موسوعة الشهید الثاني
الجزء الثاني
الرسائل /1
المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية
مركز إحياء التراث الإسلامي
المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية
موسوعة الشهيد الثاني
الجزء الثاني (الرسائل / 1)
الناشر : المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية
التحقيق: غلام حسین قیصریه ها و عباس محمدي
الإعداد والإشراف: مركز إحياء التراث الإسلامي
الطباعة: مطبعة الباقري الطبعة الأولى 1434 ق / 2013م
الكمّيّة: 1000 نسخة
العنوان: 143 : التسلسل : 235
حقوق الطبع محفوظة للناشر
العنوان: قم، شارع الشهداء (صفائية)، زقاق آمار، الرقم 42
التلفون والفاكس: 7832833 ، التوزيع: قم 7832834: طهران 66951534
ص. ب: 37185/38585 ، الرمز البريدي: 16439 - 37156
وب سایت: www.pub.iscn.ac.ir البريد الالكتروني: nashr@isca.ac.ir
شهید ثانی، زین الدین بن على، 911 - 965ق.
موسوعة الشهيد الثاني / التحقيق: غلام حسین قیصریه ها و عباس محمدي، الإعداد والإشراف مركز إحياء التراث
الإسلامي المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية، 1434ق. = 2013م.
30 ج.
978-600-5570-74-8 ISBN-. (دوره)
ISBN 978-600-5570-77-9-. (ج 2)
فهرست نویسی بر اساس اطلاعات فييا کتابنامه.
مندرجات ج 2 الرسائل / 1 -
1. اسلام - مجموعه ها .2 دانش و دانش اندوزی - جنبه های مذهبی - اسلام .3 اسلام و آموزش و پرورش.
4. اخلاق اسلامی. الف. پژوهشگاه علوم و فرهنگ اسلامی. مرکز احیای آثار اسلامی ب. عنوان .
م B4/6/92
297/08
محرر الرقمي: محمد مبین روز بهاني
ص: 1
بِسْمِ اللَّ_هِ الرَّحْمَ_ٰنِ الرَّحِيمِ
ص: 2
موسوعة الشهيد الثاني
الجزء الثاني
الرسائل / 1
المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية
مركز إحياء التراث الإسلامي
ص: 3
المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية
موسوعة الشهيد الثاني
الجزء الثاني (الرسائل / 1)
الناشر : المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية
التحقيق: غلام حسین قیصریه ها و عباس محمدي
الإعداد والإشراف: مركز إحياء التراث الإسلامي
الطباعة: مطبعة الباقري الطبعة الأولى 1434 ق / 2013م
الكمّيّة: 1000 نسخة
العنوان: 143 : التسلسل : 235
حقوق الطبع محفوظة للناشر
العنوان: قم، شارع الشهداء (صفائية)، زقاق آمار، الرقم 42
التلفون والفاكس: 7832833 ، التوزيع: قم 7832834: طهران 66951534
ص. ب: 37185/38585 ، الرمز البريدي: 16439 - 37156
وب سایت: www.pub.iscn.ac.ir البريد الالكتروني: nashr@isca.ac.ir
شهید ثانی، زین الدین بن على، 911 - 965ق.
موسوعة الشهيد الثاني / التحقيق: غلام حسین قیصریه ها و عباس محمدي، الإعداد والإشراف مركز إحياء التراث
الإسلامي المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية، 1434ق. = 2013م.
30 ج.
978-600-5570-74-8 ISBN-. (دوره)
ISBN 978-600-5570-77-9-. (ج 2)
فهرست نویسی بر اساس اطلاعات فييا کتابنامه.
مندرجات ج 2 الرسائل / 1 -
1. اسلام - مجموعه ها .2 دانش و دانش اندوزی - جنبه های مذهبی - اسلام .3 اسلام و آموزش و پرورش.
4. اخلاق اسلامی. الف. پژوهشگاه علوم و فرهنگ اسلامی. مرکز احیای آثار اسلامی ب. عنوان .
م B4/6/92
297/08
ص: 4
المدخل - الشهيد الثاني حياته وآثاره
الجزء الأول = (1) منية المريد
الجزء الثاني =(2) - (6) الرسائل / 1 : 2. كشف الريبة ؛ 3. التنبيهات العلية؛ 4. مسكن الفؤاد؛ 5البداية؛ 6.الرعاية لحال البداية في علم الدراية.
الجزء الثالث = (7-30) الرسائل/ 2 : 7. تخفيف العباد في بيان أحوال الاجتهاد؛ 8. تقليد الميت؛ 9. العدالة؛ 10.ماء البئر ؛ 11.تيقن الطهارة والحدث والشكّ في السابق منهما؛ 12. الحدث الأصغر أثناء غسل الجنابة؛ 13 . النيّة؛ 14.صلاة الجمعة؛ 15.الحثّ على صلاة الجمعة؛ 16. خصائص يوم الجمعة؛ 17.نتائج الأفكار في بيان حكم المقيمين في الأسفار 18.أقل ما يجب معرفته من أحكام الحج والعمرة؛ 19.نيّات الحج والعمرة؛ 20.مناسك الحج والعمرة؛ 21.طلاق الغائب؛ 22.ميراث الزوجة؛ 23. الحبوة؛ 24.أجوبة مسائل شكر بن حمدان؛ 25.أجوبة مسائل السيد ابن طراد الحسيني؛ 26. أجوبة مسائل زين الدين بن إدريس؛ 27.أجوبة مسائل الشيخ حسين بن زمعة المدني؛ 28.أجوبة مسائل الشيخ أحمد المازحي؛ 29.أجوبة مسائل السيد شرف الدين السماكي؛ 30. أجوبة المسائل النجفية.
الجزء الرابع =(31 - 43) الرسائل /3 : 31.تفسير آية البسملة؛ 32. الإسطنبولية في الواجبات العينية؛ 33.الاقتصاد والإرشاد إلى طريق الاجتهاد؛ 34.وصيّةً نافعة؛ 35. شرح حديث «الدنيا مزرعة الآخرة»؛ 36. تحقيق الإجماع في زمن الغَيْبَة؛ 37.مخالفة الشيخ الطوسي (رحمه الله) لإجماعات نفسه؛ 38.ترجمة الشهيد بقلمه الشريف؛ 39.حاشية «خلاصة الأقوال»؛ 40. حاشية «رجال ابن داود»؛ 41.الإجازات؛ 42. الإنهاءات والبلاغات؛ 43.الفوائد.
ص: 5
الجزء الخامس = (44) تمهيد القواعد
الجزء السادس - الجزء التاسع = (45) الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية
الجزء العاشر والجزء الحادي عشر = (46) روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان
الجزء الثاني عشر = (47-49) المقاصد العلية وحاشيتا الألفية
الجزء الثالث عشر = (50) الفوائد المليّة لشرح الرسالة النفلية
الجزء الرابع عشر = (51) و (52) حاشية شرائع الإسلام وحاشية المختصر النافع
الجزء الخامس عشر = (53) حاشية القواعد (فوائد القواعد)
الجزء السادس عشر = (54) حاشية إرشاد الأذهان
الجزء السابع عشر - الجزء الثامن والعشرون = (55) مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام
الجزء التاسع والعشرون =الفهارس
ص: 6
فهرس الموضوعات
تصدير ... 25
2) كشف الريبة عن أحكام الغيبة
مقدمة التحقيق ... 5
صور بعض المخطوطات ... 7
خطبة الكتاب ... 9
المقدمة ... 11
تعريف الغيبة ... 11
تحريم الغيبة وجملة من الترهيب منها ... 12
الفصل الأول في أقسام الغيبة ... 21
أخبث أنواع الغيبة ...22
الإصغاء إلى الغيبة على سبيل التعجّب ... 24
حرمة سوء الظن ...24
حكم الخواطر وحديث النفس ... 25
طريق معرفة ما يخطر في القلب هل هو ظن سوء أو اختلاج وشك ... 25
ص: 7
من ثمرات سوء الظنّ التجسّس ... 26
معنى التجسس ... 26
الفصل الثاني في العلاج الذي يمنع الإنسان عن الغيبة... 27
الطريق في علاج كفّ اللسان عن الغيبة مجملة... 27
الطريق في علاج كفّ اللسان عن الغيبة مفصلة ... 27
الفصل الثالث في الأعذار المرخصة في الغيبة ... 34
1 - التظلم ... 34
2 - الاستعانة على تغيير المنكر ... 35
3 - الاستفتاء ... 35
4 - تحذير المسلم من الوقوع في الخطر والشر ... 35
5 - الجرح والتعديل للشاهد والراوي ... 36
6 - أن يكون المقول فيه مستحقاً لذلك ... 36
7 - أن يكون الإنسان معروفاً باسم يُغرب عن عيبه ... 37
8 - لو اطلع العدد الذين يثبت بهم الحدّ أو التعزير على فاحشة جاز ذكرها عند الحاكم ... 37
9 - إذا علم اثنان من رجل معصية شاهداها فأجرى أحدهما ذكرها في غيبة ذلك العاصي جاز ... 37
10 - إذا سمع أحدٌ مغتاباً لآخر وهو لا يعلم استحقاق المقول عنه ... 37
الفصل الرابع فيما يلتحق بالغيبة عند التدبر ... 39
1 - النميمة وما ورد من النهي فيها ... 40
تعريف النميمة بالمعنى الأعم ... 43
السبب الباعث على النميمة ... 43
ص: 8
وظيفة من حملت إليه النميمة ستة أمور ... 44
2 - كلام ذي اللسانين وما ورد من النهي فيه... 47
يتحقق كون الإنسان ذا لسانين بأمور أربعة ... 48
3 - الحسد وما ورد من النهي فيه ... 50
الحسد يهيج أربعة أشياء ... 52
حقيقة الحسد ... 52
مراتب الحسد ... 55
الأسباب المثيرة للحسد ... 56
الدواء الذي ينفي مرض الحسد عن القلب ... 59
الفصل الخامس في كفارة الغيبة ... 65
ورد في كفّارة الغيبة حديثان ... 65
الخاتمة في أحاديث تناسب المقام ... 68
الحديث الأوّل: للمؤمن على أخيه ثلاثون حقاً ... 69
الحديث الثاني: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يشتمه ... 70
الحديث الثالث: إنّ رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى ... 71
الحديث الرابع: لا تباغضوا ولا تحاسدوا، ولا تدابروا ... 71
الحديث الخامس من ألطف مؤمناً، أو قام له بحاجة ... 72
الحديث السادس: لقد وصفه الله بخلق عظيم في المداعبة ... 72
الحديث السابع: سبع حقوق واجبات ما منها حق إلا ... 73
الحديث الثامن: إذا مشى الرجل في حاجة أخيه المؤمن ... 74
الحديث التاسع: من نفس عن مؤمن كربة نفس الله عنه ... 74
الحديث العاشر: بسم الرحمن الرحيم حاطك الله بصنعه ... 75
الحديث الحادي عشر يا خيثمة أبلغ من ترى من موالينا السلام ... 81
ص: 9
الحديث الثاني عشر : كان أبو جعفر يقول: عظموا أصحابكم ... 82
3) التنبيهات العليّة على وظائف الصلاة القلبية
مقدمة التحقيق ... 85
صور بعض المخطوطات ... 90
خطبة الكتاب ... 93
المقدمة ... 96
المطلب الأوّل في تحقيق معنى القلب ... 96
المطلب الثاني في إحضار القلب حال العبادة خصوصاً في الصلاة ... 101
الآيات الواردة في هذا الباب ... 101
الروايات الواردة في هذا الباب ... 101
المطلب الثالث في بيان الدواء النافع في حضور القلب ... 106
الفصل الأوّل في مقدّمات الصلاة ... 111
أسرار الطهارة ... 111
أسرار إزالة النجاسة ... 114
أسرار ستر العورة ... 116
أسرار المكان ... 117
أسرار الوقت ... 118
أسرار استقبال القبلة ... 121
الفصل الثاني في مقارنات الصلاة ... 124
أسرار القيام ... 124
ص: 10
أسرار النية ... 127
أسرار تكبيرة الإحرام ... 128
دعاء التوجه ... 129
أسرار القراءة ... 130
في ترجمة سورة الحمد وأسرارها ... 132
فيما يتعلق بقراءة القرآن ... 133
أسرار الركوع ... 135
أسرار السجود ... 136
أسرار التشهد ... 138
أسرار التسليم ... 139
تتمّة الفصل ... 141
في التعقيب ... 141
في آداب قراءة القرآن وكيفيتها ... 143
في سجدة الشكر ... 150
الفصل الثالث في منافيات الصلاة ... 151
ذم الرياء والعجب ... 152
وجوه الرياء ... 155
وأما العجب ... 163
الخاتمة وفيها بحثان: ... 165
البحث الأوّل في جبر الخلل الواقع في الصلاة ... 165
الدواء العملي للخلل ... 171
البحث الثاني في خصوصيات باقي الصلوات ... 178
ص: 11
الأولى: صلاة الجمعة ... 178
الثانية: صلاة العيد ... 182
الثالثة: صلاة الآيات ... 183
الرابعة: صلاة الطواف ... 184
الخامسة: صلاة الجنازة ... 184
السادسة: صلاة النذر ... 185
4) مُسَكّن الفؤاد عند فقد الأحبّة والأولاد
مقدمة التحقيق ... 189
صور بعض المخطوطات ... 194
خطبة الكتاب ... 197
المقدمة ... 199
موجبات الرضى بقضاء الله أمور: ... 199
الأوّل: التوجّه إلى عدل الله وحكمته ... 199
الثاني: تصديق الرسل ... 200
الثالث: التوجّه إلى أنّ منفعة الولد ليس في البقاء فقط ... 202
الرابع في الجزع على فوت الولد انحطاط عظيم ... 204
الخامس الدنيا قد طبعت على الكدر والعناء ... 205
ما سبب الخلقة؟ ... 207
روايات أخلاقية مفيدة ... 208
الباب الأول فى بيان الأعواض الحاصلة من موت الأولاد ... 211
ذكر أخبار الباب ... 211
ص: 12
روايات وحكايات ومنامات في ثواب موت الأولاد ... 212
الباب الثاني في الصبر وما يلحق به ... 228
صبر العوام ... 228
صبر الزهاد ... 228
صبر العارفين ... 228
أوصاف الصابرين ... 229
أجر الصابرين ... 231
منزلة الصبر في الروايات ... 232
الصبر وأقسامه ... 235
فصل في ما يوجب الأجر أو الحبط عند المصيبة ... 236
في الاسترجاع ... 238
فصل في أثر الصلاة في تهوين المصائب ... 240
فصل في محاسن البلاء ... 241
فصل: الصبر والجزع كاشفان عن بواطن الناس ... 241
فصل: نبذ من أحوال السلف عند موت أبنائهم وأحبائهم ... 242
فصل في ذكر جماعة من النساء نقل العلماء صبرهن ... 251
حكاية عن أبي قدامة الشامي ... 258
الباب الثالث في الرضى ... 265
الرضى دليل الإيمان ... 266
مقام الراضين في القيامة ... 268
فصل في مرتبة الرضى ... 271
فصل في درجات الرضى ... 272
ص: 13
فصل في جماعة نقل العلماء رضاهم بالقضاء ... 274
فصل في الدعاء ووظائف الداعي ... 278
هل الدعاء لرفع البلاء ينافي الرضى؟ ... 278
الباب الرابع في البكاء ... 280
بكاء زين العابدين(علیه السّلام) ... 280
بكاء رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) ... 281
موت إبراهيم بن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)... 282
بكاء النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)على أمه وبعض أصحابه ... 284
بكاء النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)في شهادة جعفر بن أبي طالب(علیه السّلام) ... 284
فصل ما يحبط الأجر عند المصيبة ... 284
فصل في استحباب الاسترجاع عند المصيبة ... 289
فصل في النوح ... 290
الخاتمة في فوائد مهمة ... 293
استحباب تعزية أهل الميت ... 293
ثواب من عزّى مصاباً ... 294
ثواب عيادة المريض ... 295
ثواب البكاء من خشية الله ... 295
فصل فيما تعزّى بها أهل المصيبة ... 296
ذكر مصيبة النبي يهوّن المصائب ... 298
أشدّ الناس بلاء أهل الخير ... 301
كتاب أبي عبد الله(علیه السّلام)لجماعة من بني عمه ... 304
ص: 14
5) البداية
6) الرعاية لحال البداية في علم الدراية
مقدمة التحقيق ... 311
علم الدراية ونشأتها ... 311
الشهيد الثاني و علم الدراية ... 314
مؤلّفاته في علم الدراية ... 315
نماذج مصوّرة من المخطوطات ... 321
البداية في علم الدراية
خطبة الكتاب ... 327
المقدمة في بيان أصول علم الدراية واصطلاحاته ... 328
معنى الخبر والحديث والأثر والمتن والسند والإسناد ... 328
انحصار الخبر في الصدق والكذب ... 328
تعريف المتواتر ... 328
تعريف الآحاد والمستفيض والغريب ... 329
الباب الأول في أقسام الحديث ... 330
الأوّل: الصحيح ... 330
الثاني: الحسن ... 330
الثالث: الموثق ... 330
الرابع: الضعيف ... 330
مصطلحات علماء الحديث غير ما مرّ في الأقسام الأربعة ... 331
ص: 15
أحدها: المسند ... 331
ثانيها: المتصل ... 331
ثالثها: المرفوع ... 331
رابعها: المعنعن ...332
خامسها: المعلّق ... 332
سادسها: المفرد ... 332
سابعها: المُدرَج ... 332
ثامنها: المشهور ... 332
تاسعها: الغريب ... 332
عاشرها: المصحف ... 332
حادي عشرها: العالي سنداً ... 332
ثاني عشرها: الشاذ. ... 333
ثالث عشرها: المسلسل ... 333
رابع عشرها : المزيد ... 333
خامس عشرها: المختلف ... 334
سادس عشرها: الناسخ والمنسوخ... 334
سابع عشرها: الغريب لفظاً ... 334
ثامن عشرها: المقبول ... 334
ما يختصّ بالحديث الضعيف ... 334
الأوّل: الموقوف ... 334
الثاني: المقطوع ... 335
الثالث: المرسل ... 335
الرابع: المعلل ... 335
الخامس: المدلّس ... 336
ص: 16
السادس: المضطرب ... 336
السابع: المقلوب ... 336
الثامن: الموضوع ... 336
الباب الثاني في من تقبل روايته ومن تردّ ... 337
المسألة الأولى في شرائط الراوي ... 337
المسألة الثانية في طريق معرفة العدالة والضبط في الراوي ... 338
المسألة الثالثة في قبول التعديل من غير ذكر السبب بخلاف الجرح ... 338
المسألة الرابعة في ثبوت الجرح والتعديل بواحد ... 338
المسألة الخامسة: رواية الثقة عن رجل لم تكن توثيقاً له... 339
المسألة السادسة في ألفاظ الجرح والتعديل ... 339
المسألة السابعة في رواية من خلط ... 339
المسألة الثامنة في ما إذا روى ثقة عن ثقة فنفاه المروي عنه ... 339
الباب الثالث في تحمّل الحديث وطرق نقله ... 340
الفصل الأوّل فى أهليّة التحمّل ... 340
الفصل الثاني في طرق التحمّل ...340
أوّلها السماع من لفظ الشيخ ... 340
ثانيها: القراءة على الشيخ ... 341
ثالثها: الإجازة ... 342
رابعها المناولة ... 342
خامسها الكتابة ... 343
سادسها الإعلام ... 343
سابعها الوجادة ... 344
ص: 17
الفصل الثالث في كيفية رواية الحديث ... 344
رواية الضرير ... 344
الرواية بالمعنى ... 345
تقطيع الحديث ... 345
الباب الرابع في أسماء الرجال وطبقاتهم ... 346
الصحابي ... 346
التابعي ... 346
رواية الأقران ... 346
المدمبج ... 346
رواية الأكابر عن الأصاغر ... 346
السابق واللاحق ... 346
المتفق والمفترق ... 347
المؤتلف والمختلف ... 347
المتشابه ... 347
الرعاية لحال البداية في علم الدراية
خطبة الكتاب ... 351
تعریف علم الدراية وموضوعه و غايته ومسائله ... 351
المقدمة في بيان أصول علم الدراية واصطلاحاته الخبر والحديث ... 353
الأثر والمتن ... 353
السند والإسناد ... 354
انحصار الخبر في الصدق و الكذب ... 356
قول الجاحظ في الخبر ... 356
ص: 18
قول النظام في الخبر ... 357
العلم بصدق الخبر وكذبه قد يكون ضرورياً وقد يكون نظرياً ... 357
ما علم صدقه نظراً ... 359
ما علم كذبه نظراً ... 359
ما علم صدقه ضرورة ... 359
انقسام الخبر إلى المتواتر والآحاد ... 360
لا ينحصر التواتر في عدد خاص ... 361
ط حصول العلم بالخبر المتواتر ... 361
التواتر متحقق في أصول الشرائع ... 362
تواتر حديث «من كذب علي متعمداً...»... 363
أقسام خبر الواحد ... 365
المستفيض والمشهور ... 365
الغريب ... 365
العزيز ... 365
المقبول ... 365
المردود ... 365
المشتبه ... 367
عدم انحصار الأخبار في عدد معين ... 367
الكتب الأربعة الحديثية ... 367
ما له دخل في اعتبار الحديث ... 368
الباب الأول في أقسام الحديث ... 370
الصحيح ... 370
الحسن ... 374
ص: 19
الموثق أو القوي ... 376
الضعيف ... 377
العمل بخبر الواحد ... 378
العمل بالخبر الحسن ... 379
العمل بالخبر الموثّق ... 380
العمل بالخبر الضعيف .. 381
العمل بالخبر الضعيف في نحو القصص والمواعظ ... 383
مصطلحات علماء الحديث غير ما مرّ في الأقسام الأربعة ... 384
أحدها: المسند ... 384
ثانيها: المتصل أو الموصول ... 385
ثالثها: المرفوع ... 385
رابعها: المعنعن ... 386
خامسها: المعلّق ... 387
سادسها: المفرد ... 388
سابعها: المدرج ... 388
ثامنها: المشهور ... 389
تاسعها: الغريب ... 390
عاشرها: المصحف ... 391
حادي عشرها: العالي سنداً ... 393
ثاني عشرها: الشاذ ... 395
ثالث عشرها: المسلسل ... 396
رابع عشرها: المزيد ... 398
خامس عشرها: المختلف ... 399
سادس عشرها: الناسخ والمنسوخ ... 401
ص: 20
سابع عشرها: الغريب لفظاً ... 403
ثامن عشرها: المقبول ... 403
ما يختص بالحديث الضعيف ... 405
الأوّل: الموقوف ... 405
الثاني: المقطوع ... 407
الثالث: المرسل ... 408
عدم حجيّة المرسل ... 409
ما يعلم به الإرسال... 411
الرابع: المعلل ... 411
الخامس: المدلّس ... 413
السادس: المضطرب ... 416
الاضطراب في السند ... 417
الاضطراب في المتن ... 418
السابع: المقلوب ... 419
الثامن: الموضوع ... 420
طريق معرفة الموضوع ... 421
أصناف الواضعين ... 421
الباب الثانى فى من تقبل روايته ومن تردّ ... 428
المسألة الأولى: اشتراط إسلام الراوي و بلوغه و عقله و عدالته ... 430
تعريف العدالة ... 431
اشتراط الضبط و الحفظ في الراوي ... 432
عدم اشتراط الذكورة في الراوي ... 432
عدم اشتراط الحريّة والعلم بالفقه والعربية والبصر والعدد في الراوي ... 432
ص: 21
اشتراط الإيمان في الراوي ... 433
المسألة الثانية : طريق معرفة العدالة و الضبط في الراوي ... 435
المسألة الثالثة: التعديل مقبول من غير ذكر سببه ... 436
لا يقبل الجرح إلا مفسّراً ... 436
المسألة الرابعة: يثبت الجرح في الرواة بقول واحدٍ ... 438
تقدّم الجرح على التعديل ... 439
المسألة الخامسة في قول الثقة: حدثني ثقة ... 439
المسألة السادسة في ألفاظ الجرح و التعديل ... 441
ألفاظ التعديل ... 441
ألفاظ الجرح ... 445
المسألة السابعة في من خلط بخُرق أو فسق ... 446
المسألة الثامنة: إذا روى ثقة عن ثقة حديثاً فنفاه المروي عنه ... 446
الباب الثالث في تحمّل الحديث وطرق نقله ... 448
الفصل الأول في أهلية التحمّل ... 448
عدم اشتراط البلوغ في تحمّل الحديث ... 449
لا يشترط في المروي عنه أن يكون أكبر من الراوي ... 450
الفصل الثاني في طرق التحمّل للحديث ... 450
أولها: السماع من لفظ الشيخ ... 450
ثانيها: القراءة على الشيخ ... 453
العبارة عن هذه الطريق ... 454
في رواية المستملي عن المملي ... 459
لا يشترط في صحة الرواية بالسماع و القراءة الترائي ... 459
لا يشترط علم المحدّث بالسامعين ... 460
ص: 22
ثالثها: الإجازة ... 460
ترجيح السماع على الإجازة ... 462
أنواع الإجازة ... 463
لا تصح الإجازة للمعدوم ... 464
الإجازة لغير المميّز .. 465
الإجازة للحمل ... 465
الإجازة للكافر ... 465
لاتجوز الإجازة بما لم يتحمّله المجيز ... 466
تصح للمجاز له إجازة المجاز لغير ... 466
رابعها المناولة ... 467
المناولة المقرونة بالإجازة ... 467
المناولة المجرّدة عن الإجازة ... 470
خامسها: الكتابة ... 471
الكتابة المقرونة بالإجازة ... 471
الكتابة المجرّدة عن الإجازة ... 471
سادسها: الإعلام ... 473
حكم الرواية بالإعلام ... 474
سابعها: الوجادة ... 474
في جواز العمل بالوجادة ... 476
الفصل الثالث في كيفية رواية الحديث ... 477
كيفية رواية الضرير ... 478
حكم رواية الحديث بالمعنى ... 479
حكم تقطيع الحديث و اختصاره ... 481
ما ينبغي للمحدّث تعلّمه قبل الشروع في الحديث ... 482
ص: 23
في إصلاح المصحف والملحون ... 482
من روى حديثاً بإسنادٍ ثمّ أتبعه إسناداً وحذف متنه ... 485
إذا سمع بعض حديث عن شيخه و بعضه عن آخر ... 486
الباب الرابع في أسماء الرجال وطبقاتهم ... 487
تعريف الصحابي ... 487
تعريف التابعي ... 489
تعريف المخضرمون ... 490
أقسام الحديث باعتبار الراوي والمروي عنه ... 490
1. رواية الأقران ... 490
2. رواية المدرّج ... 490
3. رواية الأكابر عن الأصاغر ... 491
رواية الآباء عن الأبناء ... 491
رواية الأحاديث المسلسلة بالآباء ... 495
4. السابق واللاحق ... 495
5. المتفق والمفترق ... 498
6. المؤتلف والمختلف ... 501
7. المتشابه ... 501
في معرفة طبقات الرواة ... 501
في معنى الطبقة ... 502
في معرفة الموالي ... 502
في معرفة الإخوة والأخوات ... 503
في معرفة أوطان الرواة وبلدانهم ... 505
ص: 24
تصدير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين. يحتوي هذا الجزء من الموسوعة على خمسة مصنفات للشهيد الثاني (رحمه الله) وقد حازت هذه المصنّفات الخمسة أهمّيّة عند العلماء والمحققين والفقهاء، حالها حال بقيّة مصنفاته من حيث القيمة والجودة والشهرة والاعتبار، وهي:
1 . كشف الريبة عن أحكام الغيبة، في تعريف الغيبة وذكر أقسامها وأحكامها، حقق فيه الأحاديث الدالة على تحريم الغيبة، ويعد الكتاب من أهم المصنفات في موضوعه وقد كان منذ زمن مرجعاً للعلماء والمحدثين والفقهاء وغيرهم، وقد استند إليه الشيخ الأعظم الأنصاري في بحث الغيبة من كتاب المكاسب المحرمة .
2. التنبيهات العلية على وظائف الصلاة القلبية المعروف ب_«أسرار الصلاة»، ذكر فيه نبذة من أسرار الصلاة وآدابها، وبحث فيه أحكام الصلاة المعنوية كالقربة والالتفات والحضور وغيرها، وأكثر ما جاء فيه فقد وردت فيه النصوص عن أهل بيت العصمة(علیهم السّلام).
3. مسكن الفؤاد عند فقد الأحبة والأولاد، وسبب تأليفه - على ما ذكر - هو كثرة ما توفّي له من الأولاد الذكور، فألفه تسليةً، وبياناً لما أعد الله سبحانه من جزيل الثواب لمن صبر عند مفارقة الأحبة والأولاد، وقد جمع فيه جملة من الآثار النبوية وأحوال أهل الكمالات المعنوية.
ص: 25
4 و 5 . البداية في علم الدراية، وشرحها الرعاية لحال البداية في علم الدراية والمشهور أنَّ أوّل من ألف فى علم الدراية من علماء الشيعة هو الشهيد الثاني، حيث كتب في علم الدراية مؤلّفات ثلاثة: أوّلها: غنية القاصدين في معرفة اصطلاحات المحدثين، وهو أكبرها. ثانيها: البداية في علم الدراية وهو أصغرها. ثالثها: الرعاية لحال البداية في علم الدراية ؛ وهو شرح مزجي لرسالة البداية. ومن المؤسف أنّ الأوّل قد فقد ولم يصل إلينا.
وقد طبعت المصنّفات الثلاثة الأولى محققة في سنة 1422ه_ ضمن المصنفات الأربعة من قبل مؤسسة بوستان كتاب (مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي) كما أنّ الرابعة والخامسة طبعتا معاً في سنة 1423ه_ في تلك المؤسسة.
وقد عمدنا لإعادة النظر في تحقيق هذه المصنفات مجدّداً، وإصلاح ما زاغ عنه البصر في الطبعة الأولى لأجل طباعتها ضمن موسوعة مصنفات الشهيد الثاني.
وإذ نثمن جهود جميع الإخوة الأفاضل الذين قاموا بإنجاز هذا العمل بدقة، ولم يألوا جهداً في ذلك، نسأل الله عزّ وجلّ أن يوفقنا إلى تقديم الأجود والأفضل لطلبة هذا العلم الشريف خدمةً للمذهب، وإعلاء لراية مكتبة أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين. والحمد لله أوّلاً وآخراً.
مركز إحياء التراث الإسلامي
ص: 26
الرسائل/1
2. كشف الريبة عن أحكام الغيبة
3. التنبيهات العليّة على وظائف الصلاة القلبية
4. مُسَكّن الفؤاد عند فقد الأحبّة والأولاد
5. البداية في علم الدراية
6. الرعاية لحال البداية في علم الدراية
ص: 1
ص: 2
(2)
تحقيق
غلام حسین قیصریه ها
ص: 3
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحيم
يعد هذا الكتاب - الذي بين يديك - هو من أهم الكتب في موضوعه، إذ كان مرجعاً للفقهاء والمحدثين وغيرهم، بل هو من أهم مصادر العلّامة المجلسي في كتابه بحار الأنوار، المجلد 72 من كتاب العشرة، باب الغيبة، وكذلك الشيخ الأعظم الأنصاري في المكاسب المحرمة.
وقد طبع الكتاب لأكثر من طبعة، أشهرها:
1 - طبع في عام 1305 طبعة حجرية بطهران بمعيّة كشف الفوائد وتفسير سورة الأعلى لملا صدرا.
2 - طبع في عام 1312 طبعة حجرية بطهران.
3- طبع في عام 1313 طبعة حجرية بطهران ضمن مجموعة الإفادات.
4 - طبع في عام 1320 طبعة حجرية بطهران بمعية محاسبة النفس.
5- طبع في عام 1382 طبعة حجرية بالنجف الأشرف.
وكان منهجنا في تحقيق هذا المصنف:
الأوّل: اعتمدنا في تحقيق الكتاب على ثلاث نسخ:
أ) مخطوطة مكتبة النصيري الخاصة. وهي بخط المؤلّف الشهيد (قدس الله نفسه الزكيّة) وهذه هي نسخة الأصل في تحقيق الكتاب.
ص: 5
جاء في آخرها:
أفردها من مواضع متعدّدة، وأماكن متبدّدة العبد الفقير إلى الله تعالى زين الدين بن علي بن أحمد بن تقي الدين صالح بن مشرف العاملي (تجاوز الله تعالى عن سيئاته، ووفقه لمرضاته)وفرغ من تسويدها يوم الخميس ثالث عشرين شهر صفر ختم بالخير سنة تسع وأربعين وتسعمائة من الهجرة الطاهرة، حامداً مصلّياً مسلّماً. وفرغ من هذه النسخة 10 ربيع الأول سنة 948.
ب) مخطوطة مكتبة النصيري الخاصة أيضاً.
جاء في آخرها:
قد فرغ من تسويدها يوم الخميس السادس من شهر شوال سنة ألف وثمان على يد أقلّ عباد الله وأحوجهم إلى رحمة ربه الغني محمد بن فتح الله بن المصطفى (عفي عنهما) بقرية آشتيان من قرى دار السلطنة قزوين.
ج) النسخة المطبوعة ضمن مجموعة تحتوي على عشر رسائل من رسائل الشهيد الثاني. طبعت على الحجر من منشورات مكتبة بصيرتي.
واستفدنا أيضاً من النسخة المطبوعة بتحقيق السيد علي الخراساني الكاظمي، الطبعة الثانية، بيروت، دار الأضواء، 1408ه_ وإن كانت لا تخلو من أخطاء ربما هي مطبعية.
الثاني: بذلنا وسعنا لتخريج الأحاديث والروايات والآراء من مصادرها الأصلية والإرجاع إليها. ثمّ إن لم نجد المصدر الأصلي أو لم يكن موجوداً أرجعناه إلى المصادر التي نقلت عنه عنه مع رعاية تقدّمه على الشهيد الثاني.
نسأل الله أن يوفقنا لطاعته، وتقديم الأفضل والأجود من علوم آل محمد(علیهم السّلام)إلى شيعتهم ومحبيهم وجميع الناس.
والحمد لله أولاً وأخيراً.
قم المقدّسة - غلام حسين قيصريه ها
ص: 6
الصورة
ص: 7
الصورة
ص: 8
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي طهر ألسنة أوليائه عن اللغو والغيبة والنميمة، وزكى نفوسهم عن الأخلاق الدنيئة والشيم(1)الذميمة، والصلاة على نبيه محمد المصطفى المبعوث بالشريعة الحنيفية(2)والملة القويمة، وعلى عترته الطاهرة التي هي على منهاجه مقيمة، وبسنّته عليمة، وعن رذائل الأخلاق معصومة، وبمكارمها موسومة.
،وبعد، فلمّا رأيت أكثر أهل هذا العصر ممّن يتسم(3)بالعلم، ويتصف بالفضل، وينسب إلى العدالة، ويترشّح للرئاسة، يحافظون على أداء الصلوات والدؤوب(4)في الصيام وكثير من العبادات والقربات، ويجتنبون جملةً من المحرمات كالزنى وشرب الخمر ونحوهما من القبائح الظاهرات. ثم هم - مع ذلك - يصرفون كثيراً من أوقاتهم، ويتفكّهون في مجالسهم ومحاوراتهم، ويغذون نفوسهم بتناول أعراض إخوانهم من
ص: 9
المؤمنين ونظرائهم من المسلمين، ولا يعدونه من السيئات، ولا يحذرون معه من مؤاخذة جبار السماوات.
والسبب المقدم لهم على ذلك دون غيره من المعاصي الواضحات: إما الغفلة عن تحريمه وما ورد فيه من الوعيد والمناقشة في الآيات والروايات، وهذا هو السبب الأقل لأهل الغَفَلات وإما لأنّ مثل ذلك من المعاصي لا يخلّ عرفاً بمراتبهم ومنازلهم من الرئاسات؛ لخفاء هذا النوع من المنكر على من يرومون المنزلة عنده من أهل الجهالات. ولو وسوس لهم الشيطان أن اشربوا الخمر وازنوا بالمحصنات ما أطاعوه؛ الظهور فحشه عند العامة، وسقوط محلّهم به لديهم، بل عند متعاطي الرذائل الفاضحات. ولو راجعوا عقولهم، واستضاؤوا بأنوار بصائرهم لوجدوا بين المعصيتين فرقاً بعيداً وتفاوتاً شديداً، بل لا نسبة بين المستلزمة للإخلال بحق الله سبحانه على الخصوص، وبين ما يتعلّق مع ذلك بحق العبيد خصوصاً أعراضهم، فإنّها أجلّ من أموالهم وأشرف. ومتى شرف الشيء عظم الذنبُ في انتهاكه مع ما يستلزمه من الفساد الكلّي، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.
أحببتُ(1)أن أضع في هذه الرسالة جملة من الكلام على الغيبة، وما ورد فيها من النهي في الكتاب والسنة والأثر، ودلالة العقل عليه وسمّيتها كشف الريبة عن أحكام الغيبة. وأتبعتها بما يليق بها من النميمة، وبعض أحكام الحسد. وختمتها بالحثّ على التواصل والتحابب والمراحمة. ورتبتها على مقدمةٍ وفصول وخاتمة:
ص: 10
فنقول : الغيبة - بكسر الغين فسكون الياء المثناة التحتانية، ففتح الباء الموحدة - اسم لقولك: «اغتاب فلان فلاناً» إذا وقع فيه في غَيْبَتِه، والمصدر: الاغتياب، يقال: «اغتابه اغتياباً»، والاسم: الغيبة(1).
هذا بحسب المعنى اللغوي، وأما في الاصطلاح فلها تعريفان:
أحدهما: مشهوري وهو ذكر الإنسان حال غيبته بما يكره نسبته إليه مما يعدّ نقصاناً في العرف بقصد الانتقاص والذمّ.
واحترز بالقيد الأخير - وهو قصد الانتقاص - عن ذكر العيب للطبيب مثلاً، أو لاستدعاء الرحمة من السلطان في حق الزمن والأعمى مثلاً بذكر نقصانهما. ويمكن الغناء عنه بقيد كراهية نسبته إليه.
والثاني: التنبيه على ما يكره نسبته إليه إلى آخره، وهو أعم من الأول؛ لشمول مورده اللسان والإشارة والحكاية وغيرها، وهو أولى؛ لما سيأتي من عدم قصر الغيبة على اللسان.
ص: 11
وقد جاء على المشهور ، قول النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): هل تدرون ما الغيبة؟» فقالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «ذكرك أخاك بما يكره»، قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فقد بَهَتَهُ»(1).
وذكر عنده(صلی الله علیه و آله و سلم)رجل فقالوا(صلی الله علیه و آله و سلم): ما أعجزه، فقال: «اغتبتم صاحبكم فقالوا: يا رسول الله قلنا ما فيه قال: إن قلتم ما ليس فيه فقد بَهَتُمُوه»(2).
وتحريم الغيبة في الجملة إجماعي، بل هي كبيرة موبقة؛ للتصريح بالتوعد عليها بالخصوص في الكتاب والسنّة، وقد نص الله تعالى على ذمّها في كتابه وشبه صاحبها بأكل لحم الميتة، فقال: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ﴾(3).
وقال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم):«كلّ المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه»(4).
والغيبة تناول العرض. وقد جمع بينه(صلی الله علیه و آله و سلم)وبين الدم والمال.
وقال: «لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا يغتب بعضكم بعضاً، وكونوا عباد الله إخواناً»(5).
وعن جابر وأبي سعيد الخدري قالا: قال(صلی الله علیه و آله و سلم): «إياكم والغيبة، فإنّ الغيبة أشدّ من الزنى، إنّ الرجل قد يزني فيتوب، فيتوب الله عليه، وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتّى يغفر له صاحبه»(6).
ص: 12
وفي خبر معاذ الطويل المشهور عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): :أنّ الحفظة تصعد بعمل العبد وله نور كشعاع الشمس، حتى إذا بلغ السماء الدنيا، والحفظة تستكثر عمله وتزكيه، فإذا انتهى إلى الباب قال الملك الموكَّل بالباب اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، أنا صاحب الغيبة، أمرني ربي أن لا أدع عمل من يغتاب الناس يتجاوزني إلى ربي»(1).
وعن أنس قال قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «مررت ليلة أُسري بي على قوم يخمشون وجوههم بأظافيرهم فقلت يا جبريل من هؤلاء؟ قال هؤلاء الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم»(2).
وقال البراء: خَطَبَنا رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)حتى أسمع العواتق في بيوتهن، فقال: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا ،عوراتهم فإنّه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته»(3).
وقال سليم(4)بن جابر: أتيت رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)فقلت: علمني خيراً انتفع به، قال: «لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تصبّ من دلوك في إناء المستقي، وأن تلقى أخاك بیشر حَسَن، وإن أدبر فلا تغتابه»(5).
وعن أنس قال: خَطَبَنا رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)فذكر الربا وعظم شأنه، فقال: «إنّ الدرهم يصيبه الرجلُ من الربا أعظم عند الله في الخطيئة من ست وثلاثين زَنْيَةً يزنيها الرجل،
ص: 13
وأربى الربا عرضُ الرجل المسلم»(1).
وقال :جابر كنا مع رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)فأتى على قبرين يعذب صاحبهما، فقال: «إنّهما لا يعذبان في كبيرة: أما أحدهما فكان يغتاب الناس، وأما الآخر فكان لا يتنزه من بوله». ودعا بجريدةٍ رَطْبَةٍ أو جريدتين فكسرهما، ثم أمر بكلّ كسرة فغُرست على قبر وقال(صلی الله علیه و آله و سلم): «أما أنه سيهون من عذابهما ما كانتا رطبتين. أو ما لم ييبسا»(2).
وقال أنس: أمر رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)الناس بصوم يوم وقال: «لا يفطرنّ أحد حتى آذن له»، فصام الناس حتى إذا أمسوا جعل الرجل يجيء فيقول: يا رسول الله ظللت صائماً فأذن لي لأفطر فيأذن له، والرجل والرجل حتى جاء رجل فقال: يا رسول الله، فتاتان من أهلك ظلتا صائمتين وإنّهما تستحيان أن تأتياك، فأذن لهما أن تفطرا، فأعرض عنه، ثم عاوده، فقال: «إنّهما لم تصوما، وكيف يصوم من ظلّ نهاره يأكل لحم الناس؟! اذهب فمُرهما إن كانتا صائمتين أن تستقيئا، فرجع إليهما فأخبرهما فاستقاءتا، فقاءت كلّ واحدة منهما علقة من دم، فرجع إلى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)فأخبره، فقال(صلی الله علیه و آله و سلم): «والذي نفسي بيده لو بقيتا في بطونهما لأكلتهما النار»(3).
وفي رواية: أنّه لمّا أعرض عنه جاءه بعد ذلك وقال: يا رسول، إنهما والله قد ماتتا، أو كادتا أن تموتا، فقال(صلی الله علیه و آله و سلم): «ائتوني بهما»، فجاءتا، فدعا بعس(4)، أو قدح فقال لإحداهما: «قيئي»، فقاءت من قيح ودم وصديد حتى ملأت القدح، وقال للأخرى: «قيني»،فقاءت كذلك، فقال: «إنّ هاتين صامتا عمّا أحل الله لهما وأفطرتا على ما
ص: 14
حرم الله عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان لحوم الناس»(1).
وروى مرفوعاً: «من أكل لحم أخيه فى الدنيا قرب إليه لحمه في الآخرة فقيل له: «من كله ميتاً كما أكلته حيّاً، فيأكله ويضح ويكلح(2)»(3).
ولما رجم رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)ماعزاً في الزنى، قال رجل لصاحبه هذا أقعص(4)، كما يقعص الكلب، فمرّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)معهما بجيفة، فقال: «انهشا منها»، فقالا یا رسول الله ننهش جيفة ؟ فقال(صلی الله علیه و آله و سلم): ما أصبتما من أخيكما أنتن هذه»(5).
وقال الصادق(علیه السّلام): «الغيبة حرام على كل مسلم، وإنها لتأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب»(6).
وروى الصدوق بإسناده إلى الصادق(علیه السّلام)، عن آبائه، عن عليّ(علیه السّلام)قال، قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): أربعة يؤذون أهل النار على ما بهم من الأذى، يسقون من الحميم في الجحيم،ينادون بالويل والثبور يقول أهل النار بعضهم لبعض ما بال هؤلاء الأربعة يؤذوننا على ما بنا من الأذى؟! فرجل معلّق عليه تابوت من جمر، ورجل تجرّ أمعاؤه، ورجل يسيل فوه قيحاً ودماً، ورجل يأكل لحمه.
فيقال لصاحب التابوت ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى؟! فيقول: إنّ الأبعد مات وفي عنقه أموال الناس لم يجد لها في نفسه أداءً ولا وفاءً.
ثمّ يقال للذي تجرّ أمعاؤه: ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى؟! فيقول: إنّ
ص: 15
الأبعد كان لا يبالى أين أصاب البول من جسده.
ثم يقال للذي يسيل فوه قيحاً ودماً: ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى؟! فيقول: إن الأبعد كان يحاكي، ينظر إلى كلّ كلمةٍ خبيثة فيسندها ويحاكي بها.
ثمّ يقال للذي يأكل لحمه ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى؟! فيقول: إنّ الأبعد كان يأكل لحوم الناس بالغيبة ويمشي بالنميمة»(1).
وبإسناده عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): «من مشى في غيبة أخيه، وكشف عورته كانت أوّل خطوة خطاها وضعها في جهنّم، وكشف الله عورته على رؤوس الخلائق(2).
ومن اغتاب مسلماً بطل صومه ونقض وضؤوه، فإن مات وهو كذلك مات وهو مستحلّ لما حرم الله»(3).
وعن أبي عبد الله(علیه السّلام)قال: «قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الآكلة في جوفه»(4).
قال: «وقال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): الجلوس في المسجد انتظاراً للصلاة عبادة ما لم يحدث، قیل یا رسول الله وما يحدث ؟ قال: الاغتياب»(5).
وروى ابن أبي عمير، عن أبي عبد الله(علیه السّلام)قال: «من قال في مؤمن ما رأته عيناه، وسمعته أذناه فهو من الذين قال الله عزّ وجلّ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنوا لَهمُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾»(6).
ص: 16
وعن المفضّل بن عمر قال قال لي أبو عبد الله(علیه السّلام): «من روى على مؤمن رواية يريد بها شَيْنه، وهدم مروّته؛ ليسقط من أعين الناس أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان فلا يقبله الشيطان»(1).
وأوحى الله عزّ وجلّ إلى موسى بن عمران من مات تائباً من الغيبة فهو آخر من يدخل الجنّة، ومن مات مصرّاً عليها فهو أوّل من يدخل النار»(2).
وروي: «أنّ عيسى مرّ والحواريون على جيفة كلب، فقال الحواريون: ما أنتن ریح هذا فقال : ما أشد بياض أسنانه!»(3).
كأنه ينهاهم عن غيبة الكلب، وينبههم على أنّه لا يذكر من خلق الله إلّا أحسنه. وقيل في تفسير قوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾(4)، الهمزة: الطعان في الناس، واللمزة: الذي يأكل لحوم الناس(5).
(وقال الحسن: والله للغيبة أسرع في دين الرجل المؤمن من الآكلة في جسده(6))(7).
وقال بعضهم: أدركنا السلف وهم لا يرون العبادة في الصوم ولا في الصلاة، ولكن في الكفّ عن أعراض الناس(8).
ص: 17
واعلم أنّ السبب الموجب للتشديد في أمر الغيبة، وجعلها أكبر من كثير من المعاصي الكبيرة، هو اشتمالها على المفاسد الكلّيّة المنافية لغرض الحكيم سبحانه، بخلاف باقي المعاصي فإنّها مستلزمة لمفاسد جزئية.
بيان ذلك: أنّ المقاصد المهمّة للشارع اجتماع النفوس على هم واحد وطريقة واحدة، وهي سلوك سبيل الله تعالى بسائر وجوه الأوامر والنواهي، ولا يتم ذلك إلا بالتعاون والتعاضد بين أبناء النوع الإنساني، وذلك يتوقف على اجتماع هممهم، وتصافي بواطنهم، واجتماعهم على الألفة والمحبّة حتى يكونوا بمنزلة عبد واحد في طاعة مولاه، ولن يتمّ ذلك إلا بنفي الضغائن والأحقاد والحسد ونحوه. وكانت الغيبة من كلّ منهم لأخيه مثيرةً لضغْنه، ومستدعية منه بمثلها في حقه، لا جرم كانت ضد المقصود الكلّي للشارع، فكانت مفسدة كلّيّة؛ فلذلك أكثر الله و رسوله من النهي عنها، والوعيد عليها، وبالله التوفيق.
وحيث أتينا على ما يحتاج إليه من المقدمة، فلنشرع في الفصول:
ص: 18
لما عرفت أنّ المراد منها ذكر أخيك بما يكرهه لو بلغه، أو الإعلام به، أو التنبيه عليه؛ كان ذلك شاملاً لما يتعلّق بنقصان في بدنه، أو نَسَبه، أو خُلقه، أو فعله، أو قوله، أو دينه، أو دنياه حتى في ثوبه وداره ودابته. وقد أشار الصادق(علیه السّلام)إلى ذلك بقوله: «وجوه الغيبة تقع بذكر عيب في الخلق، والفعل، والمعاملة، والمذهب، والجهل، وأشباهه»(1). فالبدن، كذكرك فيه العَمَش(2)، والحول، والعور، والقرع، والقصر، والطول، والسواد، والصفرة، وجميع ما يتصوّر أن يوصف به ممّا يكرهه.
وأما النسب، فأن تقول: أبوه فاسق، أو خبيث، أو خسيس، أو إسكاف، أو حائك، أو نحو ذلك مما يكرهه كيف كان.
وأمّا الخُلق، بأن تقول: إنّه سيّء الخُلق بخيل متكبّر، مراء، شديد الغضب، جبان، ضعيف القلب، ونحو ذلك.
ص: 19
وأما في أفعاله المتعلقة بالدين، كقولك: سارق، كذاب، شارب الخمر، خائن، ظالم، متهاون بالصلاة، لا يحسن الركوع والسجود لا يحترز من النجاسات ليس بارّاً بوالديه، لا يحرس نفسه من الغيبة والتعرّض لأعراض الناس.
وأمّا فعله المتعلّق بالدنيا كقولك: قليل الأدب، متهاون بالناس لا يرى لأحدٍ عليه حقاً، كثير الكلام كثير الأكل، نؤوم، يجلس في غير موضعه، ونحو ذلك.
وأمّا في ثوبه، كقولك: إنّه واسع الكُمّ، طويل الذيل، وسخ الثياب، ونحو ذلك.
واعلم أنّ ذلك لا يقصر على اللسان، بل التلفظ به إنّما حرم؛ لأن فيه تفهيم الغير نقصان أخيك، وتعريفه بما يكرهه، فالتعريض به كالتصريح، والفعل فيه كالقول والإشارة والرمز والإيماء والغمز(1)واللمز(2)والكتبة والحركة، وكلّ ما يُفهم المقصود داخل في الغيبة مساوٍ للسان في المعنى الذي حرم التلفظ به لأجله.
ومن ذلك ما روي عن عائشة أنها قالت: دخلت علينا امرأة فلمّا ولّت أومأتُ بيدي، أي قصيرة، فقال(صلی الله علیه و آله و سلم): «اغتبتها»(3).
ومن ذلك:المحاكاة بأن يمشي متعارجاً أو كما يمشي، فهو غيبة، بل أشدّ من الغيبة؛ لأنه أعظم في التصوير والتفهيم، وكذلك الغيبة بالكتاب، فإنّ الكتاب - كما قيل - أحد اللسانين.
ومن ذلك: ذكر المصنّف شخصاً معيناً، وتهجين كلامه في الكتاب، إلا أن يقترن به شيءٌ من الأعذار المُحوجة إلى ذكره كمسائل الاجتهاد التي لا يتم الغرض من الفتوى وإقامة الدليل على المطلوب إلا بتزييف كلام الغير، ونحو ذلك. ويجب الاقتصار على ما تندفع به الحاجة في ذلك.
ص: 20
وليس منه قوله قال قوم كذا ما لم يصرّح بشخص معين.
ومنها: أن يقول الإنسان: «بعض من مرّ بنا اليوم» أو «بعض من رأيناه حاله كذا» إذا كان المخاطب يفهم منه شخصاً معيناً؛ لأنّ المحذور تفهيمه دون ما به التفهيم، فأما إذا لم يفهم عنه جاز. كان رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)إذا كره من إنسان شيئاً، قال: «ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا!»(1)ولا يعيّن.
ومن أخبث أنواع الغيبة غيبة المتسمين بالفهم والعلم المرائين، فإنهم يفهمون المقصود على أهل الصلاح والتقوى؛ ليُظهروا من أنفسهم التعفّف عن الغيبة، ويفهمون المقصود، ولا يدرون - لجهلهم - أنّهم جمعوا بين فاحشتين: الرياء، والغيبة.
وذلك مثل أن يذكر عنده إنسان فيقول: «الحمد لله الذي لم يبتلنا بحب الرئاسة، أو بحبّ الدنيا، أو بالتكيف بالكيفية الفلانية»، أو يقول: «نعوذ بالله من قلة الحياء، أو سوء التوفيق، أو نسأل الله أن يعصمنا من كذا»،بل مجرّد الحمد على شيء إذا علم منه اتصاف المحدّث عنه بما ينافيه ونحو ذلك؛ فإنه يغتابه بلفظ الدعاء، وسِمَةِ أهل الصلاح، وإنّما قصده أن يذكر عيبه بضرب من الكلام المشتمل على الغيبة والرياء، ودعوى الخلاص من الرذائل، وهو عنوان الوقوع فيها، بل في أفحشها.
ومن ذلك أنه قد يقدم مدح من يريد غيبته، فيقول: «ما أحسن أحوال فلان! ما كان يقصر في العبادات، ولكن قد اعتراه فتور وابتلى بما يبتلى به كُلّنا، وهو قلة الصبر»، فيذكر نفسه بالذم ومقصوده أن يذمّ غيره وأن يمدح نفسه بالتشبه بالصالحين في ذمّ أنفسهم، فيكون مغتاباً، مرائياً، مزكّياً نفسه، فيجمع بين ثلاث فواحش، وهو يظنّ بجهالته أنه من الصالحين المتعففين عن الغيبة.
هكذا يلعب الشيطان بأهل الجهل إذا اشتغلوا بالعلم أو العمل من غير أن يتقنوا
ص: 21
الطريق، فيتعبهم ويحبط بمكائده عملهم، ويضحك عليهم، ويسخر بهم.
ومن ذلك أن يذكر ذاكر عيب إنسان، فلا ينتبه له بعض الحاضرين، فيقول: «سبحان الله ما أعجب هذا!»حتّى يصغي الغافل إلى المغتاب ويعلم ما يقول، فيذكر الله سبحانه، ويستعمل اسمه في تحقيق خبثه وباطله وهو يمن على الله بذكره جهلاً وغروراً.
ومن ذلك أن يقول: «جرى من فلان كذا»، أو «ابتلي بكذا»، بل يقول: «جرى لصاحبنا - أو صديقنا - كذا تاب الله علينا وعليه»،يظهر الدعاء له، والتألم والصداقة والصحبة، والله مطلع على خبث سريرته وفساد ضميره، وهو بجهله لا يدري أنه قد تعرّض لمقت أعظم ممّا يتعرّض له الجهال إذا جاهروا بالغيبة.
ومن أقسامها الخفية الإصغاء إلى الغيبة على سبيل التعجب، فإنّه إنّما يُظهر التعجب ليزيد نشاط المغتاب في الغيبة فيزيد فيها، فكأنه يستخرج منه الغيبة بهذا الطريق، فيقول: «عجبت ممّا ذكرته ما كنت أعلم بذلك إلى الآن ما كنت أعرف من فلان ذلك»،يريد بذلك تصديق المغتاب واستدعاء الزيادة منه باللطف والتصديق بها غيبة،بل الإصغاء إليها، بل السكوت عند سماعها .
قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «المستمع أحد المغتابين»(1). وقال علي(علیه السّلام): «السامع للغيبة أحد المغتابين»(2). ومراده(علیه السّلام)السامع على قصد الرضى والإيثار لا على وجه الاتفاق، أو مع القدرة على الإنكار ولم يفعل.
ووجه كون المستمع والسامع على ذلك الوجه مغتابين، مشاركتهما للمغتاب في الرضى، وتكيف ذهنهما بالتصوّرات المذمومة التي لا تنبغي، وإن اختلفا في أنّ أحدهما قائل والآخر قابل لكن كلّ واحد منهما صاحب آلة. أما أحدهما، فذو لسان يعبّر عن
ص: 22
نفس قد تنجست بتصور الكذب والحرام والعزم عليه، وأما الآخر فذو سمع تقبل عنه النفس تلك الآثار عن إيثار وسوء اختيار تتألفها وتعتادها، فيتمكن من جوهرها سموم عقارب الباطل، ومن ذلك قيل: السامع شريك القائل(1).
وقد تقدّم في الخبر السالف ما يدلّ عليه حيث قال(صلی الله علیه و آله و سلم)للرجلين اللذين قال أحدهما: أقعص كما يقعص الكلب: «انهشا من هذه الجيفة». فجمع بينهما، مع أن أحدهما قائل والآخر سامع، فالمستمع لا يخرج من إثم الغيبة إلا بأن يُنكر بلسانه، فإن خاف فبقلبه. وإن قدر على القيام أو قطع الكلام بكلام غيره فلم يفعله لزمه. ولو قال بلسانه: «اسكت» وهو يشتهي ذلك بقلبه فذلك نفاق وفاحشة أخرى زائدة لا يخرجه عن الإثم ما لم يكرهه بقلبه.
وقد روي عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، أنه قال: «من أُذلّ عنده مؤمن وهو يقدر على أن ينصره فلم ينصره، أذله الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق»(2).
وعن أبي الدرداء قال قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «من ردّ عن عرض أخيه بالغيب كان حقاً على الله تعالى أن يردّ عن عرضه يوم القيامة»(3).
وقال أيضاً: «من ردّ عن عرض أخيه بالغيب كان حقاً على الله أن يعتقه من النار»(4). وروى الصدوق بإسناده إلى رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)أنه قال: «من تطوّل على أخيه في غيبة سمعها منه في مجلس فردّها عنه ردّ الله عنه ألف باب من الشر في الدنيا والآخرة، وإن هو لم يردّها وهو قادر على ردّها كان عليه كوزر من اغتابه سبعين مرّة»(5).
ص: 23
وبإسناده إلى الباقر(علیه السّلام)أنه قال: «من اغتيب عنده أخوه المؤمن فنصره وأعانه نصره في الدنيا والآخرة، ومن لم ينصره ولم يدفع عنه وهو يقدر على نصرته وعونه خفضه الله في الدنيا والآخرة»(1).
واعلم أنه كما يحرم على الإنسان سوء القول في المؤمن، وأن يحدث غيره بلسانه بمساوئ الغير، كذلك يحرم عليه سوء الظن، وأن يحدّث نفسه بذلك. والمراد بسوء الظنّ المحرّم : عقد القلب، وحكمه عليه بالسوء من غير يقين به.
فأما الخواطر وحديث النفس فهو معفو عنه، كما أنّ الشكّ أيضاً معفو عنه. قال الله تعالى: ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾(2)، فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءاً، إلّا إذا انكشف لك بعيان لا يحتمل التأويل، وما لم تعلمه ثم وقع في قلبك فالشيطان يُلقيه إليك، فينبغي أن تكذبه، فإنّه أفسق ،الفسّاق، وقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَةٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ﴾(3)، فلا يجوز تصديق إبليس.
ومن هنا جاء في الشرع أنّ من علمت في فيه رائحة الخمر لا يجوز أن تحكم عليه بشربها، ولا تحدّه عليه؛ لإمكان أن يكون تمضمض به ،ومجه أو حمل عليه قهراً، وذلك أمر ممكن، فلا يجوز إساءة الظن بالمسلم، وقد قال: «إن الله تعالى حرّم من المسلم ،دمه وماله، وأن يظنّ به ظن السوء»(4).
فلا يستباح ظنّ السوء إلا بما يستباح به الدم والمال، وهو تيقن مشاهدة، أو بينة عادلة، أو ما جرى مجراهما من الأمور المفيدة لليقين، أو الثبوت الشرعي.
ص: 24
وعن أبي عبد الله : «إذا اتهم المؤمن أخاه انماث الإيمان من قلبه، كما ينماث الملح في الماء»(1).
عنه(صلی الله علیه و آله و سلم):«من اتهم أخاه في دينه فلا حرمة بينهما»(2).
وعنه(صلی الله علیه و آله و سلم)قال: «قال أمير المؤمنين(علیه السّلام)في كلام له: ضع أمر أخيك على أحسنه حتّى يأتيك ما يغلبك منه، ولا تظنّنّ بكلمة خرجت من أخيك سوءاً، وأنت تجد لها في الخير محملاً»(3).
وطريق معرفة ما يخطر في القلب من ذلك - هل هو ظنّ سوء، أو اختلاج وشك - أن تختبر نفسك، فإن كانت قد تغيّرت ونفر قلبك عنه نفوراً واستثقله، وفتر عن مراعاته، وتفقده، وإكرامه والاهتمام بحاله والاغتمام بسببه غير ما كان أوّلاً، فهو أمارة عقد الظنّ. وقد قال(صلی الله علیه و آله و سلم): «ثلاثة في المؤمن له منهنّ مخرج، فمخرجه من سوء ء الظنّ أن لا يحققه»(4).
أي لا يحقق في نفسه بعقد ولا فعل لا في القلب ولا في الجوارح، أما في القلب فبتغيّره إلى النفرة والكراهة، وفي الجوارح بالعمل بموجبه.
والذي ينبغي فعله عند خطور خاطر سوء على مؤمن، أن يزيد في مراعاته ويدعو له بالخير؛ فإنّ ذلك يقنط الشيطان ويدفعه عنك، فلا يلقي إليك بعد ذلك خاطر سوء خيفةً من اشتغالك بالدعاء والمراعاة، وهو ضدّ مقصوده.
ومهما عرفت هفوة من مؤمن فانصحه في السرّ، ولا يخدعنك الشيطان فيدعوك إلى اغتيابه. وإذا وعظته فلا تعظه وأنت مسرور باطّلاعك على نقصه؛ لينظر إليك بعين
ص: 25
التعظيم، وتنظر إليه بعين الاستصغار، وترتفع عنه بدالة(1)الوعظ، بل يكن قصدك تخليصه من الإثم، وأنت حزين كما تحزن على نفسك إذا دخل عليك نقصان، وينبغي أن تخطر بقلبك أنّ تركه ذلك من غير نصيحتك أحبّ إليك من تركه بالنصيحة، فإذا أنت فعلت ذلك كنت قد جمعت بين أجر الوعظ، وأجر الغمّ بمصيبته، وأجر الإعانة له على دينه .
ومن ثمرات سوء الظنّ التجسّس، فإنّ القلب لا يقنع بالظنّ ويطلب التحقيق فيشتغل بالتجسس، وهو أيضاً منهي عنه قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَجسَّسُوا﴾(2)، وقد نهى الله سبحانه في هذه الآية الواحدة عن الغيبة وسوء الظنّ والتجسس.
ومعنى التجسّس أن لا تترك عباد الله تحت ستر الله تعالى، فتتوصل إلى الاطلاع وهتك الستر حتى ينكشف لك ما لو كان مستوراً عنك كان أسلم لقلبك ولدينك، فتدبر ذلك راشداً وبالله التوفيق.
ص: 26
اعلم أنّ مساوئ الأخلاق كلّها إنما تعالج بمعجون العلم والعمل، وإنما تعالج كلّ علة بمضاد سببها؛ فلنبحث عن سبب الغيبة أولاً، ثمّ نذكر علاج كفّ اللسان عنها على وجه يناسب علاج تلك الأسباب، فنقول:
جملة ما ذكروه من الأسباب الباعثة على الغيبة عشرة أشياء، قد نبه الصادق(علیه السّلام)إجمالاً بقوله: «أصل الغيبة يتنوّع بعشرة أنواع: شفاء غيظ، ومساعدة قوم، وتصديق خبر بلا كشفه، وتهمة، وسوء ظن، وحسد، وسُخرية، وتعجب، وتبرّم، وتزين»(1).
ونحن نشير إليها مفصلة:
الأوّل: تشفّي الغيظ، وذلك إذا جرى سبب غضب به عليه، فإذا هاج غضبه تشفّى بذكر مساوئه، وسبق اللسان إليه بالطبع إن لم يكن دين وازع(2). وقد يمتنع من تشفّي الغيظ عند الغضب، فيحتقن الغضب فى الباطن، ويصير حقداً ثابتاً، ويكون سبباً دائماً الذكر المساوئ فالحقد والغضب من البواعث العظيمة على الغيبة.
ص: 27
الثاني: موافقة الأقران، ومجاملة الرفقاء ومساعدتهم على الكلام، فإنّهم إذا كانوا يتفكّهون بذكر الأعراض فيرى أنه لو أنكر أو قطع المجلس استثقلوه ونفروا عنه، فيساعدهم، ويرى ذلك من حسن المعاشرة، ويظنّ أنّه مجاملة في الصحبة. وقد يغضب رفقاؤه، فيحتاج إلى أن يغضب لغضبهم إظهاراً للمساهمة في السراء والضراء، فيخوض معهم في ذكر العيوب والمساوئ.
الثالث: أن يستشعر من إنسان أنه سيقصده، ويطول لسانه فيه، ويقبح حاله عند محتشم، أو يشهد عليه بشهادة، فيبادره قبل ذلك ويطعن فيه؛ ليسقط أثر شهادته وفعله. أو يبتدئ بذكر ما فيه صادقاً؛ ليكذب عليه بعده، فيروّج كذبه بالصدق الأوّل، ويستشهد به، ويقول: «ما من عادتي الكذب، فإنّي أخبرتكم بكذا وكذا من أحواله فكان كما قلت».
الرابع: أن يُنسب إلى شيء فيريد أن يتبرأ منه، فيذكر الذي فعله، وكان من حقه أن يبرئ نفسه ولا يذكر الذي فعله، ولا ينسب غيره إليه، أو يذكر غيره بأنه كان مشاركاً ويريهم في الفعل؛ ليمهد بذلك عذر نفسه في فعله.
الخامس: إرادة التصنّع والمباهاة، وهو أن يرفع نفسه بتنقيص غيره، فيقول: «فلان جاهل، وفهمه ركيك، وكلامه ضعيف، وغرضه أن يثبت في ضمن ذلك فضل نفسه، أنّه أفضل منه أو يحذر أن يعظم مثل تعظيمه، فيقدح فيه لذلك.
السادس الحسد، وهو أنه ربما يحسد من يثني الناس عليه، يحبّونه ويكرمونه، فيريد زوال تلك النعمة عنه، ولا يجد سبيلاً إليه إلا بالقدح فيه، فيريد أن يسقط ماء وجهه عند الناس حتى يكفّوا عن إكرامه والثناء عليه؛ لأنه يثقل عليه أن يسمع ثناء الناس عليه وإكرامهم له، وهذا هو الحسد وهو عين الغضب والحقد والحسد قد يكون مع الصديق المحسن والقريب الموافق.
السابع: اللعب والهزل والمطايبة، وتزجية الوقت بالضحك، فيذكر غيره بما يضحك
ص: 28
الناس على سبيل المحاكاة والتعجب والتعجيب.
الثامن: السخرية والاستهزاء استحقاراً له، فإنّ ذلك قد يجري في الحضور، فيجري أيضاً في الغيبة. ومنشؤه التكبّر، واستصغار المستهزأ به.
التاسع: وهو مأخذ دقيق ربما يقع فيه الخواص وأهل الحذر من مزال اللسان، وهو أن يغتمّ بسبب ما يُبتَلَى به أحد، فيقول: «يا مسكين فلان قد غمّني أمره، وما ابتلي به»، ويذكر سبب الغمّ، فيكون صادقاً في اغتمامه، ويلهيه الغمّ عن الحذر عن ذكر اسمه، فيذكره بما يكرهه فيصير به مغتاباً، فيكون غمّه ورحمته خيراً، ولكنه ساقه إلى شرّ من حيث لا يدري والترحم والتغمّم ممكن من دون ذكر اسمه ونسبته إلى ما يكره، فيهيّجه الشيطان على ذكر اسمه؛ لیبطل به ثواب اغتمامه و ترحمه.
العاشر: الغضب لله تعالى فإنّه قد يغضب على منكر قارفه إنسان فيظهر غضبه ويذكر اسمه على غير وجه النهي عن المنكر، وكان الواجب أن يظهر غضبه عليه على ذلك الوجه خاصة. وهذا مما يقع فيه الخواص أيضاً، فإنّهم يظنون أن الغضب إذا كان لله تعالى كان عذراً كيف كان، وليس كذلك.
إذا عرفت هذه الوجوه التي هي أسباب الغيبة، فاعلم أن الطريق في علاج كف اللسان عن الغيبة يقع على وجهين: أحدهما: على الجملة، والآخر: على التفصيل.
أمّا على الجملة: فهو أن يعلم تعرّضه لسخط الله تعالى بغيبته، كما قد سمعته في الأخبار المتقدّمة وأن يعلم أنّها تحبط حسناته، فإنّها تنقل في القيامة حسناته إلى من اغتابه بدلاً عما أخذ من ،عرضه فإن لم يكن له حسنات نقل إليه من سيئاته، وهو مع ذلك متعرّض لمقت الله تعالى ومشبّه عنده بأكل الميتة. وقد روي عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)أنه قال: «ما النار في اليبس بأسرع من الغيبة في حسنات العبد»(1).
وروي أنّ رجلاً قال لبعض الفضلاء: «بلغني أنّك تغتابني - فقال: - ما بلغ من قدرك
ص: 29
عندي أن أُحكمك في حسناتي»(1).
فمهما آمن العبد بما وردت به الأخبار لم ينطلق لسانه بالغيبة، خوفاً من ذلك.
وينفعه أيضاً أن يتدبّر في نفسه، فإن وجد فيها عيباً اشتغل بعيب نفسه، وذكر قوله : طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس»(2).
ومهما وجد عيباً فينبغي أن يستحيي من أن يترك نفسه ويذم غيره، بل ينبغي أن يعلم أن عجز غيره عن نفسه في التنزه عن ذلك العيب كعجزه إن كان ذلك عيباً يتعلّق بفعله واختياره وإن كان أمراً خلقياً فالذمّ له ذمّ للخالق فإنّ من ذمّ صنعة فقد ذمّ الصانع . قال رجل لبعض الحكماء: «يا قبيح الوجه - فقال: - ما كان خلق وجهي إليّ فأُحسنه»(3).
وإن لم يجد عيباً في نفسه فليشكر الله ولا يلوثنّ نفسه بأعظم العيوب، فإنّ تَلْبَ الناس وأكل لحم الميتة من أعظم العيوب، فيصير حينئذٍ ذا عيوب، بل لو أنصف من نفسه لعلم أنّ ظنّه بنفسه أنه بريء من كل عيب جهل بنفسه، وهو من أعظم العيوب.
وينفعه أن يعلم أنّ تألم غيره بغيبته كتألمه بغيبة غيره له، فإذا كان لا يرضى لنفسه أن يغتاب فينبغي أن لا يرضى لغيره ما لا يرضاه لنفسه، فهذه معالجات جملية.
فأمّا التفصيل فهو أن ينظر إلى السبب الباعث له على الغيبة ويعالجه، فإنّ علاج العلة بقطع سببها. وقد عرفت الأسباب الباعثة:
أمّا الغضب: فتعالجه بأن تقول: إن أمضيت غضبي عليه لعلّ الله يمضي غضبه عليّ الغيبة؛ إذ نهاني عنها فاستجرأت على نهيه واستخففت بزجره. وقد قال(صلی الله علیه و آله و سلم): «إنّ
ص: 30
لجهنّم باباً لا يدخلها إلا من شفى غيظه بمعصية الله تعالى»(1).
وقال(صلی الله علیه و آله و سلم): «من اتقى ربِّه كَلَّ لسانه، ولم يشف غيظه»(2).
وقال(صلی الله علیه و آله و سلم): «من كظم غيظاً، وهو يقدر على أن يمضيه دعاه الله تعالى يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيّره في أيّ الحور شاء»(3).
وفي بعض كتب الله تعالى: «يا ابن آدم، اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب، فلا أمحقك فيمن أمحق»(4).
وأمّا الموافقة: فبأن تعلم أنّ الله تعالى يغضب عليك إذا طلبت سخطه في رضى المخلوقين، فكيف ترضى لنفسك أن توقر غيرك وتحقر مولاك، فتترك رضاه لرضاهم، إلا أن يكون غضبك الله تعالى؟ وذلك لا يوجب أن تذكر المغضوب عليه بسوء، بل ينبغي أن تغضب لله أيضاً على رفقائك إذ ذكروه بالسوء، فإنّهم عصوا ربّك بأفحش
الذنوب، وهو الغيبة.
وأمّا تنزيه النفس - بنسبة الخيانة إلى الغير حيث يُستغنى عن ذكر الغير -: فتعالجه بأن تعرف أنّ التعرّض لمقت الخالق أشدّ من التعرّض لمقت الخلق وأنت بالغيبة متعرّض لسخط الله تعالى يقيناً، ولا تدري أنك تتخلّص من سخط الناس أم لا، فتخلّص نفسك في الدنيا بالتوهم، وتهلك في الآخرة، أو تخسر حسناتك بالحقيقة، وتحصل ذمّ الله تعالى لك نقداً، وتنتظر دفع ذمّ الخلق نسيئةً، وهذا غاية الجهل والخذلان.
وأمّا عذرك - كقولك: «إنّي إن أكلت الحرام ففلان يأكل، وإن فعلت كذا ففلان
ص: 31
يفعل، وإن قصرت في كذا من الطاعة ففلان مقصّر» ونحو ذلك : فهذا جهل؛ لأنك تعتذر بالاقتداء بمن لا يجوز الاقتداء به، فإنّه من خالف أمر الله لا يُقتدى به، كائناً من كان. ولو دخل غيرك النار وأنت تقدر على أن لا تدخلها لم توافقه، ولو وافقته سفه عقلك. فما ذكرته غيبة وزيادة معصية أضفتها إلى ما اعتذرت عنه، وسجّلت مع الجمع بين المعصيتين على جهلك وغباوتك وكنت كالشاة تنظر إلى العنز تردّي نفسها من الجبل، فهي أيضاً تردّي نفسها، ولو كان لها لسان وصرحت بالعذر، وقالت: «العنز أکیس مني، وقد أهلك نفسه فكذلك أفعل لكنت تضحك من جهلها، وحالك مثل حالها، ثمّ لا تتعجب ولا تضحك من نفسك.
وأما قصدك المباهاة - وتزكية النفس بزيادة الفضل بأن تقدح في غيرك : فينبغي أن تعلم أنّك بما ذكرته أبطلت فضلك عند الله تعالى وأنت من اعتقاد الناس فضلك على خطر. وربما نقص اعتقادهم فيك إذا عرفوك بثلب الناس، فتكون قد بعت ما عند الخالق يقيناً بما عند المخلوق وهماً، ولو حصل لك من المخلوق اعتقاد الفضل لكانوا لا يغنون عنك الله شيئاً.
وأما الغيبة للحسد : فهو جمع بين عذابين؛ لأنك حسدته على نعمة الدنيا، وكنت معذباً بالحسد، فما قنعت بذلك حتى أضفت إليه عذاب الآخرة فكنت خاسراً في الدنيا، فجعلت نفسك خاسرة في الآخرة؛ لتجمع بين النكالين، فقد قصدت محسودك فأصبت نفسك وأهديت إليه حسنتك، فإذن أنت صديقه، وعدوّ نفسك؛ إذ لا تضره غيبتك، وتضرّك وتنفعه؛ إذ تنقل إليه حسنتك أو تنقل إليك سيئته ولا ينفعك، فقد جمعت إلى خبث الحسد جهل الحماقة. وربما يكون حسدك وقدحك سبب انتشار فضل محسودك، فقد قيل:
وإذا أراد اللهُ نَشْرَ فَضِيلَةٍ *** طُويَتْ أَتَاحَ لها لِسَانَ حَسُودا(1)
ص: 32
وأمّا الاستهزاء : فمقصودك منه إخزاء غيرك عند الناس بإخزاء نفسك عند الله تعالى وعند الملائكة، فلو تفكرت في حسرتك وحيائك وخجلتك وخزيك يوم تحمل سيئات من استهزأت به وتساق إلى النار لأدهشك ذلك عن إخزاء صاحبك، ولو عرفت حالك لكنت أولى أن تضحك منه، فأنت سخرت به عند نفر قليل، وعرّضت نفسك لأن يأخذ بيدك في القيامة على ملإ من الناس ويسوقك تحت سيئاته كما يساق الحمار - إلى النار، مستهزئاً بك وفرحاً بخزيك، ومسروراً بنصرة الله تعالى إياه وتسليطه على الانتقام.
وأمّا الرحمة له على إثمه فهو حسن ولكن حسدك إبليس فاستنطقك بما ينقل من حسناتك إليه ما هو أكثر من رحمتك فيكون جبراً لإثم المرحوم فيخرج عن كونه مرحوماً، وتنقلب أنت مستحقاً لأن تكون مرحوماً؛ إذ حبط أجرك ونقصت من حسناتك.
وكذلك الغضب لله تعالى لا يوجب الغيبة، فإنّما حبّب الشيطان إليك الغيبة؛ ليحبط أجر غضبك، وتصير معرضاً لغضب الله تعالى بالغيبة.
وبالجملة، فعلاج جميع ذلك المعرفة، والتحقق بهذه الأمور التي هي من أبواب ،الإيمان، فمن قوّى إيمانه بجميع ذلك انكف الغيبة لا محالة.
ص: 33
اعلم أنّ المرخّص في ذكر مساءة الغير، هو غرض صحيح في الشرع لا يمكن التوصل إليه إلا به، فيدفع ذلك إثم الغيبة. وقد حصروها في عشرة:
الأوّل: التظلّم، فإنّ من ذكر قاضياً بالظلم والخيانة وأخذ الرشوة كان مغتاباً عاصياً، أما المظلوم من جهة القاضي، فله أن يتظلّم إلى من يرجو منه إزالة ظلمه، وينسب القاضي إلى الظلم؛ إذ لا يمكنه استيفاء حقه إلا به. وقد قال(صلی الله علیه و آله و سلم): «لصاحب الحق مقال»(1).
وقال(صلی الله علیه و آله و سلم): «مطل الغنى ظلم»(2).
وقال(صلی الله علیه و آله و سلم): «مطل الواجد يُحلَّ عرضه وعقوبته»(3).
ص: 34
الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر، وردّ العاصي إلى منهج الصلاح. ومرجع الأمر في هذا إلى القصد الصحيح، فإن لم يكن ذلك هو المقصود كان حراماً.
الثالث: الاستفتاء، كما تقول للمفتي: «قد ظلمني أبي أو أخي، فكيف طريقي في الخلاص؟». والأسلم هنا التعريض بأن يقول: «ما قولك في رجل ظلمه أبوه أو أخوه؟». وقد روي أنّ هنداً قالت للنبي(صلی الله علیه و آله و سلم): إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا وولدي، أفآخذ من غير علمه؟ فقال: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»(1)، فذكرت الشح والظلم لها وولدها، ولم يزجرها رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)إذ كان قصدها الاستفتاء.
الرابع: تحذير المسلم من الوقوع في الخطر والشر، ونُصْح المستشير، فإذا رأيت متفقهاً يتلبس بما ليس من أهله فلك أن تُنبه الناس على نقصه، وقصوره عمّا يؤهّل نفسه ،له وتنبههم على الخطر اللاحق لهم بالانقياد إليه. وكذلك إذا رأيت رجلاً يتردّد إلى فاسق يخفي أمره، وخفت عليه من الوقوع بسبب الصحبة فيما لا يوافق الشرع، فلك أن تُنبهه على فسقه مهما كان الباعث لك الخوف على إفشاء البدعة وسراية الفسق وذلك موضع الغرور والخديعة من الشيطان؛ إذ قد يكون الباعث لك على ذلك هو الحسد له على تلك المنزلة، فيلبس عليك الشيطان ذلك بإظهار الشفقة على الخلق.
وكذلك إذا رأيت رجلاً يشتري مملوكاً، وقد عرفت المملوك بعيوب منقصة فلك أن تذكرها للمشتري، فإنّ في سكوتك ضرراً للمشتري، وفي ذكرك ضرراً للعبد، لكن المشتري أولى بالمراعاة. ولتقتصر على العيب المنوط به ذلك الأمر، فلاتذكر في عيب التزويج ما يخلّ بالشركة أو المضاربة أو السفر مثلاً، بل تذكر في كلّ أمر ما يتعلق بذلك الأمر ولا تجاوزه قاصداً نُضح المستشير لا الوقيعة. ولو علم أنه يترك التزويج
ص: 35
بمجرد قوله: «لا يصلح لك» فهو الواجب، فإن علم أنّه لا ينزجر إلا بالتصريح بعيبه فله أن يصرح به. قال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): «أترعون عن ذكر الفاجر حتى يعرفه الناس؟ اذكروه بما فيه يحذره(1)الناس»(2).
وقال(صلی الله علیه و آله و سلم)لفاطمة بنت قيس لمّا شاورته فى خُطّابها: «أما معاوية فرجل صُعْلُوك(3)لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع العصا العصا عن عاتقه(4).
الخامس: الجرح والتعديل للشاهد والراوي، ومن ثُمَّ وضع العلماء كتب الرجال وقسموهم إلى الثقات والمجروحين، وذكروا أسباب الجرح غالباً. ويشترط إخلاص النصيحة في ذلك كما مرّ، بأن يقصد في ذلك حفظ أموال المسلمين، وضبط السنة، وحمايتها عن الكذب ولا يكون حامله العداوة والتعصب، وليس له إلا ذكر ما يخلّ بالشهادة والرواية منه ولا يتعرّض لغير ذلك، مثل كونه ابن ملاعنة، أو شبهة، اللهم إلا أن يكون متظاهراً بالمعصية، كما سيأتي.
السادس أن يكون المقول فيه مستحقاً لذلك؛ لتظاهره بسببه كالفاسق المتظاهر بفسقه، بحيث لا يستنكف من أن يذكر بذلك الفعل الذي يرتكبه، فيذكر بما هو فيه، لا بغيره. قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له»(5).
وظاهر الخبر جواز غيبته وإن استنكف من ذكر ذلك الذنب.
وفي جواز اغتياب مطلق الفاسق احتمال ناشئ من قوله(صلی الله علیه و آله و سلم): «لا غيبة لفاسق»(6).
ص: 36
وردّ بمنع أصل الحديث(1)، أو بحمله على فاسق خاص، أو على النهي وإن كان بصورة الخبر(2). وهذا هو الأجود، إلا أن يتعلّق بذلك غرض ديني، ومقصد صحيح يعود على المغتاب، بأن يرجو ارتداعه عن معصيته بذلك، فيلحق بباب النهي عن المنكر.
السابع: أن يكون الإنسان معروفاً باسم يُغرب عن عيبه، كالأعرج والأعمش، فلا إثم على من يقول ذلك، فقد فعله العلماء لضرورة التعريف؛ ولأنه صار بحيث لا يكرهه صاحبه لو علمه بعد أن صار مشهوراً به.
والحق أنّ ما ذكره العلماء المعتمدون من ذلك يجوز التعويل فيه على حكايتهم. وأمّا ذكره عن الأحياء فمشروط بعلم رضى المنسوب إليه به؛ لعموم النهي، وحينئذٍ يخرج عن كونه غيبة. وكيف كان، فلو وجد عنه معدلاً، وأمكنه التعريف بعبارة أخرى فهو أولى.
الثامن: لو اطلع العدد الذين يثبت بهم الحدّ أو التعزير على فاحشة جاز ذكرها عند الحاكم بصورة الشهادة في حضرة الفاعل وغيبته، ولا يجوز التعرّض إليها في غير ذلك إلا أن يتجه فيه أحد الوجوه الأُخرى.
التاسع: قيل: إذا علم اثنان من رجل معصيةً شاهداها، فأجرى أحدهما ذكرها في غيبة ذلك العاصي جاز؛ لأنّه لا يؤثر عند السامع شيئاً وإن كان الأولى تنزيه النفس واللسان عن ذلك لغير غرض من الأغراض المذكورة، خصوصاً مع احتمال نسيان المقول له لتلك المعصية، أو خوف اشتهارها عنهما(3).
العاشر: إذا سمع أَحَدٌ مغتاباً لآخر وهو لا يعلم استحقاق المقول عنه للغيبة ولا
ص: 37
عدمه، قيل: لا يجب نهى القائل؛ لإمكان استحقاق المقول عنه، فيحمل فعل القائل على الصحة ما لم يعلم فساده؛ لأنّ ردعه يستلزم انتهاك حرمته، وهو أحد المحرمين. والأولى التنبيه على ذلك إلى أن يتحقق المخرج منه؛ لعموم الأدلة، وترك الاستفصال فيها، وهو دليل إرادة العموم، حذراً من الإغراء بالجهل؛ ولأنّ ذلك لو تم لتمشى فيمن يعلم عدم استحقاق المقول عنه بالنسبة إلى السامع؛ لاحتمال اطلاع القائل على ما يوجب تسويغ ،مقاله، وهو يهدم قاعدة النهي عن الغيبة وهذا الفرد مستثنى من جهة سماع الغيبة، وقد تقدم أنه إحدى الغيبتين.
وبالجملة: فالتحرّز عنها من دون وجه راجح في فعلها فضلاً عن الإباحة أولى؛ لتتّسم النفس بالأخلاق الفاضلة. ويؤيّده إطلاق النهي فيما تقدّم(1)كقوله(صلی الله علیه و آله و سلم): «هل تدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره».
وأما مع رجحانها كرد المبتدعة، وإخزاء الفسقة والتنفير منهم، والتحذير من اتباعهم، فذلك يوصف بالوجوب مع إمكانه فضلاً عن غيره. والمعتمد في ذلك كله على المقاصد، فلا يغفل المستيقظ عن ملاحظة مقصده وإصلاحه، والله الموفق.
ص: 38
وله اسم خاص، وقد تعلّق به نهي خاص.
لمّا عرفت أنّ الغيبة تطلق على ذكر ما يسوء الغير ذكره ويكرهه ولا يؤثره، وعلى التنبيه عليه بكتابة وإشارة وغيرهما، وعلى حديث النفس به وعقد القلب عليه وإن لم يذكره. دخل في هذا التعريف أفراد أخر من المواضع المحرمة على الخصوص، وهي امور:
أحدها: النميمة، وهي نقل قول الغير إلى المقول فيه كما تقول: فلان تكلّم فيك بكذا وكذا. سواء كان نقل ذلك بالقول، أم بالكتابة، أم بالإشارة والرمز؛ وكان ذلك النقل كثيراً ما يكون متعلقه نقصاناً، أو عيباً في المحكي عنه موجباً لكراهته، أو إعراضه عنه، كان ذلك راجعاً إلى الغيبة أيضاً، فجمع بين معصية الغيبة والنميمة. فلا جرم حسن في هذه الرسالة التنبيه على النميمة وما ورد فيها من النهي على الخصوص، فإنّها إحدى المعاصى الكبائر كما ستسمعه.
وثانيها: كلام ذي اللسانين الذي يتردّد بين المتخاصمين ونحوهما، ويُكلّم كل واحد منهما بكلام يوافقه، فإنّ ذلك مع ما ورد فيه من النهي الخاص، يرجع إلى الغيبة بوجه ما، وإلى النميمة بوجه آخر، بل هو شر أقسام النميمة كما سيأتي من قول النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): «تجدون
ص: 39
شر عباد الله يوم القيامة، من يأتي هؤلاء بحديث هؤلاء، وهؤلاء بحديث هؤلاء»(1).
فإنّه كلام يكرهه كلّ أحد منهما لو بلغه فإنّ الإنسان لا يحب من يكلّم خصمه بما يرضيه ولا من يؤثر معه ما يبغيه، بل هو معدود من جملة الأعداء، فتتعلّق الكراهة لذلك الكلام بكلّ منهما فلنتكلّم فيه أيضاً على وجه الإيجاز، ونذكر ما ورد فيه من النهي.
وثالثها الحسد وهو كراهة النعمة على الغير، ومحبّة زوالها عن المنعم عليه، وهو مع كونه أيضاً م المحرمات الخاصة والمعاصي الكبيرة، يرجع إلى الغيبة القلبية بوجه؛ لأنّه حكم على القلب بشيء يتعلّق بالغير، يكرهه لو سمعه أشدّ كراهة وأبلغها، فيجمع بين معصيتين الحسد والغيبة.
فلنذكر جملة من الكلام فيه، وما ورد فيه من النهي، بل هو أولى الثلاثة بالذكر؛ لكثرة وقوعه في هذا العصر، وابتلاء الخواص به بل هو داؤهم ليس لهم عنه مناص وأولى ما يهتم العاقل به دواء المرض الحاضر.
فيقع الكلام هنا في مقامات ثلاثة:
وقال الله تعالى: ﴿وَيلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ﴾(1)، قيل : هو النمام(2).
وقال تعالى عن امرأة نوح وامرأة لوط: ﴿فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغنيا عَنْهُما مِنَ الله شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾(3).
قيل: كانت امرأة لوط تخبر بالضيفان، وامرأة نوح تخبر بأنه مجنون(4).
وقال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): «لا يدخل الجنة نمام»(5).
وفي حديث آخر: لا يدخل الجنة قتات والقتات: هو النمام»(6).
وقال(صلی الله علیه و آله و سلم): «أحبكم إلى الله تعالى أحسنكم أخلاقاً، الموطؤون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون؛ وإنّ أبغضكم إلى الله تعالى المشّاؤون بالنميمة، المفرقون بين الإخوان، الملتمسون للبراء العثرات»(7).
وقال(صلی الله علیه و آله و سلم): «ألا أخبركم بشراركم»؟ قالوا بلى قال: «المشّاؤون بالنميمة، المفسدون بین الأحبة، الباغون للبراء العيب»(8).
وقال أبوذر: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «من أشاد(9)على مسلم بكلمة ليشينه بها بغير حق
ص: 41
شانه الله تعالى في النار يوم القيامة»(1).
وقال أبو الدرداء: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «أيما رجل أشاع على رجل كلمة، وهو منها بريء؛ ليشينه بها في الدنيا كان حقاً على الله عزّ وجلّ أن يذيبه بها يوم القيامة في النار»(2).
وعنه(صلی الله علیه و آله و سلم): «إن الله تعالى لما خلق الجنّة قال لها: تكلمي، قالت: سعد من دخلني، قال الجبار جل جلاله وعزّتي وجلالي لا يسكن فيك ثمانية نفر من الناس: لا يسكن فيك مدمن خمر، ولا مصرّ على الزنى ولا قتات - وهو النمام - ولا ديوث، ولا الشرطي، ولا المخنّث، ولا قاطع رحم ولا الذي يقول عليّ عهد الله إن لم أفعل كذا وكذا ثمّ لم يف به»(3).
وعن أبي جعفر الباقر(علیه السّلام)أنه قال: «الجنّة محرمة على القناتين المشائين بالنميمة»(4).
وعن أبي عبد الله(علیه السّلام)قال: قال أمير المؤمنين(علیه السّلام): شراركم المشّاؤون بالنميمة، المفرّقون بين الأحبّة، المبتغون للبراء المعايب»(5).
وروي أن موسى(علیه السّلام)، استسقى لبني إسرائيل حين أصابهم قحط، فأوحى الله تعالى إليه: إنّي لا أستجيب لك ولا لمن معك وفيكم نمّام قد أصرّ على النميمة، فقال موسى(علیه السّلام): مَنْ هو يا ربّ حتى نُخرجه من بيننا؟ فقال: يا موسى أنهاكم عن النميمة وأكون نمّاماً؟! فتابوا بأجمعهم، فسقوا»(6).
وروي: «أنّ رجلاً اتبع حكيماً سبعمائة فرسخ في سبع كلمات، فلما قدم عليه قال:
ص: 42
إني جئتك للذي آتاك الله تعالى من العلم، أخبرني عن السماء وما أثقل منها، وعن الأرض وما أوسع منها، وعن الحجارة وما أقسى منها، وعن النار وما أحرّ منها، وعن الزمهرير وما أبرد منه، وعن البحر وما أغنى منه، وعن اليتيم وما أذلّ منه؟ فقال الحكيم: البهتان على البريء أثقل من السماوات، والحق أوسع من الأرضين، والقلب القانع أغنى من البحر، والحرص والحسد أحر من النار، والحاجة إلى القريب إذا لم تنجح أبرد من الزمهرير، وقلب الكافر أقسى من الحجر، والنمام إذا بان أمره أذل من اليتيم»(1).
واعلم أن النميمة تطلق في الأكثر على من ينم قول الغير إلى المقول فيه، كما يقول: فلان كان يتكلّم فيك بكذا وكذا، وليست مخصوصة به، بل تطلق على ما هو أعم من القول كما مرّ في الغيبة.
وحدّها بالمعنى الأعمّ: كشف ما يكره كشفه، سواء أكرهه المنقول عنه أم المنقول إليه أم كرهه ثالث وسواء كان الكشف بالقول أم بالكتبة أم الرمز أم الإيماء، وسواء كان المنقول من الأعمال أم من الأقوال، وسواء أكان ذلك عيباً ونقصاناً على المنقول عنه أم لم يكن بل حقيقة النميمة: إفشاء السرّ وهتك الستر عمّا يكره کشفه، بل كلّما رآه الإنسان من أحوال الإنسان؛ فينبغي أن يسكت عنه إلا ما في حكايته فائدة لمسلم، أو دفع لمعصية، كما إذا رأى من يتناول مال غيره فعليه أن يشهد به مراعاة لحق المشهود عليه، وأما إذا رآه يخفي مالاً لنفسه فذكره فهو نميمة وإفشاء للسر، فإن كان ما ينم به نقصاناً أو عيباً في المحكي عنه كان قد جمع بين الغيبة والنميمة.
والسبب الباعث على النميمة: إما إرادة السوء بالمحكي عنه ، أو إظهار الحبّ للمحكيّ ،له، أو التفرّج بالحديث، أو الخوض في الفضول.
ص: 43
وكل من حملت إليه النميمة، وقيل له: إن فلاناً قال فيك كذا وكذا أو فعل فيك كذا وكذا أو هو يدبر في إفساد أمرك أو في ممالأة عدوّك أو تقبيح حالك أو ما يجري مجراه، فعليه ستة أمور:
الأوّل: أن لا يصدقه ؛ لأنّ النمّام فاسق، وهو مردود الشهادة، قال الله تعالى: ﴿إن جائكُم فَاسِقٌ بِنَبَاءٍ فتبينوا أن تُصيبوا قوماً بجهالةٍ﴾(1).
الثاني: أن ينهاه عن ذلك، وينصحه ويُقبِّح له فعله قال الله تعالى: ﴿وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ﴾(2).
الثالث: أن يُبغضه في الله تعالى فإنّه بغيض عند الله، ويجب بغض من يُبغضه الله تعالى .
الرابع: أن لا تظن بأخيك السوء بمجرد قوله؛ لقوله تعالى: ﴿اجتنبوا كثيراً من الظن﴾(3)، بل تتثبّت حتّى يتحقق الحال.
الخامس: أن لا يحملك ما حكى لك على التجسس والبحث ليتحقق؛ لقوله تعالى: ﴿ولا تجسسوا﴾.
السادس: أن لا ترضى لنفسك ما نهيت النمّام عنه، فلا تحكي نميمته فتقول: «فلان قد حكى كذا وكذا»، فتكون به نمّاماً ومغتاباً، وتكون قد أتيت بما عنه نهيت.
وقد روي عن عليّ(علیه السّلام): «أنّ رجلاً أتاه يسعى إليه برجل فقال: يا هذا نحن نسأل عمّا قلت، فإن كنت صادقاً مقتناك، وإن كنت كاذباً عاقبناك، وإن شئت أن نقيلك أقلناك قال: أقلني يا أمير المؤمنين»(4).
ص: 44
وقد تبعه في ذلك عمر بن عبد العزيز، فقد روي أنه دخل إليه رجل فذكر عنده عن رجل شيئاً، فقال عمر: إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذباً فأنت من أهل هذه الآية: ﴿إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَا﴾(1)، وإن كنت صادقاً فأنت من أهل هذه الآية: ﴿هَتَازِ مَشَاءٍ بِنَمِيمٍ﴾(2)،وإن شئت عفونا عنك، فقال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبداً(3).
وقد روي: «أنّ حكيماً من الحكماء زاره بعض إخوانه، وأخبره بخبر عن غيره، فقال له الحكيم قد أبطأت في الزيارة، وجئتني بثلاث جنايات: بغضت إلي أخي، وشغلت قلبي الفارغ، واتهمت نفسك الأمينة»(4).
وروي أنّ بعض الخلفاء(5)قال الرجل: بلغني أنك قلت في كذا وكذا، فقال الرجل: ما فعلت ولا قلت فقال: إنّ الذي أخبرني صادق، فقال الزهري وكان جالساً: لا يكون النمّام صادقاً، فقال: صدقت، اذهب بسلامة(6).
وقال الحسن: «من ثمّ إليك نمّ عليك»، وهذه إشارة إلى أنّ النمّام ينبغي أن يُبغض، ولا يوثق بصداقته، وكيف لا يبغض وهو لا ينفك من الكذب والغيبة والغدر والخيانة والغل والحسد والنفاق والإفساد بين الناس والخديعة، وهو ممّن قد سعى في قطع ما أمر الله تعالى به أن يوصل قال الله تعالى: ﴿ويَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ ويُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ﴾(7)، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بَغَيْرِ الْحَقِّ﴾(8)، والنمام منهم.
ص: 45
وقال(علیه السّلام): إنّ من شرّ الناس من اتقاه الناس لشرّه»(1).
والنمّام منهم.
وقال(صلی الله علیه و آله و سلم): «لا يدخل الجنّة قاطع»(2).
قيل قاطع بين الناس وهو النمّام، وقيل: قاطع الرحم(3).
وقال لقمان الحكيم لابنه: يا بني، أوصيك بخلال إن تمسكت بهنّ لم تزل سيّداً: أبسط خُلقك للقريب والبعيد، وأمسك جهلك عن الكريم واللئيم، واحفظ إخوانك وصل أقاربك، وآمنهم من قبول ساع أو سماع باغ يريد إفسادك ويروم خداعك، وليكن إخوانك مَنْ إذا فارقتهم وفارقوك لم تغتبهم ولم يغتابوك»(4).
وقال بعضهم:
لو صح ما نقله النمّام إليك لكان هو المجترئ بالشتم عليك، والمنقول عنه أولى بحلمك؛ لأنه لم يقابلك بشتمك(5).
وبالجملة: فشرّ النمّام عظيم، ينبغي أن يتوقى.
قیل:
باع بعضهم عبداً وقال للمشتري: ما فيه عيب إلا النميمة، قال: رضيت، فاشتراه فمكث الغلام أياماً. ثمّ قال لزوجة مولاه: إنّ زوجكِ لا يحبّكِ، وهو يريد أن يتسرّى عليكِ، فخذي الموسى واحلقي من قفاه شعرات حتى أسحر عليها
ص: 46
فيحبّكِ. ثمّ قال للزوج: إنّ امرأتك اتخذت خليلاً، وتريد أن تقتلك، فتناوم لها حتى تعرف فتناوم فجاءت بالموسى، فظنّ أنّها تقتله، فقام وقتلها، فجاء أهل المرأة وقتلوا الرجل، فوقع القتال بين القبيلتين وطال الأمر(1).
الذي يتردّد بين اثنين، سيّما المتعاديين ويكلّم كلّ واحد منهما ما يوافقه، وقلّما يخلو عنه من يشاهد متعاديين، وذلك عين النفاق، وهو من المعاصي الكبائر المتوعد عليه بخصوصه .
وروى عمّار بن ياسر عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): «من كان له وجهان في الدنيا كان له لسانان من نار يوم القيامة»(2).
وعنه(صلی الله علیه و آله و سلم): «تجدون من شرّ عباد الله يوم القيامة ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بحديث هؤلاء، وهؤلاء بحديث هؤلاء»(3).
وفي حديث آخر: «الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه»(4).
وقيل مكتوب في التوراة: «بطلت الأمانة والرجل مع صاحبه بشفتين مختلفتين،يهلك الله يوم القيامة كلّ شفتين مختلفتين»(5).
وقال(صلی الله علیه و آله و سلم): «أبغض خليقة الله تعالى إليه يوم القيامة، الكذابون، والمستكبرون، والذين يكثرون البغضاء لإخوانهم في صدورهم فإذا لقوهم تخلّقوا لهم، والذين إذا دعوا إلى الله
ص: 47
ورسوله كانوا بطاء، وإذا دعوا إلى الشيطان وأمره كانوا سراعاً»(1).
وروى الصدوق بإسناده إلى عليّ(علیه السّلام)قال: «قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): يجيء يوم القيامة ذو الوجهين دالعاً لسانه في قفاه وآخر من قدامه، يلتهبان ناراً حتى يلهبان جسده، ثمّ يقال له: هذا الذي كان في الدنيا ذا وجهين وذا لسانين يعرف بذلك يوم القيامة»(2).
وبالإسناد إلى الباقر(علیه السّلام)قال: بئس العبد عبد يكون ذا وجهين وذا لسانين، يطري أخاه شاهداً ويأكله غائباً، إن أعطي حَسَده وإن ابتلي خَذَله»(3).
وبإسناده عنه(علیه السّلام)قال: «بئس العبد عبد هُمَزَة لمزَةَ، يقبل بوجه، ويُذبر بآخر»(4).
وبالإسناد قال: قال الله تعالى لعیسی بن مریم(علیه السّلام): یا عیسى، ليكن لسانك في السرّ والعلانية لساناً واحداً، وكذلك قلبك، إنّي أُحذرك نفسك وكفى بك خبيراً؛ لا يصلح لسانان في فم واحد ولا سَيْفان في غِمْد واحد ولا قلبان في صدر ،واحد وكذلك الأذهان(5).
واعلم أنّ الإنسان يتحقق كونه ذا لسانين بأمور:
منها: أن ينقل كلام كلّ واحد إلى الآخر وهو مع ذلك نميمة وزيادة؛ فإنّ النميمة تتحقق بالنقل من أحد الجانبين فقط.
ومنها: أن يُحسّن لكلّ واحد منهما ما هو عليه من المعاداة مع صاحبه وإن لم ينقل بينهما كلاماً.
ومنها: أن يعد كلّ واحد منهما بأن ينصره ويساعده.
ص: 48
ومنها: أنْ يُثني على كلّ واحد منهما في معاداته، وأولى منه أن يُثني عليه في وجهه، وإذا خرج من عنده ذمه والذي ينبغي، أن يسكت أو يُثني على المحق منهما في حضوره وغيبته وبين يدي عدوه.
ولا يتحقق اللسانان بالدخول على المتعاديين، ومجاملة كلّ واحد منهما مع صدقه المجاملة، فإنّ الواحد قد يصادق متعاديين، ولكن صداقة ضعيفة لا تصل إلى حد الأخوة؛ إذ لو تحققت الصداقة لاقتضت معاداة العدوّ كما هو المشهور من أنّ: «الأصدقاء ثلاثة: الصديق، وصديق الصديق، وعدوّ العدوّ. والأعداء ثلاثة: العدو، وعدوّ الصديق وصديق العدوّ»(1).
فإن قيل: كثيراً ما يتفق اختلاف اللسان مع الأمراء وأعداء الدين، فهل يكون ذلك داخلاً في النهي والنفاق، كما ورد من أنه سئل بعض الصحابة: إنا ندخل على أمرائنا فنقول القول فإذا خرجنا قلنا غيره(2).
قلنا: إن كان القائل مستغنياً عن الدخول على الأمير، وعن مخالطة العدو الديني واختار الاجتماع معه والصحبة له اختياراً؛ طلباً للجاه والمال زيادة على القدر الضروري فهو ذو لسانين ومنافق كما ذكره الصحابي، وعليه يحمل الخبر؛ وقد قال: «حبّ الجاه والمال ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل»(3).
وإن كان محتاجاً إلى ذلك اتقاء ضرورة فهو معذور لا حرج عليه فيه، فإنّ اتقاء الشرّ جائز، قال أبو الدرداء: «إنا لنكشر(4)في وجوه أقوام وإنّ قلوبنا لتبغضهم»(5).
ص: 49
وروي أنّه مرّ رجل على النبي فقال(صلی الله علیه و آله و سلم):«بئس رجل العشيرة، فلما دخل عليه أقبل عليه، فقيل له في ذلك فقال: إنّ شر الناس الذي يكرم اتقاء شره»(1).
وهو من أعضل الأدواء وأكبر المعاصي، وأشرها وأفسدها للقلب، وهي أوّل خطيئة وقعت في الأرض؛ لما حسد إبليس آدم فحمله على المعصية، فكانت البلية من ذلك إلى الأبد، وقد أمر الله تعالى نبيه بالاستعاذة من شرّه، فقال: ومِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذا حَسَدَ﴾(2)بعد أن استعاذ من الشيطان والساحر ، وأنزله منزلتهما، والأخبار النبوية فيه لا
تحصى كثرة.
قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب»(3).
وقال(صلی الله علیه و آله و سلم): «ستة يدخلون النار قبل الحساب بستة: الأمراء بالجور، والعرب بالعصبية، والدهاقين(4)، بالكبر، والتجار بالخيانة وأهل الرستاق(5)بالجهالة، والعلماء بالحسد»(6).
ص: 50
وقال(صلی الله علیه و آله و سلم): «دبّ إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء، والبغضة: هي الحالقة، لا أقول حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين والذي نفس محمد بيده، لا تدخلون الجنّة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أنبئكم بما يثبت ذلك [لكم] أفشوا السلام بينكم»(1).
وفي خبر معاذ عنه(صلی الله علیه و آله و سلم): «أنّ الحفظة تصعد بعمل العبد يزفّ كما تزف العروس إلى أهلها، حتى إذا انتهوا إلى السماء الخامسة بذلك العمل الحسن من جهاد وحجّ، له ضوء كضوء الشمس، فيقول الملك : أنا الملك صاحب الحسد، إنّه كان يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، ويسخط ما رضي الله أمرني ربي أن لا أدَعَ عمله يتجاوزني إلى غيري»(2).
وقال الصادق(علیه السّلام): «الحاسد مضر بنفسه قبل أن يضر بالمحسود كإبليس أورث بحسده لنفسه اللعنة و لآدم(علیه السّلام)الاجتباء والهدى، والرفع إلى محل حقائق العهد والاصطفاء، فكن محسوداً ولا تكن حاسداً؛ فإنّ ميزان الحاسد أبداً خفيف بثقل ميزان
المحسود والرزق مقسوم، فماذا ينفع الحسد الحاسد؟ وماذا يضر المحسود الحسد؟ والحسد أصله من عمل(3)القلب، وجحود فضل الله، وهما جناحان للكفر بالحسد وقع ابن آدم في حسرة الأبد، وهلك مهْلكاً لا ينجو منه أبداً، ولا توبة للحاسد؛ لأنه مستمرّ عليه، معتقد به، مطبوع فيه، يبدو بلا معارض به ولا سبب؛ والطبع لا يتغير عن الأصل وإن عولج»(4).
وكفى بالحسد داءاً إبلاغه العلماء النار كما ورد في الحديث السابق.
ص: 51
واعلم أنّ الحسد يهيج أربعة(1)أشياء:
أحدها إفساد الطاعات قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «إنّ الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب(2).
والثاني: فعل المعاصي والشرور ، وقد قال بعض الفضلاء: «للحاسد ثلاث علامات: يتملّق إذا شهد، ويغتاب إذا غاب ويشمت بالمصيبة»(3). وحسبك أنّ الله أمر بالاستعاذة من شره، وقرنه بالشيطان والساحر النافتِ في العقد(4)، كما تقدّم.
والثالث: التعب والغم من غير فائدة، بل مع كلّ وِزْرٍ ومعصية. قال بعضهم: «لم أر ظالماً أشبه بالمظلوم من الحاسد نفس دائم، وعقل هائم، وغمّ لازم»(5).
والرابع الحِرمان والخذلان فلا يكاد يظفر بمراد، ولا ينصر على عدو، وقد قيل: الحاسد غير منصور، وكيف يظفر بمراده، ومراده زوال نعم الله تعالى عن عباده؟ وكيف ينصر على أعدائه، وهم عباد الله الذين نظر الله إليهم، وأسبغ نعمه عليهم، سيّما إذا كانت النعمة نعمة العلم؟
والكلام في الحسد طويل؛ لاعتناء علماء القلوب به، وبحثهم عنه، وقوة دائه في قلوب الخاصة والعامة، ولنقتصر هنا على البحث في مواضع:
فحقيقته انبعاث القوّة الشهوية الى تمنّي مال الغير، أو الحالة التي هو عليها وزوالها
ص: 52
عن ذلك الغير، وهو مستلزم لحركة القوّة الغضبيّة، ولثبات الغضب ودوامه وزيادته بحسب زيادة حال المحسود التي يتعلّق بها الحسد؛ ولذلك قال علي(علیه السّلام): «الحاسد مغتاظ على مَنْ لا ذنب له»(1).
وهو نوع من أنواع الظلم والجور. وقال علي(علیه السّلام)أيضاً: «لا راحة مع حسد»(2).
و وجهه قد ظهر من حقيقته؛ فإنّ شهوة الحاسد وفكره في كيفية حصول الحالة المحسود فيها، وفي كيفية زوالها عمّن هي له المستلزمة لحركة آلات البدن في ذلك، مستلزم لعدم الراحة.
وقد اتفق العقلاء على أنّ الحسد مع أنّه رذيلة عظيمة للنفس، فهو من الأسباب العظيمة لخراب العالم؛ إذ كان الحاسد كثيراً ما تكون حركاته وسعيه في هلاك أرباب الفضائل، وأهل الشرف والأموال الذين تقوم بوجودهم عمارة الأرض؛ إذ لا يتعلّق الحسد بغيرهم من أهل الخسة والفقر، ثمّ لا يقصر في سعيه ذلك دون أن تزول تلك الحالة المحسود بها عن المحسود، أو يهلك هو في تلك الحركات الحسية الفعلية والقولية؛ ولذلك قيل: «حاسد النعمة لا يرضيه إلا زوالها»(3)، وما دام الباعث للقوّة الغضبيّة قائماً، فهي قائمة متحركة ومحرّكة.
وكثيراً ما تؤثر السعاية بين يدي الأمراء والمتسلّطين؛ لعلم الساعي بقدرتهم على تنفيذ أغراضه؛ ولقرب طاعتهم إلى قبول قوله من الغير؛ لمشاركتهم في الطباع وغلبة القوّة الشهويّة والغضبيّة فيهم، ولكن كثيراً ما تؤثر حركة الحاسد في إزالة نعمة المحسود لمحة من لمحات الله تعالى للمحسود بعين العناية فيحرسه وتزيد نعمته فلا يتوجه للحاسد عليه سبيل، ﴿إنّما السَّبِيلُ عَلَى الذَّينَ يَظْلِمُوْنَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ في الأَرْضِ بِغَيْرِ
ص: 53
الحقِّ﴾(1)، فيصير تعبه سبباً لخراب الأرض، فيفسد الحرث والنسل والله لا يحب الفساد(2).
وإذ قد عرفت أنه لا حسد إلا على نعمة، فإذا أنعم الله تعالى على أخيك بنعمة فلك فيها حالتان:
إحداهما : أن تكره تلك النعمة، وتحبّ زوالها، وهذه الحالة تسمّى حسداً.
والثانية: أن لا تحبّ زوالها، ولا تكره وجودها ، ودوامها، ولكنك تشتهى لنفسك مثلها، وهذا يسمّى غبطة، وقد يخص باسم المنافسة. قال الله تعالى: ﴿وَفي ذَالِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنافِسُونَالمطفّفين (83): 26.(3)، وقد تسمّى المنافسة حسداً، والحسد منافسة كقول الفضل وقتم ابني العباس لعلي(علیه السّلام)حين أشار عليهما بأن لا يذهبا إلى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)ولا يسألانه الولاية على الصدقة، وقد كانا أرادا ذلك: «ماذا منك إلا نفاسة، والله لقد زوجك ابنته فما نَفَسُنا ذلك عليك»(4).
وكقول النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): «لا حسد إلا في اثنين: رجل آتاه الله مالاً، فسلّطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله علماً، فهو يعمل به ويعلّمه الناس»(5).
والمحرّم من الحالتين هو الحالة الأولى، وهي المخصوصة بالدم، قال(صلی الله علیه و آله و سلم): «المُؤمن يغبط والمنافق يحسد»(6).
اللهمّ إلّا أن تكون النعمة قد أصابها فاجر يستعين بها على إيذاء الخلق، وتهييج
ص: 54
الفتنة، وفساد الدين ونحو ذلك، فلا تضرّ الكراهة لها ومحبّة زوالها إذا لم يكن ذلك من حيث إنّها نعمة، بل من حيث إنّها آلة الفساد.
ويدلّ على عدم تحريم الحالة الثانية الآية المتقدّمة، والحديث.
وقد قال تعالى: ﴿سابِقُوا إلى مَغْفَرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾(1). والمسابقة إنما تكون عند خوف الفوت كالعبدين يتسابقان إلى خدمة مولاهما، ويجزع كل واحد منهما أن يسبقه صاحبه فيحظى عند مولاه بمنزلة لا يحظى هو بها.
بل قد تكون المنافسة واجبة إذا كان المنافس فيه واجباً؛ إذ لو لم يجب مثله لكان راضياً بالمعصية المحرمة. وقد تكون مندوبة كالمنافسة في الفضائل المندوبة من إنفاق الأموال ومكارم الأخلاق. وقد يوصف بالإباحة إذا كان مباحاً.
وبالجملة، فهي تابعة للفعل المنافس فيه. لكنّ في المنافسة دقيقة وخطر غامض، يجب على طالب الخلاص التحرز منه وهو أنّه إذا أيس عن أن ينال مثل تلك النعمة وهو يكره تخلّفه ونقصانه، فلا محالة يجب زوال النقصان، وإنما يزول بأحد أمرين: أن ينال مثله، أو تزول نعمة المنافس، فإذا انسدّ أحد الطريقين عن الساعي يكاد القلب أن يشتهي الطريق الأخرى؛ إذ بزوال النعمة يزول التخلف المرغوب عنه، فيمتحن نفسه: فإن كان بحيث إذا ألقي الأمر إليه وردّ إلى اختياره لسعى في إزالة النعمة عنه فهو حسود حسداً مذموماً، وإن كانت التقوى تمنعه عن إزالة ذلك عُفي عمّا يجده في طبعه من ارتياح إلى زوال النعمة متى كان كارهاً لذلك من نفسه بعقله.
وإذ قد عرفت حقيقة الحسد، فاعلم أن له مراتب أربع:
الأولى: أن يُحبّ زوال النعمة عنه وإن كانت لا تنتقل إليه، وهذا غاية الخُبث، وأعظم أفراد الحسد.
ص: 55
الثانية: أن يحبّ زوال النعمة إليه؛ لرغبته في تلك النعمة بحيث يكون مطلوبه تلك النعمة، لا مجرّد زوالها عن صاحبها.
الثالثة: أن لا يشتهي عينها، بل يشتهي لنفسه مثلها، فإن عجز عن مثلها أحبّ زوالها كي لا يظهر التفاوت بينهما.
وهذه الثلاثة محرّمة، وهي مرتبة في القوة ترتبها في اللفظ.
الرابعة : أن يشتهي لنفسه مثلها، فإن لم يحصل فلا يحبّ زوالها منه وهذا هو المحمود المخصوص باسم الغبطة، بل المندوب إليه في الدين، وتسميته حسداً تجوز.
وهي كثيرة جداً إلّا أنّها ترجع إلى سبعة: العداوة، والتعزّز، والتكبّر، والتعجب، والخوف من فوت المقاصد، وحبّ الرئاسة، وخُبث النفس ويُخلها.
فإنّه إنما يكره النعمة عليه: إما لأنه عدوّه فلا يريد له الخير، وهذا لا يختص بالأمثال.
وإما لأنه يخاف أن يتكبّر بالنعمة عليه وهو لا يطيق احتمال كبره وعظمته؛ لعزّة نفسه، وهو المراد بالتعزّز.
وإما أن يكون في طبعه أن يتكبر على المحسود، ويمتنع ذلك عليه بنعمته، وهو المراد بالتكبّر.
وإما أن تكون النعمة عظميةً والمنصب كبيراً، فيتعجب من فوز مثله بمثل تلك النعمة، وهو التعجب.
وإما أن يخاف من فوات مقاصده بسبب نعمته، بأن يتوصل به إلى مزاحمته في أغراضه.
وإما أن يكون لحبّ الرئاسة التي تبنى على الاختصاص بنعمة لا تساوى فيها.
ص: 56
وإما أن لا يكون بسبب من هذه الأسباب، بل بخُبث النفس وشحها بالخير لعباد الله تعالى.
وقد أشار الله سبحانه إلى السبب الأوّل بقوله: ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾(1)، وإلى الثانية بقوله: ﴿لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَينَ عَظِيمٍ﴾(2)، أي كان لا يثقل علينا أن نتواضع له ونتبعه إذا كان عظيماً، وكانوا قد قالوا: كيف يتقدّم علينا غلام يتيم؟ وكيف يطأطئ له رؤوسنا؟
وإلى الرابعة بقوله: ﴿قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾(3)، ﴿أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْن مِثْلِنَا﴾(4)، ﴿وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إذاً لَخَاسِرُونَ﴾(5)، فتعجبوا من أن يفوز برتبة الرسالة والوحي والقرب من الله تعالى بشر مثلهم، فحسدوهم وقالوا متعجبين: ﴿أبَعَتَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً﴾(6)، فقال تعالى: ﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ﴾(7).
وأعظم الأسباب فساداً الخامس والسادس لتعلقهما غالباً بعلماء السوء ونظرائهم، ومناط الخامس يرجع إلى متزاحمين على مطلوب واحد، فإن كلا منهما يحسد صاحبه في كلّ نعمة يكون عوناً له في الانفراد بمقصوده.
ومن هذا الباب تحاسد الضرّات في التزاحم على مقاصد الزوجية، والإخوة في التزاحم على نيل المنزلة المطلوبة بها عند الأب، والتلامذة لأستاذ واحد في نيل المنزلة عنده، والعالمين المتزاحمين على طائفة من المتفقهة محصورين؛ إذ يطلب كلّ واحد
ص: 57
منزلة في قلبهم للتوصل بهم إلى أغراضهم.
ومرجع السادس إلى محبّة الانفراد بالرئاسة والاختصاص بالثناء والفرح بما يمدح به من أنه واحد الدهر ولا نظير له، فإنه متى سمع بنظير له في أقصى العالم ساءَه ذلك، وأحبّ موته أو زوال النعمة التي بها يشاركه في المنزلة.
وهذا زيادة على ما في قلوب آحاد العلماء من طلب الجاه والمنزلة في قلوب الناس؛ للتوصل إلى مقاصد سوى الرئاسة، وقد كان علماء اليهود يعرفون رسالة رسول الله ، وينكرونها ولا يؤمنون به مخافة أن تبطل رئاستهم، وأن يصيروا تابعين بعد أن كانوا متبوعين مهما نسخ علمهم.
وقد يجتمع بعض هذه الأسباب أو أكثرها أو جميعها في شخص واحد، فيعظم فيه داء الحسد وينكى في قلبه ويقوى قوة لا يقدر معه على الإخفاء والمجاملة، بل ينهتك حجاب المجاملة ويظهر العداوة بالمكاشفة، ولا يكاد يزول إلا بالموت، وقلّ أن يتفق للحاسد سبب واحد من هذه الأسباب بل أكثر.
وأصل العداوة والحسد التزاحم على غرض واحد، والغرض الواحد لا يجمع مبتاعدين بل متناسبين؛ فلذلك ترى الحسد يكثر بين الأمثال والأقران والإخوة وبني العمّ والأقارب، ويقل في غيرهم، إلا مع الاجتماع في أحد الأغراض المقررة.
نعم، من اشتد حرصه على الجاه، وأحبّ الصِيتَ في جميع أطراف العالم بما هو فيه، فإنّه يحسد كلّ من هو في العالم وإن بَعُد ممّن يساهمه في الخصلة التي يفاخر بها. ومنشأ جميع ذلك حبّ الدنيا، فإنّ الدنيا هي التي تضيق عن المتزاحمين، أما الآخرة فلا ضيق فيها، وإنّما مَثَلُها مثل العلم، فإنّ من عرف الله تعالى وملائكته وأنبياءه وملكوت أرضه وسمائه لم يحسد غيره إذا عرف ذلك أيضاً؛ لأن المعرفة لا تضيق على العارفين، بل المعلوم الواحد يعرفه ألف ألف عالم، ويفرح بمعرفته ويلتذ به، ولا تنقص لذة واحدة بسبب غيره، بل يحصل بكثرة العارفين زيادة الأنس وثمرة الإفادة
ص: 58
والاستفادة. فلذلك لا يكون بين علماء الدين محاسدة؛ لأنّ مقصدهم بحر واسع لا ضيق فيه، وغرضهم المنزلة عند الله ولا ضيق أيضاً فيه، بل يزيد الأنس بكثرتهم.
نعم، إذا قصد العلماء بالعلم المال والجاه تحاسدوا؛ لأن المال أعيان وأجسام إذا وقعت في يد واحد خلت عنه يد الآخر، وكذلك الجاه إذ معناه ملك القلوب، ومهما امتلأ قلب شخص بتعظيم عالم انصرف عن تعظيم الآخر أو نقص منه لا محالة، فيكون ذلك سبباً للمحاسدة.
وأما العلم فلا نهاية له، ولا يتصوّر استيعابه، فمن بذل جهده في تحصيله، وأشغل نفسه في الفكر في جلال الله وعظمته صار ذلك ألذ عنده من كل نعيم، ولم يكن ممنوعاً منه ولا مزاحماً فيه فلا يكون في قلبه حسد لأحد من الخلق؛ لأنّ غيره أيضاً لو عرف مثل معرفته لم تنقص لذته بل زادت لذته بمؤانسته، بل مثل العالمين بالحقيقة والمتمسكين بالطريقة كما قال الله تعالى عنهم : ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلَّ إخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾(1)، فهذا حالهم في الدنيا، فماذا تظن عند انكشاف الغطاء، ومشاهدة المحبوب في العقبى؟! فلا محاسدة في الجنّة أيضاً، إذ لا مضايقة فيها ولا مزاحمة فعليك أيها الأخ (وفقنا الله وإياك) إن كنت بصيراً، وعلى نفسك مُشِفقاً، أن تطلب نعيماً لا زحمة فيه، ولذة لا مكدّر لها، والله ولي التوفيق.
اعلم أنّ الحسد من الأمراض العظيمة للقلوب، ولا تداوى أمراض القلب إلا بالعلم والعمل، والعلم النافع لمرض الحسد هو أن تعلم يقيناً أنّ الحسد ضرر عليك في الدنيا والدين، ولا ضرر به على المحسود في الدنيا ولا في الدين بل ينتفع به فيهما، ومهما عرفت هذا عن بصيرة، ولم تكن عدوّ نفسك وصديق عدوّك فارقت الحسد لا محالة.
ص: 59
أما كونه ضرراً عليك في الدين، فهو أنك بالحسد سخطت قضاء الله تعالى وكرهت نعمته التي قسمها لعباده، وعدله الذي أقامه في ملكه بخفي حكمته، واستنكرت ذلك واستبشعته. وهذه جناية على حدقة التوحيد، وقذى في عين الإيمان، وناهيك بهما جناية على الدين وقد انضاف إليه أنّك غششت رجلاً من المؤمنين، وتركت نصيحته، وفارقت أولياء الله تعالى وأنبياءَهُ في حبّهم الخير لعباد الله تعالى، وشاركت إبليس وسائر الكفّار في محبّتهم للمؤمنين البلاء وزوال النعم، وهذه خبائث في القلب، تأكل حسنات القلب كما تأكل النار الحطب، وتمحوها كما يمحو الليل النهار.
وأما كونه ضرراً في الدنيا عليك، فهو أنك تتألم بحسدك وتتعذب به، ولا تزال في كَمَدٍ وغَمَّ؛ إذ أعداؤك لا يخليهم الله تعالى عن نعم يفيضها عليهم، فلا تزال تتعذب بكلّ نعمة تراها وتتألم بكلّ بليّة تنصرف عنهم، فتبقى مغموماً مزحوماً متشعب القلب ضيق النفس كما تشتهيه لأعدائك وكما تشتهي أعداؤك لك، فقد كنت تريد المحنة لعدوّك، فتنجزت في الحال محنتك وغمّك نقداً، ولا تزول النعمة عن المحسود بحسدك ولو لم تكن تؤمن بالبعث والحساب لكان مقتضى الفطنة - إن كنت عاقلاً - أن تَحذَر من الحسد؛ لما فيه من ألم القلب ومساءته وعدم النفع، فكيف وأنت عالم بما في الحسد من العذاب الشديد في الآخرة؟! فما أعجب من العاقل أن يتعرّض لسخط الله تعالى من غير نفع يناله، بل مع ضرر يحتمله وألم يقاسيه فيهلك دينه ودنياه من غير جدوى ولا فائدة!.
وأمّا أنّه لا ضرر على المحسود في دينه ودنياه فواضح؛ لأنّ النعمة لا تزول عنه بحسدك، بل ما قدره الله تعالى له من إقبال ونعمةٍ فلابد وأن تدوم إلى أجل قدّره الله تعالى، فلا حيلة في دفعه. وإن كانت النعمة قد حصلت لسعيه من علم أو عمل فلا حيلة في دفعه أيضاً، بل ينبغي أن تلوم أنت نفسك، حيث سعى وقعدت، وشمّر وكسلت،
ص: 60
وسَهر ونمْتَ، فكان حالك كما قيل:
هلا سعوا سعى الكرام فَأَدْركُوا *** أو سَلَّمُوا لِمَواقِعِ الأقدارِ
ومهما لم تزل النعمة بالحسد لم يكن على المحسود ضررٌ في الدنيا، ولا كان عليه إثم في الآخرة. ولعلّك تقول: «ليت النعمة كانت تزول عن المحسود بحسدي»، وهذا غاية الجهل، فإنّه بلاء تشتهيه أوّلاً لنفسك، فإنّك لا تخلو أيضاً من عدو يحسدك، فلو كانت النعم تزول بالحسد لم يبق لله عليك نعمة ولا على الخلق نعمة حتى نعمة الإيمان؛ لأنّ الكفّار يحسدون المؤمنين عليه، قال تعالى: ﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ﴾(1).
وإن اشتهيت أن تزول نعمة الغير عنه بحسدك، ولا تزول عنك بحسد غيرك فهذا غاية الجهل والغباوة؛ فإنّ كلّ واحد من حَمْقى الحُسّاد أيضاً يشتهي أن يخص بهذه الخاصيّة، ولَسْتَ بأولى من غيرك، فنعمة الله تعالى عليك في أن لم تزل نِعَمُه عليك بحسد غيرك من النعم التي يجب عليك شكرها، وأنت بجهلك تكرَهُها.
وأمّا أنّ المحسود ينتفع به في الدين والدنيا فواضح. أما منفعته في الدين فهو أنّه مظلوم من جهتك، لا سيما إذا أخرجك الحسد إلى القول والفعل بالغيبة والقدح فيه وهتك ستره وذكر مساوئه، فهي هدايا تهديها إليه، فإنّك تُهدي إليه حسناتك حتّى تلقاه يوم القيامة مفلساً محروماً عن النعمة كما خرجت في الدنيا عن النعمة، فكأنك أردت زوال النعمة عنه فلم تزل. نعم كان عليك نعمة إذ وفقك للحسنات فنقلتها إليه، فأضفت له نعمة إلى نعمة وأضفت إلى نفسك شقاوة إلى شقاوة.
وأما منفعته في الدنيا ، فهو أنّ أهمّ أغراض الخلق مساءَة الأعداء وغتهم وشقاوتهم وكونهم معذبين مغمومين، ولا عذاب أعظم ممّا أنت فيه من ألم الحسد، وغاية أماني أعدائك أن يكونوا في نعمة، وأن تكون في غمّ وحسرة بسببهم، وقد فعلت بنفسك ما
ص: 61
هو مرادهم، وقد قال علي(علیه السّلام): «لا راحة للحسود»(1).
وقال(علیه السّلام): «الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له»(2).
وقد عرفت من تضاعيف هذه المباحث وجه الكلمتين؛ ومن أجل ذلك ينبغي أن لا يشتهي أعداؤك موتك، بل يشتهي أن تطول حياتك في عذاب الحسد؛ لتنظر إلى نعمة الله تعالى عليهم، وينقطع قلبك حسداً؛ ولذلك قيل:
لا مات أعْداؤُكَ بَل خُلدوا *** حَتّى يَروا منك الذي يُكْمِدُ
لا زِلْتَ مَحْسُودَاً على نِعْمَةٍ *** فَإِنّما الكامِلُ مَن يُحْسَدُ(3)
ففرح عدوّك بغمّك، وحسدك أعظم من فرحته بنعمته. فإذا تأمّلت هذا عرفت أنك عدوّ نفسك، وصديق عدوّك؛ إذ تعاطيت ما تضرّرت به في الدنيا والآخرة، وانتفع به عدوّك في الدنيا والآخرة، وصرت شقياً عند الخلق والخالق، مذموماً في الحال والمآل ثمّ لم تقتصر على تحصيل مراد عدوّك حتى أدخلت أعظم السرور على إبليس الذي هو أعدى أعدائك؛ لأنك لم تحبّ ما أحبّه أهل الخير لأنفسهم فتكون معهم؛ لأنّ «المرء مع من أحبّ»، فأحبّك إبليس لذلك فكنت معه.
وقد تظافرت الأخبار عن النبي بأن: «المرء مع من أحبّ»(4)، و«أنّك إن لم تكن عالماً ولا متعلّماً فكن محبّاً»(5)فقد فاتك بحسدك ثواب الحبّ واللحاق بهم، وعساك
ص: 62
تحاسد رجلاً من أهل العلم، وتحبّ أن يخطىء في دين الله، وينكشف خطاؤه ليفتضح، وتحبّ أن يعرض له ما يمنعه عن العلم والتعليم، وأي إثم يزيد على هذا؟ فليتك إذا فاتك اللحاق بهم، ثمّ اغتممت به فاتك الإثم وعذاب الآخرة، وقد جاء في الحديث: «إنّ أهل الجنّة ثلاثة: المحسن، والمحبّ له، والكافّ عنه»(1).
أي مَنْ يكفّ عن الأذى والحسد والبغض.
فانظر كيف أبعدك إبليس عن المداخل الثلاثة، فقد نفذ عليك حسد إبليس وما نفذ حسدك على عدوّك، بل على نفسك، فلو كُوشِفت بحالك في يقظة أو منام لرأيت نفسك أتها الحاسد في صورة من يرمي عدوّه بحجارة؛ ليصيب بها مقتله فلا يصيبه، بل يرجع حجره على حدقته اليمني فيقلعها، فيزداد غضبه فيعود ثانياً إلى الرمي أشدّ من الأوّل، فيرجع على عينه الأخرى فيعميها، فيزداد غضبه فيعود ثالثةً فيرجع على رأسه فيشجّه،وعدوّه سالم على كل حال، وأعداؤه حوله يفرحون بما أصابه ويضحكون منه.
فهذه حال الحسود، لا بل حاله أقبح؛ لأنّ الحجر المفوّت للعين إنما يفوت ما لو بقي لفات بالموت لا محالة بخلاف الإثم الحاصل للحاسد فإنّه لا يفوت بالموت، بل يسوقه إلى غضب الله تعالى وإلى النار؛ فلأنْ تَذْهَب عينه في الدنيا خير من أن تبقى له عين يدخل بها النار، فيقلعها لهب النار.
فانظر كيف انتقام الله تعالى من الحاسد، إذا أراد زوال النعمة المحسود فأزالها عن نفسه، إذ السلامة من الإثم نعمة، ومن الغمّ نعمةٌ من الإثم نعمة، ومن الغمّ نعمةٌ أُخرى، وقد زالتا منه، تصديقاً لقوله تعالى: ﴾وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّءُ إِلا بِأَهْلِهِ﴾(2) وربما يبتلى بعين ما يشتهيه لعدوّه، وقلّما شمت شامت بمساءة أحد إلا وابتلي بمثلها.
فهذه هي الأدوية العلمية، فمهما تفكر الإنسان فيها بذهن صافٍ وقلبِ حاضر انطفأ
ص: 63
من قلبه الحسد وعلم أنّه مهلك نفسه، ومفرح عدوّه، ومُسخِط ربّه، ومُنغص عيشه.
وأمّا الدواء العملي: فبعد أن يتدبر ما تقدّم، ينبغي أن يكلّف نفسه نقيض ما يبعثه الحسد عليه، فيمدح المحسود عند بعثه على القدح، ويتواضع له عند بعثه على التكبّر ويزيد في الإنعام إن بعثه على كفّه، فينتج من هذه المقدّمات تمام الموافقة، وتنقطع مادة الحسد، ويستريح القلب من ألمه وغمّه.
فهذه أدوية نافعة جدّاً، إلّا أنّها مُرّة جدّاً، لكن النفع في الدواء المر، ومن لم يصبر على مرارة الدواء لم يظفر بحلاوة الشفاء، والباعث على هذه الخصال الحميدة الرغبة في ثواب الله، والخوف من عقابه. وفقنا الله وإياكم لاستعماله بمحمّد وآله.
ص: 64
اعلم أن الواجب على المغتاب أن يندم؛ ويتوب ويتأسف على ما فعله؛ ليخرج من حق الله تعالى، ثمّ يستحلّ المغتاب؛ ليحلّه فيخرج عن مظلمته. وينبغي أن يستحلّه وهو حزين متأسف نادم على فعله،إذ المرائي قد يستحلّ ليظهر من نفسه الورع، وفي الباطن لا يكون نادماً ، فيكون قد قارف معصية أخرى.
وقد ورد في كفارتها حديثان:
أحدهما: قوله(صلی الله علیه و آله و سلم): «كفّارة من اغتبته أن تستغفر له»(1).
والثاني: قوله(صلی الله علیه و آله و سلم): «من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال فليتحلّلها منه قوله: «من من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم يؤخذ من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أُخذ من سيّئات صاحبه، فتزيد على سيئاته»(2).
ويمكن أن يكون طريق الجمع، حمل الاستغفار له على من لم تبلغ غيبته المغتاب،
ص: 65
فينبغي له الاقتصار على الدعاء له والاستغفار؛ لأنّ في محالته إثارة للفتنة وجلباً للضغائن، وفي حكمه من لم يقدر على الوصول إليه لموت أو غيبة.
وحَمْلَ المحالة على من يمكن التوصل إليه مع بلوغه الغيبة.
ويستحب للمعتذر إليه قبول العذر والمحالة استحباباً مؤكّداً، قال الله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ﴾(1)الآية، فقال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «يا جبرئيل، ما هذا العفو ؟ فقال: إنّ الله يأمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتَصِلَ مَنْ قطعك، وتعطي من حرمك»(2).
وفي خبر آخر: «إذا جثى الأمم بين يدي الله تعالى يوم القيامة نودوا: ليقم من كان أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفى في الدنيا»(3).
وروي عن بعضهم، أنّ رجلاً قيل له: إن فلاناً قد اغتابك، فبعث إليه طبقاً من الرطب، وقال: بلغني أنك قد أهديت إلى حسناتك، فأردتُ أن أكافئك عليها، فاعذرني فإني لا أقدر أن أُكافئك على التمام.
وسبيل المعتذر أن يبالغ في الثناء عليه والتودّد، ويلازم ذلك حتى يطيب قلبه، فإن لم يطب كان اعتذاره وتودّده حسنة محسوبة له، قد تقابل سيّئة الغيبة في القيامة.
ولا فرق بين غيبة الصغير والكبير، والحي والميت، والذكر والأنثى، وليكن الاستغفار والدعاء له على حسب ما يليق بحاله، فيدعو للصغير بالهداية، وللميت بالرحمة والمغفرة، ونحو ذلك.
ولا يسقط الحق بإباحة الإنسان عرضه للناس؛ لأنه عفو عمّا لم يجب. وقد صرّح الفقهاء بأنه لو أباح قذف نفسه لم يسقط حقه من حدّه(4).
ص: 66
وما روي عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم، كان إذا خرج من بيته قال: اللهمّ إنّي تصدّقت بعرضي على الناس»(1).
معناه: أنّي لا أطلب مظلمته يوم القيامة، ولا أخاصم عليها، لا أنّ غيبته صارت بذلك حلالاً.
وتجب النية كباقي الكفّارات. والله الموفق.
ص: 67
فاعلم - وفقك الله وإيانا - أن الغرض الكلّي للحق من الخلق، والمقصد الأوّل من بعثة الأنبياء والرسل بالكتب الإلهيّة، والنواميس الشرعيّة إنّما هو جذب الخلق إلى الواحد الحق، ومعالجة نفوسهم من داء الجهل والتفاتها إلى دار القرار، ورفضها لهذه الدار، وحمايتها عن أن ترد موارد الهلاك، إذ كانت من ذلك على خطر، وتشويقها إلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ثمّ ما يلزم ذلك المقصود من تدبير أحوال المعاش البدني، وسائر أسباب البقاء للنوع الإنساني، وكان ذلك موقوفاً على الاجتماع والتعاون، والتعاضد بالتعلم والتعليم، وتذكير العارف للغافل بالعهد القديم، واستعانة كلّ واحد بالآخر في تحصيل نفعه؛ إذ كان الإنسان مدنياً بطبعه، لا يستقل وحده بتحصيل معاشه، ولا يقدر على استنباط جميع أغراضه من مآكله ورياشه، فلا جرم توقف غرض الحكيم جلّ جلاله على الاجتماع وتألف القلوب والموادّة حالتي المحاضر والغيوب؛ فلذلك تظافرت الأخبار والآثار في بالحث على المودة، والنهي عن المباينة والمجانبة، وأكثر على عباده بعضهم لبعض الحقوق، وحذّرهم من الكفران والعُقوق، ووعدهم على التالف والتعاطف جزيل الثواب وأوعدهم على ترك ذلك مزيد النكال والعقاب، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى في ضمن ما نُورده من الأخبار عن النبي وآله الأخيار الأطهار.
ص: 68
ولنذكر ممّا يناسب هذه الرسالة اثني عشر حديثاً إيثاراً للاختصار، ومن أراد الغاية من ذلك فليطالعه من الكتب المصنّفة فيه، ككتاب الإخوان للصدوق ابن بايويه (رضوان) الله عليه وكتاب الإيمان وكتاب العشرة، وغيرهما من كتب الكافي للكليني (قدس الله سره) فإنّ فيها بلاغاً وافياً لأهل الاعتبار، ودواءً شافياً لأُولي الأبصار.
الحديث الأوّل: أخبرنا شيخنا السعيد المبرور نور الدين علي بن عبد العالي الميسي (قدس الله سره ونور قبره) إجازةً عن شيخه المرحوم المغفور شمس الدين محمد بن المؤذن الجزيني، عن الشيخ ضياء الدين عليّ ولد الإمام العلامة المحقق السعيد أبي عبد الله الشهيد محمد بن مكي، عن والده المذكور، عن السيد عميد الدين عبد المطلب، والشيخ فخر الدين ولد الشيخ الإمام الفاضل العلّامة محبي المذهب جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهر، عن والده المذكور ، عن جده السعيد سديد الدين يوسف بن علي بن المطهر، عن الشيخ المحقق نجم الدين جعفر بن الحسن بن سعيد، کلاهما عن الدين أبي حامد محمد بن عبد الله بن علي بن زهرة الحلبي، عن الشريف الفقيه عز الدين أبي الحرث محمّد بن الحسن الحسيني البغدادي، عن الشيخ قطب الدين أبي الحسين سعيد بن هبة الله الراوندي، عن الشيخ أبي جعفر محمد بن علي بن المحسن الحلبي، عن الشيخ الفقيه أبي الفتح محمد بن علي الكراجكي، قال: حدثني أبو عبد الله الحسين بن محمد الصيرفي البغدادي، قال: حدثني القاضي أبو بكر محمد بن عمر الجعابي، قال: حدثنا أبو محمد القاسم بن محمد بن جعفر من ولد عمرو بن عليّ(علیه السّلام)، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن آبائه عن أمير المؤمنين علي(علیه السّلام)قال: «قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): للمؤمن على أخيه ثلاثون حقاً، لا براءة له منها إلا بأداء أو العفو: يغفر زلّته، ويرحم غربته، ويستر عورته، ويقيل عثرته، ويقبل معذرته، ويردّ غيبته ويديم نصيحته، ويحفظ خلّته، ويرعى ذمّته، ويعود مرضته، ويشهد ميتته، ويجيب دعوته، ويقبل هديّته، ويكافئ صلته، ويشكر نعمته، ويحسن نصرته، ويحفظ
ص: 69
حليلته، ويقضي حاجته، ويشفّع مسألته، ويسمّت عطسته، ويرشد ضالته، ويردّ سلامه، ويطيب كلامه ويبر إنعامه، ويصدّق أقسامه، ويواليه ولا يعاديه، وينصره ظالماً ومظلوماً، فأما نصرته ظالماً فيرده عن ظلمه، وأمّا نصرته مظلوماً فيعينه على أخذ حقه، ولا يسلمه، ولا يخذله، ويحبُّ له من الخير ما يحب لنفسه ويكره له من الشرّ ما يكره لنفسه - ثم قال(علیه السّلام): - سمعت رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)يقول: إن أحدكم ليدع من حقوق أخيه شيئاً فيطالبه به يوم القيامة فيقضى له وعليه»(1).
الحديث الثاني: بالإسناد المتقدّم إلى السيد محيي الدين بن زهرة، قال: أخبرني أبو الحسن أحمد بن وهب بن سليمان بقراءتي عليه في شعبان سنة إحدى وتسعين وخمسمائة قال: أخبرنا القاضي فخرالدين أبو الرضا سعيد بن عبد الله بن بن القاسم الشهزوري، يوم الجمعة سابع شهر ربيع الآخر سنة أربع وسبعين وخمسمائة بالموصل، قال: أخبرنا الشيخ الحافظ أبو بكر وجيه طاهر الشحّامي بقراءتي عليه يوم الأربعاء خامس شهر رمضان سنة سبع وثلاثين وخمسمائة، قال: أخبرنا الشيخ الزكي أبو حامد أحمد بن الحسن الأزهري، قال: أخبرنا الشيخ أبو محمد الحسن بن أحمد بن محمد بن الحسن بن علي بن مخلد المخلّدي العدل قراءة عليه فأقر به، قال أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق بن إبراهيم الثقفي السراج فيما قرأته عليه سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة فأقرّ به وقال نعم قال حدثنا قتيبة بن سعيد، قال حدثنا الليث عن عقيل، عن الزهري، عن سالم عن أبيه، أن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يشتمه، مَنْ كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربةً فرّج الله عنه بها كربة من كُرَبِ يوم القيامة، ومن سَتَرَ مُسلماً ستره الله يوم القيامة»(2).
ص: 70
الحديث الثالث: وبالإسناد المتقدّم إلى السيد محيي الدين، قال: أخبرنا القاضي شيخ الإسلام أبو المحاسن يوسف بن رافع بن تميم بقراءتي عليه في الرابع عشر من جمادى الآخرة سنة ثمان عشرة وستمائة، قال: أخبرنا القاضي الإمام فخر الدين أبو الرضا سعيد بن عبد الله بن القاسم الشهزوري، سماعاً عليه في جمادى الآخرة سنة أربع وسبعين وخمسمائة، قال: أخبرنا الشيخ الإمام أبو الفتح محمد بن عبد الرحمن الخطيب الكشمهيني بقراءتي عليه يوم السبت سابع عشر شوّال سنة إحدى وأربعين وخمسمائة قال: أخبرنا الشيخ أبو القاسم هبة الله بن عبد الوارث بن علي بن أحمد الشيرازي، كتبه لي بخطّه في شهر ربيع الأول سنة ست وثمانين وأربعمائة قال: أخبرنا أبو نصر أحمد بن عبد الباقي بن الحسن بن طوق المعدّل، قال: أخبرنا أبو القاسم نصر بن أحمد بن محمد الفقيه، قال: أخبرني أبو يعلي أحمد بن علي بن المثنى الموصلي التميمي، قال هبة الله وأخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي بن أحمد السكري، قال: أخبرنا أبو طاهر محمّد بن عبد الرحمن بن العباس المخلّص، قال: حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي قال: حدثني عبد الأعلى بن حماد التونسي، قال: حدثنا حماد سلمة، عن ثابت، عن أبي رافع، عن أبي هريرة أن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)قال: «إنّ رجلاً زار أخاً له فى قرية أخرى، فأرصد الله على مدرجته(1)ملكاً، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أردت أخاً لي في قرية كذا وكذا، قال: هل لك عليه من نعمة ترتها؟ قال: لا، إلّا أنّى أحبه فى الله عزّ وجلّ، قال: إنّي رسول الله إليك، إن الله تعالى قد أحبّك كما أحببته فيه»(2).
الحديث الرابع: وبالإسناد المتقدم إلى القاضي فخر الدين الشهزوري، قال: أخبرنا
ص: 71
الشيخ الحافظ ثقة الدين أبو القاسم زاهر بن طاهر بن محمد الشحامي، قراءةً عليه وأنا أسمع يوم الأربعاء التاسع والعشرين من شوّال سنة خمس وعشرين وخمسمائة ببغداد، قال: أخبرنا الشيخ أبو نصر عبد الرحمن بن علي بن موسى، قال: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت القريني ببغداد، قال: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي إملاء، قال: حدثنا أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري، عن مالك بن أنس، عن أبي شهاب، عن أنس بن مالك أنّ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)قال: «لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تَدابَروا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال»(1).
الحديث الخامس: وبالإسناد المتقدّم إلى الشحامي، قال: أخبرنا الشيخ أبو سعيد محمد بن عبد العزيز الصفار، قال: أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن محبوب، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن بحر، قال: حدثنا محمد بن الأزهر، قال: حدثنا محمّد بن عبد الله البصري، قال: حدثنا يعلى بن ميمون، قال: حدثنا يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، قال، قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «من ألطف مؤمناً، أو قام له بحاجة من حوائج الدنيا والآخرة، صغر ذلك أو كبر، كان حقاً على الله أن يخدمه خادماً يوم القيامة»(2).
الحديث السادس: وبالإسناد المتقدّم إلى السلمي قال: أخبرنا عبد العزيز بن جعفر بن محمد الحزاقي ببغداد، قال حدثنا محمّد بن هارون بن بريه، قال: حدثنا عیسی بن مهران، قال: حدّثنا الحسن بن الحسين قال حدثنا الحسين بن زيد، قال قلت لجعفر بن محمد(علیه السّلام): جعلت فداك هل كانت في النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)مداعبة ؟ فقال(علیه السّلام): «لقد
ص: 72
وصفه الله بخُلق عظيم في المداعبة وإنّ الله تعالى بعث أنبياءه فكانت منهم كزازة(1)،وبعث محمداً بالرأفة والرحمة ، وكان من رأفته لأمته مداعبته لهم؛ لكيلا يبلغ بأحدٍ منهم التعظيم حتى لا ينظر إليه. - ثمّ قال : حدثني أبي محمد، عن أبيه علي، عن أبيه الحسين، عن أبيه عليّ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليَسُرُّ الرجل من أصحابه إذا رآه مغموماً بالمداعبة، وكان له يقول: إنّ الله يبغض المعبس في وجه إخوانه»(2).
الحديث السابع: بالإسناد المتقدّم إلى شيخ المذهب ومحييه ومحققه جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهر، عن والده السعيد سديد الدين يوسف بن المطهر، قال: أخبرنا السيّد العلّامة النسّابة فخار بن معد الموسوي عن الفقيه سديد الدين شاذان بن جبرئيل القمي، عن عماد الدين الطبري، عن الشيخ أبي علي الحسن بن الشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، عن والده الشيخ (قدس الله روحه) عن الشيخ المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان، عن [الشيخ الصدوق محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي عن الشيخ](3)أبي عبد الله جعفر بن قولويه، عن الشيخ أبي عبد الله محمد بن يعقوب الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى عن عليّ بن الحكم، عن عبد الله بن بكير، عن مُعلّى بن خنيس، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق(علیه السّلام)،قال، قلت له: ما حق المسلم على المسلم؟ قال: «سبع حقوق واجبات ما منها حق إلا وهو واجب، إن ضيع منها شيئاً خرج من ولاية الله وطاعته ولم يكن لله فيه نصيب».
قلت له: جعلت فداك وما هي؟ قال: «يا معلّى إنّي عليك شفيق أخاف أن تضيع ولا تحفظ، وتعلم ولا تعمل».
ص: 73
قال، قلت: لا قوة إلا بالله، قال: «أيسر حقٌّ منها أن تحبّ له ما تحب لنفسك وتكره له ما تكره لنفسك».
والحق الثاني أن تتجنّب ،سخطه، وتتبع مرضاته، وتطيع أمره.
والحق الثالث: أن تُعينه بنفسك ومالك ولسانك ويدك ورجلك.
والحق الرابع: أن تكون عينه ودليله ومراته.
والحق الخامس: أن لا تشبع ويجوع ولا تروى ويظمأ، ولا تلبس ويعرى.
والحق السادس: أن يكون لك خادم وليس لأخيك خادم، فواجب أن تبعث خادمك، فيغسل ثيابه ويصنع طعامه، ويمهد فراشه.
والحق السابع: أن تبرَّ قَسَمه وتُجيب دعوته، وتعود مرضته، وتشهد جنازته، وإذا علمت أن له حاجة تبادر إلى قضائها ولا تلجئه أن يسألكها ولكن تبادره مبادرة، فإذا فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايته وولايته بولايتك(1).
الحديث الثامن بالإسناد إلى محمّد بن يعقوب الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن محمد بن مروان، عن أبي عبد الله(علیه السّلام)قال: «إذا مشى الرجل في حاجة أخيه المؤمن تكتب له عشر حسنات، وتمحى عنه عشر سيئات وترفع له عشر درجات - قال ولا أعلمه إلا قال - : ويعدل عشر رقبات وأفضل من اعتكاف شهر في المسجد الحرام»(2).
الحديث التاسع: بالإسناد عن الكليني، عن عليّ بن إبراهيم بن هاشم القمي، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، عن حسين بن نعيم، عن مسمع أبي سيّار، قال: سمعت
ص: 74
أبا عبد الله(علیه السّلام)يقول: «من نفس عن مؤمن كربة نفس الله عنه كُرَب الآخرة، وخرج من قبره وهو ثلج الفؤاد، ومن أطعمه من جوع أطعمه الله من ثمار الجنّة، ومن سقاه شربةً سقاه الله من الرحيق المختوم»(1).
الحديث العاشر: رويناه بأسانيد متعدّدة، أحدها بالإسناد المتقدم في الحديث السابع إلى الشيخ أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه، عن أبيه، عن سعد بن عبد الله، عن أحمد أحمد بن محمّد بن عيسى عن أبيه محمّد بن عيسى الأشعري، عن عبد الله بن سليمان النوفلي، قال: كنت عند جعفر بن محمد الصادق(علیه السّلام)فإذن بمولى لعبد الله النجاشي قد ورد عليه، فسلّم وأوصل إليه كتابه، ففضّه وقرأه فإذن أوّل سطر فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، أطال الله بقاء سيّدي، وجعلني من كل سوء فداه، ولا أراني فيه مكروهاً؛ فإنه ولي ذلك والقادر عليه.
اعلم سيدي ومولاي أنّي بليتُ بولاية الأهواز، فإن رأى سيّدي أن يحدّ لي حداً، أو يمثل لي مثالاً لاستدلّ به على ما يقربني إلى الله جل وعزّ وإلى رسوله، ويلخص في كتابه ما يرى لي العمل به، وفيما أبذله وأبتذله، وأين أضع زكاتي، وفيمن أصرفها، وبمن ،آنس، وإلى من أستريح، وبمن أثق وآمن وألجأ إليه في سرّي؟ فعسى أن يخلّصني الله بهدايتك ودلالتك، فإنك حجّة الله على خلقه، وأمينه في بلاده، لازالت نعمته عليك.
قال عبد الله بن سليمان: فأجابه أبو عبد الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «بسم الله الرحمن الرحيم حاطك الله بصنعه، ولطف بك بمنه وكلاك برعايته، فإنّه ولي ذلك. أما بعد: فقد جاءني رسولك بكتابك، وقرأته وفهمت جميع ما ذكرته وسألتَ تَ عنه، وزعمت أنك بليت بولاية الأهواز، فسرني ذلك وساءني، وسأخبرك بماساءني من ذلك، وما سرّني.
فأما سروري بولايتك، فقلت: عسى أن يغيث الله بك ملهوفاً خائفاً من أولياء آل
ص: 75
محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)ويعزّ بك ذليلاً، ويكسو بك عاريهم، ويقوّي بك ضعيفهم، ويطف بك نار المخالفين عنهم.
وأمّا الذي ساءني من ذلك، فإنّ أدنى ما أخاف عليك أن تعثر بوليّ لنا، فلا تشم رائحة القدس، فإني مخلّص لك جميع ما سألت عنه، إن أنت عملت به ولم تجاوزه رجوت أن تسلم إن شاء الله.
أخبرني يا عبد الله(علیه السّلام)أبي عن آبائه، عن عليّ بن أبي طالب(علیهم السّلام)، عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) أنّه قال: من استشاره أخوه المؤمن فلم يمحضه النصيحة سلبه الله لبه.
واعلم أني سأشير عليك برأيي، إن أنت عملت به تخلّصت ممّا أنت متخوفه. واعلم أن خلاصك ونجاتك من حقن الدماء، وكفّ الأذى عن أولياء الله، والرفق بالرعية، والتأنّي، و وحسن المعاشرة مع لين في غير ضعف، وشدَّة في غير عنف، ومداراة صاحبك ومن يرد عليك من رسله وارتق فتق رعيّتك بأن توقفهم على ما وافق الحق والعدل إن شاء الله.
إيّاك والسعاة وأهل النمائم، فلا يلتزقنّ منهم بك أحداً، ولا يراك الله يوماً وليلة وأنت تقبل منهم صرفاً ولا عدلاً، فيسخط الله عليك ويهتك سترك، واحذر مكر خوز(1)الأهواز، فإنّ أبي أخبرني عن آبائه عن أمير المؤمنين(علیهم السّلام)أنه قال: إن الإيمان لا يثبت في قلب يهودي ولا خوزي أبداً.
فأما من تأنس به وتستريح إليه وتلجئ أمورك إليه، فذلك الرجل الممتحن المستبصر الأمين الموافق لك على دينك، وميّز أعوانك، وجرّب الفريقين، فإن رأيت هنالك رشداً فشأنك وإياه.
وإيّاك أن تُعطي درهماً، أو تخلع ثوباً، أو تحمل على دابة في غير ذات الله لشاعر
ص: 76
أو مضحك أو ممتزح، إلا أعطيت مثله ذات الله.
في ولتكن جوائزك وعطاياك وخلعك للقوّاد والرسل والأجناد وأصحاب الرسائل وأصحاب الشرط والأخماس، وما أردت أن تصرفه في وجوه البر والنجاح والفتوة(1)والصدقة والحج والمشرب والكسوة التي تصلّي فيها وتصل بها، والهدية التي تُهديها إلى الله عزّ وجلّ وإلى رسوله(صلی الله علیه و آله و سلم)من أطيب كسبك.
يا عبد الله، اجهد أن لا تكنز ذهباً ولا فضة، فتكون من أهل هذه الآية التي قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَالَّذِينَ يَكْتِرُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيل الله(2)، ولا تستصغرنّ من حلو أو فضل طعام تصرفه في بطون خالية تسكن بها غضب الرب تبارك وتعالى.
واعلم أنّي سمعت أبي يحدث عن يحدّث عن آبائه عن أمير المؤمنين(علیه السّلام)أنه سمع النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)يقول لأصحابه يوماً ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعان وجاره جائع، فقلنا: هلكنا يا رسول الله، فقال: من فضل طعامكم ومن فضل تمركم ورزقكم(3)وخلقكم وخرقكم تطفئون بها غضب الرب.
وسأنبئك بهوان الدنيا، وهوان شرفها على من مضى من السلف والتابعين. فقد حدثني محمد بن علي بن الحسين قال لما تجهز الحسين(علیه السّلام)إلى الكوفة أتاه ابن عباس فناشده الله والرحم أن يكون هو المقتول بالطف، فقال: أنا أعرف بمنصرعي منك، وما وُكدي(4)من الدنيا إلا فراقها، ألا أخبرك يا ابن عباس بحديث أمير المؤمنين والدنيا؟ فقال له: بلى لعمري، إنّي لأحبّ أن تحدّثني بأمرها. فقال أبي: قال علي بن الحسين(علیهم السّلام): سمعت سمعت أبا عبد الله الحسين(علیه السّلام)يقول: حدّثني أمير المؤمنين(علیه السّلام)قال: إنّي
ص: 77
كنت بفدك في بعض حيطانها، وقد صارت لفاطمة(سلام الله علیها)، قال : فإذن أنا بامرأة قد قَحمت عليّ، وفي يدي مسحاة وأنا أعمل بها، فلما نظرتُ إليها طار قلبي مما تداخلني من جمالها، فشبهتها ببثينة بنت عامر الجمحي، وكانت من أجمل نساء قريش.
فقالت: يا ابن أبي طالب، هل لك أن تتزوج بي فاغنيك عن هذه المسحاة، وأدلّك على خزائن الأرض، فيكون لك الملك ما بقيت ولعقبك من بعدك؟ فقال لها(علیه السّلام): من أنتِ حتى أخطبكِ من أهلك؟ قال، فقالت: أنا الدنيا.
قال لها: فارجعي واطلبي زوجاً غيري، وأقبلتُ على مسحاتى وأنشأت، أقول:
لقد خاب من غرَّته دنيا دنيّة *** وما هي إن غرت قروناً بتائل
أتتنا على زيّ العزيز بثينة *** وزينتها في مثل تلك الشمائل
فقلتُ لها غُرّى سواي فإننّى *** عزوف عن الدنيا ولستُ بجاهل
وما أنا والدنيا فإنّ محمّداً *** أحلّ صريعاً بين تلك الجنادل
وهبها أتتني بالكنوز ودورها *** وأموال قارون وملك القبائل
أليس جميعاً للفناء مصيرنا *** ويُطلب من خُزانها بالطوائل
فغُرّي سواي إنني غير راغب *** بما فيك من مُلك وعزّ ونائل
فقد قنعت نفسي بما قد رزقته *** فشأنك يا دنيا وأهل الغوائل
فإنّي أخاف الله يوم لقائه *** وأخشى عذاباً دائماً غير زائل
فخرج من الدنيا وليس في عنقه تبعة لأحد حتى لقي الله تعالى محموداً غير ملوم
ولا مذموم، ثمّ اقتدت به الأئمة من بعده بما قد بلغكم لم يتلطّخوا بشيء من بوائقها(علیهم السّلام)أجمعين وأحسن مثواهم.
وقد وجهت إليك بمكارم الدنيا والآخرة عن الصادق المصدق رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، فإن الله، أنت عملت بما نصحت لك في كتابي هذا، ثُمَّ كانت عليك من الذنوب والخطايا كمثل أوزان الجبال وأمواج البحار، رجوت الله أن يتجافى عنك جلّ وعزّ بقدرته.
ص: 78
يا عبد الله، إيّاك أن تُخيف مؤمناً، فإنّ أبي محمّد بن علي حدثني، عن أبيه، عن جده عليّ بن أبي طالب(علیه السّلام)إنه كان يقول : من نظر إلى مؤمن نظرةً ليخيفه بها أخافه الله يوم لا ظل إلا ظله، وحشره في صورة الذرّ لحمه وجسده وجميع أعضائه حتى يورده مورده.
وحدثني أبي عن آبائه عن علي(علیه السّلام)، عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)أنه قال: من أغاث لهفاناً من ، المؤمنين أغاثه الله يوم لا ظل إلا ظله، وآمنه يوم الفزع الأكبر، وآمنه من سوء المنقلب. ومن قضى لأخيه المؤمن حاجةً قضى الله له حوائج كثيرةً من إحداها الجنّة. و من كسا أخاه المؤمن من عري كساه الله من سندس الجنّة واستبرقها وحريرها، ولم يزل يخوض في رضوان الله ما دام على المكسو منه سلك. ومن أطعم أخاه من جوع أطعمه الله طيبات الجنّة. ومن سقاه من ظمإ سقاه الله من الرحيق المختوم رِيَّه. ومن أخدم أخاه أخدمه الله من الولدان المخلّدين، وأسكنه مع أوليائه الطاهرين. ومن حمل أخاه المؤمن من رحله حمله الله على ناقةٍ من نوق الجنّة، وباهى به الملائكة المقربين يوم القيامة. ومن زوّج أخاه المؤمن امرأةً يأنس بها، ويشد عضده، ويستريح إليها زوجه الله من حور العين وآنسه بمن أحبّ من الصدّيقين من أهل بيت نبيّه وإخوانه وآنسهم به ومن أعان أخاه المؤمن على سلطان جائر أعانه الله على إجازة الصراط عند زلّة الأقدام ومن زار أخاه المؤمن إلى منزله لا لحاجة منه إليه كتب من زوّار الله، وكان حقيقاً على الله أن يُكرم زائره.
يا عبد الله، وحدثني أبي عن آبائه عن علي(صلی الله علیه و آله و سلم)أنه سمع رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)وهو يقول لأصحابه يوماً معاشر الناس، إنه ليس بمؤمن من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه، فلا تتبعوا عثرات المؤمنين؛ فإنّه من اتبع عشرة مؤمن اتبع الله عثراته يوم القيامة، وفضحه في جوف بيته.
وحدثني أبي عن آبائه عن علي(علیه السّلام)أنه قال: أخذ الله ميثاق المؤمن أن لا يُصَدَّق
ص: 79
في مقالته، ولا ينتصف من عدوّه، وعلى أن لا يشفي غيظه إلا بفضيحة نفسه؛ لأنّ كلّ مؤمن ملجم، وذلك لغاية قصيرة وراحة طويلة؛ أخذ الله ميثاق المؤمن على أشياء، أيسرها عليه مؤمن مثله يقول بمقالته يبغيه ويحسده، والشيطان يغويه ويعنّته، والسلطان يقفو أثره ويتبع عثراته، وكافر بالذي هو به مؤمن يرى سفك دمه ديناً، وإباحة حريمه غنماً، فما بقاء المؤمن بعد هذا؟!
يا عبد الله، وحدثني أبي عن آبائه عن علي(علیه السّلام)، عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)قال: نزل جبرئيل(علیه السّلام)، فقال: يا محمد إن الله يقرأ عليك السلام ويقول: اشتققت للمؤمن اسماً من أسمائي سمّيته مؤمناً، فالمؤمن منّي وأنا منه، من استهان بمؤمن فقد استقبلني بالمحاربة.
يا عبد الله وحدثني أبي عن آبائه، عن علي(علیه السّلام)، عن النبي أنه قال يوماً: يا علي لا تناظر رجلاً حتى تنظر في سريرته، فإن كانت سريرته حسنة فإنّ الله عزّ وجلّ لم یکن ليخذل وليه، وإن كانت سريرته رديئةً فقد يكفيه مساوئه، فلو جهدت أن تعمل به أكثر ممّا عمله من معاصي الله عزّ وجلّ ما قدرت عليه.
يا عبد الله، وحدثني أبي عن آبائه عن علي(علیه السّلام)، عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) أنه قال: أدنى الكفر أن يسمع الرجل عن يسمع الرجل عن أخيه الكلمة ليحفظها عليه يريد أن يفضحه بها، أولئك لا خلاق لهم.
يا عبد الله وحدثني أبي عن آبائه، عن عليّ(علیه السّلام)أنه قال: من قال في مؤمن ما رأت ،عيناه وسمعت أذناه، ما يشينه ويهدم مروءته فهو من الذين قال الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحبّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(1).
يا عبد الله، وحدثني أبي عن آبائه، عن علي(علیه السّلام)أنه قال: من روى عن أخيه المؤمن رواية يريد بها هدم مروءته وثلبه أوبقه الله بخطيئته حتى يأتي بمخرج ممّا قال، ولن
ص: 80
يأتي بالمخرج منه أبداً. ومن أدخل على أخيه المؤمن سروراً فقد أدخل على أهل البيت سروراً. ومن أدخل على أهل البيت(علیهم السّلام)سروراً. فقد أدخل على رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)سروراً. ومن أدخل على رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)سروراً فقد سرّ الله، ومن سرّ الله فحقيق عليه أن يدخله الجنّة جنّته.
ثم إنِّي أُوصيك بتقوى الله، وإيثار طاعته، والاعتصام بحبله؛ فإنه من اعتصم بحبل الله فقد هدي إلى صراط مستقيم فاتق الله ولا تؤثر أحداً على رضاه وهواه؛ فإنّه وصيّة الله عزّ وجلّ إلى خلقه، لا يقبل منهم غيرها ولا يعظم سواها.
واعلم أنّ الخلائق لم يوكلوا بشيء أعظم من التقوى؛ فإنه وصيّتنا أهل البيت، فإن استطعت أن لا تنال من الدنيا شيئاً تسأل عنه غداً فافعل».
قال عبد الله بن :سليمان فلمّا وصل كتاب الصادق(علیه السّلام)إلى النجاشي نظر فيه وقال:
صدق والله الذي لا إله إلا هو مولاي فما عمل أحد بما في هذا الكتاب إلّا نجا، فلم يزل عبد الله يعمل به أيام حياته(1).
الحديث الحادي عشر: بالإسناد إلى الكليني، عن محمد بن يحيى، عن عليّ بن النعمان، عن ابن مسكان عن خيثمة، قال: دخلت على أبي جعفر(علیه السّلام)أودعه، فقال:
«يا خيثمة، أبلغ من ترى من موالينا السلام، وأوصهم بتقوى الله العظيم، وأن يعود غنيهم على فقيرهم وقويهم على ضعيفهم، وأن يشهد حيهم جنازة ميّتهم، وأن يتلاقوا في بيوتهم؛ فإن لقيا بعضهم بعضاً حياة لأمرنا، رحم الله عبداً أحيا أمرنا.
يا خيثمة، أبلغ موالينا أنا لا نغني عنهم من الله شيئاً إلا بعمل، وأنهم لن ينالوا ولا يتنا إلا بالورع، وأنّ أشدّ الناس حسرةً يوم القيامة من وصف عدلاً ثم خالفه إلى غيره»(2).
ص: 81
الحديث الثاني عشر: بالإسناد عنه(رضی الله عنه)عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان عن العلاء بن الفضيل عن أبي عبد الله(علیه السّلام)قال: «كان أبو جعفر(علیه السّلام)يقول: عظموا أصحابكم ووقروهم، ولا يتجهم بعضكم بعضاً، ولا تَضارُّوا، ولا تَحاسَدوا، وإيّاكم والبخل، وكونوا عباد الله المخلصين»(1).
وبهذا نختم الرسالة، ونبتهل إلى الله عزّ وجلّ بفضله العميم وكرمه الجسيم، وبحق محمد وآل محمّد (عليهم أفضل الصلاة والتسليم) أن يرزقنا العمل بما اشتملت عليه من الكمال، وأن لا يجعل حظنا منها مجرد المقال، ويصلحنا لأنفسنا وإخواننا، ويصلحهم لنا إنّه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
والحمد لله ربّ العالمين، وصلاته على سيّد رسله وخير خلقه محمّد وآله الطيبين الطاهرين.
أفردها من مواضع متعدّدة، وأماكن متبدّدة، العبد الفقير إلى الله تعالى، زين الدين بن عليّ بن أحمد بن تقي الدين صالح بن مشرف العاملي (تجاوز الله تعالى عن سيئاته، ووفقه لمرضاته) وفرغ من تسويدها يوم الخميس ثالث عشرين شهر صفر ختم بالخير سنة تسع وأربعين وتسعمائة من الهجرة الطاهرة. حامداً مصلّيّاً مسلماً. وفرغ من هذه النسخة 10 ربيع الأول سنة 948.
ص: 82
(3)
أو
[أسرار الصلاة]
تحقيق
عباس المحمدي
ص: 83
ص: 84
بسم الله الرحمن الرحيم
يعد هذا الكتاب الجليل عال في معانيه، يرشد القارئ، ويعلمه أدب الوقوف بين يدي ربّ العالمين في حال الصلاة التي هي عمود الدين، وعماده، والتي مثلُها في دين الله كمثل عمود الفسطاط، إذا ثبت العمود ثبتت الأوتاد والأطناب، وإذا مال العمود لم يثبت وتد ولا طنب والتي إن قبلت قبل ما سواها، وإن رُدّت رُدّ ما سواها كما ورد في الخبر(1).
وهي من أهم الواجبات، والمأمور بها في جميع الأديان؛ ولهذا اهتم العلماء والفقهاء في سالف الزمان بتأليف قيمة في أسرارها، عد سبعة عشر منها العلّامة الشيخ آقا بزرگ الطهراني في الذريعة، ثلاثة منها من المتقدمين على الشهيد (رحمه الله) أولها: للشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا (م 427)(2). وثانيها : للسيد رضي الدين أبي القاسم علي بن موسى بن طاوس الحلّي (م 664)(3). وثالثها: للشيخ جمال الدين أبي العباس أحمد بن شمس الدين محمد بن فهد الأسدي الحلي (م 841)(4).
ص: 85
ولعلّ الشهيد (رحمه الله) تأثر من بعضها في تأليف هذا الكتاب.
و رابع الكتب في هذا الموضوع - على ما عثرنا عليه - هذا الكتاب الذي بين يديك، ولا يصل الإنسان إلى مزاياه إلا بالمطالعة العميقة الدقيقة، والتأمل في فصوله، وهو إحدى التأليفات القيمة العبادية الأخلاقية المفيدة للشهيد الثاني، بل يعد أحد المصادر المعتبرة التي اعتمد عليها المجلسي في بحار الأنوار في المجلد الأوّل.
قال المصنف في تعريفه:
وقد ذكرنا في هذه الرسالة نبذة من أسرارها وزبدة من آدابها، وأكثرها قد وردت به النصوص عن أهل الخصوص عليهم أفضل الصلوات وأكمل التحيات...، وهذه الأمور وإن كانت متفرّقة في تضاعيف النصوص، وكلام الكاملين من العاملين، لكن لا يجتمع أطرافها إلا عند قليل من الأماجد، ولا يطلع على معادنها إلا واحد بعد واحد، فشاركتهم في مثوبتها بجمع أطرافها ومبانيها وتهذيب ترتيبها، وتقريب معانيها.
وقال ابن العودي - تلميذ الشهيد في ترجمته عند تعداد مصنفاته - :
ومنها : رسالة في أسرار الصلاة القلبية، رتبها على ترتيب الألفية، وذكر وظائف كلّ باب باعتبار ملاحظة القلب للأسرار الباطنية، حسب ترتيب الواجبات الظاهرة(1).
فرغ من تصنيفها في اليوم السبت تاسع شهر ذي الحجّة الحرام، وهو اليوم المبارك، يوم عرفة سنة إحدى وخمسين وتسعمائة على ما قاله (قدس سره) في ختام الكتاب.
إن موضوعه وإن كان الصلاة لكن لا من حيث المسائل الفقهيّة الظاهرية، كالطهارة والنجاسة والمكان وغيره، بل من جهاتها المعنوية، كالتوجه إلى أنّ المصلّي في حال
ص: 86
الصلاة بين يدي مَن يقوم؟ ومع من يتكلّم؟ وماذا يقول؟ وماذا يطلب؟ وكلّ هذا لا يلتفت ولا يتوجه إليها إلا بحضور القلب، والتوجه الباطنية.
لقد كان مقصده (رحمه الله) من تأليفه تعليم العباد أدب الوقوف بين يدي ربّ العالمين في حال الصلاة؛ ولذا قال - كما سمعته - :
وقد ذكرنا في هذه الرسالة نبذة من أسرارها ...، وبمراعاتها يترقى العامل من مدارجها إلى معارج الأسرار والتجلّيّات(1).
هذا وقد تأثر الشهيد (قدس سره) كثيراً بكتاب إحياء علوم الدين للغزالي وتأثر كثير من الأكابر به منهم السيد نعمة الله الموسوي الجزائري في الأنوار النعمانية، والميرزا جواد الملكي التبريزي في أسرار الصلاة، والشهيد آية الله دستغيب في صلاة الخاشعين، والإمام الخميني (رحمه الله) في الآداب المعنوية للصلاة.
شرحه المولى محمّد عليّ بن محمّد حسن الآراني الكاشاني، وسمّاه جامع الخيرات(2).
و ترجمه المولى محمد زمان التنكابني الإصفهاني بالفارسية بأمر شاه سلطان حسين الصفوي(3).
وأيضاً ترجمه محمد صالح بن محمّد صادق الواعظ، وطبع أولاً في سنة (1368 - 1327ه_ ش) بإعداد مير جلال الدين الحسيني المحدّث.
وأيضاً ترجمه غلام حسین روشن نژاد، وسماه ب_أسرار قلبي نماز طبع أوّلاً في مشهد الرضا(علیه السّلام).
ص: 87
أ : المخطوطة المصححة، الموجودة في مكتبة النصيري الخاصة، ضمن مجموعة غير مرقمة، نسخة جيّدة في حد نفسها جداً، استفدنا منها كثيراً، ورمزنا لها ب_«ص».
ب: المطبوعة على الحجر، ضمن مجموعة رسائل الشهيد الثاني تحتوي على عشر رسائل منها: التنبيهات العلية، من منشورات مكتبة بصيرتي، وهذه الطبعة وإن كان غير
محققة ولكن تمتاز على مطبوعة «ب» من حيث صحة المتن، ورمزنا لها ب_«ح».
ج: المطبوعة مستقلاً بالقطع الوزيري بإعداد محمّد علي قاسم في مطبعة الدار الإسلامية في بيروت، عام (1410ه_ / 1989م)، ورمزنا لها ب_«ب».
د: المطبوعة مستقلاً أيضاً بالقطع الوزيري بتحقيق صفاءالدين البصري في مؤسسة الطبع والنشر التابعة للآستانة الرضويّة المقدّسة، عام (1413ه_ / 1371ش)، ورمزنا لها ب_«م».وفيها أيضاً أخطاء نشير إلى بعضها:
.
وفيها بعض النقائص مشتركة مع «ب» وهو وجود هوامش غير لازمة مملّة وتوضيحات لا حاجة لها كالتعليقة 6 من ص 139، ونقل اختلافات النسخ غير المهمة أيضاً في الهوامش، والقصور في الاستخراجات اللازمة من مصادرها الأصلية المتقدّمة على الشهيد، وعدم الاستخراج أصلاً في بعض الأحيان، أو الاستخراج الناقص، لم نتعرّض لمواردها حذراً من التطويل.
ولها طبعات أُخر غير ما استفدنا منها، نذكرها على حسب الترتيب الذي ذكره خان بابا مشار:
1. طهران، عام (1305)، طبعة حجرية على قطع الوزيري، بمعية عقائد النصيرية وغيره.
2. طهران عام (1312)، طبعة حجرية على قطع الوزيري، بإعداد حاج شيخ رضا
ص: 88
الطهراني بمعيّة حقائق الإيمان وكشف الريبة .
3. طهران، عام (1320)، طبعة حجرية على قطع الوزيري، بمعية عقائد النصيرية، وكشف الفوائد، وحقائق الأسرار وغيره.
4. طهران، عام (1300) ، طبعة حجرية على قطع الرقعي مع رسالة الكر من محمّد بن أبو القاسم الحسيني التبريزي، ورسالة الموجز لابن فهد الحلّي في مجلد واحد.
5. طهران، عام (1313) ، طبعة حجرية على قطع اللبني، بمعية مجموعة الإفادات.
6. إيران، عام (1296)، طبعة حجرية بكتابة كاتبه محمّد إبراهيم(1).
1. مقابلة الكتاب مع النسخ التي مرّ وصفها وقد اعتمدنا طريق التلفيق بين النسخ؛ لأجل إثبات أصح النصوص.
2. تخريج الآيات والروايات والحكايات حتى ما كان منها غير مصرح في بعض الأحيان، ولقد أتعبنا أنفسنا لاستخراج جميعها، وقد عثرنا عليها - إلا قليلاً منها - في المصادر المتقدّمة على الشهيد (رحمه الله).
3. تقويم متن الكتاب وضبط نصه مع ملاحظة جميع الاختلافات الواردة بين النسخ، وضبط أصحها في المتن، وفي بعض الموارد اللازمة ذكر اختلافات النسخ في الهوامش.
4. شرح الألفاظ والكلمات الصعبة في الكتاب من المعاجم اللغوية المعتبرة.
نسأل المولى القدير أن يتقبل منا هذا العمل، ويجعله ذخراً لنا ولوالدينا في يوم الحساب وصلّى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.
قم المقدسة - عباس المحمدي الجلال آبادي
ص: 89
الصورة
ص: 90
الصورة
ص: 91
ص: 92
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله مُطلع من اختار من عباده الأبرار، على خفايا الأسرار؛ ومودع قلو أصفيائه من لطائف المعارف ما تحار فيه البصائر والأبصار، وجاعل القلوب سبباً للنجاة، وموضعاً للمناجاة والمبارّ، وذريعة إلى ارتفاع الدرجات، وتفاوت مراتب العبادات في قبول طوالع الأنوار، من مطالع المسار. وفتح بمفاتيح الغيوب أقفال القلوب عمّن شاء واختار، ورفع حجب السرائر، وجلا أبصار البصائر، ففهمت الإشارات ورفعت الأستار فدهشت في مبادي إشراق نوره الأحداق والأنظار. والصلاة على نبيه وحبيبه ومعدن سره محمّد النبي المختار، وعلى آله الأئمة الأبرار وصحبه الأخيار، صلاةً دائمةً بدوام الليل والنهار.
أمّا بعد، فإنّ روح السعادة وبهجتها، ورُوح العبادة ومهجتها، وموجب تلقيها بأيدي القبول والإحسان، ومضاعفة الثواب بها في دار الجنان، والتسبب بها إلى ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر(1)، والانتساب بها إلى عالم الملكوت
ص: 93
والملائكة الغُرر، وتلقي الفيض من عالم الغيب والشهادة، وإيجاب القليل منها لعظيم الزيادة؛ إنّما يتمّ بالإقبال بالقلب في أفعالها وحركاتها وسكناتها على الله تعالى، والتفكر في أسرارها، وتقلب النفس في حالاتها حسب اختلاف أوضاعها وأطوارها.
فإنّها تارة: قصد وإخلاص، وانقطاع واختصاص .
وتارةً: تكبير لله تعالى وتمجيد، وثناء وتحميد.
وتارةً: دعاء وابتهال.
وأُخرى: خضوع وتسافل بحضرة ذي الجلال.
وتارةً: خشوع وتململ على التراب بين يدي ربّ الأرباب.
وتارةً: تجديد عهد بكلمة التوحيد، وتقرير للإسلام، وتذكير بالعهد القديم المأخوذ على الأنام(1).
وتارةً: تحيّة لمقربي حضرته بلفظة «السلام» إلى غير ذلك من دقائق الحقائق التي تظهر للمصلّي بفكره الصادق؛ ومن ثمّ كانت الصلاة ناهية عن الفحشاء، موجبة للقرب والزلفي، كما نطق به القرآن الحكيم(2)، ووردت به الأخبار عن النبي(3)وآله(4)(عليهم أفضل الصلاة وأكمل التسليم).
وحينئذٍ فلابد للمكلّف المستيقظ من الإقبال بقلبه عليها، والتفكر في أسرارها
ص: 94
والتأدب بآدابها، وإلا كانت بمنزلة الجسد من غير روح، والشجرة من غير ثمرة، والعمل من غير غاية.
وقد ذكرنا في هذه الرسالة نبذة من أسرارها وزبدة من آدابها، وأكثرها قد وردت به النصوص(1)عن أهل الخصوص (عليهم أفضل الصلوات وأكمل التحيات)، وبمراعاتها يترقى العامل(2)من مدارجها إلى معارج الأسرار والتجليات.
وهذه الأمور وإنْ كانت متفرّقةً في تضاعيف النصوص، وكلام الكاملين من العلماء العاملين، لكن لا تكاد تجتمع أطرافها إلا أطرافها إلّا عند قليل عند قليل من الأماجد، ولا يطلع على معادنها إلا واحد بعد واحد، فشاركتهم في مثوبتها بجمع أطرافها ومبانيها، وتهذيب ترتيبها، و تقریب معانيها، وصارت مع ذلك معزّزة للرسالتين الشريفتين اللتين اشتملت إحداهما على واجبات الصلاة وهي الألفية، والأُخرى على مندوباتها وهي النفلية، وهذه على أسرارها القلبيّة، وسمّيتها ب_ التنبيهات العلية على وظائف الصلاة القلبية. ورتبتها ترتيب القادمة(3) على مقدّمة، وفصول ثلاثة، وخاتمة.
ص: 95
فتشتمل على ثلاثة مطالب:
الذي ينبغي إحضاره في أوقات العبادات وبسببه تتفاوت مراتب العبادات في الدرجات.
اعلم أنّ القلب يطلق على معنيين :
أحدهما اللحم الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر، وهو لحم مخصوص، وفي باطنه تجويف وفي ذلك التجويف دم أسود، وهو منبع الروح ومعدنه. وهذا المعنى من القلب موجود للبهائم بل للميت، وليس هو المراد في هذا الباب ونظائره.
والمعنى الثاني: لطيفة ربانية روحانية، لها بهذا القلب الجسماني تعلّق، وتلك اللطيفة هي المعبر عنها ب_«القلب» تارةً، وب_«النفس» أُخرى، وب_«الروح» ثالثة،وب_«الإنسان» أيضاً، وهي المُدرك العالم العارِف، وهي المخاطب والمطالب والمعاتب، ولها علاقة مع القلب الجسداني، وقد تحيّرت عقول أكثر الخلق في إدراك وجه علاقته، وأنّ تعلقه به يضاهي تعلّق الأعراض بالأجسام، والأوصاف بالموصوفات، أو تعلّق
ص: 96
المستعمل للآلة بالآلة، أو تعلّق المتمكن بالمكان. وشرح ذلك يخرج عن غرض الرسالة.
وحيث يطلق القلب في الكتاب والسنة فالمراد منه هذا المعنى الذي يفقه ويعلم، وقد يكنى عنه ب_«القلب في الصدر» كما قال الله تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتي فِي الصُّدُورِ﴾(1)؛ وذلك لما عرفت من العلاقة الواقعة بينها وبين جسم القلب، فإنّها وإنْ كانت متعلّقةً بسائر البدن ومستعملةً له، ولكنّها تتعلّق به بواسطة القلب. فتعلّقها الأول بالقلب وكأنه محلّها ومملكتها وعاملها ومطيتها.
ولذلك شبّه بعض العلماء(2)القلب بالعرش، والصدر بالكرسي. وأراد به أنه مملكته والمجري الأوّل لتدبيره وتصرفه فهما بالنسبة إليه كالعرش والكرسي بالنسبة إلى الله تعالى.
ولا يستقيم هذا التشبيه إلّا من بعض الوجوه كما لا يخفى.
وهذا المعنى من القلب في الجسد بمنزلة المَلِك، وله فيه جنود وأعوان وأضداد وأوصاف، وله قبول للإشراق والظلمة، كالمرآة الصافية التي تقبل انطباع الصور والأشكال المقابلة لها، وتقبل الظلمة والفساد والبعد عن الإعداد لذلك؛ بسبب العوارض الخارجيّة المنافية لجوهرها. وربما وصل إشراقه واستنارته إلى حدّ تحصل فيه جلية الحق، وتنكشف فيه حقيقة الأمر المطلوب، وإلى مثل هذا القلب أشار بقوله(صلی الله علیه و آله و سلم): «إذا أراد الله بعبد خيراً جعل له واعظاً من قلبه»(3).
وبقوله : من كان له من قلبه واعظ كان عليه من الله حافظ»(4).
ومثال الآثار المذمومة الواصلة إليه، المانعة له من الاستنارة وقبول الإشراق، مثال
ص: 97
دخان مظلم يتصاعد إلى مرآة، ولا يزال يتراكم عليه مرة بعد أُخرى إلى أن يسود ويظلم،ويصير بالكلية محجوباً عن الله تعالى، وهو الطبع(1)والرين(2) اللذان أشار الله تعالى إليهما في قوله: ﴿أنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَتَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ﴾(3).
ربط عدم السماع والطبع بالذنوب كما ربط السماع بالتقوى في قوله: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا﴾(4)﴿وَاتَّقَوْا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾(5).
وقال تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(6).
فمهما تراكمت الذنوب طبع على القلب وعند ذلك يعمى عن إدراك الحق، وصلاح الدين، ويتهاون بالآخرة، ويستعظم أمر الدنيا، ويصير مقصور الهم عليها. وإذا قرع سمعه أمر الآخرة وما فيها من الأخطار دخل من أُذن وخرج من أُخرى، ولم يستقر في القلب، ولم يحرّكه إلى التوبة والتدارك. وهذا هو معنى اسوداد القلب بالذنوب كما نطق به القرآن(7)والسنّة كما في قوله(صلی الله علیه و آله و سلم): «قلب المؤمن أجرد فيه سراج يزهر، وقلب الكافر أسود منكوس»(8).
وقول الباقر(علیه السّلام): «إنّ القلوب ثلاثة : قلب منكوس لا يعي شيئاً من الخير وهو قلب
ص: 98
الكافر، وقلب فيه نكتة سوداء فالخير والشر فيه يختلجان فأتهما كانت منه غلبة غلب عليه، وقلب مفتوح فيه مصابيح تزهر لا يطفأ نوره إلى يوم القيامة [وهو قلب المؤمن]»(1).
فانظر إلى قوله(علیه السّلام): «لا يطفأ نوره إلى يوم القيامة فإنّ هذا حكم نور القلب بالمعنى الثاني؛ لأنه باقي وإن خرب البدن بخلاف الأوّل كما حقق في موضع آخر.
وروى زرارة عن أبي جعفر(علیه السّلام)قال: «ما من عبد إلا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإن أذنب ذنباً خرج في تلك النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطّي البياض، فإذا غطّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً، وهو قول الله عزّ وجلّ: ﴿كَلَّا بَلْ رانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(2).
وقال الله تعالى: ﴿إنَّ الَّذينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيطان تَذَكَّرُوا فَإذا هم مُبْصِرُونَ﴾(3).
فأخبر أنّ جلاء القلب يحصل بالذكر، وأنّ المتقين هم المتذكرون فالتقوى باب الذكر والذكر باب الكشف والكشف باب الفوز الأكبر.
واعلم أنّ القلب مثاله مثال ،حصن والشيطان عدوّ يريد أن يدخل الحصن ويملكه ويستولي عليه، ولا يُقدر على حفظ الحصن من العدوّ إلا بحراسة أبواب الحصن ومداخله ومواقع تهمه فينبغي الاهتمام بمعرفة ذلك. وتفصيله مما يطول الكلام فيه، ويخرج عن الغرض.
والأمر الجامع له الإقبال على الله تعالى، وتخيل أنك واقف بين يديه؛ فإن لم تكن
ص: 99
تراه فإنه يراك، كما ورد في الخبر(1).
فإذا أشعرت بذلك وتحققته، وعملت به انسدت الأبواب دون وساوس اللعين، وأقبل القلب على الله تعالى، وتفرغ للعبادة.
وقد روي عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): «أن العبد إذا اشتغل بالصلاة جاءه الشيطان وقال له: اذكر كذا، اذكر كذا حتى يظلّ الرجل لا يدري كم صلّى»(2).
ومن ها هنا ظهر لك أن مجرد التلفظ بالذكر باللسان ليس هو الزاجر للشيطان بل لابد معه من عمارة القلب بالتقوى، وتطهيره من الصفات المذمومة، التي هي أعوان إبليس وجنوده، وإلا فالذكر من أقوى مداخل الشيطان، وكذلك غيره من العبادات؛ ولذلك قال الله تعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾(3).
فخصص ذلك بالمتّقي، وتأمل أنت في منتهى ذكرك وعبادتك، وأفضل أعمالك، وهو الصلاة فليس الخبر كالعيان فراقب قلبك إذا كنت في الصلاة كيف تتجاذبه الشياطين في الأسواق والبساتين، وحساب المعاملين، وجواب المعاندين وغيرهم؟ وكيف تمرّ بك فى أودية الدنيا ومهالكها حتى أنّك لا تتذكر ما نسيته من فضول الدنيا إلا في صلاتك؟ ولا تزدحم الشياطين على قلبك إلّا إذا صليت فلا جَرَمَ لا يُطرَد عنك الشيطان بمجرد صورة العبادة وإن تأدّى بها الواجب عليك، وخرجت عن عهدة الأمر الإلهي، بل لابد في دفعه مع ذلك من أُصول أُخَر، وإصلاح الباطن من الرذائل التي هي أعوانه وجنوده وإلا لم يزد إلا ضرراً، كما أنّ الدواء قبل الاحتماء لا يزيد المريض إلا
ص: 100
رضاً وألماً. ثم بعد ذلك يتصف بالفضائل. وحينئذٍ يصير قلبه قابلاً للإقبال، مشفقاً من التفريط والإهمال؛ قال الله تعالى: ﴿ألا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾(1).
فاجعل هذه العلامة بينك وبين استقامة قلبك وإقباله، أوقفنا الله وإياك على بساط الاستقامة بمحمّد وآله.
ولنقتصر من بحث القلب على هذا القدر؛ مناسبة للاختصار.
قال الله تعالى: ﴿الَّذينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾(2).
وقال الله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ﴾(3). ذمّهم على الغفلة عنها مع كونهم مصلّين، لا لأنهم سهوا عنها وتركوها.
وقال الله تعالى: ﴿وَالَّذينَ يُؤْتُونَ مَا أَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾(4). أي يفعلونه في حال وجل قلوبهم، والاتصاف بالوجل حالة العمل مستلزم لحضور القلوب على أتم وجه.
وقال النبي : «الصلاة ميزان من وفّى استوفى»(5).
وقال: «اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك»(6).
ص: 101
وقال(صلی الله علیه و آله و سلم)- في فضل إتمامها - : «إنّ الرجلين من أُمتي يقومان في الصلاة وركوعهما وسجودهما ،واحد وإنّ ما بين صلاتيهما ما بين السماء والأرض»(1).
وقال(صلی الله علیه و آله و سلم): «أما يخاف الذي يحوّل وجهه في الصلاة أن يحوّل الله وجهه وجه حمار»(2).
وقال(صلی الله علیه و آله و سلم): «من صلى ركعتين لم يحدّث فيهما نفسه بشيء من الدنيا غفر الله له ذنوبه»(3).
وعنه(صلی الله علیه و آله و سلم): من حبس عبس نفسه نفسه في صلاة فريضة فأتم ركوعها وسجودها وخشوعها، ثمّ مجد الله عزّ وجلّ وعظمه وحمده حتى يدخل وقت صلاة فريضة أخرى لم يقطع بينهما، كتب الله له كأجر الحاج [و] المعتمر وكان من أهل عليين»(4).
و عنه(صلی الله علیه و آله و سلم): «إنّ من الصلاة لما يقبل نصفها وثلثها وربعها وخمسها إلى العُشر، وإنّ منها لما تلفّ كما يلفّ الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها(5).وإنما لك من صلاتك ما أقبلت عليه بقلبك»(6).
عن أبي جعفر(علیه السّلام)قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): إذا قام العبد المؤمن في صلاته نظر الله إليه - أو قال: أقبل الله عليه - حتّى ينصرف وأظلّته الرحمة من فوق رأسه إلى أُفق السماء، والملائكة تحفّه من حوله إلى أفق السماء، ووكل الله به ملكاً قائماً على رأسه يقول: أيّها المصلّي لو تعلم من ينظر إليك ومن تناجي، ما التفت ولا زلت من موضعك أبداً»(7).
ص: 102
وقال الصادق(علیه السّلام): لا تجتمع الرغبة والرهبة في قلب إلا وجبت له الجنّة، فإذا صليت فأقبل بقلبك على الله عزّ وجلّ، فإنّه ليس من عبد مؤمن يقبل بقلبه على الله عزّ وجلّ في صلاته ودعائه إلا أقبل الله عليه بقلوب المؤمنين، وأيده مع مودتهم إياه بالجنّة»(1).
وعن أبي حمزة الثمالي قال: رأيت عليّ بن الحسين(علیهم السّلام)يصلي، فسقط رداؤه عن منكبه فلم يسوّه حتى فرغ من صلاته. قال: فسألته عن ذلك، فقال: «ويحك أتدري بين يدي من كنت؟ إنّ العبد لا تقبل منه صلاة إلا ما أقبل منها بقلبه، فقلت: جعلت فداك هلكنا فقال: كلّا إنّ الله يتمّ ذلك بالنوافل»(2).
وعن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر وأبي عبد الله(علیهم السّلام)أنهما قالا: «إنما لك من صلاتك ما أقبلت عليه فيها، فإن أوهمها كلّها أو غفل عن أدائها لفت فضرب بها وجه صاحبها»(3).
وروى زرارة عن أبي جعفر(علیه السّلام)قال: «إذا قمت في الصلاة فعليك بالإقبال على صلاتك فإنّما لك منها ما أقبلت عليه بقلبك، ولا تعبث فيها بيدك ولا برأسك ولا بلحيتك، ولا تحدّث نفسك، ولا تتثاءب فيها ولا تتمطّ»(4).
وروى الحلبي عن أبي عبد الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كنت في صلاتك فعليك بالخشوع والإقبال على صلاتك فإنّ الله تعالى يقول: ﴿الَّذينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾»(5).
وعنه(علیه السّلام)قال: «كان عليّ بن الحسين(علیه السّلام)إذا قام في الصلاة تغيّر لونه، فإذا سجد
ص: 103
لم يرفع رأسه حتى يرفض عرقاً»(1).
و [قال: ]: «كان(علیه السّلام)إذا قام في الصلاة كأنه ساق شجرة لا يتحرك منه إلا ما حركت الريح منه»(2).
وعن أبي جعفر(علیه السّلام)قال: «إنّ أوّل ما يحاسب به العبد الصلاة، فإن قبلت قبل ما سواها، إن الصلاة إذا ارتفعت في وقتها رجعت إلى صاحبها وهي بيضاء مشرقة تقول: حفظتني حفظك الله. وإذا ارتفعت في غير وقتها بغير حدودها، رجعت إلى صاحبها وهي سوداء مظلمة تقول: ضيعتني ضيعك الله»(3).
وروى العيص بن القاسم عن أبي عبد الله(علیه السّلام)أنه قال: «والله إنه ليأتي على الرجل خمسون سنة وما قبل الله منه صلاة واحدة، فأي شيء أشدّ من هذا؟ والله إنّكم لتعرفون من جيرانكم وأصحابكم من لو كان يصلّي لبعضكم ما قبلها منه، لاستخفافه بها. إنّ الله عزّ وجلّ لا يقبل إلا الحسن، فكيف يقبل ما يستخف به؟!»(4).
وعن أبي الحسن الرضا(علیه السّلام): «أنّ أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) كان يقول: طوبي لمن أخلص لله العبادة والدعاء، ولم يشغل قلبه بما تراه عيناه، ولم ينس ذكر الله بما تسمع أذناه، ولم يحزن صدره بما أُعطي غيره»(5).
وروى سفيان بن عيينة عن أبي عبد الله(علیه السّلام)في قول الله عزّ وجلّ: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾(6)قال: «ليس يعني أكثركم عملاً، ولكن أصوبكم عملاً. وإنّما الإصابة
ص: 104
خشية الله تعالى والنية الصادقة - ثمّ قال: - الإبقاء على العمل حتى يخلص أشدّ من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلّا الله عزّ وجلّ، والنيّة أفضل من العمل. ألا وإنّ النية هي العمل - ثم تلا قوله عزّ وجلّ: - ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شاكِلَتِه﴾(1). يعني على نيته»(2).
وبهذا الإسناد قال: سألته عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَليم﴾(3).
قال: «السليم الذي يلقى ربِّه وليس فيه أحد سواه. وقال: وكلّ قلب فيه شكٍّ أو شرك فهو ساقط. وإنّما أراد بالزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة»(4).
وعن أبان أبان بن تغلب قال: كنت صلّيت خلف أبي عبد الله بالمزدلفة فلما انصرف الله التفت إليّ فقال: «يا أبان ، هذه الصلوات الخمس المفروضات من أقام حدودهنّ وحافظ على مواقيتهنّ لقي الله يوم القيامة وله عنده عهد يدخله به الجنّة، ومن لم يقم حدودهنّ ولم يحافظ على مواقيتهنّ لقي الله ولا عهد له، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له»(5).
والأخبار في ذلك كثيرة فلنقتصر على هذا القدر.
واعلم أنّه قد استفيد منها أنّ قبول الصلاة موقوف على الإقبال بالقلب بها، والالتفات عمّا سوى الله فيها، وأنّ قبولها يوجب قبول ما سواها من الأعمال. وحينئذٍ فالاهتمام بهذه الصفة أمر مهم، والغفلة عنها خسارة عظيمة، وانحطاط قويّ، وغفلة رديئة، حيث يدأب نفسه في الطاعة، ويقوم بها آناء الليل وأطراف النهار، ثم لا يجد بذلك ثمرة، ولا يستفيد به فائدة: ﴿قُلْ هَلْ تُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرينَ أعْمَالاً * الَّذينَ ضَلَّ
ص: 105
سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾(1). خصوصاً إذا انضم إلى ذلك ما روي: أنّ الصلاة إذا رُدّت رُدّ سائر عمله، كما أنّها إذا قبلت قبل سائر عمله(2).
فنسأل الله تعالى أن يمن علينا من فضله العميم بدوام الإقبال وقبول الأعمال.
اعلم أنّ المؤمن لابد أن يكون معظماً لله تعالى، وخائفاً له، وراجياً منه، ومستحيياً من تقصيره، فلا ينفك عن هذه الأحوال بعد إيمانه وإن كانت قوتها عنده بقدر قوة يقينه. فانفكاكه عنها في الصلاة لا سبب له إلّا تفرّق الفكر، وتقسيم الخاطر، وغيبة القلب عن المناجاة، والغفلة عن الصلاة. ولا يلهي عن الصلاة، إلّا الخواطر الواردة الشاغلة. فالدواء في إحضار القلب هو دفع تلك الخواطر، ولا يدفع الشيء إلا بدفع سببه.
وسبب توارد الخواطر إما أن يكون أمراً خارجاً أو أمراً في ذاته باطناً.
أمّا الخارج فما يقرع السمع أو يظهر للبصر ، فإنّ ذلك قد يخطف الهم حتى يتبعه، ويتصرف فيه، ثم ينجرُّ منه الفكر إلى غيره ويتسلسل، ويكون الإبصار سبباً للأفكار، ثمّ تصير بعض تلك الأفكار سبباً للبعض الآخر، ومن قويت رتبته وعلت همّته لم يلهه ما يجري على حواسه ولكنّ الضعيف لا بد وأن يتفرّق به فكره.
فعلاجه قطع هذه الأسباب، بأن يغض بصره، أو يصلّي في بيت مظلم، أو لا يترك بين يديه ما يشغل حسّه، أو يقرب من حائط عند صلاته حتى لا تتسع مسافة بصره، ويحترز من الصلاة على الشوارع، وفي المواضع المنقوشة المصنوعة، وعلى الفرش المزينة؛ ولذلك كان المتعبدون يتعبّدون في بيت صغير مظلم، سعته بقدر ما تمكن الصلاة فيه ليكون ذلك أجمع للهمّ.
ص: 106
وينبغي أن لا يعدل إلى غمض العينين ما وجد السبيل إلى القيام بوظيفة النظر، وهي جعله قائماً إلى موضع سجوده، وغيره من الأمور المعلومة شرعاً، فإن تعذر القيام بها مع فتحهما، فالغمض أولى؛ لأنّ الفائت من وظيفة الصلاة وصفتها بتقسم الخاطر أعظم مع الإخلال بوظيفة النظر.
وليحضر بباله عند نظره إلى موضع سجوده أنه واقف بين يدي ملك عظيم يراه ويطلع على سريرته وباطن قلبه وإن كان هو لا يراه، وأن التوجه إليه لا يكون إلا بوجه القلب، ووجه الرأس مثال ومضاف بالتبع، وأنه يخاف إن ولاه ظهر قلبه أن يطرده عن باب کرمه، ويسلبه عن مقام خدمته ويبعده عن جناب قدسه ومقدس حضرته.
وكيف يليق بالعبد أن يقف بين يدي سيّده ويولّيه ظهره، ويجعل فكره في غير ما يطلبه منه ؟!
لا ريب في أنّ هذا العبد مستحق للخذلان مستوجب للحرمان، في الشاهد الخسيس والقياس البعيد، فكيف في المقصد الأصلي والملك الحقيقي؟!
وقد ورد الحديث: «إنّ الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم»(1).
فبهذا ونظائره تجتمع الهمّة، ويصفو القلب، وينحصر بالنظر إلى الأمور الخارجيّة.
وأمّا الأسباب الباطنية فإنّها أشدّ فإنّ من تشعبت به الأمور في أودية الدنيا لم ينحصر فكره في فنّ واحد، بل لا يزال يطير من جانب إلى جانب، وغض البصر لا يغنيه. فإنّ ما وقع في القلب كاف في الشغل.
فهذا طريقه أن يردّ النفس قهراً إلى فهم ما يقرؤه في الصلاة، ويشغلها به عن غيره. ويعينه على ذلك أن يستعد قبل التحريم، بأن يجدّد على نفسه ذكر الآخرة، وموقف المناجاة، وخطر المقام بين يدي الله تعالى، وهول المُطلع، ويفرغ قلبه قبل التحريم بالصلاة عمّا يهمه، فلا يترك لنفسه شغلاً يلتفت إليه خاطره
ص: 107
فهذا طريق تسكين الأفكار. فإن كان لا يسكن هائج أفكاره بهذا الدواء المسكن فلا ينجيه إلّا المسهل الذي يقمع مادة الداء من أعماق العروق، وهو أن ينظر في الأمور الشاغلة الصارفة له عن إحضار القلب، ولا شك أنها تعود إلى مهماته، وأنّها إنما صارت مهمات بشهواته فيعاقب نفسه بالنزوع عن تلك الشهوات وقطع تلك العلائق، وكلّ ما يشغله عن صلاته، فهو ضد دينه، وجند ابليس عدوه، فإمساكه أضر عليه من إخراجه، فيتخلّص عنه بإخراجه.
وقد روي أنّ بعضهم(1)صلّى في حائط له فيه شجرة، فأعجبه دبسي(2) طائر في الشجرة يلتمس مخرجاً فأتبعه نظره ساعة لم يذكر كَمْ صلّى، فجعل حائطه صدقة؛ ندماً ورجاءً للعوض عمّا فاته.
وهكذا كانوا يفعلون؛ قطعاً لمادة الفكر، وكفّارة لما جرى من نقصان الصلاة.
وكان بعضهم إذا فاتته صلاة في جماعة أحيا تلك الليلة.
وآخرُ أخر صلاة المغرب حتّى طلع كوكبان، فأعتق رقبتين.
وثالث أخّر ركعتي الفجر فأعتق رقبة. كلّ ذلك مجاهدة للنفس، ومناقشة لها في الغفلة عمّا فيه حطّها.
فهذا هو الدواء القامع لمادة العلّة، ولا يغني غيره، فإنّ ما ذكرناه من التلطف بالتسكين والردّ إلى فهم الذكر، فينفع في الشهوات الضعيفة، والهمم التي لا تشغل إلا حواشي القلب. فأما الشهوة القوية المرهقة فلا ينفع فيها التسكين، بل لا تزال تجاذبها وتجاذبك، ثمّ تغلبك وتنقضي جميع صلاتك في شغل المجاذبة.
ومثاله رجل تحت شجرة أراد أن يصفو له فكره فكانت أصوات العصافير تشوّش
ص: 108
عليه، فلم يزل يطيرها بخشبة في يده ويعود إلى فكره، فتعود العصافير، فيعود إلى التنفير بالخشبة، فقيل له(1): إن أردت الخلاص فاقلع الشجرة.
فكذلك شجرة الشهوة إذا تشعبت وتفرّعت أغصانها انجذبت إليها الأفكار انجذاب العصافير إلى الأشجار وانجذاب الذباب إلى الأقذار والشغل يطول في دفعها، فإنّ الذباب كلّما ذُبّ ،آب ولأجله سمّي بالذباب، فكذا الخواطر.
فهذه الشهوات كثيرة ، وقلّما يخلو العبد عنها، ويجمعها أصل واحد وهو «حبّ الدنيا وذلك - رأس كلّ خطيئة»(2)، وأساس كل نقصان، ومنبع كلّ فساد.
ومن انطوى باطنه على حبّ الدنيا حتى مال إلى شيء منها، لا ليتزود منها ويستعين بها على الآخرة، فلا يطمعن في أن تصفو له لذة المناجاة في الصلاة؛ فإنّ من فرح بالدنيا فلا يفرح بالله وبمناجاته وهمّة الرجل مع قرّة عينه، فإن كانت الدنيا قرة عينه انصرف لا محالة إليها همه، ولكن مع هذا فلا ينبغي أن يترك المجاهدة، وردّ القلب إلى الصلاة، وتقليل الأسباب الشاغلة.
وأما من كانت الدنيا معه وليس هو معها، وإنّما يصرفها حيث أمره الله تعالى ويستعين بها على طاعة الله ويتزود منها إلى الآخرة، وهمّته مجتمعة فيها يبقى، ويجعلها من أسباب الكمال ومقدماته، فلا بأس عليه فقد قال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): «نعم العون على تقوى الله الغنى»(3).
إلّا أنّ ذلك محلّ الغرور، وموضع تلبيس إبليس عليه لعنة الله، فليحذر المستيقظ عند ذلك، ولا يزال يراجع عقله، ويمتحن قلبه، حذراً من أن يدخل عليه الخطر والكدر
ص: 109
وهو لا يشعر ولا برهان على ذلك أقوى من الوجدان.
فهذا هو الدواء المرّ، والمرارته استبشعته أكثر الطباع، وبقيت العلة مزمنة، وصار الداء عضالاً، حتى إن الأكابر اجتهدوا أن يصلوا ركعتين لا يحدثون فيهما أنفسهم بأمور الدنيا فعجزوا عن ذلك.
فإذن لا مطمع فيها لأمثالنا، وليته سلم لنا من الصلاة شطرها، أو ثلثها من الوسواس فنكون ممّن: ﴿خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرُ سَيِّئا﴾(1).
وعلى الجملة فهمّة الدنيا وهمة الآخرة في القلب مثل الماء الذي يصبّ في قدح مملوء بالخلّ، فبقدر ما يدخل من الماء يخرج من الخلّ لا محالة ولا يجتمعان.
فتدبّر هذه الجملة وفقك الله وإيانا إلى الرشاد، وأوقفنا على مناهج السداد.
فهذا ما يتعلّق به الغرض من المقدِّمة.
ص: 110
وهي واجبة ومندوبة.
فالواجبة الطهارة، وإزالة النجاسة، وستر العورة، والمكان الذي يصلّى فيه، والوقت، والقبلة.
والمندوبة كثيرة، كالمسجد، والأذان، والإقامة، والتوجّه بست تكبيرات.
ولكلّ واحدة من هذه المقدمات وظائف قلبيّة، وأسرار خفية، يطلع عليها بصفاء العقل، وحضور القلب. وما نذكره من الوظائف كالمَدرَج إلى الزيادة، والمرقاة إلى غيره من دقائق العبادة.
فليستحضر في قلبه أنّ تكليفه فيها بغسل الأطراف الظاهرة وتنظيفها؛ لاطّلاع الناس عليها، ولكون تلك الأعضاء مباشرة للأُمور الدنيوية، منهمكة في الكدورات الدنية، فلأن يطهّر مع ذلك قلبه الذي هو موضع نظر الحق تعالى؛ فإنّه «لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم»(1)، ولأنّه الرئيس الأعظم لهذه الجوارح، والمستخدم لها في
ص: 111
تلك الأمور، والمبعدة عن جنابه تعالى وتقدّس أولى وأحرى، بل هذا تنبيه واضح على ذلك وبيان شاف على ما هنالك.
وليعلم من تطهير تلك الأعضاء عند الاشتغال بعبادة الله تعالى، والإقبال عليه، والالتفات عن الدنيا بالقلب والحواس، لتلقي السعادة في الأخرى، أن الدنيا والآخرة ضرتان كلما قربت من إحداهما بعدت عن الأخرى؛ فلذلك أمر بالتطهير من الدنيا عند الاشتغال والإقبال على الأُخرى.
فأمر فى الوضوء بغسل الوجه؛ لأنّ التوجّه والإقبال بوجه القلب على الله تعالى به، وفيه أكثر الحواس الظاهرة التي هي أعظم الأسباب الباعثة على مطالب الدنيا، فأمر بغسله ليتوجّه به، وهو خالٍ من تلك الأدناس، ويترقى بذلك إلى تطهير ما هو الركن الأعظم في القياس.
ثم أمر بغسل اليدين؛ لمباشرتهما أكثر أحوال الدنيا الدنية، والمشتهيات الطبيعية.
ثمّ بمسح الرأس؛ لأنّ فيه القوة المفكرة التي يحصل بواسطتها القصد إلى تناول المرادات الطبيعية، وتنبعث الحواسّ حينئذٍ إلى الإقبال على الأمور الدنيوية، المانع من الإقبال على الآخرة السنيّة.
ثمّ بمسح الرجلين؛ لأنّ بهما يتوصل إلى مطالبه، ويتوسل إلى تحصيل مآربه - على نحو ما ذكر في باقي الأعضاء - وحينئذٍ يسوغ له الدخول في العبادة، والإقبال عليها فائزاً بالسعادة.
وأمر فى الغُسل بغسل جميع البشرة؛ لأن أدنى حالات الإنسان وأشدّها تعلقاً وتملكاً بالملكات الشهرية حالة الجماع وموجبات الغسل؛ ولجميع بدنه مدخل في تلك الحالة، ولهذا قال(صلی الله علیه و آله و سلم): «إنّ تحت كل شعرة جنابة»(1).
فحيث كان جميع بدنه بعيداً عن المرتبة العلية، منغمساً في اللذات الدنية، كان غسله
ص: 112
أجمع من أهم المطالب الشرعيّة؛ ليتأهل لمقابلة الجهة الشريفة، والدخول في العبادة المنيفة ويبعد عن القوى الحيوانية، واللذات الدنياوية.
ولمّا كان للقلب من ذلك الحظ الأوفر والنصيب الأكمل، كان الاشتغال بتطهيره من الرذائل، والتوجهات المانعة من درك الفضائل أولى من تطهير تلك الأعضاء الظاهرة عند اللبيب العاقل .
وأمر في التيمم بمسح تلك الأعضاء بالتراب عند تعذر غسلها بالماء الطهور، وضعاً لتلك الأعضاء الرئيسة، وهضماً لها بتلقيها بأثر التربة الخسيسة.
وهكذا يخطر أنّ القلب إذا لم يمكن تطهيره من الأخلاق الرذيلة، وتحليته بالأوصاف الجميلة، فَلْيُقِمْهُ في مقام الهضم والإزراء، وليَسُقُهُ بسياط الذل والإغضاء، عسى أن يطّلع عليه مولاه ،الرحيم، وسيّده الكريم، وهو منكسر متواضع فيهبه نفحة من نفحات نوره اللامع، فإنّه عند القلوب المنكسرة - كما ورد في الأثرا(1)- فَتَرَقَ من هذه الإشارات ونحوها إلى ما يوجب لك الإقبال، وتلافي سالف الإهمال.
ومن الأسرار الواردة فى الأثر من نظائر ذلك قول الصادق: «إذا أردت الطهارة والوضوء فتقدّم إلى الماء تقدّمك إلى رحمة الله؛ فإنّ الله تعالى قد جعل الماء مفتاح قربته و مناجاته، ودليلاً إلى بساط خدمته، وكما أنّ رحمته تطهر ذنوب العباد، كذلك النجاسات الظاهرة يطهرها الماء لا غير. قال الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾(2)، ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً﴾(3)، وقال عزّ وجلّ: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾(4). فكما أحيا به كلّ شيء من نعيم الدنيا، كذلك بفضله ورحمته جعل حياة القلوب بالطاعات. وتفكّر فى صفاء الماء ورقته، وطهوره وبركته، ولطيف
ص: 113
امتزاجه بكل شيء، وفي كلّ شيء، واستعمله في تطهير الأعضاء التي أمرك الله بتطهيرها. وأتِ بآدابها في فرائضه وسننه، فإنّ تحت كلّ واحدة منها فوائد كثيرة إذا استعملتها بالحرمة انفجرت لك عين فوائده عن قريب. ثمّ عاشِر خلق الله تعالى كامتزاج الماء بالأشياء يؤدّي كلّ شيء حقه ولا يتغيّر عن معناه، معتبراً لقول رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): مثل المؤمن الخالص كمثل الماء. ولتكن صفوتك مع الله تعالى في جميع طاعاتك كصفوة الماء حين أنزله من السماء وسمّاه طهوراً وطهر قلبك بالتقوى واليقين عند طهارة جوارحك بالماء»(1).
وفي علل ابن شاذان عن الرضا(علیه السّلام): «إنّما أُمر بالوضوء؛ ليكون العبد طاهراً إذا قام بين يدي الجبار، وعند مناجاته إياه، مطيعاً له فيما أمره، نقياً من الأدناس والنجاسة، مع ما فيه من ذهاب الكسل وطرد النعاس، وتذكية الفؤاد للقيام بين يدي الجبّار .
وإنّما وجب على الوجه واليدين والرأس والرجلين؛ لأنّ العبد إذا قام بين يدي الجبّار فإنّما ينكشف عن جوارحه، ويظهر ما وجب فيه الوضوء، وذلك أنّه بوجهه يسجد ويخضع، وبيده يسأل ويرغب ويرهب ويتبتل، وبرأسه يستقبله في ركوعه وسجوده، وبرجليه يقوم ويقعد.
وأمر بالغسل من الجنابة دون الخلاء؛ لأنّ الجنابة من نفس الإنسان وهي شيء يخرج من جميع جسده، والخلاء ليس هو من نفس الإنسان إنما هو غذاء يدخل من باب ويخرج من باب»(2).
فالكلام فيها نحو الكلام في الطهارة في التذكير بتطهير القلب من نجاسة الأخلاق
ص: 114
ومساوئها، فإنّك إذا أُمرت بتطهير ظاهر الجلد وهو القشر، وبتطهير الثياب وهي أبعد عن ذاتك، فلا تغفل عن تطهير لبّك الذي هو ذاتك وهو قلبك، فاجتهد له تطهيراً بالتوبة والندم على ما فَرَط وتصميم العزم على ترك العود في المستقبل، وطهر بها باطنك فإنّه موقع نظر المعبود.
وتذكّر بتخليك لقضاء الحاجة نقصك وحاجتك، وما تشتمل عليه الأقذار وما من في باطنك وأنت تزيّن ظاهرك للناس، والله تعالى مطّلع على خبث باطنك، وخيّة حالك، واشتغل بإخراج نجاسات الباطن والأخلاق الداخلة في الأعماق المفسدة لك على الإطلاق؛ لتستريح نفسك عند إخراجها، ويسكن قلبك من دنسها، ويخفّ لبّك من ثقلها، وتصلح للوقوف على بساط الخدمة، والتأهل للمناجاة، ولا تستر ما ظهر منك فلابد أن يظهر عليك ما بطن؛ لأنّ الطبيعة تظهر ما يكنّ فيها، فتفتضح حينئذ بما سترته عن الناس كما يفعل الله بكلّ مدلّس.
قال الصادق(علیه السّلام): «سمّي المستراح مستراحاً؛ لاستراحة النفوس من أثقال النجاسات و استفراغ الكثيفات والقذر فيها، والمؤمن يعتبر عندها أنّ الخالص من حطام الدنيا كذلك تصیر عاقبته فيستريح بالعدول عنها وتركها ، ويفرغ نفسه وقلبه عن شغلها، ويستنكف عن جمعها وأخذها استنكافه عن النجاسة والغائط والقذر، ويتفكر في نفسه المكرمة في حال كيف تصير ذليلة في حال؟ ويعلم أنّ التمسك بالقناعة والتقوى يورث له راحة الدارين وأنّ الراحة في هوان الدنيا، والفراغ من التمتع بها، وفي إزالة النجاسة من الحرام والشبهة، فيغلق عن نفسه باب الكبر بعد معرفته إياها، ويفرّ من الذنوب، ويفتح باب التواضع والندم والحياء، ويجتهد في أداء أوامره واجتناب نواهيه طلباً لحسن المآب، وطيب الزلفى، ويسجن نفسه في سجن الخوف والصبر والكفّ عن الشهوات إلى أن يتصل بأمان الله في دار القرار، ويذوق طعم رضاه، فإن المعوّل [على] ذلك وما عداه لا شيء»(1).
ص: 115
فاعلم أن معناه تغطية مقابح بدنك عن أبصار الخلق، فإنّ ظاهر بدنك موقع نظر الخلق، فما رأيك في عورات باطنك ومقابح سرّك التي لا يطلع عليها إلا ربّك؟
فاحضر تلك المقابح ببالك، وطالب نفسك بسترها، وتحقق أنه لا يستر عن عين الله تعالى ،ساتر، وإنّما يسترها ويكفّرها الندم والحياء والخوف، فتستفيد بإحضارها في قلبك انبعاث جنود الخوف والحياء من مكانهما فتذلّ بها نفسك، ويستكين تحت الخجلة قلبك وتقوم بين يدي الله تعالى قيام العبد المجرم المسيء الآبق الذي ندم فرجع إلى مولاه بانكسار رأسه من الحياء والخوف.
قال الصادق(علیه السّلام) : أزين اللباس للمؤمنين لباس التقوى وأنعمه الإيمان، فإنّ الله عزّ وجلّ قال : ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوى ذلك خَيْرٌ﴾(1). وأمّا لباس الظاهر فنعمة من الله يستر بها عورات بني آدم وهي كرامة أكرم الله بها عباده من ذرية آدم(علیه السّلام)ما لم يكرم غيرهم، وهي للمؤمنين آلة لأداء ما افترض الله عليهم. وخير لباسك ما لا يشغلك عن الله عزّ وجلّ بل يقربك من شكره وذكره وطاعته، ولا يحملك فيها إلى العجب والرياء، والتزين والمفاخرة والخيلاء، فإنّها من آفات الدين ومورثة القسوة في القلب. وإذا لبست ثوبك الله تعالى عليك ذنوبك برحمته، وألبس باطنك بالصدق، كما ألبست فاذكر ستر ظاهرك بثوبك وليكن باطنك في ستر الرهبة وظاهرك في ستر الطاعة، واعتبر بفضل الله عزّ وجلّ؛ حيث خلق أسباب اللباس لستر العورات الظاهرة، وفتح أبواب التوبة والإنابة ليستر بها عورات الباطن من الذنوب وأخلاق السوء، ولا تفضح أحداً حيث الله عليك أعظم منه، واشتغل بعيب نفسك، واصفح عما لا يعنيك حاله وأمره، ستر واحذر أن تفني عمرك بعمل غيرك، ويتجر برأس مالك غيرك وتهلك نفسك؛ فإنّ
ص: 116
نسيان الذنوب من أعظم عقوبة الله تعالى في العاجل، وأوفر أسباب العقوبة في الآجل. وما دام العبد مشتغلاً بطاعة الله تعالى، ومعرفة عيوب نفسه، وترك ما يشين في دين الله فهو بمعزل عن الآفات، خائض في بحر رحمة الله عزّ وجلّ، يفوز بجواهر الفوائد من الحكمة والبيان. وما دام ناسياً لذنوبه جاهلاً بعيوبه راجعاً إلى حوله وقوته، فلا يفلح إذن أبداً»(1).
فاستحضر فيه أنك كائن بين يدي ملك الملوك تريد مناجاته والتضرع إليه، والتماس رضاه، ونظره إليك بعين الرحمة، فانظر مكاناً يصلح لذلك، كالمساجد الشريفة، والمشاهد المطهرة مع الإمكان، فإنه تعالى جعل تلك المواضع محلاً لإجابته، ومظنّة لقبوله ورحمته، ومعدناً لمرضاته ومغفرته، على مثال حضرة الملوك الذين يجعلونها وسيلة لذلك، فادخلها ملازماً للسكينة والوقار، مراقباً للخشوع والانكسار، سائلاً أن يجعلك من خاص عباده، وأن يلحقك بالماضين منهم.
وراقب الله كأنّك على الصراط جائز، وكن متردّداً بين الخوف والرجاء، وبين القبول والطرد، فيخشع حينئذٍ قلبك، ويخضع لبك، وتتأهل لأن تفيض عليك الرحمة، وتنالك يد العاطفة، وترعاك عين العناية.
قال الصادق(علیه السّلام): إذا بلغت باب المسجد فاعلم أنك قصدت باب ملك عظيم لا يطا بساطه إلّا المطهرون، ولا يؤذن لمجالسته إلّا الصدّيقون، وهَبِ القدوم إلى بساط خدمة الملك هيبة الملك فإنّك على خطر عظيم إن غفلت واعلم أنه قادر على ما يشاء من العدل والفضل معك وبك، فإن عطف عليك بفضله ورحمته قبل منك يسير الطاعة،
ص: 117
وأجزل لك عليها ثواباً كثيراً، وإن طالبك باستحقاقه الصدق والإخلاص عدلاً بك حجبك، وردّ طاعتك وإن كثرت وهو فعّال لما يريد واعترف بعجزك وتقصيرك وانكسارك، وفقرك بين يديه، فإنك قد توجهت للعبادة له، والمؤانسة به، وأخل قلبك عن كلّ شاغل يحجبك عن ربّك فإنّه لا يقبل إلا الأطهر والأخلص، فإن ذقت من حلاوة مناجاته، ولذيذ مخاطباته وشربت بكأس رحمته وكراماته، من حسن إقباله وإجاباته، فقد صلحت لخدمته، فادخل فلك الإذن والأمان، وإلا فقف وقوف مضطر قد انقطع عنه الحيل، وقصر عنه الأمل، وقضى عليه الأجل. فإذا علم الله من قلبك صدق الالتجاء إليه، نظر إليك بعين الرأفة والرحمة، واللطف والعطف، ووفقك لما يحبّ ويرضى، فإنّه كريم يحبّ الكرامة لعباده المضطرين إليه قال الله تعالى: ﴿أمَّنْ يُجيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾»(1).
فاستحضر عند دخوله أنّه ميقات جعله الله تعالى لك لتقوم فيه بخدمته، وتتأهل للمثول فى حضرته، والفوز بطاعته.
وليظهر على قلبك السرور، وعلى وجهك البهجة عند دخوله؛ لكونه سبباً لقربك، وسيلة إلى فوزك فاستعدّ له بالطهارة والنظافة، ولبس الثياب الصالحة للمناجاة، كما تتأهب عند القدوم على ملك من ملوك الدنيا، وتلقاه بالوقار والسكينة والخوف والرجاء، فإنّ الرحمة عميمة، والفضل قديم، والأخذ والاستدراج متحقق، والطرد عند التقصير متوجّه، فكن بين ذلك قواماً.
والزم الخضوع والخشوع، والذل والانكسار، فإنّه تعالى عند الموصوف بذلك، ومثل
ص: 118
في نفسك لو أنّ ملكاً من ملوك الأرض وعدك بأن يكتبك في وقت معين من خواصه، والقائمين بين يديه ببعض خدمته، ويخاطبك وتخاطبه على طريق الانبساط والأنس في مخاطباتك، وتطلب منه ما تحتاج إليه من مهماتك، ويجعلك عنده من مقربي العباد، ويخلع عليك خلعةً سنية بين الأشهاد، ويجعل ذلك إلى مدة طويلة، وغاية بعيدة، مع أنه لا يؤثر ذلك في حطّك عند الله تعالى بل يزيده، أما كنت تنتظر ذلك الوقت قبل إبانه(1)، وتهتم له قبل أوانه، وتفرح بقربه فضلاً عن دخوله، وتزيد بهجتك وسرورك عند وصوله ؟
فلا تجعل عناية الله جلّ جلاله بك، وإعدادك لمخاطبتك له ومخاطبته لك، وكتبه إياك في ديوان المقربين بالصلاة التى هى أفضل الأعمال، وبسجودها أوجب القرب إلى حضرته والفوز بمحبته كما ورد في كتابه الحكيم ووعد به رسوله الكريم(2)، وخلعته الدائمة فى الدار الصافية، دون تقريب ملك من ملوك الدنيا مع عجزه عن عجزه عن نفعك بدون توفيق الله تعالى لك، وعدم الوثوق الحقيقي بوفائه ودوامه مدّة يسيرة على تقدير وقوعه.
ومن هنا كان النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)ينتظر وقت الصلاة، ويشتد شوقه، ويترقب دخوله، ويقول لبلال مؤذنه: «أرخنا يا بلال»(3).
أشار بذلك إلى أنه في تعب شديد من عدم اشتغاله بهذه التكليفات، وقيامه بوظائف الصلاة وإن كان سرّه لا يخلو من ضروب من المناجاة، إلّا أنّ قُرّة عينه في الصلاة كما قال (عليه أفضل الصلوات والتحيات)(4).
ثم استشعر بعد هذه البهجة خشية الله تعالى في الوقوف بين يديه وأنت ملطخ
ص: 119
بكدوراتك النفسانية وعلائقك الدنيوية، وعوائقك البدنيّة، فإنّ استشعار الخوف شعار الكاملين، كما أنّ الغفلة عن ذلك علامة المطرودين، كما قد عرفته في تضاعيف الأسرار، وجملة الآثار.
واستحضر عظمة الله وجلاله ، ونقصان قدرك وكماله.
وقد روي عن بعض أزواج النبي أنّها قالت: كان رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)يحدثنا ونحدثه، فإذا حضر وقت الصلاة فكأنّه لم يعرفنا ولم نعرفه، شغلاً بالله عن كلّ شيء»(1).
وكان عليّ(علیه السّلام)إذا حضر وقت الصلاة يتململ ويتزلزل، فيقال له: مالك يا أمير المؤمنين؟ فيقول: «جاء وقت أمانة عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها»(2).
وكان عليّ بن الحسين(علیهم السّلام)إذا حضر للوضوء اصفر لونه، فيقال له: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ فيقول: «ما تدرون بين يدي من أقوم؟»(3).
وكلّ ذلك إشارة إلى استحضار عظمة الله تعالى، والالتفات إليه حال العبادة والانقطاع عن غيره.
وإذا سمعت نداء المؤذن فأحضر في قلبك هول النداء يوم القيامة وتشمر بباطنك وظاهرك للمسارعة ،والإجابة، فإنّ المسارعين إلى هذا النداء، هم الذين ينادون باللطف يوم العرض الأكبر، فاعرض قلبك على هذا النداء، فإن وجدته مملوءاً بالفرح والاستبشار ومستعداً بالرغبة إلى الابتدار، فاعلم أنّه يأتيك النداء بالبشرى، والفوز يوم القضاء.
واعتبر بفصول الأذان وكلماته كيف افتتحت بالله، واختتمت بالله؟
ص: 120
واعتبر ذلك أنّ الله عزّ وجلّ هو الأوّل والآخر، والظاهر والباطن.
ووطن قلبك بتعظيمه وتكبيره عند سماع التكبير، واستحضر الدنيا وما فيها لئلا تكون كاذباً في تكبيرك، وانف عن خاطرك كلّ معبود سواه بسماع التهليل، واحضر النبي، وتأدب بين يديه، واشهد له بالرسالة مخلصاً، وصلّ عليه وعلى آله، وحرّك نفسك واسْعَ بقلبك وقالبك عند الدعاء إلى الصلاة، وما يوجب الفلاح، وما هو خير الأعمال وأفضلها، وجدّد عهدك بعد ذلك بتكبير الله وتعظيمه واختمه بذكره كما افتتحت به واجعل مبدأك منه، وعودك إليه، وقوامك به، واعتمادك على حوله وقوته، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فهو صَرف لظاهر وجهك عن سائر الجهات إلى جهة بيت الله تعالى.
أفترى أنّ صرف القلب عن سائر الأمور إلى أمر الله تعالى ليس مطلوباً منك؟! هيهات بل لا مطلوب سواه.
وإنما هذه الظواهر محرّكات للبواطن، ووسائل إليها، ومعارج يترقى منها إليها، وضبط للجوارح وتسكين لها بالثبات على جهة واحدة، حتّى لا تبغي على القلب، فإنّها إذا بغت وظلمت في حركاتها والتفاتاتها إلى جهاتها استتبعت القلب، وانقلبت به عن وجه الله فليكن وجه قلبك مع وجه بدنك.
ومن هنا جاء قول النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): «أما يخاف الذي يحوّل وجهه في الصلاة أن يحوّل الله وجهه وجه حمار؟»(1).
فإنّ ذلك نهي عن الالتفات عن الله تعالى، وملاحظة عظمته في حال الصلاة، فإنّ الملتفت يميناً وشمالاً ملتفت عن الله تعالى وغافل عن مطالعة أنوار كبريائه، ومن كان
ص: 121
كذلك فيوشك أن تدوم تلك الغفلة عليه، فيتحوّل وجه قلبه كوجه قلب الحمار في قلة عقليّته للأمور العُلويّة، وعدم إكرامه بشيء من العلوم والقرب إلى الله تعالى.
واعلم أنه كما لا يتوجّه الوجه إلى جهة البيت إلّا بالصرف عن غيرها، فلا ينصرف القلب إلى الله تعالى إلّا بالتفرّغ عمّا سوى الله تعالى، وقد قال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): «إذا قام العبد إلى صلاته وكان هواه وقلبه إلى الله تعالى انصرف كيوم ولدته أُمّه»(1).
وقال الصادق(علیه السّلام): إذا استقبلت القبلة فآيس من الدنيا وما فيها والخلق وما هم فيه، و استفرغ قلبك عن كلّ شاغل يشغلك عن الله تعالى وعاين بسرك عظمة الله واذكر وقوفك بين يديه يوم تبلو كل نفس ما أسلفت وردّوا إلى الله مولاهم الحق، وقف
على قدم الخوف والرجاء»(2).
فإذا توجهت بالتكبيرات فاستحضر عظمة الله سبحانه، وصغر نفسك وخسة عبادتك في جنب عظمته ، وانحطاط همتك عن القيام بوظائف خدمته واستتمام حقائق عبادته، وتفكر عند قولك: اللهم أنت الملك الحق(3)في عظيم ملكه، وعموم قدرته، واستيلائه على جميع العوالم.
ثم ارجع على نفسك بالذل والانكسار والاعتراف بالذنوب والاستغفار عند قولك: عملت سوءاً وظلمتُ نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
وأحضر دعوته لك بالقيام بهذه الخدمة ومثل نفسك بين يديه، وأنه قريب منك يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ويسمع نداءه، وأنّ بيده خير الدنيا والآخرة لابيد غيره، عند قولك: «لبيك وسعديك والخير في يديك»(4).
ص: 122
ونزهه عن الأعمال السيّئة، وأفعال الشرّ وأبدله بها محض الهداية والإرشاد عند قولك: «والشرّ ليس إليك»(1).
وارغب لهدايته عند قولك: «والمهدي من هديت»(2).
واعترف له بالعبودية وأنّ قوام وجودك وبدأه ومعاده منه بقولك: «عبدك وابن عبديك، منك وبك ولك وإليك»(3).
أي منك وجوده، وبك قوامه، ولك ملكه، وإليك معاده، ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَوُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أهْوَنُ عَلَيْهِ، وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى﴾(4).
فأحضر في ذهنك هذه الحقائق وتَرَقَّ منها إلى ما يفتح عليك من الأسرار والدقائق وتلقي الفيض من العالم الأعلى، فإنّ أبوابه لا تنسدّ عن أحد من القوابل، ولا يخيب لديه أمل آمل.
اللهمّ أهلنا لقبول طوالع أسرارك وكمّلنا بالوصول إلى لوامع أنوارك، واجعلنا من الواقفين على كراسي إراداتك العاكفين على بساط كراماتك، وتممنا من هذا النقصان واهدنا إلى طريق الرضوان، وجد علينا بلطيف الإحسان، وأعذنا من صفقة الخسران و﴿اتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَنِّي لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً﴾(5).
ص: 123
وهي ثمانية:
ووظيفته القلبية؛ تذكر أنك قائم بين يدي الله تعالى، وهو مطلع على سريرتك، عالم بما تخفي وما تعلن، وهو أقرب إليك من حبل الوريد، فاعبده كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك(1).
وانصب قلبك بين يديه كما نصبت شخصك، وطأطئ رأسك الذي هو أرفع أعضائك، مطرقاً مستكيناً.
وألزم قلبك التواضع والخشوع والتذلل والتبري عن التروس والتكبر كما وضعت رأسك.
وقم بين يديه قيامك بين يدي بعض ملوك الزمان، فإن كنت تعجز عن معرفة كنه جلاله، فإنّك تجد وجداناً ضرورياً أنك تنقهر عند مكالمة الملك ومحاورته وتلزم من معه
ص: 124
السكون والخضوع، وربما يتبع ذلك رِعْدَة(1)البدن ، وتَلَعْتُم(2)اللسان. ومنشأ ذلك كله الخوف الحادث عن تصوّر عظمته، فكيف بتصوّر جبّار الجبابرة، وملك الدنيا والآخرة؟! فعند ذلك يحصل لك الخوف الذي هو المقصد الذاتي من المعارف.
وكذلك يحصل الرجاء عند تصوّر ،عظمته واستشعار أنّ الكلّ منه، فإنّ ذلك باعث على رجائه، وقد تأكد ذلك بالآيات الواردة في باب الخوف والرجاء.
وكذلك يستلزم ذا الحياء منه؛ لأنّ المتصوّر عظمة الأمر لا يزال مستشعراً تقصيراً، ومتوهماً ذنباً، وذلك الاستشعار والتوهّم يوجب الحياء من الله تعالى.
وهذه أمور مطلوبة من العابد بل قدّر في دوام قيامك في صلاتك أنك ملحوظ ومرقوب بعين كالئة من رجل صالح من أهلك، وممن ترغب أن يعرفك بالصلاح، فإنّه تهدأُ عند ذلك أطرافك، وتخشع جوارحك، وتسكن جميع أجزائك خيفة أن ينسبك ذلك العاجز المسكين إلى قلة الخشوع.
وإذا أحسست من نفسك بالتماسك والثبات عند ملاحظة عبد مسكين فعاتب نفسك وقل لها: يا نفس، تدّعين معرفة الله تعالى أفما تستحين من استجرائك عليه مع توقيركِ عبداً من عباده، أو تخشين الناس ولا تخشينه وهو أحق أن يُخشى؟!
ألا تستحين من خالقكِ ومولاك إذا قدرت اطلاع عبد ذليل من عباده عليك، وليس بيده خيركِ ولا نفعكِ ولا ضركِ، وخشعت لأجله جوارحكِ، وحسّنتِ صلاتكِ ثمّ إنكِ تعلمين أنّه مطّلع عليكِ فلا تخشعين لعظمته؟! أهوَ أهْوَن عندكِ من عبد من عباده؟ فما أشدّ طغيانكِ وجهلكِ، وما أعظم عداوتكِ لنفسكِ!
ولذلك لما قيل للنبي(صلی الله علیه و آله و سلم): كيف الحياء من الله تعالى؟ فقال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): «تستحيي منه
ص: 125
كما تستحيي من رجل صالح من قومك»(1).
وأمّا دوام القيام فهو تنبيه على إدامة القلب مع الله تعالى على نعت واحد من الحضور، قال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): «إنّ الله مقبل على العبد ما لم يلتفت»(2).
وكما تجب حراسة العين والرأس عن الالتفات إلى غير الصلاة فكذلك تجب حراسة السرّ عن الالتفات إلى غير الصلاة، فإن التفت إلى غيرها فذكره باطلاع الله تعالى عليك، وقبح التهاون بالمناجى مع غفلة المناجي، ليعود إلى التيقظ.
وألزم الخشوع الباطني، فإنّه ملزوم الخشوع ظاهراً، ومهما خشع الباطن خشع الظاهر.
قال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)- وقد رأى مصلّياً يعبث بلحيته - : «أما هذا لو خشع قلبه لخشعت جوارحه»(3)؟
فإنّ الرعيّة بحكم الراعي؛ ولهذا ورد في الدعاء: «اللهم أصلح الراعي والرعيّة». وهو القلب والجوارح(4).
وكلّ ذلك يقتضيه الطبع بين يدي من يعظم من أبناء الدنيا، فكيف لا يتقاضاه بين يدي ملك الملوك وجبار الجبابرة؟ ومن يطمئنّ بين يدي غير الله تعالى خاشعاً ثمّ تضطرب أطرافه بين يدي الله تعالى فذلك لقصور معرفته عن جلال الله تعالى، وعن اطلاعه على سرّه وضميره وتدبّر قوله تعالى: ﴿الذي يَرَاكَ حينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين﴾(5).
ص: 126
ووظيفتها العزم على إجابة الله تعالى في امتثال أمره بالصلاة وإتمامها، والكف عن نواقضها ومفسداتها، وإخلاص جميع ذلك لوجه الله تعالى رجاء ثوابه، وطلب القربة منه إن عجزت عن مرتبة عبادته لكونه أهلاً للعبادة التي هي عبادة الأحرار، فإذا فاتتك درجة الأحرار الأبرار فلا تفوتك درجة التجار وهي العمل رجاءً للعوض، فإن فاتتك هذه المرتبة فاجلس مع العبيد في مجالسهم، وشاركهم في مقاصدهم، فإنّهم إنّما يعملون ويخدمون في الغالب خوفاً من الضرب والعقوبة، وهي غاية الخوف من العقاب. وتقلد في نيّتك وقصدك المنّة لله تعالى وتقدّس بإذنه إيّاك في المناجاة مع سوء أدبك، وكثرة عصيانك.
وعظم في نفسك قدر مناجاته وانظر من تناجي؟ وكيف تناجي؟ وبما تناجي؟ وعند هذا ينبغي أن يعرق جبينك من الخجلة، وترتعد فرائصك من الهيبة، ويصفر وجهك من الخوف، كما روي في ما تقدّم عن بعض أزواج النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، قالت: كان رسول الله يحدثنا ونحدثه فإذا حضرت الصلاة فكأنّه لم يعرفنا ولم نعرفه، شغلاً بالله عن كلّ شيء(1).
وقال الصادق(علیه السّلام): «الإخلاص بجميع حواصل الأعمال، وهو معنى مفتاحه القبول، وأدنى حد الإخلاص بذل العبد ،طاقته، ثمّ لا يجعل لعمله عند الله قدراً فيوجب به على ربه مكافأة لعمله، فإنّه لو طالبه بوفاء حق العبودية لعجز، وأدنى مقام المخلص في الدنيا السلامة من جميع الآثام، وفي الآخرة النجاة من النار، والفوز بالجنّة»(2).
وقال الصادق(علیه السّلام)«صاحب النية الصادقة، صاحب القلب السليم؛ لأنّ سلامة القلب من هواجس المحذورات تُخلص النية لله فى الأُمور كلّها.
ص: 127
قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾(1).
ثمّ النية تبدو من القلب على قدر صفاء المعرفة، وتختلف على حسب اختلاف الإيمان في معنى قوته وضعفه وصاحب النية الخالصة نفسه وهواه معه مقهوران تحت سلطان تعظيم الله والحياء منه»(2).
ومعناه أنّ الله تعالى سبحانه أكبر من كلّ شيء، أو أكبر من أن يوصف أو من أن يدرك بالحواس، أو يقاس بالناس، فإذا نطق به لسانك فينبغي أن لا يكذبه قلبك، فإن كان في قلبك شيء هو أكبر من الله تعالى فالله يشهد إنك لكاذب وإن كان الكلام صدقاً، كما شهد على المنافقين في قولهم: إنه(صلی الله علیه و آله و سلم)رسول الله(3).
فإن كان هواك أغلب عليك من أمر الله وأنت أطوع له منك لله، فقد اتخذته إلهك وكبرته، فيوشك أن يكون قولك: «الله أكبر» كلاماً باللسان المجرد، وقد تخلّف القلب عن مساعدته. وما أعظم الخطر في ذلك لولا التوبة والاستغفار وحسن الظن بكرم الله وعفوه!
قال الصادق(علیه السّلام): «إذا كبرت فاستصغر ما بين السماوات العلى والثرى دون كبريائه فإنّ الله تعالى إذا اطّلع على قلب العبد وهو يكبر، وفي قلبه عارض عن حقيقة تكبيره، قال يا كاذب أتخدعني؟! وعزتي وجلالي لأحرمنك حلاوة ذكري، ولأحجبتك عن قربي والمسارة بمناجاتي»(4).
فاعتبر أنت قلبك حين صلاتك، فإن كنت تجد حلاوتها، وفي نفسك سرورها وبهجتها، وقلبك مسروراً بمناجاته، ملتذاً بمخاطباته، فاعلم أنه قد صدقك في تكبيرك
ص: 128
له وإلا فقد عرفت من سلب لذة المناجاة، وحرمان حلاوة العبادة، أنه دليل على تكذيب الله لك، وطردك عن بابه.
فأول كلماته قولك: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ». وليس المراد بالوجه الوجه الظاهر، فإنّك إنّما وجهته إلى جهة القبلة والله سبحانه تقدّس من أن تحدّه الجهات حتى تقبل بوجه بدنك عليه، وإنّما وجه القلب هو الذي يتوجه به إلى الله فاطر السماوات والأرض.
فانظر إلى وجه قلبك أمتوجّه هو إلى أمانيه وهمه في البيت والسوق وغيرهما، متبع للشهوات، أم مقبل على فاطر السماوات ؟
وإيّاك أن تكون مفاتحتك للمناجاة بالكذب والاختلاق فيصرف وجه رحمته عنك وقبوله في ما بقي على الإطلاق، ولن ينصرف الوجه إلى الله تعالى إلا بالانصراف عمّن سواه، فإنّ القلب بمنزلة مرآة وجهها ،صقيل، وظهرها كَمِد(1)لا يقبل انطباع الصور، فإذا توجهت إلى شيء انطبع فيها، واستدبرت غيره، ولا يمكن انطباعه، ولهذا كانت الدنيا والآخرة ضرتين، كلّما قربت من إحداهما بعدت عن الأُخرى.
فاجتهد في الحال في صرفه إليه، وإن عجزت عنه على الدوام فليكن قولك في الحال صادقاً عسى أن يسامحك في الغفلة بعد ذلك.
وإذا قلت: «حنيفاً مسلماً» فينبغي أن تحضر في بالك أنّ المسلم هو الذي سلم المسلمون من يده ولسانه(2).
ص: 129
فإن لم تكن كذلك كنت كاذباً، فاجتهد أن تعزم عليه في الاستقبال، وتندم على ما سبق من الأحوال.
وإذا قلت: «وما أنا من المشركين» فاحضر ببالك الشرك الخفي وأنّ قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾(1)، جعل من يقصد بعبادة ربه وجه الله وحمد الناس مشركاً، فاستشعر الخجلة في قلبك إن وصفت نفسك بأنك لست من المشركين من غير براءة من هذا الشرك، فإنّ اسم الشرك يقع على القليل والكثير منه.
وإذا قلت: «محياي ومماتي لله» فاعلم أنّ هذا حال عبد مفقود لنفسه، موجود لسيّده، وأنّه إن صدر ممّن غضبه ورضاه، وقيامه وقعوده، ورغبته في الحياة، ورهبته من الموت لأمور الدنيا، لم يكن ملائماً للحال.
ووظائفها لا تكاد تنحصر ، ولا تحيط بها قوة البشر، وإنّ الاعتناء بشأنها يخرج عن وضع الرسالة ؛ لأنّها حكاية كلام الله جل جلاله المشتمل على الأساليب العجيبة والأوضاع الغريبة، والأسرار الدقيقة، والحكم الأنيقة، وليس المقصود منها مجرد حركة اللسان، بل المقصود معانيها وتدبرها؛ ليستفيد منها حكمةً وحقائق وأسراراً، وترغيباً وترهيباً، وأمراً ونهياً، ووعداً ووعيداً، وذكر أنبيائه ونعمه، إلى غير ذلك من الفوائد.
فإذا قلت: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»، فاعلم أنه عدوّك، ومترصد لصرف قلبك عن الله تعالى حسداً لك على مناجاتك مع الله تعالى، وسجودك له، مع أنه لعن بسبب سجدة واحدة تركها. وأن استعاذتك بالله منه بتركك ما يحبّه وتبديله بما يحبّ الله تعالى، لا بمجرد قولك: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم».
ص: 130
فإنّ من قصده سَبْعٌ أو عدو ليفترسه أو يقتله، فقال: أعوذ منك بذلك الحصن الحصين، وهو ثابت في مكانه، فإنّ ذلك لا ينفعه بل لا يفيده إلّا تبديل المكان. فكذلك من يتبع الشهوات التي هي محلّ الشيطان ومكاره الرحمن، فلا يغنيه مجرد القول، فليقرن قوله بالعزم على التعوّذ بحصن الله تعالى من شر الشيطان، وحصنه: «لا إله إلا الله»؛ إذ قال الله تعالى فيما أخبر عنه نبينا(صلی الله علیه و آله و سلم): «لا إله إلا الله حصني»(1). والمتحصن به من لا معبود له سوی الله تعالى .
فأمّا من اتخذ إلهه هواه فهو في ميدان الشيطان لا في حصن الله.
ومن دقائق مكائده أن يشغلك في الصلاة بفكر الآخرة وتدبر فعل الخيرات؛ ليمنعك عن فهم ما تقرأُ.
فاعلم أنّ كلّ ما يشغلك عن فهم معاني قراءتك فهو وسواس، فإنّ حركة اللسان غير المقصودة، بل المقصود معانيها كما مرّ.
والناس في القراءة على ثلاثة أقسام:
فمنهم من يحرّك لسانه بها ولا يتدبر قلبه لها، وهذا من الخاسرين الداخلين في توبيخ الله سبحانه و تهديده بقوله تعالى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرانَ أمْ عَلَى قُلُوبِ أَقْفَالُها﴾(2). ودعاء نبيه(صلی الله علیه و آله و سلم)«ويل لمن لاكها بين لحييه ثم لا يتدبّرها»(3).
ومنهم من يحرّك لسانه وقلبه يتبع اللسان، فيسمع ويفهم منه كأنه يس- يسمعه من غيره، وهذه درجة أصحاب اليمين.
ومنهم من يسبق قلبه إلى المعاني أولاً، ثمّ يخدم اللسان قلبه فيترجمه، وهذه درجة المقربين.
ص: 131
وفرق جليّ بين أن يكون اللسان ترجمان القلب - كما في هذه الدرجة - وبين أن يكون معلّمه - كما في الدرجة الثانية - فالمقربون لسانهم ترجمان يتبع القلب ولا يتبعه القلب.
وتفصيل ترجمة المعاني - على سبيل الاختصار - : أنك إذا قلت: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، فانو به التبرك لابتداء القراءة بكلام الله تعالى، وافهم أنّ معناه أنّ الأُمور كلّها بالله، وأنّ المراد ها هنا بالاسم هو المسمّى، وإذا كانت الأمور كلها بالله فلا جرم كان ﴿الْحَمْدُ للهِ﴾[ ومعناه أنّ الشكر لله؛ إذ النعم من الله، ومن يرى من غير الله نعمة أو يقصد غير الله بشكر لا من حيث أنه مسخّر من الله، ففي تسميته وتحميده نقصان بقدر التفاته إلى غير الله.
فإذا قلت: ﴿رَبِّ الْعالَمينَ) فأحضر في قلبك أنّ العالمين كلها مربوب مثلك بربوبيته، مستغرق في نعمته.(1)]
فإذا قلت: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ فأحضر في قلبك أنواع لطفه لتتضح لك رحمته، فينبعث بها رجاؤك.
ثم استشعر من قلبك التعظيم والخوف بقولك: ﴿مالكِ يَوْمِ الدِّين﴾، أما العظمة؛ فلانه لا ملك إلّا له، وأمّا الخوف؛ فلهول يوم الجزاء والحساب الذي هو مالكه.
ثمّ جدّد الإخلاص بقولك: ﴿إيَّاكَ نَعْبُدُ﴾[وجدّد العجز والاحتياج والتبرُّو عن حولك وقوتك، بقولك :(2)] ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعينُ﴾، وتحقق أنّه ما تيسرت طاعتك إلا بإعانته وأنّ المنّة له؛ إذ وفقك لطاعته، واستخدمك لعبادته، وجعلك أهلاً لمناجاته. ولو حرمك التوفيق لكنت من المطرودين مع الشيطان الرجيم اللعين.
ص: 132
ثمّ إذا فرغت عن التفويض بقولك: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ﴾، وعن التحميد، وعن إظهار الحاجة إلى الإعانة مطلقاً فعيّن سؤالك، ولا تطلب إلّا أهم حاجاتك، وقل: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾الذي يسوقنا إلى جوارك، ويفضي بنا إلى مرضاتك.
وزده شرحاً وتفصيلاً وتأكيداً، واستشهد بالذين أفاض عليهم نعمة الهداية من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين، دون الذين غضب الله تعالى عليهم من الكفّار الزائغين من اليهود والنصارى والصابئين.
فإذا تلوت الفاتحة كذلك فيشبه أن تكون ممّن قال الله تعالى فيهم فيما أخبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): قسمت الفاتحة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي، يقول العبد: الحمد لله رب العالمين، فيقول الله: حمدني عبدي وأثنى عليَّ»(1).
وهو معنى قوله: «سمع الله لمن حمده».
فلو لم يكن من صلاتك حطّ سوى ذكر الله لك في جلاله وعظمته، فناهيك به غنيمةً فكيف بما ترجوه من ثوابه وفضله؟
وكذلك ينبغي أن تفهم ما تقرؤه من السورة فلا تغفل عن أمره ونهيه، ووعده ووعيده، ومواعظه وأخبار أنبيائه وذكر مننه وإحسانه. فلكلّ واحد حق، فالرجاء حق الوعد، والخوف حق الوعيد، والعزم حق الأمر والنهي، والاتعاظ حق الموعظة، والشكر حق تذكر المنّة، والاعتبار حق أخبار الأنبياء.
وتفصيل وظيفة قراءة القرآن لا يحتمله هذا المحل لكنّا نذكر جملةً منه في آخر الفصل.
ص: 133
وبالجملة، ففهم معاني القرآن يختلف بحسب درجات الفهم، والفهم يختلف بحسب وفور العلم وصفاء القلب، ودرجات ذلك لا تنحصر. والصلاة مفتاح القلوب، فيها تنكشف أسرار الكلمات. فهذا حق القراءة وهو أيضاً حق الأذكار والتسبيحات.
ثمّ تراعي الهيئة في القراءة زيادة على التدبّر فرتل ولا تسرد(1)؛ فإنّ ذلك أيسر للتأمل. وتفرّق بين نغماته في آية الرحمة والعذاب، والوعد والوعيد، والتحميد والتمجيد والتعظيم.
ورُوي أنّه: يقال لقارئ القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا»(2).
ومن وظائف القراءة من الأثر قول الصادق : من قرأ القرآن ولم يخضع له، ولم يَرِق قلبه، ولم ينشئ حزناً ووجلاً في سره، فقد استهان بعظم شأن الله تعالى وخسر خُسراناً مبيناً. فقارئ القرآن يحتاج إلى ثلاثة أشياء قلب خاشع وبدن فارغ، وموضع خال، فإذا خشع لله قلبه فرّ منه الشيطان الرجيم. قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِالله مِنَ الشَّيْطانِ الرَّحِيمِ﴾(3)، فإذا تفرّغ نفسه من الأسباب تجرد قلبه للقراءة فلا يعترضه عارض فيحرمه نور القرآن وفوائده. وإذا اتخذ مجلساً خالياً واعتزل من الخلق - بعد أن أتى بالخصلتين الأوليين(4)- استأنس روحه وسره بالله، ووجد حلاوة مخاطبات الله عباده الصالحين وعظم لطفه بهم، ومقام اختصاصه لهم بقبول كراماته، وبدائع إشاراته، فإذا شرب كأساً هذا المشرب حينئذٍ لا يختار على ذلك الحال من حالاً، ولا على ذلك الوقت وقتاً، بل يؤثره على كلّ طاعة وعبادة؛ لأنّ فيه المناجاة مع الربّ بلا واسطة. فانظر كيف تقرأ كتاب ربّك، ومنشور ولايتك؟ وكيف تجيب أوامره
ص: 134
ونواهيه؟ وكيف تتمثل حدوده؟ ﴿فإنَّهُ كِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَميدٍ﴾(1)، فرتله ترتيلاً، وقف عند وعده ووعيده، وتفكر في أمثاله ومواعظه، واحذر أن تقع من إقامتك حروفه في إضاعة حدوده»(2).
فإذا وصلت إليه فجدّد على قلبك ذكر كبرياء الله تعالى وعظمته، وخساسة كلّ ما سواه وتلاشيه، فارفع يديك له، وقل: «الله أكبر»، مستجيراً في رفعك بعفو الله من عقابه ، ومتبعاً سنّة نبيه، ثمّ تستأنف له ذلاً وتواضعاً بركوعك، واجتهد في ترقيق قلبك، وتجديد ،خشوعك، واستشعر ذلك وعزّ مولاك، واتضاعك وعلوّ ربّك، وتستعين على تقرير ذلك في قلبك بلسانك، فتسبّح ربّك وتنزّهه، وتشهد له بالعظمة والكبرياء، وأنه أعظم من كلّ عظيم بقولك: «سبحان ربي العظيم وبحمده». وتكرر ذلك على لسانك وقلبك؛ لتؤكده بالتكرار، وتقرره في ذاتك بالتذكار، وكلما أكثرت منه وازددت خضوعاً، زدت عند مولاك رفعة .
ثم ترتفع من ركوعك راجياً أنه راحم لك، وتؤكّد الرجاء في قلبك بقولك: «سمع الله لمن حمده أي أجاب الله لمن حمده وشكره.
ثم تردف ذلك بالشكر المتقاضي للمزيد فتقول: «الحمد لله ربّ العالمين».
وفي ذلك غاية الخضوع ومزيد التذلل إذا راعيت ذلك بالحقيقة.
وقد قال الصادق(علیه السّلام): «لا يركع عبد الله تعالى ركوعاً على الحقيقة إلّا زينه الله تعالى بنور بهائه، وأظله في ظلال كبريائه وكساه كسوة أصفيائه، والركوع أوّل، والسجود ثان، فمن أتى بمعنى الأوّل صلح للثاني. وفي الركوع أدب، وفي السجود قرب، ومن
ص: 135
لا يحسن الأدب لا يصلح للقرب، فاركع ركوع خاضع لله بقلبه، متذلّل وجل تحت سلطانه خافض له بجوارحه خفض خائف حزين على ما يفوته من فوائد الراكعين. وحكي أنّ ربيع بن خُثيم كان يسهر بالليل إلى الفجر في ركوع واحد فإذا أصبح تزفّر وقال: «آه، سبق المخلصون وقطع بنا». واستوف ركوعك باستواء ظهرك، وانحط عن همتك في القيام بخدمته إلا بعونه، وفرّ بالقلب من وساوس الشيطان وخدائعه ومكائده، فإنّ الله تعالى يرفع عباده بقدر تواضعهم له، ويهديهم إلى أصول التواضع والخضوع والخشوع بقدر اطلاع عظمته على سرائرهم»(1).
وهو أعظم مراتب الخضوع، وأحسن درجات الخشوع، وأعلى مراتب الاستكانة، وأحق المراتب باستيجاب القرب إلى الله تعالى، وتلقي أنوار رحمته، ومعاطف كرمه، كما نبه عليه الكتاب الكريم في أمره لنبيه(صلی الله علیه و آله و سلم)أن يسجد، ووعده على ذلك بأن يقترب(2). فإذا أردت السجود فاستحضر عظمة الله تعالى زيادة على ما حضر حالة الركوع، وكبّره رافعاً يدك وأنت قائم، ثمّ اهْوِ إلى السجود ومكّن أعزّ أعضائك وهو الوجه من أذلّ الأشياء وهو التراب، فإن أمكنك أن لا تجعل بينهما حائلاً فتسجد على الأرض فافعل، فإنّه أجلب للخشوع، وأدلّ على الذل والخضوع.
وهذا هو السر في منع الشريعة من السجود على ما يأكله الآدميون ويلبسونه؛ لأنه من متاع الدنيا وأهلها الذين اغتروا بغرورها، وركنوا إلى زخرفها، واطمأنوا إليها، فأسلمتهم إلى المهالك أحوج ما كانوا إليها.
وإذا وضعت نفسك موضع الذلّ، فاعلم أنّك وضعتها موضعها، ورددت الفرع إلى
ص: 136
أصله، فإنك من التراب خلقت، وإليه رددت، ثم تخرج منها مرة أخرى.
فأحضر في بالك نقلاتك منها وإليها، ثمّ خروجك منها بتكرر السجود كما ذكره الله تعالى لك بقوله: ﴿مِنْها خَلَقْنَاكُمْ وَفيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرى﴾(1).
وعند هذا جدّد على قلبك عظمة الله تعالى وعلوّه وقل: «سبحان ربي الأعلى وبحمده» وأكده بالتكرار، فإنّ المرّة الواحدة ضعيفة الأثر في القلب.
فإذا رقّ قلبك وظهر ذلك، فليصدق رجاؤك في رحمة ربّك، فإنّ رحمته تتسارع إلى الضعف والذل لا إلى التكبر والبطر، فارفع رأسك مكبراً وسائلاً حاجتك، ومستغفراً من ذنوبك، ثمّ أكد التواضع بالتكرار وعُد إلى السجود ثانياً كذلك، فبزيادته يزيد الق-رب
منك، وبتكراره تتأكد السوانح الإلهية، وتظهر اللوامع الغيبية، إذا وقع على وجهه.
قال الصادق(علیه السّلام): «ما خسر والله من أتى بحقيقة السجود، ولو كان في العمر مرة واحدة، وما أفلح من خلا بربه في مثل ذلك الحال شبيهاً بمخادع نفسه، غافلاً لاهياً عمّا أعد الله للساجدين من أنس العاجل وراحة الآجل، ولا بعد عن الله أبداً من أحسن تقربه في السجود، ولا قَرُب إليه أبداً من أساء أدبه وضيّع حرمته، بتعلق قلبه بسواه في حال سجوده، فاسجد سجود متواضع لله ذليل علم أنه خلق من تراب تطؤه الخلق، وأنه اتخذك من نطفة يستقذرها كلّ أحد، وَكَوَّنَ ولم يكن، وقد جعل الله تعالى معنى السجود سبب التقرب إليه بالقلب والسر والروح، فمن قَرُب منه بعد من غيره. ألا ترى في الظاهر أنه لا يستوي حال السجود إلا بالتواري عن جميع الأشياء والاحتجاب عن كلّ ما تراه العيون؟ كذلك أمر الباطن فمن كان قلبه متعلّقاً في صلاته بشيء دون الله، فهو قريب من ذلك الشيء، بعيد عن حقيقة ما أراد الله منه في صلاته. قال الله عزّ وجلّ: ﴿مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾(2)، وقال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): قال
ص: 137
الله تعالى: لا أطلع على قلب عبد فأعلم فيه حبّ الإخلاص لطاعتي لوجهي، وابتغاء مرضاتي، إلّا تولّيت تقويمه وسياسته، ومن اشتغل في صلاته بغيري فهو من المستهزئين بنفسه، ومكتوب اسمه في ديوان الخاسرين»(1).
إذا جلست للتشهد بعد هذه الأفعال الدقيقة، والأسرار العميقة، المشتملة على الأخطار الجسيمة، والأهوال العظيمة، فاستشعر الخوف التام والرهبة والحياء والوجل أن يكون جميع ما سلف منك غير واقع على وجهه، ولا محصلاً لوظيفته وشرطه، ولا مكتوباً في ديوان المقبولين، فاجعل يدك صفراً من فوائدها، إلا أن يتداركك الله برحمته، ويقبل عملك الناقص بفضله.
وارجع إلى مبدأ الأمر وأصل الدين، واستمسك بكلمة التوحيد وحصن الله تعالى الذي من دخله كان آمناً إن لم يكن حصل في يدك غيره، واشهد له بالوحدانية، وأحضر رسوله المكرّم ونبيه المعظم ببالك واشهد له بالعبودية والرسالة، وصلّ عليه وعلى آله مجدداً عهد الله تعالى بإعادة كلمتي الشهادة متعرّضاً بهما لتأسيس مراتب السعادة، فإنّهما أوّل الوسائل وأساس الفواضل، وجماع أمر الفضائل، مترقباً لإجابته(صلی الله علیه و آله و سلم)لك بصلاتك عشراً من صلاته(2)إذا قمت بحقيقة صلاتك عليه التي لو وصل إليك منها واحدة أفلحت أبداً.
وقال الصادق(علیه السّلام): «التشهد ثناء على الله تعالى فكن عبداً له في السر، خاضعاً له في الفعل، كما أنّك عبد له بالقول والدعوى، وصل صدق لسانك بصفاء صدق سرك، فإنّه
ص: 138
خلقك عبداً، وأمرك أن تعبده بقلبك ولسانك وجوارحك، وأن تحقق عبوديتك له بربوبيته لك، وتعلم أن نواصي الخلق بيده فليس لهم نفس ولا لحظة إلا بقدرته ومشيئته، وهم عاجزون عن اتيان أقل شيء في مملكته إلا بإذنه وإرادته.
قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتارُ ما كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾(1). فكن الله عبداً شاكراً بالفعل، كما أنك عبد ذاكر بالقول والدعوى، وصل صدق لسانك بصفاء سرّك فإنّه خلقك فعزّ وجلّ أن تكون إرادة ومشيئة لأحد إلا بسابق إرادته ومشيئته، فاستعمل العبودية في الرضى بحكمه وبالعبادة في أداء أوامره. وقد أمرك بالصلاة على نبيه(2) محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، فأوصل صلاته بصلاته، وطاعته بطاعته، وشهادته بشهادته، وانظر أن لا تفوتك بركات معرفة حرمته فتحرم عن فائدة صلاته وأمره بالاستغفار لك، والشفاعة فيك إن أتيت بالواجب في الأمر والنهي، والسنن والآداب، وتعلم جليل مرتبته عند الله عزّ وجلّ»(3).
فإذا فرغت من التشهد فأحضر نفسك بحضرة سيّد المرسلين والملائكة المقربين، وقل: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، إلى آخر التسليم المستحبّ.
ثم أحضر في بالك النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)وبقية أنبياء الله، والأئمة(علیهم السّلام)، والحفظة لك من الملائكة المقربين المحصين لأعمالك، وقل: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته»، ولا تطلق لسانك بصيغة الخطاب من غير حضور مخاطب في ذهنك فتكون من العابثين واللاعبين.
ص: 139
وكيف يسمع الخطاب لمن لا يقصد المخاطب، لولا فضل الله تعالى ورحمت الشاملة، ورأفته الكاملة في اجتزائه بذلك عن أصل الواجب، وإن كان بعيداً عن درجات القبول، منحطاً عن أوج القرب والوصول؟
وإن كنت إماماً لقوم فاقصدهم بالسلام مع من تقدّم من المقصودين، وليقصدوا هم الردّ عليك أيضاً، ثمّ يقصدوا مقصدك بسلام ثانٍ، فإذا فعلتم ذلك فقد أديتم وظيفة السلام، واستحققتم من الله تعالى مزيد الإكرام.
وأصل السلام مشترك بين التحية الخاصة وبين الاسم المقدس من أسماء الله تعالى، والمعنى هنا على الأوّل ظاهر، وعلى الثاني يكون مستعاراً في الخلق بإذن الله؛ للتفاؤل بالسلام والأمان من عذاب الله تعالى لمن قام بحدوده.
قال الصادق(علیه السّلام): معنى السلام في دبر كل صلاة الأمان، أي من أدّى أمر الله وسنّة نبيّه(صلی الله علیه و آله و سلم)خاضعاً له خاشعاً منه قلبه، فله الأمان من بلاء الدنيا وبراءة من عذاب الآخرة. والسلام اسم من أسماء الله تعالى أودعه خلقه ليستعملوا معناه في المعاملات والأمانات والإنصافات وتصديق مصاحبتهم فيما بينهم، وصحة معاشرتهم.
وإن أردت أن تضع السلام موضعه وتؤدّي معناه، فاتق الله وليسلم منك دينك وقلبك وعقلك، وأن لا تدنّسها بظلمة المعاصي، ولتسلم حفظتك أن لا تبرمهم ولا تملهم وتوحشهم منك بسوء معاملتك معهم، ثمّ صديقك ثمّ عدوّك فإن لم يسلم منه من هو أقرب إليه فالأبعد أولى، ومن لا يضع السلام مواضعه هذه، فلا سلام ولا تسليم وكان كاذباً في سلامه وإن أفشاه في الخلق»(1).
ص: 140
إذا أتيت بالصلاة على ما وصفت لك، فاختمها بالخشوع والخضوع، والخوف من منقلب الردّ وخيبة الحرمان، واستشعر شكر الله تعالى على توفيقه لإتمام هذه الطاعة، وتوهم أنك مودع في صلاتك هذه، وأنك ربما لا تعيش إلى مثلها كما قال(صلی الله علیه و آله و سلم): «صل صلاة مودّع»(1).
ثم استشعر قلبك الحياء من التقصير في الصلاة، والخوف من أن تلفّ فيضرب بها وجهك، فإذا فعلت ذلك رجوت أن تكون من الخاشعين ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحافِظُونَ﴾(2)، و﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾(3).
واعرض صلاتك على هذا الوصف، فبقدر ما يتيسر منها كذلك ينبغي أن تفرح وترجو، وعلى ما يفوتك ينبغي أن تتحسّر وتجتهد في مداواة قلبك، فإنّ صلاة الغافلين مرتع إبليس اللعين.
نسأل الله أن يغمرنا برحمته، ويتغمدنا بمغفرته؛ إذ لا وسيلة لنا إلا الاعتراف بالعجز عن القيام بوظائف طاعته.
ثمّ عقب ذلك كله بالاشتغال بالتعقيب من الذكر والدعاء، وبالغ في الإخلاص والانقطاع
ص: 141
والابتهال إلى الله تعالى في مغفرة ذنبك، وقبول عملك، وتلقي طاعتك بيد الرحمة، فإنّ الفضل عميم والكرم ،جسيم والرحمة واسعة والجود فائض والمحلّ قابل.
وخلاصة وظائف الدعاء عقيب الصلاة وغيرها ما قاله مولانا الصادق(علیه السّلام) : «احفظ أدب الدعاء، وانظر من تدعو ؟ وكيف تدعو؟ ولما تدعو؟ وحقق عظمة الله تعالى وكبرياءه، وعاين بقلبك علمه بما في ضميرك، واطلاعه على سرك، وما تكن فيه من الحق والباطل، واعرف طرق نجاتك وهلاكك كي لا تدعو الله تعالى بشيء عسى فيه هلاكك، وأنت تظنّ أنّ فيه نجاتك.
قال الله تعالى: ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً﴾(1). وتفكر ماذا تسأل؟ ولماذا تسأل؟ والدعاء استجابة الكلّ منك للحق، وتذويب المهجة في مشاهدة الربّ، وترك الاختيار جميعاً، وتسليم الأمور كلها - ظاهرها وباطنها - إلى الله تعالى؛ فإن لم تأت بشرط الدعاء فلا تنتظر الإجابة فإنّه يعلم السر وأخفى، فلعلك تدعوه بشيء قد علم من نيتك خلاف ذلك.
قال بعض الصحابة لبعضهم: أنتم تنتظرون المطر بالدعاء وأنا أنتظر الحجر(2).
واعلم أنه لو لم يكن أمرنا الله بالدعاء لكنا إذا أخلصنا الدعاء تفضّل علينا بالإجابة، فكيف وقد ضمن ذلك لمن أتى بشرائط الدعاء؟
وسئل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)عن اسم الله الأعظم فقال: «كلّ اسم من أسماء الله أعظم، ففرّغ قلبك عن كلّ ما سواه، وادعه بأي اسم شئت، فليس في الحقيقة لله اسم دون اسم، بل هو الله الواحد القهار».
وقال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): «إنّ الله لا يستجيب الدعاء من قلب لاءِ».
ص: 142
فإذا أتيت بما ذكرت لك من شرائط الدعاء وأخلصت سرك لوجهه، فابشر بإحدى ثلاث: إما أن يتعجّل لك بما سألت، وإمّا أن يدخر لك ما هو أعظم منه، وإما أن يصرف عنك من البلاء ما لو أرسله عليك لهلكت.
قال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): «قال الله تعالى: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أُعطى السائلين»(1).
قال الصادق(علیه السّلام): لقد دعوت الله تعالى مرّة واحدة فاستجاب لى ونسيت الحاجة؛ لأن استجابته بإقباله على عبده عند دعوته، أعظم وأجلّ ممّا يريد منه العبد، ولو كانت الجنّة ونعيمها الأبد ولكن لا يعقل ذلك إلا العاملون المحبّون العارفون الفائزون صفوة الله وخواصه»(2). انتهى.
وهو كافٍ في وظيفة الدعاء.
وإن عقبت بشيء من القرآن فينبغي أن تتدبّر بعض وظائفه، لتقوم بشروطه، وتمتثل مرسوم حدوده، كما ينبغي ذلك لكلّ قارئ وما ورد في ثواب قراءة القرآن والحتّ عليه(3)، يخرج ذكره عن موضوع الرسالة؛ فلنذكر مهمّ وظائفه ملخّصاً، وهو أمور:
الأوّل: حضور القلب، وترك حديث النفس.
قيل في تفسير قوله تعالى: ﴿يَا يَحْيى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾(4)، أي بجد واجتهاده(5). وأخذه
ص: 143
بالجد؛ أن يتجرّد عند قراءته بحذف جميع المشغلات والهموم عنه.
الثاني: التدبّر، وهو طور وراء حضور القلب؛ فإنّ الإنسان قد لا يتفكر في غير القرآن ولكنّه يقتصر على سماع القرآن وهو لا يتدبّره ، والمقصود من التلاوة التدبّر؛ قال الله سبحانه: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أمْ عَلَى قُلُوب أقفالُها﴾(1). [وقال تعالى]: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كثيراً﴾(2). وقال تعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً﴾(3)؛ ولأنّ الترتيل يمكن الإنسان من تدبّر الباطن، قال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): «لا خير في عبادة لا فقه فيها، ولا خير في قراءة لا تدبّر فيها»(4).
وإذا لم يمكن التدبّر إلا بالترديد فليردّد، قال أبو ذر (رضي الله عنه):
قام رسول الله ليلة يردّد قوله تعالى: ﴿إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فإنّك أنْتَ الْعَزيزُ الْحَكيم﴾(5).
الثالث: التفهم، وهو أن يستوضح من كلّ آية ما يليق بها؛ إذ القرآن يشتمل على ذكر صفات الله تعالى وأفعاله وأحوال أنبيائه والمكذبين لهم، وأحوال ملائكته، وذكر أوامره وزواجره، وذكر الجنة والنار، والوعد والوعيد، فليتأمل معاني هذه الأسماء
والصفات؛ لتنكشف له أسرارها، فإنّ تحتها أسرار الدقائق، وكنوز الحقائق.
قال ابن مسعود: من أراد أن يعلم علم الأولين والآخرين فعليه بالقرآن(6).
قال الله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ
ص: 144
ربي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِه مَدَداً﴾(1).
وقال عليّ : «لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً من تفسير فاتحة الكتاب»(2).
فمن لم يتفهم معاني القرآن في تلاوته وسماعه ولو في أدنى المراتب، دخل في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾(3)، وقوله: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبِ أَقْفَالُها﴾(4).
الرابع: التخلّي عن موانع الفهم؛ فإنّ أكثر الناس منعوا من فهم القرآن؛ لأسباب وحُجب أسدَلَها الشيطان على قلوبهم، فحُجبت عن عجائب أسراره؛ قال: «لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت»(5).
ومعاني القرآن وأسراره من جملة الملكوت.
والحجب الموانع منها: الاشتغال بتحقيق الحروف، وإخراجها من مخارجها، والتشدّق بها من غير ملاحظة المعنى.
وقيل(6): إنّ المتولّي لحفظ ذلك شيطان وكل بالقراء؛ ليصرفهم عن معاني كلام الله ،تعالى، فلا يزال يحملهم على ترديد الحروف، ويخيل إليهم أنه لم يخرج من مخرجه فيكون تأمله مقصوراً على مخارج الحروف فمتى تنكشف له المعاني؟! وأعظم ضحكة للشيطان من كان مطيعاً لمثل هذا التلبيس.
ومنها: أن يكون مبتلى من الدنيا بهوئ مطاع؛ فإنّ ذلك سبب لظلمة القلب كالصَدَ! على المرآة فيمنع جليّة الحق أن يتجلّى فيه، وهو أعظم حجاب للقلب، وبه حجب
ص: 145
الأكثرون ، وكلّما كانت الشهوات أكثر تراكماً على القلب كان البعد عن أسرار الله تعالى أعظم؛ ولذلك قال(صلی الله علیه و آله و سلم) : «الدنيا والآخرة ضرّتان بقدر ما تقرب من إحداهما تبعد عن الأخرى»(1).
الخامس: أن يخصص نفسه بكل خطاب في القرآن من أمر أو نهي أو وعد أو وعيد، ويُقدّر أنه هو مقصود.
وكذلك إن سمع قصص الأولين والأنبياء(علیهم السّلام)علم أن مجرد القصة غير المقصود وإنّما المقصود الاعتبار، ولا يعتقد أنّ كلّ خطاب خاص في القرآن المراد به الخصوص، فإنّ القرآن وسائر الخطابات الشرعية واردة على طريقة إياك أعني واسمعي يا جارة»، كلّها نور وهدى ورحمة للعالمين؛ ولذلك أمر الله تعالى الكافّة بشكر نعمة هي الكتاب، فقال: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ به﴾.2(2)
وإذا قدّر أنّه المقصود لم يتخذ دراسة القرآن عملاً، بل قراءته كقراءة العبد كتاب مولاه الذي كتبه إليه ليتدبره ويعمل بمقتضاه. قال حكيم:«هذا القرآن أتانا من قبل ربنا بعهوده نتدبرها في الصلاة، ونقف عليها الخلوات ونعدّها في الطاعات بالسنن المتبعات».(3)
السادس: التأثر، وهو أن يتأثر قلبه بآثار مختلفة بحسب اختلاف الآيات، فيكون له بحسب كلّ فهم حال ووجد يتصف به عندما يوجّه نفسه في كلّ حال إلى الجهة التي فهمها، من خوف أو حزن أو رجاء أو غيره، فيستعدّ بذلك وينفعل، ويحصل له التأثر
التنبيهات العلية
ص: 146
والخشية. ومهما قويت معرفته كانت الخشية أغلب الأحوال على قلبه؛ فإنّ التضييق غالب على العارفين فلا يرى ذكر المغفرة والرحمة إلّا مقروناً بشروط يقصر العارف عن نيلها؛ كقوله تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى﴾،(1)فإنّه قرن المغفرة بهذه الشروط الأربعة.
وكذلك قوله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾(2) إلى آخر السورة، وذكر فيها أربعة شروط..
وحيث أوجز واختصر ذكر شرطاً واحداً جامعاً للشرائط فقال تعالى: ﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَريبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾(3)إذ كان الإحسان جامعاً لكل الشرائط..
وتأثر العبد بالتلاوة أن يصير بصفة الآية المتلوّة، فعند الوعيد يتضاءل من خشية الله، وعند الوعد يستبشر فرحاً برحمة الله وعند ذكر الله وأسمائه يتطأطأ خضوعاً لجلاله، وعند ذكر الكفّار في حق الله تعالى ما يمتنع عليه - كالصاحبة والولد - يغض صوته، وينكسر في باطنه، حياءً من قبح أفعالهم، ويكبر الله ويقدسه عمّا يقول الظالمون، وعند ذكر الجنّة ينبعث بباطنه شوقاً إليها، وعند ذكر النار ترتعد فرائصه خوفاً منها.
ولمّا قال رسول الله لابن مسعود: «إقرأ على»قال: ففتحت سورة النساء، فلمّا بلغت ﴿فَكَيْفَ إذا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيداً﴾(4)، رأيت عينيه تذرفان من الدمع فقال لي: «حسبك الآن»(5). وذلك لاستغراق تلك الحالة لقلبه بالكلية.
ص: 147
والقرآن إنّما يراد لهذه الأحوال واستجلابها إلى القلب والعمل بها ؛ قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «اقرؤُوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم ولانت عليه جلودكم، فإذا اختلفتم فلستم تقرؤونه»(1).
وقال الله تعالى: (الَّذينَ إذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زادتْهُمْ إيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون(2) . وإلا فالمؤونة في تحريك اللسان خفيفة.
وروي أن رجلاً جاء إلى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، ليعلمه القرآن، فعلمه فانتهى إلى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَهُ﴾(3)، فقال يكفيني هذا، وانصرف فقال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «انصرف الرجل وهو فقيه»(4).
وأما التالي باللسان المعرض عن العمل، فجدير أن يكون المراد بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيمَةِ أَعْمَى﴾(5)الآية.
وإنما حطّ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل، وحظ العقل تفسير المعاني، وحظ القلب الاتعاظ والتأثر بالانزجار والائتمار.
السابع: الترقي، وهو أن يوجه قلبه وعقله إلى القبلة الحقيقية، فيستمع الكلام من الله تعالى لا من نفسه.
و درجات القراءة ثلاث:
أدناها: أن يقدّر العبد كأنه يقرأ على الله عزّ وجلّ، واقفاً بين يديه، وهو ناظر إليه ومستمع منه؛ فيكون حاله عند هذا التقدير السؤال والتضرّع والابتهال.
والثانية: أن يشهد بقلبه كأنه سبحانه وتعالى يخاطبه بألطافه، ويناجيه بإنعامه
ص: 148
وإحسانه، وهو في مقام الحياء والتعظيم لمنن الله والإصغاء إليه، والفهم منه.
والثالثة: أن يرى في الكلام المتكلّم، وفي الكلمات الصفات؛ فلا ينظر إلى قلبه، ولا إلى قراءته، ولا إلى التعلّق بالإنعام من حيث هو منعم عليه، بل يقصر الهم على المتكلّم، ويوقف فكره عليه، ويستغرق في مشاهدته.
وهذه درجة المقربين وعنها أخبر جعفر بن محمد الصادق(علیهما السّلام)بقوله: «لقد تجلّى الله لخلقه في كلامه ولكنّهم لا يبصرون»(1).
وقال أيضاً، وقد سألوه عن حالة لحقته في الصلاة حتى خر مغشياً عليه، فلما أفاق، قيل له في ذلك، فقال: «ما زلت أردّد هذه الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلّم بها، فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته»(2).
الثامن: التبرؤ، والمراد به أن يتبرأ من حوله وقوته، فلا يلتفت إلى نفسه بعين الرضى والتزكية.
فإذا تلا آيات الوعد ومدح الصالحين، حذف نفسه عن درجة الاعتبار، وشهد فيها الموقنين والصدّيقين، ويتشوّق إلى أن يلحقه الله بهم.
وإذا تلا آيات المقت والذمّ للمقصرين شهد نفسه هناك، وقدّر أنه المخاطب خوفاً وإشفاقاً، وإلى هذه المرتبة أشار أمير المؤمنين وسيّد الوصيين(علیه السّلام)في الخطبة التي يصف فيها المتقين بقوله: «وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنّوا أنّ زفير جهنّم في آذانهم»(3)، إلى آخره.
ومن رأى نفسه بصورة التقصير في القراءة كان ذلك سبب قربه.
ومن شاهد نفسه بعين الرضى فهو محجوب بنفسه.
ص: 149
فهذه نبذة من وظائف القراءة وأسرارها، وفقنا الله لتلقّي الأسرار، وألحقنا بعباده الأبرار.
وإذا وصلت إلى هذا المقام فاسجد سجدتي الشكر شكراً لله سبحانه على مزيد الإنعام، وأحضر إنعامه لديك ببالك، وأياديه عندك في جميع أحوالك، وقل: «شكراً شكراً» إلى تمام ما يمكنك من المزيد فأنت مع ذلك مقصر عمّا يجب عليك من التحميد، وغاية ما يجب الاعتراف بالتقصير ، والاستغفار من كلّ قليل وكثير.
اللهم ارزقنا العمل بما كشفت لنا من الأسرار والآيات، وزدنا فيضاً وعرفاناً يكون لنا سلّماً إلى نيل تلك الدرجات، ووفقنا على درك الحق بالتوفيق، وثبت أقدامنا على مقامات الصدق، وحقائق التحقيق بفضلك وجودك العميم، إنك أنت الوهاب الكريم.
ص: 150
وهي في هذا المقام ما أبطلت الصلاة، أو نقصت كمالها من جهات قلبية. وهي تنقسم إلى منافيات الكمال، وإلى منافيات الصحة.
وضابط الأوّل ما ينافي الإقبال بالقلب على الله تعالى من حديث النفس، والالتفات إلى أمر دنيوي، بل الفكر في غير متعلّق الصلاة، وإن كان أُخروياً، فإنه من دقائق مكائد الشيطان ؛ فإنّ المطلوب لله تعالى، والموجب للقبول إنما هو الإقبال على كلّ فعل من أفعالها حال الاشتغال فيه؛ كما نبه عليه بقوله(صلی الله علیه و آله و سلم): «وإنما لك من صلاتك ما أقبلت عليه بقلبك»(1).
ويدخل في هذا القسم ما عده الفقهاء من المكروهات كمدافعة الأخبثين، والنعاس والتنخّم ،والبصاق، والعبث، وغيرها، فإنّها مشتركة فى مضادّة الإقبال، ومنافية للخشوع .
وأمّا منافيات الصحة فضابطها منافاة ،الإخلاص واستكثار الطاعة ويدخل في
ص: 151
الأوّل الرياء بأقسامه، وفي الثاني العجب. والكلام في كلّ منهما مستوفى وذكر أقسامهما وأحكامهما يخرج عن وضع الرسالة، لكنا نذكر المهم.
واعلم أنّ الوعيد على هاتين الآفتين في الكتاب والسنّة كثير يخرج عن حدّ الحصر، قال الله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِم سَاهُونَ الَّذينَ هُمْ يُرْؤُونَ وَيَمْنَعوُنَ الْمَاعُونَ﴾(1).
وقال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): «إنّ النار وأهلها يعجون من أهل الرياء».
فقيل: يا رسول الله وكيف تعجّ النار؟ قال: «من حرّ النار التي يعذبون بها»(2).
وعنه(صلی الله علیه و آله و سلم)قال: «المرائي يوم القيامة يُنادى بأربعة أسماء یا کافر، یا فاجر، یا غادر، یا خاسر، ضل سعيك، وبطل أجرك، ولا خلاق لك التمس الأجر ممّن كنت تعمل له، يا مخادع»(3).
وعنه(صلی الله علیه و آله و سلم): «إنّ الله تعالى يقول: أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، من عمل عملاً فأشرك فيه غيري فنصيبي له، فأنا لا أقبل إلا ما كان خالصاً لي»(4).
وعنه(صلی الله علیه و آله و سلم): «إنّ الجنّة تكلّمت وقالت: إني حرام على كل بخيل ومراء»(5).
وعنه : «إنّ أوّل من يدعى يوم القيامة رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال فيقول الله عزّ وجلّ للقارىء: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟
ص: 152
فيقول: بلى يا ربّ فيقول: ما عملت في ما علمت؟
فيقول: يا ربّ قرأته في أناء الليل، وأطراف النهار.
فيقول الله كذبت وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله تعالى: إنّما أردت أن يقال فلان قارئ فقد قيل ذلك.
ويؤتى بصاحب المال فيقول الله تعالى : ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد ؟
فيقول: بلى يا ربّ.
فيقول: فما عملت في ما آتيتك؟
قال: كنت أصل الرحم وأتصدق.
فيقول الله تعالى: كذبت وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله سبحانه: بل أردت أن يقال فلان جواد، وقد قيل ذلك.
ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله تعالى: ما فعلت؟
فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتى قتلت.
فيقول الله تعالى: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، فيقول الله تعالى: بل أردت أن يقال فلان شجاع جريء، فقد قيل ذلك».
ثمّ قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «أولئك خلق الله تسعر بهم نار جهنّم»(1).
وعن الصادق(علیه السّلام): إياك والرياء، فإنّه من عمل لغير الله وكله الله إلى من عمل له»(2).
وعنه(علیه السّلام)في قول الله عزّ وجلّ: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّه فَلْيَعْمَلْ عملاً صالحاً ولا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أحداً﴾(3) قال: «الرجل يعمل شيئاً من الثواب، لا يطلب به وجه الله،
ص: 153
إنّما يطلب تزكية النفس(1)؛ يشتهي أن يسمع به الناس، فهذا الذي أشرك بعبادة ربه. - ثمّ ! :قال - ما من عبد أسرّ خيراً فذهبت الأيام أبداً حتى يظهر الله له خيراً، وما من عبد أسرّ شرّاً فذهبت الأيام أبداً حتى يظهر له شرّاً»(2).
والأثر في ذلك يطول.
وقال الله تعالى في ذمّ العجب: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَكُمْ كَثرَتُكُمْ﴾(3).
ذكر ذلك في معرض الإنكار.
وقال تعالى: ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا﴾(4)، وهو أيضاً راجع إلى العجب بالعمل على وجه.
وقال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): ثلاث مهلكات: شحّ مطاع، وهوىً متبع، وإعجاب المرء بنفسه»(5).
وقال الصادق(علیه السّلام): «من دخله العجب هلك»(6).
«من وعنه(علیه السّلام): «للعجب درجات، منها أن يزيّن للعبد سوء عمله، فيراه حسناً فيعجبه، ويحسب أنه يحسن صنعاً»(7).
وعنه(علیه السّلام)قال: «أتى عالم عابداً، فقال له: كيف صلاتك؟ فقال: مثلي يُسأل عن صلاته؟! وأنا أعبد الله منذ كذا وكذا، قال: فكيف بكاؤك؟ قال: أبكي حتى تجري دموعي، فقال له العالم: فإنّ ضحكك وأنت خائف خير من بكائك وأنت مدلّ، إن المدلّ عمله لا يصعد من شيء»(8).
ص: 154
وعن أحدهما قال: «دخل المسجد رجلان: أحدهما عابد والآخر فاسق، فخرجا من المسجد والفاسق صدّيق والعابد فاسق؛ وذلك أنه يدخل المسجد العابد مدلاً بعبادته فيدلّ بها، فتكون فكرته في ذلك، وتكون فكرة الفاسق في الندم على فسقه ويستغفر الله عزّ وجلّ ممّا صنع من الذنوب»(1).
وقال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): «قال الله تعالى لداود یا داود بشر المذنبين وأنذر الصدّيقين. قال: كيف أُبشر المذنبين، وأنذر الصدّيقين؟ قال: يا داود، بشر المذنبين أنّي أقبل التوبة،وأعفو عن الذنب. وأنذر الصدّيقين أن لا يعجبوا بأعمالهم؛ فإنّه ليس عبد يعجب بالحسنات إلّا هلك»(2).
واعلم أنّ الرياء على ضربين : رياء محض، ورياء مختلط.
فالمحض: أن يريد بعمله نفع الدنيا، وهو أعم من أن يتوصل به إلى محرّم أو مباح ،أو الحذر من أن ينظر إليه بعين النقص، ولا يعد من الخاصة.
والمختلط: أن يقصد به ذلك مع التقرب إلى الله تعالى.
وكلاهما مفسد للعمل بل الأوّل ساقط عن درجة البحث والاعتبار. والثاني هو الإشراك بالله تعالى في العبادة التي قد تقدّم أنّه يتركها لشريكه(3). وهذا هو الشرك الخفيّ في هذه الأُمّة الذي أشار إليه النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)بأنه في أُمنه فاش(4).
ثم المقصود هنا ليس هو البحث عن الفعل الذي يقع ابتداء رياء؛ لأنّ ذلك باطل في
ص: 155
نفسه، ولا يعرض لقلوب العارفين، وإنّما الكلام هنا فيما يبتدئ الإنسان به من العبادة خالصاً لله تعالى لا يريد به غيره، ثمّ يعرض له ما ينافي الإخلاص على وجه الشوب اللطيف الذي ينبغي التنبيه عليه في مثل هذا المقام. وهو يأتي على وجوه - بعضها خفي وبعضها جلي -:
أحدها: أن يعقد الصلاة مثلاً على الإخلاص المحض، والطاعة والإقبال على الله تعالى بها، وهو خالٍ من نظر الناس إليه، فيدخل عليه داخل أو ينظر إليه ناظر، فيقول له الشيطان زد صلاتك حسناً حتّى ينظر إليك هذا الحاضر بعين الوقار والصلاح، ولا یزدريك ولا يغتابك.
فتخشع جوارحه، وتسكن أطرافه وتحسن صلاته. وهذا هو الرياء الطارئ الظاهر، الذي لا يخفى على المبتدئين من المريدين ولكنّه في الجملة من شوائب القُربِ ومنافي الإخلاص. وثانيها: أن يكون قد فهم هذه الآفة وأخذ منها حذره، فصار لا يطيع الشيطان فيها، ولا يلتفت إليه، ويستمر في صلاته كما كان فيأتيه في معرض الخير، ويقول: أنت متبوع، ومقتدى بك، ومنظور إليك، وما تفعله يؤثر عنك، ويتأسى بك غيرك، فيكون لك ثواب أعمالهم إن أحسنت وعليك الوزر إن أسأت فأحسن عملك، فعساه أن يقتدى بك في الخشوع وتحسين العبادة، فتكون شريك من اقتدى بك، وهلم جراً للحديث المشهور: «إنّ من سن سنة حسنة فله أجرها، وأجر من يعمل بها إلى يوم القيامة»(1).
وهذه المكيدة أعظم من الأولى وأدق، وقد ينخدع بها من لا ينخدع بالأُولى. وهو أيضاً عين الرياء ومبطل الإخلاص فإنّه إذا كان يرى الخشوع وحسن العبادة خيراً لا يرتضي لغيره تركه، فلِمَ لم يرتض لنفسه ذلك في الخلوة؟ ولا يمكن أن يكون غيره أعزّ عليه من نفسه!
ص: 156
فهذا عين التلبيس، بل المقتدى به هو الذي استقام في نفسه، واستنار قلبه، فانتشر نوره إلى غيره، فيكون له الثواب عليه.
وأمّا فعل الأوّل؛ فمحض النفاق والتلبيس، فيطالب يوم القيامة بتلبيسه، ويعاقب على إظهاره من نفسه ما ليس متصفاً به، وإن أثيب المقتدي به.
وثالثها - وهو أدتُّ ممّا قبلها - : أنْ يتنبه العبد لذلك، وأنه مكيدة من الشيطان ويعلم أنّ مخالفته بين الخلوة والمشاهدة للغير محض الرياء، ويعلم أنّ الإخلاص في أن تكون صلاته في الخلوة مثل صلاته في الملا،ويستحيي من نفسه ومن ربِّه ان يخشع لمشاهدة خلقه، تخشعاً زائداً على عادته، فيقبل على نفسه في الخلوة، ويحسّن صلاته على الوجه الذي يرتضيها في الملا، ويصلّي أيضاً في الملا كذلك للعلة المذكورة، وهذا أيضاً من الرياء الغامض؛ لأنه حسّن صلاته في الخلوة لتحسن في الملا، فلا يكون قد فرق بينهما، فالتفاته في الخلوة والملا إلى الخلق، بل الإخلاص أن تكون مشاهدة البهائم لصلاته ومشاهدة الخلق على وتيرة واحدة.
فكأنّ نفس صاحب هذه الخطرة ليست تسمح بإساءة الصلاة بين الناس، ثمّ يستحيي من نفسه أن يكون في صورة المرائين، ويظنّ بأنّ ذلك يزول بأن تستوي صلاته في الخلاء والملا وهيهات! بل زوال ذلك بأن لا يلتفت إلى الخلق كما لا يلتفت إلى الجمادات والبهائم في الخلاء والملا جميعاً، وهذا شخص مشغول الهم بالخلق في الخلاء والملا جميعاً وهذا وهذا من المكائد الخفيّة.
وإلى هذا المعنى الإشارة في الحديث النبوي: «لا يكمل إيمان العبد حتى يكون الناس عنده بمنزلة الأباعر»(1). فتأمل.
ص: 157
ورابعها - وهو أدق وأخفى - : أن ينظر إليه الناس وهو في صلاته، فيعجز الشيطان عن أن يقول له اخشع لأجلهم، فإنّه قد عرف أنّه لا يصغي لذلك، فيقول له الشيطان: تفكّر فى عظمة الله وجلاله، ومن أنت واقف بين يديه، واستح أن ينظر الله إلى قلبك وأنت غافل عنه، فيحضر بذلك قلبه، وتجتمع جوارحه، ويظنّ أنّ ذلك عين الإخلاص وهو عين المكر والخداع، فإنّ خشوعه لو كان لنظره إلى جلال الله وعظمته لكانت هذه الخطرة تلازمه في الخلوة، ولكان لا يختص حضورها بحالة حضور غيره.
وعلامة الأمن من هذه الآفة أن يكون هذا الخاطر ممّا يألفه في الخلوة كما يألفه في الملا، ولا يكون حضور الغير هو السبب في حضور الخاطر ، كما لا يكون حضور البهيمة سبباً.
فما دام يفرق في أحواله بين مشاهدة الإنسان، ومشاهدة البهيمة، فهو بعد خارج عن صفو الإخلاص، مدنّس الباطن بالشرك الخفي من الرياء.
وهذا الشرك أخفى في قلب ابن آدم من دبيب النملة السوداء، في الليلة الظلماء، على الصخرة الصمّاء. كما ورد به الخبر(1).
ولا يسلم من الشيطان إلّا من دق نظره، وسعد بتوفيق الله تعالى وهدايته، وإلا فالشيطان ملازم للمتشمّرين لعبادة الله تعالى، لا يغفل عنهم لحظة حتى يحملهم على المهالك في كلّ حركة من الحركات، حتى في كحل العين، وقص الشارب، وطيب يوم الجمعة، ولبس الثياب الفاخرة؛ فإنّ هذه سنن في أوقات مخصوصة، لكن للنفس فيها خفي، لارتباط نظر الخلق بها، فيدخل الشيطان فيها عليه من هذه المداخل إن لم يتيقظ. ولهذا قيل: «ركعتان من عالم أفضل من عبادة سنة من جاهل»(2).
ص: 158
وأريد به، العالم البصير بدقائق آفات العبادة، حتّى يخلص عنها، لا مطلق العالم؛ فإنّ مداخل الشيطان على كثير من العلماء أعظم من مداخله على الجهلاء.
وخامسها: أن يكمّل العبادة على الإخلاص المحض، والنية الصالحة، لكن عرض له بعد الفراغ منها حبّ إظهارها ، ليحصل له بعض الأغراض المحققة للرياء؛ خديعة من الشيطان له أنه قد كمَّل العبادة الخالصة، وقد كتبها الله تعالى في ديوان المخلصين، فلا يقدح فيها ما يتجدّد، وإنّما ينضم إلى ما حصله بها من الخير الآجل خير آخر عاجل، فيحدث به ويظهره لذلك.
فهذا أيضاً مفسد للعمل وإن سبق كما يفسده العجب المتأخّر، ويدخل في زمرة الذين قال الله تعالى عنهم: ﴿قُلْ هَلْ تُنَبِّئُكُمْ بالأخْسَرِينَ أعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾(1).
وقد روي أن رجلاً قال للنبي(صلی الله علیه و آله و سلم): صمت الدهر يا رسول الله؟ فقال له: «ما صمت ولا أفطرت»(2).
وروي عن ابن مسعود أنه رجلاً يقول: قرأت البارحة البقرة، قال: ذلك حظه بل لو كنت باقياً على إخلاصك فيه، فقد نقصت منه تسعة وستين جزءاً من سبعين جزءاً، على ما روي عنهم(علیهم السّلام): أنّ فضل عمل السرّ على عمل الجهر سبعون ضعفاً»(3).
وعن الصادق(علیه السّلام): «من عمل حسنة سراً كتبت له سراً، فإذا أقرّ بها مُحيت وكتبت جهراً، فإذا أقرّ بها ثانية مُحيت وكتبت رياء»(4).
فيالها من كلمة ما أشأمها، ورزيّة ما أعظمها؛ حيث نقص بها حظك، وضاع كدحك،
ص: 159
وليتك سلمت من تبعتها؛ فإنّ المرائي لا يسلم - كما قد عرفت - من وعيده.
وهذا كله مع عدم تعلّق غرض صحيح في الآخرة بإذاعته، وأما معه - كما لو أراد بذلك تنشيط السامع وترغيبه في فعل الخير مع وثوقه بنفسه - فلا حرج فيه، إذا لم يمكن تنشيطه بدونه، وإلا كان أولى.
وقد روى محمد بن مسلم عن الباقر(علیه السّلام)قال: «لا بأس أن تحدّث أخاك إذا رجوت أن تنفعه ،وتحته، وإذا سألك هل قمت الليلة أو صمت ؟ فحدّثه بذلك إن كنت فعلته، فقل قد رزق الله ذلك، ولا تقل لا، فإنّ ذلك كذب»(1).
ومن هنا جاء أفضلية الصدقة جهراً ليتأسى به، والإجهار بصلاة الليل زيادة على غيرها لينبه أهله وجيرانه فيتأسوا به، لكن ذلك كله موضع الخطر، فيجب الاحتراز والتيقظ بمراعاة القلب، وكما يكون الإظهار مظنّة الرياء ومخطرته، كذلك الإخفاء؛ فإنّ فيه أيضاً للشيطان مداخل:
منها: أن يأمره بترك العمل، خوفاً من أن يكون مرائياً به، وهذا من جملة خدائعه وفي ترك العمل كذلك تحصيل لغرضه؛ لأنّ غرضه الأقصى ترك العمل.
وإنّما يعدل بك إلى قصد الرياء وغيره عند عجزه عن تثبيطك عن العمل، وتزهيدك فيه، فإذا تركته فقد حصلت غرضه، ومثالك في ذلك مثال من سلّم إليه مولاه حنطة فيها تراب، وقال: خلّصها من التراب ونقها منه تنقية بالغة، فيترك أصل العمل ويقول: أخاف إن اشتغلت به لم يخلص خلاصاً صافياً، فيترك العمل من أصله.
وهذا تمام الغرض لإبليس اللعين، وغاية القصد، فقد حصلت أُمنيته، وأرحتَه من التعب بك في إفساد العمل. وإنّما سبيلك أن تجتهد في تخليص عملك بالأدوية النافعة، و تحصيل مراد مولاك.
ومنها: أن يأمره بترك العمل أيضاً لا لذلك، بل خوفاً على الناس أن يقولوا: إنه
ص: 160
مراء، فيعصون الله به. وهذا أيضاً مع ما قبله رياء خفيّ من مكائد الشيطان؛ لأنّ ترك العمل خوفاً من قولهم إنّه مراء، عين الرياء، ولولا حُبّه لمحمدتهم، وخوفه من ذمّهم، فما له ولقولهم قالوا: إنّه مراء، أو قالوا: إنّه مخلص؟!
وأيّ فرق بين أن يترك العمل خوفاً من أن يقال: إنّه مراء، وبين أن يحسن العمل خوفاً من أن يقال: إنّه غافل مقصر ؟ بل ترك العمل أشدّ من ذلك، وفيه مع ذلك إساءة الظنّ بالمسلمين، وما كان من حقه أن يظن بهم ذلك.
ثمّ كيف تطمع أن تتخلّص من الشيطان بترك العمل وقد أطعته فيه؟ فإنّه لا يخليك أيضاً، بل يقول لك: الآن تقول الناس: إنّك تركت العمل ليقال: إنك مخلص لا تشتهي الشهرة. إلى غير ذلك من اللعب بك.
وإنما خلاصك من ذلك كله أن تلزم قلبك معرفة آفات الرياء وضرره؛ لتلزم كراهته، وتستمر مع ذلك على العمل ولا تبالي، وتلزم قلبك الحياء من الله تعالى؛ إذ دعتك نفسك إلى أن تستبدل بحمد الله تعالى حمد المخلوقين، وهو مطلع على قلبك. ولو اطّلع الخلق على قلبك وأنك تريد حمدهم لمَقتُوك، بل إن قدرت على أن تزيد في العمل حياء من ربك، وعقوبة لنفسك فافعل .
ومنها: أن يقول له: اترك العمل؛ لئلا يظنّ الناس بك خيراً وتشهر به، وأحبّ العباد إلى الله تعالى الأتقياء الأخفياء الذين إذا شهدوا لم يعرفوا، فإذا عرفت بين الناس بالعبادة لم يكن لك حطّ من هذا الوصف.
وهذا أيضاً من مكائده، وما عليك إذا أخلصت العمل لله تعالى أن تعرف به أو تجهل ؟ وإنّما عليك مراعاة قلبك، وإصلاح سرّك، وكيف تخفى على الناس إذا كنت صالحاً؟! وهو تعالى يقول: «عليك إخفاؤه وعليّ إظهاره»(1)، ويقول: «من
ص: 161
أصلح سريرته أصلح الله علانيته»(1).
وإياك أن يغرّك اللعين عند ذلك، ويقول: إذا كنت لا تترك العمل لذلك فأخفِ العمل فإن الله تعالى سيظهره عليك، وأما إذا أظهرته فيمكن أن تقع في الرياء.
وهذا التلبيس عين الرياء؛ لأنّ إخفاءك له كي يظهر عليك بين الناس، هو بعينه العمل لأجل الناس، وما عليك إذا كان مرضيّاً لله تعالى أن يظهر أو يخفى، لولا نظرك إلى رضى الناس؟
إذا تقرر ذلك، فإيّاك أن تحملك دقائق الإخلاص، وصعوبة الخلاص على الكسل والقعود عن الطاعات، نظراً إلى ما تجده في نفسك من السرور بالطاعة، وزيادة الابتهاج باطلاع الناس عليك بفعل العبادة، بل اجتهد في قلع مادة الفساد، ومجاري الشيطان
عنك، واعمل.
وأمّا سرورك بالطاعة، فإنّ منه محموداً، ومنه مذموماً.
فالمحمود، أن يكون من قصدك وداعيتك إخفاء الطاعة والإخلاص لله سبحانه، ولست مستكثراً لعملك، وإنما سرورك في أن وفّقك الله للعمل، وأخرجك من ربقة البطالين والغافلين، ولم تبلغ بالسرور حدّ العجب - الآتي ذكره - وإذا حصل اطلاع الناس عليه فلم يحصل من قِبَلِكَ، وإنما سررت باطلاعهم؛ نظراً إلى أنّ الله سبحانه هو الذي أطلعهم عليه، وأظهر لهم الجميل؛ تكرّماً عليك وتفضّلاً، ونحو ذلك.
والمذموم، أن تفرح به استكثاراً وركوناً إليه وبظهور الناس عليه؛ لقيام منزلتك عندهم، ليمدحوك، ويقوموا بقضاء حوائجك، ويقابلوك بالإكرام، ونحو ذلك، فإنّه رياء محض ومحبط للعمل، وأصله حب الدنيا، ونسيان الآخرة، وقلّة التفكر في ما عند الله. نسأل الله فضله أن لا يعاملنا بعدله بل يسامحنا بعفوه، ويستر زلاتنا بصفحه،إنه جواد كريم.
ص: 162
فهو استعظام العمل، والابتهاج به والإدلال به وأن يرى العامل نفسه خارجة بسببه عن حد التقصير.
وهذا من أعظم المهلكات، بل هو الناقل للعمل من كفّة الحسنات، إلى كفّة السيئات، ومن رفيع الدرجات إلى أسفل الدركات. كما تقدّم في الأخبار(1).
ولذلك قال عيسى(علیه السّلام): «يا معشر الحوارين، كم من سراج قد أطفأته الريح، وكم من عابد أفسده العجب»(2).
وروى سعد بن أبي خلف عن الصادق(علیه السّلام)قال: عليك بالجد ولا تخرجن نفسك من حدّ التقصير في عبادة الله وطاعته، فإنّ الله تعالى لا يعبد حق عبادته»(3).
ومنشأ العجب الغفلة عن عيوب الأعمال وآفات العبادات، وعن نعم الله تعالى على العاملين من الخلق والأقدار والألطاف والتسخير وغير ذلك.
فانظر إلى الأقرب إليك في هذا المقام، وهو الصلاة التي هي عمود الدين، وأوّل ما ينظر فيه من أعمال ابن آدم، فإن ردّت ردّ سائر عمله، وتأمل حدودها التي قد حكيناها مستندة إلى النصوص الصحيحة، فلا تكاد تسلم لك صلاة واحدة كاملة تثق من نفسك بقبول الله إياها، وهلم جراً إلى غيرها من العبادات فلكل واحد وظائف وحدود لا تبلغها أعمالنا، ولا نقوم بها لغفلتنا. وقد قال علي(علیه السّلام): اعلموا عباد الله أنّ المؤمن لا يصبح ولا يمسي إلا ونفسه ظَنُّون(4)عنده، فلا يزال
ص: 163
زارياً(1)عليها، ومستزيداً لها، فكونوا كالسابقين قبلكم والماضين أمامكم، قوّضوا من الدنيا تقويض الراحل، وطووها طي المنازل»(2).
فكيف يعجب الإنسان بعمله، أو يعده قائماً بحقوق العبودية ووظائف الخدمة، لولا استيلاء الغفلة ؟!
نعم لا يقدح نظر المؤمن إلى نفسه وسروره بما يفعله من العبادة مع حمد الله تعالى على توفيقه لها، وطلب الاستزادة من فضله فقد قال أمير المؤمنين(علیه السّلام): «من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن»(3).
وقال(علیه السّلام): «ليس منا من لم يحاسب نفسه في كلّ يوم، فإن عمل خيراً حمد الله واستزاده، وإن عمل شراً استغفر الله تعالى(4).
فهذا ما اقتضى الحال ذكره من المنافيات ملخصاً، ليوافق الغرض، فإنّ ذكره هنا بالعرض والله الموفق.
ص: 164
ففيها بحثان:
بمعنى بيان الدواء النافع لهذه المنافيات
اعلم أنّ الخلل إن كان من قبيل منافي الإقبال بالقلب على الصلاة بسبب الأفكار الخارجة عنها فدواؤه تذكر ما هو فيه، ومن يناجيه، واستشعار الأخطار اللازمة من الغفلة، وعدم قبول العمل مع شدة الحاجة إليه من يومه هذا إلى الأبد؛ فإنّ التوفيق الواقع من الجناب الإلهي للمطيع فائض في الدارين والحاجة إليه حاصلة في الحالين سيّما يوم الجزاء الذي يضيق عن وصفه الحال، ولا يحيط بتقريره العقل ولا الخيال ولا تطيق حمل أهواله الجبال، وليس فيه معين مع رحمة الله تعالى وكرمه إلّا القيام بالأعمال الصالحة، والطاعات المقبولة الرابحة، فإنّها وسيلة إلى الأنوار في تلك الظلمة والنجاة من تلك الشدّة والجواز على عقبة الساهرة(1).
ولا تكتسب الأعمال الصالحة والطاعات المقبولة إلّا في هذه الدار الزائلة، وفي هذه
ص: 165
المدّة القصيرة التي أكثرها قد مضى على الغفلة، ويكاد يلحق باقيها بماضيها إن لم يستيقظ الغافل، ويستدرك ما فرّط وليس في تلك الدار إلا الجنة أو النار، والجنّة قد أُعدّت للمتقين، كما أنّ النار أُعدّت للفاسقين.
وبالجملة، فالخطر عظيم، والأمر ،جسيم، والغفلة شاملة، ونحن مع ذلك لا نشعر وقد قال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): «تمضي على الرجل ستون سنة أو سبعون سنة ما قبل الله منه صلاة واحدة»(1).
وقال الصادق(علیه السّلام)لحمّاد بن عيسى - الذي كان يحفظ في فقه الصلاة كتاب حريز ودعا له الصادق(علیه السّلام)بأن يحج خمسين حجّةً، وأن يكثر الله تعالى ماله وولده، فأجيب ذلك له في جميع - حين صلّى عنده ركعتين: «ما أقبح بالرجل منكم تمضي عليه ستون سنة، أو سبعون سنة لا يحسن أن يقيم صلاة واحدة بحدودها»(2).
وقال(صلی الله علیه و آله و سلم): «كم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنه(3).
وكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش»(4).
إلى غير ذلك من الآثار الدالّة على صعوبة الأمر، ودقة الخطر.
فإحضار هذا وشبهه وما تقدّم في المقدّمة من الأثر ممّا يعين على حضور القلب، مضافاً إلى ما سلف من الدواء المعين على ذلك في المطلب الثالث.
وإن كان المنافي من قبيل المفسدات فالعلاج النافع في ما ينافي الإخلاص هو
ص: 166
التفكر في مضرّة الرياء، وما يفوت بسببه من صلاح القلب، وما يُحرم عنه في الحال من التوفيق، وفي الآخرة من المنزلة عند الله تعالى، وما يتعرّض له من العقاب العظيم، والمقت الشديد، والخزي الظاهر، حيث ينادي ربّه على رؤوس الأشهاد والعباد يا فاجر، یا غادر يا مراء، أما استحييت إذ اشتريت بطاعة الله تعالى عرض الدنيا؟ راقبت قلوب العباد واستهزأت بطاعة الله تعالى، وتحبّبت إلى العباد بالتبغض إلى الله تعالى، وتزينت لهم بالشين عند الله تعالى وتقرّبت إليهم بالبعد من الله، وتحمَّدت إليهم بالتذمّم عند الله تعالى وطلبت رضاهم بالتعرّض لسخط الله تعالى، أما كان أحد أهون عليك من الله تعالى؟
فمهما تفكر العبد في هذا الخزي وقابل ما يحصل له من العباد والتزين لهم في الدنيا بما يفوته من الآخرة، وبما يحبط عليه من ثواب الأعمال، مع أنّ العمل الواحد ربما كان يترجّح به ميزان حسناته لو خلص، فإذا فسد بالرياء حوّل إلى كفّة السيئات فيترجح به بعد أن كان مرجوحاً، ويهوي العبد إلى النار.
فلو لم يكن في الرياء إلّا إحباط عبادة واحدة، لكان ذلك كافياً في معرفة ضرره وإن كان مع ذلك سائر حسناته ،راجحة، فقد كان ينال بهذه الحسنة علوّ الرتبة عند الله تعالى في زمرة النبيين والصديقين، وقد حطّ عنهم بسبب الرياء، وردّ إلى صفّ النعال من مراتب الأولياء، إن لم يستوجب النار والخزي والطرد من الملك الجبّار.
هذا مع ما يتعرّض له في الدنيا من تشتت الهم، بسبب ملاحظة قلوب الخلق، فإنّ رضى الناس غاية لا تدرك، فكلّ ما يرضى به فريق يسخط به فريق، ورضى بعضهم برضی في سخط بعض، ومن طلب رضاهم في سخط الله تعالى سخط الله عليه، وأسخطهم أيضاً عليه، كما ورد في الأخبار(1)، ودلّت عليه التجربة.
ثمّ أي غرض له في مدحهم وإيثار ذمّ الله تعالى لأجل حمدهم، ولا يزيد مدحهم
ص: 167
رزقاً ولا أجلاً، ولا ينفعه يوم فقره وفاقته، وهو يوم القيامة.
وأما الطمع لما في أيديهم فبأن يعلم أنّ الله تعالى هو المسخّر للقلوب بالمنع والإعطاء، وأنّ الخلق مضطرون له فيه، ولا رازق إلا الله تعالى، ومن طمع في الخلق لم يخْلُ من الذل والخيبة والمقت والإهانة، وإن وصل إلى المراد لم يخل عن المنّة والمهانة، ومن اعتمد على الله تعالى وجعل همه معه، كفاه الله تعالى همه في الدنيا والآخرة.
فكيف يترك ما عند الله لرجاء كاذب ووهم فاسد، وقد يصيب وقد يخطئ، وإذا أصاب فلا تفى لذته بألم منته ومذلّته؟
وأمّا ذمّهم فلم يحذر منه، ولا يزيده ذمّهم شيئاً ما لم يوافقهم الله تعالى عليه، ولا يعجل أجله، ولا يؤخّر رزقه، ولا يجعله من أهل النار إن كان من أهل الجنة، ولا يبغضه إلى الله تعالى إن كان محموداً عند الله تعالى، ولا يزيده مقتاً إن كان ممقوتاً عند الله، فالعباد كلّهم عجزة ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا يملكون موتاً ولا حياةً ولا نشوراً(1)، بل العقل والنقل والتجربة قد أذنت بخلاف ذلك كلّه، وأنّ المخلص أعماله لله يحبّبه الله إلى المخلوقين الصالحين والفاسقين، بل إلى كثير من الكافرين، فتراهم يعظمونه ويوقرونه، ويلتمسون بركته مع ضعفه وفقره، وقلّة ذات يده، وقلّة عمله.
والمرائي يظهر الله تعالى الخلق على باطنه، وخبث نفسه، وفساد نيته، فيمقتونه، ولا يفوز بمطلبه، ويضيع تعبه، ويبطل سعيه.
كما روي أنّ رجلاً من بني إسرائيل قال: والله لأعبد الله عبادة أذكر بها، فكان أول داخل للمسجد، وآخر خارج منه لا يراه أحد حسين الصلاة إلا قائماً يصلي،
ص: 168
وصائماً لا يفطر، ويجلس إلى حلق الذكر، فمكث بذلك مدة طويلة. وكان لا يمرّ بقوم إلا قالوا: فعل الله بهذا المرائي وصنع؛ فأقبل على نفسه وقال: أراني في غير شيء، لأجعلن عملي كلّه الله، فلم يزد على عمله الذي كان يعمل قبل ذلك، إلا أنه تغيّرت نيته إلى الخير. فكان ذلك الرجل يمر بعد ذلك بالناس فيقولون: رحم الله فلاناً؛ الآن؛ أقبل على الخير(1).
وقد نبه الله تعالى على ذلك في كتابه، فقال: إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدّاً(2).
ثم هب أنّهم أحبوك وأكرموك، وخفي خبثك عليهم، مع أنّ الله تعالى مطلع على فساد نيتك، وخبث سريرتك، فأيّ خير لك في مدح الناس، وأنت عند الله مذموم ومن أهل النار؟
وأي شرّ لك في ذمّ الناس وأنت عند الله ممدوح من أهل الجنة، وفي زمرة المقربين؟
ومن أحضر في قلبه الآخرة ونعيمها المؤبد والمنازل الرفيعة عند الله تعالى، استحقر ما يتعلّق بالخلق أيّام الحياة، مع ما فيه من الكدورات والمنغصات، واجتمع همه وانصرف إلى الله تعالى قلبه، وتخلّص من مذمّة(3)الرياء، ومقاساة قلوب الخلق، وانعطف من إخلاصه أنوار على قلبه ينشرح بها صدره ويستأنس بها من وحشته. فإن لم يكتف بذلك كله فليتأمّل ثلاثة أشياء:
أحدها أنّه لو قيل لك: إنّ هناك رجلاً معه جوهر نفيس يساوي مائة ألف دينار، وهو محتاج إلى ثمنه، بل إلى بيعه عاجلاً، وإلى أضعاف ثمنه، فحضر من يشتري منه
ص: 169
متاعه بأضعاف ثمنه - مع حاجته إلى الأضعاف أيضاً - فأبى أن يبيعه بذلك، وباعه بفلس ،واحد أليس ذلك يكون خسراناً عظيماً وغبناً فظيعاً، ودليلاً بيناً على خشة الهمة، وقصور الفهم والعلم، وضعف الرأي ورقة العقل، بل على السفه المحض؟!
وهذا بعينه أبلغ من حال المرائي في عمله، بل في عبادة واحدة؛ فإنّ ما يناله العبد بعمله من الخلق من مدحه وحطام الدنيا بالإضافة إلى رضى ربّ العالمين وشكره، وثواب الآخرة، ونعيم الجنّة الدائمة، المُخلَص من شوب الكدورات، أقل من فلس في جنب ألف ألف دينار، بل في جنب الدنيا وما فيها وأكثر.
وهذا هو الخسران المبين أن تفوّت نفسك تلك الكرامات العزيزة الشريفة، بهذه الأمور الدنية الحقيرة.
ثم وإن كان لابد لك من هذه الهمّة الخسيسة فاقصد أنت الآخرة تتبعك الدنيا، بل اطلب الربّ وحده يعطيك الدارين، إذ هو مالكهما جميعاً، وذلك قوله تعالى: ﴿مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيا والآخِرَةِ﴾(1).
وقال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): «إنّ الله يعطي الدنيا بعمل الآخرة، ولا يعطي الآخرة بعمل الدنيا»(2).
فإذا أنت أخلصت النية، وجرّدت الهمّة للآخرة، حصلت لك الدنيا والآخرة جميعاً، وإن أردت الدنيا ذهب عنك الآخرة في الوقت، وربما لا تنال الدنيا كما تريد، وإن نلتها فلا تبقى لك، بل تزول عنك قريباً، فقد خسرت الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران
المبين.
ونظير هذا الشخص بالنسبة إلى هذا المثل من يصرف جزءاً من عمره، ونفساً من أنفاسه الذي يمكنه به تحصيل كنز من كنوز الجنان فيما يحصل به دانق، أو حبّة أو
ص: 170
درهم أو دينار من متاع الدنيا، ويترك ذلك الكنز الدائم لغير ضرورة، ما هذا إلا عين الغفلة والخسران وخسّة الهمّة والخذلان.
وثانيها: أنّ المخلوق الذي تعمل لأجله، وتطلب رضاه لو علم أنك تعمل لأجله لأبغضك، وسخط عليك، واستهان بك، واستخف بك، مضافاً إلى مقت الله تعالى وإهانته وخذلانه، وما تعمله لله تعالى خالصاً يوجب رضى الفريقين، فكيف يعمل العاقل لأجل
من لو علم بأنّه يطلب رضاه لسخط عليه وأهانه؟! فانظر إن كنت أنت تعقله.
وثالثها: أن من حصل له سعي يكتسب به رضى أعظم ملك في الدنيا فطلب به رضى كنّاس خسيس بين الناس، وسخط لذلك الملك، بل مع عدم سخطه، أليس ذلك دليلاً على السفه ورداءة الرأي، وسوء النظر، ويقال له: ما حاجتك إلى رضى هذا الكناس مع تمكنك من رضى هذا الملك؟!
كذلك أي حاجة إلى رضی عبد مخلوق ضعیف حقیر مهين، مع التمكن من تحصيل رضى رب العالمين الكافي عن الكل؟!
نسأل الله حسن التوفيق. وهذا هو الدواء العلمي.
وأمّا الدواء العَمَلي، فهو أن يعود نفسه إخفاء العبادات، وإغلاق الأبواب دونها؛ كما تغلق الأبواب دون الفواحش، حتى يقنع قلبه بعلم الله تعالى، واطلاعه على عبادته، ولا تنازعه نفسه إلى طلب علم غير الله تعالى، وهو أمر يشقّ في ابتداء المجاهدة، لكن إذا صبر عليه مدة بالتكلّف سقط عنه ثقله، وهان عليه ذلك بتواصل ألطاف الله تعالى وما يمد به عباده من حسن التوفيق ف_ : ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بأنْفُسِهِمْ﴾(1)، فمن العبد المجاهدة، ومن الله الهداية. قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا﴾(2).
ص: 171
وإن كان المنافي من قبيل المتأخر عن العبادة، وهو الرياء المتأخر والعجب، فقد عرفت دواء الأوّل(1).
أمّا العُجب؛ فلينظر في الأسباب والآلات التي قوي بها على العبادة التي أورثته العجب من القدرة، والعلم، والأعضاء، والرزق الذي أكله حتى قوي به، فإنّه يجده كله من الله تعالى ولولاه لم يقدر على شيء منها.
ثمّ ينظر إلى نعمته عليه في إرسال الرسل إليه، وخلق العقل له حتى اهتدى به إلى طريق الحق.
ثمّ ينظر في قيمة العمل الذي عمله، فلا يجده مقابلاً لنعمة من هذه النعم، وإنّما صار العمله قيمة؛ لما وقع من الله تعالى موقع الرضى والقبول، وإلا فترى الأجير يعمل طول النهار بدرهمين والحارس يسهر طول الليل بدانقين، وكذلك أصحاب الصناعات والحرف كلّ واحد منهم يعمل في الليل والنهار، فيكون قيمة كلّ ذلك دراهم معدودة، فإن صرفت الفعل إلى الله تعالى وصمت لله تعالى يوماً، قال: ﴿إِنَّما يُوَفَّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾(2). وفي الخبر: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»(3).
فهذا يومك الذي قيمته در همان مع احتمال التعب العظيم صارت له هذه القيمة بتأخير غداء إلى عشاء، ولو قمت ليلة لله تعالى، فقد قال الله تعالى: ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(4).
فهذا الذي قيمته درهم صارت له كلّ هذه القيمة ،والقدر، بل لو جعلت لله ساعة
ص: 172
تصلّي فيها ركعتين خفيفتين، بل نفساً فقلت فيه: «لا إله إلا الله» قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولئكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ﴾(1).
فحق إذن للعاقل أن يرى حقارة عمله، وقلّة مقداره من حيث هو وأن لا يرى إلا منة الله تعالى عليه فيما شرف به من قدر عمله، وأعظم من جزائه، وأن يحذر في فعله أن يقع على وجه لا يصلح لله تعالى، ولا يقع منه موقع الرضى، فيذهب عنه م_وقع القيمة التي حصلت له، ويعود إلى ما كان في الأصل من الثمن الحقير.
فقس قدر عملك في نفسه إلى ما عليك من نعمه، فهل تجده وافياً بعشر عشيره؟ وهل توفيقك للقيام بوظائف العبودية، وتأهيلك للخدمة الإلهيّة إلّا نعمة، بل أعظم نعمة يلزمك شكرها؛ كما أُشير إليه في خبر داود(علیه السّلام)حين أوحى الله إليه: «أن اشكرني حق شكري، فقال: يا ربّ، كيف أشكرك حق شكرك، والشكر من نعمتك تستحق عليه شكراً؟ فقال: يا داود إذا عرفت أنّ ذلك منّي فقد شكرتنى»(2).
وروي أنّ بعض الوعاظ قال لبعض الخلفاء:
أتراك لو مُنعت شربةً من الماء عند عطشك؛ بم كنت تشتريها؟
قال: بنصف ملكي.
قال: أتراها لو حبست عنك عند خروجها، بم كنت تشتريها؟
قال: بالنصف الآخر.
قال: فلا يغرنّك ملك قيمته شربة ماء(3).
ص: 173
ففكّر أنت كم تتناول في كل يوم شربة ماء هنيئة، وأكلة هنيئة، وتسيغها هنيئاً في عافية وكم تنظر بعينك هنيئاً، وتسمع طيّباً، وتشم زكيّاً، وتمشي إلى ما تحبّ، وتبطش بيدك فيما تحبُّ، إلى غير ذلك من حواسك، وأعضائك، وقواك الباطنة، التي لا يطلع على دقائقها وتصريفها إلا الله تعالى من مجاري طعامك وتصاريف هضمك، وتفريق فضلاتك، وتغذيك تجده ممّا لو صرفت زمانك فى الفكر فيه خاصة، لقضيت منه العجب، ولو فقدت شيئاً يسيراً منه وطلب منك طبيب على أن يردّه إليك، ويصلحه لك [قبال] خدمتك له سنة أو أكثر، لسررت بذلك وعددته منعماً عليك، وكم تقابل هذه النعم المتعدّدة بسنين من الخدمة.
والحال أنك لا تخدم مولاك المنعم إلّا أوقاتاً قليلة بعبادة، ولو تأملتها وعرفت عيوبها وآفاتها لم تثق بشيء منها، ولاستحييت من فعلها.
وقد قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها﴾(1).
فالنعم عليك لا تحصى، وعملك - على تقدير سلامته وقبوله - قليل يحصى فكيف يُقابل ما لا يحصى ؟!
ثمّ إذا قابلته بقيت خالياً من عمل يوجب لك المكافأة، فقصاراك الاعتراف بالتقصير، وشرفك المراقبة لله تعالى، وتذكّر المنّة والاعتراف بالنعمة والإزراء(2)بنفسك، والمقت لها؛ لعلك تفوز برحمة الله تعالى. فقد قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «من مقت نفسه دون مقت الناس، أمّنه الله من فزع يوم من فزع يوم القيامة»(3).
وروي: أنّ عابداً عبد الله تعالى سبعين عاماً صائماً نهاره، قائماً ليله، فطلب إلى الله تعالى حاجة فلم تقض فأقبل على نفسه وقال: من قبلك أُتيتُ، لو كان عندك خير
ص: 174
قضيت حاجتك فانزل الله إليه ملكاً فقال: يا بن آدم، ساعتك التي أزريت فيها على نفسك خير من عبادتك التي مضت(1).
ثم تأمل بعد ذلك ثلاثة أمور:
أحدها لو أنّ ملكاً من ملوك الدنيا إذا أجرى على أحد من أتباعه طعاماً وكسوةً، أو دراهم أو دنانير فانية؛ فإنّه يستخدمه لأجلها بضروب الخدم آناء الليل والنهار، مع ما في ذلك ذلك من الذل والصغار. وبعضهم يقوم لذلك على رأسه، ويسهر الليل بأجمعه لأجله. وبعضهم يقف في خدمته يوماً بعد يوم حتى ينقضي عمره. وبعضهم يسعى في حوائجه ومهماته. وبعضهم يركب الأهوال ولجج البحار لأجله، وربما يبدو له عدوّ فيبذل روحه التي لا خلف عنها لأجله، ولا ينفعه في الآخرة بعد ذلك.
فتراهم يحتملون كلّ هذه الخدمة لأجل تلك المنفعة الخسيسة الفانية، ومع ذلك يعترفون للملك بالنعمة، ويقرّون له بالفضل عليهم والمنّة، مع أنّ تلك المنفعة في الحقيقة من الله تعالى. ولو أراد ملكهم أن ينبت لهم حبّة واحدة ، أو يخلق لهم خيطاً واحداً لم يقدر على ذلك، وهم يعترفون بذلك كلّه.
فكيف تستكثر عملك الحقير المشوب بالآفات والنقائص لربّك الذي خلقك ولم تك شيئاً مذكوراً، ثمّ ربّاك وأنعم عليك من النعم الظاهرة والباطنة، في نفسك، ودينك، ودنياك، ما لا يبلغ كنهه فهمك ولا وهمك كما قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تخصُوها﴾(2)، وقد وعدت على هذا العمل القليل مع ما فيه من المعايب والآفات بالثواب العظيم الدائم، وضروب الكرامات؟ فما استعظام ذلك من شأن العاقل.
وثانيها: أن تتفكّر في أن الملك الذي من شأنه أن يخدمه الملوك والأمراء إذا أذن في إدخال الهدايا إليه، ووعد عليها بالعطاء العظيم، وأمر أن لا يستحيي أحد بهديته ولو
ص: 175
كان باقة بقل، فدخلت عليه الكبراء والأمراء والرؤساء والأغنياء بأنواع الهدايا من الجواهر الثمينة والهدايا النفيسة، ثمّ جاء إليه بقال بباقة بقل، وقروي بسلة بسلة عنب تساوي درهماً أو حبّة، فدخل بها إلى حضرته وزاحم أولئك الأكابر بهداياهم الجليلة، فقبل الملك من الوضيع هديته، ونظر إليها نظر القبول، وأمر له بأنفس خلعة وكرامة، تبلغ مائة ألف دينار، ألا يكون ذلك منه غاية الفضل والكرم؟
ثمّ لو فرض أن هذا الفقير نظر بخاطره إلى هديته، واستعظم أمرها، وتعجب بها، ونسي ذكر منّة الملك، ألا يقال هذا مجنون مضطرب العقل، أو سفيه سيئ الأدب عظيم الجهل؟ وثالثها: أنّ الملك الذي من شأنه أن يخدمه الملوك والأمراء، ويقوم على رأسه السادات والعظماء، ويتولى خدمته الحكماء، ويمشي بين يديه الأكبار والرؤساء، إذا أذن لسوقي أو قروي في الدخول عليه، والقرب منه حتى زاحم أولئك السادات والأفاضل في خدمته وجعل له مقاماً في حضرته، أليس يقال: لقد كثرت على هذا الحقير المنّة من الملك، وعظمت عليه النعمة ؟
فإن أخذ هذا الحقير يمن على الملك بتلك الخدمة الحقيرة، ويستعظم ذلك من هذه النعمة الواصلة إليه، ويعجب بعمله، أليس ينسب إلى محض السفه والجنون؟
فكيف، وإلهنا الذي له ملك السماوات والأرض، وقد دان له العالمون، ووقف بخدمته الملائكة المقربون، والأنبياء والمرسلون الذين لا يحصي عددهم إلا ربّ العالمين، ومنهم النافذة في تخوم الأرض أقدامهم، والواصلة إلى العرش رؤوسهم، وهم مع ذلك مطرقون لا يرفعون رؤوسهم تعظيماً لله تعالى، ولا يفترون عن ذكر الله تعالى أبداً إلى آخر مدتهم، فإذا أراد الله أن يميتهم رفعوا رؤوسهم وقالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك.
ولا يخفى حال نبينا(صلی الله علیه و آله و سلم)في جده واجتهاده في عبادة ربه(1)، ومن بعده من الأئمة،
ص: 176
الذين يخرج ذكر يسير من عباداتهم عن حدّ الاختصار إلى نهاية الإكثار، وهم مع ذلك معترفون بالتقصير، باكون على أنفسهم ومزرون(1)عليها.
ثمّ إنّك ترضى من نفسك بصلاة ركعتين محشوّة من المعايب، وقد وعدت من الثواب عليها بما لا يخطر على قلب بشر، وتعجب بذلك وتستكثره، ولا ترى منة الله عليك في ذلك ؟!
فما أجهلك من إنسان، وما أسوأك من رجل، وما أسفهك من بشر!
وأما نحن فلو عقلنا وتيقظنا(2)لأعمالنا، لوجدناها إلى كفّة السيئات أميل منها إلى كفّة الحسنات لشدّة الغفلة وكثرة المعائب وفساد القلوب وتشويش المقاصد.
اللهم لا تكلنا إلى أعمالنا، ولا تؤاخذنا بتفريطنا وإهمالنا، واشملنا بفضلك وأنسك، وخذ بنواصي قلوبنا إلى جوار قُدسك، فقديماً سترت، وعظيماً غفرت، وجزيلاً أعطيت، وجسيماً أبليت، وأنت أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، فما قدمت عليك أيدينا إلا صفراً من الحسنات، مملوءة بالمعاصي والسيئات، وجُودُك أوسع وأكمل من أن يضيق عمّن التجأ إليك، واعتمد بفضلك ورحمتك عليك، وأنت دللتنا على جودك، وهديتنا إلى فضلك، وأمرتنا بالدعاء، وضمنت الإجابة، وأنت الجواد الكريم.
ص: 177
[صلاة الجمعة]
تختص الجمعة باستحضار أن يومها يوم عظيم، وعيد شريف، خص الله به هذه الأُمّة، وجعله وقتاً شريفاً لعبادته؛ ليقربهم فيه من جواره، ويبعدهم من طرده وناره، وحتهم فيه على الإقبال بصالح الأعمال، وتلافي ما فرط منهم في بقية الأسبوع بوع من من الإهمال وجعل أهم ما يقع فيه من طاعته، وما يوجب الزلفى والقرب إلى شريف حضرته، صلاة الجمعة، وعبّر عنها في محكم كتابه الكريم ب_«ذكر الله» الجسيم، وخصها من بين سائر الصلوات التي هي أفضل القربات بالذكر الخاص فقال سبحانه: ﴿يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا نُودِيَ لِلصَّلوة مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وذَرُوا الْبَيْعَ ذالِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُم تَعْلَمُونَ﴾(1).
وفي هذه الآية الشريفة من التنبيهات والتأكيدات ما يتنبه له من له حظ من المعاني لا يليق بسطه بهذه الرسالة.
ومن أهمّ رمزها هنا التعبير عن الصلاة ب_«ذكر الله» ونبه بذلك على أن الغرض الأقصى من الصلاة ليس هو مجرّد الحركات والسكنات، والركوع والسجود، بل ذكر الله تعالى بالقلب، وإحضار عظمته بالبال فإنّ هذا وأشباهه هو السر في كون الصلاة
ص: 178
ناهية عن الفحشاء والمنكر، كما أخبر تعالى عنه في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلوةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾(1)؛ إذ كان سببهما القوّة الشهويّة إذا خرجت عن حكم العقل.
وهذا كلّه إنّما يتمّ مع التوجه التام إلى الله تعالى وملاحظة جلاله الذي هو الذكر الأكبر والكثير على ما ورد في بعض تفسيراته(2) فضلاً عن أن يكون ذكراً مطلقاً.
وإذا كان الاستعداد بهذه المثابة، لا جرم وجب الاهتمام بها زيادة على غيرها من الصلوات، والتهيؤ والاستعداد للقاء الله تعالى، والوقوف بين يديه في الوقت الشريف، والنوع الشريف من العبادة.
وأحضر ببالك أن لو أمرك ملك عظيم من ملوك الدنيا بالمثول في حضرته، والفوز بمخاطبته في وقت معين، أما كنت تتأهب له بتمام الاستعداد والتهيئة والسكينة والوقار، والتنظيف والتطيب وغير ذلك ممّا يليق بحال الملك؟
ومن هنا جاء استحباب الغسل يوم الجمعة والتنظيف والتطيب والتعمم، وحلق الرأس، وقص الشارب والأظفار(3)، وغير ذلك من السنن.
فبادر عند دخول الجمعة إلى ذلك بقلب مقبل صافٍ، وعمل مخلص، وقصد متقرّب، ونية خالصة، كما تعمل ذلك في لقاء ملك الدنيا إن لم تعظم همّتك عن ذلك، ولا تقصد بهذه الوظائف حظك من الرفاهية، ومطلب(4)نفسك من الطيب والزينة فتخسر صفقتك، وتظهر بعد ذلك حسرتك.
وكلّما أمكنك تكثير المطالب التي يترتب عليها الثواب لعملك فاقصدها، يضاعف ثواب عملك بسبب قصدها، فانو بالغسل يوم قصدها، فانو بالغسل يوم الجمعة سنّة الجمعة والتوبة ودخول
ص: 179
المسجد، وبالثياب الحسنة، والطيب سنّة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، وتعظيم المسجد، واحترام بيت الله تعالى، فلا يحبّ أن تدخله ،زائراً له إلا طيب الرائحة؛ وأن تقصد به أيضاً ترويح جيرانه ليستريحوا في المسجد عند مجاورته؛ ويقصد به دفع الروائح الكريهة عن نفسه، حسماً لباب الغيبة عن المغتابين إذا اغتابوه بالروائح الكريهة، فيعصون الله تعالى بسببه، فقد قيل(1): إن من تعرّض للغيبة وهو قادر على الاحتراز منها فهو شريك في تلك المعصية، كما أشار إليه تعالى بقوله: ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾(2).
وإذا حضرت الصلاة فأحضر قلبك فهم مواقع الموعظة، واستعد لتلقي الأوامر والنواهي على وجهها، فإنّ ذلك هو الغرض الأقصى من الخطبة، والخطيب والمنبر واستماع الناس وتحريم الكلام خلالها، ووجوب الإصغاء إليها.
فأعط كل ذي حق من ذلك حقه، عسى أن تكون من المكتوبين في ديوان الملائكة المقربين، الذين يكتبون المصلين في ذلك اليوم الشريف، ويعرضونهم على الحضرة الإلهية، ويخلعون عليهم خلع الأنوار القدسية.
فقد روي: أنّ الملائكة المقربين تقف على أبواب المساجد وبأيديهم قراطيس الفضّة وأقلام الذهب يكتبون الأوّل فالأول(3).
وأن الجنان لتزخرف وتزيّن، وأن الناس يتسابقون إليها على قدر سبقهم إلى الصلاة(4).
ولا تزال الملائكة يكتبون الداخل إلى أن يخرج الإمام فإذا خرج، طويت الصحف،
ص: 180
ورفعت الأقلام واجتمعت الملائكة عند المنبر يستمعون الذكر؛ وأنّ الناس في المنازل والحظوة على قدر بكورهم إلى الجمعة(1).
فإذا أحضرت هذا ببالك وأنّ الملائكة يستمعون وهم حولك، والله سبحانه وتعالى ناظر إليك، لزمك ارتداء الهيبة، وادّراع السكينة، وتجلبب الخشية، وعند ذلك تستحق أن تفاض عليك الرحمة، وتحفّك البركة، وتصير صلاتك مقبولة، ودعوتك مسموعة. وأكثر في ذلك اليوم من الذكر والاستغفار والدعاء، وتلاوة القرآن، والصلاة على النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)والصدقة، فإنّ اليوم شريف، والفضل فائض والجود تام، والرحمة واسعة، فإذا كان المحلّ قابلاً تمّت السعادة، وحصلت الإرادة وزيادة.
وتذكّر أنّ في يوم الجمعة ساعة لا يردّ الله فيها دعوة مؤمن(2).
فاجتهد أن تصادفها داعياً أو مستغفراً أو ذاكراً، فإنّ الله يعطي الذاكر فوق ما يعطي السائل.
وإن أمكنك الإقامة في المسجد مجموع ذلك اليوم فافعل، فإن لم يمكن فإلى العصر. وكن حسن المراقبة مجمتع الهمّة، عسى أن تظفر بتلك الساعة فقد قيل: إنّها مبهمة ذلك اليوم نظراً من الله تعالى لخلقه(3)؛ ليحافظوا عليها، كما أخفى ليلة القدر السنة؛ ليحافظوا عليها. وروي أنها ما بين فراغ الإمام من الخطبة إلى أن تستوي الصفوف بالناس وساعة أُخرى من آخر النهار إلى غروب الشمس(4).
واجعل هذا اليوم خاصة من الأسبوع لآخرتك فعسى أن يكون كفارة واستدراكاً البقية الاسبوع.
ص: 181
ويكفيك في الاهتمام بالجمعة ووظائفها أنّ الله سبحانه جعلها أفضل أعمال بني آدم بعد الإيمان على ما نطقت به الأخبار، وصرح به العلماء الأخيار؛ حيث دلا على أنّ الواجب أفضل من الندب، وأنّ الصلاة أفضل من غيرها من الواجبات وأنّ اليوميّة أفضل من غيرها من الصلوات وأن الصلاة الوسطى من بينها أفضل الخمس والمختار أنّها الظهر، والجمعة أولى من الظهر، فتكون أفضل منها ، لو أمكن تصوّر فضلها، وحينئذٍ فتكون أفضل الأعمال.
وهذا بيان واضح يوجب تمام الاهتمام بشأنها، وأبلغ الحظر؟ في التهاون بها لمن تدبّر، وقد نبه على جميع ذلك قوله تعالى بعد الأمر بها: ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾(1).
وقد وردت الأوامر بقراءة سورتها وسورة المنافقين فيها(2)؛ ليتكرر سماع الحثّ عليها فيهما، وقد قال في سورة المنافقين - بعد أن سمّاها في سورتها ذكراً - : ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلك فأولئك هُمُ الْخاسِرُونَ﴾(3).
فكرّر هذه الدقائق على فكرك عسى أن تكون من المفلحين.
وأما [صلاة] العيد؛ فأحضر في قلبك أنّها في يوم قسمة الجوائز(4)، وتفرقة الرحمة، وإفاضة المواهب على من قُبِلَ صومه، وقام بوظائفه.
ص: 182
فأكثر من الخشوع في صلاتك، والابتهال إلى الله تعالى فيها وقبلها وبعدها في قبول أعمالك، والعفو عن تقصيرك.
واستشعر الحياء، والخوف والخجلة من حيرة الردّ، وخذلان الطرد، فليس ذلك اليوم بِعِيدِ مَن لَبِسَ الجديد، وإنّما هو عيد من أمِنَ من الوعيد، وسَلمَ من النقاش والتهديد، و استحق بصالح أعماله المزيد.
واستقبله بما استقبلت به يوم الجمعة من الوظائف، والتنظيف، والتطيب، وغيره من أسباب التهيّؤ والإقبال بالقلب على ربّك، والوقوف بين يديه عسى أن تصلح للمناجاة والحظوة لديه، فإنّه مع ذلك يوم شريف وزمان منيف تُقبل فيه الأعمال وتستجاب فيه الدعوات، فلا تجعل فرحك فيه بما لم تخلق لأجله، ولم يجعل عيداً بسببه من المأكل والمشرب، واللباس، وغير ذلك من متاع الدنيا البائرة، فإنّما هو عيد لكثرة عوائد الله تعالى فيه على من عامله بمتاجر الآخرة.
وأما [صلاة] الآيات؛ فاستحضر عندها أهوال الآخرة، وزلازلها وتكوير الشمس والقمر، وظلمة القيامة، ووجل الخلائق، والتجاءهم واجتماعهم في تلك العرصة وخوفهم من الأخذ والنكال والعقوبة والاستئصال.
فأكثر من الدعاء والابتهال بمزيد الخشوع والخضوع، والخوف والوجل في النجاة من تلك الشدائد وردّ النور بعد الظلمة، والمسامحة على الهفوة والزلّة، وتب إلى الله تعالى من جميع ذنوبك، وأحسن التوبة عسى أن ينظر إليك وأنت منكسر النفس، مطرق الرأس، مستحي من التقصير، فيقبل توبتك، ويسامح هفتوك؛ فإنّه يقبل القلوب المنكسرة، ويحبّ النفوس الخاشعة، والأعناق الخاضعة، والتململ من ثقل الأوزار والحذر من منقلب الأضرار.
ص: 183
وأمّا صلاة الطواف؛ فاستحضر عندها جلالة البيت لجلالة ربّ البيت، واعلم أنك بمنزلة الواقف في حضرة الملك المطلق، والحاكم المحقق، فإنه وإن كان في جميع أحوالك مطلع على سريرتك، محيط بباطنك وظاهرك، لكن الحال في ذلك الموضع أقوى، والمراقبة فيه أتم وأولى، والغفلة ثم أصعب وأدهى، وأين المقصر في تعظيم الملك بين يديه ولدى كرسيه وبين النائي عنه، والبعيد منه؟
وإن كان علمه شاملاً للجميع، ومحيطاً بالكلّ، فلتزد بذلك في خشوعك وإقبالك، من إعراضك وإهمالك، ومن ثم كان الذنب في تلك البقاع الشريفة ولتحذر بسبب ذلك مضاعفاً، والحسنة أيضاً فيها مضاعفة.
وتفكر في من سبق من الأنبياء والمقربين والأولياء والصالحين، فترى آثارهم وقربهم، وما أورثهم عملهم، وحبّهم من السعادة المخلدة، والنعمة المؤبدة المجدّدة على مر الدهور، والمطّردة على كل العصور.
وتأس بهم في الأعمال وكمال الإقبال وليكن ذلك ونظائره مقدّمة للصلاة، لا مقارناً، فإنّ وظيفة الصلاة الإقبال بها خاصة. وترقّ من هذه المدارج إلى غيرها من شريف المعارج.
وأما الجنازة؛ فأحضر عند مشاهدتها ووضعها بين يديك ما قد خلَّفَتْه من الأهل والأولاد، وتركته من الأموال، وقدمت على الله تعالى صفر اليد من الجميع، لم يصحبها إلا الأعمال الصالحة، وما تاجرته من أعمال الآخرة الرابحة.
وتأمّل بهجته كيف قد ذهبت؟! وجلدته كيف قد تحوّلت؟! وعن قريب يمحو
ص: 184
التراب صورته، وتزيل الأرض بهجته؛ وما قد حصل له من يُتم أولاده، وترقُل نسائه وتضييع أمواله، وخلوّ مسجده ومجلسه، وانقطاع آثاره بعد طول أمله وكثرة حيله وانخداعه بمواتاة الأسباب، وغفلته عن الدخول في هذا التراب، والقدوم على ما سطر عليه في الكتاب، وركونه إلى القوّة والشباب، واشتغاله عمّا بين يديه من الموت الذريع والهلاك السريع. وكيف كان يتردّد ويشيّع غيره من الأموات، والآن قد تهدمت رجلاه ومفاصله؟! وكيف كان ينطق، وقد فسد لسانه؟ وكيف كان يضحك، وقد تغيّرت أسنانه؟ وكيف كان يدبّر لنفسه ما لا يحتاج إليه إلى عشر سنين، في وقت لم يكن بينه وبين الموت إلا شهر أو أقل، وهو غافل عما يراد به حتى جاءه الموت فجأة في وقت لم يحتسبه، فقرع سمعه نداء الجبّار، إمّا بالجنّة أو النار ؟!
ولينظر في نفسه أنّه الآن مثله في غفلته، وستكون عاقبته كعاقبته، فلينهض حينئذٍ إلى الاستعداد، وليشتغل بإكثار الزاد، فإنّ المسافة بعيدة، والعقبة كؤود، والخطر شديد، والندامة بعد الموت غير نافعة.
فهذا الفكر وأمثاله يحصل قصر الأمل، والاستعداد بصالح العمل، ومحلّه خارج عن الصلاة كما مرّ.
وأمّا صلاة النذر والعهد ونحوهما؛ فليستشعر قبولها والرغبة في القيام بها، والاهتمام بشأنها وفاءً بعهد الله تعالى وامتثالاً لأمره، ولا يتبرم بها توهماً أنّها ليست واجبة بالأصالة، فقد لحقت بمثلها في العظمة والجلالة، وليمثل في نفسه أنه لو عاهد ملكاً من ملوك الدنيا على عمل من الأعمال، بحيث يكون فعله له بمرأى منه ومسمع، كيف يكون إقباله على عمله واجتهاده في إصلاحه واتقانه، وامتلاء قلبه منه، ومراقبته لنظر الملك بمجرد الوعد، فضلاً عن توكيده بالعهد؟! فلا تجعل نظر الله تعالى دون نظر
ص: 185
عبيده، فإنّ ذلك عنوان النفاق، وأنموذج الشرك.
وهكذا يلاحظ وظيفة كلّ صلاة بحسبها ، ويقوم بمرتبتها وآدابها، ولا يقتصر على ما بيناه من الوظائف، بل يترقى بنظره إلى ما يفتح الله تعالى عليه من المعارف، فإنّ أبواب الفيض مفتوحة، وأنوار الجود هابطة ،مبذولة واصلة إلى النفوس الإنسانية على قدر استعدادها.
وفقنا الله وإياكم لتلقي الأسرار، وأدرجنا في عداد عباده الأبرار، وأخذ بنواصينا إلى رضاه ورحمته، وعاملنا بعفوه وكرمه ومغفرته، واستعملنا بما علمناه، وأشركنا في ثواب من أفدناه، فإنّ ذلك منه وبه ،وله، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وها هنا نقطع الكلام في هذه الرسالة حامدين الله تعالى على كلّ حالة! وفرغ منها مؤلّفها العبد المفتقر إلى عفو الله تعالى وكرمه ورحمته، زين الدين بن علي بن أحمد الشامي العاملي (عامله الله تعالى بفضله)، يوم السبت تاسع شهر ذي الحجّة الحرام، وهو اليوم المبارك يوم عرفة، سنة إحدى وخمسين وتسعمائة، حامداً مصلّياً مسلّماً مستغفراً من ذنوبه.
ص: 186
(4)
تحقیق
عبّاس المحمدي
ص: 187
ص: 188
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف أنبيائه محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
أما بعد، فإنّ سبب تأليفه، كما قال الشهيد نفسه (رحمه الله) في خطبته على الكتاب:
فلمّا كان الموت هو الحادث العظيم، والأمر الذي هو على تفريق الأحبّة مقيم، وكان فراق المحبوب يعد من أعظم المصائب، حتّى يكاد يزيغ له قلب ذي العقل والموسوم بالحدس الصائب، خصوصاً ومن أعظم الأحباب الولد الذي هو مهجة الألباب؛ ولهذا رتب على فراقه جزيل الثواب، ووُعِدَ أبواه شفاعته فيهما يوم المآب؛ فلذلك جمعتُ في هذه الرسالة جملةً من الآثار النبوية، وأحوال أهل الكمالات العلّيّة، ونُبَذَةً من التنبيهات الجليّة، ما ينجلي به إن شاء الله تعالى الصدأ عن قلوب المحزونين وتنكشف به الغمّة عن المكروبين، بل تبتهج به نفوس العارفين ويستيقظ من اعتبره من سِنَة الغافلين، وسمّيتها مسكن الفؤاد عند فقد الأحبة والأولاد، ورتبتها على مقدمة وأبواب وخاتمة(1).
ولقد ابتلي الشهيد (رحمه الله) - على ما في بعض المصادر التي ترجمت له - بموت الأولاد في مقتبل أعمارهم حتى أنه لم يثق ببقاء أحد منهم، ولم يبق منهم إلا بنته
ص: 189
السيد شمس الدين محمّد بن علي بن الحسين بن أبي الحسن الموسوي العاملي صاحب المدارك وابنه الشيخ حسن، وقد استشهد وعمر ولده سبع سنين .
قال الخوانساري في سبب تأليفه:
ونقل في سبب تصنيفه لكتابه المسكن كثرة ما توفّي منه من الأولاد بحيث لم يبق له منهم أحد إلّا الشيخ حسن المرحوم، وكان لا يثق بحياته أيضاً، وقد استشهد وهو صبي غير مراهق(1).
وقال السيد الأمين:
وكان لا يعيش له أولاد، فمات له أولاد ذكور كثيرون قبل الشيخ حسن الذي كان لا يثق بحياته أيضاً(2).
وقال المحدّث القمّي في ترجمة الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني: «ولم يكن مرجوّ البقاء بعد ما قد أُصيب والده بمصائب أولاد كثيرين من قبله»(3).
لقد تأثر الشهيد (قدس سره) - مزيداً على استفادته الحسنة بالقرآن الكريم والروايات الواردة في المجاميع الروائية من الخاصة والعامة، والكتب التي سمّاها في المتن وهي أحد عشرة كتاباً - كثيراً من إحياء علوم الدين لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي المتوفى سنة (505).
وأيضاً تأثر بالكتب المشابهة لمسكن الفؤاد - في التسمية والموضوع - من جميعها أو من بعضها نذكر منها ما عثرنا عليها إجمالاً:
1. التعازي والمراثي لأبي العباس المبرد، محمد بن يزيد بن عبدالأكبر بن عمير الثمالي الأزدي البصري (210 - 285).
ص: 190
2. كتاب التعازي، لأبي الحسن عليّ بن محمّد المدائني النسابة (م 228)
3. تسلية الحزين في موت البنين، لشهاب الدين أحمد بن يحيى بن حجلة التلمساني الحنفي، المتوفى سنة (776).
4. تسلية أهل المصائب، لأبي عبد الله محمد بن محمد بن محمد المنجي الحنبلي المتوفى.
كما تأثر كثيرون بكتاب مسكن الفؤاد حتّى أنّهم سموا كتبهم بأسماء مشتقه منه، نشير إلى بعضها:
1. مسكن القلوب عند فقد المحبوب ، فارسي - وذكر بعض أحفاده أنه عربي - لآية الله دلدار علي بن السيد محمد معين النصيرآبادي المتوفى (1235)، كتبه بعد فوت ولده السيّد محمّد مهدي سنة (1231)(1).
2. تسلية الأحزان، لميرزا محمد باقر الموسوي الخوانساري (1226 - 1313)، فارسي طبع في عام (1339)، قال مؤلّفه في روضات الجنّات:
وإنّ لكتابه هذا (مسكّن الفؤاد) فوائد جمة... قل ما يوجد نظيره في كتاب إلّا أنّ ما أفرغناه في قالب التأليف من مقولة تلك الأخبار وما يتعلق بأبواب البلاء وقصص الصابرين والصابرات وأمثال ذلك، وسميناه بتسلية الأحزان أفيد وأجمع وأتم وأنفع من ذلك الكتاب بكثير(2).
تسلية الحزين من فقد الأقارب والبنين، للشيخ صالح بن طعان التستري البحراني، المتوفى سنة (1281)(3).
4. تسلية الحزين في فقد العافية والأحباب من الأقارب والبنين، للسيد عبد الله بن
ص: 191
محمدرضا الشبّر الحسيني المتوفّى (1242)(1).
5. تسلية الفؤاد في فقد الأولاد، أيضاً للسيد عبد الله بن محمّدرضا الشبّر الحسيني الحلّي الكاظمي المتوفّى (1242)(2).
6. تسلية الملهوفين وتسكين المغمومين للسيد ميرزا أبي القاسم بن ميرزا كاظم الموسوي الزنجاني المتوفى (1292)(3).
1. تسلية العباد في ترجمة مسكن الفؤاد، ترجمه إلى الفارسية ميرزا إسماعيل خان دبیر السلطنة، الملقب بمجد الأدباء المتوفى سنة (1321).
2. إسلام در کنار داغدیدگان و افسرده دلان لمحمّد باقر الحجّتي، طبع في طهران عام (1363ش).
3. آرام بخش دل داغدیدگان لحسين الجنّاتي طبع في قم عام (1363ش).
4. ارمغان شهيد لمرحوم عباس المخبر، طبع في مشهد الرضوي عام (1405).
1. المخطوطة المحفوظة في مكتبة آية الله المرعشي العامة، الكتاب الثالث ضمن . المجموعة المرقمة (1445)، من ص 52 - 200، وقد رمزنا لها ب_«م».
2. المطبوعة على الحجر في إيران كتبها ابن عليّ أكبر الجيلاني في يوم الاثنين 26 من صفر المظفّر سنة (1310) في طهران، وقد رمزنا لها ب_«ح».
ص: 192
3. المطبوعة في قم المقدسة سنة (1407)، بتحقيق ونشر من مؤسسة آل البيت(علیهم السّلام). الطبعة الأولى، وقد رمزنا لها ب_«آ». ولقد استفدنا من هذه النسخة كثيراً .
1. مقابلة الكتاب مع النسخ التي مرّ وصفها، وقد اعتمدنا طريق التلفيق بين النسخ؛ لأجل إثبات أصح النصوص.
2. تخريج الآيات والروايات والحكايات حتى ما كان منها غير مصرح في بعض الموارد، ولقد أتعبنا أنفسنا جداً لاستخراج جميعها، وقد عثرنا عليها - إلا قليلاً منها - في المصادر المتقدّمة على الشهيد (رحمه الله).
3. شرح الألفاظ والكلمات الصعبة الواردة في الكتاب من المعاجم اللغوية المعتبرة.
4. تقويم متن الكتاب وضبط نصه، مع ملاحظة جميع الاختلافات الواردة بين النسخ، وضبط أصحها في المتن، وفي الموارد اللازمة ذكر الاختلافات في الهوامش.
ربنا تقبل منا هذا العمل واجعله ذخراً لنا ولوالدينا في يوم الحساب وصلّى الله على محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين.
قم المقدسة
عباس المحمدي الجلال آبادي
ص: 193
الصورة
ص: 194
الصورة
ص: 195
ص: 196
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي قضى بالفناء والزوال على جميع عباده، وأنفذ أمره فيهم على وفق حكمته ومراده ووعد الصابرين على قضائه جميل ثوابه وإسعاده، وأوعد الساخطين جزيل نكاله وشديد وباله في معاده، ولذذ قلوب العارفين بتدبيره، فبهجة نفوسهم في تسليمها لقياده، هذا مع عجز كلّ منهم عن دفاع ما أمضاه وإن تمادى الجاهل في عناده. فإيّاه سبحانه أحمد على كل حال، وأسأله الإمداد بتوفيقه وإرشاده.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أستدفع بها الأهوال في ضيق المحشر ووهاده(1)، وأشهد أن محمداً(صلی الله علیه و آله و سلم)عبده ورسوله أفضل من بشر وحدّر، وأعظم من رضي بالقضاء وصبر، وخدم به سلطان معاده(صلی الله علیه و آله و سلم)و على آله الأخيار، وأعظم الخلق بلاءً وأشدّهم عناء، وأسَدّهم تسليماً ورضاء، صلاةً دائمة واصلة إلى كلّ واحدٍ بانفراده.
وبعد، فلمّا كان الموت هو الحادث العظيم، والأمر الذي هو على تفريق الأحبة مقيم، وكان فراق المحبوب يعد من أعظم المصائب، حتى يكاد يزيغ له قلب ذي العقل، والموسوم بالحدس الصائب خصوصاً. ومن أعظم الأحباب الولد الذي هو مُهْجَة
ص: 197
الألباب؛ ولهذا رتب على فراقه جزيل الثواب، وَوُعِدَ أبواه شفاعته فيهما يوم المآب؛ فلذلك جمعتُ في هذه الرسالة جملةً من الآثار النبوية، وأحوال أهل الكمالات العلية ، ونُبْذَةً من التنبيهات الجليّة، ما ينجلي به - إن شاء الله تعالى - الصدأُ عن قلوب المحزونين، وتنكشف به الغُمّة عن المكروبين، بل تبتهج به نفوس العارفين، ويستيقظ من اعتبره من سِنَة الغافلين، وسمّيتها مسكن الفؤاد عند فقد الأحبة والأولاد، ورتبتها على مقدّمة وأبواب وخاتمة.
ص: 198
فاعلم أنه ثبت أنّ العقل هو الآلة التي بها عُرف الله سبحانه، وحصل به تصديق الرسل والتزام الشرائع، وأنه المحرّض على طلب الفضائل، والمخوّف من الاتصاف بالرذائل فهو مدبر أمور الدارين وسبب لحصول الرئاستين، ومَثَله كالنور في الظلمة فقد يقل عند قوم، فيكون كعين الأعشى(1)، ويزيد عند آخرين، فيكون كالنهار في وقت الضحى.
فينبغي لمن رزق العقل أن لا يخالفه فيما يراه، ولا يُخلد إلى متابعة غفلته وهواه، بل يجعله حاكماً له ،وعليه ويراجعه فيما يرشده إليه، فيكشف له حينئذ ما يوجب الرضى بقضاء الله سبحانه وتعالى، سيّما فيما نزل به من هذا الفراق من وجوه كثيرة
تذكر بعضها:
الأوّل: أنّك إذا نظرت إلى عدل الله وحكمته، وتمام فضله ورحمته، وكمال عنايته ببريته، إذ أخرجهم من العدم إلى الوجود، وأسبغ عليهم جلائل النعم، وأيدهم بالألطاف، وأمدهم بجزيل المعونة والإسعاف. كلّ ذلك؛ ليأخذوا حظهم من السعادة الأبدية والكرامة السرمدية، لا لحاجة منه إليهم ولا لاعتماد في شيءٍ من أمره عليهم؛ لأنه الغني المطلق، والجواد المحقق.
ص: 199
وكلّفهم بالتكاليف الشاقة والأعمال الثقيلة؛ ليأخذوا منه حظاً وأملاً، وليبلوهم أيّهم أحسن عملاً. وما فعل ذلك إلا لغاية منفعتهم، وتمام مصلحتهم. وأرسل إليهم مبشرين و منذرين. وأنزل عليهم الكتب، وأودعها ما فيه بلاغ للعالمين.
وتحقيق هذا المرام مستوفى في باب العدل من علم الكلام.
وإذا كانت أفعاله تعالى وتقدّس كلّها لمصلحتهم، وما فيه تمام شرفهم والموت من جملة ذلك كما نطق به الوحي الإلهي في عدة آيات، كقوله تعالى: ﴿وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إلا بإذن الله كتاباً مُؤَجَّلاً﴾(1)، ﴿قُلْ لَوْ كُنتُمْ في بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إلى مَضاجِعِهِم﴾(2)، أيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوج مُشَيَّدَةٍ﴾(3)، ﴿الله يَتَوفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِها﴾(4)إلى غير ذلك من الآيات.
فلولا أنّ في ذلك غاية المصلحة، ونهاية الفائدة للعبد الضعيف الغافل عن مصلحته، التائه في حيرة جهله وغفلته، لما فعله الله تعالى به؛ لما قد عرفت من أنّه أرحم الراحمين، وأجود الأجودين ، فإن حدثتك نفسك بخلاف ذلك، فاعلم أنه الشرك الخفي،
وإن أيقنته ولم تطمئنّ نفسك وتسكن روعتك فهو الحمق الجلي.
وإنما نشأ ذلك من الغفلة عن حكمة الله تعالى في بريته، وحسن قضائه في خليقته، حتى أنّ العبد ليبتهل ويدعو الله تعالى أن يرحمه، ويجيب دعاءه في أمثال ذلك، فيقول الله تعالى لملائكته: «كيف أرحمه من شيءٍ به أرحمه!»(5). فتدبّر (رحمك الله تعالى) في هذه الكلمة الإلهية، تكفيك في هذا الباب إن شاء الله تعالى.
الثاني: أنه إذا نظرت إلى أحوال الرسل(علیهم السّلام)، وصدقتهم فيما أخبروا به من الأمور
ص: 200
الدنيوية والأخروية، ووعدوا به من السعادة الأبدية، وعلمت أنهم إنّما أتوا بما أتوا به عن الله جلّ جلاله واعتقدت أن قولهم معصوم عن الخطا محفوظ من الغلط والهوى، وسمعت ما وعدوا به من الثواب على أي نوع من أنواع المصائب - كما ستراه وتسمعه سهل عليك موقعه وعلمت أنّ لك في ذلك غاية الفائدة، وتمام السعادة الدائمة، وأنك قد أعددت لنفسك كنزاً من الكنوز مذخوراً، بل حرزاً ومعقلاً وجُنّة من العذاب الأليم والعقاب العظيم، الذي لا يطيقه بشر، ولا يقوى به أحد، مع أن ولدك مشاركك في هذهِ السعادة، فقد فزت أنت وهو، فلا ينبغي أن تجزع.
ومثل لنفسك: أنه لو دهمك أمرٌ عظيم، أو وثب عليك سبع أو حيّةٌ، أو هجمت عليك نار مضرمة، وكان عندك أعزّ أولادك وأحبّهم إلى نفسك، وبحضرتك نبي من الأنبياء لا ترتاب في صدقه، وأخبرك أنك إن افتديت بولدك سلمت أنت وولدك، وإن لم تفعل عطبت والحال أنك لا تعلم هل يعطب ولدك أو يسلم؟
أيشك عاقل أنّ الافتداء بالولد الذي يتحقق معه سلامة الولد، ويرجى معه أيضاً سلامة الوالد هو عين المصلحة، وأن عدم ذلك، والتعرّض لعَطَّب الأب والولد هو عين المفسدة؟! بل ربما قدّم كثير من الناس نفسه على ولده وافتدى به، وإن تيقن عَطَب
الولد، كما اتفق ذلك في المفاوز(1)والمخمصة.
هذا كله في نارٍ وعَطَبِ ينقضي ألمه في ساعةٍ واحدة، وربما ينتقل بعده إلى الراحة والجنّة، فما ظنّك بألم يبقى أبد الآباد ويمكث سنين! وإن يوماً عند ربّك منها كألف سنةٍ مما تعدون، ولو رآها أحدنا وأشرف عليها لودّ أن يفتدي ببنيه ﴿وَصاحِبَتِهِ وَأخِيهِ، وَفَصيلَتِهِ الَّتي تؤيهِ، وَمَنْ فِى الأَرْضِ جَمِيعاً، ثُمَّ يُنْجِيهِ، كَلَّا إِنَّهَا لَفِى نَزَاعَةٌ لِلشَّوى تَدْعُوا مَنْ أدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَع فَأَوْعى﴾(2).
ص: 201
ومن هنا جاء ما ورد عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، أنه قال لعثمان بن مظعون (رضي الله عنه)، وقد مات ولده، فاشتد حزنه علیه: «یابن مظعون إنّ للجنّة ثمانية أبواب، وللنار سبعة أبواب أفما يسرك أن لا تأتي باباً منها إلا وجدت ابنك إلى جنبك، آخذاً بحُجزتك، يستشفع لك إلى ربّك، حتى يشفّعه الله تعالى؟»(1).
وسيأتي له نظائر كثيرة إن شاء الله.
الثالث: أنّك إنّما تحبّ بقاء ولدك لينفعك في دنياك، أو في آخرتك، ولا تريد في الأغلب بقاءه لنفسه؛ فإنّ هذا هو المجبول عليه طبع الخلق. ومنفعته لك على تقدير بقائه غير معلومة، بل كثيراً ما يكون المظنون عدمها، فإنّ الزمان قد صار في آخره، والشقوة والغفلة قد شملت أكثر الخلائق، وقد عزّ السعيد وقلّ الصالح الحميد، فنفعه لك بل لنفسه على تقدير بقائه غير معلوم وانتفاعه الآن وسلامته من الخطر، ونفعه لك قد صار معلوماً، فلا ينبغي أن تترك الأمر المعلوم لأجل الأمر المظنون بل الموهوم. وتأمل أكثر الخلف لأكثر السلف هل تجد منهم نافعاً لأبويه إلا أقلهم، أو مستيقظاً إلا أو حديهم، حتّى إذا رأيت واحداً كذلك، فعدّ ألوفاً بخلافه.
وإلحاقك ولدك الواحد بالفرد النادر دون الأغلب الكثير عين الغفلة والغباوة؛ فإنّ الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم، كما ذكره سيّد الوصيين(2)، وترجمان ربّ العالمين، (صلوات الله وسلامه عليه).
مع أنّ ذلك الفرد الذي تريد مثله، إنما هو صالح نافع بحسب الظاهر، وما الذي يدريك بباطنه وفساد نيّته وظلمه لنفسه ؟ فلعلك لو كشفت عن باطنه ظهر لك أنّه منطو على معاصٍ وفضائح لا ترضاها لنفسك ولا لولدك، وتتمنّى أن ولدك لو كان
ص: 202
على مثل حالته يموت فإنه خير له.
هذا كله إذا كنت تريد أن تجعل ولدك واحداً فى العالمين، ووليّاً من الصالحين، فكيف وأنت لا تريده إلا ليرث بيتك، أو بستانك، أو دوابك وأمثال ذلك من الأُمور الخسيسة الزائلة عمّا قريب، وتتركه يرث الفردوس الأعلى في جوار أولاد النبيين والمرسلين، مبعوثاً مع الآمنين ،الفرحين مربي إن كان صغيراً في حجر سارة أُمّ النبيين كما وردت به الأخبار عن سيّد المرسلين(1)؟ ما هذا إلا معدود من السفه لو عقلت!
ولو كان مرادك أن تجعله من العلماء الراسخين والصلحاء المتقين، وتورثه علمك وكتبك وغيرها من أسباب الخير، فاذكر أيضاً أنّ ذلك كله لو تم معك، فما وعد الله تعالى من العوض على فقده أعظم من مقصدك، كما ستسمعه إن شاء الله تعالى.
مثل ما رواه الصدوق عن الصادق(علیه السّلام): «ولد واحد يقدّمه الرجل، أفضل من سبعين ولداً يبقون بعده يدركون القائم(علیه السّلام)»(2).
واعتبر أنه لو قيل: إنّ رجلاً فقيراً معه ولد عليه خُلقان الثياب، قد أسكنه في خَرِبَةٍ مُقْفِرَة ذات آفات كثيرة، وفيها بيوت حيات وعقارب وسباع ضارية، وهو معه على خطر عظيم، فاطّلع عليه رجل حكيم جليل، ذو ثروة وحسّم وخدم وقصور عالية ورتب سامية، فَرَقَّ لهذا الرجل ولولده، فأرسل إليه بعض غلمانه: إنّ سيّدي يقول لك: إني قد رحمتك ممّا بك في هذه الخَرِبَة، وهو خائف عليك وعلى ولدك من العاهات،وقد تفضّلت عليك بهذا القصر ينزل به ولدك ويوكّل به جاريةً عظيمةً من كرائم جواريه، تقوم بخدمته إلى أن تقضي أنت أغراضك التي في نفسك، ثمّ إذا قدمت وأردت الإقامة أنزلتك معه في القصر، بل في قصر أحسن من قصره.
فقال الرجل الفقير : أنا لا أرضى بذلك، ولا يفارقني ولدي في هذه الخربة، لا لعدم
ص: 203
وثوقي بالرجل الباذل، ولا زهداً منّي في داره وقصره، ولا لأماني على ولدي في هذه الخربة، بل طبعي اقتضى ذلك، وما أريد أن أخالف طبعي.
أفما كنت - أيها السامع لوصف هذا الرجل - تعدّه من أدنياء السفهاء وأخشاء الأغبياء؟! فلا تقع فى خُلقٍ لا ترضاه لغيرك، فإنّ نفسك أعز عليك من غيرك.
واعلم أن لَسْعَ الأفاعي، وأكل السباع، وغيرهما من آفات الدنيا لا نسبة لها إلى أقلّ محنةٍ من محن الآخرة المكتسبة في الدنيا، بل لا نسبة لها إلى إعراض الحق سبحانه وتوبيخه ساعةً واحدةً في عرصة القيامة أو عرضة واحدة على النار مع الخروج
منها بسرعة.
فما ظنك بتوبيخ يكون ألف عام، أو أضعافه وبنفحة من عذاب جهنّم يبقى ألمها ألف عام، ولَسْعَةٍ من حياتها وعقاربها يبقى ألمها أربعين خريفاً! وأي نسبة لأعلى قصر في دار الدنيا إلى أدنى مسكن في الجنّة وأي مناسبة بين خُلقان الثياب في الدنيا إلى فاخرها إلى أعلى ما في الدنيا بالإضافة إلى سندس الجنّة واستبرقها وهلم جراً إلى ما فيها من النعيم المقيم.
بل لو تأملت بعين بصيرتك في هذا المثل وأجلت فيه رؤيتك، علمت أنّ ذلك الكريم الكبير، بل جميع العقلاء لا يرضون من ذلك الفقير بمجرد ذلك الفقير بمجرد تسليم ولده ورضاه بأخذه، بل لابد في الحكمة من حمده عليه وشكره، وإظهار الثناء عليه بما هو اهله؛ لأنّ ذلك هو مقتضى حق النعمة.
الرابع: أنّ في الجزع بذلك والسخط انحطاطاً عظيماً عن مرتبة الرضى بقضاء الله تعالى، وفي فوات ذلك خطر وخيم وفوات نيل عظيم فقد ذم الله تعالى من سخط بقضائه، وقال: «من لم يرض بقضائي، ولم يصبر على بلائي، فليعبد رباً سواي»(1).
ص: 204
وفي كلامه تعالى لموسى(علیه السّلام)حين قال له: «دلّني على أمر فيه رضاك، قال: إنّ رضاي في رضاك بقضائي»(1).
وفي القرآن الكريم: ﴿رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾(2).
وأوحى الله تعالى إلى داود: «يا داود، تريد وأُريد، وإنما يكون ما أُريد، فإن سلمت لما أُريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلّم لما أُريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أُريد»(3).
وقال تعالى: ﴿لكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾(4).
واعلم أن الرضى بقضاء الله تعالى ثمرة المحبة الله؛ إذ من أحبّ شيئاً رضي بفعله، ورضى العبد عن الله دليل على رضى الله تعالى عن العبد، رضي الله عنهم ورضوا عنه، وصاحب هذه المرتبة مع رضى الله تعالى عنه الذي هو أكمل السعادات وأجلّ الكمالات لا يزال مستريحاً؛ لأنه لم يوجد منه أريد ولا أريد، كلاهما عنده واحد ورضوان الله أكبر، إن ذلك لمن عزم الأمور.
وسيأتي لذلك بحث آخر إن شاء الله تعالى في باب الرضى.
واعلم أنّ البكاء لا ينافي الرضى ولا يوجب السخط، وإنّما مرجع ذلك إلى القلب . كما ستعرفه إن شاء الله تعالى - ومن ثم بكاء الأنبياء والأئمة(علیهم السّلام)على أبنائهم وأحبائهم، فإنّ ذلك أمر طبيعي للإنسان، لا حرج فيه إذا لم يقترن بالسخط، وسيأتي.
الخامس: أن ينظر صاحب المصيبة إلى أنه في دار قد طبعت على الكدر والعناء، وجُلبت على المصائب والبلاء، فما يقع فيها من ذلك هو مقتضى جبلّتها جبلتها وموجب
ص: 205
طبيعتها، وإن وقع خلاف ذلك فهو على خلاف العادة لأمر آخر، صوصاً على الأكابر والنبلاء من الأنبياء والأوصياء والأولياء، فقد نزل بهم من الشدائد والأهوال ما تعجز عن حمله الجبال، كما هو معلوم في المصنفات التي لو ذكر بعضها لبلغ مجلّدات.
وقد قال النبي : «أشدّ الناس بلاء الأنبياء، ثم الأولياء، ثمّ الأمثل فالأمثل»(1).
وقال النبي : «الدنيا سجن المؤمن، وجنّة الكافر»(2).
وقد قيل: إنّ الدنيا ليس فيها لذة على الحقيقة، إنّما لذاتها راحة من مؤلم. هذا وأحسن لذاتها وأبهى بهجاتها مباشرة النساء المترتب عليه حصول الأبناء، كم يعقبه من قذى أقلّه ضعف القوى وتعب الكسب والعناء ومتى حصل محبوب كانت آلامه تربو على لذاته، والسرور به لا يبلغ معشار حسراته، وأقلّ آفاته في الحقيقة الفراق الذي ينكث الفؤاد، ويذيب الأجساد.
فكلّ ماتظنّ فى الدنيا أنّه شراب سراب. وعمارتها وإن حسنت إلى خراب ومالها وإن اغتر بها الجاهل إلى ذهاب. ومن خاض الماء الغمر لا يجزع من بلل، كما أنّ من دخل بين الصفّين لا يخلو من وجل، ومن العجب من يده في فم الأفاعي كيف ينكر اللشع، وأعجب منه من يطلب من المطبوع على الضر النفع!
وما أحسن قول بعض الفضلاء(3)في مرثية ابنه:
طُبِعَتْ على كَدَرٍ وأنتَ تُريدُها *** صفواً من الأقذاء والأكدار
ومُكلّف الأيام ضِدَّ طباعها *** مُتَطَلّبٌ في الماء جَذْوَةَ نارِ
ص: 206
وإذا رجوت المستحيل فإنّما *** تبني البناءً على شفير هار(1)
وقال بعض العارفين:
ينبغي لمن نزلت به مصيبة أن يسهلها على نفسه، ولا يغفل عن تذكر ما يعقبه من وجوب الفناء وتقضي المسار ؟ وأنّ الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، يجمعها من لا عقل له ويسعى لها من لا ثقة له، وفيها يعادي من لا علم له، وعليها يحسد من لا فقه له، من صح فيها سقم، ومن سقم فيها برم، ومن افتقر فيها حزن، ومن استغنى فيها فتن(2).
واعلم أنك قد خلقت في هذه الدار لغرض خاص؛ لأنّ الله تعالى منزّه عن العبث. وقد قال الله تعالى: ﴿وَما خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾(3)، وقد جعلها مكتسباً لدار القرار، وجعل بضاعتها الأعمال الصالحة، ووقتها العمر، وهو قصير جداً بالنظر إلى ما يطلب من السعادة الأبدية التي لا انقضاء لها.
فإن اشتغلت بها، واستيقظت استيقاظ الرجال، واهتممت بشأنك اهتمام الأبدال، رجوت أن تنال نصيبك منها، فلا تضيع عمرك في الاهتمام بغير ما خلقت له، يضيع وقتك، ويذهب عمرك بلا فائدة؛ فإنّ الغائب لا يعود، والميت لا يرجع وتفوتك السعادة التي خلقت لها. فيالها حسرة لا تفنى، وغبن لا يزول، إذا عاينت درجات السابقين، وأبصرت منازل المقربين، وأنت مقصر من الأعمال الصالحة، خليّ من المتاجر الرابحة، فقس ذلك الألم على هذه الآلام، وادفع أصعبهما عليك وأضرهما لك، مع أنك تقدر على دفع سبب هذا، ولا تقدر على دفع سبب ذاك.
ص: 207
كما قال على(علیه السّلام): «إن صبرت جرى عليك القضاء وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القضاء وأنت مأزور»(1).
فاغتنم شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك، واجعل الموت نصب عينك، واستعد له بصالح العمل، ودع الاشتغال بغيرك، فإنّ الموت يأتي إليك دونه.
وتأمّل قوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى * وأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى﴾(2).
فقصر أملك، وأصلح عملك، فإنّ السبب الأكثري الموجب للاهتمام بالأموال والأولاد طول الأمل.
وقد قال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)لبعض أصحابه: «إذا أصبحت فلا تحدّث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدّث نفسك بالصباح، وخذ من حياتك لموتك، ومن صحتك لسقمك، فإنك لا تدري ما اسمك غداً»(3).
وقال علي(علیه السّلام): «إنّ أشدّ ما أخاف عليكم خصلتان: اتباع الهوى، وطول الأمل؛ فأما اتباع الهوى فإنّه يعدل عن الحق، وأما طول الأمل فإنه يورث الحب للدنيا»(4).
ثم قال(5): «ألا إن الله يعطى الدنيا لمن يحب ويبغض، وإذا أحب عبداً أعطاه الإيمان. ألا إنّ للدين أبناء، وللدنيا أبناءً، فكونوا من أبناء الدين ولا تكونوا من أبناء الدنيا. ألا إنّ الدنيا قد ارتحلت مولية. ألا إنّ الآخرة قد ارتحلت مقبلة. ألا وإنّكم في يوم عمل
ص: 208
ليس فيه حساب ألا وإنّكم توشكون في يوم حساب ليس فيه عمل»(1).
واعلم أنّ محبوباً يفارقك، وتبقى على نفسك حسرته وألمه، وفي حال إيصاله كدّك وكدحك وجدك واجتهادك، ومع ذلك لا يخلو زمانك معه من تنغيص(2)به أو عليه؛ لأجل أن تتسلّى عنه، وتطلب لنفسك محبوباً غيره، وتجتهد في أن يكون موصوفاً بحسن الصحبة ودوام الملازمة، وزيادة الأنس وتمام المنفعة.
فإن ظفرت به فذلك هو الذي ينبغي أن يكون بغيتك التي تحفظها، وتهتم بها وتنفق وقتك عليها، وهو غاية كلّ محبّة، ومنتهى كلّ مقصد وما ذاك إلا الاشتغال بالله، وصرف الهمة إليه، وتفويض ما خرج عن ذلك إليه، فإنّ ذلك دليل على حبّ الله تعالى يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه(3)، (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لله(4).
وقد جعل النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)الحب الله من شرط الإيمان، فقال: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما»(5).
ولا يتحقق الحبّ في قلب أحدكم لأحد مع كراهية لفعله وسخطه به، بل مع عدم رضاه على وجه الحقيقة، لا على وجه التكلّف والتعنّت.
وفي أخبار داود(علیه السّلام)«يا داود، أبلغ أهل أرضي: أنّي حبيب من أحبني، وجليس من جالسني، ومؤنس لمن أنس بذكري، وصاحب لمن صاحبني، ومختار لمن
ص: 209
اختارني، ومطيع لمن أطاعني، ما أحبني عبد أعلم ذلك يقيناً من قلبه إلا قبلته لنفسي، وأحببته حبّاً لا يتقدّمه أحد من خلقي، من طلبني بالحق وجدني، ومن طلب غيري لم يجدني فارفضوا يا أهل الأرض ما أنتم عليه من غرورها، وهلموا إلى كرامتي ومصاحبتي ومجالستي ومؤانستي، وأنسوا بي أوانسكم، وأُسارع إلى محبتكم»(1).
وأوحى الله تعالى إلى بعض الصدّيقين: «أنّ لي عباداً من عبادي، يحبوني وأُحبّهم، ويشتاقون إلى وأشتاق إليهم، ويذكروني وأذكرهم، فإن أخذت طريقتهم أحببتك، وإن عدلت عنهم مقتك.
فقال: يا ربّ وما علامتهم؟
قال: يراعون الظلال بالنهار كما يراعي [الراعي] الشفيق غنمه، ويحنون إلى غروب الشمس كا يحنّ الطير إلى أوكارها عند الغروب، فإذا جنّهم الليل، واختلط الظلام وفرشت الفرش، ونصبت الأسرة، وخلا كل حبيب بحبيبه، نصبوا لي أقدامهم، وافترشوا لي وجوههم وناجوني بكلامي، وتملّقوني بإنعامي، فبين صارخ وباك، وبين متأوّه وشاك، وبين قائم وقاعد، وبين راكع وساجد، بعيني ما يتحملون من أجلي، وبسمعي ما يشكون من حبّي، أوّل ما أعطيهم ثلاثاً:
الأوّل: أقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عنّي كما أخبر عنهم.
والثاني: لو كانت السماوات والأرض وما فيهما في موازينهم لاستقللتها لهم.
والثالث: أقبل بوجهي عليهم، أفترى من أقبلت بوجهي عليه، أيعلم أحد ما أُريد أن أعطيه؟»(2).
وهاهنا نقطع الكلام في المقدّمة، ونشرع في الأبواب.
ص: 210
اعلم أنّ الله سبحانه عدل حكيم، وأنه غنيّ مطلق، لا يليق بكمال ذاته وجميل صفاته أن يُنزل بعبده المؤمن في دار الدنيا شيئاً من البلاء وإن قلّ، ثم لا يعوضه عنه ما يزيد عليه؛ إذ لو لم يعطه شيئاً كان ظالماً، ولو عوّضه بقدره كان عابثاً، تعالى الله عنهما
علوّاً كبيراً.
وقد تظافرت بذلك الأخبار النبوية ومنها: «أنّ المؤمن لو يعلم ما أعد الله له على البلاء، لتمنّى أنّه فى دار الدنيا قُرض بالمقاريض»(1).
ولنقتصر منها على ما يختص بما نحن فيه، فقد رواه عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)أزيد من ثلاثين صحابياً.
وروى الصدوق (رحمه الله) بإسناده إلى عمرو بن عبسة السلمي، قال: سمعت
ص: 211
رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)يقول: «أيما رجل قدّم ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث، أو امرأة قدمت ثلاثة أولاد، فهم حجاب يسترونه عن النار»(1).
وعن أبي ذرّ (رضي الله عنه) قال: «ما من مسلمين يقدمان عليهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث، إلّا أدخلهما الله الجنّة بفضل رحمته»(2).
«الحنث» بكسر الحاء المهملة، وآخره ثاء مثلثة: الإثم والذنب(3)، والمعنى: أنّهم لم يبلغوا السنّ الذي يكتب عليهم فيه الذنوب والآثام. قال الخليل: بلغ الغلام الحنث، أي جرى عليه القلم(4).
وبإسناده إلى جابر، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر(علیهم السّلام)، قال: «من قدّم أولاداً يحتسبهم عند الله تعالى حجبوه من النار بإذن الله عزّ وجلّ(5).
وبإسناده إلى عليّ بن ميسر، عن أبي عبد الله(علیه السّلام)، قال: «ولد واحد يقدمه الرجل أفضل من سبعين يخلفونه من بعده، كلّهم قد ركب الخيل، وقاتل في سبيل الله»(6).
وعنه(علیه السّلام): ثواب المؤمن من ولده [إذا مات](7)الجنّة، صبر أو لم يصبر»(8).
ص: 212
وعنه(علیه السّلام): «من أُصيب بمصيبة جزع عليها أو لم يجزع، صبر عليها أو لم يصبر، كان ثوابه من الله الجنّة»(1).
وعنه(علیه السّلام): «ولد واحد يقدّمه الرجلُ أفضل من سبعين ولداً يبقون بعده، يُدركون القائم(علیه السّلام)»(2).
وروى الترمذي بإسناده إلى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، أنه قال: «ما يزال(3)البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وماله، حتّى يلقى الله عزّ وجلّ وما عليه خطيئة»(4).
وعن محمّد بن خالد السلمي، عن أبيه، عن جده - وكانت له صحبة - قال: سمعت رسول الله له يقول: «إنّ العبد إذا سبقت له من الله تعالى منزلة ولم يبلغها بعمل ابتلاه صلى الله عليه وسلم الله في جسده، أو في ماله، أو في ولده، ثمّ صبّره على ذلك، حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله عزّ وجلّ»(5).
وعن ثوبان مولی رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)قال: سمعت رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)يقول: «بخ بخ خمس ما أنقلهنَّ فى الميزان لا إله إلّا الله، وسبحان الله، والحمد الله والله أكبر، والولد الصالح يتوفّى للمرء المسلم فيحتسبه»(6).
«بخ بخ» كلمة تقال عند المدح والرضى بالشيء(7)، وتكرّر للمبالغة، وربما شدّدت.
ص: 213
ومعناها: تفخيم الأمر وتعظيمه. ومعنى يحتسبه، أي يجعله حسبة وكفاية عند الله عزّ وجلّ، أي يحتسب بصبره على مصيبته بموته، ورضاه بالقضاء.
وعن عبد الرحمن بن سمرة، عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)قال: «إني رأيت البارحة عجباً - فذكر حديثاً طويلاً، وفيه - رأيت رجلاً من أمتى قد خف ميزانه، فجاء أفراطه فنقلوا ميزانه»(1).
«الفرط» - بفتح الفاء والراء : هو الذي لم يدرك : هو الذي لم يدرك من الأولاد الذكور والإناث وتتقدّم وفاته على أبويه أو أحدهما، يقال: فرط القوم، إذا تقدّمهم، وأصله الذي يتقدّم الركب إلى الماء، ليهيّئ لهم أسبابه(2).
وعن سهل بن حنيف (رضي الله عنه)، قال، قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «تزوجوا فإنّي مكاثر بكم الأمم يوم القيامة، حتّى أنّ السقط ليظلّ مُحْبَنْطِئاً على باب الجنّة فيقال له: ادخل فيقول: [لا] حتّى يدخل أبواي»(3).
«السقط» - مثلث السين، والكسر أكثر - : هو الذي يسقط من بطن أمه قبل تمامه(4)،و «محبنطئاً» - بالهمز وتركه - : هو المتغضب المستبطئ للشيء(5).
وعن معاوية بن حيدة القشيري عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، قال : «سوداء ولود خير من حسناء لا تلد، إنّي مكاثر بكم الأمم، حتّى أنّ السقط ليظلّ محبنطئاً على باب الجنّة فيقال له: ادخل الجنّة، فيقول: أنا وأبواي؟ فيقال: أنت وأبواك»(6).
ص: 214
وعن عبد الملك بن عمير، عمّن حدّثه، أنّ رجلاً أتى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، فقال: يا رسول الله أتزوّج فلانة ؟ فنهاه رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)عنها ، ثم أتاه ثانية فقال: يا رسول الله، أتزوّج فلانة ؟ فنهاه عنها، ثمّ أتاه ثالثة فقال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «سوداء ولود أحبّ إليّ من عاقر حسناء»، ثمّ قال(صلی الله علیه و آله و سلم): «أما علمت أنّي مكاثر بكم الأمم؟ حتّى أنّ السقط ليبقى مُحْبَنْطِئاً على باب الجنّة فيقال له: ادخل فيقول: لا، حتى يدخل أبواي، فيشفع فيهما فيدخلان الجنّة؟»(1).
وعن سهل بن الحنظليّة، وكان لا يولد له، وهو ممن بايع تحت الشجرة، قال: لئن يولد لي في الإسلام ولد ويموت سقطاً فأحتسبه، أحبّ إلي من أن تكون لي الدنيا جميعاً وما فيها(2).
وعن عبادة بن الصامت أنّ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)قال: «النفساء يجرها ولدها يوم القيامة بسرره إلى الجنّة»(3).
«النُفَساء» - بضم النون وفتح الفاء - : المرأة إذا ولدت. و«السرر» - بكسر السين المهملة وفتحها - : ما تقطعه القابلة من سرّة المولود(4)،التي هي موضع القطع، وما بقي بعد القطع فهو السرة، وكأنه يريد: الولد الذي لم تقطع سرته.
وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «من قدم من صلبه ولداً لم يبلغ الحنث كان أفضل من أن يخلّف من بعده مائة، كلهم يجاهدون في سبيل الله لا تسكن روعتهم إلى يوم القيامة».
وعن الحسن، قال، قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «لئن أقدم سقطاً أحبّ إليَّ من أن أُخلّف مائة
ص: 215
فارس، كلهم يقاتل في سبيل الله»(1).
وعن أيوب بن موسى، أن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)قال للزبير: «يا زبير إنك إن تقدّم سقطاً خير من أن تدع بعدك من ولدك مائة كلّ منهم على فرس يجاهد في سبيل الله».
وعن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، أنه قال: يقال للولدان يوم القيامة: ادخلوا الجنّة، فيقولون: يا ربّ حتى يدخل آباؤنا وأمهاتنا، قال: فيأبون، فيقول الله عزّ وجلّ: ما لي أراهم محبنطئين، ادخلوا الجنة، فيقولون: يا ربّ، آباؤنا، فيقول تعالى: ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم»(2).
وعن عبيد بن عمير الليثي، قال:
إذا كان يوم القيامة، خرج ولدان المسلمين من الجنّة بأيديهم الشراب، قال: فيقول الناس لهم: اسقونا، اسقونا، فيقولون: أبوينا، أبوينا، قال: حتّى أنّ السقط محبنطئاً بباب الجنّة، فيقول: لا أدخل حتى يدخل أبواي.
وعن أنس بن مالك، قال، قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «إذا كان يوم القيامة نودي في أطفال المؤمنين: أن اخرجوا من قبوركم، فيخرجون من قبورهم، ثمّ ينادي فيهم أن امضوا إلى الجنّة زمراً، فيقولون ربنا ووالدينا معنا؟ ثمّ ينادي فيهم ثانية: أن امضوا إلى الجنّة زمراً، فيقولون: ربنا، ووالدينا معنا؟ ثمّ ينادي فيهم ثالثة: أن امضوا إلى الجنّة زمراً فيقولون: ربنا، ووالدينا؟ فيقول في الرابعة ووالديكم معكم، فيثب كل طفل إلى أبويه، فيأخذون بأيديهم، فيدخلون بهم الجنّة، فهم أعرف بآبائهم وأمهاتهم يومئذ من أولادكم الذين في بيوتكم».
«الزمر» الأفواج المتفرّقة بعضها في أثر بعض، وقيل(3) في الزمر الذين اتقوا(4): من
ص: 216
الطبقات المختلفة، أي الشهداء والزهاد، والعلماء، والفقراء، والقراء، والمحدّثون وغيرهم.
وعن أنس بن مالك: إنّ رجلاً كان يجيء بصبي معه إلى رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، وأنه مات، فاحتبس والده عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، فسأل عنه فقالوا: مات صبيه الذي رأيته معه، فقال: هلا آذنتموني؟ فقوموا إلى أخينا نعزّيه، فلما دخل عليه إذن الرجل حزين وبه كآبة فعزّاه، فقال: يا رسول الله كنت أرجوه لكبر سنّي وضعفي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما يسرك أن يكون يوم القيامة بإزائك؟ فيقال له: ادخل الجنّة، فيقول: يا ربّ وأبواي ،فلا يزال يشفع حتى يشفّعه الله عزّ وجلّ فيكم، ويدخلكم الجنّة جميعاً»(1).
«احتبس» أي تخلّف عن المجيء إلى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم). و «آذنتموني» - بالمد - : أي . أخبر تموني. و«الكآبة» - بالمد - : تغيّر النفس بالانكسار من شدّة الهم والحزن. أخبرتموني. و«الضعف» بضمّ المعجمة وفتحها. و«بإزائك» أي بحذائك.
وعن أنس أيضاً قال: توفّي لعثمان بن مظعون(صلی الله علیه و آله و سلم)ولد، فاشتد حزنه عليه، حتى اتخذ في داره مسجداً يتعبد فيه، فبلغ ذلك إلى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، فقال: «يا عثمان، إن الله عزّ وجلّ لم يكتب علينا الرهبانية، إنما رهبانية أُمتي الجهاد في سبيل الله. يا عثمان بن مظعون، إنّ للجنة ثمانية أبواب وللنار سبعة أبواب، أفلا يسرك ألا تأتى باباً منها إلا وجدت ابنك بجنبه آخذاً بحجزتك، ليشفع لك إلى ربّه عزّ وجلّ؟ قال: فقيل: يا رسول الله ولنا في أفراطنا ما لعثمان؟ قال: «نعم، لمن صبر منكم واحتسب»(2).
و«الحجزة» - بضم الحاء المهملة والزاء - : موضع شدّ الإزار(3)، ثم قيل للإزار: حجزة.
ص: 217
وعن قرة بن إياس: أنّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)كان يختلف إليه رجل من الأنصار مع ابن له، فقال له النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)ذات يوم: يا فلان تحبّه؟ قال: نعم يا رسول الله ، أُحبّكَ كما أُحبّه، ففقده النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، فسأل عنه، فقالوا: يا رسول الله، مات ابنه، فلمّا رآه قال(علیه السّلام): أما ترضى أن لا تأتي يوم القيامة باباً من أبواب الجنة، إلا جاء يسعى حتى يفتحه لك؟» فقال رجل: يا رسول الله أله وحده أم لِكُلّنا؟ قال: «بل لِكُلِّكمْ»(1).
وروى البيهقي أن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)كان إذا جلس تحلّق إليه نفر من أصحابه، وكان فيهم رجل له بُنَيّ صغير، يأتيه من خلف ظهره، فيقعده بين يديه إلى أن هلك ذلك الصبي، فامتنع الرجل من تلك الحلقة أن يحضرها؛ تذكراً له وحزناً عليه، قال: ففقده النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، فقال: «مالي لا أرى فلاناً؟ قالوا: يا رسول الله بنيه الذي رأيته هلك، فمنعه الحزن - أسفاً عليه وتذكراً له - أن يحضر ،الحلقة، فلقيه النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، فسأله عن ابنه، فأخبره بهلاكه فعزّاه، وقال: «يا فلان، أيما كان أحبّ إليك أن تمتع به عمرك، أو لا تأتي غداً باباً من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه، يفتحه لك؟»قال: يا نبي الله، لا بل يسبقني إلى باب الجنّة أحبّ إليّ، قال: «فذاك لك». فقام رجل من الأنصار، فقال: يا نبي الله أهذا لهذا خاصة؟ أم من هلك له طفل من المسلمين كان له ذلك؟ قال: «بل من هلك له طفل من المسلمين كان له ذلك»(2).
«الحلقة» - بإسكان اللام بعد فتح الحاء -: كلّ شيء مستدير خالي الوسط، والجمع - «حلق» بفتحتين، وحكى فتحه في الموجز(3)وهو نادر.
وعن زرارة بن أوفى أنّ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)عزّى رجلاً على ابنه، فقال: «آجرك الله،
ص: 218
وأعظم لك الأجر» فقال الرجل: يا رسول الله أنا شيخ كبير، وكان ابني قد أجزأ عنّي، فقال له النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): «أيسرك أن يشير لك أو يتلقاك من أبواب الجنة بالكأس؟» قال: من لي بذلك يا رسول الله؟ فقال: «الله لك به، ولكلّ مسلم مات ولده في الإسلام»(1).
«أجزأ بمعنى كفى. و«الكأس» - بالهمز، وقد يترك تخفيفاً - هو الإناء فيه شراب، ولا يسمّى بذلك إلّا بانضمامه إليه، وقيل: هو اسم لهما على الاجتماع والانفراد والجمع «أكوس».ثمّ «كؤوس».
وعن عبد الله بن قيس عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك، واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد»(2).
وروي أنّ امرأة أتت النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، ومعها ابن لها مريض، فقالت: يا رسول الله، ادع الله تعالى أن يشفي لي ابني هذا فقال لها رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «هل لك فرط ؟ قالت نعم يا : رسول الله قال: «في الجاهليّة أم في الإسلام؟ قالت بل في الإسلام، فقال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «جُنَّةٌ حصينة، جُنَّةٌ حصينة»(3).
«الجُنّة» - بضم الجيم - : الوقاية، أي وقاية لك من النار، أو من جميع الأهوال.
«وحصينة» فعيل بمعنى فاعل، أي محصنة لصاحبها، وساترة له من أن يصل إليه شرّ. وعن جابر بن سمرة، قال قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): من دفن ثلاثة أولاد، وصبر عليهم، واحتسب وجبت له الجنّة»، فقالت أم أيمن: واثنين؟ فقال: «من دفن اثنين، وصبر
ص: 219
عليهما، واحتسبهما وجبت له الجنّة». فقالت أم أيمن وواحد، فسكت وأمسك فقال: «يا أمّ أيمن من دفن واحداً، وصبر عليه، واحتسبه وجبت له الجنة»(1).
وعن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال، قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «من قدّم ثلاثة لم يبلغوا الحنث كانوا له حصناً حصيناً، فقال أبو ذر: قدمت ،اثنين فقال له واثنين، ثمّ قال أُبي بن كعب قدمت واحداً، فقال(صلی الله علیه و آله و سلم): وواحداً، ولكن إنما ذاك عند الصدمة الأولى(2)».
وعن أبي سعيد الخدري: أنّ النساء قلن للنبي(صلی الله علیه و آله و سلم): اجعل لنا يوماً تعظنا فيه فوعظهن، وقال: «أيما امرأة مات لها ثلاثة من الولد كانوا لها حجاباً من النار» قالت امرأة واثنان؟ قال: «واثنان»(3).
وعن بريدة، قال: كان رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)يتعاهد الأنصار، ويعودهم، ويسأل عنهم، فبلغه أنّ امرأة مات ابن لها فجزعت عليه فأتاها فأمرها بتقوى الله عزّ وجلّ، والصبر فقالت: يا رسول الله إني امرأة رقوب لا ألد ولم يكن لي ولد غيره، فقال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «الرقوب التي يبقى لها ولدها»، ثمّ قال: «ما من امرئ مسلم، أو امرأة مسلمة يموت لهما ثلاثة من الولد، إلّا أدخلهما الله الجنّة»، فقيل له واثنان؟ فقال: «واثنان»(4).
وفي حديث آخر أنه(صلی الله علیه و آله و سلم)قال لها: «أما تحبّين أن ترينه على باب الجنّة وهو يدعوك إلينا؟ قالت: بلى، قال: فإنّه كذلك»(5).
ص: 220
«الرقوب» - بفتح الراء - : هي التي لا يولد لها، أو لا يعيش ولدها(1)، هذا بحسب اللغة، وقد خصه النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)بما ذكر.
وعن أبي النضر السلمي أن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) قال: «لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فيحتسبهم، إلا كانوا له حصناً من النار»، فقالت امرأة: واثنان؟ فقال: «واثنان»(2).
وعنه(صلی الله علیه و آله و سلم): «من قدّم من ولده ثلاثاً صابراً محتسباً، كان محجوباً من النار بإذن الله عزّ وجلّ»(3).
وفي لفظ آخر: «من قدّم شيئاً من ولده صابراً محتسباً، حجبوه بإذن الله من النار»(4).
وعن أُمّ مبشر الأنصارية، عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، أنه دخل عليها وهي تطبخ حباً، فقال: «من مات له ثلاثة لم يبلغوا الحنث كانوا له حجاباً من النار»، فقالت: يا رسول الله، واثنان ؟ فقال لها: «واثنان، يا أمّ مبشر»(5).
وفي لفظ آخر فقالت أو فرطان؟ قال: «أو فرطان»(6).
وعن قبيصة بن برمة، قال: كنت عند رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)جالساً، إذ أتته امرأة، فقالت: يا رسول الله ادع الله لي فإنّه ليس يعيش لي ولد قال: «وكم مات لك؟» قالت: ثلاثة قال: «لقد احتظرت من النار بحظار شديد»(7).
ص: 221
«الحظار» - بكسر الحاء المهملة والظاء المشالة -: الحظيرة تعمل للإبل من شجر ليقيها البرد والريح(1)، ومنه المحظور للمحرم أي الممنوع من الدخول فيه، كأن عليه حظيرة تمنع من دخوله.
وعن أبي بن كعب أنّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)قال لامرأة: «هل لك فرط؟» قالت: ثلاثة، قال: جُنَّة حصينة»(2).
وعنه(صلی الله علیه و آله و سلم): «ما من مسلمين يقدّمان ثلاثة لم يبلغوا الحِنت، إلّا أدخلهما الله الجنّة بفضل رحمته»، قالوا: يا رسول الله، وذو الاثنين؟ قال: «وذو الاثنين، إنّ من أُمتي مَن يدخل الجنة بشفاعته أكثر من مضر، وإن من أمتي من يستعظم للنار حتى يكون إحدى زواياها»(3).
رواه جماعة من أهل الحديث وصححوه.
وعنه(صلی الله علیه و آله و سلم)قال: «قال الله تعالى: حقت محبّتي للذين يتصادقون من أجلي، وحقت محبّتي للذين يتناصرون من أجلي».
ثم قال(صلی الله علیه و آله و سلم): «ما من مؤمن ولا مؤمنة يقدّم الله تعالى له ثلاثة أولاد من صلبه لم يبلغوا الحِنث، إلّا أدخله الله الجنّة بفضل رحمته إياهم»(4).
وعنه(صلی الله علیه و آله و سلم): «من دفن ثلاثة من الولد حرم الله عليه النار»(5).
وعن صعصعة بن معاوية، قال: لقيت أبا ذر الغفاري (رضي الله عنه) بالربذة، وهو يسوق بعيراً له عليه مزادتان، وفي عنق البعير قربة، فقلت: يا أبا ذر، مالك؟ قال: عملي.
ص: 222
قلت: حدثني رحمك الله، قال: سمعت رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)يقول: «ما من مسلمين يموت بينهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحِنث، إلا غفر الله لهما بفضل رحمته إياهم»(1).
قال، قلت: فحدثني قال: نعم، سمعت رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)يقول: «ما من عبد مسلم ينفق من كلّ ماله زوجين في سبيل الله إلّا استقبلته حجبة الجنّة كلهم يدعوه إلى ما عنده»، فقلت: كيف ذلك؟ قال: إن كان رحالاً فَرَحْلَين، وإن كان بعيراً فبعيرين وإن كان بقراً فبقرتين حتّى عدّ أصناف المال(2).
ذكره جماعة.
وعن أنس بن مالك، قال: وقف رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)على مجلس من بني سلمة، فقال: «يا بني سلمة، ما الرقوب فيكم؟ قالوا: الذي لا يولد له، قال: بل هو الذي لا فرط له»، قال: ما المعدم فيكم؟ قالوا: الذي لا مال له قال: بل هو الذي يقدم وليس له عند الله خير»(3).
وعن ابن مسعود، قال: دخل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)على امرأة يعزيها بابنها، فقال: «بلغنى أنك جزعت جزعاً شديداً»، قالت: وما يمنعني يا رسول الله وقد تركني عجوزاً رقوباً؟ فقال لها رسول الله(صلى الله عليه وسلم): «لست بالرقوب، إنّما الرقوب التي تتوفّى وليس لها فرط، ولا يستطيع الناس أن يعودوا عليها من أفراطهم فتلك الرقوب».
وهذه الأحاديث كلها مستخرجة من أصول مسندة، تركنا إسنادها وأُصولها اختصاراً، ولأنّ الله سبحانه بفضله ورحمته قد وعد الثواب لمن عمل بما بلغه، وإن لم يكن الأمر كما بلغه. ورد ذلك أيضاً في عدة أحاديث من طرقنا(4)وطرق العامة(5).
ص: 223
عن زيد بن أسلم، قال: مات لداود(علیه السّلام)ولد، فحزن عليه حزناً كثيراً، فأوحى الله إليه: «يا داود، ما كان يعدل هذا الولد عندك ؟ قال: يا ربّ كان يعدل هذا عندي ملء الأرض ذهباً، قال: فلك عندي يوم القيامة ملء الأرض ثواباً»(1).
وعن داود بن ابي هند، قال:
رأيت في المنام كأنّ القيامة قد قامت، وكأنّ الناس يدعون إلى الحساب، قال: فقرّبت إلى الميزان، ووضعت حسناتي في كفة، وسيئاتي في كفة؛ فرجحت السيئات على الحسنات، فبينما أنا كذلك مغموم إذ أُتيت بمنديل أبيض، أو خرقة بيضاء فوضعت مع حسناتي فرجحت فقيل لي أتدري ما هذا؟ قلت: لا، قيل: هذا سقط كان لك قلت: فإنّه كانت لي ابنة فقيل: بنتك ليست كذلك؛ لأنك كنت تتمنى موتها.
وعن أبي شوذب:
أنّ رجلاً كان له ابن لم يبلغ الحلم، فأرسل إلى قومه فقال: إنّ لي إليكم حاجة، قالوا: ما هي؟ قال: إنّي أُريد أن أدعو على ابني هذا أن يقبضه الله تعالى، وتؤمنون على دعائي، قال: فسألوه عن سبب ذلك، فأخبرهم أنه رأى في نومه كأنّ الناس قد جمعوا ليوم القيامة، وأصابهم عطش شديد، فإذن الولدان قد خرجوا من الجنّة معهم الأباريق، وفيهم ابن أخ له فالتمس منه أن يسقيه فأبى، وقال: يا عم، إنا لا نسقي إلّا الآباء، فأحببت أن يجعل الله ولدي هذا فرطاً لي، فدعا فأمنوا فلم يلبث الصبي حتى مات.
أخرجه البيهقي في الشعب(2).
ص: 224
وعن محمد بن خلف، قال:
كان لإبراهيم الحربي ابن له إحدى عشرة سنة قد حفظ القرآن، ولقنه أبوه من الفقه والحديث شيئاً كثيراً فمات، فأتيته لأعزّيه، فقال لي: كنت أشتهي موته، فقلت له: يا أبا إسحاق، أنت عالم الدنيا، تقول مثل هذا في صبي قد أنجب، وحفظ القرآن ولقنته الحديث والفقه؟ قال: نعم، رأيت في النوم كأنّ القيامة قد قامت وكأنّ صبياناً بأيديهم قلال(1)وفيها ماء، يستقبلون الناس يسقونهم، وكان اليوم يوماً حارّاً شديد الحر، فقلت لأحدهم: إسقني من هذا الماء. فنظر إلي، وقال: لست أنت أبي قلت: فأيّ شيء أنتم؟ قالوا: نحن الصبيان الذين متنا في دار الدنيا، وخلّفنا آباءنا فنستقبلهم ونسقيهم الماء؛ فلهذا تمنيت موته(2).
وروى الغزالي في الإحياء:
أنّ بعض الصالحين كان يعرض عليه التزويج برهة من دهره فيأبى، قال: فانتبه من نومه ذات يوم، وقال: زوّجوني، فزوجوه، فسئل عن ذلك، فقال: لعلّ الله تعالى أن يرزقني ولداً ويقبضه، فيكون لي مقدّمة في الآخرة، ثمّ قال: رأيت في المنام كأنّ القيامة قد قامت وكأنّي في جملة الخلائق في الموقف، وبي من العطش ما كاد أن يقطع قلبي، وكذا الخلائق من شدة العطش والكرب، فبينما نحن كذلك وإذن ولدان يتخلّلون الجمع عليهم قناديل من نور، وبأيديهم أباريق من فضة، وأكواب من ذهب، يسقون الواحد، بعد الواحد يتخلّلون الجمع ويتجاوزون أكثر الناس ، فمددت يدي إلى أحدهم، فقلت: اسقني، فقد أجهدني العطش، فقال: مالك فينا ولد إنّما نسقي آباءنا، فقلت: ومن أنتم؟ قالوا: نحن من مات من أطفال المسلمين(3).
ص: 225
وحكى الشيخ أبو عبد الله بن النعمان في كتاب مصباح الظلام عن بعض الثقات:
أنّ رجلاً أوصى بعض أصحابه ممّن أراد أن يحجّ أن يقرأ سلامه رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، ويدفن رقعة مختومة أعطاها له عند رأسه الشريف، ففعل ذلك، فلمّا رجع من حجّه أكرمه الرجل، وقال له: جزاك الله خيراً، لقد بلغت الرسالة، فتعجب المبلغ من ذلك، وقال: من أين علمت بتبليغها قبل أن أحدثك؟ فأنشأ يحدثه قال: كان لي أخ مات، وترك ابناً صغيراً، فربّيته وأحسنت تربيته، ثم مات قبل أن يبلغ الحلم، فلمّا كان ذات ليلة رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت والحشر قد وقع، والناس قد اشتدّ بهم العطش من شدّة الجهد وبيد ابن أخي ماء، فالتمست أن يسقيني، فأبى، وقال: أبي أحق به منك، فعظم علي ذلك فانتبهت فزعاً، فلما أصبحت تصدّقت بجملة دنانير، وسألت الله أن يرزقني ولداً ذكراً فرزقنيه، واتفق سفرك، فكتبت لك تلك الرقعة، ومضمونها التوسل بالنبي(صلی الله علیه و آله و سلم)إلى الله عزّ وجلّ في قبوله منّي رجاء أن أجده يوم الفزع الأكبر، فلم يلبث أن حُمَّ ومات وكان ذلك يوم وصولك، فعلمت أنك بلغت الرسالة.
وفي كتاب النوم والرؤيا لأبي الصقر الموصلي، حدثني علي بن الحسين بن جعفر، حدثني أبي، حدثني بعض أصحابنا ممن أثق بدينه وفهمه، قال:
أتيت المدينة ليلاً فنمت في بقيع الغرقد(1)بين أربعة قبور عندها قبر محفور، فرأيت في منامي أربعة أطفال، قد خرجوا من تلك القبور، وهم يقولون:
أنعم الله بالحبيبة عيناً *** وبمسراك يا أُميمَ إلينا
عجباً ما عجبت من ضغطة *** القبر ومغداك يا أُميم إلينا
ص: 226
فقلت: إنّ لهذه الأبيات لشأناً، وأقمت حتى طلعت الشمس، وإذن جنازة قد أقبلت فقلت : من هذه؟ فقالوا: امرأة من أهل المدينة، فقلت: اسمها أميمة؟ قالوا:
من نعم، قلت: قدمت فرطاً؟ قالوا: أربعة أولاد، فأخبرتهم بالخبر، فأخذوا يتعجبون من هذا.
وما أحسن ما أنشد بعض الأفاضل، يقول شعراً:
عطيته إذا أعطى سروراً *** وإن سلب الذي أعطى أثابا
فأيّ النعمتين أعدّ فضلاً *** وأحمد عند عقباها إيابا
أنعمته التي كانت سروراً *** أم الأخرى التي جلبت ثوابا
ص: 227
الصبر في اللغة: حبس النفس من الفزع من المكروه والجزع عنه(1)، وإنما يكون ذلك بمنع باطنه باطنه من الاضطراب، وأعضائه من الحركات غير المعتادة، وهو ثلاثة أنواع:
الأوّل: صبر العوام، وهو حبس النفس على وجه التجلد، وإظهار الثبات في النائبات؛ ليكون حاله عند العقلاء وعامة الناس مرضيّة ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الحياة الدُّنْيا، وَهُمْ عَن الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُون﴾(2).
الثاني: صبر الزهاد، والعباد، وأهل التقوى، وأرباب الحلم؛ لتوقع ثواب الآخرة ﴿إِنَّما يُوَفَّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾(3).
الثالث: صبر العارفين، فإنّ لبعضهم العارفين، فإنّ لبعضهم التذاذاً بالمكروه؛ لتصوّرهم أنّ معبودهم خصهم به من دون الناس، وصاروا ملحوظين بشريف نظره ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إذا أصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ، قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ
ص: 228
رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ﴾(1).
وهذا النوع يختص باسم الرضى، وسيأتي في باب خاص. والأوّل لا ثواب عليه؛ لأنّه لم يفعله لله، وإنّما فعله لأجل الناس، بل هو في الحقيقة رياء محض، فكلّما ورد في الرياء آتٍ فيه، ولكنّ الجزع شرّ منه؛ لأنّ النفوس البشرية تميل إلى التخلق بأخلاق النظراء والمعاشرين والخلطاء، فيفشو الجزع فيهم. وإذا رأوا أحوال الصابرين مالت نفوسهم إلى التخلق بأخلاقهم، فربما صار ذلك سبباً لكمالهم فتحصل منه فائدة في نظام النوع وإن لم تعد على هذا الصابر.
والصبر عند الإطلاق يحمل على القسم الثاني.
واعلم أنّ الله سبحانه قد وصف الصابرين بأوصاف، وذكر الصابرين في القرآن في نيف وسبعين موضعاً وأضاف أكثر الخيرات والدرجات إلى الصبر، وجعلها ثمرة له فقال عز من قائل: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةٌ يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمّا صَبَرُوا﴾(2).
وقال: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِما صَبَرُوا﴾(3).
وقال تعالى: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾(4).
وقال: ﴿أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا﴾(5).
وقال: ﴿إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾(6).
فما من قربة إلا وأجرها بتقدير وحساب إلا الصبر؛ ولأجل كون الصوم من الصبر(7)،
ص: 229
وأنه نصف الصبر(1)، كان لا يتولّى أجره إلا الله تبارك وتعالى، كما ورد في الأثر. قال الله تعالى: «الصوم لي وأنا أجزي به»(2). فأضافه إلى نفسه من بين سائر العبادات.
ووعد الصابرين بأنه معهم، فقال: ﴿وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابرين﴾(3). وعلق النصرة على الصبر، فقال: ﴿بلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾(4).
للصابرين بين أُمور لم يجمعها لغيرهم، فقال: ﴿أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ منْ وجمع رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ﴾(5). فالهدى والصلوات والرحمة مجموعة للصابرين.
واستقصاء جم جميع الآيات في مقام الصبر يطول.
وأما الأخبار فقد قال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): «الصبر نصف الإيمان»(6).
وقال(صلی الله علیه و آله و سلم): «من أقل ما أُوتيتم اليقين وعزيمة الصبر، ومن أُعطي حظه منهما لم يبال ما فاته من قيام الليل وصيام النهار، ولئن تصبروا على مثل ما أنتم عليه، أحب إلي من أن يوافيني كلّ امرئ منكم بمثل عمل جميعكم، ولكنّي أخاف أن تفتح عليكم الدنيا بعدي فينكر بعضكم بعضاً، وينكركم أهل السماء عند ذلك، فمن صبر واحتسب ظفر
ص: 230
بكمال ثوابه، ثم قرأ ﴿ما عِنْدَكُمْ يَنْفَذُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا﴾الآية»(1).
وروى جابر أنه(صلی الله علیه و آله و سلم)سئل عن الإيمان فقال: «الصبر كنز من كنوز الجنّة»(2)، وسئل مرّة ما الإيمان؟ فقال: «الصبر»(3). وهذا نظير قوله(علیه السّلام): «الحج عرفة»(4).
وقال(صلی الله علیه و آله و سلم): «أفضل الأعمال ما أُكرهت عليه النفوس»(5).
وقيل: أوحى الله تعالى إلى داود(علیه السّلام): تخلق بأخلاقي، وإن من أخلاقي الصبر»(6).
وعن ابن عباس (رضي الله عنه) لما دخل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)على الأنصار، فقال: «أمؤمنون أنتم؟» فسكتوا، فقال رجل: نعم يا رسول الله، فقال: «وما علامة إيمانكم؟» :قالوا نشكر على الرخاء، ونصبر على البلاء ونرضى بالقضاء، فقال: «مؤمنون وربّ الكعبة»(7).
وقال(صلی الله علیه و آله و سلم): «في الصبر على ما يكره خير كثير»(8).
وقال المسيح(علیه السّلام): «إنّكم لا تدركون ما تحبّون إلا بصبركم على ما تكرهون»(9).
وقال(صلی الله علیه و آله و سلم): «لو كان الصبر رجلاً لكان كريماً »(10).
وقال علي(علیه السّلام): «بني الإيمان على أربع دعائم اليقين، والصبر والجهاد، والعدل»(11).
ص: 231
وقال أيضاً: «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا جسد لمن لا رأس له، ولا إيمان لمن لا صبر له»(1).
وقال علي(علیه السّلام): «عليكم بالصبر، فإنّه به يأخذ الحازم، وإليه يعود الجازع»(2).
وقال علي(علیه السّلام): «إن صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور، وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت مأزور»(3).
وعن الحسن بن علي(علیهم السّلام)، عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)قال: «إنّ في الجنّة شجرة يقال لها: شجرة البلوى، يؤتى بأهل البلاء يوم القيامة، فلا يرفع لهم ديوان، ولا ينصب لهم ميزان، يصبّ عليهم الأجر صباً»، وقرأ(علیه السّلام): ﴿إنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾(4).
وعنه(علیه السّلام)، عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): «ما من جرعة أحب إلى الله تعالى من جرعة غيظ كظمها رجل، أو جرعة صبر على مصيبة، وما من قطرة أحبّ إلى الله تعالى من قطرة دمع من خشية الله، أو قطرة دم أهرقت في سبيل الله»(5).
وعنه(علیه السّلام): «المصائب مفاتيح الأجر»(6).
وعن زين العابدين(علیه السّلام): «إذا جمع الله الأولين والآخرين ينادي مناد: أين الصابرون ليدخلوا الجنة بغير حساب؟ قال: فيقوم عنق من الناس، فتتلقاهم الملائكة، فيقولون: إلى أين يا بني آدم؟ فيقولون: إلى الجنّة، فيقولون: وقبل الحساب؟! فقالوا: نعم، قالوا: ومن أنتم؟ قالوا: الصابرون قالوا: وما كان صبركم؟ قالوا: صبرنا على طاعة الله،
ص: 232
وصبرنا عن معصية الله، حتّى توفّانا الله عزّ وجلّ، قالوا: أنتم كما قلتم، ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين»(1).
وعن أنس، قال، قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «قال الله عزّ وجلّ: إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده، ثم استقبل ذلك بصبر جميل، استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزاناً، أو أنشر له ديواناً»(2).
وعن ابن مسعود عنه(صلی الله علیه و آله و سلم)قال: «ثلاث من رزقهنّ فقد رزق خير الدارين: الرضى بالقضاء، والصبر على البلاء، والدعاء في الرخاء»(3).
وعن ابن عباس(صلی الله علیه و آله و سلم)قال: كنت عند رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، فقال: «يا غلام - أو يا غليم - ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهنّ؟ فقلت: بلى، فقال: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تَعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أنّ في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، وأن النصر مع الصبر، وأنّ الفرج مع الكرب وأنّ مع العسر يسراً»(4).
وعنه(صلی الله علیه و آله و سلم): «يؤتى الرجل في قبره بالعذاب، فإذا أُتي من قبل رأسه دفعه تلاوة القرآن، وإذا أُتي من قبل يديه دفعه الصدقة، وإذا أُتي من قبل رجليه دفعه مشيه إلى المسجد، والصبر حجزه، يقول أما لو رأيت خللاً لكنت صاحبه»(5).
وفي لفظ آخر: «إذا دخل الرجل القبر قامت الصلاة عن يمينه، والزكاة عن شماله،والبر يظل عليه، والصبر بناحية يقول: دونكم صاحبي، فإنّي من ورائه، يعني: إن
ص: 233
استطعتم أن تدفعوا عنه العذاب، وإلا فأنا أكفيكم ذلك، وأدفع عنه العذاب»(1).
وعنه(صلی الله علیه و آله و سلم): «عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له»(2).
وعنه(صلی الله علیه و آله و سلم)ألا أعجبكم ؟! إن المؤمن إذا أصاب خيراً حمد الله وشكر، وإذا أصابته مصيبة حمد الله وصبر، فالمؤمن يؤجر في كلّ شيء حتى اللقمة يرفعها إلى فيه»(3).
وفي حديث آخر: «حتى اللقمة يرفعها إلى فم امرأته»(4).
وعنه(صلی الله علیه و آله و سلم): «الصبر خير مركب ما رزق الله عبداً خيراً له ولا أوسع من الصبر»(5).
وسئل(صلی الله علیه و آله و سلم): هل من رجل يدخل الجنّة بغير حساب؟ قال: نعم، كلّ رحيم صبور».
وعن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد الله(علیه السّلام)يقول: «إنّ الحرّ حرّ على جميع أحواله، إن نابته نائبة صبر لها وإن تراكمت عليه المصائب لم تكسره، وإن أسر وقهر واستبدل باليسر عسراً، كما كان يوسف الصديق الأمين(علیه السّلام)، لم يضرر حريته أن استعبد وأُسِر وقُهر ، ولم تضرره ظلمة الجبّ ووحشته، وما ناله أنْ مَنّ الله عليه، فجعل الجبار العاتي له عبداً بعد أن كان ملكاً، فأرسله أُمّته، و رحم به وكذلك الصبر يعقب خيراً، فاصبروا ووطّنوا أنفسكم على الصبر تؤجروا»(6).
ص: 234
و عن الباقر(علیه السّلام): «الجنّة محفوفة بالمكاره والصبر، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنّة، وجهنّم محفوفة باللذات والشهوات، فمن أعطى نفسه لذتها وشهوتها دخل النار»(1).
وعن علي(علیه السّلام)قال:«قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): الصبر ثلاثة صبر عند المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية. فمن صبر على المصيبة حتّى يردّها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض. ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش. ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش»(2).
وعن أبي حمزة الثمالي، قال، قال أبو عبد الله(علیه السّلام): «من ابتلي من المؤمنين ببلاء فصبر عليه كان له مثل أجر ألف شهيد»(3).
وعن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله(علیه السّلام)، قال: «قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): قال الله عزّ وجلّ: إنّي جعلت الدنيا بين عبادي قرضاً، فمن أقرضني منها قرضاً أعطيته بكلّ واحدة عشراً إلى سبعمائة ضعف وما شئت من ذلك، ومن لم يقرضني منها قرضاً فأخذت منه شيئاً قسراً، أعطيته ثلاث خصال، لو أعطيت واحدة منهنّ ملائكتي لرضوا بها منّي». ثم تلا أبو بو عبد الله قول الله عزّ وجلّ: ﴿ألَّذِينَ إذا أصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتُ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ فهذه واحدة من ثلاث خصال ﴿وَرَحْمَةٌ﴾
ص: 235
اثنان ﴿وَأُولئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ﴾(1)ثلاث.
ثمّ قال أبو عبد الله(علیه السّلام): «هذا لمن أخذ منه شيئاً قسراً»(2).
وعنه(صلی الله علیه و آله و سلم): «الضرب على الفخذ عند المصيبة يحبط الأجر(3). والصبر عند الصدمة الأولى أعظم»(4)؛ « وعظم الأجر على قدر المصيبة(5)و من استرجع بعد المصيبة جدّد الله له أجرها كيوم أصيب بها»(6).
وسأل رجل النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): ما يحبط الأجر في المصيبة؟ فقال: «تصفيق الرجل بيمينه على شماله، والصبر عند الصدمة الأولى، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فعليه السخط».
وعن أُمّ سلمة زوجة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)قالت: سمعت رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)يقول: «ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، إلا آجره الله تعالى في مصيبته، وأخلف له خيراً منها».
قالت: فلمّا توفّي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، فأخلف [الله] لي خيراً منه رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)(7).
ص: 236
وفي لفظ آخر: أنّها سمعت رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)يقول: «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول - ما أمره الله عزّ وجلّ : إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منه». قالت: فلما مات أبو سلمة (رضي الله عنه)، قلت: أي رجل خير من أبي سلمة! أوّل بيت هاجر إلى رسول الله ، ثمّ إنّي قلتها فأخلف الله لي رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم).
قالت: أرسل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)بحاطب ابن أبي بلتعة يخطبني، فقلت له: إنّ لي بنتاً وأنا غيور، فقال: أما بنتها فأدعو الله أن يغنيها عنها، وأدعو الله أن يذهب بالغيرة(1).
وفي حديث آخر، قال: أتاني أبو سلمة يوماً من عند رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)فقال: سمعت من رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)وآله قولاً سررت به قال لا يصيب أحداً من المسلمين مصيبة صلى الله عليه وسلم «لا فيسترجع عند مصيبته، ثمّ يقول: اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، إلا فعل ذلك به». قالت أُمّ سلمة: فحفظت ذلك منه، فلمّا توفّي أبو سلمة استرجعت وقلت:اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منه، ثم رجعت إلى نفسي فقلت: من أين لي خير من أبي سلمة؟! فلما انقضت عدتي استأذن عليَّ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)وأنا أدبغ إهاباً(2)، فغسلت يدي من القرظ(3)وأذنت له، فوضعت له وسادة أدم حشوها ليف فقعد عليها، فخطبني إلى نفسه(صلی الله علیه و آله و سلم).
فلما فرغ من مقالته قلت: يا رسول الله، ما بي أن لا تكون بك الرغبة، ولكنّي امرأةً في غيرة شديدة، فأخاف أن ترى منّي شيئاً يعذبني الله به، وأنا امرأة قد دخلت في السن، وأنا ذات عيال.
فقال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «أما ما ذكرت من السنّ فقد أصابني مثل الذي أصابك، وأما ما
ص: 237
ذكرت من العيال فإنّما عيالك عيالي»، قالت: فقد سلّمت نفسي لرسول الله، فتزوجها رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، فقالت أم سلمة فقد أبدلني الله عزّ وجلّ بأبي سلمة خيراً منه النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)(1).
وعن ابن عباس قال، قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «إنّ للموت فزعاً، فإذا أتى أحدكم وفاة أخيه فليقل: إنا لله وإنا إليه راجعون وإنا إلى ربّنا لمنقلبون، اللهم اكتبه عندك من المحسنين، واجعل كتابه في عليين، واخلف على عقبه في الآخرين، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده»(2).
و عن الحسين بن علي بن أبي طالب(علیه السّلام): أن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)قال: من أصابته مصيبة فقال إذا «أن ذكرها: إنا لله وإنا إليه راجعون، جدّد الله عزّ وجلّ له أجرها، مثل ما كان له يوم أصابته»(3).
وعن يوسف بن عبد الله بن سلام أنّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)كان إذا نزل بأهله شدّة، ﴿أمرهم بالصلاة، ثمّ قرأ: (وَأْمُرْ أهْلَكَ بِالصَّلَوَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها﴾(4).
وعن ابن عباس أنه نُعي إليه أخوه قتم وهو في سفر فاسترجع، ثم تنحى عن الطريق فأناخ، فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوَةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةُ إِلَّا عَلَى الخاشِعِينَ﴾(5).
وعنه أيضاً أنّه كان إذا أصيب بمصيبة قام وتوضأ وصلى ركعتين، وقال: اللهم قد فعلتُ ما أمرتنا، فأنجز لنا ما وعدتنا(6).
ص: 238
وعن عبادة بن محمد بن عبادة بن الصامت، قال
لما حضرت عبادة(صلی الله علیه و آله و سلم)الوفاة قال: أخرجوا فراشي إلى الصحن - يعني: الدار -ففعلوا، ثمّ قال: اجمعوا إلي موالي وخدمي وجيراني ومن كان يدخل علي، فجمعوا. فقال: إنّ يومي هذا لا أراه إلا آخر يوم يأتي عليّ من الدنيا، وأوّل ليلة من ليالي الآخرة، وإنّي لا أدري لعله قد فرط منّي إليكم بيدي أو بلساني شيء، وهو - والذي نفس عبادة بيده - القصاص يوم القيامة، فأحرج(1)على أحد منكم في نفسه منّي شيء من ذلك، إلا اقتص مني قبل أن تخرج نفسي.
قال: فقالوا: إنك كنت لنا والداً وكنت مؤدباً، وما قال لخادم سوءاً قط، قال: أغفرتم لي ما كان من ذلك؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد ثمّ قال: أما فاحفظوا وصيّتي أُحرج على إنسان منكم يبكي، فإذا خرجت نفسي فتوضؤوا وأحسنوا الوضوء، ثمّ ليدخل إنسان منكم مسجداً ،فيصلّي، ثمّ يستغفر لعبادة ولنفسه، فإنّ الله عزّ وجلّ قال: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلَوَةِ﴾(2)، ثمّ أسرعوا بي إلى حفرتي ولا تتبعوني بنار، ولا تضعوا تحتي أُرجواناً(3).
وعن جابر، عن الباقر(علیه السّلام)، قال : «أشدّ الجزع الصراخ بالويل والعويل، ولطم الوجه والصدر، وجز الشعر، ومن أقام النواحة فقد ترك الصبر، ومن صبر واسترجع وحمد الله تعالى فقد رضي بما صنع الله، ووقع أجره على الله عزّ وجلّ، ومن لم يفعل ذلك جرى عليه القضاء وهو ذميم، وأحبط الله عزّ وجلّ أجره»(4).
ص: 239
وعن ربعي بن عبد الله عن الصادق(علیه السّلام)، قال: «إنّ الصبر والبلاء يستبقان إلى المؤمن، فيأتيه البلاء وهو صبور، وإن الجزع والبلاء يستبقان إلى الكافر، فيأتيه البلاء وهو جزوع»(1).
وعنه(علیه السّلام)قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): ضرب المسلم يده على فخذه عند المصيبة إحباط لأجره»(2).
وعن موسى بن بكر عن الكاظم(علیه السّلام)قال: ضرب الرجل على فخذه عند المصيبة إحباط أجره»(3).
وعن إسحاق بن عمار، عن الصادق(علیه السّلام): يا إسحاق، لا تعدن مصيبة أعطيت عليها الصبر واستوجبت عليها من الله عزّ وجلّ الثواب، إنّما المصيبة التي يحرم صاحبها أجرها وثوابها إذا لم يصبر عند نزولها»(4).
وعن أبي ميسرة قال: كنا عند أبي أبي عبد الله(علیه السّلام)، فجاءه رجل وشكا إليه مصيبة، فقال: «أما إنك إن تصبر تؤجر، وإن لا تصبر يمضي عليك قدر الله عزّ وجلّ الذي قدر عليك وأنت مذموم»(5).
قال الصادق(علیه السّلام): «البلاء زين المؤمن، وكرامة لمن عقل؛ لأنّ في مباشرته، والصبر عليه،
ص: 240
والثبات عنده، تصحيح نسبة الإيمان».
قال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): «نحن معاشر الأنبياء أشدّ بلاء، والمؤمن الأمثل فالأمثل. ومن ذاق طعم البلاء تحت ستر حفظ الله له، تلذذ به أكثر من تلذذه بالنعمة، ويشتاق إليه إذا فقده؛ لأنّ تحت نيران البلاء والمحنة أنوار النعمة وتحت أنوار النعمة نيران البلاء والمحنة، وقد ينجو منه كثير، ويهلك في النعمة كثير . وما أثنى الله تعالى على عبد من عباده من لدن آدم إلى محمّد(صلی الله علیه و آله و سلم)إلا بعد ابتلائه، ووفاء حق العبودية فيه، فكرامات الله تعالى في الحقيقة نهايات بداياتها البلاء، وبدايات نهاياتها البلاء. ومن خرج من شبكة البلوى جعل سراج المؤمنين، ومؤنس المقربين، ودليل القاصدين. ولا خير في عبد من محنة تقدّمها آلاف نعمة واتبعها آلاف ،راحة، ومن لا يقضي حق الصبر على البلاء، حرم قضاء الشكر في النعماء، كذلك من لا يؤدّي حق الشكر في النعماء، يحرم عن قضاء الصبر فى البلاء، ومن حُرمهما فهو من المطرودين».
وقال أيوب(علیه السّلام)في دعائه: «اللهم قد أتى عليّ سبعون في الرخاء، فأمهلني حتى يأتي علي سبعون في البلاء».
وقال وهب: البلاء للمؤمن كالشكال للدابة، والعقال للإبل.
وقال أمير المؤمنين(علیه السّلام): «الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، ورأس الصبر البلاء وما يعقلها إلّا العالمون».
هذا الفصل كله من كلام الصادق(علیه السّلام)(1).
وقال الصادق(علیه السّلام): الصبر يظهر ما في بواطن العباد من النور والصفاء، والجزع يظهر ما في بواطنهم من الظلمة والوحشة والصبر يدّعيه كلّ أحد، ولا يبين عنده إلا المخبتون،
ص: 241
والجزع ينكره كل أحد، وهو أبين على المنافقين؛ لأنّ نزول المحنة والمصيبة يخبر عن الصادق والكاذب».
وتفسير الصبر ما يستمر مذاقه، وما كان عن اضطراب لا يسمّى صبراً. وتفسير :الجزع اضطراب القلب وتَحَكُّن الشخص وتَغَيُّر اللون، وتغيّر الحال. وكلّ نازلة خلت أوائلها عن الإخبات والإنابة والتضرع إلى الله تعالى فصاحبها جزوع غير صابر. والصبر ما أوّله مرّ، وآخره حلو لقوم، ولقوم مرّ أوّله وآخره، فمن دخله من أواخره فقد دخل(1)، ومن دخله من أوائله فقد خرج، ومن عرف قدر الصبر لا يصبر عمّا منه الصبر.
قال الله عزّ وجلّ - في قصة موسى والخضر(علیهم السّلام)- : ﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ خُبْراً﴾(2). فمن صبر كرهاً ولم يشك إلى الخلق، ولم يجزع بهتك ستره، فهو من العام، ونصيبه ما قال الله عزّ وجلّ: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ(3)أي بالجنّة والمغفرة، ومن استقبل البلاء بالرحب وصبر على سكينة ووقار فهو من الخاص ونصيبه ما قال الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾(4).
كانت العرب في الجاهلية وهم لا يرجون ثواباً، ولا يخشون عقاباً يتحاضون على الصبر، ويعرفون فضله، ويُعيرون بالجزع أهله، إيثاراً للحزم، وتزيّناً بالحلم، وطلباً للمروءة، وفراراً من الاستكانة إلى حسن العزاء، حتى كان الرجل منهم ليفتقد حميمه
فلا يعرف ذاك منه، فلمّا جاء الإسلام وانتشر وعلم ثواب الصبر واشتهر تزايدت في
ص: 242
ذلك لهم الرغبة وارتفعت للمبتلين الرتبة.
قال أبو الأحوص:
دخلنا على ابن مسعود، وعنده بنون له ثلاثة غلمان كأنّهم الدنانير حسناً، فجعلنا نتعجب من حسنهم، فقال: كأنكم تغبطوني بهم؟ قلنا: إي والله بمثل هؤلاء يغبط المرء المسلم، فرفع رأسه إلى سقف بيت قصير قد عشش فيه الخطاف وباض، فقال: والذي نفسي بيده لئن أكون نفضت يدي من تراب قبورهم، أحب إلي من أن يسقط عش هذا الخطاف وينكسر بيضه. يعني: حرصاً على الثواب(1).
وكان عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) يقرئ الناس القرآن في المسجد جائياً على ركبتيه، إذ جاءت أُمّ ولده بابن له، يقال له: محمّد، فقامت على باب المسجد، ثمّ أشارت له إلى أبيه، فأقبل فأفرج له القوم حتى جلس في حجره، ثم جعل يقول: مرحباً بسمي من هو خير منه، ويقبله حتى كاد يزدرد ريقه.
ثم قال : والله لموتك وموت إخوتك أهون عليّ من عدتكم من هذا الذباب(2)، فقيل له: لم تتمنّى هذا؟ فقال: اللهمّ غفراً إنّكم تسألوني، ولا أستطيع إلا أن أخبركم، أُريد بذلك الخير، أما أنا فأحرز أجورهم، وأتخوّف عليهم، سمعت رسول الله يقول: «يأتي عليكم زمان يغبط الرجل بخفّة الحال، كما يغبط اليوم بكثرة المال والولد»(3).
وكان أبو ذر (رضي الله عنه) لا يعيش له ولد، فقيل له: إنك امرؤ لا يبقى لك ولد، فقال: الحمد لله الذي يأخذهم من دار الفناء، ويدخرهم في دار البقاء(4).
ص: 243
ومات لعبد الله بن عامر المازني (رضي الله عنه) في الطاعون الجارف، سبعة بنين في يوم واحد فقال: إنّي مسلم مسلّم(1).
وعن عبد الرحمن بن عثمان قال: دخلنا على معاذ وهو قاعد عند رأس ابن له وهو يجود بنفسه، فما ملكنا أنفسنا أن ذرفت أعيننا، وانتحب بعضنا، فزجره معاذ وقال مه، فوالله ليعلم الله برضاي؛ لهذا أحب إلي من كلّ غزوة غزوتها مع رسول الله ، فإنّي سمعته يقول: «من كان له ابن وكان عليه عزيزاً، وبه ضنيناً، ومات فصبر على مصيبته واحتسبه، أبدل الله الميت داراً خيراً من داره، وقراراً خيراً من قراره وأبدل المصاب الصلاة والرحمة والمغفرة والرضوان».
فما برحنا حتى قضى والله الغلام حين أخذ المنادي لصلاة الظهر، فرحنا نريد الصلاة، فما جئنا إلا وقد غسله وحنّطه وكفّنه.
وجاء رجل بسريره غير منتظر لشهود الإخوان ولا لجمع الجيران، فلما بلغنا ذلك تلاحقنا، وقلنا: يغفر الله لك يا أبا عبد الرحمن، هلا انتظرتنا حتى نفرغ من صلاتنا، ونشهد ابن أخينا.
فقال: أمرنا أن لا ننتظر موتانا ساعةً ماتوا بليل أو نهار، قال: فنزل في القبر، ونزل معه آخر، فلما أراد الخروج ناولته يدي لأنتهضه من القبر، فأبى وقال: ما أدع ذلك لفضل قوّتي، ولكن أكره أن يرى الجاهل أنّ ذلك منّي جزع، أو استرخاء عند المصيبة، ثم أتى مجلسه، ودعا بدهن فأدهن، وبكحل فاكتحل، وببردة فلبسها، وأكثر في يومه ذلك من التبسم، ينوي به ما ينوي، ثمّ قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، في الله خلف عن كلّ هالك، وعزاء من كلّ مصيبة، ودرك لكلّ ما فات(2).
وروي أنّ قوماً كانوا عند علي بن الحسين(علیهم السّلام)، فاستعجل خادماً بشواء في التنور،
ص: 244
فأقبل به مسرعاً، فسقط السفّود(1)من يده على ولد على بن الحسين(علیه السّلام)، فأصاب رأسه فقتله، فوثب عليّ بن الحسين(علیهم السّلام)، فلما رأى ابنه ميتاً، قال للغلام: «أنت حر لوجه الله تعالى، أما إنّك لم تتعمده»، ثم أخذ في جهاز ابنه.
وعن الأحنف بن قيس قال تعلّموا الحلم والصبر، فإنّي تعلمته، فقيل له: ممن؟ قال: من قيس بن عاصم، قيل: وما بلغ من حلمه؟ قال: كنا قعوداً عنده إذ بابنه مقتولاً، وبقاتله مكبولاً، فما حلّ حبوته(2)، ولا قطع حديثه حتى فرغ.
ثم التفت إلى قاتل ابنه فقال: يا ابن أخي ما حملك على ما فعلت؟ قال: غضبت.
قال: أوكلّما غضبت أهنت نفسك، وعصيت ربّك، وأقللت عددك؟ اذهب فقد أعتقتك. ثم التفت إلى بنيه فقال: يا بني، اعمدوا إلى أخيكم فغسلوه وكفنوه، فإذا فرغتم منه فأتوني به لأصلّى عليه، فلمّا دفنوه قال لهم: إن أمه ليست منكم - وهي من قوم آخرين
فلا أراها ترضى بما ،صنعتم، فأعطوها ديته من مالي(3).
وروى الصدوق في الفقيه : أنه لما مات ذرّ بن أبي ذرّ (رحمه الله) وقف أبو ذرّ على قبره فمسح القبر بيده ثمّ قال رحمك الله يا ذرّ والله إنك كنت بي لبراً، ولقد قبضت وإنّي عنك لراض، والله ما فقدك وما عليَّ من غضاضة، وما لي إلى أحد سوى الله من حاجة، ولولا هول المطّلع لسرني أن أكون مكانك، ولقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك والله ما بكيت لك، ولكن بكيت عليك فليت شعري ما قلت وما قيل لك، اللهمّ إنّي قد وهبت ما افترضت عليه من حقي فهب له ما افترضت عليه من حقك
ص: 245
فأنت أحق بالجود والكرم منّي(1).
وأسند الدينوري أنّ ذرّ بن عمر بن ذر لما مات وقف أبوه على قبره، وقال: رحمك الله يا ذر، ما علينا بعدك من خصاصة، وما بنا إلى أحد مع الله حاجة، وما يسرني أني كنت المقدم قبلك، ولو لا هول المطلع لتمنيت أن أكون مكانك، وقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك، فليت شعري ماذا قلت، وماذا قيل لك، ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: اللهم إنّي قد وهبت له حقي فيما بيني وبينه، فاغفر له من الذنوب ما بينك وبينه، فأنت أجود الأجودين وأكرم الأكرمين ثم انصرف وقال فارقناك ولو أقمنا ما نفعناك(2).
وروى المبرد، قال: لما هلك ذرّ بن عمر وقف عليه أبوه وهو مسجى، وقال: يا بني، ما علينا من موتك غضاضة، وما بنا إلى ما سوى الله من حاجة. فلمّا دفن قام على قبره، وقال: يا ذر، غفر الله لك، قد شغلنا الحزن لك عن الحزن عليك، لأنا لا ندري ما ،قلت ولا ما قيل لك، اللهمّ إنّي قد وهبت له ما قصر فيه مما افترضت عليه من حقي، فهب له ما قصر فيه من حقك واجعل ثوابي عليه ،له وزدني من فضلك، إنّي إليك من الراغبين، فسُئل عنه، فقيل: كيف كان معك؟ فقال: ما مشيت معه بليل قط إلا كان أمامي، ولا بنهار قط إلا كان خلفي، وما علا سطحاً قط وأنا تحته(3).
وقدم على بعض الخلفاء قوم من بني عبس فيهم رجل ضرير، فسأله عن عينيه فقال: بتُ ليلة في بطن واد ولم أعلم عبسيّاً يزيد ماله على مالي، فطرقنا سيل، فذهب بما كان لي من أهل ومال ،وولد، غير بعير وصبي مولود، وكان بعيراً صعباً فنفر، فوضعت الصبي واتبعت البعير ، فلم أجاوز إلا قليلا حتى سمعت صيحة ابني، فرجعت
ص: 246
إليه ورأس الذئب في بطنه وهو يأكله، ولحقت البعير لأحبسه فنفحني(1)برجله على وجهي فحطمه، وذهب بعيني فأصبحت لا مال لي، ولا أهل، ولا ولد، ولا بصر(2).
روي أنّ عياض بن عقبة الفهري مات له ابن فلما نزل في قبره قال له رجل: والله إنه كان لسيّد الجيش فاحتسبه(3)، فقال: وما يمنعني، وقد كان بالأمس زينة الحياة الدنيا، وهو اليوم من الباقيات الصالحات(4).
وقال أبو علي الرازي: صحبت الفضيل بن عياض ثلاثين سنة، ما رأيته ضاحكاً ولا متبسماً قط إلا يوم مات ابنه علي، فقلت له في ذلك، فقال: إنّ الله سبحانه وتعالى أحبّ أمراً، فأحببت ما أحبّ الله عزّ وجلّ(5).
وأُصيب عمرو بن(6)كعب الهندي بتستر(7)، فكتموا أباه الخبر، ثمّ بلغه فلم يجزع، وقال: الحمد لله الذي جعل من صلبي من أُصيب شهيداً(8)، ثم استشهد له ابن آخر بجرجان(9)، فلما بلغه الخبر، قال: الحمد لله الذي توفّى منّي شهيداً آخر(10).
ص: 247
وروى البيهقي: أنّ عبد الله بن مطرف مات فخرج أبوه مطرف على قومه في ثياب حسنة، وقد ادهن، فغضبوا وقالوا: يموت عبد الله وتخرج في ثياب حسنة مدهناً! قال: أفأستكين لها؟ وقد وعدني ربّي تبارك وتعالى عليها ثلاث خصال هي أحب إلي من الدنيا وما فيها، قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ إذا أصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ﴾(1).
ودعا رجل من قريش إخواناً له، فجمعهم على طعام، فضربت ابناً له دابة لبعضهم فمات، فأخفى ذلك عن القوم، وقال لأهله : لا أعلمن صاحت منكم صائحة، أو بكت منكم باكية، وأقبل على إخوانه حتى فرغوا من طعامه، ثم أخذ في جهاز الصبي، فلم يفجأهم إلا بسريره، فارتاعوا وسألوه عن أمره فأخبرهم، فتعجبوا من صبره وكرمه.
وذكر: أنّ رجلاً من اليمامة دفن ثلاثة رجال من ولده ثم احتبى في نادي قومه يتحدّث كأن لم يفقد أحداً فقيل له في ذلك، فقال: ليسوا في الموت ببديع، ولا أنا في المصيبة بأوحد، ولا جدوى للجزع، فعلام تلومونني(2)؟
وأسند أبو العباس، عن مسروق، عن الأوزاعي، قال: حدثنا بعض الحكماء، قال: خرجت وأنا أُريد الرباط(3)، حتى إذا كنت بعريش(4)، مصر إذا أنا بمظلة وفيها رجل قد ذهبت عيناه، واسترسلت يداه ورجلاه، وهو يقول: لك الحمد سيدي ومولاي، اللهم إنّي أحمدك حمداً يوافي محامد خلقك، كفضلك على سائر خلقك، إذ فضّلتني على كثير ممن خلقت تفضيلاً.
ص: 248
فقلت: والله لأسألته، أعلمه أو ألهمه إلهاماً، فدنوت منه، وسلمت عليه، فردّ عليَّ السلام، فقلت له: رحمك الله إني أسألك عن شيء، أتخبرني به أم لا؟ فقال: إن كان عندي منه علم أخبرتك به، فقلت: رحمك الله، على أي فضيلة من فضائله تشکره؟ فقال: أوليس ترى ما قد صنع بي؟ قلت: بلى، فقال: والله لو أنّ الله تبارك وتعالى صبّ عليَّ ناراً تحرقني، وأمر الجبال فدمرتني، وأمر البحار فغرقتني، وأمر الأرض فخسفت بي، ما ازددت فيه سبحانه إلا حباً، ولا ازددت له إلا شكراً، وإن لي إليك حاجة، أفتقضيها لي؟ قلت: نعم، قل ما تشاء، فقال: بُني لي كان يتعاهدني أوقات صلاتي ويطعمني عند إفطاري، وقد فقدته منذ أمس، فانظر هل تجده لي؟
قال: فقلت في نفسي: إنّ في قضاء حاجته لقربة إلى الله عزّ وجلّ، فقمت وخرجت في طلبه، حتى إذا صرت بين كثبان الرمال، إذا أنا بسبع قد افترس الغلام يأكله، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون كيف آتي هذا العبد الصالح بخبر ابنه؟
قال: فأتيته، وسلّمت عليه، فرد عليَّ السلام، فقلت: رحمك الله، إن سألتك عن شيء تخبرني به؟ فقال: إن كان عندي منه علم أخبرتك به، قال: فقلت: أنت أكرم على الله عزّ وجلّ وأقرب منزلة، أو نبي الله أيوب ؟فقال: بل نبي الله أكرم على الله تعالى منّي، وأعظم عند الله تعالى منزلة منّي، قال: فقلت له: إنه ابتلاه الله تعالى فصبر، حتى استوحش منه من كان يأنس به وكان عرضاً لمُرّار الطريق، واعلم أنّ ابنك الذي أخبرتنى به وسألتنى أن أطلبه لك، افترسه السبع، فأعظم الله أجرك فيه.
فقال: الحمد لله الذي لم يجعل في قلبي حسرة من الدنيا، ثمّ شهق شهقة وسقط على وجهه فجلست ساعة، ثمّ حرّكته فإذا هو ميّت فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، فكيف أعمل في أمره؟ ومن يعينني على غُسله وكفنه وحفر قبره ودفنه؟
فبينما أنا كذلك إذا أنا بركب يريدون الرباط فأشرت إليهم فأقبلوا نحوي حتى وقفوا عليّ، وقالوا: من أنت؟ ومن هذا؟ فأخبرتهم بقصتي، فعقلوا رواحلهم، وأعانوني
ص: 249
حتى غسلناه بماء البحر، وكفّنّاه بأثواب كانت معهم، وتقدمت، فصليت عليه مع الجماعة، ودفنّاه في مظلّته.
وجلست عند قبره آنساً به أقرأُ القرآن إلى أن مضى من الليل ساعات، فغفوت غفوة(1)، فرأيت صاحبي في أحسن صورة وأجمل زيّ في روضة خضراء عليه ثياب خضر قائماً يتلو القرآن فقلت له : ألست بصاحبي؟ قال: بلى، قلت: فما الذي صيّرك إلى ما أرى؟ فقال: اعلم أنّي وردت مع الصابرين على الله عزّ وجلّ في درجة لم ينالوها إلّا بالصبر على البلاء والشكر عند الرخاء، فانتبهت.
وحكى الشعبي، قال:
رأيت رجلاً وقد دفن ابنه، فلمّا حثا عليه التراب وقف على قبره؛ وقال: يا بني، كنت هبة ماجد، وعطيّة واجد، ووديعة مقتدر، وعارية منتصر، فاسترجعك واهبك، وقبضك مالكك، وأخذك معطيك، فأخلفني الله عليك الصبر، ولا حرمني الله بك الأجر، ثمّ قال: أنت في حلّ من قبلي، والله أولى عليك التفضّل منّي.
ولما مات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، وأخوه سهل بن عبد العزيز، ومولاه مزاحم في أيام متتابعة دخل عليه بعض أصحابه يعزّيه، وقال في جملة كلامه والله ما رأيت مثل ابنك ابناً، ولا مثل أخيك أخاً، ولا مثل مولاك مولى، فطأطأ رأسه ثم قال: أعد علي ما قلت فأعاده عليه، فقال: لا والذي قضى عليهم، ما أحبّ أنّ شيئاً كان من ذلك لم يكن(2).
وقيل: بينما عمر بن عبد العزيز ذات يوم جالس إذ أتاه ابنه عبد الملك، فقال: الله الله في مظالم بني أبيك فلان وفلان، فوالله لوددت أن القدور قد غلت بي وبك فيما يرضي الله، وانطلق فأتبعه أبوه بصره، وقال: إني لأعرف خير أحواله، قالوا:
ص: 250
وما خير أحواله؟ قال: أن يموت فأحتسبه(1).
ولما دخل عليه أبوه في مرضه فقال له: كيف تجدك؟ قال: أجدني في الموت، فاحتسبني يا أبه، فإنّ ثواب الله عز وجلّ خير لك منّي، فقال: والله يا بني، لأن تكون في ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك، فقال ابنه: لأن يكون ما تحبّ أحبّ إلى من أن يكون ما أحب
فلما مات وقف على قبره، وقال: رحمك الله يا بني، لقد كنت ساراً مولوداً، وباراً ناشئاً، وما أُحبّ أنّي دعوتك فأجبتني(2).
ومات له ابن آخر قبل عبد الملك، فجاء فقعد عند رأسه، وكشف الثوب عن وجهه، وجعل ينظر إليه ويستدمع فجاء ابنه عبد الملك فقال يا أبه ليشغلك ما أقبل من الموت عمّن هو في شغل عمّا حلّ لديك، فكأن قد لحقت بابنك وساويته تحت التراب بوجهك، فبكى عمر، ثمّ قال: رحمك الله يا بني، فوالله إنّك لعظيم البركة، ما عَلِمْتُكَ على أنك نافع الموعظة لمن وعظت.
روي عن أنس بن مالك، قال:
كان ابن لأبي طلحة (رضي الله عنه) يشتكي، فخرج أبو طلحة فقبض الصبي،فلما رجع أبو طلحة قال: ما فعل ابني؟ فقالت أُم سليم - وهي أُم الصبي - (رضي الله عنها) هو أسكن ممّا كان، فقربت له العشاء فتعشّى، ثمّ أصاب منها، فلما فرغ قالت: وار(3) الصبي، فلما أصبح أبو طلحة أتى رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)فأخبره، فقال:
ص: 251
«أعرستم» الليلة؟» فقال: نعم، فقال: «اللهم بارك لهما فولدت غلاماً.
قالت: فقلت لأبي طلحة احمله حتّى تأتي رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، وبعثت معه بتمرات، فقال: «أمعه شيء؟ قال: تمرات فأخذها النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)فمضغها، ثم أخذها(صلی الله علیه و آله و سلم)من فيه فجعلها في في الصبيّ، ثمّ حنّكه، وسمّاه عبد الله.
قال رجل من الأنصار: فرأيت تسعة أولاد كلّهم قد قرؤا القرآن، يعني من أولاد عبد الله المولود(1).
وفي رواية أخرى: مات ابن لأبي طلحة من أم سليم، فقالت لأهلها لا تحدّثوا أبا امّ طلحة بابنه حتّى يكون أنا أحدّثه، قال: فجاء فقربت إليه عشاء، فأكل وشرب، ثمّ تصنّعت له أكثر مما كانت تتصنّع له من قبل ذلك، فلمّا رأت أنه قد شبع وأصاب منها قالت يا أبا ،طلحة، أرأيت قوماً أعاروا عارية أهل بيت فطلبوا عاريتهم؟ ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا قالت فاحتسب ابنك، قال: فغضب، ثمّ قال: تركتني حتى إذا تلطخت ثم أخبرتني بابني!!(2).
وفي حديث آخر: لمّا كان آخر الليل قالت يا أبا طلحة، إن آل فلان استعاروا عارية تمتعوا بها، فلمّا طلبت منهم شق عليهم ذلك، قال: ما أنصفوا، قالت: فإن فلاناً - لابنها - كان عارية من الله عزّوجلّ وقبضه الله فاسترجع، ثمّ غدا إلى رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)فأخبره بما كان، فقال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «بارك الله لكما في ليلتكما».
قال: فحملت وذكر الحديث، وفيه فولدت غلاماً، فمسح رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)وجهه، وسمّاه عبد الله(3).
ص: 252
والحديث في عيون المجالس بزيادة غريبة في آخره، ولفظه:
عن معاوية بن قرة، قال: كان أبو طلحة يحبّ ابنه حباً شديداً، فمرض فخافت أُمّ سليم على أبي طلحة الجزع حين قرب موت الولد، فبعثته إلى النبي، فلما خرج أبو طلحة من داره توفّي الولد، فسجّته أم سليم بثوب وعزّلته في ناحية من البيت، ثمّ تقدمت إلى أهل بيتها وقالت لهم: لا تخبروا أبا طلحة بشيء.
ثمّ إنّها صنعت طعاماً، ثمّ مست شيئاً من الطيب، فجاء أبو طلحة من عند رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)فقال: ما فعل ابني ؟ فقالت له: هدأت نفسه، ثمّ قال: هل لنا ما نأكل؟ فقامت فقرّبت إليه الطعام، ثمّ تعرّضت له فوقع عليها، فلمّا اطمأنّ قالت له: يا أبا طلحة أتغضب من وديعة كانت عندنا فرددناها إلى أهلها ؟ فقال سبحان الله، لا، فقالت: ابنك كان عندنا وديعة فقبضه الله تعالى فقال أبو طلحة فأنا أحق بالصبر منك.
ثمّ قام من مكانه، واغتسل، وصلّى ركعتين، ثم انطلق إلى النبي ، فأخبره بصنيعهما، فقال له رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): :فبارك الله لكما في وقعتكما»، ثم قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «الحمد لله الذي جعل في أُمّتي مثل صابرة بني إسرائيل»، فقيل: يا رسول الله، ما كان من خبرها؟
قال: «كانت في بني إسرائيل ،امرأة، وكان لها زوج ولها منه ،غلامان، فأمرها بطعام ليدعو عليه الناس ففعلت واجتمع الناس في داره فانطلق الغلامان يلعبان، فوقعا في بئر كان في الدار فكرهت أن تنغص على زوجها الضيافة، فأدخلتهما البيت، وسجّتهما بثوب، فلما فرغوا دخل زوجها فقال أين ابناي؟ قالت: هما في البيت، وإنها كانت قد تمسحت بشيء من الطيب، وتعرّضت للرجل حتى وقع عليها، ثمّ قال: أين ابناي؟ قالت: هما في البيت، فناداهما أبوهما، فخرجا يسعيان، فقالت المرأة: سبحان الله والله لقد كانا ميتين، ولكنّ الله تعالى أحياهما ثواباً لصبري».
وقريب من هذا ما رويناه في دلائل النبوة عن أنس بن مالك، قال: دخلنا على
ص: 253
رجل من الأنصار وهو مريض، فلم نبرح حتى قضى فبسطنا عليه ثوباً، وأم له عجوز كبيرة عند رأسه، فقلنا لها يا هذه احتسبي مصيبتك على الله عزّ وجلّ، فقالت: مات ابني ؟ قلنا: نعم، قالت: حقاً تقولون؟ قلنا: نعم، قال: فمدت يدها، وقالت: اللهم إنك تعلم أنّي أسلمت لك، وهاجرت إلى رسولك(صلی الله علیه و آله و سلم)رجاء أن تعينني عند كلّ شدّة ورخاء، فلا تحمل على هذه المصيبة اليوم فكشف الثوب عن وجهه بيده، ثمّ ما برحنا حتى طعمنا معه(1).
وهذا الدعاء من المرأة (رحمها الله) إدلال على الله، واستئناس به يقع منه للمحبين كثيراً، فيقبل دعاءهم، وإن كان في التذكير بنحو ذلك ما يظهر منه قلة الأدب، ولو وقع من غيرهم، ولذلك بحث طويل وشواهد من الكتاب والسنّة، يخرج ذكره عن مناسبة
المقام.
ومن لطيف ما اتفق فيه، ما روي من مناجاة «برخ الأسود» الذي أمر الله تعالى کلیمه موسی(علیه السّلام)أن يسأله ليستسقي لبني إسرائيل بعد أن قحطوا سبع سنين، وخرج موسى(علیه السّلام)ليستسقي لهم في سبعين ألفاً، فأوحى الله إليه: «كيف أستجيب لهم وقد أظلّت عليهم ذنوبهم، وسرائرهم خبيثة يدعونني على غير يقين، ويأمنون مكري، ارجع إلى عبد من عبادي، يقال له: برخ، يخرج حتى أستجيب له.
فسأل عنه موسى(علیه السّلام)فلم يُعرف، فبينما موسى(علیه السّلام)ذات يوم يمشي في طريق، فإذن الله بعبد أسود بين عينيه تراب من أثر السجود في شملة قد عقدها على عنقه، فعرفه موسى بنور الله تعالى فسلّم عليه، فقال: ما اسمك؟ قال: اسمي برخ، فقال: أنت طلبتنا منذ حين اخرج استسق لنا فخرج، فقال في كلامه اللهمّ ما هذا من فعالك وما هذا
: من حلمك، وما الذي بدا لك؟ أنقصت عليك عيونك، أم عاندت الرياح عن طاعتك، أم نفد ما عندك، أم اشتد غضبك على المذنبين، ألست كنت غفاراً قبل خلق الخاطئين؟!
ص: 254
خلقت الرحمة، وأمرت بالعطف، أم ترينا أنّك ممتنع أم تخشى الفوت فتعجّل بالعقوبة؟ فما برح برخ حتّى أفاضت وخاضت بنو إسرائيل بالقطر.
قال: فلما رجع برخ استقبله موسى(علیه السّلام)فقال: كيف رأيت حين خاصمت ربّي، كيف أنصفني؟»(1). رجعنا إلى أخبار الصابرات.
وروي أنّ أسماء بنت عميس (رضي الله عنها) لمّا جاءها خبر ولدها - محمد بن أبي بكر - أنه قتل وأحرق بالنار في جيفة حمار، قامت إلى مسجدها، فجلست فيه، وكظمت الغيظ حتّى تَشَخَبَ ثدياها دماً(2).
وروي عن حَمْنة بنت جحش (رضي الله عنها) أنّها قيل لها قتل أخوك قالت رحمه الله وإنا لله وإنا إليه راجعون، قالوا: قتل زوجك قالت: واحزناه، فقال رسول الله : «إن للزوج من المرأة لشعبة ما هي لشيء»(3).
وروي أنّ صفية بنت عبد المطلب أقبلت لتنظر إلى أخيها لأبويها حمزة بن عبدالمطلب بأحد وقد مُثَّلَ به فقال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)لابنها الزبير: «إلقها فأرجعها لا ترى ما بأخيها» فقال لها يا أماه إن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)يأمرك أن ترجعي قالت: وَلمَ وقد بلغني أنه قد مُثْلَ بأخي؟ وذلك في الله عزّ وجلّ، فما أرضانا بما كان من ذلك، فلأحتسين ولأصبرنّ إن شاء الله.
فلما جاء الزبير إلى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)فأخبره بقولها، فقال له: «خَلّ سبيلها» فأتته، ونظرت إليه، وصلّت عليه، واسترجعت واستغفرت له(4).
وعن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: لما قتل حمزة (رضي الله عنه يوم أحد
ص: 255
أقبلت صفية تطلبه، لا تدري ما صنع به قال فلقيت عليّاً والزبير، فقال علي للزبير : «اذكر لأُمّك»، فقال الزبير: لا، بل اذكر أنت لعمّتك، قالت: ما فعل حمزة؟ فأرياها أنّهما لا يدريان، قال: فجاءت النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)فقال : إني أخاف على عقلها، قال: فوضع يده على صدرها، ودعا لها، فاسترجعت، وبكت، قال: ثم جاء(صلی الله علیه و آله و سلم)فقام عليه، وقد مُثْلَ به، فقال: لولا جزع النساء لتركته حتى يحشر من حواصل الطيور وبطون السباع»(1).
واستشهد شاب من الأنصار يقال له: خلاد يوم بني قريضة، فجاءت أُمّه متنقبة(2) فقيل لها تتنقبين يا أُمّ خلاد وقد رزئت بخلاد؟ فقالت: لئن كنت رزئت(3)خلاداً، فلم أرزاً حيائي(4)، فدعا له النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)وقال: «إنّ له أجرين، لأنّ أهل الكتاب قتلوه»(5).
وعن أنس بن مالك، قال: لما كان يوم أحد حاص أهل المدينة حيصة، فقالوا: قتل محمد ، حتى كثرت الصوارخ في نواحي المدينة، فخرجت امرأة من الأنصار متحزنة، فاستقبلت بأبيها وابنها وزوجها وأخيها لا تدري أيهم استقبلت أولاً، فلمّا مرت على آخرهم قالت من هذا؟ قالوا: أخوك وأبوك وزوجك وابنك، قالت ما فعل النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)؟ قالوا: أمامك، فمشت حتى جاءت إليه، فأخذت بناحية ثوبه، وجعلت تقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذا سلّمت من عطب(6).
وروى البيهقي قال: مرّ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)بامرأة من بني دينار وقد أُصيب زوجها وأبوها وأخوها معه(صلی الله علیه و آله و سلم)بأحد ، فلمّا نعوا إليها، قالت ما فعل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)؟ قالوا: خيراً
ص: 256
فلان، وهو بحمد الله كما تحبّين قالت أرونيه حتى أنظر إليه، فأشير لها إليه، حتى إذا رأته قالت كلّ مصيبة بعدك جلل(1).
وخرجت السمراء بنت قيس - أُخت أبي حزام - وقد أُصيب ابناها، فعزاها النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)بهما، فقالت: كلّ مصيبة بعدك جلل، والله لهذا النقع(2)الذي أرى في وجهك أشدّ من مصابهما(3).
وروي أنّ صلة بن أشيم كان في مغزى له، ومعه ابن له، فقال لابنه: أي بني، تقدّم فقاتل حتى أحتسبك، فحمل فقاتل فقتل، ثمّ تقدّم أبوه فقاتل فقتل، قال: فاجتمع النساء عند أُمّه معاذة العدوية زوجة صلة، فقالت لهنّ: مرحباً بكنّ إن كنتن جئتن لتهنئتي، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن(4).
وروي أنّ عجوزاً من بني بكر بن كلاب كان يتحدّث قومها عن عقلها وسدادها فأخبر بعض من حضرها، وقد مات ابن لها، وكان واحدها، وقد طالت علّته، وأحسنت تمريضه، فلما مات قعدت بفنائها، وحضرها ،قومها، فأقبلت على شيخ منهم فقالت: يا ،فلان ما حق من أسبغت عليه النعمة، وأُلبس العافية، واعتدلت به النظرة، أن لا يعجز عن التوثّق لنفسه قبل حلّ عقدته والحلول بعقوته(5)، ينزل الموت بداره، فيحول بينه وبين نفسه، ثم أنشأت تقول شعراً:
هو ابنى وأُنسي أجره لي وعَزَّني *** على نفسه رَبُّ إليه ولاؤها
فإن أحتسب أوجر وإن أبكه أكن *** كباكية لم يغن شيئاً بكاؤها
ص: 257
فقال لها الشيخ: إننا لم نزل نسمع أنّ الجزع إنّما هو للنساء، فلا يجزعَنَّ أحد بعدك، ولقد كرم صبرك، وما أشبهت النساء فقالت له: إنه ما ميّز امرؤ بين جزع وصبر، إلا وجد بينهما منهجين بعيدي التفاوت في حالتيهما:
أمّا الصبر فحسن العلانية، محمود العاقبة.
وأمّا الجزع: فغير معرض شيئاً مع إثمه.
ولو كانا في صورة رجلين لكان الصبر أولاهما بالغلبة، وبحسن الصورة وكرم الطبيعة في عاجل الدين وآجله في الثواب، وكفى بما وعد الله عزّ وجلّ لمن ألهمه إياه.
وعن جويرية بن أسماء:
أنّ ثلاثة إخوة شهدوا تستر، واستشهدوا، وبلغ ذلك أُمّهم، فقالت: مقبلين أم مدبرين؟ فقيل لها بل ،مقبلين فقالت: الحمد لله، نالوا والله الفوز، وحاطوا الذمار بنفسي هم وأبي وأمي وما تأوهت ولا دمعت لها عين(1).
وعن أبي قدامة الشامي قال: كنت أميراً على الجيش في بعض الغزوات، فدخلت بعض البلدان ودعوت الناس للغزاة ورغبتهم في الجهاد وذكرت فضل الشهادة وما لأهلها، ثمّ تفرّق الناس وركبت ،فرسي وسرت إلى منزلي، فإذا أنا بامرأة من أحسن الناس وجهاً تنادي يا أبا قدامة، فمضيت ولم أجب فقالت: ما هكذا كان الصالحون فوقفت فجاءت ودفعت إليّ رقعة وخرقة مشدودة، وانصرفت باكية، فنظرت في الرقعة وإذا فيها مكتوب: أنت دعوتنا إلى الجهاد، ورغبتنا في الثواب، ولا قدرة لي على ذلك، فقطعت أحسن ما في، وهما ضفير تاي، وأرسلتهما إليك لتجعلهما قيد فرسك لعل الله يرى شعري قيد فرسك في سبيله، فيغفر لي.
فلمّا كان صبيحة القتال، فإذا بغلام بين يدي الصفوف يقاتل حاسراً، فتقدمت إليه
ص: 258
وقلت يا غلام أنت فتى غرا(1)راجل، ولا آمن أن تجول الخيل فتطؤك بأرجلها، فارجع عن موضعك هذا فقال: أتأمرني بالرجوع، وقد قال الله تعالى: ﴿يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا لَقيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفَاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ﴾(2). وقرأ الآية إلى آخرها .
فحملته على هجين كان معي فقال: يا أبا قدامة، أقرضني ثلاثة أسهم، فقلت: أهذا وقت قرض؟ فما زال يلح عليَّ حتى قلت بشرط إن منّ الله عليك بالشهادة أكون في شفاعتك، قال: نعم، فأعطيته ثلاثة أسهم، فوضع سهماً في قوسه ورمى به، فقتل روميّاً، ثم رمى بالآخر فقتل رومياً، ثم رمى بالآخر، وقال: السلام عليك يا أبا قدامة سلام مودع، فجاءه سهم فوقع بين عينيه، فوضع رأسه على قربوس سرجه، فتقدمت إليه، وقلت: لا تنسها، فقال: نعم، ولكن لي إليك حاجة، إذا دخلت المدينة فأتِ والدتي وسلّم خُرجي(3)إليها وأخبرها، فهي التي أعطتك شعرها لتقيّد به فرسك، فسلّم عليها فهي العام الأوّل أصيبت بوالدي، وفي هذا العام بي، ثم مات، فحفرت له ودفنته.
فلما هممت بالانصراف عن قبره قذفته الأرض فألقته على ظهرها، فقال أصحابه: غلام غر، ولعلّه خرج بغير إذن أمه، فقلت: إنّ الأرض لتقبل من هو شر من هذا، فقمت وصليت ركعتين، ودعوت الله، فسمعت صوتاً يقول: يا أبا قدامة، اترك ولي الله، فما برحت حتى نزلت عليه طيور فأكلته.
فلما أتيت المدينة ذهبت إلى دار والدته، فلمّا قرعت الباب خرجت أخته إليّ، فلمّا رأتني عادت إلى أمها، وقالت: يا أُماه، هذا أبو قدامة، وليس معه أخي، وقد أُصبنا في العام الأول بأبي، وفي هذا العام بأخي، فخرجت أمه، فقالت أمعزياً أم مهنّئاً؟ فقلت: ما
ص: 259
معنى هذا؟ قالت إن كان ابني مات فعزّني، وإن كان استشهد فهنئني، فقلت: لا، بل قد مات شهيداً، فقالت له علامة فهل رأيتها؟ فقلت: نعم، لم تقبله الأرض، ونزلت الطيور فأكلت لحمه وتركت عظامه، فدفنتها، فقالت: الحمد لله.
فسلّمت إليها الخُرج، فتحته وأخرجت منه مشحاً وغُلَّا من حديد، قالت: إنه كان إذا جنّه الليل لبس هذا المسح وغَلَّ نفسه بالغُلّ وناجى مولاه، وقال في مناجاته: إلهي احشرني من حواصل الطيور، فاستجاب الله سبحانه دعاءه، (رحمه الله).
وروى البيهقي عن أبي العباس السراج قال مات لبعضهم ،ابن فدخلت على أُمّه فقلت لها: اتقي الله واصبري فقالت: مصيبتي به أعظم من أن أفسدها بالجزع(1).
وقال أبان بن تغلب (رحمه الله): دخلت على امرأة، وقد نزل بابنها الموت، فقامت إليه فغمّضته وسجّته، ثمّ قالت يا بني ما الجزع فيما لا يزول؟ وإنّما البكاء فيما ينزل بك غداً. يا بني تذوق ما ذاق أبوك، وستذوقه من بعدك أُمّك، وإنّ أعظم الراحة لهذا الجسد النوم والنوم أخو الموت، فما عليك إن كنت نائماً على فراشك أو على غيره، وإن غداً السؤال والجنّة والنار فإن كنت من أهل الجنّة فما ضرك الموت، وإن كنت من أهل النار فما تنفعك الحياة، ولو كنت أطول الناس عمراً، والله يا بني، لولا أن الموت أشرف الأشياء لابن آدم لما أمات الله نبيه، وأبقى عدوه إبليس (لعنه الله).
وعن المبرد قال:
أتيت امرأة أُعزّيها عن ابنها، فجعلت تثني عليه، فقالت: كان والله، ماله لغير بطنه، وأمره لغير عرسه، وكان رحب الذراع بالتي لا تشينه، فإن كانت الفحشاء ضاق به ذرعاً، فقلت لها: وهل لك منه خلف؟ وأنا أعني الولد، فقالت: نعم بحمد الله كثير
ص: 260
طيب ثواب الله عزّ وجلّ عليه، ونعم العوض في الدنيا والآخرة.
وعنه أنه خرج إلى اليمن فنزل على امرأة لها مال كثير ورقيق وولد وحال حسنة، فأقام عندها مدة، فلما أراد الرحيل، قال: ألك حاجة؟ قالت: نعم، كلّما نزلت هذه البلاد فانزل عليّ.
وإنّه غاب أعواماً، ثمّ نزل عليها، فوجدها قد ذهب مالها ورقيقها، ومات ولدها، وباعت منزلها، وهي مسرورة ضاحكة، فقال لها: أتضحكين مع ما قد نزل بك؟ فقالت: يا عبد الله كنت في حال النعمة في أحزان كثيرة، فعلمت أنّها من قلة الشكر، فأنا اليوم في هذه الحالة أضحك شكراً لله تعالى على ما أعطاني من الصبر(1).
وعن مسلم بن يسار، قال:
قدمت البحرين فأضافتني امرأة لها بنون ورقيق ومال ويسار، وكنت أراها محزونة، فغبت عنها مدة طويلة، ثمّ أتيتها فلم أر ببابها إنساً، فاستأذنت عليها، فإذا هي ضاحكة ،مسرورة، فقلت لها: ما شأنك؟ قالت: إنّك لما غبت عنا لم نرسل شيئاً في البحر إلا غرق، ولا شيئاً في البر إلا عطب، وذهب الرقيق، ومات البنون، فقلت لها: يرحمك الله، رأيتك محزونة في ذلك اليوم، ومسرورة في هذا اليوم، فقالت: نعم إنّي لمّا كنت فيما كنت فيه من سعة الدنيا، خشيت أن يكون الله تعالى قد عجل لي حسناتي في الدنيا، فلما ذهب مالي وولدي ورقيقي رجوت أن يكون الله تعالى قد ذخر لي عنده شيئاً(2).
وعن بعضهم قال:
خرجت أنا وصديق لي إلى البادية، فضللنا الطريق، فإذا نحن بخيمة عن يمين
ص: 261
الطريق فقصدنا نحوها فسلّمنا فإذا بامرأة تردّ علينا السلام، وقالت: من أنتم؟ قلنا ضالّون، فأتيناكم فاستأنسنا بكم فقالت يا هؤلاء. ولوا وجوهكم عنِّي، حتى أقضي من حقكم ما أنتم له أهل، ففعلنا، فألقت لنا مشحاً وقالت: اجلسوا عليه إلى أن يأتي ابني.
ثم جعلت ترفع طرف الخيمة، وتردّها إلى أن رفعته مرّة فقالت: أسأل الله بركة المقبل، أما البعير فبعير ابني، وأما الراكب فليس هو به، قال: فوقف الراكب عليها، وقال: يا أُمّ عقيل (عظم الله أجرك) في عقيل ولدك، فقالت: ويحك مات!؟ قال:
نعم قالت وما سبب موته؟ قال: ازدحمت عليه الإبل فرمت به في بئر، فقالت: انزل واقض ذمام القوم، ودفعت إليه كبشاً فذبحه وأصلحه، وقرب إلينا الطعام فجعلنا ،نأكل، ونتعجب من صبرها.
فلما فرغنا خرجت إلينا وقالت: يا قوم هل فيكم من يحسن من كتاب الله شيئاً؟ فقلت نعم قالت فاقرأ عليَّ آيات أتعزّى بها عن ولدي، فقلت: يقول الله عزّ وجلّ: ﴿وَبَشِّر الصابرين الَّذِينَ إذا أصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾(1). قالت: بالله، إنها في كتاب الله هكذا؟ قلت: والله إنّها لفي كتاب الله هكذا، فقالت: السلام عليكم، ثمّ صفّت قدميها وصلت ركعات، ثمّ قالت: اللهم إنّي قد فعلت ما أمرتني به، فأنجز لي ما وعدتني به، ولو بقي أحدٌ لأحدٍ - قال: فقلت في نفسي تقول: لبقي ابني لحاجتي إليه، فقالت - لبقي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)لأمته.
فخرجت وأنا أقول: ما رأيت أكمل منها ولا أجزل، ذكرت ربها بأكمل خصاله وأجمل جلاله، ثمّ إنّها لما علمت أنّ الموت لا مدفع له، ولا محيص عنه، وأنّ
ص: 262
الجزع لا يجدي نفعاً، والبكاء لا يردّ هالكاً، رجعت إلى الصبر الجميل، واحتسبت ابنها عند الله تعالى ذخيرة نافعة ليوم الفقر والفاقة(1).
ونحوه ما أخرجه ابن أبي الدنيا، قال:
كان رجل يجلس إليّ، فبلغني أنه شاكٍ(2)فأتيته أعوده، فإذا هو قد نزل به الموت، وإذا أُمّ له عجوز كبيرة عنده، فجعلت تنظر حتى غُمِّض وعُصّب وسُجِّي، ثمّ قالت: رحمك الله، أي بني، فقد كنت بنا باراً، وعلينا شفيقاً، فرزقني الله عليك الصبر، فقد كنت تطيل القيام، وتكثر الصيام، لا حرمك الله تعالى ما أملت فيه من رحمته، وأحسن فيك العزاء، ثمّ نظرت إليّ وقالت: أيها العائد قد رأيت واعظاً ونحن معك. وروى البيهقي عن ذي النون المصري، قال: كنت في الطواف، وإذا أنا بجاريتين قد أقبلتا، وأنشأت إحداهما تقول:
صَبَرْتُ وكان الصَّبْرُ خَيْرَ مَغَبَّةٍ *** وهل جَزَعٌ منّي لِيُجْدِي فَأَجْزَعُ
صَبَرْتُ على ما لو تَحَمَّلُ بَعْضَهُ *** جِبالٌ بِرَضْوَى أَصْبَحَتْ تَتَصَدَّعُ
مَلَكْتُ دُمُوعَ العَيْنِ ثُمَّ رَدَدْتُها *** إلى ناظِرِي فَالعَيْنُ في القَلْبِ تَدْمَعُ
فقلت : ممّا ذا يا جارية ؟ فقالت : من مصيبة نالتني، لم تصب أحداً قط ، قلت : وما هي؟ قالت: كان لي شبلان يلعبان أمامي، وكان أبوهما ضحى بكبشين، فقال أحدهما لأخيه : يا أخي أريك كيف ضحى أبونا بكبشه ؟ فقام وأخذ الآخر شفرة فنحره، وهرب القاتل فدخل أبوهما، فقلت: إن ابنك قتل أخاه وهرب، فخرج في طلبه فوجده قد افترسه السبع، فرجع الأب فمات في الطريق ظماً وجوعاً(3).
ص: 263
وروى بعضهم هذه الرواية، وزاد فيها قال:
رأيت امرأة حسناء، ليس بها شيء من الحزن، وقالت: والله ما أعلم أحداً أصيب بما أُصبت به، وأوردت القصة، فقلت لها: كيف أنت والجزع؟ فقالت: لو رأيت فيه دركاً ما اخترت عليه شيئاً، ولودام لي لدمت له.
وحكى بعضهم، قال:
أُصيبت امرأة بابن لها فصبرت، فقيل لها في ذلك، فقالت: آثرت طاعة الله تعالى على طاعة الشيطان.
ص: 264
قال الله تعالى: ﴿لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾(1)﴿رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾(2).
اعلم أنّ الرضى ثمرة المحبة لله، من أحب شيئاً أحبّ فعله، والمحبّة ثمرة المعرفة فإنّ من أحبّ شخصاً إنسانياً لاشتماله على بعض صفات الكمال أو نعوت الجمال يزداد حبّه له كلّما زاد به معرفة ولو تصوّراً.
فمن نظر بعين بصيرته إلى جلال الله تعالى وكماله - الذي يطول شرح تفصيل بعضه، ويخرج عن مقصود الرسالة - أحبّه ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ﴾(3) ومتى أحبه استحسن كلّ أثر صادر عنه، وهو يقتضي الرضى.
فالرضى ثمرة من ثمرات المحبّة، بل كلّ كمال فهو ثمرتها، فإنّها لما كانت فرع المعرفة استلزم تصوّر رحمته رجاءه، وتصوّر هيبته الخشية له، ومع عدم الوصول إلى المطلوب الشوق، ومع الوصول الأنس، ومع إفراط الأنس الانبساط، ومع مطالعة عنايته
ص: 265
التوكل، ومع استحسان ما يصدر عنه الرضى، ومع تصوّر قصور نفسه في جنب كماله، وكمال إحاطة محبوبه به وقدرته عليه التسليم إليه ويتشعب من التسليم مقامات عظيمة، يعرفها من عرفها، وينتهي الأمر به إلى غاية كلّ كمال.
واعلم أنّ الرضى فضيلة عظيمة للإنسان، بل جماع أمر الفضائل يرجع إليها، وقد نبه الله تعالى على فضله، وجعله مقروناً برضى الله تعالى وعلامة له، فقال: ﴿رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾(1)﴿وَرِضْوانُ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ﴾(2)وهو نهاية الإحسان، وغاية الامتنان.
وجعله النبي دليلاً على الإيمان، حين سأل طائفة من أصحابه ما أنتم؟ قالوا: ،مؤمنون، فقال: «ما علامة إيمانكم؟» قالوا: نصبر على البلاء، ونشكر عند الرخاء، ونرضى بمواقع القضاء، فقال: «مؤمنون وربّ الكعبة»(3).
وقال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): «إذا أحب الله عبداً ابتلاه، فإن صبر اجتباه، فإن رضي اصطفاه»(4).
وقال(صلی الله علیه و آله و سلم): «إذا كان يوم القيامة أنبت الله تعالى لطائفة من أُمتي أجنحة، فيطيرون من قبورهم إلى الجنان يسرحون فيها، ويتنعمون كيف يشاؤون، فتقول لهم الملائكة هل رأيتم الحساب؟ فيقولون ما رأينا حساباً، فيقولون: هل جزتم الصراط ؟ فيقولون: ما رأينا ،صراطاً، فيقولون: هل رأيتم جهنّم؟ فيقولون: ما رأينا شيئاً، فتقول الملائكة: من أُمّة مَن أنتم؟ فيقولون: من أُمة محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، فيقولون: نشدناكم الله، حدثونا ما كانت أعمالكم في الدنيا؟ فيقولون: خصلتان كانتا فينا، فبلغنا تعالى هذه المنزلة بفضل رحمته، فيقولون: وما هما؟ فيقولون: كنا إذا خلونا نستحي أن نعصيه، ونرضى باليسير
ص: 266
ممّا قسم لنا، فتقول الملائكة: حق لكم هذا»(1).
وقال(صلی الله علیه و آله و سلم): «أعطوا الله الرضى من قلوبكم تظفروا بثواب الله تعالى يوم فقركم وإلا فلا»(2).
وفي أخبار موسى أنهم قالوا سل لنا ربّك أمراً إذا نحن فعلناه يرضى به عنا، فأوحى الله تعالى إليه: قل لهم يرضون عني، حتى أرضى عنهم»(3).
ونظيره ما روي عن نبينا(صلی الله علیه و آله و سلم)أنه قال: «من أحبّ أن يعلم ما له عند الله عزّ وجلّ، فلينظر ما لله عزّ وجلّ عنده، فإنّ الله تعالى ينزل العبد منه حيث أنزله العبد نفسه»(4).
من وفي أخبار داود(علیه السّلام): «ما لأوليائي والهم بالدنيا، إنّ الهم يذهب حلاوة مناجاتي من قلوبهم. يا داود إنّ محبّتي من أوليائي أن يكونوا روحانيين لا يغتمون»(5).
وروي أن موسى(علیه السّلام)قال: «يا ربّ، دلّني على أمر فيه رضاك عنّي أعمله، فأوحى الله تعالى إليه أنّ رضاي في كرهك وأنت ما تصبر على ما تكره، قال: يا ربّ، دلّني عليه، قال: فإنّ رضاي في رضاك بقضائي»(6).
وفي مناجاة موسى(علیه السّلام): «أي ربّ أي خلقك أحبّ إليك ؟ قال : من إذا أخذت حبيبه سالمني، قال: فأي خلق أنت عليه ساخط ؟ قال: من يستخيرني في الأمر، فإذا قضيت له سخط قضائي»(7).
ص: 267
وروي ما هو أشدّ منه، وذاك أنّ الله تعالى قال: «أنا الله، لا إله إلّا أنا، من لم يصبر على بلائي، ولم يرض بقضائي، فليتخذ رباً سوائي»(1).
ویروی أنّ الله تعالى أوحى إلى داود يا داود، تريد وأريد، وإنما يكون ما أريد، فإن سلّمت لما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلّم لما أريد أتعبتك فيما تريد، ولا يكون إلّا ما أُريد»(2).
وعن ابن عبّاس: أوّل من يدعى إلى الجنّة يوم القيامة، الذين يحمدون الله تعالى على كل حال(3).
وعن ابن مسعود لأن الحَسَنَّ(4)جمرة أحرقت ما أحرقت، وأبقت ما أبقت أحب إليّ من أن أقول لشيء كان ليته لم يكن، أو لشيء لم يكن ليته كان(5).
وعن أبي الدرداء: ذروة الإيمان الصبر للحكم، والرضى بالقدر(6).
وقال(صلی الله علیه و آله و سلم): «إنّ الله تعالى بحكمته وجلاله جعل الروح والفرج في الرضى واليقين، وجعل الغم والحزن في الشك والسخط»(7).
وقال علي بن الحسين(علیهم السّلام):«الزهد عشرة أجزاء: أعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضى»(8).
ص: 268
وقال الصادق(علیه السّلام): صفة الرضى أن ترضى المحبوب والمكروه، والرضى شعاع نور المعرفة، والراضي فان عن جميع اختياره والراضي حقيقة هو المرضي عنه، والرضى اسم يجتمع فيه معاني العبودية، وتفسير الرضى سرور القلب. سمعت أبي محمّد الباقر(علیه السّلام)يقول : تعلّق القلب بالموجود شرك، وبالمفقود كفر، وهما خارجان عن سنّة الرضى والعجب ممّن يدّعي العبودية لله كيف ينازعه في مقدوراته؟! حاشا الراضين العارفين عن ذلك»(1).
وروي أنّ جابر بن عبد الله الأنصاري (رضي الله عنه) ابتلي في آخر عمره بضعف الهرم والعجز، فزاره محمد بن علي الباقر(علیه السّلام)، فسأله عن حاله، فقال: أنا في حالة أُحبّ فيها الشيخوخة على الشباب والمرض على الصحة والموت على الحياة فقال الباقر(علیه السّلام): «أما أنا يا جابر، فإن جعلني الله شيخاً أُحبّ الشيخوخة، وإن جعلني شاباً أُحبّ الشبوبة، وإن أمرضني أُحبّ المرض، وإن شفاني أُحبّ الشفاء والصحة، وإن أماتني أُحبّ الموت، وإن أبقاني أُحبّ البقاء».
جابر هذا الكلام منه قبل وجهه وقال صدق رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، فإنّه قال: «ستدرك لى ولداً اسمه اسمى، يبقر العلم بقرأ كما يبقر الثور الأرض»؛ ولذلك سمّي باقر علم الأوّلين والآخرين، أي شاقه.
وروى الكليني بإسناده إلى أبي عبد الله(علیه السّلام)، أنه قال: رأس طاعة الله الصبر والرضى عن الله فيما أحبّ العبد أو كره، ولا يرضى عبد عن الله فيما أحبّ وكره، إلّا كان خيراً له فيما أحب أو كره»(2).
وبإسناده عنه(علیه السّلام)قال: «أعلم الناس بالله تعالى أرضاهم بقضاء الله عزّ وجلّ»(3).
ص: 269
وبإسناده عنه(علیه السّلام)قال: «قال الله تعالى: عبدي المؤمن لا أصرفه في شيء إلا جعلته خيراً له، فليرضَ بقضائي، وليصبر على بلائي، وليشكر نعمائي، أكتبه يا محمد من الصدّيقين عندي»(1).
وعنه(علیه السّلام)قال: «فيما أوحى الله عزّ وجلّ إلى موسى(علیه السّلام): يا موسى بن عمران ما خلقت خلقاً أحب إلي من عبدي المؤمن فإنّي إنما أبتليه لما هو خير له، وأعافيه لما هو خير له، وأزوي عنه لما هو خير له، وأنا أعلم بما يصلح عليه عبدي، فليصبر على بلائي، وليشكر نعمائي، وليرض بقضائي، أكتبه في الصدّيقين عندي، إذا عمل برضائي، وأطاع أمري»(2).
وقيل للصادق(علیه السّلام): بأي شيء يعلم المؤمن بأنه مؤمن؟ قال: «بالتسليم لله، والرضى فيما ورد عليه من سرور أو سخط»(3).
وروي في الإسرائيليات: أنّ عابداً عبد الله تعالى دهراً طويلاً، فرأى في المنام فلانة رفيقتك في الجنّة، فسأل عنها واستضافها ثلاثاً لينظر إلى عملها، فكان يبيت قائماً، وتبيت نائمة، ويظل صائماً، وتظل مفطرة، فقال لها: أما لك عمل غير ما رأيت؟ فقال: ما هو والله غير ما رأيت ولا أعرف غيره فلم يزل يقول: تذكّري، حتى قالت: خصيلة واحدة هي، إن كنت في شدّة لم أتمنّ أن أكون في رخاء، وإن كنت في مرض لم أتمنّ أن أكون في صحة، وإن كنت في الشمس لم أتمنّ أن أكون في الظل، فوضع
ص: 270
العابد يديه على رأسه، وقال: أهذه خصيلة ؟ هذه والله، خصلة عظيمة يعجز عنها العباد(1).
مرتبة الرضى عالية جداً على مرتبة الصبر، بل نسبة الصبر إلى الرضى عند أهل الحقيقة نسبة المعصية إلى الطاعة، فإنّ المحبّة تقتضي اللذة بالبلاء؛ لأنه يجد في البلاء نفسَهُ على ذكر من محبوبه، فيزيد قربه وأنسه. والصبر يقتضي كراهة البلاء واستصعابه حتّى يوجب الصبر عليه، والكراهة تنافي الأنس، فتبيّن بذلك أن الصبر والمحبة متنافيان.
وأيضاً، فإنّ الصبر إظهار التجلّد وهو في مذهب المحبّة من أشدّ المنكرات نكراً، وأظهر علامات العداوة طراً، كما قيل:
ويحسن إظهار التجلّد للعِدى *** ويقبح إلا العجز عند الأحبّةِ(2)
ومن هنا قال أهل الحقيقة: الصبر من أصعب المنازل على العامة، وأوحشها في طريق المحبّة، وأنكرها في طريق التوحيد(3).
وإنما كان أصعب عند العامة، لأنّ العامّي لم يتدرّب بالرياضة، ولم يتحنّك بالصبر على البلاء، ولم يتعوّد بقمع النفس، ولم يكن من أهل المحبّة حتى يتلذذ بالبلاء، فإذا امتحنه الحق سبحانه بالبلاء وهو في مقام النفس لم يحتمل البلاء وغلبه الجزع وصَعُب عليه حبس النفس عن إظهاره لعدم طمأنينتها.
وإنما كان أوحش المنازل في طريق المحبّة؛ لأنّ المحبّة تقتضي الأنس بالمحبوب والالتذاذ بالبلاء؛ لشهود المبتلى فيه وإيثار مراد المحبوب والصبر يقتضي كراهة البلاء كما مر فيتنافيان
ص: 271
وإنّما كان أنكر في مقام التوحيد؛ لأنّ الصابر يدّعي قوة الثبات، ودعوى الثبات والتجلّد من رعونات(1)النفس، والتوحيد يقتضي فناء النفس، فيكون أنكر؛ لأنّ إثبات النفس في طريق التوحيد من أقبح المنكرات بل الرضى مع عظم قدره وعلوّ أمره عند أهل التحقيق في التوحيد من أوائل مسالكه؛ لأنّ سلوكهم في الفناء في التوحيد بذواتهم، والرضى هو فناء الإرادة في إرادة الحق تعالى والوقوف الصادق مع مراد الله تعالى، وفناء الصفة قبل فناء الذات.
وقد تبيّن لك بذلك، ما بين الصبر والرضى من المراتب البعيدة والمسالك الشديدة.
للرضى ثلاث درجات مترتبة في القوة ترتبها في اللفظ:
الدرجة الأولى: أن ينظر إلى موقع البلاء، والفعل الذي يقتضي الرضى، ويدرك ،موقعه، ويحسّ بألمه ولكن يكون راضياً به بل راغباً فيه، مريداً له بعقله، وإن كان كارهاً له بطبعه، طلباً لثواب الله تعالى عليه، ومزيداً لزلفى لديه، والفوز بالجنّة التي رضها السماوات والأرض، وقد أُعدّت للمتقين.
وهذا القسم من الرضى هو رضى المتقين.
ومثاله مثال من يلتمس الفصد والحجامة من الطبيب العالم بتفاصيل أمراضه وما فيه إصلاحه، فإنّه يدرك ألم ذلك الفعل، إلّا أنّه راض به وراغب فيه، ومتقلد من الفصاد(2)منةً عظيمة بفعله.
ومثله من يسافر في طلب الربح، فإنّه يدرك مشقة السفر، ولكن حبّه لثمرة سفره طَيَّب
ص: 272
عنده مشقة السفر وجعله راضياً به، ومهما أصابته بليّة من الله تعالى، وكان له يقين بأنّ ثوابه الذي ادخر له فوق ما فاته رضي به، ورغب فيه، وأحبّه، وشكر الله تعالى عليه.
الدرجة الثانية: أن يدرك الألم كذلك، ولكنّه أحبّه؛ لكونه مراد محبوبه ورضاه، فإنّ من غلب عليه الحبّ كان جميع مراده وهواه ما فيه رضى محبوبه، وذلك موجود في الشاهد بالنسبة إلى حبّ الخلق بعضهم بعضاً، قد تواصفه المتواصفون في نظمهم ونثرهم ولا معنى له إلّا ملاحظة حال الصورة الظاهرة بالبصر.
وما هذا الجمال إلا جلد على لحم ودم مشحون بالأقذار والأخباث، بدايته من نطفة ،مذرة، ونهايته جيفة قذرة، وهو فيما بين ذلك يحمل العذرة.
والناظر لهذا الجمال الخسيس هو العين الخسيسة التي تغلط في ما ترى كثيراً، فترى الصغير كبيراً، والكبير صغيراً، والبعيد قريباً، والقبيح جميلاً.
فإذا تصوّر الإنسان استيلاء هذا الحبّ، فمن أين يستحيل ذلك في حبّ الجمال الأزلي الأبدي، الذي لا ينتهي كماله المدرك بعين البصيرة، التي لا يعتريها الغلط ، ولا يزيلها الموت، بل يبقى بعد الموت حيّاً عند الله فرحاً مسروراً برزق الله مستفيداً بالموت مزید تنبه واستكشاف؟! وهذا أمر واضح من حيث الاعتبار، وتشهد له جملة الآثار، من وردت من أحوال المحبين وأقوالهم، يأتي بعضها إن شاء الله تعالى، وهذه مرتبة المقربين.
الدرجة الثالثة: أن يبطل إحساسه بالألم، حتى يجري عليه المؤلم ولا يحسّ، و تصيبه جراحة، ولا يدرك ألمه.
ومثاله، الرجل المحارب، فإنّه في حال غضبه أو حال خوفه قد تصيبه جراحة وهو لا يحس بها، حتى إذا رأى الدم استدلّ به على الجراحة، بل الذي يعدو في شغل مريب قد تصيبه شوكة في قدمه، ولا يحس بألمه لشغل قلبه، بل الذي يحجم أو يحلق رأسه بحديدة كالة يتألم بها، فإن كان قلبه مشغولاً بمهم من مهماته، يفرغ الحجام أو الحالق، وهو لا يشعر به.
ص: 273
وكلّ ذلك؛ لأنّ القلب إذا صار مستغرقاً بأمر من الأمور لم يدرك ما عداه.
ونظائر ذلك في هموم أهل الدنيا، واشتغالهم بها، وإكبابهم عليها، حتى لا يتألمون ولا يحسّون بالجوع والعطش والتعب؛ لذلك كثير مُشاهَد عياناً، فكذلك العاشق المستغرق الهمّ بمشاهدة محبوبه قد يصيبه ما كان يتألم به، أو يغتم لولا عشقه، ثمّ لا يدرك غمّه وألمه؛ لفرط استيلاء الحبّ على قلبه، هذا إذا أصابه من غير حبيبه، فكيف إذا أصابه من حبيبه.
وشغل القلب بالحب والعشق من أعظم الشواغل وإذا تصوّر هذا في ألم يسير بسبب حبّ خفيف، تصوّر في الألم العظيم بالحبّ العظيم، فإنّ الحبّ أيضاً يتصوّر تضاعفه فى القوّة، كما يتصوّر تضاعف الألم، وكما يقوى حبّ الصور الجميلة المدركة بحاسّة البصر، فكذا يقوى حبّ الصور الجميلة الباطنة المدركة بنور البصيرة الربوبية ، وجلالها لا يقاس بها جلال، فمن انكشف له شيء منه فقد يبهره، بحيث يدهش ويغشى عليه فلا يحس بما يجري عليه.
كما روي عن امرأة أنّها عثرت فانقطع ظفرها، فضحكت، فقيل لها: أما تجدين الوجع ؟ فقالت: إنّ لذة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه(1).
وكان بعضهم يعالج غيره من علّة فنزلت به فلم يعالج نفسه، فقيل له في ذلك، فقال: ضرب الحبيب لا يوجع(2).
اعلم أنّ أكثر ما أوردناه في باب الصبر عن جماعة الأكابر تضمن الرضى بالقضاء، بخصوص موت الولد ونحوه، ولنذكر هنا أموراً عامة:
ص: 274
لما اشتد البلاء على أيوب قال امرأته: ألا تدعو ربك فيكشف ما بك؟ فقال لها: يا امرأة، إنّي عشت في الملك والرخاء سبعين سنة، فأنا أُريد أن أعيش مثلها في البلاء؛ لعلّي كنت أديت شكر ما أنعم الله عليّ، وأولى بي الصبر على ما أبلى»(1).
وروي أن يونس قال الجبرئيل : دلّني على أعبد أهل الأرض، فدلّه على رجل قد قطع الجذام يديه ورجليه، وذهب ببصره وسمعه، وهو يقول: إلهي! متعتني بهما ما شئت، وسلبتني ما شئت، وأبقيت لي فيك الأمل، يا بَرُّ يا وصول»(2).
وروي أن عيسى مرّ برجل أعمى ،أبرص مقعد، مضروب الجنبين بالفالج، وقد تناثر لحمه من الجذام، وهو يقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به كثيراً من خلقه.
فقال له عيسى : يا هذا، وأي شيء من البلاء أراه مصروفاً عنك؟».
فقال: يا روح الله أنا خير ممن لم يجعل الله في قلبه ما جعل في قلبي من معرفته.
فقال له: «صدقت هات يدك» فناوله يده، فإذا هو أحسن الناس وجهاً وأفضلهم هيئة، قد أذهب الله عنه ما كان به، فصحب عيسى وتعبّد معه(3).
وقال بعضهم:
قصدت عبادان(4)في بدايتي، فإذا أنا برجل أعمى مجذوم مجنون قد صرع، والنمل يأكل لحمه، فرفعت رأسه، ووضعته في حجري وأنا أردد الكلام، فلما أفاق قال: من هذا الفضولي الذي يدخل بيني وبين ربي؟ فوحقه لو قطعني إربا إرباً ما ازددت له إلا حباً(5).
ص: 275
وقطعت رجل بعضهم من ركبته من آكلة خرجت بها، فقال: الحمد لله الذي أخذ منّي ،واحدة وترك ثلاثاً، وعزّتك لئن كنت أخذت لقد أبقيت، ولئن كنت ابتليت لقد عافيت، ثمّ لم يدع ورده تلك الليلة(1).
وقال بعضهم:
نلت من كلّ مقام حالاً إلا الرضى بالقضاء، فمالي منه إلّا مشام الريح، وعلى ذلك لو أدخل الخلائق كلّهم الجنّة وأدخلني النار كنت بذلك راضياً(2).
وقيل لبعض العارفين: نلت غاية الرضى عنه فقال: أما الغاية فلا، ولكن مقام من الرضى قد نلته، لو جعلني الله جسراً على جهنّم تعبر الخلائق عليّ إلى الجنّة، ثمّ ملأ بي جهنّم لأحببت ذلك من حكمه، ورضیت به من قسمه(3).
وهذا كلام من علم أنّ الحبّ قد استغرق همه، حتّى منع الإحساس بألم النار، واستيلاء هذه الحالة غير محال في نفسه، لكنّه نفسه لكنّه بعيد من الأحوال الضعيفة في هذا الزمان ولا ينبغي أن يستنكر الضعيف المحروم حال الأقوياء، ويظنّ أنّ ماهو عاجز عنه يعجز عنه غيره من الأولياء.
وكان عمران بن حصين(4)(رضي الله عنه) استسقى بطنه، فبقي ملقى على ظهره ثلاثين سنة لا يقوم ولا يقعد، قد نقب له في سريره موضع لقضاء حاجته، فدخل عليه أخوه العلاء فجعل يبكي لما يرى من حاله، فقال:
لِمَ تبكي؟ قال: لأنّي أراك على هذه الحالة العظيمة، قال: لا تبك، فإنّ ما أحبّه لي الله تعالى أحبّه، ثم قال: أحدثك شيئاً لعل الله ينفعك به، واكتم عليّ حتّى أموت
ص: 276
إن الملائكة لتزورني فأنس بها، وتسلّم علي فأسمع تسليمها، فأعلم بذلك أن هذا البلاء ليس بعقوبة؛ إذ هو سبب لهذه النعمة الجسيمة، فمن شاهد هذا في بلائه، كيف لا يكون راضياً به(1).
وقال بعضهم:
دخلنا على سويد بن شعبة، فرأينا ثوباً ملقى، فما ظننا أن تحته شيئاً حتی کشف فقالت امرأته أهلك فداؤك، أما نطعمك، أما نسقيك ؟ فقال : طالت الضجعة(2)، ودبرت الحراقيف(3)، وأصبحت نضواً(4)، لا أطعم طعاماً، ولا أشرب شراباً منذ كذا فذكر أياماً وما يسرني أنّي نقصت من هذا قلامة ظفر(5).
وروي عن بعضهم، وكان قاسى المرض ستين سنة، فلمّا اشتدّ عليه حاله دخل عليه بنوه، فقالوا:
أتريد أن تموت، حتّى تستريح ممّا أنت فيه؟ قال: لا، قالوا: فما تريد؟ قال: ما لي إرادة، إنما أنا عبد، وللسيد الإرادة في عبده، والحكم في أمره.
وقيل:
اشتد المرض بفتح الموصلي، وأصابه مع مرضه الفقر والجهد، فقال: إلهي وسيدي، ابتليتنى بالمرض والفقر، فهذا فعالك بالأنبياء والمرسلين، فكيف لي أن أُؤدّي شكر ما أنعمت به على؟(6)
ص: 277
فصل [في الدعاء ووظائف الداعي]
اعلم أنّ الدعاء يدفع البلاء وزوال المرض وحفظ الولد لا ينافي الرضى بالقضاء، فقد تعبَّدَنا الله سبحانه بالدعاء، وندبنا إليه وحتّنا عليه، وجعل تركه استكباراً، وفعله عبادة، ووعد بالإجابة، ودعا الأنبياء والأئمة(علیهم السّلام)، وأمروا به، وما نقل عنهم خارج عن حد الحصر، وقد أثنى الله تعالى على الداعين من عباده، فقال: ﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً﴾(1).
ومن وظائف الداعي أن يكون في دعائه ممتثلاً لأمر ربه تبارك وتعالى بالدعاء في طلب ما أمره ، بطلبه وأنّه لولا أمره به وإذنه له فيه لما اجترأ على التعرّض لمخالفة قضائه، وفي الحقيقة هذا نوع من الرضى لمن فهم مواضع الرضى، وأدب نفسه، وقام بوظائف الدعاء.
ومن علاماته، أنه إذا لم يجب إلى مطلوبه لا يتألم من ذلك، من حيث عدم إجابته؛ لجواز أن يكون المدعو به مشتملاً على مفسدة لا يعلمها إلّا الله ،تعالى كما ورد أنّ العبد ليدعو الله تعالى بالشيء حتّى ترحمه الملائكة وتقول: إلهي ارحم عبدك المؤمن وأجب دعوته، فيقول الله تعالى: كيف أرحمه من شيء به أرحمه؟(2)
نعم، لو استوحش من حيث احتمال أن يكون السبب الذي أوجب ردّ دعائه بعده عن الله تعالى واستحقاقه للخيبة(3)والإجباه(4)والطرد والإبعاد، فلا حرج، فإن كمال المؤمن أن يكون ماقتاً لنفسه مزرياً عليها، حتى لو أجيبت دعوته فلا يظنن أنّ ذلك من
ص: 278
كرامته على الله تعالى وقربه منه، بل يجوز أن يكون ذلك من بغض الله تعالى وكراهته لصوته، وتأذي الملائكة برائحته، فتسأل الله تعالى أن يعجل بإجابته لتستريح منه.
وكذلك قد يكون سبب تأخير الإجابة من محبّة الله تعالى وملائكته لصوته، وتلذذهم بمناجاته، فتسأل الله تعالى تأخير إجابته كذلك، كما ورد في الأخبار(1)، فالمؤمن أبداً بين رجاء وخوف، فإنّ بهما قوام الأعمال، والانزجار عن المعاصي، والرغبة في الطاعات.
ص: 279
اعلم أنّ البكاء بمجرّده غير مناف للصبر ولا للرضى بالقضاء، وإنّما هو طبيعة بشرية، وجبلة إنسانية، ورحمة رحميّة أو حبيبية، فلا حرج في إبرازها، ولا ضرر في إخراجها، ما لم تشتمل على أحوال تؤذن بالسخط، وتنبئ عن الجزع، وتذهب بالأجر، من شق الثوب ولطم الوجه وضرب الفخذ وغيرها.
وقد ورد البكاء في المصائب عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)(1)، ومن قبله من لدن آدم ، وبعده من آله وأصحابه مع رضاهم وصبرهم وثباتهم.
فأول من بكى آدم(علیه السّلام)على ولده ها بيل(2)، ورثاه بأبيات مشهورة، وحزن عليه حزناً كثيراً، وإن خفي شيء فلا يخفى حال يعقوب ، حيث بكى حتَّى ﴿ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيم﴾(3)على يوسف(علیه السّلام).
ومن مشاهير الأخبار ما روي عن الصادق(علیه السّلام)، أنه قال: «إنّ زين العابدين(علیه السّلام)بكى على أبيه أربعين سنة، صائماً نهاره قائماً ليله، فإذا حضر الإفطار جاء غلامه بطعامه
ص: 280
و شرابه فيضعه بين يديه ويقول: كُل يا مولاي فيقول قتل ابن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)جائعاً، قتل ابن رسول الله عطشاناً، فلا يزال يكرّر ذلك، ويبكي حتّى يبل طعامه من دموعه فلم يزل كذلك حتى لحق بالله عزّ وجلّ»(1).
وروي عن بعض مواليه أنّه قال: برز يوماً إلى الصحراء فتبعته، فوجدته قد سجد على حجارة خشنة، فوقفت وأنا أسمع شهيقه وبكاءه، فأحصيت عليه ألف مرّة، وهو يقول: «لا إله إلا الله حقاً حقاً، لا إله إلا الله تعبداً ورقاً، لا إله إلّا الله إيماناً وصدقاً ثمّ رفع رأسه من سجوده وأن لحيته ووجهه قد غمر بالماء من دموع عينيه، فقلت: يا سيدي، ما آن لحزنك أن ينقضي، ولبكائك أن يقل؟!
فقال لي: «ويحك، إنّ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم(علیهم السّلام)كان نبياً ابن نبي ابن نبي، له اثنا عش- عشر ابناً، فغيّب الله واحداً منهم، فشاب رأسه من الحزن، واحْدَوْدَبَ ظهره من الغم، وذهب بصره من البكاء، وابنه حيّ في دار الدنيا، وأنا رأيت أبي وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي صرعى مقتولين، فكيف ينقضي حزني، ويقل بكائي؟!»(2).
وعن أنس بن مالك قال: دخلت مع رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)على أبي سيف القين، وكان ظئراً(3)لإبراهيم(علیه السّلام)، فأخذ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)يقبله ويشمّه، ثم دخل عليه بعد ذلك وإبراهيم الله يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)تذرفان فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله تبكي! فقال: «يا ابن عوف إنها رحمة»، ثم أتبعها بأخرى، فقال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون»(4).
ص: 281
وعن أسماء ابنة يزيد قالت: لمّا توفّي ابن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)إبراهيم(علیه السّلام)بكى رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)فقال له المعزّي: أنت أحق من عظم الله عزّ وجلّ حقه، فقال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الربّ لولا أنه وعد حق، وموعد جامع، وأنّ الآخر تابع للأوّل، لوجدنا عليك يا إبراهيم أفضل مما وجدناه، وإنا بك لمحزونون»(1).
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري (رضي الله عنه) قال: أخذ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)بيد عبد الرحمن بن عوف، فأتى إبراهيم وهو يجود بنفسه، فوضعه في حجره، فقال له: «يا بني، إنّي لا أملك لك من الله تعالى شيئاً وذرفت عيناه، فقال له عبد الرحمن: يا رسول الله تبكى، أولم تنه عن البكاء؟ فقال(صلی الله علیه و آله و سلم): «إنّما نهيت عن النوح عن صوتين أحمقينفاجرين صوت عند نغمة لعب ولهو ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة، وخمش وجوه، وشق جيوب، ورنّة شيطان، إنما هذه ،رحمة، ومن لا يرحم لا يُرحم، ولولا أنه أمر حق ووعد صدق وسبيل نأتيه وأنّ آخرنا سيلحق أوّلنا، لَحَزنًا عليك حزناً أشدّ من هذا، وإنا بك لمحزونون تبكي العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الربّ عزّ وجلّ»(2).
وعن أبي أمامة قال: جاء رجل إلى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)حين توفي ابنه وعيناه تدمعان، فقال: يا نبي الله، تبكي على هذا السخل ؟ والذي بعثك بالحق لقد دفنت اثني عشر ولداً في الجاهليّة كلّهم أشبّ منه أدسه في التراب، فقال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): «فماذا إن كانت الرحمة ذهبت منك؟ يحزن القلب وتدمع العين، ولا نقول ما يسخط الربّ، وإنا على إبراهيم لمحزونون»(3).
ص: 282
وعن محمود بن لبيد قال انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم بن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)،فقال الناس: انكسفت الشمس لموت إبراهيم فخرج رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)حين سمع ذلك، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: «أما بعد، أيها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عزّ وجلّ، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى المساجد» ودمعت عيناه، فقالوا: يا رسول الله تبكي، وأنت رسول الله! فقال: «إنّما أنا بشر، ،بشر تدمع العين، ويفجع القلب، ولا نقول ما يسخط الربّ والله يا إبراهيم، إنا بك لمحزونون»(1).
وعن خالد بن معدان، قال: لما مات إبراهيم بن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)بكي، فقيل: أتبكي يا رسول الله؟ فقال: «ريحانة وهبها الله لى وكنت أشتها».
وقال يوم مات إبراهيم: «ما كان من حزن في القلب أو في العين فإنّما هو رحمة، و ماكان من حزن باللسان وباليد فهو من الشيطان»(2).
وروى الزبير بن بكار: «أنّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)لما خرج بإبراهيم خرج يمشي، ثم جلس على قبره، ثمّ دُلّي، فلمّا رآه رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)قد وضع في القبر دمعت عيناه، فلما رأى الصحابة ذلك بكوا حتى ارتفعت أصواتهم، فأقبل عليه أبوبكر فقال: يا رسول الله، تبكي وأنت تنهى عن البكاء ؟ فقال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): «تدمع العين ويوجع القلب ولا نقول ما يسخط الربّ عزّ وجلّ».
وعن السائب بن يزيد، أنّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)لما مات ابنه الطاهر ذرفت عيناه، فقیل: یا رسول الله بكيت فقال(صلی الله علیه و آله و سلم): «إنّ العين تذرف وإنّ الدمع يغلب، وإنّ القلب يحزن ولا نعصي الله عز وجل»(3).
ص: 283
وروى مسلم في صحيحه أن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)زار قبر أُمّه، فبكى وأبكى من حوله(1).
وروي أنّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)لما مات عثمان بن مظعون كشف الثوب عن وجهه، ثمّ قبل ما بين عينيه ثم بكى طويلاً، فلما رفع السرير قال: «طوباك يا عثمان، لم تلبسك الدنيا، ولم تلبسها»(2).
واشتكى سعد بن عبادة شكوى، فأتاه رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، يعوده، فلما دخل عليه وجده في غشيته، فقال: «أو قد مات؟» فقالوا: لا، يا رسول الله، فبكى رسول الله، فلمّا رأى القوم بكاءه بكوا فقال: «ألا تسمعون؟ إنّ الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم»(3).
وروي : أنّ ابنة لرسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)بعثت إليه : إن ابنتي مغلوبة، فقال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «إنّ لله ما أخذ ولله ما أعطى». وجاءها في ناس من أصحابه، فأخرجت إليه الصبية، ونفسها يتقعقع(4)في صدرها، فرق عليها، وذرفت عيناه، فنظر إليه أصحابه، فقال: ما لكم تنظرون إلي؟ رحمة يضعها الله حيث يشاء، إنما يرحم الله من عباده الرحماء(5).
وعن اسامة بن زيد قال: أتى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)بأمامة بنت زينب، ونفسها يتقعقع في صدرها، فقال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «الله ما أخذ ولله ما أعطى، وكلُّ إلى أجل مسمّى»، وبكى، فقال له سعد بن عبادة تبكي وقد نهيت عن البكاء فقال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «إنما هي رحمة يجعلها الله في قلوب عباده، وإنّما يرحم الله من عباده الرحماء»(6).
ص: 284
ولمّا أُصيب جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه)، أتى رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)أسماء (رضي الله عنها) ، فقال لها: «أخرجي إليّ ولد جعفر»، فخرجوا إليه، فضتهم إليه وشتهم ودمعت عيناه فقالت : يا رسول الله،أصیب جعفر ! قال: «نعم، أصیب اليوم»(1).
قال عبد الله جعفر: أحفظ حين دخل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)على أُمّي، فنعى إليها أبي، ونظرت إليه وهو يمسح على رأسي ورأس أخي وعيناه تهراقان الدموع، حتّى تقطر لحيته، ثمّ قال: «اللهم إنّ جعفراً قد قدم إلى أحسن الثواب، فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحداً من عبادك في ذريته» ثمّ إنّه(علیه السّلام)قال: «يا أسماء، ألا أبشرك؟» قالت : بلى بأبي أنت وأُمّي، فقال: «إنّ الله عزّ وجلّ جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنّة»(2).
وعن أبي عبد الله(علیه السّلام)، عن أبيه، عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، أنه قال: «لما جاءته وفاة جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه) وزيد بن حارثة كان إذا دخل بيته بكى عليهما جدّاً، وقال: كانا يحدّثاني ويؤنساني، فجاء الموت فذهب بهما»(3).
وعن خالد بن سلمة، قال: لما جاء نعي زيد بن حارثة إلى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، أتى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)منزل زيد، فخرجت إليه بُنيّة لزيد، فلما رأت رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)خمشت في وجهها، فبكى رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، وقال : «هاه هاه»(4)، فقيل: يا رسول الله ما هذا؟ قال : شوق الحبيب إلى حبيبه»(5).
ص: 285
ولما مات سعد بن معاذ رضي الله عنه بكى عليه رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)كثيراً(1).
وقال(صلی الله علیه و آله و سلم)لأم سعد بن معاذ يوماً: «ألا معاذ يوماً: «ألا يرقاً(2) دمعك، ويذهب حزنك؟ فإنّ ابنك اهتز له العرش»(3).
قيل : وكان رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)تذرف عيناه، ويمسح وجهه، ولا يسمع صوته.
وعن البراء بن عازب قال: بينما نحن مع رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)إذ بصر بجماعة، فقال: «على ما اجتمع هؤلاء؟» فقيل: على قبر يحفرونه، قال: فبدر رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)بين يدي أصحابه مسرعاً حتى انتهى إلى القبر فجثا عليه، قال: فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع، فبكى حتّى بلّ الثرى من دموعه ثم أقبل علينا فقال: «إخواني، لمثل هذا فأعدوا»(4).
وعنه(صلی الله علیه و آله و سلم): «العبرة(5)لا يملكها ، أحد ، صبابة(6)المرء على أخيه»(7).
ولما انصرف النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)من أحد راجعاً إلى المدينة لقيته حمنة بنت جحش، فنعى لها الناس أخاها عبد الله بن جحش، فاسترجعت واستغفرت له، ثمّ نُعي لها خالها حمزة، فاسترجعت واستغفرت له، ثمّ نُعي لها زوجها مصعب بن عمير، فصاحت وولولت، فقال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «إنّ لزوج المرأة منها لمكان لما رأى صبرها عن أخيها وخالها، وصياحها على زوجها».
ص: 286
ثم مرّ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)على دار من دور الأنصار من بني عبد الأشهل، فسمع البكاء والنوائح على قتلاهم فذرفت عيناه وبكى ثمّ قال: «لكن حمزة لا بواكي له». فلمّا رجع سعد بن معاذ وأسيد بن حضير إلى دار بني عبدالأشهل، أمرا نساءهم أن يذهبن فيبكين على عم رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، فلما سمع رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)بكاء هنّ على حمزة، خرج إليهنّ وهنّ على باب مسجده يبكين فقال لهنّ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «ارجعن (يرحمكن الله) فقد واسيتنّ بأنفسكن»(1).
وروى الشيخ في التهذيب بإسناده إلى الصادق(علیه السّلام): أنّ إبراهيم خليل الرحمن سأل ربِّه أن يرزقه ابنة تبكيه بعد موته»(2).
عن ابن مسعود قال قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب»(3).
وعن أبي أمامة أنّ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)قال: «لعن الله الخامشة وجهها، والشاقة جيبها، والداعية بالويل والثبور»(4).
وعنه(صلی الله علیه و آله و سلم)أنه نهى أن تتبع جنازة معها رانّة(5).
ص: 287
وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: كبر مقتا عند الله الأكل من غير جوع، والنوم من غير سهر، والضحك من غير عجب، والرنّة عند المصيبة، والمزمار عند النعمة(1).
وعن يحيى بن خالد أنّ رجلاً أتى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، فقال : ما يحبط الأجر عند المصيبة؟ قال: «تصفيق الرجل بيمينه على شماله، والصبر عند الصدمة الأولى، من رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط».
وعن أمّ سلمة رضي الله عنها قالت لما مات أبو سلمة (رضي الله عنه) قلت: غريب وفي أرض غربة، لأبكينه بكاءً يُتحدّث عنه، فكنت قد تهيأت للبكاء، إذ أقبلت امرأة تريد أن تسعدني فاستقبلها رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، فقال لها: «أتريدين أن تدخلي الشيطان بيتاً أخرجه الله منه؟» فكففت عن البكاء(2).
وعن الباقر(علیه السّلام): «أشدّ الجزع الصراخ بالويل والعويل ولطم الوجه والصدر، وجز الشعر، ومن أقام النواح فقد ترك الصبر، ومن صبر واسترجع وحمل الله جل ذكره فقد رضي بما صنع الله، ووقع أجره على الله عزّ وجلّ، ومن لم يفعل ذلك جرى عليه القضاء وهو ذميم وأحبط الله عزّ وجلّ أجره»(3).
و عن الصادق(علیه السّلام)قال: «قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): ضرب الرجل يده على فخذه إحباط لأجره»(4).
ص: 288
ويستحب الاسترجاع عند المصيبة، قال الله تعالى: ﴿الَّذينَ إذا أصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ * أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتُ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ﴾(1).
وقال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): أربع من كن فيه كان في نور الله الأعظم من كان عصمة أمره شهادة أن لا إله إلا الله وأنّي رسول الله، ومن إذا أصابته مصيبة قال: إنا لله وإنا إليه راجعون ، ومن إذا أصاب خيراً قال: الحمد لله ربّ العالمين، ومن إذا أصاب خطيئة قال: أستغفر الله ربّى وأتوب إليه»(2).
وقال الباقر : «ما من مؤمن يصاب بمصيبة في الدنيا، فيسترجع عند المصيبة ويصبر حين تفجأه المصيبة، إلا غفر الله له ما مضى من ذنوبه، إلّا الكبائر التي أوجب الله تعالى عليها النار، وكلّما ذكر مصيبة فيما يستقبل من عمره فاسترجع عندها،وحمد و الله عزّ وجلّ إلا غفر الله له كل ذنب اكتسبه فيما بين الاسترجاع الأوّل إلى الاسترجاع الأخير، إلّا الكبائر من الذنوب»(3). رواهما الصدوق.
وأسند الكليني، الثاني إلى معروف بن خربوذ، عن الباقر(علیه السّلام)، ولم يستثن منه الكبائر(4).
وروى الكليني بإسناده إلى داود بن زربي - بكسر الزاي المعجمة، ثم الراء الساكنة - عن الصادق(علیه السّلام): «من ذكر مصيبته ولو بعد حين فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله رب العالمين، اللهم أجرني على مصيبتي، واخلف عليَّ أفضل منها، كان له
ص: 289
من الأجر مثل ما كان عند أوّل صدمة»(1).
وروى مسلم عن أُمّ سلمة (رضي الله عنها) قالت، قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله به: إنا لله وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجَعُون)، اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها إلّا أخلف الله له خيراً منها»، فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ أوّل بيت هاجر إلى رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، ثمّ إنّي قلتها فأخلف الله لي رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)(2).
وروى الترمذي بإسناده إلى رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)قال: «إذا مات ولد العبد قال الله تعالى الملائكته أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك، واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنّة، وسموه بيت الحمد»(3).
ونحوه رواه الكليني عن الصادق(علیه السّلام)،عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)(4).
يجوز النوح بالكلام الحسن، وتعداد الفضائل مع اعتماد الصدق؛ لأنّ فاطمة الزهرا(سلام الله علیها)فعلته في قولها : «يا أبتاه من ربه ما أدناه يا أبتاه إلى جبرئيل أنعاه يا أبتاه أجاب رباً دعاه»(5).
ص: 290
وروي أنّها أخذت قبضة من تراب قبره(صلی الله علیه و آله و سلم)، فوضعتها على عينيها، وأنشدت تقول:
ماذا على من شمّ تربة أحمد *** أن لا يشم مدى الزمان غواليا
صبت عليّ مصائب لو أنّها *** صبت على الأيام صرن لياليا(1)
ولما سبق من أمره(صلی الله علیه و آله و سلم)بالنوح على حمزة.
وعن أبي حمزة عن الباقر(علیه السّلام): «مات ابن المغيرة، فسألت أُمّ سلمة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)أن يأذن لها في المضي إلى مناحته، فأذن لها وكان ابن عمها، فقالت:
أنعى الوليد بن الوليد *** أبا الوليد، فتى العشيرة
حامي الحقيقة ماجداً *** يسمو إلى طلب الوتيرة
قد كان غيثاً للسنين *** وجعفراً غدقاً وميرة
وفي تمام الحديث - فما عاب رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)ذلك، ولا قال شيئاً»(2).
وروى ابن بابويه أنّ الباقر(علیه السّلام)أوصى أن يندب في الموسم عشر سنين(3).
وروى يونس بن يعقوب عن الصادق(علیه السّلام)، قال : قال لي أبو جعفر(علیه السّلام): قف من مالي كذا وكذا لنوادب يندُ بْنَنِي عشر سنين بمنى أيام منى»(4).
قال الأصحاب:
والمراد بذلك، تنبيه الناس على فضائله وإظهارها ليقتدى بها، ويُعلم ما كان عليه أهل هذا البيت(علیهم السّلام)لتقتفى آثارهم؛ لزوال التقية بعد الموت(5).
ص: 291
ويحرم النوح بالباطل، وهو تعداد ما ليس فيه من الخصال، واستماع الأجانب من الرجال، ولطم الخدود والخدش، وجز الشعر ونحوه، وعليه يحمل ما ورد من النهي عن النياحة.
وقال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): «أنا بريء ممّن حلق وسلق»(1)أي حلق الشعر، ورفع صوته.
وقال(صلی الله علیه و آله و سلم)الفاطمة(سلام الله علیها)حين قتل جعفر بن أبي طالب: «لا تدعين بويل ولا تكل ولا حَرَب، وما قلت فيه فقد صدقت»(2).
وعن أبي مالك الأشعري عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): «النائحة إذا لم تتب تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران»(3).
عن أبي سعيد الخدري: لعن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)النائحة والمستمعة(4).
وعنه(صلی الله علیه و آله و سلم): «ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب»(5).
وهذا النهي محمول على الباطل كما يظهر منها، وبه يجمع بينها وبين الأخبار السابقة.
ص: 292
فتشتمل على فوائد مهمة:
يستحب تعزية أهل الميت استحباباً مؤكداً، وهي تَفْعِلَة من العزاء - بالمد والقصر - وهو السلق وحسن وحسن الصبر على المصائب، يقال: عزّيته فتعزّى، أي صبرته فتصبر.
والمراد بها طلب التسلّي عن المصاب، والتصبّر عن الحزن والاكتئاب، بإسناد الأمر إلى الله عزّ وجلّ، ونسبته إلى عدله وحكمته، وذكر ما وعد الله تعالى على الصبر مع الدعاء للميت، والمصاب بتسليته عن مصيبته. وقد ورد في استحبابها والحثّ عليها أحاديث كثيرة. وروی عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده أن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)قال:
«أتدرون ما حق الجار؟ إن استغاثك أغنته، وإن استقرضك أقرضته، وإن افتقر عدت عليه وإن أصابته مصيبة عزّيته وإن أصابه خير هنّأته، وإن مرض عُدته، وإن مات اتبعت جنازته، ولا تستطيل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، وإذا اشتريت فاكهة فأهد له، فإن لم تفعل فأدخلها سراً، ولا يخرج بها ولدك يغيظ بها ولده، ولا تؤذه بريح قدرك، إلا أن تعرف له منها»(1).
ص: 293
وعن بهز بن حكيم بن معاوية بن جيدة القشيري عن أبيه، عن جده، قال، قلت: يا رسول الله: ما حق جاري عليّ؟ قال: «إن مرض عدته»(1).وذكر نحو الأول.
وأما الثواب فيها، فعن ابن مسعود، عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)،قال: «من عزّى مصاباً فله مثل أجره»(2).
وعن جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) قال، قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «من عزّى مصاباً كان له مثل أجره، من غير أن ينقصه الله من أجره شيئاً(3).
ومن كفّن مسلماً كساه الله من سندس وإستبرق وحرير(4).
ومن حفر قبراً لمسلم بنى الله عزّ وجلّ له بيتاً في الجنّة(5).
و من أنظر معسراً أظلّه الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله»(6).
وعن جابر أيضاً رفعه من عزّى حزيناً ألبسه الله عزّ وجلّ من لباس التقوى وصلّى على روحه في الأرواح»(7).
وسئل النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)عن التصافح في التعزية، فقال: «هو سكن للمؤمن. ومن عزّى مصاباً فله مثل أجره».
وعن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمر بن حزم، عن أبيه، عن جده، أنه سمع
ص: 294
رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)وهو يقول: «من عاد مريضاً فلا يزال في الرحمة، حتى إذا قعد عنده استنقع فيها، ثمّ إذا قام من عنده فلا يزال يخوض فيها، حتّى يرجع من حيث خرج، ومن عزّى أخاه المؤمن من مصيبة كساه الله عزّ وجلّ من حلل الكرامة يوم القيامة»(1).
وعن أبي برزة، قال قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «من عزّى ثكلى كُسي بُرداً في الجنّة»(2).
وعن: «من أنس قال قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «من عزّى أخاه المؤمن من مصيبته كساه الله عزّ وجلّ حلّة خضراء، يحبر بها يوم القيامة فقيل يا رسول الله، ما يحبر بها، قال يُغبط بها»(3).
وروي أنّ داود(علیه السّلام)قال: «إلهى ما جزاء من يعزّي الحزين والمصاب ابتغاء مرضاتك؟ قال: جزاؤه أن أكسوه رداءً من أردية الإيمان أستره به من النار، وأدخله به الجنّة، قال: يا إلهي، فما جزاء من شيع الجنائز ابتغاء مرضاتك؟ قال: جزاؤه أن تشيعه الملائكة يوم يموت إلى قبره، وأن أصلي على روحه في الأرواح»(4).
وروي أن موسى(علیه السّلام)سأل ربه ما لعائد المريض من الأجر؟ قال: أبعث له عند موته ملائكة يشيّعونه إلى قبره ويؤانسونه إلى المحشر، قال: يا ربّ فما لمعزّي الثكلى من الأجر؟ قال: أظله تحت ظلّى - أي ظلّ العرش - يوم لا ظل إلا ظلّى»(5).
وروي أنّ إبراهيم(علیه السّلام)سأل ربه قال: أي ربّ ما جزاء من يبل الدمع وجهه من خشيتك؟ قال: صلواتي ورضواني، قال: فما جزاء من يصبّر الحزين ابتغاء وجهك؟ قال:
ص: 295
أكسوه ثياباً من الإيمان يتبوّأُ بها في الجنّة، ويتقي بها النار، قال: فما جزاء من سدّد الأرملة ابتغاء وجهك؟ قال: أقيمه في ظلّي، وأدخله جنّتي، قال: فما جزاء من يتبع الجنازة ابتغاء وجهك؟ قال: تصلّي ملائكتي على جسده، وتشيّع روحه».
وأما كيفيتها فقد تقدّم خبر المصافحة فيها.
وأمّا ما يقال فيها فما يتفق من الكلمات، ويروى من الأخبار المؤدية إلى السلوة، ولا شيء مثل إيراد بعض ما تضمنته هذه الرسالة، فإنّ فيها شفاءً لما في الصدور، وبلاغاً وافياً في تحقيق هذه الأمور.
وعن عليّ(علیه السّلام)قال: «كان رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)إذا عزّى قال آجركم الله ورحمكم، وإذا هنا قال: بارك الله لكم، وبارك عليكم»(1).
وروي أنه توفّي لمعاذ ولد، فاشتد وجده عليه، فبلغ ذلك النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)وآله، فكتب إليه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمّد رسول الله إلى معاذ، سلام عليك، فإنّي أحمد الله الذي لا إله إلا هو.
أمّا بعد، أعظم الله لك الأجر ، وألهمك الصبر، ورزقنا وإياك الشكر، فإنّ أنفسنا وأهلينا وموالينا وأولادنا من مواهب الله عزّ وجلّ الهنيئة، وعواريه المستودعة، تمتع بها إلى أجل معلوم، وتقبض لوقت معدود، ثمّ افترض علينا الشكر إذا أعطانا، والصبر إذا ابتلانا؛ وكان ابنك من مواهب الله الهنيئة، وعواريه المستودعة، متعك الله به في غبطة وسرور، وقبضه منك بأجر كثير ، الصلاة والرحمة والهدى إن صبرت واحتسبت فلا تجمعن عليك مصيبتين، فيحبط لك أجرك، وتندم على ما فاتك، فلو قدمت على ثواب
ص: 296
مصيبتك علمت أنّ المصيبة قصرت في جنب الله عن الثواب، فتنجز من الله موعوده وليذهب أسفك على ما هو نازل بك، فكأن قد والسلام»(1).
وعن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق ، عن أبيه، عن جده، قال: «لمّا توفّي رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)جاء جبرئيل(علیه السّلام)، والنبي(صلی الله علیه و آله و سلم)مسجّى، وفي البيت علي وفاطمة والحسن والحسين(علیهم السّلام)، فقال: السلام عليكم يا أهل بيت النبوة ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وإنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ﴾(2). الآية. ألا إنّ في الله عزّ وجلّ عزاء من كل مصيبة، وخلفاً من كلّ هالك، ودركاً لما فات فبالله عزّ وجلّ فتقوا، وإيّاه فارجوا، فإنّ المصاب من حرم الثواب، هذا آخر وطئي من الدنيا»(3).
وعن جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) قال: لمّا توفّي رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)عزّتهم الملائكة، يسمعون الحسّ ولا يرون الشخص فقالوا: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، إنّ في الله عزّ وجلّ عزاء من كلّ مصيبة، وخلفاً من كل هالك، فبالله فتقوا، وإيّاه فارجوا، فإنّما المحروم من حرم الثواب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(4).
وروى البيهقي في الدلائل قال: لما قبض رسول الله أحدق به أصحابه، فبكوا حوله، واجتمعوا، فدخل رجل أشهب اللحية جسيم صبيح، فتخطّى رقابهم، فبكى، ثمّ التفت إلى أصحاب رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، فقال : إنّ في الله عزاء من كلّ مصيبة، وعوضاً من كلّ فائت وخلفاً من كلّ هالك، فإلى الله فأنيبوا، وإليه فارغبوا، ونظره إليكم في البلاء
ص: 297
فانظروا، فإنّ المصاب من لم يؤجر، وانصرف فقال بعضهم لبعض: أتعرفون الرجل؟ فقال علي(علیه السّلام): «نعم، هذا أخو رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، الخضر(علیه السّلام)»(1).
وعن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصيبته بي، فإنّها من أعظم المصائب»(2).
وعنه : «من عظمت مصيبته فليذكر مصيبته بي، فإنها ستهون عليه».
وعنه، أنه قال في مرض موته: «أيها الناس، أيما عبد من أُمّتي أُصيب بمصيبة من بعدي، فليتعزّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإنّ أحداً من أُمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشدّ عليه من مصيبتي»(3).
وعن عبد الله بن الوليد بإسناده، لما أُصيب علي(علیه السّلام)نعى الحسن إلى الحسين(علیهم السّلام)،وهو بالمدائن، فلمّا قرأ الكتاب قال: «يا لها من مصيبة، ما أعظمها ! مع أنّ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)قال: من أُصيب منكم بمصيبة فليذكر مصابي، فإنّه لن يصاب بمصيبة أعظم منها»(4).
وروى إسحاق بن عمّار، عن الصادق(علیه السّلام)، أنه قال: «يا إسحاق، لا تعدّنّ مصيبة أعطيت عليها الصبر، واستوجبت عليها من الله عزّ وجلّ الثواب، إنما المصيبة التي يحرم صاحبها أجرها وثوابها، إذا لم يصبر عند نزولها»(5).
ص: 298
وعن أبي ميسرة(1)قال كنا عند أبي عبد الله(علیه السّلام)فجاء رجل وشكا إليه مصيبته، فقال له: «أمّا إنّك إن تصبر تؤجر، وإلا تصبر يمضي عليك قدر الله عزّ وجلّ الذي قدّر عليك وأنت مذموم»(2).
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): قال لي جبرئيل(علیه السّلام): يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقیه»(3).
وروي:
أنه كان في بني إسرائيل رجل فقيه عابد عالم مجتهد، وكانت له امرأة وكان بها معجباً، فماتت، فوجد عليها وجداً شديداً، حتى خلا في بيت وأغلق على نفسه واحتجب عن الناس فلم يكن يدخل عليه أحد.
ثمّ إنّ امرأة من بني إسرائيل سمعت به فجاءته فقالت: لي إليه حاجة استفتيه فيها، ليس يجزيني إلا أن أشافهه بها، فذهب الناس، ولزمت الباب، فأخبر، فأذن لها، فقالت: استفتيك في أمر، فقال: ما هو ؟ قالت إني استعرت من جارة لي حليّاً، فكنت ألبسه زماناً، ثمّ إنّهم أرسلوا إلي فيه أفأردّه إليهم؟ قال: نعم، قالت: والله إنه قد مكث عندي زماناً طويلاً، قال: ذاك أحق لردّك إياه، فقالت له: رحمك الله، أفتأسف على ما أعارك الله عزّ وجلّ، ثمّ أخذه منك، وهو أحق به منك؟ فأبصر ما كان فيه ونفعه الله بقولها(4).
ص: 299
وعن أبي الدرداء، قال:
كان لسليمان بن داود(علیهم السّلام)ابن يحبه حباً شديداً، فمات فحزن عليه حزناً شديداً، فبعث الله تعالى إليه ملكين في هيئة البشر، فقال: ما أنتما؟ قالا: خصمان، قال: اجلسا بمنزلة الخصوم، فقال أحدهما : إنّي زرعت زرعاً فأتى هذا فأفسده، فقال سليمان(علیه السّلام): ما يقول هذا؟ قال: أصلحك الله إنّه زرع في الطريق، وإنّي مررت به فنظرت يميناً وشمالاً فإذا الزرع، فركبت قارعة الطريق، فكان في ذلك فساد زرعه، فقال سليمان(علیه السّلام): ما حملك على أن تزرع في الطريق، أما علمت أنّ الطريق سبيل الناس، ولابد للناس من أن يسلكوا سبيلهم؟ فقال له أحد الملكين أو ما علمت يا سليمان، أنّ الموت سبيل الناس، ولابد للناس من أن يسلكوا سبيلهم ؟ قال : فكأنّما كشف عن سليمان(علیه السّلام)الغطاء، ولم يجزع على ولده بعد ذلك.
رواه ابن أبي الدنيا.
وروي أيضاً:
أن قاضياً كان في بني إسرائيل مات له ابن فجزع عليه وصاح، فلقيه رجلان فقالا له اقض بيننا، فقال: من هذا ،فررت فقال أحدهما: إنّ هذا مرّ بغنمه على زرعي فأفسده، فقال الآخر: إنّ هذا زرع بين الجبل والنهر، ولم يكن لي طريق غيره، فقال له القاضي أنت حين زرعت بين الجبل والنهر، ألم تعلم أنه طريق الناس؟ فقال له الرجل: فأنت حين ولد لك، ألم تعلم أنه يموت؟ فارجع إلى قضائك ثم عرجا، وكانا ملكين.
وروي:
أنه كان بمكة مقعدان، كان لهما ابن شاب، فكان إذا أصبح نقلهما فأتى بهما المسجد، فكان يكتسب عليهما يومه، فإذا كان المساء احتملهما وأقبل بهما منزله،
ص: 300
فافتقدهما النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، فسأل عنهما، فقيل: مات ابنهما، فقال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «لو ترك أحد الأحد لترك ابن المقعدين».
رواه الطبراني(1).
وروى ابن أبي الدنيا: لو ترك شيء لحاجة أو فاقة، لترك الهديل لأبويه.
وروي عن بعض العابدات، أنها قالت: ما أصابتني مصيبة فأذكر معها النار، إلا صارت في عيني أصغر من التراب.
ليذكر من أصيب بمصيبة، وأنّ المصائب والبلايا إنّما تخص في الأغلب من الله به مزيد عناية، وله عليه إقبال وإليه توجّه وليتحقق ذلك قبل النظر في الكتاب والسنة فيمن يبتلى في دار الدنيا، فإنّه يجد أشدّ الناس بلاءً أهل الخير والصلاح بعد الأنبياء والرسل. والآيات الكريمة منبئة على ذلك:
قال الله تعالى: ﴿وَلَوْلا أَنْ يَكُوْنَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقْفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ﴾(2)الآية.
وقال تعالى: ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾(3).
وقال تعالى: ﴿وَإذا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنا بَيِّنَاتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً * قُلْ مَنْ كانَ في الصَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَداً﴾(4).
ص: 301
وروى عبد الرحمن بن الحجاج، قال: ذكر عند أبي عبد الله(علیه السّلام)البلاء، وما يخص الله عزّ وجلّ به المؤمن، فقال: «سئل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): من أشد الناس بلاء في الدنيا؟ فقال: النبيّون، ثمّ الأمثل فالأمثل، ويبتلى المؤمن بعد على قدر إيمانه وحسن أعماله، فمن صح إيمانه وحسن عمله اشتدّ بلاؤه، ومن سخف إيمانه، وضعف عمله قل بلاؤه»(1).
وروى زيد الشحّام عن أبي عبد الله(علیه السّلام)قال: «إنّ عظيم الأجر مع عظيم البلاء، وما أحبّ الله عزّ وجلّ قوماً إلا ابتلاهم»(2).
وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله(علیه السّلام)قال: «إنّ لله عزّ وجلّ عباداً في الأرض من خالص عباده، ما تنزل من السماء تحفة إلى الأرض إلا صرفها عنهم إلى غيرهم، ولا بليّة إلا صرفها إليهم»(3).
وعن الحسين بن علوان، عنه(علیه السّلام)أنه قال: «إنّ الله تعالى إذا أحب عبداً غته(4)بالبلاء غتاً، وإنا وإياكم لنصبح به ونمسي»(5).
وعن أبي جعفر الباقر(علیه السّلام)، قال: «إنّ الله تبارك وتعالى إذا أحب عبداً غته بالبلاء غتاً وتجه بالبلاء ثجّاً(6)فإذا دعاه قال: لبيك عبدي لئن عجّلت لك ما سألت إنِّي على ذلك
ص: 302
لقادر ، ولكن ادّخرت لك فما ادخرت خير لك»(1).
وعن أبي عبد الله(علیه السّلام)قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): إن عظيم البلاء يكافأ به عظيم الجزاء، فإذا أحبّ الله عبداً ابتلاه بعظيم البلاء، فمن رضي فله عندالله تعالى الرضي، ومن سخط البلاء فله عندالله السخط»(2).
وعن أبي جعفر(علیه السّلام)أنّه قال: «إنّما يبتلى المؤمن في الدنيا على قدر دينه أو قال: على حسب دينه»(3).
وعن ناجية ،قال قلت لأبي جعفر(علیه السّلام): إنّ المغيرة يقول: إن الله لا يبتلي المؤمن بالجذام ولا بالبرص ولا بكذا ولا بكذا، فقال: «إن كان لغافلاً عن مؤمن آل ياسين، إنّه كان مكنّعاً(4)، - ثمّ ردّ أصابعه، فقال : كأني أنظر إلى تكنيعه، أتاهم فأنذرهم، ثم عاد إليهم من الغد فقتلوه - ثمّ قال - : إن المؤمن يبتلى بكلّ بليّة، ويموت بكل ميتة، إلا أنه لا يقتل نفسه»(5).
وعن عبد الله بن أبي يعفور قال: شكوت إلى أبي عبد الله(علیه السّلام) ما ألقى من الأوجاع وكان مسقاماً، فقال لي: «يا عبد الله لو يعلم المؤمن ما له من الأجر في المصائب لتمنّى أن يقرّض بالمقاريض»(6).
ص: 303
وعن أبي عبد الله(علیه السّلام): إن أهل الحق لم يزالوا في شدّة، أما إن ذلك إلى مدة قليلة وعافية طويلة»(1).
وعن حمران، عن أبي جعفر(علیه السّلام)، قال: «إنّ الله عزّ وجلّ ليتعاهد المؤمن بالبلاء، كما يتعاهد الرجل أهله بالهدية من الغيبة، ويحميه الدنيا كما يحمي الطبيب المريض»(2).
وعن أبي عبد الله قال: «دعي النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)إلى طعام، فلما دخل إلى منزل الرجل نظر إلى دجاجة فوق حائط قد ،باضت فتقع البيضة على وتد في حائط فتثبت عليه، ولم تسقط ولم تنكسر، فتعجب النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)منها، فقال له الرجل: أعجبت من هذه البيضة؟ فوالذي بعثك بالحق ما رزئت(3)شيئاً قط، فنهض رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، ولم يأكل من طعامه شيئاً، وقال: من لم يرزأ فما لله فيه من حاجة»(4).
وأشباه هذه الأخبار كثيرة، فلنقتصر على هذا القدر.
ونختم الرسالة بكتاب شريف، كتبه سيّدنا ومولانا أبو عبد الله جعفر بن محمّد الصادق(علیه السّلام)لجماعة من بني عمه، حين أصابتهم شدّة من بعض الأعداء على وجه التعزية.
رويناها بإسنادنا إلى الشيخ أبي جعفر الطوسي (قدس الله روحه)، عن الشيخ المفيد محمّد بن النعمان والحسين بن عبيد الله الغضائري، عن الصدوق أبي جعفر محمد بن
ص: 304
عليّ بن بابويه، عن محمد بن الحسن بن الوليد، عن محمد بن الحسن الصفار، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن الثقة الجليل محمد بن أبي عمير، عن إسحاق بن عمّار، قال: إنّ أبا عبد الله جعفر بن محمد(علیهم السّلام)كتب إلى عبد الله بن الحسن، حين حمل هو وأهل بيته يعزّيه عما صار إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى الخلف الصالح والذرية الطيبة من ولد أخيه وابن عمه.
أمّا بعد، فلئن كنت قد تفرّدت أنت وأهل بيتك ممّن حمل معك بما أصابكم، فما انفردت بالحزن والغيظ والكآبة وأليم وجع القلب دوني، ولقد نالني من ذلك من الجزع والقلق وحرّ المصيبة مثل ما نالك، ولكن رجعت إلى ما أمر الله عزّ وجلّ به المتقين من الصبر وحسن العزاء، حين يقول لنبيه(صلی الله علیه و آله و سلم): ﴿واصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا﴾(1).
وحين يقول: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ﴾(2).
وحين يقول لنبيه(صلی الله علیه و آله و سلم)، حين مثل بحمزة: ﴿وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابرين﴾(3).
فصبر رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)ولم يعاقب.
وحين يقول: ﴿وَأْمُرْ أهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ والعاقبة للتقوى﴾(4).
حين يقول: ﴿الَّذِينَ إذا أصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ * أُولئِكَ
ص: 305
عَلَيْهِمْ صَلَوَتْ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَبِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾(1).
وحين يقول: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّبِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾(2).
وحين يقول عن لقمان لابنه: ﴿وَأَصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾(3).
وحين يقول موسى : ﴿قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ أَسْتَعِينُواْ بِاللَّهِ وَاَصْبِرُواْ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْعَقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾(4).
وحين يقول : ﴿الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(5).
وحين يقول: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّبِرِينَ﴾(6).
وحين يقول: ﴿وَالصَّبِرِينَ وَالصَّبِراتِ﴾(7).
وحين يقول: ﴿وَأَصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَكِمِينَ﴾(8)وأمثال ذلك من القرآن كثير.
واعلم - أي عمّ وابن عمّ - أنّ الله عزّ وجلّ لم يبال بضر الدنيا لوليه ساعة قط، ولا شيء أحب إليه من الضرّ والجهد واللأواء(9)مع الصبر، وأنّه تبارك وتعالى لم يبال بنعيم الدنيا لعدوه ساعة واحدة قطّ.
ص: 306
ولولا ذلك ما كان أعداؤه يقتلون أولياءه ويخيفونهم ويمنعونهم، وأعداؤه آمنون مطمئنون عالون ظاهرون.
ولولا ذلك لما قتل زكريا ويحيى بن زكريا ظلماً وعدواناً في بغى من البغايا.
ولولا ذلك لما قتل جدّك عليّ بن أبي طالب(علیه السّلام)لما قام بأمر الله جلّ وعزّ ظلماً، وعمّك الحسين بن فاطمة(سلام الله علیها)اضطهاداً وعدواناً.
ولولا ذلك لما قال الله عزّ وجلّ في كتابه: ﴿وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقْفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ﴾(1).
ولولا ذلك لما قال في كتابه: ﴿أيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ*لا تُسارِعُ لَهُمْ في الخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ﴾(2).
ولولا ذلك لما جاء في الحديث: «لولا أن يحزن المؤمن لجعلت للكافر عصابة من حديد، فلا يصدع رأسه أبداً».
ولولا ذلك لما جاء في الحديث: أن الدنيا لا تساوي عند الله عزّ وجلّ جناح بعوضة. ولولا ذلك ما سقى كافراً منها شربة ماء.
ولولا ذلك لما جاء في الحديث: لو أنّ مؤمناً على قلة جبل لا بتعث الله له كافراً أو منافقاً يؤذيه.
ولولا ذلك لما جاء في الحديث: أنه إذا أحب الله قوماً، أو أحب عبداً، صبّ عليه البلاء صبّاً، فلا يخرج من غمّ إلا وقع في غمّ.
ولولا ذلك لما جاء في الحديث: ما من جرعتين أحبّ إلى الله تعالى أن يجرعهما عبده المؤمن في الدنيا من جرعة غيظ كظم عليها، وجرعة حزن عند مصيبة صبر عليها بحسن عزاء واحتساب.
ص: 307
ولولا ذلك لما كان أصحاب رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)يدعون على من ظلمهم بطول العمر وصحة البدن، وكثرة المال والولد.
ولولا ذلك ما بلغنا أنّ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)كان إذا خص رجلاً بالترحم عليه والاستغفار استشهد.
فعليكم يا عمّ وابن عم وبني عمومتي وإخوتي بالصبر والرضى والتسليم والتفويض إلى الله عزّوجلّ، والرضى والصبر على قضائه، والتمسك بطاعته، والنزول عند أمره.
أفرغ الله علينا وعليكم الصبر، وختم لنا ولكم بالسعادة، وأنقذنا وإياكم من كلّ هلكة بحوله وقوته، إنه سميع قريب.
وصلى الله على صفوته من خلقه، محمد النبي وأهل بيته (صلوات الله وسلامه وبركاته ورحماته عليهم أجمعين)(1).
هذا آخر التعزية بلفظها نقلتها من كتاب التتمات والمهمات، وعليها نختم الرسالة حامدین لله تعالى على نواله، مصلين على صاحب الرسالة، وعلى آله أهل العصمة والعدالة.
ولقد فرغ منها مؤلّفها العبد الفقير إلى الله تعالى زين الدين علي بن أحمد الشامي العاملي عامله الله بفضله وعفا عنهم بمنّه وسط نهار الجمعة غرة شهر رجب المرجب الفرد الحرام عام أربعة وخمسين وتسعمائة حامداً مصلّياً مسلماً مستغفراً والحمد لله
وحده، وصلاته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.
ص: 308
(5 و 6)
و
الرعاية لحال البداية
في علم الدراية
تحقیق
غلام حسین قیصریه ها
ص: 309
ص: 310
بسم الله الرحمن الرحيم
لا شكّ في أنّ الحديث الحاكي للسنة مدار الاستنباط لأكثر الأحكام ومرجع الفتاوى في المسائل الفقهية، فلابد من علم يبيّن حالات الرواة من المدح والذم وماله دخل في قبول روايته وعدمه وهو علم الرجال. ومن علم يشرح لغاته ويبين حالاته من كونه نصاً أو ظاهراً، عاماً أو خاصاً، مطلقاً أو مقيداً، مجملاً أو مبيّناً، معارضاً أو غير معارض وهو فقه الحديث. و من علم يبيّن صحيح الطريق وضعيفه، وسليم الإسناد وسقيمه، وغيرها من حالات مختلفة تعرض لمتن الحديث وطرقه ليعرف المقبول منه والمردود وهو علم الدراية.
ولكن لما كانت الشيعة في زمن الأئمة(علیهم السّلام)غير محتاجة إلى علم الدراية - لأنهم مرتبطون بالأئمة(علیهم السّلام)ومعتمدون على الأصول المصنّفة، وعندهم قرائن كانوا يعولون عليها، وكانت القرائن لا تزال موجودة عند المتقدمين من الأصحاب - لم يهتموا بهذا العلم، ولم يدوّنوا أصوله ولم يؤلّفوا فيه أي تأليفاً.
قال السيّد المرتضى في جواب المسائل التبانيات:
إن أكثر أخبارنا المروية في كتبنا معلومة مقطوع على صحتها، إما بالتواتر من طريق الإشاعة والإذاعة، أو بأمارة وعلامة دلّت على صحتها وصدق رواتها، فهي
ص: 311
موجبة للعلم مقتضية للقطع وإن وجدناها مودعة في الكتب بسند مخصوص معيّن من طريق الآحاد(1).
قال الحسن بن زین الدین ولد الشهيد الثاني في المنتقى بعد نقل كلام السيد المرتضى: وغير خاف أنه لم يبق لنا سبيل إلى الاطلاع على الجهات التي عرفوا منها ما ذكر وا؛ حيث حظوا بالعين، وأصبح حظنا الأثر، وفازوا بالعيان، وعوّضنا عنه بالخبر،فلا جرم انسدّ عنا باب الاعتماد على ما كانت لهم أبوابه مشرعة، وضاقت علينا مذاهب كانت المسالك لهم فيها متسعة. ولو لم يكن إلا انقطاع طريق الرواية عنا من غير جهة الإجازة التي هي أدنى مراتبها لكفى به سبباً لاباء الدراية على طالبها(2).
وقال الشيخ الطوسي في العدة :
إنِّي وجدتها [الفرقة المحقة مجمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووه-ا ف-ي تصانيفهم ودوّنوها في أصولهم، لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعونه حتّى أنّ واحداً منهم إذا أفتى بشيءٍ لا يعرفونه سألوه: من أين قلت هذا؟ فإذا أحالهم على كتاب معروف، أو أصل مشهور وكان راويه ثقة لا ينكر حديثه سكتوا وسلّموا الأمر في ذلك وقبلوا قوله. وهذه عادتهم وسجيّتهم من عهد النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)ومن بعده من الأئمة(علیهم السّلام)، ومن زمن الصادق جعفر بن محمد(علیه السّلام)الذي انتشر العلم عنه وكثرت الرواية من جهته(3).
ولكن إخواننا أهل السنة والجماعة لما كانوا يعتمدون على السنة المحكية عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)اهتموا اهتماماً كثيراً بضبطه وكتابته وتدوينه؛ خوفاً من ضياعه بعد ما كان اعتمادهم أولاً على الحفظ والضبط في القلوب؛ لأنهم نهوا عن كتابة الحديث من قبل بعض الخلفاء(4).
ص: 312
وقد أمر عمر بن عبد العزيز بكتابة حديث رسول الله؛ خوفاً من دروس العلم وذهاب العلماء(1).
وكان همهم في الجمع والتدوين من غير التفات إلى صحة الحديث وضعفه، وهل هو موضوع أم لا، وهل الراوي يصدق في روايته أم لا، وهل هو ضابط أم لا، بل جمعوا الأحاديث بالأسانيد التي وجدوها بها، ودعا هذا الأمر علماء أهل السنة والجماعة إلى التأليف في علوم الحديث؛ ولهذا سبقونا في تدوين علم أصول الحديث تعداداً وزماناً.
قال الحاكم النيسابوري (م 405):
أما بعد، فإنّي لما رأيت البدع في زماننا كثرت، ومعرفة الناس بأصول السنن قلت مع إمعانهم في كتابة الأخبار، وكثرة طلبها على الإهمال والإغفال دعاني ذلك إلى تصنيف كتاب خفيف يشتمل على ذكر أنواع علم الحديث ممّا يحتاج إليه طلبة
الأخبار المواظبون على كتابة الآثار(2).
قد اشتهر أنّ أوّل من صنف في أُصول الحديث أبو محمد الرامهرمزي (م 260). صنف في ذلك كتاباً سمّاه المحدث الفاصل بين الراوي والواعي. ونقل ذلك عن ابن جر في أوّل شرحه لكتابه نخبة الفكر(3).
ومن أهم ما كتبه علماء العامة بعده في علوم الحديث:
1 - معرفة علوم الحديث للحاكم النيسابوري (م 405)
2 - الكفاية في علم الرواية. للخطيب البغدادي (م 463).
3 - علوم الحديث، المشتهر باسم «مقدمة ابن الصلاح» لأبي عمرو عثمان بن
ص: 313
عبدالرحمن الشهرزوري الدمشقي الحافظ المعروف بابن الصلاح (م 643) .
قال بعضهم في وصف مقدمة ابن الصلاح:
وقد رزق الله تعالى هذا الكتاب من الحظوة لدى فحول العلماء ما أنسى الناس ذكر من تقدّمه، فكم تجد له من شرح، وكم تجد له من اختصار، وكم تجد له من متعقب. وقلّ أن تجد واحداً من الحفاظ الذين جاؤوا من بعد ابن الصلاح إلا وجدت له أثراً على مقدمة ابن الصلاح(1).
4 - مقدّمة جامع الأصول من أحاديث الرسول. لمبارك بن محمد بن الأثير الجزري (م606).
5 - الخلاصة في أصول الحديث. لحسين بن عبد الله الطيبي (م 743).
6 - التقريب والتيسير لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي (م 776).
7 - نظم الدرر في علم الأثر المعروف ب_«ألفية العراقي». لأبي الفضل زين الدين عبدالرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن الحافظ العراقي (م 806).
8- فتح المغيث شرح ألفية الحديث لشمس الدين محمّد بن عبد الرحمن بن محمد السخاوي (م 902).
9 - تدريب الراوي في شرح تقريب النووي. لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (م 911).
وغيرها من الكتب الكثيرة المؤلّفة عند أهل السنة والجماعة في علم أُصول الحديث.
هناك اختلاف في وجهات النظر حول أوّل من كتب في علم الدراية من علماء الشيعة، فقد ذهب السيد حسن الصدر (قدس سره) إلى أنه أوّل عالم شيعي ألف في الدراية هو الحاكم النيشابوري (405ه_). واعتبر السيد عبدالعزيز الطباطبائي (طاب ثراه) أنّ أوّل مؤلّف شيعي في هذا العلم هو القطب الراوندي (573ه_).
ص: 314
ولكنّ المشهور: هو أنّ أوّل من ألف في علم الدراية من علماء الشيعة هو الشهيد الثاني، ولم يكتب قبله أحد من علمائنا في هذا العلم. ومن جملة ما جاء فيه هذا الكلام الكتب التالية: الدر المنثور، ج 2، ص 188 ؛ أمل الآمل، ج 1، ص 85؛ رياض العلماء، ج 2، ص 368،369؛ روضات الجنات ، ج 3، ص 376؛ ريحانة الأدب، ج 3، 280؛ معجم رجال الحديث، ج 7، ص 372.
وهذا وإن لم يكن ثابتاً ولكن لا شك أن أوّل من جمع أكثر مسائل علم الدراية وتقدّم على سلفه في هذا المضمار، ورتب أصوله على نهج بديع واضح، وصار كتابه عند فحول العلماء مصدراً لهذا العلم يرجعون إليه عند الحاجة، هو الشهيد الثاني (قدس الله نفسه الزكية).
قال آية الله النجفي المرعشي (رحمه الله):
وممن وفقه المولى بالتأليف في علم الدراية العلامة السعيد الشيخ زين الدين بن عليّ العاملي الشهيد الثاني صاحب كتابي المسالك وشرح اللمعة، فإنّه (قدس سره وطاب رمسه) جاء بكتاب قد أخذ السبق في السباق، وهو مع صغر حجمه حاء لأكثر مسائل العلم آجره ربّه بهذه الخدمة للدين والمذهب(1).
1 - غنية القاصدين في معرفة اصطلاحات المحدثين. وهو أكبرها. صرح به في آخر رسالة البداية وقال :
فهذه جملة موجزة في الإشارة إلى مقاصد هذا العلم إجمالاً. ومن أراد الاستسقاء فيها مع ذكر الأمثلة فعليه بكتابنا غنية القاصدين ... .
ومن المؤسف أنه قد فقد ولم يصل إلينا.
2 - البداية في علم الدراية . مختصر في علم دراية الحديث وبيان مصطلحاتهم على وجه الإيجاز والاختصار، مع الإشارة إلى الأقوال مرتب على مقدّمة وأربعة أبواب:
ص: 315
المقدمة في بيان أصوله واصطلاحاته. الباب الأول في أقسام الحديث. الباب الثاني فيمن تقبل روايته وتردّ. الباب الثالث في تحمّل الحديث وطرق نقله الباب الرابع في أسماء الرجال وطبقاتهم وما يتصل به.
سمّاه الشهيد بهذا الاسم في عبارة عند فراغه من الشرح، وقال: فرغ من تسويد هذا التعليق المنزل منزلة الشرح للرسالة الموسومة بالبداية في علم الدراية مؤلّفهما... .
وقد أشار إليه في الخطبة حيث قال: نحمدك اللهم على البداية في الدراية والرواية، وسمّاه ولد الشهيد الشيخ حسن في مقدّمة منتقى الجمان بداية الدراية كما أنّه كثيراً ما ينقل عن الشرح ويسمّيه شرح بداية الدراية. ولم يذكر الشهيد تأريخ تأليفه لهذه الرسالة، ونسخ هذه الرسالة كثيرة، حتى قيل إنه يوجد في المكتبات الإيرانية أكثر من عشرين نسخة. وكتب العلماء عليها وعلى الشرح حواش وتعليقات، وللاطلاع عليها راجع رسائل في دراية الحديث، ج 1، ص 27 - 94 : مصنّفات الشيعة في علم دراية الحديث.
3 - الرعاية لحال البداية في علم الدراية. شرح مزجي متوسط لرسالة البداية في علم الدراية. فرغ من تأليفه في هزيع ليلة الثلاثاء خامس شهر ذي الحجّة الحرام عام تسع وخمسين وتسعمائة. لم يذكر الشهيد الثاني اسماً لكتابه هذا في أوله وآخره. والعلماء الذين جاؤوا من بعده يطلقون عليه كثيراً شرح البداية كابن العودي في الدرّ المنثور، ج 2، ص 188، والشيخ يوسف البحراني في لؤلؤة البحرين، ص 35. ويطلقون عليه أيضاً شرح بداية الدراية كولده في منتقى الجمان ، ج 1، ص 4، 8، 12، 19، والعلّامة الطهراني في الذريعة ، ج 13، ص 124 الرقم 398 ومنهم من سمّاه بداية الدراية 13، كالمامقاني في مقباس الهداية ، ج 1، ص 45 و 51. علماً أن البداية اسم للمتن دون الشرح. ومنهم من سمّاه الرعاية في علم الدراية كالمطبوع في مكتبة آية الله المرعشي النجفي بتحقيق الشيخ عبد الحسين محمّد علي البقال (رحمه الله).
وهذا الاسم منقول من خطّ الشهيد الثاني في مخطوطة المكتبة الرضوية المرقمة 7325. وفي صدر مخطوطة مركز التراث الإسلامي بخطّ تلميذ الشهيد محمود بن محمد
ص: 316
اللاهيجاني. وكتب في آخر النسخة ما هذا لفظه: «هذا جميع ما وجد بخطه الشريف عقب شرحه لمتنه المسمّى ب- الرعاية لحال البداية في علم الدراية وهو بخطّه أيضاً».
والنسخ الخطّيّة لهذا الكتاب كثيرة جداً حتى ضبط منها في المكتبات الإيرانية ما يقرب مائة نسخة.
طبعاتهما: أما المتن (البداية في علم الدراية) فقد طبعت عدة مرات في طهران عام 1310ه_ مع الشرح ؛ وقم المقدّسة عام 1423ه_، محققة مع الشرح في مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية ؛ وأيضاً في قم المقدّسة ضمن رسائل في دراية
الحديث، عام 1424ه_في مؤسسة دار الحديث.
وأمّا الشرح فقد طبع عدّة مرّات:
الأولى: في طهران على الحجر سنة 1310. قاله الطهراني في الذريعة، ج 3، ص 58، الرقم 159 ، وجاء مثله في فهرس مكتبة مجلس الشورى الإسلامي، ج 12، ص203.
الثانية: قامت بنشرها مطبعة النعمان بالنجف، وبالأوفست عنها مكتبة المفيد في إيران.
الثالثة: في مكتبة آية الله المرعشي النجفي وهي بتحقيق الشيخ عبد الحسين محمد على البقال (رحمه الله)، مع تعاليق السيد الأستاذ السيد أحمد المددي (حفظه الله ورعاه).
الرابعة: قامت بنشرها منشورات الفيروز آبادي في قم المقدسة، وهي بإعداد الأستاذ السيّد محمّد رضا الحسيني الجلالي حفظه الله تعالى.
الخامسة: طبعت محققةً مع المتن في مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية، عام 1423ه_.
السادسة: طبعت مع المتن ضمن رسائل في دراية الحديث سنة 1424ه_ في مؤسسة دار الحديث اعتماداً على الطبعة الخامسة.
* * *
اعتمدنا في طبعهما ضمن هذه الموسوعة على طبعة مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة، عام 1423ه_ والتي تم تحقيقهما على المنهج التالي:
اعتمد في تحقيق المتن على مخطوطة المكتبة المركزية بجامعة طهران المرقمة
ص: 317
1044/1 والتي جاء في آخرها إنهاء الشيخ حسين بن عبد الصمد في سنة 969.وعلى المخطوطات من شرحها التي اعتمد عليها في تحقيق الشرح، وبضمنها متن البداية.
واعتمد في تحقيق شرح البداية على النسخ التالية:
1 - مخطوطة مكتبة مركز إحياء التراث الإسلامي ضمن المجموعة المرقمة 1175، نسخها تلميذ الشهيد محمود بن محمد اللاهيجاني والمرموزلها ب_«ألف». جاء في آخرها:
وفرغ من تحريره أحوج الخلق إلى عفو ربه الغني محمود بن محمد بن علي بن حمزة اللاهيجاني غدوة نهار السبت لست ليال بقيت من شهر محرم الحرام سنة 966 بمكة المشرفة (زادها الله تعالى شرفاً)، الحمد لله وحده وصلّى الله على محمد وآله.
ثم كتب في أسفل الصفحة:
بلغت المعارضة بأصلها التي بخط [المصنف (رحمه الله)]إلا ما زاغ عنه البصر يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر صفر - ختم بالخير والظفر - سنة ست وسبعين وتسعمائة بمكة المشرفة (زادها الله تعالى شرفاً، ورزقنا التشرّف بها أبداً)، الحمد لله وحده وصلّى الله على محمد وآله.
ثم كتب:
بلغت المقابلة بأصلها يوم الأربعاء لأربع ليال من شهر صفر ختم بالخير والظفر بمكة المشرفة (زادها الله شرفاً ورزقنا التشرّف مادام العمر)... الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين.
وكتب في الحاشية:
بلغت المعارضة بأصلها التي بخط الشيخ (قدس سره) يوم الخميس لثلاث ليال بقيت من شهر صفر - ختم بالخير والظفر - سنة 966 بمكة المشرفة (زادها الله تعالى شرفاً ورزقنا التشرّف بها) بحق المصطفى وآله الطيبين الطاهرين والحمد لله وحده وصلّى الله على محمّد وآله.
وكتب في آخر النسخة:
هذا جميع ما وجد بخطه الشريف عقب شرحه لمتنه المسمّى ب- الرعاية لحال
ص: 318
البداية في علم الدراية، وهو بخطه أيضاً، ونقله منه أحوج الخلق إلى عفو ربه الغني محمود بن محمّد اللاهيجاني بمكة المشرفة (زادها الله تعالى شرفاً ورزقني التشرّف بها مادام العمر...). وكان الفراغ منه بكرة الجمعة الحادي والعشرين من شهر صفر ختم بالخير والظفر سنة 966. الحمد لله وحده وصلّى الله على محمد وآله وسلّم تسليماً كثيراً.
2 - مخطوطة مكتبة مجلس الشورى الإسلامي والمرموز لها ب_«ب». وهي المستنسخة على نسخة الأصل التي بخط المؤلّف نسخها محي الدين بن أحمد بن تاج الدين الميسي العاملي المجاز من الشهيد في حياته جاء في آخرها:
صورة خطّ المؤلّف أدام الله تعالى أيامه وجلاله وبسط على مفارق العالمين إكرامه وظلاله بمحمّد وآله المتحلّين بحلية المصفين خلاله، باليد الفانية الجانية الطامعة الراصية من العبد المحتاج إلى مزيد العفو محي الدين بن أحمد بن تاج الدين الميسي العاملي عاملهم الله بجزيل الإفضال بمحمّد وآله ... عشرين من رجب سنة اثنين وستين من بعد تسعمائة. والحمد لله ربّ العالمين.
3 - مخطوطة مكتبة النصيري الخاصة في مجموعة رسائل الشهيد الثاني والمرموز لها ب_«ج». جاء في آخرها:
وقد وقع الفراغ من مطالعتها ومقابلتها وتصحيحها من النسخة المقروءة على مصنّفها (رحمه الله تعالى) في ضحوة يوم السبت الثامن من شهر جمادى الأخرى المنتظم في شهور سنة أربع وسبعين وتسعمائة بدار الحديث قزوين. والحمد لله تعالى حق حمده أوّلاً وآخراً وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.
وأيضاً:
بلغ معارضته وتصحيحه بنسخة الأصل التي بخط المصنف (قدس الله روحه ونوّر ضريحه) بحسب الجهد والطاقة إلا ما زاغ عنه البصر. وذلك في أوقات أخيرها يوم السبت الرابع والعشرون من شهر الله الأعظم شهر رمضان المبارك عام خمسة وأربعين بعد الألف...
ص: 319
4- مخطوطة مكتبة العالم المجاهد الشهيد محمّد عليّ القاضي الطباطبائي الخاصة والمرموز لها ب_«د». جاء في آخرها:
تمت الرسالة ... على يد الخاطئ الراجي عفو ربِّه الغني محمد حسين ابن المرحوم كاظم الكاظمي في دار المؤمنين أصفهان... في يوم الخميس عشرون من شهر جمادى الآخر من شهور سنة 1115 ألف ومائة وخمسة عشر هجرية على مشرفها آلاف السلام والتحية، والحمد لله رب العالمين.
ب: تخريج الأقوال والآراء. نظراً إلى أن أكثر الأقوال والآراء التي نقلها المصنف (رحمه الله) من أهل السنة والجماعة، وبلفظ «قيل» بذل الوسع والطاقة لتخريج الأقوال من مصادرها الأصلية والإرجاع إليها، ولهذا اعتمدنا على كثير من مصادر التحقيق على كتب العامة.
ثم إن وجد للقائل أثراً أرجع إليه، وإن لم يكن أو لم يوجد لقائله تأليفاً أُرجع إلى المصادر التي نقلت عنه مع رعاية تقدّمها على الشهيد الثاني (رحمه الله). وكان الاعتماد على المصادر الرئيسية.
وأورد كلّ ما وجد من التعليقات والملاحظات للشهيد الثاني وابنه الشيخ حسن (رحمهما الله) في حواشي المخطوطات
وفرزنا متن البداية من الشرح ووضع متن البداية ضمن الشرح بين الهلالين.
ج : أوردنا في هذه الطبعة تعاليق السيد الأستاذ آية الله السيد أحمد المددي على الرعاية من طبعة مكتبة آية الله المرعشي النجفي (قدس سره) بتحقيق الشيخ عبد الحسين محمّد علي البقال (رحمه الله)، وذيلنا هذه التعاليق بتوقيع «السيّد المددي» بين الهلالين هذا، ونشكر المحقق الفاضل غلام حسين قيصريهها لجهوده في تحقيق هذا الكتاب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
مركز إحياء التراث الإسلامي
ص: 320
الصورة
ص: 321
الصورة
ص: 322
الصورة
ص: 323
الصورة
ص: 324
ص: 325
ص: 326
بسم الله الرحمن الرحيم
نَحمَدُك اللهمَّ على البداية في الدراية والرواية، ونسألُكَ حسن الرعاية إلى النهاية، ونصلّي على نبيك محمّدٍ المُنْقِذِ من الغواية، المُرشدِ إلى سبيل الهداية، وعلى آله وأصحابه صلاة لا تبلغ لها غاية.
وبعد، فهذا مختصر في علمِ دراية الحديث وبيان مصطلحاتهم على وجه الإيجاز والاختصارِ مُرتَبٌ على مقدِّمةٍ وأبواب:
ص: 327
الخبر والحديث: بمعنى، هو كلام يكون لنسبتِه خارج في أحد الأزمنة تطابقه أو لا. وهو أعم من أن يكون قول الرسول والإمام والصحابي والتابعي وغيرهم. وفي معناه فعلُهم وتقريرهم.
وقد يُخَصُّ الثاني بما جاء عن المعصوم، والأوّلُ بما جاء عن غيره، أو يُجعل الثاني أعم مطلقاً.
والأثر: أعم مطلقاً.
والمتنُ: لفظ الحديث الذي يَتَقَوَّمُ بِه المعنى.
والسند: طريق المتن. وقيل: الإخبارُ عن طَرِيقِه.
والإسنادُ: رَفعُ الحديثِ إلى قائله والأولى ردُّ المعنى الثاني إليه أيضاً.
ثمّ الخبرُ، مُنحصر فى الصدق والكذب فى الأصح؛ لأنه إن طابق الواقع المحكي فالأوّلُ، وإلا فالثاني، سواءٌ وافَقَ اعتقادَ المُخبِرِ أم لا، وسواء قصد الخبر أم لا.
ثم قد يُعلم صدقه قطعاً ضرورةً، كالمتواتر، وما عُلِمَ وجود مخبَرِه كذلك. أو كشباً، كخبر الله تعالى، والرسول، والإمام، والأُمّة، والمتواتر معنى، والمحتف بالقرائن، وما عُلِمَ وجودُ مُخبَرِه بالنظر. وقد يُعلم كذبه كذلك بالمقايسة. وقد يحتمل الأمرين، كأكثر الأخبار.
ص: 328
مطلقاً إلى متواتر، وهو ما بَلَغَتْ رُواتُه في الكثرةِ مَبْلَغاً أحالت العادة وينقسم تواطؤهم على الكذب، واستمر ذلك في الطبقات حيث تتعدّد، فيكون أوله كآخره، ووسطه كَطَرَفَيْه. ولا يَنْحَصِرُ ذلك في عددٍ خاص.
وشرط العلم به انتفاؤه اضطراراً عن السامع، وأن لا تَسْبِقَ شُبهة إلى السامع أو تقليد ينافي موجبَ خَبَرِه، واستنادُ المُخْبِرين إلى إحساس.
وهو مُتَحَقِّق في أُصولِ الشرائع كثيراً، وقليل في الأحاديث الخاصة وإن تواتر مدلولها، حتى قيل: مَن سُئل عن إبراز مثال لذلك أعياه طلبه. وحديث «إنّما الأعمال بالنيات» ليس منه وإن نقله عدد التواتر وأكثرُ؛ لأنّ ذلك طَرَأ في وَسَطِ إسناده. وأكثرُ ما ادعي تواتره من هذا القبيل.
نعم، حديث: «مَن كذب علي متعمداً فَلْيَتَبوأ مقعده من النارِ» نَقَلَه مِن الصحابة الجم الغفير.
قيل أربعون. وقيل: نيف وستون، ولم يزل العدد في ازدياد.
وآحادٍ، وهو ما لم يَنْتَهِ إلى المتواتر منه.
تم هو مستفيض إن زادَتْ رُواتُه عن ثلاثة أو اثنين. ويقال له: المشهور أيضاً. وقد يُغاير بينهما.
و غريب إن انفرد به واحد.
وغيرهما، وهو ما عدا ذلك. فمنه العزيز، ومنه المقبول، والمردود، والمُشْتَبَهُ.
والأخبارُ مطلقاً غيرُ منحصرةٍ ومَن بالغ في تتبعها وحَصَرَها في عددٍ فَبِحَسَبِ ما وَصَلَ إليه.
واعلم أنّ متن الحديث نفسه لا يدخل في الاعتبار إلا نادراً، بل يكتسب صفةً من القوة والضعفِ وغيرِهما بِحَسَبِ أوصاف الرواةِ مِنَ العَدالَةِ وعَدَمِها، أو الإسنادِ، من الاتصال والانقطاع والإرسال وغيرها.
ص: 329
وتحرير البحث عن ذلك ينجرُّ إلى بيان أنواعه من الصحة وأضدادها، وإلى الجَرْحِ والتعديل. والنظر(1)إلى كيفية أخذه، وطرق تحمُّلِه والبحث عن أسماء الرواة وأنسابهم، ونحو ذلك.
فهاهنا أبواب:
الأوّلُ: الصحيح، وهو ما اتصل سنده إلى المعصوم بنقل العدل الإمامي عن مثله في جميعِ الطبقات، وإن اعتراه شذوذ. وقد يُطلق على سليم الطريقِ مِن الطَّعْنِ بما يُنافي الأمرين، وإن اعتراه مع ذلك إرسال أو قطع.
الثاني: الحَسَنُ، وهو ما اتصل سنده كذلك بإمامي ممدوح من غيرِ نص على عدالتِه في جميع مراتبه أو في بعضها مع كون الباقي من رجال الصحيح.
ويُطْلَقُ أيضاً على ما يَشْمُل الأمرين مع اتصاف رواته بالوَصْفين كذلك.
الثالثُ : المُوَثَقُ. ويقال له: القوى، وهو ما دخل في طريقه مَن نصَّ الأصحابُ على توثيقه مع فَساد عقيدته، ولم يَشْتَمِل باقيه على ضعف.
وقد يُطلق القوي على مروي الإمامي غير الممدوح ولا المذموم.
الرابع: الضعيف، وهو ما لا يَجْتَمِعُ فيه شروط أحد الثلاثة، بأن يشتمل طريقه على مجروح، أو مجهول، أو ما دون ذلك. ودَرَجاتُهُ مُتفاوتةٌ بِحَسَبِ بُعْدِه عن شُروطِ الصحة، كما تتفاوت درجات الصحيح وأخَوَيْهِ بِحَسَبِ تَمكَّتِه مِن أوصافها وكثيراً ما يُطلق الضعيفُ على رواية المجروحِ خاصةً.
ص: 330
واعلم أنّ من جوّز العمل بخبر الواحد في الجملة، قطع بالعمل بالخبر الصحيح حيث لا يكون شاذاً، أو مُعارَضاً.
واختلفوا في العمل بالحَسَنِ، فمنهم مَن عَمِلَ به مطلقاً كالصحيح، ومنهم من ردَّه مطلقاً. وفَصَّل آخرون.
وكذا اختلفوا فى العمل بالمُوثَقِ نحو اختلافِهم في الحَسَنِ.
وأما الضعيفُ، فذهب الأكثر إلى منع العمل به مطلقاً. وأجازه آخرون مع اعتضاده بالشهرة روايةً، أو فتوى؛ لقوة الظنِّ في جانبها وإن ضَعُف الطريق، كما تُعلَم مَذاهب الفِرَقِ بإخبار أهلها وإن لم يَبْلُغُوا حد التواتر وهذه حجّةُ مَن عَمِل بالموثق أيضاً.
وفيه نظر يخرج تحريره عن وضع الرسالة.
وجَوَّز الأكثرُ العمل به في نحو القصص والْمَواعِظ وفَضائل الأعمال، لا في أحكام الحلال والحرام، وهو حَسَنُ حيثُ لا يَبْلُغُ الضعفُ حدَّ الوضع.
بقي هنا عبارات لمعان شتّى:
منها: ما يشترك فيه الأقسام الأربعةُ.
ومنها : ما يَخْتَصُّ بالضعيف.
*فمِنَ [القسم]الأوّل(1)أُمور:
أحدها: المُسْنَدُ، وهو ما اتصل سنده مرفوعاً إلى المعصوم.
وثانيها: المُتَّصِلُ - ويُسمّى أيضاً الموصول - وهو ما اتصل إسناده، وكان كلُّ واحدٍ من رواته قد سَمِعَه ممّن فوقه، أو ما في معنى السماع. سواء كان مرفوعاً أم موقوفاً.
وثالثها: المرفوع، وهو ما أضيف إلى المعصوم من قول أو فعل، أو تقرير سواء كان متصلاً أم منقطعاً.
ص: 331
وقد تبين أن بين الأخيرين عموماً من وجه، وأنهما أعم من الأوّل مطلقاً.
ورابعها: المُعَنْعَنُ، وهو ما يُقال في سنَدِه: «فلان عن فلان». والصحيحُ أنه مُتَّصِل إذا أمكن اللقاء، مع البَراءَةِ من التدليس. وقد استعمله أكثرُ المُحَدِّثين.
وخامسها: المُعلَّق، وهو ما حُذِفَ من مَبْدَأ إسنادِه واحد فأكثر. ولا يَخْرُجُ عن الصحيح إذا عُرِف المحذوف من جهة ثقة، وهو حينئذٍ في قوة المذكور، وإلا خرج.
وسادسُها: المُفْردُ، إما عن جميعِ الرُّواةِ، أو بالنِسْبَةِ إلى جهةٍ، كتفرُّد أهل بلد به. ولا يُضَعَّفُ بذلك.
وسابعُها: المُدْرَجُ، وهو ما أُدْرج فيه كلام بعض الرواة، فيُظنُّ أنّه منه؛ أو مَثْنان بإسنادين، فيُدرِجُهما في أحدهما أو يسمع حديث واحدٍ من جماعةٍ مُختلفين في سَنَدِه أو مَتْنِه فَيُدْرِجُ روايتهم على الاتفاق.
وثامنها: المشهور، وهو ما شاعَ عند أهل الحديثِ، بأن نَقَله رواةٌ كثيرون؛ أو عندهم وعند غيرهم كحديثِ: «إنّما الأعمال بالنياتِ»؛ أو عِندَ غيرهم خاصةً، وهو كثيرٌ.
وتاسعُها: الغَريبُ، إما إسناداً أو متناً، وهو ما تفرد برواية مثنه واحد أو إسناداً خاصةً، كحديثٍ يَعرف متنه جماعةٌ إذا انفرد واحد بروايته عن غيرهم؛ أو متناً خاصةً، بأن اشتهر الحديث المفرد، فرواه عمّن تفرد به جماعة كثيرة، فإنّه يصير غريباً مشهوراً. وحديث: «إنَّما الأعمالُ بالنيات» غريبٌ في طَرَفِه الأوَّلِ، مشهورٌ في الآخَرِ. ونظائره كثيرة. وقد يُطلق على الغريب اسم الشاذ.
وعاشرها : المُصَعَّفُ، والتصحيفُ يكون فى الراوي، وفي المتن؛ ومُتَعلَّقه إما البصر، أو السمع؛ في اللفظ والمعنى.
وحادي عشرها: العالي سنداً، وطَلَبُه سُنَّةٌ، فَبِعُلُوّه يَبْعُدُ عن الخَلَلِ المُتطرِّقِ إلى كلّ راء، وأعلاه قرب الإسناد من المعصوم، ثمّ مِن أحد أئمَّةِ الحديث، ثمّ بتقدمِ زمانِ سَماعِ أحدهما على الآخر، وإن اتفقا في العدد أو عدم الواسطة، فأولهما أعلى.
ص: 332
وثاني عشرها: الشاذ، وهو ما رواه النِقَةُ مخالفاً لما رواه الجمهور، ثم إن ك--ان المخالف له أحفظ أو أضبط أو أعدل فشاةً مردود، وإن انعكس فلا، وكذا إن كان مِثْله.
ومنهم: مَن رَدَّه مطلقاً. ومنهم: مَن قَبِلَه مطلقاً.
ولو كان المخالف غيرَ ثِقَةٍ فحديثه مُنْكَرٌ مردودٌ.
ومنهم: مَن جَعَلهما مترادِفَين.
وثالث عشرها: المُسَلْسَلُ، وهو ما تتابع فيه رجالُ الإسناد على صفةٍ، أو حالةٍ في الراوي قولاً، كقوله: «سمعتُ فلاناً يقولُ: سمعت فلاناً يقول» إلى المنتهى؛ أو:«أخبرنا فلان والله، قال: أخبرنا فلان والله» إلى آخر؛ أو فعلاً، كحديث التشبيك باليد، والقيام والاتكاء، والعد باليد؛ أو بهما، كالمسلسل بالمصافحة، وبالتلقيم.
أو في الرواية، كالمُسَلْسَلِ باتفاق أسماء الرواة وأسماء آبائهم، أو كناهم، أو أنسابهم، أو بلدانهم.
وقد يقع التسلسلُ في مُعظم الإسنادِ، كالمُسَلْسَلِ بالأولية. وهذا الوصف من فنونِ الرواية، وضروبِ المُحافظة عليها وفَضيلَتُه ، اشتماله على مَزيدِ الضَبْطِ، وأفْضَلُه ما دلَّ على اتصال السماع وقَلَّما تَسْلَمُ المُسَلْسَلاتُ عن ضَعفٍ في الوَصْفِ. ومنه ما ينقطع
تَسَلْسُلُه في وَسَطِ إسنادِه، كالمُسَلْسَلِ بالأوَّلِيَّةِ على الصحيح.
ورابع عشرها: المَزِيدُ. والزيادة تقع في المتن، والإسناد.
والأوّلُ، مقبول مِن الثِقَةِ حيث لا يقعُ المزيد منافياً لما رواه غيرُه من الثقاتِ ولو في العموم والخصوص.
والثاني، كما إذا أسنَدَه وَأرسلوه، أو وَصَلَه وقَطَعُوه، أو رفعه ووقفوه، وهو مقبول كالأول؛ لعدم المنافاة.
وقيل: الإرسال نوع قدح فيُرجَحُ، كما يُقدّم الجرح على التعديل. وفيه، منعُ الملازمة، مع وجودِ الفارقِ؛ فإنّ الجرح قدم بسبب زيادةِ العِلْمِ، وهي هنا مع من وصل.
ص: 333
وخامس عشرها: المُخْتَلَفُ، وهو أن يوجد حديثان مُتَضادّانِ في المعنى ظاهراً. وحكمه الجمعُ بينهما حيث يُمكن ولو بوجه بعيدٍ، كحديثِ: «لا عدوى» وحديثِ: «لا يُورِدُ مُمْرِضٌ على مُصِحٍ».
يحمل الأوَّلِ على الطبع الذي يعتقده الجاهل. والثاني على أن المؤثر هو الله تعالى. وإلا رُجّح أحدهما بِمُرَبِّحِه المُقَرَّرِ في الأُصولِ.
وهو أهم فنونِ علم الحديث، ولا يَمْلِكُ القيام به إلا المحقِّقُونَ مِن أهل البصائر، المُتَضلَّعونَ مِن الفِقْهِ والأصول. وقد صنف فيه الناسُ وجَمَعوا على حَسَبِ ما فَهَمُوه وقَلَّما يتّفق.
وسادس عشرها: الناسخ والمنسوخ والأوّل، ما دلّ على رفع حكم شرعي سابق. والثاني، ما رفع حكمه الشرعي بدليل شرعي متأخر عنه. وطريقُ مَعْرِفَتِه النص، أو نقل نَقْلُ الصحابي، أو التاريخ، أو الإجماع.
وسابع عشرها: الغريب لفظاً، وهو ما اشتمل متنه على لفظ غامض بعيد عن الفهم؛ لقلةِ استعماله. وهو فن مهم يجب أنْ يُتَتَبَّتَ فيه أشدَّ تَتَبُّةٍ. وقد صنف فيه جماعة من العلماء شكر الله تعالى سعيهم.
وثامن عشرها: المقبولُ ، وهو ما تَلَقَّوْه بالقبول، والعمل بالمضمون من غير التفات إلى صحته وعدمها، كحديث عُمر بن حنظلة في حال المتخاصمين.
*[و](1)القسم الثاني: ما يختص بالصّعِيفِ
وهو أمورٌ :
الأوّلُ: الموقوفُ، وهو ما رُوي عن مُصاحِبِ المعصوم من قول، أو فعل متصلاً كان ،أو منقطعاً. وقد يُطلق في غَيرِ المُصاحِب مقيّداً، مثل: «وَقَفَه فلانٌ على فلانٍ».
ص: 334
وقد يُطلق على الموقوفِ الأثر، إن كان الموقوف عليه صحابياً للنبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، وعلى المرفوع الخبر.
ومنه: تفسير الصحابي، وقوله: «كنا نَفْعلُ كذا»، وإن أطلقه، أو لم يُضِفْه إلى زَمَنِهِ(صلی الله علیه و آله و سلم)، وإلا فوجهان من حيث إنّ الظاهر كونه(صلی الله علیه و آله و سلم)قد اطَّلع عليه وقَرَّره.
وكيف كان فليس بِحُجَّةٍ وإن صح سَنَدُه، على الأصح.
الثاني: المقطوع، وهو ما جاء عن التابعين، ومَن في حُكْمِهم، من أقوالهم، وأفعالهم موقوفاً عليهم. ويقال له: المُنْقَطِع أيضاً.
وقد يُطلق على الموقوفِ بالمعنى السابق الأعم. وكيف كان فليس بحجةٍ.
الثالث: المُرسَلُ، وهو ما رواه عن المعصوم من لم يُدْرِكْه بغير واسطةٍ، أو بواسطةٍ نسيها أو تَرَكَها، أو أبهَمَها. وقد يُخَصُّ المُرسَلُ بإسنادِ التابعي إلى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)مِن غَير ذِكْرِ الواسطة.
ويُطلق عليه المُنقَطِعُ، والمقطوع بإسقاط شخص واحدٍ. والمُعْضَلُ بإسقاط أكثر.
وليس بحجةٍ مطلقاً في الأصح ، إلا أن يُعلَمَ تَحرُّزُ مُرْسِلِه عن الرواية عن غَيْر الثِقَةِ.
وفي تَحقق هذا المعنى نَظَرٌ. ويُعلم الإرسالُ بِعَدَمِ التلاقي: ومن ثَمّ احتيج إلى التاريخ، وبصيغة تحتمل اللقاء، وعدمه مع عَدَمِه، ك_«عن» و «قال». وهو ضرب من التدليس.
الرابع: المُعلَّلُ، وهو ما فيه أسبابٌ خفيّةٌ غامِضَةٌ قادِحة، وظاهره السلامة، وإنما يتمكَّنُ من معرفةِ ذلك أهل الخبرة الضابطة، والفَهم الثاقِبِ.
ويُستعان على إدراكها بتفرُّدِ الراوي، وبمخالَفَةِ غيره له، مع قرائن تُنَبِّه العارف على إرسال في الموصول، أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث، أو وَهُم واهم، أو غير ذلك، بحيث يَغْلِبُ على الظنِّ ذلك، فيُحكم به، أو يُتردّد فيُتَوقَّفُ.
الخامس: المُدَلَّسُ، وهو ما أُخفي عيبه. إما في الإسناد، وهو أن يروي عمّن لَقِيه، أو
ص: 335
عاصَرَه ما لم يَسْمَعْه منه على وجهِ يُوهِمُ أنّه سَمِعَه منه.
ومن حقه أن لا يقول: «حدثنا» ولا «أخْبَرنا» وما أشبههما، بل يقولُ: «قال فلان» أو «عن فلان» ونحوه.
وربما لم يُسقط المدلّسُ شَيْخَه لكن يسقط مِن بَعدِه رجلاً ضعيفاً، أو صغير السن ليَحْسُنَ الحديث بذلك.
وأمّا في الشيوخ، بأن يروي عن شيخ حديثاً سَمِعَه، فيُسَمِّيه أو يُكَنِّيه أو يَنْسِبُه أو يَصِفُه بما لا يُعرف به كى لا يُعْرَفَ وأمْرُه أختُ لكن فيه تضييع للمروي عنه، وتوعير لطريق معرفة حاله.
والقسم الأوّلُ مذموم جداً. وفي جرح فاعله بذلك قولان، والأجودُ القبولُ إن صرّح بما يقتضي الاتصال، ك_: «حدّثنا» و«أخبرنا» دونَ المحتمل، بل حكمه حكمُ المُرْسَلِ.
السادس: المضطَرِبُ، وهو ما اختلف راويه فيه. وإنّما يتحقق الوصف مع تساوي الروايتين، أما لو ترجّحت إحداهما على الأخرى بوجه من وُجوهِه، كأن يكونَ راويها أحْفَظَ، أو أكثرَ صُحْبَةً للمروي عنه فالحكم للراجح، فلا يكون مُضطرباً.
ويَقَعُ في السندِ، والمتن، من راءٍ، ورُواة.
السابع: المَقْلوبُ، وهو حديث ورد بطريق فيُروى بغيره أجود، ليُرغَبَ فيه، ونحوه. وقد يقعُ ذلك من العلماء للامتحان.
الثامن: الموضوع، وهو المكذوبُ المُخْتَلَقُ المَصْنُوعُ ، وهو شر أقسام الضعيف، ولا تحلّ روايتُه إِلّا مُبَيَّناً لِحالِه. ويُعرفُ بإقرار واضعِه ، ورَكاكة ألفاظه، وبالوقوف على غَلَطه.
والواضعونَ أصنافٌ، أعظَمُهم ضرراً من انتسب منهم إلى الزهد، فاحتَسَب بِوَضْعِه.
وَوَضَعَتِ الزَّنادِقةُ، والغُلاةُ جملةً، ثمّ نَهَضَ جَهَابِذَةُ النقاد بكشفِ عَوارِها ، ومَحْوِ عارِها. وقد ذَهبتِ الكِرامِيَّة، وبعضُ المُبْتَدِعَةِ إِلى جَوازِ وَضْعِ الحديث للترغيب والترهيب.
ص: 336
وللصغاني كتاب الدرُّ المُلْتَقَطُ في تبيين الغلط جيّد. ولغيره دونَه.
إذا وَجَدْتَ حديثاً بإسنادٍ ضعيف فلك أن تقول: «هذا الحديث ضعيف» بقول مطلق أو تُصرّح بأنه ضعيف الإسنادِ، لا المتن؛ فقد يُروى بصحيح. وإنّما يُضعَفُ بحكم مُطَّلِعِ على الأخبار، مُضطَلِع بها، أنه لم يُرو بإسنادٍ يثبت. وتساهلوا في روايته بلا بيان في غير الصفات والأحكام.
ومُريد رواية حديثٍ ضعيف أو مشكوك في صحته بغَيرِ إسنادٍ يقول: «رُوي» أو «بَلَعْنا» ونَحوُه، لا: «قال» ونحوها من الألفاظ الجازمة. والله أعلم.
وبه يحصل التمييز بين صحيح الرواية وضعيفها. وجُوِّز ذلك وإن اشتمل على القَدْحِ في المُسلم؛ صيانةً للشريعةِ المُطَهَّرَةِ. نعم يَجبُ على المتكلّم في ذلك التَتَبُّتُ؛ لئلا يَفْدَحَ في غَيرِ مَجْروح بما ظَنَّه جرحاً. فقد أخطأ في ذلك غيرُ واحدٍ.
وقد كفانا السلفُ مُؤنَةَ الجرح والتعديل غالباً، ولكن ينبغي للماهر تدبُّر ما ذكروه، فلعله يَظْفَرُ بكثيرٍ مما أهْمَلوه، ويَطَّلِعُ على توجيه أغْفَلوه، خصوصاً مع تَعارُضِ الأخبار في الجَرْحِ والمَدْح؛ فإنّ طريق الجمع بينهما مُلْتَبِسٌ على كثيرٍ، حَسَبَ اختلافِ طُرُقِهِ وأصوله.
[ المسألة] الأولى: اتَّفَق أئمة الحديث والأصول على اشتراط إسلام الراوي.
ص: 337
وبلوغه، وعَقلِه. وجُمهورُهم على اشتراط عدالته بمعنى كونه سليماً من أسبابِ الفِسْقِ، وخوارِمِ المُروءَةِ؛ وضَبْطِه، بمعنى كونه حافظاً، متيقظاً إن حدث من حفظه ضابطاً لكتابه إن حدث منه؛ عارفاً بما يَخْتلُ به المعنى إن روى به.
ولا يُشترط الذكورة، ولا الحرّية، ولا العلم بفقه وعربيّة، ولا البَصَرُ، ولا العَدَدُ.
والمشهور بين أصحابنا اشتراط إيمانِه مع ذلك. قطعوا به في كتب الأُصولِ وغيرها، مع عِلْمِهم بأخبارٍ ضعيفةٍ أو مُوثَقَةٍ في أبواب الفقه، مُعْتَذرين عن ذلك بانجبار الضَعْفِ بالشهرة ونحوها من الأسباب وقد تقدم.
وحينئذ، فاللازم اشتراط أحَدِ الأمرين، من الإيمان والعدالة، أو الانجبار بمرجح، لا إطلاق اشتراطهما .
[المسألة الثانية: تُعرفُ العدالة بِتَنْصِيصِ عَدْلَين عليها، أو بالاستفاضة وفي الاكتفاء بتزكية الواحدِ فى الرواية قول مشهور ، كما يُكتفى به في أصل الروايةِ.
ويُعرفُ ،ضبطه، بأن تُعتَبَرَ روايته برواية الثقات المعروفين بالضبط والإتقان، فإن وافقهم غالباً عُرف كونه ضابطاً ثَبْتاً، وإن وُجد كثير المخالفة لهم، عُرِفَ اختلاله.
[المسألة] الثالثة: التعديلُ مقبول من غير ذكر سَببه على المشهور؛ لأن أسبابه كثيرةٌ يَصعُبُ ذكرُها. وأما الجرح، فلا يُقبَلُ إِلا مُفسَّراً مُبَيَّنَ السَبَبِ؛ لاختلاف الناسِ فيما يُوجِبُه. نعم، لو عُلِمَ اتِّفاقُ مَذْهَبِ الجارحِ والمُعْتَبر في الأسباب، اتجه الاكتفاء بالإطلاق كالعدالة.
وما أطلقه الجارحون في كتبهم من غَير بيانِ سَببِه وإن لم يَقْتَضِ الجَرْحَ، لكن يُوجِبُ الريبةَ القَوِيَّةَ المُفْضِيَّةَ إلى تركِ الحديث إلى أن تثبت العدالة، أو يَتَبَيَّنَ سببُ زَوالِ مُوجِبِ الجَرْح.
[المسألة] الرابعةُ : يثبتُ الجرحُ في الزواةِ بقولٍ واحد، كتعديله، على الأشهر؛ لأنّ العددَ لم يُشترط في قبولِ الخَبَرِ، فَلَم يُشترط في وَصْفِه.
ص: 338
ولو اجتمع في واحدٍ جرح وتعديل، فالجرح مقدم وإن تعدد المعدل، على الأصح؛ لأن المعدل مُخبر عمّا ظهر من حاله، والجارحُ يُخبر عن باطِنٍ خفي على المُعدِّلِ. هذا إذا أمكن الجمع، وإلا تعارضا وطُلِبَ الترجيح.
[ المسألة] الخامسة : إذا قال النِقَةُ: «حَدَّثني ثِقَةٌ» لم يَكْفِ ذلك في العمل بروايته؛ إذ لابُدَّ مِن تَعْيِينِه وتَسْمِيتِه؛ لجواز كونه ثقةً عِنْدَه ، وغيرُه قَدِ اطَّلَعَ على جَرْحِه بما هو جارحٌ عنده لو عَلِمَ به. نعم يكون ذلك منه تزكيةً حيثُ يَقْصُدها، ينفعُ مع ظُهورِ عَدَمِ
المُعارِضِ. ولو روى العدل عن رجل سمّاه، لم تُجعل روايته عنه تعديلاً له على الأصح. وكذا عَمَلُ العالم وفتياه على وَفْقِ حَديثٍ ليس حُكماً بصحته، ولا مُخالَفَتُه له قدحاً فيه؛ لأنه أعم.
[المسألة] السادسة : ألفاظ التعديل: عدل، يُقَةً، حُجَّةٌ، صَحِيحُ الحَدِيثِ، وما أدّى معناه .
أما، مُنقِنٌ، تَبْتُ، حافِظٌ، يُحْتَجُ بِحَدِينِهِ، صَدُوقٌ، مَحلُّه الصدق، يُكتب حديثه، يُنظر ،فيه لا بأس به شَيْخٌ، جَلِيلٌ صالِحُ الحَدِيثِ، مَشْكُورٌ، خَيْرٌ فاضل، خاصٌ،مَمْدُوحٌ، زاهد، عالِمٌ، صالح، قَرِيبُ الأمرِ، مَسكُونُ إلى رِوايَتِه، فالأقوى عدم الاكتفاء بها؛ لأنّها أعم من المطلوب. نعم، يُفيدُ المدح، فيُلحق حديثه بالحَسَنِ.
ضعيف، كَذَّابٌ، وَضَاعٌ، غالٍ، مُضْطَرَبُ الحَديثِ مُنْكِرُه لَيْنه، متروك، مُرتَفَعُ القول مُتَهم، ساقط، واءٍ، لا شيء، ليس بذلك. ونحو ذلك.
[المسألة] :السابعةُ: مَن خلط بخُرْقٍ، أو فِسْقٍ وغَيْرِهما يُقبل ما روي عنه قَبْلَ الاختلاط، ويُرَدُّ ما بعده وما شُكٍّ فيه؛ للشكّ في الشرط.
[المسألة] الثامنة: إذا روى ثقة عن ثقةٍ حديثاً، وروجع المروي عنه فنفاه. فإن كان
ص: 339
جازماً بِنَفيِه، بأن قال: «ما رَوَيتُه» ونحوه وجب رد الحديث. ولا يقدح في باقي رواياته عنه.
وإن قال: «لا أعْرِفُه» أو «لا أذكره» ونحوه، لم يَقْدَح، على الأصح، بل يجوز للمروي عنه روايته عمّن سَمِعَه عنه، فيقول: «حدّثني فلانٌ عنّي أني حدثته بكذا».
وقد وقع من ذلك جملة أحاديث، جمعها بعضُهم في كتاب.
وفيه فصول
وشَرْطُه التمييز إن تحمَّل بالسماع وما في معناه، لا الإسلام والبلوغ على الأص الأصح.
وقد اتفق الناسُ على رواية جماعةٍ من الصحابة عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)قبل البلوغ، كالحَسَنَيْنِ(علیهم السّلام)، وابن عبّاس وابن الزبير، والنعمان بن بشير، وغيرهم. ولم يزل الناسُ يُسمعون الصبيان.
نعم، تحديد قومٍ سنهم بِعَشْرِ سنين أو خمس أو أربع، خطأ؛ لاختلاف الناس في مراتب الفهم والتمييز.
ولا يُشترط في المروي عنه أن يكون أكبر من الراوي سِنّاً، ولا رُتبةً. وقد اتفق ذلك للصحابة (رضى الله عنهم) فَمَنْ دُونَهم.
وهي سبعة سبعة:
أولها: السَّماعُ مِن لفظ الشيخ، سواء كان من حفظه، أم من كتابه، وهو أرفع الطرق
ص: 340
عند جمهور المحدثين فيقول راوياً لغيره: «سَمِعْتُ» وهي أعلاها، ثمّ «حَدَّتَنى» و«حدّثنا»، وقيل: هما أعلى، ثمّ «أخبرنا » ثم «أنبأنا» و«بأنا» وهو قليل هنا.
و قال لنا» و «ذكر لنا» من قبيل «حدَّثنا» لكنّه بما سَمِعَ في المذاكرة والمناظرة أشبه من «حدثنا».
وأدناها: «قال فلان» ولم يَقُلْ: «لي» أو «لنا» وهو محمول على السماع إذا تحقق تَحقَّقَ لقاؤه.
وثانيها: القراءة على الشيخ، وتُسمّى العرض من حفظ أو كتاب لما يحفظه، والأصل بيده، أو يدِ ثِقَةٍ، وهي رواية صحيحة اتفاقاً. وقيل: هو كتحديثه. وقيل: أعلى. والعبارة عن هذه الطريق: «قرأتُ على فلانٍ» أو «قُرِئ عليه وأنا أسمَعُ فَأَقَرَّبِه».
ثمّ «حدثنا» و«أخبرنا» مقيَّدَيْن ب_«قراءةً عليه» ونحوه، أو مُطلقين على قول.
وفي ثالث؛ يجوز إطلاق الثاني دونَ الأوَّلِ، وهو الأظهرُ.
وإذا قال له: أخبرك فلانٌ» فلم يُنكر صح، وإن لم يتكلم على قول.
:وقيل: يقول: «قُرِئ عليه» لا «حَدَّثني».
وما سَمِعَه وحده أو شَكٍّ قال: «حدّثني» ومع غَيره «حدثنا». ولو عكس فيهما جاز.
ومنع في المصنفات من إبدال إحدهما بالأخرى.
وأما المسموع، فيبنى على جواز الرواية بالمعنى. ولا تصح والسامع أو المستمعُ ممنوع منه - بنسخ ونحوه - بحيث لا يُفهم المقروء، ويُعفى عن اليسير.
ولْيُجز للسامعين روايته.
وإذا عظم مجلس المحدِّثِ فبلّغ مُشتمل، روى عن المملي. وقيل: لا. وهو الأظر.
ولا يُشترط الترائى إذا عرف الصوت أو أخبره ثِقَةٌ . وقيل: بلى. ولا عِلْمُه بالسامعين. ولو قال: «أُخبركم ولا أخبِرُ فلاناً» أو خَص قوماً بالسَماعِ فَسَمِعَ غيرُهم، أو قال بعد السماع: «لا تَرْوِعنّي» غير ذاكرٍ خَطأ للراوي، روى السامع عنه في الجميع.
ص: 341
وثالثها: الإجازة، وهى من قولهم استجزتُه فأجازني» إذا سَقاكَ لِما شِيَتِك أو أرْضِك. فالطالبُ لحديثِ يستجيزُ العالمَ عِلْمَه فيُجِيزُه له. وحينئذٍ فتتعدّى بغير حرفٍ، فيقولُ: «أجزتُه مسموعاتي» مثلاً.
وقيل: هي إذن، فيقول: «أجزتُ له رواية كذا». وقد يُحْذَفُ المضاف.
وأعلاها لِمُعيَّن به، أو بِغَيْرِه. والخلافُ فيه أكثرُ. ثمّ لِغَيْرِه. وفيه خلافٌ.
ويُقَرِّبُه إلى الجواز تقييده بوصف خاص.
وتَبْطُلُ بمجهولٍ، أوله ك_«كتاب كذا» وله مرويات كثيرة بذلك الاسم، و«المحمَّدِ بن فلانٍ» وله موافقون فيه.
وإجازته لجماعة لا يُعرفُ أعيانهم كإسماعهم.
و «أجزتُ لِمَن شاء فلانٌ» باطل. وقيل: لا. و«لِمَن شاء الإجازة» أو «الرواية» أو لفلان إن شاء» أو «لك إن شئتَ» تصحُ. لالمعدوم، بل إن عُطف على موجود.
وتصح لغير مُمَيِّز. وفيها للحمل وجهان. وتصح للكافر، والفائدة إذا أسلم. وللفاسق والمُبْتَدِعِ بطريقٍ أولى.
لا بما لم يتحمَّله ليَروِيَه عنه إذا تحمّله، فيتعيّن في الرواية تحقيق ما تحمله قبلها ليَرْوِيَه.
وتصح إجازة المجاز. وقيل: لا. ويتأمَّلُها؛ ليروي ما دخل تحتها، فإن أُجِيزَ شَيخه
بما صحَ سَماعُه عنده لم يرو إلّا ما تَحقَّق أنه صَحٌ عند شَيْخِهِ أَنه سَمَاع شَيْخِه.
وتُستحسن مع علم المجيز بما أجاز، وكونِ المُجازِ عالِماً. وقيل: يُسْتَرطُ.
وإذا كتَبَ بِها وقَصَدَها صَحَت بِغير تلفظ، وبِه أولى.
ورابعها: المناولة، وهي نوعان:
أحدهما: المقرونة بالإجازة، وهي أعلى أنواعها. ثمَّ لها مراتب: أن يُعْطِيَه تمليكاً، أو عاريةً لينسخ أصله. ويقولُ: «هذا سَماعي مِن فلانٍ فارْوِه عَنِّي». ويُسمّى عَرْضَ
ص: 342
المناولة؛ إذ القراءةُ عَرْضٌ. وهي دونَ السَماع. وقيل: مِثْله.
تم أن يُناوِلَه سَماعَه ويجيزه له ويُمسكه، فَيَرويه إذا وجده، أو ما قوبل به. ولها مزيّة على الإجازة. وقيل: لا.
فإن أتاه بكتاب، فقال: «هذا روايتك فناولنيه» ففعل مِن غَير نظرٍ فباطل إن لم يثق بمعرفة الطالب، وإلَّا صَحَ. وكذا إن قال: «حَدّث عنّي بما فيه إن كان حديثي».
وثانيهما: المُجرَّدَةُ عن الإجازة، بأن يُناوِلَه كتاباً. ويقولُ: «هذا سَماعى» مُقْتَصِراً عليه. فالصحيح أنه لا تجوز له الرواية بها. وجَوَّزَها بعضُ المُحَدِّثِينَ.
وإذا روى بها قال: «حَدَّثنا مُناولةً». وقيل: يُطلق. وجوزه بعضهم في الإجازة المجرَّدَةِ عنها.
وخَصَّ بعضُهم الإجازة شفاهاً ب_«أنبأني» وكِتابةً ب_«كتب إلي».
وبعضُهم استَعْمَلَ في الإجازة فوق الشيخ «عن».
ولا يَزُولُ المنعُ مِن «أخْبَرنا» و«حَدَّثنا» بإباحةِ المُجِيز.
وخامِسُها: الكتابة، وهي أن يكتُبَ مَرْوِيَّه لغائب أو حاضر بِخَطّه، أو يأذن بكتبِه لَه. وهي أيضاً ضَربان: مقرونة بالإجازة، وهي في الصحةِ والقُوَّةِ كالمناولة الْمَقْرُونَةِ بها.
ومجرّدةً عنها. والأشهر جواز الرواية بها؛ لتضمُّنها الإجازة معنى، كما يُكتفى في الفتوى بالكتابة. نعم، يُعتبر معرفةُ الخَطَّ بحيث يأمنُ التزوير. وشَرَط بعضُهم البَيِّنَةَ. ويقول فيها: «كتب إليّ فلان، قال: حدثنا فلان» أو «أخبرنا مكاتبةً». لا «حَدَّتَنا».
وقيل: بلى.
وسادسها: الإعلام، وهو أن يُعْلِمَ الشيخ الطالب أنّ هذا الكتاب روايته أو سَماعُهُ مقتصراً عليه.
وفي جواز الرواية به قولان وفي ثالث: يَروِيَه وإن نهاه. والأقوى عدمه مطلقاً. وفى معناه ما لو أوصى له عِنْد مَوْتِه أو سَفَره بكتاب يَرْوِيَه وفيه القولان: والصحيحُ المنعُ.
ص: 343
وسابعها: الوجادة، وهي مصدر «وَجَد يَجِدُ» مُولدٌ غيرُ مَسْعُوعٍ، وهو أن يَجِدَ مروي إنسانٍ بِخَطّه، فيقولُ: «وَجَدتُ بِخَطِّ فلانٍ». وهو مُنقَطِع وفيه اتصال.
فإن لم يتحقق الخطّ، قال: «بَلَغني» أو «وَجَدتُ في كتاب أخبرني فلانٌ أنه خط
فلان».
وإذا نقل مِن نُسخةٍ موثوق بها لمصنف قال فيه: «قال فلان» وإلا «بلغنى» إلا أن يكون ممّن يَعرفُ الساقِطَ والمُغَيَّر.
وفي جَوازِ العَمَلِ بالوِجادَةِ قولان ولا خلاف في مَنْع الروايَةِ.
ولو اقترنت بالإجازة فلا إشكال.
وأكْمَلُها ما اتفق مِن حِفْظِه. ويجوزُ مِن كِتابه - وإن خَرَجَ مِن يَدِه مع أمْنِ التغيير على الأصح.
وأفرط ،قوم فابطلوها. وفَرَّط آخرون، فَرَووا مِن غَيْرِ مُقابَلٍ، فَجُرحُوا بذلك.
والضَرِيرُ إِذا لم يَحْفَظْ مَسموعه يَستعين بِثِقَةٍ في ضَبطِ كِتابِه ويَحْتاطُ إِذا قُرىء عليه حتَّى يَغْلِبَ على ظَنّه عدم التغيير، وهو أولى بالمنعِ مِن مِثله في البَصيرِ. وكذا الأُمّي.
ويَروي من نسخةٍ فيها سَماعُه، أو قُوبِلَتْ بها، أو سُمِعَت على شَيْخِه، أو فيها سَماع شَيْخِه، أو كُتِبَتْ عنه وسَكَنَتْ نفسه إليها، وإلا فلا. وإذا خالف كتابه حِفْظه منه رجع إليه، ومِن شَيْخِه اعتمده. وإن قال: «حفظي كذا وفي كتابي كذا»فَحَسَنٌ.
وإن خُولِفَ، قال: «حفظي كذا وغيري» أو «فلانٌ يقول كذا».
وإِذا وَجَد خَطَّه، أو خَطَّ ثِقَةٍ بِسَماع له لا يذكره، رواه. وقيل: لا.
ومَن لا يَعْلَمُ مَقاصِدَ الألفاظ وما يُحِيلُ معانيها لم يَرْوِ بالمعنى. فإن عَلِمَ جاز. وقيل: في غير الحديث النبوي.
ص: 344
والمصنفات لا تُغَيَّرُ.
ويقول عقيب المروي بالمعنى والمشكوك فيه: «أو كما قال».
ولم يُجوِّز مانعو الرواية بالمعنى وبعض مجوزيها تقطيع الحديث، إن لم يكن رواه أو غيرُه تماماً وجَوَّزه آخرون مطلقاً، وهو الأصحُ لِمَن عَرَفَ عدم تعلقِ المتروك بالمرويّ.
وتقطيعُ المُصنِّفِ الحديث فيه أقرب إلى الجواز.
ولا يُروى بقراءةِ لَحّانٍ، ولا مُصعَّفٍ، ويَتَعلَّم ما يَسْلَمُ به من اللَّحْنِ، ويَسْلَم مِن التصحيف بالأخذ من أفواه الرجال.
وما وقع في روايته من لَحْنٍ وتَصْحِيفٍ وتُحققه روايةً، رواه صواباً، وقال: «وروايتنا كذا» أو يُقدِّمُها، ويقول: «وصوابه كذا». وقيل: كما سَمِعَه فقط.
وجوّز بعضهم إصلاحه في الكتاب. وتَرْكُه وتصويبه حاشيةً أولى.
وأحسنه الإصلاح بروايةٍ أخرى. ويَسْتَثْبِتُ ما شك فيه من كتاب غيره، أو حِفْظِه. ومارواه عَن اثنين فَصاعداً واتفقا معنى لا لفظاً، جَمَعهما إسناداً وساق لفظ أحدهما مبينا. فإن تقاربا فقال: «قالا» جاز على الرواية بالمعنى. وقول: «تقاربا في اللفظ» أولى. ومُصنَّفٌ سُمِعَ مِن جَماعةٍ إذا رواه عنهم مِن نُسْخَةٍ قُوبِلتْ بأصل بعضهم وذكره، فيه وجهان: الجواز، وعدمه.
ولا يزيد على ما سَمِعَ مِن نَسَبٍ، أو صِفَةٍ إِلَّا مُميّزاً ب_«هو» أو «نعني».
وإذا ذكر شَيْخَه في أوّلِ حَدِيثٍ نَسَبه، ثمّ اقْتَصَر بعد على اسمه أو بعض نَسَبِه. ولم يكتبوا «قال» بين رجال الإسناد، فيقولُها القارئ.
و «قُرِئ على فلانٍ أخْبَركَ» يقول: «قيل له: أخْبَركَ» و«قُرِئ على فلانٍ حدَّتَنا» يقول: «قال: حدثنا».
وإذا تكررت «قال» يحذفون إحداهما، فيقولها القارئ. وبحذفها يُخَلُّ.
ص: 345
وما اشتمل على أحاديث بإسنادٍ واحدٍ يذكره في كل حديث، أو يذكره أوّلاً ويقولُ بعد: «وبالإسناد» أو «وبه».
وإذا ذكر الشيخُ حَدِيثاً بإسناد، ثم أتبعه إسناداً وقال: «مِثلُه» لم يُرو المتن بالإسناد الثاني. وقيل: بلى.
وإذا ذكر إسناداً وبعض متن، وقال: «وذكر الحديث» ففي جواز رواية كله بالإسنادِ القولان، وأولى بالمنع.
وإذا سَمِعَ بعض حديثٍ عن شَيْخِه وبعضه عن آخَرَ، روى جملته عنهما مُبيناً أن بعضه عن أحدهما وبعضه عن الآخر، ثمَّ يصير مشاعاً بينهما.
فإن كان أحدهما مجروحاً لم يُحتَجَّ بشيءٍ منه.
الصحابي مَن لَقِي النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)مؤمناً به، ومات على الإسلام وإن تَخلَّلَتْ رِدَّتُه، على الأظهر.
والتابعي من لقي الصحابي كذلك.
ثمَّ الراوي والمروي عنه إن استَوَيا في السن أو في اللقى فهو النوع الذي يقال له: رواية الأقران.
فإن رَوى كلُّ منهما عن الآخر فهو المُدَبَّج، وهو أخص من الأوَّلِ.
وإن روى عَمّن دونَه فهو رواية الأكابر عن الأصاغر.
ومنه الآباء عن الأبناء، والأكثرُ العكس.
وإن اشترك اثنان عَن شَيخ وتَقَدَّم موتُ أحدهما فهو السابق واللاحق.
ص: 346
والرواة إن اتفقتْ أسماؤهم وأسماء آبائهم فصاعداً، واختلفت أشخاصهم فهو المتَّفِقُ والمُفْتَرِقُ.
وإن اتَّفَقَت الأسماءُ خَطَّاً واخْتَلَفَتْ نُطقاً فهو المُوْتَلِفُ والمُخْتَلِفٌ.
وإن اتَّفَقَت الأسماء واختلفت الآباءُ، أو بالعكس فهو المُتَشابه.
ومن المهم في هذا الباب مَعْرِفَةُ طَبَقاتِ الرُّواةِ ومواليدهم ووَفَياتِهم، فَبِمَعْرِفَتِها يَحْصُلُ الأمنُ من دعوى اللقاء وأمره ليس كذلك.
ومَعْرِفةُ الموالي منهم من أعلى ومن أسفل بالرقِّ، أو بالحِلْفِ، أو بالإسلام.
ومعرفة الإخوة والأخوات.
ومعرفة أوطانهم وبلدانهم. وقد كانتِ العربُ تُنسب إلى القبائل فسكنوا القُرى وضاعت الأنساب، فانتسبوا إليها كالعجم، فاحتاجوا إلى ذكرها. فالساكن ببلد - وقيل: أربع سنين - بعد آخرَ يُنسب إلى أيهما شاءَ، أو إليهما مُقدِّماً للأوَّلِ، ويحسن ترتيب الثاني ب- «ثم».
وبقرية بلد ناحية إقليم يُنسب إلى أيها شاء.
فهذه جملةً مُوجزَةٌ في الإشارة إلى مقاصد هذا العلم إجمالاً. ومن أراد الاستقصاء فيها مع ذكر الأمثلة فعليه بكتابنا : غنية القاصدين في معرفة اصطلاحاتِ المحدثين. والله الموفّق والهادي.
ص: 347
ص: 348
ص: 349
ص: 350
بسم الله الرحمن الرحيم
(نحمدك اللهم على) حُسن توفيق (البداية في) علم (الدراية والرواية، ونسألك حُسن الرعاية) في جميع الأحوال (إلى النهاية. ونصلّي على نبيك) وحبيبك (محمّد المُنقذ) للخلق (من الغواية، المُرشد) لهم (إلى) الحق (وسبيل الهداية، وعلى آله) الأطهار (وأصحابه) الأخيار (صلاةً) دائمةً متصلةً (لا تبلغ لها غاية) ونسلّم تسليماً.
(وبعد) الحمد لله بما هو أهله والصلاة على مستحقها (فهذا) كتاب (مختصر) وضعناه (في علم دراية الحديث).
وهو علم يُبحث فيه عن متن الحديث وطرقه من صحيحها وسقيمِها وعَليلها، وما يحتاج إليه ؛ ليُعرف المقبولُ منه والمردود.
وموضوعه الراوي والمروي من حيث ذلك.
وغايته معرفة ما يُقبل من ذلك ليُعمل به، وما يُردّ منه ليُجتنب.
ومسائله ما يذكر في كتبه من المقاصد .
(و(1)بيان مصطلحاتهم) في هذا العلم من المفهومات المنقولة عن معانيها اللغوية، أو المخصّصة لها، كما سيرد عليك إن شاء الله تعالى.
ص: 351
جعلنا وضعه (على وجه الإيجاز والاختصار) دون الإطناب والإكثار؛ ليسهل حفظه، ويكثر نفعه؛ فإنّ طباع أهل الزمان لا تحمل أعباء(1)الكثير من العلم، خصوصاً في هذا الشأن.
وهو (مرتب على مقدمة و) أربعة (أبواب).
سائلين من الله تعالى إلهام الحق والدلالة على صوب الصواب.
ص: 352
ف (المقدمة في بيان أصوله واصطلاحاته) التي يحتاج طالبه إلى معرفته
و مدارها على المتن والإسناد والسند ونحوها.
(الخبر والحديث) مترادفان (بمعنى) واحد (وهو) اصطلاحاً (كلام يكون لنسبته خارج في أحد الأزمنة) الثلاثة، أي يكون له في الخارج نسبة تُبوتيّة أو سلبيّة (تطابقه) أي تطابق تلك النسبة ذلك الخارج بأن يكونا سلبيين أو ثبوتيين (أو لا) تطابقه، بأن يكون أحدهما ثبوتياً والآخر سلبياً.
و «الكلام في التعريف بمنزلة الجنس.
وخرج بقوله: «لنسبته خارج» الإنشاء، فإنّه وإن اشتمل على النسبة، إلّا أنّه لا خارج له عنها، بل لفظه سبب لنسبة غير مسبوقة بأخرى.
وتوضيح ذلك: أنّ الكلام إما أن تكون نسبته بحيث تحصل من اللفظ ، ويكون اللفظ موجداً لها، من غير قصد إلى كونها دالّة(1)على نسبة حاصلة في الواقع بين الشيئين، وهو الإنشاء.
أو تكون نسبته بحيث يقصد أنّ لها نسبة خارجية - أي ثابتة في نفس الأمر -
ص: 353
تطابقه أو لا تطابقه، وهو الخبر.
فإذا قلت مثلاً: «زيد قائم» فقد أثبت ل_«زيد» في اللفظ نسبة القيام إليه، ثمّ في نفس الأمر لابد أن يكون بينه وبين القيام نسبة بالإيجاب أو السلب، فإنّه في نفس الأمر لا يخلو من أن يكون قائماً أو غير قائم.
بخلاف قولنا: «قم» فإنّه وإن اشتمل على نسبة القيام إليه لكنها نسبة حدثت من اللفظ لا تدلّ على ثبوت أمر آخر خارج عنها تطابقه(1)أو لا تطابقها، ومن ثمّ لم يحتمل الصدق والكذب، بخلاف الخبر.
(وهو) أي الخبر المرادف للحديث أعم) من أن يكون قول الرسول)(صلی الله علیه و آله و سلم)(والإمام)(علیه السّلام)(والصحابي والتابعي وغيرهم من العلماء والصلحاء ونحوهم (وفي معناه فعلهم و تقريرهم) .
هذا هو الأشهر فى الاستعمال، والأوفق لعموم معناه اللغوي.
(وقد يخص الثاني وهو الحديث بما جاء عن المعصوم) من النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، والإمام(علیه السّلام).
(و) يخص (الأول) وهو الخبر (بما جاء عن غيره) ومن ثم قيل لمن يشتغل بالتواريخ وما شاكلها الأخباري ولمن يشتغل بالسنة النبوية: المحدث(2). وما جاء عن الإمام عندنا في معناه.
(أو يجعل الثاني) وهو الحديث (أعم) من الخبر (مطلقاً) فيقال لكلّ خبر: حديث،من غير عكس(3).
ولكلّ واحد من هذه الترديدات قائل.
(والأثر أعم) منهما (مطلقاً) فيقال لكلّ منهما أثر بأي معنى اعتبر.
ص: 354
وقيل: إن الأثر مساوٍ للخبر.
وقيل: الأثر ما جاء عن الصحابي، والحديث ماجاء عن النبي، والخبر هو الأعمّ منهما(1).
والأعرف ما اخترناه(2).
(والمتن) لغةً: ما اكتنف الصُلب من الحيوان وبه شُبّه المتن من الأرض. وَمَتُنَ الشيء، قوي متنه ومنه حبل متين فمتن كلّ شيء ما يتقوّم به ذلك الشيء ويتقوى به، كما أنّ الإنسان يتقوم بالظهر ويتقوّى به.
فمتن الحديث: (لفظ الحديث الذي يتقوّم به المعنى) وهو مقول النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، وما في معناه(3).
(والسند: طريق المتن) وهو جملة من رواه من قولهم: «فلان سند» أي معتمد، فسمّي الطريق سنداً؛ لاعتماد العلماء في صحة الحديث وضعفه عليه.
(وقيل:) إنّ السند هو (الإخبار عن طريقه) أي طريق المتن(4)و(5).
والأوّل أظهر؛ لأنّ الصحة والضعف إنّما يُنسبان إلى الطريق باعتبار رواته لا باعتبار
ص: 355
الإخبار، بل قد يكون الإخبار بالطريق الضعيف صحيحاً بأن رواه الثقة الضابط بطريق ضعيف، بمعنى صحة الإخبار بكون تلك الرواة طريقه، مع الحكم بضعفه.
(والإسناد: رفع الحديث إلى قائله من نبي أو إمام أو ما في معناهما. (والأولى ردّ المعنى الثاني) للسند - وهو الإخبار عن طريق المتن - (إليه) أي إلى الإسناد (أيضاً) لا أن يُجعل تعريفاً للسند؛ لأن الإخبار عن الطريق - في الحقيقة - هو الإسناد، كما يظهر
من تعريفه.
وعليه، فالسند والإسناد بمعنى وعلى الأوّل هما غيران(1).
(ثمّ الخبر) بأي معنى اعتبر (منحصر في الصدق والكذب) على وجه منع الجمع والخلوّ (في الأصح) من الأقوال.
وإنّما قلنا: إنّه منحصر فيهما؛ لأنّه) - كما قد عرفت - يقتضي نسبةً في اللفظ ونسبةً في الواقع.
ثمّ (إن طابق الواقع المحكيَّ) باللفظ (فالأول) وهو الصدق، (وإلا) يطابقه (فالثاني) وهو الكذب. وبذلك ظهر وجه الحصر.
ولا يرد على الأوّل مثل قول من قال: «محمّد ومُسيلمة صادقان» فإنّه صادق من إحدى الجهتين، وكاذب من أخرى؛ لأنا إن جعلناه خبراً واحداً فهو كاذب، وإن جعلناه خبرين كما هو الظاهر - فهو صادق في أحدهما، كاذب في الآخر.
ونبه بقوله: «في الأصح» على خلاف الجاحظ؛ حيث أثبت فيه واسطةً بينهما، و شرط في صدق الخبر مع مطابقته للواقع اعتقاد المخير أنّه مطابق وفي كذبه مع عدم مطابقته له اعتقاد أنه غير مطابق، وما خرج عنهما فليس بصدق ولا كذب.
ص: 356
وتحرير كلامه: أنّ الخبر إما مطابق للواقع أولا. وكلّ منهما إما مع اعتقاد أنه مطابق، أو اعتقاد أنه غير مطابق، أو بدون الاعتقاد. فهذه ستة أقسام:
واحد منها صادق، وهو المطابق للواقع مع اعتقاد أنه مطابق.
وواحد كاذب، وهو غير المطابق مع اعتقاد أنه غير مطابق.
والأربعة الباقية - وهي المطابقة اعتقاد اللامطابقة، أو بدون الاعتقاد، وعدم المطابقة مع اعتقادها، أو بدون الاعتقاد - ليست بصدق ولا كذب .
فكلُّ من الصدق والكذب بتفسيره أخص منه بتفسير الجمهور.
واستند الجاحظ في قوله إلى قوله تعالى:﴿افترى على الله كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ﴾(1)؛ حيث حصر الكفّارُ إخبار النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)في الافتراء، والإخبار حال الجنّة، على سبيل منع الخلّو. ولا شُبهة في أنّ المراد بالثاني غير الكذب؛ لأنهم جعلوه قسيمه، وهو يقتضي أن يكون غيره، وغير الصدق أيضاً؛ لأنهم لا يعتقدون صدقه(صلی الله علیه و آله و سلم).
ولمّا كانوا من أهل اللسان، عارفين باللغة، وقد أثبتوا الواسطة لزم أن يكون من الخبر ما ليس بصادق ولا كاذب؛ ليكون هذا منه بزعمهم وإن كان صادقاً في نفس الأمر.
وأجيب: بأنّ الواسطة التي أثبتوها إنّما هي بين افتراء الكذب والصدق، وهو غير الكذب(2)؛ لأنه تعمد الكذب، وحيث لا عمد للمجنون؛ كان خبره قسيماً للافتراء الذي هو أخص من الكذب(3)، وإن لم يكن قسيماً للأعم، ومرجعه إلى حصر الخبر الكاذب في نوعيه وهما: الكذب عن عمد والكذب لا عن عمد(4).
ونبه بقوله: (سواء وافق اعتقاد المخبر أم لا) على خلاف النظام؛ حيث جعل صدق
ص: 357
الخبر مطابقته لاعتقاد المخبر مطلقاً، وكذبه عدم المطابقة كذلك.
فجعل قول القائل: «السماء تحتنا» معتقداً ذلك، صدقاً، وقوله: «السماء فوقنا» غير معتقد ذلك، كذباً.
محتجاً بقوله تعالى: ﴿إذا جاءَكَ المُنَافِقُونَ - إلى قوله - والله يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾(1)حيث سجّل الله تعالى عليهم بأنّهم كاذبون في قولهم: ﴿إِنَّكَ لَرَسُولُ الله﴾(2)أنه مطابق للواقع؛ حيث لم يكن موافقاً لاعتقادهم فيه ذلك، فلوكان الصدق عبارة عن مطابقة الواقع مطلقاً لما صح ذلك.
وأجيب: بأنّ المعنى لكاذبون فى الشهادة، وادّعاءهم فيها مواطاة قلوبهم لألسنتهم، فالتكذيب راجع إلى قولهم: ﴿نشهد﴾ باعتبار تضمّنه خبراً كاذباً، وهو أن شهادتهم صادرة عن صميم القلب وخلوص الاعتقاد؛ بشاهد تأكيدهم الجملة ب_«إنّ» و «اللام» والجملة الاسمية.
أو أنّ المعنى لكاذبون في تسمية هذا الإخبار شهادة، أو في المشهود به - أعنى قولهم: ﴿إِنَّكَ لَرَسُولُ الله﴾ في زعمهم - لأنّهم يعتقدون أنه غير مطابق للواقع، فيكون كذباً عندهم، وإن كان صدقاً في نفس الأمر، لوجود مطابقته فيه.
أو في حلفهم أنهم لم يقولوا: ﴿لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ الله حَتَّى يَنْفَضُّوا﴾(3)لما روي عن زيد بن أرقم أنه سمع عبد الله يقول ذلك، فأخبر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) به، فحلف عبد الله أنه ما قال، فنزلت(4).
ص: 358
ونبه بقوله: (وسواء قصد الخبر أم لا) على خلاف المرتضى (رحمه الله)(1)؛ حيث ذهب إلى أنّ الخبر لا يتحقق إلا مع قصد المخبر(2)؛ استناداً إلى وجوده من الساهي والحاكي والنائم، ومثل ذلك لا يُسمى خبراً.
والمحققون على عدم اشتراطه؛ لأنه لفظ وُضع للخبريّة، فلا يتوقف على الإرادة كغيره من الألفاظ.
(ثمّ) الخبر، إما أن يُعلم صدقه قطعاً، أو كذبه كذلك، أو يخفى الأمران.
والعلم بهما قد يكون ضرورياً، وقد يكون نظرياً.
فهذه خمسة أقسام، أشار إلى تفصيلها بقوله : إنّ الخبر (قد يعلم صدقه قطعاً ضرورةً، كالمتواتر) لفظاً، وسيأتي تفسيره.
والحكم بكون العلم به ضرورياً مذهب الأكثر. ومستنده : أنه لو كان نظريّاً لما حصل لمن لا يكون من أهله، كالصبيان والبله ولا فتقر إلى الدليل، فلا يحصل للعوام، لكنّه حاصل لهم، فيكون ضرورياً.
وذهب أبو الحسين البصري، والغزالي(3)، وجماعة إلى أنه نظري لتوقفه على مقدّمات نظرية(4)، كانتفاء المواطاة، ودواعي الكذب، وكون المخبر عنه محسوساً.
ص: 359
وهو لا يستلزم المدعى؛ لأنّ الاحتياج إلى النظر في المقدمات البعيدة لا يوجب كون الحكم نظرياً، كلازم النتيجة؛ ولأنّ المقتضي لحصول هذه العلم بالمخبر عنه، دون العكس.
(وما علم وجود مخبره) بفتح الباء (كذلك) أي بالضرورة، كوجود مكة.
(أو) يُعلم صدقه قطعاً، لكن (كسباً) لاضرورةً (كخير الله تعالى) لقبح الكذب عليه، بالاستدلال.
(و) خبر (الرسول) أعم من خبر نبينا(صلی الله علیه و آله و سلم)(و) خبر (الإمام) عندنا كذلك؛ للعصمة المعتبرة فيهم، بالدليل أيضاً.
(الأُمّة) باعتبار الإجماع الثابت حقية مدلوله بالاستدلال.
(و) خبر جميع (و) الخبر (المتواتر معنى) كشجاعة علي وكرمه(صلی الله علیه و آله و سلم)، وكرم حاتم؛ فإنه قد رُوي وقائع في شجاعته وكرمهما، وإن لم يتواتر كلّ واحد، لكن القدر المشترك متواتر.
(و) الخبر (المحتف بالقرائن) ، كمن يُخبر عن مرضه عند الحكيم، ونبضه ولونه يدلان عليه، وكذا مَنْ يُخبر عن موت أحد، والنياح والصياح في بيته، وكنا عالمين بمرضه، وأمثال ذلك كثيرة.
وإنكار جماعة(1)أصل العلم به للتخلّف عنه خطأ؛ لجواز عدم الشرائط في صورة التخلّف، خصوصاً مع عدم الضبط لهذه الجهات بالعبارات.
(وما) أي الخبر الذي (عُلم وجود مخبره بالنظر) كقولنا: «محمّد رسول الله».
(وقد يعلم كذبه كذلك) أي بالضرورة أو النظر، وأمثلتهما تعلم (بالمقايسة) على السابق.
ص: 360
فالمعلوم كذبه ضرورةً: ما خالف المتواتر، وما علم عدم وجود مخبَره ضرورةً حسياً أو وجدانياً أو بديهياً.
وكسباً: الخبر المخالف لما دلّ عليه دليل قاطع بالكسب، ومنه الخبر الذي تتوفر الدواعي على نقله ولم ينقل كسقوط المؤذن عن المنارة، ونحو ذلك.
(وقد يحتمل) الخبر (الأمرين) الصدق والكذب، لا بالنظر إلى ذاته؛ إذ جميع الأخبار يحتملهما كذلك، (كأكثر الأخبار) فإنّ الموافق منها للقسمين الأولين قليل.
(وينقسم) الخبر (مطلقاً) أعمّ من المعلوم صدقه وعدمه (إلى متواتر) وآحاد.
(و) الأوّل (هو ما بلغت رواته في الكثرة مبلغاً أحالت العادة تواطؤهم) أي اتفاقهم (على الكذب، واستمر ذلك) الوصف (في) جميع الطبقات حيث تتعدّد) بأن يرويه قوم عن قوم، وهكذا إلى الأوّل فيكون أوّله فى هذا الوصف (کآخره، ووسطه كطرفيه) ليحصل الوصف، وهو استحالة التواطؤ على الكذب للكثرة في جميع الطبقات المتعدّدة.
وبهذا ينتفي التواتر عن كثير من الأخبار التي قد بلغت رواتها في زماننا ذلك الحد، لكن لم يتفق ذلك في غيره خصوصاً في الابتداء، وظنّ كونها متواترة مَنْ لم يتفطن لهذا الشرط.
(ولا ينحصر ذلك في عدد خاص) على الأصح، بل المعتبر العدد المحصل للوصف فقد يحصل في بعض المُخبرين بعشرة وأقلّ، وقد لا يحصل بمائة، بسبب قربهم إلى وصف الصدق وعدمه.
وقد خالف في ذلك قوم، فاعتبروا اثني عشر، عدد النقباء(1). أو عشرين؛ لآية
ص: 361
العشرين الصابرين . أو السبعين؛ لاختيار موسى لهم(1)، ليحصل العلم بخبرهم إذا رجعوا أو ثلاثمائة وثلاثة عشر عدد أهل بدر(2)و(3).
ولا يخفى ما في هذه الاختلافات من فنون الجزافات(4)، وأي ارتباط لهذا العدد بالمراد؟ وما الذي أخرجه عن نظائره مما ذكر في القرآن من ضروب الأعداد؟
(وشرط) حصول (العلم به) أي بالخبر المتواتر:
(انتفاؤه) أي انتفاء العلم المستفاد منه (اضطراراً عن السامع) لاستحالة تحصيل الحاصل، وتحصيل التقوية أيضاً محال؛ لأنّ العلم يستحيل أن يكون أقوى مما كان .
(و أن لا تسبق شُبهة إلى السامع أو تقليد يُنافى موجب خبره) بأن يكون معتقداً نفيه. وهذا شرط اختص به السيّد المرتضى (رحمه الله)(5)، وتبعه عليه جماعة من
ص: 362
المحققين(1)، وهو جيد في موضعه.
واحتج عليه بأنّ حصول العلم عقيب الخبر المتواتر - إذا كان بالعادة - جاز أن يختلف ذلك باختلاف الأحوال، فيحصل للسامع ، إذالم يكن قد اعتقد نقيض ذلك الحكم قبل ذلك، ولا يحصل إذا اعتقد ذلك.
وبهذا الشرط يحصل الجواب لمن خالف الإسلام من الفِرَق إذا ادّعى عدم بلوغه التواثر بدعوى نبينا(صلی الله علیه و آله و سلم)النبوة، وظهور المعجزات على يده موافقة لدعواه؛ فإن المانع الحصول العلم لهم بذلك - دون المسلمين - سبق الشبهة إلى نفيه.
ولولا الشرط المذكور لم يتحقق جوابنا لهم عن غير معجزة القرآن.
وبهذا أجاب السيد عن نفي مَنْ خالف تواتر النصّ على إمامة عليّ(علیه السّلام)؛ حيث إنّهم اعتقدوا نفي النص لشبهة(2).
(واستناد المخبرين إلى إحساس) بأن يكون المخبر عنه محسوساً بالبصر أو غيره من الحواس الخمس.
فلو كان مستنده العقل، كحدوث العالم، وصدق الأنبياء، لم يحصل لنا العلم.
(وهو) أي التواتر متحقق فى أُصول الشرائع كوجوب الصلاة اليومية، وأعداد ركعاتها، والزكاة، والحجّ، تحققاً (كثيراً). وفي الحقيقة مرجع إثبات تواترها إلى المعنوي لا اللفظى؛ إذ الكلام فى الأخبار الدالة عليه كغيرها.
(وقليل) تحققه (في الأحاديث الخاصة) المنقولة بألفاظ مخصوصة؛ لعدم اتفاق الطرفين والوسط فيها (وإن تواتر مدلولها في بعض الموارد، كالأخبار الدالة على شجاعة عليّ(علیه السّلام)، وكرم حاتم، ونظائرهما. فإنّ كلّ فرد خاص من تلك الأخبار الدالة على أن عليّاً(علیه السّلام)قتل فلاناً، وفعل كذا، غير مُتواتر.
ص: 363
وكذا الأخبار الدالّة على أنّ حاتماً أعطى الفرس الفلانية، والجمل والرمح وغيرها، إلّا أنّ القدر المشترك بينها متواتر، تدلّ عليه تلك الجزئيات المتعددة أحاداً بالتضمن.
وعلى هذا ينزل ما ادعى المرتضى ومَنْ تبعه تواتره من الأخبار الدالة على النص وغيره؛ إذ لا شبهه في أنّ كلّ واحد من تلك الأخبار آحاد. وقد أومأ إلى ذلك في مسائله التبانيات(1).
ولم نتحقق إلى الآن خبراً خاصاً بلغ حد التواتر إلا ما سيأتي (حتى قيل) - والقائل ابن الصلاح(2)- : (من سُئِلَ عن إبراز مثال لذلك أعياه طلبه هذا مع كثرة رواتهم قديماً وحديثاً، وانتشارهم في أقطار الأرض، قال: وحديث: «إنّما الأعمال بالنيات»(3)ليس منه أي من المتواتر (وإن نقله) الآن (عدد التواتر وأكثر) فإنّ جميع علماء الإسلام ورواة الحديث الآن يروونه، وهم يزيدون عن عدد التواتر أضعافاً مُضاعفة؛ (لأنّ ذلك) التواتر المدعى قد طرأ في وسط إسناده إلى الآن، دون أوّله(4)، فقد انفرد به جماعة مترتبون، أو شاركهم مَنْ لا يخرج بهم عن الآحاد.
(وأكثر ما ادعي تواتره من هذا القبيل) ينظر مدعي التواتر إلى تحققه في زمانه، أو هو وما قبله، من غير استقصاء جميع الأزمنة، ولو أنصف لوجد الأغلب خُلُوّ أوّل الأمر منه، بل ربما صار الحديث الموضوع ابتداءً متواتراً بعد ذلك، لكن شرط التواتر مفقود من جهة الابتداء(5).
ص: 364
ونازع بعض المتأخرين في ذلك وادعى وجود المتواتر بكثرة(1). وهو غريب.
(نعم، حديث: «مَنْ كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار»)(2)يمكن ادّعاء تواتُره؛ فقد (نقله) عن النبي ( من الصحابة الجم الغفير) أي الجمع الكثير (قيل) الرواة منهم له (أربعون(3).وقيل: نَيّف) بفتح النون وتشديد الياء مكسورة، وقد تخفّف: ما زاد على العقد إلى أن يبلغ العقد الآخر، والمراد هنا اثنان (وستون) صحابياً(4)(ولم يزل العدد) الراوي لهذا الحديث (في ازدياد) وظاهر أنّ التواثر يتحقق بهذا العدد، بل بما دونه.
(و آحادٍ، وهو ما لم ينته إلى المتواتر منه) أي من الخبر، سواء كان الراوي واحداً أم أكثر.
(ثم هو) أي الخبر الواحد (مُسْتَفِيضُ إن زادت رواته عن ثلاثة) في كلّ مرتبةٍ (أو) زادت عن (اثنين) عند بعضهم. مأخوذ من فاض الماء يفيض فيضاً. (ويقال له: المشهور أيضاً) حين تزيد رواته عن ثلاثة أو اثنين، سُمّي بذلك؛ لوضوحه.
(وقد يُغاير بينهما) أي بين المستفيض والمشهور، بأن يُجعل المستفيض ما اتصف
ص: 365
بذلك في ابتدائه وانتهائه على السواء، والمشهور أعم من ذلك. فحديث: «إنّما الأعمال بالنيات»(1)مشهور غير مستفيض؛ لأنّ الشهرة إنّما طرأت له فى وسطه كما مرّ.
وقد يُطلق المشهور على ما اشتهر على الألسنة وإن اختص بإسناد واحد بل ما لا يوجد له إسناد أصلاً.
وغريب إن انفرد به راعٍ (واحد) في أي موضع وقع التفرد به من السند وإن تعدّدت الطرق إليه أو منه(2).
ثمّ إن كان الانفراد في أصل سنده فهو الفرد المطلق، وإلا فالفرد النسبي(3).
(وغيرهما) أي ينقسم الخبر الواحد إلى غير المستفيض والغريب (وهو ما عدا ذلك) المذكور من الأقسام.
(فمنه: العزيز) وهو الذي لا يرويه أقل من اثنين عن اثنين، سُمّي عزيزاً؛ لقلة وجوده، أو لكونه عزّ أي قوي؛ لمجيئه من طريق آخر.
(ومنه: المقبول) وهوما يجب العمل به عند الجمهور، كالخبر المحتف بالقرائن، والصحيح عند الأكثر، والحسن على قول(4).
(و [منه:] المردود) وهو الذي لم يترجّح صدق المخبر به لبعض الموانع، بخلاف المتواتر، فكلّه مقبول؛ لإفادته القطع بصدق مخبره.
ص: 366
(و) منه: (المشتبه) حاله، بسبب اشتباه حال رواته.
وهو مُلْحق بالمردود عندنا؛ حيث نشترط ظهور عدالة الراوي، ولا نكتفي بظاهر الإسلام أو الإيمان(1).
(والأخبار مطلقاً) متواترةً كانت أم أحاداً صحيحةً كانت أم لا (غيرُ منحصرة) في عَدَدٍ معين بحيث لا تقبل الزيادة عليه؛ لإمكان وجود أخبار أخرى بيد بعض الناس لم تصل إلى الجامع(2).
(ومَنْ بالغ في تتبعها وحَصرها في عدد) - كقول أحمد: صح من الأحاديث سبعمائة ألف وكسر(3)- (فبحسب ما وصل إليه) لو سُلّم ذلك له.
وحضر أحاديث أصحابنا أبعد، لكثرة مَنْ روى عن الأئمة منهم.
وكان قد استقر أمرُ المتقدمين على أربعمائة مصنف لأربعمائة مصنّف سمّوها الأصول. وكان عليها اعتمادُهم، ثمّ تداعت الحالُ إلى ذهاب معظم تلك الأصول، ولخصها جماعة في كتب خاصة؛ تقريباً على المتناول.
وأحسنُ ما جُمع منها: الكتاب الكافي، لمحمّد بن يعقوب الكليني.
والتهذیب، للشیخ أبي جعفر الطوسي.
والتهذيب للشيخ ولا يُستغنى بأحدهما عن الآخر؛ لأنّ الأوّل أجمعُ لفنون الأحاديث والثاني أجمع للأحاديث المختصة بالأحكام الشرعية.
وأمّا الاستبصار، فإنّه أخ من التهذيب غالباً، فيمكن الغناء عنه به، وإن اختص
ص: 367
بالبحث عن الجمع بين الأخبار المختلفة؛ فإنّ ذلك أمر خارج عن أصل الحديث.
وكتاب من لا يحضره الفقيه حسن أيضاً، إلا أنه لا يخرج عن الكتابين غالباً.
وكيف كان، فأخبارنا ليست منحصرةً فيها، إلا أنّ ما خرج عنها قد صار الآن غير مَضبوط ، ولا يكلّف الفقيه بالبحث عنه(1).
(واعلم أنّ متن الحديث نفسه لا يدخل في الاعتبار) أي اعتبار أهل هذا الفنّ (إلّا نادراً) وإنّما يدخلُ في اعتبار الباحث عنه بخصوصه كالفقيه في متون الأحاديث الفقهيّة، والشارح لها حيث يبحث عمّا يتعلّق به منها.
واستثني النادِرُ، ليدخُلَ مثلُ : الحديث المقلوب والمصحف والمضطرب، والمزيد: فإنّه يُبحث عنها في هذا العلم مع تعلّقها بالمتن.
(بل يكتسبُ) الحديث (صفةً من القوة والضعف وغيرهما) من الأوصاف (بحسب أوصاف الرواة، من العدالة) والضبط والإيمان (وعدمها) كغير ذلك من الأوصاف.
(أو) بحسب (الإسناد، من الاتصال والانقطاع والإرسال) والاضطراب (وغيرها).
(وتحرير البحث عن ذلك) في هذا العلم بذكر أوصافه، وتمييز بعضها عن بعض (ينجر إلى بيان أنواعه من الصحة وأضدادها) من الحُسْن والثقة والضعف، وغيرها، حتى يقال: «حديث صحيح» أو «حَسَنُ» أو «مُوَثَقٌ» أو «ضعيفٌ».
(و) ينجر (إلى) بيان (الجرح ) للرواة (والتعديل) لهم، فيقال: «فلان ثقة» أو «غير ثقة» أو «متهم» أو «مجهول» أو «كذوبٌ» ونحو ذلك ليترتب عليه ما سبق من الأنواع.
(و) إذا نظر إلى حال الطالب انجرّ (النظر إلى كيفية أخذه، وطرق تحمّله) من القراءة والسماع والإجازة والمناولة، وغيرها.
ص: 368
(و) ينجر الكلام إلى (البحث عن أسماء الرواة) المتفقة الاسم والمفترقة (وأنسابهم، ونحو ذلك).
وهذا التقرير يناسبُ إفراد كلّ مطلب منها بباب يخصه.
(فهاهنا أبواب) أربعة:
الأوّلُ في أقسام الحديث.
والثاني في من تُقْبلُ روايته أو تردُّ.
والثالثُ فى طرق تحمّله ومحلّه، وكيفية روايته.
والرابع في أسماء الرجال وطبقاتهم.
ص: 369
(وأُصولها) المفتقرة إلى البحث عنها (أربعة) وباقي الأقسام ترجع إليها.
(الأوّل: الصحيح، وهو ما اتصل سنده إلى المعصوم بنقل العدل الإمامي عن مثله في جميع الطبقات) حيث تكون متعدّدةً (وإن اعتراه شذوذ)(1).
فخرج ب_«اتصال السند» المقطوع في أي مرتبة اتفق، فإنه لا يُسمّى صحيحاً وإن كان رواته من رجال الصحيح.
وشمل قوله: «إلى المعصوم» النبي والإمام(2).
و [خرج] بقوله: «بنقل العدل» الحسن.
وبقوله: «الإمامي» الموثق.
وبقوله: «في جميع الطبقات» ما اتفق فيه واحد بغير الوصف المذكور؛ فإنه بسببه يلحق بما يُناسبه من الأوصاف، لا بالصحيح.
وهو وارد على مَنْ عرّفه من أصحابنا - كالشهيد في الذكرى - بأنه: ما اتصلت
ص: 370
روايته إلى المعصوم بعدل إمامي(1): فإنّ اتصاله بالعدل المذكور لا يلزم أن يكون في جميع الطبقات بحسب إطلاق اللفظ ، وإن كان ذلك مراداً .
ونبه بقوله: «وإن اعتراه شذوذ» على خلاف ما اصطلح عليه العامة من تعريفه؛ حيث اعتبروا سلامته من الشذوذ، وقالوا في تعريفه: «إنّه ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله، وسلم عن شُذوذ وعلّة»(2).
وشمل تعريفهم بإطلاق العدل جميع فرق المسلمين فقبلوا رواية المُخالف العدل ما لم يبلغ خلافه حدَّ الكفر(3)، أو يكن ذا بذعةٍ ويروي ما يقوّي بدعته على أصح أقوالهم(4).
وبهذا الاعتبار كثرت أحاديثهم الصحيحة، وقلت أحاديثنا [الصحيحة].
مضافاً إلى ما اكتفوا به في العدالة من الاكتفاء بعدم ظهور الفسق والبناء على ظاهر حال المسلم.
فالأخبارُ الحسنةُ والموثقة عندنا صحيحة عندهم، مع سلامتها من المانِعَيْنِ المذكورين(5)و(6).
ص: 371
واحترزوا ب_«السلامة من الشذوذ» عمّا رواه الثقة - مع مخالفته ما روى الناس - فلايكون صحيحاً.
وأرادوا ب_«العلّة» ما فيه أسباب خفيّة قادحة يستخرجها الماهر في الفنّ.
وأصحابنا لم يعتبروا في حد الصحيح ذلك.
والخلاف في مجرّد الاصطلاح، وإلا فقد يقبلون الخبر الشاذ والمعلل(1)ونحنُ قد لا نقبلهما، وإن دخلا في الصحيح بحسب العوارض.
(وقد يُطلق) الصحيح عندنا (على سليم الطريق من الطعن بما ينافي الأمرين) وهما كون الراوي باتصال عدلاً إماميّاً (وإن اعتراه مع ذلك) الطريق السالم (إرسال)، أو قطع)(2).
وبهذا الاعتبار يقولون كثيراً: روى ابن أبي عُمير في الصحيح كذا أو في صحيح كذا مع كون روايته المنقولة كذلك مرسلةً(3).
ومثله وقع لهم في المقطوع كثيراً(4).
ص: 372
وبالجملة : فيُطلقون الصحيح على ما كان رجالُ طريقه المذكورون فيه عدولاً إمامية وإن اشتمل على أمرٍ آخر بعد ذلك، حتى أطلقوا الصحيح على بعض الأحاديث المروية عن غير إمامي بسبب صحة السند إليه. فقالوا: «في صحيحة فلان» ووجدناها صحيحةً بمن عداه.
وفي الخلاصة :وغيرها: أن طريق الفقيه إلى مُعاوية بن ميسرة(1)، وإلى عائد الأحْمَسي(2)، وإلى خالد بن نجيح(3)، وإلى عبد الأعلى مولى آل سام: صحيح(4).
، مع أنّ الثلاثة الأول لم ينصَّ عليهم بتوثيق ولا غيره، والرابع لم يوثقه وإن ذكره في القسم الأوّل(5)و(6).
وكذلك نقلوا الإجماع على تصحيح ما يصح عن أبان بن عثمان(7)، مع كونه فطحيّاً(8).
وهذا كله خارج عن تعريف الصحيح الذي ذكروه في التعريفين، خصوصاً الأوّل المشهور(9).
ص: 373
ثمّ في هذا الصحيح ما يُفيد فائدة الصحيح المشهور كصحيح أبان(1).
ومنه ما يُراد منه وصفُ الصحة دون فائدتها(2)، كالسالم طريقه مع لحوق الإرسال به، أو القطع، أو الضعف، أو الجهالة بمن اتصل به الصحيح. فينبغي التدبّر لذلك فقد زلّ فيه أقدام أقوام.
(الثاني: الحَسَن، وهو ما اتصل سنده كذلك) أي إلى المعصوم (بإمامي ممدوح من غير نص على عدالته). مع تحقق ذلك (في جميع مراتبه) أي جميع رواة طريقه.
(أو) تحقق ذلك (في بعضها) بأن كان فيهم واحدٌ إمامي ممدوح؛ غير موثق (مع كون الباقي) من الطريق (من رجال الصحيح) فيُوصَفُ الطريق بالحسن لأجل ذلك الواحد.
واحترز ب«كون الباقي من رجال الصحيح» عمّا لو كان دونه؛ فإنّه يلحق بالمرتبة الدنيا، كما لو كان فيه واحد ضعيف، فإنه يكون ضعيفاً، أو واحدٌ غيرُ إمامي عدل، فإنّه يكون من الموثق.
وبالجملة: فيتّبعُ أخَسَّ ما فيه من الصفات حيث تتعدد.
وهذا كله وارد على تعريف مَنْ عرفه من الأصحاب، كالشهيد (رحمه الله) بأنه: ما رواه الممدوح من غير نصّ على عدالته(3).
فإنه يشمل ما كان في طريقه واحد كذلك وإن كان الباقي ضعيفاً، فضلاً عن غيره.
ويَزيدُ أنّه لم يُقيّد الممدوح بكونه إمامياً مع أنه مراد.
ص: 374
(ويُطلق) الحَسَنُ (أيضاً على ما يشمل الأمرين) وهما: كون الوصف المذكور في جميع مراتبه وفي بعضها، بمعنى كون رواته متصفين بوصف الحسن إلى واحد معين، ثمّ يصير بعد ذلك ضعيفاً، أو مقطوعاً، أو مرسلاً، كما مرّ في الصحيح (مع اتصاف رواته بالوصفين) وهما كون كلّ واحد إماميّاً وممدوحاً على وجه لا يبلغ العدالة (كذلك) أي كما أن الصحيح يُطلق على سليم الطريق ممّا يُنافي الأمرين وهما كون الراوي عدلاً إماميّاً(1)وإن لم يتصل.
و من هذا القسم حُكْمُ العلّامة وغيره بكون طريق «الفقيه» إلى مُنْذِر بن جيفر حَسَناً(2).
مع أنهم لم يذكروا حالَ مُنذرٍ بمدح ولا قدح، ومثله طريقه إلى إدريس بن زيد(3).
وأنّ طريقه إلى سماعة بن مهران حَسَن(4)، مع أن سماعة واقفي، وإنْ كان ثقةً، فيكونُ من الموثق، لكنّه حَسَّنه بهذا المعنى.
وقد ذكر جماعة من الفقهاء أن رواية زرارة(5)في مُفسد الحج إذا قضاء: «أنّ الأولى حَجّة الإسلام» من الحَسَن(6)، مع أنّها مقطوعة(7).
ص: 375
ومثل هذا كثير، فينبغي مراعاته، كما مرّ.
(الثالث: الموثّق) سُمّي بذلك؛ لأنّ راويه ثقة وإن كان مخالفاً، وبهذا فارق الصحيح مع اشتراكهما في الثقة.
(ويقال له: القويّ) أيضاً؛ لقوة الظن بجانبه بسبب توثيقه.
(وهو ما دخل في طريقه مَنْ نصّ الأصحابُ على توثيقه مع فساد عقيدته) بأن كان من إحدى الفرق المخالفة للإماميّة، وإن كان من الشيعة.
واحترز بقوله: «نص الأصحابُ على توثيقه عمّا رواه المخالفون في صحاحهم التي وثقوا رواتها، فإنّها لا تدخل في الموثق عندنا؛ لأنّ العبرة بتوثيق أصحابنا للمخالف لا بتوثيق غيرنا؛ لأنا لا نقبل إخبارهم بذلك(1).
وبهذا يندفع ما يُتوهّم من عدم الفرق بين رواية مَنْ خالفنا ممّن ذُكر في كتب حديثنا، وما رووه في كتبهم.
وحينئذٍ فذلك كله يلحق بالضعيف عندنا؛ لما سيأتي من صدق تعريفه عليه، فيُعمل منه بما يُعمل به منه.
(ولم يشتمل باقيه) أي باقي الطريق (على ضعف) وإلا لكان الطريق ضعيفاً، فإنّه يتبع الأخش، كما سبق.
وبهذا القيد سلم ممّا يرد على تعريف الأصحاب له، بأنّ الموثق «ما رواه من نص على توثيقه مع فساد عقيدته»(2)؛ فإنه يشمل بإطلاقه ما لو كان في الطريق واحد كذلك،
ص: 376
ضعف الباقي، وليس بمراد كما مرّ.
(وقد يُطلق القوي على مرويّ الإمامي غير الممدوح ولا المذموم) كنُوح بن دراج، وناجية بن عُمارة الصيداوي، وأحمد بن عبد الله بن جعفر الحميري، وغيرهم، وهم كثيرون.
وقولنا: «غير الممدوح ولا المذموم» خير من قول الشهيد (رحمه الله)، وغيره - في تعريفه - : «غير المذموم»(1)مقتصرين عليه، لأنه يشمل الحَسَن؛ فإنّ الإمامي الممدوح غيرُ مذموم .
ولو فُرِضَ كونه قد مدح وذم، كما اتفق لكثير، ورد على تعريف الحسن أيضاً.
والأولى أن يُطلب حينئذ الترجيح، ويُعمل بمقتضاه، فإن تحقق التعارض لم يكن حسناً.
وعلى هذا، فينبغي زيادة تعريف الحسن بكون المدح مقبولاً، فيقال: «ما اتصل سنده بإمامي ممدوح مدحاً مقبولاً إلى آخره. أو غير معارض بذم ونحو ذلك.
(الرابع: الضعيف، وهو ما لا يجتمع فيه شروط أحد الثلاثة المتقدّمة بأن يشتمل طريقه على مجروح) بالفسق ونحوه (أو مجهول) الحال (أو ما دون ذلك) كالوضاع. ويمكن اندراجه في المجروح، فيُستغنى به عن الشق الأخير(2).
(و درجاته) في الضعف (متفاوتة بحسب بعده عن شروط الصحة) فكلّما بَعُدَ بعضُ رجاله عنها كان أقوى في الضعف، وكذا ما كثر فيه الرواة المجروحون، بالنسبة إلى ما قل فيه.
ص: 377
(كما تتفاوت درجات الصحيح وأخويه) الحَسَن والموثق (بحسب تمكنه من أوصافها) فما رواه الإمامي الثقة الفقيه الورع الضابط؛ كابن أبي عمير، أصح مما رواه مَنْ نَقَصَ في بعض الأوصاف، وهكذا إلى أن ينتهي إلى أقل مراتبه.
وكذلك ما رواه الممدوح كثيراً - كإبراهيم بن هاشم - أحسنُ ممّا رواه مَنْ هو دونه في المدح، وهكذا إلى أن يتحقق مُسمّاه .
وكذا القولُ فى الموثق، فإنّ ما كان فى طريقه مثل على بن فَضَال، وأبان بن عُثمان أقوى من غيره، وهكذا(1).
ويظهر أثر القوة عند التعارض، حيث يعمل بالأقسام الثلاثة أو يُخرجُ(2)أحد الأخيرين ،شاهداً، أو يتعارض صحيحان أو حَسَنان، حيث يجوز العمل به(3).
(وكثيراً ما يُطلق الضعيف) في كلام الفقهاء (على رواية المجروح خاصة) وهو استعمال للضعيف في بعض موارده، وأمره سهل.
(واعلم أنّ) مَنْ منع العمل بخبر الواحد مطلقاً - كالسيد المرتضى (رحمه الله)(4)- تنتفي عنده فائدة البحث عن الحديث غير المتواتر مُطلقاً.
ص: 378
و(مَنْ جوز العمل بخبر الواحد) كأكثر المتاخرين(في الجملة). فائدة القيد التنبيه على أنّ مَن َعمِلَ بخبر الواحد لم يعمل به مطلقاً، بَلْ منهم مَن خصّه بالصحيح، ومنهم أضاف الموزّقَ ، ومنهم من أضاف الضعيف على بعض مَنْ أضاف الحَسَنَ، ومنهم من الوجوه، كما سننبه عليه. فالعامل بخبر الواحد على أي وجه كان (قطع بالعمل بالخبر الصحيح) لعدم المانع منه، فإنّ رواته عدول صحيحو العقائد، لكن لم يعمل به مطلقاً، بل (حيث لا يكون شاذاً، أو معارضاً) بغيره من الأخبار الصحيحة، فإنّه حينئذ يطلب المرجح.
وربما عمل بعضُهم بالشاذ أيضاً، كما اتفق للشيخين في صحيحة زرارة(1)في مَنْ دخل في الصلاة بتيمم ثمّ أحدث: «أنّه يتوضأ حيثُ يُصيب الماء، ويبني على الصلاة»(2)وإن خصّاها بحالة الحَدَث ناسياً(3). ومثل ذلك كثير .
(واختلفوا في العمل بالحَسَن، فمنهم: مَنْ عمل به مطلقاً كالصحيح) وهو الشيخ (رحمه الله) على ما يظهر من عَمَله، وكلّ مَنْ اكتفى في العدالة بظاهر الإسلام ولم يشترط ظهورها.
(ومنهم: مَنْ ردّه مُطلقاً) وهم الأكثرون؛ حيث اشترطوا في قبول الرواية الإيمان والعدالة، كما قطع به العلّامة في كتبه الأصولية (4)وغيره.
ص: 379
والعجب أنّ الشيخ (رحمه الله) اشترط ذلك أيضاً في كتب الأصول(1)، ووقع له في الحديث وكُتب الفروع الغرائب، فتارةً يعمل بالخبر الضعيف مطلقاً، حتى أنه يخصص به أخباراً كثيراً صحيحةً حيث تُعارضه بإطلاقها(2). وتارةً يصرّح بردّ الحديث لضعفه(3). وأخرى بردّ الصحيح معللاً بأنه خبرٌ واحد لا يُوجب علماً ولا عملاً(4)، كما هي عبارة المرتضى (رحمه الله).
(و فصل آخرون) في الحَسَن، كالمحقق في المعتبر(5)، والشهيد في الذكرى(6)، فقبلوا الحَسَن بل الموثق، وربما ترقّوا إلى الضعيف أيضاً إذا كان العمل بمضمونه مشتهراً بينَ الأصحاب، حتى قدموه حينئذٍ على الخبر الصحيح، حيث لا يكون العمل بمضمونه مشتهراً.
(وكذا اختلفوا في العمل بالموثق نحو اختلافهم في الحَسَن) فقبله قوم مطلقاً، وردّه آخرون، وفصل ثالث(7).
ويمكن اشتراك الثلاثة في دليل واحد يدلّ على جواز العمل بها مطلقاً، وهو أنّ المانع من قبول خبر الفاسق هو فسقه؛ لقوله تعالى: ﴿إنْ جاءَكم فاسق بنبأ فتبينوا﴾(8)فمتى لم يُعلم الفسقُ لا يجب التثبت عند خبر المخبر مع جهل حاله، فكيف مع توثيقه
ص: 380
ومدحه، وإن لم يبلغ حدّ التعديل. وبهذا احتجّ مَنْ قبل المراسيل.
وقد أجابوا عنه بأنّ الفسق لمّا كان علّة التثبت وجبَ العلم بنفيه حتى يُعلم وجود انتفاء التثبتِ، فيجب التفحّص عن الفسق ليُعلم أو عدمه، حتى يُعلم التثبتُ أو عدمه.
وفيه نظر؛ لأنّ الأصلَ عدم وجود المانع في المسلم، ولأن مجهول الحال لا يمكن الحكم عليه بالفسق. والمراد في الآية المحكوم عليه بالفسق.
(وأما الضعيف، فذهب الاكثر إلى منع العمل به مطلقاً) للأمر بالتثبت عند إخبار الفاسق الموجب لردّه.
(وأجازه آخرون) وهم جماعة كثيرة، منهم مَنْ ذكرناه (مع اعتضاده بالشهرة روايةً) بأن يكثر تدوينها وروايتها بلفظ واحد أو ألفاظ متغايرة متقاربة المعنى (أو فتوى) بمضمونها في كتب الفقه (لقوّة الظنّ) بصدق الراوي (في جانبها) أي جانب الشهرة (وإن ضَعُفَ الطريق) فإنّ الطريق الضعيف قد يَثْبُتُ به الخبر مع اشتهار مضمونه (كما تُعلم مذاهب الفرق) الإسلامية، كقول أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد (بإخبار أهلها) مع الحكم بضعفهم عندنا (وإنْ لم يبلغوا حد التواتر).
وبهذا اعتذر للشيخ (رحمه الله) في عمله بالخبر الضعيف.
(وهذه حجة من عمل بالموثق أيضاً) بطريق أولى.
وفيه نظر، يخرج تحريره عن وضع (الرسالة) فإنّها مبنية على الاختصار.
ووجهه على وجه الإيجاز أنا نمنع من كون هذه الشهرة التي ادعوها مؤثرةً في جبر الخبر الضعيف، فإنّ هذا إنّما يتمّ لو كانت الشهرة متحققةً قبل زمن الشيخ (رحمه الله)، والأمر ليس كذلك؛ فإن مَنْ قَبْله من العلماء كانوا بين مانع من خبر الواحد مطلقاً، كالمرتضى والأكثر، على ما نقله جماعة؛ وبين جامع للأحاديث من غير التفات إلى تصحيح ما يصح، وردّ ما يُردّ.
ص: 381
وكان البحث عن الفتوى مجردةً لغير الفريقين قليلاً جداً، كما لا يخفى على من اطّلع على حالهم.
فالعمل بمضمون الخبر الضعيف قَبْلَ زمن الشيخ على وجه يخبرُ ضعفه ليس بمتحقق(1).
ولمّا عملَ الشيخُ بمضمونه في كتبه الفقهية، جاء من بعده من الفقهاء واتبعه منهم عليها الأكثر تقليداً له إلّا من شدّ منهم، ولم يكن فيهم مَنْ يَسْبُرُ الأحاديث، وينقبُ على الأدلة بنفسه، سوى الشيخ المحقق ابن إدريس، وقد كان لا يُجيز العمل بخبر الواحد مطلقاً(2).
فجاء المتأخّرون بعد ذلك ووجدوا الشيخ ومَنْ تبعه قد عملوا بمضمون ذلك الخبر الضعيف لأمرٍ ما رأوه في ذلك، لعل الله تعالى يعذرهم فيه، فحسبوا العمل به مشهوراً، وجعلوا هذه الشهرة جابرةً لضعفه.
ولو تأمل المنصفُ، وحرّر المنقبُ لوجد مرجع ذلك كله إلى الشيخ، ومثل هذه الشهرة لا تكفي في جبر الخبر الضعيف.
ومن هنا يظهر الفرقُ بينه وبين ثبوت فتوى المخالفين بإخبار أصحابهم؛ فإنّهم كانوا منتشرين في أقطار الأرض من أوّل زمانهم، ولم يزالوا في ازدياد.
وممّن اطّلع على أصل هذه القاعدة - التي تبيّنتها وتحققتها من غير تقليد - الشيخ الفاضلُ المحقق سديد الدين محمودُ الحِمّصي، والسيد رضي الدين ابن طاوس،وجماعة.
ص: 382
قال السيّد (رحمه الله) فى كتاب البهجة لثمرة المهجة :
أخبرني جدّي الصالح ورّام بن أبي فراس (قدس الله سره): أن الحمصي حدّثه: أنّه لم يبق للإماميّة مُفْتٍ على التحقيق، بل كلّهم حاك.
وقال السيد عقيبه:
والآنَ فقد ظهرَ أنَّ الذي يُفتى به ويُجاب عنه على سبيل ما حُفِظَ من كلام العلماء المتقدمين(1). انتهى.
وقد كشفت لك بذلك بعض الحال، وبقي الباقي في الخيال، وإنما يتنبه لهذا المقال مَنْ عرف الرجال بالحق ويُنكره من عَرَف الحق بالرجال.
(وجوّز الأكثرُ العمل به) أي بالخبر الضعيف (في نحو القصص والمواعظ وفضائل الأعمال، لا في) نحو صفات الله المتعال و(أحكام الحلال والحرام، وهو حسن حيث لا يبلغ الضعفُ) حدَّ الوضع والاختلاق؛ لما اشتهر بين العلماء المحققين من التساهل بأدلّة السنن وليس في المواعظ والقصص غيرُ مَحْض الخير، ولما ورد عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) - من طريق الخاصة والعامة - أنّه قال: «مَنْ بَلَغَهُ عن الله تعالى فضيلةٌ فأخَذَها وعَمِلَ بها فيها إيماناً بالله ورجاءَ ثوابه أعطاه الله تعالى ذلك، وإن لم يكن كذلك»(2).
وروى هشام بن سالم في الحَسَن عن أبي عبد الله(صلی الله علیه و آله و سلم)قال: «مَنْ سَمِعَ شيئاً من
ص: 383
الثواب على شيءٍ فَصَنَعَهُ كانَ له أجرٌ، وإن لم يكن على ما بَلَغَهُ»(1)و(2).
وإذا عرفت هذه المعاني الأربعة التي هي أصول علم الحديث (بقي هنا عبارات لمعان شتّى:
منها: ما يشترك فيها الأقسام الأربعةُ) إمّا جميعها، أو بعضها بحيث لا يختص بالضعيف ليدخل فيه المقبولُ: فإنّه ليس من أقسام الصحيح، وإنما يشترك فيه الثلاثة الأخيرة على ظاهر الاستعمال، وإن كان إطلاق مفهومه قد يفهم منه كونه أع-م م-ن الصحيح أيضاً. وجملة المشترك، ثمانية عشر نوعاً.
(ومنها: ما يختص بالضعيف) وهو ثمانية.
فجملة الأنواع الفروع ستة وعشرون. ومع الأُصول ثلاثون نوعاً، وذلك على وجه الحصر الجعلي أو الاستقرائي، لإمكان إبداء أقسام أخر.
(فمن) القسم (الأول)(3)وهو المشترك (أُمور:)
أحدُها: المُسْنَد، وهو ما اتصل سنده مرفوعاً) من راويه إلى منتهاه (إلى المعصوم).
وأكثر ما يُستعمل فيما جاء عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم).
فخرج ب_«اتصال السَنَدِ»: المُرْسَلُ والمُعلّق والمُعْضَلُ.
ص: 384
وب_«الغاية»(1)الموقوف، إذا جاء بسند متصل؛ فإنّه لا يُسمّى في الاصطلاح مسنداً.
وربما أطلقه بعضهم على المتصل مطلقاً(2)و(3).
وآخرون على ما رُفِعَ إلى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)وإن كان منقطعاً(4).
و(ثانيها المتصل - ويُسمّى أيضاً الموصول - وهو ما اتصل إسناده) إلى المعصوم أو غيره (وكان كلُّ واحدٍ من رواته قد سمعه ممّن فوقه، أو ما) هو (في معنى السماع) كالإجازة، والمناولة.
وهذا القيد أخلّ به كثير فوردَ عليهم ما تناوله سواء كان مرفوعاً) إلى المعصوم (أم موقوفاً)على غيره.
وقد يخص بما اتصل إسناده إلى المعصوم أو الصحابي، دون غيرهم. هذا مع الإطلاق.
أما مع التقييد فجائز مطلقاً، واقع، كقولهم: «هذا متصل الإسناد بفلانٍ» ونحو ذلك.
و(ثالثها: المرفوع، وهو ما أُضيف إلى المعصوم(5)من قول) بأن يقول في الرواية: «إنه(علیه السّلام)قال كذا» (أو فعل بأن يقول: «فعل كذا» (أو تقرير) بأنْ يقول: «فعل فلان بحضرته كذا ولم يُنكره عليه، فإنه يكون قد أقرّه عليه، وأولى منه ما لو صرّح بالتقرير.
(سواء كان) إسناده (متصلاً) بالمعصوم بالمعنى السابق (أم مُنقطعاً) بترك بعض
ص: 385
الرواة، أو إيهامه، أو رواية بعض رجال سَنَدِه عمّن لم يلقه(1).
(وقد تبيّن) من التعريفات الثلاثة (أنّ بين الأخيرين) منها (عموماً من وَجْةٍ) بمعنى صِدق كلّ منهما على شيءٍ ممّا صدق عليه الآخرُ، مع عدم استلزام صدق شيء منهما صدق الآخر.
ومادّة تصادقهما هنا فيما إذا كان الحديث متصل الإسناد والرواية بالمعصوم، فإنّه يصدق عليه الاتصال والرفع لشمول تعريفهما له.
ويختص المتصل بمتصل الإسناد على الوجه المقرّر، مع كونه مرفوعاً(2)على غير المعصوم.
ويختص المرفوع بما أُضيف إلى المعصوم بإسنادٍ مُنقطع.
(و) تبيّن أيضاً (أنّهما أعم من الأوّل مُطلقاً) بمعنى استلزام صدقه صدقهما من غير عَكْسِ.
ووجه عُمومهما كذلك؛ اشتراك الثلاثة في الحديث المتصل الإسناد على الوجه السابق إلى المعصوم، واختصاص المتصل بحالة كونه موقوفاً، والمرفوع بحالة انقطاعه.
و(رابعها: المُعَنْعَنُ، وهو ما يُقال في سنده: (فلان عن فلا»)ن من غير بيان للتحديث، والإخبار، والسماع، وبذلك يظهر وجه تسميته معنعناً .
وقد اختلفوا في حكم الإسناد المعنعن، فقيل: هو من قبيل المرسل والمنقطع حتّى يتبين اتصاله بغيره(3)؛ لأنّ العَنْعَنَةَ أعم من الاتصال لغةٌ.
ص: 386
(والصحيح) الذي عليه جمهورُ المحدثين، بل كاد يكون إجماعاً (أنّه مُتصل إذا أمكن اللقاء) أي ملاقاة الراوي بالعَنْعنة لَمِنْ رواهُ عنه (مع البراءة) أي براءته أيضاً (من التدليس) بأن لا يكونَ معروفاً به، وإلا لم يكف اللقاء؛ لأنّ مَنْ عُرف بالتدليس قد يتجوّز في العَنْعنة مع عدم الاتصال؛ نظراً إلى ظهور صدقه في الإطلاق وإنْ كانَ خلاف الاصطلاح والمتبادر من معناها.
(وقد استعمله) أي المعنعن - والمراد استعمال المصدر، وهو العنعنة في الأحاديث - (أكثر المحدثين) مُريدين به الاتصال، وأكثرهم لا يقول بالمرسل.
وزاد آخرون في الشرائط: كون الراوي قد أدرك المروي عنه بالعنعنة إدراكاً بيناً(1).
وآخرون على ذلك كونه معروفاً بالرواية عنه(2). والأظهر عدم اشتراطهما.
(وخامسها: المُعلّق، وهو ما حُذِفَ من مبدإ إسناده واحد فأكثر) كقول الشيخ (رحمه الله) «محمّد بن أحمد» إلى آخره، أو «محمد بن يعقوب» أو «روى زرارة عن الباقر أو الصادق(علیهم السّلام)» أو «قال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)» أو «الصادق(علیه السّلام)» أو نحو ذلك.
مأخوذ من تعليق الجدار أو الطلاق، لاشتراكهما في قطع الاتصال.
ولم يستعملوه فيما سقط وسط إسناده أو آخره؛ لتسميتهما بالمُنقطع والمرسل.
(ولا يخرجُ) المعلّق (عن الصحيح إذا عُرِفَ المحذوف من جهة ثقة) خصوصاً إذا كان العلم من جهة الراوي، كقول الشيخ في كتابيه والصدوق في الفقيه: «محمد بن يعقوب» أو «أحمد بن محمد» أو غيرهما ممن لم يدركه، ثمّ يذكر في آخر الكتاب طريقه إلى كلّ واحدٍ ممّن ذكره في أوّل الإسناد.
ص: 387
(وهو حينئذٍ) أي حينَ إذ يُعلم المحذوف (في قوة المذكور) ؛ لأنّ الحذف إنما هو من الكتابة، أو اللفظ حيث تكون الرواية به، والقصد ما ذُكِرَ.
(وإلّا) يُعلم المحذوف من جهة ثقة (خَرَج) المعلّقُ عن الصحيح إلى الإرسال أو ما في حكمه(1).
(وسادسها: المُفْرَدُ) وهو قِسمان:
لأنه (إما) أن ينفرد به راويه (عن جميع الرواة) وهو الانفراد المطلق(2)، وألحقه بعضهم بالشاذ، وسيأتى أنّه يُخالفه.
(أو) ينفرد به (بالنسبة إلى جهة) وهو النِسْبِي(3) (كتفرّد أهل بَلَدٍ) مُعيّن، كمكّة والبصرة والكوفة، أو تفرّد واحد من أهلها .( به ) ولا يضعف الحديث (بذلك) من حيث كونه إفراداً، إلا أن يلحق بالشاذ، فيرة لذلك.
(وسابعها: المُدْرَجُ، وهو ما أُدْرِجَ فيه كلام بعض الرواة؛ فيُظَنُّ) لذلك (أنّه منه) أي من الحديث.
ص: 388
(أو) يكون عنده (متنان بإسنادين فيُدرجُهما في أحدهما) أي أحد إسنادي الحديثين، ويترك الآخر.
(أو يَسْمَعُ حديث واحدٍ من جماعة مُختلفين في سَنَدِهِ) ، بأنْ رواه بعضُهم بسندٍ، ورواه غيره بغيره. (أو) مختلفين في (مَتْنِه) مع اتفاقهم على سَنَدِهِ (فيُدرج روايتهم) جميعاً (على الاتفاق) في المتن أو السند، ولا يذكر الاختلاف.
وتعمّد كلّ واحد من الأقسام الثلاثة حرام.
(وثامنها: المشهور، وهو ما شاع عند أهل الحديث) خاصةً دون غيرهم (بأن نقله)منهم (رواةٌ كثيرون) ولا يَعْلَمُ هذا القسم إلّا أهل الصناعة.
(أو عندهم وعند غيرهم كحديث: «إنّما الأعمال بالنيات»(1)) وأمرُه واضح، وهو بهذا المعنى أعم من الصحيح.
(أو عند غيرهم خاصةً) ولا أصْلَ له عندهم (وهو كثير)(2).
قال بعض العلماء:
أربعة أحاديث تدور على الألسن وليس لها أضل:
من بشرني بخروج آذار بشرته بالجنّة.
ص: 389
ومن آذى ذميّاً فأنا خصمه يوم القيام.
ويوم نحركم يوم صومكم.
وللسائل حق وإن جاء على فرسة(1).
(وتاسعها الغريب) بقول مطلق، وهو (إمّا) غريب (إسناداً ومثناً) معاً (وهو ما تفرد برواية متنه واحد؛ أو) غريب (إسناداً خاصة )لا مثناً (كحديث يُعرف متنه) عن (جماعةٍ) من الصحابة - مثلاً أو ما في حكمهم (إذا انفرد واحد بروايته عن) آخرَ (غيرهم) ويُعبر عنه بأنه غريب من هذا الوجه(2). ومنه غرائب المُخرجين في أسانيد المتون الصحيحة.
(أو غريب (متناً خاصة، بأن اشتهر الحديث المفرد، فرواه عمّن تفرد به جماعة كثيرة، فإنّه) حينئذٍ (يصيرُ غريباً مشهوراً) وغريباً متناً لا إسناداً بالنسبة إلى أحد طرفي الإسناد ؛ فإنّ إسناده متصف بالغرابة في طرفه الأوّل، وبالشهرة في طرفه الآخر.
(وحديث: «إنّما الأعمال بالنيات») من هذا الباب فإنه (غريب في طرفه الأوّل) لأنّه ممّا تفرد به من الصحابة عُمَرُ - وإن كان قد خَطَبَ به على المنبر فلم يُنكر عليه، فإنّ ذلك أعم من كونهم سمعوه من غيره - ثم تفرد به عنه عَلْقَمَةُ، ثم تفرد به عن علقمة محمّد بن إبراهيم، ثمّ تفرّد به يحيى بن سعيد عن محمد.
(مشهورٌ في) طرفه (الآخرِ) لتعدّد رُواته بعدَ مَنْ ذكرنا واشتهاره، حتى قيل: إنه رواه عن يحيى بن سعيد أكثر من مائتي نَفْسٍ وحُكي عن أبي إسماعيل الهروي أنه كتبه
ص: 390
من سبعمائة طريق عن يحيى بن سعيد(1)و(2).
وما ذكرناه من تفرّد الأربعة بهذا الحديث هو المشهور بين المحدثين، ولكن ادعى بعضُ المتأخرين: أنّه رُوي أيضاً عن عليّ وأبي سعيد الخُدْري وأنس بلفظه، ومن حديث جمع من الصحابة بمعناه(3)وعلى هذا فيخرجُ عن حدّ الغرابة.
(و نظائره) في الأحاديث (كثيرةٌ) فإنّ كثيراً من الأحاديث ينفرد به واحد ثم تتعدّد رواته خصوصاً بعد الكتب المصنفة التي يُودع الحديث فيها، كما لا يخفى.
(وقد يُطلق على الغريب اسم الشاذ) والمشهور المغايرة بينهما على ما ستعرفه في تعريف الشاذ.
(وعاشرها : المُصَجَّفُ) وهذا فن جليل إنّما ينهضُ بأعبائه الحُذَاقُ من العلماء.
(والتصحيفُ يكون في الراوي) كتصحيف «مُراجِم» بالراء المهملة والجيم، أبو العوام - ب_«مُزاحِم» - بالزاي المعجمة والحاء - وتصحيف حريز» ب_«جریر» و «برید» ب_«بيزيد» ونحو ذلك.
ص: 391
وقد صَعَّفَ العلّامة في كتب الرجال كثيراً من الأسماء، مَنْ أراد الوقوف عليها فليطالع الخلاصة له، وإيضاح الاشتباه في أسماء الرواة، وينظر ما بينهما من الاختلاف(1). وقد نبه الشيخ تقي الدين ابن داود على كثير من ذلك(2).
(وفي المتن كحديث : «مَنْ صام رمضان وأتبعه ستا من شوّال(3)صحفه بعضُهم بالشين المعجمة، ورواه كذلك(4)،(ومتعلقه) أي التصحيف (إمّا البَصَرُ، أو السمع).
والأوّل - كما ذكر من الأمثلة - مثناً وإسناداً؛ لأن ذلك التصحيف إنما يعرض للبصر لتقارب الحُروف لا للسمع، إذ لا يلتبس عليه مثل ذلك.
والثاني: تصحيفُ بعضهم «عاصم الأحْوَلَ»ب_«واصل الأحْدَب»؛ فإنّ ذلك لا يشتبه في الكتابة على البصر، وأشباه ذلك.
والتصحيف أيضاً يكون (في اللفظ) كما ذكر.
(و) في (المعنى) كما حُكي عن أبي موسى محمّد بن المُثنّى العَنَزِي أنّه قال: «نحنُ قوم لنا شَرَفٌ، نحنُ من عَنَزةَ صلّى إلينا رسولُ الله(صلی الله علیه و آله و سلم)»يُريد بذلك ما رُوي أنه(صلی الله علیه و آله و سلم)صلى
ص: 392
إلى عَنَزةٍ، وهي حَرْبةٌ تُنْصِبُ بين يديه سُتْرةً، فتوهم أنه(صلی الله علیه و آله و سلم)صلى إلى قبيلتهم بني عنزة وهو تصحيفٌ معنوي عجيب(1).
(وحادي عشرها العالي سَنَدا) وهو القليل الواسطة مع اتصاله(2).
(وطلبه) أي طلب عُلُوّ الإسناد (سُنَّةٌ) عند أكثر السَلَف، وقد كانوا يَرْحَلُون إلى المشايخ في أقصى البلاد لأجل ذلك.
(فبعُلوهِ) أي السند (يَبْعُدُ) الحديث (عن الخَلَل المتطرق إلى كلّ راو) إذ ما من راوِ من رجال الإسناد إلا والخطاً جائز عليه، فكلّما كُتَرتْ الوسائط وطال السندُ كَثُرَتْ مظان التجويز، وكلّما قَلَّتْ قَلَّتْ.
ولكن قد يتفقُ في النزول مزيّة ليست في العُلُوّ، كأنْ يكونَ رواتُه أوثق أو أحْفَظَ أو أضْبَطَ، أو الاتصال فيه أظْهَرَ؛ للتصريح فيه باللقاء واشتمال العالي على ما يحتمله وعدمه؛ ك_«عن فلان» فيكون النزولُ حينئذٍ أولى.
ومنهم مَنْ ربَّحَ النزول مطلقاً؛ استناداً إلى أنّ كثرة البحث يقتضي المشقة، فيعظمُ الأجرُ(3). وذلك ترجيح بأمرٍ أجنبي عما يتعلّق بالتصحيح والتضعيف.
(و) العُلُوّ أقسام، (أعلاه) وأشرفُه (قُرْبُ الإسناد من المعصوم)(4) بالنسبة إلى
ا. لاحظ الخلاصة في أُصول الحديث، ص 54 - 55.
ص: 393
سَنَدٍ آخرَ يُروى بهِ ذلك الحديث بعينه بعددٍ كثير، وهو العلوّ المُطْلَقُ. فإن اتفق مع ذلك أنْ يكونَ سنده صحيحاً ولم يُرجّح غيره عليه بما تقدّم، فهو الغاية القصوى.
وإلا، فصورة العلوّ فيه موجودة مالم يكن موضوعاً، فيكون كالمعدوم.
(ثمّ) بعد هذه المرتبة في العُلُو قُرْبُ الإسناد المذكور (من أحد أئمة الحديث) کالشيخ والصدوق والكليني والحسين بن سعيد، وأشكالهم.
(ثم) بعده (بِتَقدُّم زمان سماع أحدهما) أي أحد الراويين في الإسنادين (على) زمان سماع (الآخر، وإنْ اتفقا في العدد) الواقع في الإسناد (أو) في (عَدَم الواسطة) بأن كانا قد رويا عن واحدٍ في زمانين مختلفين (فأولهما) سماعاً (أعلى) من الآخَر لِقُرْب زمانه من المعصوم بالنسبة إلى الآخر.
والعُلُوّ بهذين المعنيين يُعبّر عنه يُعبر عنه بالعُلُو بالعُلُو النسبي، وشَرَفُ اعتباره قليل، خصوصاً الأخير، لكن قد اعتبره جماعة من أئمّة الحديث، فذكرناه لذلك.
وزاد بعضُهم للعُلُوّ معنى رابعاً وهو تَقَدُّمُ وفاة الراوي(1)، فإنه أعلى من إسناد آخر يُساويه في العدد مع تأخُر وفاة مَنْ هو في طبقته عنه. مثاله: ما نرويه بإسنادنا إلى شيخنا الشهيد عن السيد عميد الدين عن العلّامة جمال الدين ابن المطهّر؛ فإنّه أعلى
ممّا نرويه عن الشهيد عن فخر الدين ابن المطهر، عن والده جمال الدين وإن تساوى الإِسنادان في العدد لتقدّمِ وفاة السيد عميد الدين على وفاة فخر الدين بنحو خمس عشرة سنة.
والكلام في هذا العلوّ كالذي قبله، وأضعف.
ص: 394
(وثاني عشرها: الشاذ، وهو مارواه الراوي (الثقة مخالفاً لما رواه الجمهور) أي الأكثر(1).
سُمّي شاذاً باعتبار ما ،قابله، فإنّه مشهور، ويقال للطَّرَف الراجح: المحفوظ.
(ثم إنْ كانَ المخالِفُ له) الراجح (أحفظ أو أضبط أو أعدل) من راوى الشاذ (فشاذ مردود) لشذوذه ومرجُوحِيّته بفقد أحد الأوصاف الثلاثة.
(وإن انعكس) فكان الراوي للشاذ أحفظ للحديث، أو أضبط له، أو أعدل من غيره من رواة مقابله (فلا) يُردّ؛ لأنّ في كلِّ منهما صفةٌ راجحةً وصفةً مرجوحة فيتعارضان، فلا ترجيح.
(وكذا إنْ كانَ) المخالفُ أي راوي الشاذ (مثله) أي مثل الآخر في الحفظ والضبط والعدالة فلايُردّ ؛ لأنّ مامعه من الثقة يُوجب قبوله، ولا رُجحان للآخر عليه من تلك الجهة.
(ومنهم: مَنْ ردّه مطلقاً)(2)نظراً إلى شُذوذه، وقوّة الظنّ بصحة جانب المشهور.
(ومنهم: مَنْ قَبِلَه مطلقاً)(3)نظراً إلى كون راويه ثقةً في الجملة.
(ولو كان) راوي الشاذ (المخالف) لغيره (غيرَ ثِقة، فحديثه مُنْكَرُ مردود) لجمعه بين الشذوذ وعدم الثقة، ويُقال لمقابله: المعروف.
ص: 395
(ومنهم: مَنْ جعلهما ) أي الشاذَّ والمنكر (مُترادِفَينِ)(1)بمعنى الشاذ المذكور. وما ذكرناه من الفرق أضبط.
(وثالث عشرها المُسَلْسَل(2)، وهو ما تتابع فيه رجال الإسناد على صفة) كالتشبيك بالأصابع، (أو حالةٍ) كالقيام (في الراوي) للحديث، سواء كانت تلك الصفةُ أو(3)الحالة (قولاً، كقوله: «سمعت فلاناً يقولُ: سمعت فلاناً يقول» إلى المنتهى) أي منتهى الإسناد، (أو: «أخبرنا فلان والله، قال: أخبرنا فلان والله» إلى آخر) الإسناد، وكالمسلسل بقراءة سورة الصف.
(أو فعلاً، كحديث التشبيك باليد والقيام حالة الرواية (والاتكاء) حالته (والعدّ باليد) في حديث تعليم الصلاة على النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)(4).
(أو بهما) أي بالقول والفعل (كالمسلسل بالمصافحة) فإنه يتضمن الوصف بالقول في قول كلّ واحد: «صافحني بالكفّ التي صافحت بها فلاناً وقوله: «فما مسست خَرّاً ولا حَريراً أليَنَ من كفّه» والفعل، وهو نفس المصافحة من كلّ واحدٍ من رجال الإسناد.
(و) المسلسل (بالتلقيم) فإنّه يتضمن الوصف بالقول، كقول كلّ واحد: «لقمني فلان بيده لُقمة لُقمة» والفعل، وهو التلقيم.
ص: 396
ومثله المسلسل ب_«قرّبَ إلى جُبناً وجَوْزاً».
والمسلسل ب_«أطعمني وسقاني».
والمسلسل ب_«الضيافة على الأسودين التمر والماء».
(أو) حالةً (في الرواية ك_) الحديث (المُسلسل باتفاق أسماء الرواة) كالمسلسل بالمحمدين والأحمدين (وأسماء آبائهم أو كناهم أو أنسابهم أو بلدانهم) وتسلسل هذه المذكورات وقع في جميع الإسناد.
(وقد يقع التسلسلُ في مُعظم الإسناد) دونَ جميعه (كالمُسلسل بالأوّليّة) وهو أوّلُ ما يسمعه كلّ واحدٍ منهم من شيخه من الأحاديث، فإنّ تسلسله بهذا الوصف ينتهي إلى سُفيان بن عيينة فقط، وانقطع في سماعه من عمرو، وفي سماعه من أبي قابوس، وفي سماعه من عبدالله، وفي سماعه من النبي ، ومَنْ رواه مسلسلاً إلى منتهاه فقد وهم(1).
(وهذا الوصف) وهو التسلسل ليس له مَدخَلٌ في قبول الحديث وعدمه، وإنما هو فنّ من فنون الرواية، وضُروب المحافظة عليها والاهتمام بها (وفضيلته: اشتماله على مزيد الضبط) والحرص على أداء الحديث بالحالة التي اتفق بها من النبي(صلی الله علیه و آله و سلم).
(وأفضلهُ ما دَلَّ على اتصال السماع) لأنه أعلى مراتب الرواية على ما سيجيء.
(وقلّما تَسْلَمُ المسلسلاتُ عن ضَعْفٍ في الوَصْف) بالتسلسل، فقد طعن في وَصْفِ كثير منها لا في أصل المتن.
(ومنه) أي من الحديث المُسلسل (ما ينقطع تسلسله في وسط إسناده، كالمُسلسل
ص: 397
بالأولية على الصحيح) عند الناقدين، وإنْ كانَ المشهورُ بينهم خلافَهُ(1).
(ورابع عشرها: المزيد) على غيره من الأحاديث المروية في معناه.
(والزيادة تقع في المتن) بأن يروي فيه كلمةً زائدة تتضمن معنى لا يُستفاد من غيره(2).
(و) في (الإسناد)(3)كأن يرويه بعضُهم بإسنادٍ مشتمل على ثلاثة رجالٍ مُعينين مثلاً، فيرويه المزيدُ بأربعة، يتخلّلُ بين الثلاثة.
(والأوّلُ) وهو المزيد فى المتن (مَقْبول) إذا وقعت الزيادة (من الثقة) لأن ذلك لا يزيد على إيراد (حديثٍ مستقل حيثُ لا يقع المزيد منافياً لما رواه غيره من الثقات، ولو) كانت المنافاة (في العموم والخصوص) بأن يكون المروي بغير زيادة عاماً بدونها، فيصير بها خاصاً، أو بالعكس، فيكون المزيد حينئذ كالشاذ، وقد تقدم حكمه.
مثاله حديث: «وجُعِلَتْ لنا الأرضُ مَسْجِداً وتُرابها طَهُوراً»(4)، فهذه الزياده تفرد بها بعض الرواة(5)، ورواية الأكثر لفظها: «جُعِلَتْ لنا مَسْجِداً وطَهُوراً»(6).
ص: 398
فما رواه الجماعة عام؛ لتناوله لأصناف الأرض منَ الحَجَر، والرمل، والتراب. وما رواه المتفرد بالزيادة مخصوص بالتراب. وذلك نوع من المخالفة يختلفُ به الحكم.
(والثاني) وهو المزيد في الإسناد كما إذا أسنده وأرسلوه، أو وصله وقطعوه، أو رفعه إلى المعصوم (ووقفوه) على مَنْ دونَه، ونحو ذلك (وهو مقبول كالأوّل) غير المنافي لعدم المُنافاة) إِذْ يجوزُ اطّلاعُ المُسْنِدِ والموصل والرافع على مالم يطلع عليه
غيره، أو تحريره لما لم يُحرّروه. وبالجملة، فهو كالزيادة غير المُنافية، فيقبلُ.
(وقيل: الإرسال نوع قدح) في الحديث، بناءً على ردّ المُرْسَل (فيرجح) على الموصول (كما يقدّم الجرحُ على التعديل عند تعارضهما(1).
(وفيه) أي في هذا الدليل (مَنْعُ الملازمة) بين تقديم الجرح على التعديل، وتقديم الإرسال على الوَصْل (معَ وُجود الفارق بينهما (فإنّ الجرح) إنّما (قُدِّمَ) على التعديل بِسَبب زيادةِ العِلم من الجارح على المعدل؛ لأنه بني على الظاهر، واطّلع الجارحُ
على مالم يطلع عليه المُعدِّلُ.
(وهي) أي زيادة العلم التي أوجبتْ تقديم الجارح (هنا) أي في صورة تعارض الإرسال والوَصْل (مع مَنْ وَصَلَ لا مَعَ مَنْ أرسَلَ لأنّ مَنْ وَصَلَ اطّلع على أنَّ الراوي للحديثِ فلان عن فلان... إلى آخره. ومَنْ أرسَلَ لم يطّلع على ذلك كلّه، فَتَركَ بعض السند لجهله به وذلك يقتضي ترجيح مَنْ وَصَلَ على مَنْ أرسل، كما يُقدَّمُ الجارحُ على المُعدّل بِقَلْب الدليل.
(وخامس عشرها : المُخْتَلِفُ) وَصَفَهُ بالاختلاف نظراً إلى صنفه لا إلى شخصه؛ فإنّ الحديث الواحد نفسه ليس بمختلف، إنّما هو مخالِفٌ لغيره مما قد أدّى معناه، كما ينبه
ص: 399
عليه قوله: (وهو أنْ يُوجَدَ حديثانِ متضادان في المعنى ظاهراً).
قيد به؛ لأنّ الاختلاف قد يُمكن معه الجمع بينهما، فيكون الاختلاف ظاهراً خاصةً، وقد لا يُمكن، فيكون ظاهراً وباطناً، وعلى التقديرين فالاختلاف ظاهراً متحقق.
(وحكمه) أي حكم الحديث المختلف: (الجمعُ بينهما حيث يُمكن) الجمع (ولو بوجه بعيدٍ يُوجب تخصيص العام منهما، أو تقييد مطلقه، أو حمله على خلاف ظاهره.
(كحديث: «لا عَدْوَى»(1). وحديث: «لا يورد») بكسر الراء (مُمْرِضٌ) بإسكان الميم الثانية وكسر الراء(على مُصِحٌ)(2)بكسر الصاد. ومفعول «يورد» محذوف، أي لا يورد ابله المراض.
ف_«المُمْرِض صاحبُ الإِبل [المراض] من أمْرَضَ الرجلُ إذا وقع في ماله المرضُ. «والمُصِحُ» صاحبَ الإبل الصحاح.
وظاهر الخبرين الاختلاف؛ من حيث دلالة الأوّل على نفي العدوى، والثاني على إثباتها.
ووجه الجمع (بحمل الأول على) أنّ العدوى المنفية عدوى (الطبع) بمعنى كون المريض يُعْدِي بطبعه، لا بفعل الله تعالى، وهو الذي يعتقده الجاهل ولذا قال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): «فمن أعدى الأوّل»(3).
(والثاني على) الإعلام بأنّ الله تعالى جعل ذلك سبباً لذلك، وحذر من الضرر الذي يغلبُ وجوده عند وجوده مَعَ (أنّ المؤثر هو الله تعالى).
ص: 400
ومثله قوله(صلی الله علیه و آله و سلم): «فِرَّ من المجذوم فرارك من الأسد»(1)ونهيه عن دخول بَلَدٍ يكون فيه الوباء(2)، ونحو ذلك.
(وإلّا) يمكنُ الجمع بينهما، فإنْ عَلِمنا أن أحدهما ناسخ قدمناه، وإلا (رُجّح أحدهما بمرجحه المقرّر في) علم (الأصول) من صفة الراوي والرواية والكثرة، وغيرها.
(وهو أهمّ قُنون علم الحديث) لأنه يضطر إليه جميع طوائف العلماء خصوصاً الفقهاء (ولا يملك القيام به إلّا المحققون من أهل البصائر) الغواصون على المعاني والبيان (المتضلّعون) أي المُكثرون بقوّة (من الفقه والأصول) الفقهية.
(وقد صنف فيه الناسُ كثيراً، وأولهم الشافعي(3)، ثم ابن قتيبة(4)، ومن أصحابنا، الشيخ أبو جعفر الطوسي كتاب الاستبصار فيما اختلف من الأخبار. (وجمعوا) بين الأحاديث (على حسب ما فهموه) منه (وقلما يتفق) فهمان على جمع واحدٍ.
ومن أرادَ الوقوف على جليّة الحال فليطالع المسائل الفقهية الخلافية التي ورد فيها أخبار مختلفة يطلع على ما ذكرناه.
(وسادس عشرها: الناسخ والمنسوخ) فإنّ من الأحاديث ما ينسخُ بعضُها بعضاً، كالقرآن.
(والأول) وهو الناسخ: (ما) أي حديث (دلّ على رفع حكم شرعي سابق).
ص: 401
والحديث المدلول عليه ب_«ما» بمنزلة الجنس يشمل الناسخ وغيره، ومع ذلك خرج به ناسخ القرآن
و «الحكم المرفوع» شامل للوجودي والعدمي.
وخرج ب_«الشرعي» الذي هو صفة الحكم الشرع المبتدأ بالحديث؛ فإنّه يُرفع به الإباحة(1)الأصلية لكن يُسمّى شرعيّاً.
وخرج ب_«السابق» الاستثناء، والصفة، والشرط، والغاية الواقعة في الحديث؛ فإنّها قد ترفع حكماً شرعياً لكن ليس سابقاً.
(والثاني) وهو المنسوخ: (ما رُفع حكمه الشرعي بدليل شرعي متأخر عنه) وقيوده تُعلم بالمقايسة على الأوّل.
وهذا فنَّ صَعْبٌ ،مهم، حتّى أدخلَ بعض أهل الحديث فيه ما ليس منه لخفاء معناه.
(وطريق معرفته النصُّ) من النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)مثل: «كُنْتُ نهيتكم عن زيارة القبور فُزوروها»(2).
(أو نقل الصحابي) مثل: «كانَ آخرُ الأمرين من رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)ترك الوضوء ممّا مست النار»(3).
(أو التاريخ) فإنّ المتأخّر منهما يكون ناسخاً للمتقدّم لما رُوي عن الصحابة: كنا نعمل بالأحدث فالأحدث(4).
ص: 402
(أو الإجماع) كحديث: «قتل شارب الخمر في المرّة الرابعة»(1)نسخه الإجماع على خلافه حيث لا يتخلل الحد.
والإجماع لا ينسخُ بنفسه، وإنما يدلُّ على النسخ.
(وسابع عشرها: الغريب لفظاً) احترز به عن الغريب المطلق، مثناً أو إسناداً، وقد تقدّم. (وهو ما اشتمل متنه على لفظ غامض بعيد عن الفهم؛ لقلة استعماله في الشائع من اللغة.
(وهو فَنَّ مهم) من علوم الحديث (يجب أن يُتَثَبَّتَ فيه أشدَّ تثبت) لانتشار اللغة وكثرة معاني الألفاظ الغريبة، فربما ظهر معنى مناسب للمراد، والمقصود غيره مما لم يَصِل إليه.
(وقد صنّف فيه جماعة من العلماء) قيل: أوّل من صَنَّفَ فيه النَضْر شميل(2).
بن وقيل : أبو عُبَيْدَة مَعْمَر بن المثنى(3). وبَعدَهُما أبو عبيد القاسمُ بن سَلام ثمّ ابنُ قُتيبة ثمّ الخطابي. فهذه أُمهاته. ثم تبعهم غيرهم بزوائد وفوائد،كابن الأثير؛ فإنه بلغ بنهايته النهاية، ثمّ الزمخشري؛ ففاق في الفائق كلَّ غاية(4)، والهروي؛ فزاد في غريبيه غريب القرآن مع الحديث وغير من ذُكِرَ من العُلماء (شكر الله تعالى سعيهم).
(وثامن عشرها: المقبول، وهو ما) أي الحديث الذي (تلقوه بالقبول والعمل بالمضمون) «اللام» عوض عن المضاف إليه ؛ أي مضمونه (من غير التفات إلى صحته
ص: 403
وعدمها) وبهذا الاعتبار دَخلَ هذا النوع في القسم المشترك بين الصحيح وغيره.
ويمكن جعله من أنواع الضعيف؛ لأنّ الصحيحَ مقبول مطلقاً إلا لعارض، بخلاف الضعيف؛ فإنّ منه المقبول وغيره.
وممّا يرجُحُ دخوله في القسم الأوّل، أنّه يشملُ الحَسَن والموثق، عندَ مَنْ لا يعملُ بهما مطلقاً؛ فقد يعمل بالمقبول منهما - حيث يعمل بالمقبول من الضعيف - بطريق أولى، فيكون حينئذٍ من القسم العام، وإن لم يشمل الصحيح؛ إذ ليس ثُمَّ قسم ثالث.
والمقبول (كحديث عُمَر بن حنظلة في حال المُتخاصمين) من أصحابنا، وأمرهما بالرجوع إلى رجل منهم قد روى حديثهم، وعرف أحكامهم...(1) إلى آخره.
وإنّما وَسَمُوه بالمقبول؛ لأنّ في طريقه محمّد بن عيسى، وداود بن الحصين، وهما ضعيفان(2). وعُمر بن حنظلة لم ينصَّ الأصحابُ فيه بجرح ولا تعديل، لكن أمره عندي سَهْل ؛ لأنّي حَقَّقَتُ توثيقه من محل آخر، وإن كانوا قد أهملوه(3).
ومع ما ترى في هذا الإسناد قد قَبلَ الأصحابُ متنه، وعملوا بمضمونه، بل جعلوه
ص: 404
عُمدة التفقه، واستنبطوا منه شرائطه كلها، وسمّوه مقبولاً، ومثله في تضاعيف أحاديث الفقه كثير .
[و] (القسم الثاني(1): ما يختص] من الأوصاف (ب) الحديث (الضعيف، وهو أمور:
الأوّل: الموقوفُ، وهو) قسمان: مُطلق، ومقيد.
فإنْ أُخِذَ مُطلقاً فهو: (ما رُوِيَ عن مُصاحب المعصوم) من نبي أو إمام (من قول أو
فعل) أو غيرهما (متصلاً كان) مَعَ ذلك سنده (أو) منقطعاً .
وقد يُطلق في غير المُصاحب) للمعصوم (مقيداً) وهذا هو القسم الثاني منه (مثلُ: «وَقَفَه فلانٌ على فلان إذا كان الموقوفُ عليه غيرَ مُصاحب.
(وقد يُطلق على الموقوف «الأثَرُ» إنْ كانَ الموقوف عليه صحابياً للنبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، و) يُطلق (على المرفوع «الخبر») والمفصِّلُ كذلك بعض الفقهاء، وأمّا أهل الحديث فيُطلِقونَ (الأثر» عليهما(2)، ويجعلون الأثر أعم منه مُطلقاً، وقد تقدّم.
(ومنه) أي من الموقوف: (تفسير الصحابي) لآيات القرآن، عملاً بالأصل، ولجواز التفسير للعالم بطريقه من نفسه، فلايكون ذلك قادحاً.
وقيل: هو مرفوع عملاً بالظاهر؛ من كونه شَهِدَ الوحي والتنزيل(3).
وفيه: أنه أعم، فلا يدل على الخاص
ص: 405
وفصل ثالث: إذ قيّد قول الرافع مُطلقاً بتفسير يتعلّق بسبب نزول آيةٍ يُخبرُ به الصحابي، أو نحو ذلك، فيكون مرفوعاً، وإلا فلا. كقول جابر: كانت اليهود تقول: مَنْ أتى امرأته من دبرها في قبلها جاء الولد أحول، فأنزل الله تعالى: ﴿نِسَاؤُكُم حَرْتُ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾(1)فيكون مثل هذا مرفوعاً(2).
وما لا يشتمل على إضافة شيء إلى رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)فمعدود في الموقوفات.
(وقولُه) أي قول الصحابي : كُنّنا نفعل كذا أو نقول كذا، ونحوه (إن أطلقه) فلم يقيده بزمان (أو) قيّده ولكن (لم يُضفه إلى زمنه(صلی الله علیه و آله و سلم)) فموقوف ؛ لأن ذلك لا يستلزم اطلاع النبي عليه ولا أمره به، بل هو أعم، فلا يكون مرفوعاً، على الأصحّ.
وفيه قول نادر أنّه مرفوع(3).
وإلّا يكن كذلك، بل أضافه إلى زمنه(صلی الله علیه و آله و سلم)فإن بينَ اطّلاعه(صلی الله علیه و آله و سلم)عليه ولم يُنكره، فهو مرفوع إجماعاً.
(وإلا فوجهان) للمحدثين والأصوليين (من حيث إنّ الظاهر كونه(صلی الله علیه و آله و سلم) قد اطلع عليه. وقرّره) فيكون مرفوعاً، بل ظاهره كون جميع الصحابة كانوا يفعلون؛ لأنّ الصحابي إنّما ذكر هذا اللفظ في معرض الاحتجاج، وإنما يصح الاحتجاج إذا كانَ فِعْلَ جميعهم؛ لأنّ فعل البعض لا يكونُ حُجّةً. وهذا هو أصح القولين للأصوليين وغيرهم.
قيل عليه: لو كان فعل جميع الصحابة لما ساغ الخلافُ بالاجتهاد؛ لامتناع مُخالفة
ص: 406
الإجماع، لكنّه ،ساغ، فلا يكون فعل جميع الصحابة.
وأجيب: بأن طريق ثبوت الإجماع ظنّي؛ لأنه منقول بطريق الأحاد، فيجوز مخالفته .
وهذا مبنيّ على جواز الإجماع في زمنه(صلی الله علیه و آله و سلم)، وفيه خلاف، وإن كان الحق جوازه.
(وكيف كان) الموقوفُ (فليس بحجةٍ وإن صح سنده، على الأصح)؛ لأنّ مرجعه إلى قول مَنْ وُقِفَ عليه، وقوله ليس بحجّةٍ.
وقيل: هو حُجّةٌ مطلقاً(1). وضعفه ظاهر.
(الثاني: المقطوع، وهو ما جاءَ عن التابعين، ومَنْ في حكمهم) وهو تابعُ مُصاحب الإمام أيضاً؛ فإنّه في معنى التابعي لصاحب النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)عندنا (من أقوالهم) أي أقوال التابعين وأفعالهم موقوفاً عليهم، ويقال له: «المنقطع» أيضاً).
وهو مغاير للموقوف بالمعنى الأوّل؛ لأنّ ذلك يُوقف على مُصاحب المعصوم، وهذا على التابعي.
وأخص من معنى الموقوف المقيد؛ لأنه حينئذ يشمل غير التابعى، والمقطوع يختص به.
(وقد يُطلق) المقطوعُ (على الموقوف بالمعنى السابق الأعم) فيكون مرادفاً له، وكثيراً ما يُطلقه الفقهاء على ذلك.
وكيف كان معناه فليس بحجّةٍ) ؛ إذ لاحُجَّةَ في قول مَنْ وُقِفَ عليه من حيث هو قوله(2)، كما لا يخفى.
ص: 407
(الثالثُ : المُرْسَلُ ، وهو ما رواه عن المعصوم من لم يُدركه).
والمراد بالإدراك هنا التلاقي في ذلك الحديث المحدّث عنه، بأن رواه عنه بواسطة، وإن أدركه، بمعنى اجتماعه معه، ونحوه.
وبهذا المعنى يتحقق إرسال الصحابي عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)بأن يروي الحديث عنه(صلی الله علیه و آله و سلم)بواسطة صحابي آخر(1)سواء كان الراوي تابعياً أم غيره صغيراً أم كبيراً، وسواء كان الساقط واحداً، أم أكثر، وسواء رواه (بغير واسطة) بأن قال التابعي: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)مثلاً (أو بواسطة (نَسِيَها بأن صرح بذلك (أو تَرَكَها) مع علمه بها (أو أبْهَمَها) كقوله: «عن رجل» أو «عن بعض أصحابنا» ونحو ذلك.
هذا هو المعنى العام للمرسل المتعارف عند أصحابنا.
(وقد يُخَص المرسَل بإسناد التابعي إلى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)من غير ذكر الواسطة) كقول سعيد بن المسيب: «قال رسولُ الله(صلی الله علیه و آله و سلم)كذا»، وهذا هو المعنى الأشهر له عند الجمهور.
وقيده بعضُهم بما إذا كان التابعي المُرْسِلُ كبيراً، كابن المسيب(2)؛ وإلا فهو مُنقطع. واختار جماعة منهم معناه العام الذي ذكرناه(3).
(ويُطلق عليه) أي على المرسل (المنقطع، والمقطوع) أيضاً (بإسقاط شخص واحد) من إسناده.
(والمغضل) بفتح الضاد المعجمة (بإسقاط أكثر) من واحد قيل: إنّه مأخوذ من
ص: 408
قولهم: «أمر عضيل» أي مستغلق شديد(1).
ومثاله ما يرويه تابعي التابعي أو مَنْ دونَه قائلاً فيه: «قال رسول الل(صلی الله علیه و آله و سلم)ه».
(و) المرسَلُ (ليس بحجة مطلقاً) : سواء أرسله الصحابي أم غيره. وسواء أُسقِطَ منه واحد أم أكثر. وسواء كانَ المُرْسِلُ جليلاً أم لا. (في الأصح) من الأقوال للأُصوليين والمحدثين. وذلك؛ للجهل بحال المحذوف، فيُحتمل كونه ضعيفاً. ويزداد الاحتمال
بزيادة الساقط، فيقوى احتمال ،الضعف ومجرّد روايته عنه ليس تعديلاً بل أعمّ.
(إلّا أنْ يُعلم تَحرُّز مُرْسله عن الرواية عن غير الثقة) كابن أبي عُمير من أصحابنا على ماذكره كثير منهم، وسعيد بن المسيب عند الشافعي(2)، فيُقبلُ مرسَلُه، ويصيرُ في قوة المُسْنَد.
(وفي تحقق هذا المعنى) وهو العلم بكون المرسل لا يروي إلا عن الثقة (نظر) ؛ لأنّ مستند العلم إن كان هو الاستقراء لمراسيله بحيث يجدون المحذوف ثقةً، فهذا في معنى الإسناد، ولا بحث فيه.
وإن كان لِحُسن الظنّ به في أنه لا يُرسل إلا عن ثقة، فهو غير كافٍ شرعاً في الاعتماد عليه، ومع ذلك غير مختص بمن يخونه به.
وإن كان استناده إلى إخباره بأنه لا يُرسِلُ إلّا عن الثقة، فمرجعه إلى شهادته بعدالة الراوي المجهول، وسيأتي ما فيه. وعلى تقدير قبوله فالاعتماد على التعديل.
وظاهر كلام الأصحاب في قبول مراسيل ابن أبي عُمير هو المعنى الأوّل، ودون
ص: 409
إثباته خَرط القتاد. وقد نازعهم صاحب البشرى في ذلك، ومَنَعَ تلك الدعوى(1).
وأمّا الشافعية فاعتذروا عن مراسيل ابن المسيب بأنّهم وجدوها مسانيد من وُجوه أُخر.
وأجابوا عمّا أُورد عليهم - من أن الاعتماد حينئذٍ يقع على المُسْنَد دونَ المرسل فيقعُ لغواً - بأنه بالمسند تبين صحة الإسناد الذي فيه الإرسال حتى يُحكم له مع إرساله بأنّه إسناد صحيح تقوم به الحجّةُ(2).
وتظهر الفائدة في صيرورتهما دليلين يرجح بهما عند مُعارضة دليل واحدٍ.
ونته ب_«الأصح» على خلاف جماعةٍ من الجمهور(3)، حيث قبلوا المرسَلَ مطلقاً إذا كان مُرْسِلُه ثقةً. ونقله الرازي في المحصول عن الأكثرين محتجين بأنّ الفرعَ لا يجوزُ له أن يُخبر عن المعصوم الله إلا وله صحة الإخبار عنه، وإنما يكون كذلك إذا ظنَّ العدالة.
وبأنّ علّة التثبت هو الفسقُ، وهي منتفية، فيجب القبول.
وبأنّ المسند جازان يكون مُرسَلاً، فإنّه يُحتمل أن يكون بين فلان وفلان رواة لم تذكر ، فلا يُقبل إلا أن يستفصل.
وأجيب بأنّه ليس حَمْلُ إخباره عنه ل له على أنه قال أولى من حمله على أنه سمع أنه قال وإذا احتمل الأمران لم يظهر حمله على أحدهما.
وانتفاء علّة التثبت موقوف على ثبوت العدالة.
وقول الراوي: «عن فلان» يقتضي بظاهره الرواية عنه بغير واسطة، وقد نُوِزعَ في
ص: 410
ذلك وادعي أنّ مثله غير متصل، لكن الظاهر خلافه(1).
(و) طريق ما (يُغلم) به (الإرسال) في الحديث أمران: جلي، وخفي: فالأول (بعدم التلاقي) بين الراوي والمروي عنه إما لكونه لم يُدرك عصره، أو أدركه لكن لم يجتمعا، وليست له منه إجازة ولا وجادة (ومن ثَمَّ احتيج إلى التاريخ) لتضمّنه تحرير مواليد الرواة، ووفياتهم، وأوقات طلبهم، وارتحالهم، وقد افتضحَ أقوام ادعوا الرواية عن شيوخ ظَهَرَ بالتاريخ كِذَّبُ دعواهم(2).
(و) الثاني: أن يُعبّر في الرواية عن المروي عنه (بصيغة تحتمل اللقاء وعدمه مع عدمه) أي عدم اللقاء (كعن) فلان (وقال) فلان: كذا؛ فإنهما - وإن استعملا في حالة يكون قد حدثه - يحتملان كونه حدث غيره، فإذا ظَهَرَ بالتنقيب كونه غير راءٍ عنه، تبين الإرسال. (وهو ضرب من التدليس) وسيأتي.
(الرابع: المعلَّلُ) ومعرفته من أجل علوم الحديث وأدقها.
(وهو مافيه أسبابٌ خفيّةٌ غامضة قادحة) فيه في نفس الأمر (وظاهره السلامة)منها بل الصحة.
و (إنّما يتمكّن من معرفة ذلك أهل الخبرة) بطرق الحديث، ومتونه، ومراتب الرواة (الضابطة) لذلك (و) أهل (الفهم الثاقب) في ذلك.
(ويُستعان على إدراكها) أي العلل المذكورة (بتفرّد الراوي) بذلك الطريق، أو المتن الذي تظهر عليه قرائن العلة.
ص: 411
(وبمخالفة غيره له) في ذلك (مع) انضمام (قرائن تنبّه العارف على) تلك العلة من (إرسال في الموصول، أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث، أو وهم واهم، أو غير ذلك من الأسباب المُعلّة للحديث (بحيث يغلب على الظنّ ذلك) ولا يبلغ اليقين، وإلا لحقه حكم ما تيقن من إرسال أو غيره (فيحكم به أو يتردد) في ثبوت تلك العلة من غير ترجيح يُوجب الظَّنَّ (فيتوقفُ).
وهذه العلة عند الجمهور مانعة من صحة الحديث على تقدير كون ظاهره الصحة لولا ذلك. ومن ثُمَّ شرطوا في تعريف الصحيح سلامته من العلة(1).
وأما أصحابنا فلم يشترطوا السلامة منها، وحينئذٍ فقد ينقسم الصحيحُ إلى معلل وغيره(2)، وإنْ رُدَّ المعلّل كما يُردّ الصحيحُ الشاذ(3).
وبعضُهم وافقنا على هذا أيضاً(4)والاختلاف في مجرد الاصطلاح.
واعلم أنّ هذه العلّة توجد في كتاب التهذيب متناً وإسناداً بكثرة(5)، والتعرض إلى
ص: 412
تمثيلها يخرج إلى التطويل المنافي لغرض الرسالة.
(الخامس: المُدَلَّس) : بفتح اللام، واشتقاقه من «الدلس» بالتحريك، وهو اختلاط الظلام، سُمّي بذلك؛ لاشتراكهما في الخفاء، حيث إنّ الراوي لم يصرح بمن حدثه، وأَوْهَمَ سماعه للحديث ممن لم يُحدِّثه، كما يَظْهَرُ من قوله: (وهو ما أُخفي عيبه، إمّا في الإسناد وهو أن يروي عمّن لقيه، أو عاصره ما لم يَسْمعه منه على وجه يُوهم أنّه سمعه منه.
ومن حقه) أي حق المدلس وشأنه بحيث يصيرُ مُدلّاً لا كذاباً (أنْ لا يقول: «حدثنا» ولا «أخبرنا». وما أشبههما) لأنّه كِذْبٌ (بل يقول: «قال فلان» أو «عن
ص: 413
فلان» ونحوه) ك_: «حدّث فلان وأخبر» حتَّى يُوهِم أنّه أخبره، والعبارة أعم من ذلك، فلا يكون كاذباً.
(وربما لم يُسقط المدلّس شيخه) الذي أخبره، ولا يُوقع التدليس في ابتداء السند (لكن يسقط مِنْ بَعْدِه رجلاً ضعيفاً، أو صغير السن ليُحسِّنَ الحديث بذلك).
وهذان النوعان تدليس في الإسناد.
(وأما) التدليس (في الشيوخ) لافي نفس الإسناد فذلك (بأن يروي عن شيخ حديثاً سمعه) منه، ولكن لا يُحبُّ معرفة ذلك الشيخ لغَرَضِ من الأغراض (فيُسمّيه أو يُكنّيه) باسم أو كنيةٍ غير معروف بهما (أو) يَنْسبه إلى بلدٍ، أو قبيلة غير معروف بهما(1)(أو يَصِفُه بما لا يُعرفُ به كي لا يُعرف.
وأمره) أي أمر القسم الثاني من التدليس (أخَفٌ) ضرراً من الأوّل؛ لأنّ ذلك الشيخ مَعَ الإغراب به إما أن يُعرف فيترتب عليه ما يلزمه من ثقةٍ أو ضعف، أو لا يُعرف فيصيرُ الحديث مجهول السند؛ فيرد.
(لكن فيه تضييع للمروي عنه وتَوْعيرٌ لطريق معرفة حاله) فلا ينبغي للمحدّث فعلُ ذلك:
ونُقِلَ أنّ الحامل لبعضهم على ذلك كانَ مُنافرةً بينهما اقتضته، ولم يسع له ترك حديثه صوناً للدين(2)، وهو عُذْرٌ غيرُ واضح.
(والقسم الأول) من التدليس (مذموم جداً) لما فيه من إيهام اتصال السند مع كونه
ص: 414
مقطوعاً، فيترتب عليه أحكام غير صحيحة، حتى قال بعضهم: «التدليس أخو الكذب»(1).
(وفي جرح فاعله بذلك قولان) بمعنى أنه إذا عُرف بالتدليس، ثمّ روى حديثاً غير ما دلّسَ به، ففي قبوله خلافٌ:
فقيل: لا يُقبل مطلقاً(2)لما ذكرناه من الضرر المترتب على التدليس الذي وقع منه، حيثُ أوجبَ وَصْل المقطوع، واتصال المُرْسَل، ويترتب عليه أحكام شرعية كانت منتفية لولاء، وذلك جَرْحٌ واضحٌ.
وقيل: لا يُجرح بذلك، بل ما عُلِمَ فيه التدليسُ يُرَدُّ، وما لا فلا؛ لأنّ المفروض كونه ثقةً بدونه، والتدليس ليس كذباً بل تنويهاً(3).
(والأجودُ) التفصيل، وهو (القبول) لحديثه (إن صرّح بما يقتضي الاتصال، كحدثنا وأخبرنا دون المحتمل) للأمرين، ك_«عن» و «قال» (بل حكمه حكم المرسل)(4).
ومرجع هذا التفصيل إلى أنّ التدليس غير قادح في العدالة، ولكن تحصلُ الرِيبةُ في إسناده لأجل الوصفِ، فلا يُحكم باتصال سَنَدِه إلا مع إتيانه بلفظ لا يحتمل التدليس، بخلاف غيره فإنّه يُحكم على سنده بالاتصال عملاً بالظاهر حيث لا معارض له.
واعلم أنّ عدم اللقاء الموجب للتدليس يُعلم بإخباره عن نفسه بذلك، وبجزم عالمٍ مطلع عليه(5). ولا يكفي أن يقع في بعض الطرق زيادة راو بينهما؛ لاحتمال
ص: 415
أن يكون من المزيد؛ ولا يُحكم في هذه الصورة بحكم كلّي؛ لتعارض الاتصال والانقطاع.
(السادسُ : المُضْطَرِبُ) من الحديث (وهو ما اختلف راويه) المراد به الجنس فيشمل الراوي الواحد والأزيدَ (فيه) أي في الحديث: متناً أو إسناداً، فيروي مرّةً على وجه، وأُخرى على وجه آخر مخالف له.
(وإنّما يتحقق الوصف) بالاضطراب (مع تساوي الروايتين) المختلفتين في الصحة وغيرها بحيث لم تترجح إحداهما على الأخرى ببعض المرجّحات(1).
(أما لو ترجحت إحداهما على الأخرى بوجه من وجوهه، كأن يكون راويها أحْفَظَ) أو أضْبَطَ (أو أكثر صُحبة للمروى عنه ونحو ذلك من وجوه الترجيح فالحكم للراجح من الأمرين أو الأمور (فلا يكون مضطرباً)(2).
(ويقعُ) الاضطرابُ (في السند) بأن يرويه الراوي تارةً: عن أبيه عن جده مثلاً،
ص: 416
وتارةً: عن جده بلا واسطة، وثالثة: عن ثالث غيرهما(1).كما اتفق ذلك في رواية أمر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)بالخط للمُصلّى سترةً، حيث لا يجد العصا(2)و(3).
ص: 417
(و) يقعُ الاضطرابُ في (المتن) دون السند كخبر اعتبار الدم عند اشتباهه بالقرحة بخروجه من الجانب الأيمن فيكون حيضاً، أو بالعكس(1).
فرواه في الكافي بالأول(2)،وكذا في التهذيب في كثير من النسخ(3). وفي بعضها بالثاني(4)و(5)واختلف الفتوى بسبب ذلك، حتّى من الفقيه الواحد(6). مع أنّ الاضطراب(7)يمنعُ من العمل بمضمون الحديث مطلقاً. وربما قيل بترجيح الثاني ودفع الاضطراب من حيثُ عَمل الشيخ في النهاية بمضمونه، فيرجّح على الرواية الأخرى بذلك، وبأنّ الشيخ أضبط من الكليني وأعرفُ بوجوه الحديث(8).
ص: 418
وفيهما معاً نظر بيّن(1)، يعرفُه من يَقِفُ على أحوال الشيخ وطرق فتواه.
وأما تسمية صاحب البشرى(2)مثل ذلك تدليساً، فهو سَهْو، أو اصطلاح غير ما يعرفه المحدّثون.
ويكون الاضطراب (من راو) واحدٍ كهذه الرواية، فإنها مرفوعة إلى أبان في الجهتين.
(و) من (رواةٍ) أزيد من الواحد، فيرويه كلُّ واحدٍ بوجهِ يُخالف ما رواه الآخر.
(السابع: المَقْلُوبُ، وهو حديث ورد بطريق، فيُروى بغيره) إما بمجموع الطريق، أو ببعض رجاله، بأن يُقلبَ بعضُ رجاله خاصةً، بحيث يكونُ (أجودَ) منهُ (ليُرغَبَ فيه).
وقد يقعُ سهواً، كحديثٍ يرويه محمّد بن أحمد بن عيسى، عن أحمد أحمد بن محمّد عيسى، وكثيراً ما يتفق ذلك في إسناد التهذيب. ومثله: محمد بن أحمد بن يحيى، عن أبيه أحمد بن محمّد بن يحيى، عن محمد بن يحيى، فينقلب الاسم.
(ونحوه) من الأغراض الموجبة للقلب.
(وقد يقعُ ذلك) القلبُ (من العلماء) بعضهم لبعض (للامتحان) أي امتحان حفظهم
ص: 419
وضبطهم، كما اتفق ذلك لبعض العلماء ببغداد(1).
وقد يقعُ القلب في المتن كحديث السبعة الذين يظلهم الله في عرشه وفيه: «ورجلٌ تصدّق بصدقةٍ فأخفاها حتّى لا تعلم يمينه ما تُنفق شماله»(2). فهذا ممّا انقلب على بعض الرواة، وإنّما هو: «حتى لا تعلم شماله ما تُنفق يمينه»(3). كما ورد في الأصول المعتبرة(4).
(الثامن: الموضُوعُ، وهو المكذوب المختلق المصنوع) بمعنى أن واضعه اختلقه وصنَعه، لا مُطلق حديث الكَذُوب، فإنّ الكذوب قد يصدق.
(وهو) أي الموضوع (شرُّ أقسام الضعيف، ولا تحلّ روايته) للعالم به (إلّا مُبيّناً لحاله) كونه موضوعاً، بخلاف غيره من الضعيف المحتمل للصدق، حيثُ جوّزوا روايته في الترغيب والترهيب كما سيأتي.
(ويُعرفُ) الموضوع (بإقرار واضعه) بوضعه، فيُحكم عليه حينئذٍ بما يُحكم على الموضوع في نفس الأمر لا بمعنى القطع بكونه موضوعاً؛ لجواز كذبه في إقراره، وإنّما يُقطع بحُكمه ؛ لأنّ الحكم يتبعُ الظنّ الغالب وهو هنا كذلك، ولولاه لما ساغ قتل المقرّ بالقتل، ولا رجم المعترف بالزنى لاحتمال أن يكونا كاذِبَيْنِ فيما اعترفا به.
ص: 420
(و) قد يُعرفُ أيضاً ب_(ركاكة ألفاظه) ونحوها.
ولأهل العلم بالحديث مَلَكَةٌ قوية يميّزونَ بها ذلك، وإنّما يقوم به منهم مَنْ يكونُ اطلاعه تامّاً، وذهنه ثاقباً، وفهمه قويّاً، ومعرفته بالقرائن الدالة على ذلك متمكنة.
(وبالوقوف على غَلَطه) ووضعه من غير تعمّد، كما وَقَعَ لثابت بن موسى الزاهد في حديث: «من كثرت صلاته بالليل حُسن وجهه بالنهار»(1)، فقيل: كان شيخ يحدث في جماعةٍ فدخل رجلٌ حسن الوجه، فقال الشيخ في اثناء حديثه: «من كُثرت صلاته بالليل...» إلى آخره فوقع لثبات بن موسى أنّه من الحديث فرواه(2)و(3).
منهم: مَنْ قَصَدَ التقرب به إلى الملوك وأبناء الدنيا، مثل: غِياث بن إبراهيم(4)، دَخَلَ على
ص: 421
المهدي بن المنصور، وكان يُعجِبهُ الحمام الطيّارة الواردة من الأماكن البعيدة، فروى حديثاً عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)قال: «لا سَبْقَ إلا في خُفٌ، أو حافِرٍ، أو نَصْل، أو جناح». فامر له بعشرة آلاف درهم.
فلمّا خَرَجَ قال المهدي: أشهدُ أنّ قفاهُ قفا كذاب على رسول الله ما قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «جناح» ولكن هذا أراد أن يتقرب إلينا. وأمر بذبحها وقال: «أنا حملته على ذلك»(1).
ومنهم قوم من السُوّال يضعون على رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)أحاديث يرتزقون بها، كما اتفق لأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين في مسجد الرصافة(2).
و(أعظمهم ضرراً مَنْ انتسب منهم إلى الزهد) والصلاح بغير علم (فاحتسب بوضعه) أي زَعَمَ أنّه وضعه حِسْبَةً لله تعالى وتقرباً إليه ليجذب بها قلوب الناس إلى الله تعالى بالترغيب والترهيب، فقبلَ الناسُ ،موضوعاتهم، ثقةً منهم بهم، ورُكوناً إليهم، لظاهر حالهم بالصلاح والزهد.
ويظهرُ لك ذلك من أحوال الأخبار التي وضعها هؤلاء في الوعظ والزهد وضمّنوها أخباراً عنهم، ونسبوا إليهم أفعالاً وأحوالاً خارقةً للعادة، وكرامات لم يتفق مثلها لأُولى العزم من الرسل؛ بحيث يقطع العقل بكونها موضوعةً، وإن كانت كرامات الأولياء ممكنةً في نفسها.
ومن ذلك ما رُوي عن أبي عصمة نُوح بن أبي مريم المَرْوَزِي أنّه قيل له: مِنْ أينَ لك عن عكرمة، عن عن ابن عبّاس في فضائل القرآن سورة سورة، وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟ فقال: إني رأيتُ الناسَ قد أعرضوا عن القرآن، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة،
ص: 422
ومغازي محمّد بن إسحاق، فوضعتُ هذا الحديث حسبةً(1).
وكان يقال لأبي عصمة: هذا الجامع، فقال أبو حاتم بن حبان : جمع كلّ شيء إلّا الصدق(2).
وروى ابن حبّان عن ابن مهدي قال قلت لميسرة بن عبد ربه: مِنْ أين جئتَ بهذه الأحاديث: «مَنْ قرأ كذا فله كذا»؟ فقال: وضعتها أُرَغَبُ الناس فيها(3)و(4).
وهكذا قيل في حديث أُبي الطويل في فضائل سور القرآن، سورة سورة(5)، فوي عن المؤمل بن إسماعيل قال: حدّثني شيخ به فقلتُ للشيخ: مَنْ حدثك؟ قال: حدثني رجل بالمدائن، وهو حي. فصرتُ إليه فقلتُ: مَنْ حدّثك ؟ فقال: حدثني شيخ بواسط، وهو حي فصرتُ إليه فقال: حدّثني شيخ بالبصرة. فصرتُ إليه فقال: حدّثني شيخ بعبادان فصرتُ إليه فأخذ بيدي، فأدخلني بيتاً، فإذا فيه قوم من المتصوفة، ومعهم شيخ فقال: هذا الشيخ حدثني.
فقلتُ: يا شيخ، مَنْ حدثك ؟ فقال : لم يحدّثني أحد، ولكنا رأينا الناس قد رَغِبوا عن
ص: 423
القرآن، فوضعنا لهم هذا الحديث ليصرفوا قلوبهم إلى القرآن!(1)
وكلّ مَنْ أودع هذه الأحاديث تفسيره ، كالواحدي والثعلبي والزمخشري فقد أخطأ في ذلك، ولعلّهم لم يطلعوا على وضعه مع أنّ جماعةً من العلماء قد نبهوا عليه. وخَطْبُ مَنْ ذكره مُسْنَداً كالواحدي أسْهَلُ.
(ووضعت الزنادقة) كعبد الكريم بن أبي العوجاء الذي أمر بضرب عنقه محمّد بن سليمان بن علي العباسي.
وبيان، الذي قتله خالد القشري وأحرقه بالنار(2).
(والغُلاة) من فرق الشيعة، كأبي الخطاب، ويونس بن ظبيان، ويزيد الصائغ، وأضرابهم.
(جُملةً) من الحديث ليُفسدوا به الإسلام وينصُروا به مذهبهم.
روى العقيلي عن حمّاد بن زيد :قال وضعت الزنادقة على رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)أربعة عشر ألف حديث(3).
وروي عن عبد الله بن زيد المقري:
أنّ رجلاً من الخوارج رَجَعَ عن بدعته فجعل يقولُ: انظروا هذا الحديث عمّن تأخذونه، فإنّا كُنا إذا رأينا رأياً جعلنا له حديثاً(4).
(ثمّ نَهَضَ جهابِدَةُ النقاد) جمع جَهْبَذ وهو الناقد البصير (بکشفِ عوارها) بفتح العين وضمّها، والفتح أشهر، وهو العيب (ومحو عارها) فلله الحمد، حتى قال بعض العلماء: ما ستر الله أحداً يكذبُ في الحديث(5).
ص: 424
(وقد ذهبت الكِرَاميّةُ) - بكسر الكاف وتخفيف الراء، أو بفتح الكاف وتشديد الراء، أو بفتح الكاف وتخفيف الراء، على اختلاف نقل الضابطين لذلك - وهم: الطائفة المنتسبون بمذهبهم إلى محمّد بن كرام (وبعضُ المبتدعة) من المتصوّفة (إلى جواز وضع الحديث للترغيب والترهيب) ترغيباً للناس في الطاعة، وزَجْراً لهم عن المعصية.
واستدلوا بما رُوي في بعض طرق الحديث: «مَنْ كَذِبَ عليَّ متعمداً ليضل بهِ الناسَ، فليتبوأ مقعده من النار وهذه الزيادة قد أبطلَها نَقَلةُ الحديث(1).
وحمل بعضُهم حديث مَنْ كَذِبَ عليّ على مَنْ قال: إنه ساحرٌ أو مجنون(2).
حتى قال بعض المخذولين: إنّما قال: «مَنْ كَذِبَ عليَّ» ونحن نكذِبُ له ونقوّي شَرْعَه!(3)
نسأل الله السلامةَ من الخذلان.
وحكى القرطبي في المُفهم عن بعض أهل الرأي أنّ ما وافق القياس الجلي جاز أن يُعزى إلى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)(4).
ثمّ المرويّ: تارةً يخترعُه الواضع. وتارةً يأخذ كلام غيره، كبعض السلف الصالح، أو قدماء الحكماء، أو الإسرائيليات أو يأخذ حديثاً ضعيف الإسناد، فيركب له إسناداً صحيحاً ليُروّج(5).
ص: 425
وقد صنف جماعةٌ من العلماء كتباً في بيان الموضوعات.
(و للصغاني) الفاضل الحسن بن محمد في ذلك (كتاب الدر الملتقط في تبيين الغلط. جيّد) في هذا الباب.
(ولغيره) كأبي الفرج ابن الجوزي (دونه) في الجودة؛ لأن كتاب ابن الجوزي ذكر فيه كثيراً من الأحاديث التي ادعى وضعها لا دليل على كونها موضوعةً وإلحاقها بالضعيف أولى، وبعضها قد يلحق بالصحيح والحسن عند أهل النقد، بخلاف كتاب
الصغاني، فإنّه تامّ في هذا المعنى، مشتمل على إنصاف كثير.
لهذا القسم من الضعيف لا لفرد الموضوع، تشتمل على مباحث كثيرة من أحكام الضعيف إذا وجدت حديثاً بإسناد ضعيف فلك أن تقول: «هذا الحديث ضعيف» بقول مطلقٍ وتعني به ضَعيف الإسناد (أو تصرّح بأنّه ضعيف الإسناد، لا) أن تعني بالإطلاق، أو تصرّح بأنه ضعيف (المتن، فقد يُروى بصحيح) يثبت بمثله الحديث.
(وإنّما يُضعف) أي يُطلق عليه الضعيفُ، مطلقاً (بحكم) إمام من أئمة الحديث (مطلع على الأخبار) وطُرقها (مُضطلع بها، أنّه) أي ذلك الحديث الموجود بطريق ضعيف (لم يُرو بإسناد يثبت) به مصرحاً بهذا المعنى.
ص: 426
فإنْ أطلق ذلك المطّلع ضعفه، ولم يُفسّره، ففي جوازه لغيره كذلك وجهان مرتبانِ على أنّ الجرح هَلْ يثبت مجملاً ؟ أم يفتقر إلى التفسير؟ وسيأتي إن شاءالله تعالى.
وقد تقدّم أنّه لا تجوزُ رواية الموضوع بغير بَيان حاله مُطلقاً.
وأما غيره من أفراد الضعيف فمنعوا روايته أيضاً في الأحكام والعقائد، لما يترتب عليه من الضرر في الأحكام الدينية فروعاً وأُصولاً.
(وتساهلوا في روايته بلا بيان في غير الصفات) الإلهية (والأحكام) الشرعية، من الترغيب والترهيب والقصص وفضائل الأعمال ونحوها على المشهور بين العلماء.
ويمكن أن يُستدلّ له بحديث: «مَنْ بَلَغَهُ شيءٌ من أعمال الخير فعمل به أعطاه الله تعالى ذلك، وإن لم يكن الأمر على ما بَلَغَهُ»(1)ونحوه من عباراته(2).
ومنهم من منعَ العمل به مطلقاً.
(ومُريد رواية حديث ضعيف أو مشكوك في صحته بغير إسناد يقولُ: «رُوِيَ» أو «بَلَغنا» أو «وَرَدَ» أو «جاءَ» (ونحوه) من صيغ التمريض، و(لا) يذكره بصيغة الجزم ك_(قال) رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)و «فَعَلَ» (ونحوها من الألفاظ الجازمة) إذليس ثُمَّ ما يوجب الجزم.
ولو أتى بالإسناد مع المتن لم يجب عليه بيان الحال؛ لأنه قد أتى به عند أهل الاعتبار، والجاهلُ بالحال غيرُ معذور في تقليد ظاهره، فالتقصيرُ منه، ولو بَيَّنَ الحال أيضاً كان أولى (والله أعلم).
ص: 427
ومعرفة ذلك من أهم أنواع علوم الحديث.
(وبه) أي بما ذكر من العلم بحال الفريقين (يحصل التمييز بين صحيح الرواية وضعيفها. وجُوزَ ذلك) البحث (وإنْ اشتمل على القدح في المسلم المستور، واستلزم إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا (صيانةً للشريعة المُطَهَّرة) من إدخال ما ليس منها فيها، ونفياً للخطأ والكذب عنها.
وقد رُوي أنه قيل لبعض العلماء أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خُصماءَك عند الله يوم القيامة؟ فقال: لأن يكونوا خُصمائي أحبُّ إليَّ من أن يكونَ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)خصمي؛ يقول لي: «لِمَ لَمْ تذُبَّ الكذب عن حديثي»(1).
ورُوي أنَّ بعضَهم سمع من بعض العلماء شيئاً من ذلك، فقال له: يا شيخ لاتغتاب العلماء. فقال له: ويحك، هذه نصيحة ليس هذا غِيْبةً(2).
ص: 428
وهذا أمر واضح لامزية فيه، بل هو من فروض الكفايات، كأصل المعرفة بالحديث. (نعم يجب على المتكلّم في ذلك التَثَبُّتُ( في نظره وجرحه لئلا يقدح في) بَريءٍ (غير مجروح بما ظنّه جرحاً) فيجرح سليماً، ويسم بريئاً بسمة سُوءٍ تُبقى عليه الدهر عارها.
(فقد أخطأ في ذلك غير واحد) فطعنوا في أكابر من الرواة استناداً إلى طعنٍ وَرَدَ فيهم، له مَحْمَل، أو لا يثبت عنهم بطريق صحيح.
ومن أراد الوقوف على حقيقة الحال فليُطالع كتاب الكشي (رحمه الله) في الرجال. (وقد كفانا السلف) الصالح من العلماء بهذا الشأن (مُؤنَة الجرح والتعديل غالباً) في كتبهم التي صنفوها في الضعفاء، كابن الغضائري، أو فيهما معاً كالنجاشي، والشيخ أبي جعفر الطوسي، والسيد جمال الدين أحمد بن طاوس، والعلامة جمال الدين بن المُطَهّر، والشيخ تقي الدين بن داود، وغيرهم.
(ولكن ينبغي للماهر) في هذه الصناعة ومن وهبه الله تعالى أحسن بضاعةٍ (تدبر ما ذكروه) ومراعاة ماقرروه (فلعله يظفَرُ بكثير مما أهملوه، ويطلع على توجيه) في المدح والقدح قد (أغفلوه) كما اطلعنا عليه كثيراً، ونبهنا عليه في مواضع كثيرة وضعناها على كتب القوم (خصوصاً مع تعارض الأخبار في الجرح والمدح) فإنه وقع لكثير من أكابر الرواة.
وقد أودعه الكشي في كتابه من غير ترجيح، وتكلّم مَنْ بعده في ذلك، واختلفوا في ترجيح أيهما على الآخر اختلافاً كثيراً.
فلا ينبغي لمن قَدَرَ على البحث تقليدهم في ذلك، بل يُنفِقُ ممّا آتاه الله تعالى، فلكل مجتهد نصيب (فإنّ طريق الجمع بينهما ملتبس على كثير ، حَسَبَ اختلاف طرقه وأصوله) في العمل بالأخبار الصحيحة والحسنة والموثقة، وطرحها، أو بعضها.
فربما لم يكن في أحد الجانبين حديث صحيح؛ فلايحتاج إلى البحث عن الجمع
ص: 429
بينهما، بل يعمل بالصحيح خاصةً، حيث يكون ذلك من أصول الباحث.
وربما يكون بعضها صحيحاً، ونقيضه حسناً أو موثقاً، ويكون من أصله العمل بالجميع؛ فيجمعُ بينهما بما لا يُوافق أصل الباحث الآخر. ونحو ذلك.
وكثيراً ما يتفق لهم التعديل بما لا يصلح تعديلاً، كما يعرفه مَنْ يُطالع كتبهم سيما خلاصة الأقوال التي هي الخلاصة في علم الرجال.
(وفي هذا الباب مسائل ثمان:
[المسألة] الأُولى: اتفق أئمة الحديث والأصول) الفقهيّة (على اشتراط إسلام الراوي) حالَ روايته، وإن لم يكن مسلماً حال تحمّله، فلا تُقبل رواية الكافر وإنْ عُلم من دينه التحرّزُ عن الكذب؛ لوجوب التثبت عند خبر الفاسق(1)، فيلزم عدم اعتبار خبر الكافر بطريق أولى، إذ يشمل الفاسقُ الكافر.
وقبول شهادته في الوصيّة - مع أنّ الرواية أضعفُ من الشهادة - بنص خاص(2)، فيبقى العام معتبراً في الباقي.
ويمكن القائس هُنا اعتبار القياس أو تعديته بالتنبيه بالأدنى على الأعلى.
وقريب منه القول بقبول أبي حنيفة شهادة الكفّار بعضهم على بعض(3)، فيلزم مثله في الرواية كذلك فإنّه لا يقبلُ روايتهم مطلقاً، وقبل شهادتهم للضرورة صيانة للحقوق؛ إذ أكثر معاملاتهم لا يحضرُها مُسْلِمانِ.
(وبلوغه) عند أدائها، كذلك.
ص: 430
(وعقله) فلا تقبل رواية الصبي والمجنون مطلقاً؛ لارتفاع القلم عنهما(1)، الموجب لعدم المؤاخذة، المقتضي لعدم التحفّظ من ارتكاب الكذب على تقدير تمييزه، ومع عدمه لا عبرة بقوله.
(وجمهورهم على اشتراط عدالته) لما تقدّم من الأمر بالتثبت عند خبر الفاسق، فصارَ عدمُ الفسق شرطاً لقبول الرواية، ومع الجهل بالشرط يتحقق الجهل بالمشروط، فيجب الحكم بنفيه حتى يُعلم وجود انتفاء التثبت كذا استدلوا عليه.
وفيه نظر؛ لأنّ مقتضى الآية كون الفسق مانعاً من قبول الرواية، فإذا جهل حال الراوي لا يصح الحكم عليه بالفسق، فلا يجب التثبت عند خبره بمقتضى مفهوم الشرط. ولا نسلّم أنّ الشرط عدم الفسق، بل المانع ظهوره، فلا يجب العلم بانتفائه حيث
يُجهل والأصل عدمُ الفسق في المسلم، وصحة قوله.
وهذا بعضُ آراء شيخنا أبي جعفر الطوسي، فإنّه كثيراً ما يقبل خبر غير العدل، ولا يبيِّنُ سبب ذلك.
ومذهب أبي حنيفة قبول رواية المجهول الحال؛ محتجاً بنحو ذلك، وبقبول قوله في تذكية اللحم، وطهارة الماء، ورق الجارية(2).
والفرق بين ما ذُكر وبين الرواية واضحٌ.
وليس المراد من العدالة كونه تاركاً لجميع المعاصى، بل (بمعنى كونه سليماً من أسباب الفسق) التي هي فعل الكبائر، أو الإصرار على الصغائر.
(وخوارم المُروءة) وهي الاتصاف بما يحسنُ التحلّي به عادةً، بحسب زمانه ومكانه وشأنه، فعلاً وتركاً على وجهِ يصير ذلك له ملكةً.
ص: 431
وإنما لم يصرّح باعتبارها؛ لأنّ السلامة من الأسباب المذكورة لا تتحقق إلا بالملكة؛ فأغنى عن اعتبارها.
(وضبطه) لما يرويه (بمعنى كونه حافظاً) له (متيقظاً) غير مُغَفَّل (إن حدث من حفظه؛ ضابطاً لكتابه) حافظاً له من الغَلَط والتصحيف والتحريف (إن حدث منه عارفاً ؛ بما يختل به المعنى إنْ روى به) أي بالمعنى، حيث نُجوزُه.
وفي الحقيقة: اعتبار العدالة يُغني عن هذا؛ لأنّ العدل لا يُجازف برواية ماليس بمضبوط على الوجه المعتبر، وتخصيصه تاكيد، أو جَرْي على العادة(1).
(ولا يُشترط) في الراوي (الذكورة) لأصالة عدم اشتراطها، وإطباق السلف والخلف على الرواية عن المرأة.
(ولا الحرّية) فتقبل رواية العبد ولقبول شهادتهما في الجملة، فالرواية أولى.
(ولا) العلم بفقه وعربيّةٍ) لأنّ الغَرَضَ منه الرواية لا الدراية، وهي تتحقق بدونهما.
ولعموم قوله(صلی الله علیه و آله و سلم): «نَضَرَ الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأدّاها كما سمعها، فرُبَّ حامل فقة ليس بفقيه»(2).
ولكن ينبغي مؤكّداً معرفته بالعربيّة، حَذَراً من اللحن والتصحيف.
وقد روي عنهم(علیهم السّلام)أنهم قالوا: «أعْرِبُوا كلامنا فإنّا قوم فُصحاء»(3). وهو يشمل إعراب القلم واللسان.
وقال بعضُ العلماء: جاءَتْ هذه الأحاديث عن الأصْل مُعْرَبةٌ(4).
وعن آخر أخْوَفُ ما أخافُ على طالب الحديث إذا لم يَعْرِف النحوَ أَن يَدْخُلَ في
ص: 432
جُملة قول النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): «مَنْ كَذِبَ عليَّ متعمّداً فليتبوأ مقعده من النار»(1)؛ لأنه(صلی الله علیه و آله و سلم)لم يكن يَلْحَن، فمهما روي عنه حديثاً ولحن فيه فقد كُذِبَ عليه(2).
والمعتبر حينئذٍ أن يعلم قدراً يَسْلَم معه من اللحن والتحريف .
(و) كذا (لا) يُعتبر فيه (البَصَرُ) فتصح رواية الأعمى، وقد وُجِدَ ذلك في السلف والخلف.
(ولا) العدد) بناءً على اعتبار خبر الواحد، وعلى عدم اعتباره لا يُعتبر في المقبول منه عدد خاص بل ما يحصل به العلم؛ فالعدد غير معتبر في الجملة، مطلقاً.
وهل يعتبر مع ذلك أمر آخر، ومذهب خاص، أم لا يُعتر؟ فتقبل رواية جميع فرق المسلمين، وإن كانوا أهل بدعةٍ.أقوال:
أحدها: أنّه لا تُقبل رواية المبتدع مطلقاً لفسقه وإن كان بتأول، كما استوى في الكفر المتأوّل وغيره.
والثاني: إن لم يستحلّ الكذب لنصرة مذهبه قبل، وإن استحله - كالخطابية من غُلاة الشيعة - لم يُقبل.
والثالث: إن كان داعيةً لمذهبه لم يُقبل؛ لأنّه مظنّة التهمة بترويج مذهبه، وإلّا قُبِلَ. وعليه أكثر الجمهور(3).
(و) الرابع - وهو (المشهورُ بين أصحابنا - : اشتراط إيمانه مَعَ ذلك) المذكور من الشروط، بمعنى كونه إماميّاً (قطعوا به في كتب الأصول) الفقهيّة (وغيرها) لأنّ مَنْ عداه عندهم فاسق، وإنْ تأوّلَ - كما تقدّم - فيتناوله الدليلُ.
ص: 433
هذا (مع عملهم بأخبار ضعيفةٍ) بسبب فساد عقيدة الراوي (أو موثقة) مع فساد عقيدته، أيضاً (في) كثير من (أبواب الفقه، مُعتذرين عن ذلك) العمل المخالف لما أفتوا به في أُصولهم من عدم قبول رواية المخالف (بانجبار الضعف) الحاصل للراوي بفساد عقيدته، ونحوه (بالشهرة) أي شُهرة الخبر والعمل بمضمونه بين الأصحاب، فيمكن إثباتُ المذهب به وإن ضَعُفَ طريقه، كما يثبت مذهب أهل الخلاف بالطريق الضعيف من أصحابهم (ونحوها) أي الشهرة (من الأسباب) الباعثة لهم على قبول رواية المخالف في بعض الأبواب كقبول ما دلّت القرائن على صحته مَعَ ذلك، على ما ذهب إليه المحقق في المعتبر(1). (وقد تقدّم) الكلام على هذا الدليل في أوّل الرسالة.
وكيف كان، فإطلاق اشتراط الإيمان مع استثناء من ذكر ليس بجيد.
(وحينئذ، فاللازم) على ما قرّرناه عنهم (اشتراط أحد الأمرين من الإيمان والعدالة، أو الانجبار بمرجح لا إطلاق اشتراطهما) أي الإيمان والعدالة، المقتضي لعدم قبول رواية غير المؤمن مطلقاً، ولا يقولون به.
واقتصد قوم منا، فاعتبروا سلامة السند من ذلك كله، واقتصروا على الصحيح ولا ريب أنه أعدلُ.
ولا يقدح فيه قولُ المحقق في ردّه من أنّ الكاذب قد يُلْصِقُ، والفاسق قد يَصْدُقُ. وأنّ في ذلك طعناً في عُلمائنا، وقدحاً في المذهب، إذ لا مُصَنِّف إلا وقد يعمل بخبر المجروح كما يعمل بخبر المعدّل(2).
وظاهر أنّ هذا غير قادح. ومجرد احتمال صدق الكاذب غير كافٍ في جواز العمل بقوله مع النهي عنه. والقدح في المذهب غير ظاهر؛ فإنّ مَنْ لا يعمل بخبر الواحد من أصحابنا - كالسيد المرتضى(3)وكثير من المتقدمين - مُصَنّفاتهم خالية عن خبر الثقة
ص: 434
على وجه التقليد - فضلاً عن المجروح - إلّا أن يبلغ حد التواتر والمصنّفات المشتملة حدَّ على أخبار المجروحين مبنيّة على مذهب المفتي بمضمونها.
وإنْ كانَ ولابد من تجاوز ذلك، فالعمل على خبر المُخالِف الثقة؛ ليسلم من ظاهر النهي عن قبول خبر الفاسق ظاهراً، ومنع إطلاقه على المُخالف مُطلقاً. وقد تقدّمت الإشارة اليه.
أما المنصوص على ضعفه فلا عذر في قبول قوله، كما يتفق ذلك للشيخ (رحمه الله) في موارد كثيرة. والله تعالى أعلم بحقائق أحكامه.
[المسألة] (الثانية: تُعرف العدالة) المعتبرة في الراوي بتنصيص عدلين عليها، أو بالاستفاضة بأن تشتهر عدالته بين أهل النقل أو غيرهم من أهل العلم، كمشايخنا السالفين من عهد الشيخ محمد بن يعقوب الكليني وما بعده إلى زماننا هذا، لا يحتاج أحد من هؤلاء المشايخ المشهورين إلى تنصيص على تزكية، ولا بينة على عدالة؛ لما اشتهر في كلّ عصر من ثقتهم وضبطهم وورعهم زيادةً على العدالة.
وإنما يتوقف على التزكية غيرُ هؤلاء من الرواة الذين لم يشتهروا بذلك، ككثير ممن سبق على هؤلاء، وهم طرق الأحاديث المدوّنة في الكتب غالباً.
(وفي الاكتفاء بتزكية الواحد) العدل (في الرواية قول مشهور) لنا، ولمخالفينا (كما يكتفى به) أي بالواحد (في أضل الرواية).
وهذه التزكية فرع الرواية، فكما لا يُعتبر العدد في الأصل فكذا في الفرع.
وذهب بعضُهم إلى اعتبار اثنين(1)كما في الجرح والتعديل في الشهادات.
ص: 435
فهذا طريق معرفة عدالة الراوي السابق على زماننا.
والمعاصر يثبت بذلك، وبالمعاشرة الباطنة المُطَّلِعة على حاله واتصافه بالملكة المذكورة.
(ويُعرف ضبطه، بأنْ تُعتبر روايته برواية الثقات المعروفين بالضبط والإتقان، فإن وافقهم) فى رواياته (غالباً) ولو من حيث المعنى، بحيث لا يُخالفها، أو تكون المخالفة نادرةً (عُرِفَ) حينئذٍ (كونه ضابطاً ثَبْتاً، وإن وجد) ناه بعد اعتبار رواياته ب-رواياتهم (كثير المخالفة لهم، عُرف اختلاله أي اختلال ضبطه، أو اختلال حاله في الضبط، ولم يحتج بحديثه.
وهذا الشرط إنما يُفتقر إليه في مَنْ يروي الأحاديث من حفظه، أو يُخَرِّجها بغير الطرق المذكورة في المصنفات.
وأما رواية الأصول المشهورة، فلا يُعتبر فيها ذلك، وهو واضح.
[المسألة] :(الثالثة التعديل مقبول من غير ذكر سببه على) المذهب (المشهور؛ لأنّ أسبابه كثيرةٌ يصعب ذكرُها فإنّ ذلك يُحوج المعدّل إلى أنْ يقول: «لم يفعل كذا، لم يرتكب كذا فعل كذا وكذا» وذلك شاق جداً.
(وأما الجرح، فلا يُقبل إلّا مُفَسَّراً مبيَّن السبب) الموجب له (لاختلاف الناس فيما يُوجبه). فإنّ بعضهم يجعلُ الكبيرة القادحة ما تُوُسِّدَ عليها في القرآن بالنار وبعضهم يُعِمُّ التوعدَ. وآخرون يُعمَونَ المتوعَّدَ فيه بالكتاب والسنّة. وبعضهم يجعلون جميع الذُنُوب كبائر، وصِغَرُ الذنب وكبَرُه عندهم إضافي. إلى غير ذلك من الاختلاف(1).
فربما أطلق بعضُهم القدح بشيءٍ بناءً على أمر اعتقده جرحاً، وليس بجرح في نفس الأمر أو في اعتقاد الآخر.
ص: 436
فلابد من بيان سببه ليُنظر فيه أهو جرح أم لا ؟
وقد اتفق لكثير من العلماء جرحُ بعض، فلمّا استفسر ذَكَرَ ما لا يصلح جارحاً.
قيل لبعضهم: لِمَ تركت حديث فلان؟ فقال: رأيتُه يركُض على بِرْذَوْن(1).
وسُئل آخر عن رجلٍ من الرواة. فقال: ما أصنع بحديثه، ذُكِرَ يوماً عند حمّاد فا متخط حمّاد(2).
ويُشْكَلُ، بأنّ ذلك آتٍ في باب التعديل؛ لأنّ الجرحَ كما تختلف أسبابه كذلك، فالتعديل يتبعه في ذلك؛ لأنّ العدالة تتوقف على اجتناب الكبائر مثلاً فربما لم يعد المعدِّلُ بعض الذنوب كبائر، ولم يقدح عنده فعلها في العدالة، فيزكي مرتكبها بالعدالة، وهو فاسق عند الآخر بناءً على كونه مرتكباً لكبيرة عنده.
ومن ثُمَّ ذهبَ بعضُهم إلى اعتبار التفصيل فيهما(3).
ومَنْ نَظَرَ إلى صعوبة التفصيل ونحوه اكتفى بالإطلاق فيهما(4).
أما التفصيلُ باختلاف الجرح والتعديل في ذلك، فليس بذلك الوجه.
(نعم، لو عُلم اتفاق مذهب الجارح والمُعْتَبِر) بكسر الباء، وهو طالب الجرح والتعديل، ليعمل بالحديث أو يتركه (في الأسباب) الموجبة للجرح، بأن يكون اجتهاد هما فيما به يحصل الجرح والتعديل واحداً، أو أحدهما مقلّد للآخر، أو كلاهما مقلد لمجتهد واحد. (اتجه الاكتفاء بالإطلاق) في الجرح (كالعدالة). وهذا التفصيل هو الأقوى فيهما.
ص: 437
واعلم أنّه يَرِدُ على المذهب المشهور - من اعتبار التفسير في الجرح - إشكال مشهور من حيث أنّ اعتماد الناس اليوم في الجرح والتعديل على الكتب المصنفة فيهما، وقلّما يتعرضون فيها لبيان السبب، بل يقتصرون على قولهم: «فلان ضعيف» ونحوه؛ فاشتراط بيان السبب يفضي إلى تعطيل ذلك، وسدّ باب الجرح في الأغلب.
(و) أجيببَ بأنّ (ما أطلقه الجارحون في كتبهم من غير بيان سببه وإن لم يقتض الجرح) على مذهب مَنْ يعتبر التفسير (لكن يوجب الريبة القوية) في المجروح كذلك المفضية إلى ترك (الحديث الذي يرويه فيُتوقف عن قبول حديثه إلى أن تثبت العدالة، أو يتبيّن سبب زوال موجب (الجرح).
ومَنْ انزاحت(1)عنه تلك الريبة، بحثنا عن حاله بحثاً أوجب الثقة بعدالته فقبلنا روايته ولم نتوقف أو عدمها(2).
[المسألة] (الرابعة: يثبت الجرح في الرواة بقول واحدٍ، كتعديله) أي كما يثبت تعديله في باب الرواية بالواحد أيضاً، وقد تقدّم (على) المذهب (الأشهر).
وذلك لأنّ العددَ لم يُشترط في قبول (الخبر) كما سَلَفَ (فلم يُشترط في وصفه) من جرح وتعديل؛ لأنه فرعه، والفرع لا يزيد على أصله، بل قد ينقص. كما في تعديل شهود الزنى؛ فإنّه يُكتفى فيه باثنين دون أصل الزني.
وأما ما خرج عن ذلك، وأوجب زيادة الفرع - أعنى الجرح والتعديل - على أصله؛ كالاكتفاء في الدعوى بالشاهد واليمين دون التعديل.
و مذهب بعضهم في الاكتفاء بشاهد واحد في رؤية هلال رمضان(3)، وشهادة الواحدة
ص: 438
في ربع الوصية(1)، وربع ميراث المستهل(2). فبدليل خارجي، ونص خاص .
(ولو اجتمع في واحد جرح وتعديل، فالجرح مقدَّم) على التعديل (وإن تعدد المعدِّلُ) وزادَ على عدد الجارح (على) القول (الأصح ؛ لأنّ المعدل مُخبرٌ عمّا ظهر من حاله، والجارح) يشتمل على زيادة الاطلاع؛(لأنه يُخبر عن باطن خفي على المعدل) فإنّه لا يُعتبر فيه ملازمته في جميع الأحوال، فلعله ارتكب الموجب للجرح في بعض الأحوال التي فارقه فيها.
(هذا إذا أمكن الجمع) بين الجرح والتعديل، كما ذكر.
(وإلا) يمكن الجمع، كما إذا شهد الجارح بقتل إنسان في وقت فقال المعدلُ: رأيته بعده حيّاً، أو يقذفه فيه، فقال المعدّل : إنه كان ذلك الوقت نائماً أو ساكتاً. ونحو ذلك.
(تعارضا) ولم يمكن التقديم، ولم يتم التعليلُ الذي قدّم به الجارح ثُمَّ.
وطلب الترجيح إن حصل المرجّح - بأن يكون أحدهما أضبط، أو أورع، أو أكثر عدداً، ونحو ذلك - فيعمل بالراجح ويترك المرجوح .
فإن لم يتفق الترجيح وجب التوقف؛ للتعارض، مع استحالة الترجيح من غير مرجّح.
[المسألة](الخامسة: إذا قال الثقةُ: «حدّثني ثقةً») ولم يبينه (لم يكف ذلك) الإطلاق والتوثيق في العمل بروايته وإن اكتفينا بتزكية الواحد (إذ لابد) على تقدير الاكتفاء بتزكيته (من تعيينه وتسميته) ليُنظر في أمره، هل أطلق القوم عليه التعديل، أو تعارض كلامهم فيه، أو لم يذكروه (لجواز كونه ثقةً عنده؛ وغيره قد اطلع على جرحه
ص: 439
بما هو جارحٌ عنده) أي عند هذا الشاهد بثقته، وإنّما وثقه بناءً على ظاهر حاله والو عَلِمَ به لما وثقه.
وأصالة عدم الجارح مع ظهور تزكيته غيرُ كافٍ في هذا المقام؛ إذ لابد من البحث عن حال الرواة على وجه يظهر به أحد الأمور الثلاثة من الجرح، أو التعديل، أو تعارضهما حيث يمكن، بل إضرابه عن تسميته مريب في القلوب.
(نعم، يكون ذلك) القولُ (منه تزكيةً) للمروي عنه (حيثُ يقصدها) بقوله: «حدثني الثقة» إذ قد يقصد به مجرد الإخبار من غير تعديل فإنّه قد يتجوز في مثل هذه الألفاظ في غير مجلس الشهادة.
وهل يُنزّل الإطلاق على التزكية، أم لابد من استعلامه؟ وجهان، أجودُهما تنزيله على ظاهره من عدم مجازفة الثقة في مثل ذلك.
وعلى تقدير تصريحه بقصد التزكية، أو حمل الإطلاق عليها (ينفع) قوله (مع ظهور عدم المعارض).
وإنما يتحقق ظهوره مع تعيينه بعد ذلك والبحث عن حاله، وإلا فالاحتمال قائم كما مر.
وذهب بعضهم إلى الاكتفاء بذلك ما لم يظهر المعارض أو الخلاف(1)، أو قد ظهر ضعفه.
ومثله ما لو قال: «كلّ مَنْ رويتُ عنه فهو ثقة وإنْ لم أُسَمّه» ثمّ روى عمّن لم يسمّه.
فإنّه يكون مزكّياً له، غير أنا لا نعمل بتزكيته هذه لما قررناه.
وقول العالم: «هذه الرواية صحيحة في قوة الشهادة بتعديل رواتها. فأولى بعدم الاكتفاء بذلك.
(ولو روى العدلُ عن رجل سمّاه، لم تُجعل روايته عنه تعديلاً - له على) القول
ص: 440
(الأصح) - بطريق أولى؛ لأنه يجوز أن يروي عن غير عدل، وقد وقع من أكثر الأكابر من الرواة والمصنّفين ذلك خلافاً لشذوذ من المحدثين ذهبوا إلى اقتضاء ذلك التعديل(1).
(وكذا عَمَلُ العالم) المجتهد في الأحكام (وفتياه) لغيره بفتوى (على وفق حديث ليس حكماً) منه (بصحته، ولا مخالفته له قدحاً فيه) ولا في رواته (لأنّه) أي كلّ واحد من العمل والمخالفة (أعم) من كونه مستنداً إليه وقدحاً فيه، فيجوز في العمل الاستناد إلى دليل آخر من حديث صحيح أو غيره، وفي المخالفة كونها لشذوذه، أو معارضته لما هو أرجحُ منه، أو غيرهما. والعام لا يدلّ على الخاص.
وقد تقدّم الخلافُ في اشتراط عدالة الراوي مُطلقاً، فلعله قبل رواية غير العدل لأمرٍ عارض.
[المسألة] (السادسة) في بيان الألفاظ المستعملة في الجرح والتعديل بين أهل هذا الشأن.
لما كان المعتبر عندنا في الراوي العدالة المستفادة من الملكة المذكورة، ولم نكتف بظاهر حال المسلم ولا الراوي؛ فلابد في التعديل من لفظ صريح يدلّ على هذا المعنى.
وقد استعمل المحدّثون وعلماء الرجال ألفاظاً كثيرة في التزكية بعضها دالّ على المطلوب، وبعضها أعمُّ منه. فنحن نذكرها مفصلةً، ونبين ما يدلّ منها عندنا عليه، وما لا يدلّ فنقول:
ألفاظ التعديل) الدالة عليه صريحاً:
قولُ المعدل : هو (عَدْلٌ) .
أو: هو (ثقةً) وهذه اللفظة وإن كانت مستعملة في أبواب الفقه أعم من العدالة لكنّها
ص: 441
هنا لم تُستعمل إلا بمعنى العدل، بل الأغلب استعمالها خاصةً.
وقد يتفق في بعض الرواة أن يكرّر في تزكيتهم لفظة «الثقة»(1)وهو يدلّ على زيادة المدح.
وكذلك قوله: هو (حُجّةٌ) أي ممّا يحتج بحديثه. وفي إطلاقه اسم المصدر عليه مبالغة ظاهرة في الثناء عليه بالثقة.
والاحتجاج بالحديث - وإنْ كانَ أعم من الصحيح، كما يتفق بالحسن والموثق بل بالضعيف على ما سبق تفصيله، لكن الاستعمال العرفي لأهل هذا الشأن لهذه اللفظة - يدلّ على ما هو أخص من ذلك، وهو التعديل وزيادة.
نعم، لو قيل: «يُحتج بحديثه ونحوه، لم يدلّ على التعديل؛ لما ذكرناه. بخلاف إطلاق هذه اللفظة على نفس الراوي، بدلالة العُرف الخاص.
وكذا قوله: هو (صحيح الحديث) فإنّه يقتضي كونه ثقةً ضابطاً، ففيه زيادة تزكية. (وما أدّى معناه) من الألفاظ الدالّة على التعديل.
(أما) قوله: (مُتَّقِنٌ، تَبْتُ، حافظ)، ضابط، (يُحتج بحديثه، صدوق) مبالغة في صادق، (مَحَلُّه الصدق بالخبرية، أو الإضافة على التوسع. (يُكتب حديثه، يُنظر فيه) أي في حديثه، بمعنى أنه لا يطرح بل يُنظر فيه ويُختبر حتى يُعرف حاله، فلعله يُقبل.
لا بأس به بمعنى أنه ليس بظاهر الضعف. وقد اتفق هذا الوصف لجماعة منهم: أحمد بن أبي عوف البخاري، وابنه «محمد» وذكرهما العلامة في قسم مَنْ يُعتمد على روايته.
ص: 442
(شيخ، جليل، صالح الحديث، مشكورٌ ، خَيْرٌ ، فاضل) اتفق هذا الوصف لجماعة، كإبراهيم بن أبي الكرام، وإلياس الصيرفي، وبنان الجزري(1)، وعلي بن قتيبة القتيبي، وعبد الرحمن بن عبد ربّه وعَنْبسَة العابد، والقاسم بن هشام، وقيس بن عمار.
ومنهم من جُمِعَ له بين اللفظين.
(خاص) كحيدر بن شعيب الطالقاني. (ممدوح) كمحمد بن قيس الأسدي. (زاهد،عالم) كإبراهيم بن علي الكوفي. وأولى بالحكم ما لو انفرد أحدهما.
(صالح) كإبراهيم بن محمد الختلي وأحمد بن عائذ، وشهاب بن عبد ربه، وأخويه: عبد الخالق، ووهب.
(قريب الأمر) كالربيع بن سليمان، ومُصبح بن الهلقام، وهَيْتم بن أبي مَسرُوق النهدي.
(مسكون إلى روايته) كمحمّد بن بدران.
(فالأقوى) في جميع هذه الأوصاف (عدم الاكتفاء بها) في التعديل وإن كان بعضها أقرب إليه من بعض الأنّها أعم من المطلوب فلا تدلّ عليه.
أمّا الأربعة الأول؛ فظاهر؛ لأنّ كلّ واحد منها قد يُجامع الضعف، وإن كان من صفات الكمال.
وأما الاحتجاج بحديثه ؛ فقد عرفت أنه قد يتفق بالضعيف، فضلاً عن الحسن وما قاربه
وأما الوصف بالصدق بلفظيه - فقد يُجامع عدم العدالة أيضاً؛ إذ شرطها الصدقُ مع شيء آخر .
ص: 443
وأما كتبة حديثه، والنظر فيه؛ فظاهر أنّه أعم من المطلوب، بل ظاهر في عدم التوثيق.
وأمّا نفي البأس عنه، فقريب من الخير لكن لا يدلّ على الثقة، بل من المشهور: أنّ نفي البأس يُوهم البأس.
وأما ما نُقل عن بعض المحدثين من أنّه إذا عبر به فمراده الثقة(1)؛ فذاك أمر مخصوص باصطلاحه لا يتعدّاه، عملاً بمدلول اللفظ.
وأما «شيخ» فإنه وإن أريد به التقدّم في العلم ورئاسة الحديث لكن لا يدلّ على التوثيق، فقد تقدّم فيه مَنْ ليس بثقة. ومثله «جليل».
وأما «صالح الحديث» فإنّ الصلاح أمرٌ إضافي: فالموثق بالنسبة إلى الضعيف صالح، وإن لم يكن صالحاً بالنسبة إلى الحَسَن والصحيح؛ وكذا الحَسَن بالإضافة إلى ما فوقه، ومادونه
وأما «المشكور» فقد يكون الشُكْرانُ على صفاتٍ لا تبلغ حدّ العدالة، ولا تدخل فيها. وكذا «خيّر». مع احتمال دلالة هاتين على المطلوب.
وأما «الفاضل» فظاهر عمومه؛ لأنّ مرجع الفضل إلى العلم، وهو يُجامع الضعف بكثرة.
وأمّا «الخاص» فمرجع وصفه إلى الدخول مع إمام معين، أو في مذهب معين وشدّةِ التزامه به أعم من كونه ثقةً فى نفسه، كما يدلّ عليه العرف.
وظاهر كون «الممدوح» أعم، بل هو إلى وصف الحسن أقرب. وكذا الوصف بالزهد والعلم والصلاح مع احتمال دلالة «الصلاح» على العدالة وزيادة لكن فيه: أنّ الشرط مع التعديل، الضبط الذي من جملته عدم غلبة النسيان، والصلاح يُجامعه أكثرياً.
ص: 444
وأمّا «قريب الأمر» فليس بواصل إلى حدّ المطلوب، وإلا لما كان قريباً منه، بل ربما كان قريباً إلى المذهب من غير دخول فيه رأساً.
و «المسكون إلى روايته» قريب من «صالح الحديث».
فقد ظهر أن شيئاً من هذه الأوصاف ليس بصريح في التعديل، وإن كان بعضها قريباً منه.
(نعم) كلّ واحدٍ منها (يُفيد المدح، فيُلْحَق حديثه) أي حديث المتصف بها (بالحَسَن) لما عرفت من أنّه رواية الممدوح من أصحابنا مدحاً لا يبلغ حد التعديل.
هذا إذا علم كون الموصوف بذلك من أصحابنا، أما مع عدم العلم فيُشكل بأنه قد يجامع الاتصاف ببعض المذاهب الخارجة عنا، خصوصاً مَنْ يدخل في حديثنا، كالواقفي والفطحي.
وأمّا الجمهور، فَمَن لا يعتبر منهم في العدالة تحققها ظاهراً، بل يكتفي في المسلم بها حيث لا يظهر خلافها، فيكتفي بكثير من هذه الألفاظ في التعديل، خصوصاً مثل: العالم والمُتْقِن والضابط والصالح والفاضل والصدوق والثبت.
هذا ما يتعلّق بألفاظ التعديل.
(وألفاظ الجرح) مثل: (ضعيف، كذاب، وضاع) للحديث من قبل نفسه، أي يختلقُه كذباً. (غال، مضطرب الحديث، مُنْكَرهُ، لَيْنه) أي يتساهل في روايته عن غير الثقة. (متروك) أي في نفسه، أو متروك الحديث. (مُرتفع القول) أي لا يُعتبر قوله، ولا يُعتمد عليه (مُتَّهم) بالكذب أو الغلو، أو نحوهما من الأوصاف القادحة. (ساقط) في نفسه، أو حديثه.
(واه) اسم فاعل من «وَهى» أي ضَعُفَ في الغاية، تقول «وهى الحائط» إذا ضَعُفَ وهَمَّ بالسقوط. وهو كناية عن شدّة ضعفه، وسقوط اعتبار حديثه.
(لا شيء) مبالغة في نفي اعتباره، أو لا شيء معتد به. (ليس بذاك) الثقة، أو العدل، أو الوصف المعتبر في ذلك. (ونحو ذلك).
ص: 445
[المسألة] :(السابعة: مَنْ خَلَّطَ) بعد استقامةٍ (بخرق) بضم الخاء وسكون الراء، وهو الحمق وضعف العقل.
(أو فَسق) كالواقفة بعد استقامتهم في زمن الكاظم(علیه السّلام)، والفطحية كذلك في زمن الصادق(علیه السّلام)، وكمحمد بن عبد الله أبي المفضل، ومحمد بن علي الشلمغاني، وأشباههم.
(وغيرهما) من القوادح.
(يُقبل مارُوي عنه قبل الاختلاط) لاجتماع الشرائط وارتفاع الموانع؛(ويُردّ ما) رُوِيَ عنه (بعدَه، وما شُكٍّ فيه هل وقع قبله أو بعده (للشكّ في الشرط) وهو العدالة، عند الشك في التقدم والتأخّر.
وإنما يُعلم ذلك بالتاريخ، أو بقول الراوي عنه: «حدثني قبل اختلاطه» ونحو ذلك. ومع الإطلاق وعدم التاريخ يقعُ الشك، فيردّ الحديث.
[المسألة] (الثامنة: إذا روى ثقة عن ثقةٍ حديثاً، ورُوجِعَ المروي عنه) في ذلك الحديث (فنفاه) وأنكر روايته.
(فإنْ كانَ جازماً بنفيه، بأن قال: «مارويته»)على وجه القطع، أو: «كذب عليّ»(ونحوه) تعارضَ الجَزمان والجاحِدُ هو الأضل؛ فحينئذٍ (وَجَبَ ردّ الحديث).
تم، لا يكون ذلك جرحاً للفرع (ولا يقدح في باقي رواياته عنه) ولا عن غيره وإنْ كان مكذِّباً لشيخه في ذلك؛ إذ ليس قبولُ جَرْح شيخه له بأولى من قبول جرحه الشيخه، فتساقطا.
(وإنْ) لم يُنكر الرواية ولكن (قال: «لا أعرفه» أو «لا أذكره ونحوه ، لم يقدح) في رواية الفرع (على الأصح) إذلا يدلّ ذلك عليه بوجه؛ لاحتمال السهو والنسيان من الأصل، والحالُ أنّ الفرع ثقةٌ جازم فلا يردّ بالاحتمال
ص: 446
(بل) كما لا تبطل رواية الفرع ويجوز لغيره أن يروي عنه بعد ذلك (يجوز للمرويّ عنه) أوّلاً ، الذي لا يذكر الحديث روايته عمّن ادعى أنه (سمعه عنه؛ فيقولُ) هذا الأصل الذي قد صار فرعاً، إذا أراد التحديث بهذا الحديث: (حدثني فلانٌ عنّي، أنّي حدثته) عن فلان (بكذا) وكذا.
(وقد وقع من ذلك جملة أحاديث) الأكابر نَسُوها بعد ما حدثوا بها، منها حديث ربيعة، عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه، يرفعه إلى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): أنه قضى بشاهد ويمين(1). قال عبد العزيز بن محمد: لقيتُ سُهيلاً، فسألته عنه فلم يعرفه. وكان يقولُ بعد ذلك: حدثني ربيعة عنّي، عن أبي ويسوق الحديث(2).
وقد (جمعها) أي تلك الأحاديث التي نَسِيَها ،راويها ، ورواها عمّن رواها عنه (بعضُهم) وهو الخطيب البغدادي في كتاب مفرد(3).
ص: 447
وفيه فصول:
[الفصل] (الأول في أهليّة التحمّل
و شرطه التمييز، إنْ تحمَّلَ بالسَماع، وما في معناه) ليتحقق فيه معناه.
والمراد بالتمييز هنا: أن يُفَرِّقَ بين الحديث الذي هو بِصَدَدِ روايته وغيره، إن س- في أصل مصحح، وإلّا اعتبر مع ذلك ضبطه وفتره بعضهم بفَرْقِه بين البقرة والدابة والحمار، وأشباه ذلك؛ بحيث يميّز أدنى تميّز. والأوّلُ أصح.
واحترز ب__«تحمُّله بالسماع» عمّا لو كان بنحو الإجازة، فلا يعتبر فيه ذلك، كما سيأتي.
والمراد ب_«ما في معنى السماع» القراءة على الشيخ ونحوها. (لا الإسلام) فلو تحمّل كافراً وأدّاه مُسلِماً، قُبِلَ.
وقد اتفق ذلك للصحابة، كرواية جُبَيْر بن مُطْعِم أنّه سَمِعَ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)يَقْرأ في المغرب بالطُّورِ(1)،
ص: 448
وكان قد جاء في فداء أسارى بدرا(1). فتحمّله كافراً ثم رواه بعد إسلامه.
وكذلك رؤيته له واقفاً بعرفة قبل الهجرة(2). ورواية أبي سفيان في حديثه مع هِرَقُل(3). وغيرها.
(و) لا (البلوغ) فيصحُ تحمُّل من دونَه (على الأصح.
وقد اتفق الناسُ على رواية جماعةٍ من الصحابة عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)قبل البلوغ،كالحسنين(علیهم السّلام)فقد كان سِنُّ الحسن(علیه السّلام)عند موت النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)نحو الثماني سنين، والحسين(علیه السّلام)نحو السبع (و) عبد الله (بن عبّاس و) عبد الله (بنِ الزُّبَيْرِ والنُّعْمَانِ بن بَشيرٍ) والسائب بن يزيد، والمِسْوَر بن مَخْرَمةَ (وغيرِهم) وقبلوا روايتهم من غير فرق بين ما تحمّلوه قبل البلوغ وبعده.
(ولم يزل الناس يُسمِعونَ الصبيان) ويحضرونهم مجالس التحديث، ويعتدون بروايتهم لذلك بعد البلوغ.
وخالف في ذلك شذوذ فشرطوا فيه البلوغ.
(نعم، تحديد قوم سنَّهم) المسوّغ للإسماع (بعشر سنين أو خمس) سنين، (أو أربع) ونحوه(4)، (خَطأ؛ لاختلاف الناسِ في مَراتِبِ الفهم والتمييز) فمن فَهِمَ الخطاب وميّز ما يَسْمَعُه صح سَماعُه وإن كان دون خمسٍ ، ومَنْ لم يكن كذلك لم يصح وإن كان ابن خمسين .
وقد ذكر الشيخ الفاضل تقيُّ الدين الحسن بن داودَ: أن صاحبه ورفيقه السيد
ص: 449
غیاث الدین ابن طاؤس استقل بالكتابة واستغنى عن المعلم وعمره أربع سنين(1).
وعن إبراهيم بن سعيد الجوهري قال: رأيتُ صبيّاً ابن أربع سنين قد حمل إلى المأمون، وقد قرأ القرآن ونظر في الرأي؛ غيرُ أنّه إذا جاعَ بكى(2).
وقال أبو محمد عبد الله بن محمد الأصفهاني:
حفظت القرآن ولي خمس سنين، وحملتُ إلى ابن المقري لأسمع منه ولي أربع سنين، فقال بعض الحاضرين: لا تُسمعوا له فيما يقرأ فإنّه صبي صغير ؛ فقال لي ابن المقري: اقرأ سورة الكافرون فقرأتُها فقال: اقرأ سورة التكوير فقراتها؛ فقال لي غيره: اقرأ سورة والمرسلات فقرأتها ولم أغلط فيها، فقال ابن المقري: سمعواله، والعهدة عليَّ(3).
(ولا يُشترط في المروي عنه أن يكون أكبر من الراوي سنّاً، ولا رُتْبةً) وقدراً وعِلْماً، بل يجوز أن يروي الكبير عن الصغير بعد اتصافه بصفاتِ الراوي.
(وقد اتفق ذلك) كثيراً (للصحابة رضي الله عنهم فَمَن دونهم) من التابعين والفقهاء. والغرض من هذا النوع أن لا يُظنّ بناءً على الغالبِ مِن كون المروي عنه أكبر بأحد الأُمور دائماً، فيُجْهَل بذلك منزلتهما. وقد قال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): «أُمرنا أن تُنزِّلَ الناسَ منازِلَهم»(4).
(وهى سبعة:
أوّلُها السَماعُ مِن لفظ الشيخ، سواء كان) إملاءً (من حفظه، أم) كان تحديثه (من كتابه.
ص: 450
وهو) أي السَماعُ من الشيخ (أرْفَعُ الطُّرقِ) الواقعة في التحمل (عند جمهور المحدثين) لأنّ الشيخ أعرفُ بوجوه ضبط الحديث وتأديته.
ولأنه خليفه رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)وسفيره إلى أمته، والآخذُ منه كالآخذ منه.
ولأن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)أخبر الناس أولاً وأسمعهم ما جاء به. والتقرير على ماجرى بحضرته(صلی الله علیه و آله و سلم)أولى.
ولأنّ السامع أربط جأشاً(1)وأوعى قلباً، وشغل القلب وتوزّع الفكر إلى القارئ أسرع.
وفي صحيحة عبد الله بن سنان قال قلت لأبي عبد الله(علیه السّلام): يجيئني القومُ لا فيسمعون منّي حديثكم فأضجر ولا أقوى. قال: فاقرأ عليهم من أوّله حديثاً، ومن وسطه حديثاً، ومن آخره حديثاً»(2).
فعدوله(علیه السّلام)إلى قراءة هذه الأحاديث مع العجز، يدلُّ على أولويته على قراءة الراوي. وإلا لأُمر بها.
(فيقول) الراوي بالسماع من الشيخ في حالة كونه (راوياً لغيره) ذلك المسموع: («سمعتُ») فلاناً إلى آخره.
(وهي) أي هذه العبارة (أعلاها) أي أعلى العباراتِ في تأدية المسموع، لدّلالته نصاً على السماع الذي هو أعلى الطرق.
(ثمّ) بعدها في المرتبة أن يقول: («حدثني»و«حدثنا») لدلالتِهما أيضاً على قراءة الشيخ عليه، لكنهما يحتملان الإجازة، لما سيأتي من أنّ بعضهم أجاز هذه العبارة في أحاديث الإجازة والمكاتبة، بخلاف «سمعتُ» فإنّه لا يكادُ أحد يقول: «سمعت» في الإجازة والمكاتبة ولا في تَدليس مالم يَسْمَعه.
ص: 451
ورُوِيَ عن بعض المحدِّثين أنه كان يقول: «حدّثنا فلان» ويتأوّل أنّه حدّث أهلَ المدينة وكان الراوي حينئذٍ بها، إلا أنه لم يَسْمَع منه شيئاً(1)مُدَلِّساً بذلك.
وكون «سمعتُ» في هذه الطريق أعلى منهما مذهب الأكثر؛ لما ذكرناه.
(وقيل: هما أعلى) منها؛ لأنه ليس في «سمعتُ» دَلالة على أنّ الشيخ روى له الحديث وخاطبه به، وفي «حدثنا وأخبرنا» دَلالة على أنه خاطَبَه ورواه له(2).
وفيه أنّ هذه وإن كانت مزيّةٌ، إلّا أنّ الخطب فيها أسهل من احتمال الإجازة والتدليس ونحوهما، فيكون تحصيل ما ينفي ذلك أولى من تخصيصه باللفظ، أو كونه من جملة المقصودين به؛ إذ لا يفترق الحالُ فى صحة الرواية بهذه المرتبةِ بينَ قصدِه وعَدَمِه.
(ثُمَّ) بعد «حدّثني» «وحدّثنا» في المرتبة قوله في هذه الحالة: («أخبرنا») لظهور الإخبار في القول، ولكنّه يُستعمل في الإجازة والمكاتبة كثيراً، فلذلك كان أذونَ.
(ثُمَّ «أنبأنا» و «نَبّأنا») لأنّ هذا اللفظ غالب في الإجازة (وهو قليلُ) الاستعمال (هنا) قبلَ ظُهور الإجازة فكيف بعدها؟.
(و) أما قول الراوي: («قال لنا» و «ذكر لنا») فهو (من قبيل «حدثنا») فيكون أولى من «أنبأنا» و«نبأنا» لدَلالته على القول أيضاً صريحاً (لكنّه) ينقُصُ عن «حدّثنا» بأنه (بما سَمِعَ في المذاكرة) في المجالس (والمناظرة) بين الخصمين (أشْبَه) وأليق (من و«حدّثنا») لدَلالتهما على أنّ المقام لم يكن مقام التحديث، وإنّما اقتضاه المقام.
(وأدناها) أي أدنى العبارات الواقعة في هذه الطريقِ قول الراوي بالسماع: («قالَ
ص: 452
فلان ولم يقل: «لي» أو «لنا») لأنه بحسب مفهوم اللفظ أعم من كونه سَمِعَه منه، أو بواسطة، أو وسائط (وهو) مع ذلك (محمول على السماع) منه عرفاً (إذا تحقق لقاؤه) للمروي عنه، لا سيما ممَّنْ عُرف أنه لا يقول ذلك إلا فيما سَمِعَه.
وشَرَطَ بعضُهم في حمله على السماع أنْ يقعَ ممَّن عُرِفَ من عادته أنّه لا يقول ذلك إلا فيما سَمِعَه منه(1)، حَذَراً من التدليس، وهو أولى. وإن كان عدم اشتراطه أشهر.
(وثانيها: القراءة على الشيخ، وتسمّى) عند أكثر قدماء المحدثين (العَرْضُ) لأنّ القارئ يعرضُه على الشيخ، سواءً كانت القراءة (من حفظ) الراوي (أو) من (كتاب) وسواء كان المقروء (لما يحفظه) الشيخ، أو كان الراوي يقرأ (والأصل) الذي يُعارَضُ به (بيده) أي يد الشيخ مِن غَيرِ أنْ يحفظه (أو يدِ ثقةٍ) غيره، أمّا غيرُ النِقَةِ فلا يُعتَدُّ بإمساكه؛ لاحتمالِ الغَلَطِ والتصحيف في مقروء الراوي، وعدم رد غيرِ الثقة. واحتمال سَهوِ الثِقَةِ نادر فلا يقدح، كما لا يَقْدَحُ السهو لو قرأ الشيخ أيضاً.
(وهي) أي هذه الطريقة (رواية صحيحة اتفاقاً) من المحدثين، وإن خالف فيه مَنْ لا يُعتد به(2).
ولكن اختلفوا في أنّ القراءة على الشيخ مثلُ السَماعِ مِن لفظه في المرتبة، أو فوقه، أو دونَه. فالأشهر ما تقدّم من أنّ السَماعَ أعلى، وقد عرفت وجهه.
(وقيل: هو ) أي العَرْضُ (كتحديثه) أي تحديث الشيخ بلفظه سواء.
وهو المنقولُ عن علماء الحجاز والكوفة(3)؛ لتحققِ القَراءةِ في الحالتين، مع سَماعِ
ص: 453
الآخِر، وقيام سَماع الشيخ مقامَ قراءته في مراعاة الضبط.
وورد به حديث عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قراءتك على العالم وقراءة العالم عليك سَواءٌ»(1).
(وقيل) العَرضُ (أعلى) من السماع من لفظ الشيخ(2).
وما وقفتُ لهؤلاء على دليل مُقنع إلا ملاحظة الأدب مع الشيخ في عدم تكليفه القراءة التى هى بصورة أن يكون تلميذاً لا شيخاً.
(والعبارة عن هذه الطريق) أن يقول الراوي - إن أراد رواية ذلك : («قرأتُ على فلان» أو «قُرئ عليه وأنا أسمع، فأقرَّ» الشيخ (بهِ») أي لم يكتفِ بالقراءة عليه، ولا بعدم إنكاره، ولا بإشارته، بل تلفظ بما يقتضي الإقرار بكونه مَرْوِيَّه.
وهذان أعلى عباراتِ هذه الطريق؛ لدَلالتهما على الواقع صريحاً، وعدم احتمالهما غير المطلوب.
(ثُمَّ) بعدهما في المرتبة أن يقول: («حدثنا» و «أخبرنا» مقيَّدَيْن ب_( قوله: «قراءةٌ عليه»ونحوه) من الألفاظ الدالة عليه.
(أو مُطلَقَيْن) عن قوله: «قراءةً عليه» (على قول) بعض المحدثين(3)؛ لأنّ إقراره به قائم مقام التحديث والإخبارِ ومِن ثَمَّ جازا مقترنين بالقراءة عليه.
وقيل: لا يسوغ هنا الإطلاق(4)؛ لأنّ الشيخ لم يحدّث ولم يُخبر وإنْ أقرّ، وإنما سمع الحديث. ولا يلزم من جوازهما مقترنين جوازهما مُطلَقين؛ لأنّ الألفاظ المستعملة على وجه المجاز يقترن بغيرها من القرائن الدالّة عليها ولا تُطلق كذلك مقيّدة لمعناها.
ص: 454
(وفي) قول ثالث: يجوز إطلاق الثاني وهو أخبرنا» (دون الأول) وهو «حدّثنا»(1)؛ لقوّة إشعاره بالنطق والمشافهة دونَ «أخبرنا»، فإنه يتجوّز بها في غيرِ النطق كثيراً؛ ولأنّ الفرق قد شاع بين أهل الحديث وإن لم يكن بينهما فرق من جهة اللغة، ومَنْ فرّق بينهما لغةً فقد تكلّف عَناءً.
(و) القولُ بالفرق (هو الأظهرُ) في الأقوال، والأشهرُ في الاستعمال.
(وإذا قال الراوي (له) أي للمروي عنه: («أخبرك فلان») بكذا، وهو ساكت، مُصْغِ إليه فاهِمٌ لذلك (فلم) يُنْكِر) ذلك (صح) الإخبار والتحديث عنه (وإن لم يتكلّم) بما يقتضي الإقرار به على قول الأكثر؛ لدلالة القرائن المتضافرة على أنّه مُقِرُّ به ولأن عد الله تمنع من السكوت عن إنكار ما يُنْسَب إليه بغير صحةٍ.
وشَرَطَ بعضُهم نُطقه(2)؛ ليتحقق التحديث والإخبار، ولأن السكوت أعم من الإقرار ،ولهذا يقال: لا يُنْسَبُ إلى الساكت مذهب.
فعلى الأوّل يجوز للراوي أن يقول كالأوّل: «حدّثنا» و «أخبرنا» تنزيلاً لسكوته مع قيام القرائن على إقراره - منزلة إخباره.
(وقيل) : إنّما (يقولُ: «قُرِى عليه» وهو يَسْمع، ونحوه، و(لا) يجوز أن يقول: («حدثني»)لأنه كذب. وحينئذ، فله أن يعمل به ويرويه كذلك(3).
(وما سَمِعة) الراوي من الشيخ (وحدَه، أو شكّ) هل سَمِعَه وحدَه أو مع غيره (قال) عند روايته لغيره: «حدثني» و«أخبرني» بصيغة المتكلّم وحده؛ ليكون مطابقاً للواقع مع تحقق الوحدة، ولأنه المتيقَنُ مع الشكّ؛ لأصالة عدم سماع غيره معه.
ص: 455
(و) ما سمعه (مع غيره) يقول: («حدثنا») و «أخبرنا» بصيغة الجمع للمطابقة أيضاً. وقيل: إنّه يقول مع الشكّ: «حدّثنا» لا «حدّثني» لأنّه أكمل مرتبةً من «حدّثنا»(1)حيث إنّه يحتمل عدم قصده؛ بل التدليس بتحديث أهل بلده كما مرّ، فليقتصر إذا شك على الناقص وصفاً؛ لأنّ عدم الزائد هو الأصل.
وهذا التفصيل بملاحظة أصل الإفراد والجمع هو الأولى.
(ولو) (عكس) الأمر (فيهما) فقال في حالة الوحدة والشكّ: «حدّثنا بقصد التعظيم، وفي حالة الاجتماع «حدثني» نظراً إلى دخوله في العموم، وعدم إدخالِ مَنْ مَعَهُ في لفظه (جاز) لصحته لغةً وعُرْفاً .
(ومُنعَ) أي مَنَعَ العلماء في الكلمات الواقعة (في المصنفات) بلفظ «أخبرنا» أو «حدثنا» (من إبدال إحداهما بالأخرى) لاحتمال أن يكونَ مَنْ قال ذلك لا يرى التسوية بينهما، وقد عبّر بما يُطابق مذهبه. وكذا ليس له إبدال «سمعت» بإحداهما، ولا عكسه.
وعلى تقدير أن يكون المصنِّفُ ممّن يرى التسوية بينهما، فيُبنى على الخلافِ المشهورِ في نقل الحديثِ بالمعنى، فإن جوّزناه جاز الإبدال، وإلا فلا.
(وأما المسموع) منهما من غير أن يُذكر في مصنفٍ (فيُبنى) جواز تعبيره بالآخر (على جواز الرواية بالمعنى) وعدمه، فإن قلنا به جاز التعبير، وإلّا فلا. سواءٌ قلنا بتساويهما في المعنى أم لا ؛ لأنه حينئذٍ يكون مختاراً لعبارة مؤدّية لمعن
ص: 456
الأخرى، وإن كانت أعلى رتبة أو أدنى.
(ولا تصح الرواية (و) الحالُ أنّ (السامع أو المستمع(1)ممنوعٌ منه) أي من السماع بنَسْخِ ونحوه من الموانع، كالحديثِ والقراءة المُفْرِطة في الإسراع والخفية؛ بحيث يخفى بعضُ الكَلِمِ، والبعد عن القارئ، ونحو ذلك. والضابط كونه (بحيث لا يفهم المقروء) لعدم تحقق معنى الإخبار والتحديث معه؛ فلو اتفق، قال: «حضرت» «لا حدّثنا وأخبرنا».
وقيل: يجوز (ويُعفى عن اليسير) من النسخ ونحوه، على وجه لا يمنعُ أصل السماع، وإن منع وقوعه على الوجه الأكمل(2).
ويختلف ذلك باختلافِ أحوال الناسِ في حُسن الفهم وعدمه، واندفاعه بالشواغل، فإنّ منهم مَنْ لا يمنعُه النَسْخُ ونحوه مطلقاً، ومنهم مَنْ يمنعه أدنى عائق.
وقد رُوي عن الحافظ أبي الحسن الدارقطني، أنه حضر في حدائتِه مجلس الصفار، فجلس ينسخ جزءً كان معه، والصفّار يُملي، فقال له بعض الحاضرين: لا يصح سماعك وأنتَ تنسخ؛ فقال: فهمي للإملاء خلافُ فَهْمِك. ثمّ قال: تحفظ كم أملى الشيخ م-ن حديث، إلى الآن؟ فقال: لا؛ فقال الدارقطني: أملى ثمانية عشر حديثاً. فعُدّت الأحاديتُ فوُجِدَتْ كما قال. ثمّ قال أبو الحسن الحديث الأوّلُ منها عن فلان ومتنه كذا، والحديث الثاني عن فلان ومتنه كذا. ولم يزل يذكر أسانيد الأحاديث ومتونها على ترتيبها في الإملاء حتى أتى على آخرها، فتعجب الناسُ منه(3).
(وليُجز) الشيخ (للسامعين روايته) أي رواية المسموع أجمع، أو الكتاب، بعد الفراغ منه، وإن جرى على كلّه اسم السماع.
ص: 457
وإنما كان الجمعُ أولى؛ لاحتمال غَلَط القارئ وغفلة الشيخ، أو غفلة السامع عن ،بعضه، فيُجْبَر ذلك بالإجازة لما فاته.
وإذا كتب لأحدِهم خَطَّه حينئذ، كتب: «سمعه منّي وأجزتُ له روايته عنّي» جمعاً بين الأمرين.
(وإذا عَظم مجلس المحدِّثِ) وكثر فيه الخلق، ولم يُمكن إسماعه للجميع (فبلغ) عنه (مُسْتَمل، روى) سامعُ المستملي عن المُمْلي) عند بعض المحدثين؛ لقيام القرائنِ الكثيرةِ بصدقه فيما بَلَّغه في مجلس الشيخ عنه، ولجريان السَلَفِ عليه، فقد كان كثير من الأكابر يَعْظم الجمع في مجالسهم جداً حتّى يبلغ ألوفاً مؤلفةً، ويُبَلِّغ عنهم المُستَمِلون، فيكتبون عنهم بواسطة تبليغهم. وأجاز غيرُ واحدٍ رواية ذلك عن المُمْلي.
وأكثر ما بَلَغَنا في ذلك عن أصحابنا أنّ الصاحب كافى الكفاة إسماعيل بن عباد (قدس الله سره) ، لمّا جلس للإملاء، حَضَرَ خلق كثيرٌ، فكان المُستملي الواحد لا يقومُ بالإملاء، حتى انضاف إليه ستّةٌ، كلُّ يُبَلّغ صاحبَه(1).
وروى أبو سعيد السمعاني في أدب الاستملاء أنّ المعتصم وَجَّهَ مَنْ يُحرز مجلس عاصم بن عليّ بن عاصم في رحبة النخل الذي في جامع الرصافة ، قال : وكان عاصم يجلس على سطح المسقطات وينتشر الناسُ في الرحبة وما يليها ، فيعظم الجمعُ جداً، حتى سُمع يوماً يُستعاد اسم رجل في الإسناد أربع عشرة مرةً، والناسُ لا يَسْمعون، فلمّا بَلَغَ المعتصم كثرة الجمع أمر مَنْ يُحرزهم، فحرزوا المجلس عشرين ألفاً ومائة ألْفِ(2).
ثمّ خمدت نارُ العلم، وبار، وولّتْ عساكره الأدبار.
ص: 458
فكأنّهُ بَرْقٌ تألق بالحِمى *** ثم انطوى، فكأنّه لم يَلْمَع(1)
(وقيل: لا) يجوز لمن أخذ عن المستملي أن يرويه عن المُمْلي بغير واسطة المستملي(2)(وهو الأظهر) لأنه خلافُ الواقع.
(ولا يُشترط في صحة الرواية بالسماع والقراءة (التراني) بأن يرى الراوي المروي عنه، بل يجوز، ولو من وراء حجاب (إذا عَرَفَ الصوت) إن حدث بلفظه، أو عرف حضوره إن قُرئ عليه (أو أخبره ثقة) أنه هو فلان المروي عنه.
ومن ثُمَّ صحت رواية الأعمى كابن أُم مكتوم، وقد كان السلف يسمعون من أزواج النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)وغيرهنّ من النساء من وراء حجاب، ويروونه عنهنّ اعتماداً على الصوتِ.
واستدلوا عليه أيضاً بقوله(صلی الله علیه و آله و سلم): «إنّ بلالاً يُؤذِّن بِلَيْلٍ، فكُلوا واشربوا حتى تسمعوا أذانَ ابنِ أُمِّ مَكْتُومٍ»(3).
(وقيل: بلى) يُشترط الرؤية؛ لإمكان المماثلة في الصوت، وقد كان بعض السلف يقول: «إذا حدثك المحدّث فلم تَرَ وجهَه فلا تَرْوِ عنه، فلعله شيطان قد تصوّر في صورته، يقول: حدّثنا وأخبرنا»(4).
والحق أنّ العلم بالصوت يدفعُ ذلك، واحتمال تصورِ الشيطان مشترك بين المُشافهة ووراء الحجاب.
ص: 459
(و) كذا (لا) يُشترط (علمُه) أي علم المحدّث (بالسامعين) فلو استمع مَنْ لم يعلمه بوجه من الوجوه المانعة من العلم، جاز للسامع أنْ يَرويه عنه؛ لتحقق معنى السماع المعتبر.
(ولو قال المحدث: «أُخبركم ولا أخبرُ فلاناً» أو خَصَّ قوماً بالسماع، فَسَمِعَ غيرهم، أو قال بعد السماع: «لا تَرْوِ عنّي») والحال أنه (غير ذاكر خطاً للراوي) أوجب الرجوع عن الرواية (روى السامع عنه في الجميع) لتحقق إخبار الجميع، وإن لم يَقْصُد بعضهم.
حتى لو حَلَفَ، لا يُخبر فلاناً بكذا، فأخبر جماعةً هو فيهم واستثناهُ، حَنَتَ. بخلافِ مالو حَلَفَ لا يُكلِّمه واستثناه.
وكذلك نهيه عن الرواية لا يُزيلها بعد تحققها؛ لأنه قد حدثه وهو شيء لا يُرجع فيه.
وفي معناه ما لو قال: «رجعتُ عن إخباري إيّاك به» أو «لا آذنُ لك في روايته ونحو ذلك.
نعم، لو كان رجوعه لتذكّره خطأ في الرواية تعين الرجوع، ويُقبل قوله فيه.
(وثالثها: الإجازة) وهي في الأصل مصدر «أجاز» وأصلها «إجوازة» تحرّكت الواوُ فتوهم انفتاح ما قبلها فانقلبت ألفاً، وبقيت الألفُ الزائدة التي بعدها فحُذِفَت لالتقاء الساكنين، فصارت «إجازة» وفي المحذوف من الألِفَيْنِ الزائدة أو الأصلية قولان مشهوران الأوّل قول سيبويه، والثاني قول الأخفش(1).
(وهي) مأخوذة (من) جواز الماء الذي يُسقاه المال، من الماشية والحرث، ومنه قولهم: «استجزتُه فأجازني» إذا سقاك) ماءً (الماشيتك أو أرضك(2).
فالطالب للحديث يَسْتجيزُ العالم علمه) أي يطلب إعطاءه له، على وجه يحصل به
ص: 460
الإصلاح لنفسه، كما يحصل للأرض والماشية الإصلاح بالماء (فيُجيزه له).
وكثيراً ما يُطلق على العلم اسم الماء، وعلى النفس اسم الأرض، وعليه بعضُ المفسّرين(1)لقوله تعالى: ﴿وترى الأرضَ هامِدةً فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزّتْ ورَبَتْ﴾(2).
(وحينئذ) أي حين إذ كان أخذها من الإجازة التي هي الإسقاء (فتتعدّى إلى المفعول بغير حرف جر، ولا ذكر روايةٍ (فيقول: «أجزتُه مسموعاتي»مثلاً) كما تقولُ: «أجزتُه مائي».
(وقيل: هي) أي الإجازة (إذن) وتسويغ(3)، وهو المعروف، وعلى هذا (فيقول: «أجزتُ له رواية كذا») كما يقول: «أذنتُ له، وسوّغت له».
(وقد يُحذف المضافُ) الذي هو متعلّق الإذن، فيقول: «أجزت له مسموعاتي» مثلاً من غير ذكر «الرواية» على وجهِ المَجاز بالحذف.
وإذا تقرر ذلك؛ فاعلم أنّ المشهور بين العلماء من المحدثين والأصوليين أنه يجوز العمل بها، بل ادّعى جماعة الإجماع عليه(4)، نظراً إلى شُذوذ المخالفِ.
وقيل - وهو يُعزى إلى الشافعي في أحد قوليه، وجماعةٍ من أصحابه، منهم ،القاضيان حسين والماوردي - لا تجوز الرواية بها؛ استناداً إلى أن قول المحدّث: «أجزتُ لك أن تروي عنّى» فى معنى: «أجزتُ لك ما لا يجوز في الشرع» لأنه لا يُبيحُ
رواية ما لم يُسْمع، فكانَ في قوّةِ: «أجزتُ لك أن تَكِذبَ عليَّ»(5).
وأجيب بأنّ الإجازة عُرفاً في قوة الإخبار بمروياته جملةً، فهو كما لو أخبره تفصيلاً، والإخبار غيرُ متوقف على التصريح نُطقاً، كما في القراءة على الشيخ، والغرضُ
ص: 461
حصول الإفهام، وهو يتحقق بالإجازة(1).
وبأنّ الإجازة، والرواية بالإجازة مشروطان بتصحيح الخبر من المخبر، بحيث يوجد في أصل صحيح، مع بقية ما يُعتبر فيها، لا الرواية عنه مطلقاً سواءٌ عُرِفَ أم لا، فلا يتحقق الكذب.
ثم اختلف المجوّزون في ترجيح السماع عليها أو العكس على أقوال، ثالثها الفرقُ بينَ عَصرِالسَلَفِ قبلَ جَمع الكتب المعتبرة التي يُعوَّلُ عليها ويُرجع إليها، وبين عصر المتاخرين:(2)
ففي الأوّل السماعُ أرجحُ؛ لأنّ السلف كانوا يجمعون الحديث من صُحف الناسِ وصُدورِ الرجال، فدعت الحاجة إلى السماع خَوْفاً من التدليس والتلبيس. بخلاف ما بعد تدوينها؛ لأنّ فائدة الرواية حينئذٍ إنّما هي اتصال سلسلة الأسنادِ بالنبي، تبركاً وتيمناً، وإلا فالحجّة تقوم بما في الكتب، ويُعرف القوي منها والضعيفُ من كتب الجرح
والتعديل . وهذا قوي متين. ثمّ الإجازة تتنوّع أنواعاً أربعة؛ لأنها إما أن تتعلّق بأمرٍ معين لشخص معين، أو عكسه، أو بأمرٍ معين لغيره، أو عكسه.
(وأعلاها) الأول، وهو الإجازة (لمعين به) أي بمعين، ك_«أجزتُك الكتاب الفلاني» أو «ما اشتمل عليه فهرستي هذا».
وإنّما كانت أعلى؛ لانضباطها بالتعيين، حتّى زعم بعضُهم: أنه لا خلاف في جوازها؛ وإنما الخلاف في غير هذا النوع(3).
(أو) الإجازة لمعيّن (بغيره) أي غير معيّن كقولك: «أجزتُك مسموعاتي» أو
ص: 462
«مروياتي» وما أشبهه، وهذا أيضاً جائز على الأشهر.
(و) لكن (الخلاف فيه أكثر) من حيث عدم انضباط المجاز، فيبعد عن الإذن الإجمالي المسوغ له.
ولو قيدت بوصفٍ خاص ك_«مسموعاتي من فلان» أو «في بلد كذا» إذا كانت متميزة، فأولى بالجواز.
(ثمّ) بعدهما في المرتبة الإجازة (لغيره) أي غير معيّن ك_«جميع المسلمين» أو كلّ أحدٍ» أو «مَنْ أدرك زماني وما أشبه ذلك، سواء كانَ بمعيّن ك_«الكتاب «الفلاني»أو بغير معين ك_«ما يجوز لي روايته»ونحوه.
(وفيه) أيضاً (خلافٌ) مرتب في القوة بحسب المرتبتين، فجوّزه على التقديرين جماعةٌ من الفقهاء والمحدثين.
وممّن وقفت على اختياره لذلك من متأخري أصحابنا شيخنا الشهيد، وقد طلب من شيخه السيّد تاج الدين بن مُعيَّة الإجازة له، ولأولاده، ولجميع المسلمين ممن أدرك جزءاً من حياته جميع مروياته فأجازهم ذلك بخطه(1).
(ويقربه إلى الجواز تقييده بوصف خاص كأهل بلد معين. فإن جوزنا العام جاز هنا بطريق أولى، وإلا احتمل الجواز هنا للحصر.
(و تبطل) الإجازة (ب) مروي (مجهول، أوله) أي لشخص مجهول.
فالأول: (ك_«كتاب كذا»وله) أي للمُجيز (مرويات كثيرة بذلك الاسم).
(و) الثاني، كقوله: «أجزتُ (لمحمّد بن فلان» وله موافقون فيه) أي في ذلك الاسم والنسب، ولا يُعيّن المُجازَ له منهم.
(و) ليست من هذا القبيل (إجازته لجماعة) مسمّيين معيَّنين بأنسابهم، والمُجيرُ (لا يعرفُ أعيانهم) فإنّه غير قادح (كإشماعهم) أي كما لا يقدح عدم معرفته بهم إذا
ص: 463
حضروا في السماع منه ، كما تقدّم لحصول العلم في الجملة، وتميّز هم في التسمية(1)هنا.
(و) تعليق الإجازة على الشرط كقوله: «أجزتُ لِمَن شاءَ فلانٌ» باطل) لا يُفيدها عندَ جماعة للجهالة، والتعليق، كقوله: «أجزتُ لبعض الناس».
(وقيل: لا) لارتفاع الجهالة عند وجود المشيئة، بخلاف الجهالة الواقعة في الإجازة لبعض الناس(2).
(و«لمن شاء الإجازة» أو «الرواية» أو «لفلان إن شاء» أو «لك إن شئتَ» تصح) لأنّها وإن كانت معلّقةً إلّا أنّها في قوّة المُطلقة؛ لأنّ مقتضى كلّ إجازة تفويض الروايةِ إلى مشيئة المُجازِ له فكان هذا مع كونه بصيغة التعليق - في قوة ما يقتضيه الإطلاق، وحكايةً للحال، لا تعليقاً حقيقةً، حتّى أجاز بعض الفقهاء: «بعتك إن شئتَ» فقال: «قبلتُ»(3).
و (لا) تصح الإجازة (المعدوم) كقوله: «أجزتُ لمن يُولد لفلان» كما لا يصح الوقف عليه ابتداءً.
وقيل: (بل) تصح الإجازة للمعدوم (إن عُطِفَ المعدوم (على موجود) ك_«أجزتُ الفلان ومَنْ يُولد له»(4)، كالوقف .
ومنهم مَنْ أجازها للمعدوم مطلقاً، بناءً على أنها إذن لا محادثة(5).
ص: 464
ورُدّ بأنّها لا تخرج عن الإخبار بطريق الجملة، كما سلف، وهو لا يُعقل للمعدوم ابتداءً، ولو سُلّم كونها إذناً فهي لا تصح للمعدوم كذلك، كما لا تصح الوكالة للمعدوم(1).
(وتصح لغير مميّز) من المجانين والأطفال بعد انفصالهم، بغير خلافٍ يُنقل في ذلك من الجانبين.
وقد رأيتُ خطوط جماعة من فُضلائنا بالإجازة لأبنائهم عند ولادتهم، مع تاريخ ولادتهم، منهم السيد جمال الدين بن طاوس لولده غياتُ الدين وشيخنا الشهيدُ استجاز من أكثر مشايخه بالعراق لأولاده الذين ولدوا بالشام قريباً من ولادتهم، وعندي الآن خطوطهم لهم بالإجازة.
وذكر الشيخ جمال الدين أحمد بن صالح السيبي (قدس سره): أن السيد فخار الموسوي اجتاز بوالده مسافراً إلى الحجّ ،قال فأوقفني والدي بين يدي السيد، فحفظتُ منه أنّه قال لي: يا ولدي أجزتُ لك ما تجوز لي روايته، ثم قال: وستعلم فيما بعد
حلاوة ما خصصتك به .
وعلى هذا جرى السلفُ والخلفُ، كأنّهم رأوا الطفل أهلاً لتحمّل هذا النوع من أنواع حمل الحديث النبوي ليؤدّي به بعد حصول أهليته حرصاً على توسع السبيل إلى بقاء الإسناد الذي اختصت به هذه الأمة، وتقريبه من رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)بعلوّ الإسناد.
(وفيها) أي في الإجازة (للحمْل) قبل وضعه (وجهان) بل قولان بالصحة؛ نظراً إلى وجوده. وعدمه؛ نظراً إلى عدم تميّزه. وقد تقدم أنه غيرُ مانع، فيتجه الجواز.
(وتصح للكافر) كما يصح سَماعُه، للأصل. (و) تظهرُ (الفائدة إذا أسلم) ، وقد وقع ذلك في قريبٍ من عصرنا، وحصل بها النفعُ.
وللفاسق والمبتدع بطريق أولى فرجاءُ زوال فشق المسلم أقرب، ورواية المبتدع تقبل على بعض الوجوه، وقد تقدّم.
ص: 465
و (لا) تجوز الإجازة (بما لم يتحمّله) المجيز من الحديث (ليرويه عنه إذا تحمّله) المجيز بعد ذلك، لما عرفت من أنّها في حكم الإخبار بالمُجازِ جملةً، أو إذن. ولا يُعقل أن يخبر بما لم يُخْبَر به، ولا أن يأذن فيما لا يملك، كما لو وَكَّلَ في بيع العبد الذي يُريد أن يشتريه.
وذهبَ بعضُهم إلى جوازه؛ بناءً على جواز الإذن كذلك حتى في الوكالة(1).
وحينئذٍ (فيتعين) مَنْ يريد الإجازة بجميع مسموعاته مثلاً (في الرواية تحقيق ما تحمّله) منها (قبلها ليرويه) لكن لو قال: «أجزتُ لك ما صح ويصح عندك من مسموعاتي مثلاً صح أن يروي بذلك عنه ما صح عنده بعد الإجازة أنه سمعه سمعه قبل
الإجازة(2).
وأجاز بعضُهم إجازة ما يتجدّد روايته ممّا لم يتحمّله، ليرويه المُجاز له إذا تحمّله المُجيرُ بعد ذلك، وقد فعله جماعة من الأفاضل.
(و تصح) للمُجازِ له إجازة المُجاز) لغيره فيقول: «أجزتُ لك مُجازاتي» أو «رواية ما أجيز لي روايته»؛ لأن روايته إذا صحت لنفسه جاز له أن يرويها لغيره.
(وقيل: لا) يجوزُ إجازتها، وإنّما يجوز للمجاز العمل بها لنفسه خاصةً(3). وهو متروك.
(و) ينبغي لمن يروي بالإجازة أن (يتأمَّلها) أي إجازة شيخ شيخه التي أجازها له شيخه (ليروي) المُجازُ الثاني (ما دَخَلَ تحتها) ولا يتجاوزها(4).
ص: 466
(فإن أجيز شيخه بما صح سَماعُه عنده من مسموعات شيخه (لم يَرُو) هذا المُجاز الثاني عن شيخه - وهو الأوسط - (إلّا ما تحقق) عند الراوي الأخير (أنّه صح عند شيخه) وهو الأوسط (أنّه سَماعُ شيخه الأوّل، ولا يكتفي بمجرد صحة ذلك عنده الآن، من غير أن يكون قد صح سَماعُه عند شيخه ؛ عملاً بمقتضى لفظه وتقييده، فينبغي التنبه لذلك وأشباهه .
(و) إنما (تُستحسن) الإجازة (مع علم المجيز بما أجاز) ، (وكونِ المُجاز) له (عالماً) أيضاً، لأنّها توسّع وترخيص يتأهل له أهل العلم لمسيس حاجتهم إليها.
(وقيل: يُشترط) العلم فيهما(1)، والأشهرُ عدمه.
(وإذا كتب) المجيزُ (بها) أي بالإجازة (وقصدها صحت) الإجازة (بغير تلفظ) بها، كما صحت الرواية بالقراءة على الشيخ مع أنّه لم يتلفظ بما قُرئ عليه (وبه) أي باللفظ مع الكتابة (أولى) منها بدون اللفظ ؛ ليتحقق الإخبارُ الذي متعلقه اللفظ ، أو
الإذن.
والمقتصر على الكتابة، ينظر إلى تحققِ الإذنِ والإخبار بالكتابة القصد، كما تتحقق الوكالة بالكتابة مع قصدِها عند بعضهم؛ حيث إنّ الغرض مجرّد الإباحة، وهي تتحقق بغير اللفظ، كتقديم الطعام إلى الضيف، ودفع الثوب إلى العريان ليلبسه، ونحو ذلك، والأخبار يتوسع بها في غير اللفظ عُرفاً.
(ورابعها: المناولة؛ وهي نوعان:
أحدهما) : المناولة (المقرونة بالإجازة، وهي أعلى أنواعها) أي أنواع الإجازة على الإطلاق؛ حتّى أنكر بعضُهم إفرادها عنها، لرجوعها إليها. وإنّما يفترقان في أنّ المناولة تفتقر إلى مشافهة المجيز للمجاز له، وحضوره، دون الإجازة.
ص: 467
وقيل: إنّها أخفض من الإجازة؛ لأنّها إجازة مخصوصة في كتاب بعينه، بخلاف الإجازة(1).
(ثمّ لها مراتب منها : أن يُعطيه تمليكاً، أو عاريةً لينسخ أصله أي أصلَ سَماع الشيخ ونحوه (ويقول) له: («هذا سَماعي من فلان) أو روايتي عنه (فاروه عنّي»)أو«أجزتُ لك روايته عني» ثم يُملكه إيَّاه، أو يقول: «خُذه وانسخه وقابِلْ بهِ ثُمَّ رُدّه إِليَّ» ونحو هذا .
(ويُسمّى) هذا (عَرْضَ المُناولة؛ إذ القراءةُ عَرْضُ) ويقال لها: «عرضُ القراءة».
(وهي) أي المناولة المقترنة بالإجازة (دونَ السَماع في المرتبة، على الأصح؛ لاشتمال القراءة على ضَبْطِ الرواية وتفصيلها بما لا يتفق بالمناولة.
(وقيل) : إنّ المناولة مع الإجازه (مثلُه) أي مثل السماع(2)، من حيث تحقق أصل الضبط من الشيخ، ولم يحصل منه - مع سماعه من الراوي - إخبار مفصل بل إجمالي فتكون المناولة بمنزلته.
(تم) دونَ هذه في المنزلة أنْ يُناوله سَماعَه ويُجيزة له ويُمسكه الشيخ عنده، ولا يُمكنه منه (فيرويه) عنه إذا وجدَه وظَفَرَ به أو بما قُوبِلَ به على وجه يثق معه بموافقته لما تناولته الإجازة، على ما هو معتبر في الإجازات المجرّدة عن المناولة.
(و) هذه المرتبةُ تتقاعد عما سبق، لعدم احتواء الطالب على ما تحمّله وغَيْبته عنه؛ فلهذا لا يكاد يظهر لها مزيّة على الإجازة الواقعة في معين كذلك من غير مناولة، إلّا أنّ المشهور أنّ (لها مزيّةٌ على الإجازة المجردة في الجملة، باعتبار تحقق أصل المناولة.
ص: 468
(وقيل: لا) مزيّة لها عليها أصلاً(1)، وهو قريب.
(فإن أتاه) أي أتى الطالب الشيخ (بكتاب؛ فقال) الطالب للشيخ: («هذا روايتك فناولنيه) وأجزلي روايته» (ففعل من غير نَظَرٍ) في الكتاب، وتحقيق لكونه رواه جميعه أم لا (باطل: إن لم يثق بمعرفة الطالب) بحيث يكون ثقة متيقظاً. (وإلَّا صَحَ) الاعتماد عليه، وكانت إجازةً جايزةً، كما جاز في القراءة على الشيخ الاعتماد على الطالب حتى يكون هو القارئ من الأصل، إذا كان موثوقاً به معرفةً وديناً.
(وكذا) يجوز مطلقاً (إنْ قال) الشيخ: («حدّث عنّي بما فيه إن كان حديثي) مع براءتي من الغَلَط والوَهْم لزوال المانع السابق، مع احتمال بقاء المنع، للشك عند الإجازة، وتعليقها على الشرط.
(وثانيهما) : المناولة (المجردة عن الإجازة، بأن يناوله كتاباً ويقول: «هذا سماعي»)أو «روايتي» (مقتصراً عليه) أي من غير أن يقول: «اروه عنّي» أو «أجزتُ لك روايته عني ونحو ذلك.
وهذه مناولةٌ مُختلة (فالصحيح أنه لا تجوز له الرواية بها. وجوزها) أي الرواية بذلك (بعض المحدثين) لحصول العلم بكونه مرويّاً له، مع إشعارها بالإذن له في الرواية.
واستدل لها من الحديث بما رُوي عن ابن عبّاس أنّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)بعث بكتابه إلى كسرى مع عبد الله بن حذافة، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، ويدفعه عظيم البحرين إلى كسرى(2).
ص: 469
وفي أخبارنا، روي في الكافي بإسناده إلى أحمد بن بن عمر ،الحلال، قال قلت لأبي الحسن الرضا الرجل من أصحابنا يُعطيني الكتاب ولا يقول: اروه عنّي، يجوز لي أن أرويه عنه ؟ قال فقال: «إذا علمتَ أنّ الكتاب له فاروه عنه»(1).
وسيأتي أنّ منهم مَنْ أجاز الرواية بمجرد إعلام الشيخ الطالب أن هذا الكتاب سَماعُه مِن فلانٍ، وهذا يزيدُ على ذلك ويترجّح بما فيه من المناولة، فإنّها لا تخلو من إشعار بالإذن.
(وإذا روى بها) أي بالمناولة، بأي معنى فُرِضَ (قال: «حدثنا) فلانٌ (مناولةٌ) و«أخبرنا مناولةً» غير مقتصر على «حدّثنا وأخبرنا» لإيهامه السماع، أو القراءة.
(وقيل:) يجوز أن (يُطلق) خصوصاً في المناولة المقترنة بالإجازة(2)؛ لما عرفت من أنّها في معنى السَماع (وجوزه) أي إطلاق «حدثنا» و«أخبرنا» (بعضُهم في الإجازه المجرّدة عنها) أي عن المناولة(3).
والأشهر اعتبار ضميمة القيد بالمناولة أو الإجازة أو الإذن، ونحوها.
وكان قد خصص قوم الإجازة بعباراتٍ لم يسلموا فيها من التدليس، كقولهم في الإجازة: «أخبرنا » أو «حُدّثنا مُشافهةً» إذا كان قد شافهه بالإجازة لفظاً، وكعبارة مَنْ يقول: «أخبرنا فلان كتابةً» أو «فيما كَتَبَ إلى» إذا كان قد أجازه بخطه.
وهذا ونحوه لا يخلو عن التدليس؛ لما فيه من الاشتراك والاشتباه بما هو أعلى منه، كما إذا كَتَبَ إليه ذلك الحديث نفسَه .
(و) لأجل السلامة من ذلك (خَصَّ بعضهم الإجازة شفاهاً ب_«أنبأني»و) ما كتب
ص: 470
إليه المحدّث من بلده (كتابةً) ولم يُشافهه بالإجازة (ب_«كَتَبَ إليَّ) فلان كذا»(1).
(وبعضُهم استعمل في الإجازة) الواقعة في رواية مَنْ (فوق الشيخ) المستمع بكلمة («عن») فيقولُ أحدهم إذا سمع على شيخ بإجازته عن شيخه: «قرأتُ على فلانٍ عن فلانٍ»(2)ليتميّز عن السماع الصريح، وإن كان عن مشتركاً بين السماع والإجازة.
(و) اعلم أنه لا يزول المنع من إطلاق «أخبرنا » و «حدثنا» في الإجازة (بإباحة المُجيز) لذلك، كما اعتاده قوم من المشايخ من قولهم في إجازاتهم لمن يُجيزون له: «إن شاء قال حدثنا» و«إن شاء قال أخبرنا»؛ لأنّ الإجازة إذا لم تدلَّ على ذلك، لم يُفِذه إذْنُ المجيز.
(وخامسها: الكتابة؛ وهي أن يكتب) الشيخ (مرويه لغائب أو حاضر بخطه، أو يأْذَنَ) لثقةٍ يعرف خطه (بكتبه له) أو مجهول، ويكتب الشيخ بعده ما يدل على أمره بكتابته.
(وهي أيضاً ضربان) :
أحدهما: أن تقع (مقرونة بالإجازة) بأن يكتب إليه، ويقول: «أجزتُ لك ما كتبته لك» أو «كتبتُ به إليك» ونحو ذلك من عبارات الإجازة.
(وهي) أي المكاتبة بهذه الصفة (في الصحة والقوة كالمناولة المقرونة بها) أي بالإجازة.
(و) الثاني: أن تقعَ (مجرّدةً عنها) وقد اختلف المحدّثون والأصوليون في جواز الرواية بها، فمنعها قوم(3)، من حيث أن الكتابة لا تقتضى الإجازة لما تقدّم من أنّها إخبار أو إذن، وكلاهما لفظي؛ ولأنّ الخطوط تشتبه فلا يجوز الاعتماد عليها.
ص: 471
(والأشهر) بينهم (جواز الرواية بها؛ لتضمّنها الإجازة معنى) وإن لم تقترن بها لفظاً؛ لأن الكتابة للشخص المعيّن وإرساله إليه أو تسليمه إيَّاه قرينة قوية، وإشارة واضحة تُشعر بالإجازة للمكتوب، وقد تقدم أن الإخبار لا ينحصر في اللفظ، (كما يُكتفى في الفتوى)لشرعيّة (بالكتابة) من المفتى، مع أن الأمر في الفتوى أخطرُ والاحتياط فيها أقوى.
(نعم، يُعتبر معرفةُ الخطّ ) أي خط الكتابِ للحديث (بحيث يامن) المكتوب إليه (التزوير.
وشرط بعضُهم البينة) على الخط(1)، ولم يكتفِ بالعلم بكونه خطه، حذراً من المشابهة؛ إذ العلمُ في مثل ذلك عادي لا عقلي.
والأوّل أصح وإن كان هذا أحوط.
ثمّ على تقدير حجيّة المكاتبة، فهي أنزل من السماع، حتى يرجح ما رُوي بالسماع على ما رُوي بها، مع تساويهما في الصحة وغيرها من المرجحات، وإلا فقد تُرجح المكاتبة بوجومٍ أُخَرَ.
وقد وقع في مثل ذلك مناظرة بين الشافعي وإسحاق بن راهويه في جلود الميتة إذا دُبِعتْ، هل تطهرُ أم لا؟ يُناسب ذكرها هاهنا لفوائد كثيرة. قال الشافعي: دباغها طهورها فقال :إسحاق ما الدليل ؟ فقال : حديث ابن عباس عن ميمونة: «هلا انتفعتم بجلدها؟ يعني الشاة الميتة، فقال إسحاق حديث ابن عكيم(2) : كتب إلينا النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)قبل موته بشهرٍ: «لا تنتفعوا من المَيْتة بإهاب ولا عَصَبِ أشبه أن يكون ناسخاً لحديث ميمونة؛ لأنه قبل موته بشهر فقال الشافعي: هذا كتابٌ وذاك سماع. فقال إسحاق: إنّ النبيَّ(صلی الله علیه و آله و سلم)كتب إلى كسرى وقيصر ، وكان حُجّةً عليهم، فسكت الشافعي(3).
ص: 472
(و) حيث يروي المكتوبُ إليه مارواه بالكتابة (يقول فيها: «كَتَبَ إلي فلان، قال: حدثنا فلان» أو «أخبرنا مكاتبة» لا «حدثنا»)ولا «أخبرنا» مجرّداً، ليتميّز عن السماع وما في معناه.
(وقيل: بل) يجوز إطلاق لفظهما(1)؛ حيث إنها إخبار في المعنى، وقد أُطلق الإخبار لغةً على ما هو أعم من اللفظ، كما قيل:
وتخبرني العينان ما القلبُ كاتم(2).
(وسادسها: الإعلام، وهو أن يُعلم الشيخ الطالب أنّ هذا الكتاب) أو هذا الحديث (روايته أو سماعه) من فلان (مقتصراً عليه) من غير أن يقول: «اروه عنّي» أو «أذنتُ في روايته» ونحوه.
(وفي جواز الرواية به قولان):
أحدهما: الجواز(3)؛تنزيلاً له منزلة القراءة على الشيخ؛ فإنه إذا قرأ عليه شيئاً من حديثه وأقرّ بأنّه روايته عن فلان جاز له أن يرويه عنه وإن لم يسمعه من لفظه، ولم يقل له: «اروه عنّي» أو «أذنتُ لك في روايته عنّي».
وتنزيلاً لهذا الإعلام منزلَة مَنْ سمع غيرَه يُقرّ بشيء، فله أن يشهد عليه، وإن لم يُشهده، بل وإن نهاه وكذا لو سمع شاهداً شهد بشيءٍ، فإنه يصير شاهد فرع، وإن لم يستشهده.
ولأنّه يُشعر بإجازته له، كما مر في الكتابة، وإن كان أضعف.
والثاني: المنع(4)؛ لأنّه لم يُجزه، فكانت روايته عنه كاذبةً.
ص: 473
وربما قيس أيضاً على الشاهد إذا ذكر في غير مجلس الحكم شهادته بشيء، فإنّه ليس لمن سمعه أن يشهد على شهادته إذا لم يأذن له ولم يشهده على شهادته. والأصل ممنوع.
(وفي) قول (ثالث) له أن (يرويه) عنه بالإعلام المذكور (وإن نهاه) كما لو سمع منه حديثاً، ثمّ قال له: «لا تروه عنّى ولا أُجيزه لك» فإنّه لا يضره ذلك(1).
(والأقوى عدمه مطلقاً) لعدم وجود ما يحصل به الإذن، ومنع الإشعار به، بخلاف الكتابة إليه.
(وفي معناه) أي معنى الإعلام ما لو أوصى له عند موته أو سفره بكتاب يرويه، وفيه القولان .
و) لكنّ (الصحيح) هُنا (المنع) لبعد هذا القسم جداً عن الإذن، حتى قيل: إن القول بالجواز: إمّا زَلَةٌ عالم، أو متأول بإرادة الرواية على سبيل الوجادة التي تأتي(2).
وهو غلط ؛ فإنّ القائل بهذا النوع دون الوجادة متحقق.
ووجهوه بأنّ فى دفع الكتاب إليه نوعاً من الإذن، وشَبَهاً من العَرْض والمُناولة.
وروى حمّادُ بنُ يزيد عن أيوب السختياني، قال، قلتُ لمحمد بن سيرين: إن فلاناً أوصى إليَّ بكتبه، أفأحدّث عنه؟ قال: نعم.
قال حماد: وكان أبو قلابة يقول: ادفعوا كُتبى إلى أيوب إن كان حيّاً، وإلا فاحرقوها(3).
(وسابعها الوجادة) بكسر الواو (وهي مصدر «وَجَدَ يَجدُ»مولَّد) من غير العرب (غير مسموع) من العرب الموثوق بعربيتهم، وإنّما ولده العلماء بلفظ الوِجادة، لِما أُخِذَ
ص: 474
من العلم من صحيفة، من غير سَماع، ولا إجازة، ولا مناولة؛ حيث وجدوا العرب قد فرقوا بين مصادر «وَجَدَ» للتمييز بين المعاني المختلفة؛ فإنّهم قالوا: «وَجَدَ ضالّته وجداناً» بكسر الواو ، و«إجداناً» بالهمزة المكسورة. ووَجَدَ مطلوبه وجُوداً» وفي الغضب: «مَوْجِدَةً» و«وجِدَةً». وفي الغنى: «وجداً» مثلث الواو، و«جِدَةً» وقُرئ بالثلاثة في قوله تعالى:﴿أَسْكِنُوهنَّ مِنْ حيث سكنتُم من وجدكُم﴾(1). وفي الحُبِّ: «وَجْداً».
فلمّا رأى المولّدون مصادر هذا الفعل مختلفةً بسبب اختلاف المعاني ولدوا لهذا المعنى «الوجادة» للتمييز.
(وهو) أي هذا النوع من أخذ الحديث ونقله (أنْ يجد) إنسان كتاباً أو حديثاً (مروي إنسانٍ بخطه) معاصرٍ له، أو غير معاصر، ولم يسمعه منه هذا الواحد، ولا له منه إجازة، ولا نحوها.
(فيقولُ: «وَجَدْتُ») أو «قرأتُ (بخط فلانٍ») أو: «في كتاب فلان بخطه: حدثنا فلان» ويسوق باقي الإسناد والمتن. أو يقول: «وجدت بخط فلان عن فلان» إلى آخره.
هذا الذي استقر عليه العمل قديماً وحديثاً.
(وهو منقطع) مرسَل (و) لكن (فيه) شوبُ (اتصال) بقوله: «وجدتُ بخط فلانٍ» وربما دلّس بعضُهم، فَذَكَر الذي وَجَدَ بخطه وقال فيه: «عن فلان» أو «قال فلان» وذلك تدليس قبيح، إن أوْهَمَ سَماعَه منه.
وجازف بعضهم، فأطلق في هذا «حدّثنا» و«أخبرنا» وهو غَلَطٌ منكر(2).
هذا كلّه إذا وَثَقَ بأنّه خط المذكور أو كتابه (فإن لم يتحقق) الواجدُ (الخطّ قال: «بلغني) عن فلانٍ». (أو «وجدتُ في كتاب، أخبرني فلانٌ أنّه: خط فلانٍ»)إن كانَ
ص: 475
أخبره به أحد. أو في كتابِ ظننتُ أنّه بخط فلانٍ»، أو «في كتاب ذكر كاتبه أنّه فلان»، أو «قيل: إنه بخط فلانٍ». ونحو ذلك.
(وإذا نقل من نُسخةٍ موثوق بها) في الصحة بأن قابلها هو، أو ثقة، على وجه وَثَقَ ) (المصنفٍ) من العلماء (قال فيه أي في العلماء (قال فيه أي في نقله من تلك النسخة: «قال فلان») يعني ذلك المصنف (وإلّا) يثق بالنسخة قال: («بلغني) عن فلان أنه ذكر كذا وكذا» و «وجدتُ في نسخة من الكتاب الفلاني وما أشبه ذلك من العبارات.
وقد تسامح أكثرُ الناس في هذا الزمان بإطلاق اللفظ الجازم في ذلك من غير تحرُّزِ وتثبتٍ؛ فيطالع أحدهم كتاباً منسوباً إلى مصنف معين، وينقلُ منه عنه من غير أن يَبْقَ بصحة النسخة، قائلاً: «قال فلان كذا» و«ذكر فلان كذا» وليس بجيّد، بل الصوابُ ما فصلناه(1).
(إلّا أن يكونَ) الناقلُ ( ممّن يعرفُ الساقط من الكتاب والمُغيَّر) منه المُصحف، فإنّه إذا تأمل، ووَثَقَ بالعبارة يُرجى له جواز إطلاق اللفظ الجازم فيما يحكيه من ذلك، والظاهر أنه إلى هذا اسْتَرْوَح كثيرٌ من المصنفين فيما نقلوه من ذلك والله أعلم.
(وفي جواز العمل بالوجادة) الموثوق بها (قولان) للمحدثين والأصولين:
فنُقل عن الشافعي وجماعةٍ من نظار أصحابه جواز العمل بها، ووجهوه بأنّه لو توقف العمل فيها على الرواية، لانسدّ باب العمل بالمنقول: لتعذر شرط الرواية فيها(2).
وحجّةُ المانع واضحةٌ؛ حيث لم يحدّث به لفظاً ولا معنى.
(ولا خلاف) بينَهم (في منع الرواية) بها؛ لما ذكرناه من عدم الإخبار.
(ولو اقترنت) الوجادة (بالإجازة) بأن كان الموجود خطه حيّاً وأجازه، أو أجازه غيره عنه ولو بوسائط (فلا إشكال) في جواز الرواية والعمل، حيث يجوز العمل بالإجازة.
ص: 476
اعلم أنّ العلماء بهذا الشأن قد اختلفوا فيما تجوز به رواية الحديث، فأفرط قوم فيه، وفرّط آخرون، وقد تقدّمَ في باب الوجادة والإعلام، والوصية النقل عمّن فرط و اجتزى بروايته بمثل ذلك.
وأمّا من أفرط وشدّد؛ فمنهم مَنْ قال: لا حجّةً إلا فيما رواه الراوي من حفظه وتَذَكَّره، وهذا المذهب مروي عن مالك، وأبي حنيفة، وبعض الشافعية(1).
ومنهم مَنْ أجاز الاعتماد على الكتاب بشرط بقائه فى يده(2)، فلو أخرجه عنها ولو بإعارة ثقةٍ لم تجز الرواية منه لغيبته عنه المجوّزة للتغيير، وهو دليلُ مَنْ يمنع الاعتماد على الكتاب.
والحق المذهب الوسط، وهو جواز الرواية بهما.
(و) لكن )أكملها ما اتفق من حفظه( الأمن التغيير والتبديل (ويجوز من كتابه وإن خرج من يده - مع أمن التغيير، على الأصح( لأنّ الاعتماد في الرواية على غالبِ الظنّ، فإذا حصل أجزاً.
(و) قد عرفت أنه قد أفرط قوم، فأبطلوها من الكتاب مطلقاً، أو بالقيد.
)وفرّط آخرون فرووا من( كتاب (غير مُقابل، فجُرحوا بذلك) وكتبوا في طبقات المجروحين.
و من طريف ما نُقل عن بعض المتساهلين، وهو عبد الله بن لهيعة المصري: أن يحيى بن حسان رأى قوماً معهم جزء سمعوه من ابن لهيعة، فنظر فيه، فإذا ليس فيه حديث واحد من حديث ابن لهيعة، فجاءَ إليه فأخبره بذلك فقال: ما أصنع؟ يجيئوني بكتاب،
ص: 477
فيقولون: «هذا حديثك» فأُحدثهم به!(1)
وهذا خطأ عظيم، وغفلة فاحشة.
(والضَرِيرُ إذا لم يحفظ مسموعه) من فَمِ مَن حدّثه (يستعين بثقةٍ في ضبط كتابه) الذي سمعه وحفظه ويحتاط إذا قُرى عليه على حسب حاله (حتى يغلب على ظنّه عدم التغيير) فتصح حينئذ روايته.
(وهو) أولى بالمنع من الرواية بالكتاب (من مثله) أي المنع الواقع (في البصير) عند بعضهم.
(وكذا) القول في (الأُمِّي) الذي لا يقرأ الخط، ولم يحفظ ما رواه.
(و) إذا سمع كتاباً ثم أراد روايته من غير حفظ، فعليه أن (يروي من نُسخةٍ فيها سماعُه)، وهذا هو الأولى.
(أو) من نسخةٍ قُوبلت بها أي بنسخة سماعه، مقابلة موثوقاً بها.
(أو) من نسخةٍ (سمعت على شيخه، أو فيها سَماعُ شيخه، أو كتبت عنه) إذا وَثَقَ بكونها ليست مُغايرةً لنسخة سَماعِه (وسكنت نفسه إليها ) أو كان له من شيخه إجازة عامة لمروياته.
(وإلّا)، فلا يجوز له الرواية من نسخةٍ ليس فيها سماعه مطلقاً؛ لإمكان مخالفتها النسخةٍ سَماعِه، وإن كانت مسموعةً على شيخه ونحوه، أو كونها غير مصححةٍ.
وكذا القولُ فيما إذا كانت النسخة مسموعةً على شيخ شيخه أو مروية عنه، فالمجوّز لروايته منها أن تكون له إجازة شاملة من شيخه لهذه النسخة، ولشيخه إجازة شاملة من شيخه لها على الوجه السابق، فتدبّره.
(وإذا خالف كتابه حفظه منه) أي حفظ المستند إلى ذلك الكتاب (رَجَعَ إليه) أي إلى الكتاب؛ لأنّه الأصل، وتبيّن أن الخطأ من قِبَل الحفظ.
ص: 478
(و) إن كان حفظه (من شيخه) لا من كتابه (اعتمده) أي اعتمد حفظه دونَ ما في كتابه، إذ لم يتشكك .
(وإن قال) في روايته حينئذ: («حفظي كذا وفي كتابي كذا») منبهاً على الاختلاف بينهما (فحسن) لاحتمال الخطأ على كل منهما، فينبغي التخلّص بذلك.
(و) كذا (إن خُولف) ما يحفظه من بعض الحفاظ أو المحدثين من كتاب (قال) في روايته على الأفضل: («حفظي كذا، وغيري» أو «فلان يقول كذا») وشبه هذا من الكلام، ليتخلّص من تَبِعَتِه.
ولو أطلق وروى ما عنده جاز، لكنّ الأوّل هو الوَرَعُ.
(وإذا وجد خطه أو خط ثقةٍ بسماع له) أو روايةٍ بأحد وجوهها وهو (لا يذكره، رواه) على الأقوى، كما يعتمد على كتابه في ضبط ما سمعه؛ فإنّ ضبط أصلِ السَماع كضبط المسموع، فإذا جازاعتماده وإن لم يذكره حديثاً حديثاً فكذا هنا. هذا إذا كان الكتابُ مصوناً، بحيث يغلب على الظنّ سلامتُه من تَطَرُّقِ التزوير والتغيير، بحيث تسكن إليه نفسه كما مرّ.
(وقيل: لا) تجوز له روايته مع عدم الذكر، وقد تقدّم أنّه قول أبي حنيفة وبعض الشافعية(1).
(ومَنْ لا يعلم مقاصد الألفاظ وما يُحيل معانيها) ومقادير التفاوت بينها (لم) يَجُز له (يرو) ي الحديث (بالمعنى) بل يقتصر على رواية ما سَمِعَه، باللفظ الذي سمعه، بغير خلاف.
(ف) أما (إن عَلِمَ) بذلك (جاز) له الرواية بالمعنى، على أصح القولين؛ لأنّ ذلك هو الذي تشهدُ به أحوال الصحابة والسلف الأوّلين، وكثيراً ما كانوا ينقلون معنى واحداً في أمر واحدٍ بألفاظ مختلفةٍ، وما ذاك إلا لأنّ معوّلهم كان على المعنى دون اللفظ؛ ولأنه
ص: 479
يجوز التعبير بالعجميّة للعجمي فبالعربي أولى.
وفي صحيحة محمد بن مسلم قال، قلتُ لأبي عبد الله(علیه السّلام): أسمع الحديث منك فأزيد وأنقص؟ قال: «إن كنتَ تُريد معانيه فلا بأسَ»(1).
وعن داود بن فرقد قال قلت لأبي عبد الله(علیه السّلام): إني أسمع الكلام منك فأُريد أن أرويه كما سمعته منك فلا يجيءُ. قال: «فتتعمد ذلك؟» قلتُ: لا، فقال: «تريد المعاني قلت: نعم، قال: «فلا بأس»(2).
وفي خبر آخر عنه(علیه السّلام)حين سئل : أسمع الحديث منك فلعلي لا أرويه كما سمعته؟ فقال: «إذا حفظت الصُلْبَ منه فلا بأس، إنّما هو بمنزلة تعالَ، هَلُمَّ، واقعد، واجلس»(3).
(وقيل) : إنما تجوز الرواية بالمعنى (في غيرِ الحديث النبوي)؛ لأنه(صلی الله علیه و آله و سلم)أفصحُ مَنْ نطق بالضاد، وفي تراكيبه أسرار ودقائق لا يُوقَفُ عليها إلا بها كما هي؛ فإنّ لكلّ تركيب من التراكيب معنی بحسب الفضل والوصل والتقديم والتأخير، لو لم يُراع لذهب مقاصدها، بل لكلّ كلمةٍ مع صاحبتها خاصية مستقلة، كالتخصيص والاهتمام وغيرهما، وكذا الألفاظ التي تُرى مشتركةً أو مترادفةً إذا وُضِعَ كُلٌّ موضِعَ الآخرِ فاتَ المعنى الذي قُصِدَ به، ومن ثَمَّ قال(صلی الله علیه و آله و سلم): «نَصْرَ الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها، وأدّاها كما سَمِعَها. فربَّ حامل فقه غير فقيه، وربَّ حامل فقه إلى مَنْ هو أفقه منه»(4).
ص: 480
ولا ريب أنه أولى، وإن كان الأصحُ الأوّل؛ عملاً بتلك النصوص.
وهذه المحذورات تندفع بما شرطناه، وإن بقي مزايا لا يفوت معها الغرضُ الذاتي من الحديث.
وهذا كله فى غير المصنفات (والمصنفات لا تُغَيَّر) أصلاً، وإن كان بمعناه؛ لأنه يخرجُ بالتغيير عن وضعه ومقصود مصنفه؛ ولأنّ الرواية بالمعنى رُخّص فيها؛ لما في الجمودِ على الألفاظ من الحَرَج، وذلك غير موجود في المصنفات المُدوَّنة في الأوراقِ.
(و) ينبغي أن (يقول عقيب) الحديثِ (المرويّ بالمعنى، والمشكوك فيه) هل وقعباللفظ أو المعنى: «أو كما قال» ونحوه من الألفاظ الدالة على المقصود؛ لما فيه من التحرُّز من الزلل، من حيث اشتمال الرواية بالمعنى على الخَطَر، وقد رُوي فعل ذلك من الصحابة عن ابن مسعود، وأبي الدرداء، وأنس (رضي الله عنهم)(1).
(ولم يُجوّز مانعو الرواية) للحديث (بالمعنى، وبعضُ مجوّزيها أيضاً (تقطيع الحديث) بحيث يُروى بعضه دون بعض (إن لم يكن هذا المقطَّعُ قد (رواه) في محلّ آخرَ (أو) رواه (غيرُه تماماً) ليرجع إلى تمامه من ذلك المحلّ.
ومنهم مَنْ منعه مطلقاً؛ لتحقق التغيير، وعدم أدائه كما أدائه كما سمعه.
(وجوزه آخرون مطلقاً) سواء كان قد رواه غيره على التمام، أم لا (و) هذا القولُ (هو الأصح) إن وقع ذلك (لَمْن عرف عدم تعلقِ المتروك) منه (بالمروي) بحيث لا يختلّ البيان، ولا تختلف الدلالة فيما نقله بترك ما تركه فيجوز حينئذ، وإن لم تَجُز الرواية بالمعنى؛ لأن المروي والمتروك حينئذ بمنزلة خبرين منفصلين.
(و) أما (تقطيع المصنفِ الحديث فيه) أي في مصنفه المدلول عليه بالاسم، بحيث فرّقه على الأبواب اللائقة به؛ للاحتجاج المناسب، مع مراعاة ما سَبَقَ من تماميّة معنى
ص: 481
المقطوع، فهو (أقربُ إلى الجواز) لأجل الغرض المذكور، وقد فعله غيرُ واحد من أئمّة المحدثين منا ومن الجمهور.
(ولا يُروى) الحديث (بقراءة لحّانٍ، ولا مُصَحّفٍ) بل لا يتولاه إلّا مُتَّقِنُ اللغة والعربية؛ ليكون مطابقاً لما وقع من النبي والأئمة (صلوات الله عليهم)، ويتحقق أداؤه كما سمعه؛ امتثالاً لأمر الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم).
وفي صحيحة جميل بن درّاج قال قال أبو عبد الله(علیه السّلام): «أغربوا حديثنا فإنا قومٌ فُصحاء»(1).
(ويتعلّم) مَنْ يريد قراءة الحديث قبل الشروع فيه من العربية واللغةِ (ما يَسْلَم به من اللحن (و) لا يَسْلَمُ من التصحيف) بذلك، بل (بالأخذ من أفواه الرجال العارفين بأحوال الرواة، وضبط اسمائهم.
(وما وقع في روايته من لحن وتصحيف. وتحققه روايةً) أي في الرواية (رواه) هو (صواباً وقال: «وروايتنا كذا» أو يقدّمها)أي الروايه الملحونة أو المصحفة (ويقول) بعد ذلك: («وصوابه كذا».
وقيل) والقائل ابن سيرين وجماعة: يرويه (كما سمعه)(2)باللحن أو التصحيف (فقط) . وهو غلو في اتباع اللفظ والمنع من الرواية بالمعنى والأجود التنبيه عليه،كما سبق.
(وجوّز بعضُهم إصلاحه في الكتاب)(3)وهو يُناسب مجوز الرواية بالمعنى.
(وتركه) في الأصل على حاله (وتصويبه حاشية) أي بيان صوابه في الحاشية (أولى) من إبقائه بغير تنبيه على حاله، وأجمع للمصلحة، وأنفى للمفسدة.
ص: 482
وقد رُوي أنّ بعض أصحاب الحديث رؤي في المنام وكأنه قد ذَهَبَ شيء من لسانه أو شفته، فسئل عن سببه؟ فقال: لفظةٌ من حديث رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)غيرتها برأيي، ففُعِلَ بي هذا(1).
وكثيراً ما نرى ما يتوهمه كثير من أهل العلم خطأ، وهو صواب ذو وجه صحيح خفی.
هذا إذا كان التحريف في الكتاب. وأمّا في السماع فالأولى أن يقرأه على الصواب ثم يقول: «وفي روايتنا» أو «عند شيخنا» أو «في طريق فلان كذا»وله أن يقرأ ما في الأصل ثمّ يذكر الصواب. كما مر.
(وأحسنه) أي أحسن (الإصلاح) إصلاحه بما جاءَ صحيحاً (بروايةٍ أُخرى) إن اتفق. ولو رآه في كتاب، وغلب على ظنه أنه من الكتاب لا من الشيخ اتجه إصلاحه في كتابه، وروايته.
(ويَسْتَثبتُ ما شَكٍّ فيه) لاندراس ونحوه، في الإسناد أو المتن ويُصلحه (من كتاب غيره أو) من (حفظه) إذا وثق بهما، وعلى كلّ حالٍ فالأولى سد باب الإصلاح ما أمكن، لئلا يجسُرَ على ذلك من لا يُحسن وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، مع تبيين الحال.
(وما رواه) الراوي من الحديث (عن اثنين فصاعداً، واتفقا) في الرواية (معنى لا لفظاً، جمعهما إسناداً وساق لفظ أحدهما مبيناً) فيقول: «أخبرنا فلان وفلان واللفظ لفلانِ» أو «وهذا لفظ فلان قال» أو «قالا : أخبرنا فلانٌ» وما أشبه ذلك من العبارات.
(فإن تقاربا) في اللفظ مع اتفاق المعنى (فقال) في روايته: («قالا) كذا» (جاز) أيضاً (على) القول بجواز (الرواية بالمعنى) وإلا فلا (و) لكن (قول: «تقاربا في اللفظ»)ونحوه ممّا يدلّ على الاختلاف اليسير (أولى) من إطلاق نسبته إليهما.
(ومُصَنِّفٌ سَمِعَ من جماعة إذا رواه عنهم من نسخةٍ قوبلت بأصل بعضهم) دونَ
ص: 483
بعض، وأراد أن يذكر جميعهم في الإسناد (وذكره) أي المقابل بنُسْخَته وحده بأن يقول: «واللفظ لفلان» كما سبق؛ فهذا (فيه وجهان:
الجواز) كالأوّل؛ لأن ما أورده قد سمعه ممّن ذكره أنه بلفظه.
(وعدمه لأنه لا علم عنده بكيفية رواية الآخرين حتّى يُخبر عنها، بخلاف ما سبق؛ فإنه اطلع على رواية غير مَنْ نَسَبَ اللفظ إليه، وعلى موافقتها معنى، فأخبر بذلك.
( ولا يَزيدُ) الراوي (على ما سَمِعَ من نَسَب) شيخ شيخه من رجال الإسناد على ما ذكره شيخه مُدرجاً عليه (أو صفةٍ) له كذلك (إلّا مميزاً ب_«هو» أو «نعني») ونحو ذلك. مثاله: أن يروي الشيخ عن «أحمد بن محمّدٍ» كما يتفق للشيخ أبي جعفر الطوسي، والكليني (رحمهما الله) كثيراً، فليس للراوي أن يروي عنهما ويقول: قال: «أخبرني أحمد بن محمد بن عيسى» بل يقول: «أحمد بن محمّد هو ابن عيسى» أو «نعني ابن عيسى» ونحوه؛ ليتميز كلامه وزيادته عن كلام الشيخ.
(وإذا ذكر شيخه في أوّل حديثٍ نَسَبَه) إلى آبائه بحيث يتميّز، ووَصَفَه بما هو أهله (ثمّ اقتصرَ بعد) ذلك (على اسمه أو بعض نسبه. ولم يكتبوا«قال» بين رجال الإسناد) في كثير من الأحاديث (فيقولُها القارئ) لفظاً.
(و) إذا وجد في الإسناد ما هذا لفظه: («قُرى على فلان أخبرك فلان» (يقول) القارئ بلفظه: («قيل له: أخبرك) فلان».
(و) إذا وجد («قُرِئَ على فلانٍ : حدثنا) فلان»(يقول: «قال حدثنا) فلان».
(وإذا تكرّرت) كلمةُ («قال») كما في قوله: «عن زرارة قال، قال الصادق(علیه السّلام)» - مثلاً - فالعادة أنهم (يحذفون إحداهما) خطاً (فيقولها القاري، وبحذفها يُخَلُ) بالمعنى؛ لأن ضمير الأولى للراوي الأول وهو الفاعل وفاعل الفعل الثاني هو الاسم الظاهر الذي بعده، فإذا اقتصر على واحدٍ، صار الموجود فعل الاسم الظاهر الثاني، فلا يرتبط الإسناد بالراوي السابق.
ص: 484
(وما اشتمل) من النُسَخ أو الأبواب ونحوها (على أحاديث) متعدّدة (بإسنادٍ واحدٍ)
فإن شاء أن (يذكره) أي الإسناد (في كلّ حديث) منها، وذلك أحوط، إلّا أنّ فيه طولاً أو يذكره (أولاً) أي عند أوّل حديث منها، أو في أوّل كل مجلس من مجالس سَماعِها (ويقول بعد) الحديث الأوّل: («وبالإسناد» أو) يقول: («وبه») أي بالإسناد السابق، وذلك هو الأغلب الأكثر في الاستعمال.
وعلى هذا، فلو أراد مَنْ كان سَماعُه على هذا الوجه تفريق تلك الأحاديث، ورواية كل حديث منها بالإسناد المذكور في أوّلها، جازَ له ذلك؛ لأنّ الجميع معطوف على کل الأوّلِ، فالإسناد في حكم المذكور في كلّ حديث، وهو بمثابة تقطيع المتن الواحد في أبواب بإسناده المذكور في أوّله ومنهم مَنْ منع ذلك إلا مبيناً للحال(1).
(وإذا ذكر الشيخ حديثاً بإسناد، ثم أتبعه إسناداً) آخر (وقال) عند انتهاء الإسناد: («مثله» لم) يكن للراوي عنه أن ( يرو) ي (المتنَ) المذكور بعد الإسناد الأول (بالإسناد
الثاني لاحتمال أن يكون الثاني مماثلاً للأوّل في المعنى، ومغايراً له في اللفظ.
(وقيل: بل) يجوز إذا عرف أنّ المحدّث ضابط، متحفّظ، يميّز الألفاظ المختلفة، وإلا فلا(2).
وكان غيرُ واحدٍ من أهل العلم إذا روى مثل هذا يُوردُ الإسناد، ويقول: «مِنْ حديث قبله متنه كذا وكذا»ثم يسوقه.
وكذلك إذا كان المحدّث قد قال: «نحوه».
(وإذا ذكر) المحدّتُ (إسناداً وبعض متن، وقال) بعده: («وذكر الحديث») أو قال: «وذكر الحديث بطوله» (ففي جواز رواية) الحديث السابق (كله بالإسناد) الثاني
ص: 485
(القولان) السابقان في قوله «مثله» و «نحوه»؛ من حيث إنّ الحديث الثاني قد يُغاير الأوّل في بعض الألفاظ وإن اتحد المعنى، ومن أنّ الظاهر أنّه هو بعينه.
(وأولى بالمنع) هنا؛ لأنّه لم يصرّح بالمماثلة، ويُمكن أن تكونَ اللام في «الحديث» للعهد الذهني، وهو الحديث الذي لم يُكمله، وإنما اقتصر عليه، لكونه بمعنى الأوّل.
والأولى أنْ يبيّنَ ذلك، بأن يقصَّ ما ذكره الشيخ على وجهه، ثمّ يقول: «قال» وذكر الحديث، ثمّ يقول: «والحديث هو كذا وكذا» ويسوقه إلى آخره.
(وإذا سمع بعض حديث عن شيخه وبعضه عن) شيخ (آخر روی جملته عنهما) في حال كونه (مبيناً أنّ بعضه عن أحدهما وبعضه عن الآخر، ثم يصير) الحديث بذلك (مُشاعاً بينهما) حيث لم يتبين مقدارُ ما رُوي منه عن كلَّ منهما. فإذا كانا تقتين فالأمرُ سهل؛ لأنّه يُعمل به على كلّ حالٍ.
(فإن كان أحدهما مجروحاً لم يحتج بشيءٍ منه) لاحتمال كون ذلك الشيء مروياً عن المجروح إذا لم يتميّز مقدار ما رواه عن كلّ منهما ليحتج بالجزء الذي رواه عن الثقة إن أمكن، ويُطرح الآخرُ. والله الموفق.
ص: 486
وهو فن مهم يُعرف به المرسَلُ والمتصل؛ ومزايا الإسناد، وتحصل به معرفة الصحابة والتابعين وتابعي التابعين إلى الآخر.
(الصحابي مَنْ لقي النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)مؤمناً به، ومات على الإسلام وإن تخلّلت رِدَّته) بين لقائه مؤمناً به وبين موته مسلماً (على الأظهر).
والمراد باللقاء ما هو أعم من المجالسةِ، والمُماشاة، ووصول أحدهما إلى الآخر، وإن لم يُكالمه ولم يَرَه.
والتعبير به أولى من قول بعضهم في تعريفه: إنّه مَنْ رأى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)(1): لأنه يخرج منه الأعمى كابنِ أُم مكتوم؛ فإنه صحابي بغير خلاف.
واحترز بقوله: «مؤمناً» عمّن لَقِيه كافراً، وإن أسلم بعد موته، فإنّه لا يعد من الصحابة.
وبقوله: «به» عمّن لَقِيه مؤمناً بغيره من الأنبياء، ومَنْ هو مؤمن بأنه سيُبعث ولم
ص: 487
يُدرك بعثته، فإنّه حينئذ لم يكن(صلی الله علیه و آله و سلم)نبيّاً. وإن حَصَلَ شكٍّ في ذلك فليزد التعريف بعد قوله: «لَقِي النبي»: «بعد بعثته».
وبقوله: «ومات على الإسلام» عمّن ارتد ومات عليها، كعبيد الله بن جحش وابن خطل(1).
وشمل قوله: «وإن تخلّلت ردّته ما إذا رجع إلى الإسلام في حياته وبعده، سواءٌ لقيه ثانياً(2) أم لا.
ونبه ب_«الأصح»(3)على خلافٍ في كثير من تلك القيود، ومنها تخلّل الردّة.
فإنّ بعضهم اعتبر فيه رواية الحديث، وبعضهم كثرة المجالسة وطول الصحبة، وآخرون الإقامة سنةً وسنتين وغزوةً معه وغزوتين، وغير ذلك(4).
وتظهر فائدة قيد الردّةِ في مثل الأشعث بن قيس، فإنه كان قد وَفَدَ على النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)ثمّ ارتد، وأُسِرَ في خلافة الأول، فأسلم على يده، فزوجه أُخته وكانت عوراء، فولدت له محمّداً الذي شهد قتل الحسين(علیه السّلام).
فعلى ما عرفنا به يكون صحابياً، وهو المعروف، بل قيل: إنّه متفق عليه.
ثمّ الصحابة على مراتب كثيرة، بحسب التقدم في الإسلام، والهجرة، والملازمة، والقتال معه، والقتل تحت رايته والرواية عنه، ومكالمته ومشاهدته، ومماشاته، وإن اشترك الجميع في شرف الصحبة.
ويُعرف كونه صحابياً بالتواتر، والاستفاضة والشهرة، وإخبار ثقةٍ.
وحكمهم - عندنا - في العدالة حكم غيرهم.
ص: 488
وأفضلهم أمير المؤمنين على ، ثم ولداه، وهو أولهم إسلاماً.
وآخرُهم موتاً على الإطلاق أبو الطفيل عامر بن واثلة، مات سنة مائة من الهجرة. وبالإضافة إلى النواحي فآخر هم بالمدينة، جابر بن عبد الله الأنصاري، أو سهلُ بنُ سعد، أو السائب بن يزيد.
وبمكة، عبد الله بن عمر، أو جابرٌ.
وبالبصرة، أنس.
وبالكوفة، عبد الله بن أبي أوفى.
وبمصر، عبد الله بن الحارث بنِ جَزْء الزبيدي.
وبفلسطين، أبو أُبي بن أُمّ حرام.
وبدمشق، واثلة بن الأسقع.
وبحمص، عبد الله بن بسر.
،وباليمامة، الهرماس بن زياد.
وبالجزيرة، العُرس بن عميرة.
وبأفريقية، رُويفع بن ثابت.
وبالبادية في الأعراب، سلمة بن الأكوع.
قيل: وقبض رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)عن مائة وأربعة عشر ألف صحابي(1). والله أعلم.
! (والتابعي مَنْ لقي الصحابي كذلك أي بالقيود المذكورة، واستثنى منه قيد الإيمان به، فذلك خاص بالنبي(صلی الله علیه و آله و سلم).
والخلاف فيه كالسابق، فإنّ منهم مَنْ اشترط فيه أيضاً طول الملازمة، أو صحة السماع من الصحابي أو التمييز(2).
ص: 489
وبقي قسم ثالث بين الصحابي والتابعي اختلف في إلحاقه بأي القسمين وهو المُخَضْرَمون(1)الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، ولم يلقوا النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، سواء أسلموا في زمن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)كالنجاشي أم لا واحدُهم مُخَضْرَم - بفتح الراء - كأنه خُضْرِمَ أَي قُطِعَ عن الهلال نظرائه الذين أدركوا الصحية.
وذكرهم بعضهم فبلغ بهم عشرين نفساً(2)، منهم سويد بن غفلة صاحب علي(علیه السّلام)، وربيعة بن زرارة، وأبو مسلم الخولاني، والأحنف بن قيس.
والأولى عدّهم في التابعين بإحسان.
[1] (ثمّ الراوي والمروي عنه إن استويا في السن أو في اللقى) وهو الأخذ عن المشايخ (فهو النوع) من علم الحديث (الذي يقال له: رواية الأقران) لأنّه حينئذٍ يكون راوياً عن قرينه. وذلك كالشيخ أبي جعفر الطوسي والسيد المرتضى؛ فإنّهما أقران في طلب العلم والقراءة على الشيخ المفيد. والشيخ أبو جعفر يروي عن السيد المرتضى بعد أن قرأ عليه ،مصنفاته، ذكر ذلك في كتاب الرجال وله أمثال كثيرة.
[2] (فإن روى كلّ منهما) أي من القرينين (عن الآخر فهو) النوع الذي يقال له: (المُدَبَّج) - بضم الميم، وفتح الدال المهملة وتشديد الباء الموحدة، وآخره جيم - مأخوذ من ديباجتي الوجه كأنّ كلَّ واحدٍ من القرينين يبذل ديباجة وجهه للآخر، ويروي عنه.
(وهو) أي المدبّج (أخصَّ من الأول) وهو رواية الأقران؛ فكلّ مُدَبَّج أقران،
ص: 490
ولا ينعكس، وذلك كرواية الصحابة بعضهم عن بعض من الطرفين. وقد وقع ذلك لهم كثيراً(1).
[3] (وإن روى عمّن دونه) في السن، أو في اللقى، أو في المقدار (فهو النوع المسمّى ب_(رواية الأكابر عن الأصاغر) كرواية الصحابي عن التابعي وقد وقع منه رواية العبادلة(2)وغيرهم، عن كعب الأحبار(3). ورواية التابعي عن تابع التابعي، كعمرو بن شعيب لم يكن من التابعين، وروى عنه خلق كثير منهم. قيل: إنّهم سبعون(4).
وممّن رأيتُ خطّه من العلماء بذلك السيد تاج الدين بن معية الحسيني الديباجي، فإنّه أجاز لشيخنا الشهيد رواية مروياته، وكان معدوداً من مشيخته، واستجاز في آخر إجازته منه. وهو يصلح مثالاً لهذا القسم من حيث الكبرَ والنَسَب واللقى، ومن قسم المدرّج من حيث العلم وتعارض الروايتين.
(ومنه) أي من هذا القسم - وهو أخص من مطلقه - رواية (الآباء عن الأبناء) ومنه عن الصحابة رواية العباس بن عبد المطلب عن ابنه الفضل: أن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)جمع بين الصلاتين بالمزدَلِفَة(5).
وروي عن مُعْتَمِر بن سليمان التيمي، قال: حدثني أبي قال: حدثتني أنتَ عنّي، عن
ص: 491
أيوب، عن الحسن، قال: وَيْحَ كلمة رحمة. وهذا طريف يجمع أنواعاً(1). وغير ذلك.
(والأكثر العكس) وهو رواية الأبناء عن الآباء، لأنه هو الجادة المسلوكة الغالبة، وهو قسمان:
رواية الابن عن أبيه دون جده، وهو كثير لا ينحصر.
وروايته عن أزيد منه، فروايته عن أبوين، أعني عن أبيه عن جده، وهو كثير أيضاً.
منه في رأس الإسناد: رواية زين العابدين عن أبيه الحسين عن أبيه عليّ، عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم).
وفي طريق الفقهاء رواية الشيخ فخرِ الدين محمّدِ بن الحسن بن يوسف بن المطهّرِ عن أبيه الشيخ جمال الدين الحسن، عن جده سديد الدين يوسف.
ومثله، الشيخ المحقق نجم الدين جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد، فإنه يروي أيضاً عن أبيه عن جده يحيى، وهو يروي عن عربي بن مُسافر العبادي، عن إلياس بن هشام الحائري، عن أبي عليّ بن الشيخ عن والده الشيخ أبي جعفر الطوسي.
وروايته عن ثلاثة: كرواية محمّد بن الشيخ نجيب الدين يحيى بن بن الشيخ نجيب الدين يحيى بن أحمد بن يحيى
الأكبر بن سعيد، فإنّه يروي عن أبيه يحيى، عن أبيه أحمد، عن أبيه يحيى الأكبر.
وعن أربعة: وقد اتفق منه رواية السيد الزاهد رضي الدين محمد بن محمد بن محمّد بن زيد بن الداعي المعمّر الحسيني، عن أبيه محمد، عن أبيه محمد، عن أبيه زيد، عن أبيه الداعي، وهو يروي عن الشيخ أبي جعفر الطوسي والسيد المرتضى وغيرهما.
والسيد رضي الدين نروي عنه بإسنادنا إلى الشيخ أبي عبد الله الشهيد، عن الشيخ رضي الدين المزيدي، عن الشيخ محمد بن أحمد بن صالح السيبي عنه.
ومثله في الرواية عن أربعة آباء: رواية الشيخ جلال الدين الحسن بن أحمد بن
ص: 492
نجيب الدين محمّد بن جعفر بن هبة الله نما عن أبيه، عن أبيه، عن أبيه، عن أبيه، بن هبة الله بن نما، وهو يروي عن الحسين بن طحال المقدادي، عن الشيخ أبي علي، عن أبيه الشيخ أبي جعفر الطوسي.
وهذا الشيخ جلال الدين الحسن يروي عنه شيخنا الشهيد بغير واسطة.
وعن خمسة آباء: وقد اتفق لنا منه روايه الشيخ الجليل بابويه بن سعد بن محمد بن الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين بن بابويه، عن أبيه سعد، عن أبيه محمّد، عن أبيه الحسن، عن أبيه الحسين - وهو أخو الشيخ الصدوق أبي جعفر محمد - عن أبيه علي بن بابويه.
وعن ستة آباء: وقد وقع لنا منه أيضاً رواية الشيخ منتجب الدين أبي الحسن عليّ عبيدالله بن الحسن بن الحسين بن الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين بن بابويه؛ فإنّه يروي أيضاً عن أبيه، عن أبيه، عن أبيه، عن أبيه، عن أبيه، عن أبيه عليّ بن
الحسين الصدوق ابن بابويه .
وهذا الشيخ منتجب الدين كثيرُ الرواية، واسع الطرق عن آبائه وأقاربه وأسلافه. ويروي عن ابن عمّه الشيخ بابويه المتقدّم بغير واسطة.
وأنا لي رواية عن الشيخ منتجب الدين بعدة طرقٍ مذكورةٍ فيما وضعته من الطُّرُقِ في الإجازات.
وأكثر ما نرويه بتسعة آباء عن الأئمة(علیهم السّلام): رواية «الحبّ في الله والبغض في الله فإنا نرويه بإسنادنا إلى مولانا أبي محمد الحسن بن عليّ بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(علیهم السّلام)عن أبيه، عن أبيه، عن أبيه، عن أبيه، عن أبيه، عن أبيه، عن أبيه، عن أبيه، عن أبيه علي بن أبي طالب عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)أنه قال لبعض أصحابه ذات يوم: «يا عبد الله، أحبب في الله، وابغض في الله ووالِ في الله وعادِ في الله فإنّه لا تُنالُ ولاية الله إلّا بذلك، ولا يجد أحدٌ طعم
ص: 493
الإيمان وإن كثرَتْ صلاته وصيامه حتى يكون كذلك»(1). الحديث.
ونروي عن تسعة آباء بغير طريقهم بإسنادنا إلى عبد الوهاب بن عبد العزيز بن
الحارث بن أسد أسد بن الليث بن سليمان بن الأسود بن سفيان بن يزيد بن أُكَيْنَة بن عبد الله التميمي من لفظه قال: سمعت أبي يقول سمعت أبي يقول سمعت أبي يقول،سمعت أبي يقول، سمعت أبي يقول، سمعت أبي يقول، سمعت أبي يقول، سمعت أبي يقول سمعت أبي يقول سمعتُ عليّ بن أبي طالب وقد سُئِلَ عن الحنّان المنّان فقال: «الحنّان هو الذي يقبل على مَنْ أعرض عنه، والمنّان هو الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال»(2).
فبين عبد الوهاب وبين علي(علیه السّلام)في هذا الإسناد تسعة آباء، آخرهم أُكَيْنَة بن عبدالله الذي ذكر أنه سمع عليّاً(علیه السّلام).
ونروي بهذا الطريق أيضاً حديثاً متسلسلاً باثني عشر أباً عن رزق الله بن عبدالوهاب المذكور، عن أبيه عبد الوهاب عن آبائه المذكورين، إلى أبي أُكَيْنة، قال: سمعت أبا الهيثم يقول: سمعت أبا عبد الله يقول: سمعت رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)يقول: «ما اجتمع قوم على ذِكْرٍ إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة»(3).
وأكثر ما وصل إلينا من الحديث المتسلسل بأربعة عشر أباً؛ وهو ما رواها الحافظ أبو سعيد بن السمعاني في الذيل قال أخبرنا أبو شجاع، عمر بن أبي الحسن البسطامي الإمام بقرائتي قال: حدثنا السيد أبو محمد الحسين بن علي بن أبي طالب - من لفظه ببلخ - حدثني سيدي ووالدي أبو الحسن علي بن أبي طالب، سنة ست وستين وأربعمائة، حدثني أبي أبو طالب الحسن بن عُبيدالله سنة أربع وثلاثين
ص: 494
وأربعمائة، حدثني والدي أبو عليّ عُبيد الله والدي أبو عليّ عُبيد الله بن محمّد بن عبیدالله ، حدثني محمد، حدثني أبي محمّد حدثني أبي عبيد الله بن علي، حدثني أبي عليّ بن الحسن، حدثني أبي الحسن بن الحسين، حدثني أبي الحسين بن جعفر - وهو أوّل من دخل بلخ من هذه الطائفة - حدثني أبي جعفر الملقب بالحجة، حدثني أبي عبيد الله، حدثني أبي الحسين الأصغر، حدثني أبي علي بن الحسين بن علي، عن أبيه، عن جده علي قال: «قال رسول الله : ليس الخبر كالمعاينة»(1).
فهذا أكثر ما اتفق لنا روايته من الأحاديث المسلسلة بالآباء.
[4] (وإن اشترك اثنان عن شيخ وتقدّم شيخ وتقدّم موت أحدهما) على الآخر (فهو) النوع المسمّى: (السابق واللاحق)
وأكثر ما وقفنا عليه في عصرنا من ذلك ست وثمانون سنة؛ فإنّ شيخنا المبرور نورالدين علي بن عبد العالي الميسي، والشيخ الفاضل ناصر بن إبراهيم البويهي الأحسائي، كلاهما يروي عن الشيخ ظهير الدين محمّد بن الحسام، وبين وفاتيهما ما ذكرناه، لأنّ الشيخ ناصر البويهي تُوفّي سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة، وشيخنا تُوفّي سنة ثمان وثلاثين وتسعمائة.
وأكثر ما بلغنا قبل ذلك من طرق الجمهور ما بين الراويين في الوفاة، مائة وخمسون سنة، فإنّ الحافظ السلفي سمع منه أبو علي البرداني - أحد مشائخه - حديثاً، ورواه عنه ومات على رأس الخمسمائة، ثمّ كان آخر أصحاب السلفي بالسماع سبطه أبو القاسم عبد الرحمن بن ،مكى وكانت وفاته سنة خمسين وستمائة(2).
وغالب ما يقع من ذلك أنّ المسموع منه قد يتأخر بعد أحد الراويين عنه زماناً حتى
ص: 495
يسمع منه بعض الأحداث، ويعيش بعد السماع منه دهراً طويلاً فيحصل من مجموع ذلك نحو هذه المدد.
[5] (والرواة إن اتفقت أسماؤهم وأسماء آبائهم فصاعداً، واختلفت أشخاصهم) سواء اتفق في ذلك اثنان منهم، أو أكثر (فهو) النوع الذي يقال له: (المُتَّفِق والمُفْتَرِق) أي المتفق في الاسم المفترقُ في الشخص.
وفائدة معرفته خشية أنْ يُظَنَّ الشخصان شخصاً واحداً.
وذلك كرواية الشيخ ومَنْ سبقه من المشايخ عن «أحمد بن محمّد» ويُطلق؛ فإنّ هذا الاسم مشترك بين جماعة، منهم: أحمد بن محمد بن عيسى، وأحمد بن محمد بن خالد، وأحمد بن محمد بن أبي نصر، وأحمد بن محمد بن الوليد، وجماعة أُخرى من أفاضل أصحابنا في تلك الأعصار.
ويتميز عند الإطلاق بقرائن الزمان، فإنّ المروي عنه إن كان من الشيخ في أوّل السند أو ما قاربه؛ فهو أحمد بن محمد بن الوليد. وإن كان في آخره مقارناً للرضا(علیه السّلام)؛ فهو أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي. وإن كان في الوسط، فالأغلب أن يريد به أحمد بن محمّد بن عيسى، وقد يُراد غيره.
ويحتاج في ذلك إلى فضل قوةٍ وتمييز، واطلاع على الرجال ومراتبهم، ولكنه مع الجهل لا يضر؛ لأنّ جميعهم ثقات، فالأمرُ في الاحتجاج بالرواية سهل.
وكروايتهم عن محمّد بن يحيى بن يحيى مطلقاً، فإنّه أيضاً مشترك بين جماعةٍ، منهم محمّد بن يحيى العطّار القمّي. ومنهم محمّد بن يحيى الخزاز - بالخاء المعجمة والزاي قبل الألف وبعدها-. ومحمد بن يحيى بن سليمان الخثعمي الكوفي والثلاثة ثقات.
وتميزهم بالطبقة؛ فإنّ محمّد بن يحيى العطار في طبقة مشايخ العطّار في طبقة مشايخ أبي جعفر الكليني، فهو المراد عند إطلاقه في أوّل السند: «محمد بن يحيى». والآخران رويا عن الصادق فيُعرفان بذلك.
ص: 496
وكإطلاقهم الرواية عن «محمد بن قيس» فإنّه مشترك بين أربعة : اثنان ثقتان، وهما محمّد بن قيس الأسدي، أبو نصر، ومحمد بن قيس البجلي، أبو عبد الله، وكلاهما رويا عن الباقر والصادق(علیهما السّلام).
وواحد ممدوح من غير توثيق، وهو محمد بن قيس الأسدي مولى بني نصر، ولم يذكروا عمّن روى.
وواحد ضعيف، وهو محمّد بن قيس أبو أحمد، روى عن الباقر(علیه السّلام)خاصةً.
وأمرُ الحجيّة بما يُطلق فيه هذا الاسم مُشْكِلٌ والمشهور بين أصحابنا ردُّ روايته حيث يُطلق مطلقاً؛ نظراً إلى احتمال كونه الضعيف.
ولكنّ الشيخ أبو جعفر الطوسي كثيراً ما يعمل بالرواية من غير التفات إلى ذلك،وهو سَهْل على ما عُلم من حاله؛ وقد يُوافقه على بعض الروايات بعض الأصحاب برعم الشهرة.
والتحقيق في ذلك أنّ الرواية إن كانت عن الباقر(علیه السّلام)فهي مردودة؛ لاشتراكه حينئذ بين الثلاثة الذين أحدهم الضعيف واحتمال كونه الرابع حيث لم يذكروا طبقته.
وإن كانت الرواية عن الصادق(علیه السّلام)فالضعف منتفٍ عنها؛ لأنّ الضعيف لم يَرْوِ عن الصادق(علیه السّلام)، كما عرفت.
ولكنّها محتملة لأن تكون من الصحيح إن كان هو أحد الثقتين، وهو الظاهر : لأنهما وجهان من وجوه الرواة، ولكلّ منهما أصل في الحديث ؛ بخلاف الممدوح خاصةً.
ويُحتمل على بُعْدٍ أن يكون هو الممدوح ، فتكون الرواية من الحسن، فتُبنى على قبولِ الحسنِ في ذلك المقام وعدمه.
فتنبه لذلك؛ فإنّه ممّا غفل عنه الجميع، وردّوا بسبب الغفلة عنه روايات، وجعلوها ضعيفةً، والأمرُ فيها ليس كذلك.
ص: 497
وكَروايتهم عن محمّد بن سليمان فإنّه أيضاً مشترك بين محمّد بن سلیمان بن الحسن بن الجهم، الثقة العين ومحمد بن سليمان الأصفهاني، وهو ثقة أيضاً.
ومحمد بن سليمان الديلمي، وهو ضعيف جداً. لكن الأوّل متأخر عن عهد الأئمة(علیهم السّلام)والثاني روى عن الصادق(علیه السّلام)، فيتميزان بذلك، والثالث لم أقف على تقرير طبقته، فتردّ الرواية عند الإطلاق؛ لذلك.
وبالجملة، فهذا باب واسع ونوع جليل كثير النفع في باب الرواية، ويحتاج إلى فضل تكلّف، ويحتاج تتبعه إلى إطناب يخرج عن الفرض من الرسالة.
[6] (وإن اتفقت الأسماء خطاً واختلفت نطقاً) سواء كان مَرجِعُ الاختلاف إلى النُّقَطِ أم الشكل (فهو) النوع الذي يقال له: (المُؤتلَفِ والمُختلِف).
ومعرفته من مهمات هذا الفنّ حتّى أنّ أشدَّ التصحيف ما يقع في الأسماء؛ لأنّه شيء لا يدخله القياس، ولا قبله شيءٌ يدلّ عليه ولا بعده، بخلاف التصحيف الواقع فى المتن.
وهذا النوع منتشر جداً لا يضبط تفصيلاً إلا بالحفظ.
مثاله جرير، وحريز الأوّل بالجيم والراء، والثاني بالحاء والزاي.
فالأوّل جرير بن عبد الله البجلي صحابي. والثاني: حريز بن عبد الله السجستاني يروي عن الصادق(علیه السّلام). فاسم أبيهما واحد واسمهما مؤتلف والمائز بينهما الطبقة كما ذكرناه.
ومثل: بُرَيْد ويزيد، الأول بالباء والراء، والثاني بالياء المثناة والزاي. وكلُّ منهما يُطلق على جماعة.
والمائز قد يكون من جهة الآباء؛ فإنّ «بريد» بالباء الموحدة ابن معاوية العجلي، وهو يروي عن الباقر والصادق(علیهما السّلام)، وأكثر الإطلاقات محمولة عليه. و«بريد» أيضاً بالباء، الأسلمي، صحابي، فيتميز عن الأول بالطبقة.
ص: 498
وأما «يَزيد» بالمثناة من تحت فمنه يزيد بن إسحاق شعر، وما رأيته مطلقاً فالأب واللقب مميّزان. ويزيد أبو خالد القماط يتميز بالكنية وإن شاركا الأوّل في الرواية عن الصادق(علیه السّلام). وهؤلاء كلُّهم ثقات.
وليس لنا «بريد» بالموحدة في باب الضعفاء، ولنا فيه «يزيد» متعدّداً، ولكن يتميز بالطبقة والأب وغيرهما مثل: يزيد بن خليفة، ويزيد بن سليط، وكلاهما من أصحاب الكاظم(علیه السّلام).
ومثل: بُنان وبيان، الأول بالنون بعد الباء، والثاني بالياء المثناة بعدها.
فالأوّلُ: غيرُ منسوب، ولكنّه بضم الباء ضعيف، لعنه الصادق(علیه السّلام).
والثاني بفتحها: الجزري كان خيراً فاضلاً. فمع الاشتباه توقف الرواية.
ومثل: حَنان وحيّان. الأول بالنون، والثاني بالياء.
فالأوّل: حنان بن سدير من أصحاب الكاظم(علیه السّلام)، واقفى.
والثاني : حيان السرّاج كيساني غيرُ منسوب إلى أب، وحيّان العنزي(1)روى عن أبي عبد الله(علیه السّلام)، ثقة.
ومثل : بَشار ويَسَار. بالباء الموحدة والشين المعجمة المشدّدة، أو بالياء المثناة من تحت والسين المهملة المخفّفة.
الأول: بشار بن يسار الضبيعي، أخو سعيد بن يسار. والثاني: أبوهما.
ومثل: خُتَيْم وخَيْتَم. كلاهما بالخاء المعجمة، إلّا أنّ أحدهما بضمها وتقديم الثاء المثلثة ثم الياء المثناة من تحت والآخر بفتحها ثم المثناة ثم المثلثة.
فالأول: أبو الربيع بن خُثيم أحد الزهاد الثمانية(2). والثاني: أبو سعيد بن خيثم الهلالي التابعي، وهو ضعيف.
ص: 499
ومثل: أحمد بن ميثم(1)، بالياء المثناة، ثمّ الثاء المثلثة، أو التاء المثناة.
الأوّل: ابن الفضل بن دكين. والثاني: مطلق. ذكره العلامة في الإيضاح (2).
وأمثال ذلك كثير.
وقد يحصل الائتلاف والاختلاف في النسبة والصنعة وغيرهما، كالهَمْداني والهمذاني. الأوّل بسكون الميم والدال المهملة: نسبةً إلى هَمْدان، قبيلة. والثاني بفتح الميم والذال المعجمة: اسم بلد.
فمن الأوّل: محمّد بن الحسين بن أبي الخطاب، ومحمد بن الأصبغ، وسندي بن عيسى، ومحفوظ بن نصر، وخلق كثير؛ بل هم أكثر المنسوبين من الرواة إلى هذا الاسم، لأنّها قبيلة صالحة مختصة بنا من عهد أمير المؤمنين(علیه السّلام)، ومنها الحارث الهَمْداني صاحبه.
ومن الثاني: محمّد بن عليّ الهَمَذاني، ومحمّد بن موسى ومحمد بن علي بن إبراهيم وكيل الناحية، وابنه القاسم، وأبوه عليّ، وجده إبراهيم، وإبراهيم بن محمد، وعليّ بن المسيب، وعلي بن الحسين الهمذاني، كلّهم بالذال المعجمة.
ومثل: الخرّاز والخزّاز الأوّل براء مهملة وزاي، والثاني بزائين معجمتين.
فالأوّل لجماعة، منهم: إبراهيم بن عيسى أبو أيوب، وإبراهيم بن زياد على ما ذكره ابن داود(3).
ومن الثاني: محمد بن يحيى، ومحمد بن الوليد، وعلي بن فضيل، وإبراهيم بن سليمان، وأحمد بن النضر، وعمرو بن عثمان وعبدالكريم بن هليل الجعفي.
ص: 500
ومثل: الحنّاط والخَيّاط. الأوّل بالحاء المهملة والنون، والثاني بالمعجمة والياء المثناة من تحتِ.
والأوّل يُطلق على جماعةٍ، منهم: أبو ولاد الثقة الجليل، ومحمّد بن مروان والحسن بن عطية، وعمر بن خالد.
ومن الثاني: عليّ بن أبي صالح بُزُرج - بالباء الموحدة المضمومة والزاي المضمومة والراء الساكنة والجيم - على ماذكره بعضُهم(1). والأصح أنه بالحاء والنون كالأول.
[7] (وإن اتفقت الأسماءُ) خطاً ونُطقاً (واختلفت الآباء) نُطقاً، مع ائتلافها خطاً (أو بالعكس) كأن تختلف الأسماء نُطقاً وتأتلف خطاً، وتأتلف الآباء خطاً ونُطقاً (فهو) النوع الذي يقال له: (المُتشابه).
فالأوّل كبكر بن زياد بتشديد الياء على ما ذكره العلّامة في الإيضاح(2). وسهل بن زیاد بتخفيف الياء، مع جماعة آخرين. وكمحمّد بن عقيل، بفتح العين؛ ومحمّد بن عُقَيْل، بضمها. الأوّل نيسابوري، والثاني فرياني.
والثاني: كشُرَيْح بن النعمان، وسُرَيج بن النعمان الأوّل بالشين المعجمة والحاء المهملة، وهو تابعي يروي عن علي(علیه السّلام)، والثاني بالسين المهملة والجيم وهو عامّي أحد رواتهم.
وفائدته الأمن من تداخل المشتبهين، وإمكان الاطلاع على تبين التدليس، والوقوف على حقيقة المراد من العَنْعَنَةِ.
ص: 501
والطبقة في الاصطلاح: عبارة عن جماعة اشتركوا في السن ولقاء المشائخ، فهم طبقه، ثم مَنْ بعدهم طبقةً أُخرى، وهكذا.
(و) من المهم أيضاً معرفة (مواليدهم ووفياتهم، فبمعرفتها يحصل الأمن من دعوى المدعي (اللقاء) أي لقاء المروي عنه، والحال أنه كاذب في دعواه (وأمره) في اللقاء (ليس كذلك).
وكم فتح الله علينا بواسطة معرفة ذلك بالعلم بكذب أخبار شائعة بين أهل العلم، فضلاً عن غيرهم، حتى كادت أن تبلغ مرتبة الاستفاضة، ولو ذكرناها لطال الخَطْبُ.
(ومعرفة الموالي منهم من أعلى ومن أسفل بالرق) بأن يكون قد أعتق رجلاً فصار مولاه، أو أعتقه رجلٌ فصار ،مولاه، فالمعتق - بالكسر - مولى من أعلى، والمعتَقُ بالفتح - مولى من أسفل.
(أو) بالحِلْف بكسر الحاء، وأصله المعاقدة والمعاهدة على التعاضُدِ والتساعُدِ والاتفاق، ومنه الحديث: «حالَفَ رسولُ الله(صلی الله علیه و آله و سلم)بين المهاجرين والأنصار مرتين»(1)أي آخى بينهم. فإذا حالف أحد آخر، صار كلُّ منهما مولى الآخر بالحِلْف.
(أو بالإسلام) فمن أسلم على يد آخَرَ كان مولاه يعني بالإسلام.
وفائدته: معرفة الموالي المنسوبين إلى القبائل بوضف مطلق، فإنّ الظاهر في المنسوب إلى قبيلةٍ - كما إذا قيل: «فلانُ القرشي» - أنّه منهم صليبةً، وقد تكون النسبة بسبب أنّه مولى لهم بأحدِ المعاني.
والأغلب مولى العتاقة.
وقد يُطلق المولى على معنى رابع، وهو الملازمة، كما قيل: «مِقْسَم مولى ابن عباس» للزومه إياه.
ص: 502
وخامس، وهو مَنْ ليس بعربي فيقال: «فلان مولی» و «فلان عربي صريح» وهذا النوع أيضاً كثير.
ومَرجِعُ الجميع إلى نص أهل المعرفة عليه. وفي كتب الرجال تنبيه على بعضه.
ومعرفة الإخوة والأخوات من العلماء والرواة.
وفائدة معرفته: زيادة التوسع في الاطلاع على الرواة وأنسابهم. وقد أفردوه بالتصنيف؛ للاهتمام بشأنه لذلك.
فمثال الأخوين من الصحابة: عبد الله بن مسعود، وعتبة بن مسعود، أخوان. وزيد بن ثابت، ويزيد بن ثابت، أخوان.
ومن أصحاب أمير المؤمنين(علیه السّلام): زيد وصَعْصَعة ابنا صوحان وربعي ومسعود، ابنا حراش العبسيان.
ومن التابعين: عمرو بن شُرَخبيل أبو ميسرة وأرقم بن شرحبيل، أخوان فاضلان من أصحاب ابن مسعود. وآخرون لا يحصى عددهم.
ومثال الثلاثة من الصحابة سَهْل وعبّاد وعثمان، بنو حُنَيْف.
ومن أصحاب أمير المؤمنين(علیه السّلام): سفيان بن يزيد وأخواه، عبيد والحرث كلّهم أخذ رايته وقُتِلَ في موقف واحد. وسالم وعبيدة وزياد، بنو الجعد الأشجعيون.
ومن أصحاب الصادق(علیه السّلام): الحسن ومحمد وعلي، بنو عطية الدغشي المحاربي. ومحمّد، وعليّ، والحسين بنو ب حمزة الثمالي.
وعبد الله، وعبد الملك، وعريق بنو عطا بن أبي رباح، نجباء.
ومن أصحاب الرضا(علیه السّلام): حمّاد بن عثمان والحسين وجعفر أخواه. وغيرهم وهم كثيرون أيضاً.
ومثال الأربعة: عُبيد الله ومحمد وعمران وعبد الأعلى بنو عليّ بن أبي شعبة الحلبي، ثقات فاضلون، وكذلك أبوهم وجدهم.
ص: 503
وبسطام، أبو الحسين الواسطي وزكريا وزياد وحفص، بنو سابور، وكلهم ثقات أيضاً.
ومحمّد وإسماعيل وإسحاق ويعقوب بنو الفضل بن يعقوب بن سعيد بن نوفل بن حارث بن عبد المطلب. وكلّ هؤلاء ثقات من أصحاب الصادق(علیه السّلام).
وداود بن فرقد وإخوته يزيد وعبد الرحمن وعبد الحميد.
وعبد الرحيم وعبد الخالق وشهاب ووهب بنو عبد ربه. وكلّهم خيارٌ فاضلون.
ومحمّد وأحمد والحسين ، وجعفر بنو عبد الله بن جعفر الحميري.
ومن غريب الإخوة الأربعة، بنو راشد أبي إسماعيل السلمي، ولدوا في بطن واحد، وكانوا علماء وهم: محمد وعمر وإسماعيل، ورابع لم يسمّوه.
ومثال الخمسة سفيان، ومحمد، وآدم، وعمر، وإبراهيم بنو عُيَيْنة، كلّهم حدّثوا.
ومثال الستة التابعين أولاد سیرین محمّد المشهور وأنس ويحيى ومعبد وحفصة وكريمة.
ومن رواة الصادق(علیه السّلام): محمد وعبد الله وعبيد وحسن وحسين ورومي بنو زرارة بن أعين.
ومثال السبعة من الصحابة، بنو مقرن المزني وهم: النعمان ومعقل وعقيل، وسويد وسنان وعبد الرحمن وعبد الله. وقيل: إن بني مقرن كانوا عشرةً.
ومثال الثمانية: زرارة ويُكَيْر وحُمران وعبد الملك وعبد الرحمن ومالك وقَعْنَب عبد الله، بنو اَعْين، من رواة الصادق(علیه السّلام).
ويوجد في بعض الطرق نَجْم بن أعْين، فيكون من أمثلة التسعة.
ولو أضيف إليهم أُختهم أم الأسود صار واعشرة.
و مازاد على هذا العدد نادر فلذا وقف عليه الأكثر.
وذكر بعضهم عشرة ومنهم: أولاد العبّاس بن عبد المطلب؛ وهم: الفضل وعبدالله
ص: 504
وعبيد الله وعبد الرحمن وقتم ومعبد وعون والحرث وكثير وتمام - بالتخفيف - وكان أصغرهم، وكان العباس يحمله ويقول:
تموا بتمام فصاروا عشرة *** يا ربّ فاجعلهم كراماً بررة
واجعل لهم خيراً ونم الثمرة
وكان له ثلاث أُناث: أُم كلثوم وأُمّ حبيب وأُميمة. والله تعالى أعلم.
(و) من المهم أيضاً (معرفة أوطانهم وبلدانهم). فإنّ ذلك ربما يميز بين الاسمين المتفقين في اللفظ، وأيضاً ربما استدلّ بذكر وطن الشيخ، أو ذكر مكان ،السماع على الإرسال بين الراويين، إذا لم يعرف لهما اجتماع عندَ مَنْ لا يكتفي بالمعاصرة.
(وقد كانت العرب تنسب إلى القبائل) وإنّما حَدَثَ لهم الانتساب إلى البلاد والأوطان لمّا توطّنوا (فسكنوا القُرى) والمدائن (وضاعت الأنساب) فلم يبق لها غير الانتساب إلى البلدان والقرى فانتسبوا إليها كالعجم، فاحتاجوا إلى ذكرها، فالساكن ببلد) وإنْ قَل - (وقيل: يُشترط سكناه (أربع سنين - بعد) أن كان قد سكن بلداً (آخر يُنسب إلى أيّهما شاءَ، أو يُنسب إليهما) معاً (مقدماً للأول) من البلدين سكني (ويحسنُ) عند ذلك (ترتيب) البلد (الثاني ب_«ثُمّ») فيقول مثلاً: «البغدادي ثمّ الدمشقي».
(و) الساكن (بقرية بلدِ ناحية إقليم يُنسب إلى أيها شاء) من القرية والبلد والناحية والإقليم.
فمَنْ هو من أهل جُبع مثلاً له أن يقول في نسبته: «الجُبَعي»، أو «الصيداوي»، أو «الشامى». ولو أراد الجمع بينها فليبدأ بالأعم فيقول «الشامي الصيداوي الجُبَعي».
(فهذه جملةً موجزةً في الإشارة إلى مقاصد هذا العلم) أعني دراية الحديث وأنواعه (إجمالاً ، ومَنْ أراد الاستقصاء فيها مع ذكر الأمثلة) الموضحة لمطالبه (فعليه
ص: 505
بكتابنا غنية القاصدين في معرفة اصطلاحات المحدثين)(1) فإنه قد بلغ في ذلك الغاية، وفّق الله تعالى لإكماله بمحمد وآله.
(والله تعالى (الموفّق) للسداد (والهادي) إلى سبيل الرشاد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
فرغ من تسويد هذا التعليق المنزل منزلة الشرح للرسالة الموسومة ب_ البداية في علم الدراية مؤلّفهما العبد الفقير إلى عفو الله تعالى زين الدين بن علي بن أحمد الشامي العاملي (عامله الله تعالى بلطفه وعفا عنهم بمنّه وفضله) هزيع(2)ليلة الثلاثاء خامس شهر ذي الحجّة الحرام عام تسع وخمسين وتسعمائة، حامداً مصلّيّاً مسلماً.
ص: 506