سلسلة النقد والتحقيق المجالس الفاخرة المجلد 2

اشارة

نام كتاب: سلسلة النقد والتحقيق

نويسنده: حسيني ميلاني، علي

موضوع: عقائد

زبان: عربي

تعداد جلد: 3

ناشر: الحقائق

مكان چاپ: قم

كلمة المركز … ص: 124

الحمد للَّه ربّ العالمين والصّلاة والسّلام علي محمّد وآله الطاهرين.

وبعد، فقد قرّر المركز تشكيل لجنةٍ تقوم- بإشراف وتوجيه من سيّدنا الفقيه المحقّق آية اللَّه السيد علي الميلاني- دام ظلّه- بنقد بعض البحوث المنتشرة من المعاصرين وتحقيق بعض الكتب التراثيّة الصغيرة في الحجم والكبيرة في الفائدة، في مختلف العلوم والمسائل الاسلاميّة، وإخراجها في سلسلة تحت عنوان (سلسلة النقد والتحقيق) خدمةً للعلم والدين، وإحقاقاً للحق المبين، وإحياءً لآثار العلماء المحقّقين، وتوفيراً للمصادر النافعة للباحثين، سائلين المولي الكريم المفضال أن يتقبّل منّا هذا العمل وسائر الأعمال.

مركز الحقائق الإسلامية

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 7

كلمة لجنة النقد والتحقيق … ص: 7

لا يخفي أن مسألة مأتم سيّدالشهداء أبي عبداللَّه الحسين عليه السّلام من المسائل الّتي اهتمّ بها العلماء من قديم الزّمان، والكتب المؤلَّفة في هذا الموضوع كثيرة جدّاً، ولعلّ من أحسنها ما جادت به يراعة المجتهد الأكبر آية اللَّه السيّد عبدالحسين شرف الدين العاملي رحمه اللَّه، في مقدّمة كتاب المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطّاهرة.

وقد قام المرحوم آية اللَّه السيّد نورالدين الميلاني رحمه اللَّه بطبع المقدّمة- بإذنٍ من السيّد المؤلّف- لتكون النشرة الأولي لمكتبة سيّدالشهداء الحسين عليه السّلام العامّة، الّتي أسّسها حينما كان بكربلاء المقدّسة، بمقدمةٍ وتعاليق مفيدة، في عام 1377 من الهجرة النبويّة.

وقد راجعنا الكتاب وحقّقناه وأضفنا إليه مصادر أخري من كتب

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 8

الفريقين، شاكرين العلّامة المحقق الشيخ نزار الحسن علي ما بذله من الجهد في تحقيق هذا الكتاب، وسائلين اللَّه تعالي التوفيق لرفد المكتبة الإسلاميّة بأمثاله من البحوث النافعة.

لجنة النقد والتحقيق

بمركز الحقائق الاسلاميّة

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 9

مقدمةآية اللَّه السيّد نورالدين الميلاني رحمه اللَّه «1» … ص: 9

أحمدك اللهم ولا حمد لسواك، ولا ثناء إلّاعليك والأمر لك، وإيّاك أعبد وإيّاك أستعين، والصلاة علي مَن صلّيت عليه، واللعنة علي مَن حلّت عليه لعنتك.

كان من صنع الباري جلّ وعلا- المتقن- أنْ أوجد في البشر غرائز ثمينة، أفضلها الإيمان بالواقع، والخضوع له عندما حصله، وقد يبذل أجلّ ما بيده في سبيله، ويتفادي دونه متي أدركه.

فمن الغريب جدّاً، جهل الإنسان نوعاً من الحقائق، وإنكاره بعض

__________________________________________________

(1) وهو والد آية اللَّه السيّد علي الميلاني. توفي سنة 1425 ودفن في قم بمقبرة شيخان.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 10

الواقعيات، أو خفاؤها عليه بعد ظهورها، ولذلك ورد في القرآن المجيد الأمر بالتدبر، والتعقل، والتفكر، والملامة علي عدم التدبر و …

ومن الغرائز المودعة في هذا الإنسان حبّه الاستطلاع، والخبرة في

التاريخ، ودرس موادّه والتعمق فيه، حتي لا يقتصر علي مفاهيمه فحسب، بل يسعي أن يدرك- بمعونة التحليل الفكري- المعارك والميادين، ليري مشاهد الأبطال، ويشهد حالة المظلومين، ومصير الظالمين وينظر إليهم كما لو كان حاضراً معهم، والسبب نفسه جعل الباحث يهمّه التفتيش عن مصارع الشهداء، والتطلّع علي ضحايا الإنسانية، وعلي ضوئه يعترف المنصف لهم ويواليهم مع الإكبار والتقديس لجهودهم، وقد «فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَي الْقاعِدينَ» «1»

ونحن إذ ننكر الكلية والإطراد في أغلب المواضيع، فلا محيص من الإقرار بها- حيث لا تقبل الاستثناء- في بعض الموارد.

فالقاعدة في إحترام الشهيد أو المظلوم مطردة عند العموم- متدينين أم غيرهم- والنصرة والترحم لهما، مبدأ يقول به إلّاالمعاند، والرأفة علي أهلهما وأيتامهما غير مستنكرة، إلّاعند المفرّط والعادل عن الحق.

__________________________________________________

(1) سورة النساء: الآية 95.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 11

وخلاصة القول: - إنّ أجمل ما يختاره الإنسان من أنواع احترام الشهيد والمظلوم، معاضدته ومناصرته، ولا أقل من الحزن والأسف عليهما، والإنكسار لهما، وأجلّ صفة يحملها الحنان علي ذويهما من قرابته ورحمه، وبالعواطف والأحاسيس يكرم الإنسان، وإلّا فهو «كَاْلأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبيلًا» «1».

فمن هنا تعقد المآتم علي الفقيد، وكلّما عزّ وخطر اتسعت واكتسبت أهميةً، وكلّما جلَّ المصاب وعظم، تمتد أيامه وتطول مدته.

أجل: جعل اللَّه هذه السُّنة المتبعة في خلقه، «وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْديلًا» «2»

، بل أنّ هذه الغريزة والخلق مما فطر اللَّه الناس عليها.

فعلي هذا الأساس، كانت الامم- في جميع الأعصار والأمصار علي اختلاف مبادئها وتنافر بعضها أحياناً- لم تزل مندفعةً عند مظلومية العترة الطاهرة صلوات اللَّه عليهم، إندفاعاً لا يمنعه التشكيك، وعنوا لمآتمهم- عليهم السلام جيلًا بعد جيل، عنايةً لا تعاكسها قوة في القرون الأولي والوسطي ، إلّازادتهم نفوراً من

تلك القوة، وثباتاً علي تلك المراسم، فيخدمونها من صميم القلب بشق الرؤوس وجرح الصدور، بل كادت أفئدتهم تنفطر علي مصابهم، لاسيما تجاه شهداء الطف

__________________________________________________

(1) سورة الفرقان: الآية 44.

(2) سورة الأحزاب: الآية 62.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 12

ومجزرة كربلاء (عاشر محرم سنة 61 الهجرية) وعقباتها في الكوفة والشام، ولاصلة دينية أو علقة إنتماء، أو رابطة اخري تجمع بين القائمين بمظاهر الأسي والدين والعقيدة.

إذاً، لا مجال للاستغراب مهما بلغنا مما يقوم به غير الشيعة- المسلمون ومنتحلوا الديانات الأخري - أو الهندوك والسيك، من التوجّع والتفجّع علي الحسين سبط رسول اللَّه صلي اللَّه عليه وآله وريحانته، والنفر الذين كرّموا بموقفهم الشهادة، وفازت بهم لمّا بذلوا مهجهم دون الحسين أرواحنا فداه.

وقد شاهدت قسماً من ذلك في رحلاتي من أرامنة تبريز- ايران- وسائر المذاهب والملل في الهند وباكستان، وسوريا ولبنان، والجموع المحتشدة والآلاف المزدحمة في يوم عاشوراء وغيره من الأيام باسم- يوم- الحسين وأسبوعه الفخم، وهم من كلّ أمّةٍ فوجاً، ووجدت الخطباء منهم والشعراء يتسابقون باحتفالهم بهذه الذكريات.

وحيث إني مختصر كلمتي هذه- من حرفها الأوّل- أحيل التفصيل إلي مجال آخر، ولعلّي أوفق- بعون اللَّه تعالي - لنشر شي ء من التضحيات بدنيةً، اقتصاديةً، زمنيةً والحركات الأدبية هناك.

وكلّ يعلم أنّ ما كتب ونشر باللغات- شرقيةً وغربية- عن أسرار شهادة الحسين وأسبابها ومآتمه عليه السّلام لكثير، والذي يدلُّ علي

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 13

مكانته في الأفئدة، وعظمته في النفوس، وهوايتها له، وأنّه الرجل العالمي الوحيد، وأنّه- عليه السّلام- يُجدّد دينَ جدّه- صلي اللَّه عليه وآله- كلّ يوم بل كلّ آن، وأنّه القائد الأعلي وحده للإنسانية وطلّابها إلي الأبد.

هذا، والذي بأيدينا هو سفر علمي جليل، وبحث فني جميل، قدّمه الزعيم سيد الطائفة ومرجعها الكبير، حامي المذهب

الإمامي، وحصن الدين الإسلامي، السيد عبد الحسين شرف الدين قدس اللَّه تربته لكتابه (المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة) عنينا بطبعه كنشرةٍ أُولي لمكتبة سيد الشهداء الحسين عليه السّلام العامّة- كربلاء المقدسة، تشريفاً لها، وتسديداً للحاجة المبرمة- من الباحثين والمختبرين والمفكرين- لمثله. وإليك عنه وعن مؤلفه العظيم، والكتاب والمكتبة مايلي موجزاً:

أما المقدمة:

يغنينا عن بيان أهميتها، اهتمام الأوساط العلمية والأدبية والفقهية لها، ويلمسُ القاري ء ذلك من فصولها، وقد أُخرجت للطبع سنة 1332 (أي قبل 46 عاماً) ردعاً لإنسان-؟!- بلغ به جهله بفلسفة شهادة الحسين وأسرار مآتمه عليه السّلام وبعده عما أثبته سلفه المحدّثون والمؤرخون، حدّ الاستنكار، ونسب الشيعة إلي البدعة لبكائهم ولطمهم

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 14

علي ريحانة نبيهم- صلي اللَّه عليه وآله- ولم يدرِ أنّ الأمر بعكس مرتآه، وأنّ الشيعة لم تنفرد بهذه المراسم، بل أنّها من الأمور الثابتة من الدين، ومعترف بها عند المسلمين.

ولقد أجاد سيدنا- شرف الدين- حيث استدلّ علي مشروعيّة المآتم من كتب الفريقين، لعلّ المعترض يهتدي ويندم علي ما فرّط.

نعم، مُنيت البلاد والأمة الأسلامية بعدد من الدجّالين والمأجورين من تاريخٍ بعيد، فهدموا قواعدها، وفرّقوا كلمتها، وشتتوا جمعها، فخدموا الأجانب- الطامعين- والمستفزين حتي أحرجوا موقف سيدنا شرف الدين وزملائه قدس اللَّه أسرارهم، فجعلوا يكابدون الآلام، ويتجرّعون الغصص، إلي أن يتمكنوا من سدّ ثغرٍ أو القضاء علي نعرةٍ من النعرات المختلفة ذات الألوان! والمنحدرة من الغرب المظلم.

هكذا أعلام الدين وهكذا شأن العلماء، فإنّهم- كما ورد في الحديث- ورثة الأنبياء، وعلماء أمّتي أفضل من أنبياء بني إسرائيل- دعاة كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة، يعملون في إزالة التخاصم والشقاق، ولم يألوا جهداً في سبيل تحرير العقيدة من شتي الوساوس، وحريصون علي تخليصها والأمة الاسلامية من دسائس

المدنية والحضارة المزيفة، والمتشكلة بشكل الدين، والمذهب، والحزب، والجمعيّة، وفق الميول

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 15

والأهواء والمناطق والأشخاص.

نبتهل إلي اللَّه تعالي قطع دابر الظالمين، ودفعهم بهمّة الرجال المخلصين، وقلعهم بأيدي الأبطال من أصحاب الشعور الحيّ المجردين من التقاليد العمياء والخاضعين للحق أينما وجدوه، وإليه المشتكي ولا حول ولا قوة إلّاباللَّه.

أما المؤلف:

فهو أشهر من أن يذكر، وأظهر من أي تعريف، وأكبر من أي معرِّف، وقد ملأ النفوس غبطةً وعظمة بمؤلفاته وآثاره وحركاته.

كان- رضوان اللَّه عليه- من أقطاب الأمة علماً وعملًا، تعوّل عليه في شدائدها، وتركن إليه في أمورها، وكان- قدس اللَّه تربته- مفيد وقته، ومرتضي عصره، والواقع إنّه المفيد والمرتضي طيلة أيامه المأسوف عليها.

عاش عزيز البلاد، عظيماً عند الخلق والخالق؛ لأدائه مطلوبهما والقيام بواجبهما، والجهاد في سبيلهما، ونضاله معانديهما، ومواقفه الجبارة ضد الكفرة والفسقة وأذنابهما غير مبال منهم، مهما بلغ به الأمر وكلّفه، حتي آخر ساعة من عمره الشريف …

والتفاصيل في مقدمة الطبعة الثانية والثالثة من كتابه: المراجعات.

بقلم أحد مشيخة الإسلام «1».

__________________________________________________

(1) سماحة آية اللَّه الشيخ مرتضي آل يس دام ظله الشريف- النجف الأشرف-.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 16

أمّا الكتاب:

فكان يقع في أربع مجلدات ضخمةٍ، تتضمن سيرة النبي وعترته- إلي قائمهم المهدي عجّل اللَّه فرجه- وحياتهم صلي اللَّه عليه وعليهم وبعض خطبهم، والذي جاء في المواعظ والأخلاق، وكان- كما عبّرلنا عنه السيد قدس سرّه- كتاباً اجتماعياً، سياسياً، عمرانياً، ومن أحسن ما كُتِبَ في الإمامة والسياسة.

وقد أعدّه- شرف الدين- للطبع بعد صدور (المقدمة)، ولكن شعلة الحرب العالمية الأولي (1914 م) وعلي أثرها الحركة الإسلامية ضد الاستعمار «1»، حالتا عن طبعه، بالرغم من حرصه الشديد لذلك، حتي أصبح هو ومؤلّفاته الأُخري - ما يقرب من ثلاثين مجلّداً مخطوطاً بقلمه

الشريف- طعمة حريق سلطة الاحتلال الفرنسي، حيث سلّطت النار علي دار- شرف الدين- في (شحور) و بعده احتلّت داره الكبري في (صور)، وأُبيحت للأيدي الأثيمة سلباً ونهباً.

وكان أوجع ما في هذه النكبة- المشتملة علي أنواع التعذيب والصدمات علي السيّد وأهله وصحبه- تحريق مكتبته المحتوية علي أنفس الكتب وذخائرها من كلّ نوع ولا سيما الخطية، وما كانت من

__________________________________________________

(1) الثورة العاملية علي الفرنسيين سنة 1920 م.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 17

ثمرات عمره الشريف وآثاره الثمينة «1».

أمّا النشر:

لهذا الكتاب، فإنا لمّا أسسنا المكتبة كتبنا إلي سماحة- شرف الدين- بعد عرض القصد من تأسيسها علي حضرته مايلي: -

فمن المناسب أن تكون نشرتها الأولي ما يتعلق بحياة من شرّفت المكتبة باسمه- الحسين عليه السّلام- لا سيما إذا كانت بقلم عبده (سيد الطائفة وزعيمها المفدّي حضرتكم) وأجابنا علي ذلك، ولكن المنيّة حالت دون المطلوب من سماحته. فاخترنا هذا السفر بل الكنز المرصود، وأعدنا طبعه معتزّين به والتوفيق الشامل بعناية اللَّه راجين ذلك لعدد كبير من الآثار نقبل تحديده، وليس علي اللَّه بمستنكر، وهو الموفق والمستعان.

__________________________________________________

(1) «لصوص شمعون تهاجم مدينة صور. تتنمّر في ظل الاحتلال الأميركي فتحرق الكلية الجعفرية. وتدمّر دار مؤسسها المرحوم الإمام شرف الدين».

تجد هذه النصوص والتفصيل في ص 3- 14/ 8/ 1958 من- يقظتنا- اليومية البغداية.

ثم فكر في القول المأثور: (الكفر ملة واحدة)، وتمسك بالقرآن وأهله واترك هواية غيرهم ولا تنخدع بغواية التمدن والحضارة (؟!) المزعومة والمحشوة من ألوان السموم بأيدي الاستعمار والاستعباد.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 18

أمّا المكتبة:

فإنها أُسست لغرض خدمة المجتمع ورفع مستوي كربلاء الثقافي، وتسديد عوز الواردين- من أقطار الدنيا- لهذه المدينة المقدسة، فهي علي مكانتها العالمية المرموقة، كانت فاقدة لنظيرها والتي جمعت ما يقرب من

ثلاثة آلاف مؤلفاً- في زمن قصير- علي بضع لغات- شرقيةً وغربيةً- في شتي العلوم والفنون، القديمة والحديثة.

وقد نشرنا- بدأ التأسيس- عنها في الصحف داخل العراق وخارجه، وأرسلنا- بالبريد- بلاغاً إلي حضرات مَن عرفنا عنوانهم في أقاليم مختلفةٍ ندعوهم للمساهمة والمعونة في تنمية هذه الخيرية الحسينية …

فجزي اللَّه الذوات الكرام، وأصحاب الغيرة والإيمان، وحملة النفوس الطيّبة المساهمين في هذا المشروع الحيوي المقدس- الذي هو من نوع الباقيات الصالحات- والمتبرعين، والمناصرين، وزملائي المحترمين- أعضاء الهيئة المؤسسة والتولية والمال والإدارة- خير جزاء المحسنين، وجعلهم «مَثَلُ الَّذينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في سَبيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ في كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَليمٌ» «1»

و أثابهم بكرمه في الدنيا والآخرة.

__________________________________________________

(1) سورة البقرة: الآية 261.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 19

وسوف ننشر- لأول فرصةٍ ماليةٍ- أسماءهم الكريمة ونطلعهم علي التفاصيل والمعلومات الكافية، في البيان الصادر عن المكتبة منذ كانت فكرةً محضةً، ثم الخطوة الاولي ، وتقدّمها حتي رقيّها المنتظر بهممهم الجبارة، كما أننا لاننساهم في صالح دعواتنا بعد كلّ صلاة وتحت قبة سيد الشهداء الحسين- عليه السّلام- أرواحنا له الفداء وسائر الأحوال، والسلام عليهم وعلي مَن بلغه هذا ورحمة اللَّه وبركاته من:

نجل سماحة المجتهد الكبير آية اللَّه الحاج السيد محمّد هادي الميلاني «دام ظله الشريف».

نور الدين الحسيني الميلاني

كربلاء في 11 صفر سنة 1378

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 23

مقدّمة: المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة … ص: 23

اشارة

وفيها خمسة مطالب

كلمة المؤلّف … ص: 23

الحمد للَّه علي جميل بلائه، وجليل عزائه، والصلاة والسلام علي أُسوة أنبيائه، وعلي الأئمة المظلومين من أوصيائه، ورحمة اللَّه وبركاته.

أما بعد، فهذا كتاب (المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة) «1»

وضعته تقرّباً إليهم في الدنيا، وتوسلًا بهم في الآخرة، سائلًا من اللَّه سبحانه أن يكون خالصاً لوجهه الكريم، إنّه الرؤوف الرحيم.

الأصل العملي «2» يقتضي إباحة البكآء علي مطلق الموتي ورثائهم

__________________________________________________

(1) راجع المقدمة بقلم السيد نور الدين الميلاني.

(2) يقصد أن الحكم الشرعي في مرحلة العمل، هكذا يقتضي … وذلك استناداً إلي قولهم أنّ الأصل في الأشياء الاباحة، وقد ذهب إليه علماؤنا- أهل الحق والتحقيق- رضوان اللَّه عليهم، واستدلوا عليه عقلًا بقبح العقاب والملامة فيما لم يمنعه الدين، ولم يرد فيه من الشرع نهي عنه أو تحريم. ونقلًا بقوله تعالي : «وَما كُنَّا مُعَذِّبينَ حَتَّي نَبْعَثَ رَسُولًا» سورة الإسراء: الآية 15 وغيرها من الآيات … (الميلاني).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 24

بالقريض، وتلاوة مناقبهم ومصائبهم، والجلوس حزناً عليهم والإنفاق عنهم في وجوه البر، ولا دليل علي خلاف هذا الأصل، بل السيرة القطعية «1» والأدلّة اللّفظية حاكمان بمقتضاه، بل يستفاد من بعضها استحباب هذه الأمور، إذا كان الميت من أهل المزايا الفاضلة، والآثار النافعة، وفقاً لقواعد المدنية وعملًا بأصول العمران؛ لأنّ تمييز المصلحين يكون سبباً في تنشيط أمثالهم، وأداء حقوقهم يكون داعياً إلي كثرة الناسجين علي منوالهم.

__________________________________________________

(1)

السيرة: معناها الأمر المتداول عند عموم المسلمين، وهي بذاتها قد تفي عندالاستدلال لجواز الاقدام علي أمر مجهول الحكم وربما يدرك بها الواقع أيضاً ولكن لا تتم إلّابقيود أهمها:

الأول- أن يكون العاملون به (الأمر الذي نريده ولم نعلم حكمه) متدينين وقد أتوا به باسم الدين لا كسائر العادات محلية أو عائلية.

الثاني- أن لا يكون

المطلوب أمراً مستحدثاً بل كان عليه الماضون خلفاً عن السلف الصالح، وينتهي إلي زمان المعصومين- صلي اللَّه عليهم أجمعين-.

الثالث- لا وزن للسيرة إذا لم يحصل لنا القطع بإذن الشارع أو عدم ردعه عنها (الميلاني).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 25

وتلاوة أخبارهم ترشد العاملين إلي اقتفاء آثارهم «1» وهنا مطالب.

__________________________________________________

(1) ما أفصح كلامك وأبلغه- يا شرف الدين- فقد أتيت بالواقع الملموس وقلتَ حقاً ونطقتَ صدقاً، فإنّ الأمم سائرون علي هذا النهج ووجدناهم في رحلاتنا إلي الهند وباكستان، وسوريا ولبنان يحتفلون باسم رجالاتهم، معتزّين بسلفهم، ويعتنون بذكريات أبرارهم من حركةٍ أو عمل ويسعون في نشر ذلك والحث علي تبعية أولئك غير مبالين (مهما كلّفهم) بصرف الأموال الضخمة روماً للغاية التي نوّه عنها قدس اللَّه تربته. (الميلاني).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 29

المطلب الأول في البكاء … ص: 29

في البكاء … ص: 29

ولنا علي ما اخترناه فيه- مضافاً إلي السيرة القطعيّة- فعل النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم وقوله وتقريره.

أمّا الأوّل، فإنّه متواتر عنه في موارد عديدة:

منها: يوم أُحد، إذ علم الناس كافة بكائه يومئذٍ علي عمّه أسد اللَّه وأسد رسوله، حتي قال ابن عبدالبر في ترجمة حمزة من استيعابه: «1» لما رأي النبي (صلّي اللَّه عليه وآله) حمزة قتيلًا بكي، فلما رأي ما مثّل به شهق.

وذكر الواقدي- كما في أوائل الجزء الخامس عشر من شرح نهج البلاغة «2» للعلامة المعتزلي- إن النبي (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) كان

__________________________________________________

(1) في أواخر الصفحة 378 من المجلد الثالث، طبع مصر. (المؤلف).

(2) قد اشتمل هذا الحديث علي فعل النبي صلّي اللَّه عليه وآله وتقريره، فهو حجة من جهتين، علي أنّ بكاء سيدة النساء- عليها السلام- كاف كما لا يخفي . (المؤلّف).

يقصد أنّ فعل فاطمة عليها السلام يكفي للاستدلال، وهو حجة في مثل هذا المقام،

إذ أنّها معصومة عندنا، وقد أثبت علماؤنا- قدس اللَّه سرهم- ذلك من الأحاديث الصحيحة والمتواترة، ويؤيده صريح آيتي المباهلة والتطهير.

ولا يخفي علي الباحث ما في كتب التفسير، الحديث، التاريخ، السير، التراجم في هذا الشأن، مما يدل علي عظمة البتول فاطمة بضعة رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليهما) ولن يفوته ما في الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء المطبوع مع الفصول المهمة في تأليف الامة، وكلاهما لسيدنا شرف الدين. (الميلاني).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 30

يومئذٍ إذا بكت صفيّة يبكي وإذا نشجت ينشج قال: «وجعلت فاطمة تبكي، فلمّا بكت بكي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله» «1».

ومنها: يوم نعي زيداً، وذا الجناحين، وابن رواحة، فيما أخرجه البخاري في الصفحة الثالثة من أبواب الجنائز من صحيحه «2».

وذكر ابن عبدالبرّ في ترجمة زيد من إستيعابه: «إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بكي علي جعفر وزيد» وقال: «أخواي ومؤنساي ومحدّثاي» «3».

ومنها: يوم مات ولده إبراهيم، إذ بكي عليه، فقال له عبدالرحمن بن عوف (كما في الصفحة 148، من الجزء الأوّل من

__________________________________________________

(1) شرح نهج البلاغة؛ للمعتزلي 15/ 17، دار إحياء الكتب العربية.

(2) صحيح البخاري 4/ 218، ط بيروت، دار الفكر، سنة 1401.

(3) الإستيعاب في معرفة الأصحاب 2/ 546.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 31

صحيح البخاري): «وأنت يا رسول اللَّه؟!».

قال: يابن عوف إنّها رحمة «1» ثم أتبعها (يعني عبرته) باخري.

فقال:

«إنّ العينَ تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول «2» إلّاما يُرضي ربّنا، وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» «3».

ومنها: يوم ماتت احدي بناته (صلّي اللَّه عليه وآله) إذ جلس علي قبرها (كما في صفحة 146 من الجزء الأول من صحيح البخاري) وعيناه تدمعان.

ومنها: يوم مات صبي لاحدي بناته إذ فاضت عيناه يومئذ (كما في الصحيحين «4» وغيرهما)

فقال له سعد: «ما هذا يا رسول اللَّه؟» قال:

«هذه رحمة جعلها اللَّه في قلوب عباده، وإنّما يرحم اللَّه من عباده

__________________________________________________

(1) لا يخفي ما في تسميتها رحمة من الدلالة علي حسن البكاء في مثل المقام.

(2) أراد بهذا أنّ الملامة والإثم في المقام إنّما يكونان بالقول الذي يسخط الربّ (عزّوعلا)، كالاعتراض عليه والسخط لقضائه لا بمجرّد دمع العين وحزن القلب. (المؤلّف).

(3) صحيح البخاري 2/ 85، ط دار الفكر، بيروت.

(4) أنظر: الصفحة 146 من الجزء الأول من صحيح البخاري وباب البكاء علي الميت من صحيح مسلم. وفي الطبعات الحديثة، البخاري 8/ 165 و 7/ 224 و 2/ 80 دار الفكر، وصحيح مسلم 3/ 39، دار الفكر بيروت.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 32

الرحماء» «1».

ومنها: ما أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين، عن ابن عمر قال: «اشتكي سعد فعاده رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) مع جماعة من أصحابه فوجده في غشية فبكي (قال): «فلمّا رأي القوم بكاءه بكوا. الحديث» «2».

والأخبار في ذلك لا تُحصي ولا تستقصي.

وأمّا قوله وتقريره، فمستفيضان ومواردهما كثيرة:

فمنها: ما ذكره ابن عبدالبر في ترجمة جعفر من استيعابه قال: «لمّا جاء النبي (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) نعي جعفر «3»، أتي امرأته أسماء بنت عميس فعزّاها قال: ودخلت فاطمة وهي تبكي وتقول: «واعمّاه»، فقال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله:

__________________________________________________

(1) دلالة قوله: (وإنما يرحم اللَّه من عباده الرحماء) علي استحباب البكاء في غاية الوضوح كما لا يخفي. (المؤلّف).

(2) أنظر: في باب البكاء عند المريض من صحيح البخاري 2/ 85، وفي باب البكاء علي الميت من صحيح مسلم، 3/ 40. ولا يخفي اشتماله علي كلٍّ من فعل النبي (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) وتقريره فهو حجة من جهتين.

(3)

هذا الحديث مشتمل علي تقريره (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) علي البكاء، وأمره به علي أنّ مجرد صدوره من سيدة النساء (عليها السلام) حجة كما لا يخفي. (المؤلف).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 33

«علي مثل جعفر فلتبك «1» البواكي «2»».

ومنها: ما ذكره ابن جرير، وابن الأثير، وصاحب العقد الفريد وجميع أهل السير، وأخرجه الإمام أحمد بن حنبل من حديث ابن عمر في صفحة 40 من الجزء الثاني من مسنده قال: «رجع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله من أُحُد، فجعلت نساء الأنصار يبكين علي مَن قُتل من أزواجهنّ، فقال رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم):

«ولكن حمزة لا بواكي له».

(قال): ثم نام فاستنبه وهنّ يبكين».

(قال): «فهنّ اليوم إذا بكين يندبن بحمزة» «3».

وفي ترجمة حمزة من الاستيعاب «4» نقلًا عن الواقدي قال: «لم تبكِ امرأة من الأنصار علي ميّت بعد قول رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله) «لكن حمزة لا بواكي له» إلي اليوم إلّابدأن بالبكاء علي حمزة».

__________________________________________________

(1) هذا أمر منه (صلّي اللَّه عليه وآله) بالبكاء ندباً علي أمثال جعفر من رجال الأمّة وحسبك به حجة علي الإستحباب. (المؤلف).

(2) الإستيعاب في معرفة الأصحاب 1/ 243.

(3) مسند أحمد 2/ 40، ط بيروت، دار صادر، والمعجم الكبير للطبراني 11/ 210، وكنز العمّال 13/ 335، ح 36945، أُسد الغابة 2/ 48، وتاريخ الطبري 2/ 210، دار الفكر.

(4) للفقيه الحافظ المحدث- ابن عبدالبر القرطبي المتوفي سنة 463. (الميلاني)

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 34

وحسبك تلك السيرة في رجحان البكاء علي من هو كحمزة وإنْ بعد العهد بموته.

ولا تنس ما في قوله صلّي اللَّه عليه وآله: «لكن حمزة لا بواكي له» من البعث علي البكاء والملامة لهنّ علي تركه، وحسبك به وبقوله «علي مثل

جعفر فلتبك البواكي» دليلًا علي الإستحباب.

وأخرج الإمام أحمد من حديث ابن عباس في صفحة 335 من الجزء الأوّل من مسنده من جملة حديث ذكر فيه موت رقية بنت رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) وبكاء النساء عليها قال: «فجعل عمر يضربهن بسوطه» فقال النبي صلّي اللَّه عليه وآله: «دعهن يبكين».

ثم قال:

«مهما يكن من القلب والعين فمن اللَّه والرحمة». وقعد علي شفير القبر وفاطمة إلي جنبه تبكي».

قال: «فجعل النبي (صلّي اللَّه عليه وآله) يمسح عين فاطمة بثوبه رحمة لها «1».

وأخرج أحمد أيضاً من حديث أبي هريرة حديثاً جاء فيه أنّه: مرّ علي رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله) جنازة معها بواكي فنهرهنّ عمر.

__________________________________________________

(1) مسند أحمد بن حنبل 1/ 335، ط دار صادر.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 35

فقال له رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله:

«دعهنّ، فإنّ النفس مصابة والعين دامعة» «1».

إلي غير ذلك مما لا يسعنا استيفاؤه.

وقد بكي يعقوب إذ غيّب اللَّه ولده «وَقالَ يا أَسَفي عَلي يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظيمٌ» «2»

حتي قيل: - كما في تفسير هذه الآية من الكشاف «3» - ما جفّت عيناه من وقت فراق يوسف إلي حين لقائه ثمانين عاماً، وما علي وجه الأرض أكرم علي اللَّه منه.

وعن رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) كما في تفسير هذه الآية من الكشاف أيضاً: أنّه سُئل جبرئيل (عليه السّلام) ما بلغ وجدُ يعقوب علي يوسف قال:

«وجد سبعين ثكلي قال: فما كان له من الأجر؟ قال: أجر مأة شهيد «4»، وماساء ظنه باللَّه قط» «5».

قلت: أي عاقل يرغب عن مذهبنا في البكاء بعد ثبوته عن الأنبياء

__________________________________________________

(1) مسند أحمد 2/ 333.

(2) سورة يوسف: الآية 84.

(3) الكشّاف 2/ 339.

(4) هذا كالصريح في

استحباب البكاء إذ ليس المستحب إلّاما يترتب الثواب علي فعله كما هو واضح. (المؤلف).

(5) الكشّاف 2/ 339.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 36

«وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهيمَ إِلّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ» «1».

وأمّا ما جاء في الصحيحين من أنّ (الميت يعذب لبكاء أهله عليه)، وفي رواية: (ببعض بكاء أهله عليه)، وفي رواية: (ببكاء الحي)، وفي رواية: (يعذّب في قبره بما نيح عليه)، وفي رواية: (من يبك عليه يعذب) «2».

فإنّه خطأ من الراوي، بحكم العقل والنقل.

قال الفاضل النووي: هذه الروايات كلّها من رواية عمر بن الخطاب وابنه عبداللَّه. قال: وأنكرت عائشة عليهما ونسبتهما إلي النسيان والاشتباه واحتجّت بقوله تعالي «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْري » الخ … «3».

قلت: وأنكر هذه الروايات أيضاً عبداللَّه بن عبّاس، واحتجّ علي خطأ راويها، والتفصيل في الصحيحين وشروحهما، وما زالت عائشة

__________________________________________________

(1) سورة البقرة: الآية 130.

(2) صحيح البخاري 2/ 83، 5/ 9، صحيح مسلم 3/ 41 وسنن ابن ماجة 1/ 508.

(3) عند ذكر هذه الروايات في باب الميت يُعذّب ببكاء أهله عليه من شرح صحيح مسلم، 6/ 228، ط دار الكتاب العربي، سنة 1407، وأنظر: مقدمة (العقد الثمين) للشوكاني المتوفي 1250.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 37

وعمر في هذه المسألة علي طرفي نقيض، حتّي أخرج الطبري «1» في حوادث سنة 13 من تاريخه بالإسناد إلي سعيد بن المسيب قال: «لما توفي أبو بكر أقامت عليه عائشة النوح، فأقبل عمر بن الخطاب حتي قام ببابها، فنهاهن عن البكاء علي أبي بكر، فأبين أن ينتهين، فقال عمر لهشام بن الوليد: ادخل فأخرج إليّ ابنة أبي قحافة. فقالت عائشة لهشام حين سمعت ذلك من عمر: «إني أحرج عليك بيتي»، فقال عمر لهشام:

«أدخل فقد أذنتُ لك»، فدخل هشام وأخرج أم

فروة أخت أبي بكر إلي عمر، فعلاها بالدرة، فضربها ضربات، فتفرق النوّح حين سمعوا ذلك».

قلت: كأنّه لم يعلم تقرير النبي نسآء الأنصار علي البكاء علي موتاهن، ولم يبلغه قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: (لكن حمزة لا بواكي له)، وقوله: (علي مثل جعفر فلتبكِ البواكي) وقوله: (وإنما يرحم اللَّه من عباده الرحمآء).

ولعلّه نسي نهي النبي صلّي اللَّه عليه وآله إيّاه عن ضرب البواكي يوم ماتت رقيّة بنت رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم)، ونسي نهيه إيّاه عن انتهارهن في مقام آخر مرّ عليك آنفاً.

ثم إذا كان البكاء علي الميت حراماً، فلماذا أباح لنساء بني مخزوم

__________________________________________________

(1) تاريخ الطبري: ذكر وفاة أبي بكر، 2/ 614، ط بيروت الأعلمي.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 38

أن يبكين علي خالد بن الوليد؟ «1» حتي ذكر محمّد بن سلام- كما في ترجمة خالد من الاستيعاب «2» -: «إنّه لم تبقَ امرأة من بني المغيرة إلّا وضعت لمّتها- أي حلقت رأسها- علي قبر خالد» وهذا حرام بلا إرتياب واللَّه أعلم.

__________________________________________________

(1)

وبكي هو علي النعمان بن مقرن واضعاً يده علي رأسه، كما نص عليه ابن عبدالبر في ترجمة النعمان من إستيعابه 4/ 1506 وفي أوائل الجزء الثاني من العقد الفريد قال: ولما نُعي النعمان بن مقرن إلي عمر بن الخطاب وضع يده علي رأسه وصاح يا أسفاه علي النعمان.. و بكاؤه علي أخيه زيد معلوم بالتواتر.

(2) الإستيعاب في معرفة الأصحاب 2/ 431.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 41

المطلب الثاني: في رثاء الميّت بالقريض … ص: 41

في رثاء الميّت … ص: 41

ويظهر من القسطلاني في شرح البخاري «1»: إنّ الجماعة يفصّلون القول فيه، فيحرّمون ما اشتمل منه علي مدح الميّت وذكر محاسنه الباعث علي تحريك الحزن وتهييج اللّوعة، ويبيحون ما عدا ذلك.

والحق إباحته مطلقاً، إذ لا دليل هنا يعدل

بنا عن مقتضي الأصل، والنواهي التي يزعمونها إنّما يستفاد منها الكراهة في موارد مخصوصة، علي أنّها غير صحيحة بلا ارتياب.

وقد رثي آدم (عليه السّلام) ولده هابيل «2»، واستمرّت علي ذلك ذريّته إلي يومنا هذا بلا نكير.

__________________________________________________

(1)

أنظر: باب رثاء النبي (صلّي اللَّه عليه وآله) سعد بن خولي ص 298 ج 3 من إرشادالساري للقسطلاني. (المؤلف).

(2) فيما روي وقد ضعف.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 42

وأقرّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أصحابه عليه مع إكثارهم من تهييج الحزن به، وتفننهم بمدائح الموتي فيه، وتلك مراثيهم منتشرة في كتب الأخبار، فراجع من الإستيعاب- إن أردت بعضها- أحوال سيدالشهداء حمزة، وعثمان بن مظعون، وسعد بن معاذ، وشماس بن عثمان بن الشريد، والوليد بن الوليد بن المغيرة، وأبي خراش الهذلي، وأياس بن البكير الليثي، وعاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وغيرهم.

ولاحظ من الإصابة أحوال ذي الجناحين جعفر بن أبي طالب، وأبي زيد الطائي، وأبي منان بن حريث المخزومي، والأشهب بن رميلة الدارمي، وزينب بنت العوام، وعبداللَّه بن عبد المدان الحارثي، وجماعة آخرين لا تحضرني أسماؤهم.

ودونك كتاب الدرّة في التعازي والمراثي، وهو في أول الجزء الثاني من العقد الفريد، تجد فيه من مراثي الصحابة ومن بعدهم شيئاً كثيراً.

وليس شي ء مما أشرنا إليه إلّاوقد اشتمل علي ما يهيّج الحزن، ويجدد اللّوعة بمدح الميت وذكر محاسنه.

ولمّا توفي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم تنافست فضلاء الصحابة في رثائه، فرثته سيدة نسآء العالمين (عليها السلام) بأبيات

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 43

تُهيّج الأحزان، ذكر القسطلاني «1» في إرشاد الساري بيتين منها وهما قولها عليها السلام:

ماذا علي مَن شمَّ تربة أحمد أن لا يشمَّ مدي الزمان غواليا

صُبَّت عليَّ مصائب لو أنها صُبَّت علي

الأيام صرن لياليا

ورثته أيضاً بأبيات تثير لواعج الأشجان، ذكر ابن عبدربه المالكي بيتين منها في أوائل الجزء الثاني من العقد الفريد وهما:

إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها وغاب مذ غبتَ عنّا الوحيُّ والكتبُ

فليت قبلك كان الموت صادفنا لما نعيت وحالت دونك الكثب

ورثته عمّته صفيّة بقصيدة يائية، ذكر ابن عبدالبر في أحوال النبي (صلّي اللَّه عليه وآله) من استيعابه «2» جملة منها.

ورثاه أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب بقصيدة لاميّة، ذكر بعضها صاحبا الاستيعاب والإصابة «3» في ترجمة أبي سفيان المذكور.

ورثاه أبو ذويب الهذلي- كما يعلم من ترجمته في الإستيعاب

__________________________________________________

(1) إرشاد الساري 3/ 318، باب رثاء النبي (صلي اللَّه عليه وآله) سعد بن خولي.

(2) الإستيعاب 1/ 49.

(3) المصدر 4/ 1675، الإصابة 7/ 366، رقم 10689.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 44

والإصابة «1» - بقصيدة حائية.

ورثاه أبو الهيثم بن التيهان بقصيدةٍ دالية، أشار إليها ابن حجر في ترجمة أبي الهيثم من إصابته «2».

ورثته أم رعلة القشيرية بقصيدة رائية، أشار إليها العسقلاني في ترجمة أم رعلة من إصابته «3».

ورثاه عامر بن الطفيل بن الحرث الأزدي بقصيدةٍ جيمية، أشار إليها ابن حجر في ترجمة عامر من الإصابة «4».

ومَن استوعب الإستيعاب، وتصفّح الإصابة واسد الغابة، ومارس كتب الأخبار، يجد من مراثيهم المشتملة علي تهييج الحزن بذكر محاسن الموتي شيئاً يتجاوز حدّ الأحصاء.

وقد أكثرت الخنساء- وهي صحابيّة- من رثاء أخويها صخر ومعاوية وهما كافران، وأبدعت في مدائح صخر، وأهاجت عليه لواعج الحزن فما أنكر عليها منكر.

وأكثر أيضاً متمم بن نويرة من تهييج الحزن علي أخيه مالك في

__________________________________________________

(1) الإستيعاب 4/ 1650، الإصابة 7/ 111.

(2) الإصابة 7/ 366.

(3) المصدر 3/ 473.

(4) المصدر 8/ 390.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 45

مراثيه السائرة، حتي وقف مرة في المسجد

وهو غاص بالصحابة أمام أبي بكر بعد صلاة الصبح واتكأ علي سية قوسه فأنشد:

نعم القتيلُ إذا الرياح تناوحت خلف البيوت قُتِلَت يا ابن الأزور

ثم أومأ إلي أبي بكر- كما في ترجمة وثيمة بن موسي بن الفرات من وفيات ابن خلكان «1» - فقال مخاطباً له:

أدعوته باللَّه ثم غدرته لو هو دعاك بذمّة لم يغدر

فقال أبو بكر: «واللَّه ما دعوته ولا غدرته» ثم قال:

ولنعم حشو الدرع كان وحاسراً ولنعم مأوي الطارق المتنور

لا يمسك الفحشاء تحت ثيابه حلو شمائله عفيف المأزر

وبكي حتي انحط عن سية قوسه، قالوا: «فمازال يبكي حتي دمعت عينه العوراء» فما أنكر عليه في بكائه ولا في رثائه منكر، بل قال له عمر:

- كما في ترجمة وثيمة من الوفيات «2» - «لوددت أنّك رثيت زيداً أخي بمثل ما رثيت به مالكاً أخاك» فرثي متمم بعدها زيد بن الخطاب فما أجاد، فقال له عمر: «لما لم ترث زيداً كما رثيت مالكاً» فقال: «إنّه واللَّه

__________________________________________________

(1) وفيات الأعيان 6/ 16.

(2) المصدر.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 46

ليحرّكني لمالك ما لا يحركني لزيد».

واستحسن الصحابة ومَن تأخر عنهم مراثيه في مالك وكانوا يتمثّلون بها، كما اتفق ذلك من عائشة إذ وقفت علي قبر أخيها عبد الرحمن- كما في ترجمته من الإستيعاب «1» - فبكت عليه وتمثّلت:

وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتي قيل لن يتصدّعا

فلمّا تفرّقنا كأني ومالكاً لطول اجتماع لم نبت ليلةً معا

وما زال الرثاء فاشياً بين المسلمين وغيرهم في كلِّ عصر ومصر لا يتناكرونه مطلقاً.

__________________________________________________

(1) الإستيعاب 2/ 826 و 4/ 1638.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 49

المطلب الثالث: تلاوة الأحاديث المشتملة علي مناقب الميت ومصائبه … ص: 49

تلاوة الأحاديث المشتملة علي مناقب الميت ومصائبه … ص: 49

كما كانت عليه سيرة السلف.

وفعلته عائشة، إذ وقفت علي قبر أبيها باكية. فقالت: كنتَ للدنيا مذلّاً بإدبارك عنها، وكنت للآخرة معزّاً بإقبالك

عليها، وكان أجلّ الحوادث بعد رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) رزؤك، وأعظم المصائب بعده فقدك.

وفعله محمّد بن الحنفية، إذ وقف علي قبر أخيه المجتبي عليه السّلام فخنقته العبرة- كما في أوائل الجزء من العقد الفريد «1» - ثم نطق فقال:

«يرحمك اللَّه أبا محمّد، فإنْ عزّت حياتك فقد هدّت وفاتك، ولنعم الروح روح ضمّه بدنك، ولنعم البدن بدن ضمّه كفنك، وكيف

__________________________________________________

(1) العقد الفريد 2/ 37.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 50

لا تكون كذلك؟ وأنت بقية ولد الأنبياء، وسليل الهدي ، وخامس أصحاب الكساء، غذّتك أكف الحق، وربيت في حجر الإسلام، فطبت حياً وطبت ميتاً، وإن كانت أنفسنا غير طيبة بفراقك، ولا شاكة في الخيار لك».

ثم بكي بكاءاً شديداً وبكي الحاضرون حتي علا نشيجهم.

ووقف أميرالمؤمنين عليه السّلام علي قبر خباب بن الأرت في ظهر الكوفة، وهو أول مَن دفن هناك- كما نص عليه ابن الأثير في آخر تتمة صفين- فقال:

«رحم اللَّه خباباً، لقد أسلم راغباً، وجاهد «1» طائعاً، وعاش مجاهداً، وابتُلي في جسمه أحوالًا، ولن يضيّع اللَّه أجرَ من أحسن عملًا» «2».

ولما توفّي أمير المؤمنين عليه السّلام، قام الخلف من بعده أبو محمّد الحسن الزكي عليه السلام خطيباً فقال: - كما في حوادث سنة 40 من تاريخ ابن جرير وابن الأثير وغيرهما-.

«لقد قتلتم الليلة رجلًا، واللَّه، ما سبقه أحد كان قبله ولا يدركه أحد يكون بعده، واللَّه إن كان رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله) ليبعثه

__________________________________________________

(1) في المصدر: (هاجر).

(2) الكامل؛ لابن الأثير 3/ 198، حوادث سنة 37، ط بيروت دار الكتب العلمية.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 51

في السرية وجبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، واللَّه ما ترك صفراء ولا بيضاء … الخ» «1».

ووقف الإمام زين العابدين عليه

السّلام علي قبر جدّه أمير المؤمنين عليه السّلام فقال:

«أشهد أنك جاهدت في اللَّه حق جهاده، وعملت بكتابه، و اتبعت سنن نبيه (صلّي اللَّه عليه وآله) حتي دعاك اللَّه إلي جواره فقبضك إليه باختياره، لك كريم ثوابه، وألزم أعداءك الحجة مع مالك من الحجج البالغة علي جميع خلقه» «2».

وعن أنس بن مالك- كما في العقد الفريد وغيره- قال: لما فرغنا من دفن رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) بكت فاطمة ونادت:

«يا أبتاه أجاب ربّاً دعاه، يا أبتاه مَن ربّه ما أدناه، يا أبتاه إلي جبرائيل ننعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه» «3».

__________________________________________________

(1) تاريخ الطبري 4/ 121، حوادث سنة 40، ط بيروت الأعلمي، البداية والنهاية 7/ 368، ط دار إحياء التراث العربي، الإمامة والسياسة 1/ 140، ط القاهرة 1413.

(2) كامل الزيارات: 92 و 93، باب زيارة قبر أمير المؤمنين عليه السلام وكيف يزار والدعاء عند ذلك.

(3) المجموع؛ للنووي 5/ 308، ط دار الفكر، والبخاري 5/ 144، ط دار الفكر عام 1401، والمستدرك؛ للحاكم النيسابوري 1/ 382 ط بيروت دار المعرفة عام 1406، والسنن الكبري للبيهقي 4/ 71 ط دارالفكر.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 52

ولو أردنا أن نستوفي ما كان من هذا القبيل، لخرجنا عن الغرض المقصود.

وحاصله: أنّ تأبين الموتي من أهل الآثار النافعة بنشر مناقبهم وذكر مصائبهم، مما حكم بحسنه العقل والنقل، واستمرّت عليه سيرة السلف والخلف، وأوجبته قواعد المدنية، واقتضته أصول الترقي في المعارف، إذ به تُحفظ الآثار النافعة، وبالتنافس فيه تعرج الخطباء إلي أوج البلاغة، والقول بتحريمه يستلزم تحريم قراءة التاريخ، وعلم الرجال، بل يستوجب المنع من تلاوة الكتاب والسنة؛ لاشتمالهما علي جملة من مناقب الأنبياء ومصائبهم، ومَن يرضي لنفسه هذا الحمق، أو يختار

لها هذا العمي؟ نعوذ باللَّه من سفه الجاهلين.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 55

المطلب الرابع: في الجلوس حزناً علي الموتي … ص: 55

في الجلوس حزناً علي الموتي … ص: 55

من أهل الحفائظ والأيادي المشكورة.

وحسبك في رجحان ذلك: ما تواتر عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم من الحزن الشديد علي عمّه أبي طالب وزوجته الصدّيقة الكبري أم المؤمنين عليهما السلام، وقد ماتا في عام واحد فسمّي عام الحزن، وهذا معلوم بالضرورة من أخبار الماضين «1».

وأخرج البخاري- في باب مَن جلس عند المصيبة يعرف فيه الحزن من الجزء الأول من صحيحه- بالإسناد إلي عائشة. قالت: «لما جاء النبي (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) قتل ابن حارثة وجعفر وابن رواحة جلس- أي في المسجد كما في رواية أبي داود- يعرف فيه الحزن» «2».

__________________________________________________

(1) أنظر: الكامل في التاريخ؛ لابن الأثير 1/ 606، ط دار الكتب العلمية.

(2) البخاري 2/ 83 ط دار الفكر و 5/ 87. وصحيح مسلم 3/ 45، ط دار الفكر، والسنن الكبري للبيهقي 4/ 59، سنن أبي داود.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 56

وأخرج البخاري في الباب المذكور أيضاً عن أنس قال: «قنت رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) شهراً حين قتل القرآء، فما رأيته حزن حزناً قطّ أشدّ منه. الحديث» «1».

والأخبار في ذلك أكثر من أنْ تحصي أو تستقصي.

والقول بأنّه إنّما يحسن ترتيب آثار الحزن إذا لم يتقادم العهد بالمصيبة، مدفوع بأنّ من الفجائع ما لا تخبو زفرتها ولا تخمد لوعتها، فقرب العهد بها وبعده عنها سواء. نعم، يتم قول هؤلاء اللّائمين إذا تلاشي الحزن بمرور الأزمنة ولم يكن دليل ولا مصلحة يوجبان التعبّد بترتيب آثاره، وما أحسن قول القائل في هذا المقام:

خلّي أُميمة عن ملا مكِ ما المعزّي كالثكول

ما الراقد الوسنان مثل معذَّب القلب العليل

سهران من ألم وهذا نائمُ

الليل الطويل

ذوقي اميمة ما أذوقُ وبعده ماشئتِ قولي

علي أنّ في ترتيب آثار الحزن بما أصاب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم من تلك الفجائع وحلَّ بساحته من هاتيك القوارع، حكماً توجب التعبّد بترتيب آثار الحزن بسببها علي كلِّ حال. والأدلّة علي

__________________________________________________

(1) البخاري 2/ 84، نيل الأوطار 2/ 297، ط بيروت.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 57

ترتيب تلك الآثار في جميع الأعصار متوفرة، وستسمع اليسير منها إنْ شاء اللَّه تعالي .

وقد علمت سيرة أهل المدينة الطيّبة، واستمرارها علي ندب حمزة وبكائه مع بعد العهد بمصيبته، فلم ينكر عليهم في ذلك أحد، حتي بلغني أنهم لا يزالون إلي الآن إذا ناحوا علي ميت بدأوا بالنياحة عليه، وما ذاك إلّامواساة لرسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله بمصيبته في عمّه، وأداءً لحق تلك الكلمة التي قالها في البعث علي البكاء عليه وهي قوله: «لكن حمزة لا بواكي له» «1».

وكان الأولي لهم ولسائر المسلمين مواساته في الحزن علي أهل بيته والآقتداء به في البكاء عليهم، وقد لامَ بعض أهل البيت عليهم السلام مَن لم يواسهم في ذلك فقال:

«ياللَّه لقلب لا ينصدع لتذكار تلك الأمور، ويا عجباً من غفلة أهل الدهور، وما عذر أهل الإسلام والإيمان في إضافة أقسام الأحزان، ألم يعلموا أنّ محمّداً (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) موتور وجيع، وحبيبه مقهور صريع. قال: وقد أصبح لحمه (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) مجرّداً علي الرمال، ودمه الشريف مسفوكاً بسيوف أهل الضلال، فياليت

__________________________________________________

(1) تقدّم تخريجه، فراجع.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 58

لفاطمة وأبيها عيناً تنظر إلي بناتها وبنيها، وهم ما بين مسلوب وجريح، ومسحوب وذبيح، إلي آخر كلامه» «1».

ومَنْ وقف علي كلام أئمة أهل البيت في هذا الشان، لا يتوقف في ترتيب آثار

الحزن عليهم مدي الدوران، لكنا منينا بقوم لا ينصفون، فإنّا للَّه وإنا إليه راجعون.

__________________________________________________

(1) اللهوف، للسيد ابن طاوس: 22.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 61

المطلب الخامس: في الإنفاق عن الميت … ص: 61

في الإنفاق عن الميت … ص: 61

في وجوه البرّ والإحسان.

ويكفي في استحبابه: عموم ما دلّ علي استحباب مطلق المبرات، والخيرات، علي أنّ فعل النبي صلّي اللَّه عليه وآله وقوله دالّان علي الإستحباب في خصوص المقام.

وحسبك من فعله: ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما «1» بطرق متعددة: عن عائشة، قالت: «ما غرتُ علي أحد من نساء النبي (صلّي اللَّه عليه وآله)، مثل ما غرت علي خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبي (صلّي اللَّه عليه وآله)، يُكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة، ثم يقطعها

__________________________________________________

(1) فراجع من صحيح البخاري 4/ 231، باب تزويج النبي خديجة وفضلها، من صحيح مسلم: باب فضائل خديجة أم المؤمنين عليها السلام. (المؤلّف).

وللتفصيل راجع: مسند أحمد 6/ 279، والمستدرك للحاكم 4/ 175، والمعجم الكبير للطبراني 10/ 23 ح 11 وأُسد الغابة 5/ 438. (المؤلف).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 62

أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: «كأنّه لم يكن في الدنيا إلّاخديجة»، فيقول: «إنّها كانت وكانت وكان لي منها ولد».

قلتُ: وهذا يدلُّ علي استحباب صلة أصدقاء الميت وأوليائه في اللَّه عزّوجلّ بالخصوص.

ويكفيك من قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: ما أخرجه مسلم في باب وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه، من كتاب الزكاة، في الجزء الأول من صحيحه بطرق متعددة، عن عائشة: إنّ رجلًا أتي النبي (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) فقال: «يا رسول اللَّه إنّ أُمي افتلتت نفسها، ولم توص، أفلها أجر إن تصدّقتُ عنها؟» قال (صلّي اللَّه عليه وآله):

«نعم!» «1».

ومثله: ما أخرجه أحمد من حديث عبداللَّه بن عباس في الصفحة 333 من الجزء الأوّل من

مسنده، من أنّ سعد بن عباده قال: «إنّ ابن بكر أخابني ساعدة توفيت أُمّه وهو غائب عنها فقال: يا رسول اللَّه:

إنّ أمي توفيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها إن تصدّقت بشي ء عنها»؟

قال: «نعم» قال: «فإني اشهدك أن حائط المخرف صدقة عليها» «2».

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم 3/ 81.

(2) مسند أحمد بن حنبل 1/ 333.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 63

والأخبار في ذلك متضافرة «1»، ولا سيما من طريق العترة الطاهرة «2».

__________________________________________________

(1)

المعجم الأوسط للطبراني 1/ 217، مسند أبي يعلي الموصلي 7/ 410، ح 4434، السنن الكبري، للنسائي 4/ 109 وكنز العمال/ 599: 6، ح 17053.

(2) وربما كان المنكر علينا فيما نفعله من المبرّات عن الحسين (عليه السّلام)، لا يقنع بأقوال النبي (صلّي اللَّه عليه وآله) ولا بأفعاله، وإنما تقنعه أقوال سلفه، وأفعالهم، وحينئذ نحتج عليه بما فعله الوليد بن عقبة بن أبي معيط الأموي، إذ مات لبيد بن ربيعة العامري الشاعر، فبعث الوليد إلي منزله عشرين جزوراً، فنحرت عنه، كما نصّ عليه ابن عبدالبر، في ترجمة لبيد، من الإستيعاب [3/ 1136- 1137]. (المؤلف).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 67

فصل: في مآتمنا المختصّة بسيّد الشهداء عليه السّلام … ص: 67

كلّ مَن وقف علي ما سلف من هذه المقدّمة، يعلم أنّه لا وجه للإنكار علينا في مآتمنا المختصة بسيد الشهداء عليه السّلام، ضرورة أنّه لا تشتمل إلّاعلي تلك المطالب الخمسة، وقد عرفت إباحتها بالنسبة إلي مطلق الموتي من كافة المؤمنين.

وما أدري كيف يستنكرون مآتم انعقدت لمواسات النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم؟ وأُسِّست علي الحزن لحزنه، أيبكي بأبي هو وأمي قبل الفاجعة ونحن لا نبكي بعدها؟ ما هذا شأن المتأسي بنبيّه، والمقتصّ لأثره، إنْ هذا إلّاخروج عن قواعد المتأسين، بل عدول عن سنن النبيّين.

ألم يرو الإمام أحمد بن حنبل من حديث

علي عليه السّلام، في الصفحة 85 من الجزء الأول من مسنده، بالإسناد إلي عبداللَّه بن نجيّ، عن أبيه أنّه سار مع علي (عليه السّلام)، فلما حاذي نينوي، وهو منطلق إلي صفين نادي: «صبراً أبا عبداللَّه، صبراً أبا عبداللَّه بشطّ الفرات».

قال: «قلت: وما ذاك»، قال:

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 68

«دخلتُ علي رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) ذات يوم وعيناه تفيضان، قلت: يا نبي اللَّه، ما شأن عينيك تفيضان؟ قال: قام من عندي جبرائيل قبل، فحدّثني أنّ ولدي الحسين يُقتل بشط الفرات، قال فقال: هل لك إلي أن أشمَّك من تربته؟ قال: قلت: نعم! فمدّ يده، فقبض قبضة من تراب فاعطانيها، فلم أملك عيني أن فاضتا» «1».

وأخرج ابن سعد، كما في الفصل الثالث من الباب الحادي عشر، من الصواعق المحرقة لابن حجر «2»، عن الشعبي، قال: «مرّ علي رضي اللَّه عنه بكربلاء عند مسيره إلي صفين وحاذي نينوي، فوقف وسأل عن اسم الأرض، فقيل: كربلاء؟ فبكي حتي بلّ الأرضَ من دموعه، ثم قال:

«دخلت علي رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك (بأبي أنت وأُمي) قال: كان عندي جبرائيل آنفاً، وأخبرني أنّ ولدي الحسين، يقتل بشاطي ء الفرات، بموضع يقال له

__________________________________________________

(1) مسند أحمد 1/ 85، ط دار صادر، ومجمع الزوائد، للهيثمي 9/ 187، ط دار الكتب العلمية سنة 1408، مسند أبي يعلي الموصلي 1/ 298، المعجم الكبير للطبراني 3/ 105، ح 2811، كنز العمال 13/ 655، ح 37663.

(2) كل ما ننقله في هذا المقام عن الصواعق من هذا الحديث، وغيره موجود في أثناءكلامه في الحديث الثلاثين، من الأحاديث التي أوردها في ذلك الفصل، فراجع. (المؤلف).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 69

كربلاء. (الحديث) «1».

وأخرج

الملّا- كما في الصواعق أيضاً-: «إنّ علياً مرّ بموضع قبر الحسين عليهما السلام فقال:

«هاهنا مناخ ركابهم، وهاهنا موضع رحالهم، وهاهنا مهراق دمائهم، فتية من آل محمّد، يقتلون بهذه العرصة، تبكي عليهم السمآء والأرض» «2».

ومن حديث أم سلمة- كما نصَّ عليه ابن عبدربه المالكي «3»، حيث ذكر مقتل الحسين في الجزء الثاني من العقد الفريد- قالت: «كان عندي النبي (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) ومعي الحسين، فدنا من النبي (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) فأخذته، فبكي، فتركته، فدنا منه، فأخذته فبكي فتركته، فقال له جبرائيل: «أتحبّه يا محمّد»؟ قال: «نعم»! قال: «أمّا إنّ أُمتك ستقتله، وإن شئت أريتك الأرض التي يقتل بها»، فبكي النبي

__________________________________________________

(1) أنظر: الصواعق المحرقة، لابن حجر: 193، عنه القندوزي في ينابيع المودّة 3/ 12.

(2) وهذا الحديث رواه أصحابنا- بكيفية مشجية- عن الباقر عليه الصلاة والسلام، ورووه عن هرثمة، وعن ابن عباس، وإن أردت الوقوف عليه، فدونك ص 108- وما بعدها إلي- ص 112 من الخصائص الحسينية للتستري، وأنظر: الصواعق المحرقة: 193.

(3) في السطر 15 من الصفحة 243 من جزئه الثاني المطبوع سنة 1305، وفي هامشه زهرالآداب.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 70

(صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) «1».

وروي الماوردي الشافعي، في باب إنذار النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بما سيحدث بعده، «2» من كتابه (أعلام النبوة) عن عروة، عن عائشة، قالت: «دخل الحسين بن علي علي رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله) وهو يُوحي إليه، فقال جبرائيل: «إنّ أمّتك ستفتتن بعدك وتقتل ابنك هذا من بعدك، ومدّ يده فأتاه بتربة بيضاء، وقال: في هذه يقتل ابنك، اسمها الطف».

قالت: «فلمّا ذهب جبرآئيل، خرج رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) إلي أصحابه والتربة بيده، وفيهم:

أبو بكر، وعمر، وعلي، وحذيفة، وعثمان، وأبو ذر، وهو بيكي» فقالوا: «ما يبكيك يا رسول اللَّه»؟ فقال:

«أخبرني جبرائيل: إنّ ابني الحسين، يقتل بعدي بأرض الطف،

__________________________________________________

(1) وأخرج البغوي في معجمه وأبو حاتم في صحيحه، من حديث أنس كما في الصواعق نحوه، وابن سعد في طبقاته ج 8 ترجمة الإمام الحسين (عليه السلام)، ح 81، والذهبي في ميزان الاعتدال 1/ 8، وفي ط ص 13 في ترجمة أبان بن أبي عياش رقم 15.

(2) وهو الباب الثاني عشر في الصفحة 23 وفي طبعةٍ الصفحة 182. من ذلك الكتاب، عنه ابن نما الحلي في كتاب ذوب النضار في شرح الثار: 21، ط قم جماعة المدرّسين، سنة 1416.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 71

وجاءني بهذه التربة، فأخبرني أنّ فيها مضجعه» «1».

وأخرج الترمذي «2» - كما في الصواعق وغيرها- «إن أم سلمة رأت النبي (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) فيما يراه النائم باكياً، وبرأسه ولحيته التراب، فسألته فقال:

«قُتِلَ الحسين آنفاً».

قال في الصواعق: «وكذلك رآه ابن عباس، نصف النهار، أشعث أغبر، بيده قارورة، فيها دم يلتقطه، فسأله، فقال:

«دم الحسين وأصحابه لم أزل أتتبعه منذ اليوم» «3».

قال: «فنظروا فوجدوه قد قُتل في ذلك اليوم».

وأما صحاحنا، فإنّها متواترة في بكآئه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم علي الحسين عليه السّلام في مقامات عديدة، يوم ولادته، وقبلها، ويوم السابع من مولده، وبعده في بيت فاطمة، وفي حجرته، وعلي منبره،

__________________________________________________

(1) أخرجه الطبراني في معجمه الكبير 3/ 107، ح 2814، والهيثمي في مجمع الزوائد 9/ 188.

(2) الترمذي في سننه 5/ 223 ح 3860، والحاكم في المستدرك 4/ 19، والبخاري في تاريخه الكبير 3/ 324 ح 1098.

(3) وأخرجه من حديث ابن عباس أحمد بن حنبل في الصفحة 283 من الجزء الأوّل من

مسنده، وابن عبدالبر، والعسقلاني في ترجمة (الإمام) الحسين (عليه السّلام) من الاستيعاب، و الإصابة. وخلق كثير. (المؤلف).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 72

وفي بعض أسفاره، تارة يبكيه وحده، ومرة هو والملائكة، وأحياناً هو وعلي وفاطمة، وربّما بكاه هو أصحابه، وكان يقبّله في نحره ويبكي، ويقبّله في شفتيه ويبكي، وإذا رآه فرحاً يبكي، وإذا رآه حزيناً يبكي، بل صح أنّه قد بكاه آدم، ونوح، وإبراهيم، و إسماعيل، وموسي ، وعيسي ، وزكريا، ويحيي ، والخضر، وسليمان عليهم السلام، وتفصيل ذلك كلّه موكول إلي مظانه من كتب الحديث «1».

وأما أئمة العترة الطاهرة الذين هم كسفينة نوح، وباب حطّة، وأمان أهل الأرض، وأحد الثقلين اللذين لا يضلُّ مَن تمسك بهما ولا يهتدي إلي اللَّه مَن صدَّ عنهما، فقد استمرت سيرتهم علي الندب والعويل، وأمروا أوليائهم بإقامة مآتم الحزن، جيلًا بعد جيل، فعن الصادق عليه السّلام- فيما رواه ابن قولويه في الكامل، وابن شهراشوب في المناقب، وغيرهما-:

«إنّ علي بن الحسين عليهما السلام بكي علي أبيه مدّة حياته، وما وضع بين يديه طعام إلّابكي ، ولا أتي بشراب إلّابكي ، حتي قال له أحد مواليه: جُعلت فداك، يا ابن رسول اللَّه؛ إني أخاف أن تكون من

__________________________________________________

(1) أنظر: الصفحة 105 وما بعدها إلي الصفحة 232 من الخصائص الحسينية، وإن شئت أنظر: جلاء العيون، والبحار، والمنتخب للطريحي، وأسرار الشهادة للدربندي، وسيرتنا وسنتنا للعلامة الأميني.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 73

الهالكين، قال عليه السّلام: إنما أشكو بثّي وحزني إلي اللَّه وأعلم من اللَّه ما لا تعلمون» «1».

وروي ابن قولويه وابن شهرآشوب أيضاً وغيرهما: إنّه كلّما كثر بكاؤه قال له مولاه: «أما آن لحزنك أن ينقضي»؟، فقال:

«ويحك، إن يعقوب عليه السّلام كان له اثنا عشر ولداً، فغيّب اللَّه واحداً منهم، فابيضّت

عيناه من كثرة بكائه عليه، واحدودب ظهره من الغم، وابنه حي في الدنيا، وأنا نظرت إلي أبي، وأخي، وعمومتي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي، فكيف ينقضي حزني؟» «2».

وعن الباقر عليه السّلام «3» قال:

«كان أبي علي بن الحسين (صلوات اللَّه عليه) يقول: أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن علي عليه السّلام دمعة حتي تسيل علي خدّه، بوّأه اللَّه تعالي في الجنة غرفاً يسكنها أحقاباً؛ وأيّما مؤمنٍ دمعت عيناه حتي تسيل علي خدّه فينا، لأذي مسّنا من عدوّنا في الدنيا، بوّأه اللَّه

__________________________________________________

(1) كامل الزيارات: 213 ح 1، باب 35، عنه البحار 46/ 63 ح 19، والخصال للصدوق: 518 ح 4، في باب 23.

(2) كامل الزيارات: 213 ح 2، وسائل الشيعة 3/ 283 ح 11، باب 87، العوالم، الإمام الحسين: 449.

(3) فيما أخرجه جماعة، منهم ابن قولويه في كامله [كامل الزيارات: 201 ح 1، باب 32] (المؤلفَ).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 74

في الجنة مبوّأ صدق، وأيّما مؤمن مسّه أذي فينا فدمعت عيناه حتي تسيل علي خده (من مضاضة ما أُوذي فينا) «1»، صرف اللَّه عن وجهه الأذي، وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار» «2».

وقال الرضا «3» - وهو الثامن من أئمة الهدي ، صلوات اللَّه وسلامه عليهم-.

«إن المحرّم شهر كان أهل الجاهليّة يحرّمون فيه القتال، فاستحلّت فيه دماؤنا، وهتكت فيه حرمتنا، وسُبيت فيه ذرارينا ونساؤنا، واضرمت فيه النار في مضاربنا، وانتهب ما فيها من ثقلنا «4»، ولم ترع لرسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم حرمة في أمرنا، إن يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا، فعلي مثل الحسين فليبك الباكون، فإنّ البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام (ثم قال عليه السّلام:) كان أبي إذا دخل

شهر المحرم، لا يري ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه».

__________________________________________________

(1)

بين القوسين من المصدر.

(2) كامل الزيارات: 201 ح 1، باب 32.

(3) فيما أخرجه الصدوق في أماليه: 111، وابن فتال النيسابوري المتوفي سنة 508 في روضة الواعظين: 169 ط قم الشريف الرضي، وابن شهرآشوب في مناقبه 3/ 238، والإقبال للسيد ابن طاوس 3/ 28، ط مكتب الإعلام.

(4) الثقل: وزان سبب: متاع المسافر، وكلّ شي ء نفيس مصون.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 75

وقال (عليه السّلام) «1»:

«مَن تذكر مصابنا وبكي لما ارتكب منّا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومَن ذكر مصابنا، فبكي وأبكي ، لم تبكِ عينه يوم تبكي العيون، ومَن جلس مجلساً يُحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب» «2».

وعن الريان بن شبيب- فيما أخرجه الشيخ الصدوق في العيون- قال: «دخلتُ علي الرضا عليه السّلام في أول يوم من المحرّم، فقال لي:

«يا ابن شبيب، إن المحرّم هو الشهر الذي كان أهل الجاهلية يحرّمون فيه الظلم والقتال، لحرمته، فما عرفت هذه الأمة حرمة شهرها، ولا حرمة نبيّها- صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، إذ قتلوا في هذا الشهر ذريّته، وسبوا نساءه وانتهبوا ثقله، يا ابن شبيب إنْ كنت باكياً لشي ء فابك للحسين (عليه السّلام) فإنه ذبح كما يُذبح الكبش «3»، وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر

__________________________________________________

(1) فيما أخرجه الصدوق في أماليه: 131، ح 4، المجلس السادس عشر.

(2) مكارم الأخلاق: 315، وسائل الشيعة 14/ 502 ح 4، البحار 44/ 278 ح 1 و 2.

(3) إن التعبير- كهذا- مما يدلك علي غاية همجية القوم وشقائهم، وبعدهم عن العطف الإنساني، بالإضافة علي قتلهم ريحانة الرسول الأعظم صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم وهتكهم حرمته

في سبطه روحي فداه. وقد أجمل الإمام عليه أفضل الصلاة والسلام لما أدي عن الفاجعة وأهميتها بهذا الكلام القصير وأشار به إلي معني جسيم يدركه الباحث المتعمق بعد التحليل والاختبار، ويندهش- المجموع البشري- لمثل هذه الرزية عندما علم انّه لم يوجد بين تلك الجموع المحتشدة في كربلا مَن يردعهم عن موقفهم البغيض، ولا أقل مَن تسائل بعضهم، لماذا نقاتل الحسين؟ وباي عمل استحق ذلك منا؟ أو هل كان دم الحسين (عليه السّلام) مباحاً إلي حد إباحة دم الكبش؟!، ويُذبح- بأبي وأمي- بلا ملامة لائم ومن دون خشية محاسب!! والتاريخ- بأيدينا- لم يحدثنا عن وجود متردد في قتل الحسين عليه السّلام يوم عاشوراء بل اجتمعوا لذلك علي قول واحد بلا رافض منهم يتخيل أن هناك محذوراً شرعياً أو عرفيّاً فيما يصنعون. حتي أن الشهيد السعيد الحرّ بن يزيد الرياحي لما اعتزلهم- قبل أن يشرعوا بالقتال- ولحق بالحسين- روحي فداه- وعظهم وزجرهم، لم يتعظوا بكلامه ولم يهتدوا إلي خيرهم، ولم يتّبعوه وهم غير شاكين في الندامة اللاحقة بهم في مستقبلهم المظلم القريب. وقد كان لالتحاق- الحرّ- الرياحي الأثر البالغ حيث أقام الحجة بعمله هذا علي أهل الكوفة، وبرهن لهم إمكان التوبة، والرجوع إلي اللَّه، واتّباع الحق كما فعل هو- سلام اللَّه عليه- وقد استغل الفرصة ودافع عن الحسين (عليه الصلاة والسلام) واستشهد بين يديه، وسعد في الدنيا بخلود ذكره، وفاز بصحبة النبي العظيم صلّي اللَّه عليه وآله في الفردوس الأعلي . (المؤلف).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 76

رجلًا ما لهم في الأرض من شبيه، ولقد بكت السموات السبع لقتله- إلي أنْ قال-: يا ابن شبيب إنْ سرّك أنْ تكون معنا في الدرجات العلي فاحزن لحزننا وافرح لفرحنا، وعليك بولايتنا.

الحديث» «1».

__________________________________________________

(1) عيون أخبار الرضا 2/ 268 ح 58، إقبال الأعمال 3/ 29، وسائل الشيعة 10/ 324 ح 18، ط دار إحياء التراث العربي.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 77

وقال (عليه السّلام) فيما أخرجه الصدوق في أماليه:

«مَن ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضي اللَّه له حوائج الدنيا والآخرة، ومَن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه جعل اللَّه عزّوجلّ يوم القيامة يوم فرحه وسروره، وقرّت بنا في الجنان عينه، الحديث» «1».

وبكي صلوات اللَّه عليه إذ أنشده دعبل بن علي الخزاعي قصيدته التائية السائرة حتي أغمي عليه في أثنائها مرتين، كما نصّ عليه الفاضل العباسي في ترجمة دعبل من معاهد التنصيص «2» وغيره من أهل الأخبار.

وفي البحار وغيره: «إنّه عليه السّلام أمر قبل إنشادها بستر فضرب دون عقائله فجلسن خلفه يسمعن الرثاء، ويبكين علي جدّهن سيد الشهدآء وأنّه قال يومئذ:

«يا دعبل من بكي أو أبكي علي مصابنا ولو واحداً، كان أجره علي اللَّه. يا دعبل مَن ذرفت عيناه علي مصابنا حشره اللَّه معنا» «3».

__________________________________________________

(1) الأمالي للصدوق: 191 ح 4 المجلس 27 والعلل 1/ 227 ح 2، باب 162، روضة الواعظين: 169، والمناقب لابن شهرآشوب 3/ 239 ط النجف.

(2) معاهد التنصيص 2/ 190.

(3) البحار 45/ 257 ح 15، ط بيروت مؤسّسة الوفاء، العوالم: 545، ومستدرك الوسائل 10/ 386 ح 2.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 78

وحدث محمّد بن سهل كما في ترجة الكميت من معاهد التنصيص قال: «دخلتُ مع الكميت علي أبي عبداللَّه جعفر بن محمّد الصادق (عليه السّلام) في أيام التشريق فقال له: «جُعلت فداك ألا أُنشدك؟» قال: «إنها أيّام عظام». قال: «إنّها فيكم»، قال: «هات» وبعث أبو عبداللَّه إلي بعض أهله، فقرب فأنشده في رثاء الحسين

عليه السّلام فكثر البكاء حتي أتي علي هذا البيت:

يصيب به الرامون عن قوس غيرهم فيا آخراً أسدي له الغي أوّل

قال: «فرفع أبو عبداللَّه رحمه اللَّه تعالي يديه فقال:

«اللّهم اغفر للكميت ما قدّم وما أخّر، وما أسرّ وما أعلن، وأعطه حتي يرضي » «1». «2»

__________________________________________________

(1) أنظر: نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار 9/ 199.

(2) بخ بخ هنيئاً لمَن نال من أئمة الهدي بعض ذلك، وأنت تعلم أنّه عليه السّلام لم يبتهل بالدعاء للكميت هذا الابتهال إلّالما دلّ عليه بيته هذا من معرفته بحقيقة الحال، وقد أكثر الشعراء من نظم هذا المعني، فنظمه المهيار في قصيدته اللّامية، وقبل ذلك نظمه الشريف الرضي فقال:

بني لهم الماضون أساس هذه فعلوا علي أساس تلك القواعد

وكأن سيدة نساء عصرها (زينب عليها السلام) أشارت إلي هذا المعني بقولها مخاطبة ليزيد: «وسيعلم من سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين» بل أشار إليه معاوية إذ كتب إليه محمّد بن أبي بكر يلومه في تمرّده علي أمير المؤمنين عليه السّلام، ويذكر له فضله وسابقته، فكتب له معاوية في الجواب ما يتضمن الإشارة إلي المعني الذي نظمه الكميت، فراجع ذلك الجواب في كتاب صفين لنصر بن مزاحم أو شرح النهج لابن أبي الحديد أو مروج الذهب للمسعودي. وقد اعترف بذلك المعني يزيد بن معاوية إذ كتب إليه ابن عمر يلومه علي قتل الحسين فأجابه: «أمّا بعد فإنّا أقبلنا علي فرش ممهدة ونمارق منضدة»، إلي آخر الكتاب وقد نقله البلاذري وغيره من أهل السير والأخبار، وفي كتابنا سبيل المؤمنين من هذا شي ء كثير. فحقيق بالباحثين أن يقفوا عليه. (المؤلف).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 79

وفي كامل الزيارات بالإسناد إلي عبداللَّه بن غالب قال: «دخلت علي أبي عبداللَّه عليه السّلام

فانشدته مرثية الحسين عليه السّلام، فلما انتهيت إلي قولي: فيها (لبليةٍ) البيت، صاحت باكية من وراء الستر: «يا أبتآه … » «1».

وروي الصدوق في الأمالي وثواب الأعمال وابن قولويه، بأسانيد معتبرة، عن أبي عمارة قال: قال لي أبو عبداللَّه عليه السّلام: «يا أبا عمارة، أنشدني في الحسين»، فأنشدته، فبكي، ثم أنشدته فبكي. قال: «فواللَّه ما زلتُ أنشده ويبكي، حتي سمعت البكاء من الدار» فقال:

__________________________________________________

(1) كامل الزيارات: 105 ح 3، والبحار 44/ 286 ح 24، ومستدرك الوسائل 10/ 385 ح 1 والبيت هو:

(لبليّةٍ تسقو حسيناً بمسقاة الثري غير الترابِ).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 80

«يا أبا عمارة، مَن أنشد في الحسين بن علي (عليهما السلام) فأبكي خمسين فله الجنة، ومَن أنشد في الحسين فأبكي ثلاثين فله الجنة، ومَن أنشد في الحسين فأبكي عشرين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين فأبكي عشرة فله الجنة، ومَن أنشد في الحسين فبكي فله الجنة، ومن أنشد في الحسين فتباكي فله الجنة» «1».

وروي الصدوق في ثواب الأعمال، بالإسناد إلي هارون المكفوف قال: «دخلت علي أبي عبداللَّه الصادق عليه السّلام فقال لي: «يا أبا هارون أنشدني في الحسين عليه السّلام» فأنشدته، فقال لي: «أنشدني كما تنشدون».- يعني بالرقة- قال فأنشدته:

امرر علي جدث الحسين فقل لأعظمه الزكية

قال: فبكي ، ثم قال: «زدني» فأنشدته القصيدة الأخري ، قال: فبكي و سمعت البكاء من خلف الستر، فلما فرغت، قال:

«يا أبا هارون! من أنشد في الحسين (عليه السلام) شعراً فبكي وأبكي عشرة، كتبت لهم الجنة، إلي أن قال: ومن ذكر الحسين عنده فخرج من عينيه مقدار جناح ذبابة، كان ثوابه علي اللَّه عزّوجلّ،

__________________________________________________

(1) كامل الزيارات: 209 ح 2 باب 33، وثواب الأعمال للصدوق: 111 ح 2، والأمالي للصدوق المجلس:

29 ح 6، والبحار 44/ 282.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 81

ولم يرض له بدون الجنة» «1».

وروي الكشي بسند معتبر عن زيد الشحام قال: «كنّا عند أبي عبداللَّه (عليه السّلام) فدخل عليه جعفر بن عفان فقرّبه وأدناه، ثم قال: «يا جعفر!» قال: «لبيك جعلني اللَّه فداك، قال: بلغني أنّك تقول الشعر في الحسين (عليه السلام) وتجيد»، فقال له: «نعم جعلني اللَّه فداك» فقال: «قل!» فأنشده، فبكي ومَن حوله حتي صارت الدموع علي وجهه ولحيته، ثم قال:

«يا جعفر، واللَّه لقد شهدك ملائكة اللَّه المقربون ها هنا يسمعون قولك في الحسين (عليه السّلام)، ولقد بكوا كما بكينا وأكثر، (إلي أن قال:) ما من أحد قال في الحسين شعراً فبكي وأبكي إلّاأوجب اللَّه له الجنة، وغفرله» «2».

وروي ابن قولويه في الكامل بسند معتبر حديثاً، عن الصادق (عليه السّلام) جاء فيه:

«وكان جدّي علي بن الحسين (عليهما السلام) إذا ذكره- يعني الحسين عليه السّلام- بكي حتي تملأ عيناه لحيته، وحتي يبكي لبكائه

__________________________________________________

(1) ثواب الأعمال: 111 ح 1، ط بيروت الأعلمي.

(2) رجال الكشي 3/ 574 رقم 508 في ترجمة جعفر بن عفان الطائي؛ ط مؤسّسة آل البيت عليه السلام لإحياء التراث.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 82

رحمة له مَن رآه، وإنّ الملائكة الذين عند قبره ليبكون، فيبكي لبكائهم كلّ مَن في الهواء والسماء، وما من باكٍ يبكيه إلّاوقد وصل فاطمة وأسعدها، ووصل رسول اللَّه (صلي اللَّه عليه وآله) وأدّي حقنا، الحديث» «1».

وفي قرب الإسناد، عن بكر بن محمّد الأزدي قال: قال أبو عبداللَّه (الصادق) عليه السّلام لفضيل بن يسار: «تجلسون وتتحدّثون؟» قال:

«نعم جعلت فداك» قال عليه السّلام:

«إنّ تلك المجالس أحبها، فأحيوا أمرنا، فرحم اللَّه مَن أحيي أمرنا، يا فضيل! مَن ذكرنا أو ذُكرنا عنده،

فخرج من عينه مثل جناح الذباب «2»

__________________________________________________

(1) كامل الزيارات: 168 ح 8 باب 26، مدينة المعاجز، للسيد هاشم البحراني 4/ 167 ح 242.

(2) كانت الأمم- ولم تزل- تقيم المهرجانات لعظمائها بشتي المناسبات، فمِن واردٍيستقبلونه يهتاف وتصفيق، أو جثمان يحملونه علي الأكتاف صارخين، واعتادت الصحف- عالمية وأقليمية- بنشرها لتفاصيل تعطي قرآئها معلومات كافية عن تلك الأنباء وتطبع الصور المجناة عنها للغاية نفسها. وقد تقوم وزارة التوجيه والإرشاد بإذاعة تلك الأخبار إذا كسبت الأهمية لديها بصورةٍ مّا، وفي الساعة الأخيرة يثاب المساهمون ويجزون بالجميل فعلًا، وقد يكافئون بالأفضل كلّ علي حسبه، كما أنّ غيرهم يُحرم مما يقابل به المحسنون، آمنين كانوا أم غير آمنين، عن صميم كان عملهم أم لا، والقصد في عملهم صحيحاً كان أم خالطه خوف أو رجآء.

فإذا كان الحال عند الشعوب والقبائل والحكومات والدول- كما قدمنا- جزاء المحسن بإحسان مثل ما يؤدّيه من الواجب، أو علي قدر ما يبديه بالنسبة إلي الفقيد وذويه، وإلي أصحاب العزاء وإهمال المفرط بل عقابه أحيانا، كان علي اللَّه سبحانه أن يبذل ما يناسب وشأنه العزيز- بكرمه وجوده- للمعزّين بأبي الشهدآء- روحي له الفداء- من الغفران والجنة والرضوان، وما ذلك عليه بعزيز- والأمر والملك له- حيث أنّ الحسين ثار اللَّه- كما ورد- وأنّ معالم الدين- المحمدي (صلّي اللَّه عليه وآله) الحنيف لم تعش إلّاببركة الحسين وأهل بيته (صلّي اللَّه عليهم)، واللَّه يعلم أنّ الذي يخرج من العين لا يكون إلّاعن حرقة، ولم يكن إلّاعند فيضان الأحاسيس وهيجان العواطف.

فالذي ورد في ثواب الباكين علي الحسين (عليه السلام)- ولو مثل جناح الذباب- مجمع عليه عند المشيخة والأعلام، بلا مناقشة في نصوص الأحاديث المروية في هذا الشأن لتواترها، وكثرتها وقوة سندها ونباهة

رجالها. (الميلاني).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 83

غفر اللَّه له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر» «1».

وفي خصال الصدوق «2»: عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال:

«إن اللَّه تبارك وتعالي اطلع إلي الأرض فاختارنا، واختار لنا شيعة، ينصروننا، ويفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا، ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا، أولئك منّا وإلينا» «3».

__________________________________________________

(1) أنظر: قرب الإسناد: 36 ح 117، وثواب الأعمال: 187، ط قم الشريف الرضي، وابن إدريس في مستطرفات السرائر: 226، ط قم.

(2) الخصال: 635، ح 10، ط قم جماعة المدرّسين، البحار ج 44، ص 287، ح 26.

(3) قد يري بعضهم غموضاً في التوجيه المقصود من هذا الحديث، إذ أنّ الحزن علي مصاب الحسين (عليه السّلام) والبذل في مأتمه عند فرق المسلمين وغيرهم من الملل الأخري ، لا يقصران عما تأتيه الشيعة فيلزم إما التوسع في معني التشيع، وإما إهمال الباقين وحرمانهم من ثواب عملهم. والذي أرتأيه- منذ بلغني وشاهدت ما تصنعه الطوائف غير المسلمة، وبعض الفرق الإسلامية (غير الشيعة) تجاه سيد الشهداء روحي له الفداء- أنه عليه السّلام يضمن لهم السعادة الأبدية بشفاعته عنداللَّه، فلا يخرجون من الدنيا إلّامؤمنين، وفي الجنان آمنين، فيكونوا شيعة بعناية اللَّه تقديراً لما بذلوه من المال والنفس وما عملوه في سبيله (صلّي اللَّه عليه).

وهذا أمر جائز في حدّ ذاته وغير بعيد- بل واقع- ممن ملأ الكون من أحاديث جوده وكرمه مدّة حياته القدسية الإلهيّة، وقد جاء في الصحيح (إنّ الحسين مصباح الهدي وسفينة النجاة). وأمّا كرمه بعد شهادته إلي هذا التاريخ، فقد طبق الدنيا- شرقها وغربها- من حديثه، حيث لم يخب مَن تمسك به من ذوي الحاجات، فكم من كربة دفعها بإذن اللَّه تعالي ، لا يفرق بين من يمّه عند مرقده الطاهر، وبين

مَن توجه إليه من مكانه- مهما بعد- وناداه لمشكلته، وإنّ لهؤلاء قصصاً يحضرني الآن منها شي ء وافر ليس هذا محلّها. (الميلاني).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 84

وفي كامل الزيارات بالإسناد إلي أبي عمارة المنشد قال: «ما ذكر الحسين (عليه السّلام) عند أبي عبداللَّه (الصادق عليه السّلام) في يوم قط فرئي متبسماً في ذلك اليوم إلي الليل. قال: «وكان أبو عبداللَّه عليه السّلام يقول:

«الحسين عبرةُ كلّ مؤمن» «1».

__________________________________________________

(1) كامل الزيارات: 214 ح 2 باب 36، والبحار 44/ 280.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 85

وفيه بالإسناد إلي الصادق عليه السّلام قال:

«قال الحسين (عليه السّلام): أنا قتيل العبرة، لا يذكرني مؤمن إلّا استعبر» «1».

إلي غير ذلك من صحاح الأخبار المتواترة عن الأئمة الأبرار.

وناهيكَ بها حجة علي رجحان هذه المآتم، وإستحبابها شرعاً، فإنّ أقوال أئمة الهدي من أهل البيت عليهم السلام وأفعالهم، وتقريرهم، حجة بالغة؛ لوجوب عصمتهم بحكم العقل والنقل، كما هو مقرر في مظانه من كتب المتكلّمين من أصحابنا، والتفصيل في كتابنا: سبيل المؤمنين.

علي أنّ الاقتداء بهم في هذه المآتم وغيرها لا يتوقف- عند الخصم- علي عصمتهم، بل يكفينا فيه ما اتفقت عليه الكلمة من إمامتهم في الفتوي ، وأنّهم في أنفسهم لا يقصرون عن الفقهاء الأربعة، والثوري، والأوزاعي، وأضرابهم، علماً ولا عملًا.

وأنت تعلم أنّ هذه المآتم لو ثبتت عن أبي حنيفة أو صاحبيه أبي يوسف والشيباني مثلًا، لاستبق الخصمُ إليها وعكف أيام حياته عليها، فلِمَ ينكرها علينا ويندّد بها بعد ثبوتها عن أئمة أهل البيت، يا منصفون؟!

__________________________________________________

(1) كامل الزيارات: 215 ح 3 باب 36، الأمالي للصدوق، المجلس الثامن والعشرون: 200، ح 8.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 86

أتراه يري في أئمة الثقلين أمراً يقتضي الإعراض عنهم، أو يجد فيهم شيئاً يستوجب

الإنكار علي الآخذين بمذهبهم؟ أو إنّ هناك أدلّة خاصّة، تقصر الإمامة في الفتوي علي أئمة خصومنا ولا تبيح الرجوع إلي غيرهم؟ كلّاً، إنّ واقع الأمر وحقيقة الحال بالعكس.

هذا حديث الثقلين المجمع علي صحته واستفاضته، قد أنزل العترة من منزلة الكتاب، وجعلها قدوة لأولي الألباب، فراجعه: في باب فضائل علي (عليه السّلام) من صحيح مسلم، أو في الجمع بين الصحيحين، أو الجمع بين الصحاح الستة، أو في حديث أبي سعيد الخدري من مسند أحمد بن حنبل، أو خصائص علي (عليه السّلام) للإمام النسائي، أو في تفسيري الثعلبي والبيهقي، وفي حلية الحافظ الأصفهاني، أو كتب الحاكم والطبراني وغيرها من كتب الحديث، وأنا أورده لك بلفظ الترمذي «1» بحذف الإسناد قال: «قال رسول اللَّه (صلّي

__________________________________________________

(1) قال ابن حجر- بعد نقله عن الترمذي- في أثناء تفسيره للآية الثانية من الآيات التي أوردها في الفصل الأوّل من الباب الحادي عشر من صواعقه ما هذا لفظه:

ثم اعلم أنّ لحديث التمسك بذلك طرقاً كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابياً (قال، ومر له طرق مبسوطة في حادي عشر الشبه، وفي بعض تلك الطرق أنه قال ذلك في حجة الوداع بعرفة، وفي اخري : إنّه قاله بالمدينة في مرضه وقد امتلأت الحجرة بأصحابه، وفي أخري : إنّه قال ذلك في غدير خم، وفي أخري : إنّه قاله لما قام خطيباً- بعد انصرافه من الطائف- (قال) ولا تنافي، إذ لا مانع من أنّه كرّر عليهم ذلك في تلك المواطن إهتماماً بشأن الكتاب العزيز، والعترة الطاهرة [أنظر: الصواعق المحرقة: 152] (المؤلف).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 87

اللَّه عليه وآله وسلّم) «1»:

«إني تارك فيكم ما إنْ تمسكتم به لن تضلوا بعدي، (الثقلين) أحدهما أعظم من الآخر، كتاب اللَّه عزّوجلّ حبل ممدود من

السمآء إلي الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتي يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما؟

وقد زاد الطبراني:

فلا تقدّموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم» «2».

قلت: لا يخفي أنّ تعليق عدم الضلال علي التمسك بهما، يقتضي بحكم المفهوم ثبوت الضلال لمَن تخلّي عن أحدهما، وناهيك به في وجوب اتّباع العترة، والإنقطاع في الدين إليها وإلي القرآن العزيز.

علي أنّ اقترانهم بالكتاب- وهو معصوم- وجعلهم في وجوب

__________________________________________________

(1) أنظر: الترمذي في سننه 5/ 329 ح 3876، أحمد في مسنده 3/ 14 و 5/ 182، ط بيروت دار صادر، والبيهقي في سننه الكبري ج/ 18، ط دار الفكر، والهيثمي في مجمع الزوائد، ج/ 163، ط دار الكتب العلمية، والمصنّف لابن أبي شيبة 7/ 176 ج 5.

(2) المعجم الكبير للطبراني 3/ 66 ح 2681، ط القاهرة.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 88

التمسك بهم مثله، دليل قاطع علي حجية أقوالهم، وأفعالهم، وأنّ الرجوع في الدين إلي خلافهم ليس إلّاكترك القرآن والرجوع إلي كتاب يخالف أحكامه، ولا تنس دلالة قوله (صلّي اللَّه عليه وآله): (ولن يفترقا)، علي عدم خلو الزمان ممّن يفرغ منهم عن القرآن والقرآن يفرغ عنه «1».

ثم إنّ قوله: «فلا تقدّموهم فتهلكوا ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم» نص صريح فيما قلناه كما لا يخفي.

وكم لهذا الحديث من نظير في الدلالة علي وجوب الاقتدآء بالعترة الطاهرة، والمنع من مخالفتها،

نستلفت الباحثين إلي ما أخرجناه من ذلك في مبحث العصمة من (سبيل المؤمنين)، وحسبك منه ما أخرجه الحاكم بسند صحّحه علي شرط البخاري ومسلم «2»: «عن رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله) قال من

__________________________________________________

(1) ومثله: قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «في كلّ خلف من أمتي

عدول من أهل بيتي، ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، ألا وإنّ أئمتكم وفدكم إلي اللَّه عزّوجلّ، فانظروا مَن توفدون» أخرجه الملا، كما في تفسير الآية الرابعة من الآيات التي أوردها ابن حجر في الفصل الأول من الباب الحادي عشر من صواعقه. وفي هذا المعني صحاح متواترة من طريق العترة الطاهرة، بل هو من ضروريات مذهبهم عليهم السلام. (المؤلف).

(2) كما في تفسير الآية السابعة من الآيات التي أوردها ابن حجر في الفصل الأول من الباب الحادي عشر من صواعقه، ونقله حاكماً بصحته أيضاً في باب الأمان ببقائهم من أواخر الصواعق.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 89

جملة حديث:

«وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب- في بعض أحكام الدين- اختلفوا- في فتاويهم- فصاروا حزب إبليس» «1».

أليس هذا نصّاً في وجوب اتّباعهم، وحرمة مخالفتهم؟ وهل في لغة العرب أو غيرها عبارة أبلغ منه في إنذار مخالفيهم؟

وأخرج أحمد بن حنبل وغيره «2» بالإسناد إلي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله قال:

«النجوم أمان لأهل السماء، فإذا ذهبت ذهبوا، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض» «3».

وفي رواية:

«فإذا هلك أهل بيتي جاء أهل الأرض من الآيات ما كانوا يوعدون» «4».

__________________________________________________

(1) الحاكم في مستدركه 4/ 75، ط دار المعرفة 1406.

(2) كما نص عليه ابن حجر في باب الأمان ببقائهم من صواعقه.

(3) وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 448، والطبراني في المعجم الأوسط 5/ 237، ط دار الحرمين.

(4) السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام): للدكتور محمد بيومي مهران الأستاذ في جامعة أمّ القري: 45، ط السفير 1418.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 90

وفي هذا المعني صحاح متضافرة من طريق العترة الطاهرة، ومتي كانوا أماناً لأهل

الأرض، فكيف يستبدل بهم، وأنّي يعدل عنهم؟؟؟

وجاء من طرق عديدة يقوّي بعضها بعضاً- كذا قال ابن حجر «1» - إنّه (صلّي اللَّه عليه وآله) قال:

«إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا» «2».

قال ابن حجر: وفي رواية مسلم: «ومَن تخلّف عنها غرق» «3».

(قال) وفي رواية: «هلك وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل مَن دخله غفر له» «4».

(قال) وفي رواية: «غفر له الذنوب».

ولا يخفي أنّ المراد من تمثيلهم بسفينة نوح، إنما هو إلزام الأمة باتّباع طريقتهم، والتمسك بالعروة الوثقي من ولايتهم، وليس المراد من

__________________________________________________

(1) في تفسير الآية السابعة من الآيات التي أوردها في الفصل الأوّل من الباب الحادي عشر من صواعقه، وفي باب الأمان ببقائهم من أوآخر الصواعق أيضاً.

(2) مجمع الزوائد 9/ 168، والمعجم الصغير للطبراني 1/ 139، ط دار الكتب العلمية، وأيضاً في معجمه الصغير 2/ 22، وكنز العمال 12/ 98 ح 34169، و ح 34170.

(3) الحاكم في مستدركه 3/ 151، والهيثمي في مجمع الزوائد 9/ 168. والطبراني في الكبير 3/ 45 ح 2637.

(4) الطبراني في معجمه الصغير 2/ 22، والهيثمي في مجمع الزوائد 9/ 168، والقندوزي 1/ 93 ح 2 و ح 4.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 91

النجاة بذلك إلّارضوان اللَّه عزّوجلّ، والجنة، كما أنّ المراد (بغرق المتخلفين عنهم أو هلاكهم) إنما هو سخط اللَّه سبحانه والنار، والمراد من تمثيلهم (بباب حطة) إنما هو بعث الأمة علي التواضع للَّه عزّوجلّ بالأقتداء بهم والاستسلام لأوامرهم ونواهيهم، وهذا كله ظاهر كما تري .

قال ابن حجر- بعد إيراد هذه الأحاديث في تفسير الآية السابعة من الآيات التي أوردها في الفصل الأول من الباب الحادي عشر من الصواعق- ما هذا لفظه:

«ووجه تشبيههم

بالسفينة- فيما مرّ- أنّ مَن أحبهم وعظّمهم شكراً لنعمة مشرّفهم (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) وأخذ بهدي علمآئهم نجا من ظلمة المخالفات، ومَن تخلّف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم، وهلك في مفاوز الطغيانَ … وبباب حطة (يعني ووجه تشبيههم بباب حطّة) إنّ اللَّه تعالي جعل دخول ذلك الباب الذي هو باب إريحاء أو بيت المقدس مع التواضع والاستغفار سبباً للمغفرة، وجعل لهذه الأمة مودة أهل البيت سبباً لها»، إلي آخر كلامه.

ولو أردنا إستيفاء ماجاء من صحاح السّنة في وجوب اتّباع أئمة أهل البيت، والإنقطاع في الدين إليهم عن العالمين؛ لطال المقام وخرجنا عن موضوع هذه المقدمة. وحاصله:

إنّ مآتمنا بما فيها من الجلوس بعنوان الحزن علي مصائب

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 92

أهل البيت، والإنفاق عنهم في وجوه البر، وتلاوة رثائهم ومناقبهم، والبكاء رحمة لهم، سيرة قطعية قد استمرّت عليها أئمة الهدي من أهل البيت، وأمروا بها أوليآءهم علي مر الليالي والأيام، فورثناها منهم، وثابرنا عليها، عملًا بما هو المأثور عنهم، فكيف- والحال هذه- تنكرونها علينا، وتقولون فيها ما تقولون؟، واللَّه يعلم أنّها ليست كما تظنون.

دع بكاء الأنبياء والأوصياء، ودع عنك ما كان من ملائكة السماء، وقل لي: هل جهلت نوح الجن في طبقاتها؟ ورثاء الطير في وكناتها؟ و بكاء الوحش في فلواتها؟ ورسيس حيتان البحر في غمراتها؟ وهل نسيت الشمس وكسوفها، والنجوم وخسوفها، والأرض وزلزالها، وتلك الفجائع وأهوالها؟ أم هل ذهلت عن الأحجار ودمائها، والأشجار وبكائها، والآفاق وغبرتها، والسماء وحمرتها، وقارورة أم سلمة وحصياتها «1» وتلك الساعة وآياتها؟!

__________________________________________________

(1) أشرنا بهذا إلي ما رواه الملّا في سيرته وابن أحمد في زيادة المسند، كما في الصواعق عن أم سلمة، قالت من حديث: «ثم ناولني كفاً من

تراب أحمر وقال: إنّ هذا من تربة الأرض التي يقتل بها (ولدي) فمتي صار دماً فاعلمي أنّه قد قتل، قالت: فوضعته في قارورة، وكنت أقول: إنّ يوماً يتحوّل فيه دماً ليوم عظيم» وفي رواية أخري - كما في الصواعق أيضاً- «أنّ جبرائيل جآء بحصيات فجعلهن النبي (صلّي اللَّه عليه وآله) في قارورة، قالت أم سلمة: فلما كانت ليلة قتل الحسين سمعت قائلًا يقول:

أيها القاتلون جهلًا حسيناً إبشروا بالعذاب والتنكيل

قد لُعنتم علي لسان ابن داود وموسي وصاحب الإنجيل

قالت: فبكيت وفتحت القارورة فإذا الحصيات قد جرت دماً».

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 93

ألم يرو الملّا عن أم سلمة- كما في الصواعق «1» وغيرها-: أنها قالت: «سمعت نوح الجن علي الحسين؟» «2».

وروي ابن سعد- كما في الصواعق أيضاً-: «إنها بكت حينئذ حتي غُشي عليها».

وأخرج أبو نعيم الحافظ في الدلائل عنها- كما نقله السيوطي «3» - قالت: «سمعت الجن تبكي علي الحسين وتنوح عليه».

وأخرج ثعلب في أماليه- كما في تاريخ الخلفاء أيضاً-، عن أبي خباب الكلبي قال: أتيت كربلاء، فقلت لرجل من أشراف العرب:

«أخبرني بما بلغني أنكم تسمعونه من نوح الجن» فقال: «ما تلقي أحداً إلّا أخبرك أنّه سمع ذلك»، قال: «فأخبرني بما سمعت أنت» قال: سمعتهم

__________________________________________________

(1) كلّما ننقله هنا عن الصواعق موجود في أثناء كلامه في الحديث الثلاثين من الأحاديث التي أوردها في الفصل الثالث من الباب الحادي عشر. (المؤلف).

(2) أنظر: تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي 2/ 218، قم وابن أعثم الكوفي في فتوحه 5/ 122، وابن شهراشوب في مناقبه 4/ 70، في آياته بعد وفاته، والطبراني في معجمه الكبير 3/ 122 رقم 2869.

(3) في أحوال يزيد، من كتابه تاريخ الخلفاء: 166، (المؤلف).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 94

يقولون:

مسحَ الرسولُ جبينه فله

بريقٌ في الخدودِ

أبواه من عليا قريش وجدّه خيرُ الجدودِ «1»

وأخرج أبو نعيم الحافظ- في كتابه دلائل النبوة-، عن نصرة الأزدية قالت: «لما قتل الحسين بن علي أمطرت السماء دماً، فأصبحنا وحبابنا وجرارنا مملوءة دماً».

قال ابن حجر- بعد إيراده في الصواعق-: «وكذا روي في أحاديث غير هذه (قال) ومما ظهر يوم قتله من الآيات أيضاً: إنّ السماء اسودّت اسوداداً عظيماً حتي رؤيت النجوم نهاراً» (قال): «ولم يرفع حجر إلّا وجد تحته دم عبيط» «2».

وأخرج أبو الشيخ- كما في الصواعق أيضاً-: «إنّ السماء احمّرت لقتله (عليه السّلام) وانكسفت الشمس حتي بدت الكواكب نصف النهار وظن الناس أنّ القيامة قد قامت» «3».

قال: «ولم يرفع حجر في الشام إلّارؤي تحته دم عبيط» «4».

__________________________________________________

(1) تاريخ الخلفاء: 166.

(2) الصواعق المحرقة: الفصل الثالث: 194 باب 11.

(3) أنساب الأشراف، للبلاذري 3/ 209 رقم 211، وابن عساكر: 301، 362، ترجمة الإمام الحسين (عليه السلام).

(4) الطبقات الكبري: 90- 91 ح 323- 325، ترجمة الإمام الحسين (عليه السلام).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 95

وأخرج عثمان بن أبي شيبة- كما في الصواعق وغيرها-: «إن الشمس مكثت بعد قتله (عليه السّلام) سبعة أيام تري علي الحيطان كأنّها ملاحف معصفرة من شدّة حمرتها وضربت الكواكب بعضها بعضاً» «1».

قال في الصواعق: ونقل ابن الجوزي عن ابن سيرين: «إنّ الدنيا اظلمّت ثلاثة أيام ثم ظهرت هذه الحمرة في السماء» «2».

قال: وقال ابن سعيد: «ما رفع حجر من الدنيا إلّاوتحته دم عبيط ولقد مطرت السماء دَماً بقي. أثره في الثياب حتي تقطّعت» «3».

قال: وأخرج الثعلبي: «إنّ السماء بكت وبكاؤها حمرتها» «4».

وقال غيره: «احمرّت آفاق السماء ستة أشهر بعد قتله، ثم لا زالت الحمرة تري بعد ذلك».

وإنّ ابن سيرين قال: «أخبرنا أنّ الحمرة التي

مع الشفق لم تكن قبل قتل الحسين (عليه السّلام)» «5».

__________________________________________________

(1) أنظر أيضاً: تذكرة الخواص 2/ 232.

(2) تذكرة الخواص 2/ 231.

(3) ابن سعد في طبقاته: 90 ح 321، ترجمة الإمام الحسين، والصواعق: الفصل 3 باب 11 ص 194، وبغية الطلب في تاريخ حلب 6/ 263.

(4) الثعلبي في تفسير الآية 29 من سورة الدخان.

(5) ابن سعد في طبقاته: 91 ح 326، والصواعق: فصل 3 باب 11 ص 194.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 96

قال: «وذكر ابن سعد: إنّ هذه الحمرة لم تر في السمآء قبل قتله».

إلي آخر ما هو مذكور في كتب السنة، مما يدلّك علي انقلاب الكون بمقتله عليه السّلام وأنّه قد بكته السماء، وصخور الأرض دماً.

ولو فرضنا الخصم جاهلًا بما في تلك الكتب مما سمعت بعضه، فهل يجهل ما قام به ابن نباته خطيباً علي أعواده وتركه سنة الخطباء المسلمين في الجمعة الثانية من المحرم في كلّ سنة؟ وإليك ما اشتملت عليه تلك الخطبة بعين لفظه:

«بكت لموته الأرض والسموات، وأمطرت دماً، واظلمّت الأفلاكُ من الكسوف، واشتد سواد السماء ودام ذلك ثلاثة أيام، والكواكب في أفلاكها تتهافت، وعظمت الأهوال حتّي ظن أنّ القيامة قد قامت». قال:

«كيف لا؟ وهو ابن السيدة فاطمة الزهراء، وسبط سيد الخلائق دنياً وآخرة، وكان عليه الصلاة والسلام مِن حبّه في الحسين يقبّل شفتيه «1»، ويحمله كثيراً علي كتفيه، فكيف لو رآه ملقي علي جنبيه، شديد العطش والمآء بين يديه، وأطفاله يصيحون بالبكاء عليه؟ لصاح عليه الصلاة والسلام وخرّ مغشياً عليه». قال: «فتأسفوا رحمكم اللَّه علي هذا السبط السعيد الشهيد، وتسلّوا بما أصابه عمّا سلف لكم من موت الأحرار

__________________________________________________

(1) الاختصاص للشيخ المفيد: 207، ومدينة المعاجز: 3/ 300، ط مؤسّسة المعارف.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 97

والعبيد،

واتقوا اللَّه حق تقواه» قال: وفي الحديث: «إذا حُشِر الناس في عرصات القيامة، نادي منادٍ من وراء حجب العرش: يا أهل الموقف:

غضّوا أبصاركم حتي تجوز فاطمة بنت محمّد، فتجوز وعليها ثوب مخضوب بدم الحسين، وتتعلق بساق العرش وتقول:

«أنت الجبار العدل، إقض بيني وبين من قتل ابني، فيقضي اللَّه بينها وبينه». ثم تقول: «اللهم شفّعني فيمَن بكي علي مصيبتي» «1». فيشفّعها اللَّه تعالي فيهم» إلي آخر كلامه.

فهل- بعد هذا كلّه- تقول: إن البكاء علي مصائب أهل البيت بِدعة؟! وهب أنّك لا ترجو شفاعة الزهراء، ولا تبكي لبكاء الأنبياء والأوصياء، فابكِ لبكاء الشمس والقمر، ولا يكن قلبك أقسي من الحجر، إبك لبكاء عمر بن سعد، أو عمرو بن الحجاج، والأخنس بن زيد، ويزيد بن معاوية، أو خولي، والسالب لحليّ فاطمة بنت الحسين! إبكِ لبكاء العسكر بأجمعه، فقد شهدتْ كتب السير ببكائهم، مع خبث امهاتهم وآبائهم، أيحسن منك- وأنت مسلم- أن يصاب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله بهذه الفجائع، وتحلّ بساحته تلك القوارع، ثم تتخذها ظهرياً، وتكون عندك نسياً منسياً ما هذا شأن أهل الوفاء، ولا بهذا تكون المواساة لسيد الأنبياء!

__________________________________________________

(1) نور العين في مشهد الحسين، لأبي إسحاق الاسفراييني: 83، ط المنار تونس، الأمالي للشيخ المفيد: 130، المجلس 15.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 98

ثم إنّ ذلك الإنقلاب الهائل وتلك الأحوال المدهشة- من الخسوف والكسوف ورجفة الأرض، وظلمة الأفق، وتهافت النجوم، وحمرة السماء، وبكاء الصخر الأصم دماً «1» - لم تكن إلّاإظهاراً لغضب اللَّه عزّوجلّ، وتنبيهاً علي فظاعة الخطب، وتسجيلًا لتلك النازلة في صفحات الأفق، لئلّا تنسي علي مرَّ اللّيالي والأيام، وفيها مَن بعث الناس علي استشعار الحزن، وادّثار الكآبة ما لا يخفي علي أُولي الألباب.

__________________________________________________

(1)

وخير مرجعٍ نرجع إليه

في هذا المجال ذلك الكتاب القيّم (كامل الزيارات)؛ لمؤلّفه الثقة الثبت أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه المتوفي 368.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 101

فصل: فلسفة مآتمنا المختصّة بأهل البيت عليهم السّلام … ص: 101

علم الباحثون من مدققي الفلاسفة: أنّ في مآتمنا المختصّة بأهل البيت عليهم السلام أسراراً شريفة «1» تعود علي الأمة بصلاح آخرتها

__________________________________________________

(1) نبهك إلي بعضها، حكيم الغربيين، وفيلسوف المستشرقين: الدكتور (جوزف) الفرنسي في كتابه: (الإسلام والمسلمون)، والمسيو (ماربين) الألماني في كتابه (السياسة الإسلامية)، وقد ترجمت جريدة (حبل المتين) الفارسية في 82 من أعدادها الصادرة في سنة 17 فصلين، من ذينك الكتابين النفيسين يحتويان علي أسرار شهادة الحسين، وفلسفة مآتمه (عليه السّلام)، فكان لهما دوي في العالم الإسلامي وأخذا في الشرق دوراً مهماً، وترجما بالتركية، والهندية، وعرّبهما سيدنا الشريف العلامة الباحث السيد صدر الدين الموسوي نجل الإمام الكبير حجة الإسلام وآية اللَّه في الأنام، قدوتنا المولي السيد إسماعيل الصدر أبقاه اللَّه، فنشرت مجلة العلم أحد الفصلين، ومجلة العرفان نشرت الآخر، وإليك ما ذكره الدكتور (جوزف) تحت عنوان الشيعة وترقياتها المحيرة للعقول- قال من جملة كلام له طويل: لم تكن هذه الفرقة (يعني الشيعة) ظاهرة في القرون الأولي الإسلامية كأختها، ويمكن أن تنسب قلتهم إلي سببين/ أحدهما/ إن الرياسة والحكومة التي هي سبب إزدياد تابعي المذهب

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 102

----------------

__________________________________________________

كانت بيد الفرقة الأخري ، والسبب الآخر هو القتل والغارات التي كانت تتوالي عليهم، ونظراً لحفظ نفوس الشيعة حكم أحد أئمتهم في أوائل القرن الثاني عليهم بالتقية، فزادت في قوتهم لعدم تمكن العدو القوي الشكيمة من قتلهم، والإغارة عليهم، بعد أن لم يكونوا ظاهرين، وصاروا يعقدون المجالس سرّاً ويبكون علي مصائب الحسين، واستحكمت هذه العاطفه في قلوبهم علي وجه لم يمض زمان قليل إلّاوارتقوا، حتي

صار منهم الخلفاء والسلاطين والوزراء، وهؤلاء بين مَن أخفي مذهبه وتشيعه، وبين مَن أظهره، و بعد أمير تيمور حيث رجعت السلطنة في إيران إلي الصفوية، صارت إيران مركز فرقة الشيعة، وبمقتضي تخمين بعض سوّاح فرنسا: إنّ الشيعة فعلًا: سدس المسلمين أو سبعهم، ونظراً إلي هذا الترقي الذي حازته فرقة الشيعة في زمان قليل، من دون جبر وإكراه، يمكن ان يقال: إنهم سيفوقون سائر فرق الإسلام بعد قرن، أو قرنين، والسبب في ذلك هو إقامة عزاء الحسين الذي قد جعله كلّ واحد منهم داعياً إلي مذهبه، ولا يوجد اليوم مكان فيه الواحد أو الإثنان من الشيعة إلّاويقيمان فيه عزاء الحسين، ويبذلان في هذا السبيل الأموال الكثيرة، فقد رأيت في نزل (مارسل) شيعياً عربياً من أهالي البحرين يقيم مأتم الحسين وهو منفرد، ويرقي المنبر ويقرأ في كتاب ويبكي، ثم يقسم ما أحضر من الطعام علي الفقراء. هذه الطائفة تبذل الأموال في هذا السبيل علي وجهين:

فبعضهم يبذلها من خالص أمواله في كلّ سنة بقدر استطاعته، وصرفيات هذا القسم تزيد علي ملايين فرنك. وبعضهم يعين أوقافاً لهذا المشروع لخصوص هذه الطائفة وهذا القسم أضعاف الأول. ويمكن أنّ يقال: إن جميع فرق الإسلام من حيث المجموع لا يبذلون في سبيل تأييد

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 103

__________________________________________________

مذهبهم بمقدار ما تبذله هذه الفرقة في سبيل ترقيات مذهبها، وموقوفات هذه الفرقة ضعفا أوقاف سائر المسلمين، أو ثلاثة أضعافها، كلّ واحد من هذه الفرقة هو في الحقيقة داع إلي مذهبه من حيث يخفي علي سائر المسلمين، بل أن الشيعة أنفسهم لا يدركون هذه الفائدة المترتبة علي عملهم، وليس في نظرهم إلا الثواب الاخروي، ولكن حيث أن كلّ عمل في هذا العالم، لابد وأن يكون

له أثر طبيعي في العالم الإجتماعي، قصده الفاعل أو لم يقصده، لم تحرم هذه الفرقة فوائد هذا العمل الطبيعية في هذا العالم، ومن المعلوم أنّ مذهباً دعاته خمسون أو ستون مليوناً، لابدّ وأن يرتقي أربابه علي وجه التدريج إلي ما يليق بشأنهم، حتي أنّ الرؤساء الروحانيين من هذه الفرقة وسلاطينها ووزرائها، لم يخرجوا عن صفة كونهم دعاة، وسعي الفقراء والضعفاء في محافظة إقامة عزاء الحسين من حيث انتفاعهم من هذا الباب أكثر من الآعيان والآكابر، لأنّهم يرون في ذلك خير الدنيا والآخرة، لهذا تري جماعة كثيرين من عقلاء هذه الفرقة قد تركوا سائر أشغالهم المعاشية، وتفرّغوا لهذا العمل وهم يكابدون المشاق في تحرّي العبارات الرائقة، والجمل الواضحة، عند إلقاء فضائل رؤساء دينهم ومصائب أهل البيت، علي المنابر في المجالس العمومية، ولأجل هذه المشقات التي اختارتها هذه الجماعة فاق خطباء هذه الفرقة علي خطباء جميع فرق المسلمين، وحيث إنّ تكرار الأمر الواحد يوجب اشمئزاز القلوب ومللها وعدم التأثير تسعي هذه الجماعة في ذكر تمام المسائل الإسلامية الراجعة إلي مذهبهم بهذا العنوان علي المنابر، حتي آل الأمر إلي عوام الشيعة بفضل هؤلاء الخطباء أن أصبحوا أعرف بمسائل مذهبهم من معرفة كلّ فرقة من فرق المسلمين بمذهبها، كما أنّ اكتساب الشيعة واحترافهم بهذه الوسيلة وسائر الوسائل الراجعة إليها أيضاً أكثر من سائر

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 104

__________________________________________________

المسلمين، ولو نظرنا اليوم في أقطار العالم، نري أنّ الأفراد التي هي أولي بالمعرفة والعلم والصنعة والثروة إنما توجد بين الشيعة، والدعوة التي قام بها الشيعة أولي بالمعرفة والعلم والصنعة، والثروة إنما توجد بين الشيعة، والدعوة التي قام بها الشيعة إلي مذهبهم أو سائر الفرق الإسلامية غير محدودة، بل إنّ آحاد وأفراد

الطائفة دعاة وما دخلوا بين أمّة إلّاوسري هذا الأثر في قلوبها، وليس العدد الذي نراه اليوم في الهند من الشيعة إلّاهو أثر إقامة هذه المآتم. الشيعة لم تؤيد دينها بقوة ولا سيف، حتي في زمن الصفوية، بل إنّهم بلغوا هذه الدرجة من الترقي المحير للعقول بقوة الكلام والدعوة التي أثرها أمضي من السيف. ولقد بلغ اهتمام هذه الفرقة في أداء مراسم مذهبها مبلغاً عظيماً حتي جعلت ثلثي المسلمين من أتباع سيرتها، بل اشترك معها كثير من الهنود والمجوس وسائر المذاهب، ومن المعلوم أنّ بعد مضي قرن ووصل هذه الأعمال بالأرث إلي أبناء أولئك الطوائف يذعنون بها، ويصدّقون هذا المذاهب، وبما أنّ فرقة الشيعة تعتقد بأنّ جميع المطالب والمقاصد موكول نجاحها إلي أكابر مذهبهم، وهم يفزعون إليهم في قضاء الحوائج، ويستمدون منهم عند الشدائد، سرت هذه الروح أيضاً إلي سائر الفرق التي اشتركت معهم في تلك الأعمال والأفعال، ومن المعلوم أنّ بمجرد قضاء حاجتهم وبلوغ آمالهم، تزداد عقيدتهم بهذا المذهب رسوخاً. من هذه القرائن والأسباب، يمكننا أن نقول: لا يمضي علي هذه الفرقة زمان قليل إلّاوتفوق سائر المسلمين من حيث العدد، وكانت هذه الفرقة قبل قرن أو قرنين، تلازم التقية فيما عدا إيران، نظراً لقلّتهم، وعدم قدرتهم علي إظهار شعائر مذهبهم، ولكن من يوم استولت الدول الغربية علي الممالك الشرقية، ومنحت جميع المذاهب الحرية قامت هذه الفرقة تقيم شعائر مذهبها علناً في كلّ مكان، واستفادوا من هذه الحريّة فائدة تامة حتي أنّهم تركوا التقية.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 105

__________________________________________________

لهذه الأسباب المذكورة كانت هذه الفرقة أعرف من غيرها بمقتضيات العصر الحاضر، وأكثر سعياً باكتساب المعاش وتحصيل المعارف، لذلك تري العمال في هذه الفرقة أكثرمما تراه في سائر

فرق المسلمين؛ لاشتغال الغالب منهم المستلزم لمتابعة غير الغالب، مضافاً إلي أنّ مثابرتهم علي العمل مما توجب إحتياج الغير إليهم، كما أنّ اختلاطهم مع سائر الفرق وصلاتهم الودادية مع غيرهم تلازم غالباً اشتراك الغير في مجالسهم ومحافلهم، فيسمعون أصول مذهبهم، ويصغون إلي كلماتهم وعباراتهم، وبتكرار ذلك يأنسون بطريقتهم ومذهبهم، وهذا هو عمل الدعاة. والأثر الذي يترتب علي هذه السيرة هو الأثر الذي يتطلّبه جميع ساسة الغرب في رقي دين المسيح مع تلك المصارف الباهضة. ومن جملة الأمور السياسية التي أظهرها أكابر فرقة الشيعة بصبغة مذهبية منذ قرون، وأوجبت جلب قلب البعيد والقريب هو: قاعدة التمثيل باسم الشبيه في مآتم الحسين، وقد قرر حكماء الهند التمثيل؛ لأغراض ليس هذا موضع ذكرها وجعلوه من أجزاء عباداتهم، فأخذته أورباو أخرجته بمقتضي السياسة بصورة التفرج، وصارت تمثل الأمور المهمة السياسية في دور التمثيل الخاصة والعامة، وجلبت القلوب بسببه وأصابت بسهم غرضين: تفريج النفوس، وجلب القلوب في الأمور السياسية، والشيعة قد استفادت من ذلك فوائد كاملة، وأظهرته بصبغة دينية. ويمكن القول: بأن الشيعة قد أخذت ذلك من الهنود، وكيف كان، فالأثر الذي ينبغي أن يعود من التمثيل إلي قلوب الخواص والعوام قد عاد، ومن المعلوم أنّ تواتر إقامة المآتم وذكر المصائب الواردة علي أكابر دينهم والمظالم التي وردت علي الحسين (عليه السّلام) مع تلك الأخبار

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 106

__________________________________________________

الواردة في فضل البكاء علي مصائب آل محمّد (صلّي اللَّه عليه وآله) إذا انضمّت إلي تمثيل تلك المصائب تكون شديدة الأثر، وتوجب رسوخ عقائد خواص هذه الفرقة وعوامها فوق ما يتصور. وهذا هو السبب الذي لم يسمع من ابتداء ترقي مذهب الشيعة إلي الآن أن ترك بعضهم دين الإسلام أو دخل

في سائر الفرق الإسلامية. هذه الفرقة تقيم التمثيل علي أقسام مختلفة، فتارة في مجالس خصوصية وأمكنة معينة، و حيث أنّ الفرق الأخري قلما تشترك معهم في المجالس، اخترعوا تمثيلًا خاصاً وصاروا يدورون به في الأزقة والطرقات وبين جميع الفرق، فتتأثر قلوب جميع الفرق من القريب والبعيد عين الأثر الذي يحصل من التمثيل، ولم يزل هذا العمل يزداد إليه توجه الأنظار من الخاص والعام حتي قلد الشيعة فيه بعض الفرق الإسلامية والهنود واشتركوا معهم في ذلك، وهو في الهند أكثر رواجاً من جميع الممالك الإسلامية، كما أنّ سائر فرق الإسلام هناك أكثر اشتراكاً مع الشيعة في هذا العمل من سائر البلاد، ويغلب علي الظن أنّ أصول التمثيل بين الشيعة قد تداول في زمن الصفوية الذين هم أوّل من نال السلطنة بقوة المذهب، و أجاز العلماء والرؤسآء الروحانيون هذه الأصول. ومن جملة الأمور التي أوجبت رقي هذه الفرقة وشهرتهم- في كلّ مكان- هو تعرفهم، بمعني أنّ هذه الطائفة قد جلبت إليها قلوب سائر الفرق من حيث الجاه والقوة، والشوكة والاعتبار بواسطة المجالس والمآتم والشبيه واللطم والدوران وحمل الرايات والألوية في عزاء الحسين. إنّ من المعلوم أنّ كلّ جمعية وجماعة تجلب إليها الأنظار والخواطر بدرجة ما، مثلًا لو كان في بلد عشرة آلاف متفرقين، وفي محلّ ألف نفس مجتمعة، كانت شوكة الألف المجتمعين وابّهتهم في أنظار الخاصة والعامة أكثر من العشرة آلاف المتفرقين، مضافاً إلي أنّهم اجتمع ألف نفس انضم إليهم من غيرهم،

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 107

__________________________________________________

مثل عددهم، إما للتفرّج، أو لأجل صداقة ورفاقة، أو لأغراض اخري ، وبهذا الانضمام تزيد شوكة الألف وقوتهم في الأنظار وتتضاعف. ومن الأمور الطبيعية المؤيدة لفرقة الشيعة في تأثير قلوب سائر الفرق

هو: إظهار مظلومية أكابر دينهم، وهذا التأثير من الأمور الفطرية؛ لأنّ كلّ أحد بالطبع يأخذ بيد المظلوم ويحب نصرة الضعيف والمظلوم علي القوي، والطبائع البشرية أميل إلي الضعيف والمظلوم ولو كان مبطلًا من الظالم وإن كان محقاً، ولا سيما إذا مرّت عليه السنون والأعوام، وهؤلاء مصنفوا أوروبا الذين ذكروا في كتبهم تفصيل مقاتلة الحسين وأصحابه وقتله مع أنّهم لا يعتقدون بهم يذعنون بالمظلومية لهم ويعترفون بظلم وتعدّي قاتليهم وعدم رحمتهم، ولا يذكرون أسماءهم إلّامشمئزين، وهذه الآمور الطبيعية لا يقف أمامها شي ء، وهذا السرّ من المؤيدات الطبيعية لفرقة الشيعة. وقال (المسيومار بين) حكيم الألمان وفيلسوف المستشرقين ما هذا نصّ تعريبه: إنّ عدم معرفة بعض مؤرخينا بحقيقة الحال، أوجب أن ينسبوا في كتبهم طريقة إقامة الشيعة لعزاء الحسين إلي الجنون! ولكن جهلوا مقدار تغيير هذه المسألة وتبديلها في الإسلام، فإنّا لم نر في سائر الأقوام ما نراه في شيعة الحسين مِن الحسيات السياسية والثورات المذهبية بسبب إقامة عزاء الحسين، وكلّ من أمعن النظر في رقي شيعة علي الذين جعلوا إقامة عزاء الحسين شعارهم في مدة مائة سنة، يذعن أنّهم فازوا بأعظم الرقي، فإنّه لم يكن قبل مائة سنة من شيعة علي والحسين في الهند إلّاما يعد بالأصابع، واليوم هم في الدرجة الثالثة من حيث الجمعية إذا قيسوا بغيرهم، وكذلك هم في سائر نقاط الأرض، وإذا قسنا دعاتنا مع تلك المصارف الباهضة والقوة الهائلة، والشيعة تري دعاتنا لم يحظوا بعشر ترقيات هذه الفرقة، وإن كان قسسنا يحزنون القلوب بذكر

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 108

__________________________________________________

مصائب المسيح، ولكن لا بذلك الشكل والأسلوب المتداول بين شيعة الحسين، ويغلب علي الظن أنّ سبب ذلك هو: إنّ مصائب الحسين أشد حزناً وأعظم تأثيراً

من مصائب المسيح. فعلي مؤرخينا أن يعرفوا حقيقة رسوم الأغيار وعاداتهم ولا ينسبوها إلي الجنون، وإني أعتقد بأنّ بقاء القانون الإسلامي وظهور الديانة الإسلامية وترقي المسلمين هو مسبب عن قتل الحسين وحدوث تلك الوقائع المحزنة، وهكذا ما تراه اليوم بين المسلمين من حسن السياسة، وإباء الضيم، ما هو إلّابواسطة عزاء الحسين، وما دامت في المسلمين هذه الملكة والصفة لا يقبلون ذلّاً ولا يدخلون في أسر أحد. ينبغي لنا أن ندقق النظر في ما يذكر من النكات الدقيقة الحيوية في مجالس إقامة عزاء الحسين، ولقد حضرت دفعات في المجالس التي يذكر فيها عزاء الحسين في اسلامبول مع مترجم، وسمعتهم يقولون: - الحسين الذي كان إمامنا، ومقتدانا، ومَن تجب طاعته ومتابعته علينا، لم يتحمل الضيم، ولم يدخل في طاعة يزيد، وجاد بنفسه، وعياله، وأولاده، وأمواله في سبيل حفظ شرفه وعلو حسبه ومقامه، وفاز في قبال ذلك بحسن الذكر والصيت في الدنيا، والشفاعة يوم القيامة، والقرب من اللَّه، وأعداؤه قد خسروا الدنيا والآخرة … فرأيت بعد ذلك وعلمت أنّهم في الحقيقة يدرس بعضهم بعضاً علناً بأنّكم إن كنتم شيعة الحسين، وأصحاب شرف، إنْ كنتم تطلبون السيادة والفخر، فلا تدخلوا في طاعة أمثال يزيد، ولا تتحملوا الذل، بل اختاروا الموت بعزة علي الحياة بذلة حتي تفوزوا بحسن الذكر في الدنيا والآخرة، وتحظوا بالفلاح. من المعلوم حال الأمة التي تلقي عليها أمثال هذه التعاليم من المهد إلي اللّحد، في أي درجة تكون في الملكات العظيمة، والسجايا العالية، نعم هكذا أمة تحوي كلّ نوع من أنواع السعادة والشرف، ويكون جميع أفرادها جنداً مدافعين عن عزّهم وشرفهم، هذا هو التمدن الحقيقي اليوم، هذا هو طريق تعليم الحقوق، هذا هو معني تدريس أصول

السياسة. (المؤلف).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 109

ودنياها، أنبّهك إليها بذكر بعضها واوكِل الباقي إلي فطنتك:

فمنها: إنّها جامعة إسلامية، ورابطة إمامية، باسم النبي وآله صلوات اللَّه عليهم أجمعين، ينبعث عنها الاعتصام بحبل اللَّه عزّوجلّ، والتمسك بثقلي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، وفيها من اجتماع القلوب علي أداء أجر الرسالة بمودة القربي ، وترادف العزائم علي إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام ما ليس في غيرها.

وحسبك في رجحانها ما يتسني بها للحكيم من إلقاء المواعظ والنصائح، وإيقاف المجتمعين علي الشؤون الإسلامية، والأمور الإمامية ولو إجمالًا، وبذلك يكون أمل العاملي، نفس أمل إخوانه في العراق وفارس والبحرين والهند وغيرها من بلاد الإسلام.

ولا تنس ما يتهيأ للمجتمعين فيها من الإطلاع علي شؤونهم، والبحث عن شؤون إخوانهم النائين عنهم، وما يتيسر لهم حينئذ من تبادل الآراء فيما يعود عليهم بالنفع، ويجعلهم كالبنيان المرصوص، يشدّ بعضه بعضاً، أو كالجسد الواحد، إذا اشتكي منه عضواً أنَّت له سائر

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 110

الأعضاء، وبذلك يكونون مستقيمين في السير علي خطةٍ واحدة يسعون فيها وراء كلّ ما يرمون إليه.

ومنها: إنّ هذه المآتم دعوة إلي الدين بأحسن صورة وألطف أسلوب، بل هي أعلا صرخة للإسلام توقظ الغافل من سباته، وتنبّه الجاهل من سكراته، بما تشربه في قلوب المجتمعين، وتنفثه في آذان المستمعين، وتبثّه في العالم وتصوره قالباً لجميع بني آدم، من أعلام الرسالة، وآيات الإسلام، وأدلة الدين، وحجج المسلمين، والسيرة النبوية، والخصائص العلوية، ومصائب أهل البيت في سبيل اللَّه، وصبرهم علي الأذي في إعلاء كلمة اللَّه.

فأولوا النظر والتحقيق، يعلمون أنّ خطباء هذه المآتم كلّهم دعاة إلي الدين من حيثُ لم يقصدوا ذلك، بل لا مبشّر بالإسلام علي التحقيق سواهم. وأنت تعلم: أنّ الموظفين لهذا

العمل الشريف لا يقصرون في أنحاء البسيطة عن الألوف المؤلّفة، فلو بذلَ المسلمون شطر أموالهم ليوظّفوا دعاةً إلي دينهم بعدد أولئك الخطباء، ما تيسر ذلك لهم، ولو تيسّر فلا يتيسر مَن يستمع الدعوة علي ممر الدهور استماع الناس لما يتلي في هذه المآتم بكلّ رغبة وإقبال.

ومنها: ما قد أثبته العيان وشهد به الحس والوجدان، من بث روح المعارف بسبب هذه المآتم، ونشر أطراف من العلوم ببركتها، إذ هي

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 111

- بشرط كونها علي أصولها- أرقي مدرسة للعوام، يستضيئون فيها بأنوار الحكم من جوامع الكلم، ويلتقطون منها درر السير، ويقفون بها علي أنواع العبر، ويتلقّون فيها من الحديث والتفسير والفقه ما يلزمهم حمله ولا يسعهم جهله، بل هي المدرسة الوحيدة للعوام في جميع بلاد الإسلام.

وقد تفنن خطباؤها في ما يصدعون به أولًا علي أعوادها، ثم يتخلصون منه إلي ذكر المصيبة وتلاوة الفاجعة.

فمنهم: مَن يشنف المسامع، ويشرّف الجوامع بالحكم النبوية، والمواعظ العلوية، أو يتلوا أوّلًا من كلام أئمة أهل البيت ما يقرّب المستمعين إلي اللَّه ويأخذ بأعناقهم إلي تقواه.

ومنهم: مَن يتلو أوّلًا من سيرة النبي صلّي اللَّه عليه وآله وتاريخ أوصيائه عليهم السلام ما يبعث المستمعين علي مودّتهم ويضطرهم إلي بذل الجهد في طاعتهم.

ومنهم: مَن ينبّه الأفكار أوّلًا إلي فضل رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله ومقام أوصيائه عليهم السلام بما يسرده من الأحاديث الصحيحة والآيات المحكمة الصريحة.

ومنهم: مَن يتلو أوّلًا من الأحكام الشرعية والعقائد الدينية ما تعم به البلوي للمكلّفين ولا مندوحة عن معرفته لأحد من العالمين.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 112

هذه سيرتهم المستمرة أيّام حياتهم، فهل تري - بجدك- للعوام مدرسة تقوم مقامها في جسيم فوائدها وعظيم قاصدها؟؟ لا وسرّ الحكماء الذين بعثوا

شيعتهم عليها، وحكمة الأوصياء الذين أرشدوا أوليائهم إليها.

ومنها: الارتقاء في الخطابة، والعروج إلي منتهي البراعة، كما يشهد به الوجدان، ولا نحتاج فيه إلي برهان.

ومنها: العزاء عن كلِّ مصيبة، والسلوة لكلّ فادحة، إذ تهون الفجائع بذكر فجائعهم، وتنسي القوارع بتلاوة قوارعهم، كما قيل في رثائهم (عليهم السلام):

أنستْ رزيّتكم رزايانا التي سلفت وهوّنت الرزايا الآتية

ومنها: إنعاش أهل الفاقة، وإثلاج أكباد حرّا من أهل المسكنة علي الدوام، بما ينفق في هذه المآتم من الأموال في سبيل اللَّه عزّوجلّ، وما يُبذل فيها لأهل المسغبة وغيرهم، وأنت تعلم أنّه لا وسيلة لقرّاء تلك المآتم في التعيش غالباً إلّاهذه الوظيفة، وهم من الرجال والنساء- بقطع النظر عمّن يقومون بنفقته- ألوف مؤلّفة يعيشون ببركة أهل البيت ويتنعمون بيمن مآتمهم (عليهم السلام).

ومنها: إنّ المصلحة التي استشهد الحسين- بأبي وأمّي- في سبيلها وسُفك دمه الزكي تلقاءها، تستوجب استمرار هذه المآتم، وتقتضي

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 113

دوامها إلي يوم القيامة.

وبيان ذلك: إن المنافقين حيث دفعوا أهل البيت عن مقامهم، وأزالوهم عن مراتبهم التي رتبهم اللَّه فيها، ظهروا للناس بمظاهر النيابة عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، وأظهروا التأييد لدينه، والخدمة لشريعته، فوقع الالتباس، واغترَّ بهم أكثر الناس، ولما ملكوا من الأمة أزمّتها، واستسلمت لهم برمّتها، حرّموا- والناس في سِنةٍ عن سوء مقاصدهم- من حلال اللَّه ماشاؤا، وحلّلوا من حرامه ما أرادوا، وعاثوا في الدين وحكموا فيه القاسطين، فسملوا أعين أولياء اللَّه، وقطعوا أيديهم وأرجلهم من خلاف، وصلبوهم علي جذوع النخل، ونفوهم عن عقر ديارهم، حتي تفرّقوا أيدي سبا، ولعنوا أميرالمؤمنين عليه السّلام وكنوا به عن أخيه الصادق الأمين (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم).

فلو دامت تلك الأحوال- وهم أولياء السلطة المطلقة والرئاسة الروحانية- لما أبقوا

للإسلام عيناً ولا أثراً، لكن ثار الحسين عليه السّلام فادياً دين اللَّه عزّوجلّ بنفسه وأحبائه، حتي وردوا حياض المنايا ولسان حاله يقول:

إنْ كان دين محمّد لم يستقم إلّا بقتلي يا سيوف خذيني

فاستنقذ الدين من أيدي الظالمين، وانكشف الغطاء بوقوع تلك الرزايا عن نفاق القوم، حتي تجلّت عداوتهم للَّه عزّوجلّ وظهر انتقامهم

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 114

من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، إذ لم يكتفوا بقتل الرجال من بنيه عطاشاً والماء تعبث فيه خنازير البرّ وكلابه، ولم يقنعوا بذبح الأطفال من أشباله أحياء، وقد غارت أعينهم من شدة العطش، ولا اكتفوا باستئصال العترة الطاهرة ونجوم الأرض من شيبة الحمد، حتي وطأواجثثهم بسنابك الخيل، وحملوا رؤسهم علي أطراف الأسنّة، وتركوا أشلائهم الموزعة عارية بالعراء مباحة لوحوش الأرض وطير السماء، ثم أبرزوا ودائع الرسالة وحرائر الوحي مسلّبات وطافوا البلاد بهن سبايا كأنهن من كوافر البربر، حتي أدخلوهن تارة علي ابن مرجانة، وأخري علي ابن آكلة الأكباد، أوقفوهنّ علي درج الجامع في دمشق حيث تباع جواري السبي، فلم تبقَ بعدها وقفة في عداوتهم للَّه، ولا ريبة بنفاقهم في دين الإسلام.

وعلم حينئذ أهل البحث والتنقيب من أُولي الألباب: أن هذه أمور دُبّرِتْ بليل، وأنّها عن عهد السلف بها إلي خلفه، وما كانت ارتجالًا من يزيد.

«وما المسبب لو لم ينجح السبب».

ثم لم تزل أنوار هذه الحقيقة تتجلّي لكل مَن نظر نظراً فلسفياً في فجائع الطف، وخطوب أهل البيت، أو بحث بحث مدققٍ عن أساس تلك الضوارع وأسباب هاتيك الفظائع.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 115

وقد علم أهل التدقيق من أُولي البصائر: أنّه ما كان لهذا الفاجر أنْ يرتكب من أهل البيت ما ارتكب، لولا ما مهّده سلفه من هدم سورهم،

وإطفاء نورهم، وحمله الناس علي رقابهم، وفعله الشنيع يوم بابهم.

وتاللَّه، لولا مابذله الحسين عليه السّلام في سبيل إحياء الدين من نفسه الزكية، ونفوس أحبائه بتلك الكيفية، لأمسي الإسلام خبراً من الأخبار السالفة «1»، وأضحي المسلمون أمة من الأمم التالفة، إذلو بقي

__________________________________________________

(1) كما شهد به العظماء من فلاسفة الغرب، وإليك ما ذكره (المسيو ماريين) في كتابه (السياسة الإسلامية) بعين لفظ المعرب قال من جملة كلام طويل: لا يشكُّ صاحب الوجدان إذا دقق النظر في أوضاع ذلك العصر وكيفية نجاح بني أميّة في مقاصدهم واستيلائهم علي جميع طبقات الناس وتزلزل المسلمين، أنّ الحسين قد أحيا بقتله دين جدّه وقوانين الإسلام، وإن لم تقع تلك الواقعة ولم تظهر تلك الحسيات الصادقة بين المسلمين؛ لأجل قتل الحسين، لم يكن الإسلام علي ما هو عليه الآن قطعاً، بل كان من الممكن ضياع رسومه وقوانينه حيث كان يومئذٍ حديث العهد، عزم الحسين إنجاح هذا المقصود، وإعلان الثورة ضد بني أمية من يوم توفي والده، فلما قام يزيد مقام معاوية خرج الحسين من المدينة وكان يظهر مقصده العالي، ويبث روح الثورة في المراكز المهمة الإسلامية كمكة والعراق وأينما حلَّ، فازداد نفرة قلوب المسلمين التي هي مقدمة الثورة من بني أمية، ولم يكن يجهل يزيد مقاصد الحسين، وكان يعلم أنّ الثورة إذا أُعلنت في جهة والحسين قائدها مع تنفر المسلمين عموماً من حكومة بني أميّة، وميل القلوب وتوجه الأنظار إلي الحسين عمت جميع البلاد وفي ذلك زوال ملكهم وسلطانهم، فعزم يزيد قبل كلّ شي ء من يوم بويع علي قتل الحسين، ولقد كان هذا العزم أعظم خطأ سياسي صدر من بني امية الذي جعلهم نسياً منسيّاً ولم يبقَ منهم أثر ولا خبر.

وأعظم الأدلّة علي

أنّ الحسين أقدم علي قتل نفسه، ولم تكن في نظره سلطنة ولا رئاسة هو: إنّه مضافاً إلي ما كان عليه من العلم والسياسة والتجربة التي وقف عليها زمن أبيه وأخيه في قتال بني أميّة، كان يعلم أنّه مع عدم تهيئة الأسباب له واقتدار يزيد، لا يمكنه المقاومة والغلبة وكان يقول من يوم توفي والده إنّه يقتل، وأعلن يوم خروجه من المدينة أنّه يمضي إلي القتل، وأظهر ذلك لأصحابه والذين اتبعوه من باب إتمام الحجة حتي يتفرق الذين التفوا حوله طمعاً بالدنيا، وطالما كان يقول: (خيّر لي مصرع أنا ملاقيه). ولو لم يكن قصده ذلك ولم يكن عالماً عامداً لجمع الجنود ولسعي في تكثير أصحابه وزيادة استعداده، لا أن يفرق الذين كانوا معه، ولكن لما لم يكن له قصد إلّاالقتل مقدمة لذلك المقصد العالي، وإعلان الثورة المقدسة ضد يزيد، رأي أنّ خير الوسائل إلي ذلك الوحدة والمظلومية، فإن أثر هكذا مصائب أشد وأكثر في القلوب.

من الظاهر أنّ الحسين مع ما كانت له من المحبوبية في قلوب المسلمين في ذلك الزمان لو كان يطلب قوةً واستعداداً لأمكنه أن يخرج إلي حرب يزيد جيشاً جراراً، ولكنه لو صنع ذلك لكان قتله في سبيل طلب السلطنة والإمارة، ولم يفز بالمظلومية التي انتجت تلك الثورة العظيمة، هذا هو الذي سبب أن لا يبقي معه أحداً إلّاالذين لايمكن انفكاكهم عنه، كأولاده، وإخوانه، وبني إخوته، وبني أعمامه وجماعة من خواص أصحابه، حتي أنّه أمر هؤلاء أيضاً بمفارقته، ولكنهم أبوا عليه ذلك، وهؤلاء أيضاً كانوا من المعروفين بين المسلمين بجلالة القدر وعظم المنزلة وقتلهم معه، مما يزيد في عظم المصيبة وأثر الوقعة، نعم! إنّ الحسين بمبلغ علمه وحسن سياسته بذل كمال جهده في

إفشاء ظلم بني أمية وإظهار عداوتهم لبني هاشم وسلك في ذلك كلّ طريق، لما كان يعلم عداوة بني أمية له ولبني هاشم، ويعرف أنّهم بعد قتله يأسرون عياله وأطفاله، وذلك يؤيد مقصده ويكون له أثر عظيم في قلوب المسلمين، سيما العرب كما وقع ذلك، حملهم معه وجاء بهم من المدينة.

نعم، إنّ ظلم بني أمية وقساوة قلوبهم في معاملاتهم مع حرم محمّد وسباياه، أثّر في قلوب المسلمين تأثيراً عظيماً لا ينقص عن أثر قتله وأصحابه، ولقد أظهر في فعله هذا عقيدة بني أمية في الإسلام وسلوكهم مع المسلمين سيما ذراري نبيّهم، لهذا كان الحسين يقول في جواب أصحابه والذين كانوا يمنعونه عن هذا السفر: إني أمضي إلي القتل. ولما كانت أفكار المانعين محدودة وأنظارهم قاصرة لا يدركون مقاصد الحسين العالية، لم يألوا جهدهم في منعه، وآخر ما أجابهم به أنْ قال لهم: (شاء اللَّه ذلك، وجدي أمرني به)، فقالوا: إنْ كنت تمضي إلي القتل فما وجه حملك النسوة والأطفال فقال: (إن اللَّه شاء أن يراهن سبايا) ولما كان بينهم رئيساً روحانياً لم يكن لهم بدٌّ عن السكوت.

ومما يدلّ علي أنّه لم يكن له غرض إلّاذلك المقصد العالي الذي كان في نفسه ولم يتحمل تلك المصائب لسلطنة وإمارة، ولم يقدم علي هذا الخطر من غير علم ودراية كما تصوره بعض المؤرخين منا، أنّه قال لبعض ذوي النباهة قبل الواقعة بأعوام كثيرة علي سبيل التسلية: إنّ بعد قتلي وظهور تلك المصائب المحزنة، يبعث اللَّه رجالًا يعرفون الحق من الباطل، يزورون قبورنا، ويبكون علي مصابنا، ويأخذون بثارنا من أعدائنا، أولئك جماعة ينشرون دين اللَّه وشريعة جدّي وأنا وجدي نحبّهم وهم يحشرون معنا يوم القيامة.

ولو تأمل المتأمل في كلام الحسين

وحركاته، يري أنّه لم يترك طريقاً من السياسة إلّاسلكه في إظهار شنائع بني أمية وعداوتهم القلبية لبني هاشم ومظلومية نفسه، وهذا مما يدلّ علي حسن سياسته وقوة قلبه وتضحية نفسه في طريق الوصول إلي المقصد الذي كان في نظره، حتي أنّه في آخر ساعات حياته عمل عملًا حيّر عقول الفلاسفة ولم يصرف نظره عن ذلك المقصد العالي مع تلك المصائب المحزنة والهموم المتراكمة، وكثرة العطش والجراحات، وهو قصة الرضيع، لما كان يعلم أنّ بني أمية لا يرحمون له صغيراً رفع طفله الصغير تعظيماً للمصيبة علي يده أمام القوم وطلب منهم أنْ يأتوه شربةً من الماء فلم يجيبوه إلّابالسهم، ويغلب علي الظن أنّ غرض الحسين من هذا العمل تفهيم العالم بشدة عداوة بني أمية لبني هاشم، وأنّها إلي أي درجة بلغت، ولا يظن أحد أنّ يزيد كان مجبوراً علي تلك الإقدامات الفجيعة لأجل الدفاع عن نفسه؛ لأنّ قتل الطفل الرضيع في ذلك الحال بتلك الكيفية ليس هو إلّاتوحش وعداوة سبعية منافية لقواعد كلّ دين وشريعة. ويمكن أنْ تكون هذه الفاجعة كافية في افتضاح بني أمية، ورفع الستار عن قبائح أعمالهم ونياتهم الفاسدة بين العالم سيما المسلمين، وأنّهم يخالفون الإسلام في حركاتهم بل يسعون بعصبية جاهلية إلي اضمحلال آل محمّد وجعلهم بالأيدي سبايا.

ونظراً لتلك المقاصد العالية التي كانت في نظر الحسين، مضافاً إلي وفور علمه وسياسته التي كان لا يشك فيها إثنان لم يرتكب امراً يوجب مجبورية بني أمية للدفاع حتي مع ذلك النفوذ والإقتدار الذي كان له في ذلك العصر، لم يسعَ في تسخير البلاد الإسلامية وضمّها إليه، ولا هاجم ولاية من ولايات يزيد، إلي أنْ حاصروه في وادٍ غير ذي زرع، قبل أن تبدو منه

أقل حركة عدائية، أو تظهر منه ثورة ضد بني أمية.

لم يقل الحسين يوماً: سأكون ملكاً أو سلطاناً، وأصبح صاحب سلطة، نعم كان يبث روح الثورة في المسلمين بنشره شنائع بني أمية واضمحلال الدين إنْ دام ذلك الحال، وكان يخبر بقتله ومظلوميته وهو مسرور، ولما حوصر في تلك الأرض القفراء أظهر لهم من باب إتمام الحجة بأنّهم لو تركوه لرحل بعياله وأطفاله، وخرج من سلطة يزيد، ولقد كان لهذا الإظهار الدالّ علي سلامة نفس الحسين في قلوب المسلمين غاية التأثير.

قُتل قبل الحسين ظلماً وعدواناً كثير من الرؤساء الروحانيين، وأرباب الديانات وقامت الثورة بعد قتلهم بين تابعيهم ضد الأعداء، كما وقع مكرراً في بني إسرائيل وقصة يحيي من أعظم الحوادث التأريخية، ومعاملة اليهود مع المسيح لم ير نظيرها إلي ذلك العهد، ولكن واقعة الحسين فاقت الجميع.

لم يرشدنا التاريخ إلي أحد من الروحانيين وأرباب الديانات أنّه أقدم علي قتل نفسه عالماً عامداً لمقاصد عالية لا تنجح إلّابقتله، فإنّ كلّ واحد من أرباب الديانات الذين قتلوا، ثار عليهم أعداؤهم وقتلوهم ظلماً، وبمقدار مظلوميتهم قامت الثورة بعدهم ومقاصد الحسين كانت علي علم وحكمة وسياسة، وليس لها نظير في التاريخ، فإنّه لم يزل يوالي السعي في تهيئة أسباب قتله نظراً لذلك المقصد العالي، ولم نجد في التاريخ رجلًا ضحّي حياته عالماً عامداً لترويج ديانته من بعده إلّاالحسين.

المصائب التي تحمّلها الحسين في طريق إحياء دين جدّه تفوق علي مصائب أرباب الديانات السابقين، ولم ترد علي أحد منهم، نعم: إنّ هناك رجالًا قتلوا في طريق إحياء الدين، ولكنهم لم يكونوا كالحسين، فإنه ضحّي نفسه العزيزة في طريق إحياء دين جدّه، وفداه بأولاده، وإخوانه، وأقربائه، وأحبابه، وأمواله، وعياله، ولم تقع هذه المصائب دفعة واحدة

حتي تكون في حكم مصيبة واحدة، بل وقعت متتالية واحدة بعد أخري ، ويختص الحسين دون غيره بتواتر أمثال هذه المصائب، كما يشهد له التاريخ.

لم تنته المصائب التي وردت علي الحسين من قتله وقتل أصحابه، وتسيير نسائه وبناته إلّاوانكشف الغطاء عن سرائر بني أمية، وقبائح أعمالهم، وظهرت بين المسلمين الحسيات السياسية، وتوطدت أسباب الثورة ضد سلطنة يزيد وبني امية وعلم الجميع أنّ بني أمية مخربوا الإسلام، وصار الجميع يرفض بدعهم وتقولاتهم وعرفوا بالظلم والغصب بالعكس من بني هاشم، فإنهم عرّفوا بالمظلومية، وأنّ لهم الرئاسة الروحانية بالإستحقاق، وإليهم تنتمي الحقيقة الروحانية.

كأنّ المسلمين- بعد قتل الحسين- قد دخلوا في دور جديد، وظهرت الروحانية الإسلامية بأجلي مظاهرها، وتجددت بعد أنْ كانت مندرسةً غائبة عن أذهان المسلمين، وكما لا يشك إثنان في تفوّق مصائب الحسين علي جميع مصائب روحاني السلف، فكذلك لا يشك في الثورة التي حدثت بعده، بأنّها فاقت سائر الثورات السالفة، وإنّ امتدادها وأثرها أكثر، وإنْ بها ظهرت للعالم مظلومية آل محمّد.

فكانت أوّل نتيجة هذه الثورة اختصاص الرئاسة الروحانية التي لها أهمية عظمي في عالم السياسة ببني هاشم وخصوصاً في أولاد الحسين، فكان منهم أئمة الشيعة. وإلي حال التاريخ ينظر عموم المسلمين إلي بني هاشم سيما أولاد الحسين نظرهم إلي الروحانيين، ولم يطل العهد حتي نزعت تلك السلطنة من بني أمية وزالت السلطة والقدرة من آل يزيد في أقل من قرن، واندرست آثارهم علي وجه لم يبق منهم عين ولا أثر، وأينما ذكرت أسماؤهم في متون الكتب قرنها المسلمون بكلمة الشماتة، وكلّ ذلك نتيجة سياسة الحسين الذي يمكن أن يقال: إنّه لم يأت في أرباب الديانات والروحانيين رجل عرف عواقب الأمور مع بعد نظر وحسن سياسة كالحسين، والتاريخ

لم يرشدنا.

قبل أن تصل سبايا الحسين إلي الشام قامت الثورة ضد يزيد، وظهرت بمظلومية الحسين سرائر بني أمية، وكشفت الغطاء عن نياتهم، وتوجه اللوم علي يزيد حتي من أهل داره وحرمه، وصار يزيد يسمع تقديس الحسين وأولاد علي وعظمتهم ومظلوميتهم، بعد أن لم يكن يمكن ذكرهم عنده بخير، وكان يصعب عليه ذلك إلّاأنّه لم يكن له بدّ غير السكوت، ولما أراد تبرأة نفسه من تلك الأعمال، ألقي المسؤولية علي عمّاله، ولم يزل يسمع محامد الحسين، قال ذات يوم: إنّ سلطنة الحسين كانت أهون عليَّ من هذا المقام العالي الذي فاز به آل علي (عليه السّلام) وبنو هاشم …

وبالأخير، فشيعة الحسين لم يزالوا يستفيدون من هذه الثورات، وتزيد قوة بني هاشم وعظمتهم حتي لم يمض أقل من قرن إلّاوصارت السلطنة الإسلامية الوسيعة في بني هاشم من دون مزاحم، وأبادوا بني أمية علي وجه لم يبق منهم اسم ولا رسم، غير أفراد تسلّموا زمام السلطنة في الأندلس إلي كم قرن، ولم يبق فعلًا من تلك العظمة التي سيطرت علي المسلمين قروناً عديدة أثر ولم يوجد من أؤلئك شخص، ولو تحت ستر الخفاء، ولو وجد فلا يمكنه إظهار نسبه نظراً لشناعة ذلك، ولما انتهت السلطنة بعد قرن إلي بني هاشم كانت في أولاد عم الحسين دون أولاده، لأنّهم اعتزلوا الناس وأذعن الجميع لهم بالرئاسة الروحانية، نعم: نال أولاد عم الحسين هذه السلطة، وتوفقوا بسبب ثورات شيعة الحسين للقبض علي زمامها، ولكنهم بعد أن استلموا زمام الأمور وانقاد لهم الجمهور، صاروا في صدد منع تلك الثورات التي نالوا السلطة ببركتها خوفاً من رجوع السلطنة الإسلامية إلي أولاد الحسين وانتزاعها من أيديهم كما انتزعت من بني أمية، فقلّت تلك الثورات

يوماً فيوماً لمنع هؤلاء أوّلًا، ولإضمحلال بني أمية ثانياً، فلما رأي عقلاء شيعة علي ذلك عرفوا أنّ تلك الثورات لا تقاوم سلطنة أولاد عمهم لزيادة اقتدارهم وتفرّق الآراء والأهواء العمومية، تركوها بحسب الظاهر ولكنهم في الحقيقة غيّروا شكلها، وأظهروها بصورة اخري أعني بالأجتماع وعقد الاجتماعات وذكر الوقائع المحزنة والمصائب المؤلمة التي وردت علي الحسين حفظاً لروح الثورة، وتمهيداً لأسباب النهضة، وصوناً لها عن الإضمحلال والإندراس. (المؤلف).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 122

المنافقون علي ما كانوا عليه من الظهور للعامة بالنيابة عن رسول اللَّه والنصح لدينه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وهم أولياء السلطة المطلقة والإرادة المقدسة، لغرسوا من شجرة النفاق ما أرادوا، وبثوا من روح الزندقة ما شائوا، وفعلوا بالدين ما توجبه عداوتهم له، وارتكبوا من الشريعة كلّ أمر يقتضيه نفاقهم.

وأمّا شيبة الحسين المخضوبة بدمه الطاهر، لولا ما تحمّله سلام اللَّه عليه في سبيل اللَّه ما قامت لأهل البيت عليهم السلام- وهم حجج اللَّه- قائمة، ولا عرفهم- وهم أولوا الأمر- ممّن تأخر عنهم أحد، لكنه- بأبي وأمي- فضح المنافقين، وأسقطهم من أنظار العالمين، واستلفت الأبصار بمصيبته إلي سائر مصائب أهل البيت، واضطر الناس بحلول هذه القارعة إلي البحث عن أساسها، وحملهم علي التنقيب عن أسبابها،

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 123

والفحص عن جذرها وبذرها، واستنهض الهمم إلي حفظ مقام أهل البيت عليهم السلام، وحرّك الحميّة علي الإنتصار لهم؛ لأنّ الطبيعة البشرية والجبلّة الإنسانية، تنتصر للمظلومين وتنتقم بجهدها من الظالمين، فاندفع المسلمون إلي موالات أهل البيت حتي كأنّهم قد دخلوا- بعد فاجعة الطف- في دور جديد، وظهرت الروحانيّة الإسلاميّة بأجلي مظاهرها، وسطع نور أهل البيت بعد أن كان محجوباً بسحائب ظلم الظالمين، وانتبه الناس إلي نصوص الكتاب والسنّة

فيهم عليهم السلام، فهدي اللَّه بها مَن هدي لدينه، وضلَّ عنها مَن عمي عن سبيله.

وكان الحسين- بأبي وأمي- علي يقين من ترتب هذه الآثار الشريفة علي قتله، وانتهاب رحله، وذبح أطفاله، وسبي عياله، بل لم يجد طريقاً لإرشاد الخلق إلي الأئمة بالحق، واستنقاذ الدّين من أئمة المنافقين- الذين خفي مكرهم، وعلا في نفوس العامة أمرهم- إلّا الاستسلام لتلك الرزايا والصبر علي هاتيك البلايا، وما قصد كربلاء إلّا لتحمل ذلك البلاء، عهد معهود عن أخيه عن أبيه عن جدّه عن اللَّه عزّوجلّ.

ويرشدك إلي ذلك- مضافاً إلي أخبارنا المتواترة من طريق العترة الطاهرة- دلائل أقواله وقرائن أفعاله، فإنّها نص فيما قلناه، وحسبك منها

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 124

جوابه لأمّ سلمة إذ قالت له- كما في البحار وجلاء العيون وغيرهما-: «يا بنيّ لا تحزن بخروجك إلي العراق، فإني سمعتُ جدّك صلّي اللَّه عليه وآله يقول: «يُقتل ولدي الحسين بأرض يقال لها كربلاء» فقال لها:

«يا امّاه، وأنا واللَّه أعلم ذلك وأنّي مقتول لا محالة وليس لي منه بدّ، وقد شاء اللَّه أن يراني مقتولًا ويري حرمي مشردين وأطفالي مذبوحين» «1».

وجوابه لأخيه عمر، إذ قال له حين امتنع من البيعة ليزيد: «حدّثني أخوك أبو محمّد عن أبيه» ثم بكي حتي علا شهيقه فضمّه الحسين إليه وقال- كما في الملهوف وغيره-: «حدّثك أنّي مقتول» قال: «حوشيت يا ابن رسول اللَّه»، فقال: «بحق أبيك بقتلي خبّرك؟» قال: «نعم، فلو بايعت» فقال عليه السّلام:

«حدثني أبي أنّ رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم) أخبره بقتله وقتلي وأنّ تربتي تكون بقرب تربته، أتظن أنّك علمت ما لم أعلم؟» «2».

والرؤيا التي رآها في مسجد جدّه صلّي اللَّه عليه وآله حين ذهب ليودّعه، وقول النبي له

فيها كما في أمالي الصدوق وغيره:

__________________________________________________

(1) بحار الأنوار 44/ 331، والعوالم: 17، وينابيع المودّة للقندوزي: 405.

(2) اللهوف: 20، ط قم.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 125

«بأبي أنت، كأني أراك مرمّلًا بدمك بين عصابة من هذه الأمة ما لهم عنداللَّه من خلاق» «1».

وكتابه إلي بني هاشم لمّا فصل من المدينة، وقوله فيه- كما في الملهوف نقلًا عن رسائل ثقة الإسلام-:

«أمّا بعد، فإنّ من لحق بي منكم استشهد ومَن تخلّف لم يبلغ الفتح» «2».

وخطبته ليلة خروجه من مكة، وقوله فيها- كما في الملهوف وغيره-:

«كأنّي بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء».

إلي أن قال:

«ومَن كان باذلًا فينا مهجته موطّناً علي لقاء اللَّه نفسه، فليرحل معنا فإنّي راحل مصبحاً إن شاء اللَّه تعالي » «3».

وقوله- كما في الملهوف وغيره-:

«لولا تقارب الأشياء وهبوط الأجل، لقاتلتهم بهؤلاء، ولكني أعلم يقيناً أن هناك مصرعي ومصرع أصحابي، لا ينجو منهم إلّا

__________________________________________________

(1) الأمالي للصدوق: 217، المجلس الثلاثون ح 1.

(2) اللهوف: 41.

(3) المصدر: 126.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 126

ولدي علي» «1».

وجوابه لأخيه محمّد بن الحنفية، إذ قال له- كما في الملهوف وغيره-: «يا أخي ألم تعدني النظر فيما سألتك؟» قال:

«بلي، ولكن أتاني رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله) بعد ما فارقتك فقال: يا حسين أُخرج، فإن اللَّه قد شاء أن يراك قتيلا».

فقال ابن الحنفية: «إنّا للَّه وانا إليه راجعون، فما معني حملك هذه النسوة وأنت تخرج علي مثل هذه الحال؟» فقال له:

«قال لي: إنّ اللَّه شاء أن يراهن سباياً» «2».

وجوابه لابن عباس وابن الزبير إذ أشارا عليه بالإمساك. فقال لهما:

- كما في الملهوف وغيره-:

«إنّ رسول اللَّه أمرني بأمرٍ وأنا ماضٍ فيه».

«فخرج ابن عباس وهو يقول: «واحسيناه» «3».

وجوابه لعبداللَّه بن جعفر ويحيي بن سعيد إذ حاولا منه الرجوع

فأبي وقال لهما- كما في تاريخي ابن جرير وابن الأثير وغيرهما-:

«رأيت رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله) في المنام وأمرني بما أنا

__________________________________________________

(1) اللهوف: 126.

(2) المصدر: 128.

(3) المصدر: 22.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 127

ماض له» «1».

وقوله- في كلام له مع ابن الزبير، كما في تاريخي ابن جرير وابن الأثير وغيرهما-:

«وأيم اللَّه لو كنتُ في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتي يقضوا فيَّ حاجتهم، وواللَّه ليعتدن كما اعتدت اليهود في السبت» «2».

وقوله في مقام آخر- كما في كامل ابن الأثير وغيره-:

«واللَّه لا يدعونني حتي يستخرجوا هذه العَلَقة من جوفي، فإذا فعلوا ذلك سلّط اللَّه عليهم مَن يذلّهم حتي يكونوا أذل من فرام المرأة (يعني من خرقة الحيض) «3».

وقوله لأبي هرة- كما في تاريخ ابن جرير وغيره-:

«وأيم اللَّه لتقتلني الفئةُ الباغية» «4».

ورؤياه التي رآها لما ارتحل من قصر بني مقاتل- كما في تاريخ الطبري وغيره- فقال حين انتبه: إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون الحمد للَّه ربّ

__________________________________________________

(1) الكامل في التاريخ 3/ 402، حوادث سنة 60.

(2) تاريخ الطبري 4/ 289، حواث سنة 60، والطبراني في معجمه الكبير 3/ 98، ح 2783.

(3) الكامل في التاريخ 3/ 401، حوادث سنة 60.

(4) مثير الأحزان لابن نما الحلي: 33، والبحار 44/ 368، اللهوف: 43.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 128

العالمين- مرّتين أو ثلاثاً- قال: فأقبل عليه «1» ابنه علي فقال: «يا أبتاه جُعلت فداك مما حمدتَ اللَّه واسترجعت»؟ فقال: «يا بني، خفقت برأسي فعنَّ لي فارس فقال: القوم يسيرون والمنايا تسير إليهم، فعلمت أنّها أنفسنا نعيت إلينا» فقال: «يا أبت لا أراك اللَّه سوءاً، ألسنا علي الحق؟» قال: «بلي والذي إليه مرجع العباد» قال: «إذاً لا نبالي، نموت محقّين».

فقال له: «جزاك اللَّه من ولد

خير ما جزي ولداً عن والده» «2».

وقوله لما أُخبر بقتل قيس بن مسهر الصيداوي- كما في تاريخ الطبري وغيره-:

«فمنهم من قضي نحبه ومنهم مَن ينتظر وما بدّلوا تبديلًا» «3».

إلي غير ذلك من أقواله الصريحة بأنه كان علي يقين مما انتهت إليه حاله، وأنّه ما خرج إلّاليبذل في سبيل اللَّه نفسه وجميع ما ملكته يده، ويضحي في إحياء دين اللَّه أولاده وإخوته، وأبناء أخيه، وبني عمومته وخاصة أوليائه، والعقائل الطاهرات من نسائه.

إذ لم يرالسبط للدين الحنيف شفاً إلّا إذا دمه في نصره سفكا

وما سمعنا عليلًا لا علاج له إلّا بنفس مداويه إذا هلكا

__________________________________________________

(1) في المصدر: (إليه).

(2) تاريخ الطبري 4/ 308، حوادث سنة 61 ومقتل أبي مخنف: 92، ط قم.

(3) المصدر 4/ 306، حوادث سنة 61.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 129

بقتله فاح للإسلام طيب هديً فكلّما ذكرته المسلمون ذكا

وصانَ ستر الهدي عن كلِّ خائنة ستر الفواطم يوم الطف إذ هُتِكا

نفسي الفداء لفاد شرع والده بنفسه وبأهليه وما ملكا

قد آثر الدين أنْ يحيي فقحمها حيث استقام القنا الخطبي واشتبكا «1»

علي أن الأمر الذي انتهت إليه حاله كان من الوضوح بمثابة لم تخف علي أحد، وقد نهاه عن ذلك الوجه- جهلًا بمقاصده السامية- كثير من الناس وأشفقوا عليه وأنذروه بلؤم بني أمية وغدر أهل العراق:

فقال له أخوه محمّد بن الحنفية- كما في الملهوف وغيره-: «يا أخي، إنّ أهل الكوفة من قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خفتُ أن يكون حالك كحال مَن مضي، فإنْ رأيت أنْ تقيم فإنّك أعزّ مَن في الحرم وأمنعه، فإنْ خفت فسر «2» إلي اليمن أو بعض نواحي البرّ، فإنّك أمنع الناس به ولا يقدر عليك».

فردّه الحسين- عليه السّلام- برأفة ورفق، وقال: «انظر فيما قلت» «3».

__________________________________________________

(1)

هذه الأبيات من قصيدة للشريف الفاضل السيد جعفر الحلّي يرثي بها جدّه عليه السّلام. (المؤلف).

(2) في المصدر: (فصر).

(3) اللهوف: 128، ط قم.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 130

وأتاه ابن عباس فقال: «يا ابن عم، قد أرجف الناس أنك سائر إلي العراق، فبيّن لي ما أنت صانع؟» قال: «إني قد أجمعت السير في أحد يوميَّ هذين إنْ شاء اللَّه تعالي »، فقال له ابن عباس- كما في تاريخي الطبري وابن الأثير وغيرها-: «أعيذك باللَّه من ذلك، أتسير إلي قوم قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم؟ فإنْ كانوا فعلوا ذلك فسر إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر لهم، وعماله تجبي بلادهم، فإنّما دعوك إلي الحرب والقتال، ولا آمن عليك أنْ يغروك، ويكذِّبوك ويخالفوك ويخذلوك، وإن يستنفروا إليك، فيكونوا أشدّ الناس عليك».

فردّه الحسين عليه السّلام ردّ رحمة وحنان فقال له: «أستخير اللَّه وأنظر ما يكون» «1».

فخرج ابن عباس.

ثم جاءه مرةً أخري فقال له- كما في تاريخي الطبري وابن الأثير وغيرهما-: «يا ابن عم، إنّي أتصبَّر ولا أصبر، إني أتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاك والإستئصال، إنّ أهل العراق قوم غدر فلا تقربّنهم، أقم بهذا البلد فإنّك سيد أهل الحجاز، فإن كان أهل العراق يريدونك كما

__________________________________________________

(1) مقتل أبي مخنف: 64، الكامل في التاريخ 3/ 399، ذكر مسير الحسين إلي الكوفة.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 131

زعموا، فاكتب إليهم فلينفوا (عاملهم) «1» وعدوّهم ثم اقدم عليهم، فإنْ أبيت إلّاأن تخرج، فسر إلي اليمن فإنّ بها حصوناً وشعاباً، ولأبيك بها شيعة، فتكتب إلي الناس وتبثّ دعاتك، فإني أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحب في عافية».

فقال له الحسين عليه السّلام: «يا ابن عم، إني لأعلم واللَّه أنّك ناصح مشفق، ولكن قد

أزمعت وأجمعت علي المسير» «2».

ودخل عليه عمر بن عبدالرحمن المخزومي فقال له- كما في تاريخي الطبري وابن الأثير وغيرهما-: «إني مشفق عليك، إنك تأتي بلداً فيه عمّاله وأمراؤه، ومعهم بيوت الأموال، وإنما الناس عبيد الدينار والدرهم، فلا آمن عليك أنْ يقاتلك مَن وعدك نصره».

فقال له الحسين عليه السّلام:

«جزاك اللَّه خيراً يا ابن عم، فقد علمتُ أنك مشيتَ بنصح، وتكلّمت بعقل، ومهما يقض من أمرٍ يكن» «3».

وكتب إليه عبداللَّه بن جعفر بعد خروجه من مكة- كما في تاريخي الطبري وابن الأثير وغيرهما-: «أما بعد، فإني أسألك باللَّه لما

__________________________________________________

(1) بين القوسين من المصدر.

(2) الكامل في التاريخ 3/ 401، حواث سنة 60.

(3) المصدر 3/ 399.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 132

انصرفت حين تقرأ كتابي هذا، فإنّي مشفق عليكَ من هذا الوجه أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، وإنْ هلكتَ اليوم طُفِي ءَ نور الأرض، فإنك علم المهتدين ورجاء المؤمنين، فلا تعجل بالسير فإني في إثر كتابي. والسلام» «1».

وقام عبداللَّه بن جعفر إلي عمرو بن سعيد- وهو عامل يزيد يومئذ بمكة- فقال له: «اكتب للحسين كتاباً تجعل له الأمان فيه، وتمنّيه فيه البر والصلة واسأله الرجوع». ففعل عمرو ذلك وأرسل الكتاب مع أخيه يحيي بن سعيد وعبداللَّه بن جعفر، فلحقاه وقرأ عليه الكتاب، وجهدا أن يرجع، فلم يفعل «2». وقال له عبداللَّه بن مطيع- إذ اجتمع به في الطريق علي بعض مياه العرب- كما في تاريخ الطبري وغيره-: - أذكرك اللَّه يا ابن رسول اللَّه وحرمة الإسلام أن تنهتك، أنشدك اللَّه في حرمة رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله)، أنشدك اللَّه في حرمة العرب، فواللَّه لأن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك، ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحداً أبداً «3»

واللَّه إنها

__________________________________________________

(1) الكامل في التاريخ: 402، وتاريخ الطبري 4/ 291.

(2) المصدر 3/ 402.

(3) وكان كما قال فدونك التراجم والمعاجم واطلب تفصيل ما جري من الوقائع في أيام يزيد بن معاوية القصيرة، والفضائع التي ارتكبها بعد فاجعة الطف والتي سوّد بها تاريخ المسلمين، بل تاريخ الإنسان العام. (الميلاني).

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 133

لحرمة الإسلام تنهتك، وحرمة قريش، وحرمة العرب، فلا تفعل ولا تأت الكوفة ولا تعرض لبني أمية».

قالوا: فأبي إلّاأن يمضي «1». إنجازاً لمقاصده السامية.

ولقيه أحد بني عكرمة ببطن العقبة- كما في تاريخ الطبري وغيره- فقال له: «أنشدك اللَّه لما انصرفت، فواللَّه لا تقدم إلّاعلي الأسنة وحدّ السيوف، فإنّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤنة القتال ووطؤا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأياً، فأما علي هذه الحال فإني لا أري لك أن تفعل» فقال له:

«يا عبداللَّه، إنّه ليس يخفي عليّ، الرأي ما رأيت، ولكن اللَّه لا يغلب علي أمره» «2».

ولقيه بعض بني تميم قريباً من القادسية- كما في تاريخ الطبري وغيره-: فقال له: «إرجع فإني لم أدع لك خيراً أرجوه» «3».

وكان قد لقيه الفرزدق بن غالب الشاعر في الصّفاح- كما في تاريخ

__________________________________________________

(1) تاريخ الطبري 4/ 298.

(2) تاريخ الطبري 4/ 301.

(3) المصدر 2/ 304.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 134

الطبري وغيره- فقال له: «قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أمية» «1».

وما التقي في الطريق بأحد إلّاالتمسه علي الرجوع إشفاقاً عليه من لؤم بني أمية وغدر أهل العراق، وما كان ليخفي عليه ما ظهر لأغلب الناس، لكنه وهؤلاء كما قيل: - أنت بوادٍ والعذول بوادي.

ما نزل- بأبي وأمي- منزلًا ولا ارتحل منه- كما في الإرشاد وغيره- إلّا ذكر يحيي بن زكريا وقتله.

وقال يوماً:

«من هوان الدنيا علي اللَّه

إنّ رأس يحيي بن زكريا أُهدي إلي بغي من بغايا بني إسرائيل» «2».

فهل تراه أراد بهذا غير الإشارة إلي أن سبيله في هذا الوجه إنما هو سبيل يحيي عليهما السلام؟

وأخبره الأسديان وهو نازل في الثعلبية- كما في تاريخ الطبري «3» وغيره- بقتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة، وأنهما يجرّان بأرجلهما في الأسواق بلا نكير.

فهل يُمكن بعد هذا أن يبقي له أمل بنصرة أهل الكوفة، أو طمع في

__________________________________________________

(1) تاريخ الطبري 4/ 290.

(2) مثير الأحزان، لابن نما الحلي: 29، ط الحيدرية النجف 1950 م.

(3) تاريخ الطبري 4/ 285.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 135

شي ء من خيرهم؟؟. واللَّه ما جاءهم إلّايائساً منهم عالماً بكلّ ما كان منهم عليه.

وقد كتب وهو نازل بزبالة كتاباً قُرِأ بأمره علي الناس وفيه:

«بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم: أما بعد، فإنه قد أتانا خبر فظيع: قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبداللَّه بن يقطر، وقد خذلتنا شيعتنا، فمَن أحبَّ منكم الإنصراف فلينصرف ليس عليه منا ذمام» «1».

قال محمّد بن جرير الطبري- في تاريخ الأمم والملوك-: «فتفرق الناس عنه تفرّقاً، فأخذوا يميناً وشمالًا حتي بقي في أصحابه الذين جاؤا معه من المدينة» قال: «وإنّما فعل ذلك لأنّه ظنّ إنّما اتبعه الأعراب؛ لأنهم ظنوا أنّه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهله، فكره أن يسيروا معه إلّا وهم يعلمون علي ما يقدمون» قال: «وقد علم أنهم إذا بيّن لهم لم يصحبه إلّا من يريد مواساته والموت معه» «2».

وذكر أهل الأخبار: أنّ الطرماح بن عدي لما اجتمع به في عذيب الهجانات دنا منه فقال له- كما في تاريخ الطبري وغيره-: «واللَّه إني لأنظر فما أري معك أحداً، ولو لم يقاتلك إلّاهؤلاء الذين أراهم

__________________________________________________

(1) تاريخ الطبري 4/ 300.

(2)

المصدر.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 136

ملازميك- يعني الحر «1» وأصحابه- لكان كفي بهم. وقد رأيت قبل خروجي من الكوفة إليك بيوم ظهر الكوفة وفيه من الناس ما لم تر عيناي في صعيد واحد جمعاً أكثر منه فسألت عنهم فقيل: اجتمعوا ليعرضوا ثم يسرحوا إلي حرب الحسين، فأنشدك اللَّه إنْ قدرت أن لا تقدم عليهم شبراً إلّافعلت، فإن أردت أن تنزل بلداً يمنعك اللَّه به حتي تري من رأيك ويستبين لك ما أنت صانع، فسر حتي أنزلك مناع جبلنا الذي يدعي «أجاء» امتنعنا- واللَّه- به من ملوك غسان وحمير ومن النعمان بن المنذر، ومن الأسود والأحمر، واللَّه ما دخل علينا فيه ذل قط، فأسير معك حتي أنزلك القرية، ثم نبعث إلي الرجال ممن ب «أجاء» و «سلمي» من طي ء، فواللَّه لا يأتي عليك عشرة أيام حتي تأتيك طي ء رجالًا وركباناً، ثم أقم فينا ما بدا لك، فإن هاجك هيج فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائي يضربون بين يديك بأسيافهم، واللَّه لا يوصل إليك أبداً ومنهم عين تطرف».

فقال له: «جزاك اللَّه وقومك خيراً» «2»

. وأبي أن ينصرف عن مقصده.

__________________________________________________

(1) أنظر: هامش ص 62 تجد ما يعجبك من الحر رحمه اللَّه ولا يخلو من دقة وإناقة. (الميلاني).

(2) مقتل الحسين، لأبي مخنف: 89.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 137

وأنت تعلم أنّه لو كان له رغبة في غلبة أو ميل إلي سلطان، لكان لكلام الطرماح وقع في نفسه عليه السّلام ولظهر منه الميل إلي ما عرضه عليه، لكنه- بأبي وأمي- أبي إلّاالفوز بالشهادة، والموت في إحياء دين الإسلام، وقد صرّح بذلك فيما تمثل به إذ قال له الحر: «أذكرك اللَّه في نفسك فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ». فقال (عليه السّلام) كما في تاريخ

الطبري وغيره:

سأمضي وما بالموت عار علي الفتي إذا ما نوي حقاً وجاهد مسلماً

وواسي الرجال الصالحين بنفسه وفارق مثبوراً وخالف مجرماً «1»

وحسبك في إثبات علمه من أول الأمر بما انتهت إليه حاله: ما سمعته من إخبار النبي صلّي اللَّه عليه وآله بقتله في شاطي ء الفرات بموضع يقال له كربلاء، وبكائه عليه، ونداء أميرالمؤمنين عليه السّلام لما حاذي نينوي وهو منصرف إلي صفين:

«صبراً أبا عبداللَّه، صبراً أبا عبداللَّه بشاطي ء الفرات» «2».

__________________________________________________

(1) روضة الواعظين 179 ط قم بحار الانوار 44/ 379 مقتل أبي مخنف 87.

(2) تقدم تخريجه

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 138

وقوله إذ مرّ بكربلاء:

«هاهنا مناخ ركابهم، وهاهنا موضع رحالهم، وهاهنا مهراق دمائهم» «1».

وقول الحسين عليه السّلام لأخيه عمر:

«حدثني أبي أن رسول اللَّه (صلّي اللَّه عليه وآله) أخبره بقتله وقتلي، وإن تربتي تكون بقرب تربته» «2».

وقول الحسن للحسين عليهما السلام كما في أمالي الصدوق وغيرهما من جملة كلام كان بينهما:

«ولكن لا يوم كيومك «3» يا أبا عبداللَّه يزدلف إليك ثلاثون الف رجل، فيجتمعون علي قتلك وسفك دمك وانتهاك حرمتك وسبي ذراريك ونسائك، وانتهاب ثقلك، فعندها يحل اللَّه ببني أمية اللعنة» «4».

__________________________________________________

(1) قرب الإسناد للحميري: 26 ح 87، والبحار 44/ 258 ح 8.

(2) مرَّ تخريجه.

(3) هذا مما علمه اللَّه تعالي - وقد أطلع أوليائه بعض ما خُفي علي عباده- من الغيب قاله عند وفاته، وكان كما قال- سلام اللَّه عليه- حيث لم يأت- بعد فاجعة يوم عاشوراء- يوم يشابه يوم الحسين- روحي فداه- وقد مضت علي تلك الرزية ثلاثة عشر قرناً، هذا وإنّ الأمور التي عدّها الحسن (عليه السّلام) لوقتها وحلَّ ما حلَّ علي مستحقيه، وما أعد اللَّه من العذاب والنكال أشد وأخزي. (الميلاني).

(4) الأمالي للصدوق: المجلس: 24 ح 3، المناقب

لابن شهراشوب 4/ 86، ومثير الأحزان: 23، والبحار 45/ 218.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 139

إلي غير ذلك من الأخبار الدالة علي أنّ قتل الحسين عليه السّلام كان معروفاً عند أهل البيت منذ أخبر اللَّه به نبيه صلّي اللَّه عليه وآله.

بل صريح أخبارنا أنّ ذلك مما أوحي إلي الأنبياء السابقين، وقد سمعت ما أشرنا إليه من بكائهم عليهم السلام.

ويظهر من بعض الأخبار أنّ قتل الحسين كان معروفاً عند جملة من الصحابة والتابعين حتي أنّهم ليعلمون أنّ قاتله عمر بن سعد، وحسبك ما نقله ابن الأثير حيث ذكر مقتل عمر بن سعد في كامله عن عبداللَّه بن شريك قال: «أدرك أصحاب الأردية المعلّمة، وأصحاب البرانس السود من أصحاب السواري، إذا مرّبهم عمر بن سعد قالوا: هذا قاتل الحسين وذلك قبل أن يقتله». قال: «وقال ابن سيرين: «قال علي لعمر بن سعد:

«كيف أنت قمت مقاماً تخير فيه بين الجنة والنار، فتختار النار؟ «1»» «2».

__________________________________________________

(1) تمتاز الإمامية- الاثني عشرية- عن غيرهم من الشيعة والفرق الإسلامية الأخري باعترافهم- واعتقادهم- بأنّ للإمام عليه السّلام الولاية الكبري (كشعبة من الولاية المطلقة الإلهية) منحها الباري لهم إبقاءاً للنظام الديني والتشريعي والتكويني العام وتستلزم هذه معرفة الإمام عليه السّلام بأسرار الكون ومشتملاته، ودقائق الأمور ومختفياتها وحقائق الأشياء وما أودع فيها ووقوفه بسريرة الأشخاص وسرائرهم، وما تحويه ضمائرهم وعرفانه بالمستقبل وما يجري فيه، وعلمه بما يكون إلّاما أخفاه اللَّه عنهم والذي خصه لذاته الربوبية جلّ شأنها، ولنا علي ما اخترناه- كليّه وجزئيّه، كبر أم صغر (كما يصطلحون)- أدلة عقلية مشفوعة بنصوص الكتاب والسنة سهلة التناول لروّادها.

فعليه لا مانع- عند المحصّلين وطلاب ما قدمناه- من علم الحسن أو أخيه الحسين وأبيهما أمير المؤمنين عليهم السلام بما

جري عليهم أو غير ذلك، بل هو بالنسبة إلي ما لديهم- وما أحاطوا بعلمه بمشية اللَّه- ليس بشي ء، والذي خاطب به الإمام عليه السّلام عمر بن سعد من هذا القبيل، ولا غرابة.

وكم لعلي سلام اللَّه عليه من هذا النوع والإخبار عن الحوادث الكونية المرتبطة بالخلفاء والأمراء والذي يتعلق ببعض الفرق الإسلامية أو الامة والمجتمع والأفراد، ما أملاه الرواة، وأثبته المحدثون، والمؤرخون وملأ الموسوعات الضخمة!!

نعم هو كما قال عليه الصلاة والسلام: - لولا آية في كتاب اللَّه لأخبرتكم بما يكون إلي يوم القيامة وهو قوله تعالي : «يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ». فمن كلامه عليه السّلام هذا وغيره من الأدلة، قالت الإمامية ب (البداء) وبه امتازت أيضاً عن غيرها. (الميلاني).

(2) كنز العمال 13/ 674 ح 37723، تاريخ مدينة دمشق 45/ 49، تهذيب الكمال للمزّي 21/ 359، رقم 4240.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 140

أتري الحسين (عليه السّلام) كان جاهلًا بما عليه أصحاب السواري؟ كلّا واللَّه، ما علم أصحاب البرانس السود ذلك إلّامنه، أو من أخيه، أو من جدّه، أو من أبيه.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 141

وقد أطلنا الكلام في هذا المقام، إذ لم نجد مَن وفاه حقه، وخرج من عهدة التكليف بإيضاحه، والحمد للَّه علي التوفيق لتحرير هذه المسألة، وتقرير شواهدها وأدلتها، علي وجه تركن النفس إليه، ولا يجد المنصف بدّاً من البناء عليه، بل لا أظن أحداً يقف علي ما تلوناه ثم يرتاب فيما قررناه. والآن نشرع في الكتاب متوكلين علي اللَّه عزّوجلّ وقد جعلناه أربعة أجزاء.

سلسلة النقد والتحقيق، ج 2، ص: 142

المحتويات … ص: 142

الكتاب القادم:

تفسير

سورتي

الجمعة والتغابن

للمرجع الكبير آية اللَّه العظمي

السيّد محمّد هادي الحسيني الميلاني

علّق عليه نجله العلامة الحجة

السيّد محمّد علي الحسيني الميلاني

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.