موسوعة الشهيد الثاني المجلد 1

هوية الکتاب

موسوعه الشهید الثانی

الجزء الاول: منیة المرید

المرکز العالی للعلوم و الثقافة الاسلامیة مرکز احیاء التراث الاسلامی

المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلاميّة

موسوعة الشهيد الثاني

الجزء الأوّل (منية المريد)

الناشر : المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلاميّة

الإعداد والتحقيق : مركز إحياء التراث الإسلامي

الطباعة : مطبعة الباقري

الطبعة الأولى 1434 ق / 2013م

الكمّيّة: 1000 نسخة

العنوان: 143 : التسلسل: 234

حقوق الطبع محفوظة للناشر

العنوان : قم، شارع الشهداء (صفائية)، زقاق آمار، الرقم 42

التلفون والفاكس: 7832833. التوزيع: قم 7832834؛ طهران 66951534 ص. ب 37185/38585 ، الرمز البريدي: 16439 - 37156.

وب سایت : www.pub.isca.ac.ir

البريد الالكتروني : nashr@isca.ac.ir

شهید ثانی زین الدین بن علی 911 - 965ق.

موسوعة الشهيد الثاني / الإعداد والتحقيق مركز إحياء التراث الإسلامي، المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلاميّة

1434ق. = 2013م.

ISBN 978-600-5570-74-8-(دوره)

- ISBN 978-600-5570-76-2-(ج1)

فهرست نویی بر اساس اطلاعات فیپا

کتابنامه.

مندرجات : ج 1. منية المريد في أدب المفيد والمستفيد..

1. اسلام - مجموعه ها2. دانش و دانش اندوزی - جنبه های مذهبی - اسلام 3. اسلام و آموزش و پرورش 4. اخلاق اسلامی الف پژوهشگاه علوم و فرهنگ اسلامی مرکز احیای آثار اسلامی ب عنوان 297/08 - BP

ش92 م8 / 4/6

محرر الرقمي: السید محمد رضوي

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

موسوعة الشهيد الثاني

الجزء الأوّل

منية المريد

في أدب المفيد والمستفيد

تحقيق : رضا المختاري

المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلاميّة

مركز إحياء التراث الإسلامي

ص: 3

المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلاميّة

موسوعة الشهيد الثاني

الجزء الأوّل (منية المريد)

الناشر : المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلاميّة

الإعداد والتحقيق : مركز إحياء التراث الإسلامي

الطباعة : مطبعة الباقري

الطبعة الأولى 1434 ق / 2013م

الكمّيّة: 1000 نسخة

العنوان: 143 : التسلسل: 234

حقوق الطبع محفوظة للناشر

العنوان : قم، شارع الشهداء (صفائية)، زقاق آمار، الرقم 42

التلفون والفاكس: 7832833. التوزيع: قم 7832834؛ طهران 66951534 ص. ب 37185/38585 ، الرمز البريدي: 16439 - 37156.

وب سایت : www.pub.isca.ac.ir

البريد الالكتروني : nashr@isca.ac.ir

شهید ثانی زین الدین بن علی 911 - 965ق.

موسوعة الشهيد الثاني / الإعداد والتحقيق مركز إحياء التراث الإسلامي، المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلاميّة

1434ق. = 2013م.

ISBN 978-600-5570-74-8-(دوره)

- ISBN 978-600-5570-76-2-(ج1)

فهرست نویی بر اساس اطلاعات فیپا

کتابنامه.

مندرجات : ج 1. منية المريد في أدب المفيد والمستفيد..

1. اسلام - مجموعه ها2. دانش و دانش اندوزی - جنبه های مذهبی - اسلام 3. اسلام و آموزش و پرورش 4. اخلاق اسلامی الف پژوهشگاه علوم و فرهنگ اسلامی مرکز احیای آثار اسلامی ب عنوان 297/08 - BP

ش92 م8 / 4/6

ص: 4

دلیل موسوعة الشهيد الثاني

المدخل = الشهيد الثاني حياته وآثاره

الجزء الأوّل = (1) منية المريد

الجزء الثاني = (2-6) الرسائل /1 : 2. كشف الريبة : 3 التنبيهات العلية؛ 4 مسكّن الفؤاد؛ . البداية 6 الرعاية لحال البداية في علم الدراية.

الجزء الثالث = (7 - 30) الرسائل /2 : 7 تخفيف العباد في بيان أحوال الاجتهاد؛ 8. تقليد الميّت؛ 9. العدالة؛ 10. ماء البئر؛ 11 تيقّن الطهارة والحدث والشكّ في السابق منهما؛ 12. الحدث الأصغر 12 أثناء غسل الجنابة : 13 . النية؛ 14 صلاة الجمعة 15 الحثّ على صلاة الجمعة؛ 16. خصائص يوم الجمعة؛ 17 نتائج الأفكار في بيان حكم المقيمين في الأسفار 18. أقلّ ما يجب معرفته من أحكام الحجّ والعمرة؛ 19 نيّات الحجّ والعمرة؛ 20 مناسك الحجّ والعمرة .21 طلاق الغائب؛ 22. ميراث الزوجة؛ 23. الحبوة؛ 24 أجوبة مسائل شكر بن حمدان 25 أجوبة مسائل السيّد ابن طرّاد الحسيني؛ 26 أجوبة مسائل زين الدين بن إدريس؛ 27 أجوبة مسائل الشيخ حسين بن زمعة المدني : 28 أجوبة مسائل الشيخ أحمد المازحي .29 أجوبة مسائل السيد شرف الدين السمّاكي؛ ...30 أجوبة المسائل النجفيّة.

الجزء الرابع - (31 - 43) الرسائل /3 : 31 تفسير آية البسملة؛ 32. الإسطنبولية في الواجبات 32. العينية : 33 الاقتصاد والإرشاد إلى طريق الاجتهاد؛ 34 وصيّةٌ نافعةٌ : 35. شرح حديث «الدنيا مزرعة الآخرة»؛ 36. تحقيق الإجماع في زمن الغَيْبَة؛ 37 مخالفة الشيخ الطوسي (رحمه الله) لإجماعات نفسه؛ 38 ترجمة الشهيد بقلمه الشريف .39 حاشية خلاصة» الأقوال» 40. حاشية «رجال ابن داود» 4.1 الإجازات 42 الإنهاءات والبلاغات 43 الفوائد.

ص: 5

الجزء الخامس = (44) تمهيد القواعد

الجزء السادس - الجزء التاسع = (45) الروضة البهية

في شرح اللمعة الدمشقيّة

الجزء العاشر والجزء الحادي عشر = (46) روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان

الجزء الثاني عشر = (47-49) المقاصد العلية وحاشيتا الألفيّة

الجزء الثالث عشر = (50) الفوائد المليّة لشرح الرسالة النفليّة

الجزء الرابع عشر = (51 و 52) حاشية شرائع الإسلام وحاشية المختصر النافع

الجزء الخامس عشر = (53) حاشية القواعد (فوائد القواعد)

الجزء السادس عشر = (54) حاشية إرشاد الأذهان

الجزء السابع عشر - الجزء الثامن والعشرون = (55) مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام الجزء التاسع والعشرون - الفهارس

ص: 6

فهرس الموضوعات

كلمة المركز ... 11

مقدمة التحقيق ... 23

تقرير عن الطبعات المختلفة للكتاب ... 31

نسخ الكتاب المخطوطة ... 33

تخريج الأخبار والآثار والأشعار ... 42

شكر وثناء ... 46

نماذج من مصوّرات النسخ الخطّيّة المعتمدة في التحقيق ... 47

منية المريد في أدب المفيد والمستفيد

تقديم ... 3

المقدمة في فضل العلم من الكتاب والسنة والأثر ودليل العقل

فصل 1: في فضل العلم من القرآن ... 5

فصل :2 فيما روي عن النبي الهلال في فضل العلم ... 11

فصل : فيما روي عن طريق الخاصة في فضل العلم ... 19

ص: 7

منية المريد

فصل :4: فيما روي عن التفسير المنسوب إلى العسكري علیه السلام في فضل العلم ... 24

فصل 5 : فضل العلم من الكتب السالفة والحكم القديمة ... 30

فصل 6 : فضل العلم من الآثار وتحقيقات بعض العلماء ... 32

فصل 7 : دليل العقل على فضل العلم ... 37

الباب الأول في أداب المعلّم والمتعلّم

النوع الأوّل: آداب

اشتركا فيها ... 41

القسم الأوّل: آدابهما في أنفسهما ... 41

الأمر الأوّل: إخلاص النية لله تعالى ... 41

فصل 1: ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في لزوم الإخلاص في طلب العلم ... 42

فصل :2 ما روي عن طريق الخاصّة في لزوم الإخلاص ... 46

فصل 3 في لزوم الإخلاص من الآثار وكلام الأنبياء ... 48

فصل 4 : في مكايد الشيطان وأهميّة الإخلاص ... 51

الأمر الثاني: استعمال العلم ... 55

فصل 1: في بيان أن الغرض من طلب العلم هو العمل ... 59

فصل 2 في الغرور في طلب العلم والمغترّين من أهل العلم ... 63

فصل : في شرائط إخلاص النية واستعمال العلم ... 67

الأمر الثالث في التوكل على الله تعالى والاعتماد عليه ... 68

الأمر الرابع : حسن الخلق - زيادةً على غيرهما من الناس - والتواضع وتمام

الرفق وبذل الوسع في تكميل النفس ... 71

الأمر الخامس: عفّة النفس والتجنّب عن الملوك وأهل الدنيا ... 73

الأمر السادس: القيام بشعائر الإسلام وظواهر الأحكام ... 76

القسم الثاني: آدابهما في درسهما واشتغالهما ... 79

ص: 8

النوع الثاني: آداب يختصّ بها المعلِّم ... 87

القسم الأوّل: آدابه في نفسه مضافة إلى ما تقدّم... 88

القسم الثاني: آداب المعلِّم مع طلبته ... 89

القسم الثالث: آدابه في درسه ... 113

النوع الثالث في الآداب المختصّة بالمتعلِّم ... 131

لقسم الأوّل: آدابه في نفسه ... 132

القسم الثاني : آدابه مع شيخه وقدوته وما يجب عليه من تعظيم حرمته... 141

القسم الثالث: آدابه في درسه وقراءته، وما يعتمده حينئذ مع شيخه ورفقته ... 171

الباب الثاني

في آداب الفتوى والمفتي والمستفتي

المقدّمة في أهمّية الإفتاء ... 187

النوع الأول: الأمور المعتبرة في كلّ مفتٍ ... 195

النوع الثاني في أحكام المفتي وآدابه ... 197

النوع الثالث في آداب الفتوى ... 199

النوع الرابع في أحكام المستفتي وآدابه وصفته

الباب الثالث في المناظرة وشروطها وآدابها وآفاتها

الفصل الأول في شروطها وآدابها ... 217

الفصل الثاني في آفات المناظرة وما يتولد منها من مهلكات الأخلاق ... 221

الباب الرابع في آداب الكتابة والكتب التي هي آلة العلم

آداب الكتابة والكتب وما يتعلّق بها ... 243

ص: 9

الخاتمة

المطلب الأوّل في أقسام العلوم الشرعيّة وما تتوقف عليه من العلوم العقليّة والأدبيّة .... 269

الفصل الأوّل في أقسام العلوم الشرعيّة الأصليّة ... 269

الفصل الثاني في العلوم الفرعيّة ... 280

المطلب الثاني في مراتب أحكام العلم الشرعي وما أُلحق به ... 282

المطلب الثالث في ترتيب العلوم بالنظر إلى المتعلِّم ... 287

تتمة الكتاب ... 293

ص: 10

تصدير

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد الأنبياء والمرسلين محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

لا ينكر أحد ما للإسلام من دور عظيم في تفجير ينابيع العلم والحكمة في عقول وقلوب المسلمين، وحثّهم على طلب العلم والمعرفة أينما وجدا، فأوجد عقولاً واعيةً فذّة، وأذهاناً متّقدةً، ونفوساً حكيمةً مولعة بتقوى الله، كما أوجد قلوباً منيبةً والهة تعشق العلم والمعرفة.

كما لا ينكر أحد ما لعلماء الإسلام من دور في نشر العلوم والمعارف في العالم وتطوير الأُمم والبلدان، وحملها على التقدّم والازدهار، حتّى بلغت البشرية شأواً عظيماً في مراتب التحضّر والتقدّم بفضلهم، وارتقت مقاماً سامياً في ميادين التمدّن والتطوّر بجهودهم، ونالت حظّاً وافراً من الرقي والرفاهية بسببهم.

والحديث عن دور الإسلام وعلماء الإسلام في تقدّم البشريّة طويل ومتفرّع؛ لأنّه يتّصل بكلّ جانب من جوانب الحياة البشريّة النظريّة والعمليّة.

غير أنّ ذلك لا يمنع من الحديث عن النخبة من أهل البصائر الذين اختصّهم الله يفضله من علماء الشيعة الأعلام من خريجي مدرسة آل محمّد صلی الله علیه و آله و سلّم ، الذين جمعوا إلى جانب العلم والمعرفة الوعي والإبداع والتأثير في الحركة الفكريّة والدينية للأُمّة رغم

ص: 11

الظروف المعقّدة التي أحاطت بهم، حتّى أنّهم تركوا بصمات واضحةً في تاريخ الفكر الإنساني.

صحيح أنّ لعلماء الشيعة شأناً عظيماً في الآفاق، وصحيح أنّ غيرهم عجز عن أن يبلغ ما بلغوه من جلالة قدر عند الناس رغم الخوف من السلطات الحاكمة، والخشية من وسائل قمعهم وإرهابهم، ولكن الصحيح أيضاً أنّهم لم يدركوا هذا الشأن العظيم إلّا بتوافرهم على الوعي والفطنة والسبق في ميادين الفكر، إضافة إلى قوّة الإرادة والشجاعة والإقدام والتفاني في الدعوة إلى الله.

فهم لم ينالوا هذا الشأن بدعم من الحكّام ولم يكونوا من أصحاب الثروة والمال والسلطة السياسيّة، بل اكتسبوا ذلك ممّا يملكونه من كمالات متعدّدة، وممّا بذلوه من جهود لأجل العطاء، بعيداً عن علائق الجاهليّة وحبّ الدنيا. فكانوا يهدون الناس إلى طريق السداد، ولا يبخلون في تقديم النصح لهم وإن خالفوهم في الرأي والمذهب.

فهم مصاديق الكريمة: «الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَلَتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ، وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا

إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا».(1)

وهكذا تفوّق علماؤنا ونالوا قصب السبق وأصبحوا مصاديق حيّة لتجسيد الشريعة المعطاء، ومشاعل تضيء مسالك الأفهام، وروض جنان للطالبين، وروضة بهيّة للسالكين.

والتاريخ خير شاهد على ما نقول، فما أن تتصفّح أوراقه حتّى تجد ما يؤكّد لك ذلك، ويشير إلى الدور الكبير الذي لعبوه في نشر مفاهيم الإسلام ومعارف الدين الصحيحة في ربوع العالم الإسلامي، حتّى أضحوا منيةً للمريد وقدوة للمستفيد.

ومن بين هذه النجوم المتلألئة في سماء العلم، والأعلام الشاخصة في أنحاء عالم المعرفة، يبرز نجم الإمام العلّامة الحجّة الشيخ زين الدين بن عليّ بن أحمد العاملي في طليعة المتبحّرين العظام في العلم والفقه والاجتهاد، حتّى حظي بالشرف الأعظم ونال وسام الشهادة في سبيل الرسالة التي أنفق عمره لأجل تبليغها.

ص: 12


1- الأحزاب (33): 39

فقد برع هذا الفقيه في مجال العلوم الإسلاميّة حتّى ذاع صيته في الأمصار، وتألّق في ميدان الفقه واستخلاص الفروع من أُصولها واستنباطها من أدلّتها الشرعيّة، حتّى صار يُشار إليه بالبنان من قبل الخاصّ والعامّ من الشيعة وغيرهم، وطار خبره في سائر البلاد فخشيه البعض وثارت أحقاده ضدّه، لما يرى من عظمة هذه الشخصيّة وتألّقها في سماء العلم والمعرفة، وتفوّقه في مجال الاستدلال، وعمق نظرته للمسائل المختلفة ومتانة رؤيته للحوادث الواقعة، حتّى دفع هذا البعض للنيل منه بشتّى السبل مستغلّاً سلطته السياسيّة، وساعياً وراء ذلك ولو على حساب الحقّ والتوسّل بالشيطان!

إنّ براعة هذا الرجل لم تكن مقتصرة على إلقاء الدروس على حفنة طلّابه، ولا على تقريراته المدوّنة في كتبه ورسائله وسائر مؤلّفاته، ولا على آرائه الفقهيّة التي سجّلها شرحاً أو تأليفاً في مصنّفاته، ولا هي أيضاً بعدد أيضاً بعدد تأليفاته وكثرة تدويناته في العلوم الإسلاميّة فحسب بل شملت عدّة مجالات، منها:

1. كان من أكبر فقهاء الشيعة على مرّ التاريخ، جامعاً للعلوم والفنون، ولا تزال آثاره القيمة تعدّ من المصادر المهمّة للعلوم الإسلاميّة، وقد حظيت شخصيّته المرموقة باحترام علماء سائر المذاهب من خلال حضوره عند عدد كبير من أرباب المذاهب الإسلامية المختلفة، ومناقشاته الجادّة معهم.

2. إبراز الفقه الشيعي الإمامي بصورته الناصعة، وتقديمه كفقه قائم بذاته، له مقوّماته وأُصوله وقواعده، فهو مستقل فى كلّ شيء ويمتلك ذائقةً خاصّة تختلف عن سائر المذاهب، ممّا جعل له مكانته الحقيقيّة والواقعيّة التى طالما سعی مخالفوه - منذ صدر الإسلام - إلى قمعه واستئصال شأفته، وإطفاء نوره الذي أبى الله تعالى إلّا أن يبقى ويخلد حتّى قيام الساعة.

3. التأثير في مسيرة الفكر الإسلامي، وتطوير حركته بما يتناسب والمرحلة الحضاريّة التي تمرّ بها البشريّة من خلال إرساء الأسس المنهجية القويمة لقواعد فقهيّة رصينة يمكن أن تسند حركة الفقه الإسلامي وتعينه على أداء دوره في فترة ما بعد

ص: 13

عصر النصّ ومواكبته للحوادث المستجدّة.

4. تعبئة المسلمين وحتّهم على الالتزام بدينهم القويم، وطرح المذهب الإمامي كمدرسة إسلاميّة عريقة محلّها في الصدارة، وذلك من خلال التأكيد على أفكاره وآرائه الأصيلة المستمدّة من مدرسة أهل بيت العصمة علیهم السلام، الذين ورثوا العلم كابراً عن كابر انتهاءً بجدّهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام باب علم النبي صلی الله علیه و آله و سلّم وحكمته وفضله وكمالاته، الذي أخذها بدوره عنه صلی الله علیه و آله و سلّم من دون وسيط.

5 . تخريج نخبة واعية وطليعة متميّزة ومعطاءة في خدمة الدين والمذهب الحقّ بإخلاص وتفانٍ وصدق وشجاعة، واستقامة على الطريقة، وحفاظ على المسيرة من أن يصيبها العطب.

لقد تميّزت هذه الشخصيّة بالإبداع في مجال الفكر والعمل والنشاط الدؤوب في تفعيل حركة الفقه الشيعي، وبعثه على التفاعل والتلاقح على ضوء معطيات تلك الفترة الزمنية، والواقع العملي الذي ينبغي للحكم الشرعي أن ينفذ في مجرياته الحياتيّة.

وهذا ما جعلها تخلد التاريخ على صعيد تربية أجيال متعاقبة تعمل في مجال حماية أحكام الشريعة، وممارسة العمليّة الاجتهاديّة بصدق وعمق وأمانة وشموليّة منقطعة النظير، إضافة إلى ما لها من دور في نشر روح البحث العلمي التي تتطلّب الموضوعيّة والتجرّد عن الهوى، وتقديم الراجح على المرجوح وفق الأدلّة الشرعيّة المعتبرة.

ولذا وجد مركز إحياء التراث الإسلامي، أنّ التراث العلمي الذي خلّفه هذا الفقيه الألمعي يجب أن ينال الحظوة من الاهتمام والرعاية الخاصة، من خلال:

أ - نشر تراثه كاملاً بعد التوافر على مخطوطه أو مطبوعه، لما يمثّله من مصدر غنيّ من المصادر المهمّة للعلوم الإسلاميّة من جهة، وكونه أحد المناهل التي يعوّل عليها علماء الإماميّة - خصوصاً فقهاءهم - منذ عصور طويلة وحتّى زماننا الحاضر من جهة أُخرى، بسبب ما تمثّله شخصيّته من نضج وتعدّد في الكمالات الروحيّة والمعنويّة،

ص: 14

ونبوغ في الفكر، ونفاذ في البصيرة، وإبداع في النظر.

ب - نشر آثاره العلمية في قالب موسوعي ضخم يمثّل مجموعة آثاره الكاملة بصورة محقّقة ومنقّحة وفق آخر أساليب التحقيق والتدقيق الحديثة؛ لما تشكل من صورة تعكس زبدة أفكار علماء الإمامية في تلك الحقبة من الزمن، وخلاصة تصوّراتهم تجاه الحياة الفاضلة، ودورها في تطوير العلوم الإسلامية خاصةً، والحركة العلميّة للبشريّة عامّة.

إضافة إلى أنّ صاحب هذه المجموعة الكاملة من الآثار الفقهيّة كان يمثّل حلقة وصل بين أجيال فقهاء الإماميّة، بين المتقدّمين والمتأخّرين، ممّا يتيح للفقهاء المعاصرين من بعدهم فرصة الوقوف عن كثب على آراء وأقوال فقهاء تلك الحقب الماضية، واستخلاص ما يحتاجون إليه في بحوثهم المتعلّقة بالمسائل المستجدّة، بعد وقوفهم على مباني المتقدّمين والمتأخّرين، والأُسس التي أقاموها بما يتواءم وتلك المرحلة الزمنية وشرائطها الخاصّة بها.

ومن مجموع ما تقدّم ارتأى مركز إحياء التراث الإسلامي التابع للمركز العالي للعلوم والثقافة الإسلاميّة أن يبادر - كما هو ديدنه - إلى تنفيذ مهمّة إحياء تراث هذه الشخصيّة الفذّة، خدمةً للدين والمذهب، وقد عمل فيما مضى على تحقيق قدر كبير من المصادر التي لا غنى للمجتهدين عنها في حياتهم العلميّة والاجتهاديّة المتمثّلة باستنباط الحكم الشرعي من الأدلّة الشرعيّة المعتبرة والمقرّرة عند الفقهاء، وذلك انطلاقاً ممّا أخذه المركز على عاتقه من مسؤوليّة إحياء ونشر الآثار الإسلاميّة التي خلّفها علماؤنا الأبرار، وتركوا عليها بصماتهم المباركة التي ما زالت حتّى يومنا الحاضر تفرز معطياتها على أكثر من صعيد وذلك ضمن مشروعه العلمي الكبير الذي طرحه منذ سنين عديدة، والذي يتمثّل بمهمّة إحياء تراث عدّة شخصيات علمائيّة وفقهائيّة متميزة، ضمن قالب موسوعي يمثّل مجموعة آثارهم الكاملة بصورة منقّحة ومحقّقة ومقابلة بالنسخ المعتمدة، كلّ ذلك على أساس:

ص: 15

أ - اعتبار تراثهم الغني من المصادر المهمّة للعلوم الإسلاميّة والمعارف الدينيّة، حيث لا يمكن الاستغناء عنه بحالٍ.

ب - كون دورهم التاريخي مؤثّراً في إصلاح الفكر الديني، وتصحيح الحركة العلميّة والاجتماعيّة عبر التاريخ الطويل للإسلام وتأسيس الحوزات العلميّة في بقاع العالم الإسلامي.

ج - كونهم من الفقهاء والعلماء البارزين على المستويين: الشيعي والإسلامي عموماً، ومن المتألقين عبر العصور والمتميّزين بأفكارهم الفذّة والغنيّة، والزاخرة بالعطاء الثرّ حتّى زماننا الحاضر.

د - تألّقهم في سماء العلم والمعرفة الإسلاميّة، ليس على مستوى المذهب الإمامي فحسب، بل على المستوى الإسلامي أيضاً، فكان لهم الأثر البالغ في تجذير الوعي الفقهي والعلمي بين الأوساط الإسلاميّة.

كانت موسوعة الإمام شرف الدين باكورة نشاط وفعّاليّة المركز على هذا الصعيد ثمّ أعقبتها موسوعة العلّامة البلاغي لتحمل الرقم (2) من سلسلة نشاط المركز، ثمّ تلتهما موسوعة الشهيد الأوّل لتحمل الرقم (3) من تلك الموسوعات المزمع طبعها وتحقيقها ونشرها بالحلّة الجديدة التي تتواءم وذوق العصر الحديث.

وهذه الموسوعة تنضمّ إلى سابقاتها من الموسوعات لتحمل الرقم (4)، ولتحتلّ موقعها اللائق في المكتبة الإسلاميّة العلميّة، فيستقي منها العلماء وطلّاب العلم والمعرفة الإسلاميّة، وتساهم في مدّ الفكر الديني بالعطاء الثرّ الذي يتمّ من خلاله إزاحة الضلالة والغشاوة عن أعين الناس وإزالة الشبهات العالقة في أذهانهم.

ونحن إذ نفخر اليوم بما نقوم به من واجب رساليّ، ويزيدنا فخراً أن نشهد هذا القبول الواسع من قِبَل علمائنا ومثّقفينا وطلبتنا الأعزّاء، وترحيبهم بهذا العمل، فيمدّنا بالشوق والأمل على إتمام سائر الموسوعات الأُخرى، فإنّنا نشكر الله تعالى على منّه وتوفيقه لأداء هذه المهمة الرساليّة بخطى ثابتة وعزمٍ راسخ، ونسأله المزيد من ذلك

ص: 16

عسى أن نبلغ رضاه - سبحانه وتعالى - بتقديم المزيد من العمل وإن كان مضنياً وشاقاً.

مشروع التحقيق ومنهجه

1 - جمع كلّ آثار وتراث الشهيد الثاني، سواء المخطوط منه والمطبوع، من النسخ المعروفة وغير المعروفة لكلّ مصنّف من مصنّفاته لا سيّما النسخ المعتبرة، وهي - ولا شکّ أصعب مراحل تحقيق التراث؛ لما تستلزمه من تنقيب وتفحص، ودقّة في فهارس النسخ الخطّيّة المتناثرة هنا وهناك، في داخل الجمهوريّة الإسلاميّة وخارجها، في المكتبات العامّة والخاصّة.

وقد استطعنا في هذه المرحلة من العثور على نسخ ممتازة جداً من آثار الشهيد

الثاني، بعضها من خطّ الشهيد نفسه أو بعض تلامذته.

2 - طبع الآثار في ملفّات على الحاسوب، ثمّ إجراء مقابلة

دقيقة مع النسخ المعتمدة ومن ثمّ تثبيت اختلافات النسخ.

3 - تخريج الأحاديث والآثار والأقوال وغيرها ممّا يحتاج إلى التوثيق، وهذه المرحلة أيضاً امتازت بمصاعبها الخاصّة التي تمثّلت باحتياج العمل فيها إلى الدقّة والصبر المتواصل.

4 - ضبط النصوص وتقويمها مع ملاحظة اختلاف النسخ واختلاف المصادر، واختيار ما يناسب سياق المتن، إضافة إلى شرح المفردات وتوضيحها إن كانت مبهمة، وتوزيع النصوص وتنظيم هوامشها مع مراعاة وحدة الأُسلوب في جميع أجزاء الموسوعة.

5 - إدخال الملاحظات الجديدة في الحاسوب، ثمّ مقابلة الملفّات مرّةً ثانية لإحراز الدقّة الكاملة.

6 - إرجاع مطالب الآثار والأجزاء بعضها إلى البعض الآخر وذلك في المرحلة النهائية بعد إكمال الموسوعة واستقرار شكلها النهائي.

ص: 17

7 - المراجعة الفنّيّة اللازمة ما قبل الإخراج، وتشمل العناوين الرئيسيّة والفرعيّة، وتحديد القالب الفنّي للمتن والهامش، وسائر المتعلّقات الأُخرى حيث تراعي الهيكل العامّ للكتاب.

8 - تنظيم الفهارس العامّة، حيث يقع في مجلّد مستقلّ يحتلّ موقعه في آخر الموسوعة، ضمن نظام الفهرسة المعاصرة الذي يشمل فهارس عديدة تفيد الباحث والفقيه، وكذلك طالب العلم إذا ما أراد المراجعة الموضوعيّة.

ولا بأس في هذا السياق من الإشارة إلى أنّ هذه الموسوعة قد رُتّبت على حسب أهمّيّة الآثار موضوعاً ودراسة ومنهجاً في ثلاثين مجلداً بحيث تستغرق بعض العناوين مجلدين أو أكثر وحتّى ثمانية عشر مجلّداً، بينما يشتمل بعض المجلّدات على عنوان واحد أو على أكثر من عنوان، وتخصيص ثلاث مجلّدات للرسائل والإجازات والإنهاءات، وقد أفردنا مجلّداً خاصاً بالفهارس، مضافاً إلى مجلّد اختصّ بحياة وسيرة الشهيد الثاني والتعريف بآثاره.

المساهمون في تحقيق الموسوعة وإخراجها

إنّ هذه الموسوعة تمثّل ثمرة جهود عدّة من المحقّقين المقتدرين العاملين في مركز إحياء التراث الإسلامي الذين بذلوا جهوداً مباركة لإنجازها وإخراجها إلى النور. ونرى الواجب علينا تقديم الشكر والثناء لهم على ما قدّموه من خدمة للدين الحنيف وعلوم آل محمد صلی الله علیه و آله و سلّم، وقد أشرنا إلى أسماء المشاركين في تحقيق كلّ عنوان من العناوين في مقدّمة التصحيح الخاصّة به، وهنا نذكر أسماء المساعدين الذين كان لهم دورهم في إنجاز الموسوعة بالشكل النهائي، مثمنين جهودهم الكبيرة الجادّة، داعين الله عزّ وجلّ لهم بالتوفيق، إنّه نعم المولى ونعم النصير.

1 - أعضاء اللجنة المشرفة على التحقيق، وهم السادة الأعزّاء: السيّد منذر الحكيم الشيخ محمّد الباقري، عليّ أكبر زماني نجاد، محسن صادقي، منصور إبراهیمی،

ص: 18

أكبر أسد عليزاده، والشيخ رضا المختاري الذي أُوكلت إليه مهمّة الكتابة عن حياة الشهيد الثاني في مجلّد مستقلّ اعتُبِرَ مدخلاً للموسوعة. وقد كان لفضيلته قصب السبق في تحقيق عدّة من كتب الشهيد الثاني قبل البدء بتحقيق الموسوعة الكاملة مثل منية المريد ورسائل الشهيد الثاني، وله دور مميّز في كلّ مراحل إنجاز الموسوعة، فللّه درّه وعليه أجره.

2 - تخريج الأحاديث والآثار والأقوال ومراجعة المصادر: السيّد حسين بني هاشمي، إسماعيل بيك المندلاوي، إسماعيل إسماعيلي، محمود هيئتي، السيّد رضا هدايتي، مجيد شرفخاني عقيل فرزانة حبيب العفيفي، غلام حسین دهقان، عبّاس آقا كثيري.

3 - المراجعة العلميّة ومطالعة النصوص: محمّد الباقري، روح الله ،ملكيان عليّ الأسدي، شكري أبو غزالة، عبّاس المحمّدي، غلام حسين قيصريهها، وليّ الله قرباني، غلامرضا نقي، محمّد حسین حکمت.

4 - التصحيح المطبعي: محسن النوروزي عقيل ،فرزانة حبيب عفيفي، عبد الرحيم فخر ،الحاج قاسم شالباف ناجي الميّاحي محمد شيخان عليّ الكعبي، السيّد رضا هدايتي، إسماعيل بيك المندلاوي.

5 - الطباعة والتصحيح والإخراج الفنّي : رمضان عليّ القرباني، حسين القرباني، مسعود القرباني، عصام البدري يحيى المروّجي.

6 - المراقبة الفنّيّة ما قبل الإخراج: محسن النوروزي، إسماعيل شكري.

7 - المراجعه النهائيّة، محمّد الباقري، عليّ أوسط الناطقي، محسن النوروزي. 8 - تنظيم الفهارس العامّة وإعدادها: رمضان عليّ القرباني، محمد صادق عبدالعليّ زاده إسماعيل بيك المندلاوي.

كما نتقدّم بالشكر الوافر إلى الإخوة الأعزّاء العاملين في مركز إحياء التراث الإسلامي أحمد عالمي فرد ومحمود رضا دشتكي وكذلك في قسم النشر التابع للمركز

ص: 19

العالي للعلوم والثقافة الإسلاميّة وهم يد الله جنّتي فريد بختياري زاده ومحمّد حسين علىّ الرشيدي.

ولا ننسى أن نتقدّم بالشكر إلى كلّ من ساهم معنا في إنجاز هذه الموسوعة الشريفة من قريب أو بعيد، ومن أسدى معروفاً أو خدمةً على طريق إصدارها ممن لم نتعرّض لذكر اسمائهم.

كما نتقدّم بالشكر الجزيل إلى مسؤولي المكتبات العامّة وخزائن المخطوطات داخل إيران وخارجها، حيث لم يبخلوا بمدّ يد العون والمساعدة، وبذلوا كلّ مساعدة في تقديم ما يلزم من مصوّرات النسخ الخطيّة، ونخصّ بالذكر.

- مكتبة آية الله السيّد المرعشي النجفي (قدّس سرّه) - قم المقدّسة.

- مكتبة آية الله السيّد الگلپایگانی (قدّس سرّه) - قم المقدّسة.

- مكتبة الروضة المطهّرة للسيّدة المعصومة علیها السلام - قم المقدّسة.

- مكتبة مدرسة الفيضيّة - قم المقدّسة.

- مكتبة الروضة الرضويّة المقدّسة - مشهد المقدّسة.

- مكتبة مجلس الشورى الإسلامي - طهران.

- مكتبة جامعة طهران - طهران.

- مكتبة مدرسة الشهيد المطهّري - طهران.

- مكتبة ملك الوطنيّة - طهران.

المكتبة الوطنيّة الإيرانيّة - طهران.

- مكتبة السيّد عبد العظيم الحسني علیه السلام- مدينة ري.

- مكتبة العلّامة الطباطبائي - جامعة شيراز.

- مكتبة أمير المؤمنين علیه السلام العامّة - النجف الأشرف.

- مكتبة آية الله الحكيم (قدّس سرّه) العامّة - النجف الأشرف.

- مكتبة مركز إحياء ميراث إسلامي - قم المقدّسة.

ص: 20

مسك الختام

يلزمنا هنا أن نتقدّم بالشكر الجزيل والثناء الجميل إلى كافّة مسؤولى مكتب الإعلام الإسلامي خاصّين بالذكر مسؤول المكتب فضيلة الشيخ الدكتور أحمد الواعظي، ومسؤول المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلاميّة فضيلة الشيخ حسين التوسّلي، والشيخ أحمد المبلّغي مسؤوله السابق والشيخ محمّد تقي السبحاني مسؤوله الأسبق. حيث جعلوا هذا العمل نصب أعينهم وقدّموا ما بوسعهم من عون مذ كان بذرةً صغيرة أيّام اقتراحه كواحد من مشاريع مركز إحياء التراث الإسلامي، حتّى أصبح بحمد الله تعالى شجرة باسقة وارفة الظلال تسرّ الناظرين وتؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربّها.

نسأل الله المولى القدير أن يتقبّل منّا هذا العمل ويغفر لنا ما فرط منّا، وأن يوفّقنا إلى تقديم الأفضل والأجود من الأعمال. والحمد لله ربّ العالمين.

عليّ أوسط الناطقي

مركز إحياء التراث الإسلامي

قم المقدّسة، ذو الحجّة 1433

ص: 21

ص: 22

مقدّمة التحقيق

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

يعدّ هذا الكتاب من الكتب القيّمة في مجال بيان مكانة العلم ووظائف التلامذة والأساتذة، والمفتي والمستفتي وآداب المناظرة والكتابة، وآداب التعليم والتعلّم للعلوم الإسلاميّة ومراتب العلوم، وعشرات المسائل المهمّة التي هي مورد ابتلاء المتعلّمين والمعلّمين.

وكان هذا الكتاب - وما زال - محطّ أنظار العلماء والطلاب وأهل هذه الصناعة واهتمام المعنيين بفنون الكتابة والتعليم بدرجة كبيرة.

ولا نبالغ إن قلنا: إنّه لا يصل الإنسان إلى خصائص هذا الكتاب إلّا بالمطالعة العميقة والدقيقة والتأمّل في شراشره. وهذا يعود إلى عاملين اثنين أوّلهما مؤلّفه، وثانيهما: أسلوبه وبيانه.

إنّ الميزة المهمّة لهذا الكتاب هي أنّ مؤلّفه من القمم العالية في العلم والمعرفة، فهو من العلماء المتعمّقين ،المتبحّرين، والمتضلّعين في كثير من العلوم الإسلاميّة، قد رأى كثيراً من الأساتذة وأصبح عالماً مجرّباً محنّكاً؛ ومن ناحية أُخرى فهو على جانب عظيم من التقوى والزهد والإيمان وممّن يعمل ويثبت على قوله قبل أن يقول.

فقد أنهى الشهيد الثاني تأليف هذا الكتاب في يوم الخميس العشرين من شهر ربيع

ص: 23

الأوّل عام 954، أي في حدود إحدى عشرة سنة قبل شهادته، وهذا بعد أن رأى كثيراً من الحوزات العلميّة يومئذٍ واتّصل مع كثير منها. إنّ الشهيد الثاني بالإضافة إلى تتلمذه لدى علماء الشيعة في جبل عامل وغيرها، كان قد تتلمذ لدى كبراء علماء العامّة فی دمشق ومصر وغيرهما، وتعرّف على كثير من طرقهم وأساليبهم ممّا ألهمه النضج والتجارب الكثيرة، فصبّها في هذا الكتاب لهداية العلماء والطلاب. ولا شكّ أنّ الفرق شاسع بين من لا يلمس الواقع بيده، ومن جرّب مختلف حوادث الأيّام وكان في صميمها.

كما أنّ أُسلوب تنظيم وتحرير هذا الكتاب قد رفع من قيمته، فهو مشحون بالآيات والروايات وأقوال العلماء والأبيات المناسبة لكلّ ،باب وقد ذكر فيها الآداب والقواعد لطلب العلم بصورة تحكي عن النظر الدقيق والفكر المنظم والمنطقي للمؤلّف. فقد دوّن الكليات كفضيلة العلم ومحاسنه ومحاسن العالم والمتعلّم في المقدّمة، وما يتعلّق بالمعلّم والمتعلّم في باب مستقلّ، وما يرتبط بآداب المفتي والمستفتي وأدب الكاتب وآداب المناظرة في فصول وأبواب مستقلة أيضاً، وجاء بالفقرات في ذيل هذه الأبواب مرقّمة بالأعداد، وهذا الترتيب يساعد على سرعة استيعاب ذهن القارىء، أسرع، وكذلك يسهل المراجعة إلى ما يحتاج إليه، بدون إتلاف للوقت والجُهد. والخلاصة فهو كما قال بعض أهل الفضل:

هو من أحسن كتب الإماميّة في كيفية البلوغ إلى أقصى الغاية، والترقّي إلى المقامات العالية الإنسانية، وبيان فضل العلم وأهله وآداب تعليمه وتعلّمه، وشرائط الفتوى والمفتي وآدابهما وشرائط المستفتي، وغير ذلك ممّا يتعلّق بالعلم والعمل وتهذيب الأخلاق الإنسانية، والوصول إلى الدرجات الملكية واللحوق بالنفوس الكاملة القدسية .(1)

ص: 24


1- منية المريد ص ،1 طبع الهند.

إنََّ عناية كبار العلماء بهذا الكتاب تدلّ على أهميته وعظمته، ونذكر نماذج من أقوال كبار العلماء فيه:

كتب الميرزا الشيرازي الكبير (قدّس سرّه) حامل راية نهضة مقاومة مؤامرة التَبغ البريطانية في تقريظه للطبعة الأُولى للكتاب في سنة 1301ه_ أي قبل مائة وسبع سنين، يقول ما ترجمته:

ما أحرى بأهل العلم أن يواظبوا على مطالعة هذا الكتاب الشريف وأن يتأدبوا

بالآداب المذكورة فيه (1).

كما كتب العالم المتتبّع المرحوم السيّد محسن الأمين (قدّس سرّه) بشأنه يقول: منية المريد في آداب [ظ: أدب] المفيد والمستفيد مشتمل على آداب وفوائد جليلة، وهو نعم المهذَّب لأخلاق الطُلّاب لمن عمل به (2).

ويقول بشأن مؤلّفه:

وتفرّد بالتأليف في مواضيع لم يطرقها غيره، أو طرقها ولم يستوف الكلام فيها، مثل آداب المعلّم والمتعلّم... ألّف منية المريد فلم يبق بعدها منية لمريد... وغير ذلك مما لم يُسبق إليه (3).

وأمّا ابن العودي التلميذ الخاصّ والملازم للشهيد (قدّس سرّه) فهو يقول بهذا الشأن:

مجلّد مشتمل على مهمّات جليلة وفوائد نبيلة، تحمل على غاية الانبعاث والترغيب في اكتساب الفضائل واجتناب الرذائل والتحلّي بشيم الأخيار والعلماء الأبرار(4).

وكتب المرحوم الشيخ عبد الله المامقاني صاحب تنقيح المقال في كتابه مرآة الرشاد الحاوي لوصاياه إلى أولاده وذرّيّته، يقول: وعليك بُنّيّ... بمراجعة منية المريد التي ألّفها الشهيد الثاني (قدّس سرّه) في

ص: 25


1- منية المريد، ص 2، طبع الهند.
2- أعيان الشيعة، ج 7، ص 156.
3- أعيان الشيعة، ج 7، ص 145
4- الدرّ المنثور، ج 2، ص 186.

آداب المفيد والمستفيد، والعمل بها؛ فإنّ كل عمل من غير آدابه غير ممدوح ولا مستحسن ومن أهمّ ما هناك إكرام العلماء العاملين (1).

كما كتب في مقباس الهداية في علم الدراية بعد ذكره لبعض آداب الرواية:

ومن أراد شرح ذلك كلّه فليراجع منية المريد؛ فإنّه قد استوفى المقال واستقصى الحال جزاه الله عنّا وعن الإسلام والمسلمين خيراً (2).

وكتب صدر المتألهين (قدّس سرّه) في شرحه لأُصول الكافي بعد ذكره لموارد من آداب المتعلّم يقول:

فهذه ستّ وظائف من وظائف الطالب المتعلّم، خصّصناها بالذكر؛ فإنّ لكل من المعلّم والمتعلّم وظائف وآداباً كثيرة، وإنّما اختصرنا وأوردنا ما هو أهمّ وأدقّ وأشرف، وتركنا سائر الآداب الحسية والوظائف الفعلية؛ تعويلاً على المذكور في كتب الأخلاق وغيرها، كرسالة ... وأُخرى لزين الملّة والدين (3).

وقبل أن ينقل كلاماً عن منية المريد كتب يقول:

ومن عجيب ما ذكر في هذا الباب ما نقله الشيخ الفاضل العامل ناهج مسلك الورع واليقين قدوة المجتهدين زين الملة والحقيقة والدين العاملي (طاب ثراه) في بعض رسائله [أي منية المريد] عن بعض المحققين...(4).

كما وحظي هذا الكتاب باهتمام الأجانب والغربيّين بعد ما اطّلع كثير منهم عليه. كتب بهذا الشأن الفاضل الفقيد عليّ أصغر حكمت قبل أكثر من ستّين عاماً في 1304ه_ . ش. يقول ما ترجمته:

لعلّ كثيراً من الذين افتتنوا بظواهر الحضارة الأُروبية الحديثة... يظلّوا غافلين عن

ص: 26


1- مرآة الرشاد، ص 185
2- مقباس الهداية المطبوع مع تنقيح المقال، ج 3، ص 113-114.
3- شرح أصول الكافي، ص 156.
4- شرح أصول الكافي، ص 5.

العلوم والفنون الشرقيّة والإسلاميّة التي كان عظماؤنا طوال القرون المتوالية قد تتبّعوها واستقصوها وبحثوا عنها وقرؤوا فيها وخلقوا بشأنها كتباً كثيرة. وعلى خلاف هؤلاء نرى هواة العلوم والمعارف في أصقاع بلاد الغرب ينظرون إلى بلاد الشرق وكأنّها خرائب مليئة من كنوز العلوم والفنون الدفينة؛ فتراهم بشوق وافرٍ ومع تحمّل أنواع الشدائد يكتشفون كنوز الفضائل الشرقية في سفراتهم أو بالتتبع في مكتباتهم فينشرونها مترجمة مشروحة.

فمن ذلك ما اتّفق لي أن تحدّث إليّ أحد فضلاء الغرب عن كتاب منية المريد فأثر كلامة فيّ، فحصلتُ على نسخة منه وقرأته فوجدته كنزاً مشحوناً من جواهر الحكم والمعارف مليئاً من لآلي الآداب والفضائل.

والكتاب المذكور وإن كان دستوراً للمعلّمين والمتعلمين في العلوم الإسلامية العالية، ولا يناسب مع موضوع «علوم التربية» الذي هو بمعنى إرشاد الأطفال،

وهو علم مستحدث جديد؛ ذلك فإنّ له مكانة مرموقة ورفيعة ولا سيّما من

زاوية تاريخ العلوم التربوية. وكذلك ينبغي قراءة هذا الكتاب بالنظر إلى ما فيه من دروس أدبية وأخلاقية فرأيت من المناسب أن أكتب مذكّرات عن هذا الكتاب وأُقدّمها إلى قرّاء مجلّة التعليم والتربية .(1)

هذا، والنقطة الأُخرى التي تعكس لنا عظمة هذا الكتاب هي أنّه أصبح في عداد

المصادر المهمّة لما بعده من الكتب التربوية والتعليمية والروائية، لنذكر نماذج منها :

(1) نقل الفيض الكاشاني مقاطع كثيرة منه بعين عباراتها في المحجة البيضاء، منها في المجلد الأوّل، ص 10 - 13 ، 17 - 34 35 - 37، 99 - 101، 144 - 145، 157 - 158.

(2) ونقل المحدّث الشهير السيّد نعمة الله الجزائري (قدّس سرّه) مقاطع مهمّة من هذا الكتاب في كتابه الأنوار النعمانية ، ج 3، ص 338 - 380، بعنوان «نَور في أحوال

ص: 27


1- مجلة تعليم وتربيت - بالفارسية - السنة الأولى العدد الخامس ص 20-21 ، لعام 1304ه-.ش.

العالم والمتعلّم وكيفية آدابهما» وكتب في نهايتها :

واعلم أنّ ترتيب العلوم على نحو ما ذكر مأخوذ من كلام شيخنا الشهيد الثاني (نور الله ضريحه)، بل أكثر فوائد هذا النور مأخوذة من كلامه، ولا عيب علينا في أخذ كلامه لأنّه البحر الذي غرف منه المتأخّرون بأسرهم(1).

(3) ونقل العالم الكبير المرحوم السيّد محمّد بن محمّد بن الحسن بن الحسن بن القاسم الحسيني العاملي صاحب كتاب الاثنا عشرية في المواعظ العددية في الفصول التاسع والعاشر والحادي عشر من الباب الثاني عشر من كتابه هذا مقاطع مهمّة من الكتاب.

(4) وكتب محمّد معصوم الشيرازي في طرائق الحقائق - بعد ترجمة الشهيد الثاني تفصيلاً - ما ترجمته:

وهنا أُترجم [لكم بالفارسية] بعض الكلمات الحكمية التي قالها جنابه في كتابه

منية المريد من باب التبرك بها لتكون مسك الختام لترجمته(2).

ثم ذكر ترجمة مقاطع من منية المريد بالفارسية.

(5) وبعد أن سمع عليّ أصغر حكمت أحد الغربيّين وهو يصف الكتاب، عزم على أن يفهرس له، ويترجم تلخيصاً له، فقام به ونشره في مجلّة تعليم وتربيت بالفارسية، السنة الأُولى، العدد الخامس، ص 20 - 32، لعام 1304ه-.ش.

(6) نقل المحقّق الأردبيلي (قدّس سرّه) كلاماً من منية المريد في أواخر كتاب

الاعتكاف من من مجمع الفائدة والبرهان (ج 5، ص 399-398) وعبّر عنه ب-«الآدابية».

(7) وكذلك نقل المحدّث البحراني كلاماً منه في أوائل كتاب التجارة من كتابه

الحدائق الناضرة (ج 18، ص 10 - 11).

(8) ويعدّ هذا الكتاب - أيضاً - من مصادر بحار الأنوار للعلّامة المجلسي محيي

ص: 28


1- الأنوار النعمانية، ج 3، ص 380 .
2- طرائق الحقائق، ج 1، ص 246 .

أحاديث العترة وقمة العلم والمعرفة (قدّس سرّه) وقد كتب في أوائل الكتاب في الفصل الأوّل في بيان الأُصول والكتب المأخوذ منها، يقول: «... وكتاب ... منية المريد ... للشهيد الثاني رفع الله درجته»(1). وفي الفصل الثاني في توثيق مصادر البحار، يقول: «واشتهار الشهيد الثاني والمحقّق أغنانا عن التعرّض لحال كتبهما نوّر الله ضريحهما».(2)

(9) وكذلك من مصادر كتاب الجواهر السنية للشيخ الحرّ العاملي (قدّس سرّه)

ويعبّر عنه بكتاب الآداب، وقد كتب في مصادر كتابه:

... نقلت الأحاديث المودعة فيه من كتب صحيحة معتبرة وأُصول معتمدة محرّرة(3): جامعاً له من كتب متعدّدة وأُصول ممهّدة ومصنّفات معتمدة، قد نصّ

على صحّتها العلماء الأخيار واشتهرت اشتهار الشمس في رابعة النهار(4).

ومن الجدير بالذكر أنّ المرحوم الشيخ عبد الرحيم بن محمّد عليّ التستري - المتوفّى سنة 1313ه_. في النجف الأشرف - قد نظم منية المريد في 1250 بيتاً من الشعر، سمّاها محاسن الآداب، فرغ من نظمها سنة 1290 ه_ وهي مخطوطة لم تطبع بعد ظاهراً. وقد رأى صاحب الذريعة نسخةً منها بخطّ ناظمها، وقال: أدرج كلّها المرحوم السيّد محمد صادق بحر العلوم في المجموع الرائق(5). يبدأ بهذه الأبيات:

أعوذ بالله من الشيطان *** ومن شقاء النفس في الطغيان

يقول بسم الله للتعظيم *** لربّه الرحمن والرحيم

مستنصراً، نجلُ محمّد عليّ *** عبد الرحيم رقُ طه وعليّ

ص: 29


1- بحار الأنوار، ج 1، ص 19.
2- بحار الأنوار، ج 1، ص37.
3- الجواهر السنية، ص 7.
4- الجواهر السنية، ص 286
5- الذريعة ، ج 20، ص 124-125 .

سمّيتها محاسن الآداب *** للطالبين من أولي الألباب

حَوَتْ لباب منية المريد *** وهو كتاب شيخنا الشهيد

و تنتهى بهاتين البيتين:

هيهنا قد تمّت الرساله *** في غاية السرعة والعُجاله

فى مأتين بعد ألف وقعا *** بعدهما تسعون حيث اجتمعا(1)

هذا، وقد لخّص الشهيد منية المريد وسماها بغية المريد(2). ممّا يُبَيِّن اهتمام المؤلّف نفسه بهذا الكتاب. وقد كتب كتاباً آخر في نفس هذه المباحث بعنوان منار القاصدين في أسرار معالم الدين يذكره في أوائل منية المريد (ص92 و 173) والظاهر أنّ حوادث الأيّام قد أتت على منار القاصدين وكذلك بغية المريد وأتلفتهما، وحسب تتبّعي القاصر في كتب التراجم والفهارس لا توجد اليوم حتّى نسخة واحدة من هذين الكتابين في أيّ من المكاتب المفهرسة العامّة والخاصّة.

ويذكر الشيخ عليّ حفيد صاحب المعالم بعض الحوادث المؤلمة ويقول:

جزى الله عنّا سوء الجزاء من حرمنا من الكتب التي كانت عندنا؛ اجتمعت في زمن الشيخ زين الدين والشيخ حسن (رحمهما الله)، وأَُضيف إليها كتب الشيخ محیی الدين (رحمه الله)، وقد وقع عليها الفتور غير مرّة؛ منها: قريب ألف كتاب احترقت، وأنا إذ ذاك ابن نحو سبع سنين أو ثمان، حرقها أهل البغي. ولمّا سافرت إلى العراق كان الباقي لنا في الجبل ودمشق وغيرهما ما يقرب من ألف كتاب وأكثرها [كذا] منه ما أخذه الناس ومنه ما تلف من النقل والوضع تحت الأرض، والباقي نحو مائة كتاب وصلت إليّ بعد السعي التامّ. ومن العجب أنّه لمّا فارقتْ ما فارقت من الكتب كان فيما بقي بعد الفتور الأوّل ما يزيد عن مائة كتاب بخطّ جدّي الشيخ زين الدين (رحمه الله)، وما كان بخطّه فيما

ص: 30


1- الذريعة ، ج 20، ص 124-125 .
2- الدر المنثور، ج 2، ص 189؛ الذریعة، ج 20، ص 212؛ أعيان الشيعة، ج 7، ص 156.

تلف واحترق لا يعلم مقداره. وبالجملة، فبذهاب هذه الكتب ذهب كثير من فوائده وفوائد جدي ووالدي (رحمهم الله). وحُرمنا الاطلاع عليها والانتفاع منها .(1)

الطبعات المختلفة للكتاب

طبع منية المريد حتّى اليوم في الهند وإيران والنجف الأشرف مرّات عديدة، وقد راجعنا جميعها في هذه الطبعة وقابلنا نسختنا هذه بجميعها مع عدم الفائدة الكثيرة في بعضها تذكر هنا تاريخ تلك الطبعات ورموزها:

1 - طبع لأوّل مرّة في المطبع الحسني في بمبئي الهند سنة 1301ه_ . بالقطع الرقعي وبخطّ جميل، بهمّة المرحوم الشيخ عليّ المحلّاتي (رحمه الله) في 196 صفحة. وهو يفضل سائر طبعات الكتاب من حيث صحّة المتن وحسن الخطّ، باستثناء طبعة حجة الإسلام الشيخ المصطفوي الآتي ذكره. والرمز إليها «ه_».

2 - وطبع بالقطع الكبير الرحلي في 81 صفحة، مع الكتاب الآخر للشهيد روض الجنان في سنة 1307ه- . في إيران بهمّة المرحوم الشيخ محمّد رضا الطهراني، وقد صحّح المصحّح لهذه الطبعة - وهو الشيخ محمّد رضا الطهراني (رحمه الله) - تصحیحات قياسية كثيرة، أكثرها أخطاء. والرمز إليها «ض».

3 - وطبع بالقطع الجيبي بتصحيح وهمّة حجّة الإسلام الشيخ حسن المصطفوي دامت تأييداته في طهران في سنة 1366 ه_ في 256 صفحة. وتمتاز هذه الطبعة على سائر الطبعات من حيث صحة المتن. والرمز إليها في هذه الطبعة «ط».

4 - وطبع بالقطع الرقعي طبعة حروفية في 184 صفحة في مطبعة الغري بالنجف الأشرف، في سنة 1370ه- . وأخطاء هذه الطبعة كثيرة. وأعادت مكتبة الصحفي

ص: 31


1- الدر المنثور، ج 2، ص 203-204.

في قم هذه الطبعة بالأُوفست، بالقطع الجيبي. والرمز لهذه النسخة في طبعتنا هذه «ن».

5 - طبع بالقطع الوزيري طبعة حروفية في 213 صفحة، أعدّه للطبع السيّد أحمد الحسيني الإشكوري، وطبعه مجمع الذخائر الإسلاميّة بمدينة قم المقدّسة سنة 1402ه_ . وهذه الطبعة أضعف الطبعات وأردأها من حيث عدم صحّة المتن. وياليته لم ينتشر هذا التأليف القيّم للشهيد الثاني بهذه الوضعية الرديئة مع أنّه كان قد طبع قبل هذا أحسن من هذا بعدّة مرّات ولا مجال لنا هنا أن نَعُدّ الأغلاط العجيبة والموحشة لهذه الطبعة. وعلى كل حال فرمز هذه النسخة حرف الحاء «ح».

6 - نشر بتحقيق الشيخ أحمد حبيب قصير العاملي، طبعة حروفية بالقطع الوزيري في 264 صفحة من مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرفة، سنة 1405ه-. وفي هذه الطبعة أيضاً عرضت أخطاء كثيرة. وإن كانت هي تمتاز على الطبعات السابقة من حيث ذكر مصادر كثير من الأحاديث. لكنّا - لعلل كثيرة - لم نعتمد على ما استخرج فيها من مصادر الروايات، بل ذكرنا مصادرها بمراجعة واستخراج مباشر، وسنتحدّث إليكم عن هذا الأمر فيما يأتي. ورمزنا لهذه النسخة حرف العين «ع».

هذه طبعات الكتاب إلى الآن(1)، وإن كانت لا تخلو من أخطاء مطبعية وغيرها.

ص: 32


1- كتب خان بابا مشار في كتابه فهرست کتابهاي چاپي عربي فهرس الكتب العربية المطبوعة)، ص 931 في . بحث تعداد طبعات منية المريد، يقول: «إنّه طبع في سنة 1303 ه- في طهران، بالقطع المتوسط في 81 صفحة أيضاً». وبالرغم من الفحص الكثير لم أظفر على هذه الطبعة في المكتبات، وأظن أن ما قاله مشار سهو. وكذلك عد الدكتور أحمد شلبي منية المريد من مصادر كتابه تاريخ التربية الإسلامية، وذكر أنه طبعة القاهرة، سنة 1946م. انظر تاريخ التربية الإسلامية، ص 4280427 - ولم أعثر أيضاً بهذه الطبعة، ولم أر من أشار إليها. بالرغم من التتبع والفحص الكثير، واعلم أنه قد أدرج الدكتور عبد الأمير شمس الدين كتاب منية المريد في كتابه الموسوم ب- زين الدين بن أحمد في منية المريد في آداب المفيد والمستفيد» الذي طبعه دار الكتاب اللبناني ومكتبة المدرسة لأوّل مرّةٍ في بيروت سنة 1403 ه- وتطرقت إلى هذه الطبعة أغلاط كثيرة.

نسخ الكتاب المخطوطة

النسخ المخطوطة للكتاب كثيرة في المكتبات كما جاء في فهارسها، نعدّ هنا بعضها ونعرّف بالنسخ الممتازة التي أفدنا منها في تحقيق الكتاب:

1 - النسخة الأولى من المجموعة المرقّمة ،1017، للمكتبة المركزية لجامعة طهران، والتي هي من الكتب المهداة إليها من المرحوم السيد محمّد المشكاة.

2 - نسخة مكتبة المرحوم الآخوند المولى محمّد حسين القمشهي الكبير المتوفّى سنة 1336ه_ في النجف الأشرف.

3 - النسخة المرقّمة 1683 لمكتبة مجلس الشورى الإسلامي.

4 - النسخة المرقّمة 1684 لمكتبة مجلس الشورى الإسلامي.

5 - النسخة الأُولى من المجموعة المرقّمة 4342 لمكتبة مجلس الشورى الإسلامي، كتبت سنة 1226ه_ .

6 - نسخة مكتبة المرحوم السيّد أحمد الزنجاني (قدّس سرّه).

7 - النسخة المرقّمة 3490 لمكتبة الإمام الرضاء علیه السلام.

8 - النسخة المرقمة 6250 لمكتبة الإمام الرضا علیه السلام. ليس فيها تاريخ الكتابة.

9 - النسخة المرقّمة 1862 لمكتبة المدرسة الفيضية بمدينة قم المقدّسة. ليس فيها تاريخ الكتابة.

10 - النسخة المرقّمة 1928 لمكتبة المدرسة الفيضية بمدينة قم المقدّسة، كُتبت سنة 1007ه_ .

11 - النسخة المرقّمة 584 لمكتبة المسجد الأعظم بمدينة قم المقدّسة، كتبت سنة 1086ه_ .

12 - النسخة المرقّمة 2953 لمكتبة المسجد الأعظم بمدينة قم المقدّسة، كتبت سنة 1252ه_ .

ص: 33

13 - النسخة الثانية من المجموعة المرقّمة 3257 لمكتبة المسجد الأعظم بمدينة قم المقدّسة كتبت سنة 1227ه_ .

14 - النسخة الثانية من المجموعة المرقّمة 444 لمكتبة آية الله النجفي المرعشي العامة كتبت سنة 1087ه_ .

15 - النسخة الأُولى من المجموعة المرقّمة 1673 لمكتبة آية الله النجفي المرعشي العامة كتبت سنة 1264ه_ .

16 - النسخة المرقّمة 2204 لمكتبة آية الله النجفي المرعشي العامّة كتبت سنة 1082ه_ .

17 - النسخة الثانية من المجموعة المرقّمة 2531 لمكتبة آية الله النجفي المرعشي العامّة وليس فيها تاريخ الكتابة.

18 - النسخة الخامسة من المجموعة المرقّمة 3733 لمكتبة آية الله النجفي المرعشي العامة وليس فيها تاريخ الكتابة.

19 - النسخة الأُولى من المجموعة المرقّمة 5100 لمكتبة آية الله النجفي المرعشي العامّة كتبت سنة 1260ه-.

20 - النسخة المرقّمة 5568 لمكتبة آية الله النجفي المرعشي العامّة كتبت في القرن 11ه_ .

21 - نسخة مكتبة المرحوم المحدّث النوري صاحب المستدرك. ولا علم لنا بكيفية هذه النسخة ووضعها الحاضر.

22 - النسخة الأُولى من المجموعة المرقّمة 1059 لمكتبة الوزيري في مدينة يزد كتبت سنة 1059ه_ .

23 - النسخة المرقّمة 1656 لمكتبة الوزيري في مدينة يزد، كتبت في القرن 11 ه_ .

24 - النسخة الأُولى من المجموعة المرقمة 2305 لمكتبة الوزيري في مدينة يزد كتبت سنة 1235ه_ .

ص: 34

25 - النسخة المرقمة 2369 لمكتبة الوزيري في مدينة يزد كتبت سنة 1109ه_ .

26 - النسخة المرقّمة 383 لمكتبة آية الله الكلبايكاني في مدينة قم المقدّسة وليس فيها تاريخ الكتابة.

27 - النسخة الأولى من المجموعة المرقّمة 7461 لمكتبة مدرسة سپهسالار في طهران، كتبت سنة 1046ه_ .

28 - النسخة الأُولى من المجموعة المرقّمة 7542 لمكتبة مدرسة سپهسالار في طهران، كتبت في القرن 12ه_ .

29 - النسخة الثالثة من المجموعة المرقّمة 8138 لمكتبة مدرسة سپهسالار في طهران، كتبت سنة 1292ه_ .

30 - النسخة المرقّمة 122 / أ ، من فئة المرقّمة 895 لمكتبة جامعة لوس أنجلس في الولايات المتّحدة كتبت سنة 988ه- (كما جاء في فهرسها في نشرة نسخه هاي خطي ( =النسخ الخطية) العدد الحادي عشر والثاني عشر، ص 372.

31 - النسخة الأُولى من المجموعة المرقّمة 136 لمكتبة الحسينية الشوشترية الواقعة في النجف الأشرف. ليس فيها تاريخ الكتابة.

32 - النسخة المرقّمة 827 لمكتبة كلية الإلهيات والمعارف الإسلامية في مشهد الرضا علیه السلام، كتبت سنة 1229ه_ .

33 - النسخة الأُولى من المجموعة المرقّمة 1422 لمكتبة كلية الالهيات

والمعارف الإسلامية في مشهد الرضا الله كتبت سنة 1096ه_ .

34 - النسخة الأولى من المجموعة المرقّمة 1085 المكتبة كلية الإلهيات والمعارف الإسلامية في مشهد الرضا علیه السلام ليس فيها تاريخ الكتابة.

35 - النسخة المرقّمة 8025 لمكتبة الإمام الرضا علیه السلام، كتبت سنة 1288ه_ .

36 - النسخة المرقّمة 1060 لمكتبة ملك في طهران، كتبت في القرن 11ه_ .

37- النسخة الثانية من المجموعة المرقّمة 5685 لمكتبة آية الله النجفي المرعشي

ص: 35

العامّة، كتبت سنة 1034ه ظاهراً.

38 - النسخة المرقّمة 901، لمكتبة جامع گوهرشاد في مشهد المقدّسة، كتبت سنة 1069ه_ .

39 - النسخة المرقّمة 1128، لمكتبة جامع گوهرشاد في مشهد المقدّسة، كتبت في القرن 12ه_ .

40 - النسخة الثانية من المجموعة المرقّمة 1157 ، لمكتبة جامع گوهرشاد في مشهد المقدّسة، كتبت سنة 1073ه_ .

41 - النسخة المرقّمة 9133 لمكتبة الإمام الرضا علیه السّلام، كتبت سنة 1140ه_ .

42 - النسخة المرقّمة 12900 ، لمكتبة الإمام الرضا علیه السّلام، كتبت سنة 1238ه_ .

43 - النسخة المرقّمة 13218 لمكتبة الإمام الرضا علیه السّلام، كتبت سنة 1057ه_ .

44 - النسخة الأولى من المجموعة المرقّمة 841 لمكتبة المدرسة الفيضيّة بمدينة المقدّسة، كُتبت سنة 1293ه_ .

45 - النسخة الأولى من المجموعة المرقّمة 1661 لمكتبة المدرسة الفيضيّة بمدينة قم المقدّسة، كُتبت سنة 1255ه_ .

46 - النسخة المرقّمة 481 لمكتبة المدرسة الحجّتيّة بقم، كتبت في القرن 11، 12ه_ .وقد كانت بأيدينا عشر من هذه النسخ اعتمادنا عليها في التحقيق وهي ما يلي.

النسخة الأُولى والثانية من هذه النسخ أحسن النسخ وأكثرها اعتباراً؛ فقد كتبهما تلميذا الشهيد قليلاً بعد تأليفه الكتاب وقد سمعاه عن الشهيد وعليهما خطّه وإنهاؤه. وقد كتب المرحوم الشيخ آقا بزرك الطهراني بشأن النسخة الثانية، أي نسخة مكتبة المرحوم القمشهي (قدّس سرّه) ذيل ترجمة سلمان بن محمّد الجُبعي العاملي من تلامذة الشهيد كتب يقول:

سلمان بن محمّد العاملي من تلامذة الشهيد الثاني؛ رأيت بخط الشهيد إجازته لصاحب الترجمة (راجع الذريعة ، ج 1، ص 194 ، الرقم 1003) على ظهر منية

ص: 36

المريد تاريخها يوم الخميس 2 ذي العقدة 954 هق رأيته في كتب مولانا الآخوند محمّد حسين بن محمّد قاسم القمشهي المتوفى في النجف 1336 ضمن مجموعة خمس رسائل كلّها للشهيد: أوّلها نتائج الأفكار ثمّ المنية ثمّ كشف الريبة ثمّ مسكّن الفؤاد ثمّ مسألة في الطلاق كلّها بخطّ صاحب الترجمة وصورة خط الشهيد هذه: الحمد لله حق حمده. سمع عليّ هذا الكتاب كاتبه المولى الأجل الفاضل خلاصة الأخيار الشيخ سلمان (أحسن الله تعالى توفيقه وسهّل إلى كل خيرٍ طريقه) في مجالس آخرها: يوم الخميس ثاني شهر ذي القعدة الحرام عام أربع وخمسين وتسعمائة من الهجرة النبوية. وكتب مؤلّفه العبد الفقير إلى الله تعالى زين الدين بن عليّ بن أحمد حامداً لله تعالى مصليّاً مسلّماً (1).

وقد انتقلت مكتبة المرحوم القمشهي إلى مكتبة الحسينية الشوشترية الواقعة في النجف الأشرف(2) - وكانت هذه النسخة موجودة فيها ضمن المجموعة المرقّمة 140 كما ذكر في فهرسها (3)- وعلى هذا فلا تصل إليها أيدينا اليوم.

ولهذا فقد اخترنا من بين سائر النسخ الموجودة أحسن النسخ وأفدنا منها. وسائر النسخ من الرقم 8 - 46 و 5 لا ميزة لها، ما عدا النسخ 21 30 31 التي لا تصل إليها أيدينا اليوم أيضاً حتى نراجعها ونرى قيمتها واعتبارها. ومع ذلك فقد أفدنا من النسخ 9 - 13، أضف إليها خمس نسخ أخرى إليك وصفها جميعاً:

النسخ التي اعتمدنا عليها حسب قيمتها و اعتبارها

1 - النسخة الأولى من المجموعة المرقّمة 1017، للمكتبة المركزية لجامعة طهران، التي هي من جملة الكتب المهداة إليها من قبل المرحوم السيّد محمّد المشكاة. هذه

ص: 37


1- إحياء الدائر، ص 97؛ وراجع الذريعة ، ج 23، ص 209
2- الذريعة ، ج 6 ، ص 400 .
3- نشرة نسخه هاي خطي العدد الحادي عشر والثاني عشر، ص 836.

النسخة بخط حسین بن مسلم بن حسين بن محمّد الشهير بابن شعير العاملي تلميذ الشهيد. أنهاها في يوم الخميس 23 شهر جمادى الأُولى لسنة 954 أي بعد شهرين وثلاثة أيّام بعد إتمام الشهيد لها، وقد كتب في آخرها:

وفرغ من نسخها مملوكه حقّاً فقير عفو الله وكرمه بالخطأ والخلل في القول والعمل حسين بن مسلم بن حسين بن محمّد الشهير بابن شعير العاملي (عامله الله بلطفه الخفي)، ضحى يوم الخميسثالث عشري جمادى الأُولى سنة أربع وخمسين وتسعمائة جعله الله تعالى ممّن يمتثل بما كتب ويقوم بوظيفته ما وجب...

وقد كتب الشهيد على الورقة الأُولى بخطّه:

كتاب منية المريد في أدب المفيد والمستفيد لهذا العبد الفقير إلى الله تعالى زين الدين بن علي بن أحمد الشامي العاملي عامله الله بلطفه الخفي، وعفا عنه بفضله.

وفي هوامش متعدّدة من النسخة بخطّ الشهيد: «بلغ سماعاً وفقه الله تعالى» مثل الأوراق: 7 ب، 12 ب 25 ألف 32 ألف، 37 ألف ، 43 ألف (1).

وفي هامش الورقة 58 ألف، جاء بخطّ الشهيد:

أنهاء (أحسن الله تعالى توفيقه وتسديده، وأجزل من كلّ مثوبة وخير نصيبه وتأييده ومزيده) سماعاً معتبراً وتصحيحاً وتدبّراً، في مجالس آخرها يوم الخميس ثاني شهر ذي القعدة الحرام عام أربع وخمسين وتسعمائة. وكتب مؤلّفه العبد الفقير إلى عفو الله تعالى وكرمه ومغفرته زين الدين بن عليّ بن أحمد، حامداً مصلياً مسلماً.

وفي هذه النسخة سقطات كما يلي: من الصفحة 245 - 271 و 279 - 340، و 343 - 377 من هذه الطبعة. وهذه هي لنا النسخة لنا النسخة الأُمّ وهي الأساس في تحقيقنا، وترمز إليها ب-«ة».

ص: 38


1- راجع فهرست كتابخانه إهدائي مشکاة به کتابخانه دانشگاه تهران، ج 3، ص 682 - 683.

2 - نسخة مكتبة المرحوم آية الله السيّد أحمد الزنجاني (قدّس سرّه) التي أعارنا إياها نجله الأُستاذ السيد موسى الشبيري الزنجاني. وهي نسخة كاملة، فهي بعد نسخة «ة» من أكثر النسخ اعتباراً، كتبها الفضل لأخيه الشيخ خليفة بن عطاء الله بعد 12 عاماً تقريباً من شهادة المؤلّف، وقد قابلها السيّد أبو القاسم بن فتح الله الحسيني حين خروجه من النجف الأشرف إلى الجزائر بنسخة قوبلت بنسخة الأصل في شهر جمادي الأولى لسنة 977ه- . ورمز هذه النسخة النفيسة «ز».

3 - النسخة المرقّمة 1683 لمكتبة مجلس الشورى الإسلامي، بخطّ علاء الدين محمد الحسني الحسيني الحمزوي تمّ كتابتها بعد خمس سنين من شهادة المؤلّف أي في شهر شعبان سنة 970ه_. وهي بخط واضح جميل، وهي أيضاً نسخة كاملة - ما عدا عدة أسطر من وسطها - وجعلنا رمزها «م».

4 - النسخة المرقّمة 1684 لمكتبة مجلس الشورى الإسلامي، بخطّ محمّد بن مظفرين إبراهيم المدعوّ بالتقي الصوفي القزويني الأبهررودي، وقد أتمّ كتابتها في ليلة الجمعة 23 من شهر رمضان 1027ه- وهو في اعتكاف في الجامع الكبير بمدينة ناقصة قد سقط منها أكثر من نصفها من السطر 18 من الصفحة 183

سمنان وهي حتى السطر 3 من الصفحة 375 من هذه الطبعة. ولكن كاتبها كان من العلماء فكتب عليها حواشي كثيرة، ويستفاد من حاشيته على الورقة 10 ألف، حيث يروي المؤلّف أحاديث عن التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري علیه السلام : أنّ الكاتب كان مجازاً من المرحوم الشيخ البهائي (عليه الرحمة)؛ فقد كتب فيها يقول:

هذا التفسير المنسوب إلى سيّدنا أبي محمّد الحسن العسكري (سلام الله عليه)... ليس من تصنيفه علیه السلام، بل إنّما سمع منه المحدّثان محمّد بن زياد ومحمّد بن سنان وألفاه. رُوينا التفسير المذكور عن شيخنا الأعظم سلطان المفسّرين بهاء الملة والدين محمّد العاملي (أدام الله ظلّه البهي) إجازةً عن والده الإمام العارف حسين بن عبد الصمد العاملي (قدّس الله روحه) عن الإمام المصنّف (رحمه الله) بإسناده

ص: 39

عن الصدوق أبي جعفر محمّد بن بابويه القمّي، عن محمّد بن القاسم الأسترآبادي، عن يوسف بن محمّد بن زياد وعليّ بن محمد بن سنان عن أبويهما عن الإمام علیه السلام.

و رمز هذه النسخة «س».

5 - النسخة المرقّمة 48 قسم كتب الأخلاق (الرقم العام 3490) بمكتبة الإمام الرضا علیه السلام، وحيث قد سقطت منها عدّة أوراق من آخرها: من السطر 4 من الصفحة 347 إلى آخر الكتاب من طبعتنا هذه، لذلك لا يدرى متى كتبت ومن الكاتب. وعلى أيّ حال فهي بخطّ حسن قليل الخطأ، ورمزها «ق». وقفها على مكتبة الإمام الرضا علیه السلام أحد أحفاد السيّد نعمة الله الجزائري (عليه الرحمة) في سنة 1309ه_. .

و ما عدا هذه النسخ، فقد اعتمدنا أيضاً على خمس نسخ مخطوطة لمكتبة المدرسة الفيضية والمسجد الأعظم بمدينة قم المقدّسة، ولا سيّما في الموارد الساقطة الأساس للتأييد والتأكيد، ولكنّها لا ميزة لها، ولذلك فقد أمسكنا عن التعريف بموارد اختلاف هذه النسخ مع الخمس السابقة. وقد قابلنا عملنا بجميع النسخ المطبوعة، وإن كان لم يترتب على كثير منها كثير فائدة.

إنّ أُسلوب عملنا في التحقيق هو أن نشخص بالسعي والجدّ الوافر الضبط الصحيح فندرجه فقط واتّقينا أن نذكر اختلاف النسخ المغلوطة غير المفيدة التي لا تفيد سوى تشتيت ذهن القارىء وزيادة حجم الكتاب، وإن كان ثقل هذا العمل على عاتق المحقّق والمصحّح أكثر بكثير، حيث يجب عليه أن يجد الضبط الصحيح بجدٍ مُجهد فينقذ بذلك القارىء من الحيرة وتشتّت الذهن، ولولا رعاية هذه الجهات لكان بالإمكان أن نجعل نسخة أساساً للعمل ونذكر اختلاف النسخ في الهامش، ولا نتحمل عشر ما تحملناه الآن من تعب وعناء؛ ولكنّا نرى أنّ هذا الأُسلوب غير صحيح ولا مطلوب كما لا يخفى على أهل الكمال. وعلى كل حال فإنّ ذكر جميع اختلافات النسخ يزيد في حجم الكتاب بدون أن يترتّب عليه أقلّ ثمرة مفيدة، بل مفاسده عديدة.

ص: 40

مصادر المؤلف للكتاب

إنََّ المؤلّف في تأليفه لهذا الكتاب القيم - إضافة إلى مشاهداته وتجربياته الوافرة - قد استفاد من مصادر وكتب كثيرة، صرّح هو من بينها بهذه الكتب:

1 - الكافي للكليني (قدّس سرّه).

2 - الأمالي للصدوق (قدّس سرّه).

3 - الخصال للصدوق (قدّس سرّه).

4 - التوحيد للصدوق (قدّس سرّه).

5 - التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري علیه السلام.

ولم يُشر المؤلّف ما عدا هذه الكتب - وشرح مسلم في ص 108 ومعجم الأُدباء في ص 248 - إلى أيّ مصدر آخر. ولكننا بالتتبع والاستقصاء الواسع وجدنا بعض المصادر الأُخرى التي قد أفاد منها المؤلّف مباشرة، منها ما نقطع به، وهي:

1 - شرح المهذّب للنووي؛ في المقدّمة والباب الأوّل والثاني والمطلب الثاني من خاتمة كتاب منية المريد.

2 - إحياء علوم الدين للغزالي؛ في الباب الأوّل والثالث من الكتاب.

3 - تذكرة السامع والمتكلّم لابن جماعة الكناني؛ في الباب الأول والرابع منه.

4 - تفسير الرازي (= مفاتيح الغيب) للفخر الرازي؛ في المقدّمة والقسم الثاني من النوع الثالث من الباب الأوّل منه.

5 - فتح الباقي بشرح ألفية العراقي لزكريّا بن محمّد بن أحمد الأنصاري الشافعي في الباب الرابع منه.

هذه كتب قد استفاد منها المؤلّف مباشرة وبلا واسطة. وقد عيّنا في هوامش الكتاب موارد الاستفادة منها مباشرةً بعبارة «لاحظ»، فمثلاً نقول: «لاحظ شرح المهذّب» أو «لاحظ تذكرة السامع والمتكلم» مع ذكر مجلَّد المأخذ وصفحته.

ص: 41

و عرّفنا بهذه الكتب ومؤلّفيها في بحث مصادر التحقيق، ولذلك لا نرى ضرورة للتعريف بها هنا.

لكن من الجدير أن نذكّر بأن ابن جماعة الكناني في تذكرة السامع والمتكلّم بدوره قد استفاد كثيراً من شرح المهذّب للنووي - أو قد استفاد كلاهما من كتاب ثالث على احتمال بعيد جدّاً - وقد كرّر النووي بعض المواضع من شرح المهذّب في كتابه الآخر التبيان في آداب حملة القرآن وأرجع فيه إلى كتابه شرح المهذّب.

وقد استفاد النووي كثيراً من كتاب أدب المفتي والمستفتي لابن الصلاح، كما يظهر لمن راجع شرح المهذّب وأدب المفتي والمستفتي والنووي صرّح بهذه النكتة حيث قال في شرح المهذّب (ج 1، ص 67) في أوّل باب الفتوى والمفتي والمستفتي: اعلم أنّ هذا الباب مهمّ جدّاً فأحببت تقديمه لعموم الحاجة إليه، وقد صنّف في هذا جماعة من أصحابنا، منهم أبو القاسم الصيمري شيخ صاحب الحاوي، ثمّ الخطيب أبو بكر الحافظ البغدادي، ثمّ الشيخ أبو عمرو بن الصلاح؛ وكلّ منهم ذكر نفائس لم يذكرها الآخران، وقد طالعتُ كتب الثلاثة ولخّصتُ منها جملة مختصرة مستوعبة لكلِّ ما ذكروه من المهمّ، وضممتُ إليها نفائس من متفرّقات كلام الأصحاب، وبالله التوفيق.

وكذلك استفاد النووي في المجلّد الأوّل من شرح المهذّب من بعض كتب الغزالي كما يظهر لمن راجع إليه.

إنََّ هذا الأمر - أي تعيين مصادر المؤلّف - وإن استغرق منّا فُرصاً كثيرة، ولكنه أمر لا يخلو عن ثمرة، بل هي كثيرة جدّاً كما لا يخفى على أهل التحقيق.

تخريج الأخبار والآثار والأشعار

قد استخرجنا في الكتاب مصادر الأخبار وأقوال العلماء والعظماء - وهي كثيرة - من بين المصادر المتقدّمة على الشهيد كما تلاحظون ذلك، بل عيّنا - مهما أمكن - القائل

ص: 42

لكثير من الكلمات التي نقلها المؤلّف بتعبير «قيل»، وكذلك مصادر الأشعار وناظميها، إلّا ما شذّ وندر.

ومن الضروري بشأن مصادر الكتاب أن نذكّر بأنّا اخترنا كلّ ذلك ممّا تقدّم على الشهيد، كما أنّ اللازم أن يكون الأمر كذلك، وإن كنّا ذكرنا إلى جانب المصادر الأوّلية ما وجدناه في الكتب المتأخّرة عنه مثل بحار الأنوار أو كنز العمال لمزيد الفائدة، وإلّا فنحن نعلم أنّه ليس لنا أن نَرُدَّ الروايات من كتاب مثل منية المريد إلى كتاب مثل بحار الأنوار الذي هو متأخّر عن الأوّل بل هو ناقل عنه وأنّ هذا الأمر السهل واليسير ليس في الحقيقة استخراجاً للمصادر، بل هو ذكر لكتاب آخر جاءت فيه تلك الأخبار مثلاً أيضاً ! ومع ذلك نرى - من المؤسف - في بعض الكتب التي هي تعدّ من مصادر البحار لم يُعيّنوا المصدر الأصلي للأخبار بل ردّوها إلى البحار نقلاً عن نفس الكتاب وهذا كما هو واضح - كالدَّوْر الباطل !

فمثلاً نرى كثيراً في هوامش عوالي اللآلي أنهم بدل أن يتحمّلوا جهد الفحص والتتبع الواسع والمُضني والظفر بالمصادر الأصلية، قد ردّوا أخباره إلى البحار أو المستدرك أو إثبات الهداة نقلاً عن عوالي اللآلي منها في الجزء الثاني ص: 9، 16، 27، 29، 48، 103، 163، 242 و 349؛ وفي الجزء الرابع ص: 58 60، 61، 64، 86 ،85 ،79 ،77،70 ،69 ،18.

نعم قد نحتاج إلى تعيين مواضع روايةٍ في البحار وأضرابه مزيداً للفائدة، أو من أجل تأييد النسخة بأنّها - أو النسخة المشابهة لها - هي التي اعتمدها مثل العلامة المجلسي (قدّس سرّه)، وأين هذا من ذاك؟!

أمّا أنا فقد أفرغت كل جهدي وطاقتي كي أقف على المصادر الأصلية، وبحمد الله فقد ظفرتُ بجميعها وذكرتها ماعدا بعض الموارد المعدودة الآتي ذكرها. وقد كان بعض المتقدّمين من المحققين أبدوا اليأس من الحصول على المصدر الأصلي لبعض الروايات، فلم يكن إظهارهم لليأس يورثني يأساً أيضاً، بل استمرّ سعيي حتّى وصلت

ص: 43

بحمد الله إلى النتائج المرجوّة.

فمثلاً، كتب الأُستاذ المحقّق والمتتبّع الجليل المرحوم الشيخ عليّ أكبر الغفاري في حواشيه لكتابي المحجة البيضاء وشرح الكافي للمرحوم المولى صالح المازندراني (قدّس سرّه) بشأن بعض الروايات: «ما عثرتُ عليه إلا في منية المريد» منها في: 1 - حديث «كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من لا يُحسنه ويفرح به إذا نسب إليه، وكفى بالجهل ذمّاً أن يبرأ منه من هو فيه».

2 - حديث «العلم أفضل من المال بسبعة ... السابع: العلم يقوّي الرجل على المرور على الصراط والمال يمنعه»(1).

3 - حديث «من أحبّ أن ينظر إلى عتقاء الله من النار فلينظر إلى المتعلّمين...»(2).

4 - حديث «أنّ باباً من العلم يتعلّمه الرجل خير له من أن لو كان أبو قبيس ذهباً فأنفقه في سبيل الله»(3).

لكنّنا قد وجدنا - بحمد الله تعالى - جميع هذه الروايات في المصادر المتقدّمة على منية المريد، بل قد وجدنا لبعضها أكثر من مصدر وذكرنا مصادرها

بل قدر راعينا أن لا نكتفي بأن نرى الحديث في الكتب المتقدّمة على المنية حتّى نجده في المصادر الأصلية للحديث لا غيره حتّى ولو كان من الكتب الفقهية المعتبرة؛ فمثلاً ورد هذا الحديث: «هو الطهور مائه الحِلّ ميتته» في كتب الخلاف للشيخ والمعتبر للمحقّق الحلّي والتذكرة للعلّامة، وكان بالإمكان أن نذكر هذه الكتب كمصادر للحديث، لكنّنا آثرنا أن نتفقّد عن المصدر الأصلي للحديث، فوجدناه في كتب أهل السنّة - المتقدّمة علی الخلاف والمعتبر والتذكرة كمسند أحمد وسنن أبي داود وسنن

ص: 44


1- المحجّة البيضاء ، ج 1، ص 26 ، الهامش 3.
2- المحجّة البيضاء ، ج 1، ص 18 ، الهامش 2
3- المحجّة البيضاء، ج 1، ص 18 الهامش 3 شرح الكافي، ج 2، ص 11 ، الهامش .

الدارمي وسنن ابن ماجة، وهي المصادر لتلك الكتب الفقهية أيضاً.

وإذا شاهدتم الإرجاعات إلى مصادر العامّة أكثر من مصادر الخاصّة فهذا ليس إلّا لأنّ المؤلّف نقل عنهم حيث لم يجد محذوراً في ذلك، كما نقل كبار العلماء المتقدّمين أحاديث من هذا القبيل في جوامعهم الحديثية لنفس الملاحظة، ولم يكن ذلك من عدم اطّلاعهم على المصادر الأصلية للحديث بل مع كامل اطّلاعهم تعمّدوا ذلك؛ فنرى العلّامة المجلسي (قدّس سرّه) في موسوعته بحار الأنوار بعد نقله لروايات من بعض كتب الشهيد كتب يقول:

أقول: هذه الأخبار أكثرها عامية، أوردناها تبعاً للشيخ المتقدّم ذكره قدّس الله لطيفه .(1)

وفي موضع آخر كتب يقول:

أقول : يشكل التخصيص بهذه الرواية العامية وإن قيل إنّ ضعفها منجبر بالشهرة. وكذا كثير من الصلوات التي أوردناها من طرق العامّة تبعاً للشيخ والسيّد وغيرهما، حيث أوردوه في كتبهم، لمساهلتهم في المستحبّات. ويشكل العمل بها فيما كان مخالفاً للهيئات المنقولة، وإن كان الحكم بالمنع أيضاً مشكلاً.(2)

وعلى هذا فلم يكن هؤلاء ليجدوا محذوراً في نقل هكذا أحاديث من مصادر أهل السنّة.

واستخرجنا وذكرنا - ما عدا الروايات - مصادر الآثار وأقوال العظماء والأشعار إلّا ما شذّ وندر، وذلك بتحمّل مشقةٍ كثيرة، وهكذا انحلّ لنا كثير من مواضع الإشكال والسقط في متن الكتاب، وللنموذج نذكر مورداً واحداً لا يخلو عن فائدة : نقل الشهيد في المقدّمة، ص 34 عن بعضهم: «من جلس مع ثمانية أصناف من

ص: 45


1- بحار الأنوار، ج 89، ص 215.
2- بحار الأنوار، ج 89، ص 384.

الناس زاده الله ثمانية أشياء» ثمّ يذكر سبعة أصناف ولم يذكر الصنف الآخر في أيّ نسخة من المخطوط والمطبوع، وبعد أن وجدنا المصدر تبيّن أنّ ذلك الصنف، أي عبارة: «... [من اللهو والمزاح، ومع الفساق ازداد]...» قد سقطت من جميع النسخ ولعلّه سقط قلم المؤلّف (قدّس سرّه)؛ والعبارة الصحيحة هكذا: «... ومع الصبيان ازداد من اللهو والمزاح، ومع الفسّاق ازداد] من الجرأة ....».

ومن مميّزات هذه الطبعة أيضاً أننا وضعنا عناوين للفصول والأقسام التي لم يكن لها عنوان في المتن جعلناها بين معقوفتين هكذا [ ] ، تسهيلاً للقارئ والباحث المحقّق.

شكر وثناء

ويبدو من المناسب في تجديد طبعة هذا الكتاب النفيس بحلّته الجديدة، التي تحمّل مشاقها مركز إحياء التراث الإسلامي التابع للمركز العالي للعلوم والثقافة الإسلاميّة في قم، أنّ نشكر جميع الإخوة الأفاضل وأصحاب الفضيلة ممّن ساعدونا وساهموا في تصحيح الكتاب وتكميل ،نواقصه، وحلّ معضلاته الجزئيّة، ثمّ نشره بهذه الصورة القشيبة، فأنا إذ أُقدّم لهم من الصميم شكري لجميعهم، ودعائي لهم بالتوفيق الجميل.

ولا يفوتنا أن نشير إلى أنّ هذا الكتاب قد طبع لمرّات عديدة، وهذه الطبعة إضافة أُخرى إلى تلك الحلقات السابقة، لكن مع بعض التنقيح والتهذيب، خدمةً للدين ولعلمائنا الأعلام، فجزى الله الجميع الجزاء الأوفى.

قم المقدّسة رضا المختاري

ص: 46

نماذج من مصوّرات النسخ الخطّيّة المعتمدة في التحقيق

صورة الصفحة الأولى من نسخة «ة»

ص: 47

صورة الصفحة الأخيرة من نسخة «ة»:

ويُرى في الهامش إنهاء الكتاب بخطّ المؤلّف (قدّس سرّه)

ص: 48

صورة الصفحة الأولى من نسخة «ز»

ص: 49

صورة الصفحة الأولى من نسخة

ص: 50

صورة الصفحة الأولى من نسخة

ص: 51

صورة الصفحة الأولى من نسخة «ق»

منية المريد

ص: 52

منية المريد في أدب المفيد والمستفيد

اشارة

ص: 1

ص: 2

تقدیم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم،

وصلّى الله على حبيبه وعبده ونبيّه محمّد، أفضل من عُلِّمَ وعَلَّمَ، وعلى آله وأصحابه المتأدّبين بآدابه وسَلََّم.

أمّا بعد؛ فإنّ كمال الإنسان إنّما هو بالعلم، الذي يُضاهي به ملائكة السماء ويستحقُ به رفيع الدرجات في العُقبى مع جميل الثناء في الدنيا، ويتفضّل مداده على دماء الشهداء، وتضع الملائكة أجنحتها تحت رجليه إذا مشى، ويستغفر له الطير في الهواء والحيتان في الماء، ويفضل نومة ليلة من لياليه على عبادة العابد سبعين سنةً وناهيك بذلك جلالة وعِظَماً .

لكن ليس جميع العلم يوجب الزُلفى، ولا تحصيله كيف اتّفق يثمر الرضى بل لتحصيله شرائط، ولترتيبه ضوابط، وللمتلبّس به آداب ووظائف، ولطلبه أوضاع ومعارف، لا بدّ لمن أراد شيئاً منه من الوقوف عليها، والرجوع في مطلوبه إليها، لئلّا يضيع سعيه ولا يخمد جِدّه.

وكم رأينا بغاة هذا العلم الشريف دأبوا في تحصيله، وأجهدوا نفوسهم في طلبه ونيله، ثمّ بعضهم لم يجد لذلك الطلب ثمرةً ولا حصل منه على غاية معتبرة. وبعضهم حصّل شيئاً منه في مُدّة مديدة طويلة، كان يمكنه تحصيل أضعافه في بُرهة يسيرة قليلة، وبعضهم لم يزده العلم إلّا بعداً عن الله تعالى وقسوةً وقلباً مظلماً، مع قول الله

ص: 3

سبحانه - وهو أصدق القائلين : «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَؤُا»(1) وما كان سبب ! ذلك وغيره - من القواطع الصادّة لهم عن بلوغ الكمال - إلّا إخلالهم بمراعاة الأُمور المعتبرة فيه من الشرائط والآداب وغيرها من الأحوال.

وقد وفّق الله سبحانه بمنّه وكرمه فيما خرج من كتابنا الموسوم ب-«منار القاصدين في أسرار معالم الدين»(2) لتفصيل جملة شريفة من هذه الأحكام، مغنيةٍ لمن وقف عليها من الأنام، وقد رأينا في هذه الرسالة إفراد نبذة من شرائط العلم وآدابه وما يتبع ذلک من وظائفه، نافعة إن شاء الله تعالى لمن تدبّرها، موصلة له إلى بغيته إذا راعاها ونقشها على صحائف خاطره ،وكرّرها مُستَنْبَطة من كلام الله تعالى وكلام رسوله والأئمة علیهم السلام، وكلام أساطين الحكمة والدين والعلماء الراسخين، وسمّيتُها منية المريد في أدب المفيد والمستفيد.

وأنا أسأل الله تعالى من فضله العميم وجوده القديم أن ينفع بها نفسي وخاصّتي وأحبّائي، ومن يوفّق لها من المسلمين، وأن يجزل عليها أجري وثوابي، ويثبت لي بها قدم صدق يوم الدين، إنّه جواد كريم.

وهي مرتّبة على مقدّمةٍ وأبواب وخاتمةٍ:

ص: 4


1- فاطر (35) .28
2- الظاهر أنّ هذا الكتاب قد فُقِدَ وذهب فيما ذهب من كتب الشهيد الثاني (رحمه الله)، ولم نقف على نسخة له حتى اليوم في فهارس المخطوطات.

اما القدمة

اشارة

فتشتمل علی جملة من التنبیه علی فضله من الكتاب والسنّة والأثر ودليل العقل وفضل حامليه ومتعلّميه واهتمام الله سبحانه بشأنهم وتمييزهم عمّن سواهم.

فصل 1 : في فضل العلم من القرآن

اعلم أنّ الله سبحانه جعل العلم هو السبب الكلّي لخلق هذا العالم العِلوي والسِفلي طرّاً، وكفى بذلك جلالةً وفخراً، قال الله تعالى في محكم الكتاب - تذكرةً وتبصرةً لأُولي الألباب : «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا»(1).

وكفى بهذه الآية دليلاً على شرف العلم، لا سيّما علم التوحيد الذي هو أساس كلّ علم، ومدار كلّ معرفة. وجعل سبحانه العلم أعلى شرف، وأوّل منّةٍ امتنّ بها على ابن آدم بعد خلقه وإبرازه من ظلمة العدم إلى ضياء الوجود فقال سبحانه في أوّل سورة أنزلها على نبيه محمّد صلی الله علیه و آله و سلّم : «أَقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَنَ مِنْ عَلَقٍ أَقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنسَنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ»(2).

ص: 5


1- الطلاق .(65): 12
2- العلق (96): 1- 5

فتأمّل كيف افتتح كتابه الكريم المجيد - الذي «لَّا يَأْتِيهِ الْبَطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ»(1)- بنعمة الإيجاد، ثمّ أردفها بنعمة العلم، فلو كان ثمّ منّة أو توجد نعمة بعد نعمة الإيجاد هي أعلى من العلم لما خصّه الله تعالى بذلك، وصدّر به نور الهداية، وطريق الدلالة على الصراط المستقيم الآخذ بحُجزة البراعة، ودقائق المعاني وحقائق البلاغة.

وقد قيل(2) في وجه التناسب بين الآي المذكورة في صدر هذه السورة - التي قد اشتمل بعضها على خلق الإنسان من علق وفي بعضها تعليمه ما لم يعلم، ليحصل النظم البديع في ترتيب آياته : إنّه تعالى ذكر أوّل حال الإنسان، وهو كونه علقةً، مع أنّها أخسّ الأشياء؛ وآخر حاله، وهو صيرورته عالماً، وهو أجلّ المراتب، كأنّه تعالى قال: كنتَ في أوّل حالك في تلك الدرجة التي هي غاية الخساسة، فصرتَ في آخر حالك في هذه الدرجة التي هي الغاية في الشرف والنفاسة، وهذا إنّما يتمّ لو كان العلم أشرف المراتب، إذ لو كان غيره أشرف لكان ذكر ذلك الشيء في هذا المقام أولى.

ووجه آخر(3): أنه تعالى قال: «وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ»(4).

وقد تقرّر في أُصول الفقه: أنّ ترتّب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علّة»، وهذا يدلّ على أنّ الله سبحانه اختصّ بوصف الأكرميّة ؛ لأنّه علّم الإنسان العلم، فلو كان شيء أفضل من العلم وأنفس لكان اقترانه بالأكرميّة : المؤدّاة بأفعل التفضيل أولى(5).

ص: 6


1- فصّلت (41): 42
2- لاحظ تفسير الرازي، ج 2، ص 186، ذيل الآية 31 من البقرة (2).
3- أي وجه آخر في بيان دلالة الآي المذكورة في صدر سورة العلق على فضل العلم. لاحظ تفسير الرازي، ج 2، ص 186 ، ذيل الآية المذكورة.
4- العلق (96): 3 - 5
5- تفسير الرازي، ج 2، ص 186 ، ذيل الآية المذكورة.

وبنى الله(1) سبحانه ترتُّب قبول الحقّ والأخذ به على التذكّر، والتذكّر على الخشية، وحصر الخشية في العلماء، فقال: «سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى»(2) و «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَوا».(3) وسمّى الله سبحانه

العلم بالحكمة، وعظم أمر الحكمة فقال: «وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ

فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيراً».(4)

وحاصل ما فسّروه في الحكمة مواعظ القرآن والعلم والفهم والنبوّة في قوله تعالى: «وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ»(5)، «وَءَاتَيْنَهُ الْحُكْمَ صَبيّاً»(6)، «فَقَدْ آتَيْنَا عَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ»،(7) والكلّ يرجع إلى العلم.(8)

ص: 7


1- جاء في تفسير الرازي، ج 2، ص 186 ، ذيل الآية 31 من البقرة (2) في بيان فضيلة العلم من الآيات .... الثالث قوله سبحانه: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَؤُا ) : وهذه الآية فيها وجوه من الدلائل على فضل العلم، أحدها: دلالتها على أنّهم من أهل الجنّة، وذلك لأنّ العلماء من أهل الخشية، ومن كان من أهل الخشية كان من أهل الجنة فالعلماء من أهل الجنة، فبيان أن العلماء من أهل الخشية قوله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَؤُا ). وبيان أن أهل الخشية من أهل الجنة قوله تعالى: (جَنَّتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَرُ - إلى قوله تعالى: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ) ؛ ويدلّ عليه أيضاً قوله تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِى جَنَّتَانِ ...». وتدل الآيتان 9 و 10 من سورة الأعلى (87) -: ﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى) - على ترتُّب قبول الحق والأخذ به على التذكر.
2- الأعلى (87) 10
3- فاطر (35) 28
4- البقرة (2) 269
5- البقرة (2) 269
6- مريم (19): 12
7- النساء (4): 54
8- هذا الكلام في بيان فضل العلم مأخوذ من تفسير الرازي، ج 2، ص 179 ، ذيل الآية 31 من البقرة (2) وحيث إنّ المؤلّف (رحمه الله لخص كلام الرازي - ولذا تعسّر فهم وجه دلالة هذه الآيات على فضل العلم فإنا نأتي بنص كلامه وهو هذا ... إن الله تعالى سمّى العلم بالحكمة ثم إنه تعالى عظم أمر الحكمة وذلك يدلّ على عِظَم شأن العلم، بيان أنه تعالى سمى العلم بالحكمة ما يروى عن مقاتل أنّه قال: تفسير الحكمة في القرآن على أربعة أوجه أحدها: مواعظ القرآن، قال في البقرة: (وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ ) يعنى مواعظ القرآن، وفي النساء: وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) يعني مواعظ القرآن، ومثلها في آل عمران؛ وثانيها: الحكمة بمعنى الفهم والعلم، قوله تعالى: ﴿وَءَاتَيْنَهُ الْحُكْمَ صَبِيَّا) وفي لقمان: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَنَ الْحِكْمَةَ ) يعني الفهم والعلم. وفي الأنعام: أُوْلَبِكَ الَّذِينَ آتَيْنَهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّة؛ وثالثها: الحكمة بمعنى النبوة، في النساء: فَقَدْ آتَيْنَا عَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) يعني النبوة، وفي ص: (وَءَاتَيْنَهُ الْحِكْمَةَ ) يعني النبوة، وفي البقرة: وَءَاتَنهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ؛ ورابعها : القرآن في النحل: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ) وفي البقرة: وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)؛ وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم.

ورجّح العالمين على كلّ من سواهم فقال سبحانه: «هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَبِ»(1).

وفرّق(2) في كتابه العزيز بين عشرة بين الخبيث والطيّب -: «قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ»(3) 3 - وبين الأعمى والبصير، والظلمة والنور والجنّة والنار، والظلّ والحرور(4). وإذا تأمّلت تفسير ذلك وجدت مرجعه جميعاً إلى العلم.

وقرن سبحانه أولي العلم بنفسه وملائكته، فقال: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَبِكَةُ وَأُولُواْ العِلْمِ».(5)

ص: 8


1- الزمر (39) (9
2- في جميع النسخ المخطوطة وكذلك المطبوعة: «قَرْنَ» بدل «فَرَّقَ» والظاهر أنّ ما أثبتناه هو الصحيح؛ وذلك لأنّ هذا الكلام مأخوذ من تفسير الرازي، ج 2، ص 179، وهو دليل على ما قلناه وإليك نص عبارته ... الثاني: قوله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ : وقد فرَّقَ بين سبع نفر [كذا، ظ: بين عشرة نفر ] في كتابه: فرّق بين الخبيث والطيب فقال: لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) يعني الحلال والحرام، وفرّق بين الأعمى والبصير فقال: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ)؛ وفرّق بين النور والظلمة، فقال: أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظُّلُمَنتُ وَالنُّورُ وفَرَّقَ بين الجنة والنار، وبين الظل والحرور، وإذا تأملت وجدت كلَّ ذلك مأخوذاً من الفرق بين العالم والجاهل : وانظر أيضاً مفتاح دار السعادة، ج 1، ص 52 و 182؛ ودرة التاج، ج 1، ص 25 - 26. واعلم أن في بعض النسخ: بين سبعة» بدل «بين عشرة» كمافي تفسير الرازي ودرّة التاج أيضاً - وهو لا يوافق مع كلام المصنّف عند تعدادهم كماتری
3- المائدة (5): 100
4- إشارة إلى الآيات 19 - 22 من سورة فاطر (35): ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَنتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظَّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ ، والآية 20 من سورة الحشر (59): لَا يَسْتَوِى أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ).
5- آل عمران (3): 18

وزاد(1) في إكرامهم على ذلك مع الاقتران المذكور، بقوله تعالى: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ».(2)

وبقوله تعالى: «قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَبِ»(3).

وقال تعالى: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَتٍ»(4).

وقد ذكر الله سبحانه الدرجات لأربعة أصناف:

للمؤمنين من أهل بدر: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ إلى قوله: ولَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ»(5).

وللمجاهدين: «وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَهِدِينَ»(6).

ولمن عمل الصالحات: «وَمَن يَأْتِهِ، مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّلِحَتِ فَأُولَبِكَ لَهُم الدَّرَجَتُ الْعُلَی»(7).

وللعلماء: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ العِلْمَ دَرَجَتٍ»(8).

ففضّل أهل بدر على غيرهم من المؤمنين بدرجات، وفضّل العلماء على جميع الأصناف بدرجات، فوجب كون العلماء أفضل الناس.(9)

ص: 9


1- قال الرازي: ثمّ انظر إلى هذه المرتبة فإنّه تعالى ذكر العالم في موضعين من كتابه في المرتبة الثانية؛ قال: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَبِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ ) وقال: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ﴾ ثُمَّ إِنَّه سبحانه وتعالى زاد في الإكرام، فجعلهم في المرتبة الأولى في آيتين؛ فقال تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، وقال: قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَبِ ... تفسير الرازي. ج 2، ص 179، ذيل الآية 31 من البقرة (2).
2- آل عمران (3): 7
3- الرعد (13): 43
4- المجادلة (58): 11
5- الأنفال (8) 2 - 4
6- النساء .(4) 95
7- طه (20) 75
8- المجادلة (58) 11
9- لاحظ تفسير الرازي، ج 2، ص 179 - 180 ، ذيل الآية 31 من البقرة (2).

وقد خصّ الله سبحانه في كتابه العلماء بخمس مناقب:

الأُولى الإيمان: «وَالرَّسِخُونَ فِي الْعِلْم يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ»!(1).

الثانية: التوحيد: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ».(2)

الثالثة: البكاء والحزن: «إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِة - إلى قوله - وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ».(3)

الرابعة: الخشوع: «إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ»(4) الآية.

الخامسة: الخشية: «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَؤُا».(5)

وقال تعالى مخاطباً لنبيّه آمراً له مع ما آتاه من العلم والحكمة: «وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا»(6)، وقال تعالى: «بَلْ هُوَ ايَنتُ بينَنتُ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ».(7)

وقال تعالى: «وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَلِمُونَ».(8)

فهذه نبذة من فضائله التي تبّه الله عليها في كتابه الكريم.

ص: 10


1- آل عمران (3): 7 و 18 .
2- آل عمران (3): 7 و 18 .
3- الإسراء (17): 107 - 109.
4- الإسراء (17): 107 - 109.
5- فاطر (35) 28
6- طه (20): 0114
7- العنكبوت (29) 49 و 43.
8- العنكبوت (29) 49 و 43.

فصل 2 : فيما روي عن النبي صلی الله علیه و آله و سلّم في فضل العلم

وأمّا السنّة فهي في ذلك كثيرة تَنْبُو عن الحصر.

فمنها قول النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم : «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين».(1)

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : طلب العلم فريضة على كلّ مسلم».(2)

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «من طلب علماً فأدركه كتب الله له كفلين من الأجر، ومن طلب علماً فلم يدركه كتب الله له كفلاً من الأجر».(3)

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «من أحبّ أن ينظر إلى عتقاء الله من النار فلينظر إلى المتعلّمين، فوالذي نفسي بيده ما من متعلّم يختلف إلى باب العالم إلّا كتب الله له بكلّ قدم عبادة سنة، وبنى الله له بكلّ قدم مدينةً في الجنّة، ويمشي على الأرض وهي تستغفر له، و یمسی ويصبح مغفوراً له، وشهدت الملائكة أنّهم عتقاء من النار».(4)

الله وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «من طلب العلم، فهو كالصائم نهاره القائم ليله، وإنّ باباً من العلم يتعلّمه الرجل خير له من أن يكون أبو قبيس ذهباً فأنفقه في سبيل الله».(5)

ص: 11


1- صحيح البخاري، ج 2، ص 36 - 37 ، ح 70؛ سنن ابن ماجة، ج 1، ص 80، ح 220؛ الجامع الصحيح، ج 5، ص 28، ح 2645؛ سنن الدارمي، ج 2، ص 297؛ جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 23 - 25: الفقيه والمتفقه، ج 1، ص 2 - 8 مجمع الزوائد، ج 1، ص 121
2- سنن ابن ماجة، ج 1، ص 81 224: جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 8 - 18: مجمع الزوائد، ج 1، ص 119 - 120؛ وهو أيضاً في الكافي، ج 1، ص 30، باب فرض العلم، ح 1.
3- الترغيب والترهيب، ج 1، ص 96؛ جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 53؛ مجمع الزوائد، ج 1، ص 123
4- تفسير الرازي، ج 2، ص 180 ، ذيل الآية 31 من البقرة (2) درّة التاج، ج 1، ص 52 - 53 ، وفيهما: «باب عالم» بدل «باب العالم».
5- تفسير الرازي، ج 2، ص 197 ، ذيل الآية 31 من البقرة (2).

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام كان بينه وبين الأنبياء درجة واحدة في الجنّة».(1)

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم: فضل العالم على العابد سبعون(2) درجة، بين كل درجتين حضر الفرس(3) سبعين عاماً، وذلك لأنّ الشيطان يضع البدعة للناس فيبصرها العالم فيزيلها، والعابد يقبل على عبادته».(4)

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، إنّ الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتّى النملة في جحرها، وحتّى الحوت في الماء ليصلّون على معلّم الناس الخير».(5)

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم: «من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتّى يرجع».(6)

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم: «من خرج يطلب باباً من العلم ليردّ به باطلاً إلى حقّ، وضالاً إلى هدى كان عمله كعبادة أربعين عاماً».(7)

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم لعليّ علیه السلام : «لأن يهدي الله بك رجلا واحد أخير من أن يكون لك حمر النعم».(8)

ص: 12


1- تفسير الرازي، ج 2، ص 197، ذيل الآية 31 من البقرة (2) مطابقاً لما في المتن حرفاً بحرف؛ سنن الدارمي، ج 1، ص 100 ، وفيه: فبينه وبين النبيين بدل «كان بينه وبين الأنبياء».
2- في النسخ المعتمدة مخطوطها ومطبوعها: «سبعين» بدل «سبعون» ولعلّ الصواب «سبعون» كما في الترغيب والترهيب، ج 1، ص 102 - أو «بسبعين»، كما في تفسير الرازي، ج 2، ص 197، ذيل الآية 31 من البقرة (2).
3- الخضر: ارتفاع الفرس في عدوه لسان العرب، ج 4، ص 201، «حضر».
4- الترغيب والترهيب، ج 1، ص 102، ح 36 - مع اختلاف يسير في اللفظ والمعنى واحد، والجملة الأخيرة فيه هكذا: والعابد مقبل على عبادة ربه لا يتوجه لها ولا يعرفها»؛ تفسير الرازي، ج 2، ص 197، ذيل الآية المذكورة.
5- الجامع الصحيح، ج 5، ص 50، ح 2685، مع اختلاف يسير 2685، مع اختلاف يسير في اللفظ لا يضرّ بالمعنى.
6- الجامع الصحيح، ج 5، ص 29، ح 2647؛ جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 66.
7- الأمالي، الشيخ الطوسي، ص 618-619، المجلس 29، ح 11/1275؛ مع اختلاف يسير في اللفظ، والجملة الأخيرة فيه هكذا : .... كعبادة متعبد أربعين عاماً».
8- جامع بيان العلم وفضله ، ج 1، ص 147؛ مفتاح دار السعادة، ج 1، ص 65: إحياء علوم الدین، ج 1، ص 9؛ شرح المهذب، ج 1، ص 32؛ الأذكار، ص 278، وقوله : «حُمر النعم»، قال النووي: هي إبل الحمر وهي أنفَسُ أموال العرب، يضربون بها المثل في نفاسة الشيء، وأنه ليس هناك أعظم منه. المحجة البيضاء، ج 1، ص 19، الهامش.

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم لمعاذ: «لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من الدنيا وما فيها».(1)

وروي ذلك أنه قاله لعليّ علیه السلام أيضاً.(2)

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «رحم الله خلفائي فقيل يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: «الذين يحيون سنّتي ويعلّمونها عباد الله».(3)

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم: «إنّ مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غَيْتٍ أصاب أرضاً، وكان منها طائفة طيبة، فقبلت الماء فأنبتت الكلأ والعُشْبَ الكثير وكان منها أجادب(4)، أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس وشربوا منها، وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفةً منها أُخرى إنّما هی قيعانٌ لا تمسك ماءً ولا تنبت كَلَاً، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم، ومَثَلُ من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أُرسلتُ به».(5)

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم: «لا حسد - يعني لا غبطة(6) - إلّا في اثنين: رجلٍ آتاه الله مالاً فسلّطه على هلكته في الحقّ، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها.(7)

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : من دعا إلى هدىّ كان له من الأجر مثل أُجور من تبعه، لا ينقص ذلك

ص: 13


1- إحياء علوم الدين، ج 1، ص 9.
2- جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 147: الجامع الصغير، ج 2، ص 122، حرف اللام؛ وشرحه فيض القدير ج 5، ص 259، ح 7219؛ تفسير الرازي، ج 2، ص 180 ، ذيل الآية 31 من البقرة (2) المستدرك على الصحيحين، ج 3، ص 598. وفيها: .... مما طلعت عليه الشمس».
3- جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 55. ويأتي سائر مصادر الحديث الشريف. .
4- أجادب: هي الأرض التي لا تنبتُ كلاً، وقال الخطابي: هي الأرض التي لا تمسك الماء فلا يسرع فيها النضوب، وقالوا: هو جمع جدب على غير قياس كما قالوا في حسن الصورة: محاسن والقياس أنه جمع محسن؛ أو جمع جديب وهو من الجدب الذي هو القحط.... شرح صحيح البخاري، ج 2، ص 56.
5- صحيح البخاري، ج 2، ص 55 - 56، ح 78 جامع بيان العلم وفضله ، ج 1، ص 17، مع اختلاف في اللفظ.
6- جملة: «يعني لا غبطة ليست من الحديث، بل توضيح له. قال الراغب في الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص 183: قيل عنى بالحسد هنا الغبطة، وقد تسمّى بالحسد من حيث إنّهما الغمّ الذي ينال الإنسان من خير يناله غيره..... وقال النووي في شرح المهذب، ج 1، ص 32، في ذيل الحديث والمراد بالحسد الغبطة وهي أن يتمنى مثله.
7- سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1407، ح 4208: جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 20؛ إحياء علوم الدين، ج 1، ص 10 - 11، وفيها: «حكمة» بدل «الحكمة»، و«اثنتين» بدل «اثنين».

من أُجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً»(1).

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث: صدقةٍ جاريةٍ، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».(2)

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «خير ما يخلف الرجل من بعده ثلاث ولد صالح يدعو له، وصدقةً تجري يبلغه أجرها، وعلم يعمل به من بعده».(3)

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «إنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضىّ بما يصنع».(4)

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «أُطلبوا العلم ولو بالصين».(5)

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «من غدا في طلب العلم أظلّت عليه الملائكة، وبورك له في معيشته ولم ينقص من رزقه».(6)

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهّل الله له طريقاً إلى الجنّة».(7)

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : نوم مع علم خير من صلاة على جهل».(8)

ص: 14


1- الجامع الصحيح، ج 5 ص 43 ، ح 2674؛ الترغيب والترهيب، ج 1، ص 120؛ سنن الدارمي، ج 1، . 131 صحیح مسلم، ج 4، ص 2060، ح 2674/16؛ مفتاح دار السعادة، ج 1، ص 65.
2- إحياء علوم الدين، ج 1، ص 10: الجامع الصغير، ج 1، ص 35 حرف الهمزة وشرحه فيض القدير، ج 1، ص 437، ح 850؛ الترغيب والترهيب، ج 1، ص 110؛ تفسير القرطبي، ج 1، ص 3؛ وانظر جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 17-18 .
3- سنن ابن ماجة، ج 1، ص 88 241: الترغيب والترهيب، ج 1، ص 118.
4- سنن الدارمي ، ج 1، ص 101: إحياء علوم الدين، ج 1، ص 8 جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 39 وانظر المستدرك على الصحيحين، ج 1، ص 100 - 101.
5- إحياء علوم الدين، ج 1، ص 8؛ الجامع الصغير، ج 1، ص 44، حرف الهمزة وشرحه فيض القدير، ج 1، ص 542. ح 1110.
6- جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 54
7- الجامع الصحيح، ج 5، ص 28 ، ح 2646؛ جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 16: المستدرك على الصحيحين ج 1، ص 89
8- الجامع الصغير، ج 2، ص 188 ، حرف النون، وشرحه فيض القدير، ج 6 ، ص 291، ح 9294، وفيها: «نوم على علمٍ خیر ...».

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «فقيه أشدّ على الشيطان من ألف عابد».(1)

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «إنّ مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء، ويُهتدى بها في ظلمات البرّ والبحر، فإذا انطمست أوشك أن تضلّ الهداة»(2).

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «أيّما ناشٍ نشأ في العلم والعبادة حتّى يكبر أعطاه الله تعالى يوم القيامة ثواب اثنين وسبعين صدِّيقاً».(3)

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «يقول الله عزّ وجلّ للعلماء يوم القيامة: إنّي لم أجعل علمي وحلمي فيكم إلّا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أُبالي».(4)

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «ما جمع شيء إلى شيء أفضل من علم إلى حلم».(5)

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «ما تصدّق الناس بصدقة مثل علم ينشر».(6)

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «ما أهدى المرء المسلم إلى أخيه هديّة أفضل من كلمة حكمة يزيده الله بها هدىً، ويردّه عن ردئّ».(7)

ص: 15


1- الجامع الصحيح، ج 5، ص 48 ، ح 2681: أدب الإملاء والاستملاء، ص 60؛ سنن ابن ماجة، ج 1، ص 81 ح 222؛ جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 31 - 32؛ الفقيه والمتفقه، ج 1، ص 24 كنز العمال، ج 10، ص 155، ح 28793
2- الترغيب والترهيب، ج 1، ص 100 - 101؛ مجمع الزوائد، ج 1، ص 121؛ الفقيه والمتفقه، ج 2، ص 70؛ مسند أحمد، ج 3، ص 157، مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ.
3- جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 98. واعلم أنّ في المصدر ونسخة «ز ، م ، ق ، س ، ض ، ح ، ع»: «سبعين» كما أثبتناه؛ ولكن في مجمع الزوائد، ج 1، ص 125، وسائر النسخ: «تسعين» بدل «سبعين».
4- الترغيب والترهيب، ج 1، ص 101؛ مجمع الزوائد، ج 1، ص 126؛ وانظر جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 57
5- مجمع الزوائد، ج 1، ص 121: الجامع الصغير، ج 2، ص 145 حرف الميم؛ وشرحه فيض القدير، ج 5، ص 439 ، ح 7887
6- الترغيب والترهيب، ج 1، ص 119: الجامع الصغير، ج 2، ص 145 ، حرف الميم؛ وشرحه فيض القدير، ج 5 ص 437، ح 7875
7- جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 73؛ الجامع الصغير، ج 1، ص 143 ، حرف الميم؛ وشرحه فيض القدير، ج 5، 43 ح 7847.

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «أفضل الصدقة أن يعلم المرء علماً ثمّ يُعلّمه أخاه».(1)

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «العالم والمتعلم شريكان في الأجر، ولا خير في سائر الناس».(2)

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : قليل العلم خير من كثير العبادة».(3).

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «من غدا إلى المسجد لا يريد إلّا ليتعلّم خيراً أو ليعلّمه كان له أجر معتمرٍ تامٍّ العمرة، ومن راح إلى المسجد لا يريد إلّا ليتعلّم خيراً أو ليعلّمه فله أجر حاجٍّ تامٌ الحجّة».(4).

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «أغْدُ عالماً أو متعلماً أو مستمعاً أو محبّاً، ولا تكن الخامسة فتهلك».(5).

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «إذا مررتم في رياض الجنّة فارتعوا قالوا يا رسول الله! وما رياض الجنّة؟ قال: حلَق الذكر؛ فإنّ الله سيّارات من الملائكة يطلبون حلَق الذكر، فإذا أتوا عليهم حقّوا بهم».(6).

قال بعض العلماء :(7).

حلق الذكر هي مجالس الحلال والحرام كيف تشتري وتبيع، وتصلّي وتصوم، و تنكح وتُطلّق، وتحجّ وأشباه ذلك.

ص: 16


1- سنن ابن ماجة، ج 1، ص 89، ح 243؛ الترغيب والترهيب، ج 1، ص 98 ، وفيهما: «المرء المسلم» بدل المرء و«أخاه المسلم» بدل «أخاه».
2- سنن ابن ماجة، ج 1، ص 83، ح 227
3- جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 20؛ الفقيه والمتفقه، ج 1، ص 15: الجامع الصغير، ج 2، ص 87، حرف القاف وشرحه فيض القدير، ج 4. ص 526. ح 6150: مجمع الزوائد، ج 1، ص 120؛ وفي غرر الحكم، ج 4. ص 506، ح :6772: «قليل العلم مع العمل خير من كثيره بلا عملٍ.
4- المستدرك على الصحيحين، ج 1، ص 91؛ مجمع الزوائد، ج 1، ص 123، وفيه: بعض الحديث.
5- الصغير، ج 1، ص 48، حرف الهمزة؛ وشرحه فيض القدير، ج 2، ص 17، ح 1213
6- شرح المهذب، ج 1، ص 35؛ الأذكار، ص 8: الفقيه والمتفقه ، ج 1، ص 12: مفتاح دار السعادة، ج 1، ص 124 وفيها: «برياض الجنّة» بدل في رياض الجنّة» ولعله أصحّ.
7- هو عطاء الخراساني كما في شرح المهذب، ج 1، ص 35؛ والفقيه والمتفقه، ج 1، ص 13؛ ومفتاح دار السعادة. ج 1، ص 124؛ والأذكار، ص 9 - 10.

وخرج رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم فإذا في المسجد مجلسان: مجلس يتفقّهون، ومجلس يدعون الله تعالى ويسألونه، فقال: «كلا المجلسين إلى خير أمّا هؤلاء فيدعون الله، وأمّا هؤلاء فيتعلمون ويُفَقّهون الجاهل هؤلاء أفضل، بالتعليم أرسلت». ثمّ قعد معهم .(1)

وعن صفوان بن عسّال (رضي الله عنه) قال: أتيت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم، وهو في المسجد متّكيُّ على بُرد له أحمر، فقلت له: يا رسول الله! إنّي جئت أطلب العلم. فقال: «مرحباً بطالب العلم، إنّ طالب العلم لتحفّه الملائكة بأجنحتها، ثمّ يركب بعضها بعضاً حتّى يبلغوا سماء الدنيا من محبّتهم لما يطلب».(2)

وعن كثير بن قيس قال: كنت جالساً مع أبي الدرداء في مسجد دمشق، فأتاه رجل فقال: يا أبا الدرداء! إني أتيتك من المدينة، مدينة الرسول صلى الله عليه و آله و سلّم، لحديث بلغني عنك أنّك تحدّثه عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم قال: فما جاء بك تجارة؟ قال: لا. فقال: ولا جاء بك غيره؟ قال: لا، ثمّ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم يقول: «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنّة، وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها رضئ لطالب العلم، وإنّ العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، حتّى الحيتان في الماء. وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب. إنّ العلماء ورثة الأنبياء. إنّ الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً إنّما ورّثوا العلم، فمن أخذ به فقد أخذ بحظٍّ وافر».(3)

وأسند بعض العلماء إلى أبي يحيى زكريّا بن يحيى الساجي أنّه قال: كنّا نمشي في أزقة البصرة إلى باب بعض المحدّثين، فأسرعنا في المشي، وكان معنا رجل ماجن

ص: 17


1- الفقيه والمتفقّه، ج 1، ص 11؛ شرح المهذّب، ج 1، ص 35؛ وفي سنن ابن ماجة، ص 1، ص 83، ح 229؛ وسنن الدارمي ، ج 1، ص 99 - 100؛ وإحياء علوم الدين، ج 1، ص10.
2- الترغيب والترهيب، ج 1، ص 95
3- سنن ابن ماجة، ج 1، ص 81، ح 223؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 317، ح 3641 مع اختلاف في اللفظ لا يضرّ بالمعنى.

فقال: ارفعوا أرجلكم عن أجنحة الملائكة كالمستهزئ فما زال عن مكانه حتّى جفّت رجلاه.(1)

وأسند أيضاً إلى أبي داود السجستاني أنّه قال: كان في أصحاب الحديث رجل خليع إلى أن سمع بحديث النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم: «إنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم».(2).

فجعل في رجليه مسمارين من حديد، وقال: أريد أن أطَاً أجنحة الملائكة فأصابته الأكلة في رجليه.(3).

وذكر أبو عبد الله محمّد بن إسماعيل التميمي(4)، هذه الحكاية في شرح مسلم(5) وقال: فشلت رجلاه وسائر أعضائه.

ص: 18


1- الرحلة في طلب الحديث، ص 45 مفتاح دار السعادة، ج 1، ص 68.
2- هو أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق الأزدي السجستاني (202 - 275 ها، انظر ترجمته ومصادر ترجمته في وفيات الأعيان ، ج 2، ص 404 - 405 : والأعلام، ج 3، ص 122 ؛ ومعجم المؤلفين ، ج 4 ، ص 255 - 256
3- مفتاح دار السعادة، ج 1، ص 68.
4- هو أبو عبدالله محمد بن علي بن عمر التميمي المازري المالكي المتوفى سنة 536 ه- كما في وفيات الأعيان. ج 4 ص 285 والأعلام، ج 1، ص 277؛ ومعجم المؤلفين، ج 11، ص 32 - لا كما ذكره المصنف (رحمه الله) : وانظر ترجمته ومصادر ترجمته في تلك الكتب في هذه المواضع المذكورة.
5- اسمه المعلم بفوائد مسلم ولكن لم نعثر عليه فيه.

فصل 3 : فيما روي عن طريق الخاصةفي فضل العلم

ومن طريق الخاصّة ما رُوّيناه بالإسناد الصحيح إلى أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا علیه السلام عن آبائه، عن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم أنّه قال: «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم فاطلبوا العلم في مظانّه واقتبسوه من أهله، فإنّ تعلّمه الله تعالى حسنةً، وطلبه عبادة، والمذاكرة به تسبیح والعمل به جهاد وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربةٌ إلى الله تعالى؛ لأنّه معالم الحلال والحرام ومنار سبيل الجنّة، والمؤنس في الوحشة، والصاحب في الغربة والوحدة، والمحدّث في الخلوة والدليل على السرّاء والضرّاء، والسلاح على الأعداء، والزين عند الأخلّاء، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادةً تقتبس آثارهم ويقتدى بفعالهم، ويُنتهى إلى آرائهم، ترغب الملائكة في خلّتهم وبأجنحتها تمسحهم، وفي صلواتها تبارك عليهم. يستغفر لهم كلّ رطبٍ ويابس حتّى حيتان البحر وهوامه وسباع البرّ وأنعامه. إنّ العلم حياة القلوب من الجهل، وضياء الأبصار من الظلمة، وقوّة الأبدان من الضعف، يبلغ بالعبد منازل الأخيار، ومجالس الأبرار، والدرجات العُلا في الآخرة والأُولى الذكر فيه يعدل بالصيام، ومدارسته بالقيام به يطاع الربّ ويعبد، وبه توصل الأرحام، ويعرف الحلال والحرام. والعلم إمام، والعمل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء فطوبى لمن لم يحرمه الله من حظّه».(1)

وعن أمير المؤمنين علیه السلام: أيّها الناس اعلموا أنّ كمال الدين طلب العلم والعمل به، ألا

ص: 19


1- الأمالي، الشيخ الطوسي، ص 487 - 488، المجلس 17 ، ح 38/1069؛ بحار الأنوار، ج 1، ص 171، ح 24 نقلاً عنه.

وإنّ طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال، إنّ المال مقسوم مضمون لكم، قد قسّمه عادل بينكم، وقد ضمنه وسيفي لكم، والعلم مخزون عند أهله [وقد أمرتم بطلبه من أهله](1) فاطلبوه».(2)

وعنه علیه السلام : «العالم أفضل من الصائم القائم المجاهد، وإذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدّها إلّا خَلَف منه».(3)

وعنه علیه السلام : كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من لا يحسنه ويفرح به إذا نسب إليه، وكفى بالجهل ذمّاً أن يبرأ منه من هو فيه».(4)

وعنه علیه السلام أنّه قال لكميل بن زياد: «يا كميل العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال والعلم حاكم، والمال محكوم عليه، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق».(5)

وعنه علیه السلام أيضاً: «العلم أفضل من المال بسبعة: الأوّل: أنّه ميراث الأنبياء، والمال ميراث الفراعنة؛ الثاني: العلم لا ينقص بالنفقة، والمال ينقص بها؛ الثالث: يحتاج المال إلى الحافظ والعلم يحفظ صاحبه الرابع: العلم يدخل في الكفن ويبقى المال الخامس: المال يحصل للمؤمن والكافر، والعلم لا يحصل إلّا للمؤمن السادس: جميع الناس يحتاجون إلى العالم في أمر دينهم، ولا يحتاجون إلى صاحب المال السابع: العلم يقوي

ص: 20


1- ما بين المعقوفين ساقط من جميع النسخ المخطوطة وأكثر النسخ المطبوعة وهو موجود في المصدر، والمعنى يقتضيه أيضاً.
2- الكافي، ج 1، ص 30 باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه، ح 4.
3- درّة التاج، ص 42 إحياء علوم الدين، ج 1، ص 7؛ بصائر الدرجات، ص 4 - 5، ح 10.
4- شرح المهذب، ج 1، ص 33؛ تذكرة السامع، ص 10؛ المحاسن والمساوئ، ص 399؛ معجم م الأدباء، ج 1، ص 66، وفيهما: «خمولاً» بدل «ذماً» وفي آخره زيادة «ويغضب إذا نسب إليه»؛ دستور معالم الحكم، ص 24، وليس فيه الشطر الأخير أعني وكفى بالجهل ذماً أن يبرأ منه من هو فيه».
5- نهج البلاغة، ص 496 الحكمة 147 مع زيادة على ما ذكره المؤلّف (رحمه الله)؛ وأيضاً تحف العقول ص 118، مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ؛ ولكن ما في إحياء علوم الدين، ج 1، ص 7؛ ودرة التاج، ج 1، ص 39 - 40 مطابق لما في المتن حرفاً بحرف.

الرجل على المرور على الصراط والمال يمنعه».(1)

وعنه علیه السلام : قيمة كلّ امرئ ما يعلمه»(2)؛ وفي لفظ آخر: «ما يحسنه».(3)

وعن زين العابدين عليّ بن الحسين علیهما السلام : «لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المُهَج وخوض اللُجَج، إنّ الله تعالى أوحى إلى دانيال : أنّ أمْقَتَ عبادي إلىّ الجاهل المستخفّ بحقّ أهل العلم التارك للاقتداء بهم، وأنّ أحبّ عبيدي إليّ التقي الطالب للثواب الجزيل، اللازم للعلماء التابع للحلماء القابل عن الحكماء».(4)

وعن الباقر علیه السلام قال: «من علّم باب هُدىّ فله مثل أجر من عمل به، ولا ينقص أُولئك من أُجورهم شيئاً، ومن علم باب ضلالة كان عليه مثل أوزار من عمل به، ولا ينقص أولئك من أوزارهم شيئاً».(5)

وعنه علیه السلام : «عالم ينتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد».(6)

وعنه علیه السلام : «إنّ الذي يُعلّم العلم منكم له أجر المتعلّم، وله الفضل عليه، فتعلّموا العلم من حملة العلم وعلّموه إخوانكم كما علّمكموه العلماء».(7)

وعنه علیه السلام : «المجلس أجلسه إلى من أثق به أوثق في نفسي من عمل سنة».(8)

وعن الصادق علیه السلام: من علّم خيراً فله مثل أجر من عمل به». قلت: فإن علّمه غيره يجري ذلك له؟ قال: «إن علّمه الناس كلّهم جرى له»، قلت: فإن مات؟ قال: «وإن مات».(9)

ص: 21


1- تفسير الرازي، ج 2، ص 182 - 183، ذيل الآية 31 من البقرة (2) مع اختلاف في بعض الألفاظ. واعلم أنّ المؤلّف قد عقد هذا الفصل للأخبار التي رويت عن طريق الخاصّة، والظاهر أنّ هذا الحديث لم يرو عن طريق الخاصّة.
2- غرر الحكم، ج 4، ص 0502 ح 6752 .
3- نهج البلاغه، ص 482 الحكمة 81
4- الكافي، ج 1، ص 35 ، باب ثواب العالم والمتعلّم، ح 5.
5- الكافي، ج 1، ص 35 باب ثواب العالم والمتعلّم، ح 4.
6- الكافي، ج 1، ص 33، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء، ح 8؛ بصائر الدرجات، ص 6 ، ح 1.
7- الكافي، ج 1، ص 35 ، باب ثواب العالم والمتعلم، ح 2 ، وفيه: «له أجر مثل أجر» بدل «له أجر».
8- الكافي، ج 1، ص 39، باب مجالسة العلماء، ح 5.
9- الكافي، ج 1، ص 35 ، باب ثواب العالم والمتعلم، ح 3.

وعنه علیه السلام قال: «تفقّهوا في الدين، فإنّ من لم يتفقّه منكم في الدين فهو أعرابي، وإنّ الله عزّ وجلّ يقول في كتابه: «لِيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ».(1)

وعنه علیه السلا : «عليكم بالتفقّه في دين الله ولا تكونوا أعراباً؛ فإنّه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة، ولم يزكّ له عملاً».(2)

وعنه علیه السلام: لوددت أنّ أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتّى يتفقّهوا».(3)وعنه علیه السلام : «إنّ العلماء ورثة الأنبياء، إنّ الأنبياء لم يورّثوا درهماً ولا ديناراً، وإنّما ورّثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظّاً وافراً، فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه؛ فإنّ فينا أهل البيت في كلّ خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين».(4)

وعنه علیه السلام : إذا أراد الله بعبد خيراً فقّهه في الدين».(5)

وقال معاوية بن عمّار للصادق علیه السلام : رجل راوية(6) لحديثكم يَبُثُّ ذلك في الناس ويشدّده في قلوبهم وقلوب شيعتكم، ولعلّ عابداً من شيعتكم ليست له هذه الرواية أيهما أفضل ؟ قال : «الرواية لحديثنا يشدّ به قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد».(7)

و عنه علیه السلام قال: «ما من أحد يموت من المؤمنين أحبّ إلى إبليس من موت فقیه».(8)

ص: 22


1- الكافي، ج 1، ص 31 ، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه، ح 6، والآية في سورة التوبة (9): 122
2- الكافي، ج 1، ص 31 باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه ، ح7 .
3- الكافي، ج 1، ص 31 ، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه، ح 8.
4- الکافی ج1 ص32، باب صفه العلم و فضل العلاماء، ح2: بصائر الدرجات 20. 11 وفیهما «ذلک انّ الانیباء بدل «انّ الانبیاء» و فی الکافی«اورَثموا». بدل«وَرَّثُوا»
5- الكافي، ج 1، ص 32 باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء، ح 3.
6- التاء في «الراوية» للمبالغة كما في العلّامة والنسابة، ومعناه : كثير الرواية. .
7- الكافي، ج 1، ص 33 باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء، ح 9
8- الكافي، ج 1، ص 38 باب فقد العلماء ، ح 1 و 4.

وعنه علیه السلام : «إذا مات المؤمن الفقيه ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدّها شيء».(1).

وعن الكاظم علیه السلام قال: «إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة وبقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها، وأبواب السماء التي كان يصعد منها أعماله، وثلم في الإسلام ثلمة لا يسدّها شيء ؛ لأنّ المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها».(2)

وعنه علیه السلام قال: «دخل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم المسجد، فإذا جماعة قد أطافوا برجل فقال: ما هذا؟ فقيل: علّامة، فقال: وما العلّامة ؟ فقالوا: أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها، وأيّام الجاهليّة والأشعار العربيّة - قال: - فقال النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم : ذاك علم لا يضرّ من جهله، ولا ينفع من علمه؛ ثمّ قال النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم : إنّما العلم ثلاثة آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنّة قائمة، وما خلاهنّ فهو فضل».(3)

ص: 23


1- الكافي، ج 1، ص 38 باب فقد العلماء، ح 2.
2- الكافي، ج 1، ص 38 باب فقد العلماء، ج 3، وفيه: «كان يُصْعَدُ فيها بأعماله» بدل «كان يَصْعَدُ منها أعماله».
3- الكافي، ج 1، ص 32، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء، ح 1.

فصل 4: فيما روي عن التفسير المنسوب إلى العسكري علیه السلام في فضل العلم

من تفسير العسكري علیه السلام(1) في قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيتَقَ بَنِي إِسْرَءِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّه إلى قوله: وَالْيَتَمَى».

قال الإمام علیه السلام: «وأمّا قوله عزّ وجلّ: «وَالْيَتَمَى»(2) فإنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم قال: حثّ الله تعالى على برّ اليتامى لانقطاعهم عن آبائهم، فمن صانهم صانه الله، ومن أكرمهم أكرمه الله، ومن مسح يده برأس يتيم رفقاً به جعل الله تعالى له في الجنّة بكل شعرة مرّت تحت يده قصراً أوسع من الدنيا بما فيها، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين وهم فيها خالدون».

قال الإمام علیه السلام: «وأشدّ من يُتمِ هذا اليتيم يتيم انقطع عن إمامه، لا يقدر على الوصول إليه، ولا يدري كيف حكمه فيما يبتلى به من شرائع دينه، ألا فمن كان من شيعتنا عالماً بعلومنا، فهذا الجاهل بشريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا يتيم في حجره، ألا فمن هداه وأرشده وعلّمه شريعتنا، كان معنا في الرفيق الأعلى. حدّثني بذلك أبي عن أبيه، عن آبائه عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم».

ص: 24


1- للاطّلاع على أقوال العلماء حول هذا التفسير راجع الرسالة التي ألّفها العلّامة البلاغي (ضمن موسوعة العلّامة البلاغي، ج8، ص17 وما بعد)، والرسالة التي ألفها الأُستاذ الشيخ رضا الأستادي بشأنه، وطبعت كلتاهما في مجلة نور علم، العدد 13. وانظر روايات هذا الفصل في تفسير المنسوب إلى الإمام العسكري علیه السلام، ص 339 - 345؛ وبحار الأنوار، ج 2، ص 2 - 7 نقلاً عنه، ونقل بعضها عن الاحتجاج أيضاً.
2- البقرة (2) 83

وقال عليّ علیه السلام : «من كان من شيعتنا عالماً بشريعتنا، فأخرج ضعفاء شيعتنا من ظلمة جهلهم إلى نور العلم الذي حبوناه به جاء يوم القيامة على رأسه تاج من نور يُضيءُ لأهل تلك العرصات، وحُلّة لا يقوم(1) لأقلِّ سِلْكٍ منها الدنيا بحذافيرها. ثمّ ينادي منادٍ : هذا عالم من بعض تلامذة آل محمّد؛ ألا فمن أخرجه في الدنيا من حيرة جهله فليتشبّث بنوره ليخرجه من حيرة ظلمة هذه العرصات إلى نُزَه الجنان فيخرج كلّ من كان علّمه في الدنيا خيراً، أو فتح عن قلبه من الجهل قفلاً أو أوضح له عن شبهة».

قال: «وحضرت امرأة عند فاطمة الصدّيقة علیها السلام ، فقالت: إنّ لي والدةً ضعيفةً، وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليك أسألكِ، فأجابتها عن ذلك، ثمّ تنّت فأجابت، ثمّ ثلّثت إلى أن عشّرت فأجابت، ثمّ خجلت من الكثرة، وقالت: لا أشقّ عليك يا بنت رسول الله.

قالت فاطمة علیها السلام : هاتي سلي عمّا بدا لك، أرأيت من اكترُي(2) يصعد يوماً إلى سطح بحمل ثقيل وكراه مائة ألف دينار أيثقل عليه؟ قالت: لا. فقالت أُكريت [خ ل: اكتريت] أنا لكلّ مسألة بأكثر من ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤاً، فأحرى أن لا يثقل عليّ، سمعت أبي صلی الله علیه و آله و سلّم يقول: إنّ علماء شيعتنا يحشرون فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم، وجِدّهم في إرشاد عباد الله حتّى يخلع على الواحد منهم ألف ألف خلعة من نور، ثمّ ينادي منادي ربّنا عزّ وجلّ: أيّها الكافلون لأيتام آل محمّد، الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمّتهم هؤلاء تلامذتكم، والأيتام الذين كفّلتموهم، ونعشتموهم، فاخلعوا عليهم خلع العلوم في الدنيا، فيخلعون على كلّ واحد من أُولئك الأيتام على قدر ما أخذ عنهم من العلوم، حتّى أنّ فيهم - يعني في

ص: 25


1- لا يقوِّم بتشديد الواو من التقويم أو بالتخفيف، أي لا يقاومها ولا يُعاد لها. بحار الأنوار، ج 2، ص 3.
2- في جميع النسخ المطبوعة وكذلك المخطوطة: «من الذي بدل من اكثري والصواب هو الثاني كما في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري ، وص 340؛ وبحار الأنوار، ج 2، ص 3، نقلاً عنه.

الأيتام - لَمَن يخلع عليه مائة ألف حلّة، وكذلك يخلع هؤلاء الأيتام على من تعلّم منهم، ثمّ إنّ الله تعالى يقول: أعيدوا على هؤلاء العلماء الكافلين للأيتام حتّى تتمّوا لهم خلعهم وتضعّفوها، فيتمّ لهم ما كان لهم قبل أن يخلعوا عليهم، ويضاعف لهم، وكذلك مرتبتهم ممّن خلع عليهم على مرتبتهم.

قالت فاطمة علیها السلام : يا أمة الله إنّ سِلكاً من تلك الخلع لأفضل ممّا طلعت عليه الشمس ألف ألف مرّةً، وما فضل ما طلعت عليه الشمس؟ فإنّه مشوب بالتنغيص والكدر».

وقال الحسن بن عليّ علیهما السلام : «فضل كافل يتيم آل محمّد [المنقطع] عن مواليه الناشب في [تِیهِ] الجهل، يخرجه من جهله ويوضح له ما اشتبه عليه [على فضل كافل يتيم] يطعمه ويسقيه كفضل الشمس على السُها».

وقال الحسين بن عليّ علیهما السلام : من كفل لنا يتيماً، قطعته عنّا محنتنا باستتارنا، فواساه من علومنا التي سقطت إليه حتّى أرشده بهداه [خ ل: وهداه]، قال له الله عزّ وجلّ: يا أيّها العبد الكريم المواسي ! إنّي أولى بهذا الكرم، اجعلوا له يا ملائكتي في الجنان بعدد كلّ حرف علَّمه ألف ألف قصر، وضمِوا إليها ما يليق بها من سائر النعم».(1)

وقال عليّ بن الحسين علیهما السلام: أوحى الله عزّ وجلّ إلى موسى علیه السلام: حبّبني إلى خلقي، وحبّب خلقي إليّ. قال: يا ربّ كيف أفعل ؟ قال: ذكّرهم آلائي ونعمائي ليحبّوني فلأن تردّ آبقاً عن بابي أوضالاً عن فنائي، أفضل لك من عبادة مائة سنة صيام [ظ بصيام] نهارها وقيام ليلها. قال موسى علیه السلام: ومَنْ هذا العبد الآبق منك؟ قال: العاصي المتمرّد. قال : فمَنْ الضال عن فنائك؟ قال: الجاهل بإمام زمانه تعرّفه الغائب عنه بعد ما

ص: 26


1- ما بين المعقوفين زيادة من تفسير المنسوب إلى الإمام العسكري علیه السلام، ص 341؛ وبحار الأنوار، ج 2، ص 3 نقلاً عن التفسير المذكور وقد سقطت من المخطوطات والمطبوعات والمعنى يقتضيها كمالا يخفى؛ وأيضاً قد سقطت كلمة «المنقطع» وكلمة «تيه» في جملة: «المنقطع عن مواليه الناشب في تيه الجهل من جميع النسخ المخطوطة والمطبوعة سوى نسخة «ض ، ح ، ع».

عرفه الجاهل بشريعة دينه تعرّفه شريعته وما يعبد به ربّه ويتوصّل به إلى مرضاته. قال عليّ [بن الحسين] علیهما السلام: «فابشروا معاشر علماء شيعتنا بالثواب الأعظم والجزاء الأوفر».

وقال محمّد بن عليّ علیهما السلام : «العالم كمن معه شمعة تضيء للناس، فكلّ من أبصر بشمعته دعا له بخير، كذلك العالم معه شمعة يزيل بها ظلمة الجهل والحيرة، فكلّ من أضاءت له فخرج بها من حيرة، أو نجا بها من جهل، فهو من عتقائه من النار، والل-ه تعالى يعوّضه عن ذلك بكلّ شعرة لمن أعتقه ما هو أفضل له من الصدقة بمائة ألف قنطار على غير الوجه الذي أمر الله عزّ وجلّ به بل تلك الصدقة وبال على صاحبها، لكن يعطيه الله ما هو أفضل من مائة ألف ركعة بين يدي الكعبة».

وقال جعفر بن محمّد علیهما السلام: «علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته، يمنعونهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا، وعن أن يتسلّط إبليس وشيعته النواصب، ألا فمن انتصب لذلك من شيعتنا كان أفضل ممّن جاهد الروم والترك والخزر ألف ألف مرّةً؛ لأنّه يدفع عن أديان محبّينا، وذاك يدفع عن أبدانهم».

وقال موسى بن جعفر علیهما السلام : «فقيه واحد ينقذ يتيماً من أيتامنا المنقطعين عن مشاهدتنا، والتعلّم من علومنا أشدّ على إبليس من ألف عابد ؛ لأنّ العابد همه ذات نفسه فقط، وهذا همّه مع ذات نفسه ذات عباد الله وإمائه لينقذهم من يد إبليس ومردته، وكذلك هو أفضل عند الله عند الله من ألف [ألف] عابد وألف ألف عابدة».

وقال عليّ بن موسى علیهما السلام: «يقال للعابد يوم القيامة : نِعمَ الرجل كنت همّتك ذات نفسك، وكفيت الناس مؤونتك، فادْخُلِ الجنّة. ألا إنّ الفقيه من أفاض على الناس خيره وأنقذهم من أعدائهم ووفّر عليهم نِعم جنان الله وفصّل [ظ : حصّل] لهم رضوان الله تعالى. ويقال للفقيه : أيّها الكافل لأيتام آل محمّد - الهادي لضعفاء محبّيه ومواليه - ! قف حتّى تشفع لكلّ من أخذ عنك أو تعلّم منك، فيقف، فيدخل الجنّة معه فئام وفئام حتّى

ص: 27

قال عشراً، وهم الذين أخذوا عنه علومه وأخذوا عمّن أخذ عنه إلى يوم القيامة فانظروا كم فرق ما بين المنزلتين؟».

وقال محمّد بن عليّ علیهما السلام: «إنّ من تكفّل بأيتام آل محمّد المنقطعين عن إمامهم المتحيّرين في جهلهم، الأُسراء في أيدي شياطينهم وفي أيدي النواصب من أعدائنا، فاستنقذهم منهم، وأخرجهم من حيرتهم وقهر الشياطين بردّ وسواسهم، وقهر الناصبين بحجج ربّهم ودليل أئمّتهم، ليفضّلوا عند الله على العابد بأفضل المواقع، بأكثر من فضل السماء على الأرض والعرش على الكرسيّ والحجب على السماء، وفضلهم على هذا(1) العابد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء».

وقال عليّ بن محمّد علیهما السلام : «لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم من العلماء الداعين إليه والدالين عليه، والذابين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله - من شباك إبليس ومردته ومن فخاخ النواصب - الذين يمسكون أزمّة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك السفينة سكّانها(2)، لما بقي أحد إلّا ارتدّ عن دين الله، أُولئك هم الأفضلون عند الله عزّ وجلّ».

وقال الحسن بن عليّ علیهما السلام: «يأتي علماء شيعتنا القوّامون بضعفاء محبّينا وأهل ولايتنا يوم القيامة، والأنوار تسطع من تيجانهم، وعلى رأس كلّ واحد منهم تاج بهاء(3) قد انبتّت تلك الأنوار في عرصات القيامة، ودورها مسيرة ثلاث مائة ألف سنة، فشعاع تيجانهم ينبصٌ، فلا يبقى هناك يتيم قد كفََّلوه من ظلمة الجهل وعلّموه، ومن حيرة التيه

ص: 28


1- كلمة «هذا موجودة في جميع النسخ المخطوطة وكذلك المطبوعة، والتفسير المنسوب إلى الإمام العسكري علیه السلام ص 344، ولعلّها هنا زائدة ناشئة عن قلم الكاتب.
2- في بحار الأنوار، ج 2، ص 6؛ والمحجّة البيضاء، ج 1، ص 32؛ والتفسير المنسوب إلى الإمام العسكري علیه السلام ص 345: «كما يمسك صاحب السفينة سكّانها».
3- ما أثبتناه في المتن مطابق لما في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري علیه السلام ص 345؛ وبحار الأنوار، ج 2، ص 7 نقلاً عنه؛ والمحجّة البيضاء، ج 1، ص 33؛ ولكن في جميع النسخ المخطوطة و«ه»: «بهاء تاج»، وف--ي النسخ المطبوعة سوى «ه»: «تاج».

أخرجوه إلّا تعلّق بشعبة من أنوارهم فرفعتهم إلى العِلْوِ حتّى يحاذى بهم فوق الجنان، ثمّ ينزلونهم على منازلهم المعدّة لهم في جوار أُستاذيهم ومعلميهم، وبحضرة أئمّتهم الذين كانوا إليهم يدعون ولا يبقى ناصب من النواصب يصيبه من شعاع تلك التيجان إلا عميت عيناه، وصمّت أُذُناه، وأُخرس لسانه، وتحوّل عليه أشدّ من لهب النيران فتحملهم حتّى تدفعهم إلى الزبانية، فتدّعوهم إلى سواء الجحيم».(1)

فهذه نبذة ممّا ورد في فضائل العلم من الحديث اقتصرنا عليها إيثاراً للاختصار ومناسبة للرسالة.

ص: 29


1- انظر الروايات التي نُقِلَتْ من أوّل الفصل إلى هنا في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري ، ص 339 - 345، ط. الحديثة؛ وبحار الأنوار، ج 2، ص 2 - 7 نقلاً عنه.

فصل 5 : فضل العلم من الكتب السالفة والحكم القديمة

ومن الحكمة القديمة: «قال لقمان لابنه يا بنىّ اختر المجالس على عينك؛ فإن رأيت قوماً يذكرون الله فاجلس معهم؛ فإن تكن عالماً نفعك علمك وإن تكن جاهلاً علّموك، ولعلّ الله أن يظلّهم برحمته فتعمّك معهم. وإذا رأيت قوماً لا يذكرون الله فلا تجلس معهم؛ فإن تكن عالماً لم ينفعك علمك ، وإن كنت جاهلاً يزيدوك جهلاً، ولعلّ الله أن يظلّهم بعقوبة فتعمّك معهم».(1).

وفي التوراة: «قال الله تعالى لموسى علیه السلام: عظّم الحكمة؛ فإنّي لا أجعل الحكمة في قلب أحد إلّا وأردت أن أغفر له، فتعلّمها ثمّ اعمل بها، ثمّ ابذُلها كي تنال بذلك كرامتي في الدنيا والآخرة».(2)

وفي الزبور: «قل لأحبار بني إسرائيلَ ورُهبانَهم : حادِثوا من الناس الأتقياءَ فإن لم تجدوا فيهم تَقيّاً، فحادِثوا العلماءَ، فإن لم تجدوا عالماً، فحادِثوا العقلاَء؛ فإنّ التُقى والعلم والعقل ثلاث مراتب ما جعلت واحدة منهن في خلقي، وأنا أريد هلاكه».(3).

قيل(4) : وإنّما قدّم التُقى ؛ لأنّ التُقى لا يوجد بدون العلم، كما تقدّم من أنّ الخشية لا تحصل إلّا بالعلم، ولذلك قدّم العلم على العقل ؛ لأنّ العالم لا بدّ وأن يكون عاقلاً.

ص: 30


1- الكافي، ج 1، ص 39، باب مجالسة العلماء وصحبتهم، ح 1 جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 128 - 129.
2- تفسير الرازي، ج 2، ص 188، ذيل الآية 31 من البقرة (2): درة التاج، ج 1، ص 33.
3- تفسير الرازي ، ج 2، ص 188 ، ذيل الآية 31) من البقرة (2) : درة التاج، ج 1، ص 34 - 35.
4- القائل الفخر الرازي راجع تفسير الرازي، ج 2، ص 188، ذيل الآية 31 من البقرة (2).

وفي الإنجيل: قال الله تعالى في السورة السابعة عشرة منه: ويل لمن سمع بالعلم ولم يطلبه، كيف يحشر مع الجهّال إلى النار ؟ اطلبوا العلم وتعلّموه، فإنّ العلم إن لم يسعدكم لم يشقكم، وإن لم يرفعكم لم يضعكم، وإن لم يغنكم لم يفقركم، وإن لم ينفعكم لم يضرّكم، ولا تقولوا: نخاف أن نعلم، فلا نعمل، ولكن قولوا: نرجو أن نعلم ،ونعمل والعلم يشفع لصاحبه، وحقّ على الله أن لا يخزيه، إنّ الله تعالى يقول يوم :القيامة يا معشر العلماء ما ظنّكم بربّكم؟ فيقولون: ظنّنا أن يرحمنا ويغفر لنا. فيقول :تعالى: فإنّي قد فعلت إنّي قد استودعتكم حكمتي لا لشرّ أردته بكم، بل لخير أردته بكم فادخلوا في صالح عبادي إلى جنّتي برحمتي .(1)

وقال مقاتل بن سليمان(2) : وجدت في الإنجيل أنّ الله تعالى قال لعيسى علیه السلام: عظّم العلماء واعرف فضلهم، فإنّي فضّلتُهم على جميع خلقي إلّا النبيّين والمرسلين، كفضل الشمس على الكواكب، وكفضل الآخرة على الدنيا، وكفضلي على كلّ شيء.(3)

ومن كلام المسيح علیه السلام: من علم وعمل فذاك يدعى عظيماً في ملكوت السماء .(4)

ص: 31


1- تفسير الرازي، ج 2، ص 188 - 189، ذيل الآية 31 من البقرة (2)؛ درّة التاج، ج 1، ص 33 - 34.
2- هو أبو الحسن مقاتل بن سليمان بن بشير الأزدي الخراساني (المتوفى سنة 150ه-). وردت ترجمته ومصادر ترجمته في وفيات الأعيان، ج 5، ص 255 - 257؛ والأعلام، ج 7، ص 281
3- تفسير الرازي، ج 2، ص 189، ذيل الآية 31 من البقرة (2). قال العلّامة الطباطبائي صاحب الميزان في تفسير القرآن في تعليقته على بحار الأنوار في ذيل هذا الكلام الجملة وإن أمكن توجيهها بتكلف، لكنّها ممّا توهن الرواية أشدّ الوهن؛ فإنّ ظاهر معنى التشبيه لا يرجع إلى محصِّل ؛ بحار الأنوار، ج 2، ص 25، الهامش.
4- جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 150 : وج 2 ص 6: إحياء علوم الدين، ج 1، ص 9 - 10 ، وفيهما : من عَلِمَ وعمِلَ وعَلَّمَ» بدل «علم وعمل»، و«السماوات» بدل «السماء».

فصل 6 : فضل العلم من الآثار وتحقيقات بعض العلماء

ومن الآثار عن أبي ذرّ (رضي الله عنه) باب من العلم نتعلّمه أحبّ إلينا من ألف ركعة تطوّعاً .(1).

وقال سمعنا رسول الله صلى الله عليه و اله و سلّم ، يقول: «إذا جاء الموت طالب العلم - وهو على هذه الحال - مات شهيداً».(2).

وعن وهب بن منبّه(3):

يتشعّب من العلم الشرف وإن كان صاحبه دنيّاً، والعزّ وإن كان مهيناً، والقُرب وإن كان قصيّاً، والغنى وإن كان فقيراً، والنُبل وإن كان حقيراً، والمهابة وإن كان وضيعاً.

والسلامة وإن كان سقيماً(4).

ص: 32


1- الفقيه والمتفقّه، ج 1، ص 16؛ جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 30؛ مفتاح دار السعادة، ج 1، ص 124 - 125؛ مجمع الزوائد، ج 1، ص 124؛ تفسير كشف الأسرار، ج 10، ص 20؛ تذكرة السامع، ص 12 - 13؛ شرح المهذب، ج 1، ص 36 ، نقلاً عن أبي ذرّ (رضي الله عنه) وأبي هريرة، مع زيادة: وباب من العلم نعلمه، عمل به أو لم يُعمل أحبّ إلينا من مائة ركعةٍ تطوّعاً
2- جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 30، 53، 115؛ الفقيه والمتفقه، ج 1، ص 16؛ شرح المهذب، ج 1، ص 36؛ مفتاح دار السعادة، ج 1، ص 125؛ مجمع الزوائد، ج 1، ص 124
3- هو أبو عبدالله وهب بن منبّه الصنعاني (34 - 114ه-) وردت ترجمته ومصادر ترجمته في تذكرة الحفّاظ، ج 1، ص 101؛ والأعلام، ج 8، ص 125 - 126؛ ووفيات الأعيان، ج 6، ص 35 - 36.
4- شرح المهذّب، ج 1، ص 33، وفيه: «والسلامة وإن كان سفيها»: تذكرة السامع، ص 10 - 11، ولكن ليس فيها الجملة الأخيرة، أعني والسلامة وإن كان سقيماً»؛ وفي تحف العقول، ص 13، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأما العلم فيتشعب منه الغنى وإن كان فقيراً، والجود وإن كان بخيلاً، والمهابة وإن كان هيّناً، والسلامة وإن كان سقيماً. والقرب وإن كان قصياً، والحياء وإن كان صَلِفاً، والرفعة وإن كان وضيعاً، والشَرَف وإن كان رذلاً والحكمة والحظوة» وفي رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء، ج 1، ص 348 الرسالة التاسعة: «والعلم يكسِبُ صاحبه عشر خصال محمودة أوّلها الشرف وإن كان دنياً ؛ والعزََّ وإن كان مهيناً ؛ والغنى وإن كان فقيراً؛ والقوّة وإن كان ضعيفاً ؛ والنبل وإن كان حقيراً والقرب وإن كان بعيداً، والقدر وإن كان ناقصاً؛ والجود وإن بخيلاً؛ والحياء وإن كان صَلِفاً: والمهابة وإن كان وضيعاً؛ والسلامة وإن كان سقيماً». وهذه المذكورات إحدى عشرة خصلة لا عشر، فتأمّل

وقال بعض العارفين (1):

أليس المريض إذا منع عنه الطعام والشراب والدواء يموت؟ كذا القلب إذا منع عنه العلم والفكر والحكمة يموت(2).

وقال آخر (3):

من جلس عند العالم، ولم يُطقٍ الحفظَ من علمه فله سبع کرامات ينال فضل المتعلّمين، وتحبس عنه الذنوب ما دام عنده وتنزل الرحمة عليه إذا خرج من منزله طالباً للعلم، وإذا جلس في حلقة العالم نزلت الرحمة عليه، فحصل له منها نصيب(4)، وما دام في الاستماع يكتب له طاعة، وإذا استمع ولم يفهم ضاق قلبه بحرمانه عن إدراك العلم فيصير ذلك الغمّ وسيلة إلى حضرة الله تعالى لقوله تعالى: «أنا عند المنكسرة قلوبهم».(5).

ص: 33


1- هو فتح الموصلي، كما في تفسير الرازي، ج 2، ص 181 ، ذيل الآية 31 من البقرة (2)؛ وإحياء علوم الدين، ج 1 ص 8 ودرّة التاج، ج 1 ، ص 43.
2- تفسير الرازي، ج 2، ص 181 ؛ إحياء علوم الدين، ج 1، ص 8 درة التاج، ج 1، ص 43: مفتاح دار السعادة ج 1، ص 129، مع اختلاف يسير في اللفظ في المصادر الثلاثة الأخيرة.
3- هو الفقيه أبو الليث كما في تفسير الرازي، ج 2، ص 183.
4- هذه الجملة وردت في المصدر هكذا ... وإذا جلس في حلقة العلم، فإذا نزلت الرحمة عليهم حصل له منها نصيب. وهي أصح مما ورد في المتن.
5- رُوي هذا الحديث القدسي في تفسير كشف الأسرار، ج 1، ص 135 ، 710؛ وج 6، ص 171؛ وج 9، ص 283؛ وتذكرة الأولياء، ص 186؛ وتفسير الرازي، ج 2، ص 183؛ وبداية الهداية، ص 42؛ وفي بحار الأنوار، ج 73 ص 157 - نقلاً عن نوادر الراوندي : وسُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أين الله ؟ فقال: «عند المنكسرة قلوبهم»؛ وفي غرر الحكم، ج 4، ص 238، ج 5937: «طوبي للمنكسرة قلوبهم من أجل الله»

ويرى إعزاز المسلمين للعالم وإذلالهم للفساق فيرد قلبه عن الفسق وتميل طبيعته إلى العلم، ولهذا أمر صلی الله علیه و آله و سلّم بمجالسة الصالحين.(1).

وقال أيضاً: من جلس مع ثمانية أصناف من الناس زاده الله ثمانية أشياء:

[1] من جلس مع الأغنياء زاده الله حب الدنيا والرغبة فيها؛

[2] ومع الفقراء حصل له الشكر والرضى بقسم الله تعالى؛

[3] ومع السلطان زاده الله القسوة والكبر؛

[4] ومع النساء زاده الله الجهل والشهوة؛

[5] ومع الصبيان ازداد من اللهو والمزاح؛

[6] ومع الفسّاق ازداد](2) من الجرأة على الذنوب وتسويف التوبة؛

[7] ومع الصالحين ازداد رغبة في الطاعات؛

[8] ومع العلماء ازداد من العلم(3).

علّم الله تعالى سبعة نفر سبعة أشياء (4): آدم الأسماء كلّها، والخضر علم الفراسة، ويوسف علم التعبير، وداود صنعة الدروع، وسليمان منطق الطير، وعيسى التوراة والإنجيل(5): «وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَنَةَ وَالْإِنجِيل»، ومحمّد صلی الله علیه و آله و سلّم علم الشرع والتوحيد [وعلّمك ما لم تكن تعلم](6) «وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ»(7)، [«الرَّحْمَنُ *

ص: 34


1- تفسير الرازي، ج 2، ص 183.
2- ما بين المعقوفين ساقط من جميع النسخ المخطوطة والمطبوعة ولكن موجود في المصدر المعنى يقتضيه أيضاً : لأنّ المؤلّف (رحمه الله) قال: من جلس مع ثمانية أصناف..... ولكن ذكر سبعة أصناف؛ فسقط ما بين المعقوفين من قلمه الشريف أو من قلم النُسّاخ.
3- تفسير الرازي، ج 2، ص 183 ، ذيل الآية 31 من البقرة (2).
4- لاحظ تفسير الرازي، ج 2، ص 183 - 184، ذيل الآية 31 من البقرة (2).
5- آل عمران (3): 48
6- ما بين المعقوفين زيادة من المصدر أعني تفسير الرازي، ج 2، ص 184، وليس في النسخ المخطوطة والمطبوعة.
7- الجمعة (62): 2. وفي جميع النسخ المخطوطة والمطبوعة: «يعلمك» بدل «يُعَلمُهم» وهو خطأ؛ إذ لا توجد آية بهذا النصّ في المصحف الشريف، وما أثبتناه مطابق للمصدر أيضاً.

عَلَّمَ الْقُرْءَانَ»(1)] فَعِلْمُ آدم علیه السلام كان سبباً في سجود الملائكة له والرفعة عليهم وعلم الخضر كان سبباً لوجود موسى تلميذاً له ويوشع علیهما السلام، وتذلله له كما يستفاد من الآيات الواردة في القصّة(2)، وعلم يوسف كان سبباً لوجدان الأهل والمملكة والاجتباء، وعلم داود كان سبباً للرئاسة والدرجة، وعلم سليمان كان سبب وجدان بلقيس والغلبة، وعلم عيسى كان سبباً لزوال التهمة عن أُمّه، وعلم محمّد صلی الله علیه و آله و سلّم كان سبباً في الشفاعة .(3)

طريق(4) الجنّة في أيدي أربعة: ،العالم والزاهد والعابد، والمجاهد، فإذا صدق العالم في دعواه رزق الحكمة والزاهد يرزق الأمن، والعابد الخوف والمجاهد الثناء.

قال بعض المحقّقين(5) : العلماء ثلاثة: عالم بالله غير عالم بأمر الله، فهو عبد استولت المعرفة الإلهيّة على قلبه فصار مستغرقاً بمشاهدة نور الجلال والكبرياء، فلا يتفرّغ لتعلّم علم الأحكام إلّا ما لا بدّ منه وعالم بأمر الله غير عالم بالله، وهو الذي عرف الحلال والحرام ودقائق الأحكام، لكنّه لا يعرف أسرار جلال الله وعالم بالله وبأمر الله، فهو جالس على الحدّ المشترك بين عالم المعقولات وعالم المحسوسات، فهو تارةً مع الله بالحبّ له، وتارةً مع الخلق بالشفقة والرحمة، فإذا رجع من ربّه إلى الخلق صار معهم كواحد منهم، كأنّه لا يعرف الله، وإذا خلا بربّه مشتغلاً بذكره وخدمته فكأنّه لا يعرف الخلق، فهذا سبيل المرسلين والصدّيقين، وهو المراد بقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «سائل

ص: 35


1- ما بين المعقوفين زيادة من المصدر أعني تفسير الرازي، ج 2، ص 184، وليس في النسخ. وهي الآية 1و 2 من سورة الرحمن (55).
2- الكهف (18): 60 - 82.
3- تفسير الرازي، ج 2، ص 183 - 184، وقد نقل الرازي الآيات الدالة على تعليمه تعالى هؤلاء الأنبياء هذه العلوم، وأسقطها المؤلّف (رحمه الله) روماً للاختصار.
4- لاحظ تفسير الرازي، ج 2، ص 184 ، ذيل الآية 31 من البقرة (2).
5- هو شقيق البلخي كما في تفسير الرازي، ج 2، ص 181، ذيل الآية 31 من البقرة (2).

العلماء، وخالط الحكماء، وجالس الكبراء».(1)

فالمراد بقوله صلی الله علیه و آله و سلّم «سائل العلماء» العلماء بأمر الله تعالى غير العالمين بالله، فأمر بمسائلتهم عند الحاجة إلى الاستفتاء؛ وأمّا الحكماء فهم العالمون بالله الذين لا يعلمون أوامر الله، فأمر بمخالطتهم؛ وأمّا الكبراء، فهم العالمون بهما، فأمر بمجالستهم، لأنّ في مجالستهم خير الدنيا والآخرة. ولكلّ واحد من الثلاثة ثلاث علامات فللعالم بأمر الله الذكر باللسان دون القلب والخوف من الخلق دون الربّ، والاستحياء من الناس في الظاهر ولا يستحي من الله في السرّ. والعالم بالله ذاكر خائف مستحي، أمّا الذكر فذكر القلب لا اللسان، والخوف خوف الرجاء (2) لا خوف المعصية، والحياء حياء ما يخطر على القلب لا حياء الظاهر. والعالم بالله وأمره له ستّة أشياء: الثلاثة المذكورة للعالم بالله فقط، مع ثلاثة أُخرى: كونه جالساً على الحدّ المشترك بين عالم الغيب وعالم الشهادة، وكونه معلماً للمسلمين(3)، وكونه بحيث يحتاج الفريقان الأوّلان إليه، وهو مستغنٍ عنهما، فمثل العالم بالله وبأمر الله كمَثَل الشمس لا تزيد ولا تنقص؛ ومَثَل العالم بالله فقط كمَثَل القمر يكمل تارةً وينقص أُخرى؛ ومَثَلُ العالم بأمر الله كمَثَل السراج يحرق نفسه ويضيء لغيره(4).

ص: 36


1- تفسير كشف الأسرار، ج 2، ص 88؛ مجمع الزوائد، ج 1، ص 125؛ كنز العمال، ج 10، ص 238 ، ح 29263؛ تفسير الرازي ج 2، ص 181 ؛ وفي بحار الأنوار، ج 1، ص 197؛ وج 74، ص 188 - نقلا عن نوادر الراوندي: عن موسى بن جعفر عن آبائه علیهعم السلام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سائلوا العلماء وخالطوا الحكماء وجالسوا الفقراء».
2- هكذا في جميع النسخ المخطوطة والمطبوعة، وفي المصدر: «خوف الرثاء» والظاهر أنه خطأ.
3- ما أثبتناه مطابق لجميع النسخ المخطوطه والمطبوعة، ولكن في المصدر: «للقسمين الأولين» بدل للمسلمين» وأيضاً في المحجة البيضاء، ج 1، ص 37 نقلاً عن منية المريد: «للقسمين» ولعلّ ما في المصدر أنسب
4- تفسير الرازي، ج 2، ص 181 ، ذيل الآية 31 من البقرة (2): وقال في علم القلوب، ص 23: قال سفيان: العلماء ثلاثة: عالم بالله وبأمر الله، فذلك العالم الكامل؛ وعالم بالله غير عالم بأمر الله، فذلك التقي الخائف؛ وعالم بأمر الله غير عالم بالله، فذلك العالم الفاجر .

فصل 7: دليل العقل على فضل العلم

وأمّا دليل العقل فنذكر منه وجهين :

أحدهما أنّ المعقولات تنقسم إلى موجودة ومعدومة. والعقول السليمة تشهد بأنّ الموجود أشرف من المعدوم، بل لا شرف للمعدوم أصلاً. ثمّ الموجود ينقسم إلى جماد ونام، والنامي أشرف من الجماد. ثمّ النامي ينقسم إلى حسّاس وغيره، والحسّاس أشرف من غيره. ثمّ الحسّاس ينقسم إلى عاقل وغير عاقل، ولا شكّ أنّ العاقل أشرف من غيره. ثمّ العاقل ينقسم إلى عالم وجاهل ولا شبهة في أنّ العالم أشرف من الجاهل. فتبين بذلك أنّ العالم أشرف المعقولات والموجودات وهذا أمر يلحق بالواضحات.

والثاني (1): أنّ الأُمور على أربعة أقسام: قسم يرضاه العقل، ولا ترضاه الشهوة، وقسم عكسه، وقسم يرضيانه، وقسم لا يرضيانه. فالأوّل: كالأمراض والمكاره في الدنيا والثاني: المعاصي أجمع، والثالث: العلم والرابع الجهل.

فمنزل العلم من الجهل بمنزلة الجنّة من النار فكما أنّ العقل والشهوة لا يرضيان بالنار، كذا لا يرضيان بالجهل، وكما أنّهما يرضيان بالجنّة، كذا يرضيان بالعلم، فمن رضي بالعلم فقد خاض في جنّة حاضرة و [من رضي] بالجهل فقد رضي بنار

حاضرة.

ثمّ من اختار العلم يقال له بعد الموت: تعوّدت المقام في الجنّة فادخلها وللآخر: تعوّدت النار فادخلها.

ص: 37


1- لاحظ تفسير الرازي، ج 2، ص 185 - 186، ذيل الآية 31 من البقرة (2).

والدليل على أنّ العلم جنّة، والجهل نار أنّ كمال اللذّة في إدراك المحبوب(1)، وكمال الألم في البعد عن المحبوب فالجراحة إنّما تؤلم؛ لأنّها تُبعّد جزء من البدن عن جزء، والمحبوب من تلك الأجزاء هو الاجتماع. والإحراق بالنار أشدّ إيلاماً من الجرح ؛ لأنّ الجرح لا يفيد(2) إلّا تبعيد جزء معين عن جزء معين، والنار تغوص في جميع الأجزاء، و تقتضي تبعيد بعض الأجزاء عن بعض.(3)

وإذا تقرّر ذلك، فكلّما كان الإدراك أغوص وأشدّ، والمُدرِك أشرف وأكمل والمُدرَك أبقى وأنقى؛ فاللذّة أشرف. ولا شكّ أنّ محلّ اللذة هو الروح، وهو أشرف من البدن، وأنّ إدراك العقل أغوص وأشرف وأمّا المعلوم فلا شكّ أنّه أشرف؛ لأنّه هو الله ربّ العالمين، وجميع مخلوقاته من الملائكة وغيرهم، وجميع تكليفاته، وأيّ معلوم أشرف من ذلك (4)؟!

* * *

فإذا قد تطابق العقل والنقل على شرف العلم، وارتفاع محلّه، وعظم جوهره ونفاسة ذاته ولنقتصر من المقدّمة على هذا القدر.

ص: 38


1- ما أثبتناه مطابق للمصدر، ويقتضيه نسق العبارة، ومطابق أيضاً لما نقله صدر المتألهين (قدّس سرّه) في شرح أصول الكافي، ص 136، عن تفسير الرازي، ولكن في جميع النسخ المخطوطة والمطبوعة: «إدراك المخفيّات» بدل «إدراك المحبوب».
2- ما أثبتناه مطابق للمصدر، والمعنى يقتضيه أيضاً، وفي جميع النسخ: «لا يقبل» بدل «لايفيد»، وهو لا يرجع إلى محصّلٍ.
3- هذه الجملة وردت في المصدر هكذا: ... تبعيد جميع الأعضاء بعضها عن بعض» وهو أولى وأصحٌ.
4- تفسير الرازي، ج 2، ص 185 - 186 ، ذيل الآية 31 من البقرة (2) بما هو أبسط مما ذكره المؤلّف.

الباب الأوّل في آداب المعلم والمتعلّم

اشارة

و هی ثلاثة انواعٍ

ص: 39

ص: 40

النوع الأول: آداب اشتركا فيها

اشارة

و هی قسمان:

آدابهما في أنفسهما، وآدابهما في مجلس الدرس.

القسم الأول: آدابهما في أنفسهما
الأمر الأوّل: إخلاص النية لله تعالى
اشارة

أوّل ما يجب عليهما إخلاص النيّة لله تعالى في طلبه وبذله، فإنّ مدار الأعمال على النيّات، وبسببها يكون العمل تارةً خزفة لا قيمة لها، وتارةً جوهرة لا يعلم قيمتها لعظم قدرها وتارةً وبال على صاحبه مكتوب في ديوان السيّئات وإن كان بصورة الواجبات.

فيجب على كلّ منهما أن يقصد بعمله وجه الله تعالى وامتثال أمره، وإصلاح نفسه وإرشاد عباده إلى معالم دينه، ولا يقصد بذلك غرض الدنيا من تحصيل مالٍ أو جاءٍ أو شهرةٍ أو تميّزٍ عن الأشياء أو المفاخرة للأقران أو الترفّع على الإخوان، ونحو ذلك من

ص: 41

الأغراض الفاسدة التي تثمر الخذلان من الله تعالى وتوجب المقت، وتفوّت الدار الآخرة والثواب الدائم، فيصير من «الْأَخْسَرِينَ أَعْمَلاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوة الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعام».(1)

والأمر الجامع للإخلاص تصفية السرّ عن ملاحظة ما سوى الله تعالى بالعبادة؛ قال الله تعالى: «فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ».(2)

وقال تعالى: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ - إلى قوله - وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ»(3)؛ وقال تعالى: «فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ، فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا».(4).

قيل: نزلت في من يعمل العمل، ويحبّ أن يحمد عليه .(5)

وقال تعالى: «مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْأَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ، مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ».(6)

وقال: «مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن تُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ، جَهَنَّمَ يَصْلَها مَذْمُومًا مَّدْحُورًا».(7)

فصل 1: ما روي عن النبيّ في لزوم الإخلاص في طلب العلم

وقال النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم : «إنّما الأعمال بالنيّات وإنّما لكلّ امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة

ص: 42


1- الكهف (18): 103 - 104.
2- الزمر (39): 2-3
3- البينة (98): 5.
4- الكهف (18) 110
5- قاله ابن عبّاس كما في إحياء علوم الدين، ج 4، ص 321؛ وتفسير مجمع البيان، ج 6، ص 499. ذيل الآية 110 من الكهف (18)
6- الشورى (42): 20
7- الإسراء (17) 18

ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه».(1)

وهذا الخبر من أُصول الإسلام وأحد قواعده وأوّل دعائمه، قيل : وهو ثلث العلم(2). ووجّهه بعض الفضلاء(3) بأنّ كسب العبد يكون بقلبه ولسانه وبنانه، فالنيّة أحد أقسام كسبه الثلاثة، وهي أرجحها ؛ لأنّها تكون عبادة بانفرادها بخلاف القسمين الآخرين.

وكان السلف وجماعة من تابعيهم يستحبّون استفتاح المصنّفات بهذا الحديث تنبيهاً للمطّلع على حسن النيّة وتصحيحها، واهتمامه بذلك واعتنائه به.(4)

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «نيّة المؤمن خير من عمله». وفي لفظ آخر: «أبلغ من عمله».(5)

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «إنَّما يُبعث الناس على نياتهم»(6).

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم - مخبراً عن جبرئيل عن الله عزّ وجلّ أنه قال : «الإخلاص سرّ من أسراري استودعته قلب من أحببت من عبادي»(7).

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «إنّ أوّل الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجل استُشهد فأتِيَ به، فعرفه نِعَمَه ،فعرفها :قال فما عملت فيها ؟ قال قاتلت فيك حتّى استشهدت قال كذبت ولكنّك قاتلت ليقال جريءُ، فقد قيل ذلك. ثمّ أُمر به فسحب على وجهه حتّى أُلقي في النار. ورجل تعلّم العلم وعلّمه، وقرأ القرآن فأتي به فعرّفه نِعَمه فعرفها، قال: فما عملت

ص: 43


1- صحيح البخاري، ج 1، ص 17 - 18؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1413 ، ح 4227؛ شرح المهذب، ج 1، ص 28؛ سنن الدارقطني ، ج 1، ص 136، ح 1/127.
2- قاله الشافعي وأحمد كما في شرح صحيح البخاري، ج 1، ص 22؛ وشرح المهذب، ج 1، ص 28.
3- هو أبو بكر البيهقي، كما في شرح صحيح البخاري، ج 1، ص 22.
4- الأذكار، ص 6، وفيه: «للمطالع» بدل «للمطَّلِع»؛ شرح المهذب، ج 1، ص 28 - 29، وفيه: «للطالب» بدل «للمطلّع».
5- الكافي، ج 2، ص 84، باب النيّة، ح 2 ، وفيه: «خير من عمله»: الأمالي الشيخ الطوسي، ص 454، المجلس 16، 19/1013، وفيه: «أبلغ من عمله».
6- سنن ابن ماجة. ج 2، ص 1414 . ح .4229.
7- إحياء علوم الدين، ج 4 ص 322 .

فيها ؟ قال تعلّمت العلم وعلّمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت، ولكنّك تعلّمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: قارئ القرآن، فقد قيل ذلك. ثمّ أمر به فسحب على وجهه حتّى أُلقي في النار»(1).

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم: «من تعلّم علماً ممّا يُبتغي به وجه الله عزّ وجلّ، لا يتعلّمه إلّا ليصيب به غرضاً من الدنيا لم يجد عرفَ الجنّة يوم القيامة»(2).

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «من تعلّم علماً لغير الله وأراد به غير الله فليتبوّأ مقعده من النار»(3).

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «من طلب العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار»(4). وفي رواية: «فليتبوّأ مقعده من النار».(5)

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «لا تعلّموا العلم لتِمُاروا به السفهاء، وتجادلوا به العلماء؛ ولتصرفوا [به] وجوه الناس إليكم ، وابتغوا بقولكم ما عند الله فإنّه يدوم ويبقى وينفد ما سواه. كونوا ينابيع الحكمة، مصابيح الهدى، أحلاس البيوت(6)، سُرُجَ الليل، جُدَدَ القلوب خلقان الثياب، تعرفون في أهل السماء وتخفون في أهل الأرض».

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : « من طلب العلم لأربع دخل النار ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه، أو يأخذ به من الأمراء»(7).

ص: 44


1- شرح المهذّب، ج 1، ص 39؛ تفسير القرطبي، ج 1، ص 18؛ مسند أحمد، ج 2، ص 322؛ المستدرك على الصحيحين، ج 1، ص 107، مع زيادة واختلاف يسير في بعض الألفاظ في المصادر الثلاثة الأخيرة.
2- سنن ابن ماجة، ج 1، ص 92 - 93، ح 252؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 323، ح 3664؛ جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 232؛ کنز العمال، ج 10، ص 193، ح 29020 - وفي هذه المصادر: «عرضاً» بدل «غرضاً» ؛ شرح المهذب، ج 1، ص 39؛ المستدرك على الصحيحين، ج 1، ص 85، وفيهما: «غرضاً»، كالمتن.
3- الجامع الصحيح، ج 5، ص 33، ح 2655؛ سنن ابن ماجة، ج 1، ص 95 ، ح 258 ، وفيهما: «أو أراد» بدل «وأراد» وما أثبتناه مطابق لجميع النسخ؛ وفي الثاني: «من طلب العلم» بدل «من تعلّم علماً».
4- الجامع الصحيح، ج 5، ص 33، ح 2654؛ شرح المهذب، ج 1، ص 40.
5- شرح المهذب، ج 1، ص 40.
6- أخلاس: جمع حِلْس، وهو مِسْحٌ يُبسَط في البيت وتُجَلَّل به الدابة؛ ومن المجاز: كُنْ حِلْس بيتك، أي الزمه. أساس البلاغة، ص 92 جلس».
7- 7 و 8 سنن الدارمي، ج 1، ص 80 و 103

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «ما ازداد عبد علماً، فازداد في الدنيا رغبةً إلّا ازداد من الله بعداً».(1).

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «كلّ علم وبال على صاحبه يوم القيامة إلّا من عَمِلَ به»(2).

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه علمه»(3).

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «مثل الذي يعلّم الناس الخير، وينسى نفسه مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسه»(4). وفي رواية: «كمثل السراج»(5).

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «علماء هذه الأُمّة رجلان رجل آتاه الله علماً فبذله للناس، ولم يأخذ عليه طُعْماً، ولم يَشْرِ به ثمناً، فذلك يستغفر له حيتان البحر، ودوابّ البرّ والطير في جوّ السماء، ويقدُم على الله سيّداً شريفاً حتّى يرافق المرسلين. ورجل آتاه الله علماً فبخل به عن عباد الله، وأخذ عليه طُعماً، وشرى به ثمناً، فذلك يُلجَم يوم القيامة بلجام من نار، وينادي مناد: هذا الذي آتاه الله علماً، فبخل به عن عباد الله، وأخذ عليه طُعماً، واشترى به ثمناً، وكذلك حتّى يفرغ من الحساب»(6).

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «من كتم علماً اَلجَمه الله بلجام من النار»(7).

ص: 45


1- شرح المهذّب، ج 1، ص 40؛ سنن الدارمي، ج 1، ص 107 ، نسباه إلى سفيان؛ الجامع الصغير، ج 2، ص 162، حرف الميم، وفيه: «من ازداد علماً ولم يزدد في الدنيا زهداً، لم يزدد من الله إلّا بعداً».
2- الترغيب والترهيب، ج 1، ص 127، ح 14، مع زيادة في أوّله وسقوط «يوم القيامة» منه.
3- الترغيب والترهيب، ج 1، ص 127، ح 15؛ الجامع الصغير، ج 1، ص 42 حرف الهمزة كنز العمال، ج 10، ص 187، ح 28977؛ مجمع الزوائد، ج 1، ص 185
4- الترغيب والترهيب، ج 1، ص 126، ح 11؛ مجمع الزوائد، ج 1، ص 184.
5- الترغيب والترهيب، ج 1، ص 126 - 127، ح 13: مجمع الزوائد، ج 1، ص 184 - 185.
6- قوت القلوب، ج 1، ص 143 - 144: مجمع الزوائد، ج 1، ص 124؛ إحياء علوم الدين، ج 1، ص 55 مع اختلاف يسير. واعلم أن في نسخة الأصل - أعني ة» و «ه، ط ، ن»: «طعماً» - في ثلاثة موارد في الحديث - كما أثبتناه؛ ولكن في سائر النسخ وقوت القلوب وإحياء علوم الدين وكنز العمال ومجمع الزوائد: طمعاً بدل «طعماً» ولعلّ ما أثبتناه أنسب.
7- الفقيه والمتفقه ، ج 2، ص 182 : جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 5 : الترغيب والترهيب ، ج 1، ص 121، . ح 2 : ج 10، ص 217، ح 29147 : مجمع الزوائد، ج 1، ص 163 : المستدرك على الصحيحين ، ج 1، ص 102 .

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «العلم علمان: فعلم في القلب فذاك العلم النافع، وعلم على اللسان فذاك حجة الله على ابن آدم»(1).

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «إنّي لا أتخوّف على أُمّتي مؤمناً ولا مشركاً، فأمّا المؤمن، فيحجزه إيمانه؛ وأمّا المشرك فيقمعه كفره. ولكن أتخوّف عليكم منافقاً عليم اللسان، يقول ما تعرفون، ويعمل ما تنكرون»(2).

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «إنّ أخوف ما أخاف عليكم بعدي كلّ منافق عليم اللسان»(3).

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «ألّا إنّ شرّ الشرّ شرار العلماء، وإنّ خير الخير خيار العلماء».(4)

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «من قال أنا عالم فهو جاهل»(5).

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «يظهر الدين حتّى يجاوز البحار، وتخاض البحار في سبيل الله، ثمّ يأتي من بعدكم أقوام يقرؤون القرآن يقولون: قرأنا القرآن من أقرأُ منّا، ومن أفقه منّا، ومن أعلم منّا؟ «ثمّ التفت إلى أصحابه فقال: «هل في أُولئك من خير؟ قالوا: لا. قال: «أُولئك منكم من هذه الأمّة، وأُولئك هم وقود النار»(6).

فصل2: ما روي عن طريق الخاصّة في لزوم الإخلاص

ومن طريق الخاصّة روى الكليني بإسناده إلى عليّ علیه السلام قال: «قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم: منهومان لا يشبعان: طالب دنيا، وطالب علم؛ فمن اقتصر من الدنيا ما أحلّ الله له سلم،

ص: 46


1- سنن الدارمي ، ج 1، ص 102: إحياء علوم الدين، ج 1، ص :52 الجامع الصغير، ج 2، ص 70، حرف العين
2- الترغيب والترهيب، ج 1، ص 127 ؛ كنز العمال، ج 10، ص 199، ح 29046؛ مجمع الزوائد، ج 1، ص 187.
3- الترغيب والترهيب، ج 1، ص 128، ح .18.
4- سنن الدارمي ، ج 1، ص 104؛ إحياء علوم الدين، ج 1، ص 56
5- الترغيب والترهيب، ج 1، ص 130 ، ح 4؛ مسند الإمام موسی بن جعفر ، ص 50، ح 48؛ مجمع الزوائد ج 1، ص 186.
6- تفسير القرطبي، ج 1، ص 18؛ الترغيب والترهيب، ج 1، ص 129 - 130، ح 2: مجمع الزوائد، ج 1، ص 185 - 186.

ومن تناولها من غير حلّها هلك، إلّا أن يتوب ويراجع. ومن أخذ العلم من أهله وعمل به نجا، ومن أراد به الدنيا فهي حظّه»(1).

وبإسناده إلى الباقر علیه السلام : من طلب العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، فليتبوّأ مقعده من النار؛ إنّ الرئاسة لا تصلح إلّا لأهلها»(2).

وبإسناده إلى أبي عبد الله علیه السلام قال: «من أراد الحديث لمنفعة الدنيا لم يكن له في الآخرة ،نصيب، ومن أراد به خير الآخرة أعطاه الله خير الدنيا والآخرة»(3).وعنه علیه السلام: «إذا رأيتم العالم محبّاً للدنيا، فاتّهموه على دينكم، فإنّ كلّ محبٍّ لشيءٍ يحوط ما أحبّ وقال: أوحى الله تعالى إلى داود علیه السلام : لا تجعل بيني وبينك عالماً مفتوناً بالدنيا، فيصدّك عن طريق محبّتي، فإنّ أولئك قطّاع طريق عبادي المريدين، إنّ أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي من قلوبهم»(4).

وعنه علیه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه اله و وسلم : الفقهاء أُمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، قيل: يا رسول الله وما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتّباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم»(5).

وعنه علیه السلام قال: «طلبة العلم ثلاثة، فاعرفوهم بأعيانهم وصفاتهم: صنف يطلبه للجهل والمراء؛ وصنف يطلبه للاستطالة والختل؛ وصنف يطلبه للتفقّه والعمل: فصاحب الجهل والمراء مُؤذٍ مُمارٍ متعرّض للمقال في أندية الرجال بتذاكر العلم وصفة الحلم، قد تسربل بالخشوع وتخلّى من الورع فدقّ الله من هذا خيشومه وقطع منه حيزومه. وصاحب الاستطالة والختل ذو خبٍّ وملق، يستطيل على مثله من أشباهه، ويتواضع

ص: 47


1- الكافي، ج 1، ص 46 ، باب المستأكل بعلمه والمباهي به ح .1
2- الكافي، ج 1، ص 47، باب المستأكل بعلمه والمباهي به ح 6.
3- الكافي، ج 1، ص 46، باب المستأكل بعلمه والمباهي به ح 2
4- الكافي، ج 1، ص 46 ، باب المستأكل بعلمه والمباهي به ح .4
5- الكافي، ج 1، ص 46، باب المستأكل بعلمه والمباهي به ، ح 5.

للأغنياء من دونه، فهو لحلوانهم هاضم، ولدينه حاطم فأعمى الله على هذا خبره وقطع من آثار العلماء أثره. وصاحب الفقه [خل التفقّه] والعمل ذو كآبة وحزن وسهر، قد تحنّك في برنسه، وقام الليل فى حندسه يعمل ويخشى وجلا داعياً مشفقاً مقبلاً على شأنه عارفاً بأهل زمانه مستوحشاً من أوثق إخوانه، فشدّ الله من هذا أركانه وأعطاه يوم القيامة أمانه»(1).

وروى الصدوق في كتاب الخصال بإسناده إلى أبي عبد الله علیه السلام قال: «إنّ من العلماء من يحبّ أن يجمع علمه، ولا يحبّ أن يؤخذ عنه، فذاك في الدرك الأوّل من النار؛ ومن العلماء من إذا وعظ أنف، وإذا وعظ عنف، فذاك في الدرك الثاني من النار؛ ومن العلماء من يرى أن يضع العلم عند ذوي الثروة والشرف ولا يرى له في المساكين وضعاً، فذاك في الدرك الثالث من النار ومن العلماء من يذهب في علمه مذهب الجبابرة والسلاطين، فإن ردّ عليه و [خ ل: أو] قصّر في شيء من أمره غضب، فذاك في الدرك الرابع من النار؛ ومن العلماء من يطلب أحاديث اليهود والنصارى ليغزر به علمه ويكثر به حديثه، فذاك في الدرك الخامس من النار؛ ومن العلماء من يضع نفسه للفتيا ويقول: سلوني. ولعله لا يصيب حرفاً واحداً، والله لا يحب المتكلّفين، فذاك في الدرك السادس من النار ومن العلماء من يتخذ العلم مروّة وعقلاً فذاك في الدرك السابع من النار».(2)

فصل3: في لزوم الإخلاص من الآثار وكلام الأنبياء

وعن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم : أن موسى علیه السلام لقي الخضر(3) علیه السلام فقال: أوصني. فقال الخضر: يا طالب

ص: 48


1- الكافي، ج 1، ص 49، باب النوادر ، ح 5 ، وفيه: «للفقه والعقل» بدل للتفقه والعمل» في الموضعين.
2- الخصال، ص 352 ح 33؛ بحار الأنوار، ج 2، ص 108 - 109 نقلاً عن الخصال؛ وورد في تفسير الرازي، ج 2، ص 183 ، ذيل الآية 31 من البقرة (2) ونُسب إلى القيل.
3- قال الكرماني في شرح صحيح البخاري، ج 2، ص 43: الخضر، فتح الخاء وكسر الضاد، ويجوز إسكان الضاد مع كسر الخاء وفتحها كما جاء في نظائره وسبب التلقيب به ماجاء في... الخ.

العلم إنّ القائل أقلّ ملالة من المستمع، فلاتُمِلَّ جُلساءك إذا حدّثتهم، واعلم أنّ قلبك وعاء، فانظر ماذا تحشو به وعاءك، واعرف الدنيا وانبذها وراءك، فإنّها ليست لك بدار، ولا لك فيها محلّ قرار وإنّها جعلت بلغة للعباد ليتزوّدوا منها

للمعاد.

يا موسى وطّن نفسك على الصبر تلق الحلم، وأشعر قلبك التقوى تنل العلم، ورُض نفسك على الصبر تخلص من الإثم.

يا موسى تفرّغ للعلم إن كنت تريده فإنّما العلم لمن تفرّغ له، ولا تكوننّ مكثاراً بالمنطق مهذاراً ، إن كثرة المنطق تشين العلماء، وتبدئ مساوئ السخفاء، ولكن عليك بذي اقتصاد؛ فإنّ ذلك من التوفيق والسداد، وأعرض عن الجهّال، واحْلُم عن السفهاء، فإنّ ذلك فضل الحلماء وزين العلماء، إذا شتمك الجاهل فاسكت عنه سلماً، وجانبه حزما؛ فإنّ ما بقي من جهله عليك وشتمه إيّاك أكثر.

يا ابن عمران! لا تفتحنّ باباً لا تدري ما غلقه، ولا تغلقنّ باباً لا تدري ما فتحه.

يا ابن عمران من لا تنتهي عن الدنيا نهمته(1)، ولا تنقضي فيها رغبته كيف يكون عابداً؟ من يحقّر حاله ويتّهم الله بما قضى له كيف يكون زاهداً؟

يا موسى تعلّم ما تعلّم لتعمل به، ولا تعلّمه لتحدّث به، فيكون عليك بوره، ويكون على غيرك نوره»(2).

ومن كلام عيسى علیه السلام : «تعملون للدنيا وأنتم ترزقون فيها بغير عمل؟ ولا تعملون للآخرة، وأنتم لا ترزقون فيها إلّا بالعمل؟ وإنّكم(3) علماء السوء، الأجر تأخذون والعمل

ص: 49


1- النهمة بلوغ الهمة في الشيء لسان العرب، ج 12، ص 593 ، «نهم».
2- مجمع الزوائد، ج 1، ص 130 - 131؛ وج 10، ص 232 - 233 ؛ ونقله العلّامة المجلسي (قدّس سرّه) في بحار الأنوار، ج 1، ص 226 - 227، ح 18 عن منية المريد.
3- هكذا في جميع النسخ وسنن الدارمي ، ج 1، ص 103؛ ولكن في الكافي، ج 2، ص 319؛ والأمالي، الشيخ الطوسي، ص 208 ، المجلس 8، ح 6/356؛ وبحار الأنوار، ج 2، ص 109، ج 12، نقلاً عنه: «ويلكما علماء السوء» بدل «وإنّكم علماء السوء» ولعله أولى.

تضيّعون ؟ يوشك ربّ العمل أن يطلب عمله، وتوشكون أن تخرجوا من الدنيا العريضة إلى ظلمة القبر وضيقه الله تعالى نهاكم عن الخطايا كما أمركم بالصيام والصلاة. كيف يكون من أهل العلم من سخط رزقه واحتقر منزلته؟ وقد علم أنّ ذلك من علم الله وقدرته، كيف يكون من أهل العلم من أتّهم الله فيما قضى له، فليس يرضى شيئاً أصابه ؟ كيف يكون من أهل العلم مَنْ دنياه عنده آثر من آخرته، وهو مقبل على دنياه، وما يضرّه أحبّ إليه ممّا ينفعه؟ كيف يكون من أهل العلم مَنْ يطلب الكلام ليخبر به، ولا يطلب ليعمل به؟!.(1)

ومن كلامه (صلوات الله عليه): «ويل لعلماء السوء تصلى عليهم النار»(2).

ثمّ قال: «اشتدّت مؤونة الدنيا، ومؤونة الآخرة، أمّا مؤونة الدنيا، فإنّك لا تمدّ يدك إلى شيء منها إلّا وجدت فاجراً قد سبقك إليه، وأمّا مؤونة الآخرة، فإنّك لا تجد أعوانا يعينونك عليها»(3).

وأوحى الله تعالى إلى داود: یا داود لا تجعل بيني وبينك عالماً مفتوناً بالدنيا فيصدّك عن طريق محبتي، فإنّ أُولئك قطّاع طريق عبادي المريدين، إنّ أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي من قلوبهم.(4)

ص: 50


1- سنن الدارمي ، ج 1، ص 103. اعلم أنّ في الكافي، ج 2، ص 319 باب حب الدنيا والحرص عليها، ح 13؛ وتنبيه الخواطر، ج 2، ص 169؛ وأخلاق العلماء، ص 101؛ والأمالي الشيخ الطوسي، ص 207 - 208، المجلس 08 ح 6/356؛ وبحار الأنوار، ج 2، ص 109، ج 12 نقلاً عنه، أكثر هذه الجمل؛ وشطره الأخير في إحياء علوم الدين، ج 1، ص 54 وتمامه في سنن الدارمي كما مرّ.
2- الكافي، ج 1، ص 47، باب لزوم الحجة على العالم وتشديد الأمر عليه، ح 2 ، وفيه: «ويل للعلماء السوء كيف تلظّى عليهم النار».
3- تنبيه الخواطر، ج 2، ص 146، رواه عن أبي عبدالله (عليه الصلاة والسلام)، عن عيسى علیه السلام ؛ وروي عن الإمام موسى بن جعفر (سلام الله عليهما) في تحف العقول، ص 301 واعلم أنّ قوله: «اشتدّت مؤونة الدنيا ...» إلى آخر هحدیث مفرد، وقوله: «ويل لعلماء السوء كيف تصلى عليهم النار حديث آخر، وخلط بينهما المصنف بحيث يوهم أنهما حديث واحد.
4- الكافي، ج 1، ص 46، باب المستأكل بعلمه والمباهي به، ح 4.

وعن أبي ذرّ (رضي الله عنه) قال: من تعلّم علماً من علم الآخرة ليريد به عرضاً من عرض الدنيا لم يجد ريح الجنّة(1).

فصل [4: في مكايد الشيطان وأهميّة الإخلاص]

هذه الدرجة - وهي درجة الإخلاص - عظيمة المقدار كثيرة الأخطار، دقيقة المعنى، صعبة المرتقى، يحتاج طالبها إلى نظر دقيق، وفكر صحيح، ومجاهدة تامّة. وكيف لا يكون كذلك، وهو مدار القبول، وعليه يترتّب الثواب وبه تظهر ثمرة عبادة العابد وتعب العالم، وجدّ المجاهد.

ولو فكّر الإنسان في نفسه، وفتش عن حقيقة عمله لوجد الإخلاص فيه قليلاً، وشوائب الفساد إليه متوجّهة، والقواطع عليه ،متراكمة سيّما المتّصف بالعلم وطالبه، فإنّ الباعث الأكثري - سيّما في الابتداء لباغي العلم - طلب الجاه والمال والشهرة، وانتشار الصيت، ولذّة الاستيلاء، والفرح بالاستتباع واستثارة الحمد والثناء، وربما يلبس عليهم الشيطان مع ذلك، ويقول لهم: غرضكم نشر دين الله والنضال عن الشرع الذي شرعه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم.

والمظهر لهذه المقاصد يتبيّن عند ظهور أحدٍ من الأقران أكثر علماً منه وأحسن حالاً، بحيث يصرف الناس عنه، فلينظر حينئذ فإن كان حاله مع الموقّر له، والمعتقد لفضله أحسن، وهو له أكثر احتراماً، وبلقائه أشدّ استبشاراً ممّن يميل إلى غيره مع كون ذلك الغير مستحقّاً للموالاة؛ فهو مغرور، وعن دينه مخدوع وهو لا يدري كيف، وربما انتهى الأمر بأهل العلم إلى أن يتغايروا تغاير النساء فيشقّ على أحدهم أن يختلف بعض تلامذته إلى غيره وإن كان يعلم أنّه منتفع بغيره ومستفيد منه في دينه.

وهذا رشح الصفات المهلكة المستكنّة في سرّ القلب التي يظنّ العالم النجاة منها،

ص: 51


1- السرائر، ج 3، ص 636: بحار الأنوار، ج 2، ص 33، ح 28 نقلاً عن السرائر.

وهو مغرور في ذلك، وإنّما ينكشف بهذه العلامات ونحوها.

ولو كان الباعث له على العلم هو الدين لكان إذا ظهر غيره شريكاً، أو مستبدّاً أو معينا على التعليم لشكر الله تعالى إذ كفاه وأعانه على هذا المهمّ بغيره، وكثّر أوتاد الأرض، ومرشدي الخلق، ومعلّميهم دين الله تعالى ومحيي سنن المرسلين.

وربما لَبَس الشيطان على بعض العالمين ويقول: إنّما غمّك لانقطاع الثواب عنك، لا لانصراف وجوه الناس إلى غيرك، إذ لو رجعوا إليك أو اتّعظوا بقولك، وأخذوا عنك لكنت أنت المثاب واغتمامك لفوات الثواب محمود ولا يدري المسكين أنّ انقياده للحقّ وتسليمه الأمر الأفضل [خ ل: للأفضل] أجزل ثواباً، وأعود عليه في الآخرة من انفراده.

وليعلم أنّ أتباع الأنبياء والأئمّة لو اغتمّوا من حيث فوات هذه المرتبة لهم واختصاص أهلها بها، لكانوا مذمومين في الغاية، بل انقيادهم إلى الحقّ وتسليم الأمر إلى أهله أفضل الأعمال بالنسبة إليهم، وأعود عليهم في الدين.

وهذا كلّه من غرور الشيطان وخدعه، بل قد ينخدع بعض أهل العلم بغرور الشيطان، ويحدّث نفسه بأنّه لو ظهر من هو أولى منه لفرح به، وإخباره بذلك عن نفسه قبل التجربة والامتحان غرور، فإنّ النفس سهلة القياد في الوعد بأمثال ذلك قبل نزول الأمر. ثمّ إذا دهاه الأمر تغيّر ورجع، ولم يف بالوعد إلّا من عصمه الله تعالى، وذلك لا يعرفه إلّا من عرف مكايدة النفس، وطال اشتغاله بامتحانها(1).

ومن أحسّ في نفسه بهذه الصفات المهلكة، فالواجب عليه طلب علاجها من أرباب القلوب، فإن لم يجدهم، فمن كتبهم المصنّفة في ذلك. وإن كان كلا الأمرين قد امتحى أثره، وذهب ،مخبره ، ولم يَبْقَ إِلّا خبره، يسأل الله المعونة والتوفيق. فإن عجز عن ذلك فالواجب عليه الانفراد والعزلة، وطلب الخمول والمدافعة مهما سُئل، إلّا أن

ص: 52


1- لاحظ إحياء علوم الدين، ج 4 ص 325

يحصل على شريطة التعلم والعلم.

وربّما يأتيه الشيطان هنا من وجه آخر ويقول هذا الباب لو فتح لاندرست العلوم وخرب الدين من بين الخلق، لقلّة الملتفت إلى الشرائط والمتلبس بالإخلاص، مع أنّ عمارة الدين من أعظم الطاعات. فليُجِبه حينئذٍ بأنّ دين الإسلام لا يندرس بسبب ذلك ما دام الشيطان يحبّب إلى الخلق الرئاسة، وهو لا يفتر عن عمله إلى يوم القيامة، بل ينتهض لنشر العلم أقوام لا نصيب لهم في الآخرة، كما قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم: «إنّ الله يؤيّد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم»(1).

وقوله صلى الله عليه و آله و سلّم : «إنّ الله يؤيّد هذا الدين بالرجل الفاجر»(2).

فلا ينبغي ان يغترّ بهذه التلبيسات فيشتغل بمخالطة الخلق حتّى يتربّى في قلبه حبّ الجاه والثناء والتعظيم، فإنّ ذلك بذر النفاق ؛ وقال صلى الله عليه و آله و سلّم: حبّ الجاه والمال ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل(3).

وقال صلى الله عليه و آله و سلّم: «ما ذئبان ضاريان أُرسلا في زريبة غنم بأكثر فساداً فيها من حبّ الجاه والمال في دين المرء المسلم»(4).

فليكن فكره في التفطّن لخفايا هذه الصفات من قلبه، وفي استنباط طريق الخلاص

ص: 53


1- إحياء علوم الدين، ج 1، ص 43: الجامع الصغير، ج 1، ص 74، حرف الهمزة؛ وشرحه فيض القدير، ج 2، ص 279 ، ح 1938 مجمع الزوائد، ج 5، ص 302؛ الكافي، ج 5، ص 19، باب من يجب عليه الجهاد ومن لا يجب، ح 1.
2- صحيح مسلم، ج 1، ص 106، ح 111/178؛ مسند أحمد، ج 2، ص 309؛ سنن الدارمي، ج 2، ص 241؛ إحياء علوم الدين، ج 1، ص 43 مجمع الزوائد، ج 5، ص 302، 303، ج 7، ص 213.
3- إحياء علوم الدین، ج 3، ص 200، 241؛ تنبيه الخواطر، ج 1، ص 155، 256؛ اعلم أن العراقي قال في المغني ج 3، ص 200 - المطبوع بهامش الإحياء : حديث حب المال و.... لم أجده بهذا اللفظ.
4- 4 . سنن الدارمي، ج 2، ص 304 : إحياء علوم الدين، ج 3، ص 200، 241؛ مسند أحمد، ج 3، ص 456: جامع بيان العلم وفضله، ج 2، ص 14 - 15 - وفي هذه المصادر الأربعة: «جائعان» بدل «ضاريان» ؛ تنبيه الخواطر، ج 1، ص 155، 183، 256؛ ومثله في الكافي، ج 2، ص 297، باب طلب الرئاسة، ح 1، عن أبي الحسن علیه السلام: وانظر مجمع الزوائد، ج 10، ص 250

منها، فإنّ الفتنة والضرر بهذه الصفات من العالم والمتعلّم أعظم منها في غيره بمراحل، فإنّه مُقتدى به فيما يأتي ويذر، فيقول الجاهل: لو كان ذلك مذموماً لكان العلماء أولى باجتنابه منّا. فيتلبسون بهذه الأخلاق الذميمة إلّا أنّ بين الذنبين بوناً بعيداً، فإنّ الجاهل يأتي القيامة بذنبه والعالم يأتي بذنبه الذي فعله وذنب من تأسى واقتدى بطريقته إلى يوم القيامة، كما ورد في الأخبار الصحيحة(1).

وبالجملة، فمعرفة حقيقة الإخلاص، والعمل به بحر عميق يغرق فيه الجميع إلّا الشاذّ النادر المستثنى في قوله تعالى: «إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ»(2) فليكن العبد شديد التفقّد والمراقبة لهذه الدقائق، وإلّا التحق بأتباع الشياطين وهو لا يشعر؟.(3)

ص: 54


1- لعلّه يريد الأخبار التي وردت بهذه المضامين ونحوها: أ) تحف العقول، ص 217، عن أبي جعفر علیه السلام: «من علَّمَ باب هدى فله مثل أجر من عمل به ولا ينقص أولئك من أجورهم شيئاً، ومن عَلَّمَ باب ضلال كان عليه مثل أوزار من عمل به ولا ينقص أولئك من أوزارهم شيئاً ؛ ب) بحار الأنوار، ج 2، ص 24، ح 75، نقلاً عن الاختصاص: قال العالم علیه السلام: «من استنّ بسنةٍ حسنةٍ فله أجرها وأجر من عمل بها، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن استنّ بِسنَّةٍ سَيِّئَةٍ فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء»؛ ج) بحار الأنوار، ج 2، ص 24 . ح 76 - نقلاً عن نوادر الرواندي بأسناده عن موسى بن جعفر عن آبائه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه آله وسلم : من يشفع شفاعة حسنة، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، أو دل على خير، أو أشار به فهو شريك، ومن أمر بسوء، أو دلّ عليه، أو أشار به فهو شريك».
2- الحجر (15): 40
3- لاحظ إحياء علوم الدين، ج 4، ص 325
الأمر الثاني: استعمال العلم
اشارة

استعمال ما يعلمه كلّ منهما شيئاً فشيئاً، فإنّ العاقل همُّه الرعاية، والجاهل هَمُّه الرواية، وقد روي عن عليّ علیه السلام أنّه قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم : العلماء رجلان: رجلٌ عالمٌ آخذُ بعلمه، فهذا ناج، وعالم تارك لعلمه، فهذا هالك وإنّ أهل النار ليتأذّون من ريح العالم التارك لعلمه. وإنّ أشدّ أهل النار ندامة وحسرة رجل دعا عبداً إلى الله تبارك و تعالى فاستجاب له وقبل منه، فأطاع الله فأدخله الجنّة، وأدخل الداعي النار بتركه علمه واتّباعه الهوى، وطول الأمل؛ أمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ، وطول الأمل ينسي الآخرة»(1).

وعن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إنّ العالم إذا لم يعمل بعلمه زلّت موعظته عن القلوب كما يزلِّ المطر عن الصفا»(2).

وجاء رجل إلى عليّ بن الحسين علیه السلام فسأله عن مسائل فأجاب، ثمّ عاد ليسأل مثلها، فقال عليّ بن الحسين علیه السلام : «مكتوب في الإنجيل: لا تطلبوا علم ما لا تعلمون ولمّا تعملوا بما علمتم، فإنّ العلم إذا لم يعمل به لم يزد صاحبه إلّا كفراً، ولم يزدد من الله إلّا بعداً»(3).

وسأل المفضّل بن عمر أبا عبدالله علیه السلام فقال: بم يعرف الناجي؟ قال: من كان فعله لقوله موافقاً فأنت له بالشهادة، ومن لم يكن فعله لقوله موافقاً، فإنّما ذلك مستودَع.(4)

ص: 55


1- الكافي، ج 1، ص 44 باب استعمال العلم، ج 1.
2- الكافي، ج 1، ص 44 باب استعمال العلم، ح 3.
3- الكافي، ج 1 ، ص 44، باب استعمال العلم، ح4، وفيه: «لم يزدد صاحبه» بدل «لم يزد صاحبه».
4- الكافي، ج 1، ص 45، باب استعمال العلم، ح ، وفيه: «فأثبَتَ له الشهادة بدل «فأنت له بالشهادة»؛ وانظر شرح الحديث واختلاف النسخ في مرآة العقول، ج 1 ، ص 144.

وقال أمير المؤمنين علیه السلام في كلام له خطبه على المنبر: «أيّها الناس إذا علمتم فاعملوا بما علمتم لعلّكم تهتدون، إنّ العالم العامل بغيره كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق عن جهله، بل قد رأيت أنّ الحجّة عليه أعظم والحسرة أدوم على هذا العالم المنسلخ من علمه منها على هذا الجاهل المتحيّر في جهله، وكلاهما حائر بائر، لا ترتابوا فتشكّوا ولا تشكّوا فتكفروا، ولا ترخَّصوا لأنفسكم فتدهنوا ولا تدهنوا في الحقّ فتخسروا، وإنّ من الحقّ أن تفقّهوا ومن الفقه أن لا تغترّوا، وإنّ مَنْ أنصحكم لنفسه أطوعكم لربّه، وأغشّكم [النفسه] أعصاكم لربّه، ومَنْ يطع الله يأمن ويستبشر، ومَنْ يعص الله يخب ویندم»(1).

وعن أبي عبد الله علیه السلام قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه و اله و سلم فقال: يا رسول الله ما العلم؟ فقال: الإنصات. قال ثمّ مه يا رسول الله؟ قال: الاستماع قال: ثمّ مه؟ قال: الحفظ. :قال ثمّ مه يا رسول الله؟ قال: العمل به قال ثمّ مه يا رسول الله؟ قال: نشرُه»(2).

وعن أبي عبد الله علیه السلام قال: «كان لموسى بن عمران علیه السلام جليساً [ظ: جليسٌ] من أصحابه قد وعى علماً كثيراً، فاستأذن موسى في زيارة أقارب له، فقال له موسى: إنّ لصلة القرابة لحقّاً، ولكن إيّاك أن تركن إلى الدنيا، فإنّ الله قد حمّلك علماً فلا تضيّعه وتركن إلى غيره. فقال الرجل: لا يكون إلّا خيراً. ومضى نحو أقاربه، فطالت غيبته، فسأل موسى علیه السلام عنه، فلم يخبره أحد بحاله، فسأل جبرئيل علیه السلام عنه فقال له: أخبرني عن جليسي فلان ألك به علم؟ قال: نعم هو ذا(3) على الباب قد مسخ قرداً في عنقه سلسلة. ففزع موسى علیه السلام إلى ربّه وقام إلى مصلّاه يدعو الله، ويقول: يا ربّ صاحبي وجليسي؟ فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا موسى لو دعوتني

ص: 56


1- الكافي، ج 1، ص 45، باب استعمال العلم، ح .6 . وفي النسخ المخطوطة و «ه»: «كالجاهل الخائن» بدل «كالجاهل الحائر»، وما أثبتناه مطابق للمصدر و«ط» وبعض النسخ الأخر؛ وأيضاً في المصدر: «وإنّ أَنْصَحَكُمْ» بدل «وإنّ من أنصحكم».
2- الكافي، ج 1، ص 48، باب النوادر ، ح 4.
3- انظر معنى هذه الكلمة وتفسيرها في تعاليق الأستاذ المحقق حسن زاده الأملي على كشف المراد، ص 580 - 581

حتّى تنقطع ترقوتاك ما استجبت لك فيه، إنّي كنت حمّلته علماً، فضيّعه وركن إلى غيره»(1).

وروى أبو بصير عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «قال أمير المؤمنين علیه السلام: يا طالب العلم إنّ العلم ذو فضائل كثيرة، فرأسه التواضع وعينه البراءة من الحسد، وأُذنه الفهم، ولسانه الصدق، وحفظه الفحص وقلبه حسن النيّة، وعقله معرفة الأسباب والأُمور، ويده الرحمة، ورجله زيارة العلماء، وهمّته ،السلامة وحكمته الورع، ومستقرّه النجاة، وقائده العافية، ومركبه الوفاء، وسلاحه لين الكلمة وسيفه الرضى وقوسه المداراة وجيشه محاورة العلماء وماله الأدب، وذخيرته اجتناب الذنوب، ورداؤه المعروف، ومأواه الموادعة، ودليله الهدى ورفيقه محبّة الأخيار»(2).

وفي حديث عنوان البصري(3) - الطويل - عن الصادق علیه السلام: «ليس العلم بكثرة التعلّم

ص: 57


1- قوت القلوب، ج 1، ص 144؛ إحياء علوم الدين، ج 1، ص 55، مع اختلاف كثير في الألفاظ، ولم أقف عليه بنصّ ألفاظه ؛ ونقل في بحار الأنوار، ج 2، ص 40، عن منية المريد فقط.
2- الكافي، ج 1، ص 48، باب النوادر ، ح 2 ، وفيه: «وزاده المعروف» بدل «رداؤه المعروف».
3- حديث عنوان البصري مرويّ في مشكاة الأنوار، ص 325 - 328؛ وبحار الأنوار، ج 1، ص 224 - 226، ونحن تنقله هنا بطوله - لمافيه من الفائدة - عن بحار الأنوار. قال العلامة المجلسي (قدس الله نفسه الزكية): أق--ول: وجدتُ بخط شيخنا البهائي (قدس الله روحه) ما هذا لفظه قال الشيخ شمس الدين محمد بن مكي: نقلتُ من خط الشيخ أحمد الفراهاني (رحمه الله) عن عنوان البصري - وكان شيخاً كبيراً قد أتى عليه أربع وتسعون سنة - قال: كنتُ أختلف إلى مالك بن أنس سنين، فلما قدم جعفر الصادق المدينة، اختلفتُ إليه وأحببت أن آخذ عنه كما أخذتُ عن مالك. فقال لي يوماً: إني رجل مطلوب ومع ذلك لي أوراد في كلّ ساعة من آناء الليل والنهار. فلا تشغلني عن وردي، وخذ عن مالك، واختلف إليه كما كنتَ تختلف إليه ؛ فاغتممتُ من ذلك وخرجت من عنده وقلت في نفسي: لو تفرّس في خيراً لما زجرني عن الاختلاف إليه والأخذ عنه، فدخلت مسجد الرسول صلى الله عليه وآله و سلم وسلّمتُ عليه، ثم رجعت من الغد إلى الروضة وصلَّيتُ فيها ركعتين، وقلتُ أسألك يا الله يا الله أن تعطفَ عليّ قلب جعفر وترزقني من علمه ما أهتدي به إلى صراطك المستقيم. ورجعت إلى داري مغتماً ولم أختلف إلى مالك بن أنس لما أشرب قلبي من حب جعفر، فما خرجتُ من داري إلا إلى الصلاة المكتوبة حتى عيل صبري، فلمّا ضاق صدري تنقلتُ وتردّيتُ وقصدت جعفراً وكان بعد ما صلَّيتُ العصر. فلمّا حضرت باب داره استأذنت عليه فخرج حادم له فقال ما حاجتك؟ فقلت : السلام على الشريف، فقال: هو قائم في مصلاه، فجلست بحذاء بابه فما لبثت إلّا يسيراً إذ خرج خادم فقال: ادخل على بركة الله، فدخلت وسلّمتُ عليه، فردّ السلام وقال: اجلس غفر الله لك، فجلست فأطرق مليّاً، ثمّ رفع رأسه، وقال: أبو من؟ قلت: أبو عبدالله، قال: ثبََتَ الله كنيتك ووفَّقك، يا أبا عبدالله ما مسألتك؟ فقلت في نفسي: لولم يكن لي من زيارته والتسليم غير هذا الدعاء لكان كثيراً. ثمّ رفع رأسه، ثمّ قال: ما مسألتك ؟ فقلتُ : سألتُ الله أن يعطف قلبك عليّ ويرزقني من علمك، وأرجو أنّ الله تعالى أجابني في الشريف ما سألته، فقال: يا أبا عبدالله ! ليس العلم بالتعلّم، إنّما هو نورٌ يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديَه، فإنْ أرَدتَ العلم فاطلب أوّلاً في نفسك حقيقة العبوديّة، واطلب العلم باستعماله، واستفهم الله يفهمك قلتُ: يا شريف فقال: قل يا أبا عبدالله قلت يا أبا عبدالله ما حقيقة العبوديّة؟ قال: ثلاثة أشياء: أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله الله ملكاً؛ لأنّ العبيد لا يكون لهم ملك ، يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله به، ولا يدبر العبد لنفسه تدبيراً، وجملة اشتغاله فيما أمره تعالى به ونهاه عنه، فإذا لم ير العبد لنفسه فيما أمرهم الله به، ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيراً، وجملة اشتغاله فيما أمره تعالى به ونهاه عنه، فإذا لم يَرَ العبد لنفسه فيما خوّله الله تعالى ملكاً هان عليه الإنفاق فيما أمره الله تعالى وأن ينفق فيه، وإذا فوَّضَ العبد تدبير نفسه على مدبّره هان عليه مصائب الدنيا، وإذا اشتغل العبد بما أمره الله تعالى ونهاه لا يتفرغ منهما إلى المراء والمباهاة مع الناس، فإذا أكرم الله الله العبد بهذه الثلاثة هان عليه الدنيا، وإبليس، والخلق، ولا يطلب الدنيا تكاثراً وتفاخراً، ولا يطلب ما عند الناس عزّاً وعُلواً، ولا يدع أيامه باطلاً، فهذا أول درجة التقى، قال الله تبارك وتعالى: «تِلْكَ الدَّارُ الْأَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَنقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» [القصص (28): 83]. قلت: يا أباعبدالله! أوصني، قال: أوصيك بتسعة أشياء فإنّها وصيتي لمريدي الطريق إلى الله تعالى، والله أسأل أن يوفقك لاستعماله، ثلاثة منها في رياضة النفس، وثلاثة منها في الحلم، وثلاثة منها في العلم فاحفظها وإياك والتهاون بها. قال عنوان: ففرغتُ قلبي له. فقال: أما اللواتي في الرياضة: فإيّاك أن تأكل مالا تشهيه فإنّه يورث الحماقة والبَله، ولا تأكل إلا عند الجوع، وإذا أكلتَ فكل حلالاً وسم الله، واذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه. فإن كان ولا بد فثلث الطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه». [سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1111، ح 3349] . وأمّا اللواتي في الحلم فمن قال لك: إن قلت واحدةً سمعتَ عشراً، فقل: إن قلتَ عشراً لم تسمع واحدةَ، ومن شَتَمك فقل له : إن كنت صادقاً فيما تقول فأسألُ الله أن يغفرَ لي، وإن كنت كاذباً فيما تقول فالله أسألُ أن يغفر لك، ومن وَعَدَك بالخنى فعده بالنصيحة والدعاء. وأمّا اللواتي في العلم فاسأل العلماء ما جهلت، وإياك أن تسألهم تَعَنتاً وتجربة، وإيّاك أن تعمل برأيك شيئاً، وخذ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلاً، واهرب من الفُتيا هربك من الأسد، ولا تجعل رقبتك للناس جسراً. قم عنّى يا أبا عبدالله فقد نصحت لك ولا تفسد عليَّ ،وردي، فإنّي امرء ضنينٌ بنفسي، والسلام على اتّبع الهدى.

إنّما هو نور يقع في قلب من يريد الله أن يهديه، فإن أردت العلم، فاطلب أوّلاً في

نفسك حقيقة العبودية واطلب العلم باستعماله، واستفهم الله يفهمك».

ص: 58

فصل [1: في بيان أنّ الغرض من طلب العلم هو العمل]

اعلم أنّ العلم بمنزلة الشجرة، والعمل بمنزلة الثمرة، والغرض من الشجرة المثمرة ليس إلا ثمرتها أمّا شجرتها بدون الاستعمال، فلا يتعلّق بها غرض أصلاً، فإنّ الانتفاع بها في أي وجه كان ضرب من الثمرة بهذا المعنى.

وإنّما كان الغرض الذاتي من العلم مطلقاً العمل ؛ لأنّ العلوم كلّها ترجع إلى أمرين: علم ،معاملة، وعلم معرفة. فعلم المعاملة هو معرفة الحلال والحرام ونظائرهما من الأحكام، ومعرفة أخلاق النفس المذمومة والمحمودة، وكيفيّة علاجها والفرار منها. وعلم المعرفة كالعلم بالله تعالى وصفاته وأسمائه وما عداهما من العلوم إمّا آلات لهذه العلوم أو يراد بها عمل من الأعمال في الجملة، كما لا يخفى على من تتبّعها. وظاهر أنّ علوم المعاملة لا تراد إلّا للعمل، بل لو لا الحاجة إليه لم يكن لها قيمة.

وحينئذٍ فنقول(1) : المحكم للعلوم الشرعيّة ونحوها، إذا أهمل تفقّد جوارحه وحفظها عن المعاصي، وإلزامها الطاعات، وترقّيها من الفرائض إلى النوافل، ومن الواجبات إلى السنن اتّكالاً على اتّصافه بالعلم، وأنّه في نفسه هو المقصود؛ مغرور في نفسه، مخدوع عن دينه ملبّس عليه عاقبة أمره، وإنّما مثله مثل مريض به علّة لا يزيلها إلّا دواء مركّب من أخلاط كثيرة، لا يعرفها إلّا حذّاق الأطبّاء، فسعى في طلب الطبيب بعد أن هاجر عن وطنه حتّى عثر على طبيب حاذق، فعلّمه الدواء، وفصّل له الأخلاط وأنواعها ومقاديرها، ومعادنها التي منها تُجلب، وعلّمه كيفيّة دقّ كلّ واحد منها، وكيفيّة خلطها وعجنها، فتعلّم ذلك منه. وكتب منه نسخةً حسنةً بحسن خطٍّ، ورجع إلى بيته، وهو يكرّرها ويقرأها، ويعلّمها المرضى، ولم يشتغل بشربها واستعمالها، أفَتَرى أنّ ذلك يغني عنه من مر من مرضه شيئاً؟! ضه شيئاً؟! هيهات لو كتب منه ألف نسخة، وعلّمه ألف مريض حتّى

ص: 59


1- لاحظ إحياء علوم الدين، ج 3، ص 334 - 335؛ تنبيه الخواطر، ج 1، ص 219 - 221

شفى جميعهم، وكرّره كلّ ليلة ألف مرّةٍ لم يغنه ذلك من مرضه شيئاً إلى أن يزن الذهب، ويشتري الدواء ويخلطه كما تعلّم، ويشربه، ويصبر على مرارته، ويكون شربُه في وقته، وبعد تقديم الاحتماء، وجميع شروطه، وإذا فعل جميع ذلك كلّه، فهو على خطر م-ن شفائه، فكيف إذا لم يشربه أصلاً؟ هكذا الفقيه إذا أحكم علم الطاعات، ولم يعمل بها وأحكم علم المعاصي الدقيقة والجليلة، ولم يجتنبها، وأحكم علم الأخلاق المذمومة. وما زكّى نفسه منها، وأحكم علم الأخلاق المحمودة، ولم يتّصف بها، فهو مغرور في نفسه مخدوع عن دينه، إذ قال الله تعالى: «قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّنها»(1). ولم يقل: قد أفلح من تعلّم كيفيّة تزكيتها، وكتب علمها، وعلّمها الناس.

وعند هذا يقول له الشيطان لا يغرّنّك هذا المثال فإنّ العلم بالدواء لا يزيل المرض وأمّا أنت فمطلبك القرب من الله تعالى ،وثوابه والعلم يجلب الثواب؛ ويتلو عليه الأخبار الواردة في فضائل العلم فإن كان المسكين معتوهاً مغروراً وافق ذلك هواه فاطمأنّ إليه وأهمل، وإن كان كيّساً، فيقول للشيطان أتذكّرني فضائل العلم، وتنسيني ما ورد في العالم الذي لا يعمل بعلمه، كقوله تعالى - في وصفه مشيراً إلى بلعم بن باعورا، الذي كان في حضرته اثنا عشر ألف محبرة يكتبون عنه العلم، مع ما آتاه الله من الآيات المتعدّدة التي كان من جملتها أنّه كان بحيث إذا نظر يرى العرش(2) كما نقله جماعة من العلماء - : «فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَتْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث».(3)

وقوله تعالى في وصف العالم التارك لعلمه: «مَثَلُ الَّذِينَ حُمّلُوا التَّوْرَنةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا» أي لم يفعلوا الغاية المقصودة من حملها، وهو العمل بها - «كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً».(4)

ص: 60


1- الشمس .(91) 9
2- تفسير القرطبي ، ج 7، ص 319 - 321؛ تفسير البحر المحيط، ج 4، ص 422، ذيل الآية 175 من الأعراف (7).
3- الأعراف (7): 176
4- الجمعة (62) 5

فأيّ خزي أعظم من تمثيل حاله بالكلب والحمار؟! وقد قال صلی الله علیه و آله و سلّم : «من ازداد علماً ولم يزدد هدئ لم يزدد من الله إلّا بعداً».(1)

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «يُلقى العالم في النار فتندلق أقتابه(2)، فيدور به [ظ: بها] كما يدور الحمار في الرحا».(3)

وكقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «شرّ الناس العلماء السوء».(4)

وقول أبي الدرداء: ويل للّذي لا يعلم مرّةً، ولو شاء الله لعلّمه، وويل للّذي يعلم [ ولا يعمل](5) سبع مرّات(6). أي أنّ العلم حجّة عليه، إذ يقال له: ما ذا عملت فيما علمت؟ وكيف قضيت شكر الله تعالى؟

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «إنّ أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه».(7)

ص: 61


1- إحياء علوم الدين، ج 1، ص 52 : ج 3، ص 334: تنبيه الخواطر، ج 1، ص 220؛ عدة الداعي، ص 65؛ بحار الأنوار، ج 2، ص 37، ح 5، نقلاً عنه ميزان العمل، ص 115
2- قال في لسان العرب، ج 1، ص 661، «قتب»: القتب والقتب: المعي، أنثى، والجمع أقتاب... وقيل: القتب: ما تحوّى من البطن، يعنى استدار، وهي الحوايا، وأما الأمعاء فهي الأقصاب، وفي الحديث: «فتندلق أقتاب بطنه»؛ وقال أيضاً في ج 2، ص 102، «دلق»: اندلق بطنه استرخى وخرج متقدماً، وطعنه فاندلقت أقتاب بطنه: خرجت أمعاؤه. وفي الحديث... يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، قال أبو عبيد: الاندلاق خروج الشيء من مكانه يريد خروج أمعائه من جوفه. وقد علق محمّد مصطفى عماره محقق کتاب الترغيب والترهيب على الحديث بقوله: أي أمعاؤه تخرج من بطنه ويمرّ عليها كما يدور الحمار برحاه. الترغيب والترهيب، ج 1، ص 124 ، الهامش.
3- إحياء علوم الدين، ج 3، ص 334؛ وفي صحيح مسلم، ج 4، ص 2291، ح 2989/51؛ ومسند أحمد، ج 5، ص 207،205؛ والترغيب والترهيب، ج 1، ص 124، ح 2؛ وتفسير ابن كثير، ج 1، ص 90، مثله بالمعنى وتقارب اللفظ؛ وفي جميع هذه المصادر: «فیدوربها» بدل «فیدورربه».
4- إحياء علوم الدين، ج 3، ص 334 تنبيه الخواطر، ج 1، ص 220
5- زيادة لازمة من المصدر، أعني إحياء علوم الدين وأيضاً حلية الأولياء.
6- حلية الأولياء، ج 1، ص 211؛ إحياء علوم الدين، ج 3، ص 334؛ تنبيه الخواطر، ج 1، ص 220؛ جامع بیان العلم وفضله، ج 2، ص 6 : وفي فيض القدير، ج 5، ص 510 : قال أبو الدرداء: ويل لمن لا يعلم مرة وويل لمن علم ولم يعمل ألف مرّة.
7- إحياء علوم الدين، ج 1، ص 3 : ج 3، ص 334؛ تنبیه الخواطر، ج 1، ص 220؛ مجمع الزوائد، ج 1، ص 185.

فهذا وأمثاله ممّا قد أسلفناه في صدر هذا الباب وغيره أكثر من أن يحصى. والذي أخبر بفضيلة العلم هو الذي أخبر بذمّ العلماء المقصرين في العمل بعلمهم وأنّ حالهم عند الله أشدّ من حال الجهال «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ».(1)وأمّا علم المعرفة بالله تعالى وما يتوقّف عليه من العلوم العقليّة، فمثل العالم به المهمل للعمل المضيّع لأمر الله تعالى وحدوده في شدّة غروره، مثل من أراد خدمة ملكٍ، فعرف الملك، وعرف أخلاقه وأوصافه ولونه وشكله وطوله وعرضه وعادته و مجلسه، ولم يتعرّف ما يحبّه ويكرهه ويغضب عليه، وما يرضى به؛ أو عرف ذلك إلّا أنّه قصد خدمته، وهو ملابس لجميع ما يغضب به، وعاطل عن جميع ما يحبّه من زيّ وهَيَّأة وحركةٍ وسكون، فوَرَد على الملك، وهو يريد التقرّب منه والاختصاص به متلطّخاً بجميع ما يكرهه الملك، عاطلاً عن جميع ما يحبّه، متوسّلاً إليه بمعرفته له ولنسبه واسمه وبلده وشكله ،وصورته وعادته في سياسة غلمانه ومعاملة رعيّته.

بل هذا مثال العالم بالقسمين معاً، التارك لما يعرفه وهو عين الغرور، فلو ترك هذا العالم جميع ما عرفه، واشتغل بأدنى معرفته وبمعرفة ما يحبّه ويكرهه، لكان ذلك أقرب إلى نيله المراد من قربته والاختصاص به بل تقصيره في العمل، واتّباعه للشهوات يدلّ على أنّه لم ينكشف له من المعرفة إلّا الأسامي دون المعاني، إذ لو عرف الله حقّ معرفته لَخَشِيه واتقاه، كما نبه الله عليه بقوله: «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَماء».(2)

ولا يتصوّر أن يعرف الأسد عاقل، ثمّ لا يتّقيه ولا يخافه، وقد أوحى الله تعالى إلى

داود علیه السلام : «خفني كما تخاف السبع الضاري».(3)

ص: 62


1- البقرة (2) 85
2- فاطر (35): 28
3- إحياء علوم الدين، ج 3، ص 335؛ تنبيه الخواطر، ج 1، ص 221

نعم من يعرف من الأسد لونه وشكله واسمه قد لا يخافه، وكأنّه ما عرف الأسد.

وفي فاتحة الزبور: رأس الحكمة خشية الله تعالى.(1)

فصل :[2 في الغرور في طلب العلم والمغتزين من أهل العلم]

وللعالم في تقصيره في العمل بعد أخذه بظواهر الشريعة، واستعمال ما دوّنه الفقهاء من الصلاة والصيام والدعاء وتلاوة القرآن وغيرها من العبادات ضروب أُخَر؛ فإنّ الأعمال الواجبة عليه، فضلاً عن غير الواجبة، غير منحصرة فيما ذكر، بل من الخارج عن الأبواب التي رتّبها الفقهاء ما هو أهمّ ومعرفته أوجب، والمطالبة به والمناقشة عليه أعظم، وهو تطهير النفس عن الرذائل الخلقيّة من الكبر والرياء والحسد والحقد، وغيرها من الرذائل المهلكات ممّا هو مقرّر في علوم تختصّ به، وحراسة اللسان عن الغيبة والنميمة، وكلام ذي اللسانين، وذكر عيوب المسلمين وغيرها وكذا القول في سائر الجوارح؛ فإنّ لها أحكاماً تخصّها وذنوباً مقرّرة في محالّها لابدّ لكلّ أحد من تعلّمها وامتثال حكمها وهي تكليفات لا توجد في كتاب البيوع والإجارات وغيرها من كتب الفقه، بل لابدّ من الرجوع فيها إلى علماء الحقيقة العاملين، وكتبهم المدوّنة في ذلك.

وما أعظم اغترار العالم بالله تعالى في رضاه بالعلوم الرسميّة، وإغفاله إصلاح نفسه

وإرضاء ربّه تبارك وتعالى.

وغرور مَنْ هذا شأنه يظهر لك من حيث العلم ومن حيث العمل(2) : أمّا العمل، فقد ذكرنا وجه الغرور فيه وأنّ مثاله مثال المريض إذا تعلّم نسخة الدواء، واشتغل بتكراره وتعليمه، لا بل مثاله مثال مَنْ به علّة البواسير والبرسام، وهو مشرف على الهلاك،

ص: 63


1- إحياء علوم الدين، ج 3، ص 335 تنبيه الخواطر، ج 1، ص 221 : الفقيه، ج 4، ص 272، ح 828 عن النبي صلی الله علیه و آله و سلّم : رأس الحكمة مخافة الله عزّوجلّ».
2- لاحظ إحياء علوم الدين، ج 3، ص 338 - 339

محتاج إلى تعلّم الدواء واستعماله، فاشتغل بتعلم دواء الاستحاضة، وتكرار ذلك ليلاً ونهاراً، مع علمه بأنّه رجل لا يحيض ولا يستحيض، ولكنّه يقول: ربما يقع علّة الاستحاضة لامرأةٍ، وتسألني عنه؛ وذلك غاية الغرور، حيث ترك تعلّم الدواء النافع لعلّته مع استعماله، ويشتغل بما ذكرناه.

كذلك المتفقّه المسكين قد تسلّط عليه اتّباع الشهوات، والإخلاد إلى الأرض،(1) والحسد والرياء والغضب والبغضاء والعجب بالأعمال التي يظنّها من الصالحات، ولو فتش عن باطنها وجدها من المعاصي الواضحات، فليلتفت إلى قوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «أدنى الرياء الشرك».(2)

وإلى قوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «لا يدخل الجنّة من [كان] في قلبه مثقال ذرةٍ من كبرٍ».(3)

وإلى قوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب».(4)

وإلى قوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «حبّ المال والشرف ينبتان النفاق كما ينبت الماء البقل».(5)

إلى غير ذلك من الأخبار المدوّنة في أبواب هذه المهلكات.

وكذلك يترك استعمال الدواء لسائر المهلكات الباطنة، وربما يختطفه الموت قبل التوبة والتلافي، فيلقى الله وهو عليه غضبان؛ فترك ذلك كلّه، واشتغل بعلم النحو وتصريف الكلمات، والمنطق وبحث الدلالات وفقه الحيض والاستحاضات، والسَّلَم والإجارات واللعان والجراحات والدعاوي والبيّنات، والقصاص والديات، ولا يحتاج إلى شيءٍ من ذلك في مدّة عمره إلّا نادراً، وإن احتاج إليه أو احتاج إليه غيره فهو من

ص: 64


1- تعبير لطيف مستفادُ من الآية 176 من سورة الأعراف (7): ... وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَنهُ ....
2- المستدرك على الصحيحين، ج 3، ص 270؛ إحياء علوم الدين، ج 3، ص 335، وفيهما: «شرك» بدل «الشرك».
3- صحیح مسلم، ج 1، ص 93، ح 91/147؛ إحياء علوم الدين، ج 3، ص 335.
4- الترغيب والترهيب، ج 3، ص 547 ؛ إحياء علوم الدين، ج 3، ص 335؛ الجامع الصغير، ج 1 ص 151، حرف الحاء روضة الواعظين، ج 2، ص 424.
5- إحياء علوم الدین، ج 3، ص 200، 241، 335؛ تنبيه الخواطر، ج 1، ص 155، 256 : قال العراقي في ج 3، ص 200 - المطبوع بهامش الإحياء : حديث حبّ المال و... لم أجده بهذا اللفظ.

فروض الكفايات؛ وغفل مع ذلك عن العلوم التي هي فرض عيني بإجماع المسلمين.

فغاية تلك العلوم إذا قصد بها وجه الله تعالى العظيم، وثوابه الجسيم أنّها فرض كفاية، ومرتبة فرض الكفاية بعد تحصيل فرض العين؛ فلو كان غرض هذا الفقيه العالم بعلمه وجه الله تعالى، لاشتغل في ترتيب العلوم بالأهمّ فالأهمّ، والأنفع فالأنفع؛ فهو إمّا غافل مغرور، وإمّا مراءٍ في دينه ،مخدوع، طالب للرئاسة والاستعلاء، والجاه والمال فيجب عليه التنبّه لدواء إحدى العلّتين قبل أن تقوى عليه وتهلكه.

وليعلم مع ذلك أيضاً أنّ مجرّد تعلّم هذه المسائل المدوّنة ليس هو الفقه عند الله تعالى وإنّما الفقه عن الله(1) تعالى بإدراك جلاله وعظمته، وهو العلم الذي يورث الخوف والهيبة والخشوع ويحمل على التقوى ومعرفة الصفات المخوفة فيجتنبها، والمحمودة فيرتكبها، ويستشعر الخوف ويستثير الحزن، كما نبّه الله تعالى عليه في كتابه بقوله: «فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ».(2)

والذي يحصل به الإنذار غير هذا العلم المدوّن؛ فإنّ مقصود هذا العلم حفظ الأموال بشروط المعاملات، وحفظ الأبدان بالأموال وبدفع القتل والجراحات، والمال في طريق الله آلة، والبدن مَرْكَب؛ وإنّما العلم المهمّ هو معرفة سلوك الطريق إلى الله تعالى، وقطع عقبات القلب التي هي الصفات المدمومة، وهي الحجاب بين العبد وبين الله تعالى فإذا مات ملوّثاً بتلك الصفات كان محجوباً عن الله تعالى ومن ثمّ كان العلم موجباً للخشية، بل هي منحصرة في العالم كما نبّه عليه تعالى بقوله: «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ

ص: 65


1- كذا في أكثر النسخ ونسخة ة» ولكن في بعضها عند الله» بدل «عن الله». قال الغزالي في إحياء علوم الدين ج 3، ص 339. ... وترك علم تهذيب الأخلاق وترك الفقه عن الله تعالى بإدراك جلاله وعظمته وهو العلم الذي يورث الخوف والهيبة والخشوع ويحمل على التقوى... وسبب غروره ماسمع في الشرع من تعظيم الفقه ولم يدر أنّ ذلك الفقه هو الفقه عن الله ومعرفة صفاته المخوفة والمرجوّة ليستشعر القلب الخوف ويلازم التقوى
2- التوبة .(9) 122

عِبَادِهِ الْعُلَمَؤُا»(1). أعم من أن يكونوا فقهاء أو غير فقهاء.

ومثال هذا الفقيه في الاقتصار على علم الفقه المتعارف مثال من اقتصر من سلوک طريق الحجّ على علم خرز(2) الراوية والخُفّ، ولا شكّ أنّه لو لم يكن لتعطّل الحجّ، ولكنّ المقتصر عليه ليس من الحاجّ في شيء. كذلك هذا الرجل لو لم يتعلّم هذه العلوم لتعطّلت معرفة الأحكام، إلّا أنّها ليست المنجية بنفسها، كما حرّرناه بل هي مقدِمةللمقصد الذاتي.

وإذا كان هذا مثال حال الفقيه العارف بشرع الله ورسوله وأئمّته ومعالم دين فكيف حال من يصرف عمره في معرفة عالم الكون والفساد الذي مآله محض الفساد، والاشتغال بمعرفة الوجود، وهل هو نفس الموجودات أو زائد عليها أو مشترك بينها، أو غير ذلك من المطالب التي لا ثمرة لها، بل لم يحصل لهم حقيقة ما طلبوا معرفته فضلاً عن غيره.

وإنّما مثالهم في ذلك مثال ملكٍ اتّخذ عبيداً، وأمرهم بدخول داره والاشتغال بخدمته و تكميل نفوسهم فيما يوجب الزلفى لدى حضرته واجتناب ما يبعّد من جهته؛ فلمّا أدخلهم داره ليشتغلوا بما أمرهم به أخذوا ينظرون إلى جدران داره وأرضها وسقفها حتّى صرفوا عمرهم في ذلك النظر وماتوا، ولم يعرفوا ما أراد منهم في تلك الدار؛ فكيف ترى حالهم عند سيّدهم المنعم عليهم المسدي جليل إحسانه إليهم مع هذا الإهمال العظيم لطاعته، بل الانهماك الفظيع في معصيته ؟! واعلم(3) أنّ مثال هؤلاء أجمع مثال بيتٍ مظلمٍ باطنه، وضع السراج على سطحه حتّى استنار ظاهره؛ بل مثال بئر الحُش(4)؛ ظاهرها جصّ وباطنها نتن؛ أو كقبور الموتى

ص: 66


1- فاطر (35) 28
2- خرزتُ الجلدَ خززاً، من باب ضرب وقتل؛ وهو كالخياطة في الثياب والخرز معروف، الواحدة خرزة مثل قصب وقصبة ، وخرز الظهر فقاره المصباح المنير، ص 200، «خرز».
3- لاحظ إحياء علوم الدين، ج 3، ص 335 - 336.
4- الحُش: موضع قضاء الحاجة. راجع المصباح المنير، ص 165 - 166؛ ولسان العرب، ج 6، ص 286، «حشش».

ظاهرها مزينة وباطنها جيفة؛ وكمثال رجل قصد ضيافة الملك إلى داره فجصّص باب داره، وترك المزابل في صدر داره، وذلك غرور واضح جليّ. بل أقرب مثال إليه: رجل زرع زرعاً فنبت، ونبت معه حشيش يفسده، فأُمر بتنقية الزرع عن الحشيش بقلعه من ،أصله، فأخذ يجزّ رأسه ويقطعه، فلا يزال يقوى أصله وينبت؛ لأن مغارس النقائص ومنابت الرذائل هي الأخلاق الذميمة في القلب، فمن لا يطهر القلب منها لم تتمّ له الطاعات الظاهرة إلّا مع الآفات الكثيرة. بل كمريض ظهر به الجرب، وقد أُمر بالطلاء وشرب الدواء: أمّا الطلاء ليزيل ما على ظاهره، والدواء ليقلع مادّته من باطنه، فقنع بالطلاء وترك الدواء، وبقي يتناول ما يزيد في المادة، فلا يزال يطلي الظاهر، والجرب دائماً يتزايد فى الباطن إلى أن أهلكه.

نسأل الله تعالى أن يصلحنا لأنفسنا ويبصرنا بعيوبنا، وينفعنا بما علمنا ولا يجعله حجّة علينا؛ فإنّ ذلك بيده، وهو أرحم الراحمين.

فصل [3: في شرائط إخلاص النيّة واستعمال العلم]

ولكلّ واحدٍ منهما شرائط متعدّدة، ووظائف متبدّدة بعد هذين(1) إلّا أنّها بأسرها ترجع إلى الثاني - أعني استعمال العلم - فإنّ العلم متناول لمكارم الأخلاق وحميد الأفعال، والتنزّه عن مساوئها، فإذا استعمله على وجهه أوصله إلى كلّ خيرٍ يمكن طلبه وأبعده عن كلّ دنيّةٍ تشينه.

ص: 67


1- يعني الأمر الأول والثاني، وهما إخلاص النية واستعمال العلم.
الأمر الثالث: في التوكّل على الله تعالى والاعتماد عليه

فممّا يلزم كلّ واحد منهما - بعد تطهير نفسه من الرذائل المذكورة وغيرها - توجيه نفسه إلى الله تعالى والاعتماد عليه في أُموره وتلقّي الفيض الإلهي من عنده فإنّ العلم - كما تقدّم من كلام الصادق علیه السلام (1): «ليس بكثرة التعلّم، وإنّما هو نور من الله تعالى ينزله على من يريد أن يهديه».

وأن يتوكّل عليه ويفوّض أمره إليه، ولا يعتمد على الأسباب فيوكّل إليها وتكون وبالاً عليه، ولا على أحد من خلق الله تعالى، بل يلقي مقاليد أمره إلى الله تعالى في أمره ورزقه وغيرهما، يظهر عليه حينئذٍ من نفحات قدسه، ولحظات أنسه ما يقوم به أوده(2)، ويحصل مطلبه، ويصلح به أمره. وقد ورد في الحديث عن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم : «أنّ الله تعالى قد تكفّل لطالب العلم برزقه خاصّةً عمّا ضمنه لغيره».(3)

بمعنى أنّ غيره يحتاج إلى السعي على الرزق حتّى يحصل غالبا وطالب العلم لا يكلّفه بذلك بل بالطلب، وكفاه مؤونة الرزق إن أحسن النيّة، وأخلص العزيمة.

وعندي في ذلك من الوقائع والدقائق ما لو جمعته بلغ ما يعلمه الله من حسن صنع الله تعالى بي وجميل معونته منذ اشتغلت بالعلم، وهو مبادئ عشر الثلاثين وتسع -

ص: 68


1- تقدّم في ص 5857.
2- فيه أوَدُ، أي عوجٌ. أساس البلاغة، ص 12، «أود».
3- الجامع الصغير، ج 2، ص 175، حرف الميم؛ وفيه: «من طلب العلم تكفَّلَ الله برزقه.»؛ وفي إحياء علوم الدين، ج 1، ص 6؛ وتعليم المتعلم، ص 20: «من تفقه في دين الله كفاه الله تعالى ما أهمه ورزقه من حيث لا يحتسب».

مائة إلى يومي هذا، وهو منتصف شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين وتسع مائة وبالجملة فليس الخبر كالعيان.

وروى شيخنا المتقدّم محمّد بن يعقوب الكليني (قدّس الله روحه) بإسناده إلى الحسين بن علوان قال: كنّا في مجلسٍ نطلب فيه العلم، وقد نفدت نفقتي في بعض الأسفار، فقال لي بعض أصحابنا: من تؤمّل لما قد نزل بك؟ فقلت: فلاناً. فقال: إذن والله لا تسعف حاجتك، ولا يبلغك أملك، ولا تنجح طلبتك. قلت: وما علمك رحمك الله؟ قال: إنّ أبا عبد الله علیه السلام حدّثني أنّه قرأ في بعض الكتب: «أنّ الله تبارك وتعالى يقول: وعزّتي وجلالي ومجدي وارتفاعي على عرشي لأقطّعن أمل كلّ مؤمّل غيري باليأس، ولأكسونّه ثوب المذلّة عند الناس، ولأنحينّه من قربي، ولأبعّدتّه من وصلي، أيؤمّل غيري في الشدائد والشدائد بيدي ويرجو غيري ويقرع بالفكر باب غيري؟! وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة، وبابي مفتوح لمن دعاني، فمن الذي أمّلني لنوائبه فقطّعته دونها؟ ومن الذي رجاني لعظيمة فقطعت رجاءه منّي؟ جعلت آمال عبادي عندي محفوظة، فلم يرضوا بحفظي، وملأت سماواتي ممّن لا يملّ من تسبيحي، وأمرتهم أن لا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي، فلم يثقوا بقولي، ألم يعلم من طرقته نائبة من نوائبي أنّه لا يملك كشفها أحد غيري، إلّا من بعد إذني، فما لي أراه لاهياً عني ؟! أعطيته بجودي ما لم يسألني ما لم يسألني، ثمّ انتزعته عنه، فلم يسألني ردّه، وسأل غيري أفيراني أبدأ بالعطاء قبل المسألة، ثمّ أُسأل فلا أُجيب سائلي؟! أبخيل أنا فيبخّلني عبدي؟! أوليس الجود والكرم لي؟ أوليس العفو والرحمة بيدي؟ أو ليس أنا محلّ الآمال؟ فمن يقطعها دوني؟ أ فلا يخشى المؤمّلون أن يؤمّلوا غيري؟ فلو أنّ أهل سماواتي وأهل أرضي أمّلوا جميعاً، ثمّ أعطيت كلّ واحد منهم مثل ما أمّل الجميع ما انتقص من ملكي مثل عضو ذرّة، وكيف ينقص ملك أنا قيّمه؟ فيا بؤساً للقانطين من رحمتي، ويا بؤساً لمن عصاني ولم يراقبني».(1)

ص: 69


1- الكافي، ج 2، ص 66 - 67، باب التفويض إلى الله والتوكل عليه، ح 7.

ورواه الشيخ المبرور (رحمة الله عليه)(1) بسند آخر عن سعيد بن عبد الرحمن، وفي آخره فقلت يا ابن رسول الله أمل عليّ. فأملاه عليّ، فقلت: لا والله ما أسأله حاجة بعدها(2).

أقول: ناهيك بهذا الكلام الجليل الساطع نوره من مطالع النبوّة على أفق الإمامة من الجانب القدسيّ حانّاً على التوكّل على الله تعالى، وتفويض الأمر إليه والاعتماد في جميع المهمّات عليه، فما عليه مزيد من جوامع الكلام في هذا المقام.

وهذا هو الأمر الثالث من الآداب.

ص: 70


1- يعني الشيخ الكليني (قدّس سرّه).
2- الكافي، ج 2، ص 67، باب التفويض إلى الله والتوكل عليه، ح 8.
[الأمر] الرابع حسن الخلق - زيادةً على غيرهما من الناس - والتواضع وتمام الرفق وبذل الوسع في تكميل النفس

-زیادة علی غیرهما(1) من الناس-

والتواضع و تمام الرفق و بذل الوسع فی تکمیل النفس

روى معاوية بن وهبٍ قال: سمعت أبا عبد الله يقول علیه السلام «اطلبوا العلم وتزيّنوا معه بالحلم والوقار، وتواضعوا لمن تعلّمونه العلم، وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم ولا تكونوا علماء جبّارين، فيذهب باطلكم بحقّكم».(2)

وروى الحلبي في الصحيح(3) عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «قال أمير المؤمنين علیه السلام : ألا أُخبركم بالفقيه حقّ الفقيه ؟ من لم يقنّط الناس من رحمة الله، ولم يؤمّنهم من عذاب الله، ولم يرخّص لهم في معاصي الله ولم يترك القرآن رغبة عنه في غيره، ألا لا خير في علم ليس فيه تفهّم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبّر، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفكّر».(4)

واعلم أنّ المتلبّس بالعلم منظور إليه، ومتأسّى بفعله وقوله وهيأته، فإذا حسن سمته، وصلحت أحواله وتواضعت نفسه، وأخلص لله تعالى عمله، انتقلت أوصافه إلى

ص: 71


1- يعني المعلَّمَ والمتعلَّمَ.
2- الكافي، ج 1، ص 36 ، باب صفة العلماء، ح 1.
3- أي في الخبر الصحيح كمالا يخفى على من له أدنى دربة؛ ولقد توهّم بعضُ مترجمي منية المريد بالفارسيّة توهّماً فاسداً، فقال: يعني في الخبر الصحيح أو الكتاب الصحيح وهذا لعمري غلط فاحشُ وزللٌ فاضحٌ وخطأ واضح لا ينبغى أن يصدر ممنّ يتصدّى لترجمة منية المريد.
4- الكافي، ج 1، ص 36، باب صفة العلماء، ج 3، وفيه: «رغبةً عنه إلى غيره» بدل رغبة عنه في غيره».

غيره من الرعيّة، وفشا الخير فيهم وانتظمت أحوالهم، ومتى لم يكن كذلك كان الناس دونه في المرتبة التي هو عليها فضلاً عن مساواته، فكان مع فساد نفسه منشأ لفساد النوع وخلله. وناهيك بذلك ذنباً وطرداً عن الحقّ وبعداً. ويا ليته إذا هلك انقطع عمله، وبطل ،وزره بل هو باقٍ ما بقي من تأسّى به واستنّ بسنّته.

وقد قال بعض العارفين:

إنّ عامّة الناس أبداً دون المتلبس بالعلم بمرتبة فإذا كان ورعاً تقيّاً صالحاً تلبّست العامّة بالمباحات، وإذا اشتغل بالمباح تلبّست العامّة بالشبهات، فإن دخل في الشبهات تعلّق العامّي بالحرام فإن تناول الحرام كفر العامّي(1). وكفى شاهداً على صدق هذه العيان وعدول الوجدان، فضلاً عن نقل الأعيان.

ص: 72


1- تفسير الرازي، ج 2، ص 185 ، ذيل الآية 31 من البقرة (2).
الأمر الخامس عفّة النفس والتجنّب عن الملوك وأهل الدنيا

أن يكون عفيف النفس عاليّ الهمّة، مُنقَبِضاً عن الملوك وأهل الدنيا، لا يدخل إليهم طمعاً ما وجد إلى الفرار منهم سبيلاً؛ صيانةً للعلم عمّا صانه السلف. فمن فعل ذلك فقد عرض نفسه وخان أمانته، وكثيراً ما يثمر عدم الوصول إلى البغية، وإن وصل إلى بعضها لم يكن حاله كحال المتعفّف المنقبض، وشاهده مع النقل الوجدان.

قال بعض الفضلاء لبعض الأبدال:

ما بال كبراء زماننا وملوكها لا يقبلون منّا، ولا يجدون للعلم مقداراً، وقد كانوا في سالف الزمان بخلاف ذلك ؟ فقال : إنّ علماء ذلك الزمان كان يأتيهم الملوك والأكابر وأهل الدنيا فيبذلون لهم دنياهم ويلتمسون منهم علمهم، فيبالغون في دفعهم وردّ منّتهم عنهم، فصغرت الدنيا في أعين أهلها وعظم قدر العلم عندهم؛ نظراً منهم إلى أنّ العلم لولا جلالته ونفاسته ما آثره هؤلاء الفضلاء على الدنيا، ولو لا حقارة الدنيا وانحطاطها لما تركوها رغبةً عنها. ولمّا أقبل علماء زماننا على الملوك وأبناء الدنيا وبذلوا لهم علمهم التماساً لدنياهم، عظمت الدنيا في أعينهم وصغر العلم لديهم لعين ما تقدّم(1).

ص: 73


1- أخلاق العلماء، ص 100. وفيه: ... سمعت وهب بن منبه يقول لعطاء الخراساني: كان العلماء قبلنا استغنوا بعلمهم عن دنيا غيرهم، فكانوا لا يلتفتون إلى دنياهم فكان أهل الدنيا يبذلون لهم دنياهم رغبة في علمهم فأصبح أهل العلم منا اليوم يبذلون لأهل الدنيا علمه رغبة في دنياهم، فأصبح أهل الدينا قد زهدوا في علمهم لما رأوا من سوء موضعه عندهم. وعلى هذا فلعلّ مراد المؤلّف من بعض العلماء عطاء الخراساني ومن بعض الأبدال وهب بن منبّه. وجاء نظير هذا الكلام في سنن الدارمي ، ج 1، ص 155 وانظر أيضاً أخلاق العلماء، ص 100؛ وجامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 229 ، 231 والبيان والتبيين، ص 453.

وقد سمعت جملةً من الأخبار في ذلك سابقاً. كقول النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم : «الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا - قيل يا رسول الله وما دخولهم في الدنيا قال - اتّباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم».(1)

وغيره من الأحاديث.

واعلم أنّ القدر المذموم من ذلك ليس هو مجرّد اتّباع السلطان كيف اتّفق، بل اتّباعه ليكون توطئةً له و وسيلة إلى ارتفاع الشأن، والترفّع على الأقران وعظم الجاه والمقدار وحبّ الدنيا والرئاسة ونحو ذلك؛ أمّا لو اتّبعه ليجعله وصلة إلى إقامة نظام النوع وإعلاء كلمة الدين و ترويج الحقّ وقمع أهل البدع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك، فهو من أفضل الأعمال فضلاً عن كونه مرخّصاً؛ وبهذا يجمع بين ما ورد من الذمّ وما ورد أيضاً من الترخيص في ذلك(2)، بل من فعل جماعة من الأعيان كعليّ بن يقطين وعبد الله النجاشي وأبي القاسم بن روح أحد الأبواب الشريفة ومحمّد بن إسماعيل بن بزيع ونوح بن درّاج(3)، وغيرهم من أصحاب الأئمّة، ومن الفقهاء مثل السيّدين الأجلّين المرتضى والرضي وأبيهما والخواجه نصير الدين الطوسي، والعلّامة بحر العلوم جمال الدين بن المطهّر وغيرهم.

وقد روى محمّد بن إسماعيل بن بزيع - وهو الثقة الصدوق - عن الرضا علیه السلام أنّه قال: «إنّ لله تعالى بأبواب الظالمين من نوّر الله به البرهان ومكّن له في البلاد، ليدفع بهم عن

ص: 74


1- الكافي، ج 1، ص 46، باب المستأكل بعلمه والمباهي به ح 5؛ بحار الأنوار، ج 2، ص 36، ح 38، نقلاً عن نوادر الراوندي.
2- مرّ آنفاً بعض ما ورد من الذم ويأتي بعيد هذا بعض ما ورد من الترخيص في ذلك.
3- انظر ترجمة هولاء الرواة الأعاظم في معجم رجال الحديث، ج 12، ص 227 240: وج 10، ص 358 - 362؛ وج 5، ص 236 : وج 15، ص 95 - 102؛ وج 19، ص 179 – 181 ؛ وانظر أيضاً رجال النجاشي، ص 273، الرقم 715، وص 213، الرقم 555، و ص 102، الرقم 254؛ وللاطلاع على ترجمة وتاريخ حياة أبي القاسم بن روح راجع الغيبة، الشيخ الطوسي، ص 241223.

أوليائه ويصلح الله به أُمور المسلمين؛ لأنّه ملجأ المؤمنين من الضرر، وإليه يفزع ذو الحاجة من شيعتنا، بهم يؤمن الله روعة المؤمن في دار الظلمة، أُولئك المؤمنون حقاً، أولئك أمناء الله في أرضه، أُولئك نور الله تعالى في رعيّتهم يوم القيامة، ويزهر نورهم لأهل السماوات، كما تزهر الكواكب الزهريّة لأهل الأرض، أُولئك من نورهم نور القيامة تضيء منهم القيامة، خلقوا والله للجنّة وخلقت الجنّة لهم، فهنيئاً لهم، ما على أحدكم أن لو شاء لنال هذا كلّه». قال: قلت: بماذا جعلني الله فداك؟ قال: «تكون معهم فتسرّنا بإدخال السرور على المؤمنين من شيعتنا فكن منهم يا محمّد».(1)

واعلم أنّ هذا ثواب كريم، لكنّه موضع الخطر الوخيم والغرور العظيم، فإنّ زهرة الدنيا وحبّ الرئاسة والاستعلاء، إذا نبتا في القلب غطيا عليه كثيراً من طرق الصواب والمقاصد الصحيحة الموجبة للثواب فلابدّ من التيقّظ في هذا الباب.(2)

ص: 75


1- رجال النجاشي، ص 331 - 332، الرقم 893 في ترجمة محمد بن إسماعيل بن بزيع، مع اختلاف يسير جداً في بعض الألفاظ منها: «الكواكب الدرية» بدل «الكواكب الزهريّة».
2- قال المحدّث الجزائري (رحمه الله) في الأنوار النعمانية، ج 3، ص 342:.... ومن هذا بعد عنه العلماء الأعلام وقد حدثني أوثق مشايخي أن السيد الجليل محمد صاحب المدارك والشيخ المحقق الشيخ حسن صاحب المعالم قد تركا زيارة المشهد الرضوي على ساكنه أفضل الصلوات، خوفاً من أن يكلفهم الشاه عباس الأوّل بالدخول عليه... ولم يأتيا إلى بلاد العجم احترازاً من ذلك المذكور.
الأمر السادس القيام بشعائر الإسلام وظواهر الأحكام

[الامر] السادس(1)

[القیام بشعائر الاسلام و ظواهر الاحکام]

أن يحافظ على القيام بشعائر الإسلام وظواهر الأحكام، كإقامة الصلوات مساجد الجماعات محافظاً على شريف الأوقات، وإفشاء السلام للخاصّ والعامّ مبتدئاً ومجيباً، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى بسبب ذلك، صادعاً بالحقّ، باذلاً نفسه لله، لا يخاف لومة لائم، متأسياً في ذلك بالنبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم وغيره من الأنبياء، متذكّراً ما نزل بهم من المحن عند القيام بأوامر الله تعالى.

ولا يرضى من أفعاله الظاهرة والباطنة بالجائز، بل يأخذ نفسه بأحسنها وأكملها؛ فإنّ العلماء هم القدوة وإليهم المرجع، وهم حجّة الله تعالى على العوامّ. وقد يراقبهم للأخذ منهم من لا ينظرون إليه، ويقتدي بهم من لا يعلمون به. وإذا لم ينتفع العالم بعلمه فغيره أبعد عن الانتفاع به، ولهذا عظمت زلّة العالم لما يترتّب عليها من المفاسد.

ويتخلّق بالمحاسن التي ورد بها الشرع وحثّ عليها، والخِلال(2) الحميدة والشّيم المرضيّة من السخاء والجود وطلاقة الوجه من غير خروج عن الاعتدال وكظم الغيظ، وكفّ الأذى واحتماله، والصبر والمروّة، والتنزّه عن دنيّ الاكتساب والإيثار وترك الاستئثار والإنصاف وترك الاستنصاف وشكر المفضل(3)، والسعي في قضاء

ص: 76


1- لاحظ تذكرة السامع، ص 20 - 21، 23 - 24.
2- الخلَّة: مثل الخصْلَة وزناً ومعنيّ، والجمع: خلال المصباح المنير، ص 216، «خلل». ..
3- هكذا في النسخ ولكن في تذكرة السامع ص 23: «شكر التفضَّل» بدل «شكر المُفضل». والمُفضل اسم فاعل من أفضل عليه، أي أحسَنَ إليه.

الحاجات وبذل الجاه والشفاعات، والتلطّف بالفقراء، والتحبّب إلى الجيران والأقرباء، والإحسان إلى ما ملكت الأيمان، ومجانبة الإكثار من الضحك والمزاح، والتزام الخوف والحزن والانكسار والإطراق والصمت بحيث يظهر أثر الخشية على هيأته وسيرته وحركته وسكونه ونطقه وسكوته. لا ينظر إليه ناظر إلّا وكان نظره مذكّراً لله تعالى وصورته دليلاً على علمه.

وملازمة الآداب الشرعية القوليّة والفعليّة الظاهرة والخفيّة، كتلاوة القرآن متفكّراً في معانيه ممتثلاً لأوامره، منزجراً عند زواجره واقفا عند وعده ووعيده، قائماً بوظائفه وحدوده؛ وذكر الله تعالى بالقلب واللسان، وكذلك ما ورد من الدعوات والأذكار في آناء الليل والنهار ونوافل العبادات من الصلاة والصيام وحجّ البيت الحرام؛ ولا يقتصر من العبادات على مجرّد العلم، فيقسو قلبه ويظلم نوره كما تقدّم التنبيه عليه(1). وزيادة التنظيف بإزالة الأوساخ، وقصّ الأظفار وإزالة الشعور المطلوب زوالها، واجتناب الروائح الكريهة، وتسريح اللحية، مجتهداً في الاقتداء بالسنة الشريفة، والأخلاق الحميدة المنيفة.

ويطهّر نفسه من مساوئ الأخلاق وذميم الأوصاف: من الحسد والرئاء والعجب و احتقار الناس وإن كانوا دونه بدرجات والغلّ والبغي والغضب لغير الله و والغشّ والبخل والخبث والبطر والطمع والفخر والخيلاء والتنافس في الدنيا والمباهاة بها والمداهنة والتزيّن للناس وحبّ المدح بما لم يفعل، والعمى عن عيوب النفس والاشتغال عنها بعيوب الناس والحميّة والعصبيّة لغير الله والرغبة والرهبة لغيره، والغيبة والنميمة والبهتان والكذب والفحش في القول.

ولهذه الأوصاف تفصيل وأدوية وترغيب وترهيب، محرّر في مواضع تخصّه؛ والغرض من ذكرها هنا تنبيه العالم والمتعلّم على أُصولها، ليتنبّه لها ارتكاباً واجتناباً

ص: 77


1- لعله يريد التنبيه على لزوم العمل واستعمال العلم، وقد تقدّم في الأمر الثاني من القسم الأول من النوع الأول من هذا الباب، ص 6855.

على الجملة، وهي وإن اشتركت بين الجميع إلّا أنّها بهما أولى، فلذلك جعلناها من وظائفهما ؛ لأنّ العلم - كما قال بعض الأكابر(1) - عبادة القلب وعمارته وصلاة السرّ وكما لا تصحّ الصلاة - التي هي وظيفة الجوارح - إلّا بعد تطهيرها من الأحداث والأخباث فكذلك لا تصحّ عبادة الباطن إلّا بعد تطهيره من خبائث الأخلاق.

ونور العلم لا يقذفه الله تعالى في القلب المنجّس بالكدورات النفسيّة والأخلاق الذميمة، كما قال الصادق علیه السلام : ليس العلم بكثرة التعلّم، وإنّما هو نور يقذفه الله تعالى في قلب من يريد الله أن يهديه».(2)

ونحوه قال ابن مسعود: ليس العلم بكثرة الرواية إنّما العلم نور يُقذف في القلب(3). وبهذا يعلم أنّ العلم ليس هو مجرّد استحضار المعلومات الخاصّة وإن كانت العلم في العرف العامّي، وإنّما هو النور المذكور الناشئ من ذلك العلم الموجب للبصيرة والخشية الله تعالى كما تقدّم تقريره(4).

فهذه جملة الوظائف المشتركة بينهما، وأكثرها راجع إلى استعمال العلم إلّا أنّا أفردناها عنه اهتماماً بشأنها وتنبيهاً على أُصول الفضائل.

ص: 78


1- هو الغزالي في إحياء علوم الدين، ج 1، ص 43.
2- تقدَّم في الأمر الثاني من القسم الأوّل من النوع الأوّل من هذا الباب، ص 58-57.
3- إحياء علوم الدين، ج 1، ص 44.
4- في الأمر الثاني من القسم الأوّل من النوع الأول من هذا الباب، ص 63-67.
القسم الثاني: آدابهما في درسهما واشتغالهما

و هی اُمور:

الأوّل: أن لا يزال كلّ منهما مجتهداً في الاشتغال قراءةً ومطالعة وتعليقاً ومباحثةً ومذاكرة وفكراً وحفظاً وإقراءً(1)، وغيرها، وأن تكون ملازمة الاشتغال بالعلم هي مطلوبه ورأس ماله؛ فلا يشتغل بغيره من الأُمور الدنيويّة مع الإمكان، وبدونه يقتصر منه على قدر الضرورة وليكن بعد قضاء وظيفته من العلم بحسب أوراده، ومن هنا قيل: أعط العلم كُلّك يعطك بعضه(2).

وعن أبي عبد الله علیه السلام قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم : إن الله عزّ وجلّ يقول: تذاكر العلم بين عبادي ممّا تحيا عليه القلوب الميتة إذا هم انتهوا فيه إلى أمري»(3).

وعن الباقر علیه السلام : «رحم الله عبداً أحيا العلم». فقيل: وما إحياؤه؟ قال: «أن يذاكر به أهل الدين والورع»(4).

وعنه علیه السلام : «تذاكر العلم دراسة والدراسة صلاة حسنة».(5)

ص: 79


1- إذا قرأ الرجلُ القرآن والحديث على الشيخ، يقول: أقرأني فلانٌ، أي حملني على أن أقرأ عليه. لسان العرب. ج 1، ص 130، «قرأ».
2- في محاضرات الأدباء، ج 1، ص 50: قال الخليل: العلم لا يُعطيك بعضه حتّى تُغطيه كُلَّك؛ ومثله في إحياء علوم الدين، ج 1، ص 44؛ وميزان العمل، ص 116، ونسبه إلى القيل.
3- الكافي، ج 1، ص 40 - 41، باب سؤال العالم وتذاكره، ح 6.
4- الكافي، ج 1، ص 41 ، باب سؤال العالم وتذاكره، ح 7.
5- الكافي، ج 1 ، ص ،41 ، باب سؤال العالم وتذاكره، ح 9.

الثاني: أن لا يسأل أحداً تعنّنا وتعجيزاً، بل سؤال متعلّم لله أو معلّم له منبّه على الخير، قاصد للإرشاد أو الاسترشاد، فهناك تظهر زبدة التعليم والتعلّم وتثمر شجرته. فأمّا إذا قصد مجرّد المراء والجدل، وأحبّ ظهور الفَلجِ والغلبة فإنّ ذلك يثمر في النفس ملكة رديّةً وسجيّةً خبيثةً، ومع ذلك يستوجب المقت من الله تعالى. وفيه مع ذلك عدّة معاصي: كإيذاء المخاطب وتجهيلٍ له وطعنٍ فيه، وثناءٍ على النفس وتزكيةٍ لها، وهذه كلها ذنوب مؤكّدة، وعيوب منهيّ عنها في محالّها من السنّة المطهّرة؛ وهو مع ذلك مشوّش للعيش، فإنّك لا تماري سفيها إلّا ويؤذيك، ولا حليماً إلّا ويقليك.

وقد أكّد الله سبحانه على لسان نبيّه وأئمّته علیهم السلام تحريم المراء؛ قال النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم : «لا تمار أخاك ولا تمازحه، ولا تعده موعداً فتخلفه»(1).

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «ذروا المراء، فإنّه لا تُفهم حكمته، ولا تؤمن فتنته»(2).

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «من ترك المراء وهو محقّ بني له بيت في أعلى الجنّة، ومن ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنّة»(3).

وعن أُمّ سلمة (رضي الله عنها)، قالت: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم : «إنّ أوّل ما عهد إلي ربّي، ونهاني عنه - بعد عبادة الأوثان وشرب الخمر - ملاحاة الرجال»(4).

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «ما ضل قوم [بعد أن هداهم الله(5)] إلّا أوتوا الجدل»(6).

ص: 80


1- إحياء علوم الدین، ج 2، ص 159 ؛ ج 3، ص 100؛ الجامع الصحيح، ج 4، ص 359، ح 1995؛ عوالي اللآلي. ج 1، ص 190؛ الأذكار، ص 290
2- إحياء علوم الدین، ج 3، ص 100.
3- إحياء علوم الدين، ج 2، ص 158 : ج 3، ص 100.
4- إحياء علوم الدين، ج 3، ص 100؛ ونظيره في الأمالي الصدوق، ص 339، المجلس 65 ، ح 1؛ وبحار الأنوار ج 2، ص 127 ، ح 4، نقلاً عنه، عن أبي عبدالله عن رسول الله (سلام الله عليهما).
5- زيادة من المصدر، أعني إحياء علوم الدين، ج 1، ص 37.
6- إحياء علوم الدين، ج 1، ص 37؛ ج 3، ص 100؛ مسند أحمد، ج 5، ص 252؛ الجامع الصحيح، ج 5، ص 379. ح 3253؛ سنن ابن ماجة، ج 1، ص 419، ح 48: الفقيه والمتفقه، ج 1، ص 230 - 231؛ وفي هذه المصادر الأربعة: «ماضل قومٌ بعد هدى كانوا عليه...». وفي إحياء علوم الدين: .... بعد أن هداهم الله...».

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتّى يدع المراء وإن كان محقّاً»(1).

وقال الصادق علیه السلام: المراء داء دويّ، وليس في الإنسان خصلة شرّ منه، وهو خلق إبليس ونسبته فلايماري في أيّ حال كان إلّا مَنْ كان جاهلاً بنفسه وبغيره، محروماً من حقائق الدين»(2).

وروي أنّ رجلاً قال للحسين بن عليّ بن أبي طالب علیه السلام : اجلس حتّى نتناظر في الدين فقال: «يا هذا أنا بصير بديني مكشوف عليّ هداي، فإن كنت جاهلاً بدينك فاذهب، فاطلبه ما لي وللمماراة؟ وإنّ الشيطان ليوسوس للرجل ويناجيه ويقول: ناظر الناس لئلا يظنّوا بك العجز والجهل. ثمّ المراء لا يخلو من أربعة أوجه: إمّا أن تتمارى أنت وصاحبك فيما تعلمان، فقد تركتما بذلك النصيحة وطلبتما الفضيحة، وأضعتما ذلك العلم؛ أو تجهلانه، فأظهرتما جهلاً وخاصمتما جهلاً؛ وإمّا تَعْلَمهُ أنت فظلمتَ صاحبك بطلب عَشرْتَه؛ أو يعلَمهُ صاحبك فتركت حُرمته، ولم تُنزّله منزلته. وهذا كلّه محال، فمن أنصف وقبل الحقّ وترك المماراة، فقد أوثق إيمانه وأحسن صحبة دينه وصان عقله».(3)

هذا كلّه(4) من كلام الصادق علیه السلام.

واعلم(5) أنّ حقيقة المراء الاعتراض على كلام الغير بإظهار خللٍ فيه لفظاً أو معنىً أو قصداً لغير غرض ديني أمر الله به، وترك المراء يحصل بترك الإنكار والاعتراض بكلّ كلام يسمعه، فإن كان حقّا وجب التصديق به بالقلب وإظهار صدقه حيث يطلب منه وإن كان

ص: 81


1- إحياء علوم الدین، ج 3، ص 100.
2- مصباح الشريعة، ص 199؛ بحار الأنوار، ج 2، ص 134، ح 31، نقلاً عنه.
3- مصباح الشريعة، ص 199 - 201؛ بحار الأنوار، ج 2، ص 135، ح 32، نقلاً عنه.
4- أي من قوله «قال الصادق علیه السلام».إلى هنا وكله في مصباح الشريعة، ص 199 - 201، وقال العلّامة الطباطبائي (رحمه الله تعالى في تعاليقه على بحار الأنوار، ج 2، ص 135: «ثم المراء... إلى آخر ما نقل ليس من الرواية 135 ما هو ظاهر. أقول: ولكنه موجود في مصباح الشريعة كما عرفت.
5- لاحظ إحياء علوم الدين، ج 3، ص 101 - 102.

باطلاً ولم يكن متعلّقاً بأُمور الدين، فاسكت عنه ما لم یتمحّض النهي عن المنكر بشروطه.

والطعن في كلام الغير إمّا في لفظه بإظهار خللٍ فيه من جهة النحو أو اللغة أو جهة النظم والترتيب بسبب قصور المعرفة أو طغيان اللسان؛ وإمّا في المعنى بأن يقول: ليس كما تقول، وقد أخطأت فيه لكذا وكذا؛ وإمّا في قصده مثل أن يقول: هذا الكلام حقّ ولكن ليس قصدك منه الحقّ، وما يجري مجراه.

وعلامة فساد مقصد المتكلّم تتحقّق بكراهة ظهور الحقّ على غير يده ليتبيّن فضله ومعرفته للمسألة؛ والباعث عليه الترفّع بإظهار الفضل والتهجّم على الغير بإظهار نقصه، وهما شهوتان رديّتان للنفس أمّا إظهار الفضل فهو تزكية للنفس، وهو من مقتضى ما في العبد من طغيان دعوى العلوّ والكبرياء، وقد نهى الله تعالى عنه في محكم كتابه، فقال سبحانه: «فَلَا تُرَكُواْ أَنفُسَكُمْ»(1)، وأمّا تنقيص الآخر فهو مقتضى طبع السبعيّة، فإنّه يقتضي أن يمزق غيره ويصدمه ويؤذيه وهي مهلكة.

والمراء والجدال مقوّيان لهذه الصفات المهلِكة، ولا تنفكّ المماراة عن الإيذاء وتهييج الغضب و حمل المعترض على أن يعود فينصر كلامه بما يمكنه من حقّ أو باطل، ويقدح قائله بكلّ ما يتصوّر فيثور التشاجر بين المتماريين، كما يثور التهارش بين الكلبين يقصد كلّ منهما أن يعضّ صاحبه إنّما هو أعظم نكايةً وأقوى في إفحامه وإنكائه.

وعلاج ذلك أن يكسر الكبر الباعث له على إظهار فضله والسبعيّة الباعثة له على تنقيص غيره، بالأدوية النافعة في علاج الكبر والغضب من كتابنا المتقدّم ذكره في أسرار معالم الدين(2) أو غيره من الكتب المؤلّفة في ذلك.

ولا ينبغي أن يخدعك الشيطان ويقول لك أظهر الحقّ ولا تداهن فيه. فإنّه أبداً يستجرّ الحمقى إلى الشرّ في معرض الخير فلا تكن ضحكة الشيطان يسخر بك.

ص: 82


1- النجم (53): 32
2- يعني كتاب منار القاصدين في أسرار معالم الدين الذي تقدم ذكره في أوّل الكتاب، ولم نقف على نسخة له حتى اليوم.

فإظهار الحقّ حسن مع من يقبل منه، إذا وقع على وجه الإخلاص، وذلك من طريق النصيحة بالتي هي أحسن لا بطريق المماراة.

وللنصيحة صفة وهيأة، ويحتاج فيها إلى التلطّف، وإلّا صارت فضيحةً، فكان فسادها أعظم من صلاحها.

ومن خالط متفقّهة هذا الزمان والمتّسمين بالعلم غلب على طبعه المراء والجدال، وعسر عليه الصمت إذا ألقى عليه قرناء السوء أنّ ذلك هو الفضل. ففرّ منهم فرارك من الأسد.

الثالث: أن لا يستنكف من التعلّم والاستفادة ممّن هو دونه في منصبٍ أو سنّ أو شهرة أو دين أو في علم آخر، بل يستفيد ممّن يمكن الاستفادة منه، ولا يمنعه ارتفاع منصبه وشهرته من استفادة ما لا يعرفه، فتخسر صفقته ويقلّ علمه ويستحقّ المقت من الله تعالى، وقد قال النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم : «الحكمة ضالّة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحقّ بها».(1)

وقال سعيد بن جبير (رحمه الله): لا يزال الرجل عالماً ما تعلّم، فإذا ترك التعلّم وظنّ أنّه قد استغنى واكتفى بما عنده، فهو أجهل ما يكون(2).

وأنشد بعضهم في ذلك:

وليس العمى طول السؤال وإنّما *** تمام العمى طول السكوت على الجهل(3)

ص: 83


1- الجامع الصحيح، ج 5، ص 51، ح 2687؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1395، ح 4169، وفيهما: «الكلمة الحكمة بدل «الحكمة»؛ وبحار الأنوار، ج 2، ص 99 ، ح 58 ، نقلاً عن أمالي الطوسي وفيه: «كلمة الحكمة» وانظر أيضاً الأمالي، الشيخ الطوسي، ص 238.
2- تذكرة السامع، ص 28، 135؛ شرح المهذّب، ج 1، ص 49؛ الفقيه والمتفقّه، ج 2، ص 160 وفيه: «كان أجهل» بدل «فهو أجهل»؛ وانظر عيون الأخبار، ج 2، ص 118.
3- في أمالي المرتضى، ج 2، ص 140:... قال حدّثنا ابن أخي الأصمعي عن عمه قال: لقيت أعرابياً بالبادية فاستر شدته إلى مكان فأرشدني وأنشدني: ليس العمى طول السؤال وإنّما *** تمام العمى طول السكوت على الجهل وفي جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 107: كان الأصمعي ينشدُ: شفاء العمى طول السؤال وإنّما *** تمام العمى طول السكوت على الجهل وفي المحدّث الفاصل، ص 362: أنشدنا ثعلب عن ابن الأعرابي: تمام العمى طول السكوت وإنّما *** شفاء العمى يوماً سؤالك من يدري: وفي أدب الدنيا والدين، ص 66: قال بشار بن برد: شفاء العمى طول السؤال وإنّما *** دوام العمى طول السكوت على الجهل فكن سائلاً عما عناك فإنّما *** دُعِيت أخا عقلٍ لتبحثَ بالعقلِ: وفي تذكرة السامع، ص 157: ولبعض العرب: وليس العمى طول السؤال وإنّما *** تمام العمى طول السكوت على الجهل وفي كفاية الأثر، ص 252 - 253؛ وبحار الأنوار، ج 36 ص 359، ح 228 - نقلاً عنه -: عن الباقر علیه السلام : «ألا إنّ مفتاح العلم السؤال»، وأنشأ يقول: شفاء العمى طول السؤال وإنّما *** تمام العمى طول السكوت على الجهل

ومن هذا الباب أن يترك السؤال استحياء، ومن هنا قيل: من استحيا من المسألة لم يستح الجهل منه(1).

وقيل أيضاً: من رقّ وجهه رقّ علمه(2).

وقيل أيضاً: لا يتعلّم العلم مستحيٍ ولا مستكبر(3).

وروى زرارة ومحمّد بن مسلم وبريد العجلي قالوا: قال أبو عبد الله علیه السلام : «إنما يهلك الناس لأنّهم لا يسألون»(4).

ص: 84


1- لم أقف على قائله.
2- قاله عمر بن الخطاب وابنه، كما في مقدمة ابن الصلاح، ص 371؛ وفتح الباقي، ج 2، ص 229؛ وشرح المهذّب ج 1، ص 49؛ أو ابنه كما في الفقيه والمتفقّه، ج 2، ص 144؛ وتذكرة السامع، ص 157: وتدريب الراوي، ج 2، ص 147. وفي سنن الدارمي ، ج 1، ص 137 نسبه إلى الشعبي وعمر ؛ وفي مفتاح دار السعادة، ج 1، ص 177 نسبه إلى الحسن البصري: وفي جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 125 قالوا: من رقّ وجهه رقّ علمه؛ ونقله الميداني في مجمع الأمثال، ج 2، ص 328، في حرف الميم من كلام «المولّدين». هذه مصادره من كتب العامة؛ ولكنّه رُوي في الكافي، ج 2، ص 87، باب الحياء، ج 3، عن أبي عبدالله علیه السلام.
3- قاله مجاهد، كما في شرح المهذّب، ج 1، ص 49: صحيح البخاري، ج 2، ص 158؛ مقدّمة ابن الصلاح، ص 377: الفقيه والمتفقّه، ج 2، ص 144: تدريب الراوي، ج 2، ص 147: فتح الباقي، ج 2، ص 229؛ شرح ألفية العراقي ، ج 2، ص 229؛ سنن الدارمي، ج 1، ص 138؛ تذكرة السامع، ص 157؛ وفي مفتاح دار السعادة، ج 1، ص 177، نسبه إلى بعض العلماء.
4- الكافي، ج 1، ص 40، باب سؤال العالم وتذاكره، ح 2.

وعنه علیه السلام : «إنّ هذا العلم عليه قفل ومفتاحه المسألة»(1).

الرابع - وهو من أهمّها - الانقياد للحقّ بالرجوع عند الهفوة، ولو ظهر على يد من هو أصغر منه(2)، فإنّه مع وجوبه من بركة العلم، والإصرار على تركه كبر مذموم عند الله تعالى موجب للطرد والبعد قال النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم : «لا يدخل الجنّة من في قلبه مثقال حبّةٍ من كبر». فقال بعض أصحابه: هلكنا يا رسول الله إن أحدنا يحبّ أن يكون نعله حسنا وثوبه حسناً. فقال النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم : «ليس هذا الكبر، إنما الكبر بطر الحقّ وغمص الناس»(3).

والمراد ببطر الحقّ ردّه على قائله وعدم الاعتراف به بعد ظهوره، وذلك أعمّ من ظهوره على يدي الصغير والكبير والجليل والحقير، وكفى بهذا زجراً وردعاً.

الخامس أن يتأمّل ويهذّب ما يريد أن يورده أو يسأل عنه قبل إبرازه والتفوّه به ليأمن من صدور هفوة أو زلّةٍ أو وهم أو انعكاس فهم، فيصير له بذلك ملكة صالحةٌ، وخلاف ذلك إذا اعتاد الإسراع في السؤال والجواب فيكثر سقطه ويعظم نقصه ويظهر خطاؤه فيعرف بذلك، سيّما إذا كان هناك من قرناء السوء من يخشى أن يصيّر ذلك عليه ،وصمةً، ويجعله له عند نظرائه وحسدته وسمةً.

ص: 85


1- الكافي، ج 1، ص 40 ، باب سؤال العالم وتذاكره ، ح 3.
2- قال المحدّث الجزائري في الأنوار النعمانية، ج 3، ص 345: وقد كان لي شيخ جليل قرأت عليه كثيراً من العربية والأصول، فما وجدت أحداً أنصف منه، وذلك أنه ربما أشكلت المسألة علينا وقت الدرس، فإذا طالعتها أنا وكنت أصغر الشركاء سنّاً قال لي ذلك الشيخ: هذا الحق وغلطتُ أنا وجميع هولاء. فيغلط نفسه والطلبة لأجل معرفته بصحة كلامي، ثمّ يقول لي: أمل علي ماخطر بخاطرك، حتى أعلقه حاشيةً على كتابي، فأملي أنا عليه وهو يكتبه حاشيةً وهو وقت تأليف هذا الكتاب في بلاد حيدر آباد من بلاد الهند واسمه الشيخ جعفر البحريني مد الله أيام سعادته)
3- صحيح مسلم، ج 1، ص 93 ، وفيه: «غمط الناس» بدل «غمص الناس»؛ عوالى اللآلي، ج 1، ص 436 - 437: وورد مثل العبارة الأخيرة، في الكافي، ج 2، ص 310، باب الكبر ، ح 9، عن أبي عبد الله، عن رسول الله (صلى الله عليهما) ؛ وانظر أيضاً مجمع الزوائد، ج 1، ص 98؛ وج 5، ص 133

السادس(1): أن لا يحضر مجلس الدرس إلّا متطهّراً من الحدث والخبث، متنظّفاً متطيّباً في بدنه وثوبه، لابساً أحسن ثيابه، قاصداً بذلك تعظيم العلم وترويح الحاضرين من الجلساء والملائكة سيما إن كان في المسجد. وجميع ما ورد من الترغيب في ذلك المطلق الناس(2)، فهو في حقّ العالم والمتعلّم آكد.

ص: 86


1- راجع أدب الإملاء والاستملاء، ص 27، 46: الخلاصة في أصول الحديث، ص 144: المحدّث الفاصل، ص 585.
2- انظر بعض ما ورد في ذلك في الكافي، ج 3، ص 22 - 23، باب السواك، ح 1 - 7: وج 3، ص 70 - 72، باب النوادر، ح 5 - 10 : وج 6، ص 438 - 534 كتاب الزي والتجمّل والمروة؛ وبحار الأنوار، ج 80، ص 237 - 238 ، ح 11 و 12 ؛ وج 83، ص 384 ، ح 59 ،

النوع الثاني: آداب يختص بها المعلّم

اشارة

اعلم أنّ التعليم هو الأصل الذي به قوام الدين وبه يؤمن انمحاق العلم؛ فهو من أهمّ العبادات وآكد فروض الكفايات قال الله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِينَقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكتب لتبيتُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ»(1).

وقال الله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّهُ

لِلنَّاسِ فِى الْكِتَبِ أَوْلَبِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّعِنُونَ»(2).

و من مشاهير الأخبار قوله علیه السلام : «ليبلّغ الشاهد منكم الغائب»(3).

والأخبار بمعناه كثيرة، وقد مرّ جملة منها(4).

و آدابه تنقسم ثلاثة أقسام:

آدابه في نفسه،

و آدابه مع طلبته،

و آدابه في مجلس درسه.

ص: 87


1- آل عمران (3): 187
2- البقرة (2) 159
3- الكافي، ج 1، ص 187، باب فرض طاعة الأئمة، ح 10؛ الأمالي، الشيخ الطوسي، ج 1، ص 21، ح 5؛ معاني الأخبار، ص 82، ح 1 تحف العقول، ص 30 صحيح البخاري، ج 2، ص 102 - 107، ح 104 - 105.
4- قد مرّت جملة منها في المقدّمة، ويأتي بعضها في الفصل الأوّل من المطلب الأوّل من الخاتمة.
القسم الأوّل آدابه في نفسه مضافة إلى ما تقدّم

وهي أُمور:

الأوّل : أن لا ينتصب للتدريس حتّى تكمل أهليّته، ويظهر استحقاقه لذلك على صفحات وجهه ونفحات لسانه وتشهد له به صلحاء ،مشايخه، ففي الخبر المشهور: المشَبَّع بما لم يعط كلابس ثوبي زورٍ»(1).

وقال بعض الفضلاء من تصدّر قبل أوانه فقد تصدّى لهوانه(2).

وقال آخر: من طلب الرئاسة في غير حينه لم يزل في ذلٍّ ما بقي(3).

وأنشد بعضهم:

لا تَطْمَحَنََّ إلى المراتِبِ قَبْلَ أن *** تَتَكاملَ الأَدواتُ والأَسبَابُ

إنّ الثِمار تَمُرٌ قَبْلَ بُلوغها *** طَعماً، وهُنََّ إذا بَلغْنَ عِذابُ(4)

الثاني(5) : أن لا يُذلّ العلم فيبذله لغير أهله ويذهب به إلى مكان يُنسب إلى من

ص: 88


1- سنن أبي داود، ج 4، ص 300، ح 4997؛ النهاية، ج 2، ص 441، وفيه: «بما لا يملك» بدل «بما لم يعط » : وانظر شرح الحديث في لسان العرب، ج 1، ص 246 - 247. «ثوب»؛ ومجمع الأمثال، ج 2، ص 150 ويأتي هذا الحديث وبعض الكلام حوله في ص
2- قاله أبوبكر الشبلي الزاهد كما في تذكرة السامع ص 45 ونسب في طبقات الصوفية، إلى الخواجه سهل بن محمد الصعلوكي المتوفّى في سنة 404 ه- انظر ترجمته ومصادر ترجمته في طبقات الصوفية، ص 584 - 587؛ ووفيات الأعيان، ج 2، ص 435 - 436؛ والأعلام، ج 3، ص 143؛ ومعجم المؤلفين، ج 4، ص 284 - 285.
3- قاله أبو حنيفة كما في تذكرة السامع، ص 45.
4- لم أقف على ناظمه. ه.
5- لاحظ شرح المهذب، ج 1، ص 48؛ وتذكرة السامع، ص 16؛ والتبيان في آداب حملة القرآن، ص 22.

يتعلّمه منه، وإن كان المتعلّم كبير القدر؛ بل يصون العلم عن ذلك كما صانه السلف، وأخبارهم في ذلك كثيرة مشهورة مع الخلفاء وغيرهم(1). قال الزهري: هوان العلم أن يحمله العالم إلى بيت المتعلّم(2).

اللهمّ إلّا أن تدعو إليه ضرورةً وتقتضيه مصلحةٌ دينيّةٌ راجحة على مفسدة ابتذاله، حسن فيه نيّةً صالحةً، فلا بأس. وما أحسن ما أنشده القاضي أبو الحسن عليّ بن عبد العزيز الجرجاني(3) لنفسه:

يقولون لي فيك انقباض وإنّما *** رأوا رجلاً عن موضع الذلّ أحجما

أرى الناس من داناهم هان عندهم *** ومن أكرمته عزّة النفس أُكرما

وما كلّ برقٍ لاح لي يستفزّني *** ولا كلّ من لاقيت أرضاه منعما

وإنّي إذا ما فاتني الأمر لم أبت *** أُقلّب كفّي نحوه متندّما

ولم أقض حقّ العلم إن كان كلّما *** بدا طمع صيّرته لي سلّما

إذا قيل هذا مَنَهلٌ قلت قد أرى *** ولكنّ نَفْسَ الحرّ تحتمل الظمأ

ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي *** لاَخدِمَ من لاقيت لكن لأُخدما

ءأُسقى به عزّاً وأسقيه ذلّةً(4) *** إذاً فاتّباع الجهل قد كان أحزما

ولو أنّ أهل العلم صانوه صانهم *** ولو عَظََّموه في النفوس لَعُظّما

ص: 89


1- منها ماجرى للخليل بن أحمد الفراهيدي مع سليمان بن حبيب والي فارس والأهواز. انظر ذلك في وفيات الأعيان، ج 2، ص 245 - 246: تهذيب التهذيب، ج 3، ص 163؛ أمالي القالي، ج 2، ص 269
2- تذكرة السامع. ص 16. والزهري هو أبوبكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري المتوفى في سنة 124ه-. وقيل غيرها؛ انظر ترجمته ومصادر ترجمته في وفيات الأعيان، ج 4، ص 177 - 179؛ والأعلام، ج 7، ص 97
3- وردت ترجمته في وفيات الأعيان، ج 1، ص 278 - 281؛ طبقات الشافعية، ج 3، ص 459 - 462؛ المنتظم، ج 7، ص 221 - 222؛ يتيمة الدهر، ج 4، ص 3 - 26: معجم المؤلفين، ج 7، ص 123.
4- هذا المصراع في أدب الدنيا والدين، ص 92؛ وتذكرة السامع، ص 17؛ ومعجم الأدباء، ج 14، ص 18؛ وطبقات الشافعية، ج 3، ص 461؛ ويتيمة الدهر ، ج 4، ص 22 وغيرها هكذا: أ أشقى به غرساً وأجنيه ذلّة.

ولكن أذلوه فهان ودَنَّسوا *** صحيّاه بالأطماع حتّى تجهّما(1)

الثالث: أن يكون عاملاً بعلمه زيادة على ما تقدّم في الأمر المشترك، قال الله

تعالى: «أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ...» الآية(2).

وعن أبي عبد الله علیه السلام في قول الله عزّ وجلّ: «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَؤُا»(3): من صدّق فعله قوله، ومن لم يصدّق قوله فعله فليس بعالم.(4).

وعنه علیه السلام : «العلم مقرون إلى العمل، فمن علم عمل ومن عمل علم والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلّا ارتحل»(5).

وعنه علیه السلام: «إنّ العالم إذا لم يعمل بعلمه زلّت موعظته عن القلوب كما يزلّ المطر عن الصفا»(6).

وقال عليّ علیه السلام : «قصم ظهري عالم متهتك وجاهل متنسّك، فالجاهل يغشّ الناس بتنسكه والعالم ينفِّرهم بتهتّكه»(7).

ص: 90


1- قال ابن خلّكان في وفيات الأعيان، ج 1، ص 279 - بعد ذكر البيت الأوّل من هذه الأبيات : هي أبيات طويلةً ومشهورةً فلاحاجة إلى ذكرها : واعلم أنّ هذه الأشعار كلّها أو بعضها نقلت في كتب متعدّدة، وهي أدب الدنيا والدين، ص 92؛ معجم الأُدباء، ج 14 ، ص 17 - 18؛ طبقات الشافعية ، ج 3، ص 460 - 461: الإعجاز والإيجاز، ص 195؛ المنتظم، ج 7، ص 221؛ يتيمة الدهر، ج 4، ص 22: تذكرة السامع ص 17 محاضرات الأدباء ، ج 1، ص 34: تنبيه الخواطر، ج 2، ص 272 كنز الفوائد، ج 1، ص 138 - 139، وغيرها.
2- البقرة (2): 44
3- فاطر (35): 28
4- الكافي، ج 1، ص 37 ، باب صفة العلماء، ج 2، وفيه: «من لم يصدّق فعله قوله»
5- الكافي، ج 1، ص 44، باب صفة العلماء، ح 2 ؛ ومثله في غرر الحكم، ج 2، ص 87، ح 1944.
6- الكافي، ج 1 ، ص 44، باب استعمال العلم ، ح 3
7- إحياء علوم الدین، ج 1، ص 52 ميزان العمل، ص 136، وفيهما: «يغرُّ» في الموضعين، بدل «يَغُشُ» و«يُنفّر»؛ وفي بحار الأنوار - نقلاً عن منية المريد -: «يغرُّهم» بدل «ينفرهم»؛ وفي الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص 125، كما في المتن؛ إلا أنّ فيه: «يغر» بدل «يغش»؛ وفي الأنوار النعمانية، ج 3، ص 347 - نقلاً عن منية المريد كما في المتن. وفي عوالى اللآلي، ج 4، ص 71، مثله بالمعنى عن الصادق ، وفيه: «يصدُّ الناس» في الموضعين؛ وأيضاً مثله بنحو أبسط في الخصال، ص 80، 103 ؛ وفي غرر الحكم، ج 1، ص 98، ح 9665: «ما قصم ظهري إلّا رجلان عالمٌ متهتّك وجاهل متنسّك؛ هذا ينفّرُ عن حقه بهتكه، وهذا يدعو إلى باطله بنسكه»؛ وفي علم القلوب، ص 149: قال عليّ (رضي الله عنه): «ما قطع ظهري في الإسلام إلّا رجلان: مبتدع ناسك وعالم فاجر؛ فالعالم الفاجر يزهد الناس في علمه لما يرون من فجوره والمبتدع الناسك يرغب الناس في بدعته لما يرون من نسكه، وعمل قليل في السنة خير من عمل كثير في البدعة».

وقد أنشد ذلك بعضهم(1) فقال :

فسادٌ كبيرٌ عالمٌ متُهتِّك *** وأكبرُ منه جاهلٌ متنسّك

هما فتنةٌ للعالمين عظيمة *** لِمَنْ بهما في دينه يتمّسك

الرابع: زيادة حسن الخُلق فيه والتواضع على(2) الأمر المشترك، وتمام الرفق، وبذل الوسع في تكميل النفس؛ فإنّ العالم الصالح في هذا الزمان بمنزلة نبي من الأنبياء، كما قال النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم : «علماء أمتى كأنبياء بني إسرائيل»(3).

بل هم في هذا الزمان أعظم، لأنّ أنبياء بني إسرائيل كان يجتمع منهم في العصر الواحد أُلوف والآن لا يوجد من العلماء إلّا الواحد بعد الواحد، ومتى كان كذلك؟

ص: 91


1- قال في تعليم المتعلّم، ص 5: وأنشدني ... برهان الدين صاحب الهداية لبعضهم: فساد كبير... البيتين.
2- حرف الجرّ «على» متعلّق ب- «زيادة»، أي زيادة على الأمر المشترك بينهما. .
3- تحرير الأحكام الشرعيّة، ج 1، ص 3: تذكرة الأولياء، ص 9؛ عوالي اللآلي ، ج 4، ص 77، ح 67؛ بحار الأنوار، ج 2، ص 22، ح 22، ح 67، نقلاً عن عوالي اللآلي. قال في مصابيح الأنوار، ج 1، ص 434 - في شرح هذا الحديث -: وهذا الحديث لم نقف عليه في أصولنا وأخبارنا بعد الفحص والتتبع، والظاهر أنّه من موضوعات العامّة وممّن صرّح بوضعه من علمائنا المحدّث الحرّ العاملي في الفوائد الطوسية والمحدّث الشريف الجزائري. وكيف كان فيمكن توجيه بوجهين الأوّل: أنّ المراد بالعلماء الأئمة، ووجه الشبه العصمة أو الحجية على الخلق أو الفضل عند الله، وذلك لا ينافي ما ثبت من كون كل من الأئمة أفضل من كل واحد من أنبياء بني إسرائيل؛ لأنّ المراد التشبيه بالمجموع، ولو سلّم يكون من عكس التشبيه وهو شائع، يؤيد هذا الوجه ما تظافر من الأخبار الواردة عن الأئمة الأطهار علیهم السلام، ومن قولهم علیهم السلام : نحن العلماء وشيعتنا المتعلّمون، وسائر الناس غثاء» وقال الشهيد آية الله القاضي الطباطبائي في تعاليقه على الأنوار النعمانية، ج 3، ص 347: هذا الحديث مذكور في كثير من الكتب المتداولة ومذكور في الألسنة ولكن لم يوجد في الجوامع الحديثية للإمامية من روايته وسنده عين ولا أثر، بل صرح جمع من مهرة المحدثين وأساتذتهم أنه من موضوعات العامة.. وقال في كشف الخفاء، ج 2، ص 83: قال السيوطي: لا أصل له.

فليَعلم أنّه قد عَلّق في عنقه أمانةٌ عظيمة، وحمل أعباءً من الدين ثقيلةً، فليجتهد في الدین جهده، وليبذل في التعليم جدّه، عسى أن يكون من الفائزين.

وقد روي عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «كان أمير المؤمنين علیه السلام يقول: إن للعالم ثلاث علاماتٍ: العلم والحلم والصمت وللمتكلّف ثلاث علاماتٍ: ينازع من فوقه بالمعصية، ويظلم من دونه بالغلبة، ويظاهر الظلمة»(1).

وعن محمد بن سنان - رفعه(2) - قال: قال عیسی ابن مریم علیها السلام: يا معشر الحواريّين! لي إليكم حاجة، اقضوها لي. قالوا: قضيت حاجتك يا روح الله! فقام فغسّل أقدامهم، فقالوا : كنّا نحن أحقّ بهذا يا روح الله فقال: إنّ أحقّ الناس بالخدمة العالم، إنّما تواضعت هكذا لكيما تتواضعوا بعدي في الناس كتواضعي لكم. ثمّ قال عيسى علیه السلام : بالتواضع تعمر الحكمة لا بالتكبّر، وكذلك في السهل ينبت الزرع لا في الجبل(3).

الخامس(4) : أن لا يمتنع من تعليم أحد لكونه غير صحيح النيّة، فربّما عسر على كثير من المبتدئين بالاشتغال، تصحيح النيّة لضعف نفوسهم وانحطاطها عن إدراك السعادة الآجلة، وقلّة أُنسهم بموجبات تصحيحها، فالامتناع من تعليمهم يؤدّي إلى تفويت كثير من العلم مع أنّه يرجى ببركة العلم تصحيحها إذا أنس بالعلم.

وقد قال بعضهم: طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلّا لله(5). معناه صارت [ظ كانت] عاقبته أن صار لله.

ص: 92


1- الكافي، ج 1، ص 37، باب صفة العلماء ، ح 7.
2- للاطّلاع على معنى الحديث المرفوع راجع شرح البداية، ص 30 - 31.
3- الكافي، ج 1، ص 37، باب صفة العلماء، ح 6.
4- لاحظ شرح المهذّب، ج 1، ص 50-51
5- أدب الدنيا والدين، ص 89، حكاه عن الثوري تذكرة السامع ص 47 جامع بيان العلم وفضله، ج 2، ص 27 - 28؛ التبيان في آداب حملة القرآن، ص 21؛ شرح المهذب، ج 1، ص 51 اختصار علوم الحديث، ص 53.

وعن الحسن: لقد طلب أقوام العلم ما أرادوا به الله ولا ما عنده، فما زال بهم العلم حتّى أرادوا به الله وما عنده(1).

لكن يجب على المعلّم إذا أشعر من المتعلّم فساد النيّة أن يستدرجه بالموعظة الحسنة، وينبّهه على خطر العلم الذي لا يراد به الله، ويتلو عليه من الأخبار الواردة في ذلك حالاً فعالاً، حتى يقوده إلى القصد الصحيح؛ فإن لم ينجع ذلك، ويئس منه قيل يتركه حينئذٍ ويمنعه من التعلّم، فإنّ العلم لا يزيده إلّا شرّاً. وإلى ذلك أشار عليّ علیه السلام بقوله: «لا تعلّقوا الجواهر في أعناق الخنازير»(2).

وعن الصادق علیه السلام قال: «قام عیسی ابن مریم علیها السلام خطيباً في بني إسرائيل، فقال: يا بني إسرائيل لا تُحدّثوا الجهّال بالحكمة فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم»(3).

ولقد أحسن القائل:

ومَنْ منح الجهال علماً أضاعه *** ومَنْ منع المستوجبين فقد ظَلَم(4).

و فصّل آخرون(5) فقالوا: إن كان فساد نيّته من جهة الكبر والمراء ونحوهما، فالأمر

ص: 93


1- سنن الدارمي ، ج 1، ص 102؛ جامع بيان العلم وفضله، ج 2، ص 28 . والقائل هو الحسن بن يسار البصري المعروف بالحسن البصري (21 - 110 ه-.) : انظر ترجمته ومصادر ترجمته في الأعلام، ج 2، ص 226 - 227
2- إحياء علوم الدين، ج 1، ص 51، ونسبه إلى عيسى بن مريم علیها السلام ؛ وفي عيون الأخبار، ج 2، ص 124: قال المسيح علیه السلام : يا بني إسرائيل! لا تلقوا اللؤلؤ إلى الخنازير، فإنّها لا تصنع به شيئاً، ولا تؤتوا الحكمة من لا يريدها. فإنّ الحكمة أفضل من اللؤلؤ، ومن لا يريدها شرّ من الخنازير ومثله في أدب الدنيا والدين، ص 89، وعلى هذا فلا يبعد تصحيف عيسى بعليّ (صلوات الله عليه) في المتن
3- الكافي، ج 1، ص 52، باب بذل العلم . ح 4
4- أنشأه الشافعي، كما في طبقات الشافعية، ج 1، ص 294؛ وعلم القلوب، ص 43؛ ومحاضرات الأدباء، ج 1، ص 46 : ونُقِلَ في إحياء علوم الدين، ج 1، ص 51؛ وطبقات الشافعية، ج 1، ص 294؛ وعلم القلوب، ص 43 هذا البيت وأربعة أبيات أُخر قبله
5- منهم الغزالي في ميزان العمل، ص 131؛ والماوردي في أدب الدنيا والدين، ص 89؛ وانظر إحياء علوم الدين، ج 1، ص 49 - 50 .

كذلك؛ وإن كان من جهة حبّ الرئاسة الدنيويّة، فينبغي مع اليأس من إصلاحه أن لا يمنعه، لعدم ثوران المفسدة وتعديها، ولأنّه لا يكاد يخلص من هذه الرذيلة أحد في البداية؛ فإذا وصل إلى أصل العلم عرف أنّ العلم إنّما يُطلب للسعادة الأبديّة بالذات، والرئاسة لازمة له قصد أم لم يقصد.

السادس: بذل العلم عند وجود المستحقّ وعدم البخل به، فإنّ الله سبحانه أخذ على العلماء من العهود والمواثيق ما أخذه على الأنبياء ليبيّنّنه للناس ولا يكتمونه. وعن أبي عبد الله علیه السلام قال: «قرأت في كتاب عليّ علیه السلام: أن الله لم يأخذ على الجهّال عهداً بطلب العلم حتّى أخذ على العلماء عهداً ببذل العلم للجهّال ؛ لأنّ العلم كان قبل الجهل»(1).

وعن أبي عبد الله علیه السلام في هذه الآية: «وَلَا تُصَعِرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ»(2) قال: «ليكن الناس عندك في العلم سواءً»(3).

وعن جابر الجعفي عن أبي جعفر علیه السلام قال: «زكاة العلم أن تعلّمه عباد الله»(4). السابع: أن يحترز من مخالفة أفعاله لأقواله وإن كانت على الوجه الشرعي مثل أن يحرم شيئاً ويفعله، أو يوجب شيئاً ويتركه، أو يندب إلى فعل شيء ولا يفعله، وإن كان فعله ذلك مطابقاً للشرع بحسب حاله؛ فإنّ الأحكام الشرعيّة تختلف باختلاف الأشخاص، كما لو أمر بتشييع الجنائز وباقي أحكامهم، وأمر بالصيام وقضاء حوائج المؤمنين وأفعال البرّ وزيارة قبور الأنبياء والأئمّة، ولم يفعل ذلك؛ لاشتغاله بما هو أهمّ منه بحيث ينافي اشتغاله بما يأمر به ما هو فيه، والحال أنّه أفضل أو متعيّن، وحينئذٍ فالواجب عليه مع خوف التباس الأمر أن يبيّن الوجه الموجب للمخالفة دفعاً

ص: 94


1- الكافي، ج 1، ص 41 ، باب بذل العلم، ح 1 نرجو ممن يرغب التوضيح حول هذا الحديث مراجعة شرح اصول الكافي، ص 165
2- لقمان (31): 18
3- الكافي، ج 1، ص 41 ، باب بذل العلم، ح .2
4- الكافي، ج 1، ص 41 ، باب بذل العلم، ح 3.

للوسواس الشيطانيّ من قلب السامع، كما اتفق للنبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم حين رآه بعض أصحابه ليلاً يمشي مع بعض نسائه إلى منزلها، فخاف أن يتوهّم أنّها ليست من نسائه فقال له: إنّ هذه زوجتي فلانة(1)، ونبّهه على العلّة لخوفه عليه من تلبيس إبليس عليه. وإن كان الواجب على السامع من أوّل الأمر ترك الاعتراض عند اشتباه الحال بل عند احتمال المسوِّغ إلى أن يتحقّق الفساد كما سيأتي - إن شاء الله تعالى -- في آداب المتعلّم(2).

وبالجملة فمثل العالم والمتعلّم في انتقاشه بأخلاقه وأفعاله، مثل الفصّ والشمع فإنّه لا ينتقش في الشمع إلّا ما هو منقوش في الفصّ. وقد شاهدنا هذا عياناً في جماعات من طلبة العلم مع مشايخهم على اختلاف أفعالهم وأخلاقهم، ولا يُنبِّئك مثلُ خبير»(3).

الثامن: إظهار الحقّ بحسب الطاقة من غير مجاملةٍ لأحدٍ من خلق الله تعالى فإذا رأى من أحد ميلاً عن الحقّ أو تقصيراً في الطاعة وعظه باللطف ثمّ بالعنف فإن لم يقبل هجره، فإن لم ينجع توصّل إلى نهيه وردّه إلى الحقّ بمراتب الأمر بالمعروف.

وهذا حكم يختصّ بالعالم زيادة في التكليف عن غيره، وإن شاركه غيره من

ص: 95


1- صحيح مسلم، ج 4، ص 1712، ح 2174/23؛ احياء علوم الدين، ج 2، ص 178، وهذا نصّه - من صحيح مسلم : .... عن أنس أنّ النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم كان مع إحدى نسائه، فمرّ به رجلٌ فدعاه. فجاء، فقال: يا فلان! هذه زوجتي فلانة فقال: يا رسول الله من كنتُ أظنُّّ به فلم أكن أظنّ بك. فقال رسول الله: «إنّ الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ؛ وروي أيضاً بنحوٍ أبسط في صحيح مسلم، ج 4، ص 1712 ، ج 2174/23؛ وسنن أبي داود، ج 4. ح ص 298 - 299 ، ح 4994 ، وهذا نصّه:.... عن صفيّة، قالت: كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم، مُعتكفاً، فأتيته أزوره ليلاً، فحدّثته - وقمتُ فانقلبتُ، فقام معي ليقلبني، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمرّ رجلان من الأنصار. فلما رأيا النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم أسرعا، فقال النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم : «على رسلكما إنّها صفيّة بنت حُيَى». قالا: سبحان الله يا رسول الله! قال: «إنّ الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم فخشيتُ أن يقذفَ في قلوبكما شيئاً» - أو قال: «شرّاً».
2- يأتي في الأمر العاشر من القسم الثاني من النوع الثالث، ص 153 - 154.
3- اقتباس من الآية الشريفة 14 من سورة فاطر (35): ...«يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ».

المكلّفين فى أصل الوجوب ؛ لأنّ العالم بمنزلة الرئيس الذي إليه الأمر والنهي ولقوله أثر في القلوب، فعليه في ذلك زيادة تكليف، ولذلك قال النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم : «إذا ظهرت البدع في اُمّتی، فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله»(1).

وما جاءت الغفلة في الغالب واستيلاء الجهالة، والتقصير عن معرفة الفرائض الدينيّة، والقيام بالوظائف الشرعيّة والسنن الحنيفيّة وأداء الصلوات على وجهها؛ إلّا من تقصير العلماء عن إظهار الحقّ على وجهه، وإتعاب النفس في إصلاح الخلق وردّهم إلى سلوك سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

بل لا يكتفي علماء السوء بالتقصير عن ذلك حتّى يمالئوهم(2) على الباطل ويؤانسوهم، فتزيد رغبة الجاهل وانهماك الفاسد، ويقلّ وقار العالم ويذهب ريح العلم. ولقد قال بعض العلماء(3)- ونعم ما قال : إنّ كلّ قاعد في بيته أينما كان فليس خالياً عن المنكر من حيث التقاعد عن إرشاد الناس وتعليمهم معالم الدين وحملهم على المعروف، سيّما العلماء فإنّ أكثر الناس جاهلون بالشرع في الواجبات العينيّة كالصلاة وشرائطها سيّما في القرى والبوادي.

فيجب كفايةً أن يكون في كلّ بلد وقرية واحد يعلّم الناس دينهم، باذلاً نفسه للإرشاد والتعليم باللطف متوصّلاً إليه بالرفق وكلّ ما يكون وسيلةً إلى قبولهم، وأهمّه قطع طمعه عنهم وعن أموالهم؛ فإنّ من علموا منه الرغبة في شيء من ذلك زهدوا فيه وفي علمه، واضمحلّ أمرهم بسبب ذلك، وأما إذا قصد وجه الله تعالى وامتثال أمره، وقع ذلك في قلوب الخاصّة والعامّة، وانقادوا لأمره واستقاموا على نهج السداد.

ص: 96


1- الكافي، ج 1، ص 54، باب البدع والرأي والمقاييس، ح 2: المحاسن، ص 231، ح 176؛ بحار الأنوار، ج 2، ص 72 ، ح 35، نقلاً عن المحاسن.
2- مالاًه على الأمر: ساعَدَه وعاوَنه. المعجم الوسيط، ص 882، «ملاً».
3- هو الغزالي في إحياء علوم الدين، ج 2، ص 299.

وهذا كلّه إذا لم يكن عليه خطر ولا على أحد من المسلمين ضرر في ذلك وإلّا فالله أحقّ بالعذر.

روی عبد الله سلیمان قال: سمعت أبا جعفر علیه السلام يقول، وعنده رجل من أهل البصرة يقال له عثمان الأعمى، وهو يقول: إنّ الحسن البصري يزعم أنّ الذين يكتمون العلم يؤذي ريح بطونهم أهل النار، فقال أبو جعفر علیه السلام : «فهلك إذاً مؤمن آل فرعون، ما زال العلم مكتوماً منذ بعث الله ،نوحا فليذهب الحسن يميناً وشمالاً، فو الله لا يوجد العلم إلّا هاهنا»(1).

ص: 97


1- الكافي، ج 1، ص 51، باب النوادر ، ح 15؛ بصائر الدرجات، ص 10 ، ح 6، وانظر أيضاً ح 7؛ بحار الأنوار، ج 2، ص 90 - 91، ح 16، وانظر أيضاً ح 17؛ من أراد شرح هذا الحديث الشريف وتوضيحه فليراجع مرآة العقول، ج 1، ص 172 - 173؛ وشرح أصول الكافي، ص 185.
القسم الثاني آداب المعلّم مع طلبته

ویجمعها اُمور:

الأوّل(1): أن يؤدّبهم على التدريج بالآداب السنيّة والشيم المرضيّة، ورياضة النفس بالآداب الدينيّة، والدقائق الخفيّة، ويعوّدهم الصيانة في جميع أُمورهم الكامنة والجليّة، سيّما إذا آنس منهم رشداً.

وأوّل ذلك أن يُحَرِّص الطالب على الإخلاص لله تعالى في علمه وسعيه ومراقبة الله تعالى في جميع اللحظات، وأن يكون دائماً على ذلك حتى الممات، ويعرّفه أنّ بذلك ينفتح عليه أبواب المعارف وينشرح صدره وينفجر من قلبه ينابيع الحكمة واللطائف، ويبارك له في حاله وعلمه، ويوفّق للإصابة في قوله وفعله وحكمه، ويتلو عليه الآثار الواردة في ذلك ويضرب له الأمثال الدالة على ما هنالك ويزهّده في الدنيا، ويصرفه عن التعلّق بها والركون إليها والاغترار بزخرفها ويذكّره أنّها فانيةٌ وأنّ الآخرة باقيةٌ، والتأهّب للباقي والإعراض عن الفاني هو طريق الحازمين ودأب عباد الله الصالحين، وأنّها إنّما جعلت ظرفاً ومزرعةً لاقتناء الكمال ووقتاً للعلم والعمل فيها ليحرز ثمرته في دار الإقبال بصالح الأعمال.

الثاني(2) : أن يرغّبهم في العلم ويذكّرهم بفضائله وفضائل العلماء، وأنّهم ورثة

ص: 98


1- لاحظ شرح المهذّب، ج 1، ص 51
2- لاحظ شرح المهذّب، ج 1، ص 51؛ تذكرة السامع، ص 48 - 49.

الأنبياء علیهم السلام، وأنّهم على منابر من نور يغبطهم الأنبياء والشهداء، ونحو ذلك ممّا ورد في فضائل العلم والعلماء من الآيات والأخبار والآثار والأشعار والأمثال؛ ففي الادلّة الخطابيّة والأمارات الشعريّة هزّ عظيم للنفوس الإنسانيّة. ويُرغِّبهم مع ذلك بالتدريج على ما يعين عليه من الاقتصار على الميسور، وقدر الكفاية من الدنيا والقناعة بذلك عمّا يشغل القلب من التعلّق بها، وتفريق الهمّ بسببها.

الثالث: أن يحبّ لهم ما يحبّ لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه من الشرّ؛ فإنّ ذلك من تمام الإيمان ومقتضى المواساة، ففي صحيح الأخبار: «لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه»(1).

ولا شكّ أنّ المتعلّم أفضل الإخوان بل الأولاد كما سيأتي(2)، فإنّ العلم قرب روحاني وهو أجلّ من الجسماني، وعن ابن عبّاس: أكرم الناس عليّ جليسي الذي يتخطّى الناس حتّى يجلس إليّ، لو استطعت أن لا يقع الذباب عليه لفعلت وفي رواية: «إنّ الذباب ليقع عليه فيؤذيني»(3).

وعن محمّد بن مسلم قال: دخل رجل من أهل الجبل على أبي جعفر علیه السلام فقال له عند الوداع: أوصني فقال: «عليك بتقوى الله وبرّ أخاك(4) المؤمن، وأحِبَّ له كما تُحبّ لنفسك، واكره له ما تكره لنفسك، وإن سألك فأعطه، وإن كفّ عنك فاعرض عليه،

ص: 99


1- صحيح البخاري، ج 1، ص 95، ح 12: صحيح مسلم، ج 1، ص 67 ، ح 45/71: الجامع الصغير، ج 2، ص 204، حرف لا؛ التبيان في آداب حملة القرآن، ص 19؛ شرح المهذب، ج 1، ص 51.
2- الظاهر أنّ مراده ما سيأتي في الأمر الرابع عشر من هذا القسم ص 108؛ والأمر الثاني من القسم الثاني من النوع الثالث من هذا الباب، ص 147 - 149؛ والأمر الرابع من القسم الثالث من النوع الثاني من هذا الباب ص 115.
3- عيون الأخبار، ج 1، ص 307 - 308؛ الفقيه والمتفقه، ج 2، ص 111 - 112؛ تذكرة السامع، ص 49: التبيان في آداب حملة القرآن، ص 29؛ شرح المهذب، ج 1، ص 51.
4- مفعولٌ- «برَّ» فعل أمر من برَّ، يبرُّ، وعطف على عليك»، وفي الأمالي الشيخ الطوسي، ج 1، ص 94؛ وبحار الأنوار، ج 74، ص 225: «أخيك» بدل «أخاك» وعليه فهو مضاف إليه ل- «برَّ» و«بِرَّ» مصدر مجرورٌ عطف على تقوى الله».

ولا تُمِلََّه خيراً، وإنه لا يُمِلُّ لك(1)، كن له عضداً، وإنّه لك عضد، وإن وجد عليك فلا تفارقه حتّى تسأل [ظ تسلّ] سخيمته، وإن غاب فاحفظه في غيبته، وإن شهد فاكفه، واعضده وآزره وأكرمه والطفه، فإنّه منك وأنت منه»(2).

وكلّ خير ورد في حقوق الإخوان(3) آت هنا مع زيادة.

الرابع: أن يزجره عن سوء الأخلاق وارتكاب المحرّمات والمكروهات، أو ما يؤدّي إلى فساد حال أو ترك اشتغال أو إساءة أدب أو كثرة كلام لغير فائدة، أو معاشرة من لا تليق به عشرته، أو نحو ذلك بطريق التعريض ما أمكن، لا بطريق التصريح مع الغنى عنه، وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ؛ فإنّ التصريح يهتك حجاب الهيبة، ويورث الجرأة على الهجوم بالخلاف، ويهيّج الحرص على الإصرار؛ وقد ورد: لو منع الناس عن فتّ البعر، لفتّوه وقالوا ما نهينا عنه إلّا وفيه شيء»(4).

وفي المعنى أنشد بعضهم:

النفس تهوى مَنْ يجور ويعتدي *** والنفس مائلة إلى الممنوع

ولكلّ شيء تشتهيه طلاوة *** مدفوعة إلّا عن الممنوع(5)

ص: 100


1- الظاهر أنّه من أمليتُه بمعنى تركته وأخرته، والإملاء، أي الإمهال ولامه ياء؛ وأمّا الإملال من «ملّ» فبيعدُ، كما قاله المولى صالح شارح الكافي. وقال الفيض في الوافي قوله: لا تمله خيراً ولا يمل لك، أي لا تسأمه من جهة إكثارك الخير، ولا يسأم هو من جهة إكثاره الخير لك، يقال: مللته ومللت منه؛ إذا سأمه. المحجّة البيضاء، ج 3. ص ،355 الهامش الكافي، ج 2، ص 170 ، الهامش
2- الأمالي الشيخ الطوسي، ج 1، ص 94 - 95، وفيه: «حتى تحلّ سخيمته»، و: «فأكنفه» بدل «فاكفه»؛ بحار الأنوار، ج 74، ص 225، ح 14 ، وفيه: «حتى تسلّ سخيمته»؛ ومثل هذا الحديث مع زيادة في الكافي، ج 2، ص 170، باب حق المؤمن على أخيه وأداء حقه ، حه عن أبي عبد الله علیه السلام.
3- راجع مصادقة الإخوان، ص 38 - 42؛ والكافي، ج 2، ص 169 - 174 ، باب حق المؤمن على أخيه وأداء حقه، ح 1 - 16.
4- في إحياء علوم الدين، ج 1، ص 50؛ والذريعة إلى مكارم الشريعة، ص 120؛ وميزان العمل، 132، نُسِبَ إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم ؛ ولكن قال العراقي في المغني، ج 1، ص 50 - المطبوع بهامش الإحياء : حديث «لو منع الناس عن فتّ البعر لفتوه»، لم أجده.
5- لم أقف على ناظمه.

وانظر إرشاد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم، وتلطّفه مع الأعرابي الذي بال في المسجد(1)، ومع معاوية بن الحكم لمّا تكلّم في الصلاة(2).

فإن انزجر لذكائه بما ذكر من الإشارة فيها ونعمت، وإلّا نهاه سرّاً، فإن لم ينته نهاه جهراً، ويغلّظ القول عليه إن اقتضاه الحال، لينزجر هو وغيره، ويتأدّب به كلّ سامع، فإن لم ينته فلا بأس حينئذٍ بطرده والإعراض عنه إلى أن يرجع، سيّما إذا خاف على بعض رفقته من الطلبة موافقته.

وكذلك يتعهّد ما يعامل به بعض الطلبة بعضاً من إفشاء السلام وحسن التخاطب في الكلام، والتحابب والتعاون على البرّ والتقوى، وعلى ما هم بصدده.

وبالجملة فكما يعلّمهم مصالح دينهم لمعاملة الله تعالى يعلّمهم مصالح دنياهم المعاملة الناس فيكمل لهم فضيلة الحالتين.

الخامس(3) : أن لا يتعاظم على المتعلّمين، بل يلين لهم ويتواضع، قال تعالى:

ص: 101


1- إحياء علوم الدين، ج 2، ص 337؛ سنن أبي داود، ج 1، ص 103، ح 380؛ سنن ابن ماجة، ج 1، ص 176، ح 528 - 530. وإليك نص واحد منها؛ من سنن ابن ماجة، ح529 .... دخل أعرابي المسجد ورسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم جالسٌ، فقال: اللهمّ اغفر لي ولمحمّدٍ ولا تغفر لأحدٍ معنا. فضحك رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم وقال: «لقد احتظرت واسعاً. ثمّ ولّى، حتّى إذا كان في ناحية المسجد فشج يبول؛ الأعرابي - بعد أن فقة : فقام إلي بأبي وأمي ، فلم يؤنب ولم يسب، فقال: «إنّ هذا المسجد لا يبال فيه، وإنما يُني لذكر الله وللصلاة»، ثمَّ أَمَرَ بِسَجل من ماء فأُفُرِغَ على بوله.
2- الفقيه والمتفقّه، ج 2، ص 137؛ سنن الدارمي، ج 1، ص 353 - 354؛ سنن أبي داود، ج 1، ص 244 - 245، ح 930 - 931، وإليك نص واحد منها - من سنن أبي داود، ج 1، ص 245، ح 931- .. عن معاوية بن الحكم السلمي، قال: لما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علمت أموراً من أمور الإسلام، فكان فيما علمت أن قال لي: إذا عطست فاحمد الله، وإذا عطس العاطس فحمد الله فقل يرحمك الله. قال: فبينما أنا قائم مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم في الصلاة إذ عطس رجل فحمد الله، فقلت: يرحمك الله رافعاً بها صوتي فرماني الناس بأبصارهم حتى احتملني ذلك، فقلت: مالكم تنظرون إلي بأعيُنٍ شُرّر؟ قال: فسبحوا، فلما قضى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم الصلاة قال: من المتكلّم؟ قيل: هذا الأعرابي، فدعاني رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم فقال لي: إنّما الصلاة لقراءة القرآن وذكر الله جلّ وعز، فإذا كنت فيها فليكن ذلك شأنك. فما رأيت معلماً قط أرفق من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم .
3- لاحظ تذكرة السامع، ص 64 - 66: شرح المهذّب، ج 1، ص 52.

«وَ أَخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»(1).

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «إن الله أوحى إلي أن تواضعوا»(2).

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلّا عزاً، وما تواضع أحد لله إلّا رفعه الله»(3).

وهذا في التواضع لمطلق الناس فكيف بهؤلاء الذين هم معه كالأولاد، مع ما هم عليه من ملازمتهم له واعتمادهم عليه في طلب العلم النافع، ومع ما هم عليه من حقّ الصحبة وحرمة التردّد وشرف المحبّة وصدق التودّد.

وفي الخبر عنه صلی الله علیه و آله و سلّم : «علّموا ولا تعنّفوا؛ فإنّ المعلم خير من المُعنِّف»(4).

وعنه صلی الله علیه و آله و سلّم : «ليّنوا لمن تعلّمون، ولمن تتعلّمون منه»(5).

وقد تقدّم(6) خبر عيسى علیه السلام مع الحواريّين وغسله أقدامهم، وغيره من الأخبار.

فعلى المعلّم تحسين خلقه مع المتعلّمين زيادة على غيرهم و والتلطّف بهم إذا لقيهم والبشاشة وطلاقة الوجه وإظهار البشر وحسن المودّة وإعلام المحبّة وإظهار الشفقة، والإحسان إليهم بعلمه وجاهه حسب ما يمكن.

ص: 102


1- الشعراء (26): 215
2- سنن أبي داود ج 4، ص 274، ح 4895؛ الجامع الصغير، ج 1، ص 68 ، حرف الهمزة؛ الأذكار، ص 311؛ إحياء علوم الدین، ج 2، ص 172؛ شرح المهذب، ج 1، ص 52.
3- شرح المهذّب، ج 1، ص 52؛ مسند أحمد، ج 2، ص 386: إحياء علوم الدين، ج 2، ص 172؛ - ومثله في الكافي، ج 2، ص 121، باب التواضع، ح 1 - : الجامع الصغير، ج 2، ص 153، حرف الميم.
4- الفقيه والمتفقّه، ج 2، ص 137؛ الجامع الصغير، ج 2، ص 62، حرف العين؛ أدب الدنيا والدين، ص 93: كنز العمال، ج 10، ص 241، ح 29331؛ جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 155
5- الفقيه والمتفقّه، ج 2، ص 113؛ التبيان في آداب حملة القرآن، ص 20 شرح المهذّب، ج 1، ص 52: تذكرة السامع. ص 65 . وفي إحياء علوم الدين، ج 3، ص 153؛ وأدب الدنيا والدين، ص 93 ومحاضرات الأدباء ، ج 1، ص 45: «وَفّروا» بدل «لَيِّنوا». ومثله مع زيادة في الكافي، ج 1، ص 36، باب صفة العلماء، ج 1، عن أبي عبدالله علیه السلام.
6- في الأمر الرابع من القسم الأول من النوع الثاني ص 92، وهو في الكافي، ج 1، ص 37، باب صفة العلماء، ح 6.

وينبغي أن يخاطب كلّاً منهم - سيّما الفاضل المتميّز - بكنيته ونحوها من أحبّ الأسماء إليه، وما فيه تعظيم له وتوقير، فلقد كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم يكنّي أصحابه إكراماً لهم(1) ، فإنّ ذلك ونحوه أشرح لصدورهم، وأبسط لسؤالهم، وأجلب لمحبّتهم.

ويزيد في ذلك لمن يرجو فلاحه ويظهر صلاحه، وليمتثل وصيّة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم في قوله: «إنّ الناس لكم تبع، وإنّ رجالاً يأتونكم من أقطار الأرض يتفقّهون في الدين، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيراً»(2).

وبالجملة فالعالم بالنسبة إلى المتعلّم كالطبيب للمريض، فكلّ ما يرجو به شفاءه فليفعله؛ فإنّ داء الجهالة النفسانيّة أقوى من الأدواء البدنيّة.

وقد يتّفق كون خلاف ما ذكرناه هو الصلاح والدواء، كما يختلف ذلك باختلاف الأمزجة والطباع.

السادس(3): وهو من جنس السابق إذا غاب أحد منهم أو من ملازمي الحلقة زائداً على العادة يسأل عنه وعن أحواله وموجب انقطاعه، فإن لم يخبر عنه بشيء أرسل إليه، أو قصد منزله بنفسه، وهو أفضل كما كان يفعل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم مع أصحابه(4)، فإن كان مريضاً عاده أو فى غمّ خفّض عنه، أو مسافراً تفقّد أهله ومن يتعلّق به ويسأل

ص: 103


1- في الفقيه والمتفقه، ج 2، ص 119؛ وشرح المهذب، ج 1، ص 52: كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم ، يُكنّي أصحابه إكراماً لهم؛ وفي إحياء علوم الدين، ج 2، ص 323: ولقد كان يدعو أصحابه بكناهم إكراماً لهم واستمالة لقلوبهم، ويُكنّي من لم تكن له كنيّة فكان يُدعى بما كناه؛ وراجع أيضاً المغني - المطبوع بذيل الإحياء -، ج 2، ص 323. .
2- الجامع الصحيح، ج 5، ص 30 ، ح 2650؛ كنز العمال، ج 10، ص 246، ح 29314؛ التبيان في آداب حملة القرآن، ص 18: شرح المهذب، ج 1، ص 46.
3- لاحظ تذكرة السامع، ص 61 - 63.
4- الجامع الصغير، ج 2، ص 109، حرف الكاف مكارم الأخلاق، ص 29، وفيه: كان رسول الله إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيّامٍ سأل عنه، فإن كان غائباً دعاله، وإن كان شاهداً زاره، وإن كان مريضاً عاده؛ وقال المناوي في فيض القدير، ج 5، ص 152: ... وأُخِذَ منه أنه ينبغي للعالم إذا غاب بعض الطلبة فوق المعتاد أن يسأل عنه، فإن لم يخبر عنه بشيء أرسل إليه، أو قصد منزله بنفسه وهو أفضل، فإن كان مريضاً عاده، أو في غمّ حفضَ عليه، أو في أمر يحتاج لمعونة أعانه، او مسافراً تَفَقَّدَ أهله، وتعرَّضَ لحوائجهم ووصلّهم بما أمكن وإلّا تودَّد إليه ودعا له.

عنهم، وتعرّض لحوائجهم ووصلهم بما أمكن، وإن لم يحتاجوا إليه في شيء تودّد ودعا.

السابع: أن يستعلم أسماء طلبته وحاضري مجلسه وأنسابهم وكناهم ومواطنهم وأحوالهم، ويكثر الدعاء لهم؛ وفي الحديث المسلسل(1) بالسؤال عن الاسم والكنية والبلد وأين أنزل غنية في ذلك.

الثامن: أن يكون سمحاً ببذل ما حصّله من العلم، سهلاً بإلقائه إلى مبتغيه متلطفا في إفادة طالبيه مع رفقٍ ونصيحةٍ وإرشاد إلى المهمّات، وتحريص على حفظ ما يبذله لهم من الفوائد النفيسات، ولا يدّخر عنهم من أنواع العلم شيئاً يحتاجون إليه أو يسألون إذا كان الطالب أهلاً لذلك.

وليكتم عنهم ما لم يتأهّلوا له من المعارف؛ لأن ذلك ممّا يفرّق الهمّ ويفسد الحال، فإن سأله الطالب شيئاً من ذلك نبّهه على أنّ ذلك يضره، وأنّه لم يمنعه منه شحّاً بل

ص: 104


1- الحديث المسلسل: ما تتابع فيه رجال الأسناد على صفة كالتشبيك بالأصابع، أو حالة كالقيام في الراوي للحديث؛ سواء كانت تلك الصفة أو الحالة قولاً، كقوله: سمعتُ فلاناً يقول، إلى المنتهى - أي منتهى الإسناد أو أخبرنا فلان والله قال: أخبرنا فلان والله قال أخبرنا فلان والله إلى آخر الإسناد.... أو فعلاً كحديث التشبيك باليد ... : أو بهما، أي بالقول والفعل .... شرح البداية، ص 38؛ وعلى هذا فيريد المؤلّف (رحمه الله) من قوله: الحديث المسلسل بالسؤال... الحديث الذي سنده هكذا مثلاً: حدَّثني شيخي فلان وسألني عن اسمي وكنيتي وبلدي وأين أنزل، قال: حدثني شيخي فلان وسألني عن اسمي وكنيتي وبلدي وأين أنزل... وهكذا. وورد هذا الحديث المسلسل الذي أشار إليه المؤلّف (رحمه الله)، في الجواهر المكللة في الأحاديث المسلسلة، ص 126، في ذيل الحديث الثامن والخمسين، وفيه: .... ونحو هذا من المسلسلات ما ذكره الكتاني مسلسلاً بقول: سألني أسمي وكنيتي ونسبي وبلدي وأين أنزل، مما اتصل للسلفي من جهة الحسين بن عليّ بن يزيد الرفاعي عن أبي يعلى الموصلي الحافظ عن هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس (رضي الله عنه)، قال: لقيت النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم ، فسألني كما سألتك، وقال: «يا أنس، أكثر من الأصدقاء؛ فإنّكم شفعاء بعضكم على بعض». وكذا أورده مسلسلاً الديلمي في مسنده من طريق محمد بن النضر الموصلي عن أبي يعلى... ؛ وراجع الفردوس بمأثور الخطاب، ج 5، ص 365 ، ح 845 وفي الكافي، ج 2، ص 671، باب النوادر، ح 3: عن أبي عبدالله قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم : إذا أحبّ أحدكم أخاه المسلم فليسأله عن اسمه واسم أبيه واسم قبيلته وعشيرته؛ فإنّ من حقّه الواجب وصدق الإخاء أن يسأله عن ذلك، وإلا فإنّها معرفة حمق»؛ ومثله في مسند الإمام موسى بن جعفر علیهما السلام، ص 46 ، ح 20، عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم .

شفقةً ولطفاً، ثمّ يرغبه بعد ذلك في الاجتهاد والتحصيل، ليتأهّل لذلك وغيره.

وقد روي في تفسير «الربّاني» أنّه الذي يربّي الناس بصغار العلم قبل كباره(1).

التاسع: صد المتعلّم أن يشتغل بغير الواجب قبله، وبفرض الكفاية قبل فرض العين، ومن فرض العين إصلاح قلبه وتطهير باطنه بالتقوى، ويقدّم على ذلك مؤاخذته هو نفسه بذلك ليقتدي المتعلّم أولاً بأعماله، ثمّ يستفيد ثانياً من أقواله، وكذلك يمنعه من علّم الأدب قبل السنة وهكذا.

العاشر(2) : أن يكون حريصاً على تعليمهم، باذلاً وسعه في تفهيمهم وتقريب الفائدة إلى أفهامهم وأذهانهم مهتمّاً بذلك مؤثراً له على حوائجه ومصالحه، ما لم يكن ضرورة إلى ما هو أرجح منه، ولا يدّخر من نصحهم شيئاً. ويفهم كلّ واحد منهم بحسب فهمه وحفظه، ولا يعطيه ما لا يحتمله ذهنه، ولا يبسط الكلام بسطاً لا يضبطه حفظه، ولا يقصر به عمّا يحتمله بلا مشقّة، ويخاطب كلّ واحد منهم على قدر درجته وبحسب فهمه، فيلقي للمتميّز الحاذق الذي يفهم المسألة فهماً محقّقاً بالإشارة، ويوضح لغيره لا سيّما متوقّف ،الذهن، ويكرّرها لمن لا يفهمها إلّا بتكرار، ويبدأ بتصوير المسألة ثمّ يوضحها بالأمثلة إن احتيج إليه، ويذكر الأدلّة والمآخذ لمحتملها، ويبيّن الدليل المعتمد ليعتمد، والضعيف لئلا يغترّ به فيقول: استدلّوا بكذا، وهو ضعيف لكذا؛ مراعياً في ذلك ما يجب مراعاته مع من يضعّف قوله من العلماء، بأن يقصد مجرّد بيان الحقّ حيث يتوقّف على ذلك، لا رفع نفسه على غيره ولا هضم غيره.

ويبيّن أسرار حكم المسألة وعللها، وتوجيه الأقوال والأوجه الضعيفة والجواب عنه [خ ل: عنها] و ما يتعلّق بتلك المسألة من أصل وفرع، وما يبني عليها وما يشبهها وحكمه حكمها، وما يخالفها ومأخذ الحكمين والفرق بين المسألتين، وما يتعلّق

ص: 105


1- صحيح البخاري، ج 2، ص 31 ، ح 66 ، وفيه: قال ابن عبّاس كونوا ربانيين حلماء فقهاء. ويقال: الرباني: الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره.
2- لاحظ شرح المهذب، ج 1، ص 52.

بالمسألة من النكت اللطيفة والألغاز الظريفة والأمثال والأشعار واللغات، وما يرد عليها أو على عبارة مثلها وجوابه إن أمكن.

وينبّه على غلط من غلط فيها من المصنّفين في حكم أو تخريج أو نقل ونحو ذلك، لغرض صحيح، لا لمجرّد إظهار الخطأ والصواب، بل [لِ_] النصيحة، لئلا يغترّ به، كلّ ذلك مع أهليّة الملقى إليه لذلك.

الحادي عشر(1) : أن يذكر في تضاعيف الكلام ما يناسبه من قواعد الفنّ الكلّية التي لا تنخرم، أو يضبط مستثنياتها إن كانت كقوله: كلّ ركن تبطل الصلاة بزيادته ونقصانه مطلقاً إلّا مواضع، مخصوصة، ويبينها؛ وكلّما اجتمع سبب ومباشرة قدّمت المباشرة على السبب؛ وكلّ من قبض شيئاً لغرضه لا يقبل قوله في الردّ إلى المالك؛ وأنّ الحدود تسقط بالشبهة؛ وأنّ الاعتبار في اليمين بالله تعالى بنيّة الحالف إلّا أن يكون المستحلِف قاضياً وقد استحلفه لدعوى اقتضته فالاعتبار بنية القاضي أو نائبه المستحلف؛ وأنّ كلّ يمين على نفي فعل الغير فهي على نفي العلم إلّا من ادّعى عليه أنّ عبده جنى - على قول - أو بهيمة :[ظ : بهيمته ] كذلك(2)، وأنّ السيّد لا يثبت له في ذمّة عبده مالٌ ابتداءً ؛ ونحو ذلك.

ويبيّن له جملاً ممّا ينضبط ويحتاج إليه من أُصول الفقه، كترتيب الأدلّة من الكتاب والسنّة والإجماع والقياس على وجه والاستصحاب وأنواع الأقيسة ودرجاتها؛ وحدود ما ناسب تحديده وجملةٍ من أسماء المشهورين من الصحابة والتابعين والعلماء وتراجمهم ووفياتهم وضبط المشكل من أسمائهم وأنسابهم والمشتبه من ذلك، والمختلف والمؤتلف (3)منه، ونحو ذلك؛ وجملة من الألفاظ اللغويّة والعرفيّة المتكرّرة

ص: 106


1- لاحظ تذكرة السامع، ص 57 - 59؛ وشرح المهذب، ج 1، ص 53 - 56.
2- انظر تفصيل ذلك في القواعد والفوائد، ص 261 - 263 (ضمن موسوعة الشهيد الأوّل ج 15: وتحرير الأحكام الشرعيّة، ج 2، ص 192؛ وجواهر الکلام، ج 40، ص 242 - 244 .
3- انظر توضيح هذا الاصطلاح في شرح البداية، ص 130 - 133؛ وتدريب الراوي، ج 2، ص 297 - 315.

في العلم ضبطاً لمشكلها، فيقول: هي مفتوحة أو مضمومة أو مكسورة مخفّفة أو مشدّدة ونحو ذلك؛ كلّ ذلك تدريجاً شيئاً فشيئاً فيجتمع لهم مع طول الزمان خير عظيم.

الثاني عشر(1) : أن يحرّصهم على الاشتغال في كلّ وقت، ويطالبهم في أوقات بإعادة محفوظاتهم، ويسألهم عمّا ذكره لهم من المهمّات والمباحث، فمن وجده حافظاً مراعياً أكرمه وأثنى عليه، وأشاع ذلك ما لم يخف فساد حاله بإعجاب ونحوه، ومن وجده مقصّراً عنّفه في الخلوة وإن رأى مصلحة في الملأ فعل؛ فإنّه طبيب يضع الدواء حيث يحتاج إليه وينفع.

الثالث عشر: أن يطرح على أصحابه ما يراه من مستفاد المسائل الدقيقة والنكت الغريبة، يختبر بذلك أفهامهم ويظهر فضل الفاضل ليتدرّبوا بذلك ويعتادوه، ولا يعنّف من غلط منهم في ذلك إلّا أن يرى في ذلك مصلحةً.

وقد روي عن ابن عمر أن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم قال: «إنّ من الشجرة شجرةً لا يسقط ورقها، وإنّها مثل المسلم حدّثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي ووقع في نفسي أنّها النخلة، فاستحييت، ثمّ قالوا: حدّثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: هي النخلة. فقال له أبوه: لو قلتها لكان أحبّ إليّ من كذا وكذا»(2).

وكذلك إذا فرغ من شرح درس فلا بأس أن يطرح مسائل تتعلّق به على الطلبة، وإعادة ذكر ما أشكل منه ليمتحن بذلك فهمهم وضبطهم لما شرح لهم، فمن ظهر استحكام فهمه له بتكرار الإصابة في جوابه شكره ، ومن لم يفهمه تلطّف في إعادته له.

وينبغي للشيخ أن يأمر الطلبة بالاجتماع في الدرس، لما يترتّب عليه الفائدة من التي لا تحصل مع الانفراد وإعادة ما وقع من التقرير بعد فراغه فيما بينهم ليثبت في أذهانهم.

ص: 107


1- لاحظ شرح المهذّب، ج 1، ص 55 - 58
2- صحيح البخاري، ج 2، ص 11 - 13، 160 - 161، ح 60 - 61، 131: الجامع الصحيح، ج 5، ص 151. ح 2867 .

الرابع عشر: أن ينصفهم في البحث، فيعترف بفائدة يقولها بعضهم وإن كان صغيراً، فإنّ ذلك من بركة العلم. قال بعض السلف(1):

من بركة العلم وآدابه الإنصاف، ومن لم ينصف لم يُفَهِّم ولم يَتَفَهَّم. فيلازمه في بحثه وخطابه، ويسمع السؤال من مورده على وجهه وإن كان صغيراً، ولا يترفّع عن سماعه فيُحْرَم الفائدة.

ولا يحسد أحداً منهم لكثرة تحصيله أو زيادته على خاصّته من ولدٍ وغيره، فالحسد حرام فكيف بمن هو بمنزلة الولد، وفضيلته يعود إلى معلّمه منها أوفر نصيب؛ فإنّه مربّيه وله في تعليمه وتخريجه في الآخرة الثواب الجزيل، وفي الدنيا الدعاء المستمرّ والثناء الجزيل.

وما رأينا ولا سمعنا بأحد من المشايخ اهتمّ بتفضيل ولده على غيره من الطلبة وأفلح، بل الأمر بيد الله والعلم فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. الخامس عشر(2) : أن لا يظهر للطلبة تفضيل بعضهم على بعض عنده في مودّة أو اعتناء مع تساويهم في الصفات من سنٍّ أو فضيلةٍ أو ديانةٍ، فإنّ ذلك ربما يوحش الصدر وينفّر القلب. فإن كان بعضهم أكثر تحصيلاً وأشدّ اجتهاداً وأحسن أدباً، فأظهر إكرامه وتفضيله وبيّن أنّ زيادة إكرامه لتلك الأسباب، فلا بأس بذلك فإنّه ينشّط ويبعث على الاتّصاف بتلك الصفات المرجّحة.

السادس عشر : أن يقدّم في تعليمهم إذا ازدحموا الأسبق فالأسبق، ولا يقدّمه بأكثر من درس إلّا برضا الباقين، ويختار إذا كانت الدروس في كتاب واحد باتّفاق منهم وهو المسمى بالتقسيم أن يبدأ في كلّ يوم بدرس واحدٍ منهم، فإنّ الدرس المبدّأ به ربما حصل فيه من النشاط في التقرير ما لا يحصل في غيره، إلّا إذا علم من الملالة وبقاء النشاط فيرتّب الدروس بترتيب الكتاب فيقدّم درس العبادات على

ص: 108


1- هو أبو عمر ابن عبدالبر القرطبي، كما في جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 159.
2- لاحظ تذكرة السامع، ص 59

درس المعاملات ،وهكذا، وإن رأى مع ذلك تقديم الأسبق ليحضّ المتأخّر على التقدّم كان حسناً.

وينبغي أن لا يقدّم أحداً في نوبة غيره، ولا يؤخّره عن نوبته إلّا إذا رأى في ذلك مصلحةً كنحو ما ذكرنا، فإن سمح بعضهم لغيره في نوبته فلا بأس، وإن جاؤوا معاً وتنازعوا أقرع بينهم بشرطه الآتي - مع بيان المسألة مفصّلة - إن شاء الله تعالى في القسم الثالث من النوع الثالث.

السابع عشر(1) : إذا سلك الطالب في التحصيل فوق ما يقتضيه حاله أو تحمله طاقته وخاف ضجره، أوصاه بالرفق بنفسه وذكّره بقول النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم : «إنّ المنبتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى»(2).

ونحو ذلك ممّا يحمله على الأناة والاقتصاد في الاجتهاد.

وكذلك إذا ظهر له منه نوع سامةٍ أو ضجرٍ أو مبادئ ذلك، أمره بالراحة وتخفيف

ص: 109


1- لاحظ تذكرة السامع ص 55-57
2- الكافي، ج 2، ص 87، باب الاقتصاد في العبادة، ح 6، ونص الحديث هكذا: عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم : يا علي ! إنّ هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق ولا تُبَغض إلى نفسك عبادة ربِّك، [ف] إنّ المُنْبَت - يعني المفرط - لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع، فاعمل عمل من يرجو أن يموتَ هَرَماً، واحذر حذر من يتحوّفُ أن يموت غداً : واعلم أنه قال الشريف الرضي في المجازات النبوية، ص 260 في شرح هذا الحديث الشريف: ووصف الدين بالمتانة هاهنا مجاز، والمراد أنه صعب الظهر، شديد الأسر، مأخوذ من متن الإنسان وهو: ما اشتدّ من لحم منكبيه، وإنما وصفه ( عليه الصلاة والسلام) بذلك لمشقة القيام بشرائطه والأداء لوظائفه، فأمر (عليه الصلاة والسلام) أن يدخل الإنسان أبوابه مترفقاً، ويرقى هضابه متدرّجاً، ليستمر على تجسم متاعبه، ويمرن على امتطاء مصاعبه، وشبه ( عليه الصلاة والسلام) العابد الذي يُحْسِرُ منّته، ويستنفد طاقته بالمنبت وهو الذي يُفِذُ السير، ويكد الظهر، منقطعاً من رفقته ومنفرداً عن صحابته، فتحسر مطيته ولا يقطع شقته، وهذا من أحسن التمثيلات وأوقع التشبيهات وممّا يقوّي المراد بهذا الخبر. وقال ابن الأثير في نهاية في غريب الحديث والأثر، ج 1، ص 92، «بتت». وفيه: [يعني في الحديث ] «فإنّ المنبث لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى». يقال للرجل إذا انقطع به في سفره وعطبَتْ راحلته: قد انبت، من البَتْ: القطع، وهو مطاوع بثَّ يقال: بَته وأبنه يريد أنه بقي في طريقه عاجزاً عن مقصده لم يقْضِ وطرَه وقد أعْطَبَ ظَهْرَه. وراجع أيضاً مجمع الأمثال، ج 1، ص 7؛ ولسان العرب، ج 2، ص 7 - 8، «بتت».

الاشتغال وليزجره عن تعلّم ما لا يحتمله فهمه أو سنّه من علم أو كتاب يقصر ذهنه عن فهمه، فإن استشاره من لا يعرف حاله في الفهم والحفظ في قراءة فنٍّ أو كتاب لم يشر عليه حتّى يجرّب ذهنه ويعلم حاله، فإن لم يحتمل الحال التأخّر أشار عليه بكتاب سهل من الفنّ المطلوب، فإن رأى فهمه جيّداً وذهنه قابلاً نقله إلى كتاب يليق بذهنه، وإلّا تركه؛ لأن نقل الطالب إلى ما يدلّ نقله إليه على جودة ذهنه وكماله ممّا یزید انبساطه ويوفّر نشاطه وإلى ما يدلّ على قصوره بخلاف ذلك.

ولا يمكّن الطالب من الاشتغال في فنّين أو أكثر، إذا لم يضبطهما ، بل يقدّم الأهمّ فالأهمّ، كما سيذكر إن شاء الله تعالى(1). وإذا علم أو غلب على ظنّه أنّه لا يفلح في فنّ أشار عليه بتركه والانتقال إلى غيره ممّا يرجى فلاحه فيه.

الثامن عشر إذا كان متكفّلاً ببعض العلوم لا غير، لا ينبغي له أن يقبّح في نفس الطالب العلوم التي وراءه، كما يتّفق ذلك كثيراً لجهلة المعلّمين؛ فإنّ المرء عدوّ ما جهل، كمعلّم العربيّة والمعقول إذ عادته تقبيح الفقه، ومعلّم الفقه تقبيح(2) علم الحديث والتفسير، وأشباه ذلك.

وهكذا ينبغي أن يوسّع على الطالب طريق التعلّم في غيره، وإذا رأى مرتبة العلم الذي بيده متأخّرةً عمّا بيد غيره يرشده إلى من بيده السابق؛ فإنّ ذلك هو الواجب من نصح المسلمين وحفظ العلم والدين، وأتمّ الدليل على كمال المعلّم، وموجب الملكة الصالحة للمتعلّم.

التاسع عشر(3): وهو من المهمّ أن لا يتأذّى ممّن يقرأ عليه إذا قرأ على غيره أيضاً

ص: 110


1- في المطلب الثالث من الخاتمة ص 287 - 291
2- هكذا في النسخ سوى «ض، ع، ح» فقد جاء فيها: ... ومعلّم الفقه يُقَبِّح علم الحديث.... وقال الغزالي في إحياء علوم الدين، ج 1، ص 50: إن المتكفّل ببعض العلوم ينبغي ألا يُقبِّحَ في نفس المتعلّم العلوم التي وراءه، كمعلم اللغة إذ عادته تقبيح علم الفقه، ومعلّم الفقه عادته تقبيح علم الحديث والتفسير.
3- لاحظ شرح المهذّب، ج1، ص58

لمصلحةٍ راجعةٍ إلى المتعلّم؛ فإنّ هذه مصيبة يبتلى بها جهلة المعلّمين ومن لا يريد بعلمه وجه الله تعالى، لغباوتهم وفساد نيّاتهم.

وهو من أوضح الأدلّة على عدم إرادتهم بالتعليم وجه الله الكريم وثوابه الجسيم؛ فإنّه عبد مأمور بأداء رسالة سيّده إلى بعض عبيده فإذا أرسل السيّد عبداً آخر لأداء الرسالة لا ينبغي للأوّل الغضب؛ فإنّ ذلك لا ينقصه عند السيّد، بل يزيده قدراً ورفعةً عنده إذا وجده ممتثلاً لما يريده منه أو من غيره.

فالواجب على المعلّم إذا وجد من الطالب نشاطاً وقوّةً على تعدّد الدرس، ولم يقدر على تحصيل غرضه بنفسه أن يرشده ابتداءً إلى من يقرأ عليه درساً آخر؛ فإنّ ذلك من تمام النصيحة ورعاية حفظ الأمانة. وهذا أمر اتّفق لي مع بعض مشايخي بمصر(1) أحسن الله جزاءه.

هذا كلّه إذا كان المعلّم الآخر الذي انتقل إليه الطالب بنفسه أهلاً، أمّا لو كان جاهلاً مع عدم علم الطالب، أو فاسقاً أو مبتدعاً أو كثير الغلط ونحو ذلك بحيث يفيد الطالب ملكة رديّةً لا يرجّح عليها ما يحصّله من العلم عليه، فالتحذير من الاغترار به حسن مع مراعاة المقصد الصحيح المنجح، والله يعلم المفسد من المصلح(2). العشرون: إذا تكمّل الطالب وتأهّل للاستقلال بالتعليم واستغنى عن التعلّم، فينبغي أن يقوم المعلّم بنظام أمره في ذلك، ويمدحه في المحافل، ويأمر الناس بالاشتغال عليه والأخذ عنه؛ فإنّ الجاهل بحاله قد لا يأنس ولا يطمئنّ به وإن تصدّى للتعليم، بدون إرشاد من هو معلوم الحال. ولينبّه على حاله مفصّلاً ومقدار معلوماته وتقواه وعدالته، ونحو ذلك ممّا له مدخل في إقبال الناس على التعلّم منه، فإنّ ذلك سبب عظيم لانتظام العلم وصلاح الحال.

ص: 111


1- تتلمذ المؤلّف (قدّس سرّه) على جماعة من العلماء بمصر في سنة 942 - 143ه-. مدة ثمانية عشر شهراً تقريباً، ومن أراد الاطّلاع عليهم فليراجع الدر المنثور، ج 2، ص 159 - 162.
2- اقتباس من الآية 220 من البقرة (2)

كما أنّه لو رأى منه ميلاً إلى الاستبداد والتدريس ويعلم قصوره عن المرتبة واحتياجه إلى التعلّم، ينبغي أن يقبّح ذلك عنده، ويشدّد النكير عليه في الخلاء، فإن لم ينجع فليظهر ذلك على وجه صحيح المقصد حتّى يرجع إلى الاشتغال ويتأهّل للكمال.

و مرجع الأمر كلّه إلى أنّ المعلّم بالنسبة إلى المتعلّم بمنزلة الطبيب، فلا بدّ له في كلّ وقت من تأمّل العلّة المحوجة إلى الإصلاح ومداواته على الوجه الذي تقتضيه العلّة. وللذكيّ في تفصيل الحال ما لا يدخل تحت الضبط، فإنّ لكلّ مقامٍ مقالاً صالحاً، ولكلّ مرض دواء ناجحاً والله الموفّق.

ص: 112

القسم الثالث: آدابه في درسه

وهي أُمور:

الأوّل: أن لا يخرج إلى الدرس إلا كامل الأُهبَة، وما يوجب له الوقار والهيبة في اللباس والهيأة والنظافة في الثوب والبدن ويختار له البياض؛ فإنّه أفضل لباساً(1)، ولا يعتني بفاخر الثياب بل بما يوجب الوقار وإقبال القلوب عليه كما ورد النصّ(2) به في أئمّة المحافل من الأعياد والجمعات وغيرهما.

وقد اشتمل كتاب [الزيّ و] التجمّل [والمروءة] من كتاب الكافي(3)على الأخبار

الصحيحة في هذا الباب بما لا مزيد عليه، ويخرج التعرّض له عن موضوع الرسالة. وليقصد بذلك تعظيم العلم وتبجيل الشريعة، وليتطيّب ويسرّح لحيته، ويزيل كلّ ما يشينه؛ كان بعض السلف(4) إذا جاءه الناس لطلب الحديث يغتسل ويتطيّب ويلبس ثياباً

ص: 113


1- في الكافي، ج 6 ، ص 446، باب لباس البياض والقطن، ح : قال أمير المؤمنين علیه السلام : «البسوا ثياب القطن، فإنّها لباسُ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم، وهو لباسُنا».
2- راجع الكافي، ج 3، ص 421 ، باب تهيئة الإمام للجمعة والخطبة والإنصات، ح 1؛ وج 3، ص 460 ، باب صلاة العيدين والخطبة فيهما ، ح : وفي الفقيه ، ج 1 ، ص 274، ح 1256 : وكان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم إذا كان يوم الجمعة ولم يصب طيباً دعا بثوب مصبوغ بزعفران فرش عليه الماء ثم مسح بيده ثم مسح به وجهه. [قال المؤلّف ] ويستحب أن يعتم الرجل يوم الجمعة وأن يلبس أحسن أثوابه وأنظفها ويتطيب فيدهن بأطيب دهنه.
3- الكافي، ج 6، ص 438 - 534.
4- هو مالك بن أنس كما في المحدث الفاصل، ص 585؛ وفيات الأعيان، ج 4، ص 135 - 136؛ تذكرة السامع، ص 31: إحياء علوم الدين، ج 1، ص 24؛ وراجع أيضاً مقدمة ابن الصلاح، ص 363؛ وأدب الإملاء والاستملاء، 27 46؛ والخلاصة في أصول الحديث، ص 144

جدداً، ويضع رداءه على رأسه، ثمّ يجلس على منصّةٍ(1) ولا يزال يبخّر بالعود حتّى يفرغ، ويقول: أُحبّ أن أُعظمّ حديث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم.

الثاني(2) : أن يدعو عند خروجه مريداً للدرس بالدعاء المرويّ عن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم : «اللهمّ إنّي أعوذ بك أن أضلّ أو أضلّ، أو أزلّ أو أزلّ، أو أظلم أو أُظلم، أو أجهل أو يُجهل عليّ، عزّ جارك، وجلّ ثناؤك، ولا إله غيرك». ثمّ يقول: «بسم الله حسبي الله، توكّلت على الله، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم اللهمّ ثبّت جناني وأدر الحقّ على لساني»(3).

ويديم ذكر الله تعالى إلى أن يصل إلى المجلس.

الثالث(4) : أن يسلّم على من حضر إذا وصل إلى المجلس، ويصلّي ركعتين تحيّة [المسجد] إن كان مسجداً، وإلّا نوى بهما الشكر لله تعالى على توفيقه وتأهيله لذلك أو الحاجة إلى تسديده وتأييده وعصمته من الخطأ، أو مطلقتين؛ فإنّ «الصلاة خير موضوع»(5) وأمّا استحبابهما لذلك بخصوصه فلم يثبت وإن استحبّه بعض العلماء(6). ثمّ

ص: 114


1- نصَّ النساء العروس نصّاً: رفعنها على المِنَصَّةِ، وهي الكرسي تقف عليه في جلاتها، بكسر الميم لأنّها آلة. المصباح المنير، ص 744 ، «نص».
2- لاحظ تذكرة السامع، ص 31 - 32.
3- سنن أبي داود، ج 1، ص 325، ح 5094، 5095؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1278، ح 3884، 3885، في كل من هذه الروايات بعض هذا الدعاء، إلا الجملة الأخيرة؛ وكله في تذكرة السامع، ص 30 - 31؛ وانظر أيضاً الجامع الصحيح، ج 5، ص 490
4- لاحظ تذكرة السامع، ص 32
5- إشارة إلى الحديث الذي روي عن الصادق عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم : «الصلاة خير موضوع فمن شاء استقل ومن شاء استكثر». بحار الأنوار، ج 2، ص 308 - 309، ح 9 عن كتاب «جامع الأحاديث» لا «الإمامة والتبصرة» كما توهّم؛ أو حديث أبي ذّر عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم - المروي في عوالي اللآلي، ج 1، ص 90: قلت يا رسول الله! ما الصلاة؟ فقال: «خير موضوع، فاستكثر أو استقل»؛ وهو مروي في بحار الأنوار، ج 82، ص 307، ج 3، نقلاً عن معاني الأخبار والخصال؛ وفي طبقات الشافعية، ج 1، ص 255: عن رسول الله صلی الله علیه و آله و اله سلّم : «الصلاة خير موضوع».
6- الظاهر أنّه النووي في التبيان في آداب حملة القرآن، ص 22؛ وتبعه ابن جماعة الكناني في تذكرة السامع ص 32؛ وقال السمعاني في أدب الإملاء والاستملاء، ص 35: ويستحب أن يصلي ركعتين قبل جلوسه. ولم يقيد يكون الموضع مسجداً.

يدعو بعدهما بالتوفيق والإعانة والعصمة.

الرابع: أن يجلس بسكينةٍ ووقارٍ وتواضعٍ وخشوع وإطراق، ثانياً رجليه أو محتبياً، غير متربّعٍ ولا مقعٍ، ولا غير ذلك من الجلسات المكروهة(1) مع الاختيار، ولا يمدّ رجليه ولا إحديهما من غير عذرٍ ولا يتّكئ إلى جنبه ولا وراء ظهره ونحو ذلك؛ كلّ ذلك في حال الدرس أمّا في غيره فلا بأس؛ لأنّ الطلبة بمنزلة أولاده.

الخامس : قيل(2) يجلس مستقبل القبلة؛ لأنّه أشرف ولقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «خير المجالس ما استقبل بها»(3).

ويمكن أن يقال باستحباب استدباره لها ليخصّ الطلبة بالاستقبال، لأنّهم أكثر، وكذا من يجلس إليهم للاستماع.

ومثله ورد في القاضي(4)، إلّا أنّ لذلك مزيّةً زائدةً في ذلك، وهو كون الخصوم إلى

ص: 115


1- راجع بحار الأنوار، ج 75، ص 469.
2- القائل ابن جماعة الكناني في تذكرة السامع ص 32؛ والنووي في شرح المهذب، ج 1، ص 56.
3- التبيان في آداب حملة القرآن، ص 43: مجمع الزوائد، ج 8، ص 59 الترغيب والترهيب، ج 4، ص 59، وف-ي-ه: أكرم المجالس ما استقبل به القبلة، وإن أشرف المجالس ما استقبل به القبلة»؛ والجملة الأخيرة في تحف العقول، ص 26؛ وبحار الأنوار، ج 77، ص 130، ح 34 ، نقلاً عنه؛ وفي بحار الأنوار، ج 75، ص 469 ، ح 4 - نقلاً عن كتاب الغايات - أيضاً : قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم : «إن لكل شيء شرفاً وإن أشرف المجالس ما استقبل به القبلة»؛ ومثله في أدب الإملاء والاستملاء، ص 44 - 45.
4- قال في جواهر الكلام . ج ،40، ص 74 كتاب القضاء، مبحث الآداب المستحبة للقاضي: ثم يجلس مستدبر القبلة كما عن الأكثر، ليكون وجه الخصوم إذا وقفوا بين يديه إليها، ليكون ذلك اردع لها عن كلام الباطل وخصوصاً وقت الاستحلاف وقيل - والقائل الشيخ في محكي مبسوطه وابن البراج على ما حكي عنه -: يستقبل القبلة، لقوله : خير المجالس ما استقبل به القبلة». وهو أحق من غيره، ولكن الأوّل أظهر لما عرفت؛ وقال المصنف رحمه الله) في مسالك الأفهام، ج 2، ص 287: ومنها أن يجلس مستدبر القبلة ليكون وجه الخصوم إذا وقفوا بين يديه مستقبل القبلة خصوصاً في وقت استحلافهم فيكون مراعاة جانب الاستقبال فيهم أهم من مراعاة جانبه نظراً إلى عموم المصلحة. وهذا اختيار الأكثر ومنهم الشيخ في النهاية. وقال في المبسوط يكون متوجهاً إلى القبلة لماروي عن النبي صلی الله علیه و آله و سلّم قال: «خير المجالس ما استقبل به القبلة». والقاضي أحقّ بهذه الفضيلة... واختار المصنّف الأوّل وهو الأظهر. والظاهر أنّه لم يرد نصّ بالخصوص في القاضي ولا في المعلّم في مجلس درسه؛ نعم في الكافي، ج 6، ص 165 ، باب اللعان، ح 11؛ والفقيه، ج 3، ص 346 - 347، ح 1664: عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: سألت أبا الحسن الرضا علیه السلام قلتُ له: أصلحك الله، كيف الملاعنة؟ قال، فقال: يقعد الإمام ويجعل ظهره إلى القبلة، ويجعل الرجل عن يمينه والمرأة عن يساره»؛ وأيضاً في الكافي، ج 6. ص 165، باب اللعان، ح 10 عن محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر علیه السلام عن الملاعن والملاعنة كيف يصنعان؟ قال: «يجلس الإمام مستدبر القبلة، فيُقيمهما بين يديه مستقبلاً [كذا ] القبلة بحذائه...».

القبلة تغليظاً عليهم في الحذر من الكلام الباطل وفي حال الحلف، ولا نصّ هنا على الخصوص.

السادس: أن ينوي قبل شروعه بل حين خروجه من منزله تعليم العلم ونشره وبثّ الفوائد الشرعيّة، وتبليغ الأحكام الدينيّة التي اؤتمن عليها وأُمر ببيانها، والازدياد في العلم بالمذاكرة وإظهار الصواب والرجوع إلى الحقّ، والاجتماع على ذكر الله تعالى، والدعاء للعلماء الماضين والسلف الصالحين، وغير ذلك ممّا يحضره من المقاصد. فإنّ بإحضارها بالبال وكثرتها يزيد ثواب العمل؛ فإنّما الأعمال بالنيّات. وليس المراد بالنيّة أن يقول: أفعل كذا لأجل كذا ويرتّب لها ألفاظاً مخصوصةً، بل المراد بها بعث النفس وتصميم العزم على الفعل المخصوص لغرض التقرّب إلى الله تعالى وطلب الزلفي لديه حتّى لو تلفّظ وقال: أفعل ذلك لله تعالى - والله مطّلع على قلبه يقصد غير ذلك كقصد الظهور في المحافل وارتفاع الصيت والترجيح على الأمثال والنُّظراء - فهو مخادع الله تعالى مراءٍ للناس، والله مطّلع على فساد نيّته وخبث طويّته فيستحقّ العقوبة على هذه الذنوب وإن كانت بمظهر العبادة. أصلح الله تعالى بفضله وكرمه أعمالنا وسدّدنا في أقوالنا وأخلص سرائرنا ومقاصدنا بمنّه وفضله.

السابع: أن يستقرّ على سمتٍ واحد مع الإمكان، فيصون بدنه عن الزحف والتنقّل مكانه والتقلقل ، ويديه عن البعث والتشبيك بهما ، وعينيه عن تفريق النظر عن بلا حاجة .

ويتّقي كثرة المزاح والضحك؛ فإنّه يقلّل الهيبة ويسقط الحرمة، ويزيل الحشمة،

ص: 116

ويذهب العزّة من القلوب؛ وأمّا القليل من المزاح فمحمود، كما كان يفعله النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم(1) ومن بعده من الأئمّة المهديّين(2)؛ تأنيساً للجلساء وتأليفاً للقلوب. وقريب منه الضحك، فقد كان النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم يضحك حتّى تبدو نواجذه(3). ولكن لا يعلو الصوت(4)، والعدل التبسّم.

الثامن: أن يجلس في موضع يبرز وجهه فيه لجميع الحاضرين، ويلتفت إليهم التفاتاً خاصّاً بحسب الحاجة للخطاب، ويفرّق النظر عليهم، ويخصّ من يكلّمه أو يسأله أو يبحث معه على الوجه بمزيد التفات إليه وإقبال عليه، وإن كان صغيراً أو وضيعاً؛ فإن تخصيص المرفّعين من أفعال المتجبّرين والمرائين. والقارئ من الحاضرين في حكم الباحث، فيخصّه بما يتعلّق بدرسه، ويعطي غيره من الخطاب والنظر بحسب حاله وسؤاله.

التاسع: أن يُحسِن خُلقه مع جلسائه زيادةً على غيرهم، ويوقّر فاضلهم بعلمٍ أو سنٍّ

ص: 117


1- مكارم الأخلاق، ص 21؛ إحياء علوم الدین، ج 2، ص 319
2- قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 25 - 26، في وصف مولانا أمير المؤمنين (عليه أفضل صلوات المصلّين): وأمّا سجاحة الأخلاق وبشر الوجه وطلاقة المحيا والتبسُّمّ، فهو المضروب به المثل فيه حتّى عابه بذلك أعداؤه ؛ قال عمرو بن العاص لأهل الشام إنّه ذو دُعابة شديدة. وقال عليّ علیه السلام في ذاك: «عجباً لابن النابغة! يزعم لأهل الشام أنّ في دعابة وأني امرؤ تِلْعابة، أعافس وأمارس!» وعمرو بن العاص إنما أخذها عن عمر بن الخطاب لقوله له لما عزم على استخلافه لله أبوك لولا دُعابة فيك إلا أنّ عمر اقتصر عليها، وعمرو زاد فيها وسَمَّجَها. ... قال معاوية لقيس بن سعد رحم الله أبا حسن؛ فلقد كان هشاً بشاً ذا فكاهة، قال قيس: نعم، كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يمزح ويبتسم إلى أصحابه، وأراك تُسرّ حسواً في ارتفاء، وتعيبه بذلك! أما والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لِبْدَتين قدمته الطوى، تلك هيبة التقوى، وليس كما يهابك طعام أهل الشام وقد بقي هذا الخُلق متوارثاً متناقلاً في مُحبّيه وأوليائه إلى الآن، كما بقي الجفاء والخشونة والوعورة في الجانب الآخر، ومن له أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوائدهم يعرف ذلك.
3- مكارم الأخلاق، ص 21؛ إحياء علوم الدین، ج 2، ص 325؛ وراجع الجامع الصحيح، ج 5، ص 601، ح 3641 و 3642 : وانظر الأحاديث التي حول الضحك والدعابة في الكافي، ج 2، ص 663 - 665 ، باب الدعابة والضحك، ح 1 - 20؛ وبحار الأنوار، ج 76، ص 58 - 61 .
4- قال أمير المؤمنين عليّ علیه السلام في الخطبة التي يصف فيها المتقين: «... وإن ضحك لم يعل صوته». نهج البلاغة ص 306 الخطبة 193.

أو صلاحٍ أو شرف، ونحو ذلك، ويرفع مجالسهم على حسب تقديمهم في الإمامة(1)، ويتلطّف بالباقين، ويكرمهم بحسن السلام وطلاقة الوجه والبشاشة والابتسام، وبالقيام لهم على سبيل الاحترام ولا كراهة فيه بوجهٍ، وإن كان في بعض الأخبار ما يوهمه(2). و تحقيقه في غير هذا المحلّ .

ص: 118


1- الظاهر أنه يريد تقديمم في إمامة الجماعة، وهو كما في شرح اللمعة، ج 1، ص 221 (ضمن الموسوعة، ج 6) - هكذا ... ويقدم الأقرء من الأئمة... فالأفقه... فإن تساووا في الفقه والقراءة فالأقدم هجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام... وفي زماننا قيل هو السبق إلى طلب العلم... فإن تساووا في ذلك فالأسن مطلقاً أو في الإسلام... فإن تساووا فيه فالأصبح وجها ... ولم يذكر هنا ترجيح الهاشمي، لعدم دليل صالح لترجيحه، وجعله في الدروس بعد الأفقه، وزاد بعضهم في المرجّحات بعد ذلك الأتقى والأورع ... وبعض هذه المرجّحات ضعيف المستند ولكنه مشهور.
2- لعله يقصد بذلك كما يظهر من أدب الإملاء والاستملاء، ص 34 - مثل ماروي في سنن أبي داود، ج 4. ص 358. ح 5230 : عن أبي أمامة، قال: خرج علينا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم، متوكّناً على عصاً، فقمنا إليه، فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظّمُ بعضها بعضاً». ومثله في سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1261 ، ح 3836، عن أبي أمامة؛ أو ماروي في الجامع الصحيح، ج 5، ص 90 . ح 2754؛ ومكارم الأخلاق، ص 16؛ وإحياء علوم الدين، ج 2، ص 181 - عن حميد بن أنس قال: لم يكن شخص أحبّ إليهم من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم، قال: وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك. أو يقصد ما روى في كتاب سليم بن قيس كما في بحار الأنوار، ج 75، ص 466، ح 14 - من أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم قال: «أيّها الناس! عظموا أهل بيتى في حياتي ومن بعدي وأكرموهم وفضّلوهم: فإنّه لا يحِلُّ لأحدٍ أن يقوم من مجلسه لأحد إلا لأهل بيتي». وممّا يدلّ على عدم الكراهة - فيما نحن فيه - مارواه البرقي في المحاسن، ص 233، ح 186، والعلّامة المجلسي (قدس الله نفسه الزكية)، في بحار الأنوار، ج 75، ص 466 - 467، ح 13 نقلاً عن المحاسن: عن إسحاق بن عمار، قال قلت لأبي عبدالله علیه السلام : من قام من مجلسه تعظيماً لرجل؟ قال: «مكروه إلا لرجل في الدين». وقال الغزالي في إحياء علوم الدين، ج 2، ص 181 والقيام مكروه على سبيل الإعظام لاعلى سبيل الإكرام ولعله اليجمع بذلك بين الأحاديث المتعارضة، فتأمل. وقال النووي في شرح المهذب، ج 1، ص 56: وقد ينكر القيام من لا تحقيق عنده، وقد جمعت جزء فيه الترخيص فيه ودلائله، والجواب عما يوهم كراهته. وقال أيضاً في الأذكار :239 وأما إكرام الداخل بالقيام، فالذي نختاره أنه مستحب لمن كان فيه فضيلة ظاهرة من علم أو صلاح أو شرف... ويكون هذا القيام للبر والإكرام والاحترام لا للرثاء والإعظام، وعلى هذا الذي اخترناه استمر عمل السلف والخلف، وقد جمعت في ذلك جزء جمعت فيه الأحاديث والآثار وأقوال السلف وأفعالهم الدالة على ما ذكرته، ذكرت فيه ما خالفها وأوضحت الجواب عنه، فمن أشكل عليه من ذلك شيء ورغب في مطالعة ذلك الجزء رجوت أن يزول إشكاله، إن شاء الله تعالى راجع أيضاً أدب الإملاء والاستملاء، ص 34 - 35، 137 - 138؛ فتح الباقي، ج 2، ص 209 - 210؛ شرح ألفية العراقي، ج 2، ص 209 - 210.

العاشر(1) : أن يقدّم على الشروع في البحث والتدريس تلاوة ما تيسّر من القرآن العظيم تيمّناً وتبرّكاً، ويدعو عقيب القراءة لنفسه وللحاضرين ولسائر المسلمين، ثمّ يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويسمّي الله تعالى ويحمده ويصلّي ويسلّم على النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم وعلى آله وأصحابه، ثمّ يدعو للعلماء الماضين والسلف الصالحين، ولمشايخه خاصّةً ولوالديه وللحاضرين. وإن كان في مدرسةٍ ونحوها دعا لواقف المكان.

وهذا وإن لم يرد به نصّ على الخصوص، لكن فيه خير عظيم وبركة والمحلّ موضع إجابة، وفيه اقتداء بالسلف من العلماء، فقد كانوا يستحبّون ذلك(2).

وذكر بعض العلماء(3) أنّه يقول من جملة الدعاء: «اللهمّ إني أعوذ بك أن أضِلّ أو أُضَلَّ أو أزِل أو أُزل أو أظِلم أو أظلَم أو أجهل أو يجهل عليّ. اللهمّ انفعني بما علّمتني وعلّمني ما ينفعني وزدني علماً، والحمد لله على كلّ حال، اللهمّ إنّي أعوذ بك من علمٍ لا ينفع ومن قلبٍ لا يخشع ومن نفسٍ لا تشبع ومن دعاءٍ لا يسمع»(4).

وكان بعض العلماء(5) يختار قراءة سورة الأعلى، ويزعم أنه متأسٍّ ومتفأّل بما فيها من قوله: «الْأَعْلَى» وقوله : «قَدَّرَ فَهَدَى» وقوله : «سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى» وقوله: «فَذَكِّرْ» وقوله: «صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى»(6).

ص: 119


1- لاحظ تذكرة السامع ص 34 - 35: شرح المهذّب، ج 1، ص 56.
2- انظر شرح المهذّب، ج1، ص 56: مقدّمة ابن الصلاح، ص 365؛ الخلاصة في أصول الحديث، ص 144.
3- هو النووي في شرح المهذّب، ج 1، ص 56.
4- الدعاء مرويّ في سنن ابن ماجة، ج 1، ص 92، ح 250؛ وج 2، ص 1260، ح 3833؛ وجامع بيان العلم وفضله. ج 1، ص 195؛ وسنن أبي داود، ج 4، ص 325، ح 5094 والجامع الصغير، ج 1، ص 59 حرف الهمزة؛ والمستدرك على الصحيحين، ج 1، ص 104، في كلّ منها روى بعض هذا الدعاء والشطر الأخير منه في مفاتيح الجنان، ص 17 في تعقيب صلاة العصر أيضاً، نقلاً عن مصباح المتهجّد.
5- قال في فتح الباقي، ج 2، ص 214.... واختار شيخنا تبعاً للنظام يعني العراقي ] أن تكون سورة الأعلى بمناسبة سنقرئك فلا تنسى
6- الأعلى (87): 19،9,6،3،1.

وروي أنّ من اجتمع مع جماعةٍ ودعا يكون من دعائه: «اللهمّ اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلّغنا به جنّتك، ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدنيا . اللهمّ متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوّتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منّا، واجعل ثارنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل دنيانا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلّط علينا منلا يرحمنا»(1).

الحادي عشر : أن يتحرّى تفهيم الدرس بأيسر الطرق، وأعذب ما يمكنه من الألفاظ مترسّلاً مبيّناً موضّحاً مقدّماً ما ينبغي تقديمه، مؤخّراً ما ينبغي تأخيره مرتّباً من المقدّمات ما يتوقّف عليها تحقيق المحلّ واقفاً في موضع الوقف، موصلاً في موضع الوصل مكرّراً ما يشكل من معانيه وألفاظه مع حاجة الحاضرين أو بعضهم إليه، وإذا فرغ من تقرير المسألة سكت قليلاً حتّى يتكلّم من في نفسه كلام عليه. ولا يذكر(2) في الدرس شبهةً في الدين، ويؤخّر الجواب عنها إلى درس آخر، بل يذكرهما جميعاً أو يؤخّرهما جميعاً، سيّما إذا كان الدرس يجمع الخاصّ والعامّ، ومن يحتمل أن لا يعود إلى ذلك المقام، فتقع الشبهة في نفسه ولا يتّفق له جوابها، فيصير سبباً في فتنته.

الثاني عشر(3) : إذا تعدّدت الدروس فليقدّم منها الأشرف فالأشرف والأهمّ فالأهمّ، فيقدّم أصول الدين ثمّ التفسير ثمّ الحديث ثمّ أُصول الفقه، ثمّ الفقه ثمّ النحو ثمّ المعاني،

ص: 120


1- الدعاء مرويّ في الجامع الصحيح، ج 5، ص 528 ، ح 3502: أدب الإملاء والاستملاء، ص 107؛ عيون . الأخبار، ج 2، ص 279 - 280؛ الأذكار، ص 265 - 266: الجامع الصغير، ج 1، ص 59 حرف الهمزة : عوالي اللآلي، ج 1، ص 159 - 165؛ مفاتيح الجنان في أعمال الليلة الخامسة عشرة من شهر شعبان.
2- لاحظ تذكرة السامع، ص 38.
3- لاحظ تذكرة السامع، ص 35 - 36

وعلى هذا قياس باقي العلوم بحسب مرتبتها، والحاجة إليها. وسيأتي(1) إن شاء الله ما يعين على هذا الترتيب في باب يخصّه.

الثالث عشر(2) : أن لا يطول مجلسه تطويلاً يملّهم، أو يمنعهم فهم الدرس أو ضبطه ؛

لأنّ المقصود إفادتهم وضبطهم، فإذا صاروا إلى هذه الحالة فات المقصود.

ولا يقصّره تقصيراً يخلّ ببعض تقريره أو ضبطه أو فهمه لفوات المقصود، ويراعي في ذلك مصلحة الحاضرين في الفائدة والتطويل، واستيفاء الأقسام في التقسيم إذا كانوا من أهله.

الرابع عشر: أن لا يشتغل بالدرس وبه ما يزعجه ويشوّش فكره، من مرض أو جوعٍ أو عطش أو مدافعة حدث أو شدّة فرحٍ أو غمٍّ أو غضبٍ أو نعاسٍ أو قلقٍ أو بردٍ أو حرٍّ مؤلمين؛ حذراً من أن يقصر عن استيفاء المطلوب من البحث، أو يفتي بغير الصواب.

الخامس عشر: أن لا يكون في مجلسه ما يؤذي الحاضرين من دخانٍ أو غبارٍ أو صوت مزعجٍ، أو شمس موجبةٍ للحرّ الشديد، أو نحو ذلك ممّا يمنع من تأدية المطلوب، بل يكون واسعاً مصوناً عن كلّ ما يشغل الفكر ويشوّش النفس ليحصل فيه الغرض المطلوب.

السادس عشر(3) : مراعاة مصلحة الجماعة في تقديم وقت الحضور وتأخيره في النهار، إذا لم يكن عليه فيه ضرورة ولا مزيد كلفةٍ ومن الضرورة الاشتغال في الوقت الصالح بالمطالعة والتصنيف حيث يكون الاشتغال به أولى من التدريس.

السابع عشر(4):أن لا يرفع صوته زيادةً على الحاجة، ولا يخفضه خفضاً يمنع

ص: 121


1- في المطلب الثالث من الخاتمة، ص 287 - 295.
2- لاحظ تذكرة السامع، ص 38
3- لاحظ تذكرة السامع، ص 44.
4- لاحظ تذكرة السامع، ص 39

بعضهم من كمال فهمه وقد روي عن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم : «أنّ الله يحبّ الصوت الخفيض ويبغض الصوت الرفيع»(1).

والأولى أن لا يجاوز صوته ،مجلسه، ولا يقصر عن سماع الحاضرين، فإن حضر فيهم ثقيل السمع، فلا بأس بعلوّ صوته بقدر ما يسمعه، وقد روي في فضيلة ذلك حديث(2).

الثامن عشر(3) : أن يصون مجلسه عن اللغط؛ فإنّ الغلط تحت اللغط، وعن رفع الأصوات وسوء الأدب في المباحثة، واختلاف جهات البحث والعدول عن المسألة

إلى غيرها قبل إكمالها. فإذا ظهر من أحد الباحثين شيء من مبادئ ذلك تلطّف فی دفعه قبل انتشاره وثوران النفوس ويذكر لجملة الحاضرين ما يقتضي قبح الانتقال المذكور، وأنّ المقصود اجتماع القلوب على إظهار الحقّ وتحصيل الفائدة والصفاء والرفق، واستفادة البعض من البعض، ويذكّرهم ما جاء في ذمّ المماراة والمنافسة

ص: 122


1- رواه الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع [أو: آداب الواعي ] كما في تذكرة السامع. ص 39؛ وفي مسند الإمام موسى بن جعفر علیهما السلام، ص 43. ح 7: ... كان النبي صلى الله عليه وآله و سلم يعجبه (ظ) أن يكون الرجل خفيف الصوت ويكره أن يكون الرجل جهير الصوت»؛ وفي الجامع الصغير، ج 2، ص 120، حرف الكاف: وشرحه: فيض القدير، ج 5، ص 242، ح 7147: كان صلى الله عليه وآله و سلم يكره أن يرى الرجل جهيراً رفيع الصوت، وكان يُحِبُّ أن يراه خفيض الصوت؛ قال المناوي في شرح الحديث في فيض القدير، ج 5، ص 242: أخذ منه أنه يسن للعالم صون مجلسه عن اللغط ورفع الأصوات وغوغاء الطلبة وأنّه لا يرفع صوته بالتقرير فوق الحاجة... ؛ ومثله في كشف الخفاء، ج 1، ص 292 .
2- في ثواب الأعمال، ص 168 ، ح 5 وبحار الأنوار، ج 74 ص 388 نقلاً عنه عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «إسماع الأصمِّ من غير تضجُّر صدقة هنيئة» ولم أجد غير هذا حديثاً في ذلك ؛ وقال في تذكرة السامع، ص 39 - كالمتن : وروي في فضيلة ذلك حديث. ولم يذكر نصّ الحديث. نعم، قال السمعاني في أدب الإملاء والاستملاء ص 49: ثم يرفع صوته بما يريد أن يمليه. واحتجّ لذلك بهذا الحديث: ... عن عبدالله بن عمر قال: تخلف عنا النبي في سفرة سفرناها فأدركنا وقد رهقتنا الصلاة صلاة العصر، ونحن نتوضاً فجعلنا نمسح أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: «ويل للأعقاب من النار مرّتين أو ثلاثاً»؛ وانظر شرح هذا الحديث في فيض القدير، ج 6، ص 366 - 367 ، ح 9643: وانظر أيضاً جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 169.
3- لاحظ تذكرة السامع، ص 40 - 41؛ شرح المهذب، ج 1، ص 57.

والشحناء، سيما أهل العلم المتّسمين به، وأنّ ذلك سبب العداوة والبغضاء الموجبين [ظ: الموجبتين] لتشويش الكفر وذهاب الدين، وأنّ الواجب كون الاجتماع خالصاً لله تعالى ليثمر الفائدة في الدنيا والسعادة في الأُخرى.

التاسع عشر: أن يزجر من تعدّى في بحثه أو ظهر منه لدد أو سوء أدب أو ترك إنصاف بعد ظهور الحقّ، أو أكثر الصياح بغير فائدة، أو أساء أدبه على غيره من الحاضرين أو الغائبين، أو ترفّع على من هو أولى منه في المجلس، أو نام أو تحدّث مع غيره حالة الدرس بما لا ينبغي، أو ضحك أو استهزأ بأحد أو فعل ما يخلّ بأدب الطالب في الحلقة. وسيأتي تفصيله(1) إن شاء الله تعالى.

هذا كلّه إذا لم يترتّب على ذلك مفسدة تربو عليه، وهذا النوع مغاير لما مرّ من زجرهم وكفّهم عن مساوئ الأخلاق، لأنّ هذا خاصّ بالدرس وذاك بما يتعلّق بشأن أنفسهم، وإن كان يمكن إدراجه فيه إلّا أنّ الاهتمام بشأنه حسّن ذكره على الخصوص.

العشرون: أن يلازم الإرفاق بهم في خطابهم وسماع سؤالهم، وإذا عجز السائل عن تقرير ما أورده أو تحرير العبارة فيه، لحياءٍ أو قصورٍ ووقع على المعنى، عبّر عن مراده أوّلاً وبيّن وجه إيراده، وأجاب بما عنده.

وإن اشتبه عليه مراده سأله عن الأُمور التي يحتمل إرادته لها، فيقول له: أتريد بقولك كذا؟ فإن قال: نعم أجابه، وإلّا ذكر محتملاً آخر.

وإن سأل عن شيء ركيكٍ، فلا يستهزئ به ولا يحتقر السائل؛ فإنّ ذلك أمر لا حيلة فيه، ويتذكّر أنّ الجميع كانوا كذلك ثمّ تعلّموا وتفقّهوا.

الحادي والعشرون(2) : أن يتودّد لغريب حضر عنده، وينبسط له لينشرح صدره؛ فإنّ للقادم دهشةً سيّما بين يدي العلماء. ولا يكثر النظر والالتفات إليه استغراباً له،

ص: 123


1- يعني تفصيل أدب الطالب، وسيأتي في النوع الثالث من هذا الباب، ص 132 وما بعد.
2- لاحظ تذكرة السامع ص 43 - 44.

فإنّ ذلك يخجّله ويمنعه من المساءلة [خ ل: المسألة والمشاركة في البحث إن كان من أهله.

الثاني والعشرون: إذا أقبل بعض الفضلاء، وقد شرع في مسألة أمسك عنها حتّى يجلس، وإن جاء - وهو يبحث - أعادها له أو مقصودها، وإذا أقبل وقد بقي للفراغ وقيام الجماعة بقدر ما يصل إلى المجلس، فليؤخّر تلك البقيّة، ويشتغل عنها ببحثٍ أو غيره إلى أن يجلس ثمّ يعيدها أو يتمّم تلك البقيّة؛ كيلا يخجل المقبل بقيامهم عند جلوسه.

الثالث والعشرون (1): - وهو من أهمّ الآداب - إذا سئل عن شيء لا يعرفه، أو عرض في الدرس ما لا يعرفه، فليقل: لا أعرفه، أو لا أتحقّقه أو لا أدري أو حتّى أُراجع النظر في ذلك. ولا يستنكف عن ذلك؛ فمن علم العالم أن يقول فيما لا يعلم: لا أعلم والله أعلم.

قال عليّ علیه السلام: «إذا سئلتم عمّا لا تعلمون فاهربوا قالوا وكيف الهرب؟ قال: «تقولون: الله أعلم».(2)

وعن أبي جعفر الباقر علیه السلام : قال ما علمتم فقولوا، وما لم تعلموا فقولوا: الله أعلم. إنّ الرجل ليسرع [خ ل: ليشرع] بالآية من القرآن يخرّ فيها أبعد ما بين السماء والأرض».(3)

وعن زرارة بن أعين قال: سألت أبا جعفر علیه السلام ما حق الله على العباد؟ قال: «أن يقولوا ما يعلمون، ويقفوا عند ما لا يعلمون»(4).

ص: 124


1- لاحظ تذكرة السامع، ص 42 - 43؛ شرح المهذّب، ج 1، ص 57 - 58
2- سنن الدارمي ، ج 1، ص 63 .
3- الكافي، ج 1، ص 42، باب النهي عن القول بغير علم، ح 4، وفيه: «لينتزع الآية» بدل «ليسرع بالآية»؛ بحار الأنوار، ج 2، ص 119، ح 25 - نقلاً عن المحاسن وفيه: «لينتزع بالآية». 4
4- الكافي، ج 1، ص 43، باب النهي عن القول بغير علم، ح 7؛ بحار الأنوار، ج 2، ص 113، ح 2 عن أمالي الصدوق.

وعن الصادق علیه السلام : «إنّ الله خصّص عباده بآيتين من كتابه: أن لا يقولوا حتّى يعلموا ولا يردّوا ما لم يعلموا، قال الله عزّ وجلّ: «أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيْتَقُ الْكِتَابِ أَن لَّا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ»(1) وقال: «بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ، وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ»(2).

وعن ابن عباس (رضي الله عنه: إذا ترك العالم «لا أدري» أصيبت مقاتله(3).

وعن ابن مسعود (رضي الله عنه): إذا سئل أحدكم عمّا لا يدري فليقل: لا أدري فإنّه ثلث العلم(4).

وقال آخر: لا أدري ثلث العلم(5).

وقال بعض الفضلاء: ينبغي للعالم أن يورّث أصحابه «لا أدري»(6). ومعناه أن يكثر منها لتسهل عليهم ويعتادوها، فيستعملوها في وقت الحاجة.

وقال :آخر تعلّم «لا أدري»، فإنّك إن قلت: لا أدري علّموك حتّى تدري، وإن

ص: 125


1- الأعراف (7): 169
2- يونس (10): 39 والحديث في الكافي، ج 1، ص 43، باب النهي عن القول بغير علم، ح 8؛ بحار الأنوار، ج 2،
3- 113، ح 3 - نقلاً عن أمالي الصدوق - وفيه: «عيَّرَ» بدل «خَصَّ». .3 هذا الكلام نسب إلى ابن عبّاس في البيان والتبيين، ص 207؛ والفقيه والمتفقه، ج 2، ص 172؛ وتذكرة السامع، 42: وصفة الفتوى، ص 7؛ وأدب الدنيا والدين، ص 82 وغيرها. وفي قوت القلوب، ج 1، ص 136: قال على بن الحسن ومحمد بن عجلان إذا أخطأ العالم قول لا أدري أصيبت مقالته؛ وفي إحياء علوم الدين، ج 1، ص 61: قال ابن مسعود ... جنة العالم لا أدري، فإن أخطاها فقد أصيبت مقاتله؛ ونسب إلى محمد بن عجلان في صفة الفتوى، ص 7؛ وأدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 10؛ والفقيه والمتفقه، ج 2، ص 173 أيضاً؛ ولكن هذا الكلام مولانا ومولى الموحدين يعسوب الدين أمير المؤمنين (عليه أفضل صلوات المصلين)، رُوي في نهج البلاغة، ص 482، الحكمة 85 وغرر الحكم، ج 5، ص 377، ح 8835؛ وبحار الأنوار، ج 2، ص 122، ح 41 نقلاً عن نهج البلاغة : وهذا نصه: من ترك قول لا أدري أصيبت مقاتله».
4- تذكرة السامع، ص 42 مجمع الزوائد، ج 1، ص 180.
5- تذكرة السامع، ص 42.
6- تفسير القرطبي، ج 1، ص 286، ذيل الآية 32) من البقرة (2) شرح المهذب، ج 1، ص 57؛ الفقيه والمتفقه. ج 2، ص 173، وفيه: ... أخبرني مالك ابن أنس أنه سمع عبدالله بن يزيد بن هرمز، يقول: ينبغي للعالم... الخ.

قلت: أدري، سألوك حتّى لا تدري(1).

واعلم أنّ قول العالم: «لا أدري» لا يضع منزلته، بل يزيدها رفعةً ويزيده في قلوب الناس عظمةً، تفضّلاً من الله تعالى عليه وتعويضاً له بالتزامه الحقّ، وهو دليل واضح على عظمة محلّه وتقواه وكمال معرفته ولا يقدح في المعرفة الجهل بمسائل معدودة.

وإنّما يستدل بقوله: «لا أدري» على تقواه وأنّه لا يجازف في فتواه، وأنّ المسألة من مشكلات المسائل. وإنّما يمتنع من «لا أدري» من قلّ علمه وعدمت تقواه وديانته؛ لأنّه يخاف لقصوره أن يسقط من أعين الناس، وهذه جهالة أُخرى منه؛ فإنّه بإقدامه على الجواب فيما لا يعلم يبوء بالإثم العظيم ولا يصرفه عمّا عرف به من القصور، بل يستدلّ به علی قصوره، ويظهر الله تعالى عليه ذلك بسبب جرأتهه على التقول في الدين تصديقاً لما ورد في الحديث القدسي: «من أفسد جوانية أفسد الله برّانيّة»(2).

ومن المعلوم أنه إذا رؤي المحقّقون يقولون في كثير من الأوقات: «لا أدري»، وهذا المسكين لا يقولها أبداً، يعلم أنّهم يتورّعون لدينهم وتقواهم، وأنّه يجازف لجهله وقلّة دينه فيقع فيما فرّ منه واتّصف بما احترز عنه لفساد نيّته وسوء طويّته. وقد قال

ص: 126


1- قوت القلوب، ج 1، ص 96؛ أعلام الموقِّعين، ج 4، ص 278؛ جامع بيان العلم وفضله، ج 2، ص 68؛ صفة الفتوى، ص 9، والقائل أبو الذيال، كما في المصدرين الأخيرين.
2- في مشكاة الأنوار، ص 321: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم : «ما من عبد إلا وله جواني وبراني، فمن أصلح جوانيه أصلح الله برانيه، ومن أفسد جوانيه أفسد الله عليه برّانيه ... وفي النهاية، ج 1، ص 319: وفي حديث سلمان (رضي الله عنه): إن لكل امرئ جوانياً وبرانياً، فمن يصلح جوانيه يُضلح الله برانيه، ومن يُفسد جوانيه يفسد الله برّانيه؛ أي باطناً وظاهراً، وسراً وعلانية، وهو منسوب إلى جو البيت وهو داخله، وزيادة الألف والنون للتأكيد؛ وقال في ج 1، ص 117:... أراد بالبراني العلانية، والألف والنون من زيادات النسب كما قالوا في صنعاء: صنعاني. وأصله من قولهم خرج فلان يراً، أى خرج إلى البر والصحراء. وليس من قديم الكلام وفصيحه : وانظر أيضاً لسان العرب، ج 14، ص 157، «جوا»؛ وج 4، ص 54، «برر».

النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم : «المتشبّع بما لم يُعط كلابس ثوبي زورٍ»(1).

وقد أدّب الله تعالى العلماء بقصّة موسى والخضر علیهما السلام حين لم يرد موسى علیه السلام العلم إلى الله تعالى لما سئل هل أحد أعلم منك؟(2) بما حكاه الله عنهما من الآيات المؤذنة (3)بغاية الذلّ من موسى علیه السلام وغاية العظمة من الخضرعلیه السلام . وسيأتي(4) إن شاء الله تعالى في هذه الرسالة جملة من نكت القصّة.

الرابع والعشرون: أنّه إذا اتّفق له تقرير أو جواب توهّمه صواباً، يبادر إلى التنبيه على فساده و تبيين خطائه قبل تفرّق الحاضرين، ولا يمنعه الحياء أو غيره من المبادرة، وتُحمّله النفس الأمّارة بالسوء على التأخير إلى وقت آخر خالٍ؛ فإنّه من خدع النفس و تلبيس إبليس لعنه الله).

وفيه ضرر عظيم من وجوه كثيرة منها: استقرار الخطأ في قلوب الطلبة ؛ ومنها: تأخير بيان الحقّ مع الحاجة إليه ؛ ومنها: خوف عدم حضور بعض أهل المجلس في الوقت الآخر فيستمرّ الخطأ في فهمه ؛ ومنها: طاعة الشيطان في الاستمرار على الخطأ، وهو موجب لطمعه فيه مرّةً ثانيةً وهلم جرّاً. ومع تأديته للواجب من ذلك يفيد الطالبين

ص: 127


1- شرح المهذّب، ج 1، ص 58؛ سنن أبي داود، ج 4، ص 300 ، ح 4997؛ النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 2. . ص 441، «شبع»، وفيه: «لا يملك» بدل «لم يُعطَ»، قال ابن الأثير في توضيح الحديث: أي المتكثّر بأكثر ممّا عنده يتَجَمَّلُ بذلك كالّذي يُري أنه شبعان، وليس كذلك، ومَنْ فَعَلَه فإنّما يسخر من نفسه. وهو من أفعال ذوي الزور، بل هو في نفسه زُورٌ، أي كذب؛ وانظر مجمع الأمثال، ج 2، ص 150.
2- صحيح البخاري، ج 2، ص 46 - 47، ح 73: وج 2، ص 54. ح 77؛ وج 2، ص 141 - 145، ح 123: تفسير مجمع البيان، ج 1، ص 481 ، ذيل الآية 64 من الكهف (18) مسند أحمد ، ج 5، ص 116، 117، 118؛ صحيح مسلم، ج 4 ص 1847 - 1853، ح 170 / 2380 - 2380/17؛ الترغيب والترهيب، ج 1، ص 129، ح 1، وإليك نص واحد منها مع التلخيص: ... سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم يقول: «بينما موسى في ملأمن بني إسرائيل، جاءه رجل فقال له: هل تعلم أحداً أعلم منك ؟ قال موسى: لا . فأوحى الله إلى موسى بلى عبدنا خضر، فسأل موسى السبيل إليه... إلى آخره. ومثله رُوي في تفسير العياشي، ج 2، ص 334، عن أبي عبدالله علیه السلام.
3- الكهف (18): 65 - 82
4- في القسم الثاني من النوع الثالث من هذا الباب، ص 142 - 146 .

ملكةً صالحةً تعقب خيراً عظيماً يكون الراجع سبباً فيه فيشارك في أجره، مضافاً إلى ما استحقه من الأجر بفعل ما يجب عليه؛ فقد غنمت حركته وربحت تجارته برجوعه إلى الحق ويرفعه الله تعالى بسبب ذلك خلاف ما يظنّه الجاهل ويتوهّمه الأحمق الغافل.

الخامس والعشرون(1) : التنبيه عند فراغ الدرس أو إرادته بما يدلّ عليه إن لم يعرفه القارئ، وقد جرت عادة السلف أن يقولوا حينئذٍ: «والله أعلم»(2).

وقال بعض العلماء(3) : الأولى أن يقال قبل ذلك كلام يشعر بختمة الدرس كقوله: هذا آخره، أو ما بعده يأتي إن شاء الله تعالى ونحو ذلك، ليكون قوله «والله أعلم» خالصاً الذكر الله تعالى ولقصد معناه. ولهذا ينبغي أن يستفتح كلّ يستفتح كل درس ب_ «بسم الله الرحمن الرحيم»، ليكون ذاكراً لله تعالى في بدايته وخاتمته، وإذا جعل الذكر دليلاً على الفراغ لم يتمحّض له.

السادس والعشرون: أن يختم الدرس بذكر شيء من الرقائق والحكم والمواعظ وتطهير الباطن ليتفرّقوا على الخشوع والخضوع والإخلاص، فإنّ البحث البحت يورث في القلوب قوّة، وربما أعقب قسوةً فليحرّكه في كلّ وقت إلى الإقبال، ويلاحظه بالاستكمال، ولا شيء أصلح من تلك الحالة.

هذا كلّه إذا لم يكن بعد ذلك دروس حاضرة بحيث يكون الاشتغال بها أولى، فيؤخّر ذلك إلى الآخر حسب ما يقتضيه الحال.

السابع والعشرون: أن يختم المجلس بالدعاء كما بدأ به، بل هو الآن أولى وأقرب إلى الإجابة؛ لما قد غشيهم من الرحمة وخصّهم من المثوبة، وليتضمّن دعاؤهم الأئمّة الراشدين والعلماء السابقين، وتعميم جماعة المسلمين، وأن يجعل أعمالهم

ص: 128


1- لاحظ تذكرة السامع، ص 44 - 45.
2- تذكرة السامع، ص 44.
3- هو ابن جماعة الكناني في تذكرة السامع، ص 44 - 45.

خالصةً لوجه الله مقرّبة إلى مرضاته.

وقد ورد أنّ النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم : كان يختم مجلسه بالدعاء. وفيه حديث مسلسل(1) بختمه به مشهور، ومتنه: أنّه صلی الله علیه و آله و سلّم كان إذا فرغ من حديثه، وأراد أن يقوم من مجلسه يقول: «اللهمّ اغفر لنا ما أخطأنا وما تعمّدنا، وما أسررنا وما أعلنّا، وما أنت أعلم به منّا، أنت المقدّم وأنت المؤخّر، لا إله إلّا أنت»(2).

الثامن والعشرون(3) : أن يمكث قليلاً بعد قيام الجماعة؛ فإنّ فيه فوائد وآداباً له ولهم: منها إن كان في نفس أحدٍ منهم بقايا سؤالٍ تأخّر؛ ومنها إن كان لأحد به حاجة، وقد صبر عليها حتّى فرغ يذكرها له؛ ومنها عدم مزاحمتهم ورفع الكلفة عنهم بخروجه قبلهم، وخفق النعال خلفه، وهو آفة عظيمة خطرة؛ ومنها عدم ركوبه بينهم إن كان يركب - إلى غير ذلك.

التاسع والعشرون(4) : أن ينصب لهم نقيباً فطناً كيسا يرتّب الحاضرين، ومن يدخل عليه على قدر منازلهم، ويوقظ النائم وينبّه الغافل، ويشير إلى ما ينبغي فعله وتركه، ويأمر بسماع الدروس والإنصات إليها لمن لا يعرف، وكذلك ينصب لهم رئيساً آخر يعلّم الجاهل، ويعيد درس من أراد، ويرجع إليه في كثير ممّا يستحيى أن يلقى به العالم من مسألة أو درس؛ فإنّ فيه ضبطاً لوقت العالم، وصلاحاً لحال المتعلّم.

ص: 129


1- تقدّم معنى الحديث المسلسل في ص 104 الهامش 1. اعلم أنّه قد عنى علماء الحديث بهذا النوع جدّاً فصنّفوا فيه مصنّفات خاصّة، ذكر بعضها محمّد عبد الحيّ الكتاني في فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والمشيخات والمسلسلات المطبوع في مدينة فاس بالمغرب الأقصى؛ وجاء اسم بعضها في الدرّ الفريد. ص 133 - 134، منها عقد اللآلي في الأحاديث المسلسلة الغوالي والمسلسلات الكبرى ورويت في الدرّ الفريد، ص 133 - 237، خمسة وأربعون حديثاً مسلسلاً. ولكن لم أجد فيه هذا الحديث المسلسل الذي أشار إليه المؤلّف رحمه الله)، ولا في الجواهر المكلّلة في الأحاديث المسلسلة ولا في المسلسلات.
2- هذا الدعاء روي في المستدرك على الصحيحين، ج 1، ص 528، 536 - 537، مع اختلاف في اللفظ، إلّا أنه لم يروه مسلسلاً.
3- لاحظ تذكرة السامع، ص 45.
4- لاحظ تذكرة السامع، ص 41.

الثلاثون(1) : أن يقول إذا قام من مجلسه: «سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلّا أنت أستغفرك وأتوب إليك، سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله ربّ العالمين».

رواه جماعة من فعل النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم(2). وفي بعض الروايات أنّ الثلاث آيات كفّارة المجلس(3). وكما يستحبّ ذلك للعالم يستحبّ لكلّ قائمٍ لكنّه في حقّه آكد.

ص: 130


1- لاحظ تذكرة السامع، ص 45.
2- روي إلى قوله وأتوب إليك» في سنن أبي داود، ج 4، ص 265، ح 4859؛ سنن الدارمي ، ج 2، ص 283؛ مسند أحمد، ج 2، ص 369؛ ج 4، ص 420 ؛ ج 6، ص 77؛ الأذكار، ص 265؛ الفقيه والمتفقّه، ج 2، ص 127؛ تذكرة السامع ص 45 236: الجامع الصغير، ج 2، ص 113، حرف الكاف وفيها: كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم إذا جلس في المجلس فأراد أن يقوم قال: سبحانك اللهمّ وبحمدك أشهد أن لا إلّا أنت أستغفرك وأتوب إليك». فقالوا: يا رسول الله إنّك لتقول الآن كلاماً ما كنت تقوله فيما خلا فقال: «هذا كفّارة لما يكون في المجالس»؛ وقال في فيض القدير، ج 5، ص 189: «وكان السلف يواظبون عليه ويُسمّى ذلك كفّاره المجلس».
3- يريد الآيات الثلاث الأخيرة من سورة الصافّات (37) : وهي: سُبْحَنَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ) والرواية التي أشار إليها المؤلف (رحمه الله) رويت في الفقيه، ج 3، ص 238 - 239 ، ح 1132 ، وهذا نصَّه: «قال الصادق علیه السلام : «كفّارات المجالس أن تقول عند قيامك منها: سبحان ربِّك ربِّ العزّة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله ربِّ العالمين» وفي الكافي، ج 2، ص 496، باب ما يجب من ذكر الله عزّ وجلّ في كل مجلس ح 3؛ تفسير مجمع البيان، ج 8، ص 463؛ تفسير الكشاف، ج 4، ص 69: الأذكار، ص 265؛ تفسير أبي الفتوح الرازي، ج 8، ص 330؛ عوالي اللآلي، ج 2، ص 26: بحار الأنوار، ج 75، ص 468 ، ح 20، نقلاً عن عدة الراعي وغيرها عدة روايات بهذا المضمون: «من أراد أن يكتالَ بالمكيال الأوفى، فليقل إذا أراد أن يقوم من مجلسه سبحان ربِّكَ ربِّ العزّة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد الله رب العالمين.» وفي الجامع الصغير، ج 2، ص 107، حرف الكاف: «كان إذا سلّم من الصلاة قال ثلاث مرّات سبحان ربّك ربِّ العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله ربّ العالمين».

النوع الثالث: في الآداب المختصّة بالمتعلِّم

اشارة

وهي تنقسم - كما مرّ(1) - ثلاثة أقسامٍ:

آدابه في نفسه،

و آدابه مع شيخه،

و آدابه في مجلس درسه.

ص: 131


1- يعني أنّ الآداب المختصة بالمتعلِّم تنقسم ثلاثة أقسامٍ كما أنّ الآداب المختصّة بالمعلِّم أيضاً كذلك؛ وإلّا فلم يذكر (رحمه الله) فيما مضى تقسيم الآداب المختصّة بالمتعلّم إلى ثلاثة أقسام.
القسم الأوّل آدابه في نفسه

وهي أُمور:

الأوّل: أن يحسّن نيّته، ويطهّر قلبه من الأدناس ليصلح لقبول العلم وحفظه واستمراره، وقد تقدّم ما يدلّ عليه(1)، لكن أُعيد هنا لينبّه على كونه من أسباب

التحصيل، وهناك من أسباب الفائدة الأخروية.

قال بعض الكاملين: تطييب القلب للعلم كتطييب الأرض للزراعة، فبدونه لا تنمو ولا تكثر بركته ولا يزكو كالزرع في أرض بائرة غير مطيّبة(2).

وقال النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم : «إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب»(3).

وقال سهل بن عبد الله: حرام على قلبٍ أن يدخله النور، وفيه شيء ممّا يكرهه الله عزّ وجلّ(4).

ص: 132


1- تقدّم في أوّل هذا الباب، أعني الباب الأول، ص 41 وما بعد.
2- التبيان في آداب حملة القرآن، ص 23؛ شرح المهذّب، ج 1، ص 58 - 59.
3- صحيح البخاري، ج 1، ص 204 - 205، ح 49: مسند أحمد، ج 4، ص 270، 274؛ الترغيب والترهيب، ج 2 ص 554 ح 1: التبيان في آداب حملة القرآن، ص 23
4- تذكرة السامع، ص 67. وسهل بن عبدالله هو أبو محمد سهل بن عبدالله بن يونس التستري (200 - 203، 283 273 ها انظر ترجمته ومصادر ترجمته في وفيات الأعيان، ج 2، ص 429 - 430: وطبقات الصوفية، ص 133 - 138؛ والأعلام، ج 3، ص 143؛ ومعجم المؤلفين، ج 4، ص 284.

وقال عليّ بن خشرم: شكوت إلى وكيع(1) قلّة الحفظ، فقال: استعن على الحفظ بقلّة الذنوب(2).

وقد نظم بعضهم ذلك في بيتين فقال:

شكوت إلى وكيع سوء حفظي *** فأرشدني إلى ترك المعاصي

وقال اعلم بأنّ العلم فضل *** وفضل الله لا يؤتاه عاصي(3)

الثاني: أن يغتنم التحصيل في الفراغ والنشاط وحالة الشباب وقوّة البدن ونباهة الخاطر وسلامة الحواسّ وقلّة الشواغل وتراكم العوارض، سيّما قبل ارتفاع المنزلة والاتّسام بالفضل والعلم، فإنّه أعظم صادٍّ عن درك الكمال، بل سبب تامٌ في النقصان والاختلال.

قال بعضهم: تفقّهوا قبل أن تسودوا(4). أي تصير وا سادة فتأنّفوا من التعلّم أو تستحيوا منه بسبب المنزلة فيفوتكم العلم.

وقال آخر: تفقّه قبل أن تترأّس فإذا رأست، فلا سبيل إلى التفقّه(5).

ص: 133


1- هو وكيع بن الجراح بن مليح (129) - 197 ها، تجد ترجمته ومصادر ترجمته في تهذيب التهذيب، ج 11، ص 123 - 131؛ والأعلام، ج 8، ص 117؛ وتذكرة الحفاظ، ج 1، ص 306 - 309. قال ابن حجر في ترجمته في تهذيب التهذيب: قيل: ما رأيت أحداً أحفظ من وكيع.
2- تهذيب التهذيب، ج 11، ص 129، وفيه: قال عليّ بن خشرم [بزنة جعفر]: رأيتُ وكيعاً وما رأيت بيده كتاباً قط إنّما هو يحفظ، فسألته عن دواء الحفظ، فقال: ترك المعاصي، ما جرَّبْتُ مثله للحفظ ؛ وانظر روضة العقلاء، ص 39. واعلم أنّ في جميع نسخ منية المريد: علي بن حشرم بالحاء المهملة والصواب «على ب-ن خ-ش--رم» بالخاء المعجمة، كما في تهذيب التهذيب، ج 11، ص 129 : ج 7، ص 316 - 317؛ وتدريب الراوي، ج 1، ص 224 وانظر ترجمة عليّ بن خشرم ( 165 - 257ه-) في تهذيب التهذيب، ج 7، ص 316 - 317.
3- تعليم المتعلّم، ص 26، والبيت الثاني فيه هكذا: فإنََّ الحفظ فضل من إله *** وفضل الله لا يُهدى لعاصي
4- قاله عُمَر، كما في صحيح البخاري، ج 2، ص 41؛ سنن الدارمي، ج 1، ص 79؛ جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 103؛ مختصر نصيحة أهل الحديث، ص 29؛ أدب الدنيا والدين، ص 58 المحاسن والمساوى، ص 11؛ التبيان في آداب حملة القرآن، ص 1: شرح المهذب، ج 1، ص 64.
5- قاله الشافعي، كما في الفقيه والمتفقه، ج 2، ص 78، 79؛ تذكرة السامع، ص 134؛ التبيان في آداب حملة القرآن، ص 127 شرح المهذب، ج 1، ص 64.

وجاء في الخبر: «مثل الذي يتعلّم العلم في صغره كالنقش على الحجر ومثل الذي يتعلّم العلم في كبره كالذي يكتب على الماء»(1).

وعن ابن عبّاس (رضي الله عنه): ما أوتي عالم علماً إلّا وهو شابّ(2). وقد نبّه الله تعالى على ذلك بقوله: «وَءَاتَيْنَهُ الْحُكْمَ صَبِيَّا»(3). وهذا باعتبار الغالب، وإلّا فمن كبر لا ينبغي له أن يحجم عن الطلب، فإنّ الفضل واسع والكرم وافر والجود فائض، وأبواب الرحمة والهبات مفتّحة، فإذا كان المحلّ قابلاً تمّت النعمة وحصل المطلوب؛ قال الله :تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ»(4)؛ وقال تعالى: «وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَهُ حُكْمًا وَعِلمًّا»(5).

وقال تعالى - حكاية عن موسى علیه السلام - : «فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا»(6) إلى غير ذلك.

وقد اشتغل جماعة من السلف(7). في حال كبرهم، فتفقّهوا وصاروا أساطين في الدين وعلماء مصنّفين في الفقه وغيره، فليغتنم العاقل ،عمره وليحرز شبابه عن التضييع؛ فإنّ بقيّة العمر لا ثمن لها كما قيل:

بقيّة العمر عندي ما لها ثمن *** وما مضى غير محمود من الزمن يستدرك المرء فيها ما أفات ويحيا *** ما أمات ويمحو السوء بالحسن(8)

ص: 134


1- الجامع الصغير، ج 2، ص 154، حرف الميم؛ وشرحه فيض القدير، ج 5، ص 509، ح 8138؛ أدب الدنيا والدين، ص 57.
2- مجمع الزوائد، ج 1، ص 125؛ الفقيه والمتفقّه، ج 2، ص 89، وقبله فيهما: «ما بعث الله نبيّاً إلّا وهو شابّ...».
3- مريم (19): 12
4- البقرة .(2) .282
5- القصص (28): 14
6- الشعراء (26): 21
7- منهم السكّاكي صاحب مفتاح العلوم، كما يقال؛ وفي فيض القدير، ج 5، ص 509:... قد تفقه القفال والقدوري بعد الشيب ففاقوا الشباب
8- لم أقف على ناظم البيتين.

الثالث(1) : أن يقطع ما يقدر عليه من العوائق الشاغلة، والعلائق المانعة عن تمام الطلب وكمال الاجتهاد وقوّة الجدّ في التحصيل، ويرضى بما تيسّر من القوت وإن كان سيراً، وبما يستر مثله من اللباس وإن كان خلقاً، فبالصبر على ضيق العيش تنال سعة العلم، ويجمع شمل القلب عن مفترقات الآمال، ليتفجّر عنه ينابيع الحكمة والكمال.

قال بعض السلف(2) : لا يطلب أحد هذا العلم بعزّ النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذل النفس وضيق العيش وخدمة العلماء أفلح.

وقال أيضاً: لا يصلح طلب العلم إلّا لمفلسٍ. فقيل: ولا الغنيّ المكفيّ. فقال: ولا الغنيّ المكفيّ(3).

وقال آخر(4): لا يبلغ أحد من هذا العلم ما يريد حتّى يضرّ به الفقر، ويؤثره على كلّ شيء.

وقال بعضهم(5) : لا ينال هذا العلم إلّا من عطّل دكّانه، وخرّب بستانه، وهجر إخوانه، ومات أقرب أهله فلم يشهد جنازته.

وهذا كلّه وإن كان فيه مبالغة، فالمقصود به أنّه لا بدّ فيه من جمع القلب واجتماع الفكر. وبالغ بعض المشايخ فقال لبعض طلبته اصبغ ثوبك حتّى لا يشغلك فكر غسله(6).

ص: 135


1- لاحظ تذكرة السامع ص 71 - 72.
2- هو الشافعي كما في المحدث الفاصل، ص 220؛ والفقيه والمتفقّه، ج 2، ص 93؛ وجامع بيان العلم وفضله، ج 2، ص 117؛ وتدريب الراوي، ج 2، ص 141 - 142؛ وتذكرة السامع ص 71 - 72؛ وفتح الباقي ، ج 2، ص 224؛ وشرح المهذّب، ج 1، ص 59
3- الفقيه والمتفقّه، ج 2، ص 94؛ تذكرة السامع ص 72؛ فيض القدير، ج 6، ص 175؛ شرح المهذّب، ج 1، ص 59: وراجع أيضاً حلية الأولياء، ج 9، ص 119
4- هو مالك بن أنس، كما في الفقيه والمتفقه، ج 2، ص 94؛ وتذكرة السامع، ص 72؛ شرح المهذّب، ج 1، ص 59
5- نقله الخطيب البغدادي عن بعضهم في الجامع لأخلاق الراوي وآداب الواعي أو السامع كما في تذكرة السامع ص 71
6- تذكرة السامع، ص 71 قال الذهبي في ترجمة شعبة بن الحجاج وكانت ثيابه لونها كالتراب. تذكرة الحافظ ج 1، ص 194.

ومن هنا قيل: العلم لا يعطيك بعضه حتّى تعطيه كُلّك(1).

الرابع: أن يترك التزويج حتّى يقضي وطره من العلم؛ فإنّه أكبر شاغل وأعظم مانع بل هو المانع جملة، حتّى قال بعضهم: ذبح العلم في فروج النساء(2). وعن إبراهيم بن أدهم من تعوّد أفخاذ النساء لم يفلح(3). يعني اشتغل بهن عن الكمال.

وهذا أمر وجداني مجرّب واضح لا يحتاج إلى الشواهد، كيف مع ما يترتّب عليه على تقدير السلامة فيه من تشويش الفكر بهمّ الأولاد والأسباب، ومن المثل السائر «لو كلّفت بَصَلة ما فهمت مسألة»(4).

ولا يغترّ الطالب بما ورد في النكاح من الترغيب(5)، فإنّ ذلك حيث لا يعارضه واجب

ص: 136


1- قاله الخليل بن أحمد، كمافي محاضرات الأدباء، ج 1، ص 50. ونُسب إلى القيل في الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص 117؛ وميزان العمل، ص 116 .
2- لم أقف على قائله ومصدره، نعم نُقِل في الأنوار النعمانية، ج 4، ص 312؛ وجواهر الکلام، ج 29، ص 32 ولكن لم ينسب فيهما إلى قائل معيّن؛ وقال في كشف الخفاء، ج 1، ص 370 قال بعض العلماء: ضاع العلم بين أفخاذ النساء؛ وقال فيه ج 1، ص 500 أيضاً: ذبح العلم بين أفخاذ النساء، ليس بحديث؛ وفيه: ج 2، ص 44: ضاع العلم بين أفخاذ النساء، ليس بحديث، بل روي بمعناه عن بشر الحافي، فقال: لا يفلح من ألف أفخاذ النساء.
3- قوت القلوب، ج 2، ص 239؛ شرح المهذّب، ج 1، ص 59؛ وفي إحياء علوم الدين، ج 2، ص 31: قال إبراهيم ابن أدهم من تعوَّدَ أفخاذ النساء لم يجئ منه شيء؛ وفي حلية الأولياء، ج 8، ص 11، عن إبراهيم بن أدهم: من أحب اتخاذ كذا النساء لم يفلح؛ وفيه أيضاً ج 7، ص 12، عن الثوري من أحبّ أفخاذ النساء لم يفلح؛ وإبراهيم بن أدهم هو أبو إسحاق إبراهيم بن أدهم بن منصور التميمي. انظر ترجمته ومصادر ترجمته في الأعلام، ج 1، ص 31.
4- في تذكرة السامع، ص 71: وممّا يقال عن الشافعي أنه قال: لو كلفت شراء (خ ل: إلى شراء) بصلة لما فهمت مسألة. والظاهر أنه ليس بمثل سائر بل هي كلمة هو - أعني الشافعي قائلها.
5- الكافي، ج 5، ص 328 - 331، وغيره. قال صاحب الجواهر (قدس سره). نعم ربما قيل بالتفصيل بين من كانت عبادته من الأعمال، فالتزويج أفضل منها؛ لإطلاق مادلّ على ذلك، وبين من كانت عبادته تحصيل العلوم الدينية، فهي أفضل منه، لأن كمال الإنسان العلم الذي هو الغرض الأصلي من خلقته - وساق الكلام في فضيلة العلم إلى أن قال (قدس سره): - إلى غير ذلك من الفضائل التي لا تحصى كثرة على وجه يقطع ذوالفطرة السليمة الواقف على تمام ماورد في فضيلة العلم والعلماء أنه أفضل السعادات وأشرف الكمالات، وأنه ينبغي تقديمه على كل فضيلة، وايثاره على كلّ طاعة، سواء في تلك التزويج وغيره، وماورد في الأخبار من فضل النكاح ليس مما يداني فضيلة العلم ولا ممّا يقاربه؛ فلا يصلح المعارضة به، ولا الشك في على ما يضاده ويعارضه، والاجتهاد في قطع ما يقدر عليه من العوائق الشاغلة والعلائق المانعة عن تحصيله، أو عن الاستكمال فيه، ولا ريب أن التزويج من أكبر الشواغل وأعظم الموانع، حتى اشتهر أنّ العلم ذبح في فروج النساء». لكن قد يناقش هنا بأنّ النزاع هنا ... إلخ. جواهر الکلام، ج 29، ص 31 - 32

أولى منه؛ ولا شيء أولى ولا أفضل ولا واجب أضيق من العلم سيّما في زماننا هذا، فإنه وإن وجب على الأعيان والكفاية على تفصيل، فقد وجب في زماننا هذا على الأعيان مطلقاً؛ لأنّ فرض الكفاية إذا لم يقم به من فيه كفاية، يصير كالواجب العيني في مخاطبة الكلّ ،به وتأثيمهم بتركه، كما هو محقّق في الأُصول.

الخامس(1) : أن يترك العشرة مع من يشغله عن مطلوبه؛ فإنّ تركها من أهمّ ما ينبغي لطالب العلم، ولا سيّما لغير الجنس، وخصوصاً لمن قلّت فكرته، وكثر تعبه وبطالته؛ فإنّ الطبع سرّاق. وأعظم آفات العشرة ضياع العمر بغير فائدة، وذهاب العرض والدين إذا كانت لغير أهل.

والذي ينبغي لطالب العلم، أن لا يخالط إلّا لمن يفيده أو يستفيد منه، فإن احتاج إلى صاحب، فليختر الصاحب الصالح الدين التقيّ الذكيّ، الذي إن نسي ذكّره، وإن ذكر أعانه، وإن احتاج واساه، وإن ضجر صبّره، فيستفيد من خلقه ملكة صالحة، فإن لم يتّفق مثل هذا فالوحدة ولا قرين السوء.

السادس(2) : أن يكون حريصاً على التعلّم مواظباً عليه في جميع أوقاته ليلاً ونهاراً، سفراً وحضراً، ولا يذهب شيئاً من أوقاته فى غير طلب العلم إلّا بقدر الضرورة لما لا بدّ منه من أكل ونوم واستراحة يسيرة لإزالة المَلَل ومؤانسة زائر وتحصيل قوت، وغيره ممّا يحتاج إليه، أو لألم وغيره، ممّا يتعذّر معه الاشتغال؛ فإنّ بقية العمر لا ثمن لها و «من استوى يوماه فهو مغبون»(3).

ص: 137


1- لاحظ تذكرة السامع، ص 83- 84
2- لاحظ تذكرة السامع، ص 26 - 27: شرح المهذّب، ج 1، ص 62 - 63.
3- حديث نبوي مروي في إرشاد القلوب، ج 1، ص 87؛ وتفسير كشف الأسرار، ج 4، ص 459؛ وعوالي اللآلي ج 1، ص 284؛ وهو أيضاً مروي عن موسى بن جعفر علیهما السلام في بحار الأنوار، ج 87، ص 327 نقلاً عن كشف الغمة؛ وفي ج 78، ص 277 عن الصادق علیه السلام : من اعتدل يوماه فهو مغبون»؛ وأيضاً فيه، ج 71، ص 173، ح 5 نقلا عن أمالي الصدوق، عن الصادق علیه السلام : «من استوى يوماه فهو مغبون».

وليس بعاقل من أمكنه الحصول على درجة ورّثها الأنبياء ثمّ فوّتها، ومن هنا قيل: لا يستطاع العلم براحة الجسد(1). وقيل: الجنّة حفّت بالمكاره(2). وقيل: ولا بدّ دون الشهد من ألم النحل(3). وقيل:

لا تحسب المجد تمراً أنت أكله *** لن تبلغ المجد حتّى تلعق الصبرا(4)

السابع: أن يكون عالي الهمّة، فلا يرضى باليسير مع إمكان الكثير، ولا يسوّف في اشتغاله ولا يؤخّر تحصيل فائدة - وإن قلّت - تمكّن منها، وإن أمن فوات حصولها بعد ساعة؛ لأن للتأخير ،آفات ولأنّه في الزمن التالي يحصل غيرها، حتّى لو عرض له مانع عن الدرس فليشتغل بالمطالعة والحفظ بجهده، ولا يربط شيئاً بشيء.

وليعلم أنّه إن أراد التأخير إلى زمن يكمل فيه الفراغ، فهذا زمن لم يخلقه الله تعالى بعد بل لا بدّ في كلّ وقت من موانع وعوائق وقواطع، فقاطع ما أمكنك منها قبل أن

ص: 138


1- المحدّث الفاصل، ص 202؛ جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 109؛ الفقيه والمتفقّه، ج 2، ص 103؛ شرح المهذّب، ج 1، ص 63: تدريب الراوي، ج 2، ص 141؛ فتح الباقي، ج 2، ص 224؛ شرح ألفية العراقي، ج 2، 224؛ تذكرة السامع، ص 27، قاله يحيى بن أبي كثير؛ وجاء في تذكرة السامع، ص 27: «الجسم بدل «الجسد»، وهو أنسب.
2- عن أمير المؤمنين ( عليه أفضل صلوات المصلّين) .... إن رسول الله صلى الله عليه و اله و سلم كان يقول: إنّ الجنَّةَ حُقَّتْ بالمكاره وإنّ النار حُفَّت بالشهوات». نهج البلاغة، ص 251، الخطبة 176.
3- هذا عجز بيت للمتنبّي، والبيت ورد في ديوان المتنبي، ص 214 هكذا: تريدين لُقيان المعالي رخيصة *** ولابدّ دون الشهد من إبّر النحل وانظر تذكرة السامع، ص 27؛ والأمثال والحكم، ص 49
4- أمالي القالي، ج 1، ص 146، رواه عن أبي بكر بن دريد عن بعض العرب: شرح ديوان الحماسة، ج 3، ص 1511، رواه عن رجل من بني أسد: وفي لسان العرب، ج 4، ص 442، «صبر»: الصبر: عصارة شجر مر، واحدته صَيرة وجمعه صُبُور... ولا يسكن إلا في ضرورة الشعر؛ وراجع الأمثال والحكم، ص 49.

يقطعك كلّها؛ كما ورد في الخبر الوقت سيف فإن قطعته وإلّا قطعك(1).

وإلى هذا المعنى أشار بعض الأولياء الفضلاء(2) مشيراً إلى الحثّ على مقامات العارفين:

وكن صارماً كالوقت فالمقت في «عسى» *** وإياك «عَلَِّى»(3) فهى أخطر علّة زمناً وانهض كسيراً فحظّك *** البطالة ما أخّرت عزماً لصحّة

وأقدِمْ وقَدِّم ما قعدت له مع *** الخوالِف واخرج عن قيود التلفّت

وُجدَّ بسيف العزم «سوف» فإن تَجُدْ *** تَجِد نفسا، فالنفس إن جُدْتَ جَدَّت(4)

ص: 139


1- اعلم أنّي لم أجد هذا الكلام في الجوامع الحديثية للشيعة ولأهل السنّة، وليس هو حديثاً من أحاديث المعصومين (سلام الله عليهم أجمعين)، بل يُعَدُّ من كلمات مشايخ الصوفية، وصرّح بذلك في كشف الخفاء، ج 2، ص 457، وقال: ليس بحديث وهو من كلام بعض الحكماء والمؤلّف (رحمه الله)، إنما عبّر عنه في المتن بالخبر، والخبر، كما في شرح البداية، ص 6- 7، أعم من أن يكون قول الرسول أو الإمام والصحابي والتابعي وغيرهم من العلماء والصلحاء، وقد يُخص الحديث بماجاء عن المعصوم علیه السلام، ويُخَصّ الخبر بماجاء عن غيره، أو يجعل الحديث أعمّ من الخبر مطلقاً
2- هو ابن الفارض في تائيّته الكبرى المعروفة، انظر ديوان ابن الفارض، ص 63 - 64 : مشارق الدراري ص 214 - 219.
3- ورد في المصدر: «علّاًٌ» بدل «علّي» وعلّ لغة في لعلّ.
4- قال في كشف الوجوه الغرّ لمعاني نظم الدرّ، ج 1، ص 142 - 146، في شرح هذه الأبيات: .. ونصب زمناً وكسيراً على الحال من الضمير في سر وانهض .... أي سر للحجّ في حال كونك زمناً، وانهض وقم إلى الصلاة في حال كونك كسيراً مريضاً؛ لأنّك مادُمتَ أخرتَ عزم العمل إلى زمان الصحة لم تحَظَّ بشيء سوى البطالة. .... يعني تقدّم في السلوك، وقدّم سبيلك كلّ ما قعدتَ لأجله في بيت الهوى من الحظوظ النفسانيّة والعصيان، واخرج عن قيود الالتفات إلى الموانع ليفتح عليك أبواب العزائم. «فإن تجُد» من جاد بنفسه يجود جوداً: إذا مات؛ وقوله «تجد نفساً»: من وجد يجد وجداناً: إذا صادف؛ وقوله إن جدتَ»: الفرس يجود جودة : إذا سار جيّداً؛ وقوله «جَدَّت»: من جدّ يجدّ جدّاً: إذا جهد؛ والفاء في فالنفس» للتعليل يتعلق بقوله «وجّدَّ»، أي واقطع بسيف العزم الصحيح «سوف أفعل» يعني تسويف النفس، واشتغل بوظيفة الوقت، فإن تمت بعد ذلك تجد نفسا صالحاً وذلك هو الوقت الذي أدركته بالطاعة وأمرت بها ؛ لأنّ النفس إن سرتَ سيراً جيّداً صارت مجدّة ساعية في العمل، فإنّها إذا بعثت على الطاعة تدربَتْ فيها وانتزعت الكراهة عنها، وحينئذٍ ينبعث منها داعية العمل.

الثامن: أن يأخذ في ترتيب التعلّم بما هو الأولى، ويبدأ فيه بالأهمّ فالأهمّ فلا يشتغل في النتائج قبل المقدّمات ولا في اختلاف العلماء - في العقليّات والسمعيّات - قبل إتقان الاعتقاديات؛ فإنّ ذلك يحيّر الذهن ويدهش العقل.

وإذا اشتغل في فنّ، فلا ينتقل عنه حتّى يتقن فيه كتاباً، أو كتباً إن أمكن وهكذا القول في كلّ فنّ.

وليحذر التنقّل من كتاب إلى كتاب ومن فنّ إلى غيره من غير موجب؛ فإنّ ذلك علامة الضجر وعدم الفلاح، فإذا تحقّقت أهليّته، وتأكّدت معرفته، فالأولى له أن لا يدع فنّاً من العلوم المحمودة، ونوعاً من أنواعها إلّا وينظر فيه نظراً يطّلع به على مقاصده وغايته، ثمّ إن ساعده العمر وأنهضه التوفيق طلب التبحّر فيه، وإلّا اشتغل بالأهمّ فالأهمّ؛ فإنّ العلوم متقاربة وبعضها مرتبط ببعض غالباً.

واعلم أن العمر لا يتّسع لجميع العلوم فالحزم أن يأخذ من كلّ علم أحسنه ويصرف جمام قوّته في العلم الذي هو أشرف العلوم، وهو العلم النافع في الآخرة ممّا يوجب كمال النفس وتزكيتها بالأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة، ومرجعه إلى معرفة الكتاب والسنّة، وعلم مكارم الأخلاق وما ناسبه.

ص: 140

القسم الثاني : آدابه مع شيخه وقدوته وما يجب عليه من تعظيم حرمته

قال الصادق علیه السلام : «كان أمير المؤمنين علیه السلام يقول: إنّ من حق العالم أن لا تُكثر عليه السؤال، ولا تأخذ بثوبه، وإذا دخلت عليه - وعنده قوم - فسلّم عليهم جميعاً، وخصّه بالتحيّة ،دونهم واجلس بين يديه ولا تجلس خلفه، ولا تغمز بعينك، ولا تشر بيدك، ولا تُكثر من القول: قال فلان وقال فلان، خلافاً لقوله، ولا تضجر لطول صحبته، وإنّما مثل العالم مثل النخلة تنتظرها متى يسقط عليك منها شيء، والعالم أعظم أجراً من الصائم القائم الغازي في سبيل الله»(1).

وفي حديث الحقوق الطويل المرويّ عن سيّد العابدين علیه السلام(2) : «وحقّ سائسك بالعلم التعظيم له والتوقير لمجلسه وحسن الاستماع إليه والإقبال عليه، وألّا ترفع عليه تك، ولا تجيب أحداً يسأله عن شيءٍ حتّى يكون هو الذي يجيب، ولا تحدّث في مجلسه أحداً، ولا تغتاب عنده أحداً، وأن تدفع عنه إذا ذكر عندك بسوءٍ، وأن تستر عيوبه وتظهر مناقبه، ولا تجالس له عدوّاً، ولا تعادي له وليّاً، فإذا فعلت ذلك شهدت لك ملائكة الله جلّ وعزّ بأنّك قصدته، وتعلّمت علمه الله جلّ اسمه لا للناس»(3).

ص: 141


1- الكافي، ج 1، ص 37 باب حقّ العالم، ح 1، وفيه: «بطول» بدل «لطول» و «فإنّما» بدل «وإنّما» و «حتّى يسقط» بدل متى يسقط»: المحاسن، ج 1، ص 233 ، ح 187/785؛ بحار الأنوار، ج 2، ص 43، ح 9، نقلاً عنه؛ دستور معالم الحكم، ص 131 - 132
2- حديث الحقوق مروي في الفقيه، ج 2، ص 376 - 381 ، ح 1626؛ ومكارم الأخلاق، ص 419 - 424؛ وتحف العقول، ص 184 - 195.
3- مكارم الأخلاق، ص 420: الفقيه، ج 2، ص 377، ح 1626؛ بحار الأنوار، ج 2، ص 42، ح 6، نقلاً عن روضة الواعظين والخصال، وأمالي الصدوق.

وفيما حكاه الله عزّ وجلّ عن موسى علیه السلام حين خاطب الخضر علیه السلام بقوله: «هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلَّمَن مِمَّا عَلَّمْتَ رُشْدًا»(1).

وفي قوله: «سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِى لَكَ أَمْرًا»(2). جملة جليلة من الآداب الواقعة من المتعلم لمعلمه، مع جلالة قدر موسى علیه السلام وعظم شأنه، وكونه من أولي العزم من الرسل؛ ثمّ لم يمنعه ذلك من استعمال الآداب اللائقة بالمعلّم، وإن كان المتعلّم أكمل منه من جهات أُخرى.

ولو أردنا استقصاء ما اشتمل عليه تخاطبهما من الآداب والدقائق لخرجنا عن وضع الرسالة، لكنّا نشير إلى ما يتعلّق بالكلمة أولى، وهي قوله: «هَلْ اَتَّبِعُکَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عَلِمْتَ رُشْداً»(3).

فقد دلّت على اثنتي عشرة فائدةً من فوائد الأدب (4).

الأُولى: جعل نفسه تبعاً له، المقتضي لانحطاط المنزلة في جانب المتبوع(5).

الثانية: الاستئذان ب_ «هل» أي هل تأذن لي في اتّباعك، وهو مبالغة عظيمة في التواضع.

الثالثة: تجهيل نفسه والاعتراف لمعلّمه بالعلم بقوله «على أن تعلّمن».

الرابعة: الاعتراف له بعظيم النعمة بالتعليم؛ لأنّه طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله الله تعالى به أي يكون إنعامك عليّ كإنعام الله عليك. ولهذا المعنى قيل: أنا عبد من تعلّمت منه(6).

ص: 142


1- الكهف (18) : 66
2- الكهف (18): 69
3- الكهف (18): 66
4- لاحظ تفسير الرازي ، ج ،21، ص 151 - 152 ، ذيل الآية 66 من الكهف (18).
5- هكذا في النسخ المخطوطة ونسخة «ه- ، ط ، ن» وهو الصحيح قطعاً؛ وحرف الجر «في» متعلق ب- «انحطاط المنزلة»، أي انحطاط منزلة التابع في جانب المتبوع، والجانب يكون بمعنى الجهة والناحية، من قولك: قعدت إلى جانب فلان. وجاء في نسخة «ص، ح، ع»: «التابع»، بدل «المتبوع»، وهو خطأقطعاً.
6- تفسير الرازي، ج 21، ص 152، ذيل الآية 66 من الكهف (18). وفي تذكرة السامع، ص 90 - نقلاً عن شعبة بن الحجّاج : كنت إذا سمعتُ من الرجل الحديث كنت له عبداً ما يحيى، وفي تذكرة الأولياء، ص 253، نقلاً عن الشافعي

و: «من علم إنساناً مسألة ملك رقّه»(1).

الخامسة: أنّ المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير، لكونه فعله لا لوجه آخر، ودلّ ذلك على أنّ المتعلّم يجب عليه من أوّل الأمر التسليم، وترك المنازعة. السادسة: الإتيان بالمتابعة من غير تقييد بشيء بل اتباعاً مطلقاً، لا يقيّد عليه فيه بقيد(2)، وهو غاية التواضع.

السابعة: الابتداء بالاتّباع، ثمّ بالتعليم، ثمّ بالخدمة، ثمّ بطلب العلم.

الثامنة أنّه قال: هل أتّبعك على أن تعلّمن؛ أي لم أطلب على تلك المتابعة إلّا التعليم، كأنّه قال: لا أطلب منك على تلك المتابعة مالاً ولا جاهاً.

التاسعة: ممّا علّمت إشارة إلى بعض ما علّم أي لا أطلب منك المساواة بل بعض ما علّمت فأنت أبداً مرتفع عليّ زائد القدر.

العاشرة: قوله: ممّا علمت اعتراف بأنّ الله علّمه، وفيه تعظيم للمعلّم والعلم وتفخيم لشأنهما.

الحادية عشرة : قوله «رشدا» طلب الإرشاد، وهو ما لولا حصوله لغوى وضلّ وفيه اعتراف بشدّة الحاجة إلى التعلّم، وهضم عظيم لنفسه، واحتياج بيّن لعلمه.

الثانية عشرة : ورد(3) أنّ الخضر علیه السلام علم أوّلاً أنّه نبيّ بني إسرائيل، موسى علیه السلام صاحب

ص: 143


1- في اجازة الشيخ محمد بن أبي جمهور الأحسائي للسيد محمود بن علاء الدين الطالقاني: قال سيّد العالمين: «من علَّمَ شخصاً مسألة ملك رقه»، فقيل له: أيبيعه؟ قال: «لا؛ ولكن يأمره وينهاه». بحار الأنوار، ج 108، ص 16.
2- كذا في النسخ سوى نسخة «ض ، ح ، ع» فقد جاء فيها: «لا تقييد فيه بقيدٍ» بدل «لا يقيد عليه فيه بقيدٍ» ولعلّه أصحّ؛ وفي تفسير الرازي، ج 21، ص 152، ذيل الآية 66 من الكهف (18): تاسعها: أنّ قوله «أتّبعك» يدلّ على طلب متابعته مطلقاً في جميع الأُمور غير مقيّد بشيء دون شيء.
3- في تفسير الرازي، ج 21، ص 150: روي أن موسى علیه السلام لمّا وصل إليه قال: «السلام عليك. فقال: وعليك السلام يا نبيّ بني إسرائيل. فقال موسى علیه السلام : من عرَّفَكَ هذا؟ قال: الذى بعثك إليّ». وفي تفسير مجمع البيان، ج 6، 483 ، ذيل الآية 66 من الكهف (18) وقيل: إنّه رآه على طنفسةٍ خضراء، فسلّم عليه فقال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل. فقال له موسى: «وما أدراك من أنا ومن أخبرك أنّي نبيّ ؟» قال: من دلّك عليّ.

التوراة الذي كلّمه الله عزّ وجلّ بغير واسطة، وخصّه بالمعجزات، وقد أتى مع هذا المنصب - بهذا التواضع العظيم بأعظم أبواب المبالغة، فدلّ على أنّ هذا هو الأليق، لأنّ من كانت إحاطته بالعلوم أكثر، كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر، فيشتد طلبه لها، ويكون تعظيمه لأهل العلم أكمل.

ثمّ مع هذه المعرفة من الخضر علیه السلام وهذه الغاية من الأدب والتواضع من موسى علیه السلام أجابه بجواب رفيع وكلام منيع، مشتمل على العظمة والقوّة، وعدم الأدب مع موسى علیه السلام بل وصفه بالعجز وعدم الصبر، بقوله: «إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً»(1).

وقد دلّت هذه الكلمة الوجيزة أيضاً على فوائد كثيرة من أدب المعلّم وإعزازه للعلم وإجلاله لمقامه، على وجه يقتضي التأسّي به، ولا دخل له بهذا الباب، لكنّا نذكر جملةً منه المناسبة المقام، وله مدخل واضح في أصل الرسالة:

الأُولى وصفه بعدم الصبر على تعلّم العلم المقتضي لانحطاط قدره وسقوط محلّه، بالإضافة إلى مقام الصابرين الذين وعدهم الله تعالى بالكرامة، وبشّرهم بالصلاة والرحمة(2).

الثانية: نفيه عنه الاستطاعة على الصبر الموجب لقطع طمعه في السعي عليه والاتّصاف به وتحصيل أسبابه، وهو في الأغلب أمر مقدور للبشر، وكان غاية ما يقتضي الحال من المعلّم توصيته بالصبر لا تعجيزه عنه.

الثالثة: نفي الاستطاعة ب- «لن» المقتضية للنفي المؤبّد على رأي جماعة من المحقّقين منهم الزمخشري(3)، وهو موجب لليأس منه، لوقوع الإخبار به من معلمٍ متبوع صادق.

ص: 144


1- الكهف (18): 67
2- في قوله تعالى في سورة البقرة (2): 155 - 157: «وَبَشِّرِ الصَّبِرِينَ * الَّذِينَ إِذا أَصَبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أَوْلَتَبِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأَوْلَبِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ».
3- في الأنموذج، ص 292 - المطبوع ضمن جامع المقدّمات - حيث قال: ولن نظيرة لافي نفي المستقبل ولكن على التأبيد خ ل على التأكيد هذا، ولكن قال المحقّق الرضي الأستر آبادي (قدّس سرّه) في شرح الكافية ج 2، ص 235 : لن معناها نفي المستقبل، هي تنفي المستقبل نفياً مؤكّداً، وليس للدوام والتأبيد كما قال بعضهم: وقال ابن هشام في مغني اللبيب، ص 148 حرف اللام، ذيل كلمة «لن»: ولا تفيد لن توكيد النفي خلافاً للزمخشري في كشّافه، ولا تأبيده خلافاً له في أنموذجه، وكلاهما دعوى بلادليل؛ قيل: ولو كانت للتأكيد لم يقيّد منفيّها باليوم في فلن أكلَّم اليوم إنسيّاً»، ولكان ذكر الأبد في ولن يتمنّوه أبداً» تكراراً والأصل عدمه.

الرابعة: توكيد الجملة ب_ «إنّ»، واسمية الجملة، والنفي ب_ «لن»، وغيرها من المؤكّدات؛ وهو غاية عظيمة في التعجيز والتضعيف.

الخامسة: الإشارة إلى أنّك إن تخيّل لك أنك صابر على حسب ما تجده من نفسك، فأنت لا تعلم حالك عند صحبتي، لأنّك لم تصحبني بعد، والصبر الذي أنفيه عنك هو الصبر معي، وهذا أمر أنا أعلم ،به لعلمي بمقدار ما تطلب تعلّمه، وجهلك به.

السادسة: التنبيه على عظم قدر العلم وجلالة شأنه وتفخيم أمره، وأنّه أمر يحتاج إلى الصبر العظيم، الخارج عن عادات البشر، إذ لا شكّ أنّ موسى كليم الله ونبيّه أعظم شأناً وأكبر نفساً وأقوى صبراً وأعظم كمالاً من غيره من الناس.

السابعة: التنبيه على أنّه لا ينبغي أن يبذل العلم إلّا لمن كان ذا صبر قويّ، ورأي سويّ، ونفس مستقيمةٍ؛ فإنّه نور من الله تعالى لا ينبغي وضعه كيف اتّفق، وبذله لمن أراد، بل لا بدّ من ممارسته قبل ذلك واختباره، وقابليته له بكلّ وجهٍ.

الثامنة: التنبيه على أنّ علم الباطن أقوى مرتبةً من علم الظاهر، وأحوج إلى قوّة الجنان وعزيمة الصبر، فمن ثمّ كان موسى علیه السلام محيطاً بعلم الظاهر على حسب استعداده، وحاملاً له بقوّةٍ، وخوّفه الخضر علیه السلام - مع ذلك - من عجزه عن الصبر على تحمّل العلم الباطني، وحذّره من قلّة الصبر، وأراد علیه السلام بهذه المبالغة في نفيه أنّه ممّا يشقّ تحمّله عليك، ويعسر تجسّمه على جهة التأكيد في أمثال هذه الخطابيّات، لا أنّه غير مقدور البتّة، وإلّا لما قال له موسى علیه السلام بعد ذلك: «سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِراً»(1).

وقِس على ما أشرنا إليه من الآداب والوظائف ما تحتمله بقيّة الآيات، فهي متقاربة

ص: 145


1- الكهف (18): 69

في إفادة المعنى في هذا المقام وبه يترقّى من أراد التوصّل إلى باقي المرام.

إذا تقرّر ذلك، فلنعد إلى ذكر الآداب المختصّة بالمتعلّم مع شيخه، حسب ما قرّره العلماء، تفريعاً على المنصوص منها، وهي أُمور:

الأوّل(1): وهو أهمها أن يقدّم النظر فيمن يأخذ عنه العلم، ويكتسب حسن الأخلاق والآداب منه؛ فإنّ تربية الشيخ لتلميذه، ونسبة إخراجه لأخلاقه الذميمة وجعل مكانها خلقاً حسناً، كفعل الفلّاح الذي يقلع الشوك من الأرض، ويخرج منها النباتات الخبيثة من بين الزرع؛ ليحسن نباته ويكمل ريعه.

وليس كلّ شيخ يتّصف بهذا الوصف بل ما أقلّ ذلك؛ فإنّه في الحقيقة نائب عن الرسول صلی الله علیه و آله و سلّم، وليس كلّ عالم يصلح للنيابة، فليختر من كملت أهليّته، وظهرت ديانته، و تحقّقت معرفته و عرفت عفّته واشتهرت صيانته وسيادته وظهرت مروّته، وحسن تعليمه، وجاد تفهيمه، وقد تقدّم جملة أوصافه(2).

ولا يغترّ الطالب بمن زاد علمه مع نقص في ورعه أو دينه أو خلقه؛ فإنّ ضرره في خلق المتعلّم ودينه أصعب من الجهل الذي يطلب زواله وأشدّ ضرراً. وعن جماعة من السلف: هذا العلم ،دين، فانظروا عمّن تأخذون دينكم(3).

وممّا يؤنس به أن يكون له مع مشايخ عصره كثرة بحث وطول اجتماع وزيادة ممارسة، وثناء منهم على سمته وخلقه وبحثه وليحترز ممّن أخذ علمه أخذ علمه من بطون الكتب من غير قراءةٍ على الشيوخ؛ خوفاً من وقوعه في التصحيف والغلط والتحريف قال بعض السلف من تفقّه من بطون الكتب ضيّع الأحكام(4). وقال آخر:

ص: 146


1- لاحظ تذكرة السامع، ص 85 87؛ شرح المهذّب، ج 1، ص 60.
2- في النوع الثاني من هذا الباب، ص 87 وما بعد
3- سنن الدارمي، ج 1، ص 112، 113؛ صحیح مسلم، ج 1، ص 14 : المحدّث الفاصل، ص 304 و 416: الفقيه والمتفقّه، ج 2، ص 96 ، 98 و 178؛ تذكرة السامع، ص 85؛ التبيان في آداب حملة القرآن، ص 23.
4- قاله الشافعي كما في تذكرة السامع ص 87؛ شرح المهذب، ج 1، ص 64.

إيّاكم والصحفيّون(1) الذين يأخذون علمهم من الصحف؛ فإن ما يفسدون أكثر ممّا يصلحون(2).

وليحذر من التقيد بالمشهورين، وترك الأخذ من الخاملين؛ فإنّ ذلك من الكبر على العلم، وهو عين الحماقة ؛ لأنّ الحكمة ضالّة المؤمن يلتقطها حيث وجدها (3)ويغتنمها حيث ظفر بها، ويتقلّد المنّة ممّن ساقها إليه، وربّما يكون الخامل ممّن ترجى بركته فيكون النفع به أعمّ، والتحصيل من جهته أتمّ.

وإذا سبرت أحوال السلف والخلف لم تجد النفع غالباً إلّا إذا كان للشيخ من التقوى والنصح والشفقة للطلبة نصيب وافر، وكذلك إذا اعتبرت المصنّفات، وجدت الانتفاع بتصنيف الأتقى أوفر ، والفلاح بالاشتغال به أكثر وبالعكس حال العالم المجرّد.

الثاني: أن يعتقد في شيخه أنّه الأب الحقيقي والوالد الروحاني، هو أعظم من الوالد الجسماني، فيبالغ - بعد الأدب في حقّه كما تقدّم(4) - في رعاية حقّ أُبوّته ووفاء حقّ تربيته وقد سئل الإسكندر علیه السلام : ما بالك توقّر معلّمك أكثر من والدك ؟ فقال : لأنّ المعلّم سبب لحياتي الباقية، ووالدي لحياتي الفانية(5).

ص: 147


1- هكذا في النسخ المخطوطة ولعلّه من باب الحكاية، وإلّا فالصحيح والصحفيّين» بالنصب، كما لا يخفى.
2- في تحرير الأحكام الشرعية، ج 1، ص 3؛ وعوالي اللآلي، ج 4، ص 78: قال صلی الله علیه و آله و سلّم : «خذ العلم من أفواه الرجال». ونهى عن الأخذ ممّن أخذ علمه من الدفاتر، وقال: «لا يغرّنّكم الصحفيون»؛ وفي الكفاية في علم الرواية ص 194، نقلاً عن بعضهم : لا تأخذوا العلم من الصحفيّين وفي محاضرات الأُدباء، ج 1، ص 106: قيل: لا تأخذوا العلم من صحفي وفي الفقيه والمتفقّه، ج 2، ص 97.... لا تأخذوا العلم من الصحفيين... لا يفتي الناسَ الصحفيون، وقال أبو زرعة: لا يفتي الناس صحفي ولا يُقرئهم مصحفي؛ وفي تذكرة السامع، ص 87 - نقلاً عن بعضهم : من أعظم البليّة تشيّخ الصحيفة. أي الذين تعلّموا من الصحف
3- عن أمير المؤمنين علیه السلام : الحكمة ضالة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق». نهج البلاغة البلاغة، ص 481 الحكمة 80؛ وفي محاضرات الأدباء، ج 1، ص 50: قال النبيّ صلى الله عليه و اله و سلّم: «الحكمة ضالّة المؤمن أينما وجدها قيّدها».
4- في أوّل القسم الثاني من النوع الثالث من هذا الباب، ص 141 - 142.
5- محاضرات الأدباء، ج 1، ص 45: أخلاق ناصري، ص 271؛ الذريعة إلى مكارم الشيعة، ص 119.

وأيضاً لم يقصد الوالد في الأغلب في مقاربة والدته وجوده، ولا كمال وجوده، وإنّما قصد لذّة نفسه فوجد هو، وعلى تقدير قصده لذلك، فالقصد المقترن بالفعل أولى من القصد الخالي عنه؛ وأمّا المعلّم فقصد تكميل وجوده وسبّبه وبذل فيه جهده، ولا شرف لأصل الوجود إلّا بالإضافة إلى العدم؛ فإنّه حاصل للديدان والخنافس، وإنّما الشرف في كماله، وسببه المعلّم.

وقد روي أنّ السيّد الرضيّ الموسوي (قدّس الله روحه)(1) كان عظيم النفس عالي الهمّة أبيّ الطبع لا يقبل لأحدٍ منّة(2)، وله في ذلك قصص غريبة مع الخليفة العبّاسي حين أراد صلته بسبب مولود ولد له(3)، وغيره ومنها أنّ بعض مشايخه(4) ؛ قال له يوماً: بلغني أنّ دارك ضيّقة لا تليق بحالك، ولي دار واسعة صالحة لك، قد وهبتها لك فانتقل إليها. فأبى، فأعاد عليه الكلام فقال: يا شيخ أنا لم أقبل برّ أبي قطّ، فكيف من غيره؟ فقال له الشيخ: إنّ حقّي عليك أعظم من حقّ أبيك، لأنّي أبوك الروحاني، وهو أبوك الجسماني.

ص: 148


1- نرجو من يرغب التفصيل عن حياة الرضيّ وآثاره القيّمة أن يراجع نشرة «تراثنا» العدد الخامس
2- قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 33: وكان عفيفاً شريف النفس، عالي الهمّة ملتزماً بالدين وقوانينه، ولم يقبل من أحدٍ صلةً ولا جائزةً، حتّى أنّه ردّ صلات أبيه، وناهيك بذلك شرف نفس وشدّة ظلف؛ فأمّا بنوبّويه فإنّهم اجتهدوا على قبوله صلاتهم فلم يقبل.
3- شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 39 - 40: قال فيه: وقرأتُ بخطّ محمَّد بن إدريس الحلّي الفقيه الإمامي، قال: حكى أبو حامد أحمد بن محمَّد الإسفراييني الفقيه الشافعي، قال: كنت يوماً عند فخر الملك أبي غالب محمّد بن خلف وزير بهاء الدولة وابنه سلطان الدولة فدخل عليه الرضي أبو الحسن، فأعظمه وأجلّه ورفع من منزله، وخلّى ما كان بيده من الرقاع والقصص وأقبل عليه يحادثه إلى أن انصرف... فقال [ يعني فخر الملك: هذا كتاب الرضي، اتّصل بي أنّه قد ولد له ولدٌ، فأنفَذتُ إليه ألف دينار، قلت له: هذه للقابلة فقد جرت العادة أن يحمل الأصدقاء إلى أخلاتهم وذوي مودّتهم مثل هذا في مثل هذه الحال، فردّها وكتب إليَّ هذا الكتاب فاقرّأه. قال يعني أبا حامد الإسفراييني ]: فقرأتُه، وهو اعتذار عن الردّ وفي جملته: إنّنا أهل بيت لا يطلع على أحوالنا قابلة غريبة، وإنّما عجائزنا يتولّين هذا الأمر من نسائنا ولسن ممّن يأخذن أجرة ولا يقبلن صلةً .... وانظر لنقد وتزييف بعض هذه الحكاية - الذي لم ننقله - مقالة الرضي والمرتضى كوكبان»، المطبوع في نشرة «تراثنا»، العدد الخامس ص 248 - 262 .
4- هو الشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن احمد بن محمد الطبري الفقيه المالكي كما في شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 34.

فقال السيّد (رحمه الله) قد قبلت الدار(1).ومن هنا قال بعض الفضلاء

من علّم العلم كان خير أب *** ذاك أبو الروح لا أبو النطف(2)

الثالث: أن يعتقد أنّه مريض النفس؛ لأنّ المرض هو الانحراف عن المجرى الطبيعي. وطبع النفس العلم، وإنّما خرجت عن طبعها بسبب غلبة أخلاط القوى البدنية. ويعتقد أنّ شيخه طبيب مرضه ؛ لأنه يردّه إلى المجرى الطبيعي. فلا ينبغي أن يخالفه فيما يشير عليه، كأن يقول له : اقرأ الكتاب الفلاني، أو اكتب بهذا القدر من الدرس؛ لأنّه إن خالفه كان بمنزلة المريض يردّ على طبيبه في وجه علاجه.

وقد قيل في الحكم: مراجعة المريض طبيبه توجب تعذيبه(3).

وكما أنّ الواجب على المريض ترك تناول المؤذيات، والأغذية المفسدة للدواء في حضرة الطبيب وغيبته، كذلك المتعلّم، فيجب أن يطهّر نفسه من النجاسة المعنوية، التي غاية المعلّم النهي عنها من الحقد والحسد والغضب والشره والكبر والعجب، وغيرها من الرذائل، ويقطع مادّة المرض رأساً لينتفع بالطبيب.

الرابع(4) : أن ينظره بعين الاحترام والإجلال والإكرام، ويضرب صفحاً عن عيوبه؛ فإنّ ذلك أقرب إلى انتفاعه به ورسوخ ما يسمعه منه في ذهنه.

ولقد كان بعض السلف إذا ذهب إلى شيخه تصدّق بشيء، وقال: اللهمّ استر عيب معلّمي عنّي، ولا تذهب ببركة علمه منّي(5).

ص: 149


1- شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 34.
2- أدب الدنيا والدين، ص 77؛ وقبله آباء أجسادنا هُمُ سَبَب *** لأن جُعِلْنا عرائض التَّلَف وفي البيت الثاني «علَّمَ الناس» بدل «علَّمَ العلم».
3- لم أجده في كثيرٍ من كتب الحكم والأمثال الذي راجعته وتصفّحتُه
4- لاحظ تذكرة السامع، ص 88 - 89؛ شرح المهذّب، ج 1، ص 60 - 61.
5- تذكرة السامع، ص 88؛ التبيان في آداب حملة القرآن، ص 121؛ شرح المهذّب، ج 1، ص 61.

وقال آخر: كنت أصفح الورقة بين يدي شيخي صفحاً رفيقاً، هيبةً له لئلّا يسمع وقعها، أو قال: رفعها(1).

وقال آخر: والله ما اجترأت أن أشرب الماء وشيخي ينظر إليّ، هيبةً له(2).

وقال حمدان الأصفهاني : كنت عند شريكٍ(3)، فأتاه بعض أولاد الخليفة المهدي(4)؛ فاستند إلى الحائط وسأله عن حديث، فلم يلتفت إليه وأقبل علينا، ثمّ عاد، فعاد شريك لمثل ذلك ، فقال : أتستخفّ بأولاد الخلفاء؟ قال: لا، ولكنّ العلم أجلّ عند الله من أن أضيّعه . فجثا على ركبتيه، فقال شريك هكذا يطلب العلم(5).

الخامس : أن يتواضع له زيادةً على ما أمر به من التواضع للعلماء وغيرهم، ويتواضع للعلم، فبتواضعه له يناله، وليعلم أنّ ذله لشيخه عزّ، وخضوعه له فخر وتواضعه له ،رفعة وتعظيم حرمته مثوبة، والتشمّر في خدمته شرف. وقد قال النبيّ صلى الله عليه و اله و سلم: «تعلّموا العلم وتعلّموا للعلم السكينة والوقار، وتواضعوا لمن تعلّمون منه»(6).

ص: 150


1- قاله الشافعي وأراد من شيخه مالك بن أنس، كما في تذكرة السامع ص 88؛ وشرح المهذب، ج 1، ص 61 ؛ وفيض القدير ، ج 3، ص 253، وفيه : قال الشافعي : كنتُ أصفح الورقة بين يدي مالك برفقٍ لئلّا يسمع وقعها.
2- قاله الربيع وأراد من شيخه الشافعي، كما في تذكرة السامع، ص 88؛ والتبيان في آداب حملة القرآن، ص 23 - 24؛ وشرح المهذب، ج 1، ص 61؛ وفيض القدير، ج 3، ص 253، وفيه : قال الربيع: والله ما اجترأتُ أن أشرب الماء والشافعي ينظر
3- هو شريك بن عبدالله النخعي الكوفي المتوفّى سنة 177 ه-. انظر ترجمته ومصادر ترجمته في الأعلام ، ج 3، ص 163؛ وتذكرة الحفاظ، ج 1، ص 232؛ ووفيات الأعيان، ج 2، ص 464 - 468.
4- هو محمَّد بن عبدالله المنصور بن محمّد بن عليّ العبّاسي، من خلفاء الدولة العباسية، مات سنة 169 ه- انظر ترجمته ومصادر ترجمته في الأعلام، ج 6، ص 221
5- شرح المهذّب، ج 1، ص 61: أدب الإملاء والاستملاء، ص 133.
6- الجامع الصغير، ج 1، ص 131 حرف التاء ؛ وشرحه فيض القدير، ج 3، ص 253، ح 3322 قوت القلوب ج 1، ص 140

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «من علّم أحداً مسألة ملك رقه». قيل: أيبيعه ويشتريه؟ قال: «بل يأمره وينهاه»(1).

وأنشد بعض العلماء:

أهين لهم نفسى لكي يكرمونها *** ولن تكرم النفس التي لا تهينها(2)

السادس: أن لا ينكر عليه، ولا يتآمر ولا يشير عليه بخلاف رأيه، فيرى أنّه أعلم بالصواب منه، بل ينقاد إليه في أُموره كلّها، ويلقي إليه زمام أمره رأساً، ويذعن لنصحه ، ويتحرّى رضاه وإن خالف رأي نفسه، ولا يستبق معه ، رأياً ولا اختياراً ويشاوره في أُموره كلّها، ويأتمر بأمره. ولا يخرج عن رأيه وتدبيره باللسان والقلب . قال بعض العلماء(3) : خطأ المرشد أنفع للمسترشد من صوابه في نفسه. وفي

ص: 151


1- في إجازة الشيخ محمَّد بن أبي جمهور الأحسائي للسيّد محمود بن علاء الدين الطالقاني: قال سيّد العالمين: من علََّم شخصاً مسألةً ملك رقَّه، فقيل له: أيبيعه؟ قال: لا ؛ ولكن يأمره وينهاه. بحار الأنوار، ج 108 ، ص 16؛ وفي جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 154: ... سمعت شعبة يقول: كلّ من سمعت منه حديثاً فأنا له عبد
2- في أمالي المرتضى، ج 1، ص 205 وقيل لأبي دُؤاد الإيادي - ونظر إلى بنته تسوس فرسه : أهنتّها يا أبا دُؤاد! فقال: أهنتُها بكرامتي، كما أكرمتها بهواني. ومثل ذلك قول أعرابي لحقه ذُلّ على باب السلطان: اهين لهم نفسي لأُكرمها بهم *** ولن تُكرمَ النفس التي لا تُهينُها وفي محاضرات الأُدباء، ج 1، ص 300: ويُروى عن الشافعي: أهين لهم ... البيت ؛ وفي جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 142: ... فأنشأ الشافعي: أُهين لهم ... البيت؛ وفي قوت القلوب، ج 2، ص 228 ... قال: كثيراً ما كنتُ أسمع الشافعي يقول: أُهين لهم نفسي لكي يكرمونها ولن تكرم النفس التي لا تهينها وفي طبقات الشافعية، ج 2، ص 165: قال الربيع: كتب إليَّ البُوَيطي: أن اصبر نفسك للغرباء وحسَّن خلقك لأهل حلقتك، فإنّي لم أزل أسمع الشافعي يكثر أن يتمثّل بهذا البيت: أُهين لهم نفسي لكي يُكرمونها *** ولن تكرم النفس التي لا تهينها وفي تذكرة السامع ص 87 يقال: إنّ الشافعي عوتب على تواضعه للعلماء فقال: أُهين لهم نفسي لكي يُكرمونها ولن... البيت. ومثل هذا البيت ما في تعليم المتعلّم، ص 24: أرى لك نفساً تشتهي أن تُعزّها *** فلستَ تنال العزّ حتى تُذِلّها
3- هو الغزالي، قاله في إحياء علوم الدين، ج 1، ص 45 وانظر أيضاً تذكرة السامع، ص 88؛ وميزان العمل، ص 116.

قصّة موسى و الخضار علیهما السلام تنبيه على ذلك(1).

ونقل بعض الأفاضل عن بعض مشايخه، قال: حكيت لشيخي مناماً لي فقلت: رأيت أنّك قلت لى كذا وكذا، فقلت لك لم ذاك؟ قال: فهجرني شهراً ولم يكلّمني، وقال: لو لا أنّه كان في باطنك تجويز المطالبة وإنكار ما أقوله لك، لما جرى ذلك على لسانك في المنام(2).

والأمر كما قال، إذ قلّما يرى الإنسان في منامه خلاف ما يغلب في اليقظة على قلبه.

السابع: أن يبجّله في خطابه وجوابه، في غيبته وحضوره، ولا يخاطبه بتاء الخطاب وكافه، ولا يناديه من بعد، بل يقول: «ياسيّدي» و «يا أستاذ» وما أشبه ذلك، ويخاطبه بصيغ الجمع تعظيماً نحو «ما تقولون في كذا» و «ما رأيكم في كذا» و «قلتم» رضي الله عنكم» أو «تقبّل الله منكم» أو «رحمكم الله».

ولا يسمّيه في غيبته باسمه إلّا مقروناً بما يشعر بتعظيمه، كقوله: قال الشيخ، أو الأستاذ، أو شيخنا، أو شيخ الإسلام، ونحو ذلك.

الثامن(3) : تعظيم حرمته في نفسه واقتداؤه ،به ومراعاة هديه(4) في غيبته وبعد موته فلا يغفل عن الدعاء له مدّة حياته، ويردّ غيبته، ويغضب لها(5) زيادةً عمّا يجب رعايته

ص: 152


1- في إحياء علوم الدين، ج 1، ص 45: ... وقد نبّه الله تعالى بقصّة الخضر و موسى علیهما السلام؛ حيث قال الخضر: «إِنَّكَ لَن 45:... تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ثمّ شرط عليه السكوت والتسليم فقال: ... فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْتَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا» ثمّ لم يصبر ولم يزل في مراددته إلى أن كان ذلك الفراق بينهما. وبالجملة كلّ متعلّم استبقى لنفسه رأياً واختياراً دون اختيار المعلم، فاحكم عليه بالإخفاق والخسران. والآيتان في الكهف (18): 67 و 70.
2- لم أظفر بناقل الحكاية ومصدرها
3- لاحظ تذكرة السامع، ص 90.
4- هكذا في النسخ المخطوطة و «ه»، وهو بمعنى سيرته قال في المصباح المنير، ص 783، «هدي»: والهَدي مثال فلس: السيرة ؛ وفي النسخ المطبوعة سوى «ها»: «هذه» بدل «هديه»، وهو خطأ كما لا يخفى، ويحتمل بعيداً أن يكون الصواب «هذين»، إشارة إلى تعظيم حرمته في نفسه واقتدائه به فتأمّل.
5- أي لحرمته كما في هامش «ة»، ويمكن أن يكون الضمير عائداً إلى غيبته.

في غيره، فإن عجز عن ذلك قام وفارق المجلس.

ويرعى ذرّيّته وأقاربه، وأودّاءه ومحبّيه في حياته وبعد موته، ويتعاهد زيارة قبره والاستغفار له والترحّم عليه والصدقة عنه، ويسلك في السمت والهدي مسلكه ويراعي في العلم والدين عادته، ويقتدي بحركاته وسكناته في عباداته وعاداته ويتأدّب بآدابه ومن ثمّ كان الأهمّ تحصيل شيخٍ صالحٍ ليحسن الاقتداء به.

ثمّ إن قدر على الزيادة عليه بعد الاتّصاف بصفته فعل، وإلّا اقتصر على التأسّي، فبه يظهر أثر الصحبة.

التاسع(1) : أن يشكر الشيخ على توقيفه [خ ل: توفيقه] له على ما فيه فضيلة، وعلى توبيخه له على ما فيه نقيصة، أو كسلٍ يعتريه، أو قصورٍ يعانيه، أو غير ذلك ممّا في ايقافه عليه، وتوبيخه إرشاد وصلاحه(2)، ويعدّ ذلك من الشيخ من جملة النعم عليه باعتناء الشيخ به ونظره إليه؛ فإنّ ذلك أميل لقلب الشيخ، وأبعث له على الاعتناء بمصالحه.

وإذا وقّفه الشيخ على دقيقةٍ من أدب أو نقيصةٍ صدرت منه، وكان يعرف ذلك من قبل فلا يظهر أنّه كان عارفاً به وغفل عنه، بل يشكر الشيخ على إفادته ذلك واعتنائه بأمره، ليكون بذلك مستدعياً للعود إلى النصيحة في وقت الحاجة؛ فإن كان له في ذلك عذر ، وكان إعلام الشيخ به أصلح، فلا بأس به وإلّا فيتركه؛ إلّا أن يترتّب على ترك بيان العذر مفسدة، فيتعيّن إعلامه به.

العاشر(3) : أن يصبر على جفوةٍ تصدر من شيخه، أو سوء خلق، ولا يصدّه ذلك عن ملازمته وحسن عقيدته واعتقاد ،كماله ويتأوّل أفعاله - التي ظاهرها مذموم - علی

ص: 153


1- لاحظ تذكرة السامع، ص 92 - 93
2- هكذا في «ه ، ط ، ن» وتذكرة السامع، ص 93. وفي «ز ، م ، ق»: أو غير ذلك مما فيه إشفاقه عليه وتوبيخه إرشاده وصلاحه : وكيف ماكان فلا تخلو العبارة من الاضطراب.
3- لاحظ تذكرة السامع، ص 91 - 92: شرح المهذب، ج 1، ص 63 .

أحسن تأويل وأصحّه فما يعجز عن ذلك إلّا قليل التوفيق.

ويبدأ هو عند جفوة شيخه بالاعتذار والتوبة ممّا وقع والاستغفار، وينسب الموجب إليه، ويجعل العتب فيه عليه، فإنّ ذلك أبقى لمودّة شيخه، وأحفظ لقلبه، وأنفع للطالب في آخرته ودنياه.

وعن بعض السلف: من لم يصبر على ذلّ التعليم بقي عمره في عماية الجهالة، ومن صبر عليه آل أمره إلى عزّ الدنيا والآخرة(1).

ومنه الأثر المشهور عن ابن عبّاس (رضي الله عنهما): ذللت طالباً، فعززت مطلوباً(2).

وقال بعضهم: «مثل الذي يغضب على العالم مثل الذي يغضب على أساطين الجامع»(3).

وقيل لسفيان بن عيينة: إنّ قوماً يأتونك من أقطار الأرض تغضب عليهم، يوشك أن يذهبوا ويتركوك. فقال للقائل : هم حمقى إذاً مثلك، إن يتركوا ما ينفعهم لسوء خلقي(4).

ولبعضهم:

اصبر لدائك إن جفوت طبيبه *** واصبر لجهلك إن جفوت معلّما(5)

ص: 154


1- تذكرة السامع، ص 91؛ جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 118؛ أدب الدنيا والدين، ص 75؛ عدّة الداعي، ص 71؛ التبيان في آداب حملة القرآن، ص 26؛ شرح المهذب، ج 1، ص 63. وفي غرر الحكم، ج 5، ص 411، ح 8971: «من لم يصبر على مضض التعليم بقي في ذُلّ الجهل»
2- عيون الأخبار، ج 2، ص 122؛ جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 142؛ أدب الدنيا والدين، ص 75؛ إحياء علوم الدین، ج 1، ص 9؛ عدة الداعى، ص 71؛ التبيان في آداب حملة القرآن، ص 26: شرح المهذب، ج 1، ص 63
3- قاله معافى بن عمران كما في أدب الإملاء والاستملاء، ص 146؛ وتذكرة السامع، ص 91
4- تذكرة السامع، ص 91 - 92 : وانظر أدب الإملاء والاستملاء، ص 145
5- في أدب الدنيا والدين، ص 75: قال بعض الشعراء: . إنّ المعلّم والطبيب كلاهما *** لا ينصحان إذا هما لم يكرما فاصبر لدائك إن أهنتَ طبيبه *** واصبر لجهلك إن جفوتَ معلّما ومثله في محاضرات الأُدباء، ج 1، ص 53؛ وتعليم المتعلم، ص 9، إلّا أنّ فيهما: «جفوت طبيبه» بدل «أهنتَ طبيبه» وفي كليله و دمنه تحقيق مجتبی مینوي، ص 94: فاصبر لدائك إن جفوت معالجاً *** واقنع بجهلك إن جفوت معلّما وفي كليله ودمنه، تحقيق الأُستاذ حسن زاده الأملي، ص 138: إنّ المعلّمَ والطبيب كلاهما *** لا ينصحان إذاهما لا يُكرما فاصبر لدائك إن جفوت طبيبه *** واقنع بجهلك إن أهنتَ معلّما وعلَّق الأُستاذ (دام تأييده) هنا بقوله - نقلاً عن بعضهم -: «والشعر من أبي العلاء المعرّي». أقول: ولكنّي راجعت إلى بعض كتب المعرّي - أعني «ديوان سقط الزند»؛ و«اللزوميات أو لزوم مالا يلزم» - وتَصَفَّحْتُهما فلم أجده فيهما. نعم، أنشأ المعرّي - كما في اللزومات أو لزوم ما لا يلزم، ص 206 : وإحياء علوم الدين، ج 4، ص 52 - هذين البيتين: قال المنجم والطبيب كلاهما *** لا تُحشر الأجساد قلت إليكما إن صحّ قولكما فلست بخاسرٍ *** أو صحّ قولي فالخسار عليكما ويحتمل بعيداً اشتباه هذا بذاك لمن نسبهما إلى المعرّي؛ وكيف ما كان، فضمير طبيبه عائدٌ إلى الداء. وأيضاً، «كلاهما» في قوله «إنّ المعلمّ والطبيب كلاهما بالرفع صحيح، فلا يذهب عليك أنّ الصواب «كليهما بالنصب والرفع خطأ، وانظر للاطلاع على هذا البحث مغني اللبيب، ج ، ص 106، حرف الكاف، ذيل كلا وكلتا.

وللسلف الصالح في صبرهم مع مشايخهم أقاصيص غريبة(1)، لو أتينا عليها لطال الخطب.

الحادي عشر: أن يجتهد على أن يسبق بالحضور إلى المجلس قبل حضور الشيخ، ويحمل على ذلك نفسه، وإن انتظره على باب داره ليخرج ويمشي معه إلى المجلس، فهو أولى مع تيسّره.

ويحترز عن(2) أن يتأخّر في الحضور عن حضور الشيخ، فيدع الشيخ في انتظاره، فإنّ فاعل ذلك من غير ضرورةٍ أكيدةٍ معرّض نفسه للمقت والذمّ. نسأل الله العافية.

ص: 155


1- أقول : منها ما وقع للمحدث الجزائري مع بعض أساتذته ، انظر لمزيد الاطلاع الأنوار النعمانية ، ج 4 ص 303، 305.
2- في «ز ، م ، ه ، ق ، ط ، ن»: «ويحرص عن» بدل «يحترز عن»، وما أثبتناه مطابق لسائر النسخ ولعله الصواب، إلا أن يكون يحرص عن بمعنى يرغب ويحترز عن.

حكى ياقوت(1) في معجمه(2) عن هارون بن موسى القيسي القرطبي(3)، قال: كنّا

ص: 156


1- هو ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي المتوفّى سنة 626ه-. وردت ترجمته ومصادر ترجمته في وفيات الأعيان، ج 1، ص 127 - 139؛ والأعلام، ج 8، ص 131؛ ومعجم المؤلّفين، ج 3، ص 178 - 179.
2- اعلم أنّي تصفحّتُ وتتبعّت جميع معجم الأدباء ومعجم البلدان لياقوت الحموي وتورّقتُهما مرّتين، وبذلت جهدي في ذلك ليالي وأيّاماً بما لا يتحمّلُ عادةً؛ فلم أجد هذه الحكاية في هذين الكتابين؛ نعم قال ياقوت في كتابه معجم البلدان، ج 5، ص 58، «مجر» مجريط ... بلدة بالأندلس، ينسب إليها هارون بن موسى بن صالح بن جندل القيسي الأديب القرطبي، أصله من مجريط، يُكنّى أبا نصر، سمع من أبي عيسى الليثي وأبي عليّ القالي. روى عنه الخولاني. وكان رجلاً صالحاً صحيح الأدب، وله قصّة مع القالي ذكرتها في أخباره من كتاب الأدباء يعني معجم الأُدباء]. ومات المجريطي لأربع بقين من ذي القعدة سنة 401. قاله ابن بشكوال. ولكن ليس في معجم الأُدباء المطبوع ترجمة هارون بن موسى أصلاً، ولم يذكر ياقوت هذه القصة في ترجمة إسماعيل بن قاسم المعروف بأبي عليّ القالي في معجم الأُدباء ، ج 7، ص 25 - 33؛ ولا في ترجمة أحمد بن موسى بن عبّاس بن مجاهد في ج 5، ص 65 - 73 : فلا بدّ أن نقول : جاءت هذه القصة وترجمة هارون بن موسى في معجم الأُدباء كما قال الشهيد وياقوت نفسه في معجم البلدان، ج 5، ص 58 ؛ ولكن لم يطبع إلى الآن جميع معجم الأُدباء، كما قال مؤلّف الأعلام في معجم البلدان في مقدّمة كتابه هذا ، ص 11 ، بشأن معجم الأُدباء، نقلاً عن كتاب تاريخ آداب اللغة العربيّة ، ج 3، ص 93: يدخل في مجلّدات عدة متفرقة في مكاتب أُروبا والآستانة، لا يطمع في الحصول على نسخة كاملة منها، فتشط الأُستاذ مرجليوث للاشتغال بجمع شتات هذا الكتاب والوقوف على طبعه، واهتمّت لجنة تذكار جيب بنشر ما يمكن العثور عليه من أجزائه، فوُفَّقا حتّى الآن إلى نشر خمسة أجزاء منه، وهي: الأوّل والثاني ونصف الثالث من مكتبة أكسفورد والخامس من مكتبة كوبرلي بالآستانة، والسادس تحت الطبع ينقص القسم الأخير منه، والسعي متواصل في البحث عن مظانّ سائر الأجزاء. وأخبرنا الأُستاذ المشار إليه أنّه ساعٍ في البحث عن أجزاء أُخرى يتوقّع وجودها في لكناو الهند، ثمّ جاءنا كتابه... أنّه لم يوفّق إلى وجود شيء هناك، ولا في مكان آخر، لكن ذلك لا يمنع أن يكون منه شيء في بعض المكتبات الخصوصية التي لم يصله خبرها.... نعم، ظفرتُ على هذه الحكاية في إنباء الرواة، ج 3، ص 362 - 363؛ والصلة، ج 2، ص 656 - 657، وعبارات المؤلّف (رحمه الله) أكثر انطباقاً على مافي إنباء الرواة ممّا في الصلة.
3- هو أبو نصر هارون بن موسى بن صالح بن جندل القيسي القرطبي، المجريطي الأصل، توفّي في سنة 401ه_ . وردت ترجمته ومصادر ترجمته في الصلة، ج 2، ص 656- 657: وإنباء الرواة، ج 3، ص 362 - 363؛ والأعلام. ج 8، ص 63: ومعجم المؤلفين، ج 13، ص 131.

نختلف إلى أبي عليّ القالي [وقت إملائه «النوادر» بجامع الزهراء](1)، ونحن في فصل الربيع، فبينما أنا يوماً في بعض الطريق إذ أخذتني سحابة، فما وصلت إلى مجلسه حتّى ابتلّت ثيابي كلّها، وحول أبي عليّ أعلام أهل البلد، فأمرني بالدنوّ منه، وقال لي: مهلاً يا أبا ،نصر لا تأسف على ما عرض فهذا شيء يضمحلّ ويزول بسرعةٍ بثياب غيرها تبدّلها. ثمّ قال(2): كنت أختلف إلى ابن مجاهد(3)، فادّلجت(4) عليه، لأتقرب منه، فلمّا انتهيت إلى الدرب الذي كنت أخرج منه إلى منزله ألفيته مغلقاً وتعسّر عليّ فتحه، فقلت سبحان الله! أُبكّر هذا البكور، وأُغلب على القرب منه، فنظرت إلى سرب(5) بجنب الدرب فاقتحمته، فلمّا توسّطت ضاق بي ولم أقدر على الخروج، ولا على الدخول فاقتحمته أشدّ اقتحامٍ، حتّى تخلّصت - بعد أن تخرّقت ثيابي - وأثّر السرب في لحمي حتّى انكشف العظم ومنّ الله بالخروج، فوافيت مجلس الشيخ على تلك الحال. ثمّ قال(6): فأين أنت ممّا عرض لي؟ ثمّ أنشد بيت الحماسة(7):

دَببتَ للمجد والساعون قد بلغوا *** جَهد النفوس وألقوا دونه الأزرا

ص: 157


1- تكملة حسنة من المصدر أعني إنباء الرواة والصلة. وأبو عليّ القالي هو إسماعيل بن قاسم بن عيذون بن هارون المعروف بالقالي، المتوفّى في سنة 356ه-. وردت ترجمته ومصادر ترجمته في وفيات الأعيان، ج 1، ص 226 - 228؛ ومعجم الأدباء، ج 7، ص 25 - 33: ومعجم المؤلفين، ج 2، ص 286 - 287.
2- يعني أبا عليّ القالي.
3- هو أبوبكر أحمد بن موسى بن مجاهد التميمي البغدادي المعروف بابن مجاهد (245 - 324 ه) وردت ترجمته ومصادر ترجمته في الأعلام، ج 1، ص 261؛ ومعجم المؤلّفين، ج 2، ص
4- ادّلج - بتشديد الدال : سار في آخر الليل. أساس البلاغة، ص 133؛ مختار الصحاح، ص 164؛ المصباح المنير، ص 236، «دلج».
5- السرب: الطريق، يقال: خلّ، سربه، أي طريقه أساس البلاغة، ص 207 المصباح المنير، ص 322، «سرب».
6- يعني أبا عليّ القالي.
7- هكذا في جميع النسخ ولكن في الصلة؛ وإنباه الرواة: «ثمّ أنشدنا» بدل « ثمّ أنشد بيت الحماسة»؛ وكلاهما صحيح ؛ لأنّ هذه الأبيات أيضاً مرويّة في كتاب الحماسة لأبي تمام وقد جرت عادتهم إذا نقلوا شيئاً ممّا فيه أن يقولوا: بيت الحماسة، أو قال الحماسي ونحوه. قال البغدادي في شرح شواهد شرح الشافية والحماسي: منسوب إلى كتاب الحماسة، وهو مجموعة أشعار من شعر الجاهلية والإسلام، انتقاها واختارها أبو تمام حبيب بن أوس الطائي الشاعر المشهور.... وقد رتَّبَ أبو تمام ما اختاره على عدّة أبواب أولها باب الحماسة ... وقد اشتهر تسميته بالجزء الأول منه، والحماسة: الشجاعة. وقد جرت عادة المصنفين إذا استشهدوا بشيء مما فيه أن يقولوا: قال الحماسي، ونحوه، والمراد الشاعر المذكور في كتاب الحماسة.... شرح شافية ابن الحاجب، ج 4، ص 8؛ وانظر أيضاً ما يأتي في تعاليقنا على المطلب الثاني من الخاتمة، ص 382، الهامش 1: وشرح ديوان الحماسة، ج 1، ص 3 - 7.4، 10. وهذه الأبيات الثلاثة مذكورة في باب الهجاء من كتاب الحماسة لأبي تمام، انظر شرح ديوان الحماسة، ج 3، ص 1511. وراجع للاطلاع على كتاب الحماسة وطبعاته ومخطوطاته وشروحه تاريخ الأدب العربي، ج 1، ص 77 - 80

وكابدوا المجد حتّى ملّ أكثرهم *** وفاز بالمجد من وافى ومن صبرا(1)

لا تحسب المجد تمراً أنت آكله *** لن تبلغ المجد حتّى تلعق الصبرا(2)

الثاني عشر(3) : أن لا يدخل على الشيخ في غير المجلس العامّ بغير إذنه، سواء كان الشيخ وحده أم معه غيره، فإن استأذن بحيث يعلم الشيخ ولم يأذن، انصرف ولا يكرّر

ص: 158


1- في جميع النسخ: «قلَّ» بدل «ملَّ» والصواب ما أثبتناه كما في أمالي القالي ، ج 1، ص 146؛ والصلة؛ وإن-ب-اه الرواة؛ وشرح ديوان الحماسة، ج 3، ص 1511. وأيضاً في هذه المصادر الأربعة: «وعانق المجد من أوفى... بدل «وفاز بالمجد من وافى...». وأيضاً في شرح ديوان الحماسة: «فكابروا المجد» بدل «وكابدوا المجد».
2- هذه الأبيات في أمالي القالي، ج 1، ص 146، رواها عن أبي بكر بن دريد عن بعض العرب: وشرح ديوان الحماسة، ج 3، ص 1511، عن رجل من بني أسد. وتمام الحكاية في إنباء الرواة، ج 3، ص 362 - 363؛ والصلة، ج 2، ص 656 - 657 - كما قلنا - وتلخيص ابن مكتوم، المخطوط بعد، كما في إنباء الرواة، ج 3، ص 363، الهامش. وزاد ابن بشكوال في الصلة، ج 2، ص 657 قال ص :657: قال أبو نصر فكتبناها عنه من قبل أن يأتي موضعها في نوادره، وسلاني بما حكاه، وهان عندي ما عرض لي من تلك الثياب واستكثرت من الاختلاف إليه ولم أفارقه حتى مات. وقال المرزوقي في شرح ديوان الحماسة، ج 3، ص 1512 - في شرح هذه الأبيات: يقول تباطأ سعيك للمجد، ولما سعيت كان سعيك دبيباً وطلاب المجد قد جَهَدوا أنفسهم، وألقوا الأزر دونه، تخفيفاً ع--ن أنفسهم وتشهيراً في طلبهم، وهذا مثل. والمراد أن ما يفعله الساعي في سعيه إذا طلب شيئاً من التجرد والتخفّف ليدرك مطلوبه، قد فعلوه [كذا]. ثم أخذ يفصل مجهودهم من بعد فقال كابروا المجد، أي جاهدوه ليبلغوه قشراً لاختلا فمن صبر وأوفى ناله واحتواه ظافراً به معانقاً له، ومن مل وقصر - وهم الأكثر - خاب وأخفق ورجع نادماً لاهياً عنه. وقوله لا تحسب المجد تقريع والمراد: لا تظنَّنَ المجد يدرك بالسعي القصير واستعمال التعذير، وعلى ملازمة الراحة دون توطين النفس على الكد الشديد والمجاهدة؛ فإنّه لن ينال إلا بتجرع المرارات دونه. واقتحام المعاطب بسببه، ويقال: لعِقْتُ الصبر لعقاً. واسم ما يلعق هو اللعوق.
3- لاحظ تذكرة السامع ص 93 - 95 التبيان في آداب حملة القرآن، ص 25 - 26.

الاستئذان، وإن شكّ في علم الشيخ به كرّره ثلاثاً، ولا يزيد في الاستئذان عليها، أو ثلاث طرقات بالباب أو بالحلقة، وليكن طرق الباب خفيًا بأظفار الأصابع(1)، ثمّ بالأصابع، ثمّ بالحلقة قليلاً قليلاً، فإن كان الموضع بعيداً عن الباب، فلا بأس برفع ذلك ابتداءً بقدر ما يسمع لا غير، وإن أذن وكانوا جماعةً تقدّم أفضلهم فأسنّهم بالدخول والسلام عليه، ثمّ يسلّم عليه الأفضل فالأفضل.

الثالث عشر: أن يدخل على الشيخ كامل الهيأة فارغ القلب من الشواغل، نشيطاً منشرح الصدر صافي الذهن، لا في حال نعاس أو غضبٍ أو جوعٍ أو عطشٍ، ونحو ذلك، متطهّراً متنظّفاً، بعد استعمال ما يحتاج إليه من سواك وأخذ ظفرٍ وشعرٍ، وإزالة رائحة كريهة، لابساً أحسن ملبوسه؛ سيّما إذا كان يقصد مجلس العلم، فإنّه مجلس ذكر، واجتماع في عبادة، وهذا الأُمور من آدابها.

الرابع عشر: أن لا يقرأ على الشيخ عند شغل قلبه وملله ونعاسه وجوعه وعطشه واستيفازه وألمه وقائلته، ونحو ذلك ممّا يشق عليه فيه البحث. اللهمّ إلّا أن يبتدئه الشيخ بطلب القراءة فليجبه كيف كان.

الخامس عشر(2) : إذا دخل على الشيخ في غير المجلس العام، وعنده من يتحدّث معه فسكتوا عن الحديث، أو دخل والشيخ وحده يصلّي أو يقرأ أو يذكر أو يطالع أو يكتب، فترك ذلك ولم يبدأه بكلام أو بسط ،حديث، فليسلّم ويخرج سريعاً، إلّا أن يحنّه الشيخ على المكث فإذا مكث فلا يطيل، إلّا أن يأمره بذلك، خشية أن يدخل في عداد من أشغل مشغولاً بالله أدركه المقت في الوقت.

السادس عشر : إذا حضر مكان الشيخ فلم يجده ،انتظره، ولا يفوّت على نفسه درسه؛ فإنّ كلّ درس يفوت لا عوض له، ولا يطرق عليه ليخرج إليه. وإن كان نائماً

ص: 159


1- عن أنس بن مالك : أن أبواب النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم كانت تقرع بالأظافير تذكرة السامع، ص 94، الهامش: مجمع الزوائد، ج 8 ص 43.
2- لاحظ تذكرة السامع ص 95-97

صبر حتّى يستيقظ، أو ينصرف ثمّ يعود، والصبر خير له، ولا يوقظه ولا يأمر به. هكذا كان السلف يفعلون ونقل عن ابن عبّاس مثله(1).

السابع عشر: أن لا يطلب من الشيخ إقراءً في وقت يشقّ عليه فيه أو لم تجر عادته بالإقراء فيه، ولا يخترع(2) عليه وقتاً خاصّاً به دون غيره وإن كان رئيساً، لما فيه من الترفّع والحمق على الشيخ والطلبة والعلم. وربما استحيا الشيخ منه، فيترك لأجله ما هو أهمّ عنده في ذلك الوقت، فلا يفلح الطالب فإن بدأه الشيخ بوقت معيّن أو خاصّ لعذر عائق له عن الحضور مع الجماعة، أو لمصلحة رآها فلا بأس.

الثامن عشر: أن يجلس بين يديه جلسة الأدب بسكون وخضوع وإطراق رأس وتواضع وخشوع والأولى له الافتراش أو التورّك. قيل: ويحسن هنا الإقعاء، وهو أن يفرش ،قدميه، ويجلس على بطونهما، ويتعاهد تغطية أقدامه وإرخاء ثيابه(3).

التاسع عشر (4): - وهو من جنس ما قبله - أن لا يستند بحضرة الشيخ إلى حائط أو مخدّةٍ أو درابزين(5)، ونحو ذلك، أو يجعل يده عليه، ولا يعطي الشيخ جنبه أو ظهره، ولا يعتمد على يده إلى ورائه أو جنبه أو ظهره، ولا يضع رجله أو يده أو شيئاً من بدنه أو ثيابه على ثياب الشيخ أو وسادته أو سجّادته.

قال بعضهم:

ومن تعظيم الشيخ أن لا يجلس إلى جانبه ولا على مصلّاه أو وسادته. وإن أمره الشيخ بذلك، فلا يفعل إلّا إذا جزم به جزماً يشقّ عليه مخالفته، فلا بأس بامتثال

ص: 160


1- التبيان في آداب حملة القرآن، ص 26؛ شرح المهذّب، ج 1، ص 64 : تذكرة السامع، ص 96، قال فيه: فقد روي عن ابن عبّاس: كان يجلس في طلب العلم على باب زيد بن ثابت حتّى يستيقظ، فيقال له: ألا نوقظه لك؟ فيقول: لا. وربما طال مقامه وقرعته الشمس. وكذلك كان السلف يفعلون
2- في تذكرة السامع، ص 96، الهامش: «كذا في الأُصول ولعلّه يقترح».
3- تذكرة السامع، ص 97، 99
4- لاحظ تذكرة السامع، ص 98، 100.
5- قال بعض اللغويّين: الدربزين والدَرابَزين والدَرابزون :ج: دَرابزونات قوائم منتظمة يعلوها مُتَكَاً. يونانيّة.

أمره في تلك الحال، ثمّ يعود إلى ما يقتضيه الأدب. انتهى(1).

وقد تكلّم الناس في أيّ الأمرين أولى امتثال الأمر أو سلوك الأدب، فذهب إلى كُلِّ من الأمرين فريق من الصحابة - على ما نقل عنهم، فضلاً عمّن بعدهم - والتفصيل موجّه(2).

العشرون (3): - هو من أهمّها - أن يصغي إلى الشيخ ناظراً إليه، ويقبل بكلّيّته عليه، متعقّلاً لقوله بحيث لا يحوجه إلى إعادة الكلام ولا يلتفت من غير ضرورة وينظر إلى يمينه أو شماله أو فوقه أو أمامه لغير حاجة، ولا سيّما عند بحثه معه أو كلامه له، فلا ينبغي أن ينظر إلّا إليه، ولا يضطرب لضجّة يسمعها، ولا يلتفت إليها سيّما عند بحثه.

ولا ينفض كمّيه، ولا يحسر عن ذراعيه ولا يومئ بيده إلى وجه الشيخ أو صدره ولا يمسّ بها شيئاً من بدنه أو ثيابه، ولا يعبث بيديه أو رجليه، أو غيرهما من أعضائه، ولا يضع يده على لحيته أو فمه أو يعبث بها في أنفه، ولا يفتح فاه، ولا يقرع سنّه ولا يضرب الأرض براحته، أو يخطّ عليها بأصابعه، ولا يشبّك بيديه ولا يعبث بأزراره، ولا يفرقع أصابعه، بل يلزم سكون ،بدنه، ولا يكثر التنحنح من غير حاجة، ولا يبصق ولا يمتخط، ولا يتنخّع ما أمكنه، ولا يلفظ النخامة من فيه بل يأخذها منه بمنديلٍ ونحوه، ولا يتجشّأ ولا يتمطّى، ولا يكثر التثاؤب، وإذا تثاءب ستر فاه بعد ردّه جهده، وإذا عطس حفظ صوته جهده، وستر وجهه بمنديل ونحوه.

وذلك كلّه ممّا يقتضيه النظر المستقيم والذوق السليم.

الحادي والعشرون (4): - وهو من جنس ما قبله - أن لا يرفع صوته رفعاً بليغاً من

ص: 161


1- تذكره السامع، ص 100
2- والتفصيل كما في تذكرة السامع، ص 100 - هكذا: فإن جزم بما أمره به بحيث يشُقُّ عليه مخالفته، فامتثال الأمر أولى وإلّا فسلوك الأدب أولى لجواز أن يقصد الشيخ إظهار احترامه والاعتناء به، فيقابل هو ذلك بما يجب من تعظيم الشيخ والأدب معه
3- لاحظ تذكرة السامع، ص 97 - 99.
4- لاحظ تذكرة السامع، ص 98.

غير حاجة، ولا يسارّ في مجلسه، ولا يغمز أحداً، ولا يكثر كلامه بغير ضرورة، ولا يحكي ما يضحك منه، أو ما فيه بذاءة، أو يتضمّن سوء مخاطبة أو سوء أدب، بل ولا يتكلّم بما لم يسأله، ولا يتكلّم ما لم يستأذنه أوّلاً، ولا يضحك لغير عجبٍ، ولا لعجب دون الشيخ فإن غلبه تبسّم تبسّماً بغير صوت البتّة.

وليحذر كلّ الحذر من أن يغتاب أحداً في مجلسه، أو ينمّ له عن أحدٍ، أو يوقع بينه و بین أحد بنقل ما يسوؤه عنه، كاستنقاص به أو تكلّم فيه وردّ ما قاله أو يقول - كالحاتّ له على الاعتناء بأمره - : فلان يودّ أن أقرأ عليه، أو أردت أن أقرأ على فلان وتركت لأجلك، أو نحو ذلك، ففاعل ذلك وأمثاله مع كونه ارتكب مكروهاً أو حراماً أو كبيرة، مستحقّ للزجر والإهانة والطرد والبعد لحماقته ،وريائه، وقد تقدّم في حديث علىّ علیه السلام(1) ما يدلّ على ذلك.

الثاني والعشرون(2) : أن يحسن خطابه مع الشيخ بقدر الإمكان ولا يقول له: لم؟ و: لا نسلّم، ولا: من نقل هذا، ولا: أين موضعه؟ ولا يقل: المحفوظ، أو المنقول غير هذا. وشبه ذلك، فإن أراد استفادة أصله أو من نقله، تلطّف في الوصول إلى ذلك، ثمّ هو في مجلس آخر أولى على سبيل الاستفادة.

وكذلك ينبغي أن يقول - في موضع لِمَ؟ ولا أسلم - : فإن قيل لنا كذا؟ أو فإن مُنعنا كذا؟ أو فإن سُئلنا عن كذا؟ أو فإن أورد كذا، وشبهه، ليكون مستفهماً للجواب سائلاً له بحسن أدب ولطف عبارةٍ.

وإذا أصرّ الشيخ على قول أو دليلٍ ولم يظهر له، أو على خلاف صواب سهواً، فلا يغيّر وجهه أو عينيه، ولا يشير إلى غيره كالمنكر لما قال بل يأخذه ببشر ظاهر ، وإن لم يكن الشيخ مصيباً، لغفلة أو سهرٍ أو قصور نظر في تلك الحال؛

ص: 162


1- مرّ في أوّل القسم الثاني من النوع الثالث من هذا الباب، ص 141، والحديث في الكافي، ج 1، ص 37، باب حق العالم . ح 1.
2- لاحظ تذكرة السامع، ص 101 - 102، 104.

فإنّ العصمة في البشر للأنبياء والأوصياء علیهم السلام.

وليحذر من مفاجأة الشيخ بصورة ردّ عليه، فإنّه يقع ممّن لا يحسن الأدب الناس كثيراً، مثل أن يقول له الشيخ: أنت قلت كذا؟ فيقول: ما قلت كذا، أو يقول له الشيخ: مرادك في سؤالك كذا، أو خطر لك كذا؟ فيقول : لا، أو ما هذا مرادي، أو ما خطر لي هذا وشبه ذلك، بل طريقه أن يتلطّف بالمكاشرة على المقصود في الجواب.

وكذلك إذا استفهمه الشيخ استفهام تقريرٍ وجزم كقوله : ألم تقل كذا؟ أو أليس مرادك كذا؟ فلا يبادر بالردّ عليه بقوله: لا، ونحو ذلك، بل يسكت أو يورّي عن ذلك بكلام لطيف يفهم الشيخ قصده منه، فإن لم يكن بدّ من تحرير قصده وقوله، فليقل: الآن أقول كذا، أو أعود إلى قصد كذا. ويعيد كلامه، ولا يقول: الذي قلته، أو الذي قصدته؛ لتضمّنه الردّ عليه.

الثالث والعشرون - وهو من جنس ما قبله - إذا ذكر الشيخ تعليلاً وعليه تعقّب؛ ولم يتعقّبه؛ أو بحثاً وفيه إشكال، ولم يستشكله؛ أو إشكالاً وعنه جواب ولم يذكره؛ فلا يبادر إلى ذكر ذلك، ولا إلى التعقّب على الشيخ بسبب إهماله له، بل له أن يشير إلى ذلك بألطف إشارة، كقوله: «ما لمحتم عن الإشكال جواباً» مثلاً، ونحو ذلك، فإن تذكّر الشيخ فيها ونعمت، وإلّا فالأولى السكوت عن ذلك إلّا أن يأذن الشيخ، أو يعلم منه أنّه يؤثر ذلك منه.

الرابع والعشرون (1): - وهو من جنس ما قبله أيضاً - أن يتحفّظ من مخاطبة الشيخ بما يعتاده بعض الناس في كلامه ولا يليق خطابه ،به مثل أيش بك(2) ؟ وفهمت؟ وسمعت؟ وتدري؟ ويا رجل مبارك؟ ونحو ذلك. وكذلك لا يحكي ما خوطب به غيره ممّا لا يليق خطاب الشيخ به وإن كان حاكياً، مثل قال فلان الفلان: «أنت قليل الحياء أنت قليل البرّ، وما عندك خير و [أنت] قليل الفهم» ونحو ذلك، بل يقول: إذا أراد

ص: 163


1- لاحظ تذكرة السامع، ص 102
2- يعني أي شيء بك؟

الحكاية ما جرت العادة بالكناية ،به مثل قال فلان الفلان: الأبعد قليل الخير، وما عند الأبعد خير، ومثل هذه الكناية وردت في بعض الأخبار(1) أيضاً، أو يأتي بضمير الغائب مكان ضمير المخاطب، وشبه ذلك.

الخامس والعشرون: إذا سبق لسان الشيخ إلى تحريف كلمة يكون لها توجيه ،مستهجن، أو نحو ذلك، أن لا يضحك ولا يستهزئ ولا يعيدها كأنّه يتبادر بها عليه ولا يغمز غيره ولا يشير إليه، بل ولا يتأمّل ما صدر منه، ولا يدخله قلبه ولا يصغي إليه سمعه، ولا يحكيه لأحد؛ فإنّ اللسان سبّاق، والإنسان غير معصوم، لا سيّما فيما هو فيه معذور؛ وفاعل شيء ممّا ذكر شیخه معرّض نفسه للحرمان والبلاء والخسران مستحق للزجر والتأديب والهجر والتأنيب، مع ما يستوجبه من مقت الله سبحانه له وملائكته وأنبيائه وخاصّته.

السادس والعشرون(2) : أن لا يسبق الشيخ إلى شرح مسألة أو جواب سؤال منه أو من غيره، لا سيّما إذا كان من غيره وتوقّف ولا يساوقه فيه، ولا يظهر معرفته به أو إدراكه له قبل الشيخ، إلّا أن يعلم من الشيخ إيثار ذلك منه، أو عرض الشيخ عليه ذلك ابتداء والتمسه منه، فلا بأس به حينئذٍ.

السابع والعشرون(3) : أن لا يقطع على الشيخ كلامه أيّ كلامٍ كان، ولا يسابقه فيه ولا يساوقه به بل يصبر حتّى يفرغ الشيخ من كلامه ثمّ يتكلّم. ولا يتحدّث مع غيره والشيخ يتحدّث معه أو مع جماعة المجلس، بل لا يجعل همّه سوى الإصغاء إلى قول الشيخ وفهمه.

ص: 164


1- في النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 1، ص 139؛ ولسان العرب، ج 3، ص 91، «بعد»، وفيه: إنّ رجلاً جاء فقال: إنّ الأبعد قد زنى معناه: المتباعد عن الخير والعصمة؛ وأراد القائل من الأبعد نفسه. فتأمّل.
2- في الفقيه والمتفقّه، ج 2، ص 35: قال أبو عمرو بن العلاء ليس من الأدب أن تجيب من لا يسألك، أو تسأل من لا يجيبك، أو تحدث من لا ينصت لك .... قال ابن المقفّع كانت الحكماء تقول: ليس للعاقل أن يجيب عمّا يُسأل عنه غيره
3- لاحظ تذكرة السامع، ص 107،106،104.

الثامن والعشرون: إذا سمع الشيخ يذكر حكماً في مسألة، أو فائدةً مستغربةً أو يحكي حكايةً، أو ينشد شعراً، وهو يحفظ ذلك، أن يصغي إليه إصغاء مستفيدٍ له في الحال، متعطّشٍ إليه فرح به، كأنّه لم يسمعه قطّ. قال بعض السلف(1) : إنّي لأسمع الحديث من الرجل، وأنا أعلم به منه، فأُريه من نفسي أنّي لا أُحسن منه شيئاً. وقال أيضاً: إنّ الشابّ ليتحدّث بحديثٍ، فأستمع له كأنّي لم أسمعه ولقد سمعته قبل أن يولد(2).

فإن سأله الشيخ . - عند الشروع في ذلك - عن حفظه له، فلا يجيب ب-«نعم» لما فيه من الاستغناء عن الشيخ فيه، ولا يقول: «لا» لما فيه من الكذب، بل يقول: أُحبّ أن أستفيده من الشيخ، أو أسمعه منه، أو بَعُد عهدي به، أو هو من جهتكم أصحّ، ونحو ذلك. فإن علم من حال الشيخ أنّه يؤثر العلم بحفظه له مسرّة به، أو أشار إليه بإتمامه امتحاناً لضبطه أو حفظه أو لإظهار تحصيله، فلا بأس باتّباع غرض الشيخ ابتغاءً المرضاته وازدياداً لرغبته فيه.

التاسع والعشرون أنّه لا ينبغي له أن يكرّر سؤال ما يعلمه، ولا استفهام ما يفهمه؛ فإنّه يضيع الزمان وربما أضجر الشيخ؛ قال بعض السلف: «إعادة الحديث أشدّ من نقل الصخر»(3).

وينبغي أن لا يقصّر في الإصغاء والتفهّم، أو يشغل ذهنه بفكر أو حديث ثمّ يستعيد الشيخ ما قاله لأن ذلك إساءة أدب؛ بل يكون كما مرّ - مصغياً لكلامه حاضر الذهن

ص: 165


1- هو عطاء بن أبي رباح، كما في تذكرة السامع، ص 105.
2- تذكرة السامع، ص 105.
3- قاله الزهري كما في المحدث الفاصل، ص 566: وجامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 169؛ وعيون الأخبار ج 2، ص 179؛ وتذكرة السامع، ص 106. وعلَّقَ الدكتور محمَّد عجاج الخطيب - الذي حقَّقَ المحدّث الفاصل بأحسن وجهٍ - هنا بقوله : إنّما كانوا يستثقلون إعادة الحديث: لأنّه لا يطلب إعادته إلّا من غفل عن استماعه أوّل الأمر، وأمّا إعادته لبيانه وشرحه فلا استثقال فيها: وفي أدب الإملاء والاستملاء، ص 80: إعادة الحديث أثقل من نقل الصخر.

لما يسمعه من أوّل مرّةً. وكان بعض المشايخ لا يعيد لمثل هذا إذا استعاده ويزبره عقوبةً له(1). أمّا إذا لم يسمع كلام الشيخ لبعده، أو لم يفهمه مع الإصغاء إليه والإقبال عليه، فله أن يسأل الشيخ إعادته أو تفهيمه بعد بيان عذره بسؤال لطيف.

الثلاثون: أن لا يسأل عن شيء في غير موضعه، ففاعل ذلك لا يستحقّ جواباً، إلّا أن يعلم من حال الشيخ أنّه لا يكره ذلك، ومع ذلك فالأولى أن لا يفعل، ولا يلحّ عليه في السؤال إلحاحاً مضجراً، ولا يسأله في طريقه إلى أن يبلغ مقصده.

وقد حكي عن بعض الأجلاء(2) أنّه أوصى بعض طلبته فقال: لا تسألني عن أمر الدين وأنا ماش، ولا و أنا أتحدّث مع الناس ولا و أنا قائم، ولا و أنا متّكئ؛ فإن هذه أماكن لا يجتمع فيها عقل الرجل، لا تسألني إلّا وقت اجتماع العقول.

الحادي والثلاثون: أن يغتنم سؤاله عند طيب نفسه وفراغه، ويتلطّف في سؤاله، ويحسن في جوابه ؛ قال صلی الله علیه و آله و سلّم : «الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة والتودّد إلى الناس نصف العقل، وحسن السؤال نصف العلم»(3).

الثاني والثلاثون أن لا يستحيي من السؤال عمّا أشكل عليه، بل يستوضحه أكمل استيضاح، فمن رقّ وجهه رقّ علمه ومن رقّ وجهه عند السؤال ظهر نقصه عند اجتماع الرجال(4).

قال الصادق علیه السلام : «إن هذا العلم عليه قفل ومفتاحه المسألة»(5).

ص: 166


1- تذكرة السامع، ص 106. زَبَرَه زَبْراً - من باب قتل : زَجَره ونَهَره المصباح المنير، ص 296، «زبر».
2- لم أقِف عليه ولا على حاكي هذه الحكاية ومصدرها.
3- مجمع الزوائد، ج 1، ص 160 : الفقيه والمتفقّه، ج 2، ص 33؛ وفي بحار الأنوار، ج 1 ، ص 224، ح 14 - نقلاً عن كنز الفوائد : قال رسول الله صلى الله عليه و اله و سلم: «التودّد إلى الناس نصف العقل، وحسن السؤال نصف العلم، والتقدير في النفقة نصف العيش». وفي أدب الدنيا والدين، ص 79: إن النبيّ صلى الله عليه و اله و سلم قال: «حسن السؤال نصف العلم».
4- في جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 109: من رقّه وجهه عن السؤال رقّ علمه عند الرجال، ومن ظنّ أنّ للعلم غايةً فقد بخسه حقّه.
5- الكافي، ج 1، ص 40 ، باب سؤال العالم وتذاكره ، ح 3.

الثالث والثلاثون(1) : إذا قال له الشيخ أفهمت ؟ فلا يقول: نعم، قبل أن يتّضح له المقصود اتّضاحاً [خ ل: إيضاحاً] جلياً، لئلا يكذب ويفوته الفهم، ولا يستحيي من قوله: لم أفهم، لأنّ استثباته يحصّل له مصالح عاجلهً وآجلةً، فمن العاجلة حفظ المسألة وسلامته من الكذب والنفاق بإظهار فهم ما لم يكن فهمه واعتقاد الشيخ اعتناؤه ورغبته وكمال عقله وورعه وملكته لنفسه، ومن الآجلة ثبوت الصواب في قلبه دائماً، واعتياده هذه الطريقة المرضية والأخلاق الرضيّة.

قال الخليل بن أحمد العروضي (رحمه الله): منزلة الجهل بين الحياء والأنفة(2).

الرابع والثلاثون(3) : أن يكون ذهنه حاضراً في جهة الشيخ، بحيث إذا أمره بشيء، أو سأله عن شيء، أو أشار إليه لم يحوجه إلى إعادته ثانياً، بل يبادر إليه مسرعاً ولم يعاوده فيه.

الخامس والثلاثون: إذا ناوله الشيخ شيئاً تناوله باليمنى، وإذا ناوله هو شيئاً ناوله إيّاه باليمنى فإن كان ورقةً يقرأها أو قصّةً مثلاً نشرها، ثمّ دفعها إليه، ولا يدفعها إليه مطويّة إلا إذا علم أو ظنّ إيثار الشيخ لذلك. وإذا أخذ من الشيخ ورقة بادر إلى أخذها منشورةً قبل أن يطويها أو يترّبها، ثمّ يطويها أو يترّبها هو.

وإذا ناول الشيخ كتابا ناوله إيَّاه مهيّأ لفتحه والقراءة فيه من غير احتياج إلى إدارته، فإن كان للنظر في موضع معيّنٍ، فليكن مفتوحاً كذلك، ويعيّن له المكان.

ولا يرمى إليه الشيء رمياً من كتاب أو ورقة أو غيرهما، ولا يمدّ يده إليه إذا كان

ص: 167


1- لاحظ تذكرة السامع، ص 156 - 158: شرح المهذّب، ج 1، ص 62.
2- عيون الأخبار، ج 2، ص 123؛ جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 109؛ مفتاح دار السعادة، ج 1، ص 177؛ شرح المهذّب، ج 1، ص 62؛ تذكرة السامع، ص 157. وفي أدب الدنيا والدين، ص 58: قال الخليل بن أحمد: يرتع الجهل بين الحياء والكبر في العلم ؛ وانظر ترجمة ومصادر ترجمة الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي الأزدي (100 - 170 ه-.) في الأعلام، ج 2، ص 314؛ ووفيات الأعيان، ج 2، ص 244 - 248: و معجم المؤلفين، ج 4، ص 112 - 113.
3- لاحظ تذكرة السامع، ص 107 - 110.

بعيداً، ولا يحوج الشيخ إلى مدّ يده أيضاً لأخذه منه أو إعطائه، بل يقوم إليه قائماً ولا يزحف زحفاً.

وإذا قام أو جلس بين يديه لشيء من ذلك فلا يقرب منه كلّ القرب، ولا يضع رجله أو يده أو شيئاً من بدنه أو ثيابه على ثياب الشيخ أو وسادته ونحوهما كما تقدّم(1).

السادس والثلاثون: إذا ناوله قلماً ليكتب به، فليعدّه(2)- قبل إعطائه إيّاه - للكتابة. ويتفقّد أوصافه، ويفرّق بين سنيّه إن كانتا ملتصقتين. وإن وضع بين يديه دواةً، فلتكن مفتوحة الأغطية مهيّأةً للكتابة منها. وإن ناوله سكّيناً فلا يصوب إليه شفرتها ولا نصابها ويده قابضة على الشفرة، بل يكون عرضاً وحدّ شفرتها إلى جهته، قابضاً على طرف النصاب ممّا يلي النصل جاعلاً نصابها على يمين الآخذ.

السابع والثلاثون: إذا ناوله سجّادةً ليصلّي عليها نشرها أوّلاً، وأولى منه أن يفرشها هو عند قصد ذلك. قال بعض العلماء (3): وإذا ،فرشها ، وكان فيها صورة محراب تحرّى به القبلة إن أمكن، وإن كانت مثنيّةً جعل طرفيها إلى يسار المصلّي. انتهى.

ولا يجلس بحضرة الشيخ على سجّادة، ولا يصلّي عليها - إذا كان المكان طاهراً - إلا إذا اطّردت العادة باستصحابها واستعمالها، بحيث لا يكون شعاراً على الأكابر والمترفعين، كما يتّفق ذلك ببعض البلاد.

الثامن والثلاثون: إذا قام الشيخ بادر القوم إلى أخذ السجّادة إن كانت ممّا تنقل له وإلى الأخذ بيده أو عضده إن احتاج إليه، وإلى تقديم نعله إن لم يشقّ ذلك على الشيخ ويقصد بذلك كلّه التقرّب إلى الله تعالى بخدمته والقيام بحاجته. وقد قيل: أربعة لا يأنف الشريف منهنّ، وإن كان أميراً: قيامه من مجلسه لأبيه، وخدمته للعالم الذي يتعلّم منه

ص: 168


1- في الأمر التاسع عشر من القسم الثاني من النوع الثالث من هذا الباب، ص 160.
2- في تذكرة السامع ص 109: «فليمُدَّه» بدل «فليُعدَّه».
3- هو ابن جماعة الكناني في تذكرة السامع، ص 109.

والسؤال عمّا لا يعلم، وخدمته للضيف(1).

التاسع والثلاثون: أن يقوم لقيام ،الشيخ، ولا يجلس وهو قائم، ولا يضطجع وهو قائم أو قاعد بل لا يضطجع بحضرته مطلقاً، إلا أن يكون في وقت نوم ويأذن له، والأجود حينئذٍ أن لا ينام حتّى ينام الشيخ إلّا أن يأمره بالنوم فيطيعه.

الأربعون(2) : إذا مشى مع شيخه، فليكن أمامه بالليل ووراءه بالنهار، إلّا أن يقتضي الحال خلاف ذلك لزحمة أو غيرها، أو يأمره الشيخ بحالة فيمتثلها.

ويتعيّن أن يتقدّم عليه في المواطئ المجهولة الحال لوحل أو حوض مثلاً، والمواطئ الخطرة، ويحترز من ترشيش ثياب الشيخ وإذا كان في زحمة صانه عنها بيديه إمّا من قدامه أو من ورائه.

وإذا مشى أمامه التفت إليه بعد كلّ قليل، فإن كان وحده والشيخ يكلّمه حالة المشي، وهما في ظلّ، فليكن عن يمينه كالمأموم مع الإمام، ويخلّي له الجانب اليسار، لعلّه يبصق أو يمتخط، وقيل: عن يساره متقدّماً عليه قليلاً ملتفتاً إليه، ويعلم الشيخ بمن قرب منه أو قصده من الأعيان إن لم يعلم الشيخ به(3).

ولا يمشي إلى جانبه إلّا لحاجة أو إشارة منه ويحترز من مزاحمته بكتفه أو بركابه إن كانا راكبين وملاصقة ثيابه ويؤثره بجهة الظلّ في الصيف، وبجهة الشمس في الشتاء، وبجهة الجدار في الرصافات(4) ونحوها، وبالجهة التي لا تقرع الشمس فيها وجهه إذا التفت إليه.

ولا يمشي بينه وبين من يحدّثه، ويتأخّر عنهما إذا تحدّثا، أو يتقدّم، ولا يقرب

ص: 169


1- تذكرة السامع، ص 110؛ جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 164؛ عيون الأخبار، ج 2، ص 128؛ ونظيرها في البيان والتبيين، ص 249
2- لاحظ تذكرة السامع، ص 110 - 112.
3- تذكرة السامع، ص 110، وفيه: «كوَحَل» بدل «لوَحَل». وفي أكثر النسخ: «أو الشيخ» بدل «والشيخ».
4- قال في لسان العرب، ج 9، ص 120، «رصف»: الرصف حجارة مرصوف بعضها إلى بعض... الرصفة بالتحريك : واحدة الرصف وهي الحجارة التي يرصف بعضها إلى بعض في مسيل فيجتمع فيها ماء المطر.

ولا يستمع ولا يلتفت، فإن أدخلاه في الحديث فليأت من جانب آخر ولا يشقّ بينهما.

وإذا مشى مع الشيخ اثنان فاكتنفاه فالأولى أن يكون أكبرهما عن يمينه، وإن لم يكتنفاه تقدّم أكبرهما وتأخر الأصغر.

وإذا صادف الشيخ في طريقه بدأه بالسلام ويقصده إن كان بعيداً، ولا يناديه، ولا يسلّم عليه من بعيد ولا من ورائه، بل يقرب منه ثمّ يسلّم، ولا يشير ابتداءً بالأخذ في طريق حتّى يستشيره، ويبادر(1) فيما يستشيره فيه مطلقاً بالردّ إلى رأيه إلّا أن يلزمه بإظهار ما عنده، أو يكون ما رآه الشيخ خطأً، فيظهر ما عنده بتلطّف وحسن أدب، كقوله : يظهر أنّ المصلحة في كذا، ولا يقول : الرأي عندي كذا، أو الصواب كذا ونحو ذلك.

واعلم أنّ هذه الآداب ممّا قد دلّ النصّ على جملةٍ منها، بل على أشرفها وأهمّها والباقي ممّا يستنبط منه بإحدى الطرق التي تبنى عليها الأحكام التي أحدها مراعاة العادة المحكمة في مثل ذلك. والله الموفّق.

ص: 170


1- في تذكرة السامع ص 110: «يتأدَّبُ» بدل «يُبادر».
القسم الثالث: آدابه في درسه وقراءته، وما يعتمده حينئذ مع شيخه و رفقته

وهو أُمور:

الأوّل(1) : - وهو أهمّها - أن يبتدئ أوّلاً بحفظ كتاب الله تعالى العزيز حفظاً متقناً، فهو أصل العلوم وأهمّها، وكان السلف لا يعلّمون الحديث والفقه إلّا لمن حفظ القرآن(2).

وإذا حفظه فليحذر من الاشتغال عنه بغيره اشتغالاً يؤدّي إلى نسيان شيء منه أو تعريضه للنسيان، بل يتعهّد دراسته وملازمة وردٍ منه كلّ يوم ثمّ أيّام ثمّ جمعةٍ دائماً أبداً.

ويجتهد بعد حفظه على إتقان تفسيره وسائر ،علومه، ثمّ يحفظ من كلّ فنّ مختصراً يجمع فيه بين طرفيه، ويقدّم الأهمّ فالأهمّ على ما يأتي تفصيله - إن شاء الله - في الخاتمة.

ثمّ يشتغل باستشراح محفوظاته على المشايخ وليعتمد في كلّ فنٍّ أكثرهم تحقيقاً فيه وتحصيلاً له، وإن أمكن شرح دروس في كلّ يوم فعل وإلّا اقتصر على الممكن من درس فأقلّ، وقد تقدّمت الإشارة إليه.

الثاني: أن يقتصر من المطالعة على ما يحتمله فهمه، وينساق إليه ذهنه، ولا يمجّه طبعه، وليحذر من الاشتغال بما يبدّد الفكر، ويحيّر الذهن من الكتب الكثيرة وتفاريق التصانيف؛ فإنّه يضيّع زمانه ويفرّق ذهنه.

ص: 171


1- لاحظ تذكرة السامع، ص 112 - 114: شرح المهذّب، ج 1، ص 64 - 65.
2- شرح المهذب، ج 1، ص 64 ؛ وانظر تذكرة السامع، ص 112 - 113، الهامش.

وليعط الكتاب الذي يقرؤه والفنّ الذي يأخذه كليّته، حتّى يتقنه، حذراً من الخبط والانتقال المؤدّي إلى التضييع وعدم الفلاح، ومن هذا الباب الاشتغال بكتب الخلاف في العقليّات ونحوها، قبل أن يصحّ فهمه، ويستقرّ رأيه على الحقّ، ويحسن ذهنه في فهم الجواب، وهذا أمر يختلف باختلاف النفوس، والإنسان فيه على نفسه بصيرة.

الثالث(1) : أن يعتني بتصحيح درسه الذي يحفظه قبل حفظه تصحيحاً متقناً على الشيخ أو على غيره ممّن يعينه، ثمّ يحفظه حفظاً محكماً، ثمّ يكرّره بعد حفظه تكراراً جيّداً، ثمّ يتعاهده في أوقات يقرّرها لمواظبته(2)، ليرسخ رسوخاً متأكّداً، ويراعيه بحيث لا يزال محفوظا جيّداً.

ولا يحفظ ابتداءً من الكتب استقلالاً من غير تصحيح، لأدائه إلى التصحيف والتحريف، وقد تقدّم(3) أنّ العلم لا يؤخذ من الكتب؛ فإنّه من أضرّ المفاسد سيّما الفقه.

الرابع: أن يحضر معه الدواة والقلم والسكّين للتصحيح، ويضبط ما يصححه لغةً وإعراباً، وإذا ردّ الشيخ عليه لفظةً، فظنّ أو علم أنّ ردّه خلاف الصواب كرّر اللفظة مع ما قبلها ليتنبّه لها الشيخ أو يأتي بلفظ الصواب على وجه الاستفهام، فربّما وقع ذلك سهواً أو سبق لسان لغفلة، ولا يقل بل هي كذا فإن رجع الشيخ إلى الصواب فذاك، وإلّا ترك تحقيقها إلى مجلس آخر بتلطَّف، ولا يبادر إلى إصلاحها على الوجه الذي عرفه، مع اطّلاع الشيخ أو أحد الحاضرين على المخالفة. وكذلك إذا تحقّق خطأ الشيخ في جواب مسألةٍ، وكان لا يفوت ،تحقيقه ولا يعسر تداركه؛ فإن كان كذلك(4) كالكتابة في رقاع الاستفتاء، وكون السائل غريباً، أو بعيد الدار أو مشنّعاً تعيّن تنبيه الشيخ على ذلك

ص: 172


1- لاحظ تذكرة السامع، ص 121 - 126؛ شرح المهذّب، ج 1، ص 64 - 65 .
2- هكذا في نسخة «ض ، ح ، ع ، ط ، ن». وفي سائر النسخ وتذكرة السامع، ص 122: «مواضیه» بدل «مواظبته».
3- في الأمر الأوّل من القسم الثاني من النوع الثالث من هذا الباب، ص 146 - 147.
4- أي يفوت تحقيقه ويعسر تداركه. وقوله كذلك إذا تحقّق خطأ... إلى آخره. أي يترك تحقيقها إلى مجلس آخر بتلطَّف، إذا تحقّق خطأ الشيخ ولا يفوت تحقيقه ولا يعسر تداركه.

في الحال - بالإشارة ثمّ بالتصريح، فإنّ ترك ذلك خيانة للشيخ فيجب نصحه بما أمكن من تلطّف أو غيره.

وإذا وقف على مكان في التصحيح(1) كتب قبالته: «بلغ العرض» أو [بلغ] التصحيح». الخامس: بعد أن يرتّب الأهمّ فالأهمّ في الحفظ والتصحيح والمطالعة ويتقنها فليذاكر بمحفوظاته ويديم الفكر فيها، ويعتني بما يحصل فيها من الفوائد، ويذاكر بها بعض حاضري حلقة شيخه كما سيأتي تفصيله.

السادس(2) : أن يقسّم أوقات ليله ونهاره على ما يحصّله؛ فإنّ الأوراد توجب الازدياد، ويغتنم ما بقي من عمره؛ فإنّ بقيّة العمر لا قيمة لها. وأجود الأوقات للحفظ الأسحار، وللبحث الأبكار وللكتابة وسط النهار ، وللمطالعة والمذاكرة الليل وبقايا النهار. وممّا قالوه(3)- ودلّت عليه التجربة - أنّ حفظ الليل أنفع من حفظ النهار، ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع، والمكان البعيد(4) عن الملهيات كالأصوات والخضرة والنبات والأنّهار الجاريات وقوارع الطرق التي تكثر فيها الحركات؛ لأنّها تمنع من خلوّ القلب، وتقسمّه على حسب تلك الحالات(5).

السابع: أن يبكّر بدرسه، لخبر: «بورك لأُمّتي في بكورها»(6).

ص: 173


1- هكذا في النسخ ولكن جاء في تذكرة السامع ص 126: «بلغ العرض والتصحيح» بدل بلغ العرض أو التصحيح».
2- لاحظ تذكرة السامع، ص 72 - 73
3- قاله الخطيب البغدادي، كما في تذكرة السامع، ص 73.
4- في هامش «ض»: يمكن على بُعد عطفه على مفعول يقسّم، وإلّا ففى العبارة سقط». أقول: لابدّ من تقدير مبتدأ وجعل «المكان البعيد... إلى آخره. خبراً له حتّى يستقيم الكلام، ولعلّ الصواب تقدير «أجود اماكن الحفظ بعنوان المبتدأ ل- «المكان البعيد ... الخ) كما في شرح المهذّب، ج 1، ص 63 - وإلا فلا يستقيم الكلام.
5- الفقيه والمتفقّه، ج 2، ص 104 ، وإليك نص عبارته وأجود أماكن الحفظ الغرف دون السفل، وكلّ موضع بعيد ممّا يُلهي وخلا القلب فيه ممّا يفزعه فيشغله، أو يغلب عليه فيمنعه وليس بالمحمود أن يتحفّظ الرجل بحضرة النبات والخضرة، ولا على شطوط الأنهار ولا على قوارع الطرق، فليس يعدم في هذه المواضع غالباً ما يمنع من خلو القلب وصفاء السرّ : وانظر أيضاً الفقيه والمتفقه، ج 2، ص 128.
6- الجامع الصغير، ج 1، ص 126، حرف الباء؛ مجمع الزوائد، ج 4، ص 62: صبح الأعشى، ج 14، ص 168.

ولخبر: «اغدوا في طلب العلم، فإنّي سألت ربّي أن يبارك لأّمّتي في بكورها»(1).

ويجعل ابتداءه يوم الخميس(2)، وفي رواية: يوم السبت أو الخميس(3)، وفي خبر آخر عنه صلی الله علیه و آله و سلّم: «اطلبوا العلم يوم الاثنين فإنّه ييسّر [خ ل: يتيسّر] لطالبه»(4).

وروي في يوم الأربعاء خبر: «ما من شيء بديء يوم الأربعاء إلّا وقد تمّ»(5).

وربما اختار بعض العلماء الابتداء يوم الأحد، ولم نقف على مأخذه.

الثامن(6): أن يبكّر بسماع الحديث ولا يهمل الاشتغال به وبعلومه، والنظر في إسناده ورجاله ومعانيه وأحكامه وفوائده ولغته وتواريخه وصحيحه وحسنه وضعيفه ومسنده

ص: 174


1- المحدّث الفاصل ، ص 339 343 : مجمع الزوائد، ج 1، ص 132 ؛ وفي مسند أحمد، ج 3، ص 416، ص 417، 431 ، 432 ؛ ج 4، ص 384، 390؛ وسنن الدارمي ، ج 2، ص 214 ؛ وأدب الإملاء والاستملاء، ص 111 ؛ وإحياء علوم الدين، ج 2، ص 225 ؛ ومجمع الزوائد، ج 4، ص 61: «اللهمّ بارك لأُمّتي في بكورها».
2- روي في تحف العقول، ص 80، عن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): «إذا أراد أحدكم الحاجة فليبكر فيها يوم الخميس: فإنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قال: اللهمّ بارك لأُمّتي في بكرتها يوم الخميس»؛ وفي سنن الدارمي ، ج 2، ص 214؛ وإحياء علوم الدين، ج 2، ص 225 قلما كان رسول الله يخرج إذا أراد سفراً إلا يوم الخميس؛ وقال المناوي في فيض القدير، ج 1، ص :543 ويشاركه [يعني يوم الاثنين ] في ندب الطلب فيه الخميس الحديث ابن عدي عن جابر اطلبوا العلم لكلِّ اثنين وخميس: فإنّه ميسر لمن طلب.
3- في الفقيه، ج 1، ص 274، ح 1254؛ وبحار الأنوار، ج 103، ص 41 ، ح :1: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم : «اللهمَّ بارك لأُمّتي في بكورها يوم سبتها وخميسها»؛ وفي إحياء علوم الدين، ج 2، ص 224: روى أنس أنه صلی الله علیه و آله و سلّم قال: «اللهمّ بارك لأُمتي في بكورها يوم السبت»، وروى أبو هريرة عنه صلی الله علیه و آله و سلّم أنّه قال: «اللهمّ بارك لأُمّتي في بكورها يوم خميسها»؛ والخبر الثاني منقول أيضاً في مجمع الزوائد، ج 4، ص 61 - 62 ؛ وفي غرر الحكم، ج 3، ص 259، ح 4422: «بكر السبت والخميس بركة».
4- الجامع الصغير، ج 1، ص 44، حرف الهمزة كنز العمّال، ج 10، ص 250، ح 2934، وفيهما: «فإنّه ميسِّرّ الطالبه»؛ قال المناوي في فيض القدير، ج 1، ص 543: أي يتيسَّر له أسباب تحصيله بدفع الموانع وتهيئة الأسباب إذا طلبه فيه وذلك لأنّه اليوم الذي ولد فيه المصطفى صلی الله علیه و آله و سلّم، وجاء الوحي فيه. فتأمّل في ذلك.
5- تعليم المتعلّم، ص 15 : قال في كشف الخفاء، ج 2، ص 237 - نقلاً عن بعضهم : لم أقف له على أصل ولكن ذكر برهان الإسلام في كتابه تعليم المتعلّم عن شيخه صاحب الهداية أنّه كان يروي ذلك حديثاً، ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه و اله و سلم: «ما من شيء بُدِيءَ به يوم الأربعاء إلّا وقد تمّ».
6- لاحظ تذكرة السامع، ص 126، 130 - 133.

ومرسله، وسائر أنواعه؛ فإنّه أحد جناحي العالم بالشريعة والمبيّن للأحكام، والجناح الآخر القرآن(1).

ولا يقنع من الحديث بمجرّد السماع، بل يعتني بالدراية أكثر من الرواية؛ فإنّه المقصود من نقل الحديث وتبليغه.

التاسع: أن يعتني برواية كتبه التي قرأها أو طالعها سيّما محفوظاته؛ فإنّ الأسانيد أنساب الكتب.

وأن يحترص على كلمة يسمعها من شيخه أو شعر ينشده أو ينشئه أو مؤلّف يؤلّفه ويجتهد على رواية الأُمور المهمّة، ومعرفة من أخذ شيخه عنه وأسناده، ونحو ذلك. العاشر: إذا بحث محفوظاته أو غيرها من المختصرات، وضبط ما فيها من الإشكالات والفوائد المهمّات، أن ينتقل إلى بحث المبسوطات وما هو أكبر ممّا بحثه أوّلاً، مع المطالعة المتقنة والعناية الدائمة المحكمة، وتعليق ما مرّ به في المطالعة أو سمعه من الشيخ من الفوائد النفيسة والمسائل الدقيقة والفروع الغريبة وحلّ المشكلات، والفرق بين أحكام المتشابهات من جميع أنواع العلوم التي يذاكره فيها، ولا يحتقر فائدةً يراها أو يسمعها في أيّ فنٍّ كانت، بل يبادر إلى كتابتها وحفظها.

وقد روي عن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم أنّه قال: «قيّدوا العلم». قيل: وما تقييده؟ قال: «كتابته»(2).

وروي أنّ رجلاً من الأنصار كان يجلس إلى النبيّ صلى الله عليه و اله و سلم، فيسمع منه الحديث، فيعجبه ولا يحفظه، فشكا ذلك إلى النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم، فقال له رسول الله: «استعن بيمينك، وأومأ بيد أي خطّ»(3).

ومن هنا قيل: من لم يكتب علمه لم يعدّ علمه علماً(4). وسيأتي إن شاء الله تعالى في

ص: 175


1- في أكثر النسخ: «القراءة» بدل «القرآن»، والصحيح ما أثبتنا كما في تذكرة السامع، ص 131
2- المحدّث الفاصل، ص 364؛ المستدرك على الصحيحين، ج 1، ص 106: عوالي اللآلي، ج 1، ص 68
3- الجامع الصحيح، ج 5، ص 39، ح 2666: تقييد العلم، ص 65 - 68: تدريب الراوي، ج 2، ص 66
4- قاله معاوية بن قرة، كما في حلية الأولياء، ج 2، ص 301؛ وتقييد العلم، ص 109؛ وفي تقييد العلم، ص 96: قال أنس كنا لا نعد علم من لم يكتب علمه علماً.

باب الكتابة أخبار أُخر في ذلك.

الحادي عشر(1): أن يبالغ في الجدّ والطلب والتشمير، ولا يقنع من إرث الأنبياء باليسير ويغتنم وقت الفراغ والنشاط وشَرخ الشباب(2) قبل عوارض البطالة وموانع الرئاسة، فإنّها أدوى الأدواء وأعضل الأمراض.

وليحذر كلّ الحذر من نظر نفسه بعين الكمال والاستغناء عن المشايخ؛ فإنّ ذلك عين النقص وحقيقة الجهل وعنوان الحماقة ودليل قلّة العلم والمعرفة لو تدبّر.

الثاني عشر: أن يلازم حلقة شيخه بل جميع مجالسه إذا أمكن؛ فإنّ ذلك لا يزيده إلّا خيراً وتحصيلاً وأدباً، واطّلاعاً على فوائد متبدّدةٍ لا يكاد يجدها في الدفاتر، كما أشار إليه عليّ علیه السلام في حديثه السابق بقوله: «ولا تملّ من طول صحبته، فإنّما هو كالنخلة تنتظر متى يسقط عليك منها منفعة»(3).

ولا يقتصر على سماع درس نفسه فقط؛ فإنّ ذلك علامة قصور الهمّة، بل يعتني بسائر الدروس، فإنّها كنوز مختلفة وجواهر متعدّدة، فليغتنم ما فتح له منها إن احتمل ذهنه ذلك، فيشارك أصحابها حتّى كأنّ كلّ درس له فإن عجز عن ضبط جميعها اعتنى بالأهمّ فالأهمّ.

هذا في الدروس المفرّقة، وأمّا درس التقاسيم فشأنها كدرس واحد، فمن لم يطق ضبطها لا يصلح لدخوله فيها(4).

الثالث عشر(5): إذا حضر مجلس الشيخ فليسلّم على الحاضرين بصوت يسمعهم.

ص: 176


1- لاحظ تذكرة السامع، ص 133 - 135، 142 - 143.
2- شرخ الشباب: أوّله ونضارته وقوّته. لسان العرب، ج 3، ص 29، «شرخ».
3- الكافي، ج 1، ص 37 باب حق العالم، ح 1 ، وقد سبق في أوّل القسم الثاني من النوع الثالث من هذا الباب ص 141 ، ونقله هنا بالمعنى.
4- مرّ في الأمر السادس عشر من القسم الثاني من النوع الثاني من هذا الباب، ص 108 - 109 معنی درس التقاسيم، فيعلم معنى الدروس المفرّقَة بالمقابلة.
5- لاحظ تذكرة السامع، ص 146 - 147؛ التبيان في آداب حملة القرآن، ص 24 - 25: شرح المهذب، ج 1، ص 61.

ويخصّ الشيخ بزيادة تحيّةٍ وإكرامٍ.

وعدّ بعضهم حلق العلم حال أخذهم في البحث من المواضع التي لا يسلّم فيها(1)،

واختاره جماعة من الأفاضل(2)، وهو متّجه حيث يشغلهم ردّ السلام عمّا هم فيه من البحث وحضور القلب كما هو الغالب، سيّما إذا كان في أثناء تقرير مسألةٍ، فإنّ قطعه عليهم أضرّ من كثير من الموارد التي ورد أنّه لا يسلّم فيها(3).

لكن متى أريد ذلك فليجلس الداخل عليهم على بعدٍ من مقابلة الشيخ، بحيث لا يشعر به حتّى يفرغ إن أمكن، جمعاً بين حقّ الأدب معه وحقّ البحث في دفع الشواغل عنه.

الرابع عشر: إذا سلّم لا يتخطّى رقاب الحاضرين إلى قرب الشيخ إن لم يكن منزلته كذلك، بل يجلس حيث ينتهي به المجلس كما ورد في الحديث(4)، فإن صرّح له الشيخ أو الحاضرون بالتقدّم أو كانت منزلته أو كان يعلم إيثار الشيخ والجماعة لذلك، وكان جلوسه بقرب الشيخ مصلحةً - كأن يذاكره مذاكرةً ينتفع بها الحاضرون أو لكونه كبير السنّ أو كثير الفضيلة والصلاح - فلا بأس.

الخامس عشر: أن يحرص على قربه من الشيخ حيث يكون منزلته، ليفهم كلامه فهماً كاملاً بلا مشقّةٍ، ولكن لا يقرب منه قرباً ينسب فيه إلى سوء الأدب، ولا يضع شيئاً

ص: 177


1- تذكرة السامع، ص 146.
2- منهم ابن جماعة الكناني في تذكرة السامع، ص 146، مع تفصيل.
3- في الكافي، ج 2، ص 645 - 646، باب التسليم، ح 11، كان أبو عبد الله علیه السلام يقول: «ثلاثة لا يُسَلَّمون: الماشي مع الجنازة والماشي إلى الجمعة، وفي بيت الحمام»؛ وفي الخصال، ص 571 - 572؛ وبحار الأنوار، ج 76، ص 9 ، ح 39 - نقلاً عن الخصال -: «لا تسلّموا على... ولا على المصلي، وذلك لأن المصلي لا يستطيع أن يردّ السلام... ولا على رجل جالس على غائط ولا على الذي في الحمام... وانظر سائر روايات الباب في بحار الأنوار، ج 76، ص 8 - 9؛ وراجع الأذكار، ص 27، 244.
4- في أمالي الطوسي، ج 1، ص 310: قال أبو عبدالله علیه السلام : «لا ينبغي للمؤمن أن يجلسَ إلّا حيث ينتهي به الجلوس؛ فإنّ تخطي أعناق الرجل سخافة»: راجع أيضاً مكارم الأخلاق، ص 26؛ الترغيب والترهيب ج 4، ص 51؛ سنن أبي داود، ج 4، ص 258، ح 4825 أدب الإملاء والاستملاء، ص 123.

من ثيابه أو بدنه على ثياب الشيخ أو وسادته أو سجادته كما مرّ(1).

واعلم أنّه متى سبق إلى مكان من مجلس الدرس كان أحقّ به، فليس لغيره أن يزعجه منه وإن كان أحقّ به بحسب الأدب. قيل: ويبقى بعد ذلك أحقّ به كالمحترف إذا ألف مكاناً من السوق أو الشارع، فلا يسقط حقّه منه لمفارقته، وإن انقطع عن الدرس يوماً أو يومين إذا حضر بعد ذلك(2). وهذا البحث آت في مكان المصلّي المشتمل على فائدة في الصلاة كالذكر ونحوه.

السادس عشر(3): أن يتأدّب مع رفقته وحاضري المجلس؛ فإنّ تأدّبه معهمّ تأدّب مع الشيخ واحترام لمجلسه، وليحترم كبراءه وأقرانه ورفقته.

السابع عشر: أن لا يزاحم أحداً في مجلسه، ولا يؤثر قيام أحد له من محلّه، فإن آثره غيره بمجلسه لم يقبله، لنهي النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم عن أن يقام الرجل من مجلسه، ويجلس فيه، آخر قال صلی الله علیه و آله و سلّم : «ولكن تفسّحوا وتوسّعوا»(4).

نعم لو كان جلوسه في مجلس من آثره مصلحةً للحاضرين، وعلم من خاطر المؤثر حبّ الإيثار بالقرائن، فلا بأس.

الثامن عشر: أن لا يجلس في وسط ،الحلقة، ولا قدّام أحد لغير ضرورة، لما روي

من: أنّ النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم، لعن من جلس وسط الحلقة(5).

ص: 178


1- في الأمر التاسع عشر من القسم الثاني من النوع الثالث، ص 160 - 161.
2- للتفصيل والاطّلاع على آراء وأقوال الفقهاء حول المسألة راجع الكتب الفقهية، كتاب إحياء الموات
3- لاحظ تذكرة السامع، ص 152 - 156؛ التبيان في آداب حملة القرآن، ص 25؛ شرح المهذّب، ج 1، ص 62.
4- صحيح مسلم، ج 4، ص 1714 - 1715، ح 2177/27 - 2178/30؛ مسند أحمد، ج 2، ص 22 - 102؛ سنن أبي داود، ج 4، ص 258، ح 4827 - 4828؛ سنن الدارمي ، ج 2، ص 281 - 282؛ الترغيب والترهيب، ج 4. ص 51 أدب الإملاء الاستملاء، ص 126؛ إحياء علوم الدين، ج 1، ص 166 : ج 2، ص 181؛ عوالي اللآلي ج 1، ص 143، وإليك نصّ واحدة من روايات الباب من صحيح مسلم عن النبيّ صلى الله عليه و اله و سلم قال: «لا يقيم الرجلُ الرجلَ من مقعده ثمّ يجلس فيه، ولكن تفسّحوا وتوسّعوا».
5- سنن أبي داود، ج 4، ص 258، ح 4826؛ الترغيب والترهيب، ج 4، ص 50؛ تنبيه الخواطر، ج 1، ص 30؛ أدب الإملاء والاستملاء، ص 127

نعم، لو كان لضرورة - كضيق المجلس وكثرة الزحام واستلزام تركه عدم السماع - فلا بأس به.

التاسع عشر: أن لا يجلس بين أخوين أو أب وابن أو قريبين أو متصاحبين إلّا برضاهما معاً، لما روي أنّ النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم نهى أن يجلس الرجل بين الرجلين إلّا بإذنهما(1).

العشرون: ينبغي للحاضرين إذا جاء القادم أن يرحّبوا به، ويوسّعوا له ويتفسّحوا لأجله، ويكرموه بما يكرم به مثله. وإذا فسح له في المجلس وكان حرجاً ضمّ نفسه ولا يتوسّع، ولا يعطي أحداً منهم جنبه ولا ظهره، ويتحفّظ من ذلك ويتعهّده عند بحث الشيخ له ولا يجنح على جاره، أو يجعل مرفقه قائماً في جنبه، أو يخرج من بنية الحلقة بتقدّمٍ أو تأخّرٍ.

الحادي والعشرون: أن لا يتكلّم في أثناء درس غيره بما لا يتعلّق به أو بما يقطع عليه بحثه، وإذا شرع بعضهم في درس، فلا يتكلّم بكلام في درس فرغ ولا بغيره ممّا لا تفوت فائدته، إلّا بإذن من الشيخ وصاحب الدرس.

الثاني والعشرون: أن لا يشارك أحد من الجماعة أحداً في حديثه مع الشيخ، ولا سيّما مشاركة الشيخ قال بعض الحكماء من الأدب أن لا يشارك الرجل في حديثه(2). وأنشد بعضهم(3) في ذلك:

ولا تشارك في الحديث أهله *** وإن عرفت فرعه وأصله

فإن عَلِمَ إيثار المتكلّم بذلك فلا بأس.

الثالث والعشرون: إذا أساء بعض الطلبة أدباً على غيره لم ينهه [خ ل : لم ينهره] غير الشيخ إلّا بإشارته، أو سرّاً بينهما على سبيل النصيحة. وإن أساء أحد أدباً على

ص: 179


1- سنن أبي داود، ج 4، ص 262، ح 4844 و 4845: الترغيب والترهيب، ج 4، ص 51: أدب الإملاء والاستملاء، ص 129.
2- تذكرة السامع، ص 156 ، وفيه: زيادة: «وإن كان أعلم به منه».
3- هو الخطيب البغدادي كما في تذكره السامع، ص 156.

الشيخ تعيّن على الجماعة انتهاره وردعه والانتصار للشيخ بقدر الإمكان وإن أظهر الشيخ المسامحة؛ وفاءً لحقّه.

الرابع والعشرون(1) : إذا أراد القراءة على الشيخ فليراع نوبته تقديماً وتأخيراً، فلا يتقدّم عليها بغير رضا من هي له. وروي أن أنصاريّاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يسأله، وجاء رجل من ثقيف فقال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم : «يا أخا ثقيف إنّ الأنصاري قد سبقك بالمسألة فاجلس كيما نبدأ بحاجة الأنصاري قبل حاجتك»(2).

قيل: ولا يؤثر بنوبته؛ فإنّ الإيثار بالقرب نقص فإن رأى الشيخ المصلحة في ذلك في وقت فأشار به امتثل أمره معتقداً كمال رأيه وتصويب غرضه في ذلك(3).

قيل: ويستحبّ للسابق أن يقدّم على نفسه من كان غريباً لتأكّد حرمته ووجوب ذمّته(4). وروي في ذلك حديث عن ابن عبّاس (رضي الله عنه)(5). وكذلك إذا كان

ص: 180


1- لاحظ تذكرة السامع، ص 158 - 162 .
2- تذكرة السامع، ص 158؛ ونقل مضمونه الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه، ج 2، ص 122.
3- تذكرة السامع، ص 158؛ ونقل مضمونه الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه، ج 2، ص 122.
4- تذكرة السامع، ص 159 - 160: والقائل النووي في التبيان في آداب حملة القرآن، ص 27؛ وشرح المهذّب ج 1 ، ص 65.
5- في الجامع الصغير، ج 1، ص 16، حرف الهمزة: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه»، «إذا أتاكم الزائر فأكرموه»؛ والحديث الأوّل مروي في مجمع الزوائد، ج 8، ص 15 - 16؛ ومكارم الأخلاق، ص 24 أيضاً؛ وفي الكافي، ج 2، ص 659، باب إكرام الكريم ، ح 1: عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «دخل رجلان على أمير المؤمنين علیه السلام، فألقى لكلّ واحدٍ منهما وسادة فقعد عليها أحدهما وأبى الآخر، فقال أمير المؤمنين علیه السلام: أقعُدُ عليها؛ فإنّه لا يأبى الكرامة إلّا حمارً، ثمَّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم : إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه». وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ، ج 3، ص 993 - نقلاً عن الخطيب البغدادي : حدَّثنا العتيقي، قال: حضرتُ مجلس الدارقطني وجاءه أبو الحسن البيضاوي برجل غريب، وسأله أن يُمليَ عليه أحاديث، فأملى عليه من حفظه مجلساً يزيد أحاديثه على العشرين، متون جميعها: نعم، الشيء الهديّةُ أمام الحاجة فانصرف الرجل ثمّ جاءه بعد وقد أهدى له شيئاً فقرّبه إليه، فأملى عليه من حفظه سبعة عشر حديثاً متونها: إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه وأيضاً هذه الحكاية منقولة في طبقات الشافعية، ج 3، ص 465. وفي إحياء علوم الدين، ج 2، ص 175 وروي أنه صلی الله علیه و آله و سلّم دخل بعض بيوته، فدخل عليه أصحابه حتّى غصّ المجلس وامتلأ، فجاء جرير بن عبدالله البجلي فلم يجد مكاناً فقعد على الباب، فلف رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم رداء.. فألقاه إليه وقال له: اجلس على هذا فأخذه جرير ووضعه عل وجهه وجعل يقبله ويبكي، ثمّ لفّه ورمى به إلى النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم ، وقال : ما كنت لأجلس على ثوبك، أكرمك الله كما أكرمتني. فنظر النبي يميناً وشمالاً ثم قال: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه».

للمتأخّر حاجة ضرورية وعلمها المتقدّم.

وتحصل النوبة بتقدّم الحضور في مجلس الشيخ وإن ذهب بعده لضرورة، كقضاء حاجة وتجديد وضوء إذا لم يطل الزمان عادةً، وإذا تساويا أقرع بينهما. هذا إذا كان العلم ممّا يجب تعليمه وإلّا تخيّر، ويستحبّ له حينئذٍ مراعاة الترتيب ثمّ القرعة.

ولو جمعهم على درس مع تقارب أفهامهم جاز أيضاً، ومعيد(1) المدرسة ومدرّسها إذا شرط عليه إقراء أهلها في وقت معيّن لا يجوز له تقديم غيرهم عليهم بغير إذنهم وإن سبق، مع عدم وجوب التعليم، أو مع وجوب الجميع، أمّا لو وجب درس الخارج دون أهل المدرسة، ففى استثنائه أو وجوب إقرائه، وترك ما يخصّه من العوض ذلك اليوم، أو تقديم أهل المدرسة أوجه. والأوسط أوسط.

الخامس والعشرون: أن يكون جلوسه بين يدي الشيخ على ما تقدّم تفصيله وهيأته في أدبه مع شيخه، ويحضر كتابه الذي يقرأ فيه معه، ويحمله بنفسه، ولا يضعه حال القراءة على الأرض مفتوحاً بل يحمله بيديه ويقرأ منه.

السادس والعشرون: أن لا يقرأ حتّى يستأذن الشيخ، ذكره جماعة من العلماء(2)،

ص: 181


1- قال في تذكرة السامع ص 150 الهامش المُعيد: الذي يعيدُ الدرس بعد إلقاء الشيخ الخطبة على الطلبة، كأنّه يعين الشيخ على نشر علمه وتثبيت خطباته وإملائه في أذهان الطلبة ؛ وقال في ص 204: وينبغي للمعيد بالمدرسة... أن يُعْلِمَ المدرّس أو الناظر بمن يُرجى فلاحه لیزاد ما يستعين به ويشرح صدره، وأن يطالبهم بعرض محفوظاتهم إن لم يعيّن لذلك غيره، ويعيدلهم ما توقف فهمه عليهم من دروس المدارس ولهذا يسمّى مُعِيداً. قال ابن خلكان في ترجمة أبي إسحاق الشيرازي ... تفقه على جماعةٍ من الأعيان وصحِبَ القاضي أبا الطيب الطبري كثيراً وانتفع به، وناب عنه في مجلسه، ورتبه معيداً في حلقته. وفيات الأعيان، ج 1، ص 29؛ وقال السبكي في طبقات الشافعية، ج 7، ص 240، في ترجمة أبي حفص عمر بن أحمد بن الليث الطالقاني: من أهل بلخ، فقيه اصولی صوفي.... وكان معيدَ المدرسة النظامية ببلخ، تُوفّي في شعبان سنة ستّ وثلاثين وخمسمائة.
2- ذكره الخطيب البغدادي عن جماعة من السلف كما في تذكرة السامع، ص 161

فإذا أذن له استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، ثمّ سمّى الله تعالى وحمده وصلّى على النبيّ وآله (صلّى الله عليهم)، ثمّ يدعو للشيخ ولوالديه ولمشايخه، وللعلماء ولنفسه ولسائر المسلمين، وإن خصّ مصنّف الكتاب أيضاً بدعوة كان حسناً.

وكذلك يفعل كلّما شرع في قراءة درس أو تكراره أو مطالعته أو مقابلته في حضور الشيخ أو في غيبته، إلّا أنّه يخص الشيخ بذكره في الدعاء عند قراءته عليه، ويترحّم على مصنّف الكتاب كما ذكرناه.

وإذا دعا الطالب للشيخ قال: ورضي الله عنكم أو عن شيخنا وإمامنا ونحو ذلك قاصداً به به الشيخ. وإذا فرغ من الدرس دعا للشيخ أيضاً.

ويدعو الشيخ للطالب كلّما دعا له، فإن ترك الطالب الاستفتاح بما ذكرناه جهلاً أو نسياناً نبّهه عليه وعلّمه إيّاه وذكّره به؛ فإنّه من أهمّ الآداب، وقد ورد الحديث بالأمر في الابتداء بالأُمور المهمّة بتسمية الله وتحميده(1)، وهذا من أهمّها.

السابع والعشرون(2) : ينبغي أن يذاكر من يرافقه من مواظبي مجلس الشيخ بما وقع فيه من الفوائد والضوابط والقواعد وغير ذلك، ويعيدوا كلام الشيخ فيما بينهم؛ فإنّ في المذاكرة نفعاً عظيماً قدّم على نفع الحفظ.

وينبغي الإسراع بها بعد القيام من المجلس قبل تفرّق أذهانهم، وتشتّت خواطرهم،

ص: 182


1- في سنن ابن ماجة، ج 1، ص 610 ، ح 1894؛ والنهاية، ج 1، ص 93؛ والدر المنثور في التفسير بالمأثور، ج 1، ص 12؛ والفقيه والمتفقه، ج 2، ص 123؛ وسنن الدارقطني ، ج 1، ص 502-504. ح 1/871 و 2/872؛ وتفسير كشف الأسرار، ج 1، ص 11: «كلّ أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بالحمد أقطع». وفي تفسير الرازي، ج 1، ص 208؛ وتفسير كشف الأسرار، ج 10، ص 78؛ وتفسير الكشاف، ج 1، ص 3 - 4: وإحياء علوم الدين، ج 1، ص 185: «كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر»؛ وفي مسند الله فهو أبتر»؛ وفي مسند أحمد، ج 2، ص 359: «كل كلام - أو أمر ذي بال لا يفتح بذكر الله عزّ وجلّ فهو أبتر، أو قال: أقطع ؛ وانظر الأذكار، ص 103؛ وراجع طبقات الشافعية، ج 1، ص 7 - 24، تجد شرحاً مشبعاً حول ذلك.
2- لاحظ تذكرة السامع، ص 145.143.

وشذوذ بعض ما سمعوه عن أفهامهم، ثمّ يتذاكروه في بعض الأوقات، فلا شيء يتخرّج(1) به الطالب في العلم مثل المذاكرة.

فإن لم يجد الطالب من يذاكره ذاكر نفسه بنفسه وكرّر معنى ما سمعه ولفظه على قلبه، وليعلّق ذلك بخاطره؛ فإنّ تكرار المعنى على القلب كتكرار اللفظ على اللسان وقلّ أن يفلح من اقتصر على الفكر والتعقّل بحضرة الشيخ خاصّة، ثمّ يتركه ويقوم ولا يعاوده.

الثامن والعشرون: أن تكون المذاكرة المذكورة في غير مجلس الشيخ، أو فيه بعد انصرافه بحيث لا يسمع لهم صوتاً؛ فإنّ اشتغالهم بذلك وإسماعهم له قلّة أدب وجرأة، سيّما إذا كان لهم معيد، فإنّ تصدّره للإعادة في مجلس الشيخ من أقبح الصفات وأبعدها عن الآداب، اللهمّ إلّا أن يأمره الشيخ بذلك لمصلحة يراها.

التاسع والعشرون: على الطلبة مراعاة الأدب المتقدّم أو قريباً منه مع كبيرهم و معيدهم، فلا ينازعوه فيما يقوله لهم إذا وقع منهم فيه شكّ، بل يترفّقوا في تحقيق الحال ويتوصّلوا إلى بيان الحقّ بحسب الإمكان، فإذا بقي الحقّ مشتبهاً راجعوا الشيخ فيه بلطف من غير بيان من خالف ومن وافق مقتصرين على إرادة بيان الصواب كيف كان.

الثلاثون (2): يجب على من علم منهم بنوع من العلم وضرب من الكمال أن يرشد رفقته ويرغّبهم في الاجتماع والتذاكر والتحصيل، ويهوّن عليهم مؤونته، ويذكر لهم ما استفاده من الفوائد والقواعد والغرائب على جهة النصيحة والمذاكرة، فبإرشادهم يبارك الله له في علمه ويستنير قلبه، وتتأكّد المسائل عنده مع ما فيه من جزيل ثواب الله تعالى وجميل نظره وعطفه.

ص: 183


1- قال في لسان العرب، ج 2، ص 250، «خرج»: معى خرََّجَها: أدبّها كما يُخرجُ المعلَّمُ تلميذه، وقد خرّجه في الأدب فتخرّج.
2- لاحظ تذكرة السامع، ص 162 - 163: شرح المهذّب، ج 1، ص 65 .

ومن بخل عليهم بشيء من ذلك كان بضدّ ما ذكر، ولم يثبت علمه وإن ثبت لم يثمر، ولم يبارك الله له فيه. وقد جرّب ذلك لجماعةٍ من السلف والخلف.

ولا يحسد أحداً منهم ولا يحتقره، ولا يفتخر عليه ولا يعجب بفهم نفسه وسبقه لهم، فقد كان مثلهم ثمّ منّ الله تعالى عليه، فليحمد الله تعالى على ذلك ويستزيده منه بدوام الشكر، فإذا امتثل ذلك وتكاملت أهليّته واشتهرت فضيلته ارتقى إلى ما بعده من المراتب والله وليّ التوفيق.

ص: 184

الباب الثاني في آداب الفتوى والمفتي والمستفتي

اشارة

ويشتمل على مقدمة وأربعة أنواع:

ص: 185

ص: 186

[المقدّمة في أهمّية الإفتاء]

اشارة

ولنذكر من ذلك المهمّ؛ فإنّه باب متّسع، ولنقدّم على ذلك مقدّمةً فنقول:(1)

اعلم أنّ الإفتاء عظيم الخطر كثير الأجر كبير الفضل جليل الموقع، لأنّ المفتي وارث الأنبياء (صلوات الله عليهم)، وقائم بفرض الكفاية، لكنّه معرّض للخطأ والخطر، ولهذا قالوا: المفتي موقّع عن الله تعالى(2). فلينظر كيف يقول.

وقد ورد فيه وفي آدابه والتوقّف فيه والتحذير منه من الآيات والأخبار والآثار أشياء كثيرة نورد جملةً من عيونها:

قال الله تعالى: «يَسْتَفْتُونَكَ قُل الله يُفْتِيكُم».(3)

وقال تعالى: «وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقُّ هُوَ قُلْ إِى وَرَبِّيَ إِنَّهُ لَحَقُّ».(4)

وقال تعالى: «يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَتٍ سِمَانٍ».(5)

ص: 187


1- لاحظ شرح المهذّب، ج 1، ص 67 - 69.
2- شرح المهذّب، ج 1، ص 67 : قال ابن قيم الجوزية في أعلام الموقّعين ، ج 4 ، ص 241: فخطر المفتي عظيم فإنّه مُوقَعُ عن الله ورسوله ... وقال فيه ج 4، ص 223 أيضاً: فالحاكم والمفتي والشاهد كلّ منهم مُخبرٌ عن حكم الله.
3- النساء (4): 176
4- يونس (10): 53
5- يوسف .(12): 46

وقال تعالى فى التحذير: «وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلَال وَهَذَا حَرَامُ لِتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ»(1)الآية.

وقال تعالى: «وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ».(2)

وقال تعالى: «قُلْ أَرَءَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَلاً قُلْ اللَّهُ أَذنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ»(3).

فانظر كيف قسّم مستند الحكم إلى القسمين، فما لم يتحقّق الإذن فأنت مفترٍ.

وانظر إلى قوله تعالى حكايةً عن رسوله صلی الله علیه و آله و سلّم- أكرم خلقه عليه : «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيل * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِين * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ»(4).

فإذا كان هذا تهديده لأكرم خلقه عليه، فكيف حال غيره إذا تقوّل عليه عند حضوره بين يديه؟

وقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم : «إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتّى إذا لم يبق عالماً اتّخذ الناس رؤساء جهّالاً،

ص: 188


1- النحل (16): 116
2- البقرة (2): 169
3- يونس (10): 59
4- الحاقة (69): 44 - 46. قال رضي الدين عليّ بن طاوس (قدّس سرّه) في كتاب الإجازات لكشف طرق المفازات فيما يحصى من الإجازات واعلم أنّني إنما اقتصرت على تأليف كتاب غياث سلطان الورى لسكّان الثرى، من كتب الفقه في قضاء الصلوات من الأموات، وما صنفت غير ذلك من الفقه وتقرير المسائل والجوابات لأنّي كنت قد رأيت مصلحتي ومعاذي في دنياي وآخرتي في التفرّغ عن الفتوى في الأحكام الشرعيّة، لأجل ما وجدت من الاختلاف في الرواية بين فقهاء أصحابنا في التكاليف الفعلية، وسمعت كلام الله جلّ جلاله يقول عن أعزّ موجود من الخلائق عليه محمّد صلی الله علیه و آله و سلّم : «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَنجزِينَ»، لأخذنا منه باليمين، ثمّ لقطعنا منه الوتين، فما منكم من أحدٍ عنه حاجزين». فلو صنّفتُ كتباً في الفقه يعمل بعدي عليها، كان ذلك نقضاً لتورّعي عن الفتوى، ودخولاً تحت خطر الآية المشار إليها، لأنّه جلّ جلاله إذا كان هذا تهديده للرسول العزيز الأعلم لو تقوّل عليه، فكيف يكون حالي إذا تقوّلتُ عليه جلّ جلاله وأفتيتُ أو صنّفت خطاً أو غلطاً يوم حضوي بين يديه. بحار الأنوار، ج 107، ص 42.

فسُئلوا فأفتوا بغير علمٍ فضّلوا وأضلّوا»(1).

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «من أُفتي بفُتياً من غير تثبّتٍ - وفي لفظ: بغير علمٍ - فإنّما إثمه على من أفتاه»(2).

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم: «أجرؤكم على الفتوى أجرؤكم على النار»(3).

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم: «أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة رجل قتل نبيّاً أو قتله نبيّ، أو رجل يضلّ الناس بغير علمٍ، أو مصوّر يصوّر التماثيل»(4).

ومن كلام أمير المؤمنين علیه السلام: «إنّ من أبغض الخلق إلى الله عزّ وجلّ لرجلين: رجل وكله الله تعالى إلى نفسه فهو حائر عن قصد السبيل مشغوف بكلام بدعة قد لهج بالصوم و والصلاة، فهو فتنة لمن افتتن به ضالّ عن هدي من كان قبله، مضلّ لمن اقتدى به في حياته وبعد موته، حمّال خطايا غيره [رهن بخطيئته ](5)؛ ورجل قمش جهلاً، في جهّال الناس، عانٍ بأغباش الفتنة، قد سمّاه أشباه الناس عالماً ولم يَغن فيه يوماً سالماً، بكّر فاستكثر، ما قلّ منه خير ممّا كثر، حتّى إذا ارتوى من آجنٍ واكتنز من غير طائلٍ، جلس بين الناس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره، [وإن خالف قاضياً سبقه لم يأمن أن ينقض حكمه من يأتي ، بعده كفعله بمن بمن كان قبله](6) و إن نزلت به إحدى

ص: 189


1- أمالي المفيد، ص 20 - 21، المجلس 3، ح 1؛ بحار الأنوار، ج 2، ص 121، ح 37، نقلاً عنه؛ وج 2، ص 110 ح 19، نقلاً عن كنز الفوائد، وفيهما: «لم يبق عالم» بدل «لم يُبقِ عالماً»؛ سنن الدارمي ، ج 1، ص 77 : صحيح البخاري ، ج 2، ص 97 - 98، ح 99؛ سنن ابن ماجة ، ج 1، ص 20 : المقدمة، ح 52 : صحيح مسلم، ج 4، ص 2058 0 ح 2673/13؛ صفة الفتوى، ص 7.
2- سنن ابن ماجة، ج 1، ص 20، ح :53: صفة الفتوى، ص 6؛ سنن الدارمي ، ج 1، ص 57: المستدرك على الصحيحين، ج 1، ص 103؛ کنز العمال، ج 10، ص 193، ح 29019، وفي هذه المصادر الخمسة: «ثبت» بدل «تثبت»: الجامع الصغير، ج 2، ص 166 ، حرف الميم ؛ وشرحه فيض القدير، ج 6، ص 77 ، ح 8490؛ المستدرك على الصحيحين، ج 1، ص 103، أيضاً وفيها: «بغير علمٍ»
3- سنن الدارمي ، ج 1، ص 57: الجامع الصغير، ج 1، ص 10، حرف الهمزة، وشرحه فيض القدير، ج 1، ص 158 ح 183.
4- مسند أحمد، ج 1، ص 407.
5- مابين المعقوفين في هذه المواضع الخمسة زيادات من المصدر أعني الكافي، وليس في النسخ المخطوطة.
6- مابين المعقوفين في هذه المواضع الخمسة زيادات من المصدر أعني الكافي، وليس في النسخ المخطوطة.

المبهمات المعضلات هيّأ لها حشواً من رأيه ثمّ قطع [به](1)، فهو من لَبس الشبهات في مثل غزل العنكبوت: لا يدري أصاب أم أخطأ، لا يحسب العلم في شيء ممّا أنكر، ولا يرى أنّ وراء ما بلغ فيه مذهباً، [إن قاس شيئاً بشيء لم يكذّب نظره، وإن أظلم عليه أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه لكيلا يقال له: لا يعلم، ثمّ جسر فقضى](2) فهو مفتاح عشوات ركّاب شبهات خبّاط جهالات لا يعتذر ممّا لا يعلم فيسلم ولا يعضّ في العلم بضرس قاطع فيغنم يذرو الروايات ذرو [الريح](3) الهشيم، تبكي منه المواريث، وتصرخ منه الدماء، يستحلّ بقضائه الفرج الحرام، ويحرّم بقضائه الفرج ،الحلال، لا مليء بإصدار ما عليه ورد ولا هو أهل لما منه فرط من ادّعائه علم الحقّ»(4).

وروى زرارة بن أعين عن الباقر علیه السلام قال: سألته ما حقّ الله تعالى على العباد؟ قال: «أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند ما لا يعلمون»(5).

وعن أبي عبيدة الحذاء قال: سمعت أبا جعفر الباقر علیه السلام يقول: «من أفتى الناس بغير علم ولا هدى لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه»(6).

وعن المفضّل قال: قال أبو عبد الله علیه السلام : «أنهاك عن خصلتين فيهما هلك الرجال: أن تدین الله بالباطل، وتفتي الناس بما لا تعلم»(7).

ص: 190


1- مابين المعقوفين في هذه المواضع الخمسة زيادات من المصدر أعني الكافي، وليس فيالمخطوطة.
2- مابين المعقوفين في هذه المواضع الخمسة زيادات من المصدر أعني الكافي، وليس فيالمخطوطة.
3- مابين المعقوفين في هذه المواضع الخمسة زيادات من المصدر أعني الكافي، وليس فيالمخطوطة.
4- الكافي، ج 1، ص 55 - 56 ، باب البدع والرأي والمقاييس، ح.6. اعلم أنّ المؤلّف (رحمه الله) نقل هذا الحديث من الكافي و نحن قد قابلناه به أيضاً - مضافاً إلى النسخ المخطوطة - كما في سائر المواضع، وجاء مضمونه أيضاً مع اختلاف كثير في الألفاظ في نهج البلاغة، ص 59 - 60 ، الخطبة 17؛ الأمالي، الشيخ الطوسي، ج 1، ص 240: الاحتجاج، ج 1، ص 390 دستور معالم الحكم، ص 122 - 123، 141 - 144.
5- الكافي، ج 1، ص 43، باب النهي عن القول بغير علم، ح 7؛ ومثله عن أبي عبد الله في الكافي، ج 1، ص 50، باب النوادر ، ح 12
6- الكافي، ج 1، ص 42، باب النهي عن القول بغير علم، ح 3؛ وج 7، ص 409، باب أنّ المفتي ضامن، ح 2
7- الكافي، ج 1، ص 42 ، باب النهي عن القول بغير علم، ح 1

وعن ابن شبرمة(1) الفقيه العامّي، قال: ما ذكرت حديثاً سمعته من جعفر بن محمّد علیهما السلام إلّا كاد أن يتصدّع قلبي، قال: «حدّثني أبي عن جدّي عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم - قال ابن شبرمة: وأقسم بالله ما كذب أبوه على جدّه، ولا جدّه على رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم - قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم: من عمل بالمقاييس فقد هلك وأهلك، ومن أفتى الناس، وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ، والمحكم من المتشابه فقد هلك وأهلك»(2).

وعن بعض التابعين(3) قال: أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم يُسأل أحدهم عن مسألة فيردّها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتّى ترجع إلى الأوّل(4).

وعنه قال: لقد أدركت في هذا المسجد عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم، ما أحد منهم يحدّث حديثاً إلّا ودّ أنّ أخاه كفاه الحديث، ولا يسأل عن فتياً إلّا ودّ أنّ أخاه كفاه الفتيا(5).

وقال البراء: لقد رأيت ثلاثمائة من أهل بدر ما فيهم من أحد إلّا وهو يحبّ أن يكفيه صاحبه الفتيا(6).

ص: 191


1- قال العلّامة المجلسي (قدّس الله نفسه الزكيّة) في مرآة العقول، ج 1، ص 140: ابن شيرمة هو عبدالله بن شبرمة الكوفي - بضمّ المعجمة وسكون الموحدة وضمّ الراء كان قاضياً لأبي جعفر المنصور على سواد الكوفة. أقول: توفّي في سنة 144ه_. انظر ترجمته في معجم رجال الحديث، ج 10، ص 214 - 216.
2- الكافي، ج 1، ص 43، باب النهي عن القول بغير علم، ح 9
3- هو عبد الرحمن بن أبي ليلى كما في الفقيه والمتفقّه، ج 2، ص 12؛ وقوت القلوب، ج 1، ص 131؛ وتلبيس ايليس، ص 120؛ وإحياء علوم الدين، ج 1، ص 62؛ وسنن الدارمي، ج 1، ص 53: وشرح المهذّب، ج 1، ص 68؛ وأدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 9.
4- الفقيه والمتفقّه، ج 2، ص 12؛ تلبيس إبليس، ص 121؛ أعلام الموقعين، ج 1، ص 34؛ قوت القلوب، ج 1، ص 131؛ شرح المهذّب، ج 1، ص 68: صفة الفتوى، ص 7؛ أدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 9.
5- الفقيه والمتفقّه، ج 2، ص 12 - 13؛ جامع بيان العلم وفضله، ج 2، ص 200؛ إحياء علوم الدين، ج 1، ص 62: قوت القلوب، ج 1، ص 131 - 132؛ سنن الدارمي، ج 1، ص 53؛ تلبيس إبليس، ص 121؛ أعلام الموقعين ج 1، ص 34: شرح المهذّب، ج 1، ص 68: صفة الفتوى، ص 7: أدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 9.
6- الفقيه والمتفقه، ج 2، ص 165: صفة الفتوى، ص 7.

وعن ابن عباس (رضي الله عنهما): من أفتى الناس في كل ما يسألونه فهو مجنون(1).

وعن بعض السلف(2) : إنّ العالم بين الله وبين خلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم(3).

وقال بعض الأكابر لبعض المفتين: أراك تفتي الناس! فإذا جاءك الرجل يسألك، فلا يكن همّك أن تخرجه ممّا وقع فيه، ولتكن همّتك أن تتخلّص ممّا يسألك عنه(4).

وعن عطاء بن بن السائب التابعي: أدركت أقواماً يسأل أحدهم عن الشيء وإنّه لير عده(5).

وعن ثوبان مرفوعاً: سيكون أقوام من أُُمّتي يتعاطى فقهاؤهم عضل المسائل أُولئك شرار أُمّني(6).

ص: 192


1- الفقيه والمتفقّه، ج 2، ص 197 198؛ جامع بيان العلم وفضله ، ج 2، ص 201، 202؛ وفي جامع بيان العلم وفضله، ج 2، ص 68، 203؛ وإحياء علوم الدين، ج 1، ص 61 وقوت القلوب، ج 1، ص 131؛ ومجمع الزوائد ج 1، ص 183؛ وسنن الدارمي ، ج 1، ص 61: وأعلام الموقعين، ج 4، ص 263، نُسِبَ هذا الكلام إلى ابن مسعود ؛ وفي شرح المهذب، ج 1، ص 68؛ وأدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 9؛ وصفة الفتوى، ص 7، نسب إلى ابن مسعود وابن عبّاس
2- هو محمّد بن المنكدر ، كما في سنن الدارمي، ج 1، ص 53: وحلية الأولياء، ج 3، ص 153؛ وشرح المهذّب ج 1، ص 67: وجامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 153؛ وأدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 7.
3- شرح المهذّب، ج 1، ص 67؛ أدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 8: الكفاية في علم الرواي--ة، ص 201؛ الف-ق-ي-ه والمتفقه، ج 2، ص 168؛ إحياء علوم الدين، ج 1، ص 11؛ سنن الدارمي، ج 1، ص 53، وفيه: ... فليطلب لنفسه المخرج.
4- الفقيه والمتفقّه، ج 2، ص 169
5- الفقيه والمتفقّه، ج 2، ص 167؛ أعلام الموقّعين، ج 4، ص 278؛ صفة الفتوى، ص 9؛ شرح المهذّب، ج 1، ص 68 ؛ وانظر ترجمة عطاء بن السائب في معجم رجال الحديث، ج 11، ص 144 - 145.
6- مجمع الزوائد، ج 1، ص 155؛ أخلاق العلماء، ص 116، مطابقاً لما في المتن حرفاً بحرف كنز العمال، ج 10، 211، ح 29115، وفيه: «يغلطون فقهاؤهم بعض المسائل بدل يتعاطى فقهاؤهم عضل المسائل والظاهر أن ما في مجمع الزوائد وأخلاق العلماء أصح وأولى. وللاطلاع على معنى الحديث المرفوع راجع شرح البداية، ص 30 - 31. وثوبان يكنّى أبا عبدالله وكان من أصحاب النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم . ورد اسمه في معجم رجال الحديث، ج 3. . ص 413 : وترجمته ومصادر ترجمته وردت في الأعلام، ج 2، ص 102.

وعن ابن مسعود : عسى رجل أن يقول : إنّ الله أمر بكذا فيقول الله له : كذبت(1).

وعن يحيى بن سعيد قال : كان ابن المسيّب لا يفتي فتياً إلّا قال : اللهمّ سلّمني وسلّم منّي(2).

وعن مالك بن أنس أنّه سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين [منها] لا أدري(3). وفي رواية أُخرى: أنّه سئل عن خمسين مسألة، فلم يجب في واحدة منها(4)؛ وكان يقول: من أجاب في مسألة، فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه علی الجنّة والنار، وكيف خلاصه ثمّ يجيب(5).

وسئل يوماً عن مسألة فقال: لا أدري فقيل : هي مسألة خفيفة سهلة، فغضب وقال: ليس من العلم شيء خفيف، أما سمعت قول الله تعالى: «إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً»(6). فالعلم كلّه ثقيل(7).

ص: 193


1- مجمع الزوائد، ج 1، ص 177؛ وراجع أعلام الموقعين، ج 4، ص 226.
2- أدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 15: صفة الفتوى، ص 10: أعلام الموقّعين، ج 4، ص 278. ويحيى بن سعيد هو أبو سعيد يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري من أهل المدينة المتوفّى سنة 143ه-. انظر ترجمته ومصادر ترجمته في الأعلام، ج 8، ص 147. وابن المسيب هو أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب المخزومي القرشي (13) - 94ه) انظر ترجمته ومصادر ترجمته في وفيات الأعيان، ج 2، ص 375 - 378؛ والأعلام، ج 3، ص 102
3- شرح المهذّب، ج 1، ص 68؛ أدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 13 صفة الفتوى، ص 8؛ إحياء علوم الدين، ج 1، ص 24: تفسير القرطبي، ج 1، ص 286، ذيل الآية 32 من البقرة (2). ومالك بن أنس هو أبو عبدالله مالك بن أنس بن مالك، إمام المالكية المتوفّى سنة 179ه- . وردت ترجمته ومصادر ترجمته في وفيات الأعيان، ج 5. ص 135 - 139؛ ومعجم المؤلفين، ج 8، ص 168 - 169.
4- شرح المهذّب، ج 1، ص 68: صفة الفتوى، ص 8: أدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 13.
5- أعلام الموقّعين، ج 4، ص 277؛ شرح المهذّب، ج 1، ص 68: صفة الفتوى، ص 8؛ أدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 13.
6- المزّمل (73): 5
7- أعلام الموقعين، ج 4، ص 277؛ شرح المهذب، ج 1، ص 68: صفة الفتوى، ص 8؛ أدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 13 - 14.

وعن القاسم بن محمد بن أبي بكر(1) أحد فقهاء المدينة - المتّفق على علمه وفقهه بين المسلمين - أنّه سئل عن شيء فقال: لا أحسنه، فقال السائل: إنّي جئت إليك لا أعرف غيرك فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي، والله ما أحسنه. فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا ابن أخي ألزمها فو الله ما رأيتك في مجلس أنبل منك مثل اليوم. فقال القاسم: والله لأن يقطع لساني أحبّ إليّ أن أتكلّم بما لا علم لى به(2).

وعن الحسن بن محمّد بن شرفشاه الأسترآبادي(3) أنّه دخلت عليه يوماً امرأة فسألته عن أشياء مشكلة في الحيض، فعجز عن الجواب، فقالت له المرأة: أنت عذبتك واصلة إلى وسطك وتعجز عن جواب امرأة. فقال: يا خالة! لو علمت كلّ مسألةٍ يسأل عنها لوصلت عذبتي إلى قرن الثور(4).

وأقوالهم في هذا كثيرة فلنقتصر على هذا القدر ولنشرع في الأنواع التي ينقسم إليها الباب.

ص: 194


1- هو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، توفّي سنة ،107، أو 101، أو 102، أو 108، أو 112 ه_ وردت ترجمته ومصادر ترجمته في وفيات الأعيان، ج 4، ص 59 - 60 .
2- جامع بيان العلم وفضله، ج 2، ص 66: أعلام الموقعين، ج 4، ص 278 - 279؛ صفة الفتوى، ص 7 - 8؛ أدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 11.
3- توفّي في سنة 715 ه- وردت ترجمته ومصادر ترجمته في روضات الجنات، ج 3، ص 16 - 97؛ ومعجم المؤلفين، ج 3، ص 283؛ وطبقات الشافعية، ج 9، ص 407 - 408: والأعلام، ج 2، ص 215.
4- طبقات الشافعية، ج 9، ص 408، الرقم 1347 ، وفي أوّلها زيادة حكي أنه كان مدرّساً بماردين بمدرسة هناك تسمّى مدرسة الشهيد، فدخلت عليه يوماً امرأة... إلى آخره.
النوع الأوّل: الأمور المعتبرة في كلّ مفتٍ

اعلم أنّ شرط المفتي كونه مسلماً مكلّفاً عدلاً فقيهاً وإنّما يحصل له الفقه إذا كان قيما بمعرفة الأحكام الشرعيّة، مستنبطاً لها من أدلّتها التفصيلية أدلّتها التفصيلية من الكتاب والسنّة والإجماع وأدلّة العقل؛ وغيرها مما هو محقّق في محلّه. ولا تتمّ معرفة ذلك إلّا بمعرفة ما يتوقّف عليه إثبات الصانع وصفاته التي يتمّ بها الإيمان والنبوّة والإمامة والمعاد؛ من علم الكلام. ومعرفة ما يكتسب به الأدلّة من النحو والتصريف واللغة؛ من العربيّة. وشرائط الحدّ والبرهان من علم المنطق. ومعرفة أُصول الفقه. وما يتعلّق بالأحكام الشرعيّة من آيات القرآن ومعرفة الحديث المتعلّق بها، وعلومه متناً وإسناداً، ولو بوجود أصل د أصل صحيح يرجع إليه عند الحاجة إلى شيء منه. ومعرفة مواضع الخلاف والوفاق بمعنى أن يعرف في المسألة التي يفتي بها أنّ قوله فيها لا يخالف الإجماع، بل يعلم أنّه وافق بعض المتقدّمين أو يغلب على ظنّه أنّ المسألة لم يتكلّم فيها الأوّلون، بل تولّدت في عصره أو ما قاربه وأن يكون له ملكة نفسانيّة وقوّة قدسيّة يقتدر بها على اقتناص الفروع من أُصولها، وردّ كلّ قضية إلى ما يناسبها من الأدلّة.

وهذه شرائط المفتي المطلق المستقل، أوردناها على طريق الإجمال، وتفصيلها موكول إلى أُصول الفقه.

ص: 195

فإذا اجتمعت هذه الأوصاف في شخص، وجب عليه في كلّ مسألة فقهيّة فرعيّة يحتاج إليها، أو يسأل عنها استفراغ الوسع في تحصيل حكمها بالدليل التفصيلي، ولا يجوز له تقليد غيره في إفتاء غيره ولا لنفسه مع سعة وقت الفعل الذي تدخل فيه المسألة، بحيث يمكنه فيه استنباطها بحيث لا ينافي الفعل، ومع ضيقه يجوز له تقليد مجتهد حيّ. وفي الميّت وجهان ومنهم من منع مطلقاً.

ص: 196

النوع الثاني: في أحكام المفتي وأدابه

و فیه مسائل:

الأُولى(1) : الإفتاء فرض كفايةً، وكذا تحصيل مرتبته؛ فإذا سئل وليس هناك غيره تعيّن عليه الجواب؛ وإن كان ثمّ غيره وحضر فالجواب في حقّهما فرض كفاية؛ وإن لم يحضر إلّا واحد مع عدم المشقّة في السعي إلى الآخر، ففي تعيين الجواب على الحاضر وجهان. وإذا لم يكن في الناحية مفتٍ وجب السعي على كلّ مكلّف بها يمكنه تحصيل شرائطها، كفايةً، فإن أخلّوا جميعاً بالسعي اشتركوا جميعاً في الإثم والفسق. ولا يسقط هذا الوجوب عن البعض باشتغال البعض، بل بوصوله إلى المرتبة؛ لجواز أن لا يصل المشتغل إليها لموت وغيره. ولا يكفي في سقوط الوجوب ظنّ الوصول وإن قلنا بالاكتفاء به في القيام بفرض الكفاية، مع احتماله. الثانية: ينبغي ألّا يفتي في حال تغيّر خلقه وشغل قلبه، وحصول ما يمعنه من كمال التأمّل كغضبٍ وجوعٍ وعطشٍ وحزنٍ وفرحٍ غالب ونعاس وملالةٍ ومرضٍ مقلقٍ وحرٍّ مزعج، وبرد مؤلمٍ ومدافعة الأخبثين، ونحو ذلك؛ ما لم يتضيّق وجوبه، فإن أفتى في بعض هذه الأحوال معتقداً أنّه لم يمنعه ذلك من إدراك الصواب، صحّت فتواه على

ص: 197


1- لاحظ شرح المهذب، ج 1، ص 75 - 79

كراهة، لما فيه من المخاطرة.

الثالثة: إذا أفتى في واقعة، ثمّ تغيّر اجتهاده، وعلم المقلّد برجوعه من مستفت أو غيره عمل بقوله الثاني، فإن لم يكن عمل بالقول الأوّل لم يجز العمل به، وإن كان قد عمل به قبل علمه بالرجوع لم ينقض ولو لم يعلم المستفتي برجوع المفتي، فكأنّه لم يرجع في حقّه، ويلزم المفتي إعلامه برجوعه قبل العمل وبعده، ليرجع عنه في عمل آخر.

الرابعة: إذا أفتى في حادثة ثمّ حدث مثلها، فإن ذكر الفتوى الأُولى ودليلها أفتى بذلك ثانياً بلا نظر. وإن ذكرها ولم يذكر دليلها، ولا طرأ ما يوجب رجوعه، ففي جواز إفتائه بالأُولى، أو وجوب إعادة الاجتهاد قولان(1).

ومثله تجديد الطلب في التيمّم، والاجتهاد في القبلة والقاضي إذا حكم بالاجتهاد ثم وقعت المسألة.

الخامسة: لا يجوز أن يفتى بما يتعلّق بألفاظ الأيمان والأقارير والوصايا، ونحوها إلّا من كان من أهل بلد اللافظ، أو خبيراً بمرادهم في العادة. فتنبّه له فإنّه مهمّ(2).

ص: 198


1- شرح المهذّب، ج 1، ص 78
2- راجع أعلام الموقّعين، ج 4، ص 289 - 291؛ صفة الفتوى، ص 36.
النوع الثالث: في آداب الفتوى

وفیه مسائل(1):

الأُولى: يلزم المفتي أن يبيّن الجواب بياناً يزيل الإشكال، ثمّ له الاقتصار على الجواب شفاهاً، فإن لم يعرف لسان المستفتي (2) كفاه ترجمة عدلين وقيل يكفي الواحد لأنّه خبر(3).

وله الجواب كتابةً، وإن كانت على خطر. وكان بعض السلف(4) كثير الهرب من الفتوى في الرقاع لما يتطرّق إليها من الاحتمالات فإنّ لكلّ حرف من لفظ السائل مزيّة في الجواب، وكثيراً ما شاهدنا سائلاً برقعة يكون لفظه مخالفاً لما في رقعته، فنرجع إلى لفظه بعد أن نكون كتبنا له الجواب ونخرق الرقعة.

الثانية: أن تكون عبارته واضحةً صحيحةً، يفهمها العامّة، ولا يزدريها الخاصّة

ص: 199


1- لاحظ شرح المهذّب، ج 1، ص 79 - 87
2- يعني لم يعرف المفتي لسان المستفتي ويأتي أيضاً في أحكام المستفتي وآدابه، المسألة السابعة، قول المؤلف: ولو لم يعرف لغة المفتي افتقر إلى المترجم العدل، وهل يكفي الواحد أم يشترط عدلان؟ وجهان؛ أجودهما الثاني وعلى هذا فالصحيح هنا: «لسان المستفتي» كما في المخطوطات وشرح المهذّب، ج 1، ص 79؛ وأدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 72 ولكن في المطبوعات إلا «ع»: «لسان «المفتي» بدل «لسان المستفتي» وهو غلط قطعاً.
3- قاله النووي في شرح المهذّب، ج 1، ص 79؛ وابن الصلاح في أدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 72
4- هو القاضي أبو حامد المَرْوَرودي، كما في شرح المهذب، ج 1، ص 79؛ وأدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 72.

وليحترز من القلاقة والاستهجان فيها، وإعراب غريب أو ضعيف، وذكر غريب لغة ونحو ذلك.

الثالثة: إذا كان في المسألة تفصيل، لا يطلق الجواب، فإنّه خطأ، ثمّ له أن يستفصل السائل إن حضر، ويعيد السؤال في رقعة أُخرى إن كان السؤال في رقعة ثمّ يجيب .وهذا أولى وأسلم. وله أن يقتصر على جواب أحد الأقسام إذا علم أنّه الواقع للسائل، ثمّ يقول : «هذا إن كان الأمر كذا، أو والحال ما ذكر»، ونحو ذلك . وله أن يفصّل الأقسام في جوابه، ويذكر حكم كلّ قسم لكن هذا كرهه بعضهم(1)، وقال : هذا يعلّم الناس الفجور بسبب اطّلاعهم على حكم ما يضرّ من الأقسام وينفع.

الرابعة: إذا كان في الرقعة مسائل، فالأحسن ترتيب الجواب على ترتيب السؤال، ولو ترك الترتيب مع التنبيه على متعلّق الجواب فلا بأس، ويكون من قبيل قوله تعالى : «يَوْمَ تَبْيَضُ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ...»(2) الآيتين. الخامسة: قال بعضهم: ليس من الأدب كون السؤال بخطّ المفتي، فأمّا بإملائه وتهذيبه فواسع(3).

السادسة : ليس له أن يكتب السؤال على ما علمه من صورة الواقعة إذا لم يكن في الرقعة تعرّض له، بل على ما في الرقعة؛ فإن أراد خلافه، قال: إن كان الأمر كذا فجوابه كذا.

واستحبّوا(4) أن يزيد على ما في الرقعة ما له تعلّق بها ممّا يحتاج إليه السائل؛

ص: 200


1- هو أبو الحسن القابسي من أئمّة المالكية، كما في شرح المهذّب، ج 1، ص 79؛ وأدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 72؛ وانظر أعلام الموقّعين، ج 4، ص 322
2- آل عمران (3): 106 - 107.
3- قاله أبو القاسم الصيمري كما في شرح المهذّب، ج 1، ص 79؛ وأدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 72؛ وانظر صفة الفتوى، ص 63 ؛ ولتوضيح المقام انظر أدب المفتي والمستفتي ، ج 1، ص 78 - 79
4- شرح المهذّب، ج 1، ص 80؛ أعلام الموقّعين، ج 4، ص 205.

لحديث: «هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته»(1).

السابعة : إذا كان المستفتي بعيد الفهم فليرفق به ويصبر على تفهّم سؤاله وتفهيم جوابه؛ فإنّ ثوابه جزيل.

الثامنة: ليتأمّل الرقعة كلمةً كلمةً تأمّلاً شافياً، وليكن اعتناؤه بآخر الكلام أشدّ، فإنّ السؤال في آخرها، وقد يتقيّد الجميع به ويغفل عنه(2). قال بعض العلماء(3): وينبغي أن يكون توقّفه في المسألة السهلة كالصعبة ليعتاده.

التاسعة: إذا وجد فيها كلمةً مشتبهةً سأل المستفتي عنها ونقطها وشكلها. وكذا إن وجد لحناً أو خطأ يحيل(4) المعنى، أصلحه. وإن رأى بياضاً في أثناء سطر أو آخره خطّ

ص: 201


1- سنن الدارمي، ج 1، ص 186؛ سنن ابن ماجة، ج 1، ص 136 - 137؛ ح 386 - 388: المستدرك على 1. الصحيحين، ج 1 ص 141 - 143؛ تفسير كشف الأسرار، ج 3، ص 231؛ ج 7، ص 46؛ مسند أحمد، ج 2، ص 361 : ج 3، ص 373؛ ج 5 ، ص 365؛ سنن أبي داود، ج 1، ص 21، ح 83؛ سنن الدارقطني ، ج 1، ص 96 - 100. ح 1/64-6/69.واعلم أنّ وجه الاستدلال بهذا الحديث على استحباب زيادة المفتي على ما في الرقعة مما يحتاج إليه السائل هو أن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم سُئلَ عن التوضّؤ بماء البحر، فأجاب صلی الله علیه و آله و سلّم «هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته» فزاد في جواب السائل جملة «الحلّ ميتته» لعلمه بأنّه محتاج إليه، فاستنبط الفقهاء من هذا الأمر أنّه يستحبّ في الجواب أن يزيد على سؤال السائل ماله تعلّق بها ممّا يحتاج إليه. و «ميتة البحر» أي سمكه؛ قال صاحب الجواهر (قدّس سرّه) في بيان وجه إطلاق الميتة على السمك ... إنّ تذكية السمك إثبات اليد عليه على أن لا يموت في الماء... لا المعنى الذي هو التذكية المخصوصة، ولعله لهذا المعنى أُطلق عليه أنّه ذكيّ، بل أُطلق عليه في بعض النصوص اسم الميتة. كقوله علیه السلام في البحر: «الطهور ماؤه الحلّ ميتته». إذ ليست تذكيته كتذكية الحيوان المشتملة على فري الأوداج ونحوها. جواهر الکلام، ج 36 ، ص 165 .
2- قال الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه، ج 2، ص 183: فأوّل ما يجب على المفتي أن يتأمّلَ رقعة الاستفتاء تأمّلاً شافياً... وتكون عنايته باستقصاء آخر الكلام أتمّ منها في أوله، فإنّ السؤال يكون بيانه عند آخر الكلام وقد يتقيّد جميع السؤال ويترتّب كلّ الاستفتاء بكلمةٍ في آخر الرقعة : وانظر أدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 73.
3- هو الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقّه، ج 2، ص 186؛ وفي شرح المهذّب، ج 1، ص 80، نقله عن أبي القاسم الصيمري عن بعض العلماء.
4- يُحيل المعنى، أي يُفسده لسان العرب، ج 11، ص 186، «حول».

عليه أو شغله، لأنّه ربما قصد المفتي بالإيذاء، فكتب في البياض بعد فتواه ما يفسدها، كما نقل أنّ ذلك وقع لبعض الأعيان(1).

العاشرة : يستحبّ أن يقرأها على حاضريه ممّن هو أهل لذلك ويستشيرهم ويباحثهم برفق وإنصاف وإن كانوا دونه وتلامذته للاقتداء بالسلف(2)، ورجاء ظهور ما قد يخفى عليه؛ فإنّ لكلّ خاطر نصيباً من فيض الله تعالى، إلّا أن يكون فيها ما يقبح إبداؤه، أو يؤثر السائل كتمانه، أو في إشاعته مفسدة.

الحادية عشرة: ليكتب الجواب بخطّ واضح وسطٍ، لا دقيقٍ خافٍ، ولا غليظ جافٍ(3)، ويتوسّط في سطوره بين توسعتها وتضييقها. واستحبّ بعضهم أن لا تختلف أقلامه وخطّه؛ خوفاً من التزوير ولئلّا يشتبه خطّه(4).

الثانية عشرة: إذا كتب الجواب أعاد نظره فيه وتأمّله، خوفاً من اختلال وقع فيه أو إخلال ببعض المسئول عنه، ويختار أن يكون ذلك قبل كتابة اسمه وختم الجواب. الثالثة عشرة: إذا كان هو المبتدئ(5)، فالعادة قديماً وحديثاً أن يكتب في الناحية اليسرى من الرقعة، ولا يكتب فوق البسملة أو نحوه بحال.

الرابعة عشرة : يستحبّ عند إرادة الإفتاء أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ويسمّي الله تعالى ويحمده، ويصلّي على النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم وآله، ويدعو ويقول: «رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِى ...» الآية(6). [كذا ظ: الآيات].

ص: 202


1- قال الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقّه، ج 2، ص 183 بهذا الصدد: وبلغني أنّ القاضي أبا حامد المرورّوذي بُلِيَ بمثل ذلك عن قصد بعض الناس، فإنّه كتب... إلخ ؛ وقال النووي في شرح المهذّب، ج 1، ص 80؛ وابن الصلاح في أدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 74، بلي به القاضي أبو حامد المَرْوروذِي.
2- راجع الفقيه والمتفقّه، ج 2، ص 184 - 186؛ صفة الفتوى، ص 58 - 59.
3- جاف كقاض أي غليظ، من «جفا» أي غلُظَ لسان العرب، ج 14، ص 148 - 149، «جفا».
4- شرح المهذّب، ج 1، ص 80: أدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 74.
5- يعني المبتدئ في الجواب بأن لا يكون في الرقعة فتوى مفت آخر غيره، كما يظهر من أدب المفتي والمستفتي، ج 1 ، ص 74 .
6- طه (20) : 25 - 28

وكان بعضهم(1) يقول: لا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم، «سُبْحَنَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا»(2) «فَفَهَّمْنَهَا سُلَيْمَنَ ....» الآية(3) اللهمّ صلّ على محمّد وآله وصحبه وسائر النبيّين والصالحين، اللهمّ وفّقني واهدني وسدّدني واجمع لي بين الصواب والثواب، وأعذني من الخطأ والحرمان(4).

الخامسة عشرة : أن يكتب في أوّل فتواه: «الحمد لله» أو «الله الموفّق» أو «حسبنا الله» أو «حسبی الله» او «الجواب وبالله التوفيق» أو نحو ذلك. وأحسنه الابتداء بالتحميد؛ للحديث پ(5). وينبغي أن يقوله بلسانه ويكتبه، ثمّ يختمه بقوله: «والله أعلم» أو «وبالله التوفيق»، ويكتب بعده: «قاله أو كتبه فلان بن فلان الفلاني» فينتسب إلى ما يعرف به من قبيلة أو بلد أو صفة، ونحوها.

السادسة عشرة : قال بعضهم : وينبغي أن يكتب المفتي بالمداد دون الحبر؛ خوفاً من الحكّ، بخلاف كتب العلم فالأولى فيها الحبر ؛ لأنّها تراد للبقاء والحبر أبقى(6).

السابعة عشرة : ينبغي أن يختصر جوابه غالباً، ويكون بحيث يفهمه العامّة فهماً جليّاً، حتّى كان بعضهم(7) يكتب [تحت(8) أيجوز]: «يجوز» و «لايجوز»، وتحت أم لا؟: «لا»، أو: «نعم» ونحوها.

ص: 203


1- هو ابن الصلاح كما في أدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 76.
2- البقرة (2) 32
3- الأنبياء (21): 79
4- أدب المفتي والمستفتي ، ج 1، ص 76؛ وراجع أعلام الموقّعين، ج 4، ص 326؛ صفة الفتوى، ص 59 - 60.
5- تقدّم آنفاً الحديث ومصادره.
6- شرح المهذّب، ج 1، ص 81؛ وانظر أدب الإملاء والاستملاء، ص 147 - 149؛ وللاطلاع على كيفيّة صنعة المداد والحبر وأنواعهما راجع صبح الأعشى، ج 2، ص 475 - 477.
7- هو القاضي أبو حامد كما في شرح المهذّب، ج 1، ص 82؛ وأدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 77. .
8- زيادة يقتضيها المعنى وليست في المخطوطات والمطبوعات، بل هي في الأنوار النعمانية، ج 3، ص 367 ، نقلاً عن منية المريد ؛ وانظر أدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 76 - 77.

الثامنة عشرة : قال بعضهم(1) : إذا سئل عمّن قال: أنا أصدق من محمّد بن عبدالله صلی الله علیه و آله و سلّم أو: الصلاة لعب، ونحوهما ممّا ينبغي إراقة دمه، فلا يبادر بقوله: هذا حلال الدم أو عليه القتل، بل يقول : إن ثبت ذا بإقراره أو ببيّنة كان الحكم كذا. وإذا سئل عمّن تكلّم بشيء يحتمل الكفر وعدمه، قال: يسأل هذا القائل، فإن قال: أردت كذا فالجواب كذا وكذا.

وإن سئل عمّن قتل أو قلع عيناً أو غيرهما، احتاط وذكر شروط القصاص. وإن سئل عمّن فعل ما يقتضي تعزيراً ذكر ما يعزّر به، فيقول: يضرب كذا وكذا، ولا يزاد على كذا(2).

التاسعة عشرة (3): إذا سئل عن ميراث فليست العادة أن يشترط في الإرث عدم الرقّ والكفر وغيرهما من موانع الميراث، بل المطلق محمول على ذلك بخلاف ما إذا أُطلق الإخوة والأخوات والأعمام وبنيهم؛ فلا بدّ أن يقول في الجواب من أبوين، أو أب أو أمّ.

وإن كان في المذكورين في رقعة الاستفتاء من لا يرث أفصح بسقوطه، فيقول: وسقط فلان. وإن كان يسقط بحال دون حال، قال: وسقط فلان في هذه الحالة، أو نحو ذلك؛ لئلّا يتوهّم أنّه لا يرث بحال.

وإذا سئل عن إخوة وأخوات وبنين وبنات فلا ينبغي أن يقول: «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ»(4)، فإنّ ذلك قد يشكل على العاميّ، بل يقول: يقتسمون التركة على كذا وكذا سهما، لكلّ ذكرٍ سهمان ولكلّ أنثى سهم مثلاً. ولو أتى بلفظ القرآن فلا بأس أيضاً لقلّة

ص: 204


1- هو الخطيب البغدادي في الفقه والمتفقّه، ج 2، ص 190؛ وأبو القاسم الصيمري، كما في شرح المهذّب، ج 1، ص 82
2- انظر الفقيه والمتفقّه، ج 2، ص 190؛ وأدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 177
3- راجع أعلام الموقّعين، ج 4، ص 248.
4- النساء (4): 11

خفاء معناه، وإن كان الأوّل أوضح(1).

وينبغي أن يقول أوّلاً: تقسّم التركة بعد إخراج ما يجب تقديمه من وصيّةٍ أو دين إن كانا... إلى آخره.

العشرون: ينبغي أن يلصق الجواب بآخر الاستفتاء ولا يدع فرجةً، لئلّا يزيد السائل شيئاً يفسدها، وإذا كان موضع الجواب ملصقاً كتب على موضع الإلصاق.

وإذا ضاق موضع الجواب، فلا يكتبه في ورقة أُخرى، بل في ظهرها أو حاشيتها، وإذا كتبه في ظهرها كتبه في أعلاها، إلّا أن يبتدئ من أسفلها متّصلاً بالاستفتاء فيضيق الموضع فيتمّم في أسفل ظهرها ليصل جوابه.

الحادية والعشرون: إذا ظهر للمفتي أنّ الجواب خلاف غرض المستفتي، وأنّه لا يرضى بكتابته في ورقته، فليقتصر على مشافهته بالجواب، وليحذر أن يميل في فتواه أو خصمه بحيلٍ شرعيّةٍ؛ فإنّه من أقبح العيوب وأشنع الخلال. ومن وجوه الميل: أن يكتب في جوابه ما هو له ويترك ما هو عليه.

، وليس له أن يبدأ في مسائل الدعوى والبيّنات بوجوه المخالص منها، ولا أن يعلم أحدهما بما يدفع به حجّة صاحبه كيلا يتوصّل بذلك إلى إبطال حقّ.

وينبغي للمفتي إذا رأى للسائل طريقاً ينفعه، ولا يضرّ غيره ضرراً بغير حقّ، أن يرشده إليه، كمن حلف لا ينفق على زوجته شهراً حيث ينعقد اليمين، فيقول: أعطها من صداقها أو قرضاً أو بيعاً، ثمّ أبرأها منه(2). وكما حكى أنّ رجلاً قال: لبعض العلماء :

ص: 205


1- قال النووي في شرح المهذّب، ج 1، ص 84: وإذا سئل عن إخوة وأخوات أو بنين وبنات فلا ينبغي أن يقول: للذكر مثل حظّ الأنثيين؛ فإنّ ذلك قد يشكل على العامي، بل يقول: يقتسمون التركة .... قال الشيخ: ونحن نجد في تعمّد العدول عنه حزازة في النفس لكونه لفظ القرآن العزيز، وأنّه قلّما يخفى معناه على أحدٍ ؛ وانظر أدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 78
2- راجع الفقيه والمتفقه، ج 2، ص 194 - 196: شرح المهذب، ج 1، ص 83.

حلفت أن أطأ امرأتي في نهار رمضان، ولا أُكفّر ولا أعصي. فقال: سافر بها(1).

الثانية والعشرون: إذا رأى المفتي المصلحة أن يفتي العامّي بما فيه تغليظ وتشديد - وهو ممّا لا يعتقد ظاهره، وله فيه تأويل - جاز ذلك، زجراً وتهديداً في مواضع الحاجة، حيث لا يترتّب عليه مفسدة، كما روي عن ابن عباس (رضي الله عنه) أنّه سأله رجل عن توبة القاتل، فقال: لا توبة له. وسأله آخر فقال: له توبة. ثمّ قال: أمّا الأوّل فرأيت في عينه إرادة القتل فمنعته، و أمّا الثاني فجاء مسكيناً قد قتل فلم أقنّطه(2). لكن يجب عليه التورية في ذلك، فيقول: لا توبة له، أي في حالة إصراره على الذنب، أو وهو يريد القتل ونحو ذلك.

الثالثة والعشرون: يجب على المفتي عند اجتماع رقاع بحضرته أن يقدّم الأسبق فالأسبق، كما يفعله القاضي في الخصوم، وهذا فيما يجب فيه الإفتاء، فإن تساووا أو جهل السابق أقرع. قيل(3): وتقدّم امرأة ومسافر شدّ رحله، ويتضرّر بتخلّفه عن الرفقة ونحوهما، إلّا إذا كثروا بحيث يتضرّر غيرهم تضرّراً ظاهراً، فيعود إلى التقديم بالسبق أو القرعة، ثمّ لا يقدّم أحداً إلّا في فتيا واحدة.

الرابعة والعشرون(4) : إذا رأى المفتى رقعة الاستفتاء، وفيها خطّ غيره ممّن هو أهل للفتوى وإن كان دونه، ووافق ما عنده كتب تحت خطّه: الجواب صحيح؛ أو هذا جواب صحيح؛ أو جوابي كذلك، أو مثل هذا؛ أو بهذا أقول، ونحو ذلك. وله أن يذكر الحكم بعبارة أخصر وأرشق.

وأمّا إذا رأى فيها خطّ من ليس أهلاً للفتوى، فلا يفتي معه؛ لأنّ في ذلك تقريراً منه

ص: 206


1- شرح المهذّب، ج 1، ص 83؛ تفسير الرازي، ج 2، ص 196، وأراد من بعض العلماء، أبا حنيفة، كمافي تفسير الرازي؛ وشرح المهذّب ونقل الخطيب نظير هذه الحكاية في الفقيه والمتفقّه، ج 2، ص 194.
2- الفقيه والمتفقّه، ج 2، ص 192؛ شرح المهذّب، ج 1، ص 83
3- القائل ابن الصلاح في أدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 83
4- راجع الفقيه والمتفقّه، ج 2، ص 191؛ وأدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 79

لمنكر بل له أن يضرب عليه وإن لم يأذن له صاحب الرقعة، لكن لا يحبسها عنده إلّا بإذنه. وله نهي السائل وزجره وتعريفه قبح ما فعله وأنّه كان يجب عليه البحث عن أهل الفتوى.

وإن رأى فيها اسم من لا يعرفه سأل عنه، فإن لم يعرّفه فله الامتناع من الفتوى معه؛ خوفاً ممّا قلناه. والأولى في هذا الموضع أن يشار إلى صاحبها بإبدالها، فإن أبى ذلك أجابه شفاهاً.

ولو خاف فتنةً من الضرب على فتيا عادم الأهليّة، ولم يكن خطأ، عدل إلى الامتناع من الفتيا معه. وأمّا إذا كانت خطاً، وجب التنبيه عليه وحرم عليه الامتناع من الإفتاء تاركاً للتنبيه على خطئها، بل يجب عليه الضرب عليها عند تيسّره أو الإبدال، ويقطع الرقعة بإذن صاحبها. وإذا تعذّر ذلك وما يقوم مقامه، كتب صواب جوابه عند ذلك الخطأ. ويحسن أن تعاد للمفتي المذكور بإذن صاحبها.

وأمّا إذا وجد فتيا الأهل، وهي على خلاف ما يراه هو، غير أنّه لا يقطع بخطئها ، فليقتصر على كتب جواب نفسه، ولا يتعرّض لفتيا غيره بتخطئة ولا اعتراض.

الخامسة والعشرون: إذا لم يفهم المفتي السؤال أصلاً، ولم يحضر صاحب الواقعة، قيل(1): يكتب: يزاد في الشرح لنجيب عنه؛ أو: لم أفهم ما فيها. وعلى تقدير أن يكتب فلتكن الكتابة في محل لا يضرّ بحال الرقعة.

وإذا فهم من السؤال صورةً، وهو يحتمل غيرها، فلينص عليها في أوّل جوابه فيقول: إن كان قال كذا، أو: فعل كذا وما أشبه ذلك، فالأمر كذا وكذا، أو يزيد: وإلّا فكذا وكذا.

السادسة والعشرون: ليس بمنكر أن يذكر المفتي في فتواه حجّةً مختصرةً، قريبةً

ص: 207


1- القائل أبو القاسم الصيمري كما في أدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 81؛ وشرح المهذّب، ج 1، ص 87

من آية أو حديث ومنعه بعضهم(1)، ليفرق بين الفتيا والتصنيف، وفصّل بعضهم(2)، فقال: إن أفتى عاميّاً لم يذكر الحجّة، وإن أفتى فقيهاً ذكرها. وهو حسن. بل قد يحتاج المفتي في بعض الوقائع إلى أن يشدّد ويبالغ، فيقول: هذا إجماع المسلمين؛ أو: لا أعلم في هذا خلافاً؛ أو: من خالف هذا فقد خالف الواجب وعدل عن الصواب، أو الإجماع، أو فقد أثم أو فسق أو: وعلى وليّ الأمر أن يأخذ بهذا، أو لا يهمل الأمر؛ وما أشبه هذه الألفاظ، على حسب ما تقتضيه المصلحة، وتوجبه الحال

ص: 208


1- هو صاحب الحاوي، كما في شرح المهذّب، ج 1، ص 87؛ وأدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 76 - 77.
2- هو الصيمري كما في شرح المهذّب، ج 1، ص 86: وأدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 82
النوع الرابع: في أحكام المستفتي وآدابه وصفته

وفيه مسائل (1):

الأُولى: في صفته كلّ من لم يبلغ درجة المفتي الجامع للعلوم المتقدّمة، فهو فيما يسأل عنه من الأحكام مستفتٍ، ويعبّر عنه بالعامّي أيضاً وإن كان من أفاضل عصره بل ربما كان أعلم من المفتي في علوم أخر لا يتوقّف عليها الإفتاء؛ فإنّ العامّيّة الاصطلاحية تقابل الخاصية بأيّ معنى اعتبرت. فها هنا يراد بالخاص المجتهدون، وبالعام من دونهم.

ويقال له أيضاً: مقلّد والمراد بالتقليد قبول قول من يجوز عليه الخطأ، بغير حجّة على عين ما قبل قوله فيه؛ تفعيل من القلادة، كأنّه يجعل ما يعتقده من الأحكام قلادةً في عنق من قلّده.

ويجب على من ذكر الاستفتاء إذا نزلت به حادثة يجب عليه علم حكمها، فإن لم يجد ببلده من يستفتيه وجب عليه الرحيل إلى من يفتيه وإن بعدت داره. وقد رحل(2) خلائق من السلف في المسألة الواحدة الليالي والأيّام، وفي بعضها من العراق إلى

ص: 209


1- لاحظ شرح المهذّب، ج 1، ص 89 - 95؛ وأدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 85 92.
2- راجع الرحلة في طلب الحديث، ص 53 - 72؛ الفقيه والمتفقه، ج 2، ص 177؛ شرح المهذب، ج 1، ص 89

الحجاز، وقد تقدّم رحلة رجل من الحجاز إلى الشام في حديث أبي الدرداء(1).

الثانية: يلزم المقلّد أن لا يستفتي إلّا من عرف أو غلب على ظنّه علمه - بما يصير به أهلاً للإفتاء - وعدالته؛ فإن جهل علمه لزمه البحث عمّا يحصل به أحد الأمرين، إمّا بالممارسة المطلعة له على حاله، أو بشهادة عدلين به، أو بشياع حاله بكونه متّصفاً بذلك، أو بإذعان جماعةٍ من العلماء العالمين بالطريق وإن لم يكونوا عدولاً، بحيث يثمر قولهم الظنّ؛ وإن جهلت عدالته، رجع فيها إلى العشرة المفيدة لها أو الشياع أو شهادة عدلين.

الثالثة: إذا اجتمع اثنان فأكثر ممّن يجوز استفتاؤهم، فإن اتّفقوا في الفتوى أخذ بها؛ وإن اختلفوا وجب عليه الرجوع إلى الأعلم الأتقى؛ فإن اختلفوا في الوصفين رجع إلى أعلم الورعين وأورع العالمين، فإن تعارض الأعلم والأورع، قلّد الأعلم، فإن جهل الحال أو تساووا في الوصف تخيّر، وإن بعد الفرض.

وربما قيل بالتخيير مطلقاً، لاشتراك الجميع في الأهليّة، وهو قول أكثر العامّة، ولا نعلم به قائلاً منّا(2)، بل المنصوص عندنا هو الأوّل.

الرابعة: في جواز تقليد المجتهد الميّت مع وجود الحيّ أو لا معه؛ للجمهور أقوال(3): أصحّها عندهم جوازه مطلقاً؛ لأنّ المذاهب لا تموت بموت أصحابها، ولهذا يعتدّ بها

ص: 210


1- تقدّم في المقدّمة
2- إن أراد نصَّ علمائنا على ذلك - لا أنّه ورد بذلك حديث أو آية - فانظر ذلك، والبحث حول المسألة في الذريعة إلى أصول الشريعة، ج 2، ص 801؛ ومعارج الأصول، ص 201؛ وإن أراد من النص الحديث فلا محالة هو مقبولة عمر بن حنظلة - المروية في الكافي، ج 1 ، ص 67 - 68 ، باب اختلاف الحديث، ح 10 كما يستفاد من كلامه في تمهيد القواعد، ص 46، حيث قال: مسألة: قال في المحصول: اتفقوا على أن العامي لا يجوز له أن يستفتي إلا من غلب على ظنه من أهل الاجتهاد والورع، وذلك بأن يراه منتصباً للفتوى بمشهد من الخلق، ويرى إجماع المسلمين على سؤاله، فإن سأل جماعةً فاختلفت فتاواهم فقال قوم: لا يجب عليه البحث عن أورعهم وأعلمهم، وقال آخرون: يجب عليه ذلك. وهذا هو الحق عندنا وهو مروي في مقبول عمر بن حنظلة المشهور....
3- راجع صفه الفتوى، ص 70 - 71؛ وأدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 87؛ وأعلام الموقعين، ج 4، ص 274 - 275 : ج 4، ص 329 - 330؛ وشرح المهذب، ج 1، ص 90.

بعدهم في الإجماع والخلاف، ولأنّ موت الشاهد قبل الحكم لا يمنع الحكم بشهادته بخلاف فسقه.

والثاني: لا يجوز مطلقاً، لفوات أهليّته بالموت، ولهذا ينعقد الإجماع بعده ولا ينعقد في حياته - على خلافه. وهذا هو المشهور بين المشهور بين أصحابنا، خصوصاً المتأخّرين منهم، بل لا نعلم قائلاً بخلافه صريحاً ممّن يعتد بقوله. لكن هذا الدليل لا يتمّ على أُصولنا، من أنّ العبرة في الإجماع إنّما هو بدخول المعصوم، كما لا يخفى.

والثالث: المنع منه مع وجود الحيّ لا مع عدمه، وتحقيق المقام في غير هذه الرسالة(1).

الخامسة: لو تعدّد المفتي وتساووا في العلم والدين، أو قلنا بتخييره مطلقاً، قلّد من شاء فيما نزل به، ثمّ إذا حضرت واقعة أُخرى، فهل يجب عليه الرجوع فيها إلى الأوّل؟ وجهان؛ وعدمه أوجه وكذا القول في تلك الواقعة في وقت آخر.

السادسة: إذا استفتى فأُجيب، ثمّ حدثت تلك الواقعة مرّةً أُخرى، فهل يلزمه تجديد السؤال؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، لاحتمال تغيّر رأي المفتي، والثاني: لا، وهو الأقوى؛ لثبوت الحكم، والأصل استمرار المفتي عليه وهذا يأتي في تقليد الحيّ، أمّا الميّت فلا.

السابعة: له أن يستفتي بنفسه، وأن يبعث ثقةً يعتمد خبره أو رقعةً، وله الاعتماد على خطّ المفتي إذا أخبره عدل أنّه خطّه، أو كان يعرف خطّه ولم يشكّ في كون ذلك الجواب بخطّه.

ص: 211


1- ألَّفَ المصنّف (رحمه الله) رسالة خاصّةً في عدم جواز تقليد الأموات من المجتهدين، برسم الفاضل الصالح السيّد حسين بن أبي الحسن، وفي آخرها قد فرغ من تسويد هذه الرسالة... زين الدين بن عليّ العاملي الشهير بابن الحجة، وكان زمان تأليفها ورقمها من أوّلها إلى آخرها في جزء يسير من يوم قصير وهو الخامس عشر من شهر شوال من شهور سنة تسع وأربعين وتسعمائة. فهرست كتابخانة إهدائي مشکاة به کتابخانه دانشگاه تهران - فهرس مكتبة المشكاة المهداة إلى المكتبة المركزية لجامعة طهران، ج 5، ص 1956 - 1957. وهذه الرسالة مخطوطة إلى اليوم ولم تطبع بعد

ولو لم يعرف لغة المفتي افتقر إلى المترجم العدل، وهل يكفي الواحد أم يشترط عدلان وجهان: أجودهما الثاني.

الثامنة: ينبغي للمستفتي أن يتأدّب مع المفتي ويبجّله في خطابه وجوابه ونحو ذلك، ولا يومئ بيده إلى وجهه، ولا يقل له: ما تحفظه في كذا ولا إذا أجابه: هكذا فهمت، أو: وقع لي، أو نحو ذلك؛ ولا: أفتاني فلان، أو: غيرك بهذا، أو: بخلافه؛ ولا: إن كان جوابك موافقاً لما كتب فاكتب وإلّا فلا. ولا يسأله وهو قائم ولا مستوفز(1)، ولا مشغول بما يمنعه من تمام الفكر. ولا يطالبه بدليل، ولا يقل: لم قلت كذا؟ فإن أحبّ أن تسكن نفسه بسماع الحجّة. طلبها في مجلسٍ آخر، أو في ذلك المجلس بعد قبول الفتوى مجرّدةً.

التاسعة: إذا أراد جمع خطّ مفتيين في ورقة واحدة، فالأولى البدأة بالأعلم فالأعلم، ثمّ بالأورع، ثمّ بالأعدل ثمّ بالأسنّ وهكذا على ترتيب المرجّحات في الإمامة(2). ولو أراد إفراد الأجوبة في رقاع بدأ بمن شاء.

ولتكن رقعة الاستفتاء واسعةً، ليتمكّن المفتي من استيفاء الجواب واضحاً لا مختصراً مضرّاً بالمستفتي.

العاشرة(3) : ينبغي أن يكون كاتب الرقعة ممّن يحسن السؤال، ويضعه على الغرض إبانة الخطّ واللفظ ، وصيانتهما عمّا يتعرّض للتصحيف، ويبيّن مواضع السؤال وينقط مواضع الاشتباه ويضبطها، وإن كان من أهل العلم فهو أجود، وكان بعض العلماء لا يكتب فتواه إلّا في رقعة كتبها رجل من أهل العلم(4).

ص: 212


1- في لسان العرب، ج 5، ص 430، «وفز»: استوفز في قعدته؛ إذا قعد قعوداً منتصباً غير مطمئنّ... الوَفَزَة: أن ترى الإنسان مستوفزاً قد استقلّ على رجليه ولما يستو قائماً وقد تهيأ للأفز والوثوب والمضي، يقال له: اطمئنَّ فإنّى أراك مستوفزاً ؛ وانظر المعجم الوسيط، ص 1046، «وفز».
2- يريد المرجّحات في إمامة الجماعة.
3- راجع الفقيه والمتفقّه، ج 2، ص 181؛ صفة الفتوى، ص 83 - 84؛ ولاحظ شرح المهذّب، ج 1، ص 94.
4- شرح المهذب، ج 1، ص 94؛ صفة الفتوى، ص 84؛ أدب المفتي والمستفتي، ج 1، ص 92.

الحادية عشرة : لا يدع الدعاء في الرقعة للمفتي، فإن اقتصر على فتوى واحدٍ، قال: «ما تقول رحمك الله، أو رضي الله عنك، أو وفّقك الله، أو أيّدك، أو سدّدك ورضي الله عن والديك؟» ونحو ذلك، ولا يحسن أن يدخل نفسه في الدعاء.

وإن أراد جواب جماعة قال: «ما تقولون رضي الله عنكم؟ أو ما قولكم أو ما قول الفقهاء، سدّدهم الله، أو أيدهم؟»(1) ونحوه، وإن أتى بعبارة الجمع لتعظيم الواحد، فهو أولى.

ويدفع الرقعة إلى المفتي منشورةً ويأخذها منشورةً، ولا يحوجه إلى نشرها ولا إلى طيّها.

الثانية عشرة : إذا لم يجد صاحب الواقعة مفتياً في البلد، وجب عليه الرحلة إليه مع وجوب الحكم عليه كما تقدّم(2). فإن لم يجده في بلده ولا في غيرها - بناءً على أنّ الميّت لا قول له وأنّ الزمان يجوز خلوّه من المجتهد، نعوذ بالله تعالى من ذلك - وجب عليه الأخذ بالاحتياط في أمره ما أمكن، فإن لم يتّفق الاحتياط، فهل يكون مكلّفاً بشيء يصنعه في واقعته؟ فيه نظر.

ص: 213


1- الفقيه والمتفقّه، ج 2، ص 180؛ شرح المهذّب، ج 1، ص 94.
2- تقدم أنفاً في المسألة الأولى من أحكام المستفتي وآدابه وصفته، ص 209 - 210.

ص: 214

الباب الثالث في المناظرة وشروطها و آدابها و آفاتها

اشارة

وفيه فصلان

ص: 215

ص: 216

[الفصل الأوّل: في شروطها وأدابها

اعلم أنّ المناظرة في أحكام الدين من الدين ولكن لها شروط ومحلّ ووقت فمن اشتغل بها على وجهها وقام بشروطها، فقد قام بحدودها واقتدى بالسلف فيها؛ فإنّهم تناظروا في مسائل، وما تناظروا إلّا لله، ولطلب ما هو حقّ عند الله تعالى.

ولمن يناظر لله وفي الله ،علامات بها تتبيّن الشروط والآداب:

الأولى: أن يقصد بها إصابة الحقّ وطلب ظهوره كيف اتّفق، لا ظهور صوابه وغزارة

علمه وصحّة نظره؛ فإنّ ذلك مراء، قد عرفت ما فيه من القبائح والنهي الأكيد(1).

ومن آيات هذا القصد أن لا يوقعها إلّا مع رجاء التأثير، فأمّا إذا علم عدم قبول المناظر للحقّ، وأنّه لا يرجع عن رأيه وإن تبيّن له خطاؤه، فمناظرته غير جائزة، لترتّب الآفات الآتية وعدم حصول الغاية المطلوبة منها.

الثانية: أن لا يكون ثمّ ما هو أهمّ من المناظرة، فإنّ المناظرة إذا وقعت على وجهها الشرعي وكانت في واجب، فهي من فروض الكفايات، فإذا كان ثمّ واجب عيني أو كفائي هو أهمّ منها ، لم يكن الاشتغال بها سائغاً.

ومن جملة الفروض التي لا قائم بها - في هذا الزمان - الأمر بالمعروف والنهي عن

ص: 217


1- في الأمر الثاني من القسم الثاني من النوع الأوّل، ص 80-83

المنكر، وقد يكون المناظر في مجلس مناظرته مصاحباً لعدّة مناكير(1)، كما لا يخفى على من سبر الأحوال المفروضة والمحرّمة.

ثمّ هو يناظر فيما لا يتّفق أو يتّفق نادراً من الدقائق العلميّة والفروع الشرعيّة، بل يجري منه ومن غيره في مجلس المناظرة من الإيحاش والإفحاش والإيذاء والتقصير فيما يجب رعايته من النصيحة للمسلمين والمحبّة والموادّة؛ ما يعصي به القائل والمستمع، ولا يلتفت قلبه إلى شيء من ذلك، ثمّ يزعم أنّه يناظر لله تعالى. الثالثة(2) : أن يكون المناظر في الدين مجتهداً يفتي برأيه لا بمذهب أحدٍ، حتّى إذا بان له الحقّ على لسان خصمه انتقل إليه، فأمّا من لا يجتهد، فليس له مخالفة مذهب من يقلّده فأيّ فائدة له في المناظرة، وهو لا يقدر على تركه إن ظهر ضعفه؟ ثمّ على تقدير أن يباحث مجتهداً ويظهر له ضعف دليله ماذا يضرّ المجتهد؟ فإنّ فرضه الأخذ بما يترجّح عنده، وإن كان في نفسه ضعيفاً؛ كما اتّفق ذلك لسائر المجتهدين؛ فإنّهم يتمسّكون بأدلّةٍ ثمّ يظهر لهم أو لغيرهم أنّها في غاية الضعف، فتتغيّر فتواهم لذلك حتّى في المصنّف الواحد، بل في الورقة الواحدة(3).

الرابعة: أن يناظر في واقعة مهمّة أو في مسألة قريبة من الوقوع، وأن يهتمّ بمثل ذلك. والمهمّ أن يبيّن الحقّ، ولا يطوّل الكلام زيادةً على ما يحتاج إليه في تحقيق الحقّ.

ص: 218


1- قال في إحياء علوم الدين، ج 1، ص 38 وربّما يكون المناظر في مجلس مناظرته مشاهداً للحرير ملبوساً ومفروشاً وهو ساكت، ويناظر في مسألةٍ لا يتّفق وقوعها.
2- لاحظ إحياء علوم الدین، ج 1، ص 38 - 39.
3- قال الغزالي في إحياء علوم الدين، ج 1، ص 38: الثالث: أن يكون المناظر مجتهداً يفتي برأيه لا بمذهب الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما حتّى إذا ظهر له الحق من مذهب أبي حنيفة ترك ما يوافق رأيّ الشافعي وأفتى بما ظهر له، كما كان يفعله الصحابة والأئمّة، فأما من ليس له رتبة الاجتهاد.... وإنّما يفتي فيما يُسأل عنه ناقلاً عن مذهب صاحبه، فلو ظهر له ضعفُ مذهبه لم يجُز له أن يتركه، فأيّ فائدة له في المناظرة، ومذهبه معلوم وليس له الفتوى بغيره؟ وما يشكل عليه يلزمه أن يقول: لعلّ عند صاحب مذهبي جواباً عن هذا، فإنّي لست مستقلاً بالاجتهاد في أصل الشرع ولو كانت مباحثته عن المسائل التي فيها وجهان أو قولان لصحابه أشبه، فإنّه ربما يفتي بأحدهما فيستفيد من البحث ميلاً إلى أحد الجانبين...

ولا يغترّ بأنّ المناظرة في تلك المسائل النادرة توجب رياضة الفكر وملكة الاستدلال والتحقيق، كما يتّفق ذلك كثيراً لقاصدي حظّ النفوس من إظهار المعرفة؛ فيتناظرون في التعريفات وما تشتمل عليه من النقوض والتزييفات، وفي المغالطات ونحوها، ولو اختبر حالهم حقّ الاختبار لوجد مقصدهم على غير ذلك الاعتبار. الخامسة(1) : أن تكون المناظرة في الخلوة أحبّ إليه منها في المحفل والصدور؛ فإنّ الخلوة أجمع للهمّ وأحرى لصفاء الفكر ودرك الحقّ، وفي حضور الخلق ما يحرّك دواعي الرئاء والحرص على الإفحام ولو بالباطل. وقد يتّفق لأصحاب المقاصد الفاسدة الكسل عن الجواب عن المسألة في الخلوة، وتنافسهم في المسألة المسألة في المحافل واحتيالهم على الاستيثار بها في المجامع.

السادسة: أن يكون في طلب الحقّ كمنشد ضالّة، يكون شاكراً متى وجدها ولا يفرق بين أن يظهر على يده، أو يد غيره، فيرى رفيقه معيناً لا خصماً، ويشكره إذا عرّفه الخطأ وأظهر له الحقّ؛ كما لو أخذ طريقاً في طلب ضالّة، فنبّهه غيره على ضالّته في طريق آخر. والحقّ ضالّة المؤمن يطلبه كذلك، فحقّه إذا ظهر الحقّ على لسان خصمه أن يفرح به ويشكره لا أنّه يخجل ويسودّ وجهه ويربّد(2) لونه، ويجتهد في مجاهدته ومدافعته جهده.

السابعة(3) : أن لا يمنع معينه من الانتقال من دليل إلى دليل ومن سؤال إلى سؤال، بل يمكّنه من إيراد ما يحضره، ويخرّج من كلامه ما يحتاج إليه في إصابة الحق، فإن

ص: 219


1- لاحظ إحياء علوم الدين، ج 1، ص 39.
2- في لسان العرب، ج 3، ص 170 «ربد» اربدُّ وجهه وتَرَبَّدَ؛ احمرٌ حمرةً فيها سواد عند الغضب... ويتربَّدُ لونه من الغضب، أي يتلون... ويقال: اربدَّ لونه كما يقال احمرٌ واحمارٌ، وإذا غضب الإنسان ترَبَّدُ وجهه كأنّه يسودُّ منه مواضع. هذا، وفي بعض النسخ: «يزبد» وفي بعضها: «يزيل» بدل «يربّدُّ»، وكلاهما خطأ. واعلم أنّ في إحياء علوم الدین، ج 1، ص 39: «في مجاحدته» بدل في مجاهدته»، ولعلّه أولى.
3- لاحظ إحياء علوم الدين، ج 1، ص 39.

وجده في جملته أو استلزمه - وإن كان غافلاً عن اللزوم - فليقبله، ويحمد الله تعالى؛ فإنّ الغرض إصابة الحقّ، وإن كان في كلام متهافتٍ إذا حصل منه المطلوب. فأمّا قوله: «هذا لا يلزمني، فقد تركت كلامك الأوّل وليس لك ذلك» ونحو ذلك أراجيف المناظرين، فهو محض العناد والخروج عن نهج السداد.

وكثيراً ما ترى المناظرات في المحافل تنقضي بمحض المجادلات حتّى يطلب المعترض الدليل عليه، ويمنع المدّعى وهو عالم به، وينقضي المجلس على ذلك الإنكار والإصرار على العناد؛ وذلك عين الفساد والخيانة للشرع المطهّر، والدخول في ذمّ من كتم علمه.

الثامنة (1): أن يناظر مع من هو مستقلّ بالعلم، ليستفيد منه إن كان يطلب الحقّ، والغالب أنّهم يحترزون من مناظرة الفحول والأكابر؛ خوفاً من ظهور الحقّ على لسانهم، ويرغبون فيمن دونهم طمعاً في ترويج الباطل عليهم.

ووراء هذه الشروط والآداب شروط أُخر وآداب دقيقة، لكن فيما ذكر ما يهديك إلى معرفة المناظرة لله، ومن يناظر لله(2) أو لعلّةٍ.

ص: 220


1- لاحظ إحياء علوم الدين، ج 1، ص 40.
2- في بعض النسخ: «لها» وفي بعضها: «له»، والصواب: «لله» كما في إحياء علوم الدين، ج 1، ص 40؛ والمحجّة البيضاء، ج 1، ص 101 - أو «له».

الفصل الثاني: في آفات المناظرة وما يتولّد منها من مهلكات الأخلاق

اعلم أنّ المناظرة الموضوعة لقصد الغلبة والإفحام والمباهاة والتشوّق لإظهار الفضل، هي منبع جميع الأخلاق المذمومة عند الله تعالى المحمودة عند عدوّه إبليس، ونسبتها إلى الفواحش الباطنة من الكبر والعجب والرياء والحسد والمنافسة وتزكية النفس وحبّ الجاه وغيرها نسبة الخمر إلى الفواحش الظاهرة من الزنى والقتل والقذف. وكما أنّ من خيّر بين الشرب وبين سائر الفواحش، فاختار الشرب استصغاراً له، فدعاه ذلك إلى ارتكاب سائر الفواحش؛ فكذلك من غلب عليه حبّ الإفحام والغلبة في المناظرة وطلب الجاه والمباهاة، دعاه ذلك إلى إظهار الخبائث كلّها(1).

فأوّلها(2) : الاستكبار عن الحقّ وكراهته، والحرص على مدافعته بالمماراة فيه حتّى أنّ أبغض الأشياء إلى المناظر أن يظهر الحقّ على لسان خصمه، ومهما ظهر يشمّر لجحده بما قدر عليه من التلبيس والمخادعة والمكر والحيلة؛ ثمّ تصير المماراة له عادةً وطبيعةً، حتّى لا يسمع كلاماً إلّا وتنبعث داعيته للاعتراض عليه، إظهاراً للفضل

ص: 221


1- لاحظ إحياء علوم الدين، ج 1، ص 40 - 43
2- لاحظ إحياء علوم الدين، ج 1، ص 42.

واستنقاصاً بالخصم وإن كان محقّاً؛ قاصداً إظهار نفسه لا إظهار الحقّ.

وقد تلونا عليك بعض ما في المراء من الذمّ وما يترتّب عليه من المفاسد(1)، وقد سوّى الله تعالى بين من افترى على الله كذباً، وبين من كذّب بالحقّ، فقال تعالى: «وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ»(2).

وهو كبر أيضاً، لما تقدّم(3) من أنّه عبارة عن ردّ الحقّ على قائله والمراء يستلزم ذلك.

وروي عن أبي الدرداء وأبي أُمامة ووائلة وأنسٍ قالوا: خرج علينا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم يوماً، ونحن نتمارى في شيء من أمر الدين، فغضب غضبا شديداً لم يغضب مثله، ثمّ قال: «إنّما هلك من كان قبلكم بهذا، ذروا المراء، فإنّ المؤمن لا يماري ذروا المراء فإنّ المماري قد تمّت خسارته، ذروا المراء فإنّ المماري لا أشفع له يوم القيامة، ذروا المراء، فأنا زعيم بثلاثة أبيات في الجنّة في رياضها [ظ: ربضها(4)] وأوسطها وأعلاها، لمن ترك المراء وهو صادق ذروا المراء فإنّ أوّل ما نهاني عنه ربّي بعد عبادة الأوثان المراء»(5).

وعنه صلی الله علیه و آله و سلّم : ثلاث من لقى الله عزّ وجلّ بهنّ دخل الجنّة من أي باب شاء من حسن خلقه، وخشي الله في المغيب ،والمحضر ، وترك المراء وإن كان محقاً»(6).

وعن أبي عبد الله علیه السلام قال: قال أمير المؤمنين علیه السلام: إياكم والمراء والخصومة، فإنّهما

ص: 222


1- قد تقدّم بعض الكلام في ذمّ المراء في الأمر الثاني من القسم الثاني من النوع الأوّل من الباب الأول، ص 80 - 83
2- العنكبوت (29): 68
3- تقدّم في الأمر الرابع من القسم الثاني من النوع الأوّل من الباب الأوّل، ص 85.
4- قال المنذري في الترغيب والترهيب، ج 1، ص 131 ربض الجنّة - بفتح الراء والباء الموحّدة وبالضاد المعجمة ما حولها ؛ وفي لسان العرب، ج 7، ص 152؛ مادة «ربض»: وفي الحديث: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنّة»؛ هو بفتح الياء ماحولها خارجاً عنها تشبيهاً بالأبنية التي تكون حول المدن وتحت القلاع.
5- الترغيب والترهيب، ج 1، ص 131، ح 2 مجمع الزوائد، ج 1، ص 156 ، روياه عن الطبراني في الكبير، وفيهما: في رياضها كالمتن
6- الكافي، ج 2، ص 300، باب المراء والخصومة ومعاداة الرجال، ح 2

يمرضان القلوب على الإخوان، وينبت عليهما النفاق»(1).

وعن أبي عبد الله علیه السلام قال: «قال جبرئيل للنبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم إيّاك وملاحاة الرجال»(2).

وثانيها(3) : الرياء، وملاحظة الخلق والجهد في استمالة قلوبهم، وصرف وجوههم نحوه ليصوّبوا نظره، وينصروه على خصمه. وهذا هو عين الرياء بل بعضه(4)، والرياء هو الداء العضال والمرض المخوّف والعلة المهلكة؛ قال الله تعالى: «وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَتبِكَ هُوَ يَبُورُ»(5).

قيل هم أهل الرياء(6). وقال تعالى: «فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ، فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَلِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا»(7).

والرياء هو الشرك الخفي؛ وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر». قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: «هو الرياء يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم الجزاء؟»(8).

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «استعيذوا بالله من جبّ الخزي. قيل: وما هو يا رسول الله؟ قال: واد في جهنّم أُعدّ للمرائين»(9).

ص: 223


1- الكافي، ج 2، ص 300 ، باب المراء والخصومة ومعاداة الرجال، ح 1.
2- الكافي، ج 2، ص 300 ، باب المراء والخصومة ومعاداة الرجال، ح6: قال في مرآة العقول، ج 10، ص 139 ملاحاة الرجال، أي مقاولتهم ومخاصمتهم، يقال: لحيتُ الرجلَ ألحاء، إذا لمُْتَه وعذَلتَه؛ ولا حيتُه ملاحاةً ولحاء إذا نازعته.
3- لاحظ إحياء علوم الدين، ج 1، ص 42.
4- هكذا في أكثر النسخ، ولكن في «ض . ع . خ » ليس قوله: «بل بعضه» بل فيها: وهذا هو عين الرثاء، والرثاء هو الداء
5- فاطر (35) 10
6- قاله مجاهد، كما في إحياء علوم الدين، ج 3، ص 253.
7- الكهف (18): 110
8- مسند أحمد، ج 5، ص 428: الترغيب والترهيب، ج 1، ص 68 - 69، ح 23.
9- الترغيب والترهيب، ج 1، ص 66 - 67 ، ح 16 : وانظر أيضاً ح 17؛ كنز العمال، ج 10، ص 274، ح 29429: إحياء علوم الدين، ج 3، ص 254 سنن ابن ماجة، ج 1، ص 94 ، ح 256 ، وفيها: «جب الحزن» بدل «جب الخزي» و «للقراء المرائين» بدل «للمرائين». ومع اختلاف يسير في بعض الألفاظ الآخر.

و قال صلی الله علیه و آله و سلّم : «إنّ المرائي ينادى يوم القيامة: يا فاجر يا غادر يا مرائي ضلّ عملك وبطل أجرك، اذهب فخذ أجرك ممّن كنت تعمل له»(1).

وروى جراح المدائني(2) عن أبي عبد الله علیه السلام في قول الله عزّ وجلّ: «فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ، فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَلِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا»(3).

قال: «الرجل يعمل شيئاً من الثواب لا يطلب به وجه الله إنّما يطلب تزكية الناس،

يشتهي أن أن يسمع يسمع به الناس، فهذا الذي أشرك بعبادة ربّه»(4).

وعنه علیه السلام قال: قال النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم : إنّ الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به، فإذا صعد بحسناته يقول الله عزّ وجلّ: اجعلوها في سجّين إنّه ليس إيّاي أراد به»(5).

وعن أمير المؤمنين علیه السلام: «ثلاث علامات للمرائي: ينشط إذا رأى الناس، ويكسل إذا كان وحده، ويحبّ أن يحمد في جميع أُموره»(6).

وثالثها: الغضب، والمناظر لا ينفكّ منه غالباً، سيّما إذا ردّ عليه كلامه، أو اعترض على قوله وزيّف دليله بمشهد من الناس؛ فإنّه يغضب لذلك لا محالة، وغضبه قد يكون بحقّ، وقد يكون بغير حقّ؛ وقد ذمّ الله تعالى ورسوله الغضب كيف كان، وأكثرا من التوعد عليه قال الله تعالى: «إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الجهلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ ....»(7) الآية.

فذمّ الكفّار بما تظاهروا به من الحميّة الصادرة عن الغضب، ومدح المؤمنين بما أنعم عليهم من السكينة.

ص: 224


1- إحياء علوم الدين، ج 3، ص 254
2- انظر ترجمته في معجم رجال الحديث ج 4 ص 359 الرقم 2086
3- الكهف .(18): 110
4- الكافي، ج 2، ص 293 - 294، باب الرثاء، ح 4.
5- الكافي، ج 2، ص 294 - 295، باب الرثاء، ح 7، وفيه: «أراد بها» بدل «أراد به».
6- الكافي، ج 2، ص 295 ، باب الرثاء، ح 8
7- الفتح (48): 26

وعن عكرمة في قوله تعالى: «سَيّدًا وَحَصُورًا»(1) قال: السيّد: الذي لا يغلبه الغضب(2).

وروي أنّ رجلاً قال: يا رسول الله مرني بعمل وأقلّ. قال: «لا تغضب»، ثمّ أعاد عليه فقال: «لا تغضب».

وسئل علیه السلام: ما يبعّد من غضب الله تعالى؟ قال: «لا تغضب».

وعنه صلی الله علیه و آله و سلّم : «من كفّ غضبه ستر الله عورته»(3).

وقال أبو الدرداء، قلت: يا رسول الله دلّني على عمل يدخلني الجنّة. قال: «لا تغضب».

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل».

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «ما غضب أحد إلّا أشفى على جهنّم»(4).

وعن أبي عبد الله علیه السلام قال: سمعت أبي يقول: أتى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم رجل بدوي، فقال: إنّي أسكن البادية، فعلّمني جوامع الكلام فقال: أمرك أن لا تغضب. فأعاد عليه الأعرابي المسألة ثلاث مرّات حتّى رجع الرجل إلى نفسه، فقال: لا أسأل عن شيء بعد هذا ما أمرني رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم إلّا بالخير»(5).

وعن أبي عبد الله علیه السلام قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم : الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الخلّ العسل»(6).

ص: 225


1- آل عمران (3): 39
2- تفسير ابن كثير، ج 1 ص 361، ذيل الآية 39 من آل عمران (3)؛ إحياء علوم الدين، ج 3، ص 143
3- إحياء علوم الدين، ج 3، ص 143 ؛ وعن أبي عبد الله أيضاً في الكافي، ج 2، ص 303، باب الغضب، ح 6.
4- إحياء علوم الدين، ج 3، ص 143
5- . الكافي، ج 2، ص 303، باب الغضب، ح 4
6- الكافي، ج 2، ص 302، باب الغضب، ح 1.

وذكر الغضب عند أبي جعفر الباقرعلیه السلام فقال: «إنّ الرجل ليغضب فما يرضى أبداً حتّى يدخل النار(1).

وعنه علیه السلام قال: «مكتوب في التوراة فيما ناجى الله عزّ وجلّ به موسی علیه السلام: یا موسی! أمسك غضبك عمّن ملّكتك عليه أكفّ عنك غضبي»(2).

وعن أبي حمزة الثمالي قال: أبو جعفر علیه السلام : «إنّ هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم، وإنّ أحدكم إذا غضب احمرّت عيناه وانتفخت أوداجه، ودخل الشيطان فيه»(3).

والأخبار في ذلك كثيرة. وفي الأخبار القديمة قال نبيّ من الأنبياء لمن معه: من يكفل لي أن لا يغضب يكون معي في درجتي، ويكون بعدي خليفتي. فقال شابّ من القوم أنا ثمّ أعاد عليه فقال الشابّ: أنا. ووفى به فلمّا مات كان في منزلته بعده وهو ذو الكفل، لأنّه كفل له بالغضب ووفى به(4).

ورابعها (5): الحقد، وهو نتيجة الغضب؛ فإنّ الغضب إذا لزم كظمه، لعجزه عن التشفّي في الحال رجع إلى الباطن واحتقن فيه فصار حقداً. ومعنى الحقد أن يلزم قلبه استثقاله والبغض له والنفار منه، وقد قال علیه السلام: «المؤمن ليس بحقود»(6).

فالحقد ثمرة الغضب والحقد يثمر أموراً فاحشة كالحسد والشماتة بما يصيبه من

ص: 226


1- الكافي، ج 2، ص 302، باب الغضب، ح 2
2- الكافي، ج 2، ص 302 ، باب الغضب ، ح 7
3- الكافي، ج 2، ص 305304، باب الغضب، ح 12
4- في إحياء علوم الدين، ج 3، ص 144: والمحجة البيضاء، ج 5، ص 295: «أنا أُوفي به» بدل «أنا. ووفى ب» ولعله أولى ممّا في المتن
5- لاحظ إحياء علوم الدين، ج 3، ص 157 - 158.
6- إحياء علوم الدين، ج 3، ص 157 : ج 1 ص 41. قال في المغني، ج 1، ص 40 - المطبوع بذيل إحياء علوم الدين : لم أقف لهذا الحديث على أصل أقول: روي مضمونه عن أمير المؤمنين (عليه أفضل صلوات المصلين) في الكافي، ج 2، ص 226 - 227، باب المؤمن وعلاماته وصفاته ح1، حيث قال : يا همام المؤمن...لا حقود ولا حسود».

البلاء والهجر والقطيعة والكلام فيه بما لا يحلّ من كذب وغيبة وإفشاء سرّ، وهتك ستر وغيره، والحكاية لمّا يقع منه المؤدّي إلى الاستهزاء والسخريّة منه، والإيذاء بالقول والفعل حيث يمكن، وكلّ هذه الأُمور بعض نتائج الحقد.

وأقلّ درجات الحقد مع الاحتراز عن هذه الآفات المحرّمة أن تستثقله في الباطن، ولا تنهى قلبك عن بغضه حتّى تمتنع عمّا كنت تتطوّع به من البشاشة والرفق والعناية، والقيام على برّه ومواساته، وهذا كلّه ينقص درجتك في الدين، ويحول بينك وبين فضل عظيم وثواب جزيل، وإن كان لا يعرّضك لعقاب.

واعلم أنّ للحقود عند القدرة على الجزاء ثلاثة أحوال: أحدها أن يستوفي حقّه الذي يستحقّه من غير زيادة ولا نقصان، وهو العدل؛ والثاني أن يحسن إليه بالعفو، وذلك هو الفضل والثالث أن يظلمه بما لا يستحقّه، وذلك هو الجور. وهو اختيار الأرذال، والثاني هو اختيار الصديقين، والأوّل هو منتهى درجة الصالحين. فليتّسم المؤمن بهذه الخصلة إن لم يمكنه تحصيل فضيلة العفو التي قد أمر الله تعالى بها، وحضّ عليها رسوله والأئمّة علیهم السّلام : قال الله تعالى: «خُذِ الْعَفْوَ ...»(1) الآية. وقال تعالى: «وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى»(2). وقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم : «ثلاث - والذي نفسي بيده - إن كنت لحالفاً(3) عليهنّ: ما نقصت صدقة من مال فتصدّقوا، ولا عفا رجل عن مظلمة يبتغي بها وجه الله تعالى إلّا زاده الله تعالى بها عزّاً يوم القيامة، ولا فتح رجل باب مسألة إلّا فتح الله عليه باب فقرٍ»(4).

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «التواضع لا يزيد العبد إلّا رفعة فتواضعوا يرفعكم الله، والعفو لا يزيد العبد

ص: 227


1- الأعراف (7): 199
2- البقرة (2) 237
3- في إحياء علوم الدین، ج 3، ص 157: «لو كنت حلافاً لحلفتُ عليهن».
4- إحياء علوم الدين، ج 3، ص 157 - 158: مسند أحمد، ج 1، ص193؛ تنبیه الخواطر، ج 1، ص 125 - 126 مجمع الزوائد، ج 3، ص 105

إلّا عزّاً فاعفوا يعزّكم الله والصدقة لا تزيد المال إلّا كثرة، فتصدقوا يرحمكم الله»(1).

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : قال موسى علیه السلام : يا ربّ أيّ عبادك أعزّ عليك؟ قال: الذي إذا قدر عفا»(2).

وروى ابن أبي عمير عن عبد الله بن سنان عن الصادق علیه السلام قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم فی خطبته: ألا أُخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة؟ العفو عمّن ظلمك، وتصل من قطعك والإحسان إلى من أساء إليك وإعطاء من حرمك»(3).

والأخبار في هذا الباب كثيرة، لا تقتضي الرسالة ذكرها.

وخامسها(4) : الحسد، وهو نتيجة الحقد والحقد نتيجة الغضب كما مرّ.

والمناظر لا ينفكّ منه غالباً، فإنّه تارةً يغلب، وتارةً يُغلب، وتارةً يُحمد في كلامه، وتارةً يُحمد كلام غيره، ومتى لم يكن الغلب والحمد له تمنّاه لنفسه دون صاحبه، وهو عين الحسد؛ فإنّ العلم من أكبر النعم، فإذا تمنّى أحد كون ذلك الغلب ولوازمه له فقد حسد صاحبه.

وهذا أمر واقع بالمتناظرين إلّا من عصمه الله تعالى، ولذلك قال ابن عبّاس (رضي الله عنه): خذوا العلم حيث وجدتموه، ولا تقبلوا أقوال الفقهاء بعضهم في بعض ؛ فإنّهم يتغايرون كما تتغاير التيوس في الزريبة(5).

وأمّا ما جاء في ذمّ الحسد والوعيد عليه فهو خارج عن حدّ الحصر، وكفاك في ذمّه أنّ جميع ما وقع من الذنوب والفساد في الأرض من أوّل الدهر إلى آخره، كان من الحسد لما حسد إبليس ،آدم، فصار أمره إلى أن طرده الله ولعنه، وأعدّ له عذاب جهنّم

ص: 228


1- إحياء علوم الدين، ج 3، ص158؛ تنبيه الخواطر، ج 1، ص 126؛ الجامع الصغير، ج 1، ص 135، حرف التاء ؛ وشرحه: فيض القدير، ج 3، ص 284 - 285، ح 3411.
2- إحياء علوم الدين، ج 3، ص 158؛ الجامع الصغير، ج 2، ص 85 حرف القاف ؛ وشرحه فيض القدير، ج 4. ص 501، ح 6080.
3- الكافي، ج 2، ص 107، باب العفو، ح 1
4- لاحظ إحياء علوم الدين، ج 1، ص 40
5- إحياء علوم الدين، ج 1، ص 40 جامع بيان العلم وفضله، ج 2، ص 185

خالداً فيها، وتسلّط بعد ذلك على بني آدم وجرى فيهم مجرى الدم والروح في أبدانهم. وصار سبب الفساد على الآباء، وهو أوّل خطيئة وقعت بعد خلق آدم، وهو الذي أوجب قتل ابن آدم أخاه، كما حكاه الله تعالى عنهما في كتابه الكريم(1).

وقد قرن الله تعالى الحاسد بالشيطان والساحر، فقال: «وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ *

وَمِن شَرِّ النَّفَّتَتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ»(2).

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب(3).

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «دبّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء وهي الحالقة، لا أقول حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين، والذي نفس محمّد بيده لا تدخلون الجنّة حتّى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتّى تحابّوا»(4).

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «ستّة يدخلون النار قبل الحساب بستة». قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: «الأمراء بالجور والعرب بالعصبية، والدهاقين بالكبر، والتجّار بالخيانة، وأهل الرستاق بالجهالة، والعلماء بالحسد»(5).

وروى محمّد بن مسلم عن الباقر علیه السلام أنه قال: «إنّ الرجل ليأتي [بأيّ](6) بادرةٍ فيكفر، وإنّ الحسد ليأكل الإيمان، كما تأكل النار الحطب»(7).

ص: 229


1- المائدة (5): 27 - 32
2- الفلق (113): 3 - 5
3- سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1408. ح 4210: الجامع الصغير، ج 1، ص 151، حرف الحاء وشرحه فيض القدير ج 3، ص 413 ، ح 3817؛ ونظيره في الكافي، ج 2، ص 306، باب الحسد، ح 1 ، عن أبي جعفر، وح 2، عن أبي عبدالله علیهما السلام.
4- أدب الدنيا والدين، ص 260؛ إحياء علوم الدين، ج 3، ص 163؛ مسند أحمد، ج 1، ص 165، 167؛ تنبيه الخواطر، ج 1، ص 127
5- إحياء علوم الدين، ج 3، ص 163؛ تنبيه الخواطر، ج 1، ص 127؛ ومثله عن أمير المؤمنين علیه السلام في بحار الأنوار، ج 2، ص 108، ح 1، نقلاً عن الخصال
6- ما بين المعقوفين زيادة من المصدر، وليس في النسخ المخطوطة والمطبوعة سوى «ض، ح، ع»
7- الكافي، ج 2، ص 306، باب الحسد، ح 1

وعن أبي عبد الله علیه السلام : «آفة الدين: الحسد، والعجب، والفخر»(1).

وعنه علیه السلام قال: «قال الله عزّ وجلّ لموسى علیه السلام : يا ابن عمران! لا تحسدنّ الناس على ما آتيتهم من فضلي، ولا تمدّن عينيك إلى ذلك، ولا تتبعه نفسك، فإنّ الحاسد ساخط لنعمي صادّ لقسمي الذي قسمت بين عبادي، ومن يك كذلك فلست منه وليس منّيّ(2). وعنه علیه السلام قال: «إنّ المؤمن يغبط ولا يحسد، والمنافق يحسد ولا يغبط»(3).

وسادسها: الهجر والقطيعة، وهو أيضاً من لوازم الحقد؛ فإنّ المتناظرين إذا ثارت بينهما المنافرة وظهر منهما الغضب وادّعى كلّ منهما أنّه المصيب، وأن صاحبه المخطئ واعتقد وأظهر أنّه مصرّ على باطله مزمع على خلافه؛ لزم من حقده عليه وغضبه هجره وقطيعته، وذلك من عظائم الذنوب وكبائر المعاصي.

روی داود بن كثير قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول : «قال أبي: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم : أيّما مسلمين تهاجراً فمكثا ثلاثاً، لا يصطلحان، إلّا كانا خارجين من الإسلام(4)، ولم يكن بينهما ،ولاية، وأيهما سبق إلى كلام أخيه كان السابق إلى الجنّة يوم الحساب»(5).

وعن أبي عبد الله علیه السلام أنّه قال: «لا يفترق رجلان على الهجران إلّا استوجب أحدهما البراءة واللعنة، وربّما استحقّ كلاهما». فقال له معتّب(6) : جعلني الله فداك هذا الظالم، فما بال المظلوم؟ قال «لأنّه لا يدعو أخاه إلى صلته، ولا يتغامس له عن كلامه، سمعت أبي يقول: إذا تنازع اثنان فعازّ أحدهما الآخر، فليرجع المظلوم إلى صاحبه حتّى يقول لصاحبه: أي أخي أنا الظالم، حتّى يقطع الهجران بينه وبين صاحبه، فإنّ الله

ص: 230


1- الكافي، ج 2، ص 307، باب الحسد، ح 5 و 6 و 7
2- الكافي، ج 2، ص 307، باب الحسد، ح 5 و 6 و 7
3- الكافي، ج 2، ص 307، باب الحسد، ح 5 و 6 و 7
4- في مرآة العقول، ج 10، ص 362: كأنّ الاستثناء من مقدّر، أي لم يفعلا ذلك إلّا كانا خارجين، وهذا النوع من الاستثناء شائع في الأخبار، ويحتمل أن يكون إلّا هنا زائدة.
5- الكافي، ج 2، ص 345، باب الهجرة، ح 5
6- في مرآة العقول، ج 10، ص 359 مُعتب، بضم الميم وفتح العين وتشديد التاء المكسورة، وكان من خيار موالي الصادق علیه السلام ، بل خيرهم كما روي فيه

تبارك وتعالى حكم عدل يأخذ للمظلوم من الظالم»(1).

وروى زرارة عن أبي جعفر علیه السلام قال: «إنّ الشيطان يغري بين المؤمنين ما لم يرجع أحدهم عن دينه، فإذا فعلوا ذلك استلقى على قفاه وتمدّد ثمّ قال: فزت فرحم الله امرءاً ألّف بين وليّين لنا، يا معشر المؤمنين تألّفوا وتعاطفوا»(2).

وعن أبي بصير عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «لا يزال إبليس فرحاً ما اهتجر المسلمان، فإذا التقيا اصطكّت ركبتاه، وتخلّعت أوصاله ونادى يا ويله ما لقي من الثبور»(3).

و سابعها: الكلام فيه بما لا يحلّ من كذب وغيبة وغيرهما، وهو من لوازم الحقد، بل من نتيجة المناظرة؛ فإنّ المناظر لا يخلو عن حكاية كلام صاحبه - في معرض التهجين، والذمّ والتوهين - فيكون مغتاباً، وربّما يحرّف كلامه، فيكون كاذباً مباهتاً ملبّساً، وقد يصرّح باستجهاله واستحماقه، فيكون متنقّصاً مسبّباً(4).

وكلّ واحد من هذه الأُمور ذنب كبير، والوعيد عليه في الكتاب والسنّة كثير، يخرج عن حدّ الحصر. وكفاك في ذمّ الغيبة أنّ الله تعالى شبّهها بأكل الميتة، فقال تعالى: «وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُم»(5).

وقال النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم : «كلّ المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه»(6).

والغيبة تتناول العرض.

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «إيّاكم والغيبة؛ فإنّ الغيبة أشدّ من الزنا، إنّ الرجل قد يزني فيتوب، فيتوب الله عليه، وإنّ صاحب الغيبة لا يغفر له حتّى يغفر له صاحبه»(7).

ص: 231


1- الكافي، ج 2، ص 344، باب الهجرة، ح 1.
2- الكافي، ج 2، ص 345، باب الهجرة ، ح 6.
3- الكافي، ج 2، ص 346. باب الهجرة، ح 7.
4- اسم فاعل من «سبَّبَهُ» أي أكثرَ سبَّه: راجع لسان العرب، ج 1، ص 455، «سبب».
5- الحجرات (49): 12
6- سنن أبي داود، ج 4، ص 270، ح 4882.
7- إحياء علوم الدين، ج 3، ص 123؛ الترغيب والترهيب، ج 3، ص 511؛ مكارم الأخلاق، ص 470.

وقال البراء: خطبنا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم حتّى أسمع العواتق في بيوتها، فقال: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتّبعوا عوراتهم؛ فإنّه من تتبّع عورة أخيه تتبّع الله عورته، ومن تتبّع الله عورته يفضحه في جوف بيته»(1).

وعن أبي عبد الله علیه السلام : «ما من مؤمن قال في مؤمن ما رأته عيناه، وسمعته أذناه، فهو من الذين قال الله عزّ وجلّ: «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءَامَنُواْلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»(2).

وعن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم : «إنّ الغيبة أشدّ من ثلاثين زنيةً»(3).

وفي حديث آخر: «من ستّة وثلاثين زنيةً»(4).

والكلام في الغيبة يطول، والغرض هنا الإشارة إلى أُصول هذه الرذائل. وروى المفضّل بن عمر عن أبي عبد الله علیه السلام أنّه قال: «من روى عن مؤمن روايةً يريد بها شينه، وهدم مروءته ليسقط من أعين الناس أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان، فلا يقبله الشيطان»(5).

وعنه علیه السلام في حديث: «عورة المؤمن على المؤمن حرام قال: ما هو أن ينكشف فترى منه شيئاً، إنّما هو أن تروي عنه أو تعيبه»(6).

ص: 232


1- إحياء علوم الدين، ج 3، ص 123؛ تنبيه الخواطر، ج 1، ص 115؛ وانظر سنن أبي داود، ج 4، ص 270 ح 04880
2- النور (24): 19؛ والحديث في الكافي، ج 2، ص 351، باب الغيبة والبهت ح 2 ، وفيه: «من قال في مؤمن....» إلى آخره.
3- قال الغزالي في بداية الهداية، ص 31:.... الغيبة أشدّ من ثلاثين زنية في الإسلام كذلك ورد في الخبر
4- لم أقف عليها بهذه العبارة؛ نعم في إحياء علوم الدين، ج 3، ص 124؛ وتنبيه الخواطر، ج 1، ص 116: وقال أنس: خطبنا رسول الله صلى الله عليه و اله و سلم، فذكر الربا وعظّم شأنه، فقال: إنّ الدرهم يصيبه الرجلُ من الربا أعظمُ عند الله في الخطيئة من ستّ وثلاثين زنيةً يزنيها الرجل، وأربى الربا عرض الرجل المسلم. نقلها المؤلّف (رحمه الله) بالمعنى.
5- الكافي، ج 2، ص 354 ، باب الرواية على المؤمن، ح 1.
6- الكافي، ج 2، ص 359 ، باب الرواية على المؤمن ، ح 3. وفيه: «عليه» بدل «عنه».

وروى زرارة عن أبي جعفر وأبي عبد الله علیه السلام قال [ظ : قالا]: «أقرب ما يكون العبد إلى الكفر أن يؤاخي الرجل على الدين، فيحصي عليه عثراته وزلّاته»(1).

وروى أبو بصير عن أبي جعفر علیه السلام قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم : سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه معصية، وحرمة ماله كحرمة دمه»(2).

وعن أبي حمزة قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «إذا قال المؤمن لأخيه: أفّ خرج، من ولايته، وإذا قال أنت عدوّي كفر أحدهما، ولا يقبل الله تعالى من مؤمنٍ عملاً، وهو مضمر على أخيه المؤمن سوءً»(3).

وروى الفضيل عن أبي جعفر علیه السلام قال: «ما من إنسان يطعن في عين مؤمنٍ إلّا مات بشر ميتةٍ، وكان قمنا أن لا يرجع إلى خير»(4).

وثامنها: الكبر والترفّع، والمناظرة لا تنفكّ عن التكبّر على الأقران والأمثال، والترفّع فوق المقدار في الهيئات والمجالس، وعن إنكار كلام خصمهم، وإن لاح كونه حقّاً؛ حذراً من ظهور غلبتهم. ولا يصرّحون عند ظهور الفلج عليهم بأنّا مخطئون وأنّ الحقّ قد ظهر في جانب خصمنا.

وهذا عين الكبر الذي قد أخبر عنه النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم بأنّه لا يدخل الجنّة من في قلبه منه مثقال(5)، وقد فسّره صلی الله علیه و آله و سلّم - في الحديث السابق(6) - بأنّه بطر الحقّ وغمص الناس والمراد ب_ «بطر الحقّ»: ردّه على قائله وعدم الاعتراف به بعد ظهوره و «غمص الناس» - بالصاد المهملة بعد الميم والغين المعجمة- : احتقارهم.

ص: 233


1- الكافي، ج 2، ص 358 باب من طلب عثرات المؤمنين وعوراتهم، ح 1.
2- الكافي، ج 2، ص 360 ، باب السباب، ح 2.
3- الكافي، ج 2، ص 361 ، باب السباب، ح 8
4- الكافي، ج 2، ص 361، باب السباب، ح 9.
5- صحيح مسلم، ج 1، ص 93. ح 91/149؛ إحياء علوم الدين، ج 3، ص 335
6- سبق الحديث في الأمر الرابع من القسم الثاني من النوع الأوّل من الباب الأوّل، ص 85، وهو في صحيح مسلم، ج 1، ص 93، وفيه: «غَمْط الناس» بدل «غَمْص الناس»؛ عوالي اللآلي، ج 1، ص 436 - 437.

وهذا المناظر قد ردّ الحقّ على قائله بعد ظهوره ،له وإن خفي على غيره، وربما احتقره حيث يزعم أنّه محقّ، وأنّ خصمه هو المبطل الذي لم يعرف الحقّ، ولا له ملكة العلم والقوانين المؤدّية إليه.

وعن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم أنّه قال حاكياً عن الله تعالى: «العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما قصمته»(1).

وعن أبي عبد الله علیه السلام قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم: إنّ أعظم الكبر غمص الخلق، وسفه الحقّ. قال: قلت: وما غمص الخلق، وسفه الحقّ؟ قال: يجهل الحقّ ويطعن على أهله، فمن فعل ذلك، فقد نازع الله عزّ وجلّ رداءه»(2).

وروى الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد الله علیه السلام قال سمعته يقول: «الكبر قد يكون في شرار الناس من كلّ ،جنس والكبر رداء الله، فمن نازع الله عزّ وجلّ رداءه لم یزده الله عزّ وجلّ إلّا سفالاً»؟(3).

وسئل علیه السلام عن أدنى الإلحاد. قال: «إنّ الكبر أدناه»(4).

وروى زرارة عن أبي جعفر وأبي عبد الله علیه السلام قالا: «لا يدخل الجنّة من في قلبه مثقال ذرّة من كبر»(5).

وعن عمر بن يزيد، قال: قلت لأبي عبد الله علیه السلام : إنّي آكل الطعام الطيّب، وأشمّ الرائحة الطيّبة، وأركب الدابّة الفارهة ويتبعني الغلام فترى في هذا شيئاً من التجبر، فلا أفعله. فأطرق أبو عبدالله علیه السلام ثمّ قال: «إنّما الجبّار الملعون من غمص الناس، وجهل الحقّ». قال عمر: فقلت أمّا الحقّ فلا أجهله، والغمص لا أدري ما هو؟ قال: «من حقر

ص: 234


1- إحياء علوم الدين، ج 1، ص 40 : ج 3، ص 290؛ سنن ابن ماجة، ج 2، ص 13397، ح 4147: تنبيه الخواطر، ج 1، ص 198.
2- الكافي، ج 2، ص 310، باب الكبر ، ح 9
3- الكافي، ج 2، ص 309، باب الكبر ، ح 2.
4- الكافي، ج 2، ص 309 ، باب الكبر ، ح 1.
5- الكافي، ج 2، ص 310 ، باب الكبر، ح 6.

الناس وتجبر عليهم فذلك الجبّار»(1).

وعن أبي حمزة عن أبي جعفر علیه السلام قال: «قال رسول اللهصلی الله علیه و آله و سلّم : ثلاثة لا يكلّمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكّيهم، ولهم عذاب أليم؛ وعدّ منهم الجبّار»(2).

و تاسعها(3) : التجسّس وتتبّع العورات؛ والمناظر لا يكاد يخلو عن طلب عثرات مناظره في كلامه وغيره ليجعله ذخيرةً لنفسه، ووسيلةً إلى تسديده وبراءته أو دفع حتّى أنّ ذلك قد يتمادى بأهل الغفلة ومن يطلب علمه للدنيا، فيتفحّص عن أحوال خصمه وعيوبه، ثمّ إنّه قد يعرض به في حضرته، أو يشافهه بها، وربما يتبجّح به(4) ويقول: كيف أخملته وأخجلته؛ إلى غير ذلك ممّا يفعله الغافلون عن الدين وأتباع الشياطين، وقد قال الله تعالى: «وَلا تَجَسَّسُوا»(5). وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه! لا تتّبعوا عورات المسلمين فمن تتبّع عورة مسلمٍ تتبّع الله عورته ومن تتبّع الله عورته ،فضحه، ولو في جوف بيته»(6).

وعن أبي جعفر الباقر علیه السلام : «أقرب ما يكون العبد إلى الكفر أن يؤاخي الرجل الرجل على الدين فيحصي عليه زلّاته ليعيّره بها يوماً ما»(7).

وعن أبي عبد الله علیه السلام : «أبعد ما يكون العبد من الله أن يكون الرجل يؤاخي الرجل وهو يحفظ زلّاته ليعيّره بها يوماً ما»(8).

وعنه علیه السلام قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم : من أذاع فاحشةً كان كمبتدئها، ومن عيّر مؤمناً

ص: 235


1- الكافي، ج 2، ص 311، باب الكبر ، ح 13.
2- الكافي، ج 2، ص 311، باب الكبر ، ح 14، وتمام الحديث: .... أليم شيخ زان وملكٌ جبّار ومقِلٌ مختال».
3- لاحظ إحياء علوم الدين، ج 1، ص 41.
4- بجح بالشيء من بابي نفع وتعب؛ إذا فخر به، وتبجَّحَ به كذلك. المصباح المنير، ص 47، «بجح».
5- الحجرات (49): 12
6- الكافي، ج 2، ص 354 - 355؛ باب من طلب عثرات المؤمنين وعوراتهم، ح 2 و 4.
7- الكافي، ج 2، ص 355 باب من طلب عشرات المؤمنين وعوراتهم، ح 6.
8- الكافي، ج 2، ص 355 باب من طلب عثرات المؤمنين وعوراتهم، ح 7.

بشيء لم يمت حتّى يركبه»(1).

وعنه علیه السلام : من لقي أخاه بما يؤنّبه أنبّه الله في الدنيا والآخرة»(2).

وعنه علیه السلام قال: «قال أمير المؤمنين علیه السلام في كلام له: ضع أمر أخيك على أحسنه حتّى يأتيك ما يغلبك منه، ولا تظنّنّ بكلمةٍ خرجت من أخيك سوءً وأنت تجد لها في الخير محملاً»(3).

وعاشرها (4): الفرح بمساءة الناس والغمّ بسرورهم؛ ومن لا يحبّ لأخيه المسلم ما يحبّ لنفسه، فهو ناقص الإيمان بعيد عن أخلاق أهل الدين.

وهذا غالب بين من غلب على قلبهم محبّة إفحام الأقران وظهور الفضل على الإخوان، وقد ورد في أحاديث كثيرة(5) أنّ للمسلم على المسلم حقوقاً إن ضيّع منها واحداً خرج من ولاية الله وطاعته، ومن جملتها ذلك.

روى محمّد بن يعقوب الكليني (قدّس الله روحه)، بإسناده إلى المعلّى بن خنيسٍ عن أبي عبد الله علیه السلام قال، قلت له: ما حقّ المسلم على المسلم؟ قال: «له سبع حقوق واجبات ما منهنّ حقّ إلّا وهو واجب عليه إن ضيّع منها حقّاً خرج من ولاية الله وطاعته، ولم يكن لله فيه نصيب». قلت له: جعلت فداك وما هي؟ قال: «يا معلّى! إنّي عليك شفيق أخاف أن تضيّع ولا تحفظ، وتعلم ولا تعمل». قال، قلت له: لا قوّة إلّا بالله. قال: «أيسر حقّ منها أن تحبّ له ما تحبّ لنفسك؛ وتكره له ما تكره لنفسك؛ والحقّ الثاني: أن تجتنب سخطه وتتبّع مرضاته وتطيع أمره؛ والحقّ الثالث: أن تعينه بنفسك ومالك ولسانك ويدك ورجلك؛ والحقّ الرابع أن: ان تكون عينه ودليله ومرآته؛ والحقّ

ص: 236


1- الكافي، ج 2، ص 356 ، باب التعبير، ح 2.
2- الكافي، ج 2، ص 356، باب التعبير، ح 4.
3- الكافي، ج 2، ص 362 ، باب التهمة وسوء الظنّ ، ح 3 : والشطر الأخير منه في نهج البلاغة ، ص 538 ، الحكمة 360
4- لاحظ إحياء علوم الدين، ج 1 ص 41.
5- راجع الكافي، ج 2، ص 169 - 174، باب حق المؤمن على أخيه وأداء حقه ، ح 2، 7،5 و 14.

الخامس: أن لا تشبع ويجوع، ولا تروى ويظمأ، ولا تلبس ويعرى؛ والحقّ السادس: أن يكون لك خادم وليس لأخيك خادم، فواجب أن تبعث خادمك فيغسّل ثيابه ويصنع طعامه ويمهّد فراشه؛ والحقّ السابع: أن تبرّ قسمه، وتجيب دعوته، وتعود مريضه، و تشهد جنازته ، وإذا علمت أنّ له حاجة تبادره إلى قضائها، ولا تلجئه أن يسألكها، ولكن تبادره مبادرةً، فإذا فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايته وولايته بولايتك»(1).

والأخبار في هذا الباب كثيرة(2).

وحادي عشرها (3): تزكية النفس والثناء عليها، ولا يخلو المناظر من الثناء على نفسه إمّا تصريحاً، أو تلويحاً وتعريضاً، بتصويب كلامه وتهجين كلام خصمه. وكثيراً ما يصرّح بقوله «لست ممّن يخفى عليه أمثال هذا» ونحوه، وقد قال الله تعالى: «فَلَا تُرَكُواْ أَنفُسَكُمْ»(4). وقيل لبعض العلماء: ما الصدق القبيح؟ قال: ثناء المرء على نفسه(5).

واعلم أنّ ثناءك على نفسك مع قبحه ونهي الله تعالى عنه، ينقص قدرك عند الناس، ويوجب مقتك عند الله تعالى، وإذا أردت أنّ تعرف أنّ ثناءك على نفسك لا يزيد في قدرك عند غيرك، فانظر إلى أقرانك إذا أثنوا على أنفسهم بالفضل كيف يستنكره قلبك، ويستثقله طبعك، وكيف تذمّهم عليه إذا فارقتهم، فاعلم أنّهم أيضاً في حال تزكيتك نفسك يذمّونك بقلوبهم ناجزاً، ويظهرونه بالسنتهم إذا فارقتهم.

وثاني عشرها: النفاق، والمتناظرون يضطرّون إليه، فإنّهم يلقون الخصوم والأقران وأتباعهم بوجه مسالم وقلبٍ منازعٍ؛ وربما يظهرون الحبّ والشوق إلى لقائهم، و فرائصهم مرتعدة في الحال من بغضهم، ويعلم كلّ واحدٍ من صاحبه أنّه كاذب فيما ،يبديه مضمر خلاف ما يظهره.

ص: 237


1- الكافي، ج 2، ص 169، باب حقّ المؤمن على أخيه وأداء حقّه ، ح 2.
2- روي في الكافي، ج 2، ص 169 - 174، باب حق المؤمن على أخيه وأداء حقّه، 16 حديثاً في ذلك.
3- لاحظ إحياء علوم الدين، ج 1 ص 41.
4- النجم (52): 32
5- إحياء علوم الدين، ج 1 ص 41 بداية الهداية، ص 32

وقد قال صلی الله علیه و آله و سلّم : «إذا تعلّم الناس العلم، وتركوا العمل وتحابّوا بالألسن وتباغضوا بالقلوب، وتقاطعوا في الأرحام، لعنهم الله عند ذلك؛ فأصمّهم وأعمى أبصارهم»(1).

نسأل الله العافية.

فهذه اثنتا عشرة خصلةً مهلكة، أوّلها الكبر المحرّم للجنّة، وآخرها النفاق الموجب للنار، والمتناظرون يتفاوتون فيها على حسب درجاتهم، ولا ينفكّ أعظمهم ديناً، وأكثرهم عقلاً من جملة موادّ هذه الأخلاق، وإنّما غايتهم إخفاؤها ومجاهدة النفس عن ظهورها للناس وعدم اشتغالهم بدوائها، والأمر الجامع لها طلب العلم لغير الله.

وبالجملة فالعلم لا يهمل العالم أبداً، بل إمّا أن يهلكه ويشقيه، أو يسعده ويقرّبه من الله تعالى ويدنيه.

فإن قلت: في المناظرة فائدتان: إحداهما ترغيب الناس في العلم إذ لولا حبّ الرئاسة لاندرست العلوم، وفي سدّ بابها ما يفتّر هذه الرغبة؛ والثانية: أنّ فيها تشحيذ الخاطر وتقوية النفس لدرك مآخذ العلم.

قلنا: صدقت، ولم نذكر ما ذكرناه لسدّ باب المناظرة، بل ذكرنا لها ثمانية شروط واثنتي عشرة آفةً ليراعي المناظر شروطها، ويحترز عن آفاتها ثمّ يستدرّ فوائدها من الرغبة في العلم وتشحيذ الخاطر، فإن كان غرضك أنّه ينبغي أن يرخّص في هذه الآفات، وتحتمل بأجمعها لأجل الرغبة في العلم وتشحيذ الخاطر، فبئس ما حكمت؛ فإنّ الله تعالى ورسوله وأصفياءه رغّبوا الخلق في العلم بما وعدوا من ثواب الآخرة لا بالرئاسة.

نعم الرئاسة باعث طبيعي، والشيطان موكّل بتحريكه والترغيب فيه، وهو مستغنٍ عن نيابتك عنه ومعاونتك.

واعلم أنّ من تحرّكت رغبته في العلم بتحريك الشيطان، فهو ممّن قال فيهم رسول

ص: 238


1- إحياء علوم الدين، ج 1، ص 42.

الله صلی الله علیه و آله و سلّم : «إنّ الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر(1)، وبأقوام لا خلاق لهم»(2).

ومن تحرّكت رغبته بتحريك الأنبياء علیهم السلام وترغيبهم في ثواب الله تعالى، فهو من ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل وأُمناء الله تعالى على عباده.

وأمّا تشحيذ الخاطر فقد صدقت، فليشحّذ الخاطر وليجتنب هذه الآفات التي ذكرناها، فإن كان لا يقدر على اجتنابها فليتركه، وليلزم المواظبة على العلم وطول التفكّر فيه وتصفية القلب عن كدورات الأخلاق؛ فإنّ ذلك أبلغ في التشحيذ، وقد تشحّذت خواطر أهل الدين بدون هذه المناظرة.

والشيء إذا كانت له منفعة واحدة وآفات كثيرة، لا يجوز التعرّض لآفاته لأجل تلك المنفعة الواحدة، بل حكمه في ذلك حكم الخمر والميسر، قال الله تعالى: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَفعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا»(3).

فحرّمهما لذلك وأكّد تحريمهما. والله الموفّق.

ص: 239


1- صحيح مسلم، ج 1، ص 106، ح 111/178؛ مسند أحمد، ج 2، ص 309؛ سنن الدارمي، ج 2، ص 241؛ إحياء علوم الدين، ج 1، ص 43 مجمع الزوائد، ج 5، ص 302 - 303؛ ج 7، ص 213.
2- إحياء علوم الدين، ج 1، ص 43: الجامع الصغير، ج 1، ص 74 ؛ وشرحه فيض القدير، ج 2، ص 279 ح 1938: مجمع الزوائد، ج 5، ص 302؛ الكافي، ج 5، ص 19، باب من يجب عليه الجهاد ومن لا يجب، ح 1.
3- البقرة (2): 219

ص: 240

الباب الرابع في آداب الكتابة والكتب التي هي آلة العلم

اشارة

وما يتعلّق بتصحيحها وضبطها ووضعها

وحملها وشرائها وعاريتها وغير ذلك

ص: 241

ص: 242

(آداب الكتابة والكتب وما يتعلّق بها)

و فیه مسائل:

الأُولى: الكتابة من أجلّ المطالب الدينيّة، وأكبر أسباب الملّة الحنيفيّة من الكتاب والسنّة، وما يتبعهما من العلوم الشرعيّة، و [ما] يتوقّفان عليه من المعارف العقليّة. وهي منقسمة في الأحكام حسب العلم المكتوب: فإن كان واجباً على الأعيان فهي كذلك؛ حيث يتوقّف حفظه عليها، وإن كان واجباً على الكفاية فهي كذلك، وإن كان مستحبّاً فكتابته مستحبّة.

وهي في زماننا هذا بالنسبة إلى الكتاب والسنّة موصوفة بالوجوب مطلقاً، إذ لا يوجد من كتب الدين ما يقوم بفرض الكفاية بالنسبة إلى الأقطار، سيّما كتب التفسير والحديث، فإنّ معالمهما قد أشرفت على الاندراس ورايات أعلامهما قد آذنت بالانتكاس، فيجب على كلّ مسلمٍ الاهتمام بحالهما كتابةً وحفظاً وتصحيحاً ورواية، كفايةً.

ومن القواعد المعلومة أنّ فرض الكفاية - إذا لم يقم به من فيه كفاية - يخاطب به كلّ مكلّف، ويأثم بالتقصير فيه كلّ مكلّف به فيكون في ذلك كالواجب العيني إلى أن يوجد ما فيه كفاية.

وقد ورد مع ذلك في الحثّ على الكتابة والوعد بالثواب الجزيل على فعلها كثير من

ص: 243

الآثار: فمنه عن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم أنّه قال: «قيّدوا العلم». قيل: وما تقييده؟ قال: «كتابته»(1).

وروي أنّ رجلاً من الأنصار كان يجلس إلى النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم يستمع منه الحديث فيعجبه ولا يحفظه، فشكا ذلك إلى النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم، فقال له النبي: «استعن بيمينك؛ وأومأ بيده أي خطّ»(2).

وعن الحسن بن عليّ علیهما السلام أنّه دعا بنيه وبني أخيه، فقال: «إنّكم صغار قوم، ويوشك أن تكونوا كبار قوم آخرين، فتعلّموا العلم، فمن لم يستطع منكم أن يحفظه فليكتبه وليضعه في بيته»(3).

وعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «اكتبوا فإنّكم لا تحفظون حتّى تكتبوا»(4).

وعنه علیه السلام قال: «القلب يتّكل على الكتابة»(5).

وعن عبيد بن زرارة قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: «احتفظوا بكتبكم، فإنّكم سوف تحتاجون إليها»(6).

وعن المفضّل بن عمر قال: قال لي أبو عبد الله علیه السلام : «اكتب وبثّ علمك في إخوانك، فإن متّ فأورث كتبك بنيك، فإنّه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلّا بكتبهم»(7).

وروى الصدوق في أماليه بإسناده إلى النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم، أنّه قال: «إنّ المؤمن إذا مات وترك

ص: 244


1- المستدرك على الصحيحين، ج 1، ص 106؛ المحدث الفاصل، ص 364: عوالي اللآلي، ج 1، ص 68: مجمع الزوائد، ج 1، ص 196
2- الجامع الصحيح، ج 5 ، ص 39، ح 2666 ، تقييد العلم، ص 65 - 68: تدريب الراوي، ج 2، ص 66
3- سنن الدارمي ، ج 1، ص 130؛ تقييد العلم، ص 91؛ جامع بيان العلم وفضله ج 1، ص 82
4- الكافي، ج 1، ص 52، باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسك بالكتب، ح 9.
5- الكافي، ج 1، ص 52 باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسك بالكتب، ح 8
6- الكافي، ج 1، ص 52 باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسك بالكتب ح 10.
7- الكافي، ج 1، ص 52 ، باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسك بالكتب، ح 11.

ورقةً واحدةً عليها علم كانت الورقة ستراً فيما بينه وبين النار، وأعطاه الله تعالى بكلّ حرف مدينة أوسع من الدنيا وما فيها، ومن جلس عند العالم ساعةً ناداه الملك: جلست إلى عبدي، وعزّتي وجلالي لأسكنتّك الجنّة معه ولا أُبالي»(1).

الثانية: يجب على الكاتب إخلاص النيّة لله تعالى في كتابته، كما يجب إخلاصها في طلبة العلم؛ لأنّها عبادة وضرب من تحصيل العلم وحفظه، والقصد بها لغير الله تعالى من حظوظ النفس والدنيا كالقصد بالعلم، وقد تقدّم(2) من ذمّه ووعيده ما فيه كفاية.

ويزيد عنه - خيراً أو شرّاً - أنّه موقّع بيده ما يكون يوم القيامة حجّة له أو عليه، فلينظر ما يوقّعه؛ ويترتّب على خطّه ما يترتّب من خير أو شرّ، ومن سنّة أو بدعة يعمل بها في حياته وبعد موته دهراً طويلاً، فهو شريك في أجر من ينتفع به أو وزره، فلينظر ما يسبّبه.

ويعلم من ذلك أنّ ثواب الكتابة ربما زاد على ثواب العلم في بعض الموارد، بسبب كثرة الانتفاع به ودوامه، ومن هنا جاء تفضيل مداد العلماء على دماء الشهداء(3) حيث إنّ مدادهم ينفع بعد موتهم ودماء الشهداء لا تنفع بعد موتهم(4).

الثالثة (5): ينبغي لطالب العلم أن يعتني بتحصيل الكتب المحتاج إليها في العلوم النافعة ما أمكنه بكتابة أو شراء، وإلّا فبإجارة أو عارية، لأنّها آلة التحصيل وكثيراً ما تدرّب بها الأفاضل في الأزمنة السابقة، وحصل لهم بواسطتها ترقٍ زائد على من

ص: 245


1- أمالي الصدوق، ص 40 - 41، المجلس 10، ح 3 باختلاف يسير.
2- تقدّم في أوّل الباب الأوّل.
3- الفقيه، ج 4، ص 398 - 399، ح 5856؛ بحار الأنوار، ج 2، ص 14، نقلاً عن أمالي الصدوق؛ عدّة الداعي، ص 67 .
4- نقله في عدّة الداعي، ص 67 عن بعض العلماء ؛ ونقل ابن أبي جمهور الأحسائي في عوالي اللآلي، ج 4. ص 61. الهامش، وجهاً آخر في تفضيل مداد العلماء على دماء الشهداء، عن العلّامة الحلّي (رحمة الله عليه).
5- لاحظ تذكرة السامع، ص 164 .

لم يتمكّن منها، ولهم في ذلك أقاصيص يطول الأمر بشرحها(1).

ولا ينبغي للطالب أن يجعل تحصيلها وجمعها وكثرتها حظّه من العلم، ونصيبه من الفهم، بل يحتاج مع ذلك إلى التعب والجد والجلوس بين يدي المشايخ. ولقد أحسن القائل (2):

إذا لم تكن حافظاً واعياً *** فجمعك للكتب لا ينفع

الرابعة: أن لا يشتغل بنسخها إن أمكنه تحصيلها بشراء ونحوه؛ لأنّ الاشتغال بتحصيل العلم أهمّ. نعم لو تعذّر الشراء لعدم الثمن أو لعزّة الكاتب، فليكتب لنفسه، ولا يرضى بالاستعارة مع إمكان تملّكه.

ومتى آل الحال إلى النسخ فليشمّر له، فإنّ الله يعينه ولا يضيّع به حظّه من العلم، و لا يفوت الحظّ إلّا بالكسل. ومن ضبط وقته حصل مطلبه، وقد تقدّم(3) جملة صالحة في ذلك.

الخامسة(4) : يستحبّ إعارة الكتب لمن لا ضرر عليه فيها ممّن لا ضرر منه بها استحباباً مؤكّداً؛ لما فيه من الإعانة على العلم والمعاضدة على الخير والمساعدة على

ص: 246


1- ومن ذلك ما نقله القفطي في تاريخ الحكماء، ص 415 - 416، عن أبي عليّ ابن سينا، ثمّ عدت إلى العلم الإلهي وقرأت كتاب ما بعد الطبيعة، فما كنت أفهم ما فيه والتبس عليّ غرضُ واضعه حتّى أعدتُ قراءته أربعين مرّةً وصار لي محفوظاً وأنا مع ذلك لا أفهمه ولا المقصود به وأيست من نفسي، وقلت: هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه. فإذا أنا في يوم من الأيّام حضرت وقت العصر في الوراّقين وبيد دلال مجلّد ينادي عليه، فعرضه عليّ فرردته ردّ متبرَّم معتقدٍ أن لا فائدة في هذا العلم، فقال لي: اشتر منّي هذا؛ فإنّه رخيص أبيعكه بثلاثة دراهم وصاحبه محتاج إلى ثمنه. فاشتريته فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض مابعد الطبيعة، فرجعت إلى بيتي وأسرعتُ قراءته، فانفتح عليّ في الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب أنّه قد صار لي على ظهر القلب وفرحتُ بذلك وتصدّقتُ ثاني يومه بشيء كثير على الفقراء شكراً لله تعالى
2- هو محمّد بن بشير الأزدي كما في المحدث الفاصل، ص 388؛ وجامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 82 ومحاضرات الأدباء، ج 1، ص 49 وروضة العقلاء، ص 38، وقبله: أأشهدُ بالجهل في مجلس *** و علمي في الكتب مُسْتَوْدَعْ
3- لعلّه يريد ما تقدّم في القسم الأوّل من النوع الثالث من الباب الأول، ص 132 - 139.
4- لاحظ تذكرة السامع، ص 167 - 168: شرح المهذّب، ج 1، ص 67.

البرّ والتقوى، مع ما في مطلق العارية من الفضل والأجر. وقد قال بعض السلف: بركة العلم إعارة الكتب(1). وقال آخر: من بخل بالعلم ابتلي بإحدى ثلاث: أن ينساه، أو يموت فلا ينتفع به، أو تذهب كتبه(2). وينبغي للمستعير أن يشكر للمعير ذلك لإحسانه ويجزيه خيراً.

السادسة: إذا استعار كتاباً وجب عليه حفظه من التلف والتعيب، وأن لا يلطّ به ولا يطل مقامه عنده، بل يردّه إذا قضى حاجته، ولا يحبسه إذا استغنى عنه، لئلّا يفوت الانتفاع به على صاحبه ولئلّا يكسل عن تحصيل الفائدة منه، ولئلّا يمنع صاحبه من إعارة غيره إيّاه(3).

وأمّا إذا طلبه المالك حرم عليه حبسه ويصير ضامناً له، وقد جاء في ذمّ الإبطاء بردّ الكتب عن ؛؛ السلف أشياء كثيرة نظماً ونثراً(4)؛ وبسبب حبسها والتقصير في حفظها امتنع غير واحد من إعارتها.

السابعة (5): لا يجوز أن يصلح كتاب غيره المستعار أو المستأجر بغير إذن صاحبه، ولا يحشّيه، ولا يكتب شيئاً في بياض فواتحه وخواتمه، إلّا إذا علم رضا مالكه، وهو كما يكتبه المحدّث على جزء سمعه(6)، ولا يسوّده ولا يعيره غيره، ولا يودعه لغير

ص: 247


1- أدب الإملاء والاستملاء، ص 175؛ تدريب الراوي، ج 2، ص90؛ وفي شرح المهذّب، ج 1، ص 67 نُسِبَ إلى وكيع.
2- قاله سفيان الثوري كما في تدريب الراوي، ج 2، ص 90؛ وشرح المهذّب، ج 1، ص 67 ؛ قال المحدّث الجزائري (رحمه الله) في الأنوار النعمانية، ج 3، ص 371: وهذا شيء شاهدناه مراراً كثيرة، وقد كان لنا شيخ يحصل منه بعض البخل بالكتب، فبقيت كتبه بعده، قد باعتها بناته في الأسواق بأبخس قيمة؛ وكان لناشيخ آخر إذا طلبنا نحن أو غيرنا منه كتاباً وكان له حاجة إليه قلع الأوراق التي يحتاج إليها وأعطى الباقي، فنمت كتبه وانتفع العلماء بها وأعطاه الله تعالى أولاداً قابلين للعلم وفهمه.
3- انظر تقييد العلم، ص 146 - 150، في من سلك في إعارة الكتاب طريق البخل وظنّ به عمن ليس له بأهلٍ.
4- راجع تقييد العلم، ص 146 - 150: أدب الإملاء الاستملاء، ص 176 - 179.
5- لاحظ تذكرة السامع، ص 168 - 169.
6- هكذا في تذكرة السامع، ص 169، و ه_ ، ن»؛ ولكن في سائر النسخ: على حسب ما سمعه» بدل «على جزء سمعه»، وكيف ما كان فلا تخلو العبارة من الإبهام والإجمال.

ضرورة حيث يجوز شرعاً، ولا ينسخ منه بغير إذن صاحبه؛ فإنّ النسخ انتفاع زائد على الانتفاع بالمطالعة وأشقّ.

فإن كان الكتاب وقفاً على من ينتفع به غير معين فلا بأس بالنسخ منه لمن يجوز له إمساكه والانتفاع به مع الاحتياط ولا بأس بإصلاحه ممّن هو أهل لذلك من الناظر فيه أو من يأذن له، بل قد يجب، فإن لم يكن له ناظر خاص فالنظر فيه إلى الحاكم الشرعي.

وإذا نسخ منه بإذن صاحبه أو ناظره، فلا يكتب منه والقرطاس في بطنه، ولا يضع المحبرة عليه، ولا يمرّ بالقلم الممدود(1) فوق الكتابة.

وبالجملة فيجب حفظه من كلّ ما يعدّ عرفاً تقصيراً، وهو أمر زائد على حفظ الإنسان كتابه، فقد يجوز فيه ما لا يجوز في المستعار. خصوصاً المتهاون بحفظ الكتب، فإنّ كثيراً من الناس يمتهن كتابه في الغاية بسبب الطبع البارد، وهذا الأمر لا يسوغ في المستعار بوجه.

الثامنة(2) : إذا نسخ من الكتاب أو طالعه، فلا يضعه على الأرض مفروشاً منشوراً، بل يجعله بين كتابين مثلاً، أو كرسيّ على الوجه المعروف(3)، لئلا يسرع تقطيع حبكه وورقه وجلده.

التاسعة(4) : إذا وضع الكتب مصفوفة، فلتكن على كرسيّ، أو تحتها خشب أو رفّ ونحو ذلك، والأولى أن يكون بينها وبين الأرض خلو، ولا يضعها على الأرض كي لا تتندّي أو تبلى.

وإذا وضعها على خشب أو نحوه جعل فوقها وتحتها ما يمنع من تأكّل جلودها به،

ص: 248


1- يعني القلم الذي غمس في الدواة وبه مدادً قال في المصباح المنير، ص 68 ، «مدد»: المداد ما يكتب به ومددتُ من الدواة واستمددتُ منها: أخذتُ منها بالقلم للكتابة.
2- لاحظ تذكرة السامع، ص 170.
3- كرسيّ الكتب هو الرحل للكتاب، وحُبك الكتاب: شدّ أوراقه. تذكرة السامع، ص 170، الهامش.
4- لاحظ تذكرة السامع، ص 170 - 172.

وكذلك يجعل بينها وبين ما يصادمها أو يسندها من حائط أو غيره.

ويراعي الأدب في وضع الكتب باعتبار علومها وشرفها وشرف مصنّفها، فيضع الأشرف أعلى الكلّ، ثمّ يراعي التدريج، فإن كان فيها المصحف الكريم جعله أعلى الكلّ والأولى أن يكون في خريطة ذات عروةٍ في مسمار أو وتدٍ في حائط طاهر نظيف في صدر المجلس؛ ثمّ كتب الحديث الصرف، ثمّ تفسير القرآن، ثمّ تفسير الحديث، ثمّ أُصول الدين، ثمّ أُصول الفقه، ثمّ الفقه، ثمّ العربيّة.

ولا يضع ذات القطع الكبير فوق ذوات الصغير، لئلّا يكثر تساقطها، ولا يكثر وضع الردّة(1) في أثنائه لئلّا يسرع تكسّرها.

وينبغي أن يكتب اسم الكتاب عليه في جانب آخر الصفحات من أسفل(2)، وفائدته معرفة الكتاب وتيسّر إخراجه من بين الكتب.

العاشرة(3) : أن لا يجعل الكتاب خزانة للكراريس أو غيرها، ولا مخدّعة ولا مروحةً ولا مكنساً(4) ولا مسنداً [خ ل: ولا مستنداً] ولا متّكئاً ولا مقتلةً للبراغيث وغيرها، لا سيّما في الورق. ولا يطوي حاشية الورقة أو زاويتها، ولا يعلّم بعود أو بشيء جافٍ، بل بورقةٍ لطيفة ونحوها. وإذا ظفر فلا يكبس ظفره قويّاً.

الحادية عشرة(5) : إذا استعار كتاباً ينبغي له أن يتفقّده عند أخذه وردّه، وإذا اشترى كتاباً تعهّد أوّله وآخره ووسطه. وترتيب أبوابه وكراريسه، وتصفّح أوراقه واعتبر صحّته. وممّا يغلب على ظنّه صحته إذا ضاق الزمان عن تفتيشه أن يرى إلحاقاً أو

ص: 249


1- الردة هي القطعة الزائدة من الجلد فوق الدَّفة اليُسرى تذكرة السامع، ص 172،الهامش.
2- يعني ما يطلق عليه اليوم عطف الكتاب»، وزاد في تذكرة السامع ص ،172 هنا ويجعل رؤوس حروف هذه الترجمة إلى الغاشية التي من جانب البسملة.
3- لاحظ تذكرة السامع، ص 172 - 173.
4- هكذا في النسخ المخطوطة، ويحتمل أن يكون الصواب «ولا مكبساً»، كما في تذكرة السامع، ص 172؛ والمكبس كما في المعجم الوسيط، ص 773 «كبس» : آلة لِكَبس الصوف والورق وما أشبه.
5- لاحظ تذكرة السامع، ص 172 - 173.

إصلاحاً، فإنّه من شواهد الصحّة؛ حتّى قال بعضهم : لا يضيء الكتاب حتّى يظلم(1). يريد إصلاحه بالضرب والكشط، والإلحاق ونحوها.

الثانية عشرة(2) : إذا نسخ شيئاً من كتب العلم الشرعيّة، فينبغي أن يكون على طهارة مستقبلاً طاهر البدن والثياب والحبر والورق، ويبتدئ الكتاب بكتابة «بسم الله الرحمن الرحيم» و«الحمد لله والصلاة على رسوله وآله» وإن لم يكن المصنّف قد كتبها، لكن إن لم تكن من كلام المصنّف أشعر بذلك، بأن يقول بعد ذلك: قال المصنّف أو الشيخ، ونحو ذلك.

وكذلك يختم الكتاب بالحمدلة والصلاة والسلام، بعد ما يكتب: «آخر الجزء الفلاني، ويتلوه كذا وكذا» إن لم يكن كمل الكتاب ويكتب إذا كمل: «تمّ الكتاب الفلاني، أو الجزء الفلاني، وبتمامه تمّ الكتاب» ونحو ذلك، ففيه فوائد كثيرة.

وكلّما كتب اسم الله تعالى أتبعه بالتعظيم مثل: «تعالى» أو «سبحانه»، أو «عزّ وجلّ» أو «تقدّس» ونحو ذلك، ويتلفّظ بذلك أيضاً، وكلّما كتب اسم النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم كتب بعده الصلاة عليه وعلى آله والسلام، ويصلّي ويسلّم هو بلسانه أيضاً.

ولا يختصر الصلاة في الكتاب ولا يسأم من تكريرها ولو وقعت في السطر مراراً كما يفعل بعض المحرومين المتخلّفين من كتابة «صلعم» أو «صلم» أو «صم» أو «صلسم» أو «صله»؛ فإنّ ذلك كلّه خلاف الأولى والمنصوص، بل قال بعض العلماء: إنّ أوّل من كتب «صلعم» قطعت يده(3).

وأقلّ ما في الإخلال بإكمالها تفويت الثواب العظيم عليها، فقد ورد عنه صلی الله علیه و آله و سلّم أنّه قال: «من صلّى عليّ في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له ما دام اسمي في ذلك الكتاب»(4).

ص: 250


1- تذكرة السامع، ص 173
2- لاحظ تذكرة السامع، ص 173؛ فتح الباقي، ج 2، ص 128 - 132.
3- فتح الباقي، ج 2، ص 132؛ تدريب الراوي، ج 2، ص 77.
4- الترغيب والترهيب، ج 1، ص 110 - 111 ، ح 8؛ أدب الإملاء والاستملاء، ص 64 شرف أصحاب الحديث، ص 36. 111؛ مجمع الزوائد، ج 1، ص 136 - 137؛ إحياء علوم الدین، ج 1، ص 279؛ تدریب الراوي، ج 2، ص 74 - 75. وراجع للتوسع الكافي، ج 2، ص 491 - 495، كتاب الدعاء، باب الصلاة على النبي محمد وأهل بيته ، ح 1 - 21.

وإذا مرّ بذكر أحد من الصحابة - سيّما الأكابر - كتب «رضي الله عنه» أو «رضوان الله عليه»، أو بذكر أحد من السلف الأعلام كتب «رحمه الله» أو «تغمّده الله برحمته» ونحو ذلك. وقد جرت العادة باختصاص الصلاة والسلام بالأنبياء، وينبغي أن يجعل للأئمّة علیهم السلام السلام؛ وإن جاز خلاف ذلك كلّه، بل يجوز الصلاة على كلّ مؤمن، كما دلّ عليه القرآن والحديث(1).

وكتابة ما ذكر - من الثناء ونحوه - هو دعاء ينشئه لا كلام يرويه، فلا يتقيّد فيه بالرواية ولا بإثبات المصنّف، بل يكتبه وإن سقط من الأصل المنقول أو المسموع منه.

وإذا وجد شيئاً من ذلك قد جاءت به الرواية أو مذكوراً في التصنيف كانت العناية

ص: 251


1- دلّ عليه من القرآن الآية 157 من سورة البقرة (2) «... أُولَبِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَتْ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَبِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ»، والآية 103 من سورة التوبة (9).... وصلِّ عليهم إنّ صلاتك سكنٌ لهم؛ ومن الحديث: ماروي في جامع الفوائد المطبوع في أوّل إيضاح الفوائد، ج 1، ص 6؛ وتفسير ابن كثير، ج 2، ص 400؛ وصحيح مسلم، ج2، ص 757؛ وتفسير كشف الأسرار، ج 4، ص 196؛ وصبح الأعشى، ج 6، ص 228؛ وعوالي اللآلي، ج 2، ص 39- 40 : ج 2، ص 232، من أن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم قال: «اللهمّ صلّ على آل أبي أوفى»: وفي سنن ابن ماجة، ج 1، ص 572، ح 1796: عن عبدالله بن أبي أوفى كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم إذا أتاه الرجل بصدقة ماله صلّى عليه، فأتيته بصدقة مالي، فقال: «اللهمّ صلِّ على آل أبي أوفى»؛ وفي الجامع الصغير، ج 2، ص 100، حرف الكاف ؛ وشرحه فيض القدير، ج 5، ص 88، ح 6527: وتفسير ابن كثير، ج 2، ص 400 : كان النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: «اللهمّ صلِّ على آل أبي فلان، كنايةً عمّن ينبسون إليه»؛ وفي سنن أبي داود، ج 2، ص 88 - 89، ح 1533: أنّ امرأة قالت للنبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم : صلّ عليّ وعلى زوجي. فقال النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم : «صلى الله عليك وعلى زوجك». ونقل فخر المحقّقين عن كتاب نهاية الأحكام لوالده (قدّس سرّهما) أنّه قال: ... وذهبت الإمامية إلى جواز إطلاق صيغة (رضي الله عنه) على كلّ مؤمن ومؤمنة؛ لأنّه لا دليل على الاختصاص، فالقول به يكون إدخالاً في الدين ماليس منه. جامع الفوائد المطبوع من إيضاح الفوائد، ج 1، ص 6: وقال ابن أبي جمهور الأحسائي (رحمه الله) في عوالي اللآلي، ج 2، ص 40، الهامش: وهذا الحديث [يعني: اللهمّ صلّ على آل أبي أوفى] دالّ على جواز الصلاة لغير النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم، من سائر المؤمنين، تبعاً له، فإنه صلّى على آل أبي أوفى، وهو نصّ في الباب..... وقال المحدّث الجزائري (رحمه الله) في الجواهر الغوالي في شرح العوالي لم يجوّز العامّة الصلاة على آل محمّد وحده، مع جوازه على آحاد المؤمنين وعلى آل أبي أوفى والعذر ماقاله الزمخشري: إنه صار شعاراً للرافضة فلا ينبغي التشبه بهم عوالي اللآلي، ج 2، ص 40، الهامش.

بإثباته وضبطه أكثر. هذا هو الراجح ومختار الأكثر، وذهب بعض العلماء(1) إلى إسقاط ذلك كلّه من الكتابة مع النطق بذلك. وينبغي أن يذكر السلام على النبيّ مع الصلاة عملاً بظاهر الآية(2)، ولو اقتصر على الصلاة لم يكن به بأس.

الثالثة عشرة : لا يهتمّ المشتغل بالعلم بالمبالغة في حسن الخطّ، وإنّما يهتمّ بصحّته وتصحيحه. ويجتنب التعليق جدّاً، وهو خلط الحروف التي ينبغي تفريقها، والمشق وهو سرعة الكتابة مع بعثرة الحروف. وقال بعضهم وزن الخطّ وزن القراءة: أجود القراءة أبينها، وأجود الخطّ أبينه(3).

وينبغي أن يجتنب الكتابة الدقيقة؛ لأنّه لا ينتفع بها، أو لا يكمل الانتفاع بها لمن ضعف نظره، وربّما ضعف نظر الكاتب نفسه بعد ذلك؛ فلا ينتفع بها. قال بعض السلف(4) لكاتب - وقد رآه يكتب خطّاً دقيقاً : لا تفعل فإنّه يخونك أحوج ما تكون إليه.

وقال بعضهم: اكتب ما ينفعك وقت احتياجك إليه، ولا تكتب ما لا تنتفع به وقت الحاجة أي وقت الكبر وضعف البصر(5).

هذا كلّه في غير مسوّدات المصنّفين، فإنّ تأنّيهم في الكتابة يفوّت كثيراً من أغراضهم التي هي أهمّ من تجويد الكتابة؛ فمن ثمّ نراها غالباً عسرة القراءة مشتبكة الحروف والكلمات؛ لسرعة الكتابة واشتغال الفكر بأمر آخر.

ص: 252


1- هو أحمد بن حنبل، كما في فتح الباقي، ج 2، ص 129 - 131؛ ومقدّمة ابن الصلاح، ص 308؛ وتدريب الراوي. ج 2، ص 76؛ وشرح ألفية العراقي، ج 2، ص 129.
2- يعني الآية 56 من سورة الأحزاب (33): «إِنَّ اللهَ وَمَلَتيكتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَتأَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً».
3- شرح ألفية العراقي، ج 2، ص 122؛ صبح الأعشى، ج 3، ص 21، وفي الأوّل: ذكر ابن قتيبة عن ابن إبراهيم بن العباس: وزن الخطّ وزن.
4- هو أحمد بن حنبل، قاله لابن عمّه حنبل بن اسحاق، كما في فتح الباقي، ج 2، ص 121؛ وتدريب الراوي، ج 2، ص 71؛ وأدب الإملاء والاستملاء، ص 167؛ ومقدّمة ابن الصلاح، ص 304، وفي هذه المصادر الثلاثة الأخيرة: لا تفعل أحوج ما تكون إليه يخونك.
5- الخلاصة في أصول الحديث، ص 148: تذكرة السامع، ص 177.

الرابعة عشرة (1): قالوا : لا ينبغي أن يكون القلم صلباً جدّاً فيمنع سرعة الجري، أو رخواً فيسرع إليه الحفا. قال بعضهم(2): إذا أردت أن تجوّد خطّك، فأطل جلفتك وأسمنها، وحرّف قطّتك وأيمنها. وليكن السكين حادّة جداً لبراية الأقلام وكشط الورق، خاصّة لا تستعمل في غير ذلك، وليكن ما يقطّ(3) عليه القلم صلباً، ويحمدون في ذلك القصب الفارسي(4) اليابس جدّاً، والآبنوس(5) الصلب الصقيل.

الخامسة عشرة : ينبغي أن لا يقرمط الحروف ويأتي بها مشتبهة بغيرها، بل يعطي كلّ حرف حقّه، وكلّ كلمة حقّها، ويراعي من الآداب الواردة في ذلك ما روي عن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم أنّه قال لبعض كتّابه: «ألِقِ الدواة(6)، وحرّف القلم(7)، وانصب الباء، وفرّق السين، ولا تعوّر الميم، وحسّن الله ومدّ الرحمن وجوّد الرحيم، وضع قلمك على أذنك اليسرى فإنّه أذكر لك»(8).

ص: 253


1- لاحظ تذكرة السامع، ص 179 - 180 ؛ وانظر أدب الإملاء والاستملاء، ص 157 - 158.
2- هو عبدالحميد الكاتب، قاله لسلم بن قتيبة ورآه يكتب ردنياً، قال سلم بن قتيبة: فَفَعَلْتُ فجاد خطي. كمافي الإفصاح في فقه اللغة، ج 1، ص 218
3- قططتُ القلم قطاً، من باب قتل: قطعتُ رأسه عرضاً في بريه المصباح المنير، ص 613، «قطط»
4- قصب السكّر معروفٌ. القصب الفارسي منه صلب غليظ يعملَ منه المزامير ويُسَقَفُ به البيوت ومنه ما تُتَّخَذُ منه الأقلام المصباح المنير، ص 608، «قصب».
5- الآبنوس، بضمّ الباء: خشب معروفٌ، وهو معرّبٌ ويجلب من الهند واسمه بالعربيّة سأسم، بهمزة وزان جعفر، والأبنس بحذف الواو لغة فيه المصباح المنير، ص 6، «ابن».
6- لاقت الدواة يليقها ليقاً وليقة، وألاقها جعل لها ليقة والليقة: صوفة الدواة الإفصاح في فقه اللغة، ج 1، ص 219.
7- تحريف القلم: قطُّه محرّفاً. مختار الصحاح، ص 99، «حرف».
8- أدب الإملاء والاستملاء، ص 170، وليست فيه الجملة الأخيرة؛ وفي صبح الأعشى، ج 3، ص 39: أن رسول الله صلى الله عليه و اله و سلّم قال لمعاوية: «إذا كتبت كتاباً فضع القلم على أذنك». وقال لكاتبه: «ضع القلم على أذنك يكن أذكر لك». وقال لزيد بن ثابت: «ضع القلم على أذنك فإنّه أذكر لك»؛ وراجع أيضاً مجمع الزوائد، ج 7، ص 107؛ الجامع الصغير، ج 1، ص 34 حرف الهمزة. وفي نهج البلاغة، ص 530 الحكمة 315 قال لكاتبه عبيدالله بن أبي رافع: «ألق دواتك، وأطل جلفة قلمك، وفرّج بين السطور، وقرمط بين الحروف: فإن ذلك أجدر بصباحة الخط»؛ ومثله في غرر الحكم، ج 2، ص 232، ح 2459.

وعن زيد بن ثابت أنه قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم : «إذا كتبت «بِسْمِ اللهِ الرحْمنِ الرحيم» فبيّن السين فيه»(1).

وعن ابن عبّاس (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم : «لا تمدّ الباء إلى الميم حتّى ترفع السين»(2).

وعن أنس قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم : «إذا كتب أحدكم «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» فليمدّ الرحمن»(3).

وعنه أيضاً: «من كتب «بِسْمِ اللهِ الرحْمنِ الرَّحِيمِ» فجوّده تعظيماً لله غفر الله له»(4). وعن عليّ بن أبي طالب علیه السلام أنّه قال: «تنوق رجل في «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» فغفر له»(5).

وعن جابر (رضي الله عنه)، قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم : «إذا كتب أحدكم كتاباً فليترِّبه، فإنّه أنجح»(6).

ص: 254


1- الجامع الصغير، ج 1، ص 34 ، حرف الهمزة ؛ وشرحه فيض القدير، ج 1، ص 433، ح 835: کنز العمّال، ج 10، ص 244، ح 29300.
2- في صبح الأعشى، ج 2، ص 221: ولا يمد الباء قبل السين ثم يكتب السين بعد المدّة، فروي ... أنّ رسول الله صلى الله عليه و اله و سلم قال: «إذا كتب أحدكم بسم الله الرحمن الرحيم فلا يمدّها قبل السين. يعني الباء». وفي الكافي، ج 2، 672، باب بدون العنوان قبل الباب الآخر، ج 2، عن أبي عبدالله علیه السلام : «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم من أجود كتابك ولا تمدّ الباء حتّى ترفع السين».
3- الجامع الصغير، ج 1، ص 34 حرف الهمزة؛ وشرحه فيض القدير، ج 1، ص 433، ح 834، عن أنس كنز العمّال، ج 10، ص 244، ح 29299
4- الإتقان، ج 4، ص 182 عن أنس عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم ، وفيه: «مجودة» بدل «فجوده». وفي تفسير كشف الأسرار، ج 1، ص 8 - 9؛ وصبح الأعشى، ج 1، ص 221: «من كتب بسم الله الرحمن الرحيم فحسنه أحسن الله إليه».
5- الإتقان، ج 4، ص 182 ؛ وفي تفسير القرطبي، ج 1، ص 91.
6- الجامع الصحيح، ج 5، ص 66 ، ح 2713: أدب الإملاء والاستملاء، ص 174؛ محاضرات الأدباء، ج 1، ص 103؛ البيان والتبيين، ص 487 كنز العمال، ج 10، ص 245، ح 29306؛ صبح الأعشى، ج 6، ص 271. وفي الكافي، ج 2، ص 673: باب بدون العنوان قبل الباب الآخر ، ح 8 و تحف العقول، ص 326: عن أبي الحسن الرضا علیه السلام، أنه كان يترب الكتاب وقال لا بأس به»؛ وفي بحار الأنوار، ج 103 / 41 - نقلاً عن الخصال عن رسول الله (صلوات الله عليه وآله): تربوا الكتاب فإنّه أنجح للحاجة.

السادسة عشرة(1) : كرهوا في الكتابة فصل مضاف اسم الله تعالى منه كعبد الله، أو رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم؛ فلا يكتب عبداً ورسولاً في آخر سطر، والله مع ما بعده أوّل سطر آخر؛ لقبح الصورة. وهذه الكراهة للتنزيه.

ويلتحق بذلك أسماء النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم وأسماء الصحابة (رضي الله عنهم) ونحوها الموهم لخلل، كقوله «سابّ النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم كافر»، فلا يكتب «سابّ» مثلاً في آخر سطر، وما بعده في أوّل آخر.

بل ولا اختصاص للكراهة بالفصل بين المتضايفين، فغيرهما ممّا يستقبح فيه الفصل كذلك. وكذلك كرهوا جعل بعض الكلمة في آخر سطر، وبعضها في أوّل آخر.

السابعة عشرة(2) : عليه مقابلة كتابه بأصل صحيح موثوق به، وأولاه ما كان مع مصنّفه، ثمّ ما كان مع غيره من أصل بخط المصنّف، ثمّ بأصل قوبل معه إذا كان عليه خطّه، ثمّ ما قوبل به مع غيره ممّا هو صحيح مجرّب(3)، لأنّ الغرض المطلوب أن يكون کتابه مطابقاً لأصل المصنّف(4).

وبالجملة فمقابلة الكتاب - الذي يرام النفع منه على أيّ وجهٍ كان ممّا يفيد الصحّة - متعيّنة، فينبغي مزيد الاهتمام بها.

وقد قال بعض السلف(5) لابنه : كتبت؟ قال: نعم قال عرضت كتابك؟ قال: لا. قال:

ص: 255


1- لاحظ فتح الباقي، ج 2، ص 126 - 127 : وانظر مقدّمة ابن الصلاح، ص 306؛ تدريب الراوي، ج 2، ص 74؛ شرح ألفيّة العراقي، ج 2، ص 127: صبح الأعشى، ج 3، ص 148.
2- راجع تدريب الراوي، ج 2، ص 77.
3- هكذا في نسخة «م ، ز ، ض ، ح ، ع» ولكن في «ه- ، ط ، ن»: «مجرّد» بدل «مجرب» ولعلّ الصواب «مجرّدٌ» فيكون المراد مجرّداً عن خطّ المصنف. فتأمّل.
4- في مقدّمة ابن الصلاح، ص 311، جاء بعد هذه الجملة ... فسواءٌ حصل ذلك بواسطةٍ أو بغير واسطة.
5- هو عروة بن الزبير قال لابنه هشام كما في المحدث الفاصل، ص 544: جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 93: مقدمة ابن الصلاح، ص 310؛ تدريب الراوي، ج 2، ص 77؛ شرح ألفية العراقي، ج 2، ص 134؛ الكفاية في علم الرواية، ص 273

لم تكتب. وعن الأخفش(1) قال : إذا نسخ الكتاب ولم يعارض، ثمّ نسخ ولم يعارض خرج أعجميّاً(2).

وقد سبقه إليه الخليل بن أحمد (رحمه الله) فقال: «إذا نسخ الكتاب ثلاث مرّات ولم يعارض تحوّل بالفارسية»(3). إلّا أنّ الأخفش اقتصر على مرّتين.

الثامنة عشرة : إذا صحّح الكتاب بالمقابلة، فينبغي أن يضبط مواضع الحاجة فيعجم المعجم، ويشكل المشكل ويضبط المشتبه ويتفقّد مواضع التصحيف. أمّا ما يفهم نقطٍ وشكلٍ، فلا ينبغي الاعتناء بنقطه وشكله؛ لأنّه اشتغال بما غيره أولى منه، وتعب بلا فائدة، وربّما يحصل للكتاب به إظلام ولكن ينتفع به المبتدئ وكثير من الناس(4).

و روی جمیل بن درّاج قال: قال أبو عبد الله علیه السلام : «أعربوا حديثنا فإنّا قوم فصحاء»(5).

ص: 256


1- أعلم أنّ المعروفين بالأخفش أحد عشر شخصاً، وإذا أطلق الأخفش فالمراد الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة المتوفى سنة 215 ه_ - كما في الكنى والألقاب، ج 2، ص 16؛ وهدية الأحباب، ص 111. فيكون قائل هذا الكلام الأخفش الأوسط. ونقل عن الأخفش هذا الكلام عبدالله بن محمّد بن هانئ، كما في الكفاية في علم الرواية، ص 273. ويظهر من فهارس مقدّمة ابن الصلاح، ص 683 ، أنّ قائل هذا الكلام هو الأخفش المحدّث أحمد بن عمران البصري النحوي المتوفّى قبل سنة 250ه_ ؛ ولعله بعيد عن الصواب. وعلى أي حال انظر ترجمة الأخفش الأوسط ومصادر ترجمته في الأعلام، ج 3، ص 101 - 102؛ ووفيات الأعيان، ج 2، ص 380 - 381؛ ومعجم المؤلفين، ج 4، ص 231 - 232؛ وانظر ترجمة الأخفش المحدث، أحمد بن عمران البصري ومصادر ترجمته في الأعلام، ج 1، ص 189.
2- مقدّمة ابن الصلاح، ص 310؛ تدريب الراوي، ج 2، ص 77؛ شرح ألفية العراقي، ج 2، ص 134؛ الكفاية في علم الرواية، ص 273
3- تنبيه الخواطر، ج 1، ص 84
4- لاحظ فتح الباقي، ج 2، ص 119 - 120.
5- الكافي، ج 1، ص 52 باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسك بالكتب، ح 13. قال العلّامة الحاج الميرزا أبو الحسن الشعراني (رحمه الله ) في تعاليقه على شرح الكافي للمولى محمد صالح المازندراني (رحمه الله)، في ذيل هذا الحديث .. الأظهر أن المراد من الإعراب معناه اللغوي، وهو الإفصاح والبيان، فمعنى الحديث: إنا قوم فصحاء لا نتكلم بألفاظ مشتبهة وعبارات قاصرة الدلالة، فإذا نقلتم حديثنا لا تغيّروا ألفاظها وعباراتها بألفاظ مبهمةٍ يختل بها فهم المعنى ويشتبه المقصود، كما يتفق كثيراً في النقل بالمعنى شرح الكافي ج 2، ص 270 - 271

ومن مهمّات الضبط ما يقع بسببه اختلاف المعنى كحديث «ذكاة الجنين ذكاة أُمّه»(1).

وكذلك ضبط الملتبس من الأسماء، إذ هي سماعية.

وإن احتاج إلى ضبطه في الحاشية قبالته فعل؛ لأنّه أبعد من الالتباس سيّما عند دقّة الخطّ وضيق الأسطر. وإذا أوضحه في الحاشية كتب عليه فيها «بيان» أو حرف «ن».

وقد جرت العادة في ضبط الأحرف بضبط الحروف المعجمة بالنقط، وأمّا المهملة، فلهم في ضبطها طرق:

منها: أن لا يتعرّض لها ويجعل الإهمال علامةً عليها، ولم يرتضه جماعة، فقد يغفل المعجم سهواً ونحوه، فيشتبه بالمهمل.

ومنها(2) : أن ينقطها من أسفل بنحو نقط نظيرها المعجم من أعلى فينقط الراء والدال من أسفل نقطة، والسين من أسفل ثلاثاً وهكذا. واستثني منها الحاء، فلا ينقط من مثلا أسفل لئلا يلتبس بالجيم.

ومنها: أن يكتب مثل ذلك الحرف منفرداً، والأولى أن يكون تحته، وأن يكون أصغر ممّا في الأصل.

ص: 257


1- الجامع الصغير، ج 2، ص 19، حرف الذال الكافي، ج 1، ص 234 - 235 ، باب الأجنّة التي تخرج من بطون الذبائح، ح 1 و 4 ؛ الفقيه، ج 3، ص 209، ح 965 - 966؛ مجمع الزوائد، ج 4، ص 35؛ سنن الدارقطني ، ج 4. ص 274 - 275. قال الشهيد الثاني في شرح اللمعة، ج 7، ص 248 - 252، كتاب الذباحة. ... هذا لفظ الحديث النبويّ صلی الله علیه و آله و سلّم، وعن أهل البيت علیهم السلام مثله، والصحيح روايةً وفتوى أنّ ذكاة الثانية مرفوعة خبراً عن الأُولى، فتنحصر ذكاته في ذكاتها، لوجوب انحصار المبتدأ في خبره، فإنّه إمّا مساءٍ أو أعمّ وكلاهما يقتضي الحصر، والمراد بالذكاة هنا السبب المحلّل للحيوان كذكاة السمك والجراد... وربما أعربها بعضهم بالنصب على المصدر، أي ذكاته كذكاة أُمّه، فحذف الجارّ ونصب مفعولاً، وحينئذ فتجب تذكيته كتذكيتها، وفيه مع التعسف مخالفة لرواية الرفع دون العكس، لإمكان كون الجار المحذوف «في»، أي داخلة في ذكاة امه جمعاً بين الروايتين، مع أنه الموافق أهل البيت ، وهم أدرى بما في البيت، وهو في أخبارهم كثير صريح فيه ....
2- لاحظ فتح الباقي، ج 2، ص 123 - 124؛ وراجع تدريب الراوي، ج 2، ص 71؛ مقدمة ابن الصلاح، ص 305.

ومنها: أن يكتب على المهمل شكلة صغيرة كالهلال أو كالقلامة(1) مضطجعة على قفاها هكذا سّ].

ومنها: أن يخطّ عليها خطّاً صغيراً، وهو موجود في كثير من الكتب القديمة، ولا يفطن له كثير لخفائه. ومن الضبط أن يكتب في باطن الكاف المعلّقة(2) كاف صغيرة أو همزة، وفي باطن اللام لام صغيرة(3).

التاسعة عشرة(4) : ينبغي أن يكتب على ما صحّحه وضبطه في الكتاب وهو في محلّ شكٍّ عند مطالعته أو تطرّق احتمال: «صحّة» [ظ : «صح»] صغيرة. ويكتب فوق ما وقع في التصنيف أو في النسخ وهو خطأ: «كذا» صغيرة، ويكتب في الحاشية: «صوابه كذا» إن كان يتحقّقه، أو لعلّه كذا إن غلب على ظنّه أنّه كذلك، أو يكتب على ما أشكل عليه ولم يظهر له وجهه «ص»، وهي صورة رأس صاد مهملة مختصرة من «صحّ». - قال بعضهم(5): ويجوز أن تكون معجمة مختصرة من «ضبّة» - وتكتب فوق

ص: 258


1- القُلامة، بالضمّ: هي المقلومة من طرف الظفر. المصباح المنير، ص 623، «قلم». اعلم أنّه قال في شرح ألفية العراقي، ج 2، ص 123: ... الثالثة أن يجعل فوق الحرف المهمل صورة هلال كقلامة الظفر، مضجعة على قفاها؛ وفي فتح الباقي، ج 2، ص 123: ... أو يكتب فوقه قلامة أي صورة هلال كقلامة الظفر مضجعة على قفاها لتكون فرجتها إلى فوق.
2- في تدريب الراوي، ج 2، ص 72. ... فالكاف إذا لم تكتب مبسوطة، تكتب في بطنها كاف صغيرة أو همزة ؛ وفي صبح الأعشى، ج 3، ص 155 ... وإن كانت معراة رسم عليها كاف صغيرة مبسوطة لأنها ربما التبست باللام : وفيه: أيضاً ج 3، ص 80 - 81: وأما المعراة فلا تكون إلا طرفاً أخيراً وهذه الكاف لا تجمع أبداً؛ فإنّ مواضعها أواخر السطور... وأمّا المشكولة فلا تكون إلا مركبة وموضعها الابتداءات والوسط، ولا تنفرد ألبتة.... فأما المبسوطة فتكون مفردة ومركبة، وإفرادها قليل والمركبة موضعها الابتداءات والوسط، ولا تكون طرفاً أخيراً .حال... وإنّما سمّيت مشكولة للجرة التي عليها. وعلى هذا، فالكاف المعلقة هي التي لم تكن مشكولة ولا مبسوطةً وكانت طرفاً أخيراً أو مفردة، وهي الشبيهة باللام.
3- في تدريب الراوي، ج 2، ص 72: واللام يكتب في بطنها ،لام، أي هذه الكلمة بحروفها الثلاثة لاصورة ل هكذا ل.
4- لاحظ تذكرة السامع، ص 182.
5- هو زكريا محمد الأنصارى الأزهري الشافعي قاله في فتح الباقي، ج 2، ص 143.

الكتابة غير متّصلة بها لئلّا يظنّ ضرباً أو غيره، فإذا تحقّقه هو أو غيره بعد ذلك، و كان المنقول صواباً زاد تلك الصاد حاء فيصير «صحّ».

قيل (1): وأشاروا إلى أنّ الضبّة نصف «صحّ» وأنّ الصحّة لم تكمل فيما هي فوقه مع صحّة روايته ومقابلته مثلاً، وإلى تنبيه الناظر فيه على أنّه منقّب في نقله غير غافل، فلا يظنّ أنّه غلط فيصلحه. وقد يتجاسر بعضهم فيغيّر ما الصواب إبقاؤه. واستعير لتلك الصورة اسم الضبّة لشبهها بضبّة الإناء التي يصلح بها خلله، بجامع أن كلّا منهما جعل على ما فيه خلل أو بضبّة الباب لكون المحلّ مقفلاً بها لا يتّجه ،قراءته، كما أنّ الضبّة يقفل بها(2).

العشرون (3): إذا وقع في الكتاب زيادة أو كتب فيه شيء على غير وجهه تخيّر فيه بين ثلاثة أُمور:

الأوّل: الكشط، وهو سلخ الورق بسكّين ونحوها، ويعبّر عنه بالبشر - بالباء

ص: 259


1- القائل زكريّا بن محمّد الأنصاري في كتابه فتح الباقي، ج 2، ص 144. وقوله: «إنّ الضبة نصف صحّ» ليس المراد به أنّ الضبة نصف كلمة «صحّ» كما هو ظاهره؛ بل المراد أنّ هذه العلامة -: «ص» التي تُسمّى بالتضبيب والضبة تشعر بأنّ الكلام الذي هي فوقها صحّ وروده كذلك، غير أنه فاسد لفظاً أو معنى، أو ضعيف أو ناقص. قال ياقوت الحموي في معجم الأُدباء، ج 2، ص 65 ، في ترجمة إبراهيم بن محمّد بن زكريّا حُكيَ عنه أنّه قال: كان شيوخنا من أهل الأدب يتعالمون أنّ الحرف إذا كتب عليه صحّّ - بصادٍ وحاءٍ كان ذلك علامةً لصحة الحرف؛ لئلّا يتوهَّمَ متوهّمُ عليه خللاً أو نقصاً، فوضع حرفٌ كاملُ على حرف صحيح، واذا كان عليه صادُ ممدودة دون حاء. كان علامة أنّ الحرف مُقْفَل بها، لم يتّجه لقراءة كما أنّ الضيَّةَ مُقفلٌ بها. قال المؤلّف: وهذا كلام على طلاوة من غير فائدة تامّةٍ، وإنّما قصدوا بكتبهم على الحرف «صحّ» أنّه كان شاكّاً في صحّة اللفظة، فلما صحّت له بالبحث خشي أن يعاوده الشكّ، فكتب عليها «صحّ» ليزول شكّه فيما بعد، ويعلم هو أنّه لم يكتب عليها صحًّ إلّا وقد انقضى اجتهاده في تصحيحها. وأمّا الضيَّةُ التي صورتها «ص» فإنّما هو نصف صحٌ، كتبه على شيء فيه شكّ ليبحث عنه فيما يستأنفه، فإذا صحّت له أتمّها بحاء، فتصير صحٍّ، ولو علَِّمَ عليها بغير هذه العلامة لتَكلَّفَ الكشُطَ وإعادة صحَّ مكانها.
2- لاحظ فتح الباقي، ج 2، ص 143 - 144؛ وانظر للمزيد مقدّمة ابن الصلاح، ص 316؛ وتدريب الراوي، ج 2، ص 83
3- لاحظ فتح الباقي، ج 2، ص 146 - 151.

الموحدة - وبالحكّ، وسيأتي(1) أنّ غيره أولى منه، وهو أولى في إزالة نقطةٍ أو شكلةٍ أو نحو ذلك.

الثاني: المحو، وهو الإزالة بغير سلخ إن أمكن، بأن تكون الكتابة في ورق صقيل جدّاً في حال طراوة المكتوب وأمن نفوذ الحبر، وهو أولى من الكشط لأنّه أقرب زمناً وأسلم من فساد المحلّ غالباً. ومن الحيل الجيّدة عليه لعقه رطباً بخفّة ولطافة؛ ومن هنا قال بعض السلف : «من المروّة أن يرى في ثوب الرجل وشفتيه مداد»(2).

والثالث: الضرب عليه وهو أجود من الكشط والمحو، لا سيّما في كتب الحديث، لأنّ كلّاً منهما يضعّف الكتاب، ويحرّك تهمةً(3)، وربما أفسد الورق.

وعن بعض المشايخ أنّه كان يقول: كان الشيوخ يكرهون حضور السكّين مجلس السماع حتّى لا يبشر شيء(4)، ولأنّه ربما يصحّ في رواية أُخرى، وقد يسمع الكتاب مرّةً أُخرى على شيخ آخر يكون ما بشر صحيحاً في روايته، فيحتاج إلى إلحاقه بعد بشره. ولو خطّ عليه في رواية الأوّل، وصحّ عند الآخر اكتفي بعلامة الآخر عليه بصحّته. وفي كيفيّة الضرب خمسة أقوال(5):

أحدها: أن يصل بالحروف المضروب عليها ويخطّ بها خطّاً ممتدّاً، ويسمّى عند المغاربة بالشقّ(6)، وأجوده ما كان دقيقاً بيّناً يدلّ على المقصود، ولا يسودّ الورق ولا يطمس الحروف، ولا يمنع قراءة ما تحته.

ص: 260


1- يأتي بعد عدّة سطور.
2- قاله إبراهيم النخعي كما في مقدّمة ابن الصلاح، ص 319.
3- في المحدّث الفاصل، ص 606؛ ومقدّمة ابن الصلاح، ص 319: قال: أصحابنا: الحكّ تهمة.
4- فتح الباقي، ج 2، ص 147؛ مقدّمة ابن الصلاح، ص 317
5- لاحظ فتح الباقي، ج 2، ص 148؛ وراجع مقدمة ابن الصلاح، ص 317؛ تدريب الراوي، ج 2، ص 84
6- قال في تدريب الراوي، ج 2، ص 84 والشقُّ عند أهل المغرب - وهو بفتح المعجمة وتشديد القاف : من الشقّ وهو الصدع، أو من شقّ العصا، وهو التفريق، كأنّه فرق بين الزائد وما قبله وبعده من الثابت بالضرب.

وثانيها: أن يجعل الخطّ فوق الحروف منفصلاً عنها منعطفاً طرفاه على أوّل المبطل وآخره ومثاله هكذا«.....».

وثالثها: أن يكتب لفظة «لا» أو لفظة «من» فوق أوّله ولفظة «إلى» فوق آخره ومعناه: من هنا ساقط إلى هنا، أو: لا يصحّ مثلاً هذا إلى هنا. ومثل هذا يحسن فيما صحّ في رواية، وسقط في أُخرى، ومثاله هكذا: «لا... إلى» أو هكذا «من... إلى».

ورابعها: أن يكتب في أوّل الكلام المبطل وفي آخره نصف دائرة، ومثاله هكذا: «(...)» ، فإن ضاق المحلّ جعله في أعلى كلّ جانب.

وخامسها: أن يكتب في أوّل المبطل وفي آخره صفراً، وهو دائرة صغيرة سمّيت بذلك لخلوّ ما أشير إليه بها من الصحّة كتسمية الحُسّاب لها بذلك، لخلوّ موضعها من عدد، مثاله هكذا «ه....ه»، فإن ضاق المحلّ جعل ذلك في أعلى كلّ جانب. ومنهم من يصل بين المبطل مكان الخطّ نقطاً متتالية. ولو كان المبطل أكثر من سطر فإن شئت علّم بما ذكر في الثلاثة الأخيرة من الخمسة في أول كلّ سطر وآخره، وإن شئت علّم بها في طرف الزائد فقط.

وإذا تكرّرت كلمة أو أكثر سهواً ضرب على الثانية لوقوع الأولى صواباً في موضعها إلّا إذا كانت الثانية أجود صورةً أو أدلّ على القراءة. وكذا إذا كانت الأولى آخر سطر فإنّ الضرب عليها أولى صيانةً لأوّل السطر.

وإذا كان في المكرّر مضاف ومضاف إليه أو صفة وموصوف أو متعاطفان أو مبتدأ وخبر، فمراعاة عدم التفريق بين ما ذكرنا - والضرب على المتطرّف من المتكرّر لا على المتوسط، لئلّا يفصل بالضرب بين شيئين بينهما ارتباط - أولى من مراعاة الأوّل أو الأخير أو الأجود(1)، إذ مراعاة المعاني أحقّ من تحسين الصورة في الخطّ(2).

ص: 261


1- يعني ب الأجود منهما صورة أو أدلّ على القراءة؛ وعلى هذا فلا يضرب على المتكرّر بينهما، بل على الأوّل في المضاف والموصوف والمبتدأ، وعلى الآخر في المضاف إليه والصفة والخبر.
2- لاحظ فتح الباقي، ج 2، ص 150 - 151 : وانظر للمزيد مقدمة ابن الصلاح، ص 318

وإذا ضرب على شيء ثمّ تبيّن له أنه كان صحيحاً، وأراد عود إثباته كتب في أوّله وآخره «صحّ» صغيرة، وله أن يكرّرها عليه ما لم يؤدّ إلى تسويد الورق، ويختار التكرار فيما إذا ضرب بالخطّ المتّصل أو المنفصل أو النقط المتتالية، وعدمه فيما إذا ضرب بغير ذلك من العلامات، ويحسن حينئذٍ أن يضرب على العلامة من «مِن» و «لا» و «إلى» ونصف الدائرة، والصفر، ويكتب لفظ «صحّ».

الحادية والعشرون(1) : إذا أراد تخريج شيء سقط، ويسمّى اللحق - بفتح الحاء - مشتقّ من اللحاق - بالفتح - أي الإدراك فليخرّجه في الحاشية، وهو أولى من جعله بين السطور لسلامته من تضييقها وتغليس ما يقرأ، سيّما إذا كانت السطور ضيّقةً متلاصقةً. قالوا: وجهة اليمين من الحواشي أولى إن أمكن بأن اتّسعت، لشرفها و لاحتمال سقط آخر فيخرّجه إلى جهة اليسار. فلو خرّج الأوّل إلى اليسار، ثمّ ظهر سقط آخر في السطر، فإن خرّج له إلى اليسار أيضاً اشتبه محلّ [أحد] السقطين بمحلّ الآخر، أو إلى اليمين تقابل طرف(2) التخريجين، وربّما التقيا لقرب السقطين(3)، فيظنّ أنّ ذلك ضرب على ما بينهما على ما مرّ في كيفيّة الضرب فالابتداء باليمين وجعله ضابطاً يزيل الاشتباه إلّا أن يكثر السقط في السطر الواحد وهو نادر.

نعم، إن كان الساقط آخر سطر ألحقه بآخره مطلقاً للأمن حينئذٍ [من نقص فيه بعده](4)، وليكن متّصلاً بالأصل؛ ولا يكتبه في أوّل السطر بعده ولا يلحقه في الحاشية

ص: 262


1- لاحظ فتح الباقي، ج 2، ص 137 - 141: وانظر مقدمة ابن الصلاح، ص 313؛ تدريب الراوي، ج 2، ص 80
2- في فتح الباقي، ج 2، ص 137؛ وتدريب الرواي، ج 2، ص 80: «طرفا» بدل «طرف» وهو أولى.
3- عبارة ابن الصلاح هنا أوضح، فلننقلها مزيداً للفائدة، قال: ... وقلنا أيضاً يخرّجه في جهة اليمين؛ لأنه لو خرجه إلى جهة الشمال فربما ظهر بعده في السطر نفسه نقص آخر، فإن خرجه قدامه إلى جهة الشمال أيضاً وقع بين التخريجين إشكال، وإن خرج الثاني إلى جهة اليمين التقت عطفة تخريج جهة الشمال وعطفة تخريج جهة اليمين أو تقابلتا، فأشبه ذلك الضرب على ما بينهما؛ بخلاف ما إذا خرج الأوّل إلى جهة اليمين، فإنه حينئذ يخرج الثاني إلى جهة الشمال، فلا يلتقيان ولا يلزم إشكال مقدمة ابن الصلاح، ص 313؛ ولاحظ فتح الباقي، ج 2، ص 137 - 138.
4- زيادة لازمة لتوضيح المراد من فتح الباقي، ج 2، ص 138، وليست في المخطوطات والمطبوعات.

اليمنى، نعم إن ضاق المحلّ لقرب الكتابة من طرف الورقة أو للتجليد خرّج إلى الجهة الأُخرى.

وليكن كتب الساقط، من أيّ جهةٍ كان التخريج ، صاعداً لفوق إلى أعلى الورقة(1)، لا نازلاً به إلى أسفلها لاحتمال تخريج آخر ،بعده، فلا يجد له محلّاً مقابله. ويجعل رؤوس الحروف إلى جهة اليمين سواء كان في جهة يمين الكتابة أم يسارها.

وينبغي أن يحسب الساقط، وما يجيء منه من الأسطر قبل أن يكتبها، فإن كان سطرين أو أكثر جعل السطور أعلى الطرّة(2) نازلاً بها إلى أسفل، بحيث تنتهي السطور إلى جهة الكتابة إن كان التخريج عن يمينها، وإن كان عن يسارها ابتدأ الأسطر من جانب الكتابة بحيث تنتهي سطوره إلى طرف الورقة فإن انتهى الهامش قبل فراغ الساقط كمّل في أعلى الورقة أو أسفلها بحسب ما يكون من الجهتين.

ولا يوصل الكتابة والأسطر بحاشية الورقة من أيّ جهة كانت بل يدع مقداراً يحتمل الحكّ عند حاجته مرّاتٍ.

ثمّ كيفية التخريجة للساقط أن يجعل في محلّه من السطر خطّاً صاعداً إلى تحت السطر الذي فوقه منعطفاً قليلاً إلى جهة التخريج من الحاشية ليكون إشارة إليه، [هكذا: ...[ ... أو -...] ...].

واختار جماعة من العلماء(3) أن يصل بين الخطّ وأوّل الساقط بخط ممتدّ بينهما هكذا: ...] ... -أو -...[..]. وهو غير مرضيّ عند الباقين(4)، لاشتماله على تسويد الكتاب، سيّما إن كثر التخريج. نعم إن لم يكن ما يقابل محلّ السقوط خالياً، واضطرّ إلى كتابته بمحلّ آخر اختير مدّ الخط إلى أوّل الساقط، أو كتب قبالة المحلّ: «يتلوه كذا في

ص: 263


1- راجع لتوضيح المراد فتح الباقي، ج 2، ص 138؛ شرح ألفية العراقي، ج 2، ص 139.
2- الطُّرَّة: حاشية الكتاب. انظر المعجم الوسيط، ص 554؛ ولسان العرب، ج 4، ص 500.
3- منهم ابن خلاد، كما في مقدّمة ابن الصلاح، ص 313؛ تدريب الراوي، ج 2، ص 80؛ ولاحظ أيضاً فتح الباقي، ج 2، ص 140
4- منهم ابن الصلاح في مقدمة ابن الصلاح، ص 313

المحلّ الفلاني» أو نحوه ممّا يزيل اللبس.

وإذا كتب الساقط في التخريج وانتهى منه كتب في آخره: «صحّ»، وتصغيرها أولى، وبعضهم يكتب «صحّ رجع»، وبعضهم يقتصر على «رجع»(1).

الثانية والعشرون: إذا صحّح الكتاب على الشيخ أو في المقابلة علّم على موضع وقوفه ب- «بلغ» أو «بلغت» أو «بلغ العرض» أو نحو ذاك ممّا يفيد معناه، وإن كان ذلك بخط الشيخ فهو أولى؛ ففيه فوائد جمّة من أهمها الوثوق بالنسخة والاعتماد عليها على تطاول الأزمنة إذا كان الشيخ أو المقابل معروفاً بالثقة والضبط ؛ فإنّ ذلك ممّا يحتاج إليه سيّما في هذا الزمان؛ لضعف الهمّة وفتور العزيمة في الأزمنة المتقاربة لزماننا عن مباشرة التصحيح والضبط خصوصاً لكتب الحديث، فالاعتماد على تصحيح الثقات السابقين مع الاجتهاد في تحقيق الحقّ بحسب الإمكان.

الثالثة والعشرون: ينبغي أن يفصل بين كلّ كلامين أو حديثين بدائرة أو ترجمة أو قلم غليظ، ولا يوصل الكتابة كلّها على طريقة واحدة؛ لما فيه من عسر استخراج المقصود و تضييع الزمان فيه.

ورجّحوا الدائرة على غيرها، وعمل عليها غالب المحدثين(2)، واختار بعضهم(3) إغفال الدائرة حتّى يقابل، وكلّ كلام يفرغ منه ينقط في الدائرة التي تليه نقطة وفي المقابلة الثانية ثانية، وهكذا.

ص: 264


1- راجع مقدّمة ابن الصلاح، ص 313؛ تدريب الراوي، ج 2، ص 81؛ شرح ألفية العراقي، ج 2، ص 141؛ فتح الباقي ، ج 2، ص 141
2- راجع مقدّمة ابن الصلاح، ص 306 تدریب الراوى، ج 2، ص 73
3- هو الخطيب البغدادي كما في مقدّمة ابن الصلاح، ص 306؛ وفتح الباقي، ج 2، ص 126؛ وشرح ألفية العراقي، ج 2، ص 125 - 126؛ والخلاصة في أُصول الحديث، ص 148؛ وتدريب الراوي، ج 2، ص 73. والمراد بإغفال الدائرة، تركها من النقط بحيث يكون غفلاً لا أثر بها، لا تركها رأساً، كما لا يخفى: قال السيوطي: واستحب الخطيب أن تكون الدائرات غفلاً، فإذا قابل نقط وسطها أي نقط وسط كلّ دائرة عقب الحديث الذي يفرغ منه. تدريب الراوي، ج 2، ص 73؛ وفي فتح الباقي، ج 2، ص 126: إغفالها، أي تركها من النقط بحيث تكون غفلاً لا أثر بها إلى أن يقابل كتابه بالأصل أو نحوه.

الرابعة والعشرون(1) : لا بأس بكتابة الحواشي والفوائد والتنبيهات المهمّة على غلط أو اختلاف رواية أو نسخة، أو نحو ذلك، على حواشي كتاب يملكه، أو لا يملكه بالإذن، ولا يكتب في آخر ذلك «صحّ».

ويخرّج لها بأعلى وسط كلمة المحلّ التي كتبت الحاشية لأجلها لا بين الكلمتين(2). أو يجعل بدل التخريجة إشارةً بالهندي(3)؛ وكلّ ذلك ليتميّز هذا عن تخريج الساقط في الأصل.

وبعضهم يكتب على أوّل المكتوب من ذلك: «حاشية» أو «فائدة» مثلاً أو صورة «حشة»، وبعضهم يكتب ذلك في آخره(4).

ولا ينبغى أن يكتب إلّا الفوائد المهمّة المتعلّقة بذلك المحلّ، ولا يسوّده بنقل المباحث والفروع الغريبة، كما اتّفق لبعض غفلة أهل هذا العصر الذين لم يقفوا علی مصطلح العلماء، فأفسدوا أكثر الكتب ولا ينبغي الكتابة بين الأسطر مطلقاً.

الخامسة والعشرون: ينبغي كتابة التراجم والأبواب والفصول، ونحو ذلك بالحمرة ونحوها؛ فإنّه أظهر في البيان وفي فواصل الكلام. ولك في كتابة شرح ممزوج بالمتن أن تميّز المتن بكتابته بالحمرة، أو تخطّ عليه بها خطّاً منفصلاً عنه ممتدّاً عليه كالصورة الثانية من صور الضرب المارّة، لكن تميّزه عن الضرب بترك انعطاف الخطّ من طرفيه.

وكتابة جميع المتن بالحمرة أجود؛ لأنه قد يمتزج بحرف واحد، وقد تكون الكلمة الواحدة بعضها متن وبعضها شرح، فلا يوضح ذلك بالخطّ إيضاحه بالحمرة.

والله الموفّق.

ص: 265


1- لاحظ تذكرة السامع، ص 186 - 191: فتح الباقي، ج 2، ص 142
2- راجع لتوضيح المراد فتح الباقي، ج 2، ص 141 - 142.
3- أي بالأرقام الهندية، وهي علامات الأعداد المعروفة: 1، 2، 3، 4، 6،5... إلى آخره، ويقال: إنّ منشأها من الهند، انظر في ذلك فرهنگ فارسی، ج 1، ص 204، «أرقام».
4- راجع فتح الباقي، ج 2، ص 142: تذكرة السامع، ص 186 - 191.

ص: 266

الخاتمة

اشارة

فتشتمل على مطالب مهمّة :

ص: 267

ص: 268

المطلب الأوّل: في أقسام العلوم الشرعيّة وما تتوقّف عليه من العلوم العقليّة والأدبيّة

اشارة

وفيه فصلان:

[الفصل] الأوّل: في أقسام العلوم الشرعيّة الأصليّة

وهي أربعة: علم الكلام، وعلم الكتاب العزيز، وعلم الأحاديث النبويّة، وعلم الأحكام الشرعيّة المعبّر عنها بالفقه.

فأمّا علم الكلام: ويعبر عنه بأُصول الدين، فهو أساس العلوم الشرعيّة وقاعدتها، لأنّ به يعرف الله تعالى ورسوله وخليفته، وغيرها [خ ل غيرهما؟] ممّا يشتمل عليه، وبه يعرف صحيح الآراء من فاسدها وحقّها من باطلها. وقد جاء في الحتّ على تعلمه وفضله كثير من الكتاب والسنّة: قال الله تعالى: «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الله»(1).

ص: 269


1- محمّد (47): 19

وقال تعالى: «أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِى أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ»(1).

وقال تعالى: «أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ»(2).

ومرجع ذلك إلى الأمر بالنظر والاستدلال بالصنعة المحكمة والآثار المتقنة على الصانع الواحد القادر العالم الحكيم.

وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم : «ما قلت، ولا قال القائلون قبلي مثل لا إله إلا الله»(3).

وعن أبي عبد الله علیه السلام، عن أبيه، عن جدّه قال: قال رسول الل صلی الله علیه و آله و سلّم ه: «من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنّة»(4).

وعنه علیه السلام، عن آبائه، عن عليّ علیه السلام في قول الله عزّ وجلّ: «هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَنِ إِلَّا الإحْسَنُ»(5).

قال عليّ علیه السلام : «سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم يقول: إنّ الله عزّ وجلّ قال: ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلّا الجنّة»(6).

وعن ابن عبّاس قال: جاء أعرابي إلى النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم، فقال : يا رسول الله علّمني من غرائب العلم قال: «ما صنعت في رأس العلم حتّى تسأل عن غرائبه؟» قال الرجل: ما رأس العلم يا رسول الله؟ قال: «معرفة الله حقّ معرفته؟» قال الأعرابي: وما معرفة الله حقّ معرفته؟ قال: «تعرفه بلا مثلٍ ولا شبهٍ ولا نةٍ، وأنّه واحدٌ أحدٌ ظاهرُ باطن أوّل

ص: 270


1- الروم (30): 8
2- الأعراف (7): 185
3- التوحيد، ص 18، ح 1.
4- التوحيد، ص 19، ح 5، وفيه: «... لا يشرك بالله شيئاً أحسن أو أساء دخل الجنّة».
5- الرحمن (54): 60
6- التوحيد، ص 28 ، ح 29 وراجع الأمالي الشيخ الطوسي، ج 2، ص 182.

آخر، لا كفو له ولا نظير، فذلك حقّ معرفته»(1).

والأثر فى ذلك عن أهل البيت علیهم السلام الكثير جدّاً، ومن أراده فليقف على كتابي التوحيد للكليني(2)، والصدوق ابن بابويه (رحمهما الله تعالى).

وأمّا علم الكتاب: فقد استقرّ الاصطلاح فيه على ثلاثة فنون قد أفردت بالتصنيف وأطلق عليها اسم العلم:

أحدها: علم التجويد؛ وفائدته معرفة أوضاع حروفه وكلماته مفردةً ومركّبةًً، فيدخل فيه معرفة مخارج الحروف وصفاتها ومدّها وإظهارها وإخفائها وإدغامها وإمالتها و تفخيمها، ونحو ذلك.

وثانيها: علم القراءة؛ وفائدته معرفة الوجوه الإعرابية والبنائية التي نزل القرآن بها، ونقلت عن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم تواتراً، ويندرج فيه بعض ما سبق في الفنّ الأوّل، وقد يطلق عليهما علم واحد، ويجمعهما تصنيف واحد.

وثالثها: علم التفسير؛ وفائدته معرفة معانيه واستخراج أحكامه وحكمه؛ ليترتّب عليه استعماله في الأحكام والمواعظ والأمر والنهي وغيرها، ويندرج فيه غالباً معرفة ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه وغيرها. وقد يفرد الناسخ والمنسوخ، ويخصّ بعلم آخر، إلّا أنّ أكثر التفاسير مشتملة على المقصود منهما.

وقد ورد في فضله و آدابه والحثّ على تعلّمه أخبار كثيرة وآثار فروي عن ابن عبّاس (رضي الله عنه) مرفوعاً(3) في قوله تعالى: «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً»(4).

قال: الحكمة القرآن(5).

ص: 271


1- التوحيد، ص 284 - 285، ح 5.
2- راجع الكافي، ج 1، ص 72 - 167، كتاب التوحيد.
3- للاطّلاع على معنى الحديث المرفوع راجع شرح البداية، ص 30- 31
4- البقرة (2): 269
5- الإتقان، ج 4 ص 197؛ تفسير ابن كثير، ج 1، ص 322 ذيل الآية 269 من البقرة (2).

وروي عنه (رضي الله عنه): أنّه يعني تفسيره، فإنّه قد قرأه البرّ والفاجر(1).

وعنه (رضي الله عنه) في تفسير الآية أنّه قال الحكمة: المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه ومقدّمه ومؤخّره، وحلاله وحرامه، وأمثاله(2).

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه»(3).

وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدّثنا من كان يقرئنا من الصحابة أنّهم كانوا يأخذون من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأُخرى حتّى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل(4).

وعن ابن عبّاس (رضي الله عنه) قال: الذي يقرأ القرآن ولا يحسن تفسيره كالأعرابي يَهُذّ الشعر هَذّاً(5).

وعن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم : من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار»(6).

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : من تكلّم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ»(7).

ص: 272


1- الإتقان، ج 4، ص 197، 249؛ تفسير ابن كثير، ج 1، ص 322، ذيل الآية 269 من البقرة (269) وفيهما .... عن ابن عباس مرفوعاً: يؤتى الحكمة قال: القرآن، قال ابن عباس: يعني تفسيره؛ فإنّه قد قرأه البرّ والفاجر.
2- الإتقان، ج 4، ص 197 تفسير التبيان، ج 2، ص 348 تفسیر مجمع البیان، ج 2، ص 382؛ تفسير ابن كثير، ج 1، ص 322 ذيل الآية المذكورة علم القلوب، ص 19
3- تفسير مجمع البيان، ج 4، ص 13؛ الإتقان، ج 4، ص 189؛ تفسير القرطبي، ج 1، ص 23؛ المستدرك على الصحيحين، ج 2، ص 439؛ تفسیر کشف الأسرار، ج 10، ص 679: مجمع الزوائد، ج 7، ص 163
4- تفسير الطبري، ج 1، ص 28؛ الإتقان، ج 4، ص 202؛ تفسير أبي الفتوح الرازي، ج 1، ص 14؛ تفسير القرطبي. ج 1، ص 39 تفسير التبيان، ج 1، ص 17.
5- الإتقان، ج 4، ص 198؛ تفسير أبي الفتوح الرازي، ج 1، ص 14.
6- الجامع الصحيح، ج 5، ص 199 ، ح 2950؛ مسند أحمد، ج 1، ص 233؛ الفقيه والمتفقه، ج 1، ص 57؛ تفسير الطبري، ج 1، ص 27 وللاطلاع على معنى فليتبوأ مقعده من النار» وإعرابها راجع مرآة العقول، ج 1، ص 150؛ وفيض القدير، ج 6، ص 214؛ وسنن ابن ماجة، ج 1، ص 13 - 14 ، الهامش: وشرح أصول الكافي، ص 126.
7- الجامع الصحيح، ج 5، ص 200، ح 2952؛ تفسير الطبري، ج 1، ص 27؛ تفسير القرطبي، ج 1، ص 32؛ تفسير التبيان، ج 1، ص 4؛ تفسير مجمع البیان، ج 1، ص 13؛ تفسير أبي الفتوح الرازي، ج 1، ص 5.

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «من قال في القرآن بغير ما يعلم جاء يوم القيامة ملجماً بلجام من نار»(1).

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم : «أكثر ما أخاف على أُمّتي من بعدي رجل يتأوّل القرآن يضعه على غير مواضعه»(2).

وعن أبي عبد الله علیه السلام قال: «قال أبي ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلّا كفر»(3).

يعني تفسيره برأيه من غير علم.

وقد تقدّم(4) حديث العلّامة الذي قيل للنبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم أنّه أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها وأيّام الجاهلية والأشعار العربيّة، فقال النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم : ذاك علم لا يضرّ من جهله، ولا ينفع من علمه». ثمّ قال صلی الله علیه و آله و سلّم : «إنّما العلم ثلاثة آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنّة قائمة، وما سواهنّ فهو فضل»(5).

والكلام في جملة ذلك ممّا يطول ويخرج عن وضع الرسالة، فلنقتصر منه على هذا القدر.

وأمّا علم الحديث: فهو أجلّ العلوم قدراً، وأعلاها رتبةً، وأعظمها مثوبةً بعد القرآن، وهو ما أضيف إلى النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم أو إلى الأئمّة المعصومين علیهم السلام قولا أو فعلاً أو تقريراً أو صفة، حتّى الحركات والسكنات واليقظة والنوم. وهو ضربان: رواية ودراية.

فالأوّل: العلم بما ذكر.

والثاني: - وهو المراد بعلم الحديث عند الإطلاق - وهو علم يعرف به معاني ما ذكر، ومتنه وطرقه وصحيحه وسقيمه، وما يحتاج إليه من شروط الرواية، وأصناف المرويّات، ليعرف المقبول منه والمردود، ليعمل به أو يجتنب.

ص: 273


1- الترغيب والترهيب، ج 1، ص 121، ح 3؛ مجمع الزوائد، ج 1، ص 163
2- الجامع الصغير، ج 1، ص 53 حرف الهمزة ؛ وشرحه فيض القدير، ج 2، ص 80، 1383؛ کنز العمال، ج 10، ص 187 ، ح 28978؛ وج 10، ص 200، ح 29052، مع اختلاف يسير في اللفظ.
3- الكافي، ج 2، ص 632 - 633، باب النوادر، ح 17 و 25.
4- تقدّم في المقدّمة، ص 23
5- الكافي، ج 1، ص 32، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء، ح 1.

وهو أفضل العلمين؛ فإنّ الغرض الذاتي منهما هو العمل والدراية هي السبب القريب له. وقد روي عن الصادق علیه السلام أنّه قال: «خبر تدريه خير من ألف ترويه»(1).

و قال علیه السلام : «عليكم بالدرايات لا الروايات»(2).

وعن طلحة بن زيد، قال: قال أبو عبد الله علیه السلام : رواة الكتاب كثير ورعاته قليل، فكم مستنسخ للحديث مستغشٍّ للكتاب، والعلماء تجزيهم الدراية والجهّال تجزيهم الرواية»(3).

وممّا جاء في فضل علم الحديث مطلقاً من الأخبار والآثار قول النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم : «ليبلّغ الشاهد الغائب؛ فإنّ الشاهد عسى أن يبلّغ من هو أوعى له منه»(4).

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «نضّر الله امرأ سمع منّا حديثا فحفظه حتّى يبلّغه غيره، فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، وربّ حامل فقهٍ ليس بفقيه»(5).

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «من أدّى إلى أُمّتى حديثاً يقام به سنّة أو يثلم به بدعة، فله الجنّة»(6).

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «رحم الله خلفائي. قيل : ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي فيروون أحاديثى ويعلّمونها الناس»(7).

ص: 274


1- السرائر، ج 3، ص 640 (قسم المستطرفات) بحار الأنوار، ج 2، ص 206، نقلاً عنه.
2- السرائر، ج 3، ص 640 (قسم المستطرفات)؛ بحار الأنوار، ج 2، ص 206، نقلاً عنه.
3- السرائر، ج 3، ص 640 (قسم المستطرفات)؛ بحار الأنوار، ج 2، ص 206 ، نقلاً عنه
4- سنن ابن ماجة، ج 1، ص 85، 233؛ شرف أصحاب الحديث، ص 16 - 17؛ جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 48.
5- سنن أبي داود، ج 3، ص 322، ح 3660؛ تحف العقول، ص 36: الجامع الصحيح، ج 5، ص 34 ، ح 2656: جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 46 الفقيه والمتفقه، ج 2، ص71؛ وراجع المحدث الفاصل، ص 164؛ المستدرك على الصحيحين، ج 1، ص 87 - 88؛ شرف أصحاب الحديث، ص 18 - 19؛ مجمع الزوائد، ج 1، ص 137 - 140
6- الجامع الصغير ، ج 2، ص 161، حرف الميم ؛ وشرحه فيض القدير، ج 6، ص 46 ، ح 8363؛ شرف أصحاب الحديث، ص 80
7- الفقيه، ج 4، ص 302، ح 915؛ الترغيب والترهيب، ج 1، ص 110؛ المحدث الفاصل، ص 163؛ شرف أصحاب الحديث، ص 31؛ جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 55؛ تحرير الأحكام الشرعية، ج 1، ص 2: مجمع الزوائد، ج 1، ص 126: أمالي الصدوق، ص 152، المجلس 34، 4 مع الاختلاف في العبارة؛ معاني الأخبار، ص 374 -375: بحار الأنوار، ج 2، ص 144 - 145، نقلاً عن أمالي الصدوق ومعاني الأخبار، وعيون أخبار الرضا 7؛ وج 2، ص 25، نقلاً عن منية المريد.

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «من حفظ على أُمتى أربعين حديثاً من أمر دينها بعثه الله يوم القيامة فقيهاً، وكنت له شافعاً وشهيداً»(1).

هذا بعض ما ورد من ألفاظ هذا الحديث.

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «من تعلم حديثين اثنين ينفع بهما نفسه، أو يعلّمهما غيره، فينتفع بهما كان خيراً له من عبادة ستّين سنة»(2).

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «من ردّ حديثاً بلغه عنّي فأنا مخاصمه يوم القيامة، فإذا بلغكم عنّي حديث لم تعرفوه فقولوا: الله أعلم»(3).

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم: «من كذب عليّ متعمّداً أو ردّ شيئاً أمرت به فليتبوّأ بيتاً في جهنّم»(4).

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «من بلغه عنّي حديث فكذب به، فقد كذّب ثلاثة: الله ورسوله والذي حدّث به»(5).

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : تذاكروا وتلاقوا وتحدّثوا، فإنّ الحديث جلاء القلوب، إنّ القلوب لترين كما يرين السيف، جلاؤها الحديث»(6).

وروى عليّ بن حنظلة قال سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «اعرفوا منازل الناس على قدر روايتهم عنّا»(7).

ص: 275


1- الكافي، ج 1، ص 49، باب النوادر، ح 7؛ الخصال، ص 541 - 543 ، ح 15 - 19 : إحياء علوم الدين، ج 1، ص 6؛ كنز العمال، ج 10، ص 224، ح 29184 : وراجع المحدث الفاصل، ص 172 - 174: شرف أصحاب الحديث، ص 19 - 20 . والحديث مشهور ونقل بألفاظ مختلفة، ولأجله ألف الكثير من العلماء كتباً فيها أربعون حديثاً، كالشهيد الأول، والعلامة المجلسي، والشيخ البهائي، وابن زهرة الحلبي (قدس سرهم) وغيرهم؛ وانظر في ذلك الذريعة ، ج 1، ص 409 - 436 .
2- شرف أصحاب الحديث، ص 80 كنز العمال، ج 10، ص 163 - 164 ، ح 28849.
3- مجمع الزوائد، ج 1 ، ص 147 : كنز العمال، ج 10، ص 236، ح 29249.
4- مجمع الزوائد، ج 1، ص 142 كنز العمال، ج 10، ص 234، ح 29236.
5- مجمع الزوائد، ج 1، ص 148 - 149.
6- الكافي، ج 1 ص 41 باب سؤال العلم وتذاكره، ح.8. وفي جميع النسخ المخطوطة والمطبوعة: «جلاؤه» والصواب «جلاؤها» كما في الكافي.
7- الكافي، ج 1، ص 50 ، باب النوادر، ح 13.

وعن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إنّ العلماء ورثة الأنبياء، وذاك أنّ الأنبياء لم يورّثوا درهماً ولا ديناراً، وإنّما ورّثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظّاً وافراً، فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه؛ فإنّ فينا أهل البيت في كلّ خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين»(1).

وعن معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله علیه السلام : رجل راوية لحديثكم يبتّ ذلك في الناس ويشدّده في قلوبهم وقلوب شيعتكم، ولعلّ عابداً من شيعتكم ليست له هذه الرواية، أيّهما أفضل؟ قال: «الراوية لحديثنا يشدّ به قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد»(2).

وعن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله علیه السلام : قول الله جلّ ثناؤه: «الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ»(3).

قال: «هو الرجل يسمع الحديث، فيحدّث به کما سمعه لا يزيد فيه ولا ينقص منه»(4). وعن أبي عبد الله علیه السلام قال: قال أمير المؤمنين علیه السلام: إذا حدثتم بحديث فأسندوه إلى الذي حدّثكم، فإن كان حقّاً فلكم، وإن كان كذباً فعليه»(5).

وروی هشام بن سالم وحمّاد بن عثمان، وغيرهما قالوا سمعنا أبا عبد الله علیه السلام يقول: « حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم ، وحدیث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم قول الله عزّ وجلّ»(6).

ص: 276


1- الكافي، ج 1، ص 32 باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء، ح 2
2- الكافي، ج 1، ص 33، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء، ح 9.
3- الزمر (39): 18
4- الكافي، ج 1، ص 51 ، باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسك بالكتب، ح 1.
5- الكافي، ج 1، ص 52 ، باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسك بالكتب، ح 7.
6- الكافي، ج 1، ص 53 ، باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسك بالكتب، ح 14.

وأمّا الفقه فأصله - في اللغة - : الفهم أو فهم الأشياء الدقيقة، وفي الاصطلاح: علم بحكم شرعي فرعي مكتسب من دليل تفصيلي سواء كان من نصّه أم استنباطاً منه. وفائدته امتثال أوامر الله تعالى واجتناب نواهيه المحصّلان للفوائد الدنيويّة والأخرويّة.

وممّا ورد في فضله و آدابه خبر: «من يرد الله به خيراً يفقّهه في الدين»(1).

وخبر: «فقيه أشدّ على الشيطان من ألف عابد»(2).

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «خصلتان لا تجتمعان في منافق: حسن سمتٍ وفقه في الدين»(3).

وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «أفضل العبادة الفقه وأفضل الدين الورع»(4).

وخبر أبي سعيد قال: كان النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم وأصحابه إذا جلسوا كان حديثهم الفقه، إلّا أن يقرأ رجل سورة، أو يأمر رجلاً بقراءة سورة(5).

وروى حمّاد بن عثمان عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إذا أراد الله بعبد خيراً فقهه في الدين»(6).

وروى بشير الدّهان قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: «لا خير في من لا يتفقّه من أصحابنا، يا بشير إنّ الرجل منهم إذا لم يستغن بفقهه احتاج إليهم، فإذا احتاج إليهم أدخلوه في

ص: 277


1- صحيح البخاري، ج 2، ص 36 - 37 . ح 70: الجامع الصحيح، ج 5، ص 28 ، ح 2645؛ سنن الدارمي، ج 2، ص 297؛ سنن ابن ماجة، ج 1، ص 80، ح 220؛ جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 23 - 25: الفقيه والمتفقه، ج 1، ص 2 - 8
2- الجامع الصحيح، ج 5، ص 48 ، ح 2681 ؛ سنن ابن ماجة ، ج 1، ص 81 ح 222؛ جامع بيان العلم وفضله، ج 31 - 32: الفقيه والمتفقه، ج 1، ص 24.
3- الجامع الصحيح، ج 5، ص 49 - 50 ، ح 2684 : إحياء علوم الدين، ج 1، ص 6.
4- الجامع الصغير، ج 1، ص 50 ، حرف الهمزة، وشرحه فيض القدير، ج 2، ص 43، ح 1280.
5- المستدرك على الصحيحين، ج 1، ص 94 الطبقات الكبير ، ج 2، ص 374 ، ولفظ الحديث في الثاني هكذا ... عن أبي سعيد الخدري قال: كان أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم، إذا قعدوا يتحدّثون كان حديثهم الفقه إلّا أن يأمروا رجلاً فيقرأ عليهم سورةً أو يقرأ رجلُ سورة من القرآن. وفي «ز ، م ، ض ، ح ، ع»: يقرى رجلاً سورة بدل يقرأ رجلٌ سورةً، وما أثبتناء مطابق لسائر النسخ وللمصدر، والظاهر أنّه أصحّ وأنسب.
6- الكافي، ج 1، ص 32، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء، ح 3.

باب ضلالتهم، وهو لا يعلم»(1).

وعن المفضّل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «عليكم بالتفقّه في دین الله، ولا تكونوا أعراباً، فإنّه من لم يتفقّه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة ولم يزّك له عملاً»(2).

وروى أبان بن تغلب عنه علیه السلام قال: «لوددت أن أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتّى يتفقّهوا»(3).

وروي عنه علیه السلام أنّه قال له رجل: جعلت فداك، رجل عرف هذا الأمر، لزم بيته ولم يتعرّف إلى أحد من إخوانه؟ قال: فقال: «كيف يتفقّه هذا في دينه»(4).

وعن عليّ بن أبي حمزة قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «تفقّهوا في الدين، فإنّه من لم يتفقّه منكم في الدين فهو أعرابي إنّ الله تعالى يقول في كتابه: «لِيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»(5).

وعن أبي جعفر علیه السلام قال: «الكمال كلّ الكمال التفقّه في الدين، والصبر على النائبة، وتقدير المعيشة»(6).

وروی سلیمان بن خالد عن أبي عبد الله علیه السلام أنّه قال: «ما من أحد يموت من المؤمنين أحبّ إلى إبليس من موت فقيه»(7).

وعنها علیه السلام قال: «إذا مات المؤمن الفقيه ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدّها شيء»(8).

ص: 278


1- الكافي، ج 1، ص 33 باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء، ح 6.
2- الكافي، ج 1، ص 31، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه ، ح 7.
3- الكافي، ج 1، ص 31 باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه، ح 8.
4- الكافي، ج 1، ص 31 باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه، ح 9.
5- الكافي، ج 1، ص 31 باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه ، ح 6: والآية في سورة التوبة (9): 122
6- الكافي، ج 1، ص 32، باب صفة العلم وفضله، وفضل العلماء، ح 4.
7- الكافي، ج 1، ص 38، باب فقد العلماء، ح 1 و 4.
8- الكافي، ج 1، ص 38، باب فقد العلماء، ح 2.

وعن عليّ بن أبي حمزة قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر علیهما السلام يقول: «إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة، وبقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها، وأبواب السماء التي كان يصعد فيها بأعماله، وثلم في الإسلام ثلمة لا يسدّها شيء؛ لأنّ المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها»(1).

وعن أبي عبد الله علیه السلام قال: «لا يسع الناس حتّى يسألوا ويتفقهوا ويعرفوا إمامهم، ويسعهم أن يأخذوا بما يقول وإن كان تقيّةً»(2).

فهذه نبذة من الأخبار المختصّة بالعلوم الشرعيّة مضافةً إلى ما ورد في مطلق العلم وقد تقدّم جملة منه(3).

ص: 279


1- الكافي، ج 1، ص 38 باب فقد العلماء، ح 3.
2- الكافي، ج 1، ص 40 ، باب سؤال العالم وتذاكره، ح 4 ، وفي جميع النسخ: «كانت تقيّة» بدل «كان تقيّة» وما أثبتناه مطابق للمصدر.
3- تقدم في المقدمة.
الفصل الثاني: في العلوم الفرعيّة

وهي التي تتوقّف معرفة العلوم الشرعيّة عليها.

أمّا المعرفة بالله تعالى وما يتبعه فلا يتوقّف أصل تحقّقه على شيء من العلوم، بل يكفي فيه مجرّد النظر، وهو أمر عقلي يجب على كلّ مكلّف، وهو أوّل الواجبات بالذات؛ وإن كان الخوض في مباحثه وتحقيق مطالبه ودفع شبه المبطلين فيه يتوقّف على بعض العلوم العقليّة كالمنطق وغيره.

وأمّا الكتاب العزيز فإنّه بلسان عربي مبين؛ فيتوقّف معرفته على علوم العربيّة من النحو والتصريف والاشتقاق والمعاني والبيان والبديع ولغة العرب؛ وأُصول الفقه ليعرف به حکم عامّه وخاصّه ومطلقه ومقيّده ومحكمه ومتشابهه، وغيرها من ضروبه. فمعرفة ما يتوقّف عليه من هذه العلوم واجب كوجوبه فإن كان عينيا فهي عينية، وإن كان كفائياً فهي كفائية، وسيأتي تفصيله(1) إن شاء الله تعالى.

وأمّا الحديث النبوي فالكلام فيه كالكلام في الكتاب، وعلومه علومه، ويزيد الحديث عنه بمعرفة أحوال رواته من حيث الجرح والتعديل، ليعرف ما يجب قبوله منها وما يجب ردّه، وهو علم خاصّ بالرجال(2).

وأمّا الفقه فيتوقّف معرفته على جميع ما ذكر من العلوم الفرعيّة والأصليّة:

ص: 280


1- سيأتي في المطلب الثاني، ص 282 وما بعد.
2- يعني علم الرجال، والمراد أن علم الرجال خاص بالبحث عن معرفة أحوال رواة الحديث من حيث الجرح والتعديل.

أمّا الكلام فلتوقّف معرفة الشرع على شارعه وعدله وحكمته، ومعرفة مبلّغه و حافظه.

وأمّا الكتاب ففيه نحو خمس مائة آية تشتمل على أحكام شرعيّة(1)، فلا بدّ من معرفتها لمن يريد التفقّه بطريق الاستدلال.

وأمّا الحديث، فلا بدّ من معرفة ما يشتمل منه على الأحكام ليستنبطها منه ومن الآيات القرآنية؛ فإن لم يمكن استنباطها منهما رجع إلى بقيّة الأدلّة التي يمكن استفادتها منها من الإجماع، ودليل العقل على الوجه المقرّر في أُصول الفقه.

والمنطق آلة شريفة لتحقيق الأدلّة مطلقاً، ومعرفة الموصل منها إلى المطلوب من غيره.

فهذه عشرة علوم(2) يتوقّف عليها العلوم الشرعيّة؛ وجملة ما يتوقّف عليه الفقه اثنا عشر(3)، وهي ترجع بحسب ما استقرّ عليه تدوين العلماء إلى ثمانية؛ فإنّ علم الاشتقاق قد أدرج في أُصول الفقه غالباً، وفي بعض العلوم العربيّة، وعلم المعاني والبيان والبديع قد صار علماً واحداً في أكثر الكتب الموضوعة لها؛ والتصريف داخل مع النحو في أكثر الكتب، وقلّ من أفرده علماً، خصوصاً كتب المتقدّمين فتدبّر ذلك موفّقاً.

ص: 281


1- في الإتقان، ج 4، ص 40 - 41: قال الغزالي وغيره آيات الأحكام خمسمائة آية. وقال بعضهم: مائة وخمسون قيل : ولعلّ مرادهم المصرح به فإنّ آيات القصص والأمثال وغيرها يستنبط منها كثير من الأحكام قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في كتاب الإمام في أدلة الأحكام معظم آي القرآن لا يخلو عن أحكام مشتملة على آداب حسنة وأخلاق جميلةٍ
2- وهي علم التصريف، والنحو، واللغة، والاشتقاق، والمعاني، والبيان، والبديع، وأُصول الفقه، والمنطق، والرجال.
3- وهي العلوم العشرة المذكورة آنفاً مع علم الحديث وتفسير آيات الأحكام.

المطلب الثاني: في مراتب أحكام العلم الشرعي وما أُلحق به

وهي ثلاثة: فرض عين، وفرض كفاية، وسنّة.

فالأوّل(1) ما لا يتأدّى الواجب عيناً إلا به، وعليه حمل(2) حديث طلب العلم فريضة على كلّ مسلم»(3).

وهو يرجع إلى اعتقاد وفعل وترك.

فالأوّل: اعتقاد كلمتي الشهادتين، وما يجب الله ويمتنع عليه والإذعان بالإمامة للإمام، والتصديق بما جاء به النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم من أحوال الدنيا والآخرة ممّا ثبت عنه تواتراً. كلّ ذلك بدليل تسكن النفس إليه ويحصل به الجزم. وما زاد على ذلك من أدلة المتكلّمين والخوض في دقائق الكلام، فهو فرض كفاية، لصيانة الدين ودفع شبه المبطلين.

وأمّا الفعل فتعلّم واجب الصلاة عند التكليف بها ودخول وقتها، أو قبله بحيث

ص: 282


1- لاحظ شرح المهذّب، ج 1، ص 41 - 46.
2- شرح المهذّب، ج 1، ص 41: الفقيه والمتفقه، ج 1، ص 43 - 46
3- الكافي، ج 1، ص 30، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه، ح 1، 2 و 5؛ الأمالي، الشيخ الطوسي، ص 488 المجلس 17، ح 38/1069 و ص 569 المجلس 22 ، ح 2/1176 مجمع الزوائد، ج 1، ص 119 - 120؛ سنن ابن ماجة، ج 1، ص 81، ح 224؛ جامع بيان العلم وفضله، ج 1، ص 8 - 11.

يتوقّف التعلّم عليه، ومثلها الزكاة والصوم والحجّ والجهاد والأمر بالمعروف. وأمّا باقي أبواب الفقه من العقود والإيقاعات فيجب تعلّم أحكامها حيث يجب على المكلف بأحد الأسباب المذكورة في كتب الفقه، وإلّا فهي واجبة كفايةً.

ومنه تعلّم ما يحلّ ويحرم، من المأكول والمشروب والملبوس، ونحوها ممّا لا غنىً عنه، وكذلك أحكام عشرة النساء لمن له زوجة، وحقوق المماليك لمن له شيء منها.

وأمّا الترك: فيدخل في بعض ما ذكر، ليجتنب وممّا يلحق به - بل هو أهمّه، كما أسلفناه في صدر الكتاب(1) - تعلّم ما يحصل به تطهير القلب من الصفات المهلكة کالرياء والحسد والعجب والكبر، ونحوها، ممّا تحقّق في علم مفرد، وهو من أجلّ العلوم قدراً إلّا أنّه قد اندرس بحيث لا يكاد ترى له أثراً.

ولو توقّف تعلّم بعض هذه الواجبات على الاشتغال به قبل البلوغ لضيق وقته بعده ونحوه، وجب على الوليّ تعليم الولد ذلك قبله من باب الحسبة؛ بل ورد الأمر بتعليم مطلق الأهل ما يحصل به النجاة من النار، قال الله تعالى: «يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً»(2).

قال عليّ علیه السلام وجماعة من المفسّرين: «معناه: علّموهم ما ينجون به من النار»(3).

ص: 283


1- في القسم الأوّل من النوع الأول من الباب الأول، ص 41 وما بعد.
2- التحريم (66): 6
3- شرح المهذب، ج 1، ص 43 في المستدرك على الصحيحين، ج 2، ص 494 والدرّ المنثور في التفسير بالمأثور. ج 6. ص 244: عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) في قوله تعالى: «قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً» [التحريم (66): 6] قال: «علّموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدّبوهم»؛ وفي الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور، ج 6، ص 244. أيضاً: «... عن ابن عباس قال: اعملوا بطاعة واتقوا معاصى الله، وأمُروا أهليكم بالذكر ينجكم من النار. .... عن ابن عباس قال: أدبوا أهليكم. وعن مجاهد ... قال: أوصوا أهليكم بتقوى الله وعن قتادة ... قال: مروهم بطاعة الله وانهوهم عن معصية الله والجملة الأخيرة منقولة عن مجاهد وقتادة في تفسير التبيان، ج 10، ص 50. ذيل الآية 10 من التحريم (66) . وروي عن مقاتل في تفسير مجمع البيان، ج 10، ص 318؛ وتفسير الرازي، ج 30، ص 46 ذيل الآية 6 من التحريم (66) هو أن يؤدِّبَ الرجل المسلم نفسه وأهله ويعلّمهم الخير وينهاهم عن الشر؛ وانظر تفسير ابن كثير، ج 4 ص 417، ذيل الآية 6 من التحريم (66)؛ والفقيه والمتفقّه، ج 1، ص 47.

وقال صلی الله علیه و آله و سلّم: «كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته»(1).

وأمّا فرض الكفاية فما لا بدّ للناس منه في إقامة دينهم من العلوم الشرعيّة: كحفظ القرآن والأحاديث وعلومهما والفقه والأُصول والعربيّة ومعرفة رواة الحديث وأحوالهم والإجماع، وما يحتاج إليه في قوام أمر المعاش كالطبّ والحساب، وتعلّم الصنائع الضرورية كالخياطة والفلاحة حتّى الحجامة، ونحوها.

فرع: قال بعض العلماء(2) : فرض الكفاية أفضل من فرض العين، لأنّه يصان بقيام البعض به جميع المكلّفين عن إثمهم المترتّب على تركهم له، بخلاف فرض العين فإنّما يصان به عن الإثم القائم به فقط.

وأمّا السنّة: فكتعلّم نفل العبادات والآداب الدينية، ومكارم الأخلاق وشبه ذلك، وهو كثير ومنه تعلّم الهيأة للاطّلاع على عظمة الله تعالى، وما يترتّب عليه من الهندسة وغيرها.

وبقي علوم أخر بعضها محرم مطلقاً، كالسحر والشعبذة وبعض الفلسفة، وكلّ ما يترتّب عليه إثارة الشكوك. وبعضها محرّم على وجه دون آخر كأحكام النجوم والرمل؛ فإنّه يحرم تعلّمها مع اعتقاد تأثيرها وتحقيق وقوعها، ومباح مع اعتقاد كون الأمر مستنداً إلى الله تعالى وأنّه أجرى العادة بكونها سبباً في بعض الآثار وعلى سبيل التفاؤل. وبعضها مكروه كأشعار المولّدين المشتملة على الغزل وتزجية(3) الوقت

ص: 284


1- صحیح مسلم، ج 3، ص 1459 ، ح 1829/20؛ مسند أحمد، ج 2، ص 5، 54 111: الفقيه والمتفقّه، ج 1، ص 47: شرح المهذب، ج 1، ص 44؛ مجمع الزوائد، ج 5، ص 207؛ تنبيه الخواطر، ج 1، ص 6.
2- هو إمام الحرمين كما في شرح المهذب، ج 1، ص 37 45
3- قال البغدادي في خزانة الأدب، ج 1، ص 20 - 21؛ الكلام الذي يُستشهد به نوعان: شعر وغيره؛ فقائل الأول قد قسمه العلماء على طبقات أربع الطبقة الأولى: الشعراء الجاهليون وهم قبل الإسلام كامرئ القيس والأعشى: والثانية: المُخَضرمون وهم الذين أدركوا الجاهلية والإسلام كلبيد وحسّان؛ والثالثة المتقدمون - ويقال لهم الإسلاميون - وهم الذين كانوا في صدر الإسلام كجرير والفرزدق والرابعة المولّدون - ويقال لهم المحدثون - وهم من بعدهم إلى زماننا كبشار بن برد وأبي نواس؛ فالطبقتان الأوليان يستشهد بشعرهما إجماعاً، وأما الثالثة فالصحيح صحة الاستشهاد بكلامها... أما الرابعة فالصحيح أنه لا يستشهد بكلامها مطلقاً. وقيل: يستشهد بكلام من يوثق به منهم واختاره الزمخشري وتبعه الشارح المحقق [يعني الرضي (رحمه الله)]؛ فإنه استشهد بعشر أبي تمام في عدة مواضع من هذا الشرح، واستشهد الزمخشري أيضاً في تفسير أوائل البقرة ببيت من شعره، وقال: هو وإن كان محدثاً لا يستشهد بشعره في اللغة فهو من علماء العربية، فأجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه الاترى إلى قول العلماء: الدليل عليه بيت الحماسة، فيقنعون بذلك لوثوقهم بروايته وإتقانه. واعترض عليه... .الخ. وقال السيوطي في الاقتراح في علم أصول النحو، ص 70 أجمعوا على أنه لا يحتج بكلام المولدين والمحدثين في اللغة والعربية، وفي الكشاف ما يقتضي تخصيص ذلك بغير أئمة اللغة ورواتها؛ فإنّه استشهد على مسألة بقول حبيب بن أوس، ثمّ قال: وهو وإن كان محدثاً لا يستشهد بشعره في اللغة، فهو من علماء العربية فأجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه، ألا ترى إلى قول العلماء: الدليل عليه بيت الحماسة. فيقتنعون بذلك لتوثقهم بروايته وإتقانه.

بالبطالة، وتضييع(1) العمر بغير فائدة وبعضها مباح كمعرفة التواريخ والوقائع والأشعار الخالية عمّا ذكر، ممّا لا يدخل في الواجب كأشعار العرب العاربة(2) التي تصلح للاحتجاج بها في الكتاب والسنّة؛ فإنّها ملحقة باللغة(3).

وباقي العلوم من الطبيعي والرياضي والصناعي أكثره موصوف بالإباحة بالنظر إلى ذاته، وقد يمكن جعله مندوباً لتكميل النفس، وإعدادها لغيره من العلوم الشرعيّة

ص: 285


1- التزجية: دفع الشيء، يقال: كيف تُزَكِّي الأيام؟ أي كيف تدافعها. لسان العرب، ج 14، ص 354 - 355 «زجا».
2- العرب العاربة هم الخُلَّصُ منهم، وأُخِذَ من لفظه فأكدبه، كقولك: ليل لائل لسان العرب، ج 1، ص 586، «عرب»، وهم الجاهليون والمخضرمون - والمتقدمون على رأي - الذين يصح الاحتجاج بأشعارهم لإثبات قواعد الأدب والعربيّة.
3- فاتّضح ممّا ذكرناه في هذه التعاليق أنّه يريد المصنّف (رحمه الله) من «أشعار المولّدين» أشعار الطبقة الرابعة؛ وحيث لا يجوز الاستشهاد بأشعار المولّدين لإثبات القواعد الأدبية فلا فائدة في تعلمها، فلا تلحق باللغة التي يجب تعلمها. وبعض هذه الأشعار المشتمل على الغزل وتضييع العمر بغير فائدة، مكروه تعلمه، ومالم يكن مشتملا على ذلك فتعلمه مباح. وبعبارة أخرى: قد قسم المصنف الأشعار من حيث حكمها الشرعي - إلى ثلاثة أقسام الأوّل: أشعار العرب العاربة وهي أشعار الطبقة الأولى والثانية - والثالثة على قول - فإنّها ملحقة باللغة وحكمها حكم اللغة : الثاني: أشعار المولّدين المشتملة على الغزل وتضييع العمر بغير فائدة، فإنّ تعلمها مكروه؛ الثالث: أشعار المولّدين الخالية مما ذكر، فتعلّمها مباح.

بتقويتها في القوّة النظرية؛ وقد يكون حراماً إذا استلزم التقصير في العلم الواجب عيناً أو كفاية، كما يتّفق كثيراً في زماننا هذا لبعض المحرومين الغافلين عن حقائق الدين.

ومن هذا الباب الاشتغال في العلوم التي هي آلة العلم الشرعي زيادةً عن القدر المعتبر منها في الآلية مع وجوب الاشتغال بالعلم الشرعي، لعدم قيام من فيه الكفاية به ونحوه.

ولتحرير أقسام العلوم وبيان أحكامها على التفصيل محل آخر؛ فإنّ ذكره هنا يخرج عن موضوع الرسالة.

واعلم أنّ تخصيص العلوم الأربعة(1) بالشرعية مصطلح جماعة من العلماء، وربّما خصّه بعضهم بالثلاثة الأخيرة، ويمكن ردّ كلّ علم واجب أو مندوب إليه(2). ولا حرج فی ذلك، فإنّه مجرّد اصطلاح لمناسبة. والله أعلم.

ص: 286


1- وهي علم الكلام وأُصول الدين، وعلم الكتاب العزيز، وعلم الأحاديث، وعلم الأحكام الشرعيّة المعبر عنها بالفقه.
2- أي إلى هذا المصطلح.

المطلب الثالث: في ترتيب العلوم بالنظر إلى المتعلّم

اعلم أنّ لكلّ علم من هذه العلوم مرتبة من التعلّم، لا بدّ لطالبه من مراعاتها لئلا يضيع سعيه أو يعسر عليه طلبه وليصل إلى بغيته بسرعة، وكم قد رأينا طلّاباً للعلم سنين كثيرة، لم يحصلوا منه إلّا على القليل، وآخرين حصّلوا منه كثيراً في مدّة قليلة بسبب مراعاة ترتيبه وعدمه.

وليعلم أيضاً أنّ الغرض الذاتي ليس هو مجرّد العلم بهذه العلوم، بل الغرض موافقة مراد الله تعالى منها: أمّا بالآلية، أو بالعلم، أو بالعمل، أو بإقامة نظام الوجود، أو إرشاد عباده إلى ما يراد منهم أو غير ذلك من المطالب، وبسبب ذلك يختلف ترتيب التعلّم.

فمن كان تعلّمه فى ابتداء أمره وريعان شبيبته - وهو قابل للترقّى إلى مراتب العلوم والتأهّل للتفقّه في الدين بطريق الاستدلال والبراهين - فينبغي أن يشتغل في أوّل أمره بحفظ كتاب الله تعالى وتجويده على الوجه المعتبر، ليكون مفتاحاً صالحاً ومعيناً ناجحاً، وليستنير القلب ،به ويستعدّ بسببه إلى درك باقي العلوم.

فإذا فرغ منه اشتغل بتعلّم العلوم العربيّة، فإنّها أول آلات الفهم، وأعظم أسباب العلم الشرعي، فيقرأ أولا علم التصريف، ويتدرّج في كتبه من الأسهل إلى الأصعب، والأصغر إلى الأكبر حتّى يتقنه ويحيط به علماً.

ص: 287

ثمّ ينتقل إلى النحو، فيشتغل فيه على هذا النهج ويزيد فيه بالجدّ والحفظ؛ فإنّ له أثراً عظيماً في فهم المعاني ومدخلاً جليلاً في إتقان الكتاب والسنّة، لأنّهما عربيّان.

ثمّ ينتقل منه إلى بقيّة العلوم العربيّة. فإذا فرغ منها أجمع اشتغل بالمنطق، وحقّق مقاصده على النمط الأوسط، ولا يبالغ فيه مبالغته في غيره ؛ لأنّ المقصود منه يحصل بدونه، وفي الزيادة تضييع للوقت غالباً.

ثمّ ينتقل منه إلى علم الكلام، ويتدرّج فيه كذلك، ويطّلع على طبيعيّاته ليحصل له بذلك ملكة البحث والاطّلاع على مزايا العوالم وخواصّها.

ثمّ ينتقل منه إلى أُصول الفقه، متدرّجاً في كتبه ومباحثه كذلك، وهذا العلم أولى العلوم بالتحرير، وأحقّها بالتحقيق بعد علم النحو لمن يريد التفقّه في دين الله تعالى فلا يقتصر منه على القليل، فبقدر ما يحققه تتحقّق عنده المباحث الفقهية والأدلّة الشرعيّة.

ثمّ ينتقل منه إلى علم دراية الحديث، فيطالعه ويحيط بقواعده ومصطلحاته وليس من العلوم الدقيقة، وإنّما هو مصطلحات مدوّنة وفوائد مجموعة.

فإذا وقف على مقاصده انتقل إلى قراءة الحديث بالرواية والتفسير والبحث والتصحيح على حسب ما يقتضيه الحال ويسعه الوقت ولا أقلّ من أصل(1) منه يشتمل على أبواب الفقه وأحاديثه.

ثمّ ينتقل منه إلى البحث عن الآيات القرآنية المتعلّقة بالأحكام الشرعيّة، وقد أفردها العلماء(2) (رضوان الله عليهم) بالبحث وخصّوها بالتصنيف، فليطالع فيها كتاباً،

ص: 288


1- يريد من «الأصل» جامعاً روائياً كالكافي وتهذيب الأحكام والاستبصار والفقيه، لا الأصل بمعناه الاصطلاحي، الذي منه الأصول الأربعمائة المشهورة.
2- منهم الفاضل المقداد والقطب الراوندي ومن المتأخرين عن المصنف: المحقق الأردبيلي والفاضل الجواد (رحمهم الله تعالى). انظر تفصيل ذلك في الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ج 1، ص 40 - 43.

وليبحث عنأسرارها، وليمعن النظر في كشف أغوارها، فليس لها حدّ تقف عليه الأفهام، إذ ليست كغيرها من كلام الأنام وإنّما هي كلام الملك العلّام وفهم الناس لها على حسب ما تصل إليه عقولهم وتدركه أفهامهم.

فإذا فرغ منها انتقل بعدها إلى قراءة الكتب الفقهيّة، فيقرأ منها أوّلاً كتاباً يطّلع فيه على مطالبه ورؤوس مسائله، وعلى مصطلحات الفقهاء وقواعدهم، فإنّها لا تكاد تستفاد إلّا من أفواه المشايخ بخلاف غيره من العلوم ثمّ يشرع ثانياً في قراءة كتاب آخر بالبحث والاستدلال، واستنباط الفرع من أُصوله، وردّه إلى ما يليق به من العلوم واستفادة الحكم من كتاب أو سنّة من جهة النصّ أو الاستنباط من عموم لفظ أو إطلاقه، ومن حديث صحيح أو حسن أو غيرهما ليتدرّب على هذه المطالب على التدريج؛ فليس من العلوم شيء أشدّ ارتباطا بغيره، ولا أعمّ احتياجاً إليها منه، فليبذل فيه جهده وليعظم فيه جدّه؛ فإنّه المقصد الأقصى والمطلب الأسنى ووراثة الأنبياء. ولا يكفي ذلك كلّه إلّا بهبة من الله تعالى إلهيّة وقوّة منه قدسيّة(1) توصله إلى هذه البغية، وتبلّغه هذه الرتبة وهي العمدة في فقه دين الله تعالى ولا حيلة للعبد فيها، بل هي منحة إلهية ونفحة ربّانيّة يخصّ بها من يشاء من عباده إلّا أنّ للجدّ والمجاهدة والتوجّه إلى الله تعالى، والانقطاع إليه أثراً بيّنا في إفاضتها من الجناب :القدسي: «وَالَّذِينَ جَهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ»(2).

فإذا فرغ من ذلك كلّه شرع في تفسير الكتاب العزيز بأسره، فكلّ هذه العلوم له

ص: 289


1- قال المصنّف رحمه الله في الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقية، ج 2، ص 43 (ضمن الموسوعة ، ج 7). في بيان شرائط الإفتاء: ... نعم يشترط مع ذلك كُله أن يكون له قوّةً يتمكّن بها من ردّ الفروع إلى أصولها واستنباطها منها، وهذه هي العمدة في هذا الباب، وإلّا فتحصيل تلك المقدّمات قد صارت في زماننا سهلة، لكثرة ما حقّقه العلماء والفقهاء فيها، وفي بيان استعمالها، وإنّما تلك القوّة بيد الله تعالى يؤتيها من يشاء من عباده على وفق حكمته ومراده، ولكثرة المجاهدة والممارسة لأهلها مدخل عظيم في تحصيلها، «وَالَّذِينَ جَهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا». [العنكبوت (29) (69)].
2- العنكبوت (29): 69

مقدّمة، وإذا وفّق له، فلا يقتصر على ما استخرجه المفسّرون بأنظارهم فيه، بل يكثر من التفكّر في معانيه، ويصفّي نفسه للتطلّع على خوافيه، ويبتهل إلى الله تعالى في أن يمنحه من لدنه فهم كتابه وأسرار خطابه، فحينئذٍ يظهر عليه من الحقائق ما لم يصل إليه غيره من المفسّرين؛ لأنّ الكتاب العزيز بحر لجّيّ في قعره درر وفي ظاهره خير؛ والناس في التقاط درره والاطّلاع على بعض حقائقه على مراتب حسب م-ا تبلغه قوتهم ويفتح الله به عليهم، ومن ثمّ نرى التفاسير مختلفة حسب اختلاف أهلها فيما يغلب عليهم من العلم: فمنها ما يغلب عليه العربيّة كالكشّاف للزمخشري؛ ومنها ما يغلب عليه الحكمة والبرهان الكلامي كمفتاح [أو: مفاتيح ] الغيب للرازي، ومنها ما يغلب عليه القصص كتفسير الثعلبي(1)؛ ومنها ما يسلّط على تأويل الحقائق دون تفسير الظاهر كتأويل عبد الرزاق القاشي ....(2) إلى غير ذلك من المظاهر. ومن المشهور ما روي من «أنّ للقرآن تفسيراً وتأويلاً وحقائق ودقائق وأنّ له ظهراً وبطناً و حدّاً ومطلعاً»(3). «وذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفضل العظيم»(4).

فإذا فرغ من ذلك وأراد الترقّي وتكميل النفس، فليطالع كتب الحكمة من الطبيعي

ص: 290


1- الموسوم بالكشف والبيان انظر وصفه في الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ج 18، ص 66- 67، الرقم 708
2- تأويل الآيات أو التأويلات. انظر وصفه في الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ج 3، ص 303، الرقم 1167.
3- في تفسير الطبري، ج 1، ص 9: وإحياء علوم الدين، ج 1، ص 88 260: قال: «إن للقرآن ظاهراً وباطناً وحداً ومطلعاً»؛ وفي تفسير العياشي، ج 1، ص 11 ، ح 5؛ وبصائر الدرجات، ص 196، ح 7 : عن الفضيل بن يسار، قال: سألت أبا جعفر عن هذه الرواية، ما في القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن، ومافيه حرف إلا وله حدّ ولكلّ حدّ مطلع، ما يعني بقوله: لها ظهر وبطن ؟ قال: «ظهره وبطنه تأويله ...». وفي المحاسن، ص 270، ح 360: ... قلت: وللقرآن بطن وظهر ؟ فقال: «نعم : لأنّ لكتاب الله ظاهراً وباطناً ومعايناً وناسخاً ومنسوخاً ومحكماً ومتشابهاً وسنناً وأمثالاً وفصلاً و وصلاً وأحرفاً وتصريفا .... وراجع أيضاً بحار الأنوار، ج 12، ص 78 - 106: الإتقان، ج 4، ص 225. وأما قوله «وحقائق ودقائق فلم أجده في الأحاديث والروايات. نعم قال المكي في علم القلوب، ص 27: وقيل: مامن آية في القرآن إلا ولها سبع معان: ظاهر وباطن وإشارات وأمارات ولطائف ودقائق وحقائق؛ فالظاهر للعوام، والباطن للخواص، والإشارات لخاص الخواص، والأمارات للأولياء واللطائف للصدّيقين، والدقائق للمحبين والحقائق للنبيّين.
4- الجمعة (62): 4

والرياضي والحكمة العمليّة المشتملة على تهذيب الأخلاق في النفس وما خرج عنها من ضرورات دار الفناء.

ثمّ ينتقل بعده إلى العلوم الحقيقيّة والفنون الحقّيّة، فإنّها لباب هذه العلوم ونتيجة كلّ معلوم، وبها يصل إلى درجة المقرّبين ويحصل على مقاعد الواصلين. أوصلنا الله وإيّاكم إلى ذلك الجناب إنّه كريم وهّاب.

هذا كلّه ترتيب من هو أهل لهذه العلوم، وله استعداد لتحصيلها، ونفس قابلة لفهمها.

فأمّا القاصرون عن درك هذا المقام والممنوعون بالعوائق عن الوصول إلى هذا المرام فليقتصروا منها على ما يمكنهم الوصول إليه متدرّجين فيه حسب ما دللنا عليه فإن لم يكن لهم بدّ من الاقتصار، فلا أقلّ من الاكتفاء بالعلوم الشرعيّة والأحكام الدينيّة.

فإن ضاق الوقت أو ضعفت النفس عن ذلك، فالفقه أولى من الجميع، فبه قامت النبوات، وانتظم أمر المعاش والمعاد، مضيفاً إليه ما يجب مراعاته من تهذيب النفس وإصلاح القلب من علم الطبّ النفسي، ليترتّب عليه العدالة التي بها قامت السماوات والأرض والتقوى التى هى ملاك الأمر.

فإذا فرغ عمّا خلق له من العلوم فليشتغل بالعمل الذي هو زبدة العلم وعلّة الخلق، قال الله تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»(1).

وهذه العلوم بمنزلة الآلات القريبة أو البعيدة للعمل، كما حقّقناه في الباب الأوّل(2). وما أجهل وأخسر وأحمق من يتعلّم صنعةً لينتفع بها في أمر ،معاشه، ثمّ يصرف عمره، ويجعل كدّه في تحصيل آلاتها من غير أن يشتغل بها اشتغالاً يحصل به الغرض منها. فتدبّر ذلك موفّقاً إن شاء الله تعالى.

ص: 291


1- الذاريات (51): 56
2- في الأمر الثاني من القسم الأوّل من النوع الأوّل من ذلك الباب، ص 55 وما بعد.

ص: 292

تتمّة الكتاب

اعلم وفّقك الله تعالى أنّي قد أوضحت لك السبيل، وعلّمتك كيفيّة المسير، وبيّنت لك كمال الآداب، وحثثتك على دخول هذا الباب؛ فعليك بالجدّ والتشمير، واغتنام أيّام عمرك القصير في اقتناء الفضائل النفسانية والحصول على الملكات العلميّة، فإنّها سبب لسعادتك المؤبّدة، وموجبة لكمال النعمة المخلّدة؛ فإنّها من كمالات نفسك الإنسانية، وهي باقية أبداً لا تعدم كما تحقّق في العلوم الحكميّة، ودلّت عليه الآيات القرآنية والأخبار النبويّة، فتقصيرك في تحصيل الكمال في أيّام هذه المهلة القليلة موجب لدوام حسرتك الطويلة.

واعتبر في نفسك الآن إن كنت ذا بصيرة أنّك لا ترضى بالقصور عن أبناء نوعك من بلدك أو محلّتك، وتتألّم بزيادة علمهم على علمك وارتفاع شأنهم على شأنك، مع أنّك وهم في دار خسيسة، وعيشة دنية زائلةٍ عمّا قليلٍ، ولا يكاد يطّلع على نقصك من الخارجين عنك إلّا القليل، فكيف ترضى لنفسك إن كنت عاقلاً بأن تكون غداً - في دار البقاء عند اجتماع جميع العوالم من الأنبياء والمرسلين والشهداء، والصالحين، والعلماء الراسخين والملائكة المقرّبين؛ ومنازلهم في تلك الدار على قدر كمالاتهم التي حصّلوها في هذه الدار الفانية، والمدّة الزائلة - في موقف صفّ النعال(1)، وأنت الآن قادر

ص: 293


1- «في موقف صفِّ النعال» خبرٌ لِ_«تكون».

على درك الكمال، ما هذا إلّا قصور في العقل أو سبات. نعوذ بالله من سنة الغفلة وسوء الزلّة.

هذا كلّه على تقدير سلامتك في تلك الدار من عظيم الأخطار وعذاب النار، وأنّى لك بالأمان من ذلك؟ وقد عرفت أنّ أكثر هذه العلوم واجب إمّا على الأعيان أو الكفاية، وأنّ الواجب الكفائي إذا لم يقم به من فيه كفاية يأثم الجميع بتركه، ويصير حكمه في ذلك كالواجب العيني.

وأين القائم في هذا الزمان، بل في أكثر الأزمان بالواجب من تحصيل هذه العلوم الشرعيّة، والحاصل على درجتها المرضيّة؟ سيّما التفقّه في الدين، فإنّ أقلّ مراتبه وجوبه على الكفاية، وأدنى ما يتأدّى به هذا الواجب أن يكون في كلّ قطرٍ منه قائم به ممّن فيه كفاية، وهذا لا يحصل إلّا مع وجود خلق كثير من الفقهاء في أقطار الأرض. ومتى اتّفق ذلك في هذه الأزمنة؟

هذا مع القيام بما يلزمه من العلوم، والكتب التي يتوقّف عليها من الحديث وغيره، وتصحيحها وضبطها، وكلّ هذا أمر معدوم في هذا الزمان؛ فالتقاعد عنه والاشتغال بغير العلم ومقدّماته، قد صار من أعظم العصيان، وإن كان بصورة العبادة من دعاء أو قراءة القرآن فأين السلامة من أهوال القيامة للقاعد عن الاشتغال بالعلوم الشرعيّة على تقدیر رضاه بهمّته الخسيسة عن ارتقاء مقام أهل الدرجة العلية؟!

واعتبر ثالثا :[ظ ثانياً] - على تقدير السلامة من ذلك كلّه - أنّ امتيازك عن سائر جنسك من الحيوانات ليس إلّا بهذه القوّة العاقلة، التي قد خصّك الله بها من بينها المميّزة بين الخطأ والصواب الموجبة لتحصيل العلوم النافعة لك في هذه الدار وفي دار المآب. فقعودك عن استعمالها فيما خلقت له وانهما كك في مهلكك من المأكل والمشرب، وغيرهما من الأعمال التي يشاركك فيها سائر الحيوانات حتّى الديدان والخنافس - فإنّها تأكل وتشرب وتجمع القوت وتتناكح وتتوالد - مع أنّك قادر على أن تصير من جملة الملائكة المقرّبين باستعمال قوّتك في العلم والعمل بل أعظم من

ص: 294

الملائكة، عين الخسران المبين(1).

فتنبّهوا معشر إخواني وأحبّائي - أيقظنا الله وإيّاكم - من غفلتكم واغتنموا أيّام مهلتكم، وتلافوا ،تفريطكم قبل زوال الإمكان وفوت الأوان والحصول في حيّز كان فيا لها حسرةً لا يتدارك فارطها، وندامةً تخلد محنتها !!

نبّهنا الله وإيّاكم من مراقد الطبيعة، وجعل ما بقى من أيّام هذه المهلة مصروفاً على علوم الشريعة، وأحلّنا جميعاً في دار كرامته بمنازلها الرفيعة. إنّه أكرم الأكرمين وأجود الأجودين.

وعلى هذا القدر نختم الرسالة، حامدين لله تعالى، مصلّين على خاتم الرسالة، وعلى آله أهل العصمة والعدالة، مسلّمين مستغفرين من ذنوبنا إنّه غفور رحيم.

وفرغ منها مؤلّفها الفقير إلى عفو الله تعالى ورحمته: زين الدين بن عليّ بن أحمد الشامي العاملي، ضحى يوم الخميس يوم العشرين من شهر ربيع الأول سنة أربع وخمسين وتسعمائة. تقبّلها الله برحمته، وتلقّاها بيد كرمه ورأفته؛ إنّه جواد كريم والحمد لله ربّ العالمين(2).

ص: 295


1- عين الخسران المبين خبرٌ لقوله: «فقعودك».
2- قد فرغتُ - بحول الله وقوته - من مقابلة هذا الأثر الشريف والسفر المنيف والكتاب القيم، مع ست نسخ مطبوعة وأكثر من خمس نسخ مخطوطة - منها النسخة التي كتبها تلميذ المؤلّف (رحمه الله) وسمعها منه وعنيها خطه - وتحقيقه وتخريج مصادر الروايات وأقوال الصحابة والعلماء وأكثر الأشعار، والتعليق عليه وإعراب مواضعه المشكلة، في شهر جمادى الأولى من سنة 1409ه-. في بلدة قم المشرفة وكان شروعي في ذلك في شهر شعبان المعظم من سنة 1407ه-. والحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله الطيبين الطاهرين، وأنا العبد رضا المختاري (غفر الله له ولوالديه).

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.