عصمة الانبياء فى القرآن الكريم

اشارة

سرشناسه : سبحانی تبریزی، جعفر، - 1308

عنوان و نام پديدآور : عصمه الانبیاء فی القرآن الکریم/ تالیف جعفر السبحانی

مشخصات نشر : قم: موسسه الامام الصادق علیه السلام، 1424ق. = 1381.

مشخصات ظاهری : ص 106

فروست : (سلسله المسائل العقائدیه 6)

شابک : 964-357-101-73500ریال ؛ 964-357-101-73500ریال

وضعیت فهرست نویسی : فهرستنویسی قبلی

يادداشت : عربی.

یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس

موضوع : عصمت -- جنبه های قرآنی

موضوع : پیامبران در قرآن

شناسه افزوده : موسسه امام صادق(ع)

رده بندی کنگره : BP104/ع6 س2 1381

رده بندی دیویی : 297/159

شماره کتابشناسی ملی : م 82-3708

[مقدمات التحقيق

مقدمة الطبعة الأُولى

الأنبياء و الرسُل في القرآن الكريم

إنّ النظرة الفاحِصَة إلى الكون و الحياة و الإنسان تشهد بأنّ الخلق لم يكن عبثاً و سدى، و أنّ الإنسان لم يُخلَق بلا غاية و لا هدف، إنّما خلقه اللَّه سبحانه، و أتى به إلى فسيح هذا الوجود لغاية روحيّة عليا، و للوصول إلى كمالٍ معنويّ ممكنٍ.

و قد عبّر القرآن الكريم عن هذه الحقائق بمختلف التعابير قال سبحانه: «وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ». «1»

و قال سبحانه أيضاً: «أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ». «2»

غير أنّ بلوغ تلك الغاية المنشودة يتوقف على أمرين:

1. مؤهلاتٍ تكوينية ذاتيةٍ كامنةٍ في وجود الإنسان، تبعثه بدافع من ذاته للسير باتجاه الكمال.

2. قادة أقوياءٍ متعلّمين بتعليمٍ من اللَّه و مرسلين من جانبه لقيادة الإنسان

______________________________

(1). ص: 27.

(2). المؤمنون: 115.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 2

و هدايته إلى ما خُلِق له، فإذا تجاوبَ العاملان الداخليُّ و الخارجيُّ تم سوقه إلى الهدف المنشود.

و هذا ممّا يشهد به العقل السليم، و الذكر الحكيم.

غير أنّ قيادة الإنسان التي بُعِثَ من أجلها الأنبياء ليست أمراً سهلًا يمكن القيام به

لكلّ من هبّ و دبّ، بل القائم به لمّا كان يُفترضُ أن يكون أُسوة للناس في العلم و العمل، وجب أن يكون موصوفاً بأمثل الصفات و أكملها و أقواها، و أن يكون منزّهاً عن كلّ مَينٍ و شينٍ و عن كلّ نقصٍ و عيبٍ، و في مقدمة كلّ ذلك يجب أن يكون عاملًا بما يقول، قائماً بما يدعو إليه، مؤتمراً بما يأمر به، منتهياً عمّا ينهى عنه، و إلّا لزلّ كلامه عن القلوب، كما يزل المطر عن الحَجر الصلد، و لما تحقّق هدفُ البعث و الإرسال فانّ الناس يميلون بطبعهم إلى رجالٍ يُوصَفونَ بالمُثُل العُليا، و يرغبون في من يقرن منهم العلمَ بالعمل، فيما ينفرون بطبعهم عن ما يقابل هذا الطراز من الرجال و إن كانوا قمّةً في قوة الفكر، و حلاوة الكلام.

و هذا هو الذي دعا المسلمين إلى القول بوجوب عصمة الأنبياء و الرسل عن الخطأ و الزلل و عن الإثم و العصيان.

و قد استشهدوا على ذلك بالذكر الحكيم، و حكم العقل السليم الذي لا يفارق الكتابَ الكريم.

فلأجل ذلك أخذت مسألة «العصمة» في كتب الكلام و التفسير مكانةً خاصةً، و أسهب المحقّقون فيه الكلام، و إن كان بين المسلمين من شذّ و لم يصف الأنبياء بالعصمة.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 3

البحث عن العصمة من صميم الحياة

إنّ البحث عن «العصمة» ليس بحثاً عن مسائل جانبيةٍ لا تمتُّ إلى الحياة الإنسانية، خصوصاً الجانب المعنوي فيها، فانّها من الأُمور التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالثقافة و الحياة الإسلامية الحاضرة.

فإنّ البحث في العصمة بحثٌ عمّا يضمن سلامة هذه الثقافة، و استقامتها، و بالتالي بحثٌ عمّا يضمن مطابقة حياتنا الحاضرة مع ما أنزله اللَّه من تشريع، و ما تركه نبيّه الكريم من سنّة.

من

هنا يكون من المحبَّذ المؤكَّد بل من اللازم الإمعان في حياة الأنبياء و سيرتهم، و الإمعان في الآيات التي وردت في حقّهم، فهو بالاضافة إلى أنّه يعين على فهم حقيقة «العصمة»، و يؤكّد ارتباطها بسلامة الثقافة الإسلامية، امتثالًا لقوله سبحانه: «أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ». «1»، و قوله سبحانه: «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ». «2»

فالنظرة الفاحصة إلى الآيات الواردة في شأن الأنبياء، و كذا القصص المذكورة حولهم على الوجه العام، و الآيات التي ترجع إلى عصمتهم من الخطأ و الزلل، و الإثم و العصيان بصورة خاصة يعتبر عبادة عمليةً يُثاب عليها المفكّر المتدبر فيها.

غير أنّه للأسف اتّخذ بعض الكتاب المتسرّعين موقفاً سلبياً في مقابل العلماء الذين بحثوا عن «العصمة» ضمن تفاسيرهم أو كتبهم الاعتقادية فقال

______________________________

(1). النساء: 82.

(2). ص: 29.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 4

مستنكراً، و متهجّماً عليهم:

«ما سمعنا عن أحد من الصحابة أنّه ناقش النبي في كيف أكل آدم من الشجرة؟ و كيف عصى ربّه؟ و لا ناقشوا الرسولَ في غير آدم من الأنبياء على هذا المنحى الذي نحاه المتأخرون، و لا و اللَّه ما كان أُولئك الصحابة أقلَّ معرفةً لمكانة الأنبياء من أُولئك المتأخّرين، و لا أقلَّ احتراماً و إجلالًا لشأنهم من أُولئك المتكلّفين ما لا يعنيهم، و الداخلين فيما ليس من شئونهم.

و أمّا القلوب السقيمة فهي قلوب المتأخرين الذين فتح عليهم الشيطان باباً واسعاً من فنون الجدل، و كثرة القيل و القال، و المماحَكات اللفظية و أقوال أهل الكتاب من اليهود أشدّ الناس كراهيةً للأنبياء، و تحقيراً لهم، و مشاقّة لهم، و كفراً بهم و تقتيلًا. «1»

نحن لا نعلّق على هذا الكلام، لأنّه كلام ساقط جداً، فانّ

كاتباً يدّعي الإسلام و في الوقت نفسه يصف علماء الإسلام- الذين أوكل اللَّه إليهم قيادة الأُمّة الإسلامية- بأنّهم ممّن تأثروا بفتنة الشيطان، و جعل التدبّر في آيات الكتاب العزيز من وحي الشيطان، انسان متناقض لا يستحق كلامه الردّ و النقد.

و العجب أنّ هذا الكاتب (المجهول) استثنى من الفرق الإسلامية فرقةً واحدةً وُقُوا من كيد الشيطان و وساوسه و فتنته «و هم أهل الحديث المقتفون للأثر، الذين جعلوا عقولهم و آراءهم تحت حكم ما جاء به الرسول صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- استمساكاً بالعروة الوثقى و الحبل المتين» «2» عزب عنه أنّ أحداً من المسلمين لا

______________________________

(1). من مقدمة «عصمة الأنبياء» للرازي، بقلم كاتب مجهول الهوية، نشر دار المطبوعات الحديثة- جدّة.

(2). من المقدمة أيضاً.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 5

(ب) يعدل عن السنّة إلى غيرها بعد القرآن الكريم و أنّ إنكار السنّة إنكار لنبوة النبي الخاتم صلوات اللَّه و سلامه عليه أبد الآبدين.

غير أنّ الكلام هو في تشخيص (الصحيح) عن غيره، و (الموضوع) عمّا عداه، فانّ تاريخ الحديث يكشف عن أنّ الحديث وقع في مشاكل كثيرة، فهذه هي المجسمة و المشبّهة للَّه تعالى بخلقه، يستندون إلى هذه الأحاديث المدوَّنة في الصحاح و السنن، و المسانيد.

لا ذاكرة لكذوب!!

و الذي أظن أنّ هذه المقدمة كتبت لغاية خاصة و هي الحطُّ من مكانة أهل البيت النبويّ و أئمتهم الذين فرض اللَّه تعالى على الناس محبّتهم و مودّتهم، و جعلها أجر الرسالة إذ قال: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى . «1»

فانّ هذا الكاتب (المجهول) تارة يعرف اليهود بأنّهم أشدّ الناس كراهيةً للأنبياء و تحقيراً لهم إلى آخر ما قال ... و لازم ذلك التحقير أن لا

يكون الأنبياء عندهم معصومين بل متهتكين لحرم اللَّه.

و تارة يُشبّه المقتفين لآثار أهل البيت، باليهود، لأنّهم أثبتوا العصمة لأئمتهم كما أثبت اليهود العصمة للأنبياء تكريماً لهم، و تعظيماً لشأنهم.

فما هذا التناقضُ الصريح بين الكلامين يا ترى؟! فلو كان اليهود- كما وصفهم في العبارة الأُولى- من أشدّ الناس عداوةً للأنبياء و تحقيراً لهم، لما أثبتوا للأنبياء العصمة التي هي من أعظم المواهب الإلهية المفاضة للإنسان. و لو كانت الشيعة كاليهود في القول بالعصمة فما معنى كون اليهود أشدّ الناس عداوة للأنبياء؟! أضف إلى ذلك أنّه بأيّ دليل ينسب إلى اليهود القول بالعصمة بل هم حسب نصوص التوراة زاعمين خلافها؟

فلأجل توقير الأنبياء و تكريمهم، و امتثال قوله سبحانه: «لِيَدَّبَّرُوا ...» عمدنا إلى جمع الآيات المتعلّقة بعصمة الأنبياء و الرسل، ما يدل منها على عصمتهم و ما يتوهّم منه خلاف ذلك، و نحن نحاول بذلك سدّ فراغ ملموسٍ في المكتبة الإسلامية بهذه الصورة الملموسة.

على أنّه و إن كان ثلةٌ من علماء الإسلام القدامى نظير الشريف المرتضى (355- 436 ه) و الخطيب الفخر الرازي (543- 606 ه) و غيرهما قد أشبعوا هذه المسألة بحثاً و دراسة، غير أنّ لكلِّ تأليفٍ مزيّتُه، كما أنّ كلّ مؤلّف يناسب عصره، و ثقافة بيئته.

نسأل اللَّه سبحانه أن يعصمنا من الزلل، و يوفقنا لما يحب و يرضى.

جعفر السبحاني

قم- الحوزة العلمية

شهر ذي القعدة 1408 ه

مقدمة الطبعة الثانية

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه الذي علا بحوله، و دنا بطوله، و الصلاة و السلام على أنبيائه و رسله الذين أخذ على الوحي ميثاقَهم، و على تبليغ الرسالة أمانتَهم، و أرسلَهم إلى عبادِه ليستأدُوهُم ميثاقَ فطرته و يذكِّروهم منسيَّ نعمتِه، و يحتجُّوا عليهم بالتبليغ، و يُثيروا لهم دفائن

العقول. لا سيّما خاتمَ رسله، و أفضلَ خليقته محمد، و على آله الذين هم عيبةُ علمِه، و موئِلُ حِكَمِه، و كهوفُ كتبه، و جبالُ دينه.

أما بعد: فإنّه سبحانه لم يخلق الناس عبثاً و لا سدى، و إنّما خلقهم لإيصالهم إلى الكمال، و عزّز ذلك ببعثِ الرسل لهداية الناس إلى الغاية المنشودة، و قرنهم بفضائلَ، و طهّرهم عن الأرجاس و الأدناس، حتى يتيسَّر لهم تعليمُ الناس و هدايتهم.

و قد شهدت الآيات القرآنية على كمالهم و نضوج عقلهم، و استقامة طريقتهم، و ابتعادهم عن الذنوب، و على ذلك استقرت العقيدة الإسلامية عبر الأجيال و القرون.

و قد أُثيرت منذ عصور غابرة شبهات حول طهارتهم و نزاهتهم، و تم دحضها إلّا أنّها أُعيدت في العصور الأخيرة باسلوب جديد من قِبَلِ بعض الباحثين و قد تشبَّثوا ببعض الآيات دعماً لموقفهم، و لهذا قمنا بتحليل هذه الآيات

______________________________

(1). الشورى: 23.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 6

و تفسيرها على منهج موافق لقواعد التفسير كي يتّضح أنّ هذه الآيات لا تمس كرامة العصمة بل تعزّزها.

و ثمة بحوث جانبية حول واقع العصمة و حقيقتها و أسبابها قدّمناها على تفسير الآيات لتكون كالمقدمة، و اللَّه سبحانه من وراء القصد.

جعفر السبحاني

قم- مؤسسة الإمام الصادق عليه السَّلام-

تحريراً في الرابع عشر من

شهر رمضان المبارك من شهور عام 1420 ه

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 7

مبدأ ظهور نظرية العصمة

قد استعملت لفظة «العصمة» في القرآن الكريم بصورها المختلفة ثلاث عشرة مرة، و ليس لها إلّا معنى واحد و هو الإمساك و المنع، و لو استعملت في موارد مختلفة فإنّما هو بملاحظة هذا المعنى.

قال ابن فارس: «عصم» أصل واحد صحيح يدل على إمساك و منع و ملازمة، و المعنى في ذلك

كله معنى واحد، من ذلك:

«العصمة» أن يعصم اللَّه تعالى عبده من سوء يقع فيه، «و اعتصم العبد باللَّه تعالى»: اذا امتنع، و «استعصم»: التجأ، و تقول العرب:

«أعصمت فلاناً» أي هيّأت له شيئاً يعتصم بما نالته يده. أي يلتجئ و يتمسك به. «1»

إنّ اللَّه سبحانه يأمر المؤمنين بالاعتصام بحبل اللَّه بقوله: «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا». «2»

و المراد التمسك و الأخذ به بشدة و قوة و ينقل سبحانه عن امرأة العزيز قولها: «وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ». «3»

و قد استعملت تلك اللفظة في الآية الأُولى في الإمساك و التحفّظ، و في الآية

______________________________

(1). المقاييس: 4/ 331.

(2). آل عمران: 103.

(3). يوسف: 32.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 8

الثانية في المنع و الامتناع، و الكل يرجع إلى معنى واحد.

و لأجل ذلك نرى العرب يسمّون الحبل الذي تشد به الرحال: «العصام»، لأنّه يمنعها من السقوط و التفرّق.

قال المفيد: إنّ العصمة في أصل اللغة هي ما اعتصم به الإنسان من الشي ء كأنّه امتنع به عن الوقوع في ما يكره، و منه قولهم:

اعتصم به الإنسان من الشي ء كأنّه امتنع به عن الوقوع في ما يكره. و منه قولهم: «اعتصم فلان بالجبل» إذا امتنع به، و منه سميت العصم و هي وعول الجبال لامتناعها بها.

و العصمة من اللَّه هي التوفيق الذي يسلم به الإنسان في ما يكره إذا أتى بالطاعة، و ذلك مثل إعطائنا رجلًا غريقاً حبلًا ليتشبث به فيسلم، فهو إذا أمسكه و اعتصم به، سمّي ذلك الشي ء عصمة له، لما تشبّث به فسلم به من الغرق، و لو لم يعتصم به لم يسم عصمة. «1»

و على كل تقدير فالمراد من العصمة صيانة الإنسان من الخطأ و العصيان،

بل الصيانة في الفكر و العزم، فالمعصوم المطلق من لا يخطأ في حياته، و لا يعصي اللَّه في عمره و لا يريد العصيان و لا يفكر فيه.

مبدأ ظهور فكرة العصمة في الأُمّة الإسلامية

إنّ الكتب الكلامية- قديمها و حديثها- مليئة بالبحث عن العصمة، و إنّما الكلام في مبدأ ظهور تلك الفكرة بين المسلمين، و انّه من أين نشأ هذا البحث و كيف التفت علماء الكلام إلى هذا الأصل؟

لا شك انّ علماء اليهود ليسوا بالمبدعين لهذه الفكرة، لأنّهم ينسبون إلى

______________________________

(1). أوائل المقالات: 11.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 9

أنبيائهم معاصي كثيرة، و العهد القديم يذكر ذنوب الأنبياء التي يصل بعضها إلى حد الكبائر، و ربّما يخجل القلم عن ذكر بعضها استحياء، فالأنبياء عندهم عصاة خاطئون، و عند ذلك لا تكون أحبار اليهود مبدعين لهذه المسألة.

نعم انّ علماء النصارى، و إن كانوا ينزهون المسيح من كل عيب و شين، و لكن تنزيههم ليس بملاك انّ المسيح بشر أرسل لتعليم الإنسان و إنقاذه، بل هو عندهم «الإله المتجسد» أو هو ثالث ثلاثة.

و عند ذلك لا يمكن أن يكون علماؤهم مبدعين لهذه المسألة في الأبحاث الكلامية، لأنّ موضوع العصمة هو «الإنسان».

و يذكر «المستشرق رونالدسن» في كتابه «عقيدة الشيعة» انّ فكرة عصمة الأنبياء في الإسلام مدينة في أصلها و أهميتها التي بلغتها بعدئذ، إلى تطور «علم الكلام» عند الشيعة و أنّهم أوّل من تطرق إلى بحث هذه العقيدة و وصف بها أئمتهم، و يحتمل أن تكون هذه الفكرة قد ظهرت في عصر الصادق، بينما لم يرد ذكر العصمة عند أهل السنة إلّا في القرن الثالث للهجرة بعد أن كان الكليني قد صنّف كتابه «الكافي في أُصول الدين» «1» و أسهب في موضوع العصمة.

و يعلّل «رونالدسن»

بأنّ الشيعة لكي يثبتوا دعوى الأئمّة تجاه الخلفاء السنيّين أظهروا عقيدة عصمة الرسل بوصفهم أئمّة أو هداة. «2»

______________________________

(1). لقد توفي محمد بن يعقوب الكليني في العقد الثالث من القرن الرابع أي عام 328 ه، فلو استفحلت مسألة العصمة في القرن الثالث عند أهل السنّة حسب اعتراف الرجل، فكيف يكون كتاب الكافي منشئاً لهذه الحركة الفكرية، أ فهل يمكن تأثير المتأخر في المتقدم، و هل يكون العائش في القرن الرابع مؤثراً في فكر من يعيش في القرن الثالث، أضف إليه أنّ كتاب الكافي لم يؤلف في الأُصول وحدها، بل هو كتاب مشتمل على أحاديث تربو على ستة عشر ألف حديث حول أُصول الدين و فروعه.

(2). عقيدة الشيعة: 328.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 10

إنّ هذا التحليل لا يبتنى على أساس رصين و إنّما هو من الأوهام و الأساطير التي اخترعتها نفسية الرجل و عداؤه للإسلام و المسلمين أوّلًا، و الشيعة و أئمّتهم ثانياً، و سيوافيك بيان منشأ ظهور تلك الفكرة.

القرآن يطرح مسألة العصمة

إنّ العصمة بمعنى المصونية عن الخطأ و العصيان مع قطع النظر عمن يتصف بها، قد ورد في القرآن الكريم، فقد جاء وصف الملائكة الموكلين على الجحيم بهذا الوصف إذ يقول: «عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ». «1»

و لا يجد الإنسان كلمة أوضح من قوله سبحانه: «لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» في تحديد حقيقة العصمة، و واقعها، و الفات الإنسان المتدبر في القرآن إلى هذه الفكرة، و ذاك الأصل.

إنّ اللَّه سبحانه يصف الذكر الحكيم بقوله: «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ». «2»

كما يصفه أيضاً بقوله: «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ

يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ». «3»

فهذه الأوصاف تنص على مصونية القرآن من كل خطاء و ضلال.

و على ذلك فالعصمة بمفهومها الوسيع، مع قطع النظر عن موصوفها، قد طرحها القرآن و ألفت نظر المسلمين إليها، من دون أن يحتاج علماؤهم إلى أخذ

______________________________

(1). التحريم: 6.

(2). فصلت: 42.

(3). الإسراء: 9.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 11

هذه الفكرة من الأحبار و الرهبان.

نعم انّ الموصوف في هذه الآيات و ان كانت هي الملائكة أو القرآن الكريم و المطروح عند علماء الكلام هو عصمة الأنبياء و الأئمّة، لكن الاختلاف في الموصوف لا يضر بكون القرآن مبدعاً لهذه الفكرة، لأنّ المطلوب هو الوقوف على منشأ تكوّن هذه الفكرة، ثمّ تطورها عند المتكلّمين، و يكفي في ذلك كون القرآن قد طرح هذه المسألة في حق الملائكة و القرآن.

عصمة النبي في القرآن الكريم

إنّ العصمة ذات مراحل أربع، و قد تكفل القرآن ببيان تلك المراحل في مورد الأنبياء عامة، و مورد النبي الأكرم صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- خاصة، و سيوافيك بيان تلك المراحل و دلائلها القرآنية.

فإذا كان القرآن هو أوّل من طرح هذه المسألة بمراحلها و دلائلها، فكيف يصح أن ينسب إلى الشيعة و يتصور أنّهم الأصل في طرح هذه المسألة؟!

و إن كنت في ريب مما ذكرناه- هنا- فلاحظ قوله سبحانه في حق النبي الأكرم حيث يصف منطقه الشريف بقوله: «وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى . «1»

فترى الآيتين تشيران- بوضوح- إلى أنّ النبي لا ينطق عن ميول نفسانية و انّ ما ينطق به، وحي أُلقي في روعه و أُوحي إلى قلبه، و من لا يتكلم عن الميول النفسانية، و يعتمد في منطقه على الوحي يكون مصوناً من الزلل

في المرحلتين: مرحلة الأخذ و التلقّي و مرحلة التبليغ و التبيين.

على أنّ الآيات القرآنية تصف فؤاده و عينه بأنّهما لا يكذبان و لا يزيغان و لا

______________________________

(1). النجم: 3- 4.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 12

يطغيان، إذ قال سبحانه: «ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ... ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى . «1»

أ فيصح بعد هذه الآيات القرآنية تصديق ما ذكره هذا المستشرق اليهودي أو ذاك المستشرق النصراني فيما زعما في كون الشيعة مبدأ لطرح العصمة على بساط البحث، و انّه وليد تكامل علم الكلام عند الشيعة في عصر الإمام الصادق عليه السَّلام- مع أنّا نرى أنّ للمسألة جذوراً قرآنية و لا عتب على الشيعة أن يقتفوا أثر كتاب اللَّه سبحانه، و يصفوا أنبياءه و رسله بما وصفهم به صاحب العزة في كتابه.

نظرية أحمد أمين حول كلام الشيعة

إنّ بعض المصريين كأحمد أمين و من حذا حذوه يصرّون على أنّ الشيعة أخذت منهجها الفكري في العدل و العصمة و غيرهما من الأفكار، من المعتزلة حيث قالوا: إنّ الشيعة يقولون في كثير من مسائل أُصول الدين بقول المعتزلة، فقد قال الشيعة كما قال المعتزلة بأنّ صفات اللَّه عين ذاته، و بأنّ القرآن مخلوق و بإنكار الكلام النفسي، و إنكار رؤية اللَّه بالبصر في الدنيا و الآخرة، كما وافق الشيعة المعتزلة في القول بالحسن و القبح العقليين، و بقدرة العبد و اختياره و انّه تعالى لا يصدر عنه قبيح و انّ أفعاله معللة بالأغراض.

و قد قرأت كتاب الياقوت لأبي إسحاق إبراهيم من قدماء متكلمي الشيعة الإمامية «2» فكنت كأني أقرأ كتاباً من كتب أُصول المعتزلة إلّا في مسائل معدودة، كالفصل الأخير في الإمامة و إمامة علي و إمامة الأحد عشر بعده، و لكن

أيّهما أخذ من الآخر؟!

______________________________

(1). النجم: 11- 17.

(2). قال أحمد أمين تعليقاً على هذه الجملة: و هو مخطوط نادر تفضل صديقي الأُستاذ أبو عبد اللَّه الزنجاني فأهدانيه. أقول: إنّ هذا الكتاب طبع أخيراً في إيران مع شرح العلامة الحلّي.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 13

أمّا بعض الشيعة فيزعم انّ المعتزلة أخذوا عنهم و انّ واصل بن عطاء تتلمذ لجعفر الصادق، و أنّا أرجح أن الشيعة هم الذين أخذوا من المعتزلة تعاليمهم ... و نشوء مذهب الاعتزال يدل على ذلك، و زيد بن علي زعيم الفرقة الشيعية الزيدية تتلمذ لواصل، و كان جعفر «الصادق» يتصل بعمه زيد و يقول أبو الفرج في مقاتل الطالبيين: كان جعفر بن محمد يمسك لزيد بن علي بالركاب، و يسوي ثيابه على السرج «1» فإذا صح ما ذكره الشهرستاني و غيره من تتلمذه لواصل، فلا يعقل كثيراً أن يتتلمذ واصل لجعفر، و كثير من المعتزلة كان يتشيع، فالظاهر انّه عن طريق هؤلاء تسربت أُصول المعتزلة إلى الشيعة. «2»

مناقشة نظرية أحمد أمين

اشارة

ما ذكره الكاتب المصري اجتهاد في مقابل تنصيص أئمّة المعتزلة أنفسهم بأنّهم أخذوا أُصولهم من محمد بن الحنفية و ابنه أبي هاشم و هما أخذا عن علي بن أبي طالب والدهما العظيم، و إليك بعض نصوصهم:

قال الكعبي: و المعتزلة يقال أن لها و لمذهبها اسناداً يتصل بالنبي ليس لأحد من فرق الأُمّة مثله، و ليس يمكن خصومهم دفعهم عنه، و هو انّ خصومهم يقرّون بأنّ مذهبهم يسند إلى واصل بن عطاء، و ان واصلًا يسند إلى محمد بن علي بن أبي طالب، و ابنه أبي هاشم «عبد اللَّه بن محمد بن علي» و انّ محمداً أخذ عن أبيه علي و انّ علياً أخذ عن

رسول اللَّه. «3»

و قال أيضاً: و كان واصل بن عطاء من أهل المدينة ربّاه محمد بن علي بن أبي

______________________________

(1). مقاتل الطالبيين: 93.

(2). ضحى الإسلام: 267- 268.

(3). رسائل الجاحظ: 228، تحقيق عمر أبو النصر.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 14

طالب و علّمه. «1»

و كان مع ابنه أبي هاشم في الكتّاب ثمّ صحبه بعد موت أبيه مدة طويلة و حكي عن بعض السلف انّه قيل له: كيف كان علم محمد بن علي فقال: إذا أردت أن تعلم ذلك فانظر إلى أثره «واصل».

و هكذا ذكروا في عمرو بن عبيد انّه أخذ عن أبي هاشم أيضاً، و قال القاضي «عبد الجبار»: فأمّا أبو هاشم عبد اللَّه بن محمد بن علي فلو لم يظهر علمه و فضله إلّا بما ظهر عن واصل بن عطاء لكفى، و كان يأخذ العلم عن أبيه و كان واصل بمنزلة كتاب صنعه أبو هاشم، و كذلك أخوه غيلان بن عطاء يقال انّه أخذ العلم عن الحسن بن محمد بن الحنفية أخي أبي هاشم. «2»

و قال الجاحظ: و من مثل محمد الحنفية و ابنه أبي هاشم الذي قرأ علوم التوحيد و العدل حتى قالت المعتزلة: غلبنا الناس كلّهم بأبي هاشم الأوّل.

قال ابن أبي الحديد: إنّ أشرف العلوم هو العلم الإلهي، لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم، و معلومه أشرف الموجودات، فكان هو أشرف، و من كلامه (علي)- عليه السَّلام- اقتبس، و عنه نقل، و منه ابتدئ و إليه انتهى، فإنّ المعتزلة- الذين هم أصل التوحيد و العدل و أرباب النظر و منهم تعلم الناس هذا الفن- تلامذته، و أصحابه، لأنّ كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبد اللَّه بن محمد بن الحنفية و أبو هاشم

تلميذ أبيه و أبوه تلميذه.

و أمّا الأشعرية فإنّهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري و هو تلميذ أبي علي الجبائي، و أبو علي أحد مشايخ المعتزلة فالأشعرية

______________________________

(1). فضل الاعتزال: 234.

(2). فضل الاعتزال: 226.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 15

ينتهون بالآخرة إلى استاذ المعتزلة و معلمهم، و هو علي بن أبي طالب. «1»

و قال المرتضى في أماليه: اعلم أنّ أُصول التوحيد و العدل مأخوذة من كلام أمير المؤمنين- صلوات اللَّه عليه- و خطبه، فإنّها تتضمن من ذلك ما لا زيادة عليه، و لا غاية وراءه، و من تأمل المأثور في ذلك من كلامه، علم أنّ جميع ما أسهب المتكلمون من بعده في تصنيفه و جمعه إنّما هو تفصيل لتلك الجمل و شرح لتلك الأُصول، و روي عن الأئمّة من أبنائه عليه السَّلام- في ذلك ما لا يكاد يحاط به كثرة، و من أحب الوقوف عليه و طلبه من مظانه، أصاب منه الكثير، الغزير، الذي في بعضه شفاء للصدور السقيمة، و نتاج للعقول العقيمة. «2»

و قال العلّامة السيد مهدي الروحاني في تعليقه على نظرية أحمد أمين: إنّ أحمد أمين قد لفق ذلك التوجيه و الرد ليقطع انتساب الاعتزال و المعتزلة إلى أمير المؤمنين و لم نر أحداً من الشيعة قال بتتلمذ واصل للإمام الصادق عليه السَّلام- حتى يرد عليه أنّ الصادق كان يمسك الركاب لتلميذ واصل، و هو زيد. فتتلمذه للصادق بعيد، بل وجه اتصال المعتزلة بأمير المؤمنين هو ما ذكروه أنفسهم (حسب ما عرفت)، و مجرد إمساك الإمام الصادق بالركاب لعمه زيد (رحمه اللَّه) لا يدل على أنّ الصادق تتلمذ لعمه زيد، و انّما فعل أحمد أمين ذلك بدافع من هواه

المعروف عنه، و الظاهر في كتبه، و هو أن يسلب عن علي ما ينسب إليه من الفضائل مهما أمكن و لكن بصورة التحقيق العلمي علّ ذلك ينطلي على الناس ... و ذلك بعد ما ظهر من الغربيين تقريظات و مقالات فيها تعظيم للمعتزلة و تعريف لهم بأنّهم أصحاب الفكر الحر، لم تسمح نفس أحمد أمين بأن تكون جماعة كهؤلاء ينتسبون في أُصول مذهبهم و أفكارهم إلى علي، فلفق ذلك التوجيه و الرد و الإغفال.

______________________________

(1). الشرح الحديدي: 1/ 17.

(2). غرر الفوائد و درر القلائد أو أمالي المرتضى: 1/ 148.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 16

كما أنّه قد أنكر بلا دليل انتساب علم النحو إليه مع أنّ ابن النديم قال في الفهرست: زعم أكثر العلماء انّ النحو أخذه أبو الأسود عن أمير المؤمنين عليه السَّلام-. «1»

عود على بدء

فلنرجع إلى دراسة وجود جذور عصمة النبي في كلام علي عليه السَّلام- حيث إنّه يصف النبي في الخطبة القاصعة بقوله:

و لقد قرن اللَّه به من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، و محاسن أخلاق العالم ليله و نهاره. «2»

و دلالة هذه القمة العالية من هذه الخطبة على عصمة النبي في القول و العمل عن الخطأ و الزلل واضحة، فإنّ من رباه أعظم ملك من ملائكة اللَّه سبحانه من لدن أن كان فطيماً، إلى أُخريات حياته الشريفة، لا تنفك عن المصونية من الانحراف و الخطأ، كيف و هذا الملك يسلك به طريق المكارم، و يربيه على محاسن أخلاق العالم، ليله و نهاره، و ليست المعصية إلّا سلوك طريق المآثم و مساوئ الأخلاق، و من يسلك الطريق الأوّل يكون متجنباً عن سلوك الطريق الثاني.

إنّ الإمام أمير المؤمنين

لا يصف خصوص النبي صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- بالعصمة في هذه الخطبة، بل يصف آل النبي صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- بقوله: «هم عيش العلم، و موت الجهل، يخبرهم حلمهم عن علمهم، و ظاهرهم عن باطنهم، و صمتهم عن حكم منطقهم، لا يخالفون الحق، و لا يختلفون فيه، هم دعائم الإسلام، و ولائج الاعتصام، بهم عاد

______________________________

(1). بحوث مع أهل السنّة و السلفية: 108، و قد نقلنا بعض النصوص السابقة في حق المعتزلة عن ذلك الكتاب.

(2). نهج البلاغة الخطبة: 187، طبعة عبده.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 17

الحق في نصابه، و انزاح الباطل عن مقامه، و انقطع لسانه عن منبته، عقلوا الدين عقل وعاية و رعاية، لا عقل سماع و دعاية». «1»

لاحظ هذا الكلام و أمعن النظر فيه هل ترى كلمة أوضح في الدلالة على مصونيتهم من الذنوب و عصمتهم عن الآثام من قوله:

«لا يخالفون الحق، و لا يختلفون فيه» أي لا يعدلون عن الحق، و لا يختلفون فيه، قولًا و فعلًا كما يختلف غيرهم من الفرق، و أرباب المذاهب، فمنهم من له في المسألة قولان، أو أكثر، و منهم من يقول قولًا ثمّ يرجع عنه، و منهم من يرى في أُصول الدين رأياً ثمّ ينفيه و يتركه.

إنّ الإمام يصف آل النبي بقوله: «عقلوا الدين عقل وعاية و رعاية» أي عرفوا الدين، و علموه، معرفة من فهم الشي ء و أتقنه، و وعوا الدين و حفظوه، و حاطوه ليس كما يعقله غيرهم عن سماع و دعاية».

و على الجملة انّ قوله عليه السَّلام-: «لا يخالفون الحق»، دليل على العصمة عن المعصية و قوله: «عقلوا الدين عقل وعاية و رعاية» دليل على مصونيتهم عن

الخطأ، و سلامتهم في فهم الدين و وعيه.

و الإمام لا يكتفي ببيان عصمة آل رسول اللَّه بهذين الكلامين، بل يصف أحب عباد اللَّه إليه بعبارات و جمل تساوق العصمة، و تعادلها، إذ يقول:

«أعانه اللَّه على نفسه، فاستشعر الحزن، و تجلبب الخوف، فزهر مصباح الهدى في قلبه، و أعدّ القرى ليومه النازل به، فقرّب على نفسه البعيد، و هوّن الشديد، نظر فأبصر، و ذكر فاستكثر، و ارتوى من عذب فرات سهلت له موارده فشرب نهلًا، و سلك سبيلًا جدداً، قد خلع سرابيل الشهوات، و تخلّى من الهموم إلّا

______________________________

(1). نهج البلاغة الخطبة 234، طبعة عبده.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 18

هماً واحداً انفرد به، فخرج من صفة العمى و مشاركة أهل الهوى و صار من مفاتيح أبواب الهدى، و مغاليق أبواب الردى، قد أبصر طريقه، و سلك سبيله، و عرف مناره و قطع غماره، و استمسك من العرى بأوثقها، و من الحبال بأمتنها، فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس، قد نصب نفسه للَّه سبحانه في أرفع الأُمور من إصدار كل وارد عليه، و تصيير كل فرع إلى أصله، مصباح ظلمات، كشاف عشوات، مفتاح مبهمات، دفّاع معضلات، دليل فلوات، يقول فيفهم، و يسكت فيسلم، قد أخلص للَّه فاستخلصه فهو من معادن دينه، و أوتاد أرضه، قد ألزم نفسه العدل فكان أول عدله نفي الهوى عن نفسه، يصف الحق و يعمل به، لا يدع للخير غاية، إلّا أمّها، و لا مظنة إلّا قصدها، قد أمكن الكتاب من زمامه، فهو قائده و إمامه، يحل حيث حل ثقله، و ينزل حيث كان منزله. «1»

و لا أرى أحداً نظر في هذه الخطبة، و أمعن النظر في عباراته و جمله، إلّا و

أيقن أنّ الموصوف بهذه الصفات في القمة الأعلى من العصمة. فهل ترى من نفسك انّ من لا يكون له إلّا هم واحد و هو الوقوف عند حدود الشريعة و من ألزم على نفسه العدل و نفى الهوى عن نفسه، أن لا يكون مصوناً من المعصية، و معتصماً من الزلل، كيف و قد أمكن القرآن من زمامه، فهو قائده و إمامه يحل حيث حل، و ينزل حيث نزل.

قال ابن أبي الحديد: إنّ هذا الكلام منه أخذ أصحابه علم الطريقة و الحقيقة و هو تصريح بحال العارف و مكانته من اللَّه، و العرفان درجة حال رفيعة شريفة جداً مناسبة للنبوة و يختص اللَّه تعالى بها من يقربه إليه من خلقه.

و قال أيضاً: إنّ هذه الصفات و الشروط و النعوت التي ذكرها في شرح حال العارف إنّما يعني بها نفسه، و هو من الكلام الذي له ظاهر و باطن، فظاهره أن

______________________________

(1). نهج البلاغة الخطبة 83، طبعة عبده.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 19

يشرح حال العارف المطلق، و باطنه أن يشرح حال العارف المعين و هو نفسه عليه السَّلام-.

ثمّ إنّ الشارح الحديدي أخذ في تفسير هذه الصفات و الشروط واحداً بعد آخر، إلى أن بلغ إلى الشرط السادس عشر «1» و من أراد الوقوف على أهداف الخطبة فليرجع إليه و إلى غيره من الشروح.

هذه جذور المسألة في الكتاب و السنّة، نعم انّ المتكلمين هم الذين عنونوا مسألة العصمة و طرحوها في الأوساط الإسلامية، فذهبت العدلية من الشيعة و المعتزلة إلى جانب النفي و السلب على أقوال و تفاصيل بين طوائفهم، و قد أقام كل فريق دليلًا على مدعاه.

و لا يمكن أن ينكر أنّ المناظرات التي دارت بين الإمام

علي بن موسى الرضا و أهل المقالات من الفرق الإسلامية قد أعطت للمسألة مكانة خاصة، فقد أبطل الإمام الرضا- عليه السَّلام- كثيراً من حجج المخالفين في مجال نفي العصمة عن الأنبياء عامة و النبي الأعظم خاصة، و لو لا خوف الإطالة لأتينا ببعض هذه المناظرات التي دارت بين الإمام عليه السَّلام- و أهل المقالات من الفرق الإسلامية، و إن شئت الوقوف عليها فراجع بحار الأنوار. «2» و سوف نرجع في نهاية المطاف إلى تفسير بعض الآيات التي تمسّك بها المخالف في مجال نفي العصمة عن الأنبياء.

ما هي حقيقة العصمة؟

اشارة

عرف المتكلمون العصمة على الإطلاق بأنّها قوة تمنع الإنسان عن اقتراف

______________________________

(1). الشرح الحديدي: 6/ 367- 370.

(2). بحار الأنوار: 11/ 72- 85.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 20

المعصية و الوقوع في الخطأ. «1»

و عرّفها الفاضل المقداد بقوله: العصمة عبارة عن لطف يفعله اللَّه في المكلف بحيث لا يكون له مع ذلك داع إلى ترك الطاعة و لا إلى فعل المعصية مع قدرته على ذلك و يحصل انتظام ذلك اللطف بأن يحصل له ملكة مانعة من الفجور و الإقدام على المعاصي مضافاً إلى العلم بما في الطاعة من الثواب، و العصمة من العقاب، مع خوف المؤاخذة على ترك الأَولى، و فعل المنسي.

أقول: «2» اذا كانت حقيقة العصمة عبارة عن القوة المانعة عن اقتراف المعصية و الوقوع في الخطاء، كما عرّفه المتكلمون فيقع الكلام في موردين:

الأوّل: العصمة عن المعصية.

الثاني: العصمة عن الخطأ.

و لتوضيح حال المقامين من حيث الاستدلال و البرهنة يجب أن يبحث قبل كل شي ء عن حقيقة العصمة.

إنّ حقيقة العصمة عن اقتراف المعاصي ترجع إلى أحد أُمور ثلاثة على وجه منع الخلو، و ان كانت غير مانعة عن الجمع:

______________________________

(1). الميزان:

2/ 142، طبعة طهران.

(2). إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين: 301- 302، و من العجب تفسير الأشاعرة للعصمة على ما يقتضيه أصلهم من استناد الأشياء كلّها إلى الخالق المختار ابتداءً: بأن لا يخلق اللَّه فيهم ذنباً (*).

أ فبعد هذا هل يصح أن تعد العصمة كرامة و ترك الذنب فضيلة؟ و ليس معنى التوحيد في الخالقية سلب التأثير عن سائر العلل، و قد أوضحنا الحال في الجزء الأوّل من هذه السلسلة عند البحث عن هذا القسم من التوحيد، فلاحظ.

-

(*) إبطال نهج الباطل لفضل بن روزبهان على ما نقله عنه صاحب دلائل الصدق: 1/ 370- 371.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 21

1. العصمة الدرجة القصوى من التقوى

العصمة ترجع إلى التقوى بل هي درجة عليا منها، فما توصف به التقوى و تعرف به تعرف و توصف به العصمة.

لا شك أنّ التقوى حالة نفسانية تعصم الإنسان عن اقتراف كثير من القبائح و المعاصي، فإذا بلغت تلك الحالة إلى نهايتها تعصم الإنسان عن اقتراف جميع قبائح الأعمال، و ذميم الفعال على وجه الإطلاق، بل تعصم الإنسان حتى عن التفكير في المعصية، فالمعصوم ليس خصوص من لا يرتكب المعاصي و يقترفها بل هو من لا يحوم حولها بفكره.

إنّ العصمة ملكة نفسانية راسخة في النفس لها آثار خاصة كسائر الملكات النفسانية من الشجاعة و العفة و السخاء، فإذا كان الإنسان شجاعاً و جسوراً، سخياً و باذلًا، و عفيفاً و نزيهاً، يطلب في حياته معالي الأُمور، و يتجنب عن سفاسفها فيطرد ما يخالفه من الآثار، كالخوف و الجبن و البخل و الإمساك، و القبح و السوء، و لا يرى في حياته أثراً منها.

و مثله العصمة، فإذا بلغ الإنسان درجة قصوى من التقوى، و صارت تلك الحالة راسخة في

نفسه يصل الإنسان إلى حد لا يرى في حياته أثر من العصيان و الطغيان، و التمرّد و التجرّي، و تصير ساحته نقية عن المعصية.

و أمّا أنّ الإنسان كيف يصل إلى هذا المقام؟ و ما هو العامل الذي يمكنه من هذه الحالة؟ فهو بحث آخر سنرجع إليه في مستقبل الأبحاث.

فإذا كانت العصمة من سنخ التقوى و الدرجة العليا منها، يسهل لك تقسيمها إلى العصمة المطلقة و العصمة النسبية.

فإنّ العصمة المطلقة و إن كانت تختص بطبقة خاصة من الناس لكن

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 22

العصمة النسبية تعم كثيراً من الناس من غير فرق بين أولياء اللَّه و غيرهم، لأنّ الإنسان الشريف الذي لا يقل وجوده في أوساطنا، و إن كان يقترف بعض المعاصي لكنه يجتنب عن بعضها اجتناباً تامّاً بحيث يتجنب عن التفكير بها فضلًا عن الإتيان بها.

مثلًا الإنسان الشريف لا يتجوّل عارياً في الشوارع و الطرقات مهما بلغ تحريض الآخرين له على ذلك الفعل، كما أنّ كثيراً من اللصوص لا يقومون بالسرقة في منتصف الليل متسلحين لانتهاب شي ء رخيص، كما أنّ كثيراً من الناس لا يقومون بقتل الأبرياء و لا بقتل أنفسهم و ان عرضت عليهم مكافآت مادية كبيرة، فإنّ الحوافز الداعية إلى هذه الأفاعيل المنكرة غير موجودة في نفوسهم، أو أنّها محكومة و مردودة بالتقوى التي تحلّوا بها، و لأجل ذلك صاروا بمعزل عن تلك الأفعال القبيحة حتى أنّهم لا يفكّرون فيها و لا يحدّثون بها أنفسهم أبداً.

و العصمة النسبية التي تعرفت عليها تقرب حقيقة العصمة المطلقة في أذهاننا، فلو بلغت تلك الحالة النفسانية الرادعة في الإنسان مبلغاً كبيراً و مرحلة شديدة بحيث تمنعه من اقتراف جميع القبائح، يصير معصوماً مطلقاً، كما أنّ

الإنسان في القسم الأوّل صار معصوماً نسبياً.

و على الجملة: إذا كانت حوافز الطغيان و العصيان و البواعث على المخالفة محكومة عند الإنسان، منفورة لديه لأجل الحالة الراسخة، يصير الإنسان معصوماً تامّاً منزهاً عن كل عيب و شين.

2. العصمة: نتيجة العلم القطعي بعواقب المعاصي

قد تعرفت على النظريّة الأُولى في حقيقة العصمة و انّها عبارة عن: الدرجة

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 23

العليا من التقوى، غير انّ هناك نظرية أُخرى في حقيقتها، لا تنافي النظرية الأُولى، بل ربّما تعد من علل تحقق الدرجة العليا من التقوى التي عرفنا العصمة بها و موجب تكونها في النفس، و حقيقة هذه النظرية عبارة عن «وجود العلم القطعي اليقيني بعواقب المعاصي و الآثام» علماً قطعياً لا يغلب و لا يدخله شك، و لا يعتريه ريب، و هو أن يبلغ علم الإنسان درجة يلمس في هذه النشأة لوازم الأعمال و آثارها في النشأة الأُخرى و تبعاتها فيها، و يصير على حد يدرك بل يرى درجات أهل الجنة و دركات أهل النار، و هذا العلم القطعي هو الذي يزيل الحجب بين الإنسان و توابع الأعمال، و يصير الإنسان مصداقاً لقوله سبحانه: «كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ» «1»، و صاحب هذا العلم هو الذي يصفه الإمام علي عليه السَّلام- بقوله: «فهم و الجنة كمن قد رآها، فهم فيها منعمون، و هم و النار كمن قد رآها فهم فيها معذبون». «2»

فإذا بلغ العلم إلى هذه الدرجة من الكشف يصد الإنسان عن اجتراء المعاصي و اقتراف المآثم بل لا يجول حولها فكره.

و لتوضيح تأثير هذا العلم في صيرورة الإنسان معصوماً من اقتراف الذنب نأتي بمثال:

إنّ الإنسان إذا وقف على أنّ في الأسلاك الكهربائية طاقة من شأنها قتل الإنسان إذا

مسها من دون حاجز أو عائق بحيث يكون المس و الموت مقترنين، أحجمت نفسه عن مس تلك الأسلاك و الاقتراب منها دون عائق.

هذا نظير الطبيب العارف بعواقب الأمراض و آثار الجراثيم، فإنّه إذا وقف على ماء اغتسل فيه مصاب بالجذام أو البرص أو السل، لم يقدم على شربه و الاغتسال منه و مباشرته مهما اشتدت حاجته إلى ذلك لعلمه بما يجر عليه الشرب

______________________________

(1). التكاثر: 5- 6.

(2). نهج البلاغة: 2: الخطبة 188، ص 187، طبعة عبده.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 24

و الاغتسال بذلك الماء الموبوء، فإذا وقف الإنسان الكامل على ما وراء هذه النشأة من نتائج الأعمال و عواقب الفعال و رأى بالعيون البرزخية تبدل الكنوز المكتنزة من الذهب و الفضة إلى النار المحماة التي تكوى بها جباه الكانزين و جنوبهم و ظهورهم، امتنع عن حبس الأموال و الإحجام عن إنفاقها في سبيل اللَّه.

قال سبحانه: «وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ* يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ». «1»

إنّ ظاهر قوله سبحانه: «هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ» هو انّ النار التي تكوى بها جباه الكانزين و جنوبهم و ظهورهم، ليست إلّا نفس الذهب و الفضة، لكن بوجودهما الأُخرويّين، و أنّ للذهب و الفضة وجودين أو ظهورين في النشأتين فهذه الأجسام الفلزية، تتجلّى في النشأة الدنيوية في صورة الذهب و الفضة، و في النشأة الأُخروية في صورة النيران المحماة.

فالإنسان العادي اللامس لهذه الفلزات المكنوزة و ان كان لا يحس فيها الحرارة و لا يرى فيها النار و لا لهيبها، إلّا أنّ ذلك لأجل

أنّه يفقد حين المس، الحس المناسب لدرك نيران النشأة الآخرة و حرارتها، فلو فرض إنسان كامل يمتلك هذا الحس إلى جانب بقية حواسه العادية المتعارفة و يدرك بنحو خاص الوجه الآخر لهذه الفلزات، و هو نيرانها و حرارتها، يجتنبها، كاجتنابه النيران الدنيوية، و لا يقدم على كنزها، و تكديسها.

و هذا البيان يفيد انّ للعلم مرحلة قويّة راسخة تصد الإنسان عن الوقوع في المعاصي و الآثام و لا يكون مغلوباً للشهوات و الغرائز.

قال جمال الدين مقداد بن عبد اللَّه الأسدي السيوري الحلي في كتابه القيم

______________________________

(1). التوبة: 34- 35.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 25

«اللوامع الإلهية»: «و لبعضهم كلام حسن جامع هنا قالوا: العصمة ملكة نفسانية يمنع المتصف بها من الفجور مع قدرته عليه، و تتوقف هذه الملكة على العلم بمثالب المعاصي و مناقب الطاعات، لأنّ العفّة متى حصلت في جوهر النفس و انضاف إليها العلم التام بما في المعصية من الشقاء، و الطاعة من السعادة، صار ذلك العلم موجباً لرسوخها في النفس فتصير ملكة». «1»

يقول العلّامة الطباطبائي في هذا الصدد: إنّ القوة المسمّاة بقوة العصمة سبب شعوري علمي غير مغلوب البتة، و لو كانت من قبيل ما نتعارفه من أقسام الشعور و الإدراك، لتسرب إليها التخلّف، و لتخبط الإنسان على أثره أحياناً، فهذا العلم من غير سنخ سائر العلوم و الإدراكات المتعارفة، التي تقبل الاكتساب و التعلم، و قد أشار اللَّه في خطابه الذي خص به نبيه بقوله: «وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ» «2» و هو خطاب خاص لا نفقهه حقيقة الفقه، إذ لا تذوق لنا في هذا «3» المجال.

و هو قدّس سره يشير إلى كيفية خاصة

من العلم و الشعور الذي أوضحناه بما ورد حول الكنز و آثاره.

3. الاستشعار بعظمة الرب و كماله و جماله

إنّ هاهنا نظرية ثالثة في تبيين حقيقة العصمة يرجع لبها إلى أنّ استشعار العبد بعظمة الخالق و حبه و تفانيه في معرفته و عشقه له، يصده عن سلوك ما يخالف رضاه سبحانه.

______________________________

(1). اللوامع الإلهية: 170.

(2). النساء: 113.

(3). الميزان: 5/ 81.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 26

و تلك النظرية مثل النظرية الثانية لا تخالف النظرية الأُولى التي فسرناها من أنّ العصمة هي الدرجة العليا من التقوى، بل يكون الاستشعار و التفاني دون الحق، و العشق لجماله و كماله، أحد العوامل لحصول تلك المرتبة من التقوى، و هذا النحو من الاستشعار لا يحصل إلّا للكاملين في المعرفة الإلهية البالغين أعلى قممها.

إذا عرف الإنسان خالقه كمال المعرفة الميسورة، و تعرف على معدن الكمال المطلق و جماله و جلاله، وجد في نفسه انجذاباً نحو الحق، و تعلّقاً خاصاً به بحيث لا يستبدل برضاه شيئاً، فهذا الكمال المطلق هو الذي إذا تعرف عليه الإنسان العارف، يؤجج في نفسه نيران الشوق و المحبة، و يدفعه إلى أن لا يبتغي سواه، و لا يطلب سوى إطاعة أمره و امتثال نهيه، و يصبح كل ما يخالف أمره و رضاه منفوراً لديه، مقبوحاً في نظره، أشد القبح. و عندئذ يصبح الإنسان مصوناً عن المخالفة، بعيداً عن المعصية بحيث لا يؤثر على رضاه شيئاً، و إلى ذلك يشير الإمام علي بن أبي طالب عليه السَّلام- بقوله: «ما عبدتك خوفاً من نارك و لا طمعاً في جنتك إنّما وجدتك أهلًا للعبادة». «1»

هذه النظريات الثلاث أو النظرية الواحدة المختلفة في البيان و التقرير تعرب عن أنّ العصمة قوة في النفس تعصم الإنسان عن الوقوع في

مخالفة الرب سبحانه و تعالى، و ليست العصمة أمراً خارجاً عن ذات الإنسان الكامل و هويته الخارجية.

نعم هذه التحاليل الثلاثة لحقيقة العصمة، كلّها راجعة إلى العصمة عن المعصية و المصونية عن التمرد كما هو واضح لمن أعطى التأمل لها، و أمّا العصمة في مقام تلقي الوحي و التحفظ عليه و إبلاغه إلى الناس، أو العصمة عن الخطأ في

______________________________

(1). حديث معروف.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 27

الحياة و الأُمور الفردية أو الاجتماعية فلا بد أن توجه بوجوه غير هذه الثلاثة كما سيوافيك بيانها عند البحث عن المقام الثاني، أعني: العصمة عن الخطأ و الاشتباه، و المهم هو البحث عن المقام الأوّل، و لذلك قدّمنا الكلام فيه.

نعم هناك عدة روايات تصرح بأنّ، هناك «روحاً» تعصم الأنبياء و الرسل عن الوقوع في المهالك و الخطايا، و إليك بيانها:

الروح التي تسدد الأولياء

روى أبو بصير قال: سألت أبا عبد اللَّه عن قول اللَّه تبارك و تعالى: «وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ» «1» قال: «خلق من خلق اللَّه عزّ و جلّ أعظم من جبرئيل و ميكائيل كان مع رسول اللَّه يخبره و يسدده و هو مع الأئمّة من بعده». «2»

و هذه الرواية مع أنّ ظاهرها لا ينطبق على الآية، لأنّ الوحي يتعلّق بالمفاهيم و الألفاظ لا بالجواهر و الأجسام، فالملك الذي هو أعظم من جبرئيل و ميكائيل لا يمكن أن يتعلّق به الوحي، و يكون هو الموحى به، و إنّما يتعلق به الإرسال و البعث و نحو ذلك، لا صلة لها بباب المعاصي بل هي راجعة إلى التسديد في تلقي الوحي و إبلاغه إلى الناس، و حفظهم عن الخطأ على وجه الإطلاق.

على

أنّ هناك روايات تشعر بأنّ هذه الروح التي تؤيد الأنبياء غير خارجة عن ذواتهم، و هذا جابر الجعفي يروي عن الإمام الصادق في تفسير قوله سبحانه: «وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً* فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ* وَ أَصْحابُ

______________________________

(1). الشورى: 52.

(2). الكافي: 1/ 273، باب «الروح التي يسدّد بها الأئمّة» الحديث 1 و 2.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 28

الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ* وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» «1»: «فالسابقون هم رسل اللَّه، و خاصة اللَّه من خلقه جعل فيهم خمسة أرواح أيدهم بروح القدس فبه عرفوا الأشياء، و أيّدهم بروح الإيمان فبه خافوا اللَّه عزّ و جلّ، و أيدهم بروح القوة فبه قدروا على طاعة اللَّه، و أيّدهم بروح الشهوة فبه اشتهوا طاعة اللَّه عزّ و جلّ و كرهوا معصيته، و جعل فيهم روح المدرج الذي به يذهب الناس و يجيئون». «2»

و لا يخفى أنّ الأرواح الأربعة غير خارجة عن ذواتهم، و لا يبعد أن تكون الخامسة و هي روح القدس غير خارجة عن ذواتهم و يكون المراد كمال نفوسهم إلى حد يعرفون الأشياء على ما هي عليها.

قال الشيخ صالح المازندراني في تفسير هذه الأرواح الخمسة: جعل اللَّه تعالى بالحكمة البالغة و المصلحة الكاملة في الرسل و الخاصة، خمسة أرواح لحفظهم من الخطاء و تكميلهم بالعلم و العمل ليكون قولهم صدقاً، و برهاناً، و الاقتداء بهم رشداً و إيقاناً كيلا يكون لمن سواهم على اللَّه حجة يوم القيامة، و لعل المراد بالأرواح هنا النفوس. «3»

و على أي تقدير فهذه الروايات التي تشهد بتسديد الأنبياء بها إمّا راجعة إلى تسديدهم في مقام تلقي الوحي، أو راجعة إلى تسديدهم عن الخطاء في الأحكام و الموضوعات و الكل

خارج عن إطار البحث، و إنّما الكلام في صيانتهم عن المعاصي.

______________________________

(1). الواقعة: 6- 11.

(2). الكافي: 1/ 261 باب فيه «ذكر الأرواح التي في الأئمّة» الحديث 1 و 2 و 3.

(3). هامش أُصول الكافي: 136، الطبعة القديمة.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 29

هل العصمة موهبة إلهية أو أمر اكتسابي؟

قد وقفت على حقيقة «العصمة» و العوامل التي توجب صيانة الإنسان عن الوقوع في حبال المعصية، و مهالك التمرد و الطغيان، غير انّ هاهنا سؤالًا هاماً يجب الإجابة عنه و هو: انّ العصمة سواء أ فسّرت بكونها هي الدرجة العليا من التقوى، أو بكونها العلم القطعي بعواقب المآثم و المعاصي، أم فسّرت بالاستشعار بعظمة الرب و جماله و جلاله، و على أي تقدير فهو كمال نفساني له أثره الخاص، و عندئذ يسأل عن أنّ هذا الكمال هل هو موهوب من اللَّه لعباده المخلصين، أو أمر حاصل للشخص بالاكتساب؟

فالظاهر من كلمات المتكلمين أنّها موهبة من مواهب اللَّه سبحانه يتفضّل بها على من يشاء من عباده بعد وجود أرضيات صالحة و قابليات مصحّحة لإفاضتها عليهم.

قال الشيخ المفيد: العصمة تفضل من اللَّه على من علم انّه يتمسك بعصمته. «1»

و هذه العبارة تشعر بأنّ إفاضة العصمة من اللَّه سبحانه أمر خارج عن إطار الاختيار، غير أنّ اعمالها و الاستفادة منها يرجع إلى العبد و داخل في إطار إرادته، فله أن يتمسك بها فيبقى معصوماً من المعصية، كما له أن لا يتمسك بتلك العصمة.

و قال أيضاً: و العصمة من اللَّه تعالى هي التوفيق الذي يسلم به الإنسان مما يكره إذا أتى بالطاعة.

و قال المرتضى «2» في أماليه: العصمة: لطف اللَّه الذي يفعله تعالى فيختار العبد عنده الامتناع عن فعل قبيح.

______________________________

(1). شرح عقائد الصدوق: 61.

(2). أوائل المقالات: 11.

عصمة الانبياء

فى القرآن الكريم، ص: 30

و نقل العلّامة الحلّي عن بعض المتكلمين بأنّه فسر العصمة بالأمر الذي يفعله اللَّه بالعبد من الألطاف المقربة إلى الطاعات التي يعلم معها أنّه لا يقدم على المعصية بشرط أن لا ينتهي ذلك إلى الإلجاء.

و نقل عن بعضهم: العصمة لطف يفعله اللَّه تعالى بصاحبها لا يكون معه داع إلى ترك الطاعة و ارتكاب المعصية.

ثمّ فسر أسباب هذا اللطف بأُمور أربعة. «1»

و قال جمال الدين مقداد بن عبد اللَّه الشهير بالفاضل السيوري الحلي (المتوفّى عام 826 ه) في كتابه القيم «اللوامع الإلهية في المباحث الكلامية»:

قال أصحابنا و من وافقهم من العدلية: هي (العصمة) لطف يفعله اللَّه بالمكلّف بحيث يمتنع منه وقوع المعصية لانتفاء داعيه، و وجود صارفه مع قدرته عليها» ثمّ نقل عن الأشاعرة بأنّها هي القدرة على الطاعة و عدم القدرة على المعصية. «2»

كما نقل عن بعض الحكماء أنّ المعصوم خلقه اللَّه جبلة صافية، و طينة نقية، و مزاجاً قابلًا، و خصّه بعقل قوي و فكر سوي، و جعل له ألطافاً زائدة، فهو قوي بما خصّه على فعل الواجبات و اجتناب المقبحات، و الالتفات إلى ملكوت السماوات، و الإعراض عن عالم الجهات، فتصير النفس الأمارة مأسورة مقهورة في حيز النفس العاقلة. «3»

و قال العلّامة الطباطبائي في تفسير قوله تعالى: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ

______________________________

(1). كشف المراد: 228، طبعة صيدا.

(2). سيوافيك انّ العصمة لا تنافي القدرة، و الهدف من نقل قول الأشاعرة هو إثبات اتفاق القائلين بالعصمة، على أنّها موهبة إلهية.

(3). اللوامع الالهية: 169.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 31

عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» «1»: إنّ اللَّه تستمر إرادته أن يخصّكم بموهبة العصمة بإذهاب الاعتقاد الباطل و أثر العمل السيئ

عنكم أهل البيت و إيراد ما يزيل أثر ذلك عليكم و هي العصمة. «2»

إلى غير ذلك من الكلمات التي تصرح بكون العصمة من مواهبه سبحانه إلى عباده المخلصين، و في الآيات القرآنية تلويحات و إشارات إلى ذلك مثل قوله سبحانه: «وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصارِ* إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ* وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ* وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ ذَا الْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ» «3»، و قوله سبحانه في حق بني إسرائيل و المراد أنبياؤهم و رسلهم: «وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ* وَ آتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ». «4»

فإنّ قوله: «إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ» و قوله: «وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ» يدل على أنّ النبوة و العصمة، و إعطاء الآيات لأصحابها من مواهب اللَّه سبحانه إلى الأنبياء، و من يقوم مقامهم من الأوصياء.

فإذا كانت العصمة أمراً إلهياً و موهبة من مواهبه سبحانه، فعندئذ ينطرح هاهنا سؤالان تجب الإجابة عنهما، و السؤالان عبارة عن:

1. لو كانت العصمة موهبة من اللَّه مفاضة منه سبحانه إلى رسله و أوصيائهم لم تعد كمالًا و مفخرة للمعصوم حتى يستحق بها التحسين و التحميد و التمجيد، فإنّ الكمال الخارج عن الاختيار كصفاء اللؤلؤ، لا يستحق التحسين

______________________________

(1). الأحزاب: 33.

(2). الميزان: 16/ 313.

(3). ص: 45- 48.

(4). الدخان: 32- 33.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 32

و التمجيد، فإنّ الحمد و الثناء إنّما يصحان في مقابل الفعل الاختياري، و ما هو خارج عن إطار الاختيار لا يصح أن يحمد صاحبه عليه، إذ هو و غيره في هذا المجال سواء، و لو أفيض ذاك الكمال على فرد

آخر لكان مثله؟

2. إذا كانت العصمة تعصم الإنسان عن الوقوع في المعصية، فالإنسان المعصوم عاجز عن ارتكاب المعاصي و اقتراف المآثم، و عندئذ لا يستحق لترك العصيان مدحاً و لا ثواباً إذ لا اختيار له؟

و الفرق بين السؤالين واضح، إذ السؤال الأوّل يرجع إلى عد نفس إفاضة العصمة مفخرة من مفاخر المعصوم، لأنّه إذا كانت موهبة إلهية لما صح عدها كمالًا للمعصوم، بخلاف السؤال الثاني فإنّه يتوجه إلى أنّ العصمة تسلب القدرة عن المعصوم على ارتكاب المعاصي، فلا يعد الترك كمالًا و لا عاملًا لاستحقاق الثواب.

و هذان السؤالان من أهم الأسئلة في باب العصمة، و إليك الإجابة عن كليهما.

العصمة المفاضة كمال لصاحبها

إنّ العصمة الإلهية لا تفاض للأفراد إلّا بعد وجود أرضيات صالحة في نفس المعصوم تقتضي إفاضة تلك الموهبة إلى صاحبها، و أمّا ما هي تلك الأرضيات و القابليات التي تقتضي إفاضتها فخارج عن موضوع البحث، غير إنّا نقول على وجه الاجمال: إنّ تلك القابليات على قسمين: قسم خارج عن اختيار الإنسان، و قسم واقع في إطار إرادته و اختياره.

أمّا القسم الأوّل، فهي القابليات التي تنتقل إلى النبي من آبائه و أجداده عن طريق الوراثة، فإنّ الأولاد كما يرثون أموال الآباء و ثرواتهم، يرثون أوصافهم

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 33

الظاهرية و الباطنية، فترى أنّ الولد يشبه الأب أو العم، أو الأُم أو الخال، و قد جاء في المثل: الولد الحلال يشبه العم أو الخال.

و على ذلك فالروحيات الصالحة أو الطالحة تنتقل من طريق الوراثة إلى الأولاد، فنرى ولد الشجاع شجاعاً، و ولد الجبان جباناً إلى غير ذلك من الأوصاف الجسمانية و الروحانية.

إنّ الأنبياء كما يحدّثنا التاريخ كانوا يتولّدون في البيوتات الصالحة العريقة بالفضائل و الكمالات،

و ما زالت تنتقل تلك الكمالات و الفضائل الروحية من نسل إلى نسل و تتكامل إلى أن تتجسد في نفس النبي و يتولد هو بروح طيبة و قابلية كبيرة لإفاضة المواهب الإلهية عليه.

نعم ليست الوراثة العامل الوحيد لتكوّن تلك القابليات بل هناك عامل آخر لتكوّنها في نفوس الأنبياء و هو عامل التربية، فإنّ الكمالات و الفضائل الموجودة في بيئتهم تنتقل من طريق التربية إلى الأولاد.

ففي ظل ذينك العاملين: «الوراثة و التربية» نرى كثيراً من أهل تلك البيوتات ذوي إيمان و أمانة، و ذكاء و دراية، و ما ذلك إلّا لأنّ العائشين في تلك البيئات و المتولدين فيها يكتسبون جل هذه الكمالات من ذينك الطريقين، و على ذلك فهذه الكمالات الروحية أرضيات صالحة لإفاضة المواهب الإلهية إلى أصحابها و منها العصمة و النبوة.

نعم هناك عوامل أُخر لاكتساب الأرضيات الصالحة داخلة في إطار الاختيار و حرية الإنسان و إليك بعضها:

1. انّ حياة الأنبياء من لدن ولادتهم إلى زمان بعثتهم مشحونة بالمجاهدات الفردية و الاجتماعية، فقد كانوا يجاهدون النفس الأمّارة أشد الجهاد، و يمارسون تهذيب أنفسهم بل و مجتمعهم، فهذا هو يوسف الصدّيق عليه السَّلام- جاهد نفسه الأمّارة

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 34

و ألجمها بأشد الوجوه عند ما راودته من هو في بيتها «وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَ قالَتْ هَيْتَ لَكَ» فأجاب بالرد و النفي بقوله: «مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ». «1»

و هذا موسى كليم اللَّه وجد في مدين امرأتين تذودان واقفتين على بعد من البئر، فقدم اليهما قائلًا: ما خطبكما فقالتا: انا لا نسقي حتى يصدر الرعاء و أبونا شيخ كبير، و عند ذلك لم يتفكر في شي ء إلّا في رفع حاجتهما،

و لأجل ذلك سقى لهما ثمّ تولّى إلى الظل قائلًا: «رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» «2». «3»

و كم هناك من شواهد تاريخية على جهاد الأنبياء و قيامهم بواجبهم أبّان شبابهم إلى زمان بعثتهم التي تصدت لذكرها الكتب السماوية و قصص الأنبياء و تواريخ البشر.

فهذه العوامل، الداخل بعضها في إطار الاختيار و الخارج بعضها عن إطاره أوجدت قابليات و أرضيات صالحة لإفاضة وصف العصمة عليهم و انتخابهم لذلك الفيض العظيم، فعندئذ تكون العصمة مفخرة للنبي صالحة للتحسين و التبجيل و التكريم.

و إن شئت قلت: إنّ اللَّه سبحانه وقف على ضمائرهم و نيّاتهم و مستقبل أمرهم، و مصير حالهم و علم أنّهم ذوات مقدسة، لو أُفيضت إليهم تلك الموهبة لاستعانوا بها في طريق الطاعة و ترك المعصية بحرية و اختيار، و هذا العلم كاف لتصحيح إفاضة تلك الموهبة عليهم بخلاف من يعلم من حاله خلاف ذلك.

______________________________

(1). يوسف: 23.

(2). القصص: 23- 24.

(3). لاحظ قصة موسى في دفعه القبطي المعتدي على إسرائيلي في سورة القصص الآيات: 15- 20 و في ذلك يقول: «رب بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين» (القصص: 17).

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 35

يقول العلّامة الطباطبائي: إنّ اللَّه سبحانه خلق بعض عباده على استقامة الفطرة، و اعتدال الخلقة، فنشئوا من بادئ الأمر بأذهان وقّادة، و إدراكات صحيحة و نفوس طاهرة، و قلوب سليمة، فنالوا بمجرد صفاء الفطرة و سلامة النفس من نعمة الإخلاص ما ناله غيرهم بالاجتهاد و الكسب بل أعلى و أرقى لطهارة داخلهم من التلوث بألواث الموانع و المزاحمات، و الظاهر أنّ هؤلاء هم المخلصون (بالفتح) للَّه في مصطلح القرآن، و هم الأنبياء و الأئمّة، و قد نص القرآن بأنّ

اللَّه اجتباهم، أي جمعهم لنفسه و أخلصهم لحضرته، قال تعالى: «وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» «1» و قال: «هُوَ اجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» «2». «3»

و هذه العبارة من العلّامة الطباطبائي تشير إلى القسم الثاني و هو القابليات الخارجة عن اختيار الأنبياء غير انّ هناك أُموراً واقعة في اختيارهم كما عرفت، فالكل يعطي الصلاحية لإفاضة الموهبة الإلهية على تلك النفوس المقدّسة.

كلام السيد المرتضى

إنّ للسيد المرتضى كلاماً في الإجابة عن هذا السؤال نأتي بنصه:

فإن قيل: إذا كان تفسير العصمة ما ذكرتم فألَّا عَصَمَ اللَّهُ تعالى جميع المكلّفين و فعل بهم ما يختارون عنده الامتناع من القبائح؟

قلنا: كل من علم اللَّه تعالى أنّ له لطفاً يختار عنده الامتناع من القبائح فإنّه لا بد أن يفعل به و إن لم يكن نبياً و لا إماماً، لأنّ التكليف يقتضي فعل اللطف على

______________________________

(1). الأنعام: 87.

(2). الحج: 78.

(3). الميزان: 11/ 177.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 36

ما دل عليه في مواضع كثيرة غير انّه لا يمتنع أن يكون في المكلفين من ليس في المعلوم أنّ شيئاً متى فعل، اختار عنده الامتناع من القبيح، فيكون هذا المكلف لا عصمة له في المعلوم و لا لطف، و تكليف من لا لطف له يحسن و لا يقبح و انّما القبيح منع اللطف في من له لطف مع ثبوت التكليف. «1»

و حاصل ما أفاده هو: انّ الملاك في إفاضة هذا الفيض هو علمه سبحانه بحال الأفراد في المستقبل فكل من علم سبحانه أنّه لو أُفيض عليه وصف العصمة لاختار عنده الامتناع من القبائح، فعندئذ تفاض عليه العصمة، و ان لم يكن نبياً و لا إماماً، و أمّا من علم

انّه متى أُفيضت إليه تلك الموهبة لما اختار عندها الامتناع من القبيح لما أُفيضت عليه العصمة لأنّه لا يستحق الإفاضة.

و على ذلك فوصف العصمة موهبة إلهية تفاض لمن يعلم من حاله انّه ينتفع منها في ترك القبائح عن حرية و اختيار.

و لأجل ذلك يعد مفخرة قابلة للتحسين و التكريم و لا يلزم أن يكون المعصوم نبياً أو إماماً، بل كل من ينتفع منها في طريق كسب رضاه سبحانه تفاض عليه.

إلى هنا تمت الإجابة على السؤال الأوّل، و بقيت الإجابة على السؤال الثاني، و إليك ذلك:

هل العصمة تسلب الاختيار؟

ربما يتخيل أنّ المعصوم لا يقدر على ارتكاب المعصية و اقتراف المآثم، فالعصمة تسلب القدرة و الاختيار عن صاحبها، و عند ذاك لا يعد ترك العصيان مكرمة.

______________________________

(1). أمالي المرتضى: 2/ 347- 348، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 37

و في هذا الصدد يقول السيد المرتضى:

ما حقيقة العصمة التي يُعتقد وجوبها للأنبياء و الأئمّة- عليهم السَّلام-؟ و هل هي معنىً يضطر إلى الطاعة و يمنع من المعصية، أو معنى يضام الاختيار؟ فإن كان معنى يضطر إلى الطاعة و يمنع من المعصية، فكيف يجوز الحمد و الذم لفاعلها؟ و ان كان معنىً يضامّ الاختيار فاذكروه، و دُلّوا على صحة مطابقته له. «1»

و الجواب: انّ العصمة لا تسلب الاختيار عن الإنسان بأي معنى فسرت، سواء أقلنا بأنّها الدرجة العليا من التقوى، أو أنّها نتيجة العلم القطعي بعواقب المآثم و المعاصي، أو أنّها أثر الاستشعار بعظمة الرب و المحبة للَّه سبحانه، و على كل تقدير فالإنسان المعصوم مختار في فعله، قادر على كلا طرفي القضية من الفعل و الترك، و توضيح ذلك بالمثال الآتي:

إنّ الإنسان العاقل الواقف على وجود الطاقة

الكهربائية في الأسلاك المنزوعة من جلدها، لا يمسّها كذلك، كما انّ الطبيب لا يأكل سؤر المجذومين و المسلولين لعلمهما بعواقب فعلهما، و في الوقت نفسه يرى كل واحد منهما نفسه قادراً على ذلك الفعل، بحيث لو أغمض العين عن حياته و هيأ نفسه للمخاطرة بها، لفعل ما يتجنبه، غير انّهما لا يقومان به لكونهما يحبان حياتهما و سلامتهما.

فإن شئت قلت: إنّ العمل المزبور ممكن الصدور بالذات من العاقل و الطبيب، غير انّه ممتنع الصدور بالعرض و العادة، و ليس صدوره محالًا ذاتياً و عقلياً، و كم فرق بين المحالين، ففي المحال العادي يكون صدور الفعل من الفاعل ممكناً بالذات، غير انّه يرجح أحد الطرفين على الآخر بنوع من الترجيح بخلاف الثاني فإنّ الفعل فيه يكون ممتنعاً بالذات، فلا يصدر لعدم إمكانه الذاتي.

______________________________

(1). أمالي المرتضى: 2/ 347.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 38

و إن شئت فلاحظ صدور القبيح منه سبحانه فإنّ صدوره منه أمر ممكن بالذات، داخل في إطار قدرته فهو يستطيع أن يدخل المطيع في نار الجحيم و العاصي في نعيم الجنة، غير انّه لا يصدر منه ذلك الفعل لكونه مخالفاً للحكمة و مبايناً لما وعد به و أوعد عليه، و على ذلك فامتناع صدور الفعل عن الإنسان معا لتحفظ على الأغراض و الغايات، لا يكون دليلًا على سلب الاختيار و القدرة.

فالنبي المعصوم قادر على اقتراف المعاصي و ارتكاب الخطايا، حسب ما أُعطي من القدرة و الحرية، غير أنّه لأجل حصوله على الدرجة العليا من التقوى و اكتساب العلم القطعي بآثار المآثم و المعاصي و استشعاره بعظمة الخالق، يتجنب عن اقترافها و اكتسابها و لا يكون مصدراً لها مع قدرته و اقتداره عليها.

و مثلهم في

ذلك المورد كمثل الوالد العطوف الذي لا يقدم على قتل ولده، و لو أُعطيت له الكنوز المكنوزة و المناصب المرموقة و مع ذلك فهو قادر على قتله، بحمل السكين و الهجوم عليه و قطع أوردته، و في هذا الصدد يقول العلامة الطباطبائي:

إنّ هذا العلم أعني ملكة العصمة لا يغير الطبيعة الإنسانية المختارة في أفعالها الإرادية، و لا يخرجها إلى ساحة الإجبار و الاضطرار كيف؟ و العلم من مبادئ الاختيار، و مجرد قوة العلم لا يوجب إلّا قوة الإرادة كطالب السلامة إذا أيقن بكون مائع ما، سماً قاتلًا من حينه فإنّه يمنع باختياره من شربه قطعاً، و إنّما يضطر الفاعل و يجبر إذا أخرج المجبر أحد طرفي الفعل و الترك من الإمكان إلى الامتناع.

و يشهد على ذلك قوله: «وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 39

يَعْمَلُونَ» «1» تفيد الآية انّهم في إمكانهم أن يشركوا باللَّه و إن كان الاجتباء أو الهدى الإلهي مانعاً من ذلك، و قوله: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» «2»، إلى غير ذلك من الآيات.

فالإنسان المعصوم إنّما ينصرف عن المعصية بنفسه و عن اختياره و إرادته، و نسبة الصرف إلى عصمته تعالى كنسبة انصراف غير المعصوم عن المعصية إلى توفيقه تعالى.

و لا ينافي ذلك أيضاً ما يشير إليه كلامه تعالى و تصرح به الأخبار من أنّ ذلك من الأنبياء و الأئمّة بتسديد من روح القدس، فإنّ النسبة إلى روح القدس، كنسبة تسديد المؤمن إلى روح الإيمان، و نسبة الضلال و الغواية

إلى الشيطان و تسويله، فإنّ شيئاً من ذلك لا يخرج الفعل عن كونه فعلًا صادراً عن فاعله مستنداً إلى اختياره و إرادته فافهم ذلك.

نعم هناك قوم زعموا أنّ اللَّه سبحانه إنّما يصرف الإنسان عن المعصية لا من طريق اختياره و إرادته بل من طريق منازعة الأسباب و مغالبتها بخلق إرادة أو إرسال ملك يقاوم إرادة الإنسان فيمنعها عن التأثير أو يغير مجراها و يحرفها إلى غير ما من طبع الإنسان أن يقصده كما يمنع الإنسان القوي، الضعيف عما يريده من الفعل بحسب طبعه.

و بعض هؤلاء و إن كانوا من المجبرة لكن الأصل المشترك الذي يبتني عليه نظرهم هذا و أشباهه: انّهم يرون انّ حاجة الأشياء إلى البارئ الحق سبحانه إنّما هي في حدوثها، و أمّا في بقائها بعد ما وجدت فلا حاجة لها إليه فهو سبحانه سبب في عرض الأسباب، إلّا أنّه لما كان أقدر و أقوى من كل شي ء كان له أن يتصرف في

______________________________

(1). الأنعام: 87- 88.

(2). المائدة: 67.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 40

الأشياء حال البقاء أي تصرف شاء، من منع أو إطلاق و إحياء أو إماتة و معافاة أو تمريض و توسعة أو تقصير إلى غير ذلك بالقهر.

فإذا أراد اللَّه سبحانه أن يصرف عبداً عن شر مثلًا، أرسل إليه ملكاً ينازعه في مقتضى طبعه و يغير مجرى إرادته مثلًا من الشر إلى الخير، أو أراد أن يضل عبداً لاستحقاقه ذلك، سلّط عليه إبليس فحوله من الخير إلى الشر و إن كان ذلك لا بمقدار يوجب الإجبار و الاضطرار.

و هذا مدفوع بما نشاهده من أنفسنا في أعمال الخير و الشر مشاهدة عيان انّه ليس هناك سبب آخر يغايرنا و ينازعنا فيغلب علينا

غير أنفسنا التي تعمل أعمالها عن شعور بها و إرادة مترتبة عليه قائمين بها، فالذي يثبته السمع و العقل وراء نفوسنا من الأسباب كالملك و الشيطان سبب طولي لا عرضي مضافاً إلى أنّ المعارف القرآنية من التوحيد و ما يرجع إليه يدفع هذا القول من أصله. «1»

______________________________

(1). الميزان: 11/ 179- 180.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 41

مراحل العصمة و دلالتها

اشارة

قد وقفت على حقيقة العصمة و ما يرجع إليها من المباحث الاستطرادية، فيجب الآن الوقوف على مراحلها التالية:

1. الصيانة في تلقي الوحي و الحفاظ عليه و إبلاغه إلى الناس.

2. الصيانة من المعصية و ارتكاب الذنب المصطلح.

3. الصيانة من الخطأ في الأُمور الفردية و الاجتماعية.

هذه هي مراحل العصمة، و يمكن تبيين تلك المراحل بصورة أُخرى، و هي أنّ متعلّق العصمة و الصيانة لا تخلو عن أحد أُمور و هي:

إمّا كفر باللَّه أو عصيانه و مخالفته.

و الثاني لا يخلو إمّا أن يكون معصية كبيرة، أو صغيرة؛ و الصغيرة على قسمين: إمّا أن تكون حاكية عن خسة الفاعل و دناءة طبعه كسرقة اللقمة الواحدة، أو لا؛ و على كل حال فصدور المعصية إمّا عمدي أو سهوي، و إمّا صادر قبل البعثة أو بعدها.

و قد فصّل القاضي عبد الجبار شيخ المعتزلة في عصره مذهب المعتزلة في العصمة، فحكم بأنّه يجب أن يكون النبي منزّهاً عمّا يقتضي خروجه من ولاية اللَّه تعالى إلى عداوته قبل النبوة و بعدها كما يجب أن يكون منزهاً من كذب أو كتمان أو سهو أو غلط إلى غير ذلك، و من حقه أن لا يقع منه ما ينفر منه عن القبول منه أو

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 42

يصرف من السكون إليه أو عن النظر في علمه، نحو

الكذب على كل حال، و التورية و التعمية في ما يؤديه، و الصغائر المستخفة. «1»

و قال التفتازاني في شرح العقائد النسفية: إنّهم معصومون عن الكفر قبل الوحي و بعده بالإجماع، و كذا من تعمّد الكبائر عند الجمهور خلافاً للحشوية، و أمّا سهواً، فجوّزه الأكثرون؛ و أمّا الصغائر، فيجوز عمداً عند الجمهور، خلافاً للجبّائي و أتباعه، و يجوز سهواً بالاتفاق إلّا ما يدل على الخسّة. «2»

قال الفاضل القوشجي: إنّ المعاصي إمّا أن تكون منافيةً لما تقتضيه المعجزة، كالكذب في ما يتعلّق بالتبليغ أو لا، و الثاني إمّا أن يكون كفراً أو معصية؛ و هي إمّا أن تكون كبيرة كالقتل و الزنا، أو صغيرة منفرة كسرقة لقمة و التطفيف بحبة، أو غير منفرة ككذبة و شتمة؛ و كل ذلك إمّا عمداً أو سهواً، أو بعد البعثة أو قبلها. «3»

فنقول: أمّا الأوّل، أعني: صدور الكفر من المعصومين، فلم يجوّزه أحد، و ما ربّما ينسب إلى بعض الفرق كالأزارقة من تجويز الكفر على الأنبياء، فالمراد من الكفر هو المعصية في مصطلح المسلمين، و انّما أطلقوا عليه لفظ الكفر، لأجل اعتقادهم بأنّ كل معصية كفر، قال الفاضل المقداد: أجمعوا على امتناع الكفر عليهم إلّا الفضيلية من الخوارج فإنّهم جوّزوا صدور الذنب عنهم، و كل ذنب عندهم كفر، فلزمهم جواز الكفر عليهم، و جوّز قوم عليهم الكفر تقية و خوفاً، و منعه ظاهر، فانّ أولى الأوقات بالتقية زمان بدء الدعوة لكثرة المنكرين له حينئذ، لكن ذلك يؤدي إلى خفاء الدين بالكلية. «4»

______________________________

(1). المغني: 15/ 279.

(2). العقائد النسفية: 171، و نسب فيه للشيعة جواز إظهار الكفر للتقية، و هم براء منه.

(3). شرح التجريد: 464.

(4). اللوامع الإلهية: 170.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص:

43

و قال الفاضل القوشجي: قد جوّز الأزارقة من الخوارج الكفر بناء على تجويزهم الذنب مع قولهم بأنّ كل ذنب كفر. «1»

و ربما يتوهم تجويز الكفر على النبي لأجل التقية، و هو باطل، لأنّ للتقية شرائط خاصة تجوز إذا حصلت و لا تقية في هذا المورد، و في ذلك يقول القاضي عبد الجبار الهمداني الأسدآبادي: فإن قال: أ فتجوزون على الرسول التقية في ما يؤدّيه؟ قيل له:

لا يجوز ذلك عليه في ما يلزمه أن يؤدّيه، و لو كانت مجوزة لم تعظم مرتبة النبي، لأنّها إنّما تعظم، لأنّه يتكفّل بأداء الرسالة، و الصبر على كل عارض دونه- إلى أن قال:- فلو هُدّد بالقتل إذا أدّى شريعته فما الحكم فيه؟ قيل له: يلزمه أن يؤدّيه و يعلم انه تعالى يصرف ذلك عنه. «2»

و أمّا غير الكفر فتفصيل المذاهب هو انّ الشيعة اتفقت على عصمة الأنبياء عن المعصية صغيرة كانت أو كبيرة، سهواً كانت أو عمداً قبل البعثة أو بعدها. نعم يظهر من الشيخ المفيد تجويز بعض المعاصي الصغيرة على غير عمد على الأنبياء قبل العصمة حيث قال: إنّ جميع أنبياء اللَّه (صلى اللَّه عليهم) معصومون من الكبائر قبل النبوة و بعدها و بما يستخف فاعله من الصغائر كلها، و أمّا ما كان من صغير لا يستخف فاعله فجائز وقوعه منهم قبل النبوة، و على غير عمد، و ممتنع منهم بعدها على كل حال (ثمّ قال:) و هذا مذهب جمهور الإمامية. «3»

و يظهر ذلك من المحقق الأردبيلي في تعاليقه على شرح التجريد للفاضل القوشجي حيث إنّ المحقق الطوسي استدل على العصمة بأنّه لولاها لما حصل الوثوق بقول الأنبياء، و أورد عليه الشارح بأنّ صدور الذنوب لا سيما الصغيرة

______________________________

(1). شرح

التجريد: 464.

(2). المغني: 15/ 284.

(3). أوائل المقالات: 29 و 30.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 44

سهواً لا يخل بالوثوق، و علّق عليه الأردبيلي بقوله: «خصوصاً قبل البعثة». «1»

و أمّا غير الشيعة فقد عرفت نظرية الاعتزال غير انّ الفاضل القوشجي يفصل بقوله: الجمهور على وجوب عصمتهم عما ينافي مقتضى المعجزة، و قد جوّزه القاضي سهواً، زعماً منه انّه لا يخل بالتصديق المقصود بالمعجزة و كذا عن تعمد الكبائر، بعد البعثة، و جوّزه الحشوية، و كذا عن الصغائر المنفرة لإخلالها بالدعوة إلى الاتباع و لهذا ذهب كثير من المعتزلة إلى نفي الكبائر قبل البعثة أيضاً و المذهب عند محققي الأشاعرة منع الكبائر و الصغائر الخسيسة بعد البعثة مطلقاً، و الصغائر غير الخسيسة عمداً لا سهواً، و ذهب إمام الحرمين من الأشاعرة و أبو هاشم من المعتزلة إلى تجويز الصغائر عمداً. «2»

هذه هي الأقوال المعروفة بين المتكلمين و ستعرف شذوذ الكل عن الكتاب و السنّة و حكم العقل غير القول الأوّل، فنقول يقع الكلام في مراحل:

المرحلة الأُولى: عصمة الأنبياء في تبليغ الرسالة

اشارة

ذهب الأكثرون من الجمهور و الشيعة أجمع إلى عصمتهم في تلك المرحلة و نسب إلى الباقلاني تجويز الخطاء في إبلاغ الرسالة سهواً و نسياناً لا عمداً و قصداً، و قال أبو الحسن عبد الجبار المعروف بالقاضي رئيس الاعتزال في وقته (المتوفّى سنة 415): لا يجوز الكذب في ما يؤدّيه (أي النبي) عن اللَّه تعالى، لأنّه تعالى، مع حكمته، و مع أنّ غرضه بالبعثة تعريف المصالح، لو علم أنّه يختار الكذب في ما يؤديه لم يكن ليبعثه، لأنّ ذلك ينافي الحكمة، و لمثل هذه العلة لا يجوز أن لا يؤدّيه ما حمله من الرسالة، و لا أن يكتمه أو يكتم بعضه.

______________________________

(1). تعاليق المحقّق

الأردبيلي على شرح التجريد: 464.

(2). شرح التجريد للفاضل القوشجي: 664.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 45

إلى أن قال: إنّا لا نجوز عليه السهو و الغلط في ما يؤدّيه عن اللَّه تعالى لمثل العلة التي تقدم ذكرها، لأنّه لا فرق، في خروجه من أن يكون مؤدّياً بين أن يسهو أو يغلط أو يكتم أو يكذب، فحال الكل يتفق في ذلك و لا يختلف.

و إنّما نجوز أن يسهو في فعل قد بينه من قبل و أدّى ما يلزم فيه حتى لم يغادر منه شيئاً، فإذا فعله لمصالحه لم يمتنع أن يقع فيه السهو و الغلط، و لذلك لم يشتبه على أحد الحال في أنّ الذي وقع منه من القيام في الثانية هو سهو، و كذلك ما وقع منه في خبر ذي اليدين إلى غير ذلك. «1»

و في ما ذكره من تجويز السهو على النبي في الفعل الذي بين حكمه سيأتي الكلام فيه.

و قد استدل المحققون من المتكلمين على عصمتهم في تلك المرحلة بوجوه أشار إليها المحقّق الطوسي في تجريده بقوله:

ليحصل الوثوق بأفعاله و أقواله، و يحصل الغرض من البعثة و هو متابعة المبعوث إليهم له في أوامره و نواهيه «2».

و ما ذكره من الدليلين و إن كان لا يختص بهذه المرحلة بل يعم المراحل الأُخر، و لكنه برهان تام يعتمد عليه العقل و الوجدان في مسألة عصمة الأنبياء في مجال تبليغ الرسالة.

توضيحه:

انّ الهدف الأسمى و الغاية القصوى من بعث الأنبياء هو هداية الناس إلى التعاليم الإلهية و الشرائع المقدسة، و لا تحصل تلك الغاية إلّا بإيمانهم بصدق

______________________________

(1). المغني: 15/ 281.

(2). شرح التجريد للفاضل القوشجي: 463، و كشف المراد: 217 طبع صيدا.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم،

ص: 46

المبعوثين، و إذعانهم بكونهم مرسلين من جانبه سبحانه، و إنّ كلامهم و أقوالهم كلامه و قوله سبحانه، و هذا الإيمان و الإذعان لا يحصل إلّا بإذعان آخر و هو الإذعان بمصونيتهم عن الخطاء في المراحل الثلاث في مجال تبليغ الرسالة، و هي المصونية في مقام أخذ الوحي، و المصونية في مقام التحفّظ عليه، و المصونية في مقام الإبلاغ و التبيين، و مثل هذا لا يحصل إلّا بمصونية النبي عن الزلل و الخطاء عمده و سهوه. قال القاضي أبو الحسن عبد الجبار: إنّ النفوس لا تسكن إلى القبول- ممّن يخالف فعله قوله- سكونها إلى من كان منزهاً عن ذلك، فيجب أن لا يجوز في الأنبياء- عليهم السَّلام- إلّا ما نقوله من أنّهم منزهون عمّا يوجب العقاب و الاستخفاف و الخروج من ولاية اللَّه تعالى إلى عداوته.

يبين ذلك أنّهم لو بعثوا للمنع من الكبائر و المعاصي بالمنع و الردع و التخفيف فلا يجوز أن يكونوا مقدمين على مثل ذلك، لأنّ المتعالم أنّ المقدم على الشي ء لا يقبل منه منع الغير منه للنهي و الزجر، و انّ هذه الأحوال منه لا تؤثر ... و لو إنّ واعظاً انتصب يخوف من المعاصي من يشاهده مقدماً على مثلها لاستخف به و بوعظه. «1»

و قال في موضع آخر: إنّ الواعظ و المذكّر و ان غلب على ظننا من حاله انّه مقلع تائب لما أظهره من أمارات التوبة و الندامة حتى عرفنا من حاله الانهماك في الشرب و الفجور من قبل، لم يؤثر وعظه عندنا كتأثير المستمر على النظافة و النزاهة في سائر أحواله. «2»

و ما ذكره أخيراً دليل وجوب العصمة حتى قبل البعثة.

و هذا البرهان لو قرر على الوجه الكامل

لكفى برهاناً في جميع مراحل

______________________________

(1). المغني: 15/ 303.

(2). المصدر نفسه: 305.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 47

العصمة التي سنبيّنها في الأبحاث الآتية.

هذا منطق العقل، و أمّا منطق الوحي فهو يؤكد على مصونية النبي في تبليغ الرسالة في المجالات الثلاثة الماضية، و إليك بيان ذلك:

القرآن و عصمة النبي في مجال تلقي الوحي و ...

اشارة

هناك آيات تدل على العصمة في ذلك المجال نذكرها واحدة بعد الأُخرى:

الآية الأُولى

«عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً». «1»

«إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً». «2»

«لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى كُلَّ شَيْ ءٍ عَدَداً». «3»

إنّ دلالة الآيات هذه على مصونية الرسل و الأنبياء في مجال تلقي الوحي و ما يليه من التحفظ و التبليغ تتوقف على توضيح بعض مفرداته:

1. قوله: «فَلا يُظْهِرُ» من باب الافعال بمعنى الاعلام كما في قوله سبحانه: «وَ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ». «4»

2. لفظة «مَنِ» في قوله: «مِنْ رَسُولٍ» بيانية تبين المرضي عند اللَّه،

______________________________

(1). الجن: 26.

(2). الجن: 27.

(3). الجن: 28.

(4). التحريم: 3.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 48

فالرسول هو المرتضى الذي اختاره اللَّه تعالى لتعريفه على الغيب.

3. و الضمير في «انه» في قوله: «فَإِنَّهُ يَسْلُكُ» يرجع إلى اللَّه، كما أنّ ضمير الفاعل في قوله: «يَسْلُكُ» أيضاً يرجع إليه، و هو بمعنى: يجعل.

4. و الضمير في «يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ» يرجع إلى الرسول.

5. و «رَصَداً» هو الحارس الحافظ يطلق على الجمع و المفرد.

6. و المراد من: «بَيْنِ يَدَيْهِ» أي ما بين يدي الرسول: ما بينه و بين الناس، المرسل إليهم.

كما أنّ المراد من «مِنْ خَلْفِهِ» ما بين الرسول و بين مصدر الوحي الذي هو سبحانه.

و على ذلك فالنبي مصون و محفوظ في مجال تلقي الوحي من كلا الجانبين.

و قد اعتبر في هذا التعبير ما يوهمه معنى الرسالة من أنّه فيض متصل من المرسل (بالكسر) و ينتهي إلى المرسل إليه (بالفتح) و الآية تصف طريق بلوغ الغيب إلى الرسل و انّ الرسول محاط بالرصد

و الحارس من أمامه «ما بين يديه» و «خلفه» و ورائه، فلا يصيبه شي ء يباين الوحي.

و معنى الآية: انّ اللَّه يجعل (يسلك) ما بين الرسول و من أرسل إليه، و ما بين الرسول و مصدر الوحي مراقبين حارسين من الملائكة، و ليس جعل الرصد امام الرسول و خلفه إلّا للتحفظ على الوحي من كل تخليط و تشويش بالزيادة و النقص التي يقع فيها من ناحية الشياطين بلا واسطة أو معها.

ثمّ إنّه سبحانه علّل جعل الرصد بين يدي الرسول و خلفه بقوله: «لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ».

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 49

و المراد من العلم هو العلم الفعلي بمعنى التحقق الخارجي على حد قوله: «فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ». «1»

أي ليتحقّق إبلاغ رسالات ربهم على ما هي عليه من غير تغيير و تبدّل.

7. قوله: «وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ» بمنزلة الجملة المتممة للحراسة المستفادة من قوله: «رَصَداً».

و على الجملة فهذه العبارات الثلاث الواردة في الآية تفيد مدى عناية الباري للحراسة و الحفاظ على الوحي إلى أن يصل إلى المرسل إليهم بلا تغيير و تبديل، و هذه الجمل عبارة عن:

أ. «مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ».

ب. «وَ مِنْ خَلْفِهِ».

ج. «وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ».

فالجملة الأُولى تشير إلى وجود رصد بين الرسول و الناس.

كما أنّ الجملة الثانية تشير إلى وجود رصد محافظين بينه و بين مصدر الوحي.

و الجملة الثالثة تشير إلى وجود الحفظة في داخل كيانهم.

فتصير النتيجة أنّ الوحي في أمن و أمان من تطرق التحريف منذ أن يفاض من مصدر الوحي و يقع في نفس الرسول إلى أن يصل إلى الناس و المرسل إليهم.

8. قوله: «وَ أَحْصى كُلَّ شَيْ ءٍ عَدَداً» مسوق لإفادة عموم علمه بكل شي ء سواء في

ذلك الوحي الملقى إلى الرسول و غيره.

______________________________

(1). العنكبوت: 3.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 50

يقول العلّامة الطباطبائي: إنّ قوله سبحانه: «فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ» إلى آخر الآيتين يدل على أنّ الوحي الإلهي محفوظ من لدن صدوره من مصدر الوحي إلى بلوغه الناس، مصون في طريق نزوله إلى أن يصل إلى من قصد نزوله إليه.

أمّا مصونيته من حين صدوره من مصدره إلى أن ينتهي إلى الرسول فيكفي في الدلالة عليه قوله: «مِنْ خَلْفِهِ» و أمّا مصونيته حين أخذ الرسول إياه و تلقيه من ملك الوحي بحيث يعرفه و لا يغلط في أخذه، و مصونيته في حفظه بحيث يعيه كما أُوحي إليه من غير أن ينساه أو يغيره أو يبدله.

و مصونيته في تبليغه إلى الناس من تصرف الشيطان فيه فالدليل عليه قوله: «لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ» حيث يدل على أنّ الغرض الإلهي من سلوك الرصد أن يعلم إبلاغهم رسالات ربهم أي أن يتحقّق في الخارج إبلاغ الوحي إلى الناس، و لازمه بلوغه إيّاهم و لو لا مصونية الرسول في الجهات الثلاث المذكورة جميعاً لم يتم الغرض الإلهي و هو ظاهر.

و حيث لم يذكر تعالى للحصول على هذا الغرض طريقاً غير سلوك الرصد دل ذلك على أنّ الوحي محروس بالملائكة و هو عند الرسول، كما أنّه محروس بهم في طريقه إلى الرسول حتى ينتهي إليه، و يؤكده قوله بعده: «وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ».

و أمّا مصونيته في مسيره من الرسول حتى ينتهي إلى الناس فيكفي فيه قوله: «مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ» على ما تقدم معناه.

أضف إلى ذلك دلالة قوله: «لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ» بما تقدم من تقريب دلالته.

و يتفرع على هذا البيان:

انّ الرسول مؤيد بالعصمة في أخذ الوحي من ربّه و في حفظه و في تبليغه إلى الناس، مصون من الخطأ في الجهات الثلاث جميعاً لما مرّ

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 51

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم 99

من دلالة على أنّ ما نزّله اللَّه من دينه على الناس من طريق الرسالة بالوحي، مصون في جميع مراحله إلى أن ينتهي إلى الناس و من مراحله مرحلة أخذ الرسول للوحي و حفظه له و تبليغه إلى الناس.

و التبليغ يعم القول و الفعل فإنّ في الفعل تبليغاً كما في القول، فالرسول معصوم من المعصية باقتراف المحرمات و ترك الواجبات الدينية، لأنّ في ذلك تبليغاً لما يناقض الدين فهو معصوم من فعل المعصية كما أنّه معصوم من الخطأ في أخذ الوحي و حفظه و تبليغه قولًا.

و قد تقدمت الإشارة إلى أنّ النبوة كالرسالة في دورانها مدار الوحي، فالنبي كالرسول في خاصة العصمة، و يتحصل بذلك انّ أصحاب الوحي سواء كانوا رسلًا أو أنبياء معصومون في أخذ الوحي و في حفظ ما أُوحي إليهم و في تبليغه إلى الناس قولًا و فعلًا. «1»

الآية الثانية

قوله سبحانه: «كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ». «2»

إنّ الآية تصرح بأنّ الهدف من بعث الأنبياء هو القضاء بين الناس في ما اختلفوا فيه، و ليس المراد من القضاء إلّا القضاء بالحق، و هو فرع وصول الحق إلى القاضي

بلا تغيير و تحريف.

______________________________

(1). الميزان: 20/ 133.

(2). البقرة: 213.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 52

ثمّ إنّ نتيجة القضاء هي هداية من آمن من الناس إلى الحق بإذنه كما هو صريح قوله: «فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ».

و الهادي و إن كان هو اللَّه سبحانه في الحقيقة لكن الهداية تتحقق عن طريق النبي، و بواسطته، و تحقق الهداية منه فرع كونه واقفاً على الحق، بلا تحريف.

و كل ذلك يسلتزم عصمة النبي في تلقي الوحي و الحفاظ عليه، و إبلاغه إلى الناس.

و بالجملة فالآية تدل على أنّ النبي يقضي بالحق بين الناس و يهدي المؤمنين إليه، و كل ذلك (أي القضاء بالحق أوّلًا، و هداية المؤمنين إليه ثانياً) يستلزم كونه واقفاً على الحق على ما هو عليه و ليس المراد من الحق إلّا ما يوحى إليه.

الآية الثالثة

قوله سبحانه: «وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى . «1»

فالآية تصرح بأنّ النبي لا ينطق عن الهوى، أي لا يتكلم بداعي الهوى. فالمراد إمّا جميع ما يصدر عنه من القول في مجال الحياة كما هو مقتضى إطلاقه أو خصوص ما يحكيه من اللَّه سبحانه، فعلى كل تقدير فهو يدل على صيانته و عصمته في المراحل الثلاث المتقدم ذكرها في مجال إبلاغ الرسالة.

و بما أنّ عصمة الأنبياء في تلك المرحلة تكون من المسلمات عند المحققين من أصحاب المذاهب و الملل، فلنعطف عنان البحث إلى ما تضاربت فيه آراء المتكلمين، و إن كان للشيعة فيه قول واحد، و هو عصمتهم عن العصيان و المخالفة لأوامره و نواهيه.

______________________________

(1). النجم: 3- 4.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 53

المرحلة الثانية: عصمة الأنبياء عن المعصية

اشارة

لقد وقفت على دلائل عصمة الأنبياء في تلقي الوحي و حان الحين للبحث عن عصمتهم عن المعصية. و نبحث في ذلك عن وجهتين: العقلية و القرآنية:

العقل و عصمة الأنبياء

إنّ القرآن الكريم يصرح بأنّ الهدف من بعث الأنبياء هو تزكية نفوس الناس و تصفيتهم من الرذائل و غرس الفضائل فيها قال سبحانه حاكياً عن لسان إبراهيم: «رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» «1» و قال سبحانه: «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ». «2»

و المراد من التزكية هو تطهير القلوب من الرذائل و إنماء الفضائل، و هذا هو ما يسمى في علم الأخلاق ب «التربية».

و لا شك أنّ تأثير التربية في النفوس يتوقف على إذعان من يراد تربيته بصدق المربي و إيمانه بتعاليمه، و هذا يعرف من خلال عمل المربي بما يقوله و يعلمه و إلّا فلو كان هناك انفكاك بين القول و العمل، لزال الوثوق بصدق قوله و بالتالي تفقد التربية أثرها، و لا تتحقق حينئذ الغاية من البعث.

و إن شئت قلت: إنّ التطابق بين مرحلتي القول و الفعل، هو العامل الوحيد لكسب ثقة الآخرين بتعاليم المصلح و المربي، و لو كان هناك انفكاك بينهما

______________________________

(1). البقرة: 129.

(2). آل عمران: 164.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 54

لانفض الناس من حوله قائلين بأنّه لو كان مذعناً بصحة دعوته لما خالف قوله في مقام العمل.

سؤال و جواب

نعم يمكن أن يقال: يكفي في الاعتماد على النبي مصونيته عن معصية واحدة و هي الكذب فالبرهان المذكور على تماميته لا يثبت إلّا مصونيته عن خصوص الكذب لا مطلقاً.

أقول: الإجابة عن هذا السؤال سهلة، لأنّ التفكيك بين المعاصي فرضية محضة لا يصح أن تقع أساساً

للتربية العامة لما فيها من الإشكالات.

أمّا أوّلًا: فانّ المصونية عن المعاصي نتيجة إحدى العوامل التي أوعزنا إليها عند البحث عن حقيقة العصمة فإن تم وجودها أو وجود بعضها تحصل المصونية المطلقة للإنسان، و إلّا فلا يمكن التفكيك بين الكذب و سائر المعاصي بأن يجتنبا لإنسان عن الكذب طيلة عمره و يرتكب سائر المعاصي، فإنّ العوامل التي تسوق الإنسان إلى ارتكابها تسوقه أيضاً إلى اقتراف الكذب و اجتياح التهمة.

و أمّا ثانياً: فلو صح التفكيك بينهما في عالم الثبوت لا يمكن إثباته (الداعي لا يكذب أبداً و ان كان يركب سائر المعاصي) في حق الداعي و مدعي النبوة، إذ كيف يمكن الإنسان أن يقف على أنّ مدّعي النبوة مع ركوبه المعاصي و اقترافه للمآثم، لا يكذب أصلًا عند ما اضطر إليه حتى و لو صرح الداعي إلى الإصلاح بنفس هذا التفكيك، لسرى الريب إلى نفس هذا الكلام أيضاً.

و على الجملة: انّ الهدف من بعث الرسل و إنزال الكتب هو دعوة الناس إلى الهداية الإلهية التي يقوم بأعبائها الأنبياء و الرسل، و لا يتحقق ذلك الهدف إلّا بعد

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 55

اعتماد الناس على حامل الدعوة و القائم بالهداية، فاقتراف المعاصي و مخالفة ما يدعو إليه من القيم و الخلق، يزيل من النفوس الثقة به و الاعتماد عليه.

و بهذا البيان تظهر الإجابة عن سؤال لا يقصر في الضآلة عن السؤال الماضي. و هو ما ربما يقال: إنّ أقصى ما يثبته هذا البرهان هو لزوم نزاهة النبي عن اقتراف المعاصي في المجتمع، و هذا لا يخالف أن يكون عاصياً و مقترفاً للذنوب في الخلوات، و هذا القدر من النزاهة كافٍ في جلب الثقة.

و الجواب عن هذا السؤال

واضح تمام الوضوح، فإنّ مثل هذا التصور عن النبي و القول بأنّه يرتكب المعاصي في السر دون العلن يهدم الثقة به، إذ ما الذي يمنعه- عندئذ- من أن يكذب و يتستر على كذبه، و بذلك تزول الثقة بكل ما يقول و يعمل.

أضف إلى ذلك أنّه يمكن خداع الناس بتزيين الظاهر مدة قليلة لا مدة طويلة و لا ينقضي زمان إلّا و قد تظهر البواطن و يرتفع الستار عن حقيقته فتكشف سوأته، و يظهر عيبه.

إلى هنا ظهر أنّ ثقة الناس بالأنبياء إنّما هي في ضوء الاعتقاد بصحة مقالهم و سلامة أفعالهم، و هو فرع كونهم مصونين عن الخلاف و العصيان في الملأ و الخلأ و السر و العلن من غير فرق بين معصية دون أُخرى.

تقرير المرتضى لهذا البرهان

إنّ السيد المرتضى قد قرر هذا البرهان ببيان آخر نأتي به.

قال ما هذا حاصله: إنّ تجويز الكبائر يقدح في ما هو الغرض من بعث الرسل، و هو قبول قولهم و امتثال أوامرهم و لا تكون أنفسنا ساكنة إلى قبول قوله أو استماع وعظه كسكونها إلى من لا نجوز عليه شيئاً من ذلك، و هذا هو معنى قولنا:

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 56

إنّ وقوع الكبائر ينفّر عن القبول و المرجع فيما ينفر و ما لا ينفر إلى العادات و اعتبار ما تقتضيه، و ليس ذلك مما يستخرج بالأدلة و المقاييس، و من رجع إلى العادة علم ما ذكرناه، و انّه من أقوى ما ينفر عن قبول القول، فإنّ حظ الكبائر في هذا الباب إن لم يزد على حظ السخف و المجون و الخلاعة لم ينقص عنه.

فإن قيل: أ ليس قد جوّز كثير من الناس على الأنبياء- عليهم السَّلام- الكبائر مع أنّهم

لم ينفروا عن قبول أقوالهم و العمل بما شرعوه من الشرائع، و هذا ينقض قولكم: إنّ الكبائر منفّرة.

قلنا: هذا سؤال من لم يفهم ما أوردناه، لأنّا لم نرد بالتنفير ارتفاع التصديق و أن لا يقع امتثال الأمر جملة، و انّما أردنا ما فسرناه من أنّ سكون النفس إلى قبول قول من يجوز ذلك عليه لا يكون على حد سكونها إلى من لا يجوز ذلك عليه و انّا مع تجويز الكبائر نكون أبعد عن قبول القول، كما أنّا مع الأمان من الكبائر نكون أقرب إلى القبول، و قد يقرب من الشي ء ما لا يحصل الشي ء عنده، كما يبعد عنه ما لا يرتفع عنده.

أ لا ترى أنّ عبوس الداعي للناس إلى طعامه و تضجّره و تبرّمه منفّر في العادة عن حضور دعوته و تناول طعامه، و قد يقع ما ذكرناه الحضور و التناول و لا يخرجه من أن يكون منفراً، و كذلك طلاقة وجهه و استبشاره و تبسمه يقرب من حضور دعوته و تناول طعامه، و قد يرتفع الحضور مع ما ذكرناه، و لا يخرجه من أن يكون مقرباً، فدل على أنّ المعتبر في باب المنفر و المقرب ما ذكرناه دون وقوع الفعل المنفر عنه أو ارتفاعه.

فإن قيل: فهذا يقتضي أنّ الكبائر لا تقع منهم في حال النبوة، فمن أين يُعلم أنّها لا تقع منهم قبل النبوة، و قد زال حكمها بالنبوة المسقطة للعقاب و الذم، و لم يبق وجه يقتضي التنفير؟

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 57

قلنا: الطريقة في الأمرين واحدة، لأنّا نعلم أنّ من نجوّز عليه الكفر و الكبائر في حال من الأحوال و إن تاب منهما و خرج من استحقاق العقاب به لا نسكن

إلى قبول قوله مثل سكوننا إلى من لا يجوز ذلك عليه في حال من الأحوال و لا على وجه من الوجوه، و لهذا لا يكون حال الواعظ لنا، الداعي إلى اللَّه تعالى و نحن نعرفه مقارناً للكبائر مرتكباً لعظيم الذنوب و ان كان قد فارق جميع ذلك و تاب منه عندنا و في نفوسنا، كحال من لم نعهد منه إلّا النزاهة و الطهارة، و معلوم ضرورة الفرق بين هذين الرجلين فيما يقتضي السكون و النفور، و لهذا كثيراً ما يعيّر الناس من يعهدون منه القبائح المتقدمة بها و ان وقعت التوبة منها و يجعلون ذلك عيباً و نقصاً و قادحاً و مؤثراً، و ليس إذا كان تجويز الكبائر قبل النبوة منخفضاً عن تجويزها في حال النبوة و ناقصاً عن رتبته في باب التنفير (و لأجل ذلك) وجب أن لا يكون فيه شي ء من التنفير، لأنّ الشيئين قد يشتركان في التنفير و إن كان أحدهما أقوى من صاحبه، أ لا ترى أنّ كثرة السخف و المجون و الاستمرار عليه و الانهماك فيها منفر لا محالة، و إنّ القليل من السخف الذي لا يقع إلّا في الأحيان و الأوقات المتباعدة منفر أيضاً، و ان فارق الأوّل في قوة التنفير و لم يخرجه نقصانه في هذا الباب عن الأوّل من أن يكون منفراً في نفسه.

فإن قيل: فمن أين قلتم إنّ الصغائر لا تجوز على الأنبياء- عليهم السَّلام- في حال النبوة و قبلها؟

قلنا: الطريقة في نفي الصغائر في الحالتين هي الطريقة في نفي الكبائر في الحالتين عند التأمّل، لأنّا كما نعلم أنّ من يجوز كونه فاعلًا لكبيرة متقدمة قد تاب منها و أقلع عنها و لم يبق معه شي ء

من استحقاق عقابها و ذمها، لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من لا يجوز ذلك عليه، فكذلك نعلم انّ من نجوّز عليه الصغائر من الأنبياء- عليهم السَّلام- أن يكون مقدماً على القبائح مرتكباً للمعاصي في حال نبوته أو

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 58

قبلها و ان وقعت مكفرة لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من نأمن منه كل القبائح و لا نجوّز عليه فعل شي ء منها. «1»

إجابة عن سؤال آخر

ربما يقال: إنّ العقلاء يكتفون في تبليغ برامجهم التعليمية و التربوية بما يغلب صدقه على كذبه، و يكفي في ذلك كون الرسول رجلًا صدوقاً عدلًا، و من المعلوم انّ الصدوق العادل ليس بمعصوم و ليس صادقاً مائة بالمائة، و في نهاية الكمال، و لأجل ذلك لا مانع من أن يكتفي سبحانه في تبليغ شرائع الأنبياء بأفراد صالحين يغلب حسنهم على قبحهم و ثباتهم على زللهم.

هذا هو السؤال، و أمّا الجواب: فإنّ اكتفاء العقلاء بهذه الدرجة من الصلاح و الاستقامة، لأجل وجهين:

إمّا لعدم تمكنهم من أفراد كاملين، و إمّا لاكتفائهم في تحقق أهدافهم على الحد الخاص من الواقعية و كلا الأمرين لا يناسب ساحته سبحانه، إذ في وسع المولى سبحانه بعث رجال معصومين، و تحقيق أهدافه على الوجه الأكمل.

يقول العلّامة الطباطبائي في هذا الصدد: إنّ الناس يتسبّبون في أنواع تبليغاتهم و أغراضهم الاجتماعية بالتبليغ بمن لا يخلو من قصور و تقصير في التبليغ لكن ذلك منهم لأحد أمرين لا يجوز في ما نحن فيه، لمكان المسامحة منهم في الوصول إلى الأهداف، فإنّ مقصودهم هو البلوغ إلى ما تيسر من المطلوب و الحصول على اليسير و الغض عن الكثير، و هذا لا يليق بساحته تعالى. «2»

______________________________

(1). تنزيه الأنبياء: 4- 6.

(2).

الميزان: 2/ 141.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 59

و لأجل هذه الوجوه العقلية نرى القرآن يصرح بعصمة الأنبياء تارة، و يشير إليها أحياناً حيث يصفهم بأنّهم مهديون لا يضلون أبداً، و إليك هذه الآيات التي تعد من أجلى الشواهد القرآنية على عصمة الأنبياء.

القرآن و عصمة الأنبياء من المعصية

اشارة

إنّه سبحانه يطرح في كتابه العزيز عصمة الأنبياء و يصفهم بهذا الوصف، و يشهد بذلك لفيف من الآيات:

الآية الأُولى

قال سبحانه: «وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ* وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ». «1»

ثمّ إنّه يصف هذه الصفوة من عباده بقوله: «أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ». «2»

و الآية الأخيرة تصف الأنبياء بأنّهم مهديون بهداية اللَّه سبحانه على وجه يجعلهم القدوة و الاسوة.

هذا من جانب و من جانب آخر نرى أنّه سبحانه يصرح بأنّ من شملته الهداية الإلهية لا مضل له و يقول: «وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ* وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ

______________________________

(1). الأنعام: 84- 87.

(2). الأنعام: 90.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 60

فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ». «1»

و في آية ثالثة يصرح بأنّ حقيقة العصيان هي الانحراف عن الجادة الوسطى بل هي الضلالة و يقول: «أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ* وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ». «2»

و بملاحظة هذه الطوائف الثلاث من الآيات تظهر عصمة الأنبياء بوضوح و توضيح ذلك:

انّه سبحانه يصف الأنبياء في اللفيف الأوّل من الآيات بأنّهم القدوة الاسوة و المهديون من الأُمّة كما

يصرح في اللفيف الثاني بأنّ من شملته الهداية الإلهية لا ضلالة و لا مضل له.

كما هو يصرح في اللفيف الثالث بأنّ العصيان نفس الضلالة أو مقارنه و ملازمه حيث يقول: «وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ» و ما كانت ضلالتهم إلّا لأجل عصيانهم و مخالفتهم لأوامره و نواهيه.

فإذا كان الأنبياء مهديين بهداية اللَّه سبحانه، و من جانب آخر لا يتطرق الضلال إلى من هداه اللَّه، و من جانب ثالث كانت كل معصية ضلالًا يستنتج أنّ من لا تتطرق إليه الضلالة لا يتطرق إليه العصيان.

و إن أردت أن تفرغ ما تفيده هذه الآيات في قالب الأشكال المنطقية فقل:

النبي: من هداه اللَّه.

و كل من هداه اللَّه فما له من مضل.

ينتج: النبي ما له من مضل.

______________________________

(1). الزمر: 36- 37.

(2). يس: 60- 62.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 61

الآية الثانية

انّه سبحانه يعد المطيعين للَّه و الرسول بأنّهم من الذين يحشرون مع النبيين و الصدّيقين و الشهداء و الصالحين الذين أنعم اللَّه عليهم إذ يقول:

«وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً». «1»

و على مفاد هذه الآية فالأنبياء من الذين أنعم اللَّه عليهم بلا شك و لا ريب، و هو سبحانه يصف تلك الطائفة أعني: «من أنعم عليهم» بقوله: بأنّهم: «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ». «2»

فإذا انضمت الآية الأُولى الواصفة للأنبياء بالإنعام عليهم، إلى هذه الآية الواصفة بأنّهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين، يستنتج عصمة الأنبياء بوضوح، لأنّ العاصي من يشمله غضب اللَّه سبحانه و يكون ضالًا بقدر عصيانه و مخالفته.

و على الجملة: من كان غير المغضوب عليه و لا الضال فهو لا يخالف

ربه و لا يعصي أمره فإنّ العاصي يجلب غضب الرب، و يضل عن الصراط المستقيم قدر عصيانه.

الآية الثالثة

انّه سبحانه يصف جملة من الأنبياء و يقول في حق إبراهيم و إسحاق و يعقوب و موسى و هارون و إسماعيل و إدريس: «أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ

______________________________

(1). النساء: 69.

(2). الفاتحة: 7.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 62

النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَ إِسْرائِيلَ وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا». «1»

فهذه الآية تصف تلك الصفوة من الأنبياء بأوصاف أربعة:

1. أنعم اللَّه عليهم.

2. هدينا.

3. و اجتبينا.

4. خرّوا سجّداً و بُكيّا.

ثمّ إنّه سبحانه يصف في الآية التالية ذرية هؤلاء و أولادهم بأوصاف تقابل الصفات الماضية، و يقول: «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا». «2»

نرى أنّه سبحانه يصف خلفهم بأوصاف ثلاثة تضاد أوصاف آبائهم و هي عبارة عن أُمور ثلاثة:

1. أضاعوا الصلاة.

2. و اتبعوا الشهوات.

3. يلقون غيّاً.

و بحكم المقابلة بين الصفات يكون الأنبياء ممن لم يضيّعوا الصلاة و لم يتّبعوا الشهوات، و بالنتيجة لا يلقون غيّاً، و كل من كان كذلك فهو مصون من الخلاف و معصوم من اقتراف المعاصي، لأنّ العاصي لا يعصي إلّا لاتباع الشهوات و سوف يلقى أثر غيه و ضلالته.

______________________________

(1). مريم: 58.

(2). مريم: 59.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 63

الآية الرابعة

إنّ القرآن الكريم يدعو المسلمين إلى الاقتفاء بأثر النبي بمختلف التعابير و العبارات يقول سبحانه: «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ». «1»

و يقول أيضاً: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ». «2»

و يقول في آية ثالثة: «وَ مَنْ يُطِعِ

اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اللَّهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ». «3»

كما أنّه سبحانه يندد بمن يتصور انّ على النبي أن يقتفي الرأي العام و يقول: «وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ». «4»

و عصارة القول: إنّ هذه الآيات تدعو إلى إطاعة النبي و الاقتداء به بلا قيد و شرط، و من وجبت طاعته على وجه الإطلاق أي بلا قيد و شرط يجب أن يكون معصوماً من العصيان و مصوناً عن الخطأ و الزلل.

توضيحه: انّ دعوة النبي تتحقّق بأحد الأمرين: اللفظ أو العمل. و الدعوة بالكتابة ترجع إلى أحدهما، و عند ذلك فلو كان كل ما يدعو إليه النبي بلسانه

______________________________

(1). آل عمران: 31- 32.

(2). النساء: 80.

(3). النور: 52.

(4). الحجرات: 7.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 64

و فمه و قلمه و يراعه، صادقاً مطابقاً للواقع غير مخالف له قدر شعرة، لصح الأمر بالاقتداء به و إنّ طاعته طاعة اللَّه سبحانه كما قال: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ». «1»

و أمّا لو كان بعض ما يدعو به باللفظ و العمل و القول و الكتابة على خلاف الواقع و على خلاف ما يرضى به سبحانه يجب تقييد الدعوة إلى طاعة النبي بقيد يخرج هذه الصورة.

فالحكم باتّباعه على وجه الإطلاق يكشف عن أنّ دعواته و أوامره قولًا و فعلًا حليفة الواقع، و قرينة الحقيقة لا تتخلف عنه قدر شعرة، من غير فرق بين الدعوة اللفظية أو العملية.

فإنّ الدعوة عن طريق العمل و الفعل من أقوى العوامل تأثيراً في مجال التربية و التعليم و أرسخها و كل عمل يصدر من الرسل فالناس يتلقونه دعوة عملية إلى اقتفاء أثره في ذاك المجال.

فلو كان ما

يصدر من النبي طيلة الحياة مطابقاً لرضاه و موافقاً لحكمه صح الأمر بالاقتفاء في القول و الفعل، و لو كانت أفعالهم تخالف الواقع في بعض الأحايين و تتسم بالعصيان و الخطأ، لما صح الأمر بطاعته و الاقتداء به على وجه الإطلاق.

كيف و قد وصف الرسول بأنّه الأُسوة الحسنة في قوله سبحانه: «لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً». «2»

______________________________

(1). النساء: 80.

(2). الأحزاب: 21.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 65

فكونه أُسوة حسنة في جميع المجالات لا يتفق إلّا مع عصمته المطلقة، بخلاف من يكون أُسوة في مجال دون مجال، و على ذلك فهو مصون من الخلاف و العصيان و الخطأ و الزلل.

و إن شئت قلت: لو صدر عن النبي عصيان و خلاف فمن جانب يجب علينا طاعته و اقتفاؤه و اتباعه، و بما انّ الصادر منه أمر منكر يحرم الاقتداء به و اتباعه و تجب المخالفة، فعندئذ يلزم الأمر بالمتناقضين، و القول بأنّه يجب اتّباعه في خصوص ما ثبت كونه موافقاً للشرع أو لم تعلم مخالفته له، خلاف إطلاق الآيات الآمرة بالاتّباع على وجه الإطلاق من غير فرق بين فعل دون فعل، و وقت دون وقت.

و هذا المورد من الموارد التي يستكشف بإطلاق الحكم حال الموضوع وسعته و انّه مطابق للشرع، و كم له من مورد في الأحكام الفقهية. «1»

الآية الخامسة

إنّ اللَّه سبحانه يحكي عن الشيطان الطريد بأنّه قال: «فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ». «2»

و يقول أيضاً: «وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ». «3»

______________________________

(1). و قد عنونه الأُصوليون في أبحاث العام و الخاص فيستكشفون عن إطلاق الحكم سعة الموضوع كما في

مثل قوله: «لعن اللَّه بني أُمية قاطبة» فيستدل بإطلاقه على سعته و عدم وجود مؤمن فيهم، و إلّا لما صح الحكم بالإطلاق.

(2). ص: 83- 84.

(3). الحجر: 39- 40.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 66

فهذه الآيات و نظائرها تحكي عن نزاهة المخلصين عن إغواء الشيطان و جرّه إيّاهم إلى الطرق المظلمة.

توضيحه: انّ الغي يستعمل تارة في خلاف الرشد و إظلام الأمر، و أُخرى في فساد الشي ء، قال ابن فارس: فالأوّل الغي و هو خلاف الرشد، و الجهل بالأمر و الانهماك في الباطل، يقال: غوى يغوي غياً، قال الشاعر:

فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره و من يغو لا يعدم على الغي لائماً

و ذلك عندنا مشتق من الغياية، و هي الغبرة و الظلمة تغشيان، كأنّ ذا الغيِّ قد غشيه ما لا يرى معه سبيل حق.

و أمّا الثاني: فمنه قولهم: غوي الفصيل إذا أكثر من شرب اللبن ففسد جوفه، و المصدر: الغوى.

و على ذلك «1» فسواء فسرت الغواية في الآيتين بالمعنى الأوّل كما هو الأقرب أو بالمعنى الثاني، فالعباد المخلصون منزهون عن أن تغشاهم الغبرة و الظلمة في حياتهم أو أن يرتكبوا أمراً فاسداً، و نفي كلا الأمرين يستلزم العصمة، لأنّ العاصي تغشاه غبرة الجهل و ظلمة الباطل، كما أنّه يفسد علمه بالمخالفة.

نعم إثبات الغواية لا يستلزم إثبات المعصية، فإنّ مخالفة الأوامر الإرشادية التي لا تتبنى إلّا النصح و الإرشاد و إن كانت تلازم غشيان الغبرة في الحياة و فساد العمل، لكنها لا تستلزم التمرد و التجري اللّذين هما الملاك في صدق المعصية.

______________________________

(1). مقاييس اللغة: 4/ 399- 400.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 67

و على كل تقدير، فما ورد في هذه الطائفة من الآيات بمنزلة ضابطة كلية في حق

المخلصين و نزاهتهم عن الغواية الملازمة لنزاهتهم عن المعصية.

و هناك آيات أُخرى تأتي بأسماء المخلصين و تصفهم و تقول: «وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصارِ* إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ* وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ* وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ ذَا الْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ». «1»

فقوله سبحانه: «إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ» خير دليل على أنّ المعدودين و المذكورين في هذه الآيات من إبراهيم و ذريته كلهم من المخلصين الذين شهدت الآيات على تنزههم من غواية الشيطان الملازم لنزاهتهم عن العصيان و الخلاف.

نعم هذه الطائفة لا تدل على عصمة جميع الأنبياء و الرسل إلّا بعدم القول بالفصل حيث إنّ العلماء متفقون إمّا على العصمة أو على خلافها، و ليس هناك من يفصل بين نبي دون نبي بأن يثبت العصمة في حق بعضهم دون بعض.

هذا بعض ما يمكن الاستدلال به على عصمة الأنبياء و بقيت هناك آيات يمكن الاستدلال بها على العصمة أيضاً مثل قوله سبحانه: «وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ». «2»

لأنّ المراد من الاجتباء هو الاجتباء بالعصمة و ان كان يحتمل أن يكون المراد

______________________________

(1). ص: 45- 48.

(2). الأنعام: 87.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 68

الاجتباء بالنبوة، و الكلام هنا في الاجتباء دون الهداية.

و مثله قوله سبحانه: «وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا». «1»

______________________________

(1). مريم: 58.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 69

حجة المخالفين للعصمة

اشارة

قد تعرفت على الآيات الدالة على عصمة الأنبياء في المجالات التالية: «تلقّي الوحي، و التحفّظ عليه، و إبلاغه إلى الناس، و العمل به» غير انّ هناك آيات ربما توهم في بادئ النظر خلاف ما دلت

عليه صراحة الآيات السابقة، و قد تذرعت بها بعض الفرق الإسلامية التي جوزت المعصية على الأنبياء بمختلف صورها.

و هذه الآيات على طوائف:

الأُولى: ما يمس ظاهرها عصمة جميع الأنبياء بصورة كليّة.

الثانية: ما يمس عصمة عدة منهم كآدم و يونس بصورة جزئية.

الثالثة: ما يتراءى منه عدم عصمة النبي الأكرم.

فعلينا دراسة هذه الأصناف من الآيات حتى يتجلّى الحق بأجلى مظاهره:

الطائفة الأُولى: ما يمس ظاهرها عصمة جميع الأنبياء

الآية الأُولى

اشارة

و من هذه الطائفة قوله سبحانه: «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَ فَلا تَعْقِلُونَ». «1»

______________________________

(1). يوسف: 109.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 70

«حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَ لا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ». «1»

استدل القائل بعدم وجود العصمة في الأنبياء بظاهر الآية قائلًا بأنّ الضمائر الثلاثة في قوله: «وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا» ترجع إلى الرسل، و مفاد الآية انّ رسل اللَّه سبحانه و أنبياءه كانوا ينذرون قومهم، و كان القوم يخالفونهم أشد المخالفة، و كان الرسل يعدون المؤمنين بالنصر عن اللَّه و الغلبة و يوعدون الكفّار بالهلاك و الإبادة، لكن لما تأخر النصر الموعود و عقاب الكافرين «ظن الرسل أنّهم قد كذبوا» فيما وعدوا به من جانب اللَّه من نصر المؤمنين و إهلاك الكافرين، و من المعلوم انّ هذا الظن سواء أ كان بصورة الإذعان و اليقين أو بصورة الزعم و الميل إلى ذاك الجانب، اعتقاد باطل لا يجتمع مع العصمة.

و إن شئت تفسير الآية فعليك بإظهار مراجع الضمائر بأن تقول: لما أخّرنا العقاب عن الأُمم السالفة ظن الرسل انّ الرسل قد

كذب (بصيغة المجهول) الرسل في ما وعدوا به من النصر للمؤمنين و الهلاك للكافرين.

و على هذا فكل جواب من العدلية القائلين بعصمة الرسل على خلاف هذا الظاهر يكون غير متين، بل يجب أن يكون الجواب منطبقاً على هذا الظاهر.

و إليك الأجوبة المذكورة في التفاسير:

الأوّل:

انّ الضمائر الثلاثة ترجع إلى الرسل غير انّ الوعد الذي تصور الرسل أنّهم قد كذبوا (أي قيل لهم قولًا كاذباً) هو تظاهر عدة من المؤمنين بالإيمان و ادّعاؤهم الإخلاص لهم، فتصور الرسل انّ تظاهر هؤلاء بالإيمان كان كذباً و باطلًا، و كأنّهم تصوروا انّ الذين وعدوهم بالإيمان من قومهم أخلفوهم أو كذبوا فيما أظهروه من الإيمان. «2»

______________________________

(1). يوسف: 110.

(2). مجمع البيان: 5- 6/ 415، ط دار المعرفة، بيروت.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 71

و فيه: انّ هذا الجواب و ان كان أظهر الأجوبة إذ ليس فيه تفكيك بين الضمائر كما في سائر الأجوبة الآتية لكن الذي يرده هو بعده عن ظاهر الآية، إذ ليس فيها عن إيمان تلك الثلة القليلة أثر حتى يقع متعلّق الكذب في قوله سبحانه: «قَدْ كُذِبُوا».

و إن شئت قلت: ليس في مقدم الآية و لا في نفسها ما يشير إلى أنّه قد آمن بالرسل عدّة قليلة و تظاهروا بالإيمان غير انّه صدر عنهم ما جعل الأنبياء يظنون بكذبهم في ما أظهروه من الإيمان حتى يصح أن يقال انّ متعلق الكذب هو هذا، و انّما المذكور في مقدمها و نفسها هو مخالفة الزمرة الطاغية من أقوام الأنبياء و عنادهم و لجاجهم مع رسل اللَّه و أنبيائه حيث يقول: «أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَ فَلا

تَعْقِلُونَ». «1»

و مجرد قوله: «وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا» لا يكفي في جعل إيمانهم متعلّقاً للكذب، إذ عندئذ يجب أن تتعرض الآية إلى إيمان تلك الشرذمة و صدور ما يوجب ظنهم بخلاف ما تظاهروا به حتى يصح أن يقال إنّ الرسل ظنوا انّ المتظاهرين بالإيمان قد كذبوا في ادّعاء الإيمان بالرسل.

أضف إلى ذلك: إنّ هذه الإجابة لا تصحّح العصمة المطلقة للأنبياء، إذ على هذا الجواب يكون ظن الرسل بعدم إيمان تلك الشرذمة القليلة خطأً، و كان ادّعاؤهم للإيمان صادقاً، و هذا يمس كرامتهم من جانب آخر، لأنّهم تخيّلوا غير الواقع واقعاً، و المؤمن كافراً.

على أنّ ذلك الجواب لا يناسب ذيل الجملة فانّه سبحانه يقول بعد تلك الجملة: «جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ» مع أنّ المناسب على هذه الإجابة أن

______________________________

(1). يوسف: 109.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 72

يقول: «بل تبين للرسل صدق ادّعاء المؤمنين فنجي من نشاء و لا يرد بأسنا عن القوم المجرمين».

الثاني:

انّ معنى الآية: ظن الأُمم أنّ الرسل كذبوا في ما أخبروا به من نصر اللَّه إيّاهم و إهلاك أعدائهم و هذا الوجه هو المروي عن سعيد بن جبير و اختاره العلّامة الطباطبائي، فالآية تهدف إلى أنّه إذا استيئس الرسل من إيمان أُولئك الناس، هذا من جانب و من جانب آخر ظنّ الناس- لأجل تأخر العذاب- انّ الرسل قد كذبوا، أي أخبروا بنصر المؤمنين و عذاب الكافرين كذباً، جاءهم نصرنا، فنجّي بذلك من نشاء و هم المؤمنون، و لا يرد بأسنا أي شدتنا عن القوم المجرمين.

و قد دلّت الآيات على أنّ الأُمم السالفة كانوا ينسبون الأنبياء إلى الكذب، قال سبحانه في قصة نوح حاكياً عن قول قومه: «بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ» «1»،

و كذا في قصة هود و صالح.

و قال سبحانه في قصة موسى: «فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً» «2». «3»

و لا يخفى ما في هذا الجواب من الإشكال، فإنّ الظاهر هو انّ مرجع الضمير المتصل في «ظنّوا» هو الرسل المقدم عليه، و إرجاعه إلى الناس على خلاف الظاهر، و على خلاف البلاغة و ليس في نفس الآية حديث عن هذا اللفظ (الناس) حتى يكون مرجعاً للضمير في «ظنّوا».

أضف إلى ذلك انّ ما استشهد به مما ورد في قصة نوح لا يرتبط بما ادّعاه فإنّ

______________________________

(1). هود: 27.

(2). الإسراء: 101.

(3). الميزان: 11/ 279.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 73

معنى «بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ» انّ الناس صوّروا نفس الرسل كاذبين و انّهم قد تعمّدوا التقوّل على خلاف الواقع، و المذكور في الآية المبحوث عنها ليس كون الرسل كاذبين بل كونهم مكذوبين، أي وعدوا كذباً و قيل لهم قولًا غير صادق و إن تصوّروا أنفسهم صادقين في ما يخبرون به، و بين المعنيين بون بعيد.

الثالث:

ما روي عن ابن عباس من أنّ الرسل لمّا ضعفوا و غلبوا ظنّوا أنّهم قد أخلفوا ما وعدهم اللَّه من النصر، و قال كانوا بشراً، و تلا قوله: «وَ زُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ». «1»

و قال صاحب الكشاف في حق هذا القول: إنّه إن صح هذا عن ابن عباس، فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال و يهجس في القلب من شبه الوسوسة و حديث النفس على ما عليه البشرية، و أمّا الظن الذي هو ترجح أحد الجائزين على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين فما بال رسل اللَّه الذين هم أعرف الناس بربهم، و انّه

متعال عن خلف الميعاد منزه عن كل قبيح. «2»

و هذا التفسير مع التوجيه الذي ذكره الزمخشري و إن كان أوقع التفاسير في القلوب غير انّه أيضاً لا يناسب ساحة الأنبياء الذين تسددهم روح القدس و تحفظهم عن الزلل و الخطأ في الفكر و العمل، و تلك الهاجسة و ان كانت بصورة حديث النفس و شبه الوسوسة لكنها لا تلائم العصمة المطلقة المترقبة من الأنبياء.

الرابع (و هو المختار)

إنّ المستدل زعم أنّ الظن المذكور في الآية أمر قلبي اعترى قلوب الرسل،

______________________________

(1). البقرة: 214.

(2). الكشاف: 2/ 157.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 74

و أدركوه بمشاعرهم و عقولهم مثل سائر الظنون التي تحدق بالقلوب البشرية و تنقدح فيها.

مع أنّ المراد غير ذلك، بل المراد انّ الظروف التي حاقت بالرسل بلغت من الشدة و القسوة الى حد صارت تحكي بلسانها التكويني عن أنّ النصر الموعود كأنّه نصر غير صادق، لا أنّ هذا الظن كان يراود قلوب الرسل، و أفئدتهم، و كم فرق بين كونهم ظانّين بكون الوعد الإلهي بالنصر وعداً مكذوباً، و بين كون الظروف و الشرائط المحيطة بهم من المحنة و الشدة كانت كأنّها تشهد في بادئ النظر على أنّه ليس لوعده سبحانه خبر و لا أثر.

فحكاية وضعهم و الملابسات التي كانت تحدق بهم عن كون الوعد كذباً أمر، و كون الأنبياء قد وقعوا فريسة ذلك الظن غير الصالح أمر آخر، و المخالف للعصمة هو الثاني لا الأوّل، و لذلك نظائر في الذكر الحكيم.

منها قوله سبحانه: «وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» «1»، فإنّ يونس النبي بن متى كان مبعوثاً إلى أهل نينوى،

فدعاهم فلم يؤمنوا، فسأل اللَّه أن يعذّبهم، فلمّا أشرف عليهم العذاب تابوا و آمنوا، فكشفه اللَّه عنهم و فارقهم يونس قبل نزول العذاب مغاضباً لقومه ظانّاً بأنّه سبحانه لن يضيق عليه و هو يفوته بالابتعاد منه فلا يقوى على سياسته و تأديبه، لأجل مفارقته قومه مع إمكان رجوعهم إلى اللَّه سبحانه و إيمانهم به و توبتهم عن أعمالهم.

فما هذا الظن الذي ينسبه سبحانه إلى يونس، هل كان ظناً قائماً بمشاعره، فنحن نجلّه و نجلّ ساحة جميع الأنبياء عن هذا الظن الذي لا يتردد في ذهن غيرهم، فكيف الأنبياء؟! بل المراد انّ عمله هذا (أي ذهابه و مفارقة قومه) كان

______________________________

(1). الأنبياء: 87.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 75

ممثلًا بأنّه يظن أنّ مولاه لا يقدر عليه و هو يفوته بالابتعاد عنه فلا يقوى على سياسته، فكم فرق بين ورود هذا الظن على مشاعر يونس، و بين كون عمله مجسماً و ممثلًا لهذا الظن في كل من رآه و شاهده؟ فما يخالف العصمة هو الأوّل لا الثاني.

و منها: قوله سبحانه في سورة الحشر حاكياً عن بني النضير إحدى الفرق اليهودية الثلاث التي كانت تعيش في المدينة، و تعاقدوا مع النبي على أن لا يخونوا و يتعاونوا في المصالح العامة، و لما خدعوا المسلمين و قتلوا بعض المؤمنين في مرأى من الناس و مسمع منهم، ضيّق عليهم النبي، فلجئوا إلى حصونهم، و في ذلك يقول سبحانه: «هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا». «1»

فما هذا الظن الذي ينسبه سبحانه إلى تلك الفرقة؟ هل كانوا يظنون بقلوبهم

أنّ حصونهم مانعتهم من اللَّه؟ فإنّ ذلك بعيد جداً، فانّهم كانوا موحّدين و معترفين بقدرته سبحانه غير انّ علمهم و التجاءهم إلى حصونهم في مقابل النبي الذي تبيّن لهم صدق نبوته كان يحكي عن أنّهم مصدر هذا الظن و صاحبه.

و لذلك نظائر في المحاورات العرفية فإنّا نصف المتهالكين في الدنيا و الغارقين في زخارفها، و البانين للقصور المشيدة و الأبراج العاجية بأنّهم يعتقدون بخلود العيش و دوام الحياة، و انّ الموت كأنّه كتب على غيرهم، و لا شك أنّ هذه النسبة نسبة صادقة لكن بالمعنى الذي عرفت أي أنّ عملهم مبدأ انتزاع هذا الظن، و مصدر هذه النسبة.

و على ذلك فالآية تهدف إلى أنّ البلايا و الشدائد كانت تحدق بالأنبياء طيلة

______________________________

(1). الحشر: 2.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 76

حياتهم و تشتد عليهم الأزمة و المحنة من جانب المخالفين، فكانوا يعيشون بين أقوام كأنّهم أعداء ألداء، و كان المؤمنون بهم في قلّة، فصارت حياتهم المشحونة بالبلايا و النوازل، و البأساء و الضراء، مظنّة لأن يتخيّل كل من وقف عليها من نبي و غيره، انّ ما وعدوا به وعد غير صادق، و لكن لم يبرح الوضع على هذا المنوال حتى يفاجئهم نصره سبحانه، للمؤمنين، و إهلاكه و إبادته للمخالفين كما يقول: «فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَ لا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ». «1»

و يشعر بما ذكرناه قوله سبحانه: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ». «2»

فالمراد من الرسول هو غير النبي الأكرم من الرسل السابقين، فعند ما كانت البأساء و الضراء

تحدق بالمؤمنين و نفس الرسول، و كانت المحن تزلزل المؤمنين حتى أنّها كانت تحبس الأنفاس، فعند ذلك كانت تكاد تلك الأنفاس المحبوسة و الآلام المكنونة تتفجر في شكل ضراعة إلى اللَّه، فيقول الرسول و الذين آمنوا معه «مَتى نَصْرُ اللَّهِ»؟ فإنّ كلمة «مَتى نَصْرُ اللَّهِ» مقرونة بالضراعة و الالتماس، تقع مظنة تصور استيلاء اليأس و القنوط عليهم لا بمعنى وجودهما في أرواحهم و قلوبهم، بل بالمعنى الذي عرفت من كونه ظاهراً من أحوالهم لا من أقوالهم.

و ما برح الوضع على هذا إلى أن كان النصر ينزل عليهم و تنقشع عنهم سحب اليأس و القنوط المنتزع من تلك الحالة.

هذا ما وصلنا إليه في تفسير الآية، و لعلّ القارئ يجد تفسيراً أوقع في النفس مما ذكرناه.

______________________________

(1). يوسف: 110.

(2). البقرة: 214.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 77

الآية الثانية

اشارة

«وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ». «1»

«لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ». «2»

«وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ». «3»

و هذه الآية أو الآيات من أوثق الأدلة في نظر القائل بعدم عصمة الأنبياء، و قد استغلها المستشرقون في مجال التشكيك في الوحي النازل على النبي على وجه سيوافيك بيانه.

و كأنّ المستدل بهذه الآية يفسر إلقاء الشيطان في أُمنية الرسول أو النبي بالتدخل في الوحي النازل عليه فيغيره إلى غير ما نزل به.

ثمّ إنّه سبحانه يمحو ما يلقي الشيطان و

يصحّح ما أُنزل على رسوله من الآيات، فلو كان هذا مفاد الآية، فهو دليل على عدم عصمة الأنبياء في مجال التحفّظ على الوحي أو إبلاغه الذي اتفقت كلمة المتكلمين على المصونية في هذا المجال.

و ربما يؤيد هذا التفسير بما رواه الطبري و غيره في سبب نزول هذه الآية، و سيوافيك نصه و ما فيه من الإشكال.

______________________________

(1). الحج: 52.

(2). الحج: 53.

(3). الحج: 54.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 78

فالأولى تناول الآية بالبحث و التفسير حتى يتبيّن انّها تهدف إلى غير ما فسّره المستدل فنقول: يجب توضيح نقاط في الآيات.

الأُولى: ما معنى أُمنية الرسول أو النبي؟ و إلام يهدف قوله سبحانه: «إِذا تَمَنَّى»؟

الثانية: ما معنى مداخلة الشيطان في أُمنية النبي الذي يفيده قول اللَّه سبحانه: «أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ»؟

الثالثة: ما معنى نسخ اللَّه سبحانه ما يلقيه الشيطان؟

الرابعة: ما ذا يريد سبحانه من قوله: «ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ» و هل المراد منه الآيات القرآنية؟

الخامسة: كيف يكون ما يلقيه الشيطان فتنة لمرضى القلوب و قاسيتها؟ و كيف يكون سبباً لإيمان المؤمنين، و إخبات قلوبهم له؟

و بتفسير هذه النقاط الخمس يرتفع الإبهام الذي نسجته الأوهام حول الآية و مفادها فنقول:

1. ما معنى أُمنية الرسول أو النبي؟

أمّا الأُمنية قال ابن فارس: فهي من المنى، بمعنى تقدير شي ء و نفاذ القضاء به، منه قولهم: مني له الماني أي قدر المقدر قال الهذلي:

لا تأمنن و ان أمسيت في حرم حتى تلاقي ما يمني لك الماني

و المنا: القدر، و ماء الإنسان: منيّ، أي يُقدّر منه خلقته. و المنيّة: الموت، لأنّها مقدّرة على كل أحد، و تمنّى الإنسان: أمل يقدِّره، و منى مكة: قال قوم: سمِّي به لما قُدِّر أن يُذبح فيه، من قولك مناه اللَّه. «1»

______________________________

(1). المقاييس: 5/ 276.

عصمة

الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 79

و على ذلك فيجب علينا أن نقف على أُمنية الرسل و الأنبياء من طريق الكتاب العزيز، و لا يشك من سبر الذكر الحكيم انّه لم يكن للرسل و الأنبياء، أُمنية سوى نشر الهداية الإلهية بين أقوامهم و إرشادهم إلى طريق الخير و السعادة، و كانوا يدأبون في تنفيذ هذا المقصد السامي، و الهدف الرفيع و لا يألون في ذلك جهداً، و كانوا يخططون لهذا الأمر، و يفكّرون في الخطة بعد الخطة، و يمهدون له قدر مستطاعهم، و يدل على ذلك جمع من الآيات نكتفي بذكر بعضها:

يقول سبحانه في حق النبي الأكرم: «وَ ما أَكْثَرُ النَّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ». «1»

و يقول أيضاً: «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ». «2»

و يقول أيضاً: «إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ». «3»

و يقول سبحانه: «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ». «4»

و يقول سبحانه: «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ». «5»

هذا كلّه في حق النبي الأكرم صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-.

و يقول سبحانه حاكياً عن استقامة نوح في طريق دعوته: «وَ إِنِّي كُلَّما

______________________________

(1). يوسف: 103.

(2). فاطر: 8.

(3). النحل: 37.

(4). القصص: 56.

(5). الغاشية: 21- 22.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 80

دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً* ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً* ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً». «1»

و يقول سبحانه بعد عدة من الآيات: «قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلَّا خَساراً* وَ مَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً* وَ قالُوا

لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَ لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً وَ لا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً* وَ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا». «2»

فهذه الآيات و نظائرها تنبئ بوضوح عن أنّ أُمنية الأنبياء الوحيدة في حياتهم و سبيل دعوتهم هو هداية الناس إلى اللَّه، و توسيع رقعة الدعوة إلى أبعد حد ممكن، و ان منعتهم من تحقيق هذا الهدف عراقيل و موانع، فهم يسعون إلى ذلك بعزيمة راسخة و رجاء واثق.

إلى هنا تبيّن الجواب عن السؤال الأوّل، و هلم معي الآن لنقف على جواب السؤال الثاني، أعني:

2. ما معنى إلقاء الشيطان في أُمنية الرسل؟

و هذا السؤال هو النقطة الحاسمة في استدلال المخالف، و بالإجابة عليها يظهر وهن الاستدلال بوضوح فنقول: إنّ إلقاء الشيطان في أُمنيتهم يتحقّق بإحدى صورتين:

1. أن يوسوس في قلوب الأنبياء و يوهن عزائمهم الراسخة، و يقنعهم بعدم جدوى دعوتهم و إرشادهم، و انّ هذه الأُمّة أُمّة غير قابلة للهداية، فتظهر بسبب

______________________________

(1). نوح: 7- 9.

(2). نوح: 21- 24.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 81

ذلك سحائب اليأس في قلوبهم و يكفّوا عن دعوة الناس و ينصرفوا عن هدايتهم.

و لا شك أنّ هذا المعنى لا يناسب ساحة الأنبياء بنص القرآن الكريم، لأنّه يستلزم أن يكون للشيطان سلطان على قلوب الأنبياء و ضمائرهم، حتى يوهن عزائمهم في طريق الدعوة و الإرشاد، و القرآن الكريم ينفي تسلل الشيطان إلى ضمائر المخلصين الذين هم الأنبياء و من دونهم، و يقول سبحانه: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ». «1»*

و يقول أيضاً ناقلًا عن نفس الشيطان: «فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ». «2»

و ليس إيجاد الوهن في عزائم الأنبياء من جانب الشيطان إلّا إغواءهم المنفي بنص الآيات.

2. أن يكون المراد

من إلقاء الشيطان في أُمنية النبي هو إغراء الناس و دعوتهم إلى مخالفة الأنبياء- عليهم السَّلام- و الصمود في وجوههم حتى تصبح جهودهم و مخططاتهم عقيمة غير مفيدة.

و هذا المعنى هو الظاهر من القرآن الكريم حيث يحكي في غير مورد أنّ الشيطان كان يحض أقوام الأنبياء- عليهم السَّلام- على المخالفة و يعدهم بالأماني، حتى يخالفوهم.

قال سبحانه: «يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً». «3»

______________________________

(1). الحجر: 42، الإسراء: 65.

(2). ص: 82- 83.

(3). النساء: 120.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 82

و قال سبحانه: «وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ». «1»

و هذه الآيات و نظائرها تشهد بوضوح على أنّ الشيطان و جنوده كانوا يسعون بشدة و حماس في حضّ الناس على مخالفة الأنبياء و الرسل، و كانوا يخدعونهم بالعدة و الأماني، و عند ذلك يتضح مفاد الآية، قال سبحانه: «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى (أي إذا فكر في هدآية أمته و خطط لذلك الخطط، و هيأ لذلك المقدمات) أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» (بحض الناس على المخالفة و المعاكسة و إفشال خطط الأنبياء حتى تصبح المقدمات عقيمة غير منتجة).

3. ما معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان؟

إذا عرفت هذا المقطع من الآية يجب أن نقف على مفاد المقطع الآخر منها و هو قوله سبحانه: «فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ» و ما معنى هذا النسخ؟

و المراد من ذاك النسخ ما وعد اللَّه سبحانه رسله بالنصر، و العون و الإنجاح، قال سبحانه: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» «2»، و

قال سبحانه: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» «3»، و قال سبحانه: «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ». «4»

______________________________

(1). إبراهيم: 22.

(2). غافر: 51.

(3). المجادلة: 21.

(4). الأنبياء: 18.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 83

و قال سبحانه: «وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ* وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ». «1»

و قال في حق النبي الأعظم صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ». «2»

و قال سبحانه: «وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ». «3»

إلى غير ذلك من الآيات الساطعة التي تحكي عن انتصار الحق الممثل في الرسالات الإلهية في صراعها مع الباطل و أتباعه.

4. ما معنى إحكامه سبحانه آياته؟

إذا تبين معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان، يتبين المراد من قوله سبحانه: «ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ».

فالمراد من الآيات هي الدلائل الناصعة الهادية إلى اللَّه سبحانه و إلى مرضاته و شرائعه.

و إن شئت قلت: إذا نسخ ما يلقيه الشيطان، يخلفه ما يلقيه سبحانه إلى أنبيائه من الآيات الهادية إلى رضاه أوّلًا، و سعادة الناس ثانياً.

و من أسخف القول: إنّ المراد من الآيات، الآيات القرآنية التي نزلت على النبي الأكرم، و ذلك لأنّ موضوع البحث فيها ليس خصوص النبي الأكرم، بل الرسل و الأنبياء على وجه الإطلاق، أضف إليه انّه ليس كل نبي ذا كتاب و آيات،

______________________________

(1). الصافات: 171- 173.

(2). التوبة: 33.

(3). الأنبياء: 105.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 84

فكيف يمكن أن يكون ذا قرآن مثله؟

و يعود مفاد الجملة إلى أنّ اللَّه سبحانه يحكم دينه و شرائعه و ما أنزله اللَّه إلى أنبيائه و

سفرائه من الكتاب و الحكمة.

و الحاصل: انّ في مجال الصراع بين أنصار الحق و جنود الباطل يكون الانتصار و الظفر للأوّل، و الاندحار و الهزيمة للثاني فتضمحل الخطط الشيطانية و تنهزم أذنابه، بإرادة اللَّه سبحانه، فتخلفها البرامج الحيوية الإلهية و آياته الناصعة، فيصبح الحق قائماً و ثابتاً، و الباطل داثراً و زاهقاً، قال سبحانه: «وَ قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً». «1»

5. ما هي النتيجة من هذا الصراع؟

قد عرفت أنّ الآية تعلل الهدف من هذا الصراع بأنّ ما يلقيه الشيطان يكون فتنة لطوائف ثلاث:

1. الذين في قلوبهم مرض.

2. ذات القلوب القاسية.

3. الذين أوتوا العلم.

إنّ نتيجة هذا الصراع تعود إلى اختبار الناس و امتحانهم حتى يظهروا ما في مكامن نفوسهم و ضمائر قلوبهم من الكفر و النفاق أو من الإخلاص و الإيمان.

فالنفوس المريضة التي لم تنلها التزكية و التربية الإلهية، و القلوب القاسية التي أسرتها الشهوات، و أعمتها زبارج الحياة الدنيا، تتسابق إلى دعوة الشيطان

______________________________

(1). الإسراء: 81.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 85

و تتبعه فيظهر ما في مكامنها من الكفر و القسوة، فيثبت نفاقها و يظهر كفرها.

و أمّا النفوس المؤمنة الواقفة على أنّ ما جاء به الرسل حق من جانب اللَّه سبحانه، فلا يزيدها ذلك إلّا إيماناً و ثباتاً و هداية و صمودا.

و هذه النتيجة حاكمة في عامة اختبارات اللَّه سبحانه لعباده، فإنّ اختباراته سبحانه ليس لأجل العلم بواقع النفوس و مكامنها، فإنّه يعلم بها قبل اختبارها «أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» «1»، و انّما الهدف من الاختبار هو إخراج تلك القوى و القابليات الكامنة في النفوس و القلوب، إلى عالم التحقّق و الفعلية و بالتالي تمكين الاستعدادات من الظهور و الوجود.

و

في ذلك يقول الإمام أمير المؤمنين علي عليه السَّلام- في معنى الاختبار بالأموال و الأولاد الوارد في قوله: «وَ اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ» «2»: «ليتبيّن الساخط لرزقه، و الراضي بقسمه، و ان كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، و لكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب و العقاب». «3»

و قد وقفت بعد ما حررت هذا على كلام لفقيد العلم و التفسير الشيخ محمد جواد البلاغي- قدس اللَّه سره- و هو قريب مما ذكرناه: قال: المراد من الأُمنية هو الشي ء المتمنّى كما هو الاستعمال الشائع في الشعر و النثر، كما أنّ الظاهر من التمنّي المنسوب إلى الرسول و النبي و يشهد به سوق الآيات، هو أن يكون ما يناسب وظيفتهما، و هو تمنّي ظهور الهدى في الناس و انطماس الغواية و الهوى، و تأييد شريعة الحق، و نحو ذلك، فيلقي الشيطان بغوايته بين الناس في هذا المتمنّى

______________________________

(1). الملك: 14.

(2). الأنفال: 28.

(3). نهج البلاغة: قسم الحكم الرقم: 93.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 86

الصالح ما يشوشه، و يكون فتنة للذين في قلوبهم مرض، كما ألقى بين أُمّة موسى من الضلال و الغواية ما ألقى، و ألقى بين أتباع المسيح ما أوجب ارتداد كثير منهم، و شك خواصهم فيه و اضطرابهم في التعاليم، و أحكام الشريعة بعده، و ألقى بين قوم رسول اللَّه ما أهاجهم على تكذيبه و حربه و بين أُمّته ما أوجب الخلاف و ظهور البدع فينسخ اللَّه بنور الهدى غياهب الضلال و غواية الشيطان، فيسفر للعقول السليمة صبح الحق، ثمّ يحكم اللَّه آياته و يؤيد حججه بإرسال الرسل، أو تسديد جامعة الدين القيم. «1»

و ما ذكره- قدّس اللَّه سرّه- كلام لا غبار

عليه، و قد شيدنا أساسه فيما سبق.

إلى هنا تبيّن مفاد جميع مقاطع الآية بوضوح و بقي الكلام في التفسير السخيف الذي تمسك به بعض القساوسة الطاعنين في الإسلام، و من حذا حذوهم من البسطاء.

التفسير الباطل للآية

ثمّ إنّ بعض القساوسة الذين أرادوا الطعن في الإسلام و التنقيص من شأن القرآن، تمسّكوا بهذه الآية و قالوا: بأنّ المراد من الآية هو انّ «ما من رسول و لا نبي إلّا إذا تمنّى و تلا الآيات النازلة عليه تدخل الشيطان في قراءته فأدخل فيها ما ليس منها» و استشهدوا لذلك التفسير بما رواه الطبري عن محمد بن كعب القرضي، و محمد بن قيس قالا: جلس رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- في ناد من أندية قريش كثير أهله فتمنّى يومئذ أن لا يأتيه من اللَّه شي ء فينفروا عنه، فأنزل اللَّه عليه «وَ النَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى «2» فقرأها- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- حتى إذا بلغ: «أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَ الْعُزَّى* وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى «3» ألقى عليه الشيطان كلمتين: «تلك

______________________________

(1). الهدى إلى دين المصطفى: 1/ 134.

(2). النجم: 1- 2.

(3). النجم: 19- 20.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 87

الغرانقة العلى، و إن شفاعتهن لترتجى» فتكلم بها ثمّ مضى فقرأ السورة كلّها، فسجد في آخر السورة و سجد القوم جميعاً معه، و رفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه و كان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود، فرضوا بما تكلم به و قالوا قد عرفنا:

إنّ اللَّه يحيي و يميت و هو الذي يخلق و يرزق، و لكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده إذ جعلت لها نصيباً فنحن معك،

قالا: فلمّا أمسى أتاه جبرائيل عليه السَّلام- فعرض عليه السورة، فلمّا بلغ الكلمتين اللّتين ألقى الشيطان عليه، قال ما جئتك بهاتين، فقال رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-: افتريت على اللَّه و قلت على اللَّه ما لم يقل فأوحى اللَّه إليه: «وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ» إلى قوله: «ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً» «1»، فما زال مغموماً مهموماً حتى نزلت عليه: «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» قال فسمع من كان من المهاجرين بأرض الحبشة انّ أهل مكة قد أسلموا كلهم فرجعوا إلى عشائرهم و قالوا: هم أحب إلينا فوجدوا قد ارتكسوا حين نسخ اللَّه ما ألقى الشيطان. «2»

و لا يخفى ما في هذا التفسير و شأن النزول من الإشكالات التي تسقطه عن صحة الاستناد إليه.

أمّا أوّلًا: فلأنّه مبني على أنّ قوله «تمنّى» بمعنى تلا، و انّ لفظة «أُمنيته» بمعنى تلاوته، و هذا الاستعمال ليس مأنوساً في لغة القرآن و الحديث و لو صح فإنّما هو استعمال شاذ يجب تنزيه القرآن عنه.

______________________________

(1). الإسراء: 73، 75.

(2). تفسير الطبري: 17/ 131، و نقله السيوطي في الدر المنثور في تفسير الآية.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 88

نعم استدل بعضهم بقول حسان على ذاك الاستعمال:

تمنى كتاب اللَّه أوّل ليلةو آخره لاقى حمام المقادر

و قول الآخر:

تمنى كتاب اللَّه آخر ليلةتمنّي داود الزبور على رسل

و هذان البيتان لو صح اسنادهما إلى عربي صميم كحسان لا يحسن حمل القرآن على لغة شاذة.

أضف إلى ذلك انّ البيت

غير موجود في ديوان حسان، و انّما نقله عنه المفسرون في تفاسيرهم، و قد نقله أبو حيان في تفسيره (ج 6 ص 382) و استشهد به صاحب المقاييس (ج 5 ص 277).

و لو صح الاستدلال به فرضاً فإنّما يتم في اللفظ الأوّل دون الأُمنية لعدم ورودها فيه.

و ثانياً: أنّ الرواية لا يمكن أن يحتج بها لجهات كثيرة أقلّها أنّها لا تتجاوز في طرقها عن التابعين و من هو دونهم إلّا إلى ابن عباس مع أنّه لم يكن مولوداً في الوقت المجعول للقصة.

أضف إلى ذلك، الاضطراب الموجود في متنها فقد نقل بصور مختلفة يبلغ عدد الاختلاف إلى أربع و عشرين صورة و قد جمع تلك الصور المختلفة العلّامة البلاغي في أثره النفيس، فلاحظ. «1»

و ثالثاً: أنّ القصة تكذّب نفسها، لأنّها تتضمن أنّ النبي بعد ما أدخل الجملتين الزائدتين في ثنايا الآيات، استرسل في تلاوة بقية السورة إلى آخرها

______________________________

(1). الهدى إلى دين المصطفى: 1/ 130.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 89

و سجد النبي و المشركون الحاضرون معه، فرحاً بما جاء في تينك الجملتين من الثناء على آلهتهم.

و لكن الآيات التي وقعت بعدهما، و استرسل النبي في تلاوتها عبارة عن قوله سبحانه: «تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ» «1» إلى آخر الآيات.

و عندئذ يطرح هذا السؤال، و هو انّه كيف رضي متكلّم العرب و منطيقهم و حكيمهم و شاعرهم: الوليد بن المغيرة عن النبي صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- بهذا الثناء القصير، و غفل عن الآيات اللاحقة التي تندد بآلهتهم بشدة و عنف، و يعدّها معبودات خرافية لا تملك من الألوهية إلّا الاسم و

العنوان؟!

أو ليس ذلك دليلًا على أنّ جاعل القصة من الوضّاعين الكذّابين الذي افتعل القصة في موضع غفل عن أنّه ليس محلًا لها، و قد قيل: لا ذاكرة لكذوب.

و رابعاً: أنّ اللَّه سبحانه يصف في صدر السورة نبيه الأكرم بقوله: «وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «2»، و عندئذ كيف يصح له سبحانه أن يصف نبيه في أوّل السورة بهذا الوصف، ثمّ يبدر من نبيه ما ينافي هذا التوصيف أشد المنافاة و في وسعه سبحانه صون نبيه عن الانزلاق إلى مثل هذا المنزلق الخطير؟!

و خامساً: أنّ الجملتين الزائدتين اللّتين أُلصقتا بالآيات، تكذبهما سائر الآيات الدالة على صيانة النبي الأكرم في مقام تلقّي الوحي و التحفظ عليه و إبلاغه كما مرّ في تفسير قوله سبحانه: «فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً». «3»

______________________________

(1). النجم: 22- 23.

(2). النجم: 3- 4.

(3). الجن: 27.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 90

و قوله تعالى: «وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ». «1»

و سادساً: أنّ علماء الإسلام، و أهل العلم و الدراية من المسلمين قد واجهوا هذه الحكاية بالرد، فوصفها المرتضى بالخرافة التي وضعوها. «2»

و قال النسفي: إنّ القول بها غير مرضيّ. و قال الخازن في تفسيره: إنّ العلماء وهّنوا أصل القصة و لم يروها أحد من أهل الصحة، و لا أسندها ثقة بسند صحيح، أو سليم متصل، و إنّما رواها المفسرون و المؤرخون المولعون بكل غريب، الملفقون من الصحف كل صحيح و سقيم، و الذي يدل على ضعف هذه القصة اضطراب رواتها، و انقطاع سندها و اختلاف ألفاظها. «3»

هذه هي أهم الإشكالات التي ترد على القصة و تجعلها في موضع

من البطلان قد ذكرها المحقّقون في الرد على هذه القصة و قد ذكرنا قسماً منها في كتابنا «فروغ أبديت» «4»، و لا نطيل المقام بذكرها.

______________________________

(1). الحاقة: 44- 46.

(2). تنزيه الأنبياء: 109.

(3). الهدى إلى دين المصطفى: 1/ 130.

(4). كتاب أُلّف في بيان سيرة النبي الأكرم من ولادته إلى وفاته صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- و قد طبع في جزءين.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 91

الطائفة الثانية ما يمس عصمة عدة خاصة من الأنبياء

اشارة

فهذه الطائفة عبارة عن الآيات التي تمس بظاهرها عصمة بعض الأنبياء بصورة جزئية و ها نحن نذكرها واحدة بعد أُخرى.

1 عصمة آدم- عليه السَّلام- و الشجرة المنهي عنها و جعل الشريك للَّه

اشارة

و قد طرحنا في هذه الطائفة أبرز الآيات التي وقعت ذريعة بأيدي المخطِّئة في مجال نفي العصمة عن عدة معينة من الأنبياء، و راعينا الترتيب التاريخي لهم، فنقدم البحث عن عصمة آدم- عليه السَّلام- على البحث عن عصمة نوح- عليه السَّلام- و هكذا.

إنّ حديث الشجرة المنهي عنها هو أقوى ما تمسّك به المخالفون للعصمة المجوّزون صدور المعصية من الرسل و الأنبياء، و يعدّ ذلك في منطقهم «كبيت القصيد» في ذلك المجال، و لأجل ذلك ينبغي التوسّع في البحث و استقصاء ما يمكن أن يقع ذريعة في يد المخالف فنقول:

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 92

إنّ حديث الشجرة ورد على وجه التفصيل في سور ثلاث، نذكر منها ما يتعلّق بمورد البحث قال سبحانه: «وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ* فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَ قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ* فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» «1».

و يقول سبحانه: «وَ يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ* فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَ قالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ* وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ* فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ

عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَ ناداهُما رَبُّهُما أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَ أَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ* قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ* قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ» «2».

فأنت ترى أنّه سبحانه يتوسّع في بيان القصة في هذه السورة، بينما هو يختصر في بيانها في السورة السابقة، و وجه ذلك أنّ سورة الأعراف مكيّة و سورة البقرة مدنية، و لما توسّع في البيان في السورة المتقدّمة أوجز في السورة اللاحقة و لم يفصّل.

__________________________________________________

(1). البقرة: 35- 37.

(2). الأعراف: 19- 24.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 93

و يقول سبحانه: «وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً* وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى «1».

هذه السور الثلاث قد احتوت على مهمات هذه القصة، فينبغي علينا توضيح ما ورد فيها من الجمل و الكلمات التي تعتبر مثاراً للتساؤلات الآتية:

* التساؤلات حول الآيات
اشارة

إنّ التساؤلات المطروحة حول الآيات عبارة عن:

1. ما هي

نوعية النهي في قوله تعالى: «لا تَقْرَبا»*؟

2. ما هو المراد من وسوسة الشيطان لآدم و زوجته؟

3. ما ذا يراد من قوله: «فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ»؟

4. ما ذا يراد من قوله: «وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى و هل العصيان و الغواية يلازمان المعصية المصطلحة؟

5. ما معنى اعتراف آدم بظلمه لنفسه في قوله: «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا»؟

__________________________________________________

(1). طه: 115- 123.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 94

6. ما ذا يراد من قوله سبحانه: «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ» فهل التوبة دليل العصيان؟

7. ما معنى قوله: «وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا»؟

فلنبدأ بالإجابة على هذه الأسئلة واحداً بعد واحد، و عند ختام البحث يقف القارئ على أنّ آدم أبا البشر كان نزيهاً عما أُلصق به من المخالفة للتكليف الإلهي الإلزامي المولوي الموجب للعقوبة.

* 1. ما هي نوعية النهي في قوله تعالى:
اشارة

«لا تَقْرَبا»*

إنّ النهي ينقسم إلى قسمين: مولوي و إرشادي، و الفرق بين القسمين بعد اشتراكهما غالباً في أنّ كلًا منهما صادر عن آمر عال إلى من هو دونه، هو أنّه الآمر قد ينطلق في أمره و نهيه من موقع المولوية و السلطة، متخذاً لنفسه موقف الآمر، الواجبة إطاعته، فيأمر بما يجب أن يطاع، كما أنّه ينهى عمّا يجب أن يُجتنب، فعند ذلك يترتب الثواب على الطاعة، و العقاب على المخالفة، و هذا هو شأن أكثر الأوامر و النواهي الواردة في الكتاب و السنّة.

و قد ينطلق في ذلك من موقع النصح و الإرشاد، و العظة و الهداية، من دون أن يتخذ لنفسه موقف الآمر، الواجبة طاعته، بل يتخذ لنفسه موقف الناصح المشفق، القاصد لإسعاد المخاطب و إنجائه من الشقاء، و عند ذلك يترك انتخاب أحد الجانبين للمخاطب ذاكراً له ما يترتب على نفس العمل

من آثار خاصّة من دون أن تترتب على ذات المخالفة أيّة تبعة.

و إن شئت قلت: إنَّ نفس العمل و الفعل ذو آثار طبيعية و مضاعفات تترتب عليه في كل حين و زمان، من دون فرق بين فاعل و آخر، فيذكر المولى العالم

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 95

بعواقب الأعمال و آثار الأفعال، بما يترتب على ذات العمل من سعادة و شقاء، فيجعل المخاطب في موقف العالم بآثار الشي ء و يترك اختيار أحد الطرفين إليه، حتى يكون هو المختار في العمل، فإن اتبع نصحه و إرشاده فقد نجا عما يترتب على العمل من الهلاك و الخسران، و إن خالفه تصيبه المضاعفات التي تكمن في ذات العمل.

* و لتوضيح ذلك نأتي بمثال

إنّ الطبيب إذا وصف دواء لمريض و أمره بتناول ذلك الدواء و الاجتناب عن أُمور أُخرى، فلو قام المريض بالطاعة و الامتثال، تترتب عليه الصحة و العافية، و إن خالف أمر الطبيب لم يترتب على تلك المخالفة سوى المضاعفات المترتبة على نفس العمل، و ذلك لأنّ الطبيب لم يكتب له تلك الوصفة إلّا بما أنّه طبيب ناصح و معالج مشفق.

و مثل ذلك ما إذا قال سبحانه: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ»* بعد ما أمر الناس بواجبات و نهى عن أُمور، فلو خالف المكلّف و ترك الواجب كالصلاة و الصوم و ارتكب المنهيات كالكذب و الغيبة، فقد خالف عندئذ أمرين:

1. الأمر بالصلاة و الصوم.

2. الأمر بإطاعة اللَّه و رسوله.

فلا يترتب على تينك المخالفتين سوى عقاب واحد لا عقابان، و ذلك لأنّ الأمر الثاني لم يكن أمراً مولوياً، بل كان أمراً إرشادياً لا يترتب على مخالفته سوى ما يترتب على مخالفة الأمر الأوّل، و ذلك لأنّ المفروض أنّ الآمر لم

يتخذ لنفسه عند الأمر بإطاعة اللَّه و رسوله، موقف الآمر الواجب الطاعة، بل أمر بلباس النصح

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 96

و الإرشاد.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ مخالفة النهي عن الشجرة إنّما تعدّ معصية بالمعنى المصطلح إذا كان النهي مولوياً صادراً عنه سبحانه على وجه المولوية، لا أمراً إرشادياً وارداً بصورة النصح، و القرائن الموجودة في الآيات تشهد بأنّه إرشادي، لا يترتب على مخالفته سوى ما يترتب على ذات العمل من الآثار الوضعية و الطبيعية، لا مولوي حتى يترتب عليه وراء تلك الآثار، عقاب المخالفة و مؤاخذة التمرّد، و إليك هذه القرائن:

1. لو كان النهي عن الشجرة نهياً مولوياً يجب أن يرتفع أثره بعد التوبة و الإنابة، مع أنّا نرى أنّ الأثر المترتب على المخالفة بقي على حاله رغم توبة آدم و إنابته إلى اللَّه سبحانه، و هذا دليل على أنّ الخروج عن الجنّة و التعرّض للشقاء و التعب، كان أثراً طبيعياً لنفس العمل، و كان النهي لغاية صيانة آدم- عليه السَّلام- عن هذه الآثار و العواقب، كما إذا نهى الطبيبُ المصابَ بمرض السكر عن تناول المواد السكرية.

2. انّ الآيات الواردة في سورة «طه» تكشف النقاب عن نوعية هذا النهي، و تصرح بأنّ النهي كان نهياً إرشادياً لصيانة آدم- عليه السَّلام- عمّا يترتب عليه من الآثار المكروهة و العواقب غير المحمودة، قال سبحانه: «فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 97

تَضْحى «1» فإنّ قوله سبحانه: «فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى صريح في أنّ أثر امتثال

النهي هو البقاء في الجنّة، و نيل السعادة التي تتمثل في قوله: «إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى و انّ أثر المخالفة هو الخروج من الجنّة و التعرض للشقاء الذي يتمثل في الحياة التي فيها الجوع و العرى، و الظمأ و حرّ الشمس، كل ذلك يدلّ على أنّه سبحانه لم يتخذ لدى النهي موقف الناهي، الواجبة طاعته، بل كان ينهى بصورة الإرشاد و النصح و الهداية، و انّه لو خالفه لترتب عليه الشقاء في الحياة و التعب فيها.

3. انّه سبحانه- بعد ما أكل آدم و زوجته من الشجرة و بدت لهما سوءاتهما و طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنّة- ناداهما: «أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَ أَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ» «2».

فإنّ هذا اللسان، لسان الناصح المشفق الذي أرشد مخاطبه لمصالحه و مفاسده في الحياة، و لكنه خالفه و لم يسمع قوله، فعندئذ يعود و يخاطبه بقوله: أ لم أقل لك ... أ لم أنهك عن هذا الأمر؟

4. انّه سبحانه يبيّن أنّ وسوسة الشيطان لهما لم يكن إلّا لإبداء ما وُوري عنهما من سوءاتهما حيث يقول: «فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما» «3».

و هذا يكشف عن أنّ ما يترتب على الوسوسة و مخالفة آدم- عليه السَّلام- بعدها لم يكن إلّا إبداء ما وُوري عنهما من السوأة، الذي هو أثر طبيعي للعمل من دون أن يكون له أثر آخر من ابتعاده عن لطفه سبحانه، و حرمانه عن قربه، الذي هو أثر المخالفة للخطابات المولوية.

5. انّه سبحانه يحكي أنّ وسوسة الشيطان لهما كانت بصورة النصح

__________________________________________________

(1). طه: 117- 119.

(2). الأعراف: 22.

(3). الأعراف: 20.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 98

و الإرشاد حيث قال: «وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ» «1». و هذا يكشف عن أنّ خطابه سبحانه إليهما كان بصورة النصح أيضاً، و هذا واضح لمن له أدنى إلمام بأساليب الكلام.

فهذه القرائن و غيرها الموجودة في الآيات الواردة حول قصة آدم- عليه السَّلام- تدل بوضوح على أنّ النهي في هذا المقام كان نهياً إرشادياً لا مولوياً، و كان الهدف تبقية آدم- عليه السَّلام- بعيداً عن عوامل الشقاء و التعب، و لكنّه لم يسمع قول ناصحه فعرّض نفسه للشقاء، و صار مستحقاً لأن يخاطب بقوله سبحانه: «قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ» «2»، و قوله سبحانه: «قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» «3».

أضف إلى ذلك أنّ الظرف الذي تلقّى فيه آدم هذا النهي، (النهي عن الأكل من الشجرة) لم يكن ظرف تكليف حتى تعد مخالفته عصياناً لمقتضاه، فإنّ ظرف التكليف هو المحيط الذي هبط إليه مع زوجته بعد رفض النصح، أمّا ذلك المحيط فكان معداً لتبصير الإنسان بأعدائه و أصدقائه، و دورة تعليمية لمشاهدة نتائج الطاعة و آثار المخالفة، أيّ ما يترتب على قبول قوله سبحانه من السعادة، و ما يترتب على قبول قول إبليس من الشقاء، و في مثل ذلك المحيط لا يعد النهي و لا الأمر تكليفاً، بل يُعد وسيلة للتبصير و تحصيل الاستعداد لتحمّل التكاليف في المستقبل، و كانت تلك الدورة من الحياة دورة إعدادية لأبي البشر و أُمّهم، حتى يلمس الحقائق لمس اليد.

__________________________________________________

(1). الأعراف: 21.

(2). الأعراف: 24.

(3). طه: 123.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 99

إلى هنا

تمت الإجابة على السؤال الأوّل، غير أنّ هناك جواباً آخر ذكره أكثر المفسرين، و نحن نأتي به بشكل موجز:

* جواب آخر عن الإشكال

إنّ أكثر المفسرين من العدلية اختاروا أنّ مخالفة آدم لم تكن إلّا مخالفة لنهي مولوي غير إلزامي، و هو ما يعبّر عنه بترك الأولى و ترك الأفضل، و أمّا إطلاق العصيان و غيره من الكلمات الموهمة في المقام.

فحاصل كلامهم في ذلك: أنّ الذنب على قسمين: ذنب مطلق، و هو مخالفة الإرادة القطعية الإلزامية للمولى الحكيم من غير فرق بين إنسان و إنسان، فمن خالفه يكون عاصياً سواء فيه العاكف و الباد.

و ذنب نسبي، و هو ما يعد ذنباً و أمراً غير صحيح بالنسبة إلى شخص دون شخص، و هو ما يكون العمل بالذات مباحاً و جائزاً غير قبيح في حد نفسه، غير أنّ العرف و المجتمع يستقبح صدوره من شخص خاص، و يعده أمراً غير صحيح، و مثاله ما يلي:

إنّ المساعدة المالية القليلة ممن يمتلك الآلاف المؤلّفة و إن كانت جائزة، لكنّها تثير اعتراض الناس على فاعلها مع أنّه لم يرتكب عملًا قبيحاً بالذات.

كما أنّ إقامة الصلاة مع عدم تفرّغ البال مبرئة للذمة و مسقطة للتكليف، إلّا أنّه إذا أتى بها النبي بهذه الصورة يُعد أمراً غير لائق بمقامه و غير مترقب منه، فوزان الأكل من الشجرة الممنوعة وزان صدور بعض الأعمال المباحة بالذات من الشخصيات الكبيرة المحترمة.

و نزيد توضيحاً في ذلك: إذا وقفنا على أنّه سبحانه أعزّ آدم بتعليمه الأسماء،

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 100

و جعله معلماً للملائكة و مسجوداً لهم، و في هذه الحالة طلب منه أن يترك الأكل من الشجرة المعينة، كان المترقب من مثله أن يتورّع عن أيّة مخالفة مهما

صغرت، و مهما كان الأمر و النهي غير إلزاميين، و لأجل ذلك يعد هذا العمل- مع ملاحظة ما حفّه من الشرائط- عصياناً محتاجاً إلى التوبة.

* جواب ثالث عن الإشكال

و هاهنا جواب ثالث: و هو أنّ محور البحث عند المتكلّمين في عصمة الأنبياء عبارة عن مخالفة الإنسان المكلّف، للتكليف الإلهي بعد تشريع الشرائع، و إنزال الكتب، و لو كان هذا هو المعيار لما صدق في قصة آدم، لأنّ البيئة التي كان أبو البشر يعيش فيها قبل الهبوط، لم تكن دار التشريع و التكليف، و لم تكن هناك أيّة شريعة، و المخالفة في هذا المحيط لا تعد نقضاً للعصمة، فلاحظ، فقد تقدم بعض ذلك الكلام في ذيل الجواب الأوّل.

إلى هنا تبيّن أنّ مخالفة آدم لنهيه سبحانه لا تضاد عصمته، و قد عرفت الأجوبة الثلاثة، فحان حين البحث عن بعض المفاهيم الواردة في الآيات التي تقدّمت عليك و ربّما يُعد بعضها دليلًا على أنّ المخالفة من آدم كانت ذنباً شرعياً، و لأجل ذلك يجب علينا توضيح هذه المفاهيم الواردة في القصة.

* 2. ما معنى وسوسة الشيطان لآدم؟

و حقيقة هذا السؤال ترجع إلى أنّ ظاهر الآيات الماضية هو تأثير الشيطان في نفس آدم بالوسوسة قال سبحانه: «فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ» «1»، و قال

__________________________________________________

(1). الأعراف: 20.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 101

سبحانه: «فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ» «1»، و عندئذ يتساءل: انّ تطرق الوسوسة إلى آدم من جانب الشيطان، كيف تجتمع مع ما حكاه سبحانه من عدم تسلّط الشيطان على عباد اللَّه المخلصين إذ قال: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ» «2»، و قال سبحانه حاكياً قول إبليس: «قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» «3»؟

و الجواب عن ذلك: انّ المراد من «الْمُخْلَصِينَ» هم الذين اجتباهم اللَّه سبحانه من بين خلقه، قال تعالى مشيراً إلى ثلة من الأنبياء: «أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ

آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَ إِسْرائِيلَ وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا» «4»، و قال سبحانه مشيراً إلى طائفة من الأنبياء: «وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» «5».

فإذا كان المخلصون هم الذين اجتباهم اللَّه سبحانه بنوع من الاجتباء، لم يكن آدم- عليه السَّلام- يوم خالف النهي من المجتبين، و انّما اجتباه سبحانه بعد ذلك قال سبحانه: «وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى «6» و على ذلك فوسوسة الشيطان لآدم لا تنافي ما ذكره سبحانه في حق المجتبين، و انّ الشيطان ليس له نصيب في حق تلك الصفوة و ليس له طريق إليهم.

__________________________________________________

(1). طه: 120.

(2). الحجر: 42.

(3). ص: 82- 83.

(4). مريم: 58.

(5). الأنعام: 87.

(6). طه: 121- 122.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 102

أضف إلى ذلك: أنّ وسوسة الشيطان في صدور الناس إنّما هي بصورة النفوذ في قلوبهم و السلطان عليهم بنحو يؤثر فيهم، و إن كان لا يسلب عنهم الاختيار و الحرية، و يؤيد كون الوسوسة بصورة النفوذ، الإتيان بلفظة «في» في قوله سبحانه: «يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ»، و أمّا «1» وسوسة الشيطان بالنسبة إلى أبي البشر فلم تكن بصورة النفوذ و التسلّط بشهادة تعديته بلفظة «لهما» أو «إليه». «2» و هذا التفاوت في التعبير يفيد الفرق بين الوسوستين، و أنَّ إحداهما على نحو الدخول و الولوج في الصدور، و الأُخرى بنحو القرب و المشارفة.

* 3. ما ذا يراد من قوله: «فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ»

و أمّا قوله سبحانه: «فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها» «3» و قوله: «فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما» «4»، فلا يدلّان على كون العمل الصادر

منهما عصياناً بالمعنى المصطلح، و أمّا التعبير الوارد في الآية فهو لأجل أنّ عمل آدم لم يكن مقروناً بالمصلحة، بل كان مقروناً بالشقاء و البعد عن الحياة السعيدة، فكل من افتقد هذه البركات و المصالح يصدق عليه أنّه «زلَّ» أو «انّ الشيطان أنزلهما عن مكانتهما بغرور».

و بالجملة: انّ هذه التعابير تجتمع مع كون النهي إرشادياً غير مولوي، أو نهياً مولوياً تنزيهياً كما هو المقرر في الجوابين الأوّلين.

* 4. ما معنى قوله: «وَ عَصى و «فَغَوى

ربّما يتمسك المخالف بهذين اللفظين، حيث قال سبحانه: «وَ عَصى آدَمُ

__________________________________________________

(1). الناس: 5.

(2). الأعراف: 20؛ طه: 120.

(3). البقرة: 36.

(4). الأعراف: 22.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 103

رَبَّهُ فَغَوى لكن لا دلالة لهما على ما يرتئيه المستدل.

أمّا لفظة «عَصى فهي و إن كانت مستعملة في مصطلح المتشرعة في الذنب و المخالفة للإرادة القطعية الملزمة، و لكنه اصطلاح مختص بالمتشرعة و لم يجر القرآن على ذلك المصطلح، بل و لا اللغة، فإنّ الظاهر من القرآن و معاجم اللغة أنّ العصيان هو خلاف الطاعة، قال ابن منظور: العصيان خلاف الطاعة، عصى العبد ربّه: إذا خالف ربّه، و عصى فلان أميره، يعصيه، عصياً و عصياناً و معصية: إذا لم يطعه. و على ذلك فيجب علينا أن نلاحظ الأمر الذي خولف في هذا الموقف، فإن كان الأمر مولوياً إلزامياً كان العصيان ذنباً، و إذا كان أمراً إرشادياً أو نهياً تنزيهياً لم تكن المخالفة ذنباً في المصطلح، و لأجل ذلك لا يصلح التمسّك بهذا اللفظ و إثبات الذنب على آدم- عليه السَّلام-.

و أمّا اللفظة الثانية: أعني «فَغَوى فالجواب عنها: انّ الغي يستعمل بمعنى الخيبة، قال الشاعر:

فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره و من يغو لا يعدم على

الغي لائماً أي و من حرم من الخير و لم يلقه، لا يحمده الناس و يلومونه.

و في حديث موسى و آدم: «أغويت الناس» أي خيّبتهم، كما أنّه يستعمل في معنى الفساد، و به فسر قوله سبحانه: «وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى أي فسد عليه عيشه كما سيأتي. «1»

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ المراد من الغي في الآية هو خيبة آدم و خسرانه و حرمانه من العيش الرغيد الذي كان مجرداً عن الظمأ و العرى، بل من المنغصات

__________________________________________________

(1). لاحظ لسان العرب: 15/ 140.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 104

و المشقات، و ليس كل خيبة تتوجه إلى الإنسان ناشئة من الذنب المصطلح، كما أنّه يحتمل أن يكون المراد منه هو الفساد، و بذلك فسر ابن منظور المصري في لسانه قوله سبحانه: «وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى أي فسد عليه عيشه «1»، و لا شك أنّ العيش في الجنّة لا يقاس بالعيش في عالم المادة الذي هو دار الفساد و الانحلال.

و لو سلم أنّ الغي بمعنى الضلال في مقابل الرشد، لكن ليس كل ضلال معصية، فإنّ من ضل في طريق الكسب أو في طريق التعلّم يصدق عليه أنّه غوى: أي ضل، و لكنه لا يلازم المعصية.

و كان سيدنا الأُستاذ العلّامة الطباطبائي- رضوان اللَّه عليه- يقول في مجلس بحثه: إنّ لفظة «غوى» تعني الحالة التي تعرض للغنم عند ما تنفصل عن القطيع فتبقى حائرة تنظر يميناً و شمالًا و لا تشق طريقاً لنفسها، و كان آدم أبو البشر حائراً بعد ما خالف نهي ربِّه و ابتلي بما ابتلي به لا يدري كيف يعالج مشكلته، و كيف يتخلّص من هذا المأزق الحرج؟!

و بالجملة: فالغي إن أُريد منه

الخروج عن جادّة التوحيد، و الانحراف عمّا رسم للإنسان من الواجبات و المحرمات، فهو يلازم الكفر تارة و الذنب أُخرى، و لكن ليس كل ضلال- على فرض كون الغي بمعنى الضلال- ملازماً للجرم و الذنب، فمن ضل عن الطريق و تاه عن مقاصده الدنيوية أو المصالح التي يجب أن ينالها، يصدق عليه أنّه «غوى» مقابل أنّه «رشد» و لكنه لا يلازم المعصية المصطلحة.

و لا شك أنّ آدم بعد ما أكل من الشجرة بدت له سوأته و خرج من الجنة و هبط إلى دار الفساد، فعندئذ غوى في طريقه و ضل عن مصلحته.

__________________________________________________

(1). لاحظ لسان العرب: 15/ 140، مادة «غوى».

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 105

و بالجملة: فهذه الوجوه الثلاثة المذكورة حول «غوى» تثبت وهن الاستدلال بها على العصيان.

* 5. ما معنى قول آدم- عليه السَّلام-: «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا»؟

إنّ الظلم ليس إلّا بمعنى وضع الشي ء في غير موضعه، و من أمثال العرب قولهم «من أشبه أباه فما ظلم». قال الأصمعي: الظلم:

وضع الشي ء في غير موضعه، و في المثل «من استرعى الذئب فقد ظلم» و لأجل ذلك يُعد العدول عن الطريق ظلماً، يقال: «لزموا الطريق فلم يظلموه» أي لم يعدلوا عنه. «1»

فإذا كان معنى الظلم هو وضع الشي ء في غير موضعه و تجاوز الحد، لا يلزم أن يكون كل ظلم ذنباً بل يشمله و غيره، فمن لم يسمع قول الناصح المشفق و عمل بخلاف قوله فقد وضع عمله في غير موضعه، كما انّ من خالف النهي التنزيهي فقد عدل عن الطريق الصحيح.

و بالجملة: فكل مخالفة و انحراف عن طريق الصواب ظلم. سواء أ كان الأمر المخالف مولوياً أم إرشادياً، إلزامياً أم غيره.

أضف إلى ذلك أنّه سبحانه يعد الظلم للنفس مقابلًا لعمل السوء، و يقول:

«وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً» «2».

و الآية تُعرب عن أنَّ الظلم للنفس ربّما يكون غير عمل السوء، و عند ذلك يتضح أنّ قول آدم: «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا» لا يستلزم الاعتراف بالذنب، لأنّ الظلم

__________________________________________________

(1). لسان العرب: مادة «ظلم».

(2). النساء: 110.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 106

للنفس غير عمل السوء، فالأوّل موجب لحط النفس عن مكانتها و لا يستلزم تجاوزاً عن حدود اللَّه، بخلاف عمل السوء فإنّه تجاوز على حدوده، و بذلك يعلم أنّ المراد من قوله سبحانه: «وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ» «1» هو الظلم للنفس المستلزم لحط النفس عن مكانتها، في مقابل عمل السوء المستلزم للتجاوز على حدوده سبحانه.

* 6. ما المراد من قوله: «فَتابَ عَلَيْهِ»؟

«التوبة» بمعنى الرجوع، فإذا نسبت إلى اللَّه تتعدى بكلمة «على» قال سبحانه: «لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ» «2»، أي رجع عليهم بالرحمة.

و إذا نسبت إلى العبد تتعدى بكلمة «إلى» قال سبحانه: «فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» «3». و قال سبحانه: «أَ فَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» «4».

فإذا كانت التوبة بمعنى الرجوع، فعند ما تعدت ب «على» يكون معنى قوله: «فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» «5» انّ اللَّه رجع عليه بالرحمة، فالتوبة في هذه الجملة توبة من اللَّه على العبد لا من العبد إلى اللَّه، و معنى الأوّل هو رجوعه سبحانه على العبد باللطف و المرحمة.

__________________________________________________

(1). البقرة: 35.

(2). التوبة: 117.

(3). البقرة: 54.

(4). المائدة: 74.

(5). البقرة: 37.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 107

و مثله قوله سبحانه: «ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ

عَلَيْهِ وَ هَدى «1» فالتوبة هنا من اللَّه على عبده، و معنى الآية أنّه سبحانه اصطفى آدم لأجل تلقّيه الكلمات و سؤاله بها، فعندئذ رجع اللَّه عليه بالرحمة و هداه سبحانه و أخرجه من الغواية التي غشيته، و الظلمة التي اكتنفته، لأجل عدم الإصغاء إلى نصحه سبحانه و تقديم نصح غيره عليه.

نعم إنّ لفظة «فَتابَ عَلَيْهِ» في سورتي البقرة و طه، دالة على أنَّ آدم «تاب إلى ربه»، و لأجل توبته إلى اللَّه و رجوعه إليه بالندامة، تاب اللَّه عليه و رجع عليه بالرحمة و الهداية، و لكن لا دلالة لكل رجوع و إنابة إلى اللَّه، على وقوع الذنب و صدوره منه، خصوصاً بالنظر إلى ما قدّمناه في التفسير الثاني لمخالفة آدم، و قلنا إنَّ من الممكن أن يكون نفس العمل جائزاً و مباحاً و لكن يعد صدوره من بعض الشخصيات محظوراً و أمراً غير صحيح، فإنابة تلك الشخصيات إلى اللَّه في تلك المجالات لا تعد دليلًا على صدور الذنب، بل تعد دليلًا على سعة علمها بالعظمة الإلهية، و لأجل ذلك يقال: «حسنات الأبرار سيئات المقربين»

و قال النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-: «إنّه ليران على قلبي و إنّي استغفر اللَّه كل يوم سبعين مرّة»

. «2» و ليس هذا الاستغفار دليلًا على صدور الذنب، بل هو دليل على سعة علمه و عمق إدراكه لعظمة اللَّه.

* 7. ما معنى الغفران في قوله: «وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا»؟

بقيت هنا كلمة و هي توضيح قوله سبحانه: «وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا

__________________________________________________

(1). طه: 122.

(2). صحيح مسلم: 8/ 72، كتاب الذكر، باب استحباب الاستغفار و الاستكثار منه. و فيه: «ليغان» مكان «ليران»، و هو من مادة «الغين» أي الستر.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم،

ص: 108

لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ»، فربّما يتبادر إلى الذهن من هذا المقطع من الآية صدور الذنب من أبينا آدم- عليه السَّلام-، فنقول: لا دلالة فيه و لا في واحدة من كلماته على ما يتوخاه الخصم، و إليك بيان هدف الآية و مفرداتها.

أمّا الغفران فإنّ أصله «الغفر» بمعنى التغطية و الستر، يقال: غفره، يغفره، غفراً: ستره، و كل شي ء سترته فقد غفرته، فإذا كان الغفران بمعنى الستر فلا ملازمة بين الستر و الذنب، فإنّ المستور ربّما يكون ذنباً و ربّما يكون أمراً جائزاً غير مترقب الصدور من الإنسان، و لأجل ذلك طلب آدم من اللَّه سبحانه على عادة الأولياء و الصالحين في استصغارهم ما يقومون به من الحسنات و استعظامهم الصغير من العيوب فقال: «وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا» أيْ لم تستر عيبنا و لم «تَرْحَمْنا» أيْ لم ترجع علينا بالرحمة «لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» و لا شك أنّ آدم قد خسر النعيم الذي كان فيه، بسبب عدم سماعه لنصح اللَّه سبحانه، و لأجل ذلك طفق يطلب منه أن يرجع عليه بالمغفرة أي بستر عيبه، و الرحمة أي بإخراجه من الخسران الذي عرض له.

إذا وقفت على ما ذكرنا حول هذه الآيات و الجمل و تأمّلت فيها بإمعان و دقة يظهر لك أنّ الاستدلال بها على صدور الذنب المصطلح من آدم من غرائب الاستدلالات و عجائبها، و لا يصح لباحث أن يُفسر آية دون أن يستعين لفهمها بأُختها، و بذلك يتضح أنّ ما سلكناه من المنهج في تفسير القرآن، هو الطريق الصحيح الذي يرفع النقاب عن وجوه كثير من الحقائق التي قد تخفى على الباحثين، و هذا الطريق هو تفسير كتابه سبحانه بالتفسير الموضوعي، أي جمع الآيات الواردة في

موضوع واحد و عرض بعضها على بعض.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 109

* عصمة آدم- عليه السَّلام- و جعل الشريك للَّه!

قد وقفت على أعظم شبه المخطّئة للأنبياء، كما وقفت على الجواب عنها، فهلم معي ندرس شبهة أُخرى لهم جعلوها ذريعة لفكرتهم الفاسدة حيث استدلوا على عدم عصمة «آدم»- عليه السَّلام- بقوله سبحانه: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ* فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ* أَ يُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ* وَ لا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ».

استدل المخطّئة «1» لعصمة الأنبياء بقوله سبحانه: «فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ» قائلين بأنّ ضمير التثنية في كلا الموردين يرجع إلى آدم و حواء اللّذين أُشير إليهما بقوله سبحانه في صدر الآية: «مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها».

و لكن الاستدلال بالآية مبني على القول بأنّ المراد من «مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» هي الواحدة الشخصية لا الواحدة النوعية، أعني كل أب و أُم بالنسبة إلى أولادهما، و لكن القرائن تشهد بأنّ المراد هو الواحد النوعي لا الشخصي.

توضيح ذلك: أنّ تلك اللفظة قد استعملت في القرآن الكريم بوجهين:

الأوّل: ما أُريد منه الواحد الشخصي كقوله سبحانه: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً

__________________________________________________

(1). الأعراف: 189- 192.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 110

وَ نِساءً» «1» فالمراد من «نَفْسٍ واحِدَةٍ» هو آدم، و معنى خلق الزوجة منها كونها من جنسها، و الدليل على أنّ المراد هو الواحد الشخصي قوله: «وَ

بَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً» و المعنى أنّه سبحانه خلق الخلق من أب واحد و أُم واحدة، فهذه الجماهير على كثرتها تنتهي إليهما و مثله قوله سبحانه: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا» «2».

الثاني: ما أُريد منه الواحد النوعي أي الأب لكل إنسان و مثله الأُم، و ذلك مثل قوله: «خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ» «3»، فالمراد من «نَفْسٍ واحِدَةٍ» هو الواحد النوعي، و المراد أنّ كل واحد منّا قد ولد من أب واحد و أُم واحدة، و الدليل على ذلك قوله سبحانه:

«يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ».

و مثلها الآية المبحوث عنها في المقام، إذ ليس المراد منها شخص آدم أبي البشر بعينه، بل المراد والد كل إنسان و والدته، فالجنسان يتقاربان و يتولد منهما الولد، و تدل على ما اخترنا من المعنى قرائن في نفس الآيات.

الأُولى: انّ الآية وقعت في عداد الآيات التي تعرب عن الميثاق الذي أعطاه الإنسان لربّه في شرائط خاصّة و لكنّه حينما نال النعم و رفل فيها، طفق ينقض ميثاقه، و هذه طبيعة الإنسان المجهز بالغرائز، و يشير إليها قوله سبحانه: «وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجانِبِهِ وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ» «4»،

__________________________________________________

(1). النساء: 1.

(2). الحجرات: 13.

(3). الزمر: 6.

(4). فصلت: 51.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 111

فإذا كانت هذه طبيعة الإنسان فلا يبعد أن يسأل اللَّه أن يرزقه ولداً صالحاً، معطياً للَّه ميثاقاً

بأن يشكره على تلك النعمة و لكنّه عند ما ينال النعمة يجعل له شركاء فيما آتاه، و على ذلك فالآية جارية مجرى المثل المضروب لبني آدم في نقضهم ميثاقهم الذي واثقوه به.

و الدليل على أنّ الآية واردة في ذاك المجال، ما ورد قبل هذه الآية من حديث الميثاق الذي أعطاه الإنسان لربّه و لكنّه نقضه بعده قال سبحانه قبيل هذه الآيات: «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ* أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَ فَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ». «1»

و الميثاق الذي ورد في الآية، معطوف على ذلك الميثاق الذي ورد في الآيتين، و هذا دليل واضح على أنّ المراد هو تعريف طبيعة الإنسان و توصيفها بالتعهد أوّلًا، و النقض ثانياً، و ليس بصدد بيان حال الإنسان الشخصي أعني: أبانا آدم.

الثانية: انّ سياق الآية و لحنها يوحيان بأنّ الشخص الذي سأل اللَّه أن يرزقه ولداً صالحاً، كان يعيش في بيئة كان فيها آباء و أولاد بين صالح و طالح، فنظر إليهم فتمنّى أنْ يرزقه اللَّه ولداً صالحاً على غرار ما رآه، غير أنّه لما رزقه اللَّه ذلك الولد الصالح، نقض ميثاقه أي شكره للَّه على ما رزقه من صالح الأولاد، و هذا غير صادق في شأن أبينا آدم و أُمّنا حواء، إذ لم يكن في بيئتهم آباء و أولاد، صالحون و طالحون حتى يتمنّيا لنفسهما ولداً مثل ما رزقهم اللَّه سبحانه.

الثالثة: انّ ذيل الآية يشهد بوضوح على أنّها غير مرتبطة بصفي اللَّه آدم،

__________________________________________________

(1). الأعراف: 172- 173.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 112

و ذلك لأنّه سبحانه يقول في ذيلها: «فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ»، فلو كان المراد من النفس و زوجها في الآية شخصين معيّنين كآدم و حواء، كان من حق الكلام أن يقول: «فتعالى اللَّه عمّا يشركان» و هذا بخلاف ما أُريد من النفس و زوجها، الطبيعة الإنسانية في جانبي الذكر و الأُنثى، إذ حينئذ يصح الجمع لكثرة أفراده.

الرابعة: انّه سبحانه يقول: «أَ يُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ* وَ لا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ»، و من المعلوم أنّ المراد من الشرك هو الشرك في العبادة، و حاشا أنْ يكون آدم صفي اللَّه مشركاً في العبادة، كيف؟ و قد وصفه اللَّه سبحانه بالاجتباء حيث قال: «ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى «1»، و قال سبحانه: «وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ» «2»، و قال سبحانه: «وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ» «3»، و قال أيضاً: «وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» «4».

كل هذه الآيات تشهد بوضوح على أنّ الآية تهدف إلى ذكر القصة على سبيل ضرب المثل، و بيان أنّ هذه الحالة صورة تعم جميع الأفراد من الإنسان، إلّا من التجأ إلى الإيمان، فكأنّه سبحانه يقول: هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة و جعل من جنسها زوجها إنساناً يساويه في الإنسانية، فلمّا تغشى الزوج الزوجة و ظهر الحمل دعوا ربّهما بأنّه سبحانه لو آتاهما ولداً صالحاً سوياً ليكونا من الشاكرين لآلائه و نعمائه، فلما آتاهما اللَّه ولداً صالحاً سوياً جعل الزوج و الزوجة للَّه شركاء في ذلك الولد الذي آتاهما، فتارة

نسبوه إلى الطبيعة كما هو

__________________________________________________

(1). طه: 122.

(2). الإسراء: 97.

(3). الزمر: 37.

(4). الأحقاف: 5.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 113

قول الدهريين، و أُخرى إلى الكواكب كما هو قول المنجمين، و ثالثة إلى الأصنام كما هو قول عبدتها، فردَّ اللَّه سبحانه على تلك المزاعم بقوله: «فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» «1». و على ما ذكرنا يحتمل أن يكون المراد من الشرك هو الشرك في التدبير، و مثل هذا لا يليق أن ينسب إلى من هو دون الأنبياء و الأولياء، فكيف يمكن أن يوصف به صفي اللَّه آدم- عليه السَّلام-؟!

و أقصى ما يمكن أن يقال هو أنّ المراد من النفس الواحدة و زوجها في صدر الآية هو آدم و حواء الشخصيّان، و لكنه سبحانه عند ما انتهى إلى قوله: «لِيَسْكُنَ إِلَيْها» التفت من شخصهما إلى مطلق الذكور و الإناث من أولادهما أو إلى خصوص المشركين من نسلهما، فيكون تقدير الكلام «فَلَمَّا تَغَشَّاها» أي تغشى الزوج الزوجة من نسلهما «حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ» ... إلى آخر الآية.

و هذا ما يسمّى في علم المعاني بالالتفات، و له نظائر في القرآن الكريم قال تعالى: «هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ» «2». ترى أنّه سبحانه خاطب الجماعة بالتسيير ثمّ خص راكب البحر بأمر آخر و مثله الآية، ترى أنّه سبحانه أخبر عن عامّة أمر البشر بأنّهم مخلوقون من نفس واحدة و زوجها و هما آدم و حواء، ثمّ ساق الكلام إلى مطلق ذرية آدم من البشر.

و هذا الوجه نقله المرتضى في «تنزيه الأنبياء» عن أبي مسلم محمد بن بحر الاصفهاني. «3»

و توجد وجوه أُخر في تفسير

الآية غير تامة. «4» و فيما ذكرنا غنى و كفاية.

__________________________________________________

(1). مفاتيح الغيب: 4/ 343.

(2). يونس: 22.

(3). تنزيه الأنبياء: 16.

(4). لاحظ مفاتيح الغيب: 4/ 341- 343؛ مجمع البيان: 4/ 508- 510؛ أمالي المرتضى: 137- 143.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 114

2 عصمة شيخ الأنبياء نوح- عليه السَّلام- و المطالبة بنجاة ابنه العاصي

اشارة

قد استدل المخطّئة لعصمة الأنبياء على عدم عصمة نوح- عليه السَّلام- بما ورد في سورة هود من الآية 45 إلى 47، و إليك الآيات:

«وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ* قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ* قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ إِلَّا تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ».

و قد استدل بهذه الآيات بوجوه:

1. انّ ظاهر قوله تعالى: «إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ» تكذيب لقول نوح «إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي»، و إذا كان النبي لا يجوز عليه الكذب، فما الوجه في ذلك؟

2. قوله: «فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ»، فإنّ ظاهره صدور سؤال منه غير لائق بساحة الأنبياء، و لأجل ذلك خوطب بالعتاب و نهي عن التكرار.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 115

3. قوله: «وَ إِلَّا تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ» فإنّ طلب الغفران آية الذنب، و هو لا يجتمع مع العصمة.

و إليك الجواب عن الوجوه الثلاثة:

الوجه الأوّل: كيف يجتمع قول نوح- عليه السَّلام-: «إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي» مع قوله سبحانه: «إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ»؟

فتوضيح دفعه: أنّه سبحانه قد وعد نوحاً بإنجاء أهله إلّا مَنْ سبق عليه القول و قال: «حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَ مَنْ آمَنَ وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ» «1»، و هذا الكلام يعرب عن أنّه سبحانه وعد بكلامه شيخ الأنبياء بأنّه ينجّي أهله، هذا من جانب، و من جانب آخر يجب أن نقف

على حالة ابن نوح و أنّه إمّا أن يكون متظاهراً بالكفر و كان أبوه واقفاً على ذلك، و إمّا أن يكون متظاهراً بالإيمان مبطناً للكفر، و كان أبوه يتصوّر أنّه من المؤمنين به.

فعلى الفرض الأوّل: يجب أن يقال: إنّ نوحاً قد فهم من قوله سبحانه: «وَ أَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ» في سورتي هود الآية 40 و المؤمنون الآية 27 «2» انّه قد تعلّقت مشيئته بإنجاء جميع أهله الذين ينتمون إليه بالوشيجة النسبية و السببية، سواء أ كانوا مؤمنين أم كافرين غير امرأته التي كانت كامرأة لوط تخونه ليلًا و نهاراً، و عندئذ يكون المراد من قوله: «إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ» هو

__________________________________________________

(1). هود: 40.

(2). قال سبحانه في سورة هود: «قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ».

و قال سبحانه في سورة المؤمنون: «فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ».

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 116

زوجته فقط، و لما رأى نوح أنّ الولد أدركه الغرق تخالج في قلبه أنّه كيف يجتمع وعده سبحانه بإنجاء جميع الأهل مع هلاك ولده؟ و عند ذلك اعتراه الحزن و رفع صوته بالدعاء منادياً: «إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي» من دون أن يسأل منه شيئاً بل أظهر ما اختلج في قلبه من الصراع و التضاد بين الأمرين: الإيمان بصدق وعده، كما يفصح عنه قوله: «إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ» و غرق ولده و هلاكه.

و على هذا الفرض لم يكذب نوح- عليه السَّلام- حتى بكلمة واحدة، بل لما فهم من قوله «وَ أَهْلَكَ» نجاة

مطلق المنتمين إليه بالوشيجة الرحمية أو السببية، أبرز ما فهم و قال: «إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي»، فلا يعد الإنسان كاذباً عند نفسه إذا أبرز ما اعتقده و أفرغه في قالب القول و ان كان المضمون خلاف الواقع في حد نفسه، و حينئذ أجابه سبحانه بأنّ الموعود بإنجائهم هم الصالحون من أهلك لا مطلق المنتمين إليك بالوشائج الرحمية أو السببية.

و بعبارة أُخرى: انّ ولدك و إن كان من أهلك حسب الوشيجة الرحمية، لكنّه ليس من الأهل الذين وعدت بنجاتهم و خلاصهم.

و بعبارة ثالثة: «إِنَّ ابْنَكَ» داخل في المستثنى، أعني قوله: «إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ» كما أنّ زوجتك داخلة فيه أيضاً.

و هذا الجواب على صحة الفرض تام لا غبار عليه، لكن أصل الفرض و هو كون ابن نوح متظاهراً بالكفر و كان الأب واقفاً عليه غير تام لما فيه:

أوّلًا: انّ من البعيد عن ساحة نوح- عليه السَّلام- أن يطلب من اللَّه سبحانه أن لا يذر على الأرض من الكافرين ديّاراً، كما يعرب عنه قوله سبحانه حاكياً عنه- عليه السَّلام-: «وَ قالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً»، و يتبادر «1» إلى ذهنه من قوله سبحانه:

__________________________________________________

(1). نوح: 26- 27.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 117

«وَ أَهْلَكَ» مطلق المنتمين إليه مؤمناً كان أم كافراً. بل يعد دعاؤه هذا قرينة على أنّ الناجين من أهله هم المؤمنون فقط لا الكافرون، و انّ المراد من «مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ» مطلق الكافرين سواء كانوا منتمين إليه أو لا.

ثانياً: انّه لا دليل على أنّه فهم من قوله: «إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ» خصوص

زوجته، بل الظاهر أنّه فهم أنّ المراد من المستثنى كل من عاند اللَّه و حاد رسوله من غير فرق في ذلك بين الزوجة و غيرها.

و ثالثاً: انّه سبحانه بعد ما أمر نوحاً- عليه السَّلام- بصنع الفلك أوحى إليه بقوله: «وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ» «1»، و الظاهر من قوله: «الَّذِينَ ظَلَمُوا» مطلق المشركين حميماً كان أو غريباً، فإذا قال بعد ذلك: «وَ أَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ» يكون إطلاق الجملة الأُولى قرينة على أنّ المراد من الأهل هو خصوص المؤمن لا الظالم منهم، إذ الظالم منهم داخل في قوله:

«وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا».

و إن شئت قلت: إنّ صراحة الجملة الأُولى قرينة على أنّ المراد من قوله: «إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ» مطلق الظالم و الكافر زوجة كانت أم غيرها، رحماً كان أم غيره، و هذه الصراحة قرينة على أنّ المراد من «أَهْلَكَ» هو خصوص المؤمن لا الأعم منه.

و بالجملة: فلو صحت النظرية صح الجواب، لكنها باطلة لأجل الأُمور الثلاثة التي ألمعنا إليها.

و أمّا الفرض الثاني، فالظاهر أنّه الحق، و حاصله: أنّ الابن كان متظاهراً بالإيمان مبطناً للكفر، و يدل على ذلك قول نوح لابنه عند ما امتنع أن يواكب أباه

__________________________________________________

(1). هود: 37.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 118

في ركوبه السفينة: «يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَ لا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ» «1»، أي لا تكن معهم حتى تشاركهم في البلاء، و لو كان عارفاً بكفره لكان عليه أن يقول: «و لا تكن من الكافرين» و بما انّه كان معتقداً بإيمان ولده كان مذعناً بدخوله في قوله: «وَ أَهْلَكَ» و لما أدركه الغرق أدركته الحيرة في أنّه كيف غرق

مع أنّ وعده سبحانه حق لا يشوبه ريب، و عندئذ أظهر ما في قلبه و قال: «إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي»، و أجابه سبحانه بأنّه ما أدركه الغرق إلّا لأجل كفره، فهو كان داخلًا في قوله: «وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ» «2» أوّلًا، و ثانياً في المستثنى أي قوله: «إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ» لا المستثنى منه أي «أَهْلَكَ».

و عندئذ يقع السؤال و الجواب في موقعهما و لا يكون نوح- عليه السَّلام- في حكمه كاذباً، لأنّه كان يتصور أنّ ولده مؤمن فنبّهه سبحانه على أنّه كافر، فأين الكذب في هذين الحكمين؟ و في قوله سبحانه: «إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ» إعلام بأنّ قرابة الدين غامرة لقرابة النسب، و انّ نسيبك في دينك و معتقدك من الأباعد و ان كان حبشياً و كنت قرشياً، لصيقك و خصيصك، و من لم يكن على دينك و ان كان أمس أقاربك رحماً فهو بعيد عنك إيماناً و عقيدة و روحاً.

ثمّ إنّ الإخبار عن ابن نوح بأنّه عمل غير صالح مكان كونه عاملًا غير صالح، لأجل المبالغة في ذمه مثل قوله «فإنما هي إقبال و إدبار». «3»

و هاهنا نكتة يجب التنبيه عليها، و هي أنّ العنصر المقوّم لصدق عنوان الأهل عند أصحاب اللغة و العرف هو انتساب الإنسان إلى شخص بوشيجة من

__________________________________________________

(1). هود: 42.

(2). هود: 37.

(3). الكشاف: 2/ 101.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 119

الوشائج النسبية أو السببية، و ان لم يكن بينهما تشابه و وحدة من حيث المسلك و المنهج.

غير أنّ التشريع الإلهي أدخل فيه عنصراً آخر وراء الوشيجة المادية و هو صلة الشخص بالإنسان من جهة الإيمان، و وحدة المسلك، إلى حد

لو فقد هذا العنصر لما صدق عليه ذلك العنوان، بل صار ذلك العنصر إلى حد ربّما يكتفي به في صدق الأهل على الأفراد سواء أ كانت فيه وشيجة نسبية أم لا، و لأجل ذلك نجد أنّه سبحانه يكتفي بلفظ الأهل في التعبير عن كل المؤمنين، فيقول في قصة «لوط»: «فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ» «1»، و قال أيضاً: «إِنَّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ» «2»، و قال أيضاً: «وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ» «3»، ترى أنّه سبحانه اكتفى بلفظ الأهل من دون أن يعطف عليه لفظ «المؤمنين» أو «مَنْ آمَنَ به» مع عدم اختصاص النجاة بخصوص أهله و عمومها للمؤمنين، معرباً عن أنّ الإيمان يجعل البعيد أهلًا، و الكفر يجعل القريب بعيداً.

و لأجل ذلك اكتفى في قصة نوح بلفظ الأهل فقال: «وَ نُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ» «4»، و قال أيضاً: «وَ لَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ* وَ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ» «5»، و من المعلوم عدم اختصاص النجاة بخصوص الأهل بشهادة قوله: «وَ أَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ

__________________________________________________

(1). الأعراف: 83.

(2). العنكبوت: 33.

(3). الصافّات: 133- 135.

(4). الأنبياء: 76.

(5). الصافّات: 75- 76.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 120

الْقَوْلُ وَ مَنْ آمَنَ» «1».

و بذلك يظهر سرّ قوله- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-: «سلمان منّا أهل البيت» فعد غير العرب من أهل بيته، و ما هذا إلّا لأنّ التشابه الروحي أوثق صلة و أحكم عرى، كما أنّ التباين الروحي خير أداة لقطع العرى و

هدم الوشيجة المادية.

و لأجل ذلك قال الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا- عليهما السَّلام- في حق ابن نوح: «لقد كان ابنه و لكن لمّا عصى اللَّه عزّ و جلّ نفاه عن أبيه، و كذا من كان منّا لم يطع اللَّه عزّ و جلّ فليس منّا، و أنت إذا أطعت اللَّه فأنت منّا أهل البيت». «2»

نعم لا نقول إنّ ما ذكرناه هو المصطلح الوحيد في القرآن، بل له مصطلح آخر يتطابق مع اصطلاح أهل اللغة و العرف، و هو الاكتفاء بالوشيجة المادية، و نرى كلا المصطلحين واردين في سورة هود قال سبحانه: «وَ أَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَ مَنْ آمَنَ»، فأطلق لفظ الأهل على مطلق المنتمي إلى شيخ الأنبياء، كافراً كان أم مؤمناً، ثمّ أخرج الكافر من الحكم (احمل) لا من الموضوع و هو (الأهل) و قال: «إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ».

و في الوقت نفسه يجيب نداء نوح- عليه السَّلام- بعد قوله: «إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي» بقوله: «إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ».

الوجه الثاني: لا دلالة لقوله: «فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» على صدور سؤال غير لائق بساحة الأنبياء:
اشارة

قد عرفت ما في الوجه الأوّل من نسبة الكذب إلى شيخ الأنبياء نوح- عليه السَّلام- في قوله: «إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي»، فهلمّ معي ندرس الوجه الثاني، و هو أنّ قوله

__________________________________________________

(1). هود: 40.

(2). البحار: 49/ 219 ضمن ح 3.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 121

سبحانه: «فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ» يعرب عن وجود سؤال غير لائق بساحة الأنبياء، فلأجل ذلك خوطب و نهي عن التكرار.

فنقول: إنّ اللَّه عزّ و جلّ قد وعده بإنجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم، و هذا الاستثناء كان دليلًا على أنّ في جملة «أهله» من

هو مستوجب للعذاب، و أنّهم كلّهم ليسوا بناجين، و عندئذ كان على نوح أن لا تخالجه شبهة حين أشرف ولده على الغرق في أنّه من المستثنين، و ليس داخلًا في المستثنى منهم، فعوتب على أنّه اشتبه عليه ما يجب أن لا يشتبه عليه. «1»

و على هذا يكون المراد من قوله: «فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» النهي عن السؤال الذي لا يليق أن يطرح و يسأل إذا كان الجواب معلوماً بالقرائن و التفكر في أطراف القضية، و إلّا فالسؤال انّما يتعلّق بما لا يعلم لا بما يعلم. هذا ما أجاب به صاحب الكشاف.

و هناك جواب أوضح و لعلّه أليق بساحة الأنبياء، و هو: أنّه لما وعد نوحاً بنجاة الأهل بقوله: «إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ» و لم يكن نوح مطّلعاً على باطن ابنه، بل كان معتقداً بظاهر الحال أنّه مؤمن، بقي متمسّكاً بصيغة العموم للأهلية و لم يعارضه يقين و لا شك بالنسبة إلى إيمان ابنه، فلذلك «نادى رَبَّهُ».

و أمّا قوله: «إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ» فليس راجعاً إلى كلامه و ندائه، بل كان نداؤه ربّه في هذا الظرف واقعاً موقع القبول، و كان السؤال صحيحاً و رصيناً، بل هو راجع إلى وقوع السؤال في المستقبل بعد أن أعلمه اللَّه باطن أمره، و أنّه إن سأل في المستقبل كان من الجاهلين، و الغرض من ذلك تقديم

__________________________________________________

(1). الكشاف: 2/ 101.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 122

ما يبقيه- عليه السَّلام- على سمة العصمة، و الموعظة لا تستدعي وقوع الذنب و صدوره بل ربّما يكون الهدف التحفّظ على أن لا يصدر الذنب منه في المستقبل، و لذلك امتثل- عليه السَّلام- نهي ربِّه

و قال: «أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ» «1».

* جواب ثالث للوجه الثاني

هذا و للعلّامة الطباطبائي جواب ثالث أمتن من الجوابين السابقين حيث قال: إنّ قول نوح: «رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ» في مظنة أن يسوقه إلى سؤال نجاة ابنه، و هو لا يعلم أنّه ليس من أهله، فشملته العناية الإلهية و حال التسديد الغيبي بينه و بين السؤال فأدركه النهي بقوله: «فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» بتفريع النهي على ما تقدّم، مخبراً نوحاً بأنّ ابنك ليس من أهلك، لكونه عملًا غير صالح، فلا سبيل لك إلى العلم به، فإيّاك أن تبادر إلى سؤال نجاته، لأنّه سؤال ما ليس لك به علم، و النهي عن السؤال بغير علم لا يستلزم تحقق السؤال منه لا مستقلًا و لا ضمناً، و النهي عن الشي ء لا يستلزم الارتكاب قبلًا، و انّما يتوقف على أن يكون الفعل اختيارياً و مورداً لابتلاء المكلّف، فإنّ من العصمة و التسديد أن يراقبهم اللَّه سبحانه في أعمالهم، و كلّما اقتربوا مما من شأنه أن يزل فيه الإنسان نبههم اللَّه لوجه الصواب، و دعاهم إلى السداد و التزام طريق العبودية، قال تعالى:

«وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا* إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً» «2».

و ممّا يدل على أنّ النهي في قوله «فَلا تَسْئَلْنِ» نهي عمّا لم يقع بعد، قول

__________________________________________________

(1). الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال للإمام ناصر الدين الاسكندري المالكي: 2/ 101 على هامش الكشاف.

(2). الإسراء: 74- 75.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 123

نوح- عليه السَّلام- بعد استماع خطابه سبحانه: «رَبِّ

إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ».

و لو كان سأل شيئاً من قبل لكان عليه أن يقول: أعوذ بك ممّا سألت أو ما يشابه ذلك، و ممّا يوضح أنّ نوحاً لم يسأل شيئاً من ربّه قوله سبحانه: «إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ» تعليلًا لنهيه «فَلا تَسْئَلْنِ»، فلو كان نوح- عليه السَّلام- سأل شيئاً من قبل لكان من الجاهلين، لأنّه سأل ما ليس له به علم.

و أيضاً لو كان المراد من النهي عن السؤال أن لا يتكرر منه ذلك بعد ما وقع منه مرّة لكان الأنسب أن يصرّح بالنهي عن العود إلى مثله دون النهي عن أصله، كما ورد نظيره في القرآن الكريم: «إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ...

يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً» «1». «2»

إلى هنا تبيّن الجواب عن السؤال الثاني، و اتضح أنّه لم يسبق منه- عليه السَّلام- سؤال غير لائق بساحته، بقي الكلام في السؤال الثالث.

الوجه الثالث: تفسير قوله تعالى: «وَ إِلَّا تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي».

و حاصله: أنّ طلب الغفران في قوله: «وَ إِلَّا تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ» لا يجتمع مع العصمة.

أقول: إنّ هذا كلام، صورته التوبة و حقيقته الشكر على ما أنعم اللَّه عليه من التعليم و التأديب، أمّا أنّ صورته صورة التوبة، فإنّ في ذلك رجوعاً إلى اللَّه تعالى بالاستعاذة، و لازمها طلب مغفرة اللَّه و رحمته، أي ستره على الإنسان ما فيه زلته،

__________________________________________________

(1). النور: 15- 17.

(2). الميزان: 10/ 245.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 124

و شمول عنايته لحاله، و المغفرة بمعنى طلب الستر أعم من طلبه على المعصية المعروفة عند المتشرعة، و كل ستر إلهي يسعد الإنسان و يجمع شمله.

و أمّا كون حقيقته

الشكر، فإنّ العناية الإلهية التي حالت بينه و بين السؤال الذي كان يوجب دخوله في زمرة الجاهلين، كانت ستراً إلهياً على زلة في طريقه، و رحمة و نعمة أنعم اللَّه سبحانه بها عليه فقوله: «وَ إِلَّا تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ» بمعنى أنّه إن لم تعذني من الزلّات، لخسرت، فهو ثناء و شكر لصنعه الجميل. «1»

و تظهر حقيقة ذلك الكلام ممّا قدمناه في قصة آدم من أنّ كثيراً من المباحات تعد ذنباً نسبياً بالنسبة إلى طبقة خاصة من الأولياء و الأنبياء، فعند صدور مثل ذلك يجب عليهم- تكميلًا لعصمتهم- طلب الغفران و الرحمة، حتى لا يكونوا من الخاسرين، و ليس الخسران منحصراً في الإتيان بالمعصية، بل ربّ فعل سائغ يعد صدوره من الطبقة العليا خسراناً و خيبة، كما أوضحناه في قصة آدم.

نعم لم يصدر من شيخ الأنبياء في ذلك المقام فعل غير أنّه وقع في مظنة صدور ذلك الفعل، و هو السؤال عمّا لا يعلم، فلأجل ذلك صح له أن يطلب الستر على تلك الحالة بالعناية الإلهية الحائلة بينه و بين صدوره.

إلى هنا تبيّن مفاد الآيات و أنّه ليس فيها إشعار بصدور الذنب بل حتى ما يوجب العتاب و اللوم.

ثمّ إنّ لبعض المفسرين من العدلية أجوبة أُخرى للأسئلة المطروحة، فمن أراد الوقوف عليها، فليرجع إلى مظانها. «2»

__________________________________________________

(1). الميزان: 10/ 238.

(2). لاحظ تنزيه الأنبياء: 18- 19؛ مجمع البيان: 3/ 167؛ بحار الأنوار: 11/ 213- 314 إلى غير ذلك.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 125

3

3) عصمة إبراهيم الخليل- عليه السَّلام- و المسائل الثلاث «1»

اشارة

إنّ اللَّه سبحانه أثنى على إبراهيم- عليه السَّلام- بطل التوحيد بأجمل الثناء، و حمد محنته في سبيله سبحانه أبلغ الحمد، و كرر ذكره باسمه في نيّف و

ستين موضعاً من كتابه، و ذكر من مواهبه و نعمه عليه شيئاً كثيراً و قال: «وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» «2». و قد حفظ اللَّه سبحانه حياته الكريمة و شخصيته الدينية لما سمّى هذا الدين القويم بالإسلام و نسب التسمية به إليه قال تعالى: «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ» «3». و قال سبحانه: «قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» «4».

و مع هذا الثناء المتضافر منه سبحانه على إبراهيم- عليه السَّلام- نرى أنّ بعض المخطّئة للأنبياء يريد أن ينسب إليه ما لا يليق بشأنه مستدلًا بآيات نأتي بها واحدة بعد واحدة و نبيّن حالها.

__________________________________________________

(1). أ. قوله للنجم: «هذا رَبِّي». ب. قوله: «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ». ج. قوله لقومه: «إِنِّي سَقِيمٌ».

(2). البقرة: 130.

(3). الحج: 78.

(4). الأنعام: 161.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 126

* الآية الأُولى

«وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ* فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ* فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ* فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ» «1».

قالت المخطّئة: إنّ قوله: «هذا رَبِّي»* في المواضع الثلاثة ظاهر في أنّه- عليه السَّلام- كان يعتقد في وقت من الأوقات بربوبية هذه الأجرام السماوية، و هذا ممّا لا يجوز على الأنبياء عند العدلية، و إن زعمت العدلية أنّه- عليه السَّلام- تكلّم بها ظاهراً غير معتقد باطناً،

فهذا أيضاً غير جائز على الأنبياء، لأنّه يقول شيئاً غير معتقد به، و هو أمر قبيح سواء سمّي بالكذب أم لا.

و الجواب: انّ الاستدلال ضعيف، لأنّ الحال لا تخلو من إحدى صورتين:

الأُولى: انّ إبراهيم كان في مقام التحرّي و التعرّف على الربّ المدبّر للعالم، و لم يكن آنذاك واقفاً على الحقيقة، لأنّه- كما قيل- كان صبياً لم يبلغ الحلم، و صار بصدد التحقيق و التحري، فعندئذ طرح عدّة احتمالات واحداً بعد واحد، ثمّ شرع في إبطال كل واحد منها، إلى أن وصل إلى الرب الواقعي و المدبّر الحقيقي.

و هذا نظير ما يفعله الباحثون عن أسباب الظواهر و عللها، فتراهم يطرحون على طاولة التحقيق سلسلة من الفرضيات و الاحتمالات، ثمّ يعمدون إلى التحقيق عن حال كل واحد منها إلى أن يصلوا إلى العلة الواقعية، و على هذا يكون معنى

__________________________________________________

(1). الأنعام: 75- 78.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 127

قوله: «هذا رَبِّي»* مجرّد فرض لا إذعان قطعي، و ليس مثل هذا غيرَ لائق بشأن الأنبياء.

و في هذا الصدد يقول السيد المرتضى- جواباً عن السؤال-: إنّه لم يقل ذلك مخبراً، و انّما قال فارضاً و مقدّراً على سبيل الفكر و التأمّل.

أ لا ترى أنّه قد يحسن من أحدنا إذا كان ناظراً في شي ء و ممتثلًا بين كونه على إحدى صفتيه أن يفرضه على إحداهما لينظر فيما يؤدي ذلك الفرض إليه من صحة أو فساد، و لا يكون بذلك مخبراً عن الحقيقة، و لهذا يصح من أحدنا إذا نظر في حدوث الأجسام و قدمها أنْ يفرض كونها قديمة ليتبين ما يؤدي إليه ذلك الفرض من الفساد. «1»

و قد روي هذا المعنى عن الإمام الصادق- عليه السَّلام- حيث

سئل عن قول إبراهيم: «هذا رَبِّي»* أ أشرك في قوله: «هذا رَبِّي»*؟

فقال- عليه السَّلام-: «لا، بل من قال هذا، اليوم فهو مشرك، و لم يكن من إبراهيم شرك، و انّما كان في طلب ربّه و هو من غيره شرك». «2»

و في رواية أُخرى عن أحدهما (الباقر و الصادق- عليهما السَّلام-): «انّما كان طالباً لربّه و لم يبلغ كفراً، و انّه من فكّر من الناس في مثل ذلك فإنّه بمنزلته». «3»

غير أنّ هذا الفرض ربّما لا يكون مرضياً عند بعض العدلية، لأنّ الأنبياء منذ أن فطموا من الرضاع إلى أن ادرجوا في أكفانهم، كانوا عارفين بتوحيده سبحانه ذاتاً و فعلًا، خالقاً و ربّاً، و لو كان هناك إراءة من اللَّه لخليله كما في قوله: «وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ» كانت لزيادة المعرفة و ليكون من الموقنين.

__________________________________________________

(1). تنزيه الأنبياء: 22.

(2). نور الثقلين: 1/ 610- 611، الحديث 149 و 150 و 151.

(3). نور الثقلين: 1/ 610- 611، الحديث 149 و 150 و 151.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 128

الثانية: انّه كان معترفاً بربوبيته نافياً ربوبية غيره، و لكنّه حيث كان بصدد هداية قومه و فكّهم من عبادة الأجرام، جاراهم في منطقهم لكي لا يصدم مشاعرهم و يثير عنادهم و لجاجهم، فتدرج في إبطال ربوبية معبوداتهم الواحد تلو الآخر، بما يطرأ عليها من الأُفول و الغيبة و التحوّل و الحركة مما لا يليق بالربّ المدبّر، و مثل هذا جائز للمعلم الذي يريد هداية جماعة معاندة في عقيدتهم، منحرفة عن جادة الصواب، و هذه إحدى طرق الهداية و التربية، فأين التكلّم بكلمة الشرك عن جد؟!

و إلى ذلك الجواب أشار السيد المرتضى في كلامه بأنّ إبراهيم- عليه السَّلام-

لم يقل ما تضمّنته الآيات على طريق الشك، و لا في زمان مهلة النظر و الفكر، بل كان في تلك الحال موقناً عالماً بأنّ ربّه تعالى لا يجوز أن يكون بصفة شي ء من الكواكب، و انّما قال ذلك على أحد وجهين:

الأوّل: انّه ربّي عندكم، و على مذاهبكم، كما يقول أحدنا على سبيل الإنكار للمشتبه هذا ربّه جسم يتحرك و يسكن.

الثاني: انّه قال ذلك مستفهماً و أسقط حرف الاستفهام للاستغناء عنها. «1»

و الوجه الأوّل من الشقين في هذا الجواب هو الواضح.

* الآية الثانية
اشارة

قوله سبحانه: «وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا بِهِ عالِمِينَ ... وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ* فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ... قالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ* قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا

__________________________________________________

(1). تنزيه الأنبياء: 23.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 129

فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ* فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ* ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ* قالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ* أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ» «1».

فزعمت المخطّئة أنّ قوله- عليه السَّلام- «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ» كذب لا شك فيه، لأنّه هو الذي كسر الأصنام و جعلها جذاذاً إلّا كبيرها، فكيف نسب التكسير إلى كبيرها؟

و لا يخفى أنّ الشبهة واهية جداً، مثل الشبهة السابقة، لأنّ الكذب في الكلام إنّما يتحقق إذا لم يكن هناك قرينة على أنّه لم يرد ما ذكره، بالإرادة الجدية، و انّما ذكره لغاية أُخرى، و مع تلك القرينة لا يُعد الكلام كذباً، و القرينة في الكلام أمران:

الأوّل: قوله- عليه السَّلام-

عند مغادرة قومه البلد و مخاطبتهم بقوله: «وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ» «2»، و لا يصح حمل ذلك على أنّه قاله في قلبه و فكرته، لا بصورة المشافهة و المصارحة، و ذلك لأنّ إبراهيم كان مشهوراً بعدائه و كرهه للأصنام، حتى أنّهم بعد ما رجعوا إلى بلدهم و وجدوا الأصنام جذاذاً، أساءوا الظن به، و اتهموه بالعدوان على أصنامهم و تخريبها و «قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ» «3».

الثاني: انّ من المسلّم بين إبراهيم و عبدة الأصنام أنّ آلهتهم صغيرها و كبيرها

__________________________________________________

(1). الأنبياء: 51- 67.

(2). الأنبياء: 57.

(3). الأنبياء: 60.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 130

لا تقدر على الحركة و الفعل، فمع تلك القرينة و التسليم الواضح بينه و بينهم، بل و بين جميع العقلاء، إذا أجاب إبراهيم بهذا الكلام يعلم منه أنّه لم يتكلم به لغاية الجد، بل لغاية أُخرى حتى ينتبه القوم إلى خطئهم في العقيدة.

و يزيد توضيحاً ما ورد في القصص: إنّ إبراهيم بعد أنْ حطّم الأصنام الصغيرة جعل الفأس على عنق كبيرها، حتى تكون نسبة التحطيم إلى الكبير مقرونة بالقرينة و هي: أنّ آلة الجرم تشهد على كون الكبير هو المجرم دون إبراهيم، و من المعلوم أنّ هذا العمل و الشهادة المزعومة، أشبه شي ء في مقام العمل باستهزائه بالقوم و سخريته مما يعتقدون.

فعلى تلك القرائن قد تكلّم إبراهيم بهذه الكلمة لا عن غاية الجد، بل لغاية أُخرى كما يبيّنها القرآن، فإذا انتفى الجد بشهادة القرائن القاطعة ينتفي الكذب.

و أمّا الغاية من هذا الكلام فهو أنّه طرح كلامه بصورة الجد و إن لم يكن عن جد حقيقي، و طلب منهم أن يسألوا الأصنام بأنفسهم، و

أنّه مَن فعل هذا بهم؟ لغاية أخذ الاعتراف منهم بما أقرّوا به في الآية، أعني قولهم: «لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ» حتى يتسنّى للخليل- عليه السَّلام- كبتهم و توبيخهم- بأنّه إذا كان هؤلاء على ما يصفون- بقوله- عليه السَّلام-: «أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ* أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ» «1»، و في موضع آخر يقول: «أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ* وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ» «2»، فتبين من ذلك أنّ قوله: «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ» لم يكن كلاماً عن جد و جزم و عزم حتى يوصف بالكذب، بل

__________________________________________________

(1). الأنبياء: 66- 67.

(2). الصافات: 95- 96.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 131

كان كلاماً أُلقي على صورة الجد ليكون ذريعة لإبطال عبادتهم و شركهم، و كانت القرائن تشهد على أنّه ليس كلاماً جديّاً و لو كان هذا الكلام صادراً من عاقل غير النبي- عليه السَّلام- لأجزنا لأنفسنا أن نقول: إنّ الغاية، الاستهزاء و التهكّم بعبدة الأصنام و الأوثان حتى يتنبهوا بذلك الوجه إلى بطلان عقيدتهم.

و لما كان هذا النمط من الحوار و الاحتجاج الذي سلكه إبراهيم في غاية القوّة و المتانة، لم يجد القوم جواباً له إلّا الحكم عليه بالتعذيب و الإحراق شأن كل مجادل و معاند إذا أفحم، كما يقول سبحانه: «قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ* فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ» «1»، و في آية أُخرى: «قالُوا حَرِّقُوهُ وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ» «2»، هذا هو الحق الصراح لمن طالع القصة في القرآن الكريم، و من أمعن النظر فيها يجد أنّ الجواب هو ما ذكرنا.

* جواب آخر عن السؤال

و ربّما يجاب

بأنّه لم يكذب و انّما نسب الفعل إلى كبيرهم مشروطاً لا منجزاً، و انّما يلزم الكذب لو نسبه على وجه التنجيز حيث قال: «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ» فكأنّه قال: فعل كبيرهم هذا العمل إن كانت الأصنام المكسورة ناطقة، و بما أنّ المشروط ينتفي بانتفاء شرطه، و كان الشرط- أعني نطقها- منتفياً كان المشروط- أي كون الكبير قائماً بهذا الفعل- منتفياً أيضاً.

و هذا الجواب لا ينطبق على ظاهر الآية، لأنّها تشتمل على فعلين:

أحدهما قريب من الشرط، و الآخر بعيد عنه، و مقتضى القاعدة رجوع

__________________________________________________

(1). الصافات: 97- 98.

(2). الأنبياء: 68.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 132

الشرط إلى القريب من الفعلين لا إلى البعيد، و الرجوع إلى كلا الفعلين خلاف الظاهر أيضاً، و إليك توضيحه:

1. بل فعله كبيرهم: الفعل البعيد من الشرط.

2. فاسألوهم: الفعل القريب من الشرط.

3. ان كانوا ينطقون: هذا هو الشرط.

فرجوعه إلى الأوّل وحده، أو كليهما، خلاف الظاهر، و المتعين رجوعه إلى الثاني، فصار الحكم بأنّه فعله كبيرهم منجزاً لا مشروطاً.

* الآية الثالثة

استدلت المخطّئة لعصمة إبراهيم بالآية الثالثة، أعني قوله سبحانه: «وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ* إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ* إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ* أَ إِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ* فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ* فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ* فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ* فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ* فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَ لا تَأْكُلُونَ» «1».

فاستدلوا بقوله: «إِنِّي سَقِيمٌ» قائلين بأنّه لم يكن سقيماً، و انّما ذكر ذلك عذراً لترك مصاحبتهم في الخروج عن البلد.

أضف إلى ذلك انّ قوله: «فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ» يشبه ما يفعله المنجمون حيث يستكشفون من الأوضاع الفلكية، الأحداث الأرضية.

و الجواب: انّ الإشكال مبني

على أنّه- عليه السَّلام- قال: «إِنِّي سَقِيمٌ» و لم يكن سقيماً، و لم يدل على ذلك دليل إذ من الممكن أنّه كان سقيماً في ذلك الوقت، و أمّا

__________________________________________________

(1). الصافات: 83- 91.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 133

قوله: «فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ»، فمن المحتمل جداً أنّه نظر إلى السماء متفكراً حتى يلاحظ حاله و انّه هل يقدر على المغادرة معهم أم لا، و العرب تقول لمن تفكر: «نظر في النجوم» بمعنى أنّه نظر إلى السماء متفكراً في جواب سؤال القوم، كما يفعل أحدنا عند ما يريد أن يفكر في شي ء.

و يؤيد ذلك أنّه- عليه السَّلام- قاله عند ما دعاه قومه إلى الخروج معهم لعيد لهم، فعند ذلك نظر إلى النجوم و أخبرهم بأنّه سقيم، و من المعلوم أنّ الخروج إلى خارج البلد لأجل التنزّه لم يكن في الليل بل كان في الضحى، فلو كانت الدعوة عند مطلع الشمس و أوّل الضحى لم يكن النظر إلى النجوم بمعنى ملاحظة الأوضاع الفلكية، إذ كانت النجوم عندئذ غاربة، فلم يكن الهدف من هذه النظرة إلّا التفكر و التأمل.

نعم لو كانت الدعوة في الليل لأجل الخروج في النهار كان النظر إلى النجوم مظنة لما قيل، و لكنه غير ثابت.

نعم هناك معنى آخر لقوله: «فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ»، و هو أنّه- عليه السَّلام- كان به حمّى ذات نوبة تعتريه في أوقات خاصة متعينة بطلوع كوكب أو غروبه، فلأجل ذلك نظر في النجوم، و وقف على أنّها قريبة الموعد، و العرب تسمّي المشارفة على الشي ء باسم الداخل فيه، و لهذا يقولون لمن أضعفه المرض، و خيف عليه الموت «هو ميت» و قال تعالى لنبيّه: «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ» «1».

و

أمّا استعمال كلمة «في» مكان «إلى» في قوله: «فِي النُّجُومِ»، فلأجل أنّ الحروف يقوم بعضها مقام بعض، قال اللَّه تعالى:

«وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ

__________________________________________________

(1). الزمر: 30.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 134

النَّخْلِ» «1» و إنّما أراد على جذوعها، و قال الشاعر:

و افتحي الباب و انظري في النجوم كم علينا من قطع ليل بهيم

* جواب آخر عن الشبهة

و ربّما يجاب عن الإشكال: انّه من قبيل المعاريض في الكلام، و المعاريض: عبارة عن أن يقول الرجل شيئاً يقصد به غيره و يفهم منه غير ما يقصده، فلعلّه نظر في النجوم نظر الموحِّد في صنعه تعالى، الذي يستدل به على خالقه و صفاته، و لكن القوم حسبوا أنّه ينظر إليها نظر المنجِّم فيها ليستدل بها على الحوادث، فقال: «إِنِّي سَقِيمٌ». «2»

و لا يخفى أنّ الجواب مبني على أنّه لم يكن سقيماً آنذاك، و هو بعد غير ثابت، على أنّ المعاريض غير جائزة على الأنبياء لارتفاع الوثوق بذلك عن قولهم.

و بذلك يعلم قيمة ما أخرجه أصحاب الصحاح و السنن من طرق كثيرة عن أبي هريرة: انّ رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- قال: لم يكذب إبراهيم- عليه السَّلام- غير ثلاث كذبات: ثنتين في ذات اللَّه: قوله: «إِنِّي سَقِيمٌ» و قوله: «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا» و قوله في سارة: «هي أختي». «3»

و قد عرفت أنّ إبراهيم لم يكذب في الأُوليين، و أمّا الثالثة فهي مروية في التوراة المحرّفة، فهل يمكن بعد هذا، الاعتماد على الرواية؟!

و العجب أنّ ابن كثير صار بصدد تصحيح الرواية، و قال: ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله، حاشا و كلّا، و انّما أُطلق الكذب على هذا

__________________________________________________

(1). طه:

71.

(2). تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 4/ 13.

(3). تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 4/ 13.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 135

تجوزاً، و انّما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني كما جاء في الحديث «انّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب».

و نحن لا «1» نعلّق على الحديث و لا على التوجيه الذي ارتكبه ابن كثير شيئاً و انّما نحيل القضاء فيه إلى وجدان القارئ الكريم، و كفى في سقم الحديث أنّه من مرويات أبي هريرة، كما يكفي في كذب الحديث أنّه من الإسرائيليات التي وردت في التوراة المحرّفة.

و العجب أنّ رواة هذا الحديث يزرون على الشيعة في قولهم بالتقية، بأنّها مستلزمة للكذب مع أنّ التقية من المعاريض التي جوّزها القرآن و السنّة في شرائط خاصة لأشخاص معينين.

هذه هي الآيات التي استدلت المخطّئة بها على عدم عصمة بطل التوحيد، و قد عرفت مفادها، و هناك آيات أُخر آيات نزلت في حقه، ربّما وقعت ذريعة لهؤلاء المخطّئة، و بما أنّها واضحة المضمون لا نرى حاجة إلى البحث عنها، و كفانا في هذا المضمار ما ذكره السيد المرتضى في «تنزيهه» فمن أراد الوقوف عليها فليرجع إليه.

كما أنّهم استدلّوا بآيات نزلت في حق يعقوب، لتخطئته و بما أنّ الشبهات ضعيفة تركنا البحث عنها و عطفنا عنان القلم إلى بعض ما استدلت به المخطّئة في هذا المضمار في حق صدِّيق عصره و نزيه دهره سيدنا يوسف عليه و على نبينا و آله الصلاة و السلام.

__________________________________________________

(1). تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 4/ 13.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 136

4 عصمة يوسف- عليه السَّلام- و قول اللَّه «... وَ هَمَّ بِها»

اشارة

يوسف الصدِّيق هو الأُسوة

إنّ فيما ورد في سورة يوسف من الآيات، لأجلى دليل على أنّه الإنسان المثالي

الذي لا يعدّ له مثال، كيف؟ و قد دلّت الآيات على أنّه سبحانه اجتباه من بداية حياته و صباه، و علّمه من تأويل الأحاديث، و أتمّ نعمته عليه، و قد قام القرآن بسرد قصته و أسماها بأحسن القصص، ففيها براهين واضحة على طهارته و نزاهته و عصمته من الذنوب، و صيانته من المعاصي، و تفانيه في مرضاة اللَّه، كيف؟ و قد ابتلاه اللَّه سبحانه بلاءً حسناً، فوجده صابراً متمالكاً لنفسه عند الشهوات و المحرمات، و ناجياً من الغمرات التي لا ينجو منها إلّا من عصمه اللَّه سبحانه، فقد ظهر بهذا البلاء باطنه، و تجلّت به حقيقته، و بان أنّه الإنسان الذي حاق به الخوف من اللَّه سبحانه، فطفق لا يغفل عنه طرفة عين و لا يبدل رضاه بشي ء.

كيف؟ و من طالع القصة يقف على أنّ نجاة يوسف من مخالب الشهوة و خدعة امرأة العزيز لم تكن إلّا أمراً خارقاً للعادة، و لو لا عصمته لما كانت النجاة ممكنة، بل كانت أمراً أشبه بالرؤيا منه باليقظة.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 137

و في هذا الصدد يقول العلّامة الطباطبائي:

فقد كان يوسف رجلًا، و من غريزة الرجال الميل إلى النساء، و كان شاباً، بالغاً أشده، و ذاك أوان غليان الشهوة و فوران الشبق، و كان ذا جمال بديع يدهش العقول و يسلب الألباب، و الجمال و الملاحة يدعوان إلى الهوى؟ هذا من جانب، و من جانب آخر كان مستغرقاً في النعمة و هني ء العيش، محبوراً بمثوى كريم، و ذلك من أقوى أسباب التهوّس، و كانت الملكة فتاة فائقة الجمال كما هو الحال في حرم الملوك و العظماء، و كانت لا محالة متزيّنة لما يأخذ بمجامع كل قلب،

و هي عزيزة مصر- و مع ذلك- عاشقة له والهة تتوق نفسها إليه، و كانت لها سوابق الإكرام و الإحسان و الإنعام ليوسف، و ذلك كلّه مما يقطع اللسان و يصمت الإنسان و قد تعرّضت له، ودعته إلى نفسها، و الصبر مع التعرّض أصعب، و قد راودته هذه الفتّانة و أتت بما في مقدرتها من الغنج و الدلال، و قد ألحت عليه فجذبته إلى نفسها حتى قدت قميصه، و الصبر معه أصعب و أشق، و كانت عزيزة لا يرد أمرها و لا يثنى رأيها، و هي رتبة خصّها بها العزيز، و كان في قصر زاه من قصور الملوك ذي المناظر الرائعة التي تبهر العيون و تدعو إلى كل عيش هني ء.

و كانا في خلوة، و قد غلّقت الأبواب و أرخت الستور، و كان لا يأمن من الشر مع الامتناع، و كان في أمن من ظهور الأمر و انتهاك الستر، لأنّها كانت عزيزة، بيدها أسباب الستر و التعمية، و لم تكن هذه المخالطة فائتة لمرة بل كانت مفتاحاً لعيش هني ء طويل، و كان يمكن ليوسف أن يجعل هذه المخالطة و المعاشقة وسيلة يتوسل بها إلى كثير من آمال الحياة و أمانيها كالملك و العزّة و المال.

فهذه أسباب و أُمور هائلة لو توجهت إلى جبل لهدّته، أو أقبلت على صخرة صمّاء لأذابتها، و لم يكن هناك ممّا يتوهم مانعاً إلّا الخوف من ظهور الأمر، أو

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 138

مناعة نسب يوسف، أو قبح الخيانة للعزيز، و لكن الكل غير صالح لمنع يوسف عن ارتكاب العمل.

أمّا الخوف من ظهور الأمر فقد مرّ أنّه كان في أَمن منه، و لو كان بدا من ذلك شي ء لكان في

وسع العزيزة أن تأوّله تأويلًا كما فعلت فيما ظهر من أمر مراودتها، فكادت حتى أرضت نفس العزيز إرضاءً، فلم يؤاخذها بشي ء، و قلبت العقوبة على يوسف حتى سجن.

و أمّا مناعة النسب فلو كانت مانعة لمنعت إخوة يوسف عمّا هو أعظم من الزنا و أشد اثماً، فانّهم كانوا أبناء إبراهيم و إسحاق و يعقوب أمثال يوسف، فلم تمنعهم شرافة النسب من أن يهمّوا بقتله و يلقوه في غيابت الجب، و يبيعوه من السيّارة بيع العبيد، و يثكلوا فيه أباهم يعقوب النبي، فبكى حتى ابيضّت عيناه.

و أمّا قبح الخيانة و حرمتها فهو من القوانين الاجتماعية، و القوانين الاجتماعية إنّما تؤثر أثرها بما تستتبعه من التبعة على تقدير المخالفة و ذلك إنّما يتم فيما إذا كان الإنسان تحت سلطة القوّة المجرية و الحكومة العادلة، و أمّا لو أغفلت القوّة المجرية، أو فسقت فأهملت، أو خفي الجرم عن نظرها، أو خرج من سلطانها فلا تأثير حينئذ لشي ء من هذه القوانين.

فلم يكن عند يوسف ما يدفع به عن نفسه و يظهر به على هذه الأسباب القوية التي كانت لها عليه، إلّا أصل التوحيد و هو الإيمان باللَّه.

و إن شئت قلت: المحبة الإلهية التي ملأت وجوده و شغلت قلبه، فلم تترك لغيرها محلًا و لا موضع إصبع. «1»

__________________________________________________

(1). الميزان: 11/ 137- 139.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 139

هذا هو واقع الأمر غير أنّ بعض المخطّئة لم يرتض ليوسف هذه المكارم و الفضائل، و استدل على عدم عصمته بما ورد في سورة يوسف في حق العزيزة و من هو في بيتها، قال سبحانه: «وَ راوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَ قالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ

اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ* وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ» «1».

و محل الاستدلال: قوله «وَ هَمَّ بِها» أي همّ بالمخالطة، و انّ همّه بها كان كهمّها به، و لو لا أنّ رأى برهان ربّه لفعل، و قد صانته عن ارتكاب الجريمة- بعد الهمّ بها- رؤية البرهان.

و بعبارة أُخرى: انّ المخطّئة جعلت كلا من المعطوف و المعطوف عليه «وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ- وَ هَمَّ بِها» كلاماً مستقلًا غير مقيّد بشي ء، و كأنّه قال:

و لقد همّت به: أي بلا شرط و قيد.

و همّ بها: أي جزماً و حتماً.

ثمّ بعد ذلك- أي بعد الإخبار عن تحقّق الهم من الطرفين- استدرك بأنّ العزيزة بقيت على همّها و عزمها إلى أن عجزت، و أمّا يوسف فقد انصرف عن الاقتراف لأجل رؤية برهان ربِّه، و لأجل ذلك قال:

«لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ» أي و لو لا الرؤية لاقترف و فعل و ارتكب، لكنّه رأى فلم يقترف و لم يرتكب، فجواب لو لا محذوف و تقديره «لاقترف».

ثمّ إنّ المخطّئة استعانوا في تفسير الآية بما ذكروه من الإسرائيليات التي لا

__________________________________________________

(1). يوسف: 23- 24.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 140

يصح أن تنقل، و انّما ننقل خبراً واحداً ليكون القارئ على اطلاع عليها: قالوا: جلس يوسف منها مجلس الخائن، و أدركه برهان ربّه و نجّاه من الهلكة، ثمّ إنّهم نسجوا هناك أفكاراً خيالية في تفسير هذا البرهان المرئي؛ فقالوا: إنّ طائراً وقع على كتفه، فقال في أُذنه: لا تفعل، فإن فعلت سقطت من درجة الأنبياء؛ و قيل: إنّه رأى

يعقوب عاضاً على إصبعه، و قال: يا يوسف أما تراني؟ إلى غير ذلك من الأوهام التي يخجل القلم من نقلها.

غير انّ رفع الستر عن مرمى الآية يتوقف على البحث عن أُمور:

1. ما هو معنى «الهم» في قوله: «وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها».

2. ما هو جواب «لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ» و هذا هو العمدة في تفسير الآية.

3. ما هو معنى البرهان؟

4. دلالة الآية على عصمة يوسف، و إليك تفسيرها واحداً تلو الآخر.

* 1. ما معنى الهم؟

لقد فسّره ابن منظور في لسانه بقوله: همّ بالشي ء يهم همّاً: نواه و أراده و عزم عليه، قال سبحانه: «وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا» «1».

روى أهل السير: أنّ طائفة من المنافقين عزموا على أن يغتالوا رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- في العودة من تبوك، و لأجل ذلك وقفوا على طريقه، فلمّا قربوا من رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- أمر بتنحيتهم، و سمّاهم رجلًا رجلًا. «2»

__________________________________________________

(1). التوبة: 74.

(2). مجمع البيان: 3/ 51 و غيره.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 141

هذا هو معنى الهم، و تؤيده سائر الآيات الوارد فيها لفظ الهم، و لو استعمل في مورد في خطور الشي ء بالبال، و إن لم يقع العزم عليه، فهو استعمال نادر لا يحمل عليه صريح الكتاب.

أضف إلى ذلك أنّ الهمين في الموردين بمعنى واحد، و بما أنّ هم العزيزة كان بنحو العزم و الإرادة، وجب حمل الهم في جانب يوسف عليه أيضاً لا على خطور الشي ء بالبال، لأنّه تفكيك بين اللفظين من حيث المعنى بلا قرينة، و لكن تحقّق أحد الهمين دون الآخر، لأنّ هم يوسف كان مشروطاً بعدم رؤية برهان ربِّه،

و بما أنّ العدم انقلب إلى الوجود، و رأى البرهان لم يتحقق هذا الهم من الأساس، كما سيوافيك، نعم لا ننكر أنّ الهم قد يستعمل بالقرينة في مقابل العزم، قال كعب بن زهير:

فكم فهموا من سيد متوسع و من فاعل للخير ان همّ أو عزم و لكن التقابل بين الهم و العزم أوجب حمل الهم على الخطور بالبال، و لولاه لحمل على نفس العزم.

كما ربّما يستعمل في معنى المقاربة فيقولون: همّ بكذا و كذا، أي كاد يفعله، و على كل تقدير فالمعنى اللائح من الهم في الآية هو العزم و الإرادة.

* 2. ما هو جواب لو لا؟

لا شك أنّ «لو لا» في قوله سبحانه: «لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ» ابتدائية. فلا تدخل إلّا على المبتدأ مثل «لوما» قال ابن مالك.

لو لا و لو ما يلزمان الابتداء إذ امتناعاً بوجود عقدا عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 142

و مما لا شك فيه أنّ «لو لا» الابتدائية تحتاج إلى جواب، و يكون الجواب مذكوراً غالباً مثل قول القائل:

كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية لو لا رجاؤك قد قتلت أولادي و قد تواترت الروايات عن الخليفة عمر بن الخطاب أنّه قال في مواضع خطيرة: «لو لا علي لهلك عمر».

و ربّما يحذف جوابها لدلالة القرينة عليه أو انفهامه من السياق، كقوله سبحانه: «وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ» «1»، أي و لو لا فضل اللَّه و رحمته عليكم لهلكتم، و ربّما يحذف الجواب لدلالة الجملة المتقدمة عليه كقوله: «قد كنت هلكت لو لا أن تداركتك»، و قوله: «و قتلت لو لا أنّي قد خلصتك»، و المعنى لو لا تداركي لهلكت، و لو لا تخليصي

لقُتلت، و مثل لو لا سائر الحروف الشرطية قال الشاعر:

فلا يدعني قومي صريعاً لحرة لئن كنت مقتولًا و يسلم عامر و قال الآخر:

فلا يدعني قومي ليوم كريهة لئن لم أعجل طعنة أو أعجل فحذف جواب الشرط في البيتين لأجل الجملة المتقدمة.

و بالجملة: لا إشكال في أنّ جواب الحروف الشرطية عامة، و جواب «لو لا» خاصة، يكون محذوفاً إمّا لفهمه من السياق أو لدلالة كلام متقدم عليه و المقام من

__________________________________________________

(1). النور: 10.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 143

قبيل الثاني، فقوله سبحانه: «وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ» يؤوّل إلى جملتين: إحداهما مطلقة، و الأُخرى مشروطة.

أمّا المطلقة فهي قوله: «وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ»، و هو يدل على تحقّق «الهم» من عزيزة مصر بلا تردد.

أمّا المقيدة فهي قوله: «وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ» و تقديره: «لو لا أن رأى برهان ربّه لهمّ بها» فيدل على عدم تحقق الهم منه لما رأى برهان ربّه، و أمّا الجملة المتقدمة على «لو لا» أعني قوله «وَ هَمَّ بِها» فلا تدل على تحقق الهم، لأنّها ليست جملة منفصلة عمّا بعدها، حتى تدل على تحقق الهمّ، و انّما هي قائمة مكان الجواب، فتكون مشروطة و معلّقة مثله، و سيوافيك تفصيله عن قريب.

* 3. ما هو البرهان؟

البرهان هو الحجة و يراد به السبب المفيد لليقين، قال سبحانه: «فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ» «1»، و قال تعالى:

«يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ» «2»، و قال سبحانه: «أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» «3»، فالبرهان هو الحجة اليقينية التي تجلي الحق و لا

تدع ريباً لمرتاب، و على ذلك فيجب أن يعلم ما هذا البرهان الذي رآه يوسف- عليه السَّلام-؟

و الذي يمكن أن يكون مصداق البرهان في المقام هو العلم المكشوف و اليقين المشهود الذي يجر النفس الإنسانية إلى طاعة لا تميل معها إلى معصية،

__________________________________________________

(1). القصص: 32.

(2). النساء: 174.

(3). النمل: 64.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 144

و انقياد لا تصاحبه مخالفة، و قد أوضحنا عند البحث عن العصمة انّ إحدى أُسس العصمة هو العلم اليقين بنتائج المآثم و عواقب المخالفة علماً لا يغلب، و انكشافاً لا يقهر، و هذا العلم الذي كان يصاحب يوسف هو الذي صدّه عمّا اقترحت عليه امرأة العزيز.

و يمكن أن يكون المراد منه سائر الأُمور التي تفيض العصمة على العباد التي أوضحنا حالها. «1»

* 4. دلالة الآية على عصمة يوسف- عليه السَّلام-
اشارة

إنّ الآية على رغم ما ذهبت إليه المخطّئة تدل على عصمة يوسف- عليه السَّلام- قبل أن تدلّ على خلافها.

توضيحه: انّه سبحانه بيّن همّ العزيزة على وجه الإطلاق و قال: «و هَمَّتْ بِهِ»، و بيّن همّ يوسف بنحو الاشتراط و قال: «وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ»، فالقضية الشرطية لا تدل على وقوع الطرفين خصوصاً مع كلمة «لو لا» الدالة على عدم وقوعهما.

فإن قلت: إنّ كلًّا من الهمين مطلق حتى الهم الوارد في حق يوسف و انّما يلزم التعليق لو قلنا بجواز تقدم جواب لو لا الامتناعية عليها و هو غير جائز بالاتفاق و عليه فيكون قوله: «وَ هَمَّ بِها» مطلقاً إذ ليس جواباً لكلمة «لو لا».

قلت: إنّ جواب «لو لا» محذوف و تقديره «لهمّ بها» و ليست الجملة المتقدمة جواباً لها حتى يقال: انّ تقدم الجواب غير جائز بالاتفاق، و مع ذلك فليست

تلك الجملة مطلقة، بل هي أيضاً مقيدة بما قيد به الجواب، لأنّه إذا كان الجواب مقيداً

__________________________________________________

(1). راجع ص 21- 25 من هذا الكتاب.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 145

فالجملة القائمة مكانه تكون مثله، و له نظير في الكتاب العزيز مثل قوله: «وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا» «1»، و المعنى انّه سبحانه ثبّت نبيه فلم يتحقّق منه الركون و لا الاقتراب منه.

و قال سبحانه: «وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ ما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ» «2» و المعنى أنّ تفضّله سبحانه على نبيه صار سبباً لعدم هم الطائفة على إضلاله.

و الآية مثل الآيتين غير أنّ الجواب فيها محذوف لدلالة الجملة المتقدمة عليه بخلافهما.

و حاصل الكلام: أنّه في مورد الآية و نظائرها يكون الجزاء منتفياً بانتفاء شرطه، غير انّ هذه الجمل إنّما تستعمل في ما إذا كانت هناك أرضية صالحة لتحقق الجزاء، و إن لم يتحقق لانتفاء الشرط، و في مورد الآية، أرضية الهم كانت موجودة في جانب يوسف لتجهزه بالقوى الشهوية، و غيرها من قوى النفس الأمارة، و كانت هذه العوامل مقتضية لحدوث الهم بالفحشاء، و لكن صارت خائبة غير مؤثرة لأجل رؤية برهان ربّه، و الشهود اليقيني الذي يمنع النبي عن اقتراف المعصية و الهم بها.

و إن شئت قلت: منعته المحبة الإلهية التي ملأت وجوده و شغلت قلبه، فلم تترك لغيرها موضع قدم، فطرد ما كان يضاد تلك المحبة.

و هذا هو مفاد الآية و لا يشك فيه من لاحظ المقدمات الأربع التي قدّمناها.

و على ذلك فبما انّ «اللام» في قوله: «وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ» للقسم

يكون معنى

__________________________________________________

(1). الإسراء: 74.

(2). النساء: 113.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 146

قوله: «وَ هَمَّ بِها» بحكم عطفه عليه و المعنى: و اللَّه لقد همت امرأة العزيز به و و اللَّه لو لا أن رأى يوسف برهان ربّه لهمّ بها، و لكنّه لأجل رؤية البرهان و اعتصامه، صرف عنه سبحانه السوء و الفحشاء، فإذا به- عليه السَّلام- لم يهم بشي ء و لم يفعل شيئاً، لأجل تلك الرؤية.

* أسئلة و أجوبة
اشارة

و لأجل رفع الغطاء عن وجه الحقيقة على الوجه الأكمل تجب الإجابة عن عدة من الأسئلة التي تثار حول الآية، و إليك بيانها و أجوبتها:

* السؤال الأوّل

انّ تفسير الهمّ الوارد في الآية في كلا الجانبين بالعزم على المعصية، تكرار لما جاء في الآية المتقدمة بصورة واضحة و هي قوله:

«وَ راوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَ قالَتْ هَيْتَ لَكَ» و مع هذا البيان الواضح لا وجه لتكراره ثانياً بقوله:

«وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها» خصوصاً في همّها به إذ ورد في الآية المتقدمة بصورة واضحة أعني قوله: «هَيْتَ لَكَ».

و الجواب: انّ الدافع إلى التكرار ليس هو لإفادة نفسه مرة ثانية بل الدافع هو بيان كيفية نجاة يوسف من هذه الغائلة، و لأجل ذلك عاد إلى نفس الموضوع مجدّداً ليذكر مصير القصة و نهايتها، و هذا نظير ما إذا حدّث أحد عن تنازع شخصين و إضرار أحدهما بالآخر و استعداده للدفاع عن نفسه، فإذا أفاد ذلك ثمّ أراد أن يشير إلى نتيجة ذلك العراك يعود ثانيةً إلى بيان أصل التنازع حتى يبين مصيره و نهايته و الآيتان من هذا القبيل.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 147

و بذلك يظهر أنّ ما أفاده صاحب المنار في هذا المقام غير سديد حيث قال: إنّه قد علم من القصة أنّ هذه المرأة كانت عازمة على ما طلبته طلباً جازماً مصرّة عليه ليس عندها أدنى تردّد فيه و لا مانع منه يعارض المقتضى له، فإذاً لا يصح أن يقال: إنّها همّت به مطلقاً إذ الهم مقاربة الفعل المتردد فيه. «1»

أقول: قد عرفت دافع التكرار فلا نعيده، بقي الكلام فيما أفاده في تفسير الهم بأنّه

عبارة «عن مقاربة الفعل المتردّد فيه» و لا يخفى أنّه لا يصح في قوله سبحانه: «وَ هَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ» «2»، أي إخراج الرسول من مكة، فهم كانوا جازمين بذلك، و قد تآمروا عليه في ليلة خاصة معروفة في السيرة و التاريخ، كما لا يصح في قوله سبحانه: «وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا» «3»، حيث حاول المنافقون أن ينفروا بعير النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- في العقبة في منصرفه من غزوة تبوك.

* السؤال الثاني

إنّ تفسير البرهان بالعصمة لا يتناسب مع سائر استعمالاته في القرآن مثلًا البرهان في قوله سبحانه: «فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ» «4» عبارة عن معاجز موسى من العصا و اليد البيضاء، و على ذلك فيجب أن يفسر البرهان بشي ء ينطبق على الإعجاز لا العصمة التي هي من مقولة العلم.

و الجواب: انّ البرهان بمعنى الحجة و هي تنطبق تارة على المعجزة و أُخرى على العلم المكشوف و اليقين المشهود الذي يصون الإنسان عن اقتراف المعاصي،

__________________________________________________

(1). تفسير المنار: 12/ 286.

(2). التوبة: 13.

(3). التوبة: 74.

(4). القصص: 32.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 148

و قد سبق منا أنّ العصمة «1» لا تسلب القدرة، فهي حجة للنبي في آجله و عاجله و دليل في حياته إلى سعادته.

* السؤال الثالث

إنّ قوله سبحانه: «كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ» ظاهر في أنّ «السُّوءَ» غير «الْفَحْشاءَ» فلو فسر قوله: «وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها» بالعزم على المعصية يلزم كونهما بمعنى واحد و هو خلاف الظاهر.

و الجواب: انّ المراد من «السُّوءَ» هو الهم و العزم، و المراد من «الْفَحْشاءَ» هو نفس العمل، فاللَّه سبحانه صرف ببركة العصمة- نفس الهم و نفس الاقتراف- كلا الأمرين.

قال العلّامة الطباطبائي: الأنسب أنّ المراد بالسوء هو الهم بها و الميل إليها، كما أنّ المراد بالفحشاء اقتراف الفاحشة و هي الزنا، ثمّ قال: و من لطيف الإشارة ما في قوله: «لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ» حيث جعل السوء و الفحشاء مصروفين عنه لا هو مصروفاً عنهما، لما في الثاني من الدلالة على أنّه كان فيه ما يقتضي اقترافه لهما المحوج إلى صرفه عن ذلك، و هو ينافي شهادته تعالى بأنّه من عباده المخلصين، و هم

الذين أخلصهم اللَّه لنفسه فلا يشاركهم فيه شي ء، و لا يطيعون غيره من تسويل شيطان أو تزيين نفس أو أيّ داع من دون اللَّه سبحانه.

ثمّ قال: و قوله: «إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ» في مقام التعليل لقوله: «كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ»، و المعنى عاملنا يوسف كذلك، لأنّه من عبادنا المخلصين، و يظهر من الآية انّ من شأن المخلصين أن يروا برهان ربّهم

__________________________________________________

(1). راجع الجزء الرابع من مفاهيم القرآن: 401- 405.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 149

و إنّ اللَّه سبحانه يصرف كل سوء و فحشاء عنهم فلا يقترفون معصيته و لا يهمون بها بما يريهم اللَّه من برهانه، و هذه هي العصمة الإلهية. «1»

* السؤال الرابع

لو كان المراد من «بُرْهانَ رَبِّهِ» هو العصمة، فلما ذا قال سبحانه: «رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ»، فإنّ هذه الكلمة تناسب الأشياء المحسوسة كالمعاجز و الكرامات لا العصمة التي هي علم قاهر لا يغلب و يصون صاحبه عن اقتراف المعاصي.

أقول: إنّ الرؤية كما تستعمل في الرؤية الحسية و الرؤية بالأبصار، تستعمل أيضاً في الإدراك القلبي و الرؤية بعين الفؤاد قال سبحانه: «ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى «2»، و قوله سبحانه: «أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً» «3»، و قوله سبحانه: «وَ لَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَ رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَ يَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» «4»، و هذه الآيات و نظائرها تشهد بوضوح بأنّ الرؤية تستعمل في الإدراك القلبي و الاستشعار الباطني.

و على ذلك فيوسف الصديق لمّا وقع مقابل ذلك المشهد المغري، الذي يسلب اللب و العقل عن البشر، كان المتوقع بحكم كونه بشراً، الميل إلى المخالطة معها و العزم على الإتيان

بالمعصية، و لكنّه لما أدرك بالعلم القاطع أثر تلك المعصية صانه ذلك عن أي عزم و همّ بالمخالطة.

هذا هو المعنى المختار في الآية، و بذلك تظهر نزاهة يوسف عن أي هم

__________________________________________________

(1). الميزان: 11/ 142.

(2). النجم: 11.

(3). فاطر: 8.

(4). الأعراف: 149.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 150

و عزم على المخالطة.

و هناك تفسير آخر للآية يتفق مع المعنى المختار في تنزيه يوسف عن كل ما لا يناسب ساحة النبوة غير أنّه من حيث الانطباق على ظاهر الآية يعد في الدرجة الثانية، و هذا المعنى هو الذي اختاره صاحب «المنار» و طلاه بعض المعاصرين و زوّقه، و سيوافيك بيان صاحب المنار و ما جاء به ذلك المعاصر في البحث التالي:

* المعنى الثاني للآية

انّ المراد من الهم في كلا الموردين هو العزم على الضرب و القتل مثل قوله سبحانه: «وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا» «1» حيث قصد المشركون اغتيال النبي عند منصرفه من تبوك، فيكون المعنى أنّ امرأة العزيز همت بضربه و جرحه و بطبيعة الحال لم يكن أمام يوسف إلّا أن يدافع عن نفسه غير انّه رأى انّ ذلك ربّما ينجر إلى جرح امرأة العزيز و يكون ذلك ذريعة بيدها لاتّهام يوسف و بهته، فقد أدرك هذا المعنى و لم يهم بها و سبقها إلى الباب ليتخلّص منها، و على ذلك فيكون معنى الهم في كلا الموردين هو المضاربة لكنه من جانب العزيزة بدافع و من جانب يوسف بدافع آخر.

و هذا التوجيه يتناسب مع حالة العاشق الواله عند ما يخفق في نيل ما يصبو إليه و يتوق إلى تحصيله، فإنّه في مثل هذا الموقف تحدث له حالة باطنية تدفعه إلى الانتقام من معشوقه الذي

لم يسايره في مطلبه و لم يحقق له غرضه، و قد حدث مثل هذا لامرأة العزيز، فإنّها عند ما أخفقت في نيل ما تريد من يوسف، دفعها الشعور بالهزيمة و الإخفاق إلى الانتقام من يوسف و هذا هو معنى قوله: «وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ»

__________________________________________________

(1). التوبة: 74.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 151

على الإطلاق و بلا تقييد.

و لم يكن في هذه الحالة أمام يوسف إلّا أن يدافع عن نفسه، و لكنّه لما استشعر بأنّ ضرب العزيزة سوف يتخذ ذريعة لبهته و اتهامه، اعتصم عن ضربها و الهمّ بها، و هذا معنى قوله: «وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ».

و هذا المعنى هو المختار لبعض أهل التفسير، و اختاره صاحب المنار، و سعى في تقويته بقوله: تاللَّه لقد همّت المرأة بالبطش به لعصيانه أمرها و هي في نظرها سيدته و هو عبدها و قد أذلّت نفسها له بدعوته الصريحة إلى نفسها بعد الاحتيال عليه بمراودته عن نفسه، و من شأن المرأة أن تكون مطلوبة لا طالبة، و لكن هذا العبد العبراني قد عكس القضية و خرق نظام الطبيعة فأخرج المرأة من طبع أُنوثتها في دلالها و تمنعها و هبط بالسيدة المالكة من عز سيادتها و سلطانها و عندئذ همّت بالبطش به في ثورة غضبها و هو انتقام معهود من مثلها و ممن دونها في كل زمان و مكان. «1»

ثمّ إنّ بعض المعاصرين اختار المعنى المذكور غير انّه فسر «بُرْهانَ رَبِّهِ» بغير الوجه المذكور في هذا الرأي بل فسره بانفتاح الباب بإرادة اللَّه سبحانه حيث إنّ امرأة العزيز كانت قد غلقت الأبواب و أحكمت سدها، و عند ما وقع هذا الشجار بينها و بين

يوسف، سبق يوسف إلى الباب فراراً منها و انفتح الباب له بإرادة اللَّه سبحانه، و هذا هو برهان الرب الذي رآه، و يدل على ذلك انّ القرآن يصرح بغلق الأبواب و لا يأتي عن انفتاح الباب بأي ذكر، و هذا يدل على أنّ المراد من «بُرْهانَ رَبِّهِ» هو فتح الباب من عند اللَّه سبحانه في وجه يوسف كرامة له.

و لا يخفى ضعف هذا التفسير، و ذلك لأنّه لو كان المراد من البرهان هو

__________________________________________________

(1). تفسير المنار: 12/ 278.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 152

انفتاح الباب لزم ذكره عند قوله أو قبله «وَ اسْتَبَقَا الْبابَ» لا في الآية المتقدمة عليه و يظهر ذلك بملاحظتهما حيث قال:

«وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ ...» «1».

«وَ اسْتَبَقَا الْبابَ وَ قَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَ أَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ» «2».

ترى أنّه يذكر همّه بها و رؤية البرهان في آية ثمّ يذكر استباقهما إلى الباب في آية أُخرى مع الفصل بينهما بذكر أُمور منها «إنه كان من المخلصين»، فلو كان المراد من «رؤية البرهان» هو انفتاح الباب كان المناسب ذكر الاستباق قبلها.

على أنّ الظاهر من قوله «وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ» هو سدّ الأبواب لا إقفالها بمعنى وضع قفل عليها يمتنع معه فتحها بيسر، و إنّما لم تقفلها لأنّها لم تكن تتوقع من يوسف أن لا يستجيب لها و يعصي أمرها.

* المعنى الثالث للآية

انّ الهمّ من جانب يوسف هو خطور الشي ء بالبال و ان لم يقع العزم عليه، و ربّما يستعمل الهم في ذلك، قال كعب بن زهير:

فكم فهموا من سيد متوسع و من فاعل للخير انّ همّ أو عزم و لا يخفى أنّ

هذا التفسير عليل، لأنّ الظاهر من الهمّ في كلا الموردين واحد و لم يكن الهمّ من جانب العزيزة إلّا العزم، و التفكيك بين الهمين خلاف الظاهر.

و على كل تقدير فقصة يوسف الواردة في القرآن تدل على نزاهته من أوّل

__________________________________________________

(1). يوسف: 24.

(2). يوسف: 25.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 153

الأمر إلى آخره و إنّه لم يتحقّق منه عزم و لا همّ بالمخالطة لا أنّه همّ و عزم و انصرف لعلة خاصة.

ثمّ إنّ هناك لأكثر المفسرين أقوالًا في تفسير الآية أشبه بقصص القصّاصين، و قد أضربنا عن ذكرها صفحاً، فمن أراد فليرجع إلى التفاسير.

و في مختتم البحث نأتي بشهادة العزيزة بنزاهة يوسف عند ما حصحص الحق و بانت الحقيقة و قد نقلها سبحانه بقوله: «قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ» «1» و شهدت في موضع آخر على طهارته و اعتصام نفسه و قالت: «وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ» «2».

__________________________________________________

(1). يوسف: 51.

(2). يوسف: 32.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 154

5 عصمة موسى- عليه السَّلام- و قتل القبطي و مشاجرته أخاه

اشارة

إنّ الكليم موسى بن عمران أحد الأنبياء العظام، وصفه سبحانه بأتم الأوصاف و أكملها، قال عزّ من قائل: «وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا* وَ نادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَ قَرَّبْناهُ نَجِيًّا* وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا». «1»

و قال سبحانه: «وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَ هارُونَ الْفُرْقانَ وَ ضِياءً وَ ذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ» «2»

و وصف كتابه

بقوله: «وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً» «3».

و مع ذلك كلّه: فقد استدل المخالف بعدم عصمته بأمرين:

أحدهما: قتله القبطي و توصيفه بأنّه من عمل الشيطان.

ثانيهما: مشاجرته أخاه مع عدم كونه مقصّراً، و إليك البحث عن كل واحد منهما.

__________________________________________________

(1). مريم: 51- 53.

(2). الأنبياء: 48.

(3). الأحقاف: 12.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 155

* ألف: عصمة موسى- عليه السَّلام- و قتل القبطي

قال عزّ من قائل: «وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ* قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ» «1».

و يذكر القرآن تلك القصة في سورة الشعراء بصورة موجزة و يقول سبحانه: «أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَ لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ* وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ* قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ» «2».

و تدلّ الآيات على أنّ موسى- عليه السَّلام- ورد المدينة عند ما كان أهلها غافلين عنه، إمّا لأنّه ورد نصف النهار و الناس قائلون، أو ورد في أوائل الليل، و إمّا لغير ذلك، فوجد فيها رجلين كان أحدهما إسرائيلياً و الآخر قبطياً يقتتلان، فاستنصره الذي من شيعته على الآخر، فنصره، فضربه بجمع كفه في صدره فقتله، و بعد ما فرغ من أمره ندم و وصف عمله بما يلي:

1. «هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ».

2. «رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي».

3. «فَاغْفِرْ لِي

فَغَفَرَ لَهُ».

4. «فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ».

__________________________________________________

(1). القصص: 14- 17.

(2). الشعراء: 18- 20.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 156

و هذه الجمل الأربع تعرب عن كون القتل أمراً غير مشروع، و لأجل ذلك وصفه تارة بأنّه من عمل الشيطان، و أُخرى بأنّه كان ظالماً لنفسه، و اعترف عند فرعون بأنّه فعل ما فعل و كان عند ذاك من الضالّين ثالثاً، و طلب المغفرة رابعاً.

أقول: قبل توضيح هذه النقاط الأربع نلفت نظر القارئ الكريم إلى بعض ما كانت الفراعنة عليه من الأعمال الإجرامية، و يكفي في ذلك قوله سبحانه: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» «1»، و لم يكن فرعون قائماً بهذه الأعمال إلّا بعماله القبطيين الذين كانوا أعضاده و أنصاره، و في ظل هذه المناصرة ملكت الفراعنة بني إسرائيل رجالًا و نساءً، فاستعبدوهم كما يعرب عن ذلك قوله سبحانه: «وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ» «2» و لمّا قال فرعون لموسى: «أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً» «3» و استعلى عليه بأنّه ربّاه وليداً منذ أن ولد إلى أن كبر ... أجابه موسى بأنّه هل تمن علي بهذا و قد عبدت بني إسرائيل؟

و على ذلك فقتل واحد من أنصار الطغمة الأثيمة التي ذبحت مئات بل آلاف الأطفال من بني إسرائيل و استحيوا نساءهم، لا يعد في محكمة العقل و الوجدان عملًا قبيحاً غير صحيح، أضف إلى ذلك أنّ القبطي المقتول كان بصدد قتل الإسرائيلي لو لم يناصره موسى كما يحكي عنه قوله: «يَقْتَتِلانِ»، و لو قتله القبطي لم يكن لفعله أيّ رد فعل، لأنّه كان

منتمياً للنظام السائد الذي لم يزل يستأصل بني إسرائيل و يريق دماءهم طوال سنين، فكان قتله في نظره من قبيل قتل الإنسان الشريف أحد عبيده لأجل تخلّفه عن أمره.

إذا وقفت على ذلك، فلنرجع إلى توضيح الجمل التي توهم المستدل بها

__________________________________________________

(1). القصص: 4.

(2). الشعراء: 22.

(3). الشعراء: 18.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 157

دلالتها على عدم العصمة فنقول:

1. انّ قوله: «هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ» يحتمل وجهين:

الأوّل: أن يكون لفظ «هذا» إشارة إلى المناقشة التي دارت بين القبطي و الإسرائيلي و انتهت إلى قتل الأوّل، و على هذا الوجه ليست فيه أيّة دلالة على شي ء ممّا يتوخاه المستدل ... و قد رواه ابن الجهم عن الإمام الرضا- عليه السَّلام- عند ما سأله المأمون عن قوله: «هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ» فقال: الاقتتال الذي كان وقع بين الرجلين لا ما فعله موسى من قتله. «1»

الثاني: انّ لفظ «هذا» إشارة إلى قتله القبطي، و إنّما وصفه بأنّه من عمل الشيطان، لوجهين:

ألف: انّ العمل كان عملًا خطأً محضاً ساقه إلى عاقبة وخيمة، فاضطر إلى ترك الدار و الوطن بعد ما انتشر سره و وقف بلاط فرعون على أنّ موسى قتل أحد أنصار الفراعنة، و ائتمروا عليه ليقتلوه، و لو لا أنّ مؤمن آل فرعون أوقفه على حقيقة الحال، لأخذته الجلاوزة و قضوا على حياته، كما قال سبحانه: «وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ» «2»، فلم تكن لهذا العمل أيّة فائدة فردية أو اجتماعية سوى إلجائه إلى ترك الديار و إلقاء الرحل في دار الغربة «مدين»، و الاشتغال برعي الغنم أجيراً لشعيب- عليه السَّلام-.

فكما أنّ

المعاصي تنسب إلى الشيطان، قال سبحانه: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» «3»،

__________________________________________________

(1). البرهان: 3/ 224؛ عيون أخبار الرضا: 1/ 199.

(2). القصص: 20.

(3). المائدة: 90.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 158

فكذلك الأعمال الخاطئة الناجمة من سوء التدبير و ضلال السعي، السائقة للإنسان إلى العواقب المرة، تنسب إليه أيضاً.

فالمعاصي و الأعمال الخاطئة كلاهما تصح نسبتهما إلى الشيطان بملاك أنّه عدو مضل للإنسان، و العدو لا يرضى بصلاحه و فلاحه بل يدفعه إلى ما فيه ضرره في الآجل و العاجل، و لأجل ذلك قال بعد ما قضى عليه: «هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ».

ب. انّ قتل القبطي كان عملًا ناجماً عن العجلة في محاولة تدمير العدو، و لو أنّه كان يصبر على مضض الحياة قليلًا لنبذ القبطي مع جميع زملائه في اليم من دون أن توجد عاقبة وخيمة، كما قال سبحانه: «فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ» «1».

2. و بذلك يعلم مفاد الجملة الثانية التي هي من إحدى مستمسكات المستدل أعني قوله: «رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي»، فإنّ الكلام ليس مساوقاً للمعصية و مخالفة المولى، بل هو كما صرح به أئمة اللغة و قدمنا نصوصهم عند البحث عن عصمة آدم عبارة عن وضع الشي ء في غير موضعه، و قد عرفت أنّ عمل موسى كان عملًا واقعاً في غير موقعه، و خاطئاً من جهتين: من جهة أنّه ساقه إلى عاقبة مرة، حيث اضطر إلى ترك الأهل و الدار و الديار، و من جهة أُخرى أنّه كان عملًا ناشئاً من الاستعجال في إهلاك العدو بلا موجب، و لأجل تينك الجهتين

كان عملًا واقعاً في غير محله، فصح أن يوصف العمل بالظلم، و العامل بالظالم، و الذي يعرب عن ذلك إنّه جعله ظلماً لنفسه لا للمولى، و لو كان معصية لكان ظلماً لمولاه و تعدياً على حقوقه، كما هو الحال في الشرك فإنّه ظلم للمولى و تعدّ

__________________________________________________

(1). القصص: 40.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 159

عليه، قال سبحانه: «لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» «1».

3. و أمّا الجملة الثالثة، أعني قوله: «فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»، فليس طلب المغفرة دليلًا على صدور المعصية، لأنّه بمعنى الستر، و المراد منه إلغاء تبعة فعله و إنجاؤه من الغم و تخليصه من شر فرعون و ملئه، و قد عبر عنه سبحانه: «وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً» «2»، و قد نجّاه سبحانه بإخبار رجل من آل فرعون عن المؤامرة عليه، فخرج من مصر خائفاً يترقّب إلى أن وصل أرض مدين، فنزل دار شعيب، وقص عليه القصص، و قال له شعيب: «لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» «3».

و بذلك غفر و ستر عمله و نجاه سبحانه من أعين الفراعنة، و مكّن له الورود إلى ماء مدين و النزول في دار أحد أنبيائه- عليهم السَّلام-.

أضف إلى ذلك: أنّ قتل القبطي و إن لم يكن معصية و لكن كان المترقب من موسى تركه و عدم اقترافه، فصدور مثله من موسى يناسب طلب المغفرة، فإنّ حسنات الأبرار سيئات المقربين، إذ ربّ عمل مباح لا يؤاخذ به الإنسان العادي و لكنّه يؤاخذ به الإنسان العارف، فضلًا عن شخصية إلهية سوف تبعث لمناضلة طاغية العصر، فكان المناسب لساحتها هو الصبر و الاستقامة في حوادث الحياة، حلوها و

مرّها، و الفصل بين المتخاصمين بكلام ليّن، و قد أمر به عند ما بعث إلى فرعون فأمره سبحانه أن يقول له قولًا ليناً «4»، و قد أوضحنا مفاد هذه الكلمة عند

__________________________________________________

(1). لقمان: 13.

(2). طه: 40.

(3). القصص: 25.

(4). طه: 44.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 160

البحث عن آدم و حواء إذ: «قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» «1».

4. و أمّا قوله سبحانه: «فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ»، فالمراد من الضلال هو الغفلة عمّا يترتب على العمل من العاقبة الوخيمة، و نسيانها، و ليس ذلك أمراً غريباً، فقد استعمل في هذين المعنيين في الذكر الحكيم، قال سبحانه: «مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى «2»، فالمراد نسيان أحد الشاهدين و غفلته عما شهد به، و قال سبحانه: «أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» «3»، أي إذا غبنا فيها.

قال في لسان العرب: الضلال: النسيان و في التنزيل: «مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى أي يغيب عن حفظها، و منه قوله تعالى: «فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ» و ضللت الشي ء: أنسيته. و أصل الضلال: الغيبوبة يقال ضل الماء في اللبن إذا غاب، و منه قوله تعالى: «أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» «4».

و على الجملة: إنّ كليم اللَّه يعترف بتلك الجملة عند ما اعترض عليه فرعون بقوله: «وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ» و يعتذر عنها بقوله: «فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ»، و المناسب لمقام الاعتذار هو تفسير الضلال بالغفلة عمّا يترتب على العمل من

النتائج و نسيانها.

__________________________________________________

(1). الأعراف: 23.

(2). البقرة: 282.

(3). السجدة: 10.

(4). لسان العرب: 11/ 392- 393، مادة «ضل».

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 161

و حاصله: أنّه قد استولت عليّ الغفلة حين الاقتراف، و غاب عني ما يترتب عليه من رد فعل و مر العاقبة، ففعلت ما فعلت.

و من اللحن الواضح تفسير الضلالة بضد الهداية، كيف و انّ اللَّه سبحانه يصفه قبل أن يقترف القتل بقوله: «آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» «1»، كما أنّ نفس موسى بعد ما طلب المغفرة و استشعر إجابة دعائه قال: «رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ» «2»، أ فيصح بعد هذا تفسير الضلالة بالغواية ضد الهداية؟! كلا و لا.

هذا كلّه حول المستمسك الأوّل، أعني: قتل القبطي، فهلم معي ندرس المستمسك الثاني للخصم من اتهام كليم اللَّه الأعظم، عليه و على جميع رسل اللَّه آلاف الثناء و التحية، بعدم العصمة.

* ب. مشاجرته أخاه هارون- عليه السَّلام-

إنّ اللَّه سبحانه واعد موسى- بعد أن أغرق فرعون- بأن يأتي جانب الطور الأيمن فيوفيه التوراة التي فيها بيان الشرائع و الأحكام و ما يحتاج إليه، و كانت المواعدة على أن يوافي الميعاد مع جماعة من وجوه قومه، فتعجّل موسى من بينهم شوقاً إلى ربّه و سبقهم على أن يلحقوا به، و لمّا خاطبه سبحانه بقوله: «وَ ما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى أجابه بأنّهم «عَلى أَثَرِي» و ورائي يدركونني عن قريب، و عند ذلك أخبره سبحانه بأنّه امتحن قومه بعد فراقه «وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ»، فرجع موسى من الميقات إلى بني إسرائيل حزيناً مغضباً، فرأى أنّ السامري

__________________________________________________

(1). القصص: 14.

(2). القصص: 17.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 162

«فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا»

جسداً له صوت، و قال: إنّه إله بني إسرائيل عامة، و تبعه السفلة و العوام، و استقبل موسى هارون فألقى الألواح و أخذ يعاتب هارون و يناقشه، و هذا ما يحكيه سبحانه في سورتين و يقول: «وَ لَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَ أَلْقَى الْأَلْواحَ وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَ لا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ». «1»

و يقول سبحانه: «فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي* ... قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا* أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي* قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي» «2». فهاهنا يطرح سؤالان:

1. لما ذا ألقى الألواح؟

2. لما ذا ناقش أخاه و قد قام بوظيفته؟

و إليك تحليل السؤالين بعد بيان مقدمة و هي:

إنّ موسى قد خلف هارون عند ما ذهب إلى الميقات، و قد حكاه سبحانه بقوله: «وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ» «3». و قام هارون بوظيفته في قومه، فعند ما أضلّهم السامري ناظرهم بقوله: «يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَ إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي» «4» و اكتفى في ذلك بالبيان و اللوم و لم يقم في وجههم بالضرب و التأديب و قد بيّنه

__________________________________________________

(1). الأعراف: 150.

(2). طه: 86، 92-

94.

(3). الأعراف: 142.

(4). طه: 90.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 163

لأخيه بقوله: «إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي».

هذا ما يخص هارون، و أمّا ما يرجع إلى موسى، فقد أخبره سبحانه عن إضلال السامري قومه بقوله: «فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ» «1»، و رجع إلى قومه غضبان أسفاً و خاطبهم بقوله: «بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ» و قال أيضاً: «أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ». و في هذا الظرف العصيب أظهر كليم اللَّه غضبه بإنجاز عملين:

1. إلقاء الألواح جانباً.

2. مناقشته أخاه بقوله: «ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا* أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي»، فعند ذلك يطرح السؤالان نفسهما:

لما ذا ألقى الألواح أوّلًا؟ و لما ذا ناقش أخاه و ناظره و قد قام بوظيفته ثانياً؟ فنقول:

لا شك أنّ ما اقترفه بنو إسرائيل من عبادة العجل كان من أقبح الأعمال و أفظعها، كيف؟! و قد أهلك اللَّه عدوهم و أورثهم أرضهم، فكان المترقب منهم هو الثبات على طريق التوحيد و مكافحة ألوان الشرك- و مع الأسف- فإنّهم كفروا بعظيم النعمة، و تركوا عبادته سبحانه، و انخرطوا في سلك الثنوية مع الجهل بقبح عملهم و فظاعة فعلهم.

إنّ أُمّة الكليم و إن كانت غافلة عن مدى قبح عملهم، لكن سيدهم و رسولهم كان واقفاً على خطورة الموقف و تعدّي الأُمّة، فاستشعر بأنّه لو لم يكافحهم بالعنف و الشدة و لم يقم في وجههم بالاستنكار مع إبراز التأسف

__________________________________________________

(1). طه: 85.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 164

و الغضب، فربّما تمادى القوم في غيّهم و ضلالهم و حسبوا أنّهم لم يقترفوا

إلّا ذنباً خفيفاً أو مخالفة صغيرة و لم يعلموا أنّهم حتى و لو رجعوا إلى الطريق المهيع، و اتّبعوا جادة التوحيد ربّما بقيت رواسب الشرك في أغوار أذهانهم، فلأجل إيقافهم على فظاعة العمل، قام في مجال الإصلاح مثل المدير الذي يواجه الفساد فجأة في مديريته و لا يعلم من أين تسرب إليها.

فأوّل ما يبادر إليه هو مواجهة القائم مقامه الذي خلفه في مكانه، و أدلى إليه مفاتيح الأُمور، فإذا ثبتت براءته و نزاهته و أنّه قام بوظيفته خير قيام حسب تشخيصه و مدى طاقته، تركه حتى يقف على جذور الأمر و الأسباب الواقعية التي أدت إلى الفساد و الانهيار.

و هكذا قام الكليم بمعالجة القضية، و عالج الواقعة المدهشة التي لو بقيت على حالها، لانتهت إلى تسرب الشرك إلى عامة بني إسرائيل و ذهب جهده طوال السنين سدى، فأوّل رد فعل أبداه، أنّه واجه أخاه القائم مقامه في غيبته، بالشدة و العنف حتى يقف الباقون على خطورة الموقف، فأخذ بلحيته و رأسه مهيمناً عليه متسائلًا بأنّه لما ذا تسرب الشرك إلى قومه مع كونه فيهم؟! و لمّا تبيّنت براءته و أنّه أدّى وظيفته كما يحكيه عنه سبحانه بقوله: «إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَ لا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» اندفع إليه بعطف و حنان و دعا له فقال: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي وَ أَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ». انّ طلب المغفرة «1» لنفسه و أخيه لا يدل على صدور أي خلاف منهما، فإنّ الأنبياء و الأولياء لاستشعارهم بخطورة الموقف و عظمة المسئولية، ما زالوا يطلبون غفران اللَّه و رحمته لعلو درجاتهم كما هو واضح لمن تتبع أحوالهم، و

سيوافيك بيانه عند البحث عن عصمة النبي الأكرم- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-.

__________________________________________________

(1). الأعراف: 151.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 165

و بعد ما تبيّن انّ السبب الواقعي لتسرب الشرك إلى قومه هو السامري و تبعه السفلة و العوام، أخذ بتنبيههم بقوارع الخطاب و عواصف الكلام بما هو مذكور في سورتي الأعراف و طه نكتفي ببعضها حيث خاطب عبدة العجل بقوله: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ ذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ» «1».

و لمّا واجه السامري خاطبه بقوله: «فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ* قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَ كَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي* قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَ انْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً* إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً» «2».

و بما ذكرنا يعلم أنّه لما ذا ألقى الألواح و تركها جانباً؟ فلم يكن ذاك العمل إلّا كرد فعل على عملهم القبيح و فعلهم الفظيع إلى حد استولى الغضب على موسى فألقى الألواح التي ظل أربعين يوماً في الميقات لتلقّيها حتى يحاسب القوم حسابهم و يقفوا على أنّهم أتوا بأعظم الجرائم و أكبر المعاصي.

__________________________________________________

(1). الأعراف: 152.

(2). طه: 95- 98.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 166

6 عصمة داود- عليه السَّلام- و قضاؤه في النعجة

اشارة

قد وصف سبحانه داود النبي- عليه السَّلام- بأسمى ما توصف به الشخصية المثالية، قال سبحانه: «وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ».

و قد ذكر ملكه و سلطنته على الجبال و الطيور على وجه يمثل أقوى طاقة

نالها البشر طيلة استخلافه على الأرض.

قال سبحانه: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ* وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ* وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ» «1».

فقد أخبر في الآية الأخيرة بأنّه أُوتي الحكمة و فصل الخطاب، الذي يعد القضاء الصحيح بين المتخاصمين من فروعه و جزئياته.

ثمّ انّه سبحانه ينقل بعده قضاءه في «نبأ الخصم» و يقول:

«وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ* إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ لا تُشْطِطْ وَ اهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ* إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ* قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ

__________________________________________________

(1). ص: 18- 20.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 167

نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ قَلِيلٌ ما هُمْ وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ راكِعاً وَ أَنابَ* فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ* يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» «1».

لقد تمسكت المخطّئة لعصمة الأنبياء بقوله تعالى: «فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ راكِعاً وَ أَنابَ* فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ» حيث إنّ الاستغفار و غفرانه سبحانه له، آية صدور الذنب.

و الإجابة عن هذا الاستدلال تحتاج إلى بيان مفردات الآية و إيضاح القصة فنقول:

إنّ تفسير الآية يتم ببيان عدة أُمور:

1. توضيح مفرداتها.

2. إيضاح القصة.

3. هل الخصمان كانا من جنس البشر؟

4. لما ذا استغفر داود، و هل كان استغفاره

للذنب أو لأجل ترك الأولى؟

و إليك بيان هذه الأُمور:

* 1. توضيح المفردات

«الخصم»: مصدر «الخصومة»، أُريد به الشخصان.

__________________________________________________

(1). ص: 21- 26.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 168

«التسوّر»: الارتقاء إلى أعلى السور، و هو ما كان حائطاً، «كالتسنم» بمعنى الارتقاء إلى أسنام البعير، و «التذري» بمعنى الارتقاء إلى ذروة الجبال، و المراد من المحراب في الآية الغرفة.

«الفزع»: انقباض و نفار يعتري الإنسان من الشي ء المخيف، و هو من جنس الجزع.

«الشطط»: الجور.

«النعجة»: الأُنثى من الضأن.

و المراد من قوله: «اكفلنيها»: اجعلها في كفالتي و تحت سلطتي، و من قوله «عزني في الخطاب»: انّه غلبني فيه.

هذا كله راجع إلى توضيح مفردات الآية.

* 2. إيضاح القصة

كان داود- عليه السَّلام- جالساً في غرفته إذ دخل عليه شخصان بغير إذنه، و كانا أخوين يملك أحدهما تسعاً و تسعين نعجة و يملك الآخر نعجة واحدة، و طلب الأوّل من أخيه أن يعطيه النعجة التي تحت يده، مدعياً كونه محقاً فيما يقترحه على أخيه، و قد ألقى صاحب النعجة الواحدة كلامه على وجه هيّج رحمة النبي داود و عطفه.

فقضى- عليه السَّلام- طبقاً لكلام المدعي من دون الاستماع إلى كلام المدعى عليه، و قال: «لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ».

و لما تنبّه أنّ ما صدر منه كان غير لائق بساحته، و انّ رفع الشكوى إليه كان فتنة و امتحاناً منه سبحانه بالنسبة إليه «فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ راكِعاً وَ أَنابَ».

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 169

* 3. هل الخصمان كانا من جنس البشر؟

إنّ القرائن الحافة بالآية تشعر بأنّ الخصمين لم يكونا من جنس البشر، و هذه القرائن عبارة عن:

1. تسوّرهم المحراب و دخولهم عليه دخولًا غير عادي مع أنّ طبع الحال يقتضي أن يكون محرابه محفوفاً بالحرس و لا أقل بمن يطلعه على الأمر، فلو كان الدخول بإذنهم كان داود- عليه السَّلام- مطّلعاً عليه و لم يكن هناك أيّ فزع.

2. خطاب الخصمين لداود- عليه السَّلام- بقولهم: «لا تَخَفْ» مع أنّ هذا الخطاب لا يصح أن تخاطب به الرعية الراعي، و طبيعة الحال تقتضي أن يخاطب به الراعي الرعية.

3. انّ خطابهما لداود بما جاء في الآية، أشبه بخطاب ضيف إبراهيم له- عليه السَّلام-، يقول سبحانه: «وَ نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ* إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ* قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» «1»، و يقول سبحانه: «فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَ بَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» «2».

4.

تنبهه- عليه السَّلام- بأنّه كان فتنة من اللَّه له و امتحاناً منه، و هي تشعر بأنّ الواقعة لم تكن عادية، و هذا يناسب كون الدعوى مطروحة من جانبه سبحانه عن طريق الملائكة.

5. انّ الهدف من طرح تلك الواقعة كان لغاية تسديده في خلافته و حكمه بين الناس حتى يمارس القضاء بالنحو اللائق بساحته و لا يغفل عن التثبت

__________________________________________________

(1). الحجر: 51- 53.

(2). الذاريات: 28.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 170

و لأجل ذلك خاطبه سبحانه بعد قضائه في ذلك المورد بقوله: «يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ» كل ذلك يؤيد كون الخصمين من الملائكة تمثّلوا له بصورة رجلين من الإنس.

نعم كانت القصة و طرح الشكوى عنده أمراً حقيقياً كقصة ضيف إبراهيم عليه الصلاة و السلام لا بصورة الرؤيا و ما أشبهها.

* 4. كون الاستغفار لأجل ترك الأولى

استدلت المخطّئة باستغفاره و إنابته إلى اللَّه، على صدور ذنب منه و لكنّه لا يدل على ذلك:

أمّا أوّلًا: انّ قضاءه لم يكن قضاء باتاً خاتماً للشكوى، بل كان قضاء على فرض السؤال، و إنّ من يملك تسعاً و تسعين نعجة و لا يقتنع بها و يريد ضم نعجة أخيه إليها، ظالم لأخيه، و كان المجال بعد ذلك بالنسبة إلى المعترض مفتوحاً و إن كان الأولى و الأليق بساحته هو أنّه إذا سمع الدعوى من أحد الخصمين، أن يسأل الآخر عمّا عنده فيها و لا يتسرع في القضاء و لو بالنحو التقديري.

و إنّما بادر إليه لأنّه- عليه السَّلام- فوجئ بالقضية و دخل عليه المتخاصمان بصورة غير عادية فلم يظهر منه التثبت اللائق به.

و لمّا تنبّه إلى ذلك و عرف أنّ ما وقع، كان فتنة و امتحاناً من اللَّه

بالنسبة إليه «استغفر رَبَّهُ وَ خَرَّ راكِعاً وَ أَنابَ» تداركاً لما صدر منه ممّا كان الأولى تركه، أوّلًا، و شكراً و تعظيماً لنعمة التنبّه الذي نال به فوراً بعد الزلّة، ثانياً.

و ثانياً: انّ من الممكن أن يكون قضاؤه قبل سماع كلام المدّعى عليه، لأجل انكشاف الواقع له بطريق من الطرق و انّ الحق مع المدّعي، فقضى بلا استماع

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 171

لكلام المدّعى عليه، نعم الأولى له حتى في هذه الصورة ترك التسرع في إصدار الحكم، و القضاء بعد الاستماع، و لمّا ترك ما هو الأولى بحاله استغفر لذلك، و قد تكرر منا أنّ ترك الأولى من الأنبياء ذنب نسبي و إن لم يكن ذنباً على وجه الإطلاق.

و ثالثاً: لما كانت الشكوى مرفوعة إليه من قبل الملائكة، و لم يكن ذلك الظرف ظرف التكليف، كانت خطيئة داود في ظرف لا تكليف هناك، كما أنّ خطيئة آدم- عليه السَّلام- كانت في الجنة و لم تكن الجنّة دار تكليف، و مع ذلك كلّه لمّا كان التسرع في القضاء بهذا الوجه أمراً مرغوباً عنه، استغفر داود و أناب إلى اللَّه استشعاراً بخطر المسئولية بحيث يعد ترك الأولى منه ذنباً يحتاج إلى الاستغفار.

نعم قد وردت في التفاسير أحاديث في تفسير الآية لا يشك ذو مسكة من العقل أنّها إسرائيليات تسربت إلى الأُمّة الإسلامية عن طريق أحبار اليهود و رهبان المسيحية، فالأولى الضرب عنها صفحاً، و سياق الآيات يكشف عن أنّ زلته لم تكن إلّا في أمر القضاء فقط لا ما تدّعيه جهلة الأحبار من ابتلائه بما يخجل القلم عن ذكره، و لأجله يقول الإمام علي- عليه السَّلام- في حق من وضع هذه الترهات أو نسبها

إلى النبي داود- عليه السَّلام-: «لا أُوتى برجل يزعم أنّ داود تزوج امرأة «أُوريا» إلّا جلدته حدّين: حدّاً للنبوة و حدّاً للإسلام». «1»

__________________________________________________

(1). مجمع البيان: 4/ 472. ط. المكتبة العلمية الإسلامية- طهران.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 172

7 عصمة سليمان- عليه السَّلام- و مسألة عرض الصافنات الجياد و طلب الملك

اشارة

إنّ سليمان النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- أحد الأنبياء و قد ملك من القدرة أروعها و من السيطرة و السطوة أطولها، و آتاه اللَّه الحكم و الحلم و العلم، قال سبحانه: «وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً» «1»، و قال عز من قائل: «وَ كُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً» «2»، و علّمه منطق الطير قال سبحانه: «يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ» «3»، و وصف اللَّه قدرته بقوله: «وَ حُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ الطَّيْرِ» «4»، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في توصيف قدرته وسعة علمه و علو درجاته.

روى أصحاب السير: كان سليمان صلى الصلاة الأُولى، و قعد على كرسيه و الخيل تعرض عليه حتى غابت الشمس. فقال:

«آثرت حبَّ الخيل على ذكر ربّي، و أنّ هذه الخيل شغلتني عن صلاة العصر» فأمر برد الخيل فأخذ يضرب سوقها و أعناقها، لأنّها كانت سبب فوت صلاته. «5»

__________________________________________________

(1). النمل: 15.

(2). الأنبياء: 79.

(3). النمل: 16.

(4). النمل: 17.

(5). تفسير الطبري: 23/ 99- 100؛ الدر المنثور: 5/ 309.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 173

و في بعض التفاسير أنّ المراد من «ردّوها» هو طلب رد الشمس عليه، فردّت فصلّى العصر. «1»

و يدّعي بعض هؤلاء أنّ ما ساقوه من القصة تدل عليه الآيات التالية، أعني قوله سبحانه: «وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ* إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ

بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ* فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ* رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ الْأَعْناقِ» «2».

فهل لما ذكروه مسحة من الحق أو لمسة من الصدق، أو أنّ الآيات تهدف إلى أمرٍ آخر خفي على هؤلاء، و أنّهم أخذوا ما ذكروه من علماء أهل الكتاب، كما سيوافيك بيانه؟

و نقد هذه القصة المزعومة يتوقف على توضيح مفاد الآيات حتى يقف القارئ على أنّها من قبيل التفسير بالرأي، الممنوع، و من تلفيقات علماء أهل الكتاب التي حمّلت على القرآن و هو بري ء منها.

أقول:

1. «الصَّافِناتُ»: جمع «الصافنة»، و هي الخيل الواقفة على ثلاث قوائم، الواضعة طرف السنبك الرابع على الأرض حتى يكون على طرف الحافر.

2. «الْجِيادُ»: جمع «الجواد»، و هي السراع من الخيل، كأنّها تجود بالركض.

3. «الْخَيْرِ»: ضد «الشر»، و قد يطلق على المال كما في قوله سبحانه: «إِنْ تَرَكَ خَيْراً» «3»، و المراد منه هنا هي «الخيل»، و العرب تسمّي الخيل خيراً، و سمّى

__________________________________________________

(1). مجمع البيان ناسباً إلى «القيل»: 4/ 475.

(2). ص: 30- 33.

(3). البقرة: 180.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 174

النبيُّ زيد الخيل ب «زيد الخير» و قال- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-: «الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة» و كيف لا يكون خيراً، و هو لم يزل يعد وسيلة الحياة في عامة الحضارات.

4. «الحب»: ضد البغض، قال في اللسان: أحببته و حببته بمعنى واحد.

5. «حُبَّ الْخَيْرِ»: بدل عن المفعول المحذوف، و تقديره إنّي أحببت الخيل حبَّ الخير، و يريد أنّ حبي للخيل نفس الحب للخير، لأنّ الخيل كما عرفت وسيلة نجاح الإنسان في حياته الفردية و الاجتماعية، خصوصاً عند الجهاد مع العدو

و الهجوم عليه، و يحتمل أن يكون «حُبَّ الْخَيْرِ» مفعولًا لا بدلًا عن المفعول.

6. «عَنْ ذِكْرِ رَبِّي»: بيان لمنشإ حبّه للخير و سببه، و أنّ حبه له ناش عن ذكر ربّه.

و تقدير الجملة: أحببت الخير حبّاً ناشئاً عن ذكر اللَّه سبحانه و أمره، حيث أمر عباده المخلصين بالإعداد للجهاد و مكافحة الشرك و قلع الفساد بالسيف و الخيل، و لأجل ذلك قمت بعرض الخيل، كل ذلك امتثالًا لأمره سبحانه لا إجابة لدعوة الغرائز التي لا يخلو منها إنسان كما أشار إليه سبحانه بقوله: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ» «1».

__________________________________________________

(1). آل عمران: 14.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 175

و يجد نظير تلك الدعوة في الذكر الحكيم، قال سبحانه: «وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ» «1».

7. فاعل الفعل في قوله: «حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ» أي الصافنات الجياد و المقصود: إنّ الخيل أخذت بالركض حتى غابت عن بصره.

8. انّ الضمير في قوله: «رُدُّوها» يرجع إلى الخيل التي تدل عليها الصافنات الجياد، و المقصود أنّه أمر بردّها عليه بعد ما غابت عن بصره.

9. و عند ذلك يطرح السؤال، و هو: أنّه لما ذا أمر بالرد، و ما كان الهدف منه؟ فبيّنه بقوله: «فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ الْأَعْناقِ» أي شرع بمسح أعراف خيله و عراقيبها بيده تقديراً لركابها و مربيها الذين قاموا بواجبهم بإعداد وسائل الجهاد.

إلى هنا اتضح مفاد مفردات الآية و جملها، و على هذا تكون الآيات هادفة إلى تصوير عرض

عسكري قام به أحد الأنبياء ذوي السلطة و القدرة في أيّام ملكه و قدرته.

و حاصله: انّ سليمان النبي (الذي أشار القرآن إلى ملكه و قدرته و سطوته و سيطرته على جنوده من الإنس و الجن و تعرّفه على منطق الطير، إلى غير ذلك من صنوف قدرته و عظمته التي خصصها به بين الأنبياء) قام في عشية يوم بعرض عسكري، و قد ركب جنوده من الخيل السراع، فأخذت تركض من بين يديه إلى أنْ غابت عن بصره، فأمر أصحابه بردّها عليه، حتّى إذا ما وصلت إليه قام تقديراً لجهودهم بمسح أعناق الخيل و عراقيبها.

__________________________________________________

(1). الأنفال: 60.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 176

و لم يكن قيامه بهذا العمل صادراً عنه لجهة إظهار القدرة و السطوة أو للبطر و الشهوة، بل إطاعة لأمره سبحانه و ذكره حتى يقف الموحدون على وظائفهم، و يستعدوا للكفاح و النضال ما تمكنوا، و يهيّئوا الأدوات اللازمة في هذا المجال. «1»

و هذا هو الذي تهدف إليه الآيات و ينطبق عليها انطباقاً واضحاً، فهلم معي ندرس المعنى الذي فرض على الآيات، و هي بعيدة عن تحمّله و بريئة منه.

* نقد التفسير المفروض على القرآن

إنّ في نفس الآيات قرائن و شواهد تدل على بطلان القصة التي اتخذت تفسيراً للآيات، و إليك بيانها:

1. انّ الذكر الحكيم يذكر القصة بالثناء على سليمان و يقول: «وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ» فاسلوب البلاغة يقتضي أن لا يذكر بعده ما يناقضه و يضادّه، فأين وصفه بحسن العبودية و الرجوع إلى اللَّه في أُمور دينه و دنياه، من انشغاله بعرض الخيل و غفلته عن الصلاة المفروضة عليه؟!

و لو فرضت صحة الواقعة، فلازم البلاغة ذكرها في محل آخر، لا ذكرها بعد

المدح و الثناء المذكورين في الآية.

2. انّما يصح حمل قوله: «أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي» على ما جاء في القصة إذا تضمن الفعل «أَحْبَبْتُ» معنى الترجيح و الاختيار، و التقدير أي أحببت حب الخير مقدّماً إيّاه على ذكر ربّي و مختاراً إيّاه عليه، و هو يحتاج إلى

__________________________________________________

(1). و قد اختار هذا التفسير السيد المرتضى في تنزيه الأنبياء: 95- 97، و الرازي في مفاتيح الغيب: 7/ 136، و المجلسي في البحار: 14/ 103- 104 من الطبعة الحديثة.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 177

الدليل.

3. و لو قلنا بالتضمين، فيجب أن يقال مكان «عَنْ ذِكْرِ رَبِّي» «على ذكر ربي»، أي أحببت حب الخير و اخترته على ذكر اللَّه، كما في قوله سبحانه: «فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى «1»، و قوله تعالى: «إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ» «2».

4. انّ ضمير الفعل في قوله تعالى: «تَوارَتْ» يرجع إلى الصافنات المذكورة في الآية، و على التفسير المفروض يرجع إلى الشمس، و ليست مذكورة في الآية، و دلالة لفظ «بِالْعَشِيِّ» عليها ضعيفة جداً.

5. الضمير في قوله: «رُدُّوها»- على المختار- يرجع إلى الصافنات، و على التفسير المفروض يرجع إلى الشمس، و هي غير مذكورة.

6. انّ الخطاب في قوله: «رُدُّوها» على المختار متوجه إلى رؤساء الجنود و هو واقع موقعه، و على التفسير المنقول عن بعضهم «3» يكون متوجهاً إلى الملائكة، و هو لا يناسب، إلّا كونه منه سبحانه لعلوّه و استعلائه، لا من مثل سليمان بالنسبة إليهم.

7. لا شك أنّ للصفوة من عباده سبحانه ولاية تكوينية و مقدرة موهوبة على التصرّف في الكون بإذنه سبحانه، لغايات مقدّسة لإثبات نبوّتهم و كونهم مبعوثين من اللَّه سبحانه لهداية عباده، و تدلّ عليها

آيات كثيرة تعرضنا لبعضها في كتابنا مفاهيم القرآن «4». و لم يكن المقام هنا مناسباً للتحدّي حتى يتوصل إلى

__________________________________________________

(1). فصلت: 17.

(2). التوبة: 23.

(3). نسبه الطبرسي إلى «القيل» كما مرَّ.

(4). لاحظ الجزء الأول: 444- 446.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 178

الإعجاز و التصرّف في الكون بالأمر برد الشمس، فإنّ الصلاة الفائتة لو كانت مفروضة فجبرانها بقضائها، و لو كانت مسنونة فلا إشكال في فوتها، فلم يكن هناك لزوم للتصرّف في الكون و أمر ملائكة اللَّه بردّها حتى يأتي بالصلاة المسنونة.

8. لو كان المراد من «رُدُّوها» طلب رد الشمس من ملائكته سبحانه، فاللازم أن يذكر الغاية من ردّها بأن يقول: حتى أتوضّأ و أُصلي، و ليس لهذا ذكر في الآية، بل المذكور قوله: «فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ الْأَعْناقِ»، و هذا يعرب عن أنّ الغاية المترتبة على الرد هي مسح السوق و الأعناق، لا التوضّؤ و الصلاة.

9. انّ تفسير المسح بالقطع، تفسير بلا دليل، إذ المتبادر من المسح هو إمرار اليد عليها لا قطعها و اجتثاثها، و لو كان هذا هو المراد ممّا ورد في القصة فالأنسب أن يقول: فطفق ضرباً بالسوق، لا مسحاً.

10. انّ التفسير المذكور ينتهي إلى كذّاب الأحبار، و هو كعب الذي لم يزل يدسّ في القصص و الأخبار بنزعاته اليهودية، و من أراد أن يقف على دوره في الوضع و الكذب و غير ذلك في هذا المجال فعليه أن يرجع إلى أبحاثنا في الملل و النحل.

11. انّ بعض المفسرين قاموا بتفسير قوله: «فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ الْأَعْناقِ» بمسحها بالماء كناية عن الوضوء. و هو في ضعفه كما ترى، إذ لو كان المراد ما ذكره ذلك البعض، فلما ذا

بدل الغسل بالمسح، و الساقين بالسوق و العنق بالأعناق، مع أنّه لم يكن لسليمان إلّا ساقان و عنق واحد؟

12. إنّ قتل الخيل التي عبّر عنها نفس سليمان «بالخير» بحجة أنّ الاشتغال بعرضها صار سبباً لفوت الصلاة أشبه بعمل إنسان لا يملك من العقل شيئاً، و حاشا سليمان الذي آتاه اللَّه الحكم و العلم و سلّطه على الأرض من الإنس

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 179

و الجن و السماء، من هذا العمل الذي لا يقترفه السفلة من الناس إلّا المجانين منهم، و لا العاديّون من السوقة، فضلًا عن أنبياء اللَّه و أوليائه المنزّهين.

و في الختام نلفت نظر القارئ إلى ما ذكره «سيد قطب» في تفسير هذه الآيات في تفسيره قال:

أمّا قصة الخيل: انّ سليمان- عليه السَّلام- استعرض خيلًا له بالعشي، ففاتته صلاة كان يصليها قبل الغروب، فقال: ردّوها عليّ، فردّوها عليه، فجعل يضرب أعناقها و سيقانها جزاء ما شغلته عن ذكر ربّه.

و في رواية: روي أنّه جعل يمسح سوقها و أعناقها إكراماً لها، لأنّها كانت خيلًا في سبيل اللَّه.

ثمّ قال: و كلتا الروايتين لا دليل عليها، و يصعب الجزم بشي ء منها. «1»

و العجب من السيد أنّه أعطى الروايتين مكانة واحدة مع أنّ الأُولى تضاد حكم العقل، و سيرة الأنبياء و العلماء، لذلك يسهل الجزم ببطلانها، و أمّا الثانية فهي تنطبق على ظاهر الآيات كمال الانطباق، و هو المروي عن حبر الأُمّة ابن عباس.

و قد نقل الرواية الأُولى عن أُناس كانوا لا يتحرّزون من الأخذ عن الأحبار المستسلمين، فنقلها الطبري في تفسيره، عن السدي و قتادة، حتى أنّ الطبري مع نقله أُولى الروايتين اختار قول ابن عباس و استوجهه، و قال: إنّ نبي اللَّه لم

يكن ليعذب حيواناً بالعرقبة، و يهلك مالًا من ماله بغير سبب سوى أنّه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها و لا ذنب لها باشتغاله بالنظر إليها. «2»

__________________________________________________

(1). في ظلال القرآن الكريم: 23/ 100.

(2). تفسير الطبري: 3/ 100.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 180

و لا يقصر عنه ما نقله السيوطي في «الدر المنثور» من الأساطير حول هذه الخيول، فروي عن إبراهيم التميمي أنّه قال: كانت عشرين ألف فرس ذات أجنحة، فعقرها؛ و في الوقت نفسه نقل قول ابن عباس في تفسير المسح: ظل سليمان يمسح أعراف الخيل و عراقيبها. «1»

هذا حال التفسير المفروض على الآية، و هناك مستمسك آخر في مورد سليمان للمخطّئة نأتي به.

* الفتنة التي امتحن بها سليمان

قال سبحانه: «وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ* قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» «2».

و توضيح مفاد الآيات يترتب على البحث عن الأُمور التالية:

1. ما هي الفتنة التي امتحن بها سليمان؟

2. ما معنى طلب المغفرة مع التمسّك بحبل العصمة؟

3. لما ذا يطلب لنفسه الملك؟

4. لما ذا يطلب ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده؟

أمّا السؤال الأوّل: فليس في الآيات الواردة في المقام ما يكشف عن حقيقتها.

و أمّا الروايات فقد نقل أهل الحديث حول تبيين الفتنة روايات يلوح منها

__________________________________________________

(1). الدر المنثور: 5/ 309.

(2). ص: 34- 35.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 181

أنّها إسرائيليات، بثّها أحبار اليهود بين المسلمين، و قد ابتلي بها المسلمون في كثير من المجالات التفسيرية و التاريخية و العقائدية و ... فالرجاء من اللَّه سبحانه أن يقيض جماعة من المثقفين و المحقّقين و يوفّقهم لتهذيب الكتب الإسلامية منها و تنقيحها

عن مروياتهم.

و لكن من بين هذه الروايات ما يمكن أن يعتمد عليه، و هو ما قيل: كان لسليمان ولد شاب ذكي كان يحبّه حبّاً شديداً، فأماته اللَّه على بساطه فجأة بلا مرض، اختباراً من اللَّه تعالى لسليمان و ابتلاء لصبره في إماتة ولده، و ألقى جسمه على كرسيه. «1»

و لا شك أنّ الابتلاء بموت الولد الشاب من أعظم الابتلاءات، و الصبر في هذا المجال و تفويض الأمر إلى اللَّه سبحانه آية كمال النفس، فلم يكن الهدف من الابتلاء إلّا أن يتفتح الكمال المركوز في ذاته، حتى يخرج من القوّة إلى الفعل، و سنوضح فلسفة الابتلاء عند البحث عن ابتلاء إبراهيم بالكلمات فانتظر.

و العجب أن سيد قطب قد اعتمد في تفسير الفتنة على رواية يبدو أنّها من الإسرائيليات التي أخذها أبو هريرة عن كعب الأحبار، قال: و لم أجد أثراً صحيحاً أركن إليه في تفسير «الجسد الذي أُلقي على كرسي سليمان» سوى حديث صحيح، في ذاته، و لكن علاقته بأحد هذين الحادثين ليست أكيدة. و هذا الحديث هو ما رواه أبو هريرة عن رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-، و أخرجه البخاري في صحيحه مرفوعاً، و نصه: «قال سليمان: لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة، كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل اللَّه، و لم يقل «إن شاء اللَّه»، فطاف سليمان عليهن، فلم تحمل إلّا امرأة جاءت بشق رجل، و الذي نفسي بيده: لو قال إن شاء اللَّه لجاهدوا في سبيل

__________________________________________________

(1). تنزيه الأنبياء: 99 الطبعة القديمة.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 182

اللَّه فرساناً أجمعون».

ثمّ قال السيد: و جائز أن تكون هذه هي الفتنة التي تشير إليها الآيات، و أن يكون الجسد

هو هذا الوليد الشق، و لكن هذا مجرد احتمال. «1»

نحن لا نعلّق على هذا الحديث شيئاً و إنّما نترك القضاء فيه إلى القارئ لكي يقضي فيه، و كفى في ضعفه أنّه من مرويات أبي هريرة، و قد وصفها سيد قطب بأنّها مجرّد احتمال كما عرفت.

و بذلك يعلم الجواب عن السؤال الثاني، فالظاهر أنّه كان له- عليه السَّلام- فيه رجاء أو أُمنية، فأماته و ألقاه على كرسيه، حتى يوقفه على أنّ حق العبودية تفويض الأمر إلى اللَّه و التسليم إليه، و لعل هذا المقدار من الرجاء و عقد الأُمنية على الولد يعد نحو انقطاع من اللَّه إلى الولد.

و هو و إن لم يكن معصية و لكن الأليق بحال الأولياء غيره، و لأجل ذلك لما استشعر بوظيفته التي يوجبها مقامه، أناب إلى اللَّه و رجع إليه و طلب المغفرة كما يقول سبحانه: «ثُمَّ أَنابَ* قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي».

و قد تكرر منّا أنّ طلب المغفرة ليس دليلًا على العصيان و صدور الذنب، بل كل فعل أو ترك صدر من الرجال العارفين بحقيقة الربوبية و عمق العبودية، و كان الأولى و الأليق خلافه، استوجب طلب الغفران، و إن لم يكن معصية و خلافاً في منطق الشرع، و لأجل ذلك انّ أولياء اللَّه لم يزالوا مستغفرين كل يوم و ليلة لسعة استشعارهم بعظمة الوظيفة في مقابل عظمة الخالق.

و أمّا السؤال الثالث: أعني طلب الملك من اللَّه سبحانه، فلم يكن الملك

__________________________________________________

(1). في ظلال القرآن الكريم: 23/ 99.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 183

مقصوداً لذاته، لأنّ مثل هذا الملك لا ينفك عن الظلم و التعدّي و هضم الحقوق إلى غير ذلك مما أُشير إليه في قوله تعالى: «إِنَّ الْمُلُوكَ

إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ» «1» و في قوله عز اسمه: «أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً» «2».

هكذا كانت طبيعة الملوكية في الأعصار الغابرة و الحاضرة، فهي مع الاستبداد و الاستعباد و غصب الأموال و قتل النفوس المحترمة متلازمة، كما هو واضح لمن لاحظ تاريخ السلاطين في الأدوار الماضية و الحاضرة.

و إنّما طلب سليمان ما وراء ذلك، فقد طلب من اللَّه سبحانه الملك الذي يقوده إنسان أُوتي العلم و الحكم و تشرّف بالنبوة و الوحي، و من هذا حاله، لا يكون الملك مطلوباً له بالذات، و انّما يكون في طريق إحقاق الحق و إبطال الباطل و الخدمة للخلق.

و لأجل أنّ المتبادر من الملك- في أذهان العامة- هو السلطة الجائرة نجد الذكر الحكيم عند ما يصف اللَّه ب «الْمَلِكُ» يتابعه ب «الْقُدُّوسُ» مشيراً إلى أنّ ملكه و سلطته تفارق سائر السلطان، فهو في عين كونه ملكاً للعالم، قدوس منزّه من كل عيب و شين، و من كل تعدٍّ و ظلم، فهو: «الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ» «3».

نقل أهل السير أنّ النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- كان يقول: «لست بملك» مع أنّه كان حاكماً

__________________________________________________

(1). النمل: 34.

(2). الكهف: 79.

(3). الحشر: 23.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 184

إلهياً، و رئيس دولة إسلامية أسّسها منذ بدء وروده المدينة، و مراده هو إبعاد نفسه عمّا يتبادر إلى أذهان العامّة من سماع ذلك اللفظ، و أنّه ليس من أُولئك الزمرة، بل حاكم إلهي يسعى لصالح الأُمّة حسب القوانين الإلهية.

و بالجملة: فرق بين السلطة التي تستخدمها الغرائز

المادية، و السلطة التي تراقبها النبوّة، و يكبح جماحها الخوف من اللَّه، و العشق لرضوانه، و الذي طلبه سليمان في الآية إنّما هو الثاني، و هو عمل إلهي و خدمة للدين و عمل مقرّب، دون الأوّل.

و لأجل أن لا تذهب أذهان الصحابة إلى المعنى المتبادر من لفظ «الملك» قام رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- بتوضيح ما طلب سليمان لنفسه من اللَّه سبحانه و قال: «أ رأيتم ما أُعطي سليمان بن داود من ملكه؟ فإنّ ذلك لم يزده إلّا تخشعاً، ما كان يرفع بصره إلى السماء تخشعاً لربِّه». «1»

و قد أوضحنا حقيقة السلطة الإسلامية التي دعا إلى استقرارها الكتاب و السنّة، و ملامحها و أهدافها، فلاحظ «2».

و من هنا يعلم جواب السؤال الرابع: و أنّه لما ذا قال: «لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي»؟ فإنّه لم يقل ذلك ضناً و بخلًا على الغير، و إنّما قال ذلك، لأنّه طلب الملك الذي لا يصلح في منطق العقل و الشرع أن يمارسه غيره، أو من هو نظيره في العلم و الإيمان، و ذلك لأنّه سبحانه يبيّن ملامح هذا الحكم في آيات أُخر و يقول: «فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ* وَ الشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَ غَوَّاصٍ* وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ* هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ

__________________________________________________

(1). روح البيان: 8/ 39.

(2). لاحظ الجزء الثاني من هذه الموسوعة: الفصل الأوّل: 11- 72.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 185

حِسابٍ* وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ» «1» فالآيات بحكم «الفاء» في قوله «فَسَخَّرْنا لَهُ» تدل على أنّه لم يطلب مطلق الحكم، و هو السلطة التي يصح أن يمارسها المتعارف من الناس

خصوصاً إذا كانوا من الصلحاء، و انّما طلب من القدرة ما يصل بها إلى تسخير الريح و الجن و الشياطين. و مثل هذه القدرة لا تصح في منطق العقل أن تقع في متناول المتعارف من الناس، لأنّ وجود تلك السلطة في متناول غير المعصوم يؤدي إلى الطغيان و هدم الحدود و ادّعاء الربوبية، إلى غير ذلك من عظيم الفساد، و إنّما تكون مقرونة بالصلاح و الفلاح إذا مارسها نبي عارف بعظمة المسئولية أمام اللَّه أوّلًا، و أمام العقل و الوجدان ثانياً، و أمام الخلق ثالثاً.

و لأجل ذلك يقول: «لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي» و يريد منه الإنسان المتعارف غير المتمسّك بحبل العصمة، و غير المتحلّي بالنبوة، فإنّ هذا الملك- لما عرفت- لا ينبغي لأحد، و إنّما ينبغي لسليمان و من يكون بمنزلته من الصيانة و العصمة.

و إلى ما ذكرنا يشير المرتضى و يقول: إنّما التمس أن يكون ملكه آية لنبوته، ليتبين بها عن غيره ممّن ليس بنبي و قوله: «لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي» أراد به لا ينبغي لأحد غيري ممّن أنا مبعوث إليه، و لم يرد من بعده إلى يوم القيامة من النبيين. «2»

__________________________________________________

(1). ص: 36- 40.

(2). تنزيه الأنبياء: 100.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 186

8 عصمة أيوب- عليه السَّلام- و مسّ الشيطان له بعذاب

اشارة

قد وصف سبحانه نبيه العظيم «أيوب» بأوصاف كبار و قال: «إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ» «1»، و مع ذلك كلّه فقد استدلت المخطّئة على عدم عصمته بظواهر بعض الآيات، و هي لا تدل على ما يرتئون و إليك تلكم الآيات:

قال سبحانه: «وَ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ* فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ

وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ ذِكْرى لِلْعابِدِينَ» «2».

و قال سبحانه: «وَ اذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ* ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَ شَرابٌ* وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ* وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ» «3».

استدلت المخطّئة على تجويز صدور الذنب من الأنبياء بما ورد في هذه

__________________________________________________

(1). ص: 44.

(2). الأنبياء: 83- 84.

(3). ص: 41- 44.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 187

الآيات ممّا يوهم ذلك، أعني قوله:

1. «مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ».

2. «بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ».

و قد ظنوا أنّ مسّ الشيطان يستلزم صدور الذنب منه، غافلين عن أنّ هذه الجملة عبارة أُخرى عمّا ورد في سورة الأنبياء بقوله:

«مَسَّنِيَ الضُّرُّ».

كما ظنوا أنّ العذاب عبارة عن العقوبة الإلهية غافلين عن أنّ العذاب عبارة عن كل ما شق على الإنسان، و هو المراد من التعب، و النصب، و الوجع، و الألم.

و بالجملة: لا دلالة للآية على صدور الذنب أبداً، إنّما الكلام في بيان ما هي علّة ابتلاء أيوب بهذا الوجع و الألم؟ يتضح هذا باستعراض الآيات و تفسير مفرداتها فنقول:

قال الراغب: «الضر»: سوء الحال، إمّا في نفسه لقلة العلم و الفضل و العفة، و إمّا في بدنه لعدم جارحة و نقص، و إمّا في حالة ظاهرة من قلة مال و جاه، و قوله: «فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ» محتمل لثلاثتها.

غير أنّه يحتمل أن يكون الضر هنا بمعنى يساوق المرض، و هو غير المعنى الثاني الذي أشار إليه الراغب، و لأجل ذلك يقول العلّامة الطباطبائي: الضر خصوص ما يمس النفس من الضرر

كالمرض و الهزال و نحوهما، و ذيل الآيات يؤيد هذا المعنى.

و أمّا «النصب»: فهو التعب، و ربّما يفتح كما قال اللَّه سبحانه: «لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ» «1»، يقال أنصبني كذا أي أتعبني و أزعجني.

__________________________________________________

(1). فاطر: 35.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 188

و أمّا «الركض»: فهو الضرب بالرجل.

هذه هي اللغات الواردة في الآية، فإذا عرفنا معانيها فلنرجع إلى تفسير الآية، و ستعرف أنّه لا يستشم منها صدور أيّ معصية من النبي أيوب مظهر الصبر و المقاومة.

* تفسير قوله: «مَسَّنِيَ الضُّرُّ»

أمّا ما ورد في سورة الأنبياء فلا يدل على أزيد من أنّه مسّه الضر و شملته البلية، فابتهل إليه سبحانه قائلًا: «أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ»، و عندئذ شملته العناية الإلهية، فكشف اللَّه عنه ما به من ضر، و من المحتمل جداً أنّ المراد هو المرض و شفاه اللَّه من ذلك المرض الذي ابتلي به سنين، و لم يكتف بذلك بل و آتاه أهله بإحيائهم، مضافاً إلى مثلهم، كل ذلك رحمة من عنده، و لم يكن ذلك العمل إلّا امتحاناً منه سبحانه لأيوب و غيره من العابدين، حتى يتذكّروا و يعلموا أنّ اللَّه تعالى يبتلي أولياءه ثمّ يؤتيهم أجرهم، و لا يضيع أجر المحسنين، و ليس الامتحان إلّا لأجل تفتّح الكمالات المكنونة في ذات الممتحن، و لا تظهر تلك الكمالات إلّا إذا وقع الإنسان في بوتقة الامتحان فتظهر حينئذ بواطنه من الكمالات و المواهب، و قد أوضحنا ذلك في بعض مسطوراتنا، يقول أمير المؤمنين- عليه السَّلام- في هذا المجال: «و معنى ذلك أنّه يختبرهم بالأموال و الأولاد ليتبيّن الساخط لرزقه و الراضي بقسمه و إن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، و لكن لتظهر الأفعال التي

بها يستحق الثواب و العقاب». «1»

__________________________________________________

(1). نهج البلاغة: قسم الحكم، الرقم 93.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 189

* تفسير قوله: «مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ»

و أمّا الآيات الواردة في سورة «ص» فهي التي وقعت ذريعة لبعض المخطّئة من أنّه سبحانه ابتلى أيوب ببعض الأمراض المنفّرة مع أنّه ليست في الآية إشارة و لا تلويح إلى ذلك إلّا في بعض الأحاديث التي تشبه الإسرائيليات، قال سبحانه في سورة «ص»:

«وَ اذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ» و قد عرفت معنى النصب، و أمّا العذاب فلا يتجاوز معناه ما يؤذي الروح من سوء الحال فقوله: «مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ» عبارة عمّا ذكره في سورة الأنبياء بقوله: «مَسَّنِيَ الضُّرُّ»، فنسب نزول النصب و العذاب في هذه الآية إلى الشيطان و لكنّه سكت عن فاعله في سورة الأنبياء، و عندئذ يجب إمعان النظر في معنى هذه الجملة فنقول: إنّه يحتمل أحد معنيين:

1. أن يكون ما مسّه من الضر و المرض مستنداً إلى الشيطان بنحو من السببية و التأثير مكان استناده إلى الأسباب العادية الطبيعية، فكما أنّ الإنسان يصيبه التعب بواسطة العلل المادية، يصيبه التعب بنحو من مس الشيطان، كل ذلك بإذن منه سبحانه، و هذا المعنى هو الذي يستفاد من الروايات، و هو و إن لم يكن له مؤيد في ظاهر الآية غير أنّه ليس من الأُمور المستحيلة، فإنّه إذا كان للعلل الطبيعية سلطان على الأنبياء في أمراضهم فلا مانع من أن تكون للشيطان سلطة في خصوص هذا المجال لا في إضلالهم و التصرّف في قلوبهم و عقيدتهم، كل ذلك بإذن اللَّه سبحانه خصوصاً إذا كان ذلك لأجل الامتحان.

نعم أنكر الزمخشري هذا السلطان قائلًا بأنّه لا يجوز أن يسلّط

اللَّه الشيطان على أنبيائه ليقضي من تعذيبهم و أتعابهم وطره، فلو قدر على ذلك لم يدع صالحاً

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 190

إلّا و قد نكبه و أهلكه، و قد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلّا الوسوسة فحسب. «1»

أقول: إنّما يصح ما ذكره إذا كانت للشيطان مقدرة مطلقة و عامة على كل الصالحين و المؤمنين، و عند ذلك لم يدع صالحاً إلّا و قد نكبه و أهلكه، و هو غير القول بتسلّطه على مورد خاص، و هو أيوب بإذن منه سبحانه، و لا دليل على امتناع القضية الجزئية، كيف؟ و قد حكى اللَّه سبحانه عن فتى موسى و هو يوشع النبي قوله: «فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَ ما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ». «2»

2. أن يكون المراد من «مس الشيطان بالنصب و العذاب» هو وسوسة الشيطان إلى الناس عند ما اشتد مرض أيوب حيث حثّهم على أن يجتنبوه و يهجروه، فكان التعيير من الناس و التكلّم منهم لكن بوسوسة من الشيطان، و نفس هذا التعيير كان نصباً و عذاباً على أيوب، فالمراد من النصب و العذاب هو التعيير المستند إلى وسوسة الشيطان، و على كل تقدير فلا دلالة لكلمة العذاب بعد كلمة النصب على أنّه كان عقاباً منه سبحانه له، يقول الإمام جعفر الصادق- عليه السَّلام-: «إنّ اللَّه ابتلى أيوب بلا ذنب فصبر حتى عُيِّر، و إنّ الأنبياء لا يصبرون على التعيير». «3»

و أمّا الأحاديث الواردة حول قصة أيوب من أنّه أصابه الجذام حتى تساقطت أعضاؤه، فيقول الإمام الباقر- عليه السَّلام- في حقها: «إنّ أيوب ابتلي من غير ذنب، و إنّ الأنبياء لا يذنبون، لأنّهم معصومون، مطهرون، لا يذنبون و لا يزيغون،

__________________________________________________

(1).

الكشاف: 3/ 16.

(2). الكهف: 63.

(3). بحار الأنوار: 12/ 347 نقلًا عن أنوار التنزيل.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 191

و لا يرتكبون ذنباً صغيراً و لا كبيراً».

و قال: «إنّ أيوب مع جميع ما ابتلي به لم تنتن له رائحة، و لا قبحت له صورة، و لا خرجت منه مدة من دم و لا قيح، و لا استقذره أحد رآه، و لا استوحش منه أحد شاهده، و لا تدوّد شي ء من جسده، و هكذا يصنع اللَّه عزّ و جلّ بجميع من يبتليه من أنبيائه و أوليائه المكرمين عليه، و إنّما اجتنبه الناس لفقره و ضعفه في ظاهر أمره، لجهلهم بما له عند ربِّه تعالى ذكره، من التأييد و الفرج، و قد قال النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-: «أعظم الناس بلاءً الأنبياء ثمّ الأمثل فالأمثل» و إنّما ابتلاه اللَّه عزّ و جلّ بالبلاء العظيم الذي يهون معه على جميع الناس لئلّا يدّعوا له الربوبية، إذا شاهدوا ما أراد اللَّه أن يوصله إليه من عظائم نعمه متى شاهدوه، ليستدلوا بذلك على أنّ الثواب من اللَّه تعالى ذكره على ضربين: استحقاق و اختصاص، و لئلّا يحتقروا ضعيفاً لضعفه، و لا فقيراً لفقره، و ليعلموا أنّه يسقم من يشاء و يشفي من يشاء متى شاء كيف شاء، بأيِّ سبب شاء، و يجعل ذلك عبرة لمن شاء و شفاء لمن شاء و سعادة لمن شاء، و هو عزّ و جلّ في جميع ذلك عدل في قضائه، و حكيم في أفعاله، لا يفعل بعباده إلّا الأصلح لهم، و لا قوة لهم إلّا به». «1»

و هذه الرواية- الصادرة من بيت الوحي و النبوة- تعرب عن عقيدة الأئمّة في

حق الأنبياء عامة، و في حق النبي أيوب خاصة، و انّ الأنبياء لا يبتلون بالأمراض المنفّرة، لأنّها لا تجتمع مع هدف البعثة، و أنّ ابتلاء أيوب كان لأهداف تربوية أُشير إليها في الرواية.

قال السيد المرتضى: أ فتصححون ما روي من أنّ الجذام أصابه حتى تساقطت أعضاؤه؟

__________________________________________________

(1). الخصال: 2/ 400، ط الغفاري.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 192

قلنا: أمّا العلل المستقذرة التي تنفّر من رآها و توحشه كالبرص و الجذام، فلا يجوز شي ء منها على الأنبياء، لما تقدم ذكره. «1»

و قال العلّامة المجلسي بعد نقل الخبر المتقدم عن الإمام الباقر- عليه السَّلام-: هذا الخبر أوفق بأُصول متكلمي الإمامية من كونهم منزّهين عمّا يوجب تنفّر الطباع عنهم، فتكون الأخبار الأُخر محمولة على محامل أُخر. «2»

إلى هنا استطعنا أن نخرج بهذه النتائج في مورد هذه الروايات المرتبطة بقصة أيوب:

1. انّ الألفاظ الواردة في الآية من قوله: «مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ» لا دلالة لها على صدور الذنب.

2. انّ الروايات الواردة في بعض الكتب من إصابته بأمراض منفّرة يخالفها العقل، و تردّها النصوص المروية عن أئمّة أهل البيت- عليهم السَّلام-.

__________________________________________________

(1). تنزيه الأنبياء: 64.

(2). البحار: 12/ 349.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 193

9 عصمة يونس- عليه السَّلام- و ذهابه مغضباً

اشارة

إنّ المخطّئة لعصمة الأنبياء استدلوا على مقصودهم بما ورد حول قصة يونس من الآيات، و نحن نذكر عامّة ما ورد في ذلك المجال، ثمّ نستوضح مقاصدها.

فنقول: قد وردت قصته على نحو التفصيل و الإجمال في سور أربع: يونس، الأنبياء، الصافّات، و القلم، و إليك الآيات:

1. «فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» «1».

2. «وَ ذَا النُّونِ

إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» «2».

3. «فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ» «3».

4. «وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ* فَساهَمَ

__________________________________________________

(1). يونس: 98.

(2). الأنبياء: 87.

(3). الأنبياء: 88.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 194

فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ* فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَ هُوَ مُلِيمٌ* فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ* وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ* وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ* فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» «1».

5. «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَ هُوَ مَكْظُومٌ* لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَ هُوَ مَذْمُومٌ* فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» «2».

هذه هي الآيات الواردة حول قصة يونس، و بالإحاطة بها يتمكّن المفسّر من الإجابة على الأسئلة المطروحة حولها، و إن لم تكن لبعضها صلة بالعصمة.

أمّا ما جاء من الروايات حول القصة، فكلّها روايات آحاد لا يمكن الركون إلى الخصوصيات الواردة فيها، بل بعض ما فيها لا يناسب ساحة الإنسان العادي فضلًا عن النبي، و لأجله تركنا ذكرها.

و الذي تضافرت عليه الروايات هو أنّه لمّا دعا قومه إلى الإسلام، و عرف منهم الامتناع، دعا عليهم و وقف على استجابة دعائه، فأخبرهم بنزول العذاب، فلمّا ظهرت أماراته كان من بينهم عالم أشار إليهم أن افزعوا إلى اللَّه لعلّه يرحمكم، و يردّ العذاب عنكم، فقالوا: كيف نصنع؟ قال: اجتمعوا و اخرجوا إلى المفازة، و فرّقوا بين النساء و الأولاد، و بين الإبل و أولادها ...

ثمّ ابكوا و ادعوا، فذهبوا و فعلوا ذلك، و ضجّوا و بكوا، فرحمهم اللَّه، و صرف عنهم العذاب. «3»

فنقول: توضيح مفاد الآيات يتوقف على البحث عن عدّة أُمور:

__________________________________________________

(1). الصافات: 139- 148.

(2). القلم: 48- 50.

(3). بحار الأنوار: 14/ 380 من الطبعة الجديدة رواه جميل بن درّاج الثقة عن الصادق- عليه السَّلام-.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 195

إنّ المخطّئة لعصمة الأنبياء استدلوا على مقصودهم بما ورد حول قصة يونس من الآيات، و نحن نذكر عامّة ما ورد في ذلك المجال، ثمّ نستوضح مقاصدها.

صريح قوله سبحانه: «فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» «1».

إنّ أُمّة يونس هي الأُمّة الوحيدة التي نفعها إيمانها قبل نزول العذاب و كشف عنهم، و ذلك لأنّ «لو لا» التحضيضية إذا دخلت على الفعل الماضي تفيد معنى النفي، كما في قولك: هلا قرأت القرآن، و على ذلك يكون معنى قوله سبحانه: «فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ» انّه لم يكن ذلك أبداً، فاستقام الاستثناء بقوله: «إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ»، و المعنى هلا كانت قرية من هذه القرى التي جاءتهم رسلنا فكذبوهم آمنت قبل نزول العذاب فنفعها إيمانها، لكن لم يكن شي ء من ذلك إلّا قوم يونس لمّا آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي.

و لا شك أنّه قد نفع إيمان قوم يونس و لكن لم ينفع إيمان فرعون، و عندئذ يُطرح هنا السؤال التالي: ما الفرق بين الإيمانين؟

حيث نفع إيمانهم دون إيمان الثاني و أتباعه، يقول سبحانه: «وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ بَغْياً وَ عَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ* آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ* فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ

خَلْفَكَ آيَةً وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ» «2».

__________________________________________________

(1). يونس: 98.

(2). يونس: 90- 92.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 196

الجواب: الفرق بين الإيمانين، أحدث هذا الفرق، حيث كان إيمان قوم يونس إيماناً عن اختيار، و لأجل ذلك بقوا على إيمانهم بعد رفع العذاب، و كان إيمان فرعون إيماناً اضطرارياً غير ناجم عن ثورة روحية على الكفر و الوثنية، بل كان وليد رؤية العذاب و هجوم الأمواج، لا أقول: إنّ إيمان قوم يونس كان حقيقياً جدياً و إيمان الآخرين كان صورياً غير حقيقي، بل: الكل كان حقيقياً، و إنّما الاختلاف في كون أحدهما ناشئاً من اختيار، و الآخر ناشئاً من الاضطرار و الخوف، و بعبارة أُخرى: ناشئاً من عامل داخلي و ناشئاً من عامل خارجي.

و الدليل على ذلك استقرار و ثبوت قوم يونس على الإيمان بعد كشف العذاب عنهم لقوله سبحانه: «وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ»، و يقول سبحانه: «وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ* فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» «1»، و الظاهر من الآية أنّ يونس بعد ما نجا ممّا ابتلي به، أرسل إلى نفس قومه، فاستقبلوه بوجوه مشرقة و تمتعوا في ظل الإيمان إلى الوقت المؤجل في علم اللَّه.

و أمّا الفراعنة فكانت سيرتهم الإيمان عند نزول العذاب و الرجوع إلى الفساد و إلى ما كانوا عليه من الفساد في مجال العقيدة و العمل، بعد كشفه، و الذكر الحكيم يصرّح بذلك في الآيات التالية: «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَ الْجَرادَ وَ الْقُمَّلَ وَ الضَّفادِعَ وَ الدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ* وَ لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ

لَكَ وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ* فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ» «2».

__________________________________________________

(1). الصافات: 147- 148.

(2). الأعراف: 133- 135.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 197

و ثبات قوم يونس على إيمانهم و عدم انحرافهم عنه بعد كشف العذاب، و نكث الفراعنة بعد كشف الرجز عنهم، خير دليل على أنّ إيمان القوم كان إيماناً اختيارياً ثابتاً و نابعاً عن اليقين، و إيمان الفراعنة كان اضطرارياً ناشئاً عن الخوف.

و الأوّل من الإيمانين يخرق حجب الجهل، و يشاهد الإنسان عبوديته بعين القلب و عظمة الرب و نور الإيمان، فيصير خاضعاً أمام اللَّه، يعبده و لا يعبد غيره.

و الثاني منهما يدور مدار وجود عامل الاضطرار و الإلجاء، فيؤمن عند وجوده و يكفر بارتفاعه، و لا يعد ذلك الإيمان كمالًا للروح و لا قيمة له في سوق المعارف، قال سبحانه: «وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» «1».

و لا شك أنّه تعلّقت إرادته التشريعية بإيمان الناس كلّهم بشهادة بعث الأنبياء و إرسال الرسل، و لكن لم تتعلّق إرادته التكوينية بإيمانهم، و إلّا لم تتخلف عن مراده و أصبح الناس كلّهم مؤمنين إيماناً لا عن اختيار، و لكن بما أنّه لا قيمة للإيمان الخارج عن إطار الاختيار و الناشئ عن الإلجاء و الاضطرار، لم تتعلّق إرادته سبحانه بإيمانهم، و إليه يشير قوله: «وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً».

* 2. هل كان كشف العذاب تكذيباً لإيعاد يونس؟

قد وعد سبحانه في كتابه العزيز بأنه يؤيد رسله و ينصرهم و لا يكذبهم و هو عز من قائل: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ»

«2».

__________________________________________________

(1). يونس: 99.

(2). غافر: 51.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 198

فلو أخبر واحد منهم عن وقوع حادثة أو نزول رحمة و عذاب على قوم، فلا بد أن يكون وضع المخبر به في المستقبل على وجه لا يلزم منه تكذيبهم، و ذلك إمّا بوقوع نفس المخبر به كما هو الحال في إخبار صالح لقومه، حيث تنبّأ و قال: «تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ»، فلمّا بلغ الأجل المحدد «وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ* كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ» «1»، و إمّا بظهور علامات و أمارات دالة على صدق مقال النبي و إخباره، و انّ عدم تحقّقه لأجل تغيير التقدير بالدعاء و العمل الصالح، قال سبحانه: «وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ» «2».

و قال عز من قائل: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» «3».

هذه سنة اللَّه سبحانه في إنزال النعمة و النقمة و رفعهما.

و ما أخبر به يونس كان من هذا القبيل، فقد تنبّأ بنزول العذاب، و شاهد القوم طلائع العذاب و علائمه «4»، فبادروا بالتوبة و الإنابة إلى اللَّه حسب إرشاد عالمهم، فكشف عنهم العذاب، و ليس في هذا تكذيب ليونس، لو لم يكن فيه تصديق حيث وقفوا على صدق مقالته غير أنّ للَّه سبحانه سنناً في الحياة، فأخذ المعتدي باعتدائه سنّة، و العفو عنه لإنابته أيضاً سنّة، و لكل موضع خاص، و هذا

__________________________________________________

(1). هود: 65، 67- 68.

(2). الأعراف: 96.

(3). الأنفال: 53.

(4). لاحظ

تفسير الطبري: 11/ 117- 118؛ الدر المنثور: 3/ 317- 318؛ البحار: 14/ 396 من الطبعة الحديثة.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 199

معنى البداء الذي تقول به الإمامية، الذي لو وقف إخواننا أهل السنّة على حقيقته لاعترفوا به من صميم القلب، و لكن الدعايات الباطلة حالت بينهم و بين الوقوف على ما تتبناه الإمامية في هذا المضمار، و قد أوضحنا حقيقة الحال في رسالة «البداء من الكتاب و السنّة». «1» و من أراد الوقوف على واقع الحال فليرجع إليها.

* 3. أسئلة ثلاثة حول عصمته

ألف. ما معنى كونه مغاضباً؟ و من المغضوب عليه؟

ب. ما ذا يراد من قوله: «فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ»؟

ج. كيف تجتمع العصمة مع اعترافه بكونه من الظالمين؟

هذه هي الأسئلة الحسّاسة في قصة يونس- عليه السَّلام-، و قد تمسّك بها المخطّئة، و إليك توضيحها واحداً بعد واحد:

أمّا الأوّل: فقد زعم المخطّئة أنّ معناه أنّه خرج مغاضباً لربِّه من حيث إنّه لم ينزل بقومه العذاب.

و لكنّه تفسير بالرأي، بل افتراء على الأنبياء، و سوء ظن بهم، و لا يغاضب ربّه إلّا من كان معادياً له و جاهلًا بحكمه في أفعاله، و مثل هذا لا يليق بالمؤمن فضلًا عن الأنبياء.

و إنّما كان غضبه على قومه لمقامهم على تكذيبه و إصرارهم على الكفر و يأسه من توبتهم، فخرج من بينهم. «2»

__________________________________________________

(1). مطبوعة منتشرة.

(2). تنزيه الأنبياء: 102.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 200

هكذا فسّره الإمام الرضا- عليه السَّلام- عند ما سأله المأمون عن مفاد الآية و قال: «ذلك يونس بن متى ذهب مغاضباً لقومه». «1»

و أمّا الثاني: أعني: «فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ» فالفعل، أعني: (نقدر)، من القدر بمعنى الضيق لا من القدرة، قال سبحانه: «وَ مَنْ قُدِرَ

عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ» «2»، و قال سبحانه: «إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ» «3»، فمعنى الآية أنّه ظن أن لا يضيق عليه الأمر لترك الصبر و المصابرة مع قومه، لا بمعنى أنّه خطر هذا الظن بباله، بل كان ذهابه و ترك قومه يمثل حالة من ظن أن لن نقدر عليه في خروجه من قومه من غير انتظار لأمر اللَّه، فكانت مفارقته قومه ممثلة لحال من يظن بمولاه ذلك.

و أمّا تفسيره بأنّه ظن أنّه سبحانه لا يقدر عليه، فهو تفسير بما لا تصح نسبته إلى الجهلة من الناس فضلًا عن الأولياء و الأنبياء.

و بما أنّ مفارقته قومه بلا إذن منه سبحانه- كان يمثل حال من يظن أن لا يضيّق مولاه عليه- ابتلاه اللَّه بالحوت فالتقمه.

فوقف على أنّه ترك ما هو الأولى فعلًا، فندم على عمله «فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ».

و نقل الزمخشري في كشّافه: عن ابن عباس أنّه دخل على معاوية فقال: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة، فغرقت فيها، فلم أجد لنفسي خلاصاً إلّا بك، قال: و ما هي يا معاوية؟ فقرأ هذه الآية و قال: أو يظن نبي اللَّه أن لا يقدر عليه؟

__________________________________________________

(1). بحار الأنوار: 14/ 387.

(2). الطلاق: 7.

(3). الإسراء: 30.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 201

قال: هذا من القدر لا من القدرة. ثمّ أضاف صاحب الكشاف: يصح أن يفسر بالقدرة على معنى «أن لن نعمل فيه قدرتنا»، و أن يكون من باب التمثيل، بمعنى فكانت حاله ممثلة بحال من ظنّ أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه من غير انتظار لأمر اللَّه، و يجوز أن يسبق ذلك إلى وهمه بوسوسة الشيطان ثمّ

يردعه و يردّه بالبرهان، كما يفعل المؤمن المحقق بنزعات الشيطان و ما يوسوس إليه في كل وقت. «1»

و لا يخفى أنّ ما نقله عن ابن عباس هو المعتمد، بشهادة استعماله في القرآن بمعنى الضيق، و هو المناسب لمفاد الآية، و أمّا الوجهان الآخران فلا يصح الركون إليهما، خصوصاً الوجه الأخير، لأنّ الأنبياء أجل شأناً من أن تحوم حول قلوبهم الهواجس الشيطانية حتى يعودوا إلى معالجتها بالبرهان، فليس له سلطان على المخلصين من عباده، و قد اعترف بذلك الشيطان و قال كما يحكيه سبحانه: «إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» «2».

و أمّا السؤال الثالث: فقد مرّ أنّ الظلم في اللغة بمعنى وضع الشي ء في غير موضعه، و لا شك أنّ مفارقته قومه و تركهم في الظرف القلق العصيب كان أمراً لا يترقب صدوره منه، و إن لم يكن عصياناً لأمر مولاه، فالعطف و الحنان المترقب من الأنبياء غير ما يترقب من غيرهم، فلأجل ذلك كان فعله واقعاً غير موقعه.

و من المحتمل أن يكون الفعل الصادر منه في غير موقعه هو طلبه العذاب لقومه و ترك المصابرة، و يؤيده قوله سبحانه: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَ هُوَ مَكْظُومٌ» «3»، فالظاهر أنّ متعلّق النداء في الآية

__________________________________________________

(1). الكشاف: 2/ 335- 336.

(2). ص: 83.

(3). القلم: 48.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 202

طلب نزول العذاب على قومه بقرينة قوله: «وَ هُوَ مَكْظُومٌ»، أي كان مملوءاً غيضاً أو غماً، و المعنى: يا أيّها النبي لا تكن مثل صاحب الحوت، و لا يوجد منك مثل ما وجد منه من الضجر و المغاضبة، فتُبتلى ببلائه، فاصبر لقضاء ربك، فإنّه يستدرجهم و يملي لهم و لا تستعجل

لهم العذاب لكفرهم.

و يستفاد من بعض الروايات أنّ سبب لومه و ردعه كان أمراً ثالثاً، و هو أنّه لمّا وقف على نجاة أُمّته غضب و ترك المنطقة. «1»

و الوجهان: الأوّل و الثاني هما الصحيحان.

و ممّا ذكرنا يعلم مفاد قوله سبحانه: «إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ»، فشبّه حاله بالعبد الآبق، و ذلك لما مرّ من أنّ خروجه في هذه الحال كان ممثلًا لإباق العبد من خدمة مولاه، فأخذه اللَّه بذلك.

و على كل تقدير فالآيات تدل على صدور عمل منه كان الأليق بحال الأنبياء تركه، و هو يدور بين أُمور ثلاثة: أمّا ترك قومه من دون إذن، أو طلب العذاب و كان الأولى له الصبر، أو غضبه على نجاة قومه.

إلى هنا تم توضيح الآيات المهمة التي وقعت ظواهرها ذريعة لأُناس يستهترون بالقيم و الفضائل و يستهينون بأكبر الواجبات تجاه الشخصيات الإلهية، و بقي الكلام في عصمة النبي الأكرم- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- و نفيض القول فيها في البحث الآتي.

__________________________________________________

(1). بحار الأنوار: 14/ 38.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 203

الطائفة الثالثة عصمة النبي الأكرم- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- و ما تمسّكت به المخطّئة

[عصمته ص من العصيان

اشارة

عصمة النبي الخاتم من العصيان و الخطأ، من فروع عصمة الأنبياء كلّهم، فما دلّت على عصمتهم من الآيات، تدلّ على عصمته أيضاً بلا إشكال، و لا نحتاج بعد ذلك إلى إفراد البحث عنه في هذا المجال، فقد أفاض اللَّه عليه ذلك الكمال كما أفاض على سائر الأنبياء من غير استثناء، فهو معصوم في المراحل الثلاث التالية:

1. مرحلة تلقّي الوحي و حفظه و أدائه إلى الأُمّة.

2. مرحلة القول و الفعل، و على ذلك، فهو من عباده المكرمين الذين لا يعصون اللَّه ما أمرهم و هم بأمره يعملون.

3. مرحلة تطبيق الشريعة و غيرها من الأُمور

المربوطة بحياته، فهو- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- لا يسهو و لا يخطأ في حياته الفردية و الاجتماعية.

و ما دلّ على عصمة تلك الطائفة في هذه المراحل الثلاث دلّ على عصمته فيها أيضاً.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 204

نعم هناك آيات بالخصوص دالّة على عصمته من العصيان و مصونيته من الخطأ، كما أنّ هناك آيات وردت في حقه وقعت ذريعة لمنكري العصمة، و لأجل ذلك أفردنا بحثاً خاصاً في هذا المقام لنوفيه حقه.

أمّا ما يدل على عصمته من العصيان و الخلاف، فيكفي في ذلك قوله سبحانه: «وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَ إِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا* وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا* إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً» «1».

و قد ذكر المفسرون أسباباً لنزولها بما لا يناسب ساحة النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- أوضحها ما ذكره الطبرسي في مجمعه: أنّ المشركين قالوا له: كف عن شتم آلهتنا، و تسفيه أحلامنا، و اطرد هؤلاء العبيد و السقاط الذين رائحتهم رائحة الصنان «2» حتى نجالسك و نسمع منك، فطمع في إسلامهم، فنزلت الآية. «3»

و لتوضيح مفاد الآيات نبحث عن أُمور:

1. أنّ الآيات كما سنرى تشير إلى عصمته، و مع ذلك استدلت المخطّئة بها على خلافها، و هذا من عجائب الأُمور، إذ لا غرو في أنّ تتمسك كل فرقة بقسم من الآيات على ما تتبنّاه، و إنّما العجب أن تقع آية واحدة مطرحاً لكلتا الفرقتين، فيفسرها كلٌّ حسب ما يتوخّاه، مع أنّ الآية لا تتحمل إلّا معنى واحداً لا معنيين متخالفين.

2. انّ الضمير في كلا

الفعلين «كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ» يرجع إلى المشركين،

__________________________________________________

(1). الإسراء: 73- 75.

(2). الصنان: نتن الإبط.

(3). مجمع البيان: 3/ 431.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 205

و يدل عليه سياق الآيات، و المراد من «الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» هو القرآن بما يشتمل عليه من التوحيد و نفي الشريك، و السيرة الصالحة، و المراد من الفتنة في «لَيَفْتِنُونَكَ» هو الإزلال و الصرف، كما أنّ الخليل من الخُلَّة بمعنى الصداقة لا من الخَلّة بمعنى الحاجة.

3. انّ قوله: «وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» يخبر عن دنو المشركين من إزلاله و صرفه عمّا أُوحي إليه، لا عن دنو النبي و قربه من الزلل و الانصراف عمّا أُوحي إليه، و بين المعنيين فرق واضح.

4. انّ قوله سبحانه: «وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا» مركب من جملتين، إحداهما شرطية، و الأُخرى جزائية، أمّا الأُولى فقوله: «وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ»، و أمّا الأُخرى فقوله: «لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ»، و بما أنّ لو لا في الآية امتناعية «1»، تدل على امتناع الجزاء لوجود التثبيت، مثل قولنا: لو لا علي لهلك عمر، فامتنع هلاكه لوجوده.

5. و ليس الجزاء هو الركون بمعنى الميل، بل الجزاء هو القرب من الميل و الانصراف كما يدل عليه قوله: «لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ»، فامتنع القرب من الميل فضلًا عن نفس الميل لأجل وجود تثبيته.

6. انّ تثبيته سبحانه لنبيّه لم يكن أمراً مختصاً بالواقعة الخاصّة، بل كان أمراً عامّاً لجميع الوقائع المشابهة لتلك الواقعة، لأنّ السبب الذي أوجب إفاضة التثبيت عليه فيها، يوجب إفاضته عليه في جميع الوقائع المشابهة، و لا معنى

__________________________________________________

(1). يقول ابن مالك:

لو لا و لو ما يلزمان الابتدا

إذا امتناعاً بوجود عقدا

و الشرط في الآية مؤوّل إلى الاسم أي لو لا تثبيتنا، لقد كدت تركن إليهم.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 206

لخصوصية المعلول و المسبب مع عمومية العلة، و على ذلك تكون الآية من دلائل عصمته في حياته، و سداده فيها على وجه العموم.

و توهم اختصاصها بالواقعة التي تآمر المشركون فيها لإزلاله من كلمات رماة القول على عواهنه.

7. انّ التثبيت في مجال التطبيق فرع التثبيت في مجال التفكير، إذ لا يستقيم عمل إنسان ما لم يتم تفكيره، و على ذلك يفاض على النبي السداد مبتدئاً من ناحية التفكّر منتهياً إلى ناحية العمل، فهو في ظل هذا السداد المفاض، لا يفكّر بالعصيان و الخلاف فضلًا عن الوقوع فيه.

8. انّ تسديده سبحانه، لا يخرجه عن كونه فاعلًا مختاراً في عامة المجالات: الطاعة و المعصية، فهو بعد قادر على النقض و الإبرام و الانقياد و الخلاف، و لأجل ذلك يخاطبه في الآيات السابقة بقوله: «إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً».

و على ضوء ما ذكرنا فالآية شاهدة على عصمته، و دالة على عنايته سبحانه برسوله الأكرم فيراقبه و يراعيه و لا يتركه بحاله، و لا يكله إلى نفسه، كل ذلك مع التحفّظ على حريته و اختياره في كل موقف.

فقوله سبحانه: «وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ» نظير قوله: «وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ» «1» لكن الأوّل راجع إلى صيانته عن العصيان، و الثاني ناظر إلى سداده عن السهو و الخطاء في الحياة، و سيوافيك توضيح الآية الثانية في البحث الآتي.

__________________________________________________

(1). النساء: 113.

عصمة الانبياء فى القرآن

الكريم، ص: 207

و في الختام نذكر ما أفاده الرازي في المقام: قال: احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بهذه الآية بوجوه:

الأوّل: انّها دلّت على أنّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- قرب من أن يفتري على اللَّه، و الفرية على اللَّه من أعظم الذنوب.

الثاني: انّها تدل على أنّه لو لا أنّ اللَّه تعالى ثبته و عصمه لقرب أن يركن إلى دينهم.

الثالث: أنّه لو لا سبق جرم و جناية لم يحتج إلى ذكر هذا الوعيد الشديد.

و الجواب عن الأوّل: أنّ «كاد» معناها المقاربة، فكان معنى الآية قرب وقوعه في الفتنة، و هذا لا يدل على الوقوع.

و عن الثاني: أنّ كلمة لو لا تفيد انتفاء الشي ء، لثبوت غيره، نقول: «لو لا علي لهلك عمر» و معناه أنّ وجود علي- عليه السَّلام- منع من حصول الهلاك لعمر، فكذلك هاهنا فقوله: «وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ» معناه لو لا حصل تثبيت اللَّه لك يا محمد، فكان تثبيت اللَّه مانعاً من حصول ذلك الركون.

و عن الثالث: انّ التهديد على المعصية لا يدل على الإقدام عليها، و الدليل عليه آيات منها قوله تعالى: «وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ» الآيات، و قوله تعالى: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ» و قوله: «وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ». «1»*

* أدلة المخطّئة
اشارة

لقد اطّلعت في صدر البحث على عصمة النبي الأعظم- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- على أنّ هناك

__________________________________________________

(1). مفاتيح الغيب: 5/ 420.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 208

آيات وردت في حق النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- قد صارت ذريعة لبعض المخطّئة الذين يحاولون إنكار العصمة،

و هي عدة آيات:
* [الآية] الأُولى: العصمة و الخطابات الحادة

هناك آيات تخاطب النبي بلحن حاد و تنهاه عن اتّباع أهواء المشركين، و الشرك باللَّه، و الجدال عن الخائنين، و غير ذلك، ممّا يوهم وجود أرضية في نفس النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- لصدور هذه المعاصي الكبيرة عنه، و إليك هذه الآيات مع تحليلها:

1. «وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ» «1».

و قد جاءت الآية في نفس هذه السورة بتفاوت في الذيل، فقال بدل قوله: «ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ»، «إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ» «2»، كما جاءت أيضاً في سورة الرعد، غير أنّه جاء بدل قوله: «وَ لا نَصِيرٍ» «وَ لا واقٍ».

و على أي حال فقد تمسّكت المخطّئة بالقضية الشرطية على أرضية متوقعة في نفس النبي لاتّباع أهوائهم و إلّا فلا وجه للوعيد.

و لكن الاستدلال على درجة من الوهن، إذ لا تدل القضية الشرطية إلّا على الملازمة بين الشرط و الجزاء، لا على تحقّق الطرفين، و لا على إمكان تحقّقهما، و هذا من الوضوح بمكان، قال سبحانه: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» «3»، و ليس فيها أيّ دلالة على تحقّق المقدّم أو التالي، و بما ذكرنا يتضح حال الآيتين

__________________________________________________

(1). البقرة: 120.

(2). البقرة: 145.

(3). الأنبياء: 22.

عصمة الانبياء فى القرآن

الكريم، ص: 209

التاليتين:

2. انّه سبحانه يخاطب النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- بقضايا شرطية كثيرة قال سبحانه: «وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا* إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً» «1».

و من المعلوم المقطوع به أنّه سبحانه لا يستلب منه ما أوحى إليه.

3. قال سبحانه: «وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» «2»، و قال أيضاً:

«وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ» «3»، فهذه الآيات و نظائرها التي تحكي عن القضية الشرطية لا تدلّ على ما يرتئيه الخصم بوجه من الوجوه، أي وجود أرضية متوقعة لصدور هذه القضايا، و ذلك لوجهين:

ألف: أنّ هذه الآيات تخاطب النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- بما أنّه بشر ذو غرائز جامحة بصاحبها، ففي هذا المجال يصح أن يخاطب النبي بأنّه لو فعل كذا لقوبل بكذا، و هذا لا يكون دليلًا على إمكان وقوع العصيان منه بعد ما تشرّف بالنبوّة و جُهّز بالعصمة و عُزِّز بالرعاية الربانية، فالآيات التي تخاطب النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- بما هو بشر لا تعم ذلك المجال.

ب. أنّ هذه الآيات تركز على الجانب التربوي، و الهدف تعريف الناس بوظائفهم و تكاليفهم أمام اللَّه سبحانه، فإذا كان النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-- نبي العظمة- محكوماً

__________________________________________________

(1). الإسراء: 86- 87.

(2). الزمر: 65.

(3). الحاقة: 44- 47.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 210

بهذه الأحكام و مخاطباً بها، فغيره أَولى أن يكون محكوماً بها.

و

على ذلك فتكون الآيات واردة مجرى: «إياك أعني و اسمعي يا جارة»، فهؤلاء الذين يتخذون تلك الآيات وسيلة لإنكار العصمة، غير مطّلعين على «ألف باء» القرآن، و بذلك يظهر مفاد كثير من الآيات النازلة في هذا المجال، يقول سبحانه عند ما يأمره بالصلاة إلى المسجد الحرام:

4. «الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» «1»، و يريد بذلك تعليم الناس أن لا يقيموا وزناً لإرجاف المرجفين في العدول بالصلاة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، كما يحكي سبحانه و تعالى عنهم بقوله: «سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها» «2».

5. انّه سبحانه يبطل ألوهية المسيح- عليه السَّلام- بحجّة أنّه وليد مريم- عليها السَّلام- بأنّ تولده بلا أب يشبه تكوّن آدم من غير أب و لا أُم، قال سبحانه: «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»، فعند ذلك يخاطب النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- بقوله: «الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» «3».

و لا شك أنّ الخطاب جرى مجرى ما ذكرنا: «إياك أعني و اسمعي يا جارة»، فإنّ النبي الأعظم بعد ما اتصل بعالم الغيب و شاهد و رأى الملائكة و سمع كلامهم، هل يمكن أن يتسرّب إليه الشك حتى يصح أن يخاطب بقوله: «فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» على الجد و الحقيقة؟

6. انّه سبحانه يخاطب النبي الأكرم- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- عند ما جلس على كرسي القضاء

__________________________________________________

(1). البقرة: 147.

(2). البقرة: 142.

(3). آل عمران: 59- 60.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 211

بقوله: «وَ لا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً

أَثِيماً» «1».

فالآية تكلّف النبي أن لا يدافع عن الخائن، و من الواضح أنّ النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- لم يكن في زمن حياته مدافعاً عن الخائن، و انّما هو خطاب عام أُريد منه تربية المجتمع و توجيهه إلى هذه الوظيفة الخطيرة، و بما أنّ أكثر الناس لا يتحمّلون الخطاب الحاد، بل يكون مرّاً في أذواق أكثرهم، اقتضت الحكمة أن يكون المخاطب، غير من قصد له الخطاب.

7. و على ذلك يحمل قوله سبحانه: «إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً» «2».

و أخيراً نقول: إنّ سورة الإسراء تحتوي على دساتير رفيعة المستوى، ترجع إلى وظائف الأُمّة: الفردية و الاجتماعية، و هو سبحانه يبتدئ الدساتير بقوله: «لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا» «3»، و في الوقت نفسه يختمها بنفس تلك الآية باختلاف يسير فيقول: «وَ لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً». «4»

فهذه الخطابات و أشباهها و إن كانت موجهة إلى النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- لكن قصد بها عامة الناس لنكتة سبق ذكرها، و إلّا فالنبي الأعظم- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- أعظم من أن يشرك باللَّه تعالى بعد تشرّفه بالنبوّة، كيف، و هو الذي كافح الوثنية منذ نعومة أظفاره إلى أن بعث نبيّاً لهدم الشرك و عبادة غير اللَّه تبارك و تعالى.

__________________________________________________

(1). النساء: 107.

(2). النساء: 105.

(3). الإسراء: 22.

(4). الإسراء: 39.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 212

و قس على ذلك كلّما يمرُّ عليك من الآيات التي تخاطب النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- بلحن شديد، فتفسير

الجميع بالوجهين اللّذين قدمنا ذكرهما.

* الآية الثانية: العصمة و العفو و الاعتراض
اشارة

كان النبي الأعظم- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- بصدد خلق مجتمع مجاهد يقف في وجه الروم الشرقية، فأذن بالجهاد إلى ثغرها (تبوك)، فلبّت دعوته زرافات من الناس بلغت ثلاثين ألف مقاتل، إلّا أنّ المنافقين أبوا الاشتراك في صفوف المجاهدين، فتعلّقوا بأعذار و استأذنوا في الإقامة في المدينة، و أذن لهم النبي الأكرم، و في هذا الشأن نزلت الآية التالية:

«عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ الْكاذِبِينَ» «1».

و الآية تصرّح بعفوه سبحانه عنه كما يقول: «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ»، كما تتضمن نوع اعتراض على النبي حيث أذن لهم في عدم الاشتراك، كما يقول سبحانه: «لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ»، و عندئذ يفرض هذا السؤال نفسه:

ألف: كيف يجتمع العفو مع العصمة؟

ب: ما معنى الاعتراض على إذن النبي؟

أقول:

أمّا الجملة الأُولى:

فتوضيحها بوجهين:

الأوّل: أنّها إنّما تدل على صدور الذنب- على فرض التسليم- إذا كانت جملة خبرية حاكية عن شمول عفوه سبحانه للنبي في الزمان الماضي، و أمّا إذا

__________________________________________________

(1). التوبة: 43.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 213

كانت خبرية و لكن أُريد منها الإنشاء و طلب العفو، كما في قوله: «أيدك الله» «غفر الله لك»، فالدلالة ساقطة، إذ طلب العفو و المغفرة للمخاطب نوع دعاء و تقدير و تكريم له.

الثاني: ليس على أديم الأرض إنسان يستغني عن عفوه و مغفرته سبحانه حتى الأولياء و الأنبياء، لأنّ الناس بين كونهم خاطئين في الحياة الدنيا، و كونهم معصومين، و وظيفة الكل هي الاستغفار.

أمّا الطائفة الأُولى فواضحة، و أمّا الثانية فلوقوفهم على عظمة الرب و كبر المسئولية، و انّ هنا أُموراً كان الأليق تركها، أو الإتيان بها، و إن لم يأمر بها الرب أمر فرض، أو لم ينه

عنها نهي تحذير، و المترقب منهم غير المترقب من غيرهم.

و لأجل ذلك كان الأنبياء يستغفرون كل يوم و ليلة قائلين: «ما عرفناك حق معرفتك و ما عبدناك حق عبادتك».

و حاصل الوجهين: أنّ طلب العفو نوع تكريم و احترام للمخاطب بصورة الدعاء، و ليس إخباراً عن واقعية محقّقة حتى يستلزم صدور ذنب من المخاطب، هذا من جانب، و من جانب آخر أنّ كل إنسان مهما كان في الدرجة العالية من التقوى، يرى في أعماله حسب عرفانه و استشعاره عظمة الرب و كبر المسئولية، أنّ ما هو الأليق خلاف ما وقع منه، فتوحي إليه نفسه الزكية، طلب العفو و المغفرة لإزالة آثار هذا التقصير في الآجل و العاجل.

و أمّا الجملة الثانية:

فلا شك أنّها تتضمن نوع اعتراض على النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- لكن لا على صدور ذنب أو خلاف منه، بل لأنّ إذنه كان مفوتاً لمصلحة له، و هو معرفة الصادق في إيمانه

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 214

من الكاذب في ادّعائه، كما يعرب عنه قوله: «حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ الْكاذِبِينَ».

توضيحه: أنّ المنافقين كانوا مصمّمين على عدم الخروج مع المؤمنين إلى غزو الروم، و كان لهم تخطيط في غياب النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- أبطله النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- بتخليفه علياً مكانه، قال سبحانه: «وَ لَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَ لكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ» «1»، و الآية تدلُّ على أنّهم كانوا عازمين على الإقامة في المدينة، و كان الاستئذان نوع تغطية لقبح عملهم حتى يتظاهروا بأنّ عدم ظعنهم مع المؤمنين كان بإذن من النبي- صلَّى اللَّه

عليه و آله و سلَّم-.

و من جانب آخر أنّهم لو خرجوا مع المسلمين ما زادوهم إلّا فتنة و خبالًا و إضعافاً لعزائم المؤمنين، و فيهم سمّاعون لهم يتأثرون بدعاياتهم و إغوائهم كما يقول سبحانه: «لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَ لَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَ فِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» «2».

و بما أنّهم كانوا عازمين على القعود أوّلًا، و على الإضرار و الفتنة في جبهات الحرب ثانياً، لذلك لم يكن في الإذن أيّة تبعة سوى فوت تميّز الخبيث من الطيب، و معرفة المنافق من المؤمن، إذ لو لم يأذن لهم لظهر فسقهم و تمردهم على كلام النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-، و مثل هذا لا يعد عمل خلاف حتى يكون الاعتراض عليه دليلًا على صدور الذنب.

و لو كانت المخطّئة عارفة بأساليب البلاغة و فنون الكلام لعرفت أنّ اسلوب

__________________________________________________

(1). التوبة: 46.

(2). التوبة: 47.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 215

الكلام في الآية، اسلوب عطف و حنان، و أشبه باعتراض الولي الحميم، على الصديق الوفي، إذا عامل عدوه الغاشم بمرونة و لين، فيقول بلسان الاعتراض: لما ذا أذنت له، و لم تقابله بخشونة حتى تعرف عدوك من صديقك، و من وفى لك ممّن خانك، على أنّه و إن فات النبي معرفة المنافق عن هذا الطريق لكنه لم يفته معرفته من طريق آخر، صرح به القرآن في غير هذا المورد، فإنّ النبي الأكرم كان يعرف المنافق من المؤمن بطريقين آخرين:

1. كيفية الكلام، و يعبّر عنه القرآن بلحن القول، و ذلك أنّ الخائن مهما أصر على كتمان خيانته، تظهر بوادرها في ثنايا كلامه، قال أمير المؤمنين- عليه السَّلام-: «ما

أضمر أحد شيئاً إلّا ظهر في فلتات لسانه و صفحات وجهه». «1» و في ذلك يقول سبحانه: «وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ» «2».

2. التعرّف عليهم بتعليم منه سبحانه قال: «ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ» «3»، و الدقة في الآية تفيد بأنّ اللَّه سبحانه يجتبي من رسله من يشاء و يطلعه على الغيب، و يعرف من هذا الطريق الخبيث و يميّزه عن الطيب.

و على ذلك فلم يفت على النبي الأكرم شي ء و إن فاتته معرفة المنافق من هذا الطريق، و لكنّه وقف عليها من الطريق الآخر أو الطريقين الآخرين.

__________________________________________________

(1). نهج البلاغة: قسم الحكم، الرقم 26.

(2). محمد: 30.

(3). آل عمران: 179.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 216

* الآية الثالثة: العصمة و الأمر بطلب المغفرة

إنّه سبحانه يأمر نبيّه الأعظم، بطلب الغفران منه و يقول مخاطباً رسوله: «إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً* وَ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً». «1» و يقول سبحانه: «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَ مَثْواكُمْ» «2». و عندئذ يخطر في ذهن الإنسان: كيف تجتمع العصمة مع الأمر بطلب الغفران؟

أقول: التعرّف على ما مرّ في الآيتين و نظائرهما، رهن الوقوف على الأصل المسلَّم بين العقلاء، و هو أنّ عظمة الشخصية و خطر المسئولية متحالفان، و ربَّ عمل يُعد صدوره من شخص جرماً و خلافاً، و في الوقت نفسه لا

يعد صدوره من إنسان آخر كذلك.

توضيح ذلك: انّ الأحكام الشرعية تنقسم إلى واجب و حرام و مستحب و مكروه و مباح، و لا محيص عن الإتيان بالواجب و ترك الحرام، نعم هناك رخصة في ترك المستحب و الإتيان بالمكروه و لكن المترقب من العارف بمصالح الأحكام و مفاسدها، تحلية الواجبات بالمستحبات، و ترك المحرمات مع ترك المكروهات و لا يقصر عنه المباح، فهو و إن أباحه اللَّه سبحانه و لكن ربّما يترجح فعله على تركه أو العكس لعنوان ثانوي.

فالعارف بعظمة الرب يتحمّل من المسئولية ما لا يتحمله غيره، فيكون المترقّب منه غير ما يترقّب من الآخر، و لو صدر منه ما لا يليق، و تساهل في هذا

__________________________________________________

(1). النساء: 105- 106.

(2). محمد: 19.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 217

الطريق، يتأكد منه الاستغفار و طلب المغفرة، لا لصدور الذنب منه، بل من باب قياس عمله إلى علو معرفته و عظمة مسئوليته.

و إن شئت فاستوضح ذلك من ملاحظة حال المتحضر و البدوي، فالمرجوّ من الأوّل القيام بالآداب و الرسوم الرائجة في الحضارات الإنسانية، و لكن المرجوّ من الثاني أبسط الرسوم و الآداب، فما ذلك إلّا لاختلافهما من ناحية التربية و المعرفة، كما أنّ الترقب من نفس المتحضرين مختلف جداً، فالمأمول من المثقف أشد و أكثر من غيره كما أنّ الانضباط المرجو من الجندي يغاير المترقب من غيره، و الغفلة القصيرة من العاشق يعد جرماً و خلافاً في منطق العشق، و ليست كذلك إذا صدرت من غيره.

و هذه الأمثلة و نظائرها الوافرة تثبت الأصل الذي أوعزنا إليه في صدر البحث من أنّ عظمة الشخصية و كبر المسئولية متحالفان و أنّ الوظائف لا تنحصر في الإتيان بالواجبات،

و التحرّز عن المحظورات بل هناك وظائف أُخرى، و كلّما زاد العلم و العرفان توفرت الوظائف و تكثرت المسئوليات، و لأجل ذلك تُعدّ بعض الغفلات أو اقتراف المكروهات من الأولياء ذنباً، و هو في الواقع ليس بالنسبة إليهم ذنباً مطلقاً، بل ذنباً إذا قيس إلى ما أُعطوا من الإجابة يمان و المعرفة و لو قاموا بطلب المغفرة و العفو، فإنّما هو لأجل هذه الجهات.

نرى أنّ شيخ الأنبياء نوحاً- عليه السَّلام- يقول: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً» «1».

و يقتفيه إبراهيم- عليه السَّلام- و يقول: «رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ

__________________________________________________

(1). نوح: 28.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 218

الْحِسابُ» «1».

و يقول النبي الأعظم: «سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ» «2».

و المنشأ الوحيد لهذا الطلب مرّة بعد أُخرى هو وقوفهم على أنّ ما قاموا به من الأعمال و الطاعات و إن كانت في حد نفسها بالغة حدّ الكمال لكن المطلوب و المترقّب منهم أكمل و أفضل منه.

و على ذلك يحمل ما رواه مسلم في صحيحه، عن المزني، عن النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- قال: «ليُغان على قلبي و إنّي لأستغفر اللَّه في اليوم مائة مرّة». «3»

و قد ذكر المحدّثون حول الحديث نكات عرفانية من أراد التعرّف عليها، فليرجع إلى كتاب «شفاء القاضي».

يقول العلّامة المحقّق علي بن عيسى الإرْبِلي: الأنبياء و الأئمّة- عليهم السَّلام- تكون أوقاتهم مشغولة باللَّه تعالى، و قلوبهم مملوءة به، و خواطرهم متعلّقة بالمبدإ، و هم أبداً في المراقبة، كما قال- عليه السَّلام-: «اعبد اللَّه كأنّك تراه، فإن لم تره، فإنّه يراك» فهم أبداً متوجهون إليه و مقبلون بكلّهم عليه،

فمتى انحطوا عن تلك المرتبة العالية، و المنزلة الرفيعة إلى الاشتغال بالأكل و الشرب و التفرّغ إلى النكاح و غيره من المباحات، عدّوه ذنباً و اعتقدوه خطيئة و استغفروا منه.

و إلى هذا أشار- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-: «انّه ليُران على قلبي و إنّي لأستغفر اللَّه بالنهار سبعين مرّة» و لفظة سبعين ترجع إلى الاستغفار لا إلى الرين. و قوله: حسنات الأبرار

__________________________________________________

(1). إبراهيم: 41.

(2). البقرة: 285.

(3). صحيح مسلم: 8/ 72، باب استحباب الاستغفار و الاستكثار منه. و قوله: «ليغان» من الغين بمعنى الستر و الحجاب و المزن.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 219

سيئات الأقربين ... فقد بان بهذا أنّه كان بعد اشتغاله في وقت ما، بما هو ضرورة للأبدان معصية يستغفر اللَّه منها، و على هذا فقس البواقي و كلّما يرد عليها من أمثالها ... ثمّ قال: إنّ هذا معنى شريف يكشف بمدلوله حجاب الشبهة و يهدي به اللَّه من حسر عن بصره و بصيرته رين العمى و العمه. «1»

و ما ذكره من الجواب فإنّما يتمشّى مع الآيات التي تمسك بها المخالف، و أمّا الأدعية التي اعترف فيها الأئمّة بالذنب من قوله في الدعاء الذي علمه لكميل بن زياد: «اللّهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء، اللّهم اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم» فهذا من باب التعليم للناس.

و أمّا ما كانوا يناجون ربّهم في ظلمات الليل و في سجداتهم، فيحمل على ما حققه العلّامة الإرْبِلي و أوضحنا حاله.

* الآية الرابعة: العصمة و غفران الذنب
اشارة

إذا كان النبي الأعظم- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- معصوماً من العصيان و مصوناً من الذنب، فكيف أخبر سبحانه عن غفران ذنبه: ما تقدم منه و ما تأخر؟ قال

سبحانه: «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً* وَ يَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً» «2».

الجواب: انّ الآية تعد أكبر مستمسك لمخطّئة عصمة الأنبياء مع أنّ إمعان النظر في فقرات الآيات خصوصاً في جعل غفران الذنب غاية للفتح المبين، يوضح المقصود من الذنب و أنّ المراد منه الاتهامات و النسب التي كانت الأعداء

__________________________________________________

(1). كشف الغمة: 3/ 43- 45.

(2). الفتح: 1- 3.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 220

تصفه بها، و انّ ذلك الفتح المبين دلّ على افتعالها و عدم صحتها من أساسها و طهر صحيفة حياته عن تلك النسب، و إليك توضيح ذلك ببيان أُمور:

* 1. ما هو المراد من الفتح في الآية؟

لقد ذكر المفسرون هنا وجوهاً، فتردّدوا بين كون المقصود فتح مكة، أو فتح خيبر، أو فتح الحديبية.

لكن سياق آيات السورة لا يساعد الاحتمالين الأوّلين، لأنّها ناظرة إلى قصة الحديبية و الصلح المنعقد فيها في العام السادس من الهجرة، و الفتح الذي يخبر عن تحقّقه و وقوعه، يجب أن يكون متحقّقاً في ذاك الوقت، و أين هو من فتح مكة الذي لم يتحقّق إلّا بعد عامين من ذلك الصلح حيث إنّ النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- فتحها في العام الثامن من هجرته؟!

و لأجل ذلك حاول من قال: إنّ المراد منه فتح مكة، أن يفسره: بأنَّ إخباره عن الفتح، بمعنى قضائه و تقديره ذلك الفتح، و المعنى قضى ربُّكَ و قدَّر ذاك الفتح المبين، فالقضاء كان متحقّقاً في ظرف النزول و إنْ لم يكن نفس الفتح متحقّقاً.

و لكنّه تكلّف غير محتاج إليه، و قصة الحديبية و إن كانت صلحاً في الظاهر على ترك

الحرب و الهدنة إلى مدّة معينة لكن ذلك الصلح فتح أبواب الظفر للنبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- في الجزيرة العربية، و فسح للنبي أن يتوجّه إلى شمالها و يفتح قلاع خيبر، و يسيطر على مكامن الشر و المؤامرة، و يبعث الدعاة و السفراء إلى أرجاء العالم، و يسمع دعوته أُذن الدنيا، كل ذلك الذي شرحناه في أبحاثنا التاريخية كان ببركة تلك الهدنة، و إن كان بعض أصحابه يحقّرها و يندّد بها في أوائل الأمر.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 221

لكن مرور الزمان، كشف النقاب عن عظمتها و ثمارها الحلوة، فصح أن يصفها القرآن: «الفتح المبين».

و على كل حال: فسياق الآيات يَدل بوضوح على أنّ المراد من الفتح هو وقعة الحديبية قال سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً». «1»

و أيضاً يقول: «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً». «2» و قال أيضاً: «وَ هُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً» «3».

و لا شك أنّ المراد من البيعة هو بيعة الرضوان التي بايع المؤمنون فيها النبي الأكرم- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- تحت الشجرة و أعرب سبحانه عن رضاه عنهم.

روى الواحدي عن أنس: انّ ثمانين رجلًا من أهل مكة هبطوا على رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- من جبل التنعيم متسلحين يريدون غرّة النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و

سلَّم- و أصحابه، فأخذهم أُسراء فاستحياهم، فأنزل اللَّه: «وَ هُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ» «4».

أضف إلى ذلك أنّه سبحانه يخبر في نفس السورة عن فتح قريب، و هذا

__________________________________________________

(1). الفتح: 10.

(2). الفتح: 18.

(3). الفتح: 24.

(4). أسباب النزول: 218.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 222

يعرب عن أنّ الفتح المبين غير الفتح القريب، قال سبحانه: «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً» «1»، و هذا الفتح القريب إمّا فتح خيبر، أو فتح مكة. و الظاهر هو الثاني، و أمّا رؤيا النبي فقد تحقّقت في العام القابل، عام عمرة القضاء، فدخل النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- و المؤمنون مكة المكرمة آمنين محلّقين رءوسهم و مقصّرين، و أقاموا بها ثلاثة أيام، ثمّ خرجوا متوجهين إلى المدينة، و ذلك في العام السابع من الهجرة، و في العام الثامن توفق النبي لفتح مكة و تحقّق قوله سبحانه: «فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً».

هذا كلّه حسب سياق الآيات، و أمّا الروايات فهي مختلفة بين تفسيرها بالحديبية، و تفسيرها بفتح مكة، و القضاء فيها موكول إلى وقت آخر، و لا يؤثر هذا الاختلاف فيما نحن بصدده في هذا المقام.

* 2. ما هو المراد من الذنب؟

قال ابن فارس في المقاييس: ذنب له أُصول ثلاثة: أحدها الجرم، و الآخر: مؤخّر الشي ء، و الثالث: كالحظ و النصيب. «2»

و قال ابن منظور: الذنب: الإثم و الجرم و المعصية، و الجمع ذنوب، و ذنوبات جمع الجمع، و قد أذنب الرجل، و قوله عزّ و

جلّ في مناجاة موسى على نبينا و عليه الصلاة و السلام: «وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ» «3»، عني بالذنب قتل الرجل الذي وكزه

__________________________________________________

(1). الفتح: 27.

(2). معجم مقاييس اللغة: 2/ 361.

(3). الشعراء: 14.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 223

موسى فقضى عليه، و كان الرجل من آل فرعون.

و قد وردت «1» تلك اللفظة في الذكر الحكيم سبع مرّات و أُريد بها في الجميع الجرم قال سبحانه: «غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ» «2»، و قال عزّ و جلّ: «وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ».

و على ذلك ف «3» كون الذنب بمعنى الجرم مما لا ريب فيه، غير أنّ الذي يجب التنبيه عليه، هو أنّ اللفظ لا يدل على أزيد من كون صاحبه عاصياً و طاغياً و ناقضاً للقانون، و أمّا الذي عصي و طغي عليه و نقض قانونه فهو يختلف حسب اختلاف البيئات و الظروف، و ليست خصوصية العصيان للَّه سبحانه مأخوذة في صميم اللفظ بحيث لو أُطلق ذلك اللفظ يتبادر منه كونه سبحانه هو المعصي أمره، و إنّما تستفاد الخصوصية من القرائن الخارجية، و هذا هو الأساس لتحليل الآية و فهم المقصود منها.

* 3. الغفران في اللغة

الغفران في اللغة، هو: الستر، قال ابن فارس في المقاييس: عظم بابه الستر، ثمّ يشذُّ عنه ما يُذكر، فالغَفر: السَّتر، و الغفران و الغَفْر بمعنًى يقال: غفر اللَّه ذنبه غَفراً و مغفرةً و غفراناً. «4» و قال في اللسان بمثله. «5»

__________________________________________________

(1). لسان العرب: 3/ 389.

(2). غافر: 3.

(3). التكوير: 8 و 9.

(4). معجم مقاييس اللغة: 4/ 385.

(5). لسان العرب: 5/ 25.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 224

* 4. الفتح لغاية مغفرة الذنب

الآية تدل على أنّ الغاية المتوخاة من الفتح هي مغفرة ذنب النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-، ما تقدّم منه و ما تأخّر، غير أنّ في ترتب تلك الغاية على ذيها غموضاً في بادئ النظر، و الإنسان يستفسر في نفسه كيف صار تمكينه سبحانه نبيّه من فتح القلاع و البلدان، أو المهادنة و المصالحة في أرض الحديبية مع قريش، سبباً لمغفرة ذنوبه، مع أنّه يجب أن تكون بين الجملة الشرطية و الجزائية رابطة عقلية أو عادية، بحيث تعدّ إحداهما علّة لتحقّق الأُخرى أو ملازمة لها، و هذه الرابطة خفية في المقام جداً، فإنّ تمكين النبي من الأعداء و السيطرة عليهم يكون سبباً لانتشار كلمة الحق و رفض الباطل و استطاعته التبليغ في المنطقة المفتوحة، فلو قال: إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً، لتتمكن من الإصحار بالحق، و نشر التوحيد، و دحض الباطل، كان الترتب أمراً طبيعياً، و كانت الرابطة محفوظة بين الجملتين.

و أمّا جعل مغفرة ذنوبه جزاء لفتحه صقعاً من الأصقاع، فالرابطة غير واضحة.

و هذه هي النقطة الحساسة في فهم مفاد الآية، و بالتالي دحض زعم المخطّئة في جعلها ذريعة لعقيدتهم، و لو تبيّنت صلة الجملتين لاتّضح عدم دلالتها على ما تتبنّاه

تلك الطائفة.

فنقول: كانت الوثنية هي الدين السائد في الجزيرة العربية، و كانت العرب تقدّس أوثانها و تعبد أصنامها، و تطلب منهم الحوائج، و تتقرب بعبادتها إلى اللَّه سبحانه هذا من جانب، و من جانب آخر: جاء النبي الأكرم- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- داعياً إلى التوحيد في مجالي الخلق و الأمر، و إلى حصر التقديس و العبادة في اللَّه، و أنّه لا معبود سواه و لا

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 225

شفيع إلّا بإذنه، فأخذ بتحطيم الوثنية و رفض عبادة الأصنام، و أنّها أجسام بلا أرواح لا يملكون شيئاً من الشفاعة و المغفرة، و لا يقدرون على الدفاع عن أنفسهم فضلًا عن عبدتهم، فصارت دعوته ثقيلة على قريش و أذنابهم، حتى ثارت ثائرتهم على النبي الأكرم، فقابلوا براهين النبي بالبذاءة و الشغب و السب و النسب المفتعلة، فوصفوه بأنّه كاهن و ساحر، و مفتر و كذّاب، و قد أعربوا عن نواياهم السيئة عند ما رفعوا الشكوى إلى سيّد الأباطح و قالوا: إنّ ابن أخيك قد سبّ آلهتنا و عاب ديننا و سفّه أحلامَنا و ضلل آباءَنا، فإمّا أن تكفّه عنا و إمّا أن تخلّي بيننا و بينه. «1»

و لمّا وقف النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- على كلام قومه عن طريق عمّه أظهر صموده و ثباته في طريق رسالته بقوله: «يا عم و اللَّه لو وضعوا الشمس في يميني و القمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره اللَّه أو أهلك فيه، ما تركته» قال: ثمّ استعبر فبكى، ثمّ قام. فلمّا ولى ناداه أبو طالب فقال: اقبل يا ابن أخي، قال: فأقبل عليه رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه

و آله و سلَّم-، فقال: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فو الله ما أُسلّمك لشي ء أبداً». «2»

فلمّا وقفت قريش على صمود الرسول شرعوا بالمؤامرة و التخطيط عليه حتى قصدوا اغتياله في عقر داره، فنجّاه اللَّه من أيديهم.

و لمّا استقرَّ النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- في يثرب و اعتز بنصرة الأنصار و من حولها من القبائل جرت بينه و بين قومه حروب طاحنة أدّت إلى قتل صناديد قريش و إراقة دمائهم على وجه الأرض في «بدر» و «أحد» و وقعة «الأحزاب».

__________________________________________________

(1). تاريخ الطبري: 2/ 65.

(2). السيرة النبوية لابن هشام: 1/ 285 من الطبعة الحديثة.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 226

فهذه الحوادث الدامية عند قريش، المرّة في أذواقهم بما أنّها جرّت إلى ذهاب كيانهم، و حدوث التفرقة في صفوفهم، و الفتك بصناديدهم على يد النبي الأكرم، صوّرته في مخيلتهم و خزانة أذهانهم صورة إنسان مجرم مذنب قام في وجه سادات قومه، فسب آلهتهم و عاب طريقتهم بالكهانة و السحر و الكذب و الافتراء، و لم يكتف بذلك حتى شن عليهم الغارة و العدوان فصارت أرض يثرب و ما حولها، مجازر لقريش، و مذابح لأسيادهم، فأيّ جرم أعظم من هذا، و أي ذنب أكبر منه عند هؤلاء الجهلة الغفلة، الذين لا يعرفون الخيّر من الشرير، و الصديق من العدو، و المنجي من المهلك؟

فإذن ما هو الأمر الذي يمكن أن يبرئه من هذه الذنوب و يرسم له صورة ملكوتية فيها ملامح الصدق و الصفاء، و علائم العطف و الحنان حتى تقف قريش على خطئها و جهلها.

إنّ الأمر الذي يمكن أن ينزّه ساحته من هذه الأوهام و الأباطيل، ليست إلّا الواقعة التي

تجلّت فيها عواطفه الكريمة، و نواياه الصالحة، حيث تصالح مع قومه- الذين قصدوا الفتك به و قتله في داره، و أخرجوه من موطنه و مهاده- بعطف و مرونة خاصة، حتى أثارت تعجب الحضّار من أصحابه و مخالفيه، حيث تصالح معهم على أنّه «من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليّه ردَّه عليهم، و من جاء قريشاً ممّن مع محمد لم يردّوه عليه، و أنّه من أحب أن يدخل في عقد محمد و عهده دخل فيه، و من أحب أن يدخل في عقد قريش و عهدهم دخل فيه». «1»

و هذا العطف الذي أبداه النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- في هذه الواقعة مع كونه من القدرة بمكان، و قريش في حالة الانحلال و الضعف، صوّر من النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- عند قومه

__________________________________________________

(1). السيرة النبوية لابن هشام: 2/ 317- 318. ط 2، 1375 ه.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 227

و أتباعه صورة إنسان مصلح يحب قومَه و يطلب صلاحهم و لا تروقه الحرب و الدمار و الجدال فوقفوا على حقيقة الحال، و عضّوا الأنامل على ما افتعلوا عليه من النسب و ندموا على ما فعلوا، فصاروا يميلون إلى الإسلام زرافات و وحداناً، فأسلم خالد بن الوليد، و عمرو بن العاص، و التحقا بالنبي قبل أن يسيطر النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- على مكة و حواليها.

إنّ هذه الواقعة التي لمس الكفار منها خلقه العظيم، رفع الستار الحديدي الذي وضعه بعض أعدائه الألدّاء بينه و بين قومه، فعرفوا أنّ ما يرمى به نبيّ العظمة و يوصف به بين أعدائه، كانت دعايات كاذبة و كان هو منزّهاً عنها،

بل عن الأقل منها.

و لا تقصر عن هذه الواقعة، فتح مكة، فقد واجه قومه مرّة أُخرى- و هم في هزيمة نكراء، ملتفون حوله في المسجد الحرام- فخاطبهم بقوله: «ما ذا تقولون و ما ذا تظنون؟!» فأجابوا: نقول خيراً و نظن خيراً، أخ كريم و ابن أخ كريم، و قدرت، فقال رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-: «لا تثريب عليكم اليوم يغفر اللَّه لكم و هو أرحم الراحمين». «1»

و هذا الفتح العظيم و قبله وقعة الحديبية أثبتا بوضوح أن النبي الأعظم- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- أكرم و أجل و أعظم من أن يكون كاهناً أو ساحراً، إذ الكاهن و الساحر أدون من أن يقوم بهذه الأُمور الجليلة، كما أنّ لطفه العميم و خلقه العظيم آية واضحة على أنّه رجل مثالي صدوق، لا يفتري و لا يكذب، و إنّ ما جرى بينه و بين قومه من الحروب الدامية، كانت نتيجة شقاقهم و جدالهم و مؤامراتهم عليه، مرّة بعد أُخرى في موطنه و مهجره، فجعلوه في قفص الاتهام أوّلًا، و واجهوا أنصاره و أعوانه بألوان

__________________________________________________

(1). المغازي للواقدي: 2/ 835؛ و بحار الأنوار: 21/ 107- 132.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 228

التعذيب ثانياً، فقتل من قتل و أُوذي من أُوذي، و ضربوا عليه و على المؤمنين به، حصاراً اقتصادياً فمنعوهم من ضروريات الحياة ثالثاً، و عمدوا إلى قتله في عقر داره رابعاً، و لو لا جرائمهم الفظيعة لما اخضرت الأرض بدمائهم و لا لقي منهم بشي ء يكرهه، فأصبحت هذه الذنوب التي كانت تدّعيها قريش على النبي بعد وقعة الحديبية، أو فتح مكة، أُسطورة خيالية قضت عليها سيرته في كل من

الواقعتين من غير فرق بين ما ألصقوا به قبل الهجرة أو بعدها، و عند ذلك يتضح مفاد الآيات كما يتضح ارتباط الجملتين: الجزائية و الشرطية، و لو لا هذا الفتح كان النبي محبوساً في قفص الاتهام، و قد كسرته هذه الواقعة، و عرّفته نزيهاً عن كل هذه التهم.

و على ذلك فالمقصود من الذنب ما كانت قريش تصفه به، كما أنّ المراد من المغفرة، إذهاب آثار تلك النسب في المجتمع.

و إلى ما ذكرنا يشير مولانا الإمام الرضا- عليه السَّلام- عند ما سأله المأمون عن مفاد الآية فقال: «لم يكن أحد عند مشركي أهل مكة أعظم ذنباً من رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-، لأنّهم كانوا يعبدون من دون اللَّه ثلاثمائة و ستين صنماً، فلمّا جاءهم بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم و عظم، و قالوا: «أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ* وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَ اصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ يُرادُ* ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ» «1»، فلمّا فتح اللَّهُ عزّ و جلّ على نبيه محمد- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- مكة، قال له: يا محمد: «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ (مكة) فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ» عند مشركي أهل مكة بدعائك إلى توحيد اللَّه عزّ و جلّ فيما تقدّم، و ما تأخّر، لأنّ مشركي مكة، أسلم

__________________________________________________

(1). ص: 5- 7.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 229

بعضهم و خرج بعضهم عن مكة، و من بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه، فصار ذنبه عندهم في ذلك

مغفوراً بظهوره عليهم.

فقال المأمون: للَّه درّك يا أبا الحسن. «1»

و قد أشرنا في صدر البحث إلى اختلاف الروايات في المراد من الفتح الوارد في الآية و قلنا بأنّ هذا الاختلاف لا يؤثر فيما نرتئيه، فلاحظ.

* الآية الخامسة: العصمة و التولّي عن الأعمى
اشارة

استدلّ المخالف لعصمة النبي الأعظم بالعتاب الوارد في الآيات التالية: «عَبَسَ وَ تَوَلَّى* أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى* أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى* وَ ما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى* وَ أَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَ هُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى» «2».

[الرواية الأولى حول الآية]

روى المفسرون أنّ عبد اللَّه بن أُمّ مكتوم الأعمى أتى رسول اللَّه و هو يناجي عتبة بن ربيعة، و أبا جهل بن هشام، و العباس بن عبد المطلب، و أُبيّاً و أُمية ابني خلف، يدعوهم إلى اللَّه و يرجو إسلامهم؛ فقال عبد اللَّه: اقرئني و علّمني ممّا علّمك اللَّه، فجعل ينادي و يكرّر النداء و لا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول اللَّه لقطعه كلامه، و قال في نفسه:

يقول هؤلاء الصناديد إنّما أتباعه العميان و السفلة و العبيد، فعبس- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- و أعرض عنه، و أقبل على القوم الذين يكلّمهم، فنزلت الآيات، و كان رسول اللَّه بعد ذلك يكرمه، و إذا رآه يقول: مرحباً بمن عاتبني فيه ربّي. «3» و يقول: هل لك من حاجة، و استخلفه

__________________________________________________

(1). بحار الأنوار: 17/ 90.

(2). عبس: 1- 10.

(3). أسباب النزول للواحدي: 252.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 230

على المدينة مرتين في غزوتين. «1»

و هناك وجه آخر لسبب النزول روي عن أئمّة أهل البيت- عليهم السَّلام-، و حاصله أنّ الآية نزلت في رجل من بني أُميّة كان عند النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- فجاء ابن أُمّ مكتوم، فلمّا رآه تقذّر منه، و جمع نفسه و عبس و أعرض بوجهه عنه، فحكى اللَّه سبحانه

ذلك و أنكره عليه.

و الاعتماد «2» على الرواية الأُولى مشكل، لأنّ ظاهر الآيات عتاب لمن يقدم الأغنياء و المترفين، على الضعفاء و المساكين من المؤمنين، و يرجح أهل الدنيا و يضع أهل الآخرة، و هذا لا ينطبق على النبي الأعظم من جهات:

الأُولى: انّه سبحانه حسب هذه الرواية وصفه بأنّه يتصدى للأغنياء و يتلهّى عن الفقراء، و ليس هذا ينطبق على أخلاق النبي الواسعة و تحنّنه على قومه و تعطّفه عليهم، كيف؟ و قد قال سبحانه: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» «3».

الثانية: انّه سبحانه وصف نبيّه في سورة القلم، و هي ثانية السور التي نزلت في مكة (و أُولاها سورة العلق) بقوله: «وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» «4»، و مع ذلك كيف يصفه بعد زمن قليل بخلافه، فأين هذا الخلق العظيم ممّا ورد في هذه السورة من العبوسة و التولّي؟ و هذه السورة حسب ترتيب النزول و ان كانت متأخرة عن سورة القلم، لكنّها متقاربة معها حسب النزول، و لم تكن هناك فاصلة زمنية طويلة

__________________________________________________

(1). مجمع البيان: 10/ 437 و غيره من التفاسير.

(2). مجمع البيان: 10/ 437؛ تفسير القمي: 2/ 405.

(3). التوبة: 128.

(4). القلم: 4.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 231

الأمد. «1»

الثالثة: انّه سبحانه يأمر نبيه بقوله: «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ* وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» «2»، كما يأمره أيضاً بقوله: «وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ» «3»، «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ» «4».

إنّ سورتي الشعراء و الحجر، و إن نزلتا بعد سورة «عبس»، لكن تضافرت الروايات على أنّ الآيات المذكورة في السورتين نزلت في بدء الدعوة، أي العام الثالث

من البعثة عند ما أمره سبحانه بالجهر بالدعوة و الإصحار بالحقيقة، و على ذلك فهي متقدمة حسب النزول على سورة «عبس» أ و يصح بعد هذه الخطابات، أن يخالف النبي هذه الخطابات بالتولّي عن المؤمن؟! كلّا ثمّ كلّا.

الرابعة: إنّ الرواية تشتمل على ما خطر في نفس النبي عند ورود ابن أُمّ مكتوم من أنّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- قال في نفسه: «يقول هؤلاء الصناديد: إنّما أتباعه العميان و السفلة و العبيد، فأعرض عنه و أقبل على القوم» و عندئذ يسأل عن كيفية وقوف الراوي على ما خطر في نفس النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- فهل أخبر به النبي؟ أو أنّه وقف عليه من طريق آخر؟!

و الأوّل بعيد جداً، و الثاني مجهول.

الخامسة: أنّ الرواية تدلّ على أنّ النبي كان يناجي جماعة من المشركين، و عند ذلك أتى عبد اللَّه ابن أُمّ مكتوم و قال: يا رسول اللَّه أقرئني، فهل كان إسكات

__________________________________________________

(1). تاريخ القرآن للعلّامة الزنجاني: 36- 37، و قد نقل ترتيب نزول القرآن في مكة و المدينة معتمداً على رواية محمد بن نعمان بن بشير التي نقلها ابن النديم في فهرسته ص 7 طبع مصر.

(2). الشعراء: 214- 215.

(3). الحجر: 88.

(4). الحجر: 94.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 232

ابن أُم مكتوم متوقفاً على العبوسة و التولّي عنه، أو كان أمره بالسكوت و الاستمهال منه حتى يتم كلامه مع القوم، أمراً غير شاق على النبي، فلما ذا ترك هذا الطريق السهل؟

و هذه الوجوه الخمسة و إن أمكن الاعتذار عن بعضها بأنّ العبوسة و التولّي مرّة واحدة لا ينافي ما وصف به النبي في القرآن من الخلق

العظيم و غيره، لكن محصل هذه الوجوه يورث الشك في صحة الرواية و يسلب الاعتماد عليها.

هذا كلّه حول الرواية الأُولى.

و أمّا الرواية الثانية:

فهي لا تنطبق على ظاهر الآيات، لأنّ محصلها أنّ رجلًا من بني أُمية كان عند النبي فجاء ابن أُمّ مكتوم، فلمّا رآه ذلك الرجل تقذّر منه و جمع نفسه، و عبس و أعرض بوجهه عنه، فحكى اللَّه سبحانه ذلك و أنكره عليه.

و لكن هذا المقدار المنقول في سبب النزول لا يكفي في توضيح الآيات، و لا يرفع إبهامها، لأنّ الظاهر أنّ العابس و المتولّي، هو المخاطب بقول سبحانه: «وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى» إلى قوله: «فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى»، فلو كان المتعبس و المتولّي، هو الفرد الأموي، فيجب أن يكون هو المخاطب بالخطابات الستة لا غيره، مع أنّ الرواية لا تدل على ذلك، بل غاية ما تدل عليه أنّ فرداً من الأمويين عبس و تولّى عند ما جاءه الأعمى فقط، و لا تلقي الضوء على الخطابات الآتية بعد الآيتين الأُوليين و إنّها إلى من تهدف، فهل تقصد ذاك الرجل الأموي و هو بعيد، أو النبي الأكرم؟

هذا هو القضاء بين السببين المرويين للنزول، و قد عرفت الأسئلة الموجهة

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 233

إليهما.

و على فرض صحة الرواية الأُولى لا بدّ أن يقال:

إنّ الرواية إن دلّت على شي ء فإنّما تدلّ على أنّ النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- كان موضع عنايته سبحانه و رعايته، فلم يكن مسئولًا عن أفعاله و حركاته و سكناته فقط، بل كان مسئولًا حتى عن نظراته و انقباض ملامح وجهه، و انبساطها، فكانت المسئولية الملقاة على عاتقه من أشد المسئوليات، و أثقلها صدق اللَّه العلي العظيم حيث يقول: «إِنَّا سَنُلْقِي

عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا» «1».

كان النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- يناجي صناديد قومه و رؤساءهم لينجيهم من الوثنية و يهديهم إلى عبادة التوحيد، و كان لإسلامهم يوم ذاك تأثير عميق في إيمان غيرهم، إذ الناس على دين رؤسائهم و أوليائهم، و كان النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- في هذه الظروف يناجي رؤساء قومه إذ جاءه ابن أُم مكتوم غافلًا عمّا عليه النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- من الأمر المهم، فلم يلتفت إليه النبي، و جرى على ما كان عليه من المذاكرة مع أكابر قومه.

و ما سلكه النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- لم يكن أمراً مذموماً عند العقلاء، و لا خروجاً على طاعة اللَّه، و لكن الإسلام دعاه و أرشده إلى خلق مثالي أعلى ممّا سلكه، و هو أنّ التصدي لهداية قوم يتصورون أنفسهم أغنياء عن الهداية، يجب أن لا يكون سبباً للتولّي عمّن يسعى و يخشى، فهداية الرجل الساعي في طريق الحق، الخائف من عذاب اللَّه، أولى من التصدي لقوم يتظاهرون بالاستغناء عن الهداية و عمّا أنزل إليك من الوحي، و ما عليك بشي ء إذا لم يزكّوا أنفسهم، لأنّ القرآن تذكرة فمن شاء ذكره «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» «2».

__________________________________________________

(1). المزمل: 5.

(2). الغاشية: 21- 22.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 234

فعظم المسئولية اقتضى أن يعاتب اللَّه سبحانه نبيّه لترك ما هو الأولى بحاله حتى يرشده إلى ما يعد من أفاضل و محاسن الأخلاق، و ينبهه على عظم حال المؤمن المسترشد، و أن تأليف المؤمن ليقيم على إيمانه، أولى من تأليف المشرك طمعاً في إيمانه، و من هذا حاله لا

يعد عاصياً لأمر اللَّه و مخالفاً لطاعته.

و أمّا الرواية الثانية: فالظاهر أنّ الرواية نقلت غير كاملة، و كان لها ذيل يصحح انطباق الخطابات الواردة في الآيات حقيقة على الشخص الذي عبس و تولّى، و على فرض كونها تامّة فالضمير الغائب في «عبس» و «تولّى» و «جاءه» يرجع إلى ذلك الفرد، و أمّا الخطابات فهي متوجهة إلى النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- لكن من وجه إليه الخطاب غير من قصد منه، فهو من مقولة: «إياك أعني و اسمعي يا جارة» و مثل هذا يعد من أساليب البلاغة، و فنون الكلام.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 235

دين النبي الأكرم قبل البعثة
اشارة

دلّت الأدلة العقلية و النقلية على عصمة الأنبياء عامّة و النبي الأكرم خاصة إلّا أنّ الحكم بعصمته قبل التشرف بالنبوة، يتوقف على إحراز تدينه بدين قبل أن يبعث، و هذا ما نتلوه عليك في هذا البحث تكميلًا لعصمته- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-.

من الموضوعات المهمة التي شغلت بال المحققين من أهل السير و التاريخ موضوع دين النبي الأعظم- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-، و قد اتفق جمهور المسلمين على أنّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- كان على خط التوحيد منذ نعومة أظفاره إلى أن بُعث لهداية أُمّته، فلم يسجد لصنم و لا وثن، و كان بعيداً عن الأخلاق و العادات الجاهلية التي تستقي جذورها من الوثنية، و إن اختلفوا في أنّه هل كان متعبداً بشريعة أحد من الأنبياء أو بشريعة نفسه، أو بما يلهم من الوظائف و التكاليف؟ و على ذلك فنركّز البحث على نقطتين:

1. إيمانه و توحيده قبل البعثة.

2. الشريعة التي كان يعمل بها في حياته الفردية و الاجتماعية.

أمّا

بالنسبة إلى النقطة الأُولى: فقد كان النبي الأعظم- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- على الدين الحنيف لم يعدل عنه إلى غيره طرفة عين، و تظهر هذه الحقيقة بالتعرّف على ملامح

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 236

البيت الذي ولد فيه، و تربّى في أحضان رجاله فنقول:

كان النبي كريم المولد، شريف المحتد، ولد من أبوين كريمين مؤمنين باللَّه سبحانه و موحدين، و تربى في حضن جده عبد المطلب، و بعده في حجر عمّه أبي طالب- عليهما السَّلام-، و قد كان الدين السائد في ذلك البيت الرفيع، دين التوحيد، و رفض عبادة غير اللَّه تعالى و العمل بالمناسك و الرسوم الواصلة إليه عن إبراهيم- عليه السَّلام-.

لا أقول إنّ جميع من كان ينتمي إلى البيت الهاشمي كان على خط التوحيد و على الشريعة الإبراهيمية، إذ لا شك أنّ بعضهم كان يعبد الأصنام، و يدافع عنها كأبي لهب، و أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب.

بل أقول: الديانة السائدة في ذلك البيت هي عبادة الرحمن و رفض الأصنام و الأوثان.

و يتضح وضع هذا البيت ببيان ديانة أشياخه و أسياده و أخص بالذكر منهم سيده الكبير «عبد المطلب» و شيخ الأباطح «أبو طالب»، و إليك الكلام في ديانتهما:

* 1. عبد المطلب و إيمانه

عبد المطلب هو الرجل الأوّل في هذا البيت، و كفى في صفائه و إيمانه ما ذكره المؤرّخون في حقه، و إليك بعضه:

1. يقول اليعقوبي في الحديث عنه: ... و رفض عبد المطلب عبادة الأوثان و الأصنام، و وحَّد اللَّه عزّ و جلّ، و وفى بالنذر، و سنّ سنناً نزل القرآن بأكثرها، و جاءت السنّة الشريفة من رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- بها، و هي الوفاء

بالنذر، و مائة من الإبل

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 237

في الدية، و أن لا تنكح ذات محرم، و لا تؤتى البيوت من ظهورها، و قطع يد السارق، و النهي عن قتل الموءودة، و تحريم الخمر، و تحريم الزنا و الحد عليه، و القرعة، و أنّ لا يطوف أحد بالبيت عرياناً، و إضافة الضيف، و أن لا ينفقوا إذا حجّوا إلّا من طيب أموالهم، و تعظيم الأشهر الحرم، و نفي ذوات الرايات. «1»

2. إذا اطّلعنا على موقف عبد المطّلب من جيش أبرهة، و توكّله على اللَّه تعالى، و أخذه بحلقة باب الكعبة، نعلم بأنّه كان الرجل الموحد الذي لا يلتجئ في المصائب و المكاره إلى غير كهف اللَّه، و لا يعرف إلّا باب اللَّه، على عكس ما كانت الوثنية عليه فإنّهم كانوا يستغيثون بالأصنام المنصوبة حول الكعبة، و إليك إجمال القضية:

قدم عبد المطلب إلى معسكر أبرهة، فلمّا رآه أبرهة أجلّه و أكرمه، و بعد ما وقف الملك على أنّه جاء ليردّ عليه إبله التي استولى عليها عسكره، قال له أبرهة: أ تكلّمني في إبلك و تترك بيتاً، هو دينك و دين آبائك قد جئت لهدمه؟! قال له عبد المطلب: أنا ربُّ الإبل، و للبيت ربٌّ يمنعه، قال أبرهة: ما كان يمنعه مني و أمر برد إبله، فلمّا أخذها قلّدها و جعلها هدياً و بثّها في الحرم كي يصاب منها شي ء فيغضب اللَّه عزّ و جلّ، و انصرف عبد المطلب إلى قريش و أخبرهم الخبر، ثمّ قام فأخذ بحلقة باب الكعبة و قام معه نفر من قريش يدعون اللَّه و يستنصرونه على أبرهة و جنده، فقال عبد المطلب:

__________________________________________________

(1). تاريخ اليعقوبي: 2/ 9، طبعة

النجف. أقول: في عدِّ بعض ما ذكر ذلك المؤرخ من سنن عبد المطلب نظر: فإنّ لبعضها كالوفاء بالنذر، و النهي عن قتل الموؤدة، و القرعة، سابقة تاريخية ترجع إلى فترات قبله.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 238

يا ربّ لا أرجو لهم سواكا يا رب فامنع منهم حماكا إنَّ عدوّ البيت من عاداكا امنعهم أن يخربوا فناكا و قال أيضاً:

لا هُمَّ إنّ العبدَ يَمنع رَحْلَه فامنع حِلالَكْ لا يَغلِبَنَّ صَلِيبهم و مِحالُهم غَدْوا مِحالَكْ «1» 3. و ليست هذه الواقعة وحيدة من نوعها بل لسيد قريش مواقف أُخرى تشبه هذه الواقعة حيث توسل لكشف غمته فيها باللَّه سبحانه و تعالى، و إليك مثالين:

ألف. تتابعت على قريش سنون جدب، ذهبت بالأموال، و أشرفت على الأنفس، و اجتمعت قريش لعبد المطلب و علوا جبل أبي قبيس و معهم النبي محمد- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- و هو غلام، فتقدّم عبد المطلب و قال:

«لاهم «2» هؤلاء عبيدك و إماؤك و بنو إمائك، و قد نزل بنا ما ترى، و تتابعت علينا هذه السنون، فذهبت بالظلف و الخف و الحافر، فأشرفت على الأنفس، فأذهب عنّا الجدب، و ائتنا بالحياء و الخصب»، فما برحوا حتى سالت الأودية، و في هذه الحالة تقول رقيقة:

بشيبة الحمد أسقى اللَّه بلدتنا و قد عدمنا الحيا و اجلوذ المطر إلى أن تقول:

__________________________________________________

(1). السيرة النبوية لابن هشام: 1/ 50؛ الكامل لابن الأثير: 1/ 12، و غيرهما

(2). مخفّف «اللّهم».

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 239

مبارك الاسم يستسقى الغمام به ما في الأنام له عدل و لا خطر «1» و قد نقل هذه الواقعة الشهرستاني في الملل و

النحل قال: و ممّا يدل على معرفته (عبد المطلب) بحال الرسالة و شرف النبوّة أنّ أهل مكة لمّا أصابهم ذلك الجدب العظيم و أمسك السحاب عنهم سنتين، أمر أبا طالب ابنه أن يحضر المصطفى محمداً- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- فأحضره و هو رضيع في قماط، فوضعه على يديه و استقبل الكعبة و رماه إلى السماء، و قال يا ربّ بحق هذا الغلام و رماه ثانياً و ثالثاً. و كان يقول: بحق هذا الغلام اسقنا غيثاً مغيثاً دائماً هطلا، فلم يلبث ساعة أن طبق السحاب وجه السماء و أمطر حتى خافوا على المسجد.

و قال أيضاً: و ببركة ذلك النور كان عبد المطلب يأمر أولاده بترك الظلم و البغي، و يحثهم على مكارم الأخلاق و ينهاهم عن دنيّات الأُمور، و ان يقول في وصاياه: إنّه لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم اللَّه منه و تصيبه عقوبة، إلى أن هلك رجل ظلوم حتف أنفه لم تصبه عقوبة، فقيل لعبد المطلب في ذلك، ففكر و قال: و اللَّه انّ وراء هذه الدار دار يجزى فيها المحسن بإحسانه، و يعاقب المسي ء بإساءته. «2»

إنّ توسّله باللَّه سبحانه و توليه عن الأصنام و الأوثان و التجاءه إلى ربِّ الأرباب آية توحيده الخالص، و إيمانه باللَّه و عرفانه بالرسالة الخاتمة، و قداسة صاحبها، فلو لم يكن له إلّا هذه الوقائع لكفت في البرهنة على إيمانه باللَّه و توحيده له.

__________________________________________________

(1). السيرة الحلبية: 1/ 131- 133

(2). الملل و النحل للشهرستاني: القسم الثاني: 248 و 249 من الطبعة الثانية، تخريج محمد بن فتح اللَّه بدران القاهرة.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 240

ب. روى أصحاب السير أنّه وقع النقاش بين

عبد المطلب و قريش في حفر بئر زمزم بعد ما حفره عبد المطلب، فاتفقوا على الرجوع إلى كاهنة، فقصدوا طريق الشام فعطشوا في الطريق و أشرفوا على الموت، فاقترح أن يحفر كلٌّ حفرة لنفسه بما بكم الآن من قوة، فكلّما مات رجل دفنه أصحابه في حفرته ثمّ واروه حتى يكون آخركم رجلًا واحداً فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعاً، قالوا: نعم ما أمرت به، فقام كل واحد منهم فحفر حفرته، ثمّ قعدوا ينتظرون الموت عطشاً، ثمّ إنّ عبد المطلب قال لأصحابه: و اللَّه إنّ إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت، لا نضرب في الأرض و لا نبتغي لأنفسنا، لعجز، فعسى اللَّه أن يرزقنا ماء ببعض البلاد، ارتحلوا؛ فارتحلوا حتى إذا فرغوا، و من معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هو فاعلون، تقدّم عبد المطلب إلى راحلته فركبها فلما انبعثت به، انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب، فكبّر عبد المطلب و كبر أصحابه، ثمّ نزل فشرب و شرب أصحابه و استقوا حتى ملئوا أسقيتهم، ثمّ دعا القبائل من قريش فقال: هلمّ إلى الماء، فقد سقانا اللَّه فاشربوا و استقوا؛ فجاءوا فشربوا و استقوا، ثمّ قالوا: و اللَّه قضى لك علينا يا عبد المطلب، و اللَّه لا نخاصمك في زمزم أبداً، إنّ الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة، لهو الذي سقاك زمزم فارجع إلى سقايتك راشداً، فرجع و رجعوا معه و لم يصلوا إلى الكاهنة، و خلّوا بينه و بينها. «1»

4. عن أُمّ أيمن (رضي اللَّه عنها) قالت: كنت أحضن النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-- أي أقوم بتربيته و حفظه- فغفلت عنه يوماً فلم أدر إلّا بعبد المطلب قائماً على رأسي يقول:

يا «بركة» قلت: لبيك، قال: أ تدرين أين وجدت ابني؟ قلت: لا أدري، قال: وجدته مع غلمان قريباً من السدرة، لا تغفلي عن ابني، فإنّ أهل الكتاب يزعمون

__________________________________________________

(1). سيرة ابن هشام: 1/ 144- 145، طبعة مصر.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 241

أنّه نبي هذه الأُمّة و أنا لا آمن عليه منهم، و كان عبد المطلب لا يأكل طعاماً إلّا يقول: عليّ بابني، أي احضروه، و يجلسه بجنبه و ربّما أقعده على فخذه و يؤثره بأطيب طعامه. «1»

هذا هو عبد المطلب و تعوّذه ببيت اللَّه الحرام و مواقفه بين قومه و كلماته في المبدأ و المعاد و عطفه على رسالة خاتم النبيين، أبعد هذا يبقى لأحدٍ شك في توحيده و إيمانه، بل و اعترافه برسالة الرسول الأكرم- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-؟!

قضى النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- لفيفاً من عمره في رعايته فلمّا بلغ أجله أوصى إلى ابنه الزبير بالحكومة و أمر الكعبة، و إلى أبي طالب برسول اللَّه و سقاية زمزم، و قال له: قد خلّفت في أيديكم الشرف العظيم الذي تطئُون به رقاب الناس، و قال لأبي طالب:

أوصيك يا عبد مناف بعدي بمفرد بعد أبيه فرد فارقه و هو ضجيع المهد فكنت كالأُمّ له في الوجد تدنيه من أحشائها و الكبد فأنت من أرجى بنيَّ عندي لدفع ضيم أو لشدِّ عقد «2»

* 2. شيخ الأباطح أبو طالب و إيمانه

قد تعرّفت على إيمان «عبد المطلب» الكفيل الأوّل لصاحب الرسالة، فهلمّ معي ندرس حياة كفيله الآخر بعده، و هو أبو طالب شيخ البطحاء، فقد اتفقت

__________________________________________________

(1). سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية: 1/ 64.

(2). تاريخ اليعقوبي: 2/ 10، طبعة النجف.

عصمة

الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 242

كلمة أهل السير و التاريخ على كفالته لصاحب الرسالة بعد جدّه، و درئه عنه كل سوء و عادية طيلة حياته، و ان اختلفت آراؤهم في إيمانه بالرسول الأكرم بعد البعثة، و لأجل تحقيق الحال نركّز على البحث عن نقطتين: إيمانه قبل البعثة، و إيمانه بعد البعثة:

* إيمانه باللَّه قبل البعثة

يكفي في إيمانه باللَّه و خلوص توحيده عدّة أُمور نشير إليها:

1. ما أخرجه ابن عساكر في تاريخه، عن جلهمة بن عرفطة، قال: قدمت مكة و هم في قحط، فقالت قريش يا أبا طالب أقحط الوادي و أجدب العيال فهلم و استسق، فخرج أبو طالب و معه غلام كأنّه شمس دجى تجلّت عنه سحابة قتماء و حوله اغيلمة، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، و لاذ باصبعه الغلام و ما في السماء، قزعة «1».

فأقبل السحاب من هاهنا و هاهنا و أغدق و اغدودق و انفجر له الوادي و اخصب البادي و النادي، ففي ذلك يقول أبو طالب و يمدح به النبي أكثر من ثمانين بيتاً:

و أبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل يلوذ به الهلّاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة و فواضل و ميزان عدل لا يخيس شعيرة و وزان صدق وزنه غير هائل «2» __________________________________________________

(1). القزعة: قطعة من السحاب.

(2). السيرة الحلبية: 1/ 116. لاحظ فتح الباري: 2/ 494، و القصيدة مذكورة في السيرة النبوية لابن هشام: 1/ 272- 280

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 243

و ما نسبه إليه من الأشعار جزء من قصيدته المعروفة التي نظمها أيام الحصار في الشعب، و يشير بها إلى الواقعة التي استسقى فيها بالنبي و قد كان غلاماً في كفالته، و لو

كان آنذاك عابداً للوثن لتوسل باللات و العزى و سائر الآلهة المنصوبة حول الكعبة.

2. روى الحافظ الكنجي الشافعي: أنّ أحد الزهّاد و العبّاد قال لأبي طالب: يا هذا انّ العلي الأعلى ألهمني إلهاماً، قال أبو طالب: و ما هو؟ قال: ولد يولد من ظهرك و هو ولي اللَّه عزّ و جلّ، فلمّا كانت الليلة التي ولد فيها عليّ- عليه السَّلام- أشرقت الأرض، فخرج أبو طالب و هو يقول: أيّها الناس ولد في الكعبة ولي اللَّه، فلمّا أصبح دخل الكعبة و هو يقول:

يا رب هذا الغسق الدجيّ و القمر المنبلج المضي بيّن لنا من أمرك الخفيّ ما ذا ترى في اسم ذا الصبي قال: فسمع صوت هاتف يقول:

يا أهل بيت المصطفى النبي خصصتم بالولد الزكي انّ اسمه من شامخ العلي عليّ اشتق من العلي «1» 3. انّ أبا طالب كان ممن تعرّف على مكانة النبي الأعظم عن طريق الراهب «بحيرا»، و ذلك حينما خرج في ركب إلى الشام تاجراً، فلمّا تهيّأ للرحيل و أجمع السير هبّ له رسول اللَّه فأخذ بزمام ناقته، و قال: يا عم إلى من تكلني لا أب لي و لا أُمّ لي؟ فرقّ له أبو طالب و قال: و اللَّه لأخرجن به معي و لا يفارقني و لا أُفارقه أبداً. قال: فخرج به معه، فلمّا نزل الركب «بصرى» من أرض الشام نزلوا قريباً

__________________________________________________

(1). الغدير: 7/ 347، نقلًا عن كفاية الطالب للحافظ الكنجي الشافعي: 260

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 244

من صومعة راهب يقال له «بحيرا»، فلمّا رأى النبي جعل يلحظه لحظاً شديداً، و ينظر أشياء من جسده، فجعل يسأله عن نومه و هيئته، و رسول اللَّه يخبره، ثمّ

نظر إلى ظهره، فرأى خاتم النبوة بين كتفيه، ثمّ قال لأبي طالب: ارجع بابن أخيك إلى بلده و احذر عليه اليهود، فو الله لئن رأوه و عرفوا منه ما عرفت، ليبغنّه شراً، فإنّه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم فاسرع به إلى بلاده، فخرج به عمّه أبو طالب سريعاً حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام، و في ذلك يقول أبو طالب:

انّ ابن آمنة النبي محمداً عندي يفوق منازل الأولاد لما تعلق بالزمام رحمته و العيس قد قلّصن بالأزواد فارفضّ من عيني دمع ذارف مثل الجمان مفرق الأفراد إلى أن قال:

حتى إذا ما القوم بصرى عاينوا لاقوا على شرك من المرصاد حبراً فأخبرهم حديثاً صادقاً عنه و ردّ معاشر الحسّاد فما رجعوا حتى رأوا من محمد أحاديث تجلو غمّ كل فؤاد و حتى رأوا أحبار كل مدينة سجوداً له من عصبة و فراد «1» و ما رأى أبو طالب من ابن أخيه في هذا السفر من الكرامات و خوارق العادات التي ضبطها التاريخ، و ما سمعه من بحيرا من مستقبل أمره و انّ اليهود له بالمرصاد، كاف لإرشاد كل إنسان صافي الذهن مستقيم الطريقة، فكيف بأبي طالب الذي كان بالإضافة إلى هاتين الصفتين، يحبه حبّاً جماً أشدّ من حبه لأولاده

__________________________________________________

(1). السيرة النبوية لابن هشام: 1/ 182؛ الطبقات الكبرى: 1/ 120؛ تاريخ ابن عساكر: 1/ 269- 272؛ ديوان أبي طالب: 33- 35؛ إلى غير ذلك من المصادر التي اهتمت بنقل هذه الواقعة

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 245

و إخوته، فكانت هذه الكرامات كافية في هدايته لخط التوحيد و رسالة ابن أخيه و إن لم يكن يصرح بها لفظاً قبل البعثة،

لكنه جهر بها بعده كما سيوافيك إن شاء اللَّه.

مضافاً إلى أنّه كان موضع الثقة من عبد المطلب، و قد أوصاه برعاية ابن أخيه بعده، فلا يصح لعبد المطلب المؤمن الموحّد أن يدلي بوصيته و كفالة محمد- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- إلى من لم يكن على غير خط التوحيد، و لم تكن بينهما وحدة فكرية، و إلى ذلك يشير أبو طالب في هذه القصيدة الدالية:

راعيت فيه قرابة موصولة و حفظت فيه وصية الأجداد

* إيمانه بعد البعثة

أمّا دلائل إيمانه باللَّه أوّلًا، و برسالة ابن أخيه ثانياً، بعد بعثة النبي الأكرم فحدث عنه و لا حرج و إن كان بعضهم قد هضم حق أبي طالب قرة عين الرسول- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- و قالوا بما لا ينسجم مع الحقائق التاريخية، و لو نقل معشار ما ورد عن إيمانه من فعل أو قول، في حق غيره لاتفق الكل على إيمانه و توحيده، و لكن- و يا للأسف- انّ بعض الجائرين على الحق لا يريدون أن يعتبروا تلك الدلائل وافية لإثبات إيمانه.

لم يزل سيدنا أبو طالب يكلأ ابن أخيه و يذب عنه و يدعو إلى دينه الحنيف منذ بزوغ شمس الرسالة إلى أن لقي ربّه، و كفانا من إفاضة القول في ذلك، الكتب المؤلفة حول تضحيته لأجل الحق و دفاعه عنه شعراً و نثراً، و نكتفي بالنزر اليسير من الجم الغفير:

1. كتب أبو طالب إلى النجاشي عند ما نزل المهاجرون من المسلمين بقيادة

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 246

جعفر الطيار أرض الحبشة و هو يحضه على حسن الجوار:

ليعلم خيار الناس أنّ محمداً نبيّ كموسى و المسيح بن مريم و انّكم تتلونه في

كتابكم بصدق حديث لا حديث المبرجم «1» 2. نحن نفترض الكلام في غير أبي طالب، فإذا أردنا الوقوف على نفسية فرد من الأفراد و العلم بما يكنّه من الإيمان أو الكفر، فما هو الطريق إلى كشفها؟ فهل الطريق إليه إلّا كلامه و قوله، أو ما يقوم به من عمل، أو ما يروي عنه مصاحبوه و معاشروه، فلو كانت هذه هي المقاييس الصحيحة للتعرف على النفسية، فكلّها تشهد بإيمانه القويم و توحيده الخالص، فإنّ فيما أثر عنه من نظم و نثر، أو نقل من عمل بار، وسعي مشكور في نصرة النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- و حفظه، و الدعوة لرسالته و ما روى عنه مصاحبوه و معاشروه- فإنّ في هذه- لدلالة واضحة على إيمانه باللَّه و رسالة ابن أخيه و تفانيه في سبيل استقرارها.

كيف، و هو يقول في أمر الصحيفة التي كتبها صناديد قريش في سبيل ضرب الحصار الاقتصادي على النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- و بني هاشم و بني المطلب:

أ لم تعلموا أنا وجدنا محمداً نبيّاً كموسى خط في أوّل الكتب و أنّ الذي ألصقتم من كتابكم لكم كائن نحساً كراغية السقب «2» ففي هذه الأبيات التي تزهر بنور التوحيد، و تتلألأ بالإيمان بالدين الحنيف دلالة واضحة على إيمانه بالرسالات الإلهية عامة، و رسالة ابن أخيه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- خاصة، و كم و كم له من قصائد رائعة يطفح من ثناياها الإيمان الخالص، و الإسلام

__________________________________________________

(1). مستدرك الحاكم: 2/ 623- 624

(2). السيرة النبوية: 1/ 352، و ذكر من القصيدة 15 بيتاً

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 247

الصحيح، و نحن نكتفي في

إثبات إيمان كفيل رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- بهذا المقدار و نحيل التفصيل إلى الكتب المعدة لذلك.

فإنّ نقل ما أثر عنه من شعر و نثر، أو روي من عمل مشكور، يحتاج إلى تأليف كتاب مفرد و قد قام لفيف من محققي الشيعة بتأليف كتب حول إيمانه، بين مسهب في الإفاضة و موجز في المقالة، و فيما حقّقه و جمعه شيخنا العلّامة الأميني في غديره كفاية لطالب الحق. «1»

هذا إيمان عبد المطلب و ذلك توحيد ابنه البار أبي طالب، و قد تربَّى النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- و ترعرع و شب و اكتهل في أحضانهما، و في قانون الوراثة أن يرث الأبناء ما في الحجور و الأحضان من الخصال و الأخلاق و قد قضى النبي الأكرم قسماً وافراً من عمره الشريف في تلك الربوع و استظل بفيئها.

* إيمان والدي النبي الأكرم- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-

لقد تعرفت على إيمان كفيل النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- فهلمّ معي ندرس حياة والديه و إيمانهما، فقد ذهبت الإمامية و الزيدية و جملة من محقّقي أهل السنّة إلى إيمانهما و كونهما على خط التوحيد، و شذَّ من قال: إنّ النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- من كثرة ما أنعم اللَّه عليه و وفور إحسانه إليه لم يرزقه إسلام والديه.

فإنّ هذه الكلمة صدرت من غير تحقيق، فإنّ التاريخ لم يضبط من حياتهما إلّا شيئاً يسيراً، و فيما ضبط إيعاز لو لم نقل دلالة على إيمانهما و كونهما على الصراط المستقيم.

__________________________________________________

(1). راجع تفصيل ذلك الغدير: 7/ 330- 409 و 8/ 1- 29.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 248

أمّا الوالد: فقد نقلت عنه كلمات و أبيات تدل

على إيمانه، فإليك ما نقله عنه أهل السير، عند ما عرضت فاطمة الخثعمية نفسها عليه فقال رداً عليها:

أمّا الحرام فالممات دونه و الحل لا حل فاستبينه يحمي الكريم عرضه و دينه فكيف بالأمر الذي تبغينه «1» و قد روي عن النبي الأكرم أنّه قال: «لم أزل أُنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات». و لعل فيه إيعازاً إلى طهارة آبائه و أُمّهاته من كل دنس و شرك. «2»

و أمّا الوالدة: فكفى في ذلك ما رواه الحفّاظ عنها عند وفاتها فإنّها (رضي اللَّه عنها) خرجت مع النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- و هو ابن خمس أو ست سنين و نزلت بالمدينة تزور أخوال جده- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-، و هم بنو عدي بن النجار، و معها أُم أيمن «بركة» الحبشية، فأقامت عندهم، و كان الرسول بعد الهجرة يذكر أُموراً حدثت في مقامه و يقول: «إنّ أُمّي نزلت في تلك الدار، و كان قوم من اليهود يختلفون و ينظرون إليّ، فنظر إليّ رجل من اليهود، فقال: يا غلام ما اسمك؟ فقلت: أحمد، فنظر إلى ظهري و سمعته يقول: هذا نبي هذه الأُمّة، ثمّ راح إلى إخوانه فأخبرهم، فخافت أُمّي عليّ، فخرجنا من المدينة، فلمّا كانت بالأبواء توفيت و دفنت فيها».

روى أبو نعيم في دلائل النبوّة عن أسماء بنت رهم قالت: شهدت آمنة أُمّ النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- في علتها التي ماتت بها، و محمد عليه الصلاة و السلام غلام «يفع» «3» له

__________________________________________________

(1). السيرة الحلبية: 1/ 46 و غيرها

(2). سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية: 1/ 58.

(3). يفع الغلام: ترعرع.

عصمة الانبياء فى

القرآن الكريم، ص: 249

خمس سنين عند رأسها، فنظرت إلى وجهه و خاطبته بقولها:

إنّ صح ما أبصرت في المنام فأنت مبعوث إلى الأنام فاللَّه أنهاك عن الأصنام أن لا تواليها مع الأقوام ثمّ قالت: كل حي ميت، و كل جديد بال، و كل كبير يفنى، و أنا ميتة، و ذكري باق و ولدت طهراً.

و قال الزرقاني في «شرح المواهب» نقلًا عن جلال الدين السيوطي تعليقاً على قولها: و هذا القول منها صريح في أنّها كانت موحّدة، إذ ذكرت دين إبراهيم- عليه السَّلام- و بشّرت ابنها بالإسلام من عند اللَّه، و هل التوحيد شي ء غير هذا؟! فإنّ التوحيد هو الاعتراف باللَّه و انّه لا شريك له و البراءة من عبادة الأصنام. «1»

هذا بعض ما ذكره المؤرّخون في أحوال والدي النبي الأكرم- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-، و الكل يدل على إخلاصهما و نزاهتهما عمّا كان هو السائد في البيئة التي كانا يعيشان فيها.

و أخيراً نوجه نظر القارئ إلى الرأي العام بين المسلمين حول إيمانهما، قال الشيخ المفيد في «أوائل المقالات»:

و اتفقت الإمامية على أنّ آباء رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- من لدن آدم إلى عبد اللَّه بن عبد المطلب مؤمنون باللَّه عزّ و جلّ موحّدون له، و احتجوا في ذلك بالقرآن و الأخبار، قال اللَّه عزّ و جلّ: «الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ* وَ تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ» «2».

و قال رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-: «لم يزل ينقلني من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهّرات حتى أخرجني في عالمكم هذا»، و أجمعوا على أنّ عمّه أبا طالب (رحمه

__________________________________________________

(1). الاتحاف للشبراوي: 144؛ سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية:

1/ 57.

(2). الشعراء: 218- 219.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 250

اللَّه) مات مؤمناً، و أنّ آمنة بنت وهب كانت على التوحيد، و أنّها تحشر في جملة المؤمنين. «1»

أقول: الاستدلال بالآية يتوقف على كون المراد منها نقل روحه من ساجد إلى ساجد، و هو المروي عن ابن عباس في قوله تعالى: «وَ تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ» «2» قال: من نبي إلى نبي حتى أُخرجت نبياً. «3»

و قد ذكره المفسرون بصورة أحد الاحتمالات، و لكنّه غير متعين، لاحتمال أن يكون المراد إنّه يراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة، و تقلّبه في الساجدين عبارة عن تصرفه فيما بينهم بقيامه و ركوعه و سجوده إذا كان إماماً لهم.

و أمّا الاستدلال بالحديث، فهو مبني على أنّ من كان كافراً فليس بطاهر، و قد قال سبحانه: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ» «4».

لكن الحجة هي الاتفاق و الإجماع، مضافاً إلى ما تضافر من الروايات حول طهارة والدي النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- التي جمعها الحافظ أبو الفداء ابن كثير في تاريخه قال: و خطب النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- و قال: «أنا محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب ... و ما افترق الناس فرقتين إلّا جعلني اللَّه في خيرها، فأُخرجت من بين أبوي، فلم يصبني شي ء من عهر الجاهلية، و خرجت من نكاح و لم أخرج من سفاح من لدن آدم حتى انتهيت إلى أبي و أُمي، فأنا خيركم نفساً، و خيركم أباً». «5»

و عن عائشة قالت: قال رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-: «قال لي جبرئيل: قلّبت الأرض من مشارقها

__________________________________________________

(1). أوائل المقالات: 12- 13.

(2). الشعراء: 219.

(3). البداية و النهاية:

2/ 239، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الرابعة- 1408 ه ..

(4). مفاتيح الغيب: 6/ 431. و الآية من سورة التوبة: 28.

(5). البداية و النهاية: 2/ 238.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 251

و مغاربها فلم أجد رجلًا أفضل من محمد، و قلّبت الأرض مشارقها و مغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم».

قال الحافظ البيهقي: و هذه الأحاديث و إن كان في رواتها من لا يحتج به، فبعضها يؤكد بعضاً، و معنى جميعها يرجع إلى حديث واثلة بن الأسقع، و اللَّه أعلم.

قلت: و في هذا المعنى يقول أبو طالب يمتدح النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-:

إذا اجتمعت يوماً قريشٌ لمفخرٍ فعبدُ منافٍ سِرُّها و صميمُها فإن حصلت أشرافُ عبدِ منافِها ففي هاشمٍ أشرافُها و قديمها و إن فَخَرتْ يوماً فإنّ محمداً هو المصطفَى من سرّها و كريمها تداعت قريشُ غثُّها و سمينُها علينا فلم تظفر و طاشت حُلومها و كنّا قديماً لا نقرّ ظلامةً إذا ما ثنوا صُعْرَ الخدود نقيمها و نحمي حماها كل يومِ كريهةٍ و نضربُ عن أحجارها من يرومها بنا انتعش العودُ الذواءُ و إنّما بأكنافنا تندى و تنمى أرومها «1» و يعجبني أن أنقل ما ذكره الشبراوي في المقام: قال: و مبدأ الكلام في ذلك إنّ اللَّه سبحانه قد أخرج هذا النوع الإنساني لأجله- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- و إنّ آدم عليه الصلاة و السلام كان أوّل فرد من أفراد هذا النوع، و كان سائر أفراده مندرجة في صلبه بصور الذرات، فلمّا نفخ الروح في آدم كان نور نسمة محمد- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- يلمع في جبهته كالشمس

المشرقة، ثمّ انتقل ذلك النور من صلب آدم إلى رحم حواء، و منها إلى صلب شيث، ثمّ استمر هذا ينتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات، و هو معنى قوله: «وَ تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ»، و أشار إليه العلّامة البوصيري بقوله:

لم تزل في ضمائر الكون تختا ر لك الأُمّهات و الآباء __________________________________________________

(1). البداية و النهاية: 2/ 240

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 252

و كان كل جد من أجداده من لدن آدم يأخذ العهد و الميثاق أن لا يوضع ذلك النور المحمدي إلّا في الطاهرات، فأوّل من أخذ العهد آدم، أخذه من شيث، و شيث من أنوش، و هو من «قينن»، و هكذا إلى أن وصلت النوبة إلى عبد اللَّه بن عبد المطلب، فلمّا أُودع ذلك الجزء، في صلبه لمع ذلك النور من جبهته، فظهر له جمال و بهجة، فكانت نساء قريش يرغبن في نكاحه، و قد أسعد اللَّه بتلك السعادة و شرّف بذلك الشرف «آمنة» بنت وهب، فتزوجها عبد اللَّه.

و قد روى الترمذي عن العباس قال: قال رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-: «إنّ اللَّه خلق الخلق فجعلني في خيرهم، ثمّ تخيّر القبائل فجعلني في خير قبيلة، ثمّ تخيّر البيوت، فجعلني في خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفساً و خيرهم بيتاً». أي ذاتاً و أصلًا.

و قد دلّت الآيات و الأحاديث على أنّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- كما طابت ذاته الشريفة، بما أُوتي من الكمال الأعلى، كذلك طاب نسبه الشريف، فلم يكن في آبائه و لا أُمهاته من لدن آدم و حواء إلى عبد اللَّه و آمنة، إلّا من هو مصطفى مختار قد طابت أعراقه، و حسنت أخلاقه.

أخرج ابن

جرير، عن مجاهد قال: استجاب اللَّه تعالى دعوة إبراهيم في ولده و لم يعبد أحد منهم صنماً بعد دعوته، و استجاب له و جعل هذا البلد آمناً و رزق أهله من الثمرات و جعله إماماً و جعل من ذريته من يقيم الصلاة.

قال السيوطي: و هذه الأوصاف كانت لأجداده- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- خاصة دون سائر ذريّة إبراهيم، و كل ما ذكر عن ذريّة إبراهيم من المحاسن فإنّ أولى الناس به سلسلة الأجداد الشريفة، الذين خصّوا بالاصطفاء و انتقل إليهم نور النبوة واحداً بعد واحد، و لم يدخل ولد إسحاق و بقية ذريته لأنّه دعا لأهل هذا البلد، ألا تراه قال: «اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً» و عقّبه بقوله: «وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 253

الْأَصْنامَ» «1»، فلم تزل ناس من ذرية إبراهيم- عليه السَّلام- على الفطرة يعبدون اللَّه تبارك و تعالى، و يدلّ عليه قوله: «وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ» «2» فإنّ الكلمة الباقية هي كلمة التوحيد، و عقب إبراهيم- عليه السَّلام- هم محمد- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- و آله الكرام، قال بعض الأفاضل: اللّهم حل بيننا و بين أهل الخسران و الخذلان الذين يؤذون رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- بنسبة ما لا يليق بأبويه الكريمين الشريفين الطاهرين- إلى أن قال-: فهما ناجيان منعّمان في أعلى درجات الجنان، و ما عدا ذلك تهافت و هذيان، لا ينبغي أن تصغي له الأُذنان و لا أن يعتني بإبطاله أُولو الشأن. «3»

إذا وقفت على ما ذكرنا تعرف قيمة كلمة ابن حزم الأندلسي في أحكامه «4»، حيث نسب إلى والدي النبي الأكرم ما

لا يليق بساحتهما، و يكفي في سقوط هذه الكلمة أنّ راويها و كاتبها ابن حزم الذي أجمع فقهاء عصره على تضليله و التشنيع عليه و نهي العوام عن الاقتراب منه و حكموا بإحراق كتبه. «5»

و قال ابن خلّكان في وفياته: و كان كثير الوقوع في العلماء المتقدمين لا يكاد يسلم أحد من لسانه، فنفرت عنه القلوب، و استهدف فقهاء وقته، فتمالئوا على بغضه، و ردّوا قوله، و أجمعوا على تضليله، و شنّعوا عليه، و حذّروا سلاطينهم من فتنته، و نهوا عوامّهم عن الدنو إليه و الأخذ عنه، فأقصته الملوك ه تدرشو عن بلاده حتّى انتهى إلى بادية «لبلة»، فتوفي بها آخر نهار الأحد لليلتين بقيتا من شعبان سنة ست و خمسين و أربعمائة، و قيل إنّه توفي في «منت ليشم»، و هي قرية ابن حزم المذكور.

و فيه قال أبو العباس ابن العريف: كان لسان ابن حزم و سيف الحجاج ابن يوسف شقيقين، و إنّما قال ذلك لكثرة وقوعه في الأئمّة. «6»

__________________________________________________

(1). إبراهيم: 35.

(2). الزخرف: 28.

(3). الإتحاف بحب الأشراف: 113- 118.

(4). الأحكام: 5/ 171.

(5). لسان الميزان: 4/ 200، و قد عرّفه الآلوسي في تفسيره: 21/ 76 بالضال المضل.

(6). وفيات الأعيان: 3/ 327- 328.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 254

* إيمان النبي الأكرم قبل البعثة

كان البحث عن إيمان عبد المطلب و سيد البطحاء و والدي النبي، كمقدمة للبحث عن إيمان النبي الأكرم قبل البعثة، فإنّ إيمانه برسالته و إن كان أمراً مسلّماً و واضحاً كوضوح الشمس غير محتاج إلى الإسهاب غير أنّ إكمال البحث يجرّنا إلى أن نأتي ببعض ما ذكره التاريخ من ملامح حياته منذ صباه إلى أن بعث نبياً، حتى يقترن ذلك الاتفاق بأصح

الدلائل التاريخية، و إليك الأقوال:

1. روى صاحب المنتقى في حديث طويل: أنّ النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- لما تمَّ له ثلاث سنين، قال يوماً لوالدته (لمرضعته) «حليمة السعدية»: «مالي لا أرى أخوي بالنهار؟» قالت له: يا بني إنّهما يرعيان غنيمات. قال: «فما لي لا أخرج معهما؟» قالت له:

أ تحب ذلك؟ قال: «نعم»، فلمّا أصبح محمد دهنته و كحّلته و علّقت في عنقه خيطاً فيه جزع يماني، فنزعه ثمّ قال لأُمّه: «مهلًا يا أُمّاه، فإنّ معي من يحفظني». «1»

و هذه العبارة من الطفل الذي لم يتجاوز سنّه ثلاث سنين آية على أنّه كان يعيش في رعاية اللَّه، و كان له معلم غيبي «يسلك به طريق المكارم» و يلهمه ما يعجز عن إدراكه كبار الرجال آنذاك، حيث كانت أُمّه تزعم بأنّ في الجزع اليماني مقدرة الحفظ لمن علقه على جيده، فعلى الرغم من ذلك فقد خالفها الطفل و نزعه و طرحه، و هذا إن دلَّ على شي ء فإنّما يدل على أنّه كان بعيداً عن تلك الرسوم و الأفكار ... السائدة في الجزيرة العربية.

__________________________________________________

(1). المنتقى الباب الثاني من القسم الثاني للكازروني، و قد نقله العلّامة المجلسي في البحار: 15/ 392 من الطبعة الحديثة.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 255

2. روى ابن سعد في طبقاته: أنّ بحيرا الراهب قال للنبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-: يا غلام أسألك بحق اللات و العزى ألّا أخبرتني عمّا أسألك؟ فقال رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-: «لا تسألني باللات و العزى، فو الله ما أبغضت شيئاً بغضهما»، قال: باللَّه إلّا أخبرتني عمّا أسألك عنه؟ قال: «سلني عمّا بدا لك ...». «1»

3. روى

ابن سعد في طبقاته: عند ذكر خروج النبي إلى الشام للتجارة بأموال خديجة مع غلامها «ميسرة»: إنّ محمداً باع سلعته فوقع بينه و رجل تلاح، فقال له الرجل: احلف باللات و العزى، فقال رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-: «ما حلفت بهما قط، و انّي لأمرُّ فأعرض عنهما» فقال الرجل: القول قولك، ثمّ قال لميسرة: يا ميسرة هذا و اللَّه نبي. «2»

و ممّا يشهد على توحيده أنّه لم ير قط مائلًا عن الحق، ساجداً لوثن أو متوسّلًا به، بل كان يتحنّث في كل سنة في غار حراء في بعض الشهور، فوافاه جبرئيل (عليه الصلاة و السلام) في بعض تلك المواقف و بشّره بالرسالة و خلع عليه كساء النبوة.

و هذه الوقائع التاريخية أصدق دليل على إيمانه، و لأجل اتفاق المسلمين على ذلك نطوي بساط البحث و نركّزه على بيان الشريعة التي كان عليها قبل بعثته، و هذا هو الذي بحث عنه المتكلمون و الأُصوليون بإسهاب.

* الشريعة التي كان يعمل بها النبيُّ- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-

اختلف الباحثون في أنّ النبي الأعظم- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- هل كان متعبّداً بشرع قبل بعثته

__________________________________________________

(1). الطبقات الكبرى: 1/ 154؛ السيرة النبوية: 1/ 182.

(2). الطبقات الكبرى: 1/ 156.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 256

أو لا؟ على أقوال نلفت نظر القارئ إليها:

1. لم يكن متعبّداً بشرع أصلًا. نسب ذلك إلى أبي الحسن البصري.

2. التوقف و عدم الجنوح إلى واحد من الأقوال. ذهب إليه القاضي عبد الجبار و الغزالي، و هو خيرة السيد المرتضى في ذريعته.

3. إنّه كان يتعبّد بشريعة من قبله مردّدة بين كونها شريعة نوح أو إبراهيم أو موسى، أو المسيح بن مريم- عليهم السَّلام-.

4. كان يتعبّد بما ثبت أنّه شرع.

5.

كان يعمل في عباداته و طاعته بما يوحى إليه سواء أ كان مطابقاً لشرع من قبله أم لا.

6. انّه كان يعمل بشرع نفسه.

و الأخير هو الظاهر من الشيخ الطوسي في عدته قال: عندنا أنّ النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- لم يكن متعبداً بشريعة من تقدّمه من الأنبياء لا قبل النبوة و لا بعدها، و انّ جميع ما تعبّد به كان شرعاً له، و يقول أصحابنا: إنّه كان قبل البعثة يوحى إليه بأشياء تخصه، و كان يعمل بالوحي لا اتّباعاً بشريعة. «1»

و ما ذكره أخيراً ينطبق على القول السادس، و الأقوال الثلاثة الأخيرة متقاربة، و إليك دراستها واحداً بعد آخر ببيان مقدمة:

__________________________________________________

(1). راجع للوقوف على الأقوال: الذريعة: 2/ 595، و ذكر أقوالًا ثلاثة؛ و عدّة الشيخ الطوسي: 2/ 60، و ذكر الأقوال مسهبة؛ البحار: 18/ 271، و نقل الأقوال عن شرح العلّامة لمختصر الحاجبي؛ و المعارج للمحقّق الحلي: 60؛ المبادئ للعلّامة الحلي: 30؛ القوانين للمحقّق القمّي: 1/ 494.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 257

* نظرة إجمالية على حياته

إنّ من أطلّ النظر على حياته- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- يقف على أنّه كان يعبد اللَّه سبحانه و يعتكف ب «حراء» كل سنة شهراً، و لم يكن اعتكافه مجرّد تفكير في جلاله و جماله و آياته و آثاره، بل كان مع ذلك متعبداً للَّه قانتاً له، و قد نزل الوحي عليه و خلع عليه ثوب الرسالة و هو متحنث «1» ب «حرّاء»، و ذلك مما اتفق عليه أهل السير و التاريخ.

قال ابن هشام: كان رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- يجاور ذلك الشهر من كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين،

فإذا قضى رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- جواره من شهره ذلك، كان أوّل ما يبدأ به إذا انصرف من جواره، الكعبة، قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعاً أو ما شاء اللَّه من ذلك، ثمّ يرجع إلى بيته، حتى إذا كان الشهر الذي أراد اللَّه تعالى به فيه ما أراد من كرامته، من السنة التي بعثه اللَّه تعالى فيها؛ و ذلك الشهر شهر رمضان، خرج رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- إلى حراء كما كان يخرج لجواره و معه أهله، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه اللَّه فيها برسالته، و رَحِمَ العبادَ بها، جاءه جبريلُ- عليه السَّلام- بأمر اللَّه تعالى. «2»

و لم تكن عبادته منحصرة بالاعتكاف أو الطواف حول البيت بعد الفراغ منه، بل دلت الروايات المتضافرة عن أئمّة أهل البيت على أنّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- حج عشرين حجة مستسراً. «3»

__________________________________________________

(1). التحنث: هو التحنف، بدّلت الفاء (ثاء)، كما يقال (جدف) مكان جدث، بمعنى القبر، و ربّما يقال: بأنّه بمعنى الخروج عن الحنث بمعنى الاثم، كما أنّ التأثم هو الخروج عن الإثم، و الأوّل هو الأولى.

(2). السيرة النبوية: 1/ 236.

(3). الوسائل: 8/ 87 باب 45، استحباب تكرار الحج و العمرة؛ البحار: 11/ 280.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 258

روى غياث بن إبراهيم، عن الإمام الصادق- عليه السَّلام-: «لم يحج النبي بعد قدوم المدينة إلّا واحدة، و قد حج بمكة مع قومه حجّات». «1»

و لم تكن أعماله الفردية أو الاجتماعية منحصرة في المستقلات العقلية، كالاجتناب عن البغي و الظلم و كالتحنن على اليتيم و العطف على المسكين، بل كان في فترة من

حياته راعياً للغنم، و في فترات أُخرى ضارباً في الأرض للتجارة، و لم يكن في القيام بهذه الأعمال في غنى عن شرع يطبق أعماله عليه، إذ لم يكن البيع و الربا و الخل و الخمر و لا المذكّى و غيره عنده سواسية، و ليست هذه الأُمور و نظائرها مما يستقل العقل بأحكامها.

فطبيعة الحال تقتضي أن يكون- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- عارفاً بأحكام عباداته و طاعاته، واقفاً على حرام أفعاله و حلالها، في زواجه و نكاحه في حلّه و ترحاله، و لولاه أشرف على اقتراف ما حرّمه اللَّه سبحانه في عامّة شرائعه، و الاقتراف أو الدنو منه يناقض أهداف البعثة، فإنّها لا تتحقّق إلّا بعمله قبل بعثته بما سوف يدعو إليه بعد بعثته.

و على ضوء هذه المقدمة يبطل القول الأوّل من أنّه لم يكن متعبّداً بشرع أصلًا، لما عرفت من أنّ العبادة و الطاعة لا تصح إلّا بعد معرفة حدودها و خصوصيّاتها عن طريق الشرع، كما أنّ الاجتناب عن محارم اللَّه في العقود و الإيقاعات و سائر ما يرجع إلى أعماله و أفعاله الفردية و الاجتماعية، يتوقف على معرفة الحلال و الحرام، حتى يتخذه مقياساً في مقام العمل، و عند ذاك كيف يصح القول بأنّه لم يكن متعبّداً بشرع أصلًا؟ و إلّا يلزم أن ننكر عباداته و طاعاته قبل

__________________________________________________

(1). الوسائل: 8/ 88 باب 45، استحباب تكرار الحج و العمرة، الحديث 4.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 259

البعثة أو نرميه باقتراف الكبائر في تلك الفترة، و هو يضاد عصمته قبل البعثة كما يضاد أهدافها.

قال العلّامة المجلسي: قد ورد في أخبار كثيرة أنّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- كان يطوف

و أنّه كان يعبد اللَّه في حراء، و أنّه كان يراعي الآداب المنقولة من التسمية و التحميد عند الأكل و غيره، و كيف يجوّز ذو مسكة من العقل، على اللَّه تعالى أن يهمل أفضل أنبيائه أربعين سنة بغير عبادة؟! و المكابرة في ذلك سفسطة، فلا يخلو إمّا أن يكون عاملًا بشريعة مختصة به أوحى اللَّه إليه بها، و هو المطلوب، أو عاملًا بشريعة غيره. «1»

نعم روى أحمد في مسنده، عن سعيد بن زيد قال: كان رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- بمكة هو و زيد بن حارثة، فمرَّ بهما زيد بن عمرو بن نفيل فدعوه إلى سفرة لهما، فقال يا ابن أخي إنّي لا آكل مما ذبح على النصب، قال: فما رؤي النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- بعد ذلك أكل شيئاً مما ذبح على النصب، قال: قلت لرسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-: إنّ أبي كان كما قد رأيت و بلغك، و لو أدركك لآمن بك و اتبعك فاستغفر له؟ قال: نعم، فاستغفر له فإنّه يبعث يوم القيامة أُمَّة واحدة. «2»

نحن لا نعلق على هذا الحديث شيئاً سوى أنّه يستلزم أن يكون زيد أعرف بأحكام اللَّه تعالى من النبي الأكرم، الذي كان بمقربة من البعث إلى هداية الأُمّة، أضف إليه أنّ الحديث مروي عن طريق سعيد بن زيد الذي يَدّعي فيه شرفاً لأبيه، و في الوقت نفسه نقصاً للنبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-. «كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ» «3».

هذا كلّه حول القول الأوّل.

__________________________________________________

(1). البحار: 18/ 280.

(2). مسند أحمد: 1/ 189- 190.

(3). الكهف: 5.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 260

* نظرية التوقف في تعبّده

أمّا الثاني: أعني التوقف، فقد ذهب إليه المرتضى، و استدل على مختاره بقوله: و الذي يدل عليه أنّ العبادة بالشرائع تابعة لما يعلمه اللَّه تعالى من المصلحة بها في التكليف العقلي، و لا يمتنع أن يعلم اللَّه تعالى أنّه لا مصلحة للنبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- قبل نبوته في العبادة بشي ء من الشرائع، كما أنّه غير ممتنع أن يعلم أنّ له- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- في ذلك مصلحة، و إذا كان كل واحد من الأمرين جائزاً و لا دلالة توجب القطع على أحدهما وجب التوقف. «1»

و ما ذكره محتمل في حد نفسه، و لكنّه مدفوع بما في الأخبار و الآثار من عبادته و اعتكافه، و قد عرفت أنّه كان يتعبد للَّه، و كانت له أعمال فردية و اجتماعية تحتاج إلى أن تكون وفق شريعة ما.

* نظرية عمله بالشرائع السابقة

و هذا هو القول الثالث بشقوقه الأربعة: فيتصوّر على وجهين:

الأوّل: أن يعمل على طبق أحد الشرائع الأربع تابعاً لصاحبها و مقتدياً به بوجه يعد أنّه من أُمّته؛ و هذا الشق مردود من جهات:

أ. انّ هذا يتوقف على ثبوت عموم رسالات أصحاب هذه الشرائع، و هو غير ثابت، و قد أوضحنا حالها في الجزء الثالث من موسوعة مفاهيم القرآن. «2»

ب. انّ العمل بهذه الشرائع فرع الاطّلاع عليها، و هو إمّا أن يكون حاصلًا

__________________________________________________

(1). الذريعة: 2/ 596.

(2). لاحظ الجزء الثالث: 77- 116.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 261

من طريق الوحي، فعندئذ يكون عاملًا بشريعة من تقدم و لا يكون تابعاً لصاحبها و مقتدياً به، و إن كان عاملًا بالشريعة التي نزلت قبله، و هذا نظير أنبياء بني إسرائيل فقد كانوا مأمورين بالحكم على

طبق التوراة مع أنّهم لم يكونوا من أُمّة موسى قال سبحانه:

«إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا» «1»، و إلى هذا الشق يشير المرتضى بقوله: إنّه غير ممتنع أن يوجب اللَّه تعالى عليه بعض ما قامت الحجة من بعض الشرائع المتقدّمة لا على وجه الاقتداء بغيره فيها و لا الاتباع.

و إمّا أن يكون حاصلًا من طريق مخالطة أهل الكتاب و علمائهم و هذا مما لا تصدّقه حياته إذ لم يكن مخالطاً لهم و لم يتعلم منهم شيئاً و لم يسألهم.

يقول العلّامة المجلسي: لو كان متعبّداً بشرع لكان طريقه إلى ذلك إمّا الوحي أو النقل، و يلزم من الأوّل أن يكون شرعاً له لا شرعاً لغيره، و من الثاني التعويل على اليهود، و هو باطل «2».

ج. انّ العمل بشريعة من قبله ما سوى المسيح بن مريم، يستلزم أن يكون عاملًا بالشرائع المنسوخة فهو أشدّ فساداً، فكيف يجوز العمل بشريعة نسخت؟

قال الشيخ الطوسي: فإن قالوا: كان متعبّداً بشريعة موسى، فإنَّ ذلك فاسد حيث إنّ شريعته كانت منسوخة بشريعة عيسى، و إن قالوا: كان متعبّداً بشريعة عيسى فهو أيضاً فاسد، لأنّ شريعته قد انقطعت و اندرس نقلها و لم تتصل كاتصال نقل المعجزة، و إذا لم تتصل لم يصح أن يعمل بها. «3»

__________________________________________________

(1). المائدة: 44.

(2). البحار: 18/ 276.

(3). عدة الأُصول: 2/ 61.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 262

أضف إلى ذلك أنّه لم يثبت أنّ عيسى جاء بأحكام كثيرة، بل الظاهر أنّه جاء لتحليل بعض ما حرّم في شريعة موسى- عليه السَّلام- قال سبحانه: «وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ

عَلَيْكُمْ وَ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ» «1»، فلو كان النبي عاملًا بشريعة عيسى ففي الحقيقة يكون عاملًا بشريعة موسى المعدّلة بما جاء به عيسى.

د. اتفقت الآثار على كونه أفضل الخلق و اقتداء الفاضل بالمفضول غير صحيح عقلًا، قال الشيخ الطوسي: إنّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- أفضل من جميع الأنبياء و لا يجوز أن يؤمر الفاضل باتّباع المفضول، و لم يخص أحد تفضيله على سائر الأنبياء، بوقت دون وقت، فيجب أن يكون أفضل في جميع الأوقات.

و هذه الوجوه و إن كان بعضها غير خال من الإشكال لكن الجميع يزيّف القول بأنّه كان يعمل بشريعة من قبله.

و أمّا دليل من قال بهذا القول فضعيف جداً حيث قال: كيف يصح أن يقال: انّه لم يكن متعبداً بشريعة من تقدّم مع أنّه كان يطوف بالبيت و يحج و يعتمر و يذكّي و يأكل المذكّى و يركب البهائم؟ «2»

و فيه أوّلًا: انّ بعض ما ذكره يعد من المستقلات العقلية، فتكفي فيه هداية العقل و دلالته.

و ثانياً: انّ الدليل أعم من المدّعى، لأنّ عمله كما يمكن أن يكون مستنداً إلى شريعة من قبله، يمكن أن يكون مستنداً إلى الوحي إليه، لا اتّباعاً لشريعة، و سوف

__________________________________________________

(1). آل عمران: 50.

(2). الذريعة: 2/ 596؛ العدة: 60- 61.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 263

يوافيك أنّه كان يوحى إليه قبل أن يتشرّف بمقام الرسالة و أنّ نبوّته كانت متقدّمة على رسالته، و أنّ جبريل نزل إليه بالرسالة عند ما بلغ الأربعين، و الاستدلال مبني على أنّ نبوّته و رسالته كانتا في زمان واحد، و هو غير صحيح كما سيأتي.

و على هذا الوجه الصحيح لا نحتاج

إلى الإجابة عن الاستدلال بما تكلّف به المرتضى في ذريعته، و الطوسي في عدّته.

قال الأوّل: لم يثبت عنه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- أنّه قبل النبوّة حج أو اعتمر، و بالتظنّي لا يثبت مثل ذلك، و لم يثبت أيضاً أنّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- تولّى التذكية بيده، و قد قيل أيضاً: إنّه لو ثبت أنّه ذكّى بيده، لجاز أن يكون من شرع غيره في ذلك الوقت، «أن يستعان بالغير في الذكاة» «1» فذكّى على سبيل المعونة لغيره، و أكل اللحم المذكّى لا شبهة في أنّه غير موقوف على الشرع، لأنّه بعد الذكاة قد صار مثل كل مباح من المأكل، و ركوب البهائم و الحمل عليها، يحسن عقلًا إذا وقع التكفّل بما يحتاج إليه من علف و غيره، و لم يثبت أنّه- عليه السَّلام- فعل من ذلك ما لا يستباح بالعقل فعله. «2»

و قريب منه ما في عدّة الشيخ الطوسي. «3»

و لا يخفى أنّ بعض ما ذكره و إن كان صحيحاً، لكن إنكار حجه و اعتماره و عبادته في حرّاء و اتجاره الذي يتوقف الصحيح منه على معرفة الحلال و الحرام، ممّا لا يمكن إنكاره، فلا محيص عن معرفته بالمقاييس الصحيحة في هذه الموارد، إمّا من عند نفسه، أو من ناحية الاتّباع لشريعة غيره.

__________________________________________________

(1). يريد أنّ من أحكام الشريعة السابقة أن يستعين الرجل في تذكية الحيوان بالغير- و على ذلك- فالنبي ذكّى نيابة عن الغير، و لأجله و لم يذكّ لنفسه.

(2). الذريعة: 2/ 597- 598.

(3). عدة الأُصول: 2/ 63.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 264

* الوجوه الأخيرة الثلاثة المتقاربة

إذا تبيّن عدم صحة هذه الأقوال الثلاثة تثبت الوجوه الأخيرة التي يقرب

بعضها من بعض، و يجمع الكل إنّه كان يعمل حسب ما يلهم و يوحى إليه، سواء أ كان مطابقاً لشرع من قبله أم مخالفاً، و انّ هاديه و قائده منذ صباه إلى أن بعث هو نفس هاديه بعد البعثة.

و يدل على ذلك وجوه:

1. ما أُثر عن الإمام أمير المؤمنين- عليه السَّلام- من أنّه من لدن كان فطيماً كان مؤيداً بأعظم ملك يعلّمه مكارم الأخلاق و محاسن الآداب، و هذه مرتبة من مراتب النبوّة و إن لم تكن معها رسالة.

قال- عليه السَّلام-: «و لقد قرن اللَّه به من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم و محاسن أخلاق العالم ليله و نهاره». «1»

إنّا مهما جهلنا بشي ء، فلا يصح لنا أن نجهل بأنّ النبوة منصب إلهي لا يتحمّلها إلّا الأمثل فالأمثل من الناس، و لا يقوم بأعبائها إلّا من عمّر قلبه بالإيمان، و زوّد بالخلوص و الصفاء، و غمره الطهر و القداسة و أُعطى مقدرة روحية عظيمة، لا يتهيب حينما يتمثل له رسول ربّه و أمين وحيه، و لا تأخذه الضراعة و الخوف عند سماع كلامه و وحيه، و تلك المقدرة لا تفاض من اللَّه على عبد إلّا أن يكون في رعاية ملك كريم من ملائكته سبحانه، يرشده إلى معالم الهداية و مدارج الكمال، و يصونه من صباه إلى شبابه، و إلى كهولته عن كل سوء و زلة. و هذا هو السرّ في وقوعه تحت كفالة أكبر ملك من ملائكته حتى تستعد نفسه لقبول

__________________________________________________

(1). نهج البلاغة: 2/ 82، من خطبة تسمّى القاصعة 187، طبعة عبده.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 265

الوحي، و تتحمل القول الثقيل الذي سيلقى عليه.

2. ما

رواه عروة بن الزبير عن عائشة أُمّ المؤمنين أنّها قالت: أوّل ما بُدئ به رسول اللَّه من الوحي، الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح، ثمّ حبّب إليه الخلاء، و كان يخلو بغار حراء، فيتحنَّث فيه،- و هو التعبّد- الليالي ذوات العدد، قبل أن يَنزعَ إلى أهله و يتزوّد لذلك، ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوَّد لمثلها حتى جاءه الحق، و هو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ. «1»

3. روى الكليني بسند صحيح عن الأحول قال: سألت أبا جعفر- عليه السَّلام- عن الرسول و النبي و المحدّث قال: «الرسول الذي يأتيه جبرئيل قبلًا ... و أمّا النبي فهو الذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيم- عليه السَّلام-، و نحو ما كان رأى رسول اللَّه من أسباب النبوة قبل الوحي حتى أتاه جبرئيل من عند اللَّه بالرسالة». «2»

و هذه المأثورات تثبت بوضوح أنّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- قبل أن يُبعث، كان تحت كفالة أكبر ملك من ملائكة اللَّه، يرى في المنام و يسمع الصوت، قبل أن يبلغ الأربعين سنة، فلمّا بلغها بُشّر بالرسالة، و كلّمه الملك معاينة و نزل عليه القرآن، و كان يعبد اللَّه قبل ذلك بصنوف العبادات، إمّا موافقاً لما سيؤمر به بعد تبليغه، أو مطابقاً لشريعة إبراهيم أو غيره، ممن تقدمه من الأنبياء، لا على وجه كونه تابعاً لهم و عاملًا بشريعتهم، بل بموافقة ما أُوحي إليه مع شريعة من تقدّم عليه.

ثمّ إنّ العلّامة المجلسي استدل على هذا القول بوجه آخر، و هو: انّ يحيى و عيسى كانا نبيّين و هما صغيران، و قد ورد في أخبار كثيرة انّ اللَّه لم يعط نبيّاً فضيلة

__________________________________________________

(1). صحيح البخاري: 1/ 3، باب بدء الوحي إلى رسول اللَّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-؛ السيرة النبوية: 1/ 234- 236.

(2). الكافي: 1/ 176.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 266

و لا كرامة و لا معجزة إلّا و قد أعطاها نبينا- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-، فكيف جاز أن يكون عيسى- عليه السَّلام- في المهد نبياً و لم يكن نبينا- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- إلى أربعين سنة نبياً؟! «1»

قال سبحانه حاكياً عن المسيح: «قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا* وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا» «2»، و قال سبحانه مخاطباً ليحيى: «يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا» «3».

و لازم ذلك أنّ النبي قبل بعثته في صباه أو بعد ما أكمل اللَّه عقله كان نبياً مؤيداً بروح القدس يكلّمه الملك، و يسمع الصوت و يرى في المنام.

و إنّما بُعث إلى الناس بعد ما بلغ أربعين سنة، و عند ذاك كلّمه الملك معاينة و نزل عليه القرآن و أُمر بالتبليغ.

و يؤيد ذلك ما رواه الجمهور عنه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- من أنّه كان نبياً و آدم بين الروح و الجسد. «4»

هذا كلّه راجع إلى حاله قبل بعثته، و أمّا بعدها فنأتي بمجمل القول فيه:

* حاله بعد البعثة

قد عرفت حال النبي الأكرم- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- قبل بعثته، فهلمّ معي ندرس حاله بعدها،

__________________________________________________

(1). البحار: 18/ 279.

(2). مريم: 30- 31.

(3). مريم: 12.

(4). نقل العلّامة الأميني مصادره عن عدة من الكتب، و ذكر انّ للحديث عدّة ألفاظ من طرق شتى.

لاحظ الجزء 9/ 287.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 267

و قد اختلفوا فيه أيضاً على قولين:

فمن قائل: إنّه كان يتعبّد بشرع من قبله.

و من قائل آخر ينفيه بتاتاً.

و قد بسط الكلام في هذا المقام السيد المرتضى في «ذريعته» و تلميذه الجليل في «عدّته» فاختارا القول الثاني و أوضحا برهانه. «1»

غير انّي أرى البحث في ذلك عديم الفائدة، لأنّ المسلمين اتفقوا على أنّه بعد البعثة، ما كان يقول إلّا ما يوحى إليه، و لا يصدر عنه شي ء إلّا عن هذا الطريق، فإذا كان الواجب علينا اقتفاء أمره و نهيه، و العمل بالوحي الذي نزل عليه، فأي فائدة في البحث عن أنّه هل كان ما يأمر به و ينهى عنه، صدر عن التعبّد بشريعة من قبله، أو صدر عن شريعته؟ إذ الواجب علينا الأخذ بما أتى به، بأي لون و شكل كان، و في ذلك يقول المحقّق الحلّي: إنّ هذا الخلاف عديم الفائدة، لأنّا لا نشك أنّ جميع ما أتى به لم يكن نقلًا عن الأنبياء، بل عن اللَّه تعالى بإحدى الطرق الثلاث التي أُشير إليها في قوله سبحانه: «وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ» «2».

فإذا كان- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- لا يصدر عنه شي ء إلّا عن طريق الوحي، فلا تترتب على البحث أيّة فائدة، فسواء أ كان متعبداً بشرع من قبله أم لم يكن، فهو- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- لا يأمر و لا ينهى إلّا بإذنه سبحانه. «3»

__________________________________________________

(1). الذريعة: 2/ 598؛ العدة: 2/ 61.

(2). الشورى: 51.

(3). لاحظ المعارج: 65،

بتوضيح منّا.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 268

قال سبحانه: «وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «1»، و قال عزّ من قائل: «كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» «2»، و قال تعالى: «إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَ ما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ» «3»، إلى غير ذلك من الآيات التي تدل بوضوح على أنّ كل ما يأمر و ينهي، مستند إلى الوحي منه سبحانه إليه، سواء أمره بالأخذ من الشرع السابق أم أمره بما يماثله أو يخالفه.

أضف إلى ذلك إنّه إذا لم يجز له التعبد بالشرع السابق قبل البعثة بالدلائل السابقة لم يجز له أيضاً بعدها.

نعم هناك بحث آخر و هو حجية شرع من قبلنا للمستنبط إذا لم يجد في الشريعة المحمدية دليلًا على حكم موضوع خاص، فهل يجوز أن يعمل بالحكم الثابت في الشرائع السماوية السالفة ما لم يثبت خلافه في شرعنا أملا؟

فهذه مسألة أُصولية طرحها الأُصوليون في كتبهم قديماً و جديداً، فاستدل القائلون بالجواز بالآيات التالية:

1. «فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ» «4».

2. «ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً» «5».

3. «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً» «6».

__________________________________________________

(1). النجم: 3- 4.

(2). الشورى: 3.

(3). الأحقاف: 9.

(4). الأنعام: 90.

(5). النحل: 123.

(6). الشورى: 13.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 269

4. «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ» «1».

و لكن الكلام في دلالة هذه الآيات على ما يتبنّاه هؤلاء و هي غير واضحة، و قد بسط المحقق الكلام في دلالة الآيات في أُصوله، «2» و نقله العلّامة المجلسي في «بحاره» «3»، و نحن نحيل القارئ الكريم إلى مظانّه.

* الآيات التي وقعت ذريعة لبعض المخطّئة
اشارة

هذا حال النبي الأكرم- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- قبل البعثة، و حال أجداده و آبائه و بعض أعمامه، و قد خرجنا من هذا البحث الضافي بهذه النتائج:

1. انّ النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- قد ولد في بيت كان يسوده التوحيد و قد ترعرع و شب و اكتهل في أحضان رجال لم يتخلّفوا عن الدين الحنيف قيد شعرة.

2. انّ النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- منذ نعومة أظفاره كان تحت رعاية أكبر ملك من ملائكته سبحانه فيلهم و يوحى إليه قبل أن يبلغ الأربعين، و يخلع عليه ثوب الرسالة.

3. انّ النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- كان مؤمناً باللَّه، و موحداً له، يعبده، و لا يعبد غيره، و يتقرّب إليه بالطاعات و القربات، و يتجنب المعاصي و المآثم.

هذه هي الحقيقة الملموسة من حياته يقف عليها من سبر تاريخ حياته بإمعان، و قد مرّ أنّ هناك آيات وقعت ذريعة لبعض المخطّئة لعصمته، فدخلت لأجلها في أذهانهم شبهات في إيمانه و هدايته قبل البعثة.

__________________________________________________

(1). المائدة: 44.

(2). معارج الأُصول: 157.

(3). البحار: 18/ 276- 277.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 270

و هؤلاء بدل أن يفسروا الآيات على غرار التاريخ المسلّم من حياته، أو يسلّطوا الضوء عليها بما تضافرت الأخبار و الروايات عليه، عكسوا الأمر فرفضوا التاريخ المسلّم الصحيح و الروايات المتضافرة اغتراراً ببعض الظواهر مع أنّها تهدف إلى مقاصد أُخر تتضح من البحث الآتي، و إليك هذه الآيات:

1. «أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى «1».

2. «وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ* وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ» «2».

3. «وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا

الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» «3».

4. «وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» «4».

5. «قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ».

و قد استدلت المخطّئة «5» بهذه الآيات على مدّعاها، بل على زعم سلب الإيمان عنه قبل أن يبعث، لكنّها لا تدل على ما يريدون و لأجل تسليط الضوء على مقاصدها نبحث عنها واحدة بعد واحدة.

__________________________________________________

(1). الضحى: 6- 7.

(2). المدثر: 4- 5.

(3). الشورى: 52.

(4). القصص: 86.

(5). يونس: 16.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 271

* الآية الأُولى: الهداية بعد الضلالة؟
اشارة

إنّ قوله سبحانه: «وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى هل يتضمن هدايته بعد الضلالة؟

و قد ذكر المفسرون للآية عدّة احتمالات أنهاها الرازي في تفسيره إلى ثمانية، لكن أكثرها من مخترعات الذهن، لأجل الإجابة عن استدلال الخصم على كونه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- كان ضالًا قبل البعثة، غير مؤمن و لا موحد، فهداه اللَّه سبحانه، و لكن الحق في الجواب أن يقال:

إنّ الضال يستعمل في عرف اللغة في موارد:

1. الضال: من الضلالة: ضد الهداية و الرشاد.

2. الضال: من ضل البعير: إذا لم يعرف مكانه.

3. الضال: من ضل الشي ء: إذا ضؤل و خفي ذكره.

و تفسير الضال بأيّ واحد من هذه المعاني لا يثبت ما تدّعيه المخطّئة سواء أ جعلناها معاني مختلفة جوهراً و شكلًا، أم جعلناها معنى واحداً جوهراً و مختلفاً شكلًا و صورة، فإنّ ذلك لا يؤثر فيما نرتئيه، و إليك توضيحه:

أمّا المعنى الأوّل: فهو المقصود من تلك اللفظة في كثير من الآيات،

قال سبحانه: «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ» «1»، لكن الضلالة بمعنى ضد الهداية و الرشاد يتصور على قسمين:

قسم: تكون الضلالة فيه وصفاً وجودياً، و حالة واقعية كامنة في النفس،

__________________________________________________

(1). الحمد: 7.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 272

توجب منقصتها و ظلمتها، كالكافر و المشرك و الفاسق، و الضلالة في هاتيك الأفراد صفة وجودية تكمن في نفوسهم، و تتزايد حسب استمرار الإنسان في الكفر و الشرك و العصيان و التجرّي على المولى سبحانه، قال اللَّه سبحانه: «وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» «1».

فإنّ لازدياد الإثم بالجوارح تأثيراً في زيادة الكفر، و قد وصف سبحانه بعض الأعمال بأنّها زيادة في الكفر قال سبحانه: «إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا» «2».

و قسم منه: تكون الضلالة فيه أمراً عدمياً، بمعنى كون النفس فاقدة للرشاد غير مالكة له، و عندئذ يكون الإنسان ضالًا بمعنى أنّه غير واجد للهداية من عند نفسه، و في الوقت نفسه لا تكمن فيه صفة وجودية مثل ما تكمن في نفس المشرك و العاصي، و هذا كالطفل الذي أشرف على التمييز و كاد أن يعرف الخير من الشر، و الصلاح من الفساد، و السعادة من الشقاء، فهو آنذاك ضال، لكن بالمعنى الثاني، أي غير واجد للنور الذي يهتدي به في سبيل الحياة، لا ضال بالمعنى الأوّل بمعنى كينونة ظلمة الكفر و الفسق في روحه.

إذا عرفت ذلك، فاعلم: أنّه لو كان المراد من الضال في الآية، ما يخالف الهداية و الرشاد فهي تهدف إلى القسم الثاني منه لا الأوّل:

بشهادة أنّ الآية بصدد توصيف النعم التي أفاضها اللَّه سبحانه على

نبيّه يوم افتقد أباه ثمّ أُمّه فصار يتيماً لا ملجأ له و لا مأوى، فآواه و أكرمه، بجدّه عبد المطلب ثمّ بعمّه أبي طالب، و كان

__________________________________________________

(1). آل عمران: 178.

(2). التوبة: 37.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 273

ضالًا في هذه الفترة من عمره، فهداه إلى أسباب السعادة و عرّفه وسائل الشقاء.

و الالتزام بالضلالة بهذا المعنى لازم القول بالتوحيد الأفعالي، فإنّ كل ممكن كما لا يملك وجوده و حياته، لا يملك فعله و لا هدايته و لا رشده إلّا عن طريق ربّه سبحانه، و إنّما يفاض عليه كل شي ء منه قال تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» «1»، فكما أنّ وجوده مفاض من اللَّه سبحانه، فهكذا كل ما يوصف به من جمال و كمال فهو من فيوض رحمته الواسعة، و الاعتقاد بالهداية الذاتية، و غناء الممكن بعد وجوده عن هدايته سبحانه يناقض التوحيد الأفعالي الذي شرحناه في موسوعة مفاهيم القرآن. «2»

و قد تضافرت الآيات على هذا الأصل، و أنّ هداية كل ممكن مكتسبة من اللَّه سبحانه من غير فرق بين الإنسان و غيره، و في الأوّل بين النبي و غيره، قال سبحانه: «قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى «3»، و قال سبحانه: «الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى* وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى «4»، و قال سبحانه: «وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَ ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ» «5»، و قال سبحانه:

«الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ» «6»، و قال تعالى: «إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ» «7»، و قال تبارك و تعالى: «وَ إِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي» «8»، إلى غير ذلك

من الآيات.

__________________________________________________

(1). فاطر: 15.

(2). لاحظ الجزء الأوّل: 297- 376.

(3). طه: 50.

(4). الأعلى: 2- 3.

(5). الأعراف: 43.

(6). الشعراء: 78.

(7). الزخرف: 27.

(8). سبأ: 50.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 274

و على هذا الأساس فالآية تهدف إلى بيان النعم التي أنعمها سبحانه على حبيبه منذ صباه فآواه بعد ما صار يتيماً لا مأوى له و لا ملجأ، و أفاض عليه الهداية بعد ما كان فاقداً لها حسب ذاتها، و أمّا تحديد زمن هذه الإفاضة فيعود إلى أوليات حياته و أيّام صباه بقرينة ذكره بعد الإيواء الذي تحقّق بعد اليتم، و تمّ بجدّه عبد المطلب فوقع في كفالته إلى ثماني سنين و يؤيد ذلك قول الإمام أمير المؤمنين- عليه السَّلام-: «و لقد قرن اللَّه به- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم و محاسن أخلاق العالم ليله و نهاره». «1»

و الحاصل: انّ الهداية في الآية نفس الهداية الواردة في قوله: «أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى ، و في قوله: «الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ» إلى غير ذلك من الآيات التي أوعزنا إليها، و الاعتقاد بكونه ضالًا أي فاقداً لها في مقام الذات ثمّ أُفيضت عليه الهداية، هو مقتضى التوحيد الأفعالي و لازم كون النبي الأكرم- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- ممكناً بالذات، فاقداً في ذاته كل كمال و جمال، مفاضاً عليه كل جميل من جانبه سبحانه، و أين هو من الضلالة المساوقة للكفر و الشرك أو الفسق و العصيان؟!

و إن شئت قلت: إنّ الضلالة في الآية ترادف الخسران الوارد في قوله سبحانه: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي

خُسْرٍ» و الهداية فيها ترادف الإيمان و العمل الصالح الواردين بعده «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ» «2»، فالإنسان بما أنّه يصرف رأس ماله، أعني:

عمره الغالي كل يوم، خاسر بالذات، إلّا إذا اكتسب به ما يبقى و لا ينفد أثره و هو الإيمان المقرون بالعمل الصالح، و النبي و غيره في هذه الأحكام سواسية بل في كل التوصيفات الواردة في مجال الإنسان التي يثبتها القرآن له و لا

__________________________________________________

(1). نهج البلاغة: الخطبة 178، و التي تسمّى بالقاصعة.

(2). العصر: 2- 3.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 275

وجه لإرجاعها إلى صنف دون صنف، بعد كونها من خواص الطبيعة الإنسانية ما لم تقع تحت رعاية اللَّه و هدايته.

و بذلك يتبيّن أنّ الضلالة في الآية- لو فسرت بضد الهدى و الرشاد- لا تدل على ما تدّعيه المخطّئة، بل هي بصدد بيان قانون كلي سائد على عالم الإمكان من غير فرق بين الإنسان و غيره، و في الأوّل بين النبي و غيره.

* حول الاحتمالين الآخرين

و لكن هذا المعنى غير متعين في الآية إذ من المحتمل أن تكون الضلالة فيها مأخوذة من «ضل الشي ء: إذا لم يعرف مكانه» و «ضلت الدراهم: إذا ضاعت و افتقدت» و «ضل البعير: إذا ضاع في الصحارى و المفاوز» و في الحديث: «الحكمة ضالة المؤمن أخذها أين وجدها» أي مفقودته و لا يزال يتطلبها، و قد اشتهر قول الفقهاء في باب «الجعالة»: «من رد ضالّتي فله كذا».

فالضال بهذا المعنى ينطبق على ما نقله أهل السير و التاريخ عن أوّليات حياته من أنّه ضل في شعاب مكة و هو صغير، فمنَّ اللَّه عليه إذ ردّه إلى جدّه، وقصته معروفة في كتب السير. «1»

و لو لا رحمته سبحانه

لأدركه الهلاك و مات عطشاً أو جوعاً، فشملته العناية الإلهية فردّه إلى مأواه و ملجئه.

و هناك احتمال ثالث لا يقصر عمّا تقدمه من احتمالين، و هو أن تكون

__________________________________________________

(1). لاحظ السيرة الحلبية: 1/ 131 و يقول: عن حيدة بن معاوية العامري: سمعت شيخاً يطوف بالبيت و هو يقول:

يا رب رد راكبي محمداً أردده ربي و اصطنع عندي يداً

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 276

الضلالة في الآية مأخوذة من «ضل الشي ء إذا خفي و غاب عن الأعين» قال سبحانه: «أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» «1»، فالإنسان الضال هو الإنسان المخفي ذكره، المنسي اسمه، لا يعرفه إلّا القليل من الناس، و لا يهتدي كثير منهم إليه، و لو كان هذا هو المقصود، يكون معناه أنّه سبحانه رفع ذكره و عرفه بين الناس عند ما كان خاملًا ذكره منسيّاً اسمه، و يؤيد هذا الاحتمال قوله سبحانه في سورة الانشراح التي نزلت لتحليل ما ورد في سورة الضحى قائلًا: «أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ* وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ* الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ* وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ» «2» فرفع ذكره في العالم، عبارة عن هداية الناس إليه و رفع الحواجز بينه و بين الناس، و على هذا فالمقصود من «الهداية» هو هداية الناس إليه لا هدايته، فكأنّه قال: فوجدك ضالًا، خاملًا ذكرك، باهتاً اسمك، فهدى الناس إليك، و سيّر ذكرك في البلاد.

و إلى ذلك يشير الإمام الرضا- عليه السَّلام-- على ما في خبر ابن الجهم- بقوله: «قال اللَّه عزّ و جلّ لنبيّه محمد- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-:

« «أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى يقول: «أَ لَمْ يَجِدْكَ» وحيداً «فَآوى

إليك الناس «وَ وَجَدَكَ ضَالًّا» يعني عند قومك «فَهَدى أي هداهم إلى معرفتك». «3»

هذه هي المحتملات المعقولة في الآية و لا يدل واحد منها على ما تتبنّاه المخطّئة و إن كان الأظهر هو الأوّل.

و يعجبني في المقام ما ذكره الشيخ محمد عبده في «رسالة التوحيد» فقال:

__________________________________________________

(1). السجدة: 10.

(2). الانشراح: 1- 4.

(3). البحار: 16/ 142.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 277

و في السنة السادسة من عمره فقد والدته أيضاً فاحتضنه جده عبد المطلب، و بعد سنتين من كفالته، توفّي جدّه، فكفله من بعده عمه أبو طالب و كان شهماً كريماً غير أنّه كان من الفقر بحيث لا يملك كفاف أهله.

و كان- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- من بني عمه و صبية قومه، كأحدهم على ما به من يتم، فقد فيه الأبوين معاً، و فقر لم يسلم منه الكافل و المكفول، و لم يقم على تربيته مهذب، و لم يعن بتثقيفه مؤدب بين أتراب من نبت الجاهلية، و عشراء من خلفاء الوثنية، و أولياء من عبدة الأوهام، و أقرباء من حفدة الأصنام، غير أنّه مع ذلك كان ينمو و يتكامل بدناً و عقلًا و فضيلة و أدباً، حتى عرف بين أهل مكة و هو في ريعان شبابه بالأمين، أدب إلهي لم تجر العادة بأن تزين به نفوس الأيتام من الفقراء خصوصاً مع فقر القوّام، فاكتهل- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- كاملًا و القوم ناقصون، رفيعاً و القوم منحطون، موحداً و هم وثنيون، سلماً و هم شاغبون، صحيح الاعتقاد و هم واهمون، مطبوعاً على الخير و هم به جاهلون، و عن سبيله عادلون.

من السنن المعروفة أنّ يتيماً فقيراً أُميّاً مثله

تنطبع نفسه بما تراه من أوّل نشأته إلى زمن كهولته، و يتأثر عقله بما يسمعه ممّن يخالطه، و لا سيما إن كان من ذوي قرابته، و أهل عصبته، و لا كتاب يرشده و لا أُستاذ ينبهه، و لا عضد إذا عزم يؤيده، فلو جرى الأمر فيه على مجاري السنن لنشأ على عقائدهم، و أخذ بمذاهبهم، إلى أن يبلغ مبلغ الرجال، و يكون للفكر و النظر مجال، فيرجع إلى مخالفتهم، إذا قام له الدليل على خلاف ضلالاتهم كما فعل القليل ممّن كانوا على عهده، و لكن الأمر لم يجر على سنته، بل بغضت إليه الوثنية من مبدأ عمره، فعاجلته طهارة العقيدة، كما بادره حسن الخليقة، و ما جاء في الكتاب من قوله: «وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى لا يفهم منه أنّه كان على وثنية قبل الاهتداء إلى التوحيد، أو على غير السبيل القويم

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 278

قبل الخلق العظيم، حاش للَّه، إنّ ذلك لهو الافك المبين، و إنّما هي الحيرة تلم بقلوب أهل الإخلاص، فيما يرجون للناس من الخلاص، و طلب السبيل إلى ما هدوا إليه من إنقاذ الهالكين و إرشاد الضالين. «1»

* الآية الثانية: الأمر بهجر الرجز

يقول سبحانه: «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ* وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ* وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ* وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ* وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ* وَ لِرَبِّكَ فَاصْبِرْ» «2».

استدلت المخطّئة بأنّ الرجز بمعنى الصنم و الوثن، ففي الأمر بهجره إيعاز لوجود أرضية صالحة لعبادتهما في شخصية النبي الأكرم- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-.

أقول: إنّ الرجز في القرآن الكريم استعمل في المعاني الثلاثة التالية:

1. العذاب.

2. القذارة.

3. الصنم.

و لك أن تقول: إنّ المفاهيم الثلاثة أشكال لمعنى واحد جوهراً، و ليست بمعان متعددة، و لكن تعيين

أحد الأمرين لا يؤثر فيما نرتئيه، توضيح ذلك:

إنّ «الرجز»: بكسر الراء قد استعمل في القرآن تسع مرّات، و قد أُريد منه في جميعها العذاب إلّا في مورد واحد، و إليك مظانها:

البقرة/ 59، الأعراف/ 134 و جاءت اللفظة فيها مرتين، و الأعراف/ 145 و 162، الأنفال/ 11، سبأ/ 5، الجاثية/ 11، و العنكبوت/ 29.

__________________________________________________

(1). رسالة التوحيد: 135- 136.

(2). المدثر: 1- 7.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 279

و أمّا «الرجز»: بضم الراء، فقد جاء في القرآن الكريم مرّة واحدة، و هي الآية التي نحن بصدد تفسيرها، فسواء أُريد منها العذاب أم غيره من المعنيين، فلا يدل على ما ذهبت إليه المخطّئة، و إليك بيان ذلك:

أ. «الرجز» العذاب: فلو كان المقصود منه العذاب فيدل على الأمر بهجر ما يسلتزم العذاب، و بما أنّ الآيات القرآنية نزلت بعنوان التعليم فلا تدلّ على أنّ النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- كان مشرفاً على ما يجرّ العذاب، لأنّ هذه الخطابات من باب «إياك أعني و اسمعي يا جارة»، و هذا النوع من الخطاب بمكان من البلاغة، لأنّه سبحانه إذا خاطب أعز الناس إليه بهذا الخطاب فغيره أولى به، و من هنا يقدر القارئ الكريم على حل كثير من الآيات التي تخاطب النبي الأكرم- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- بلحن حاد و شديد، فتقول: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» «1»، و ليست الآية دليلًا على وجود أَرضية الشرك في شخصية النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- فنهاه عنه سبحانه، بل الآيات آيات عامّة نزلت للتعليم، و الخطاب موجه إليه و المقصود منها عامة الناس، نرى أنّه سبحانه يخاطب نبيَّه الأكرم في سورة القصص بالخطابات

الناهية الأربعة المتوالية، الخطاب للنبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- و المقصود منه هو الأُمّة و يقول: «وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ* وَ لا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَ ادْعُ إِلى رَبِّكَ وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* وَ لا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» «2».

و هذا هو المقياس في أكثر الخطابات الناهية الواردة في القرآن الكريم.

ب. الرجز بمعنى القذارة: ثمّ إنّ القذارة على قسمين: القذارة المادية،

__________________________________________________

(1). الزمر: 65.

(2). القصص: 86- 88.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 280

و القذارة المعنوية، فيحتمل أن يكون المراد هو الأوّل، و قد ورد في الروايات أنّ أبا جهل جاء بشي ء قذر و نادى أصحابه، و قال:

هل فيكم رجل يأخذه مني و يلقيه على محمد؟ فأخذه بعض أصحابه فألقاه عليه، فحينئذ تكون الآية ناظرة إلى تطهير الثوب عن الدنس، و إن أُريد القذارة المعنوية فالمراد هو الاجتناب عن الأفعال و الصفات الذميمة، فإنّ الآية نزلت للتعليم فلا تدل على اتصاف النبي الأكرم بها.

ج. الرجز بمعنى الصنم: نفترض أنّ المقصود منه في الآية هو الصنم لكن لا بمعنى أنّه وضع لذاك المعنى، و إنّما وضع اللفظ لمعنى جامع يعم الصنم و الخمر و الأزلام، لاشتراك الجميع في كونها رجزاً، و لأجل ذلك وصف الجميع في مورد آخر بالرجس فقال: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ» «1».

و لكن الجواب عن هذه الصورة هو الجواب عن الصورتين الأُوليين، و الشاهد على ذلك أنّ

النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- يوم نزلت الآية لم يكن عابداً للوثن، بل كان مشمّراً لتحطيم الأصنام و مكافحة عبدتها، فلا يصح أن يخاطب من هذا شأنه، بهجر الأصنام إلّا على الوجه الذي أوعزنا إليه.

* الآية الثالثة: عدم علمه بالكتاب و الإيمان
اشارة

قوله سبحانه: «وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» «2».

__________________________________________________

(1). المائدة: 90.

(2). الشورى: 52.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 281

استدلت المخطّئة لعصمة النبي الأكرم بهذه الآية و زعمت- و العياذ باللَّه- دلالة الآية على أنّه كان فاقداً للإيمان قبل الإيحاء إليه، و قد انقلب و صار مؤمناً موحداً بالوحي و بعد نزوله إليه.

لكن حياته المشرقة- بالإيمان و التوحيد- تفند تلك المزعمة، بشهادة التاريخ على أنّه من بداية عمره إلى أن لاقى ربّه، كان مؤمناً موحداً، و ليس ذلك أمراً قابلًا للشك و الترديد، و قد أصفق على ذلك أهل السير و التاريخ و حتى كان الأحبار و الرهبان معترفين بأنّه نبيُّ هذه الأُمّة و خاتم الرسالات الإلهية، و كان- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- يسمع تلك الشهادات منهم في فترات خاصة في «مكة» و «يثرب» و «بصرى» و «الشام» و غيرها، و على ذلك فكيف يمكن أن يكون غافلًا عن الكتاب الذي ينزل إليه، أو يكون مجانباً عن الإيمان بوجوده سبحانه و توحيده، و التاريخ المسلّم الصحيح يؤكد على عدم صدق ذلك الاستظهار، و على ضوء هذا، لا بد من إمعان النظر في مفاد الآية كما لا بد في تفسيرها من الاستعانة بالآيات الواردة في ذلك المساق فنقول:

بعث

النبي الأكرم- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-- لهداية قومه أوّلًا، و هداية جميع الناس ثانياً- بالآيات و البيّنات، و أخص بالذكر منها:

كتابه و قرآنه (معجزته الكبرى الخالدة) الذي بفصاحته أخرس فرسان الفصاحة، وقادة الخطابة، و ببلاغته قهر أرباب البلاغة و ملوك البيان، و خلب عقولهم و قد دعاهم إلى التحدي و المقابلة، فلم يكن الجواب منهم إلّا إثارة التهم حوله، فتارة قالوا: بأنّه «يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ»، و أُخرى بأنّه «إِفْكٌ افْتَراهُ وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ»، و ثالثة: بأنّه «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا»، قال سبحانه ردّاً على هذه التهم التي أوعزنا إليها: «قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرى

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 282

لِلْمُسْلِمِينَ* وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ» «1»، و قال سبحانه: «وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً* وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا* قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» «2».

و الآية التي تمسّكت بها المخطّئة بصدد بيان هذا الأمر و أنّه وحي سماوي لا إفك افتراه، و لأجل ذلك بدأ كلامه بلفظة «وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ»، أي كما أنّه سبحانه أوحى إلى سائر الأنبياء بإحدى الطرق الثلاثة التي بيّنها في الآية المتقدمة، أوحى إليك أيضاً روحاً من أمرنا، و ليس هذا كلامك و صنيعك، بل كلام ربك و صنيعه.

هذا مجمل الكلام في الآية، و لأجل رفع النقاب عن مرامها

نقدم أُموراً تسلّط ضوءاً عليه:

الأوّل: المراد من الروح في الآية هو القرآن، و سمّي روحاً لأنّه قوام الحياة الأُخروية، كما أنّ الروح في الإنسان قوام الحياة الدنيوية، و يؤيد ذلك أُمور:

أ. انّ محور البحث الأصلي في سورة الشورى، هو: الوحي و الآيات الواردة فيها البالغ عددها 53 آية، تبحث عن ذلك المعنى بالمباشرة أو بغيرها.

ب. الآية التي تقدمت على تلك، تبحث عن الطرق التي يكلّم بها سبحانه أنبياءه و يقول: «وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ» «3».

__________________________________________________

(1). النحل: 102- 103.

(2). الفرقان: 4- 6.

(3). الشورى: 51.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 283

ج. ما تقدم من أنّه سبحانه بدأ كلامه في هذه الآية بلفظة «وَ كَذلِكَ»، أي كما أوحينا إلى من تقدّم من الأنبياء كذلك أوحينا إليك بإحدى هذه الطرق «رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» و وجه الاشتراك بينه و بين النبيين، هو الوحي المتجلّي في نبينا بالقرآن و في غيره بوجه آخر.

كل ذلك يؤيد أنّ المراد منه هو القرآن الملقى إليه، نعم وردت في بعض الروايات أنّ المراد منه هو «روح القدس» و لكنه لا ينطبق على ظاهر الآية، لأنّ «الروح» بحكم كونه مفعولًا ل «أَوْحَيْنا» يجب أن يكون شيئاً قابلًا للوحي حتى يكون «موحًى» و روح القدس ليس موحًى، بل هو الموحي بالكسر، فكيف يمكن أن يكون مفعولًا ل «أَوْحَيْنا»، و لأجله يجب تأويل الروايات إن صح اسنادها.

الثاني: انّ هيئة (ما كنت) أو (ما كان) تستعمل في نفي الإمكان و الشأن قال سبحانه: «وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» «1»، و قال عزّ

اسمه: «وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً» «2». و قال تعالى حاكياً عن بلقيس: «ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ» «3».

و على ضوء هذا الأصل يكون مفاد قوله: «ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ» انّه لو لا الوحي ما كان من شأنك أن تدري الكتاب و لا الإيمان، فإن وقفت عليهما فإنّما هو بفضل الوحي و كرامته.

الثالث: انّ ظاهر الآية أن النبي الأكرم- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- كان فاقداً للعلم بالكتاب و الدراية للإيمان، و إنّما حصلت الدراية بهما في ظل الوحي و فضله، فيجب إمعان

__________________________________________________

(1). آل عمران: 145.

(2). التوبة: 122.

(3). النمل: 32.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 284

النظر في الدراية التي كان النبي فاقداً لها قبل الوحي و صار واجداً لها بعده، فما تلك الدراية و ذاك العلم؟

فهل المراد هو العلم بنزول الكتاب إليه اجمالًا، و الإيمان بوجوده و توحيده سبحانه؟ أو المراد العلم بتفاصيل ما في الكتاب و الإذعان بها كذلك؟

لا سبيل إلى الأوّل، لأنّ علمه إجمالًا بأنّه ينزل إليه الكتاب، أو إيمانه بوجوده سبحانه كانا حاصلين قبل نزول الوحي إليه، و لم يكن العلم بهما مما يتوقف على الوحي، فإنّ الأحبار و الرهبان كانوا واقفين على نبوته و رسالته و نزول الكتاب إليه في المستقبل إجمالًا، و قد سمع منهم النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-- في فترات مختلفة- أنّه النبي الموعود في الكتب السماوية، و أنّه خاتم الرسالات و الشرائع، فهل يصح أن يقال: إنّ علمه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- بنزول كتاب عليه إجمالًا كان بعد بعثته و بعد نزول الوحي؟ أو أنّه كان متقدّماً عليه

و على بعثته؟ و مثله الإيمان باللَّه سبحانه و توحيده إذ لم يكن الإيمان باللَّه أمراً مشكلًا متوقفاً على الوحي، و قد كان الأحناف في الجزيرة العربية و من جملتهم رجال البيت الهاشمي، موحدين مؤمنين مع عدم نزول الوحي إليهم.

و بالجملة: العلم الإجمالي بنزول كتاب إليه و الإيمان بوجوده و توحيده، لم يكن أمراً متوقفاً على نزول الوحي حتى يحمل عليه قوله: «وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ». و عندئذ يتعين الاحتمال الثاني، و هو أنّ العلم التفصيلي بمضامين الكتاب و ما فيه من الأُصول و التعاليم و القصص- ثمّ الإيمان و الإذعان بتلك التفاصيل- كانا متوقفين على نزول الوحي، و لولاه لما كان هناك علم بها و لا إيمان.

و إن شئت قلت: العلم و الإيمان بالأُمور السمعية التي لا سبيل للعقل عليها- كالمعارف و الأحكام و القصص و محاجة الأنبياء مع المشركين و الكفّار و ما

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 285

نزل بساحة أعدائهم من إهلاك و تدمير- لا يحصلان إلّا من طريق الوحي، حتى قصص الأُمم السالفة و حكاياتهم لتسرب الوضع و الدس إلى كتب القصاصين، و الصحف السماوية النازلة قبل القرآن.

* تفسير الآية بآية أُخرى

إنّ الرجوع إلى ما ورد في هذا المضمار من الآيات، يوضح المراد من عدم درايته بالكتاب أوّلًا، و الإيمان ثانياً:

أمّا الأوّل: فيقول سبحانه: «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ» «1»، فالآية صريحة في أنّ النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- لم يكن عالماً بتفاصيل الأنباء، و قد وقف عليها من جانب الوحي، فعبّر عن عدم

وقوفه عليها في هذه الآية بقوله: «ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ» و في تلك الآية: بقوله: «ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ» و الفرق هو أنّ «الكتاب» أعم من «أَنْباءِ الْغَيْبِ»* و الأوّل يشتمل على الأنباء و غيرها «و أمّا الأنباء» فإنّها مختصة بالقصص، و الكل مشترك في عدم العلم بهما قبل الوحي و العلم بهما بعده.

و أمّا الثاني:

فقوله سبحانه: «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ» «2» فقوله: «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ» صريح في

__________________________________________________

(1). هود: 49.

(2). البقرة: 285.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 286

أنّ متعلّق الإيمان الحاصل بعد الوحي، هو الإيمان «بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ»، أعني: تفاصيل الكتاب في المجالات المختلفة، لا الإيمان باللَّه و توحيده، و عندئذ يرتفع الإبهام في الآية التي تمسّكت بها المخطّئة، و يتبيّن أنّ متعلّق الإيمان المنفي في قوله: «وَ لَا الْإِيمانُ» هو «ما أنزل إليه» لا الإيمان بالمبدإ و توحيده.

و الحاصل: أنّ هنا شيئاً واحداً، أعني: الإيمان بما أُنزل من المعارف و الأحكام و الأنباء، فقد نفى عنه في الآية المبحوث عنها لكونها ناظرة إلى ما قبل البعثة، و أثبت له في الآية الأُخرى لكونها ناظرة إلى ما بعد البعثة.

و من هنا تتضح أهمية عرض الآيات بعضها على بعض و تفسير الآية باختها، فهاتان الآيتان كما عرفت كافلتان لرفع إبهام الآية و إجمالها.

و قد تفطن المفسرون لما ذكرناه على وجه الإجمال فقال الزمخشري في الكشاف: الإيمان اسم يتناول أشياء: بعضها الطريق إليه العقل، و بعضها الطريق

إليه السمع، فعنى به ما الطريق إليه السمع دون العقل، و ذاك ما كان له فيه علم حتى كسبه بالوحي. «1»

و قال الطبرسي: «ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ» ما القرآن و لا الشرائع و معالم الإيمان. «2»

و قال الرازي: المراد من الإيمان هو الإقرار بجميع ما كلّف اللَّه تعالى به، و أنّه قبل النبوّة ما كان عارفاً بجميع تكاليف اللَّه تعالى بل أنّه كان عارفاً باللَّه ... ثمّ قال: صفات اللَّه تعالى على قسمين: منها ما تمكن معرفته بمحض دلائل العقل، و منها ما لا تمكن معرفته إلّا بالدلائل السمعية، فهذا القسم الثاني لم تكن معرفته

__________________________________________________

(1). الكشاف: 3/ 88- 89.

(2). مجمع البيان: 5/ 37.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 287

حاصلة قبل النبوة. «1»

و قال العلّامة الطباطبائي في «الميزان»: إنّ الآية مسوقة لبيان أنّ ما عنده- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- الذي يدعو إليه إنّما هو من عند اللَّه سبحانه لا من قبل نفسه و إنّما أُوتي ما أُوتي من ذلك، بالوحي بعد النبوة، فالمراد بعدم درايته بالكتاب عدم علمه بما فيه من تفاصيل المعارف الاعتقادية و الشرائع العملية، فإنّ ذلك هو الذي أُوتي العلم به بعد النبوّة و الوحي، و المراد من عدم درايته الإيمان، عدم تلبسه بالالتزام التفصيلي بالعقائد الحقة و الأعمال الصالحة، و قد سمى العمل إيماناً في قوله تعالى: «وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ» «2»، و المراد الصلوات التي أتى بها المؤمنون إلى بيت المقدس قبل النسخ، و المعنى ما كان عندك قبل وحي الروح، علم الكتاب بما فيه من المعارف و الشرائع و لا كنت متلبساً به بما أنت متلبس به بعد الوحي من

الالتزام التفصيلي و الاعتقادي، و هذا لا ينافي كونه مؤمناً باللَّه موحداً قبل البعثة صالحاً في عمله، فإنّ الذي تنفيه الآية هو العلم بتفاصيل ما في الكتاب و الالتزام بها اعتقاداً و عملًا، لا نفي العلم و الالتزام الإجماليين بالإيمان باللَّه و الخضوع للحق. «3»

* الآية الرابعة: عدم رجائه إلقاء الكتاب إليه

قال تعالى: «وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ» «4».

__________________________________________________

(1). مفاتيح الغيب: 7/ 410. و لاحظ روح البيان: 8/ 347؛ روح المعاني: 15/ 25.

(2). البقرة: 143.

(3). الميزان: 18/ 80.

(4). القصص: 86.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 288

استدل الخصم بأنّ ظاهر الآية نفي علمه بإلقاء الكتاب إليه، فلم يكن النبي راجياً لذلك واقفاً عليه.

أقول: توضيح مفاد الآية يتوقف على إمعان النظر في الجملة الاستثنائية، أعني قوله: «إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» حتى يتضح المقصود، و قد ذكر المفسرون في توضيحها وجوهاً ثلاثة نأتي بها:

1. انّ «إلّا» استدراكية و ليست استثنائية، فهي بمعنى «لكن» لاستدراك ما بقي من المقصود.

و حاصل معنى الآية: ما كنت يا محمد ترجو فيما مضى أن يوحي اللَّه إليك و يشرّفك بإنزال القرآن عليك، إلّا أنّ ربك رحمك و أنعم به عليك و أراد بك الخير، نظير قوله سبحانه: «وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَ لكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» «1»، أي و لكن رحمة من ربك خصّك بها، و هذا هو المنقول عن الفراء «2»، و على هذا لم يكن للنبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- أيُّ رجاء لإلقاء الكتاب إليه و إنّما فاجأه الإلقاء لأجل رحمة ربّه، و لكن لا يصار إلى هذا الوجه إلّا إذا امتنع كون الاستثناء متصلًا

لكون الانقطاع على خلاف الظاهر.

2. أن يكون «إلّا» للاستثناء لا للاستدراك، و هو متصل لا منقطع، و لكن المستثنى منه جملة محذوفة معلومة من سياق الكلام، و هو كما في الكشاف: «و ما ألقى إليك الكتاب إلّا رحمة من ربك» «3»، أي لم يكن لإلقائه عليك وجه إلّا رحمة من ربك، و على هذا الوجه أيضاً لا يعلم أنّه كان للنبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- رجاء لإلقاء الكتاب

__________________________________________________

(1). القصص: 46.

(2). مجمع البيان: 4/ 269؛ مفاتيح الغيب: 6/ 408.

(3). الكشاف: 2/ 487- 488.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 289

عليه و إن كان الاستثناء متصلًا، و هذا الوجه بعيد أيضاً لكون المستثنى منه محذوفاً مفهوماً من الجملة على خلاف الظاهر، و إنّما يصار إليه إذا لم يصح إرجاعه إلى نفس الجملة الواردة في نفس الآية كما سيبيّن في الوجه الثالث.

3. أن يكون «إلّا» استثناء من الجملة السابقة عليه، أعني قوله: «وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا» و يكون معناه: ما كنت ترجوا إلقاء الكتاب عليك إلّا أن يرحمك اللَّه برحمة فينعم عليك بذلك، فتكون النتيجة: ما كنت ترجو إلّا على هذا «1»، فيكون هنا رجاءٌ منفي و رجاءٌ مثبت أمّا الأوّل: فهو رجاؤه بحادثة نزول الكتاب على نسج رجائه بالحوادث العادية، فلم يكن ذاك الرجاء موجوداً، و أمّا رجاؤه به عن طريق الرحمة الإلهية فكان موجوداً، فنفي أحد الرجاءين لا يستلزم نفي الآخر، بل المنفي هو الأوّل، و الثابت هو الثاني، و هذا الوجه هو الظاهر المتبادر من الآية، و قد سبق منّا أنّ جملة «ما كُنْتَ» و ما أشبهه تستعمل في نفي الإمكان و الشأن، و على ذلك يكون معنى

الجملة: لم تكن راجياً لأن يلقى إليك الكتاب و تكون طرفاً للوحي و الخطاب إلّا من جهة خاصة، و هي أن تقع في مظلة رحمته و موضع عنايته فيختارك طرفاً لوحيه، و مخاطباً لكلامه و خطابه، فالنبي بما هو إنسان عادي لم يكن راجياً لأن ينزل إليه الوحي و يلقى إليه الكتاب، و بما أنّه صار مشمولًا لرحمته و عنايته و صار إنساناً مثالياً قابلًا لتحمل المسئولية و تربية الأُمّة، كان راجياً به، و على ذلك فالنفي و الإثبات غير واردين على موضع واحد.

فقد خرجنا بفضل هذا البحث الضافي أنّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- كان إنساناً مؤمناً موحداً عابداً للَّه ساجداً له قائماً بالفرائض العقلية و الشرعية، مجتنباً عن المحرمات، عالماً بالكتاب، و مؤمناً به إجمالًا، و راجياً لنزوله إليه إلى أن بُعثَ لإنقاذ البشرية عن

__________________________________________________

(1). مفاتيح الغيب: 6/ 498.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 290

الجهل، و سوقها إلى الكمال، فسلام اللَّه عليه يوم ولد و يوم مات و يوم يبعث حيّاً، و بقيت هنا آية أُخرى نأتي بتفسيرها إكمالًا للبحث و إن لم تكن لها صلة تامّة لما تتبنّاه المخطّئة.

* الآية الخامسة: لو لم يشأ اللَّه ما تلوته

قال سبحانه: «قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ» «1».

و الآية تؤكد أنّ النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- كان لابثاً في قومه، و لم يكن تالياً لسورة من سور القرآن أو تالياً لآيٍ من آياته، و ليس هذا الشي ء ينكره القائلون بالعصمة، فقد اتفقت كلمتهم على أنّ النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- وقف على ما وقف من آي الذكر

الحكيم من جانب الوحي و لم يكن قبله عالماً به، و أين هو من قول المخطّئة من نفي الإيمان منه قبلها؟!

و إن أردت الإسهاب في تفسيرها فلاحظ الآية المتقدمة عليها فترى فيها اقتراحين للمشركين، و قد أجاب القرآن عن أحدهما في الآية المتقدّمة و عن الآخر في نفس هذه الآية، و إليك نصها: «قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» «2».

اقترح المشركون على النبي أحد أمرين:

1. الإتيان بقرآن غير هذا، مع المحافظة على فصاحته و بلاغته.

__________________________________________________

(1). يونس: 16.

(2). يونس: 15.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 291

2. تبديل بعض آياته ممّا فيه سبّ لآلهتهم و تنديد بعبادتهم الأوثان و الأصنام.

فأجاب عن الثاني في نفس الآية بأنّ التبديل عصيان للَّه، و انّه يخاف من مخالفة ربّه، و لا محيص له إلّا اتّباع الوحي من دون أن يزيد فيه أو ينقص عنه.

و أجاب عن الأوّل في الآية المبحوث عنها بأنّه أمر غير ممكن، لأنّ القرآن ليس من صنعي و كلامي حتى أذهب به و آتي بآخر، بل هو كلامه سبحانه، و قد تعلقت مشيئته على تلاوتي، و لو لم يشأ لما تلوته عليكم و لا أدراكم به، و الدليل على ذلك إنّي كنت لابثاً فيكم عمراً من قبل فما تكلّمت بسورة أو بآية من آياته، و لو كان القرآن كلامي لبادرت إلى التكلّم به طيلة معاشرتي معكم في المدّة الطويلة.

قال العلّامة الطباطبائي في تفسير الآية: إنّ الأمر فيه إلى مشيئة اللَّه لا إلى مشيئتي فإنّما أنا رسول، و

لو شاء اللَّه أن ينزل قرآناً غير هذا لأنزل، أو لم يشأ تلاوة هذا القرآن ما تلوته عليكم و لا أدراكم به، فإنّي مكثت فيكم عمراً من قبل نزوله و لو كان ذلك إليّ و بيدي لبادرت إليه قبل ذلك و بدت من ذلك آثار و لاحت لوائحه. «1»

هذا آخر الكلام في عصمته عن العصيان، و صيانته عن الخلاف، بقي الكلام في عصمته عن الخطأ و النسيان، فنطرحها على بساط البحث إجمالًا.

* عصمة النبي الأعظم عن الخطأ «2»

اشارة

إنّ صيانة النبي عن الخطأ و الاشتباه سواء أ كان في مجال تطبيق الشريعة، أم

__________________________________________________

(1). الميزان: 10/ 26. و لاحظ تفسير المنار: 11/ 320.

(2). البحث كما يعرب عنه عنوان البحث، مركز على صيانة خصوص نبينا الأعظم عن الخطأ استدلالًا و إشكالًا و جواباً، و أمّا البحث عن عصمة غيره من الأنبياء فموكول إلى مجال آخر.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 292

في مجال الأُمور العادية الفردية المرتبطة بحياته، ممّا طرح في علم الكلام و طال البحث فيه بين متكلمي الإسلام.

غير انّ تحقق الغاية من البعثة رهن صيانته عن الخطأ في كلا المجالين، و إلّا فلا تتحقق الغاية المتوخاة من بعثته، و هذا هو الدليل العقلي الذي اعتمدت عليه العدلية، بعد ما اتفق الكل على لزوم صيانته عن الخطأ و الاشتباه في مجال تلقي الوحي و حفظه، و أدائه إلى الناس، و لم يختلف في ذلك اثنان.

و إليك توضيح هذا الدليل العقلي: إنّ الخطأ في غير أمر الدين و تلقّي الوحي يتصوّر على وجهين:

أ. الخطأ في تطبيق الشريعة كالسهو في الصلاة أو في إجراء الحدود.

ب. الاشتباه في الأُمور العادية المعدة للحياة كما إذا استقرض ألف دينار، و ظن أنّه استقرض مائة

دينار.

و هو مصون من الاشتباه و السهو في كلا الموردين، و ذلك لأنّ الغاية المتوخاة من بعث الأنبياء هي هدايتهم إلى طريق السعادة، و لا تحصل تلك الغاية إلّا بكسب اعتماد الناس على صحة ما يقوله النبي و ما يحكيه عن جانب الوحي، و هذا هو الأساس لحصول الغاية، و من المعلوم أنّه لو سها النبي و اشتبه عليه الأمر في المجالين الأوّلين ربّما تسرب الشك إلى أذهان الناس، و انّه هل يسهو في ما يحكيه من الأمر و النهي الإلهي أم لا؟

فبأي دليل أنّه لا يخطأ في هذا الجانب مع أنّه يسهو في المجالين الآخرين؟! و هذا الشعور إذا تغلغل في أذهان الناس سوف يسلب اعتماد الناس على النبي، و بالتالي تنتفي النتيجة المطلوبة من بعثه.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 293

نعم، التفكيك بين صيانته في مجال الوحي و صيانته في سائر الأُمور و إن كان أمراً ممكناً عقلًا، و لكنه ممكن بالنسبة إلى عقول الناضجين في الأبحاث الكلامية و نحوها، و أمّا العامّة و رعايا الناس الذين يشكلون أغلبية المجتمع، فهم غير قادرين على التفكيك بين تينك المرحلتين، بل يجعلون السهو في إحداهما دليلًا على إمكان تسرّب السهو إلى المرحلة الأُخرى.

و لأجل سدّ هذا الباب المنافي للغاية المطلوبة من إرسال الرسل، ينبغي أن يكون النبي مصوناً في عامّة المراحل، سواء أ كانت في حقل الوحي أو في تطبيق الشريعة أو في الأُمور العامة، و لهذا يقول الإمام الصادق- عليه السَّلام-: «جعل مع النبي روح القدس و هي لا تنام و لا تغفل و لا تلهو و لا تسهو». «1»

و على ذلك فبما أنّه ينبغي أن يكون النبي اسوة في الحياة في عامة

المجالات يجب أن يكون نزيهاً عن العصيان و الخلاف و السهو و الخطأ.

* القرآن و عصمة النبي عن الخطأ و السهو

قد عرفت منطق العقل في لزوم عصمة النبي من الخطأ في مجال تطبيق الشريعة، و مجال الأُمور العادية المعدّة للحياة، و هذا الحكم لا يختص بمنطقه، بل الذكر الحكيم يدعمه بأحسن وجه، و إليك ما يدل على ذلك:

1. قال سبحانه: «إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً» «2»، و قال أيضاً:

«وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ ما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ

__________________________________________________

(1). بصائر الدرجات: 454.

(2). النساء: 105.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 294

شَيْ ءٍ وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً» «1».

و قد نقل المفسرون حول نزول الآيات و ما بينهما من الآيات روايات رووها بطرق مختلفة نذكر ما ذكره ابن جرير الطبري عن ابن زيد قال: كان رجل سرق درعاً من حديد في زمان النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- و طرحه على يهودي، فقال اليهودي: و اللَّه ما سرقتها يا أبا القاسم، و لكن طرحت عليّ و كان للرجل الذي سرق جيران يبرءونه و يطرحونه على اليهودي، و يقولون: يا رسولَ اللَّه إنّ هذا اليهودي الخبيث يكفر باللَّه و بما جئت به، قال: حتى مال عليه النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- ببعض القول فعاتبه اللَّه عزّ و جلّ في ذلك فقال: «إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً» «2».

أقول: سواء أصحت

هذه الرواية أم لا، فمجموع ما ورد حول الآيات من أسباب النزول متفق على أنّ الآيات نزلت حول شكوى رفعت إلى النبي، و كان كل من المتخاصمين يسعى ليبرئ نفسه و يتهم الآخر، و كان في جانب واحد منهما رجل طليق اللسان يريد أن يخدع النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- ببعض تسويلاته و يثير عواطفه على المتهم البري ء حتى يقضي على خلاف الحق، و عند ذلك نزلت الآية و رفعت النقاب عن وجه الحقيقة فعرف المحق من المبطل.

و الدقة في فقرات الآية الثانية يوقفنا على سعة عصمة النبي من الخطأ و صيانته من السهو، لأنّها مؤلفة من فقرات أربع، كل يشير إلى أمر خاص:

1. «وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ ما

__________________________________________________

(1). النساء: 113.

(2). تفسير الطبري: 4/ 172.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 295

يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ».

2. «وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ».

3. «وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ».

4. «وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً».

فالأُولى منها: تدل على أنّ نفس النبيّ بمجردها لا تصونه من الضلال (أي من القضاء على خلاف الحق) و إنّما يصونه سبحانه عنه، و لو لا فضل اللَّه و رحمته لهمّت طائفة أن يرضوه بالدفاع عن الخائن و الجدال عنه، غير أنّ فضله العظيم على النبي هو الذي صدّه عن مثل هذا الضلال و أبطل أمرهم المؤدي إلى إضلاله، و بما أنّ رعاية اللَّه سبحانه و فضله الجسيم على النبي ليست مقصورة على حال دون حال، أو بوقت دون وقت آخر، بل هو واقع تحت رعايته و صيانته منذ أن بعث إلى أن

يلاقي ربّه، فلا يتعدى إضلال هؤلاء أنفسهم و لا يتجاوز إلى النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- فهم الضالون بما هموا به كما قال: «وَ ما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ».

و الفقرة الثانية: تشير إلى مصادر حكمه و منابع قضائه، و أنّه لا يصدر في ذلك المجال إلّا عن الوحي و التعليم الإلهي، كما قال سبحانه: «وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ» و المراد المعارف الكلية العامة من الكتاب و السنة.

و لما كان هذا النوع من العلم الكلي أحد ركني القضاء و هو بوحده لا يفي بتشخيص الموضوعات و تمييز الصغريات، فلا بد من الركن الآخر و هو تشخيص المحق من المبطل، و الخائن من الأمين، و الزاني من العفيف، أتى بالفقرة الثالثة و قال: «وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ» و مقتضى العطف، مغايرة المعطوف، مع المعطوف عليه، فلو كان المعطوف عليه ناظراً إلى

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 296

تعرّفه على الركن الأوّل و هو العلم بالأُصول و القواعد الكلية الواردة في الكتاب و السنّة، يكون المعطوف ناظراً إلى تعرّفه على الموضوعات و الجزئيات التي تعد ركناً ثانياً للقضاء الصحيح، فالعلم بالحكم الكلي الشرعي و تشخيص الصغريات و تمييز الموضوعات جناحان للقاضي يحلّق بهما في سماء القضاء بالحق من دون أن يجنح إلى جانب الباطل، أو يسقط في هوّة الضلال.

قال العلّامة الطباطبائي: إنّ المراد من قوله سبحانه: «وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ» ليس علمه بالكتاب و الحكمة، فإنّ مورد الآية، قضاء النبي في الحوادث الواقعة، و الدعاوى المرفوعة إليه، برأيه الخاص، و ليس ذلك من الكتاب و الحكمة بشي ء، و إن كان متوقفاً عليهما، بل

المراد رأيه و نظره الخاص. «1» و لما كان هنا موضع توهم و هو أنّ رعاية اللَّه لنبيّه تختص بمورد دون مورد، دفع ذلك التوهم بالفقرة الرابعة فقال سبحانه: «وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً» حتى لا يتوهم اختصاص فضله عليه بواقعة دون أُخرى، بل مقتضى عظمة الفضل، سعة شموله لكل الوقائع و الحوادث، سواء أ كانت من باب المرافعات و المخاصمات، أم الأُمور العادية، فتدل الفقرة الأخيرة على تعرّفه على الموضوعات و مصونيته عن السهو و الخطاء في مورد تطبيق الشريعة، أو غيره، و لا كلام أعلى و أغزر من قوله سبحانه في حق حبيبه: «وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً».

2. قال سبحانه: «وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» «2» إنّ الشهادة المذكورة في الآية حقيقة من الحقائق القرآنية تكرر ذكرها في كلامه سبحانه، قال تعالى: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً»، و قال تعالى «3»: «وَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ

__________________________________________________

(1). الميزان: 5/ 81.

(2). البقرة: 143.

(3). النساء: 41.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 297

كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» «1»، و قال تعالى: «وَ وُضِعَ الْكِتابُ وَ جِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ» «2»، و الشهادة فيها مطلقة، و ظاهر الجميع هو الشهادة على أعمال الأُمم و على تبليغ الرسل كما يومي إليه قوله تعالى: «فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ» «3»، و هذه الشهادة و إن كانت في الآخرة و يوم القيامة لكن يتحملها الشهود في الدنيا على ما يدل عليه قوله سبحانه حكاية عن عيسى: «وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ

شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ» «4»، و قال سبحانه: «وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً» «5»، و من الواضح أنّ الشهادة فرع العلم، و عدم الخطأ في تشخيص المشهود به، فلو كان النبي من الشهداء يجب ألّا يكون خاطئاً في شهادته، فالآية تدلّ على صيانته و عصمته من الخطأ في مجال الشهادة كما تدلّ على سعة علمه، لأنّ الحواس لا ترشدنا إلّا إلى صور الأعمال و الأفعال، و الشهادة عليها غير كافية عند القضاء، و إنّما تكون مفيدة إذا شهد على حقائقها من الكفر و الإيمان، و الرياء و الإخلاص، و بالجملة على كل خفي عن الحس و مستبطن عند الإنسان، أعني ما تكسبه القلوب و عليه يدور حساب رب العالمين، قال تعالى: «وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ» «6»، و لا شك أنّ الشهادة على حقائق أعمال الأُمّة خارج عن وسع الإنسان العادي إلّا إذا تمسّك

__________________________________________________

(1). النحل: 84.

(2). الزمر: 69.

(3). الأعراف: 6.

(4). المائدة: 117.

(5). النساء: 159.

(6). البقرة: 225.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 298

بحبل العصمة و ولي أمر اللَّه بإذنه، و لنا في الأجزاء الآتية من هذه الموسوعة بحث حول الشهداء في القرآن، فنكتفي بهذا القدر في المقام.

ثمّ إنّ العلّامة الحجّة السيد عبد اللَّه شبر أقام دلائل عقلية و نقلية على صيانة النبي عن الخطأ و لكن أكثرها كما صرّح به نفسه- قدس اللَّه سره- مدخولة غير واضحة، و من أراد الوقوف عليها فليرجع إلى كتابه. «1»

* أدلّة المخطّئة
اشارة

إنّ بعض المخطّئة استدلّ على تطرّق الخطأ و النسيان إلى النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-

ببعض الآيات غافلة عن أهدافها، و إليك تحليلها:

1. قال سبحانه: «وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» «2».

زعمت المخطّئة أنّ الخطاب للنبي و هو المقصود منه، غير انّها غفلت عن أنّ وزان الآية وزان سائر الآيات التي تقدّمت في الأبحاث السابقة و قلنا بأنّ الخطاب للنبي و لكن المقصود منه هو الأُمّة، و يدل على ذلك، الآية التالية لها قال: «وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ وَ لكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» «3»، فإنّ المراد انّه ليس على المؤمنين الذين اتقوا معاصي اللَّه سبحانه من حساب الكفرة شي ء بحضورهم مجلس الخوض، و هذا يدل على أنّ النهي عن الخوض تكليف

__________________________________________________

(1). مصابيح الأنوار في حل مشكلات الأخبار: 2/ 128- 140.

(2). الأنعام: 68.

(3). الأنعام: 69.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 299

عام يشترك فيه النبي و غيره، و إنّ الخطاب للنبي لا ينافي كون المقصود هو الأُمّة.

و الأوضح منها دلالة على أنّ المقصود هو الأُمّة قوله سبحانه: «وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَ الْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً» «1».

و الآية الأخيرة مدنية، و الآية المتقدمة مكية، و هي تدل على أنّ الحكم النازل سابقاً متوجه إلى المؤمنين و إنّ الخطاب و إن كان للنبي لكن المقصود منه غيره.

2. «وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً* إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَ قُلْ عَسى

أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً» «2»، و المراد من النسيان نسيان الاستثناء (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) و وزان هذه الآية، وزان الآية السابقة في أنّ الخطاب للنبي و المقصود هو الأُمّة.

3. «سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى «3»، و معنى الآية سنجعلك قارئاً بإلهام القراءة فلا تنسى ما تقرأه، لكن المخطّئة استدلّت بالاستثناء الوارد بعده، على إمكان النسيان، لكنّها غفلت عن نكتة الاستثناء، فإنّ الاستثناء في الآية نظير الاستثناء في قوله سبحانه «وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ» «4»، و من المعلوم أنّ الوارد إلى الجنّة لا يخرج منها، و لكن

__________________________________________________

(1). النساء: 140.

(2). الكهف: 23- 24.

(3). الأعلى: 6- 7.

(4). هود: 108.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 300

الاستثناء لأجل بيان انّ قدرة اللَّه سبحانه بعد باقية، فهو قادر على الإخراج مع كونهم مؤبدين في الجنّة، و أمّا الآية فالاستثناء فيها يفيد بقاء القدرة الإلهية على إطلاقها، و إنّ عطية اللَّه أعني «الإقراء بحيث لا تنسى» لا ينقطع عنه سبحانه بالإعطاء، بحيث لا يقدر بعد على إنسائك، بل هو باق على إطلاق قدرته، فلو شاء أنساك متى شاء، و إن كان لا يشاء ذلك.

و بما أنّ البحث مركّز على عصمة النبي الأعظم- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- من الخطأ و النسيان دون سائر الأنبياء ذكرنا الآيات التي استدلّت بها المخطّئة على ما تتبنّاه في حق النبي الأكرم- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-، و أمّا بيان الآيات التي يمكن أن يستدل بها على إمكان صدور

السهو و النسيان عن سائر الأنبياء و تفسيرها فمتروك إلى مجال آخر، و نقول على وجه الإجمال انّه يستظهر من بعض الآيات صحة نسبة النسيان إلى غير النبي الأعظم- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-، أعني قوله سبحانه: «وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» «1».

و قوله سبحانه في حق موسى: «فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما» «2».

و قوله سبحانه أيضاً عنه: «فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَ ما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ» «3».

و قوله سبحانه في حقّه أيضاً: «لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ» «4».

لكن البحث عن مفاد هذه الآيات موكول إلى مجال آخر.

__________________________________________________

(1). طه: 115.

(2). الكهف: 61.

(3). الكهف: 63.

(4). الكهف: 73.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 301

بقي هنا أمران:

الأوّل: ما هي النظرية السائدة بين الإمامية في مسألة سهو النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-؟

الثاني: كيفية معالجة المأثورات الظاهرة في صدور السهو عن النبي الأعظم- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-.

و إليك بيان الأمرين على نحو الإجمال:

* 1. الرأي السائد بين الإمامية حول سهو النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-

يظهر من الشيخ الصدوق أنّ إنكار سهو النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- كان شعار الغلاة و المفوّضة، قال في كتابه «من لا يحضره الفقيه»: إنّ الغلاة و المفوّضة ينكرون سهو النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-، و يقولون: لو جاز أن يسهو في الصلاة لجاز أن يسهو في التبليغ، لأنّ الصلاة عليه فريضة كما أنّ التبليغ عليه فريضة.

ثمّ أجاب عنه بقوله: و هذا لا يلزمنا، و ذلك لأنّ جميع الأحوال المشتركة يقع على النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- فيها ما يقع على غيره ... فالحالة التي اختص

بها هي النبوة، و التبليغ من شرائطها، و لا يجوز أن يقع عليه في التبليغ ما يقع عليه في الصلاة، لأنّها عبادة مخصوصة، و الصلاة عبادة مشتركة، و بها تثبت له العبودية، و بإثبات النوم له عن خدمة ربّه عزّ و جلّ من غير إرادة له و قصد منه إليه، نفي الربوبية عنه، لأنّ الذي لا تأخذه سنة و لا نوم هو اللَّه الحي القيّوم، و ليس سهو النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- كسهونا، لأنّ سهوه من اللَّه عزّ و جلّ، و إنّما أسهاه ليعلم أنّه بشر مخلوق فلا يتخذ ربّاً معبوداً دونه، و ليعلم الناس بسهوه حكم السهو متى سهوا، و سهونا عن الشيطان، و ليس للشيطان على النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- و الأئمّة- صلوات اللَّه عليهم- سلطان «إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ» «1» و على من تبعه من الغاوين.

__________________________________________________

(1). النحل: 100.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 302

ثمّ نقل عن شيخه محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (المتوفّى 343 ه) انّه كان يقول: أوّل درجة في الغلو نفي السهو عن النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-. «1»

و حاصل كلامه: انّ السهو الصادر عن النبي إسهاء من اللَّه إليه لمصلحة، كنفي وهم الربوبية عنه، و إثبات انّه بشر مخلوق، و إعلام الناس حكم سهوهم في العبادات و أمثالها و أمّا السهو الذي يعترينا من الشيطان فإنّه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- منه بري ء، و هو منزّه عنه، و ليس للشيطان عليه سلطان و لا سبيل.

و مع ذلك كلّه، فهذه النظرية مختصة به، و بشيخه ابن الوليد،

و من تبعهما كالطبرسي في «مجمعه» على ما سيأتي؛ و المحقّقون من الإمامية متفقون على نفي السهو عنه في أُمور الدين حتى مثل الصلاة.

قال المفيد: أقول إنّ الأئمّة القائمين مقام الأنبياء- عليهم السَّلام- في تنفيذ الأحكام و إقامة الحدود و حفظ الشرائع و تأديب الأنام معصومون كعصمة الأنبياء، و انّه لا يجوز منهم سهو في شي ء في الدين، و لا ينسون شيئاً من الأحكام، و على هذا مذهب سائر الإمامية إلّا من شذّ منهم و تعلّق بظاهر روايات لها تأويلات على خلاف ظنّه الفاسد من هذا الباب، و المعتزلة بأسرها تخالف في ذلك و يجوّزون من الأئمة وقوع الكبائر و الردّة عن الإسلام. «2»

و قال في شرحه على عقائد الصدوق: فأمّا نص أبي جعفر- رحمه اللَّه- بالغلو على من

__________________________________________________

(1). من لا يحضره الفقيه: 1/ 232.

(2). أوائل المقالات: 35.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 303

نسب مشايخ القمّيين و علمائهم (الذين جوّزوا السهو على النبي) إلى التقصير، فليس نسبة هؤلاء القوم إلى التقصير علامة على غلو الناس، إذ في جملة المشار إليهم بالشيخوخة و العلم من كان مقصّراً، و انّما يجب الحكم بالغلو على من نسب المحقّقين إلى التقصير سواء أ كانوا من أهل قم أم من غيرها من البلاد و من سائر الناس، و قد سمعنا حكاية ظاهرة عن أبي جعفر محمد بن الحسن بن الوليد- رحمه اللَّه- لم نجد لها دافعاً و هي ما حُكي عنه انّه قال: أوّل درجة في الغلو نفي السهو عن النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- و الإمام- عليه السَّلام-.

ثمّ إنّ الشيخ المفيد لم يكتف بهذا القدر من الرد بل ألّف رسالة مفردة في

ردّه، و قد أدرجها العلّامة المجلسي في «بحاره». «1»

و على هذا الرأي استقر رأي الإمامية، فقال المحقّق الطوسي: و تجب في النبي العصمة ليحصل الوثوق ... و عدم السهو.

و قال العلّامة الحلّي في شرحه: و ان لا يصح عليه السهو لئلّا يسهو عن بعض ما أُمر بتبليغه. «2»

و قال المحقّق الحلّي في «النافع»: و الحق رفع منصب الإمامة عن السهو في العبادة. «3»

و قال العلّامة في «المنتهى» في مسألة التكبير في سجدتي السهو: احتج المخالف بما رواه أبو هريرة عن النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-: قال: ثمّ كبّر و سجد.

و الجواب: هذا الحديث عندنا باطل، لاستحالة السهو على النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-.

و قال في مسألة أُخرى: قال الشيخ: و قول مالك باطل، لاستحالة السهو على النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-. «4»

__________________________________________________

(1). راجع البحار: 17/ 122- 129.

(2). كشف المراد: 195.

(3). النافع: 45.

(4). منتهى المطلب: 418- 419.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 304

و قال الشهيد في «الذكرى»: و خبر ذي اليدين متروك بين الإمامية، لقيام الدليل العقلي على عصمة النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- عن السهو، لم يصر إلى ذلك غير ابن بابويه. «1»

هذا هو الرأي السائد بين الإمامية، و لم يشذّ عنهم أحد من المتأخّرين سوى أمين الإسلام الطبرسي في «تفسيره» حيث قال: و أمّا النسيان و السهو فلم يُجوّزوهما عليهم فيما يؤدّونه عن اللَّه تعالى، و أمّا ما سواه فقد جوّزوا عليهم أن ينسوه أو يسهوا عنه ما لم يؤدّ ذلك إلى إخلال بالعقل. «2»

و أمّا غيره، فلم نجد من يوافقه، و من أراد التفصيل فليرجع إلى

المصادر المذكورة في الهامش.

و قد قام «3» العلّامة المجلسي بإيفاء حق المقام في «بحاره». «4»

* 2. كيفية معالجة المأثورات حول سهو النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-

روى الفريقان أحاديث حول سهو النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم-.

روى البخاري في كتاب الصلاة، باب «من يكبر في سجدتي السهو» عن أبي هريرة قال: صلّى النبي إحدى صلاتي العشية ...

ركعتين، فقالوا: أقصرت الصلاة؟ و رجل يدعوه النبي ذو اليدين، فقال: أنسيت الصلاة أم قصرت؟ فقال:

__________________________________________________

(1). الذكرى: 215.

(2). مجمع البيان: 2/ 317.

(3). حق اليقين في معرفة أُصول الدين: للسيد عبد اللَّه شبر: 1/ 124؛ مصابيح الأنوار في حل مشكلات الأخبار، له أيضاً: 2/ 134- 142؛ تنزيه الأنبياء للسيد المرتضى؛ منهج الصادقين: 3/ 393، و 5/ 346.

(4). لاحظ البحار: 17/ 97- 129.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 305

لم أنس و لم تقصر، قال: بلى قد نسيت. فصلى ركعتين ثمّ سلم، ثمّ كبّر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثمّ رفع رأسه فكبّر، ثمّ وضع رأسه فكبّر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثمّ رفع رأسه و كبّر. «1» هذا ما رواه أهل السنّة كما رووا غيره أيضاً.

أمّا الشيعة فقد رووا أحاديث حول الموضوع نقلها العلّامة المجلسي في «بحاره». «2» و لا يتجاوز مجموع ما ورد في هذا الموضوع عن اثني عشر حديثاً، كما أنّ أخبار نوم النبي- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- عن صلاة الصبح لا تتجاوز عن ستة أحاديث. «3»

لكن الجواب عن هذه الروايات بأحد أمرين:

الأوّل: ما ذكره المفيد في الرسالة المومأ إليها من أنّها أخبار آحاد لا تثمر علماً، و لا توجب عملًا، و من عمل على شي ء منها فعلى الظن يعتمد في عمله بها دون اليقين. «4»

الثاني: ما ذكره الصدوق من

التفريق بين سهو النبي و سهو الآخرين بما عرفت، و اللَّه العالم بالحقائق.

ثمّ الظاهر من السيد المرتضى، تجويز النسيان على الأنبياء حيث قال في تفسير قوله سبحانه: «لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ» «5»: إنّ النبي إنّما لا يجوز عليه النسيان فيما يؤدّيه عن اللَّه تعالى أو في شرعه أو في أمر يقتضي التنفير عنه، فأمّا فيما هو خارج عمّا ذكرناه، فلا مانع من النسيان. «6»

__________________________________________________

(1). صحيح البخاري: 2/ 68.

(2). راجع البحار: 17/ 97- 129.

(3). راجع البحار: 17/ 100- 106.

(4). البحار: 17/ 123.

(5). الكهف: 73.

(6). تنزيه الأنبياء: 87.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 306

و ممّن وافق الصدوق من المتأخّرين، شيخنا المجيز: الشيخ محمد تقي التستري، فقد ألّف رسالة في الموضوع نصر فيها الشيخ الصدوق و أُستاذه ابن الوليد، و طبعها في ملحقات الجزء الحادي عشر من رجاله «قاموس الرجال» و الرسالة تقع في 24 صفحة.

و أمّا العلّامة المجلسي، فالظاهر منه التوقّف في المسألة قال: اعلم أنّ هذه المسألة في غاية الإشكال، لدلالة كثير من الآيات (الآيات التي يُستظهر منها نسبة النسيان إلى بعض الأنبياء غير النبي الأكرم- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- و قد قدّمناها) و الأخبار على صدور السهو عنهم، و إطباق الأصحاب إلّا ما شذّ على عدم جواز السهو عليهم مع دلالة بعض الآيات و الأخبار عليه في الجملة و شهادة بعض الدلائل الكلامية و الأُصول المبرهنة عليه، مع ما عرفت في أخبار السهو من الخلل و الاضطراب و قبول الآيات للتأويل، و اللَّه يهدي إلى سواء السبيل. «1»

ثمّ إنّ الشيخ المفيد وصف القائل بصدور السهو منه- صلَّى اللَّه عليه و آله و سلَّم- من الشيعة

بالمقلّدة، و أراد: الصدوق و شيخه ابن الوليد.

و لكن التعبير عنهما بالمقلّدة غير مرضي عندنا، كيف؟! و يصف الأوّل الرجالي النقّاد النجاشي بقوله: أبو جعفر، شيخنا و فقيهنا، و وجه الطائفة بخراسان، و كان ورد بغداد سنة 355 ه، و سمع منه شيوخ الطائفة، و هو حدث السن. «2»

و يقول في حق شيخه: أبو جعفر، شيخ القمّيين، و فقيههم، و متقدّمهم، و وجههم، و يقال: إنّه نزيل قم، و ما كان أصله منها، ثقة، ثقة، عين مسكون إليه. «3»

__________________________________________________

(1). البحار: 17/ 118- 119.

(2). رجال النجاشي: 2/ 311 برقم 1050.

(3). رجال النجاشي: 2/ 301 برقم 1043.

عصمة الانبياء فى القرآن الكريم، ص: 307

و المحمل الصحيح لهذه التعابير ما أشار إليه شاعر الأهرام بقوله:

يشتد في سبب الخصومة لهجة و كذلك العلماء في أخلاقهم في الحق يختلفون إلّا أنّهم لكن يرق خليقة و طباعا يتباعدون و يلتقون سراعاً لا يبتغون إلى الحقوق ضياعاً اللّهم اغفر للماضين من علمائنا و احفظ الباقين منهم

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.