، ص 185 - 186 . ح 818-821 .

...

____________________________________

أو وكيله، وهنا ليس كذلك؛ لأنّه إنّما قبض لنفسه(1) .

ولا يخفى ضعف الملازمة السابقة، وأمّا دليله الثاني فلا بأس به، ويعضده وجوه أُخَرَ :

منها: أنّه إن وجب الأداء بالمطالبة بحقّه وجب أن لا يكون للشريك فيه حقٌّ، لكنّ المقدّم

حقُّ اتّفاقاً فالتالي مثله.

بيان الملازمة أنّ وجوب الأداء بالمطالبة بحصّة الشريك فرع التمكّن من تسليمها؛ لاستحالة التكليف بالممتنع ، فإذا ثبت تمكّنه من دفعها على أنّها للشريك ودفعها كذلك، امتنع أن يكون للشريك الآخر فيها حقُّ.

ومنها: أنّه لو كان للشريك في المدفوع حق لزم وجه قبح، وهو تسلّط الشخص على قبض مال غيره بغير إذنه.

ومنها أنّه لو كان كذلك لوجب أن يبرأ الغريم من مقدار حقّه من المدفوع؛ لاستحالة بقاء الدين في الذمّة مع صحّة قبض عوضه، لكنّ التالي باطل عندهم؛ لأنّهم يحكمون بكونه مخيراً في الأخذ من أيهما شاء.

ومنها: أنّه لو نهاه الشريك عن قبض حقّه، فإن تمكّن من المطالبة بحصّته وجب أن لا يكون للشريك فيها حقٌّ، وإلّا امتنع أخذ حقّه بمنع الشريك إيّاه.

ومنها: أنّ المقبوض إمّا أن يكون مالاً مشتركاً أو لا، فإن كان مشتركاً وجب على تقدير تلفه أن يتلف منهما كسائر أموال الشركة، وتبرأ ذمّة الغريم منه، وإلّا لم يكن للشريك فيه حقُّ. وعندي في هذه الوجوه كلّها نظر؛ لأنّها إنّما ترد لو جعلنا حقّ الشريك متعيناً في المقبوض على جهة الشركة، والأمر عند القائل به ليس كذلك.

ص: 179


1- السرائر، ج 2، ص 402 - 403.

...

_________________________________________

و تحقيق الحال أنّ حقّهما لمّا كان في الذمّة أمراً كلّيّاً لم ينحصر في فرد من أفراد مال المديون إلّا بقبض المستحقّ أو وكيله، فإذا طالب أحد الشركاء فلا شبهة في استحقاقه ذلك؛ لأنّ الأصل في مستحقّ الدين أن يتسلّط على تحصيله، ومن ثمّ أجمعوا هنا على أنّ له المطالبة منفرداً، كما أجمعوا على أنّ الشريك إذا لم يختر مشاركته يختصّ بما قبض وحينئذٍ فإذا أقبضه المديون شيئاً معيناً من ماله فقد تراضي هو والقابض على حصر بعض هذا الأمر الكلّي في الفرد المقبوض والحال أنّ ما في الذمّة - وهو الأمر الكلّي - مشترك بين الشريكين، فللشريك الآخر إجازة هذا التخصيص في الفرد المعيّن فيشارك فيه، وأن لا يجيزه فيطالب المديون بحقّه؛ لأنّ حق التعيين لا يتمّ إلّا برضاه، وحينئذٍ فيتعيّن المعيّن أوّلاً لقابضه، وهذا هو الوجه في تخييرهم بين المشاركة ومطالبة المديون بحقّه.

فإن قيل: إذا كان تعيين الكلّي المشترك متوقّفاً على رضى الشريكين فيجب أن يبطل حقّ الشريك القابض من المقبوض أيضاً؛ لأنّ الكلّي لم يصحّ حصره في المعيّن بسبب عدم رضى الشريك، فكيف يتعيّن بالنسبة إلى واحدٍ دون واحد، مع استحالة الترجيح بغير مرجّح؟!

قلنا: المرجّح هنا موجود، وهو أنّ القابض قد رضي بتعيين حقّه أجمع في المعيّن، لكنّه كان موقوفاً على عدم اختيار الشريك مشاركته، والحال أنّه ليس مجموع ما في الذمّة حتّى يحكم ببطلانه بسبب تعلّق حق الشريك بالتعيين، وإنّما هو بقدر حقّه، فإذا لم يختر الشريك مشاركته فيه انحصر حقّه فيه؛ لقدومه على ذلك في ابتداء القبض، وإنّما توقّف على أمر وقد حصل، وبقي القدر الآخر باقياً في ذمّة المديون للشريك، ومن هنا وجب على الغريم الدفع إليه؛ لأنّه بقدر حقّه، وأمره يؤول إلى انحصاره فيه أو فيه وفي شريكه، وكلاهما يجب الدفع إليه، والشريك وإن لم يجب الدفع إليه قبل المطالبة إلّا أنّ هذا المدفوع لم يجب دفعه لأجله، بل لأجل الشريك المطالب، وإنّما تجب مشاركة الغريم الآخر بمطالبته.

ص: 180

...

______________________________________

والحاصل أنّ الحقّ لمّا كان قد تعيّن باختيار المالك وقبض الغريم، وإنّما كان موقوفاً على أمر الشريك، فإذا لم يرض به تحقّق شرط التعيين للقابض، واستقرّ ملكه على المقبوض ، وبهذا يندفع جميع الوجوه المذكورة.

إذا تبيّن ذلك، فنقول: هذا المقبوض - على المذهب المشهور - نصفه يكون ملكاً للقابض تاماً؛ لتعيّنه له على التقديرين، بل على القولين فنماؤه قبل اختيار الشريك له، وتلفه عليه، وأمّا النصف الآخر فهو مقبوض بيده لنفسه قبضاً متزلزلاً مراعىّ باختيار الشريك الرجوع بحصّته على المديون فيتمّ، أو مشاركته له فينتقل ملكه إليه، فإن اختار الرجوع على المديون تبيّن ملك القابض له بالقبض، وتبعه النماء، وإن اختار أخذه، ففي ملكه له من حين قبضه أو قبض شريكه الأوّل احتمالان، ولعلّ الثاني أوجه؛ لأنّه حينئذٍ يكون بمنزلة عقد الفضولي، فيتبيّن بإجازته انتقال الملك من حين العقد، لا من حين الإجازة، وأمّا تلفه قبل اختيار الشريك فهو من القابض على التقديرين؛ لقدومه على ضمانه، ولعموم: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» (1)أو إطلاقها.

واعلم أنّ القابض لو أراد الاختصاص بالمقبوض بغير إشكال فليبع حقّه للمديون على وجه يسلم من الربا بثمن معيّن، فيختصّ به، ومثله الصلح عليه، بل أولى بالجواز.

وكذا لو أبرأه من حقّه واستوهب عوضه، أو أحال به على المديون بما عليه وكان كالقبض.

وإنّما يأتي الخلاف في ذلك مع حلول الحقّين معاً، فلو كان حقّ أحدهما مؤجلاً، إمّا بالعقد الأوّل أو باشتراطه في عقد لازم لم يشارك الآخر فيما قبض قبل حلول الأجل؛ لأنّه لا يستحق الآن شيئاً، وتمكّنه من تأجيله يقتضى جواز قبض الحصّة منفردة؛ لاستلزامه تميّز حصّته من حصة الآخر.

ص: 181


1- تقدم تخريج مصادره في ص 50 الهامش 1.

التاسعة: • إذا استأجر للاحتطاب أو الاحتشاش أو الاصطياد مدّة معيّنةً صحّت الإجارة، ويملك المستأجر ما يحصل من ذلك في تلك المدّة.

______________________________________

وكذا لو ضمن ضامن لأحد الشريكين حصّته، فإنّ الضمان صحيح؛ لتناول الأدلّة له، فيختصّ بأخذ المال المضمون من الضامن، وهو يقتضي إمكان أخذ الحصّة منفردة عن الأخرى، كما تقدّم.

وبالجملة، فالقول باختصاص القابض لا يخلو من قوّة وإن كان الوقوف مع المشهور أولى.

قوله: «إذا استأجر للاحتطاب أو الاحتشاش أو الاصطياد مدّة معيّنةً» إلى آخره.

جواز الاستئجار على تحصيل ذلك ونحوه من المباحات يبنى على ما سلف من أنّ تملّكها هل يكفى فيه مجرّد الحيازة أم لا بدّ معها من نيّة التملّك ؟ فإن اكتفينا بالحيازة لم يصحّ الاستئجار عليها ولا التوكيل فيها؛ لأنّ المستناب يملكها بمجرّد الحيازة، فلا يتصوّر ملك المستأجر والموكّل لها، وإن قلنا بافتقاره إلى النيّة صحّ الاستئجار والتوكيل أيضاً: لأنّ الملك لمّا كان تابعاً للنيّة فإذا نوى تملك غيره مع كونه نائباً له صحّ، وكذا يصح على القول بعدم اعتبار النيّة، بل يعتبر أن لا ينوي ما ينافي الملك، كما اختاره بعض الأصحاب(1) ، وحينئذٍ فإذا نوى بذلك المستأجر صحّ ومَلَك المستأجر.

والمصنف (رحمه الله) جزم هنا بالصحّة مع تردّده فيما سبق في اشتراط النيّة، فهو إمّا رجوع إلى الجزم باعتبارها بعد التردّد، أو اختيار للقول الأخير الذي حكيناه، فإنّه لا ينافي عدم اشتراط النيّة .

وبقي في المسألة بحث آخر، وهو أنّه على القول بصحّة الإجارة على أحد القولين إنّما یقع الملك للمستأجر مع نيّة الأجير الملك له، أو مع الإطلاق على القول الآخر، أمّا مع نيّة الملك لنفسه فيجب أن يقع له؛ لحصول الشرط على جميع الأقوال، واستحقاق المستأجر(2) منافعه تلك المدّة لا ينافي ذلك؛ فإنّه لا يقصر عمّا لو عمل عملاً لغير المستأجر، فإنّه يقع

ص: 182


1- جامع المقاصد، ج 8، ص 52.
2- في «ق» زيادة: «بغير ما عيّن له في عقد الإجارة».

• ولو استأجره لصيد شيءٍ بعينه لم يصحّ؛ لعدم الثقة بحصوله غالباً.

_________________________________

حسب ما أوقعه، ولكن يثبت للمستأجر عليه أجرة المدة تلك المدّة التي فوّت فيها العمل، على تفصيل يأتي(1) في ذلك إن شاء الله تعالى، فليكن هنا كذلك.

وربما فُرّق بين عمله لنفس ما استؤجر على فعله وغيره، ففي الأوّل يكون الجميع للمستأجر؛ لاستحقاقه إيّاه بالعقد، بخلاف ما إذا عمل في مدّة الإجارة، غير ما استأجره عليه، فإنّه حينئذٍ يتخيّر كما فصّل، وفي الفرق نظر.

قوله: «ولو استأجره لصيد شيءٍ بعينه لم يصحّ؛ لعدم الثقة بحصوله غالباً».

لمّا كان ضابط المستأجر عليه كونه مقدوراً للأجير حيث يقصد منه مباشرته، فلا يصحّ الاستئجار لتحصيل صيدٍ معيّن مالك لأمره؛ لأنّ مثل ذلك لا يُعد مقدوراً موثوقاً به عادة، بخلاف الصيد المطلق، فإنّ العادة قاضية بإمكانه؛ إذ لابدّ من القدرة على شيءٍ منه كيف اتّفق غالباً.

ص: 183


1- يأتي في ص 417.

ص: 184

كتاب المضاربة

وهو يستدعي بيان أُمور أربعة:

_____________________________________

كتاب المضاربة

هي مفاعلة من الضرب في الأرض؛ لأنّ العامل يضرب فيها للسعي على التجارة وابتغاء الربح بطلب صاحب المال، فكأنّ الضرب مسبّب عنهما، طرداً لباب المفاعلة في طرفي الفاعل، أو من ضرب كلّ منهما في الربح بسهم، أو لما فيه من الضرب بالمال وتقليبه.

ويقال للعامل: مضارب - بكسر الراء - لأنّه الذي يضرب في الأرض ويقلّبه، ولم يشتقّ أهل اللغة لربّ المال من المضاربة اسماً، وهذه لغة أهل العراق.

وأمّا أهل الحجاز فيسمّونه قراضاً، إمّا من القرض وهو القطع، ومنه المقراض؛ لأنّه يقرض به، فكأنّ صاحب المال اقتطع من ماله قطعة وسلّمها للعامل، أو اقتطع له قطعةً من الربح، أو من المقارضة، وهي المساواة والموازنة، يقال: تقارض الشاعران إذا وازن كلّ منهما الآخر بشعره، ومنه قيل: قارض الناس ما قارضوك فإن تركتهم لم يتركوك (1)يريد ساوهم فيما يقولون، ووجهه أنّ المال هنا من جهة مالكه والعمل من جهة العامل، فقد تساويا في قوام العقد بهما، أو لاشتراكهما في الربح وتساويهما في أصل استحقاقه وإن اختلفا في كمّيّته، ويقال منه للمالك «مقارِض» بالكسر ، وللعامل «مقارَض» بالفتح.

ص: 185


1- لسان العرب، ج 7، ص 217، «قرض».

[الأمر الأوّل] في العقد

•وهو جائز من الطرفين، لكلّ واحدٍ منهما فسخه، سواء نضّ المال أو كان به عروض.

• ولو اشترط فيه الأجل لم يلزم لكن لو قال: إن مرّت بك سنة، مثلاً فلا تشتر بعدها وبع صحّ؛ لأنّ ذلك من مقتضى العقد

_____________________________________

واعلم أنّ مَنْ دفع إلى غيره مالاً ليتجر به، فلا يخلو إمّا أن يشترطا كون الربح بينهما أو لأحدهما ، أو لا يشترطا شيئاً ، فإن شرطاه بينهما فهو قراض، وإن شرطاه للعامل فهو قرض، وإن شرطاه للمالك فهو بضاعة، وإن لم يشترطا شيئاً فكذلك إلا أن للعامل أُجرة المثل.

وعقد القراض مركب من عقودٍ كثيرة؛ لأن العامل مع صحّة العقد وعدم ظهور ربح ودعيّ أمين، ومع ظهوره شريك ، ومع التعدي غاصب، وفي تصرّفه وكيل ، ومع فساد العقد أجير.

قوله: «وهو جائز من الطرفين ... سواء نضّ المال أو كان به عروض».

لا خلاف في كون القراض من العقود الجائزة من الطرفين، ولأنّه وكالة في الابتداء، ثمّ قد يصير شركةً، وهُما جائزان أيضاً.

والمراد بإنضاض المال صيرورته دراهم أو دنانير كما كان أوّلاً، وتعلّق العروض به بالنظر إلى أصله، وإلا فالعروض أيضاً مال، فلو قال: «أو كان عروضاً» كان أقعد.

قوله: «ولو اشترط فيه الأجل، لم يلزم لكلّ واحد منهما فسخه من مقتضى العقد».

أي لم يلزم العقد مدّة الأجل بل يصحّ فسخها قبله، ولكن العقد والشرط صحيحان، أمّا الشرط ففائدته المنع من التصرّف بعده؛ لأنّ التصرّف تابع للإذن، ولا إذن بعده، وأمّا العقد فلأنّ الشرط المذكور لم يناف مقتضاه؛ إذ ليس مقتضاه الإطلاق.

وكذا القول في قوله «إن مرّت بك سنة فلا تشتر» لأنّ أمر البيع والشراء منوط بأمر المالك، فله المنع منهما بعد السنة، فمن أحدهما أولى.

ومثله ما لو عكس بأن قال: «لا تبع واشتر» وإنّما لم يذكره؛ لأنّ البيع هو المقصود في هذا الباب لجلب الربح وتحصيل الإنضاض.

ص: 186

• وليس كذلك لو قال: على أنّي لا أملك فيها منعك؛ لأنّ ذلك منافٍ لمقتضى العقد.

• ولو اشترط أن لا يشتري إلّا من زيد، أو لا يبيع إلّا على عمر و صحّ، وكذا لو قال: على أن لا يشتري إلا الثوب الفلاني، أو ثمرة البستان الفلاني، سواء كان وجود ما أشار إليه عاماً أو نادراً.

______________________________________

قوله: «وليس كذلك لو قال: على أنّي لا أملك فيها منعك؛ لأنّ ذلك منافٍ لمقتضى العقد».

لأنّ مقتضاه أنّ لكلّ من المتعاقدين ،فسخه، كما هو شأن العقود الجائزة، فإذا شرط ما ينافيه فسد العقد لفساد الشرط.

قوله: «ولو شرط أن لا يشتري إلّا من زيد، أو لا يبيع إلّا على عمر و صحّ» إلى آخره.

لا خلاف عندنا في جواز هذه الشروط ولزومها وإن ضاقت بسببها التجارة، وإطلاق النصوص(1) دالُّ عليه.

ونبّه به على خلاف بعض العامّة؛ حيث منع من اشتراط ما يكون وجوده نادراً أو مضيقاً (2).

وحيث يقع التعيين على أحد الوجوه فخالف العامل ضمن المال، لكن لو ربح كان الربح بينهما على ما شرطاه، سواء في ذلك المخالفة في النوع وفي السفر وفي جهته؛ لصحيحة الحلبي(3) ومحمد بن مسلم(4) ، وغيرهما (5)عن الباقر والصادق(علیهما السلام) ، ولو لا النصّ لكان مقتضى

ص: 187


1- الكافي، ج 5، ص 240 و 241، باب ضمان المضاربة... . ح 1 و 2 و 7: الفقيه، ج 3، ص 227، ح 3845؛ تهذيب الأحكام، ج 7، ص 187 ، ح 827 و 828، وص 189، ح 835 - 837، وص 190، ح 838، وص 191، ح 843 و 844 و 846، وص 193، ح 853 و 854: الاستبصار، ج 3، ص 126 ، ح 451.
2- المهذب الشيرازي، ج 1، ص 506: العزيز شرح الوجيز، ج 1، ص 13: روضة الطالبين ، ج 4، ص 201؛ المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 5، ص 184، المسألة 3705؛ الشرح الكبير المطبوع مع المغني، ج 5، ص 125 - 126.
3- تهذيب الأحكام، ج 7، ص 190، ح 838 .
4- تهذيب الأحكام، ج 7، ص 189، ح 836 .
5- تهذيب الأحكام، ج 7، ص 193، ح 853 .

•ولو شرط أن يشتري أصلاً يشتركان في نمائه، كالشجر أو الغنم قيل: يفسد؛ لأنّ مقتضاه التصرّف في رأس المال، وفيه تردّد.

_________________________________________

لزوم الشرط فساد ما وقع مخالفاً أو موقوفاً على الإجازة.

قوله: «ولو شرط أن يشتري أصلاً يشتركان في نمائه إلى قوله - وفيه تردّد».

أي مقتضى عقد المضاربة أو مقتضى القراض الذي هو رديفها التصرّف في رأس المال بالبيع والشراء وتحصيل الربح بالتجارة، وهذا ليس كذلك؛ لأنّ فوائده تحصل بغير تصرّف. بل من عين المال.

ووجه الصحّة أنّه حصل بسعي العامل؛ إذ لو لا شراؤه لم يحصل النماء، وذلك من جملة الاسترباح بالتجارة.

ويضعّف بأنّ الحاصل بالتجارة هو زيادة القيمة لما وقع عليه العقد، لا نماؤه الحاصل مع بقاء عين المال، وبأنّ المضاربة تقتضي معاوضتين إحداهما بالشراء والأخرى بالبيع، وأقلّ ما تتحقّقان بمرّةٍ، وبهما يظهر الربح والإنضاض والمضاربة تدلّ على ملك العامل لهما بالمطابقة وعلى كلّ واحدٍ بالتضمّن فمنعه من أحدهما مخالف لمقتضاها.

فإن قيل: هلا كان ذلك كتقييد المالك عليه في الشراء المعيّن، أو من معيّن، أو البيع عليه،

ونحو ذلك ممّا كان يدخل في إطلاقها وبالتقييد خرج، ولم يناف ذلك مقتضاها.

قلنا: الفرق بينهما حصول أصل المقتضى وهو البيع والشراء وتحصيل الربح بما ذُكر، وإنّما قيّد موضوعها، بخلاف المتنازع، فإنّ المقتضى لم يتحقّق أصلاً، كما بيّنّاه.

وعلى القول بالفساد يصحّ الشراء المذكور بالإذن، ويكون النماء الحاصل بأجمعه للمالك؛ لأنّه نماء ملكه، وعليه أجرة المثل للعامل.

واعلم أنّ المنع إنّما هو في حصر الربح في النماء المذكور، كما تقتضيه هذه المعاملة، وإلّا فلا يمتنع كون النماء بينهما، ويحتسب من جملة الربح على بعض الوجوه، كما إذا اشترى شيئاً له غلّة فظهرت غلّته قبل أن يبيعه، فإنّها تكون بينهما من جملة الربح، إلّا أنّ الربح لم يحصراه فيها؛ لإمكان تحصيله من أصل المال أيضاً.

ص: 188

•وإذا أذن له في التصرّف، تولّى بإطلاق الإذن ما يتولّاه المالك من عرض القماش والنشر والطيّ، وإحرازه، وقبض الثمن، وإيداعه الصندوق، واستئجار مَنْ جرت العادة باستئجاره، كالدلّال والوزّان والحمّال؛ عملاً بالعرف ولو استأجر للأوّل ضمن الأجرة، ولو تولّى الأخير بنفسه لم يستحق أجرةً

_______________________________________

قوله: «ولو أذن له في التصرّف تولّى بإطلاق الإذن إلى قوله - لم يستحق أُجرةً».

المراد بالإذن في التصرّف هنا إطلاق عقد المضاربة؛ إذ لا يفتقر العامل معها في جواز التصرّف إلى إذنٍ آخَر، وكان حقّه أن يقول: ولو أطلق العقد تولّى العامل بالإطلاق ما ذُكر.

وحاصل ذلك أنّ المضاربة لمّا كانت معاملة على المال للاسترباح، كان إطلاق العقد مقتضياً لفعل ما يتولّاه المالك في التجارة بنفسه من عرض القماش على المشتري، ونشره، وطيه، وإحرازه، وبيعه، وقبض ثمنه، وإيداعه الصندوق، ونحو ذلك، وهذا النوع لو استأجر عليه فالأجرة عليه خاصّةً؛ حملاً للإطلاق على المتعارف ، أمّا ما جرت العادة بالاستئجار عليه، كالدلالة والحمل، ووزن الأمتعة الثقيلة التى لم تجر عادة التاجر بمباشرتها بحسب حال تلك التجارة من مثل ذلك التاجر ، فله الاستئجار عليه؛ حملاً على المعتاد أيضاً. ولو عمل هذا النوع بنفسه لم يستحق أجرةً؛ لأنّه متبرّع في ذلك.

ولو قصد بالعمل الأجرة كما يأخذ غيره، توفيراً على نفسه وتوسّعاً في المكسب، ففي استحقاقه لها وجه، خصوصاً على القول بأنّ للوكيل في البيع أن يبيع من نفسه وفي الشراء أن يشتري من نفسه، فيكون للوكيل في الاستئجار أن يستأجر نفسه، ولكن إطلاق المصنّف والجماعة يقتضي العدم ولو أذن له المالك في ذلك فلا إشكال.

والمراد بقوله «واستئجار من جرت العادة باستئجاره» مثل الدلّال ومن ذكر معه؛ لأنّ «من» موضوعة لمن يعقل، ولو قال: «الاستئجار لما جرت العادة بالاستئجار له» كان أشمل، ليشمل مثل استئجار الدابّة؛ إذ لا يدخل في عموم «من» ويدخل فيما ذكرناه، وإطلاق الاستئجار على مالكها مجاز بعيد.

ص: 189

•وينفق في السفر كمال نفقته من أصل المال على الأظهر.

___________________________________________

قوله: وينفق في السفر كمال نفقته من أصل المال على الأظهر».

المراد ب_«كمال النفقة» نفقة السفر أجمع، واحترز به عن القدر الزائد عن نفقة الحضر، فإنّ القول الآخر أنّه لا ينفق من المال سواه؛ للإجماع على أنّ نفقة الحضر على نفسه، فما ساواه في السفر يحتسب عليه أيضاً والزائد على القراض.

وقيل: إنّ جميع نفقة السفر على نفسه كنفقة الحضر.

والأقوى الأول؛ لصحيحة علي بن جعفر، عن أخيه موسى(1) ، قال في المضاربة: «ما أنفق في سفره فهو من جميع المال وإذا قدم بلده فما أنفق فمن نصيبه»(2)، و«ما» للعموم.

ووجه الثاني أنّه إنّما حصل بالسفر الزيادة لا غير، أمّا غيرها فسواء كان مسافراً أم حاضراً لا بدّ منها، فلا يكون السفر علّة فيه.

ووجه الثالث أنّ الربح مال المالك، والأصل أن لا يتصرّف فيه إلّا بما دلّ عليه الإذن. ولم يدلّ إلّا على الحصّة التي عينها له، وهو لم يدخل إلا عليه، فلا يستحقّ سواه.

والأقوى الأوّل: عملاً بالنصّ الدال عليه، وهو مع ذلك أشهر بين الأصحاب.

إذا تقرّر ذلك، فالمراد بالسفر هنا العرفي لا الشرعي، وهو ما يجب فيه التقصير فلو كان قصيراً أو أقام في الطويل وأتمّ الصلاة فنفقة تلك المدّة على المال.

نعم، يجب الاقتصار منه على ما يحتاج إليه للتجارة، فلو أقام زيادةً عنه فنفقته عليه خاصةً. والمراد بالنفقة ما يحتاج إليه فيه من مأكول وملبوس ومشروب ومركوب و آلات ذلك كالقربة والجوالق، وأجرة المسكن، ونحو ذلك، ويراعي فيها ما يليق بحاله عادةً على وجه الاقتصاد، فإن أسرف حسب عليه، وإن قتر لم يحتسب له؛ لأنّه لم ينفق ذلك.

وإذا عاد من السفر فما بقي من أعيان النفقة ولو من الزاد يجب ردّه إلى التجارة، أو تركه وديعةً إلى أن يسافر، إذا كان ممّن يتكرّر سفره ولم يكن بيعه أعود على التجارة من تركه.

ولو شرط فيه عدم النفقة لزم الشرط للعامل، فلا ينفق، ولو أذن له بعد ذلك فهو تبرّع

ص: 190


1- (عیله السلام)
2- الكافي، ج 5، ص 241 ، باب ضمان المضاربة.... 5: تهذيب الأحكام، ج 7، ص 191، ح 847 .

•ولو كان لنفسه مال غير مال القراض فالوجه التقسيط.

___________________________________

محض، ولو شرطها فهو تأكيد على القول بثبوتها، ومخرج من الخلاف.

وهل يشترط تعيينها حينئذٍ؟ وجه قوي؛ حذراً من الجهالة في الشرط الذي هو جز العقد، بخلاف ما تناوله إطلاق العقد بإذن الشارع، خصوصاً على القول بعدمها.

وينبّه عليه اشتراط نفقة الأجير حيث لا يثبت على المستأجر.

ويحتمل على القول بثبوتها عدم وجوب ضبطها؛ لثبوتها ب-دون الشرط، فلا يزيد الاشتراط على الثابت بالأصل.

ولا يعتبر في النفقة ثبوت ربح، بل ينفق ولو من أصل المال إن لم يكن ربح وإن قصر المال.

نعم، لو كان ربح فهي منه مقدّمة على حق العامل.

وإنّما ينفق في سفر مأذون فيه، فلو سافر إلى غيره، إمّا بتجاوز المأذون أو إلى غير جهته فلا نفقة له وإن كانت المضاربة ثابتة.

ومؤونة المرض والموت في السفر محسوبتان على العامل خاصّةً؛ لأنّهما لم يتعلّقا بالتجارة.

قوله: «ولو كان لنفسه مال غير مال القراض فالوجه التقسيط».

وجه التقسيط ظاهر؛ لأنّ السفر لأجلهما فنفقته عليهما.

وهل التقسيط على نسبة المالين أو نسبة العملين؟ وجهان أجودهما الأوّل؛ لأنّ استحقاق النفقة في مال المضاربة منوط بالمال، ولا نظر إلى العمل.

ثم إن قلنا بوجوب كمال النفقة على مال المضاربة فالتقسيط كما ذكرناه، وإن قلنا إنّما تجب النفقة الزائدة فالتقسيط لتلك الزيادة خاصّةً عليهما، والباقي على ماله.

وربما قيل هنا بعدم ثبوت شيء على مال المضاربة.

وهو ضعيف؛ لوجود المقتضي في الموضعين.

ولو كان معه قراض آخَر لغير صاحب الأوّل وُزّعت النفقة عليهما أيضاً على قدر المالين أو العملين، كما مرّ.

ص: 191

•ولو أنفق صاحب المال مسافراً فانتزع المال منه فنفقة عوده من خاصّته.

• وللعامل ابتياع المعيب والردّ بالعيب، والأخذ بالأرش، كلّ ذلك مع الغبطة.

•ويقتضي إطلاق الإذن البيع نقداً بثمن المثل من نقد البلد.

___________________________________

ولا فرق في ذلك بين أن يكون قد شرطها على كلّ واحدٍ منهما أو أطلق بل له نفقة واحدة عليهما على التقديرين؛ لأنّ ذلك منزّل على اختصاص المشروط عليه بالعمل.

هذا مع جهل كلّ واحدٍ منهما بالآخر، أمّا لو علم صاحب القراض الأول بالثاني، وشرط على ماله كمال النفقة جاز واختصّت به ولا شيء على الثاني.

قوله: «ولو أنفق صاحب المال مسافراً، فانتزع المال منه فنفقة عوده من خاصّته».

لأنّ النفقة سفراً إنّما استحقت بالمضاربة وقد ارتفعت بالفسخ، ولا غرر عليه؛ لدخوله على عقد يجوز فسخه كل وقت.

ونبّه بذلك على خلاف بعض العامّة، حيث أثبت له نفقة الرجوع؛ لأنّه استحقّها حين السفر (1)، وهو ممنوع.

قوله: «وللعامل ابتياع المعيب، والردّ بالعيب، والأخذ بالأرش، كل ذلك مع الغبطة».

الفرق بينه وبين الوكيل - حيث لا يسوغ له شراء المعيب - أنّ الغرض الذاتي هنا الاسترباح، وهو يحصل بالصحيح و المعيب، فلا يتقيد بالصحيح، وعلى تقدير شرائه جاهلاً بالعيب يتخيّر من الأمرين - الردّ أو الإمساك بالأرش - ما فيه الغبطة بالنظر إلى التجارة، فقد يكون الردّ أغبط، وقد يكون أخذ الأرش، فلذلك يتخيّر بينهما، بخلاف الوكيل، فإنّ شراءه ربما كان للقنية، والمعيب لا يناسبها غالباً، فحمل الإطلاق على الصحيح عملاً بالمتعارف.

قوله: «ويقتضي الإطلاق الإذن في البيع نقداً بثمن المثل من نقد البلد».

لمّا كان إطلاق عقد المضاربة محمولاً على المتعارف في التجارة والمحصل للأرباح، وجب قصر تصرّف العامل على ما يحصل به الغاية، فله البيع نقداً لا نسيئة؛ لما فيها من التغرير بمال

ص: 192


1- العزيز شرح الوجيز، ج 1، ص 33 روضة الطالبين، ج 4، ص 214.

كتاب المضاربة

• ولو خالف لم يمض إلا مع إجازة المالك • وكذا يجب أن يشترى بعين المال.

_______________________________________

المالك، وبثمن المثل لا بدونه؛ للتضييع مع القدرة على تحصيل الزائد، والأمر فيهما واضح.

وأما البيع بنقد البلد فالإطلاق في الوكالة منصرف إليه، وهو في معنى الوكالة، فمن ثمّ أطلقه المصنّف وقبله الشيخ(1) وجماعة(2) .

لكن قد عرفت أنّ المضاربة تفارق الوكالة في بعض المطالب؛ لأنّ الغرض الأقصى منها تحصيل الربح، وهو قد يكون بغير نقد البلد، كالعروض والأقوى جوازه بها مع الغبطة.

واحترز به عمّا لو أذن له في شيء من ذلك خصوصاً أو عموماً ، ک_«تصرّف كيف شئت أو بحسب رأيك ونظرك» ونحو ذلك، فإنّه يجوز له البيع بالعرض قطعاً(3). أمّا النقد وثمن المثل فلا يخالفهما إلّا بالتصريح. نعم، يستثنى من ثمن المثل نقصان ما يتسامح الناس فيه عادةً.

قوله: «ولو خالف لم يمض إلّا مع إجازة المالك».

إذا خالف ما دلّ عليه اللفظ بخصوصه أو إطلاقه لم يقع التصرّف باطلاً؛ بناءً على جواز بيع الفضولي، لكن يقف على إجازة المالك، فإن أجاز نفذ.

ثمّ إن قدر على تحصيل النسيئة، وإلّا ضمن الثمن؛ لثبوته بالبيع الصحيح، لا القيمة، وإلّا وجب الاسترداد مع إمكانه، ولو تعذّر ضمن قيمة المبيع أو مثله، لا الثمن المؤجَّل وإن كان أزيد، ولا التفاوت في صورة النقيصة؛ لأنّه مع عدم إجازة البيع يقع باطلاً، فيضمن للمالك عين ماله الذي تعدّى فيه وسلّمه من غير إذن شرعي.

وفي المسألة احتمالات أُخر مدخولة.

قوله: «وكذا يجب أن يشتري بعين المال».

لما في شرائه في الذمّة من احتمال الضرر؛ إذ ربما يتلف رأس المال فتبقى عهدة

ص: 193


1- المبسوط، ج 2، ص 614- 615.
2- منهم ابن حمزة في الوسيلة، ص 264: ويحيى بن سعيد في الجامع للشرائع، ص 317 .
3- في حاشية «و»: «من عجيب ما اتفق للعلامة في التذكرة في هذه المسألة أنه ذكرها في ورقة واحدة خمس مرات، وأفتى في ثلاث منها بجواز البيع بالعرض وفي اثنين بعدمه. فتأمل (منه رحمه الله)». وراجع تذكرة الفقهاء، ج 17، ص 18 - 20 ، البحث الثالث في رأس المال.

• ولو اشترى في الذمّة لم يصحّ البيع إلّا مع الإذن. • ولو اشترى في الذمّة لا معه، ولم يذكر المالك تعلّق الثمن بذمّته ظاهراً.

•ولو أمره بالسفر إلى جهة فسافر إلى غيرها، أو أمره بابتياع شيء معيّن فابتاع غيره ،ضمن ولو ربح والحال هذه كان الربح بينهما بموجب الشرط.

______________________________________

الثمن متعلّقة بالمالك، وقد لا يقدر عليه، أو لا يكون له غرض في غير ما دفع، ولأنّ المقصود من العقد أن يكون ربح المال بينهما، ولا يكون ذلك إلّا إذا اشترى بالعين؛ لأنّ الحاصل بالشراء في الذمّة ليس ربح هذا المال.

قوله: «ولو اشترى في الذمّة لم يصحّ البيع إلّا مع الإذن».

أي لم يقع لازماً، فأطلق الصحّة على اللزوم، بل يقع موقوفاً على إجازته، ويمكن أن يريد بالإذن ما يشمل الإجازة، ويريد بالصحة معناها المتعارف، والأوّل أعرف.

قوله: «ولو اشترى في الذمة لا معه، ولم يذكر المالك تعلّق الثمن بذمّته ظاهراً».

هذا إذا لم يذكر المالك في الشراء لفظاً، وإلّا بطل العقد مع عدم إجازته.

ولو ذكره نيّةً خاصةً، وقع للعامل ظاهراً كما ذكر، ووجب عليه التخلّص باطناً من حق البائع. وسيأتي إن شاء الله في الوكالة تحقيق ذلك(1).

ولو لم يذكره لفظاً ولا نية وقع له ظاهراً وباطناً.

قوله: «ولو أمره بالسفر إلى جهة فسافر إلى غيرها إلى قوله - بموجب الشرط».

المراد أنّ المضاربة لا تبطل بهذه المخالفة وإن وجب الضمان والإثم في التصرّف غير المأذون، والربح بينهما على حسب الشرط؛ للنصوص الصحيحة(2) الدالة عليه، وإلّا لتوجه الإشكال إلى صحّة الابتياع المخالف؛ لوقوعه بغير إذن، فينبغي أن يكون فضوليّاً.

وكأنّ السبب في ذلك أنّ الغرض الذاتي في هذه المعاملة هو الربح، وباقي التخصيصات

ص: 194


1- يأتي في ص 505، الفصل الرابع في شرائط الوكيل.
2- الكافي، ج 5، ص 240 ، باب ضمان المضاربة.... ح 1 و 2؛ الفقيه، ج 3، ص 227 ، ح 3845؛ تهذيب الأحكام. ج 7، ص 187 ، ح 827، وص 189 - 190، ح 835 - 838 و ص 193 . ح 853 .

•وموت كلّ واحدٍ منهما يبطل المضاربة؛ لأنّها فى المعنى وكالة.

___________________________________________

عرضيّة لا تؤثّر في فساد المعاوضة المخالفة؛ لحصول المقصود بالذات.

وبالجملة، فالمستند النصُّ الصحيح، وعمل الأصحاب به.

ويجب تقييد المخالفة في جهة السفر بما إذا بيع المتاع في تلك الجهة بما يوافق قيمته في الجهة المعينة أو يزيد، فلو كان ناقصاً بما لا يتغابن بمثله لم يصحّ، كما لو باع بدون ثمن المثل. واعلم أنّ العامل لا يجوز له السفر مطلقاً بدون إذن المالك عندنا، سواء كان الطريق مخوفاً أم آمناً؛ لما فيه من التغرير في الجملة المنافي للاكتساب؛ لقول النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم»: «المسافر وماله لعلى قَلَتٍ إلّا ما وقى الله»(1)، أي على هلاك. وحيث يأذن له فيه فإن أطلق تخيّر في الجهات، وإن عيّن له جهةً تعيّنت كما ذكر وعبارة المصنّف خالية عن تحريم السفر مطلقاً بغير إذنه، فلذلك نبهنا عليه.

قوله: «وموت كلّ منهما يُبطل المضاربة؛ لأنّها في معنى الوكالة »(2).

لمّا كان هذا العقد من العقود الجائزة بطل بما يبطل به من موت كل منهما، وجنونه، وإغمائه، والحجر عليه للسفه؛ لأنّه متصرف في مال غيره بإذنه فهو كالوكيل.

ولا فرق بين حصول ذلك قبل التصرّف وبعده، ولا بين أن يكون قد ظهر ربح وعدمه.

ثم إن كان الميت المالك، وكان المال ناضّاً لا ربح فيه أخذه الوارث، وإن كان فيه ربح اقتسماه، وتقدّم حصّة العامل على جميع الغرماء؛ لملكه لها بالظهور، فكان شريكاً للمالك ولأنّ حقه متعلّق بعين المال دون الذمّة، وإن كان المال عرضاً فللعامل بيعه إن رجا الربح، وإلا فلا، وللوارث إلزامه بالإنضاض إن شاء مطلقاً.

وسيأتي الكلام في ذلك في مسألة الفسخ ؟(3).

ص: 195


1- الجامع لأحكام القرآن، ج 5، ص 151 ذيل الآية 29 من سورة النساء (4)؛ النهاية في غريب الحديث والأثر. ج 4. ص 98. «قلت».
2- كذا في النسخ. وفي المتن «في المعنى وكالة» وهو الأنسب.
3- يأتي في ص 223 وما بعدها.

[الأمر] الثاني في مال القراض

• ومن شرطه أن يكون عيناً، وأن يكون دراهم أو دنانير ، • وفي القراض بالنقرة تردّد.

_________________________________________

وإن كان الميت العامل، فإن كان المال ناضّاً ولا ربح أخذه المالك. وإن كان فيه ربح دفع إلى الورثة حصتهم منه ولو كان هناك متاع واحتيج إلى البيع والتنضيض، فإن أذن المالك للوارث فيه جاز، وإلّا نصب له الحاكم أميناً يبيعه، فإن ظهر فيه ربح أوصل حصّة الوارث إليه، وإلّا سلّم الثمن إلى المالك. وحيث حكم ببطلان المضاربة بالموت وأريد تجديدها مع وارث أحدهما اشترط في الثانية شروط الأولى، من إنضاض المال والصيغة وغيرهما.

قوله: «ومن شرطه أن يكون عيناً، وأن يكون دراهم أو دنانير».

اشتراط ذلك في المال موضع وفاق، نقله في التذكرة(1) ، وهو العمدة.

وعُلّل مع ذلك بأنّ ما في الذمة لا بد من تحصيله أوّلاً، ولا يجوز ضمّ عمل إلى التجارة، وأنّ المضاربة معاملة تشتمل على غرر؛ إذ العمل مجهول، والربح غير متيقّن الحصول، وإنّما سُوّغت هذه المعاملة مع ذلك للحاجة، فتختص بما تسهل التجارة به وتروّج في كلّ وقتٍ

وحالٍ، وهو النقدان .

ولا يخفى أنّ إثبات الحكم بمثل هذه التعليلات بعيد، والعمدة على نقل الإجماع.

قوله: «وفي القراض بالنقرة تردّد».

النقرة - بضمّ أوّله - القطعة المذابة من الذهب والفضّة.

ومنشأ التردّد فيها من عدم كونها دراهم ودنانير الذي هو موضع الوفاق، ومن مساواتها لهما في المعنى، حيث إنّها من النقدين وإنّما فاتها النقش ونحوه، وانضباط قيمتها بهما، وأصالة الجواز، وهذا كلّه مندفع بما ذكرناه من اتّفاقهم على اشتراط أحدهما، ومع ذلك

ص: 196


1- تذكرة الفقهاء، ج 17، ص 18، المسألة 201.

•ولا يصح بالفلوس ولا بالورق المغشوش، سواء كان الغش أقل أو أكثر،• ولا بالعروض.

____________________________________

لا نعلم قائلاً بجوازه بها، وإنما ذكرها المصنّف متردداً في حكمها، ولم ينقل غيره فيها خلافاً، وإذا كانت المضاربة حكماً شرعياً فلابد من الوقوف على ما ثبت الإذن فيه شرعاً، وربما أطلقت النقرة على الدراهم المضروبة من غير سكّة، فإن صحّ هذا الاسم كان التردّد من حيث إنّها قد صارت دراهم ودنانير، وإنّما تخلّفت السكة، وهي وصف في النقدين ربما لا يقدح، خصوصاً إذا تعومل بها على ذلك الوجه، وممّا تقدّم من وجوه المنع.

قوله: «ولا يصح بالفلوس ولا بالورق المغشوش، سواء كان الغش أقلّ أو أكثر».

هذا إذا لم يكن متعاملاً بالمغشوش فلو كان معلوم الصرف بين الناس جازت به المعاملة، وصح جعله مالاً للقراض، سواء كان الغش أقلّ أم أكثر.

قوله: «ولا بالعُروض».

العروض - بضمّ العين - جمع عَرْض - بفتحها ساكن الوسط، ويحرّك - وهو المتاع وكلّ شيء سوى النقدين، ذكره في القاموس(1)، وعلى هذا كان يستغني بذكرها عما تقدّم منعه؛ لدخوله فيها، ولكن حكى الجوهري عن أبي عبيد أنّ العُروض هي الأمتعة التي لا يدخلها كيل ولا وزن، ولا يكون حيواناً ، ولا عقاراً (2). وحينئذٍ فلا تشمل الفلوس ولا النقرة، إلا أنّ المعنى الأوّل أنسب بالمقام.

ويمكن أن يكون وجه تخصيص تلك الأفراد ما فيها من شبهة الجواز.

وعدم جواز المضاربة بالعُروض موضع ،وفاق، وعُلّل مع ذلك بأنّه لا يتحقق فيها الربح؛ لأنّه ربما ارتفعت قيمتها فيدخل الربح في أصل المال أو يستغرقه، وربما نقصت قيمتها فيصير رأس المال ربحاً والاعتماد على الاتّفاق.

ص: 197


1- القاموس المحيط، ج 2، ص 346، «عرض».
2- الصحاح، ج 2، ص 1083، «عرض».

•ولو دفع آلة الصيد كالشبكة بحصّة فاصطاد كان للصائد، وعليه أُجرة الآلة.

• ويصح القراض بالمال المشاع، ولا بدّ أن يكون معلوم المقدار •ولا تكفى المشاهدة، وقيل: يصحّ مع الجهالة، ويكون القول قول العامل مع التنازع في قدره.

_______________________________________

قوله: «ولو دفع آلة الصيد كالشبكة بحصّة فاصطاد كان للصائد، وعليه أجرة الآلة».

وذلك لفساد المضاربة بمخالفة مقتضاها؛ فإنّ مقتضاها تصرّف العامل في رقبة المال وهنا ليس كذلك، وليس بشركة؛ لأنّه مركب من شركة الأبدان وغيرها، ولتميّز مال صاحب الشبكة، ولا بإجارة، وهو ظاهر، وحينئذٍ فالحكم بكون الصيد للصائد مبني على عدم تصوّر التوكيل في تملّك المباح، وإلّا كان الصيد لهما على حسب ما نواه الصائد، وقد سبق الكلام على نظيره(1) ، ويبعد بناؤه على أنّ العامل لم ينو بالتملّك إلّا نفسه؛ لأنّ ظاهر الحال دخوله على الشركة، وحيث يكون الصيد لهما فعلى كل منهما من أجرة مثل الصائد والشبكة بحسب ما أصابه من الملك. ولو كان المدفوع إليه بدل الشبكة دابّة ليحمل عليها ويُركب بالأجرة والحاصل بينهما، فالحاصل بأجمعه لصاحب الدابّة، وعليه أجرة مثل العامل، ولم تصحّ المعاملة أيضاً؛ لعين ما ذكر.

والفرق بين الشبكة والدابّة - في كون الحاصل لصاحب الدابّة دون مسألة الشبكة - أنّ الأجرة تابعة للعمل، والعمل في الدابّة حاصل منها، وفي الصيد من الصائد، والشبكة تبع العمله، كما أنّ التسبب بحمل الدابّة وعملها تابع لها، فيكون الحاصل للعامل. ولا مدخل هنا للنيّة، كما في مسألة الصيد.

قوله: «ويصحّ القراض بالمال المشاع».

لأن المشاع معيّن في نفسه، وجامع لباقي الشرائط، فيصحّ القراض به، ولا فرق بين أن يكون عقده واقعا مع الشريك وغيره.

قوله: «ولا تكفي المشاهدة وقيل: يصحّ مع الجهالة» إلى آخره.

ص: 198


1- سبق في ص 166.

• ولو أحضر مالين وقال: قارضتك بأيهما شئت، لم ينعقد بذلك قراض، • وإذا أخذ من مال القراض ما يعجز عنه ضمن.

_______________________________________

القولان للشيخ (رحمه الله)، الأوّل في الخلاف(1) ، والثاني في المبسوط (2). ومنشأ الاختلاف من زوال معظم الغرر بالمشاهدة، وبقاء الجهالة والأصحّ الأوّل.

وحكى في المختلف عن الشيخ القول بجواز المضاربة بالجزاف من غير تقييدٍ بالمشاهدة. وقوّاه في المختلف؛ محتجّاً بالأصل، وقوله(صلی الله علیه و آله و سلم) : «المؤمنون عند شروطهم»(3).

ولا إشكال في أنّ القول قول العامل مع يمينه في قدره، سواء صحّت المعاملة أم لا؛ لأنّه منكر، وحينئذٍ فتفريع قوله «ويكون» على الصحّة مع المشاهدة باعتبار أنّه إذا لم يصحّ لا يدفع إليه المال غالباً، فلا يقع التنازع ، لكن لو فرض كان حكمه كذلك.

وكذا لو اختلفا في قدره في غير هذه الصورة.

قوله: «ولو أحضر مالين وقال: قارضتك بأيّهما شئت، لم ينعقد بذلك قراض».

لانتفاء التعيين الذي هو شرط في صحّة العقد.

ولا فرق في المالين بين كونهما متساويين جنساً وقدراً ومختلفين، خلافاً لبعض العامّة؛ حيث جوّزه مع التساوي (4).

قوله: «وإذا أخذ من مال القراض ما يعجز عنه ضمن».

هذا مع جهل المالك بعجزه؛ لأنّه مع عجزه يكون واضعاً يده على المال على غير الوجه المأذون فيه؛ لأنّ تسليمه إليه إنّما كان ليعمل فيه، فكان ضامناً.

وهل يكون ضامناً للجميع، أو للقدر الزائد على مقدوره؟ قولان، من عدم التميّز، والنهي

ص: 199


1- الخلاف، ج 3، ص 469، المسألة 17.
2- المبسوط، ج 2، ص 643 .
3- تقدم تخريجه في ص 18، الهامش 1.
4- العزيز شرح الوجيز ، ج 6، ص 9 روضة الطالبين، ج 4، ص 199.

•ولو كان له في يد غاصب مال فقارضه عليه صحّ، ولم يبطل الضمان، فإذا اشترى به، ودفع المال إلى البائع برئ؛ لأنّه قضى دَيْنه بإذنه.

_________________________________

عن أخذه على هذا الوجه، ومن أنّ التقصير بسبب الزائد فيختصّ به، والأوّل أقوى.

وربما قيل: إنّه إن أخذ الجميع دفعةً فالحكم كالأوّل، وإن أخذ مقدوره ثمّ أخذ الزائد ولم يمزجه به ضمن الزائد خاصّةً.

ويشكل بأنّه بعد وضع يده على الجميع عاجز عن المجموع من حيث هو مجموع، ولا ترجيح الآن لأحد أجزائه؛ إذ لو ترك الأوّل وأخذ الزيادة لم يعجز.

ولو كان المالك عالماً بعجزه لم يضمن؛ إمّا لقدومه على الخطر، أو لأنّ علمه بذلك يقتضي الإذن له فى التوكيل.

وحيث يثبت الضمان لا يبطل العقد به؛ إذ لا منافاة بين الضمان وصحّة العقد، والمراد العجز عن التصرّف في المال وتقليبه في التجارة، وهذا يحصل حال العقد، فمن ثمّ فرّق بين علم المالك وجهله.

ولو كان قادراً فتجدّد العجز وجب عليه ردّ الزائد عن مقدوره؛ لوجوب حفظه وهو عاجز عنه، وإمكان التخلّص منه بالفسخ فلو لم يفسخ ضمن وبقي العقد، كما مرّ.

قوله: «ولو كان له في يد غاصب مال فقارضه عليه صحّ - إلى قوله - قضى دينه بإذنه».

قد تقدّم البحث في نظير هذه المسألة في باب الرهن(1) ، وأنّ وجه بقاء الضمان أنّه كان حاصلاً قبل ولم يحصل ما يزيله؛ لأنّ عقد القراض لا يلزمه عدم الضمان، فإنّه قد يجامعه بأن يتعدّى، فلا ينافيه، ولقوله(صلی الله علیه و آله و سلم) : على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي»(2)، و«حتّى» لانتهاء الغاية، فيبقى الضمان إلى الأداء، إمّا على المالك أو على من أذن له، والدفع إلى البائع مأذون فيه، فيكون من جملة الغاية.

ص: 200


1- تقدّم في ج 3، ص 406 .
2- راجع تخريجه في ص 50، الهامش 1.

ولو كان له دين لم يجز أن يجعله مضاربةً إلّا بعد ،قبضه • وكذا لو أذن للعامل في قبضه من الغريم ما لم يجدّد العقد.

___________________________________

واستقرب العلّامة(1) زوال الضمان هنا وتبعه ولده في الشرح(2) ؛ لأنّ القراض أمانة، فصحّة عقده يوجب كون المال أمانةً؛ لأنّ معنى الصحّة ترتّب الأثر ، ولانتفاء علّة الضمان؛ لزوال الغصب، ولأنّه أذن في بقائه في يده.

وفيه نظر؛ لأنّ معنى كون القراض أمانةً من حيث إنّه قراض، وذلك لا ينافي الضمان من حيثية أخرى، كما لو كان غصباً، فإنّ الضمان قد يجامعه، كما إذا تعدّى العامل، ولا يلزم من انتفاء علّة الثبوت ثبوت علّة الزوال، وأمّا اقتضاء العقد الإذن في القبض فضعفه ظاهر؛ لأنّ مجرّد العقد لا يقتضي ذلك، وإنّما يحصل الإذن بأمرٍ آخر، ولو حصل سلّمنا زوال الضمان، كيف والعلّامة قد صرّح في التذكرة بأنّ كون المال في يد العامل ليس شرطاً في صحّة القراض، فلو قال المالك: أنا أبقي المال في يدي وأدفع الثمن كلّما اشتريت متاعاً صحّ(3) .

وربما قيل بعدم زوال الضمان وإن أذن له في قبضه بعد ذلك؛ لما تقدّم من الأدلّة.

ويضعّف بأنّه حينئذٍ وكيل محض وإن كان له في القبض ،مصلحة؛ لأنّه حينئذٍ كالوكيل بجُعْلٍ.

ولو أسقط عنه الضمان أو قبضه ثمّ ردّه فلا إشكال في الزوال، كما أنّه لو دفعه ثمناً إلى البائع زال إجماعاً.

قوله: «وكذا لو أذن للعامل في قبضه من الغريم، ما لم يجدّد العقد».

لأنّه لا يخرج بالإذن عن كونه دَيْناً، لكن يقع القبض عن المالك، فلو اشترى به بعد ذلك كان فضوليّاً ؛ لفساد عقد القراض.

وقوله «ما لم يجدّد العقد» أي بعد القبض، فإنّه حينئذٍ يقع صحيحاً، وفيه إشارة إلى صحّة القبض وإن كان مترتّباً على عقد فاسد.

ص: 201


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 334 .
2- إيضاح الفوائد، ج 2، ص 308 .
3- تذكرة الفقهاء، ج 17، ص 32، المسألة 209 .

فروع:

•لو قال: «بع هذه السلعة فإذا نضّ ثمنها فهو قراض» لم يصحّ؛ لأنّ المال ليس بمملوك عند العقد.

• ولو مات ربّ المال وبالمال متاع فأقّره الوارث لم يصحّ؛ لأنّ الأوّل بطل، ولا يصحّ ابتداء القراض بالعُروض.

_________________________________

قوله: «لو قال: «بع هذه السلعة فإذا نض ثمنها فهو قراض» لم يصحّ؛ لأنّ المال ليس بمملوك عند العقد».

المراد ب_«المال» الثمن الذي يصحّ به القراض، وعدم مملوكيتّه واضح؛ إذ لا يحصل إلّا بعقد البيع، ولأنّه مجهول، وقد تقدّم أنّ المال المجهول لا يصحّ به، ولأنّ العقد معلق على شرط فلا يصحّ كالبيع؛ خلافاً لبعض العامّة؛ حيث جوّزه كذلك(1).

قوله: «ولو مات ربّ المال وبالمال متاع فأقره الوارث لم يصح؛ لأن الأول بطل،ولا يصح ابتداء القراض بالعروض».

المراد: أقره بعقد مستأنف، سواء كان بلفظ التقرير أم غيره، والمانع من الصحة كون المال عُروضاً ، وهذا التقرير قراض جديد؛ لبطلان الأوّل بالموت، حيث إنّه من العقود الجائزة، والمالك الآن غير العاقد.

ولو كان المال نقداً صحّ تجديده قطعاً، لكن هل يصح بلفظ التقرير؟ قيل: لا؛ لأنّه يؤذن باستصحاب الأوّل وإمضائه؛ لأنّ ظاهره تركتك وأقررتك على ما كنت عليه، والحال أنّه قد بطل.

والأقوى الصحّة إن استفاد من اللفظ معنى الإذن؛ لأنّ عقد القراض لا ينحصر في لفظ، كغيره من العقود الجائزة، والتقرير قد يدلّ عليه.

ص: 202


1- في حاشية «و»: «هو أبو حنيفة حيث جعله قراضاً بعد البيع؛ لأنّ القراض في معنى الإذن، ويجوز تعليقه على شرط (منه رحمه الله). راجع المبسوط السرخسي ، ج 22، ص 35.

•ولو اختلفا في قدر رأس المال فالقول قول العامل مع يمينه؛ لأنّه اختلاف في المقبوض.

• ولو خلط العامل مال القراض بماله بغير إذن المالك خلطاً لا يتميّز ضمن؛ لأنّه تصرّف غير مشروع.

____________________________________

قوله: «ولو اختلفا في قدر رأس المال فالقول قول العامل مع يمينه» إلى آخره.

لا فرق في ذلك بين كون المال باقياً وتالفاً بتفريطٍ ؛ لاشتراك الجميع في المقتضي، وهو أصالة عدم الزائد، وبراءة ذمّة العامل منه وإليه أشار المصنّف بقوله «لأنّه اختلاف في المقبوض»؛ لأنّ المالك يدّعي أنّه أقبضه الزائد وهو ينكره، والأصل عدمه.

وأولى بالحكم ما لو كان تالفاً بتفريط، فإنّ العامل حينئذ غارم، والقول قوله في القدر.

هذا كله إذا لم يكن قد ظهر ربح، وإلّا ففي قبول قوله إشكال من جريان التعليل المذكور، وهو الظاهر من إطلاق المصنّف، ومن اقتضاء إنكاره لزيادة رأس المال توفير الربح، فتزيد حصّته منه، فيكون ذلك في قوّة اختلافهما في قدر حصّته منه، مع أنّ القول قول المالك فيه بيمينه، ولأنّه مع بقاء المال الأصل يقتضي كون جميعه للمالك إلى أنّ يدل دليل على استحقاق الزائد، ومع تلفه بتفريط فالمضمون قدر مال المالك، وإذا كان الأصل استحقاق المالك لجميعه قبل التلف إلا ما أقرّبه للعامل فالضمان تابع للاستحقاق، وهذا هو الأقوى

وربما قيل(1) : بأنّ القول قول المالك إلّا مع التلف بتفريط مطلقاً، وهو ضعيف جداً.

قوله: «ولو خلط العامل مال القراض بماله بغير إذن المالك» إلى آخره.

لأنّ مال القراض أمانة، والأمانة لا يجوز خلطها كالوديعة، ولا يبطل العقد بذلك وإن أثم وضمن فيبقى الربح بينهما على نسبة المال.

ص: 203


1- في حاشية «و»: «القائل به الإمام فخر الدين (رحمه الله) في شرح القواعد (منه رحمه الله). راجع إيضاح الفوائد، ج 2، ص 331.

[الأمر] الثالث في الربح

•ويلزم الحصّة بالشرط دون الأجرة على الأصح.

___________________________________

هذا مع إطلاق العقد، أمّا لو عمّم له لفظاً يتناوله، كما لو قال: افعل ما شئت، أو برأيك، ونحو ذلك صحّ مع المصلحة لا بدونها، فإنّ الخلط قد يكون مصلحة في بعض الأحوال.

قوله: «ويلزم الحصة بالشرط دون الأجرة على الأصح».

مرجعه هذا النزاع إلى أن المضاربة هل هي من العقود الصحيحة المشروعة أم لا؟ والقول بكونها صحيحةً يلزم فيها للعامل ما شرط له من الحصّة قول جميع العلماء على اختلاف مذاهبهم إلّا قليلاً من أصحابنا، والأخبار بها متظافرة صحيحة من طرق أهل البيت(علیهم السلام)(1) . ومن طرق غيرهم(2).

وذهب الشيخ في النهاية (3)، وقبله المفيد(4) ، وتبعهما جماعة(5) إلى أنّ الربح كلّه للمالك، وللعامل عليه الأجرة؛ لأنّ النماء تابع للمال، والمعاملة فاسدة؛ لجهالة العوض.

والجواب المنع من فساد هذه المعاملة بعد ثبوتها بالنصوص الصحيحة وعموم الآيات(6) إن لم يحصل الإجماع والجهالة بالعوض لا تضرّ في كثير من العقود، كالمزارعة والمساقاة، وتبعية النماء للأصل مطلقاً ممنوعة.

ص: 204


1- 1. الكافي، ج 5، ص 240، باب ضمان المضاربة... . ح 2 تهذيب الأحكام، ج 7، ص 187، ح 827 و 828 وص 188، ح 829، وص 189، ح 836؛ الاستبصار، ج 3، ص 126، ح 451 و 452.
2- السنن الكبرى البيهقي، ج 1، ص 183 - 184 ، ح 11605 - 11607 و 11609.
3- النهاية، ص 428 .
4- المقنعة، ص 633.
5- منهم سلار في المراسم، ص 182؛ وأبو الصلاح في الكافي في الفقه، ص 344.
6- النساء (4): 29؛ المائدة (5): 1 .

• ولا بد أن يكون الربح مشاعاً، فلو قال: «خُذه قراضاً والربح لي» فسد، ويمكن أن يجعل بضاعة؛ نظراً إلى المعنى وفيه تردّد، وكذا التردّد لو قال: والربح لك.

_______________________________________

قوله: «ولا بد أن يكون الربح مشاعاً - إلى قوله - وفيه تردّد».

المراد بالمشاع أن يكون بأجمعه مشتركاً بينهما، ويخرج به أُمور:

الأول: أن يجعل لأحدهما شيء معين والباقي للآخر، ولم يذكره المصنّف، وهو باطل اتفاقاً، ولأنّه ربما لا يربح إلّا ذلك القدر، فيلزم أن يختص به أحدهما، وهو غير جائز.

وقد ذكر المصنف فيما يأتي ما يقرب منه، وهو أن يشرط لأحدهما شيء معين والباقي بينهما.

الثاني: أن يقول المالك: «خُذه قراضاً والربح لي» ووجه الفساد اختصاصه بالربح المنافي لمقتضى العقد، فإنّ مقتضاه الاشتراك في الربح.

وهل يكون بهذه الصيغة بضاعة، بمعنى أنّ العامل لا يستحق على عمله أجرةً، أم يكون قراضاً ،فاسداً، كما يقتضيه الإخلال بشرط القراض مع التصريح به؟ المشهور الثاني، فيكون الربح للمالك، وعليه للعامل الأجرة.

ووجه الأوّل النظر إلى المعنى، فإنّه دال على البضاعة وإن كان بلفظ القراض، ولأنّ البضاعة توكيل في التجارة تبرّعاً، وهي لا تختص بلفظ، وما ذكر دال عليها، ولأنه لا يُحكم بإلغاء اللفظ ما أمكن حمله على الصحيح، وذكر القراض وإن كان منافياً بحسب الظاهر إلا أنّه يمكن أن يكون هنا مأخوذاً من معنى المساواة التي هي من أحدهما المال ومن الآخر العمل من غير التفات إلى أمرٍ آخر، وهو أحد ما اشتق منه المعنى الشرعي، كما سبق(1) .

ولو قيل: إنّ ذلك بحسب اللغة، والحقيقة الشرعية تأباه أمكن أن يتجوز فيه، فإنّ الحقائق

اللغوية تصير مجازات شرعيّةً، وهو أولى من الفساد.

وفي المختلف اختار أنّه لا أجرة للعامل؛ لأنّه دخل على ذلك، فكان متبرّعاً بالعمل(2).

ص: 205


1- سبق في ص 185.
2- مختلف الشيعة، ج 1، ص 215، المسألة 170 .

• أمّا لو قال: «خُذه فاتجر به والربح لي كان بضاعةً، ولو قال: «والربح لك» كان قرضاً.

•ولو شرط أحدهما شيئاً معيناً والباقي بينهما فسد؛ لعدم الوثوق بحصول الزيادة، فلا تتحقّق الشركة.

_______________________________

وهذا يحتمل بناؤه على البضاعة، وعلى القراض الفاسد وإن زاد عليه بعدم الأجرة؛ نظراً

إلى دخوله على التبرّع بل هذا أوضح وهو قوي.

الثالث: أن يقول: «خُذه قراضاً والربح كله لك» ووجه فساده ما مرّ.

ويحتمل كونه قرضاً ؛ لدلالته عليه معنىّ كما تدلّ السابقة على البضاعة، ولأنّ القرض لا يختص بلفظ، كما تقدّم (1)، بل ما دلّ عليه، وهذا دال عليه، فعلى هذا يكون الربح كلّه للعامل، والمال مضمون عليه، ولا شيء للمالك، وعلى الأوّل للمالك، وعليه للعامل الأجرة.

ومحلّ الإشكال إذا لم يقصد القرض ولا القراض إمّا بأن لم يقصد شيئاً، أو لم يعلم ما قصد، وإلا كان قرضاً في الأوّل وقراضاً فاسداً في الثاني بغير إشكال.

قوله: «أما لو قال: «خُذه فاتجر به والربح لي كان بضاعة» إلى آخره.

الفرق بين الصيغتين اشتمال الأولى على ضميمة منافية للقرض والبضاعة، وهي التصريح بالقراض، وهو حقيقة شرعيّة في العقد المخصوص، بخلاف الأخيرة.

هذا إذا أطلق اللفظ أو قصد القرض والبضاعة، فلو قصد القراض ففيه ما سبق؛ لصلاحيّة اللفظ لعقده، خصوصاً مع انضمام قصده، فإنّ التصريح بالقراض ونحوه في العقد ليس بشرط.

ولو اختلفا في القصد المبطل احتُمل تقديم المالك؛ لأنّه أعرف به، والعامل؛ نظراً إلى ظاهر اللفظ، وترجيحاً لجانب الصحّة.

ولو اختلفا في ضميمة اللفظ قدّم قول مدّعي ما يصحّ معه العقد؛ لأصالة الصحّة وعدم الضميمة.

قوله: «ولو شرط أحدهما شيئاً معيناً والباقي بينهما فسد» إلى آخره.

ص: 206


1- تقدم في ج 3، ص 362.

• ولو قال: «خُذه على النصف» صحّ • وكذا لو قال: «على أنّ الربح بيننا». ويقضى بالربح بينهما نصفين.

___________________________________

عدم الوثوق بالزيادة لا يصلح دليلاً على الفساد بانفراده، كما في عدم الوثوق بأصل الربح، وإنّما وجه الفساد اقتضاء عقد المضاربة الاشتراك في جميع الربح، كما تقدم(1)، ولقول الصادق(علیه السلام) في صحيحة أبي بصير : « الربح بينهما »(2) ، ومثله رواية إسحاق بن عمار عن الكاظم (علیه السلام)(3)، وهنا الربح ليس بينهما وإن وثق بالزيادة ، بل بعضه على تقدير الزيادة وجميعه

على تقدير عدمها لمن شرط له فعلى هذا يفسد العقد وإن وثق بالزيادة.

قوله: «ولو قال: «خُذه على النصف» صحّ».

وجه الصحّة أنّ المتبادر من العبارة أنّ الربح بينهما نصفين، وهو تعيين، أو أنّ المالك لا يفتقر إلى تعيين حصّته؛ لأنّ نماء ماله تابع له، وإنّما يفتقر إليه العامل، فيكون المراد بالنصف أنّه للعامل؛ لأنّه المحتاج إلى الاشتراط.

وفيه نظر؛ لأنّ اللفظ كما يحتمل ذلك يحتمل أن يكون النصف للمالك، والآخر لا يحتاج إلى ذكره؛ لتبعيّته للمال، فيفسد وافتقار العقد إلى تعيين حصّة العامل لا يقتضي كون اللفظ المشترك محمولاً عليه.

والقول بالصحة متجه؛ لتبادر المعنى المصحّح من هذا اللفظ.

قوله: «وكذا لو قال: «على أنّ الربح بيننا» ويقضى بالربح بينهما نصفين».

لاستوائهما في السبب المقتضي للاستحقاق والأصل عدم التفاضل، كما لو أقرّ لهما بمال، وكما لو قال المقرّ الشيء الفلاني بيني وبين زيد.

وخالف في ذلك بعض الشافعية، فحكم ببطلان العقد؛ لأنّ البينيّة تصدق مع التفاوت، فحيث لم يبيّنها يتجهّل استحقاق الربح (4).

ص: 207


1- تقدم في ص 205.
2- تهذيب الأحكام، ج 7، ص 187، ح 827 .
3- تهذيب الأحكام، ج 7، ص 188 ، ح 829: الاستبصار، ج 3، ص 126، ح 452.
4- الحاوي الكبير : ج 7، ص 347: العزيز شرح الوجيز، ج 1، ص 16؛ روضة الطالبين، ج 4، ص 203.

• ولو قال: «على أنّ لك النصف» صح، ولو قال: «على أنّ لي النصف» واقتصر لم يصح؛ لأنه لم يعيّن للعامل حصّةً .

• ولو شرط لغلامه حصّةً معهما صحّ عمل الغلام أم لم يعمل. ولو شرط لأجنبي وكان عاملاً صح، وإن لم يكن عاملاً فسد، وفيه وجه آخر.

_______________________________________

ورد بمنع صدقها على غير المتساوي مع الإطلاق. نعم لو انضمّ إليه قرينة، صحّ حمله على غيره بواسطتها (1).

قوله: «ولو قال: «على أنّ لك النصف» صح - إلى قوله - للعامل حصةً».

الفرق بين الصيغتين أنّ الربح لما كان تابعاً للمال، والأصل كونه للمالك، لم يفتقر إلى تعیین حصته، فإن عيّنها كان تأكيداً، وأما تعيين حصة العامل فلا بد منه؛ لعدم استحقاقها بدونه، فإذا قال: النصف لك كان تعييناً لحصة العامل، وبقي الباقي على حكم الأصل، وأمّا إذا قال: النصف لي لم يقتض ذلك كون النصف الآخر لغيره، بل هو باق على حكم الأصل أيضاً، فيبطل العقد.

ويحتمل الصحة وحمل النصف الآخر على أنّه للعامل؛ نظراً إلى عدم الفرق بين الصيغتين عرفاً، وعملاً بمفهوم التخصيص.

ويضعف بعدم استقرار العرف على ذلك، وضعف دلالة المفهوم، والأجود البطلان.

قوله: «ولو شرط لغلامه حصّةً معهما صحّ، عمل الغلام أم لم يعمل. ولو شرط لأجنبی وكان عاملاً صح، وإن لم يكن عاملاً فسد، وفيه وجه آخر».

الأصل في الربح أن يكون بين العامل والمالك خاصّةً على ما يشترطانه، فلا يصحّ جعله لأجنبي، ولو فرض كونه عاملاً كان بمنزلة العامل المتعدّد، فلا يكون أجنبياً.

وأمّا شرط حصة لغلام أحدهما الرق فهو كشرطه لمالكه، فيصح؛ لأنّ العبد لا يملك شيئاً، ولو قلنا بملكه كان كالأجنبي.

ص: 208


1- تذكرة الفقهاء، ج 17، ص 55 المسألة 222 .

•ولو قال: «لك نصف ربحه صحّ وكذا لو قال: «ربح نصفه».

_______________________________________

وحيث يشرط لأجنبي بشرط عمل فلابدّ من ضبط العمل بما يرفع الجهالة، وكونه من أعمال التجارة، لئلّا يتجاوز مقتضاها.

وإنّما وصفه بالأجنبي مع كونه عاملاً؛ لأنّ المراد بالعامل هنا من يكون إليه التصرّف في جمیع ما يقتضيه العقد، وهذا المشروط له ليس كذلك، بل إنّما شرط عليه عمل مخصوص، بأن يحمل لهم المتاع إلى السوق، أو يدلل عليه، ونحو ذلك من الأعمال الجزئيّة المضبوطة، فلو جعل عاملاً في جميع الأعمال كان العامل - الذي هو أحد أركان العقد - متعدّداً، وهو غير محلّ الفرض.

وبهذا يندفع ما قيل: من أنّ شرط العمل ينافي كونه أجنبيّاً(1).

والوجه الآخر الذي أشار إليه المصنّف في الأجنبي قيل: إنّه إذا شرط للأجنبي يصحّ الشرط وإن لم يعمل؛ لعموم : «المؤمنون عند شروطهم»(2)، (وأَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(3)(4) .

و وقيل: إنّ المشروط يكون للمالك حيث لم يعمل، رجوعاً إلى أصله؛ لئلّا يخالف مقتضى العقد، ولقدوم العامل على أن له ما عيّن له خاصّةً(5) .

وهذا الوجه لم يذكره غيره، وليس بمعروف؛ فلذلك اختلف فيه.

قوله: «ولو قال لك نصف ربحه صحّ وكذا لو قال: ربح نصفه».

المشهور صحّة القراض في الصورتين، وأنّه لا فرق بينهما من حيث المعنى؛ لأنّ النصف لمّا كان مشاعاً فكلّ جزء من المال إذا ربح فنصف ربحه للعامل، ونصفه للمالك بمقتضى الشرط.

ص: 209


1- لم نعثر على قائله .
2- تهذيب الأحكام، ج 7، ص 371، ح 1503؛ الاستبصار، ج 3، ص 232، ح 835.
3- المائدة (5) 1 .
4- راجع إيضاح تردّدات الشرائع، ج 1، ص 311 .
5- لم نعثر على قائله.

• ولو قال لاثنين: «لكما نصف الربح» صح، وكانا فيه سواء، ولو فضّل أحدهما صحّ أيضاً وإن كان عملهما سواء.

________________________________

وخالف في ذلك الشيخ في أحد قوليه، فجعل الثاني باطلاً(1)؛ لمنافاته مقتضى القراض من أنّ ربح كلّ جزءٍ بينهما، وهنا قد شرط ربح النصف الواحد للمالك لا يشاركه فيه العامل، والآخر بالعكس، وربما ربح نصفه خاصّةً فيختصّ به أحدهما، أو ربح أكثر من النصف، فلا تكون الحصّة معلومة.

وأجيب بأنّ الإشارة ليست إلى نصف معيّن، بل مبهم، فإذا ربح أحد النصفين فذلك الذي ربح هو المال، والذي لم يربح لا اعتداد به(2) ؛ وحيث كان النصف مشاعاً فكلّ جزء منه له ربح نصفه.

قوله: «ولو قال لاثنين: «لكما نصف الربح» صحّ» إلى آخره.

أمّا تساويهما مع الإطلاق فلاقتضائه الاشتراك، والأصل عدم التفضيل، ولأنّه المتبادر منه عرفاً، كما سبق في قوله «بيننا»(3).

وأمّا مع التفضيل فهو صحيح عندنا وإن اختلف عملهما؛ لأنّ غايته اشتراط حصّةٍ قليلةٍ لصاحب العمل الكثير ، و أمر الحصّة على ما يشترطانه مع ضبط مقدارها، ولأنّ عقد الواحد مع اثنين كعقدين فيصحّ، كما لو قارض أحدهما في نصف المال بنصف الربح والآخر في نصفه الآخر بثلث الربح، فإنّه جائز اتفاقاً.

خلافاً لبعض العامّة؛ حيث اشترط التسوية بينهما في الربح مع استوائهما في العمل؛ قياساً على اقتضاء شركة الأبدان ذلك (4).

والأصل والفرع عندنا باطلان.

ص: 210


1- الخلاف، ج 3، ص 469، المسألة 18.
2- أجاب به الشهيد على ما حكاه عنه المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 8، ص 85 .
3- سبق في ص 207.
4- المدوّنة الكبرى، ج 5، ص 90 العزيز شرح الوجيز، ج 6 ، ص 19؛ المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 5، ص 145، المسألة 3653: الشرح الكبير المطبوع مع المغني ، ج 5، ص 134.

•ولو اختلفا في نصيب العامل فالقول قول المالك مع يمينه.

• ولو دفع قراضاً في مرض الموت وشرط ربحاً صحّ، وملك العامل الحصّة.

______________________________________

قوله: «ولو اختلفا في نصيب العامل فالقول قول المالك مع يمينه».

لأنّه منكر للزائد، ولأنّ الاختلاف في فعله، وهو أبصر به، ولأنّ الأصل تبعيّة الربح للمال، فلا يخرج عنه إلّا ما أقرّ المالك بخروجه.

هذا مع عدم ظهور الربح، أمّا معه فظاهر المصنّف أنّه كذلك؛ لعين ما ذكر .

وربما استوجه بعض المحقّقين التحالف؛ لأنّ كلاً منهما مدّع ومدّعى عليه، فإنّ المالك يدّعي استحقاق العمل الصادر بالحصّة الدنيا، والعامل ينكر ذلك، فيجيء القول بالتحالف(1) ؛ لأنّ ضابطه - كما سلف في البيع (2)- أن ينكر كلّ واحدٍ ما يدّعيه الآخر، بحيث لا يجتمعان على أمر ويختلفان فيما زاد عليه.

وهو ضعيف؛ لأنّ نفس العمل لا تتناوله الدعوى، لأنّه بعد انقضائه لا معنى لدعوى المالك استحقاقه، وكذا قبله؛ لأنّ العقد الجائز لا يستحق به العمل، وإنّما المستحقّ المال الذي أصله للمالك، وحقيقة النزاع فيه، فيجيء فيه ما تقدّم من الأصول.

قوله: «ولو دفع قراضاً في مرض الموت وشرط ربحاً صح، وملك العامل الحصّة».

لا فرق في ذلك بين كون الحصّة المشروطة للعامل بقدر أُجرة المثل وأزيد ؛ إذ لا تفويت في ذلك على الوارث حتّى يعتبر من الثلث، فإنّ المتوقّف على إجازته أو نفوذه من الثلث هو ما يتبرّع به المريض من المال الموجود حالة التبرّع، وهنا ليس كذلك؛ لأنّ الربح أمر معدوم متوقّع الحصول وليس مالاً للمريض، وعلى تقدير حصوله فهو أمر جديد حصل بسعي العامل، وحدث على ملكه بعد العقد، فلم يكن للوارث فيه اعتراض .

ص: 211


1- جامع المقاصد، ج 8، ص 167.
2- تقدّم في ج 3، ص 172 - 173 و 179.

مسالك الأفهام / 4

• ولو قال العامل: «ربحث كذا» ورجع لم يُقبل رجوعه، وكذا لو ادّعى الغلط، أمّا لو قال: «ثمّ خسرتُ» أو قال: «ثمّ تلف الربح» قبل .

•والعامل يملك حصّته من الربح بظهوره، ولا يتوقّف على وجوده ناضّاً.

_________________________________

قوله: «ولو قال العامل: «ربحت كذا» ثم رجع لم يقبل رجوعه إلى آخره.

إنّما لم يُقبل قوله في الأولين؛ لأنّ إنكاره مكذب لإقراره الأوّل، فلا يُسمع كما في رجوع كلّ مُقرّ.

ولا فرق بين أن يظهر لدعواه الكذب أوّلاً وجهاً، كما لو قال: كذبت لتترك المال في يدي.أولا.

خلافاً لبعض العامّة؛ حيث قبل قوله في الأوّل(1) ؛ لأنّ ذلك واقع من بعض المعاملين لأجل هذا الغرض.

وأما قبول قوله «خسرتُ» أو «تلف الربح»؛ فلأنّه أمين.

هذا إذا كانت دعوى الخسران في موضع يحتمل، بأن عرض في السوق كساد، ولو لم يحتمل لم يُقبل، نبه عليه في التذكرة(2) .

قوله: «والعامل يملك حصّته من الربح بظهوره، ولا يتوقّف على وجوده ناضّاً».

هذا هو المشهور بين الأصحاب، بل لا يكاد يتحقّق فيه مخالف، ولا نُقل في كتبالخلاف عن أحدٍ من أصحابنا ما يخالفه.

ووجهه مع ذلك إطلاق النصوص(3) بأنّ العامل يملك ما شُرط له من الربح، وهو متحقّق قبل الإنضاض وقبل القسمة، ولأنّ سبب الاستحقاق هو الشرط الواقع في العقد، فيجب أن يثبت مقتضاه متى وجد الربح، كما يملك عامل المساقاة حصّته من الثمرة بظهورها، ولأنّ الربح مع ظهوره مملوك، فلا بدّ له من مالك، وربّ المال لا يملكه اتّفاقاً، ولا يثبت

ص: 212


1- العزيز شرح الوجيز، ج 1، ص 46.
2- تذكرة الفقهاء، ج 17، ص 126 ذيل المسألة 279 .
3- راجع وسائل الشيعة، ج 19، ص 15 - 22 ، الباب 1 - 3 من أبواب كتاب المضاربة.

...

___________________________________

أحكام الملك في حقّه، فيلزم أن يكون للعامل؛ إذ لا مالك غيرهما اتّفاقاً، ولأنّ العامل يملك المطالبة بالقسمة، فكان مالكاً؛ لأنّها فرع الملك، ولا يكفي في استحقاقها مجرّد العلاقة؛ لأنّها حينئذٍ ليست قسمةً حقيقيّةً، وإطلاقهم يقتضي أنها حقيقيّة، ولأنّه لو لم يكن مالكاً بالظهور لم ينعتق عليه نصيبه من أبيه لو اشتراه والتالي باطل؛ لحديث محمد بن قيس عن الصادق(علیه السلام) ، قال، قلت له: رجل دفع إلى رجل ألف درهم مضاربةً، فاشترى أباه وهو لا يعلم، قال: «يقوّم، فإن زاد درهماً واحداً أعتق واستسعي في مال الرجل»(1)، والمقتضي للإعتاق إنّما هو دخوله في ملكه.

ونقل الإمام فخر الدين عن والده أن في هذه المسألة أربعة أقوال، ولكن لم يذكر القائل بأحدٍ منها:

أحدها: أنّه يملك بمجرّد الظهور.

وثانيها: أنّه يملك بالإنضاض ؛ لأنّه قبله غير موجود خارجاً ، بل مقدّر موهوم والمملوك لا بدّ أن يكون محقّق الوجود، فيكون الظهور موجباً لاستحقاق الملك بعد التحقّق، ولهذا يورث عنه ، ويضمن حصّته من أتلفها ، سواء المالك والأجنبي.

وثالثها: أنّه إنّما يملك بالقسمة؛ لأنه لو مَلَك قبلها لكان النقصان الحادث بعد ذلك شائعاً في المال، كسائر الأموال المشتركة، والتالي باطل؛ لانحصاره في الربح، ولأنّه لو ملكه لاختصّ بربحه، ولأنّ القراض معاملة جائزة، والعمل فيها غير مضبوط، فلا يستحقّ العوض فيها إلّا بتمامه كمال الجعالة.

ورابعها: أنّ القسمة كاشفة عن ملك العامل؛ لأنّ القسمة ليست من الأسباب المملكة،

والمقتضي للملك إنّما هو العمل، و هي دالّة على تمام العمل الموجب للملك(2) .

ص: 213


1- الفقيه، ج 3، ص 228 ، ح 3847؛ تهذيب الأحكام، ج 7، ص 190، ح 841 .
2- إيضاح الفوائد، ج 2، ص 322-323 .

وفي التذكرة (1)لم يذكر في المسألة عن سائر الفقهاء من العامّة والخاصّة سوى القولين الأولين، وجعل الثاني للشافعي في أحد قوليه، ولأحمد في إحدى الروايتين، ووافقا في الباقى على الأول(2)، فلا ندري لمن ينسب هذه الأقوال ؟ وهي مع ذلك ضعيفة المأخذ؛ فإنّا لا نسلّم أنّ الربح قبل الإنضاض غير موجود؛ لأنّ المال غير منحصر في النقد، فإذا ارتفعت قيمة العرض فرأس المال منه ما قابل قيمة رأس المال والزائد ربح، وهو محقّق الوجود ولو سُلّم أنّه غير محقّق الوجود لا يقدح في كونه مملوكاً، فإن الدين مملوك وهو غير موجود في الخارج، بل هو في الذمّة أمر كلّي. هذا ما على الثاني.

وعلى الثالث أنّه لا ملازمة بين الملك وضمان الحادث على الشياع، ويجوز أن يكون مالكاً ويكون ما يملكه وقايةً لرأس المال، فيكون الملك متزلزلاً، واستقراره مشروط بالسلامة، وكذا لا منافاة بين ملك الحصّة وعدم ملك ربحها بسبب تزلزل الملك، ولأنّه لو اختص بربح نصيبه لاستحق ّمن الربح أكثر ممّا شُرط له، ولا يثبت بالشرط ما يخالف مقتضاه ولأنّ القسمة ليست من العمل في شيء، فلا معنى لجعلها تمام السبب في الملك، فلا وجه لإلحاقها بالجعالة، وقد نبّه عليه في وجه الرابع.

و من ضعف ما سبق يستفاد ضعف الرابع ؛ لأنّه مرتّب عليها.

إذا تقرّر ذلك، فنقول: على تقدير الملك بالظهور فهو ليس بملك تامّ ولا مستقرّ؛ لأنّ الربح وقاية لرأس المال، فلابدّ لاستقراره من أمرٍ آخر، وهو إمّا إنضاض جميع المال، أو إنضاض قدر رأس المال مع الفسخ أو القسمة أو لا معها، على قول قوي، وبدونه يجبر ما يقع في التجارة من تلف أو خسران، سواء كان الربح والخسران في مرة واحدة أم مرّتين وفي صفقة أم اثنتين وفي سفرة أم سفرات؛ لأنّ معنى الربح هو الفاضل عن

ص: 214


1- تذكرة الفقهاء، ج 17، ص 106 - 107. المسألة 266.
2- حلية العلماء، ج 5، ص 341 العزيز شرح الوجيز، ج 6 ، ص 34 روضة الطالبين، ج 4 ص 315 المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 5، ص 169، المسألة 3686؛ الشرح الكبير المطبوع مع المغني، ج 5، ص 166.

[الأمر ] الرابع في اللواحق

وفيه مسائل:

الأولى: • العامل أمين، لا يضمن ما يتلف، إلّا عن تفريط أو خيانة، • وقوله مقبول في التلف • وهل يُقبل في الردّ؟ فيه تردّد، أظهره أنّه لا يُقبل.

__________________________________________

رأس المال في زمن ذلك العقد، فإذا لم يفضل شيء فلا ربح. وهو محلّ وفاق، وسيأتي بعض أحكام ذلك(1).

قوله: «العامل أمين، لا يضمن ما يتلف، إلّا عن تفريط أو خيانة».

المراد بالخيانة ما يعبّر عنه في نظائره بالتعدّي، فإنّ استعمال شيءٍ من أموال القراض وأكله على غير وجهه وإنفاقه كذلك يقال له: خيانة للمالك وتعدُ للحد الذي قرّره الشارع.

والفرق بينهما وبين التفريط أنّ التفريط عدمي، وهو ترك ما يجب فعله، وهما وجوديّان؛

لاشتراكهما في فعل ما يجب تركه.

قوله: «وقوله مقبول في التلف».

لا فرق في ذلك بين دعواه تلفه بأمرٍ خفيّ كالسرق، أو ظاهر كالحرق، ولا بين إمكان إقامة البيئة عليه وعدمه عندنا؛ لكونه أميناً، فيُقبل قوله فيه، كسائر الأمناء، بل يُقبل من الغاصب -كما سيأتي(2) إن شاء الله تعالى - فمنه أولى.

قوله: «وهل يُقبل في الردّ ؟ فيه تردّد، أظهره أنّه لا يقبل».

وجه عدم القبول ظاهر؛ لأصالة عدمه، ولأنّ المالك منكر فيكون القول قوله، كما أنّ العامل في ذلك مدّع فعليه البيّنة، وثبوت التخصيص في مثل دعوى التلف لأمر خارج لا يقتضى ثبوته مطلقاً.

ص: 215


1- يأتي في ص 230، 232 - 233 و 237.
2- يأتي في ج 9، ص 547 المسألة الأولى من مسائل التنازع في كتاب الغصب .

الثانية: • إذا اشترى من ينعتق على ربّ المال، فإن كان بإذنه صحّ وينعتق، فإن فضل من المال عن ثمنه شيء كان الفاضل قراضاً، ولو كان في العبد المذكور فضل ضمن ربِّ المال حصّة العامل من الزيادة، والوجه الاجرة.

__________________________________

والقول الآخر للشيخ (رحمه الله) : إنّ القول قول العامل(1) ؛ لأنّه أمين كالمستودع، ولما في عدم تقديم قوله من الضرر؛ لجواز كونه صادقاً، فتكليفه بالردّ ثانياً تكليف بما لا يطاق.

وأُجيب (2)بمنع كلّيّة قبول قول كلّ أمين، وبالفرق بينه وبين المستودع، فإنّه قبض لنفع نفسه، والمستودع قبض لنفع المالك، وهو محسن محض، فلا يناسب إثبات السبيل عليه بعدم قبول قوله؛ لما فيه من الضرر.

والضرر اللاحق للعامل من عدم قبول قوله مستند إلى حكم الشرع فلا يقدح، والتكليف بما لا يطاق ممنوع بما سيأتي .

لكن يبقى في المسألة بحث، وهو أنّه إذا لم يُقبل قوله في الردّ يلزم تخليده الحبس لو أصرّ على إنكاره، خصوصاً مع إمكان صدقه، وهُمْ قد تحرّجوا من ذلك في الغاصب حيث يدّعي التلف فكيف يثبتونه في الأمين ؟ إلّا أن يحمل على مؤاخذته ومطالبته به وإن أدّت إلى الحبس؛ للاستظهار به إلى أن يحصل اليأس من ظهور العين، ثمّ يؤخذ منه البدل للحيلولة، إلّا أنّ مثل هذا يأتي في دعوى التلف، خصوصاً من الغاصب، وليس في كلامهم تنقيح لهذا المحلّ، فينبغى النظر فيه.

قوله: «إذا اشترى من ينعتق على ربِّ المال - إلى قوله والوجه الأجرة».

لمّا كان مبنى عقد القراض على طلب الربح فكلّ تصرّف ينافيه يكون باطلاً، ومن جملته شراء من ينعتق على المالك؛ لأنّه تخسير محض فضلاً عن عدم اشتماله على الغرض القصود من العقد، فإن أذن المالك في شرائه صحّ - كما لو اشتراه بنفسه أو وكيله - وعتق

ص: 216


1- المبسوط، ج 2، ص 615.
2- المجيب هو المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 8، ص 166 .

...

_____________________________________

على المالك، وبطلت المضاربة في ثمنه؛ لأنّه بمنزلة التالف، وصار الباقي رأس المال إن كان، وإلّا بطلت المضاربة كما لو تلف جميع مالها.

هذا إذا لم يكن في العبد ربح حين الشراء، فإن كان فيه ربح فهل يستحقّ العامل حصّته في العبد، أم تكون له الأجرة؟ قولان مبنيّان على وقت ملكه للحصّة، فإن جعلناه بالإنضاض أو القسمة فلا إشكال في عدم استحقاقه هنا؛ لانتفائهما، وإن جعلناه بالظهور، كما هو المشهور المنصور احتُمل كونه كذلك كما اختاره المصنّف - لبطلان المضاربة بهذا الشراء، لعدم كونه من متعلّق الإذن، فإنّ شراء المضاربة ما اقتضى التقليب والبيع، وطلب الربح مرّةً بعد أُخرى ، وهو منفيٌّ هنا ؛ لكونه مستعقباً للعتق ، فإذا صرف الثمن فيه بطلت ، وضمن المالك للعامل أُجرة المثل، كما لو فسخ المالك بنفسه.

ويحتمل ثبوت حصّة العامل في العبد؛ لتحقّق الملك بالظهور، ولا يقدح فيه عتقه القهري؛ لصدوره بإذن المالك، فكأنّه استردّ طائفة من المال بعد ظهور الربح وأتلفها، وحينئذٍ فيسري على العامل مع يسار المالك إن قلنا بالسراية في مثله من العتق القهري، أو مع اختيار الشريك السبب، ويغرم له نصيبه مع يساره وإلّا استسعى العبد فيه(1).

والأوّل أقوى؛ لأنّ هذا الشراء ليس من متعلّق العقد كما قرّرناه.

فإن قيل: استحقاق العامل الأجرة إنّما هو في العمل المحسوب للمضاربة، فإذا قلتم بأنّ هذا ليس من أعمالها، بل خلاف مقتضاها، يجب أن لا يستحقّ العامل شيئاً .

قلنا استحقاق الأجرة ليس مقصوراً على هذا العمل وحده، بل عليه وعلى ما تقدّمه من الحركات والسفر وغيره من المقدّمات من حين العقد إلى الآن؛ لأنّ ذلك كلّه من متعلّقات العقد، وقد فسخ باختيار المالك الذي هو في قوّة فسخه، فيثبت للعامل عليه الأجرة، كما إذا فسخ المالك قبل أن يشتري العامل وبعد أن يسعى ويسافر ويعمل ما شاكل ذلك من المقدّمات.

ص: 217


1- في حاشية «و»: «ذكر المحقق الشيخ علي (رحمه الله) في الشرح أن القول بعدم ثبوت أُجرة المثل متوجّه إن لم يكن إحداث قول ثالث محتجاً بما قد أجبنا عنه، تأمل. (منه رحمه الله)». راجع جامع المقاصد، ج8، ص 98.

•وإن كان بغير إذنه وكان الشراء بعين المال بطل، وإن كان في الذمّة وقع الشراء للعامل، إلّا أن يذكر ربِّ المال.

_______________________________________

وأمّا هذا العقد فإنّه وإن لم يكن من مقتضيات العقد، لكنّه عمل مأمور به من المالك من فاعل معدٍ نفسه للعمل بالعوض، فيجب أن يثبت له عليه أُجرة مثله مضافاً إلى ما تقدّم، وعلى تقدير انحصار العمل من حين العقد فيه ففيه الأجرة إن كان مثله ممّا يحتمل الأجرة، وإلّا فلا، وحكم المصنّف وغيره(1) بالأجرة لا يسع أزيد من ذلك، بل المراد إن كان العمل ممّا له أجرة، فإنّ الإحالة على أجرة المثل تقتضي أنّ للمثل أجرة قطعاً، وبهذا يحصل الفرق بين عمل هذا العامل وعمل الوكيل الذي مبنى عمله على التبرّع، والأجرة ليست من مقتضياته، بخلاف القراض، فإنّه مبنيُّ على طلب العوض على عمله من حصّةٍ أو أجرةٍ.

قوله: «وإن كان بغير إذنه وكان الشراء بعين المال بطل» إلى آخره.

إذا وقع الشراء المذكور بغير إذن المالك فلا يخلو إمّا أن يكون الشراء بعين المال، أو في الذمّة، وعلى التقديرين فإمّا أن يكون عالماً بالنسب وحكم الشراء المذكور، أو جاهلاً بهما، أو بأحدهما خاصّةً، فالصُوَر ثمان، وعلى تقدير الشراء في الذمّة إمّا أن يذكر المالك للبائع لفظاً، أو ينوي الشراء له خاصّةً، أو يطلق(2)، ونيّة نفسه خارجة من هذا المقام.

والمصنّف (رحمه الله) لم يفرّق في إطلاق كلامه بين العالم بالنسب والحكم والجاهل.

وخلاصة القول في ذلك أنّه إن اشترى بعين المال بطل - أي لم يقع لازماً - لكنّه يكون فضوليّاً يقف على الإجازة، مع احتمال أن يريد بالبطلان حقيقته؛ نظراً إلى النهي عن الشراء المذكور، من حيث منافاته لغرض القراض، واشتماله على الإتلاف المحض.

ويضعف بأنّ غايته التصرّف في مال المالك بغير إذنه، وذلك هو الفضول بعينه، والنهي فيه لا يبلغ حدّ الفساد كنظائره.

ص: 218


1- كالعلّامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 339؛ وفخر المحققين في إيضاح الفوائد، ج 2، ص 313.
2- في حاشية «و»: «وبهذا يرتقي الصور إلى ستة عشر؛ لأنّ صور الذمة أربع مضروبة في ثلاث ومضافة إلى الأربع الباقية في الشراء بالعين (منه رحمه الله)».

الثالثة: • لو كان المال لامرأة فاشترى زوجها، فإن كان بإذنها بطل النكاح. وإن كان بغير إذنها قيل: يصحّ الشراء، وقيل: يبطل ؛ لأنّ عليها فى ذلك ضرراً، وهو أشبه،

________________________________

هذا مع علمه بالنسب والحكم، أمّا مع جهله فيحتمل كونه كذلك؛ لأنّ الإذن في هذا الباب إنّما ينصرف إلى ما يمكن بيعه وتقليبه في التجارة للاسترباح، ولا يتناول غير ذلك، فلا يكون ما سواه مأذوناً فيه، والتباس الأمر ظاهراً لا يقتضي الإذن، غايته أنّه غير آثم؛ لجهله، وهذا هو الذي دلّ عليه إطلاق المصنّف.

ويحتمل صحّة البيع، ويُحكم بعتقه على المالك قهراً، ولا ضمان على العامل؛ لأنّ العقد المذكور إنّما يقتضي شراء ما ذكر بحسب الظاهر لا في نفس الأمر؛ لاستحالة توجّه الخطاب إلى الغافل ؛ لاستلزامه تكليف ما لا يطاق، وكما لو اشترى معيباً لم يعلم بعيبه فتلف بذلك العيب.

والفرق بين المعيب والمتنازع بجواز شراء المعيب اختياراً دونه لا يدخل فيما نحن فيه؛ لأنّ الكلام في حالة لا ربح فيها، كالعيب المفروض الذي يأتي على النفس والحال أنّه جاهل به، وافتراقه عنه في حالة أخرى لا دخل له في المطلوب، وكذا القول بأنّ تكليف الغافل وما لا يطاق إنّما يقتضيان عدم الإثم لا صحّة العقد؛ لحكمهم بصحّة العقود التي يظنّ فيها الربح وإن ظهرت على خلاف ذلك، بل على ضدّه، فليكن هنا كذلك، فالحكم موضع إشكال.

ويقوى الإشكال في جاهل أحدهما خصوصاً جاهل الحكم؛ لأنّه غير معذور؛ لقدرته على التحفّظ، فإنّ العلم مقدور لنا، أمّا جاهل النسب فمعذور بما تقدّم.

وإن اشترى في الذمّة، لم يقع للمضاربة؛ لما تقدّم من عدم تناول الإذن لها، لكن إن كان ذكر المالك لفظاً فهو فضولي، وإن نواه خاصّةً، وقع للعامل ظاهراً وبطل باطناً، فلا يعتق، ويجب عليه التخلّص منه على وجه شرعي؛ إذ ليس ملكاً له في نفس الأمر للنيّة الصارفة عنه، وإن أطلق وقع له مطلقاً.

قوله: «إذا كان المال لامرأةٍ فاشترى زوجها، فإن كان بإذنها بطل النكاح» إلى آخره.

لا شبهة في صحّة الشراء إذا كان بإذنها؛ لأنّ الضرر جاء من قِبَلها، ويبطل النكاح؛ لامتناع اجتماع الملك والنكاح على ما هو محقّق في بابه.

ص: 219

...

_________________________________

وإن كان بغير إذنها فقد نقل المصنّف فيه قولين:

أحدهما: الصحة، والقائل به غير معلوم، ووجهه أنّه اشترى ما يمكنه طلب الربح فيه، ولا يتلف به رأس المال، فجاز، كما لو اشترى ما ليس بزوج.

والثاني: بطلان الشراء؛ لما ذكره المصنّف من العلّة، وهي حصول الضرر على المالكة به، فيكون ذلك دليلاً على عدم الرضى، وتقييداً لما أطلقت من الإذن بدليل منفصل عقلي أو نحوه، وينبغي على هذا أن يكون موقوفاً على إجازتها إذا قلنا بتوقّف عقد الفضولي عليها.

ويحتمل أن يريد به قائله البطلان مطلقاً لما ذكر من القرينة المفيدة(1) ، وحينئذ تصير الأقوال ثلاثةً، وقد نقلها العلّامة كذلك(2)، وإن كان القائل بها غير محرّرٍ.

والأقوى البطلان مع عدم الإجازة.

إذا تقرّر ذلك، فعلى القول بالبطلان مطلقاً الحكم واضح، وعلى وقوفه إن أبطلته فكذلك، وإن أجازته بطل النكاح، ولم يضمن العامل ما فاتها من المهر والنفقة؛ لأنّ فواته مستند إلى

اختيارها

و على القول بالصحّة يضمن ما فات بسببه مع علمه بالزوجيّة؛ لأنّ التفويت جاء من قبله.

لكن ضمانه للمهر ظاهر، أمّا النفقة فمشكل؛ لأنّها غير مقدّرة بالنسبة إلى الزمان، ولا موثوق باجتماع شرائطها، بل ليست حاصلة؛ لأنّ من جملتها التمكين في الزمن المستقبل، وهو غير واقع الآن إلّا أن يقال بأنّه يضمنها على التدريج، وهو بعيد، والظاهر اختصاص ضمانه بالمهر على هذا القول، وهو الذي ذكره جماعة(3).

ص: 220


1- في بعض النسخ: «المقيّدة».
2- قواعد الأحكام، ج 2، ص 339.
3- منهم العلّامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 339؛ وفخر المحققين في إيضاح الفوائد، ج 2، ص 316؛ والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 8، ص 104. وفي حاشية بعض النسخ: ذكر الشيخ علي (رحمه الله) في الشرح أنّه يضمن النفقة كما يضمن المهر في ظاهر كلامه وهو موضع تأمل. (منه رحمه الله)».

الرابعة: • إذا اشترى العامل أباه، فإن ظهر فيه ربح انعتق نصيبه من الربح، ويسعى المعتق في باقي قيمته، موسراً كان العامل أو معسراً.

_________________________________

قوله: «إذا اشترى العامل أباه، فإن ظهر فيه ربح انعتق نصيبه من الربح» إلى آخره.

إذا اشترى العامل بمال القراض من ينعتق عليه كأبيه - وخصّه المصنّف؛ لأنّه مورد الرواية - فلا يخلو إمّا أن يكون فيه ربح حين الشراء أو لا، فإن لم يكن فإمّا أن يتجدّد بعد ذلك فيه ربح لارتفاع السوق ونحوه، أو لا، فإن لم يكن فيه ربح سابقاً ولا لاحقاً فالبيع صحيح؛ إذ لا ضرر فيه على أحدهما ولا عتق.

وإن كان فيه ربح من حين الشراء فلا يخلو إمّا أن نقول بأنّ العامل يملك حصّته من الربح من حين ظهوره، أو يتوقّف على أحد الأمور بعده، فإن قلنا بأحد الأمور لم يعتق أيضاً، فلا مانع من شرائه، وإن قلنا بالأوّل ففيه أوجه، اختار المصنّف أصحّها، وهو صحّة البيع وانعتاق نصيب العامل، ولا يسري إلى نصيب المالك، بل يستسعى العبد في باقي قيمته للمالك وإن كان العامل موسراً، أمّا صحّة البيع فلوجود المقتضي، وهو صدوره من جائز التصرّف على وجهه، وانتفاء المانع؛ إذ ليس الاحصول الضرر على المالك، وهو منتف هاهنا ؛ لأنّ العتق إنّما هو على العامل

دون المالك، وأمّا عتق نصيب العامل فلاختياره السبب المفضي إليه، كما لو اشتراه بماله.

وأمّا عدم سريان العتق على العامل مع يساره فلصحيحة محمد بن أبي عمير، عن محمد بن قيس، عن أبي عبد الله(علیه السلام) في رجل دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة فاشترى

أباه وهو لا يعلم، قال: «يقوّم، فإن زاد درهماً واحداً أعتق، واستُسعي في مال الرجل»(1) أطلق الحكم بالاستسعاء من غير سؤال عن حال العامل هل هو موسر أو معسر ؟ وترك الاستفصال في مثل ذلك دليل العموم، وليس السؤال عن رجل معين ليحتمل كونه(علیه السلام) عالماً بحاله، بل عن مطلق يحتمل الأمرين، ولأنّ التقويم عليه على خلاف الأصل؛ إذ هو شغل

ص: 221


1- الكافي، ج 5، ص 241 ، باب ضمان المضاربة .... ح 8 ، وفيه: «محمد بن ميسر بدل «محمد بن قيس»؛ الفقيه ج 3، ص 228، ح 3847؛ تهذيب الأحكام، ج 7، ص 190، ح 841.

...

_______________________________

لذمة بريئة، فيقتصر فيه على موضع الوفاق.

والوجه الثاني الحكم بحاله إلّا أنّه يقوم على العامل مع يساره؛ لاختياره السبب، وهو موجب للسراية؛ لأن اختيار السبب اختيار للمسبب، كما سيأتي(1) إن شاء الله تعالى، وحملت الرواية على إعسار العامل؛ جمعاً بين الأدلة، أو على تجدّد الربح بعد الشراء كما سيأتي.

والثالث بطلان البيع؛ لأنّه منافٍ لمقصود القراض؛ إذ الغرض هو السعي للتجارة التي تقبل التقليب للاسترباح، وهذا الشراء بتعقب العتق له ينافي ذلك، فيكون مخالفاً للتجارة، فيكون باطلاً؛ لعدم الإذن فيه أو موقوفاً على الإجازة والوسط لا يخلو من قوة لو لا إطلاق الرواية.

وإن لم يكن فيه ربح حال الشراء ثمّ ظهر بارتفاع السوق، بُني على الأقوال كما مرّ.

فإن قلنا بملكه بالظهور عتق نصيب العامل أيضاً قطعاً؛ لحصول المقتضي، لكن هل يسري عليه لو قلنا به في السابق؟ وجهان:

أحدهما: إلحاقه به؛ لاختياره السبب وهو الشراء؛ إذ لولاه لم يملك شيئاً بارتفاع السوق، وهو اختيار للمسبب.

وفيه نظر؛ لأنّ الشراء ليس هو مجموع السبب، بل جزؤه، والسبب القريب إنّما هو ارتفاع السوق، ولا دخل لاختياره فيه، فلا يكون مختاراً للسبب؛ لأنّ جزءه غير مقدور، ولكن إطلاق الرواية السابقة يتناوله، فإنّه يشمل ما لو كان الربح موجوداً حال الشراء ومتجدّداً بعده، وقد ترك الاستفصال أيضاً فيعمّ، كما مرّ.

والوجه الثاني: عدم السراية؛ لعدم اختياره السبب، كما قد علم من مطاوي السابق.

والأوّل أقوى لو لا معارضته إطلاق الرواية، وهذا هو السر في إطلاق المصنف الحكم بالعتق من غير نظر إلى تجدّد الربح ووجوده، وعدم السراية على العامل مطلقاً تقييداً بإطلاق النصّ وإن كان منافياً لما سيأتي(2) من القواعد في بابه.

ص: 222


1- يأتي في ج 8، ص 377.
2- يأتي في ج 8، ص 353 ومابعدها.

الخامسة : • إذا فسخ المالك صحّ، وكان للعامل أُجرة المثل إلى ذلك الوقت. ولو كان بالمال عروض قيل: كان له أن يبيع، والوجه المنع ولو ألزمه المالك قيل: یجب عليه أن ينضّ المال والوجه أنّه لا يجب.

_______________________________________

قوله: «إذا فسخ المالك صح - إلى قوله - والوجه أنه لا يجب».

إذا انفسخ عقد القراض، فلا يخلو إما أن يكون فسخه من المالك، أو من العامل، أو منهما، أو من غيرهما، كعروض ما يقتضي الانفساخ من موتٍ وجنون وغيرهما، وعلى كل تقدير فإمّا أن يكون المال ناضاً كلّه، أو قدر رأس المال، أو بجميعه عروض، أو ببعضه دون ذلك، وعلى التقادير الستّة عشر إمّا أن يكون قد ظهر ربح ولو بالقوّة، كوجود من يشتري بزيادةٍ عن القيمة، أو لا، فهذه أقسام المسألة، وهي اثنتان وثلاثون، وأكثر حكمها مختلف يحتاج إلى التفصيل ، والمصنّف ذكر حكم ما لو كان الفسخ من المالك مع بعض أقسامه، كما ترى.

وجملة أحكامها أنّ المال لو كان ناضاً ولا ربح أخذه المالك، ولا شيء للعامل، إلّا أن يكون الفسخ من قبله، فعليه أجرة العامل لمثل ما عمل على ما يقتضيه إطلاق المصنّف؛ لأنّ علمه محترم صدر بإذن المالك لا على وجه التبرّع بل في مقابلة الحصّة، وقد فاتت بفسخ المالك قبل ظهور الربح، فيستحق أجرة المثل إلى حين الفسخ.

ويشكل بأنّه لم يقدم إلا على الحصة على تقدير وجودها، ولم توجد فلا شيء له، والمالك مسلّط على الفسخ حيث شاء.

ويمكن دفعه بأنّه إنّما جعل له الحصّة خاصّةً على تقدير استمراره إلى أن يحصل، وهو يقتضي عدم عزله قبل حصولها، فإذا خالف فقد فوّتها عليه، فيجب عليه أُجرته، كما إذا فسخ الجاعل بعد الشروع في العمل.

وفيه نظر؛ لأنّ رضاهما بهذا العقد قدوم على مقتضياته، ومنها جواز فسخه في كلّ وقت،

والأجرة لا دليل عليها.

وهذا البحث آتٍ فيما لو فسخ المالك قبل الإنضاض أيضاً.

ص: 223

...

__________________________________

وإن كان قد ظهر ربح والحال أنّه بعد الإنضاض أخذ العامل حصّته منه - وإن قل - خاصّةً اتّفاقاً.

وإن كان الفسخ قبل الإنضاض ولم يظهر ربح أخذه المالك إن شاء.

وهل للعامل أن يبيعه لو أراد من دون رضى المالك؟ قولان، مبناهما كونه ملك المالك، فلا يُجبر على بيعه، والفرض عدم تعلّق حق العامل به حيث لا ربح، ومن تعلّق حقّ العامل به واحتمال وجود زبون يزيد في الثمن فيحصل الربح.

وضعف الأخير ظاهر. نعم، لو كان الزبون المذكور موجوداً بالفعل توجّه الجواز؛ لأنّه في قوّة ظهور الربح.

ولو انعكس الحال، بأن طلب المالك منه إنضاض المال ولا ربح فيه، ففي إجبار العامل عليه قولان، من ظاهر قوله(صلی الله علیه و آله و سلم) : «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي»(1)، وقد أخذه نقداً، فيجب ردّه إليه، ولحدوث التغيّر في المال بفعله فيجب ردّه، ومن حدوث التغيّر بإذن المالك، وأصالة البراءة من عمل لا عوض عليه بعد ارتفاع العقد، ولعله أقوى.

وإن كان قد ظهر ربح والحال أنّه قبل الإنضاض وقلنا بملكه بالظهور، فإن اتّفقا على أخذ حقّه منه بغير إنضاض فلا بحث وإلّا فإن طلب المالك إنضاضه وجب على العامل إجابته؛ لأنّ استحقاقه الربح وإن كان ثابتاً بظهوره إلّا أنّ استقراره مشروط بالإنضاض، فيحتمل عروض ما يقتضي سقوطه.

وإن طلب العامل البيع خاصّةً ففي وجوب إجابة المالك له وجهان، مأخذهما إمكان وصول العامل إلى حقّه بقسمة العروض، وإسقاط باقي العمل عنه تخفيف من المالك؛ لأنّه حقّه، فلا يكلّف الإجابة إلى بيع ماله بعد فسخ المعاملة، وأنّ حال العامل لا يزيد على حال الشريك، ومعلوم أنّه لا يكلّف شريكه إجابته إلى البيع.

ص: 224


1- تقدم تخريجه في ص 50، الهامش 1.

•وإن كان سلفاً كان عليه جبايته،

___________________________________

ومن وجوب تمكين العامل من الوصول إلى غرضه الحاصل بالإذن، وربما لم يوجد راغب في شراء بعض العروض، أو وُجد لكن بنقصان، أو رجي وجود زبون يشتري بأزيد فيزيد الربح ، ولا ريب أنّ للعامل مزيّة على الشريك من حيث إنّ حقّه يظهر بالعمل ، والربح عوضه.

ولو قلنا بتوقّف ملكه على الإنضاض أو غيره فوجوب إجابته أبعد.

وموضع الإشكال ما إذا طلب العامل البيع في الحال، أمّا لو طلب تأخيره إلى وقت متأخر كموسم متوقّع فليس له ذلك قطعاً؛ للضرر.

ولو كان الفسخ في هذه الصور من العامل فالحكم كذلك، إلّا أنّ استحقاقه الأجرة لو كان ناضّاً لا ربح فيه أبعد. وكذا وجوب إجابة المالك له إلى بيعه في الحالين؛ لأنّ المانع من قبله.

وفي التذكرة أطلق الحكم بثبوت الأجرة له لو فسخا العقد أو أحدهما وكان ناضّاً ولا ربح(1).

ولو كان بعضه ناضّاً، فإن كان قدر رأس المال اتجه عدم إجبار العامل على إنضاض الباقي ؛ لرجوع المال إلى المالك كما كان. وأولى منه لو كان أزيد.

ولو كان أقلّ توجّه جواز اقتصاره على إنضاض قدره لو قلنا بإجباره على الإنضاض فيما سبق.

وفي أكثر هذه الفروع إشكال من عدم نصّ على التعيين، وتعارض الوجوه الدالّة على الحكم، وجملتها ما قد رأيت.

قوله: «وإن كان سلفاً كان عليه جبايته».

قد عرفت أنّ العامل ليس له البيع بالدين إلا مع الإذن، وكذا الشراء نسيئة، كالسلف، فمع عدم إذن المالك فيه يكون الثمن مضموناً على العامل ولا كلام فيه هنا.

ص: 225


1- تذكرة الفقهاء ، ج 17، ص 133، المسألة 285 .

•وكذا لو مات ربّ المال وهو عُروض كان له البيع، إلّا أن يمنعه الوارث، وفيه قولٌ آخَر .

السادسة: • إذا قارض العامل غيره، فإن كان بإذنه وشرط الربح بين العامل الثاني والمالك صحّ ، ولو شرط لنفسه لم يصحّ؛ لأنّه لا عمل له.

____________________________________

وإنّما الكلام فيما إذا أذن فيه، وقد أطلق المصنّف وجماعة(1) وجوب جبايته على العامل، وكذا غيره من الدين المأذون فيه؛ لاقتضاء المضاربة ردّ رأس المال على صفته، والديون لا تجري مجرى المال، ولأنّ الدين ملك ناقص، والذي أخذه كان ملكاً تامّاً، فليؤد كما أخذ، لظاهر «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي»(2).

وربما احتمل عدم الوجوب؛ لمنع كون المضاربة كما ذُكر، والحال أنّ الإدانة بإذن المالك، ولأصالة براءة الذمّة من وجوبه.

ويضعّف بأنّ إذن المالك فيه إنّما كانت على طريق الاستيفاء، لا مطلقة، بدلالة القرائن، ولاقتضاء الخبر ذلك.

ولو قلنا فيما سبق بجواز إجباره على بيع العروض فهنا أولى.

قوله: «وكذا لو مات ربّ المال وهو عروض كان له البيع» إلى آخره.

الحكم هنا مبنيُّ على ما سلف من الفسخ، فإنّ الموت من جملة أسبابه، فوجوب إجابة كلّ واحدٍ من العامل والوارث لو طلب الآخر فيه ما سلف من التفصيل.

والقول الآخر هنا أنّه ليس للعامل البيع وإن لم يمنعه الوارث؛ لأن المال حق لغير من أذن فيه أوّلاً، فلا يجوز التصرّف فيه إلّا بإذنه؛ لبطلان العقد، وهو متّجه.

قوله: «إذا قارض العامل غيره، فإن كان بإذنه وشرط الربح بين العامل الثاني والمالك صحّ، ولو شرط لنفسه لم يصحّ؛ لأنّه لا عمل له».

إذن المالك للعامل في المضاربة قد يكون بمعنى جعل العامل هو الثاني، والعامل

ص: 226


1- منهم يحيى بن سعيد في الجامع للشرائع، ص 315؛ والعلّامة في إرشاد الأذهان، ج 1، ص 436.
2- تقدم تخريجه في ص 50، الهامش 1.

•وإن كان بغير إذنه لم يصحّ القراض الثاني، فإن ربح كان نصف الربح للمالك والنصف الآخر للعامل الأول وعليه أجرة الثاني، وقيل: للمالك أيضاً؛ لأنّ الأوّل لم يعمل، وقيل: بين العاملين ويرجع الثاني على الأوّل بنصف الأجرة، والأوّل حسن.

_____________________________________

الأوّل إذا أراد ذلك بمنزلة وكيل المالك، وقد يكون بمعنى إدخال من شاء معه، وجعلهما عاملين، وقد يكون بالأعمّ منهما، ومراد المصنّف هنا الأول، ومن ثمّ لم يصحّ أن يجعل له شيئاً من الربح؛ لأنّه ليس بعامل، وقد تقدّم أنّ مقتضى عقد القراض كون الربح بین المالك والعامل (1).

ولا فرق في هذه الصورة بين جعل الحصّة للعامل الثاني بقدر حصة الأوّل ودونها؛ لأنّ النقصان هنا وإن كان بسعي العامل الأوّل فليس بعمل من أعمال التجارة التي يستحقّ به حصة، ولو كانت الإذن بالمعنى الثاني أو بالأعمّ، وجعل الثاني شريكاً له في العمل والحصّة بينهما صحّ لانتفاء المانع في الأوّل، وهو عدم العمل.

قوله: «ولو كان بغير إذنه لم يصحّ القراض الثاني - إلى قوله - والأوّل حسن».

إذا عامل العامل بغير إذن المالك وسلّمه المال، فلا يخلو إما أن يبقى المال في يد الثاني موجوداً أو يتلف، وعلى التقديرين إمّا أن يظهر ربح، أو لا، ثمّ إمّا أن يكون الثاني عالماً بأنّ الأوّل غير مالك للمال، ولا مأذون له في ذلك، أو لا، ثمّ إمّا أن يجيز المالك العقد الثاني، أو يرده، فإن لم يجزه بطل، ورجع في ماله إن وجده باقياً ولا ربح فيه، وإن وجده تالفاً تخيّر في الرجوع على أيّهما شاء؛ لتعاقب أيديهما على ماله، فإن رجع على الأوّل رجع على الثاني مع علمه؛ لاستقرار التلف في يده، لا مع جهله على الأقوى؛ لغروره، ودخوله على أنّه أمانة، وإن رجع على الثاني لم يرجع على الأوّل مع علمه، ويرجع مع جهله على الأقوى، وإن وجده باقياً وقد ربح فنصف الربح للمالك بغير إشكال، وأمّا النصف الآخر ففيه أقوال:

أحدها: ما اختاره المصنّف من أنّه للعامل الأوّل؛ لوقوع العقد الصحيح معه، فيستحقّ

ص: 227


1- تقدم في ص 205.

...

_____________________________________

ما شرط، وعقده مع الثاني فاسد، فلا يتبع شرطه، وعلى هذا فللثاني أُجرة مثل عمله على

الأول؛ لأنّه غره.

وهذا يتمّ مع جهل الثاني لا مع علمه، وفيه مع ذلك أنّ الشراء إن كان بعين المال والحال أنه غير مأذون من المالك فهو فضولي، فينبغي أن يقف على إجازته، فإن أجاز فالجميع له؛ لأنّ العامل الأول لم يعمل شيئاً، والثاني غير مأذون، وإن كان في الذمة ونوى أو صرّح بالمالك فكذلك، وإلا وقع لمن نواه، ولنفسه إن أطلق، فلا يتم ما أطلق في هذا القول.

وثانيها: أن النصف الآخر للمالك أيضاً؛ لأنّ العامل الأول لم يعمل شيئاً، والثاني عقده فاسد.

ولا بد من تقييده بما ذكرناه، وعلى هذا فأجرة الثاني على الأول مع جهله لا على المالك : لعدم أمره.

وثالثها: أنّ النصف بين العاملين بالسويّة اتباعاً للشرط، خرج منه النصف الذي أخذه المالك، فكأنّه تالف، وانحصر الربح في الباقي، وعلى هذا فيرجع العامل الثاني على الأوّل بنصف أجرته؛ لأنّه دخل على نصف الربح بتمامه، ولم يسلم له إلّا نصفه.

ويحتمل هنا عدم الرجوع؛ لأنّ الشرط محمول على اشتراكهما فيما يحصل، ولم يحصل إلّا النصف، هذا كلّه مع جهل الثاني ليتمّ التوجيه.

وهذه الأقوال ليست لأصحابنا، ولا نقلها عنهم أحد ممّن نقل الخلاف وإن كان ظاهر العبارة ب_ «قيل وقيل» يشعر به. وإنّما هي وجوه للشافعيّة(1) موجهة، ذكرها المصنّف والعلامة في كتبه(2) ، و نقل الشيخ في المبسوط (3)قريباً منها بطريقةٍ أخرى غير منقّحةٍ.

ص: 228


1- العزيز شرح الوجيز، ج 1، ص 29؛ روضة الطالبين، ج 4، ص 212.
2- تذكرة الفقهاء ، ج 17، ص 89، ضمن المسألة 248؛ تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 258، الرقم 4558.
3- المبسوط، ج 2، ص 622.

السابعة: • إذا قال: «دفعتُ إليه مالاً قراضاً» فأنكر، فأقام المدعى بيّنةً، فادّعى العامل التلف قضي عليه بالضمان. وكذا لو ادّعى عليه وديعةً أو غيرها من الأمانات،

_______________________________

ولهم وجه رابع أنّ جميع النصف للعامل الثاني عملاً بالشرط، ولا شيء للأول؛ إذ لا ملك له ولا عمل(1).

والتحقيق في هذه المسألة المرتب على أصولنا أنّ المالك إن أجاز العقد فالربح بينه وبين الثاني على الشرط، وإن لم يجزه بطل.

ثم الشراء إن كان بالعين وقف على إجازة المالك، فإن أجاز فالملك له خاصّةً، ولا شيء لهما في الربح، أمّا الأول؛ فلعدم العمل، وأما الثاني؛ فلعدم الإذن له، وعدم وقوع العقد معه، وللثاني أجرة مثل عمله على الأوّل مع جهله لا مع علمه.

وإن كان الشراء في الذمّة ونوى صاحب المال فكذلك، وإن نوى من عامله وقع الشراء له؛ لأنّه وكيله، وإن لم ينو شيئاً أو نوى نفسه فالعقد له، وضمان المال عليه؛ لتعدّيه بمخالفة مقتضى المضاربة، وحيث لا يقع العقد للعامل الثاني فله الأجرة على الأوّل مع جهله إن لم يتعدّ مقتضى المضاربة عمداً.

قوله: «إذا قال: «دفعتُ إليه مالاً قراضاً» فأنكر ، فأقام المدعي بيّنة، فادعى العامل التلف قضي عليه بالضمان».

لأنّ دعواه التلف مكذّبة لإنكاره الأوّل، وموجبة للإقرار به، وإنكاره الأوّل تعد في المال. فيكون ضامناً.

وقوله «قضي عليه بالضمان» معناه الحكم عليه بالبدل مثلاً أو قيمة، لا ضمان نفس الأصل؛ لئلا يلزم تخليده الحبس.

وهذه العبارة أجود من قول العلامة : لم تُقبل دعواه(2): لاستلزام عدم القبول حبسه إلى

ص: 229


1- راجع العزيز شرح الوجيز، ج 1، ص 29؛ وروضة الطالبين، ج 4، ص 212.
2- قواعد الأحكام، ج 2، ص 348.

• أما لو كان جوابه لا يستحقّ قبلى شيئاً، أو ما أشبهه لم يضمن.

الثامنة: • إذا تلف مال القراض أو بعضه بعد دورانه في التجارة احتسب التالف من الربح، وكذا لو تلف قبل ذلك، وفي هذا تردّد.

_________________________________________

أن يدفع العين، وقد تكون تالفة، إلّا أن يتكلّف نحو ما تقدّم من حبسه مدةً يظهر فيها اليأس من وجود العين (1).

ولا فرق في هذا الحكم بين مال المضاربة وغيره من الأمانات كما ذكر؛ لوجود المقتضي في الجميع.

قوله: «أما لو كان جوابه لا يستحقّ قبلي شيئاً، أو ما أشبهه لم يضمن».

إذ ليس في ذلك تكذيب للبيّنة، ولا للدعوى الثانية، فإنّ المال إذا تلف بغير تفريط لا يستحقّ عليه بسببه شيئاً، وحينئذ فيُقبل قوله في التلف بغير تفريط مع يمينه.

قوله: «إذا تلف مال القراض أو بعضه بعد دورانه في التجارة» إلى آخره.

ظاهر العبارة أنّ جميع مال القراض تلف، وحينئذٍ فجبره بالربح بعد الدوران ممكن، أمّا قبله فإنّه يوجب بطلان العقد، فلا يمكن جبره، إلّا أن يحمل على ما لو أذن له في الشراء في الذمّة، فاشترى ثمّ تلف المال ونقد عنه الثمن، فإنّ القراض يستمرّ، ويمكن جبره حينئذ بالربح

المتجدّد. ولو كان التالف بعض المال أمكن جبره على التقديرين.

ووجه التردّد فيما لو كان تلفه قبل الدوران من أنّ وضع المضاربة على أنّ الربح وقاية لرأس المال، فلا يستحقّ العامل ربحاً إلّا بعد أن يبقى رأس المال بكماله؛ لدخوله على ذلك، وعدم دورانه لا دخل له في الحكم، بخلافه، ومن أنّ التلف قبل الشروع في التجارة يُخرج التالف عن كونه مال قراض.

والأقوى عدم الفرق؛ لأنّ المقتضي لكونه مال قراض هو العقد لا دورانه في التجارة. فمتى تصوّر بقاء العقد وثبوت الربح جبر ما تلف مطلقاً.

ص: 230


1- تقدّم في ص 216.

التاسعة: • إذا قارض اثنان واحداً وشرطا له النصف منهما، وتفاضلا في النصف الآخر مع التساوي في المال كان فاسداً لفساد الشرط، وفيه تردّد.

__________________________________

والمراد بدوران المال في التجارة التصرّف فيه بالبيع والشراء، لا مجرّد السفر به قبل ذلك. وإطلاق المصنّف الجبر مع تلفه بعد الدوران يشمل ما لو تلف بآفة سماويّةٍ، وبغصب ،غاصب، وسرقة سارقٍ، وغير ذلك.

ووجه الإطلاق أنّ الربح وقاية لرأس المال، فما دام المال لا يكون موجوداً بكماله فلا ربح.

وربما قيل: باختصاص الحكم بما لا يتعلّق فيه الضمان بذمّة المتلف؛ لأنّه حينئذٍ بمنزلة الموجود، فلا حاجة إلى جبره، ولأنّه نقصان لا يتعلّق بتصرّف العامل وتجارته، بخلاف النقصان الحاصل بانخفاض السوق ونحوه. والمشهور عدم الفرق.

ولا يخفى أنّ الكلام مع عدم حصول العوض من المتلف، وإلّا كان العوض من جملة المال.

وقد ظهر بذلك أنّ الخلاف واقع بعد الدوران وقبله، إلّا أنّه ليس مطلقاً، بل على بعض الوجوه.

قوله: «إذا قارض اثنان واحداً وشرطا له النصف منهما - إلى قوله - وفيه تردّد».

وجه الفساد أنّ الربح يجب أن يكون تابعاً للمال، فإذا شرطا له النصف كان النصف الآخر بينهما بالسوية، فشرط التفاوت فيه يكون شرطاً لاستحقاق ربح بغير عمل ولا مالٍ.

ووجه التردّد ممّا ذُكر، ومن أنّ مرجع ذلك إلى أنّ أخذ الفاضل يكون من حصّة العامل لا من حصة الشريك؛ لأنّ الأصل لمّا اقتضى التساوي في الربح للشريكين مع التساوي في المال كان شرط التفاوت المذكور منصرفاً إلى حصّة العامل، بمعنى أنّ شارط الزيادة يكون قد جعل للعامل أقلّ مما جعل له آخذ النقيصة، وهو جائز.

هذا مع إطلاقهما شرط النصف له من غير تعيين لما يستحقّ على كلّ واحدٍ، فإنّه كما يحتمل الصحّة حملاً على ما ذكرناه يحتمل البطلان فيرجّح جانب الصحّة؛ لإمكان الحمل عليها، ولعموم: (أَوْنُواْ بِالْعُقُودِ)(1) ، وهذا هو الأقوى.

ص: 231


1- المائدة (5): 1.

العاشرة: • إذا اشترى عبداً للقراض فتلف الثمن قبل قبضه قيل: يلزم صاحب المال ثمنه دائماً ويكون الجميع رأس ماله، وقيل: إن كان أذن له في الشراء في الذمّة فكذلك، وإلّا كان باطلاً، ولا يلزم الثمن أحدهما.

الحادية عشرة : • إذا نضّ قدر الربح فطلب أحدهما القسمة، فإن اتّفقا صحّ، وإن امتنع المالك لم يُجبر، فإن اقتسما وبقي رأس المال معه فخسر ردّ العامل أقلّ الأمرين، واحتسب المالك.

__________________________________

أمّا لو صرّحا باستحقاقه من نصيب كلّ منهما بخصوصه نصفه فإنه يجيء في صحّة العقد والشرط ما سبق في الشركة من اشتراط التفاوت في الربح مع تساوي المالين وبالعكس(1).

وحيث قيّدنا الصحّة بعمل طالب الزيادة بطل هنا؛ إذ لا عمل لهما.

قوله: «إذا اشترى عبداً للقراض فتلف الثمن قبل قبضه» إلى آخره.

القول الأوّل للشيخ في المبسوط (2)، والثاني لابن إدريس(3) وإن غايره في شيء يسير.

والأقوى هنا ما أسلفناه سابقاً من التفصيل (4)، وهو أنّه إن كان العامل اشتراه في الذمّة والمالك أذن له في الشراء في الذمّة لزمه دفع الثمن ثانياً وثالثاً دائماً، وإلّا فإن صرّح بكون الشراء له وقف على إجازته، فإن أجاز لزمه الثمن، وإلّا بطل البيع، وإن لم يذكره لفظاً وقع الشراء للعامل والثمن عليه، ويبقى فيما لو نواه ما مرّ، وإن كان اشتراه بعين المال فهلك قبل دفعه بطل العقد، وحيث يلزم المالك الثمن ثانياً يكون الجميع رأس ماله، يجبر جميعه بالربح.

قوله: «إذا نضّ قدر الربح فطلب أحدهما القسمة - إلى قوله - واحتسب المالك».

قد عرفت أنّ ملك العامل للربح قبل القسمة غير مستقرّ؛ لجواز تجدّد تلفٍ أو خسران،

ص: 232


1- سبق في ص 153 وما بعدها.
2- المبسوط، ج 2، ص 637 .
3- السرائر، ج 2، ص 413.
4- سبق في ص 218 وما بعدها.

...

______________________________________

وهو وقاية للمال، فمن ثَمّ لا يُجبر المالك على قسمته، فإن اتفّقا على القسمة لم يملكها العامل ملكاً مستقرّاً أيضاً، بل مراعى بعدم الحاجة إليها لجبر الخسران وما في معناه، وحينئذ فإن اتّفق الخسران بعد القسمة ردّ العامل أقل الأمرين ممّا وصل إليه من الربح ومما يصيبه من الخسران؛ لأنّ الأقل إن كان هو الخسران فلا يلزمه سوى جبر المال، والفاضل له، وإن كان هو الربح فلا يلزمه الجبر إلّا به، وكذا يحتسب المالك، أي يحتسب رجوع أقلّ الأمرين إليه من رأس المال فيكون رأس المال ما أخذه هو والعامل وما بقي إن احتيج إليهما. هذا هو الظاهر من عبارة المصنّف وغيره(1) ، والمناسب لوجه الحكم.

وللشهيد (رحمه الله) على هذا ونظائره من عبارات العلّامة توجيه آخر:

وهو أن يكون المردود أقلّ الأمرين مما أخذه العامل من رأس المال، لا من الربح، فلو كان رأس المال مائة والربح عشرين، فاقتسما العشرين، فالعشرون التي هي ربح مشاعة في الجميع، نسبتها إلى رأس المال نسبة السدس، فالعشرون المأخوذة سدس الجميع، فيكون خمسة أسداسها من رأس المال وسدسها من الربح، فإذا اقتسماها استقرّ ملك العامل على نصيبه من الربح، وهو نصف سدس العشرين، وذلك درهم وثلثان يبقى معه ثمانية وثلث من رأس المال، فإذا خسر المال الباقي ردّ أقل الأمرين ممّا خسر ومن ثمانية وثلث(2).

هذا خلاصة تقريره، والحامل له عليه حكمهم بأنّ المالك إذا أخذ من المال شيئاً وقد ظهر ربح يحسب ما أخذه منهما على هذه النسبة، وسيأتي في الكتاب إشارة إليه(3).

وهذا الوجه ضعيف، والحمل على ما ذكر فاسد؛ لأنّ المأخوذ وإن كان مشاعاً إلا أنّ المالك والعامل إنّما أرادا به الربح وحيث كان المال منحصراً فيهما فالتمييز منوط بهما،

ص: 233


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 344.
2- حاشية القواعد، ص 379 (ضمن موسوعة الشهيد الاوّل، ج 14).
3- يأتي في ص 237.

الثانية عشرة: • لا يصحّ أن يشتري ربّ المال من العامل شيئاً من مال القراض، ولا أن يأخذ منه بالشفعة • وكذا لا يشتري من عبده القنّ.

_____________________________________

ولو كان يدخل في ذلك من رأس المال شيء لم يصح للعامل التصرّف فيه؛ لأنّ المالك لم يأذن إلّا في التصرف في الربح، ولم تقع القسمة والاتّفاق إلّا عليه.

وأيضاً فلا وجه لاستقرار ملك العامل على ما بيده من الربح مع اتّفاقهم على كونه وقاية وإن اقتسماه.

وأيضاً فتوقّف ردّ العامل رأس المال على ظهور الخسران لا وجه له؛ لأنّه لا يملك شيئاً من رأس المال، وإنّما حقّه في الربح.

وأمّا حمله على أخذ المالك فليس بجيّد؛ لأنّ المالك لا يأخذ على وجه القسمة، وإنّما يأخذ ما يعدّه ملكه، فلمّا كان فيه ربح وهو شائع دخل فيه جزء من الربح على نسبة المأخوذ، فيحتسب رأس المال بعد ذلك على حساب ما يبقى بعد توزيع المأخوذ على الأصل والربح، وأين هذا من أخذ العامل الذي لا يستحق إلّا في الربح، ولا يقاسم المالك إلّا عليه خاصّة؟

قوله: «لا يصح أن يشتري ربّ المال من العامل شيئاً من مال القراض» إلى آخره.

لأنّ مال العامل ماله، ولا يعقل أن يشتري الإنسان ماله، وهذا يتمّ مع عدم ظهور الربح،أمّا معه وقلنا بملکه به اتجه جواز شرائه حقّ العامل وإن كان متزلزلاً .

فلو ظهرت الحاجة إليه احتُمل صحّة البيع ولكن يلزم العامل ردّ قيمة ما أخذ، كما لو كان قد باعها لغير المالك أو أتلفها.

ويحتمل بطلان البيع؛ لأنّ الملك غير تام، بل مراعى بعدم الحاجة إلى الجبر به، وقد ظهر.

ومثله القول في الأخذ بالشفعة؛ لأنّه مع عدم ظهور الربح لا يعقل أخذ ماله بالشفعة، ومعه يصير شريكاً، فيمكن أخذه على الوجه المذكور. وليس في كلامهم تنقيح للمحلّ.

قوله « وكذا لا يشتري من عبده القنّ».

الكلام فيه كما تقدّم، فإنّ ما بيده للسيّد. ولا فرق بين المأذون له في التجارة وغيره.

ص: 234

•وله الشراء من المكاتب.

الثالثة عشرة: • إذا دفع مالاً قراضاً وشرط أن يأخذ له بضاعةً قيل: لا يصحّ؛ لأنّ العامل في القراض لا يعمل ما لا يستحق عليه أجراً، وقيل: يصحّ القراض ويبطل الشرط، ولو قيل بصحتهما كان حسناً.

___________________________________

نعم، حكى الشيخ (رحمه الله) قولاً بأن المأذون إذا ركبته الديون جاز للسيد الشراء منه - وهو قول لبعض الشافعية(1) - لأنّه لا حق للسيّد فيه، وإنما هو حق الغرماء(2).

وفساده ظاهر؛ لأنّ استحقاق الغرماء ما في يده لا يقتضي خروجه عن ملك السيّد، كتعلّق حق الغرماء بمال المفلّس.

نعم للسيد أخذ ذلك بقيمته؛ لأنّه أحقّ بماله مع بذل العوض، إلّا أن ذلك لا يُعدّ بيعاً، كما يأخذ العبد الجاني خطأ ويبذل قيمته. وذكر هذه المسألة في هذا الباب استطرادي، وكذا ما بعدها.

قوله: «وله الشراء من المكاتَب».

لأنّ ما في يده ملك له، وسلطنة المولى قد انقطعت عنه، فساوى غيره من المُلّاك، ولهذا لو انعتق لم يكن للمولى ممّا في يده شيء.

ولا فرق في ذلك بين المطلق والمشروط وإن كان الحكم في المشروط أضعف من حيث إمكان ردّه في الرق أجمع، فيرجع ما في يده إلى ملك السيّد، وليس كذلك المطلق؛ لأنّ ما في يده يُحسب من مال الكتابة لو احتيج إليه.

قوله: «إذا دفع مالاً قراضاً وشرط أن يأخذ له بضاعة - إلى قوله كان حسناً».

القولان الأولان للشيخ في المبسوط(3) .

ص: 235


1- راجع المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 5، ص 172، المسألة 3688؛ والشرح الكبير المطبوع مع المغني ج 5 ، ص 161 .
2- المبسوط، ج 2، ص 640 - 641.
3- المبسوط، ج 2، ص 641.

...

_______________________________________

واحتجّ على الأوّل بما أشار إليه المصنّف من أن وضع القراض على أن يكون للعامل في مقابلة عمله جزء من الربح، وهذا العمل ليس في مقابله شيء، فيفسد الشرط، ويتبعه العقد؛ لأنّ قسط العامل يكون مجهولاً؛ لاقتضاء الشرط قسطاً من الربح وقد بطل، فيبطل ما يقابله، فتتجهّل الحصة.

ووجه الثاني أنّ البضاعة لا يلزم القيام بها، فلا يفسد اشتراطها، بل تكون لاغية؛ المنافاتها العقد، ويصحّ العقد.

والأقوى ما اختاره المصنّف من الحكم بصحّتهما؛ لعموم الأمر بالوفاء بالعقود(1) وقوله(صلی الله علیه و آله وسلم) : «المؤمنون عند شروطهم»(2).

ويُمنع من منافاة هذا الشرط لمقتضى العقد، فإنّ مقتضاه أن يكون عمله في مال القراض بجزء من الربح، أما غيره فلا، فإذا تناوله دليل مجوّز لزم القول بجوازه.

لكن يبقى في المسألة ،بحث، وهو أنّ البضاعة لا يجب القيام بها؛ لأنّ مبناها على ذلك، والقراض من العقود الجائزة لا يلزم الوفاء به، فلا يلزم الوفاء بما شرط في عقده؛ لأنّ الشرط كالجزء من العقد فلا يزيد عليه، والحال أنّ المالك ما جعل الحصّة المعيّنة للعامل إلّا بسبب الشرط، فإن وفى به فلا بحث وإلّا أشكل الأمر.

والذي تقتضيه القواعد أنّه لا يلزم العامل الوفاء به - وبه صرّح في التحرير(3) - فمتى أخلّ تسلّط المالك على فسخ العقد وإن كان ذلك له بدون الشرط؛ إذ لا يمكن هنا سوى ذلك.

فإن فسخ قبل ظهور الربح فللعامل عليه الأجرة، كما مرّ (4)، وإن فسخ بعد ظهوره، ففي كون جميع الربح للمالك نظر؛ من أنّه لم يبذله للعامل إلّا بالشرط وقد فات، ومن ملك العامل له

ص: 236


1- المائدة (5): 1.
2- تقدم تخريجه في ص 18، الهامش 1.
3- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 3، ص 261، الرقم 4566.
4- مر في ص 223.

الرابعة عشرة: • إذا كان مال القراض مائةً فخسر عشرة، وأخذ المالك عشرة، ثمّ عمل بها الساعي فربح كان رأس المال تسعة وثمانين إلّا تُسْعاً؛ لأنّ المأخوذ محسوب من رأس المال، فهو كالموجود، فإذاً المال في تقدير تسعين، فإذا قسّم الخسران - وهو عشرة - على تسعين كان حصّة العشرة المأخوذة ديناراً وتسعاً فيوضع ذلك من رأس المال.

_____________________________________

قبل الفسخ والأصل بقاؤه، والمالك قد قدم على ذلك، حيث اقتصر على شرط ذلك في عقد لا يلزم الوفاء فيه بالشرط.

وربما قيل هنا: بأنّ للمالك الربح كلّه، وعليه الأجرة(1) ؛ لما ذكرناه. ولا يخلو من اشكال.

قوله: «إذا كان مال القراض مائةً فخسر عشرة - إلى قوله من رأس المال».

لمّا كان الربح إنّما يجبر خسران رأس المال الذي ربح لا مطلق الخسران، فإذا أخذ المالك بعد الخسران شيئاً كان من جملة رأس المال، فلابدّ أن يخصّه من الخسران شيء، فيسقط من أصل الخسران، ويجبر الربح الباقي، فإذا فرض أنّ المال كان مائةً، فخسر عشرة وأخذ المالك بعد الخسران عشرةً، ثمّ ربح المال الباقي، فهذا الربح لا يجبر مجموع ذلك الخسران؛ لأنّ الذي أخذه المالك من جملة المال الخاسر، وقد بطل القراض فيه بأخذه، فلا بدّ من إسقاط ما يخصّه من الخسران، ثمّ يجبر الباقي منه بالربح الجديد. وبالجملة، فإنّما يجبر الربح خسران المال الذي ربح.

وطريق معرفة ما يخصّ المأخوذ من الخسران أن يبسّط الخسران - وهو عشرة - على المال، وهو تسعون، فنصيب كلّ واحدٍ تسع، فنصيب العشرة المأخوذة دينار وتُسع، فيوضع ذلك - أعنى الدينار والتشع الذي أصاب العشرة من الخسران - ممّا بقى من أصل رأس المال بعد العشرة، وهو تسعون؛ لأنّه لمّا استرد العشرة فكأنه استرد نصيبها من الخسران.

والضابط أن ينسب المأخوذ إلى الباقي، ويأخذ للمأخوذ من الخسران بمثل تلك النسبة.

ص: 237


1- في حاشية بعض النسخ «القائل الشيخ عليّ ( رحمه الله) في الشرح (منه رحمه الله)». راجع جامع المقاصد ج 8، ص 56 .

مسالك الأفهام / 4

الخامسة عشرة: • لا يجوز للمضارب أن يشتري جاريةً يطأها وإن أذن له المالك، وقيل: يجوز مع الإذن، أما لو أحلّها بعد شرائها صحّ.

السادسة عشرة: • إذا مات وفي يده أموال مضاربة، فإن علم مال أحدهم بعينه كان أحق به، وإن جهل كانوا فيه سواء،

_________________________________________

قوله: «لا يجوز للمضارب أن يشتري جاريةٌ يطأها» إلى آخره.

لا إشكال في تحريم وطئه بدون الإذن؛ لأنّها مال الغير، فلو فَعَل كان زانياً يُحدّ مع عدم الشبهة كاملاً إن لم يكن ظهر ربح، وإلّا فبقدر نصيب المالك.

وأمّا إذا أذن له في شراء جاريةٍ ووطئها فالحقّ أنّه كذلك؛ لأنّ الإذن قبل الشراء لا أثر له؛ لأنّ التحليل إمّا تمليك أو عقد، وكلاهما لا يصلحان قبل الشراء، فلا يتناوله الحصر في قوله: (إِلَّا عَلَى أَزْوَجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَتُهُمْ)(1).

والقول بالجواز للشيخ في النهاية(2) ؛ استناداً إلى رواية (3)ضعيفة السند، مضطربة المفهوم، قاصرة الدلالة.

وأمّا إذا أذن له بعد الشراء على وجهه فلا ريب في جوازه إن لم يكن ظهر فيها ربح وإلّا بني على تحليل أحد الشريكين لصاحبه. والأقوى المنع.

قوله: «إذا مات وفي يده أموال مضاربة» إلى آخره.

ضمير «فيه» يعود إلى المال المجتمع من أموال المضاربة، ومعنى استوائهم في ذلك المال أنّه يقسّم بينهم على نسبة أموالهم، لا أن يقسّم بالسوية، كما في اقتسام غيرهم من الشركاء. هذا إذا كانت أموالهم مجتمعةً في يده على حدة، وأمّا إذا كانت ممتزجة مع جملة ماله مع العلم بكونه موجوداً ، فالغرماء بالنسبة إلى جميع التركة كالشريك، إن وسعت التركة أموالهم أخذوها، وإن قصرت تحاصّوا.

ص: 238


1- المؤمنون (23): 6.
2- النهاية، ص 430 .
3- تهذيب الأحكام، ج 7، ص 191 ، ح 845 .

•فإن جهل كونه مضاربةً قضي به ميراثاً.

__________________________________________

قوله: «وإن جهل كونه مضاربة قضي به ميراثاً».

المراد أنّ العامل كان بيده مضاربة في الجملة، ولكن لم يعلم بقاءها ولا تلفها، وبواسطة ذلك جهل كون المال الذي بيده مضاربة؛ إذ كما يمكن أن يكون من مال المضاربة يمكن كونه ماله فيحكم بكونه ميراثاً؛ عملاً بظاهر اليد، ولكن مع ذلك هل يُحكم بضمانه للمضاربة من حيث أصالة بقائه إلى أن يُعلم تلفه بغير تفريط، ولعموم: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي»(1) أم لا؛ لأصالة براءة الذمّة، وكونه أمانةٌ غير مضمون، وأصالة بقائه لا تقتضي ثبوته في ذمّته مع كونه أمانة؟ وجهان.

ويتخرّج على الأوّل أنّ أصالة بقائه تقتضي كون مالكه كالشريك في مال العامل حيث يشتبه ماله فيه، فيقدّم على غيره من الغرماء، مع احتمال كونه أسوتهم؛ لأنّ العامل يصير ضامناً بترك تعيينه والوصيّة به، فإذا لم توجد العين كان بمنزلة التلف.

والأقوى ما اختاره المصنّف من عدم ثبوت شيءٍ للمالك حيث لا يُعلم بقاؤه يقيناً في يده إلى حين موته؛ لأصالة البراءة، واستحقاق شيءٍ من التركة موقوف على وجود سببه، ومجرّد المضاربة لا تصلح للسببية؛ لأنّ ثبوته في الذمّة موقوف على ثبوت التقصير، وفي عين التركة موقوف على العلم بكونه من جملتها، والأصل عدمهما.

نعم، لو علم وجوده فيها باعتراف العامل في وقت لا يمكن تجدّد تلفه فيه عادةً، أو بشهادة عدلين، فصاحبه كالشريك، أو علم تلفه بتقصير، أو بقاؤه إلى بعد الموت مع تقصير العامل في ترك الوصيّة به، فصاحبه أسوة الغرماء.

وقد مضى مثل هذا البحث في الرهن(2) .

ص: 239


1- تقدم تخريجه في ص 50 الهامش 1.
2- تقدم في ج 3، ص 430، الخامس في المرتهن.

ص: 240

كتاب المزارعة والمساقاة

• أمّا المزارعة فهى معاملة على الأرض بحصّة من حاصلها.

________________________________

كتاب المزارعة والمساقاة

قوله: «أمّا المزارعة فهي معاملة على الأرض بحصّة من حاصلها».

المزارعة - لغة - مفاعلة من الزرع(1)، وهي تقتضي وقوعه منهما معاً، كما يقتضيه باب المفاعلة، لكنّها في الشرع صارت معاملة على الأرض بحصّة من حاصلها.

ويمكن إثبات المفاعلة فيها أيضاً، كما تقدّم مثله في المضاربة(2)؛ لأنّ أحد المتعاملين زارع والآخر آمر به، فكأنّه لذلك فاعل؛ نظراً إلى السببيّة.

والمعاملة في التعريف بمنزلة الجنس يشمل إجارة الأرض والمساقاة، ولكنّ الإجارة خرجت بالقيد الأخير؛ لأنّها لا تصحّ بحصّة من النماء، بل بأجرة معلومة، والمساقاة بقيد الأرض؛ لأنّها معاملة على الأصول بحصّة منها وإن كانت الأرض من توابعها.

وقد يُعبَّر عن المزارعة بالمخابرة، إمّا من الخبير وهو الأكار، أو من الخَبارة، وهي الأرض الرخوة، أو مأخوذة من معاملة النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) لأهل خيبر(3) .

ص: 241


1- المصباح المنير، ص 252، «زرع».
2- تقدم في ص 185.
3- الكافي، ج 5، ص 268 ، باب مشاركة الذمّي وغيره .... ح 2: الفقيه، ج 3، ص 239 - 240، ح 3879؛ تهذيب الأحكام، ج 7، ص 198، ح 876.

•وعبارتها أن يقول: «زار عتك» أو «ازرع هذه الأرض» أو «سلّمتها إليك» وما جرى مجراه مدةً معلومةٌ، بحصّة معيّنةٍ من حاصلها.

____________________________________

والمزارعة عقد مشروع عندنا إجماعاً، وعند أكثر علماء الإسلام، ومَنَع منه الشافعي وأبو حنيفة وبعض العامّة، إلّا في مواضع مخصوصة(1) .

قوله: «وعبارتها أن يقول: زارعتك، أو ازرع هذه الأرض» إلى آخره.

المزارعة من العقود اللازمة، فلابد فيها من الإيجاب والقبول الدالّين على الرضى بتسليم الأرض وتسلّمها للزراعة بالحصّة المخصوصة، وكونها بالعربيّة.

ولا ريب في الاجتزاء ب_«زارعتك»، و«سلّمت إليك»، و«قبلتك»، و«عاملتك» ونحوها من صيغ الماضي الدالّة على الإنشاء صريحاً.

وأمّا قوله: «ازرع هذه الأرض» بصيغة الأمر، فإنّ مثل ذلك لا يجيزونه في نظائره من العقود، لكنّ المصنّف وجماعة(2) أجازوه هنا؛ استناداً إلى روايتي أبي الربيع الشامي (3)والنضر بن سويد(4) عن أبي عبد الله (علیه السلام)(5).

وهُما قاصرتان عن الدلالة على ذلك، فالاقتصار على لفظ الماضي أقوى؛ إلحاقاً له بغيره.

وفي عبارة المصنّف تجوّز؛ لأنّه قال: «وعبارتها كذا ولم يذكر القبول، مع أنّه أحد ركني العبارة عنها، فلابدّ من ذكره.

ولعلّه أشار بما ذُكر إلى الاكتفاء بالقبول الفعلي كما اختاره العلّامة في القواعد(6). فتنحصر العبارة في الإيجاب.

ص: 242


1- الحاوي الكبير ، ج 7، ص 450 - 451: المبسوط، السرخسي، ج 23، ص 19 : المغني المطبوع مع الشرح الكبير ، ج 5، ص 582 المسألة 4138 .
2- منهم العلّامة في إرشاد الأذهان، ج 1، ص 426: وتحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 137، الرقم 4313.
3- الفقيه، ج 3، ص 249 - 250، ح 3907؛ تهذيب الأحكام، ج 7، ص 194 ، ح 857.
4- في المصدر :إضافة: «عن عبد الله بن سنان».
5- الكافي، ج 5، ص 267، باب قبالة الأرضين والمزارعة .... ح 4؛ تهذيب الأحكام، ج 7، ص 197، ح 872 .
6- قواعد الأحكام، ج 2، ص 311 .

...

_________________________________

والأقوى اعتبار القبول اللفظي، كغيره من العقود اللازمة.

واعلم أنّه قد استفيد من حقيقة المزارعة ومن صيغتها أنّ المعقود عليه هو الأرض المملوكة المنتفع بها، كما سيتحرّر من شرائطها، ويبقى من لوازمها البذر والعمل والعوامل، وهي بحسب ما يتّفقان عليه في مقابلة الأرض، أو بعضها مضافاً إليها من صاحب الأرض وبعضها على العامل، وصُورها المتشعّبة منها كلّها جائزة، وأنّه لا تشرع المزارعة بين المتعاملين إذا لم تكن الأرض ملكاً لأحدهما، كما في الأرض الخراجيّة وإن بقي من لوازمها ما يمكن اشتراكهما فيه؛ لما قد عرفت أنّ متعلّقها والمعقود عليه فيها هو الأرض، فلو اتّفق اثنان على المعاملة في مثل ذلك في الأرض الخراجيّة فطريق الصحّة الاشتراك في البذر بحيث يمتزج على الوجه المقرّر في باب الشركة، ويجعلان باقي الأعمال بينهما على نسبة المال، ولو اتفّقا على زيادة عمل من أحدهما، نوى به التبرّع، فلا رجوع له بالزائد، ولو أرادا جعل الحاصل مختلفاً مع التساوي في البذر أو بالعكس بني على ما تقرّر في الشركة من جواز ذلك، وقد عرفت أنّ المختار جواز الزيادة في القدر للعامل أو من له زيادة في العمل، فليلحظ ذلك أو غيره من الحِيل الشرعيّة على تسويغ هذه المعاملة؛ لأنّها متداولة في كثير من البلاد التي أرضها غير مملوكة، فيحتاج فيها إلى وجه مجوّز. ويمكن فرضه بأمورٍ:

منها: أن يجعلا البذر بينهما على حسب ما يتّفقان عليه والنفقة حينئذٍ على نسبة الملك، فإن زاد أحدهما واتّفقا على التبرّع به جاز ولا رجوع به، وقد تقدّم.

ومنها: أن يكون البذر بينهما كذلك، ويصالح من له العوامل للزارع على منفعة عوامله المقابلة لحصّة الزارع بعمل الزارع المقابل لحصة الآخر مدةً معلومة.

ومنها: أن يكتري كلّ منهما الحصّة من ذلك العمل بشيءٍ معلوم يتّفقان عليه، بأن يستأجر صاحب العوامل الزارع على عمل نصيبه مدة معلومة بألف مثلاً، ويستأجر الزارع نصف العوامل والآلات - مثلاً - بقدر ذلك أو غيره مدّةٌ مضبوطة. ولو كان البذر من أحدهما خاصّةً، فإن كان من صاحب العوامل استأجر منه نصف عمله بنصف عمل العوامل

ص: 243

•وهو عقد لازم لا ينفسخ إلّا بالتقايل، • ولا يبطل بموت أحد المتعاقدين.

والكلام إمّا في شروطه، وإما في أحكامه.

_______________________________

ونصف البذر مثلاً، أو صالحه كذلك، وإن كان البذر من العامل استأجر نصف العوامل - مثلاً - بنصف عمله ونصف البذر ، بشرط الضبط الرافع للجهالة في جميع ذلك، والصلح يجري في الجميع كذلك.

قوله: «وهو عقد لازم لا ينفسخ إلّا بالتقابل».

لزوم هذا العقد أمر متّفق عليه، ولأنّ الأصل لزوم العقد إلا ما أخرجه الدليل للأمر بالوفاء به(1) ، ولقوله(صلی الله علیه و آله و سلم) : «المؤمنون عند شروطهم»(2).

والمراد من الحصر المستفاد من قوله: «لا تبطل إلّا بالتقايل» البطلان المستند إلى اختيار المتعاقدين؛ لأنّ ذلك هو المفهوم عند إطلاق العقد اللازم والجائز، وبقرينة التقايل، فإنّه أمر اختياري، وينبّه عليه عطفه عدم بطلانه بالموت، بجعله جملة مستقلةً، وإنّما احتجنا إلى هذا التكلّف؛ لأنّ هذا العقد قد يبطل بغير التقايل، كانقطاع الماء وفساد منفعة الأرض ونحو ذلك.

قوله: «ولا تبطل بموت أحد المتعاقدين».

هذا ممّا يترتب على لزوم العقد، ولأصالة الدوام والاستصحاب.

ثمّ إن كان الميّت العامل قام وارثه مقامه في العمل، وإلّا استأجر الحاكم عليه من ماله أو على ما يخرج من حصّته، وإن كان الميّت المالك بقيت المعاملة بحالها، وعلى العامل القيام بتمام العمل .

وربما استثني من الأوّل ما إذا شرط عليه المالك العمل بنفسه، فإنّها تبطل بموته.

ويشكل لو كان موته بعد خروج الثمرة؛ لأنّه حينئذٍ قد ملك الحصّة وإن وجب عليه بقيّة العمل فخروجها عن ملكه بعد ذلك بعيد. نعم، لو كان قبله، اتّجه.

ص: 244


1- المائدة (5): 1.
2- تهذيب الأحكام، ج 7، ص 371، ح 1503؛ الاستبصار، ج 3، ص 232، ح 835 .

أمّا الشروط فثلاثة:

الأوّل: • أن يكون النماء مشاعاً بينهما، تساويا فيه أو تفاضلا، فلو شرطه أحدهما لم يصح ، وكذا لو اختص كل واحدٍ منهما بنوع من الزرع دون صاحبه،• كأن يشترط أحدهما الهزف، والآخر الأفل، أو ما يزرع على الجداول، والآخر ما يُزرع في غيرها.

• ولو شرط أحدهما قدراً من الحاصل وما زاد عليه بينهما لم يصح؛ لجواز أن لا تحصل الزيادة.

_____________________________________

قوله: «أن يكون النماء مشاعاً بينهما، تساويا فيه أو تفاضلا - إلى قوله لم يصحّ».

أي يكون مجموع النماء بينهما مشاعاً، فيخرج من ذلك ما لو شرط أحدهما شيئاً معيناً والباقي للآخر أو لهما، وما لو شرطه أحدهما خاصّةً، وغير ذلك.

والوجه في بطلان الجميع منافاته لوضع المزارعة.

قوله: «كأن يشترط أحدهما الهرف، والآخر الأفل أو ما يزرع على الجداول» إلى آخره.

الهرف - ساكن الوسط - المتقدّم من الزرع والثمرة، يقال: أَهْرَفَتِ النخلة، أي عجلت إناءها، قاله الجوهرى(1) ، والأفل - بالتسكين أيضاً - خلاف الهرف، وهو المتأخّر عنه، والجداول جمع جدول وهو هنا النهر الصغير، وقد يطلق على قطعة من الأرض يجمع حولها التراب، كلاهما مشتركان في عدم جواز اشتراطهما؛ لأن اللازم إشاعة المجموع، كما مرّ.

قوله: «ولو شرط أحدهما قدراً من الحاصل ومازاد عليه بينهما لم يصح؛ لجواز أن لا تحصل الزيادة».

لا فرق في ذلك بين كون القدر المشروط هو البذر وغيره، ولا بين كون الغالب على تلك الأرض أن يخرج منها ما يزيد على المشروط عادةً وعدمه؛ لاشتراك الجميع في منافاة

ص: 245


1- الصحاح، ج 3، ص 1442، «هرف».

• أمّا لو شرط أحدهما على الآخر شيئاً يضمنه له من غير الحاصل مضافاً إلى الحصة قيل: يصحّ، وقيل: يبطل، والأوّل أشبه.

• وتكره إجارة الأرض للزراعة بالحنطة أو الشعير ممبا يخرج منها، والمنع أشبه.

______________________________

وضع المزارعة، وكون العقد على خلاف الأصل، حيث إنّ العوض فيه مجهول، فيقتصر فيه على موضع النقل.

وخالف في بعض ذلك الشيخ في النهاية(1) ، وجماعة(2)، فجوزوا استثناء البذر من جملة الحاصل، وفي المختلف جوّز استثناء شيء منه مطلقاً (3)، والمشهور الأول.

قوله: «أمّا لو شرط أحدهما على الآخر شيئاً يضمنه له - إلى قوله - والأول أشبه».

المشهور بين الأصحاب جواز هذا الشرط؛ لعموم الأوامر السابقة ، وخروجه عن النماء الذي إشاعته بينهما من مقتضى العقد. والقول بالمنع لا نعلم القائل به.

وعلى القول بالجواز يكون قراره مشروطاً بالسلامة، كاستثناء أرطال معلومة من الثمرة في البيع.

ولو تلف البعض سقط منه بحسابه؛ لأنّه كالشريك وإن كانت حصّةً معيّنةً، مع احتمال أن لا يسقط منه شيء بتلف البعض متى بقي قدر نصيبه، عملاً بإطلاق الشرط.

قوله: «وتكره إجارة الأرض للزراعة بالحنطة أو الشعير مما يخرج منها، والمنع أشبه».

مستند المنع رواية الفضيل بن يسار عن الباقر(علیه السلام) أنّه سأله عن إجارة الأرض بالطعام، قال: «إن كان من طعامها فلا خير فيه»(4) .

ص: 246


1- النهاية، ص 440.
2- منهم ابن البراج في المهذب، ج 2، ص 12؛ وابن إدريس في السرائر، ج 2، ص 444؛ والعلامة في تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 3، ص 138، الرقم 4315.
3- مختلف الشيعة، ج 6، ص 155، المسألة 83.
4- الكافي، ج 5، ص 265، باب ما يجوز أن يؤاجر الأرض.... ح 6؛ تهذيب الأحكام، ج 7، ص 195، ح 864: الاستبصار، ج 3، ص 128 . ح 460.

...

_______________________________

ويمكن الاستدلال به على الكراهة؛ لأنّ نفي الخير يشعر به.

وعُلّل مع ذلك بأن خروج ذلك القدر منها غير معلوم، فربما لا يُخرج شيئاً، أو يُخرج بغير ذلك الوصف، ومن ثمّ لم يجز السّلّم في حنطة من قراح معيّن لذلك.

ويشكل فيما لو كانت الأرض واسعةً لا تخيس بذلك القدر عادةً، فلا يتمّ إطلاق المنع.

وأما مع الإطلاق أو شرطه من غيرها فالمشهور جوازه على كراهة للأصل.

ومَنَع منه بعض الأصحاب(1)، بشرط أن يكون من جنس ما يزرع فيها؛ لصحيحة الحلبي عن الصادق قال: «لا تستأجر الأرض بالحنطة(2) ثمّ تزرعها حنطة» والنهى للتحريم.

وأجيب بحمله على اشتراطه ممّا يخرج منها؛ لدلالة رواية الفضيل عليه، أو بحمل النهي على الكراهة.

وفيه نظر؛ لأنّ النهي مطلق، ولا منافاة بينه وبين تحريم شرطه من طعامها حتّى يجمع بينهما بحمله عليه.

والتحقيق أن المطلق والمقيّد متى كانا منفيين لا يلزم الجمع بينهما، بل يُحمل المطلق على إطلاقه، بخلاف المثبتين، وبملاحظة ذلك يتخرّج فساد كثيرٍ مما قرّروه في مثل هذا الباب، وقد مضى مثله في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه(3)، مع ورود نصٍّ آخر بتحريم بيع المكيل والموزون كذلك(4)، حيث جمع الأكثر بينهما بحمل المطلق على المقيّد، وليس بشيء، وتحقيق ذلك في الأصول، مع أنّه يمكن هنا حمل الخبر الأول على الإطلاق كالثاني، بأن يريد بكونه من طعامها، أي من جنسه، ويؤيّده ظهور الكراهة منه، ولو كان من نفسه لكان اللازم التصريح بالمنع، فإنّ عدم الخير لا يبلغ حدّ المنع، فإنّ المباح أو المكروه

ص: 247


1- كابن البراج في المهذب، ج 2، ص 10.
2- الكافي، ج 5، ص 265، باب ما يجوز أن يؤاجر الأرض.... ح 3: الفقيه، ج 3، ص 251، ح 3911؛ تهذیب الأحكام، ج 7، ص 195 ، ح 863 .
3- سبق في ج 3، ص 158.
4- الفقيه، ج 3، ص 206، ح 3775 تهذيب الأحكام، ج 7، ص 35 - 36، ح 147.

•وأن يؤجرها بأكثر ممّا استأجرها به إلّا أن يحدث فيها حدثاً أو يؤجرها بجنس غيرها.

_______________________________________

لا يوصف بالخير ولا بضدّه، وبينه وبين الشرّ واسطة، وأمّا النهي فالأصل فيه التحريم، فحمله على الكراهة بغير دليل آخر غير حسن.

وقول ابن البراج بالمنع مطلقاً (1)لا يخلو من قوّةٍ؛ نظراً إلى الرواية الصحيحة(2)، إلّا أنّ المشهور خلاف قوله.

قوله: «وأن يؤجرها بأكثر ممّا استأجرها به» إلى آخره.

اختلف الأصحاب في جواز إجارة الأرض وغيرها من الأعيان المستأجرة بأكثر ممّا استأجرها به إذا لم يحدث فيها حدثاً، فمنع منها جماعة من الأصحاب(3) ؛ استناداً إلى أخبار(4) ؛ دلّت بإطلاقها على ذلك، وذهب آخرون (5)ومنهم المصنّف إلى الكراهة؛ لدلالة أخبار(6) أُخر على الجواز، وطريق الجمع بينها وبين ما دلّ على المنع حمل النهي على الكراهة، وهو حسن.

واحتجّ الشيخ على المنع - مع الأخبار - بأنّه رباً (7).

وضعفه ظاهر؛ لاشتراط الكيل والوزن في الربوي.

ص: 248


1- المهذب، ج 2، ص 10.
2- أي صحيحة الحلبي، المتقدّم تخريجها في ص 247، الهامش 2.
3- منهم الشيخ في النهاية، ص 439؛ وأبو الصلاح في الكافي في الفقه، ص 346؛ وابن البراج في المهذب، ج 1، ص 502 وابن زُهرة في غنية النزوع، ج 1، ص 286 - 287.
4- منها ما في الكافي، ج 5، ص 273، باب الرجل يستأجر الأرض .... ح 8 و 9؛ وتهذيب الأحكام، ج 7، ص 204، ح 899 و 900
5- منهم الشيخ المفيد في المقنعة، ص 636؛ وسلار في المراسم، ص 195 وابن إدريس في السرائر، ج 2، ص 446: والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 7، ص 119 .
6- منها ما في الكافي، ج 5، ص 272 ، باب الرجل يستأجر الأرض.... ح 272، باب الرجل يستأجر الأرض.... ح 3؛ وتهذيب الأحكام، ج 7، ص 203، ح 894 و 895؛ والاستبصار، ج 3، ص 129 . ح 463 و 464.
7- لم نعثر على الاحتجاج المذكور في كتب الشيخ (رحمه الله)، واحتج له العلّامة في مختلف الشيعة، ج 6. ص 111 ، ضمن المسألة .

الثاني: تعيين المدّة.

•وإذا شرط مدةً معيّنةً بالأيام أو الأشهر صحّ.

• ولو اقتصر على تعيين المزروع من غير ذكر المدة فوجهان: أحدهما: يصحّ لأنّ لكلّ زرع أمداً، فيبنى على العادة كالقراض، والآخر: يبطل؛ لأنّه عقد لازم فهو كالإجارة، فيشترط فيه تعيين المدّة دفعاً للغرر؛ لأنّ أمد الزرع غير مضبوط وهو أشبه.

•ولو مضت المدّة والزرع باقي كان للمالك إزالته، على الأشبه، سواء كان بسبب الزارع، كالتفريط، أو من قبل الله سبحانه، كتأخّر المياه، أو تغيّر الأهوية.

________________________________

قوله: «وإذا شرط مدةً معيّنة بالأيام أو الأشهر صحّ».

مقتضى إطلاق العبارة عدم الفرق مع ضبط المدّة بين كونها وافية بإدراك الزرع فيها وقاصرة ومحتملة، وهو أحد الوجهين في المسألة.

والأقوى اعتبار مدّة يدرك فيها الزرع علماً أو ظنّاً غالباً، فلو اقتصر على تعيين دون ذلك بطل العقد؛ لأنّ الغرض في المزارعة هو الحصّة من النماء، فإذا لم يتحقّق في المدة عادةً بقي العقد بلا عوض، ولأنّه خلاف وضع المزارعة، والاعتذار بإمكان التراضي بعد ذلك على إبقائه لا ينفع؛ لأنّ التراضي غير لازم، فلا يعلق عليه شرط اللازم.

قوله: «ولو اقتصر على تعيين المزروع من غير ذكر المدة - إلى قوله - وهو أشبه».

الأقوى اشتراط تعيين المدّة على الوجه السابق؛ لأنّ مقتضى العقد اللازم ضبط أجله، والفرق بينها وبين القراض واضح، فإنّه عقد جائز لا فائدة في ضبط أجل له لو شُرط؛ لجواز الرجوع قبله بخلاف المزارعة، فكان إلحاقها بالإجارة أشبه

قوله: «ولو مضت المدّة والزرع باقٍ كان للمالك إزالته، على الأشبه».

وجه جواز الإزالة انقضاء المدّة التي يستحقّ عليه فيها التبقية، والأصل تسلّط المالك على ملكه كيف شاء، ولأنّ الزرع بعد المدة لا حقّ له، فيكون إبقاؤه بدون رضى المالك ظلماً.

ص: 249

...

___________________________________

وقيل: ليس له الإزالة؛ لأنّه قد حصل في الأرض بحقّ، فلم يكن للمالك قلعه، ولأنّ للزرع أمداً معيّناً غير دائم الثبات، فإذا اتّفق الخلل لا يسقط حقّ الزارع، كما لو استأجر مدةً للزرع فانقضت قبل إدراكه، مع أنّ الاحتمال أيضاً هناك قائم(1).

وقيل: له الإزالة بالأرش(2): جمعاً بين الحقّين. ويشكل فيما لو كان التأخير بتقصير الزارع.

وما اختاره المصنّف أقوى؛ لزوال حق الزارع بانقضاء المدة، فلا أرش له ولا استحقاق.

نعم، لو اتّفقا على إبقائه بعوض أو غيره صح؛ لأنّ الحقّ لا يعدوهما، لكن لا يجبر أحدهما عليه.

خلافاً لظاهر القواعد(3)؛ حيث جعل التخيير في قلعه بالأرش وإبقائه بأجرة إلى المالك.

ويشكل بأنّ إيجاب عوض في ذمّة الزارع لا يعقل بدون رضاه.

ثمّ على تقدير القطع بأرش وغيره فالمقلوع لهما؛ بناءً على أنّ الزارع يملك الحصّة وإن لم ينعقد الحبّ، خلافاً لابن زهرة (4)ولا أجرة للمالك على ما مضى من المدة لو لم ينتفع ، بالمقلوع؛ لأنّ مقتضى المزارعة قصر الحقّ على الحصة، مع احتمال وجوبها على الزارع لو كان التأخير بتفريطه؛ لتضييعه منفعة الأرض على المالك بتأخيره.

ويتوجّه على هذا الاحتمال وجوب أكثر الأمرين من الحصة وأُجرة المثل لو فرض للمقلوع منفعة ناقصة عن المعتادة لاستناد النقصان إلى تفريطه أيضاً.

ولا فرق في كون المقلوع بينهما بين كون البذر من مالك الأرض والزارع، فيتوجّه للزارع الأرش؛ لاستحقاقه فيه الحصّة، كما لو كان البذر منه إلا على القول السابق.

ثم على القول بثبوت الأرش مع قلعه فطريق تحصيله أن يقوّم الزرع قائماً بالأجرة إلى أوان

ص: 250


1- قاله العلّامة في تذكرة الفقهاء، ج 18، ص 400، المسألة 794.
2- قاله العلّامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 312.
3- قواعد الأحكام، ج 2، ص 312 .
4- راجع غنية النزوع، ج 1، ص 291 - 292.

• وإن اتّفقا على التبقية جاز بعوض وغيره، لكن إن شرط عوضاً افتقر في لزومه إلى تعيين المدّة الزائدة.

• ولو شرط في العقد تأخيره إن بقي بعد المدّة المشترطة بطل العقد على القول باشتراط تقدير المدّة.

_______________________________________

حصاده ومقلوعاً، ويحتمل أن يضاف إلى الأوّل كونه مستحقّ القلع بالأرش؛ لأنّ ذلك من جملة أوصافه اللازمة له على هذا القول، إلّا أنّه لا يخلو من دَوْرٍ، وكلام الأصحاب في ذلك غير محرّرٍ.

قوله: «وإن اتّفقا على التبقية جاز بعوض وغيره» إلى آخره.

متى قلنا بجواز القلع لم يجب على المالك الإبقاء إلّا برضاه بأجرةٍ أو غيرها، وأمّا إذا قلنا بوجوب الإبقاء ففي وجوب الأجرة قولان، والقولان للعلامة، أولهما في التذكرة(1)، وثانيهما في القواعد(2)، وعلى تقدير اتّفاقهما على الإبقاء بأجرةٍ تكون إجارة للأرض حقيقةً؛ لانقضاء مدّة المزارعة، فلابدّ من ضبط المدّة كالإجارة، وإن جاز الإطلاق في المزارعة، ولو لم يضبطاها، أو اتّفقا على إبقائه بأجرةٍ وأطلقا وجب أجرة المثل.

قوله: «ولو شرط في العقد تأخيره إن بقي بعد المدة المشترطة بطل العقد إلى آخره.

وجه البطلان على القول المذكور أنّ المدّة تصير في الحقيقة هي المجموع من المذكور وما بعده إلى أن يدرك الزرع، وهي مجهولة، فيبطل العقد؛ للإخلال بالشرط، وعلى تقدير عدم جهالة الجملة فالمدّة المشروطة مجهولة، وشرطها في متن العقد من جملة العوض، فإذا تضمّن جهالة بطل العقد، كما لو كان جميع المدّة مجهولاً.

ويحتمل على هذا القول صحّة الشرط المذكور؛ لأنّ المدّة مضبوطة، وما تضمّنه الشرط بمنزلة التابع ذكر احتياطاً؛ لاحتمال الحاجة، وجهالة التابع غير مضرة، كما تقدّم غير مرّةٍ(3).

والأوّل أقوى.

ص: 251


1- تذكرة الفقهاء، ج 18، ص 400. المسألة 794 .
2- قواعد الأحكام، ج 2، ص 301 .
3- مر في ج 3، ص 87 - 88، 272، 275 - 276.

•ولو ترك الزراعة حتّى انقضت المدّة لزمه أجرة المثل. ولو كان استأجرها لزمت الأجرة.

الثالث: • أن تكون الأرض ممّا يمكن الانتفاع بها، بأن يكون لها ماء إمّا من نهرٍ أو بئرٍ أو عين أو مصنع.

_________________________________

قوله: «ولو ترك الزراعة حتّى انقضت المدّة لزمه أجرة المثل» إلى آخره.

لأنّ منفعتها صارت مستحقّةً له بحيث لا يتمكّن المالك من استيفائها، وقد فوّتها عليه، فيلزمه الأجرة، كما لو كان قد استأجرها مدّة معينة ولم ينتفع بها.

هذا مع تمكين المالك له منها وتسليمه إيّاها، وإلا لم يستحقّ عليه شيئاً؛ لأنّ المنع من قِبَله.

وحيث يلزمه ضمان الأجرة يلزمه أرشها لو نقصت بترك الزرع، كما يتّفق في بعض الأرضين؛ لاستناد النقص إلى تفريطه.

وهل يفرّق فيهما بين ما إذا ترك العامل الانتفاع اختياراً أو غيره؟ ظاهرهم عدمه، ولا يبعد الفرق؛ لعدم التقصير في الثاني، خصوصاً في الأرش، ومقتضى العقد لزوم الحصّة خاصّةً، ولم يحصل منه تقصير يوجب الانتقال إلى ما لا يقتضيه العقد.

نعم، يتوجّه الحكم مطلقاً في الإجارة؛ لأنّ حق المالك هو الأجرة عوضاً عن منفعة العين تلك المدّة، فإذا فاتت المنفعة فإنّما ذهبت على مالكها، وهو المستأجر، أمّا المؤجر فلا حقّ له فيها، إنّما حقّه في الأجرة، ولم تفت.

قوله: «أن تكون الأرض ممّا يمكن الانتفاع بها» إلى آخره.

الضابط إمكان الانتفاع بها في الزرع عادةً بالماء الذي ذكره وما أشبهه، كماء المطر، والزيادة كالنيل، وحصره في المذكورات ليس بذلك الحسن.

والحاصل أن من شرط صحّة المزارعة على الأرض أن يكون لها ماء معتاد يكفيها لسقي الزرع غالباً، فلو لم يكن لها ذلك بطلت المزارعة وإن رضي العامل.

ص: 252

•ولو انقطع في أثناء المدّة فللمزارع الخيار؛ لعدم الانتفاع.

هذا إذا زارع عليها أو استأجرها للزراعة، وعليه أجرة ما سلف، ويرجع بما قابل المدة المتخلّفة.

• وإذا أطلق المزارعة زرع ما شاء.

وتردّد في التذكرة فيما لو كان لها ماء نادراً هل تصحّ المزارعة عليها أم لا؟ من عدم التمكن من إيقاع ما وقع عليه العقد غالباً، ومن إمكان الوقوع ولو نادراً(1) .

وبملاحظة هذه القاعدة يشكل الحكم في بعض ما يأتي، كما ستقف عليه(2).

قوله: «ولو انقطع في أثناء المدّة فللزارع الخيار - إلى قوله - المدة المتخلفة».

قد عرفت أنّ إمكان الزرع شرط صحّة المزارعة، فإذا وُجد الشرط في الابتداء ثم تجدّد انقطاع الماء فمقتضى القاعدة بطلان العقد؛ لفوات الشرط لباقي المدّة.

ولكن المصنّف (رحمه الله) والعلّامة (3)أطلقا القول بعدم البطلان، بل حَكَما بتسلّطه على الفسخ وكأنّهما نظرا إلى صحّة العقد ابتداءً فتُستصحب، والضرر اللاحق للزارع بانقطاع الماء ينجبر بتسليطه على الفسخ، وفيه نظر، هذا حكم المزارعة.

أمّا الإجارة فإن كان قد استأجرها للزراعة فكذلك؛ لاشتراكهما في المعنى، أما لو استأجرها مطلقاً لم يتخيّر مع إمكان الانتفاع بها بغيره. وقوله «وعليه أجرة ما سلف» من أحكام الإجارة على تقدير فسخه، فإنّ الفسخ الطارئ عليها يوجب ثبوت أجرة ما سلف من المدّة والرجوع بما قابل المتخلّف، أمّا المزارعة فلا شيء على العامل؛ إذ لم يشترط عليه سوى الحصّة، وقد فاتت.

قوله: «وإذا أطلق المزارعة زرع ما شاء».

ص: 253


1- تذكرة الفقهاء، ج 18، ص 392، المسألة 786 .
2- يأتي في ص 257 وما بعدها.
3- تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 140، الرقم 4322 قواعد الأحكام، ج 2، ص 312؛ تذكرة الفقهاء، ج 18، ص 392 - 393، المسألة 787 .

...

___________________________________

الظاهر أنّ ضمير «زرع» يعود إلى المزارع العامل، وإنّما يتمّ ذلك لو كان البذر من عنده، أما لو كان من عند صاحب الأرض فالتخيير إليه بطريق أولى، لا إلى المزارع، وإنما تخيّر مع الإطلاق؛ لدلالة المطلق على الماهيّة من حيث هي وكلّ فرد من أفراد الزرع يصلح أن يوجد المطلق في ضمنه.

وأولى منه لو عمّم ؛ لدلالته على الإذن في كل فرد فرد.

وقوى في التذكرة وجوب التعيين؛ لتفاوت ضرر الأرض باختلاف جنس المزروعات(1) . فيلزم بتركه الغرر.

ولا ريب أنّه أحوط، إلّا أن في تعينه نظراً؛ لدخول المالك على أضر الأنواع من حيث دخوله في الإطلاق، فلا غرر، كما لو عمم.

وربما فُرّق بين الإطلاق والتعميم بأنّ الإطلاق إنّما يقتضي تجويز القدر المشترك بين الأفراد، ولا يلزم من الرضى بالقدر المشترك الرضى بالأشدّ ضرراً من غيره؛ إذ ليس في اللفظ إشعار بذلك الفرد، ولا دلالة على الإذن فيه والرضى بزيادة ضرره، ولأنّ الرضى بالقدر المشترك إنّما يستلزم الرضى بمقدار الضرر المشترك بين الكل، لا على الرضى بالزائد، فلا يتناول المتوسط ولا الأشد، بخلاف العامّ، فإنّه دال على الرضى بكلّ فرد.

وفيه نظر؛ لأنّ المطلق لمّا كان هو الدال على الماهيّة بلا قيد، صحّ وجوده في ضمن المفرد والمثنّى والمجموع وغيرها، على ما حقق، مع أنّ لوازمها مختلفة، ولذلك حكموا بأنّ الأمر بالمطلق كالضرب - مثلاً - يتحقّق امتثاله بجزئي من جزئياته، كالضرب بالسوط والعصا، ضعيفاً وقوياً ومتوسطاً، حتى قيل: إنّ الأمر به أمر بكل جزئي أو إذن في كلّ جزئي(2)، وهذا كلّه يناقض ما ادّعاه الفارق.

ص: 254


1- تذكرة الفقهاء، ج 18، ص 406 - 407، المسألة 798.
2- الإحكام في أصول الأحكام، ج 2، ص 403 - 404.

•وإن عيّن الزرع لم يجز التعدّي،

____________________________________

ولو قيل: بأنّ المطلق هو النكرة، كما اختاره الآمدي وابن الحاجب حيث عرفاه بأنه: «الوحدة الشائعة» أو «النكرة في سياق الإثبات»(1) فصلاحيّته لكلّ فرد من أفراده أيضاً ظاهرة وإن اختلفت بالقوّة والضعف.

والمراد بالقدر المشترك على هذه التقديرات المعنى المصدري، أو نفس الحقيقة المشتركة بين الأفراد، لا تلك اللوازم اللاحقة لها، وهي في مسألتنا الزرع الصالح لكلّ فرد من أفراد المزروعات؛ لأنّها مشتركة في هذا المعنى وإن لم تشترك في الضرر وغيره.

قوله: «وإن عيّن الزرع لم يجز التعدّي».

لا فرق فى تعيين المعين بين كونه شخصيّاً كهذا الحبّ، وصنفيّاً كالحنطة الفلانية، ونوعيّاً، وغيره؛ لاختلاف الأغراض باختلافه، فيتعيّن ما تعلّق به الغرض المدلول عليه بالتعيين، فلا يجوز العدول عنه مطلقاً؛ عملاً بالشرط.

وهذا هو مقتضى التعيين في كلام المصنّف وغيره(2)، إلّا أنه قد أتى بما ينافيه بعد ذلك في قوله «ولو كان أقل ضرراً جاز».

والاعتذار بأنّ الرضى بزرع الأضر بالنسبة إلى الأرض يقتضي الرضى بالأقل ضرراً بطريق أولى باطل؛ لأنّ غرض مالك الأرض ليس منحصراً فيما يتعلّق بمصلحة الأرض، بل القصد الذاتي له إنّما هو الانتفاع بالزرع، ومصلحة الأرض تابعة، لا مقصودة بالذات، ولا شكٍّ أنّ الأغراض تختلف في أنواع المزروع، فربما كان غرضه في الأشد ضرراً من حيث نفعه أو الحاجة إليه وإن حصل للأرض ضرر، ولا يتعلّق غرضه بالأخف وإن انتفعت الأرض به، ألا ترى أن الأرض لو انتفعت بترك الزرع رأساً لم يكن ذلك كافياً في جواز ترك المزارع العمل نظراً إلى مصلحة الأرض؟ وحينئذ فالأقوى عدم التعدّي لما عين مطلقاً.

نعم مثل هذا يجري في إجارة الأرض لزرع نوع معين، فإنّ عدول المستأجر إلى زرع

ص: 255


1- الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 5 وكتاب ابن الحاجب لا يوجد لدينا.
2- تحریر الأحكام الشرعية، ج 3، ص 140، الرقم :4323: تذكرة الفقهاء، ج 18، ص 407، المسألة 798 .

• ولو زرع ما هو أضر والحال هذه كان لمالكها أُجرة المثل إن شاء، أو المسمّى مع الأرش.

• ولو كان أقلّ ضرراً جاز.

__________________________________

ما هو أخفّ ضرراً منه متّجه؛ لأن الغرض في الإجارة للمالك تحصيل الأُجرة، وهي حاصلة على التقديرين، ويبقى معه زيادة تخفيف الضرر عن أرضه، وأولى منه لو ترك الزرع طول المدة، فإنّه لا اعتراض للمالك عليه حيث لا يتوجه ضرر على الأرض؛ لحصول مطلوبه، وهو الأُجرة، بخلاف المزارعة، فإنّ مطلوبه الحصّة من الزرع المعيّن، فلا يدلّ على الرضى بغيره، ولا يتناوله بوجه.

قوله: «ولو زرع ما هو أضرّ والحال هذه كان لمالكها أُجرة المثل» إلى آخره.

أي لو عدل إلى زرع الأضرّ والحال أنه قد عيّن غيره مما هو أخف ضرراً، فإن المالك يتخير بين ما ذكر من الأمرين.

ووجه التخيير أنّ مقدار المنفعة المعقود عليها قد استوفي بزيادة في ضمن زرع الأضرّ، فيتخيّر بين أخذ المسمّى في مقابلة مقدار المنفعة المعيّنة مع أخذ الأرش في مقابلة الزائد الموجب لضرر الأرض بغير إذن مالكها، وبين أخذ أجرة المثل لزرع ذلك الأضرّ من غير نظر إلى المسمّى والأرش؛ لأنّ المزروع بتمامه واقع بغير إذن المالك، لأنه غير المعقود عليه. ويشكل الحكم الأوّل من التخيير بأن الحصّة المسماة إنّما وقعت في مقابلة الزرع المعين ولم يحصل، والذي زرع لم يتناوله العقد ولا الإذن فلا وجه لاستحقاق المالك فيه الحصّة، فوجوب أجرة المثل خاصةً أقوى.

قوله: «ولو كان أقل ضرراً جاز».

قد عرفت ما في الجواز، ومن لوازم الجواز - لو تم - ثبوت الحصة للمالك مجاناً.

وفيه نظرا لأنّه غير معقودٍ عليه أيضاً، فكيف يستحقّ فيه شيئاً، مع أنّه نماء بذر العامل الذي لا دليل على انتقاله عن ملكه ؟!

ص: 256

• ولو زارع عليها أو أجرها للزراعة ولا ماء لها مع علم المزارع لم يتخيّر، ومع الجهالة له الفسخ.

________________________________________

وخير العلامة في كتبه هنا بين أخذ أُجرة المثل والمسمّى(1)؛ لتقريب ما ذُكر في الأضر.

وفيه النظر السابق. والأقوى ثبوت أجرة المثل خاصّةً.

قوله: «ولو زارع عليها أو آجرها للزراعة ولا ماء لها» إلى آخره.

قد عرفت فيما تقدّم من كلام المصنّف وما حقّقناه أن من شرط صحّة المزارعة على الأرض أن يكون لها ماءً معتاد للسقى غالباً بحيث يمكن الانتفاع بالزرع، فبدونه لا يصحّ العقد؛ لفقد الشرط وإن رضي كل من المالك والعامل؛ لأنّه تصرّف في حكم لم يرد الإذن فيه شرعاً، وهو ينافي ما ذكر هنا من جواز المزارعة على ما لا ماء لها مع العلم بغير تخيير، ولا معه مع التخيير، واللازم من تلك القاعدة بطلان المزارعة هنا، سواء علم أم لم يعلم، ولأنّ الحكم بالتخيير فرع صحّة العقد.

وقد شارك العلّامة المصنّف في كتبه(2) على مثل هذه العبارة، وزاد عليه التصريح بأنّه لو ساقاه على ما لا ماء لها غالباً لم يصح العقد(3).

وتردّد في التذكرة في الصحّة مع ندور الماء(4) ، كما حكيناه سابقاً (5).

وربما تكلّف للجمع(6) بين الحكمين بحمل هذا التخيير على ما لو كان للأرض ماء يمكن الزرع والسقي به، لكنه غير معتاد من جهة المالك، بل يحتاج معه إلى تكلّف وإجراء ساقيةٍ ونحوه، والمنع على ما لو لم يكن لها ماء مطلقاً.

ص: 257


1- تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 140، الرقم 4323: قواعد الأحكام، ج 2، ص 313: تذكرة الفقهاء، ج 18 ص 407. المسألة 798 .
2- تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 140، الرقم 4321 قواعد الأحكام، ج 2، ص 312؛ تذكرة الفقهاء، ج 18، ص 392 - 393، المسألة 786 و 787.
3- تذكرة الفقهاء، ج 18، ص 392، المسألة 786 .
4- تذكرة الفقهاء، ج 18، ص 392، المسألة 786 .
5- سبق في ص 253 .
6- في حاشية بعض النسخ هذا الجمع لشيخنا الشيخ علي الميسي (رحمه الله تعالى).

• أمّا لو استأجرها مطلقاً ولم يشترط الزراعة لم يفسخ؛ لإمكان الانتفاع بها بغير الزرع.

• وكذا لو شرط الزراعة وكانت في بلاد تسقيها الغيوث غالباً.

___________________________________

وهو جيّد لو ثبت أنّ مثل هذا القدر يوجب التخيير، وأنّ الإطلاق يقتضي كون الماء معتاداً بلا كلفة، إلّا أنّ إطلاق كلامهم يأباه، فإنّهم اقتصروا في الحكم بالجواز على إمكان السقي بالماء من غير تفصيل، وفي التخيير على عدم الإمكان، وأيضاً فإنّ إحداث النهر والساقية ونحوهما لازم للمالك، سواء كان معتاداً أم لا، كما سيأتي التنبيه عليه(1)، فلا فرق حينئذٍ بين كون الماء معتاداً وغيره في عدم الكلفة على الزارع.

والأقوى عدم الصحّة هنا؛ عملاً بهذا الإطلاق، ومثله ما لو استأجرها للزراعة.

قوله: «أمّا لو استأجرها مطلقاً، ولم يشترط الزراعة لم يفسخ» إلى آخره.

الحكم بعدم الفسخ يقتضي أنّ الحكم فيما لو لم يكن المستأجر عالماً بحالها، فإنّ العالم لا معنى لتوهّم جواز فسخه، بل إمّا أن يصحّ أو يبطل مطلقاً، وإنّما لم يكن له الفسخ مع الجهل بحالها حينئذ ؛ لأنّه إذا استأجرها مطلقاً لا يقتضي اشتراط إمكان زرعها؛ لأنّه نوع من أنواع الانتفاع ولا يشترط في استئجار شيءٍ أن يمكن الانتفاع به في جميع الوجوه التي يصلح لها، بل إمكان الانتفاع به مطلقاً حيث يطلق، وهو هنا كذلك؛ لإمكان الانتفاع بالأرض المذكورة في وضع المتاع وجعلها مراحاً ومسرحاً وغير ذلك، وإن كان الغالب في الأرض الزراعة؛ لأنّ الغلبة لا تقيّد الإطلاق، مع احتمال الرجوع إلى الغالب في تلك الأرض، فإن كان الزرع تسلّط على الفسخ؛ حملاً على المعتاد.

قوله: «وكذا لو شرط الزراعة، وكانت في بلاد تسقيها الغيوث غالباً».

هذا في الحقيقة من جملة أقسام الأرض التي يعتاد لها ماء يسقيها؛ إذ لا فرق في العادة بين كون السقي نفسه من قبل الله، أو إجراء الماء من قبله تعالى كالنهر والزيادة، ولكن المصنّف لمّا حصر الماء المذكور سابقاً الماء المذكور سابقاً في تلك الأقسام الأربعة أعقبها بذكر الغيث.

ص: 258


1- يأتي في ص 268 - 281.

● ولو استأجر للزراعة ما لا ينحسر عنه الماء لم يجز؛ لعدم الانتفاع.

● ولو رضى بذلك المستأجر جاز، ولو قيل بالمنع لجهالة الأرض كان حسناً، ● وإن كان قليلاً يمكن معه بعض الزرع جاز، ●ولو كان الماء ينحسر عنها تدريجاً لم يصح؛ لجهالة وقت الانتفاع.

______________________________

قوله: «ولو استأجر للزراعة ما لا ينحسر عنه الماء لم يجز ؛ لعدم الانتفاع».

المراد أنّ الماء لا ينحسر وقت الحاجة إلى الزرع، وإلّا فلو كان مستولياً عليها عند العقد ولكن يرتفع وقت الانتفاع عادةً صحّ مع العلم بالأرض بأن كان قد رآها أولاً، أو الماء صافياً لا يمنع رؤيتها. ووجه عدم الصحّة في الأوّل ما ذكره من عدم الانتفاع بها فيما استؤجر عليه من المنفعة،

وهو يؤيّد ما أسلفناء في المسائل السابقة.

واحترز بالاستئجار للزراعة عمّا لو استأجرها لغيرها ممّا يمكن استيفاؤه، أو مطلقاً، فإنّ الإجارة صحيحة، وينتفع بها فيما يشاء ولو باصطياد السمك.

ولو فرض تعذر الانتفاع بها مطلقاً لم يصح مطلقاً؛ لأن شرط الصحة إمكان الانتفاع.

قوله: «ولو رضي بذلك المستأجر جاز، ولو قيل بالمنع لجهالة الأرض كان حسناً».

هذا التعليل لا يدلّ على البطلان مطلقاً؛ لإمكان العلم بالأرض مع وجود الماء سابقاً. أو مع صفاء الماء كما ذكرناه، ولو فُرض الجهل بها على كلّ حالٍ فالمنع ،متوجه كما ذكره

قوله: «وإن كان قليلاً يمكن معه بعض الزرع جاز».

وجه الجواز إمكان الانتفاع في الجملة، لكن لو لم يعلم المستأجر بذلك تسلّط على الفسخ؛ للعيب.

هذا إذا كان الزرع ممكناً في جميع الأرض على النقصان، أمّا لو أمكن في بعضها دون بعض؛ ففي إلحاق غير ما لا ينحسر عنه بالجميع وجه.

قوله: «ولو كان الماء ينحسر عنها تدريجاً لم يصحّ؛ لجهالة وقت الانتفاع».

ص: 259

●ولو شرط الغرس والزرع افتقر إلى تعيين مقدار كلّ واحدٍ منهما؛ لتفاوت ضرريهما؛ وكذا لو استأجر لزرعين أو غرسين مختلفي الضرر.

__________________________________

مقتضى التعليل أنّه لا فرق بين رضى المستأجر بذلك وعدمه؛ لأنّ رضاه بما هو فاقد الشرط الصحة غير كافٍ في الصحة.

وفي القواعد قيّد المنع بعدم رضى المستأجر، فلو رضي صحّ(1).

وهذا إنّما يتمّ فيما يكون كالعيب المنجبر بالرضى والخيار لا في الجهالة، وعلى تقدير إلحاقه به؛ نظراً إلى إمكان الانتفاع في الجملة، فإنّما يوجب انقطاعه تدريجاً نقصان المنفعة، فلا وجه للحكم بعدم الصحّة ، بل ينبغي تخيير المستأجر مع الجهل، وما أطلقه المصنّف هنا أوضح.

وهذه الأحكام آتية فى المزارعة على الأرض المذكورة، فكان ذكرها في بابها أولى من استطراد حكم الأجنبي، أو التعميم.

وربما قيل في هاتين المسألتين بأنّ المنع مخصوص بالإجارة، أما المزارعة عليها فجائزة ، والفرق ابتناء الإجارة على المعلوميّة؛ لانضباط الأجرة، فلا بدّ من انضباط المنفعة في مقابلتها بخلاف المزارعة، فإنّ المنفعة - التي هي الحصة - لمّا كانت مجهولة تسومح في مقابلتها من العوض ما لا يتسامح في غيرها، ولا بأس به.

قوله: «ولو شرط الغرس والزرع افتقر إلى تعيين مقدار كلّ واحدٍ منهما» إلى آخره.

أي اشترط في استئجار الأرض الغرس فيها والزرع معاً، فلا بدّ من تعيين مقدار كلّ واحدٍ ؛ لأنّ الغرس أضرّ على الأرض، فيمكن أن يدلّ الإطلاق على الاقتصار من الأخف على مسمّاه تحقيقاً للجمع، وبالعكس، وبينهما في الضرر اختلاف كثير فلا بد من ضبطه.

وكذا القول في شرط الزرعين، كالحنطة والشعير، فإنّ زرع الحنطة أضر، فلا بد من تعيين المقدار، وكذا الغرسين المختلفين بسريان العروق في الأرض.

ويمكن حمل الإطلاق على جعل كلّ واحدٍ منهما في نصف الأرض؛ لأنّ المتبادر من

ص: 260


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 300.

تفريع • إذا استأجر أرضاً مدّةً معيّنةً ليغرس فيها ما يبقى بعد المدّة غالباً قيل: يجب على المالك إبقاؤه، أو إزالته مع الأرش، وقيل: له إزالته، كما لو غرس بعد المدة، والأوّل أشبه.

__________________________________

لفظ التشريك التسوية، كما في نظائره، ولأنّ مقتضى الإجارة لهما أن يكون المنفعة المطلوبة كلَّ واحدٍ منهما، فعند الجمع يجب التنصيف؛ لئلّا يلزم الترجيح من غير مرجّح، وهذا هو الأقوى. وحينئذ فلا يجب التعيين.

هذا كله إذا استأجر لهما مطلقاً، أمّا لو استأجرها لينتفع بما شاء منهما صحّ وتخيّر؛ لأنّ ذلك تعميم في الأفراد، وقدوم على الرضى بالأضرّ، ويبقى الكلام في تعيين النوع الواحد من الزرع والغرس وإطلاقه ما تقدّم.

قوله: «إذا استأجر أرضاً مدّة معيّنة ليغرس فيها ما يبقى بعد المدّة غالباً قيل: يجب على

المالك إبقاؤه، أو إزالته مع الأرش، وقيل له إزالته، كما لو غرس بعد المدة، والأول أشبه».

وجه الأوّل أنّ المستأجر غير متعدّ بالزرع؛ لأنّه مالك للمنفعة تلك المدة، فله الزرع، وذلك يوجب على المالك إبقاءه ؛ لمفهوم قوله(صلی الله علیه و آله و سلم) :« ليس لعرق ظالم حقٌّ»(1) .

قال الإمام فخر الدين (رحمه الله): إنّ الأصوليين أجمعوا على دلالة المفهوم في هذا الحديث وإن اختلفوا في دلالة مفهوم الوصف في غيره، لكن لمّا لم يكن له في الأرض حقٌّ بعد المدة؛ لانقضاء الإجارة، جمع بين الحقّين بإبقائه بالأجرة، وهو المراد من إطلاق المصنّف إبقاءه أو قلعه بالأرش.

ووجه الثاني أنّ المستأجر دخل على أن لا حقّ له بعد المدّة؛ لأنّ منفعة المدّة هي المبذولة في مقابلة العوض، فلا يستحقّ بالإجارة شيئاً آخر، فللمؤجر قلعه مجّاناً، كما لو غرس المستأجر بعد المدّة، وهذا هو الأقوى، وعدم تعدّي المستأجر بزرعه في المدّة

ص: 261


1- سنن أبي داود، ج 3، ص 178، ح 3073؛ الجامع الصحيح، ج 3، ص 662، ح 1378؛ السنن الكبرى، البيهقي، ج 6، ص 164، ح 11538. .. إيضاح الفوائد، ج 2، ص 271 - 272 .

وأما أحكامه فتشتمل على مسائل:

الأولى: • إذا كان من أحدهما الأرض حَسْبُ ومن الآخر البذر والعمل والعوامل صحّ بلفظ المزارعة، وكذا لو كان من أحدهما الأرض والبذر ومن الآخر العمل، أو كان من أحدهما الأرض والعمل ومن الآخر البذر؛ نظراً إلى الإطلاق.

______________________________________

لا يوجب له حقّاً بعدها مع استناد التقصير إليه، والمفهوم ،ضعيف، ودعوى الإجماع على العمل به هنا لم تثبت، وعلى تقدير صحته يمنع من كونه بعد المدة غير ظالم؛ لأنه واضع عرقه في أرض لا حق له فيها، وإلزام المالك بأخذ الأجرة على الإبقاء أو تكليفه الأرش على خلاف الأصل، فلا يصار إليه بمثل ذلك.

ومثله ما لو استأجر للزرع مدّة يدرك فيها غالباً، لكن قصّر الزارع في الزرع إلى أن انقضت المدة، أما لو كان التأخير لا بتقصيره، بل لكثرة الأمطار أو تغير الأهوية أو شدّة البرد ونحوها توجه وجوب الصبر إلى بلوغه بالأجرة، فإنّهما وإن اشتركا في عدم استحقاق ما بعد المدة، إلّا أنّه حيث لم يقصر وقد زرع بحقّ يجمع بين الحقّين بالأجرة، بخلاف ما إذا قصّر أو قدم على ذلك كالسابق، فإنّه يسقط حقّه؛ إذ لا معارض له.

واعلم أن هذه المسائل كلّها استطرادية كان تأخيرها إلى باب الإجارة أنسب.

قوله: «إذا كان من أحدهما الأرض حَسْبُ ومن الآخر البذر والعمل» إلى آخره.

الظاهر (1)أنّ الصُوَر الممكنة في اشتراك هذه الأربعة بينهما كلّاً وبعضاً جائزة؛ لإطلاق الإذن في المزارعة من غير تقييد بكون بعض ذلك بخصوصه من أحدهما، وهذا هو المراد من قوله «نظراً إلى الإطلاق».

هذا إذا كانا اثنين خاصةً، فلو جعلا معهما ثالثاً وشرطا عليه بعض الأربعة، أو رابعاً

ص: 262


1- في «م ، و» والطبعة الحجرية: «الضابط».

•ولو كان بلفظ الإجارة لم يصح؛ لجهالة العوض، أما لو أجره بمال معلوم مضمون في الذمّة أو معيّن من غيرها جاز.

الثانية: • إذا تنازعا في المدّة فالقول قول منكر الزيادة مع يمينه وكذا لو اختلفا في قدر الحصّة، فالقول قول صاحب البذر

________________________________

كذلك، ففي الصحّة وجهان، من عموم الأمر بالوفاء بالعقد(1) ، والكون مع الشرط(2)، ومن توقّف المعاملة - سيّما التي هي على خلاف الأصل على التوقيف من الشارع، ولم يثبت منه مثل ذلك.

والأصل في المزارعة قصّة خيبر، ومزارعة النبيّ(صلی الله علیه آله و سلم) اليهود عليها على أن يزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها وله(صلی الله علیه آله و سلم) شطره الآخر(3)، وليس فيها أنّ المعاملة مع أكثر من واحد، وكذلك باقي النصوص التي وردت من طرقنا، ولأنّ العقد يتمّ باثنين موجب وهو صاحب الأرض. وقابل، فدخول مازاد يُخرج العقد عن وضعه، أو يحتاج إثباته إلى دليل والأجود عدم الصحّة.

قوله: «ولو كان بلفظ الإجارة لم يصحّ؛ لجهالة العوض» إلى آخره.

لا إشكال في عدم وقوعها بلفظ الإجارة؛ لاختلاف أحكامها، فإنّ الإجارة تقتضي عوضاً معلوماً، والمزارعة يكفي فيها الحصّة المجهولة. وأمّا لو آجر الأرض بمال مضمون مقدر - سواء كان من جنس ما يزرع أم من غيره، أم معيّن من غير ما يخرج منها - صح، وقد تقدم الكلام في ذلك(4).

ونبه بالمنع من إيقاعها بلفظ الإجارة على خلاف بعض العامة؛ حيث جوّزها بها (5).

قوله: «إذا تنازعا فى المدّة، فالقول قول منكر الزيادة» إلى آخره.

ص: 263


1- المائدة (5): 1 .
2- تهذيب الأحكام، ج 7، ص 371، ح 1503: الاستبصار، ج 3، ص 232، ح 835 .
3- تقدم تخريج مصادرها في ص 241، الهامش 3.
4- تقدّم في ص 246 وما بعدها.
5- المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 5، ص 564، المسألة 4119: الشرح الكبير المطبوع مع المغني، ج 5 ص 557 .

• فإن أقام كلُّ منهما بيّنة قدمت بيئة العامل، وقيل: يرجعان إلى القرعة، والأوّل أشبه.

_____________________________________

أمّا المدّة؛ فلأنّ الأصل عدم زيادتها عمّا يتّفقان عليه، فيقدم قول منكر الزيادة.

وأمّا النماء فلمّا كان تابعاً للأصل في الملك، فالقول قول صاحب البذر في حصّة الآخر؛ الأصالة عدم خروجها عن ملكه، وعدم استحقاق الآخر للزائد، ولأنّ مدّعي الزيادة فيها لو ترك المنازعة لتُرك، فيكون مدعياً بهذا المعنى أيضاً.

لا يقال: اتّفاقهما على عقد تضمّن حصّةً ومدة نقل عن الأصل المذكور، وليس مدّعي الزيادة بمتروك إذا ترك، فإنه إذا ترك العمل طالبه به، وإنّما يتمّ هذا إذا وقع الاختلاف عند الانتهاء.

لأنّا نقول : العقد المتضمّن لهما إنّما أخرج عن حكم الأصل في أصل المدّة والحصة، أما في قدرٍ معيّن منهما فلا، فيبقى إنكار الزيادة فيهما بحاله لم يُخرجه عن الأصل شيء.

والمراد ب_«مَنْ تُرك إذا ترك» في نفس ذلك المدّعى، وهو هنا المدة الزائدة أو الحصّة الزائدة، أمّا العمل فهو أمر خارج عن الدعوى، فلا أثر للمطالبة به في هذه المنازعة.

قوله: «ولو أقام كلّ منهما بيّنةً قدمت بينة العامل» إلى آخره.

إذا أقام كلُّ منهما بيّنةً، بني على تقديم بيئة الداخل أو الخارج، والمشهور الثاني وهو خارج بالنسبة إلى دعوى المدّة؛ لأنّ مالك الأرض يدّعي تقليل المدة، فيكون القول قوله، والبيئة بيئة العامل، وأمّا دعوى زيادة الحصّة فهي ممن ليس البذر منه، سواء في ذلك العامل ومالك الأرض، فيكون البينة بيّنة من لا بذر له؛ لأن الشرط منه حيث إنّ الجميع نماء ماله، فلا يتمّ إطلاق تقديم بينة العامل، بل ينبغي أن يقول: «قدمت بيّنة الآخر» كما صنع غيره(1)، أو يصرح بالمراد.

ص: 264


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 315؛ اللمعة الدمشقية، ص 190 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 13).

الثالثة: • لو اختلفا فقال الزارع: «أعرتنيها» وأنكر المالك وادعى الحصّة أو جرة ولا بيّنة فالقول قول صاحب الأرض، وتثبت له أجرة المثل مع يمين الزارع ، وقيل : تستعمل القرعة، والأوّل أشبه.

_______________________________

ووجه القول(1) بالقرعة أنّها لكلّ أمر مشكل (2).

ويشكل بأنّه لا إشكال هنا، فإنّ من كان القول قوله فالبينة بيّنة صاحبه بمقتضى النصّ(3)، فالقول بتقديم بيّنة المدعي فيهما أقوى.

قوله: «لو اختلفا فقال الزارع: «أعرتنيها» وأنكر المالك - إلى قوله - والأول أشبه».

المراد أنّ القول قول صاحب الأرض في عدم الإعارة لا فيما يدّعيه؛ لأنّه منكر لها. فيقدم قوله فيها. وكذلك القول قول الزارع في عدم المزارعة والإجارة؛ لأنّه منكر لهما. وحينئذٍ فيحلف كلُّ منهما على نفي ما يدّعيه الآخر، ويبقى على الزارع أنّه انتفع بأرض غيره مع عدم ثبوت التبرع فيلزمه أجرة المثل لذلك الزرع إلى أوان نزعه.

هذا إذا لم تزد الأجرة عمّا يدّعيه المالك من الحصّة أو الأجرة المعيّنة، وإلّا ثبت له ما بدّعيه خاصةً؛ لاعترافه بأنّه لا يستحق سواه.

وهذا إذا وقع النزاع بعد الزرع، كما يقتضيه قوله «الزارع» وقوله «وللزارع تبقية الزرع»، فلو كان النزاع قبله و تحالفا انتفت العارية والإجارة والمزارعة، فليس للعامل أن يزرع بعد ذلك.

واعلم أنّه إذا كان الواجب للمالك بعد يمينه أقلّ الأمرين ممّا يدعيه وأجرة المثل، وكان الأقلّ هو ما يدّعيه فلا وجه ليمين الزارع؛ لأنّه لو اعترف له بما يدّعيه لم يكن له أزيد

ص: 265


1- في حاشية «و»: «هذا القول مجهول القائل به نسبه في التذكرة إلى بعض علمائنا، وفي المختلف حكاه بلفظ (قيل) . والشراح أبهموه أيضاً . (بخطه قدس سره)». راجع تذكرة الفقهاء، ج 18، ص 411. المسألة 804: ومختلف الشيعة، ج 6، ص 156 ، المسألة 85 .
2- ورد ما بمعناه في الفقيه، ج 3، ص 92، ح 3392؛ وتهذيب الأحكام، ج 6، ص 240، ح 593.
3- الكافي، ج 7، ص 361، باب القسامة، ح 4 ، وص 415، باب أن البينة على المدعي .... ح 1 و 2: الفقيه، ج 3، ص 32، ح 3270؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 229، ح 553 و 554، وص 240، ح 594.

•وللزارع تبقية الزرع إلى أوان أخذه؛ لأنّه مأذون فيه.

• أمّا لو قال: «غصبتنيها حلف المالك، وكان له إزالته، والمطالبة بأجرة المثل، وأرش الأرض إن عابت، وطم الحفر إن كان غرساً.

____________________________________

منه، وكذا لو حلف أو ردّ اليمين، وما هذا شأنه لا فائدة فيه.

نعم، لو كان ما يدّعيه أزيد من أجرة المثل اتّجهت فائدة يمين الزارع؛ لأنّها تنفى الزائد ممّا يدّعيه المالك عن الأجرة، ولو ردّها أو اعترف للزم الزائد.

والقول بالقرعة هنا ضعيف، كالأوّل

قوله: «وللزارع تبقية الزرع إلى أوان أخذه؛ لأنّه مأذون فيه».

أي مأذون في زرعه باتّفاق الخصمين، وإنّما اختلافهما في استحقاق عوض في مقابلته وعدمه، فهو زرع بحق، فلا يجوز قلعه بغير إذن مالكه، وقد علم أن إبقاءه بأجرة لا مجاناً؛ لأنّ الأُجرة الثابتة من حين زرعه إلى حين أخذه، وإنّما عبّر بأخذه للتنبيه على أن أمره إلى الزارع، فإن شاء أخذه قصيلاً، وإن شاء أبقاه إلى أوان حصاده، ومهما أبقاه من المدّة يلزمه أجرتها خاصّةً، فكان التعبير بالأخذ أولى من التعبير بالحصاد.

قوله: «أمّا لو قال: «غصبتنيها حلف المالك، وكان له إزالته» إلى آخره.

ما سبق من التحالف إنّما هو فيما لو ادّعى كلُّ منهما عقداً غير ما يدّعيه الآخر، أمّا لو ادعى الزارع الإعارة وأنكرها المالك وادّعى غصب الأرض فالقول قول المالك مع يمينه؛ لأصالة عدم الإعارة، وبقاء منافع أرضه على ملكه، وعدم خروجها بعارية ولا غيرها، فإذا حلف على نفي العارية ثبت وضع الزارع زرعه فيها بغير حق، فيتخيّر حينئذ المالك بين قلعه ومطالبته بأجرة المثل لما مضى من المدّة، وأرش الأرض إن نقصت وطمّ الحفر، كما يلزم ذلك الغاصب، وإن اتّفقا على إبقائه باجرةٍ جاز.

وفي التذكرة قال: يحلف العامل على نفي الغصب(1) ، ولم يذكر يمين المالك، ورتّب باقي الأحكام.

ص: 266


1- تذكرة الفقهاء، ج 18، ص 412، المسألة 804.

الرابعة: • للمزارع أن يشارك غيره وأن يزارع عليها غيره، ولا يتوقّف على إذن المالك، لكن لو شرط المالك الزرع بنفسه لزم، ولم يجز المشاركة إلّا بإذنه.

______________________________________

والحقّ ما ذكر هنا من أنّ الحالف المالك على نفي العارية لا غير.

قوله: «للمزارع أن يشارك غيره - إلى قوله - ولم يجز المشاركة إلّا بإذنه».

لمّا كانت المزارعة من العقود اللازمة الموجبة لنقل منفعة الأرض إلى ملك العامل بالحصة المخصوصة، كان للعامل نقلها إلى غيره ومشاركته عليها؛ لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم (1)، ولا يتوقّف ذلك على إذن مالكها، إذ لا حقّ له في المنفعة. نعم، لا يجوز له تسليم الأرض إلّا بإذن المالك، وسيأتي مثله - إن شاء الله تعالى - في الإجارة (2).

واشترط بعضهم(3) في جواز مزارعته غيره كون البذر منه؛ ليكون تمليك الحصّة منوطاً به. وبه يفرق بينه وبين عامل المساقاة، حيث لا يصحّ له أن يساقي غيره كما سيأتي(4) ، ولأن البذر إذا كان من صاحب الأرض فالأصل أن لا يتسلّط عليه إلّا مالكه أو من أذن له وهو الزارع.

وهو حسن في مزارعة غيره، أمّا المشاركة فلا؛ لأنّ المراد بها أن يبيع بعض حصّته في الزرع مشاعاً بعوض معلوم، وهذا لا مانع منه؛ لملكه لها، فيتسلّط على بيعها كيف شاء بخلاف ابتداء المزارعة؛ إذ لا حق له حينئذٍ إلّا العمل، وبه يستحق الحصّة.

مع احتمال الجواز مطلقاً؛ لأنّ لزوم عقدها اقتضى تسلّطه على العمل بنفسه وغيره، وملكه للمنفعة، والتصرف في البذر بالزرع وإن لم يكن بنفسه، حيث لا يشترط عليه الاختصاص، فيجوز نقله إلى الغير، كما تجوز الاستنابة.

ويضعف بأنّ البذر حينئذٍ ليس ملكاً له، وإنّما هو مأذون في التصرف فيه بالزرع، وبه يملك الحصة.

ص: 267


1- رواه الشيخ في الخلاف، ج 3، ص 176 - 177، المسألة 290؛ والعلّامة في مختلف الشيعة، ج 5، ص 248 ذيل المسألة :217؛ وتذكرة الفقهاء . ج 10، ص 247. المسألة 117.
2- يأتي في ص 415 وما بعدها.
3- لم نتحققه.
4- یأتي في ص 298.

الخامسة: • خراج الأرض ومؤونتها على صاحبها، إلّا أن يشترطه على الزارع.

وقد يقال: إنّ هذا كاف في جواز مزارعة الغير؛ لأنّها عبارة عن نقل حقه في ذلك إليه وتسليطه على العمل فيجوز، كما يجوز له التوكيل فيه والاستنابة بغيرها من الوجوه.

هذا كلّه إذا لم يشترط المالك عليه العمل بنفسه، وإلّا لم يجز المشاركة ولا المزارعة بحيث يصير العمل أو بعضه متعلقاً بغيره.

ولا يرد أنّ ذلك يقتضي منع المالك من التصرّف في ماله، فيكون منافياً للمشروع؛ لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم؛ لأنّ ذلك حيث لا يعارضه حقّ غيره، وإلا لم تتمّ الكلّيّة؛ ضرورة تخلّفه في كثير، كالراهن والمفلّس.

قوله: «خراج الأرض ومؤونتها على صاحبها، إلا أن يشترطه على الزارع».

أمّا خراج الأرض فهو على مالكها؛ لأنّه موضوع عليها، وهو مروي(1) ، وروي أيضاً أنّ السلطان لو زاد فيها زيادةً وطلبها من الزارع وجب على صاحب الأرض دفعها إليهم، قال السائل قلت أنا لم أظلمهم ولم أرد عليهم ، قال(علیه السلام) : «إنّهم إنما زادوا على أرضك»(2).

وأما المؤونة فذكرها المصنّف والعلامة في بعض كتبه(3) إجمالاً، ولم ينتهوا على المراد منها، مع إطلاقهم أنّ العمل على الزارع أو من شرط عليه.

والظاهر أنّ المراد بمؤونة الأرض هنا ما يتوقّف عليه الزرع ولا يتعلق بنفس عمله و تنميته، كإصلاح النهر والحائط، ونصب الأبواب إن احتيج إليها، وإقامة الدولاب، وما لا يتكرّر كل سنة، كما فصّلوه في المساقاة(4) ، والمراد بالعمل الذي على الزارع ما فيه صلاح الزرع وبقاؤه مما يتكرّر كل سنة، كالحرث والسقي وآلاتهما، وتنقية النهر من

ص: 268


1- الكافي، ج 5 ، ص 267 - 268 ، باب مشاركة الذمي وغيره... . ح 1 - 3: الفقيه، ج 3، ص 247، ح 3901؛ تهذيب الأحكام، ج 7، ص 198 ، ح 875 و 876 .
2- تهذيب الأحكام، ج 7، ص 208، ح 915 .
3- قواعد الأحكام، ج 2، ص 314؛ تذكرة الفقهاء، ج 18، ص 407، المسألة 798.
4- يأتي في ص 280 - 281.

السادسة • كلّ موضع يُحكم فيه ببطلان المزارعة تجب لصاحب الأرض أُجرة المثل.

السابعة • يجوز لصاحب الأرض أن يخرص على الزارع والزارع بالخيار في القبول والردّ فإن قبل كان استقراره مشروطاً بالسلامة، فلو تلف الزرع بآفة سماوية أو أرضيّة لم يكن عليه شيء.

_______________________________________

الحمأة(1) ، وحفظ الزرع وحصاده، ونحو ذلك، وبالجملة، فكلامهم في هذا المحلّ قاصر جداً.

هذا كلّه إذا لم يشترط ذلك على الزارع، فإن شرط عليه لزم إذا كان القدر معلوماً، وكذا لو شرط بعضه معيناً أو مشاعاً مع ضبطه.

ولو شرط عليه الخراج، فزاد السلطان فيه زيادة فهى على صاحب الأرض؛ لأنّ الشرط لم يتناولها، ولم تكن معلومةً، فلا يمكن اشتراطها.

ولو شرطا ذلك أو بعضه عليهما، أو إخراجه من الأصل والباقي بينهما، فهو كما لو شرط المالك نصفه على العامل؛ لأنّه بمعناه.

قوله: «كل موضع يُحكم فيه ببطلان المزارعة تجب لصاحب الأرض أُجرة المثل».

هذا إذا كان البذر من الزارع، فلو كان من صاحب الأرض فهو له وعليه للعامل والعوامل والآلات أُجرة المثل، ولو كان منهما فالحاصل بينهما على نسبة الأصل، ولكلّ منهما على الآخر أُجرة مثل ما يخصّه على نسبة ما للآخر من الحصة، فلو كان البذر لهما بالنصف رجع المالك بنصف أجرة أرضه، والعامل بنصف أجرة عمله وعوامله وآلاته، وعلى هذا القياس في باقي الأقسام.

ولو كان البذر من ثالث فالحاصل له وعليه أجرة مثل الأرض وباقي الأعمال وآلاتها.

قوله: «يجوز لصاحب الأرض أن يخرص على الزارع - إلى قوله لم يكن عليه شيء».

محل الخرص بعد بلوغ الغلة، وهو انعقاد الحبّ، وتخيّر الزارع في القبول وعدمه لا شبهة

ص: 269


1- .الحماة: الطين الأسود المنتن لسان العرب، ج 1، ص 61، «حماً».

...

_____________________________________

فيه، وعلى تقدير قبوله يتوقّف نقله إليه على عقدٍ كغيره من الأموال بلفظ الصلح أو التقبيل على ما ذكره الأصحاب.

والمشهور أنّ لزوم العوض فيه مشروط بالسلامة، فإن تلفت الغلة أجمع بآفةٍ من قبل الله تعالى فلا شيء على الزارع ولو تلف البعض سقط بالنسبة، ولو أتلفها متلف ضامن فهي بحالها، ويطالب المتقبّل المتلف بالعوض، ويمكن عموم الآفة الأرضيّة لهذا أيضاً.

والحكم بذلك هو المشهور بين الأصحاب، ومستنده غير واضح، وحكمه لا يخلو من إشكال إن لم يكن انعقد عليه الإجماع، وأنّى لهم به؟ وإنّما هو شيء ذكره الشيخ (رحمه الله) في بعض كتبه (1)، وتبعه عليه الباقون(2) معترفين بعدم النصّ ظاهراً على هذه اللوازم.

ولو كان النقصان بسبب الخطا في الخرص لم يسقط من المال شيء؛ عملاً بالأصل، وهو مروي عن الكاظم(علیه السلام) مرسلاً(3). ولو زاد فالزائد ملك للزارع؛ عملاً بمقتضى العقد، خصوصاً إذا جعل صلحاً، ولو جعل بلفظ البيع اشترط فيه شرائطه، مع احتمال العدم.

وكيف وقع فهو عقد لازم يجب الوفاء به وإن لحقته تلك الخواصّ الخارجة عن مقتضى اللزوم. وأنكر هذه المعاوضة ابن إدريس، وجَعَلها باطلة؛ لأنّها إن كانت بيعاً فهي محاقلة، وإن كانت صلحاً فهو لازم - سلم أم لا - إن كان بعوض مضمون، وإن كان العوض من الغلة فهو باطل كالبيع (4).

والأقوى الصحّة لكن إثبات اللوازم المذكورة يحتاج إلى دليل، وقد تقدّم في البيع جملة من بحث المسألة (5).

ص: 270


1- النهاية، ص 442.
2- المهذب، ج 2، ص 14؛ قواعد الأحكام، ج 2، ص 314: اللمعة الدمشقية، ص 190 (ضمن موسوع الأول، ج (13): جامع المقاصد، ج 7، ص 335 .
3- الكافي، ج 5، ص 287، باب حرز الزرع، ح 1: تهذيب الأحكام، ج 7، ص 208 - 209، ح 916.
4- السرائر، ج 2، ص 450.
5- تقدّم في ج 3، ص 270 وما بعدها، في بيع الثمار.

•وأما المساقاة

فهي معاملة على أصول ثابتة بحصّةٍ من ثمرها.

___________________________________

قوله: «وأمّا المساقاة فهي معاملة على أصول ثابتة بحصّةٍ من ثمرها».

المساقاة مفاعلة من السقي، وخصّ الاشتقاق منه دون باقي الأعمال التي تتوقّف عليه المعاملة؛ لأنّه أظهرها وأنفعها في أصل الشرعيّة، لوقوعه بالحجاز التي تسقى فيها النخل من الآبار، ولأنّه أكثر مؤونةٌ وأشدّ مشقةٌ من غيره من الأعمال، وعرفاً ما ذكره المصنف.

فالمعاملة فيها بمنزلة الجنس تتناول عقود المعاوضات. وخرج بالأصول المزارعة وبالثابتة - بالثاء المثلثة - غيرها من الأصول التي لا تبقى كالخضروات، والودّي(1) غير المغروس، والمغروس الذي لم يستقلّ في الأرض، والمغارسة، وب_«حصّةٍ من ثمرها» خرجت الإجارة، فإنّها وإن صحت على الأصول الثابتة لكن لا بحصة من الثمرة، بل بأجرةٍ معلومة معيّنةٍ أو مضمونة.

والمراد بالثمرة هنا نماء الشجر وإن لم تكن ثمرته المعهودة؛ ليدخل فيه المساقاة على ما يقصد ورده وورقه. ولو قال: «أو ما في حكمها» لإدخال ذلك لاستغنينا عن تكلّف إدخالها. ويمكن أن يريد بالثمرة معناها المتعارف خاصّةً؛ لتردّده فيما يأتي في جواز المساقاة على ما يقصد ورقه(2) ، وربما قرئت «النابتة» بالنون متقدمة، فيخرج بها الودي والمغارسة دون باقي ما سبق، والأوّل أضبط.

ص: 271


1- الودي، بتشدید الیاء، ضفار الفسیل، الواحدة،ودیة، المعجم الوسیط، ص1023،« ودی».
2- یأتی في ص275.

و النظر فیها یستدعي فصولاً:

الأول في العقد

•وصيغة الإيجاب أن يقول: «ساقيتك» أو «عاملتك» أو «سلّمتُ إليك» أو ما أشبهه.

•وهي لازمة كالإجارة، وتصحّ قبل ظهور الثمرة.

_____________________________________

قوله: «وصيغة الإيجاب أن يقول: «ساقيتك» أو «عاملتك» أو «سلّمتُ إليك» أو ما أشبهه».

لما كانت المساقاة من العقود اللازمة فلا بدّ فيها من إيجاب وقبول لفظيين دالين على الرضى الباطني واللفظ الصريح فيها: «ساقيتك على كذا»، وفي حكمه «عاملتك» و«سلّمت إليك»، و «عقدت معك عقد المساقاة» و«قبلتك عملها»، ونحو ذلك من الألفاظ الدالّة على الإنشاء، الواقعة بلفظ الماضي.

وزاد في التذكرة : «تعهّد نخلي بكذا»، أو «اعمل فيه بكذا»(1).

ويشكل بما مرّ في نظائره من عدم صراحة الأمر في الإنشاء، ولا وجه لإخراج هذا العقد اللازم من نظائره، وقد نوقش في الاكتفاء في المزارعة بلفظ الأمر مع الاستناد فيها إلى النصّ، وهو منتف هنا وجريان المعاطاة هنا بعيد؛ لاشتمال هذا العقد على الغرر وجهالة العوض، بخلاف البيع والإجارة، فينبغي الاقتصار فيه على موضع اليقين.

وترك المصنّف ذكر القبول القولى، ولا بد منه، وهو كل لفظ دلّ على الرضى بذلك الإيجاب.

قوله: «وهي لازمة كالإجارة».

لا خلاف عندنا في لزوم هذا العقد، فلا يجوز لأحدهما فسخه إلّا بالتراضي على وجه الإقالة؛ لعموم الأدلّة(2) التي دلّت على لزوم غيره من العقود.

ص: 272


1- تذكرة الفقهاء، ج 18، ص 423، المسألة 815.
2- المائدة .(5): 1.

•وهل تصحّ بعد ظهورها؟ فيه تردّد، والأظهر الجواز، بشرط أن يبقى للعامل عمل وإن قلّ بما يستزاد به الثمرة.

__________________________________

ونبّه المصنّف بقوله «كالإجارة» على خلاف بعض العامّة؛ حيث قال: إنّه جائز كالمضاربة؛ لاشتراكهما في كونهما عقداً على جزء من نماء المال(1) ، فقال المصنّف: بل هو لازم كالإجارة؛ لاشتراكهما في كون كلّ منهما عقد معاوضة، ولعموم الأمر بالوفاء بالعقود، المقتضي للزوم إلّاما أخرجه الدليل.

قوله: «وهل تصحّ بعد ظهورها ؟ فيه تردّد، والأظهر الجواز» إلى آخره.

إذا ساقاه على الشجر والثمرة معدومة مدّةً يمكن وجودها فيها عادةً صح إجماعاً، وإن كان بعد ظهورها ولم يبق للعمل فيها مستزاد لم يصحّ إجماعاً وإن احتاجت إلى عمل كالجذاذ والحفظ والنقل ونحو ذلك؛ لأنّها حينئذ يكون قد مَلَكها ربّ الشجر، ولم تحصل بالمساقاة زيادة فينتفي الغرض الذي اقتضى شرعيتها.

وأمّا إذا كانت قد ظهرت، ولكن بقي لها عمل تحصل به زيادة في الثمرة، كالسقي، والحرث، ورفع أغصان شجرة الكرم على الخشب وتأبير ثمرة النخل، ففي جوازها حينئذٍ و جهان أجودهما الصحة تحصيلاً لتلك الفائدة، ولأنّ العقد حينئذ أبعد عن الغرر؛ للوثوق بالثمرة، فيكون أولى مما لو كانت معدومة.

ووجه عدم الجواز أنّ الثمرة إذا ظهرت فقد حصل المقصود، فصار بمنزلة القراض بعد ظهور الربح، ولأنّ المقصود من المساقاة ظهور الثمرة بعمله. وفيهما منع ظاهر.

ولو كان العمل بحيث لولاه لاختل حال الثمرة، لكن لا يحصل به زيادة كحفظها من فساد الوحش ونحوه ، فمقتضى القاعدة عدم الجواز، وحيث لا تصحّ المساقاة على ذلك تصحّ الإجارة على بقيّة الأعمال بجزء من الثمرة والجعالة والصلح.

ص: 273


1- المغني المطبوع مع الشرح الكبير ، ج 5، ص 568 - 569 ، المسألة 4124: الشرح الكبير المطبوع مع المغني، ج 5 ص 563 564.

•ولا تبطل بموت المساقى ولا بموت العامل على الأشبه.

______________________________________

قوله: «ولا تبطل بموت المساقي ولا بموت العامل على الأشبه».

مسالك الأفهام / 4

«الأشبه» راجع إلى حكم موت كلّ واحدٍ منهما، فقد قال الشيخ في المبسوط : إنّه لو مات

أحدهما أو ماتا انفسخت المساقاة عندنا كالإجارة (1).

والأقوى عدم البطلان؛ لأنّ ذلك مقتضى لزوم العقد.

نعم، لو كان قد شرط على العامل العمل بنفسه بطلت بموته إن كان قبل ظهور الثمرة. ولو كان بعده ففيه نظر من سبق ملكه لها فلا يزول بموته، ومن أنّ ملكه مشروط بإكماله العمل ولم يحصل.

وأطلق جماعة من الأصحاب(2) البطلان إذا شرط عليه العمل بنفسه. والأنسب أن تكون مشتركة حينئذ، فلا يبطل ملكها بالموت.

ثمّ إن كان الميّت المالك استمرّ العامل على عمله، وقاسم الوارث، وإن كان الميّت العامل

وكانت المساقاة واردةً على عينه ولم تظهر الثمرة بطلت، وإن ظهرت ففيه ما مرّ .

وإن كانت واردةً على ذمّته قام وارثه مقامه، وليس للمالك منعه منه، ولا إجباره عليه لو امتنع من العمل؛ لأنّ الوارث لا يلزمه حقّ لزم المورّث إلا ما أمكنه دفعه من ماله، والعمل ليس بمال المورّث، فلا يجب على الوارث، كما لا يؤدي الحقوق من مال نفسه.

ثمّ إن خلّف العامل تركةً تخيّر الوارث بين العمل وبين الاستئجار عليه من التركة، فإن امتنع منهما استأجر الحاكم عليه من التركة فإن لم يتّفق ذلك تخير المالك بين الفسخ والإنفاق من ماله بنيّة الرجوع، كما سيأتي تحقيقه فيما لو هرب العامل(3).

وإنّما يجب على المالك تمكين الوارث أو أجيره إذا كان أميناً عارفاً بأعمال المساقاة، وإلّا فله المنع، ويبقى الأمر كما لو لم يبذل.

ص: 274


1- المبسوط، ج 3، ص 15.
2- كالسيوري في التنقيح الرائع، ج 2، ص 233؛ وابن فهد الحلّي في المهذب البارع، ج 2، ص 575؛ والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 7، ص 348.
3- يأتي في ص 292.

الثاني في ما يساقى عليه

• وهو كلّ أصل ثابتٍ له ثمرة ينتفع بها مع بقائه، • فتصحّ المساقاة على النخل والكرم وشجر الفواكه •وفيما لا ثمر له إذا كان له ورق يُنتفع به كالتوت والحنّاء على تردّد.

____________________________________

قوله: «وهو كلّ أصل ثابت له ثمرة ينتفع بها مع بقائه».

احترز به عن نحو البطيخ والباذنجان والقطن وقصب السكر، فإنّ هذه ليست كذلك وإن تعدّدت اللقطات وبقي القطن أزيد من سنةٍ؛ لأنّ أُصول هذه لا بقاء لها غالباً، واضمحلالها معلوم عادةً، فلا عبرة بالنادر منها.

قوله: «فتصحّ المساقاة على النخل والكرم وشجر الفواكه».

لا يخفى أنّ النخل والكرم من جملة شجر الفواكه، فعطفه عليهما تعميم بعد التخصيص، وهو جائز، لكن لو قدّمه وجعلهما من أمثلته كان أوقع.

قوله: «وفي ما لا ثمر له إذا كان له ورق يُنتفع به كالتوت والحنّاء على تردّد».

منشؤه من أنّ هذه المعاملة باشتمالها على ضرب من الغرر بجهالة العوض على خلاف الأصل، فيقتصر بها على محلّ الوفاق، وهو شجر الثمر، ومن أنّ الورق المقصود كالثمرة في المعنى، فيكون مقصود المساقاة حاصلاً به، وفي بعض الأخبار ما يقتضي دخوله(1).

والقول بالجواز لا يخلو من قوّة، ومثله ما يُقصد زهره كالورد.

والمراد بالتوت المبحوث عنه الذكر، وهو الذي لا يقصد ثمرته، أمّا الأُنثى المقصود منه الثمرة فجائز إجماعاً.

والتوت بالتائين المثنّاتين من فوق، وفي لغة نادرة بالثاء المثلّثة أخيراً، وردّه الجوهري(2) .

ص: 275


1- راجع دعائم الإسلام، ج 2، ص 73 ، ح 202.
2- الصحاح، ج 1، ص 245، «توت» .

•ولو ساقى على وَدِي أو شجرٍ غير ثابتٍ لم يصحّ؛ اقتصاراً على موضع الوفاق، • أمّا لو ساقاه على وديّ مغروس إلى مدّةٍ يحمل مثله فيها غالباً صحّ ولو لم يحمل فيها، وإن قصرت المدّة المشترطة عن ذلك غالباً، أو كان الاحتمال على السواء لم يصحّ.

______________________________

قوله: «ولو ساقى على ودي أو شجرٍ غير ثابت لم يصحّ؛ اقتصاراً على موضع الوفاق».

الوديّ - بكسر الدال المهملة بعد الواو المفتوحة والياء المشدّدة أخيراً، بوزن غنيّ -: فسيل النخل قبل أن يغرس، وفي القاموس: إنّه صغار الفسيل(1).

ولا خلاف في عدم جواز المساقاة على غير المغروس منه إلّا من بعض العامّة(2).

قوله: «أمّا لو ساقاه على وديّ مغروس إلى مدةٍ يحمل مثله - إلى قوله - لم يصحّ».

إنّما صحّ في الأوّل وإن لم يحمل؛ لأنّ مرجع المساقاة إلى تجويز ظهور الثمرة وظنّه بحسب العادة، فإذا حصل المقتضي صحّ وإن تخلّف، كما لو ساقاه على الشجر الكبير واتّفق عدم ثمره في المدّة، وحينئذٍ فلا أجرة له على جميع العمل؛ لقدومه على ذلك، والمعتبر في صحة المساقاة ظنّ ثمره ولو في آخر المدّة، كما لو ساقاه عليه عشر سنين وكانت الثمرة لا تتوقّع إلّا في العاشرة، وحينئذٍ فتكون الثمرة في مقابلة جميع العمل، ولا يقدح خلوّ باقي السنين، فإنّ المعتبر حصول الثمرة ظنّاً في مجموع المدّة لا في جميع أجزائها، كما يظهر ذلك في غيره من الشجر .

وحيث تقع باطلةً؛ للعلم بالقصور عادةً أو احتمال الأمرين، فللعامل أجرة المثل مع جهله بالفساد لا مع علمه على الأقوى.

واعلم أنّه قد استفيد من ذلك أنّ عدم الثمرة غير قادح في صحّة المساقاة إذا كان حصولها مظنوناً عادةً حين العقد، وحينئذٍ فيجب عليه إتمام العمل لو علم بالانقطاع قبله.

ص: 276


1- القاموس المحيط، ج 4، ص 402، «ودي».
2- المغني المطبوع مع الشرح الكبير ، ج 5، ص 579، المسألة 4135.

• الثالث في المدّة

ويعتبر فيها شرطان: أن تكون مقدرةً بزمان لا يحتمل الزيادة والنقصان، وأن تكون ممّا يحصل فيها الثمرة غالباً.

_________________________________________

ومثله ما لو تلفت الثمار كلّها أو أكلها الجراد، أو غصبها غاصب، فإنّه في جميع ذلك یجب على العامل إكمال العمل ولا أجرة له وإن تضرّر كما يجب على عامل القراض إنضاض المال وإن ظهر الخسران بل هنا أقوى؛ للزوم العقد، ووجوب العمل.

واحتمل في التذكرة انفساخ العقد لو تلفت الثمار بأسرها، واستشكل الحكم الأوّل فارقاً بين العاملين بأنّ المباشر للبيع والشراء في القراض العامل، فكان عليه إنضاض المال، بخلاف عامل المساقاة (1).

ويندفع بأنّ المساقاة عقد لازم فلا يؤثّر فيه تلف العوض، بخلاف القراض، فإذا وجب على عامل القراض مع جوازه وكون تغييره للمال بإذن المالك فهنا أولى.

ويمكن أن يقال: إنّ تلف الثمرة هنا يكون كتلف العوض المعيّن قبل القبض المقتضي للبطلان في البيع ونحوه، وفيه نظر.

قوله: «الثالث في المدّة، ويعتبر فيها شرطان» إلى آخره.

المشهور بين الأصحاب اشتراط ضبط المدة بما لا يحتمل الزيادة والنقصان، كقدوم الحاج وإدراك الغلّة وإن كانت هي الغلة المعامل عليها وقوفاً فيما خالف الأصل واحتمل الغرر والجهالة على موضع اليقين.

واكتفى ابن الجنيد بتقديرها بالثمرة المساقى عليها(2) ؛ نظراً إلى أنه بالنسبة إلى ثبوته عادةً كالمعلوم، ولأن المقصود منها هو العمل إلى إكمالها، ولأنّ العقد مبني على الغرر والجهالة،

فلا يقدحان فيه.

ص: 277


1- تذكرة الفقهاء، ج 18، ص 494. المسألة 867.
2- راجع ما نقله عنه العلامة في مختلف الشيعة، ج 6، ص 161، المسألة 96.

الرابع: العمل

•وإطلاق المساقاة يقتضى قيام العامل بما فيه زيادة النماء من الرفق وإصلاح الأجاجين وإزالة الحشيش المضرّ بالأصول،• وتهذيب الجريد،

_______________________________

والأجود الأوّل وإن كان كلامه لا يخلو من وجه.

واعلم أنّ الاتّفاق على اشتراط تقديرها في الجملة كما قرّرناه، أما تركها رأساً فيُبطل العقد قولاً واحداً، ولأنّ عقد المساقاة لازم كما تقدم، ولا معنى لوجوب الوفاء به دائماً، ولا إلى مدةٍ غير معلومة، ولا سنة واحدة؛ لاستحالة الترجيح من غير مرجّح.

نعم، مَنْ قال من العامّة إنّها عقد جائز(1) لا يعتبر عنده تعيين المدّة؛ لانتفاء المحذور الذي ذكرناه .

ولا حدّ للمدّة في جانب القلّة إلّا بما يغلب فيه حصول الثمرة وإن كان شهراً، كما إذا ساقاه في آخر العمل بحيث بقي ما فيه للثمرة مستزاد يسير، ولا في جانب الكثرة عندنا، خلافاً للشافعي؛ حيث شرط أن لا تزيد على ثلاثين سنة (2)، وهو تحكّم.

قوله: «وإطلاق المساقاة يقتضي قيام العامل بما فيه زيادة النماء» إلى آخره.

الضابط أنّه يجب على العامل مع الإطلاق كل عمل يتكرّر كلّ سنةٍ ممّا فيه صلاح الثمرة أو زيادتها، ومنه إصلاح الأرض بالحرث والحفر حيث يحتاج إليه، وما يتوقّف عليه من الآلات والعوامل.

و«الأجاجين» جمع إجانة ، بالكسر والتشديد، والمراد بها هنا الحفر التي يقف فيها الماء في أصول الشجر التي تحتاج إلى السقي.

قوله: «وتهذيب الجريد».

ص: 278


1- راجع المغني المطبوع مع الشرح الكبير ، ج 5، ص 568، المسألة 4124 .
2- حلية العلماء، ج 5، ص 369 و 370.

•والسقي، والتلقيح، والعمل بالناضح • وتعديل الثمرة• واللقاط • وإصلاح موضع التشميس، ونقل الثمرة إليه،

_____________________________________-

المراد بتهذيبه قطع ما يحتاج إلى قطعه منه كالجزء اليابس، ومثله زبار [ة] الكرم(1)، وقطع ما يحتاج إلى قطعه من أغصان الشجر المضرّ بقاؤها بالثمرة أو الأصل، سواء كان يابساً أم أخضر، وتعريش الكرم حيث تجري عادته به، ونحو ذلك.

قوله «والسقي».

وكذا مقدّماته المتكرّرة، كالدلو والرشا، وإصلاح طريق الماء، وتنقيتها من الحمأة ونحوها، واستقاء الماء، وإدارة الدولاب وفتح رأس الساقية، وسدّها عند الفراغ على ما تقتضيه الحاجة.

قوله وتعديل الثمرة».

وهو إصلاحها بإزالة ما يضرّ بها من الأغصان والورق؛ ليصل إليها الهواء وما يحتاج إليه من الشمس، وليتيسّر قطعها عند الإدراك، ووضع الحشيش ونحوه فوق العناقيد صوناً لها عن الشمس المضرّة بها، ورفعها عن الأرض حيث تضرّ بها، ونحو ذلك.

قوله: «واللقاط».

بفتح اللام وكسرها، وهو لقاط الثمرة بمجرى العادة بحسب نوعها ووقتها، فما يؤخذ للزبيب يجب قطعه عند حلاوته في الوقت الصالح له، وما يعمل دبساً فكذلك، وما يؤخذ بشراً إذا انتهى إلى حالة أخذه، وما يؤخذ يابساً أخذ وقت يبسه.

قوله: «وإصلاح موضع التشميس ونقل الثمرة إليه».

هذا فيما يفتقر إلى التشميس. وكما يجب إصلاح موضع التشميس يجب تحرّي موضع يصلح له عادةً ونقلها إليه، ووضعها فيه على الوجه المعتبر ، وتقليبها في الشمس حيث تحتاج إليه، فلو وضعها في غيره فحصل بسببه نقص ضمن.

ص: 279


1- في المطبوع والطبعة الحجرية: «زيادة الكرم» وفي «م»: «زبار» «الكرم والمثبت هو الصحيح. وللمزيد راجع جامع المقاصد، ج 7، ص 360 - 361: حيث قال فيه: قوله: «وزبار [ة] الكرم المراد به تقليمه وقطع رؤوس الأغصان المضرّ بقاؤها بالثمرة أو الأصل؛ وهذا وإن كان مندرجاً في قوله: وقطع ما يحتاج إلى قطعه، إلا أنه أراد التصريح بما له اسم يعرف به».

•وحفظها، • وقيام صاحب الأصل ببناء الجدار،• وعمل ما يستقى به من دولابٍ أو دالية،

قوله: «وحفظها».

أي حفظ الثمرة على أصولها، وفي بيدرها، وفي طريق إيصالها إلى مالكها إن لم يكن المالك قد تولّى ذلك.

وهل نقلها إلى منزل المالك أو يده أو من يقوم مقامه على العامل؟ يحتمله؛ لأنّه تمام العمل، ولعموم: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي»(1) ، وعدمه؛ لأنّه ليس من أعمال الثمرة، وإنّما هو قبضها، فلا يجب عليه كالشريك.

والضابط أنّه يجب عليه العمل إلى وقت القسمة، فلو أخل بشيءٍ ممّا يجب عليه بالشرط تخيّر المالك بين فسخ العقد وإلزامه بأجرة مثل العمل، فإن فسخ قبل عمل شيءٍ فلا شيء له، وإن كان بعده فله الأجرة، سواء كان قبل ظهور الثمرة أم بعده؛ قضيّة للشرط.

أمّا ما يجب عليه مع الإطلاق فالظاهر أنّه كذلك قبل ظهور الثمرة، أمّا بعده ففيه نظر، وليس ببعيد الجواز.

ولو حصل على الأصل نقص بسبب التقصير لزمه الأرش، والظاهر أنّ الثمرة كذلك.

قوله وقيام صاحب الأصل ببناء الجدار».

ضابط ما يجب عليه ما لا يتكرّر كل سنةٍ عادةً وإن عرض له في بعض الأحوال أن يتكرّر، وهذه الأمور التي ذكرها منها.

ولا فرق في بناء الحائط بين جميعه وبعضه. وفي حكمه وضع الشوك ونحوه على رأسه، قاله في التذكرة(2).

ويشكل لو كان مما يتكرّر كل سنة عادةً؛ طرداً للضابطين.

قوله: «وعمل ما يستقى به من دولاب أو دالية».

ص: 280


1- تقدّم تخريجه في ص 50، الهامش 1.
2- تذكرة الفقهاء، ج 18، ص 454 المسألة 842.

• وإنشاء النهر، • والكُش للتلقيح. وقيل: يلزم ذلك العامل، وهو حسن؛ لأن به يتمّ التلقيح.

________________________________

الضابط أنّه يجب عليه من آلات السقي ما لا يتكرّر غالباً في كل سنة، كالدولاب والدالية ونحو ذلك. وفي إلحاق ثور الدولاب به أو ببقر الحرث وجهان.

أمّا ما يتكرّر غالباً كالدلو والرشا فهو على العامل، خلافاً لابن إدريس؛ حيث أوجب الجميع على العامل(1) .

قوله: «وإنشاء النهر».

ومثله الآبار الجديدة، والتي انهارت دون إصلاحها، وتنقيتها من الحمأة ونحوها، كما مرّ(2).

قوله: «والكشّ للتلقيح، وقيل: يلزم ذلك العامل، وهو حسن».

القول بوجوب الكشّ على المالك للأكثر ؛ لأنّه ليس من العمل، وإنّما هو من الأعيان التي

تصرف إلى مصلحة الثمرة، ولأصالة البراءة من وجوبه على العامل.

والقول بوجوبه عليه لابن إدريس(3)؛ لأنّه ممّا يتمّ به نماء الثمرة وصلاحها الواجبان عليه.

والأولى الرجوع فيه إلى العادة، ومع عدم اطرادها في شيءٍ فالأولى التعيين. ومثله الخمر الذي يُعمل للكرم، والزيت لعمل الزبيب، وتسميد(4) ؛ الأرض حيث يحتاج إليه.

وفي التذكرة :

أن شراء الزبل وأجرة نقله على ربِّ المال؛ لأنه ليس من العمل، فجرى مجرى ما يلقّح به، وتفريق ذلك على الأرض على العامل كالتلقيح(5) .

وهذا التفصيل مبني على وجوب الكش على المالك، كما أشعر به تعليله، وإلّا فهو محلّ الإشكال، كالأصل الذي ألحقه به.

ص: 281


1- السرائر، ج 2، ص 451.
2- مرّ في ص 268 ، 269 و 279 .
3- السرائر، ج 2، ص 451.
4- في «م»: «تسهیل» بدل «تسميد».
5- تذكرة الفقهاء، ج 18، ص 455. المسألة 842.

•ولو شرط شيئاً من ذلك على العامل صحّ بعد أن يكون معلوماً.

ولو شرط العامل على ربِّ الأصول عمل العامل له بطلت المساقاة؛ لأنّ الفائدة لا تستحقّ إلا بالعمل.

ولو أبقى العامل شيئاً من عمله في مقابلة الحصّة من الفائدة، وشرط الباقي على ربِّ الأصول جاز.

•ولو شرط أن يعمل غلام المالك معه جاز؛ لأنّه ضمّ مالٍ إلى مالٍ.

_________________________________

قوله: «ولو شرط شيئاً من ذلك على العامل صحّ بعد أن يكون معلوماً» إلى آخره.

جميع ما ذكر سابقاً ممّا يجب على العامل والمالك إنّما هو عند إطلاق العقد، ولو شرطاه على من هو عليه كان تأكيداً، ولا يقدح في العقد.

ولو شرطاه على أحدهما، فإن شرط ما على المالك على العامل صحّ بعد أن يكون معلوماً بينهما على وجه لا يحتمل الغرر، وكذا لو شرط بعضه بطريق أولى.

ولو شرط ما يجب على العامل على المالك، فإن كان جميعه بطل ؛ لما ذكره المصنّف من أن الحصّة إنّما يستحقّها العامل بالعمل، فإذا رفعه عنه لم يستحق شيئاً، وإن أبقى منه شيئاً فيه مستزاد الثمرة صحّ، وجعلت الحصّة مقابلة له للأصل، وعموم: «المؤمنون عند شروطهم»(1)، ولا فرق بين أن يبقى عليه الأقلّ والأكثر عندنا، ولو أبقى العامل ما لا يحصل به مستزاد الثمرة كالحفظ لم يصحّ أيضاً؛ لمنافاة وضع المساقاة، كما لو ساقاه وقد بقي من العمل ذلك.

نعم ، لو جعلا ذلك بلفظ الإجارة مع ضبط المدّة صحّ.

قوله: «ولو شرط أن يعمل غلام المالك معه جاز؛ لأنّه ضمّ مالٍ إلى مالٍ».

أشار بالتعليل إلى جواب بعض العامّة المانع من ذلك؛ محتجّاً بأن يده كيد مالكه وعمله كعمله (2)، فكما لا يصحّ اشتراط عمل المالك فكذا غلامه المملوك، ولأنّه مخالف لوضع

ص: 282


1- تقدم تخريجه في ص 18، الهامش 1.
2- المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 5، ص 567، المسألة 4122؛ الشرح الكبير المطبوع مع المغني، ج 5. ص 142 .

• أمّا لو شرط أن يعمل الغلام لخاصّ العامل لم يجز، وفيه تردّد، والجواز أشبه، • وكذا لو شرط عليه أجرة الأجراء، أو شرط خروج أجرتهم منهما.

_______________________________________

المساقاة، وهو أن يكون من المالك المال ومن العامل العمل.

وحاصل الجواب أنّ عمل غلام المالك مال له فهو ضمّ مالٍ إلى مالٍ، كما يجوز في القراض أن يدفع إلى العامل بهيمة يحمل عليها.

والفرق بين الغلام وسيّده ظاهر؛ فإنّ عمل العبد يجوز أن يكون تابعاً لعمل العامل، ولا يجوز أن يكون عمل المالك تابعاً لعمله؛ لأنّه هو الأصل، ويجوز في التابع ما لا يجوز في المنفرد، مع أنا نمنع حكم الأصل، فإنا قد جوّزنا أن يشترط على المالك أكثر العمل.

قوله: «أمّا لو شرط أن يعمل الغلام لخاصّ العامل لم يجز، وفيه تردّد، والجواز أشبه».

المراد بالشرط هنا أن يعمل الغلام في الملك المختصّ بالعامل أو العمل المختصّ به أي الخارج عن المال المشترك بينه وبين سيّده المساقي عليه.

ووجه الجواز أنه شرط سائغ فيجوز اشتراطه، ولأنّه إذا جاز أن يعمل في المشترك بينه وبين مولاه جاز في المختصّ.

ووجه المنع الموجب لتردّده أولاً أنّه شرط عملاً في مقابلة عمله، فصار في قوّة اشتراط جميع العمل على المالك، وفساده ظاهر.

والمعروف أنّ المانع من ذلك الشافعي(1) ، لكن المصنف والعلّامة(2) ذكرا المسألة على وجه يشعر بالخلاف عندنا، وقد تكرّر هذا منهما في مواضع كثيرة.

قوله: «وكذا لو شرط عليه أُجرة الأجراء، أو شرط خروج أُجرتهم منهما».

شرط العامل على المالك أجرة الأجراء يجري على وجهين:

أحدهما: أن يشترط عليه أجرة ما يحتاج إليه العامل من الأجراء مما لا يقدر على مباشرته أو لا يعتادها ونحو ذلك، بحيث يكون منه عمل في الجملة فيه مستزاد الثمرة.

ص: 283


1- الوجيز، ج 1، ص 402؛ روضة الطالبين، ج 4، ص 231.
2- تحریر الأحكام الشرعية، ج 3، ص 154، الرقم 4357 : قواعد الأحكام، ج 3، ص 319.

...

_____________________________________

وجواز هذا القسم واضح بعد ما ثبت من جواز اشتراط بعض العمل على المالك، لكن يشترط هنا ضبط ما يشترطه من ذلك حذراً من الغرر. وكذا لو شرط ذلك عليهما بطريق أولى.

وهذا القسم خالف فيه الشيخ (رحمه الله)، فمنع من اشتراط أجرة الأجراء الذين يستعان بهم؛ لأنّ موضوع المساقاة أن يكون من ربِّ المال المال ومن العامل العمل، وبالشرط المذكور يكون من ربّ المال المال والعمل معاً(1). وكذا منع من اشتراط شيءٍ ممّا على العامل على المالك مطلقاً(2). والأقوى الجواز فيهما.

والثاني: أن يشترط العامل على المالك أن يستأجر بأجرة على جميع العمل، ولا يبقى له إلّا الاستعمال والثمرة.

وفي صحة هذا الشرط وجهان:

أحدهما: الجواز؛ لأنّ ذلك عمل تدعو الحاجة إليه، فإنّ المالك قد لا يهتدي إلى الدهقنة واستعمال الأجراء، ولا يجد من يباشر الأعمال أو يأتمنه، فتدعوه الحاجة إلى أن يساقي من يعرف ذلك؛ لينوب عنه في الاستعمال.

وثانيهما: المنع للشكّ في أنّ مثل ذلك يُسمّى عملاً من أعمال المساقاة الذي هو شرط في صحّتها، فإنّ المتبادر من أعمالها خلاف ذلك، والعقود إنّما تكون بتوقيف الشارع، خصوصاً في مثل هذا العقد الذي هو على خلاف الأصل.

إذا تقرّر ذلك، فقول المصنّف «وكذا لو شرط » إلى آخره، يمكن كونه معطوفاً على الحكم بالجواز، فيكون إشارة إلى القسم الأوّل، مع إمكان أن يريد الثاني أيضاً.

ويمكن عطفه على التردّد، فيكون إشارة إلى القسم الثاني، مع إمكان أن يريد به الأوّل.

وإنّما قلنا ذلك؛ لأنّ الأوّل موضع رجحان مع احتمال المنع، والثاني موضع تردّدٍ مع احتمال الجواز.

ص: 284


1- المبسوط، ج 3، ص 17.
2- المبسوط، ج 3، ص 8.

[الفصل] الخامس في الفائدة

ولابدّ أن يكون للعامل جزء منها مشاعاً، فلو أضرب عن ذكر الحصّة بطلت المساقاة، • وكذا لو شرط أحدهما الانفراد بالثمرة لم تصحّ المساقاة• وكذا لو شرط لنفسه شيئاً معيناً وما زاد بينهما، وكذا لو قدّر لنفسه أرطالاً وللعامل ما فضل أو عكس، وكذا لو جعل حصّة ثمرة نخلات بعينها، وللآخر ما عداها.

_______________________________

قوله: «وكذا لو شرط أحدهما الانفراد بالثمرة لم تصحّ المساقاة».

لمخالفته لمقتضاها؛ لأنّها تقتضي شرعاً التشريك بينهما في الثمرة، فإذا شرطت لأحدهما بطلت، لكن يختلف الحكم حينئذٍ، فإنّ شرطها إن كان للعامل فسدت والثمرة بأجمعها للمالك، وعليه للعامل أجرة المثل؛ لدخوله على العمل بالعوض، فإذا لم يسلم له المشروط يرجع إلى أجرة عمله، أمّا إذا شُرطت للمالك فقد دخل العامل على التبرّع بالعمل، فالأقوى أنّه لا أجرة له؛ لأنّ المتبرّع لا أجرة له ولا حصّة، كما تقدّم مثله في القراض(1).

ووجه احتمال استحقاقه الأجرة أنّ المساقاة تقتضي العوض في الجملة، فلا يسقط بالرضى بدونه، وهو ضعيف.

قوله « وكذا لو شرط لنفسه شيئاً معيّناً ومازاد بينهما» إلى آخره.

الوجه في جميع ذلك مخالفته لموضوع المساقاة؛ فإنّها مبنية على الاشتراك في الثمرة على سبيل الشياع، كما دلّ عليه النصّ(2) وفعل النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) (3)، ولأنّه ربما لا يحصل إلا ذلك القدر المعيّن، فلا يكون للآخر شيء.

ص: 285


1- تقدّم في ص 205.
2- وسائل الشيعة، ج 19، ص 40 وما بعدها الباب 8 و 9 من أبواب كتاب المزارعةوالمساقاة.
3- الكافي، ج 5، ص 266 - 267 ، باب قبالة الأرضين.... ح 1 و 2.

•ويجوز أن يفرد كل نوع بحصّةٍ مخالفة للحصة من النوع الآخر إذا كان العامل عالماً بمقدار كلّ نوع .

•ولو شرط مع الحصّة من النماء حصّةٌ من الأصل الثابت لم يصح؛ لأنّ مقتضى المساقاة جعل الحصّة من الفائدة، وفيه تردّد.

• ولو ساقاه بالنصف إن سقى بالناضح وبالثلث إن سقى بالسائح بطلت المساقاة؛ لأنّ الحصّة لم تتعيّن، وفيه تردّد.

____________________________________

قوله: «ويجوز أن يفرد كل نوع بحصة مخالفة للحصة من النوع الآخر» إلى آخره.

لأنّ الغرض ثبوت حصّة معلومةٍ كيف كان، فلو لم يعلم بمقدار أحد الأنواع لم يصحّ؛ لجهالة الحصّة حينئذٍ، فإنّ المشروط فيه أقلّ الجزءين قد يكون أكثر الجنسين، فيحصل الغرر.

قوله: «ولو شرط مع الحصّة من النماء حصّةً من الأصل الثابت لم يصحّ» إلى آخره.

وجه الفساد مما ذكر، وأن الحصّة من الأصول تدخل في ملكه، فلا يكون العمل المبذول في مقابلة الحصة واقعاً في ملك المالك، ولا واجباً بالعقد، إذاً لا يعقل أن يشترط عليه العمل في ملك نفسه، ومن عموم الأمر بالوفاء بالعقود (1)و: «المؤمنون عند شروطهم» (2)وأنّ ذلك يجري مجرى اشتراط شيءٍ غيره من ذهب أو فضة، وهو جائز وإن كره. والقول بالمنع أوجه.

قوله: «ولو ساقاه بالنصف إن سقى بالناضح وبالثلث إن سقي بالسائح بطلت» إلى آخره.

وجه البطلان واضح؛ لأنّ العمل مجهول والنصيب مجهول، فهو مثل: بعتك بدينار مؤجَّل وبنصفه حال.

ويحتمل صحّة ذلك؛ لتعيين الحصة على التقديرين كما تصحّ الإجارة إذا قال: «إن

ص: 286


1- المائدة (5): 1.
2- تقدم تخريجه في ص 18 الهامش 1 .

•ويكره أن يشترط ربّ الأرض على العامل مع الحصة شيئاً من ذهب أو فضة ، لكن يجب الوفاء بالشرط، ولو تلفت الثمرة لم يلزم.

______________________________________

خطته روميّاً فلك كذا، وإن خطته فارسيّاً فلك كذا».

ومن ذلك يظهر منشأ التردد، والأقوى البطلان، ومسألة الإجارة إن ثبتت فهي خارجة بدليل خارج.

قوله: «ويكره أن يشترط ربّ الأرض على العامل مع الحصة شيئاً من ذهب» إلى آخره.

أمّا صحة شرط ذلك فلعموم: «المؤمنون عند شروطهم»(1)، وهو مع ذلك غير منافٍ المقتضى العقد؛ لأنّ الثمرة مشاعة بينهما، وهذا شرط زائد.

وأما كراهته فهو المشهور بين الأصحاب لا نعلم بينهم خلافاً في ذلك.

والعامّة أطبقوا على منعه، وأبطلوا به المساقاة.

وأمّا إذا تلفت الثمرة أجمع، ومثله ما إذا لم تخرج فوجه سقوط المشروط أنّه لولاه لكان أكل مال بالباطل، فإنّ العامل قد عمل ولم يحصل له عوض، فلا أقلّ من خروجه رأساً برأس.

نعم لو كان الشرط للعامل على ربّ الأرض، اتّجه عدم سقوطه؛ لأنّ العوض من قِبَل العامل - وهو العمل - قد حصل والشرط قد وجب بالعقد، فلا وجه لسقوطه.

وربما قيل بمساواته للأوّل، وهو ضعيف.

ولو كان التالف في الصورة الأولى البعض خاصّةً، فالأقوى عدم سقوط شيءٍ من المشروط؛ لأصالة العدم، ولأنّ المعتبر حصول عوض العمل، ولا اعتبار بكثرته وقلّته، ومن ثم لا يسقط من العمل شيء بتلف بعض الثمرة أو أكثرها.

ويحتمل أن يسقط منه بالنسبة؛ نظراً إلى مقابلة الأجزاء بالأجزاء حيث قوبلت الجملة بالجملة. وضعفه ظاهر.

ص: 287


1- تقدم تخريجه في ص 18، الهامش 1.

السادس في أحكامها

وهي مسائل:

الأولى : • كل موضع تفسد فيه المساقاة فللعامل أُجرة المثل ، والثمرة لصاحب الأصل.

________________________________________

قوله: «كلّ موضع تفسد فيه المساقاة فللعامل أجرة المثل والثمرة لصاحب الأصل».

أمّا كون الثمرة لصاحب الأصل فظاهر؛ لأنّها نماء ملكه، ولم يحصل ما يوجب نقلها عنه.

وأمّا وجوب أُجرة المثل للعامل؛ فلأنّه لم يتبرّع بعمله ولم يحصل له العوض المشروط، فيرجع إلى الأُجرة.

ويجب تقييده بما إذا كان جاهلاً بالفساد، ولم يكن الفساد باشتراط جميع الثمرة للمالك؛ إذ لو كان عالماً به لكان متبرّعاً بالعمل؛ لأنّه بذل عمله في مقابلة ما يعلم أنّه لا يحصل.

وأمّا مع شرط جميع الثمرة للمالك فلدخوله على أن لا شيء له وإن كان جاهلاً. وقد تقدّم مثله (1).

لا يقال: إنّ إيقاع العقد يقتضي أمر المالك له بالعمل، فتلزمه الأجرة مطلقاً؛ لأنّه عمل له أُجرة عادةً، والعامل ناصب نفسه للأجرة، فتثبت، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

لأنّا نقول: أمر المالك له بالعمل ليس مطلقاً حتى تلزمه الأجرة، كما هو المفروض في القاعدة، وإنّما أمره بعوض مخصوص - وهو الجزء من الثمرة - مع علم العامل بعدم حصول ذلك بسبب الفساد، فيكون كما لو أمره بالعمل بغير أجرة، فإنّه لا يستحقّها.

ومثله ما لو أمره بالعمل مع كون الثمرة بأسرها له؛ لأنّ لازم هذه الإذن وحاصلها تبرّع العامل.

نعم، يبقى في المسألة بحث آخر، وهو أنّه مع جهله بالفساد وكونه ليس من جهة

ص: 288


1- تقدّم في ص 285. 2 . سيأتي عن قريب.

الثانية: • إذا استأجر أجيراً للعمل بحصّة منها، فإن كان بعد بدوّ الصلاح جاز، وإن كان بعد ظهورها وقبل بدوّ الصلاح بشرط القطع صحّ إن استأجره بالثمرة أجمع، ولو استأّجره ببعضها قيل: لا يصحّ؛ لتعذّر التسليم، والوجه الجواز.

______________________________

ما يقتضي عدم العوض ينبغي على ما قرّرناه أن يثبت للعامل أقلّ الأمرين من الحصّة المشترطة وأجرة المثل؛ لأنّ الأقلّ إن كان هو الأجرة فظاهر؛ لأن فساد العقد أسقط الحصّة فيرجع إلى الأجر الأُجرة، وإن كان الأقلّ هو الحصّة، فالعامل قدم على أن لا يكون له سواها في مقابلة عمله، حتّى لو كانت في مقابلة عُشر العمل لكان مسقطاً للزائد، فيكون متبرّعاً بالزائد على هذا التقدير، كما تبرّع به على تقدیر اشتراط جميع الثمرة للمالك، وعلى تقدير علمه بالفساد.

ويمكن أن يجاب بالفرق بين الموضعين؛ فإنّه على هذا التقدير لم يقدم على التبرّع بعمله أصلاً، بل كما يحتمل أن تكون الحصّة قاصرةً عن مقابلة العمل، يحتمل مساواتها له وزيادتها عليه أضعافاً مضاعفة، فهو قادم على عمل بعوض محتمل للزيادة والنقصان، فليس متبرّعاً به مطلقاً وإن احتمل قصوره في بعض الأحوال، بخلاف العالم ومشترط جميع الحصّة للمالك، فإنّه قادم في ابتداء الأمر على التبرّع المحض على كلّ تقدير .

وهذا الفرق لا بأس به وإن كان ما اقتضاه البحث متوجّهاً أيضاً.

وأكثر الأصحاب أطلقوا وجوب أجرة المثل مع الفساد، وفيه تردّد.

قوله: «إذا استأجر أجيراً للعمل بحصّة منها - إلى قوله - والوجه الجواز».

إذا استأجر على العمل بجزء من الثمرة، فإن كان قبل ظهورها لم يجز قولاً واحداً؛ لأنّ عوض الإجارة يشترط فيه الوجود والمعلوميّة كعوض البيع، وهما منتفيان هنا، بخلاف عوض المساقاة، فإنّها جُوّزت كذلك، وخرجت عن الأصل بالنصّ(1) والإجماع، ولإمساس الحاجة.

ص: 289


1- الكافي، ج 5، ص 266 و 267، باب قبالة الأرضين... ، ح 1 و 2، وص 268، باب مشاركة الذمي وغيره في المزارعة... . ح 2: الفقيه، ج 3، ص 244، ح 3893: تهذيب الأحكام، ج 7، ص 198، ح 876 .

الثالثة: • إذا قال: «ساقيتك على هذا البستان بكذا على أن أساقيك على الآخر بكذا» قيل: يبطل، والجواز أشبه.

_________________________________

وإن كانت موجودة وكان قبل بدوّ صلاحها، بني على جواز نقلها بالبيع مطلقاً أو بشرط القطع. وقد تقدّم أنّ الأقوى الجواز مطلقاً(1) ، فيصحّ هنا كذلك.

واشتراط المصنّف هنا شرط القطع مبنيُّ على مذهبه في البيع، وكان عليه أن يضمّ إليه الضميمة أيضاً، فإنّه يكتفي بها في البيع عن شرط القطع، فليكن هنا كذلك، ولعلّه اكتفى بالإشارة إلى تساويهما في الحكم إجمالاً.

ويتفرّع على ذلك ما لو كان الاستئجار ببعضها، فإنّه ينقدح عدم الجواز؛ لأنّها تصير حينئذٍ مشتركة، والشركة تمنع من شرط القطع، ويتعذّر التسليم؛ لتوقّفه على إذن الشريك، وقد لا يحصل.

والأصحّ الجواز؛ لإمكان القطع والتسليم بالإذن، كما في كلّ مشترك. ولو فُرض امتناع الشريك يمكن بإذن الحاكم.

ولو كان الاستئجار بجميع الثمرة فلا إشكال؛ لانتفاء المانع، ومع الاكتفاء بالضميمة عن اشتراط القطع يندفع ذلك كلّه، وحيث لم يعتبر أحدهما فلا إشكال في الموضعين.

قوله: «إذا قال : ساقيتك على هذا البستان بكذا - إلى قوله - والجواز أشبه».

القول بالبطلان للشيخ (رحمه الله) في المبسوط، محتجاً عليه ب_:

أنّه بيعتان في بيعةٍ، فإنّه ما رضي أن يعطيه من هذه الحصّة إلّا بأن يرضى منه من الآخر بالحصة الأخرى. وهكذا في البيع إذا قال: بعتك عبدي هذا بألف على أن تبيعني عبدك بخمسمائة، فالكلّ باطل؛ لأن قوله : على أن تبيعني عبدك، إنما هو وعد لا يلزم الوفاء به، والحال أنّه قد نقص الثمن لأجله، فإذا بطل ذلك ردّ إلى الثمن ما نقص منه، وهو مجهول فيتجهّل الثمن قال : وبهذا فارق ما إذا قال: ساقيتك على هذين الحائطين بالنصف من

ص: 290


1- تقدّم في ج 3، ص 273 .

الرابعة: • لو كانت الأصول لاثنين، فقالا لواحدٍ: «ساقيناك على أن لك من حصّة فلان النصف، ومن حصّة الآخر الثلث صحّ بشرط أن يكون عالماً بقدر نصيب كلّ واحدٍ منهما ، ولو كان جاهلاً بطلت المساقاة؛ لتجهيل الحصّة.

______________________________

هذا والثلث من هذا؛ لأنّها صفقة واحدة كما لو قال: بعتك كذا وبعتك كذا، الأوّل بمائة والثاني بمائتين (1).

وابن الجنيد عكس الحكم، فقال:

لا أختار إيقاع المساقاة صفقةً واحدةً على قطع متفرقة بعضها أشق عملاً من بعض، إلّا أن يعقد ذلك ويشترط في العقد العقد على الأخرى(2).

والأقوى صحّة الجميع، ونمنع الجهالة التي ادّعاها الشيخ؛ لعموم الأمر بالوفاء بالعقود(3). وما يتضمّنه من الشرط كالجزء منه، ووجوب الوفاء بالشرط. ولو فرض عدم الوفاء لا يقتضي ذلك رد الناقص من الثمن كما ادعاه بل تسلّط المشروط له على الفسخ؛ كما في الإخلال بغيره من الشروط.

وأمّا ابن الجنيد فلم يذكر على مدّعاه دليلاً، ومقتضى الأصل جواز الأمرين معاً.

قوله: «لو كانت الأصول لاثنين فقالا لواحد ساقيناك» إلى آخره.

إذا تعدّد المالك واتحد العامل والعقد صحّت المساقاة مع تساويهما في الحصّة المجعولة كالنصف والثلث سواء علم حصّة كلّ واحد منهما أم لا؛ لأنّ حصّته معلومة من المجموع، والمجموع معلوم، ولا ضرورة إلى العلم بقدر حصّة كلّ منهما، وإن اختلفتا فلا بدّ من معرفة العامل بمقدار حصة كلّ منهما في الملك؛ لئلّا يتجهّل حصّته من النماء؛ لأنّه حينئذ بمنزلة عقدين.

ولا فرق على تقدير العلم بحق كلّ واحدٍ بين الاثنين والزائد عليهما، فلو كان بستان واحدٍ بين ثلاثة بالسوية فساقوا عليه واحداً يعلم بقدر النصيب، على أنّ له من نصيب واحدٍ

ص: 291


1- المبسوط، ج 3، ص 10.
2- حكاه عنه العلامة في مختلف الشيعة، ج 6، ص 160، المسألة 92 .
3- المائدة (5): 1.

الخامسة : • إذا هرب العامل لم تبطل المساقاة، فإن بذل العمل عنه باذل أو دفع إليه الحاكم من بيت المال ما يستأجر عنه فلا خيار، وإن تعذر ذلك كان له الفسخ؛ لتعذّر العمل.

______________________________

النصف، ومن نصيب الثاني الربع، ومن الثالث الثمن صحّ.

وتصحّ مسألتهم من أربعة وعشرين مخرج السهام في عدد الشركاء، لكلّ واحدٍ منهم ثمانية، فللعامل من حصّة الأوّل أربعة، ومن الثاني اثنان ومن الثالث واحد، والباقي لهم على التفاوت المقرّر .

ولو كان البستان لستة ملاك بالسوية، فساقوا عليه واحداً على أنّ له من نصيب واحد النصف، ومن نصيب الثاني الربع، ومن الثالث الثمن، ومن الرابع الثلثين، ومن الخامس الثلث، ومن السادس السدس صحّ.

وتصحّ مسألتهم من مائة وأربعة وأربعين لكلّ واحدٍ منهم أربعة وعشرون، فيأخذ العامل ممّن شرط له النصف اثني عشر، ومن الثاني ستّة، ومن الثالث ثلاثة، ومن الرابع ستة عشر، ومن الخامس ثمانية، ومن السادس أربعة، فيجتمع له تسعة وأربعون، وللملاك خمسة وسبعون يتفاوتون فيها على ما تقرّر.

وطريق بلوغها ذلك أنّ مخارج الثلاثة الأولى متداخلة يكتفى فيها بمخرج الثمن، ومخارج الثلاثة الأخيرة متداخلة يكتفى فيها بمخرج السدس، فتبقى ستّة وثمانية، وبينهما موافقة بالنصف تضرب نصف أحدهما في الآخر، ثم تضرب المرتفع - وهو أربعة وعشرون - في عدد الشركاء، وقس على هذا ما شئت من فروض المسألة، ذكرنا منها هذا القدر للتدريب.

قوله: «إذا هرب العامل لم تبطل المساقاة - إلى قوله كان له الفسخ».

لما كانت المساقاة من العقود اللازمة لم تنفسخ بمجرّد هرب العامل، ولا يتسلّط المالك على فسخها به كما لا يملك فسخها بامتناعه من العمل بغير هرب.

ثم إن تبرّع المالك أو غيره عليه بالعمل أو بمؤونته بقي استحقاقه بحاله، وإلّا رفع المالك

ص: 292

ولو لم يفسخ وتعذّر الوصول إلى الحاكم كان له أن يشهد أنّه يستأجر عنه، ويرجع عليه على تردّد، ولو لم يشهد لم يرجع.

________________________________

أمره إلى الحاكم إن وجده وثبت عنده المساقاة، فينفذ الحاكم في طلبه، فإن وجده أجبره على العمل، وإن لم يجده ووجد له مالاً استأجر منه مَنْ يتم العمل؛ لأنّه مستحقّ عليه، فإن لم يجد له مالاً أنفق من بيت المال ولو قرضاً إن كان فيه سعة، فإن لم يتّفق اقترض عليه الحاكم، أو استأجر بأجرةٍ مؤجَّلة إلى وقت إدراك الثمرة.

ولو فقد جميع ذلك إمّا لعدم من يعمل ذلك للحاكم، أو لعدم إمكان إثبات العقد عنده، أو لعدم بسط يده، أو لفقده، تخيّر المالك بين فسخ المساقاة دفعاً للضرر، وإبقائها، فإن فسخ صارت الثمرة له وعليه أجرة مثل عمله قبل الهرب؛ لأنّه عمل محترم صدر بإذن المالك في مقابلة عوض وقد فات بالفسخ، فتجب قيمته، وهو الأجرة، لكن إنّما يفسخ إذا كان ذلك قبل ظهور الثمرة، أو بعده إذا لم يمكن بيعها أو بعضها للإنفاق على العمل، أو لم يفِ به، وإلّا باعها أو بعضها إن أمكن الاجتزاء به وأنفق ولا فسخ لزوال الضرر، ولو لم يوجد راغب في البعض مع الاكتفاء به في العمل، باع الجميع، وحفظ الباقي للعامل، وإن لم يفسخ والحال أنّه قد تعذّر إذن الحاكم والمتبرّع أنفق هو بنيّة الرجوع، ورجع على الأقوى.

قوله: «ولو لم يفسخ وتعذّر الوصول إلى الحاكم كان له أن يشهد» إلى آخره.

الأولى أن يراد بتعذّر الوصول إلى الحاكم تعذّر الوصول إلى إذنه كما قلناه سابقاً، سواء كان موجوداً ولم يمكن استئذانه؛ لعدم إمكان إثبات الحقّ عنده أم لغير ذلك، وفي حكم تعذّره بعده عنه بحيث يتوقّف الوصول إليه على مشقةٍ كثيرة، وحينئذٍ فهل له أن يشهد ويرجع؟ تردّد المصنف في ذلك من لزوم الضرر بدونه، وهو منفى بالآية(1) والخبر(2) ، ومن أصالة عدم التسلّط على مال الغير وثبوت شيءٍ في ذمّته بغير أمره ومن يقوم مقامه.

والأقوى الرجوع حينئذٍ مع نيّته.

ص: 293


1- لعله أراد نفي الحرج، كما في سورة الحج (22): 78 .
2- تقدّم تخريجه في ص 162 ، الهامش 1 و 2.

السادسة: • إذا ادّعى أنّ العامل خان أو سرق أو أتلف أو فرّط فتلف وأنكر فالقول قوله مع يمينه.

__________________________________

ومقتضى قوله «ولو لم يشهد لم يرجع» أنّه على تقدير القول بجواز الرجوع مع الإشهاد لو لم يشهد لم يرجع، سواء أمكنه الإشهاد أم لم يمكن؛ لأنّه شرط في جواز الرجوع كإذن الحاكم، فينتفي بدونه، وهذا أحد الأقوال في المسألة.

والثاني : أنّه يرجع مع تعذّر الإشهاد لا مع إمكانه ، كما في إذن الحاكم ؛ دفعاً للحرج والضرر.

والثالث : أنّه يرجع مع نيّته مطلقاً، وهو الأقوى؛ إذ لا مدخل لشهادة الشاهدين في التسلّط على مال الغير وإثبات شيءٍ في ذمته، ولا ولاية لهما على العامل، وإنّما فائدتهما التمكّن من إثبات الحقّ، وهو أمر آخر، والمقتضي لعدم الرجوع هو نيّة التبرّع أو عدم نيّة الرجوع، ولأصالة عدم الاشتراط، فعلى هذا يثبت حقه في ذمّته فيما بينه وبين الله تعالی.

ويحتمل قويّاً قبول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل أنّ الإنسان لا يتبرّع بعمل يحصل فيه غرامة عن الغير.

قوله: «إذا ادّعى أنّ العامل خان أو سرق أو أتلف أو فرّط فتلف» إلى آخره.

أي القول قول العامل في ذلك كلّه؛ لأنّه أمين ونائب عن المالك في حفظ حصّته، كعامل القراض، والأصل عدم ذلك كلّه.

قال في التذكرة :

وإنّما تُسمع دعوى المالك في ذلك كلّه إذا حرّر الدعوى وبين قدر ما خان، فحينئذ يقبل قول العامل مع يمينه إن لم تكن بيّنة (1).

وهذا بناءً منه على أنّ الدعوى المجهولة لا تُسمع، مع أنّ مذهبه في باب القضاء سماع الدعوى المجهولة (2)، فلو قلنا بسماعها - كما هو الأجود - كفى في توجه الدعوى مجرّد

ص: 294


1- تذكرة الفقهاء، ج 18، ص 495 المسألة 868 .
2- إرشاد الأذهان، ج 2، ص 1143 تحرير الأحكام الشرعية، ج 5، ص 141، الرقم 6464: قواعد الأحكام، ج 3، ص 435 .

•وبتقدير ثبوت الخيانة هل تُرفع يده، أو يستأجر من يكون معه من أصل الثمرة؟ الوجه أنّ يده لا تُرفع عن حصّته من الربح، وللمالك رفع يده عمّا عداه.

• ولو ضمّ إليه المالك أميناً كانت أجرته عن المالك خاصّةً .

_____________________________

دعوى أحد هذه الأمور من غير احتياج إلى بيان القدر، وهذه قاعدة ببابها أليق، فلا وجه لتخصيص البحث فيها بهذه الدعوى.

قوله: «وبتقدير ثبوت الخيانة هل تُرفع يده - إلى قوله - رفع يده عمّا عداه».

الوجه وجيه؛ لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم(1) ، فلا وجه لرفع يد مالك عن ماله لأجل مالك آخر .

ووجه الرفع أن إثبات يده على حصّته يستدعي إثباتها على حصّة المالك، وذلك غير جائز، فما يتوقّف عليه الواجب - وهو رفع يده عن حصّة المالك - واجب، وهو رفع يده عن حصّته.

وضعفه ظاهر، وفيه ترجيح لأحد الحقّين بلا مرجّح.

وكذلك استئجار من يكون معه من الأصل، فإنّ ذلك حقّه فلا يقع بدون إذنه، غايته أنّ المالك إذا لم يرض باستئمانه ضمّ إليه من شاء يكون أميناً على حصّته.

نعم، لو لم يمكن حفظه مع الحافظ توجه رفع يده عن الثمرة أجمع، وإخراج أجرة العامل من البين؛ لأنّ العمل واجب عليه، وقد تعذّر فعله بنفسه، فيكون كما لو هرب.

ويحتمل مساواتها للأوّل؛ لمنع تعذّر العمل من جهته بمجرّد خيانته.

قوله: «ولو ضمّ إليه المالك أميناً كانت أجرته عن المالك خاصّة».

لأنّه نائبه والقائم مقامه في حفظ ماله وعمله لمصلحته، والعامل إنّما يجب عليه العمل، وهو باذل له وخيانته لا ترفع ذلك.

وخالف فيه بعض العامّة، فجعلها على العامل(2) ؛ لأن مؤونة الحفظ عليه.

وهو ضعيف؛ لأنّه باذل للحفظ

ص: 295


1- تقدّم تخريجه في ص 267 الهامش 1 .
2- الوجيز، ج 1، ص 403.

السابعة: • إذا ساقاه على أصول فبانت مستحقّةً بطلت المساقاة، والثمرة للمستحقّ، وللعامل الأجرة على المساقى، لا على المستحقّ.

• ولو اقتسما الثمرة وتلفت كان للمالك الرجوع على الغاصب بدرك الجميع، ویرجع الغاصب على العامل بما حصل له، وللعامل على الغاصب أجرة عمله،

____________________________

قوله: «إذا ساقاه على أصول فبانت مستحقّةً بطلت المساقاة» إلى آخره.

أمّا كون الثمرة للمستحقّ فظاهر؛ لأنّها نماء ملكه، ولم ينتقل عنه بوجه، وينبغي تقييد ذلك بما إذا لم يجز المساقاة؛ لأنّ المساقي الغاصب لا يقصر عن كونه فضوليّاً.

ولا يقال: إنّ مثل ذلك لا يتصوّر فيه إجازة المساقاة مع وقوع العمل له بغير عوض، فكيف يرضى بدفع العوض - وهو الحصّة - مع ثبوتها له مجاناً؟! لأنّ هذا الاستبعاد إنّما يتمّ لو كان الظهور بعد تمام العمل، والمسألة مفروضة فيما هو أعمّ منه، فيمكن أن يبقى من العمل ما يؤثر المستحقّ معه دفع الحصّة في مقابلة الباقي؛ لأن الأغراض لا تنضبط.

وأمّا ثبوت أُجرة العامل على المساقي؛ فلانّه استدعى منه عمله في مقابلة عوض ولم يسلم له، فلم يدخل متبرّعاً.

وفي قول المصنّف «فبانت مستحقةً» إشارة إلى أنّ العامل جاهل بالاستحقاق، فلو كان عالماً لم يرجع على المساقي بشيء، كما أسلفناه.

والفرق بين ظهور استحقاق الثمرة وبين هلاكها أو سرقتها - حيث تثبت الأجرة للعامل في الأول دون الثاني - أن الاستحقاق يوجب فساد العقد حيث لم يجزه المالك، وفساد العقد يوجب الرجوع إلى الأجرة على ما فصّل، بخلاف هلاك الثمرة وسرقتها وما شاكلهما، فإنّ العقد معه صحيح، فلا يستحقّ العامل سوى الحصّة وإن فاتته؛ لأنّ ذلك مقتضى عقد المساقاة على تقدير صحّته.

قوله: «ولو اقتسما الثمرة وتلفت كان للمالك الرجوع - إلى قوله - العامل عالماً به».

إذا ظهر استحقاق الأصول بعد ظهور الثمرة، فلا يخلو إمّا أن تكون باقيةً أو تالفة، وتلفها

ص: 296

أو يرجع على كلّ واحدٍ منهما بما حصل له، وقيل: له الرجوع على العامل بالجميع إن شاء؛ لأنّ يده عادية، والأوّل أشبه إلّا بتقدير أن يكون العامل عالماً به.

_________________________________

إمّا أن يكون في يد العامل أو المساقي على وجه يضمن لو كان مالكاً وعاملاً، أو لا معه بعد القسمة أو قبلها مع علم كلّ منهما بكونها مستحقّةً للغير، أو لا معه ومع ادّعاء المالك الملك وتسليم العامل له ذلك قطعاً أو عملاً بالظاهر، أو لا معه، فهذه خلاصة أقسام المسألة التي يختلف الحكم باختلافها.

وأمّا حكمها فنقول: إن كانت الثمرة باقية وجب ردّها على مالكها الذي قد ثبت ظاهراً؛ لأنّها عين ماله، ومع تلفها فإن كان بعد القسمة وتلف كلّ حصّة في يد المستولي عليها تخيّر المالک في الرجوع على كلّ منهما بالجميع والبعض؛ لأنّ كلاً منهما ضامن لجميع الثمرة بوضع يده عليها، فإن رجع على الغاصب بالجميع كان للغاصب الرجوع على العامل بنصف الثمرة التي استهلكت؛ لأنّه لم يملكها العامل؛ لفساد العقد ظاهراً، وقد أخذ المالك عوضها من الغاصب، فكانت حقا له؛ لخروجها عن ملك المالك بأخذ عوضها من الغاصب، فلا يجمع بين العوض والمعوض، وللعامل على الغاصب الأجرة.

هذا إذا لم يصرّح الغاصب بكونه مالكاً، وإلّا لم يكن له الرجوع على العامل بشيء؛ لاستلزام دعواه أنّه لا حقّ له على العامل؛ لأنّه أخذ الحصّة باستحقاق، والمدّعي ظلمه بأخذ العوض منه، فلا يرجع على غير ظالمه.

وكذلك ثبوت أجرة المثل للعامل مقيّد بما إذا لم يصرّح بملكيّة المساقي، فإنّه يستلزم دعوى كون المدّعي مبطلاً، والبيئة غير صادقةٍ، وأنّه لا حقّ له إلّا الحصة.

،نعم لو كان اعترافه مبنيّاً على ظاهر اليد قبل رجوعه.

وإن رجع على العامل بالجميع، بناءً على أنّه قد أثبت يده على جميع الثمرة فاستحقّ المالك الرجوع عليه، رجع العامل على الغاصب بنصف الثمرة التي أتلفها وبأجرة مثله مع جهله، ومع علمه لا يرجع بأجرة، بل بحصّة الغاصب خاصّةً؛ لقرار الضمان على من تلفت في يده.

وإن رجع على كلّ منهما بما صار إليه جاز؛ لأنّ قرار ضمانه على من تلف في يده، فله

ص: 297

الثامنة: • ليس للعامل أن يساقي غيره ؛ لأنّ المساقاة إنّما تصحّ على أصل مملوك المساقي

_________________________________

الرجوع به من أوّل الأمر، وحينئذٍ فيرجع العامل على الغاصب بأجرة مثله لا غير مع جهله.

ولو كان الجميع قد تلف في يد العامل فضمان حصّته عليه، وأمّا حصّة الغاصب فإنّ يده عليها يد أمانة بزعم المالك؛ لأنّه أمينه، فإذا ظهر كونه ضامناً رجع على الغاصب؛ لغروره.

ولو تلف الجميع في يد الغاصب نظر، هل كانت يده عليه يد أمانة أو يد ضمان؟ فيرتّب على كلّ منهما مقتضاه.

إذا تقرّر ذلك، فقد اختار المصنّف أنّ المالك ليس له الرجوع على العامل بالجميع بعد حكاية القول بجوازه

ووجه ما اختاره أنّ العامل لا تثبت يده على الثمرة بالعمل، وإنّما هو مراع لها وحافظ ونائب عن المساقي، فلا يضمن إلّا ما حصل في يده، حتّى لو تلفت الثمرة بأسرها بغير فعله قبل القسمة أو غُصبت لم يضمن؛ لأنّ يده لم تثبت عليه، بل يد العاقد مستدامة حكماً.

والأقوى ما اخترناه من جواز الرجوع عليه بالجميع؛ لأنّ يده على جميع الثمرة وإن كانت بالنيابة، واستدامة يد المساقي لا ترفع يده.

قوله: «ليس للعامل أن يساقي غيره؛ لأنّ المساقاة إنّما تصحّ على أصل مملوك للمساقي».

الأصل في هذه المعاملة أن تقع على الأصول المملوكة للمساقي، والعامل لا يملك منها سوى الحصّة من الثمرة بعد ظهورها، كما قد علم من تعريفها وبقيّة أحكامها، ومن ثم لم يجز للعامل أن يساقي غيره، بخلاف المزارعة، فإنّ مبناها في الأصل على المعاملة على الأرض بحصّةٍ من حاصلها، وباقي اللوازم الأصل فيها أن يكون على العامل؛ إذ لا يقتضي تعريف المعاملة على الأرض أزيد من ذلك، ولمّا كان المقصود بالذات من المعاملتين هو الحاصل، والأرض مقصودة بالعرض، كان لعامل المزارعة أن يزارع غيره؛ لأنّ البذر - الذي يتفرّع منه الحاصل - منه، فكان البذر في ذلك كالأصول في المساقاة، فيعامل عليه من يملكه، بخلاف

ص: 298

...

______________________________________

المساقاة، فإنّ عمل الأصول مقصود بالذات لمالكها أيضاً، كالثمرة، فلا يجوز أن يعامل عليها بغير إذنه؛ لاختلاف الناس في العمل، وتفاوت الأغراض فيه.

ويُعلم من هذا أنّ البذر لو كان من ربّ الأرض لم يجز للعامل مزارعة غيره، وقد تقدّمت الإشارة إليه (1).

وربما أُشكل الحكم فيما لو ظهرت الثمرة وبقي فيها عمل يحصل به زيادة فيها، فإنّ المساقاة حينئذٍ جائزة، والعامل يصير شريكاً فيها، فتسلّطه عليها بالعقد كتسلّط المزارع على الأرض، وكلاهما مقصود بالعرض والمقصود بالذات هو الثمرة، وهي مملوكة للعامل: لأنّه إذا ساقى حينئذٍ لا يجعل الحصّة إلّا ممّا يملكه؛ إذ ليس له تصرّف في مال المالك، وعمله متعيّن عليه.

فإن قيل: إن المعاملة لا تكون إلّا على الأصول كما قد علم، وهي ليست مملوكة له، فلا ينفعه ملك النماء.

قلنا: وكذلك المعاملة في المزارعة إنّما هي على الأرض، وهي ليست مملوكة له، وتسلّطه على البذر كتسلّطه على الثمرة هنا؛ إذ لا ينقل منها إلّا ما هو ملكه.

وربما قيل بأنّ ملك الأرض ليس بشرط في صحّة المزارعة، بل يكفي فيها اشتراكهما في باقي الثلاثة التي يحصل بها الزرع، وهي البذر والعمل والعوامل، وعلى هذا، الفرقُ سهل؛ لأنّ متعلّق المساقاة الأصول فيعتبر من مالكها، ومتعلّق المزارعة البذر فيعتبر من مالکه خاصّةً، إلّا أنا قد بيّنا سابقاً أن ملك الأرض معتبر في صحّتها، بل حقيقتها شرعاً ليست إلّا المعاملة عليها على الوجه المذكور، ومع ذلك يقع الإشكال في صورة يكون مالكاً للأرض.

والأجود ما تحصّل من الجواب بأنّ الأرض لا يقصد عملها بالذات، وإنّما يقصد الزرع، فالعبرة فيه بمالك البذر، وفي المساقاة يقصد بالعمل الأصول والثمرة معاً كلاهما بالذات، فلا يقع إلّا من مالكه أو من يأذن له.

ص: 299


1- تقدّمت في ص 269 .

التاسعة: • خراج الأرض على المالك، إلّا أن يشترط على العامل أو بينهما.

العاشرة: • الفائدة تُملك بالظهور، وتجب الزكاة فيها على كلّ واحدٍ منهما إذا بلغ نصيبه نصاباً.

_______________________________________

قوله: «خراج الأرض على المالك، إلّا أن يشترط على العامل أو بينهما».

الخراج في الأرض الخراجيّة - كالمفتوحة عنوة - يكون على الأرض مع خلوّها عن الشجر، وعلى الشجر المغروس فيها بواسطة الأرض؛ لأنّ حقّ المسلمين إنّما هو في الأرض لا في الشجر، ولذلك أطلق المصنّف نسبة الخراج إلى الأرض وإن كان قد يوضع على الشجر، وإنّما كان على المالك؛ لأنّه بسبب غراسه فيها، إلّا أن يشترط على العامل أو عليهما، فيجب حسب ما شرط، لكن يشترط علمهما بقدره ليصحّ اشتراطه في العقد اللازم، لئلّا يتجهّل العوض، ولو زاد السلطان بعد ذلك فهو على المالك، لا على حكم ما شرط، وقد تقدم مثله في المزارعة(1).

قوله: «الفائدة تُملك بالظهور، وتجب الزكاة فيها على كلّ واحدٍ منهما إذا بلغ نصيبه نصاباً».

أمّا كون الفائدة تملك لهما بظهورها فممّا لا نعلم فيه خلافاً، وفي التذكرة أسند الحكم إلى علمائنا(2)، وهو ظاهر في الإجماع عليه؛ لأنّه جمع مضاف يفيد العموم.

والخلاف فيه مع بعض العامّة؛ حيث جعل ملك العامل موقوفاً على القسمة(3).

ووجه المختار - مع الإجماع - أنّ مقتضى الشرط كون الثمرة بينهما، وصحّته تقتضي ثبوت مقتضاه، كسائر الشروط الصحيحة، والثمرة متحقّقة بالظهور.

ويتفرّع على ذلك وجوب الزكاة على من بلغ نصيبه منهما نصاباً؛ لتحقّق شرط وجوب

ص: 300


1- تقدّم في ص 268 .
2- تذكرة الفقهاء، ج 18 ، ص 476، المسألة 858.
3- المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 5، ص 576، المسألة 4131؛ الشرح الكبير المطبوع مع المغني، ج 5، ص 574.

...

________________________________

الزكاة، وهو ملك الثمرة قبل تحقّق الوجوب، ونموها في ملكه، والحكم بهذا التفريع لازم بعد ثبوت الأصل.

وقد خالف فيه من أصحابنا السيّد ابن زهرة (رحمه الله)، فأوجب الزكاة على من كان البذر منه خاصّةً محتجاً عليه بأنّ الحصّة للآخر كالأُجرة(1).

وضعفه ظاهر؛ لأنّ الحصّة قد مُلكت هنا بعقد المعاوضة في وقت يصلح لتعلّق الزكاة بها، لا بطريق الأجرة. ثمّ لو سُلّم كونها كالأجرة فمطلق الأجرة لا يمنع من وجوب الزكاة، بل إذا تعلّق الملك بها بعد الوجوب؛ إذ لو استأجره بزرع قبل بدوّ صلاحه، أو أجر المالك الأرض بالزرع كذلك لوجبت الزكاة على مالك الأجرة، كما لو اشترى الزرع كذلك.

نعم، لو كان يذهب إلى أنّ الحصّة لا يملكها من لا بذر له بالظهور، بل بعد بدوّ صلاح الثمرة ونحوه أمكن ترتّب الحكم، لكنّه خلاف إجماع الأصحاب، ومع ذلك لا يتمّ تعليله بالأجرة، بل بتأخّر ملكه عن الوجوب.

قال ابن إدريس (رحمه الله):

إنّي راجعته في هذا الحكم، وكاتبته إلى حلب ونبهته على فساده، فلم يقبل واعتذر بأعذار غير واضحةٍ، وأبان بها أنّه ثقل عليه الردّ، ولعمري إن الحقّ تقيل كلّه، ومات (رحمه الله) وهو على ما قاله(2).

وفي المختلف: إنّ قول ابن زهرة ليس بذلك البعيد من الصواب(3).

وهو خلاف الظاهر، والظاهر أنّ الحامل له على ذلك كثرة تشنيع ابن إدريس عليه.

إذا تقرّر ذلك، فنقول: على المشهور تجب الزكاة على المالك في نصيبه إذا بلغ نصاباً كيف اتّفق؛ إذ لا مؤونة عليه، وبتقدير أن تحصل بالشرط أو بغيره يعتبر بعدها، وأمّا العامل

ص: 301


1- غنية النزوع، ج 1، ص 291.
2- السرائر، ج 2 ص 443 و 454.
3- مختلف الشيعة، ج 6 ، ص 146، المسألة 68.

تتمّة: • إذا دفع أرضاً إلى رجل ليغرسها على أنّ الغرس بينهما كانت المغارسة باطلةً، والغرس لصاحبه، ولصاحب الأرض إزالته، وله الأجرة، لفوات ما حصل الإذن بسببه، وعليه أرش النقصان بالقلع.

_________________________________

فيعتبر في الوجوب عليه - على القول باستثناء المؤونة - بقاء قدر النصاب بعدها، أو مطلقاً مع

استثنائها، على ما تقدّم تفصيله في الزكاة(1).

وعلى قول السيّد (رحمه الله) يجب على مالك البذر الزكاة في نصيبه قطعاً، وأمّا حصّة الآخر فهل تجب عليه زكاتها؟ يبنى على أنّ مبنى حكمه ذلك هل هو على تأخّر الملك عن بدوّ الصلاح، أم على ما يظهر من توهّمه أنّه كالأجرة وإن قلنا بملكه له بالظهور؟ فعلى الثاني لا تجب زكاتها على مالك البذر؛ لخروجها عن ملكه حين تعلّق وجوب الزكاة، وعلى الأوّل يكون من جملة المؤن، فإن لم نستثنها وجبت زكاتها عليه؛ لأنّ انتقالها عن ملكه حصل بعد تعلّق الوجوب، كما تجب الزكاة على البائع لو باع الثمرة بعد بدوّ الصلاح، وإن استثنينا المؤونة كانت من جملتها. وحكمها في ثلم النصاب وعدمه حكم المؤونة المتأخّرة عن بدوّ الصلاح.

والأقوى أنّها لا تتلم النصاب، بل يزكّى الباقي بعدها وإن قلّ.

قوله: «إذا دفع أرضاً إلى رجل ليغرسها على أنّ الغرس بينهما - إلى قوله - وعليه أرش

النقصان بالقلع».

المغارسة معاملة خاصّة على الأرض ليغرسها العامل على أن يكون الغرس بينهما، وهي مفاعلة منه، وهي باطلة عندنا وعند أكثر العامّة؛ لأنّ عقود المعاوضات موقوفة على إذن الشارع، وهي منتفية هنا.

ولا فرق بين أن يكون الغرس(2) من مالك الأرض ومن العامل، ولا بين أن يشترطا تملّك العامل جزءاً من الأرض مع الغرس وعدمه.

ص: 302


1- تقدّم في ج 1، ص 409 وما بعدها. في زكات الغلاة.
2- في «م ، ق ، و»: «الفراس» بدل «الفرس».

...

____________________________________

وحيث كانت باطلة فالغرس لصاحبه، فإن كان لصاحب الأرض فعليه للعامل أُجرة مثل عمله؛ لأنّه لم يعمل مجانّاً، بل بحصّةٍ لم تسلم له، وإن كان للعامل فعليه أجرة المثل للأرض عن مدّة شغله لها، ولصاحب الأرض قلعه؛ لأنّه غير مستحقّ للبقاء فيها، لكن بالأرش؛ لصدوره بالإذن، فليس بعرق ظالم.

والمراد بالأرش هنا تفاوت ما بين قيمته في حالتيه على الوضع الذي هو عليه، وهو كونه حال غرسه باقياً بأجرةٍ ومستحقّاً للقلع بالأرش، وكونه مقلوعاً؛ لأنّ ذلك هو المعقول من أرش النقصان، لا تفاوت ما بين قيمته قائماً مطلقاً ومقلوعاً؛ إذ لا حقّ له في القيام كذلك ليقوّم بتلك الحالة، ولا تفاوت ما بين كونه قائماً بأجرة ومقلوعاً؛ لما ذكرنا، فإنّ استحقاقه للقلع بالأرش من جملة أوصافه، ولا تفاوت ما بين كونه قائماً مستحقّاً للقلع ومقلوعاً لتخلّف بعض أوصافه أيضاً كما بيّناه، ولا بين كونه قائماً مستحقّاً للقلع بالأرش ومقلوعاً؛ لتخلّف وصف القيام بأجرة.

وهذه الوجوه المنفيّة ذهب إلى كلّ منها بعضٌ اختار الثاني منها الشيخ عليّ (رحمه الله)(1)، والأخير فخر الدين في بعض ما يُنسب إليه(2)، والآخران ذكرهما من لا يعتدّ بقوله.

والأوّل مع سلامته من ذلك لا يخلو من دَوْرٍ؛ لأن معرفة الأرش فيه متوقّفة على معرفته حيث أُخذ في تحديده، والظاهر أنّ القيمة لا تختلف باعتباره، وأنّ تقديره كذلك كتقديره مقلوعاً وقائماً بأجرةٍ، فلا يضرّ مثل هذا الدور، ولهذا الأرش نظائر كثيرة تقدّم بعضها(3).

ويجب على العامل مع ذلك أرش الأرض لو نقصت به وطمّ الحفر، وخصوصاً لو قلعه بغير أمر المالك، وقلع العروق المتخلّفة عن المقلوع.

ص: 303


1- جامع المقاصد، ج 7، ص 393؛ حاشية شرائع الإسلام، ج 2، ص 199(ضمن حياة المحقّق الكركي وآثاره ج 11).
2- لم نتحقّقه.
3- تقدّم في ص 252.

•ولو دفع القيمة ليكون الغرس له لم يجبر الغارس، وكذا لو دفع الغارس الأجرة لم يجبر صاحب الأرض على التبقية.

________________________________

ولم يفرّق الأصحاب في إطلاق كلامهم بين العالم بالبطلان والجاهل، بل تعليلهم مؤذن بالتعميم.

ولا يبعد الفرق بينهما، وأن لا أُجرة لصاحب الأرض مع علمه، ولا أرش لصاحب الغرس مع علمه.

أمّا الأوّل فلإذنه في التصرّف فيها بالحصّة مع علمه بعدم استحقاقها.

وأمّا الثاني فلظلمه بالغرس مع علمه بعدم استحقاقه.

ويمكن دفعه بأنّ الأمر لمّا كان منحصراً في الحصّة أو الأجرة لم يكن الإذن من المالك تبرّعاً ، فله الأجرة؛ لفساد المعاملة، والغرس لمّا كان بإذن المالك وإن لم يكن بحصّة فعِرقه ليس بظالم، فيكون مستحقّاً للأرش.

فرع: لو كان الغرس من مالك الأرض لكنّ الغارس ركب فيه نوعاً آخر، كما في شجر التوت ونحوه، فالمركّب للغارس إن كان أصله ملكه، وكذا نماؤه مدة بقائه، وعليه مع أجرة الأرض أجرة أُصول الغرس أيضاً، وللمالك إزالة المركب مع الأرش كما مرّ. قوله: «ولو دفع القيمة ليكون الغرس له لم يجبر الغارس، وكذا لو دفع الفارس الأجرة لم يجبر صاحب الأرض على التبقية».

عدم إجبار كلّ منهما واضح؛ لأنّه معاوضة مشروطة بالتراضي، ولأنّ ذلك غير لازم في الغصب فهنا أولى.

وخالف في ذلك بعض العامّة، فخيّر المالك بين أن يكلف الفارس القلع ويضمن له الأرش، وبين إقرارها ويضمن له القيمة(1).

ص: 304


1- المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 5، ص 580، المسألة 4136.

والنظر في أمورٍ ثلاثة

كتاب الوديعة

[الأمر] الأول في العقد

• وهو استنابة في الحفظ.

_________________________________

كتاب الوديعة

قوله: «وهو استنابة في الحفظ».

عرّف المصنّف عقد الوديعة ولم يعرّفها نفسها مع أنّها أولى به، ولعلّه جرى على ما أسلفه من أنّ هذه المفهومات عبارة عن العقد المفيد لتلك الفائدة، كما قد عُلم من تعريفه البيع بأنّه العقد(1)، وكثير مما بعده(2)، فتكون الوديعة على هذا التقدير هي العقد المفيد للاستنابة في الحفظ، كما عرّفه غيره(3).

ولما كان العقد مركّباً من الإيجاب والقبول لم يكن العقد هو الاستنابة خاصّةً؛ لأنّها هنا تفيد فائدة الإيجاب، فلا بدّ من ضميمةٍ تدخل القبول، بأن يقال: هي الاستنابة وقبولها

ص: 305


1- تقدّم في ج 3، ص 47.
2- كالحوالة في ص 54، وأيضاً كالقرض في ج 3، ص 353.
3- قواعد الأحكام، ج 2، ص 183.

• ويفتقر إلى إيجاب وقبولٍ، ويقع بكلّ عبارة دلّت على معناه، • ويكفي الفعل الدالّ على القبول.

________________________________

ونحوه ليتمّ العقد، فإنّه يقال: المودع استناب في الحفظ ولا يقال للمستودع ذلك، إلّا إذا جعل بمعنى أناب، وهو بعيد، أو نقول: إنّ القبول هنا بالقول ليس بشرط بل يقوم الفعل ،مقامه، فكان المتوقّف عليه العقد هو الإيجاب خاصّةً، وإن كانت الوديعة لا تتمّ إلّا بهما، إلّا أنّ التعريف هنا للعقد، أو نقول: إنّ تحقّق الاستنابة يستلزم قبولها؛ إذ لو ردّها بطلت ولم يحصل لها أثر ، فأطلقها عليها لذلك.

وقد نُقض التعريف في طرده بالوكالة، فإنّها تقتضي الاستنابة في حفظ ما وكل في بيعه وغيره.

وجوابه: أنّ حقيقة الوكالة ليست هي الاستنابة في الحفظ، بل الإذن فيما وكل فيه، والحفظ تابع من توابعها، بخلاف الوديعة، فإنّ حقيقتها الاستنابة، والتعريف إنّما يكون لذات الشيء لا للوازمه وعوارضه.

وأجيب أيضاً بالتزام اشتمال الوكالة على الوديعة من حيث تضمّنها الحفظ. وما ذكرناه أجود.

قوله: «ويفتقر إلى إيجاب وقبول، ويقع بكلّ عبارةٍ دلّت على معناه».

مقتضى كونه عقداً تركبه من الإيجاب والقبول القوليّين، ومقتضی جوازه عدم انحصاره في عبارة، بل يكفي كلّ لفظ دلّ عليه ولا يعتبر فيه التصريح، بل يكفي التلويح والإشارة المفهمة لمعناه اختياراً.

قوله: «ويكفي الفعل الدالّ على القبول».

أطلق المصنّف وجماعة(1) هنا أنّه يكفي القبول الفعلي مع اعترافهم بكونها عقداً؛ نظراً إلى

ص: 306


1- منهم العلّامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 183؛ والشهيد في اللمعة الدمشقية، ص 90 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 13).

•ولو طرح الوديعة عنده لم يلزمه حفظها إذا لم يقبلها.

_______________________________

أنّ الغاية منها إنّما هو الرضى بالاستنابة، وربما كان الفعل أقوى فيه من القول باعتبار التزامه به ودخوله في ضمانه حينئذٍ لو قصر، بخلاف القبول القولي، فإنّه وإن لزمه ذلك شرعاً إلّا أنّه ليس صريحاً في الالتزام، من حيث إنّه عقد جائز، فإذا فسخه ولم يكن قبضه لم يظهر أثره.

واليد توجب الحفظ إلى أن يردّه على مالكه؛ لعموم:« على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي»(1).

وهذا حسن، إلّا أنّ فيه بعض الخروج عن حقيقة العقد، ومن ثَمّ ذهب بعض العلماء إلى أنّها إذن مجرّد لا عقد(2). وفرّع عليه عدم اعتبار القبول القولي، وآخرون إلى أنّ الإيجاب إن كان بلفظ «أودعتك» وشبهه ممّا هو على صيغ العقود وجب القبول لفظاً، وإن قال: احفظه ونحوه لم يفتقر إلى القبول اللفظي، كالوكالة، و هو كلام موجَّه.

واعلم أنّه لا تجب مقارنة القبول للإيجاب، سواء اعتبرناه قوليّاً أم اكتفينا بالفعلي.

قوله: «ولو طرح الوديعة عنده لم يلزمه حفظها إذا لم يقبلها».

المراد بالقبول هنا القبول الفعلي خاصّةً ؛ لأنّ القبول اللفظي غير كافٍ في تحقّق الوديعة قطعاً، بل لا بدّ معه من الإيجاب، ولم يحصل هنا بمجرّد الطرح، وأمّا الفعلي فقد عرفت أنّه يجب معه الحفظ، سواء تحقّقت به الوديعة أم لا؛ نظراً إلى ثبوت حكم اليد.

وحيث يحصل القبول الفعلي هنا إنّما يجب حفظها، لا أنّها تصير وديعة شرعيّةً. وعبارة المصنّف لا تدلّ على أزيد من ذلك؛ لأنّه قال: «لم يلزمه حفظها»، ولم يقل: لم تصر وديعةً، وذلك لأنّ طرح المالك لها أعمّ من اقترانه بما يوجب الإيجاب، وهو الإتيان بما يدلّ على الاستنابة، لكن لمّا عرفت أنّ الإيجاب يحصل بالقول الصريح والإشارة والتلويح يُنظر هنا، فإن حصل مع الطرح ما يفيد ذلك كان القبول في قول المصنّف أعمّ من كونه قوليّاً وفعلياً، وإن لم يحصل معه ما يدلّ على الإيجاب فالمعتبر في وجوب الحفظ القبولُ الفعلي خاصّةً، لكن قوله «طرح الوديعة» لا يخلو من قرينة أن يريد بالطرح الإيداع بواسطة تسميتها

ص: 307


1- تقدّم تخريجه في ص 50، الهامش 1.
2- راجع العزيز شرح الوجيز ، ج 7، ص 291.

...

____________________________________

وديعةً، فإنّها لغةً وعرفاً هي المال المودع، وشرعاً هي العقد المفيد للاستنابة في حفظه، أو نقول: إنّ القبول يقتضي سبق إيجاب، فيؤذن بأنّه استفاد من الطرح الإيجاب، وأمّا تسلّمها بالفعل فلا يُسمى قبولاً من دون سبق إيجاب وإن وجب حفظها لذلك، إلّا أنّه قد يتوسّع

في إطلاق القبول من غير سبق إيجاب مطلقا، ويتحصّل من ذلك صُوَر:

الأولى: أن يضع المال عنده ولا يحصل منه ما يدلّ على الاستنابة في حفظه، فيقبله قولاً ، ولا أثر له في الضمان ولا في وجوب الحفظ.

الثانية: أن يقبله فعلاً بأن يقبضه الموضوع عنده فيضمنه ويجب عليه حفظه إلى أن يردّه على مالكه؛ للخبر(1).

الثالثة: أن يتلفّظ المالك مع الطرح بما يدلّ على الإيداع، فيقبل قبولاً قوليّاً، فيجب عليه الحفظ باعتبار الوديعة، ولا ضمان إلّا مع التقصير.

الرابعة : أن يقبله قبولاً فعليّاً، فيتمّ الوديعة أيضاً كما مرّ، وأمّا لو طرحها عنده متلفّظاً بالوديعة أم لا، ولم يحصل من الموضوع عنده ما يدلّ على الرضى قولاً ولا فعلاً لم يجب عليه حفظها، حتّى لو ذهب وتركها فلا ضمان عليه، لكن يأثم إن كان ذهابه بعد ما غاب المالك؛ لوجوب الحفظ حينئذٍ من باب المعاونة على البرّ وإعانة المحتاج، فيكون واجباً على الكفاية.

ولو انعكس الفرض بأن تمّت الوديعة ولكن غاب المستودع وتركها والمالك حاضر عندها ؛ فهو رد للوديعة، ولو كان المالك غائباً ضمن كذا جزم في التذكرة(2).

ويشكل تحقّق الردّ بمجرّد الذهاب عنها مع حضور المالك؛ لأصالة بقاء العقد، وكون الذهاب أعمّ منه ما لم ينضم إليه قرائن تدلّ عليه.

وقد ظهر بما قررناه فساد ما ذكره بعضهم(3) من أنّ قول المصنّف «ولو طرح الوديعة عنده

ص: 308


1- تقدّم تخريجه في ص 50. الهامش 1.
2- تذكرة الفقهاء، ج 16 ، ص 147، المسألة 4.
3- لم نتحقّقه.

• وكذا لو أكره على قبضها لم تصر وديعةً، ولا يضمنها لو أهمل.

• وإذا استودع وجب عليه الحفظ.

____________________________________

لم يلزمه حفظها ما لم يقبلها» فيه دلالة على جواز كون الإيجاب فعليّاً؛ لأنّ مفهومه أنّه لو قبلها لزمه الحفظ الدالّ على تحقَق الوديعة، ولم يحصل من المالك إيجابُ قولي، بل مجرّد الطرح، وأنت قد عرفت أن وجوب الحفظ المرتّب على الفرض أعمّ من كونه بسبب الوديعة؛ لأنّه قد يكون بسبب التصرّف في مال الغير.

قوله: «و [كذا] لو أكره على قبضها لم تصر وديعة، ولا يضمنها لو أهمل».

أي أهمل حفظها، فإنّه غير واجب عليه بسبب الإكراه، لكن يجب تقييده بما إذا لم يضع يده عليها بعد زوال الإكراه مختاراً ، فإنّه حينئذٍ يجب عليه الحفظ باليد الجديدة وإن لم يجب بالإكراه.

وهل تصير بذلك وديعةً أم أمانةً بذلك وديعةً أم أمانةٌ شرعيّةً؟ يحتمل الأوّل؛ لأنّ المالك كان قد أذن له واستنابه في الحفظ، غايته أنّه لم يتحقّق معه الوديعة؛ لعدم القبول الاختياري، وقد حصل الآن، والمقارنة بين الإيجاب والقبول غير لازمةٍ، ومن إلغاء الشارع ما وقع سابقاً، فلا يترتّب عليه أثر. ويشكل بأنّ إلغاءه بالنظر إلى القابض لا بالنظر إلى المالك.

ويمكن الفرق بين وضع اليد عليها اختياراً بنية الاستيداع، وعدمه، فيضمن على الثاني، دون الأوّل: إعطاء لكلّ واحدٍ حكمه الأصلى.

قوله: «وإذا استودع وجب عليه الحفظ».

أي قبل الوديعة وإن كان الاستيداع أعمّ منه، وإنّما يجب عليه الحفظ ما دام مستودعاً؛ لأنّ ذلك هو مقتضى تعليق الحكم على الوصف، وإلّا فإنّ الوديعة من العقود الجائزة، وجواز ردّها في كلّ وقت ينافي وجوب الحفظ.

لا يقال: وجوب الحفظ أعمّ من كونه بسبب الوديعة، وغاية ما يُفرض أن يفسخ فيها في الحال، ومع ذلك يجب عليه حفظها إلى أن يردّها إلى مالكها، فقد صدق وجوب الحفظ على كلّ حالٍ في الجملة.

ص: 309

•ولا يلزمه دركها لو تلفت من غير تفريط، أو أخذت منه قهراً.

________________________________

لأنّا نقول: وجوب(1) الحفظ إلى أن يردّ وإن كان واجباً إلّا أنّه قد لا يتحقّق في الوديعة، بأن يكون المستودع مقيماً عند المالك بحيث لا يتوقف الردّ على زمان، فلا يتم التقريب إلّا بما ذكرناه من وجوبه ما دام مستودعاً، أو نقول: إنّ الوديعة وإن كانت جائزة لكن لا ينافي وجوب الحفظ، فإنّ الواجب على المستودع أحد الأمرين: إمّا الحفظ، أو الردّ على المالك، فالحفظ واجب مخيّر يصح إطلاق الوجوب عليه بقول مطلق.

واعلم أنّ قبول الوديعة الذي يتفرّع عليه حكم الحفظ قد يكون واجباً، كما إذا كان المودع مضطرّاً إلى الاستيداع، فإنّه يجب على كل قادر عليها واثق بالحفظ قبولها منه كفاية. ولو لم يوجد غير واحدٍ تعيّن عليه الوجوب، وفي هذين الفردين وجوب الحفظ واضح، وقد يكون مستحبّاً مع قدرته وثقته من نفسه بالأمانة وكون المودع غير مضطر، لما فيه من المعاونة على البرِّ الذي أقلّ مراتب الأمر به الاستحباب، وقضاء حوائج الإخوان، وقد يكون محرَّماً(2)، كما إذا كان عاجزاً عن الحفظ أو غير واثق من نفسه بالأمانة؛ لما فيه من التعرّض للتفريط في مال الغير، وهو محرم، ومثله ما لو تضمّن القبول ضرراً على المستودَع في نفسه أو ماله أو بعض المؤمنين، ونحو ذلك، وبهذا التقسيم يظهر وجوب الحفظ وعدمه.

قوله: «ولا يلزمه دركها لو تلفت من غير تفريط أو أُخذت منه قهراً».

هذا إذا لم يكن سبباً في الأخذ القهري، كما لو كان هو الساعي بها إلى الظالم ولم يقدر بعد ذلك على دفعه، فإنّه يضمن؛ لأنّه فرّط فى الحفظ، بخلاف ما لو كانت السعاية من غيره، أو علم الظالم بها من غير سعاية. ومثله ما لو أخبر اللصّ بها فسرقها.

ص: 310


1- الظاهر زيادة كلمة «وجوب».
2- في حاشية «و»: «يبقى هنا بحث، وهو أنه على تقدير تحريم القبول هل يحكم بفساد الوديعة أم لا ؟ نظراً إلى أنّ النهي في غير العبادة لا يقتضي الفساد وإن وجد في بعض موارده بدليل آخر ؟ الأظهر الثاني. وتظهر الفائدة اشتراكهما في الإثم وتحريم وضع اليد - في ضمانها بغير تعد ولا تفريط ونحوه من لوازم عدم الوديعة، فعلى الأول يكون وديعة وإن أثم، وعلى الثاني يكون بمنزلة الغاصب. فتأمل. (بخطّه قدّس سرّه)». وكتب في ذيلها: «ليست هذه الحاشيه في نسخة الأصل بخط ع ل».

• نعم، لو تمكبن من الدفع وجب، ولو لم يفعل ضمن،

__________________________________

ولو أخبره بها في الجملة ولكن لم يعيّن له مكانها، قال في التذكرة : إنّه لا يضمن(1). ويشكل مع كونه سبباً في السرقة؛ لأنّه تفريط.

نعم، لو لم يقصدها اللصّ فاتّفقت مصادفته لها توجّه ذلك، وهذا بخلاف الظالم، فإنّ مُعْلِمه يضمن مطلقاً.

والفرق أنّ الظالم إذا علم بها أخذها قهراً، والسارق لا يمكنه أخذها إلّا إذا علم موضعها.

ولا فرق في عدم الضمان مع أخذ الظالم لها قهراً بين أن يتولى أخذها من يده ومكانه. وبين أن يأمره بدفعها إليه بنفسه فيدفعها إليه كرهاً؛ لانتفاء التفريط، وحينئذٍ فيرجع المالك على الظالم بالعين أو البدل.

وهل للمالك مطالبة المستودع بذلك؟ يحتمله؛ لأنّه باشر تسليم مال الغير إلى غير مالكه، واستقربه في التذكرة ، وعلى هذا معنى عدم ضمانه أنّه لا يستقرّ عليه، بل يرجع بما غرم على الظالم.

والأقوى عدم جواز مطالبته؛ لعدم تفريطه، ولأنّ الإكراه صيّر فعله منسوباً إلى المكره، ولأنّه محسن فلا سبيل عليه، والتسليم بإذن الشارع، فلا يستعقب الضمان.

قوله: «نعم، لو تمكّن من الدفع وجب، ولو لم يفعل ضمن».

أي تمكّن من دفع الظالم عنها بالوسائل وغيرها، حتّى بالاختفاء عنه، فإنّه حينئذٍ يجب؛ لقدرته على حفظها به الواجب عليه مطلقاً، فيجب ما يتوقّف عليه، فلو أهمل ذلك مع قدرته عليه ضمن؛ لأنّه تفريط.

ولو أمكن دفعه بشيءٍ من المال منها أو من غيرها - بحيث لا يندفع بدونه عادة - فالأقرب جوازه، ويرجع به على المالك إن لم يمكنه استئذانه قبل الدفع أو استئذان وليّه وعدم نيّة التبرّع.

ص: 311


1- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 205، المسألة 51.

• ولا يجب تحمّل الضرر الكثير بالدفع، كالجرح وأخذ المال.

• ولو أنكرها، فطولب باليمين ظلماً جاز الحلف مورّياً بما يخرج به عن الكذب.

____________________________________

ولو ترك الدفع عنها ببعضها مع إمكانه ضمن ما يزيد عمّا يندفع به لا الجميع؛ لأنّ مقدار المدفوع ذاهب على التقديرين.

قوله: «ولا يجب تحمّل الضرر الكثير بالدفع، كالجرح وأخذ المال».

المرجع في كثرة الضرر وقلّته إلى حال المكره، فمنهم من يعدّ الكلمة اليسيرة من الأذى كثيراً في حقّه؛ لكونه شريفاً لا يليق بحاله ذلك، ومنهم من لا يعتد بأمثال ذلك.

وهكذا القول في الضرب وأخذ المال.

ويفهم من قول المصنّف أنّ مطلق أخذ المال ضرر كثير لا يجب تحمّله وإن جاز.

ثمّ إن كان المطلوب الذي لا يندفع عنها بدونه بقدرها لم يجب بذله قطعاً؛ لانتفاء الفائدة، لكن لو بذله بنيّة الرجوع به هل يرجع ؟ يحتمله؛ لأنّ الوديعة لولاه ذاهبة، فيكون بذل قدرها كبذلها، وعدمه؛ لأنّ القدر المأذون فيه شرعاً ما يترتّب عليه مصلحة المالك، وهو هنا منتفٍ، فلا يكون شرعيّاً، وعلى هذا فيمكن عدم الرجوع بجميعه؛ لما ذكر، وبجزء منه ليقصر عنها وتترتّب الفائدة؛ إذ الفرض عدم إمكان ما قصر عنه، ويبعد كونه يرجع بمقدار ما ينقص عن قدرها بدرهم مثلاً، ولا يرجع بشيءٍ أصلاً ممّا يساويها، فإنّ غير المأذون في المساوي إنّما هو القدر الذي تنتفي الفائدة معه لا جميع المبذول ولم أقف في هذا الحكم على شيءٍ فينبغي تحريره.

قوله: «ولو أنكرها فطولب باليمين ظلماً جاز الحلف مورّياً بما يخرج به عن الكذب».

الجواز هنا بالمعنى الأعمّ، والمراد منه الوجوب؛ لأنّ حفظ الوديعة لمّا كان واجباً وتوقّف على اليمين وجبت من باب المقدّمة. وإنّما تجب التورية عليه إذا عرفها، وإلّا وجب الحلف أيضاً بغير توريةٍ؛ لأنّه وإن كان قبيحاً إلّا أنّ إذهاب حقّ الآدمى أشد قبحاً من حقّ الله تعالى في اليمين الكاذبة، فيجب ارتكاب أخفّ الضررين، ولأنّ اليمين الكاذبة عند الضرورة مأذون فيه شرعاً، كمطلق الكذب النافع، بخلاف مال الغير، فإنّه لا يباح إذهابه

ص: 312

• وهي عقد جائز من طرفيه يبطل بموت كلّ واحدٍ منهما وبجنونه، وتكون أمانةً.

__________________________________

بغير إذنه مع إمكان حفظه بوجه، ومتى ترك الحلف حيث يتوقّف حفظ المال عليه فأخذه الظالم ضمنه؛ للتفريط.

قوله: «وهي عقد جائز من طرفيه يبطل بموت كلّ واحد منهما وبجنونه، وتكون أمانةً».

لا خلاف في كون الوديعة من العقود الجائزة، فتبطل بما يبطل به من فسخها وخروج كلّ منهما عن أهليّة التكليف بموتٍ أو جنون أو اغماء، فإذا اتّفق ذلك للمودع وجب على المستودع ردّها إليه أو إلى وارثه أو وليّه، ولو كان ذلك من المستودع وجب ردّها عليه في صورة الفسخ، أو على وليّه في صورة الجنون والإغماء، أو وارثه في صورة الموت.

ومعنى كونها بعد ذلك أمانةً أنّها أمانة شرعيّة؛ لحصولها في يده حينئذٍ بغير إذن مالكها، لكنّها غير مضمونة عليه؛ لإذن الشارع في وضع اليد عليها إلى أن يردّها على وجهه، ومن حكم الأمانة الشرعيّة وجوب المبادرة بردّها على الفور إلى مالكها أو من يقوم مقامه، فإن أخّر عن ذلك مع قدرته ضمن ولو تعذّر الوصول إلى المالك أو وكيله أو وليّه الخاصّ، سلّمها إلى الحاكم؛ لأنّه ولي الغائب، ولا فرق في ذلك بين علم المالك بأنّها عنده وعدمه عندنا.

إذا تقرّر ذلك، فلو كان الميّت المودع، وطلبها الوارث أو لم يطلبها، وأخّر المستودع الدفع مع إمكانه، وادّعى عدم علمه بانحصار الإرث في الوارث الظاهر أو الشكّ في كونه وارثاً، وأراد البحث عن ذلك، ولم يكن هناك حاكم يرجع إليه فالأقوى عدم الضمان؛ خصوصاً مع الشكّ في كون الموجود وارثاً؛ لأصالة عدمه.

وأمّا مع العلم بكونه وارثاً، فالأصل أيضاً عدم استحقاقه لجميع المال، والقدر المعلوم إنّما هو كونه مستحقّاً في الجملة، وهو لا يقتضي انحصار الحقّ فيه، وأصالة عدم وارثٍ آخَر معارضة بهذا الأصل، فيبقى الحكم في القابض وجوب البحث عن المستحقّ، كنظائره من الحقوق. ومثله يأتي في الإقرار لو أقرّ بمال لمورّث زيد، فإنّه لا يؤمر بتسليم جميع المقرّ به إليه إلّا بعد البحث، حتّى لو ادّعى انحصار الوارث في الموجود مع الجهل ففي جواز تمكينه من دفعه إليه وجهان، من اعترافه بانحصار الحق فيه فيُلْزَم بالدفع إليه، ومن أنّه إقرار في حقّ

ص: 313

•وتحفظ الوديعة بما جرت العادة بحفظها، كالثوب في الصندوق، والدابة في الإصطبل، والشاة في المراح، أو ما يجري مجرى ذلك.

____________________________________

الغير حيث يمكن مشاركة غيره له، وسيأتي البحث في ذلك إن شاء الله(1)، فإنّه هنا عارضي.

ولو أخّر تسليم الوديعة إلى الوارث ليبحث عن وصيّة الميّت أو إقراره بدين ونحوه، فالأقرب الضمان؛ لأصالة عدمه، بخلاف الوارث.

واعلم أنّ من جملة أحكام الأمانة الشرعيّة - مع ما تقدّم من وجوب المبادرة إلى ردّها وإن لم يطالب - أنّه لا يُقبل قول من هي في يده في ردّها إلى المالك مع يمينه، بخلاف الوديعة. والفرق أنّ المالك لم يستأمنه عليها، فلا يُقبل قوله في حقّه، مع أصالة عدمه، بخلاف الوديعة، مع ما انضمّ إليه من الإحسان الموجب لنفي السبيل. ولها صور كثيرة:

أحدها: ما ذكر من الوديعة التي يعرض لها البطلان، وكذا غيرها من الأمانات، كالمضاربة والشركة والعارية.

ومنها: ما لو أطارت الريح ثوباً ونحوه إلى داره.

ومنها: ما لو انتزع المغصوب من الغاصب بطريق الحسبة.

ومنها: ما لو أخذ الوديعة من صبيّ أو مجنون عند خوف تلفها.

ومنها: ما يصير بأيدي الصبيان من الأموال التي يكتسبونها بالقمار، كالجوز والبيض، وعلم به الوليّ، فإنّه يجب عليه ردّه إلى مالكه أو وليّه.

ومنها: ما لو استعار صندوقاً ونحوه، أو اشتراه أو غيره من الأمتعة، فوجد فيه شيئاً، فإنّه يكون أمانة شرعية وإن كان المستعار مضموناً.

ومنها: اللقطة في يد الملتقط مع ظهور المالك.

وضابطه ما كان وضع اليد عليها بغير إذن المالك مع الإذن فيه شرعاً.

قوله: «و تحفظ الوديعة بما جرت العادة بحفظها» إلى آخره.

لمّا لم يكن لحفظ الوديعة كيفيّة مخصوصة من قِبَل الشارع كان المرجع فيه إلى العرف،

ص: 314


1- يأتي في ج 8، ص 539.

• ويلزمه سقي الدابّة وعلفها، أمره بذلك أو لم يأمره.

_____________________________________

فما عُدَّ فيه حفظاً لمثل تلك الوديعة كان هو الواجب، ولم يتعقّبه ضمان لو فرض تلفها معه. وما ذكره من الأمثلة يدلّ عليه العرف.

وأشار بقوله «وما يجري مجرى ذلك» إلى أنّ ذلك بخصوصه غير متعيّن، بل يقوم مقامه ما ساواه في المعنى أو زاد عليه، كما لو وضع الدابّة في بيت السكني، أو الشاة في داره

المضبوطة، ونحو ذلك.

ولا فرق في وجوب الحفظ بما جرت به العادة بين علم المودع بأنّ المستودع قادر على تحصيل الحرز المعتبر وعدمه، فلو أودعه دابةٌ مع علمه أنّه لا إصطبل له، أو مالاً مع علمه أنّه لا صندوق له، ونحو ذلك لم يكن عذراً.

واعلم أنّه ليس مطلق الصندوق كافياً في الحفظ، بل لا بدّ من كونه محرزاً عن غيره، إمّا بأن لا يشاركه في البيت الذي فيه الصندوق يد أُخرى، مع كون البيت محرزاً بالقفل ونحوه، أو كون الصندوق محرزاً بالقفل كذلك، وكونه كبيراً لا يُنقل عادة بحيث يمكن سرقته كذلك مقفلاً، وهكذا القول في الإصطبل والمراح وغيرهما.

قوله: «ويلزمه سقي الدابّة وعلفها أمره بذلك أو لم يأمره».

لمّا كانت الدابّة من الأموال المحترمة التي لا يسوغ إتلافها بغير الوجه المأذون فيه شرعاً ؛ وجب على المستودع علفها وسقيها بما جرت العادة به لأمثالها.

وينبغي أن يراد بالدابّة هنا مطلق الحيوان المحترم، أو يكون ذكرها على وجه المثال، والحكم في الجميع كذلك وأولى منه ما لو كان آدميّاً كالعبد.

ولو أخلّ به كان من جملة التفريط، فيلزمه ضمانها إن تلفت ، ونقصها إن نقصت ، ولو لم يحصل واحد منهما صار ضامناً، وخرج عن كونه أميناً وإن عاد إلى القيام بذلك، كما لو تعدّى بغيره ثمّ رجع إلى الحفظ. ويحصل التفريط بترك ذلك مرّةً واحدةً أو بعضها.

إذا تقرّر ذلك، فنقول: إذا أودعه الحيوان المفتقر إلى النفقة فلا يخلو إمّا أن يأمره بالإنفاق عليه، أو ينهاه، أو يطلق.

ص: 315

•ويجوز أن يسقيها بنفسه وبغلامه اتباعاً للعادة.

___________________________________

فإن أمره أنفق ورجع عليه بما غرم، والأمر فيه واضح.

وإن أطلق توصّل إلى إذنه أو أذن وكيله فيه، فإن تعذّر رفع أمره إلى الحاكم ليأمره به إن شاء، أو يستدين عليه، أو يبيع بعضه للنفقة، أو ينصب أميناً عليه، فإن تعذّر الحاكم أنفق هو وأشهد عليه ورجع مع نيّته. وكذا يرفع أمره إلى الحاكم - إلى آخر ما ذكر - مع نهي المالك له عنه.

ولو تعذّر الإشهاد اقتصر على نيّة الرجوع.

والكلام في اعتبار الإشهاد في جواز الرجوع وعدمه ما تقدّم في باب المزارعة(1)، وغيرها.

وفي حكم الحيوان الشجرُ الذي يفتقر إلى السقي وغيره من الخدمة وفي حكم النفقة على الحيوان ما يفتقر إليه من الدواء لمرض وحيث ينفق مع عدم الإشهاد، إمّا لتعذّره أو لعدم اشتراطه واختلفا في قدره، فالقول قوله مع يمينه، ولو اختلفا في مدّة الإنفاق فالقول قول المودع؛ عملاً بالأصل في الموضعين.

قوله: «ويجوز أن يسقيها بنفسه وبغلامه اتّباعاً للعادة».

مقتضى العادة جواز تولّي الغلام ذلك، سواء كان المستودع حاضراً عنده أم غائباً، وسواء كان الغلام أميناً أم لا، وليس كلّ ذلك جائزاً هنا، بل إنّما يجوز تولّي الغلام لذلك مع حضور المستودع عنده ليطلع على قيامه بما يجب، أو مع كونه أميناً، وإلّا لم يجز.

ولا فرق في ذلك بين وقوع الفعل في المنزل وخارجه، فلو توقّف سقيها على نقلها ولم يكن أميناً فلابدّ من مصاحبته في الطريق، وإنّما تظهر الفائدة في نفس مباشرة الغلام لذلك.

وكذا لا فرق في ذلك كلّه بين الغلام وغيره ممّن يستنيبه المستودع.

وعبارة المصنّف لا تنافي ما قيّدناه؛ لأنّه لم يجوّز إلّا تولّي السقي، وهو أعمّ من كونها مع ذلك في يد المستودع وعدمه، والعامّ لا يدلّ على الخاص، فيمكن تخصيصه إذا دلّ

ص: 316


1- تقدّم في ص 293 - 294.

• ولا يجوز إخراجها من منزله لذلك، إلا مع الضرورة، كعدم التمكّن من سقيها أو علفها في منزله، أو شبه ذلك من الأعذار.

____________________________________

عليه الدليل، وهو هنا موجود؛ لما أطبقوا عليه من عدم جواز إيداع الودّعي مع الإمكان، وهذا في معناه.

وربما قيل بأنّ ذلك فيمن يمكن مباشرته لذلك الفعل عادةً، أمّا مَنْ لا يكون كذلك فيجوز له التولية كيف كان. وهو ضعيف.

قوله: «ولا يجوز إخراجها من منزله لذلك إلّا مع الضرورة» إلى آخره.

لا فرق في المنع من إخراجها لذلك بين كون الطريق آمناً وعدمه؛ لأنّ النقل تصرّف فيها، وهو غير جائز مع إمكان تركه، ولا بين كون العادة مطردةً بالإخراج لذلك وعدمه؛ لما ذُكر، ولا بين كونه متولّياً لذلك بنفسه وغلامه مع صحبته له وعدمه؛ لاتّحاد العلّة في الجميع.

واستقرب في التذكرة عدم الضمان لو أخرجها مع أمن الطريق وإن أمكن سقيها في موضعها؛ محتجّاً باطّراد العادة بذلك(1).

وهو حسن مع اطّراد العادة بذلك؛ لأنّ الحكم فيه على العموم؛ لعدم اطّراد العادة بذلك في

بعض الأماكن.

وحيث جاز الإخراج فالحكم في مباشرة الغلام أو غيره ما ذكرناه سابقاً.

واعلم أنّ إطلاق كلامه يقتضي عدم الفرق في جواز إخراجها لذلك - مع عدم إمكان فعله في موضعها - بين كون الطريق آمناً وعدمه، ووجهه أنّ ذلك الفعل من ضرورات الحيوان لا يعيش بدونه ، فالضرر اللاحق بتركه أقوى من خطر الطريق الذي يمكن وقوعه وعدمه.

ولكن يشكل في بعض الصُوَر، كما إذا كان التأخير إلى وقت آخر أقلّ ضرراً وخطراً من إخراجها حين الحاجة، ونحو ذلك، فينبغي مع اشتراكهما في الضرر مراعاة أقلّ الضررين.

ص: 317


1- تذكرة الفقهاء ، ج 16، ص 192 - 193، المسألة 39.

• ولو قال المالك: «لا تعلفها» أو «لا تسقها» لم يجز القبول، بل يجب عليه سقيها وعلفها.

نعم، لو أخلّ بذلك والحال هذه أثم ولم يضمن؛ لأنّ المالك أسقط الضمان بنهيه، كما لو أمره بإلقاء ماله في البحر .

__________________________________

قوله: «ولو قال المالك: لا تعلفها» أو «لا تسقها» لم يجز القبول» إلى آخره.

إنّما لم يجز ترك العلف والسقي مع النهي عنهما؛ لأنّه حقُّ الله تعالى، كما أنّه حق للمالك فلا يسقط حق الله تعالى بإسقاط المالك حقّه، ولأنّ إتلاف المال منهي عنه(1)، ولا إشكال في وجوبهما مع النهي إنّما الكلام في أمرين :

أحدهما الرجوع بعوضهما عليه، وقد تقدم الكلام فيه(2).

والثاني : أنّه لو تركهما حينئذ هل يضمن أم لا؟ وقد جزم المصنّف (رحمه الله) بعدم الضمان وإن حصل الإثم، أمّا الإثم فلتركه حقّ الله تعالى، وإيجابه عليه ذلك، وأمّا عدم الضمان؛ فلأنّ المالية حقٌّ للمالك وقد أسقط عنه الضمان بنهيه، وكان في ذلك كالإذن فى إتلاف ماله فلا يتعقّبه الضمان، كما لو أمره بإلقاء ماله في البحر ونحوه من ضروب الإتلاف ففَعَل.

وأولى منه بعدم الضمان لو كانت الوديعة غير حيوان كشجر يحتاج إلى السقي، والعمارة وثوب يحتاج إلى النشر ونحوه، فنهاه المالك عن ذلك.

وهل يجب حفظه هنا كالأوّل؟ يحتمله؛ لما في تركه من إتلاف المال المنهيّ عنه(3). والأقوى عدمه؛ لأنّ حفظ المال إنّما يجب على مالكه لا على غيره، وإنّما وجب في الحيوان لكونه ذا روح ويتألم بالتقصير في حقّه، فيجب دفع ألمه كفاية.

ص: 318


1- مسند أحمد، ج 5، ص 305، ح 17727؛ صحیح مسلم، ج 3، ص 1341، ح 593/14: السنن الكبرى، البيهقي ، ج 1، ص 104. ح 11341.
2- تقدّم في ص 315 - 316.
3- مسند أحمد، ج 5، ص 305، ح 17727 ؛ صحیح مسلم، ج 3، ص 1341، ح 593/14: السنن الكبرى، البيهقي ، ج 1، ص 104. ح 11341.

•ولو عيّن له موضع الاحتفاظ اقتصر عليه، فلو نقلها ضمن إلّا إلى الأحرز، أو مثله على قول، ولا يجوز نقلها إلى ما دونه ولو كان حرزاً، إلا مع الخوف من إبقائها فيه.

______________________________

نعم، يكره ترك إصلاحه؛ للتضييع المذكور.

والوجهان أفتى بهما في التذكرة(1).

قوله: «ولو عيّن له موضع الاحتفاظ اقتصر عليه، فلو نقلها ضمن» إلى آخره.

إذا عيّن موضعاً للحفظ لم يجز نقلها إلى ما دونه إجماعاً.

وذهب جماعة(2) إلى جواز نقلها إلى الأحرز ؛ محتجين بالإجماع ودلالة مفهوم الموافقة عليه.

واختلفوا في المساوي، فجوّزه بعضهم(3) - وهو القول الذي نقله المصنّف - نظراً إلى أن التعيين أفاد الإذن في حفظه فيما لو كان في تلك المرتبة، كما في تعيين نوع الزرع والراكب في الإجارة، فإنّهم جوزوا التخطّي إلى المساوي لتوافق المتساويين في الضرر والنفع المأذون فيه.

والأقوى المنع؛ لعدم الدليل على جواز تخطّي ما عيّنه، وإلحاق مساويه به قياس محض، بل يحتمل قويّاً ذلك في النقل إلى الأحرز أيضاً؛ عملاً بمقتضى التعيين، ومنع دلالة مفهوم الموافقة هنا، فإنّ الأغراض تختلف في مواضع الحفظ اختلافاً كثيراً من غير التفات إلى كون بعضها أحفظ من بعض، والإجماع على جوازه ممنوع، بل ظاهر جماعةٍ من الأصحاب منع التخطّي مطلقاً(4)

ص: 319


1- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 194، الفرع «ج» من المسألة 40.
2- منهم ابن البرّاج في جواهر الفقه، ص 104، المسألة :380؛ والمهذّب، ج 1، ص 426؛ والعلامة في إرشاد الأذهان، ج 1، ص 437؛ والمحقّق الكركي في جامع المقاصد، ج 1، ص 29.
3- كالشيخ في المبسوط، ج 3، ص 359.
4- راجع الكافي في الفقه، ص 230 : والسرائر، ج 2، ص 435 ؛ وغنية النزوع، ج 1، ص 283؛ وإصباح الشيعة ص 307.

• ولو قال: لا تنقلها من هذا الحرز ضمن بالنقل كيف كان إلّا أن يخاف تلفها فيه، ولو قال: وإن تلفت.

____________________________________

ويمكن أن يكون القول المحكي في العبارة متعلّقاً بالأمرين معاً.

وقريب منها عبارة القواعد(1)، إلّا أن شُرّاحها المتقدّمين(2) صرحوا بأن الخلاف في المساوي خاصّة.

وفي حواشي الشهيد (رحمه الله) عليها ما يدلّ على تناول الخلاف للأحرز أيضاً، وهو ممن اختار عدم جوازه(3).

إذا تقرّر ذلك، فلو نقلها إلى الأحرز أو إلى المساوي فتلفت ضمن على القول بعدم الجواز إلّا مع الخوف عليها فيهما، فإنّه يجوز نقلها إلى غير المعيّن؛ مراعياً للأصلح أو المساوي مع الإمكان، فإن تعذّر فالأدون، وإنّما جاز المساوي هنا لسقوط حكم المعيّن بتعذّره، فينتقل إلى ما في حكمه، وهو المساوي فما فوقه، وعلى هذا فيجب تقييد قول المصنّف «إلّا مع الخوف من إبقائها فيه» فإنّه يشمل جواز نقلها إلى الأدون مع الخوف في المعيّن مطلقاً، وليس كذلك.

وعلى القول بجواز النقل إلى الأحرز أو المساوي ينبغي أن لا يترتّب عليه ضمان، حيث إنّه فعل مأذون فيه، كما لا يترتّب الضمان لو نقلها إلى الأدون مع الخوف.

لكن العلّامة (رحمه الله) حكم بجواز النقل إليهما مع الإطلاق، والضمان مع تلفها فيهما(4). وربما فُرّق أيضاً بين تلفها بانهدامه أو بغيره، فيضمن في الأول دون الثاني، وفيهما معاً نظر، والأقوى الضمان مطلقاً أو عدمه كذلك على القول بالجواز.

قوله: «ولو قال: لا تنقلها من هذا الحرز ضمن بالنقل كيف كان» إلى آخره.

ص: 320


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 186.
2- منهم فخر المحقّقين في إيضاح الفوائد، ج 2، ص 117.
3- انظر حاشية القواعد، ص 299 - 300 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 14).
4- تحرير الأحكام الشرعيّة ، ج 3، ص 195، الرقم 4434.

• ولا تصحّ وديعة الطفل ولا المجنون، ويضمن القابض، ولا يبرأ بردّها إليهما .

__________________________________

إذا نهاه عن نقلها عن المعيّن لم يجز نقلها إلى غيره وإن كان أحرز إجماعاً، إلّا أن يخاف عليها في المعين، فإنّه حينئذٍ يجوز نقلها إلى المساوي والأحرز مع الإمكان، وإلّا إلى الأدون، بل يجب؛ لأنّ الحفظ عليه واجب، ولا يتمّ إلا بالنقل، وللنهي عن إضاعة المال(1)، فلا يسقط هذا الحكم بنهي المالك وإن صرّح بقوله: «وإن تلفت» لكن هنا لو ترك نقلها أثم ولا ضمان؛ لإسقاط المالك له عنه، كما مرّ.

واعلم أنّه لو نقلها إلى غير المعيّن وتوقّف النقل على أجرة، فقد قال في التذكرة : إنّه لا يرجع بها على المالك؛ لأنّه متبرّع بها(2)، وهو حسن مع احتمال الرجوع مع نيّته؛ لإذن الشارع له في ذلك، فيقدم على إذن المالك، ولأنّ فيه جمعاً بين الحقّين مع مراعاة حقّ الله تعالى في امتثال أمره بحفظ المال.

قوله: «ولا تصحّ وديعة الطفل والمجنون، ويضمن القابض، ولا يبرأ بردّها إليهما».

لا شبهة في عدم جواز قبول الوديعة منهما؛ لعدم أهليتهما للإذن، فيكون وضع يد المستودع على المال بغير حقّ، فيضمن، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المال لهما ولغيرهما وإن ادّعيا إذن المالك لهما في الإيداع.

وإطلاق حكم المصنّف بالضمان يشمل ما لو علم تلفها في أيديهما وعدمه.

والأقوى أنّه لو قبضها منهما مع خوف هلاكها بنيّة الحسبة في الحفظ لم يضمن؛ لأنّه محسن و (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ )(3)، لكن يجب عليه مراجعة الولي في ذلك، فإن تعذّر قبضها وترتب الحكم حينئذ.

ص: 321


1- تقدّم تخريجه في ص 318، الهامش 1 و 3.
2- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 196، ذيل المسألة 42.
3- التوبة (9): 91.

وكذا لا يصحّ أن يستودعا، • ولو أودعا لم يضمنا بالإهمال؛ لأنّ المودع لهما متلف ماله.

______________________________

وأمّا عدم البراءة بردّه إليهما على التقديرين فواضح؛ للحجر عليهما في ذلك وشبهه، فلا يبرأ إلا بردّها على وليهما الخاص أو العام مع تعذّره.

قوله « ولو أودعا لم يضمنا بالإهمال؛ لأنّ المودع لهما متلف ماله».

أي سبب في إتلافه، حيث أودعه من لا يكلف بحفظه، وهذه علّة تقريبيّة، فإنّ من دفع ماله إلى مكلّف يعلم أنّه يتلفه يكون متلفاً لماله مع أنّ قابضه يضمنه.

والأوّلى في التعليل أنّ الضمان باعتبار إهمالهما إنما يثبت حيث يجب الحفظ، والوجوب لا يتعلّق بهما؛ لأنّه من خطاب الشرع المختص بالمكلفين.

ولا يعارضه قوله (صلى الله عليه و آله و سلم) : «على اليد ما أخذت حتى تؤدي»(1)؛ لأنّ «على» ظاهرة في وجوب الدفع والتكليف بالردّ، فيكون مختصاً بالمكلّف .

ويُفهم من قوله «لم يضمنا بالإهمال» أنّها لو تلفت بغيره بأن تعدّيا فيها فتلفت أنّهما يضمنان وهو كذلك على الأقوى؛ لأنّ الإتلاف لمال الغير سبب في ضمانه إذا وقع بغير إذنه، والأسباب من باب خطاب الوضع يشترك فيها الصغير والكبير.

ومثله القول في كلّ ما يتلفانه من مال الغير ويأكلانه منه، فإنّهما يضمنانه وإن لم يكن لهما مال حين الإتلاف؛ لأنّ تعلّق الحق بالذمة لا يتوقّف عليه.

نعم، إيجاب التخلّص من الحقّ عليهما يتوقّف على التكليف كما مرّ، فقبله يكون المخاطب بالدفع من مالهما الوليّ إن كان لهما مال، وإلّا كان دَيناً عليهما يجب عليهما قضاؤه بعد التكليف.

ولو فُرض موتهما قبله ولا مال لهما، أو لهما مال ولم يعلم الوليّ بالحال لم يؤاخذ به في الآخرة، بخلاف المكلّف.

ص: 322


1- تقدّم تخريجه في ص 50 الهامش 1.

• وإذا ظهر للمودع أمارة الموت وجب الإشهاد بها.

_____________________________________

واعلم أنّ في مسألة إيداعهما ومباشرتهما الإتلاف وجهين آخرين:

أحدهما: عدم الضمان؛ لعدم التكليف، ولتسليط مالكها لهما عليها، فكان سبباً قويّاً والمباشر ضعيف وجوابه يظهر ممّا سبق.

والثاني: الفرق بين المميز وغيره، فيضمن المميّز خاصّةً؛ لعدم قصد غيره إلى الإتلاف، فكان كالدابة .

وفيه نظر؛ لأنّ المقتضي للضمان - وهو الإتلاف - موجود، والمانع غير صالح للمانعية. أما القصد؛ فلأنّه لا مدخل له في الضمان وعدمه، كما يعلم من نظائره، وأمّا تسليط المالك فإنّه إنّما وقع على الحفظ لا على الإتلاف غاية ما في الباب أنّه عرّض ماله له بسبب عدم صلاحيّتهما للحفظ، وهو غير كافٍ في سقوط الضمان عنهما لو باشراه، بخلاف ما إذا تركا الحفظ والأقوى الضمان مطلقاً.

قوله: «وإذا ظهر للمودع أمارة الموت وجب الإشهاد بها».

لمّا كان حفظ الوديعة واجباً مطلقاً وجب كلّ ما يتوقّف عليه، ومن جملته الإشهاد عليها إذا حصل له أمارة الموت لمرض مخوف أو حبس للقتل، ونحو ذلك.

وهل يعتبر في الإشهاد الواجب شاهدان؛ ليحصل بهما إثباتها حيث ينكر الورثة، أو يكونون أو بعضهم صغاراً لئلّا يمتنع الوصي من تسليمها إلى مالكها بدون الإثبات، أم يكفي واحد بحيث يجعل وصيّاً في إيصالها؟ المتبادر من الإشهاد الأوّل، ولتحقّق الغاية المطلوبة منه.

ويحتمل الاكتفاء بالثاني، وهو الظاهر من عبارات العلّامة؛ حيث جعل الواجب هو الإيصاء بها(1)، وهو يتحقّق بدون الإشهاد.

وعلى التقديرين فلو أخلّ بذلك ضمن؛ للتفريط ، ولكن لا يستقرّ الضمان إلى أن يموت،

ص: 323


1- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 175، المسألة 27؛ قواعد الأحكام، ج 2، ص 185.

...

_______________________________________

فيعلم التفريط في أوّل زمان ظهر فيه أمارة الموت، سواء كان ذلك في ابتداء المرض أم في

أثنائه.

والظاهر أنّ الإشهاد أو الإيصاء كافٍ وإن قدر على إيصالها إلى مالكها أو من يقوم مقامه، لأنّه لم يخرج بذلك عن أهليّة الأمانة فتُستصحب، ووجوب الإشهاد لا ينافيه؛ لأنّه من وجوه الحفظ الواجب عليه.

وربما قيل بوجوب الردّ حينئذٍ على المالك أو وكيله، أو الحاكم عند تعذّرهما، أو إيداعها الثقة عند تعذّره، فإن عجز عن ذلك كلّه أشهد عليها، وهو الذي اختاره في التذكرة أولاً ثمّ رجع عنه إلى الاكتفاء بالوصيّة(1).

ولو فُرض موته فجأةً لم يضمنها وإن تلفت؛ إذ لا يُعد مقصراً حينئذٍ، وإلّا لوجب الإشهاد عليها على كلّ ودعي؛ لإمكان ذلك في حقّه، وهو منتف اتّفاقاً.

وحيث يكتفى بالوصيّة يعتبر في الوصيّ العدالة ولا فرق فيه بين الوارث والأجنبي.

والمراد أن يُعلمه بها ويأمره بردّها على تقدير الموت لا أن يسلّمها إليه؛ لأنّه إيداع لا يصحّ ابتداء

نعم، لو تعذّر الوصول إلى المالك أو من يقوم مقامه واضطرّ إلى ذلك جاز تسليمها له، كما

يجوز إيداع الثقة عند الضرورة. ولو أوصى إلى غير الثقة فهو كما لم يوص.

إذا تقرّر ذلك، فنقول: يجب على الودعي على تقدير الإشهاد والإيصاء تعيين الوديعة و تمييزها ببيان جنسها ووصفها الرافعين للجهالة عنها، فلو اقتصر على قوله: عندي وديعة، أو لفلان، أو ذكر الجنس وأبهم الوصف، كما لو قال: عندي ثوب لفلان، فهو كما لو لم يوص.

ثم على تقدير ذكر الجنس خاصّةً إمّا أن لا يوجد في تركته ذلك الجنس، أو يوجد متعدّداً، أو متّحداً، ففي الأوّلين لا يُحكم للموصى له بشيء، ويضمن الودّعي، أمّا على تقدير

ص: 324


1- تذكرة الفقهاء ، ج 16، ص 175 - 176، الفرع «ج» من المسألة 27.

• ولو لم يُشهد، وأنكر الورثة كان القول قولهم ولا يمين عليهم، إلّا أن يدّعى عليهم العلم.

________________________________

عدم وجوده فظاهر؛ لتقصيره بترك البيان، وأمّا على تقدير وجود المتعدّد فهو بمنزلة خلطها بماله حيث لا يتميّز، فيكون تفريطاً يوجب الضمان.

ل-

ولا يكون الموصى له شريكاً في الثياب الموجودة؛ لأصالة عدم استحقاقه شيئاً في تركة الودعيّ وإن كان ضامناً لحقّه، فيرجع إلى المثل أو القيمة، ويحتمل كونه شريكاً؛ لأصالة البقاء وإن حكم بالضمان، كما لو مزجه بماله.

ولو وُجد ثوب واحد ففي الحكم به للمالك وجهان، مأخذهما أصالة بقاء حقّه الثابت بالإقرار، فيُستصحب إلى أن يعلم التلف وحملاً لإطلاقه على الموجود؛ لأصالة عدم غيره، وأنّ الموجود محكوم به تركةً ظاهراً، وتقصيره في التمييز اقتضى ضمانها، أما كونها الموجود فلا؛ لاحتمال أن لا يكون هو الوديعة ، فلا يُحكم بها مع قيام الاحتمال، وترك العمل بظاهر اليد.

وعلى تقدير عدم الحكم له به هل يُحكم بضمان وديعته ؟ قيل: لا؛ لجواز تلفها بغير تفريط قبل الموت، والإقرار بها لا ينافيه(1)، وقيل: نعم، لأصالة البقاء(2).

والحقّ أنّ الحكم مبنى على أنّ الإجمال المذكور هل يُعد تقصيراً يوجب الضمان، كما هو الظاهر من كلامهم، أم لا ؟ فإن قلنا به ضمن قطعاً؛ للتفريط، وإن قلنا بالثاني فلا؛ لأصالة عدمه وبراءة الذمّة منه، وأمّا أصالة بقائه فلا تقتضي الضمان ، بل هي أعمّ منه، فلا تدلّ عليه وقد مضى مثله(3)، وسيأتي الكلام على نظيره(4).

قوله « ولو لم يشهد وأنكر الورثة كان القول قولهم» إلى آخره.

هذا الحكم واضح؛ لأصالة عدم الوديعة، كما لو أنكرها المورّث وكلّ من يدّعى عليه، وإنّما لا يجب عليهم اليمين؛ لأنّ الدعوى متعلّقة بمورّثهم لا بهم، كما لو ادّعي عليه

ص: 325


1- لم نعثر على قائلهما.
2- لم نعثر على قائلهما.
3- سبق في ص 238 - 239.
4- يأتي في ص 354.

• وتجب إعادة الوديعة على المودع مع المطالبة،

________________________________________

أن يدّعى عليهم العلم بذلك، فيلزمهم الحلف على نفي العلم لا على البت؛ لأنّ ذلك ضابط الحلف على نفى فعل الغير.

ومثله ما لو أقرّ الورثة بالوديعة ولكن لم يوجد في التركة، وادّعى المستودع أنّه قصر في الإشهاد وقال الورثة: لعلّها تلفت قبل أن ينسب إلى التقصير، فالقول قولهم؛ عملاً بظاهر براءة الذمة، ولا يمين أيضاً إلّا مع دعواه علمهم بالتقصير.

ويمكن أن يريد المصنّف بمسألته هذا القسم بأن يكون المراد بإنكار الورثة إنكارهم وجودها في التركة حيث لم يُشهد وحملوا ترك إشهاده على تلفها قبل حصول ما يوجب الإشهاد ، وادّعى المالك بقاءها وتقصيره في الإشهاد. والحكم في المسألتين واحد.

قوله: «وتجب إعادة الوديعة على المودع مع المطالبة».

إذا طلب المالك الوديعة وهي باقية وجب على الودّعي ردها عليه في أوّل أوقات الإمكان، لا بمعنى مباشرته للردّ وتحمّل مؤونته، كما يظهر من العبارة، بل بمعنى رفع يده عنها والتخلية بين المالك وبينها، فإن كانت في صندوق مقفل ففتحه عليه، وإن كانت في بیت محرز فكذلك، وهكذا.

والمراد بالإمكان ما يعمّ الشرعي والعقلي والعادي، فلو كان في صلاة واجبة أتمّها، أو بينه وبينها حائل من مطرٍ مانع ونحوه صبر حتّى يزول، أو في قضاء حاجةٍ فإلى أن ينقضي الضروري منها، ويعتبر في الذهاب مجرى العادة، ولا تجب الزيادة في المشي وإن أمكن.

وهل يُعدّ إكمال الطعام والحمّام وصلاة النافلة وانقطاع المطر غير المانع عذراً؟ وجهان.

واستقرب في التذكرة العدم(1)، مع حكمه في باب الوكالة بأنّها أعذار في ردّ العين إذا طلبها الموكّل(2)، وينبغي أن يكون هنا أولى(3).

ص: 326


1- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 209، المسألة 56.
2- تذكرة الفقهاء، ج ،15، ص 205، المسألة 805.
3- في حاشية «و»: «وجه الأولوية أن الوديعة محض إحسان، وأما ماهية الوكالة فهي أعم منه لجوازها بجعل وغيره، وإن كان بعض أفرادها كالوديعة. (منه رحمه الله)».

• ولو كان كافراً،

_______________________________

وهل التأخير ليشهد عليه عذر؟ قيل: نعم؛ ليدفع عن نفسه النزاع واليمين لو أنكر الردّ(1). وقيل: لا؛ لأنّ قوله في الردّ مقبول فلا حاجة إلى البيّنة(2)، ولأن الوديعة مبنيّة على الإخفاء غالباً.

وفصل آخرون جيّداً، فقالوا: إن كان المالك وقت الدفع قد أشهد عليه بالإيداع فله مثله، ليدفع عن نفسه التهمة، وإن لم يكن أشهد عليه عنده لم يكن له ذلك(3).

وحيث يؤخّر الردّ مع إمكانه يكون ضامناً؛ لأنّه من أسباب التقصير، ولو كان لعذّر وجب المبادرة في أوّل أوقات زواله.

قوله: «ولو كان كافراً ».

يشمل إطلاقه الكافر الحربي وغيره من أنواع الكفّار ممّن يجوز أخذ ماله، فإنّ الوديعة مستثناة من ذلك؛ عملاً بموجب الأمانة، وقد قال تعالى: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَتَنتِ إِلَى أَهْلِهَا)(4)، ولرواية الفضيل عن الرضا(علیه السلام)، قال: سألته عن رجل استودع رجلاً من مواليك مالاً له قيمة، والرجل الذي عليه المال رجل من العرب يقدر على أن لا يعطيه شيئاً، والمستودع رجل خارجي شيطان فلم أدع شيئاً، فقال: «قل له: يردّ عليه، فإنّه ائتمنه عليه بأمانة الله»(5)، وقال الحسين الشيباني للصادق(علیه السلام) : إنّ رجلاً من مواليك يستحلّ مال بني أمية ودماءهم، وإنّه وقع لهم عنده وديعة، فقال(علیه السلام): «أدوا الأمانات إلى أهلها وإن كانوا مجوساً، فإنّ ذلك لا يكون حتّى يقوم قائمنا فيحلّ ويحرّم»(6)، وفي معناها أخبار كثيرة.

ص: 327


1- العزيز شرح الوجيز، ج 5، ص 268؛ وج 7، ص 316؛ روضة الطالبين، ج 3، ص 570؛ وج 5، ص 306.
2- العزيز شرح الوجيز، ج 5، ص 268؛ وج 7، ص 316؛ روضة الطالبين، ج 3، ص 570؛ وج 5، ص 306.
3- هذا التفصيل أحد وجوه الشافعيّة كما في العزيز شرح الوجيز، ج 7، ص 316: وروضة الطالبين، ج 5، ص 306؛ واستقربه العلّامة في تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 210، المسألة 57.
4- النساء (4): 58.
5- تهذيب الأحكام، ج 7، ص 181، ح 795؛ الاستبصار، ج 3، ص 123 - 124، ح 439.
6- الكافي، ج 5، ص 132 - 133، باب أداء الأمانة ، ح 2؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 351 ، ح 993.

• إلّا أن يكون المودع غاصباً لها فيمنع منها، ولو مات فطلبها وارثه وجب الإنكار وتجب إعادتها على المغصوب منه إن عرف وإن جهل عرّفت سنةً، ثمّ جاز التصدّق بها عن المالك، ويضمن المتصدّق إن كره صاحبها.

_________________________________

وقال أبو الصلاح: إذا كان المودع حربياً وجب على المودع أن يحمل ما أودعه إلى سلطان الإسلام(1).

والمشهور بين الأصحاب هو الأوّل، ولا نعلم فيه مخالفاً غيره.

قوله: «إلّا أن يكون المودع غاصباً لها فيمنع منها - إلى قوله إن كره صاحبها».

هذا هو المشهور بين الأصحاب، ومستنده رواية حفص بن غياث عن الصادق (علیه السلام)(2)والطريق ضعيف، ولكنّه عندهم مجبور بالشهرة.

وأوجب ابن إدريس ردَّها إلى إمام المسلمين فإن تعذّر أبقاها أمانةٌ، ثمّ يوصى بها إلى عدل إلى حين التمكّن من المستحقّ(3)، وقواه في المختلف(4)، وهو حسن، وإن كان القول بجواز التصدّق بها بعد اليأس والتعريف متوجّهاً أيضاً، كما في كلّ مالٍ يئس من معرفة صاحبه؛ لأنّ فيه جمعاً بين مصلحتي الدنيا والآخرة بالنسبة إلى مالكها، فإنّه لو ظهر غرم له إن لم يرضَ بالصدقة، فلا ضرر عليه.

وذهب المفيد (رحمه الله) إلى أنّه يخرج خمسها لمستحقّه والباقي يتصدّق به(5)،ولم يذكر التعريف، وتبعه سلّار(6).

ص: 328


1- الكافي في الفقه ص231.
2- الفقيه، ج 3، ص 298، ح 4068؛ تهذيب الأحكام، ج 7، ص 180 - 181، ح 794؛ الاستبصار، ج 3، ص 124، ح 440.
3- السرائر، ج 2، ص 435 - 436.
4- مختلف الشيعة، ج 6 ، ص 30. المسألة 2.
5- المقنعة، ص 626- 627.
6- المراسم، ص 193 - 194.

• ولو كان الغاصب مزجها بماله ثمّ أودع الجميع، فإن أمكن المستودع تمييز المالين ردّ عليه ماله ومنع الآخر، وإن لم يمكن تمييزهما وجب إعادتهما على الغاصب.

_______________________________________

والأجود التخيير بين الصدقة بها وإبقائها ،أمانةٌ، وليس له التملّك بعد التعريف هنا وإن جاز في اللقطة.

وربما احتُمل جوازه، بناءً على الرواية، فإنّه جعلها فيها كاللقطة. وهو ضعيف.

ويمكن أن يريد أنّها منزّلة منزلة اللقطة في وجوب التعريف، لا مطلقاً، ولم يذكر من عمل بالرواية جواز التملك.

وكما يجب إنكارها على الوارث يجب على المودع أيضاً لاستوائهما في عدم الاستحقاق، وتخصيص المصنّف بالوارث لا وجه له.

وإنّما يجب منع الغاصب منها مع إمكانه ، فلو لم يقدر على ذلك سلّمها إليه، وفي الضمان حينئذٍ نظر.

والذي تقتضيه قواعد الغصب أنّ للمالك الرجوع على أيّهما شاء وإن كان قرار الضمان على الغاصب.

قوله: «ولو كان الغاصب مزجها بماله ثمّ أودع الجميع» إلى آخره.

هكذا أطلق المصنّف وجماعة من الأصحاب(1)، ووجهه أنّ منعه منها يقتضي منعه من ماله؛ لأنّ الفرض عدم التميّز، وهو غير جائز.

ويشكل بأنّ في الردّ تسليطاً للغاصب على مال غيره بغير حقّ، وهو غير جائز أيضاً. والأقوى ردّه على الحاكم إن أمكن ليقسّمه ويردّ على الغاصب ماله، فإن تعذّر وكان مثليّاً وقدر حقّ الغاصب معلوماً احتمل قوياً جواز تولّي الودعي القسمة؛ جمعاً بين

ص: 329


1- منهم المفيد في المقنعة، ص 627؛ والشيخ في النهاية، ص 436؛ وأبو الصلاح في الكافي في الفقه، ص 232.

...

_____________________________________

الحقّين، والقسمة هنا إجباريّة للضرورة؛ تنزيلاً للودعيّ منزلة المالك حيث قد تعلّق بضمانه، وللحسبة، ولو لم يكن كذلك بأن امتزج على وجه لا يعلم القدر أصلاً، ففيه إشكال.

ويتوجّه حينئذٍ ما أطلقه الأصحاب إن لم يمكن مدافعة الغاصب على وجه يمكن معه الاطّلاع على الحقّ.

ويحتمل عدم جواز الردّ مطلقاً مع إمكانه إلى أن يعترف الغاصب بقدر معين أو يقاسم؛ لاستحالة ترجيح حقّه على حقّ المغصوب منه مع تعلّق الودعيّ بالحقّين.

وليس في كلام الأصحاب هنا شيء منقّح.

ص: 330

[الأمر] الثاني في موجبات الضمان

• وينظّمها قسمان: التفريط والتعدّي.

أمّا التفريط • فكأن يطرحها فيما ليس بحرز ،• أو يترك سقى الدابّة أو علفها أو نشر الثوب الذي يفتقر إلى النشر،

____________________________________

قوله في موجبات الضمان: «وينظمها قسمان: التفريط والتعدي».

الفرق بينهما أنّ التفريط أمر عدمى، وهو ترك ما يجب فعلهمن الحفظ ونحوه، والتعدّي أمر وجودي، وهو فعل ما لا يجوز فعله، كلبس الثوب ونحوه.

قوله: «فكأن يطرحها فيما ليس بحرز».

أي يطرحها فيه ويذهب عنها، أمّا لو بقى مراعياً لها بنظره لم يُعد تفريطاً؛ لأنّ العين حرز، إلّا أن يكون المحلّ غير صالح لوضعها فيه بحسب حالها، وهو نوع آخر من التفريط.

قوله: «أو يترك سقي الدابّة أو علفها، أو نشر الثوب الذي يفتقر إلى النشر».

كما يجب عند الإطلاق سقي الدابّة وعلفها وغيره مما فيه بقاؤها، كذا يجب في كلّ وديعةٍ فعل ما يقتضي بقاءها ودفع ما يوجب فسادها، كنشر الثوب وطيّه وتعريضه للهواء في كلّ وقتٍ يفتقر إليه بحسب جنسه عادةً، حتّى لُبسه لو لم يندفع ضرره إلّا به ، فلو أخلّ بذلك ضمن، سواء أذن المالك فيه أم سكت ؛ لأنّ الحفظ واجب مطلق، فيجب كلّ ما يتوقّف عليه إذا كان مقدوراً.

نعم، لو نهاه المالك عن ذلك لم يلزمه الضمان وإن جاز له فعله حفظاً للمال. وقد تقدّم مثله في نفقة الدابّة(1).

ص: 331


1- تقدّم في ص 318.

•أو يودعها من غير ضرورة ولا إذنٍ

_________________________________

ولو افتقر فعل ذلك إلى أُجرةٍ فالحكم فيها كالنفقة من وجوب مراجعة المالك أو الحاكم ثمّ تولّى ذلك بنفسه، والرجوع به مع نيّته إلى آخر ما تقدّم.

قوله: «أو يودعها من غير ضرورة ولا إذنٍ».

لا فرق في عدم جواز إيداعها من دون إذن مالكها وعدم الضرورة بين أن يودعها لزوجته وولده وعبده ،وغيرهم، ولا بين الثقة وغيره، ولا بين أن يجعل ذلك الغير مستقلاً بها وشريكاً في الحفظ بحيث يغيب عن نظره، وهو موضع وفاق، ولأنّه تصرّف في مال الغير بغير إذنه؛

لأنّ المالك لم يرضَ بيد غيره وأمانته.

وفي حكم مشاركة غيره في الوديعة وضعها في محلّ مشترك في التصرف بحيث لا يلاحظه في سائر الأوقات، سواء كان خارجاً عن داره أم غير خارج.

نعم، لو كان عند مفارقته لضروراته يستحفظ من يثق به ويلاحظ المحرز في عوداته، رجّح في التذكرة اغتفاره؛ لقضاء العادة به، ولأنّه إيداع عند الحاجة(1).

ولو فوّض الحفظ إلى الغير لا لضرورة، أو أشركه، أو لم يحرز عنه ضمن.

واشترط المصنّف في الضمان بالإيداع شرطين:

أحدهما: عدم الضرورة، فلو حصل ضرورة إلى الإيداع بأن خاف عليها من حرق أو سرق أو نهب، أو أراد سفراً وتعذّر ردّها إلى المالك أو وكيله، دفعها إلى الحاكم، ولا يُسمّى ذلك إيداعاً ، فإن تعذّر أودعها العدل، وهذا هو الخارج بالقيد، فلا يجوز إيداعها للضرورة ابتداء، بل على الوجه الذي فصّلناه، وسيأتي في كلامه التنبيه عليه(2).

والثاني: إذن المالك في الإيداع، فيجوز حينئذٍ على حسب ما يأذن رتبةٌ ووصفاً ، فلاضمان مع الإيداع كما نصّ، لا إذا خالف المعيّن مطلقاً أو الوصف في غيره إلى ما دونه.

ص: 332


1- تذكرة الفقهاء ، ج 16، ص 168، الفرع «ب» من المسألة 20.
2- یأتي في ص 344.

•أو يسافر بها كذلك مع خوف الطريق وأمنه،

______________________________

قوله: «أو يسافر بها كذلك مع خوف الطريق وأمنه».

من جملة أسباب التفريط السفر بالوديعة من غير ضرورة ولا إذن المالك، سواء كان من الطريق آمناً أم مخوفاً، فإذا أراد السفر وجب عليه ردّها إلى المالك أو وكيله كما مرّ، فإن تعذّر فعلى الحاكم، فإن تعذّر أودعها العدل، فإن فقد فلا يخلو إمّا أن يخاف عليها مع إبقائها في البلد أو لا، فإن خاف جاز السفر بها كما سيأتي(1)، وهو الموافق لمفهوم العبارة هنا، وإن لم يخف عليها فمفهوم قوله «كذلك» - أي كالسابق، وهو عدم الضرورة والإذن - أنّه لا يجوز السفر بها حينئذٍ، وهو كذلك؛ لأنّ الإذن مع الإطلاق إنّما يتناول الحفظ في الحضر عملاً بالعادة، ولأنّ السفر لا يخلو من خطر في الجملة، وللخبر(2).

ولا فرق في الضرورة بين تعلّقها بالوديعة كالخوف عليها، وبالودعيّ كما لو اضطر إلى السفر، فإنّه يجوز أن يسافر بها حينئذٍ مع تعذّر إيصالها إلى من ذُكر سابقاً، وقد ادّعى في التذكرة الإجماع على جواز السفر بها حينئذٍ(3).

والمعتبر في تعذّر الوصول إلى المالك ووكيله والحاكم المشقّة الكثيرة، وهو المعبّر عنه بالتعذّر عرفاً، لا معناه لغةً؛ لما في إلزامه بتحمّل ما يزيد على ذلك من الحرج والضرر المنفيّين(4).

وأمّا السفر فالأولى حمله على العرفي أيضاً، لا الشرعي، فعلى هذا يجوز استصحابها في تردّداته في حوائجه إلى حدود البلد وما قاربه من القرى التي لا يُعد الانتقال إليها سفراً مع أمن الطريق، فلا يجوز إيداعها في مثل ذلك مع إمكان استصحابها، كما لا يجب ردّها على المالك.

ص: 333


1- یأتي في ص 343.
2- في حاشية «و»: «أشار بالخبر إلى قوله صلی الله علیه و سلم : إن المسافر وماله لعلى قَلَةٍ إلا ما وقى الله. (منه رحمه الله)». وراجع النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 4، ص 98، «قلت».
3- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 172، المسألة 25.
4- تقدّم تخريجه في ص 162، الهامش 1 و 2.

•وطرح الأقمشة في المواضع التي تعفّنها • وكذا لو ترك سقي الدابّة أو علفها مدّةً لا تصبر عليه في العادة فماتت به.

_____________________________

ويفهم من التذكرة أنّه لو سافر لغير ضرورة يجوز استصحابها مع التزامه الضمان، وعجزه عن إيصالها إلى المالك ومن يقوم مقامه، وإيداعها الثقة(1). والأجود المنع. واستثني من عدم جواز السفر بها اختياراً ما لو أودعه حال السفر، أو كان المستودع منتجعاً(2)، فإنّه يجوز السفر بها حينئذ من غير ضمان؛ لقدوم المالك على ذلك حيث أودعه ماله على تلك الحالة، وليس على المستودع حينئذ ترك السفر لأجلها، وكان هذا في معنى الإذن في السفر بها بدلالة القرائن الحاليّة.

قوله: «وطرح الأقمشة فى المواضع التي تعفّنها».

أي طرحها كذلك مدّةً يمكن فيها تعفّنها، أمّا لو وضعها فيها مدّة يقطع فيها بعدم الضرر فلا يُعد ذلك تفريطاً، ومثله وضع الكتب في المواضع التي تفسدها بالنداوة وغيرها، والمرجع في ذلك كلّه إلى كون مثل ذلك المكان لا يصلح للوديعة عرفاً بحسب المدّة التي يبقيها فيها، ويمكن اعتبار كونه حرزاً لها مطلقاً، فلا يجوز وضع الثوب في موضع يعفّنه وإن عزم على نقله قبل الفساد؛ نظراً إلى أنه ليس بحرز له عادةً.

قوله: «وكذا لو ترك سقي الدابّة أو علفها مدّة لا تصبر عليه في العادة فماتت به».

احترز بموتها به عمّا لو ماتت بغيره، فإنّه لا يضمنها، وكذا لو كان بها جوع سابق وعطش لا يعلم بهما فماتت بهما بحيث لولا التقصير لما ماتت.

ولو كان جاهلاً ،فوجهان، وجزم في التذكرة بالضمان(3).

ص: 334


1- في حاشية «و»: «لأنّه قال فيها: لو عزم على السفر من غير ضرورة في وقت السلامة وأمن البلد، وعجز عن المالك ووكيله وعن الحاكم والأمين، فسافر بها فالأقرب الضمان؛ لأنه التزم الحفظ في الحضر، فليؤخر السفر، أو ليلتزم خطر الضمان منه قدّس سرّه)». راجع تذكرة الفقهاء . ج 16، ص 173، المسألة 25.
2- المُجْعَة : طلب الكلأ في موضعه الصحاح، ج 3، ص 1288، «نجع».
3- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 188، المسألة 37.

القسم الثاني: • التعدّي، مثل أن يلبس الثوب، أو يركب الدابّة، أو يخرجها من حرزها لينتفع بها. نعم، لو نوى الانتفاع لم يضمن بمجرّد النيّة.

_______________________________________

ولو لم تمت، بل نقصت خاصّةً ضمن النقص، ولو لم ينقص دخلت في ضمانه بسبب التفريط.

بسبب

واعلم أنّ الواجب علفها وسقيها بحسب المعتاد لأمثالها ، فالنقصان عنه يُعد تفريطاً، سواء صبرت عليه أم لا، ومتى عُدّ تفريطاً صار ضامناً لها وإن ماتت بغيره، هذا هو الذي تقتضيه قواعد الوديعة، وحينئذٍ فتعليق المصنّف الحكم على موتها بسبب ترك ذلك مدّة لا تصبر عليه عادةً إن أُريد به هذا المعنى فلا إشكال من هذه الحيثيّة، لكن يشكل اختصاص حكم الضمان بموتها به مع كونها قد صارت مضمونةً بالتفريط، ومن شأن المضمون به أن لا يفرّق الحال بین تلفه ونقصه بذلك السبب وغيره، وسيأتي له نظائر كثيرة من كلام المصنّف وغيره، وإن أراد به معنى آخر أخصّ ممّا ذكرناه كما هو الظاهر - أُشكل الحكم ممّا سبق، ومن توقّف الضمان على ترك ذلك هذه المدّة، مع أنّ الواجب القيام بالمعتاد منه، وبتركه يتحقّق التفريط.

وفي عبارة العلّامة ما هو أبلغ ممّا هنا، فإنّه قال في التذكرة :

لو امتنع المستودع من ذلك - وعنى به العلف والسقي - حتّى مضت مدّة يموت مثل الدابّة في مثل تلك المدّة، نظر إن ماتت ضمنها، وإن لم تمت دخلت في ضمانه، وإن نقصت ضمن النقصان فإن ماتت قبل مضى تلك المدّة لم يضمنها(1).

هذه عبارته، وقد علّق الضمان فيها - كما ترى - على ترك ذلك مدة تموت فيها عادةً، لا تأخيره زيادة عن المعتاد، ولا زيادة على ما تصبر عليه عادةً.

قوله في التعدّي: «مثل أن يلبس الثوب أو يركب الدابّة».

المراد أنّه لبسه للانتفاع به أو من غير قصد، أمّا لو توقّف حفظه على لبسه - كلبس الثوب الصوف ليدفع عنه الدود حيث لا يندفع بنشره وعرضه على البرد والهواء - لم يكن تعدّياً.

ص: 335


1- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 188، المسألة 37.

• ولو طُلبت منه فامتنع من الردّ مع القدرة ضمن • وكذا لو جحدها ثم قامت عليه بيّنة أو اعترف بها.

______________________________

بل يكون واجباً يضمن بدونه، وكذا القول في ركوب الدابّة، كما لو توقّف نقلها إلى الحرز أو سقيها ونحوه على ركوبها فإنّه يجب فضلاً عن الجواز.

وفي حكم لبس الثوب الموجب للضمان النظر في الكتاب المودع له، وكذا النسخ منه بطريقٍ أولى.

قوله: «ولو طُلبت منه وامتنع من الردّ مع القدرة ضمن».

قد تقدّم أنّ المراد بالردّ الواجب عليه رفع يده عنها(1) وتمكين مالكها منها بفتح القفل والباب ونحو ذلك، لا مباشرة الردّ ، وأنّ المراد بالقدرة ما يشمل القدرة شرعاً، فإنّ من كان في فريضة لا يعدّ قادراً شرعاً إلى أن يفرغ؛ لتحريم قطعها، ولا يعذر في التعقيب المعتاد، ولا في إكمال النافلة، ولا في الليل إلى أن يصبح، إلّا أن يكون في محلّ يشقّ إخراجها منه فيه عادةً، ونحو ذلك.

قوله: «وكذا لو جحدها ثمّ قامت عليه بيّنة أو اعترف بها».

إنّما كان الجحود تعدّياً موجباً للضمان؛ لأنّه خيانة، حيث إنّه بإنكاره يزعم أن يده عليها ليست نيابةً عن المالك، فلا يكون أمينه.

ويعتبر فى تحقّق الضمان به أمور

الأوّل: أن يكون بعد طلب المالك لها منه، فلو جحدها ابتداء أو عند سؤال غيره لم يضرّ ؛ لأنّ الوديعة مبنيّة على الإخفاء، فإنكاره لها بغير طلب يوجب الرد أقرب إلى الحفظ، ولو لم يطلبها المالك لكن سأله عنها ، أو قال: لي عندك وديعة، فأنكر ففي الضمان قولان:

أحدهما: العدم، اختاره في التذكرة(2)؛ لأنّه لم يمسكها لنفسه، ولم يقرّ يده عليها

ص: 336


1- تقدّم في ص 326.
2- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 206 - 207، المسألة 53.

• ويضمن لو خلطها بماله بحيث لا يتميّز.

__________________________________

بغير رضى المالك حيث لم يطلبها، ومجرّد السؤال لا يُبطل الوديعة ولا يرفع الأمانة، بخلاف الطلب.

والثاني: ثبوته؛ لأنّ جحوده يقتضي كون يده ليست عن المالك؛ لأنّ نفي الملزوم يقتضي نفي لازمه من حيث هو لازمه، فلا يكون أميناً عنه فيضمن، واختاره المحقّق الشيخ عليّ ، وهو متّجه(1).

الثاني: أن لا يُظهر لجحوده عذراً بنسيان أو غلط ونحوهما، فإنّه لا يضمن إن صدّقه المالك على العذر، وإلّا ففي الضمان وجهان واستقرب في التذكرة الضمان(2)، ووجهه يُعلم ممّا سلف، وإن كان عدم الضمان لا يخلو من وجه.

الثالث: أن لا يكون الجحود لمصلحة الوديعة، بأن يقصد به دفع ظالم أو متغلّب على المالك ونحو ذلك؛ لأنّه به محسن، و (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ )(3).

قوله : «ويضمن لو خلطها بماله بحيث لا يتميّز».

لا فرق بين خلطها بأجود ومساءٍ وأردأ؛ لاشتراك الجميع في العدوان الناشئ من التصرّف في الوديعة تصرفاً غير مشروع، وتعيّبها بالخلط بالمزج المقتضي للشركة المفضي إلى المعاوضة على بعض ماله عند القسمة بغير رضاه، ولأنّ الشركة عيب فكان عليه الضمان.

ويفهم من قوله «خلطها بماله» أنّه لو خلطها بمال المالك لم يضمن، وليس كذلك، بل يضمن على التقديرين.

ولا فرق هنا أيضاً بين أن يكون المالان عنده وديعةً فيمزج أحدهما بالآخر، وكون الآخر أمانة بغير الوديعة وغصباً لصدق التصرّف المنهي عنه في ذلك كلّه، وربما كان للمالك غرض في الامتياز.

ص: 337


1- جامع المقاصد، ج 1، ص 39.
2- تذكرة الفقهاء، ج 16 ، ص 207، المسألة 53.
3- التوبة (9): 91.

• وكذا لو أودعه مالاً في كيس مختوم ففتح ختمه.

______________________________

ويمكن أن يكون الضمير في «ماله» عائداً إلى المودع والمستودَع، والحكم فيهما صحيح، إلّا أنّ في عوده إلى كلّ واحدٍ إخلالاً بالآخر، واستعماله فيهما على وجه الاشتراك بحيث يشملهما معاً يحتاج إلى تكلّف وتجوّز.

والأولى عوده إلى المستودع خاصّةً، كما ذكرناه أولاً؛ لأنّ خلطه بمال المودع سيأتي الكلام فيه(1) في العبارة في مادّة مخصوصة، وهو كونهما معاً وديعة، ولا فرق في الحكم بين الوديعة وغيرها.

ويُفهم من قيد الحيثيّة بعدم التميّز أنه لو تميّز المالان لا يضمن. والحكم فيه كذلك إن لم يستلزم المزج تصرّفاً آخر غير المزج منهياً عنه، كما لو كان المال في كيس مختوم ونحو ذلك، فالضمان المنفيّ على تقدير الامتياز من حيث المزج وإن أوجب الضمان من حيثيّةٍ أُخرى.

قوله: «وكذا لو أودعه مالاً في كيس مختوم ففتح ختمه».

لا فرق في فتح الختم بين أن يأخذ شيئاً من الكيس وعدمه، ولا في الختم بين أن يكون مشتملاً على علامة للمالك وعدمه؛ لاشتراك الجميع في هتك الحرز والتصرّف المنهيّ عنه، ومثله الصندوق المقفل، وكذا ما أشبه الختم ممّا يدلّ على قصد المالك الإخفاء به، كالربط والشدّ، لا ما يقصد به مجرّد المنع من الانتشار، كما في الخيط والربط الذي يُشدّ به رأس كيس الثياب والرزمة(2) منها، والفارق بين الأمرين القرائن. وفي حكم القفل والختم الدفن، فلو أودعه شيئاً مدفوناً فنبشه ضمن.

ونبّه بقوله «في كيس مختوم على أن الختم المانع من تصرّف المستودع هو ختم المالك، فلو كان من المستودع لم يضمن؛ لأنّه لا هتك فيه ولا نقصان عمّا فَعَله المالك.

هذا إذا لم يكن الختم منه بأمر المالك، وإلّا كان كختم المالك.

ص: 338


1- يأتي في ص 339.
2- الرِزْمَة: ما جمع في شيء واحد. يقال: رزمة ثياب، ورزمة ورق. المعجم الوسيط، ص 342، «رزم».

• وكذا لو أودعه كيسين فمزجهما.

____________________________

وحيث يضمن بالفتح يصير ضامناً للمظروف. وفي ضمانه للظرف وجهان أجودهما ذلك؛ للتصرّف فيه المنهيّ عنه. واستقرب في التذكرة العدَمَ؛ لأنّه لم يقصد الخيانة في الظرف(1).

ويضعّف بأنّ قصد الخيانة لا دخل له في الضمان، بل التصرّف، وقد استشكل فيها حكم ما لو عدّ الدراهم غير المختومة أو وزنها أو ذرع الثوب(2)، مع أن مقتضى تعليله عدم الضمان.

ولو لم يفتح الكيس المختوم لكن خرقه تحت الختم فهو كفضّ الختم، ويزيد ضمان الظرف أيضاً ، ولو كان الخرق فوقه لم يضمن إلّا نقصان الخرق.

قوله: «وكذا لو أودعه كيسين فمزجهما».

لم يقيّد المزج هنا بكونه على وجه لا يتميّز أحد المالين عن الآخر، إمّا لاستسلافه ذلك، أو لكون المزج في الغالب يُراد منه ذلك، أو أراد تعميم الحكم بالضمان بمطلق المزج لاستلزامه التصرّف في المالين بغير إذن المالك، حيث اقتضى إخراج أحدهما من كيسه وصبّه على الآخر، والظاهر أنه يضمن المخرج مطلقاً.

وأمّا الآخر فإن كان مختوماً ،ضمنه وإلّا فلا مع بقاء التميّز؛ لأنّه لم يُحدث فيه تصرّفاً ممنوعاً منه مع احتمال الضمان مطلقاً، وهو قول لبعض الأصحاب(3).

هذا كلّه إذا كان الكيسان للمودع. أمّا لو كان للمستودع فلا ضمان مع بقاء التميز؛ لأنّ له نقل الوديعة من محلّ إلى غيره، و له تفريغ ملكه، ولا يتعيّن عليه الحفظ فيما وضع فيه أوّلاً، وقد تقدّم أنّه لا فرق بين كون الكيسين معاً وديعة أو أحدهما أمانة غيرها أو غصباً(4).

ص: 339


1- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 159، المسألة 13.
2- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 159، الفرع «ج» من المسألة 13.
3- راجع جامع المقاصد، ج 6، ص 17.
4- تقدّم في ص 337.

• وكذا لو أمره بإجارتها لحمل ،أخفّ، فأجرها لأثقل، أو لأسهل فآجرها لأشق، كالقطن والحديد.

•ولو جعلها المالك في حرز مقفل ثمّ أودعها، ففتح المودع الحرز وأخذ بعضها ضمن الجميع، ولو لم تكن مودعة في حرز، أو كانت مودعة في حرز المودع، فأخذ بعضها ضمن ما أخذ.

_______________________________

قوله « وكذا لو أمره بإجارتها لحمل أخفّ فأجرها لأثقل، أو لأسهل فأجرها لأشقّ كالقطن والحديد».

لا إشكال في الضمان هنا مع استعمال المستأجر لها في الأنقل؛ لأنّه تعدّ محض من المستودع. وهل يتحقّق بمجرّد العقد ؟ يحتمل ذلك؛ لتسليطه على الانتفاع العدوان فيخرج عن كونه أميناً، كما يضمن بجحوده - بل بمجرد نيّته على قول - مع عدم فعل ما يوجب الضمان، وعدمه، كما لو نوى الخيانة أو التفريط، أو قال: إنّه يفعل ذلك ولم يفعل، ولم أقف في ذلك على شيءٍ يُعتد به.

والمراد من الأشقّ في المثالين أن الحديد أشقّ عند سكون الهواء والقطن أشقّ عند الهواء، ومن ثَمّ جمع بين المثالين.

ثمّ المضمون على تقدير المخالفة هو الجميع على التقديرين؛ لتحقّق العدوان في ذلك الانتفاع مع احتمال التقسيط خصوصاً في حمل الأثقل؛ لأنّ القدر المأذون فيه ليس بمضمون، وإنّما تعدّى بالزائد، فيقسّط التالف عليهما، وعلى هذا فيعتبر في الأضرّ ما ساوى المأذون من الضرر، مع احتمال ضمان الجميع هنا وإن قلنا به ثم؛ لأنّ مجموع الحمل مغاير للمأذون، بخلاف الأنقل إذا كان الثقل مستنداً إلى زيادة المقدار مع اتحاد الجنس، كما إذا أذن له في حمل قفيز فأجرها القفيزين، وسيأتي مثل هذا الإشكال في باب الإجارة(1)، وضمان الجميع أقوى مطلقاً.

قوله: «ولو جعلها المالك في حرز مقفل ثمّ أودعها - إلى قوله - ضمن ما أخذ».

ص: 340


1- يأتي في ص 443 - 444.

• ولو أعاد بدله لم يبرأ، ولو أعاده ومزجه بالباقي ضمن ما أخذه، ولو أعاد بدله ومزجه ببقيّة الوديعة مزجاً لا يتميّز ضمن الجميع.

________________________________

الفرق بين الأمرين واضح؛ فإنّه في الأوّل تعدّى بنفس فتح الحرز المقفل من المالك، فيضمن الجميع كما تقدم(1) - وإن لم يأخذ منه شيئاً، فإذا أخذ أولى، وأمّا إذا لم تكن مودعةً في حرز فلم يحصل منه تعدّ إلّا فيما أخذ، وكذا إذا كانت في حرز للمودع، فإنّ له فتحه في كلّ وقتٍ؛ لأنّه لا يعدّ متصرّفاً في مال المستودع - بالكسر - بل في ماله، فلا يضمن من هذه الحيثية، وإنّما يضمن من جهة الأخذ، وهو مقصور على المأخوذ، ويستثنى منه ما إذا شدّه المستودع بأمر المالك، فإنّه يصير حينئذٍ بمنزلة ما أحرزه المالك.

ولا فرق في ضمان المأخوذ بين أن يصرفه في حاجته وعدمه عندنا؛ لأنّ الإخراج على هذا القصد خيانة، وعلى هذا فلو نوى التصرّف في الوديعة عند أخذها بحيث أخذها على هذا القصد، كانت مضمونةٌ عليه مطلقاً؛ لأنّه لم يقبضها على وجه الأمانة، بل على سبيل الخيانة. وفي تأثير النيّة في استدامة الأخذ كما تؤثّر في ابتدائه وجهان، من ثبوت اليد في الموضعين مقترناً بالنيّة الموجب للضمان، ومن أنّه لم يحدث فعلاً مع قصد الخيانة، والشكّ في تأثير مجرّد القصد في الضمان وتردّد في التذكرة(2)، ويتحقّق ذلك في صور، منها: أن ینوي الأخذ ولم يأخذ، أو الاستعمال ولم يستعمل ، أو أن لا يردّ الوديعة بعد طلب المالك ولم يتلفّظ بالجحود، وغير ذلك، وقد جزم المصنّف فيما سبق بأنّه لو نوى الانتفاع لا يضمن بمجرد النيّة(3).

قوله: «ولو أعاد بدله لم يبرأ، ولو أعاده ومزجه بالباقي ضمن ما أخذه» إلى آخره.

إنّما لم يبرأ مع إعادة البدل؛ لأنّه لم يتعيّن ملكاً للمودع؛ إذ لا يحصل الملك إلّا بقبضه أو قبض وكيله، والمستودع ليس وكيلاً له في تعيين العوض وإن كان وكيلاً في الحفظ، فإذا

ص: 341


1- تقدّم في ص 338.
2- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 156 - 157، المسألة 12.
3- سبق في ص 335.

...

________________________________

مزج ما جعله بدلاً بالباقي بحيث لا يتميّز فقد مزج الوديعة بماله، وقد تقدّم أنّ ذلك يوجب الضمان(1)، ولو بقى متميزاً فالباقي غير مضمون، إذ لم يحصل فيه تعدٍّ.

ولو أعاد عين المأخوذ لم يزل الضمان عنه، كما لا يزول بالرجوع عن كلّ تفريط وتعدّ. ولا يتعدّى إلى الباقي وإن مزجه به بحيث لا يتميّز؛ لأنّ الجميع مال المالك، غايته أنّ بعضه مضمون وبعضه غير مضمون، ولأنّ هذا الاختلاط كان حاصلا قبل الأخذ، وعلى هذا لو كان الجميع عشرة دراهم وأخذ منها درهماً ثمّ ردّه إليها وتلفت بغير تفريط لم يلزمه إلّا درهم. ولو تلف منها خمسة لزمه نصف درهم، وهكذا.

ص: 342


1- تقدّم في ص 337.

[الأمر] الثالث في اللواحق

وفيه مسائل:

الأولى: • يجوز السفر بالوديعة إذا خاف تلفها مع الإقامة، ثمّ لا يضمن.

___________________________________

قوله: «يجوز السفر بالوديعة إذا خاف تلفها مع الإقامة، ثمّ لا يضمن».

إنّما يجوز السفر بها - مع الخوف عليها - مع تعذّر ردّها على المالك ووكيله والحاكم، وإيداعها الثقة حيث لا يكون في إيداعها خطر عليها، فلو قدر على أحدهم لم يكن له السفر بها وإن خاف عليها.

نعم، لو خاف عليها على تقدير إيداعها سقط وجوبه، وجاز السفر بها حينئذٍ، بل يجب أخذها معه؛ لأنّ حفظها واجب ، فإذا لم يحصل إلّا بالسفر وجب من باب المقدّمة، وقد تقدّم الكلام في ذلك(1).

والمصنّف (رحمه الله) عبّر بالجواز، والظاهر أنّه أراد به معناه الأعمّ، فلا ينافي الوجوب؛ إذ لا يجوز تركها حينئذٍ مع الخوف عليها، إلّا أن يقال بأنّ السفر لا يجب عليه لأجلها وإن خاف تلفها بدونه، بل إن اختار السفر وجب عليه استصحابها، فلا يكون السفر واجباً، وإنّما تجب مصاحبتها لو اختاره، فيصحّ إطلاق جواز السفر حينئذٍ، وبهذا المعنى صرّح بعض الأصحاب(2).

والأقوى الأوّل، بل قال في التذكرة : إنّه لا نعلم فيه خلافاً(3).

ص: 343


1- تقدّم في ص 333.
2- في حاشية «و»: «هو الشيخ فخر الدين في حاشية القواعد (منه رحمه الله). لم نعثر عليه في إيضاح القواعد.
3- تذكرة الفقهاء، ج 16 ، ص 172 ، المسألة 25.

•ولا يجوز السفر بها مع ظهور أمارة الخوف، ولو سافر والحال هذه ضمن.

الثانية: • لا يبرأ المودع إلّا بردّها إلى المالك أو وكيله، فإن فقدهما فإلى الحاكم مع العذر، ومع عدم العذر يضمن ولو فقد الحاكم وخشي تلفها جاز إيداعها من ثقة، ولو تلفت لم يضمن .

_________________________________

قوله: «ولا يجوز السفر مع ظهور أمارة الخوف، ولو سافر والحال هذه ضمن».

هذا من تتمّة الحكم السابق. ومحصّله أنّ السفر بالوديعة حيث يسوغ - لضرورته أو ضرورتها - إنّما يجوز مع أمن الطريق، فلو كان مخوفاً ولو بظهور أمارةٍ عليه مفيدة لظنّ الخوف لم يجز. ولو سافر والحال هذه ضمن؛ لأنّه تغرير، حتّى لو فرض الخوف عليها في الحضر يكون قد تعارض خطران، فيرجّح الإقامة؛ لأنّ السفر نفسه خطر، فإذا انضمّ إليه أمارة الخوف زاد خطره على الحضر.

قوله: «لا يبرأ المودَع إلّا بردها إلى المالك أو وكيله - إلى قوله - ولو تلفت لم يضمن».

لمّا كانت الوديعة من العقود الجائزة جاز للمستودع ردّها في كلّ وقتٍ لكن مع وجود المالك أو وكيله في قبضها، أو مطلقاً بحيث يتناولها، يردّها عليه، ولا يبرأ حينئذٍ بردّها إلى الحاكم؛ لأنّه لا ولاية له على الحاضر الرشيد، فإن فقدهما وأراد ردّها على الحاكم، وكان به حاجة إلى ذلك -كأن عجز عن حفظها، أو عرض له خوف يفتقر معه إلى التستّر المنافي لرعايتها، أو خاف عليها من السرق أو الحرق أو النهب ونحو ذلك من الضرورات - جاز دفعها إلى الحاكم؛ لأنّ له ولايةٌ على الغائب على هذا الوجه، فإن تعذّر أودعها الثقة، ولا ضمان فيهما ؛ لمكان الحاجة.

ولو لم يكن له عذر لم يجز دفعها إلى الحاكم ولا إيداعها الثقة وإن كان له فسخ الوديعة؛ لأنّه قد التزم الحفظ، فلا يبرأ إلّا بدفعها إلى المالك أو وكيله، ولأنّ المالك لم يرضَ بيد غيره، ولا ضرورة له إلى إخراجها من يده، فليحفظها إلى أن يجد المالك أو يتجدّد له عذر، هكذا ذكره الأصحاب، ولا نعلم فيه خلافاً بينهم، ووافقهم جماعة من

ص: 344

الثالثة : • لو قدر على الحاكم فدفعها إلى الثقة ضمن.

الرابعة : • إذا أراد السفر فدفنها ضمن إلّا أن يخشى المعاجلة.

______________________________

العامة(1)، وأجاز بعضهم دفعها إلى الحاكم عند تعذّر المالك مطلقاً؛ لأنّه بمنزلة وكيله(2)، وليس بذلك البعيد.

ثمّ على تقدير جواز دفعها إلى الحاكم هل يجب عليه القبول كما إذا كان له عذر ولم يجد المالك ولا وكيله؟ وجهان من أنّه نائب عن الغائب حينئذ، وأنّه منصوب للمصالح، ولو لم يجب القبض فاتت المصلحة المطلوبة من نصبه ومن أصالة البراءة. والأقوى الأوّل.

والوجهان آتيان فيما لو حمل إليه المديون الدين مع غيبة المدين، أو الغاصب المغصوبَ أو بدله عند تلفه، وغير ذلك من الأمانات التي يليها الحاكم.

قوله: «لو قدر على الحاكم فدفعها إلى الثقة ضمن».

حيث يجوز له دفعها إلى غير المالك ووكيله لتعذّرهما - سواء كان ذلك لفسخ الوديعة مع العذر أم لإرادة السفر الضروري - يجب تقديم الدفع إلى الحاكم على إيداع الثقة؛ لأنّه وكيل عامّ عن المالك فكان أولى فيضمن لو خالف الترتيب، كما يضمن لو دفعها إلى الحاكم مع إمكان دفعها إلى المالك أو وكيله الخاصّ، وقد تقدّم مراراً(3).

قوله: «إذا أراد السفر فدفنها ضمن إلّا أن يخشى المعاجلة».

قد عرفت أنّه مع إرادة السفر يجب ردّها إلى المالك أو وكيله، ثمّ إلى الحاكم، ثمّ يودعها الثقة على تفصيل فيه، فإذا ترك ذلك واقتصر على دفنها فإن كان مع وجود المالك أو وكيله فالضمان ظاهر؛ لأنّه لو دفعها إلى الحاكم أو أودعها الثقة ضمن، فإذا دفنها في مكان يحتمل معه ذهابها رأساً - بأن يتّفق موته فلا يصل مالكها إليها - أولى، وإن تعذّر الوصول إلى المالك وأمكنه الوصول إلى الحاكم فكذلك، وكذا لو تعذّر ودفنها في غير حرز، أو في حرز

ص: 345


1- المهذّب، الشيرازي، ج 1، ص 474؛ حلية العلماء، ج 5، ص 172.
2- المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 7، ص 283، المسألة 5045 .
3- تقدّم في ص 332 و 333 و 344.

الخامسة : • إذا أعاد الوديعة بعد التفريط إلى الحرز لم يبرأ، ولو جدّد المالك له الاستيمان برئ، وكذا لو أبرأه من الضمان

_______________________________

ولم يُعلم بها الثقة، أو أعلمه ولم يكن تحت يده بأن يكون في منزل المستودع.

ولو كان الموضع في يد الأمين فهو كما لو أودعه، مع احتمال عدمه، وهو ظاهر إطلاق العبارة؛ لأنّه إعلام لا ،إيداع ولأنّه لا يلزمه حفظها بمجرّد الإعلام، بخلاف ما لو قبل الوديعة، فإنّه يترتّب عليه وجوب ملاحظتها ونقلها من الموضع عند الخطر، ونحو ذلك من لوازم الأمانة.

وقطع في التذكرة بالأوّل(1)، وفي الثاني قوّةً.

هذا كلّه إذا لم يخشَ المعاجلة قبل إيصالها إلى من ذكر من المالك ومن يترتب عليه، وإلّا جاز الدفن في موضع أمين.

وقد وقعت المعاجلة في كلام المصنّف والجماعة(2) مطلقة، وهي تحتمل أمرين: أحدهما: معاجلة السُرّاق قبل ذلك وهو صحيح؛ لأنّ حفظها حينئذٍ لا يكون إلا بالدفن، فيجب ويجزئ؛ لأنّه المقدور، ويعتبر كونه في حرز مع الإمكان، ولا شبهة حينئذ في عدم الضمان. والثاني: معاجلة الرفقة إذا أراد السفر وكان ضرورياً والتخلف عنها مضراً، فإنه حينئذٍ يدفنها في حرز، ولا ضمان عليه؛ لمكان الحاجة.

قوله: «إذا أعاد الوديعة بعد التفريط إلى الحرز لم يبرأ» إلى آخره.

إنّما لم يبرأ بالردّ؛ لأنّه قد صار بمنزلة الغاصب بتعدّيه، فيستصحب الحكم بالضمان إلى أن يحصل من المالك ما يقتضي زواله، ويتحقّق ذلك بأمور:

منها: أن يردّه عليه ثمّ يجدّد له الوديعة، وهذا لا شبهة فيه؛ لأنّه وديعة مستأنفة يترتب

ص: 346


1- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 173 - 174 ، المسألة 26.
2- منهم العلّامة في تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 197 - 198 ، الرقم 4435: وقواعد الأحكام، ج 2، ص 185.

...

_______________________________

عليها حكمها الذي من جملته كون الودعي أميناً، ويمكن دخوله في قول المصنف «جدد المالك له الاستئمان».

ومنها: أن يجدّده له من غير أن يدفعها إليه، بأن يقول له: أذنت لك في حفظها، أو أودعتكها ، أو استأمنتك عليها ، ونحو ذلك، وقد جزم المصنّف بعود الأمانة بذلك.

ووجهه أنّ الضمان إنّما كان لحق المالك، وقد رضي بسقوطه بإحداثه ما يقتضي الأمانة، ويمكن بناء ذلك على أنّ الغاصب إذا استودع هل يزول الضمان عنه أم لا؟ فإنّ المستودع هنا قد صار بتعدّيه بمنزلته.

والمسألة موضع إشكال؛ إذ لا منافاة بين الوديعة والضمان، كما في الفرض المذكور، فلا يزول الضمان السابق بتجدد ما لا ينافيه، مع عموم قوله(صلی الله علیه و آله و سلم) : «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي»(1)، ومن أنّه قد أقام يده مقام يده وجعله وكيلاً في حفظها، وذلك يقتضي رفع الضمان وقد سلف البحث في نظائرها في مواضع كالرهن(2) والقراض(3).

والأقوى هنا زوال الضمان؛ لأنّ المستودع نائب عن المالك في الحفظ، فكانت يده كيده، وقبضه لمصلحته، فكان المال في يده بمنزلة ما إذا كان في يد المالك، بخلاف الرهن.

ومنها: أن يُبرئه من الضمان، وقد جزم المصنّف ببراءته أيضاً، والوجه فيه ما سبق من أنّ الضمان كان لحقّ المالك وقد أسقطه بالبراءة.

ويشكل بأنّ معنى الضمان أنّ العين لو تلفت وجب عليه بدلها، والحال أنّها الآن لم تتلف فيكون الإبراء من الضمان إبراء ممّا لم يجب.

ويمكن دفعه بأنّ الضمان المسبَّب عن التعدّي معناه جعل ذمّة الودعىّ متعلّقة بالمالك على وجه يلزمه بدل المال على تقدير تلفه، ولزوم البدل ثمرة الضمان وفائدته، لا نفسه

ص: 347


1- تقدّم تخريجه في ص 50 الهامش 1.
2- سبق في ج 3، ص 406.
3- سبق في ص 200.

• ولو أُكره على دفعها إلى غير المالك دفعها ولا ضمان.

________________________________

والساقط بالإبراء هو الأوّل لا الثاني، ويدلّ على أنّ المراد من الضمان هو المعنى الأوّل أنّهم يحكمون عليه به بمجرّد العدوان فيقولون: صار ضامناً ، ولو فَعَل كذا ضمن ونحو ذلك، مع أنّ لزوم البدل لم يحصل بذلك، وإنّما حصل قبول ذمته له، وهذا معنىّ يمكن زواله بالبراءة، بل هو متعلّق البراءة، وأمّا نفس البدل فلا يعبَّر عنه بالضمان، والبراءة إذا تعلّقت به فإنّما تكون من نفس المال لا من الضمان الثابت بالعدوان.

واعلم أنّ ما ذكره من تعليق الحكم على إعادته إلى الحرز بعد التفريط على سبيل المثال، وإلّا فالحكم متعلّق بكلّ موضع يثبت فيه الضمان ثمّ يُزِيل ذلك السبب، بأن يلبس الثوب ثمّ ينزعه بنيّة التخلّص، أو يأخذ الدراهم لينفقها ثم يردّها، أو ينظر في الكتاب ثمّ يطبقه ويردّه إلى الحرز، وغير ذلك من أسباب التعدّي والتفريط والجحود وغيرها.

قوله: «ولو أُكره على دفعها إلى غير المالك دفعها ولا ضمان».

هذا هو المشهور بين الأصحاب؛ لضعف المباشر وقوّة السبب فيختصّ به الضمان ولأصالة براءة الذمّة، ولأنّ ترك التسليم حينئذٍ ضرر منفي(1) فيباح، فلا يستعقب الضمان؛ لأنّه مأذون فيه شرعاً.

وخالف في ذلك أبو الصلاح (رحمه الله) فأوجب الضمان إذا سلّمها بيده وإن خاف التلف، لا إن أخذها المكره من الحرز بنفسه؛ محتجّاً بأنّه متلف بالتسليم فكان ضامناً(2). ووافقه العلامة في التذكرة(3).

وجوابه قد عُلم ممّا سبق فإنّ القهر والإذن الشرعى أسقطا الضمان، ولأنّ الإكراه صيّر فعله منسوباً إلى المكره، ولأنّه محسن فلا سبيل عليه، وعلى تقدير ضمانه فقراره على المكره، وإنّما تظهر الفائدة في جواز مطالبة المالك له بالعين أو البدل.

ص: 348


1- تقدّم تخريجه في ص 162، الهامش 1 و 2.
2- الكافي في الفقه، ص 230.
3- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 205 ، المسألة 51.

السادسة: • إذا أنكر الوديعة أو اعترف وادّعى التلف، أو ادّعى الردّ ولا بيّنة فالقول قوله، وللمالك إحلاقه على الأشبه.

__________________________________

قوله: «إذا أنكر الوديعة أو اعترف وادّعى التلف» إلى آخره.

«الأشبه» يمكن أن يرجع إلى قبول قوله في الأخير، وهو الردّ خاصة؛ لأنّه موضع الإشكال من حيث إنّ الأصل عدم الرد، وعموم «البيّنة على المدّعي»(1)، ومن حيث إنّه محسن وقابض لمحض مصلحة المالك وأمين، والأصل براءة ذمته، والمشهور قبول قوله فيه بيمينه.

هذا إذا ادّعى ردّها على من ائتمنه ، أما لو ادّعى ردّها على غير من ائتمنه كالوارث فعليه البيّئة؛ لأنّ الأصل عدم الردّ، وهو لم يأتمنه، فلا يكلف تصديقه، ودعوى ردّها على الوكيل كدعوى ردها على الموكل لأنّ يده كيده.

وأمّا إنكار الوديعة فلا شبهة في قبول قوله فيه؛ لأنّه منكر، والأصل عدمها من غير معارض.

وأمّا دعوى تلفها مع الاعتراف بها ابتداء، فإنه وإن كان فيه مدّعياً ومخالفاً للأصل، إلّا أنّ المشهور قبول قوله فيه مع يمينه؛ لأنّه أمين، فيُقبل قوله على من ائتمنه.

ولا فرق في ذلك بين دعواه التلف بسبب ظاهر كالحرق والغرق، وخفي، كالسرق؛ لاشتراكهما في المعنى، خلافاً للمبسوط؛ حيث فرّق بينهما، فقبل قوله في الثاني دون الأوّل(2)، إلا أن يكون معلوماً بالمشاهدة أو الاستفاضة عامّاً بحيث يمكن تناوله له.

هذا إذا ذكر السبب، ولو أطلق قبل قوله بيمينه أيضاً.

قال في التذكرة بعد حكايته عن الشافعي: ولا بأس بهذا القول عندي(3).

ص: 349


1- الكافي، ج 7، ص 361، باب القسامة، ح 4، وص 415، باب أن البينة على المدعي...، ح 2: الفقيه، ج 3، ص 32، ح 3270؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 229 ، ح 554، وص 240، ح 594.
2- المبسوط، ج 3، ص 360.
3- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 213، المسألة 62.

• أمّا لو دفعها إلى غير المالك وادعى الإذن فأنكر فالقول قول المالك مع يمينه • ولو صدّقه على الإذن لم يضمن وإن ترك الإشهاد على الأشبه.

_____________________________

وقال الصدوق في المقنع : تُقبل دعوى التلف والضياع بلا يمين(1).

وعلى هذا فيمكن عود «الأشبه» إلى قبول قوله في التلف بيمينه مطلقاً، فيكون رداً على القولين، وإلى إثبات اليمين خاصّةً، وإلى قبول قوله مطلقاً، وإلى المجموع منهما ومن قبول قوله في الرد.

قوله: «أمّا لو دفعها إلى غير المالك وادعى الإذن فأنكر فالقول قول المالك مع يمينه».

لأنّه منكر للإذن فيقدّم قوله فيه ولأصالة عدمه، ولأنّ المدفوع إليه لم يأتمنه فلا يُقبل قوله في الردّ إليه، كما لو ادّعى الردّ إلى الوارث وكون المدّعي الدفع إليه وكيلاً لتكون يده كيد المودع غير معلوم؛ لأنّ إنكاره الإذن له في الدفع إليه أخرجه عن كونه وكيلاً، وحينئذٍ فإذا حلف المالك نظر، فإن كان مَن ادّعى الدفع إليه مُقرّاً بالقبض وهي باقية رُدّت على المالك، وإن تعذّر ارتجاعها منه لغيبةٍ أو غيرها تخيّر المالك بين الرجوع عليه وعلى الودعيّ، فإن رجع على الودعي رجع على المدفوع إليه إن كانت العين باقية، فإذا استرجعها ردّها على المالك وأخذ البدل الذي دفعه، وإن كانت تالفةٌ لم يكن له الرجوع عليه؛ لاعترافه بظلم المالك له في أخذ البدل، فلا يرجع به على غير من ظلمه، وإن كان منكراً للقبض الذي ادعاه المستودع، فالقول قوله بيمينه مع عدم البيِّنة، فيختصّ الغرم بالمستودع.

قوله: «ولو صدّقه على الإذن لم يضمن وإن ترك الإشهاد على الأشبه».

اختلف الأصحاب في أنّ من أمر غيره بدفع الوديعة إلى غير المالك أو بقضاء دينه فَفَعل ولم يُشهد فأنكر المدفوع إليه، هل يضمن الدافع أم لا ؟ فقيل: يضمن فيهما؛ لأنّ إطلاق الإذن يقتضى دفعاً ثابتاً يمكن الرجوع إليه عند الحاجة، فإذا ترك الإشهاد فقد قصّر، خصوصاً الدين، فإنّ الغرض منه براءة الذمّة ولا تظهر إلّا بالإشهاد؛ لأنّ الغريم إذا أنكر فالقول قوله(2).

ص: 350


1- نقله عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 6 ، ص 31، المسألة 3.
2- المبسوط، ج 3، ص 361.

السابعة • إذا أقام المالك البيّنة على الوديعة بعد الإنكار، فصدّقها ثمّ ادّعى التلف قبل الإنكار لم تُسمع دعواه؛ لاشتغال ذمّته بالضمان، ولو قيل: تُسمع دعواه و تُقبل بيّنته كان .حسناً.

______________________________

وقيل: لا يجب الإشهاد فيهما ولا ضمان بتركه؛ لأنّ المأمور به هو الدفع وقد امتثله، والتوقّف عليه أمر آخر لا يدلّ عليه إطلاق الأمر، وإنّما هو مطلوب من الآمر، وإلى هذا القول مال في المختلف(1).

وقيل: يجب الإشهاد في قضاء الدين دون الوديعة، أمّا الدَيْن فلما ذكر، وأمّا الوديعة فلأنّها أمانة، وقول المستودع مقبول في الردّ والتلف، فلا معنى للإشهاد، ولأنّ الودائع حقّها الإخفاء، بخلاف قضاء الدين، واختار هذا القول في التذكرة(2) وكثير من كتبه(3).

والمصنف (رحمه الله) اختار هنا عدم وجوب الإشهاد على أداء الوديعة، وفي الوكالة اختار التفصيل على تردد فيه(4)، والتفصيل حسن.

قوله: «إذا أقام المالك البيّنة على الوديعة بعد الإنكار - إلى قوله كان حسنا».

وجه عدم السماع أنّه بإنكاره السابق مكذب لدعواه اللاحقة، فلا تسمع؛ لتناقض كلاميه، فلا يتوجّه بها يمين عليه ولا على المدّعى عليه، وكذا لا تُسمع بيّنته بطريق أولى؛ لأنّه مكذِّب لها.

ووجه ما حسّنه المصنّف من سماعها عموم الخبر(5)، وجواز استناد جحوده إلى النسيان فيعذر، وهو خيرة التذكرة(6).

ص: 351


1- مختلف الشيعة، ج 6، ص 36، المسألة 13.
2- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 212 ، المسألة 61.
3- كتحرير الأحكام الشرعيّة، ج 3، ص 201، الرقم 4446؛ وقواعد الأحكام، ج 2، ص 189.
4- راجع ص 522.
5- الكافي، ج 7، ص 361، باب القسامة، ح 4، و ص 415، باب أنّ البينة على المدعي...، ح 2؛ الفقيه، ج 3، ص 32، ح 3270؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 229 ، ح 554، و ص 240، ح 594.
6- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 207، المسألة 55.

الثامنة : • إذا عيّن له حرزاً بعيداً عنه وجب المبادرة إليه بما جرت العادة. فإن أخر مع التمكّن ضمن.

________________________________________

وفي المختلف مَنَع من قبول بيّنته وسماع دعواه، بمعنى قبول قوله بيمينه، لكن قال: إنّ

له إحلاف الغريم(1)، وهو نوع من سماع دعواه.

وفي القواعد منعهما معاً(2)، فصار للعلّامة في المسألة ثلاثة أقوال.

وفي المسألة قول رابع(3)، وهو أنه إن أظهر لإنكاره تأويلاً كقوله: ليس لك عندي وديعة يلزمنى ردّها أو ضمانها، ونحو ذلك، قبلت دعواه وسُمعت بينته، وإن لم يظهر له تأويلاً لم تُقبل، واختاره الشهيد (رحمه الله)(4)، وهو حسن.

هذا كلّه إذا كان الجحود بإنكار أصل الإيداع، أمّا لو كانت صورته: لا يلزمني شيء، أو لا يلزمني تسليم شيءٍ إليك، أو ما لك عندي وديعة، أو ليس لك عندي شيء، فقامت البيّنة بها، فادّعى التلف أو الرد، سمعت دعواه وبيّنته؛ لعدم التناقض بين كلاميه.

وحيث قلنا بقبول بيّنته إن شهدت بتلفها قبل الجحود برى من الضمان، وإن شهدت بتلفها بعده ضمن؛ لخيانته بالجحود ومنع المالك عنها.

قوله: «إذا عيّن له حرزاً بعيداً عنه وجب المبادرة إليه بما جرت العادة» إلى آخره.

لمّا كان الواجب على المستودع وضع الوديعة في حرز مع الإطلاق وفي المعيّن منه مع تعيينه، وذلك شامل لجميع أجزاء الزمان الذي يكون فيه مستودعاً، لزم وجوب المبادرة إلى وضعها في الحرز، فلو أمره بوضعها في البيت وكان خارجاً عنه أو في الصندوق كذلك

ص: 352


1- مختلف الشيعة، ج 6 ، ص 37 المسألة 15.
2- قواعد الأحكام، ج 2، ص 188 - 189.
3- في حاشية «و»: «الفرق بين هذا القول وبين ما سيأتي من تقييد قول المصنف (رحمه الله) أنه هنا صرّح بعدم الاستيداع كقوله: مالك عندي وديعة ونحوه واقتصر عليه، لكن أظهر له بعد ذلك تأويلاً على الوجه المذكور، أما الآخر فإنّه أضاف إلى الإنكار كلاماً أغنى عن التأويل، فمرجع الأمرين إلى أنّ الأوّل نوى ما يزيل التنافي والثاني تلفظ به متصلاً به. (منه رحمه الله)».
4- حاشية القواعد، ص 300 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 14).

•ولو سلّمها إلى زوجته لتحرزها ضمن .

______________________________________

لم يصحّ له إبقاؤها معه إلى أن يصل إليه كيف شاء، بل يجب عليه المبادرة بحسب العادة إلى إيداعها ذلك المحلَّ المعين، فإن أخر عن المبادرة وإن قلّ ضمن مع التمكّن منها.

وينبغي أن يراد بالتمكّن هنا ما يعمّ الشرعي والعقلي، فلو كان في وقت فريضة قد ضاق بحيث تستلزم المبادرة فواتها ونحو ذلك عد غير متمكّن، إلّا أنّ يتم الواجب المضيّق، أما قضاء الوطر من الأكل والحمّام وقضاء الحاجة التي ليست ضرورية فلا تعدّ عذراً على ما سبق مع احتماله.

والكلام في بقاء الضمان مع عدم المبادرة وإن وضعها بعد ذلك في المعيّن كما سبق في التقصير(1).

ويتفرّع على ذلك أنّه لو كان المعيّن البيت وله بيوت متعدّدة فوضعها في أحدها جاز نقلها إلى الآخر إن لم يكن بينهما فاصل يعدّ خارجاً عنهما وإن كان من توابع الدار، وإلّا لم يجز؛ لأنّ المرور بها في القدر الخارج عنهما خروج عن مقتضى الأمر من غير ضرورة.

ولو كان في البيت صناديق جاز نقلها من بعض الصناديق إلى بعض؛ لأنّه لم يخرج بها عن البيت المعيّن.

ولو كان المعين الصندوق ضمن بإخراجها إلى غيره ؛ لما ذكرناه من التعليل في نقلها من بيت إلى آخر.

هذا إذا لم يكن التعيين شخصيّاً، وإلّا فحكم الضمان أوضح، كلّ ذلك مع الاختيار، أمّا مع الخوف والحاجة إلى النقل فلا ضمان.

قوله: «ولو سلّمها إلى زوجته لتحرزها ضمن».

قد تقدّم أن المستودع لا يجوز له الإيداع اختياراً، ولا مشاركة غيره في الإحراز(2).

ص: 353


1- سبق في ص 346 وما بعدها.
2- تقدّم في ص 332.

التاسعة: • إذا اعترف بالوديعة ثمّ مات وجهلت عينها قيل: تخرج من أصل تركته، ولو كان له غرماء وضاقت التركة حاصهم المستودع، وفيه تردّد.

_________________________________

ولا فرق في ذلك بين الزوجة وغيرها عندنا، بل يضمن مع عدم إحرازها عنها وإن لم يسلمها إليها إجماعاً منًا.

ونبّه بذلك على خلاف بعض العامّة؛ حيث جوّز له إيداع زوجته(1)، وآخرين؛ حيث جوّزوا الاستعانة بها وبالخادم(2)، وثالث ؛ حيث جوّز إيداع من عليه نفقته، قياساً على ماله(3). وهو فاسد منقوض بالأجنبي.

قوله: «إذا اعترف بالوديعة ثمّ مات وجهلت عينها - إلى قوله - وفيه تردّد».

هذا هو المشهور بين الأصحاب، ووجهه أنّ اعترافه بالوديعة في حياته أوجب ثبوت يده عليها والتزامه بها إلى أن يردّها إلى مالكها ، فإذا لم تُعلم كان ضامناً لها؛ لعموم: «على اليد ما أخذت حتى تؤدي»(4) ولأنّه بترك تعيينها مفرّط فيها فيضمن، ولأنّ الأصل بقاؤها في يده إلى الموت، وبعده تكون في جملة التركة، فإذا تعذّر الوصول إلى عينها وجب البدل، فيكون بمنزلة الدين فيحاص الغرماء.

والمصنّف تردّد في هذا الحكم، وتردّده يحتمل أمرين:

أحدهما: أن يكون في أصل الضمان، فإنّ اعترافه بها في حياته إنّما يقتضي وجوب الحفظ ، وإلّا فذمّته بريئة من ضمانها ، فإذا مات ولم يُعلم احتمل تلفها قبل الموت بغير تفريط أو ردّها إلى المالك ، والأصل براءة ذمّته من الضمان ، وكون التلف على خلاف الأصل معارض بهذا الأصل، وليسا متنافيين حتّى يتساقطا ؛ إذ لا يلزم من بقائها تعلقها بالذمّة.

والثاني: أن يكون التردّد في كيفيّة الضمان، فإنّ أصالة بقائها اقتضى كونها في جملة

ص: 354


1- بداية المجتهد، ج 2، ص 310؛ المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 7، ص 283، المسألة 5045؛ الشرح الكبير المطبوع مع المغني، ج 7، ص 299.
2- بداية المجتهد، ج 2، ص 310؛ المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 7، ص 283، المسألة 5045؛ الشرح الكبير المطبوع مع المغني، ج 7، ص 299.
3- بداية المجتهد، ج 2، ص 310 نقلاً عن أبي حنيفة.
4- تقدم تخريجه في ص 50، الهامش 1.

العاشرة: • إذا كان في يده وديعة فادّعاها اثنان، فإن صدّق أحدهما قبل، وإن أكذبهما فكذلك، وإن قال: «لا أدري» أقرّت في يده حتّى يثبت لها مالك، وإن ادّعيا أو أحدهما علمه بصحّة الدعوى كان عليه اليمين.

__________________________________

التركة، غايته أنّ عينها مجهولة، فيكون مالكها بمنزلة الشريك، وكون الشركة قهريّة لا يقدح في الحكم كمن امتزج ماله بمال غيره بغير اختياره ثمّ مات أحدهما، فإن الشركة تتحقّق ويقدّم الشريك بالحصّة على غيره من الغرماء. والانتقال إلى البدل إذا تعذّرت العين إنّما يكون مع عدم العلم بوجودها في جملة المال، وإلّا منعنا البدل، وأصالة البقاء قد أوجبت ذلك.

والأقوى أنّه إن علم بقاء عينها إلى بعد الموت ولم يتميّز قدّم مالكها على الغرماء، وكان بمنزلة الشريك، وإن علم تلفها بتفريط فهو أسوة الغرماء، وإلّا فلا ضمان أصلاً؛ لأصالة براءة الذمّة، وأصالة بقائها إلى الآن لو سُلّمت لا تقتضي تعلّقها بالذمّة، وقد سبق مثل هذا البحث فى الرهن(1)، والقراض(2).

قوله: «إذا كان في يده وديعة فادّعاها اثنان إلى قوله كان عليه اليمين».

إذا ادّعى كلٌّ من الشخصين على ثالث بأنّ ما في يده من المال المخصوص وديعة له عنده، فإمّا أن يُقر لأحدهما ، أو لهما معاً، أو يكذّبهما على وجه القطع، أو يقول: لا أدري لأيكما هي، مع قطعه بانحصارها فيهما ؟ أو يقول: لا أدري لمن هي؟ فإن أقرّ لأحدهما بعينه حكم بها للمُقَرّ له ويحلف للآخر، فإن حلف له سقطت دعواه عنه، وبقيت منازعته مع صاحبه فله إحلافه أيضاً، فإن حلف سقطت دعواه أيضاً، واستقرّ ملك المقر له على العين.

ولو نكل الودعيّ عن اليمين أحلف المدّعي على استحقاقها إن لم نقض بالنكول، وأغرم الودعي له المثل أو القيمة؛ لحيلولته بينه وبينها بإقراره الأوّل، تنزيلاً لليمين المردودة منزلة

إقرار المنكر؛ إذ لو أقرّ بها ثانياً للآخر يغرم له، فكذا إذا حصل ما هو بحكم الإقرار.

ولو جعلناها كالبيّنة من المدّعي، ففي مساواتها للإقرار أو انتزاع العين من يد المُقرّ له

ص: 355


1- سبق في ج 3، ص 430.
2- سبق في ص 238 - 239.

...

______________________________

وجهان من سبق استحقاقه بإقرار من هي في يده فلا يزال بيمين الآخر؛ لأصالة بقاء الحقّ،

وإمكان الجمع بتغريم المقرّ البدل، ومن اقتضاء البيّنة كونها لمن شهدت له.

والأوّل أقوى؛ لأنّها إنّما تكون كالبينة بالنسبة إلى المتداعيين لا في حقّ غيرهما، وكونها كالبيّنة في حقّ المدّعى عليه يقتضي غرمه له عوضها؛ لحيلولته بينه وبينها بإقراره.

واليمين منهما هنا على البت؛ لأنّها ترجع إلى الاستحقاق ونفيه.

ولو أقرّ بها لهما معاً على سبيل الاشتراك فقد كذّب كلّ واحدٍ في دعوى الجميع وصدّقه في البعض فيقسّم بينهما.

ويكون حكم التصديق والتكذيب في النصف كما في الجميع بالنسبة إلى الودعيّ، وبالنسبة إليهما يبقى النزاع بينهما في النصف، فإن حلفا أو نكلا قسّم بينهما، وإن حلف أحدهما خاصّةً قضي له به، ولا خصومة للناكل مع المستودع.

وإن أكذبهما معاً انتفت دعواهما ؛ لأنّ اليد له ولكلّ منهما إحلافه على البت أيضاً، فإن نكل عن اليمين رُدّت عليهما، وصارا في الدعوى سواء؛ لأنّ يدهما خارجة، فإن حلفا أو نکلا قُسّمت بينهما، وإن حلف أحدهما خاصّةً اختصّ بها.

وإن قال: هي لأحدكما ولا أدري من هو على التعيين؟ فإن صدقاه على عدم العلم فلا خصومة لهما معه، وتبقى الخصومة بينهما والحكم كالسابق، لكن هنا يحتمل جعلهما بمنزلة ذي اليد لا الخارج، بخلاف الأوّل، والفرق أنّه في الأوّل لا يد لأحدهما ولا اعتراف لذي اليد لأحدهما أيضاً، فهما خارجان عنها على التقديرين، بخلافه هنا، فإنّ ذا اليد يعترف بأنّ اليد لأحدهما، وليس أحدهما أولى من الآخر على تقدير الاشتباه.

ويحتمل مساواته للأوّل؛ لعدم ثبوت اليد لأحدهما، وتظهر فائدة اليد وعدمها عند تعارض البيّنات على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وإن كذّباه في عدم العلم فادّعى كلّ واحدٍ منهما علمه بأنّه المالك فالقول قوله مع يمينه، لكنّ الحلف هنا على عدم العلم.

ص: 356

...

___________________________________

وتكفي يمين واحدة على الأقوى؛ لأنّ المدّعى شيء واحد، وهو علمه بكون المال لمعيّن، بخلاف السابق؛ لأنّه ينفي استحقاق كلّ واحدٍ فيحلف له.

وقيل: يحلف لكلّ منهما يميناً(1)؛ لأنّ كلاً منهما مدّع، فيدخل في عموم الحديث السابق(2)، فإذا حلف لهما بقيت المنازعة بينهما.

واختلف هنا، فقيل: يقرع بينهما، فمن خرج اسمه وحلف سلّمت إليه، وقيل: توقف حتّى يصطلحا، والقولان للشيخ(3).

والأقوى أنّهما يحلفان وتقسّم بينهما؛ لتكافؤ الدعويين، وتساويهما في الحجّة، وهو يقتضي القسمة كذلك، فلا يكون الأمر مشكلاً، والإيقاف حتّى يصطلحا ضرر، والاصطلاح غير لازم.

ولو نكل عن اليمين وحلفا على علمه أغرم القيمة تجعل مع العين في أيديهما؛ لأنّ يمينهما اقتضت أن يكون عالماً بالعين لكلّ واحدٍ بخصوصه، وبإنكاره حصلت الحيلولة بين المستحقّ وحقّه، فوجب أن يغرم القيمة، ولما كانا سواء في اليمين لم يكن لأحدهما رجحان على الآخر، فتُجعل العين والقيمة معاً في أيديهما.

وهل تقسّم بينهما بحلفهما كذلك، أو توقّف حتّى يصطلحا؟ القولان.

ويمكن أن يقال هنا بأنّ القسمة بينهما تتوقّف على حلفهما ثانياً بالاستحقاق؛ لأنّ اليمين الأولى لم تتناوله، وإنّما أثرت غرمه القيمة لهما، ولو كان حلفهما ابتداء على الاستحقاق قسمت العين بينهما فقط.

وإن قال: لا أدري أهي لكما، أو لأحدكما ، أو لغير كما؟ وادّعيا عليه العلم، فالقول قوله في نفيه كما مرّ، فإذا حلف تُركت في يده إلى أن تقوم البيّنة، وليس لأحدهما تحليف الآخر؛

ص: 357


1- المبسوط ، ج 3، ص 372.
2- سبق في ص 349، مع تخريجه في الهامش 1.
3- المبسوط، ج 3، ص 372؛ الخلاف، ج 4، ص 178، المسألة 15.

الحادية عشرة: • إذا فرّط واختلفا في القيمة فالقول قول المالك مع يمينه، وقيل: القول قول الغارم مع يمينه، وهو أشبه.

___________________________________

لأنّها لم تثبت لهما ولا لواحد منهما عليها يد ولا استحقاق، بخلاف الصورة السابقة.

ولو نكل عن اليمين ففي تسليمها إليهما مع حلفهما على الاستحقاق، وغرامته لهما القيمة لو حلفا على علمه احتمال ؛ لانحصار الحقّ فيهما ظاهراً؛ إذ لا منازع لهما الآن، ويحتمل العدم؛ لعدم حصر ذي اليد الحقّ فيهما، ولم أقف في هذا القسم على شيءٍ يعتدّ به.

،علمه

واعلم أن قول المصنّف « أُقرّت في يده» يشمل القسمين المشتملين على عدم علمه، أعني ما لو حصرها فيهما مع اشتباه التعيّن وما لو أدخل في الاحتمال معهما غيرهما، وإقراره في يده في الثاني جيّد؛ لأنّ يده يد أمانة، ولم يتعيّن لها مالك يجب الدفع إليه، والحقّ ليس منحصراً فيهما ليتوهّم سقوط أمانته بمطالبتهما.

وأمّا إقرار يده في القسم الأول، فقيل: إنّه كذلك ؛ لما ذكرناه من كونها يد أمانة، ولم يتعيّن

المالك(1).

وقيل: إنّها تنتزع من يده؛ لانحصار الحقّ فيهما، ومطالبتهما إيّاه(2).

ويضعّف بأنّ المطالبة المقتضية للعزل هي التي يجب معها التسليم، وهنا ليس كذلك. فلا يترتب عليه رفع الأمانة.

والقولان للشيخ، والعلّامة(3) اختار ما أطلقه المصنّف، واستوجه في المختلف ردَّ الأمر إلى الحاكم(4)، وهو في القسم الأوّل حسن.

قوله: «إذا فرّط واختلفا في القيمة فالقول قول المالك مع يمينه» إلى آخره.

ص: 358


1- المبسوط، ج 3، ص 371 - 372.
2- الخلاف، ج 4، ص 178، المسألة 15.
3- قواعد الأحكام، ج 2، ص 190.
4- مختلف الشيعة، ج 6، ص 38، المسألة 16.

الثانية عشرة: • إذا مات المودع سلّمت الوديعة إلى الوارث، فإن كانوا جماعةً سلّمت إلى الكلّ أو إلى من يقوم مقامهم، ولو سلّمها إلى البعض من غير إذن ضمن حصص الباقين.

______________________________________

القول الأوّل للشيخ (رحمه الله)(1)؛ محتجّاً بأنّه بالتفريط خرج عن الأمانة فلا يكون قوله مسموعاً. وقيل: إنّ به روايةً(2).

ويضعّف بأنّا لا نقبل قوله من جهة كونه أميناً ، بل من حيث إنّه منكر للزائد، فيكون القول قوله، كما أنّ المالك مدّع فيكون عليه البيّنة؛ عملاً بعموم الخبر(3).

وهذا الحكم لا يختصّ بالأمين، بل الحقّ تعدّيه إلى كلّ من شاركه في هذا المعنى وإن كان غاصباً، والخبر لم يثبت على وجه يحصل به الحجّة، فما اختاره المصنّف أقوى، وهو اختيار الأكثر.

قوله: «إذا مات المودع سُلّمت الوديعة إلى الوارث - إلى قوله ضمن حصص الباقين».

المراد ب_«من يقوم مقامهم وكيلهم أجمع أو وليهم، أو وصيّ مورّثهم لو كانوا أطفالاً، أو الحاكم مع غيبتهم أو عدم وجود ولي خاصّ لهم.

وتجب المبادرة إلى التسليم المذكور؛ لأنّها بموت المودع صارت أمانة شرعيّة، ولا فرق في وجوب المبادرة بين علم الورثة بالوديعة وعدمه عندنا.

وقال بعض الشافعيّة: إنّه مع علمهم لا يجب الدفع إلّا بعد الطلب(4)، ونفى عنه في التذكرة البأس(5).

وهو وجيه، إلّا أنّه لم يتحقّق به قائل منّا وإن كان القول به ممكناً؛ لعدم تحقّق الإجماع.

ص: 359


1- النهاية، ص 437.
2- الكافي في الفقه، ص 231.
3- تقدّم تخريجه في ص 349، الهامش 1.
4- العزيز شرح الوجيز ، ج 7، ص 319؛ روضة الطالبين، ج 5، ص 308.
5- تذكرة الفقهاء، ج 16 ، ص 217، المسألة 66.

ص: 360

كتاب العارية

اشارة

•وهي هي عقد ثمرته التبرّع بالمنفعة.

__________________________________

كتاب العارية

هي بتشديد الياء كأنها منسوبة إلى العار؛ لأنّ طلبها عار وعيب، ذكره الجوهري وابن الأثير في نهايته(1). وقيل منسوبة إلى العارة، وهى مصدر من قولك: أعرته إعارةً، كما يقال: أجاب یجیب إجابة وجابة، وأطاق إطاقة وطاقة(2).

وقيل: مأخوذة من عار ،يعير، إذا جاء وذهب، ومنه قيل للبطّال عيّار؛ لتردّده في بطالته. فسُمّيت عارية لتحوّلها من يد إلى يد(3).

وقيل: مأخوذة من التعاور والاعتوار، وهو أن يتداول القوم الشيء بينهم(4).

وقال الخطّابي في غريبه: إنّ اللغة العالية: العارية، وقد تُخفّف(5).

قوله: «وهي عقد ثمرته التبرّع بالمنفعة».

ص: 361


1- الصحاح، ج 2، ص 761؛ النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 3، ص 320، «عور».
2- كما في الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي المطبوع في مقدمة الحاوي الكبير، ص 300.
3- قاله الأزهري في الزاهر، ص 300.
4- كما في العزيز شرح الوجيز، ج 5، ص 368.
5- إصلاح الأخطاء الحديثية الخطابي، ص 39 - 40 الرقم 34: وحكاه عن غريبه الرافعي في العزيز شرح الوجيز، ج 5، ص 368.

...

_______________________________

العقد اسم للإيجاب والقبول، وتعليق الثمرة عليه يقتضي أنّ للقبول مدخلاً فيها، مع أنّ التبرّع بالمنفعة يتحقّق بالإيجاب خاصّةً؛ لأنّ المتبرّع إنّما هو باذل العين لا المنتفع بها.

ويمكن الجواب بأنّ القبول لما كان شرطاً في صحّة العارية لم تتحقّق الثمرة بدونه وإن بذلها المعير، فإنّه لو تبرّع بالعين وأوقع الإيجاب فردّه الآخر لم تحصل الثمرة وإن حصل التبرّع بالمنفعة، فالمترتّب على العقد هو التبرّع على وجه يثمر، وذلك لا يتمّ بدون القبول.

ونُقض في طرده بالسُكني والعمرى والحبس والوصية بالمنفعة، فإنّ هذه كلها عقود تثمر التبرّع بالمنفعة.

وأجيب بأنّها في معنى العارية وإن كانت لازمة، وغايته انقسام العارية إلى جائزة ولازمة كالإعارة للرهن.

وفيه نظر؛ لأنّ هذه العقود في الاصطلاح متباينة مختلفة اللوازم والصيغ، فإدخال بعضها في بعض بمجرّد المشاركة في بعض الخواصّ اصطلاح مردود

ولو أضيف إلى ذلك قيد الجواز فقيل : ثمرته التبرّع بالمنفعة مع بقاء الجواز ونحوه، خرجت هذه العقود، وبقيت السُكنى المطلقة، فإنّه يجوز الرجوع فيها متى شاء المُسكن، كما سيأتي(1).

وقد يلتزم فيها بأنّها عارية، لتحقّق المعنى فيها مطلقاً، ولا تقدح الصيغة؛ لأنّ العارية لا تختصّ بلفظ، بل كلّ ما دلّ على تسويغ الانتفاع بالعين تبرّعاً، والسكنى المطلقة تقتضي ذلك، ولكن تبقى العارية اللازمة خارجةً، فيحتاج إدخالها إلى قيد آخر، أو التزام جواز الرجوع فيها بالنسبة إلى المستعير وإن لم يؤثر بالنسبة إلى المرتهن.

وتظهر الفائدة في وجوب السعي على الراهن في تخليصها بما أمكن، ووجوب المبادرة إلى ردّها عند الفكّ على الفور بالمطالبة السابقة.

ولو قلنا: إنّه لا أثر لها، وأنّها لازمة من طرفه مطلقاً انتفت هذه اللوازم والأوّل ليس ببعيدٍ من الصواب؛ إذ لا دليل على لزومها بهذا المعنى.

ص: 362


1- يأتي في ج 5. ص 134.

...

____________________________________

واعلم أنّ جَعْلها عقداً يقتضي اعتبار الإيجاب والقبول اللفظتين؛ لأنّ ذلك هو المفهوم من العقد وإن لم ينحصر في لفظ، كما هو شأن العقود الجائزة.

وقد يتجوّز في القبول، فيطلق على ما يكفي فيه القبول الفعلي، كما ذكروه في الوديعة والوكالة ونحوهما، لكن يبقى الإيجاب لا يتحقّق العقد بدون التلفّظ به، وهذا هو الظاهر من عبارة كثير من الأصحاب.

لكن صرّح في التذكرة بأنّه لا يشترط فيها اللفظ في الإيجاب ولا في القبول، بل يكفي ما يقوم مقامه من الأمور الدالّة على الظنّ بالرضى، محتجّاً بأنّه عقد ضعيف؛ لأنّه يثمر إباحة الانتفاع . قال:

وهي قد تحصل بغير عقد، كما لو حسن ظنّه بصديقه كفى في الانتفاع عن العقد، وكما في الضيف، بخلاف العقود اللازمة، فإنّها موقوفة على ألفاظ خاصة اعتبرها الشرع(1). انتهى.

وهو حسن حيث يحصل دلالة على الرضى بغير اللفظ كالكتابة والإشارة، أمّا مجرّد حسن الظنّ فيكفي في الصديق كما ذكر لا مطلقاً. ويمكن الاكتفاء به فيمن تناولته آية الأكل من البيوت(2)، حيث تكون المنفعة أقلّ من الأكل المأذون فيه؛ لدخوله بطريق أولى، حيث إنّ الأكل يستدعي إتلاف العين والانتفاع بالمكان، فهو عارية وزيادة، إلّا أنّها محدودة بمدةٍ يسيرةٍ عرفيّة وإتلاف عين مخصوصة، فلا يدخل فيها إلّا ما كان أضعف منها ليدخل من حيث المفهوم، وما خرج عن ذلك يدخل في عموم النهي عن تناول مال الغير والانتفاع به(3).

والمرجع في الصديق إلى العرف ولابدّ معه من عدم قرينة الكراهة، وإلّا فقد تتّفق الكراهة لكثير مع تحقّق الصداقة.

ص: 363


1- تذكرة الفقهاء ، ج 16، ص 246. المسألة 91.
2- النور (24): 61.
3- البقرة (2): 188؛ النساء (4): 29.

ويقع بكلّ لفظ يشتمل على الإذن في الانتفاع، • وليس بلازم لأحد المتعاقدين.

__________________________________

وقال في التذكرة في موضع آخر:

الأقرب عندي أنّه لا يفتقر العاريّة إلى لفظ، بل تكفي قرينة الإذن بالانتفاع من غير لفظ دالّ على الإعارة والاستعارة، لا من طرف المعير ولا من طرف المستعير، كما لو رآه عارياً فدفع إليه قميصاً ،فلبسه، تمّت العارية، وكذا لو فرش لضيفه فراشاً أو بساطاً أو مصلّى أو حصيراً، أو ألقى إليه وسادةً فجلس عليها، أو مخدّةً فاتكأ عليها كان ذلك إعارة، بخلاف ما لو دخل فجلس على الفُرُش المبسوطة؛ لأنّه لم يقصد بها انتفاع شخص بعينه ؛ قضاء بالظاهر، وقد قال(صلی الله علیه و آله و سلم) : «نحن نقضي بالظاهر»(1).

ثمّ نقل عن بعض الشافعيّة الافتقار إلى اللفظ، قال:

والأقرب ما تقدّم، وقد جرت العادة بالانتفاع بظرف الهديّة المبعوثة إليه واستعماله، كأكل الطعام من القصعة المبعوث فيها، فإنبه يكون عارية؛ لأنه منتفع بملك الغير بإذنه وإن لم يوجد لفظ يدلّ عليها ، بل شاهد الحال(2).

قوله: «وليس بلازم لأحد المتعاقدين».

كون العارية من العقود الجائزة لكلّ من المتعاقدين فسخه متى شاء موضع وفاق، لكن يستثنى منه مواضع :

الأوّل: الإعارة للرهن بعد وقوعه، وقد تقدّم الكلام فيه(3).

الثاني: إعارة الأرض لدفن ميّتٍ مسلم ومَنْ بحكمه، فإنه لا يصحّ الرجوع بعده؛ لتحريم نبشه وهتك حرمته إلى أن تندرس عظامه، وهو موضع وفاق أيضاً نقله في التذكرة(4).

ص: 364


1- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 246 - 247، المسألة 92 وللرواية راجع المحصول، الرازي، ج 2، ص 447؛ الإحكام في أصول الأحكام، الآمدي، ج 2، ص 306.
2- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 247، المسألة 92؛ ولقول الشافعية راجع المهذب، الشيرازي، ج 1، ص 477؛ الوجيز، ج 1، ص 376؛ والعزيز شرح الوجيز ، ج 5، ص 374؛ و روضة الطالبين ج 4 ص 75.
3- تقدّم في ص 362.
4- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 251، المسألة 95.

...

_____________________________________

أمّا لو رجع قبل الحفر أو بعده قبل وضع الميّت صحّ، وكذا بعد وضعه وقبل مواراته على الأقوى.

قال في التذكرة : ومؤونة الحفر إذا رجع بعد الحفر وقبل الدفن لازمة لوليّ الميّت(1).

ويشكل فيما لو لم يمكنه الدفن إلّا كذلك؛ إذ لا تقصير منه حينئذٍ، فينبغي كونه من مال الميّت، ولا يلزم وليّ الميّت الطمّ؛ لأنّ الحفر مأذون فيه.

الثالث: إذا حصل بالرجوع ضرر بالمستعير لا يُستدرك، كما لو أعاره لوحاً يرقع به السفينة فرقعها به ثمّ لجّ في البحر، فإنّه لا يجوز للمعير هنا الرجوع ما دامت في البحر؛ لما فيه من الضرر بالغرق الموجب لذهاب المال أو تلف النفس.

ويحتمل جوازه، ويثبت له المثل أو القيمة مع تعذّر المثل؛ لما فيه من الجمع بين المصلحتين، أو يقال بجواز الرجوع وإن لم يجب تعجيل التسليم إليه . وتظهر الفائدة في وجوب المبادرة بالردّ بعد زوال الضرر من غير مطالبة جديدة، كما تقدّم في الاستعارة للرهن(2). ولو لم تدخل السفينة البحر أو خرجت جاز الرجوع قطعاً، ولو كانت داخلة لكن أمكن رجوعها إلى الشاطئ وجب إذا لم يتوجّه على صاحبها ضرر.

الرابع: أن يعيره حائطاً ليضع عليه أطراف خشبه مع كون الطرف الآخر مثبتاً في ملك المستعير، فإنّه إذا بنى وأدّى الرجوع إلى خراب ما بناه المستعير لم يجز عند الشيخ (رحمه الله )(3) وإن دفع الأرش؛ لأنه يؤدّي إلى قلع جذوعه من ملكه مجبراً، وهو غير جائز.

الخامس: أن يعيره الأرض للزرع فيزرع، فليس له الرجوع فيها قبل إدراكه - وإن دفع له الأرش؛ لأنّ له وقتاً ينتهي إليه، وقد أقدم عليه في ابتداء الإعارة عند الشيخ وابن إدريس(4).

ص: 365


1- تذكرة الفقهاء . ج 16، ص 251، المسألة 95.
2- تقدّم في ص 362.
3- المبسوط، ج 2، ص 467.
4- المبسوط، ج 2، ص 466 - 467؛ السرائر، ج 2 ص 433.

...

_______________________________________

السادس: أن يعيره الأرض ليبني فيها أو يغرس مدةً معلومة، فإنّه لا يجوز الرجوع فيها طول المدّة، ولو كانت غير موقّتة فله الرجوع، ذهب إلى ذلك ابن الجنيد(1).

والأقوى في هذه الثلاثة جواز الرجوع مطلقاً مع دفع الأرش، وإنّما يستثنى من القاعدة الثلاثة الأول خاصّةً، وسيأتي ذكر بعضها في كلام المصنّف(2)، وكأنّه ترك الاستثناء هنا اتكالاً عليه.

ص: 366


1- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 1، ص 46، المسألة 29.
2- يأتي في ص 379.

والكلام في فصولٍ أربعة:

[ الفصل] الأوّل في المعير

ولابدّ أن يكون مكلفاً، جائز التصرّف• فلا تصحّ إعارة الصبيّ ولا المجنون، ولو أذن الوليّ جاز للصبيّ مع مراعاة المصلحة • وكما لا يليها عن نفسه كذا لا تصحّ ولايته عن غيره.

_____________________________________

قوله: «فلا تصحّ إعارة الصبيّ ولا المجنون، ولو أذن الوليّ جاز للصبي» إلى آخره.

قد تقدّم في البيع أن عقد الصبي لا عبرة به وإن أذن له الولى(1)، وإنّما جاز هنا؛ لأنّ العارية لمّا كانت جائزةً ، ولا تختصّ بلفظ ، بل كلّ ما دلّ على رضى المعير وهو هنا الوليّ، كان إذنه للصبي بمنزلة الإيجاب، فالعبرة حينئذٍ بإذنه، لا بعبارة الصبيّ، وعلى هذا فلا فرق بين المميّز وغيره، وينبغي أن يكون المجنون كذلك؛ لاشتراكهما في الوجه، فلا وجه لتخصيص الصبيّ بعد ذكرهما.

والمراد بالمعار هنا ملك الصبيّ، كما يدلّ عليه مراعاة المصلحة، وتتحقّق المصلحة بكون يد المستعير أحفظ من يد الوليّ في ذلك الوقت لخوف ونحوه، أو لانتفاع الصبيّ بالمستعير بما يزيد عن المنفعة، أو لكون العين ينفعها الاستعمال ويضرّها تركه، ونحو ذلك.

قوله: «وكما لا يليها عن نفسه كذا لا تصحّ ولايته عن غيره».

هذا إذا لم يعلم المستعير بكون المالك قد أذن للصبيّ في الإعارة، وإلّا فينبغي جواز ولايته عن غيره على حدّ ما سبق، بمعنى أنّ العبرة بإذن المالك، فلا وجه لفصل الحكمين المتقاربين وإن كان إطلاق منع توليته عن غيره جيداً من حيث إنّه متول.

ص: 367


1- تقدّم في ج 3، ص 58.

•وله الانتفاع بما جرت العادة به في الانتفاع بالمعار ، • ولو نقص من العين شيء أو تلفت بالاستعمال من غير تعدّ لم يضمن ، إلا أن يشترط ذلك في العارية.

__________________________________________

قوله « وله الانتفاع بما جرت العادة به في الانتفاع بالمعار».

المرجع في العادة إلى نوع الانتفاع وقدره وصفته، فلو أعاره بساطاً اقتضى الإطلاق فرشه ونحوه من الوجوه المعتادة، أو لحافاً اقتضى جعله غطاء فلا يجوز فرشه؛ لعدم جريان العادة بذلك، أو حيواناً للحمل اقتضى تحميله قدراً جرت العادة بكونه يحمله، فلا تجوز الزيادة، أو فرساً من شأنها الركوب فلا يجوز تحميلها، وعلى هذا القياس.

ولو تعدّدت منفعة العين، فإن عيّن نوعاً ،تعيّن، وإن عمّم جاز الانتفاع بجميع وجوهها، وإن أطلق فالأقوى أنّه كذلك.

قوله: «ولو نقص من العين شيء أو تلفت بالاستعمال من غير تعدّ لم يضمن، إلا أن يشترط ذلك في العارية».

لمّا كان إطلاق الإذن أو تعميمه يقتضي الانتفاع بالعين من غير تقييد بالقليل والكثير اقتضى ذلك جواز استعمالها وإن نقصت كالثوب يبلى والدابّة تضعف على وجه لا يمنع منه، فإذا فرض حصول نقص في العين أو تلف لم يكن ذلك مضموناً؛ لاستناد التلف إلى مأذون فيه ولو من جهة الإطلاق.

وما قطع به المصنف هو أصحّ القولين في المسألة.

وفيه وجه آخَر، وهو ضمان المتلف في آخر حالات التقويم؛ لأنّ الظاهر عدم تناول

ص: 368

• ولا يجوز للمحرم أن يستعير من مُحلّ صيداً؛ لأنّه ليس له إمساكه، ولو أمسكه ضمنه وإن لم يشترط عليه.

________________________________

الإذن للاستعمال المتلف وإن كان داخلاً في الإطلاق. نعم، لو كان قد شرط الضمان في العارية ضمن وسيأتي الكلام فيه(1).

قوله: «ولا يجوز للمُحْرم أن يستعير من محلّ صيداً؛ لأنّه ليس له إمساكه» إلى آخره.

لا شبهة في عدم جواز استعارة المُحْرِم الصيد من المحلّ والمُحرِم لما ذكره المصنّف من تحريم إمساكه عليه، فلو استعاره بعقد العارية فهل يقع العقد فاسداً؟ يحتمله؛ للنهي(2). وعدمه؛ لأنّ المعاملات لا يبطلها النهي إلا بدليل خارج.

وعبارة المصنّف وغيره(3) لا تدل على أحد الأمرين صريحاً؛ لأنّ عدم الجواز أعمّ من الفساد كما ذكرناه، فعلى تقدير قبضه له إن ردّه على المالك لزمه الفداء لله تعالى وبرئ من حق المالك، وإن تلف في يده فلا شبهة في ضمانه الفداء لله تعالى؛ لأنه ثابت عليه بمجرد الإمساك، كما في الصيد الذي ليس بمملوك، حتّى لو كان المعير مُحْرِماً أيضاً فعلى كلّ واحدٍ منهما فداء.

ومقتضى عبارة المصنّف وجماعةٍ(4) أنّه يضمنه مع التلف للمالك أيضاً بالقيمة؛ لأنّهم جعلوه من العواري المضمونة وإن لم يشترط فيها الضمان ودليله غير واضح؛ إذ مجرّد تحريم استعارته لا يدلّ على الضمان، سواء قلنا بفساد العقد أم بصحّته، أمّا مع صحّته فالأصل في العارية عندنا أن تكون غير مضمونةٍ إلا أن يدلّ دليل عليه، ولم يذكروا هنا دليلاً يعتمد عليه، وأمّا مع فسادها؛ فلأنّ حكم العقد الفاسد حكم الصحيح في الضمان وعدمه - كما أسلفناه في مواضع - قاعدة كلّيّةً.

ص: 369


1- يأتي في ص 384.
2- الفقيه، ج 2، ص 262، ح 2369 و 2370؛ تهذيب الأحكام، ج 5، ص 362، ح 1258.
3- قواعد الأحكام، ج 2، ص 193.
4- منهم العلّامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 193.

•ولو كان الصيد في يد مُحْرم فاستعاره المُحِلّ جاز؛ لأنّ ملك المُحْرم زال عنه بالإحرام كما يأخذ من الصيد ما ليس بملك.

_____________________________

ويمكن الاستدلال على ضمانه هنا بإطلاق النصوص بأنّ المُحْرِم لو أتلف صيداً مملوكاً فعليه فداؤه لمالكه(1)، فيدخل فيه صورة النزاع.

وفيه نظر؛ لمعارضته بالنصّ الصحيح(2) الدالّ على أنّ العارية غير مضمونة، فكما يمكن تخصيص الأوّل بالصيد المأخوذ بغير إذن المالك يمكن تخصيص الثاني بغير الصيد، فالترجيح غير واضح.

وزاد في التذكرة أنّ المُحْرِم إذا قبضه من المالك وجب عليه إرساله، وضمن للمالك قيمته، وأنّه إن ردّه على المالك ضمن لله تعالى الفداء، وسقطت عنه القيمة للمالك(3).

ووجه الحكم الأوّل أنّه صيد وحكمه بالنسبة إلى المحرم وجوب الإرسال، لكن ذلك في المملوك موضع إشكالٍ؛ لتعارض حق الله تعالى فيه وحقّ الآدمي، والقاعدة المعروفة في ذلك تقديم حقّ الآدمي، فينبغي ردّه على مالكه وضمان الفداء لله تعالى كما ذكره ثانياً.

قوله: «ولو كان الصيد في يد مُحْرِم فاستعاره المحلّ جاز» إلى آخره.

إذا حكم بزوال ملك المُحرم عن الصيد، صار فيه بمنزلة الأجنبي، فإطلاق الجواز على إعارته يشكل من ثلاثة أوجه:

الأوّل: أنّ الإعارة شرطها كون المعار ملكاً للمعير، وهو هنا منتف لما ذكروه من زوال ملكه عنه.

الثاني: أنّ تسليمه للمحلّ إعانة على الصيد وإثبات سلطنة للغير عليه، وهو محرّم على

المحرم، فلا يناسبه إثبات الجواز.

الثالث: أنّ تسليمه إذا كان محرَّماً على المحرم يحرم قبوله من المحلّ؛ لإعانته له على

ص: 370


1- الكافي، ج 5، ص 300، باب آخر منه في حفظ المال ...، ح2؛ تهذيب الأحكام، ج 7، ص 231 - 232 ، ح 1010.
2- تهذيب الأحكام، ج 7، ص 182، ح 798 و 799؛ الاستبصار، ج 3، ص 124، ح 441 و 442.
3- تذكرة الفقهاء ، ج 16، ص 238 ، المسألة 83.

•ولو استعار من الغاصب وهو لا يعلم كان الضمان على الغاصب، وللمالك إلزام المستعير بما استوفاه من المنفعة، ويرجع على الغاصب؛ لأنّه أذن له في استيفائها بغير عوض.

•والوجه تعلّق الضمان بالغاصب حسب وكذا لو تلفت العين في يد المستعير.

_____________________________________

الإثم والعدوان المنهى عنه في القرآن(1)، وإن كان للمحلّ تناول الصيد لو لا ذلك. والأقوى الحكم بتحريم الإعارة المذكورة - أعني إثبات صورتها وإن كان الملك - غير متحقّق - وتحريم أخذ المُحِلّ له من يده للإعانة على المحرَّم، لكن لو فعل ذلك لم يلزم المحلّ سوى الإثم، ولا شيء للمُحرم عليه؛ لزوال ملكه، وعلى المُحرم الفداء لو تلف في يد المُحِلّ ؛ لتعدّيه بالإعارة، فإنّه كان يجب عليه الإرسال، ففي العبارة تساهل في اللفظ وإشكال في الحكم.

قوله: «ولو استعار من الغاصب وهو لا يعلم كان الضمان على الغاصب - إلى قوله - وكذا لو تلفت العين في يد المستعير».

المستعير من الغاصب يده يد ضمان، كما في كلّ من ترتّبت يده على يده، سواء كان عالماً بالغصب أم جاهلاً، على أصحّ القولين في المسألة، لكن مع جهل المستعير له الرجوع بما أغرمه المالك؛ لدخوله على أن تكون العين والمنفعة غير مضمونة، ويستثنى منه ما إذا كانت العارية مضمونةٌ، فإنّه لا يرجع حينئذٍ على الغاصب بالقيمة لو تلفت في يده، ويرجع بأجرة المنفعة إذا أخذها منه المالك، وكذلك يرجع بعوض النقصان قبل التلف؛ لأنّه غير مضمون عليه وإن كانت مضمونة، كما سيأتي(2).

ووجه ما اختاره المصنّف من اختصاص الضمان بالغاصب - حيث لا تكون العارية مضمونةٌ - أنّ المستعير مغرور، فضعفت مباشرته، فكان السبب الغارّ أقوى والمشهور الأول.

ص: 371


1- المائدة (5): 2.
2- يأتي في ص 392.

• أمّا لو كان عالماً كان ضامناً، ولم يرجع على الغاصب، ولو أغرم الغاصب رجع على المستعير.

________________________________

والحاصل أنّ المالك مخيّر في الرجوع على كلّ منهما، فإن رجع على المستعير رجع على الغاصب إن لم تكن العارية مضمونةٌ ، وإلّا رجع عليه بعين ما قدم على ضمانه.

وربما احتُمل هنا ضعيفاً رجوعه مطلقاً؛ لأنّ استحقاق العين أوجب فساد العارية، فلا تكون مضمونةً، وهو مغرور مع الغصب، فيرجع على من غرّه.

ويضعّف بأنّ غروره في الغصب لا مدخل له هنا في الضمان؛ لأنّا لم نضمّنه من حيث الغصب، بل من حيث كونها عارية مضمونةً ودخوله على ذلك، فإذا تبيّن فسادها لَحِقَ حكم الفاسد بالصحيح ، كما سلف من القاعدة .

وإن رجع المالك على الغاصب لم يرجع على المستعير إن لم تكن مضمونةً، وإلّا رجع عليه بما كان يضمنه لو كانت صحيحة.

ولا فرق في ذلك كله بين المنفعة والأجزاء والعين.

وإطلاق المصنّف رجوع المستعير على الغاصب أو اختصاص الضمان به غير جيّد، بل كان عليه أن يستثني العارية المضمونة.

قوله: «أمّا لو كان عالماً كان ضامناً ولم يرجع على الغاصب، ولو أغرم الغاصب رجع على المستعير».

إذا كان المستعير من الغاصب عالماً بالغصب فهو بمنزلة الغاصب في جميع الأحكام، ومن حكم ترتب أيدي الغاصبين على المال أنّ المالك يتخيّر في الرجوع على أيّهما شاء، ويستقرّ الضمان على من تلفت العين في يده.

هذا إذا تساوت قيمتها في أيديهما، أو زادت في يد المستعير، أما لو اختصّ الغاصب بزيادة فيها ثمّ ذهبت قبل قبض المستعير اختصّ بضمان الزائد؛ لاختصاصه بغصبه، فلا يرجع به المالك على المستعير، ولا يرجع به الغاصب عليه لو رجع المالك عليه ابتداء.

ص: 372

[الفصل] الثالث في العين المعارة

• وهي كلّ ما يصحّ الانتفاع به مع بقاء عينه، كالثوب والدابّة.

وتصحّ استعارة الأرض للزرع والغرس والبناء.

•ويقتصر المستعير على القدر المأذون فيه، وقيل: يجوز أن يستبيح ما دونه في الضرر، كأن يستعير أرضاً للغرس فيزرع والأوّل أشبه.

_________________________________

قوله: «وهى كلّ ما يصح الانتفاع به مع بقاء عينه» إلى آخره.

هذا الحكم بحسب الأصل أو الغالب وإلّا فسيأتي جواز إعارة المنحة(1)، والمستوفى منها أعيان لا منافع كالصوف والشعر واللبن.

قوله: «ويقتصر المستعير على القدر المأذون فيه - إلى قوله - والأوّل أشبه».

هذه المسألة لم يذكر العلّامة في كتبه أجمع فيها خلافاً، وفي المختلف لم يذكرها، وقَطَع

بجواز الانتفاع بالأدون ضرراً والمساوي(2).

وما اختاره المصنّف أوجه وقوفاً مع الإذن؛ لأنّ الأصل عدم جواز التصرّف في مال الغير بغير إذنه، خرج منه ما أذن فبقي الباقي .

وكون الأدون أولى بالإذن فيدخل من باب مفهوم الموافقة ممنوع؛ لجواز تعلّق غرض المالك بالنوع الخاصّ، فالأولويّة ممنوعة.

ص: 373


1- يأتي في ص 375.
2- إرشاد الأذهان، ج 1، ص 439؛ تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 3، ص 212 ، الرقم 4468: تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 252 ، المسألة 97: قواعد الأحكام، ج 2، ص 198.

...

___________________________________

نعم، لو علم انتفاء الغرض في التخصيص توجّه جواز التخطّي إلى الأقلّ، كما أنّه لو نهى عن التخطي لم يجز إلى المساوي والأقلّ قطعاً، وكذا لو دلّت القرائن على تعلّق الغرض بالمعيّن.

إذا تقرّر ذلك، فلو عدل إلى الأضرّ مع النهي أو الإطلاق، أو إلى المساوي والأدون مع النهي أو الإطلاق على ما اختاره المصنّف فهل تلزمه الأجرة لمجموع الزرع، أو يسقط منها مقدار أجرة المأذون فيه ويثبت الزائد خاصّةً ؟ وجهان من أنّه تصرّف في ملك الغير بغير إذنه، وهو يستلزم ثبوت الأجرة كَمَلاً، ومن أنّه قد أباحه المنفعة المخصوصة فلا يجب لها عوض، فإذا تخطّى إلى غيرها كان مقدار منفعة المأذون مباحاً له، فيضمن الزائد إن كان، فعلى هذا لا يحصل في المساوي والأقل ضرراً إلا الإثم خاصّةً.

والأقوى الأوّل؛ لأنّ المنفعة المأذون فيها لم يستوفها، فسقط حقّه منها، وما استوفاه وقع بغير إذن المالك فيضمن أجرته كَمَلاً؛ لأنّه عدوان محض.

والعلامة (رحمه الله) فرّق بين النهي عن التخطّي وبين الإطلاق، فأوجب الأجرة كَمَلاً مع النهى، وأسقط التفاوت مع الإطلاق(1).

والفرق غير واضح؛ لأنّ التخطّي في الحالين غير مأذون فيه، غايته أنّه في إحداهما نصّ على المنع وفي الأخرى جاء المنع من أصل الشرع بواسطة عدم الإذن، وذلك لا يوجب اختلاف الحكم المذكور.

نعم، لو كان المأذون فيه داخلاً في ضمن المنهيّ عنه كما لو أذن له في تحميل الدابّة قدراً معيّناً فزاد عليه، أو في ركوبها بنفسه فأردف غيره - تحقّق إسقاط قدر المأذون قطعاً؛ لأنّ المأذون فيه بعض المنفعة التي استوفاها، فلا أُجرة له، بخلاف النوع المخالف. ومثله ما لو زرع المأذون فيه وغيره.

ص: 374


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 198.

وكذا يجوز استعارة كلّ حيوان له منفعة كفحل الضراب، والكلب، والسنّور، والعبد للخدمة • والمملوكة ولو كان المستعير أجنبيّاً منها.

• ويجوز استعارة الشاة للحلب، وهي المنحة.

________________________________

قوله: «والمملوكة وإن كان المستعير أجنبيّاً منها».

لا خلاف عندنا في جواز إعارة الجارية للخدمة، سواء كانت حسنة أم قبيحة، وسواء كان المستعير أجنبياً أم مَحْرماً، لكن تكره إعارتها للأجنبي، وتتأكّد الكراهة إذا كانت حسناء خوفَ الفتنة.

وخالف في ذلك الشافعي، فحرّم إعارتها إلّا أن تكون صغيرة لا تشتهي أو كبيرة كذلك أو قبيحة المنظر فله وجهان(1).

وأمّا استعارتها للاستمتاع فغير جائز إجماعاً.

قوله: «ويجوز استعارة الشاة للحلب، وهي المنحة».

الحلب - بفتح العين - مصدر قولك: حلبت الشاة والناقة أحلبها حلباً، والمنحة بالكسر - الشاة المستعارة لذلك، وأصلها العطيّة.

وجواز إعارة الشاة لذلك ثابت بالنصّ(2) على خلاف الأصل؛ لأنّ اللبن المقصود من الإعارة عين لا منفعة.

وعدّوا الحكم إلى غير الشاة ممّا يُتخذ للحلب من الأنعام وغيرها. وفي التذكرة : يجوز إعارة الغنم للانتفاع بلبنها وصوفها(3).

وفي تعدّي الحكم عن موضع الوفاق إن كان - وهو إعارة الغنم للّبن - نظر ؛ لعدم الدليل مع وجود المانع، وهو أنّ الإعارة مختصّة في الأصل بالأعيان ليستوفى منها المنافع، والنصّ

ص: 375


1- العزيز شرح الوجيز، ج 5، ص 372 روضة الطالبين، ج 4، ص 73.
2- الكافي، ج 5، ص 223 - 224، باب الغنم تعطى بالضريبة، ح 1 و 4؛ تهذيب الأحكام، ج 7، ص 127 ، ح 554 و 556؛ الاستبصار، ج 3، ص 103، ح 359 و 362.
3- تذكرة الفقهاء، ج 16 ، ص 241، المسألة 85.

• وتصح الإعارة مطلقةً، ومدة معيّنة، وللمالك الرجوع.

•ولو أذن له في البناء أو الغرس ثمّ أمره بالإزالة وجبت الإجابة، وكذا في الزرع ولو قبل إدراكه على الأشبه .

_________________________________

من طرقنا غير واضح، ومن طرق العامّة(1) لا يدلّ على غير الشاة(2).

قوله: «وتصحّ الإعارة مطلقة، ومدة معيّنة، وللمالك الرجوع».

الحكم بجواز الرجوع متعلّق بما إذا عين المدّة.

ونبّه عليه - مع دخوله سابقاً في كون العارية من العقود الجائزة من الطرفين - على خلاف ابن الجنيد؛ حيث حَكَم بلزومها من طرف المعير إذا عيّن لها مدةً، لكنّه خصّ الحكم بإعارة الأرض البراح للغرس والبناء(3)

وأمّا تعلّق الحكم بالقسمين معاً - أعني الإطلاق وتعيين المدّة - فلا نكتة فيه بعد ذكر الجواز مطلقاً.

ووجه جواز الرجوع مطلقاً أنّ ذلك هو مقتضى العارية، فلزومها في بعض الأفراد يحتاج إلى دليل صالح، وتعيين المدّة لم يخرجها فيها عن كونها عاريةً جائزة.

نعم، يفيد تعيينها عدم جواز تصرّف المستعير بعدها، كما يفيد تعيين المدّة للقراض ذلك، مع جواز الفسخ فيها لكلّ منهما.

قوله: «ولو أذن له في البناء أو الغرس ثمّ أمره بالإزالة وجبت الإجابة» إلى آخره.

إنّما فصل الزرع عنهما؛ لأنّ الخلاف فيه دونهما إلّا مع اقترانهما بمدة، وقد تقدّمت الإشارة منه إلى حكمه.

ص: 376


1- صحیح البخاري، ج2، ص926، ح2486؛ سنن أبي داود، ج2، ص 130، ح 1683.
2- في جواهر الكلام، ج 28، ص 322 وفي بعض نسخ الكتاب: «ولا يستباح وطء الأمة بالعارية، وفي استباحتها بلفظ الإباحة تردّد، والأشبه «الجواز وتعرف الكلام فيه - إن شاء الله تعالى - في كتاب النكاح عند تعرّض المصنّف له والله العالم. راجع جواهر الكلام، ج 31، ص 529 وما بعدها.
3- حکاه عنه العلّامه في مختلف الشیعة، ج6، ص 46، المسألة 29.

•وعلى الآذن الأرش، وليس له المطالبة بالإزالة من دون الأرش.

________________________________

والمخالف فيه الشيخ (رحمه الله)؛ حيث أوجب على المعير الوفاء بالعارية إلى حين إدراكه؛ لأنّ له وقتاً ينتهي إليه(1)، بخلاف الغرس والبناء، وتبعه ابن إدريس(2).

ويمكن أن يكون «الأشبه» تنبيهاً على قول ابن الجنيد أيضاً، ويكون متعلقاً بحكم الغرس والبناء من حيث الإطلاق، فإنّه يشمل ما لو أعاره لهما مدّة معيّنة، إلّا أنّ الأوّل أقعد وأنسب بفصل الزرع عنهما ، وعطفه عليهما بعد الفراغ من حكمهما.

وكيف كان، فالأقوى ما اختاره المصنّف من جواز الرجوع مطلقاً؛ لأنّ بناء العارية على الجواز إلّا ما أخرجه الدليل، وهو منتف هنا، وحديث الضرر والإضرار(3) مشترك بين المعير والمستعير، فيسقط اعتباره؛ للتعارض، ويرجع إلى الأصل، مع أنّه يمكن الجمع بين المصلحتين واندفاع الضررين بدفع المعير الأرش.

قوله: «وعلى الآذن الأرش، وليس له المطالبة بالإزالة من دون الأرش».

أي أرش الزرع والغرس والبناء، وهو تفاوت ما بين كونه منزوعاً من الأرض وثابتاً.

وهل يعتبر فيه كونه مجّاناً أو بأجرةٍ؟ كلام الشيخ في المبسوط(4)، صريح في الأوّل، وهو الظاهر من كلام المصنّف والجماعة(5)، مع احتمال اعتبار الثاني؛ لأنّ الرجوع في العارية يقتضي كون أرض الغير مشغولة بملك غيره بغير إذنه، فلا بدّ من اعتبار الأجرة في بقائه.

ويمكن دفعه بأنّ وضعه في الأرض لمّا كان صادراً عن إذن المالك تبرّعاً اقتضى ذلك بقاءه تبرّعاً كذلك، وإنّما صيّر إلى جواز القلع بالأرش جمعاً بين الحقين، فيقوّم ثابتاً

ص: 377


1- المبسوط، ج 2، ص 466 - 467.
2- السرائر، ج 2، ص 433.
3- الكافي، ج 5، ص 280 ، باب الشفعة، ح4، و ص 292 - 294 ، باب الضرار، ج 2 و 6 و 8 الفقيه، ج 3، ص 76 . ح 3371، وص 233، ح 3862؛ وج 4، ص 334، ح 5721؛ تهذيب الأحكام، ج 7، ص 146 - 147 ، ح 651، وص 164، ح 727.
4- المبسوط، ج 2، ص 465.
5- منهم العلّامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 194.

...

_______________________________

بغير أجرةٍ مراعاة لحقّ المستعير، ويُقلع مراعاة لحق المعير.

وفيه أنّ جواز الرجوع في العارية لا معنى له إلّا أن تكون منفعة الأرض ملكاً لصاحبها لا حقّ لغيره فيها، وحينئذٍ فلا يستحق الإبقاء فيها إلّا برضاه بالأجرة، وحقّ المستعير يجبر بالأرش، كما أنّ حقّ المعير يجبر بالتسلّط على القلع وبأخذ الأجرة لو اتّفقا على إبقائه بها، وهذا هو الأقوى، واختاره في التذكرة(1) في غير محله استطراداً.

ولمّا كان المراد من الأرش هو التفاوت بين الحالين، فحيث ينتفي التفاوت - كما إذا كان الرجوع بعد إدراك الزرع - لا أرش، فلا يضر حكم المصنّف بالأرش في جميع ما تقدّم الذي من جملته قوله «وكذا الزرع ولو قبل إدراكه»؛ فإنّ «لو» الوصليّة تقتضي جواز الرجوع بعد إدراكه بطريق أولى، فصارت من جملة الصُوّر المعقبة بثبوت الأرش على الآذن والحال أنّه هنا لا أرش؛ لعدم الاختلاف، وإثبات الأرش إنّما يكون في صورة اختلاف حالتي القلع والبقاء، وهو باقي الصُوَر.

وأشار بقوله «وليس له المطالبة» إلى آخره، إلى أنّ دفع الأرش شرط في جواز المطالبة، فلا تجب إجابته إلى القلع قبل دفعه وإن بذله؛ لاحتمال تعذّر الرجوع عليه بإفلاس أو غيبةٍ ونحوهما، فيضيع حقّ المستعير ويلزم الضرر، بخلاف ما لو دفع أولاً، فإنّ غايته أن يهرب المستعير أو يتعذّر مباشرته للقلع بوجه، فيباشره المعير بإذن الحاكم مع إمكانه، أو لا معه مع تعذّره وتعذّر إذن المالك، فلا يحصل الضرر ، لكن هذا الدفع نوع من المعاوضة، ومن شأنها أنّهما مع الاختلاف يُجبران على التقابض معاً من غير أن يسبق أحدهما الآخَر، وإنّما حكم هنا بسبق دفع الأرش؛ لأنّ المعيّة غير ممكنةٍ، وفي بسط الدفع على الأجزاء حرج وعسر، والضرر عن الدافع مندفع بخلاف العكس، فلذلك حكموا بتقدّمه.

واعلم أنّ المعير لو بذل قيمة الغرس والزرع والبناء لم تجب إجابته، كما لا تجب إجابة المستعير لو بذل قيمة الأرض أو الأجرة؛ لأنّ تملّك مال الغير واستحقاق منفعة ماله موقوف

ص: 378


1- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 61،المسألة 1067.

• ولو أعاره أرضاً للدفن لم يكن له إجباره على قلع الميّت.

• وللمستعير أن يدخل إلى الأرض، ويستظل بشجرها.

______________________________________

على رضاه؛ خلافاً للشيخ (رحمه الله) في الأوّل؛ فإنّه أوجب على المستعير الإجابة؛ محتجّاً بانتفاء الضرر عليه(1).

ولا يخفى ضعفه؛ فإنّ مجرّد انتفاء الضرر على المالك غير كافٍ في جواز تملّك ماله بغیر رضاه.

قوله: «ولو أعاره أرضاً للدفن لم يكن له إجباره على قلع الميّت».

المراد بالميّت هنا المسلم أو من في حكمه كولده الصغير والمجنون واللقيط بشرطه؛ إذ لا حرمة لغيره، وإنّما لزمت الإعارة هنا؛ لما في النبش من هتك حرمته الثابتة له بعد الوفاة كالحياة وهو موضع ،وفاق، وغاية المنع من الرجوع اندراس عظام الميّت وصيرورته رميماً، والمرجع في ذلك إلى الظنّ الغالب بحسب الترب والأهوية.

وإنّما أطلق المصنّف المنع؛ لأنّه علّقه على القلع، ولا يتحقّق إلّا مع بقاء شيء من أجزائه، فإذا بلي لم يتحقّق القلع، فارتفع المنع.

قوله: «وللمستعير أن يدخل إلى الأرض، ويستظلّ بشجرها».

إذا استعار الأرض للغرس وغرسها، جاز لكلّ من المعير والمستعير دخول الأرض.

أمّا المعير؛ فلأنّ الأرض ملكه، فله الدخول إليها في كلّ وقت، وله أن يستظلّ بشجرها وإن كان ملكاً لغيره؛ لأنّه جالس في ملكه، كما لو جلس في غيره من أملاكه واتّفق له التظلل بشجر غيره، أو في المباح كذلك، والضابط أنّه يجوز له الانتفاع منها بكلّ ما لا يستلزم التصرّف في الغرس، ومثله البناء.

وأمّا المستعير؛ فلأنّ الشجر ملكه، فله الدخول لأجله بأن يسقيه ويحرسه ويهذّبه ونحو ذلك، وليس له أن يدخل لغرض آخر غير ما يتعلّق بمصلحة الشجر والثمر كالتفرّج؛ لأنّ الاستعارة وقعت لمنفعة معيّنةٍ فلا يتعدّاها.

ص: 379


1- المبسوط، ج 2، ص 465.

...

____________________________________

واعلم أنّ الموجود في عبارة الأصحاب وغيرهم في هذه المسألة أنّ المعير له الدخول والاستظلال بالشجر ؛ معلّلين بما ذكرناه من أنّه جالس في ملكه فلا يُمنع منه، وأمّا المستعير فلم يذكر أحد جواز جلوسه للاستظلال، وإنّما شرطوا في دخوله ما ذكرناه من متعلّقات الشجر، وعبارة المصنّف هنا وقعت فيما وجدناه من النسخ أنّ للمستعير الدخول والاستظلال، وحقّه أنّ للمعير الدخول للاستظلال، على ما وجدتُه في سائر كتب الفقه، التي تعرّضوا فيها لهذه المسألة من كتبنا وكتب غيرنا.

والنكتة في الاستظلال بالنسبة إلى المعير واضحة كما ذكرناه، وأمّا المستعير فعلى تقدير جواز استظلاله لا نكتة في تخصيصه من بين الوجوه التي ينتفع بها.

قال في التذكرة :

يجوز للمعير دخول الأرض والانتفاع بها والاستظلال بالبناء والشجر؛ لأنّه جالس على ملكه، وليس له الانتفاع بشيءٍ من الشجر بثمرٍ ولا غصن ولا ورق ولا غير ذلك، ولا بضرب وتدٍ في الحائط، ولا التسقيف عليه، وليس للمستعير دخول الأرض للتفرّج إلّا بإذن المعير؛ لأنّه تصرّف غير مأذون فيه. نعم، يجوز له الدخول لسقي الشجر ومرمّة الجُدُر، حراسةً لملكه عن التلف والضياع(1).

وقال في التحرير:

للمعير الدخول إلى أرضه والاستظلال بالشجر، دون الانتفاع به من شدّ دابة فيه وغيره، وأما المستعير فليس له الدخول لغير حاجةٍ قطعاً، وفي دخوله لحاجة سقي الغرس وجهان(2).

وفي القواعد:

يجوز للمعير دخول الأرض والانتفاع بها والاستظلال بالبناء والشجر، وكلّ ما لا يضرّ

ص: 380


1- تذكرة الفقهاء ، ج 16، ص 262، المسألة 104.
2- تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 216، الرقم 4477.

• ولو أعاره حائطاً لطرح خشبةٍ فطالبه بإزالتها كان له ذلك، إلّا أن تكون أطرافها الأُخر مثبتةٌ في بناء المستعير فيؤدّي إلى خرابه، وإجباره على إزالة جذوعه عن ملكه، وفيه تردّد.

___________________________________

بالبناء والغرس، وللمستعير الدخول لسقي الشجر ومرمّة البناء دون التفرّج(1). وباقي عبارات القوم قريبة من ذلك.

نعم، ذكر الشهيد في اللمعة جواز استظلال كلّ منهما بالشجر(2)، وهو أجود من الاقتصار على المستعير، إلّا أن يجعل نكتة الاقتصار عليه بيان الفرد الأخفى.

تنبيه: يعلم من قولهم: «إنّ المستعير ليس له الدخول للتفرّج» أنّه لا يجوز لأحدٍ الدخول إلى أرض غيره للتفرّج بطريق أولى إلّا بإذن المالك. نعم، لو كان صديقاً، توجّه الجواز مع عدم قرينة الكراهة ، كما تقدّم في صدر العارية(3).

قوله: «ولو أعاره حائطاً لطرح خشبة فطالبه بإزالتها كان له ذلك إلى قوله - وفيه تردد».

هذا الحكم ذكره الشيخ (رحمه الله)(4)، وتبعه عليه ابن إدريس(5).

ووجهه ما أشار إليه المصنّف من أنّ رجوع المعير مستلزم للتصرّف في ملك الغير وتخريب بنائه الواقع في ملكه، فيُمنع منه؛ لأنّ الثابت له شرعاً إنّما هو تفريغ ملكه من ملك الغير، لا تخريب ملك الغير.

ووجه تردّد المصنّف فيه ممّا ذكر، ومن أنّه عارية من لوازمها جواز الرجوع فيها، وما ذُكر لا يصلح للمنع؛ لأنّ تفريغ مال المستعير مع المطالبة واجب ، فإذا توقّف على تخريب ملكه كان من باب المقدّمة التي لا يتمّ الواجب إلا بها، فيجب من هذه الحيثيّة، والمستعير أدخل الضرر على

ص: 381


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 196.
2- اللمعة الدمشقيّة، ص 187 ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 13).
3- تقدّم في ص 363.
4- المبسوط ، ج 2، ص 467.
5- السرائر، ج 2، ص 433 - 434.

• ولو أذن له فى غرس شجرة فانقلعت جاز أن يغرس غيرها؛ استصحاباً للإذن الأوّل، وقيل: يفتقر إلى إذن مستأنف، وهو أشبه.

•ولا يجوز إعارة العين المستعارة إلّا بإذن المالك، ولا إجارتها؛ لأنّ المنافع ليست مملوكةً للمستعير وإن كان له استيفاؤها.

________________________________

نفسه ببنائه في ملكه بناءً معرّضاً للزوال بالرجوع في العارية التي هي مبنيّة على الجواز.

والأقوى الجواز مع الأرش، كما مرّ(1)، وهو جائز لضرر المستعير.

قوله: «ولو أذن له في غرس شجرةٍ فانقلعت جاز أن يغرس غيرها» إلى آخره.

وجه الأوّل أنّ الإذن قائم ما لم يرجع.

ويضعّف بأنّه قائم فيما دلّ عليه لا في غيره، فعدم الجواز - كما اختاره المصنّف - إلّا بإذنٍ جديد أقوى. ومثله الزرع والبناء ووضع الجذع.

قال في التذكرة :

أمّا لو انقلع الفسيل المأذون له في زرعه في غير وقته المعتاد، أو سقط الجذع كذلك وقصر الزمان جداً، فالأولى أن له أن يعيده بغير تجديد الإذن(2).

قوله: «ولا يجوز إعارة العين المستعارة إلّا بإذن المالك ولا إجارتها» إلى آخره.

أي لأنّ شرط المعير أن يكون مالكاً للمنفعة، ولأنّ الأصل عصمة مال الغير وصيانته عن التصرّف فيه، والإعارة إنّما تناولت المستعير.

نعم، يجوز للمستعير أن يستوفي المنفعة بنفسه ووكيله، ولا يُعدّ ذلك إعارة؛ لأنّ المنفعة عائدة إلى المستعير لا إلى الوكيل وهذا موضع ،وفاق، وخالف فيه بعض العامّة فجوّزه؛ قياساً على إجارة المستأجر(3). والفرق واضح

ص: 382


1- مرّ في ص 366.
2- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 268، المسألة 109.
3- العزيز شرح الوجيز ، ج 5، ص 370؛ روضة الطالبين ج 4، ص 71؛ المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 5، ص 362 ، المسألة 3922؛ الشرح الكبير المطبوع مع المغني، ج 5، ص 368 - 369.

...

____________________________________

وحيث يعير المستعير فللمالك الرجوع بأجرة المثل عن مدّة الإعارة الثانية على من شاء منهما، وببدل العين لو تلفت فإن رجع على المعير لم يرجع على المستعير الجاهل بالحال، إلّا أن تكون العارية مضمونة فيرجع عليه ببدل العين خاصّة، ولو كان عالماً استقرّ الضمان عليه كالغاصب، وإن رجع على المستعير رجع على المعير بما لا يرجع عليه به لو رجع عليه لغروره، هذا هو مقتضى القواعد، وقد تقدّم مثله في المستعير من الغاصب(1).

وفي التذكرة والقواعد استشكل رجوع المستعير على المعير لو رجع المالك عليه مطلقاً، وفي رجوع المعير على المستعير الجاهل، مع حكمه في المستعير من الغاصب بمثل ما سلف(2).

ومثله القول في الإجارة بل أولى؛ لأنّ الإعارة جائزة، فإذا رجع المعير أمكن المستعير الرجوع في إعارته ، فقد يُتوهّم جوازه لذلك، ويجعل المستعير كالوكيل، بخلاف الإجارة؛ للزومها على تقدير صحّتها، فتنافي الإعارة.

ص: 383


1- تقدّم في ص 371 - 372.
2- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 301، الفرع «أ» من المسألة 134، وص 282 - 283، المسألة 121؛ قواعد الأحكام ج 2، ص 199 و 197.

[الفصل] الرابع في الأحکام المتعلفة بها

وفيه مسائل:

الأولى: • العارية أمانة لا تضمن إلّا بالتفريط في الحفظ، أو التعدّي، أو اشتراط الضمان.

________________________________

قوله: «العارية أمانة لا تضمن إلّا بالتفريط في الحفظ أو التعدي، أو اشتراط الضمان».

أجمع أصحابنا وأكثر العامّة على أنّ العارية أمانة لا تضمن بالتلف، والنصوص الصحيحة(1) على ذلك من طرقنا كثيرة.

واستثني منه مواضع:

الأوّل: التعدّي والتفريط في الحفظ، وقد كان يستغنى عن استثنائه؛ لأنّ معنى عدم ضمان الأمانة في كلّ موضع أنها لو تلفت بدونهما لم تضمن، والأمر سهل.

الثاني: العارية من غير المالك، والكلام في استثنائها كما مرّ، فإنّها غصب في الحقيقة لا عارية، ولكنّها بصورة ،العارية، فأجروا عليها اللفظ.

الثالث: عارية الصيد للمُحرِم، فإنّ إمساكه حرام، فيكون متعدّياً وضامناً، وهذا ظاهر بالنسبة إلى حقّ الله تعالى، أما بالنسبة إلى حقّ المالك فقد يشكل بما مرّ(2).

الرابع: عارية الذهب والفضّة إلا أن يشترط سقوطه، وسيأتي الكلام فيه.

الخامس: إذا اشترط ضمانها، وهو صحيح بالنصّ(3) والإجماع.

ص: 384


1- تهذيب الأحكام، ج 7، ص 182، ح 798 و 799؛ الاستبصار، ج 3، ص 124، ح 441 و 442.
2- مرّ في ص 369.
3- تهذيب الأحكام، ج 7، ص 183، ح 804؛ الاستبصار، ج 3، ص 126، ح 448.

• وتضمن إذا كانت ذهباً أو فضّةً وإن لم يشترط إلا أن يشترط سقوط الضمان.

_______________________________

السادس: عارية الحيوان، فإن ابن الجنيد حكم بكونه مضموناً(1)؛ استناداً إلى رواية(2) يمنع ضعفها من العمل بها والأقوى أنّه كغيره ممّا لا يضمن إلّا بالشرط.

وقد اتّضح بذلك أنّه لا يستثنى إلّا ما استثناه المصنّف خاصةً.

إذا تقرّر ذلك، فالعارية بالنسبة إلى الضمان وعدمه مع الشرط وعدمه أربعة أقسام:

أحدها: ما يضمن وإن اشترط عدم الضمان، وهو الثلاثة الأول من الصور المستثناة.

ويحتمل قوياً سقوطه في الأولى؛ لأنّه في قوة إذن المالك له في الإتلاف مجاناً

فلا يستعقب الضمان، أمّا الأخريان فالأمر فيهما واضح؛ لأنّ إسقاط غير المالك الضمان لمال الغير لا عبرة به، وكذا إسقاط الضمان عن المُحْرِم؛ لأنّه ثابت عليه من عند الله تعالى باعتبار كونه صيداً، لا باعتبار كونه مملوكاً.

وثانيها: ما لا يكون مضموناً وإن اشترط الضمان وهو استعارة المحل الصيد من المحرم، وقد تقدّم تسمية المصنّف له استعارة(3).

وثالثها: ما يكون مضموناً إلّا أن يشترط عدم الضمان ، وهو استعارة الذهب والفضّة.

ورابعها: ما لا يكون مضموناً إلّا أن يشترط الضمان، وهو باقي أقسامها.

قوله: «وتُضمن إذا كانت ذهباً أو فضّةٌ وإن لم يشترط إلّا أن يشترط سقوط الضمان».

هذه إحدى الصُوَر التي تُضمن فيها العارية من غير شرط ، بل هي الفرد الأظهر، كما تقرّر . ومستند الحكم النصوص الواردة عن أهل البيت(علیهم السلام) ، كرواية زرارة - في الحسن - عن الصادق قال، قلت له : العارية مضمونة ؟ فقال: «جميع ما استعرته فتَوِيَ فلا يلزمك تواه إلّا الذهب والفضّة، فإنّهما يلزمان إلا أن يشترط أنّه متى تَوِيَ لم يلزمك تواه، وكذلك جميع

ص: 385


1- حكاه كاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 6، ص 39. المسألة 18.
2- الكافي، ج 5، ص 302، باب آخر، ح 2؛ تهذيب الأحكام، ج 7، ص 185 ، ح 814؛ الاستبصار، ج 3، ص 125، ح 445.
3- تقدّم في ص 370.

...

____________________________________

ما استعرت واشترط عليك لزمك، والذهب والفضّة لازم لك وإن لم يشترط عليك»(1).

وروى ابن مسكان - في الصحيح - عنه(علیه السلام) : لا تضمن العارية إلا أن يكون اشترط فيها ضمان، إلا الدنانير فإنّها مضمونة وإن لم يشترط فيها ضماناً»(2).

وفي حسنة عبد الملك مثلها إلّا أن الاستثناء فيها للدراهم(3).

وقد عُلم من ذلك أنّ عارية الدراهم والدنانير مضمونة، ولا خلاف في ضمانهما عندنا، إنّما الخلاف في غيرهما من الذهب والفضّة، كالحُليّ المصوغة، فإن مقتضى الخبر الأوّل ونحوه دخولها، ومقتضى تخصيص الثاني بالدراهم والدنانير خروجها، فمن الأصحاب من نظر إلى أنّ الذهب والفضّة مخصصان من عدم الضمان مطلقاً، ولا منافاة بينهما وبين الدراهم والدنانير؛ لأنّهما بعض أفرادهما فيستثنى الجميع، ويثبت الضمان في مطلق الجنسين، ومنهم من التفت إلى أنّ الذهب والفضّة مطلقان أو عامّان بحسب إفادة الجنس المعرّف العموم وعدمه، والدراهم والدنانير مقيّدان أو مخصّصان، فيجمع بين النصوص بحمل المطلق على المقيَّد أو العام على الخاص.

والتحقيق في ذلك أن نقول: إنّ هنا نصوصاً على ثلاثة أضرب:

أحدها: عام في عدم الضمان من غير تقييد، كصحيحة الحلبي عن الصادق(علیه السلام) : «ليس على مستعير عارية ضمان وصاحب العارية والوديعة مؤتمن»(4)، وقريب منها صحيحة محمد بن مسلم عن الباقر علیه السلام(5).

وثانيها: بحكمها إلّا أنّه استثني مطلق الذهب والفضة.

ص: 386


1- الكافي، ج 5، ص 238، باب ضمان العارية والوديعة ، ح 3؛ تهذيب الأحكام، ج 7، ص 183، ح 806.
2- تهذيب الأحكام، ج 7، ص 183، ح 804.
3- تهذيب الأحكام، ج 7، ص 184 ، ح 808.
4- تهذيب الأحكام، ج 7، ص 182، ح 798؛ الاستبصار، ج 3، ص 124، ح 441.
5- الكافي، ج 5، ص 238 - 239 باب ضمان العارية والوديعة، ح 4؛ الفقيه، ج 3، ص 302، ح 4087؛ تهذيب الأحكام ، ج 7، ص 182 ، ح 799؛ الاستبصار، ج 3، ص 124 ، ح 442.

...

_______________________________

وثالثها: بحكمها إلّا أنّه استثني الدنانير أو الدراهم.

وحينئذٍ فلابد من الجمع، فإخراج الدراهم والدنانير لازم؛ لخروجهما على الوجهين الأخيرين، فإذا خرجا من العموم بقي العموم فيما عداهما بحاله، وقد عارضه التخصيص بمطلق الجنسين، فلا بد من الجمع بينهما بحمل العام على الخاصّ.

فإن قيل: لمّا كان الدراهم والدنانير أخص من الذهب والفضّة وجب تخصيصهما بهما؛ عملاً بالقاعدة، فلا تبقى المعارضة إلّا بين العامّ الأول والخاص الأخير.

قلنا: لا شكّ أنّ كلّاً منهما مخصّص لذلك العامّ؛ لأنّ كلّاً منهما مستثنى، وليس هنا إلّا أنّ أحد المخصّصين أعمّ من الآخر مطلقاً، وذلك غير مانع، فيخصّ العام الأول بكل منهما، أو يقيّد مطلقه، لا أن أحدهما يخصص بالآخر؛ لعدم المنافاة بين إخراج الذهب والفضة في

لفظ ، والدراهم والدنانير في لفظ حتى يوجب الجمع بينهما بالتخصيص أو التقييد.

وأيضاً فإنّ العمل بالخبرين الأخصّين لا يمكن لأن أحدهما لم يخصّ إلّا الدنانير، وأبقى الباقي على حكم عدم الضمان صريحاً، والآخر لم يستثن إلّا الدراهم، وأبقى الباقي علی حكم عدم الضمان كذلك، فدلالتهما ،قاصرة والعمل بظاهر كلّ منهما لم يقل به أحد، بخلاف الخبر المخصص بالذهب والفضة.

فإن قيل: التخصيص إنّما جعلناه بهما معاً لا بكلّ واحدٍ منهما، فلا يضرّ عدم دلالة أحدهما على الحكم المطلوب منه.

قلنا: هذا أيضاً لا يمنع قصور كلّ واحدٍ عن الدلالة؛ لأنّ كلّ واحدٍ مع قطع النظر عن صاحبه قاصر، وقد وقعا في وقتين في حالتين مختلفتين، فظهر أنّ إرادة الحصر من كلّ منهما غير مقصودة، وإنّما المستثنى فيهما من جملة الأفراد المستثناة.

وعلى تقدير الجمع بينهما - بجعل المستثنى مجموع ما استفيد منهما - لا يخرجان عن القصور في الدلالة على المطلوب؛ إذ لا يُعلم منهما إلّا أنّ الاستثناء ليس مقصوراً على ما ذكر في كلّ واحدٍ.

ص: 387

...

____________________________________

فإن قيل: إخراج الدراهم والدنانير خاصّةً ينافي إخراج جملة الذهب والفضّة، فلا بد من الجمع بينهما بحمل الذهب والفضّة على الدراهم والدنانير، كما يجب الجمع بين عدم الضمان لمطلق العارية والضمان لهذين النوعين؛ لتحقّق المنافاة.

قلنا: نمنع المنافاة بين الأمرين، فإنّ استثناء الدراهم والدنانير اقتضى بقاء العموم في حكم عدم الضمان فيما عداهما، وقد عارضه الاستثناء الآخر، فوجب تخصيصه به أيضاً، فلا وجه لتخصيص أحد المخصصين بالآخر.

وأيضاً فإنّ حمل العامّ على الخاص استعمال مجازي، وإبقاؤه على عمومه حقيقة ولا يجوز العدول إلى المجاز مع إمكان الاستعمال على وجه الحقيقة، وهو هنا ممكن في عموم الذهب والفضّة فيتعيّن، وإنّما صرنا إلى التخصيص في الأول لتعيّنه على كل تقدير .

فإن قيل: إذا كان التخصيص يوجب المجاز وجب تقليله ما أمكن؛ لأنّ كلّ فرد يخرج يوجب زيادة المجاز في الاستعمال، حيث كان حقّه أن يطلق على جميع الأفراد، وحينئذٍ فنقول : قد تعارض هنا مجازان:

أحدهما: في تخصيص الذهب والفضّة بالدنانير والدراهم.

والثاني: في زيادة تخصيص العامّ الأول بمطلق الذهب والفضّة على تقدير عدم تخصيصهما بالدنانير و الدراهم، فترجيح أحد المجازين على الآخر ترجيح من غير مرجّح بل يمكن ترجيح تخصيص الذهب والفضّة؛ لأنّ فيه مراعاة قوانين التعارض بينه وبين ما هو أخص منه.

قلنا: لا نسلّم التعارض بين الأمرين؛ لأنّ استعمال العامّ الأوّل على الوجه المجازي حاصل على كل تقدير إجماعاً، وزيادة التجوّز في الاستعمال لا يعارض به أصل التجوّز في المعنى الآخر، فإنّ إبقاء الذهب والفضة على عمومهما استعمال حقيقي، فكيف يكافيه مجرّد تقليل التجوّز مع ثبوت أصله؟! وبذلك يظهر بطلان الترجيح بغير مرجّح؛ لأنّ المرجّح حاصل في جانب الحقيقة.

ص: 388

الثانية: • إذا ردّ العارية إلى المالك أو وكيله برئ، ولو ردّها إلى الحرز لم يبرأ.

_______________________________

هذا ما يقتضيه الحال من الكلام على هذين الوجهين وبقي فيه مواضع تحتاج إلى تنقيح. والمعتمد في الحكم بضمانهما في الجملة على النصوص.

وأمّا تعليل الضمان فيهما بأنّ المنفعة فيهما ضعيفة لا يعتد بها في نظر الشرع - والمقصود منها الإنفاق فكانت مضمونةً ؛ عملاً بالغاية الذاتيّة، وأنّ هذه الحكمة تقوى في المصوغ؛ لكثرة منفعته بدون إنفاقه فيختصّ حكم الضمان بالدنانير والدراهم - فهو ضعيف لا يصلح لتأسيس الحكم الشرعي، فإنّ إعارتهما إنّما تصحّ لينتفع بهما على تقدير بقائهما؛ لأنّه شرط صحّة الإعارة، وضعف المنفعة وقوّتها لا مدخل له في اختلاف الحكم، كما لا يختلف حكم استعارة البعير وقطعة من حصير.

قوله: «إذا ردّ العارية إلى المالك أو وكيله برئ، ولو ردّها إلى الحرز لم يبرأ».

أي ردّها إلى حرز المالك من غير أن يوصلها إلى يده أو ما في حكمها، كما لو رد الدابة إلى إصطبله، أو ردّ آلة الدار إليها.

وعدم براءته بذلك واضح؛ لأنّه لم يسلّمها إلى المالك، و«على اليد ما أخذت حتى تؤدّي»(1)، بل لو لم تكن العارية مضمونة صارت مضمونة بذلك؛ لتفريطه بوضعها في موضع لم يأذن المالك بالردّ إليه، كما لو ترك الوديعة في دار صاحبها أو الدابّة المودعة في الإصطبل فتلفت قبل أن يتسلّمها المالك.

وهذا لا خلاف فيه عندنا، وإنّما نبّه به على خلاف أبي حنيفة؛ حيث ذهب إلى أنّ ردّها إلى ملك المالك كردّها إليه؛ لأنّ ردّ العواري في العادة يكون إلى أملاك أصحابها(2).

وفساده واضح واطّراد العادة بذلك ممنوعة.

ص: 389


1- تقدّم تخريجه في ص 50، الهامش 1.
2- بدائع الصنائع، ج 6، ص 333: المغني المطبوع مع الشرح الكبير ، ج 5، ص 358، المسألة 3916؛ الشرح الکبیر المطبوع مع المغني، ج 5، ص 370.

• ولو استعار الدابّة إلى مسافةٍ فجاوزها ضمن ولو أعادها إلى الأُولى لم يبرأ .

الثالثة: • يجوز للمستعير بيع غروسه وأبنيته في الأرض المستعارة للمعير ولغيره على الأشبه.

_______________________________

قوله: «ولو استعار الدابة إلى مسافة فجاوزها ضمن، ولو أعادها إلى الأولى لم يبرأ».

مبدأ الضمان من حين الأخذ في تجاوز المأذون ويستمرّ إلى أن يردّها إلى المالك، وأمّا ضمان المنفعة - وهو الأجرة - فيثبت في المسافة المتجاوزة ذهاباً وعوداً إلى الموضع المأذون - فيه خاصّةً؛ لأنّه فيها غاصب، ولم تبطل الإعارة بذلك، فيكون استعمالها بعد عوده إلى المأذون فيه إلى أن يردّها على الوجه المأذون جائزاً وإن كان الأصل مضموناً بالتعدّي السابق.

ولو كانت العارية مضمونةٌ في أصلها ضمنها من حين أخذها إلى أن يأخذ في تجاوز المأذون ضمان العارية، وهو ضمان العين دون المنفعة على ما سيأتي(1)، وفي المتجاوز ضمان الغصب إلى أن يعود إلى المأذون، ومنه إلى أن يصل إلى المالك ضمان العارية أيضاً عندنا(2).

قوله: «يجوز للمستعير بيع غروسه وأبنيته في الأرض المستعارة» إلى آخره.

الخلاف في بيعه لغير المعير(3)، ووجه المنع أنّه في معرض الهدم والنقض، وأن ملكه عليه غير مستقرّ؛ لأن المعير بسبيل من ملكه.

والأقوى الجواز؛ لأنّه مملوك له في حال بيعه، غير ممنوع من التصرف فيه، وكونه متزلزلاً لا يمنع من جواز بيعه، كما يجوز بيع الحيوان المشرف على التلف، وهو في معرض الهلاك، ومستحقّ القتل قصاصاً كذلك على ما مرّ(4).

ص: 390


1- یأتي في ص 393.
2- في حاشية «و»: «نبه بقوله: عندنا، على خلاف أبي حنيفة حيث أبطل الإعارة بالتعدي، وجعلها مضمونةً بالغصب بعده مطلقاً منه رحمه الله). راجع بدائع الصنائع، ج 1، ص 332.
3- في حاشية «و»: «ينظر الخلاف في هذه المسألة لمن هو ؟ فإنّه لم يذكر في كتب العلّامة ولا الشيخ. وفي التذكرة عزى القول إلى بعض العامّة. ( منه رحمه الله)». راجع تذكرة الفقهاء ، ج 16، ص 262، المسألة 105.
4- مرّ في ج 3، ص 73.

الرابعة: • إذا حملت الأهوية أو السيول حبّاً إلى ملك إنسان فنبت كان لصاحب الأرض إزالته، ولا يضمن الأرش، كما فى أغصان الشجرة البارزة إلى ملكه.

_____________________________________

ثمّ إن كان المشتري جاهلاً بالحال فله الفسخ ؛ لأنّ ذلك عيب، لا إن كان عالماً، بل ينزل

منزلة المستعير.

ولو اتّفقا على بيع ملكهما معا بثمن واحدٍ صحّ على خلاف ما تقدّم في باب الشركة(1)، ويوزّع الثمن عليهما، فيوزّع على أرض مشغولة بالغرس أو البناء على وجه الإعارة، مستحقّ القلع مع الأرش، أو الإبقاء مع الأجرة، أو التملّك بالقيمة مع التراضي، وعلى ما فيها من بناء أو غرس مستحقّ للقلع على أحد الوجوه الثلاثة، فحصّة الأرض للمعير وحصة ما فيها للمستعير .

قوله: «إذا حملت الأهوية أو السيول حبّاً إلى ملك إنسان فنبت» إلى آخره.

إذا حملت السيول وشبهها حبّاً إلى أرض آخر، فلا يخلو إمّا أن يكون ممّا يعرض عنه مالكه أو لا، وعلى التقديرين إمّا أن يعلم المالك أو يجهل، منحصراً في جماعة منحصرين أو لا، وعلى التقادير الستّة إما أن يكون متموّلاً، أو قليلاً غير متموّل كالحبّة الواحدة، فالصُوَر اثنتا عشرة.

فإن أعرض عنها المالك وطرحها - وإن كانت كثيرةً - فلمالك الأرض تملكها، وله طرحها من أرضه، كما يجوز تناول ما أعرض مالكه عنه من الثمار والسنبل ونحوها ويجوز للمالك الرجوع فيها ما دامت عينها باقية؛ لأنّ ذلك بمنزلة الإباحة.

وإن لم يكن أعرض عنها وكان معلوماً فهي باقية على ملكه، ولصاحب الأرض مطالبته بالإزالة فتجب عليه؛ لأنّ ملكه قد شغل أرض غيره بغير حق، فيجب تخليصه منها.

وهل يجب عليه الأجرة للمدة التي كان باقياً فيها؟ أّمّا بعد المطالبة والتمكّن من إزالته فالوجوب واضح؛ لأنّه حينئذٍ بمنزلة الغاصب مختاراً، وأما قبل ذلك فالظاهر أنّه لا أُجرة عليه؛ إذ لم يقصر في القلع، ولا حصل في الأرض بتفريطه.

ص: 391


1- تقدّم في ص 175.

الخامسة : • لو نقصت بالاستعمال ثمّ تلفت وقد شرط ضمانها ضمن قيمتها يوم تلفها؛ لأنّ النقصان المذكور غير مضمون.

______________________________________

فإذا قلعه وجب عليه تسوية الأرض وطمّ الحفر ؛ لأنها حدثت بفعله لتخليص ملكه منها، فإن امتنع أجبر عليه، وجاز لصاحب الأرض نزعه منها، كما لو سرت أغصان شجرة إلى ملكه.

ولو اشتبه المالك في قوم منحصرين وجب عليهم أجمع التخلّص بالصلح أو التمليك ونحوه، ويجب على مالك الأرض أيضاً مراجعتهم فيما يراجع فيه المالك المعيّن.

ولو لم ينحصر المالك كان بمنزلة اللقطة يجوز تملّكه إن كان دون الدرهم حين التملّك، فلو تركه من غير نيّة التملّك حتى بلغه وجب تعريفه كاللقطة، ويحتمل كونه كمال مجهول المالك في جواز التصدق به عنه من غير تعريف.

ولو كان قليلاً لا يتموّل، كنواةٍ واحدة وحبّةٍ واحدة فنبتت احتمل كونه لمالك الأرض إن قلنا: لا يجب ردّ مثله على مالكه لانتفاء حقيقة الماليّة فيه، والتقويم إنّما حصل في أرضه.

والأقوى عدم جواز تملّكه مطلقاً، فيكون حكمه كما تقدّم.

ولو حمل السيل أرضاً بشجرها أو بدونه فهي لمالكها، ويجبر على إزالتها، كما مرّ. وفي جمیع ذلك لو تركه مالكه لصاحب الأرض التي انتقل إليها، فإن قبله فلا كلام وإلّا ففي وجوب إزالته على مالكه وجهان ، وقطع في التذكرة بأنّه يسقط حينئذ عنه مؤونة نقله وأُجرته؛ لأنه حصل بغير تفريطه ولا عدوانه، وكان الخيار لصاحب الأرض المشغولة، إن شاء أخذه لنفسه، وإن شاء قلعه(1).

قوله: «لو نقصت بالاستعمال ثمّ تلفت وقد شرط ضمانها ضمن قيمتها يوم تلفها».

إذا شرط ضمان المستعار فقد شرط ضمان عينه على تقدير التلف، وضمان نقصانه على تقديره، وضمانهما على تقديرهما، وقد يطلق اشتراط الضمان، ولا شبهة في اتباع مقتضى شرطه في الثلاثة الأول، فيضمن العين خاصةً في الأوّل، والنقصان خاصّةً في الثاني إلى أن تنتهي حالات تقویمه باقياً، وضمانهما معاً في الثالث.

ص: 392


1- تذكرة الفقهاء، ج 16 ، ص 270، ذيل المسألة 110.

...

_____________________________________

وإنّما الكلام عند إطلاق اشتراط الضمان وهو مسألة الكتاب والمصنّف (رحمه الله) جزم بأنّ الإطلاق منزل على ضمان العين خاصّةً، فيضمن قيمتها يوم التلف؛ لأنّ النقص حصل بفعل مأذون فيه، فلا يكون مضموناً، ولأنّها لو لم تتلف وردها على تلك الحال لم يجب عليه شيء، فإذا تلفت وجب مساويها في تلك الحال.

ويمكن الفرق بين تلف الأجزاء الموجب للنقص بالاستعمال وغيره فيضمن على الثاني دون الأوّل؛ لأنّ تلفها بأمر مأذون فيه، فلا يستعقب ضماناً.

وقد يُمنع أصل هذا الوجه ويُحكم بضمان النقص وإن ردّها، فإنّ ذلك من مواضع النزاع؛ إذ لمانع أن يمنع من كون النقص غير مضمون في المضمونة، سواء تلفت أم ردّها؛ لأنّ مقتضى تضمين العين تضمين أجزائها؛ لأنّها مركبة منها والإذن في أصل الاستعمال لا ينافي الضمان والحال أنّه مشروط؛ إذ ليس من لوازم أصل الاستعمال النقص، فيجوز أن يكون الاستعمال مأذوناً فيه والنقص مضموناً.

وفي القواعد استشكل الحكم(1)، وفي التذكرة(2) وافق على ما ذكره المصنّف.

والقول بالضمان لا يخلو من قوّةٍ، فإن قلنا به ضمن أعلى القيم من حين القبض إلى حين التلف، إن كان اختلافها من حيث الأجزاء، كالثوب يلبس وينسحق على التدريج، ولو كان الاختلاف من حيث قيمة السوق لم يضمن الزائد بسببه؛ لأنّ ذلك ليس من مدلول ضمان العين، خصوصاً إن لم نوجبه على الغاصب.

وإن قلنا بعدم الضمان ضمن قيمته آخر حالات التقويم.

واحترز بقوله «وقد شرط ضمانها» عمّا لو كان موجب الضمان التفريط أو التعدّي، فإنّه يوجب ضمان الأجزاء المتأخّرة عن وقت الضمان دون الذاهبة قبله بالاستعمال ونحوه من الوجوه التي هي غير مضمونة.

ص: 393


1- . قواعد الأحكام، ج 2، ص 196 - 197.
2- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 279، المسألة 117.

السادسة: • إذا قال الراكب: «أعرتنيها» وقال المالك: «آجرتكها» فالقول قول الراكب؛ لأنّ المالك مدّع للأجرة، وقيل: القول قول المالك في عدم العارية، فإذا حلف سقطت دعوى الراكب، ويثبت عليه أجرة المثل لا المسمّى، وهو أشبه.

________________________________

وفي القواعد ساوى بين الأمرين في الحكم بالضمان وعدمه في الأجزاء المتقدّمة على التفريط والمتأخرة عنه(1). وليس بجيد.

قوله: «إذا قال الراكب أعرتنيها، وقال المالك: آجر تكها - إلى قوله - وهو أشبه».

القول الأول للشيخ (رحمه الله) في الخلاف(2)، ووجهه أنهما متّفقان(3) على أن تلف المنافع، وقع على ملك المستعير؛ لأنّ المالك يزعم أنّه ملكها بالإجارة، والمستعير يزعم أنه ملكها بالاستيفاء المستند إلى الإعارة؛ لأنّ المستعير يملك بذلك الاستيفاء، فيده شرعيّة على القولين.

ثم المالك يدّعي عليه عوض ما استوفاه من ملكه وهو ينكر استحقاقه والأصل يقتضي عدم وجوبه، وبراءة ذمّة الراكب منه، فيكون القول قوله، والمالك يدّعي شغلها، فيحتاج إلى البينة. ويشكل بأنّ المنافع أموال كالأعيان، فهي بالأصالة لمالك العين، فادّعاء الراكب ملكيتها بغير عوض على خلاف الأصل، وأصالة براءة ذمّته إنّما تصحّ من خصوص ما ادّعاه المالك، لا من مطلق الحق، بعد العلم باستيفائه المنفعة التي هي من جملة أموال المالك وحقوقه، والأصل يقتضي عدم خروجها عن ملكه مجاناً، فمن ثَم ذهب المصنف - وقبله ابن إدريس(4) - إلى تقديم قول المالك في عدم العارية، وإن لم يُقبل قوله فيما يدعيه من الإجارة؛ لأنّه مدّع أيضاً فيحتاج إلى البيّنة، كما أن الراكب مدع للعارية فلا يُقبل قوله فيها، فإذا حلف المالك على نفي العارية لم تثبت الإجارة، ولكن يثبت كون الراكب تصرّف في ملكه بغير تبرّع منه، فيثبت عليه أُجرة المثل.

ص: 394


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 196 - 197.
2- الخلاف، ج 3، ص 388، المسألة 3.
3- في «م ، ق ، و»: «يتّفقان».
4- السرائر، ج 2، ص 431 - 432.

ويشكل بما لو كان ما يدعيه من الأجرة أقل من أُجرة المثل؛ لاعترافه بنفي الزائد، فينبغي أن يثبت له بيمينه أقل الأمرين ممّا يدعيه وأجرة المثل؛ لأنّ الأقل إن كان ما يدعيه من الأجرة فهو يعترف بعدم استحقاقه سواه، وإن كان الأقل أجرة المثل فلم يثبت بيمينه سواها، إذ لم تثبت الإجارة، وإنّما لزم تصرّف الراكب في ماله بغير إذن المالك على وجه التبرّع.

وهذا هو الذي اختاره العلّامة في القواعد(1)، وهو أجود من السابق، إلّا أنّه يشكل بأنّ المالك يدّعى الزائد من الأجرة عن أجرة المثل على تقدير كون المسمّى أكثر، والراكب ينفيه، فلابدّ من وجه شرعي يقتضي نفيه، وحلفه على نفي الإعارة لم يدلّ على نفي الإجارة، كما لم يدلّ على إثباتها، وإثبات أقلّ الأمرين باليمين مسلَّم، لكن يبقى النزاع في الزائد على تقديره، فلا يندفع إلّا بحلف الراكب على نفي الإجارة، أو نكوله فيحلف المالك على الإجارة ويأخذ الزيادة، ومن ثم ذهب العلّامة في المختلف والشهيد (رحمه الله) في بعض تحقيقاته - وتبعهما جماعة(2) - إلى أنّهما يتحالفان؛ لأنّ كلّاً منهما مدّعٍ ومدّعى عليه، فيحلف المالك على نفي ما يدّعيه الراكب وهو الإعارة، ويحلف الراكب على نفي ما يدّعيه المالك من الإجارة، وحينئذٍ يثبت أقلّ الأمرين؛ لانتفاء الزائد من المسمّى بيمين المستعير، وانتفاء الزائد من أجرة المثل باعتراف المالك(3)، وهذا هو الأقوى.

وللشيخ قول خامس، وهو القرعة(4)؛ بناء على أنّه أمر مشتبه.

ويضعّف بأنّه لا اشتباه مع القاعدة المتّفق عليها من حكم المدّعي والمنكر.

هذا كلّه إذا وقع الاختلاف بعد انقضاء مدة يدّعي المالك كونها مدة الإجارة، أو مضيّ مدّةٍ لها أجرة عادةً أمّا لو وقع الاختلاف قبل ذلك فحكمه ما سنذكره.

ولا فرق بين أن يكون هذا النزاع مع بقاء العين وتلفها؛ لأنّها إن كانت باقية ردّها بعد

ص: 395


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 198.
2- منهم المحقّق الكركي في جامع المقاصد، ج 6، ص 91.
3- مختلف الشيعة، ج 6، ص 43 المسألة 22؛ غاية المراد، ج 2، ص 210 ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 2).
4- المبسوط، ج 3، ص 77؛ الخلاف، ج 3، ص 521، المسألة 11.

• ولو كان الاختلاف عقيب العقد من غير انتفاع كان القول قول الراكب؛ لأنّ المالك يدعى عقداً وهذا ينكره.

السابعة: • إذا استعار شيئاً لينتفع به في شيءٍ فانتفع به في غيره ضمن، وإن كان له أجرة لزمته أجرة مثله.

____________________________________

التحالف إلى المالك، وثبت الأقلّ من الأجرتين، أو من أُجرة المثل وقسط المسمّى لو كان في أثناء المدّة، وبطلت الإجارة في الباقي إن كان.

ولو اكتفينا بحلف المالك على نفي الإعارة ففي انتزاع العين نظر، من إنكار المستعير الإجارة، وإذن المالك على وجه التبرّع قد انتفى بإنكاره فير تجع، ومن اعتراف المالك بعدم استحقاقه ارتجاعها إلى أن تنقضي المدّة التي يدعيها، وهذا ممّا يؤيّد القول بالتحالف؛ لأنّ هذا نزاع آخر لم يتحرّر من يمين المالك، كالنزاع في الزائد من المسمّى. وإن كانت العين تالفة فحكم الأجرة ما ذكر، وأما العين فإن كانت أمانة كما لو كانت الإعارة التي يدعيها الراكب غير مضمونة - فلا شيء على الراكب؛ لاتفاقهما على كونها في يده أمانةٌ إما بالإجارة أو الإعارة، وإن كانت مضمونةٌ فمدّعي الإعارة يعترف بثبوت القيمة في ذمته، والمالك ينكره؛ لعدم اقتضاء الإجارة الضمان، فتوقف إلى أن يتّفقا عليه.

قوله: «ولو كان الاختلاف عقيب العقد من غير انتفاع» إلى آخره.

هذا التعليل آتٍ بإطلاقه في الأوّل، فلا بد من اقترانه بأمرٍ آخر، وهو أنّ المالك لا يدّعي على مدّعي الإعارة بشيءٍ من عوض المنافع، وإنّما يدّعي ثبوت الإجارة ووجوب الأجرة في ذمّته وإن كان قبل الاستيفاء، والآخر ينكرهما، فيُقدم قوله؛ لأصالة براءة ذمّته من تعلّق الإجارة وما يلزمها بها، فالدعوى هنا متمحّضة للمالك، فيُقدّم قول مدّعي الإعارة ويسترد العين.

قوله: «إذا استعار شيئاً لينتفع به في شيءٍ فانتفع به في غيره ضمن» إلى آخره.

وجه الضمان ظاهر لتعدّيه في العين حيث انتفع بها في غير المأذون، فتلزمه أُجرة مثل ذلك العمل؛ لوقوعه بغير إذن المالك، ولا يسقط منه مقدار تفاوت المأذون؛ لأنّه لم يستوف تلك المنفعة، فكأنه أسقط حقّه ممّا يملكه وانتفع بما لا يملك.

ص: 396

الثامنة • إذا جحد العارية بطل استئمانه، ولزمه الضمان مع ثبوت الإعارة.

التاسعة • إذا ادّعى التلف فالقول قوله مع يمينه ولو ادّعى الردّ فالقول قول المالك مع يمينه. العاشرة: • لو فرّط في العارية كان عليه قيمتها عند التلف إذا لم يكن لها مثل، وقيل: أعلى القيم من حين التفريط إلى وقت التلف، والأوّل أشبه.

_________________________________

ولا فرق بين كون المنفعة التي استوفاها أشق من المأذون فيها ومساوية وأدنى إذا كانت

مخالفة لها في الجنس، ولو اتّفقتا في الجنس كأنواع الزرع، ففيه ما مرَّ من الإشكال(1).

قوله: «إذا جحد العارية بطل استئمانه ولزمه الضمان مع ثبوت الإعارة».

القول في جحود العارية كالقول في جحود الوديعة حكماً وشرائط، فراعه ثمّ. ومبدأ الضمان الجحود؛ لأنّه بمنزلة التعدي.

قوله: «إذا ادّعى التلف فالقول قوله مع يمينه» إلى آخره.

أمّا الأوّل؛ فلانّه وإن كان مدعياً ما يخالف الأصل إلّا أنّه يمكن صدقه، فلو لم يُقبل قوله لزم تخليده الحبس، وقد تقدّم نظيره وما يرد عليه في أبواب الأمانات(2). وأمّا الثاني؛ فلأن الأصل عدم الرد، فيكون القول قول منكره وهو المالك، ولأنّ المستعير قبض لمصلحة نفسه، وبذلك فارق الودعي؛ لأنّه إنما قبض لمصلحة المالك، فهو محسن محض، و مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ )(3).

واعلم أنّ هذه العلّة تجري في كثير من أبواب تنازع المستأمنين، إلّا أنّها تقتضي قبول قول الوكيل في الرد لو كان بغير جعل، وهو مشكل؛ لمخالفته للأصل، وكون هذه العلّة ليست منصوصة، وإنّما هي مناسبة.

قوله: «لو فرّط في العارية كان عليه قيمتها عند التلف - إلى قوله - والأوّل أشبه».

ص: 397


1- مرّ في ص 373 - 374.
2- تقدّم في ص 215 - 216.
3- التوبة .(9): 91.

• ولو اختلفا في القيمة كان القول قول المستعير ، وقيل : قول المالك ، والأوّل أشبه.

________________________________________

وجه الأوّل: أنّ الواجب على المستعير مع بقاء العين ردّها دون القيمة، وإنّما ينتقل إليها مع التلف، وحينئذ فالمعتبر القيمة وقت التلف، وهذا هو الأقوى.

ووجه الثاني: أنّ العين لمّا كانت مضمونةٌ فكل واحدة من القيم المتعدّدة في وقت كونها مضمونةً مضمونة؛ إذ معنى ضمان العين كونها لو تلفت ضمن قيمتها، وهو حاصل في جميع الوقت فيضمن أعلى القِيَم؛ لدخول الباقي فيها.

وموضع الخلاف ما لو كان الاختلاف بسبب السوق، أما لو كان بسبب نقص في العين فلا

إشكال في ضمانه؛ لأنّ ضمان العين يقتضي ضمان أجزائها.

وفي المسألة قول ثالث، وهو أنّ المعتبر قيمتها وقت الضمان؛ لتعلقها بالذمّة حينئذٍ على

تقدير التلف، وقد تقدّم الكلام في هذه المسألة غير مرّةٍ(1).

قوله: «ولو اختلفا في القيمة كان القول قول المستعير ، وقيل : قول المالك، والأول أشبه».

أي اختلفا في قيمة المستعار على تقدير تلفه بتفريط أو كونه مضموناً بأمر آخر، فالقول قول المستعير؛ لأنّه منكر للزائد، فيدخل في عموم الخبر(2)

وقال الشيخ(3) وجماعة(4) : قول المالك؛ لخروج المستعير عن الأمانة، خصوصاً على تقدير التفريط، فلا يُقبل قوله.

والأقوى الأوّل؛ لأنّ قبول قوله من حيث كونه منكراً، لا من حيث كونه أميناً.

ص: 398


1- تقدّم في ج 3، ص 455.
2- الكافي، ج 7، ص 361، باب القسامة، ح 4 ، و ص 415، باب أنّ البيّنة على المدّعي...، ح 2؛ الفقيه، ج 3، ص 32، ح 3270؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 229، ح 554، و ص 240، ح 594.
3- النهاية، ص 438.
4- منهم المفيد في المقنعة، ص 630؛ وسلّار في المراسم، ص 194؛ وابن حمزة في الوسيلة، ص 276.

كتاب الإجارة

اشارة

وفيه فصول أربعة:

[ الفصل] الأوّل في العقد

• وثمرته تمليك المنفعة بعوض معلوم، ويفتقر إلى إيجاب وقبول.

_____________________________________

كتاب الإجارة

الإجارة من الألفاظ المنقولة شرعاً عن موضوعها لغةٌ ؛ لأنّها في الشرع عبارة عن تمليك المنفعة خاصّةً بعوض معلوم لازم لماهيّتها، أو العقد المفيد لذلك على ما تقرّر سابقاً.

وهي في اللغة اسم للأجرة، وهي كراء الأجير، لا مصدر «آجر يؤجر» فإنّ مصدره الإيجار، بخلاف باقي العقود، فإنّه يعبر عنه بمصدر الفعل أو باسم المصدر، فلا يتغيّر عن موضوعه إلّا بشروط زائدة وتغيير سهل، والمطابق لغيرها التعبير بالإيجار، لكنها قد اشتهرت في هذا اللفظ على وجه لا يرتاب في تحقّق النقل؛ إذ لا يتبادر غيره.

قوله في العقد: «وثمرته تمليك المنفعة بعوض معلوم».

عدل عن تعريف الإجارة بذكر ما يفيد فائدة التعريف لسلامته ممّا يرد على التعريف؛

ص: 399

•والعبارة الصريحة عن الإيجاب «آجرتك» ولا يكفي «ملكتك». أما لو قال: «ملكتك سكنى هذه الدار سنةً» مثلاً صحّ.

______________________________________

إذ لو قال: «هي عقد ثمرته تمليك المنفعة» إلى آخره، كما عرّف به بعضهم(1)، لانتقض في طرده بالصلح على المنافع بعوض معلوم، وبهبتها مع شرط العوض.

وأمّا جعل المصنّف ذلك ثمرة هذا العقد فلا ينافي كونه ثمرة عقدٍ آخر، لكن يبقى فيه أنّ تمليك المنفعة المذكورة ليس ثمرة العقد، بل ثمرة الإيجاب؛ لأنّ المؤجر هو المملّك لا المستأجر، فإنّ التمليك مصدر «ملك» بالتشديد، لا «ملك» أو «تملك»، لأنّ مصدرهما الملك والتملّك.

ويمكن اندفاعه بأنّ الإيجاب لمّا كان جزء السبب المصحح للتمليك نُسبت الثمرة إليهما، فإنّ التمليك وإن وقع من الموجب خاصّةً إلّا أنّه لا تتمّ ثمرته بانفراده بل لا بدّ من مصاحبته لبقيّة الشرائط وغيرها مما تتوقّف عليه الصحّة.

قوله: «والعبارة الصريحة عن الإيجاب : آجرتك» إلى آخره.

لما كانت الإجارة من العقود اللازمة وجب انحصار لفظها في الألفاظ المنقولة شرعاً. المعهودة لغةً، والصريح منها في الإيجاب «آجرتك» و«أكريتك».

أمّا الأُولى فقد تقدّم الكلام فيها.

وأمّا الثانية فهي من الألفاظ المستعملة أيضاً لغةً وشرعاً في الإجارة، يقال: أكريت الدار، فهي مكراة، ويقال: اكثريت واستكريت وتكاريت بمعنى، ومنه أخذ المكاري؛ لأنّه يكري دوابّه ونفسه.

وأمّا التمليك فيفيد نقل ما تعلّق به، فإذا ورد على الأعيان أفاد نقل ملكها، وليس ذلك مورد الإجارة؛ لأنّ العين تبقى على ملك المؤجر، بل إذا أراد إقامته مقام الإجارة تعيّن إضافته إلى المنافع؛ لأنّ التمليك في الإجارة بالعوض إنّما هو المنفعة لا العين، ولا بدّ حينئذٍ من وقوع الإيجاب ابتداء بلفظه، كأن يقول: «ملكتك منفعة هذه الدار مدة كذا مثلاً بكذا».

ص: 400


1- لم نتحقًقه.

• وكذا «أعرتك» لتحقّق القصد إلى المنفعة.

• ولو قال: «بعتك هذه الدار» ونوى الإجارة لم تصحّ ، وكذا لو قال: «بعتك سكناها سنةً» لاختصاص لفظ البيع بنقل الأعيان، وفيه تردّد.

_________________________________________

أمّا لو عبر في الإيجاب بلفظ «آجرت» و«أكريت» فإنّهما إنّما يردان على العين، فلو أوردهما على المنفعة بأن قال: «آجرتك منفعة هذه الدار مثلاً» إلى آخره لم يصحّ، بخلاف «ملكتك».

وأمّا القبول فضابطه كلّ لفظ يدلّ على الرضى بالإيجاب ك_«قبلت، واستأجرت، واكتريت، واستكريت» كما سبق. ولو تقدّم القبول على الإيجاب صحّ بما عدا الأول.

قوله: «وكذا أعرتك؛ لتحقّق القصد إلى المنفعة».

المشبه به سابقاً المشار إليه ب_«ذا» هو الحكم بالصحّة إذا قال: «ملّكتك سكناها سنةً» أي وكذا يصحّ لو قال: «أعرتك هذه الدار سنة بكذا».

ووجه الصحّة ما أشار إليه بقوله «لتحقّق القصد إلى المنفعة».

والمراد أنّ الإعارة لما كانت لا تقتضي ملك المستعير للعين، وإنّما تفيد تسلطه على المنفعة وملكه لاستيفائها، كان إطلاقها بمنزلة تمليك المنفعة، فتصحّ إقامتها مقام الإجارة، كما يصح ذلك بلفظ الملك.

والحقّ أنّ العارية إنّما تقتضى إباحة المنفعة لا تمليكها، والعوض لا يدخل في ماهيتها، بخلاف التمليك، فإنّه يجامع العوض، ولا يخفى أنّ التجوّز بمثل ذلك خروج عن مقتضى العقود اللازمة.

قوله: «ولو قال: «بعتك هذه الدار» ونوى الإجارة لم تصح - إلى قوله - وفيه تردّد».

وجه المنع ما ذكره من أنّ البيع موضوع لنقل الأعيان والمنافع تابعة لها، فلا يثمر الملك لو تجوّز به في نقل المنافع منفردةً وإن نوى الإجارة.

وظاهر التذكرة أنّ ذلك إجماعيُ؛ لأنّه نسبه إلى علمائنا(1)، ولكن المصنّف تردّد.

ص: 401


1- تذكرة الفقهاء، ج 18، ص 19، المسألة 515.

•والإجارة عقد لازم لا تبطل إلا بالتقايل، أو بأحد الأسباب المقتضية للفسخ. • ولا تبطل بالبيع • ولا بالعذر مهما كان الانتفاع ممكناً.

____________________________________________

وفي التحرير جَعَل المنع أقرب(1).

ووجه تردّد المصنّف ممّا ذكر، ومن أنّه بالتصريح بإرادة نقل المنفعة - مع أنّ البيع يفيد نقلها أيضاً مع الأعيان وإن كان بالتبع - ناسب أن يقوم مقام الإجارة إذا قصدها. والأصح المنع.

قوله: «والإجارة عقد لازم لا تبطل إلا بالتقايل، أو بأحد الأسباب المقتضية للفسخ».

لزوم عقد الإجارة موضع ،وفاق، وعموم الأمر بالوفاء بالعقود(2) يتناوله، وحينئذٍ فتدخله الإقالة كغيره من عقود المعاوضات.

وأما الأسباب المقتضية للفسخ فستأتي مفصلةً(3) إن شاء الله تعالى.

قوله: «ولا تبطل بالبيع».

لعدم المنافاة، فإنّ الإجارة تتعلّق بالمنافع والبيع بالعين، والمنافع تابعة، لكن إن كان المشتري عالماً بالإجارة تعيّن عليه الصبر إلى انقضاء المدة، وإن كان جاهلاً تخيّر بين فسخ البيع وإمضائه مجّاناً مسلوب المنفعة إلى آخر المدّة؛ لأنّ إطلاق العقد وقع على اعتقاد التسليم والانتفاع نظراً إلى الغالب.

ولو فسخ المستأجر بعد البيع؛ لحدوث عیب و نحوه، عادت المنفعة إلى البائع لا إلى المشتري. ولو كان المشتري هو المستأجر صح البيع.

وفي انفساخ الإجارة وجهان، أجودهما بقاؤها، فيجتمع عليه الثمن والأُجرة. والثاني الانفساخ؛ لأنّ ملك العين يستدعي ملك المنافع؛ لأنّها نماء الملك، ويضعّف بأنّ العين إنّما تستتبع المنافع إذا لم يسبق ملكها بسبب آخر.

قوله: «ولا بالعذر مهما كان الانتفاع ممكناً».

ص: 402


1- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 3، ص 67 - 68 ، الرقم 4170.
2- المائدة .(5): 1.
3- يأتي في ص 409 و 449 - 450.

• وهل تبطل بالموت؟ المشهور بين الأصحاب نعم، وقيل: لا تبطل بموت المؤجر، وتبطل بموت المستأجر، وقال آخرون: لا تبطل بموت أحدهما، وهو الأشبه.

_________________________________________

أي الانتفاع الذي تضمّنه عقد الإجارة بالتعيين أو الإطلاق، فلا عبرة بإمكان الانتفاع بغير المعين، كما لو استأجر الأرض للزراعة فغرقت وأمكن الانتفاع بها بغيرها، فإن ذلك كتلف العين، وعدم منع العذر الانتفاع أعمّ من بقاء جميع المنفعة المشروطة وبعضها، وعدم البطلان حاصل على التقديرين، لكن مع حصول الانتفاع ناقصاً يتخيّر المستأجر بين الفسخ والإمساك بتمام الأجرة.

قوله: «وهل تبطل بالموت؟ المشهور بين الأصحاب نعم - إلى قوله - وهو الأشبه».

القولان الأولان للشيخ (رحمه الله)(1).

والأقوى ما اختاره المصنف (رحمه الله)، وعليه المتأخّرون أجمع؛ لأن الإجارة من العقود اللازمة، ومن شأنها أن لا تبطل بالموت، ولعموم الأمر بالوفاء بالعقود(2)، وللاستصحاب.

نعم، يستثنى منه مواضع تبطل فيها الإجارة بالموت.

أحدها: ما لو شرط على المستأجر استيفاء المنفعة بنفسه، فإنّها تبطل بموته.

وثانيها: أن يكون المؤجر موقوفاً عليه، فيؤجر ثمّ يموت قبل انتهاء المدّة، فإنّها تبطل بموته أيضاً، إلّا أن يكون ناظراً على الوقف وآجره لمصلحة العين بالنسبة إلى البطون، أو إلى الجميع، فلا تبطل بموته، لكنّ الصحة حينئذ ليست من حيث إنّه موقوف عليه، بل من حيث إنّه ناظر .

وثالثها: الموصى له بالمنفعة مدة حياته لو آجرها مدةً ومات في أثنائها، فإنّها تبطل أيضاً لانتهاء استحقاقه.

ص: 403


1- الخلاف، ج 3، ص 491 - 492، المسألة 7: المبسوط، ج 3، ص 26.
2- المائدة (5) : 1.

• وكلّ ما صحّ إعارته صح إجارته •وإجارة المشاع جائزة كالمقسوم.

• والعين المستأجرة أمانة لا يضمنها المستأجر إلّا بتعد أو تفريط.

__________________________________________

قوله: «وكلّ ما صحّ إعارته صح إجارته».

أي ما صحّ إعارته بحسب الأصل لئلا ترد المنحة، فإنّه تصحّ إعارتها ولا تصحّ إجارتها. لكن حكمها ليس ثابتاً بحسب الأصل، أي القاعدة المعروفة، فإنّها تقتضي أن المستعار ما صح الانتفاع به مع بقاء عينه، وهي ليست كذلك، فحكمها مخالف للأصل، أو أراد الكلّيّة بحسب الغالب.

قوله: «وإجارة المشاع جائزة كالمقسوم».

إذ لا مانع منه باعتبار عدم القسمة؛ لإمكان تسليمه واستيفاء منفعته بموافقة الشريك، ولا فرق بين أن يؤجره من شريكه وغيره، وهو موضع ،وفاق، وخالف فيه بعض العامّة، فمنع من إجارته لغير الشريك(1).

قوله: «والعين المستأجرة أمانة لا يضمنها المستأجر إلا بتعد أو تفريط».

لا فرق في ذلك بين مدّة الإجارة وبعدها قبل طلب المالك لها وبعده في أثناء الردّ بحيث لم يؤخره.

أما كونها أمانة في المدّة فظاهر؛ لأنّها مقبوضة بإذن المالك لحق القابض.

وأمّا بعده فلأنّه لا يجب على المستأجر ردّ العين إلى المؤجر ولا مؤونة ذلك، وإنما يجب عليه التخلية بين المالك وبينها كالوديعة؛ لأصالة براءة ذمّته من وجوب الردّ ، ولأنّها أمانة قبل انقضاء المدة فيُستصحب، ولا يجب ردّها إلّا بعد المطالبة ، والواجب بعدها تمكينه منها كغيرها من الأمانات.

وخالف في ذلك جماعة منهم الشيخ(2) وابن الجنيد (رحمه الله)(3)؛ لأنّ ما بعد المدّة

ص: 404


1- بداية المجتهد، ج 2، ص 227؛ المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 6، ص 152، المسألة 4319.
2- المبسوط، ج 3، ص 55.
3- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 1، ص 128، المسألة 29.

•وفي اشتراط ضمانها من غير ذلك تردّد، أظهره المنع.

• وليس في الإجارة خيار المجلس، ولو شرط الخيار لأحدهما أو لهما جاز، سواء كانت معيّنةً كأن يستأجر هذا العبد أو هذه الدار، أو في الذمّة كأن يستأجره ليبني له حائطاً.

____________________________________________

غير مأذون فيه فيضمنها، ويجب عليه مؤونة الردّ.

وتردّد العلّامة في المختلف(1)، وجزم في غيره بعدم الضمان وعدم وجوب الردّ(2).

قوله: «وفي اشتراط ضمانها من غير ذلك تردّد، أظهره المنع».

أي اشتراط ضمانها مع التلف من غير تعدّ ولا تفريط، ففي صحّة الشرط والعقد تردّد، من عموم: «المؤمنون عند شروطهم»(3)، ومن مخالفته لمقتضى الإجارة فيفسد. ثمّ على تقدير فساده، هل يتبعه العقد في الفساد؟ قولان تقدم نظيرهما في مواضع(4)، والأقوى بطلانهما معاً؛ لفساد الشرط، ولا رضى بالعقد إلّا به.

قوله: «وليس في الإجارة خيار المجلس - إلى قوله - ليبني له حائطاً».

لأنّ خيار المجلس مختصّ بالبيع عندنا، فلا يثبت فيها مع الإطلاق، ولو شرط ففي صحّته قولان، أحدهما: نعم، اختاره في المبسوط(5)؛ لعموم: «المؤمنون عند شروطهم»(6).

ويشكل بأنّه شرط مجهول؛ لأنّ المجلس يختلف بالزيادة والنقصان، وإنّما لم يقدح في البيع؛ لأنّه ثابت فيه بالنصّ(7).

نعم، لو ضبطه بمدّةٍ صح إلا أنّه يخرج عن وضع خيار المجلس، ويصير خيار الشرط

ص: 405


1- مختلف الشيعة، ج 6، ص 129، المسألة 29.
2- قواعد الأحكام، ج 2، ص 304؛ تذكرة الفقهاء، ج 18، ص 232، المسألة 683.
3- تقدّم تخريجه في ص 18 الهامش 1.
4- تقدّم في ص 155 و 236، وأيضاً في ج 3، ص 185 و 448.
5- المبسوط ، ج 3، ص 28.
6- تقدّم تخريجه في ص 18 الهامش 1.
7- الكافي، ج 5، ص 170، باب الشرط والخيار في البيع .... ح 4 و 5: تهذيب الأحكام، ج 7، ص 24، ح 100.

...

______________________________________

مقيّداً بالمجلس، ولا شبهة في جوازه؛ لعموم الخبر(1)، سواء شرط لهما أم لأحدهما أم لأجنبي، و. وسواء كانت معيّنةً كأن يستأجر هذه العين أم كان موردها الذمّة كأن يستأجره لعمل مطلقٍ غير مقيّد بشخص كبناء حائط؛ لعموم الخبر في الجميع.

ونبّه بقوله «سواء كانت معيّنةً» إلى آخره، على خلاف بعض العامّة؛ حيث جوّز خيار الشرط في المطلقة لا المعيّنة(2). وهو تحكّم.

ص: 406


1- تقدّم تخريجه في ص 18، الهامش 1.
2- جواهر العقود، ج 1، ص 217.

الفصل الثاني في شرائطها

وهي ستة:

الأوّل: أن يكون المتعاقدان كاملين جائزي التصرّف فلو آجر المجنون لم تنعقد إجارته، وكذا الصبي غير المميّز• وكذا المميّز إلّا بإذن وليّه، وفيه تردّد.

الثاني: • أن تكون الأجرة معلومة بالوزن أو الكيل فيما يكال أو يوزن؛ ليتحقّق انتفاء الغرر، وقيل: تكفي المشاهدة، وهو حسن.

___________________________________________

قوله: «وكذا المميز إلّا أن يأذن وليّه(1)، وفيه تردّد».

قد تقدّم الكلام في نظير هذه(2)، وأنّ الأقوى البطلان مطلقاً؛ لأنّ عبارته مسلوبة بالأصل، فلا يصحّحها الإذن ولا الإجازة؛ لرفع القلم عنه(3)، وهو يقتضي عدم الاعتداد بعبارته شرعاً في حال. وإذن الوليّ لا يصيّر الناقص كاملاً.

نعم، يؤثّر في الكامل المحجور عليه بسبب عرضي، كالسَفَه.

قوله: «أن تكون الأجرة معلومة بالوزن أو الكيل - إلى قوله - وهو حسن».

وجه الحسن انتفاء معظم الغرر بالمشاهدة، وأصالة الصحّة، وهو اختيار جماعةٍ منهم الشيخ والمرتضى(4).

ص: 407


1- في المتن: «إلا بإذن وليه».
2- تقدّم في ج 3، ص 58 - 59.
3- الخصال، ص 93 - 94 ، ح 40 ، وص 175. ح 233.
4- المبسوط ، ج 3، ص 24: المسائل الناصريّات، ص 369 - 370، المسألة 175.

• وتُملك الأجرة بنفس العقد.

•ويجب تعجيلها مع الإطلاق، ومع اشتراط التعجيل،

_______________________________________

والأقوى المنع؛ لأنّها معاوضة لازمة مبنيّة على المغابنة والمكايسة، فلابد فيها من نفي الغرر عن العوضين، وقد ثبت من الشارع اعتبار الكيل والوزن في المكيل والموزون في البيع، وعدم الاكتفاء بالمشاهدة، فكذا في الإجارة؛ لاتّحاد طريق المسألتين، ولنهي النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) عن الغرر مطلقاً(1)، وهو يتناول صورة النزاع ومثله القول في المعدود.

قوله: «وتملك الأجرة بنفس العقد».

لأنّ المعاوضة إذا صحّت اقتضت نقل الملك في كلّ من العوضين إلى الآخر، والإجارة من العقود اللازمة، فيحصل انتقال الملك في العوضين بمجرّد العقد، كالبيع، لكن لا يجب تسليم الأُجرة إلا بتسليم العين المؤجرة، أو بالعمل إن كانت الإجارة على عمل، حتّى لو كان المستأجر وصيّاً لم يجز له التسليم قبله إلّا مع الإذن صريحاً أو بشاهد الحال.

ولو فُرض توقّف الفعل على الأجرة - كالحجّ - وامتنع المستأجر من التسليم فالظاهر جواز فسخ الأجير.

قوله: «ويجب تعجيلها مع الإطلاق، ومع اشتراط التعجيل».

المراد بتعجيلها مع الإطلاق في أوّل أوقات وجوب دفعها، وهو تمام العمل وتسليم العين المؤجرة؛ لأنّ تسليم أحد العوضين يسلّط على المطالبة بالآخر بمقتضى المعاوضة الموجبة للملك، وأمّا مع اشتراط التعجيل فأولى.

وفائدة الشرط - مع أنّ الإطلاق يقتضيه - مجرّد التأكيد، وقد تفيد فائدةً أُخرى، وهو تسلّط المؤجر على الفسخ لو شرط التعجيل في مدّةٍ مضبوطةٍ فأخلّ به، وكذا لو شرطا القبض قبل العمل، أو قبل تسليم العين المؤجرة صحّ ووجب الوفاء به؛ لعموم الخبر(2).

ص: 408


1- أورده الشيخ في الخلاف، ج 3، ص 319، المسألة 13.
2- تقدّم تخريجه في ص 18 الهامش 1.

• ولو شرط التأجيل صحّ بشرط أن يكون معلوماً، وكذا لو شرطها في نجوم.

• وإذا وقف المؤجر على عيب في الأجرة، سابق على القبض كان له الفسخ أو المطالبة بالعوض إن كانت الأجرة مضمونةً ، وإن كانت معيّنةً كان له الردّ أو الأرش، ولو أفلس المستأجر بالأجرة فسخ المؤجر إن شاء.

______________________________________________

قوله: «ولو شرط التأجيل صحّ بشرط أن يكون معلوماً، وكذا لو شرطها في نجوم».

إذا شرط المستأجر تأجيل الأجرة إلى أمدٍ بحيث لا يطالب بها وإن تسلّم العين المؤجرة إلى ذلك الأمد، أو شرط ذلك على المؤجر لعمل وإن عمله صحّ؛ لعموم الخبر(1)، لكن يشترط كون الأجل مضبوطاً بما لا يحتمل الزيادة والنقصان، كغيره من الآجال.

ولا فرق بين المتّحد كشهر ، والمتعدّد بأن يجعلها نجوماً فيقسطها ويجعل لكلّ أجل قسطاً معلوماً منها.

وكذا لا فرق في ذلك بين الإجارة الواردة على معيّن شخصي والمطلقة الواردة على الذمّة؛ لعدم المانع عندنا خلافاً لبعض العامّة؛ حيث منع من التأجيل في الثاني(2)؛ قياساً على السّلّم الذي يجب فيه قبض العوض وفساده واضح، وتعليله فاضح. قوله: «وإذا وقف المؤجر على عيب في الأجرة، سابق على القبض كان له الفسخ أو المطالبة بالعوض» إلى آخره.

إنّما يجوز الفسخ فى المطلقة مع تعذّر العوض؛ لأنّ الإطلاق إنّما يُحمل على الصحيح. وهو أمر كلّي لا ينحصر في المدفوع إليه، فلا يجوز الفسخ ابتداء.

نعم، لو تعذّر العوض توجّه الفسخ، وله حينئذٍ الرضى بالمعيب، فيطالب بالأرش عوض الفائت بالعيب؛ لتعيّن المدفوع إليه لأن يكون عوضاً بتعذر غيره.

وأمّا المعيّنة فيتخيّر مع ظهور عيبه كما ذكر ؛ لاقتضاء الإطلاق السليم، وتعيينه مانع من البدل، كالبيع.

ص: 409


1- تقدّم تخريجه في ص 18 ، الهامش 1.
2- جواهر العقود، ج 1، ص 209.

• ولا يجوز أن يؤجر المسكن ولا الخان ولا الأجير بأكثر ممّا استأجره، إلا أن يؤجر بغير جنس الأجرة، أو يحدث فيه ما يقابل التفاوت، وكذا لو سكن بعض الملك لم يجز أن يؤجر الباقي بزيادة عن الأجرة والجنس واحد، ويجوز بأكثرها.

•ولو استأجره ليحمل له متاعاً إلى موضع معيّن بأجرةٍ في وقت معين، فإن قصر عنه نقص من أجرته شيئاً جاز، ولو شرط سقوط الأُجرة إن لم يوصله فيه لم يجز، وكان له أجرة المثل.

___________________________________________

قوله: «ولا يجوز أن يؤجر المسكن ولا الخان - إلى قوله - ويجوز بأكثرها».

هذا قول أكثر الأصحاب؛ استناداً إلى رواياتٍ(1) حَمْلها على الكراهة طريق الجمع بينها وبين غيرها، وفي بعضها(2) تصريح بها. والأقوى الجواز في الجميع.

وأمّا تعليل المنع باستلزامه الربا كما ذكره بعضهم(3)- ففساده واضح.

قوله: «ولو استأجره ليحمل له متاعاً إلى موضع معيّن - إلى قوله - وكان له أجرة المثل».

هذا قول الأكثر، ومستنده روايتان صحيحة وموثقة عن محمد بن مسلم والحلبي عن الباقر (علیه السلام)(4).

ويشكل بعدم تعيين الأُجرة؛ لاختلافها على التقديرين، كما لو باعه بثمنين على تقديرين، ومن ثَم ذهب جماعة(5) إلى البطلان ويمكن حمل الأخبار على الجعالة.

ص: 410


1- منها ما في الكافي، ج 5، ص 272 و 273، باب الرجل يستأجر الأرض...، ح 4 و 8؛ وتهذيب الأحكام، ج 7، ص 204، ح 899، وص 209 ، ح 919.
2- الكافي، ج 5، ص 273 ، باب الرجل يستأجر الأرض...، ح 9؛ تهذيب الأحكام، ج 7، ص 204، ح 900.
3- مختلف الشيعة، ج 6 ، ص 109 ،المسألة.
4- الكافي، ج 5، ص 290، باب الرجل يكتري الدابة ...، ح 4 - 5: الفقيه، ج 3، ص 34 - 35 ، ح 3275 و 3276؛ تهذيب الأحكام، ج 7، ص 214 - 215، ح 940 - 941.
5- منهم العلاّمة في مختلف الشيعة، ج 2، ص 118، المسألة 16؛ والمحقّق الكركي في جامع المقاصد، ج 7، ص 107.

• وإذا قال: «آجرتك كلّ شهر بكذا» صح في شهر، وله في الزائد أُجرة المثل إن سكن، وقيل: تبطل لجهل الأجرة، والأوّل أشبه.

تفریعان:

الأوّل: • لو قال : « إن خطته فارسيّاً فلك درهم وإن خطته روميّاً فلك در همان» صح.

الثاني: لو قال: «إن عملت هذا العمل في اليوم فلك درهمان، وفي غدٍ درهم»فيه تردّد أظهره الجواز.

_________________________________________

ومتى حكم بالبطلان ثبت أُجرة المثل، إلّا أن يشترط إسقاط الجميع، فلا شيء مع عدم

الإتيان به في المعين، ولو أتى به فيه فكغيره.

ويمكن القول بصحة الإجارة على التقدير الثاني، وهو شرط سقوط الأجرة مع الإخلال بالمعيّن، لا بجَعله أحد شقّى المستأجر عليه؛ لخلوّه عن الأجرة، بل بياناً لنقيض الإجارة، فإنّها إذا عيّنت بوقت فأخل الأجير بالفعل فيه بطلت فإذا فعله في غيره لم يستحقّ شيئاً، فيكون التعرّض لذلك بياناً لنقيض الإجارة فلا ينافيها، وحينئذ فيثبت المسمّى إن جاء به في المعيّن، ولا شيء في غيره؛ للإخلال بمقتضاها.

وهذا ممّا نبّه عليه الشهيد (رحمه الله) في اللمعة(1).

قوله: «وإذا قال: آجرتك كلّ شهر بكذا صحّ في شهر - إلى قوله - والأول أشبه».

وجه الأشبه أنّ الشهر معلوم وكذا أجرته، فلا مانع من الصحّة فيه.

نعم، يبطل الزائد؛ لعدم انحصاره في وجه معيّن والأجرة تابعة له.

والأقوى البطلان مطلقاً للجهالة المقتضية للغرر؛ إذ لا يلزم من مقابلة جزء معلوم من المدة بجزء معلومٍ من العوض كون مجموع العوضين معلومين فإنّ العوض هنا المجموع، وهو مجهول.

قوله: «لو قال : إن خطته فارسيّاً فلك درهم - إلى قوله - أظهره الجواز».

ص: 411


1- اللمعة الدمشقية، ص 194 - 195 ( ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 13).

•ويستحق الأجير الأجرة بنفس العمل، سواء كان في ملكه أو ملك المستأجر، ومنهم من فرّق، ولا يتوقّف تسليم أحدهما على الآخر

_____________________________________________

وجه الصحّة فيهما أن كلاً من الفعلين معلوم، وأجرته معلومة، والواقع لا يخلو منهما. وأصالة الجواز.

ويشكل بمنع معلوميّته؛ إذ ليس المستأجر عليه المجموع ولا كلّ واحدٍ وإلّا لوجبا فيكون واحداً غير معيّن، وذلك غرر مبطل للإجارة، كالبيع بثمنين نقداً ونسيئة، أو إلى أجلين، فالأجود البطلان.

نعم، لو وقع ذلك جعالة صحّ، وفاقاً لابن إدريس(1)، وردّه في المختلف بأنّ الجعالة أيضاًإلی تعیین الجعل(2).

وفيه أنّ مبنى الجعالة على الجهالة في العمل والجغل ك_«من ردّ عبدي فله نصفه»، و«من ردّ عبدي فله كذا» ومحلّه غير معلوم، وكذا: «من ردّ عبدي من موضع كذا فله كذا» مع الجهالة فيهما.

وفُسّر الرومي بما كان بدرزين والفارسي بما كان بدرز واحد.

قوله: «ويستحقّ الأجير الأجرة بنفس العمل - إلى قوله - على الآخر».

قد تقدّم أنّ الأجير يملك الأجرة بالعقد(3)، فالمراد باستحقاقها هنا استحقاق المطالبة بها بعد العمل.

ووجه ما اختاره المصنّف (رحمه الله) من عدم توقّف استحقاق المطالبة بها على تسليمه العين مطلقاً أنّ العمل إنّما هو في ملك المستأجر أو ما يجري مجراه، فيكون ذلك کافیاً عن التسليم وإن كان موضع العمل ملكاً للأجير.

ص: 412


1- السرائر، ج 2، ص 478.
2- مختلف الشيعة، ج 6، ص 130. المسألة 31.
3- في ص 408.

•وكلّ موضع يبطل فيه عقد الإجارة تجب فيه أجرة المثل، مع استيفاء المنفعة أو بعضها، سواء زادت عن المسمّى أو نقصت عنه.

_________________________________________

ويضعّف بأنّ المعاوضة لا يجب على أحد المتعاوضين فيها التسليم إلا مع تسليم الآخر. فالأجود توقّف المطالبة بها على تسليم العين وإن كان العمل في ملك المستأجر.

وما نقله من الفرق قول ثالث بأنّه إن كان في ملك المستأجر لم يتوقّف على تسليمه؛ لأنّه بيده تبعاً للملك، ولأنّه غير مسلّم للأجير في الحقيقة، وإنّما استعان به في شغله كما يستعين بالوكيل وإن كان في ملك الأجير توقّف. وهو وسط، أوجه من إطلاق المصنّف. والأوسط الذي اخترناه أوجه.

قوله: «وكلّ موضع يبطل فيه عقد الإجارة تجب فيه أُجرة المثل، مع استيفاء المنفعة أو بعضها، سواء زادت عن المسمّى أو نقصت عنه».

إنّما كان الثابت مع الفساد أجرة المثل؛ لأنّ مقتضاه رجوع كلّ عوض إلى مالكه ومع استيفاء المنفعة يمتنع ردّها، فيرجع إلى بدلها، وهو أُجرة مثلها.

واستثنى الشهيد (رحمه الله) من ذلك ما لو كان الفساد باشتراط عدم الأجرة في العقد، أو متضمّناً له كما لو لم يذكر أجرة، فإنّه حينئذٍ يقوى عدم وجوب الأجرة؛ لدخول العامل على

ذلك(1)، وهو حسن.

وربما استشكل الحكم فيما لو كانت الإجارة متعلّقة بمنفعة عين كدار مثلاً، فاستوفاها المستأجر بنفسه، فإنّ اشتراط عدم العوض إنّما كان في العقد الفاسد الذي لا أثر لما تضمبنه من التراضي، فحقّه وجوب أجرة المثل، كما لو باعه على أن لا ثمن عليه، وأمّا لو كان مورد الإجارة منفعة الأجير، فعمل بنفسه مع فسادها، فوجه عدم استحقاقه لشيءٍ ظاهر ؛ لأنّه متبرّع بالعمل، وهو المباشر لإتلاف المنفعة.

ص: 413


1- حكاه عن حواشي الشهيد المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 7، ص 120؛ ولم نعثر عليه في حاشية ال القواعد.

•ويكره أن يستعمل الأجير قبل أن يقاطع على الأجرة.

___________________________________________

ويندفع الإشكال فيها(1) بأنّه مع اشتراط عدم الأجرة يكون اللفظ الوارد في ذلك دالاً على إعارة العين المؤجرة، فإنّ الإعارة لا تختصّ بلفظ مخصوص، بل ولا على لفظ مطلقاً كما تقدّم(2)، ولا شكّ أنّ اشتراط عدم الأجرة صريح في الإذن في الانتفاع من غير عوض، باللفظ فضلاً عن القرينة، فلا يترتب عليه ثبوت أُجرة.

ويرد على القسم الثاني الذي اعترف فيه بعدم ثبوت أُجرة - وهو ما لو عمل الأجير بنفسه - أنّه قد لا يكون متبرّعاً، كما لو أمره المستأجر، فإن مقتضى الفساد عدم تأثير ما وقع من اللفظ، وحينئذ فلا يتحقّق التبرّع إلّا مع عمل الأجير من غير سؤال، وإلّا فينبغي مع عدم ذكر الأجرة ثبوت أجرة المثل، كما هو شأن الأمر لغيره بعمل من غير عقد.

فإن قلت: أي فائدة في تسميته عقداً فاسداً مع ثبوت هذه الأحكام، وإقامته مقام العارية؟

قلت: فساده بالنسبة إلى الإجارة بمعنى عدم ترتّب أحكامها اللازمة لصحيح عقدها، كوجوب العمل على الأجير ونحوه، لا مطلق الأثر.

قوله: «ويكره أن يستعمل الأجير قبل أن يقاطعه على الأجرة».

لما روي عن الصادق(علیه السلام) : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يستعمل أجيراً حتى يُعلمه ما أجره»(3).

وفي حديث طويل عن الرضا (علیه السلام) يتضمّن النهى عن ذلك و «أنّه ما من أحد يعمل لك شيئاً بغير مقاطعة ثم زدته لذلك الشيء ثلاثة أضعافه على أُجرته إلّا ظنّ أنّه قد أنقصته أُجرته، وإذا

ص: 414


1- في بعض النسخ: «فيهما».
2- تقدّم في ص 363.
3- الكافي، ج 5، ص 289، باب كراهة استعمال الأجير ...، ح 4،تهذيب الأحكام، ج 7، ص 211 - 212 ، ح 931.

•وأن يضمّن إلّا مع التهمة . الثالث(1): أن تكون المنفعة مملوكة، إمّا تبعاً لملك العين أو منفردةً،

•وللمستأجر أن يؤجر إلّا أن يشترط عليه استيفاء المنفعة بنفسه.

_____________________________________________

قاطعته ثمّ أعطيته أجرته حمدك على الوفاء، فإن زدته حبّةً عرف ذلك ورأى أنك قد زدته»(2).

قوله: «وأن يُضمن إلّا مع التهمة».

فيه تفسيرات:

الأوّل: أن يشهد شاهدان على تفريطه، فإنّه يكره تضمينه للعين إذا لم يكن متهماً.

الثاني : لو لم يقم عليه بيّنةً وتوجّه عليه اليمين يكره تحليفه ليضمّنه كذلك.

الثالث: لو نكل عن اليمين المذكورة وقضينا بالنكول كره تضمينه كذلك.

الرابع: على تقدير ضمانه وإن لم يفرط - كما إذا كان صانعاً، على ما سيأتي(3)- يكره تضمينه حينئذ مع عدم تهمته بالتقصير.

الخامس: أنّه يكره له أن يشترط عليه الضمان بدون التفريط على القول بجواز الشرط. السادس: لو أقام المستأجر شاهداً عليه بالتفريط كره له أن يحلف معه ليضمّنه مع عدم التهمة.

السابع: لو لم يقض بالنكول يكره له أن يحلف ليضمّنه كذلك.

والأربعة الأول سديدة، والخامس مبني على صحّة الشرط، وقد بينا فساده وفساد العقد به والأخيران فيهما أنّ المستأجر لا يمكنه الحلف إلّا مع العلم بالسبب الذي يوجب الضمان، ومع فرضه لا يكره تضمينه؛ لاختصاص الكراهة بعدم تهمته، فكيف مع تيقّن ضمانه؟!

قوله: «وللمستأجر أن يؤجر إلّا أن يشترط عليه استيفاء المنفعة بنفسه».

هذا من جملة صُوَر ملك المنفعة منفردة. وحيث يجوز له الإيجار يتوقّف تسليم العين

ص: 415


1- أي الثالث من شرائط الإجارة.
2- الكافي، ج 5، ص 288 - 289، باب كراهة استعمال الأجير ...، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 7، ص 212، ح 932.
3- يأتي في ص 455.

•ولو شرط ذلك فسلّم العين المستأجرة إلى غيره ضمنها • ولو أجر غير المالك تبرّعاً، قيل: تبطل، وقيل: وقفت على إجازة المالك، وهو حسن.

________________________________________

على إذن المالك؛ إذ لا يلزم من استحقاقه استيفاء المنفعة والإذن له في التسلّم جواز تسليمها لغيره، فلو سلّمها بغير إذنه ضمن كذا ذكره العلامة(1) وجماعة(2).

وقوى الشهيد (رحمه الله) الجواز من غير ضمان؛ لأنّ القبض من ضرورات الإجارة للعين، وقد حكم بجوازها، والإذن في الشيء إذن في لوازمه(3).

ورُدّ بمنع كون القبض من لوازمها؛ لإمكان استيفاء المنفعة بدونه.

والأقوى عدم الضمان؛ لصحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه(علیه السلام) في عدم ضمان الدابة المستأجرة بالتسليم إلى الغير(4)، وغيرها أولى.

وما ذكره المصنّف من منع إجارة غيره إذا شرط عليه الاستيفاء بنفسه، ينبغي تقييده بما إذا لم يشترط المستأجر الأوّل على الثاني استيفاء المنفعة له بنفسه على جهة الوكالة؛ إذ لو شرط ذلك لم يقدح في صحّة الإجارة؛ لعدم منافاته لشرط الاستيفاء بنفسه، فإنّ استيفاءه بنفسه أعمّ من استيفائه لنفسه.

قوله: «ولو شرط ذلك فسلّم العين المستأجرة إلى غيره ضمنها».

قيّد الضمان بتسليم العين؛ لأنّه لا يضمن بمجرّد إيجارها وإن شرط عليه الاستيفاء بنفسه؛ لعدم التعدّي؛ إذ يمكن مع ذلك أن يستوفيها بنفسه على الوجه الذي ذكرناه سابقاً، ونحوه.

قوله: «ولو آجر ذلك غير المالك تبرّعاً قيل: تبطل - إلى قوله - وهو حسن».

ص: 416


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 287.
2- منهم الشيخ في النهاية، ص 445 - 446؛ وابن إدريس في السرائر، ج 2، ص 466 - 467؛ والمحقّق الكركي في جامع المقاصد، ج 7، ص 125.
3- حاشية القواعد، ص 358 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 14).
4- الكافي، ج 5، ص 291، باب الرجل يكتري الدابة ...، ح7؛ تهذيب الأحكام، ج 7، ص 215، ح 942.

الرابع: أن تكون المنفعة معلومة، • إمّا بتقدير العمل كخياطة الثوب المعلوم، وإمّا بتقدير المدة كسكنى الدار أو العمل على الدابة مدّةً معيّنةً.

• ولو قدر بالمدة والعمل، مثل أن يستأجره ليخيط هذا الثوب في هذا اليوم، قيل : يبطل؛ لأنّ استيفاء العمل في المدة قد لا يتفق، وفيه تردّد.

_______________________________________

الإشارة ب_«ذلك» إلى ما دلّ عليه الكلام السابق من العين الصالحة للإجارة، والمراد أنّه لو آجر غير المالك شيئاً ممّا يصحّ للمالك إيجاره فضولاً هل يقع باطلاً، أو يقف على الإجازة؟ قولان، ولا خصوصيّة لهما بالإجارة، بل الخلاف وارد في جميع عقود الفضولي، ولكن قد تختص الإجارة عن البيع بقوّة جانب البطلان من حيث إن قصّة عروة البارقي مع النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) في شراء الشاة(1) دلّت على جواز بيع الفضولي وشرائه، فقد يقال باختصاص الجواز بمورد النصّ، والأقوى توقّفه على الإجازة مطلقاً.

قوله: «إما بتقدير العمل كخياطة الثوب المعلوم» إلى آخره.

ليس التخيير في ذلك كلّيّاً، بل المراد أنّ كلّ منفعةٍ يمكن ضبطها بالعمل أو بالزمان يكفى

تقديرها بأيهما كان، وذلك كاستئجار الآدمي والدابّة، فإنّه يمكن استئجارهما بالزمان كخياطة شهر وركوب ،شهر وبالعمل كخياطة هذا الثوب وركوبها إلى موضع معيّن، وما لا يمكن ضبطه إلا بالزمان - كالعقارات والإرضاع - فلا بد من تقديره به وضبطه.

والضابط العلم بالمنفعة على أحد الوجهين. ومدار العلم على ما فصّلناه، وجعل في التحرير ضابط ما يجوز بهما ما كان له عمل كالحيوان، وما يختصّ بالزمان ما ليس له عمل كالدار والأرض(2).

وينتقض الأوّل باستئجار الآدمي للإرضاع، فإنّه عمل ولا ينضبط إلا بالزمان.

قوله: « ولو قدر بالمدّة والعمل ، مثل أن يستأجره ليخيط هذا الثوب في هذا اليوم، قيل: يبطل ؛ لأن استيفاء العمل في المدّة قد لا يتّفق وفيه تردّد».

ص: 417


1- سنن أبي داود، ج 3، ص 256، ح 3384؛ الجامع الصحيح، ج 3، ص 559، ح 1258.
2- تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 85، الرقم 4208.

...

______________________________________

المراد من هذا التعليل أنّ استيفاء العمل في المدة المعينة على وجه التطابق بحيث يتمان معاً قد لا يتّفق غالباً؛ لأنّ هذا هو الذي علّل به القائل بالبطلان، لا ما يشعر به ظاهر تعليل المصنّف من كون المدة ظرفاً للفعل بحيث يستوفي فيها، فإنّ هذا يمكن جعله متفقاً اتفاقاً غالباً، أو معلوماً عادةً بتكثير المدّة.

وتقرير وجه البطلان على الوجه المشهور أنّ الجمع بينهما على وجه المطابقة يستلزم الغرر؛ فإنّه يمكن انتهاء الزمان قبل انتهاء العمل، وبالعكس فإن أمر بالإكمال في الأول لزم العمل في غير المدة المشروطة، وإلّا كان تاركاً للعمل الذي وقع عليه العقد، وإن أمر في الثاني بالعمل إلى أن ينتهي المدة لزم الزيادة على ما وقع عليه العقد، وإن لم يعمل كان تاركاً للعمل في المدة المشروطة.

واختار فى المختلف الصحّة؛ محتجاً ب_:

أنّ الغرض إنّما يتعلّق في ذلك غالباً بفراغ العمل، ولا ثمرة مهمة في تطبيقه على الزمان، والفراغ أمر ممكن لا غرر فيه. فعلى هذا إن فرغ قبل آخر الزمان ملك الأجرة؛ لحصول الغرض، وإن خرجت المدّة قبله فللمستأجر الفسخ، فإن فسخ قبل عمل شيءٍ فلا شيء، أو بعد شيءٍ فأُجرة مثل ما عمل، وإن اختار الإمضاء ألزم الإكمال خارج المدة، وليس له الفسخ(1). والحقّ أنّ ما ذكره إنّما يتمّ لو لم يقصدا المطابقة، وهو خلاف موضع النزاع، فلو قصداها بطل كما قالوه، ومع ذلك يشكل لزوم أجرة المثل مع زيادتها على المسمّى، فإنّ الأجير ربما يجعل التواني في العمل وسيلة إلى الزائد فينبغي أن يكون له أقل الأمرين من المسمّى إن كان أتم العمل، وما يخصّه منه على تقدير التقسيط إن لم يتمّ، ومن أجرة مثل ذلك العمل.

والأقوى البطلان إلّا مع إرادة الظرفيّة المطلقة وإمكان وقوع العمل فيها.

ص: 418


1- نسبه المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 7، ص 162 إلى العلّامة في مختلف الشيعة، ولم نعثر عليه فيه؛ واحتمله العلّامة في تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 85 - 86 ، الرقم 4208.

• والأجير الخاصّ - وهو الذى يستأجره مدةً معيّنة - لا يجوز له العمل لغير المستأجر إلا بإذنه.

________________________________________________

قوله « والأجير الخاصّ - إلى قوله - لا يجوز له العمل لغير المستأجر إلا بإذنه إلا بإذنه».

الأجير الخاصّ هو الذي يستأجر للعمل بنفسه مدةً معيّنةً، أو عملاً معيناً مع تعيين أوّل زمانه، كعمل شيءٍ معيّن أوّل زمانه اليوم، بحيث لا يتوانى في فعله حتى يفرغ منه.

ثمّ إن كان العمل مطلقا، اقتضى استئجاره على هذا الوجه ملك جميع منافعه في الوقت الذي جرت العادة بالعمل فيه، فليس له أن يعمل لغيره فيه عملاً إلّا بإذن المستأجر، وله ذلك فيما لم تَجْر العادة بالعمل فيه للمستأجر، كالليل، إذا لم يؤد إلى ضعف في العمل المستأجر عليه. وهل يجوز عمله في الوقت المعيّن عملاً لا ينافي حقّ المستأجر، كإيقاع عقد ونحوه في حال اشتغاله أو تردّده في الطريق بحيث لا ينافيه ؟ وجهان، من شهادة الحال بالإذن في مثل ذلك، والنهي عن التصرّف في ملك الغير بغير إذنه(1)، ومثله يأتي في استعمال عبد الغير بغير إذنه على هذا الوجه، وسيأتي تحقيقه في الوكالة(2)، وأولى بالجواز هنا.

وإن كان العمل معيّناً، فكذلك مع منافاة العمل للغير المعيّن، إما في نفسه أو في بعض أوصافه، ومع عدم المنافاة مطلقاً له العمل، كإيقاع العقد وتعليمه في حال الخياطة ونحوها، مع احتمال المنع.

وسُمّي هذا الأجير خاصّاً باعتبار انحصار منفعته المخصوصة في شخص معيّن، بحيث لا يجوز له العمل لغيره على ذلك الوجه، ويقابله المشترك كما سيأتي.

وإطلاق الخصوص عليه بضرب من المجاز، ولو سُمّي مقيداً كان أولى؛ لأنه في مقابلة المشترك، لا في مقابلة العام والمراد بالمشترك هنا المطلق كما ستعلمه.

إذا تقرّر ذلك، فنقول: إذا عمل هذا الأجير لغير المستأجر عملاً في الوقت المنهيّ عن

ص: 419


1- السنن الكبرى، البيهقي، ج 6، ص 166، ح 11545.
2- يأتي في ص 495 - 496.

...

______________________________________

العمل فيه، فلا يخلو إمّا أن يكون بعقد إجارةٍ أو جعالةٍ أو تبرعاً، وعلى تقدير التبرّع إمّا أن يكون لذلك العمل أُجرة عادةً أولا.

فإن كان عمله بعقد تخيّر المستأجر بين فسخ عقده لفوات المنافع التي وقع عليها العقد، فإن كان ذلك قبل أن يعمل الأجير شيئاً فلا شيء عليه، وإن كان بعده تبعّضت الإجارة، ولزمه من المسمّى بالنسبة وحينئذ ففي لزوم الإجارة أو الجعالة الثانية وجهان يلتفتان إلى من باع ملك غيره ثمّ مَلَكه، فإن قلنا بالصحّة فلا بحث وإلّا رجع إلى أجرة المثل، وبين إبقائه، ويتخيّر حينئذ في فسخ العقد الطارئ وإجازته؛ إذ المنفعة مملوكة له، فالعاقد عليها فضولي، فإن فسخه رجع إلى أجرة المثل عن المدة الفائتة؛ لأنّها قيمة العمل المستحقّ بعقد الإجارة، وقد أتلف عليه، ويتخيّر في الرجوع بها على الأجير؛ لأنّه المباشر للإتلاف، أو المستأجر؛ لأنّه المستوفي.

وإن أجازه ثبت له المسمّى فيه، فإن كان قبل قبض الأجير له فالمطالب به المستأجر ؛ لأنّ الأجير هنا بمنزلة فضولي باع ملك غيره فأجاز المالك، فإنّه لا يطالب الفضولي بالثمن. وإن كان بعد القبض، فإن كانت الأجرة معينة في العقد فالمطالب بها من هي في يده، وإن كانت مطلقةً فإن أجاز القبض أيضاً فالمطالب الأجير، وإلا فالمطالب المستأجر، ثمّ المستأجر يرجع على الأجير بما قبض مع جهله، أو علمه وبقاء العين.

وأطلق العلّامة القول بتخيّر المستأجر بين مطالبة الأجير والمستأجر في جميع هذه المواضع(1)، وهو غير واضح.

وإن عمل بجعالةٍ تخيّر مع عدم الفسخ بين إجازته فيأخذ المسمّى منه أو من الجاعل بتقريب ما تقدّم، وعدمه فيرجع بأجرة المثل.

وإن عمل تبرّعاً، فإن كان العمل ممّا له أجرة في العادة تخيّر مع عدم فسخ عقده بين مطالبة من شاء منهما بأجرة المثل؛ لتحقّق العدوان منهما، وإلّا فلا شيء.

ص: 420


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص291.

• ولو كان مشتركاً جاز، وهو الذي يُستأجر لعمل مجرّد عن المدة.

_____________________________________________

وفي معنى التبرّع عمله لنفسه، فلو حاز شيئاً من المباحات ونوى تملكه لنفسه ملكه،وكان حكم الزمان المصروف في ذلك ما تقدم.

قوله: «ولو كان مشتركاً جاز، وهو الذي يستأجر لعمل مجرّد عن المدة».

الأجير المشترك هو الذي يستأجر لعمل مجرّد عن المباشرة مع تعيين المدة، أو عن المدّة مع تعيين المباشرة، أو مجرّد عنهما، فالأوّل كأن يستأجره على تحصيل الخياطة يوماً مثلاً، والثاني كأن يستأجره ليخيط له ثوباً بنفسه من غير تعرض إلى وقت، والثالث كأن يستأجره على تحصيل خياطة ثوب مجرّد عن تعيين الزمان.

وسُمّي مشتركاً؛ لعدم انحصار منفعته في شخص معيّن؛ إذ له أن يعمل لنفسه وغيره، وصدق الاشتراك عليه حقيقةً بسبب استحقاقه العمل لغير المستأجر، لا لأنّ منفعته مشتركة بالفعل بين المستأجر وشخص آخر غير الأجير.

ولو سمّاه مطلقاً كما صنع الشهيد (رحمه الله)(1)- كان أولى؛ لأنّه في مقابلة المقيّد، وهو الخاصّ، وهو باعتباراته الثلاثة مباين للخاص بقول مطلق؛ إذ الأوّل مطلق بالنسبة إلى المباشر، والثاني بالنسبة إلى المدّة، والثالث فيهما معاً.

وحكمه جواز العمل لغير المستأجر مع عدم مطالبته له بالمبادرة مطلقاً، ووجود تحصيل العمل معها بنفسه وبغيره في الأول والثالث، وبنفسه في الثاني.

والفرق بين الأول والثالث وجوب تحصيل العمل على الأوّل في المدة المعينة إن كان معيّناً وقلنا بجوازه أو مطلقاً.

واعلم أنّ الشهيد (رحمه الله) حكم في بعض تحقيقاته ب_:

أنّ الإطلاق في كل الإجارات يقتضي التعجيل، وأنّه تجب المبادرة إلى ذلك الفعل، فإن كان مجرّداً عن المدّة خاصّةً فبنفسه، وإلّا تخيّر بينه وبين غيره، وحينئذ فيقع التنافي

ص: 421


1- اللمعة الدمشقيّة، ص 195(ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 13).

• وتُملك المنفعة بنفس العقد، كما تُملك الأجرة به.

____________________________________

بينه وبين عمل آخر في صورة المباشرة، وفرع عليه منع صحّة الإجارة الثانية في صورة التجرّد عن المدّة مع المباشرة، كما منع في الأجير الخاصّ(1).

وما تقدّم في الإجارة للحج(2) مؤيّد لذلك، فإنّهم حكموا بعدم صحة الإجارة الثانية مع اتّحاد زمان الإيقاع نصاً أو حكماً، كما لو أطلق فيهما، أو عيّن في إحداهما بالسنة الأولى وأطلق فى الأخرى.

ولا ريب أنّ ما ذكره أحوط، وإن كان وجهه غير ظاهر؛ لعدم دليل يدلّ على الفوريّة وعموم الأمر بالإيفاء بالعقود(3) ونحوه لا يدلّ بمطلقه على الفور عندهم وعند غيرهم من المحقّقين، سلّمنا لكنّ الأمر بالشيء إنّما يقتضي النهي عن ضدّه العامّ، وهو الأمر الكلّي، لا الأفراد الخاصّة سلّمنا لكنّ النهي في غير العبادة لا يدلّ على الفساد عندهم، والاستناد إلى ما ذكر من الحجّ ليس حجةً بمجرّده.

ويتفرّع على ذلك وجوب مبادرة أجير الصلاة إلى القضاء بحسب الإمكان، وعدم جواز إجارته نفسه ثانياً قبل الإتمام.

وأمّا تخصيص الوجوب بصلاة مخصوصةٍ وأيام معيّنة فهو من الهذيانات الباردة والتحكمات الفاسدة.

قوله: «وتُملك المنفعة بنفس العقد، كما تُملك الأجرة به».

قد تقدّم أنّ الأُجرة تُملك بالعقد(4)، والغرض هنا بيان كون المنفعة تُملك به أيضاً.

ووجهه ما تقدّم(5) من أنّ صحّة المعاوضة تقتضي انتقال كلّ من العوضين إلى الآخر، والعوض من جانب الأجير أو المؤجر هو المنفعة، فيلزم انتقالها إلى المستأجر بنفس العقد

ص: 422


1- حاشية القواعد، ص 362(ضمن موسوعة الشهيد الأوّل، ج 14).
2- تقدّم في ج 2، ص 74 .
3- المائدة (5) : 1.
4- تقدّم في ص 408.
5- تقدّم في ص 408.

• وهل يشترط اتّصال مدة الإجارة بالعقد ؟ قيل: نعم، ولو أطلق بطلت، وقيل: الإطلاق يقتضي الاتّصال، وهو أشبه.

• ولو عيّن شهراً متأخراً عن العقد قيل: يبطل. والوجه الجواز.

____________________________________________

وإن كان إنّما يستوفيها على التدريج، فإنّ معنى ملكه لها كونها حقاً من حقوقه، فيصح له استيفاؤها ونقلها إلى غيره، وغير ذلك من لوازم الحقوق المالية وإن لم يكن عيناً، ولا معنى للملك إلّا ذلك، فإنّ كونها مملوكةً للمؤجر قبل الإجارة، معناه أنّ له أن يتصرّف فيها كتصرّفه

العين، فلمّا آجرها صار المستأجر مالكاً للتصرّف فيها كما كان يملكه المؤجر.

وخالف في ذلك بعض العامّة، فزعم أنّ المستأجر لا يملك المنفعة بالعقد؛ لأنّها معدومة حينئذ(1)، بل يملكها على التدريج شيئاً فشيئاً بعد وجودها وحدوثها على ملك المؤجر، وملك الأجرة تابع لملك المنفعة، فلا يملكها المؤجر إلا تدريجاً كذلك. وليس بشيء.

قوله: «وهل يشترط اتّصال مدة الإجارة بالعقد؟ - إلى قوله - وهو أشبه».

القول بالبطلان مع الإطلاق والتصريح بعدم الاتّصال للشيخ (رحمه الله)(2).

والأقوى الجواز مع الإطلاق إن دلّ العرف على اقتضائه الاتّصال، وإلّا فلا؛ للجهالة.

وأما القول بأنّ الإطلاق يقتضى الاتصال مطلقاً، ففيه أنّه أعمّ، فلا يدل على الخاص إلّا بقرينة، ونحن نسلّم الحكم مع وجودها لا مطلقاً.

قوله: «ولو عيّن شهراً متأخراً عن العقد قيل: يبطل. والوجه الجواز».

القول بالبطلان للشيخ (رحمه الله)(3)؛ محتجّاً بأن الإجارة تقتضي استحقاق التسليم بالعقد، وهو منتف في الفرض، وبأنّه لا دليل على الصحّة.

وجوابه منع كون مطلق الإجارة يستحقّ بها التسليم بالعقد، فإنّه عين المتنازع .

ودليل الصحّة عموم الأدلّة الدالة على الأمر بالوفاء بالعقد(4)، وصحّة هذه المعاملة، وأيضاً

ص: 423


1- العزيز شرح الوجيز، ج 6، ص 84: المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 6، ص 17، المسألة 4165؛الشرح الكبير المطبوع مع المغني، ج 6، ص 60.
2- المبسوط، ج 3، ص 33؛ الخلاف، ج 3، ص 496، المسألة 13.
3- المبسوط، ج 3، ص 33؛ الخلاف، ج 3، ص 496، المسألة 13.
4- المائدة (5): 1.

• وإذا سلّم العين المستأجرة ومضت مدة يمكن فيها استيفاء المنفعة لزمته الأُجرة، وفيه تفصيل.

________________________________________

فإنّ شرط الاتصال يقتضي عدمه؛ لأنّ كلّ واحدٍ من الأزمنة التي تشتمل عليها مدة الإجارة معقود عليه، وليس متّصلاً منها بالعقد سوى الجزء الأول، ومتى كان اتّصال باقي الأجزاء غير شرط فكذا اتّصال الجميع.

قوله: «وإذا سلّم العين المستأجرة ومضت مدة يمكن فيها استيفاء المنفعة» إلى آخره.

المراد بالمدّة التي يمكن استيفاء المنفعة فيها ما تعينت شرعاً للاستيفاء إمّا بالتعيين أو ما في حكمه، كما إذا عينت المنفعة بالعمل، فإنّ مدّتها هي الزمان الذي يسعها عادةً، وإنّما قيدناها بذلك ليخرج منها ما لو سلّمها قبل المدة المشروطة متأخرةً عن العقد؛ فإنّها لا تستقر بهذا التسليم.

ولا فرق في ثبوت الأجرة عليه بالتسليم بين كون الإجارة صحيحة وفاسدة؛ لأنّ المنافع إذا كانت مضمونةً بالقبض الصحيح فكذا الفاسد؛ لتبعيته له في ذلك، كما سلف مراراً(1)، لكن مع الفساد يلزم أجرة المثل عمّا فات من المنافع في يده.

وفي حكم التسليم ما لو بذل العين فلم يأخذها المستأجر حتى انقضت المدة، أو مضت مدة يمكنه الاستيفاء، فتستقرّ الأجرة، لكن هنا لابد من تقييده بالصحيحة.

وأمّا التفصيل الذي أشار إليه المصنّف فيمكن أن يشير به إلى ما ذكره الشيخ في المبسوط من

أن الأجرة إنّما تستقرّ في المعينة لا المطلقة(2)، كما يُفهم الأوّل من كلامه صريحاً والثاني فحوى.

ويمكن أن يريد به أن الحكم إنّما يكون إذا كانت العين المستأجرة غير حر، فلو كانت الإجارة على عمل الحُرّ فسلّم نفسه فتسلّمه، أو لم يتسلّمه ولكن خلّى بينه وبين العمل في المدة لم تستقرّ ؛ لأنّ منافع الحُرّ لا تدخل تحت اليد، بخلاف غيره.

ص: 424


1- سبق في ج 3، ص 160.
2- المبسوط، ج 3، ص 34 - 35.

وكذا لو استاجر داراً وسلّمها ومضت المدة ولم يسكن • أو استأجره لقلع ضرسه، فمضت المدة التي يمكن انتفاع ذلك فيها، فلم يقلعه المستأجر، استقرّت الأجرة، أمّا لو زال الألم عقيب العقد سقطت الأجرة.

• ولو استأجر شيئاً فتلف قبل قبضه بطلت الإجارة، وكذا لو تلف عقيب قبضه، أما لو انقضى بعض المدّة ثمّ تلف أو تجدد فسخ الإجارة صحّ فيما مضى وبطل في الباقي، ويرجع من الأجرة بما قابل المتخلّف من المدّة.

____________________________________

ويمكن أن يكون إشارة إلى الفرق بين المعينة بوقت والمتعلقة بالذمة مجردة عن الزمان.

فتستقر في الأول دون الثاني : لأنّ جميع الأزمنة صالح لها.

والحق عدم الفرق في ذلك كله، وأن الحكم على ما قرّرناه.

وبخط شيخنا الشهيد (رحمه الله) على شرائعه بعد أن ذكر التفصيل الأوّل، قال: والاحتمالات متكثّرة في التفصيل من غير استناد إلى حجّة.

قوله: «أو استأجره لقلع ضرسه فمضت المدّة - إلى قوله - سقطت الأجرة».

المراد أنّ الأجير سلّم نفسه للعمل وامتنع المستأجر من غير عذر، فإنّ الأجرة تستقرّ بالتمكين المذكور.

ونبّه بذلك على أنّ الأجير فى هذا ونظائره بمنزلة العين المبحوث عن تسليمها سابقاً، وفيه ردُّ على التفصيل بالمعنى الثاني.

واعلم أنّ المستأجر للقلع لا يجب عليه تسليم نفسه بالاستئجار بل له الامتناع من تشهياً وإن استقرّت الأُجرة، وإنّما سقطت الأجرة بالبرء؛ لبطلان الإجارة من حيث تعلّقها بمنفعة لا يجوز استيفاؤها شرعاً؛ إذ لا يجوز قلع الضرس وإدخال الألم على النفس لغير ضرورة، فلا يصحّ الاستئجار عليه، كما لو استأجر لقلعه ابتداء من غير ألم، أو لقطع يده من يوجبه، أمّا لو كانت متآكلة يخاف من سريان المرض فهي كالضرس الفاسد. والمرجع في ذلك إلى ظنّ أهل الخبرة أو التجربة.

قوله: «ولو استأجر شيئاً فتلف قبل قبضه بطلت الإجارة إلى قوله - وبطل في الباقي».

ص: 425

• ولا بد من تعيين ما يُحمل على الدابّة، إمّا بالمشاهدة، وإمّا بتقديره بالكيل أو الوزن، أو ما يرفع الجهالة.

_________________________________________

المراد بالتالف المعيّن في عقد الإجارة استيفاء المنفعة منه، كما يرشد إليه ظاهر العبارة،

وبطلان الإجارة حينئذٍ واضح؛ لأنّه أحد العوضين، فإذا فات قبل قبضه بطل كالبيع.

والاستيفاء هنا للمنفعة بتمامها قائم مقام القبض في المبيع، كما أنّ استيفاء البعض كقبض بعضه.

ولو كانت الإجارة في الذمّة وتسلّم عيناً للاستيفاء منها فتلفت فالإجارة باقية.

والمراد بتلفها عقيب القبض وقوعه بغير فصل بحيث لم يمض زمان يمكنه استيفاء بعض المنفعة، كما يرشد إليه قوله « أما لو انقضى بعض المدة» فإنّ المراد منها ما هو أعم من المعيّنة بخصوصها وما في حكمها.

وحيث يبطل في البعض يقسّط المسمّى على جميع المدّة ويثبت للماضي ما قابله منها، فإن كانت متساوية الأجزاء فظاهر، وإلا فطريق التقسيط أن تقوم أجرة مثل جميع المدة، ثمّ تقوم الأجزاء السابقة على التلف وينسب إلى المجموع، فيؤخذ من المسمّى بتلك النسبة.

ولو تلف بعض العين خاصةً، فالحكم في التالف كما مرّ، ويتخيّر في الباقي بين الفسخ؛ لتبعض الصفقة، وإمساك الحصة بقسطها من الأجرة.

ولو لم يتلف شيء لكن نقصت المنفعة بطروء عيب بأن نقص ماء الأرض أو الرحى، أو عرجت الدابة، أو مرض الأجير، ونحو ذلك، ثبت للمستأجر الفسخ.

قوله: « ولا بد من تعيين ما يحمل على الدابة(1)» إلى آخره.

لمّا كان الضابط التوصّل فى معرفة المحمول إلى ما يرفع الجهالة لم يكف مطلق المشاهدة ولا مطلق الاعتبار بأحد الأمرين، بل مع قيود زائدة.

أمّا في فلابد المشاهدة فلا بد معها من امتحانه باليد تخميناً لوزنه إن كان في ظرف؛ لما في

الأعيان من الاختلاف في الثقل والخفّة مع التفاوت في الحجم.

ص: 426


1- في النسخ: «ما تحمله الدابة». وصححنا العبارة كما في المتن.

•ولا يكفي ذكر المحمل مجرّداً عن الصفة، ولا راكب غير معين؛ لتحقّق الاختلاف في الخفّة والثقل، ولا بدّ مع ذكر المحمل من ذكر طوله وعرضه وعلوه، وهل هو مكشوف أو مغطّى؟ وذكر جنس غطائه.

وكذا لو استأجر دابة للحمل فلا بدّ من تعيينه بالمشاهدة، أو ذكر جنسه وصفته وقدره.

__________________________________________

وأمّا في المعتبر بأحد الأمرين فلا بد معه من ذكر جنسه؛ للاختلاف الفاحش باختلافه، فإنّ القطن يضرّ من جهة انتفاخه ودخول الريح فيه فيزداد ثقله في الهواء، والحديد يجتمع على موضع من الحيوان فربما عقره، وتحميل بعض الأجناس أصعب من بعض، والحفظ في بعضها كالزجاج أصعب ، فلا بد من ذكر الجنس مع التقدير.

واعلم أنّه متى ذكر قدراً معيناً من جنس - كالحنطة - فظرفه خارج عن التقدير؛ لتخصيصه القدر بكونه من الجنس فالظرف خارج مدلول عليه بالالتزام حيث يفتقر إليه.

ويجيء على إطلاق المصنّف الاكتفاء بالكيل أو الوزن من غير اعتبار ذكر الجنس، أنّه لو قدر بمائة رطل وأطلق دخل الظرف فيه.

وعلى ما ذكرناه من الاشتراط لا يتوجه الإطلاق؛ لبطلان العقد معه.

قوله: «ولا يكفي ذكر المحمل مجرداً عن الصفة ولا راكب غير معين؛ لتحقق الاختلاف».

المحمل - بكسر الميم الأخيرة، كمجلس - واحد المحامل، وهو شقان على البعير يحمل فيهما العديلان.

واعتباره إما بالمشاهدة أو الوزن مع ذكر الطول والعرض؛ لاختلافه باختلافهما في السهولة والصعوبة وإن اتّفق ،وزنه، ولو عهد اتّفاق المحامل أو اتفاق جنس منها كفى ذكر ذلك الجنس. وكذا يعتبر معرفة مقدار وطائه وغطائه؛ لاختلافهما.

وأمّا الراكب فيعتبر بالمشاهدة، أو الوزن مع عدمها.

وفي الاكتفاء فيه بالوصف من نحافة وضخامةٍ وطولٍ وقِصَرٍ وحركةٍ وبُطءٍ ونحوها وجهان، أجودهما ذلك، مع إفادته للوصف التام الرافع للجهالة.

ص: 427

•وكذا لا يكفى ذكر الآلات المحمولة ما لم يعيّن قدرها وجنسها . ولا يكفى اشتراط حمل الزاد ما لم يعيّنه، وإذا فني ليس له حمل بدله ما لم يشترط.

•وإذا استأجر دابةً افتقر إلى مشاهدتها، فإن لم تكن مشاهدة فلا بدّ من ذكر جنسها ووصفها، وكذا الذكورة والأنوثة إذا كانت للركوب، ويسقط اعتبار ذلك إذا كانت للحمل.

_________________________________________

قوله: «وكذا لا يكفي ذكر الآلات المحمولة ما لم يعرف(1) قدرها وجنسها».

المراد ب_«الآلات» هنا ما يصحبه معه المستأجر في السفر من نحو السفرة والقربة والإداوة والقدر، فإنّه إذا شرط حملها وجب معرفتها بالمشاهدة أو الوزن أو الوصف الرافع للجهالة؛ لاختلافها على وجه تحصل بإجمالها الجهالة والغرر.

ولو لم يشترطها لم يدخل في الإطلاق إلّا مع جريان العادة بها بحيث لا يحصل القصد ،بدونها، فيتوجّه بطلان الإجارة لو لم يعرف قدرها؛ لأنّ ذلك بمنزلة الشرط المجهول.

قوله: «وكذا لا يكفى اشتراط حمل الزاد ما لم يعيّنه - إلى قوله - ما لم يشترط».

إنّما لم يكن له إبدال الزاد مع فنائه - مع أنه قد شرط حمل القدر المعيّن - لأن المتبادر من الزاد ما يفنى في الطريق بالأكل، فيرجع فيه إلى المتعارف.

والمراد فناؤه بالأكل المعتاد، فلو فني بغير ذلك كضيافة غير معتادة، أو أكل كذلك، أو ذهب بسقوط أو سرقةٍ فله إبداله؛ تنزيلاً للإطلاق على المعتاد المتعارف ويكون حكم البدل حكم المبدل منه في ذلك، ويعلم من ذلك أنّه لو شرط حمل زاد زائد على العادة فليس للزائد حكم المعتاد، بل له إبداله؛ لأنّه كالمحمول المطلق، إلا أن يريد جعل الجميع زاداً توسعةً.

ولو شرط الإبدال في الجميع فلا ريب في الصحّة؛ عملاً بالشرط.

قوله: «وإذا استأجر دابّةً افتقر إلى(2) مشاهدتها - إلى قوله إذا كانت للركوب».

ص: 428


1- في المتن: «لم يعيّن» بدل «لم يعرف».
2- في بعض نسخ المتن: «اقتصر على بدل «افتقر إلى».

• ويلزم مؤجر الدابة كلّ ما يُحتاج إليه في إمكان الركوب من الرحل والقتب وآلته والحزام والزمام.

• وفي رفع المَحمِل وشدّه تردّد أظهره اللزوم.

_________________________________________

فيذكر في الوصف الجنس كالإبل، والنوع كالعراب، والذكورة أو الأنوثة، فإنّ الأُنثى أسهل والذكر أقوى إن استؤجر للركوب، وإلّا لم يفتقر إلى أحدهما.

ويحتمل عدم اعتبار الوصف الأخير مطلقاً؛ لأنّ التفاوت بينهما يسير فلم يكن معتبراً في نظر الشارع، ولأن أحد النوعين ربما اختلفت أفراده أزيد مما بين النوعين.

وكذا يجب ذكر كل وصف يختلف السير والركوب به سواء أشار إلى معيّن غائب أم جعل متعلَّقها الذمة غير مقيدة بعين شخصيّة.

قوله:« ويلزم مؤجر الدابة كل ما يحتاج إليه» إلى آخره.

الضابط وجوب كلّ ما جرت العادة بالتوطئة به للركوب ، أو الاستعانة به بالنسبة إلى نوع الدابة المعينة، فيجب السرج لذات السرج والبرذعة لمن يعتاده، ونحو ذلك، وكذا اللجام والزمام وغيرهما من الآلات .

وكذا يعتبر السائق والقائد مع اقتضاء العادة لهما أو لأحدهما.

وكذا تجب إعانته على الركوب والنزول، إمّا برفعه إن كان يمكنه ذلك، وهو من أهله، أو ببروك الجمل إن كان عاجزاً، أو قادراً ولكن لا تقتضي العادة له بذلك، كالمرأة والشيخ الكبير والمريض. ولو كان المستأجر قوياً يتمكن من فعل ذلك بنفسه لم تجب إعانته.

كلّ ذلك مع اشتراط المستأجر على الأجير المصاحبة، أو قضاء العادة بها، أو كانت الإجارة للركوب في الذمّة، أما لو كانت مخصوصة بدابة معينة ليذهب بها كيف شاء ولم تقض العادة بذلك فجميع الأفعال على الراكب.

قوله: «وفي رفع المحمل وشده تردّد أظهره اللزوم».

ص: 429

• ولو آجرها للدوران بالدولاب افتقر إلى مشاهدته ؛ لاختلاف حالته في الثقل ولو آجرها للزراعة • فإن كان لحرث جريب معلوم فلابد من مشاهدة الأرض أو وصفها، وإن كان لعمل مدّة كفى تقدير المدة.

_____________________________________

هذا هو الأقوى؛ لقضاء العادة به، ولأنّه من أسباب التهيئة والتحميل الواجب على المؤجر، فيجب.

نعم، لو شرط خلاف ذلك اتّبع شرطه.

قوله: «ولو آجرها للدوران بالدولاب افتقر إلى مشاهدته».

ولو أمكن الوصف الرافع للجهالة كفى. وكذا يشترط معرفة عمق البئر بالمشاهدة أو الوصف إن أمكن الضبط به، وتقدير العمل بالزمان كاليوم، أو بملء بركة معيّنة بالمشاهدة أو المساحة، لا بسقي البستان وإن شوهد للاختلاف بقرب عهده بالماء وعدمه، وحرارة الهواء و برودته.

قوله: «فإن كان لحرث جريبٍ معلوم فلا بد من مشاهدة الأرض» إلى آخره.

اكتفى المصنّف في معرفة الأرض بالوصف، وهو الظاهر، بل ربما كان أبلغ من المشاهدة؛ لأنّ صاحب الأرض قد يطلع من باطنها ما لا يظهر بمشاهدة ظاهرها.

وفي التذكرة اعتبر المشاهدة ولم يكتف بالوصف؛ محتجاً ب_:

أنّها تختلف، فبعضها صلب يتصعّب حرثه على البقر ومستعملها، وبعضها رخو يسهل وبعضها فيه حجارة يتعلّق بها السكة، ومثل هذا الاختلاف إنما يعرف بالمشاهدة دون الوصف(1).

وفيه ما مرّ، مع أنّ مشاهدة ظاهر الأرض لا تفيد ذلك، وإنّما يظهر بالعمل، وهو متوقّف على صحّة الإجارة، ويبعد أن يريد بالمشاهدة معرفة ما يصل إليه العمل بها، لما في اعتبار ذلك من الحرج؛ ولأنّ المراد من ذلك رفع الجهالة العادية لا الضبط الكلي، ويمكن التوصّل إلى ذلك باختبارها بالحفر في مواضع على وجه يرفع الغرر.

ص: 430


1- تذكرة الفقهاء ، ج 18، ص 177 - 178 ، المسألة 642.

وكذا في إجارة دابةٍ لسفر مسافةٍ معينةٍ • فلا بد من تعيين وقت السير ليلاً أو نهاراً، إلا أن يكون هناك عادة فيستغنى بها.

•ويجوز أن يستأجر اثنان جملاً أو غيره للعقبة، ويرجع في التناوب إلى العادة.

____________________________________________

هذا إذا قدر بالعمل، ولو قدر بالمدة لم يعتبر معرفة الأرض، لكن يعتبر تعيين الدابة التي

تستعمل في الحرث، إما بالمشاهدة أو الوصف الرافع للجهالة.

ولو قدّره بالأرض لم يحتج إلى معرفة الدابّة.

وهل يعتبر معرفة السكة ؟ وجهان أجودهما الاكتفاء فيها وفي نزولها في الأرض بالعادة.

قوله: «فلا بد من تعيين وقت السير ليلاً أو نهاراً، إلا أن يكون هناك عادة فيُستغنى بها».

إنّما وجب تعيين الوقت؛ لاختلاف الناس في ذلك الموجب للجهالة بسبب اختلافه، فيجب التعيين مع عدم العادة المعيّنة لتلك الطريق.

ويشكل الحكم فيما إذا اختلف السير ولم يكن التعيين إليهما كطريق الحج، فإنّ مقتضى

تحقیق بيان السير عدم صحة الاستئجار فيها، إلا أن تستقرّ العادة بسيرٍ مخصوص في تلك

السنة بحسب ما يناسبها عادةً من السنين.

وفي التذكرة منع من الاستئجار في الطريق التي ليس لها منازل مضبوطة، إذا كانت مخوفةً لا يمكن ضبطها باختيارهما(1).

قوله: «ويصحّ(2) أن يستأجر اثنان جملاً أو غيره للعقبة، ويرجع في التناوب إلى العادة».

العقبة - بضم العين - النوبة، وهما يتعاقبان على الراحلة إذا ركب هذا تارةً وهذا أُخرى، فإن كان هناك عادة مضبوطة إما بالزمان أو المسافة حمل الإطلاق عليها، وإلّا وجب التعيين. ولو اتّفقا في المنضبط بالعادة على خلافها وضبطاه صح.

ويعتبر تعيين مبدأ الركوب ومن يركب منهما أوّلاً.

ص: 431


1- تذكرة الفقهاء، ج 18، ص 165، المسألة 632.
2- في المتن: «ويجوز» بدل «ويصحّ».

• وإذا اكترى دابه فسار عليها زيادة عن العادة، أو ضربها كذلك، أو كبحها باللجام من غير ضرورة ضمن .

• ولا تصح إجارة العقار إلا مع التعيين بالمشاهدة أو بالإشارة إلى موضع معين، موصوف بما يرفع الجهالة ولا تصحّ إجارته في الذمّة لما يتضمّن من الغرر، بخلاف استئجار الخياط للخياطة، والنسّاج للنساجة.

___________________________________________

واكتفى في التذكرة بالقرعة في تعيين المبتدئ إن لم يعيّناه في العقد(1)؛ لأنّ محلّها الأمر المشكل.

ويشكل بأنّه لا إشكال هنا، فإنّ عقد المعاوضة لا يبنى على الجهالة المفضية إلى التنازع مع إمكان رفعها.

قوله: «وإذا اكترى دابةً فسار عليها زيادة عن العادة» إلى آخره.

أي أسرع السير زيادةً على عادة أمثالها بحسب نوعها ووصفها في تلك الطريق، فإنّ ذلك لا يجوز فيضمن.

والتقييد في الضرب بالزيادة عن العادة يدلّ بمفهومه على أنّه لو ضربها بما جرت العادة به لم يضمن؛ حملاً على المعتاد، فإنّ ذلك مما اقتضاه عقد الإجارة وإن لم يأذن فيه صريحاً، خلافاً للتذكرة حيث حكم بالضمان بالضرب مطلقاً؛ محتجاً بأنّ الإذن مشروط بالسلامة(2). وما اختاره المصنّف أوجه.

والمراد بكبح الدابة باللجام جذبها به لتقف، قال الجوهري:

كبحتُ الدابة، إذا جذبتها إليك باللجام لكي تقف ولا تجرى. يقال: أكمَحتُها، وأكفحتها، وكَبَحتها هذه وحدها بلا ألف عن الأصمعي(3).

قوله: «ولا تصحّ إجارة العقار إلّا مع التعيين بالمشاهدة - إلى قوله - بما يرفع الجهالة».

ص: 432


1- تذكرة الفقهاء، ج 18، ص 73، المسألة 562.
2- تذكرة الفقهاء، ج 18، ص 236 ، المسألة 688.
3- الصحاح ، ج 1، ص 398، «كبح».

•وإذا استأجره مدّةً فلا بد من تعيين الصانع؛ دفعاً للغرر الناشئ من تفاوتهم في الصنعة.

__________________________________________

العقار - بالفتح - الأرض والبيوت والشجر، والمراد هنا ما يجوز استئجاره منه، فتجب مشاهدة الأرض المستأجرة للزرع أو الغرس أو غيرهما أو ما هو أعم، أو وصفها بما يرفع الجهالة.

واشترط المصنّف في الموصوف أن يكون عيناً شخصية، فلا يكفي إيجار عقار موصوف في الذمّة محتجاً بلزوم الغرر.

وفيه نظر؛ فإنّ الوصف الرافع للجهالة كيف يجامع الغرر ؟ والفرق بينه وبين المعيّن الموصوف غير واضح.

نعم، لو علل بعسر تحصيل الموصوف؛ لاختلاف العقارات في الخواص والأوصاف اختلافاً كثيراً يعسر معه الوقوف على ما عيّنه، أمكن.

ووافقه على هذا التفصيل في التحرير(1).

وأطلق في القواعد والتذكرة والإرشاد الاكتفاء بالوصف(2).

قوله: «وإذا استأجره مدّة فلا بد من تعيين الصانع دفعاً للغرر» إلى آخره.

أي إذا استأجره لعمل من الأعمال التي يختلف فيها الصُنّاع بالخفة والبطء كالخياطة والكتابة، لم يصحّ جَعْله في الذمة بحيث يحصّله بمن شاء؛ لما في ذلك من الاختلاف الكثير الموجب للغرر، بل لابدّ من تعيين الصانع، سواء كان هو المؤجر أم غيره، مع إمكان تحصيل المنفعة منه للانضباط حينئذٍ.

ويفهم من تقييده المنع بالمدّة أنّه لو وقع الاستئجار على عمل معيّن كنسج الكتّان(3)

ص: 433


1- تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 88 - 89، الرقم 4217.
2- قواعد الأحكام، ج 2، ص 283؛ تذكرة الفقهاء، ج 18، ص 139، المسألة 616: إرشاد الأذهان، ج 1، ص 423.
3- في بعض النسخ: «كنسخ الكتاب».

•ولو استأجر لحفر البئر لم يكن بد من تعيين الأرض، وقدر نزولها وسعتها،

_____________________________________________

المعين أو خياطة الثوب المخصوص صحّ وإن لم يعين الصانع؛ لأن الاختلاف في الخفّة والبطء الموجب للزيادة في العمل والنقيصة غير قادح؛ لحصول المطلوب وهو العمل المعيّن.

وهو جيد على الوجه الذي قيّدناه من أن منشأ الاختلاف المانع من جهة الزيادة والنقيصة، أمّا من حيث الظاهر من العبارة - أنّ المانع هو تفاوتهم في الصنعة الشامل للاختلاف فيها بحسب الجودة والرداءة فلا فرق فيه بين المعيّن بالعمل والمدّة، لكن الأوّل أوفق؛ ليحصل الفرق.

وأمّا ضبط الأوصاف التي يحصل باختلافها الغرض في العمل فلابد منه في صحّة الإجارة، كغيره من الأمور التي يعتبر ضبطها، وحينئذٍ فيرتفع الغرر من هذه الجهة، أمّا التقدير بالعمل المعيّن في المدة المعيّنة فلا ينضبط، بل لا يصحّ التعرّض له كما سبق(1)، فلا بد من تعيين الصانع على وجه يرتفع به هذا النوع من الغرر.

وهذه المسألة قلّ من تعرّض لها غير المصنّف، نعم، ذكرها الشافعيّة في كتبهم، وجعلوا في صحّة الإطلاق مع تعيين المدة وجهين.

قوله: «ولو استأجر لحفر البئر لم يكن بد من تعيين الأرض، وقدر نزولها وسعتها».

إطلاق التعيين يشمل المشاهدة والوصف الرافع للجهالة، وقد سبق مثله في أرض الحرث(2).

وفي التذكرة والقواعد اعتبر هنا المشاهدة خاصةً(3)، وفي الإرشاد عكس، فاعتبر المشاهدة خاصّةً في أرض الحرث، واكتفى هنا بمطلق التعيين(4)، كما أطلق المصنّف.

ويمكن أن يريد بالتعيين المشاهدة؛ لأنّها أدخل في تحقّقه، إلّا أنّ المشاهدة لما كان

ص: 434


1- سبق في ص 417 - 418.
2- سبق في ص 430.
3- تذكرة الفقهاء، ج 18، ص 116، المسألة 601؛ قواعد الأحكام، ج 2، ص 292 - 293.
4- إرشاد الأذهان، ج 1، ص 423.

•ولو حفرها فانهارت أو بعضها لم يلزم الأجير إزالته، وكان ذلك إلى المالك.

.•ولو حفر بعض ما قوطع عليه ثمّ تعذّر حفر الباقي إما لصعوبة الأرض أو مرض الأجير أو غير ذلك قوّم حفرها وما حفر منها، ويرجع عليه بنسبته من الأجرة. وفي المسألة قول آخر مستند إلى روايةٍ مهجورة.

____________________________________

المراد منها الاطلاع على ظاهر الأرض دون باطنها - إذ لا يمكن معرفة الباطن إلّا بالعمل تاماً - لم تكن المشاهدة أضبط من الوصف بل ربما كان الوصف أضبط منها؛ لإمكان اطّلاع المستأجر على الباطن بكثرة الممارسة.

هذا، وإنّما يعتبر تعيين النزول والسعة مع تقدير العمل بتعيين المحفور، أما لو قدّره بالمدة

لم يفتقر إلى ذلك، مع احتماله؛ لاختلاف العمل بذلك سهولة وصعوبةً.

قوله: «ولو حفر فانهارت أو بعضها لم يلزم الأجير إزالته، وكان ذلك إلى المالك».

أي انهدمت من جميع جوانبها أو بعضها وعدم وجوب إزالته ظاهر؛ لامتثال الأجير ما یجب عليه، وعدم تضمّن عقد الإجارة لذلك.

وضمير «إزالته» يعود إلى التراب المتساقط المدلول عليه بالانهيار.

ولو وقع من التراب المرفوع شيء وجب على الأجير إزالته؛ لاستناده إلى تقصيره في الوضع ؛ إذ يجب نقله عن المحفور بحيث لا يرجع إليه. والمرجع في قدر البعد إلى العرف.

قوله: «ولو حفر بعض ما قوطع عليه، ثمّ تعذّر - إلى قوله - رواية مهجورة».

ضمير «عليه» يعود إلى الأجير، والراجع هو المستأجر، هذا هو الظاهر من سياق العبارة، وحينئذ فضمير «بنسبته» يرجع إلى التفاوت المستفاد من نسبة المحفور إلى ما قوطع عليه أجمع؛ لأنّ ذلك هو الذي يرجع المستأجر من الأُجرة بنسبته، لأنّه المتخلف من العمل، وهذا مبنيُّ على أنّه دفع الأجرة وأنّ المراد بالرجوع عود ذلك القدر إلى ملك المستأجر بعد أن كان قد مَلَكه الأجير بالعقد، كما سبق(1).

ص: 435


1- سبق في ص 408 - 409.

...

________________________________________

ويمكن أن يكون «يرجع» مبنياً للمعلوم، وفاعله ضمير عائد إلى الأجير المذكور مراراً. وضمير «عليه» عائد على المستأجر المدلول عليه بالمقام، وضمير «بنسبته» راجع إلى المذكور سابقاً، وهو ما حفره منها، والأمر متقارب من جهة التركيب اللفظي؛ لأنّ في كلّ واحدٍ تقدير من يعود إليه الضمير من دون أن يكون ملفوظاً.

والمراد من الأجرة أجرة المثل؛ لأنها هي المعتبر في النسبة، والمرجوع به هو جزء من المسمّى بتلك النسبة.

من

ويجوز أن يريد بالأجرة المسمّى والجار يتعلّق ب_«يرجع»، والتقدير أنّه يرجع من المسمّى بنسبة ما حفر أو ما بقي إلى أجرة مثل المجموع.

والحاصل أنّ الأجير المذكور إذا حفر بعض ما استؤجر عليه وتعذر عليه الإكمال فله من المسمّى بنسبة ما عمل إلى المجموع.

وطريق معرفته أن تُنسب أجرة مثل ما عمل إلى أجرة مثل المجموع، بأن يُقوّم جميع العمل المستأجر عليه، ويُقوّم ما عمل منفرداً ويُنسب إلى المجموع، فيستحقّ الأجیر من المسمّى بتلك النسبة، ويرجع المستأجر بالباقي.

ولو فرض تساوي أجرة الأجزاء فله من الأجرة على قدر ما عمل، فلو استأجره على حفر بئر عشرة أذرع طولاً وعرضاً وعمقاً، فحفر خمساً في الأبعاد الثلاثة فهو ثُمن القدر المشروط، فمع التساوي له ثمن الأجرة، ومع الاختلاف بالحساب، وإنما كان ذلك تُمْناً؛ لأنّ مضروب العشرة في الأبعاد الثلاثة ألف، ومضروب الخمسة في الأبعاد الثلاثة كذلك مائة وخمسة وعشرون، وهو ثمن الألف.

وطريق معرفته بالاعتبار أنّه لم يحفر من النصف الأسفل شيئاً، ولا من نصف النصف الأعلى، ولا من نصف نصفه، وذلك سبعة أثمان وعلى هذا الحساب قياس الباقي من الفروض.

والقول الآخر الذي أشار إليه المصنّف للشيخ في النهاية؛ مستنداً إلى رواية أبي شعیب

ص: 436

...

_________________________________________

المحاملي عن الرفاعي قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن رجل قبل رجلاً أن يحفر له بئراً عشر قامات بعشرة دراهم، فحفر له قامةٌ ثمّ عجز، قال: «تُقسم عشرة على خمسة وخمسين جزءاً، فما أصاب واحداً فهو للقامة الأولى، والاثنين للاثنين، والثلاث للثلاث، وهكذا إلى العاشرة»(1)، وفي ذلك استيفاء الخمسة والخمسين.

ولكن في بلوغ العدد هذا المقدار طريقان:

أحدهما: أن يزاد أقلّ الأعداد على أكثرها، وتضرب نصف المجتمع منها في الأكثر ففي المثال تجمع واحداً أقلَّ الأعداد مع عشرة، وتضرب نصف المجتمع - وهو خمسة ونصف - في الأكثر - وهو عشرة - يبلغ خمسة وخمسين.

والثاني: أن تضرب العدد الأكثر - وهو العشرة عدد القامات - في نفسه، فما بلغ زِدْتَ عليه جذره - وهو عشرة - ونصفته، ففي المسألة مضروب العشرة في نفسها مائة، وجذر ذلك

عشرة، وإذا نصّفتها كانت خمسة وخمسين، وذلك مجموع الأعداد المقسوم عليها.

وهذه الرواية محمولة على ما إذا تناسبت القامات على هذا الوجه بحيث تكون نسبة القامة الأولى إلى الثانية أنّها بقدر نصفها في المشقّة والأجرة، وهكذا، وهو مع ذلك حكم في واقعةٍ معينةٍ فلا يتعدّى، مع أنّ الشيخ لم يذكرها في النهاية على جهة الفتوى، وإنّما نقلها بلفظ الرواية.

وفي المبسوط ذكر الحكم كما اختاره المصنّف والجماعة(2)، وقال: وقد روى أصحابنا في مثل هذا مقدّراً ذكرناه في النهاية(3)، فلا يتعيّن لذلك قولاً، وعلى تقدير العمل بمضمونها لا يتعدّى؛ لما ذكرناه

ص: 437


1- النهاية، ص 348 - 349؛ وللرواية راجع الكافي، ج 7، ص 433، باب النوادر ، ح 22؛ تهذيب الأحكام، ج 6، ص 287، ح 794.
2- منهم يحيى بن سعيد في الجامع للشرائع، ص 297؛ والعلّامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 293؛ والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 7، ص 172.
3- المبسوط، ج 3، ص 42.

•ويجوز استئجار المرأة للرضاع مدةً معيّنةً بإذن الزوج، فإن لم يأذن فيه تردّد، والجواز أشبه إذا لم يمنع الرضاع حقّه.

___________________________________________

ولو قيل بالتعدي وكان المستأجر عليه خمسة قسمت على خمسة عشر، والأربعة على

عشرة، وهكذا؛ عملاً بما ذكرناه من الضابط. وكذا في طرف الزيادة.

قوله: «ويجوز استئجار المرأة للرضاع مدةً معيّنةً بإذن الزوج» إلى آخره.

يجوز للزوجة إجارة نفسها للإرضاع وغيره مع إذن الزوج مطلقاً عندنا؛ لأنّها حُرّة مالكة لمنافعها، فجاز لها صرفها إلى غيرها بعوض وغيره.

ولو لم يأذن الزوج، فإن منع شيئاً من حقوقه توقّف على إجازته قطعاً؛ للمنافاة، وسبق حقه، وإن لم يمنع ففي الصحّة قولان، أحدهما - وهو الذي اختاره المصنّف - الصحّة؛ لأصالتها، وعموم الأمر بالوفاء بالعقود(1)، ولما ذكرناه من التعليل، فإنّها مالكة للمنافع التي لا تعلّق للزوج بها، فلها نقلها إلى الغير.

ومتى مَنَع شيئاً من حقوقه فله الفسخ، لا أنّه يقع باطلاً، خلافاً للعلّامة في القواعد؛ حيث

حكم ببطلانه حينئذ(2).

والقول الآخر للشيخ (رحمه الله)(3) وجماعة(4) المنع من دون إذنه مطلقاً؛ محتجاً بأنه لا دليل على الصحة، وقد عرفته.

وربما احتج عليه بأنّ الزوج مالك لمنافعها بالعقد، فلا يجوز لها نقلها إلى غيره. وهو ضعيف؛ لأنّه إنّما يملك منافع الاستمتاع لا مطلقاً.

ولو فُرض تقدّم الاستئجار على النكاح فلا اعتراض للزوج قطعاً؛ لسبق حقّ المستأجر، وله الاستمتاع بها فيما فضل عن وقت الإرضاع وليس لوليّ الطفل منع الزوج عن الوطء مع

ص: 438


1- المائدة (5) : 1.
2- قواعد الأحكام، ج 2، ص 288.
3- المبسوط، ج 3، ص 239؛ الخلاف، ج 3، ص 498، المسألة 18.
4- منهم ابن إدريس في السرائر، ج 2، ص 471.

• ولابدّ من مشاهدة الصبي • وهل يشترط ذكر الموضع الذي ترضعه فيه؟ قيل: نعم، وفيه تردّد.

_______________________________________

عدم تضرر الولد به ومعه له المنع؛ لسبق حقّه.

وكذا القول فيما لو أجر أمته للإرضاع ثمّ زوّجها.

وكلّ موضع يمنع الزوج فيه من الوطء لحقّ الإرضاع تسقط فيه النفقة عنه في تلك المدة؛ لعدم التمكين التامّ.

قوله: «ولا بد من مشاهدة الصبيّ».

لاختلاف الأولاد في هذه المنفعة كبيراً وصغيراً، ونهمةً وغيرها، والوصف لا يفي بضبطه. وفي حكم الصبيّ الصبية، وتخصيصه محبّة طبيعيّة.

قوله: «وهل يشترط ذكر الموضع الذي ترضعه فيه؟ قيل: نعم، وفيه تردّد».

وجه الاشتراط اختلاف محالّ الإرضاع في السهولة والصعوبة والنفع ، فإنّ بيت المرضعة أسهل عليها ، وبيت الولىّ أوثق له، ومن أصالة عدم الاشتراط والأقوى الاشتراط. وكذا القول في كل موضع يختلف فيه الفعل.

واعلم أن حكم الاستئجار للإرضاع ثابت على خلاف الأصل؛ لأن متعلّق الإجارة الأعيان لتستوفى منها المنافع والركن الأعظم في الرضاعة اللبن وهو عين تالفة بالإرضاع، فتكون المعاوضة عليه بالإجارة خارجةً عن موضوعها، ومثلها الاستئجار للصبغ والبئر للاستقاء منها، ومن ثم ذهب بعضهم إلى أنّ المنفعة المستحقّة هنا - التي هي متعلّق الإجارة - المرضعة من حيث حملها للولد ووضعه في حجرها ووضع الثدي في فيه ونحو ذلك من الأعمال الصادرة عنها، لا نفس اللبن(1).

ويضعف بأنّ المقصود بالذات هو اللبن، وهذه الأمور كلها تابعة أو مقدّمة.

ص: 439


1- المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 1، ص 84، المسألة 4241؛ الشرح الكبير المطبوع مع المغني، ج 6، ص 19.

•وإن مات الصبيّ أو المرضعة بطل العقد، ولو مات أبوه هل تبطل ؟ يبنى على القولين: كون الإجارة هل تبطل بموت المؤجر والمستأجر أم لا؟ والأصحّ عدم البطلان .

_______________________________________

والأجود أنّ المقصود مجموع ما ذكر من المنافع مع عين اللبن، وجوازه حينئذٍ - مع أنّ بعض متعلّقها عين ذاهبة - للنصّ، وهو قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَتَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ )(1)، وفعل النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) ومن بعده من الأئمة(علیهم السلام).

ويمكن أن يُقال على تقدير كون المراد المجموع أنّ اللبن يكون تابعاً؛ لكثرة قيمة غيره من المنافع وقلّة قيمة اللين وإن كان اللبن مقصوداً من وجه آخر، ويثبت للتابع من الحكم المخالف ما لا يثبت للمتبوع، ومثله القول في الصبغ.

قوله: «ولو مات الصبي أو المرضعة بطل العقد - إلى قوله - الأصح عدم البطلان».

أمّا موت الصبي فلا إشكال في بطلان الإجارة به؛ لفوات ما تعلّق العقد باستيفائه المنفعة.

وأمّا موت المرضعة فقد أطلق المصنّف البطلان به ووجهه فوات المنفعة بهلاك محلّها، فتبطل الإجارة، كما لو ماتت الدابّة المستأجرة.

وهذا يتمّ مع كونها معيّنة للإرضاع بنفسها، كما هو الظاهر من القطع بالحكم، فلو كانت مضمونةً في ذمتها ، فالأقوى عدم البطلان ، كغيرها من الإجارات المتعلقة بالذمّة ؛ لأنّ الإرضاع حينئذٍ في ذمّتها بمنزلة الدين، فينتقل إلى مالها إذا فاتت ذمّتها ، فتخرج أجرة المثل لما بقي من المدة من أصل تركتها؛ لأنّها قيمة الواجب في الذمّة، وتُدفع إلى وليّه.

ويحتمل وجوب استئجار وليّها عليه من تركتها؛ لأن الواجب في ذمتها هو الإرضاع ولم يتعذّر، وإلا لانفسخت الإجارة.

ص: 440


1- الطلاق (65):6.

•ولو استأجر شيئاً مدة معينةً لم يجب تقسيط الأجرة على أجزائها، سواء كانت قصيرة أو متطاولة.

وأما موت أبيه فيبنى على القولين في أن موت المستأجر هل تبطل به الإجارة أم لا؟ وقد تقدم أنّ الأقوى العدم(1).

نعم، لو كان الولد معسراً واستأجر الأب عليه بمال في ذمّته أو في ذمّة الأب ولم يخلّف

تركةً توجّه جواز فسخها لا أنّها تبطل بذلك.

وفي قول المصنف «يبنى على القولين» إشارة لطيفة إلى الرد على ابن إدريس حيث حَكَم في مسألة موت أحد المؤاجرين أنّها لا تبطل(2) ، وحَكَم هنا أنّها تبطل بموت أبي المرتضع محتجّاً بالإجماع على أنّ موت المستأجر يُبطلها(3)، والحال أن المسألة واحدة وفيها القولان، ففصلها كما ذكره تحكّم أو تناقض.

قوله: «ولو استأجر شيئاً مدة معينة لم يجب تقسيط الأجرة على أجزائها» إلى آخره.

هذه المسألة لا تختصّ بنوع من الإجارة، بل هي مستقلة بنفسها آتية في جميع مواردها. ولا خلاف عندنا في حكمها، وإنّما نبه به على خلاف بعض العامّة؛ حيث أوجب تقسيط الأجرة في متن العقد على أجزاء المدّة إن كانت سنتين فصاعداً؛ حذراً من الاحتياج إلى تقسيط الأجرة على المدّة على تقدير لحوق الانفساخ بتلف العين وغيره(4)، وذلك ممّا يشق أو يتعذر. ويُبطله الإجماع على عدم وجوب التقسيط في السنة الواحدة فما دون مع ورود ما ذكروه فيه. وإلى ردّه أشار المصنّف بقوله «سواء كانت قصيرة أم طويلةً» لأنّ موضع النزاع الطويلة على الوجه المذكور.

واعلم أنّه متى قُسّطت الأجرة على أجزاء المدّة جاز، سواء تفاوتت في التقسيط

ص: 441


1- تقدّم في ص 403.
2- السرائر، ج 2، ص 449.
3- السرائر، ج 2، ص 471.
4- العزيز شرح الوجيز، ج 6، ص 112؛ روضة الطالبين، ج 4، ص 270.

• ويجوز استئجار الأرض ليعمل مسجداً.

•ويجوز استئجار الدراهم والدنانير إن تحقّقت لها منفعة حكميّة مع بقاء عينها.

_______________________________________

أم اتّفقت فلو تلفت العين في أثناء المدّة كانت أجرة ما مضى بحسب ما شرط، ولو كان التلف في أثناء جزء منها بعد مضيّ أجزاء ثبت ما سُمّي لتلك الأجزاء، وقسط المسمّى لذلك الجزء على أجزائه، ولو لم يقسّط في متن العقد قسّط المسمّى على جميع المدة ورجع بحصّته.

قوله: «ويجوز استئجار الأرض ليعمل مسجداً».

لأنّ ذلك غرض مقصود راجح فضلاً عن إباحته، متقوّم، فتصح الإجارة له.

نعم لا يثبت لها حرمة المسجد بذلك؛ لأنّ شرطه أن يكون موقوفاً ، والوقف شرطه التأبيد، والإجارة ينافيها التأبيد، فإذا تنافيا في الحكم تنافيا في الخاصيّة، وهي من جملة الأحكام.

وإطلاق المسجديّة على الأرض المذكورة بسبب إعدادها للصلاة إمّا بحسب المجاز لهذه المناسبة، أو بجعل المسجد مشتركاً بين ما له حرمة وغيره، كمسجد يتّخذه الإنسان في بيته لصلاته وصلاة أهله، وقد تقدّم في بابه.

قوله: «ويجوز استئجار الدراهم والدنانير إن تحقّقت لها منفعة حكمية مع بقاء عينها».

لمّا كان شرط العين المؤجرة إمكان الانتفاع بها مع بقاء عينها، وكان الغرض الذاتي من هذين النقدين لا يتمّ إلّا بذهابهما، وربما فرض لهما منافع أُخَر مع بقاء عينها، بأن يتزين بهما ويتجمّل، ويدفع عن نفسه ظاهر الفقر والفاقة، فإنّ دفع ذلك غرض مطلوب شرعاً حتى كان الأئمة(علیهم السلام) يقترضون أموالاً ويُظهرونها للناس أو يدفعونها إلى عُمّال الصدقة مظهرين أنّها زكاة أموالهم ليظهر بذلك غناؤهم(1)، ومن جملة الأغراض المقصودة بها أيضاً نثرها في الأعراس ونحوها ثم تجمع، والضرب على سكتها ونحو ذلك، فكان القول بجواز إجارتها قويّاً.

ص: 442


1- الكافي، ج 6 ، ص 440، باب التجمّل وإظهار النعمة ، ح 11 و 12.

تفريع: • لو استأجره لحمل عشرة أقفزة من صُبرة فاعتبرها، ثمّ حملها فكانت أكثر ، فإن كان المعتبر هو المستأجر لزمه أجرة المثل عن الزيادة، وضمن الدابّة إن تلفت؛ لتحقّق العدوان، وإن اعتبرها المؤجر لم يضمن المستأجر أجرة ولا قيمة، ولو كان المعتبر أجنبياً لزمته أُجرة الزيادة.

_______________________________________

وربما أشعر كلام المصنّف بتردّدٍ في أنّ هذه المنافع هل يُعتد بها وتتقوم بالمال على وجه تجوز الإجارة أم لا؟ لتعليقه الجواز على شرط تحقّق المنفعة مع أنّها مشهورة، وما ذلك إلّا للشك في الاكتفاء بها.

وقد صرّح العلّامة بالإشكال فيها في بعض كتبه(1)، وجزم بالجواز في بعضها(2). واحتجّ للمنع الذي هو أحد شقي الإشكال بانتفاء قصد هذه المنافع شرعاً؛ ولهذا لا تُضمن منفعتها بالغصب(3).

وفيه نظر؛ لأنّ ضمانها بالغصب فرع تقوّمها، وهو موضع النزاع، فلا يجعل دليلاً فيه فإنّ من جوّز إجارتها فقد جعل الأجرة في مقابلة هذه المنافع، وهي متقومة بالمال، فتضمن بالغصب.

وحيث جاز استئجارها لا يشترط تعيين جهة الانتفاع كغيرها من الأعيان؛ لأنّ المعتبر صلاحيّة العين للمنفعة المقصودة، لا ذكرها في العقد.

وكذا يجوز استئجار الشمع للتزين به لا للضوء، والتفّاح للشم، والأشجار للاستظلال، وإن لم يعيّن المنفعة المقصودة.

والضابط جواز استئجار العين المشتملة على منفعة تحسن مقابلتها بمال.

قوله: «لو استأجره لحمل عشرة أقفزة من صبرة - إلى قوله - لزمته أجرة الزيادة».

ص: 443


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 287.
2- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 3، ص 73 الرقم 4185؛ تذكرة الفقهاء، ج 18، ص 47،المسألة 539.
3- قواعد الأحكام، ج 2، ص 287.

...

_______________________________________

إذا شرط في عقد الإجارة حمل الدابّة قدراً معيناً فبانَ الحمل أزيد، فلا يخلو إما أن يكون المتولّي للكيل هو المؤجر، أو المستأجر، أو أجنبي، ثمّ إما أن يكون المحمل على الدابة المؤجر، أو المستأجر، أو أجنبي، وعلى التقادير التسعة إمّا أن تكون الزيادة في الكيل وقعت عمداً أو غلطاً، وعلى التقادير الثمانية عشر إمّا أن يكون المحمّل عالماً بالزيادة أو جاهلاً، ثمّ إمّا أن تكون الزيادة ممّا يقع التفاوت فيها بين المكاييل أو أزيد من ذلك، فالصُوَر اثنتان وسبعون صورة.

وأمّا حكمها فنقول: إن كانت الزيادة ممّا تتفاوت فيها المكاييل فلا عبرة بها، ولا توجب ضماناً، وإن كانت أكثر، فإن كان المستأجر هو الذي كال الطعام وحمله بنفسه ضمن الدابّة؛ لتعدّيه، وللزائد عن المشروط أجرة المثل، وإن لم يكن حمّله بل سلّمه إلى المؤجر حتّى حمله هو، فإن كان جاهلاً بالحال بأن دلّس عليه المستأجر أنّه غير زائد فظهر كذبه فكالأوّل، ومثله ما لو أمر أجنبيّاً بالتحميل، ولو لم يدلّس عليه بل سكت ولم يُخبر بشيءٍ فتولى المؤجر حملها جاهلاً ففى ضمان المستأجر وكونه غاراً بذلك نظر.

ويمكن القول بالضمان؛ لأنّ إعداد الحمل وتسليمه بمنزلة الأمر بالحمل، كما في تقديم طعام الغير إليه للأكل فيأكله.

ولو كان المستأجر مع كيله زائداً قد ذهب في بعض أغراضه بغير قصد فحَّمله المؤجر في غيبته، فلا شيء على المستأجر؛ لعدم الغرور ولإمكان كون غرضه التكلم معه على الزيادة بخصوصها على وجه من الوجوه.

ولو كان المؤجر عالماً بالزيادة، فإن لم يقل المستأجر شيئاً، وباشر المؤجر التحميل فلا شيء على المستأجر.

ولا فرق بين أن يضعه المستأجر على الأرض فيحمّله المؤجر على الدابة، وبين أن يضعه على ظهرها فيسيّرها المؤجر وإن أثم المستأجر في الثاني، مع احتمال الفرق.

وإن قال المستأجر : حمّل هذه الزيادة، فأجابه لزمه الأجرة لها.

ص: 444

...

________________________________________

وإن كان المتولي للكيل هو المؤجر وحمله على الدابة، فلا أُجرة له عن الزيادة، سواء كان المستأجر عالماً بها أم لا؛ لأنّ سكوته مع علمه ليس بإذن وللمستأجر هنا مطالبة المؤجر برد الزيادة إلى الموضع المنقول منه، وليس للمؤجر ردّها بدون إذنه، ولو لم يعلم المستأجر حتى أعادها المؤجر إلى البلد المنقول منه فله أن يطالبه بردّها إلى المنقول إليه.

ولو كان المتولّي للحمل هو المستأجر، فإن كان عالماً بالزيادة فهو كما لو كال بنفسه وحمَّل؛ لأنّه لمّا علم بها كان عليه أن لا يحملها إلّا بإذنه، وإن كان جاهلاً، فإن أمره المؤجر بالحمل فلاضمان عليه، وعلى المؤجر ردّ الزيادة للغرر، وإن لم يأمره ففى كون المستأجر مغروراً بفعل المؤجر التردّد السابق.

وقوى في التذكرة عدم الضمان وعدم الأُجرة(1).

ولو كان المتولّي للحمل أجنبياً غير المؤجر والمستأجر، فإن كان بإذن من فعل الزيادة فالضمان على فاعلها مع جهل الأجنبي لا مع علمه، وكذا لو كان بأمر الآخر إن كان مجرد التهيئة غروراً.

وإن كان المتولّي للكيل أجنبيّاً وحمل على الدابة بغير إذن ولم يُعلمهما، فهو متعدٍّ عليهما،

فيضمن الدابّة وأجرة الزيادة، وعليه ردّها إلى الموضع المنقول منه إن لم يرض المالك.

ولو تولّى الحمل بعد كيل الأجنبي أحد المتعاقدين، فإن كان عالماً فهو كما لو كان بنفسه.

وإن كان جاهلاً لم يتعلّق به حكم.

إذا تقرّر ذلك، فنقول: على تقدير ضمان المستأجر الدابّة ما الذي يضمن منها؟ يحتمل النصف؛ لأنّ تلفها مستند إلى فعلين: أحدهما مأذون فيه وهو غير مضمون، والآخر غيره، ولا ينظر إلى التفاوت، كما لو جرح نفسه جراحات وجرحه غيره جراحةً واحدة، فسرى الجميع، فإنّه يجب نصف الدية على فاعل الجراحة الواحدة.

ص: 445


1- تذكرة الفقهاء، ج 18، ص 265، المسألة 707.

الخامس: أن تكون المنفعة مباحةً • فلو آجره مسكناً ليحرز فيه خمراً، أو دكاناً ليبيع فيه آلةً محرّمةً، أو أجيراً ليحمل له مسكراً لم تنعقد الإجارة، وربما قيل بالتحريم، وانعقاد الإجارة؛ لإمكان الانتفاع في غير المحرَّم، والأوّل أشبه؛ لأن ذلك لم يتناوله العقد.

_____________________________________________

ويحتمل التوزيع على الأصل والزيادة، فيضمن بقسط الزيادة؛ لأن التلف مستند إلى الجملة فلا ترجيح، ولاستلزام الأوّل مساواة الزائد للناقص، وهو محال، والتوزيع على المحمول ممكن، بخلاف الجراحات.

ويحتمل ضمان جميع القيمة؛ لأنّه متعدٍ فيضمن، كما لو انفرد باليد، وظاهر حكم المصنّف وتعليله اختياره، وهذا هو الأقوى.

فهذه جملة أحكام أقسام المسألة، وقد ظهر منها ما فات العبارة.

قوله: «فلو آجره مسكناً ليحرز فيه خمراً - إلى قوله - لم يتناوله العقد».

المراد بالخمر هنا المحرَّمة، وهي المتخذة للشرب، فلو كان الاتّخاذ للتخليل أو طراً قصده قبل الإجارة صحّت، ومثل إيجارها لذلك العلم بكون المستأجر يفعل فيها ذلك؛ لأنّه معاونة على الإثم والعدوان.

وقد روى الشيخ في التهذيب بإسناده إلى الصادق(علیه السلام) في الرجل يؤاجر بيته فيباع فيه الخمر قال: «حرام أجره»(1) ولا أقل من حمله على العالم بذلك.

وروى أيضاً (علیه السلام) عنها فى مكاتبة ابن أذينة له، يسأله عن الرجل يؤاجر سفينته ودابته ممن يحمل فيها أو عليها الخمر، فقال: «لا بأس»(2).

وجمع الشيخ بينهما بكون النهي في الأوّل متوجّهاً إلى من يعلم، والثاني إلى من لا يعلم(3).

ص: 446


1- تهذيب الأحكام، ج 6 ، ص 371 - 372، ح 1077.
2- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 372، ح 1078.
3- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 372، ذيل الحديث 1078.

• وهل يجوز استئجار الحائط المزوّق للتنزه؟ قيل: نعم، وفيه تردّد.

السادس: أن تكون المنفعة مقدوراً على تسليمها • فلو آجر عبداً آبقاً لم تصح ولو ضم إليه شيء، وفيه تردّد.

______________________________________________

والحق أنّه لو لم يكن للثاني معارض من الأخبار لكانت الآية(1) مخصصة له بغير العالم، مع أنّه مكاتبة تقصر عن دلالة الأوّل إن تساويا سنداً.

وأمّا القول المحكيّ فتعليله يرد عليه؛ لأنّ المفروض إيجاره لهذه المنفعة، فلا يجوز التعدّي لو صحت الإجارة.

قوله: «وهل يجوز استئجار الحائط المزوّق للتنزه؟ قيل: نعم، وفيه تردّد».

القول بالجواز لابن إدريس؛ محتجّاً بأنّه يشتمل على منفعة متقومةٍ كتعلّم الصنعة المحكمة منه، كما يجوز استئجار كتاب فيه خطّ جيد للتعلّم منه؛ لأن فيه غرضاً صحيحاً (2).

ومَنَعه الشيخ(3) وجماعة(4)؛ لأنّ ذلك يمكن استفادته بدون إذن المالك، كما يجوزالاستظلال بحائطه بدونه ، وبهذا يفرّق بينه وبين الكتاب.

وهذا الوجه إنّما يتمّ لو كان الحائط ظاهراً للمستأجر إلى مكان يملك فيه المقام، فلو كان داخلاً في ملك المؤجر لم يملك التوصّل إليه بدون إذنه، فما ذكره ابن إدريس حسن، مع توقّف تحصيل المنفعة على الاستئجار.

قوله: «فلو آجر عبداً آبقاً لم يصحّ ولو ضمّ إليه شيء، وفيه تردّد».

وجه التردّد من عدم القدرة على تسليم المنفعة، ومن جواز بيعه مع الضميمة؛ للنصّ(5)،

ص: 447


1- المائدة (5): 2.
2- السرائر، ج 2، ص 479.
3- المبسوط، ج 3، ص 45 الخلاف، ج 3، ص 501 ، المسألة 24.
4- منهم العلامة في مختلف الشيعة، ج 6، ص 131، المسألة 32.
5- الكافي، ج 5، ص 194، باب بيع العدد والمجازفة...، ح 9 ، وص 209 ، باب شراء الرقيق، ح3: الفقيه، ج 3، ص 225، ح 3836؛ تهذيب الأحكام، ج 7، ص 69 ، ح 296، وص 124، ح 540 و 541.

•ولو منعه المؤجر منه سقطت الأجرة، وهل له أن يلتزم ويطالب المؤجر بالتفاوت؟ فيه تردّد، والأظهر نعم.

_____________________________________

فكذا إجارته بطريق أولى؛ لاحتمالها من الغرر ما لا يحتمله البيع.

وكذا تردّد في التحرير والتذكرة(1)، وأطلق المنع في الإرشاد(2)، وقيده في القواعد بعدم الضميمة(3)، ومفهومه جوازها معها، وهو الذي اختاره الشهيد (رحمه الله)؛ محتجاً بالأولوية(4). والأولى الاقتصار بالحكم على موضع النصّ والوفاق.

نعم، لو كان المستأجر يتمكّن من تحصيله جاز من غير ضميمة، كالبيع.

وكذا القول في المغصوب لو آجره للغاصب أو لمن يتمكّن من قبضه.

وعلى القول بالجواز مع الضميمة يعتبر كونها متموّلة يمكن إفرادها بالمعاوضة.

وفي اعتبار إفرادها بجنس ما يضمّ إليه، ففي البيع تفرد بالبيع، وفي الإجارة بالإجارة، أو يكفي كلّ واحدٍ منهما في كلّ واحدٍ منهما وجهان، من حصول المعنى، ومن أن الظاهر ضميمة كلّ شيءٍ إلى جنسه وقوى الشهيد (رحمه الله) الثاني(5).

قوله: «ولو مَنَعه المؤجر منه سقطت الأجرة، وهل له أن يلتزم ويطالب المؤجر بالتفاوت؟ فيه تردّد، والأظهر نعم».

الظاهر أنّ سقوطها مشروط بالفسخ؛ لتعذّر حصول العين المطلوبة، فإذا فسخ سقط المسمّى إن لم يكن دَفَعه وإلا استرجعه، وبهذا صرّح في القواعد(6).

ويحتمل ضعيفاً كون سقوطها غير متوقّف على الفسخ؛ تنزيلاً لتعذر تسليمها منزلة التلف، فكما أنّه مع التلف ليس له غير الأجرة المسماة فكذا هنا.

ص: 448


1- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 3، ص 95، الرقم 4229؛ تذكرة الفقهاء، ج 18، ص 60، المسألة 551.
2- إرشاد الأذهان، ج 1، ص 424.
3- قواعد الأحكام، ج 2، ص 288.
4- حاشية القواعد، ص 359 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 14).
5- حاشية القواعد، ص 359 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 14).
6- قواعد الأحكام، ج 2، ص 289.

•ولو منعه ظالم قبل القبض كان بالخيار بين الفسخ والرجوع على الظالم بأجرة المثل،

_________________________________________

واختار هذا الاحتمال في التذكرة ، لكن قيده بمنع المؤجر المستأجر من العين من غير أن يستوفي المنافع، وقرّب ثبوت الخيار لو استوفي(1).

و ما اختاره المصنّف من التخيير حسن؛ لأنّ المنفعة صارت حقّه وقد غصبها المؤجر فيجب عليه عوضها، كالأجنبي، فيتخيّر المستأجر بين الفسخ فيسقط المسمّى، ولا رجوع حينئذٍ بالتفاوت بين المسمّى وأجرة المثل، وبين البقاء على الإجارة وأخذ عوض المنفعة، وهو اجرة مثلها، فيرجع بالتفاوت، وهو زيادة أجرة المثل عن المسمّى إن كان.

قوله: «ولو منعه ظالم قبل القبض كان بالخيار بين الفسخ والرجوع» إلى آخره.

وجه التخيير أنّ العين قبل القبض مضمونة على المؤجر، فللمستأجر الفسخ عند تعذّرها ومطالبة المؤجر بالمسمّى؛ لفوات المنفعة عليه، وله الرضى بذلك ومطالبة الغاصب بأجرة المثل؛ لأنّه باشر الإتلاف عدواناً.

وهل للمستأجر مع عدم الفسخ مطالبة المؤجر بأجرة المثل؟ يحتمله؛ لكونها مضمونةً عليه حتى يتحقّق القبض.

ويضعَّف بأنّ الثابت عليه على تقدير تضمينه إنّما هو المسمّى إن كان قبضه.

ولا يسقط هذا التخيير بعود العين إلى المستأجر في أثناء المدّة، بل له الفسخ في الجميع وأخذ المسمّى؛ لفوات المجموع من حيث هو مجموع، ولأصالة بقاء الخيار السابق، وله الإمضاء واستيفاء باقي المنفعة ومطالبة الغاصب بأجرة مثل ما فات في يده من المنافع، وليس له الفسخ في الماضي خاصّة والرجوع بقسطه من المسمّى على المؤجر واستيفاء الباقي من المنفعة؛ لاقتضائه تبعّض الصفقة على المؤجر، وهو خلاف مقتضى العقد، بل إمّا أن يفسخ في الجميع أو يمضيه مع احتماله؛ لأنّ فوات المنفعة في هذه الحالة يقتضي

ص: 449


1- تذكرة الفقهاء، ج 18، ص 300، المسألة 731.

•ولو كان بعد القبض لم تبطل، وكان له الرجوع على الظالم.

•وإذا انهدم المسكن كان للمستأجر فسخ الإجارة، إلّا أن يعيده صاحبه ويمكنه منه، وفيه تردّد.

ولو تمادى المؤجر في إعادته ففسخ المستأجر رجع بنسبة ما تخلّف من الأُجرة إن كان سلّم إليه الأجرة.

___________________________________________

الرجوع إلى المسمّى، وقد حصل في البعض خاصّةً فاستحقّ الفسخ فيه.

قوله: «ولو كان بعد القبض لم تبطل، وكان له الرجوع على الظالم».

كان حقّه أن يقول: لم يكن له الفسخ؛ لأنّ البطلان منتفٍ على التقديرين، فليس هو موضع الاستدراك، وإنّما لم يكن له الفسخ حينئذٍ ؛ لاستقرار العقد بالقبض، وبراءة المؤجر، فيستحقّ المستأجر على الغاصب أُجرة مثل المنفعة الفائتة في يده لا غير.

ولا فرق في الغصب بعد القبض بين كونه في ابتداء المدة وفي خلالها؛ لحصوله في الموضعين. ولو كان الغاصب المؤجر فالظاهر عدم الفرق.

قوله: «وإذا انهدم المسكن كان للمستأجر فسخ الإجارة - إلى قوله - وفيه تردّد».

مقتضى جواز الفسخ أنّ العقد لا ينفسخ بنفسه، ولابد من تقييده بإمكان إزالة المانع أو بقاء أصل الانتفاع فلو انتفيا معاً انفسخت الإجارة؛ لتعذر المستأجر عليه.

والمراد بإعادة المالك المستثناة لرفع الخيار ما كانت بسرعة بحيث لا يفوت شيءٌ من المنافع وإن قلّ، وإلّا بقي الخيار بغير تردّد.

ومنشأ التردّد على تقدير إعادته كذلك من زوال المانع مع عدم فوات شيء من المنافع، ومن ثبوت الخيار بالانهدام فيُستصحب؛ إذ لم يدل دليلٌ على سقوطه بالإعادة، وهو قويُّ.

ص: 450

[ الفصل] الثالث في أحكامها

و فیه مسائل:

الأولى: • إذا وجد المستأجر بالعين المستأجرة عيباً كان له الفسخ أو الرضى بالأجرة من غير نقصان ولو كان العيب ممّا يفوت به بعض المنفعة.

___________________________________________

قوله: «إذا وجد المستأجر بالعين المستأجرة عيباً - إلى قوله - بعض المنفعة».

وجه التخيير - مع أنّ المعيب هو العين وحقه منها هو المنفعة - أن مورد الإجارة هو العين ليستوفي منها المنفعة وهي تابعة في الماليّة للعين، فيلزم من نقص العين نقص مالية المنفعة، فعيب العين في قوّة عيب المنفعة فله الفسخ وإن استوفى بعضها.

ولا يرد أنه مع استيفاء البعض يكون قد تصرّف، وهو يُسقط خيار العيب؛ لأنّ المراد بالتصرّف حقيقةً في العوض الذي صار للمتصرّف، وهو هنا المنفعة، وما لم يستوفه منها لم يتصرّف فيه، إنما حصل التصرّف في المستوفى، ولأنّ الصبر على العيب ضررٌ منفيُ(1).

وقوله «من غير نقصان» أي من غير أرش، وبهذا صرّح جماعة(2).

وكأن وجهه أنّ العقد إنّما جرى على هذا المجموع وهو باقٍ، فإمّا أن يفسخ أو يرضى بالجميع. ويضعَّف بأنّ الإطلاق لمّا كان منزلاً على الصحيح كان الجزء الفائت أو الوصف مقصوداً للمستأجر ولم يحصل، وهو يستلزم نقص المنفعة التي هي أحد العوضين، فثبوت الأرش متّجة.

ص: 451


1- تقدّم تخريجه في ص 162، الهامش 1 و 2.
2- منهم العلّامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 282.

الثانية: • إذا تعدّى في العين المستأجرة ضمن قيمتها وقت العدوان،

____________________________________________

وطريق معرفته أن يُنظر إلى أُجرة مثلها سليمةً ومعيبةً، ويُنظر إلى التفاوت بينهما، ويُرجع من المسمّى بتلك النسبة.

ولو اختار الفسخ، فإن كان قبل أن يمضي من المدّة ما له أجرةً فلا شيء عليه، وإن كان بعد مضيّ بعض المدة واستيفاء منفعتها فعليه من المسمّى بقدر ما مضى.

ثمّ إن تساوت المنفعة في المدة قسطت على أجزاء المدة، وإن اختلفت - كدار أُجرتها في الشتاء أكثر منها في غيره، ودابةٍ أُجرتها في بعض المواسم أكثر أو الطريق مختلفة - رجع في التقويم إلى أهل الخبرة، ويقسّط المسمّى على حسب قيمة المنفعة، كقسمة الثمن على الأعيان المختلفة في البيع.

واعلم أنّ القسم المسكوت عنه المدلول عليه ب_«لو» الوصلية في قوله «ولو كان العيب ممّا يفوت به بعض المنفعة» هو ما إذا كان العيب لا يفوت به شيء منها، لا ما إذا كان يفوت به الجميع؛ لأنّ ذلك يفسد العقد.

هذا كلّه إذا كانت الإجارة واردة على العين، فلو وردت على الذمّة فدفع إليه عيناً فظهرت معيبة لم يكن له الفسخ، بل على المؤجر إبدالها.

نعم لو تعذر الإبدال لعجزه عنه أو امتناعه ولم يمكن إجباره عليه تخيّر المستأجر؛ لتعذّر ما جرت عليه المعاوضة، فيرجع إلى ماله.

قوله: «إذا تعدّى في العين المستأجرة ضمن قيمتها وقت العدوان».

لأنّه يصير حينئذ بمنزلة الغاصب، وهو مبني على أنّ الغاصب يضمن قيمة المغصوب يوم الغصب، وهو اختيار الأكثر .

وقيل : يضمن أعلى القيم من حين العدوان إلى حين التلف(1). والأقوى ضمان قيمتها يوم التلف، وقد تقدّم(2) مراراً .

ص: 452


1- مختلف الشيعة، ج 5، ص 88، المسألة 48.
2- تقدّم في ج 3، ص 466 وما بعدها.

•ولو اختلفا في القيمة كان القول قول المالك إن كانت دابة، وقيل: القول قول المستأجر على كلّ حالٍ، وهو أشبه.

الثالثة: • من تقبل عملاً لم يجز أن يُقبله غيره بنقيصة، على الأشهر، إلّا أن يحدث فيه ما يستبيح به الفضل • ولا يجوز تسليمه إلى غيره إلا بإذن المالك، ولو سلّم من غير إذن ضمن.

___________________________________________

قوله: «ولو اختلفا في القيمة كان القول قول المالك إن كانت دابةٌ» إلى آخره.

القول بالتفصيل للشيخ (رحمه الله)(1)، والأقوى ما اختاره المصنّف من تقديم قول المستأجر مطلقاً؛ لأنه منكر.

قوله: «من تقبل عملاً لم يجز أن يقبله غيره بنقيصة» إلى آخره.

هذا هو المشهور، ومستنده أخبار(2) حملها على الكراهة أولى؛ جمعاً، ولا فرق في الجواز على تقدير الحدث بين قليله وكثيره.

ولا يخفى أنّ الجواز مشروط بعدم تعيين العامل في العقد، وإلّا فلا إشكال في المنع والضمان لو سلّم العين.

قوله: «ولا يجوز تسليمه إلى غيره إلا بإذن المالك، ولو سلم من غير إذن ضمن».

يمكن أن يريد بالتسليم المنهي عنه على تقدير عدم جواز تقبيلها لغيره. والحكم حينئذ واضح.

ويمكن أن يريد به في صورة الجواز أو الأعم. والوجه حينئذ أنّه مال الغير فلا يصح تسليمه إلى غير من استأمنه عليه، وجواز إجارته لا ينافيه، بل يستأذن المالك، فإن امتنع رفع أمره إلى الحاكم، فإن تعذّر احتمل جواز التسليم حينئذ لتعارض حقّ

ص: 453


1- النهاية، ص 446.
2- الكافي، ج 5 ص 273 - 274 ، باب الرجل يتقبّل بالعمل ...، ح 1؛ الفقيه، ج 3، ص 251 - 252، ح 3914؛ تهذيب الأحكام، ج 7، ص 210 - 211 ، ح 923 و 927.

الرابعة : • يجب على المستأجر سقي الدابة وعلفها، ولو أهمل ضمن.

____________________________________

المعامل(1) الثاني وحقّ المالك، فيقدم المعامل(2) وفاء بالعقد، ويحتمل تسلّطه على الفسخ لا غير؛ لأنّ المالك مسلّط على ماله يعطيه من شاء ويمنعه من شاء، والحال أنّه لم يرض بأمانته.

ولو قيل بجواز التسليم مطلقاً حيث يجوز التقبيل كان حسناً؛ لصحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى(علیهما السلام) في عدم ضمان الدابة المستأجرة بالتسليم إلى الغير إذا لم يشترط عليه ركوبها بنفسه(3)، وإذا كان الضمان ساقطاً مع تسليمها لاستيفاء المنفعة لغير المالك فسقوطه مع كون المنفعة للمالك أولى، وإليه مال في المختلف(4)

وابن الجنيد جوز التسليم من غير ضمان مع كون المتسلّم مأموناً(5).

ولكن ينبغي تقييده بكون المدفوع إليه ثقةً، وإلا فالمنع أوجه.

قوله: «يجب على المستأجر سقي الدابة وعلفها، ولو أهمل ضمن».

المراد أنّ ذلك لازم للمستأجر بدون الشرط من ماله من غير أن يرجع به على المالك، وهو مذهب جماعة من الأصحاب(6).

والأقوى وجوبهما على المالك إلّا مع الشرط؛ لأصالة عدم وجوبهما على غيره، ثمّ إن كان حاضراً معه، وإلا استأذنه في الإنفاق ورجع عليه، فإن تعذّر استأذن الحاكم، فإن تعذّر أنفق بنيّة الرجوع وأشهد عليه ورجع به ولو لم يشهد إمّا لتعذّره أو مطلقاً فالحكم ما سبق في الرهن والوديعة وغيرهما(7)، وحيث يجب عليه الإنفاق لغيبة المالك لو أهمل ضمن؛ لتفريطه.

ص: 454


1- في «ق ، و»: «العامل» بدل «المعامل».
2- في «ق ، و»: «العامل» بدل «المعامل».
3- الكافي، ج 5، ص 291، باب الرجل يكتري الدابّة ...، ح 7؛ تهذيب الأحكام، ج 7، ص 215، ح 942.
4- مختلف الشيعة، ج 6، ص 115، المسألة 12.
5- حكاه عنه العلاّمة في مختلف الشيعة، ج 1، ص 115، المسألة 12.
6- منهم الشيخ في النهاية، ص 446 و 447؛ وابن إدريس في السرائر، ج 2، ص 465.
7- سبق في ص 63 و 89 - 90، وأيضاً في ج 3، ص 433.

الخامسة: • إذا أفسد الصانع ضمن ولو كان حاذقاً، كالقصار يحرق الثوب أو يخرق، أو الحجام يجني في حجامته، أو الختان يختن فيسبق موساه إلى الحشفة، أو يتجاوز حد الختان، وكذا البيطار، مثل أن يحيف على الحافر، أو يقصد فيقتل أو يجني ما يضرّ الدابة ولو احتاط واجتهد، أمّا لو تلف في يد الصانع لا بسببه من غير تفريط ولا تعدّ لم يضمن على الأصحّ.

•وكذا الملاح والمكاري لا يضمنان إلا ما يتلف عن تفريط على الأشبه.

______________________________________

قوله: «إذا أفسد الصانع ضمن ولو كان حاذقاً، كالقصار يحرق الثوب - إلى قوله - لم يضمن على الأصح».

أمّا الضمان فيما يتلف بيده فهو موضع ،وفاق ولا فرق في ذلك بين الحاذق وغيره، ولا بين المختصّ والمشترك، ولا بين المفرط وغيره، ولأنّ التصرّف في مال الغير بالإتلاف من غير إذن يقتضي الضمان، ولا يدفعه عدم التفريط.

وأمّا عدم الضمان لو تلف من غير تفريط بغير فعله فقيل: إنّه كذلك، بل ادّعى عليه المرتضى الإجماع(1).

وما اختاره المصنّف أقوى؛ لأصالة البراءة، ولأنّهم أُمناء فلا يضمنون بدون التفريط، وفي كثير من الأخبار(2) دلالة عليه، والإجماع ممنوع.

قوله: «وكذا الملّاح والمكاري لا يضمنان إلّا ما يتلف عن تفريط على الأشبه».

هذا هو الأقوى لما تقدّم، ولعدم دخولهما في اسم الصانع الذي وقع عليه الإجماع.

والشيخ استند في ضمانهما إلى رواية(3) ضعيفة السند.

ص: 455


1- الانتصار، ص 466 - 468 ، المسألة 263.
2- وسائل الشيعة، ج 19، ص 142 وما بعدها، الباب 29 من أبواب كتاب الإجارة، ح 6 و 11 و 14 و 16-18.
3- النهاية، ص 447 وللرواية راجع الكافي، ج 5، ص 243 - 244 ، باب ضمان الجمّال والمكاري...، ح 3؛ والفقيه، ج 3، ص 254، ح 3923؛ وتهذيب الأحكام، ج 7، ص 217، ح 948، وص 222، ح 971 و 972.

السادسة: • مَن استأجر أجيراً لينفذه في حوائجه كانت نفقته على المستأجر، إلّا أن يشترط على الأجير.

السابعة: • إذا آجر مملوكاً له فأفسد كان ذلك لازماً لمولاه في سعيه، وكذا لو آجر نفسه بإذن مولاه.

_______________________________________

قوله: «مَن استأجر أجيراً لينفذه في حوائجه كانت نفقته على المستأجر» إلى آخره.

مستند ذلك، رواية سليمان بن سالم عن الرضا (علیه السلام)(1)، ولاستحقاق منافعه المانع من ثبوت النفقة، واختاره جماعة من الأصحاب(2).

والأقوى أنّه كغيره لا تجب نفقته إلا مع الشرط، ويمكن حمل الرواية على تقدير سلامتها عليه، واستحقاق منافعه لا يمنع من وجوب النفقة في ماله الذي من جملته الأُجرة.

وحيث يشترط على المستأجر فلا بد من بيان قدرها ووصفها، بخلاف ما لو قيل بوجوبها عليه ابتداءً، فإنّه يجب عليه القيام بعادة أمثاله.

قوله: «إذا آجر مملوكاً له فأفسد كان ذلك كان ذلك لازماً لمولاه في سعيه» إلى آخره.

لما كان الصانع ضامناً لما يُفسده في ماله وكان العبد لا مال له، تعلّق الضمان يكسبه إن كان العقد صادراً عن إذن مولاه أو الإذن مطلقاً؛ لأنّ ذلك من مقتضى الإجارة، فيكون الإذن فيها التزاماً بلوازمها، لكن لو زادت الجناية عن الكسب لم يلزم المولى، كما تقدّم نظيره في تصرّف المأذون(3)، هكذا اختاره جماعة(4).

وقال أبو الصلاح: إنّ ضمان ما يُفسده العبد على المولى مطلقاً(5)، وتبعه الشيخ (رحمه الله)

ص: 456


1- الكافي، ج 5، ص 287 - 288، باب إجارة الأجير ...، 2 تهذيب الأحكام، ج 7، ص 212 - 213، ح 933.
2- منهم الشيخ في النهاية، ص 447؛ والكيذري في إصباح الشيعة، ص 282؛ والعلّامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 283.
3- تقدّم في ج3، ص 392.
4- منهم العلّامة في تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 3، ص 130، الرقم 4927؛ وقواعد الأحكام، ج 2، ص 307.
5- الكافي في الفقه، ص 347.

الثامنة: • صاحب الحمّام لا يضمن، إلا ما أُودع وفرّط في حفظه أو تعدّى فيه.

التاسعة: • إذا أسقط الأجرة بعد تحققها في الذمة صحّ، ولو أسقط المنفعة المعيّنة لم تسقط؛ لأنّ الإبراء لا يتناول إلا ما هو في الذمم.

_______________________________________

في النهاية(1)؛ لرواية زرارة - في الحسن - عن الصادق (علیه السلام)(2).

والأصحّ أن الإفساد إن كان في المال الذي يعمل فيه بغير تفريط تعلق بكسبه كما ذكروه، وإن كان بتفريط تعلّق بذمته يتبع به إذا أعتق؛ لأّنّ الإذن في العمل لا يقتضي الإذن في الإفساد. نعم، لو كان بإذن المولى تعلّق به، وعليه تحمل الرواية، وإن كان بجناية على نفس أو طرفٍ تعلّق برقبة العبد، وللمولى فداه بأقلّ الأمرين من القيمة والأرش، سواء كان بإذن المولى أم لا.

قوله: «صاحب الحمّام لا يضمن إلا ما أُودع وفرّط في حفظه أو تعدّى فيه».

لأنّه على تقدير الإيداع أمين، فلا يضمن بدون التفريط، ومع عدمه فالأصل براءة ذمته من وجوب حفظ مال الغير مع عدم التزامه به حتّى لو نزع المغتسل ثيابه وقال له: احفظها، فلم يقبل لم يجب عليه الحفظ وإن سكت، ولو قال دعها، ونحوه ممّا يدلّ على القبول كفى في تحقّق الوديعة.

قوله: «إذا أسقط الأجرة بعد تحققها في الذمة صحّ» إلى آخره.

المراد بتحقّق الأجرة في الذمّة تعلقها بها وإن لم يستحق المطالبة بها، ويتحقّق ذلك بالعقد كما مرّ(3).

والمراد بإسقاطها البراءة منها، سواء كان بلفظ الإسقاط أم الإبراء أم بما شاكله من الألفاظ الدالّة عليه.

ولمّا كان الإبراء عبارة عن إسقاط ما في الذمّة لم يصحّ تعلقه بالأعيان ولا بالمنافع

ص: 457


1- النهاية، ص 448.
2- الكافي، ج 5، ص 302، باب آخر ، ح 1؛ تهذيب الأحكام، ج 7، ص 213، ح 936.
3- مرّ في ص 408.

العاشرة: • إذا آجر عبده ثمّ أعتقه لم تبطل الإجارة، ويستوفي المنفعة التي تناولها العقد، ولا يرجع العبد على المولى بأجرة مثل عمله بعد العتق.

___________________________________________

المتعلقة بها، ومنها الأجرة لو كانت عيناً، ويصحّ عمّا في الذمة، سواء كان أُجرة أم منفعة، كما لو استأجره ليخيط له ثوباً ونحوه.

قوله: «إذا آجر عبده ثمّ أعتقه لم تبطل الإجارة» إلى آخره.

لمّا كانت منافع العبد ملكاً للمولى كالرقبة، ونقلها إلى غيره في زمن ملكه نقلاً لازماً، وجب أن لا يبطل بالعتق؛ لأنّ العتق حينئذٍ لم يصادف إلّا رقبته دون منافعه مدة الإجارة، فتزول السلطنة عن رقبته وعن المنافع التي لم يتناولها عقد الإجارة، ويجب على العبد القيام بإيفاء المنافع باقي المدّة؛ لأنّه حقٌّ وجب عليه بمقتضى الإجارة السابقة، فيُستصحب، حتّى كأنه رقيق بالنسبة إلى تلك المنافع .

وهل يرجع على مولاه بأجرة مثل عمله في تلك المدة؟ قطع المصنّف بعدمه؛ لأنّها مملوكة له زمن الإجارة، كالرقبة، وقد استحقها المستأجر قبل العتق، فلا وجه لرجوعه على المولى بها؛ لأنّه إنّما أزال الرقّ عنه مسلوب المنافع تلك المدّة، فلم ينصرّف إلّا إلى الرقبة.

وقريب منه ما لو أعتقه وشرط عليه خدمة مدّةٍ معينةٍ، بل مسألة الإجارة أولى بعدم اعتراض العبد وعدم استحقاقه شيئاً؛ لسبق ملك المستأجر لها على العتق.

وربما قيل برجوعه على السيد بأجرة المثل عن تلك المدّة؛ لأنّ إزالة الرق تقتضي ملك العبد للمنافع، فإذا سبق نقل المولى لها فاتت العين فيرجع العبد على المولى بعوضها، وهو أُجرة المثل، وضعفه يُعلم مما سبق.

إذا تقرّر ذلك، فنفقته تلك المدّة إذا لم تكن مشروطة على المستأجر هل تجب على مولاه، أو في كسبه، أو في بيت المال إن كان؟ أوجه من انتفائها عن العبد؛ لاستغراق وقته(1) في الخدمة، وعن المستأجر؛ لانتفاء الشرط، فلم يبق لها محلُّ إلا السيد، ولأنه ملك عوض

ص: 458


1- في «و» والطبعة الحجريّة: «رقبته» بدل «وقته».

• ولو أجر الوصىّ صبيّاً مدةً يعلم بلوغه فيها بطلت في المتيقن وصحت في المحتمل ، ولو اتّفق البلوغ فيه وهل للصبى الفسخ بعد بلوغه؟ قيل: نعم، وفيه تردّد.

_________________________________________-

نفعه تلك المدّة، ومن انتفاء المقتضي للإنفاق؛ إذ هو الملك وقد زال، ومن أنّ النفقة مقدمة على حق كلّ أحدٍ ، كما في المديون والمعسر، فيخرج من الكسب مقدمة على حق المستأجر. و

الأقوى الأخير؛ لزوال ملك السيّد، وعجزه عن نفسه، ولبطلان الحصر، وعدم استلزام تملك عوض نفعه تلك المدّة النفقة، وإنّما تقدّم النفقة على حق الغير من مال المكتسب، وهو منفي هنا، وبيت المال مُعد للمصالح وهو من جملتها، ومع تعذّره فهو من الواجبات الكفائية

على سائر المكلفين.

قوله: «ولو آجر الوصيّ صبيّاً مدة يعلم بلوغه فيها بطلت في المتيقن» إلى آخره.

لما كان زمان الولاية على الصبي هو ما قبل البلوغ والرشد فإذا أجره مدةً يقطع ببلوغه في أثنائها كما لو آجر ابن العشر ست سنين وكان رشيداً، فإن الإجارة تلزم إلى وقت الكمال، ثمّ هي موقوفة على إجازة الصبي.

وقيّدنا بوجود الرشد؛ لأنه لو لم يكن موجوداً بل أمكن تجدّده، فإنه يكون كما لو أجره مدةً يمكن فيها بلوغه وعدمه؛ لأنّ الرشد أحد الشرطين في زوال الولاية، وتجدّده ممكن في كل وقت وإن طعن في السن.

وعلى تقدير عدم القطع ببلوغه في المدة أو بلوغه وعدم رشده يصح في الجميع صحّة

لازمة إلى حين اجتماع الشرطين قطعاً لانتفاء المانع.

وهل يتوقف بعد ذلك على إجازة الصبيّ ؟ قيل: نعم؛ لأن زمان الولاية هو ما قبل الكمال فيكون نفوذ التصرّف مقصوراً عليه(1).

ويحتمل العدم لوقوع الإجارة من أهلها في محلّها في وقت لم يعلم لها منافٍ فيُستصحب. والأقوى الأوّل.

وحكم المجنون بعد الإفاقة مطلقاً حكم الصبيّ إذا بلغ في الوقت المحتمل.

ص: 459


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 283؛ مختلف الشيعة، ج 6، ص 124، المسألة 24.

الحادية عشرة: • إذا تسلّم أجيراً ليعمل له صنعةٌ فهلك لم يضمنه، صغيراً كان أو كبيراً، حُرّاً كان أو عبداً.

الثانية عشرة: • إذا دفع سلعةً إلى غيره ليعمل فيها عملاً، فإن كان ممن عادته أن يستأجر لذلك العمل كالغسّال والقصار فله أجرة مثل عمله وإن لم تكن له عادة وكان العمل ممّا له أجرة فله المطالبة؛ لأنّه أبصر بنيّته، وإن لم يكن ممّا له أجرة بالعادة، لم يلتفت إلى مدّعيها. _______________________________________

قوله: «إذا تسلّم أجيراً ليعمل له صنعةٌ فهلك لم يضمنه» إلى آخره.

هذا الحكم موضع وفاق منا ومن العامّة، ولأنه قبض العين لاستيفاء منفعة يستحقها منها.

ولأنّه مستحق للمنفعة، ولا يمكن استيفاؤها إلا بإثبات اليد، فكانت أمانة.

ولا فرق بين هلاكه في مدّة الإجارة وبعدها؛ إذ لا يجب على المستأجر ردّ العين إلى مالكها على تقدير كونها مملوكةً، بل الواجب عليه التخلية بينه وبينها، فإذا كان حُرّاً أولى. نعم لو حبسه مع الطلب بعد انقضاء المدّة صار بمنزلة المغصوب.

وسيأتي أنّ الحُرّ البالغ لا يضمن بذلك(1)، وما عليه من الثياب تابع له؛ لأنها تحت يده، والحُرّ لا يدخل تحت اليد. ولو كان صغيراً أو عبداً ضمنه.

قوله: «إذا دفع سلعة إلى غيره ليعمل فيها عملاً - إلى قوله - مدّعيها».

لما كان الأمر بالعمل يقتضى استيفاء منفعةٍ مملوكة للمأمور متقومةٍ بالمال وجب ثبوت عوضها على الآمر كالاستئجار معاطاة.

وقد شرط المصنّف في لزوم الأجرة أحد الأمرين: إما كون العامل من عادته أن يُستأجر لمثل ذلك العمل، أو كون العمل له أجرة في العادة.

والعلّامة (رحمه الله) اعتبر في لزومها كون العمل ذا أجرةٍ عادةً خاصّةً(2).

ص: 460


1- يأتي في ج 9، ص 470 كتاب الغصب، النظر الأوّل في السبب.
2- إرشاد الأذهان، ج 1، ص 425؛ قواعد الأحكام، ج 2، ص 307.

الثالثة عشرة: •كلّ ما يتوقّف عليه توفية المنفعة فعلى المؤجر، كالخيوط في الخياطة، والمداد في الكتابة ،

________________________________________

ويتخرّج على ذلك صُوَرٌ أربع:

الأولى: أن يكون العمل ممّا له أجرةً عادةً والعامل ممّن يستأجر لذلك كذلك، كما لو دفع إلى القصّار ثوباً ليقصره، أو جلس بين يدي حلّاقٍ معدّ نفسه لذلك فحلق له، فله الأجرة على القولين.

الثانية: انتفاؤهما معاً، ولا أجرة عليهما، ولا فرق بين كون العمل حينئذٍ متقوّماً بأجرةٍ وعدمه إذا لم يكن له في العادة أُجرة ولا أعد العامل نفسه لها.

الثالثة: أن يكون العمل ممّا له أجرة في العادة، ولكنّ العامل ليس من عادته الاستئجار له، فتثبت على القولين أيضاً؛ لوجود الشرط، وهو المذكور عند العلّامة، وأحد الأمرين عند المصنف.

الرابعة: عكسه فتثبت الأجرة عند المصنّف دون العلّامة.

ومختار المصنّف أوضح؛ لِما تقدّم من أنّه استيفاء عمل محترم بالأمر، فلا يحلّ بدون العوض إلّا بإباحة مالكه ولم تتحقّق.

قوله: «كلّ ما يتوقّف عليه توفية المنفعة فعلى المؤجر» إلى آخره.

ما يتوقّف عليه الانتفاع على أقسام:

منه: ما يجب على المالك بغير خلافٍ كعمارة الحيطان والسقوف، وعمل الأبواب، و مجرى الماء، ونحو ذلك.

ومنه: ما هو على المستأجر بغير إشكال، كالحبل لاستقاء الماء، والدلو، والبكرة.

ومنه: ما ليس على أحدهما، كالتحسين والتزويق.

ومنه: ما اختلف فيه، وهو الخيوط للخياطة، والمداد للكتابة، والصبغ للصباغة، والكش للتلقيح.

ص: 461

• ويدخل المفتاح في إجارة الدار؛ لأنّ الانتفاع يتمّ بها.

___________________________________________

وقد جزم المصنّف بأنّها على المؤجر؛ لتوقّف إيفاء المنفعة الواجبة عليه بالعقد اللازم، فيجب من باب المقدمة.

ويحتمل كونها على المستأجر ؛ لأنّ الواجب على المؤجر إنّما هو العمل؛ لأنّ ذلك هو المقصود من إجارة العين، أمّا الأعيان فلا تدخل في مفهوم الإجارة على وجه يجب إذهابها لأجلها، إلا في شواذ يثبت على خلاف الأصل، كالرضاع والاستحمام.

والأقوى الرجوع إلى العرف المطّرد، فإن انتفى أو اضطرب فعلى المستأجر.

قوله: «ويدخل المفتاح في إجارة الدار؛ لأنّ الانتفاع يتم بها».

التعليل بتماميّة الانتفاع لا يتمّ ؛ لما قد عرفت أنّ بعض ما يتمّ به الانتفاع ليس لازماً للمؤجر، ولا يتمّ الاستدلال إلّا إذا جعل الحكم كليّاً، خصوصاً مع تأيّده بأنّ المنقول لا يدخل في إجارة العقار الثابت إلّا مع العادة أو التبعيّة.

والأولى التعليل بأنّه تابع للغلق المثبت، بل هو كالجزء منه.

وهذا بخلاف مفتاح القفل، فلا يجب تسليمه ولا تسليم القفل ؛ لانتفاء التبعيّة، ولما ذكر .

ص: 462

الفصل الرابع في التنازع

وفيه مسائل

الأولى : • إذا تنازعا في أصل الإجارة فالقول قول المالك مع يمينه.

____________________________________________

قوله: «إذا تنازعا في أصل الإجارة فالقول قول المالك مع يمينه».

لأنّه منكر لها، فيكون القول قوله كما في كلّ منكر، وكان الأولى التعبير بتقديم قول المنكر مطلقاً؛ لجواز كونه غير المالك.

ثمّ إن كان النزاع قبل استيفاء شيءٍ من المنافع رجع كلّ مال إلى صاحبه، وإن كان بعد استيفاء شيءٍ من المنافع، أو استيفاء الجميع الذي يزعم من يدّعي وقوع الإجارة أنّه متعلّق العقد، فلا يخلو إما أن يكون المدّعي للإجارة المالك أو المتصرّف.

فإن كان المالك وحلف المنكر انتفت الإجارة، ووجب عليه أُجرة المثل، فإن كانت أزيد من المسمّى بزعم المالك لم يكن له المطالبة به إن كان دَفَعه؛ لاعترافه باستحقاق المالك ووجب عليه دفعه إن لم يكن دَفَعه، وليس للمالك قبضه لاعترافه بأنّه لا يستحقّ أزيد من المسمّى، إلا أن يكذب نفسه في دعواه الأولى على قول، وإن زاد المسمّى عن أُجرة المثل كان للمنكر المطالبة بالزائد إن كان دَفَعه، وسقط عنه إن لم يكن، والعين ليست مضمونةً عليه في هذه الصورة لاعتراف المالك بكونها أمانة بالإجارة.

وإن كان المدّعي للإجارة هو المستأجر، فإن أنكر المالك مع ذلك الإذن في التصرّف في العين، فالقول قوله فيهما مع يمينه ، فإذا حلف استحقّ أجرة المثل، فله المطالبة بها إن لم يكن قبض قدرها وإن زادت عن المسمّى بزعم المتصرّف وإن كان المسمّى أكثر فليس له

ص: 463

• وكذا لو اختلفا في قدر المستأجر ، • وكذا لو اختلفا في رد العين المستأجرة. •أمّا لو اختلفا في قدر الأجرة فالقول قول المستأجر.

__________________________________________

المطالبة بالزائد وإن كان المتصرّف يعترف له به إلّا أن يكذب نفسه على قول، ولو كان المتصرّف قد أقبض المسمّى وهو أزيد من أجرة المثل، فليس له المطالبة بالزائد وإن كان المالك يعترف بعدم استحقاقه؛ لزعم المتصرّف أنّه لا حقّ له في الزائد، ويضمن العين هنا؛ لإنكار المالك الإذن، ولو اعترف به فلا ضمان.

قوله: «وكذا لو اختلفا في قدر المستأجر».

هو بفتح الجيم، أي في قدر العين المستأجرة، بأن قال: آجرتني الدار بأجمعها بمائةٍ، فقال: بل البيت منها خاصّةً بالمائة، فإنّ القول قول المنكر ؛ لأصالة عدم وقوع الإجارة على ما زاد عمّا يعترف به.

وربما قيل هنا بالتحالف؛ لأنّ كلاً منهما مدع ومنكر.

والأقوى ما اختاره المصنّف؛ لاتّفاقهما على وقوع الإجارة على البيت وعلى استحقاق الأجرة المعيّنة وإن كان توزيعها مختلفاً بحسب الدعوى، إنما الاختلاف في الزائد فيقدّم قول منكره. وضابط التحالف أن لا يتّفقا على شيءٍ، كما لو قال: آجرتك البيت الفلاني، فقال: بل الفلاني، أو قال: آجرتك البيت، فقال: بل الحمّام ومثله ما تقدم في البيع(1) إذا اختلفا في قدر المبيع، وفي تعيينه، فالقول بالتحالف هنا دون البيع ليس بجيّد.

قوله: «وكذا لو اختلفا في ردّ العين المستأجرة».

فإنّ القول قول المالك؛ لأنّه منكر، والأصل عدم الرد، والمستأجر قبض لمصلحة نفسه، فلا يُقبل قوله فى الردّ مع مخالفته للأصل.

قوله: «أمّا لو اختلفا في قدر الأُجرة فالقول قول المستأجر».

لإنكاره الزائد منها مع اتّفاقهما على وقوع العقد وعلى العين والمدة.

ص: 464


1- تقدّم في ج 3، ص 178.

الثانية: • إذا ادعى الصانع أو الملّاح أو المكاري هلاك المتاع وأنكر المالك كلّفوا البيئة، ومع فقدها يلزمهم فقدها يلزمهم الضمان، وقيل: القول قولهم مع اليمين؛ لأنّهم أمناء، وهو أشهر الروايتين، وكذا لو ادّعى المالك التفريط فأنكروا.

الثالثة: • لو قطع الخياط ثوباً قباء، فقال المالك: «أمرتك بقطعه قميصاً» فالقول قول المالك مع يمينه، وقيل: قول الخياط، والأوّل أشبه.

ولو أراد الخيّاط فتقه لم يكن له ذلك إذا كانت الخيوط من الثوب أو من المالك. ولا اجرة له؛ لأنه عمل لم ياذن فيه المالك.

____________________________________________

وقيل : بالتحالف هنا أيضاً؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهما مدعٍ ومنكر(1). وهو ضعيف.

قوله: «إذا ادّعى الصانع أو الملاح أو المكاري هلاك المتاع - إلى قوله - فأنكروا».

القول بضمانهم مع عدم البيّنة هو المشهور، بل ادّعي عليه الإجماع(2). والروايات(3) مختلفة.

والأقوى أنّ القول قولهم مطلقاً؛ لأنّهم أُمناء، وللأخبار الدالّة عليه.

ويمكن الجمع بينها وبين ما دلّ على الضمان بحمل تلك على ما لو فرّطوا ، أو أخروا المتاع عن الوقت المشترط ، كما دلّ عليه بعضها(4).

قوله: «لو قطع الخيّاط ثوباً قباء - إلى قوله - لم يأذن فيه المالك».

القولان للشيخ (رحمه الله )(5)، وأقواهما ما اختاره المصنّف؛ لأنّه منكر لما يدّعيه الخياط من التصرّف في ماله والخيّاط يدّعي الإذن في قطعه على الوجه الذي يزعمه، والأصل

ص: 465


1- جامع المقاصد، ج 7، ص 292.
2- الانتصار، ص 466، المسألة 263.
3- وسائل الشيعة، ج 19، ص 141 وما بعدها، الباب 29 و 30 من أبواب كتاب الإجارة.
4- منها : ما في الكافي، ج 5، ص 243 - 244 ، باب ضمان الجمال والمكاري...، ح 3 و 4؛ والفقيه، ج 3، ص 254، ح 3923، وص 256، ح 3929؛ وتهذيب الأحكام، ج 7، ص 217، ح 948 و 949، وص 221، ح 969.
5- الخلاف، ج 3، ص 348 ، المسألة 11 ، وص 506. المسألة 34.

...

_____________________________________

عدمه، ويدّعي أيضاً المسقط لضمانه بتصرّفه في مال الغير، وهو إذن المالك؛ ولأن قول

المالك مقدَّم في أصل الإذن، فكذا في صفته؛ لأنّ مرجعه إلى الإذن على وجه مخصوص.

ووجه تقديم قول الخيّاط أن المالك يدّعي عليه حقاً، وهو الأرش، فهو غارم، فيقدم قوله في نفيه وإن لم تثبت له الأُجرة.

فعلى المختار من تقديم قول المالك لا أُجرة للخياط على عمله، وعليه أرش الثوب ما بين كونه مقطوعاً قميصاً ومقطوعاً قباء، فعلى هذا لا أرش لما يصلح لهما من القطع؛ لكونه من جملة المأذون.

ويحتمل كونه تفاوت ما بين قيمته صحيحاً ومقطوعاً؛ لأن القطع على الوجه الذي يدّعيه الخياط عدوان.

ثمّ لو أراد فتق [القباء](1) ليرفع ما أحدثه من العمل لم يكن له ذلك إن كانت الخيوط للمالك، سواء كانت من الثوب أم من غيره؛ إذ ليس له عين يمكنه انتزاعها، ولا يمكن تخليص العمل؛ لأنه ليس عيناً وقد صدر عدواناً ، فكان كما لو نقل ملك غيره من موضع إلى آخر عدواناً، فإنّه ليس له ردّه إلى محلّه الأوّل إلا بمطالبة المالك.

ولو كانت الخيوط للخيّاط ففي تمكينه من أخذها وجهان، أصحّهما ذلك؛ لأنّها عين ماله وهي باقية، فكانت كالصبغ في الثوب المغصوب.

ووجه المنع استلزام أخذها التصرّف في ملك الغير بغير إذنه، وأنّه يزعم أنها للمالك بناءً على أن الخيوط على الخيّاط، وأنّه إنّما يستحقّ الأجرة وقد ظلمه المالك بإنكاره.

وعلى المختار لو طلب المالك أن يشدّ في طرف كلّ خيطٍ خيطاً حتى إذا سلّ الخيّاط خيوطه صار خيط المالك في مكانه، لم يجب على الخياط إجابته؛ لأنِّه تصرّف في مال الغير يتوقّف على إذنه، كما لا يجب عليه القبول لو بذل له المالك قيمة الخيوط وتبقيتها؛ لأنّه مسلّط على ماله، وكذا لو بذل للمالك قيمة الثوب.

ص: 466


1- بدل ما بين المعقوفين في النُسَخ الخطيّة والحجرية: «القميص». وما أثبتناه يقتضيه السياق.

كتاب الوكالة

اشارة

وهي يستدعي بيان فصول:

[الفصل] الأول في العقد

•وهو استنابة في التصرّف • ولا بدّ في تحققه من إيجاب دالّ على القصد كقوله: «وكلتك» أو «استنبتك» أو ما شاكل ذلك، ولو قال: «وكلتني» فقال: نعم، أو أشار بما يدلّ على الإجابة، كفى في الإيجاب.

________________________________________

كتاب الوكالة

قوله في العقد: «وهو استنابة في التصرّف».

الوكالة - بفتح الواو وكسرها - استنابة في التصرّف فالاستنابة بمنزلة الجنس يشمل الأمانات المالكيّة، كالوديعة والعارية والقراض وغيرها، وخرج بقيد «التصرف» الوديعة فإنّها استنابة في الحفظ خاصّةً، والوصيّة إحداث ولاية لا استنابة، فهى خارجة من أوّل الأمر، وبقي نحو القراض والمزارعة والمساقاة مندرجاً في التعريف، وكأنّه أراد الاستنابة في التصرّف بالذات فتخرج هذه؛ لأنّ الاستنابة فيها ضمنيّة أو التزامية، والمقصود بالذات غيرها، ولو صرّح بالقيد كان حسناً.

قوله: «ولا بدّ في تحقّقه من إيجاب دال على القصد - إلى قوله كفى في الإيجاب».

ص: 467

•وأمّا القبول فيقع باللفظ ، كقوله: «قبلت» أو «رضيت» أو ما شابهه، وقد يكون بالفعل، كما إذا قال: «وكّلتك في البيع» فباع.

___________________________________________

لمّا كان عقد الوكالة من العقود الجائزة صحّ بكلّ لفظ يدلّ على الاستنابة في التصرّف وإن لم يكن على نهج الألفاظ المعتبرة في العقود، وينبه عليه قول النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) العروة البارقي «اشتر لنا شاة»(1) وقوله تعالى حكايةٌ عن أهل الكهف: (فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِنْهُ)(2)، ومنه: «بع» و«اشتر» و«أعتق» و«أذنت» لك في كذا، و«نعم» عقيب الاستفهام التقريري ك_«وكلتني في كذا؟» لأنّها نائبة مناب «وكّلتك». وكذا الإشارة الدالّة على المراد الواقعة جواباً، فإنّها وإن لم تعدّ إيجاباً صريحاً ولم يحصل النطق به إلّا أنّه بمنزلته في الدلالة، فيكفي فيه التوّسع في مثل هذا العقد.

قوله: «وأما القبول فيقع باللفظ، كقوله: قبلت، أو : رضيت» إلى آخره.

إنّما اكتفى بالقبول الفعلي بهذا المعنى؛ لأنّ المقصود الأصلي من الوكالة الاستنابة والإذن في التصرّف، وهو إباحة ورفع حجرٍ، فأشبه إباحة الطعام ووضعه بين يدي الآكل، فإنّه لا يفتقر إلى القبول اللفظي.

وما ذكره المصنّف من كون القبول الفعلي هو فعل ما تعلّقت به الوكالة هو الظاهر من عبارة كثير من الأصحاب، ومنهم العلامة في غير التذكرة(3)، أمّا فيها فقال:

إنّ القبول يطلق على معنيين :

أحدهما: الرضى والرغبة فيما فوّض إليه، ونقيضه الردّ.

والثاني: اللفظ الدالّ عليه على النحو المعتبر في البيع وسائر المعاملات، ويعتبر في الوكالة القبول بالمعنى الأول دون الثاني، حتّى لو ردّ وقال: لا أقبل ولا أفعل بطلت، ولو أراد أن يفعل أو يرجع فلا بدّ من استئناف إذن مع علم الموكّل، والأصل في ذلك أنّ

ص: 468


1- سنن أبي داود، ج 3، ص 256، ح 3384؛ سنن الدار قطني، ج 2، ص 578، ح 29/2787.
2- الكهف (18): 19.
3- تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 22، الرقم 4047؛ قواعد الأحكام، ج 2، ص 349.

• ولو تأخّر القبول عن الإيجاب لم يقدح فى الصحّة؛ فإن الغائب يوكّل والقبول يتأخّر.

_______________________________________

الذين وكلهم النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلم) لم ينقل عنهم سوى امتثال أمره، قال: وإن لم يشترط القبول اللفظي كفت الكتابة والرسالة، وكان مأذوناً في التصرّف(1). انتهى .

وهذا يدلّ على أن القبول الفعلي - بمعنى فعل ما وكلّ فيه - لا يكفي مطلقاً، بل مع اقترانه

بالرضى والرغبة ووقوعه قبل أن يردّ.

والمراد بقوله «كفت الكتابة» أي في الإيجاب وإنّما رتّب الاكتفاء بهما على عدم اشتراط القبول اللفظي؛ لأنّه لو اشترط كان عقداً محضاً، فلا يكفي فيه الكتابة، أمّا إذا لم يعتبر فهي إباحة يكفي كلّ ما دلّ عليها.

وما ذكره المصنّف والجماعة(2) من الاكتفاء في الإيجاب بالإشارة اختياراً يقتضي الاكتفاء بالكتابة أيضاً؛ لاشتراكهما في الدلالة مع أمن التزوير.

قوله: «ولو تأخّر القبول عن الإيجاب لم يقدح في الصحة» إلى آخره.

ظاهر العلّامة في التذكرة أنّ هذا الحكم إجماعي؛ لأنّه أسنده إلى أصحابنا، وجوّز تراخيه وإن كان إلى سنة(3).

وتعليل المصنّف الجواز بتوكيل الغائب مع تأخر القبول لا يخلو من دَوْرٍ؛ لأنّ جواز توكيل الغائب مع تأخر القبول فرع جواز التراخي؛ إذ لو قلنا: بوجوب فوريته لم يصحّ توكيل الغائب.

ولو أراد أن توكيل الغائب جائز إجماعاً فيدلّ على جواز التراخي أمكن الاستدلال بالإجماع أيضاً على جواز التراخي من غير قيد الغائب، إلّا أن يقال: الإجماع واقع في الغائب خاصّة، ولم يذكره أحد.

ص: 469


1- تذكرة الفقهاء، ج 15، ص 10، المسألة 645، وص 13، المسألة 647. بتلخيص وتقديم وتأخير.
2- منهم العلّامة في تذكرة الفقهاء، ج 15، ص 9؛ والمحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 8، ص 178.
3- تذكرة الفقهاء، ج 15، ص 11، المسألة 646.

•ومن شرطها أن تقع منجزةً، فلو علّقت بشرط متوقّع أو وقت متجدّدٍ لم تصحّ.

____________________________________________

قوله: (ومن شرطها أن تقع منجزةً، فلو علّقت بشرط متوقع أو وقت متجدّد لم تصحّ».

من شرط الوكالة وقوعها منجزةً عند علمائنا، فلو علقها على شرط متوقع - وهو ما يمكن وقوعه وعدمه - أو صفة - وهي ما كان وجوده في المستقبل محقّقاً، كطلوع الشمس، وإليها أشار بقوله «أو وقتٍ متجدّد» - لم تصح.

واحترز بتعليقها على الشرط عما لو قرنها بشرط لا يقتضي التعليق، ك_«وكّلتك في كذا، وشرطت عليك كذا» مما لا مانع منه، فإنه جائز.

واعلم أنّه متى فسد العقد لتعليقه على الشرط، فهل يصحّ التصرف بعد حصول الشرط؟ قرّب في التذكرة ذلك؛ محتجّاً ب_:

أنّ الإذن حاصل لم يزل بفساد العقد، وصار كما لو شرط في الوكالة عوضاً مجهولاً فقال: بع كذا على أن لك العشر من ثمنه، تفسد الوكالة، ولكن إن باع يصحّ(1).

ولأنّ المقتضي للصحّة حاصل وهو الإذن؛ إذ الغرض حصول المعلّق عليه، وانتفاء المانع؛ إذ ليس إلّا رفع الوكالة، وهي أخص من مطلق الإذن، ورفع الخاصّ لا يستلزم رفع العامّ، فعلى هذا فائدة الفساد سقوط الجُعل المسمّى في عقد الوكالة إن كان، والرجوع إلى الأجرة المثل،كما في المضاربة الفاسدة حيث حكم فيها بعدم استحقاق الحصّة المشروطة، ووجب للعامل أجرة المثل.

وفيه أنّ الوكالة ليست أمراً زائداً على الإذن، والجعل المشروط ليس جزءاً منها، وإنّما هو شرط زائد عليها؛ لصحّتها بدونه، بخلاف المضاربة، فإنّ اشتراط الحصّة شرط في صحتها، ولأنّه لو تم ذلك لزم الحكم بصحّة التصرّف مع فسادها بوجه آخر، كعزل الوكيل نفسه مع علم الموكل به وسكوته، فإن الإذن حاصل منه، فلا يرتفع بفسخ الوكيل، ولأنّ العقد حينئذٍ فاسد قطعاً، ولا معنى للفاسد إلّا ما لا يترتب عليه أثره، ولأن الإذن المطلق إنّما وُجد

ص: 470


1- ذكرة الفقهاء، ج 15 ، ص 15 ، المسألة 649.

• نعم، لو نجز الوكالة وشرط تأخير التصرّف جاز.

•ولو وكله في شراء عبد افتقر إلى وصفه لينتفي الغرر.

___________________________________________

في ضمن الوجه المخصوص؛ إذ لا وجود للكلّي إلا في ضمن جزئياته، ولم يوجد منها إلّا هذا الجزئي، فإذا ارتفع ارتفع الكلّي.

وللتوقّف في هذا الحكم مجال.

قوله: «نعم، لو نجز الوكالة وشرط تأخير التصرّف جاز».

كأن يقول: وكّلتك في كذا ولا تتصرّف إلّا بعد شهرٍ مثلاً، فإنّه يجوز بلا خلاف، نقله في التذكرة(1).

والوجه أنّ منعه من التصرّف في الوقت المعيّن شرط زائد على أصل الوكالة المنجزة، وهي قابلة للشروط السائغة(2)، وهذا وإن كان في معنى التعليق إلّا أن العقود لمّا كانت متلقّاة من الشارع نيطت بهذه الضوابط، وبطلت فيما خرج عنها وإن أفاد فائدتها.

قوله: «ولو وكلّه في شراء عبد افتقر إلى وصفه لينتفي الغرر».

لمّا كان العبد المطلق متوغّلاً في الإبهام صادقاً على أصناف مختلفة في الأوصاف والرغبات، لم يكن إطلاق التوكيل في شرائه كافياً، بل لابدّ من وصفه من بعض الوجوه، كقوله: عبداً تركيّاً ونحوه، لينتفي الغرر، ولا يجب الاستقصاء في الوصف بحيث ترتفع الجهالة عنه اتّفاقاً، كذا ذكره المصنّف وجماعة(3).

ويشكل بأنّ الغرر يندفع بمراعاة الوكيل المصلحة في شرائه، فإنّ الإطلاق محمول شرعاً على الاستنابة في شراء عبدٍ يكون شراؤه مشتملاً على مصلحة للموكل، فيتخيّر

ص: 471


1- تذكرة الفقهاء ، ج 15، ص 14، المسألة 648.
2- في حاشية « و » : « يستفاد من حصر الشرائط فيها أنّ الوكالة لا يشترط فيها الدوام، فلو وقتها بأمد معلوم صح وامتنع تصرّف الوكيل بعده. صرّح به في التذكرة (منه رحمه الله)» . راجع تذكرة الفقهاء ، ج 15 ، ص 15، المسألة 648.
3- منهم الشيخ في المبسوط، ج 2، ص 385؛ والعلّامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 355.

• ولو وكله مطلقاً لم يصح على قول والوجه الجواز.

_________________________________________

الوكيل حيث توجد المصلحة في متعدّد، ويكون ذلك كالقراض حيث أمره المالك بشراء شيءٍ، فإنّه أشد توغلاً في الإيهام، فالجواز مطلقاً قوي وإن كان اعتبار الوصف أحوط.

ولا فرق بين كون المقصود من العبد التجارة والقنية؛ لأنّ رعاية المصلحة معتبرة في الموضعين.

واحتمل الشهيد (رحمه الله) التفصيل، فيجب الوصف في الثاني دون الأوّل؛ لأنّ دائرة التجارة أوسع، فإنّ الغرض منها الاسترباح، وهو يتحقّق في ضمن أي فرد كان(1).

ويندفع بأنّ المصلحة معتبرة في كلّ شيءٍ بحسبه، والأعيان متفاوتة في الموضعين.

قوله: «ولو وكّله مطلقاً لم يصحّ على قول، والوجه الجواز».

القول بعدم جوازه مع الإطلاق للشيخ (رحمه الله)(2)؛ لاشتماله على الغرر.

ووجه الجواز يُعلم مما سبق، فإنّ فعل الوكيل لمّا كان مقيّداً بالمصلحة، والجهالة تنتفى بالرجوع إلى المتعارف المناسب للموكل، انتفى المانع.

وفي حكم المصنّف بجواز الوكالة مطلقاً مع الإطلاق وعدم جوازها في شراء العبد مطلقاً نوع تنافر؛ لأنّ دائرة المطلق أوسع من العبد المطلق، لأنّه فرد من أفراده، فكان أولى بالجواز.

ومثله اتّفق لفتوى القواعد، فإنّه ذكر الإطلاق بعد مسألة العبد وأنّه لابدّ من وصفه ليرتفع الغرر(3)، إلّا أنّ الشرّاح ذكروا أنّه يريد بالإطلاق في الثانية الإطلاق في وكالة شراء العبد، وجعلوه رجوعاً عن السابق(4)، وعبارة التحرير تؤيّد ما ذكروه؛ لأنّه صرّح فيها بأنّ الإطلاق في وكالة شراء العبد(5)، وهو مناسب أيضاً لنقل القول بالبطلان، فإنّ الشيخ صنع في مسألة

ص: 472


1- حكاه عنه المحقّق الكركي في جامع المقاصد، ج 8، ص 222.
2- المبسوط، ج 2، ص 385.
3- قواعد الأحكام، ج 2، ص 355.
4- إيضاح الفوائد، ج 2، ص 340؛ جامع المقاصد، ج 8، ص 221.
5- تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 23، الرقم 4051.

•وهي عقد جائز من طرفيه، فللوكيل أن يعزل نفسه مع حضور الموكّل ومع غيبته.

_____________________________________________

العبد كذلك(1)، فإن أُريد من العبارة هذا المعنى كان الحكم بتجويزه بعد اعتبار الوصف رجوعاً صريحاً، أو يريد بالافتقار الأولوية ونحوها.

ويحتمل أن يريد هنا مطلق الوكالة الشاملة لشراء العبد، وغيره أولى.

وعلى التقديرين فالأقوى الصحّة.

قوله: «وهي عقد جائز من طرفيه، فللوكيل أن يعزل نفسه مع حضور الموكل ومع غيبته». انعزال الوكيل بعزله نفسه وجعل الوكالة من أبواب العقود يقتضي أرجحية ما فر به التذكرة سابقاً(2) في القبول الفعلي من أنّه الرغبة في الفعل والرضى به لا مجرّد الفعل وإلّا لكان إباحةً محضةً وإذناً خالصاً، وهو لا يبطل بردّه، فإنّ من أذن لغيره في تناول طعامه أو أخذ شيءٍ من ماله فلم يقبل ذلك لا يبطل الإذن له، بل يجوز له التصرّف بعد ذلك؛ لأنّ المسوّغ - وهو إذن المالك - موجود، والقبول إذا لم يكن شرطاً في الإباحة لم يكن ردّها مانعاً.

ولا فرق في بطلان وكالته بعزله نفسه بين إعلام الموكل وعدمه، بخلاف عزل الموكّل له كما سيأتي(3)، والفارق النص(4)، فعلى هذا لو تصّرف بعد عزله نفسه وقبل أن يعلم الموكّل بذلك لم ينفذ تصرّفه ؛ لإبطاله العقد الجائز الذي هو مناط جواز التصرّف.

ويحتمل توقّف انعزاله على علم الموكّل، فيجوز له التصرّف قبل بلوغه؛ عملاً بالإذن العامّ الذي تضمنته الوكالة، بل يحتمل ذلك مع بلوغه أيضاً؛ لأصالة بقاء الإذن، ومجرّد علمه بالردّ لا يدلّ على بطلانه من قبل الآذن.

ص: 473


1- المبسوط، ج 2، ص 385.
2- سبق في ص 468. 3. يأتي في ص 474 - 475.
3- یأتي في ص 474 - 475.
4- الفقيه، ج 3، ص 84 - 87، ح 3386 و 3388؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 213 - 215، ح 503 و 506.

• وللموكّل أن يعزله بشرط أن يُعلمه العزل. ولو لم يُعلمه لم ينعزل وقيل: إن تعذّر إعلامه فأشهد انعزل بالعزل والإشهاد والأوّل أظهر.

_______________________________________________

ولو اكتفينا في قبول الوكيل بفعله مقتضاها كيف كان قوي هذا الاحتمال جداً؛ لأنّها تصير حينئذٍ مجرّد إذن وإباحة، ويجوز مع ذلك إطلاق العقد عليها من حيث إنّ قبولها بالقول يصحّ، ويترتب عليه أثر في الجملة.

وبهذا الاحتمال قطع في القواعد مع جهل الموكّل بالردّ، واستشكل مع علمه(1)، وليس ببعيد.

ويمكن الجمع بين كونها عقداً جائزاً يبطل بالردّ وعدم بطلان التصرّف بالرد، بأن يُحكم ببطلان الوكالة الخاصّة وما يترتب عليها من الجُعل لو كان، وبقاء الإذن العام.

ويمكن بناء هذا الحكم على ما تقدّم من أنّ بطلان الوكالة هل يقتضي بطلان الإذن العامّ أو لا؟ وقد مرّ تحقيقه(2)؛ لاشتراكهما في بطلان الوكالة هناك بعدم التنجيز وهنا بعدم القبول، إلّا أنّ الحكم هنا لا يخلو من رجحان على ذلك من حيث إن الإذن هنا صحيح جامع للشرائط، بخلاف السابق، فإنه معلّق، وفي صحّته ما قد عرفت، ومن ثَمّ جزم في القواعد ببقاء صحّته هنا، وجَعَل الصحّة هناك احتمالاً(3)، وفي التذكرة عكس، فاستقرب هناك بقاء الإذن الضمني، وجَعَل بقاءه هنا احتمالاً(4)، وفي التحرير والإرشاد أطلق القول بالبطلان

فيهما(5) كما هنا، فقد صار للعلّامة (رحمه الله) في المسألتين ثلاثة أقوال.

قوله: «وللموكّل أن يعزله بشرط أن يُعلمه العزل - إلى قوله - والأوّل أظهر».

ما اختاره المصنّف هو المشهور بين الأصحاب خصوصاً بين المتأخّرين، ومستنده

ص: 474


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 365.
2- مرّ في ص 470.
3- قواعد الأحكام، ج 2، ص 350 و 365.
4- تذكرة الفقهاء، ج 15، ص ،15، المسألة ،649 ، وص 156، المسألة 758.
5- تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 22 ، الرقم 4049، وص 23، الرقم 4052: إرشاد الأذهان، ج 1، ص 417.

...

______________________________________

أخبار عن أئمة الهدى(علیهم السلام)، كصحيحة هشام بن سالم عن الصادق(علیه السلام) عن رجل وكل آخر وكالة في إمضاء أمر من الأمور، وأشهد له بذلك شاهدين، فقام الوكيل فخرج لإمضاء الأمر، فقال: اشهدوا أني قد عزلتُ فلاناً عن الوكالة ، فقال(علیه السلام) :«إن كان الوكيل قد أمضى الأمر الذي وكّل عليه قبل أن يعزل عن الوكالة فإنّ الأمر ماض، كره الموكّل أم رضي» قلت: فإنّ الوكيل أمضى الأمر قبل أن يعلم العزل أو يبلغه أنّه قد عزل عن الوكالة فالأمر ماض على ما أمضاه؟ قال(علیه السلام): «نعم». قلت له: فإن بلغه العزل قبل أن يمضي الأمر ثمّ ذهب حتى أمضاه لم يكن ذلك بشيءٍ ؟ قال(علیه السلام) : «نعم، إنّ الوكيل إذا وكل ثمّ قام عن المجلس فأمره ماض أبداً، والوكالة ثابتة حتّى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة أو يشافهه بالعزل عن الوكالة»(1).

ولاستلزام انعزاله قبل العلم ضرراً عظيماً، كما إذا وكله في بيع جارية فيطؤها المشتري قبله، أو طعام فيأكله، ونحو ذلك.

وفي رواية العلاء بن سيّابة عنه(علیه السلام) نحو ذلك، وفيها أنه لا عبرة بالإشهاد على العزل من دون أن يعلم به الوكيل قبل الفعل(2).

والقول بالاكتفاء في انعزاله بالإشهاد للشيخ(3) وجماعة من الأصحاب(4).

واختار في القواعد انعزاله بالعزل مطلقاً(5)؛ نظراً إلى أنّه عقد جائز، ومن حقّه أن ينفسخ بالفسخ على جميع الأحوال، وإلّا كان على بعضها لازماً. والأخبار التي بعضها صحيح حجّة عليهما.

ص: 475


1- الفقيه، ج 3، ص 86 - 87، ح 3388؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 213، ح 503.
2- الفقيه، ج 3، ص 84 - 85، ح 3386؛ تهذيب الأحكام، ج 6، ص 214 - 215، ح 506.
3- النهاية ص 318.
4- منهم أبو الصلاح في الكافي في الفقه، ص 338؛ وابن حمزة في الوسيلة، ص 283؛ وابن إدريس في السرائر، ج 2، ص 93.
5- قواعد الأحكام، ج 2، ص 364.

• ولو تصرّف الوكيل قبل الإعلام مضى تصرّفه على الموكّل، فلو وكله في استيفاء القصاص ثمّ عزله فاقتصّ قبل العلم بالعزل وقع الاقتصاص موقعه.

• وتبطل الوكالة بالموت

_______________________________________

ومقتضى قول المصنّف هنا ومن وافقه على قوله - كالعلّامة في سائر كتبه(1)، حيث قيدوا الانعزال بعلمه(2)- عدم الاكتفاء ببلوغه له بما لا يفيد العلم وإن كان بعدل ، بل وإن كان بعدلين؛ لأنّهما يفيدان ظنّاً يجوز التعويل عليه شرعاً، ولكن لا يفيدان العلم؛ لأن مناطه من جهة الإخبار التواتر أو الخبر المحفوف بالقرائن إن قلنا بإفادته العلم، وهو منفي فيهما، فلا ينعزل على مقتضى ظاهر كلامهم إلّا بمشافهته به أو بلوغه الخبر ممّن يفيد قوله التواتر.

والظاهر أنّهم لا يريدون هذا المعنى قطعاً؛ لما قد عُلم من مستند الحكم، خصوصاً إخبار

الشاهدين، فإنّه حجّة شرعية فيما هو أقوى من ذلك.

والأقوى انعزاله بما دلّ عليه الخبر الصحيح(3) من إخبار الثقة وإن كان واحداً، ولا عبرة بإخبار غير العدل وإن تعدّد ما لم يثمر العلم.

قوله: «ولو تصرّف الوكيل قبل الإعلام مضى تصرّفه إلى قوله - موقعه».

هذا من فروع عدم انعزاله بعزله من دون الإعلام، والحكم حينئذ ظاهر.

وكان الأنسب عطفه عليه بالفاء ليفيد التفريع، إلّا أنّ النُسَخ المعتبرة - كنسخة شيخنا الشهيد التي قابلها بنسخة مصنّفه - بالواو.

قوله: «وتبطل الوكالة بالموت».

أي موت كلّ من الوكيل والموكل، أمّا موت الوكيل فظاهر، وأمّا موت الموكّل فتبطل

ص: 476


1- في حاشية «و»: «أي ما فيها بعد القواعد، فإنّ اللغة الفصيحة في «سائر» استعمالها بمعنى الباقي، ومنه قول النبي (صلّی الله علیه و آله وسلّم) لا بن غيلان لما أسلم على عشر نسوة: «أمسك أربعاً وفارق سائر هنّ» أي باقيهنّ (منه رحمه الله)».
2- راجع تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 24، الرقم 4054؛ إرشاد الأذهان، ج 1، ص 417.
3- الفقيه، ج 3، ص 86 - 87 ، ح 3388؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 213، ح 503.

• والجنون والإغماء من كلّ واحدٍ منهما.

• وتبطل وكالة الوكيل بالحجر على الموكل فيما يمنع الحجر من التصرّف فيه.

• ولا تبطل الوكالة بالنوم وإن تطاول.

________________________________________

به وكالة الوكيل فيكون تصرفه بعد الموت باطلاً وإن لم يعلم بموته؛ لأنّ ذلك هو الأصل، وإنما خرجت مسألة العزل بالنصّ(1).

ولا تبطل الأمانة ببطلان الوكالة هنا، فلو تلفت العين الموكل فيها في يده بغير تفريط لم يضمن، وكذا لو كان وكيلاً في قبض حقّ فقبضه بعد موت الموكّل قبل العلم به وتلف في يده بغير تفريط، لكن يجب عليه المبادرة إلى إيصال العين إلى الوارث، فإن أخر ضمن كالوديعة.

قوله: «والجنون والإغماء من كلّ واحدٍ منهما.

هذا موضع وفاقٍ، ولأنّه من أحكام العقود الجائزة.

ولا فرق عندنا بين طول زمان الإغماء وقصره، ولا بين الجنون المطبق والأدوار، وكذا لا فرق بين أن يعلم الموكّل بعروض المبطل وعدمه.

ويجيء على احتمال جواز تصرّفه مع ردّه ومع بطلان الوكالة بتعليقها على شرطٍ جوازُ تصرّفه هنا بعد زوال المانع بالإذن العامّ.

قوله: «وتبطل وكالة الوكيل بالحجر على الموكل فيما يمنع الحجر من التصرف فيه».

لأنّه إذا منع من مباشرته فمن التوكيل فيه أولى، ولسلب الحجر للسفه والفلس أهليّة التصرّف المالي مطلقاً، وفي حكم الحجر طروء الرقّ على الموكل بأن كان حربياً فاسترق. ولو كان هو الوكيل صار بمنزلة توكيل عبد الغير، وسيأتي الكلام فيه(2).

قوله: «ولا تبطل الوكالة بالنوم وإن تطاول».

ص: 477


1- الفقيه، ج 3، ص 84 - 87، ح 3386 و 3388؛ تهذيب الأحكام، ج 6 ص 213 - 215، ح 503 و 506.
2- يأتي في ص 496.

• وتبطل الوكالة بتلف ما تعلّقت الوكالة به، كموت العبد الموكَّل في بيعه، وبموت المرأة الموكَّل بطلاقها • وكذا لو فَعَل الموكل ما تعلّقت الوكالة به.

______________________________________________

لبقاء أهلية التصرّف، ومن ثم لا تثبت عليه به ولاية، ومثله السكر إلّا أن يشترط في الوكيل العدالة، كوكيل وليّ اليتيم وولي الوقف العامّ ووكيل الوكيل مطلقاً، فتبطل وكالته بالسكر الاختياري، وكذا لو فعله الموكّل الذي تشترط عدالته.

وقيّد في اللمعة النوم المتطاول بأن لا يؤدّي إلى الإغماء(1)، وهو حسن، إلا أنه خروج عن موضع الفرض .

قوله: «وتبطل الوكالة بتلف ما تعلّقت الوكالة به» إلى آخره.

المراد بمتعلّق الوكالة ما دلّ عليه لفظها مطابقةً أو تضمّناً ، فالأوّل كما ذكره المصنّف من موت العبد الموكَّل في بيعه، وموت المرأة الموكَّل في طلاقها، والثاني كتلف الدينار الموكل في الشراء به، فإنّ متعلّق الوكالة حينئذٍ الشراء وكونه بالدينار المعيّن، فإذا تلف الدينار بطلت الوكالة؛ لفوات متعلّقها في الموضعين.

ولا فرق بين أن ينصّ على الشراء بعينه ويطلق بأن يقول: اشتر به؛ لاقتضائه دفعه ثمناً، فلا يتناول ،بدله، كما لو كان تلفه موجباً لضمانه.

وفي حكم التلف انتقاله عن ملكه، كما لو أعتق العبد الموكل في بيعه، أو باع الموكَّل في عتقه، أو نقل الدينار عن ملكه كذلك وإن كان بإقراضه للوكيل وإقباضه إيّاه.

قوله: «وكذا لو فَعَل الموكل ما تعلقت الوكالة به».

كما لو وكّله في بيع عبد ثم باعه، وبطلان الوكالة ظاهر؛ لامتناع تحصيل الحاصل.

وفي حكمه فعل الموكّل ما ينافي الوكالة.

وفي كون وطء الزوجة الموكَّل في طلاقها والسرية الموكّل في بيعها منافياً وجهان، من دلالة الوطء على الرغبة ظاهراً، ولهذا دلّ فعله على الرجوع في المطلقة رجعيّة، فرفعه

ص: 478


1- اللمعة الدمشقيّة، ص 199 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 13).

•والعبارة عن العزل أن يقول: «عزلتك» أو «أزلت «نيابتك» أو «فسخت» أو «أبطلت» أو «نقضت» أو ما جرى مجرى ذلك.

•وإطلاق الوكالة يقتضي الابتياع بثمن المثل بنقد البلد حالاً.

_________________________________________

للوكالة أولى، ومن ثبوت الوكالة، ومنافاة الوطء لها غير معلوم، وثبوت الفرق بين الطلاق والوكالة، فإنّ الطلاق يقتضي قطع علاقة النكاح فينافيه الوطء، بخلاف التوكيل، فإنّه لا ينافي انتفاع الموكّل بالملك الذي من جملته الوطء بوجه.

نعم، فعل مقتضى الوكالة ينافيه والأولوية ممنوعة، وهذا أقوى.

وأولى بعدم البطلان فعل المقدّمات.

وفي القواعد فرّق بين الزوجة والسرية فقطع في الزوجة بالبطلان وفي السرية بخلافه(1)، والفرق ضعيف.

وفي التذكرة توقّف في حكم الوطء والمقدمات معاً(2).

قوله: «والعبارة عن العزل أن يقول: عزلتك» إلى آخره.

هذا بيان للعزل القولي، أما الفعلي فقد تقدّم ما يدلّ عليه(3).

ولو نهاه عن فعل ما وكّله فيه فهو عزل قولى أيضاً، وهو داخل في «ما جرى مجراه».

قوله « وإطلاق الوكالة يقتضي الابتياع بثمن المثل بنقد البلد حالاً».

يستثنى من ثمن المثل النقصان عنه بالشيء اليسير الذي يتسامح الناس بمثله ولا يناقشون به کدرهم و در همين في ألف.

ويجب تقييد جواز البيع به بعدم وجود باذل لأزيد منه، وإلّا لم يجز الاقتصار عليه، حتّى لو باع بخيار لنفسه فوجد في مدّة الخيار باذل زيادةٍ وجب عليه الفسخ إن كانت وكالته

ص: 479


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 364.
2- تذكرة الفقهاء، ج 15، ص 164، المسألة 768.
3- تقدّم آنفاً في شرح «لو فعل الموكل ما تعلقت الوكالة به».

•وأن يبتاع الصحيح دون المعيب، ولو خالف لم يصحّ، ووقف على إجازة المالك. •ولو باع الوكيل بثمن فأنكر المالك الإذن في ذلك القدر كان القول قوله مع يمينه، ثمّ تستعاد العين إن كانت باقيةً، ومثلها أو قيمتها إن كانت تالفة، وقيل: يلزم الدلال إتمام ما حلف عليه المالك، وهو بعيد.

__________________________________________

متناولةً لذلك، وليس كذلك ما لو عيّن له قدراً فوجد باذلاً لأزيد، فإنّه لا يجب عليه هنا بالأزيد مع احتماله .

والفرق أنّه في الأوّل مخاطب بالعمل بالأمر المتعارف وهنا بالعمل بما عين له.

وأمّا نقد البلد فإن اتّحد حمل عليه؛ لأنّه المعهود عند الإطلاق، وإن اختلف باع بالأغلب، فإن تساوت النقود في المعاملة باع بما هو أنفع للموكل فإن استوت نفعاً ومعاملة تخيّر.

قوله: «وأن يبتاع الصحيح دون المعيب - إلى قوله - ووقف على إجازة المالك».

لا خلاف عندنا في أنّ إطلاق الوكالة بالشراء يقتضي شراء الصحيح دون المعيب، ولأنّه المعهود عرفاً، خصوصاً فيما يشترى للقُنية، وبهذا فارقت الوكالة القراض، فإذا خالف الوكيل فاشترى المعيب عالماً كان فضوليّاً، وإن كان جاهلاً وقع عن الموكّل؛ لأنّه مكلَّف بالظاهر، والوقوف على الباطن قد يعجز عنه، بخلاف ما لو اشترى بدون(1) ثمن المثل، فإنّه لا يقع عن الموكّل وإن كان جاهلاً؛ لأنّ نقص القيمة أمر ظاهر مستند إلى تقصيره في تحرير القيمة، بخلاف العيب كذا قرّروه.

ويشكل فيهما على الإطلاق، فإنّ من العيب ما هو أظهر من الغبن كالعور والعرج، ومن الغبن ما هو أخفى على كثيرٍ من أهل الخبرة في كثيرٍ من العيوب كما في الجواهر ونحوها.

والذي يقتضيه الفرق ويوافقه النظر أنّ العيب والغبن معاً إن كانا ممّا يخفى غالباً وقع الشراء عن الموكّل مع الجهل بهما، وإلّا وقف على الإجازة، فينبغي تأمل ذلك.

قوله: «ولو باع الوكيل بثمن فأنكر المالك الإذن - إلى قوله - وهو بعيد».

ص: 480


1- في بعض النسخ: «بأزيد من» بدل «بدون».

•فإن تصادق الوكيل والمشتري على الثمن ودفع الوكيل إلى المشتري السلعة فتلفت في يده كان للموكّل الرجوع على أيهما شاء بقيمته، لكن إن رجع على المشتري لا يرجع المشتري على الوكيل؛ لتصديقه له في الإذن، وإن رجع على الوكيل رجع الوكيل على المشتري بأقلّ الأمرين من ثمنه وما اغترمه .

____________________________________________

هذا الاختلاف راجع إلى صفة الوكالة، وكما يُقبل قول الموكّل في أصلها فكذا في صفتها؛ لأنه فعله، وهو أعرف بحاله ومقاصده الصادرة عنه، ولأصالة عدم صدور التوكيل على الوجه الذي يدّعيه الوكيل.

ونبّه بقوله«ولو باع الوكيل» على أنّ فائدة هذا الاختلاف إنما هي مع وقوع التصرّف؛ لأن الوكالة قبله تندفع بمجرّد الإنكار.

لا يقال: إنّ دعوى الموكّل حينئذٍ تستلزم جَعْلَ الوكيل خائناً؛ لتصرفه على غير الوجه المأمور به، فيكون القول قوله؛ لأنّه أمين، والأصل عدم الخيانة، كما سيأتي.

لأنّا نقول: إنّ ذلك إنّما يتمّ لو كان تصرّفه بالوكالة والخيانة في بعض متعلّقاتها، كما لو ادعى الموكّل عليه - بعد تلف الثمن الذي باع به بمقتضى الوكالة - تأخر قبضه عن تقبيض المبيع أو التعدّي فيه بوجه، وهنا ليس كذلك؛ لأنّ اختلافهما في صفة التوكيل يؤول إلى الاختلاف في أصله؛ لأنّ الموكل منكر لأصل الوكالة على الوجه الذي يدّعيه الوكيل.

وبالجملة، فالوجه الذي يقتضي القبول في أصلها يقتضيه في صفتها.

والقول الذي نقله المصنّف ضعيف، ولا سند له.

قوله: «فإن تصادق الوكيل والمشتري على الثمن - إلى قوله - وما اغترمه».

إذا حلف الموكل على نفي ما ادعاه الوكيل بطل البيع بالنسبة إلى الوكيل وأمّا المشتري فإن صادق على الوكالة ثبت في حقه كذلك، وإلّا فلا، بل يلزمه اليمين على نفي العلم إن ادّعي

عليه، فإن نكل رُدّت على الموكل، وتوقّف ثبوت البطلان بالنسبة إليه على يمين أخرى.

ثمّ إمّا أن تكون العين باقية أو تالفة، فإن كانت باقيةً وثبت قول الموكّل بالنسبة إلى المشتري استرجعها ورجع المشتري بالثمن إن كان دفعه ولم يصدّق الوكيل في دعواه، وإلّا

ص: 481

...

________________________________________

رجع بأقلّ الأمرين من الثمن وقيمة المبيع؛ لأن الثمن إن كان أقلّ فليس في يد الوكيل من مال الموكّل الذي هو ظالم للمشتري بزعمه سواه، فيأخذه قصاصاً، وإن كان أكثر لم يرجع بأزيد من القيمة؛ لأنّه المظلوم فيها بزعمه، ويبقى الزائد في يد الوكيل مجهول المالك.

وإن كانت تالفة فحكمه ما ذكره المصنّف من تخيير الموكل في الرجوع على أيهما شاء أمّا المشتري فلتلف ماله في يده، وأما الوكيل فلعدوانه ظاهراً.

فإن رجع على المشتري بالقيمة وكان مصدّقاً للوكيل فيما يدعيه لم يرجع المشتري على الوكيل؛ لتصديقه له في صحة البيع وزعمه أنّ الموكل ظالم في رجوعه عليه، فلا يرجع على غير ظالمه.

هذا إذا لم يكن قد قبض الوكيل الثمن منه، وإلّا لم يتوجّه عدم الرجوع عليه؛ لأنّ الوكيل لا يستحق الثمن، والموكل لا يدّعيه؛ لعدم تعيّنه ثمناً له، وقد أغرم المشتري عوض المال، فيرجع على الوكيل بما دفعه إليه، لكن إن كان بقدر القيمة أو أقل فالرجوع به ظاهر، وإلّا رجع بقدر ما غرم ويبقى الباقي في يد الوكيل مجهول المالك.

وإن لم يكن المشتري مصدّقاً على الوكالة رجع على الوكيل بما غرمه أجمع؛ لغروره.

ولو كان الثمن أزيد وقد دفعه إلى الوكيل رجع به؛ لفساد البيع ظاهراً، وإن رجع على الوكيل رجع الوكيل على المشتري بالأقلّ من ثمنه وما اغترمه؛ لأنّ الثمن إن كان أقلّ فهو يزعم أنّ الموكّل لا يستحقّ سواه وأنّه ظالم يأخذ الزائد من القيمة، فلا يرجع به على المشتري، وإن كانت القيمة أقلّ فلم يغرم سواها، لكن يبقى الزائد مجهول المالك ظاهراً؛ لأنّ الموكل لا يستحقّه بزعمه، وموافقة الظاهر له، والوكيل قد خرج عن الوكالة بإنكار الموكّل. فليس له ،قبضه، فينتزعه الحاكم ويتوصل إلى تحصيل مالكه.

واعلم أنّ مقتضى السياق كون الوكيل لم يقبض الثمن بَعْدُ وإن كان أوّل الكلام أعمّ، وحينئذ فيرجع كلّ واحدٍ من الوكيل والمشتري على الآخر بأقلّ الأمرين مع تصادقهما، ويبقى الزائد مجهول المالك، ولو فرض القبض كانت الزيادة في يد الوكيل أيضاً مجهولةً إن اتّفقت

ص: 482

• وإطلاق الوكالة في البيع يقتضي تسليم المبيع؛ لأنّه من واجباته، وكذا إطلاق الوكالة في الشراء يقتضي الإذن في تسليم الثمن، لكن لا يقتضي الإذن في البيع قبض الثمن؛ لأنّه قد لا يؤمن على القبض.

•وللوكيل أن يردّ بالعيب؛ لأنّه من مصلحة العقد، مع حضور الموكّل وغيبته

________________________________________

قوله: «وإطلاق الوكالة في البيع يقتضي تسليم المبيع - إلى قوله - على القبض».

إنّما كان من واجباته؛ لأنّ البيع يقتضي إزالة ملك البائع عن المبيع ودخوله في ملك المشتري، فيجب على مدخل الملك التسليم؛ لأنّه من حقوقه، لكن لا يسلّمه حتّى يقبض الثمن هو أو من يكون له قبضه رعاية لمصلحة الموكل، أو يتقابضا معاً، فلو سلّم المبيع قبله فتعذّر أخذه من المشتري ضمن؛ لتضييعه إياه بالتسليم قبله.

ووجه الثاني مستفاد ممّا ذكر، وقبض المبيع فيه كقبض الثمن، فلا يقتضي التوكيل في الشراء تسلُّم الوكيل المبيع؛ لأنّه قد يستأمن على الشراء من لا يستأمن على المبيع.

نعم، لو دلّت القرائن على الإذن فيهما - كما لو وكله في شراء عين من مكان بعيد يخاف مع عدم قبض الوكيل لها ذهابها - جاز قبضه، بل وجب، كما أنّه لو أمره بالبيع في موضع يضيع الثمن بترك قبضه - كسوق غائب عن الموكّل أو البيع على متغلب على الموكّل بحيث تدلّ القرينة على أنّه لم يأمره ببيعه إلّا رجاء قبضه - جاز القبض كما مرّ، فلو أخلّ الوكيل بالقبض فتعذّر الوصول إلى الثمن ضمن؛ لتضييعه له.

قوله: «وللوكيل أن يردّ بالعيب؛ لأنّه من مصلحة العقد مع حضور الموكل وغيبته».

لأنّ الموكل قد أقامه مقام نفسه في هذا العقد، والردّ بالعيب من لوازمه، ولأنّ التوكيل لمّا

لم ينزّل إلّا على شراء الصحيح، فإذا ظهر العيب كان له الردّ وشراء الصحيح.

ويشكل الأوّل بأنّه إنّما أقامه مقام نفسه في العقد لا في اللوازم؛ إذ من جملتها القبض والإقالة وغيرهما، وليس له مباشرتها إجماعاً، والثاني بأن مقتضاه وقوف العقد على الإجازة كما مرّ، لا ثبوت الردّ.

ص: 483

•ولو منعه الموكل لم يكن له مخالفته.

___________________________________

وعلله في التذكرة :

بأنّه إنّما يلزمه شراء الصحيح في الظاهر، وليس مكلّفاً بالسلامة في الباطن؛ لأنّ ذلك لا يمكن الوقوف عليه، فلا يجوز تكليفه به ويعجز عن التحرّز عن شراء معيب لا يظهر عليه، فيقع الشراء للموكّل(1).

وهذا التعليل لا دلالة له على جواز الردّ أيضاً؛ لأنّه مغاير للشراء والتوكيل إنّما اقتضى الشراء لا الردّ، ويمكن استفادة جواز الردّ من القرائن الخارجيّة لا من نفس الصيغة.

وربما فرّق بين ما لو أطلق الموكّل كما لو قال: «اشتر لي عبداً هندياً» وبين ما لو عينه ك_«هذا العبد» فيجوز للوكيل الردّ بالعيب في الأوّل؛ لما مرّ، دون الثاني؛ لأنّه بتعيينه له قد قطع نظر الوكيل واجتهاده.

والأجود عدم جواز الردّ مطلقاً، وفاقاً للتذكرة(2)؛ لأن الوكالة في الشراء إنما اقتضت إدخال المبيع في ملكه والردّ يقابله ويضاده، فلا يدخل فيها.

قوله: «ولو منعه الموكل لم يكن له مخالفته».

لا شبهة في بطلان ردّه بالنهي المذكور؛ لأنّه إبطال للوكالة فيما تضمنته وعزل له فيه، وإذا جاز عزله عن الوكالة فعن بعض مقتضياتها أولى.

وفي حكمه إظهاره الرضى بالمعيب، فإنّه في معنى النهي عن الردّ.

وأراد بذلك الفرق بين الوكيل وعامل المضاربة ؛ حيث إنّه قد سلف(3) أنّه ليس للمالك منعه من الردّ بالعيب وإن رضي ،به مع كون العامل في معنى الوكيل، والفارق انحصار الحقّ هنا في الموكل واشتراكه في العامل.

ص: 484


1- تذكرة الفقهاء، ج 15، ص 88، المسألة 708.
2- تذكرة الفقهاء، ج 15، ص 88، المسألة 708.
3- سبق في ص 192.

[الفصل] الثاني فيما لا تصح فيه النيابة وما تصح فيه

أمّا ما لا تدخله النيابة • فضابطه ما تعلّق قصد الشارع بإيقاعه من المکلّف مباشرةً، كالطهارة مع القدرة - وإن جازت النيابة في غسل الأعضاء عند الضرورة -

__________________________________________________

قوله: «فضابطه ما تعلّق قصد الشارع بإيقاعه من المكلّف مباشرةً».

المرجع في معرفة غرض الشارع في ذلك إلى النقل؛ إذ ليس له قاعدة كلّيّة لا تنخرم وإن كانت بحسب التقريب منحصرةً فيما ذُكر.

أما العبادات فالمقصود منها فعل المكلّف ما أُمر به وانقياده وتذلله، وذلك لا يحصل إلّا بالمباشرة، ولا يفترق الأمر في ذلك بين حالتي القدرة والعجز غالباً، فإنّ العاجز عن الصلاة الواجبة ليس له الاستنابة فيها، بل يوقعها بنفسه على الحالات المقرّرة، وقريب منها الصوم.

وقد تخلّف الحكم في مواضع أشار المصنّف إلى بعضها:

منها: غَسل أعضاء الطهارة ومسحها إذا عجز عنها المكلّف؛ فإنّه يجوز له الاستنابة فيه، سواء في ذلك المائيّة والترابية، ويتولى هو النية؛ إذ لا عجز عنها مع بقاء التكليف، وليس هذا توكيلاً حقيقياً، ومن ثَمّ يقع بتولّي من لا يصحّ توكيله كالمجنون.

وأمّا تطهير الثوب والبدن وغيرهما ممّا يجب تطهيره فإنّه يجوز الاستنابة فيه، لكن كما يمكن جعل هذا النوع عبادةً كذلك يمكن إخراجه؛ إذ النيّة ليست شرطاً في صحّته، فإنّ الغرض منه هجران النجاسة وزوالها كيف اتّفق وإن توقّف حصول الثواب على فعله والتحاقه بالعبادة على النيّة.

ص: 485

والصلاة الواجبة ما دام حيّاً، وكذا الصوم والاعتكاف والحجّ الواجب مع القدرة، والأيمان والنذور، والغصب • والقسم بين الزوجات؛ لأنه يتضمن استمتاعاً،

_____________________________________________

ومنها: الصلاة الواجبة، وذلك في ركعتي الطواف حيث يجوز استنابة الحي في الحجّ الواجب والمندوبة كصلاة الزيارة، والطواف المندوب حيث يناب فيه، وأمّا غيرهما من النوافل ومطلق الصوم المندوب ففي جواز التوكيل فيه نظر، وإطلاق جماعةٍ من الأصحاب(1) المنعَ من الاستنابة في العبادات يشملهما وإن تقيّد الإطلاق في غيرهما.

والاعتكاف كالصوم لاشتراطه به.

ومنها: أداء الزكاة، فإنّ الاستنابة فيه جائزة بغير إشكال.

ومنها: عتق العبد عن كفّارةٍ وجبت عليه بإذنه أو مطلقاً على تفصيل يأتي إن شاء الله تعالى.

ومنها: الحجّ المندوب مطلقاً، والواجب عند العجز عنه، على ما تقدّم تفصيله(2).

ومنها: تولية الإمام غيره في القضاء، وكذا تولية منصوبه الخاصّ لغيره مع الإذن له في ذلك، وتسمية هذا النوع وكالة مجاز، واستثناؤه من هذا الباب؛ لكونه عبادة، بل من أكمل العبادات، وما تقدّم في الطهارة آت هنا.

وإنّما قيّدنا تولية القضاء بالإمام أو نائبه الخاصّ؛ لعدم إمكان تولية منصوبه العام - وهو الفقيه في زمان الغيبة - لغيره فيه؛ لأنّ غيره إن كان جامعاً لشرائط الفتوى كان مساوياً للأوّل في كونه نائباً للإمام فيه أيضاً، وإلا لم يتصوّر كونه قاضياً؛ لما اتّفق عليه الأصحاب من اشتراط جمع القاضي لشرائط الفتوى. نعم، يمكن الاستنابة في الحلف بعد توجّه اليمين عنده.

قوله «والقسم بين الزوجات؛ لأنّه يتضمن استمتاعاً».

هو - بفتح القاف - مصدر قولك: قسمت الشيء، ولا فرق فيه بين توكيل محرم الزوجة وغيره وإن كان يكفي فيه مجرّد الإقامة عندهنّ؛ لما نبّه عليه بقوله «لأنّه يتضمن استمتاعاً»

ص: 486


1- منهم العلّامة في إرشاد الأذهان، ج 1، ص 416؛ والسيوري في التنقيح الرائع، ج 2، ص 285.
2- تقدّم في ج 2، ص 61 وما بعدها.

والظهار واللعان وقضاء العدّة والجناية •والالتقاط والاحتطاب والاحتشاش وإقامة الشهادة • إلا على وجه الشهادة على الشهادة.

وأمّا ما تدخله النيابة فضابطه ما جعل ذريعة إلى غرض لا يختصّ بالمباشرة ، كالبيع وقبض الثمن والرهن والصلح والحوالة والضمان والشركة والوكالة والعارية وفى الأخذ بالشفعة والإبراء والوديعة وقسم الصدقات وعقد النكاح وفرض الصداق والخلع والطلاق واستيفاء القصاص وقبض الديات، وفي الجهاد على وجه ،•وفي استيفاء الحدود مطلقاً،

______________________________________________

أى تلذذاً وانتفاعاً للزوجة به، ولا يتمّ بدون الزوج.

قوله « والالتقاط والاحتطاب والاحتشاش».

بناءً على كونه يُملك بمجرّد الحيازة، فلا يتصوّر فيه الاستنابة على وجه يفيد ملكية الموكل، وقد تقدّم أنّ الأقوى جواز التوكيل فيه(1) وملك الموكل مع نيّة الوكيل الملك للموكل.

قوله: «إلّا على وجه الشهادة على الشهادة».

الأولى كون الاستثناء منقطعاً؛ لأنّ الشهادة على الشهادة ليست بطريق الوكالة، بل هي

شهادة بكون فلان شاهداً.

نعم فيها مشابهة للوكالة من حيث الصورة بسبب استناد الجواز إلى قول الشاهد الأصلي، وبسبب هذه الملامحة يمكن كون الاستثناء متّصلاً بجعلها من أفرادها مجازاً.

قوله: «وفي استيفاء الحدود مطلقاً».

أي سواء كانت حدود الآدميين كحدّ السرقة والقذف، أم حدود الله تعالى كحد الزني.

والمراد استيفاؤها بعد ثبوتها عند الحاكم بمعنى مباشرتها أو تحصيلها، ولا فرق في ذلك بین حضور المستحقّ وغيبته.

ونبّه بقوله «مطلقاً» على خلاف بعض العامة المانع من التوكيل في استيفاء حدود

ص: 487


1- تقدّم في ص 182.

• وفي إثبات حدود الآدميين، أمّا حدود الله سبحانه فلا، وفي عقد السبق والرماية والعتق والكتابة والتدبير وفي الدعوى وفي إثبات الحجج والحقوق.

• ولو وكل على كلّ قليل وكثير قيل : لا يصح؛ لما يتطرّق من الضرر، وقيل: يجوز، ويندفع الحال باعتبار المصلحة، وهو بعيد عن موضع الفرض.

نعم، لو وكله على كلّ ما يملك صح؛ لأنّه يناط بالمصلحة.

___________________________________________

الآدميين في غيبة المستحقّ؛ لأنّه لا يتيقّن بقاء الاستحقاق؛ لجواز العفو، ولأنّه ربما رقّ قلبه بحضوره فيعفو(1).

ويضعف بأنّ الأصل البقاء، والاحتمال لا أثر له مع حضوره ولا ينهض مانعاً؛ لأنّ الغرض استحقاقه الآن ومطالبته به بنائبه.

قوله: «وفي إثبات حدود الآدميين، أما حدود الله سبحانه فلا».

هكذا أطلق المصنّف والعلّامة في غير التذكرة(2).

ووجه المنع في حدود الله أنّها مبنية على التخفيف، ولأمره(صلی الله علیه و آله و سلم) بإدرائها بالشبهات(3).

والتوكيل توصّل إلى إثباتها.

والأقوى جوازه؛ لأنّ جواز الاستنابة في الأحكام على العموم يدخل الحدود فمع التخصيص أولى، وقد روي أنّ النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) وكّل أنيساً في إثبات الحد واستيفائه جميعاً، وقال:فإن اعترفت فارجمها»(4)، وهذا يدلّ على أنّه لم يكن قد ثبت، والأمر بإدرائها بالشبهات لا ينافي جواز التوكيل؛ لأنّ للوكيل أن يدرأها بالشبهة.

قوله: «ولو وكلّ على كلّ قليل وكثير قيل: لا يصحّ إلى قوله - يناط بالمصلحة».

ص: 488


1- العزيز شرح الوجيز ، ج 5، ص 210؛ روضة الطالبين، ج 3، ص 526.
2- تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 27 - 28 ، الرقم 4071؛ قواعد الأحكام، ج 2، ص 354.
3- الفقيه، ج ،4، ص 74 ، ح 5149؛ تاريخ مدينة دمشق، ج 23، ص 347.
4- مسند أحمد، ج 5، ص 92، ح 16594؛ صحيح مسلم، ج 3، ص 1324 - 1325، ح 1697/15؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 852، ح 2549؛ سنن أبي داود، ج 4، ص 153 ، ح 4445 : الجامع الصحيح ، ج 4، ص 39 - 40، ح 1433: السنن الكبرى البيهقي ، ج 8، ص 392، ح 16988.

...

________________________________________

القولان للشيخ (رحمه الله)(1)، والجواز مذهب الأكثر ؛ لانتفاء الغرر، واندفاع الضرر بمراعاة المصلحة في فعل الوكيل مطلقاً.

والمصنف (رحمه الله) ردّ هذا القيد بأنّه بعيد عن موضع الفرض، فإنّ الفرض كونه وكيلاً في كلّ شيءٍ، فيدخل فيه عتق عبيده وتطليق نسائه وهبة أملاكه ونحو ذلك ممّا يوجب الضرر، والتقييد خروج عن الكلّيّة.

وجوابه أنّ القيد معتبر وإن لم يصرّح بهذا العموم، حتى لو خصّص بفردٍ واحدٍ تقيّد بالمصلحة، فكيف بمثل هذا العامّ المنتشر ؟

وفرّق المصنّف بين هذا العام وبين ما لو خصّصه بوجه كقوله: وكّلتك على ما أملك ونحوه؛ لاندفاع معظم الغرر؛ نظراً إلى أنّ رعاية المصلحة في الأمور المنتشرة أمر خفي جداً، فإذا خصّص متعلقها سهلت.

وهو غير واضح؛ لأن رعاية المصلحة تضبط الأمرين، وانتشار الأمور لا يمنع من ذلك، فإنّ مرجع المصلحة إلى نظر الوكيل، فما علم فيه المصلحة يفعله، وما اشتبه يمتنع فعله، ولأنّه لو فصّل ذلك العامّ المنتشر فقال: وكّلتك في عتق عبدي وتطليق زوجاتي وبيع أملاكي صحّ؛ لأنّ كلّ واحدٍ منها منضبط برعاية المصلحة على ما اعترفوا به، وذلك مشترك بين الأمرين. والأقوى الجواز مطلقاً.

ص: 489


1- النهاية، ص 317؛ المبسوط، ج 2، ص 385؛ الخلاف، ج 3، ص 350 المسألة 14.

[الفصل] الثالث في الموكل

يعتبر فيه البلوغ وكمال العقل، وأن يكون جائز التصرّف فيما وكل فيه ممّا تصحّ فيه النيابة فلا تصحّ وكالة الصبيّ، مميّزاً كان أو لم يكن •ولو بلغ عشراً جاز أن يوكل فيما له التصرّف فيه كالوصيّة والصدقة والطلاق على رواية، وكذا يجوز أن يتوكّل فيه.

وكذا لا تصحّ وكالة المجنون، ولو عرض ذلك بعد التوكيل أبطل الوكالة.

وللمكاتب أن يوكل؛ لأنّه يملك التصرّف في الاكتساب.

• وليس للعبد القنّ أن يوكل إلّا بإذن مولاه • ولو وكله إنسان في شراء نفسه من مولاه صحّ.

_____________________________________

قوله: «ولو بلغ عشراً جاز أن يوكل فيما له التصرّف فيه».

بناءً على جواز تصرّفه في هذه الأشياء مباشرةً فجازت الاستنابة ، والأقوى المنع منهما.

قوله: «وليس للعبد القنّ أن يوكل إلّا بإذن مولاه».

القِنّ إن قلنا: إنّه يملك فلا يجوز توكيله فيما يملكه إلّا بإذن مولاه؛ لثبوت الحجر عليه، وإن أحلنا ملكه، فتوكيله إنّما يكون في حق مولاه، فإن لم يكن مأذوناً لم يصحّ توكيله مطلقاً؛ إذ ليس له التصرّف مباشرةً، فلا يجوز وكالته.

نعم، يجوز له التوكيل فيما يملك مباشرته بدون إذنه، كالطلاق.

وإن كان مأذوناً جاز له التوكيل فيما جرت العادة بالتوكيل فيه خاصّة. وسيأتي.

قوله: «ولو وكله إنسان في شراء نفسه من مولاه صحّ».

ص: 490

• وليس للوكيل أن يوكل إلّا بإذن من الموكل.

ولو كان المملوك مأذوناً له في التجارة جاز أن يوكل فيما جرت العادة بالتوكيل فيه؛ لأنّه كالمأذون فيه، ولا يجوز أن يوكل في غير ذلك، لأنّه يتوقّف

______________________________________________

المراد أنّه وكّله بإذن مولاه لما سيأتي من توقّف وكالته على إذنه(1)، وخصّ هذه الصورة لدفع احتمال البطلان هنا من حيث إنّ الشراء يستدعي مغايرة المشتري للمبيع، ويندفع بأنّ المغايرة الاعتبارية كافية.

ويمكن أن يكون مبنياً على جواز توكيله بغير إذن مولاه إذا لم يمنع منه شيئاً من حقوقه، كما سيأتي تحقيقه(2)، والأمر هنا كذلك؛ إذ لا منع من حقوق المولى حيث إنّه بحضرته وكلامه معه.

قوله: «وليس للوكيل أن يوكل إلّا بإذن من الموكّل».

لأنّ الوكيل لا يملك المباشرة لنفسه ولا ولاية له وإنّما هو نائب، فيقتصر على ما دلّ عليه اللفظ، فإن أذن له في التوكيل صريحاً فلا إشكال، وكذا لو دلّ اللفظ بإطلاقه أو عمومه على ذلك ك_«اصنع ما شئت أو مفوَّضاً» ونحوه.

ولو لم يأذن له صريحاً ولا ضمناً ولكن دلّت القرينة على الإذن - كما لو وكّله فيما لا يباشره مثله؛ لترفّعه عنه، أو عجزه عنه أو عن بعضه لا تّساعه، كالزراعة في أماكن متعدّدة لا يقوم جميعها إلا بمساعد - فالأجود جوازه، لكن يجب تقييده بعلم الموكل بترفّعه وعجزه، فلو لم يعلم بهما لم يجز له التوكيل؛ لانتفاء القرينة من جانب الموكل التي هي مناط الإذن.

ويقتصر في التوكيل في الأخير على ما يعجز عنه؛ لأنّ توكيله خلاف الأصل، فيقتصر فيه على موضع الحاجة.

وحيث أذن له في التوكيل فإن صرّح بكونه وكيلاً عن الوكيل لحقه أحكام الموكّل، وإن صرّح بكونه وكيلاً عن الموكّل أو أطلق، كان وكيلاً آخر عنه، وسيأتي تفصيله(3).

ص: 491


1- يأتي في ص 496 - 497.
2- يأتي في ص 496 - 497.
3- يأتي في ص 517 - 518.

على صريح الإذن من مولاه، وله أن يوكل فيما يجوز أن يتصرّف فيه من غير إذن مولاه ممّا تصح فيه النيابة كالطلاق .

وللمحجور عليه أن يوكل فيما له التصرّف فيه من طلاقٍ وخُلع وما شابهه.

• ولا يوكّل المحرم في عقد النكاح ولا ابتياع الصيد.

وللأب والجدّ أن يوكلا عن الولد الصغير.

• وتصحّ الوكالة في الطلاق للغائب إجماعاً، وللحاضر على الأظهر.

______________________________________

قوله: «ولا يوكّل المُحْرم في عقد النكاح ولا إيداع الصيد».

هذا الحكم صالح لدخوله في باب الموكل والوكيل فإنّه كما لا يجوز للمحرم أن يوكّل في العقد كذا لا يصح له التوكّل فيه.

والمُحرَّم عليهما من ذلك إيقاع العقد في حال الإحرام والتوكيل فيه كذلك، أما لو حصلت الوكالة في حالته ليوقع في حال الإحلال فظاهر العبارة منعه أيضاً، والأولى الجواز.

وهل التحريم مشروط بكون العقد للموكل كما هو ظاهر الكلام والنصّ(1)، أم هو أعمّ من ذلك حتّى يحرم على الأب والجد وشبههما التوكيل حال الإحرام في إيقاع عقد المولّى عليه، وكذا الوكيل الذي يسوغ له التوكيل ؟ كل محتمل، وطريق الاحتياط واضح.

وفي حكم التوكيل في إيداع الصيد التوكيل في شرائه وبيعه؛ لامتناع إثبات المُحرم يده على الصيد.

وفي حكم المُحْرم المعتكف في عقد البيع؛ حيث لا يجوز له ذلك.

وفي بعض النُسَخ «ابتياع الصيد» بدل «إيداعه» وهو أجود.

قوله: «وتصحّ الوكالة في الطلاق عن الغائب إجماعاً، وللحاضر على الأظهر».

هذا هو المشهور، بل ادّعى عليه ابن إدريس الإجماع(2)، ولأنّ الطلاق قابل للنيابة، وإلّا

ص: 492


1- وسائل الشيعة، ج 12، ص 436 وما بعدها، الباب 14 من أبواب تروك الإحرام، ح 1، 9،7،6،2 و 10.
2- السرائر، ج 2، ص 95.

•ولو قال الموكّل: «اصنع ما شئت» كان دالاً على الإذن في التوكيل؛ لأنّه تسليط على ما يتعلّق به المشيئة.

________________________________________________

لما صحّ توكيل الغائب، ولعموم صحيحة سعيد الأعرج عن الصادق(علیه السلام) في رجل يجعل أمر امرأته إلى رجل يطلقها أيجوز ذلك ؟ فقال(علیه السلام) : «نعم»(1) من غير استفصال، وهو يفيد العموم.

ومَنَع منه الشيخ(2) وجماعة(3)، جمعاً بين ما تقدم وبين إطلاق رواية زرارة عنه (علیه السلام): «لا تجوز الوكالة في الطلاق»(4)، بحملها على الحاضر.

وهي مع ضعفها قاصرة عن الدلالة.

قوله: «ولو قال :الموكّل: اصنع ما شئت كان دالاً على الإذن في التوكيل» إلى آخره.

تقرير الاستدلال على جواز توكيل الوكيل بذلك أنّ «ما» من صيغ العموم، وقد أذن له في أن يفعل كلّ ما شاء، فإذا شاء أن يوكّل فقد دخل في عموم الإذن، وهو جيّد في موضعه. وخالف في ذلك العلّامة في التذكرة ؛ محتجّاً بأنّه إنّما يستلزم التعميم فيما يفعله بنفسه، فلا يتناول التوكيل(5).

وجوابه يُعلم من التقرير فإنّ العموم تناول فعله بنفسه وبنائبه حيث يشاء النيابة، وفى الحقيقة مدلول العامّ كمدلول الخاصّ في الحجيّة وإن اختلفا في القوّة والضعف، فهذا إذن له في التوكيل من حيث العموم، فيدخل فيما تقدّم(6)، إلّا أنّه أعاده للتنبيه على أنّه موضع شبهةٍ، كما ذكره العلامة.

ص: 493


1- الكافي، ج 6، ص 129، باب الوكالة في الطلاق، ح1 و 2؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 38 - 39، ح 115 و 116؛ الاستبصار، ج 3، ص 278، ح 986 و 987.
2- النهاية، ص 319.
3- منهم أبو الصلاح في الكافي في الفقه، ص 337؛ وابن البرّاج في المهذّب، ج 2، ص 277.
4- الكافي، ج 6، ص 130، باب الوكالة في الطلاق، ح 6؛ تهذيب الأحكام، ج 8، ص 39، ح 120؛ الاستبصار، ج 3، ص 279 ، ح 991.
5- تذكرة الفقهاء. ج 15 ، ص 27، المسألة 659.
6- تقدّم في ص 491.

• ويستحب أن يكون الوكيل تامّ البصيرة فيما وكل فيه، عارفاً باللغة التي يحاور بها.

• وينبغي للحاكم أن يوكل عن السفهاء من يتولّى الحكومة عنهم.

• ويكره لذوي المروءات أن يتولَّوا المنازعة بنفوسهم.

_____________________________________________

قوله: «ويستحب أن يكون الوكيل تاَّم البصيرة فيما وكل فيه» إلى آخره.

أي يكون له بصيرة تامة ومعرفة باللغة التي تتعلّق بعين ما وكل فيه؛ ليكون مليّاً بتحقيق مراد الموكّل.

وقال ابن البرّاج: إنّ ذلك واجب(1)، وهو ظاهر أبي الصلاح(2)، وهو ضعيف.

قوله: «وينبغي للحاكم أن يوكّل عن السفهاء من يتولّى الحكومة عنهم».

وكذا يوكل من يباشر عنهم جميع ما يقتضيه الحال من التصرّف الذي يُمنعون منه، وكذا غير السفهاء ممّن للحاكم عليه ولاية كالصبيان والمجانين، وكذا الحكم في الوصي، إلّا أن ينصّ له الموصي على عدم التوكيل.

قوله: «ويكره لذوي المروءات أن يتولّوا المنازعة بنفوسهم».

المراد بهم أهل الشرف والمناصب الجليلة الذين لا يليق بهم الامتهان. وروي أن علياً(علیه السلام) وكل عقيلاً(3) في خصومةٍ وقال: «إنّ للخصومة قحماً وإن الشيطان ليحضرها، وإنّي لأكره أن أحضرها»(4).

قال في الصحاح : القحمة - بالضمّ - : المهلكة، وللخصومة قُحَمُ، أي أنّها تقحم بصاحبها

على ما لا يريده(5).

ص: 494


1- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة، ج 5، ص 512 المسألة 199.
2- الكافي في الفقه، ص 337.
3- في المصدر: «إنّ عليّاً وكل عبد الله بن جعفر».
4- المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 5، ص 205، المسألة 3739؛ الشرح الكبير المطبوع مع المغني، ج 5، ص 207.
5- الصحاح، ج 4، ص 2006، «قحم».

[الفصل] الرابع في الوكيل

ويعتبر فيه البلوغ، وكمال العقل ولو كان فاسقاً أو كافراً أو مرتداً.

• ولو ارتد المسلم لم تبطل وكالته؛ لأنّ الارتداد لا يمنع الوكالة ابتداءً، وكذلك استدامة.

• وكلّ ما له أن يليه بنفسه وتصحّ النيابة فيه صحّ أن يكون فيه وكيلاً، فتصحّ وكالة المحجور عليه لتبذير أو فلس، ولا تصحّ نيابة المحرم فيما ليس للمحرم أن يفعله، كابتياع الصيد وإمساكه وعقد النكاح.

___________________________________________

قوله: «ولو ارتد المسلم لم تبطل وكالته» إلى آخره.

المراد عدم بطلانها من حيث الارتداد، كما يدلّ عليه تعليله، وذلك لا ينافي بطلانها من جهة أخرى، ككونه وكيلاً على مسلم فإنه بحكم الكافر في هذه الجهة على الظاهر.

ولا فرق بين المرتد عن فطرة وغيره كما يقتضيه إطلاقهم.

وأراد بذلك دفع توهّم بطلان وكالته؛ لحكمهم ببطلان تصرّفاته.

ووجه خروج الوكالة أن تصرّفه الممنوع ما كان لنفسه، ووكالته لغيره ليست منه.

قوله: «وكلُّ ما له أن يليه بنفسه وتصحّ النيابة فيه صحّ أن يكون فيه وكيلاً».

هذا ضابط ما يجوز الوكالة فيه بمعنى أن يكون وكيلاً.

واحترز بقوله «وتصحّ النيابة فيه» عمّا يصح أن يليه بنفسه من العبادات وما وافقها من الأحكام التي لا تصحّ النيابة فيها مع أنّ للإنسان أن يليها بنفسه، ودخل فيه المحجور عليه لسفه وفلس، فإنّهما يليان لأنفسهما بعض الأفعال، فتصحّ وكالتهما فيها بل في غيرها أيضاً،

ص: 495

•ويجوز أن تتوكّل المرأة في طلاق غيرها، وهل تصحّ في طلاق نفسها؟ قيل: لا، وفيه تردّد، • وتصح وكالتها في عقد النكاح؛ لأنّ عبارتها فيه معتبرة عندنا.

•وتجوز وكالة العبد إذا أذن مولاه.

__________________________________________________

وخرج توكل المُحْرِم في حفظ الصيد وشرائه؛ إذ ليس له أن يليه لنفسه، كما مرّ(1).

قوله: «ويجوز أن تتوكّل المرأة في طلاق غيرها - إلى قوله - وفيه تردّد».

أمّا وكالتها في طلاق غيرها - سواء كانت زوجة لزوجها أم لأجنبي - فلا إشكال فيه؛ لأنّ الطلاق يقبل النيابة في الجملة.

وأمّا طلاق نفسها فمَنَع منه الشيخ وابن إدريس(2)؛ لاشتراط المغايرة بين الوكيل والمطلقة. وهو ضعيف؛ لأنّه يكفي فيه المغايرة الاعتبارية.

قوله: «و تصحّ وكالتها في عقد النكاح؛ لأنّ عبارتها فيه معتبرة عندنا».

نبّه بذلك على خلاف الشافعي؛ فإنّه منع من توكلها فيه إيجاباً وقبولاً، كالمُحْرِم(3). وليس بشيء.

قوله: «وتجوز وكالة العبد إذا أذن مولاه».

لأنّ عبارته معتبرة، والمانع كون منافعه مملوكةً لمولاه، فمع إذنه يزول المانع.

ومقتضى إطلاق توقّف توكيله على إذن المولى - في كلام المصنّف وغيره - عدم الفرق بين أن يمنع ما وكل فيه شيئاً من حقوق سيّده المطلوبة منه وعدمه، كما لو وكّله في إيجاب عقد أو قبوله في حال خلوه من أمر السيد بشيءٍ أو في حال اشتغاله بأمره أو مقدماته حيث لا منافاة.

ويدلّ على حكم الإطلاق كون منافعه بأجمعها ملكاً للسيّد، فلا فرق بين قليلها وكثيرها.

ص: 496


1- مرّ في ص 492.
2- المبسوط، ج 2، ص 354؛ السرائر، ج 2، ص 87.
3- العزيز شرح الوجيز ، ج 5، ص 217؛ روضة الطالبين، ج 3، ص 532.

...

_____________________________________________

وذهب العلّامة في التذكرة إلى جواز توكيله بغير إذنه إذا لم يمنع شيئاً من حقوقه(1)، وهو مّتجه لشهادة الحال وانتفاء الضرر.

وأورد(2) عليه:

أنّ المنافي إن كان هو أنّ منافعه بجميعها ملك المولى، فلا يجوز الانتفاع بها بدون إذنه، ولا يعتد بها في نظر الشرع بدونه، وإن كان المانع هو منافاة التوكيل لانتفاع المولى وجب أن لا يفرّق بين قليل المنافع وكثيرها، فيجوز أن يستغزله ويستنسجه حيث لا يمنع انتفاع المولى ، كأن يغزل وهو يتردّد في حوائج المولى، وذلك باطل.

وجوابه أنّا نختار الأوّل، والقليل غير المنافي خارج من العموم، مستند إلى قرائن الأحوال، بل ربما استند بعضها إلى الضرورة، كالاستظلال بحائط الغير والاستناد إليه والاستضاءة بمصباحه حيث لا يتّجه عليه ضرر، وقد تقرّر في الأصول أن الإذن في ذلك وأشباهه مستند إلى العقل، وأيضاً فإنّ ذلك يستلزم تحريم محادثة عبد الغير ومحاورته بما يستلزم تكلّمه، فإنّ ذلك من جملة منافعه التي منع من استيفائها، وهو ظاهر البطلان، والفرق بين ما حكم بجوازه وبين ما أورده من الاستغزال ونحوه شواهد الأحوال والقرائن التي تلحق الأمور المشتبهة بالمعلوم.

فإن قيل: تكليمه خرج بإطباق الناس عليه، وجريان العادة المطّردة به، كالشرب من ساقية الغير بغير إذنه.

قلنا: المستند واحد، وهو القرائن المقترنة بعدم المفسدة، مع أن إيقاعه لصيغة العقد إيجاباً أو قبولاً أو هما من جملة الكلام، فتخصيص بعضه دون بعض تحكٌّمٌ.

ولا يخفى أنّ تكليمه أيضاً مشروط بعدم منافاته لشيءٍ من حقوق السيّد، كإبطائه عن غرض مطلوب منه ونحوه، وإلّا حرم أيضاً.

ص: 497


1- تذكرة الفقهاء، ج 15، ص 32 - 33. المسألة 666.
2- المُورد هو المحقق الكركي في جامع المقاصد، ج 8، ص198.

•ويجوز أن يوكله مولاه في إعتاق نفسه.

• ولا تشترط عدالة الوليّ، ولا الوكيل في عقد النكاح.

• ولا يتوكل الذمّي على المسلم للذمّي ولا للمسلم على القول المشهور وهل يتوكل المسلم للذمّى على المسلم؟ فيه تردّد، والوجه الجواز على كراهية، ويجوز أن يتوكّل الذمّي على الذمّي.

______________________________________

قوله: «ويجوز أن يوكّله مولاه في إعتاق نفسه».

الكلام في تولّيه إعتاق نفسه كالكلام في توكيله في شراء نفسه من مولاه، فإنّه يحتمل المنع من حيث إنّ المعتق مغاير للمعتق.

والحقّ الجواز والاكتفاء بالمغايرة الاعتباريّة.

قوله: «ولا تشترط عدالة الولي، ولا الوكيل في عقد النكاح».

الجارّ متعلّق بالفعل، وهو متناول للوليّ والوكيل، أي لا تشترط عدالة الوليّ - وهو الأب والجد له - في النكاح، فلهما أن يزوّجا الولد وإن كانا فاسقين ولهما أن يوكلا غيرهما فيه.

وكذا الوكيل في عقد النكاح لا يشترط أن يكون عدلاً، بل يصحّ توكيل الفاسق فيه إيجاباً وقبولاً؛ لقبوله النيابة، وأصالة عدم اشتراط العدالة؛ إذ لا يتضمّن ذلك استئماناً على أمر خفي كالمال، خلافاً لبعض الشافعيّة؛ حيث اشترط العدالة فيهما(1).

وأمّا اشتراط عدالة الوليّ في ولاية المال ففيه خلاف بين أصحابنا.

وفي التذكرة قطع بأنّ الفاسق لا ولاية له حتى لو كان عدلاً ففسق انتزع المال منه(2).

واستشكل فى القواعد في باب الوصايا(3).

قوله: «ولا يتوكّل الذمّي على المسلم للذمّي ولا للمسلم - إلى قوله - فيه تردّد».

ص: 498


1- المهذب، الشيرازي، ج 1، ص 459؛ وحلية العلماء، ج 5، ص 116؛ وج 6، ص 332؛ والمغني المطبوع م-ع الشرح الكبير، ج 5، ص 244، المسألة 3777؛ والشرح الكبير المطبوع مع المغني، ج 5، ص 213.
2- تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 511 (الطبعة الحجرية).
3- قواعد الأحكام، ج 2، ص 564.

• ويقتصر الوكيل من التصرّف على ما أذن له فيه، وما تشهد العادة بالإذن فيه، فلو أمره ببيع السلعة بدينار نسيئة فباعها بدينارين نقداً صحّ، وكذا لو باعها بدينار نقداً، إلّا أن يكون هناك غرض صحيح يتعلّق بالتأجيل، أمّا لو أمره ببيعه حالاً فباع مؤجّلاً لم يصحّ ولو كان بأكثر ممّا عيّن؛ لأنّ الأغراض تتعلّق بالتعجيل.

______________________________________

مدار الوكالة بالنسبة إلى إسلام الوكيل والموكل والموكَّل عليه وكفرهم والتفريق ثمانية، فإنّ الموكَّل إمّا مسلم، أو كافر، وعلى التقديرين فالوكيل إما مسلم، أو كافر، وعلى التقادير الأربعة فالموكَّل عليه إما مسلم، أو كافر، فمنها صورتان لا تصحّ الوكالة فيهما عندنا، وهما ما نسب المصنّف الحكم فيهما إلى المشهور، وفي التذكرة ادّعى الإجماع عليهما(1)، وهما وكالة الكافر على المسلم لكافر أو مسلم؛ لاستلزامه السبيل للكافر على المسلم المنفيّ بالآية(2)، وباقي الصُوَر تصح الوكالة فيها من غير كراهة إلّا في صورةٍ واحدةٍ، وهي وكالة المسلم للكافر على المسلم، فإنّ المشهور فيها الكراهة ، بل ادّعى في التذكرة الإجماع عليها(3)، والمصنّف تردّد فيها ثم حَكَم بها. ويظهر من الشيخ في النهاية عدم الجواز(4). واعلم أنّ المصنّف والجماعة(5) عبّروا عن الكافر بالذمّي، ولا فرق من حيث الحكم، بل إذا ثبت المنع في الذمّي ثبت في غيره بطريق أولى، وكذا الكراهة، وصور الجواز مشتركة من غير أولوية، فلذلك عدلنا إلى التعبير بالعامّ.

قوله: «ويقتصر الوكيل من التصرّف على ما أُذن له فيه - إلى قوله - بالتعجيل».

أمّا اقتصاره على ما أذن فيه فلا شبهة فيه.

ص: 499


1- تذكرة الفقهاء. ج 15، ص 34. المسألة 668.
2- النساء (4): 141.
3- تذكرة الفقهاء . ج 15، ص 35. المسألة 668.
4- النهاية، ص 317.
5- منهم العلّامة في قواعد الأحكام، ج 2، ص 352؛ والشهيد في اللمعة الدمشقية، ص 200 (ضمن موسوعة الشهيد الأول، ج 13).

•ولو أمره ببيعه في سوق مخصوصة فباع في غيرها بالثمن الذي عيّن له، أو مع الإطلاق بثمن المثل صح؛ إذ الغرض تحصيل الثمن.

____________________________________

وأمّا تجاوزه إلى ما تشهد العادة بالإذن فيه فهو جائز مع اطّرادها أو دلالة القرائن على ما دلّت عليه، كما لو أذن له في البيع بقدرٍ نسيئة فباع به نقداً أو بأزيد بطريق أولى؛ لأنّه قد زاده خيراً.

ومثل بيع النسيئة نقداً البيع بأزيد ممّا عيّن له مع المماثلة في النقد والنسيئة والشراء بأنقص.

ويجب تقييد ذلك كله بعدم الغرض فيما عيّن، وإلا لم يجز التعدي وإن لم يصرّح بالنهي، فإنّ الأغراض تختلف، والمصالح لا تنضبط.

ويمكن كون الغرض في البيع نسيئة أن يخاف على الثمن قبل الأجل، أو يخاف ذهابه في النفقة مع احتياجه إليه بعده، فلا يجوز تعدّي أمره إلّا مع القطع بعدم الغرض، فإنّ الغرض هنا ليس نادراً حتى يُحمل على الغالب.

ومثله الشراء نسيئةً بمثل ما أذن فيه نقداً؛ لإمكان أن يتضرّر ببقاء الثمن معه، أو يخاف تلفه قبل الأجل وعدم حصوله بعده أو صعوبته، فلا يجوز التعدّي وإن جهل الحال، إلّا مع تحقّق عدم الغرض.

وأما الثمن المعيّن فيمكن كون الإقتصار عليه إرادة إرفاق المشتري إن كان معيّناً فلا يجوز بيعه بأزيد، ولو لم يكن معيّناً جاز البيع بالأكثر مع عدم العلم بالغرض وعدم التصريح بالنهي عن الزائد؛ لندور الغرض في الفرض المذكور، وأغلبية إرادة الأزيد، مع إمكان أن يريد الإرفاق ،المطلق، أو عدم الإشطاط في البيع، أو سهولة المعاملة، فإنّه مندوب إليه شرعاً، وعدم زيادة الربح عن مقدار معين لغرض شرعي، أو غير ذلك، إلا أن هذه الأمور نادرة في المطلق، فلا يلتفت إليها مع الاشتباه.

قوله: «ولو أمره ببيعه في سوق مخصوصة فباع في غيرها» إلى آخره.

الكلام هنا نحو ما سبق، فإنّ الغالب على ما ذكره المصنّف، مع إمكان تعلّق الغرض

ص: 500

• أما لو قال: «بعه من فلان فباعه من غيره لم يصح ولو تضاعف الثمن؛ لأنّ الأغراض فى الغرماء تتفاوت.

• وكذا لو أمره أن يشتري بعين المال فاشترى في الذمة، أو في الذمّة فاشترى بالعين؛ لأنّه تصرّف لم يؤذن فيه، وهو مما تتفاوت فيه المقاصد.

______________________________________

بالسوق بسبب جودة النقد أو كثرته أو حلّه أو صلاح أهله أو مودة بين الموكل وبينهم.

والمصنّف أطلق جواز التعدي، ولابد من تقييده بعدم العلم بالغرض.

واشترط في التذكرة العلم بعدم ،الغرض، فلا يجوز التخطي مع الجهل به(1)؛ لأن ذلك ليس نادراً.

ولو علم انتفاء الغرض صحّ البيع في غيره قطعاً، لكن لا يجوز نقل المبيع إليه، فلو نقله كان ضامناً، وإنّما الفائدة صحة المعاملة لا غير.

قوله: «أما لو قال: بغه من فلان، فباعه من غيره لم يصحّ ولو تضاعف الثمن» إلى آخره.

الغرض في تعيين الأشخاص أكثري، فلا يجوز التخطّي مع الإطلاق قطعاً، سواء علم الغرض أم جهل الحال أم علم انتفاء الغرض على ما يظهر من إطلاقهم؛ لندور الفرض ووقوفاً مع الإذن. قوله: «وكذا لو أمره أن يشتري بعين المال فاشترى في الذمّة» إلى آخره.

أي لا يصحّ التعدّي مطلقاً، كما مرّ؛ لاختلاف الأغراض في ذلك غالباً، فإنه يجوز أن يتعلّق الغرض بالشراء بالعين بسبب حلّ المال وخلوصه من الشبهة، وتعيين الثمن فيبطل البيع بتلفه قبل القبض؛ لاحتمال أن لا يريد بدل غيره، أو لا يقدر عليه، والعكس في شراء الذمة؛ لشبهة في المال أو تحريمه ونحو ذلك.

ويتحقّق الأمر بأحدهما بالنصّ عليه يقيناً، ك_«اشتر بعين هذا المال» أو «اشتر في الذمّة»، والأمر بالعين بالتعيين بما يدلّ عليه لغةٌ وإن لم يصرّح به ك_«اشتر بهذا المال» فإنّ «الباء» تقتضي المقابلة.

ص: 501


1- تذكرة الفقهاء، ج 15 ، ص 98، المسألة 716.

•وإذا ابتاع الوكيل وقع الشراء عن الموكل، ولا يدخل في ملك الوكيل؛ لأنّه لو دخل في ملكه لزم أن ينعتق عليه أبوه وولده لو اشتراهما، كما ينعتق أبو الموكل وولده.

__________________________________

ولو أطلق له الأمرين، أو أتى بعبارة تشملهما - بأن سلّم إليه ألفاً وقال: «اصرفها في الثمن» أو قال: «اشتر كذا بألف» ولم يشر إلى المعين ونحو ذلك - تخيّر.

ومتى قيل بعدم صحّة العقد في هذه الصُوَر، فالمراد كونه فضوليّاً يقف على الإجازة.

قوله: «وإذا ابتاع الوكيل وقع الشراء عن الموكل» إلى آخره.

هذا موضع ،وفاق، ووجهه مع ذلك أنّ الوكيل إنّما قَبِل لغيره، فوجب أن ينتقل الملك إلى ذلك الغير دونه؛ عملاً بالقصد، كما لو اشترى الأب والوصي للمولّى عليه.

ونبّه بذلك على خلاف أبي حنيفة؛ حيث حكم بأنّه ينتقل أولاً إلى الوكيل ثم ينتقل إلى الموكل؛ محتجّاً بأن حقوق العقد تتعلّق به كما لو اشتراه بأكثر من ثمن مثله ولم يذكر الموكل لفظاً، فإنّه يدخل في ملكه ولا ينتقل إلى الموكّل، ولأن الخطاب إنّما جرى معه (1).

ويضعّف بمنع تعلّق الأحكام به في نفس الأمر، وإنما تعلّقت به في المثال ظاهراً؛ لعدم العلم بقصده، والخطاب إنّما وقع معه على سبيل النيابة.

ويعارض بشراء الأب والوصيّ، فإنّه وافق فيه على وقوعه للطفل ابتداء، ويلزمه ما ذكره المصنّف (رحمه الله) من لزوم انعتاق أب الوكيل ونحوه ممّن ينعتق عليه لو اشتراه للموكل، ولم يقل به أحد قال العلامة (رحمه الله):

أوردتُ ذلك على بعض الحنفيّة، فأجاب بأنّه في الزمن الأوّل يقع للوكيل، وفي الزمن الثاني ينتقل إلى الموكل، فألزمته بأنّه لِمَ رجّح الانتقال في الزمن الثاني إلى الموكل دون العتق؟ فلم يجب بشيء(2).

ص: 502


1- العزيز شرح الوجيز، ج 5، ص 250؛ حلية العلماء، ج 5، ص 145؛ المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 5 ص 263 ، المسألة 3803؛ الشرح الكبير المطبوع مع المغني، ج 5، ص 237.
2- تذكرة الفقهاء ، ج ،15، ص 139، المسألة 744.

•ولو وكلّ مسلم ذميّاً في ابتياع خمرٍ لم يصح.

• وكلّ موضع يبطل الشراء للموكل، فإن كان سمّاه عند العقد لم يقع عن أحدهما ، وإن لم يكن سمّاه قضي به على الوكيل في الظاهر.

_____________________________________

والحق أنّه لو انتقل إلى الوكيل كان اللازم ترجيح العتق؛ لأنّه مبنيُّ على التغليب باعترافهم، وله نظائر كثيرة.

قوله: «ولو وكل مسلم ذمّيّاً في ابتياع خمر لم يصحّ».

كما يشترط كون الوكيل قادراً على أن يلي الفعل لنفسه يشترط كون الموكل كذلك، فلا يكفي جواز تصرّف أحدهما دون الآخر، وحينئذ فلا يصحّ توكيل المسلم الذمّي في بيع خمر وابتياعه وإن كان الذمّي يملك ذلك لنفسه، وقد تقدّم مثله في توكيل المُحْرِم محِلّاً في شراء صيد وبيعه(1) .

قوله: «وكلّ موضع يبطل الشراء للموكل - إلى قوله - الوكيل في الظاهر».

أمّا عدم وقوعه عن الوكيل؛ فلأن العقد تابع للقصد، وقد خص الشراء بالموكل لفظاً ونيّة. فلا يقع عنه.

وأما عدم وقوعه عن الموكّل فلمخالفة أمره ، فلا يكون ما وكل فيه واقعاً فيكون فضوليّاً.

وأما مع عدم ذكر الموكل فيقع للوكيل؛ لأنّ الخطاب معه.

هذا بحسب الظاهر، بمعنى أن البائع يأخذ منه الثمن، ويلحقه بالنسبة إليه جميع الأحكام؛ لعدم تكليفه بالأمور الباطنة.

وأمّا الوكيل في نفس الأمر مع عدم إجازة الموكّل فيجب عليه التخلّص بحسب الإمكان، وسيأتي تفصيله (2).

ولا بدّ من تقييد ذلك أيضاً بعدم الشراء بعين مال الموكّل وإلّا بطل العقد مع عدم إجازته وإن لم يذكره؛ لأنّه يصير كظهور استحقاق أحد العوضين المعيّنين.

ص: 503


1- تقدّم في ص 492.
2- يأتي في ص 505.

• وكذا لو أنكر الموكّل الوكالة، لكن إن كان الوكيل مبطلاً فالملك له ظاهراً وباطناً، وإن كان محقّاً كان الشراء للموكل باطناً.

______________________________________

هذا بالنسبة إلى نفس الأمر ، وأما بحسب الظاهر فإن صدق البائع على ذلك أو قامت به البينة ثبت البطلان ظاهراً وباطناً، ووجب عليه ردّ ما أخذه، وإلّا ثبت ظاهراً، ووجب على الوكيل عوض المدفوع للموكل؛ لتعذّر تحصيله شرعاً؛ لاعترافه بالتفريط بسبب المخالفة وعلى البائع الحلف على نفي العلم بالحال إن ادعى عليه ذلك، وإلا فلا.

واعلم أنّ المراد بتسمية الوكيل للموكّل التصريح بعقد الشراء له مع موافقة القصد على ذلك؛ إذ لو ذكره لفظاً ولم يقصده باطناً وقع البيع له ظاهراً، ووقف على إجازته؛ للمخالفة، لكن يكون الشراء في الباطن للوكيل إن لم يشتر بعين مال الموكل ولم يكن للبائع غرض في تخصيص الموكل فيكون الحكم مبنياً على الظاهر في الموضعين.

قوله: «وكذا لو أنكر الموكل الوكالة - إلى قوله كان الشراء للموكل باطناً».

هذه المسألة قد تقدّمت في مواضع جزئيّة كثيراً، وهنا أتى فيها بضابط كلّي.

وتفصيل المسألة أنّ الوكيل إذا اشترى ولم تثبت وكالته في ذلك - إمّا لدعوى المخالفة أو لإنكار أصل الوكالة - فلا يخلو إمّا أن يكون قد اشترى بعين مال الموكّل ولو بحسب الدعوى، أو في الذمّة، وعلى الأوّل إمّا أن يكون البائع عالماً بكون الثمن لمالكه، أو تقوم البيّنة بذلك، أو لا، وعلى التقادير فإمّا أن يصرّح بكون الشراء للموكل، أو ينوي ذلك خاصّةً، ثم إمّا أن يكون الوكيل صادقاً بحسب الواقع أو كاذباً.

وحكمها أنّه متى كان الشراء بالعين فهو فضولى، سواء ذكر الموكل أم لا، وسواء نوى الشراء للموكّل أم لا ، فإن لم يُجز المالك وقد ذكره صريحاً، أو كان له بيّنة أنّ العين له أو البائع عالماً بذلك، فإن كان الوكيل صادقاً فالعقد صحيح باطناً فاسد ظاهراً، فإن رجع المالك في العين وأخذها من البائع رجع إليه مبيعه، وإن رجع بالعين على الوكيل؛ لتعذّر أخذها من البائع أخذ الوكيل المبيع قصاصاً، وتوصّل إلى ردّ ما فضل منه عن حقّه إن كان هناك فضل، وإن تلفت تخيّر في الرجوع، فإن رجع على البائع رجع على الوكيل، وإن رجع على الوكيل

ص: 504

•وطريق التخلّص أن يقول الموكّل: «إن كان لي فقد بعته من الوكيل» فيصحّ البيع، ولا يكون هذا تعليقاً للبيع على الشرط، ويتقاصّان.

________________________________________

لم يرجع على البائع؛ لاعترافه بظلم الموكل في الرجوع، ولو لم يعلم البائع بالحال ولم يحصل الوصفان الآخران لم يجب عليه الدفع، بل يحلف على نفي العلم إن ادّعي عليه، ثم يغرم الوكيل ويأخذ العين قصاصاً، كما مرّ.

وإن كان الوكيل كاذباً بحسب الواقع بطل الشراء بالعين مطلقاً، وأتى فيه التفصيل، لكن إن كانت العين قد تلفت عند البائع وجب على الوكيل ردّ المبيع إليه، وإن كانت باقية عنده فخلاص الوكيل أن يصالح الموكّل عليها بما دفعه من المثل أو القيمة ثمّ يصالح البائع على العين إن أمكن.

وإن كان الشراء في الذمّة وذكر الموكّل وقع له باطناً إن كان محقّاً، وبطل ظاهراً،فيأخذه قصاصاً، وإن لم يذكره لفظاً ولا نيّة، فالشراء للوكيل ظاهراً وباطناً، وإن كان مبطلاً وذكر الموكل بطل البيع مطلقاً، وإن نواه خاصّةً فالسلعة للبائع باطناً، فيشتريها منه بالثمن إن كان باقياً، وإلّا دفعها إليه، ولا شيء عليه، وإن لم ينوه وقع الشراء للوكيل.

قوله: «وطريق التخلّص أن يقول الموكل: إن كان لي فقد بعته من الوكيل» إلى آخره.

إنّما لم يكن ذلك شرطاً مع كونه بصيغته؛ لأن الشرط المبطل ما أوجب توقف العقد على أمر يمكن حصوله وعدمه، وهذا أمر واقع يعلم الموكل حاله، فلا يضر جَعْله شرطاً.

وكذا القول في كلّ شرط علم وجوده، كقول البائع يوم الجمعة مع علمه به: إن كان اليوم الجمعة فقد بعتك كذا، ومثله قول منكر التزويج أو الوكالة عقيب دعوى الزوجة: إن كانت زوجتي فهي طالق.

ولو أوقع البيع أو الطلاق من غير تعليق على الشرط صحّ أيضاً، ولم يكن إقراراً بالتوكيل. وفاقاً للتذكرة(1).

ص: 505


1- تذكرة الفقهاء. ج،15، ص 179، المسألة 779.

• وإن امتنع الموكل من البيع جاز أن يستوفي عوض ما أدّاه إلى البائع عن موكله من هذه السلعة ويردّ ما يفضل عليه، أو يرجع بما يفضل له.

• ولو وكل اثنين، فإن شرط الاجتماع لم يجز لأحدهما أن ينفرد بشيءٍ من التصرّف، وكذا لو أطلق، ولو مات أحدهما بطلت الوكالة، وليس للحاكم أن يضمَّ إليه أميناً. أما لو شرط الانفراد جاز لكلّ منهما أن يتصرّف غير مستصحب رأي صاحبه.

______________________________________

قوله: «وإن امتنع الموكّل من البيع جاز أن يستوفي عوض ما أداه» إلى آخره.

ويكون ذلك على سبيل المقاصّة، ومن ثَمّ توقف على امتناع الموكل.

والمراد بالرجوع بما يفضل الرجوع بالزائد عن قيمة المبيع لو كانت أقلّ من الثمن المدفوع، والرجوع أيضاً على وجه المقاصّة على تقدير ظفره بمال للموكل وأمكنه وضع يده عليه، ولا يجوز له التصرّف في المبيع قبل أحد الأمرين؛ لخروج الملك عنه على كلّ تقدير ؛ لأنّه إن كان صادقاً في دعوى الوكالة فهو للموكّل، وإن كان كاذباً فهو للبائع.

ولو رفع أمره إلى الحاكم أمر مَنْ أخبره الوكيل أنه له ببيعه منه برفق، وليس له إجباره على ذلك؛ لانتفاء الملك عنه ظاهراً.

ولو باعه الحاكم بالقيمة بعد الامتناع صحّ وإن لم يعلم الحال؛ لأن الوكيل إن كان صادقاً فالموكل ممتنع من إيفاء الحق، فللحاكم البيع عليه، وإن كان كاذباً فالملك له، فتلغو الصيغة.

قوله: «ولو وكل اثنين، فإن شرط الاجتماع لم يجز - إلى قوله - أن يضم إليه أميناً».

لأنّ توكيله إيّاهما على هذا الوجه يؤذن بعدم رضاه برأي أحدهما وتصرّفه منفرداً، وإذا كان الإطلاق مؤدّياً لمعنى الاجتماع فشرطه على الخصوص لمجرد التأكيد.

والمراد باجتماعهما على العقد صدوره عن رأيهما وأمرهما معاً، لا إيقاع كلّ منهما الصيغة وإن كان ذلك جائزاً أيضاً، فلو وكل أحدهما في إيقاع الصيغة أو وكلا ثالثاً صحّ إن اقتضت وكالتهما جواز التوكيل، وإلّا تعيّن عليهما إيقاع الصيغة مباشرةً، فيوقعها كلّ واحدٍ مرّةً.

ويمكن أن يكون هذا من مواضع جواز توكيل الوكيل ولو بكون أحدهما يوكل الآخر؛ لدلالة القرائن على أنّه لا يريد مباشرة الصيغة مرّتين غالباً، وهذا بخلاف الوصيّين على

ص: 506

•ولو وكل زوجته أو عبد غيره ثمّ طلّق الزوجة وأعتق العبد لم تبطل الوكالة.

• أمّا لو أذن لعبده في التصرّف بماله ثمّ أعتقه بطل الإذن؛ لأنّه ليس على حدّ الوكالة، بل هو إذن تابع للملك.

_________________________________

الاجتماع، فإنّ توكيل أحدهما للآخر وتوكيلهما لثالث جائز، والفرق بين الوصيّ والوكيل أن الوصيّ يتصرّف بالولاية كالأب، بخلاف الوكيل، فإنه يتصرّف بالإذن، فيتبع مدلوله.

ونبّه بقوله «وليس للحاكم أن يضم إليه» على الفرق أيضاً بين الوصي والوكيل؛ حيث إنّ موت أحد الوصيين على الاجتماع يجوز للحاكم الضمّ والفرق أنّه لا ولاية للحاكم هنا على الموكّل، بخلاف الموصي ؛ لأنّ النظر في حق الميّت واليتيم إليه، وإذا تعذّر أحد الوصيّين صار الآخر بالنسبة إلى التصرّف بمنزلة عدم الوصيّ؛ إذ لم يرض برأيه منفرداً، فيشاركه الحاكم بنصب شريك.

قوله: «ولو وكل زوجته أو عبده(1) ثمّ طلّق الزوجة وأعتق العبد لم تبطل الوكالة».

إذ لا مدخل للعبوديّة والزوجيّة في صحّة الوكالة. نعم، لو باعه توقف فعله على إذن المشتري كما لو وكّل عبد غيره ابتداءً حتّى لو رد الوكالة بطلت.

قال في التذكرة : ولو لم يستأذن المشتري نفذ تصرفه وإن ترك واجباً(2).

قوله: «أمّا لو أذن لعبده في التصرّف بماله ثمّ أعتقه بطل الإذن» إلى آخره.

قد عرفت في أوّل الوكالة أن صيغتها لا تنحصر في لفظ، بل تصحّ بكل ما دلّ على الإذن في التصرّف، وحينئذٍ فيشكل الفرق بين توكيل العبد والإذن له في التصرف، حيث لا تبطل الوكالة بعتقه وتبطل الإذن إلّا أن يستفاد ذلك من القرائن الخارجية الدالّة على أنّ مراده من الإذن ما دام في رقه ومراده من الوكالة كونه مأذوناً مطلقاً، وحينئذٍ فلا فرق بين كون الإذن بصيغة الوكالة وغيرها.

مع احتمال الفرق فيزول مع الإذن المجرّد، لا مع التوكيل بلفظها ، حملاً لكلّ معنى على لفظه.

ص: 507


1- في المتن: «عبد غيره» بدل «عبده».
2- تذكرة الفقهاء، ج 15، ص 162، المسألة 765.

• وإذا وكّل إنساناً في الحكومة لم يكن إذناً في قبض الحقّ؛ إذ قد يوكَّل من لا يستأمن على المال، وكذا لو وكله في قبض المال، فأنكر الغريم لم يكن ذلك إذناً في محاكمته؛ لأنّه قد لا يرتضي للخصومة.

________________________________

ويضعّف بما مرّ، فإنّ الوكالة ليست أمراً مغايراً للإذن، بل يتأدى بكل ما دلّ عليه، فلا فرق بين الصيغتين.

واحتمل في القواعد بطلانها مع البيع دون العتق(1)؛ لانتقاله إلى التأهّل للوكالة على وجه أقوى من الحالة الأولى، بخلاف البيع؛ لانتقال منافعه لشخص آخر، فيمتنع بقاؤها من دون إذنه.

ويضعّف بأنّه لا يقصر عن توكيل عبد الغير، فإنّها لا تبطل ببيعه وإن كان للثاني فسخها، فكذا هنا.

نعم، لو صرّح المالك بالإذن التابعة للملك أو الوكالة التي لا تتوقّف على بقائه، فلا ريب في اتّباعه، وتحقّق الفرق بين الإذن والوكالة، ووجب الحكم بزوال الإذن بالعتق والبيع معاً، وبقاء الوكالة في الأوّل مطلقاً، وفي الثاني موقوفاً على إجازة المشتري.

قوله: «وإذا وكّل إنساناً في الحكومة لم يكن إذناً في قبض الحق - إلى قوله للخصومة».

لمّا كان إطلاق الإذن مقتضياً لفعل ما دلّ عليه من غير أن يتجاوز إلّا مع دلالةٍ خارجيّة على التجاوز - كما مرّ - كان إطلاق الإذن في كلّ من الخصومة والاستيفاء غير متناول للآخر؛ إذ لا يدل الإذن في أحدهما على الآخر بإحدى الدلالات، أمّا المطابقة والتضمّن فظاهر، وأمّا الالتزام فلما ذكره المصنّف من التعليل، فإنّه لا يلزم من الإذن في الخصومة الإذن في القبض؛ لجواز أن يكون المأذون عارفاً بأحكام الخصومة ودقائقها وليس بأمين على المال، كما هو واقع في كثير، ولا بالعكس؛ لجواز كونه أميناً وليس بعارف في أحكام المنازعات، كما هو الأغلب في كثير من الصالحين الذين يُستأمنون على المال ولا يصلحون للحكومة.

ص: 508


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 353.

فرع: • لو قال: «وكلتك في قبض حقّي من فلان» فمات لم يكن له مطالبة الورثة، أمّا لو قال: «وكلتك في قبض حقّي الذي على فلان» كان له ذلك.

•ولو وكّله في بيع فاسد لم يملك الصحيح ،

______________________________________

قوله: «لو قال: «وكّلتك في قبض حقي من فلان فمات - إلى قوله كان له ذلك».

الفرق بين الصيغتين أنّ «من» متعلّقة بفعل الأمر، وهو «اقبض»، ومبدؤها المديون، ففيها تعيين لمبدأ القبض ومنشأه وهو فُلانُ المديون، فلا يتعدّى الأمر إلى وارثه؛ لأنّ قبضه من الوارث ليس قبضاً من المديون.

نعم، له القبض من وكيل المديون؛ لأنّ يده يده، وهو نائب عنه، بخلاف الوارث، فإنّ الملك لم ينتقل إليه بحقّ النيابة، ومن ثمّ يحنث لو حلف على فعل شيء بفعل موكّله له لا يفعل وارثه.

وأمّا «الذي على فلان» فإنّ جملة الموصول والصلة فيه صفة للحقّ، وليس فيه تعيين للمقبوض منه بوجه، بل الإذن تعلّق بقبض الحقّ الموصوف بكونه في ذمّة زيد، فالوكيل يتبع الحقّ حيث ما انتقل.

فإن قيل: وصف الحقّ بكونه على فلانٍ يشعر بحصر القبض فيه؛ لأنّ الصفة إذا زالت بموته

لم يكن الحقّ المتعلّق بالوارث موصوفاً بكونه في ذمة فلان فلا يكون هو الموكَّل فيه.

قلنا: الوصف إنّما يفيد الاحتراز به عن دَيْنٍ آخر له في ذمّة شخص آخر، ولا إشعار له بتخصيص القبض، وبتقدير أن لا يكون له دَيْنُ آخَر على غيره فالصفة هنا لمجرد التوضيح. فيكون كما لو قال: بع عبدي النائم أو الآكل، وما شاكلهما من الأوصاف، فإنّ له بيعه وإن انتبه وترك الأكل.

قوله: «ولو وكله في بيع فاسد لم يملك الصحيح».

كما لو قال له: اشتر لي كذا إلى إدراك الغلات، أو مقدم الحاج، أو بعه كذلك، وما شاكله ولا فرق في ذلك بين أن يكونا عالمين بالفساد وجاهلين وبالتفريق، وإنّما لم يملك الصحيح؛ لعدم التوكيل فيه فيقع فضوليّاً.

ص: 509

•وكذا لو وكلّه في ابتياع معيب.

• وإذا كان لإنسان على غيره دين فوكله أن يبتاع له به متاعاً جاز، ويبراً بالتسليم إلى البائع.

_____________________________________

ورد بذلك على أبي حنيفة؛ حيث زعم أنّه يقتضيه(1).

وكما لا يملك الصحيح لا يملك الفاسد؛ لأنّ الله تعالى لم يأذن فيه، والموكل لم يملكه، فالوكيل أولى، فلو اشترى به وسلّم الثمن أو باع كذلك وسلّم المبيع ضمن.

قوله: «وكذا لو وكّله في ابتياع معيب».

أي لا يملك به ابتياع الصحيح وقوفاً مع الإذن، لكن هنا له أن يشتري المعيب؛ لأنّه أمر مشروع، والأغراض تتعلّق به كما تتعلّق بالصحيح.

ثم إن عين المعيب لم يجز التخطّي إلى غيره، سواء ساواه أم قصر أم زاد عليه، وإن أطلق

صحّ شراء ما يطلق عليه اسم المعيب.

قوله: «وإذا كان لإنسان على غيره دين فوكله أن يبتاع له به متاعاً جاز» إلى آخره.

إنّما توقّفت البراءة على التسليم إلى البائع؛ لأنّ الدين لا يتعيّن إلّا بتعيين مالكه أو من يقوم مقامه، ومالكه لم يعينه إلّا على تقدير جعله ثمناً؛ لأنّ الباء تقتضي المقابلة، ولا يصير ثمناً مع كونه في الذمّة بحيث تتحقّق البراءة منه إلّا بقبض البائع له، وبتقدير إفرازه قبل الشراء وصحته لا تتحقق البراءة منه إلا بقبض المالك له أو من يقوم مقامه، وليس هنا إلا قبض البائع، إلّا أنّ هذا القسم خارج عن موضع الفرض؛ لما تقرّر من أن مقتضى الشراء بالدين جعله عوضاً، ولا دلالة في اللفظ على إفرازه، فيقتصر على موضع اليقين، ولا مانع من جعله على هذا الوجه ثمناً للمبيع في الجملة.

ص: 510


1- المبسوط، السرخسي، ج 19، ص 63؛ العزيز شرح الوجيز ، ج 5، ص 247: المغني المطبوع مع الشرح الکبیر، ج 5، ص 252، المسألة :3789؛ الشرح الكبير المطبوع مع المغني ، ج 5، ص 240.

[الفصل] الخامس فيما به تثبت الوكالة

ولا يُحكم بالوكالة بدعوى الوكيل، ولا بموافقة الغريم ما لم يقم بذلك بيّنة، وهي شاهدان •ولا تثبت بشهادة النساء، ولا بشاهد وامرأتين ولا بشاهد ويمين، على قول مشهور.

. ولو شهد أحدهما بالوكالة في تاريخ والآخر في تاريخ آخر قبلت شهادتهما؛ نظراً إلى العادة في الإشهاد؛ إذ جمع الشهود لذلك في الموضع الواحد

____________________________________

قوله: «ولا تثبت بشهادة النساء، ولا بشاهد وامرأتين» إلى آخره.

هذا هو المذهب، ولا نعلم فيه مخالفاً، ولأنّ متعلَّق الشاهد واليمين والشاهد والمرأتين الحقوق الماليّة، والغرض من الوكالة الولاية على التصرّف والمال قد يترتّب عليها لكنّه غير

مقصود بالذات من ماهيتها.

ويشكل الحكم فيما لو اشتملت الدعوى على الجهتين، كما لو ادّعى شخص على آخر وكالة بجعل وأقام شاهداً وامرأتين أو شاهداً وحلف معه، والظاهر حينئذ أنّه يثبت المال لا الوكالة، ولا يقدح في ذلك تبعّض الشهادة، ومثله ما لو أقام ذلك بالسرقة، فإنّه يثبت المال لا القطع، ولأنّ المقصود بالذات هنا المال لا الولاية.

نعم، لو كان ذلك قبل العمل اتّجه عدم الثبوت ؛ لأنّ إنكار الولاية أبطلها، والمال لم يثبت بَعْدُ. ويمكن أن يكون نسبة المصنّف القول إلى الشهرة المشعر بتوقّفه فيه لأجل ذلك، فيكون

التوقّف في عموم الحكم لا في أصله.

قوله: «ولو شهد أحدهما بالوكالة في تاريخ - إلى قوله شهدا في وقتين».

المشهور في عبارات الأصحاب وغيرهم أنّ الشاهدين بالوكالة إذا اختلف تاريخ

ص: 511

قد يعسر، وكذا لو شهد أحدهما أنّه وكلّه بالعجمية والآخر بالعربية ؛ لأنّ ذلك يكون إشارة إلى المعنى الواحد.

__________________________________________

ولو اختلفا في لفظ العقد، بأن يشهد أحدهما أنّ الموكل قال: «وكّلتك» ويشهد الآخر أنّه قال: «استنبتك» لم تُقبل؛ لأنّها شهادة على عقدين؛ إذ صيغة كلّ واحدٍ منهما مخالفة للأُخرى.

وفيه تردّد؛ إذ مرجعه إلى أنّهما شهدا في وقتين.

أمّا لو عدلا عن حكاية لفظ الموكّل واقتصرا على إيراد المعنى جاز وإن اختلفت عبارتهما، وإذا علم الحاكم بالوكالة حكم فيها بعلمه.

__________________________________

ما شهدا به لم تثبت الوكالة بذلك؛ لأنّ كلّ صيغةٍ واقعةٍ في وقت منهما لم يقم بها شاهدان، وإحداهما غير الأُخرى، أمّا لو شهدا بإقراره بها في وقتين قبلت.

والمصنّف (رحمه الله) لم يفرّق في إطلاق كلامه بينهما، بل ظاهره في الأوّل أنّ شهادتهما بنفس الوكالة في تاريخين ولكن تعليله بعسر جمع الشهود في الوقت الواحد قد يستفاد منه أنّ المتأخر وقع على جهة الإقرار؛ لأنّ الصيغة إذا وقعت مرّةً بقي ما بعدها إقراراً بها، وعلى هذا فتكفي شهادة أحدهما بالإنشاء والآخَر بالإقرار في وقتين كما يُقبل لو شهدا معاً بالإقرار في الوقتين، ويبقى قوله «ولو اختلفا في لفظ العقد» صريحاً في إنشاء الوكالة، ومع ذلك اختلاف العبارة يقتضي تعدّد الإنشاء، كما لو تعدد الوقت وإن اتّفقت العبارة.

ومرجع تردّده في ذلك وتعليله الجواز بقوله «إذ مرجعه إلى أنهما شهدا في وقتين» يدلّ على أنّ اختلاف الوقت في العقد نفسه لا يضرّ؛ لأنّه فرض المسألة في اختلافهما في نفس العقد، وإنّما يضرّ لو تكاذبا في لفظه بأن شهد أحدهما أنّ العقد الواقع منه في الوقت المعيّن كان بلفظ «وكلتك» وشهد الآخر أنّه بعينه كان بلفظ «استنبتك»، وهنا لا إشكال في عدم الثبوت.

ص: 512

...

_____________________________________

والذي يظهر من العبارة أنّ ما عدا صورة التناقض المحض يثبت به وإن اختلف الوقت مطلقاً.

وهو مشكل؛ لعدم ثبوت كلّ واحدةٍ من الصيغتين، وإنّما الشك فيما لو شهدا بالإقرار في الوقت المختلف، إلا أن المشهور حينئذ قبوله.

والفرق بين الإقرار والإنشاء أنّ الإقرار إخبار، وهو يستدعي أمراً خارجاً مطابقاً له، ولا يلزم من تعدّد الخبر تعدّد الخارج؛ لإمكان أن يخبر عن الشيء الواحد بأخبار متعدّدة في أزمنةٍ متعدّدةٍ بألفاظ مختلفةٍ، فيكون الأمر الخارج عن نسبة الخبر مسكوتاً عنه من جهة التعدّد والاتّحاد، فيكون ذلك كإطلاق الشهادة من غير تعيين زمان أو مكان، فيثبت أصل التوكيل؛ لاتّفاقهما عليه، وأصالة عدم التعدّد في العقد الواحد، بخلاف ما لو كان الاختلاف في نفس عقد الوكالة، فإنّه إنشاء لا خارج له يقصد مطابقته، بل الوكالة حاصلة منه في الحال، فتعدّد زمانه ومكانه واختلاف صيغته يوجب اختلافه، ولم يتطابق على أحدهما ،شاهدان فلا تثبت.

فإن قيل: تعدّد الخبر كما لا يستلزم تعدّد المخبر عنه كذا لا يستلزم اتّحاده، بل هو أعمّ منهما، فلا يدلّ على أحدهما وهو الخاص، والحال أنهما لم يتعرّضا للإنشاء بنفي ولا إثبات، فلا شاهد عليه، والإقرار متعدّد، وكلّ واحدٍ من أفراده غير ثابت.

قلنا: لما ثبت أنّ الإقرار يستدعي نسبةً إلى أمرٍ خارج، وكان الإقراران مستلزمين الحصول التوكيل في الجملة، فقد حصل المقتضي للثبوت، ويبقى احتمال التعدد في المخبر بنه واتحاده، وذلك غير قادح في الشهادة، كما لو أطلقا الشهادة على الإنشاء، فإنّ المانع من ذلك إنّما هو التعدّد، وهو غير معلوم، فيجب التمسّك بالمقتضي إلى أن يثبت خلافه مع اعتضاده بأصالة عدم التعدّد.

هذا غاية ما يمكن توجيهه في الفرق الذي ادّعوه، ومع ذلك لا يخلو من نظر فكيف بما أطلقه المصنّف ؟!

ص: 513

تفریح: • لو ادّعى الوكالة عن غائب في قبض ماله من غريم، فإن أنكر الغريم فلا يمين عليه، وإن صدّقه، فإن كانت عيناً لم يؤمر بالتسليم، ولو دفع إليه كان للمالك استعادتها، فإن تلفت كان له إلزام أيّهما شاء، مع إنكاره الوكالة، ولا يرجع أحدهما على الآخر.

وكذا لو كان الحقِّ دَيْناً، وفيه تردّد لكن فى هذا لو دفع لم يكن للمالك مطالبة الوكيل؛ لأنّه لم ينتزع عين ماله؛ إذ لا يتعيّن إلّا بقبضه أو قبض وكيله، وهو ينفي كلّ واحدٍ من القسمين. وللغريم أن يعود على الوكيل إن كانت العين باقيةً أو تلفت بتفريط منه ، ولا درك عليه لو تلفت بغير تفريط.

وكل موضع يلزم الغريم التسليم لو أقرَّ يلزمه اليمين إذا أنكر.

_____________________________________

ويمكن أن يريد المصنّف باختلاف الوكالة في المسألتين الإقرار من حيث إنّ الوكالة لمّا كانت تثبت بأيّ صيغةٍ دلّت عليها فقوله: «وكّلت فلاناً» أو «استنبته على كذا» يمكن جعله إقراراً وإنشاء، إلّا مع تصريحه بأحدهما بأن يقول: «إنّه قد وكله قبل هذا الوقت» فيكون إقراراً، أو «لم يوكله فيما مضى» فيكون إنشاء والكلام فيما لو أطلق.

واعلم أنّ العلامة (رحمه الله) نقل في التذكرة عن بعض العامّة عدم الثبوت بذلك مطلقاً؛ لقيام الاحتمال(1).

ولا يخلو من وجه، لكن الظاهر عدم الخلاف عندنا وعند معظم العامّة في الثبوت مع تعدد الإقرار

قوله: «لو ادّعى الوكالة عن غائب في قبض ماله من غريم - إلى قوله - وفيه تردّد».

إذا ادّعى الوكالة عن غائب في قبض ماله ، فإن أقام بيّنةً وجب تسليمه مطلقاً، وإن لم تكن بيّنة، فإن أنكر الغريم وكيلاً فالقول قوله بغير يمين؛ لأنّ اليمين إنّما يتوجّه إذا كان المنكر بحيث لو أقرّ نفذ إقراره، وليس هنا كذلك. وفي بعض هذه المقدّمات نظر يأتي.

ص: 514


1- لم نعثر عليه.

...

___________________________________

وإن صدق الغريم مدّعي الوكالة، فإن كان الحقّ عيناً لم يؤمر بالتسليم إليه قطعاً؛ لأنّ إقراره متعلّق بحقّ المالك فلا يُسمع. نعم، يجوز له حينئذ تسليمه؛ إذ لا منازع غيرهما الآن ويبقى المالك على حجّته، فإذا حضر وصدّق الوكيل برئ الدافع، وإن كذّبه فالقول قوله مع يمينه، فإن كانت العين موجودةً أخذها، وله مطالبة من شاء منهما بردها؛ لترتّب أيديهما على ماله وللدافع مطالبة الوكيل بإحضارها لو طولب به دون العكس، وإن تعذّر ردّها لتلفٍ أو غيره تخيّر في الرجوع على من شاء منهما، فإن رجع على الوكيل لم يرجع على الغريم مطلقاً؛ لاعترافه ببراءته بدفعها إليه، وإن رجع على الغريم لم يرجع على الوكيل إن تلفت في يده بغير تفريط ؛ لأنّه بتصديقه له أمين عنده، وإلّا رجع عليه.

وإن كان الحق دَيْناً، ففي وجوب التسليم إليه مع تصديقه وجهان:

أحدهما: مساواته للعين؛ لأنّ تسليمه إنّما يكون عن الموكل، ولا يثبت بإقرار الغريم عليه استحقاق غيره(1) القبض حقّه، ولأنّ التسليم لا يؤمر به إلّا إذا كان مبرئاً للذمّة، ومن ثَمّ يجوز لمن عليه الحقّ الامتناع من تسليمه لمالكه حتّى يشهد عليه، وليس هنا كذلك؛ لأنّ الغائب يبقى على حجّته، وله مطالبة الغريم بالحقّ لو أنكر الوكالة.

والثاني: وجوب الدفع هنا؛ لأنّ هذا التصديق إنّما اقتضى وجوب التسليم من مال نفسه، وإنكار الغائب لا يؤثر في ذلك، فلا مانع من نفوذه؛ لعموم: «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز»(2)، وتوقف وجوب التسليم على كونه مبرئاً مطلقاً ممنوع، والبراءة بزعمه هنا حاصلة، والاحتجاج بجواز الامتناع للإشهاد إنّما يقتضيه على المدفوع إليه، وهو ممكن بالنسبة إلى مدعي الوكالة، فوجوب الدفع هنا أوجه.

ثم إذا حضر المالك وأنكر طالب الغريم لا الوكيل وإن كانت العين باقيةً؛ لأنّه لم يقبض

ص: 515


1- في «ق ، و»: «ولا يثبت إقرار الغريم عليه باستحقاق غيره». وفي هامش «و»: «الظاهر استحقاق بدون الباء، وإلصاقه بالاقرار أنسب كما لا يخفى».
2- أورده العلّامة في تذكرة الفقهاء، ج 9، ص 169، المسألة 101.

...

____________________________________

ماله؛ إذ لا يتعيّن الدين إلّا بتعيين مستحقه أو من يقوم مقامه، وقد انتفى ذلك هنا.

نعم، للغريم العود على الوكيل مع بقاء العين أو تلفها بتفريط، لا بدونهما؛ لبراءة القابض من عهدتها بزعم الغريم لمصادقته على كونه وكيلاً، فيكون أميناً.

وقد ظهر من ذلك أنّ الغريم إذا أنكر وكالة المدّعي لها وكان الحق ديناً يتوجّه عليه اليمين على نفي العلم مع ادّعائه عليه؛ لأنّه لو أقرّ لزمه التسليم بخلاف ما لو كان عيناً؛ عملاً بمقتضى القاعدة المشهورة أنّ كلّ مَنْ لو أقرّ بشيءٍ يلزمه لو أنكره يتوجّه عليه اليمين.

ص: 516

[الفصل] السادس في اللواحق

و فیه مسائل:

الأولى: الوكيل أمين لا يضمن ما تلف في يده إلا مع التفريط أو التعدي.

الثانية: • إذا أذن لوكيله أن يوكّل، فإن وكّل عن موكله كانا وكيلين له، تبطل وكالتهما بموته، ولا تبطل بموت أحدهما ولا بعزل أحدهما صاحبه، وإن وكله عن نفسه كان له عزله، فإن مات الموكّل بطلت وكالتهما، وكذا إن مات وكيل الأول.

________________________________________

قوله: «إذا أذن لوكيله أن يوكل فإن وكّل عن موكله كانا وكيلين له».

إذا أذن له أن يوكل، فلا يخلو إمّا أن يأذن له في التوكيل عن نفسه أو عن الموكل أو يطلق، فالأقسام ثلاثة وقد يكون التوكيل مستفاداً من القرائن الحاليّة، كاتساع متعلّق الوكالة، وترفعه عن المباشرة، أو المقالية ك_«أنت وكيل مفوَّض».

ففي القسم الأوّل: لا إشكال في كون الوكيل الثاني يكون نائباً عن الأوّل، فتبطل وكالته بعزل كلّ من الوكيل والموكل له، وبموته، وبانعزال الأول؛ لأنّه فرعه ونائبه.

وفي القسم الثاني: يكون الثانى وكيلاً عن الموكل كالأوّل، فليس لأحدهما عزل الآخر، ولا ينعزل بموته ونحوه من أسباب العزل، وإنّما ينعزل بعزل الموكل وخروجه عن أهلية الوكالة.

وفي الثالث أوجه:

أحدها: إنّه وكيل عن الوكيل؛ لأن الغرض من ذلك تسهيل الأمر عليه.

ص: 517

الثالثة: • يجب على الوكيل تسليم ما في يده إلى الموكّل مع المطالبة وعدم العذر، فإن امتنع من غير عذرٍ ،ضمن، وإن كان هناك عذر لم يضمن، ولو زال العذر فأخر التسليم ضمن ،

________________________________________

وثانيها: أنّه يكون وكيلاً للموكل؛ لأنّ التوكيل تصرّف يتولاه بإذن الموكل فيقع عن الموكل، ولأنّ ذلك هو المتبادر حيث إنّ الحق بالأصالة للموكل فالنيابة عنه(1).

وبهذا الوجه قطع في القواعد والتحرير(2)، وتوقّف في التذكرة ؛ لأنه نقل الوجهين عن الشافعيّة ولم يرجّح شيئاً(3).

وثالثها: أنّه يتخيّر بين أن يوكل عن نفسه وعن موكله، وهو ظاهر عبارة الكتاب؛ لأنّه فرض الإذن مطلقاً، ثمّ قال: «فإن وكل عن نفسه... وإن وكّل عن موكَّله».

ووجه التخيير صلاحيّة الإطلاق لهما؛ لصدق الوكيل المأذون فيه على التقديرين.

وهذا الوجه قريب إن كان قولاً؛ فإنّ العبارة - على تقدير انحصار الأمر في الوجهين الأولين - يمكن حملها على ما يوافقهما، بأن يجعل قوله «فإن وكل عن موكّله» بأن كان مضمون توكيل الموكل له ذلك، وكذا القسم الآخر، إلّا أنّه لا ضرورة إلى ذلك، فإنّ المسألة محتملة، والوجه ليس أبعد منهما.

وفي القسم الرابع - وهو ما كان مستند الإذن في التوكيل القرائن الحالية - يحتمل الأوجه الثلاثة.

وتوقّف في التذكرة(4)، وقطع في التحرير بأنّ الثاني يكون وكيلاً للوكيل(5)، وهو متّجه.

وفي القسم الخامس: - وهو القرينة المقالية - يكون كما لو أطلق.

قوله: يجب على الوكيل تسليم ما في يده إلى الموكّل - إلى قوله - لم يضمن».

ص: 518


1- في «ق، و » والطبعة الحجريّة: «بالنيابة عنه».
2- قواعد الأحكام، ج 2، ص 351؛ تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 3، ص 31، الرقم 4081.
3- تذكرة الفقهاء، ج 15، ص 29، المسألة 661.
4- تذكرة الفقهاء، ج 15، ص 29، المسألة 661.
5- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 3، ص 31،الرقم 4081.

•ولو ادعى بعد ذلك أنّ تلف المال قبل الامتناع، أو ادّعى الردَّ قبل المطالبة قيل: لا تقبل دعواه ولو أقام بينةٌ، والوجه أنّها تُقبل.

___________________________________

ما بيد الوكيل من المال الذي وكله في بيعه، وثمنه على تقدير البيع، والمبيع الذي اشتراه للموكل وغيرها، أمانةٌ في يده بإذن المالك، فلا يجب عليه إيصاله قبل طلبه، وإنّما يجب مع الطلب وإمكان الدفع، وليس المراد به القدرة العقليّة بحيث يدخل فيها فعل ما يمكنه فعله من المبادرة وإن كان على خلاف العادة، بل يرجع ذلك إلى المعروف شرعاً ثمّ إلى العرف العامّ، ويعذر بما عُدَّ عذراً فيهما وإن كان مقدوراً، كما في الصلاة عند الطلب في أثنائها وإن كانت نفلاً، والتشاغل بها عند ضيق الوقت - وإن كان الطلب قبل الشروع فيها - عذر شرعي، والفراغ من الحمّام وأكل الطعام، ونحو ذلك من الأعذار العرفيّة، صرّح به في التذكرة(1).

والعجب أنّه في الوديعة منها حَكَم بأنّه لا يعذر في ردّها مع الطلب إلّا بتعذّر الوصول إلى الوديعة، وإكمال صلاة الفرض دون النفل وغيره من الأعذار العرفيّة(2)، مع أنّ الأمر في الوديعة أسهل على الودعيّ؛ لأنّها مبنيّة على الإحسان المحض الذي يناسبه التسهيل، بخلاف الوكالة؛ إذ قد يدخلها أغراض للوكيل كالجعل ،وغيره فلا أقلّ من المساواة.

قوله: «ولو ادّعى بعد ذلك أنّ تلف المال قبل الامتناع - إلى قوله - والوجه أنها تقبل».

إذا امتنع من ردّ المال على الموكل، فقد يكون امتناعه مجرّد تقصير ومطل، وقد يكون للجحود، وعلى تقدير الجحود فقد يكون جحوده بقوله: «لا حق لك عندي» أو «لا يلزمني دفع شيءٍ إليك» وما في معناه أو «ما قبضتُ منك شيئاً».

وفي الأولين لو ادّعى تلف المال قبل الامتناع أو ردّ المال قبل المطالبة، فسماع دعواه

ص: 519


1- تذكرة الفقهاء، ج،15، ص 205، المسألة 805.
2- تذكرة الفقهاء، ج 16، ص 209، المسألة 56.

...

____________________________________________

وقبول بيّنته ظاهرُ؛ لأنّه لم يكذّبها بامتناعه الأوّل، بل هو مؤكّد لدعواه، فإنّه إذا ردّ فله الامتناع من الإجابة ،بعده والجحود بمعنى قوله : لا حقَّ لك، ونحوه. وإن كان صيغة جحوده إنكار عدم تسليمه أصلاً، فهنا قد كذب بدعواه الثانية الأولى، وكذّب بدعواه الأُولى بيّنته على الردّ أو التلف، فهذا وجه القول بعدم سماعها.

ووجه ما اختاره المصنّف من القبول جواز استناد إنكاره إلى سهو ونسيان، وعموم: «البينة على المدّعي واليمين على من أنكر»(1)، ويقوى ذلك إن أظهر لإنكاره هذا التأويل ونحوه.

ولو ادّعى على الموكّل العلم بصحّة دعواه، فالظاهر أنّ له إحلافه وإن لم تسمع دعواه.

واعلم أن عبارة المصنّف تقتضي عدم الفرق بين الأقسام الثلاثة، وأن الخلاف واقع فيها أجمع من حيث إطلاقه الامتناع والإشكال في الأولين ضعيف.

ويُفهم من قوله «فادّعى تلف المال قبل الامتناع أو الردّ» أنّه لو ادّعى ذلك بعد الامتناع أن قوله يُسمع وبينته تُقبل.

وهو حسن؛ إذ لا تكذيب حينئذ، بل غايته أن يكون بامتناعه متعدياً وغاصباً، وذلك لا ينافي سماع دعواه ولا قبول بينته.

وأطلق العلامة (رحمه الله) في غير الإرشاد عدم سماع دعواه في الصورتين(2)، وفي الإرشاد السماع هنا.

وعلى هذا الحكم في الردّ واضح، وأمّا في دعوى التلف فتقبل من جهة العين، ويلزمه المثل أو القيمة؛ لأنّه ضامن بجحوده.

ص: 520


1- سنن الدارقطني، ج 3، ص 37، ح 3151 و 3152؛ السنن الكبرى البيهقي، ج 10، ص 427، ح 21201؛ تلخيص الحبير، ج 4، ص 167 ، ح 2037.
2- تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 43 الرقم 4124: إرشاد الأذهان، ج 1، ص 420.

الرابعة: • كلّ مَنْ في يده مال لغيره أو في ذمّته له أن يمتنع من التسليم حتّى يُشهد صاحب الحقّ بالقبض ويستوي في ذلك ما يُقبل قوله في ردّه وما لا يُقبل إلّا ببينة؛ هرباً من الجحود المفضي إلى الدرك أو اليمين.

و فصّل آخرون بين ما يقبل قوله في ردّه وما لا يُقبل، فأوجبوا التسليم في الأول، وأجازوا الامتناع في الثاني إلّا مع الإشهاد. والأول أشبه.

____________________________________

قوله: «كلّ مَنْ في يده مال لغيره أو في ذمته - إلى قوله - والأول أشبه».

وجه التفصيل أنّ ما يُقبل قول الدافع في ردّه لا يتوجَّه عليه ضرر بترك الإشهاد؛ لأنّ قبول قوله يدفع الغرم عن نفسه، بخلاف ما لا يُقبل.

وربما فصّل بعضهم هذا القسم بأنّه إن كان بالحقّ بيّنة فله الامتناع حتّى يُشهد، وإلّا فلا ؛ لأنّه وإن لم يُقبل قوله لو أقرّ لكن يمكنه إنكار أصل الحقّ على وجه يصدق، بأن يقول: إنّه لا يستحق عنده شيئاً، فيُقبل قوله كالقسم الأوّل.

والأقوى ما اختاره المصنّف لأنّ تكلّف اليمين ضرر عظيم وإن كان صادقاً؛ وإذن الشارع فيها وترتب الثواب عليها لا يدفع أصل الضرر، خصوصاً في بعض الناس من ذوي المراتب، فإنّ ضرر الغرامة عليهم أسهل من اليمين.

واعلم أنّ في قول المصنّف: «حتّى يُشهد صاحب الحقّ بالقبض» تجوزاً، لأنّ الغريم إذا كان له الامتناع من الإقباض حتى يُشهد كيف يمكن المستحقّ الإشهاد بالقبض ولم يقع؟ فإنّه ليس بصحيح، وكان حقّه أن يقول: «حتّى يُشهد على القبض».

والأحسن في الجواب أن يجعل «الباء» بمعنى «على» فإنّه واقع لغةً، ومنه قوله تعالى: «ومنهم من إن تأمنه بقنطار»(1)» أي على قنطار.

ص: 521


1- الآية 3 من سورة آل عمران (3) هكذا: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِيَ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ)

الخامسة: • الوكيل في الإيداع إذا لم يُشهد على الوَدَعِي لم يضمن، ولو كان وكيلاً في قضاء الدين فلم يشهد بالقبض ضمن، وفيه تردّد.

السادسة: • إذا تعدّى الوكيل في مال الموكل ضمنه، ولا تبطل وكالته؛ لعدم التنافي.

____________________________________

وقوله «كلّ مَنْ في يده... أو في ذمّته» يشمل نحو الحقوق الواجبة كالزكاة، فإنّها حقٌّ في

الذمّة أو في يده على تقدير عزلها، وليس له التأخير إلى أن يُشهد على دفعها.

قوله: «الوكيل في الإيداع إذا لم يُشهد على الودعيّ لم يضمن» إلى آخره.

الفرق أنّ الإيداع مبني على الإخفاء، وهو فيها أمر مطلوب، بخلاف قضاء الدين، بل هو على الضدّ، ولأنّ الودعيّ قوله مقبول في الرد والتلف، فلا يؤثر الإشهاد في ،تغريمه بخلاف المديون.

ووجه التردّد في الحكم ممّا ذكرناه ومن عدم دلالة مطلق الأمر على الإشهاد، فيحصل الامتثال بدونه .

وتردّد المصنّف يمكن كونه في مجموع الحكم في المسألتين، أو في المسألة الثانية، وهي مسألة الدين خاصّةً، فلا ينافي ما سبق في الوديعة من حكمه بعدم الضمان بترك الإشهاد(1).

ويمكن كونه في كلّ واحدة من المسألتين، فيكون رجوعاً عن السابق، والظاهر هو الأول.

ولابدّ من تقييد الحكم بكون الأداء بغير حضرة الموكل، وإلّا انتفى الضمان؛ لأنّ التفريط حينئذٍ مستند إلى الموكل.

قوله: «إذا تعدّى الوكيل في مال الموكل ضمنه، ولا تبطل وكالته؛ لعدم التنافي».

نبّه بذلك على خلاف بعض العامّة؛ حيث زعم أنّها تبطل بالتعدي؛ لأنّها أمانة، فترتفع بزوالها كالوديعة(2).

ص: 522


1- سبق في ص 351.
2- العزيز شرح الوجيز، ج 5، ص 249: المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 5، ص 244، المسألة 3778؛ الشرح الكبير المطبوع مع المغني، ج 5، ص 214.

•ولو باع ما تعدّى فيه وسلّمه إلى المشتري برئ من ضمانه؛ لأنّه تسليم مأذون فيه، فجرى مجرى قبض المالك.

_____________________________________

وبطلانه ظاهر؛ لما ذكره المصنّف من عدم التنافي بين الضمان والإذن.

وتحريره أنّ الوكالة تضمّنت شيئين، الأمانة والإذن في التصرف، فإذا تعدى زالت الأمانة،وبقي الإذن بحاله، كما أنّ الرهن لما اشتمل على شيئين أيضاً الأمانة والتوثّق، لم يبطل الثاني ببطلان الأول بالتعدّي عند الجميع.

وبهذا يحصل الفرق بينها وبين الوديعة؛ فإنّ الوديعة لم تشتمل إلّا على الأمانة، فإذا ارتفعت بقيت مضمونةً، مع أنّا نمنع بطلان الوديعة مطلقاً.

قوله: «ولو باع ما تعدّى فيه وسلّمه إلى المشتري برئ من ضمانه» إلى آخره.

لا خلاف في زوال الضمان عنه بالتسليم إلى المشتري ؛ لما ذكره المصنّف، ولأنّ المشتري قد مَلَكه، فإذا وصل إليه بإذن المالك زال الضمان وإنّما الكلام في زواله بمجرّد البيع، فإنّه يحتمل ذلك؛ لخروجه عن ملك الموكّل به ودخوله في ملك المشتري وضمانه، وعدمه؛ لأنّه ربما بطل العقد بتلفه قبل قبض المشتري، فيكون التلف على ملك الموكّل. وهذا أقوى. وتردّد في التذكرة(1).

ولو قبض ثمنه في موضع الجواز لم يكن الثمن مضموناً عليه وإن كان أصله مضموناً؛ لقبضه بإذن الموكل ولم يتعدّ فيه. ومثله ما لو تعدّى في الثمن ثمّ اشترى به وقبض المبيع.

ولو ردّ عليه بعيب، ففي عود الضمان وجهان، أجودهما العدم؛ لانتقال الملك إلى المشتري بالعقد، وبطلان البيع من حينه، لا من أصله، وموضع الإشكال على تقدير جواز رده عليه.

ص: 523


1- تذكرة الفقهاء، ج 15، ص 136 - 137، المسألة 741.

السابعة: • إذا أذن الموكّل لوكيله في بيع ماله من نفسه فباع جاز، وفيه تردّد، وكذا في النكاح.

__________________________________________

قوله: «إذا أذن الموكل لوكيله في بيع ماله من نفسه فباع جاز» إلى آخره.

القول بالجواز للأكثر؛ لوجود المقتضي ، وهو إذن المالك له في البيع المذكور، وانتقاء المانع؛ إذ ليس إلّا كونه وكيلاً، وذلك لا يصلح للمانعيّة.

ووجه التردّد ممّا ذكر، ومن قول الشيخ(1) وجماعة(2)بالمنع منه؛ للتهمة، ولأنه يصير موجباً وقابلاً عند المانع عنه.

ولا ريب في قوّة جانب الجواز؛ لمنع التهمة مع الإذن، ومراعاة المصلحة المعتبرة في كلِّ وكيل، وجواز تولّي الواحد الطرفين عندنا.

ولو أطلق له الإذن، ففي جواز بيعه من نفسه القولان، وأولى بالمنع هنا.

وقد ذهب جماعة(3)من مجوّزي الأوّل إلى المنع مع الإطلاق؛ لما تقدّم، ولأن المفهوم من الاستنابة في البيع البيع على غيره، فلا يتناوله الإطلاق.

وقد ورد مع ذلك روايات على المنع من شراء الوكيل من نفسه.

منها: رواية هشام بن الحكم عن الصادق(علیه السلام) : إذا قال لك الرجل: اشتر لي، فلا تعطه من عندك وإن كان الذي عندك خيراً منه»(4).

وفي حديث آخر عنه(علیه السلام) نحوه، وتلا (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ ) الآية(5).

ص: 524


1- المبسوط، ج 2، ص 373.
2- منهم ابن إدريس في السرائر، ج 2، ص 97؛ وابن الجنيد على ما حكاه عنه العلامة في مختلف الشيعة، ج 5، ص 518، المسألة 204.
3- منهم الشيخ في المبسوط، ج 2، ص 373؛ وابن إدريس في السرائر، ج 2، ص 97 - 98؛ والعلامة في إرشاد الأذهان، ج 1، ص 417؛ وقواعد الأحكام، ج 2، ص 356 - 357.
4- الكافي، ج 5، ص 151 - 152، باب آداب التجارة ، ح 6: تهذيب الأحكام، ج 1، ص 352، ح 998؛ وج 7، ص 6 - 7، ح 19.
5- تهذيب الأحكام، ج 1، ص 352 ، ح 999؛ والآية 72 من سورة الأحزاب (33).

...

___________________________________

ويمكن الاحتجاج به على منع البيع أيضاً؛ لعدم الفرق والقائل به.

وذهب في المختلف إلى الجواز؛ للأصل، ولجوازه في الأب والجدّ، فكذا في الوكيل(1)، والمغايرة الاعتبارية هي المصحّحة في الجميع.

وقد ظهر بذلك أنّ الخلاف في هذه المسألة ليس باعتبار تولّي الواحد طرفي العقد؛ لأنّ جماعةً قائلون بجوازه مع منعهم هنا، ولأنّه يمكن المغايرة بتوكيله في القبول إن لم يجز في الإيجاب.

نعم، يزيد الحكم بالجواز بُعداً عند القائل بمنع تولّي الطرفين. والخلاف في المسألة في موضعين، وينحلّ إلى ثلاثة:

أحدها: أنّ الوكيل هل يدخل في إطلاق الإذن أم لا؟

الثاني: مع التصريح بالإذن هل له أن يتولّاه لنفسه إن وكل في القبول أم لا؟

الثالث: على القول بالجواز مع التوكيل هل يصحّ تولّي الطرفين أم لا؟

والشيخ على المنع في الثلاثة(2)، والعلّامة في المختلف على الجواز في الثلاثة(3)، وفي غيره في الأخيرين(4)، والمصنّف يجوّز الأخير(5)، ويمنع الأوّل، وقد تردّد في الوسط.

ص: 525


1- مختلف الشيعة، ج 5، ص 89- 90، المسألة 49، وص 518 المسألة 204.
2- الخلاف، ج 3، ص 346، المسألة 9؛ والمبسوط، ج 2، ص 373.
3- مختلف الشيعة، ج 5، ص 89 - 90، المسألة 49، و ص 518، المسألة 204.
4- قواعد الأحكام، ج 2، ص 356 - 357؛ إرشاد الأذهان، ج 1، ص 417.
5- تقدّم في ج 3، ص 70.

[الفصل] السابع في التنازع

وفيه مسائل:

الأولى: • إذا اختلفا في الوكالة فالقول قول المنكر؛ لأنّه الأصل.

• ولو اختلفا في التلف فالقول قول الوكيل؛ لأنّه أمين، وقد يتعذّر إقامة البيّنة بالتلف غالباً، فاقتنع بقوله، دفعاً لالتزام ما تعذّر غالباً.

_________________________________

قوله: «إذا اختلفا في الوكالة فالقول قول المنكر؛ لأنّه «الأصل».

لا فرق في ذلك بين كون منكر الوكالة الموكل والوكيل؛ للأصل، ومن ثمّ أطلق المنكر.

وتوجيه كون منكرها الموكل ظاهر.

وأمّا إنكار الوكيل فيمكن فرضه فيما لو كان التوكيل في شيء مشروطاً في عقد لازم، وشرط إيقاعه في وقت معيّن، وحصل الاختلاف بعد انقضائه في حصول التوكيل فادّعاه الموكل ليخرج عن العهدة ويصير العقد لازماً، وأنكره الوكيل، ونحو ذلك.

قوله: «ولو اختلفا في التلف فالقول قول الوكيل - إلى قوله - غالباً».

المراد تلف المال الذي بيده على وجه الأمانة ؛ ليدخل فيه العين الموكل في بيعها قبله، وثمنها حيث يجوز له قبضه بعده، والعين الموكَّل في شرائها كذلك. ووجه القبول - مع مخالفته للأصل - بعد الإجماع ما ذكره المصنّف.

ولا فرق بين أن يدّعي تلفها بسبب ظاهر، كالغرق والحرق، وخفيّ، كالسرق عندنا. وفي

حكمه الأب والجد والحاكم وأمينه والوصيّ.

وقد تقدم الخلاف في قبول قول بعض الأمناء(1).

ص: 526


1- تقدّم في ص 350.

•ولو اختلفا في التفريط فالقول قول منكره؛ لقوله(علیه السلام) : «واليمين على من أنكر».

الثانية: • إذا اختلفا في دفع المال إلى الموكل، فإن كان بجعل كلّف البيِّنة؛ لأنّه مدع، وإن كان بغير جُعل قيل: القول قوله، كالوديعة، وهو قول مشهور، وقيل: القول قول المالك، وهو الأشبه.

_______________________________________

قوله: «ولو اختلفا في التفريط فالقول قول منكره لقوله(علیه السلام) : واليمين على من أنكر».

يمكن أن يريد بالتفريط ما يشمل التعدّي، إمّا لاشتراكهما في الحكم واستعمال أحدهما في الآخر كثيراً، وإمّا لأنّ التفريط إذا عدي ب_«في» ضمن معنى التقصير، وإذا عدّي ب_«على» ضمّن معنى التعدّي، كما نصّ عليه الجوهري(1)، ومن الثاني قوله تعالى: (إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا )(2)، وقد ذكره هنا خالياً من حرف التعدّى، فيحتمل الأمرين.

قوله: «إذا اختلفا في دفع المال إلى الموكل - إلى قوله - وهو الأشبه».

وجه عدم قبول قوله مطلقاً واضح؛ لأصالة عدم الردّ، وعموم: «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر»(3)والتفصيل يقطع الاشتراك.

والقائل بالتفصيل نظر إلى أنّه مع عدم الجُعل أمين، وقد قبض المال لمحض مصلحة المالك، فكان محسناً محضاً، وكلّ ما دلّ على قبول قول الودعيّ يدلّ عليه، كقولهم: إنّه يؤدّي إلى الإعراض عن قبول النيابة في ذلك، وهو ضرر منفي(4).

وفيه أنّ الأمانة لا تستلزم القبول، كمن قبض لمصلحة نفسه مع كونه أميناً، والضرر

ص: 527


1- الصحاح، ج 2، ص 1148، «فرط».
2- طه (20): 45.
3- تقدّم تخريجه في ص 520،الهامش 1.
4- الكافي، ج 5، ص 280، باب الشفعة، ج 4، و ص 292 - 294، باب الضرار، ح 2 و 6 و 8؛ الفقيه، ج 3، ص 76، ح 3371، و ص 233، ح 3862؛ و ج 4، ص 334، ح 5721؛ تهذيب الأحكام، ج 7، ص 146 - 147، ح 651، و ص 164، ح 727.

• أمّا الوصيّ فالقول قوله في الإنفاق؛ لتعذّر البينة فيه، دون تسليم المال إلى الموصى له، وكذا القول في الأب والجدّ والحاكم وأمينه مع اليتيم، إذا أنكر القبض عند بلوغه ورشده، وكذا الشريك والمضارب ومن حصل في يده ضالة.

الثالثة: • إذا ادّعى الوكيل التصرّف، وأنكر الموكل، مثل أن يقول: بعتُ أو ،قبضتُ قيل: القول قول الوكيل؛ لأنّه أقرّ بماله أن يفعله، ولو قيل: القول قول الموكل أمكن، لكنّ الأوّل أشبه.

_____________________________________

مندفع بالإشهاد والتقصير في تركه منه، والإحسان لا ينافي عدم قبول قوله في الردّ، وكونه من جملة السبيل المنفي عنه(1) يندفع بأنّ اليمين عليه سبيل أيضاً وليس بمندفع. ويمكن الجواب بأنّ السبيل المنفيّ نكرة منفيّة فتعمّ إلا ما أخرجه الدليل، واليمين ثابت بالإجماع فكان خارجاً فيبقى الباقي.

والحقّ أنّ قبول قول الودعيّ إن كان خارجاً بالإجماع فهو الفارق، وإلّا فلا فرق، وفي الإجماع بعد، وقد تقدّم الكلام على ذلك(2).

قوله: «أما الوصيّ فالقول قوله في الإنفاق؛ لتعذّر البينة فيه» إلى آخره.

ظاهرهم هنا عدم الخلاف في تقديم قول الموصى له واليتيم في عدم القبض ، وهو يؤيّد تقديم قول الموكل فيه؛ للاشتراك في العلّة بل ربما كان الإحسان هنا أقوى، أمّا الإنفاق فخرج من ذلك - مع أنّ الأصل عدم ما يدعيه المنفق - لعسر إقامة البيّنة عليه في كلّ وقتٍ يحتاج إليه، فيستلزم العسر والحرج المنفيّين(3)، بخلاف تسليم المال.

قوله: «إذا ادّعى الوكيل التصرّف وأنكر الموكل - إلى قوله - الأوّل أشبه».

وجه الأشبه أنّه أمين وقادر على الإنشاء، والتصرّف إليه، ومرجع الاختلاف إلى فعله وهو أعلم به.

ص: 528


1- التوبة (9)؛ 91.
2- تقدّم في ص 350.
3- البقرة (2): 185: الحجّ (22): 78.

الرابعة: • إذا اشترى إنسان سلعة وادعى أنّه وكيل لإنسان فأنكر كان القول قوله مع يمينه، ويقضى على المشتري بالثمن، سواء اشترى بعين أو في الذمّة، إلّا أن يكون ذكر أنّه يبتاع له في حالة العقد.

______________________________________

ووجه تقديم قول الموكل ظاهر؛ لأصالة عدم الفعل.

وقد اختلف كلام العلامة (رحمه الله) في هذه المسألة، فجزم في الإرشاد بتقديم قول الوكيل(1) من غير نقل خلافٍ، وقربه في القواعد(2)، وجزم في التذكرة بتقديم قول الموكل إن كان النزاع بعد عزل الوكيل، واستقرب كون الحكم قبل العزل مثله؛ لأصالة عدم التصرّف وأصالة بقاء الملك على مالكه(3)، وتوقّف في التحرير(4) والأجود الأول.

واعلم أنّه لا يحتاج إلى تقييد التصرّف في فرض المسألة بكون الثمن قد تلف في يد الوكيل، بأن يقول مثلاً: بعتُ وقبضتُ الثمن وتلف في يدي، كما ذكره بعضهم تبعاً لتقييده بذلك في التحرير(5)؛ لأنّ الكلام في دعوى الوكيل التلف قد ذكر سابقاً مطلقاً(6)، وهو أمر خارج عن هذه المسألة، وإنّما حاصل هذه دعوى الموكل عدم التصرّف بالبيع ونحوه ليرتجع العين، والوكيل يدّعي الفعل، سواء ترتب عليه مع ذلك دعوى التلف أم لا.

قوله: «إذا اشترى إنسان سلعةً وادعى أنّه وكيل لإنسان - إلى قوله - حالة العقد».

إذا حلف المنكر اندفع الشراء عنه، وحكم به للمشتري ظاهراً وأُلزم بالثمن.

ويجب تقييده زيادة على ما استثناه المصنف (رحمه الله) بعدم اعتراف البائع بكونه وكيلاً، أو كون العين التي اشترى بها ملكاً للمنكر، أو قيام البيّنة بذلك، وإلّا بطل أيضاً، كما لو ظهر استحقاق أحد العوضين المعيّنين.

ص: 529


1- إرشاد الأذهان، ج 1، ص 420.
2- قواعد الأحكام، ج 2، ص 370.
3- تذكرة الفقهاء، ج 15، ص 184، المسألة 783.
4- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 3، ص 42، الرقم 4122.
5- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 3، ص 42، الرقم 4122.
6- تقّدم في ص 526.

•ولو قال الوكيل : ابتعتُ لك، فأنكر الموكل، أو قال: ابتعتُ لنفسى فقال الموكّل: بل لى، فالقول قول الوكيل؛ لأنّه أبصر بنيته.

الخامسة: • إذا زوجه امرأةٌ فأنكر الوكالة ولا بينة كان القول قول الموكل مع يمينه، ويلزم الوكيل مهرها، وروي نصف مهرها، وقيل: يُحكم ببطلان العقد في الظاهر، ويجب على الموكل أن يطلقها إن كان يعلم صدق الوكيل ، وأن يسوق لها نصف المهر، وهو قويُّ.

___________________________________

قوله: «ولو قال الوكيل: ابتعتُ لك، فأنكر الموكّل» إلى آخره.

الوجه في المسألتين أنّ الاختلاف راجع إلى قصده، ولا يُعرف إلا من قبله، فيرجع إليه فيه.

وهل يلزمه مع ذلك يمين؟ الظاهر ذلك، إما بناءً على سماع دعوى التهمة، أو لإمكان اطلاع الموكّل على الحال بإقراره قبل ذلك.

نعم، لو صرّح بكون قصده ذلك من غير وجه محتمل أحتمل عدم سماع الدعوى.

قوله: «إذا زوجه امرأة فأنكر الوكالة ولا بينة - إلى قوله - وهذا قويّ(1)».

وجه الأوّل: أنّ المهر يجب بالعقد كَمَلاً، وإنّما ينتصف بالطلاق وليس وقد فوّته الوكيل عليها بتقصيره بترك الإشهاد فيضمنه، وهو اختيار الشيخ في النهاية(2).

والثاني: هو المشهور بين الأصحاب، واختاره الشيخ أيضاً في المبسوط(3).

ومستنده ما رواه عمر بن حنظلة عن الصادق(علیه السلام) في رجل قال لآخر: اخطب لي فلانة فما فعلت من شيءٍ ممّا قالت من صداقٍ أو ضمنت من شيءٍ أو شرطت فذلك رضى لي، وهو لازم لي، ولم يُشهد على ذلك، فذهب فخطب له وبذل عنه الصداق وغير ذلك ممّا طلبوه

ص: 530


1- في نسخ الشرح: «هذا أقوى».
2- النهاية، ص 319.
3- المبسوط، ج 2، ص 379.

...

__________________________________________

وسألوه، فلمّا رجع إليه أنكر ذلك كله، قال(علیه السلام) : «يغرم لها نصف الصداق عنه، وذلك أنه هو الذي ضيّع حقّها، فلما أن لم يُشهد لها عليه بذلك الذي قال له حلّ لها أن تتزوج ولا تحلّ للأوّل فيما بينه وبين الله تعالى إلّا أن يطلّقها؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿فَإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحُ بِإِحْسَنٍ )(1)، فإن لم يفعل فإنّه مأثوم فيما بينه وبين الله عزّ وجلّ، وكان الحكم

الظاهر حكم الإسلام قد أباح الله لها أن تتزوّج»(2).

ولأنّه فسخ قبل الدخول، فيجب معه نصف المهر، كالطلاق.

وفي الأخير منعٌ، وفي سند الحديث ضعف، ولو صحّ لم يمكن العدول عنه.

والقول الثالث: الذي اختاره المصنّف قويُّ، ووجهه واضح، فإنّه إذا أنكر الوكالة وحلف على نفيها انتفى النكاح ظاهراً، ومن ثمّ يباح لها أن تتزوّج، وقد صرّح به في الرواية، فينتفي المهر أيضاً؛ لأنّ ثبوته يتوقّف على لزوم العقد، ولأنّه على تقدير ثبوته إنّما يلزم الزوج؛ لأنّه عوض البضع، والوكيل ليس بزوج.

نعم، لو ضمن الوكيل المهر كلَّه أو نصفه لزمه حسب ما ،ضمن، ويمكن حمل الرواية عليه.

وأمّا وجوب الطلاق على الزوج مع كذبه في نفس الأمر ووجوب نصف المهر عليه فواضح.

واعلم أنّ المرأة إنّما يجوز لها التزويج مع حلفه إذا لم تصدق الوكيل عليها، وإلّا لم يجز لها التزويج قبل الطلاق؛ لأنّها باعترافها زوجة، بخلاف ما إذا لم تكن عالمةً بالحال، فلو امتنع من الطلاق لم يُجبر عليه؛ لانتفاء النكاح ظاهراً، وحينئذ ففي تسلّطها على الفسخ دفعاً للضرر، أو تسلّط الحاكم على الطلاق؛ لأنّ له ولاية الإجبار على الممتنع، أو بقائها كذلك حتّى يطلق أو يموت، أوجُه.

ص: 531


1- البقرة (2):229.
2- الفقيه، ج 3، ص 85 - 86، ح 3387؛ تهذيب الأحكام، ج 1، ص 213 - 214، ح 504.

السادسة: • إذا وكَّله في ابتياع عبدٍ فاشتراه بمائة، فقال الموكّل: «اشتريته بثمانين» فالقول قول الوكيل؛ لأنّه مؤتمن ولو قيل: القول قول الموكل كان أشبه؛ لأنّه غارم .

السابعة: • إذا اشترى لموكّله كان البائع بالخيار إن شاء طالب الوكيل، وإن شاء طالب الموكّل.

والوجه اختصاص المطالبة بالموكّل مع العلم بالوكالة، واختصاص الوكيل مع الجهل بذلك.

_________________________________________

قوله: «إذا وكله في ابتياع عبد فاشتراه بمائة - إلى قوله - لأنه غارم».

التقدير أنّ المبيع يساوي مائة كما ذكره في التحرير(1)، وإلّا لم يكن الشراء صحيحاً؛ لما تقدّم من حمل إطلاق الإذن على الشراء بثمن المثل(2).

ووجه تقديم قول الوكيل أنّ الاختلاف في فعله، وهو أمين، وأنّ الظاهر أنّ الشيء إنّما يشترى بقيمته وهو قويُّ.

ووجه تقديم قول الموكّل أصالة براءته من الزائد ولأنّ في ذلك إثبات حق للبائع على الموكل، فلا يُسمع.

ولا فرق في ذلك بين كون الشراء بالعين وفي الذمّة؛ لثبوت الغرم على التقديرين.

قوله: «إذا اشترى لموكله كان البائع بالخيار - إلى قوله - مع الجهل بذلك».

أمّا مع الجهل؛ فلأنّ العقد وقع معه، والثمن لازم له ظاهراً، فله مطالبته، وأمّا مع العلم بكونه وكيلاً؛ فلأنّه يكون نائباً عن غيره، فلا حقّ له عنده، بل عند الموكل.

والمراد بالجهل بالوكالة كونه مستمرّاً إلى أن حصل القبض، فلو كان جاهلاً وقت العقد معه بكونه وكيلاً ثمّ ثبتت وكالته، فالمطالب الموكل.

ص: 532


1- تحرير الأحكام الشرعية، ج 3، ص 42، الرقم 4123.
2- تقدم في ص 480.

الثامنة: • إذا طالب الوكيل فقال الذي عليه الحقّ: لا تستحقّ المطالبة لم يُلتفت إلى قوله؛ لأنّه مكذب لبيّنة الوكالة، ولو قال: عزلك الموكّل لم يتوجّه على الوكيل اليمين، إلا أن يدّعى عليه العلم، وكذا لو ادّعى أنّ الموكل أبرأه.

___________________________________________

ويحتمل بقاء استحقاق المطالبة للوكيل؛ استصحاباً لما كان، ولإمكان عدم رضاه بمطالبة الموكل لو علم ابتداء. ولا يكفي في ثبوت الوكالة اعتراف الموكّل بها؛ لإمكان تواطئهما على إسقاط حقّ المشتري عن مطالبة الوكيل، لكن هنا له الرجوع على من شاء منهما، صرّح به في التذكرة(1).

ووجه التخيير مطلقاً أنّ الحقّ على الموكل والعقد مع الوكيل. وهو ضعيف، والمذهب هو الأوّل.

واعلم أنّ الحكم بمطالبة الموكل مع العلم والوكيل مع الجهل لا يتمّ أيضاً على إطلاقه؛ لأنّ الثمن لو كان معيّناً لم يكن له مطالبة غير من هو في يده، بل الأولى أن يقال في المسألة: إنّ الثمن إما أن يكون معيّناً، أو مطلقاً، وعلى التقديرين فإمّا أن يسلّم إلى الوكيل أو لا، وعلى التقادير فإمّا أن يكون البائع عالماً بوكالته، أو غير عالم.

وحكمها أنّه متى كان الثمن معيّناً فالمطالب به مَنْ هو في يده، سواء في ذلك الوكيل والموكل، وإن كان في الذمّة ودفعه الموكل إلى الوكيل تخيّر البائع فى مطالبة أيهما شاء مع علمه بالوكالة، أمّا الوكيل فلأن الثمن في يده وأمّا الموكّل فلأنّ الشراء له، وما دفع لم ينحصر في الثمن بَعْدُ، وإن لم يكن دَفَعه إلى الوكيل فله مطالبة الوكيل مع جهله بكونه وكيلاً وعدم البيّنة عليها، والموكّل مع علمه، وهذا القسم الأخير يصلح مسألة الكتاب.

قوله: «إذا طالب الوكيل، فقال الذي عليه الحق: لا تستحق المطالبة إلى قوله - أبرأه».

وجه التكذيب أنّ مقتضى إقامة البيّنة استحقاق المطالبة، فنفيه ذلك رد لمقتضاها، فلا يلتفت إليه.

ص: 533


1- تذكرة الفقهاء، ج 15، ص 145 ، المسألة 750.

التاسعة: • تُقبل شهادة الوكيل لموكله فيما لا ولاية له فيه • ولو عزل قبلت في الجميع ما لم يكن أقام بها أو شرع في المنازعة.

العاشرة: • لو وكّل بقبض دينه من غريم له، فأقرّ الوكيل بالقبض وصدّقه الغريم، وأنكر الموكّل فالقول قول الموكل، وفيه تردّد.

•أمّا لو أمره ببيع سلعة وتسليمها وقبض ثمنها، فتلف من غير تفريط، فأقرّ الوكيل بالقبض وصدّقه المشتري وأنكر الموكّل، فالقول قول الوكيل؛ لأنّ

_____________________________________________

ويشكل بأنّ نفي الاستحقاق أعمّ من تكذيب البينة؛ لجواز كون سببه طروء العزل، أو الإبراء عن الحق، أو الأداء إلى الموكل أو إلى وكيل آخر، فينبغي أن تُسمع دعواه، ومن ثَمّ استشكل الحكم في القواعد(1).

ويمكن دفع الإشكال بأنّ نفي الاستحقاق لمّا كان مشتركاً بين ما تسمع وما لا تسمع لم تُسمع ؛ لأنّه لا يُعدّ دعوى شرعيّةً حتى تحرَّر.

قوله: «تُقبل شهادة الوكيل لموكّله فيما لا ولاية له فيه».

لعدم المانع ، بخلاف ماله فيه ولاية ؛ لأنّه يُثبت لنفسه حقاً ، ولو شهد عليه قبل مطلقاً.

قوله: «ولو عزل قبلت فى الجميع ما لم يكن أقام بها أو شرع في المنازعة».

لانتفاء المانع من القبول حينئذٍ، خلافاً لبعض العامّة؛ حيث ردّها مطلقاً؛ نظراً إلى أنّ مجرّد عقد الوكالة أوجب الخصومة(2). وبطلانه واضح.

قوله: «لو وكّل بقبض دَيْنه من غريم له فأقرّ الوكيل بالقبض وصدقه الغريم» إلى آخره.

منشأ التردّد من الاختلاف في فعل الوكيل فيُقدّم قوله فيه، ولأنّه أمين، ومن أصالة بقاء حقّ الموكل عند الغريم. والأقوى تقديم قول الوكيل.

قوله: «أمّا لو أمره ببيع سلعة وتسليمها وقبض ثمنها - إلى قوله - وفي الفرق نظر».

ص: 534


1- قواعد الأحكام، ج 2، ص 368.
2- المغني المطبوع مع الشرح الكبير، ج 5، ص 268، المسألة 3809.

الدعوى هنا على الوكيل من حيث إنّه سلّم المبيع ولم يتسلّم الثمن، فكأنّه يدّعى ما يوجب الضمان، وهناك الدعوى على الغريم، وفي الفرق نظر.

_______________________________________

نبّه أوّلاً على الفرق بين المسألتين - مع اشتراكهما في موجب تقديم قول الوكيل(1).- والموكل - بأنّ الموكل يدّعي على الوكيل ما يوجب الخيانة، وهو تسليم المبيع قبل قبض الثمن، فيكون القول قول الموكّل .

ووجه التردّد في الفرق اشتراكهما في كون النزاع في تصرّف الوكيل، وقد تقدّم أن قوله مقبول فيه(2)، فينبغي أن يقدّم قوله في الصورتين، فإنّ المصنف قد ترددّ في الحكم الأوّل وجزم في الثاني، فيكون الاستشكال في الفرق راجعاً إلى ردّ الأوّل إلى الثاني، لا إلى عكسه وإن أمكن من حيث اشتراكهما في أصالة عدم القبض؛ لأنّ دعوى الخيانة في الثانية لا راد لها، وهي أمر زائد على ما توجّه في تقديم كلّ منهما.

وهذا كلّه إنّما يتمّ مع كون التسليم متوقّفاً على القبض، كما لو وكله في البيع حالاً ولم يصرّح له بالإذن في تسليم المبيع قبل قبض الثمن، أمّا مع الإذن أو كون الثمن مؤجّلاً فلا فرق في تقديم قول الموكل بين تسليم المبيع وعدمه، إلا أنّه يشكل بما قلناه من أنّ مرجع ذلك إلى دعوى الوكيل التصرّف والتلف، وقوله مقدّم فيهما، وغايته أن يتوجّه في دعوى القبض هنا الخلاف.

وقد يندفع الثاني بأنّ التلف الذي تُسمع دعواه فيه ما كان بعد تحقّق وصول المال إليه، وهو منتف هنا، وأما التصرّف فكما يكون بعد وصول المال إليه كذا يكون قبله، بل قد لا يجامعه،

كالوكيل في البيع خاصةً، وقد يكون التصرّف هو القبض، كما إذا كان وكيلاً فيه خاصةً.

واعلم أنّه متى قدّم قول الوكيل في القبض، فهل يحصل بذلك براءة المشتري من الثمن؟ الظاهر ذلك؛ لأنّ الحقّ واحد، فإذا قبل قول الوكيل في قبضه كيف يتوجّه إيجابه على المشتري؟!

ويحتمل عدم براءته بذلك؛ لأصالة عدم الأداء، وإنّما قُبل في حقّ الوكيل لاستئمانه،

ص: 535


1- الظاهر: «الوكيل» بدل «الموكّل».
2- تقدّم في ص 528.

• ولو ظهر في المبيع عيب ردّه على الوكيل دون الموكل؛ لأنّه لم يثبت وصول الثمن إليه، ولو قيل بردّ المبيع على الموكّل كان أشبه.

_______________________________________

وهذا المعنى مفقود في المشتري؛ إذ لا يُقبل قوله في ذلك لو كان النزاع معه ابتداءً.

ونفى العلّامة عن هذا الاحتمال البأس في التذكرة(1).

قوله: «ولو ظهر في المبيع عيب ردّه على الوكيل إلى قوله كان أشبه».

القول الأول للشيخ (رحمه الله)؛ معلّلاً بما ذكر(2).

و موضع الخلاف ما إذا علم كونه وكيلاً، كما يرشد إليه التعليل.

والأقوى ما اختاره المصنف (رحمه الله)؛ لأنّ الملك له والوكيل نائب عنه و والبائع في الحقيقة هو الموكل، ووصول الثمن إليه وعدمه لا مدخل له في هذا الحكم أصلاً، بل لا يجوز ردّه على الوكيل؛ لأنّه ينعزل بالبيع إن لم يكن وكيلاً في قبض المبيع على تقدير ردّه بالعيب.

وكيف كان فقول الشيخ ضعيف، وكذا تعليله.

تمّ المجلّد الثاني من هذا التعليق على يد مصنّفه العبد الفقير إلى الله تعالى زين الدين بن عليّ بن أحمد الشامي العاملي (عامله الله بلطفه وعفي عنهم بمنه وفضله) في أوقات مختلفة وأحوال متصرّفة، مشوّشة للقوى والأفكار، مانعة من الجلد والاصطبار، موجبة للمسامحة عند العثار، آخرها مفتتح شهر ربيع الأوّل المفتتح لأوّل الربيع سنة ستّ وخمسين وتسعمائة، حامداً لله تعالى في الشدّة والرخاء، شاكراً له في السرّاء والضراء، مصليّاً على أشرف الأنبياء وأكمل الأصفياء، وعلى آله النجباء وأصحابه الأتقياء، مسلماً مستغفراً. والحمد لله وحده وصلواته على محمّد وآله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً.

***

تمّ الجزء الرابع - بحسب تجزئتنا - ويليه في الجزء الخامس كتاب الوقوف والصدقات

ص: 536


1- تذكرة الفقهاء، ج 15، ص 190 - 191، المسألة 790.
2- المبسوط، ج 2، ص 399.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.