تحقیق الاصول المجلد 8

اشارة

سرشناسه:حسینی میلانی، سیدعلی، 1326 -

عنوان و نام پدیدآور:تحقیق الاصول علی ضوء ابحاث شیخناالفقیه المحقق والاصولی المدقق آیةالله العظمی الوحیدالخراسانی/ تالیف علی الحسینی المیلانی.

مشخصات نشر:قم: مرکزالحقائق الاسلامیه، 1432 ق.= 1390 -

مشخصات ظاهری:ج.

شابک:دوره 978-964-2501-52-6 : ؛ ج.1 978-964-2501-93-9 : ؛ ج.2 978-964-2501-94-6 : ؛ ج.3 978-964-2501-39-7 : ؛ ج. 4 978-964-2501-54-0 : ؛ 70000 ریال : ج.5 978-964-2501-55-7 : ؛ 130000 ریال: ج.6 978-600-5348-78-1 : ؛ ج.7: 978-600-5348-91-0 ؛ ج.8 978-600-8518-02-0 :

یادداشت:عربی.

یادداشت:ج. 2- 4 (چاپ اول: 1432 ق.= 1390) .

یادداشت:ج.5 (چاپ اول: 1431ق.= 1389).

یادداشت:ج.6 (چاپ اول: 1435ق. = 1393).

یادداشت:ج.7 (چاپ اول: 1436ق. = 1393).

یادداشت:ج.8 (چاپ اول: 1437ق. = 1395) (فیپا).

یادداشت:کتابنامه.

موضوع:اصول فقه شیعه

شناسه افزوده:وحیدخراسانی، حسین، 1299 -

شناسه افزوده:مرکز الحقائق الاسلامیه

رده بندی کنگره:BP159/8/ح56ت3 1390

رده بندی دیویی:297/312

شماره کتابشناسی ملی:1093921

ص :1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

کلمة المؤلف

الحمد للّه رب العالمین، والصّلاة والسّلام علی خیر خلقه محمد وآله الطّاهرین، ولعنة اللّه علی أعدائهم أجمعین.

وبعد:

فهذا هو الجزء الثامن من کتابنا (تحقیق الاصول). وهو فی دوران الأمر بین المحذورین، وأنّه هل تجری فیه أصالة التخییر، وفی دوران الأمر بین المتباینین ودوران الأمر بین الأقلّ والأکثر، وأنّه هل تجری فیهما أصالة الإشتغال أوْ لا؟ نقدّمه إلی العلماء الأعلام والفضلاء الکرام فی الحوزات العلمیّة، ونسأل اللّه سبحانه أنْ ینفع به وأن یوفقنا للعلم والعمل الصالح بمحمّد وآله.

علی الحسینی المیلانی

1437

ص: 5

ص: 6

أصالة التخییر فی دوران الأمر بین المحذورین؟

اشارة

ص: 7

ص: 8

التکلیف:

تارة: مشکوک فیه.

وأُخری: معلوم.

فعلی الأوّل:

تارةً: تلحظ الحالة السّابقة، وأُخری لا تلحظ. فالأوّل مجری الإستصحاب والثانی مجری البراءة.

وعلی الثانی:

تارة: الإحتیاط ممکن، وأُخری غیر ممکن. فالأوّل مجری الإشتغال؟ والثانی مجری التخییر؟

ففی دوران الأمر بین المحذورین علم بالتکلیف والإحتیاط غیر ممکن. أی: إنّ التکلیف جنساً معلوم ومجهول نوعاً، لأنّا نعلم إجمالاً بالتکلیف لکنّه مردّد بین الوجوب والحرمة.

وللبحث صورٌ، لأنّه:

تارةً: الواقعة واحدة، وأُخری: الواقعة متعددة.

والأوّل له خمس صور، لأنّه:

ص: 9

قد یکون الحکمان توصلیین.

وقد یکونان تعبدیین.

وقد یکون أحدهما المعیّن تعبدیّاً والآخر توصلیّاً.

وقد یکون أحدهما غیر المعیّن تعبدیّاً.

وقد تکون التوصلیّة والتعبدیّة مشکوکاً فیها.

الکلام فی دوران الأمر بین المحذورین التوصلیین

اشارة

ویلحق بهذه الصّورة:

صورة ما إذا کان أحدهما غیر المعیّن تعبدیاً.

وصورة الشک بین التعبدیّة والتوصلیّة، بناءً علی أنّ الأصل فیه هو التوصلیّة.

لکون الملاک فی الجمیع واحداً.

فنقول:

إنّ المنشأ للشک ودوران الأمر بین المحذورین:

تارةً: إجمال الدلیل، وأُخری: تعارض الدلیلین، وثالثة: فقد الدلیل، ورابعةً: الأُمور الخارجیة.

وهذا تقسیم الشیخ.

وصاحب الکفایة قال: إنّ الملاک هو العلم بالتکلیف مع عدم إمکان الإحتیاط، سواء کانت الشّبهة حکمیّةً أو موضوعیّة، إلاّ فی الخبرین المتعارضین.

ولمّا کان محطّ البحث والنظر هو تعیین تکلیف المجتهد، فإنّ المقصود بالبحث أوّلاً وبالذات هو الشّبهة الحکمیّة.

ص: 10

الوجوه فی الشّبهة الحکمیّة

اشارة

قال الشیخ(1) أنّ فی المسألة ثلاثة وجوه، لکنّه عند تعدادها ذکر أربعةً:

1_ الحکم بالإباحة ظاهراً. نظیر ما یحتمل فیه التحریم وغیر الوجوب.

2_ التوقف، بمعنی عدم الحکم بشیء لا ظاهراً ولا واقعاً. ومرجعه إلی إلغاء الشارع کلا الإحتمالین، فلا حرج عقلاً فی الفعل ولا فی الترک، وإلاّ لزم الترجیح بلا مرجح.

3_ وجوب الأخذ بأحدهما بعینه.

4_ وجوب الأخذ بأحدهما لا بعینه.

وذکر صاحب الکفایة(2) هذه الوجوه وأضاف وجهاً خامساً وهو:

التخییر بین الفعل والترک عقلاً مع الحکم علیه بالإباحة شرعاً.

مختار الشیخ: الوجه الثانی. وعلیه المحقّقان المیرزا والعراقی.

ومختار الکفایة: الوجه الخامس.

الوجه الأوّل: التوقّف

واستدلّ الشیخ لما ذهب إلیه بقوله(3):

«الإنصاف أن أدلّة الإباحة فی محتمل الحرمة تنصرف إلی محتمل الحرمة وغیر الوجوب، وأدلّة نفی التکلیف عمّا لم یعلم نوع التکلیف، لا یفید إلاّ عدم

ص: 11


1- 1. فرائد الأصول 2 / 178.
2- 2. کفایة الأصول: 355.
3- 3. فرائد الأصول 2 / 185.

المؤاخذة علی الترک والفعل، وعدم تعیین الحرمة أو الوجوب، وهذا المقدار لا ینافی وجوب الأخذ بأحدهما مخیّراً. نعم، هذا الوجوب یحتاج إلی دلیل، وهو مفقود، فاللاّزم هو التوقف وعدم الإلتزام إلاّ بالحکم الواقعی علی ما هو علیه فی الواقع، ولا دلیل علی عدم جواز خلوّ الواقعة من حکم ظاهری إذا لم یحتج إلیه فی العمل».

فهو یری التخییر العقلی مع التوقف عن الحکم الشرعی رأساً.

أمّا التخییر، فلعدم التمکن من الموافقة أو المخالفة العملیّة القطعیة، والموافقة الإحتمالیة حاصلة بالضرورة، فلا حاجة إلی الحکم، وفی الموافقة الإحتمالیة الحاصلة لا یرجّح جانب علی جانبٍ آخر إلاّ لمرجّح، وتقدیم جانب الحرمة من باب أولویة دفع المفسدة من جلب المنفعة ساقط، فالعقل یحکم بالترجیح لقبح الترجیح بلا مرجح.

وأمّا التوقف عن الحکم الشرعی، فیظهر وجهه بعد بیان الوجوه الأُخری والکلام علیها.

هذا، وقد اشتبه أمر الإنصراف الذی ذکره الشیخ علی المحقّق العراقی، فنسب إلیه القول بانصراف أدلّة البراءة وأصالة الحلّ والإباحة فقال: «لا مجال لجریان أدلّة البراءة وأصالة الحلیّة والإباحة فی المقام لإثبات الترخیص فی الفعل والترک، وذلک لا من جهة ما أفاده الشیخ قدّس سرّه من انصراف أدلّتها عن مثل الفرض، بل من جهة ...»(1).

ص: 12


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 293.

إذ أنّ الشیخ یذهب إلی الفرق بین دلیل أصالة الإباحة ودلیل أصالة البراءة، لأنّه یری أنّ لسان الأوّل جعل الحلیّة والثانی لسانه الرفع، لکنّ الأوّل منصرف عنده عن المقام، ولذا یقول: إنّ أدلّة الإباحة فی محتمل الحرمة ینصرف ... . وأمّا الثانی، فسواء کان رافعاً للمؤاخذة أو التکلیف لا یکون دلیلاً علی جعل الحکم الظاهری. نعم، الأثر العقلی للرفع هو الترخیص. هذا فی البراءة الشرعیّة.

وأمّا البراءة العقلیّة، فإن قبح العقاب بلا بیان لیس حکماً ظاهریّاً.

إذن، فدلیل الإباحة هو المنصرف عن المقام.

الوجه الثانی: التخییر العقلی والإباحة الشرعیّة
اشارة

قد تقدّم أنّ صاحب الکفایة ذکر فی المقام خمسة وجوه:

1_ الحکم بالبراءة عقلاً ونقلاً، لعموم النقل وحکم العقل بقبح المؤاخذة علی خصوص الوجوب أو الحرمة للجهل به.

2_ وجوب الأخذ بأحدهما تعییناً.

3_ وجوب الأخذ بأحدهما تخییراً.

4_ التخییر بین الفعل والترک عقلاً مع التوقّف علی الحکم رأساً.

5_ التخییر بین الفعل والترک عقلاً مع الحکم علیه بالإباحة شرعاً.

ثمّ قال: أوجهها الأخیر.

واستدلّ للتخییر العقلی بنفس ما ذکره الشیخ.

وأمّا شرعاً، فقد قال بالإباحة _ خلافاً للشیخ القائل بالتوقف _ واستدلّ لذلک بقوله:

ص: 13

وشمول مثل: (کلّ شیء لک حلال حتی تعرف أنّه حرام)(1) له، ولا مانع عنه عقلاً ولا نقلاً(2).

أمّا الشمول، فللإطلاق.

وأمّا عدم المانع، فلأنّه لا مانع إلاّ المخالفة العملیّة القطعیّة، وهذا غیر لازم، لتردّد المکلّف بین الفاعلیّة والتارکیة، فالمخالفة القطعیة مستحیلة، والموافقة القطعیّة أیضاً مستحیلة، لاستلزامها الجمع بین النقیضین، وأمّا الإحتمالیة، فحاصلة قهراً، ولا دلیل علی وجوب الموافقة الإلتزامیة بالنسبة إلی الأحکام الشرعیة الواقعیة، ودلیل وجوب العمل بالحکم الشرعی لا یثبت وجوب الإلتزام به، وعلی فرض ثبوت الدلیل، فالإلتزام بالحکم الواقعی علی ما هو علیه ممکن وقابل للإمتثال، فالإباحة الظاهریّة لا تنافی الحکم الواقعی، وأمّا الإلتزام بأحدهما المعیّن، فلا دلیل علی وجوبه إنْ لم یکن تشریعاً.

وإذا تمّ المقتضی وعُدم المانع، فالشمول حاصل.

توضیح ذلک:

إنّه لا مجری لقاعدة قبح العقاب بلا بیان فی دوران الأمر بین المحذورین، لوجود «البیان» القائم علی أصل الإلزام، فالبراءة العقلیّة هنا ساقطة. وکذلک وجوب الأخذ شرعاً بأحد الطرفین، أمّا تعییناً، فلعدم الدلیل علیه أوّلاً، ولأنّه تشریع ثانیاً، وأمّا تخییراً، فکذلک، لأنّ المروض هنا هو إحتمال الوجوب

ص: 14


1- 1. وسائل الشیعة 17 / 89، الباب 4 من أبواب ما یکتسب به، رقم: 4، باختلاف یسیر.
2- 2. کفایة الأصول: 355.

وإحتمال الحرمة، فلیس بموردٍ للأخذ بأحدهما تخییراً، بخلاف مسألة تعارض الخبرین، إذ علی القول بالسببیّة یقع التزاحم بین المفسدة الدالّ علیها خبر الحرمة والمصلحة الدالّ علیها خبر الوجوب، فیحکم العقل بالتخییر حیث لا مرجّح، وعلی القول بالطریقیّة، فالمفروض کون أحدهما واجداً لشرائط الحجیّة، فالمقتضی للأخذ به موجود والمانع مفقود. فهذه المسألة عند صاحب الکفایة خارجة عن بحث دوران الأمر بین المحذورین، خلافاً للشیخ. ویبقی التخییر العقلی، والمراد منه هو اللاّحرجیّة العقلیّة.

وأمّا شرعاً، فالمقتضی لجریان دلیل الإباحة الشرعیّة موجود، والإنصراف الذی ادّعاه الشیخ ممنوع، والمانع إمّا لزوم المخالفة العملیّة وإمّا لزوم المخالفة الإلتزامیّة ولا ثالث. أمّا الأُولی فمستحیلة، وأمّا الثانیة فقد ثبت عدم وجوب الموافقة الإلتزامیّة.

وهنا نکتة لا بأس بالتنبیه علیها وهی:

إنّه قال فی الوجه الأوّل: الحکم بالبراءة عقلاً ونقلاً. وقال فی الأخیر وهو مختار: مع الحکم علیه بالإباحة شرعاً. وذلک یفید أنّه لا یرید من «الإباحة» الأعم منها ومن البراءة، للفرق الواضح بینهما، لأنّ أصالة الإباحة أخصّ من أصالة البراءة، لجریان الثانیة فی الشبهات الحکمیّة والموضوعیّة بلا کلام، ولأنّ المجعول بالبراءة عدم التکلیف أو المراد منها عدم جعل الإحتیاط أو أنّ مدلولها رفع الحکم فی مرتبة الظّاهر أو رفع المؤاخذة. وأمّا أدلّة أصالة الإباحة، فمدلولها جعل الترخیص حکماً ظاهریّاً. فمدلول أدلّة الأصلین مختلف. نعم، یمکن جعل أصالة الحلّ أعمّ منه ومن البراءة مسامحةً.

ص: 15

إشکال الاصفهانی

وأشکل المحقق الإصفهانی(1) بأن شمول قولهم علیهم السّلام: (کلّ شیء لک حلال) یتوقف علی أُمور:

الأوّل: شموله للشبهة الحکمیّة والموضوعیّة معاً، مع أنّا قد بیّنا فی بحث البراءة اختصاصه بالشبهات الموضوعیّة.

والثانی: شموله للشبهة الوجوبیّة والتحریمیّة، وذلک یکون فیما إذا کان «الحرام» فی غایة الخبر أعم من حرمة الفعل وحرمة الترک، وإذا کان أعم کان المغیّی _ وهو «الحلال» _ أعم کذلک. وأمّا إذا اختصّ «حرام» بالشّبهة الحکمیّة التحریمیّة، کان «حلال» مختصاً بها مثله، فیکون الحدیث أجنبیّاً عمّا نحن فیه، ویکون مجراه صورة دوران الأمر بین الحرمة وغیر الوجوب.

ثمّ ذکر وجوهاً لعدم عموم «حرام» فی الغایة، وهی:

1_ إن کلّ حکم من الأحکام الخمسة بسیط، لا ینحلّ إلی حکمین فعلاً وترکاً.

2_ إن الإیجاب ینبعث عن مصلحةٍ فی المتعلّق، ولیس فی ترکه مفسدة حتی ینبعث منها التحریم، والحال فی العکس کذلک.

3_ لیس فی المراد التشریعی اللّزومی فی موطن النفس إلاّ إرادة متعلّقة بفعله، لا کراهة متعلّقة بترکه، إذ لا فرق بین الإرادة التشریعیة والتکوینیة إلاّ من جهة تعلّق الاولی بفعل الغیر وتعلّق الثانیة بفعل نفس المرید.

ص: 16


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 209.

4_ إنّه لا یُستحق العقوبتان علی کلّ معصیة، لأن المفروض أن فعل الحرام ینطبق علیه عنوان ترک الواجب وکذا بالعکس فی ترک الواجب.

فتبیَّن عدم التعدّد من حیث المبادی والنتائج والغایات.

والثالث: أن تکون الغایة عقلیّة لا شرعیّة جعلیّة، إذ لو کانت شرعیةً فهی حاصلة، لفرض العلم الإجمالی بالوجوب أو الحرمة، بخلاف ما لو کانت عقلیة، فإنّ المراد من العلم هو المنجّز، ومع فرض عدم منجّزیة هذا العلم من حیث الموافقة القطعیّة وترک المخالفة القطعیّة، فالغایة غیر حاصلة بمجرد العلم. وسیأتی الإشکال إن شاء اللّه فی الغایة حتی بناءً علی کونها عقلیّة.

قال: فاتضح أن الإستدلال بحدیث: کلّ شیء لک حلال، مبنی علی مقدّمات کلّها غیر مسلّمة.

المناقشة

إنّ الوجوه التی ذکرها المحقق الإصفهانی فی الإشکال علی صاحب الکفایة فیها نظر:

أمّا أوّلاً:

فإن صاحب الکفایة یستدل بخبر: (کلّ شیء لک حلال حتی تعرف أنّه حرام) وهو یعمّ الشبهتین بلا شبهة، لا بخبر مسعدة بن صدقة: (کلّ شیء لک حلال حتی تعلم أنّه حرام بعینه فتدعه من قبل نفسک، وذلک مثل الثوب یکون علیک

ص: 17

قد اشتریته ولعلّه سرقة ... )(1) الذی یحتمل الإختصاص بالشّبهة الموضوعیّة من جهة الموارد المذکورة فیه، وإنْ کان یحتمل أن تکون الموارد من باب التنظیر لا التمثیل، فیکون صالحاً للإستدلال فی الشبهتین، کما ذکر صاحب الکفایة فی حاشیة الرسائل.

وبالجملة، إن کان الإشکال من جهة أنّ روایة مسعدة تشمل الشبهتین، فهو مندفع بأنّه لیس الإستدلال به، مضافاً إلی ما ذکره صاحب الکفایة فی الحاشیة کما تقدّم.

وأمّا ثانیاً:

فإنّ جمیع ما ذکره المحقّق الإصفهانی مذکورٌ فی الکفایة. فأمّا عدم شمول الخبر للشبهة الوجوبیّة إلاّ إذا کان «الحرام» أعم من الفعل والترک، فقد تعرّض له فی الکفایة. وکذلک بساطة الأحکام، فهو مذکور فی مبحث الضدّ منها، وکذا عدم المفسدة فی ترک الواجب وعدم المصلحة فی ترک الحرام، فإنّه مذکور فی ردّ کلام المحقّق القمی فی مبحث إجتماع الأمر والنهی.

ولمّا کان صاحب الکفایة یقول ببساطة الأحکام وبعدم المفسدة أو المصلحة فی ترک الواجب أو الحرام، فهو لا یقول باستحقاق العقوبتین علی کلّ معصیة ولا بترکب الإرادة.

هذا کلّه، مضافاً إلی أنّه قال فی بحث البراءة «مع إمکان أن یقال: ترک

ص: 18


1- 1. وسائل الشیعة 17 / 89، باب عدم جواز الإنفاق من کسب الحرام.

ما احتمل وجوبه ممّا لم یعرف حرمته فهو حلال. تأمّل»(1) فذکر الإصفهانی وجه التأمّل بقوله:

«وجهه: إن کلّ حکم إیجابی أو تحریمی لا ینحلّ إلی حکمین إیجابی وتحریمی فعلاً وترکاً، بل ترک الواجب حیث أنّه ترک الواجب یستحقّ علیه العقاب، لا أنّه حرام. وکذلک فی طرف الحرام».(2)

وأمّا ثالثاً:

فإنّ صاحب الکفایة قد استدلّ بهذا الخبر فی الشّبهة التحریمیّة ثمّ قال إنّه بعدم الفصل یتمّ المطلوب فی الشّبهة الوجوبیّة وهذه عبارته: «وبعدم الفصل قطعاً بین إباحته وعدم وجوب الإحتیاط فیه وبین عدم وجوب الإحتیاط فی الشبهة الوجوبیّة یتمّ المطلوب»(3).

وقد غفل الإصفهانی عن هذا.

ثمّ إنّ الغایة فی الخبر هی العلم بالحرمة، وهو غیر حاصل، لأنّ العلم بالجنس _ وهو الإلزام _ لیس علماً بالنوع، فالمتحقّق هو العلم بالجامع، والمجعول غایة _ وهو العلم بالحرمة _ غیر متحقّق، فالغایة شرعیّة ولکنّها غیر حاصلة.

هذا تمام الکلام علی إشکالات الإصفهانی.

ص: 19


1- 1. کفایة الأصول: 342.
2- 2. نهایة الدرایة 4 / 67.
3- 3. کفایة الأصول: 341.
إشکال المیرزا

وأشکل المحقّق النائینی بوجهین(1):

أحدهما: إن دوران الأمر بین المحذورین لیس مجری أصالة الحلّ، لأنّ موضوعها هو الشک، وهو إنّما یتحقّق حیث یحتمل الإباحة، وفی المقام علم بالإلزام المردد بین الوجوب والحرمة، فلا موضوع لها.

والثانی: إنّه لا مانع من جریان الأصل فی کلّ طرف من أطراف الشّبهة المقرونة بالعلم إلاّ لزوم المخالفة العملیّة للتکلیف المعلوم. وأمّا إذا نافی جریانه نفس التکلیف المعلوم بالإجمال، فلا یعقل الجریان. وما نحن فیه من هذا القبیل، لأن أصالة الإباحة فیه ینافی الإلزام المتیقن فی البین.

المناقشة

والجواب:

أمّا عن الإشکال الأوّل، فهو أنّه لیس الموضوع فی الخبر هو الشک فی الإباحة، بل هو عدم العلم بالحرمة، وبین الأمرین بون بعید. وفی المقام علم بالإلزام مع الجهل بخصوصیّة الوجوب والحرمة، فالعلم بعدم الإباحة هو لمفروض فی البحث، فموضوع الخبر متحقّق فیه، والحدیث شامل والأصل جار.

وبعبارة أُخری: الغایة فی الخبر هو العلم بالحرمة، فالمغیّی عدم العلم بها، فما لم تعلم حرمته فهو حلال، فالإستدلال بهذا الخبر تام.

ص: 20


1- 1. فوائد الأصول 3 / 444.

وأمّا الخبر الآخر: (کلّ شیء فیه حلال وحرام فهو لک حلال)، فلا یشمل المقام کما فی فوائد الاصول(1)، لظهوره فی أخذ إحتمال الحلیّة فیه، وهو متحقّق فی دوران الأمر بین المحذورین کما تقدّم. إلاّ أنّ صاحب الکفایة وغیره لم یستدلّوا بالخبر الثانی.

وأمّا عن الإشکال الثانی _ وهو أن جعل الإباحة الظاهریة مع العلم بجنس الإلزام غیر ممکن، لأن جریانها فی کلّ من طرف الفعل والترک یغنی(2) عن جریانها فی الطرف الآخر، فإنّ معنی إباحة الفعل وحلیّته هو الرخصة فی الترک وبالعکس، ولذلک کان مفاد أصالة الحلّ بمدلولها المطابقی یناقض القدر المشترک المعلوم بالإجمال أعنی جنس الإلزام _ فقد قال المحقّق العراقی(3):

بأنّ العلم یتقوّم بنفس العنوان والصّورة الذهنیّة من دون سرایةٍ له إلی وجود المعنون فی الخارج، وکلّ محمول یستحیل تخلّفه وتعدّیه عن موضوعه. وعلی هذا، فإنّ متعلّق العلم فی دوران الأمر بین المحذورین هو أحد الأمرین من الوجوب والحرمة، وهذا العلم المتعلِّق بالعنوان _ أعنی عنوان الأحد _ لا یسری إلی معنونه وهو الوجوب والحرمة.

أمّا أصالة الإباحة، فالموضوع فیها عبارة عن الفعل والترک المشکوک فی

ص: 21


1- 1. فوائد الاصول 3 / 445.
2- 2. وهذا بخلاف البراءة والإستصحاب، فإن جریانهما فی خصوص ما تعلّق بالفعل من الوجوب أو الحرمة، لا یغنی عن الجریان فی الطرف الآخر، بل یحتاج کلّ من الطرفین إلی براءة أو استصحابٍ خاصٍّ به.
3- 3. نهایة الأفکار 3 / 294.

إباحته، والمحمول فیها هو «الحلیّة»، فیفید الأصل حلیّة مشکوک الحرمة وحلیّة مشکوک الوجوب، فمجری الأصل _ وهو الطرفان _ غیر متعلّق العلم وهو الإلزام الموجود بینهما، فلا یکون جریانه فیهما مناقضاً للعلم المتعلِّق بالجامع.

وفیه:

أمّا علی مسلک المیرزا فی الأوامر والنواهی _ من أن الأمر طلب الفعل والنهی طلب الترک، فالفرق بینهما فی ناحیة المتعلَّق _ فالجواب غیر تام بعد الدقة فی کلام المیرزا(1). فقد ذکرنا أنّه یقول بأن جریان أصالة الإباحة فی أحد الطرفین یغنی عن جریانه فی الطرف الآخر، لأنّه بمجرد الجریان فی أحدهما یتم الترخیص بالنسبة إلی کلیهما، وهذا لا یجتمع مع العلم بالإلزام.

وأمّا علی مسلک غیر المیرزا _ من أنّ المتعلَّق فی کلیهما واحد وهو الفعل، وإنّما الإختلاف بالمتعلِّق، إذ هو فی أحدهما البعث وفی الآخر الزجر _ فالإندفاع أوضح، لأن الفعل إما مبعوث إلیه وإما مزجور عنه. وجریان الإباحة فی هذا الفعل الذی تعلَّق به الإلزام مع الخصوصیّة من جهة البعث والزجر _ غیر ممکن.

فظهر عدم تمامیّة جواب العراقی عن الإشکال الثانی.

ص: 22


1- 1. وإنْ کان یتخیّل وروده بناءً علی مسلکه، من جهة أنّ جریان الأصل فی طرف الوجوب _ مثلاً _ یؤدّی إلی ارتفاع طلب الفعل ولا علاقة له بطرف الحرمة، فیکون طلب الترک باقیاً علی حاله، فلا تقع المناقضة بین أصالة الإباحة والعلم بالإلزام.
إشکال العراقی

وأشکل المحقّق العراقی(1) علی صاحب الکفایة: بأنّ المکلَّف فی مورد دوران الأمر بین المحذورین مضطرٌّ إلی الفعل أو الترک، فهو بمناط الإضطرار مرخَّص، ومعه لا وجه لجعل الإباحة الشرعیّة. وعلی الجملة، فإنّه لا مانع من جریان أصالة الإباحة، ولا دلیل علی الإنصراف، ولکنْ لا وجه لجعلها مع الإضطرار.

المناقشة

وفیه: إنّه لا مانع من جعل الإباحة من ناحیة الشارع إلی جنب الترخیص المذکور من ناحیة العقل، کما هو الحال فی جمیع الشبهات البدویّة.

التحقیق فی الإشکال علی صاحب الکفایة

ثمّ إنّه یرد علی صاحب الکفایة _ بقطع النظر عن دعوی الإنصراف کما ذکر الشیخ _ لزوم اللّغویّة من جعل الإباحة.

وتوضیح ذلک: إنّ للمعلوم فی دوران الأمر بین المحذورین جهتین، فبالمطابقة یعلم علماً إجمالیّاً بأحد الحکمین من الوجوب والحرمة، وبالإلتزام یعلم علماً تفصیلیّاً بعدم الحلیّة، لأنّ کلاًّ من الوجوب والحرمة یلازم عدم الحلیّة، فلو أُرید جعل الإباحة الظاهریّة لزم اجتماع الضدّین فی الشیء الواحد من جهة

ص: 23


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 293.

المدلول المطابقی، لأن الإباحة تضادّ الحکمین، واجتماع النقیضین من جهة المدلول الإلتزامی، أی الحلیّة وعدم الحلیّة، لأن المعلوم عدم حلیّة نفس هذا الشیء، لکونه إمّا واجباً أو محرماً، وکونه فی نفس الوقت حلالاً یستلزم المحال المذکور، وتفکیک المحقّق العراقی بین متعلّق العلم وموضوع الحکم الظاهری لا وجه له.

قال شیخنا _ فی الدورة السّابقة _ وهذا الإشکال وارد علیه بناءً علی القول بتضادّ الأحکام کما هو المختار عنده، إلاّ أنْ یقال: بعدم فعلیّة الحکم الواقعی کما ذهب إلیه فی مسألة الجمع بین الحکم الواقعی والحکم الظاهری. لکنّ التحقیق: إنّ فعلیّة الحکم بفعلیّة موضوعه، ولا ریب فی فعلیّته هنا إلاّ أنّه لا قدرة علی المخالفة أو الموافقة القطعیّة، فکان غیر المقدور هو القطع بأحد الأمرین لا نفس الموافقة أو المخالفة.

اللهمّ إلاّ أنْ یقال بعدم الفعلیّة بالإضطرار إلی أحد الطّرفین، من حیث أنّ الحکم الواقعی إمّا بعث وإمّا زجر، ومع الإضطرار إلی أحدهما یسقط الحکم الواقعی عن الفعلیّة. وهذا مسلکه قدّس سرّه. أو یقال: بأنّ الفعلیّة تدور مدار العلم، وهنا لا یوجد العلم. وهذا مسلک المحقّق الإصفهانی.

وأمّا علی القول: بأن لا تضادّ بین الأحکام أنفسها، لأنّ الحکم اعتبارٌ وهو خفیف المؤنة، بل هو إمّا فی مرحلة الملاک أو فی مرحلة الإمتثال. فالإشکال هو: لغویّة الحکم فی مرحلة الإمتثال، لعدم إمکان المخالفة أو الموافقة القطعیّة، وأمّا الإحتمالیّة فحاصله.

ص: 24

وفی مرحلة الملاک، قال المحقّق الإصفهانی وغیره _ فی مسألة الجمع بین الحکم الواقعی والحکم الظاهری _ : بأنّ ملاک الحکم الواقعی للحرمة _ مثلاً _ قائم بالمتعلَّق، والظاهری _ وهو الإباحة _ قائم بنفس جعل الحکم الظّاهری.

لکنّ هذا الجمع غیر ممکن هنا، لعدم وجود المصلحة فی جعل الحکم الظاهری _ بخلاف الشّبهة البدویّة _ لأنّها لا تخلو عن أحد أمرین، فإمّا التوسعة بحیث لولاها لکان المکلَّف فی الضّیق والکلفة، وهنا لا ضیق، لوجود اللاّحرجیّة العقلیّة، لعدم إمکان المخالفة أو الموافقة القطعیّة، فلا أثر عملی لجعل أصالة الإباحة هنا، لأنّ الترخیص حاصل، وقد صرَّح المحقّق الخراسانی بأنّ الأصول العملیّة وظائف للشاکّ فی مرحلة العمل. وإمّا إسناد الترخیص إلی الشارع، وهو هنا غیر معقول، لوجود العلم بالإلزام الشرعی.

فظهر لغویّة جعل أصالة الإباحة فی دوران الأمر بین المحذورین.

کذا أفاد دام بقاه.

أقول:

قد عرفت أنّ صاحب الکفایة یقول بالتضادّ بین الأحکام الخمسة بأنفسها، فالإشکال یرجع إلی لزوم الجمع بین الضدّین، لکن قد عرفت أیضاً أنّه یقول بعدم فعلیّة الحکم الواقعی حیث یوجد الحکم الظاهری أو یضطرّ إلی أحد الطرفین، وحینئذٍ لا یلزم محذور الجمع بین النقیضین، والإشکال علیه بفعلیّة الحکم الواقعی إشکال مبنائی.

هذا، ولکنّ الإشکالات علی صاحب الکفایة متعدّدة، فإنّه وإنْ اندفع بعضها علی مبناه، لکنّ البعض الآخر وارد علیه، ومن ذلک سوی ما تقدّم:

ص: 25

أوّلاً: إنّه لا یوجد عندنا دلیلٌ علی الإباحة فی الشبهات الحکمیّة الکلیّة التی هی محطّ نظر المجتهدین، وما ورد فی الإباحة، فمورده الشّبهات الموضوعیّة، کروایة مسعدة بن صدقة وغیرها، ولا أقلّ من الشک فی شمول الأخبار للشبهة الحکمیّة.

أورده المحقّقان النائینی والإصفهانی(1) ووافق علیه شیخنا فی الدّورة اللاّحقة.

وثانیاً: إنّ المحقّق الخراسانی قد نصَّ فی مبحث البراءة(2) علی أنّ (کلّ شیء لک حلال) ظاهر فی الشّبهة التحریمیّة، وأنّه یقال بأصالة الحلّ فی الوجوبیّة من باب عدم الفصل. هذا من جهةٍ. ومن جهة أُخری، فقد جعل الحرمة أعمّ من الفعل والترک، فیکون الخبر جاریاً فی الشبهتین. ولکنّه أبطل الوجه الثانی، لأنّه یری بساطة الوجوب والحرمة، وأنّ الحرمة ناشئة من المفسدة فی الفعل، فیبقی عدم الفصل، ولکنْ لا مجال لعدم الفصل فی دوران الأمر بین المحذورین، لوجود خمسة أقوال فیه.

وثالثاً: ذکر المحقّق النائینی(3) أنّه یعتبر فی الأصل إحتمال مطابقته للواقع وإلاّ کان باطلاً، وفیما نحن فیه نقطع بمخالفة أصالة الأباحة للحکم الواقعی، لأنّه إمّا الوجوب وإمّا الحرمة.

ص: 26


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 65 _ 66.
2- 2. کفایة الأصول: 341.
3- 3. فوائد الأصول 3 / 445.
الکلام حول قیاس ما نحن فیه بتعارض الخبرین

قال فی الکفایة(1):

«وقیاسه بتعارض الخبرین الدالّ أحدهما علی الحرمة والآخر علی الوجوب. باطل.

فإنّ التخییر بینهما علی تقدیر کون الأخبار حجّةً من باب السّببیّة علی القاعدة، ومن جهة التخییر بین الواجبین المتزاحمین. وعلی تقدیر أنّها من باب الطریقیّة، فإنّه وإنْ کان علی خلاف القاعدة، إلاّ أنّ أحدهما تعییناً أو تخییراً حیث کان واجداً لما هو المناط للطّریقیّة من إحتمال الإصابة مع اجتماع سائر الشرائط، صار حجّةً فی هذه الصّورة بأدلّة الترجیح تعییناً أو التخییر تخییراً، وأین ذلک ممّا إذا لم یکن المطلوب إلاّ الأخذ بخصوص ما صدر واقعاً وهو حاصل، والأخذ بخصوص أحدهما ربّما لا یکون إلیه بموصل؟

نعم، لو کان التخییر بین الخبرین لأجل إبدائهما إحتمال الوجوب والحرمة وإحداثهما التردید بینهما، لکان القیاس فی محلّه، لدلالة الدلیل علی التخییر بینهما علی التخییر ههنا. فتأمّل جیّداً».

توضیح کلام الکفایة

وتوضیحه: أنّه بعد أنْ ذکر عدم المانع العقلی عن جریان أصالة الإباحة، ذکر أنّه إنْ قیل بوجود المانع الشرعی عنه، وذلک بتنقیح المناط فی دلیل الخبرین

ص: 27


1- 1. کفایة الاصول: 355 _ 356.

المتعارضین، فإنّ للشارع هناک حکماً ظاهریّاً وهو التخییر فی الأخذ بأیّهما شاء، ولم یجعل حکماً ظاهریّاً فی قبال الخبرین، وهذا یجری فی مسألة دوران الأمر بین المحذورین _ حیث یتردّد الأمر بین حکمین واقعیین _ بالأولویّة ولا أقلّ من المساواة، فیخیّر الشارع هنا بین الأخذ الطّرفین، ولا یجعل حکماً ظاهریّاً فی مقابلهما.

ولک أنْ تقول أیضاً: بأنّ الخبرین المتعارضین ینفیان إحتمال الحکم الثالث، بل لابدّ من الأخذ بأحدهما تعییناً، وفی دوران الأمر بین الوجوب والحرمة کذلک، فالثالث وهو الإباحة منفیّ، ولابدَّ من الأخذ بأحد الحکمین تخییراً شرعیّاً، قیاساً علی تلک المسألة بتنقیح المناط بالأولویّة أو المساواة.

ویمکن أنْ یقال: بأنّ الخبرین یبدیان إحتمال الوجوب والحرمة، وإذا حکم الشارع فی موردهما بالتخییر، حکم به فی مورد إحتمال الوجوب والحرمة بالوجدان بالأولویّة.

قال رحمه اللّه: هذا القیاس باطل، لأنّا إنْ قلنا بالسّببیّة فی حجیّة الأخبار، فإنّ قیام الخبر علی الوجوب یحدث مصلحةً ملزمة، وقیام الآخر علی الحرمة یحدث مفسدة ملزمةً، وحیث لا یمکن إمتثالهما معاً یقع التزاحم، ویکون التخییر بین الفعل والترک علی وفق القاعدة، إرشاداً إلی حکم العقل. أمّا فی دوران الأمر بین المحذورین، فالشیء واحد، وهو إمّا ذو مصلحة ملزمة وإمّا ذو مفسدة ملزمة. فالقیاس مع الفارق.

وإن قلنا: بأنّ حجیّة الأخبار من باب الطریقیّة، فالتخییر علی خلاف القاعدة.

ص: 28

وأمّا قول المحقّق الإصفهانی: «وأمّا ما عن شیخنا العلاّمة قدّس سرّه فی المتن من الجواب بناءً علی الطّریقیّة من وجود ملاک الطّریقیّة فی کلا الخبرین وهو إحتمال الإصابة شخصاً وغلبة الإصابة نوعاً، فالعلم الإجمالی بالکذب الواقعی غیر مانع، إذ لیس الکذب الواقعی مانعاً، ومع وجود الملاک فی کلیهما فلا محالة یکون التخییر علی القاعدة، ولا یقاس به ما نحن فیه، من حیث أنّه لیس فیه إلاّ مجرّد إحتمال الحکمین، لا ملاکان لاعتبار الحجیّة فی کلا الخبرین. فقد بیّنا فی محلّه أنّه لا یخلو عن محذور ...»(1) فسهو من قلمه الشریف.

وإنّما کان علی خلاف القاعدة، لأنّ القاعدة حینئذٍ هی التساقط، ولکنْ لمّا کان أحد الخبرین واجداً لملاک الطّریقیّة مع إحتمال إصابته ومطابقته للواقع، فقد جعلته أدلّة الترجیح أو التخییر حجّةً تعییناً أو تخییراً.

أمّا المقام، فالحکم الواقعی فیه واحد، وهو مردّد بین الوجوب والحرمة، فهو ذو ملاک علی نحو التعیین، لکنّه مجهول عندنا، وإن کان المطلوب هو الإلتزام بما صدر فی الواقع إجمالاً، فهو حاصل(2) من غیر حاجة إلی الإلتزام بأحد الطّرفین بخصوصه، فإنّه ربّما لا یکون موصلاً إلی الواقع. فالقیاس مع الفارق کذلک.

ص: 29


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 216.
2- 2. هذا فیه إحتمالان، أحدهما: أن یکون المراد «العمل». أی: إنّ الموافقة القطعیّة عملاً لا تمکن، والموافقة الإحتمالیّة عملاً حاصلة، فلا مجال لأن یحصّلها الشارع بالجعل. والثانی: أن یکون المراد «الإلتزام». أی: إنّ الإلتزام بالنسبة إلی الحکم الواقعی حاصل بلا جعلٍ من الشارع للحجیّة تعییناً أو تخییراً. وکیف کان، فلا ملاک للتنجیز.
النظر فیه:

وتنظّر فیه شیخنا فی الدورة السّابقة: أمّا من حیث المبنی، فهو یری أنّه لا ملزم للموافقة الإلتزامیّة، لأنّ دلیل التکلیف لیس فیه إلاّ إقتضاء العمل بالتکلیف، ولیس فیه إقتضاء الإلتزام بوجوب المکلّف به مثلاً. وأمّا غیر هذا الدلیل، فلا شیء یدلّ علی لزوم الإعتقاد، وما یدلّ علی وجوب تصدیق النّبیّ صلّی اللّه علیه وآله وسلّم فیما یخبر به، لا یقتضی وجوب الإلتزام والتصدیق للمخبر به. وبالجملة: لا ملازمة بین تصدیق المخبِر وتصدیق المخبَر به ... وهو کما تری.

وأمّا من حیث البناء فنقول: إنّ ما ذکره بناءً علی القول بالسّببیّة مخدوش، فإنّ المحذور فی التعارض یکون فی مرحلة الجعل، وفی التزاحم یکون فی مرحلة الإمتثال، فهذا هو الفرق بین التعارض والتزاحم، وفی التزاحم یحکم العقل بالتخییر مع تساوی الملاکین، وبلزوم صرف القدرة فی الأهمّ منهما إنْ کان أحدهما أهمّ من الآخر، فحیث یتساوی الملاکان یسقط إطلاق الحکمین دون أصلهما، ولا ملازمة بین الأصل والإطلاق فی السقوط، والضرورات تتقدّر بقدرها.

وفی التعارض لا یجتمع الملاکان فی الشیء الواحد، إذ لا یکون الشیء الواحد ذا مصلحة ملزمة ومفسدة ملزمة معاً، فالمحذور فی الجعل کما أشرنا، ولذا یکون مقتضی الأصل فی التعارض هو التساقط.

والحاصل: إنّه فی التعارض یسقط أصل الحکمین، وفی التزاحم یسقط إطلاق الحکمین.

وبما ذکرنا یظهر أن ما نحن فیه بناءً علی السّببیّة مصداق للتعارض

ص: 30

لا التزاحم، لأنّ الخبر القائم علی وجوب الشیء یحدث المصلحة فیه _ بناءً علی السّببیّة _ والقائم علی حرمته یحدث المفسدة، واجتماع المفسدة الملزمة مع المصلحة الملزمة فی الشیء الواحد محال، فما نحن فیه علی السّببیّة صغری لباب التعارض لا التزاحم. وبعبارة أُخری: التزاحم بناءً علی السّببیّة معناه وجود الغرضین فی الشیء الواحد یوجب أحدهما جعل الوجوب والآخر جعل الحرمة، حتی یقع التزاحم، وهذا محال، لأنّ مع وحدة المتعلّق لا یعقل جعل الحکمین، لأنّ جعلهما فرع وجود الغرضین، ووجود الغرضین فرع وجود المتعلَّقین.

وقیاس ما نحن فیه بالتزاحم بین الواجبین کإنقاذ الغریقین، لا مورد له، لأنّه إنْ کان الملاک فی أحد الحکمین أهمّ _ ککونه نبیّاً مثلاً _ لزم جعل الحکم التعیینی، وإن کانا متساویین لزم جعل الإباحة، فلا معنی لجعل التخییر علی حالٍ.

وهذا هو الإشکال الأوّل.

وأمّا ثانیاً، فقد وقع البحث فی أنّ الخبرین المتعارضین هل ینفیان الثالث أوْ لا؟. وبعبارة أُخری: هل یتساقطان بالمرّة أو فی مدلولهما المطابقی دون الإلتزامی وهو نفی الثالث؟ قد اتّفق المیرزا وصاحب الکفایة علی الثانی، واختلفا فی الدلیل. ومسلک الثانی هو: إنّ المتعارضین أحدهما معلوم الکذب وساقط عن الإعتبار دون الآخر، وحیث لم یتعیّن الکاذب منهما یسقط المدلول المطابقی فیهما، لکن ل_«أحدهما» نفی الثالث، لوجود المقتضی وعدم المانع ... فإذا دلّ أحدهما علی الوجوب والآخر علی الحرمة وتساقطا، فإن «أحدهما» حجّة علی نفی الإباحة، هذا إن لم نعلم بعدم خلوّ الواقع عن الوجوب أو الحرمة واحتملنا کونه الإباحة،

ص: 31

فلو علمنا بذلک، کان النافی للثالث هو العلم لا أحدهما، إذ مع وجود العلم لا تصل النوبة إلی الحجّة التعبّدیّة لأجل نفیه.

هذا ما ذهب إلیه فی نفی الثالث بحجّتین تعبّدیتین متعارضتین، فکیف یلتزم فیما نحن فیه بالإباحة مع وجود العلم بأنّ الحکم فی الواقع إمّا الوجوب وإمّا الحرمة کما هو المفروض؟ إن لازم کلامه أن یکون العلمی نافیاً للثالث ولا ینفیه العلم، وهذا غیر معقول.

کلام السیّد الأُستاذ

وأفاد سیّدنا الأُستاذ: «أنّ الوجه المصحّح للقیاس أحد أمور:

الأوّل: دعوی إنّ الملاک فی الحکم بالتخییر فی مورد تعارض الخبرین هو مجرد إبدائهما إحتمال الوجوب والحرمة، فیسری الحکم إلی کلّ مورد کذلک، ومنه ما نحن فیه.

الثانی: دعوی إنّ الملاک هو نفی الثالث. وما نحن فیه کذلک.

الثالث: إنّ رعایة الحکم الظاهری وهو الحجیّة یدلّ بالفحوی علی رعایة الحکم الواقعی، فإذا ثبت التخییر بین الحجّتین وعدم طرحهما، فثبوت التخییر بین الحکمین الواقعیین أولی.

قال: ولکن جمیع هذه الوجوه ممنوعة.

أمّا الأوّل: فلأنّه تخرص وتحکم علی الغیب، بل بناء علی السّببیّة لا مجال له، لأنّ التخییر یکون من باب التخییر بین الواجبین المتزاحمین، وأیّ ربط لذلک بما نحن فیه.

ص: 32

وأمّا الثانی: فهو کالأوّل، مع أنّ نفی الثالث قد لا یقول به الکلّ، لا بهما _ کما یراه الشیخ _ لتبعیّة الدلالة الإلتزامیّة للمطابقیّة فی الحجّیّة کتبعیّتها لها فی أصل الثبوت. ولا بأحدهما _ کما یراه صاحب الکفایة _ لعدم تصوّر ما أفاده فی تقریبه فی محله فراجع. مع أنّ الکلّ یری التخییر ولو لم یتکفّل الخبران نفی الثالث.

وأمّا الوجه الثالث: فلأنّ الأولویّة إنّما تتمّ لو فرض ثبوت الموضوع لکلّ من الحکمین الواقعیین کثبوته للحکمین الظاهریین، ولیس الأمر کذلک، بل هو حکم واقعی مردّد بین الحکمین، بخلاف الحکمین الظاهریین، فإنّ کلاًّ منهما واجد لموضوعه وهو الخبر التام الشرائط. وببیان آخر نقول: إنّ الطریقیّة بأیّ وجه صوّرت فی باب الطرق مشوبة بالموضوعیّة، وإلاّ لزم إعتبار کلّ طریق وکاشف، فللطریق الخاص موضوعیّة کانت منشأ لجعله حجّة ککثرة انضباطه ونحوها، وقد ادّعی صاحب الکفایة أنّ الموضوع هو إحتمال الإصابة.

وأورد علیه الإصفهانی: بأنّه شرط للحجیّة لا موضوع وأنّ الموضوع هو عنوان التسلیم(1).

إذن، فموضوع الحکم الظاهری الناشئ من مصلحة معیّنة ثابت، وتردّد الحال بینهما وأین ذلک مما نحن فیه. فیما هناک موضوع واحد لحکم واقعی واحد غیر معلوم. فلا یقال بعد هذا أنّه: بناء علی الطّریقیّة یکون المدار علی الواقع المنکشف بلا خصوصیّة للطّریق، والواقع المحتمل هو أمر واحد، فیکون مورد الخبرین المتعارضین مثل ما نحن فیه، فیتحقّق التخییر فیما نحن فیه. فتدبّر»(2).

ص: 33


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 216.
2- 2. منتقی الأصول 5 / 29 _ 30.
الوجه الثالث: التخییر

وفیه: إن التخییر

إن کان فی المسألة الفرعیّة، فغیر ممکن من الشارع أن یخیّر بین الفعل والترک، إذ یعتبر فی الجامع بین طرفی التخییر أن یکون متعلّقاً للقدرة، وهنا لیس کذلک، لأن المکلَّف إمّا فاعل وإمّا تارک.

وإن کان فی المسألة الاصولیة، فهو ممکن، لکنه یتوقف علی قیام الدلیل، ولیس فی مقام الإثبات هنا دلیلٌ. أمّا فی الخبرین المتعارضین فالدلیل موجود، ولکنْ لا وجه للقیاس.

وأمّا التخییر العقلی، فهو غیر معقول کذلک، لما ذکرنا.

أقول:

والذی ذکره الشیخ هو اللاّحرجیّة العقلیّة، وهو غیر التخییر العقلی، وإلیه ذهب سیّدنا الأُستاذ بعد أنْ ناقش سائر الأقوال فی المسألة، قال:

فیتعیّن الإلتزام بالتخییر، لا من قبیل الوجوب التخییری شرعاً، ولا من قبیل التخییر العقلی فی باب التزاحم ... فالمراد من التخییر هو عدم الحرجیّة فی الفعل والترک، وهو ما ذهب إلیه المحقّق النائینی(1).

ولکنّ المختار _ وفاقاً لشیخنا الأُستاذ _ هو جریان الإستصحاب کما سیأتی، ومعه لا مجال للتخییر مطلقاً. فانتظر وتدبّر.

ص: 34


1- 1. المصدر 5 / 32.
الوجه الرابع: تقدیم جانب الحرمة

من باب: إن دفع المفسدة أولی من جلب المنفعة.

وفیه:

أوّلاً: لیس الأمر فی کلّ الموارد هکذا.

وثانیاً: سلّمنا، لکنه فی المصلحة والمفسدة المعلومتین، وهنا محتملتان، ولا دلیل علی تقدّم المفسدة المحتملة علی المصلحة المحتملة.

الوجه الخامس: البراءة
اشارة

ووجه جریانها هو: إنّ موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بیان، وحدیث الرفع، متحقّق فی دوران الأمر بین المحذورین، لأنّ کلاًّ من الطرفین مشکوک فیه ولا بیان علیه، فالمقتضی لجریان البراءة تام. وأما المانع عنه فمفقود، لأنّ جریانها لا یؤدّی إلی المخالفة العملیّة، فإنّها لا تتحقّق فی مورد دوران الأمر بین المحذورین. وأمّا الموافقة الإلتزامیة _ إن قلنا بوجوبها _ فهی ممکنة، فیلتزم بالواقع علی ما هو علیه.

ومع وجود المقتضی وعدم المانع، تکون البراءة جاریة مطلقاً.

قال الشیخ: العقلیة جاریة، ولیس العلم بجنس التکلیف کالعلم بنوعه فی المانعیّة عن جریان القاعدة(1).

فأشکل المحقّقان الخراسانی والهمدانی(2): بأنّ الحق تقیید العلم بالجنس

ص: 35


1- 1. فرائد الأصول 2 / 180.
2- 2. حاشیة الهمدانی: 185.

بعدم التمکن معه من المخالفة القطعیّة، إذ مع التمکن منها یکون منجّزاً وتحرم المخالفة. کما إذا علم بوجوب هذا أو حرمة ذاک، فإنه یمکن المخالفة القطعیة، وحینئذٍ یکون هذا العلم مانعاً عن جریان القاعدة.

فقوله: لیس العلم بجنس التکلیف کالعلم بنوعه. لیس علی إطلاقه، بل لابدّ من تقیید العلم بالجنس الذی لا یتحقق من المخالفة العملیة القطعیة، ولو أمکنت المخالفة أو الموافقة یکون العلم مؤثراً ومنجّزاً، سواء کان العلم بالجنس أو بالنوع، ومع فقد العلم من أصل أو التمکّن من المخالفة أو الموافقة فهو غیر مؤثر.

أقول:

هذا التقیید لازم، لکنّ الشیخ قد نصّ علی ذلک من قبل. علی أنّه قال فی مباحث القطع، بأن الملاک هو التمکّن من المخالفة أو الموافقة، من غیر فرق بین کون العلم بالجنس أو بالنوع. والحاصل: إنّه قائل بتأثیر العلم بالجنس فی حال التمکّن من أحد الأمرین.

الإشکالات

وقد أُشکل علی القول بالبراءة بوجوه:

الأوّل: إنّ العلم التفصیلی بالإلزام والإجمالی بنوعه یمنعان من إجراء البراءة.

وفیه:

إنّه استبعاد محض، لأن موضوع الأصل فی کلّ طرف _ وهو الشک _

ص: 36

موجود، فهو یجری فی کلٍّ من الطرفین بخصوصه، دون الإلزام المعلوم، فلا مانع من الجریان من هذه الناحیة. نعم، یلزم المحذور من إجراء الإباحة، لأنّ جریانها فی أحد الطرفین یستلزم الإباحة فی الطرف الآخر أیضاً.

وإن کان المانع من ناحیة استلزام البراءة الترخیص فی المعصیة عملاً أو التزاماً، فإن الإطاعة الإلتزامیة حاصلة، والترخیص العملی فی الطرفین لا ینفی الإلتزام بالحکم الواقعی، والمخالفة العملیّة غیر ممکنة.

الثانی: إنّ الترخیص موجود بمناط التکوین، ومعه لا مجال للترخیص بمناط الشک.

وبعبارة أُخری: الأصل العملی یجری فی کلّ موردٍ یسقط العلم فیه عن التنجیز، وفیما نحن فیه قد تحقّق الترخیص فی الرتبة السّابقة، فلا أثر له فی المرتبة اللاّحقة.

فالنظر فی التقریب الأوّل إلی اختلاف المناط، وفی الثانی إلی اختلاف الرتبة.

وهذا الإشکال من المحقّق العراقی(1).

وفیه:

إن کان الإضطرار التکوینی بالنسبة إلی الحکم الواقعی المعلوم، فلا إشکال فی عدم وصول النوبة إلی الترخیص بالبراءة، لأن العلم لا یکون منجّزاً بالنسبة إلیه، فلا حاجة إلی تحصیل العذر بالجهل. لکن ما نحن فیه لیس کذلک، لأن الحکم

ص: 37


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 295.

الواقعی هنا موجود، وهو إمّا الوجوب وإمّا الحرمة، ولا قصور فی ملاک ذاک الحکم ولا فی القدرة علی إمتثاله، فلا اضطرار بالنسبة إلی المکلَّف به، وإنّما الإضطرار بالنسبة إلی الجامع، ولا قدرة علی تحصیل الموافقة القطعیة. فالمضطر إلیه هو حکم العقل بلزوم الموافقة القطعیة وحرمة المخالفة القطعیة، لا حکم الشرع بالوجوب أو الحرمة. وفی هذه الحالة یعذّر العقل المکلّف ویرفع عنه الحرج بالفعل أو الترک، لا أنه یحکم بالترخیص، واللاّحرجیة العقلیة _ وإن کانت حاصلةً فی الرتبة السّابقة _ لا تنافی الحکم الشرعی الظاهری فی المرتبة اللاّحقة، بل إنّها معلَّقة علی حکم الشرع، ومعه ینتفی حکم العقل بها، نظیر انتفاء قاعدة قبح العقاب بحدیث الرفع، فلو قیل بلغویّة الحکم الشرعی بالترخیص هنا مع وجود اللاّحرجیّة العقلیة من قبل، لزم لغویّة حدیث الرفع مع وجود القاعدة. وهذا ما لا یلتزم به أحد.

الثالث: قال المیرزا(1):

أمّا فی العقلیّة، فبأنها تفید العذر للشاک فی التکلیف، وحیث یوجد القطع بالمؤمّن ولا یقبل التکلیف التنجیز بالعلم الإجمالی، لا تبقی حاجة إلی القاعدة.

ومرجع هذا الإیراد إلی ثبوت عدم إستحقاق العقاب علی هذا التکلیف فی المرتبة السّابقة، ولیس فی البین إحتمال العقوبة أصلاً. فلا تصل النوبة إلی إثبات هذا المعنی بحکم العقل من جهة عدم البیان.

ص: 38


1- 1. فوائد الأصول 3 / 448.

وفیه:

إنّا قد ذکرنا أن الإضطرار لیس بالنسبة إلی حکم الشارع کی یکون رافعاً للتکلیف ولا یبقی المجال للقاعدة. بل هو بالنسبة إلی حکم العقل بلزوم الموافقة القطعیة لحکم المولی. أی: متی کان التکلیف ولم تمکن الموافقة القطعیة له، حکم العقل بالعذر، فهذا حکم عقلی.

ومن جهة أُخری: یحکم العقل بقبح العقاب بلا بیان، أی: إنّ التکلیف المحتمل الذی لا بیان علیه تقبح العقوبة علیه. وهنا: الوجوب لا بیان علیه، وکذا الحرمة، فموضوع القاعدة موجود بالنسبة إلی کلٍّ من الطرفین، والعذر من جهة الإضطرار حاصل بالنسبة إلی الجامع فی البین، فالحکمان العقلیّان جاریان.

وعلی الجملة، إنّما یرد الإشکال لو کان عدم قابلیة التکلیف لاستحقاق العقاب فی الرتبة السّابقة _ أی فی موضوع القاعدة _ ، وقد عرفت أنه لیس کذلک، وأنّ الإضطرار هو بالنسبة إلی الموافقة العملیة، فلا یرفع موضوع القاعدة، کما لا ترفع القاعدة موضوع حکم العقل بعدم لزوم الموافقة القطعیة مع الإضطرار.

وأمّا فی النقلیّة، فلأنها تجری فی کلّ موردٍ أمکن للشارع وضع الإحتیاط فیه، لأن الرفع فرع الوضع. وهنا لا یمکن وضع الوجوب والحرمة کلیهما، لا علی سبیل التعیین ولا علی سبیل التخییر. وحینئذٍ لا یعقل الرفع، فلا تعمّ أدلّة البراءة للمقام.

أقول:

قد أمر المحقّق المیرزا هنا بالتأمّل، ولم یشر إلیه شیخنا فی الدرس.

ص: 39

ثمّ إنّ مدرک البراءة الشرعیّة لا ینحصر بحدیث الرفع حتّی یکون هناک رفع متفرّع علی الوضع. ولعلّ هذا وجه التأمّل.

جواب السیّد الخوئی

وأجاب المحقّق الخوئی کما فی المصباح(1): «بأنّ المورد قابل للتعبّد بالنسبة إلی کلٍّ من الحکمین بخصوصه، فإن القدرة علی الوضع إنما تلاحظ بالنسبة إلی کلٍّ من الوجوب والحرمة مستقلاًّ لا إلیهما معاً، وحیث أن جعل الإحتیاط بالنسبة إلی کلٍّ منهما بخصوصه أمر ممکن کان الرفع أیضاً ممکناً.

وتوضیح ذلک:

إنّ القدرة علی کلّ واحدٍ من الأفعال المتضادّة کافیة فی القدرة علی ترک الجمیع، ولا یعتبر فیها القدرة علی فعل الجمیع فی عرض واحد، ألا تری أنّ الإنسان مع عدم قدرته علی إیجاد الأفعال المتضادة فی آنٍ واحد، یقدر علی ترک جمیعها، ولیس ذلک إلاّ من جهة قدرته علی فعل کلّ واحد منها بخصوصه؟

ففی المقام، وإنْ لم یکن الشارع متمکّناً من وضع الإلزام بالفعل والترک معاً، ولکنّه متمکّن من وضع الإلزام بکلّ منهما بخصوصه، وذلک یکفی فی قدرته علی رفعهما معاً. وحینئذٍ، فلمّا کان کلّ واحد من الوجوب والحرمة مجهولاً، کان مشمولة لأدلّة البراءة، وتکون النتیجة الترخیص فی کلّ من الفعل والترک».

ص: 40


1- 1. مصباح الأصول: 330 _ 331.

وفیه:

إنّ الکلام یدور مدار مفهوم (الرفع) و(الوضع)، ومفهوم الرفع غیر مفهوم الترک، بقرینة المقابِل لکلّ منهما، فذاک یقابله (الوضع) وهذا یقابله (الفعل). ومن قدر علی وضع أحد الحَجَرین _ مثلاً _ لیس بقادر علی رفع کلیهما. نعم، یقدر علی ترک وضعهما. وموضوع حدیث الرفع لیس ترک الإحتیاط بل رفعه، والقدرة علی وضع أحد الضدّین لا یکفی لرفع کلا الضدّین.

وعلی هذا، فإن جریان الأصل فی الوجوب بشرط لا من الحرمة المحتملة تام، لاحتمال الضیق، وکذا بالنسبة إلی الحرمة بشرط لا من الوجوب، ولکنْ لو أرید جریانه فی الفعل والترک معاً فلا أثر عملی للأصل، لوجود الترخیص العقلی من قبل، وجریانه فی أحد الطرفین دون الآخر ترجیح بلا مرجّح. فالمشکل هو الجمع بین الترخیصین من جهة عدم ترتب الأثر العملی ولزوم اللغویّة.

وتلخص: ورود الإشکال علی البراءة الشرعیة.

وأمّا ما ذکره فی المصباح من النقض بالشّبهة البدویّة(1): من أنّه إذا کان عدم خلوّ المکلف من الفعل والترک هو الملاک للغویّة الأصل، فإنّ هذا صادق فی الشّبهة البدویّة، مع أنّه یجری فیها بلا کلام.

ففیه:

إنّه قیاس مع الفارق، لأنه وإنْ کان المکلّف غیر خال من أحد الحالین، لکن

ص: 41


1- 1. مصباح الأصول: 330.

الفاعلیّة أو التارکیّة هناک لیست بالترخیص العقلی من باب قبح الترجیح بلا مرجّح، وأنّه یمکن للشارع جعل الإحتیاط هناک، فله رفعه.

أمّا فی دوران الأمر بین المحذورین، فلا إحتمال للضّیق والکلفة من الجهتین حتی یرفعها فیهما، سواء کان الرفع بدلیل أو دلیلین، فلا أثر للبراءة هنا.

فالإنصاف لغویّة البراءة الشرعیّة فی محلّ البحث.

اللهمّ إلاّ أن یکون فائدة جریانها الإسناد إلی الشارع، وذلک یکفی للخروج عن اللّغویّة، ولا یشترط الأثر العملی. وعلی هذا، تخرج أصالة الإباحة أیضاً عن اللّغویّة، وبه أیضاً یحلّ المشکل بین حدیث الرفع وقاعدة قبح العقاب، فإن الحدیث یجری مع وجود القاعدة ویکون أثره الإسناد المذکور.

المختار فی دوران الأمر بین المحذورین
عدم جریان أصالة الإباحة

وذلک:

أوّلاً: لعدم وضوح جریانها فی الشّبهة الحکمیّة.

وثانیاً: إنصراف دلیلها _ علی فرض الشمول _ عمّا إذا کان إحتمال الحرمة منضمّاً إلی إحتمال الوجوب.

ثالثاً: لزوم اللّغویّة. بناءً علی اشتراط الأثر العملی.

ص: 42

عدم جریان البراءة الشرعیة

أولاً: لعدم قدرة الشارع علی الرفعین، ومدلول حدیث الرفع هو الرفع لا الترک.

ثانیاً: لزوم اللّغویّة بناءً علی اشتراط الأثر العملی.

عدم جریان البراءة العقلیة

لعدم القصور فی البیان فی المورد، کما أنّ العلم منجّز فی صورة دوران الأمر بین وجوب شیء وحرمة شیء آخر. فإن القاعدة لا تجری.

قیل:

إنّ موضوع القاعدة هو «عدم البیان» لکن لا مطلق البیان، فإن الإطلاق فی موضوع حکم العقل غیر معقول کالاهمال، فالمقصود هو البیان الباعث.

وفی دوران الأمر بین المحذورین لا باعثیة للبیان، وعلیه، فلا مانعیّة له، فالقاعدة جاریة، بخلاف صورة تعدّد الواقعة، فإن المانع من جریان البراءة فیها هو العلم بالجامع المنجّز عقلاً للخصوصیة لأنّه بیان باعث، فبین الصّورتین فرق.

أقول:

وهذا الإشکال قویّ. وما ذکر من مانعیّة العلم فی تلک الصّورة تام، فالمقتضی لجریان البراءة الشرعیة هناک فی کلٍّ من الطرفین موجود، والمانع المذکور یمنع من جریانها.

ص: 43

ولکن المانعیّة ترجع إلی منجّزیة البیان علی الجامع بالنسبة إلی الخصوصیّة عقلاً، فإن العقل یری صلاحیّة البیان علی الجامع للمؤاخذة، ولا یشترط عند العقل کون البیان علی خصوص الخصوصیّة، وهذه الجهة موجودة هنا، إذ البیان قائم علی الجامع، فیحکم العقل باستحقاق العقاب علی مخالفة العلم المتعلِّق بالجامع والمنجّز بالنسبة إلی الخصوصیّة، وهذا الحکم العقلی یرفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بیان، فلا تکون البراءة العقلیّة جاریةً هنا، لعدم الموضوع.

والشرعیّة لا تجری فی صورة تعدّد متعلّق الحکمین، لوجود المانع عن جریانها _ وهو حکم العقل، لأن البیان علی الجامع منجّز بالنسبة إلی الخصوصیّة _ وإن کان المقتضی لجریان حدیث الرفع بالنسبة إلی کلٍّ من الخصوصیتین موجوداً.

والحاصل: إنّا ننکر أصل المطلب ونقول بعدم الموضوع للقاعدة. فالحق مع صاحب الکفایة والمحقّق الإصفهانی. والنقض بالبراءة الشرعیّة غیر وارد.

هذا کلّه فی الاصول غیر المحرزة، وقد عرفت عدم جریانها.

جریان الإستصحاب

والتحقیق جریان الإستصحاب فی هذا المقام، وفاقاً لشیخنا الأُستاذ، لأنّ کلاًّ من الوجوب والحرمة حادث مسبوق بالعدم، فیستصحب عدم وجوب هذا الشیء ویستصحب عدم حرمته کذلک. وذلک لأنّ المقتضی لجریان الإستصحاب موجود والمانع عنه مفقود.

ص: 44

أمّا وجود المقتضی، فلأن موضوع الإستصحاب هو الیقین السّابق والشک اللاّحق، والأرکان بالنسبة إلی خصوص کلٍّ من الحکمین تامة، فالإستصحاب جارٍ.

والإشکال فی ناحیة المقتضی لجریان الإستصحاب فی الشبهات الحکمیة، إمّا لما قیل من أن أدلّة الإستصحاب لا تشملها، من جهة تعارض إستصحاب عدم الجعل مع إستصحاب المجعول، وإمّا لما قیل من أنّ أدلّة الإستصحاب واردة فی الشبهات الموضوعیة ولا إطلاق لها لتشمل الحکمیة، مندفع.

أمّا المعارضة، فلأن المشکل المذکور غیر موجود هنا.

وأمّا عدم الإطلاق، ففیه: إن القدر المتیقّن فی مقام التخاطب لا یسقط الإطلاق. وقوله علیه السّلام فی ذیل الدلیل:

(ولیس ینبغی لک أن تنقض ...) مطلق. فالمبنی المذکور مخدوش وإن قال به بعض المعاصرین.

وتلخص: تمامیّة المقتضی لجریان الإستصحاب فی المقام.

الکلام حول الموانع عنه

إنّما الکلام فی وجود المانع.

فقد ذکرت أُمور أربعة:

1_ إن جریان الإستصحاب یستلزم التناقض بین الصّدر والذیل فی دلیل الإستصحاب، لأن الصّدر یشمل دوران الأمر بین المحذورین المحتملین. لکنْ

ص: 45

فی الذیل: (إنقضه بیقین آخر). ونحن عندنا یقین بوجود أحد الأمرین من الوجوب والحرمة.

ذکره الشیخ.

الجواب:

ویجاب عنه: بأنّ الیقین المنقوض یقینٌ بالخصوصیّة، والیقین الناقض یقین بأحدهما. ومع تعدّد المتعلّق لا یتحقّق التناقض.

2_ إن جریان الإستصحاب وتعبّد الشارع ببقاء الیقین السّابق لغو، لعدم الأثر العملی، لأنّ المکلّف إمّا فاعل وإمّا تارک، فالمانع من الإستصحاب لزوم اللّغویّة کما کان هو المانع من جریان البراءة.

ذکره المیرزا(1).

الجواب:

یکفی للخروج عن اللغویّة الإسناد إلی الشارع، ولا یشترط الأثر العملی.

3_ إن جریان الإستصحاب یستلزم البناء علی خلاف الواقع، لأن مدلول «لا تنقض» هو: اجعل بنائک علی یقینک السّابق. وهذا البناء _ مع العلم بمخالفة أحد الطرفین للواقع _ یستلزم البناء علی خلاف الواقع، وکیف یمکن الموافقة الإلتزامیّة للواقع علی ما هو علیه؟

أقول:

إذا کان المشکل فی الإستصحاب لزوم البناء علی خلاف الواقع، فإنّ هذا

ص: 46


1- 1. فوائد الأصول 3 / 448.

اللاّزم لا یجتمع مع وجوب تصدیق النّبی صلّی اللّه علیه وآله بما جاء به، فنحن بالإضافة إلی عدم الإلتزام بالحکم الواقعی، قد بنینا علی خلاف الواقع والتزمنا به. وهذا تشریع قلبی وإلیه یرجع إشکال المیرزا. وبه یظهر ورود الإشکال حتی علی القول بعدم وجوب الموافقة الإلتزامیة.

الجواب:

لکنْ یجاب: بأنّ أخبار الإستصحاب لا تدلّ علی البناء علی الواقع، بل مفادها عدم النقض عملاً. فلا مانع من هذا الحیث.

4_ إنّ الأثر هو للمجعول لا للجعل، ولا حالة سابقة للمجعول _ وهو الوجوب والحرمة _ بالعدم، فلا إستصحاب. والجعل وإنْ کان له حالة سابقة، للیقین بعدم الجعل أزلاً، إلاّ أن إستصحاب عدم الجعل لا یفید لإثبات عدم المجعول إلاّ علی الأصل المثبت.

قاله المیرزا(1).

الجواب:

أولاً: إنّ عدم المجعول له حالة سابقة، لتحقّق الموضوع بنحو القضیة الحقیقیّة قبل تحقق المجعول، لأن الأحکام مجعولة بالتدریج.

وثانیاً: إن کان المجعول من لوازم الجعل کان الأصل مثبتاً، لأن مورد الأصل هو الملزوم وموضوع الأثر هو اللاّزم. لکن الجعل والمجعول واحد حقیقةً واثنان إعتباراً، نظیر الإیجاد والوجود.

ص: 47


1- 1. أجود التقریرات 3 / 401.
هل الحکم بالتخییر مطلق؟

قد ذکرنا أنّ أحد الوجوه فی دوران الأمر بین المحذورین هو القول ب_«التخییر».

فهل یقال به مطلقاً، أو إنْ لم یکن أحد الحکمین أهم وإلاّ فبه یؤخذ بحکم العقل تعییناً؟ قولان.

ذهب صاحب الکفایة إلی الثانی، والمحقّقان الإصفهانی والمیرزا إلی الأوّل.

ووجه الخلاف هو: إن کان ملاک التزاحم موجوداً فالثانی وإلاّ فالأوّل.

فقال صاحب الکفایة(1): بوجود الملاک، فإنّه لمّا یکون أحد الحکمین أهم من الآخر، أهمیّة قطعیة أو إحتمالیّة، یخرج المورد عن التخییر إلی التعیین، کما هو الحال فی کلّ موردٍ دار الأمر فیه بین التعیین والتخییر.

وقال المیرزا(2) لیس الأصل هو التعیین فی کلّ موردٍ یدور الأمر فیه بینه وبین التخییر، وذلک:

إن دوران الأمر بینهما یکون فی ثلاثة موارد:

1_ فی الأحکام الشرعیة التکلیفیّة، کما لو دار أمر وجوب صلاة الجمعة بین التعیین والتخییر، حیث یعلم الوجوب ویشک فی أنّه تعیینی أو تخییری.

وما نحن فیه لیس من هذا القبیل، إذ لا علم لنا بالحکم، بل الحکم نفسه مردّد.

ص: 48


1- 1. کفایة الأصول: 356 _ 357.
2- 2. أجود التقریرات 3 / 402.

2_ فی الحجیّة، کما إذا دار الأمر بین الأخذ بقول المجتهد الأعلم تعییناً والأخذ بقوله أو قول غیره تخییراً، فإن الأصل فیه هو التعیین، أی الأخذ بقول الأعلم، لأن حجیّة قوله مسلَّمة وحجیة قول غیره مشکوک فیها. وبعبارة أُخری: یدور الأمر هنا بین الأخذ بالحجّة المسلَّم بها والحجة المشکوک فیها.

وما نحن فیه لیس من هذا القبیل، کما هو واضح.

3_ فی المتزاحمین. ودوران الأمر بین التعیین والتخییر فی المتزاحمین یکون علی نحوین:

الأوّل: أن یکون هناک إطلاقان لفظیّان یشملان مورد التزاحم ولا یمکن إمتثالهما معاً، بأنْ یکون المقتضی _ وهو الغرض _ والمقتضی _ وهو الحکم _ تامّین، والقدرة علی إمتثال کلٍّ منهما بوحده موجودة ولا قدرة علی إمتثالهما.

والأصل فی هکذا موردٍ هو التعیین لمقطوع الأهمیّة منهما أو محتملها، لأنه مع کون أحدهما مقطوع الأهمیّة _ کما لو کان أحد الغریقین نبیّاً _ یسقط إطلاق دلیل الطرف الآخر، ومع کون أحدهما محتمل الأهمیّة، یشک فی سقوط إطلاق دلیله مع سقوط إطلاق دلیل الطرف الآخر، ولابدّ من الأخذ بالإطلاق المشکوک سقوطه حتی یأتی ما یسقطه یقیناً. فیتعیَّن الأخذ بمقطوع الأهمیّة أو محتملها.

الثانی: أن لا یکون هناک إطلاقان، بل الغرضان معلومان، فحیث یکون أحد الغرضین أهم من الآخر قطعاً أو إحتمالاً، یکون الإتیان بالغرض الأهم معجّزاً عن إمتثال الغرض المهم، وإنْ کان العکس، فإن العجز عن الأهم غیر حاصل، وما دام العجز غیر حاصل والعذر غیر متحقّق، تکون قاعدة الإشتغال بالغرض الأهم

ص: 49

محکّمةً، فلابدّ من صرف القدرة فی الأهم، لحکم العقل بلزوم تحصیل العذر المؤمّن. وهذا ملاک أصالة التعیین فی هذه الصّورة.

إذن، فی التزاحم إطلاقان أو ملاکان والقدرة واحدة فلا یمکن إمتثال کلا الحکمین، فحیث یوجد الإطلاقان یسقط إطلاق دلیل المهم ویبقی إطلاق دلیل الأهم، وحیث لا إطلاق، فلا یجوز تفویت الغرض الأهم بصرف القدرة فی المهم، لإطلاق حکم العقل بلزوم حفظ الغرض الأهم، وحکمه بجواز تفویت المهم بالإتیان بالأهم، بخلاف العکس.

وفی دوران الأمر بین المحذورین إطلاق أو ملاک واحد، والقدرة واحدة، فملاک البحث فی التزاحم غیر ملاک البحث فی دوران الأمر بین المحذورین، فالحکم بأصالة التعیین هناک لا یسری إلی ما نحن فیه، بل هنا یحتمل التکلیف بالأهم، ومع إحتماله لا تجری البراءة عن الأهم عقلاً وشرعاً، وإنْ لم تجر البراءة حکم العقل بالتخییر بعد سقوط أصالة التعیین.

وهذا تقریب دلیل المیرزا وغیره لما ذهب إلیه من بقاء التخییر.

التحقیق فی المقام

ولکنّ التحقیق أنْ یقال: إن الترجیح لطرفٍ تارةً یکون محتملاً وأُخری إحتمالاً، ومورد بحث صاحب الکفایة هو الأوّل.

فإنْ کان محتملاً قطعاً أو إحتمالاً، فالحق معه، وذلک لأنه:

إن کان الأهم ممّا یکون إحتمال الأهمیّة فیه منجّزاً _ کالدماء مثلاً _ فإنّ نفس

ص: 50

الإحتمال مرجّح، وإنْ لم تجر قواعد التزاحم. فإطلاق کلام المیرزا من أنّ إحتمال الأهمیّة لا یرجّح، فی غیر محلّه، وهذه الصّورة خارجة عن البحث قطعاً.

وأمّا بالنسبة إلی غیر هذه الصّورة فنقول:

إن الحاکم بالتخییر هو العقل، وحکمه به مستند إلی تساوی الطرفین وعدم المرجح، من باب قبح الترجیح بلا مرجح، ومع إحتمال الأهمیّة لطرفٍ لا یحکم بالتخییر، لعدم القبح فی ترجیح الأهم حینئذٍ. وبعبارة أُخری: الحکم بالتخییر متوقف علی عدم الترجیح، وحیث یوجد إحتمال الترجیح لأحد الطرفین فلا تخییر.

فظهر أن مقتضی القاعدة هو التعیین، لا بملاک باب التزاحم، بل بملاک أن حکم العقل بالتخییر کان من باب عدم الترجیح، ومع وجوده فلا حکم له به.

وأمّا بناءً علی جریان الاصول الشرعیّة فی مورد دوران الأمر بین المحذورین، فالمؤمّن بالنسبة إلی الواقع موجود وإن کان محتمل الأهمیّة أو مقطوعها، وهذا ثمرة لجریان الاصول الشرعیة مطلقاً کما قیل أو الإستصحاب فقط کما هو المختار، فإنه لا تعیین، لأن التعیین یکون بناءً علی عدم جریان أصل شرعی، وحکم العقل بالتخییر من باب قبح الترجیح بلا مرجح.

هذا کلّه فی المحتمل.

وإن کان الإحتمال فی طرفٍ أقوی، فإنْ جرت مقدمات الإنسداد، فالتعیین للإمتثال الظنّی ولا یؤتی بالطرف المشکوک. ولکنّها غیر جاریة هنا، لأنها إنما تجری حیث یکون الإمتثال إختیاریاً دائراً بین المظنون والمشکوک، وفی دوران

ص: 51

الأمر بین المحذورین اضطرار إلی إرتکاب أحد الطرفین، ولا قدرة علی ترک کلیهما، بخلاف مورد الإنسداد، إذ القدرة علی ذلک موجودة هناک والعقل یحکم بترک المشکوکات.

وهذا کلّه بقطع النظر عن حکم الشرع بإسقاط الظن عن جمیع الجهات.

وأمّا بالنظر إلی سقوط الظن شرعاً، فیشکل الترجیح بالظن حتی فی باب الإنسداد، لأن الظن لا یغنی من الحق شیئاً، وإطلاق دلیل المنع من ترتیب الأثر علی الظن یقتضی أنْ لا یرجّح الظن علی الشک فی شیء من أحکام المولی، فالترجیح ممنوع، ولا أقلّ من توقف العقل من الحکم به.

هذا، إن لم یکن منشأ الدوران تعارض الخبرین.

إن کان منشأ الدوران تعارض الخبرین

وإن کان منشأ دوران الأمر بین المحذورین هو تعارض الخبرین، فمقتضی القاعدة هو الرجوع إلی الأخبار العلاجیة، ومع عدم الترجیح یؤخذ بأحد الخبرین لأخبار التخییر، فالجاری هو التخییر الشرعی.

هذا بناء علی التخییر بین الخبرین المتعارضین مع عدم المرجّح.

وبناءً علی عدم قبول أخبار التخییر لضعفها سنداً، فالتساقط، وحینئذٍ تأتی الوجوه الخمسة.

هذا تمام الکلام فی الشّبهة الحکمیّة.

ویتلوه الکلام فی الموضوعیّة.

ص: 52

دوران الأمر بین المحذورین فی الشّبهة الموضوعیّة

اشارة

قال الشیخ(1):

«قد مثّل بعضهم له باشتباه الحلیلة _ الواجب وطیها بالأصالة أو لعارض من نذر أو غیره _ بالأجنبیّة. وبالخلّ المحلوف علی شربه المشتبه بالخمر.

ویرد علی الأوّل: إن الحکم فی ذلک هو تحریم الوطی، لأصالة عدم الزوجیة بینهما، وأصالة عدم وجوب الوطی.

وعلی الثانی: إن الحکم عدم وجوب الشرب وعدم حرمته، جمعاً بین أصالتی الإباحة وعدم الحلف علی شربه.

والاولی: فرض المثال فیما إذا وجب إکرام العدول وحرم إکرام الفسّاق، واشتبه حال زید من حیث الفسق والعدالة.

والحکم فیه کما فی المسألة الاولی: من عدم وجوب الأخذ بأحدهما فی الظاهر. بل هنا أولی، إذ لیس فیه إطراح لقول الإمام علیه السّلام ...».

أقول:

هذا الکلام متین، ولکنّ الشک فی وجوب الوطی ناشئ من الشک فی تحقق الزّوجیّة، وجریان أصالة عدم الزّوجیّة یکفی لحرمة الوطی، ولا حاجة إلی أصالة عدم وجوب الوطی. هذا فی المثال الأوّل.

ص: 53


1- 1. فرائد الأصول 2 / 193.

وفی المثال الثانی: إنّ أصالة عدم الحلف لا یرفع إحتمال وجوب الشرب، لأنّه ینفی الوجوب الظاهری ولا ینفی الوجوب الواقعی، فالإحتمال الوجدانی للوجوب الواقعی محفوظ، لأن هذا المائع إمّا هو فی الواقع حرام أو واجب، وقد قلتم بانصراف أدلّة الإباحة عن کلّ مورد فیه إحتمال الوجوب، فکیف تقولون هنا بالإباحة؟

وهذا هو الإشکال فی أصالة الإباحة.

وأمّا إستصحاب عدم الحلف.

ففیه: إن الإستصحاب یوجب إنحلال العلم فی دوران الأمر بین المحذورین إنْ کان جاریاً فی طرفٍ واحد بلا معارض؛ وبه یتعیّن المحذور المردّد، وأمّا إنْ جری فی الطرفین، فلا یتعیّن أحدهما بل یتعارضان ویبقی المورد من موارد دوران الأمر بین المحذورین.

فسواء قلنا بجریان الإستصحاب أو قلنا بعدمه، فإنّ خروج المقام عن الموردیّة لمسألة دوران الأمر بین المحذورین إنّما هو بجریانه فی طرفٍ.

وعلیه، فإن کان هذا المائع خلاًّ فهو واجب الشرب وإنْ کان خمراً فمحرّم شربه، وقد أجری الشیخ أصالة عدم الحلف وبذلک سقط وجوب الشرب، فکانت الشّبهة عنده من جهة الخمریّة شبهة بدویّة، وهی مجری أصالة الإباحة.

لکنّ الإشکال هو جریان الأصل الموضوعی من جهة الخمریّة فی الطرف الآخر إمّا نعتاً وإمّا أزلاً، ومعه یقع التعارض بین أصالة عدم الخمریّة وأصالة عدم الحلف، فلا تعیّن فی طرفٍ کی یکون الطرف الآخر شبهة بدویّة، فیبقی المورد من

ص: 54

موارد دوران الأمر بین المحذورین.

وهذا بخلاف المثال الأوّل، فإنّ استصحاب عدم الزوجیّة جارٍ بلا معارض، لعدم جریانه فی الطرف الآخر، لعدم الأثر.

لا یقال: إستصحاب عدم الخمریّة یعارض باستصحاب عدم الحلیّة، وتصل النوبة إلی أصالة عدم الحلف من جهة الخمریّة، وتجری الإباحة من جهة حرمة الشرب.

لأنّا نقول: إنّه لا سببیّة شرعیّة بین الخلّیة والحلف ولا بین عدم الخلّیة وعدم الحلف، بل هی بین الخلّیة ووجوب الشرب، لأن کون المائع خلاًّ موضوع لوجوب الشرب، وکذا هی بین الخمریّة وحرمة الشرب. أی: إنّ حرمة الشرب من آثار الخمریّة شرعاً؛ وأمّا تعلّق الحلف بشرب هذا الخلّ فمن الآثار العادیة الإتفاقیة. وکذا الحال بالإضافة إلی عدم الخلّیة وعدم الحلف. واستصحاب عدم الخلّیة بلحاظ عدم تعلّق الحلف بشربه أصل مثبت.

قال الشیخ: فالأولی ...

أقول: هذا المثال صحیح، فهو من موارد مسألتنا، وکلامه ناظر إلی مورد عدم الحالة السّابقة لأحد الطرفین، ولأجل وضوح المطلب لم یقیّد المثال بذلک. فاعتراض بعض المحشّین علیه فی غیر محلّه.

وأمّا الحکم، فإنّ الأقوال کلّها آتیة هنا، بل الموضوعیّة أولی عن الحکمیّة لعدم قصور فی أصالة الحلّ عن الشمول للشبهة الموضوعیّة. وقد وقع البحث فی شمول موثقة مسعدة للشبهة الحکمیة.

ص: 55

دوران الأمر بین المحذورین التوصّلیین أو أحدهما غیر المعیَّن توصّلی

فلو دار الأمر بین التوصلیّة والتعبدیّة، فإن کان الأصل هو التوصلیّة أُلحق بما تقدّم، وإنْ کان هو التعبدیّة اُلحق بما سنذکره. وأمّا

لو کانا تعبّدیین أو أحدهما

ففی هذه الصّورة، یمکن وقوع المخالفة العملیة القطعیّة، فما هو الحکم؟

قال الشیخ(1):

إنّه یلزم من الرجوع إلی الإباحة إطراح کلیهما والمخالفة العملیّة.

وبه قال فی الکفایة(2) تبعاً له.

ثمّ اعترض علی الشیخ بعدم الفرق بین التعبّدیین والتوصّلیین من جهة الحکم بالتخییر.

والوجه فی اعتراضه هو:

إنّ المهم للفقیه هو جریان أصالة التخییر، وهی جاریة فی التعبّدیین والتوصّلیین، لأنّ التخییر العقلی موجود فی کلتا المسألتین، فإمّا أنْ یأتی بالفعل مع قصد القربة وإمّا أن یترک کذلک، فالمرأة فی المثال یتردّد أمرها بین الصّلاة تعبّداً أو ترکها بدون قصد القربة، ففعل الصّلاة تعبّدی وترکها لیس بتعبّدی، فیمکنها

ص: 56


1- 1. فرائد الأصول 2 / 179.
2- 2. کفایة الأصول: 356.

الصّلاة بلا قصد، فیتحقّق منها المخالفة العملیّة.

لکن الظاهر عدم ورود الإعتراض، لتصریح الشیخ بعدم جریان أصالة الإباحة للزوم المخالفة کذلک. فیظهر أنّ نظر الشیخ إلی عدم جریان الإباحة، وأمّا سائر الوجوه فلا فرق فی هذه الصّورة وصورة کونهما توصّلیین أو أحدهما، فهو یرید أنّه لو کانا تعبّدیین أو أحدهما، فهناک لیس محلّ جمیع الوجوه، ولا تجری أصالة الإباحة، ومحلّ جمیع الوجوه هو صورة کونهما توصّلیین أو أحدهما. فالشیخ لا یفرق فی جهة التخییر، فلا مورد لاعتراض الکفایة.

الإشکال علی الشیخ والکفایة

ثمّ إنّ المحقّق الخراسانی وإنْ تبع الشیخ فی عدم جریان الإباحة إذا کانا تعبّدیین أو أحدهما _ للزوم إطراح کلیهما وتحقّق المخالفة العملیّة القطعیّة _ لکنّه ناقش فی حاشیة الرسائل: بأنّه إذا کان أحدهما تعبّدیّاً واختار المکلَّف الفرد غیر التعبّدی، فلا تلزم المخالفة العملیّة القطعیّة، لأنّه إذا اختار الترک احتمل کون التکلیف فی الواقع هو الحرمة، فاللاّزم حینئذٍ هو المخالفة الإحتمالیّة لا المخالفة القطعیّة.

وهذا الإشکال وارد، ویتّجه علی الکفایة أیضاً.

إشکال العراقی علی الکفایة وردّه

وأورد المحقّق العراقی علی الکفایة أیضاً: بأنّ مختاره هنا ینافی ما اختاره

ص: 57

فی صورة الإضطرار إلی أحدهما غیر المعیَّن، حیث قال هناک بسقوط التکلیف عن الفعلیّة، فلا یجب الموافقة القطعیّة ولا المخالفة کذلک محرَّمة، أمّا هنا فیقول بحرمة المخالفة القطعیّة وإنْ لم یمکن الموافقة القطعیّة، والحال انّ السبب فی عدم إمکان الموافقة القطعیّة هو الإضطرار إلی أحدهما غیر المعیَّن، فیلزم عدم حرمة المخالفة القطعیّة کذلک، فلماذا هذا الإختلاف فی الرأی؟

وفیه:

إنّه غیر وارد، للفرق بین الترخیص الشرعی والترخیص العقلی، فمع الأوّل یسقط التکلیف عن الفعلیّة، سواء بالنسبة إلی وجوب الموافقة وحرمة المخالفة، ومع الثانی یکون سقوطه عن الفعلیّة بقدر الضرورة، فیکون مرخّصاً بالنسبة إلی الموافقة القطعیّة لفرض عدم التمکّن منها، إلاّ أنّه متمکّن من ترک المخالفة القطعیّة فهو غیر مرخّص فیها.

توضیحه: إنّ المحقّق الخراسانی فی بحث الإضطرار یقول بأنّ الإضطرار من حدود التکلیف، ویصرّح بسقوط التکلیف إذا تعلّق الإضطرار بمتعلَّقه، لکنْ فی دوران الأمر بین المحذورین لم یتعلَّق الإضطرار به، فسواء کان الواقع هو الحرمة أو الوجوب یکون المکلَّف قادراً بالنسبة إلی المتعلَّق شرعاً وعقلاً، وإذْ لا إضطرار بالنسبة إلی متعلَّق التکلیف، فالتکلیف موجود بحاله.

وعلی الجملة، فإنّ الإضطرار من حدود التکلیف، والمضطرُّ إلیه هو متعلَّقه. وفی حاشیة الرسائل(1): إذا کان الترخیص العقلی بالنسبة إلی الموافقة القطعیّة

ص: 58


1- 1. حاشیة الرسائل: 127.

فذلک لا یستلزمه بالنسبة إلی المخالفة القطعیّة.

فظهر الفرق الکبیر بین الترخیصین العقلی والشرعیّ، فالإشکال غیر وارد، وإنْ کنّا لا نوافق صاحب الکفایة علی مختاره فی مبحث الإضطرار.

التحقیق

والتحقیق _ وفاقاً للمحقّق الإصفهانی _ : أنّ جریان الإباحة لا یستلزم المخالفة العملیّة، لإمکان إجرائها والإتیان بالعمل بقصد القربة.

اللهمّ إلاّ أن یرید لزومها من نفس العمل بأصالة الإباحة، فلا یکون المحذور فی إجرائها، بل فی جعل الشارع لها، لکونه ترخیصاً فی المخالفة العملیّة، وذلک غیر جائز عقلاً.

هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّ الأخذ بأصالة الإباحة _ وکذا البراءة _ یستلزم التناقض فی حکم العقل، لأنّ العقل ینجّز القدر المیسور من التکلیف ویُلزم إختیاره والإتیان به بقصد القربة، والإباحة الشرعیّة تفید الحریّة العقلیّة، فیکون العقل من جهةٍ مقیّداً ومن جهةٍ موسّعاً، وهذا تهافت.

وتلخّص: إنّ فی جریان الإباحة محذورین، أحدهما: لزوم الترخیص فی المخالفة العملیّة القطعیّة. والثانی: لزوم التناقض فی حکم العقل فی مقام الإمتثال وترتیب الأثر، لأن ترتیب الأثر علی الإباحة هو الترخیص عقلاً، لکن الطلب التعبّدی یقتضی الإطاعة، فیلزم التناقض فی حکم العقل.

ص: 59

وقد ذکر المحقّق الإصفهانی المحذور الأوّل.

ثمّ ذکر محذوراً آخر هو: إنّ الإباحة تنافی الطلب التعبّدی، لأنّ التعبّدیّة متقوّمة بالطلب اللّزومی أو غیر اللّزومی، والإباحة متقوّمة بعدم الطلب، وهی تقابل الطلب، فلا یجتمع الطلب والإباحة ویلزم الجمع بین المتنافیین.

أقول:

تخصیص المحذور الثانی بأصالة الإباحة غیر صحیح، لاطّراده فی أصالة البراءة وأصالة الإباحة معاً، لأنّ البراءة عنده هی الإذن فی مجرّد الفعل، أی الفعل ولو بدون قصد القربة، وهو لا یجتمع مع الطلب، والتعبّدیة متقوّمة بالطلب.

وبعبارة أُخری: إن کان المراد هو التنافی بین الإباحة والتعبّدیة لتقوّمها بالطلب، فإنّه لا تضاد _ عنده _ فی مرحلة الإعتبار، وأنّ للشارع إعتبار الوجوب والحرمة فی الشیء الواحد، فالتنافی لیس فی مرحلة الإعتبار، فإمّا هو فی المبدأ وإمّا هو فی المنتهی، وعلی هذا، فالترخیص فی الفعل أو الترک _ ولو بلا قصد للقربة _ لا یجتمع مع الطلب فی مرحلة المنتهی. أی الإمتثال، کما یوجد بین الإباحة والطلب. فالمحذور لیس مختصّاً بالإباحة، بل هو موجود فی الإباحة والبراءة معاً. هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّه _ رحمه اللّه _ یری أنّ حدیث الرفع جعلٌ لعدم التکلیف، أی أنّه قد اعتبر الشارع فیه عدم التکلیف، وعلیه، فهو ینافی التکلیف والطلب.

نعم، تمتاز أصالة الإباحة عن البراءة، من جهة جریانها فی الشبهات الموضوعیّة دون الحکمیّة، بخلاف البراءة حیث تجری فی کلتا الشبهتین.

ص: 60

هذا تمام الکلام فی وحدة الواقعة. وأمّا حکم:

تعدّد الواقعة

فتارة: الوقائع کلّها توصّلیة، وأُخری: کلّها تعبّدیة، وثالثة: بعضها توصّلی وبعضها تعبّدی، ورابعة: هی مشکوکة ...

والتعدّد تارةً: عرضی، وأُخری: تدریجی طولی.

وعلی کلّ تقدیر، تارة: لا یکون الملاک فی طرفٍ أقوی من الآخر، وأُخری: یکون أقوی.

فإنْ کانت الوقائع طولیّة، فذاک مورد البحث فی منجّزیة العلم الإجمالی فی التدریجیّات.

وإنْ کان الملاک فی طرفٍ أقوی، فذاک مورد بحث أصالة التخییر العقلی، وأنّه هل یجری الأصل المذکور أوْ لا، وهل أنّه إبتدائی أو إستمراری؟. وبعبارة أُخری: هل التخییر محکَّم إلی حدٍّ لا ینجرّ إلی مخالفة عملیّة لعلم إجمالی ولو متولّد، أو هو جارٍ حتی لو انجرّ؟

إن تعدّدت الواقعة _ وکانا عرضیین _ کالواجب والحرام فی موردین، وقد وقع الإشتباه بینهما، فهل یختار فی کلٍّ منهما الفعل أو الترک أو هو مخیّر؟

الأقوال فی المسألة

اشارة

ذهب الشیخ إلی التخییر الإستمراری(1)، ومستنده هو: إن حکم العقل

ص: 61


1- 1. فرائد الأصول 2 / 189.

بالتخییر موجود بقاءً کما کان حدوثاً. وذکر فی المسألة وجهین آخرین، أحدهما: التخییر الإبتدائی، والآخر: التفصیل بین ما إذا قصد فی الإبتداء البقاء علی الطرف المختار، فهو إستمراری، وإنْ کان غیر قاصدٍ للبقاء علیه، فهو غیر إستمراری.

ووجه التفصیل هو: إنّ صلاة الجمعة _ مثلاً _ یدور أمرها بین الوجوب والحرمة، فإنْ إختار الفعل، فقد وافق الواقع إحتمالاً، وکذا إنْ إختار الترک. وأمّا لو اختار مرّةً الفعل واختار أُخری الترک، فإن کانت واجبةً، فقد خالف الواجب، وإن کانت محرّمةً، فقد إرتکب الحرام. أمّا إذا بنی من أوّل الأمر علی الأخذ بالفعل والإستمرار علیه بأنْ یصلّیها أبداً، ثمّ عدل عن رأیه فیما بعد، فلا یضر، لأنّ المفروض أنّه فی وقت الشروع بالفعل کان بانیاً علی البقاء علی الفعل، فلمّا رجع حصلت المخالفة العملیّة، لکنّها لیست عن عمدٍ، بخلاف ما إذا لم یکن بانیاً علی الإستمرار والبقاء، فإنّها تحصل عن قصد وعمد.

وتحصّل أنّ فی المسألة ثلاثة أقوال:

1_ التخییر الابتدائی

وقد استدلّ له الشیخ(1):

بقاعدة الإحتیاط. فإنّها تقتضی الإستمرار علی الطرف المأخوذ به.

وباستصحاب الحکم المختار.

وناقش الشیخ رحمه اللّه:

ص: 62


1- 1. فرائد الأصول 2 / 189.

أمّا فی قاعدة الإحتیاط، فبأنّ البحث هو فی التخییر العقلی، ولا مجال للقاعدة المذکورة فی أصالة التخییر العقلی، لأنّ العقل لا یشک فی حکمه حتی یحکم بأصالة التعیین إحتیاطاً.

وأمّا فی إستصحاب الحکم المختار، فبأنّ الإستصحاب إنّما یجری فی الحکم المشکوک، ولا شک للعقل. وسیأتی إن شاء اللّه فی مباحث الإستصحاب: عدم جریانه فی الأحکام العقلیّة. نعم، یجری فی الأحکام الشرعیّة المستفادة من قاعدة الملازمة علی وجهٍ.

علی أنّه لو جری، فإنّه محکوم باستصحاب بقاء التخییر، لأنّه إذا إختار الفعل _ مثلاً _ فی الواقعة الأولی، یقع الشک عند الثانیة فی زوال التخییر، ومع إستصحاب بقاء التخییر لا یبقی الشک بالنسبة إلی الحکم المختار. إذن، یجری إستصحاب بقاء التخییر ویتقدّم علی إستصحاب بقاء الحکم المختار حکومةً.

ویستدلّ لهذا القول أیضاً ببطلان التخییر الإستمراری من جهة استلزامه للمخالفة العملیّة.

وقد أجاب الشیخ بالنقض بتبدّل رأی المجتهد، وفی عدول المقلّد، ولا یمکن الإلتزام فی الموردین بحرمة المخالفة العملیّة القطعیّة، فکذا فی جمیع موارد دوران الأمر بین المحذورین.

2_ التخییر الاستمراری
اشارة

ثمّ إنّ الشیخ اختار التخییر الإستمراری(1)، لا من جهة إستصحاب التخییر،

ص: 63


1- 1. فرائد الأصول 2 / 189.

للإشکال فیه من جهة عدم الإهمال فی حکم العقل، بل من جهة حکم العقل ووحدة ملاک حکمه فی الحدوث والبقاء، وهو اللاّحرجیّة العقلیّة، بملاک قبح الترجیح بلا مرجّح، فما یحکم به العقل فی الواقعة الأولی یحکم به فی الثانیة.

واختلف کلام صاحب الکفایة فی هذه المسألة، لکنّ المحقّق الإصفهانی استظهر منه التخییر الإستمراری، کما فی الواقعة الواحدة، فهو موافق للشیخ، وهو مختار المحقّقین الإصفهانی والمیرزا والعراقی أیضاً.

النظر فی کلمات الشیخ

لقد طرح الشیخ الأدلّة علی أساس التخییر الشرعی دون العقلی.

أمّا جوابه عن أدلّة القول الأوّل، فهو علی أساس التخییر العقلی.

وأمّا جوابه عن إستصحاب الحکم المختار بالمعارضة باستصحاب بقاء التخییر، فلا وجه له بناءً علی التخییر العقلی، لأنّ المعارضة تتوقّف علی تمامیّة المقتضی، وهو غیر موجود هنا، لأنّه لا حکم مختار بناءً علی التخییر العقلی، بل الظاهر من کلامه فرض المسألة علی التخییر الشرعی، لتمامیة المقتضی بناءً علیه فی المسألة الأصولیة، إلاّ أنّ الکلام فی دعوی وقوع التعارض. وتوضیح ذلک هو:

إنّ التخییر الشرعی فی المسألة الفرعیة عبارة عن التخییر ما بین الفعل والترک، وقد تقدّم أنّه غیر معقول، لکونه تحصیلاً للحاصل، وعلی فرض معقولیّته فإنّه لا حکم مختار، إذ التخییر الشرعی فی المسألة الفرعیة إختیار وتخییر لا حکم مختار، فلا مقتضی لاستصحاب الحکم المختار.

ص: 64

أمّا فی المسألة الأصولیّة _ وهو عبارة عن کون المکلَّف مخیَّراً فی الأخذ بأحد الخبرین _ ، فیکون أخذه له سبباً لاعتبار الحجیّة بالنسبة إلی المأخوذ، وعلی هذا، یکون الحکم المختار تامّ المقتضی. أی: إنّه إذا أخذ صار حجّةً، فإنْ أراد الأخذ بالخبر الآخر، کان إستصحاب حجیّة المأخوذ الأوّل محکَّماً. وکذا فی المقلِّد فی المجتهدین المتساویین المختلفین فی الفتوی، بناءً علی کونه مختاراً _ والمختار هناک وجوب الإحتیاط علیه _ فإنْ أخذ بقول أحدهما کانت فتواه حجةً، فلو أراد العمل بفتوی الآخر استصحب حجیّة فتوی الأوّل. وکذا فی سائر موارد دوران الأمر بین المحذورین، عملاً بتنقیح المناط الموجود فی الخبرین المتعارضین.

وعلی الجملة، فإنّ المقتضی لإجراء إستصحاب الحکم المختار تام.

إنّما الکلام فی المعارضة التی ذکرها الشیخ، وبیانها هو:

إنّ الحکم الإبتدائی فی الخبرین المتعارضین هو التخییر، لأدلّة التخییر، وفی المجتهدین هو الإجماع المدّعی فی کلمات الشیخ، ثمّ بعد الأخذ بأحد الخبرین أو القولین، یشک فی بقاء التخییر، فیستصحب، فلا إحتمال معه للحجیّة التعیینیّة، ویکون المحکّم هو إستصحاب التخییر.

وبعبارة أُخری، إنّ الموضوع فی أدلّة التخییر بین الخبرین هو «من جاءه الخبران المتعارضان» وهذا الموضوع موجود قبل الأخذ بأحدهما وبعده. والموضوع فی الفتویین المختلفین هو «المقلّد الذی ورد علیه الرأیان المختلفان» وهو کذلک موجود قبل الأخذ بأحدهما وبعده، ومع الشک فی أنّه بنفس الأخذ

ص: 65

بأحد الرأیین أو الخبرین یزول التخییر أوْ لا؟ یستصحب بقاء التخییر.

هذا غایة ما یمکن أن یقال لتقریب کلام الشیخ فی الإشکال علی التخییر الإبتدائی.

التحقیق

والتحقیق أن یقال: إن «من جاءه الخبران» أو «الرأیان» یجعل الحجیّة للخبر أو الرأی الذی أخذه _ بأیّ معنیً کان الأخذ _ . فالحجّة تامّة فی حقّه، ومع تمامیّة الحجّة لا مجال لاستصحاب بقاء التخییر، لأن معنی جریانه سقوط الحجّة عن الحجیّة، فالتخییر کان ل_ «من جاءه ...» الذی لا حجّة عنده، والمفروض تمامیّة الحجّة له بالأخذ، فاستصحاب التخییر مشکل، لأنّه لا مورد له، بل الصّحیح هو إستصحاب الحکم المختار. هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّ مناسبة الحکم والموضوع تقتضی عدم وحدة الموضوع فی القضیّة، ولا أقل من الشک فیها، فلا یمکن التمسّک بدلیل الإستصحاب، لأنّه من التمسّک بالدلیل فی الشّبهة الموضوعیّة لنفس الدلیل، وذلک: لأنّ الموضوع وهو «من جاءه ...» یتقیّد بمناسبة الحکم والموضوع _ التی هی من القرائن المتّصلة بالکلام _ بالذی جاءه الخبران أو الرأیان وهو فی حال التحیّر، فلیس الموضوع مطلق «من جاءه ...» بل الّذی لا حجّة عنده، والمفروض أنّه بمجرّد الأخذ بأحد الطرفین یکون ذا حجّة، ویخرج بذلک عن التحیّر، فلا یشمله الموضوع.

والحاصل: إنّ الموضوع بقرینة المناسبة یتغیّر، ولا أقلّ من الشکّ، ومعه

ص: 66

لا یجری إستصحاب بقاء التخییر، فلا معارض لاستصحاب الحکم المستمر.

وأمّا دعوی حکومة إستصحاب بقاء التخییر علی إستصحاب الحکم المختار، فوجهها أنّه:

مع الشکّ _ فی الواقعة الثانیة _ فی بقاء الحجیّة أو وجوب الأخذ، یجری الإستصحاب، لکنّ هذا الشک ناشئ من الشک فی بقاء التخییر وعدم بقائه، فإن کان باقیاً فالحکم المختار باق وإلاّ فلا، فیکون الشک فی بقاء وإرتفاع الحکم المختار ناشئاً من بقاء التخییر، وإستصحاب بقاء التخییر یزیل الشک فی بقائه، ومعه لا شک فی عدم بقاء الحکم المختار.

وفیها نظر.

لأن الشک وإنْ کان مسبّباً کما ذکر، لکنّ الشیخ فی مبحث تعارض الإستصحابین وفی مقام المناقشة مع المحقّق الثانی یقول: بأنّ الأصل السّببی أصل موضوعی للأصل المسبّبی، والمسبّب من آثار السّبب وأحکامه، فالشک فی بقاء وارتفاع نجاسة الملاقی ناشئ عن الشک فی بقاء وارتفاع نجاسة الملاقی، ونجاسة الملاقی من الآثار الشرعیّة لنجاسة الملاقی.

وفیما نحن فیه، لا تنطبق هذه الکبری، لأن نسبة بقاء وارتفاع الحکم المختار إلی بقاء وارتفاع التخییر، لیس نسبة الحکم إلی الموضوع _ کما کان فی المثال المذکور، حیث نجاسة الملاقی وجودها وعدمها موضوع لنجاسة الملاقی وعدم نجاسته _ إذ الحکم المختار لیس من الآثار الشرعیّة للتخییر وجوداً وعدماً، بل اللاّزم العقلی لعدم التخییر وجود الحکم المختار، واللاّزم العقلی للتخییر عدم

ص: 67

الحکم المختار. فالکبری غیر منطبقة، فلا یمکن القول بالحکومة بناءً علی التحقیق من لزوم أنْ یکون المسبّب أثراً وحکماً شرعیّاً للسّبب، بالإضافة إلی تصریح الشیخ بنفسه بذلک.

قال: وأمّا جواب الشیخ بالنقض بتبدّل رأی المجتهد وعدول المقلِّد. ففیه:

إنّه لا شبهة فی عدم قصد المجتهد للمخالفة العملیّة، وإنّما استنبط أوّلاً الوجوب ثم استنبط الحرمة، ولا ضیر فی هذه المخالفة، لعدم علمه حین إختیاره الوجوب بتبدّل رأیه فیما بعد، فإذا أفتی بالحرمة خرجت فتیاه بالوجوب عن طرف الإبتلاء. هذا فی المجتهد.

وأمّا المقلّد، فإنْ قام إجماع أو دلیلٌ لفظی علی أنّ للمقلِّد البناء _ حین تقلیده للمجتهد _ علی العدول عنه فیما بعد، فالنقض وارد. ولکن لا یوجد هکذا دلیل أو إجماع. فالنقض مردود.

وممّا ذکرنا یظهر أنّ ما ذکره الشیخ فی مثل عدول المقلِّد یناسب القول الثالث من الأقوال فی المسألة.

ثمّ إنّ مختار الشیخ _ وهو التخییر الإستمراری _ هو من جهة أنّ حکم العقل فی جمیع الوقائع علی السّواء.

ویرد علیه:

أوّلاً: إنّ الإستصحاب إنّما یجری فی الموضوعات والأحکام الشرعیّة، والتخییر العقلی حکم عقلی ولیس بموضوع للتعبّد الشرعی، وهذا هو السّبب لعدم جریان الإستصحاب فیه لا عدم وجود الشک لاحقاً.

ص: 68

وثانیاً: قوله بعدم الضرر فی المخالفة العملیة، یناقض کلامه فی مباحث القطع فی دوران الأمر بین المحذورین، فقد قال هناک بالتخییر البدوی وأنّ الإستمراری یستلزم إرتکاب المخالفة العملیّة.

وأمّا جواز التخییر الإستمراری للمقلّد، فإنّما هو من جهة إذن الشارع وتعبّده.

فبین کلامیه تناقض واضح.

مع أنّا لم نفهم مراده من الجواز مع إذن الشارع، لأنّه إذا کانت المخالفة العملیّة إرتکاباً للمبغوض _ ولذا لابدّ وأنْ یکون التخییر بدویّاً _ فلا یعقل الإذن منه بارتکاب ما هو مبغوض له، اللهمّ إلاّ أنْ یکشف تعبّده بالجواز عن رفعه الید عن الواقع.

ولو قیل: إنّه بالتعبّد ینجبر ما فات من الواقع ویتدارک، کما ذکر المحقّق الإصفهانی فی توجیه کلام الشیخ هناک.

قلنا: إذنْ، لابدّ من الإلتزام برفعه الید عن الواقع، وحینئذٍ لا ضیر فی المخالفة العملیّة. لکنّ المحذور استلزام ذلک للتصویب. وأمّا مع القول بلزوم حفظ الواقع، فلا یعقل التعبّد بالمخالفة، فلا طریق للجمع بین کلامیه.

هذا ما یتعلَّق بکلام الشیخ رحمه اللّه.

رأی الکفایة

والمحقّق الخراسانی فی الکفایة لم یتعرّض لصورة تعدّد الواقعة، ولکنّ

ص: 69

المحقّق الإصفهانی نسب إلیه القول بالتخییر الإستمراری بلا فرقٍ بین وحدة الواقعة وتعدّدها.

قال الأستاذ: وکأن الإصفهانی غفل عن کلام أُستاذه فی حاشیة الرسائل الذی یفید إختیاره للتخییر الإبتدائی مع تعدّد الواقعة.

توجیه المخالفة العملیّة

وحاول المحقّق الإصفهانی(1) توجیه التخییر الإستمراری _ بعد لزوم المخالفة العملیّة _ بأنّ:

فی الوقائع المتعدّدة الواقعة تدریجاً توجد علوم متعدّدة بعدد الوقائع، ففی هذه الجمعة علم بصلاة الجمعة وفی الجمعة التالیة علم آخر، فیتعدّد العلم والمتعلَّق والإمتثال. وضمُّ الوقائع بعضها إلی بعض لا یأتی بتکلیفٍ جدیدٍ ولا بعلم جدیدٍ، بل کلّ واقعةٍ هی أجنبیّة عن الأُخری، والعلم بها کذلک. نعم، من هذه العلوم ینتزع علمٌ هو عبارة عن أنّ الصّلاة إمّا هی واجبة فی هذه الجمعة وإمّا هی حرام فی الجمعة الآتیة، وهذا العلم الإنتزاعی لا أثر له حتی یکون منجّزاً.

فإن قیل: إنّه فی التدریجیّات یعلم بأنّ علیه تکلیفاً وجوبیّاً إمّا فی هذا الیوم وإمّا فی الغد.

ص: 70


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 219.

قلنا: طرف العلم حکم واحد وهو الوجوب، لکنْ هو إمّا الیوم وإمّا غد، وهذا العلم منجّز لطرفه، لکنْ فی دوران الأمر بین المحذورین العلم لا ینجّز التکلیف، وعلیه، فلا فرق بین صورة وحدة الواقعة وصورة تعدّدها، فالتخییر استمراری، ولا تحرم المخالفة القطعیّة ولا تجب الموافقة القطعیّة فی کلیهما.

أقول:

هذا العلم الآخر، إن کان انتزاعیّاً فلا ینجّز، إلاّ أنّ الظاهر أنّه علم متولّد، وهو إن لم یأت بتکلیفٍ جدید ولکن لماذا لا یکون مؤثّراً فی حرمة المخالفة لذلک التکلیف؟ وبعبارة أُخری: التکلیف فی هذه الجمعة یدور بین الوجوب والحرمة، وهو تکلیف غیر منجّز، وفی الجمعة اللاّحقة کذلک، ومن ضمّ الواقعتین بالفعل فی الأولی والترک فی الثانیة، یتولّد علم بالمخالفة العملیّة، وبذلک یسقط استدلال المحقّق الإصفهانی رحمه اللّه.

وأجاب عنه سیّدنا الأُستاذ بقوله:

«وأنت خبیر: بأنّ العلم الإجمالی فی واقعتین یستلزم حدوث علمین إجمالیین حقیقیّین بتکلیف مردّد بین الوجوب والحرمة بالنسبة إلی الفعلین فی الواقعتین، وهو مستلزم لتنجیز المعلوم بنحو تحرم مخالفته قطعا، ولا نلحظ العلم الإجمالی فی کلّ واقعة کی یقال انّ المخالفة القطعیّة للعلم الإجمالی المزبور مخالفة غیر مؤثّرة، بل الملحوظ هو العلم الإجمالی الحاصل بضمّ الواقعتین إحداهما إلی الأُخری، وهو لا ینافی عدم تنجّز العلم الإجمالی بالنسبة إلی کلّ واقعة بحیالها، وعدم ثبوت تکلیف آخر غیر المعلوم بالعلم الإجمالی غیر المنجز،

ص: 71

ولا یتنافی مع تعلّق علم إجمالی به آخر یستلزم تنجیزه بالنسبة إلی المخالفة القطعیّة»(1).

ثمّ إنّ المحقّق الخراسانی قال فی حاشیة الرسائل(2) فی ذیل کلام الشیخ بعدم الإهمال فی حکم العقل:

إنّه یمکن للعقل أن یشکّ فی مناط حکمه، من جهة فقد بعض خصوصیّات المناط، ومع الشک فی الملاک فلا حکم.

قال: وعلی هذا، فالتخییر لیس إستمراریّاً، لأنّه فی الواقعة الأولی یحکم العقل بالتخییر، لتساوی الطرفین، وفی الثانیة یشک فی بقاء ملاک حکمه، ولو لاحتمال ضرر هذه المخالفة، ومع الشک فی بقاء مناط التخییر یزول حکمه، وإذْ لا توجد البراءة لا عقلاً ولا شرعاً، فالمختار هو التخییر البدوی.

وکأنّ الإصفهانی لم یلتفت إلی کلام شیخه فی الحاشیة.

3_ تفصیل المیرزا
اشارة

وفصّل المیرزا(3) رحمه اللّه فقال: أمّا فی الدفعیّات، فالعلم منجّز بالنسبة إلی المخالفة القطعیّة، وأمّا فی التدریجیّات فلا. مثلاً: لو حلف علی فعل شیء وحلف علی ترک شیء، فوقع الإشتباه بین الشیئین، فإنّه یدور الأمر بین المحذورین

ص: 72


1- 1. منتقی الاصول 5 / 35.
2- 2. حاشیة الرسائل: 235.
3- 3. أجود التقریرات 3 / 406.

بالنسبة إلی کلٍّ من الفعلین، لکن فی المورد تکلیف فعلی وملاک ملزم، فإنْ فعل کلیهما فالمخالفة القطعیّة لازمة، لأنّ أحدهما واجب الترک، وکذا إن ترک کلیهما، لأنّ أحدهما واجب الفعل، والغرض تام علی کلّ حال والتکلیف فعلی، لتحقّق موضوعه بجمیع قیوده، وکلّ تکلیفٍ فإنّه یقتضی الموافقة القطعیّة وحرمة المخالفة القطعیّة، وهنا لا یمکن الموافقة القطعیّة لکن المخالفة مقدورة، فیحکم العقل بقبحها. إذنْ یجب علی المکلَّف إختیار الفعل فی طرفٍ والترک فی الطرف الآخر.

لکنْ فی التدریجیّات، فالوجه عند المیرزا ما ذکره الإصفهانی من أنّ الوقائع متعدّدة، وضم بعضها إلی بعض لا أثر له. نعم یلزم تفویت الغرض والتکلیف، لکن التکلیف لیس بفعلی.

فالفرق بین الدفعی والتدریجی هو أنّه فی الأوّل یکون التکلیف فعلیّاً، وفی الثانی _ بناءً علی إنکار الواجب المعلَّق _ التکلیف مشروط بشرطٍ غیر حاصل، فلا فعلیّة له، فلا تلزم المخالفة القطعیّة فی التدریجی، بخلاف الدفعی، فإنّه مطلوب غیر مشروط، فموضوعه متحقّق بجمیع قیوده فیلزم المخالفة القطعیّة.

فالتخییر الإستمراری فی التدریجیّات، وهو فی الدفعیّات إبتدائی.

المناقشة

أقول:

فی کلامه رحمه اللّه تناقض، لأنّه یقول فی المرأة الحائض بعدم فعلیّة

ص: 73

التکلیف فی حقّها، لکن إذا خالفت یلزم تفویت الغرض الملزم وهو غیر جائز، لحکم العقل بلزوم حفظ الغرض فی ظرفه. إذن، ففی الوقائع المتکرّرة التدریجیّة لا تلزم المخالفة القطعیّة، بل یلزم تفویت الغرض الملزم وهو غیر جائز، کما لا یجوز معصیة التکلیف الفعلی ... وهذا رأی المیرزا، وعلیه، فلا وجه صحیح للتفصیل، إذْ لابدّ من الإجتناب عن المخالفة القطعیّة فی کلّ حال. وعلی ما ذکر فلابدّ من القول بالتخییر البدوی فی التدریجیّات أیضاً.

رأی المحقّق العراقی

وقال المحقّق العراقی بالإستمراری(1)، وذکر فی وجه ذلک ما هذا توضیحه:

إن هنا علماً متولّداً _ خلافاً للمحقّق الإصفهانی المنکر لذلک _ ولابدّ من التسلیم بحصول المخالفة القطعیّة وأنّها لا تجوز، وإن العلم مؤثر فیها، ولکنّ تأثیر العلم فیما نحن فیه یتنافی مع تأثیره فی وجوب الموافقة القطعیّة، وإذا کان العلم مؤثراً فی الطرفین ولا ترجیح، فلا یحکم العقل بحرمة المخالفة القطعیّة وجواز ترک الموافقة القطعیّة أو عدم وجوبها، فیسقط تأثیره بالنسبة إلی کلا الطرفین، وتکون النتیجة هو التخییر الإستمراری.

أقول:

حاصل کلامه رحمه اللّه هو: أنّه إذا کان اللاّزم المخالفة القطعیّة بلا منافٍ،

ص: 74


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 296.

کانت المخالفة محرّمة. ولکن حصل هنا علم آخر، وحیث لا ترجیح بینهما یسقطان، فمقتضی القاعدة هو التخییر الإستمراری فی الدفعیّات والتدریجیّات، سواء قلنا بأنّ العلم الإجمالی علّة تامّة بالنسبة إلی المخالفة القطعیّة أو أنّه مقتضٍ _ ویظهر أثر الإختلاف فی جریان الأصول المرخّصة فی الأطراف وعدم جریانها، ولکنْ لا أثر له من حیث الاضطرار، فإذا کان للمعلوم قصور ولم تمکن الموافقة وترک المخالفة معاً، فلا فرق بین المسلکین _ .

فهذا وجه القول بالتخییر الإستمراری عند المحقّق العراقی.

قال شیخنا: وهو أقوی الوجوه.

خلاصة الکلام والتحقیق فی المقام

لقد تعرّضنا لأنظار الأعاظم، فنقول: إنّ المراد من التخییر البدویّ هو أنّه إذا تعدّدت الواقعة والقضیّة دفعیّة، فالملاک عدم لزوم المخالفة القطعیّة. وعدم لزومها فی الدّفعی هو أن یکون فاعلاً لإحدی الواقعتین وتارکاً للأُخری، فإن کان فاعلاً لکلیهما قطع بمخالفة التکلیف، ففی الدفعی عدم لزومها هو بأن یکون فاعلاً فی واقعة وتارکاً فی أُخری، لأنّ کلاًّ منهما یحتمل أن یکون فیه موافقاً للواقع وأن یکون مخالفة له فیه. فإذا ترک کلیهما أو فعلهما قطع بمخالفة الواقع. وفی التدریجی یجب أنْ یکون فاعلاً أو تارکاً لکلیهما، فإن فعل فی إحداهما وترک فی الأُخری لزمت المخالفة العملیّة. فلذا یکون عدم لزومها فی التدریجیّات موجباً لأن یکون التخییر بدویّاً، بأن یبقی علی الطرف الذی اختاره.

ص: 75

وتعود الأنظار فی المقام إلی أمرین:

1_ عدم الضّرر فی المخالفة العملیّة القطعیّة.

2_ إنّه لا علم ومعلوم یقتضی حرمة المخالفة العملیّة، لأن حرمتها یحتاج إلی المنجّز، وقوامه أمران: أحدهما: العلم، والثانی: قابلیّة متعلّق العلم للتنجیز.

أمّا فی المتعدّدة، فلا علم زائداً علی العلم الذی لا أثر له، ولا معلوم علی الذی لا أثر له، وعلی هذا الأساس أنکر المحقّق الإصفهانی الضرر فی الدفعیّات والتدریجیّات معاً، والمحقّق العراقی إختار الأوّل، فهو یقول بوجود العلم المؤثّر والمعلوم، ولکنْ لمّا کان ترجیح المخالفة العملیّة علی الموافقة العملیّة التی تلازم المخالفة العملیّة بلا مرجّح، فإنّه لا تضرّ هذه المخالفة العملیّة. فالتخییر إستمراری فی التدریجیّات، وفی الدفعیّات مخیّر کیفما یفعل. فما هو الحق فی المسألة؟ وما هو أساس القول بالتخییر؟

فنقول:

إنّ مبنی التخییر هو کون الطرفین متساویین عند العقل، وحینئذٍ، یقبح الترجیح بلا مرجّح ویحکم العقل بالتخییر. فالملاک للتخییر هو التساوی بین الطرفین.

إنّه سیأتی فی مباحث الإشتغال: أنّ فی حکم العقل بالإشتغال مسلکین:

1_ إنّ العلم الإجمالی بالنسبة إلی وجوب الموافقة القطعیّة وحرمة المخالفة القطعیّة علّة تامّة، فلا یمکن الترخیص عقلاً، لا فی المخالفة بأصلٍ ولو کان بلا معارض، ولا فی الموافقة.

ص: 76

2_ إنّ العلم الإجمالی علّة تامّة بالنسبة إلی حرمة المخالفة، وهو مقتضٍ بالنسبة إلی وجوب الموافقة القطعیّة، وأنّه یجوز شمول أدلّة الاصول لبعض الأطراف فی حال عدم وجود المعارض.

فعلی القول بکون العلم الإجمالی علّةً لحرمة المخالفة ووجوب الموافقة، فإنْ الحق فی بحثنا مع القائلین بالتخییر الإستمراری، لأنّه لا ترجیح، إذ یدور أمر المکلّف بین المخالفة الإحتمالیة والموافقة الإحتمالیة إن کان التخییر بدویّاً، وبین المخالفة القطعیّة والموافقة القطعیّة إن کان استمراریّاً، ولا ترجیح فی البین، لکون فعل المخالفة القطعیّة وترک الموافقة القطعیّة علی السواء عند العقل، والمفروض أنّ العلم علّة تامّة.

وعلی القول بکون العلم علّةً تامّة للمخالفة فقط، أی: إنّ للشارع الترخیص والتصرّف فی طرف لزوم الموافقة القطعیّة، فإنّه به یکشف الفرق بین الموافقة والمخالفة، ولیستا مثل کفّتی المیزان، وهذا کاف لسقوط ملاک حکم العقل بالتخییر، لأنّ الملاک کان إحراز الإستواء بین الطرفین، ولا أقل من شک العقل فی وجود الملاک فی هذه الصّورة، وإذا سقط حکم العقل بالتخییر، فالأصل هو التعیین، ولابدّ من الإجتناب عن المخالفة العملیّة.

وبما ذکرنا یظهر: إنّ تأثیر العلیّة والإقتضاء لیس فی الحکم الظاهری فقط کما یقول المحقّق العراقی، بل إنّه یؤثّر فی وجود ملاک حکم العقل بالتخییر وعدم وجوده.

وبعد، فإنّ المختار هناک هو الإقتضاء بالنسبة إلی الموافقة القطعیّة، کما سیأتی إن شاء اللّه.

ص: 77

فظهر أنّ الصحیح هو النّظر فی المبنی فی قاعدة الإشتغال، والحکم فی المقام بناءً علیه، وقد ظهر أنّ الحقّ هو التخییر الإبتدائی.

رأی السیّد الأستاذ

وهذا هو رأی السیّد الأُستاذ أیضاً. وله فی تقریب ذلک بیانٌ آخر، وهذا نصّ کلامه:

«وتحقیق الکلام: إنّ العلم الإجمالی بالوجوب أو الحرمة فی کلّ واقعة لا أثر له، لکنّ لدینا علماً إجمالیّاً آخر وهو العلم إجمالاً إمّا بوجوب الفعل فی هذه الواقعة أو بحرمته فی الواقعة الثانیة. وهذا العلم الإجمالی تحرم مخالفته القطعیة، فإذا احتار الترک فی هذه الواقعة کان علیه أن یترک فی الواقعة الثانیة، وإلاّ أدّی ذلک إلی المخالفة القطعیّة للعلم الإجمالی المزبور.

إلاّ أنّه قد یقال: إنّ هذا العلم الإجمالی ینضمّ إلیه علم إجمالی آخر إمّا بحرمة الفعل فی هذه الواقعة أو بوجوبه فی الواقعة الثانیة، وتأثیر کلّ من العلمین فی کلّ من الطرفین علی حدّ سواء، فلا یکونان منجّزین، بل یکونان من قبیل العلم الإجمالی الأوّل بلحاظ کلّ واقعة بحیالها.

ولکنّنا نقول: إنّه یمکن تقریب التخییر البدوی علی أساس هذین العلمین الإجمالیین المتعاکسین بأحد وجهین:

الأوّل: إنّ الموافقة القطعیّة لأحدهما تستلزم المخالفة القطعیّة للآخر.

وبعبارة أُخری: إنّ التخییر الإستمراری کما یستلزم المخالفة القطعیّة

ص: 78

لأحدهما یستلزم الموافقة القطعیّة للآخر، وبما أنّ حرمة المخالفة القطعیّة أهمّ _ بنظر العقل _ من لزوم الموافقة القطعیّة، ولذا قیل بعلیّة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیّة، وتوقّف فی علیّته لوجوب الموافقة القطعیّة، فیتعیّن رفع الید عن لزوم الموافقة القطعیّة لأحدهما والإکتفاء بالموافقة الإحتمالیّة حذراً من الوقوع فی المخالفة القطعیّة للآخر، فیتعیّن التخییر البدوی.

الثانی: إنّ تحصیل الموافقة القطعیّة لکلا العلمین الإجمالیین غیر مقدور عقلاً، فیتنزّل العقل عنها إلی الموافقة الإحتمالیّة. بخلاف الإجتناب عن المخالفة القطعیّة، فإنّه مقدور لکلّ من العلمین، فیحکم العقل بحرمتها. فیتعیّن التخییر البدوی.

وهذا الوجه یتم حتی بناء علی المساواة بین الموافقة القطعیّة والمخالفة القطعیّة فی الأهمیّة، وکون العلم بالنسبة إلیهما علی حدّ سواء، فلا یؤثر فی إحداهما مع التعارض، إذ الملاک فیه هو عدم القدرة عقلاً من الموافقة القطعیّة، فالعلم الإجمالی لا یؤثر فیها لعدم القدرة لا للتعارض، کی یقال إنّ مقتضی المعارضة عدم تأثیره فی حرمة المخالفة القطعیّة أیضاً.

وبالجملة، یتعیّن بهذین الوجهین الإلتزام بالتخییر البدوی ومنع التخییر الإستمراری»(1).

هذا فی الدفعیّات مع تعدّد الواقعة.

ص: 79


1- 1. منتقی الاصول 5 / 32 _ 34.

أمّا فی التدریجیّات، فإنْ کان الواجب التدریجی واجباً تعلیقیّاً مثل « وَلِلّهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ »(1)،فلا کلام فی أنّه مثل الدفعی. وأمّا بناءً علی إنکار الواجب المعلَّق ثبوتاً أو إثباتاً، وأنّ مثل الآیة واجب مشروط، فإن قلنا بعدم جواز ترک الواجب المشروط بتفویت شرطه، فلا تجوز المخالفة العملیّة کالدفعیّات، وإلاّ فلا تضرّ المخالفة العملیّة.

لو کانت احدی الواقعتین محتمل الأهمیّة

ولو کانت إحدی الواقعتین أهم أو احتمل أهمیّتها، فما هو مقتضی القاعدة؟

أمّا لو کانت إحداهما أهم، فلا ریب فی لزوم تقدیمها.

وأمّا لو احتمل أهمیّة إحداهما، فقیل: بعدم الترجیح لها، لأنّ الباب لیس باب التزاحم حتی یطبّق قانونه هنا، لأنّ ملاک التزاحم عدم القدرة علی إمتثال کلا الطرفین، وهنا القدرة موجودة. وهذا مسلک المیرزا(2)، ونتیجة ذلک هو التخییر وعدم تعیّن محتمل الأهمیّة.

ولکنّ المیرزا قد ناقض هذا فی مسألة دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر، إذ قال هناک(3) بأنّ الخطاب کما یقتضی الإمتثال کذلک یقتضی الجمع بین المحتملات،

ص: 80


1- 1. سورة آل عمران، الآیة 97.
2- 2. فوائد الأصول 3 / 450.
3- 3. المصدر 4 / 144 _ 145.

فالتکلیف یقتضی الإمتثال وإحرازه أیضاً، والمفروض عدم القدرة علی إحراز کلا الإمتثالین، فیقع التزاحم ویتقدّم محتمل الأهمیّة.

وما ذکره هناک هو الصّحیح، فیکون تقدّم محتمل الأهمیّة _ لا من جهة إنطباق قانون التزاحم، حتی یشکل بأنّه لیس من مصادیقه _ من جهة أن حکم العقل بالتخییر کان بملاک تساوی المحتملین فی الواقعة الواحدة، أو بین المعلومین فی الواقعة المتعدّدة، ومع إحتمال الأهمیّة فی طرفٍ یسقط حکم العقل بالتخییر، ویکون المحکَّم هو التعیین، لوجود المرجّح ولو إحتمالاً، لأنّا إذا أخذنا جانب محتمل الأهمیّة قطعنا بالإمتثال، لأنّه إمّا هو الواقع وإمّا هو طرف التخییر، بخلاف ما إذا أخذنا بالطرف الآخر.

هذا کلّه بناءً علی التخییر العقلی.

وأمّا بناءً علی جریان الاصول الشرعیّة، فلیس مقتضی الأصل هو التعیین لما یحتمل فیه الأهمیّة، لأنّ الأصل الشرعی مؤمّن.

کلام الشیخ فی الخبرین

بقی کلام الشیخ فی الخبرین، فقد ذکر قدّس سرّه: أنّه إذا کان دوران الأمر بین المحذورین فی خبرین واردین عن أهل العصمة علیهم السّلام، ففیه تفصیل، وذلک: أنّه لو کان الدوران ناشئاً عن إجمال الدلیل أو فقده، فالحکم ما ذکر. وأمّا لو کان المنشأ هو التعارض بین الأدلّة، فإن کان التعارض بین الخبرین مع العلم بمطابقة أحدهما للواقع، فإنْ قلنا بالتساقط، فالحکم ما ذکر، لأنّه بعد التساقط،

ص: 81

یرجع إلی الاصول الشرعیّة، فإن لم تجر، فالأصل العقلی، فالکلام هو الکلام.

والمختار عندنا هو جریان الإستصحاب ثمّ التخییر العقلی، فإن کان أحدهما مقطوع الأهمیّة أو محتملها تعیّن، وإن قلنا بأنّ المرجع هو أخبار التخییر، فالمحکَّم هو التخییر الشرعی، وهو تخیّر فی المسألة الاصولیة، وهو حاکم علی التخییر العقلی.

هذا إذا علمنا بأنّ الواقعة من قبیل دوران الأمر بین الواجب والحرام.

وإنْ لم یکن من الدوران بین المحذورین، بل تعارض الخبران واحتملنا الإباحة أیضاً، خرج عن بحث دوران الأمر بین المحذورین.

وحیث قلنا بالتخییر الشرعی، فهل هو بدوی أو استمراری؟

قال الشیخ(1): مساق أخبار التخییر عبارة عن أنّ التخییر مجعول للمکلّف المتحیّر، فالتمسّک بإطلاقها للإستمرار بلا وجه، والقاعدة هی التخییر البدوی، لأنّه بعد الأخذ بأحد الطرفین غیر متحیّر، فلیس له رفع الید عمّا أخذ والأخذ بالطرف الآخر. وبعبارة أُخری: إنّه لیس فی شیء من أدلّة التخییر إطلاق بالنسبة إلی قبل الأخذ بطرفٍ وبعده لیدلّ علی الإستمرار، ومع عدم الإطلاق تصل النوبة إلی إستصحاب بقاء التخییر الثابت قبل الأخذ بأحد الطرفین.

ثمّ ناقش فی ذلک: بأنّ الموضوع عبارة عن المتحیّر، وبعد الأخذ یتغیّر الموضوع یقیناً أو إحتمالاً فلا یستصحب التخییر، ثمّ أمر بالتأمّل.

ص: 82


1- 1. فرائد الأصول 2 / 191 _ 192.
الإشکال علی الشیخ والنظر فیه

فقال المحقّق الهمدانی(1) فی وجه التأمّل: «لعلّه إشارة إلی أنّ ما ذکره من المناقشة إنّما یتّجه لو اُخذ الموضوع من العقل، وأمّا علی ما هو التحقیق من إحرازه بالمسامحة العرفیّة أو الرجوع إلی ما یستفاد من عناوین الأدلّة فلا، کما لا یخفی»(2).

وقال المحقّق الخراسانی(3): إن کان المراد من کون الموضوع هو المتحیّر هو: من جاءه الخبران، فالموضوع بعد الأخذ بطرفٍ باق. وإن کان الموضوع مجرّد عنوان المتحیّر، فلا أثر لهذا الموضوع فی الأدلّة. فالإستصحاب یجری لوجود الموضوع وهو من جاءه الخبران المختلفان ...

وفیما ذکراه تأمّل.

إنّ الشیخ یری أنّ إعتبار وحدة الموضوع فی القضیّتین هو بنظر العرف فقط، وهذا هو مبنی صاحب الکفایة أیضاً، وهو التحقیق.

وعلیه، فإنّه بحسب مناسبات الحکم والموضوع نری أنّ أدلّة التخییر تجعل _ فی باب التعارض _ الحجیّة لا الأصل، کما أنّ الأدلّة الأولیّة تجعل الحجیّة لخبر الثقة، ولکنْ لدی المعارضة یجعل جعلاً ثانویّاً، وهو الطریقیّة والحجیّة لذی المزیّة فی صورة الترجیح، ولکلٍّ منهما علی سبیل التخییر، إذنْ، یجعل

ص: 83


1- 1. حاشیة الرسائل: 189.
2- 2.
3- 3. حاشیة الرسائل: 235.

الطریقیّة. وحینئذٍ لا معنی لجعل الطریق لمن له طریق، لأنّ الذی أخذ بأحد الطرفین فقد خرج عن التحیّر وأصبح ذا طریق، فلا یأخذ الشارع منه الطریق بأنْ یجعل له طریقاً آخر.

فمناسبة الحکم والموضوع تقتضی أنْ تکون أدلّة التخییر مجعولةً لمن لیس له طریق. هذا أوّلاً.

وثانیاً: لابدّ من إحراز کون الخصوصیّة المتغیّرة من حالات الموضوع، فلو احتملنا کونها من مقوّماته لم یجر الإستصحاب، ونحن نحتمل هذا فی المقام فی أقلّ تقدیر.

فالحق عدم جریان الإستصحاب، لاحتمال کون التغیّر فی الموضوع من المقوّمات بنظر العرف.

وتلخّص:

إنّ مقتضی الأدلّة هو التخییر البدوی، فإنْ کان الإستمرار لجریان الإستصحاب، فهو، سواء لزمت المخالفة القطعیّة أوْ لا، لکون التخییر حینئذٍ بحکم الشارع.

إلاّ أنّه بناءً علی الإستمراری، یأتی إشکال لزوم المخالفة القطعیّة، لأنّه إذا أخذ بالخبر القائم علی الوجوب مثلاً ثمّ القائم علی الحرمة، یعلم بمخالفة الواقع، ومقتضی إطلاق دلیل التخییر واستصحابه ترخیص الشارع فی المخالفة القطعیّة، وهذا غیر معقول، فلابدّ من حلّ هذا الإشکال.

ص: 84

فقال الشیخ فیما أوضحه المحقّق الإصفهانی(1):

إنّ التخییر الإستمراری غیر مضرّ، لأنّ المصلحة الجابرة للواقع الفائت موجودة فی الإلتزام بأحد الخبرین، أو أنّه فی خصوص الفعل أو الترک فی الخبرین المتعارضین توجد مصلحة یتدارک بها الواقع الذی خولف.

وبعبارة أُخری: قد جعل الشارع هنا بدلاً عن الواقع کما فی قاعدة الفراغ، حیث جعل الإتیان بالمشکوک فیه بدلاً عن الواقع، بأنْ یکون فی الصّلاة الفاقدة للجزء مصلحة یتدارک بها الجزء الفائت.

أقول:

وفیما ذکر إشکال، لکن الإشکال فی الإطلاق أهون منه فی الإستصحاب.

ووجه الإشکال هو: إنّ دلیل الأخذ بأحدهما الشامل بإطلاقه لحال بعد الأخذ لأحدهما، وارد فی خصوص الخبرین المتعارضین، وللشارع جعل البدل فی هذا الباب والترخیص فیه. أمّا الإستصحاب، فإنّ عموم دلیله وإطلاقه یشمل ما نحن فیه، ولیس دلیلاً خاصّاً وارداً فی خصوص الخبرین المتعارضین، لکون ما نحن فیه أیضاً من مصادیق «لا تنقض»، وعموم الدلیل لما نحن فیه یتوقّف علی جعل المبدل حتی لا یکون الإستصحاب ترخیصاً فی المخالفة، ولکنّ جعل البدل لیس إلاّ بدلیل الإستصحاب، فیلزم الدور.

إنّه لابدّ من الدقّة فی کلمات الشیخ مع توجیه الإصفهانی لها ونقول:

ص: 85


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 221.

إنّ الظاهر عدم معقولیّة جعل البدل هنا، لأنّ جعل البدل المحرز لجمیع ما فات من المصلحة الواقعیّة، لا یتعقّل إلاّ بکون المصلحة قائمة بالجامع بین الواقع وبین ما یراد جعله بدلاً، وإلاّ فلا معنی لبقاء الحکم الواقعی تعییناً مع التخییر بینه وبین ما جعل بدلاً. وأمّا قیام جمیع الغرض بالواقع وبالبدل أیضاً، فلا یجتمع مع جعل الحکم تعییناً فی ظرف الواقع، إذن، فجعل البدل الوافی بجمیع الغرض من الواقع غیر معقول، فالتخییر الإستمراری غیر معقول.

مثلاً: فی الخبرین المتعارضین فی صلاة الجمعة وتخییر المجتهد بین الخبرین، إنْ أخذ برهةً من الزمن بما یدلّ علی الحرمة فصلّی الظهر، فإنّ المفروض کون الظهر وافیاً بجمیع مصلحة الجمعة، وهذا لا یجتمع مع الوجوب التعیینی للجمعة. إذن، الغرض لیس قائماً بالواقع علی نحو التعیین.

فالإطلاق غیر معقول، والإستصحاب إشکاله آکد.

فالتخییر بدوی لا إستمراری.

وهذا تمام الکلام فی دوران الأمر بین المحذورین وأصالة التخییر.

والحمد للّه ربّ العالمین.

ص: 86

أصالة الإشتغال

اشارة

ص: 87

ص: 88

قال الشیخ: إعلم أنّ المکلّف إذا التفت إلی حکم شرعیّ(1) ...

أقول:

حالات المکلّف الملتفت بالنسبة إلی الحکم الشرعی لا تخلو:

إمّا أنْ یکون عالماً بالحکم، فذاک موضوع أحکام القطع.

وإمّا أنْ یکون شاکّاً، فإنْ کان له حالة سابقة، فهو مجری الإستصحاب، وإنْ لم یکن له حالة سابقة، فهو مجری البراءة.

وفی صورة العلم بالحکم، فتارةً لا یمکن الإحتیاط، فهو مجری التخییر، وإنْ أمکن، فهو مجری قاعدة الإشتغال.

فموضوع أصالة الإشتغال هو: العلم بالتکلیف والشک فی المکلّف به مع إمکان الإحتیاط.

مقدّمات

وقبل الورود فی البحث لابدّ من ذکر مقدّمات:

ص: 89


1- 1. فرائد الأصول 1 / 25.

الاولی: إنّ القواعد الجاریة فی أطراف العلم تارةً توافق المعلوم بالإجمال وأُخری تخالفه، کما لو علمنا بنجاسة أحد الإناءین، والحالة السّابقة لهما النجاسة، أو الطّهارة. وعلی کلّ تقدیر، فالقاعدة الجاریة إمّا إمارة وإمّا أصل، والأصل إمّا عقلی وإمّا شرعی، والشرعی إمّا أصل محرز کالإستصحاب وإمّا أصل غیر محرز کأصالة البراءة.

الثانیة: إنّ العلم طریق إلی الواقع وکاشف عنه، وهو موضوع حکم العقل بالحجیّة أی: إستحقاق العقاب علی المخالفة، وهذا المعنی فی العلم التفصیلی واضح، لأنّ المقتضی للمنجزیّة موجود والمانع عنه مفقود بالوجدان، فیکون العلم علّةً تامّة لوجوب الموافقة عقلاً وحرمة المخالفة کذلک.

فهل الأمر فی العلم الإجمالی کذلک؟

إنّ العلم الإجمالی مقترن بالجهل، فهل یصلح الجهل للمانعیّة عن اقتضاء العلم بالنسبة إلی التنجیز؟ إنْ لم یکن کذلک، کان العلم الإجمالی علّةً کالعلم التفصیلی، وإنْ کان صالحاً للمانعیّة، فهل مانعیّته عن التنجیز یکون مطلقاً، أی فی کلا طرفی لزوم الموافقة وحرمة المخالفة؟ قیل: یکون مانعاً فی الطرفین، فیسقط العلم عن التأثیر ویکون بحکم الشک، وحینئذٍ تجری الاصول المرخّصة فی أطراف العلم. وقیل: یکون مانعاً فی طرف وجوب الموافقة القطعیّة ولا یصلح للمانعیّة عن حرمة المخالفة القطعیّة، فهذا القول تفصیلٌ فی المسألة، وأنّ العلم الإجمالی علّة بالنسبة إلی حرمة المخالفة وبالنسبة إلی وجوب الموافقة فی مرحلة الإقتضاء.

ص: 90

هذا بالنسبة إلی العلم.

وأمّا بالنسبة إلی الاصول، فقد وقع الکلام فی أنّه هل لأدلّة الأصول العملیّة إطلاق لتشمل مورد الإقتران بالعلم الإجمالی، أوْ لا بل هی مختصّة بالشّبهة البدویّة؟

إن قلنا بالثانی، فالعلم الإجمالی علّة تامّة للتنجیز، وإنْ قلنا بالأوّل، وأن المقتضی للجریان موجود، لأنّا نجری أصالة الطّهارة _ مثلاً _ فی کلّ واحدٍ من الإناءین علی حدة، وکلّ منهما غیر معلوم النجاسة، وحینئذٍ یقع البحث عن المانع عن هذا المقتضی، والمانع هو العلم، فهل یمکنه أن یمنع من جریان الأصل فی جمیع الأطراف؟ إنّه إنْ منع العلم الإجمالی عن جریان الأصل فی الأطراف سقط المقتضی.

الثالثة: إنّه یبحث عن التکالیف فی مرتبتین، مرتبة الإشتغال ومرتبة الإمتثال. فی المرتبة الأولی یبحث عن أصل إشتغال الذمّة وعدمه، وعن حدّ الإشتغال من حیث الموافقة لجمیع الأطراف أو الموافقة الإحتمالیّة ... وکذا یقع البحث فی مرحلة الفراغ.

مثلاً: لو اشتغلت ذمّته بصلاتی الظهر والعصر وصلّی الصّلاتین وتیقّن بوجود الخلل فی إحداهما، فإنّ هذا العلم الإجمالی یؤثّر فی مرحلة الإمتثال وفراغ الذمّة، وحینئذٍ تطرح فروع العلم الإجمالی _ وهی مائة فرع تقریباً _ بالنظر إلی قاعدتی الفراغ والتجاوز، ولا تعاد الصّلاة إلاّ من خمس، وسائر جهات البحث.

وبعد المقدّمات یقع البحث فی مقامین:

ص: 91

المقام الأوّل: فی دوران الأمر بین المتبانیین.

والمقام الثانی: فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر.

ص: 92

دوران الأمر بین المتباینین

اشارة

ص: 93

ص: 94

طریق الکفایة وتوضیحه ضمن مقدمات

طریق الکفایة

قال رحمه اللّه(1):

إنّ التکلیف المعلوم بین المتبانیین:

إن کان فعلیّاً من جمیع الجهات، بأن کان واجداً لما هو العلّة التامّة للبعث أو الزجر الفعلی، مع ما هو علیه من الإجمال والتردّد والإحتمال، فلا محیص عن تنجّزه وصحّة العقوبة علی مخالفته، وحینئذ، یکون ما دلّ بعمومه علی الرفع أو الوضع أو السّعة أو الإباحة ممّا یعم أطراف العلم مخصّصاً عقلاً لأجل مناقضتها معه، فتختصّ بالشبهات البدویّة.

وإن لم یکن فعلیّاً، لم یکن هناک مانع عقلاً ولا شرعاً عن شمول أدلّة البراءة الشرعیّة للأطراف.

ومن هنا انقدح أنّه لا فرق بین العلم التفصیلی والإجمالی، إلاّ أنّه لا مجال للحکم الظاهری مع التفصیلی، وله مجال مع الإجمالی، فلا یصیر الحکم الواقعی فعلیّاً بجعل الحکم الظّاهری فی أطراف العلم.

ص: 95


1- 1. کفایة الاصول: 358.

أقول:

یتوقّف فهم هذا المبنی علی مقدّمات:

الأُولی: إنّ للحکم أربع مراتب:

1_ مرتبة الإقتضاء، أی مرتبة الملاکات.

2_ مرتبة الإنشاء، أی إنشاء الحکم علی طبق الملاک، فالأحکام فی هذه المرتبة علی حدّ الإنشاء مثل الأحکام فی صدر الإسلام.

3_ مرتبة الفعلیّة. أی: مرتبة انقداح الإرادة فی النفس النبویة أو الوَلَویّة، بأن یبعث أو یزجر، ویرید ویکره.

4_ مرتبة التنجّز، بأنْ تقوم الحجّة علی الحکم، ویکون موضوعاً لاستصحاب العقاب أو الثواب.

الثانیة: إنّ المجعول فی کلّ مرتبةٍ لا یعقل أن یکون مضادّاً أو مماثلاً للمجعول فی المرتبة الأُخری. مثلاً: لو کان الوجوب فی مرتبة الإنشاء، أمکن أن یجعل الإباحة فی مرتبة الفعلیّة أی البعث والزجر، لأنّهما فی مرتبتین. نعم، لو أنشأ الوجوب لعمل وأنشأ أیضاً الإباحة له، لزم التعاند بینهما، ولو أنشأ وجوبین لعملٍ واحد، لزم اجتماع المَثَلین، لأنّهما فی مرتبةٍ واحدة.

وعلی الجملة، إنّه لا تضادُّ الإباحة الفعلیّةُ الوجوب الإنشائی، لاختلاف المرتبة، وعلی هذا الأساس جمع هذا المحقّق بین الحکمین الواقعی والظاهری. وإنْ عدل عنه بعد ذلک.

الثالثة: إنّ وجوب الإطاعة والموافقة عقلاً وحرمة المعصیة والمخالفة

ص: 96

کذلک من آثار الحکم فی أیّ مرتبة؟

أمّا الحکم فی مرتبة الإقتضاء، فلا اقتضاء له للإطاعة والمعصیة.

وکذلک الحکم فی مرتبة الإنشاء.

فالحکم العقلی المذکور من آثار الحکم الشرعی الفعلی. ولو لم یصل الحکم إلی هذه المرتبة لا یحکم العقل بوجوب الموافقة وحرمة المخالفة.

الرابعة: إنّ العلم التفصیلی والإجمالی یشترکان فی کونهما «علماً»، والفرق بینهما هو أنّه مع العلم التفصیلی لا مجال للحکم الظاهری، بخلاف العلم الإجمالی، وذلک لأنّ العلم الإجمالی مشوب بالشک والجهل، والشک موضوع للأمارة ثبوتاً وللأصل ثبوتاً وإثباتاً، وکلّ موردٍ وجد فیه الموضوع للحکم الظاهری، کان له فیه مجال.

وإذا کان موضوع الحکم الظاهری فی العلم الإجمالی موجوداً، وصلت النوبة إلی المقدمة:

الخامسة، وهی: هل أدلّة الأصول والأمارات تعمّ بإطلاقها وعمومها أطراف العلم الإجمالی أو هی مخصّصة بالشبهات البدویّة؟

وجه العموم والإطلاق هو: إن مثل قوله علیه السّلام: (کلّ شیء لک حلال حتی تعرف أنّه حرام بعینه فتدعه)(1) یشتمل علی «کلّ» الموضوع للعموم، فیعم أطراف العلم الإجمالی، وکلّ طرف من أطرافه «شیء» شک فی حلیّته وحرمته،

ص: 97


1- 1. وسائل الشیعة 17 / 89، باب عدم جواز الإنفاق من کسب الحرام.

فالمقتضی لجریانه فیها موجود، وهل من مانع؟

السّادسة: إنّ حدیث (کلّ شیء لک حلال) مغیّی ب_ «العلم»، لأنّه قال «حتی تعلم أنّه حرام»، وحیث أنّ هذا العلم أیضاً مطلق، یعم التفصیلی والإجمالی، فلا محالة یقع التعارض بین الصّدر والذیل. فمقتضی إطلاق الصّدر هو حلیّة کلٍّ من الأطراف، ومقتضی إطلاق الذیل عدم الحلیّة مع العلم الإجمالی بالحرمة.

ولکنّ عموم الصّدر مقدَّم، ولأنّ شمول الصّدر لکلٍّ من الأطراف هو بالوضع لکلمة «کلّ»، وشمول الذیل للعلم الإجمالی هو بالإطلاق، ومع وجود العموم المعارض لا تنعقد مقدمات الإطلاق فی الطرف المقابل، لما تقرّر فی محلّه من أنّ الإطلاق لا ینعقد مع وجود العموم، لأنّ أصالة العموم بالوضع وأصالة الإطلاق بمقدمات الحکمة، إذ إطلاقه یتقوّم بعدم وجود البیان علی التقیید، والعموم الوضعی هنا بیان، فیتقیّد «العلم» فی الذیل بالعلم التفصیلی.

هذا أوّلاً.

وثانیاً: لقد ورد فی حدیثٍ آخر فی ذیل قاعدة الحلّ کلمة «بعینه». وهذه الکلمة وإنْ حملها الشیخ علی التأکید، أی تأکید العلم، ولکنّ الظاهر أنّها جاءت لتفید أنّ المعلوم بالإجمال لیس بمعلومٍ بل المعلوم، هو الذی علم بحرمته بعینه، أی علم به تفصیلاً، فیکون الصّدر شاملاً لأطراف العلم الإجمالی، ویجوز إرتکاب کلٍّ منها بلا معارض.

ومن هذه المقدّمة یظهر عدم وجود المانع عن المقتضی.

ص: 98

نتیجة المقدّمات

وتکون النتیجة: إنّ الغرض غیر فعلی من جمیع الجهات فی أطراف العلم الإجمالی، فلا مانع من جعل الترخیص فیها.

هذا، ولا یخفی أنّ صاحب الکفایة قد جمع بین الحکمین الواقعی والظاهری باختلاف المرتبة، فقال بأنّ الحکم الواقعی فی مرتبة الإنشاء والحکم الظاهری فی مرتبة الفعلیّة، وحینئذ لا تضادّ بینهما.

ثمّ عَدل عن هذا المبنی _ لأن کون الحکم الواقعی فی مرتبة الإنشاء یُخرجه عن کونه حکماً، لأنّه ما لم یصل إلی مرتبة الفعلیّة فلیس بحکمٍ حقیقة، والإلتزام بأنّ الأحکام الواقعیّة أحکام مجازاً ولیست بأحکامٍ حقیقیّة، وبعبارة أُخری: هی أحکام صوریّة لا واقعیّة، غیر ممکن _ فقال فی الکفایة خلافاً لما فی الفوائد وحاشیة الرسائل: إنّ الأحکام الواقعیّة فی موارد جریان الأصول العملیّة فعلیّة لکن لا من جمیع الجهات، والفعلی لا من جمیع الجهات یقبل جعل الترخیص فیه.

وینبغی الإلتفات إلی أنّ الأصل هو کون الحکم الواقعی فعلیّاً من جمیع الجهات، وإنّما یحمل علی الفعلیّة من بعض الجهات لوجود الکاشف، والکاشف عن ذلک فیما نحن فیه هو عموم (کلّ شیء لک حلال ...) فإنّه یکشف عن أنّ رفع الید عن الحکم بالحلیّة إنّما یکون إذا علم بالحرمة تفصیلاً، أمّا لو لم یعلم أو علم بالحرمة إجمالاً، فالحلیّة باقیة، فالحکم الواقعی قد خرج عن مرتبة الإنشاء ولکنْ لیس فعلیّاً من جمیع الجهات.

وعلی الجملة، فإنّ الغرض من الحکم یختلف، والحکم دائماً ظلٌّ للغرض،

ص: 99

فتارةً: یکون الغرض فی مرتبة من الأهمیّة بحیث لا یکون الجهل مانعاً من فعلیّة الحکم، کما فی الدماء والفروج، ویکون الإحتیاط هناک لازماً فی جمیع الأطراف ولا یُجعل المرخِّص فی شیء منها. وأُخری: لا یکون الغرض بتلک المرتبة من الأهمیّة، ویکون للجهل الصّلاحیّة للمانعیّة عن الفعلیّة من جمیع الجهات، کما فی الطّهارة والنجاسة، حیث جعل (کلّ شیء لک طاهر حتی تعلم أنّه قذر)(1).

فإذا اختلف الغرض مرتبةً، والحکم ظلٌّ للغرض، کان الحکم فی أطراف العلم الإجمالی غیر فعلی من جمیع الجهات.

إشکال الإصفهانی

وأشکل علیه المحقّق الإصفهانی(2) بأنّ الغرض غرضان، الغرض من التکلیف، والغرض فی المکلَّف به. والفعلیّة لا من جمیع الجهات إنّما تتصوّر فی الثانی کما ذکر، وأمّا الغرض القائم بالتکلیف _ فإنّ کلّ تکلیفٍ هو بداعی جعل الداعی علی الإمتثال _ فإنّه لا إختلاف فی المرتبة فیه، بل یدور أمره بین الوجود والعدم، والمفروض وجوده. إذنْ، المولی یجعل التکلیف بداعی جعل الداعی فی نفس المکلَّف للإمتثال، فکیف یجعل فی نفس الوقت الحکم الظاهری القائم علی الخلاف، الداعی لنقض الغرض القائم بجعل التکلیف؟

ص: 100


1- 1. وسائل الشیعة 1 / 142، کتاب الطهارة، باب الحکم بطهارة الماء إلی أن یعلم ورود النجاسة علیه ... .
2- 2. نهایة الدرایة 4 / 233.

الجواب:

ویمکن الجواب عنه بأنّه: لیس من المعقول وجود الغرض من التکلیف زائداً علی الغرض من المکلَّف به، لأنّ الغرض من المکلّف به هو العلّة للحکم والتکلیف به، إذْ لولا المصلحة فی المتعلَّق لما جعل الوجوب، ولولا المفسدة فی المتعلَّق لما جعلت الحرمة، فالملاک فی المکلَّف به، ولولاه لکان التکلیف بلا غرض، ونسبة التکلیف إلی الغرض فی المکلّف به نسبة المعلول إلی العلّة.

وعلی هذا، فإنّ جعل الداعی یتبع الغرض وفعلیّة الحکم، وصاحب الکفایة یقول بأنّ الغرض فی مورد العلم الإجمالی غیر فعلی من جمیع الجهات، فلیس هناک جعل الداعی للإمتثال من قبل المولی حتی یلزم التناقض بینه وبین جعل المرخّص.

الإشکال الثانی

لزوم الدور، لأن شمول أدلّة الأصول المرخّصة لأطراف العلم الإجمالی یتوقّف علی عدم فعلیّة التکلیف _ لأنّه مع فعلیّته فی صورة العلم الإجمالی لا یعقل جعل المرخّص _ لکن عدم فعلیّة التکلیف متوقّف علی شمول أدلّة الأصول.

وفیه:

إنّه خلط بین مقامی الثبوت والإثبات، فشمول أدلّة الأصول المرخّصة یتوقّف علی عدم فعلیّة التکلیف، لکنّ عدم فعلیّته غیر متوقّف علی شمولها، لأنّ الفعلیّة وعدم الفعلیّة من خصوصیّات الأغراض والتکالیف، فکلّ تکلیف کان

ص: 101

الغرض منه فعلیّاً من جمیع الجهات یکون فعلیّاً کذلک تبعاً له. فالغرض من الحکم بالنجاسة لیس فعلیّاً من جمیع الجهات، فلا محالة یکون الحکم التابع له کذلک. وعلیه، فإنّ الغرض ثبوتاً مختلف ویکون الحکم مختلفاً بتبعه، فإنْ ثبت فی مقام الإثبات الفعلیّة للغرض من جمیع الجهات، کان الحکم مرتّباً کذلک وإلاّ فلا.

فظهر أنّ التوقّف من طرفٍ ثبوتی ومن طرفٍ إثباتی ... فشمول أدلّة الأصول یتوقّف علی عدم فعلیّة التکلیف، ولکنّ العلم بعدم فعلیّة التکلیف وإحرازه إثباتاً یستفاد من شمول أدلّة الأصول، وإذا اختلفت الجهة فلا دور.

فإنْ قیل:

إنّه وإنْ ارتفع الدور، ولکن الإشکال هو أنّ أدلّة الأصول المرخّصة مخصَّصةٌ بالمورد الذی لیس الحکم فیه فعلیّاً من جمیع الجهات، ولو شک فی کونه فعلیّاً کذلک أوْ لا، کان التمسّک بالأدلّة من التمسّک بالدلیل فی الشّبهة الموضوعیّة للمخصّص.

وفیما نحن فیه، فإنّ مع القطع بعدم فعلیّة الحکم لم تکن حاجةٌ لقاعدة الحلّ مثلاً، فلابدّ من وجود الشک حتی نرفعه عن طریق شمول الأدلّة وإحراز عدم فعلیّة الحکم، فلو أرید الإحراز بالأدلّة لزم التمسّک بالدلیل فی الشّبهة الموضوعیّة للمخصّص.

قلنا:

إنّما یرد هذا الإشکال بناءً علی عدم جواز التمسّک بالدلیل فیالشّبهة الموضوعیّة للمخصّص مطلقاً، أی سواء کان المخصّص لبّیّاً أو لفظیّاً. وأمّا بناءً علی

ص: 102

جوازه إن کان لبّیّاً، فغیر وارد، والمخصّص هنا حکم العقل بعدم جریان الأصول إن کان الحکم فعلیّاً، وهو لبّی.

إشکال الإیروانی

وأشکل المحقّق الإیروانی(1) بأنّه: إذا کانت الفعلیّة من جمیع الجهات لصورة العلم التفصیلی، کان العلم دخیلاً فی تحقّق الفعلیّة، فإذن نحتاج إلی علمٍ آخر لتحقّق التنجّز _ لأنّ الفعلیّة هی المرتبة الثالثة، وللحکم مرتبة رابعة وهی التنجّز _ والحال أنّه لا یوجد علم آخر.

وبعبارة أُخری: إمّا یرفع الید عن المبنی ویجعل للحکم ثلاثة مراتب، ثالثها الفعلیّة، وإمّا یلتزم بضرورة علمٍ آخر من أجل تنجّز التکلیف.

الجواب:

وأجاب شیخنا: إن کان الدخیل فی الفعلیّة هو العلم، فالمراتب ثلاثة لا أربعة، وإن کان غیر العلم، کان الحکم مجهولاً، ولا تنجّز للحکم المجهول، ولابدّ من العلم من أجل التنجّز. فالمراتب أربعة.

الإشکال الوارد علی صاحب الکفایة

ویتّضح بمقدّمتین:

الأُولی: إنّه قد ذکر أنّ الحکم فی مرتبة الإنشاء لا أثر له حتی ولو علم به

ص: 103


1- 1. نهایة النهایة فی التعلیق علی الکفایة 2 / 124.

تفصیلاً، وفی هذه المرحلة تجری أدلّة الأصول النافیة بلا مانع. أمّا إذا وصل إلی المرتبة الثالثة _ وهی الفعلیّة _ حیث توجد الإرادة والکراهة والبعث والزجر، فلا یبقی إلاّ وصول الحکم إلی العبد، فإذا وصل انبعث وانزجر إن لم یکن العبد متمرّداً علی المولی.

الثانیة: إنّه قد قرّر عدم الفرق بین العلم التفصیلی والعلم الإجمالی إلاّ فی ناحیة المتعلَّق _ أی المعلوم _ فکلاهما حجّة وطریق عقلاً ومنجّز، وإنّ الجهل الموجود فی ناحیة المعلوم فی العلم الإجمالی هو الموضوع لجریان الأصول فی أطرافه، لکنْ لا جهل مع العلم التفصیلی، فلا موضوع لجریانها فی أطرافه.

بعد المقدّمتین:

إن حکم العقل بحرمة المخالفة القطعیّة من ناحیة العلم الإجمالی منجّز، لکنّ أدلّة الأصول معلَّقة، وإذا دار الأمر بین التعلیقی والتنجیزی تقدّم الثانی وارتفع به موضوع الأوّل.

توضیح ذلک:

إنّ متعلّق العلم الإجمالی نفس متعلّق العلم التفصیلی، غیر أنّه فی التفصیلی متعیَّن وفی الإجمالی غیر متعیَّن، فالإجمال هو فی ناحیة المعلوم وإلاّ فالحکم نفس الحکم، والعلم طریق إلی الواقع، فإذا تعلَّق العلم تحقّق موضوع حکم العقل بالإمتثال، فالمقتضی موجود وهو العلم وقیام الحجّة، والمانع مفقود، لأنّه مع العلم بالتکلیف الفعلی یحکم العقل بقبح الترخیص فی المخالفة، فکان دلیل الأصل معلّقاً ومقیّداً بعدم لزوم مخالفة المولی، وأمّا حکم العقل بالإطاعة فمنجّز.

ص: 104

إذن، لا تجری الأصول فی أطراف العلم.

طریق المیرزا

قد ذکرنا أنّ البحث فی العلم الإجمالی فی مقامین: حرمة المخالفة القطعیّة للمعلوم بالإجمال، ووجوب الموافقة القطعیّة. أمّا فی العلم التفصیلی، فلا کلام والحکم ثابت فی کلا المقامین.

ثمّ قلنا فی مقام حرمة المخالفة: أنّ أدلّة الأحکام الظاهریّة مختلفة، فتارة الأمارة وأُخری الأصل. والأصل تارة محرز، وأُخری غیر محرز، وعلی کلٍّ، فالأمارة والأصل تارة: مثبت للتکلیف، وأُخری: ناف.

قال المیرزا(1): أمّا الأمارة، فلا تجری فی أطراف العلم الإجمالی لتفید الحکم الظاهری، للزوم التعارض فی المدلول المطابقی والإلتزامی، سواء کانت مثبتةً للتکلیف أو نافیةً.

وأمّا الأصل، فإن کان محرزاً، فلا یجری کذلک، لعدم إمکان الجمع بین التعبّدین، وهما: مقتضی الأصل والعلم الوجدانی بالحکم.

وإن کان غیر محرز، فإن کان مثبتاً للتکلیف جری، لوجود المقتضی وعدم المانع، وإن کان نافیاً، فالمانع من جریانه هو لزوم الترخیص فی المخالفة القطعیّة وهو قبیح عقلاً.

هذا ملخّص کلامه.

ص: 105


1- 1. أجود التقریرات 3 / 414.

وشرح ذلک:

أمّا فی الأمارة، فإنّ مثبتات الأمارات حجّة، لأنّها طرق مجعولة إلی الواقع، وتفید أدلّة الأمارة إلغاء الشارع إحتمال الخلاف، فالأمارة کاشفة شرعاً عن الواقع. مضافاً إلی قیام السّیرة العقلائیّة علی ذلک. وحاصل المطلب کون الأمارة حجّةً فی دلالتها المطابقیّة وفی دلالتها الإلتزامیّة، وهذا معنی حجیّة مثبتاتها ولوازمها.

وعلیه: فلمّا علمنا بنجاسة أحد الإناءین وطهارة الآخر، فقامت البیّنة علی نجاسة أحدهما المعیّن، دلّت علی نجاسة الأحد المعیّن بالمطابقة، وطهارة الآخر بالإلتزام، وانحلّ العلم الإجمالی. ولکنْ لو قامت بیّنة أُخری علی طهارة ما أفادت الأولی نجاسته بالمطابقة، فإنّ المدلول الإلتزامی طهارة الآخر، فتقع المعارضة بین الدلالة الإلتزامیّة من طرف إحداهما والدلالة المطابقیّة من طرف الأُخری وبین العلم الإجمالی.

نعم، إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءین وکانت البیّنتان مثبتین للتکلیف بالنجاسة، فالمحذور هو التعارض بین المدلولین. وأمّا إذا کانتا نافیتین للتکلیف، بأن قامتا علی طهارة أحدهما، لزوم محذوران، أحدهما: التهافت بین المدلولین، والآخر: لزوم الترخیص فی المخالفة للتکلیف الإلزامی وهو المعلوم بالإجمال، لأنّ العلم بنجاسة أحد الإناءین یعنی وجوب الإجتناب.

وهذا بیان عدم جریان الأمارة فی أطراف العلم الإجمالی، سواء کانت مثبتةً للتکلیف أو نافیةً.

أمّا الأصول المحرزة، فإنّ المجعول فیها عند هذا المحقّق هو الجری

ص: 106

العملی والبناء علی أنّها هو الواقع _ بخلاف الأمارة، إذ المجعول فیها الطریقیّة إلی الواقع والکاشفیّة عنه، کما تقدّم _ ففی الإستصحاب یبنی علی الیقین السّابق فی ظرف الشک، فیکون الأصل المحرز برزخاً بین الأمارة والأصل غیر المحرز، فلمّا تستصحب الطّهارة فی موردٍ یراد عدم نقض الیقین بها بالشک اللاّحق من حیث العمل، ولا کاشفیّة أصلاً عن الواقع، أمّا فی قاعدة الطّهارة، فإنّه تُعتبر الطّهارة فی ظرف الشک والجهل بالواقع، فهی طهارة ظاهریّة. والحاصل: إنّه فی الإستصحاب محرزٌ للطّهارة «عملاً» أمّا فی قاعدة الطّهارة فلا إحراز، وفی الأمارة إحرازٌ بلا قید «عملاً»، فإذا جری إستصحابان للطّهارة مثلاً حصل هناک إحرازان تعبّدیان، فیقع التهافت بینهما والعلم الوجدانی بنجاسة أحد الإناءین.

أمّا الأصول غیر المحرزة،

فإنْ کان مثبتاً للتکلیف، فالمقتضی للجریان موجود والمانع مفقود، مثلاً: یعلم إجمالاً بأنّ احدی النفسین محترمة والأُخری غیر محترمة، فإذا أراد إجراء أصالة الإحتیاط فی الدماء _ وهو مثبت للتکلیف _ کان المقتضی لجریانه فی الطرفین موجوداً، لإحتمال کون کلّ واحدةٍ محترمةً بالوجدان، والمانع مفقود.

وأمّا إن کان نافیاً للتکلیف، فإنّه سیکون ترخیصاً فی المعصیة، وهو قبیح.

الکلام علی الطریق المذکور

اشارة

کان هذا توضیح طریق المیرزا. فنقول:

أمّا فی الأمارة:

ص: 107

فإنّها إن جرت فی نجاسة طرفٍ واحدٍ فقط مثلاً، إنحلّ العلم الإجمالی، لأنّها ستدلّ بالملازمة علی طهارة الطرف الآخر ... وهذا واضح. أمّا لو قامت بنیتان، فالتعارض بین المدلولین المطابقی والإلتزامی حاصل کما ذکر. لکنّ الإشکال هو:

إنّ البحث غیر منحصر بقیام العلم الإجمالی علی نجاسة أحد الإناءین، بل هو جارٍ مع قیام العلمی أیضاً، فکما یبحث عن تنجیز العلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین، کذلک یبحث عن تنجیز البیّنة القائمة علی نجاسة أحدهما، فالبحث یعمّ کلّ حجّةٍ إجمالیّة، سواء کان العلم أو العلمی، فمع وجود العلم الإجمالی یقع التعارض بین البیّنتین ویتساقطان ویبقی العلم. أمّا لو قامت البیّنة علی نجاسة أحد الإناءین، فقامت بیّنة علی طهارة الإناء الأیمن، وأُخری علی طهارة الإناء الأیسر، فإنّهما ستتعارضان فیما بینهما وتتعارضان مع البیّنة الإجمالیة، وکذلک لو قامتا علی نجاسة هذا ونجاسة ذاک، وإذا تساقط الکلّ، کان المرجع هو الأصل النافی للتکلیف ... إذنْ، لابدّ من التفصیل بین «العلم» و«العلمی».

أمّا فی الأصول المحرزة

ولا یخفی أنّ مورد البحث ما لو جری أصلان محرزان فی الطرفین، أمّا لو جری فی واحد فالإنحلال کما هو واضح.

فقد أشکل المحقّق العراقی(1) علی المیرزا نقضاً وحلاًّ.

أمّا نقضاً، فإنّه إذا شک المصلّی المسبوق بالحدث فی الطّهارة بعد الفراغ

ص: 108


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 302.

من الصّلاة، جرت قاعدة الفراغ بالنسبة إلی الصّلاة الماضیة، ویجری إستصحاب الحدث بالنسبة إلی الصّلاة الآتیة، مع أنّه یعلم إجمالاً بعدم مطابقة أحد الأصلین التنزیلیین للواقع.

لا یقال: إنّ الأصلین لا یخالفان الیقین السّابق، وإنّما یخالفان الیقین الإجمالی، فمورد قاعدة الفراغ هو صحّة الصّلاة، ومورد الإستصحاب هو الطّهارة من الحدث.

لأنّ المشکلة هی عدم إمکان الجمع بین الأصلین والعلم الإجمالی عقلاً، فقاعدة الفراغ محرزة لصحّة الصّلاة وتفید کون المصلّی متطهّراً خالیاً من الحدث، والإستصحاب أفاد بقاء الحدث للصّلاة الآتیة، وهذان الإحرازان لا یجتمعان مع الیقین إمّا بزوال الطّهارة وإمّا بعدم الحدث من أوّل الأمر.

وهکذا لو توضّأ بماءٍ مردّد بین الطّاهر والنجس، فإنّه یستصحب طهارة الأعضاء ویستصحب بقاء الحدث، ولکنّ إحرازه الوجدانی علی خلاف أحد الأصلین.

وأمّا حلاًّ، فإنّه لا تناقض بین الأصلین والإحراز الوجدانی، لأنّه یعتبر فی المناقضة وحدة الموضوع، وهو هنا مختلف. توضیحه:

إنّ الواقع هو وجود النجس بین الإناءین، ولهذا الواقع صورتان، تفصیلیّة وإجمالیّة وهی نجاسة أحدهما. فموضوع العلم الإجمالی هو «الأحد». أمّا الإستصحابان، فقد جری أحدهما فی «طهارة إناء زید» والآخر فی «طهارة إناء عمرو». فالمستصحب هو «الطّهارة» لهذا الإناء وذاک الإناء. فالموضوع مختلف

ص: 109

عن موضوع العلم الإجمالی، ویستحیل أن یتجاوز العلم عن موضوعه ویتعلَّق بالأحد المعیَّن حتی یتحقّق التناقض. وبالجملة: موضوع العلم الإجمالی هو: نجاسة أحد الإناءین. وموضوع کلٍّ من الإستصحابین هو: طهارة الإناء الخاص.

أقول:

سیأتی أنّ فی وجوب الموافقة القطعیّة وعدمه قولین، أحدهما: أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة، وهذا هو مختار العراقی(1)، إذ اختار أنّ العلم الإجمالی بوجود النجس فی البین یفید العلم بالحکم، وهو وجوب الإجتناب عن الإناءین، لأن کلاًّ منهما یحتمل إنطباق العلم والتکلیف المنجّز علیه، ویوجب حینئذٍ إحتمال العقاب علی الإرتکاب، فیجب الإجتناب عن کلیهما.

وعلی أساس ما ذکره هناک _ وسیأتی _ نقول: إذا کان العلم الإجمالی یستحیل تجاوزه عن المعلوم وخروجه عن الصّورة الإجمالیّة إلی التفصیلیّة، فإن إحتمال الإنطباق محال. فیدور أمر المحقّق العراقی بین أن یرفع الید عن هذا المبنی أو یرفع الید عن الإشکال علی المیرزا.

التحقیق فی المقام

أنْ یقال فی حلّ المطلب: إنّه لا تناقض بین الأُمور الإعتباریّة بما هی إعتباریّة، والأحکام الشرعیّة إعتباریّة، فللمعتبر أنْ یعتبر حرمة الشیء وأن یعتبر وجوبه، فلیس بین نفس الإعتبارین تعارض وتناقض. إنّما التناقض بین أثریهما،

ص: 110


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 307.

فالأوّل أثره الترک والإجتناب، والثانی أثره لزوم الإتیان، وبین الإجتناب والإتیان به تعارض وتناقض.

وکذلک الحال فیما نحن فیه، فإنّ شمول الإستصحابین لمورد العلم الإجمالی لا محذور فیه فی نفسه، لأن هذا یفید طهارة إناء زید والآخر یفید طهارة إناء عمرو، والطّهارة أمر إعتباری. کما أنّ النجاسة المعلومة إجمالاً فی البین أمر إعتباری، ولا مانع من اجتماعهما. إنّما المحذور فی أثر الإستصحابین من جهةٍ، وهو عدم وجوب الإجتناب عن الإناءین، وأثر العلم الإجمالی من جهة وهو وجوب الإجتناب.

فما ذهب إلیه المیرزا من لزوم التناقض بین الإستصحابین والعلم فی حدّ أنفسهما مردود.

وبالجملة، إنّ التناقض یکون إمّا فی مرحلة الملاک وإمّا فی مرحلة الإنشاء وإمّا فی مرحلة الإمتثال.

أمّا فی مرحلة الملاک، فإنّ ملاک المعلوم بالإجمال فی المتعلَّق، وملاک الإستصحاب فی نفس الجعل، فاختلف الموضوع.

وأمّا فی مرحلة الجعل والإنشاء، فقد تبیّن أنّه اعتبارٌ ولا تناقض بین الأمر الإعتباری والحکم الواقعی.

ویبقی مرحلة الإمتثال، وهناک التناقض کما ذکرنا.

وبعبارة أُخری: إنّ صورة العلم الإجمالی تارةً هی: العلم بنجاسة أحد الإناءین والعلم بطهارة أحدهما، وأُخری هی: العلم بنجاسة أحد الإناءین وإحتمال

ص: 111

طهارة أحدهما.

إن علمنا بنجاسة أحدهما واحتملنا طهارة أحدهما، فلا محذور هنا فی مرحلة جعل الإستصحاب، ولا فی مرحلة الغرض، ولا فی مرحلة الأثر ... فالقول بالمناقضة بین الإستصحابین والعلم الإجمالی مردود.

وإن علمنا بنجاسة أحدهما وطهارة أحدهما، فإنّ أثر الطّهارة هو الترخیص فی الإتیان بالمتعلَّق، وهذا الترخیص إنّما یؤثّر إذا لم یکن مانع عقلی، ومتی لزمت المخالفة القطعیّة، فالعقل یمنع من تأثیر الترخیص، فالعلم بطهارة أحدهما _ مع العلم بنجاسة أحدهما _ بلا أثر.

وممّا ذکرنا علم أنّه لا مانع من إجراء الإستصحابین المثبتین للتکلیف، کاستصحاب نجاسة هذا الإناء واستصحاب نجاسة ذاک الإناء، فإنّهما یکونان علی طبق العلم الإجمالی بنجاسة أحدهما، ولا تناقض بینهما وبینه من حیث الأثر، فالمقتضی للجریان موجود والمانع مفقود.

طریق الاصفهانی وله مقدمات

طریق الاصفهانی

وله مقدمات(1):

المقدّمة الأُولی: إن الإنشاء من الأفعال الإختیاریّة، والفعل الإختیاری لا یکون بلا داعی، فتارة الداعی هو البعث والزجر، وأُخری الإمتحان، وثالثة الإستهزاء ... وهکذا ... فالإنشاءات تختلف باختلاف الدواعی، وإلاّ، فإنّ الإنشاء

ص: 112


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 235 _ 242.

شیء واحد ... وهو ما لم یصل إلی المکلَّف یکون فی مرحلة القوّة. أی إنّه فی قوّة البعث والزجر ... وفی قوّة الإستهزاء، وهکذا ... فإذا وصل کان بعثاً وزجراً ... ولذا فإنّ الحکم ما یمکن أن یکون داعیاً للمکلّف، فإن کانت نفسه خالیةً من الموانع کان الحکم داعیاً بالفعل. وهذا الإمکان متقوّم بالوصول إلیه، ولذا أشکل علی شیخه فی جعل الفعلیّة هی المرتبة الثالثة للحکم، وجعل التنجّز أی الوصول المرتبة الرابعة.

وعلی الجملة، إنّه لولا الوصول فلا فعلیّة، لأنّ الفعلیّة إن أرید منها الفعلیّة من قِبَل المولی، فهی متحقّقة بمجرّد الإنشاء، فإنّه إذا أنشأ فقد بعث وزَجَر، فالفعلیّة من قبله متقوّمة بالحصول، وإنْ أُرید منها الفعلیّة من قِبَل العبد، فإنّها متقوّمة بالوصول إلیه، ولذا، فإنّ للحکم مرتبتین فقط: الفعلیّة من قبل المولی والفعلیّة من قبل العبد، وهو وصول الحکم إلیه علماً أو علمیّاً.

المقدّمة الثانیة: ما هی حقیقة العلم الإجمالی؟

لا فرق بین العلم الإجمالی والتفصیلی، لا فی نفس العلم ولا فی المتعلَّق، إنّ العلم أمر موجود جزئی نفسانی، وکلّ أمر موجود جزئی نفسانی فلا یعقل أن یکون فیه إبهام وإجمال. إنّ الموجود عین المتشخّص والمتعیِّن. والوجود عین التشخّص والتعیّن. هذا بالنسبة إلی نفس العلم. وأمّا بالنسبة إلی متعلَّق العلم _ أی المعلوم _ فإنّ الموجودات علی قسمین: قسم مستقل فی الوجود وغیر متقوّم بالغیر، وقسمٌ متقوّم بالغیر مستند فی وجوده إلیه، ولولاه لم یتحقّق، مثل الحبّ والشوق والکراهة والبغض، فهذه الأُمور مستقلّة فی مفاهیمها لکنّها مستندة إلی

ص: 113

الغیر (الطرف) فی وجودها. والعلم من القسم الثانی.

ثمّ إنّ طرف العلم، إمّا أمر موجود فی الخارج وإمّا خصوصیّة موجودة فی الذهن، وتلک الخصوصیّة إمّا مردّدة وإمّا معیَّنة، لکنّ الطرف الخارجی لیس هو الطرف للعلم حقیقةً، لأنّ العلم أمر نفسانی، وما هو قائم بالنفس لا یمکن أن یتقوّم بالخارج، وإلاّ یلزم أن یکون النفسانی خارجیّاً أو یأتی الخارج إلی النفس، وکلاهما باطل.

إذن، للعلم الإجمالی طرفٌ ولا یعقل أن یکون بلا طرف. والطرف لیس هو الخارج، ولا الصّورة الذهنیّة المطابقة للخارج، لأنّ المفروض أنّه لیس تفصیلیّاً، ولا الأمر المردّد بین الأمرین، لأنّ المردّد لا ذات له ولا وجود، وکلّ ذات فهی متعیّنة کالإنسان والشجر والبقر، وکلّ وجود فهو متشخّص متعیّن. فالعلم الإجمالی القائم بالنفس لا الخارج غیر متقوّم بالصّورة المعیَّنة المتشخّصة ولا بالصّورة المردّدة، ولکنّه متقوّم بالطرف، فما هو الطرف؟

إنّه عبارة عن الجامع بین الخصوصیّتین، وهذا الجامع لا إجمال فیه.

فحقیقة العلم الإجمالی عبارة عن العلم بوجودٍ مّا لا یخرج من الطرفین.

فظهر أنْ لا إجمال، لا فی العلم ولا فی المعلوم.

فما الفرق بین العلم التفصیلی والعلم الإجمالی؟ وأین الإجمال؟

إنّ الإجمال هو فی طرف المعلوم، أی: إنّ ما لا یخرج من الطرفین یحتمل أنْ یکون هذا الطرف ویحتمل أنْ یکون ذاک.

فالعلم لا إجمال فیه، وکذلک متعلَّق العلم، فإنّه الحرمة الموجودة فی البین

ص: 114

مثلاً الجامعة بین الطرفین، وهذه الحرمة إمّا هنا وإمّا هناک.

وهذه المقدّمة ناظرة إلی کلام المحقّق الخراسانی القائل بأنّ الصّفات الحقیقیّة وکذا الأُمور الإعتباریّة یعقل تعلّقها بالمردّد، وعلیه، فالعلم الإجمالی عبارة عن العلم بحرمة أحد الشیئین علی وجه التردید. وکذا لو أوصی بعتق أحد العبدین، أو وقف احدی الدارین، أو طلّق احدی الزوجتین.

وخالف المحقّق الإصفهانی فقال بأنّ الصّفات الحقیقیّة کالعلم والجهل والحبّ والبغض لا تتعلّق بالمردّد، وکذا الأُمور الإعتباریّة.

المقدّمة الثالثة: إن ما یکون موضوعاً لاستحقاق العقاب ویحکم العقل بقبحه، لیس هو تفویت الغرض الواقعی للمولی من حکمه، ولا مخالفة حکمه الواقعی، ولا الإتیان بالمبغوض عنده أو ترک المحبوب له، بل الذی یُستحق علیه العقاب ویقبّحه العقل هو تفویت المکلّف الغرض الواصل إلیه، فما لم یصل إلی المکلَّف لا یقبح تفویته.

إنّ فعلیّة الحکم الشرعی بالوصول کما تقدّم، وفعلیّة الحکم العقلی باستحقاق العقاب علی المخالفة، تدور مدار الوصول کذلک.

المقدّمة الرابعة: إنّ الأفعال تنقسم إلی ثلاثة أقسام:

الأوّل ما لا یتّصف لو خلّی ونفسه بالحسن والقبح، وإنّما یتّصف بعروض عارض، کالأکل والشرب والقیام والقعود ونحوها.

والثانی ما یتّصف بذلک، ولکنّه یتغیّر بعروض العارض، کالصّدق والکذب.

ص: 115

والثالث ما یتّصف بذلک ولا یقبل التغیّر، کالعدل والظلم، فإنّ الأوّل حسن بذاته والثانی قبیح بذاته، ولا یخرجان عن ذلک.

خلاصة المقدّمات:

المقدّمة الأُولی: إنّ الوصول إلی المکلَّف قِوام الفعلیّة.

والمقدّمة الثانیة: إنّ العلم التفصیلی لیس توأماً مع الجهل والتردّد، والإجمالی توأم مع الجهل والتردّد، وهذا هو الفرق وإلاّ فکلاهما کشف وحجّة عقلاً.

والمقدّمة الثالثة: إنّ موضوع حکم العقل باستحقاق العقاب هو تفویت الغرض الواصل.

والمقدّمة الرابعة: إنّ مخالفة الغرض الواصل ظلم، وهو عنوان لا ینفک عن القبح وإستحقاق العقاب، والترخیص فیه قبیح.

والنتیجة:

إنّ العلم الإجمالی منجّز بالبرهان، والترخیص فی المخالفة القطعیّة من المولی محال، فإنّه مع فرض صدور البعث ووصوله، تقبح مخالفته، لأنّها ظلم، والترخیص فی الظلم قبیح.

ثمّ إنّ هذا المحقّق أورد علی نفسه بأنّ:

الواصل إلی المکلَّف فی مورد العلم الإجمالی هو الجامع بین الطرفین أو الأطراف، والخصوصیّة غیر واصلة، وحینئذٍ _ وإنْ حُرمت المخالفة القطعیّة _ تکون

ص: 116

الموافقة القطعیّة غیر واجبة، وإلاّ یلزم رفع الید عن المقدّمة الأُولی.

فأجاب: إنّ موضوع حکم العقل بالقبح وإستحقاق العقاب هو صدق عنوان «الظلم» علی المولی بعدم المبالاة لحکمه، والمولی لا یرخّص فی ذلک ألبتة، ونحن فی مورد العلم الإجمالی لمّا نعلم بوجود المبغوض للمولی بین الطرفین، فإنّ إرتکاب أحدهما یعتبر عدم المبالاة بحکم المولی. وکذا إذا علمنا بوجود الواجب بین الطرفین، فإنّ ترکه عدم المبالاة بحکمه، فالمقتضی لحکم العقل باستحقاق العقاب بالنسبة إلی وجوب الموافقة القطعیّة موجود. إنّما الکلام فی أنّه لا یقبل الترخیص مثل حرمة المخالفة القطعیّة أوْ یقبل؟ هذا أمر آخر سیأتی تفصیله فی المقام الثانی.

وتلخّص: حرمة المخالفة القطعیّة، حکم العقل بالنسبة إلیها، وأمّا بالنسبة إلی وجوب الموافقة القطعیّة، فالحکم العقلی فی مرحلة الإقتضاء. وما اُورد من أنّه لا تجب الموافقة القطعیّة لعدم الوصول مردود.

هذا تقریر ما ذهب إلیه المحقّق الإصفهانی رحمه اللّه.

الکلام حول الطریق المذکور:

اشارة

وللنظر فیما ذکر مجال واسع:

فی المقدّمة الأُولی

أمّا ما ذکره فی المقدّمة الأُولی، ففیه: إنّ قوّة الشیء لیس هو الشیء، فقوّة

ص: 117

الإنسان لیس بإنسان، ولذا یصحّ السلب ولو کان هو لَما صحّ. وأیضاً: فإنّ الحکم من الأُمور الإختیاریّة للحاکم، وعلی هذا، فإنّ الحکم إذا صدر اتّصف المولی بالحاکمیّة وإنْ لم یصل الحکم إلی المکلّف، فهو قد حَکَم حقیقةً، ولکنّ مقتضی ما ذکره من تقوّم الحکم بالوصول وانّه لولاه فی قوّة الحکم ولیس بالحکم صحّة سلب عنوان الحاکمیّة من المولی، وهذا خلف.

هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّ کلّ حکم _ شرعیّاً کان أو عقلیّاً _ فهو متأخّر عن موضوعه رتبةً، وحکم العقل باستحقاق العقاب موضوعه هو الحکم الفعلی لا الإنشائی. وعلیه، فإن قوله بأنّ الفعلیّة والتنجّز فی مرتبةٍ واحدة _ وأمّا قبل ذلک فالحکم فی مرتبة الإنشاء _ یستلزم أن یکون موضوع حکم العقل باستحقاق العقاب هو الحکم الإنشائی _ لضرورة تقدّم الموضوع علی الحکم _ وهذا أیضاً خلف.

بل الحق أنْ یقال: بأنّ فعلیّة الحکم _ لا تدور مدار الوصول _ إنّما تدور مدار فعلیّة موضوعه، سواء کان واصلاً أوْ لا. وتوضیح ذلک هو: إنّ الحکم فی مرتبة الإنشاء بداعی جعل الداعی یتوجّه إلی الموضوع المقدَّر الوجود، وحینئذٍ یکون فعلیّاً من قبل المولی، فهو یقول: کلّما تحقّق المستطیع وجب علیه الحج. وهذا الحکم یبقی فی مرحلة الإنشاء _ أی الفعلیّة من قبل المولی _ حتی یتحقّق موضوعه وهو المستطیع، فإذا تحقّق حصلت له الفعلیّة وحکم العقل باستحقاق العقاب علی المخالفة.

فما ذهب إلیه عدّة من الأعاظم _ من أنّ لکلّ حکم مرتبتین، مرتبة الإنشاء

ص: 118

والجعل بنحو القضیّة الحقیقیّة، ومرتبة الفعلیّة بتحقّق الموضوع بجمیع قیوده. وحینئذٍ، فإنْ کان واصلاً إلی المکلَّف حکم العقل بالتنجیز وإلاّ حکم بالتعذیر ... فالفعلیّة غیر التنجیز، ولیسا مرتبةً واحدة _ هو الصّحیح.

فی المقدّمة الثانیة

وأمّا ما ذکره فی المقدّمة الثانیة من أنّ العلم لا یتعلّق بالمردّد، فهذا حق، لأنّ المردّد لا ماهیّة له ولا وجود.

لکنّ قوله بأنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالجامع وهو لا ینجّز الخصوصیّة غیر صحیح، لأن:

الجامع علی قسمین، قسمٌ لا یقبل الحکایة عن الخصوصیّة مثل الإنسان، فإنّ العلم بالإنسان لا یتجاوز عن الإنسان، وقسمٌ یقبل ذلک، مثل مصداق الإنسان، فإنّه عنوان کلّی ینطبق علی الخصوصیّات، لأنّ ذاتی «مصداق الإنسان» هو الحکایة عن الفرد. وعلی هذا:

ففی مورد العلم الإجمالی، لیس متعلَّق العلم هو الکلّی، حتی یقال إنّه غیر منجّز للخصوصیّة، ولا المردّد حتی یقال لا ماهیة له ولا وجود، بل هو الجامع الإنتزاعی من قبیل مصداق الإنسان، فعنوان «أحد الإناءین» قابل للصّدق علی کلّ واحدٍ منهما، لأن کلّ واحدٍ منهما أحد الإناءین حقیقةً، فهو جامع ینطبق علی کلٍّ من الفردین.

ص: 119

فی المقدّمة الرابعة

وأمّا ما ذکره فی المقدّمة الرابعة تقسیم العناوین إلی ثلاثة أقسام، فالکلام علیه هو:

هل الحسن للعدل والقبح للظلم ذاتیّان لهما؟ قولان.

والقول الآخر هو: إنّ الذاتی منحصر فی ذاتی باب الکلیّات الخمس وذاتی باب البرهان(1).

ومختار المحقّق الإصفهانی هو الثانی، وأنّ الحسن والقبح لیسا من الذاتیّات الواقعیّة للعدل والظلم، بل هما من القضایا المشهورة التی تطابقت علیها آراء العقلاء حفظاً للنظام.

وهذا المبنی عندنا مخدوش.

ومجمل الکلام علیه هنا هو: إنّ العلّة لقبح الظلم أصبحت اختلال النظام، ولمّا کانت الحیثیّة التعلیلیّة فی الأحکام العقلیّة حیثیّةً تقییدیّةً، یکون اختلال النظام قیداً لقبح الظلم، وحینئذٍ یرد إشکالان:

الأوّل: عدم کون القبح ذاتیّاً للظلم، بل إنّ منشأ قبحه اختلال النظام. وهذا خلف.

ص: 120


1- 1. المراد من ذاتی باب البرهان ما یکون وضع ذات الشیء کافیاً فی الإنتزاع، مثل إمکان الممکن ووجوب الواجب وامتناع الممتنع، فإن إمکان الممکن _ مثلاً _ لیس بجنس ولا فصل ولا نوع ولا عرض عام ولا عرض خاص، لکنّه ذاتی، بمعنی أنّ نفس ذات الممکن یکفی لأن یحکم العقل علیه بعدم الإباء عن الوجود والعدم.

والثانی: أنّه إنّما یقبح الظلم علی المولی لو اختلّ النظام به وإلاّ فلا قبح. وهذا ممّا لا یلتزم به.

والتحقیق:

إنّ قبح الظلم ذاتی، ولیس إعتباریّاً ناشئاً من تطابق الآراء حفظاً للنظام، فهو مثل الزوجیّة للأربعة، وهو قبیح حتی لو لم یکن نظامٌ أصلاً، ویوجب الخروج عن رسم العبودیّة للمولی ولو لم یکن فی الوجود عقلاءٌ أصلاً.

المختار فی المقام

هو حرمة المخالفة القطعیّة، وعدم جواز الترخیص فیها، لأنّه ترخیص فی الظلم وهو قبیح، ولکنّ نقطة الخلاف هی إنّ الظلم قبیح ذاتاً لا لکونه مخلاًّ للنظام.

إنّه لا یعقل الترخیص فی المخالفة القطعیّة للزوم محالات:

الأوّل: نقض الغرض.

إنّ الأحکام الإلآهیة معلّلة بالأغراض، فالواجبات یجب الإلتزام بها، والمحرمات یجب الإجتناب عنها، تحصیلاً للغرض. وجعل المرخّص معناه عدم لزوم الإلتزام، وهذا نقض الغرض.

الثانی: التناقض فی حکم العقل.

لأنّ العقل یحکم بلزوم إطاعة المولی عند قیام الحجّة علی التکلیف، فلو جعل الترخیص من قبله، حکم العقل من أجله بحریّة المکلّف وعدم لزوم إطاعة المولی فی الأحکام التی قامت علیها الحجّة.

ص: 121

الثالث: الترخیص فی القبیح.

وهذا من المولی محال.

وتلخّص: إنّ الترخیص فی المخالفة القطعیّة محال من وجوه ثبوتیّة ثلاثة، اثنان منها ذاتیان والثالث بالعرض.

هذا کلّه ثبوتاً.

أمّا إثباتاً:

فقد ذکر الشّیخ ما محصّله: إنّ مفاد أدلّة الأصول العملیّة کلّها هو جعل الحکم الظاهری حیث یوجد الجهل، فإذا وجد العلم ارتفع الحکم الظاهری، والعلم أعمّ من التفصیلی والإجمالی. مثلاً: جاء فی ذیل دلیل الإستصحاب: «انقضه بیقین آخر»، ومعنی ذلک أنّه مع الیقین لا یوجد الحکم الظاهری. وعلی هذا، ففی أطراف العلم الإجمالی وإنْ کان لصدر الخبر موضوعٌ لوجود الشک بالنسبة إلی کلٍّ منها، ولکنّ ذیله یقتضی عدم الجریان فی الأطراف، فیقع التناقض بین الصّدر والذیل.

أشکل علی الشیخ

أوّلاً: إنّا نتمسّک من الأدلّة بما لیس فیه العلم غایةً للحکم، فإنّ هذه النصوص لا یلزم فیها التناقض صدراً وذیلاً حتی لا تجری، بل تکون جاریةً فی أطراف العلم.

وفیه: هذا یتمّ فی أدلّة الإستصحاب فقط، حیث أنّ بعضها خالٍ من الذیل، لکنّ دلیل قاعدة الحلّ والبراءة مشتمل علی الغایة.

ص: 122

وثانیاً: إن العلم المأخوذ غایةً فی الأدلّة، هو العلم بنفس ما تعلَّق به الجهل، وفی مورد العلم الإجمالی یکون متعلَّق الجهل هو الخصوصیّة، ومتعلَّق العلم هو الجامع بین الطرفین _ بعنوان ما لا یخرج عنهما، أو بعنوان أحدهما _ والذی تعلَّق به الجهل غیر الذی تعلَّق به العلم وهو أحد الأمرین.

إذن، لا نجد فی الأدلّة دلالة علی المنع من جریانها فی أطراف العلم الإجمالی.

وتحصّل: أنّ المانع من جریان الاصول فی أطراف العلم الإجمالی هو المانع الثبوتی.

والنتیجة:

عدم جواز المخالفة العملیّة القطعیّة للمعلوم بالإجمال.

ویقع الکلام فی وجوب الموافقة القطعیّة.

الکلام فی وجوب الموافقة القطعیّة

اشارة

وعمدة البحث فی هذا المقام فی أنّ العلم علّة تامّة فی هذه الجهة _ کما کان کذلک فی جهة المخالفة القطعیّة _ أو أنّه فی مرحلة الإقتضاء، فلو جاء أصلٌ بلا معارض فی أطراف العلم أثّر أثره؟ قولان:

ذهب إلی الأوّل جماعة کالمحقّق الإصفهانی والمحقّق العراقی.

وإلی الثانی آخرون، کالمحقّق النائینی والمحقّق الخوئی.

ص: 123

نظریّة العلیّة استدلّ للقول بالعلیّة بوجهین:
الوجه الأول: ما ذکره صاحب الکفایة
اشارة

الوجه الأوّل: ما ذکره فی الکفایة من التلازم بین حرمة المخالفة القطعیّة ووجوب الموافقة القطعیّة. ووجه التلازم هو: أنّ الترخیص فی المخالفة القطعیّة یُناقض الحکم الموجود فی البین والمعلوم إجمالاً، والترخیص فی الموافقة القطعیّة _ بأنْ یُکتفی بالموافقة الإحتمالیّة _ یناقضه إحتمالاً.

وکما أنّ التناقض الحتمی محال، کذلک التناقض الإحتمالی.

إشکال السیّد الخوئی

أشکل السیّد الخوئی(1): «بأن فعلیّة الحکم إنّما هی بفعلیّة موضوعه بما له من الأجزاء والقیود، فإنّ نسبة الحکم إلی موضوعه أشبه شیء بنسبة المعلول إلی علّته التامّة، فیستحیل تخلّف الحکم عن موضوعه ... فلو أراد من قوله: إنّ الحکم الواقعی قد یکون فعلیّاً من جمیع الجهات: أنّ العلم التفصیلی مأخوذ فی موضوعه کما یظهر من قوله: إن علم به المکلّف یکون فعلیّاً، فیردّه الإجماع والروایات الدالّة علی اشتراک الأحکام بین العالم والجاهل ... وإنْ أراد أن العلم لم یؤخذ فی موضوع الحکم الواقعی، ومع ذلک لا یکون فعلیّاً قبل العلم به. ففیه: إنّه غیر معقول، لاستلزامه الخلف علی ما تقدّم بیانه».

ص: 124


1- 1. مصباح الأصول: 349.
نصّ عبارة الکفایة:

أقول: هذا نصّ الکفایة(1):

«ثمّ إنّ الظاهر أنّه لو فرض أنّ المعلوم بالإجمال کان فعلیّاً من جمیع الجهات لوجب عقلاً موافقته مطلقاً، ولو کانت أطرافه غیر محصورة، وإنّما التفاوت بین المحصورة وغیرها هو أنّ عدم الحصر ربّما یلازم ما یمنع عن فعلیّة المعلوم، مع کونه فعلیّاً لولاه من سائر الجهات.

وبالجملة، لا یکاد یری العقل تفاوتاً بین المحصورة وغیرها، فی التنجّز وعدمه، فیما کان المعلوم إجمالاً فعلیّاً، یبعث المولی نحوه فعلاً أو یزجر عنه کذلک، مع ما هو علیه من کثرة أطرافه.

والحاصل، أنّ اختلاف الأطراف فی الحصر وعدمه لا یوجب تفاوتاً فی ناحیة العلم، ولو أوجب تفاوتاً فإنّما هو فی ناحیة المعلوم فی فعلیّة البعث أو الزجر مع الحصر، وعدمها مع عدمه، فلا یکاد یختلف العلم الإجمالی باختلاف الأطراف قلّة وکثرة فی التنجیز وعدمه، ما لم یختلف المعلوم فی الفعلیّة وعدمها بذلک، وقد عرفت آنفاً أنّه لا تفاوت بین التفصیلی والإجمالی فی ذلک، ما لم یکن تفاوت فی طرف المعلوم أیضاً، فتأمّل تعرف.

وقد انقدح أنّه لا وجه لاحتمال عدم وجوب الموافقة القطعیّة مع حرمة مخالفتها، ضرورة أنّ التکلیف المعلوم إجمالاً لو کان فعلیّاً لوجب موافقته قطعاً، وإلاّ لم یحرم مخالفته کذلک أیضاً.

ص: 125


1- 1. کفایة الأصول: 359.

ومنه ظهر أنّه لو لم یعلم فعلیّة التکلیف مع العلم به إجمالاً، إمّا من جهة عدم الإبتلاء ببعض أطرافه، أو من جهة الإضطرار إلی بعضها معیّناً أو مردّداً، أو من جهة تعلّقه بموضوع یقطع بتحقّقه إجمالاً فی هذا الشهر، کأیّام حیض المستحاضة ... ».

وحاصل مراده:

تارة: التکلیف فعلیّ من جمیع الجهات بحیث أنّه قد تعلَّقت به الإرادة أو الکراهة والبعث والزجر علی ما هو علیه من الإجمال والتردید، فإنّ العلم الإجمالی بالنسبة إلی المخالفة القطعیّة علّة تامّة، للزوم التناقض فی الترخیص، ولا فرق بین الشّبهة المحصورة وغیر المحصورة.

وإذا تمّ هذا فی طرف حرمة المخالفة القطعیّة، فهو یتم فی طرف وجوب الموافقة القطعیّة کذلک، فهو علّة تامّة هنا أیضاً، للتلازم بین المقامین، وقد ذکرنا وجه التلازم.

والحاصل: إنّ وصول الحکم المعلوم بالإجمال إلی مرحلة البعث والزجر کان معناه وجود المصلحة أو المفسدة الملزمة فی البین، وأنّ الشارع لا یرضی بتفویت المصلحة أو الوقوع فی تلک المفسدة، فجعله المرخّص فی هذه الحالة تناقض. نعم إن کان المرخّص فی بعض الأطراف فهو تناقض إحتمالی، لکن التناقض محال سواء کان یقیناً أو إحتمالاً.

ثمّ قال: نعم لو لم یصل التکلیف إلی مرحلة الفعلیّة من جمیع الجهات، فلا المخالفة محرمة ولا الموافقة واجبة.

وعلی الجملة، إنّه إذا کان العلم فعلیّاً من جمیع الجهات کان علّةً تامّة.

ص: 126

النظر فی إشکال السیّد الخوئی

والجواب عن الإشکال واضح بالتأمّل فی کلام الکفایة. لقد أفاد أنّ التکلیف فعلیٌّ من جمیع الجهات. أی أنّ الإرادة أو الکراهة والبعث أو الزجر محقَّقان حتی مع کون العلم إجمالیّاً، وإذا کان کذلک فالتلازم بین حرمة المخالفة ووجوب الموافقة ثابت. أمّا مع فرض إعتبار العلم التفصیلی فی الفعلیّة، فلا حرمة للمخالفة ولا وجوب للموافقة، لفرض عدم العلم التفصیلی.

لم یقل صاحب الکفایة: بأنّ التکلیف مقیَّد بالعلم حتی یشکل علیه بأنّه خلاف النصّ والإجماع أو أنّه خلفٌ. بل قال: بأنّ التکلیف یتقیّد تارةً بالعلم وأُخری یکون مطلقاً بالنسبة إلیه. وفی الصّورة الثانیة یستلزم جعل الترخیص فی بعض الأطراف التناقض وهو محال.

والحاصل: إنّ الکبری التی ذکرها تامّة، ولا یتوجَّه إلیها الإشکال، ویبقی الکلام فی الصغری ولم یتعرّض لها السیّد الخوئی.

الوجه الثانی: ما ذکره العراقی وله مقدّمات:
اشارة

الوجه الثانی: ما أفاده المحقّق العراقی(1) مستشکلاً علی المحقّق المیرزا القائل بکون العلم مقتضیاً لا علّةً تامّةً. وهو یتمّ ضمن مقدّمات:

المقدّمة الأُولی

إنّ التکلیف إذا تنجّز فهو غیر قابل للترخیص فیه، لا قطعاً ولا إحتمالاً _ بل الترخیص یکون حیث لا تنجیز قطعاً کالشّبهة البدویّة _ . لأنّ الترخیص مع التنجّز

ص: 127


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 307.

إذنٌ فی المعصیة وهو محال، وکذلک فی محتمل التنجیز، فإنّه ترخیص فی محتمل المعصیة، وهو محال ... ولذا تقرَّر أنّ الإشتغال الیقینی یقتضی الفراغ الیقینی، لوجوب دفع العقاب المحتمل. وعلیه، فالموافقة القطعیّة واجبة، لأنّه مع الموافقة الإحتمالیّة یکون إحتمال العقاب باقیاً. نعم، لو زال إحتمال العقاب أمکن جعل المرخّص، ولا ریب أنّ العلم بیان، ومعه لا تجری قاعدة قبح العقاب بلا بیان، بل تجری قاعدة الإشتغال.

المقدّمة الثانیّة

إنّ التنجیز وإستحقاق العقاب علی المخالفة متقوّم بأمرین: أحدهما التکلیف الواقعی، والآخر قیام الطریق المعتبر والحجة علیه، سواء کان من العقل أو الشرع، وبزوال کلٍّ من الأمرین ینتفی التنجیز. مثلاً: لو وصل الحکم ولیس له واقعیّة، فهذا علمٌ بلا واقع، مثل الجهل المرکّب، ولو کان هناک واقع بلا وصول کذلک لا یتم إستحقاق العقاب، لجریان قاعدة قبح العقاب بلا بیان.

إذن، التنجیز یدور مدار وجود الواقع وقیام البیان علیه.

والعلم الإجمالی بیان بلا إشکال، وهو طریق إلی الواقع، ولا فرق بینه وبین العلم التفصیلی.

المقدّمة الثالثة

إنّ الجامع علی قسمین:

ص: 128

1_ الجامع قبل الإنطباق، وهو عبارة عن الطبیعیّ، مثل الصّلاة فی «أقم الصّلاة». وهذا الجامع لا حکایة له عن الخصوصیّة.

2_ الجامع بعد الإنطباق، کما لو صلّی ثمّ علم ببطلان إحدی صلواته، فمتعلَّق العلم هو الجامع بین الصّلوات لا فرد منها، لکن هذا الجامع قد انطبق علی أفراده ثمّ حصل العلم به.

وفی العلم الإجمالی، یکون متعلَّق العلم هو الجامع لا الخصوصیّة، لأن کلاًّ من الخصوصیّات مشکوک فیه، لکنّ هذا الجامع له حکایة إجمالیّة عن الخصوصیّة. وقد جَعَل نظیر المقام، لو رأی شَبَحاً من بعید، فإنّه شَبَح فرد من الإنسان، ولکنّه شَبَحٌ، أی صورة إجمالیّة لا تفصیلیّة لفرد الإنسان.

فی مورد العلم الإجمالی یوجد علمٌ ویوجد شکٌ، فهو یحکی عن الخصوصیّة، لکنْ حکایةً إجمالیة لا تفصیلیّة، وعلیه، فالخصوصیّة تتنجّز بالعلم. لکنْ الخصوصیّة الإجمالیّة.

المقدّمة الرابعة

إن حکم العقل بلزوم تحصیل الفراغ بعد الإشتغال تنجیزی ولیس بتعلیقی، سواء کان الفراغ وجدانیاً أو تعبدیّاً، وإلاّ، فإنّ العقاب محتمل وقد تقدّم أنّ جعل الترخیص فی مورد إحتمال العقاب محال. ولا یرتفع الإحتمال إلاّ بالإتیان بالمکلَّف به أو یکون مقبولاً لدی الشارع فی مقام الإمتثال.

وعلی الجملة، فإنّه إذا علم بوجوب صلاةٍ جامعةٍ للشرائط علیه، وشک فی

ص: 129

کون الصّلاة المأتی بها کذلک، کان براءة ذمّته مشکوکةً والإشتغال باق، وإحتمال العقاب علی حاله، ولا یعقل إجراء البراءة مثلاً.

ولا فرق فی ذلک بین العلم الإجمالی والعلم التفصیلی، ولو جاز اجراء البراءة لجاز مع العلم التفصیلی.

والحاصل، إنّه مع العلم مطلقاً بالتکلیف لابدّ من تحصیل الفراغ الیقینی، وهو لا یتحقّق إلاّ بالموافقة القطعیّة.

المقدّمة الخامسة

للشارع أن یجعل البدل فی مقام الفراغ، سواء مع العلم الإجمالی أو التفصیلی، بأنْ یکتفی بغیر الواقع عن الواقع لمصلحة التسهیل علی العباد، کما هو الحال فی قاعدة الفراغ مثلاً، إذ تتقدّم علی قاعدة الإشتغال، حیث أنّ الذمّة مشغولة بالصّلاة مع السّورة، ولکن الشارع عند الشک فی الإتیان بالسّورة بعد السّلام یکتفی بالصّلاة المأتی بها المشکوک فی اشتمالها علی السّورة. وعلی الجملة، فهو لا یرفع الید عن التکلیف فی مقام الإشتغال، وإنّما یجعل البدل عنه فی مقام الإمتثال ویکتفی به، لمصلحة التوسعة علی العباد، لأنّ المفروض أنّ المکلّف کان ملتفتاً إلی العمل حین العمل، وعلی هذا السّیرة العقلائیّة.

لکنّ جعل البدل فی أطراف العلم الإجمالی بإجراء الأصل فی بعضها _ بأنْ یقال بأن جریانه فی طرفٍ یثبت بالملازمة کون النجس _ مثلاً _ فی الطرف الآخر، فیرتکب ما قام علیه الأصل، ویجعل الطرف الآخر بدلاً عن الواقع _ غیر صحیح،

ص: 130

لأن کون الطّرف الآخر بدلاً عن الواقع هو اللاّزم العقلی لقیام الأصل، وهذا أصل مثبت ... نعم، لو کان القائم علی الطّهارة فی طرف أمارةً من الأمارات، فإن لازم الأمارة حجة وینحلُّ العلم الإجمالی.

وعلی الجملة، فإنّه لا یتم جعل البدل بالأصل العملی، وعلیه یکون الواجب الإجتناب عن کلا الطرفین، وهذا هو الموافقة القطعیّة.

إشکالات السیّد الخوئی

قال السیّد الخوئی(1): فیه:

«النقض بما لو فرض کون الأصل الجاری فی بعض الأطراف نافیاً دون البعض الآخر، کما لو علم إجمالاً بوقوع نجاسة فی أحد الإناءین وکان أحدهما متیقّن النجاسة سابقاً، فإن أصالة الطّهارة تجری فی غیر مستصحب النجاسة بلا إشکال، مع أنّ العلم بوجود تکلیف فعلی موجود بالوجدان.

وتوهّم: أنّ التکلیف فی مستصحب النجاسة ثابت قبل تحقّق العلم الإجمالی علی الفرض، فالعلم بوقوع النجاسة فیه أو فی غیره لا یوجب علماً بحدوث تکلیف جدید، فلا یقاس المقام بذلک.

مدفوع: بأن سبق النجاسة فی أحد الإناءین لا یضرّ بالعلم بالتکلیف الفعلی المردّد بین کونه ثابتاً من الأوّل وحدوثه فعلاً، فلو أمکن جعل الحکم الظاهری

ص: 131


1- 1. مصباح الأُصول: 349 _ 350.

والإمتثال الإحتمالی فی هذا الفرض، أمکن فی غیره أیضاً، لوحدة الملاک إمکاناً وامتناعاً.

وإنْ شئت قلت: إنّ العلم الإجمالی لا یزید علی العلم التفصیلی، فکما یجوز أنْ یکتفی الشارع فی مورد العلم التفصیلی بالتکلیف بالإمتثال الإحتمالی، کما فی مورد قاعدة الفراغ والتجاوز، کذلک یجوز له الإکتفاء بالإمتثال الإحتمالی فی موارد العلم الإجمالی بطریق أولی».

المناقشة

وفیه: إنّ مورد العلم الإجمالی هو القضیّة المنفصلة، فالنجس إمّا هنا وإمّا هناک، وعندما یکون أحد الطرفین مسبوقاً بالنّجاسة، فإنّه لا قضیّة منفصلة کذلک، بل یقال: هذا (المستصحب النجاسة) نجس وذاک مشکوک النجاسة ... فإذن، ما ذکره قیاسٌ مع الفارق. فبحثنا هو فی العلم الإجمالی بأنْ یکون الطرفان علی السواء، إمّا وإمّا ... ویراد جعل الأصل النافی فی طرفٍ. هذا مورد بحثنا، أمّا أنْ یکون فی طرفٍ أصل مثبتٌ للتکلیف _ کما ذکر السیّد الخوئی _ فهذا خارج عن البحث، والعراقی نفسه قد استثنی هذا المورد، فکیف لم یلتفت السیّد الخوئی إلی کلامه؟

والحاصل: إنّ مورد بحثنا هو إشتغال الذمّة وأنّه لابدّ من الفراغ الیقینی، وفی المورد الذی نقض به لا یوجد إشتغال بل یوجد أصل مثبت للتکلیف فی طرفٍ، فموضوع العلم الإجمالی منتف. وهذا حلّ المطلب.

ص: 132

قال رحمه اللّه _ بعد النقض المذکور:

الحلّ: بأنّ موضوع الاصول إنّما هو الشک فی التکلیف، وهو موجود فی کلّ واحدٍ من الأطراف بخصوصه، فإن إحتمال إنطباق التکلیف المعلوم بالإجمال إنّما هو عین الشک فی التکلیف، فلا مانع من جعل الحکم الظاهری فی بعض الأطراف بحسب مقام الثبوت.

أقول:

توضیحه: إنّه لا ریب فی أن تعلّق التکلیف بکلٍّ من الأطراف مشکوک فیه بالوجدان، ومع الشک تجری البراءة أو قاعدة الحلّ أو الطّهارة، فالمقتضی لجریان الأصل المرخّص موجود. وأمّا المانع فلیس إحتمال أنْ تکون النجاسة المعلومة بالإجمال _ مثلاً _ فی الطرف الذی اُجری فیه الأصل، لکن «الإحتمال» عین «الشک»، فالمقتضی للجریان فی بعض الأطراف موجود ولا مانع عنه.

وفیه: إنّه وإنْ کان التکلیف فی کلّ طرف مشکوکاً فیه، لکن إحتمال إنطباق المعلوم بالإجمال علیه موجود بالوجدان، فالشک فی التکلیف فیه مقرون باحتمال إنطباق تکلیفٍ منجّز علیه، فیکون موضوعاً لقاعدة الإشتغال الیقینی یقتضی الفراغ الیقینی.

وبعبارة أُخری: فرقٌ بین مورد الجهل المحض بالتکلیف، ومورد الجهل المقرون بالعلم به ولو إجمالاً، وجریان الأصل یختصّ بالمورد الأوّل وهو مورد الشبهات البدویّة، أمّا فی المورد الثانی، فیحتمل الوقوع فی المعصیة، وترخیص الشارع الموجب لإحتمال الوقوع فیها محال، کترخیصه فی الموجب للوقوع فیها یقیناً.

ص: 133

وممّا ذکرنا ظهر ما فی بیان المحقّق الإصفهانی، وحاصله: إنّ ترک الموافقة القطعیّة ظلم علی المولی وهو قبیح، والقبیح لا یقبل الترخیص.

فإنّ فیه: إنّ عدم المبالاة بحکم المولی وترک الموافقة القطعیّة له لا یجوز بلا إذن منه، فإذا کان إذن فلا «لا مبالاة» فلا «ظلم».

وبالجملة، کون ترک الموافقة القطعیّة ظلماً تعلیقی لا تنجیزی، ویشهد بذلک أنّه إذا جاء نصّ خاصّ من المولی بجواز إرتکاب أحد الإناءین، فلا یظنّ بفقیه أنْ یلتزم بعدم جواز الإرتکاب. نعم، مجیء هذا الترخیص یکشف عن کون الطّرف الآخر بدلاً. لکنّ المحقّق العراقی یقول: لا یمکن للإطلاق جعل البدل. فقیاس ما نحن فیه علی المخالفة القطعیّة مع الفارق.

هذا تمام الکلام علی مبنی المحقّق العراقی فی المقام، وملخّصه أنّه ما دام العلم الإجمالی موجوداً، فإن جعل الترخیص فی أطرافه محال. اللهمّ إلاّ أن ینحلّ العلم أو یجعل الشارع بدلاً عن الواقع، وإلاّ فالعلم علّة تامّة.

ثمرة هذا الوجه

وتظهر نتیجة هذا الوجه فیما لو کان فی طول أحد الطرفین أصل آخر، مثلاً:

لو علم إجمالاً بنجاسة الثوب أو الماء، جرت قاعدة الطّهارة فی کلّ واحدٍ من الطرفین، لکن توجد فی طول قاعدة الطّهارة فی طرف الماء أصالة إباحة شرب الماء، لأنّ ذلک أثر طهارة الماء، فإباحة شربه مسبّبةٌ عن طهارته، لکنّه عندما یجری الأصل فی السّبب یستحیل جریانه فی طرف المسبّب. وفیما نحن فیه: لمّا

ص: 134

تعارض قاعدة الطّهارة فی الطرفین وتساقطا، فهل یجری أصالة الإباحة فی الماء لیفید جواز الشّرب؟

إن کان العلم علّةً تامّة للموافقة القطعیّة، فلا یجری أصالة الإباحة.

وإن کان العلم الإجمالی فی مرحلة الإقتضاء، جرت أصالة الإباحة، لکونها أصلاً بلا معارض.

وهذه ثمرة نظریّة العراقی.

نعم، فی هذا المثال، قال المیرزا _ القائل بالإقتضاء _ أیضاً بعدم جریان أصالة الإباحة، لأنّ الأصول الثلاثة کلّها تسقط بالمعارضة، إذ السببیّة _ وإن کانت بین طهارة الماء وشربه _ منتفیة بین أصالة إباحة شرب الماء وقاعدة طهارة الثوب، ولذا تتساقط کلّها.

فیظهر أنّ هنا بحثین، أحدهما: کبروی فی أنّ العلم علّة تامّة أوْ لا؟ والآخر: صغروی، وهو فی موارد العلم الإجمالی وأن یکون لأحد الطرفین دون الآخر أصل طولی، فهل تتعارض کلّها وتسقط، أو تجری بین الطرفین فقط ویبقی الطّولی بلا معارض؟

هذا تمام الکلام علی نظریّة العلیّة.

نظریة الإقتضاء

وملخّصها هو: إنّ المانع من جریان الأصل المرخّص لیس العلم الإجمالی بل تعارض الأصلین، فلو جری فی طرفٍ ولم یکن له معارضٌ، کان المقتضی

ص: 135

للجریان موجوداً والمانع مفقود. وتوضیح ذلک هو:

إنّ کلاًّ من الطرفین مشکوک فی حرمته، والشک هو الموضوع لجریان الإستصحاب، فالمقتضی لجریان الأصل موجود. وأمّا المانع، فهو إمّا ثبوتی بأنْ یلزم من جریانه محذورٌ، والمحذور إنّما یلزم إنْ لم یکتفِ الشارع فی مرحلة الإمتثال بأحد الطرفین، ومع شمول دلیل الأصل فی طرفٍ ینکشف اکتفاؤه بالطرف الآخر، فلا محذور. وإمّا إثباتی، وهو تعارض ذیل دلیل الإستصحاب مع صدره، وقد تقدّم أنْ لا تعارض، لأنّ متعلَّق العلم الإجمالی هو «أحدهما» ومع اختلاف المتعلَّق فلا تعارض.

فانحصر المانع الإثباتی بتعارض الأصلین فی الطّرفین، لأنّ جعل الترخیص مستلزم للمخالفة القطعیّة، وجریان الأصل فی طرق معیّن دون آخر ترجیح بلا مرجّح، وفی أحدهما المردّد محال، لأنّ المردّد لا وجود له ولا ماهیّة ... فالمانع إثباتی بهذا البیان.

وعلیه، ففی کلّ موردٍ لا تتحقّق المعارضة، کان الأصل جاریاً، بقانون وجود المقتضی وعدم المانع _ لأن المفروض أنْ لا مانع إلاّ التعارض _ فکان العلم الإجمالی مقتضیاً لا علّةً تامّة.

إشکالان من العراقی

ویبقی الجواب عن إشکالی المحقّق العراقی وهما:

أوّلاً: عدم معقولیّة جریان الأصل بلا معارض حیث لا یکون جعل للبدل،

ص: 136

لأنّه ترخیص فی محتمل المعصیة وهو محال، وقد ظهر أنّ الأصل لا یمکنه إفادة جعل البدل، لأنّه أصل مثبت وهو لیس بحجّة.

ثانیاً: النقض بالعلم التفصیلی، فإنّه إذا جری الأصل بلا معارضٍ وجاز لنا الإکتفاء بطرفٍ، ففی العلم التفصیلی کذلک، کمثال الصّلاة، بأنْ نتمسّک بأصالة البراءة عن جزئیّة أحد الأجزاء المشکوک فی الإتیان به، مع العلم التفصیلی بوجوب الصّلاة الجامعة لجمیع الأجزاء والشرائط. وهذا مما لا یلتزم به.

الجواب عن الإشکال الأوّل

ویمکن الجواب عن الأوّل بأنْ یقال:

إنّه تارةً یکون المحذور فی أصل الدلیل، وأُخری فی إطلاقه. فإن کان فی أصل الدلیل، فلا ریب فی سقوطه، وإن کان فی الإطلاق، فالدلیل یبقی ویسقط عن الإطلاق، ومع الشکّ فی لزوم المحذور یکون المحکَّم قاعدة الإمکان وبها یُنفی إحتمال الإستحالة، وهذا الإمکان _ لیس الإمکان العقلی الذی قال الشیخ الرئیس: کلّما قرع سمعک فذره فی بقعة الإمکان _ عقلائی، إذ سیرتهم علی أنّه إذا ورد حکم واحتمل کونه مطابقاً للواقع أو علی خلاف الواقع أو المصلحة، لم یأخذوا باحتمال المخالفة، بل یتمسّکون بالدلیل أصلاً وإطلاقاً. وتوضیحه: أنّه إذا وصل الحکم من المولی الحکیم _ الذی لا یحکم علی خلاف المصلحة _ فشکّ فی کونه مطابقاً للمصلحة أو علی خلافها، رجع الشک إلی أنّه إنْ لم یکن لهذا الحکم مصلحة فی الواقع لم یحکم به المولی، وإن کان له مصلحة أمکن أن یحکم، فرجع

ص: 137

الشک إلی إمکان الدلیل أو إمکان إطلاقه، والسّیرة قائمة علی ترتیب الأثر علی الحکم وعدم الإعتناء بالشک.

ومن فوائد هذه القاعدة: أنّه لو لم نتمکّن من دفع شبهة اجتماع الضدّین أو النقیضین فی جعل الأحکام الظاهریّة، انتهی الأمر إلی أنّه هل یمکن جعل الحکم الظاهری أوْ لا؟ وقد تقرّر هناک أنّ أصالة الإمکان تقتضی الأخذ بأدلّة الأحکام الظاهریّة ولم یحرز تحریم الحلال وتحلیل الحرام.

وفیما نحن فیه، المفروض شمول إطلاق حدیث الرفع وعمومه لبعض الأطراف، غیر أنّا نحتمل عدم اکتفاء الشارع بالطرف الآخر فی مقام الإمتثال ونحتمل اکتفائه به، فإن لم یکن قد اکتفی فالإطلاق محال، لکونه ترخیصاً فی محتمل المعصیة، وإن کان قد اکتفی، رجع الشک إلی إمکان الإطلاق وامتناعه، وقد ذکرنا أنّ مقتضی الأصل العقلائی والسّیرة العقلائیّة هو الإمکان، وحینئذٍ تنحلّ مشکلة العراقی، لأنّها تتلخّص فی أنّه هل لدلیل الأصل المرخّص فی مورد عدم وجود المعارض له إطلاقٌ أوْ لا؟ وأصالة الإمکان تقتضی الأخذ بالإطلاق.

الجواب عن الإشکال الثانی

وعن الإشکال الثانی بأنْ یقال: هذا النقض غیر وارد، ففی مورد العلم التفصیلی، تکون البراءة عن الجزئیّة _ مثلاً _ محکومةً باستصحاب عدم الإتیان بالجزء المشکوک فیه، ومع وجود الأصل المحرز الحاکم لا تجری البراءة، بخلاف مورد العلم الإجمالی، فإن الأصل الجاری فی بعض الأطراف لا معارض له.

ص: 138

إشکال الکفایة

وهو: أنّه مع العلم الإجمالی بالتکلیف الفعلی، لا یمکن جعل الأصل المرخّص فی بعض الأطراف لاحتمال مناقضته مع الحکم المعلوم بالإجمال، لأنّ هذا الحکم مورد للإرادة والکراهة، وقد صدر به البعث والزجر فالتکلیف فعلی ویقتضی الإمتثال، وجعل المرخّص فی طرفٍ یحتمل أن یکون هو التکلیف الفعلی ینتهی إلی إحتمال المناقضة، وهو محال.

الجواب

ویمکن الجواب عنه بأنْ یقال: إنّ فعلیّة التکلیف إنْ کانت تقتضی جعل الإحتیاط حفظاً لذلک التکلیف فلا ریب فی استحالة جعل المرخّص للزوم التناقض _ أمّا إذا لم تکن کذلک، واحتملنا وجود المصلحة أو المفسدة الملزمة فی متعلَّق کذلک، ووجود مصلحة التسهیل علی العباد، فما الوجه لوجوب الموافقة القطعیّة؟ بل إنّ مقتضی الجمع بین المصلحتین هو الترخیص فی بعض الأطراف. ویشهد بذلک: أنّه لو قام الدلیل الخاص علی جواز إرتکاب بعض أطراف العلم الإجمالی، کشف عقلاً عن أنّ ملاک الحکم الفعلی الذی تعلّق به العلم الإجمالی غیر واصلٍ إلی مرحلة جعل الإحتیاط، فإذا کان هذا مقتضی الدلیل الخاص، فإنّه یمکن جعل الترخیص بالعموم والإطلاق کذلک، ولذا نری الشارع قد یکتفی بالعمل المشکوک فی واجدیّته لجمیع ما یعتبر فیه من الأجزاء والشرائط المعلومة بالتفصیل، کما هو الحال فی قاعدة الفراغ والتجاوز مع إحتمال لزوم التناقض ...

ص: 139

فکما اکتفی الشارع بالموافقة الإحتمالیّة مع العلم التفصیلی کذلک مع العلم الإجمالی.

وتلخّص: إنّ فعلیّة التکلیف إنْ لم تصل إلی مرحلة جعل الإحتیاط لا تنافی جعل المرخّص فی بعض الأطراف، فإنّه بقاعدة الامکان کما ذکرنا یمکن جعل المرخّص والإکتفاء بالموافقة الإحتمالیّة، وذلک یتحقّق بشمول إطلاق دلیل الأصل لبعض الأطراف بلا معارض.

إشکال الإصفهانی علی نظریة جعل البدل

وأشکل المحقّق الإصفهانی علی نظریّة جعل البدل فی حاشیةٍ(1) مطوّلة. وملخّص کلامه فی المقام:

إنّ جعل البدل یکون علی نحوین: تارةً: یکون فی مرحلة الجهل بالحکم الواقعی، وحینئذٍ یکون ذا مصلحة یتدارک بها مصلحة الواقع، کموارد قاعدة الفراغ، حیث لو شکّ بعد الفراغ من الصّلاة فی طهارته، فإنّه یحکم بصحّة الصّلاة ووجوب الطّهارة للصّلاة اللاّحقة، فقد جعل فی ظرف الجهل بالواقع تخییر ظاهری بینه وبین البدل، لکون البدل واجداً لمصلحة الواقع، ولا منافاة بین هذا التخییر والحکم الواقعی کما لا یخفی. ومن الواضح أنّ هذا التخییر یحتاج إلی الأمر کسائر الواجبات التخییریّة، ولا یکفی مجرَّد الترخیص المستفاد من قاعدة الحلّ وأصالة البراءة.

ص: 140


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 244.

وتارةً: یکون بالإکتفاء بالإطاعة الإحتمالیة فی مرحلة الإمتثال بدلاً عن الواقع، فإنّه وإنْ اقتضی التکلیف الواقعی الإتیان بالواقع، لکنّ مصلحة التسهیل علی العباد تقتضی إکتفاء الشارع بالموافقة الإحتمالیّة بجعل المرخّص، ومثاله قاعدة الفراغ أیضاً، لکنْ بناءً علی حمل الأخبار علی التصرّف فی مقام الإمتثال، بمعنی أن یکون موجب الفراغ أعمّ من الواقع والبدل، وحینئذٍ، یکون حکم العقل بوجوب الإطاعة أعم من الإطاعة الوجدانیّة والإطاعة التعبدیّة.

قال: لو قام المرخّص علی بعض الأطراف فارتکبه وصادف الواقع، فهل العقاب باقٍ أوْ لا؟ إنْ کان باقیاً، لزم الجمع بین الترخیص والعقاب، وهما متنافیان. ولو ارتکب الطرف الآخر أیضاً تقولون باستحقاق العقاب، وهذا معناه ترتّب العقاب علی ضمّ غیر الواقع إلی الواقع، وهذا محال.

فظهر أنّ جعل البدل کذلک ترخیصٌ فی المخالفة القطعیّة، وهو محال. فالإکتفاء بالموافقة الإحتمالیّة غیر ممکن.

وبعبارة أُخری: إذا إکتفی الشارع بالموافقة الإحتمالیّة بالترخیص فی طرف، یقع السّؤال هل هذا الترخیص مطلق أو مقیّد أو مهمل؟ الإهمال محال، والتقیید لا وجه له، لأن معناه أنّ المکلَّف مرخّص فی هذا الطرف إن لم یکن هو الواقع، وهذا لا أثر له، فیتعیَّن الإطلاق، فهو مرخّص فی الإرتکاب سواء کان مطابقاً للواقع أوْ لا، أی: إنّه وإنْ کان هو الواقع فلا عقاب علیه، وإذا کان هذا الطرف هو الواقع فارتکاب الطرف الآخر لا مانع منه، ومع إرتکاب الطرفین، هل یستحق العقاب أوْ لا؟ إنْ قلتم: لا، کانت المخالفة القطعیّة جائزةً. وإنْ قلتم: یستحق العقاب، لزم القول

ص: 141

باستحقاق العقاب علی إرتکاب الحلال.

هذا هو الإشکال الأوّل.

وثانیاً: إنّ الترخیص والإکتفاء بالموافقة الإحتمالیّة لا یمکن إلاّ حیث توجد المفسدة فی الموافقة القطعیّة _ وإلاّ فلا وجه لرفع الید عن الإمتثال القطعی _ فإذا وقع التزاحم بین المفسدة ومصلحة الواقع، ورفع الشارع الید عن مصلحة الواقع انکشف أنّ مصلحة الواقع لیست علی کلّ تقدیرٍ، والعقاب علی مخالفة الواقع لیس علی تقدیرٍ، فإذن، تجوز المخالفة القطعیّة.

المناقشة

ویقع الکلام معه فی جهات:

الأُولی: ما ذکره فی القسم الأوّل من جعل البدل، وفیه إشکالان:

أوّلاً: کلّ حکم شرعی فهو تابع للملاک فی أصل وفی کیفیّته، والحکم بلا ملاک محال وخصوصیته _ بأنْ یکون عینیّاً أو کفائیّاً، تعیینیّاً أو تخییریّاً مثلاً _ بلا ملاک محال کذلک.

هذه مقدّمة.

ومقدّمة أُخری: إنّ الأحکام الواقعیّة الشرعیّة _ بأصلها وخصوصیاتها _ مشترکة بین العالمین والجاهلین وإلاّ یلزم التصویب الباطل.

وبعد هاتین المقدّمتین الثابتتین نقول: المفروض أنْ یکون البدل المجعول فی ظرف الجهل بالواقع وافیاً بتمام مصلحة الواقع، وکان وفاؤه بذلک منشأً

ص: 142

للتخییر فی الظاهر، ولولا ذلک لما کان التخییر، کما هو الحال فی کلّ الواجبات التخییریّة مثل خصال الکفارة.

وعلیه، فإن لم یکن البدل وافیاً بتمام مصلحة الواقع فلا تخییر، وإن کان وافیاً، لزم عقلاً تقیید الوجوب التعیینی للحکم الواقعی بالعالمین، لأنّ شموله للجاهلین یکون بلا ملاک.

ثانیاً: إنّ کلّ حکم ظاهریّ یحتمل مطابقته للواقع، فلو قطع بمخالفته له لم یعقل جعله، فمع القطع بالحکم الشّرعی _ مثلاً _ لا موضوع لأصالة البراءة وتکون مخالفةً للواقع.

وفیما نحن فیه: إنّ التخییر حکم ظاهری، لاشتمال البدل علی تمام مصلحة الواقع، لکن الحکم الواقعی تعیینی، فیلزم أن یکون الحکم التخییری الظاهری مخالفاً للواقع قطعاً.

الثانیة: ما ذکره فی القسم الثانی من جعل البدل من الإشکال: بأنّ اکتفاء الشارع بالموافقة الإحتمالیة یستلزم رفع الید عن العقاب علی مخالفة الواقع، وهو ترخیصٌ فی المخالفة القطعیّة.

ویرد علیه:

أمّا نقضاً: فبأنّ من ضروریات الفقه قاعدة الحیلولة المستفادة من نصوص: (الوقت حائل) فلا یعتنی بالشک فی خارج الوقت، وهذا لیس إلاّ الإکتفاء بالموافقة الإحتمالیّة، وإلاّ، فإن مقتضی قاعدة الإشتغال _ لمن شک فی خارج الوقت بأنّه قد صلّی فی الوقت أوْ لا _ هو الحکم بوجوب القضاء.

ص: 143

وهذا من القبیل الثانی لجعل البدل، لا الأوّل، لأنّه کان فی فرض الإتیان بالعمل ناقصاً، وفی قاعدة الحیلولة لا یأتی بعملٍ.

فکلّ ما یکون الجواب عندکم عن قاعدة الحیلولة هو جوابنا فی المقام.

وأمّا حلاًّ: فإنّما یرد الإشکال فی صورة انتهاء الترخیص إلی المخالفة القطعیّة، وهذا غیر ممکنٍ فی موردٍ أصلاً، فلو علم إجمالاً بنجاسة الثوب أو الماء وسقطت قاعدة الطّهارة فی کلیهما وجرت أصالة الإباحة فی الماء بلا معارضٍ، فهل ینتهی إلی المخالفة القطعیّة؟ کلاّ، لأنّ الواقع إن کان فی الطرف غیر المرخّص فیه، فالأصل النافی غیر جارٍ هناک والعقل حاکم بالإجتناب عنه، وإنْ کان فی الطرف المرخّص فیه، فإنّ إحتمال وجود الواقع فی الطرف الآخر موجود، ولیس له إرتکابه لأنّه إستهانة بحکم المولی، فأین جواز المخالفة القطعیّة؟

الثالثة: ما ذکره أخیراً من أنّ الإکتفاء بالموافقة الإحتمالیّة یکون بوقوع التزاحم بین الملاکین، ففی الموافقة القطعیّة مفسدة أوجبت رفع الشارع الید عنها _ لأنّ رفع الید عن الموافقة القطعیّة لا یکون بلا ملاک _ وهذه المفسدة تزاحم ملاک الحکم الواقعی، وبذلک ینتفی ملاک الحکم الواقعی، وبانتفاء الملاک ینتفی الحکم، وحینئذٍ تجوز المخالفة القطعیّة.

ویرد علیه:

أمّا نقضاً، فبجمیع موارد إکتفاء الشارع بالموافقة الإحتمالیّة، کالشک من کثیر الشک، والشک بعد الفراغ، والشک بعد الوقت، ففی جمیع هذه الموارد الموافقة إحتمالیّة ولیست قطعیّة.

ص: 144

وأمّا حلاًّ: فقد تقدّم فی بحث الجمع بین الحکم الظاهری والحکم الواقعی: أنّ الملاک فی الحکم الظاهری فی نفس الحکم، أمّا فی الحکم الواقعی ففی متعلّقه. مثلاً: إذا وجب الإحتیاط _ وهو حکم ظاهری _ فی موردٍ، فالملاک فی نفس الإحتیاط، ولیس فی المتعلّق، لأنّ الإحتیاط هو الجمع بین الأطراف، ولیس فی شیء من الطرفین ملاک. مثلاً: یجعل الشارع الإحتیاط فی شیئین أحدهما ملکٌ للغیر، فأمّا الذی هو فی الواقع ملک للغیرٌ، فهناک ملاک الواقع، وأمّا الطرف الآخر الذی هو ملک للمالک، فلا مفسدة فی التصرّف فیه. إذنْ، لیس فی جعل الإحتیاط ملاک إلاّ نفس الإحتیاط. وکذلک جعل الترخیص فی بعض الأطراف، بل هو حکم ظاهری والمصلحة فی نفس الجعل. وأمّا الحکم الواقعی فهو علی حاله، ولا یعقل التزاحم بین ملاک الحکم الظاهری وملاک الحکم الواقعی لما ذکرنا من أنّ الملاک فی الظاهری فی نفس الحکم وفی الواقعی فی متعلّقه.

هذا تمام الکلام.

وقد ظهر أنّ الحق هو الإقتضاء لا العلیّة التامّة، فإنّه إذا کان الأصل بلا معارض، جری فی أطراف العلم الإجمالی. وإلاّ، فإنّ تعارض الأصول هو المنشأ لتنجیز العلم.

أقول:

هذا ما استفدته من کلام شیخنا دام بقاه. وکأنّه یتلخّص فی عدم المنع من الترخیص فی بعض الأطراف ثبوتاً، لکنّ المهمّ هو مقام الإثبات. وهذا ما ذهب إلیه

ص: 145

سیّدنا الأُستاذ رحمه اللّه، کما لا یخفی علی من راجع تقریر بحثه(1).

القول بالتخییر

وهو القول بجریان الأصل فی أحد طرفی العلم الإجمالی علی البدل، بأنْ یکون المکلّف مخیّراً فی إجراء الأصل النافی للتکلیف فی أحدهما فی حال ترک الآخر، فیکون أحدهما بدلاً عن الآخر فی ظرف الإمتثال، وجعل البدل بید المکلّف نفسه.

قال المیرزا(2):

ذهب إلیه بعض الأعاظم فی حاشیته علی الفرائد، وتبعه بعض أعیان أهل العصر.

وتقریبه: إنّ موضوع إطلاق دلیل الأصل محقّق فی کلّ طرف، فالمقتضی لجریانه فی مرحلة الإثبات تام، والمانع، إمّا فی مرحلة الظهور وإمّا فی مرحلة الحجیّة. أمّا الظهور، فلا مانع عنه، وأمّا الحجیّة، فلا محذور فی جعل أصل الحلیّة والبراءة بالنسبة إلی کلّ طرف، وإنّما هو فی إطلاق دلیل الأصل، لأن مقتضی الإطلاق جواز إرتکاب کلّ طرف، سواء ترک الآخر أوْ لا، وهذا معناه الترخیص فی المخالفة القطعیّة، فالمشکلة تأتی من ناحیة الإطلاق، فنرفع الید عن الإطلاق فی کلا الطرفین _ بحکم: الضرورات تتقدّر بقدرها _ ویبقی أصل الجعل فی الطرفین، فیجری الأصل فی کلٍّ منهما بشرط ترک الطرف الآخر.

ص: 146


1- 1. منتقی الأُصول 5 / 78 _ 79.
2- 2. فوائد الأصول 4 / 27.
الجواب

وأجاب المیرزا(1) _ وهو من القائلین باقتضاء العلم الإجمالی _ بما حاصله:

إنّ التخییر علی ثلاثة أقسام:

الأوّل: التخییر المجعول فی بعض الأحکام الشرعیّة الفرعیّة، کما فی خصال الکفارة، وکذا فی الأخذ فی المسألة الأصولیة کالخبرین المتعارضین إذ قال علیه السّلام (إذنْ فتخیّر)(2)، والعامل فی الفرعیّات هو المکلّف، والآخذ فی المسألة الأصولیة خصوص المجتهد.

الثانی: التخییر الذی هو مقتضی الدلیل والکاشف، کما لو قام دلیل علی وجوب إکرام العلماء، ثمّ جاء دلیل آخر یخرج زیداً وعمراً من تحت العام، غیر أنّه کان مجملاً، لا ندری هل المطلوب ترک إکرامهما أو ترک الجمع بینهما فی الإکرام، بأنْ یکرم کلّ منهما فی ظرف ترک إکرام الآخر وبعبارة أُخری: هل التخصیص مطلق أو أحوالی؟

ومقتضی القاعدة فی مرحلة الکاشفیّة رفع الید عن حجیّة دلیل العام علی قدر قیام الحجّة علی خلافه، وهو إکرام کلّ واحد فی حال ترک إکرام الآخر، لأنّ حجیّة العام بالنسبة إلی زید وعمرو تامّة، لکنّ الأمر فی طرف التخصیص یدور بین خروجهما علی کلّ حالٍ أو مقیّداً بالمعیّة بینهما، فترفع الید بقدر الضرورة والقدر المتیقّن، فیتقیّد وجوب إکرام کلّ منهما بترک إکرام الآخر، أیْ لا یجمع

ص: 147


1- 1. المصدر.
2- 2. عوالی اللئالی 4 / 133.

بینهما فی الإکرام.

الثالث: التخییر الذی هو مقتضی المنکشف والمدلول. وتوضیحه: إن کلّ مجعول شرعی فهو یقتضی صرف القدرة فیه من أجل الإمتثال، فإن کانت القدرة علی أحد مجعولین _ کإنقاذ أحد الغریقین _ فقط، کان مقتضی ذات المجعول المشروط بالقدرة هو التخییر، لأن صرف القدرة فی کلٍ منهما یرفع موضوع الآخر. وهذا هو مقتضی القاعدة فی جمیع موارد التزاحم.

فهذه هی أقسام التخییر. وما نحن فیه لیس مورداً لشیء من الأقسام، فلا دلیل علی التخییر فی المقام، فالقول به ساقط.

تقریب العراقی

وقرّب المحقّق العراقی(1) القول بالتخییر هنا بأنّه من قبیل القسم الثانی، لأنّ إطلاق حدیث الرفع یشمل الطرفین، إلاّ أنّ المانع عن جریانه فی کلیهما هو حکم العقل بحرمة المخالفة القطعیّة، أمّا جریانه فی کلّ طرفٍ فی حال ترک الطرف الآخر فلا مانع منه، فیؤثّر المقتضی أثره، ویکون المکلّف مخیَّراً.

الجواب:

أجاب المیرزا فی الدورة الثانیة(2): بالفرق بین إقتضاء الدلیل اللّفظی

ص: 148


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 318 _ 319.
2- 2. أجود التقریرات 3 / 421.

والدلیل العقلی. ففی المثال کان المقتضی بحسب دلیل العام تامّاً، وکان المانع بالنسبة إلی الأکثر وهو التقیّد بالمعیّة بین زید وعمرو فی الإکرام فقط، فتقیّد العام. أمّا هنا، فالتقیید غیر ممکن، لعدم إمکان الإطلاق، لأنّ التقابل بین الإطلاق والتقیید تقابل العدم والملکة.

تقریب العراقی بوجه آخر

وقرّبه: بأنّه من قبیل القسم الثالث، إذ فی المقام ملاکان، أحدهما: ملاک الواقع والآخر مصلحة التسهیل، وحیث لا یمکن الجمع بین الملاکین، تتقدّر الضرورة بقدرها، برفع الید عن أحدهما فی ظرف حفظ الآخر، بعین ما ذکره فی مثال القسم الثالث.

وفیه:

إنّ ملاک التزاحم _ وهو وحدة القدرة _ غیر موجود هنا، لقدرة المکلّف علی الجمع بین الأمرین، بل ما نحن فیه من قبیل التعارض، إذ الحاکم لا یمکنه جعل التسهیل فی الطرفین معاً، فالمحذور فی مقام الجعل _ وهو جعل کلا الإطلاقین _ یستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیّة.

وأُجیب(1):

عمّا ذکره المیرزا فی الجواب عن التقریب الأوّل: بأنّ التقابل بین الإطلاق والتقیید تقابل التضاد لا العدم والملکة. علی أنّه لیس کلّما امتنع الملکة امتنع

ص: 149


1- 1. مصباح الأصول: 354 _ 355.

العدم، فالجهل فی حق الباری تعالی ممتنع والعلم واجب.

لکنّه جواب مبنائی.

التحقیق فی الجواب عنه

التحقیق

بل التحقیق فی الجواب عنه:

أمّا نقضاً: فبالإطلاق والتقیید فی باب الترتّب، حیث نقول هناک بضرورة إطلاق الأهم واستحالة إطلاق المهم، وإلاّ لزم طلب الضدّین.

وأمّا حلاًّ: فمن حیث الکبری نقول: إستحالة الملکة أو عدم الملکة:

تارةً: هی علی أثر عدم الشأنیّة، فالجدار یستحیل فیه البصر والعمی معاً.

وأُخری: هی إستحالة وقوعیّة، کما إذا امتنع العمی فی شخصٍ بالإمتناع الوقوعی، فإنّه لا یمتنع فیه البصر.

ومن حیث الصغری نقول: بأنّ الشأنیّة للملکة وعدمها _ أی الشرب وعدم الشرب فی المثال _ محفوظة، ولکن الإستحالة هی من جهة ترتّب الترخیص فی المعصیة علی الإطلاق، فالإستحالة وقوعیة، ولا ملازمة بین الإستحالة الوقوعیّة للإطلاق واستحالة التقیید.

فما ذکره المیرزا مردود نقضاً وحلاًّ.

الکلام علی التخییر

وأمّا الکلام علی التخییر فنقول:

ص: 150

قد أُجیب عنه: بأنّه کما أنّ الإطلاق یستلزم الترخیص فی المعصیة، کذلک التقیید. وقد ارتضاه السیّد الخوئی(1).

وأُجیب عنه بوجهین:

الأوّل: ما ذکره الشیخ الحائری(2) وحاصله: إنّه لا یعقل إطلاق الدلیل بالنسبة إلی حال فعل المتعلّق وترکه. أمّا بالنسبة إلی حال الفعل، فلأنّه بمجرّد کونه فاعلاً یخرج الفعل بالإمتثال عن تحت القدرة، وکذا بمجرّد المعصیة، وإذ یکون غیر مقدور یخرج عن تحت إطلاق الحکم. وبعبارة أُخری: لا یعقل حفظ الحکم فی صورة وجود وتحقّق متعلَّقه، لأنّه طلب للحاصل، وکذا إذا فرضنا أنّه معدوم بالترک، فمع فرض العدم یکون طلب الفعل طلباً للنقیضین.

أقول:

أمّا من حیث الکبری، فإن ما ذکره إنّما یتمّ فی الأفعال الآنیّة، إذ لا موضوع مع مضیّ الآن، وحینئذٍ لا معنی لإطلاق الأمر، أمّا قبل مضیّه، کان نفی إطلاق الأمر مستلزماً للقول بعدم کون الإتیان طاعةً والترک معصیةً، مع أنّ الإطاعة والمعصیة متقوّمان بالأمر، فلابدّ من الإطلاق.

وأمّا من حیث الصغری، فقد قال المحقّق الإصفهانی: بأن ما ذکره لا علاقة له بالبحث، إذ تکون الإباحة المشروطة بترک الطرف فعلیّةً بتحقّق شرطها وهو ترک الطرف، فإذا تحقّق الشرط جاء الإشکال وهو إباحة الإرتکاب، وهو ترخیص

ص: 151


1- 1. مصباح الأصول: 355.
2- 2. درر الفوائد: 504.

فی المخالفة القطعیّة.

ولعلّه یرید أن مع تحقّق الترکین یلزم الترخیص للطرفین فی حال الترک، والترخیص فی حال الترک غیر معقول، فیکون لِما ذکره ربط بالبحث.

ولکن یدفعه: أنّه لا مانع من أن یکون التارک لأحد الطرفین إلی الأبد مرخّصاً فی إرتکاب الآخر من أوّل الأمر. وهذا هو التخییر.

الثانی: ما ذکره المحقّق الإصفهانی(1) من أنّ الواجب المشروط لا ینقلب إلی المطلق بعد تحقّق شرطه، بل هو مشروط دائماً، فما دام الترک للطرف متحقّقاً یکون الترخیص فی هذا المشروط بترک الآخر متحقّقاً وإلاّ فلا، وحینئذٍ، لا یلزم الترخیص فی المخالفة القطعیّة أبداً. وبعبارة أُخری: إنّ الجمع بین الترخیصین _ إذ لکلّ طرف ترخیص مشروط بترک الآخر _ أمر، والترخیص فی الجمع، أی المخالفة القطعیّة، أمر آخر. فالإشکال علی التخییر مندفع.

التحقیق فی الجواب عن التخییر

إنّ الترخیصین المشروط کلٌّ منهما بترک الآخر لا یجتمعان مع الحکم الواقعی الموجود فی البین، لأنّ الإهمال فی حکم الحاکم غیر معقول، وإطلاق الإباحة کذلک، فیتعیّن التقیید، فیکون کلٌّ من الإباحتین الظّاهریتین مقیّداً بترک الآخر، وهذا معناه وجود الحکمین الظاهریین علی خلاف الحکم الواقعی المقطوع به، وهو حرمة شرب أحد الإناءین.

ص: 152


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 249.
کلام الشیخ الحائری ونقده

وأمّا ما ذکره الشیخ الحائری(1) من أنّ المانع عن التخییر أمران:

أحدهما: إنّ مقتضی أخبار احتجاج اللّه بالعلم وعدم السّعة فی العلم هو: عدم السعة فی أطراف العلم الإجمالی، لوجود العلم، فلا مورد لدلیل البراءة: (الناس فی سعة ما لا یعلمون) فی الشبهات المقرونة.

الثانی: إنّ أدلّة الأصول هی فی مقام جعل الترخیص فی مورد الشک من حیث أنّه شک، والأحکام الحیثیّة لا نظر لها إلی الحیثیّات الأُخری والعناوین الطارئة، فالغنم حلال من حیث أنّه غنم، ولا إطلاق لحلیّته لیکون حلالاً حتی مع حیثیّة الغصب مثلاً، وإلاّ یلزم التعارض بین دلیل الحلیّة ودلیل الغصب فی مورد الاجتماع، وهو الغنم المغصوب، وإذا تعارضا تساقطا، ویکون المرجع أصالة الحلّ، فلا حرمة للغنم المغصوب، وهذا ما لا یلتزم به أحد. إذنْ، لا إطلاق.

وعلی هذا، فإن حدیث الرفع یرفع ما لا یعلمون من حیث أنّه لا یعلم، فإذا وجدت حیثیّة الإقتران بالعلم لم یجر الحدیث، بل یجری دلیل هذه الحیثیّة، وهو ما دلّ علی لزوم إمتثال الحکم المعلوم.

ففیه:

أمّا الأمر الأوّل، فإنّ ما ذکره من المحذور یتم بناءً علی تنجیزیّة الحکم العقلی بوجوب الموافقة القطعیّة فی أطراف العلم. وأمّا بناءً علی تعلیقیّته، فإنّ أدلّة الترخیص فی إرتکاب بعض الأطراف تعییناً أو تخییراً ترفع موضوع حکم العقل،

ص: 153


1- 1. درر الفوائد: 459.

فلا محذور. والمسلک الثانی هو مختار الشیخ الحائری.

وأمّا الأمر الثانی، فیتم ما ذکره إن کانت أدلّة الأصول المرخّصة أحکاماً حیثیّةً، فنقول:

کلّ عنوان مأخوذ فی شیء من الأحکام، إمّا یکون مطلقاً وإمّا مقیّداً، لأنّ الإهمال غیر معقول، ف_«ما لا یعلم» المنقسم إلی الذی فی أطراف العلم والذی فی غیره، ویصدق علی کلیهما عقلاً وعرفاً بلا تفاوت، إمّا مطلق أو مقیّد.

علی أنّه لو کانت أدلّة الأصول حیثیّة، فإنّ الحکم الحیثی لا یأتی فی أطراف العلم، وحینئذٍ، لا موضوع للتعارض حتی یقال بسقوطها فی أطرافه بالتعارض ... لکنّه یقول بجریان الإستصحابین _ اللّذین لا سببیّة ومسبّبیّة بینهما _ وأنّه یلزم من ذلک المخالفة القطعیّة، فیتعارضان ویتساقطان ... فنقول: إنّ شمول أدلّة الأصول لأطراف العلم وسقوطها بالتعارض، دلیل علی عدم کونها حیثیّة، وإلاّ فلا معنی للشمول والتعارض.

ثمّ إنّه قیل: بأنّ الإشکال لیس فی إنتهاء التخییرین إلی المخالفة القطعیّة حتی یرتفع بما ذکره المحقّق الإصفهانی، بل فی الجمع بین الترخیصین، من جهة أنّه ترخیص فی المعصیة وهو قبیح من المولی.

وفیه: إنّ قبح الإذن فی المعصیة هو من جهة الإنتهاء إلیها قطعاً أو إحتمالاً، ومع عدم الإنتهاء مطلقاً، بل کون الإذن ملازماً دائماً لعدم تحقّق المعصیة فلا قبح ... کما لا یلزم التناقض فی حکم العقل. فلا إشکال من هذه الجهة.

ص: 154

تتمیمٌ وفیه أمران

الأوّل

ذکر فی مصباح الاصول فی مقدّمة مباحث الشک فی المکلّف به: «أنّ إحتمال التکلیف الإلزامی بنفسه مساوق لاحتمال العقاب علی مخالفته، ومعه کان العقل مستقلاًّ بلزوم التحرّز منه وتحصیل المؤمّن، وهذا هو الملاک فی حکم العقل بلزوم الإطاعة ... بلا حاجة إلی البحث عن منجّزیّة العلم الإجمالی ...»(1).

وفیه: إنّ موضوع إحتمال العقاب هو إستحقاق العقاب الذی موضوعه التکلیف الذی قام علیه البیان والحجّة، والمساوقة المذکورة مستحیلة، لاستحالة کون إحتمال العقاب بیاناً، وإلاّ لم تجر قاعدة قبح العقاب بلا بیان. وأمّا ثبوت المساوقة المذکورة فی الشبهة الحکمیّة قبل الفحص، فلأنّ وظیفة العبد هو الفحص، فلو ترکه لأخلّ بوظیفة العبودیّة، فالمساوقة من هذه الجهة.

فظهر أنّ إحتمال التکلیف إن کان مساوقاً لاستحقاق العقاب، لزم الإلتزام بکون إحتمال التکلیف بیاناً أو الإلتزام بکون نفس التکلیف _ لا قیام الحجّة علی التکلیف _ موجباً لاستحقاق العقاب. وکلاهما باطل.

إذن، لا مساوقة. فلابدّ من البحث عن منجّزیّة العلم الإجمالی.

الثانی

جاء فی حاشیة الکفایة للسیّد البروجردی(2) فی توضیح المتباینین والأقل والأکثر ما نصّه ملخّصاً:

ص: 155


1- 1. مصباح الاصول: 344 _ 345.
2- 2. الحاشیة علی کفایة الأصول 2 / 264.

المتباینان عبارة عن الشیئین الّذین یکون بینهما بینونة إمّا ذاتاً وماهیة، کما إذا کان أحدهما معنوناً بعنوان خاصّ غیر عنوان الآخر کصلوة الظهر والعصر مثلاً، فإنّ أحدهما معنون بعنوان الظهر والآخر بعنوان العصر، ومثل صلاة الظهر مع الجمعة، وإمّا بحسب الخصوصیّات الشخصیّة والمشخصات الفردیّة والوجودیة، وإن کانا طبیعة واحدة، مثل صلاة القصر والإتمام مثلاً، فإنّهما وإن کانا طبیعة واحدة، إلاّ أن کلاًّ منهما متخصّص بخصوصیّة مخصوصة لیست فی الآخر، وتوهم أنّ صلاة القصر والإتمام طبیعتان مختلفتان، مدفوع.

وأمّا الأقلّ والأکثر: عبارة عمّا یکون الأکثر محتویاً للأقل بحیث یکون الأکثر هو الأقلّ مع شیء زائد، ولم یکن الزائد مانعاً عن إنطباق عنوان المأمور به علی الأقلّ، فإنّه إن کان الزائد مانعاً عن الإنطباق یکون الإضافة بینهما تبایناً، فإنّ الأقلّ حینئذ باعتبار مانعیّة هذا الزائد یکون واجداً لما کان الأکثر فاقداً له وإن کان أمراً اعتباریّاً، وکذلک فی طرف الأکثر، فإنّه یکون واجداً لما یکون الأقل فاقداً له من الأجزاء الزائدة، مثل الصلاة مع السّورة وبدونها، فإنّها مع السّورة تکون محتویاً لسائر الأجزاء مع شی ء زائد وهی السّورة، ولا یکون السّورة مانعاً للأقل بحیث إن کان المأمور به هو الأقل وأتی المکلّف بالأکثر لا یبطل الأقل بل یکون صحیحاً. وما ذکرنا إنّما یکون لو خلّی وطبعه مع قطع النظر عن عروض مانع عن الصحّة، مثل أن یأتی بالسّورة بعنوان التشریع، إذا قلنا بأنّ مطلق التشریع فی العبادة مبطل لها.

ص: 156

تنبیهات دوران الأمر بین المتباینین

اشارة

ص: 157

ص: 158

التنبیه الأوّل: فی الأُصول الجاریة فی أطراف العلم

اشارة

إنّ الأصول الجاریة فی أطراف العلم قد تنفی التکلیف وقد تثبته.

والأصول النافیة، إمّا أنْ تکون من سنخٍ واحدٍ، کأن یکون الأصل الجاری فی الطرفین هو قاعدة الطّهارة. وإمّا لا تکون من سنخ واحدٍ، کأن یکون فی طرفٍ قاعدة الطّهارة وفی طرفٍ أصالة الحلّ.

مثال الأوّل: أن یکون هناک ماءان أحدهما نجس، فالأصل الجاری فی کلیهما قاعدة الطّهارة. فهما من سنخ واحد.

ومثال الثانی: أن یکون هناک علم إجمالی بنجاسة الماء أو کون الثوب غصباً، فالأصل الجاری فی الماء قاعدة الطّهارة، والجاری فی الثوب أصالة الحلّ.

ثمّ إن کانا من سنخٍ واحدٍ، فإمّا لا یکون لأحدهما أصل طولی، کما فی المثال المذکور. فهو خارج عن البحث. وإمّا یکون أحدهما مختصّاً بالأصل الطّولی دون الآخر، أو یکون لکلّ منهما أصل طولی.

توضیح ذلک: إنّ الأصول علی قسمین: طولیة وعرضیّة، العرضیّة ما عرفت،

ص: 159

والطولیّة هی التی لا یتحقّق لها الموضوع مع فرض وجود الأصل فی المرتبة السّابقة. مثلاً: لمّا وقع الشک فی طهارة أحد الماءین ونجاسته، فالأصل الجاری فی کلیهما هو قاعدة الطّهارة، ولکنّ بعد هذه القاعدة قاعدة أُخری، وهی أنّ کلّ واحدٍ منهما یشک فی حلیّة شربه وعدمها، إلاّ أنّ جریان قاعدة الطّهارة فی المرتبة السّابقة لا یدع مجالاً لجریان أصالة الحلّ فیهما، لأنّ الحلیّة والحرمة مسبّبان عن الطّهارة والنجاسة، ومع جریان قاعدة الطّهارة لا یبقی الشک حتی یکون موضوعاً لجریان أصالة الحلّ.

والحاصل: إنّ هنا ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: أنّ الأصلان من سنخ واحدٍ، ولأحدهما أصل طولی، کما إذا علم إجمالاً بوقوع نجاسة فی الماء أو علی الثوب، فإنّ الأصلین إمّا لا یجریان أو یسقطان بالمعارضة، لکنّ الکلام فی الأصل الطّولی الموجود فی طرف الماء، حیث یشکّ فی جواز شربه وعدم جوازه، فهل کما کان العلم الإجمالی منجّزاً فلم تجر القاعدتان فی الطرفین، یکون منجّزاً بالنسبة إلی الأصل الطّولی، بأنْ یمنع من جریان أصالة الإباحة للشرب، أوْ لا لکونه بلا معارض فیجوز الشرب؟ قولان.

ولا یخفی أنّ هذا البحث إنّما یطرح بناءً علی مسلک الإقتضاء، لأنّ مقتضی مسلک العلیّة هو التنجیز وإنْ کان الأصل بلا معارض.

قال المیرزا بالمنجّزیة وأنّه لا یجری الأصل الطّولی.

وقال السیّد الخوئی: بجریان الأصل.

ص: 160

رأی السیّد الخوئی

جاء فی مصباح الأصول(1): إنّ الملاک فی تنجیز العلم الإجمالی للتکلیف المعلوم بالإجمال هو تساقط الأصول فی أطراف العلم، فإذا کان الأصل الجاری فی الطرفین من سنخ واحدٍ کقاعدة الطّهارة، فلا مناص من القول بعدم شمول القاعدة لکلا طرفی الشّبهة، لأنّها إن جرت فی الطرفین، لزم الترخیص فی المعصیة، وإن جرت فی طرفٍ دون آخر، لزم الترجیح بلا مرجّح. ولذا لا تجری القاعدة فی الطرفین.

وأمّا الأصل الطّولی الخاص بأحدهما، فالملاک لعدم الجریان مفقود، إذْ لا یلزم من القول بجواز شرب الماء بأصالة الإباحة ترخیصٌ فی المعصیة، ولا یلزم منه الترجیح بلا مرجّح، لفرض أنْ لا طرف له.

وهکذا یکون المورد من صغریاتِ الرجوع إلی الأصل المحکوم بعد سقوط الأصل الحاکم، کما لو علم بنجاسة الماء فی زمانٍ وبطهارته فی زمان آخر وشک فی المتقدّم منهما، فإنّه بعد تساقط الإستصحابین _ أی إستصحاب عدم التقدّم فی هذا واستصحاب عدم التقدّم فی ذاک _ بالمعارضة، یکون الأصل المحکّم هو قاعدة الطّهارة.

قال شیخنا: وهذا الإستدلال قوی.

هذا، ولا یخفی أنّ قول السیّد الخوئی بجریان الأصل الطّولی مختصّ بما إذا کان مغایراً مع الأصل المتقدّم علیه فی الموءدی کما عرفت من المثال، أمّا لو کان

ص: 161


1- 1. مصباح الأصول: 357.

موافقاً له فی الموءدی، کما لو کان لأحد الطرفین حالة سابقة فی الطّهارة فتستصحب طهارته، فإنّ الإستصحاب یتعارض مع قاعدة الطّهارة فی الطرف الآخر ویتساقطان، فیکون الأصل الطّولی لمستصحب الطّهارة هو قاعدة الطّهارة، وحیث أنّ قاعدة الطّهارة توافق الإستصحاب فی الموءدی، فهو یقول بعدم الجریان. فالسیّد الخوئی مفصِّل.

رأی المیرزا

أمّا المیرزا، فهو یقول بعدم جریان الأصل الطّولی مطلقاً، واستدلّ علی ذلک بأنّه یلزم من جریان هذا الأصل عدم جریانه، وکلّ ما لزم من وجوده عدمه فهو محال.

توضیح ذلک:

لو علم إجمالاً بوقوع النجاسة إمّا فی الماء وإمّا فی الثوب، فالأصل العرضی هو قاعدة الطّهارة، وهو بالمعارضة یسقط، لما ذکر السیّد الخوئی: من أنّ جریانه فیهما یوجب الإذن فی المخالفة القطعیّة، وفی أحدهما المعیّن دون الآخر ترجیح بلا مرجّح، والمردّد لا موضوع له، فتصل النوبة إلی أصالة الإباحة، لکنّه لا یجری إلاّ بعد سقوط الأصل الحاکم _ وهو قاعدة الطّهارة _ فکان جریانه متوقّفاً علی سقوط الأصل الحاکم، وسقوطه متوقّف علی منجّزیّة العلم. فکان منشأ سقوط الأصل الحاکم هو تنجیز العلم الإجمالی.

لکنّ جریان الأصل الطّولی متوقّف علی تنجیز العلم الإجمالی بالنسبة إلی

ص: 162

الأصل السّابق علیه فی المرتبة، فلو لم ینجّزه یکون جاریاً، وإذا کان جاریاً، لم تصل النوبة إلی جریان الأصل الطّولی، لأنّه محکوم له وجریانه یتوقّف علی عدم جریان السّابق الحاکم.

فیلزم من جریان الأصل الطّولی عدم جریانه.

التحقیق:

قال شیخنا: والحق هو التفصیل بین ما إذا کانا متوافقین فی المؤدّی، فالحق معه. وإنْ کانا متغایرین فلا یتم برهانه.

توضیح ذلک:

إن کان فی أحد الطرفین إستصحاب الطّهارة وفی الآخر قاعدة الطّهارة، فالأصلان متوافقان فی المؤدّی، لأنّ المجعول فیهما هو الطّهارة، وإذا تساقطا جاء دور الأصل الطّولی للطرف الإستصحابی وهو قاعدة الطّهارة، وهذه القاعدة لا معارض لها. ولکنّ جریانها فیه یبتلی بإشکال المیرزا، لأنّ جریان القاعدة فی هذا الطرف الإستصحابی یجعل العلم الإجمالی بالنسبة إلیه بلا أثر، ویحکم بطهارته، وإذا حکم بطهارته حکم بجریان إستصحاب الطّهارة فیه، لأنّ المانع من جریانه کان هو العلم بالنجاسة، وقد سقط عن التأثیر، لکنّ العلم غیر ساقط عن التأثیر فیمنع من الطّهارة.

فإن قلت:

قد کان الإستصحاب معارَضاً بالقاعدة فسقط، ولکن الأصل الطّولی غیر معارض.

ص: 163

قلت:

لکنّ قاعدة الطّهارة تعارض الأصل الإستصحابی والأصل الطّولی له وهو قاعدة الطّهارة.

توضیح ذلک:

إنّ بین إستصحاب الطّهارة والأصل الطّولی سببیّة ومسبّبیّة، فالحکومة بینهما ثابتة، فمع الإستصحاب لا تجری القاعدة، لکنّ هذه النسبة بین الإستصحاب وقاعدة الطّهارة فی مقابله غیر موجودة، فلا حکومة بینهما، وعلیه فهما جاریان، فتکون القاعدة المقابلة معارضةً للإستصحاب وللقاعدة فی طولها، فجریان القاعدة الطولیّة یستلزم عدم تنجیز العلم، وعدم تنجیزه یستلزم جریان الإستصحاب، وجریانه یستلزم عدم جریان القاعدة الطولیّة.

فلزم من جریان القاعدة الطولیّة عدم جریانها.

وأمّا إن کان الأصل الطّولی مغایراً فی المؤدّی، فلا یجری برهان المیرزا.

توضیح ذلک:

لو علم بوقوع النجاسة إمّا فی الماء أو الثوب، فالأصلان المتقابلان من سنخ واحدٍ وهو قاعدة الطّهارة، وهما یتساقطان بالمعارضة، لکنّ الأصل الطّولی للماء وهو حلیّة شربه مخالف للأصل السّابق علیه فی المؤدّی وهو جارٍ.

ووجه جریان الأصل الطّولی فی هذا الفرض هو: إنّ الموضوع للأصل وهو الشک فی الحلیّة والحرمة محقَّق، فالمقتضی لجریان الأصل موجود، والمانع _ وهو المعارض _ مفقود، إذن، لا تنجیز للعلم الإجمالی بالنّسبة إلی الأصل الطّولی.

ص: 164

لا یقال:

إنّ جریان أصالة الإباحة معناه جواز شرب هذا الماء، ولازم جواز شربه هو طهارته، والحال أنّ الأصل فی طهارته قد سقط فی المرتبة السّابقة بالمعارضة.

لأنّا نقول:

إنّ مثبتات الأصول لیست بحجّةٍ، فقاعدة الحلّ لا تعرّض لها بالنسبة إلی الطّهارة، والتفکیک بین الأصول فی اللوازم والملزومات لیس بعزیز.

وعلی الجملة، فإنّه بالنسبة إلی طهارة هذا الماء یوجد المعارض، لتنجیز العلم، وبالنسبة إلی حلیّته لیس للعلم منجّزیّة، فأصالة الإباحة جاریة وإنْ لم تجر قاعدة الطّهارة.

هذا تمام الکلام مع المیرزا.

وأمّا السیّد الخوئی، فذهب(1) إلی أنّ الأصلین فی المرتبة السّابقة إنْ کانا من سنخ واحدٍ، وکان الأصل الطّولی مغایراً فی المؤدّی مع الأصل السّابق علیه، جری الأصل الطّولی. وإنْ لم یکن الأصلان السّابقان من سنخ واحدٍ، وکان الأصل الطّولی موافقاً مع السّابق علیه فی المؤدّی، لم یجر الأصل الطّولی بل یسقط بالمعارضة.

توضیح ذلک:

إن کان الأصلان من سنخ واحدٍ، _ کأنْ یعلم بوقوع النجاسة إمّا فی الماء أو الثوب، فالأصل فی الطرفین هو قاعدة الطّهارة، إلاّ أنّ للماء أصلاً فی الطول وهو حلیّته وإباحة شربه، وهذا الأصل یغایر الأصل السّابق علیه فی المؤدّی _ کان

ص: 165


1- 1. مصباح الأصول: 358.

الأصل الطّولی جاریاً، خلافاً للمیرزا _ القائل بعدم جریان الأصل الطّولی مطلقاً.

واستدلّ للجریان: بأنّ المدار فی تنجیز العلم الإجمالی هو تعارض الأصول، فکلّما تعارضت الأصول تنجّز العلم وإلاّ فلا. وملاک التعارض هو عدم الترجیح بلا مرجّح، وفیما نحن فیه حیث لا معارض لأصالة الإباحة _ بعد جریانها لوجود المقتضی _ فإنّ الترجیح مع المرجّح. ونتیجة ذلک: إنّه وإنْ لم یجز الوضوء بهذا الماء إلاّ أنّه یجوز شربه. ولهذا نظائر فی الفقه، ومن ذلک صورة توارد الحالتین علی الشیء مع الشک فی المتقدّم منهما.

وإنْ کان الأصلان من سنخین، وکان الأصل الطّولی موافقاً فی المؤدّی مع الأصل الجاری فی مرتبةٍ سابقةٍ علیه _ کما إذا علمنا بنجاسة أحد الماءین وغصبیّة الآخر، فإنّ الأصل الجاری فی محتمل النجاسة هو الطّهارة وفی محتمل الغصبیّة هو أصالة الحلّ، ومع سقوط الأصل السّابق فی محتمل النجاسة تصل النوبة إلی أصالة حلیّة شرب الماء _ کان العلم الإجمالی منجّزاً، لأنّ الأصلین الجاریین فی الطرفین وإن کانا مختلفین فی السنخ، إلاّ أنّ العلم الإجمالی بوجود الحرام فی البین مانع عن الرجوع إلی الأصل، بنفس الملاک، وهو أنّ الترخیص فی کلیهما ترخیص فی مخالفة التکلیف المعلوم بالإجمال، وفی أحدهما ترجیح بلا مرجّح.

توضیح ذلک:

إنّ الأصل الجاری فی طرف الغصب هو أصالة الحلّ، وفی طرف النجاسة أصالة الطّهارة ویترتّب علیها جواز الشرب، لکنّ العلم الإجمالی بوجود الحرام فی البین یمنع من جریانهما کما ذکرنا، فکما أنّ أصالة الطّهارة المترتّب علیها جواز

ص: 166

الشرب إذا انضمّت إلی أصالة الحلّ فی الطرف الآخر یلزم الترخیص فی المعصیة، کذلک أصالة الحلّ إذا انضمّت إلیها أصالة الحلّ فی الطرف الآخر، إذ لا فرق فی لزوم الترخیص فیها بین أن یکون الترخیص بلسان الحکم بالطّهارة المترتّب علیه حلیّة الشرب أو بلسان الحکم بالحلیّة فی أوّل الأمر.

وبعبارة أخری: یدور الأمر بین سقوط أصالة الإباحة فی محتمل الغصبیّة وسقوط أصالة الطّهارة وأصالة الإباحة فی محتمل النجاسة، وبما أنّه لا ترجیح فی البین، یسقط الجمیع لا محالة.

هذا تمام الکلام فیما لو کان لأحد الطرفین أصل فی الطول.

وأمّا لو کان لکلٍّ منهما أصل فی الطول، فلا کلام فی أنّهما یتعارضان کما یتعارض الأصلان السّابقان، ویسقطان بالمعارضة، کما لو علمنا بنجاسة أحد الماءین، فإنّ قاعدة الطّهارة فی الطرفین تسقط، لکنّ کلاًّ منهما له أصل طولی وهو أصالة الحلّ فإنّ لها الموضوع فی الطرفین، فتجری فی کلیهما، ویسقطان بالعلم الإجمالی.

ص: 167

التنبیه الثانی: هل یعتبر کون عنوان المعلوم بالإجمال معیّناً؟

اشارة

لا فرق فی منجّزیّة العلم الإجمالی بین أن یکون المعلوم بالإجمال عنواناً معیَّناً ذا حقیقة واحدة، کالعلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین، وبین أن یکون عنواناً مردّداً بین عنوانین مختلفی الحقیقة، کما فی العلم الإجمالی بنجاسة هذا الإناء أو غصبیّة ذاک، فیجب الإجتناب عن کلیهما.

وعن صاحب الحدائق(1): إعتبار کون الحکم المعلوم بالإجمال عنواناً معیَّناً غیر مردّد، فالعلم الإجمالی بتحقّق أحد العنوانین فی أحد الإناءین، لا یقتضی وجوب الموافقة القطعیّة ولا حرمة المخالفة القطعیّة.

دلیل قول صاحب الحدائق

وغایة ما یمکن أن یقال فی وجهه هو:

إنّ متعلَّق العلم فی هذه الصّورة یکون هو الجامع بین العنوانین، والجامع

ص: 168


1- 1. الحدائق الناضرة 1 / 517.

بین العنوانین لیس بحکم شرعیٍّ یجب الإمتثال له، فلا تأثیر لهذا العلم.

وفیه:

إن الحاکم فی باب تنجیز العلم الإجمالی هو العقل، وهو لا یری أیّ دخلٍ فی الخصوصیّة النوعیّة للخطاب فی تنجیز التکلیف وإستحقاق العقاب والثواب، فالعلم الإجمالی المذکور منجّز، ومخالفته تفویت للغرض الإلزامی للمولی، وعلیه السّیرة العقلائیّة.

وأمّا ما قیل فی الدفاع عنه: من أنّه مع التردّد لا یوجد العلم بخطابٍ جامعٍ بین العنوانین، لأنّ المعلوم فیه هو مفهوم الخطاب وهو غیر صالح للتنجّز.

ففیه: انّ المعلوم لیس مفهوم الخطاب، بل هو الحکم الشرعی الواقعی، أی الحرمة الموجودة فی البین، غیر أنّ الخصوصیّة مجهولة، وقد تقرّر أن لا دخل فی نظر العقل للخصوصیّة.

کلام المحقّق العراقی

وقال المحقّق العراقی:

«وأمّا توهّم عدم تأثیر العلم الإجمالی فی الفرض المزبور، بدعوی أنّ حرمة التصرّف فی الغصب إنّما هی من الآثار المترتّبة علی العلم بالغصبیّة، بحیث کان للعلم والإحراز دخل فی ترتّبها، لا أنّها من لوازم الغصب الواقعی، بشهادة بنائهم علی صحّة الوضوء والغسل بالماء المغصوب مع الجهل بالغصبیّة حین الوضوء. ومع عدم إحرازها لا أثر للعلم الإجمالی المزبور، إذْ لا یحدث من مثله العلم

ص: 169

بالتکلیف الفعلی علی کلّ تقدیر، لأنّ أحد الطرفین _ وهو مشکوک الغصبیّة _ لا تکلیف بالإجتناب عنه، والطرف الآخر _ وهی النجاسة _ یرجع الشک فیها إلی الشک البدوی.

فمدفوع، بمنع دخل العلم والإحراز فی موضوع الحرمة فی طرف الغصب، بل تمام الموضوع لها _ کما تقتضیه النصوص وکلمات الأصحاب _ إنّما هو الغصب الواقعی، علم به المکلّف أو جهل، غایة الأمر مع الجهل به یکون المکلّف معذوراً، کمغدوریّته فی شرب النجس مع الجهل بالموضوع أو الحکم لا عن تقصیر.

(قال) وبناؤهم علی صحّة العبادة مع الجهل بالغصبیّة _ ولو علی الإمتناع وتغلیب المفسدة _ إنّما هو من هذه الجهة، لاشتمال المأتی به حینئذٍ علی المصلحة وتأثیرها فی حسنه الفعلی ولو من حیث صدوره عن الفاعل، بعد عدم تأثیر المفسدة الغالبة مع المعذوریة بالجهل المزبور فی المبغوضیّة الفعلیّة. ولذلک لا یفرّقون فی الحکم بالصحّة والمعذوریّة من جهة العقوبة بین الجهل بالموضوع والجهل بالحکم لا عن تقصیر.

وحینئذٍ، فإذا لم یکن قصور فی العلم الإجمالی فی کشفه عن الإلزام المولوی المردّد فی البین، فلا محالة یؤثر فی التنجیز، ولازمه بحکم العقل هو الخروج عن عهدة التکلیف بترک التصرّف فی کلٍّ من الإناءین، وترتیب آثار کلّ من النجاسة والغصب علی کلّ منهما، تحصیلاً للموافقة القطعیّة لکلا الحکمین».

ص: 170

أقول:

لکنّ فی قوله: وبناؤهم علی صحّة العبادة ... بحثاً، لأنّه بناءً علی اعتبار قصد الأمر فی عبادیّة العبادة، لا یمکن _ بناءً علی الإمتناع _ الإتیان بالعمل بوجهٍ قربی، وبناءً علی اعتبار قصد الملاک، فإنّ الملاک المقرّب هو الذی یکون تامّاً فی مرحلة الغرضیّة، وبناءً علی الإمتناع تکون المصلحة مغلوبةً للمفسدة أو هما متساویان، فلا ملاک صالح للمقربیّة فی نظر العقل.

فظهر أنّه _ بناءً علی الإمتناع _ لا یکون العمل المأتی به مقرِّباً مع الجهل بالغصبیّة، علی المسلکین المذکورین، لعدم الأمر _ بناءً علی الإمتناع _ وکون الملاک مغلوباً، فلا یوجد المقرّب.

وأمّا ما ذکره عن الأصحاب، فإن تمّ الإجماع علیه فهو، وإلاّ فلا وجه له، إلاّ إذا کانت المسألة من الأصول وقلنا باعتبار الشهرة القائمة علی المسائل الأصلیّة المذکورة فی الکتب المعدّة لما تلقّاه الأصحاب من أقوال الأئمّة علیهم السّلام.

لکنّ هذا المبنی _ الذی اختاره السیّد البروجردی _ ممنوع.

وأمّا الحسن الفاعلی، فإنّه وإن کان موجوداً هنا، لکنّه لا یکون منشأً لصحّة العبادة. نعم، یوجب القرب للعبد إلی المولی.

ص: 171

التنبیه الثالث: فی المأتیّ به بناءً علی الموافقة الإحتمالیّة

إنّه بناءً علی وجوب الموافقة القطعیّة، لو اکتفی المکلّف بالموافقة الإحتمالیّة، فإمّا یکون المأتی به موافقاً للواقع أو مخالفاً له.

فإنْ کان مخالفاً للواقع، فالتکلیف موجود وإجزاء غیر المأمور به عن المأمور به محتاج إلی الدلیل، ومقتضی إطلاق دلیل الواجب واستصحاب بقاء التکلیف، والإشتغال بالواجب، هو عدم الإجتزاء.

وإنْ کان موافقاً للواقع المعلوم بالإجمال، فتارة: یکون الواجب توصّلیّاً وأخری: تعبّدیّاً. إن کان توصّلیّاً، فلا ریب فی سقوط الأمر، لحصول الغرض، وإنْ کان تعبّدیّاً، بنی الإجتزاء بهذه الموافقة الإحتمالیّة علی أنّه لا یعتبر فی العبادات الجزم بالنیّة کما قال به بعض، فیکون العمل صحیحاً.

وأمّا علی القول باعتبار الجزم بالنیّة، فالعبادة المأتی بها بداعی الأمر المحتمل غیر کافیة، وذلک:

لأنّ العمل المأتی به کان عن إحتمال الأمر لا عن الأمر، والعمل العبادی

ص: 172

یشترط أن یکون المحرّک له والإنبعاث إلیه أمر المولی لا إحتمال الأمر منه.

ویجاب عن هذا الدلیل بالنقض والحلّ.

أمّا نقضاً: فبأنّه إذا حصل العلم بالأمر، فالمحرّک هو العلم به لا الأمر نفسه، لأنّ الأمر بقطع النظر عن الصّورة الذهنیّة المتعلّقة به غیر مؤثّر فی الإرادة، فلو کان الإنبعاث مع إحتمال الأمر من غیر الأمر، ففی صورة العلم بالأمر یکون الإنبعاث من غیر الأمر کذلک.

وأمّا حلاًّ، فبأنّ المعتبر فی عبادیّة العمل الإتیان به مضافاً إلی المولی، والإضافة إلیه بالأمر الإحتمالی أولی بالمقربیّة من الأمر الجزمی، ودلالته علی الانقیاد للمولی أشدّ وأقوی.

وعلی ما ذکر، فلابدّ من القول بکفایة الإتیان بالعمل بداعی الأمر الإحتمالی لتحقّق الإمتثال وسقوط التکلیف.

ص: 173

التنبیه الرّابع: فیما لو کان بعض الأطراف خارجاً عن الإبتلاء

اشارة

إنّه قد یکون بعض الأطراف خارجاً عن محلّ الإبتلاء أو مضطرّاً إلیه أو قام علیه الأصل المثبت للتکلیف أو الأمارة.

فإنْ کان العلم الإجمالی مقارناً لأحد هذه الأمور أو متأخّراً عنه، سقط العلم عن التأثیر. فلو دار أمر النجاسة بین أحد الإناءین، وخرج أحدهما عن الإبتلاء أو اضطرّ إلیه أو قامت علیه الأمارة أو جری فیه إستصحاب النجاسة، ثمّ حصل العلم الإجمالی بنجاسة أحدهما، جری الأصل النافی للتکلیف فی الطرف الباقی بلا معارض.

هکذا قالوا.

ولکنّ تنجیز العلم وعدمه فرع علی حصول العلم وتحقّقه، هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّ قوام العلم الإجمالی هو القضیّة المنفصلة، بأنْ یقال مثلاً: إمّا هذا نجس وإمّا ذاک، فهذا التردید قوام العلم الإجمالی، وإذا لم یکن فی موردٍ فلا علم إجمالی.

ص: 174

وعلی هذا، فإنّ الخارج عن محلّ الإبتلاء _ مثلاً _ لا یتعلّق به التکلیف. أی: لا إنشاء من الشارع بداعی جعل الداعی أو الزاجر، بالنسبة إلیه، فلا یتعلّق التکلیف بما هو خارج عن محلّ الإبتلاء. وحینئذٍ، فأصل تحقّق العلم الإجمالی والقضیّة المنفصلة أوّل الکلام، ولا تصل النوبة للبحث عن التنجیز وعدمه.

هذا فیما لو کان العلم الإجمالی مقارناً أو متأخّراً.

أمّا لو تقدّم تحقّق العلم وحصل التعارض بین الأصول وانکشف کون أحد الأطراف خارجاً عن محلّ الإبتلاء أو مضطرّاً إلیه أو مورداً للأصل أو الأمارة، فهل یسقط العلم الإجمالی عن التأثیر بقاءً، أو یبقی مؤثّراً فی تعارض الأصول؟

إنّ الأمر یعود إلی أنّه: هل حدوث العلم الإجمالی کافٍ فی منجّزیّته فیؤثّر أثره وإنْ زال العلم أو سقط عن المنجّزیّة بقاءً؟

التحقیق:

إنّ التنجیز یدور مدار المنجِّز حدوثاً وبقاءً. وتفصیل المسألة هو:

إنْ کان العلم زائلاً بقاءً ولکنّه بالنظر إلی السّابق محفوظ، کان منجّزاً، ولا مجال لجریان الأصل.

مثلاً: لو علم إجمالاً بوجوب القصر أو التمام، فأتی بأحد الطّرفین، فالقضیّة المنفصلة بعد الإتیان بأحد الطرفین منقضیةٌ ولا علم إجمالی بقاءً، ولکنْ أثر العلم الحادث من قبل یبقی ویؤثّر، ویجب الإتیان بالطرف الآخر أیضاً.

وحاصل ذلک: کفایة العلم الإجمالی بحدوثه للتنجیز وإنْ زال بقاءً.

ص: 175

وإنْ کان العلم الذی حَدث زائلاً فی ذلک الوقت _ لابقاءً _ کما لو علم بالتکلیف فی أحد الطرفین باعتقاد کونهما مورداً للإبتلاء، مع خروج أحدهما فی الواقع عن ذلک، ففی مثل هذه الصّورة لا أثر للعلم بقاءً.

ص: 176

التنبیه الخامس: فیما لو کان لأحد الطرفین أثر زائد

لو حصل العلم الإجمالی، وکان فی أحد الطرفین أثر زائد علی القدر المشترک بینهما، فإمّا یکون الموضوع واحداً أو یتعدّد.

إن کان الموضوع واحداً غیر أنّ السبب مردّد بین أمرین، والحاصل من السّبب مردّد بین الأقلّ والأکثر، فتارة: یوجد الأصل الحاکم، وأخری: لا.

فإن لم یکن فی البین أصل حاکم، کما لو علم إجمالاً بإشتغال ذمّته لزید بمالٍ قد أتلفه علیه أو استقرضه منه، غیر أنّه لا یدری هل هو مائة أو مائتین؟ فالقاعدة الجاریة هی إستصحاب عدم إشتغال الذمّة بالأکثر.

وإنْ کان فی البین أصل حاکم، کما لو أصابت الثوب قطرة من النجاسة وتردّدت بین البول والدم، فإنْ کانت القطرة دماً، کَفَت الغسلة الواحدة، وإنْ کانت بولاً وجب الغسلتان، ففی مثل هذا لا یتمسّک بعد الغسلة الأولی بالأصل النافی للتکلیف الزائد، لوجود الأصل الحاکم وهو إستصحاب بقاء النجاسة، فتجب الغسلة الثانیة.

ص: 177

فظهر أنّ التمسّک بالأصل النافی للأثر الزائد _ عند دوران أمر المسبّب بین الأقلّ والأکثر _ إنّما یجوز حیث لا یوجد الأصل الحاکم.

هذا کلّه فی فرض وحدة الموضوع.

وإن کان الموضوع متعدّداً، کما لو کان عندنا ماءان، أحدهما مطلق والآخر مضاف، ووقعت النجاسة فی أحدهما، فهنا أثر زائد فی طرف المطلق، لأنّه _ بالإضافة إلی حرمة الشرب _ لا یجوز التوضّؤ به، فهل یمکن نفی الأثر الزائد بالأصل؟ قولان.

والمختار العدم، لأنّ جواز التوضّئ بالماء المطلق لابدّ وأنْ یستند إلی الحجّة الشرعیّة علی طهارته، ومع العلم بوقوع القطرة فی أحد الإناءین، تکون قاعدة الطّهارة متعارضةً، وإذا تساقطا، کان الماء المطلق محتمل النجاسة، والماء المحتملة نجاسته لا یجوز التوضّؤ به.

ص: 178

التنبیه السادس: فیما لو کان متعلَّق العلم تدریجیّاً

اشارة

هل العلم الإجمالی منجّز للواقع إذا تعلَّق بالأُمور التدریجیّة، بأن یکون ظرف أحد الطرفین _ مثلاً _ متأخّراً ولا یمکن تقدیمه، لعدم قدرة المکلّف علی الإتیان به فعلاً، لتقیّده بالزمان المتأخّر، کما هو منجّز إذا تعلّق بالأُمور الدفعیّة، أوْ لیس بمنجّز؟ وجوه:

1_ التنجیز مطلقاً. وعلیه المحقّقون المیرزا والإصفهانی والعراقی، علی اختلاف مسالکهم.

2_ عدم التنجیز مطلقاً.

3_ التفصیل. وعلیه الشیخ وصاحب الکفایة. وهل یرجع کلامهما إلی المطلب الواحد أوْ لا؟

ولابدّ قبل الورود فی البحث من ذکر أمرین:

(الأوّل) إنّ مورد البحث هو حیث لا منجّز إلاّ العلم الإجمالی.

وأمّا ما یکون فیه منجّز فخارج عن محلّ الکلام، کالشّبهة الحکمیّة قبل

ص: 179

الفحص، حیث أنّ نفس إحتمال التکلیف منجّز، وعلی هذا، فإنّ مقتضی الأصل التکلیفی فی کلّ معاملة إحتمل کونها ربویّة هو لزوم الإحتیاط ولا تجری فیها أصالة الإباحة. وأمّا وضعاً، فلا مجال للشک بعموم « أوْفُوا بِالْعُقُود » لأنّه مخصّص بأدلّة حرمة الرّبا، فیکون تمسّکاً بالعام فی الشّبهة الموضوعیّة لمخصّصه وهو غیر جائز، ومن قال بجوازه إنّما یقول به بعد الفحص لا قبله کما هو المفروض، فالمرجع وضعاً أصالة الفساد علی کلا القولین.

لکن التحقیق عدم جواز الرجوع إلی أصالة الفساد، لأنّ أصالة الفساد معناها عدم تحقّق المبادلة بین المالین وبقاء کلّ منهما علی ملک صاحبه، وکما أنّ جریان سائر الاصول فی الشّبهة الحکمیّة مشروط بالفحص، کذلک الإستصحاب. فالمعاملة إن کانت ربویّةً حرم ترتیب الأثر علیها، وإلاّ وجب تسلیم المال، وإجراء إستصحاب عدم النقل یتوقّف علی وجود المؤمّن، لاحتمال عدم کونها ربویّة فی الواقع فیجب التسلیم ... إذن، لا مانع من الرجوع إلی أصالة الفساد فی الشّبهة الحکمیّة بعد الفحص، وأمّا قبله فلا، بل لابدّ من التوقّف، بمعنی ترک کلٍّ من المتعاملین التصرّف فیما بیده وعدم ترتیب آثار المالکیّة علیه حتی یتبیّن الأمر، فلابدّ من الإحتیاط إلاّ أنْ یتصالحا أو یرجع إلی القرعة.

(الأمر الثانی) الوجوه المحتملة للظرف المتأخّر ثبوتاً أربعة:

أحدها: أنْ یکون دخیلاً فی الملاک والخطاب. والثانی: أنْ یکون دخیلاً فی الملاک دون الخطاب، والثالث عکس الثانی، والرابع: أنْ لا یکون له دخل مطلقاً.

مثال دخله فی کلیهما: زوال الشمس، فإنّه دخیل فی ملاک صلاة الظهر

ص: 180

ووجوبها، وأمّا قبله، فلا تکلیف بها لا ملاکاً ولا خطاباً.

ومثال عدم دخله فی کلیهما: ما إذا نذر التصدّق یوم الجمعة، فإنّه لا دخل لیوم الجمعة، لا فی مطلوبیة الصدقة ولا فی الخطاب بناءً علی إمکان الواجب المعلّق. فیکون الوجوب فعلیّاً والواجب یوم الجمعة.

ومثال دخله فی الملاک دون الخطاب: دخل أیّام المناسک فی ملاک الحج، مع أنّ الوجوب ثابت قبلها. بناءً علی الواجب المعلّق.

ومثال دخله فی الخطاب دون الملاک: النذر بناءً علی إنکار الواجب المعلّق، فإنّ یوم الجمعة غیر دخیل فی الملاک ودخیل فی الخطاب بالوفاء بالنذر.

أقول:

هذه هی الوجوه المحتملة کما ذکروا. ولکنّا لا نتعقّل عدم دخل الزمان المتأخّر فی الوجوب، بأن یکون الحکم مطلقاً بالإضافة إلیه، وذلک، لأنّ معنی إطلاق الشیء بالنسبة إلی آخر عدم دخله فیه لا وجوداً ولا عدماً، بأن یلحظ وجوده وعدمه بالنسبة إلیه ویرفضا، فهل یمکن لحاظ الوجوب الآن من غیر دخلٍ لوجود یوم الجمعة وعدمه بالإضافة إلیه؟ هذا غیر معقول، بل هو مقیّد ومشروط به. ومن هنا یظهر: أنّ الواجب المعلّق یرجع إلی واجبٍ مشروطٍ بشرطٍ متأخّر وهو الزمان.

وسواء قلنا بأنّ الزمان المتأخّر شرط للوجوب الفعلی أو لم نقل، فإنّ ظاهر قوله تعالی « وَلِلّهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَن اسْتَطَاعَ إلَیْهِ سَبِیلاَ »(1) یوافق الوجوب

ص: 181


1- 1. سورة آل عمران، الآیة 97.

الفعلی، مع کون الواجب إستقبالیّاً، لأن موضوع وجوب الحج فیها هو «من استطاع»، فإذا تحقّقت الإستطاعة ثبت الوجوب، لکن الواجب هو المناسک فی شهر ذیالحجّة ... فبناءً علی الواجب المعلّق، یکون الوجوب فیها فعلیّاً لکن ظرف الواجب متأخّر، إلاّ أنّ هذا الوجوب مشروط عندنا بمجیء أیّام الحجّ، لإستحالة الإطلاق کما ذکرنا.

فظهر أنّ کلام المیرزا فی التقسیم مخدوش من جهتین:

إحداهما: تصویره عدم دخل الزمان المتأخّر فی الخطاب، لما ذکرناه من أنّه دخیل فیه بنحو الشرط المتأخّر.

والثانیة: تفریقه بین ما إذا لم یکن للزمان دخل مطلقاً مثل حرمة الکذب والغیبة فی الزمان اللاّحق، بل هو ظرف الوقوع فقط حیث إختار المکلّف إیقاعه فیه، وبین ما إذا کان دخیلاً فی الخطاب دون الملاک، کمثال النذر والحلف، حیث أنّ التکلیف یتبع ما أخذه الناذر والحالف فی الموضوع.

فإنّه کما أنّ الزمان اللاّحق ظرف للإمتثال، أی إمتثال الحکم بحرمة الغیبة، فی القسم الأوّل، کذلک هو ظرف إمتثال الوفاء بالنذر فی القسم الثانی، فلا وجه للتفریق.

وبعد، فإنّ البحث فی هذا التنبیه یقع فی مقامین:

الأوّل: فی تنجیز العلم وعدم تنجیزه.

والثانی: فی المرجع بناءً علی عدم التنجیز مطلقاً أو فی بعض الأقسام.

ص: 182

المقام الأوّل

دلیل القول بالتفصیل

قال الشیخ(1): لو نسیت المرأة المضطربة وقت عادتها وحفظت عدد الأیام، بأنْ تعلم إجمالاً بأنّها تحیض فی الشهر ثلاثة أیّام، فهل یجب علیها تروک الحائض فی تمام الشهر؟

ولو علم التاجر بابتلائه فی هذا الشهر بمعاملة ربویّة، فهل یجب علیه الإمساک عن کلّ معاملة لا یعرف حکمها فی هذا الشهر؟

قال الشیخ _ بعد ذکر المثالین _ «التحقیق أن یقال: إنّه لا فرق بین الموجودات فعلاً والموجودات تدریجاً فی وجوب الإجتناب عن الحرام المردّد بینها إذا کان الإبتلاء دفعةً وعدمه، لاتّحاد المناط فی وجوب الإجتناب.

قال: نعم، قد یمنع الإبتلاء دفعةً فی التدریجیّات کما فی مثال الحیض، فإنّ تنجّز تکلیف الزوج بترک وطئ الحائض قبل زمان حیضها ممنوع، فإنّ قول الشارع « فَاعْتَزلُوا النِّسَاء فِی الْمَحِیضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّی یَطْهُرْن »(2) ظاهر فی وجوب الکفّ عند الإبتلاء بالحائض، إذ الترک قبل الإبتلاء حاصل بنفس عدم الإبتلاء، فلا یطلب فهذا الخطاب کما أنّه مختصّ بذوی الأزواج ولا یشمل العزّاب إلاّ علی وجه التعلیق، فکذلک من لم یبتل بالمرأة الحائض.

قال: ویشکل الفرق بین هذا وبین ما إذا نذر أو حلف فی ترک الوطی فی لیلة

ص: 183


1- 1. فرائد الأصول 2 / 248.
2- 2. سورة البقرة، الآیة 222.

خاصّة، ثمّ اشتبهت بین لیلتین أو أزید ولکنّ الأظهر هنا وجوب الإحتیاط، وکذا فی المثال الثانی من المثالین المتقدّمین»(1).

أقول:

وحاصل کلامه: إنّ المؤثر هو العلم بالتکلیف المنجَّز دون المعلَّق، وأنّ ملاک التنجّز والتعلیق هو الإبتلاء وعدمه.

والمستفاد من کلامه فی التنبیه الذی خصّه بالبحث عمّا إذا خرج بعض الأطراف عن الإبتلاء: أنّ ملاک الخروج عنه کون المکلَّف أجنبیّاً عن الطرف الخارج عادة.

فیرد علیه: أنّه إن کان المراد الأجنبیّة بالمرّة، ففی مثال الحیض _ حیث قال فیه بعدم التنجیز _ لیس المکلَّف أجنبیّاً بالمرّة، بل هو أجنبی بالفعل. وإنْ کان المراد کونه أجنبیّاً بالفعل، فما الفارق بین الحیض والمعاملة الربویّة إذا تأخّر موضوعها؟

هذا، وقد فرّق المحقّق الخراسانی بین المثالین، بتحقّق موضوع التکلیف وعدمه، بأنّ التکلیف فی مثال الحیض معلّق علی تحقّق موضوعه، وإذا کان معلّقاً کان العلم غیر مؤثر، لعدم کونه منجَّزاً علی کلّ تقدیر. بخلاف مثال النذر، فإنّ موضوعه متحقّق، فالعلم منجّز والتکلیف فعلی وإنْ کان ظرف وقوعه مردّداً بین الزمان الحاضر والزمان اللاّحق.

وعلی هذا مشی فی الکفایة فقال(2): بأنّه إذا کان التکلیف منجّزاً فهو فعلی،

ص: 184


1- 1. فرائد الأصول 2 / 248 _ 249.
2- 2. کفایة الأصول: 360.

وإنْ کان معلَّقاً فلا فعلیّة. وأنّه جعل الملاک بناءً علی الواجب المعلَّق _ وهو قائل به _ تعلیق الوجوب وعدم تعلیقه، فإن کان معلّقاً فالعلم غیر مؤثر وإلاّ فهو مؤثر.

أقول:

ما الفرق بین المعاملة الربویّة والحیض؟ إن کان الفارق کون التکلیف فی المعاملة فعلیّاً وإنّ ظرف وقوعها متأخّر، فإنّه لا یتم فیما إذا لم یتحقّق موضوع المعاملة الربویّة _ وهو المکیل والموزون _ إلاّ فی الظرف المتأخّر، فإنّه یکون حینئذٍ کالحیض، فکما لا یحرم علی المرأة دخول المسجد الآن، کذلک لا تحرم هذه المعاملة الآن، لأنّ کلیهما فی عدم تحقّق الشّرط سواء. فلا فرق.

وقال المیرزا فی بیان الفرق(1):

إنّ وجه عدم الإحتیاط فی الحیض عدم الملاک والخطاب الآن، من جهة أنّ الزمان المتأخّر فی الحیض قید لکلا الأمرین، بخلاف المعاملة الربویّة، فإنّ الخطاب والملاک فیها فعلیّان، لأنّ حرمة الربا _ مثل حرمة الکذب _ لا حالة منتظرة لا للملاک ولا للخطاب فیها. وأمّا النذر فهو یتبع کیفیّة وقوعه، فإن کان الناذر قد نذر القیام بالعمل المنذور فی الزمان اللاّحق، فالخطاب بوجوب الوفاء یتوجّه إلیه فی ذلک الزمان، فهو معلّق علی مجیئه، لکن ملاک وجوب الوفاء به تام الآن.

أقول:

إنّه کما أنّ الأمر بالوفاء قضیّة حقیقیّة تنحلّ بحسب کیفیّات نذر الناذر، وأنّه یتحقّق وجوب الوفاء فی الوقت الذی عیّنه الناذر، کذلک دلیل حرمة الرّبا، فإنّه

ص: 185


1- 1. أجود التقریرات 3 / 468.

قضیّة حقیقیّة منحلّة بحسب وقوع المعاملة الربویّة، فإنّها قد تقع الآن وقد تقع فی الغد، فما کان منها یتحقّق موضوعه فی الغد، کیف یکون حکمه _ وهو الحرمة _ متحقّقاً الآن؟ وما الفارق بین المعاملة والنذر؟

والعجب من المیرزا یقول: بأنّ تأخّر الإبتلاء بالرّبا هو باختیار المکلّف، بخلاف النذر، مع أنّ محلّ الکلام هو الأُمور التدریجیّة التی لا یمکن تقدیم الطرف المتأخّر تحقّقه.

فالحاصل، عدم تمامیّة ما ذکر فی بیان الفرق بین المعاملة الربویّة والنذر، کالّذی ذکره للفرق بین المعاملة والحیض.

وعلی الجملة، فإنّ محلّ الکلام هو ما إذا تعلّق العلم بالتکلیف المردّد بین أمرین تدریجیین فی الوجود غیر مجتمعین فی زمانٍ واحد، بأنْ یکون موضوع أحدهما متحقّقاً الآن وأنّ موضوع الآخر سیتحقّق غداً مثلاً، فهل یوجب تنجیزه فی کلیهما أوْ لا؟

إنّ المعاملة الربویّة _ وإنْ لم یکن للزمان دخل فی ملاک حرمتها _ إلاّ أنّ موضوعها متحقّق تارة وغیر متحقّق أُخری، والحیض کذلک، فإنّه لا دخل للزمان فیه، لأنّ الموضوع نفس الحیض _ نعم، هو زمانی لابدّ وأن یقع فی الزمان _ وهو قد یتحقّق وقد لا یتحقّق. فلا فرق.

هذا ما یتعلّق بالقول بالتفصیل الذی علیه الشیخ وصاحب الکفایة قدّس سرّهما، فهما یقولان بدوران أمر منجّزیّة العلم مدار تحقّق الموضوع، فإن کان تحقّقه فی الزمان اللاّحق، فلا منجّزیّة، وإن تحقّق فعلاً، فهو منجّز.

ص: 186

غیر أنّ الشیخ قیّد متعلّق التکلیف بکونه مورداً للإبتلاء، فجعل منه المعاملة والنذر، دون الحیض. والمحقّق الخراسانی قال بأنّ العمدة فعلیّة التکلیف وعدم فعلیّته.

دلیل القول بالتنجیز مطلقاً
اشارة

وذهب المحقّقون المیرزا والعراقی والإصفهانی إلی التنجیز مطلقاً، واختلفت مسالکهم فی بیان ذلک.

بیان المیرزا:

فقال المیرزا(1): بتنجیز العلم فی الحیض والمعاملة والنذر، أمّا فیما لا دخل للزمان فیه، لا ملاکاً ولا خطاباً کالمعاملة الربویّة، فلفعلیّة الحکم. وأمّا فیما لا دخل له فی الملاک، لکنّه دخیل فی الخطاب کالنذر _ بناءً علی نفی الواجب المعلّق کما هو مختاره _ وفیما له دخل فی الملاک دون الخطاب کالحیض، فلحکم العقل بلزوم حفظ غرض المولی وإستحقاق العقاب علی مخالفة الحکم، لاستلزامها تفویت الغرض. وبعبارة أُخری: إنّ المدار هو غرض المولی، فمتی علم بالتکلیف منه، لزم إمتثاله وحفظ الغرض من التکلیف، من غیر فرقٍ بین ما کان منه فعلیّاً بتحقّق موضوعه، أو یکون کذلک بتحقّق موضوعه فی الزمان اللاّحق.

قال الأُستاذ:

وهذا هو الحق الحقیق بالقبول فی المقام.

ص: 187


1- 1. أجود التقریرات 3 / 466 _ 467.
بیان العراقی:

وقال المحقّق العراقی(1) بإمکان الواجب المشروط _ کالواجب المطلق والواجب المعلّق _ وبرهانه علی ذلک هو:

إنّ الإرادة تدور مدار الصّورة الذهنیّة للمراد، والصّورة تتحقّق فی النفس من الخارج، سواء کان الخارج موجوداً أوْ لا. مثلاً: إرادة البعث نحو صلاة الظهر تحصل بفرض وجود الشرط وهو الزوال، فمتی فرض الزوال وجدت الإرادة من غیر تأثیر للزوال الخارجی، لا وجوداً ولا عدماً، سوی أنّ الوجود الخارجی للشرط ظرف لفاعلیّة تلک الإرادة وتحریکها نحو المبعوث إلیه، ولا ضیر ولا منافاة لذلک مع فعلیّة الإرادة، لأن مدلول الخطاب عبارة عن نفس الإرادة المبرزة به، وهذه الإرادة معلولة للوجود الفرضی للشرط.

وعلی هذا الأساس، یکون الحکم فی الأُمور التدریجیّة فعلیّاً علی کلّ تقدیر. نعم، حیث یکون الواجب إستقبالیّاً تکون فاعلیّة الإرادة فی المستقبل من جهة تأخّر ظرف الفعل، فالعلم الإجمالی منجّز، خلافاً للشیخ القائل بعدم کونه منجّزاً فی الواجب المشروط.

وفیه:

إنّه یقول بأنّ الحکم هو الإرادة.

ولکن الإرادة من الأُمور الخارجیّة الواقعیّة والحکم من الأُمور الإعتباریّة.

وإنّه یقول بوجود الإرادة قبل تحقّق الشرط لها، بالوجود الفرضی للشرط.

ص: 188


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 325.

ولکنّ فرض وجود الشرط یجتمع مع عدم الشرط، وحیث یری عدم الشرط کیف تتحقّق منه الإرادة الفعلیّة؟

إنّ الإرادة تنشأ من الغرض، وحیث یکون الغرض معلَّقاً علی أمرٍ غیر محقّق لا یتحقّق الغرض، ومع عدمه لا إرادة. مثلاً: الغرض من شرب الماء إرتفاع العطش، وحیث یوجد العطش یرید شرب الماء، وأمّا مع عدمه الآن فلا إرادة للشرب الآن، فإن علم بتحقّق العطش فیمابعد، لم یعقل تحقّق الإرادة الآن للشرب الذی سیحصل عند العطش.

هذا، علی أنّ الصّورة الذهنیّة للشرط لابدّ وأنْ تکون مطابقةً للوجود الخارجی للشرط وإلاّ فلا یؤثر، والمطابقة لا تکون إلاّ مع التحقّق الخارجی، وأمّا قبله فهی صورة خیالیّة. وعلیه، فإنّ الإرادة للمشروط لا تتحقّق إلاّ عند تحقّق الوجود الخارجی للشرط، ولا أثر للوجود الفرضی للشرط فی تحقّق الصّورة الذهنیّة له.

بیان الإصفهانی:

أنکر المحقّق الإصفهانی الواجب المعلّق والواجب المشروط کلیهما. فقال(1) رحمه اللّه ما حاصله:

إنّ عدم فعلیّة التکلیف:

إمّا لعدم فعلیّة موضوعه، کعدم فعلیّة أحکام الحائض بعدم فعلیّة کونها حائضاً،

ص: 189


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 250.

أو لعدم حصول قید الواجب أو الوجوب، کالأوقات الخاصّة فی الصّلوات الیومیّة وشهر رمضان للصّیام،

أو لعدم تحقّق ظرف الواجب، کعدم اللّیلة المستقبلة المحلوف ترک الوطی فیها، فهی لیست دخیلةً فی مصلحة وجوب الوفاء بالحلف، وإنّما هی ظرف.

فالحکم فی هذه الموارد غیر فعلی، إلاّ أنّ وجه عدم الفعلیّة مختلف.

ثمّ وجّه ما ذهب إلیه الشیخ من إنکار الواجب المعلّق بقوله:

فمن ینکر الواجب المعلّق کشیخنا العلاّمة الأنصاری فبملاحظة أنّ المصلحة الباعثة علی إرادة الفعل إمّا قائمة به لا علی تقدیر، فالإرادة فعلیّة متعلّقة بأمر لا علی تقدیر، فلها الباعثیّة علی إیجاد الفعل فعلاً. وإمّا قائمة به علی تقدیر، فالإرادة المنبعثة عنها إرادة فعلیّة متعلّقة بأمرٍ علی تقدیر، فلا باعثیّة لها إلاّ مع فرض حصول ذلک التقدیر، ولا ثالث للإرادتین حتی یسمّی وجوباً معلّقاً. فعلیه، یکون مثال الحیض عنده من التکلیف المشروط، بخلاف مثالی الحلف والمعاملة الربویّة، فإنّه لیس الزمان شرطاً لا للتکلیف ولا للمکلَّف به، فالإرادة فیهما فعلیّة لا علی تقدیر. فیصحّ علی هذا المبنی دعوی الشیخ الأجلّ جریان البراءة فی مثال الحیض، لدوران الأمر بین المطلق والمشروط الذی لا باعثیّة له بالفعل، وجریان الإحتیاط فی مثالی الحلف والمعاملة الربویّة، لأن التکلیف فی کلٍّ من الطرفین لا قید له وجوباً وواجباً، فالحکم فعلیّ لا علی تقدیر، ولها الباعثیّة بالفعل.

ثمّ قال:

إنّه بناءً علی ما ذکرنا فی مبحث الواجب المعلّق من أنّ البعث _ وهو الإنشاء

ص: 190

بداعی جعل الداعی _ والإنبعاث متلازمان متضائفان، وهما متکافئان فی الضرورة والإمتناع، وفی القوّة والفعلیّة، فلا یعقل أن یکون البعث موجوداً ولا یکون الإنبعاث.

وعلیه، یبطل الواجب المعلّق. والشرط المتأخّر.

أقول:

وقد نقض شیخنا هذا البرهان: بأنّ «الأمس» و«الغد» _ حیث الأوّل معنون بعنوان القبلیّة، والثانی معنون بعنوان البعدیّة _ متضائفان، لکنّ کلّ واحدٍ منهما منعدم فی ظرف وجود المضائف له.

هذا من حیث الکبری.

وأمّا من حیث الصغری، فإنّ الحکم _ وهو البعث _ عبارة عن الإلزام الإعتباری، ووزانه وزان الإلتزام الإعتباری، فکما یمکن الإلتزام بالأمر المتأخّر کذلک یمکن الإلزام به.

وعلی هذا الأساس، فإنّ المجعول فی « وَلِلّهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ »(1) کالمجعول فی مسألة النذر حیث یقول: للّه علیّ أن أفعل کذا إن کان کذا. غیر أنّ الأوّل إلزام والثانی إلتزام. وکما یلتزم الآن بأنْ یفعل کذا فی الزمان المتأخّر، کذلک الحج، فإنّ الإلزام الآن والتحرّک للعمل یکون فی الموسم.

نعم، البعث والإنبعاث التکوینیّان متلازمان لا انفکاک بینهما، لکن قیاس الإعتباریّات بالتکوینیّات بلا وجه.

ص: 191


1- 1. سورة آل عمران، الآیة: 97.

فظهر إمکان الواجب المعلّق علی هذا المبنی.

ثمّ قال رحمه اللّه:

والتحقیق إمکان الفرق بین المقدّمة الوجودیّة، وهی التی لها دخل فی وجود المأمور به، کالوضوء بالنسبة إلی الصّلاة، والمقدّمة العلمیّة، وهی الدخیلة فی العلم بامتثال المأمور به، کالإتیان بکلا طرفی الإحتمال مقدمةً للعلم بامتثال التکلیف المردّد بینهما.

فقال بعدم وجوب المقدّمة الوجودیّة فی الواجب المشروط، لأنّ وجوب المقدّمة مترشح من التکلیف، ولکن لا تکلیف قبل الشرط، فالعلّة منتفیة فالمعلول کذلک. هذا بالنسبة إلی الوجوب الشرعی. وأمّا اللاّبدیّة العقلیّة، فعلی فرض تسلیمها غیر مؤثرة فی الوجوب الشرعی.

وأمّا المقدّمة العلمیّة، فقال بلزومها عقلاً، لأنّ لابدیّة هذه المقدّمة لیست من جهة فعلیّة التکلیف بل من جهة العلم بالتکلیف، وفرقٌ بین التکلیف والعلم بالتکلیف، لأنّ التکلیف إنْ لم یکن فعلیّاً لم تجب المقدّمة له، ولکنْ إذا علم إجمالاً بالتکلیف إمّا فی الحال أو فی المستقبل، کان العلم علّةً لحکم العقل بلابدیّة الإتیان بکلا الطرفین حتی یحصل له العلم بامتثال التکلیف، فاللاّبدیّة معلولة لهذا العلم لا للتکلیف حتی یقال بأنّه غیر فعلی الآن لعدم وجود شرطه.

فإن قلت: إنّ التکلیف فی أحد طرفی العلم الإجمالی فعلی دون الطرف الآخر، فالمرأة التی تردّد حیضها بین هذه الأیام الخمسة والخمسة التی فی آخر الشهر مثلاً، لا فعلیّة لزجرها عن دخول المسجد فی الخمسة الأخیرة، فعلمها

ص: 192

الإجمالی بالزجر مردّد بین الحالی الفعلی والإستقبالی، ولا أثر لهذا العلم.

قلت: التکلیف المتأخّر فعلی من جهة الوصول وتعلّق العلم به، وإنْ کان من جهة إمکان البعث أو الزجر غیر فعلی، وذلک، لأنّ فعلیّة الحکم وتنجّزه بالوصول، ولا فرق بین الوصول الإجمالی والوصول التفصیلی، فإذا وصل کان فعلیّاً منجّزاً. وما نحن فیه من هذا القبیل.

فإن قلت: التکلیف المشروط بشرطٍ غیر حاصل لا أثر للعلم التفصیلی به فضلاً عن الإجمالی، فمن علم بأنّه سیکون الموضوع للتکلیف فی آخر الشهر، لم یترتّب الأثر علی علمه وإنْ کان تفصیلیّاً، فکیف یکون الإجمالی مؤثّراً؟

قلت: اللاّزم أن یکون المعلوم بالإجمال ذا أثر فی موطن فعلیّته، لا ذا أثر فی الحال علی أیّ حالٍ، إلاّ أنّ العلم التفصیلی طرفه مفصّل ولا أثر له فعلاً من جمیع الجهات، بخلاف العلم الإجمالی، فإنّ أحد طرفیه حالی ومؤثّر فعلاً. فظهر الفرق بین الإجمالی والتفصیلی.

أقول:

قد أشکل علیه الأُستاذ: بأنّه کما یلزم تحصیل المقدّمة العلمیّة وحفظها کذلک المقدّمة الوجودیّة.

المقام الثانی

اشارة

فی المرجع بناءً علی عدم تنجیز العلم الإجمالی فی التدریجیّات مطلقاً أو فی بعض الصّور.

ص: 193

رأی الشیخ والکلام حوله

رأی الشیخ(1) والکلام حوله

ذهب الشیخ فی مثال الحیض إلی جریان إستصحاب الطّهر بالنسبة إلی أعمالها حتی الآن الأوّل من الأیّام الخمسة فی آخر الشهر، وبعده یتعارض إستصحاب الطّهر مع إستصحاب بقاء الحیض، ویتساقطان، والمرجع هو البراءة.

وفی مثال المعاملة الربویّة: أمّا تکلیفاً، حیث یشکّ فی حلیّة کلّ واحدةٍ من المعاملات وحرمتها، فهو أصالة الإباحة. وأمّا وضعاً، حیث یشک فی صحّة المعاملة وفسادها، بأصالة الفساد.

وعلیه، فکلّ معاملة منه فی هذا الشهر یحتمل وقوعها ربویّةً فهی حلال ولکنّها فاسدة، ولا ملازمة بین الفساد والحرمة، إذ لیس فساد المعاملة مترتّباً دائماً علی حرمتها، لوجود المعاملة الفاسدة مع عدم الحرمة، کما فی معاملة الصّبی.

وأمّا الأصل اللّفظی، فإنّه لا مجال للتمسّک بعموم « أوْفُوا بِالْعُقُود »(2) من أجل تصحیح المعاملة المشکوک فیها، لأنّه من التمسّک بالعام فی الشّبهة المصداقیّة للخاصّ، وهو أدلّة حرمة الرّبا. وعلی فرض الجواز، فهو غیر جائز هنا، للعلم الإجمالی بخروج معاملة الیوم أو الغد من تحت عموم أدلّة الوفاء، بالتخصیص. ومن الواضح أنّ هذا العلم یوجب إجمال العام حکماً ویسقطه عن الکاشفیّة عن المراد الواقعی.

ثمّ إنّ الشیخ أمر التأمّل فی الفرق بین الأصل العملی والأصل اللّفظی.

ص: 194


1- 1. فرائد الأصول 2 / 249 _ 250.
2- 2. سورة المائدة، الآیة 2.

وهو من جهة دقّة المطلب، لأنّ المانع من جریان الأصل العملی هو تنجیز العلم، والمفروض عدمه، لکنّ المانع عن التمسّک بالأصل اللّفظی _ أعنی عموم الآیة _ هو إجمال العام بسبب العلم الإجمالی، لأنّ هذا العلم یوجب الإجمال، سواء کان منجّزاً أوْ لا.

وبما ذکرنا یندفع بعض إشکالات المیرزا علی الشیخ. ویبقی إشکالان(1):

أحدهما: إنّ ما ذکره یخالف مسلکه فی الأحکام الوضعیّة من أنّها منتزعة من الأحکام التکلیفیّة، فإنّ مقتضی ذاک المبنی هو ارتفاع فساد المعاملة بحلیّتها.

وفیه: إنّ الشیخ لا یری الحرمة منشأً للفساد کما أشرنا، وهذا واضحٌ من کلامه فی موارد عدیدة من کتابه فی المکاسب. مثلاً: قد ذکر الشیخ فی الإستدلال علی المعاطاة بآیة الحلّ أنّ معناها: أحلّ اللّه التصرّفات المترتّبة علی البیع، وأنّ هذه الحلیّة هی المنشأ لصحّة المعاملة لا نفس البیع.

فإذن، تجری قاعدة الحلّ بالنسبة إلی نفس المعاملة فتکون حلالاً، وأمّا الصحّة، فمن آثار حلیّة التصرّفات المترتّبة علی البیع. وفی المعاملة المشکوک کونها ربویّة تجری القاعدة، وتکون أصالة الفساد جاریةً بالنسبة إلی التصرّفات.

والثانی: فی ما ذکره من أنّ حال الأصول اللّفظیّة حال الأصول العملیّة، فکما أنّ العلم الإجمالی بخروج بعض الأفراد لا یکون مانعاً عن الرجوع إلی الأصول العملیّة، فکذلک لا یکون مانعاً عن الرجوع إلی الأصول اللّفظیّة. ثمّ استظهر الفرق بینهما من دون بیان الفارق وأمر بالتأمّل.

ص: 195


1- 1. أجود التقریرات 3 / 469 _ 471.

قال المیرزا: «قیاسه قدّس سرّه للأصل اللّفظی بالأصل العملی _ فی جواز إجرائه فی تمام أطراف العلم إذا لم یکن منجّزاً للتکلیف کما هو المفروض فی المقام _ فی غیر محلّه».

وفیه: ما أشرنا إلیه فی وجه أمره بالتأمّل، فإنّ الشیخ یفرّق بین الأصل اللّفظی والأصل العملی.

رأی المیرزا

واختلف رأی المیرزا فی المقام، فقال فی الدورة الأُولی(1) من بحثه بجریان أصالة الفساد فی کلتا المعاملتین، وعدم جواز التمسّک بالأصل اللّفظی. وعکس فی الدورة الثانیة(2) فقال بعدم جریان أصالة الفساد والتمسّک بالأصل اللّفظی.

أقول: أمّا ما ذکره ثانیاً ففیه: ما تقدّم من سقوط العام فی هذا المقام عن الکاشفیّة.

وأمّا ذکره أوّلاً ففیه: أنّه لیس للمیرزا إجراء الإستصحاب هنا علی مسلکه ...

وتوضیح ذلک: أنّ الشیخ والمیرزا کلیهما یقولان بعدم جریان الإستصحاب فی أطراف العلم، لکن المانع عند الأوّل: إثباتی، وهو لزوم التناقض بین الصّدر والذیل فی أدلّة الإستصحاب، لأنّ الجمع بین الأمر _ بالنقص سواء کان مولویّاً أو إرشاداً إلی حکم العقل _ والمستفاد من مجموع کلماته هو الإرشادیّة _ والنهی عنه

ص: 196


1- 1. فوائد الأصول 4 / 112.
2- 2. أجود التقریرات 3 / 469 _ 470.

جمع بین النقیضین. وعند الثانی: المانع ثبوتی، وهو عدم جواز إجتماع التعبّدین علی خلاف المعلوم بالإجمال، سواء کان متعلّق العلم ذا أثر أوْ لا.

فعلی مسلک المیرزا لا یجری الإستصحاب حتّی مع سقوط العلم عن الأثر، _ کما هو المفروض فی التدریجیّات _ أمّا علی مسلک الشیخ فیجری إذا سقط، لأنّه إذا کان العلم الإجمالی بلا أثر فلا أمر للشارع بالنقض، فیبقی قوله علیه السّلام (لا تنقض) فی الصّدر بلا معارض.

رأی العراقی

واختار العراقی المحقّق فی حاشیته علی فوائد الاصول(1) جواز التمسّک بالأصل اللّفظی، لأنّ حجیّة أصالة العموم هی من باب الکشف النوعی عن المراد، والکشف النوعی لا ینافی العلم الإجمالی الشخصی علی الخلاف. ومع التنزّل عن هذا، فإنّ المعاملة إنْ کانت صادرة من غیره أجری فیها أصالة الصحّة وإن کان الشکّ فی الفساد سابقاً. وإن کانت صادرة من نفسه، فإن کان عالماً من قبل بوقوع معاملة ربویّةٍ منه إمّا الیوم وإمّا غداً مثلاً، فلا مجال لأصالة الصحّة، وإن کان علمه حادثاً بعد وقوع المعاملتین، فکلتاهما مجری قاعدة الفراغ، لأن موضوعها العمل المفروغ منه.

ص: 197


1- 1. الحاشیة علی فوائد الأصول 4 / 112.

أقول:

أمّا ما ذکره أوّلاً ففیه: إن مدرک حجّیّة الأصول اللّفظیّة هو السّیرة العقلائیّة، واستنادها إلی الشارع إنّما هو من جهة عدم ردعه عنها، ومع الشکّ فی وجود السّیرة فی موردٍ لم یجز التمسّک، لأنّها شبهة موضوع لنفس الدلیل. وفیما نحن فیه، لیست أصالة العموم کاشفة نوعاً عند العقلاء حتّی مع الظنّ الشخصی علی الخلاف. أمّا مع العلم الإجمالی علی الخلاف، فلا إشکال فی عدم الکاشفیّة عند العقلاء. فلا سیرة. هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّ هذه الحجّیّة مقترنة بأمرٍ کلّی، وهو عدم العلم الإجمالی الکلّی، فالعقلاء یقیّدون العموم من أوّل الأمر بعدم وجود العلم الإجمالی المخالف، فالسّیرة هنا محفوفة بما یحتمل القرینیّة.

وأمّا ما ذکره ثانیاً، فإنّه قد تقرّر أنّ مدرک أصالة الصحّة هی السّیرة أیضاً، فالکلام الکلام.

وأمّا قاعدة الفراغ، فإن کان فیما یدلّ علیها عموم تعبّدی لتمّ ما ذکره، ولکنّ عموماتها محفوفة بأنّه (لأنّه حین العمل أذکر منه حین یشک)(1)، فلابدّ من أن یکون فی حاله هذه الخصوصیّة، أمّا إذا لم تتفاوت حاله حین العمل وبعده، فلا مجری للقاعدة.

وفیما نحن فیه، حیث یعلم إجمالاً بربویّة معاملة الیوم أو غدٍ، فالعلم المذکور باق علی حاله، وشکّه بعد الفراغ مقرون بالعلم الإجمالی کذلک، فحاله

ص: 198


1- 1. وسائل الشیعة 1 / 471، الباب 42 من أبواب الوضوء، رقم: 7.

واحدة، فلا تجری القاعدة.

التحقیق

قال شیخنا: والتحقیق فی المقام:

أمّا فی مثال الحیض، فإنّ مقتضی القاعدة تحقّق العلم الإجمالی المنجّز للمرأة، لأنّها فی کلّ زمان تری الدم، تعلم علماً إجمالیّاً إمّا بالحیض فیجب علیها تروک الحائض، وإمّا بالإستحاضة، فیجب أفعال المستحاضة، ومع هذا العلم لا مجال لجریان الأصول النافیة، سواء المحرز منها وغیره، لدوران الأمر بین کونها حائض أو مستحاضة. واستصحاب عدم المحیض یعارض مع إستصحاب عدم الإستحاضة، وتصل النوبة إلی البراءة فی الطرفین، وهی متعارضة کذلک، فیجب علیها الجمع بین الأفعال والتروک، لکون العلم منجّزاً ولا وجه لانحلاله.

ولو احتملت کون الدم دم قروح، دار أمر الواجب علیها بین تروک الحائض والإتیان بوظائف الطّاهرة، إلاّ أنّ هنا أصلاً موضوعیّاً لا معارض له، وهو إستصحاب عدم الحیض، الذی لیس فی مقابله إستصحاب عدم الطّهر.

لکنْ فی فرض دوران الأمر بین الحیض والإستحاضة صورتان، لأنّه إنْ کان الدم بعد الزوال، فهی تعلم إجمالاً بالتکلیف الفعلی، لأنّها إن کانت مستحاضة فوجوب الصّلاة فعلی، وإنْ کانت حائض، فمسّ الکتاب حرام. وأمّا إن کان قبل الزوال، فإن أحکام الإستحاضة مشروطة بالزوال، لأنّه قبل الزوال إمّا یحرم علیها دخول المسجد الآن وإمّا یجب علیها الصّلاة بعد الزوال، فیکون العلم تدریجیّاً،

ص: 199

فلابدّ من القول حینئذٍ بکون حرمة الدخول بعد الزوال، وأمّا قبله فلا، إلاّ أنْ یقال بعدم التفصیل وأنّ الحکم فی کلتا الصّورتین لزوم الإحتیاط.

وتلخص: عدم إمکان المساعدة مع کلمات القائلین بالبراءة عن تروک الحائض، وأنّه لا یمکن القول بالحرمة مطلقاً، بل لابدّ من التفصیل، إلاّ إذا ثبت عدم الفصل.

أمّا زوجها، فإنّه بعد الآن الأوّل حیث یتعارض الإستصحابان ویتساقطان یرجع إلی البراءة عن الوطئ فی جمیع الشهر. والحق جواز التمکین منها، لأنّه یدور الأمر من هذا الحیث بین الوجوب، لاحتمال کونها طاهراً، والحرمة لاحتمال کونها حائض، فالمورد صغری دوران الأمر بین المحذورین، وتجری فیه القاعدة المقرّرة هناک. لکن الحکم مبنی علی عدم کون حرمة تروک الحائض حرمةً ذاتیة.

وأمّا مثال المعاملة الربویّة، فإنّ أصالة الحلّ تجری فی کلا الطرفین، لأنّهما فی کلٍّ منهما تجتمع مع أصالة الفساد فی الطرف الآخر. وأمّا من الجهة الوضعیّة، فإنّ أصالة الفساد لا تجری، لأنّها مخالفة للمعلوم بالإجمال. وأمّا من الجهة الوضعیّة، فإنّ أصالة الصحّة لا تجری، لأنّها مخالفة للمعلوم بالإجمال، نعم، تجری فی المعاملة الأُولی وتؤثّر _ لو لم تجر فی الثانیة _ لعدم المعارض لها حینئذٍ أصلاً.

والأصول اللّفظیّة غیر جاریة هنا، لکونها مجملة بالعلم الإجمالی بورود المخصّص. وأمّا بناءً علی عدم إجمالها، فیجوز التمسّک بها بناءً علی جواز التمسّک بالعام فی الشّبهة المصداقیّة. وأمّا بناءً علی عدم جوازه، فإنْ قلنا باستصحاب العدم الأزلی فهو، وإلاّ فالمرجع هو العام، لأنّ المعاملة الأُولی

ص: 200

مشکوکة الصحّة والفساد من جهة الشک فی ربویّتها والأصل هو العدم، فیحرز بهذا الأصل موضوع العام المخصّص فیندرج تحته. لکن هذا إنّما یتم ما لم یقع الإبتلاء بالمعاملة اللاّحقة.

ص: 201

التنبیه السّابع: فی الشّبهة غیر المحصورة

تعریفها

قد اختلفت کلماتهم فی تحدید الشّبهة غیر المحصورة علی وجوه، ولکنّ الظاهر عدم الحاجة إلی التعریف، لأنّ هذا العنوان لم یقع موضوعاً فی شیء من الأدلّة. نعم، هو معقد الإجماع المدّعی علی عدم تنجیز العلم فی الشّبهة غیر المحصورة، ولکنّ الکلام فی هذا الإجماع، کما سیأتی قریباً. فلا حاجة إلی ذکر التعریفات والنظر فیها.

ولعلّ أحسن التعاریف هو تعریف الشیخ(1): بأنّ الشّبهة غیر المحصورة هی الشّبهة التی تکثر أطرافها، بحیث یصیر العلم فیها عند العقلاء کلا علم، ولا یعتنی العقلاء فیها بالتکلیف المعلوم بالإجمال، بل یرون إحتماله فی کلّ طرفٍ موهوماً.

ص: 202


1- 1. فرائد الأصول 2 / 271.

وتوضیحه: إنّ أساس منجّزیّة العلم هو إحتمال الضرر الأُخروی، وقد قامت السّیرة العقلائیّة علی عدم الإعتناء بهذا الإحتمال إذا کانت أطراف الشّبهة غیر محصورة، کأن تکون واحدة من الشیاه الموجودة فی هذا البلد محرّمةً مثلاً.

ولکنْ إذا کان المرجع هو السّیرة العقلائیّة، فإنّها دلیل لبّی یؤخذ منه بالقدر المتیقّن. هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّ الموارد تختلف، فقد یکون المعلوم بالإجمال من الأهمیّة بحیث یحتاط العقلاء فیه حتی مع کثرة الأطراف جدّاً.

وثالثاً: إنّ ضعف إحتمال التکلیف إنْ وصل إلی حدّ الإطمینان العقلائی بالعدم، صحّ ما ذکره، لکنّ الدلیل حینئذٍ هو الإطمینان، وهو العلم العادی. وإن لم یصل إلی ذلک الحدّ، فلا یصحّ التعریف المذکور، لعدم العبرة بظنّ عدم التکلیف فضلاً عن الإحتمال، فلابدّ من الإحتیاط.

دلیل عدم تنجیز العلم فی الشّبهة غیر المحصورة

وقد استدلّ بوجوه علی عدم تنجیز العلم الإجمالی فی الشبهات غیر المحصورة.

الأوّل: الإجماع.

ما ذکره الشیخ

قال الشیخ(1) وهو مستفیض.

ص: 203


1- 1. فرائد الأصول 2 / 257.

أقول:

1_ الإجماع المنقول لیس بحجّةٍ.

2_ تحقّقه أوّل الکلام، لأنّ المسألة غیر مطروحة فی کتب السّابقین.

3_ یحتمل مدرکیّته.

الثانی: إنّ هذا العلم کلا علم عند العقلاء.

وهذا الوجه الذی جاء فی کلام الشیخ غیر مقبول کذلک، وقد أشرنا إلی بعض ما فیه.

الثالث: ما ذکره صاحب الکفایة(1) من أنّ کثرة الأطراف تلازم غالباً سقوط التکلیف عن الفعلیّة، وإذا سقط عن الفعلیّة، اقتضی دلیل رفع العسر والحرج عدم وجوب الإحتیاط.

الإشکال علی صاحب الکفایة

وأشکل المحقّق الإصفهانی(2) علی صاحب الکفایة: بأنّ الرفع فرع الوضع، ومتی لم یکن الوضع من الشارع لا یکون الرفع بیده، وهذا مما لا ریب فیه.

والحاکم فی الشبهات بوجوب الموافقة القطعیّة لحکم المولی هو العقل، فإنّ العقل حاکم بلابدیّة الموافقة لحکم المولی، وفی الشبهات غیر المحصورة،

ص: 204


1- 1. کفایة الأصول: 362.
2- 2. نهایة الدرایة 4 / 276.

لیس الحرج من ناحیة الشارع لا موضوعاً ولا حکماً، وإنّما الحرج فی الإمتثال القطعی، وهو بحکم العقل لا الشرع، وحینئذٍ لیس للشارع رفع ما وضعه العقل.

الجواب:

أجاب السیّد الخوئی(1): بأنّ أدلّة نفی الحرج وإنْ کانت ناظرة إلی الأحکام الشرعیّة لا العقلیّة، إلاّ أنّها ناظرة إلی مقام الإمتثال. بمعنی أنّ کلّ حکم کان إمتثاله حرجیّاً علی المکلَّف، فهو منفیّ فی الشریعة، فإنّ جعل الحکم وإنشاءه إنّما هو فعل المولی، ولا یکون حرجاً علی المکلَّف أبداً، وحینئذٍ، فإن کان إحراز إمتثال التکلیف المعلوم بالإجمال حرجاً علی المکلَّف، کان التکلیف المذکور منفیّاً فی الشریعة بمقتضی أدلّة نفی الحرج، فلا یبقی موضوع لحکم العقل بوجوب الموافقة القطعیّة.

وفیه:

الذی فی کلام المحقّق الإصفهانی هو «إحراز الإمتثال». یقول: إنّ الحرج فی إحراز الإمتثال، وبینه وبین «الإمتثال» فرقٌ، إذْ لا کلام فی أنّ الإمتثال إن کان حرجیّاً یرتفع بحکم الشارع کما فی الوضوء الحرجی، لکنّ التحریم فی الشّبهة غیر المحصورة لیس حرجیّاً، وإنّما إحراز الإمتثال حرجیٌّ، والحاکم فی رفعه هو العقل.

أقول:

حاصل إشکال الإصفهانی هو إنّه تارةً نقول: إن کان الموضوع حرجیّاً یرتفع الحکم بسبب ذلک، وأُخری نقول: کلّما کان الحکم حرجیّاً فهو مرفوع. وعلی

ص: 205


1- 1. مصباح الأصول: 377.

کلا الوجهین، لیس الرفع فی الشّبهة غیر المحصورة مستنداً إلی الشارع، بل العقل هو الحاکم لعدم التمکّن من إحراز الإمتثال.

نعم، من الممکن إسناد الرفع إلی الشارع فی المقام ولکنْ بواسطة حکم العقل، إلاّ أنّ المهمّ هو إستظهار هذا المعنی من أدلّة رفع الحرج، فهل تفید رفعه شرعاً حتی مع وساطة حکم العقل؟

والجواب: إن کان المرفوع فیها هو «الحکم الحرجی» فالحقّ مع المحقّق الإصفهانی، لکنّ المرفوع هو «الحرج»، وهو أعم من أن یکون الحکم فیه من الشارع مباشرةً أو بواسطة حکم العقل، لأنّ نسبة الأحکام الشرعیة إلی الأحکام العقلیّة نسبة الموضوع إلی الحکم.

فالإشکال المذکور علی کلام المحقّق الخراسانی مندفع.

الإشکال الوارد

لکن یرد علیه: إنّ الأحکام العقلیّة تتبع الملاکات المحرزة عند العقل، وللعقل فی موارد العلم الإجمالی حکمان، أحدهما: وجوب الموافقة القطعیّة، والآخر: حرمة المخالفة القطعیّة، فإذا کان حکم الشارع بوجوب الموافقة حرجیّاً حکم العقل بعدم وجوب الموافقة القطعیّة، لقوله تعالی « مَا جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَج »(1). أمّا فی طرف حرمة المخالفة القطعیّة فی صورة الإمکان، فلا یجوز رفع الید عن الحکم الشرعی، لأنّ الضرورات تتقدّر بقدرها.

ص: 206


1- 1. سورة الحج، الآیة 78.

فقول المحقّق المذکور: متی کان الحرج فی الموافقة سقط الحکم عن الفعلیّة، غیر صحیح علی إطلاقه، فهو یسقط من جهة وجوب الموافقة ولا یسقط من جهة حرمة المخالفة.

ما ذکره المیرزا

الرابع: ما ذکره المیرزا(1)، وهو: إنّ بین حرمة المخالفة القطعیّة ووجوب الموافقة القطعیّة ملازمة، ففی کلّ موردٍ لا یتمکّن من المخالفة القطعیّة لا تجب الموافقة القطعیّة. وفی الشبهات غیر المحصورة لا تحرم المخالفة، إمّا لعدم التمکّن منها، وإمّا لکونها حرجیّة، وإذا سقطت حرمة المخالفة سقط وجوب الموافقة.

ومن هنا قال المیرزا بانحصار الشّبهة غیر المحصورة بالشّبهة التحریمیّة.

وخلاصة هذا الوجه هو: إنّ تنجیز العلم الإجمالی عبارة عن تعارض الأصول، وملاک تعارضها هو لزوم الترخیص فی المعصیّة بجریانها فی الأطراف، ومع عدم التمکّن من المخالفة القطعیّة لا یبقی مورد لهذا الملاک، فلا تعارض، فلا تنجیز للعلم.

وفیه:

أمّا دعوی انحصار الشّبهة غیر المحصورة بالشّبهة التحریمیّة، فمندفعة بجریانها فی الشّبهة الوجوبیّة کذلک، فإن متعلّق العلم قد یکون من المحرّمات کالخمر وقد یکون من الواجبات. فإنْ کانت الشبهة تحریمیّة، لم تکن المخالفة القطعیّة بارتکاب الجمیع فالحرمة ساقطة، لکنّ الموافقة بترک الجمیع ممکنة. وإن کانت وجوبیّة، فالموافقة بالإتیان بالجمیع غیر ممکنة، لکنّ المخالفة بترک الجمیع

ص: 207


1- 1. أجود التقریرات 3 / 471.

محرّمة.

وأمّا دعوی الملازمة بین المخالفة والموافقة القطعیّة، فممنوعة کذلک، فلو سقطت حرمة المخالفة عقلاً علی أثر العجز، فلا وجه لسقوط وجوب الموافقة.

وبعبارة أُخری:

إنّ تنجیز العلم الإجمالی یدور مدار القدرة، فإذا انتفت القدرة بالنسبة إلی حکمٍ _ وهو حرمة المخالفة القطعیّة _ فلا دلیل علی سقوط الحکم الآخر _ وهو وجوب الموافقة القطعیّة _ مع القدرة علیها، لأنّ للعقل فی کلّ شبهةٍ حکمین، وإذا سقط أحدهما بالعجز عن الإمتثال لم یسقط الآخر، لأنّ الضرورات تتقدّر بقدرها.

ما ذکره العراقی

الخامس: ما ذکره المحقّق العراقی(1) بناءً علی تعریفه للشبهة غیر المحصورة.

قال: إذا سقطت الموافقة القطعیّة، فحرمة المخالفة کذلک باقیةٌ، لأنّ قوام الشّبهة غیر المحصورة هو أنّه لو نظرنا إلی طرفٍ حصل لنا الإطمینان بعدم وجود الحرام فیه، وهذا یلازم وجوده فی سائر الأطراف، وحینئذٍ، یجوز إرتکاب ذلک الطرف للسّیرة العقلائیّة القائمة علی جوازه، والإکتفاء بترک البقیّة بدلاً عن الواقع، فلا یجوز إرتکابها.

والنتیجة: عدم وجوب الموافقة القطعیّة وحرمة المخالفة القطعیّة.

وفیه:

ما المراد من الإطمینان بأنّ الحرام فی سائر الأطراف دون هذا الطّرف؟

إن کان المراد من الإطمینان هو «العلم» فإنّ العلم فی هذا الطّرف منحلٌّ حقیقة،

ص: 208


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 330.

فلا یجب الإجتناب عن سائر الأطراف. وإن کان المراد منه هو «الحجّة» فإنّه مع قیامها یکون العلم الإجمالی منحلاًّ حکماً، کما لو قامت البیّنة علی بعض الأطراف. وعلی کلّ حالٍ لا یبقی التکلیف بالإجتناب عن بقیّة الأطراف، فما معنی کونها بدلاً عن الواقع.

وبعبارة أُخری: کون بعض الأطراف بدلاً عن الواقع فرعٌ لبقاء العلم الإجمالی، ومع انتفائه لا معنی لذلک. هذا أوّلاً.

وثانیاً: لیس بناء العقلاء علی إرتکاب بعض الأطراف وجعل البعض الآخر بدلاً عن الواقع، فهل لو عُلم بوجوب السمّ فی أحد الآنیة، یرتکبون البعض ویترکون البعض الآخر بأنْ یکون السمّ فیه؟

روایة الجبن

السادس: روایة الجُبُن، عن البرقی فی المحاسن عن أبیه عن محمد بن سنان عن أبیالجارود قال: سألت أباجعفر علیه السّلام عن الجبن. فقلت له: أخبرنی من رأی أنّه یجعل فیه المیتة. فقال علیه السّلام: أ من أجل مکان واحدٍ یجعل فیه المیتة حرم ما فی جمیع الأرضین(1).

استدلّ بها المیرزا(2).

وأورد عن الشیخ الإشکال: بأنّ الروایة غیر ظاهرة فی بیان حکم الشّبهة غیر المحصورة، فلعلّها فی مقام بیان أنّ جعل المیتة فی الجبن فی مکانٍ لا یلازم

ص: 209


1- 1. وسائل الشیعة 25 / 119، الباب 61 من أبواب الأطعمة المحلّلة، رقم: 5.
2- 2. أجود التقریرات 3 / 473.

حرمته فی بقیّة الأمکنة التی لا یعلم فیها ذلک. فهی أجنبیّة عمّا نحن فیه.

وأجاب: بأنّ هذا واضح لم یکن مورداً للسؤال لأحدٍ، بخلاف حملها علی مورد الشّبهة غیر المحصورة، فیصحّ السؤال عن حکمها من جهة العلم الإجمالی بوجود المیتة بین الأطراف الکثیرة، فهل یجب الإجتناب عن الجمیع أوْ لا؟

وأشکل فی مصباح الأصول(1) بوجهین:

1_ السند، فإنّها ضعیفة بمحمد بن سنان.

2_ الدلالة، فإنّها واردة فی مورد خروج بعض الأطراف عن محلّ الإبتلاء، فهی أجنبیّة عن المقام.

أجاب الأُستاذ:

أمّا عن الأوّل: فبأنّ محمد بن سنان قد أخرج عنه الشیخ الکلینی کثیراً فی الکافی فی الأصول والفروع، ممّا یدلّ علی اعتماده علیه ...

وأمّا عن الثانی: فبأنّ فی ذیل الرّوایة یقول الإمام: إنی أشتری من هذا السّوق اللّحم مع أنّه لا أظنّ أنّ السّودان یسمّون ...

أی: أشتری مع العلم بأنّ بعض السّودان لا یسمّون اللّه لدی الذبح. ومن الواضح أنّ ما فی السّوق مورد للإبتلاء کلّه.

فإنْ قلت:

لعلّ أکل الإمام من لحم السّوق من جهة أماریّة سوق المسلمین لا من جهة الجواز

ص: 210


1- 1. مصباح الأصول: 378.

فی الشّبهة غیر المحصورة.

قلت:

إنّ أماریّة السّوق إنّما هی مع عدم وجود العلم الإجمالی، والإمام یصرّح بوجوده.

توضیحه: إنّ مقتضی الأصل فی اللحوم هو عدم التذکیة، لکنّ ید المسلم وسوق المسلمین أمارة حاکمة علی الأصل فی مورد الشک. وأمّا مع العلم الإجمالی بوجود حیوان غیر مذکی، فإنّ الأماریة للسّوق تسقط، وحیث أنّ الإمام أخبر عن أکله ممّا فی السّوق مع علمه، فالشّبهة غیر محصورة.

فالإشکال فی الدلالة مندفع.

فالدلیل العمدة علی عدم تنجیز العلم الإجمالی فی الشبهات غیر المحصورة هو روایة الجبن، ودلالتها علی المدّعی تامّة، ومحمد بن سنان ثقة عندنا.

ص: 211

أُمورٌ تتعلّق بالشّبهة غیر المحصورة

الأمر الأوّل (هل العلم کلا علم أو أنّ الشبهة تزول؟)

هل بناءً علی عدم تنجیز العلم الإجمالی فی الشبهات غیر المحصورة، یکون العلم کلا علم کما فی کلام الشیخ، أو یرتفع الشک وتزول الشّبهة؟

وتظهر الثمرة فی وجوب الإحتیاط بناءً علی کون العلم کلا علم وبقاء الشک، وعدم وجوبه فیما إذا کان الشک زائلاً.

مثلاً: یشترط فی الوضوء إحراز إطلاق الماء، فهو الشرط فی صحته _ لا أنّ کونه مضافاً مانع عن الصحّة _ فلو علمنا بوجود المضاف بین الآنیة وهی کثیرةٌ والشّبهة غیر محصورة، فعلی القول بعدم تنجیز العلم لکونه کلا علم، یکون الشک باقیاً، فموضوع الأصل محقّق، وحینئذٍ، فما هو الأصل الجاری هنا؟

هنا مجری الإستصحاب، أی إستصحاب العدم الأزلی، والموضوع هو الماء المطلق، وذلک بناءً علی جریانه فی الذوات _ کما علیه المحقّقون المتأخّرون، مثل کلبیّة الکلب _ بالإضافة إلی جریانه فی الأوصاف مثل قرشیة المرأة.

فعلی هذا المبنی، عندما نشک فی مائیة هذا المائع، فالحالة السّابقة هی العدم، وحینئذ، لا یجوز لنا الوضوء بهذا المائع. ولا یعارضه إستصحاب عدم الإضافة، لما تقدّم من أنّ الموضوع هو الإطلاق، ولیس کونه مضافاً مانعاً عن صحّة الوضوء.

وأمّا بناءً علی عدم جریان الإستصحاب فی الأعدام الأزلیّة، أو عدم جریانه فی الذوات، فالإستصحاب ساقط.

ص: 212

وتصل النوبة إلی قاعدة الإشتغال، لکون الذمّة مشغولة بالوضوء بالماء المطلق، وبالوضوء بهذا الماء المشکوک فی إطلاقه یشک فی فراغ الذمّة، فلا یصحّ الوضوء به.

هذا کلّه بناءً علی بقاء الشک وأنّ العلم کلا علم، کما علیه الشیخ.

أمّا بناءً علی زوال الشک والشّبهة کما علیه المحقّق العراقی، فلا شبهة فی صحّة هذا الوضوء.

الأمر الثانی (لو وقع الشک فی کون الشبهة غیر محصورة)

لو شک فی بلوغ کثرة الأطراف إلی الحدّ الذی یصدق معه عدم الحصر، فما هو مقتضی القاعدة؟

ولا یخفی تفرّع هذا الأمر علی التفصیل بین الشّبهة المحصورة وغیر المحصورة فی تنجیز العلم الإجمالی، وأمّا بناءً علی المنجّزیّة مطلقاً، فلا مجال لهذا البحث.

ذکرت طرق:

الأوّل: إنّه لمّا کان العلم الإجمالی مقتضیاً للتنجیز وإستحقاق العقاب علی المخالفة للتکلیف المعلوم، وکان عدم محصوریّة الأطراف مانعاً عن التنجیز _ علی المبنی _ فإنّ مقتضی القاعدة مع الشک فی کون الشّبهة غیر محصورة، هو منجّزیّة العلم، لوجود المقتضی وعدم ثبوت المانع.

ص: 213

أقول:

هذا من صغریات قاعدة وجود المقتضی وعدم المانع، وقد قال بها الشیخ محمدهادی الطهرانی ومن تبعه. لکنّ التحقیق عدم تمامیتها، لعدم وجود النصّ علیها ولا قیام السّیرة العقلائیّة بها، بل الملاک هو قیام الحجّة الشرعیّة لإحراز عدم المانع، فإنْ تم ذلک أخذنا به وإلاّ فلا. وفیما نحن فیه لا حجّة شرعیّة ولا سیرة عقلائیّة غیر مردوعة علی عدم المانع. کما لا مجال للتمسّک باستصحاب عدم بلوغ الشّبهة لحدّ عدم المحصوریّة.

الثانی: إنّ دلیل الإجتناب عن الحرام أو النجس أو الغصب مطلق، فیجب الأخذ به، ثمّ إنّ هذا المطلق قد خرج عنه الشبهة غیر المحصورة، فلم یجب الإجتناب عن جمیع الأطراف فیها.

ولکنّ المفروض هنا عدم العلم بکون الشّبهة غیر محصورة، ومقتضی القاعدة حینئذٍ العمل بالمطلق ووجوب الإجتناب، لأنّه متی شک فی التخصیص أو التقیید کان العام والمطلق هو المحکّم.

وفیه:

لا إشکال فی أنّ المرجع مع الشک فی التخصیص أو التقیید هو العام والمطلق، لکنْ لا شک عندنا هنا فی أصل التخصیص، بل الشک فی تحقّق مصداق المخصّص، وهل یرجع فیه إلی العام والمطلق؟

قد تقرّر فی محلّه عدم الرجوع.

إذنْ، لا ینبغی الخلط بین الشک فی التخصیص والشک فی مصداق المخصّص.

ص: 214

الثالث: الرجوع إلی المبانی، وأنّ الحال یختلف باختلافها.

فعلی مسلک الشیخ من أنّ الملاک فی عدم التنجیز کون التکلیف موهوماً لا یعتنی به العقلاء، کان العلم الإجمالی فی مفروض المثال منجّزاً، لأنّ إحتمال التکلیف فی کلّ واحدٍ من الأطراف من قبیل تردّد الواحد فی العشرة، ومثله لا یعدّ موهوماً.

أقول:

لا یخفی الإضطراب فی کلمات الشیخ فی تعریف الشّبهة غیر المحصورة، وقد قال بعد ذکر الوجوه: وفی النفس شیء. ولکنّه فی هذه المسألة حیث یشک فی کون الشّبهة محصورة أو غیر محصورة، قال بوجوب الإحتیاط من جهة عدم إحراز جعل البدل للطّرف الذی یحتمل فیه وجود التّکلیف.

وأمّا علی مسلک المحقّق العراقی من أنّ الشّبهة غیر المحصورة هی التی إذا لوحظ کلّ طرفٍ من الأطراف حصل الإطمینان بعدم وجود التکلیف فیه، وحینئذٍ ینحلّ العلم الإجمالی حقیقةً، ومع إنحلاله لا مورد لجعل البدل، لأنّ جعل البدل یکون فی مورد الإنحلال الحکمی.

فالحق علی هذا المسلک _ فی دوران أمر الشّبهة بین أن تکون محصورة أو غیر محصورة _ هو التنجیز، لأنّا لا نطمئن فی کلّ طرفٍ أنْ لا یکون التکلیف فیه.

ثمّ إنّ المحقّق العراقی(1) ذکر أنّ مقتضی مسلک الشیخ أن یقال بعدم منجّزیّة العلم الإجمالی، لسقوط العلم مع موهومیّة التکلیف عن البیانیّة عقلاءً،

ص: 215


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 332.

ومع عدم البیان علی التکلیف عقلاءً تکون الشّبهة من قبیل الشّبهة البدویّة.

أقول:

هذه النسبة فی غیر محلّها، لأنّ الشیخ یصرّح فی المورد بالشک فی جعل البدل، ومعه یکون العلم منجّزاً. هذا أوّلاً.

وثانیاً: سقوط العلم عن البیانیّة إنّما هو حیث یکون إحتمال التکلیف موهوماً بحیث لا یعتنی به العقلاء، ومع الشک فی کون الشّبهة محصورة أو غیر محصورة، فإنّ قیام السّیرة العقلائیّة علی موهومیّة إحتمال التکلیف غیر معلوم، ولا أقل من الشک.

وأمّا علی مسلک المیرزا حیث جعل وجوب الموافقة القطعیّة تابعاً لحرمة المخالفة القطعیّة، وحیث لا یمکن المخالفة فلا تجب الموافقة، فإنّ مقتضی القاعدة هو تنجیز العلم، لأنّ عدم حرمة المخالفة القطعیّة فی الشّبهة غیر المحصورة یرجع إلی عدم التمکّن من المخالفة، ومع الشک فی کون الشّبهة غیر محصورة، یرجع الشک إلی العجز وعدم القدرة، ومع الشک فی عدم القدرة علی المخالفة، یکون مقتضی القاعدة هو الإحتیاط. نظیر ما لو شک فی التمکّن من دفن المیّت فی هذه الأرض الصخریّة، فإن مقتضی القاعدة الإحتیاط ببذل الطاقة فی حفر الأرض حتی یثبت العجز وعدم القدرة.

الأمر الثالث (فی شبهة الکثیر فی الکثیر)

والصّحیح فی هذا الأمر هو الرجوع إلی المبانی فی وجه عدم منجّزیّة العلم

ص: 216

فی الشّبهة غیر المحصورة.

فعلی مسلک الشیخ، مقتضی القاعدة هو التنجیز، لعدم موهومیّة الإحتمال.

وعلی مسلک المیرزا عدم التنجیز، لعدم القدرة علی المخالفة القطعیّة.

وأمّا علی مسلک المحقّق العراقی، فالتنجیز، لأنّه یری أنّ الملاک وجود الإطمینان بعدم وجود التکلیف فی کلّ واحدٍ واحدٍ من الأطراف. وهکذا إطمینان فی مورد البحث غیر حاصل.

وعلی مسلک شیخنا الأُستاذ: الوجه فی المقام هو تنجیز العلم، لأنّ مقتضی القاعدة هو إرجاع الأمر إلی القدرة وعدمها کما تقدّم فی الأمر السّابق، وعلیه فالإحتیاط محکّم حتی یثبت العجز عن الإمتثال.

وبعبارة أُخری: إنّ العلم إذا قام علی التکلیف _ ولا مانع من تنجیزه من الضرر والحرج وغیر ذلک _ یجب الإمتثال له بقاعدة الإشتغال، وإلاّ یلزم الظلم علی المولی من الترخیص فیه، إلاّ إذا جعل المولی البدل، سواء علی مسلک العلیّة أو الإقتضاء.

غیر أنّ جعل البدل علی المسلکین یختلف، فعلی مسلک الإقتضاء، فإنّ نفس شمول المرخّص لبعض الأطراف کافٍ لجعل البقیّة بدلاً عن الواقع ووجوب الإجتناب عنها. وأمّا علی مسلک العلیّة، فلا یکفی نفس المرخّص، لأنّه أصل عملی ومثبته لیس بحجّة.

هذا تمام الکلام فی الشّبهة غیر المحصورة.

ص: 217

التنبیه الثامن: لو اضطرّ إلی إرتکاب أحد الأطراف

اشارة

فقد یضطرّ إلی الفرد المعیَّن. وقد یضطرّ إلی الفرد غیر المعیَّن.

فالکلام فی مقامین:

المقام الأول: فی الإضطرار إلی الفرد المعین. و فیه صور:

اشارة

المقام الأوّل

لو اضطرّ إلی إرتکاب الفرد المعیّن من أطراف العلم الإجمالی، فههنا صور:

الصورة الأُولی

أن یکون الإضطرار قبل التکلیف وقبل العلم بالتکلیف.

ولا کلام ظاهراً فی هذه الصّورة فی سقوط العلم عن التأثیر، بل التحقیق _ کما ذکرنا سابقاً _ عدم تحقّق العلم الإجمالی بالنسبة إلی أصل التکلیف، وهو وجوب الإجتناب مثلاً، فلو علم إجمالاً بوقوع قطرةٍ من الدم فی أحد الإناءین، حصل العلم الإجمالی بتحقّق سبب التکلیف بالإجتناب عن المضطرّ إلیه أو عن

ص: 218

طرفه، لکنّ حصول العلم بالنسبة إلی نفس التّکلیف غیر ممکن، لأنّ أحد الإناءین _ وهو المضطرّ إلیه _ لا تکلیف بالنسبة إلیه یقیناً، والآخر _ وهو الطرف _ فتحقّق التکلیف بالنسبة إلیه مشکوک فیه، ومن المعلوم أنّ قوام العلم هو القضیّة المنفصلة علی سبیل منع الخلو.

الصّورة الثانیة - و فیها قولان
اشارة

أن یکون الإضطرار بعد التکلیف وقبل العلم به.

کما لو وقعت النجاسة فی أحد الإناءین ولم یکن یعلم بها، ثم اضطرّ إلی شرب الإناء المعیّن، وعلم بعد ذلک بالنجاسة المردّدة بین الإناءین، فهل یجب الإجتناب عن الطّرف أوْ لا؟

قولان:

الأوّل:

الإجتناب، وقد ذهب إلیه المحقّق المیرزا فی الدورة الأُولی(1). وذلک: لأنّه بعد ما یعلم بالتکلیف، یکون العلم موجباً لترتیب آثار التکلیف علی المعلوم من حین حدوث التکلیف لا من حین العلم، فإنّه وإنْ تأخّر العلم عن الإضطرار إلاّ أنّ متعلّقه هو التکلیف السّابق علیه، وحینئذٍ، فإن کانت النجاسة فی الفرد المضطرّ إلیه، کان التکلیف بالإجتناب عن النجاسة ساقطاً، وإن کانت فی الطرف کان التکلیف موجوداً، فالشکّ یرجع إلی سقوط التکلیف بالإضطرار بعد ثبوته، وهو

ص: 219


1- 1. فوائد الأصول 4 / 95.

مجری قاعدة الإشتغال، فیکون العلم منجّزاً.

والثانی:

عدم وجوب الإجتناب، وهو ما ذهب إلیه فی الدّورة الثانیة(1)، واستدلّ له بوجوه:

أحدها: إنّه لیس المقام من موارد جریان قاعدة الإشتغال، فإنّ موردها هو حیث یعلم بالتکلیف، وفیما نحن فیه یکون أمر التکلیف مردّداً بین أن یکون فی المضطر إلیه أو الطرف، لکنّه فی الأوّل منتف قطعاً وفی الثانی مشکوک الحدوث، فلا علم بثبوت التکلیف، وإنّما حصل القطع بعدمه علی تقدیر، والشک فی حدوثه علی تقدیر. وهذا مجری البراءة.

وفیه:

إنّ وجه القول بالتنجیز هو ترتیب آثار التکلیف من حین حدوثه، فالتکلیف واقع علی العهدة یقیناً، فإن کان الإضطرار وارداً علی مورده فهو غیر باق، وإنْ کان وارداً علی الطرف فهو باق. فالشک یرجع إلی سقوط التکلیف المتیقّن حدوثه، وهذا مجری قاعدة الإشتغال.

الوجه الثانی: إنّ تنجیز العلم الإجمالی یدور مدار تعارض الأصول، وهو إنّما یؤثر من حین قیامه، وفی ظرف قیامه لا تعارض بین الأصول، لعدم وجود التکلیف فی أحد الطرفین، بسبب الإضطرار، وجریان الأصل فی الطرف الآخر لا مانع منه، فلا تنجیز.

ص: 220


1- 1. أجود التقریرات 3 / 454.

وفیه:

إن کان الإستدلال للتنجیز بالعلم الإجمالی تمّ ما ذکر، لکنّه بقاعدة الإشتغال، وقد عرفت أنّ المفروض تأثیر العلم فی ترتیب أثر التکلیف من حین حدوث التکلیف لا قیام العلم.

الوجه الثالث: إنّه لا کلام فی سقوط التکلیف مع الإضطرار العقلی، وبدونه یسقط بمقتضی حدیث الرفع، ومع رفع الشارع للتکلیف لا یبقی الشک فی سقوطه حتی یرجع إلی قاعدة الإشتغال.

وفیه:

إنّه لیس البحث فی صدق کلمة «السّقوط» بل هو فی رجوع الشّک إلی مرحلة الإمتثال، فمع تعلّق التکلیف بالذمّة والشک فی ارتفاعه بعد الإضطرار من قبل الشارع، بحکم العقل بالإحتیاط. وکذا الکلام فیما لو شک فی سقوطه علی أثر الإضطرار العقلی. وبالجملة، إنّه لابدّ من رعایة التکلیف حتی الخروج عن عهدته بمسقطٍ وجدانی أو تعبّدی.

فظهر عدم تمامیّة الوجوه المذکورة للجواب عن قاعدة الإشتغال.

والأولی أن یقال:

إنّه وإن کان الشّک فی سقوط التکلیف، لکن موضوع القاعدة هو إحتمال العقاب وحکم العقل بلزوم تحصیل البراءة الیقینیّة من أجل الخلاص منه، لکنّ إحتمال العقاب معلولٌ لقیام المنجّز للتکلیف، فإن کان المنجّز نفس القاعدة، لزم المحال، وإنْ کان غیرها، فلا منجّز له لا حدوثاً ولا بقاءً. أمّا حدوثاً، فلأنّه لم یکن

ص: 221

علم بالتکلیف حتی یکون منجّزاً، وأمّا بقاءً، فلوجود الأصل المؤمّن الذی لا یحتمل العقاب معه.

رأی السیّد الأُستاذ

وإلی القول الثانی ذهب السیّد الأُستاذ أیضاً، وقال فی تقریبه:

إنّ العلم المتأخّر المتعلّق بالتکلیف السّابق لا یصلح لتنجیز التکلیف السّابق بما هو کذلک، لأنّ معنی التنجیز إمّا وجوب الإطاعة والإمتثال عقلاً أو إستحقاق المؤاخذة علی المخالفة، وکلٌّ منهما لا یتصوّر بالنسبة إلی ما سبق، إذ لا مجال لإطاعته أو مخالفته فعلاً. فما یجری علی بعض الألسنة من أنّ العلم المتأخّر ینجّز التکلیف فی الزمان السّابق لیس له وجه معقول.

نعم، إذا کان التکلیف السّابق موضوعاً للتکلیف فی الزّمان اللاّحق کوجوب القضاء أو نحوه، کان العلم به مؤثّراً فی تنجیز التکلیف اللاّحق من باب تعلّق العلم به أیضاً بعد تعلّق العلم بموضوعه.

وبالجملة، العلم إنّما یکون منجّزاً للتکلیف المقارن ولا یصلح لتنجیز ما سبق. وعلیه، ففیما نحن فیه، بما أنّه عند حدوث العلم لا یعلم بثبوت التکلیف لاحتمال تعلّق الإضطرار بمتعلّقه فلا یکون منجّزاً(1).

هذا کلّه فی الإستدلال بالقاعدة.

ص: 222


1- 1. منتقی الاصول 5 / 104 _ 105.
الإستدلال بالإستصحاب للقول الأوّل

وقد یستدلّ له بالإستصحاب، وذلک لأنّه بعد الإضطرار یشکّ فی بقاء التکلیف المعلوم سابقاً _ من جهة أنّه إن کان فی المضطرّ إلیه فهو ساقط، وإن کان فی الطّرف فباق _ فیستصحب التکلیف، وینتج الإحتیاط بالنسبة إلی الطّرف.

فأجاب عنه المیرزا(1): بأنّه فرد مردّد، والفرد المردّد لا یجری فیه الإستصحاب، لأنّه لا ماهیّة له ولا وجود.

أقول:

إن أُرید إستصحاب شخص التکلیف وفرده، فلا یجری، أمّا المردّد، فلِما ذکر، وأمّا المعیّن، فلأنّه إمّا مقطوع الإرتفاع وإمّا مشکوک الحدوث، لکنّ المدعی إستصحاب الکلّی.

فأجاب فی مصباح الاصول(2) عن إستصحاب الکلّی: بأنّه إنّما یجری فیما إذا کانت الأصول متعارضةً بالنسبة إلی الخصوصیّتین، کما فی الشک فی بقاء الحدث المردّد بین الأصغر والأکبر بعد الوضوء، وهذا بخلاف ما إذا کان الأصل جاریاً فی بعض الأطراف بلا معارض. وما نحن فیه من هذا القبیل. قال: ومن هنا نقول: بأنّ المرجع عند دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر الإرتباطیین هی البراءة، فإنّه مع الإتیان بالأقلّ یشکّ فی بقاء التکلیف المعلوم بالإجمال، ومع ذلک لا یرجع إلی الإستصحاب ولا إلی قاعدة الإشتغال، ولیس ذلک إلاّ لأنّ منشأ الشک فی بقاء

ص: 223


1- 1. أجود التقریرات 3 / 455.
2- 2. مصباح الأصول: 387.

التکلیف إحتمال تعلّقه بالأکثر الذی یجری فیه الأصل بلا معارض، فالتکلیف بالأقلّ ساقط بالإمتثال وبالأکثر مشکوک الحدوث من أوّل الأمر، ومنفیٌّ بالتعبّد للأصل الجاری فیه بلا معارض.

المناقشة

أفاد شیخنا دام بقاه: أنّه تارة: یتیقّن بالحدث ثمّ یتردّد بین الأصغر والأکبر، فالأصل الجاری فی کلٍّ منهما معارض بالأصل الجاری فی الآخر، وإذا تعارضا تساقطا ورجع إلی الإستصحاب ویحکم ببقاء الحدث الجامع. وأُخری: یتوضّأ ثمّ یتیقّن بالحدث المردّد بین الأصغر والأکبر قبل الوضوء، فعلی مبنی توقّف جریان الإستصحاب علی تساقط الأصول فی الأطراف بالمعارضة، فلا وجه للرجوع إلی الإستصحاب فی هذه الصّورة، لعدم المعارضة بین الأصول، لأنّ الحدث إن کان هو الأصغر فهو مرتفع، لأنّ المفروض کونه متوضّأً، فلا تکلیف له بالنسبة إلی هذا الفرد، ویبقی الأصل جاریاً فی الأکبر بلا معارض، فلا یرجع إلی إستصحاب بقاء کلّی الحدث.

ولکن القائل لا یلتزم بذلک. والوجه فی ذلک هو أنّ جریان الإستصحاب لا یدور مدار الیقین من أوّل الأمر، بل الیقین المتأخّر إنْ تعلّق بأمرٍ متقدّم وتمّت أرکان الإستصحاب فیه، کان الإستصحاب جاریاً فی کلّ موضوع ذی أثر، والمثال من هذا القبیل، فإن أرکانه تامّة و«المحدث» عنوان ذو أثر شرعی.

فظهر بما ذکرنا ما فی المبنی المذکور فی إستصحاب الکلّی، وبه ظهر الجواب عن إستصحاب بقاء التکلیف، فإنّ الأمر لا یدور مدار تعارض الأصلین

ص: 224

فی الخصوصیّتین، لکنّ عنوان «التکلیف» لیس مجعولاً شرعیّاً ولا موضوعاً لمجعول شرعی، فلا یترتّب علی استصحابه أثر شرعاً، وأمّا عقلاً، فإن موضوع الأثر العقلی هو المجعول الشّرعی لا الأمر المنتزع منه.

فإن نوقش فی هذا الجواب بأنّه: لا یلزم أنْ یکون المستصحب موضوعاً شرعیّاً، وأنّه لا مانع من إستصحاب الکلّی الإعتباری کعنوان «التکلیف»، وأثره حکم العقل بلزوم إمتثاله، إذ لا یفرّق العقل فی لزوم الإمتثال بین التکلیف الثابت بالوجدان والثابت بالتعبّد.

ذکرنا جواباً ثانیاً وهو: إنّ الحکم العقلی بلزوم إمتثال کلّی التکلیف حکم تعلیقی بناءً علی مسلک الإقتضاء _ لأن حکم العقل أساسه هو إقتضاء الإشتغال الیقینی للفراغ الیقینی _ والأصل الجاری بلا معارض یقتضی الفراغ _ بضمیمة قاعدة الإمکان _ کما تقدّم فی محلّه، ومعه لا حکم للعقل بالإحتیاط.

وبعبارة أُخری: نتیجة الإستصحاب هی تعلّق التکلیف بالذّمة وحکم العقل بلزوم إمتثاله والفراغ منه، فأثر الإستصحاب عقلی، لکن حکم العقل معلّق _ کما تقدّم فی محلّه _ علی عدم مجیء المؤمّن من قبل الشارع، والأصل الجاری فی الطّرف غیر المضطر إلیه مؤمّن شرعی ... وعلی هذا، فلا داعی لجعل الطّرف بدلاً عن الواقع فی الإجتناب.

ونقول ثالثاً: سلّمنا إقتضاء هذا الإستصحاب الإحتیاط، لکنّ مقتضی البراءة الشرعیّة فی الطّرف عدمه، فیقع التمانع بین أثری دلیلی الأصلین ویتساقطان، ویکون المرجع قاعدة قبح العقاب بلا بیان، فلا تنجیز.

ص: 225

الصورة الثالثة: و فیها قولان
اشارة

ما إذا کان الإضطرار بعد التکلیف والعلم به.

وفیها قولان:

الأوّل: عدم التنجیز.ذهب إلی الخراسانی

ذهب إلیه المحقّق الخراسانی فی الکفایة والفوائد(1). لأنّه یعتبر فی التنجیز أن یکون علی تقدیر، ومع الترخیص الواقعی بالنسبة إلی الفرد المضطرّ إلیه لا علم بالتکلیف المنجّز علی کلّ تقدیر، وإلاّ احتمل الإجتماع بین الترخیص وفعلیّة التکلیف المردّد فی المضطرّ إلیه، وإحتمال إجتماع الضدّین محال کالقطع به. فالعلم الإجمالی یستحیل تحقّقه بقاءً.

وبوجه آخر: العلم متعلّق بتکلیف مردّد بین الباقی والزائل من حین الإضطرار، فلیس علماً به علی کلّ تقدیر، بل هو من أوّل حدوثه مقیّد بعدم الإضطرار، فلا اقتضاء فیه للبقاء بعده.

الثانی: التنجیز.
اشارة

ذهب إلیه الشیخ(2)، واختاره المحقّق الخراسانی فی حاشیة الکفایة(3) وعلیه المیرزا(4) وتلمیذه(5).

ص: 226


1- 1. کفایة الأصول: 360، فوائد الأصول ط مع حاشیة الرسائل: 331.
2- 2. فرائد الأصول 2 / 245.
3- 3. حاشیة الکفایة: 360.
4- 4. أجود التقریرات 3 / 457.
5- 5. دراسات فی الأصول 3 / 390.

قال الشیخ بالتنجیز، لقاعدة الإشتغال.

وقال المحقّق العراقی: للعلم الإجمالی التدریجی الموجود فعلاً.

وقال صاحب الکفایة: للعلم الإجمالی الفعلی المردّد بین القصیر والطویل.

وسنذکر رأی المیرزا.

بیان الشیخ

إنّ التکلیف قد تنجّز بالعلم الإجمالی قبل عروض الإضطرار، ولا رافع للعلم المذکور فی الطرف غیر المضطرّ إلیه.

أقول:

ولکن یمکن أنْ یقال: إنّ العلم منجّز للتکلیف قبل عروض الإضطرار، وأمّا مع عروضه علی طرفٍ ینتفی العلم فلا منجّز، ویکون الأصل جاریاً فی الطرف الآخر بلا معارض.

فإن قیل: قد تعارض الأصلان قبل عروض الإضطرار وتساقطا، والسّاقط لا یعود.

قلنا: إنّ التعارض والتساقط یدوران مدار وجود الأصل فی کلّ آنٍ وإلاّ فلا تعارض، والأصل الجاری بعد الإضطرار فی غیر المضطرّ إلیه لیس فی مقابله أصل لیعارضه، فهو جار بلا معارض.

ص: 227

بیان المحقّق الخراسانی

قال فی حاشیة الکفایة ما حاصله: إنّ العلم الإجمالی قد تعلّق بالتکلیف المردّد بین المحدود والمطلق، لأنّ أحد الطرفین محدود بعروض الإضطرار علیه، والآخر مطلق غیر محدود، فالمورد من قبیل تعلّق التکلیف بالمردّد بین القصیر والطویل، ومن المعلوم عدم الفرق فی تنجّز التکلیف بالعلم الإجمالی بین أن یکون الطرفان قصیرین أو طویلین أو أحدهما قصیر والآخر طویل، وحیث أنّ الإضطرار حادث بعد التکلیف والعلم به، فإنّه یکون فی الطرف المضطر إلیه قصیر الأمد وفی الطرف الآخر طویلاً، ولا مانع من تنجیز العلم الإجمالی للتکلیف فی مثل هذا الفرض.

وبالجملة، فإنّا لا نستند للتنجیز إلی حدوث العلم _ حتی یقال بأنّ حدوثه لا یکفی لبقاء التنجیز، بل لابدّ من بقاء العلم الإجمالی حتی یبقی التنجیز _ بل إلی بقاء العلم وأرکان التنجیز، لأنّ أصل العلم موجود، ومتعلَّقه أی التکلیف المعلوم الفعلی، لا مانع عن فعلیّته، وهو وإنْ لم یکن فعلیّاً علی کلّ تقدیر، لکنّ بقاء العلم علی کلّ تقدیر لیس معتبراً فی التنجیز.

ونظیر المقام: ما إذا علم إجمالاً قبل الظهر من یوم الجمعة بوجوب أحد الأمرین من صلاة الظهر وصلاة الجمعة، لکن أمد صلاة الجمعة قصیر وأمد صلاة الظهر طویل، فإنّ انتهاء أمد الجمعة لا یضرّ بتنجیز العلم الإجمالی ووجوب الإتیان بصلاة الظهر.

وبما ذکر ظهر ما فی کلامه فی متن الکفایة، من أنّ التنجیز یدور مدار

ص: 228

المنجّز وهو العلم حدوثاً وبقاءً ... لأنّ هذه الکبری غیر منطبقة علی المقام، لأنّ العلم بالتکلیف باقٍ بعد الإضطرار فیکون منجّزاً للطرف.

بیان المحقّق العراقی

وقال المحقّق العراقی بالتنجیز(1) هنا بناءً علی تنجیز العلم فی التدریجیّات. بتقریب: إن العلم إذا تعلّق بتکلیف مردّد بین القصیر والطویل تحقّق علمان، أحدهما عرضی، وهو إمّا هذا حرام شربه وإمّا ذاک، والآخر طولی وهو إمّا هذا حرام شربه الآن وإمّا ذاک حرام شربه فی الآن اللاّحق. فإذا وقع الإضطرار إلی أحدهما سقط العلم الإجمالی العرضی عن التأثیر، إذْ لا تبقی القضیّة المنفصلة المذکورة، لکن الطّولی باقٍ، غیر أنّ أحد طرفیه _ وهو المضطر إلیه _ قد انتهی أمده.

وکذا الکلام لو تلف أحد الطرفین أو سقط الأمر به بالإمتثال أو خرج عن الإبتلاء.

أقول:

وهذا التقریب إنّما یتم فی کلّ موردٍ أمکن تعدّد التکلیف فیه علی أساس الإنحلال، لأنّ التدریجی یتحقّق فی التکالیف الإنحلالیّة، کحرمة وطئ الحائض مثلاً، دون ما لا یتم فیه، کمثال دوران الأمر بین الظهر والجمعة. ومن الواضح أنّ تعدّد التکلیف وعدمه یدور مدار تعدّد الملاک وعدمه. فالإستدلال للتنجیز بهذا الطریق أخصّ من المدّعی.

ص: 229


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 350.
بیان المحقّق النائینی

إنّ نفس حدوث العلم موجب لتعارض الأصول وتساقطها، وإذا سقطا فلا أصل مؤمّن فی غیر المضطرّ إلیه، فیستحقّ العقاب علی إرتکابه.

هذا ظاهر کلامه.

أقول:

وهو یرجع إلی ما ذکره الشیخ، فإنّ ملاک التعارض هو الإشتغال الیقینی، والشک یعود إلی سقوط التکلیف المنجّز.

وبعبارة أُخری: إنّه وإنْ لم تبق القضیّة المنفصلة، ولکنّ حدوثها وعدم الشک الساری کافٍ للتنجیز وتحقّق الإشتغال.

خلاصة البحث

إنّ بحثنا أعم من الشّبهة التحریمیّة والوجوبیّة، وأعم ممّا یتعدّد فیه الملاک والحکم بتبع الملاک، ولیس التعدّد والإنحلال متحقّقاً فی کلّ شبهة حکمیّة، فإن شرب النجس الواحد لیس له إلاّ حکم واحد.

وإنّ المختار فی وجه التنجیز ما ذکر فی حاشیة الکفایة، وحاصله:

إنّ المنجّز الحدوثی موجود، غیر أنّ فعلیّة التکلیف انقطعت بقاءً فی طرفٍ علی أثر قصر مدّته، بسبب الإضطرار مثلاً.

وبهذا الذی ذکره یندفع الوجهان المتقدّمان للإنحلال، لأنّ ملاک التنجیز هو العلم الإجمالی بالتکلیف المردّد، لا القضیّة المنفصلة. وأیضاً: الترخیص فی

ص: 230

المضطرّ إلیه یزیل القضیّة المنفصلة العرضیّة، ولکن ملاک التنجیز لیس تلک القضیّة، بل هو العلم الفعلی المردّد بین القصیر والطّویل.

المقام الثانی: لو اضطرّ إلی إرتکاب الفرد غیر المعیَّن

اشارة

وفیه الصّور المذکورة فی المقام الأوّل.

والأقوال ثلاثة:

1_ التنجیز مطلقاً.

2_ العدم مطلقاً.

3_ التفصیل بین صورة الإضطرار العقلی والوصول إلی حدّ الإلجاء وغیرها.

وبعبارة أُخری: التفصیل بین ما إذا کان الإضطرار بحیث لا مجال معه لجریان حدیث الرفع، وما إذا لم یکن کذلک.

قال بالأوّل: الشیخ والعراقی والمیرزا.

وقال بالثانی: الخراسانی فی الکفایة وتبعه الإصفهانی.

وقال بالثالث: الخراسانی فی حاشیة الرسائل.

دلیل عدم التنجیز
اشارة

استدلّ للعدم بوجهین:

الوجه الأول
اشارة

الأوّل: إنّه لا علم إجمالی بالتکلیف فی صورة الإضطرار إلی غیر المعیّن،

ص: 231

لأنّ الترخیص التخییری یزاحم الإلزام التعیینی، ومصلحة الترخیص أهمّ من مصلحة الإلزام، ومع الأهمیّة، یسقط الإلزام، فلا یبقی العلم الإجمالی.

وبهذا الوجه یسقط وجوب الموافقة القطعیّة وحرمة المخالفة القطعیّة معاً، إذ الحرمة هی فی صورة وجود الإلزام، ومع عدمه فلا حرمة.

جواب الشیخ

أجاب(1): بأنّ الترخیص هنا ترخیصٌ فی المقدّمة العلمیّة، بمعنی أنّ الشارع قد رفع الید عن لزوم الترک أو الإتیان علی أثر الإضطرار، ورخّص المکلَّف فی فعل أو ترک أحد الطرفین، والترخیص فی المقدّمة العلمیّة فعلاً أو ترکاً أثره سقوط وجوب الموافقة القطعیّة فحسب، فلابدّ من فعل أو ترک الطرف الباقی حذراً من المخالفة القطعیّة.

الإشکال علیه

فأشکل الأُستاذ: بأنّ مبنی الشیخ هو التوسّط فی التکلیف _ أی وجوده علی تقدیر وعدم وجوده علی آخر _ وعلیه، فإنّ الطرف الذی یرتکبه المضطر خال عن التکلیف قطعاً، فیشک وجوده فی الطرف الباقی، فالشّبهة بدویّة، ولا یمکن أن تکون مقرونةً بالعلم.

ص: 232


1- 1. فرائد الأصول 2 / 246.

وأمّا أنّ الترخیص هو فی المقدّمة العلمیّة ففیه:

إنّ المقدّمة العلمیّة یدور أمرها بین الواجب أو الحرام وبین ما هو أجنبی عن الواجب أو الحرام، لأنّها مقدّمة لإحراز الإمتثال، ورفع الشارع التکلیف عمّا یختاره المکلّف ملازم للترخیص الواقعی، وتکون النتیجة أنّ أحد الطرفین مقطوع الحلیّة والآخر مشکوک الإلزام.

فالقول بالتوسّط بالتکلیف قولٌ بالترخیص الواقعی، لکنّ موضوعه هو الطرف المختار. لکن هذا الترخیص موجود قبل الإختیار، فکیف یجتمع مع الإلزام؟

الوجه الثانی
اشارة

الوجه الثانی: ما ذکره المحقّق الإصفهانی(1):

إنّ العلم الإجمالی إنّما یؤثر إذا کان التکلیف یترتّب علیه إستحقاق العقاب علی کلّ تقدیر، وإلاّ فلا یؤثر، فلا تنجیز.

توضیحه:

إن ضمّ غیر الواقع إلی الواقع لا یوجب، إستحقاق العقاب، وإنّما الموجب له هو الواقع فقط، فإن کان الإلزام الواقعی فی الطرف المختار لرفع الإضطرار، فإنّ إرتکابه غیر موجب لاستحقاق العقاب، لأنّ المفروض إباحته. فظهر أنّه لا علم للمکلّف بتکلیفٍ منجّز موجب لاستحقاق العقاب، وأنّه متی لم تجب الموافقة القطعیّة لم تحرم المخالفة القطعیّة.

ص: 233


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 260.
المختار عند الشیخ الأُستاذ:

هو التنجیز مطلقاً.

وذلک، لأنّ موضوع التکلیف هو الخمر علی وجه التعیین إلاّ أنّ وجوده مردّدٌ، والإضطرار موضوعه هو الجامع بین الطرفین، أی عنوان «أحدهما»، فکان متعلّق التکلیف بوجوب الإجتناب وجواز الإرتکاب متغایراً. و«الإضطرار» إنّما یرفع «التکلیف» فیما إذا کان المتعلّق له وللتکلیف متّحداً وإلاّ فلا یرفعه، بل مقتضی القاعدة بقاؤه، لوجود المقتضی وعدم المانع أی الإضطرار.

وبالجملة، فالتکلیف موجود، وقد تعلّق العلم به، ومجرّد تعلّق العلم بتکلیف _ بحیث وجد المقتضی له وعدم المانع عنه _ موجب للتنجیز. فالعلم الإجمالی منجّز، وکلّ علم منجّز فله أثران عقلیّان، أحدهما وجوب الموافقة، والآخر حرمة المخالفة. فإذا انتفی الأثر الأوّل علی أثر المانع وهو الإضطرار، بقی الأثر الثانی علی حاله، لوجود المقتضی وعدم المانع. فالإجتناب عن الطرف واجب.

وأمّا ما ذکره المحقّق الإصفهانی، فإنّما یتم لو کان المنجّز عقلاً هو التکلیف المؤثر علی کلّ تقدیر، لأنّه إذا صادف المختارُ الحرامَ الواقعی فلا یکون التکلیف علی هذا التقدیر منجّزاً، لعدم إستحقاق العقاب علی إرتکاب الطرف الآخر کما لا یخفی.

لکنّ المنجّز عقلاً هو العلم بالتکلیف الفعلی، أی التکلیف الذی تحقّق موضوعه بجمیع قیوده وحدوده، وذلک لا ینافی أن یکون المکلَّف معذوراً علی

ص: 234

تقدیر _ وهو حال المصادفة _ وغیر معذور علی تقدیر وهو صورة عدمها، لأنّ المعذوریّة متأخّرة عن التنجیز فی الرتبة.

وبعبارة أُخری:

إنّ الباعثیّة الإمکانیّة للتکلیف المعلوم بالإجمال تامّة، لکنّ المانع عن فعلیّة هذه الباعثیّة هو جهل المکلّف بمحلّ وجود التکلیف، ولذا لو ارتفع الجهل کان التکلیف باعثاً للمکلّف نحو الإمتثال، وحینئذٍ، مقتضی حکم العقل بأنّ الضرورات تتقدّر بقدرها هو رفع الید عن وجوب الموافقة القطعیّة _ لعدم إمکانها بسبب الإضطرار إلی إرتکاب بعض الأطراف _ دون المخالفة القطعیّة، لبقائها علی حال الإمکان، فلا عذر فی إرتکابها.

تنبیه:

تارةً: التکلیف موجود علی تقدیر دون تقدیر، وذلک کما لو اضطرّ إلی أحدهما المعیّن، فإنّه لو علم بوقوع النجاسة إمّا فی المضطرّ إلیه وإمّا فی طرفه، فإنّ التکلیف بالإجتناب موجود علی تقدیر عدم مصادفة النجاسة للمضطرّ إلیه، وغیر موجود علی تقدیر مصادفتها له.

وأُخری: یکون التکلیف موجوداً علی کلّ تقدیر، لکنّه تارةً: منجّز علی کلّ تقدیر، وأُخری: هو منجّز علی تقدیر دون تقدیر. فالأوّل: مثل دوران الأمر بین المتباینین مع عدم الإضطرار، والثانی: مثل دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر، فإنّه علی تقدیر تعلّق التکلیف بالأقلّ یکون منجّزاً وعلی تقدیر تعلّقه بالأکثر فلا تنجیز.

فهذا معنی التوسّط فی التکلیف والتوسّط فی التنجیز.

ص: 235

أمّا صورة الإضطرار إلی أحدهما المعیّن وتعلّق العلم بسبب التکلیف بعد الإضطرار، فهی من التوسّط فی التکلیف، إنّما الکلام فی صورة الإضطرار إلی أحدهما غیر المعیّن، فهل هی صغری التوسّط فی التکلیف أو صغری التوسّط فی التنجیز؟

من قال بالتنجیز بالنسبة إلی المخالفة القطعیّة یقول بالثانی.

ومن قال بعدمه، فلا محالة یقول بالتوسّط فی التکلیف. والشیخ یقول بالتوسّط فی التکلیف مع قوله بالتنجیز. وقد تقدّم الإشکال فیه.

والمحقّق العراقی یقول بالتنجیز فیما نحن فیه، فعلی مبنی علیّة العلم الإجمالی قال: لا مناص من القول بالتوسّط فی التکلیف، وعلی مبنی الإقتضاء قال بإمکان القول بالتوسّط فی التنجیز. ثمّ اختار القول بالتوسّط فی التکلیف علی کلا المسلکین.

وتوضیح ما ذکره هو: إنّ التوسّط فی التکلیف هنا عبارة عن کون التوسّط فی إطلاق فعلیّة التکلیف لا فی نفس فعلیّته، فإنّ التوسّط فی التکلیف الفعلیّ ینافی الترخیص، بخلاف التوسّط فی إطلاق فعلیّته. مثلاً: إذا علم بخمریّة أحد الإناءین من غیر إضطرار، فالتکلیف فعلیّ بالإطلاق، أی: یحرم إرتکاب أحد الطرفین، سواء ارتکب الآخر أو ترکه.

والفعلیّة علی تقدیرٍ تکون فی المثال مع الإضطرار، فإنّ الحرمة موجودة علی تقدیر عدم مصادفة الحرام، وغیر موجودة علی تقدیر المصادفة.

وکذلک الأمر مع الإضطرار إلی أحدهما غیر المعیّن، فإنّه مع عدم الإضطرار

ص: 236

یکون التکلیف فعلیّاً علی وجه الإطلاق، ومع الإضطرار، فإنّ حرمة الطّرف مقیّدة بعدم رفع الإضطرار بالحلال. فالتکلیف فعلیّ علی تقدیر رفع الإضطرار بالحلال، وغیر فعلیّ علی تقدیر رفعه بغیر الحلال.

هذا علی مسلک العلیّة. وحاصله: إنّ المفروض فی الإضطرار إلی أحدهما غیر المعیّن هو الترخیص فی ترک الموافقة القطعیّة، فلا مناص من القول بالتکلیف الناقص. أی إنّ التکلیف فی الإضطرار إلی غیر العیّن فعلیّ علی تقدیر وغیر فعلی علی تقدیر، أی إن کان رفع الإضطرار بالحلال کان التکلیف فعلیّاً وإلاّ سقط عن الفعلیّة.

وأمّا علی مسلک الإقتضاء، فلا حاجة إلی ذلک، لأنّه علی هذا المسلک یجوز الترخیص فی ترک الموافقة، أمّا المخالفة القطعیّة، فلا یجوز الترخیص فیها. ومع جواز الترخیص لا حاجة إلی القول بالتکلیف الناقص، بل التکلیف فعلیّ، ویجمع بین الترخیص الظاهری وبین الواقع بما یجمع بین الحکم الظاهری والحکم الواقعی، لأنّ الترخیص الظّاهری هو فی طول الواقع، فلا یلزم إجتماع الضدّین، لعدم وحدة المرتبة.

ثمّ إنّ المحقّق العراقی قال بالتوسّط فی التکلیف بالمعنی المذکور حتی بناءً علی مسلک الإقتضاء، لأنّه فی ظرف رفع الإضطرار لا معنی لبقاء التکلیف الواقعی، لأنّ الإضطرار من حدود التکلیف، وعلیه، یسقط الواقع عن الفعلیّة فی صورة المصادفة له.

فالحاصل، کون التکلیف فعلیّاً علی تقدیر وغیر فعلیّ تقدیر علی کلا المسلکین.

ص: 237

أقول:

المسألة هی کون أحد الإناءین خمراً، ثمّ مجیء التکلیف بحفظ النفس ووقوع الإضطرار إلی شرب أحد الإناءین غیر المعیّن. فهنا حکمان، أحدهما: حرمة شرب الخمر، والآخر: وجوب حفظ النفس الموجب للزوم شرب أحدهما مقدّمةً لحفظ النفس.

والمقدّمة هذه إمّا واجبة شرعاً بقاعدة الملازمة، فیکون أحد الإناءین لا علی التعیین واجب الإرتکاب، والعقل یخیّره فی التطبیق علی أحدهما، فلا یوجد عندنا تکلیفان الوجوب بالنسبة إلی الجامع، والإباحة بالنسبة إلی الأطراف. وإمّا لازمة باللاّبدیة العقلیّة، فلابدّ من شرب أحدهما لأجل حفظ النفس، وهو مرخّص فی إختیار أیّهما شاء، لکنْ لا ترخیص من العقل بالنسبة إلی المخالفة القطعیّة.

فظهر أنّ مقتضی دلیل وجوب حفظ النفس هو الترخیص فی إرتکاب أحد الطّرفین فقط من أجل رفع الإضطرار به، وأنّه لا ترخیص بالنسبة إلی جمیع الأطراف، لا عقلاً ولا شرعاً ...

إذن، لا ترخیص شرعیّ بالنسبة إلی جمیع الأطراف حتی تلزم المضادّة بینه وبین الواقع، حتی یحتاج إلی الجمع، لأنّ الترخیص الظّاهری فی أطراف العلم غیر ممکن، لکون التکلیف الواقعی _ بناءً علی الإقتضاء _ فعلیّاً علی کلّ تقدیر، والجمع بین الحکم الظّاهری والحکم الواقعی یکون فی الشّبهات البدویّة دون المقرونة، ففی البدویّة نقول: إنّ مفسدة الحرام قائمة بالواقع، ومصلحة الحکم الظّاهری قائمة بجعل الترخیص، هذا من ناحیة الملاک. وفی مرحلة الإمتثال، الحکم

ص: 238

الظّاهری واصل والواقعی غیر واصل، فلا تنافی بین الحکمین، لا فی مرحلة الملاک ولا فی مرحلة الإمتثال. أمّا فی المقرونة، فالوصول حاصل والتکلیف فعلیّ، فوصوله یقتضی الإمتثال، والترخیص الظّاهری یقتضی عدم الإمتثال، فکیف یمکن أن یکون التکلیف فعلیّاً علی کلّ تقدیر ویأتی الترخیص الظّاهری التخییری؟

ثمّ إنّ الجمع بالطولیّة _ أی کون الترخیص الظّاهری فی طول الواقع _ لا یرفع الإشکال، لما ذکرنا _ فی مبحث الجمع بین الحکم الظّاهری والحکم الواقعی _ من أنّ الحکم الواقعی بحقّ الشاکّ موجود، إمّا بإطلاق الحکم الواقعی وإمّا بنتیجة الإطلاق، وإلاّ یلزم التصویب.

وهذا الإشکال مبنائی.

وأمّا حلّ المحقّق العراقی الإشکال بالقول بالتکلیف الناقص، وهو وجود التکلیف علی تقدیر وعدم بقائه علی إطلاقه _ کأن تکون حرمة الخمر موجودة لا علی کلّ تقدیر، بل هی علی تقدیر إرتکاب الحلال موجودة، وغیر موجودة علی تقدیر عدم إرتکاب الحلال، علی نحو القضیّة الحینیّة أو القضیّة المشروطة.

فیرد علیه: إنّه قبل رفع الإضطرار کان الشرط _ وهو إرتکاب الحلال _ غیر متحقّق، فیلزم عدم الحرمة، لأن معنی القضیّة المشروطة کون حرمة الخمر مشروطة بارتکاب الحلال. وإن کان بنحو القضیّة الحینیّة _ أی إنّ حرمة الخمر هی فی حین رفع الإضطرار بالحلال، وأنّه إنْ رفع بنفس الحرام فلا حرمة _ فإن لازمه عدم الحرمة فی حین إرتکاب الحرام. هذا أوّلاً.

ص: 239

وثانیاً: إنّ الشرط المتأخّر لابدّ له من دلیلٍ فی مقام الإثبات.

وأمّا قوله: فی ظرف الإضطرار یسقط التکلیف عن الفعلیّة، وأمّا قبله فهی موجودة، فلابدّ من القول بالتوسّط فی التکلیف علی کلا المسلکین.

ففیه: إنّه إنْ کان الإضطرار _ فی ظرف رفعه _ إلی خصوص شرب الخمر، سقط التکلیف عن الفعلیّة وإلاّ فلا یسقط. وبعبارة أُخری: حدّ التکلیف هو الإضطرار لا رفع الإضطرار، ومع الإرتکاب لا ینقلب الإضطرار إلی الجامع إلی الإضطرار إلی الفرد. فارتفاع التکلیف بمجرّد رفع الإضطرار غیر معقول.

وعلی الجملة: لا یعقل أن یکون التکلیف مشروطاً أو مغییًّ بفعله أو ترکه، کأن یکون غایة وجوب الصّلاة ترکها، أو غایة حرمة الخمر شربه. وبناءً علی التکلیف الناقص: لا إشکال فی وجود الحرمة قبل رفع الإضطرار بالحرام، هذا لا إشکال فیه وهو معترف به والبرهان قائم علیه، لأنّ المفروض _ قبل رفع الإضطرار _ عدم الإضطرار إلی الخمر، فالتکلیف حینئذٍ بحرمة شربه موجود، لوجود مقتضیه وعدم المانع عنه، فإذا کانت الحرمة مرتفعة برفع الإضطرار بشرب الخمر، کانت حرمة شرب الخمر محدودة بشرب الخمر. وهذا غیر معقول.

ولو جعل شیء آخر غایةً، کان معنی ذلک إشتراط الحکم بأمرٍ أجنبیّ، وهو أیضاً غیر معقول، لأنّ الشرط أو الغایة لابدّ وأنْ یکون له دخل، ومع عدم الدّخل لا یمکن الإشتراط به أو جعله غایة، إذ لا یکون الإشتراط بلا ملاک. إذنْ، لا یعقل اشتراط التکلیف إلاّ بمانعه، وهو إمّا الإضطرار وإمّا کونه مصداقاً للمضطرّ إلیه، وحینئذٍ ینقطع التکلیف وتکون النتیجة الترخیص التخییری. وإشکاله هو أنّ هذه

ص: 240

المحدودیّة هی محدودیّة الحرمة بفعل الحرام وارتکابه، وهی غیر معقولة.

خلاصة البحث

وخلاصة البحث فی الإضطرار إلی غیر المعیّن هو: إنّ المقتضی للتکلیف موجود والمانع مفقود، لأنّ متعلّق الإضطرار غیر متعلّق التکلیف. فالتکلیف تام، ولا قصور فی العلم المتعلّق به، فالعقل حاکم بوجوب الموافقة القطعیّة وحرمة المخالفة القطعیّة. لکنّ الأوّل غیر ممکن إمتثاله فیسقط، والثانی ممکن فلا مجوّز لسقوطه، فالحقّ هو التنجیز.

ولا نقول بالترخیص الظّاهری، لأنّ الترخیص هنا تخییری، والترخیص التخییری فی أطراف العلم غیر ممکن إلاّ علی مبنی جریان الأصول فی أطراف العلم تخییراً. هذا من جهة، ومن جهة أُخری، لا مثبت لهذا الترخیص، وحدیث الرفع هنا هو «رفع ما اضطرّوا إلیه» لا «رفع ما لا یعلمون».

فإن قیل: الإضطرار متعلّق بالجامع ویجری فیه «رفع ما اضطرّوا إلیه» فالجامع مرفوع، فتجوز المخالفة القطعیّة.

قلنا: إن رفع المضطرّ إلیه بحدیث الرفع ترخیص واقعی لا ظاهری. وعلی فرض جریانه فی الجامع، فإنّ الترخیص فی الجامع لا ینافی وجود الحرمة فی الفرد، بل یجتمعان. وعلی هذا الأساس نقول ببقاء إطلاق التکلیف، وبطلان التکلیف الناقص الذی قال به المحقّق العراقی، فلو اضطرّ إلی شرب الماء وکان أحد الإناءین نجساً، فإن الترخیص بالنسبة إلی الجامع لا ینافی حرمة إرتکاب

ص: 241

النجس. نعم، إذا علم النجس بعینه، کان علیه رفع الإضطرار بالطرف، وأمّا إن ارتکبه وهو جاهل فمعذور.

فالتکلیف فعلیٌّ ولیس یناقص.

ثمّ إنّ البحث فی الإضطرار إلی المعیّن وغیره إنّما هو حیث یکون الإضطرار رافعاً للتکلیف بالمرّة. وأمّا إذا لم یرفع تمام التکلیف فلا یسقط العلم عن المنجّزیّة، لا فی الإضطرار إلی المعیّن ولا فی الإضطرار إلی غیر المعیّن، فلو علم إجمالاً بسقوط النجاسة إمّا فی الماء وإمّا فی الخلّ، فإنّ الإضطرار یرفع حرمة شرب الماء ولا یفید جواز التوضّئ به، فالعلم الإجمالی من هذه الجهة باقٍ علی تأثیره، فإنّه إمّا لا یجوز شرب الخلّ وإمّا لا یجوز التوضّؤ بهذا الماء.

ص: 242

التنبیه التاسع: فی الابتلاء وعدمه

اشارة

لا ریب فی إعتبار القدرة وعدم العجز عن الإمتثال فی التکلیف، وإنْ وقع الخلاف فی أنّ إعتبارها باقتضاء نفس الخطاب أو بحکم العقل، إذ ذهب المیرزا إلی الأوّل، وأنّ توجیه الخطاب إلی العاجز غیر معقول، وقال جماعة بالثانی تبعاً للمحقّق الثانی.

وملخّص الکلام: إنّه علی المبنی الأوّل: یستحیل تحریک العاجز، والإمتناع ذاتی. وعلی الثانی: لا یستحیل بل هو قبیح عقلاً، فالإمتناع بالعرض.

وکیف کان، فإنّ جعل الداعی للإمتثال إنّما هو حیث یمکن الإنزجار والإنبعاث، وإلاّ فهو ممتنع. وبعبارة أُخری: إنّه لا إهمال بالنسبة إلی الواقع، فأمّا الإطلاق، بأنْ یکون التکلیف متوجّهاً، سواء مع القدرة وعدمها، فمحال کذلک، فالتقیید ثابت لا محالة.

فهل الإبتلاء مثل القدرة؟

أی: کما أنّ القدرة علی الإمتثال شرط، کذلک یعتبر أن یکون متعلّق التکلیف

ص: 243

مقدوراً علیه أوْ لا یعتبر؟

والقدرة: إمّا عقلیّة، وإمّا عرفیّة، وإمّا عادیّة. فالطیران فی الهواء بالنسبة إلی الإنسان وإن کان مقدوراً عقلاً غیر مقدور عادةً، فلا یعقل التکلیف به، کما لا یعقل التکلیف بغیر المقدور عقلاً.

لکنّ الکلام فی التکلیف بغیر المقدور عرفاً، کما لو کان أحد الأطراف فی الهند، حیث القدرة علیه موجودة عقلاً وعادةً وغیر موجودة عرفاً، فهل یعقل التکلیف به ویشترط ذلک فیه؟

والأقوال فی المسألة ثلاثة:

الأوّل: لا یعتبر کون الشیء محلاًّ للإبتلاء فی صحّة التکلیف بالنسبة إلیه مطلقاً. وهو مختار المحقّق الإصفهانی.

الثانی: إنّه معتبر مطلقاً کذلک. وعلیه صاحب الکفایة.

الثالث: التفصیل بین التکالیف التحریمیّة فالإعتبار، والوجوبیّة فعدم الإعتبار. وهذا مصرّح به فی کلمات المیرزا، وهو المستفاد من کلام الشیخ، وإن لم یتعرّض للشبهة الوجوبیّة.

بیان الشیخ

بیان الشیخ(1)

إنّ وجوب الإجتناب عن کلا المشتبهین إنّما هو مع تنجّز التکلیف بالحرام الواقعیّ علی کلِّ تقدیر، بأن یکون کلٌّ منهما بحیث لو فرض القطع بکونه الحرام

ص: 244


1- 1. فرائد الأصول 2 / 233.

کان التکلیف بالإجتناب منجّزاً، فلو لم یکن کذلک بأن لم یکلّف به أصلاً، کما لو علم بوقوع قطرةٍ من البول فی أحد إناءین أحدهما بولٌ أو متنجّسٌ بالبول أو کثیرٌ لا ینفعل بالنجاسة، أو أحد ثوبین أحدهما نجسٌ بتمامه، لم یجب الإجتناب عن الآخر؛ لعدم العلم بحدوث التکلیف بالإجتناب عن ملاقی هذه القطرة؛ إذ لو کان ملاقیها هو الإناء النجس لم یحدث بسببه تکلیفٌ بالإجتناب أصلاً، فالشکُّ فی التکلیف بالإجتناب عن الآخر شکٌّ فی أصل التکلیف لا المکلّف به.

وکذا لو کان التکلیف فی أحدهما معلوماً لکن لا علی وجه التنجّز، بل معلّقاً علی تمکّن المکلّف منه، فإنّ ما لا یتمکّن المکلّف من ارتکابه لا یکلّف منجّزاً بالإجتناب عنه، کما لو علم بوقوع النجاسة فی أحد شیئین لا یتمکّن المکلّف من إرتکاب واحدٍ معیّن منهما، فلا یجب الإجتناب عن الآخر؛ لأنّ الشکّ فی أصل تنجّز التکلیف، لا فی المکلّف به تکلیفاً منجّزاً.

وکذا لو کان إرتکاب الواحد المعیّن ممکناً عقلاً، لکنّ المکلّف أجنبیٌّ عنه وغیر مبتلٍ به بحسب حاله، کما إذا تردّد النجس بین إنائه وإناءٍ آخر لا دخل للمکلّف فیه أصلاً؛ فإنّ التکلیف بالإجتناب عن الإناء الآخر المتمکّن منه عقلاً غیر منجّزٍ عرفاً؛ ولهذا لا یحسن التکلیف المنجّز بالإجتناب عن الطعام أو الثوب الذی لیس من شأن المکلّف الإبتلاء به.

نعم، یحسن الأمر بالإجتناب عنه مقیّداً بقوله: إذا اتّفق لک الإبتلاء بذلک بعاریةٍ أو تملّک أو إباحةٍ فاجتنب عنه.

والحاصل: أنّ النواهی المطلوب فیها حمل المکلّف علی الترک مختصّةٌ

ص: 245

_ بحکم العقل والعرف _ بمن یعدّ مبتلیً بالواقعة المنهیّ عنها؛ ولذا یُعَدُّ خطاب غیره بالترک مستهجناً إلاّ علی وجه التقیید بصورة الإبتلاء.

ولعلّ السرّ فی ذلک: أنّ غیر المبتلی تارکٌ للمنهیّ عنه بنفس عدم إبتلائه، فلا حاجة إلی نهیه، فعند الإشتباه لا یعلم المکلّف بتنجّز التکلیف بالإجتناب عن الحرام الواقعیّ.

وهذا بابٌ واسعٌ ینحلّ به الإشکال عمّا علم من عدم وجوب الإجتناب عن الشبهة المحصورة فی مواقع، مثل ما إذا علم إجمالاً بوقوع النجاسة فی إنائه أو فی موضعٍ من الأرض لا یبتلی به المکلّف عادةً، أو بوقوع النجاسة فی ثوبه أو ثوب الغیر، فإنّ الثوبین لکلٍّ منهما من باب الشبهة المحصورة مع عدم وجوب اجتنابهما، فإذا أجری أحدهما فی ثوبه أصالة الحلّ والطهارة لم یعارض بجریانهما فی ثوب غیره؛ إذ لا یترتّب علی هذا المعارض ثمرةٌ عملیّةٌ للمکلّف یلزم من ترتّبها مع العمل بذلک الأصل طرح تکلیفٍ متنجّزٍ بالأمر المعلوم إجمالاً ...

ویؤیّد ما ذکرنا: صحیحة علیّ بن جعفر، عن أخیه علیهما السّلام، الواردة فی مَن رعف فامتخط فصار الدمُ قِطَعاً صِغاراً فأصاب إناءه، هل یصلح الوضوء منه؟ فقال علیه السّلام: (إن لم یکن شیءٌ یستبینُ فی الماء فلا بأسَ وإن کان شیئاً بیّناً فلا)(1).

حیث استدلّ بها شیخ الطائفة قدّس سرّه علی العفو عمّا لا یدرکه الطرفُ من الدم(2)، وحملها المشهور علی أنّ إصابة الإناء لا یستلزم إصابة الماء، فالمراد

ص: 246


1- 1. وسائل الشیعة 1 / 151، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، رقم: 1.
2- 2. الإستبصار 1 / 23.

أنّه مع عدم تبیّن شیءٍ فی الماء یحکم بطهارته، ومعلومٌ أنّ ظهر الإناء وباطنه الحاوی للماء من الشبهة المحصورة.

وما ذکرناه واضحٌ لمن تدبّر.

إلاّ أنّ الإنصاف: أنّ تشخیص موارد الإبتلاء لکلٍّ من المشتبهین وعدم الإبتلاء بواحدٍ معیّنٍ منهما کثیراً ما یخفی ...

بیان المحقّق الخراسانی

وذهب المحقّق الخراسانی فی حاشیة الرسائل إلی إعتبار الإبتلاء فی الشبهة الوجوبیّة أیضاً، فأشکل علی الشیخ بما حاصله: أنّ الملاک الذی أفاده الشیخ موجودٌ فیها کذلک، فلا یکون العلم الإجمالی فیها أیضاً منجّزاً ما لم تکن الأطراف کلّها مورداً للإبتلاء من حیث الترک، لأنّ التکلیف الوجوبی کذلک لا یصح إلاّ فیما إذا کان للمکلَّف داعٍ إلی ترکه عادةً، إذ لو کان الشیء ممّا یفعله بطبعه ولا داعی له إلی ترکه، کان جعل التکلیف الوجوبی بالنسبة إلیه لغواً. وعلیه، فلو کان بعض الأطراف فی الشبهة الوجوبیّة خارجاً عن محلّ الإبتلاء، ولم یکن المکلّف مبتلیاً بترکه عادةً، کان التکلیف بالنسبة إلیه منتفیاً یقیناً، ویکون فی الطرف الآخر مشکوک الحدوث، والمرجع حینئذٍ هو الأصل الجاری بلا معارض.

إشکال الأُستاذ

وأشکل علیه شیخنا: بأنّ الإلتزام بما ذهب إلیه الشیخ یستلزم الإلتزام بعدم

ص: 247

الحرمة الشرعیّة لما یکون المکلّف تارکاً له بالطّبع. وهذا خلاف الضّرورة الفقهیّة.

وأیضاً: قول المحقّق فی الحاشیة بتعمیم المطلب إلی الواجبات، یستلزم الإلتزام بعدم وجوب ما یکون المکلّف فاعلاً له بالطبع. وهذا خلاف الضّرورة الفقهیّة کذلک.

بیان المیرزا لدفع الإشکال

وقال المحقّق المیرزا(1) فی الجواب ما توضیحه:

إنّ هنا ثلاثة أُمور: القدرة وإرادة المکلّف للفعل أو الترک والتکلیف.

فالقدرة مقدّمة رتبة علی التکلیف والتکلیف مقدّم رتبة علی الإرادة أو عدم الإرادة، فلذا کانت القدرة من شرائط التکلیف، والإرادة منبعثةً عن التکلیف، لکنّ المهمّ هو استحالة اشتراط التکلیف بالإرادة، فلا یعقل أن یقال: إن أردت الصّلاة فالصّلاة واجبة علیک، لأنّه تحصیل للحاصل، کما لا یعقل أن یقال: إن لم ترد الصّلاة فالصّلاة واجبة علیک، لأنّ الغرض من التکلیف هو إیجاد الداعی فی نفس المکلَّف، ومع عدم الإرادة یلزم اجتماع النقیضین وهو محال. فتقیید الحکم والتکلیف بالإرادة وعدم الإرادة محال.

وعلی هذا، فالقول بلغویة جعل الحکم الوجوبی مع الإرادة إلی الفعل لکونه تحصیلاً للحاصل، وکذا جعل الحکم التحریمی مع الإرادة إلی الترک، یستلزم القول بتقیید التکلیف بالإرادة، وقد عرفت استحالته، وإذا استحال تقیید الحکم

ص: 248


1- 1. فوائد الأصول 4 / 52 _ 53.

بالإرادة اندفع الإشکال، سواء کان التکلیف وجوبیّاً أو تحریمیّاً.

قال الأُستاذ:

إنّ المشکلة ترجع إلی النسبة بین الإطلاق والتقیید، فإنّا:

تارة نقول: بأنّ النسبة بین الإطلاق والتقیید هی العدم والملکة، فإذا لم یمکن التقیید فالإطلاق واجب.

وأُخری نقول: بأنّ النسبة هی التضادّ، فإذا لم یکن التقیید فالإطلاق واجب.

أمّا بناءً علی المسلک الأوّل، فإنّه إذا قلنا بأنّ التکلیف غیر مقیّدٍ بالإرادة، ومع عدم التقیّد بها فلا إطلاق للتکلیف أیضاً، کان اللاّزم عدم وجود التکلیف بالمرّة حیث یکون المکلّف فاعلاً أو تارکاً بطبعه. فالإشکال یعود.

وأمّا بناءً علی المسلک الثانی، فمع فرض عدم التقیید یکون الإطلاق واجباً، وحینئذٍ یلزم تحصیل الحاصل وهو محال، لأنّ المفروض کون المکلّف فاعلاً بإرادته أو تارکاً بعدم إرادته للفعل، فوجود التکلیف حینئذٍ تحصیل للحاصل.

بیان المحقّق الاصفهانی

واختار المحقّق الإصفهانی(1) عدم إعتبار کون الشیء داخلاً فی محلّ الإبتلاء فی صحّة التکلیف، خلافاً لأُستاذه وللشیخ قدّس سرّهم، وذلک:

لأنّ کلّ ما ذکراه یعود إلی لزوم تحصیل الحاصل، ولکن ذلک إنّما یلزم

ص: 249


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 263.

لو کان التکلیف هو البعث أو الزجر الفعلی، ولیس ذلک حقیقة التکلیف، بل هو البعث والزجر الإمکانی.

إنّ الغرض من التکلیف تحقّق الإمتثال له عن الإختیار، ولذا، فلابدّ أن یکون التکلیف فی حدّ الإمکان، وإذا کان التکلیف هو الباعث أو الزاجر الإمکانی، فإنّه یجتمع مع وجود الصّارف ولا یلزم تحصیل الحاصل، ولذا نقول بأنّ العصاة یستحقّون العقاب علی المعصیة، لکونهم مکلّفین ولکن لا فعلیّة للباعث أو الزاجر بالنسبة إلیهم، وکذا الکلام فی الکفّار، فإنّهم بناءً علی کونهم مکلّفین بالفروع لا باعث وزاجر فعلی لهم إلاّ أنّ الباعث أو الزاجر الإمکانی موجود.

وتلخّص: إنّه قد وقع الخلط علی الشیخ وصاحب الکفایة بین الباعث والزاجر الفعلی والإمکانی.

فالفعلی لا یجتمع مع الصّارف، وأمّا الإمکانی فیجتمع، وحقیقة التکلیف هو الإمکانی لا الفعلی.

ثمّ إنّه جعل ما نحن فیه نظیر الإمکان الذاتی _ وهو أن یکون الشیء من حیث هو غیر آبٍ عن الوجود والعدم _ والإمکان الإستعدادی _ وهو أن یکون للشیء قابلیّة الوجود الفعلی کالنطفة _ والإمکان الوقوعی _ وهو أن لا یلزم المحال من وجود الشیء _ فالمقام نظیر هذه الأقسام، فإن کلاًّ من أقسام الإمکان قابلٌ للإجتماع مع الإمتناع بالغیر، إذ یمکن أن یکون الشیء ممکناً ذاتاً أو وقوعاً أو إستعداداً، ولا یکون ممکناً بالفعل علی أثر المانع ... وکذا أن یکون واجباً بالغیر.

والحاصل: إنّه یوجد البعث أو الزجر الإمکانی بالنسبة إلی الفرد الخارج عن

ص: 250

محلّ الإبتلاء، وإنْ کان ذلک الفرد منصرفاً عنه بالغیر، ولا یلزم تحصیل الحاصل.

المناقشة:

وقد ناقشه الأُستاذ أوّلاً بالنظر إلی قیاس ما نحن فیه بالإمکان الذاتی والوقوعی والإستعدادی، فقال بأنّه قیاس مع الفارق، لأنّ إجتماع الإمکان بأقسامه مع الإمتناع بالغیر أمر منجعل، فإن للنطفة _ مثلاً _ القابلیّة لأنْ تصیر إنساناً، ولکنّ ذلک قد یمتنع بعدم تحقّق الشرط له أو وجود المانع عنه. أمّا فی ما نحن فیه، فإنّ البعث أو الزجر الإمکانی أمر مجعولٌ من قبل المولی، وقیاس المنجعل بالمجعول غیر صحیح. مضافاً إلی أنّ الإمکان الإستعدادی _ وإن کان مجعولاً _ أمر تکوینی کالمثال المذکور، ولا مانع من جعل هذا الإمکان مع الإبتلاء بالمانع، ولکن هل یصحّ جعل البعث والزجر الإمکانی مع وجود الإبتلاء بالمانع؟

ثمّ ناقشه _ بقطع النظر عن المبنی _ بأنّ المفروض علی المبنی أنّ للأمر أو النهی إمکان الباعثیّة، وهذا الإمکان یصل إلی مرحلة الفعلیّة عند خلوّ نفس المکلّف عن المانع عن العبودیّة. وبعبارة أُخری: إنّ المبنی هو وجود مرحلتین، مرحلة القوّة، وهو وصول الحکم إلی المکلّف، ومرحلة الفعلیّة، وهو وصوله إلی الفعلیّة عند حصول الشروط وهو الخلو عن الموانع، وحینئذٍ نقول:

لو کان أحد الأطراف خارجاً عن محلّ الإبتلاء ولیس للمکلّف القدرة العرفیّة علیه. وأیضاً: لو کان الفعل ممّا لا یصدر عن المکلّف بطبعه، فإنّ التکلیف بالإجتناب عن ذلک الفرد أو عن هذا الفعل موجود، لأنّ الأحکام صادرة بنحو

ص: 251

القضیّة الحقیقیّة، وللحکم إمکان الباعثیّة والزاجریّة علی المبنی، ولکن الحکم لا یصل إلی مرحلة الفعلیّة فی المثالین مع خلوّ نفس المکلّف عن الموانع، لأنّ المفروض وجود الزاجر الفعلی عن ذاک الفرد أو الفعل وجعل الزاجر الفعل الآخر له یستلزم اجتماع المثلین ولا یعقل له تحقّق الباعثیّة أو الزاجریّة الفعلیّة، فقول الشارع له إجتنب عن الخمر فی الإناء الموجود فی الهند لا أثر له، وکذا إجتنب عن الخبائث.

والحاصل: أنّ للمکلّف فی المثالین زاجراً فعلیّاً بطبعه فی الموردین، والحکم فیهما لا یصل إلی الفعلیّة مع عدم خلوّ نفس المکلّف عن الموانع، فلیس المحذور فی المقام لزوم اللّغویّة من الجعل، بل المحذور أنّ جعل ما یصلح لأنْ یصل إلی الفعلیّة مع تحقّق الفعلیّة بالطبع لغو.

نظریة أُخری

وهی: إن کون الشیء فی محلّ الإبتلاء إنّما یعتبر فیما لو کانت الخطابات والتکالیف الشرعیّة شخصیّةً، إذ یکون کلّ فردٍ من أفراد المکلّفین طرفاً للخطاب. وأمّا إذا کانت کلیّةً، فلا یعتبر دخول الشیء فی محلّ الإبتلاء شرطاً للتکلیف، بل لا تعتبر فیه القدرة العقلیّة والعادیة أیضاً، وإنّما تُعتبر قدرة العنوان علی الإمتثال، وإنْ کان بعض الأفراد عاجزاً عنه.

وقد رتّب علی هذا المبنی آثار کثیرة.

وتوضیح المبنی هو: إنّه لا فرق بین التکالیف الشرعیّة وسائر القوانین، فإنّ

ص: 252

کلّ مقنّن عندما یضع القانون، یجعل القانون الواحد للمخاطب الواحد وهو العنوان، فکما لیس هناک قانونان أو قوانین، کذلک لیس هناک مخاطبون متعدّدون، ومن کان عاجزاً عن الإمتثال فهو معذور.

کذلک الأحکام الشرعیّة، فلمّا یقول: یا أیُّها النّاس، یا أیُّها الّذین آمنوا، یکون المخاطب فی الحکم هو العنوان لا الأفراد من النّاس والّذین آمنوا، فلا تلحظ قدرة زید وعمرو وبکر علی الإمتثال، وإنّما تلحظ قدرة العنوان علیه.

والحاصل: إنّ الحکم واحد والمخاطب به واحد، وشأن الأحکام الشرعیّة شأن القوانین الوضعیّة. هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّ حکم الإنشاء حکم الإخبار، فکما أنّ قول القائل: الماء البارد خبر واحد لا إخباران، وإن کان للماء أفراد کثیرة، ویکون هذا الخبر صادقاً إن کان مطابقاً للواقع وکاذباً إن لم یکن کذلک، ولا یقال إنّ هنا إخبارات متعدّدة بعدد أفراد الماء، کذلک الحال فی الإنشاء لمّا یقول: الصّلاة واجبة، الخمر حرام، فإنّ هذا إنشاء واقعاً وإخبار فی الصّورة، وهو لا یتعدّد بعدد الصّلاة أو الخمر.

ویترتّب علی هذه النظریّة:

أوّلاً: کون العصاة مکلّفین.

ثانیاً: کون الکفار مکلّفین.

ثالثاً: إنّه لو کان التکلیف بالنسبة إلی کلّ شخصٍ مشروطاً بالقدرة، فإنّ الشک فی الشرط یستلزم الشک فی المشروط، وإذا وقع الشک فی المشروط _ وهو التکلیف _ کان مجری البراءة. والحال أنّ من المسلّم به أنّه متی شک فی القدرة

ص: 253

علی الإمتثال وجب الإحتیاط بالفحص حتی الیأس.

فلو قلنا بأنّ التکلیف ینحلّ بحسب الأطراف لکان الأمر منتهیاً إلی البراءة، مع أنّه مجری الإحتیاط. فمن هنا یستکشف عدم الإنحلال وتوجّه التکلیف إلی العنوان.

رابعاً: الحکم فیما نحن فیه، فلو قلنا بأنّ الخطاب متوجّه إلی الکلّی لا الأشخاص والأفراد، فلا یعتبر کون الأفراد کلّها فی محلّ الإبتلاء، لأنّ التکلیف قد توجّه إلی الکلّی لا الأشخاص حتی یناط بالقدرة علی الإمتثال.

الإشکال علیها بوجوه

الإشکال علیها:

وقد أورد شیخنا علی هذه النظریة بوجوه:

الوجه الأوّل: لا ریب فی أنّ الأحکام الشرعیّة تابعة للأغراض کما تقرّر عند العدلیة.

ولا ریب فی أنّ الأغراض تابعة للواقع، ولا إهمال فی الواقع.

وأیضاً: من الواضح أنّ الحکم فعل إختیاری، وکلّ فعل إختیاری فهو صادر عن الإلتفات ولا یعقل فیه الإهمال.

ثمّ إنّ لمتعلّق الحکم بالنظر إلی الحکم انقسامین، إنقسامٌ متقدّم علیه _ أی علی الحکم _ وانقسامٌ متأخّر عنه، فالقدرة والعجز من الإنقسامات المتقدّمة، والعلم والجهل من الإنقسامات المتأخّرة عن الحکم ومتفرعة علیه.

وعلی ما ذکر، فإنّ عدم إلتفات الحاکم إلی الإنقسامات وإهماله لها محال،

ص: 254

وحینئذٍ، فإمّا یأخذ القدرة وعدم العجز قیداً للحکم، وإمّا یکون رافضاً لذلک ویکون حکمه مطلقاً بالنسبة إلی ذلک، فحکمه بحرمة شرب الخمر أو وجوب الصّلاة، إمّا مطلق بالنسبة إلی القدرة وعدمها، وإمّا مقیّد بالقدرة. أمّا أن یکون مقیّداً بأن یقول: أیُّها القادر علی الصّلاة فالصّلاة واجبة علیک، أیُّها القادر علی ترک الشرب فالشرب حرام علیک، أو: یحرم علیک الشرب إن کنت قادراً علی الترک، وتجب علیک الصّلاة إن کنت قادراً علی الفعل.

فهذا یعنی بطلان النظریّة.

وأمّا أن یکون مطلقاً بأنْ یقال: تجب علیک الصّلاة سواء کنت قادراً أو عاجزاً، فهذا معناه جواز تکلیف العاجز وبعث من لا یتمکّن من البعث وزجر من لا یتمکّن من الإنزجار، وهذا غیر ممکن من المولی الحکیم الملتفت.

فظهر أنّ ما ذهب إلیه القائل _ من توجّه التکلیف إلی الکلّی وعدم لحاظ الأفراد _ باطل. وهذا الوجه بوحده کافٍ، لکنّا نذکر بقیة وجوه الإشکال.

الوجه الثانی: إنّه ما المقصود من العنوان الذی یتعلّق به الحکم؟ إنّه فرقٌ دقیق بین «العنوان» و«الکلّی» وإنْ کانت النتیجة واحدة، فهل المقصود هو «العنوان» أو «الکلّی»؟

إن کان المراد هو الکلّی الطبیعی، فإنّه لا یقبل الخطاب لا عقلاً ولا نقلاً، والقابل للخطاب هو الفرد.

وإن کان المراد هو العنوان _ وهذا التعبیر أتقن، لأنّ الخطابات الشرعیة جاءت بلفظ: یا أیُّها الناس، یا أیُّها الّذین آمنوا، وهکذا _ فإنّ نسبة العنوان إلی

ص: 255

المعنون نسبة الوجه إلی ذی الوجه، فإنّ العنوان یحکی عن المعنون وهو الإنسان والإنسانیة، وهذه الحقیقة لا تحکی عن خصوصیة الزیدیة والعمریة، فإنّ «الإسم» و«الفعل» و«الحرف» عناوین حاکیة عن المعنونات ولیس النسبة بین «الحرف» و«مِن» نسبة «الکلّی» إلی «الفرد».

وعلی هذا، فإنّ الحکم لا یتعلّق بالعنوان، لأنّه إنّما یوجد فی عالم النفس وبلحاظه ینظر المولی إلی المعنون الموجود خارجاً ویرتّب الحکم علیه. فإذا قال: أکرم من فی المسجد، کان عنوان «من فی المسجد» حاکیاً عن الذین فیه، لا أنّ الذین فیه أفراد لهذا العنوان.

فظهر أنّ متعلّق التکلیف لا یمکن أن یکون «الکلّی»، ولا یمکن أن یکون «العنوان»، بل الحکم متوجّه إلی الأفراد، وإلی المعنون للعنوان.

الوجه الثالث: إنّ الحکم معلول للملاک، والإطاعة والعصیان معلولان للحکم، ومتعلَّق التکلیف هو نفس ما یقوم به الملاک، ولا یعقل قیام الملاک بغیر متعلّق التکلیف. وأیضاً: لا یعقل أن یتعلّق التکلیف بما لیس هو الموضوع للإطاعة والعصیان.

وعلی هاتین المقدّمتین نقول: إنّ الملاکات قائمة بالأشخاص لا بالعناوین، فالصّلاة تنهی عن الفحشاء والمنکر، أی هذه الصّلاة وتلک لا عنوان الصّلاة، وبحکم المقدّمة، یکون متعلّق التکلیف أیضاً هو الشخص لا الکلّی والعنوان. هذا بالنسبة إلی الملاک.

وأیضاً، فإنّ موضوع الإطاعة والعصیان هو الفرد لا العنوان، فالحکم متعلّق

ص: 256

بالفرد لا بالعنوان.

الوجه الرابع: وهو یرجع إلی مرحلة الحجیّة:

إنّ الحجیّة عبارة عن المنجّزیّة والمعذریّة، وموضوع الحجیّة هو التکلیف، وهذه الموضوعیّة عقلیّة لا شرعیّة. وکما أنّ فعلیّة الحکم تتبع فعلیّة موضوعه، وأنّه إذا تعدّد الموضوع تعدّد الحکم، کذلک الحجیّة، فإن وحدتها وتعدّدها یدوران مدار وحدة الحکم وتعدّده، فإذا تعدّد الحکم تعدّدت الحجیّة، ومع وحدته لا یعقل تعدّد الحجیّة.

وعلی هذا، فإنّ القائلین بنظریّة توجّه الخطاب إلی الکلّی والعنوان لا الأفراد یقولون بحجیّة الخطاب بالنسبة إلی الأفراد، وهذا ینافی حکم العقل المذکور.

وحینئذٍ، فإمّا نلتزم بوحدة القانون والخطاب والتکلیف، فالحجیّة واحدة، وإمّا نلتزم _ کما هو التحقیق _ بأنّ الخطاب _ وإن کان واحداً فی مرحلة الإنشاء _ متعدّد فی مرحلة الفعلیّة، والکاشف عن تعدّده هو العقل، ولذا قالوا بأنّ الأحکام الشرعیّة مجعولة بنحو القضیّة الحقیقیّة.

الوجه الخامس: فی خصوص الآیة « أوْفُوا بِالْعُقُود ». فقد قالوا بأنّه خطاب واحدٌ تعلّق بالمؤمنین. فنقول:

فی هذه الآیة مسلکان، فقیل: هی تدلّ علی الحکم الوضعی وهو لزوم العقد. وقیل: هی تدلّ علی الحکم التکلیفی، أی وجوب الوفاء به.

أمّا اللّزوم، فمعناه عدم القابلیّة للفسخ، ومن المعلوم أنّ موضوع اللّزوم هو أفراد العقد ولیس العنوان. وأمّا التکلیف، فإنّه یتعلّق بالأفراد لا العنوان، إذ أنّ هذا

ص: 257

الحکم ینحلّ بعدد العقود الواقعة، فیجب الوفاء بکلّ فردٍ فردٍ منها.

وتلخص: إنّ إستشهادهم بالآیة علی أنّ المتعلّق هو العنوان فی غیر محلّه.

الوجه السادس: إنّه لا موضوعیّة للخطاب، بل الموضوع هو التکلیف، والقدرة مناط التکلیف لا الخطاب، فلو کان الخطاب للعنوان فإنّ المهمّ هو لحاظ من یتوجّه إلیه التکلیف، هل هو العنوان أو الأفراد؟ فإنْ قلنا: لا تکلیف للأفراد، فهذا خلاف الضرورة الفقهیّة، والقائلون بهذه النظریّة یصرّحون بفعلیّة التکلیف بالنسبة لجمیع الأفراد فالمخاطَبون بالتکلیف متکثّرون لکنّ الخطاب واحد.

وأمّا الإستدلال بقضیّة الإخبار وأنّه لا یتعدّد فالإنشاء کذلک.

فالجواب عنه:

إنّ صدق الخبر وکذبه من أحکام الدالّ لا المدلول، فإن کان الدالّ متعدّداً تعدّد الصّدق أو الکذب، وإن کان واحداً لم یتعدّد. أمّا القذف مثلاً، فیدور مدار المدلول، فإنّ المدلول إذا تعدّد تعدّد القذف وإنْ کان الدالّ واحداً، وکذا المدح. مثلاً: لو قال: کلّ من فی المسجد فهو عادل، فقد أخبر عن عدالة کلّ فرد فردٍ، أمّا من حیث الصّدق والکذب فبالعکس، فإنّه إن کان الذین فی المسجد فسّاقاً، فقد کذب مرّةً واحدة.

إذن، لابدّ من الإلتفات إلی هذه الناحیة، حتی لا یلزم الخلط بین المدلول والدالّ.

والحاصل: إنّ من الأحکام ما یتبع الدالّ ومنها ما یتبع المدلول.

والتکلیف یتبع فی التعدّد والوحدة المدلول لا الدالّ، فقوله تعالی: « یَا أیُّهَا

ص: 258

الَّذین آمَنُوا أوْفُوا بِالْعُقُود » یدلّ علی وجوب الوفاء بکلّ فرد فرد من العقود لا العنوان بما هو عنوان، فقیاس هذا علی «النّار حارّة» قیاس مع الفارق.

إشکالٌ علی القول باعتبار الابتلاء

وربّما یقال: إنّ القول بشرطیّة القدرة والإبتلاء فی التکلیف یستلزم إختصاص الأحکام الوضعیّة بالقادرین، بأنْ تکون نجاسة البول _ مثلاً _ دائرةً مدار القدرة وکون البول فی محلّ الإبتلاء. وبعبارة أُخری: یکون هذا الحکم مجعولاً بلحاظ أثره وهو المانعیّة عن الصّلاة، ولولا الإبتلاء بهذا الأثر یکون جعله لغواً.

لکنّ اللاّزم باطل. فالملزوم مثله.

الجواب:

والجواب عنه: إنّ الحکم التکلیفی هو الحکم المتقوّم بالبعث والزجر، ولذا قالوا فی تعریفه بأنّه الحکم الذی فیه جهة الإقتضاء أو التخییر، وقد وقع الکلام بینهم فی أنّ الإباحة حکم تکلیفی أوْ لا؟ ولذا یکون فی المستحبات والمکروهات جهة الإقتضاء إلاّ أنّ الترخیص فی الفعل أو الترک موجود.

وبالجملة، فقد اتفقوا علی أنّ المولی فی الحکم التکلیفی یجعل الداعی للفعل أو الترک، وهذا الجعل منه هو الإرادة التشریعیّة منه.

هذا هو الحکم التکلیفی.

وأمّا الحکم الوضعی، فلیس فی ذاته البعث والزجر، کالنجاسة والطّهارة والصحّة والفساد والشرطیّة والمانعیّة والجزئیّة ونحو ذلک. وإنْ وقع الکلام فی

ص: 259

بعضها، کما فی النجاسة، إذ قیل بأنّها أمر واقعی کشف عنه الشارع. لکنّ المتأخرین عن الشیخ یقولون بأنّها أمر إعتباری شرعی.

أمّا علی القول الأوّل، فإنّ الأمر الواقعی موجود، سواء کانت هناک قدرة أوْ لا، کان الإبتلاء أوْ لا. فالبول متّصف بالنجاسة حقیقةً.

لکن المبنی باطل.

وأمّا علی القول الثانی، فإنّ حلّ الإشکال هو أنّ النسبة بین الموضوع والحکم نسبة العلّة إلی المعلول، فالحکم دائماً متفرّع علی الموضوع والعکس محال، وعلیه، فوجوب الإجتناب متفرّع علی نجاسة البول، إذ نقول هذا بول فیجب الإجتناب عنه. وعلی هذا، فالحکم الوضعی غیر مجعول بلحاظ الحکم التکلیفی، إذ لا یجعل الأصل بلحاظ الفرع، ولا یجعل الموضوع بلحاظ الحکم التکلیفی المترتّب علیه.

والحاصل: إنّ قوام التکلیف ب_«الکلفة» بأنْ یکون فی ذاته کلفة، وإذا کان کذلک، فإن جعل التکلیف بالنسبة إلی العاجز یکون محالاً، أمّا الأحکام الوضعیّة، فلیس فیها کلفة، فلا تختصّ بالقادرین.

مطلب آخر فی حقیقة الحکم التکلیفی والعرفی

اشارة

مطلب آخر

هل حقیقة الحکم التکلیفی والحکم العرفی واحدةٌ؟

والجواب یتوقّف علی بیان أمرین:

الأمر الأوّل: إنّ الغرض فی الأوامر العرفیّة تحقّق المأمور به. أمّا فی الأوامر

ص: 260

الشرعیّة، فالغرض هو العبادة. قال تعالی: « وَمَا خَلَقْتُ الْجِنِّ والإنْسَ إلاّ لِیَعْبُدُون »(1). فإنّ الغرض من الخلقة ثمّ البعثة والشریعة هو العبادة والطاعة سواء فی التعبّدیّات أو التوصّلیّات، وإن کان بینهما فرق من حیث إعتبار قصد القربة وعدم إعتباره.

الأمر الثانی: إنّه لا یشترط فی إطاعة الحکم بقصد الأمر أنْ لا یکون للعبد داعٍ نفسانی للفعل أو الترک، وإنّما یعتبر أنْ یکون الإنبعاث أو الإنزجار مستنداً إلی أمر المولی لا إلی ذلک الداعی، بحیث لو سئل عن السبب لفعله أو ترکه أجاب بأنّ المولی قد أمر أو نهی، فلا یکون الداعی النفسانی تمام العلّة للفعل أو الترک ولا جزء العلّة. مثلاً: قد یتحقّق للمکلّف فی شهر رمضان أن لا یشتهی أنْ یأکل، إلاّ أنّ ترکه للأکل منبعث من أمر المولی، لا لعدم الإشتهاء، إذ العبادة حینئذ منتفیة، ولا لکلا الأمرین، إذ الإخلاص حینئذ منتف.

والحاصل: إنّ وجود الدواعی النفسانیّة لا ینافی الإطاعة والعبادة، وإنّما المهمّ فی العبادة أنْ یُؤتی بها استناداً إلی المولی _ ولذا تکون الإباحة أیضاً من الأحکام الخمسة، فإنّه یفعل أو یترک لأنّ المولی أباح له ذلک _ والغرض قائم بالإتیان بالعبادة مستنداً إلی المولی.

وأمّا فی التوصّلیّات، فإنّه لا غرض کذلک، بل الغرض متعلّق بوقوع الصّلاة فی لباسٍ طاهر، فالطّهارة شرط فی الصّلاة أو النجاسة مانعة _ علی الخلاف بین الأصحاب کما ذکر فی محلّه _ ولا یعتبر فی تحقّق الطّهارة قصد الأمر.

ص: 261


1- 1. سورة الذاریات، الآیة 56.

وبما ذکرنا ظهر إنّ المعتبر فی التکالیف هو القدرة علی الإمتثال، وکون الشیء حاصلاً _ کما فی مثال الصّوم، وفی مثال ترک کشف العورة ونحو ذلک _ لا یمنع من التکلیف.

والحاصل:

إنّ القدرة علی الإمتثال شرطٌ فی التکلیف، ولا یعقل تکلیف العاجز. وأمّا فی الموارد التی یکون المکلّف فاعلاً أو تارکاً بطبعه، فالتکلیف هناک ممکن.

فالمعتبر هو القدرة العقلیّة والقدرة العادیة، وأمّا إعتبار القدرة العرفیّة فلا دلیل علیه.

وتبقی مسائل:

ص: 262

المسألة الأُولی: لو وقع الشک فی إعتبار الإبتلاء وعدمه
اشارة

إنّه لو فرضنا _ بعد قیام الدلیل علی وجوب الإجتناب عن النجس أو الحرام الموجود فی أطراف الشّبهة _ وقوع الشک فی إعتبار کون جمیعها محلاًّ للإبتلاء وعدم إعتباره، فهل المرجع إطلاق الدلیل علی وجوب الإجتناب، بأنْ یکون مفاده: یجب الإجتناب عن النجس، سواء کان مورداً للإبتلاء أوْ لا، أو أنّ المرجع هو الأصل العملی؟ قولان:

قال الشیخ والمیرزا والعراقی: بأنّ المرجع إطلاق الدلیل.

وقال صاحب الکفایة والإصفهانی: بأنّ المرجع هو الأصل العملی لا الإطلاق.

کلام الشیخ

المستفاد من کلام الشیخ فی الشّبهة المفهومیّة للإبتلاء وجود المقتضی للتمسّک بإطلاق الدلیل وعدم المانع عنه، فإنّ الشارع لمّا حرّم شرب الخمر

ص: 263

لم یقیّد بکونه مورداً للإبتلاء، وإنّما قال: « حُرِّمَتْ عَلَیْکُمْ ... » وهذا الإطلاق حجّة.

إشکالات المحقّق الخراسانی علیه
اشارة

أشکل علیه بما توضیحه:

إنّ للحکم مراتب أربع، وموضع إشتراط کون متعلّق الحکم فی محلّ الإبتلاء هو مرتبة تنجّز الحکم، المتأخّرة عن مرتبة الحکم بمرتبتین، لأنّ المرتبة الأُولی: مرتبة الملاکات. والثانیة: مرتبة الحکم أی الإنشاء. والثالثة: مرتبة الفعلیّة. والرابعة: مرتبة التنجّز. وإنّما کان موضعه المرتبة الرابعة، لأنّ إستحقاق العقاب یکون بتنجّز الحکم، وهو منوط بکون المتعلّق فی محلّ الإبتلاء.

وحینئذٍ، فإنّ المرتبة السّابقة لا یعقل أنْ تتکفّل المرتبة اللاّحقة.

هذا الإشکال فی حاشیة الرسائل(1).

وأشکل أیضاً:

بأنّ إشتراط کون الشیء محلاًّ للإبتلاء بالنسبة إلی صحّة التکلیف هو من شرائط مرتبة فعلیّة الحکم، أی المرتبة الثالثة، وهذه المرتبة متأخّرة عن مرتبة الإنشاء. وما فی المرتبة السّابقة لا یتکفّل ما فی المرتبة اللاّحقة.

وهذا الإشکال فی الفوائد(2).

وأشکل ثالثاً:

ص: 264


1- 1. حاشیة الرسائل: 146.
2- 2. فوائد الأصول _ ط مع حاشیة الرسائل: 320.

بأنّ الإطلاق حجّة فی مقام الإثبات، لکنّ مقام الإثبات فرع مقام الثبوت، وهل یمکن الإطلاق؟ إن کان متعلّق التکلیف خارجاً عن محلّ الإبتلاء، فإنّ الزجر عنه یکون تحصیلاً للحاصل، وهو محال، فالإطلاق ثبوتاً محال، والمفروض أنّا فی شکٍ هل کونه فی محلّ الإبتلاء شرط لصحّة التکلیف أوْ لا؟ فالتمسّک یکون من قبیل التمسّک بالدلیل فی الشّبهة الموضوعیّة العقلیّة لنفس الدلیل.

وهذا الإشکال فی الکفایة(1).

الجواب عن الإشکال الأوّل

وقد أُجیب عن الوجه الأوّل:

أوّلاً: بأنّه یناقض الوجه الثانی.

وثانیاً: إنّ کلّ قیدٍ من القیود إنّما یکون حیث یوجد هناک کلّیٌ ذا قسمین أو أقسام، فإنّه یکون المقسم لأخذ القید فی طرفٍ. مثلاً: التقیید بالإیمان إنّما یکون للرقبة التی هی المقسم للمؤمنة وغیر المؤمنة، فلولا وجود الکلّی القابل للقسمة لم یتحقّق التقیید والتقسیم.

هذا هو الملاک العام للتقیید.

وهذا غیر صادق فیما نحن فیه، لأنّ حقیقة التنجّز عبارة عن کون المعصیة موضوعاً لاستحقاق العقاب، ومخالفة الحکم لیست بالکلّی الطبیعی القابل للإنقسام إلی ما هو مورد الإبتلاء وما هو خارج عن الإبتلاء _ کما أنّها لیست قابلةً

ص: 265


1- 1. کفایة الأصول: 361.

للإنقسام إلی المقدور وغیر المقدور، لأنّ المخالفة إنّما تصدق فی صورة القدرة فقط _ فالمخالفة إنّما تتحقّق فی ما إذا کان الشیء تحت الإبتلاء، فإذا تحقّقت استحقّ العقاب علیها.

وبالجملة، فإنّه لا یعقل أن تکون المخالفة بقید الإبتلاء هی الموضوع لاستحقاق العقاب.

الجواب عن الثانی

وعن الثانی: بأنّ الحکم فعل إختیاری للحاکم، وکلّ فعل إختیاری فإمّا هو مطلق أو مقیّد _ لأنّ الإهمال من الحکیم محال _ . فقوله: «لا تشرب الخمر» إمّا مطلق بالنسبة إلی وجود الزاجر النفسانی عنه، وإمّا مقیّد بعدم وجوده. وکذا قوله: صلّ، فهو إمّا مطلق أو مقیّد بعدم وجود الباعث النفسانی إلیها.

وعلی هذا، فإنّه إذا کان فعلیّة الحکم مقیّدةً بکون المتعلّق فی محلّ الإبتلاء، کان إطلاق الحکم لغواً، لأنّ الحکم هو الإنشاء بداعی جعل الداعی، فهو جعل الباعث للفعل فی الواجبات والزاجر فی المحرمات، فتقیید الفعلیّة بکون الشیء مورداً للإبتلاء یستلزم لغویّة الإطلاق فی الإنشاء.

وعلی الجملة: کیف یعقل أن تکون دائرة فعلیّة الحکم محدودةً بکون الشیء مورداً للإبتلاء، ودائرة الإنشاء غیر محدودة بذلک؟ إن الحکم بالنسبة إلی الحصّة الخارجة عن الإبتلاء بلا أثر، ولا معنی لشموله له.

ص: 266

الجواب عن الثالث

وأمّا ما ذکره فی الکفایة، من أنّ الإطلاق فی مقام الإثبات إنّما یکشف عن الإطلاق ثبوتاً فیما لو کان الإطلاق فی مقام الثبوت ممکناً، وهو هنا غیر ممکن.

فالجواب عنه هو: ما ذکر فی بحث الجمع بین الحکم الظاهری والحکم الواقعی، وملخّصه هو:

إنّ مقتضی القاعدة لزوم الأخذ بظاهر کلام المولی ما لم یقم دلیل شرعی أو عقلی علی خلاف ذلک الظهور. وفیما نحن فیه: ظاهر خطابات الشارع هو الإطلاق وعدم التقیید بالإبتلاء وعدمه. غیر أنّا نشکّ فی صحّة التکلیف مع الشک فی إعتبار الإبتلاء وعدمه، وهذا الشک لیس بحجّةٍ شرعیّة أو عقلیّة لأنْ ترفع الید بها عن ظهور الخطاب فی الإطلاق.

إشکال الإصفهانی علی الشیخ
اشارة

وقال المحقّق الإصفهانی(1) ما توضیحه:

إنّ الإطلاق رفض القید والتقیید أخذ القید، والرفض والأخذ أمران إختیاریان، فیعتبر أنْ یکون للرافض القدرة علی الرفض وللآخذ القدرة علی الأخذ.

لکنّ القیود منها شرعیّة ومنها عقلیّة، فما کان شرعیّاً، کان للشارع أخذه أو رفضه، وما کان عقلیّاً، فأمره بید العقل ولیس للشارع التدخل فیه.

ص: 267


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 269.

وبعد هاتین المقدّمتین نقول: إنّ إعتبار کون الشیء فی محلّ الإبتلاء وتقیید الحکم بذلک أو إطلاق الحکم بالنسبة إلیه، من الأُمور العقلیّة، وإذا کان کذلک، فإنّه لا یعقل أن یکون کلام الشارع مطلقاً بالنسبة إلیه.

وعلی الجملة، فإنّ قید کون الشیء فی محلّ الإبتلاء لیس من القیود التی هی باختیار الشارع حتی یقال بأنّ کلامه مطلق، فلا یعتبر هذا القید فی حکمه بوجوب الإجتناب عن الخمر مثلاً.

الجواب:

ویجاب عنه: بأنّ حقیقة الإطلاق رفض القیود، ومعنی ذلک کون الجعل موسّعاً لا مضیّقاً، فالإطلاق جعل الحکم حال کونه موسّعاً، کما فی أعتق رقبةً، فإنّه جعل للعتق علی نحو السّعة بالنسبة إلی قید الإیمان والکفر. وحینئذٍ، فإذا جعل الحکم مطلقاً وانعقد ظهوره فی السّعة والإطلاق، وجب اتّباعه، ولو شک فی ابتلاء هذا الظهور بمانع عقلی، وجب الأخذ به کذلک، وعلیه المحقّق الإصفهانی أیضاً.

ونظیر المقام مسألة التناقض والتضاد بین الحکم الظاهری المدلول علیه بالأمارة _ مثلاً _ وبین الحکم الواقعی، فعلی فرض عدم تمامیّة وجهٍ من وجوه الجمع بین الحکمین الظاهری والواقعی، هل یجوز رفع الید عن مقتضی ظاهر الأمارة باحتمال تناقضه مع الحکم الواقعی؟

لا ریب فی أنّ إشتراط عدم کون الأمارة موجبةً لتحلیل الحرام وتحریم الحلال هو من القیود العقلیّة لا الشرعیّة، ومع ذلک، فلو شک فی لزوم التحلیل أو التحریم، لم یجز رفع الید عن مقتضی ظاهر الأمارة.

ص: 268

فیرد النقض علی المحقق الإصفهانی _ القائل هنا بعدم الإطلاق _ أنّه إنْ لم یمکن الجمع بوجهٍ یلزم بناءً علی کلامه رفع الید عن ظواهر الأمارات والأصول، ولا یظنّ به الإلتزام بذلک.

وإلی هنا تمّ دفع الإشکالات علی مبنی الشیخ.

والمهم هو الترکیز علی أنّ الإبتلاء وعدم الإبتلاء من إنقسامات متعلّق الحکم، فإنّ الخمر منه ما هو تحت الإبتلاء ومنه ما هو خارج عنه، وإذا کان الخمر مقسماً للحکم، فإنّه لا یعقل أن یکون الحاکم مهملاً، وما لم یثبت فی موردٍ عدم إمکان الإطلاق، فإنّ مقتضی القاعدة عقلاً ونقلاً هو الإحتیاط.

وهذا تمام الکلام فی المسألة الأُولی.

المسألة الثانیة: لو کان الشک بنحو الشّبهة المفهومیّة

المفروض أنْ لا شک فی شرطیّة دخول المتعلّق تحت الإبتلاء، لکنْ نشک فی مفهوم الإبتلاء، لأنّ بعض الأطراف إن کان فی الهند فهو خارج یقیناً، وإن کان عندنا فهو داخل یقیناً، لکنْ لو کان فی بلدٍ قریبٍ، فهل هو داخل أو خارج؟ فهل یصحّ التکلیف بالإجتناب عنه مثلاً ویکون العلم الإجمالی منجّزاً بالنسبة إلیه؟

مقتضی القاعدة العامّة عدم وجوب الإجتناب، لأنّ المفروض أنّ الدلیل مطلق _ والشبهات فی جواز التمسّک به مندفعة _ والمقیّد مردّد بین الأقلّ والأکثر، لأنّ الذی فی الهند خارج یقیناً، فهل الأکثر منه أیضاً خارج؟ فالمرجع هو الإطلاق.

ص: 269

وبعبارة أُخری: عندما یرجع الشک إلی التقیید الزائد یکون الإطلاق محکّماً.

المسألة الثالثة: لو کان الشک بنحو الشّبهة الموضوعیّة
اشارة

المفروض أنْ لا شک فی شرطیّة دخول المتعلّق تحت الإبتلاء، وعلیه، فلو وقعت نجاسة إمّا فی إناء زیدٍ الذی فی داره وإمّا فی إناء عمرو، ولکنْ لا ندری هل إناء عمرو داخل تحت الإبتلاء أوْ لا؟ فهل یجب علی زیدٍ الإجتناب من إنائه أو تجری فیه البراءة؟ قولان.

دلیل القول بعدم التنجیز

دلیل القول بعدم منجّزیّة العلم الإجمالی بالنسبة إلی إناء زید وصحّة جریان البراءة فیه هو: إنّ وجوب الإجتناب عنه یتوقّف علی شمول إطلاق «اجتنب» لإناء عمرو، لکنّ التمسّک بالإطلاق بالنسبة إلی إناء عمرو من التمسّک بالمطلق فی الشّبهة المصداقیّة، وهو ممنوع، وإذْ لم یشمل الإطلاق إناء عمرو، تکون الشّبهة بالنسبة إلی إناء زید بدویّةً، فالبراءة فیه جاریة.

دلیل القول بالتنجیز

وجهان:

قال المیرزا: بالتمسّک بالإطلاق، فالدلیل لفظی.

ص: 270

وقال العراقی: بأنّ المورد من قبیل العلم بالغرض والشک فی القدرة، وما کان کذلک فالإحتیاط فیه واجب عقلاً، فالدلیل عقلی.

بیان المیرزا

یتلخّص بیان المحقّق النائینی(1) فی التفصیل فی مسألة التمسّک بالعام والمطلق فی الشّبهة الموضوعیّة، وذلک إنّه یقول: إن کان المخصّص العقلی من قیود الموضوع فالتمسّک غیر جائز، وإن کان من قبیل ملاکات الأحکام ویتعلّق بحسن وقبح الخطاب، فالتمسّک لازم.

توضیح ذلک: إنّه وإنْ کان التمسّک بالعام فی الشّبهة المصداقیّة ممنوعاً، لکنّ المخصّص إن کان عقلیّاً، فإنّه علی قسمین، أحدهما: ما یکون منوّعاً ومقسّماً للموضوع. مثلاً: حکم العقل بقبح لعن المؤمن تخصیص أنواعی، لأنّ مورد اللّعن تارة: مؤمن، وأُخری: غیر مؤمن، وقد خصّ العقل القبح بما إذا کان مؤمناً، وفی مثل هذا القسم لا یجوز التمسّک بالعام فی الشّبهة المصداقیّة. والثانی: أنْ لا یکون التخصیص منوّعاً للموضوع، بل یکون مرتبطاً بالملاک، ففی مثله یلزم التمسّک بالعام عند الشک.

ووجه التفصیل هو: أنّه فی القسم الأوّل، لا یفرّق بین المخصّص اللّفظی والقطعی، فکما لا یجوز التمسّک بالعام فی الأوّل، کذلک فی الثانی. فلو قال: أکرم العلماء، فإنّ الموضوع ذو قسمین: العالم العادل والعالم الفاسق، کذلک لو کان

ص: 271


1- 1. فوائد الأصول 4 / 55.

المخصّص عقلیّاً ومنوّعاً للموضوع. بخلاف القسم الثانی، فإنّ العقل قد ضمّن الأحکام الشرعیّة بأنْ لا یکون لمصلحة الحکم مفسدة مزاحمة لهذا الملاک، لکنّ هذا التخصیص لیس منوّعاً للموضوع، فلو وقع الشک فی المخصّص العقلی فی هذا القسم یکون المرجع هو العام، ولذا لو قام الدلیل علی وجوب شیء ثم شککنا فی وجود مفسدةٍ فی ذلک الفعل مزاحمة لمصلحة الواجب، لا نرفع الید عن دلیل الوجوب، لأنّ أمر الملاکات بید الشارع، ویکون نفس إطلاق الدلیل کاشفاً عن عدم وجود المزاحم، بخلاف القسم الأوّل، فإنّ الأمر بید المکلّف، وعلیه أن یفحص عن حال هذا الشخص الذی یرید لعنه، هل هو مؤمن أوْ لا.

وقضیّة الإبتلاء وعدمه وأنّه هل یحسن الخطاب مع عدم الإبتلاء أوْ لا؟ من الأحکام العقلیّة، ولمّا کان هذا من الأُمور المرتبطة بالشارع، فإنّ التمسّک بالعام فیه واجب والإحتیاط لازم.

إشکال الأُستاذ

قال دام بقاه: بأنّ الکبری تامّة، إلاّ أنّ الکلام فیما نحن فیه فی الصّغری، لأنّ القدرة علی الإمتثال _ سواء کانت عقلیّة أو شرعیّة _ بکون الشیء فی محلّ الإبتلاء وعدم کونه کذلک، ممّا یکون بید المکلّف لا بید الشارع کما فی الملاکات، فالقیاس مع الفارق. صحیحٌ أنّ الحاکم فی الموردین هو العقل، فهو الحاکم بتقیّد الأحکام بالقدرة، وهو الحاکم بتبعیّة الأحکام للملاکات، لکنّ قیاس القدرة علی الملاکات مع الفارق.

ص: 272

بیان العراقی

وذهب المحقّق العراقی(1) إلی وجوب الإحتیاط، لا من جهة عدم جواز التمسّک بالعام فی الشّبهة المصداقیّة، بل من جهة أنّه مقتضی حکم العقل والسّیرة العقلائیّة، فإنّهما قائمان علی الإحتیاط فیما لو علم بالغرض وشک فی القدرة فی الإمتثال. وتوضیحه:

إنّ العقل حاکم بتقیّد الأحکام الشرعیّة بالقدرة، وأمّا الأغراض منها، فلیست مقیّدةً بها دائماً، فلو کان الغرض فی موردٍ مطلقاً وشک فی القدرة علی تحصیله فإنّه یحکم بالإحتیاط، فلو قال: لا تشرب الخمر، کان التکلیف مقیّداً بالقدرة، لکنّ مفسدة الخمر موجودة علی کلّ حال، فلو شک فی القدرة علی الإمتثال وجب الإحتیاط حتی یثبت العجز عنه.

ونظیره فی الأحکام العرفیّة، فیما لو أمر المولی بنجاة ولده الغریق، فإنّ حفظ نفس الولد غیر منوط بالقدرة، أمّا إنجاؤه فمشروط، فلو شک فی القدرة علی إنجائه وجب الإحتیاط حتی یثبت العجز.

إشکال الأُستاذ

قال دام بقاه: أمّا الغرض المتعلّق بما هو خارج عن محلّ الإبتلاء ولا قدرة بالنسبة إلیه علی الإمتثال، فالعقل غیر حاکم بلزوم تحصیله بلا ریب. وأمّا مع الشک فی القدرة علی الإمتثال، فإنّ الموارد تختلف، ففی مثال الغریق حیث یعلم بفوت

ص: 273


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 341 _ 342.

الغرض، فالإحتیاط لازم بالضرورة حتّی یثبت العجز، وکما فی مثال دفن المیّت، لکنّ الکلام فی المورد الذی یشک فیه فی فوت الغرض من الحکم. ومثال محلّ بحثنا هو ما إذا وقعت النجاسة إمّا فی إنائی وإمّا فی إناء زید المشکوک فی کونه داخلاً فی محلّ الإبتلاء بالنسبة إلیّ بنحو الشّبهة المصداقیّة، فإنّه مع إجراء البراءة فی إنائی یقع الشک فی فوت غرض المولی، ومع الشک فی فوت غرضه لا یحکم العقل بلزوم الإحتیاط.

وبعبارة أُخری: حکم العقل بالإحتیاط وعدم إجراء البراءة، إنّما هو حیث یعلم بفوت غرض المولی بإجرائها، لا فی المورد الذی یشک فیه فی ذلک، ولا أقلّ من الشک فی وجود الحکم العقلی، فالمقتضی للتمسّک بالبراءة موجود والمانع مشکوک فی وجوده.

وهذا تمام الکلام فی هذا التنبیه.

ص: 274

التنبیه العاشر: فی عدم التنجیز فی الأصول الطولیّة

قد عرفت أنّ تنجیز العلم الإجمالی یدور مدار تعارض الأصول، لکنّ تعارض الأصول إنّما یتحقّق إذا کانت جمیعها فی مرتبةٍ واحدة، کما إذا علمنا إجمالاً بنجاسة أحد الماءین مثلاً.

أمّا إذا کانت الأصول طولیّة، بأنْ کان الأصل الجاری فی بعض الأطراف فی مرتبة والجاری فی البعض الآخر فی مرتبةٍ أُخری، فلا یقع التعارض، فلا یکون العلم الإجمالی منجّزاً، بل یجری الأصل الّذی فی المرتبة المتقدّمة بلا معارض. کما لو علم بوقوع النجاسة فی الماء أو التراب مع انحصار الطّهور بهما ولا أثر للتراب إلاّ جواز التیمّم به، فإنّ الأصل _ أی أصالة الطّهارة _ یجری فی الماء، ومعه لا یبقی الموضوع للأصل بالنسبة إلی التراب، لعدم الأثر له، لعدم جواز التیمّم مع وجدان الماء الطّاهر.

وأمّا لو کان التراب أثر آخر کجواز السّجدة، فمع الشک فی نجاسته أو نجاسة الماء، فالأصلان فی مرتبةٍ واحدة _ کما فی الماءین _ وحینئذٍ، یتعارضان

ص: 275

ویتساقطان، ویکون العلم الإجمالی منجّزاً، فیقع الکلام بین الفقهاء فی جریان حکم فاقد الطّهورین علیه أو أنّه یجب علیه الجمع بین الوضوء والتیمّم تحصیلاً للطهارة الیقینیّة؟ وجهان.

والتحقیق هو الثانی، إذ کما یعلم بنجاسة أحدهما فهو عالم بطهارة أحدهما، فعلیه الإتیان بالوضوء والتیمّم معاً. وما یذکر مانعاً عن ذلک أمران:

أحدهما: إنّ التوضّی بالماء المحتمل نجاسته، وکذا التیمّم بالتراب المحتمل نجاسته، تشریع، والتشریع حرام.

والآخر: إنّه یحتمل نجاسة بدنه بملاقاة الماء المحتمل نجاسته.

ولکنْ یجاب عن الأوّل: بأنّ هذه الحرمة تشریعیّة ولیست ذاتیّة، والحرمة التشریعیّة ترتفع بقصد الرجاء، فله الإتیان بالوضوء رجاءً لا جزماً. وکذا التیمّم بالتّراب.

وعن الثانی: بأنّه لا أثر للإحتمال مع جریان أصالة الطّهارة، وسیأتی أن ملاقی الشّبهة المحصورة محکوم بالطّهارة.

وتلخّص: أنّ مقتضی القاعدة هو الجمع کما تقدّم.

فعلی القول باشتراط طهارة موضع التیمّم _ کما هو المشهور بل المدّعی علیه الإجماع _ یعتبر تقدیم التیمّم علی الوضوء. أمّا علی القول بعدم الإشتراط، فهو بالخیار فی تقدیم أیّهما شاء.

هذا فیما إذا لم یکن للمعلوم بالإجمال أثر تکلیفی.

وأمّا إذا کان المترتّب علی المعلوم بالإجمال حکم تکلیفی بالإضافة إلی

ص: 276

الحکم الوضعی، کما إذا علم إجمالاً بغصبیّة الماء أو التراب _ فهنا حکمان: أحدهما وضعی وهو البطلان، والآخر تکلیفی وهو حرمة التصرّف _ کان المورد من موارد دوران الأمر بین المحذورین، إذ المعلوم بالإجمال حرمة التصرّف فی أحدهما ووجوب إستعمال أحدهما، وتحصیل الموافقة القطعیّة غیر ممکن إلاّ مع المخالفة القطعیّة، لأنّه مع الجمع بین الوضوء والتیمّم یقطع بالموافقة من ناحیة الوجوب وبالمخالفة من ناحیة الحرمة، وإنْ ترکهما معاً، قطع بالموافقة من جهة الحرمة وبالمخالفة من جهة الوجوب، فیسقط حکم العقل بوجوب الموافقة القطعیّة ویحکم بالموافقة الإحتمالیّة والإکتفاء بأحدهما.

وأمّا إذا علم إجمالاً بنجاسة الماء وغصبیّة التراب، فالأصول تسقط ویتنجّز العلم الإجمالی ویکتفی بالموافقة الإحتمالیّة کذلک. إلاّ أنّ الواجب هو الوضوء لاحتمال الموافقة، ولا یجوز التیمّم لاحتمال الحرمة من جهة الغصبیّة، فیتعیّن الوضوء بحکم العقل.

ص: 277

التنبیه الحادی عشر: حکم ملاقی بعض أطراف الشّبهة المحصورة

اشارة

هل الملاقاة لأحد طرفی العلم الإجمالی بوجود النجس تجعل الملاقی طرفاً ثالثاً، فیجب الإجتناب عنه کالطرفین أوْ لا؟ أقوال. والمهمّ منها ثلاثة:

النجاسة

وعدمها

والتفصیل.

ذکر أُمور قبل البحث

اشارة

ولابدّ قبل الورود فی البحث من ذکر أُمور:

الأمر الأوّل

یشترط فی مورد البحث أنْ لا یکون له منجّز إلاّ العلم الإجمالی الموجود بین الملاقی وطرفه، وإلاّ فهو خارج عن محلّ الکلام بین الأعلام، کما لو کان ملاقیاً لکلا الطرفین، فإنّه فی هذه الحالة یوجد العلم التفصیلی بالنجاسة، وهو محکوم بها بالإتفاق.

ص: 278

الأمر الثانی

قد وقع البحث بینهم فی سبب الإجتناب عن الملاقی علی وجوه:

أحدها: سرایة النجاسة إلی الملاقی بالملاقاة واتّساع دائرتها، کما لو أُفرغ أحد الطرفین فی إناءین، ویصیر الملاقی أحد الأطراف.

والثانی: لا تسری النجاسة حتی یکون للشبهة ثلاثة أضلاع ویتّسع الموضوع، بل الحکم بالإجتناب یتّسع، نظیر الحکومة.

والثالث: إنّه بالملاقاة یحدث حکمٌ بالنسبة إلی الملاقی کالحکم الثابت للملاقی قبل الملاقاة، غیر أنّ الموضوع _ وهو النجاسة _ نشأ من الملاقاة. فللملاقی حکم بالنجاسة فی طول الحکم بها بالنسبة إلی الملاقی.

والرابع: کالثالث، غیر أنّ الحکمین عرضیین.

فالوجوه فی مقام الثبوت أربعة.

إنّما الکلام فی مقام الإثبات:

والظاهر بحسب الإرتکاز العقلائی هو الوجه الثالث. أمّا أنْ یسری الموضوع وهو النجاسة من الملاقی إلی الملاقی، أو یسری الحکم _ وهو وجوب الإجتناب _ أو یکون هناک حکمان بوجوب الإجتناب، أحدهما فی عرض الآخر، فکلّ ذلک خلاف الإرتکاز العقلائی. بل إنّ بین الملاقی والملاقی فی الإرتکاز والسّیرة العقلائیّة سببیّة ومسبّبیّة، والأوّل فی طول الثانی، لأنّ الطّهارة والنجاسة _ وإنْ کانا حکمین شرعیّین _ موجودان عند العقلاء أیضاً، وإنْ اختلف الإعتبار الشرعی مع السّیرة العقلائیّة فی بعض الموارد، کنجاسة المشرک، حیث اعتبر

ص: 279

الشارع النجاسة له ولیس نجساً عندهم.

وعن سیّدنا الأُستاذ(1): إنّ الإجتناب عن ملاقی النجس من شئون وتبعات الإجتناب عن النجس، بحیث لا یتحقّق الإجتناب عرفاً عن النجس إذا لم یجتنب عن ملاقیه، کإکرام خادم العالم أو إبنه الذی یعدّ إکراماً للعالم نفسه عرفاً. وهذا هو الوجه الثانی من الوجوه الأربعة وقد قرّبه بوجهین، ثمّ ذکر أنْ لا دلیل علیه فی مقام الإثبات.

وأظنّ أنّه یرجع إلی الوجه الذی اختاره شیخنا وعبّر فیه بالسّببیّة والمسبّبیّة، واستدلّ له بالإرتکاز والسّیرة العقلائیّة، واللّه العالم.

والحاصل: أنّ الوجه الثالث هو الذی علیه الإرتکاز والسّیرة، وهو ظاهر الأدلّة الشرعیّة مثل قوله علیه السّلام (إذا کان الماء قدر کرٍّ لم ینجّسه شیء)(2)، فإنّ مفهومه: أنّه ینجّسه الشیء النجس إذا حصلت الملاقاة بینهما.

وهذا الوجه هو الذی ینبغی أنْ یکون موضوع البحث والخلاف بین الأعلام، وإلاّ فلا ریب فی نجاسة الملاقی بناءً علی سائر الوجوه.

الأمر الثالث

إنّ الشّبهة علی قسمین: حکمیّة، کالعلم الإجمالی بوجوب إحدی الصّلاتین من الظهر والجمعة. وموضوعیّة، کالعلم الإجمالی بخمریّة ما فی أحد الإناءین.

ص: 280


1- 1. منتقی الأصول 5 / 148.
2- 2. وسائل الشیعة 1 / 158، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، رقم: 1 و 2.

و«المنجّز» أی المصحّح لمؤاخذة المولی هو «قیام الحجّة» علی الحکم. و«الحجّة» تارةً عقلیّة، وأُخری شرعیّة، وکلٌّ منهما تارةً: تفصیلی وأُخری إجمالی.

أمّا فی الشّبهة الموضوعیّة، فالحجّة تقوم علی الجامع الإنتزاعی بین الطرفین، وهو «خمریّة أحدهما» مثلاً، فیشکّ هل هذا الطرف هو المعلوم الخمریّة أوْ ذاک؟ والعقل یحکم بلزوم الإجتناب عن کلیهما، مقدمةً لامتثال الحکم الشرعی بحرمة شرب الخمر، فلو شرب ما فی کلا الإناءین فقد ارتکب کبیرة شرب الخمر، وکذا لو باع کلیهما، وکان البیع باطلاً، أمّا لو شرب أحد الإناءین، فالأصل عدم شرب الخمر، ولا یترتّب شیء من آثار شرب الخمر إلاّ الحکم بالفسق بناءً علی حرمة التجرّی، لأنّ الأحکام من الفسق والحدّ مترتّبة علی شرب الخمر، وهذا العنوان غیر متحقّق بشرب أحد الإناءین. نعم، إرتکاب أحد الإناءین یستتبع إستحقاق العقاب، لأنّه قد ارتکب مورد إحتمال التکلیف المنجّز، کما لا خلاف فی فساد بیع أحد الإناءین، وإنْ وقع البحث بینهم فی وجه الفساد:

فالمیرزا المحقّق یقول بالفساد، من جهة أنّ أصالة الصحّة فیه معارضة بأصالة الصحّة فی بیع الطرف الآخر، وإذا تعارضتا تساقطتا، والأصل فی المعاملات هو الفساد.

فإن قیل: المفروض وقوع البیع علی أحد الطرفین، وأمّا الآخر، فلم یقع البیع علیه حتی یشکّ فی الصحّة فتجری أصالة الصحّة ویقع التعارض؟

أجاب: إنّ حقیقة صحّة البیع وجود السّلطنة علیه، وحقیقة فساده عدمها، وهی فی کلا الطرفین مشکوک فیها، والأصل عدم وجودها فیهما، فیتعارضان

ص: 281

ویتساقطان والمرجع فساد البیع.

والمحقّق العراقی یقول: إنْ قلنا بعلیّة العلم الإجمالی، فبیع أحد الطرفین فاسدٌ، سواء جری أصالة الصحّة أوْ لا، کان له معارض أوْ لا. وإنْ قلنا باقتضاء العلم الإجمالی _ وهو عدم مؤثریّة العلم مع جریان الأصل فی طرفٍ بلا معارض _ فإنّ المفروض عدم وقوع البیع علی الطرف الآخر حتی تجری أصالة الصحّة.

وعلیه، فإن الأصل فی الطرف الواقع علیه البیع جارٍ بلا معارض، فالبیع محکوم بالصحّة.

فالعراقی تکلّم فی المقام بحسب المبنی، فعلی العلیّة یکون العلم الإجمالی مؤثراً، وإنْ جری الأصل فی أحد الطرفین بلا معارض، وعلی الإقتضاء لا یؤثر فی تلک الحالة.

علی المبنی الأوّل، یکون البیع فاسداً علی کلّ تقدیر.

أمّا علی المبنی الثانی، فلابدّ من التحقیق فی أمرین:

إنّ ما ذکره المیرزا، من أنّ الفساد هو عدم السّلطنة والصحّة وجودها، غیر صحیح، بل نسبة الصحّة إلی السّلطنة نسبة المسبّب إلی السّبب، لأنّ الملکیّة والسّلطنة علی الشیء هی المنشأ لصحّة وقوع البیع علیه، وعدم السّلطنة علیه هو المنشأ لفساد البیع.

ثم إنّه هل الأصول التنزیلیّة تجری فی أطراف العلم أوْ لا؟

قال المیرزا: لا تجری.

وقال العراقی: تجری.

ص: 282

وعلیه، فإنّ الأصل فی عدم السّلطنة هو الإستصحاب، وهو من الأصول التنزیلیّة، إذ لو شک فی ملکیّة المائع وعدمها، فإنّه إنْ کان خمراً فلا، وإن کان غیر خمر فنعم، فالشک یعود إلی تحقّق السّلطنة علیه. فعلی القول بالجریان، یوجد فی المثال أصلان یجریان فی کلٍّ من الطرفین، وأمّا علی القول بعدم الجریان، فإنّه مع العلم بمخالفة أحدهما للواقع، لا یجری الأصل، لأنّه یعلم بکونه مالکاً لأحد الطرفین، لعدم کونه خمراً، وإذا سقط الأصلان _ أی أصالة عدم السّلطنة _ فی الطرفین، وصلت النوبة إلی المسبّب وهو الصحّة والفساد، لما تقدّم من کون النسبة نسبة السّبب والمسبّب، وحینئذٍ، یکون أصالة الصحّة جاریاً فی الطرف الذی وقع إرتکابه، لأن هذا الأصل إنّما یجری بعد العمل لا قبله. وعلیه، فلابدّ من الحکم بصحّة بیع أحد الطرفین علی مبنی المیرزا.

قال الأُستاذ:

ما ذکره هذان المحقّقان مخدوش، لأنهما قد بنیا المسألة علی جریان أصالة الصحّة وعدم جریانها، فقال المحقّق المیرزا: بوجود المقتضی للجریان، لکنّه یسقط علی أثر المعارضة. وقال المحقّق العراقی: بأنّه إذا وصلت النوبة إلی أصالة الصحّة، فإنّ هذا الأصل بناءً علی مسلک الإقتضاء یجری ولا مانع عن جریانه، لعدم جریانه فی الطرف الآخر لعدم الموضوع.

لکنّ الکلام فی مستند أصالة الصحّة، فللقوم فیه خمسة وجوه، والمختار أنّ مستند هذا الأصل هو السّیرة العقلائیّة، فإنّهم _ إذا وقع العمل ثمّ شک فی کونه جامعاً للأجزاء والشرائط المعتبرة _ لا یعتنون بالشک ویحملون العمل علی

ص: 283

الصحّة، وهذا هو الأصل لقاعدة الفراغ الجاریة فی عمل الشخص المکلّف، فإنّ الأساس لتلک القاعدة هو أصالة الصحّة المستندة إلی السّیرة العقلائیّة والنصوص الخاصّة فیها. وأمّا بالنسبة إلی أعمال الآخرین، فإنّ الأصل عند العقلاء هو الصحّة المعبّر عنه بأصالة الصحّة.

هذا، ولو شک فی صحّة العمل من حیث واجدیّته لصلاحیّة الفاعل أو قابلیّة القابل، فالسّیرة العقلائیّة غیر قائمة علی إجراء الصحّة فیه، لأنّها دلیل لبّی یؤخذ منه بالقدر المتیقّن، فلو وقع البیع وشک فی کون البائع بالغاً لم یحمل علی الصحّة.

والشک فیما نحن فیه یعود إلی أنّ المورد قابلٌ للبیع أوْ لا، لاحتمال کونه خمراً والخمر لا یصحّ بیعه، فإنّ أصالة الصحّة فی مثله غیر جاریة، بل الشک یعود إلی تحقّق النقل والإنتقال، والأصل عدمه.

الکلام فی نماء وفائدة أحد طرفی العلم

ولو کان لطرفی العلم نماء وفائدة، کالشجرتین المغصوبة إحداهما لهما ثمرة، وکالدارین المغصوبة إحداهما یستفاد منهما بالسکنی، فإن أکل من کلتی ثمرتی الشجرتین، فلا إشکال فی أنّه أکل الحرام، أو سکن المکان المغصوب. وأمّا لو أکل ثمرة إحدی الشجرتین أو سکن إحدی الدارین، فهل ارتکب الحرام؟ قولان.

قال المیرزا بعدم الجواز، سواء کانت الفائدة متّصلة أو منفصلة، کانت موجودة عند تحقّق العلم أو بعده، کان الطرف المقابل موجوداً أو معدوماً

ص: 284

والشجرة موجودة عند الإستفادة من ثمرها أو معدومة ... ففی جمیع الفروض الحرمة تکلیفاً والضّمان مترتّب، بلا فرقٍ بین الفائدة المتّحدة مع ذیها کالسّکنی بالنسبة إلی الدار، والفائدة غیر المتحدة کالثمرة من الشجرة، فإنّهما وجودان متغایران.

والحاصل: إنّ الحرمة تسری، مضافاً إلی الضمان، لأنّ الثمرة من شئون الشجرة، والسکنی من شئون الدار، وهکذا.

وفی المقابل قول بعدم الحرمة، لجریان أصالة الإباحة بالنسبة إلی التصرّف فی أحد الطرفین، کما أنّ البراءة جاریة عن الضمان، لأنّ التصرّف فی الثمرة لیس بتصرّفٍ فی الشجرة.

أقول:

توضیح البحث هو: إنّه إذا علم إجمالاً بغصبیّة إحدی الشجرتین، فقد تکونان قبل العلم ملکاً للغیر، کأنْ تکونا ملکاً لزیدٍ، فیشتری عمرو منه إحداهما ویغصب الأُخری، فتحصل الثمرة من إحداهما. وقد لا تکونان ملکاً لأحد، کأنْ تکونا من المباحات، فحاز زید إحداهما وعمرو الأُخری، ثمّ غصب أحدهما شجرة الآخر.

فعلی القول الثانی: قد قام الدلیل علی حرمة التصرّف فی مال الغیر بدون إذنه، فالموضوع «مال الغیر»، وهذه الثمرة یشک فی کونها مال الغیر، لأنّ الشجرتین إحداهما فقط للغیر، فکان العقل حاکماً بالإجتناب عن الشجرتین، وأمّا الثمرة من إحداهما، فلا دلیل علی وجوب الإجتناب عنها، ومع الشک فی کونها

ص: 285

من ملک الغیر تجری أصالة عدم کون الشیء من ملک الغیر، وهو الأصل الموضوعی، لعدم جواز التمسّک بالدلیل العام المشار إلیه بالنسبة إلی الثمرة، فإنّه من التمسّک بالعام فی الشّبهة المصداقیّة. لکنّ جریان الأصل الموضوعی یتوقّف علی القول بجریان الإستصحاب فی العدم الأزلی، وعلی القول به، فلابدّ من إثبات عدم المانع من جریانه هنا، وذلک: لأنّ إستصحاب عدم کون هذه الثمرة ملکاً للغیر معارض بعدم کونها ملکاً لنفسه، فقیل: بأنّهما _ لمّا علم بمخالفة أحدهما للواقع _ یتساقطان. وقیل: بعدم تساقطهما، لعدم لزوم المخالفة القطعیّة من إجرائهما معاً، نعم، یلزم المخالفة للعلم الإجمالی، وهو غیر مضرّ. وعلی هذا القول یکون الإستصحاب جاریاً بلا مانع.

لکنّ المیرزا ینکر جریان الإستصحاب فی العدم الأزلی. وأیضاً: یری عدم جواز الإستصحابین مع وجود العلم الإجمالی بمخالفة أحدهما للواقع.

هذا بالنسبة إلی الحکم التکلیفی، وهو جواز التصرّف.

وأمّا بالنسبة إلی الحکم الوضعی _ وهو الضّمان _ ، فإنّ موضوع الحکم بالضّمان هو: وضع الید علی مال الغیر عدواناً، ووضع الید علی الثمرة من إحدی الشجرتین لیس من مصادیق هذا العنوان. إلاّ أنْ یقال: إنّ کون الشجرة طرفاً للعلم الإجمالی ووجوب الإحتیاط یسری إلی الثمرة، کما تقدّم فی مثال إکرام العالم وسرایة الحکم إلی ولد العالم، فالضمان ثابت.

لکنّ الجواب: إنّ للثمرة حکماً آخر غیر حکم الشجرتین، فله ملاکه الخاصّ به. هذا أوّلاً.

ص: 286

وثانیاً: إنّ ضمان الثمرة یتوقّف علی أنْ تکون الشجرة ملکاً للغیر، وهذا أوّل الکلام، فالسّرایة من جهة التبعیّة غیر ثابتة.

هذا تمام الکلام فی الأُمور قبل البحث عن حکم الملاقی.

ملاقی الشّبهة المحصورة وله صور:

الصّورة الأُولی

اشارة

أن یعلم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین، ثمّ تقع الملاقاة بین الشیء وأحد الطرفین، لا مع کلیهما، علی أنْ لا یکون للشیء طرف کذلک، مع فرض أنْ لا یکون الطرفان مسبوقین بالنجاسة، ولا یکون لهما منجّز إلاّ العلم الإجمالی.

وفی هذه الصّورة قولان:

وجوب الإجتناب عن الملاقی.

وعدم وجوب الإجتناب عنه.

دلیل القول بوجوب الإجتناب
اشارة

وقد استدلّ للقول الأوّل بالکتاب والسنّة والعقل.

فمن الکتاب: قوله تعالی: « وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ »(1). بتقریب أنّ الهجر للرجز

ص: 287


1- 1. سورة المدثر، الآیة 5.

إنّما یتحقّق بترک جمیع شئونه، ومنها الملاقی له، فإنّه لمّا کان الهجر للرجز الموجود فی البین واجباً، فقد حصل الإشتغال به وبما یتعلّق به، ومع عدم الإجتناب عن الملاقی یشک فی حصول البراءة، فیجب الإحتیاط بالنسبة إلی الملاقی.

الإشکال علیه:

وقد أُشکل علیه: أوّلاً: بتوقّف الإستدلال علی أن یکون «الرجز» فی الآیة هو «النجس».

ثانیاً: سلّمنا، لکن الواجب الإجتناب عن النجس، وصدقه علی الملاقی مشکوک فیه، فلا یجوز التمسّک بالآیة بالنسبة إلیه.

من السنة
اشارة

ومن السنّة: الخبر(1) الوارد فی الفأرة التی وقعت فی خاویةٍ من السّمن، حیث أمر الإمام علیه السّلام بالإجتناب عن السّمن، فقال الراوی: الفأرة أهون علیّ ... فقال الإمام: (إنّک لم تستخف بالفأرة، وإنّما استخففت بدینک، وإنّ اللّه حرّم المیتة من کلّ شیء).

وجه الإستدلال: تعبیر الإمام علیه السّلام بالمیتة، وهو ظاهر فی أنّ حکم ملاقی المیتة حکم المیتة، فیکون حکم الملاقی حکم الملاقی، ولیس للملاقی حکم آخر حتی یشک فیه.

والحاصل: إنّ هذا المورد من قبیل وجوب إکرام العالم، فإنّ الحکم بإکرامه یسع ولده، فیجب إکرامه بنفس هذا الحکم، لأنّ الولد من شئونه، والحکم کذلک

ص: 288


1- 1. وسائل الشیعة 1 / 206، الباب 5 من أبواب الماء المضاف والمستعمل، رقم: 2.

یعمّ جمیع شئونه ومتعلّقاته.

الإشکال علیه:

بالسند، ففیه «عمرو بن شمر» وهو ضعیف.

وفی الدلالة نظر، لأنّ المدلول هو ردع الراوی عن أن یتوهّم أنّ میتة الفأرة هیّنة ولا یجب الإجتناب عن الملاقی لها، فدفع الإمام هذا التوهّم وأنّ المیتة حکمها النجاسة، سواء کانت صغیرةً أو کبیرة.

وبالجملة، فإنّ الخبر فی مقام بیان مطلب آخر، ولیس بصدد البیان عن حکم الملاقی.

من العقل
اشارة

ومن العقل: فقد استدلّ بتقریب أنّ العقل فی هذه الصّورة یری الإجتناب عن الملاقی، لأنّه بالملاقاة یصیر طرفاً للطّرف الملاقی، فیلزم الإجتناب عنه کما یلزم عن الملاقی، لتحقّق العلم الإجمالی بنجاسة أحدهما.

الإشکال علیه:

وقد أجاب الشیخ(1) عن هذا الإستدلال: بأنّ الشکّ فی طهارة الملاقی ونجاسته مسبّب عن الشکّ فی نجاسة الملاقی وطهارته، والأصل فی السّبب حاکم علی الأصل فی المسبّب، إذ لا یجری الأصل فی المسبّب مع جریانه فی السّبب، لتقدّم السّبب علی المسبّب فی الرتبة. بل الذی فی مرتبة السّبب هو

ص: 289


1- 1. فرائد الأصول 2 / 242.

الطّرف، والأصل جارٍ فیه کذلک، وإذا جری الأصلان فی الملاقی والطرف تعارضا، وبقی الأصل فی الملاقی جاریاً بلا معارض، لسقوط معارضه _ وهو الطرف _ بالمعارضة مع الملاقی.

الجواب:

وأُجیب عن کلام الشیخ: بأنّه وإنْ کانت الکبری مسلّمة، لکنّها غیر منطبقة علی المورد، لأنّه کما أنّ النسبة فی أصالة الطّهارة بین الملاقی والملاقی نسبة السّبب والمسبّب، فإنّ أصالة الإباحة نسبتها إلی أصالة الطّهارة نسبة المسبّب إلی السّبب، لأنّا لمّا نشک فی إباحة شرب هذا الإناء، فإنّ السّبب فی هذا الشک هو الشک فی طهارته، إذ النجاسة سبب لحرمة الشرب والطّهارة سبب لحلیّته، فإذا سقط الأصلان _ فی الملاقی والطرف _ بالمعارضة، وصلت النوبة إلی أصالة الطّهارة فی الملاقی کما ذکر الشیخ. لکنّ هذا الأصل لیس بلا معارض، بل یعارضه أصالة الإباحة فی الطرف المسبّب عن أصالة الطّهارة فیه، وإذا کان کذلک، حصل العلم الإجمالی بنجاسة الملاقی أو الطرف.

المناقشة:

وفیه: إنّ قاعدة تقدم الأصل السّببی علی المسبّبی مسلّمة، لکنْ لا سببیّة ومسبّبیّة بین أصالة الطّهارة فی الملاقی وأصالة الطّهارة فی الطرف، لکونهما فی مرتبةٍ واحدة، لکن الأصل فی الطرف فی مرتبة واحدة مع الأصل فی الملاقی، وإذا تعارضا تساقطا، ولمّا کان الساقط لا یعود، فإنّ الأصل فی الملاقی بلا معارض.

ص: 290

جواب آخر عن الاستدلال العقلی

وأجاب المحقّقون عن الإستدلال العقلی: بأنّ الشرط فی منجّزیّة کلّ منجِّزٍ أنْ لا یکون المورد منجَّزاً بمنجِّز غیره، فلو کان منجَّزاً من ذی قبل بأنْ قام الدلیل علی إستحقاق العقاب علی التکلیف، لم یتنجّز ثانیةً، للزوم تحصیل الحاصل.

وبعبارة أُخری: فإن کلّ تکلیفٍ قامت الحجّة علیه وصار مورداً لاستحقاق العقوبة، فهو غیر قابل لأنْ یتنجَّز ثانیةً، ولهذا قالوا: المنجَّز لا یتنجّز.

وعلی هذا، فإنّ المفروض تنجّز التکلیف الموجود بین الطرفین بالعلم الإجمالی، فالطّرفان منجَّزان به، فلو لاقی الشیء أحد الطرفین وحصل العلم الإجمالی بنجاسة الملاقی أو الطّرف، فإنّ هذا العلم سوف لا یتنجّز فی الطرف، لفرض تنجّزه بالعلم الإجمالی الأوّل، وحینئذٍ، یکون الملاقی مشکوک التنجّز فیجری فیه الأصل بلا معارض.

هذا ما ذکره المحقّقون: المیرزا والإصفهانی والعراقی(1).

المناقشة:

قال الأُستاذ: وفی القاعدة التی ذکروها من أنّ «المنجّز لا یتنجّز ثانیاً» تأمّل، فمن الجائز قیام الطّریقین _ کالإقرار والبیّنة _ علی أمرٍ، فیحتجّ علی الشخص بالبیّنة وبإقراره بحق الغیر مثلاً، بمعنی أنّ کلاًّ من الحجّتین مؤثّر عقلاءً، ویمکن أنْ یعاقب الشخص إستناداً إلی إقراره والبیّنة القائمة علی الجرم الصّادر منه، فالمقصود أنّ کلاًّ منهما مصحّح لمؤاخذته، لا أن یقام البیّنة علیه بعد إقراره حتی

ص: 291


1- 1. أجود التقریرات 3 / 445، نهایة الأفکار 3 / 360، نهایة الدرایة 4 / 282.

یکون تحصیلاً للحاصل أو یلزم تعدّد العقاب.

تفصیل السیّد الخوئی

ثمّ إنّ المحقّق الخوئی قد فصّل فی المقام، فذکر أنّ عدم مؤثریة العلم الإجمالی الثانی إنّما هو فیما لو لم یکن الطرف _ أی عِدل الملاقی _ مجری لأصلٍ طولی سلیم عن المعارض، کما إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءین ثمّ لاقی أحدهما شیء.

وأمّا إذا کان للطرف أصل طولی، کما إذا علمنا بنجاسة مردّدة بین الثوب والماء، ثمّ لاقی الثوب شیء آخر، ففی هذه الصّورة، تسقط أصالة الطّهارة فی الطرفین للمعارضة وتبقی أصالة الحلّ فی الماء بلا معارض، لعدم جریانها فی الثوب فی نفسها، فیقع التعارض حینئذٍ بین أصالة الطّهارة فی الملاقی وأصالة الإباحة فی الماء، للعلم بأنّ الملاقی نجس أو أنّ الماء حرام شربه، وبعد تساقط الأصلین یکون العلم الإجمالی بالنسبة إلی الملاقی منجّزاً فیجب الإجتناب عنه.

التحقیق فی المقام و یقع فی مقامین
اشارة

التحقیق فی المقام:

والتحقیق أن یقع البحث فی مقامین:

الأوّل: فی أنّ العلم الثانی مؤثر أوْ لا؟.

الثانی: فی تفصیل السیّد الخوئی.

ص: 292

المقام الأوّل

مقدّمةٌ:

إنّ الملاک فی منجّزیّة العلم الإجمالی للأطراف ماذا؟

إذا قام العلم الإجمالی علی وجود النجس فی الشّبهة المحصورة، فإنّه حجّة عقلیّة قائمة علی الجامع بین الطرفین، ولا یعقل أن یسری إلی الأطراف أنفسها، فتنجّز الأطراف لیس من جهة العلم، بل هو من جهة قاعدة الإشتغال، وإنّما العلم سبب لجریان هذه القاعدة، فتکون القاعدة منجّزة للإجتناب عن کلّ طرفٍ، مقدّمةً للفراغ الیقینی.

والحاصل: إنّ المنجِّز للجامع هو العلم، وللأطراف هو قاعدة الإشتغال الناشئة من العلم الإجمالی.

وبعد هذه المقدّمة نقول:

إنّه قد تسبّب العلم الإجمالی الأوّل لاشتغال الذمّة بالنسبة إلی الملاقی وطرفه، فکانت قاعدة الإشتغال مقتضیة للإجتناب عن الطرف والملاقی حتی یحصل الفراغ، وحینئذٍ، لا یعقل أن یکون العلم الثانی مؤثّراً نفس الأثر فی الطرف، أی أنْ یوجب الإشتغال بالنسبة إلیه، لتحقّق الإشتغال بالعلم الإجمالی الأوّل، وإذا انتفی ذلک لعدم تعقّل الإشتغال مرّة أُخری، کان الأصل بالنسبة إلی الملاقی جاریاً بلا معارض.

لا یقال: العلم الإجمالی أفاد الإشتغال حدوثاً، لکنّ العلم الإجمالی الثانی یشارکه فی الإشتغال والتنجّز بقاءً، وما المانع من ذلک؟

ص: 293

لأنّا نقول: العلم الإجمالی الثانی متأخّر عن الأوّل بمناط العلیّة والمعلولیّة، لأنّ العلم بنجاسة الملاقی أو الطرف، معلول للعلم بنجاسة الملاقی والطرف. ومع التقدّم والتأخّر _ وأنّه لا ینزل ذاک ولا یترقی هذا _ یستحیل أن یکونا شریکین فی التنجیز، لأنّ الإشتراک یتوقّف علی کون الشیئین فی مرتبة واحدة، بأنْ یکونا جزئین للعلّة الواحدة، وإذا أثّر العلم الأوّل أثره، فلا یبقی مجالٌ لتأثیر الثانی نفس الأثر. نظیر ما إذا علم فی اللّیل بفوت إحدی الصّلاتین إمّا العصر وإمّا المغرب، فإنّ الذمّة مشغولة بإحداهما، لکنّ الإشتغال بالمغرب یقینی لکون الشک فی اللّیل، فتجری فیها القاعدة، ویکون الشک فی العصر بدویّاً.

المقام الثانی

توضیح التفصیل: إنّه لو حصل العلم الإجمالی بوجود النجس بین الإناءین فلاقی شیء أحدهما، فإنّ الملاقی محکوم بالطّهارة، لأنّ أصالة الطّهارة فی الطرفین یسقط بالمعارضة، وأیضاً یسقط بتبعهما أصالة الحلّ فی الطرفین، وتبقی أصالة الطّهارة فی الملاقی بلا معارض.

ولکنْ قد یکون العلم بین طرفین أحدهما الثوب والآخر الماء، فإذا لاقی الثوب شیء، فإنّ أصالة الطّهارة فی الثوب تتعارض مع أصالة الطّهارة فی الماء فیتساقطان، لکنْ فی طول هذا الأصل بالنسبة إلی الماء یوجد أصالة الإباحة، ولا یوجد هذا الأصل فی طول أصالة الطّهارة فی الثوب، فلو أُرید إجراء أصالة الطّهارة فی الملاقی، کان أصالة الإباحة فی الماء معارضاً له، وحینئذٍ، یجب الإجتناب عن الملاقی.

ص: 294

أقول:

إنّ مبنی هذا التفصیل هو: إنّ تنجیز العلم الإجمالی یدور دائماً مدار سقوط الأصل والقاعدة فی الطرفین علی أثر المعارضة وعدم وجود المرجّح لأحدهما علی الآخر، وأمّا لو کان لأحد الأصلین مرجّح فإنّه سیجری بلا معارض.

وفیما نحن فیه: قد سقط أصالة الطّهارة فی الطرفین للمعارضة وعدم المرجّح، لکنّ أصالة الإباحة فی الماء مشکوک فی سقوطها، ومع الشک تکون جاریةً. فلو علم بنجاسة الثوب أو الماء وجب الإجتناب عن الثوب فی الصّلاة وعن الماء فی الوضوء، لسقوط أصالة الطّهارة فیهما، ولکنّ شرب هذا الماء جائز لعدم المعارض لأصالة الإباحة.

وهذا المبنی مردود کما سیأتی.

هذا تمام الکلام فی الصّورة الأُولی.

الصّورة الثانیة وهی علی ثلاثة أقسام

اشارة

ذکرها المحقّق الخراسانی:

الأوّل: أن یحصل العلم بنجاسة أحد الطرفین ثمّ تحصل ملاقاة الشیء الثالث مع أحدهما ویحصل العلم بها.

وهنا قد تحقّق بالعلم الإشتغالُ الیقینی ووجب الإجتناب عن الطرفین، ومع الإجتناب عن کلیهما یحصل الفراغ الیقینی، وأمّا الملاقی فلا یجب الإجتناب عنه وإنْ کان بینه وبین الملاقی ملازمة فی الحکم، لأنّ العلم قد تعلّق بالطرفین لا أکثر،

ص: 295

وبالإجتناب عنهما یتحقّق الإمتثال.

الثانی: أن یحصل العلم بنجاسة أحد الطرفین، ثمّ تقع الملاقاة بین الشیء الثالث وأحدهما، ویحصل العلم بنجاسة الملاقی أو الطّرف.

وهنا یجب الإجتناب عن الملاقی والطّرف دون الملاقی، وإنْ کانت النجاسة فی الملاقی معلولة للملاقاة معه إنْ کان هو النّجس، ومع الإجتناب عنهما، یقع الشک فی التکلیف بالنسبة إلی الملاقی، ویجری الأصل فیه بلا معارض.

الثالث: أن یحصل الملاقاة لأحد الإناءین الموجود بینهما النجاسة، ثمّ یحصل العلم بالنجاسة والملاقاة.

وهنا ثلاثة أطراف، الملاقی والملاقی والطّرف، فإمّا النجس هو الملاقی والملاقی وإمّا هو الطّرف، فالثلاثة متعلَّق العلم. والمختار عنده هنا: وجوب الإجتناب عن الملاقی، خلافاً للشیخ _ وتبعه المیرزا _ إذْ قال بعدم وجوب الإجتناب عنه.

دلیل القول بعدم الإجتناب فی القسم الأوّل

واستدلّ للقول بعدم وجوب الإجتناب بأنّ: نجاسة الملاقی ووجوب الإجتناب عنه فی طول نجاسة الملاقی ووجوب الإجتناب عنه، لتخلّل الفاء، وهذه الطولیّة معناها کون الشک فی نجاسة الملاقی مسبّباً عن الشکّ فی نجاسة الملاقی، ومع فرض جریان الأصل فی المسبّب لا یکون الأصل جاریاً فی السّبب، ولمّا کان المفروض جریانه فی الملاقی لا یبقی الشک فی المسبّب.

ولکنّ الأصل _ أصالة الطّهارة _ لمّا جری فی الملاقی وتعارض مع الأصل

ص: 296

فی الطرف وتساقطا، یتحقّق الشک فی الملاقی من حیث الطّهارة والنجاسة، فتجری فیه أصالة الطّهارة، لوجود المقتضی _ وهو الشک _ وعدم المانع وهو الأصل فی السّبب، فإنّه قد ارتفع بالتساقط مع أصل الطرف علی أثر التعارض.

دلیل القول بالاجتناب فی القسم الأوّل

واستدلّ للقول بوجوب الإجتناب عن الملاقی بما حاصله: وجود المانع عن جریان الطّهارة فی الملاقی، وإنْ کان المقتضی موجوداً. توضیحه:

إنّ جریان الأصل فی الملاقی یتوقّف علی وجود المقتضی وهو الشک، وعدم المانع وهو الأصل المعارض. أمّا المقتضی وهو الشک فی طهارة الملاقی ونجاسته فموجود ولا یمکن نفیه. إنّما الکلام فی المانع، فنقول:

صحیحٌ أنّ الأصل فی الملاقی متأخّر عن الأصل فی الملاقی، للسببیّة والمسبّبیّة فیما بینهما، ولکنّه مع الأصل فی الطّرف فی مرتبةٍ واحدةٍ، وحینئذٍ یتعارض هذان الأصلان، فیجب الإجتناب عن الملاقی. والوجه فی کونهما فی مرتبةٍ واحدة هو عدم الملاک للتأخّر والتقدّم فیما بینهما(1)، إذ لیس النجاسة فی الطّرف سبباً للشک فی نجاسة الملاقی، ولا هی موضوع للحکم بها فیه، فهما فی مرتبةٍ وعرضٍ واحدٍ، فیکون العلم الإجمالی هو المانع عن جریان الأصل فی الملاقی، وهو الأصل فی الطرف.

ص: 297


1- 1. ملاک التقدّم والتأخّر فی المرتبة أحد أمرین: أحدهما: العلّیّة والمعلولیّة أو السّببیّة والمسبّبیّة. والآخر: الموضوعیّة والمحمولیّة.

وحاصل الکلام: إنّ الأصل فی الطرف کما یعارض الأصل فی الملاقی یعارض الأصل فی الملاقی لوحدة المرتبة.

المناقشة والجواب

المناقشة:

ویناقش هذا الإستدلال بما حاصله: أنّ الأصل فی الطرف قد سقط بالمعارضة مع الأصل فی الملاقی، فکیف یعارض الأصل فی الملاقی، لأنّ السّاقط لا یعود؟

الجواب:

ویجاب: بأن حقیقة التعارض هو أنْ یکون المقتضی للجریان فی کلّ طرفٍ موجوداً، ویکون کلّ واحد منهما مانعاً عن جریان الآخر، لکنّ التعارض من أحکام الزمان لا من أحکام المرتبة، والأصول فی الملاقی والملاقی والطرف وإنْ کانت مختلفةً فی المرتبة، لکنّها فی الزمان الواحد ولیس بینها تقدّم وتأخّر زمانی، وعلی هذا، فإنّه یوجد الشک فی طهارة ونجاسة الملاقی والطّرف، فالموضوع لجریان الأصل فیهما موجود، ولکنّ جریانه فی کلیهما یستلزم المخالفة القطعیّة، إذنْ، لا یجری لا فی هذا ولا ذاک، وهذا معنی التعارض.

إنّ التعارض هو عدم جریان الأصل فی الطرفین، للزوم المخالفة القطعیّة مع العلم الإجمالی، وهذا معنی سقوط الأصلین، ولیس معنی السقوط هو إنعدام الأصل، بل المقصود قصور الأصل عن الشمول للطرفین.

ص: 298

ثمّ لمّا نلحظ الحالة فی الملاقی، نجد الموضوع _ وهو الشک فی الطّهارة والنجاسة _ موجوداً، وهو أیضاً موجود فی الطّرف بالوجدان، وإذا کان الموضوع موجوداً فی الطّرفین، یقع التعارض کذلک، لمانعیّة العلم الإجمالی، وإلاّ تلزم المخالفة القطعیّة.

وتلخص: إندفاع الشّبهة وتمامیّة القول الثانی، وأنّ الأصل یسقط فی الأطراف الثلاثة.

ومن هنا یظهر ما فی کلام مصباح الأُصول، فإنّه قد اختار هذا القول هنا، وأنّ الأصل یسقط فی الملاقی والملاقی والطرف، ولکنّه فی دوران أمر النجاسة بین الماء والتراب قال بوجود الأصل الطّولی فی طرف الماء _ وهو أصالة الإباحة _ ووقوع المعارضة بین هذا الأصل وأصالة الطّهارة فی الملاقی. فإنّ الجمع بین القولین محال، إذ لا فرق بین المسألتین، فکیف یقول هنا بسقوط الأصل فی الثلاثة معاً، ویقول هناک بوجود الأصل الطّولی؟

وبعبارة أُخری: إنْ کان اختلاف المرتبة مؤثّراً، ففی المسألتین، وإنْ لم یکن فکذلک. والتفصیل بلا وجه.

هذا تمام الکلام فی القسم الأوّل من الصّورة الثانیة، وهو ما إذا کان زمان المعلوم بالإجمال متّحداً مع زمان الملاقاة.

القسم الثانی من الصورة الثانیة، و فیه قولان

القسم الثانی من الصّورة الثانیة

أنْ یکون العلم بالنجاسة متأخّراً عن زمان حصول النجاسة والملاقاة، ولکنّ

ص: 299

الملاقاة متأخّرة زماناً عن المعلوم بالإجمال وهو النجاسة. کأنْ علم یوم السّبت بتحقّق النجاسة فی أحد الإناءین فی یوم الخمیس، ثمّ حصل الملاقاة یوم الجمعة بین الشیء الثالث وأحدهما.

وهنا قولان:

أحدهما: إنّ المتّبع هو العلم.

والثانی: إنّ المتّبع هو الواقع المعلوم بالإجمال.

بیان القول الأوّل

إنّ المعلوم هو نجاسة أحد الإناءین فی یوم الخمیس، والعلم قد تحقّق فی یوم السبت، وهذا العلم یکون مؤثّراً بالنسبة إلی الملاقی والطّرف، وأمّا الملاقاة فقد حصلت فیما بعد، فالتکلیف بالنسبة إلی الملاقی مشکوک فیه، فهو مجری الطّهارة.

بیان القول الثانی

إنّ الأحکام الواقعیّة تابعة للواقع، ولا دخل للعلم والجهل فیها، بخلاف الأحکام الظاهریّة، فإنّ الموضوع فیها هو الجهل والشک، والأحکام العقلیّة تدور مدار العلم وقیام الحجّة.

فظهر أنّ الحکم الشرعی علی قسمین، والأحکام العقلیّة تقابل الأحکام الشرعیّة. فهذه مقدّمة.

والمقدّمة الأُخری هی: إنّ الحکم مطلقاً لا یتخلّف عن موضوعه، فلا یتقدّم علیه ولا یتأخّر عنه.

ص: 300

وعلی ما تقدّم، فإنّ نجاسة الملاقی واقعاً تدور مدار الملاقاة، بلا دخل للعلم والجهل، فإنّ الملاقاة سبب لنجاسة الملاقی، وهی حکم واقعی یترتّب علی موضوعه ولا یتخلّف عنه، ونجاسة الملاقی متأخرة عن المعلوم بالإجمال، وهو الملاقاة.

هذا بالنسبة إلی الحکم الواقعی.

وأمّا بالنسبة إلی الحکم الظاهری، فإنّ موضوعه الشک، والمفروض أنّه قبل یوم السّبت لا شک بالنسبة إلی نجاسة أحد الإناءین والملاقاة، فلمّا علم یوم السّبت بنجاسة أحد الإناءین فی یوم الخمیس، وبالملاقاة یوم الجمعة، حصل له ثلاثة شکوک تتعلّق بکلّ طرفٍ، فتحصّل الحکم الظاهری فی یوم السبت لتحقّق موضوعه وهو الشک، ولمّا کان تحقّق الموضوع فی زمانٍ واحدٍ، فإنّ الحکم یترتّب علیه، ویقع التعارض بین الثلاثة _ وإنْ کان زمان الملاقاة متأخّراً _ لأنّ جریان قاعدة الطّهارة فی کلّ واحدٍ دون الآخر ترجیح بلا مرجّح، فیکون الإجتناب عنها واجباً.

وأمّا الحکم العقلی، فهو التنجیز، لأنّ موضوعه _ کما تقدّم _ قیام الحجّة وهو العلم المفروض تحقّقه یوم السّبت.

والحاصل: إنّ الحکم الظاهری الشرعی والحکم العقلی لا یدوران مدار الواقع، بل الأوّل یدور مدار الموضوع وهو الشک، والثانی یدور مدار الحجّة وهو العلم.

هذا، والسیّد الخوئی کان یقول هنا بجریان الأصل فی الملاقی، ثمّ عدل عن

ص: 301

ذلک فی الدورة الثانیة، لما ذکرنا فی وجه وجوب الإجتناب عنه، وحاصله: أنّ الحکم العقلی یدور مدار الحجّة لا الواقع.

وبما ذکرنا یظهر أنّ الحق هو القول الثانی.

الصّورة الثالثة

أن یکون العلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین بعد الملاقاة وقبل العلم بالملاقاة.

وفیها قولان کذلک.

دلیل وجوب الإجتناب

استدلّ للقول بوجوب الإجتناب عن الملاقی: بأنّ العلم الإجمالی مؤثر فی التنجیز والعلم منجّز حدوثاً وبقاءً ما دام موجوداً. وفیما نحن فیه: قد علم بنجاسة أحد الطّرفین قبل العلم بالملاقاة، فکان منجّزاً للطرفین، ولکنْ بعد العلم بالملاقاة یکون العلم متعلّقاً بثلاثة أطراف، فالعلم فی مرحلة الحدوث کان ذا طرفین، وفی مرحلة البقاء أصبح ذا ثلاثة أطراف فیکون منجّزاً بالنسبة إلی الملاقی کالطرفین.

والحاصل: لو علم بوقوع النجاسة إمّا فی الإناء الکبیر أو الإناء الصّغیر، ثمّ انقلب العلم إلی أنّ النجاسة إمّا فی الکبیر وإمّا فی أحد الصغیرین، فإنّ مقتضی القاعدة هو الأخذ بمنجّزیّة العلم الثانی.

ص: 302

دلیل عدم وجوب الإجتناب

واستدلّ للقول الثانی: بأن العلم الإجمالی بین الطرفین لمّا حَصَل، تحقّق التکلیف، والمناط عند العقل هو العمل بالتکلیف الذی قامت علیه الحجّة، فبمجرّد قیامها _ وهی هنا العلم _ یتمّ التنجیز، وتخلّف التنجیز عن العلم محال، وقد تنجّز التکلیف بالنسبة إلی الطرفین. وأمّا الملاقاة، فلم یقم علیها العلم، وإنّما هی فی الواقع، وقد تقدّم سابقاً أنّه لیس الواقع هو الملاک للحکم العقلی ولا أثر له.

والحاصل: إنّ التکلیف الذی حصل الإشتغال به هو الإجتناب عن الطرفین فقط، والإشتغال یستحیل إنفکاکه. ثمّ لمّا حصل العلم بالملاقاة، فإنّه لمّا کان بین الملاقی والملاقی سببیّة، فلابدّ من أنْ یکون الملاقی نجساً، وبذلک یکون متعلّق هذا العلم ذا أطراف ثلاثة، لکن هذا العلم الثانی یستحیل أنْ یکون منجّزاً بالنسبة إلی الملاقی، بأنْ یکون طرفاً للإناء الکبیر، لأنّ الإناء الکبیر قد تنجّز العلم بالنسبة إلیه وحَصَل الإشتغال بوجوب الإمتثال فیه، والمتنجّز لا یتنجّز ثانیاً، فیبقی الأصل فی الملاقی بلا طرفٍ.

والحاصل: إنّه وإنْ تعدّد العلم فتعدّدت الحجّة، لکنّ الإشتغال لا یتعدّد، فلا یجب الإجتناب عن الملاقی، لأنّ الإجتناب عن الطّرف _ وهو الإناء الکبیر _ قد وجب بالعلم الأوّل، فیبقی الأصل فی الملاقی بلا طرفٍ.

هذا تمام الکلام فی دوران الأمر بین المتباینین.

ویقع الکلام فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر.

ص: 303

ص: 304

دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر

اشارة

ص: 305

ص: 306

لو شک فی المکلّف به، ودار الأمر بین أمرین یمکن الإجتماع بینهما فی الوجود، کما لو علم بوجوب الصّلاة، وتردّدت بین أن تکون ذات عشرة أجزاء أو أحد عشر جزءً، فما هو التکلیف والوظیفة الشرعیّة؟

الفرق بین دوران الأمر بین المتباینین والأقلّ والأکثر

فظهر الفرق بین دوران الأمر بین المتباینین وبین الأقلّ والأکثر، وأنّه یمکن الإحتیاط فی الأقلّ والأکثر، دون المتباینین إلاّ بالإتیان بکلا الطرفین مثل القصر والإتمام.

هذا من حیث الکبری.

نظریة العراقی والکلام حولها

وأمّا الصّغری، فقد ألحق المحقّق العراقی(1) دوران الأمر بین الطبیعی والحصّة بدوران الأمر بین المتباینین، والوجه فی ذلک هو: أنّ الطبیعی یقبل

ص: 307


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 373.

الإنطباق علی الحصّة، کانطباق الإنسان علی زید وغیر زید.

والتحقیق أنّه ملحق بدوران الأمر بین الأقلّ والأکثر، وذلک، لأنّ المناط فی الأقلّ والأکثر أن یکون الأقلّ لا بشرط بالنسبة إلی حدّ الأقلیّة وحدّ الأکثریّة، فلو کان الأکثر مقیّداً بحدّ الأقلیّة، تقیّدت الطبیعة بالأقلّ وأصبح الأقلّ مبایناً للأکثر، وهکذا لو تقیّد الأقلّ بقید الأقلیّة.

إنّ حقیقة دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر هو: دورانه بین العشرة الأجزاء لا بقیدٍ عن الأکثر، والعشرة مقیّدةً بالحادیعشر، وحینئذٍ، ینطبق أحدهما علی الآخر. وعلیه فیرد علی المحقّق العراقی:

النقض، بأنّکم تقولون فی البسیط المقول بالتشکیک إذا تعلّق به التکلیف کالأعراض من البیاض ونحوه، بأنّه من قبیل الأقلّ والأکثر، فلو تعلّق التکلیف بالبیاض وشُک بأنّ المطلوب عبارة عن البیاض لا بشرط أو بشرط الشدّة، کان من الأقلّ والأکثر، فعلی القول بالإشتغال وجب الإمتثال بالبیاض المقیَّد بالشدید، وعلی القول بالبراءة کفی الإتیان بالطبیعة اللاّبشرط، وکذا الأمر فی الإجتهاد والعدالة والتقوی ونحو ذلک مما یقبل الشدّة والضّعف.

وما الفرق بین البیاض والإنسان، فإن وزان طبیعة الإنسان بما هی طبیعة، وزان البیاض بما هو بیاض، ووزان الإنسان مقیّداً بکونه زیداً وزان البیاض مقیّداً بالشدّة.

والحلّ، وهو ما أشرنا من أنّ الملاک فی الأقلّ والأکثر هو أن نشکّ فی کیفیّة التکلیف فی مرحلة لحاظ المولی لموضوع تکلیفه، بأنْ یتردّد بین طرفین قد أُخذ

ص: 308

الموضوع فی أحدهما مع خصوصیّةٍ بنحو البشرط بها، وفی الآخر بنحو اللاّبشرط بالنسبة إلیها، کمثال دوران أمر الصّلاة بین العشرة أجزاء لا بشرط عن السّورة والعشرة أجزاء بشرط السّورة، ودوران الأمر بین إکرام الإنسان لا بشرط عن خصوصیّة الزیدیّة وإکرامه بشرط تلک الخصوصیّة. وهکذا فی مثال البیاض والإجتهاد ونحوهما، فإنّ «الإنسان» و«البیاض» وغیرهما یقبل الإنطباق علی الخصوصیّة، وکلّما کان من هذا القبیل فهو من دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر.

نظریة المحقّق صاحب الحاشیة والکلام حولها

وقال المحقّق صاحب الحاشیة(1): بأن الأقلّ والأکثر یندرج تحت کبری المتباینین.

والوجه فی ذلک هو:

إنّ أقسام إعتبار الماهیّة متقابلات متباینات، فإنّ الماهیّة _ بقطع النظر عن اللاّبشرط المقسمی الجامع بین الأقسام _ قد تعتبر بشرط لا، وقد تعتبر بشرط شیء، وقد تعتبر لا بشرط وهو القسمی، وهذه الإعتبارات متقابلة. فکما أنّ النسبة بین البشرط شیء وبشرط لا هی التباین، کما فی القصر والإتمام، حیث أنّ الأوّل بشرط لا عن الرکعتین والثانی بشرط، کذلک النسبة بین اللاّبشرط والبشرط، لأنّ اللاّبشرط الأقلّ یلحظ بنحو الإطلاق عن الزیادة، والإطلاق والتقیید بالزیادة متباینان.

ص: 309


1- 1. هدایة المسترشدین: 175 _ 176.

وحاصل هذا الإشکال هو الإحتیاط فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر وبطلان البراءة.

الجواب:

ویتوقّف الجواب عن هذه النظریّة علی فهم حقیقة الإطلاق، وأنّ الإطلاق یکون فی لحاظ المولی أو فی متعلّق الحکم؟

لا شک فی أنّ المولی غیر مهملٍ لخصوصیّات موضوع الحکم، لأنّها إمّا دخیلة فی الغرض وإمّا غیر دخیلة، وعلی کلّ حالٍ، فإنّ الخصوصیّات ملحوظة له، فإمّا یعتبرها لدخلها فی الغرض، وإمّا هی غیر دخیلة فیرفضها. والنتیجة هی: إنّ التقیّد یدخل تحت الطلب، وأمّا الإطلاق لیس بداخلٍ.

توضیح ذلک: تارةً: یکون خصوصیّة الإیمان فی الرقبة دخیلة فی الغرض، فهنا یکون الملحوظ تقیّد الرقبة، ویتعلّق الحکم بالرقبة مع التقیید بها، فیقول: أعتق رقبة مؤمنةً، وأُخری: لا یکون لوجود الإیمان وعدمه دخل فی الغرض من الحکم، فهو یلحظ ذلک فی مقام الجعل ولا یأخذ شیئاً منهما، وهذا هو الإطلاق فی مرحلة الجعل.

وعلی الجملة، فإنّ الحاکم فی مقام الجعل غیر مهملٍ للخصوصیّات، فإمّا الدخل وإمّا عدمه، فعلی الأوّل: یکون التقیّد داخلاً تحت الطلب فیقول أعتق رقبةً مؤمنةً، وعلی الثانی: لا یدخل فیقول: أعتق رقبةً، فالإطلاق یرجع إلی مقام الجعل لا إلی مقام متعلّق الحکم، والتقیید یرجع إلی متعلّق الحکم.

وعلیه، فإنّ التباین یکون فی مرحلة اللّحاظ، لأنّ الذات _ وهی الرّقبة _

ص: 310

دخلت تحت الحکم، وهی إمّا مع الإیمان وإمّا لا، فهی موجودة مع الإیمان والکفر، فکان التباین بین البشرط واللاّبشرط فی مرحلة اللّحاظ، وکلّ منهما قسیم للآخر.

وأمّا بالنسبة إلی متعلّق الحکم، فقد عرفت أنّ الإطلاق خارج عن المتعلّق، لأنّ متعلّق الحکم هو نفس الذات، والذات تتّحد مع جمیع الخصوصیّات ولا تباین.

فظهر وقوع الخلط عند المحقّق صاحب الحاشیة، بین مقام اللّحاظ ومقام الجعل والإعتبار، ولا تباین فی مقام الجعل، ومن المعلوم أنّ البحث فی أنّ المورد مجری البراءة أو الإشتغال یتعلّق بمقام الجعل والتکلیف لا بمقام اللّحاظ.

مقدّمتان

1_ فی تقسیم الأقلّ والأکثر

إنّ الأقلّ والأکثر علی قسمین، الإرتباطیان والإستقلالیان، والکلام الآن فی الإرتباطیین.

قالوا: والفرق بینهما هو: وحدة الغرض فی الأوّل وتعدّده فی الثانی، مثال الأوّل: دوران أمر الواجب بین العشرة أجزاء والأحدعشر جزءً، ومثال الثانی: دوران الأمر فی الإکرام بین العشرة عالم والأحدعشر عالماً، فالغرض هناک واحد وهنا متعدّد.

وهذا بناءً علی تبعیّة الأحکام للملاکات، وأنّ الملاکات فی المتعلّقات، تامٌ

ص: 311

کما لا یخفی، وأمّا علی مبنی المنکرین للتبعیّة، وعلی مبنی أنّ الملاک فی نفس الأمر والنهی، فلا یتم.

فالصّحیح فی التفریق بین القسمین أن یقال: بأنّ المتعلّق فی الأقلّ والأکثر الإستقلالیین متعدّد وفی الإرتباطیین واحد، فالإطاعة والمعصیة تتعدّد فی الأوّل دون الثانی، وهذا یتم علی جمیع المسالک.

2_ هل البحث کبروی أو صغروی؟

هل البحث فی المقام کبروی أو صغروی؟ موضوعی أو حکمی؟

عندنا کبری: «الشکّ فی التکلیف مجری البراءة» وکبری «الشک فی المکلّف به مجری الإحتیاط». والبحث فی «الأقلّ والأکثر» الإرتباطیین یدور مدار البحث عن أنّ الشک هو فی التکلیف حتی تجری البراءة، أو فی المکلّف به حتی یجری الإشتغال؟

الأقوال فی الأقل والأکثر الإرتباطیین

واختلفت الأعاظم فی المسألة علی ثلاثة أقوال:

1_ البراءة عقلاً ونقلاً.

2_ الإحتیاط عقلاً ونقلاً.

3_ التفصیل بین حکم العقل وحکم الشرع.

ص: 312

أدلّة القول بالبراءة

اشارة

طریق الشیخ

ویستفاد من کلام الشیخ(1) للقول الأوّل وجهان:

الوجه الأوّل:

اشارة

إنحلال العلم الإجمالی إلی العلم التفصیلی بالنسبة إلی الأقلّ والشک البدوی بالنسبة إلی الأکثر.

توضیح ذلک:

إنّ موارد دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر علی قسمین، أحدهما: الدوران بین الأجزاء الخارجیّة، وهو المتعدّد وجوداً فی الخارج کأجزاء الصّلاة. والثانی: الدوران فی الأجزاء التحلیلیّة، وهو ما لیس له وجود فی الخارج. کما لو علم إجمالاً بتعلّق التکلیف بالعمل لا بشرط عن التقیّد بالترتیب أو بشرط الترتیب، فالأقلّ والأکثر الإرتباطی علی قسمین، والکلام فعلاً فی القسم الأوّل.

فإذا وقع الشک فی أنّ الواجب هو الصّلاة لا بشرط عن السّورة أو بشرط السّورة، یقول الشیخ بالبراءة عن السّورة، لأنّ الأقلّ معلوم وجوبه تفصیلاً، وهذا العلم بیانٌ، والأکثر مشکوک وجوبه فلا بیان بالنسبة إلیه، فتجری قاعدة قبح العقاب بلا بیان.

ص: 313


1- 1. فرائد الأصول 2 / 318.

وهذا هو الإنحلال العقلی. وذلک لأنّا نعلم بوجوبٍ نفسیّ مردّد بین الطرفین، مثلاً: لا ندری هل الواجب النفسی الصّلاة ذات الأجزاء العشرة أو الأحدعشر جزءً، فالعلم موجود والمتعلّق مردّد، لکنّ هذه الشّبهة تنحلّ بعلمٍ آخر، حیث یرتفع التردید فی المتعلّق، بل یعلم تفصیلاً بأنّه هو الأقلّ، لکنْ مع الجهل بأنّه بشرط الأکثر أو لا بشرطٍ عنه، فکان هو الواجب إمّا نفساً، إن کان فی الواقع عشرة أجزاء، وإمّا غیریّاً إن کان فی الواقع أحدعشر جزءً. فإذن یحصل العلم تفصیلاً بوجوب الأقلّ، وإنْ تردّد وجه الوجوب. وحینئذ، فالبیان بالنسبة إلی الأقلّ قائم، وأمّا الأکثر فمشکوک وجوبه.

هذا، ویمکن أنْ یکون کلام الشیخ ناظراً إلی رأی المحقّق صاحب الحاشیة القائل بأنّه لیس فی الأقلّ والأکثر الإرتباطیین طرفٌ متیقّن الوجوب، لأنّه إن کان الأکثر هو الواجب، فالأقلّ بحدّ الأقلیّة لیس بواجب أصلاً.

یقول الشیخ: بأنّ الأقلّ هو الواجب علی کلّ تقدیر، أی سواء کان وجوبه نفسیّاً أو غیریّاً.

إشکال المحقّق الخراسانی ببرهانین

قال(1): الإنحلال فالبراءة محال، ببرهانین أحدهما: برهان الخلف، والآخر برهان إستلزام وجود الشیء لعدمه.

ص: 314


1- 1. کفایة الأصول: 364.
بیان البرهان الأوّل

لقد علمنا بإشتغال الذمّة إمّا بالأقلّ أو الأکثر، فالأکثر طرفٌ للإشتغال العقلی، فإن ارتفع احتمال الإشتغال بالأکثر حصل العلم التفصیلی بوجوب الأقلّ علی أی تقدیر. ومعنی ذلک أن یکون التکلیف بالنسبة إلی الأقلّ منجّزاً، سواءً تعلّق بالأقل أو بالأکثر، لکنّ تنجّز التکلیف بالنسبة إلی الأقلّ علی کلّ تقدیر یتوقّف علی تنجّزه إنْ کان متعلّقاً بالأکثر، إذ یکون وجوب الأقلّ غیریّاً، وإنّما یکون وجوبه کذلک إن کان وجوب الأکثر نفسیّاً. فکان تعلّق التکلیف بالأقلّ علی أی تقدیر متوقّفاً علی تنجّزه بالنسبة إلی الأکثر، لکنّ فرض إنحلال العلم وإجراء البراءة عن الأکثر یستلزم الخلف.

وعلی الجملة: الإنحلال یتوقّف علی تنجّز التکلیف فی الأقلّ علی کلّ تقدیر، فیتوقّف علی تنجّزه بالنسبة إلی الأکثر، ومع تنجّزه بالنسبة إلی الأکثر، کیف تجری البراءة بالنسبة إلی الأکثر، لأنّ ما فرض منجّزاً لا یکون غیر منجّز وإلاّ یلزم الخلف؟

بیان البرهان الثانی

إنّ الإنحلال هو الإشتغال بالأقلّ والبراءة عن الأکثر، لکنّه فی ما نحن فیه یتوقّف علی تنجّز التکلیف بالأقلّ علی کلّ تقدیر کما تقدّم. لکن تنجّزه بناءً علی کون وجوب الأقلّ غیریّاً، یتوقّف علی کون الوجوب فی الأکثر _ وهو ذو المقدّمة _ منجّزاً، وإلاّ لم یکن منجَّزاً، لأنّ وجوب المقدّمة ناشئ من وجوب ذی المقدّمة.

ص: 315

وعلی الجملة: إنّه یکون الإنحلال متوقّفاً علی تنجّز التکلیف بالأقلّ علی کلّ تقدیر، وتنجّزه فیه علی تقدیر الغیریّة متوقّف علی تنجّزه فی الأکثر، ونتیجة ذلک أنّه یلزم من الإنحلال _ والبراءة عن الأکثر _ عدم الإنحلال وتنجّز الأکثر. فکان الإنحلال مستلزماً لعدم الإنحلال، والبراءة عن الأکثر مستلزمة لعدم البراءة عنه، وهذا هو المقصود هنا من لزوم عدم الشیء من وجوده.

جواب السیّد الخوئی عن کلا البرهانین

وقال المحقّق الخوئی: إنّ ملاک الإستحالة فی البرهانین واحد وهو: إنّ الإنحلال یتوقّف علی تنجّز التکلیف علی کلّ تقدیر، ومعه لا تنجّز بالنسبة إلی الأکثر، فیلزم الخلف، ومن فرض وجود الإنحلال عدمه.

والجواب عن کلیهما کلمة واحدة(1) وهی:

إنّ الإنحلال لا یتوقّف علی تنجّز التکلیف علی تقدیری تعلّقه بالأقل وتعلّقه بالأکثر، بل الإنحلال وتنجّز التکلیف بالنسبة إلی الأکثر متنافیان لا یجتمعان، فکیف یکون متوقّفاً علیه؟ بل الإنحلال مبنی علی العلم بوجوب ذات الأقلّ علی کلّ تقدیر، أی علی تقدیر وجوب الأقلّ فی الواقع بنحو الإطلاق وعلی تقدیر وجوبه فی الواقع بنحو التقیید، فذات الأقلّ معلوم الوجوب، إنّما الشک فی الإطلاق والتقیید، وحیث أنّ الإطلاق لا یکون مجری للأصل فی نفسه علی ما تقدّم بیانه، فیجری الأصل فی التقیید بلا معارض، وینحلّ العلم الإجمالی

ص: 316


1- 1. مصباح الأصول: 431.

لا محالة. وهذا واضح لا غبار علیه، فلا یکون مستلزماً للخلف، ولا وجود الإنحلال مستلزماً لعدمه. وإنّما نشأت هذه المغالطة من أخذ التنجّز علی کلّ تقدیر شرطاً للإنحلال. وهذا لیس مراد القائل بالبراءة. انتهی.

وعلی الجملة:

إنّه لا یتوقّف الإنحلال علی تنجّز التکلیف بالنسبة إلی الأقلّ علی کلّ تقدیر، وإنّما یتوقّف علی العلم بالتکلیف فیه علی کلّ تقدیر، وهذا العلم حاصل، وبه یتمّ الإنحلال، وإذا حصل الإنحلال تنجّز التکلیف بالنسبة إلی الأقل. فکان التنجّز متوقّفاً علی الإنحلال لا الإنحلال علی التنجّز.

المناقشة

أجاب الأُستاذ:

أوّلاً: إنّ حقیقة الإنحلال هی تعیّن الإشتغال فی طرفٍ بعد أنْ کان مردّداً بین الطرفین بمقتضی العلم الإجمالی، کأن تقوم البیّنة _ مثلاً _ علی وجود النجاسة فی هذا الطرف، فإنّه لا یبقی العلم الإجمالی بل ینحلّ بالإنحلال الحکمی، أی یتعیّن وجوب الإجتناب والإشتغال بهذا الکلام فی الطرف الذی قامت علیه البیّنة، ویرتفع أثر العلم وهو الإشتغال عن الطرف الآخر.

وکذلک الحال فی الإنحلال الحقیقی.

وعلی الجملة، فإنّ الإنحلال مطلقاً هو تعیّن الإشتغال فی طرفٍ بعد تردّده بمقتضی العلم بینه وبین الطرف الآخر.

ص: 317

وإذا کان هذا حقیقة الإنحلال، فإنّه یرد الإشکال بأنّ تنجّز التکلیف فی الأقلّ _ بناءً علی الوجوب الغیری _ یتوقّف علی تنجّزه فی الأکثر، وإذا کان التکلیف فی الأکثر منجّزاً، فإنّ إجراء البراءة عنه خلف، ویلزم من إنحلال العلم وإجراء البراءة فیه عدم إنحلال العلم.

وثانیاً: ما هو المنجِّز لأصل الوجوب؟ إنّ العلم الإجمالی مردّد بین الأقلّ والأکثر، والعلم التفصیلی قد تعلّق بالأقل، ولکنّه مردّد بین النفسی والغیری، فلا منجّز للتکلیف أصلاً، لأنّ المفروض إنحلال العلم الإجمالی وعدم بقائه حتی یکون منجّزاً.

الإشکال الثانی علی إستدلال الشیخ

وأشکل علی الشیخ أیضاً: بأنّ إتّصاف الأجزاء بالوجوب الغیری غیر ثابت بل الثابت خلافه، لأنّ الوجوب ناشئ من توقّف وجودٍ علی وجودٍ آخر، ولیس وجود المرکب غیر وجود الأجزاء، بل وجوده عین وجودها، والفرق بینهما باللّحاظ والإعتبار فقط.

وأیضاً: لو أنکرنا الوجوب الغیری للمقدّمة، بطل إستدلال الشیخ.

وأیضاً: لابدّ من الإلتزام بأنّ العلم التفصیلی الجامع بین الوجوب النفسی والغیری یوجب إنحلال العلم الإجمالی بالوجوب النفسی. وبعبارة أُخری: أن ینحلّ العلم الإجمالی الأوّل بالعلم التفصیلی، وکیف یمکن ذلک؟

ثمّ إنّ اتّصاف الأجزاء بالوجوب الغیری، یتوقّف علی أن تکون الأجزاء

ص: 318

مقدّمةً لتحقّق الکلّ، ولولا ذلک لم یتّصف الجزء بالوجوب الغیری. وهذه المقدمیّة متوقّفة علی أمرین:

أن یکون بین الأجزاء والکلّ إثنینیّة وغیریّة، فلو کانت الأجزاء عین الکلّ لم تکن واجبةً بالوجوب الغیری.

أقول:

قال الأُستاذ: والحق هو التعدّد والإثنینیّة، لأنّ الأجزاء لیست عین الکلّ بل الأجزاء لا بشرط إلی الإنضمام، والکلّ بشرط الإنضمام، فهما متغایران، غیر أنّ هذا التعدّد لیس فی الوجود، لأنّ الذات المقیّدة لیست فی الوجود منحازة عن القید، بل أنّهما متعدّدان فی اللّحاظ.

وأمّا مقدمیّة الأجزاء للکلّ، فقد قسّم جمهور الفقهاء والأصولیین المقدّمة إلی المقدّمة الداخلیّة والمقدّمة الخارجیّة، وقد جعلوا الداخلیّة هی الأجزاء.

وما هو ملاک المقدّمیّة؟

إنّ «المقدمیّة» عبارة عن کون الشیء «موقوفاً علیه»، وکلّ ما کان موقوفاً علیه فهو متقدّم علی الموقوف رتبةً، والنسبة هی نسبة العلّة إلی المعلول ولو بالعلیّة الناقصة. هذا أوّلاً.

وثانیاً: إن تخلّل الفاء دلیلٌ علی الإثنینیّة والتقدّم والتأخّر الرتبی، فیصح القول: تحقّقت الأجزاء فتحقّق الکلّ، ولا یصح أن یقال: تحقّق الکلّ فتحقّقت الأجزاء. فالکلّ متفرّع علی الأجزاء ولا عکس، ویشهد بذلک إمکان وجود المقدّمة وعدم وجود ذی المقدّمة، بأن یوجد الجزء ولا یوجد الکلّ.

ص: 319

فثبت الإثنینیّة والمقدمیّة.

وهل یتعلّق الوجوب الغیری بالأجزاء؟

یقول الشیخ: بأنّ الجزء لا یقبل ذلک، للزوم اللّغویّة، لأنّ المفروض أن الکلّ متّصف بالوجوب کالصّلاة مثلاً، فلا معنی بعد وجوب الصّلاة لجعل الوجوب للسّورة والرکوع والسّجود.

فالتعدّد والإثنینیّة بین الأجزاء والکلّ موجود، والأجزاء قابلةٌ لأنْ تکون مقدّمة للکلّ، لکنّ الأجزاء لا تکون واجبةً بالوجوب الغیری، للزوم اللّغویّة عند الشیخ قدّس سرّه.

وعلی هذا یسقط هذا الوجه الذی ذکره الشیخ.

هکذا أفاد دام بقاه، وفی بعض مواضعه تأمّل.

التحقیق فی المقام

إنّ الوجه الذی ذکره الشیخ کان متوقّفاً علی تمامیّة أربعة أُمور:

ا_ أنْ تکون الأجزاء مقدّمة للکلّ، حتی تصلح لعروض الوجوب الغیری علیها.

2_ تمامیّة کبری الوجوب الغیری للمقدّمة، فلو قلنا بعدم وجود الملازمة بین وجوب المقدّمة ووجوب ذی المقدّمة، انتفی الوجوب الغیری للمقدّمة.

3_ قابلیّة الأجزاء _ بعد تمامیّة المقدّمیّة _ للإتصاف بالوجوب الغیری.

4_ أن یکون العلم بالوجوب النفسی المردّد بین الأقلّ والأکثر قابلاً

ص: 320

للإنحلال بالعلم التفصیلی بالوجوب المردّد بین النفسی والغیری.

أمّا الأمر الأوّل: فمبنیّ علی أن تکون المقدمیّة صادقةً لوجود التقدّم والتأخّر بین الموقوف والموقوف علیه، بأنْ یکون الکلّ متوقّفاً علی الأجزاء وهو متأخّر عنها، ومن هنا قسّموا المقدّمة إلی الداخلیّة والخارجیّة.

وأمّا الأمر الثانی، فقد قرّرنا _ فی بحث مقدّمة الواجب _ أنْ لیس هناک وجوبان أحدهما للمقدّمة والآخر لذی المقدّمة، بل إنّ الشوق إلی ذی المقدّمة یلازم الشوق بالنسبة إلی المقدّمة، وإذا أُمر بذی المقدّمة، فإنّ هذا الأمر یکون داعیاً للمکلّف لإیجاد المقدّمة التی یتوقّف علیها.

وبالجملة، فإنّ الأمر المتعلّق بذی المقدّمة کاف للإنبعاث إلی المقدّمة ولا حاجة إلی أمرٍ آخر.

هذا من حیث الکبری.

وأمّا من حیث الصغری، وهو الأمر الثالث، فإنّ الملازمة المذکورة إنّما تکون بین المقدّمة وذی المقدّمة الموجودین بوجودین، وأمّا إذا کانا موجودین بوجودٍ واحدٍ فلا تتحقّق الکبری ... والمفروض أنّ الأجزاء والکلّ وجودهما واحد، فلو وجبت الأجزاء _ مع وجوب الکلّ _ لزم اجتماع المثلین، لأنّه وإن کان الوجوب إعتباریّاً ولا مانع من اجتماع الإعتبارین، لکنّ کلّ اعتبارٍ فإنّه ناشئ عن الإرادة، وإذا کان الوجود واحداً لزم اجتماع الإرادتین علی المراد الواحد. وأیضاً: یلزم تعدّد الإنبعاث مع کون المبعوث إلیه واحداً.

وأمّا الأمر الرابع، فإنّه لا یعقل الإنحلال فی محلّ الکلام، لاختلاف متعلّق

ص: 321

العلمین، فالعلم الأوّل متعلّق بوجوبٍ نفسی، والعلم الثانی مردّد بین النفسی والغیری.

وتلخّص عدم تمامیّة الوجه الأوّل.

وکذلک لا یتمُّ الوجه الأوّل بناءً علی وجوب المقدّمة بالوجوب العقلی لا الشرعی، کما فی کلام صاحب الکفایة إذ قال: «شرعاً أو عقلاً»، سواء کان وجوب المقدّمة عقلاً بمعنی درک العقل أو حکمه _ علی الخلاف _ کما فی إستحقاق العقاب علی مخالفة ما قامت علیه الحجّة، أو کان بمعنی اللاّبدیّة العقلیّة، فإنّه إذا فرض مطلوبیة ذیالمقدّمة فلابدّ من الإتیان بالمقدّمة عقلاً.

والوجه فی ذلک هو: إنّه مع جریان البراءة شرعاً وعقلاً فی ذیالمقدّمة، لا معنی لوجوب المقدّمة بالوجوب العقلی بأیّ معنی، لأنّ الجمع بین لزوم الإتیان بالمقدّمة والبراءة عقلاً وشرعاً عن ذیالمقدّمة یستلزم الخلف. وأیضاً: یستلزم عدم الإنحلال من وجوب الإنحلال.

فالوجه الأوّل ساقط علی کلّ تقدیر.

الوجه الثانی:

اشارة

المستفاد من کلام الشیخ کذلک:

إنّ الأقلّ واجب یقیناً بالوجوب النفسی الجامع بین الوجوب الإستقلالی والوجوب الضمنی، إذ لو کان الواجب فی الواقع هو الأقلّ کان الأقلّ واجباً بالوجوب الإستقلالی، وإن کان الواجب کذلک هو الأکثر، کان الأقلّ واجباً

ص: 322

بالوجوب الضمنی، لأنّ التکلیف بالمرکب ینحلّ إلی تکالیف متعدّدة بالنسبة إلی کلّ واحدٍ من الأجزاء مشروطاً بلحوق التالی للسّابق.

وعلیه، فإنّه یکون التکلیف بالنسبة إلی الأقلّ معلوماً، والعقاب علی ترکه ثابتاً لقیام الحجّة علیه، وأمّا بالنسبة إلی الأکثر، فهو مشکوک فیه والعقاب علیه بلا بیان، فتجری البراءة العقلیّة.

وتلخّص: أنّ وجوب الأقلّ لیس غیریّاً حتی یرد ما ورد، بل هو نفسی علی تقدیر الإستقلالیّة أو الضمنیّة، وهذا التردّد غیر مضر.

توضیح السیّد الخوئی

وقد أوضحه فی مصباح الأصول(1): بأنّ محلّ الکلام فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر إنّما هو إذا کان الأقل متعلَّقاً للتکلیف بنحو اللاّبشرط القسمی، بمعنی أنّه لو علم بوجوب الأقلّ لم یکن الإتیان بالأکثر مضرّاً، بخلاف ما لو کان الأقلّ مأخوذاً علی نحو البشرط لا عن الأکثر، فإنّه یکون من دوران الأمر بین المتباینین، وهذا هو المیزان فی الفرق بین المسألتین.

وعلیه، فلو دار الأمر بین الأقلّ والأکثر، کان ذات الأقلّ معلوم الوجوب، غیر أنّه یشک فی أنّ الأقلّ مأخوذ بنحو الإطلاق عن الأکثر _ أی اللاّبشرط _ أو بنحو التقیید به _ أی البشرط _ فیکون الأقلّ واجباً علی کلّ تقدیرٍ، ولا معنی لجریان الأصل فیه لعدم الشک، بل الشک فی تقیّده بالأکثر، فتجری البراءة عنه.

ص: 323


1- 1. مصباح الأصول: 429.

قال: وقد ذکرنا مراراً أنّ تنجیز العلم الإجمالی موقوف علی تعارض الأصول فی أطرافه وتساقطها، وأنّه لو لم یجر الأصل فی أحد الطرفین فی نفسه فلا مانع من جریانه فی الطرف الآخر، فلا یکون العلم الإجمالی منجّزاً. وما نحن فیه من هذا القبیل، لما عرفت من أنّ الإطلاق توسعة علی المکلّف فلا تجری فیه البراءة. فتکون جاریةً فی طرف التقیید بلا معارض.

المناقشة

قال الأُستاذ: إنّ ما ذکر فی تقریب هذا الوجه، إنّما یتمّ فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر فی الأجزاء التحلیلیّة، کالشک فی وجوب الصّلاة مطلقاً أو مقیّداً بالطّهارة.

لکنّ الکلام فی الأجزاء الخارجیّة، فإن کان کلّ جزءٍ مشروطاً بالجزء الآخر، کأنْ یکون التکبیر مشروطاً بالقراءة بنحو الشرط المتأخّر، والقراءة مشروطة بالرکوع کذلک، فکان کلّ جزء مضیّقاً ومقیّداً بالآخر، تمّ ما ذکر، لأنّ لازم الأمر وجوب کلّ واحدٍ من الأجزاء.

لکنّ الکلام فی کیفیّة إعتبار الشارع، فهل وجب کلّ جزءٍ من أجزاء الصّلاة مشروطاً بالجزء اللاّحق له بنحو الشرط المتأخّر؟

إنّه إنْ کان کذلک _ بأن یوخذ الشّرط شرعاً علی نحو أنْ یکون وجوب التکبیر مقیّداً بلحوق القراءة، ووجوب القراءة مقیّداً بسبق التکبیر، فکلّ جزءٍ سابقٍ شرط مقدّم بالنسبة إلی الجزء اللاّحق، وکلّ جزءٍ لاحق شرط متأخّر للجزء السّابق _ یلزم المحال.

ص: 324

توضیح ذلک:

إنّ کلّ شرطٍ فهو متقدّم عقلاً علی المشروط فی الرتبة _ وإنْ کان بحسب الوجود الخارجی متأخّراً عنه _ ، لأنّ الشرط جزء للعلّة، وکلّ علّة فهی مقدّمة علی المعلول. وعلیه، فإذا کان مجیء الجزء اللاّحق شرطاً لوجوب الجزء السّابق، فإنّ سبق الجزء السّابق شرطٌ لوجوب الجزء اللاّحق، فیجتمع التقدّم والتأخّر فی کلّ جزءٍ، واجتماع المتقابلین فی الشیء الواحد محال.

فظهر أنّ إشتراط کلّ جزءٍ بآخر شرعاً محال ثبوتاً.

فإنْ قیل: إنّه لابدّ من الإلتزام بالإشتراط، لأنّ الإهمال محال، والإطلاق منتف، فلابدّ من الإشتراط.

قلنا: فرق بین الإشتراط بمعنی التضییق القهری، والإشتراط الشرعی، وهنا التضییق موجود قهراً، لأنّ التکلیف بالکلّ یوجد التضییق فی کلّ جزءٍ بالنسبة إلی الآخر، ولا حاجة إلی الإشتراط من الشارع، وحینئذٍ، فلا تقدّم وتأخّر فیما بینها طبعاً، بل کلّها فی عرضٍ واحدٍ فی الوجوب، ویتقدّم الواحد علی الآخر زماناً.

هذا کلّه ثبوتاً.

وأمّا إثباتاً، فإنّ إشتراط أفراد الأجزاء بعضها ببعضٍ شرعاً بعد أنْ تعلّق الأمر بالکلّ، لغوٌ، لأنّ الأمر بالکلّ یستلزم تقیّد الأجزاء بعضها ببعضٍ، فلا حاجة إلی إعتبار التقیّد والإشتراط فی الأجزاء. نعم، فی مثل الموالاة والترتیب مثلاً، لا مناص من الإعتبار کما لا یخفی.

وتلخّص: عدم تمامیّة هذا الوجه ثبوتاً وإثباتاً، فلا مجال لجریان البراءة

ص: 325

بالنسبة إلی الأکثر بناءً علی هذا الوجه، لأنّ الإشتراط بین الأجزاء لم یکن من المجعولات الشرعیّة کی یحتمل إستحقاق العقاب حتی یتمسّک بقاعدة قبح العقاب لدفع الإحتمال. أو لحدیث الرفع، لأنّه إنّما یجری حیث یکون للشارع وضعٌ، والمفروض هنا عدمه.

طریق المحقق الاصفهانی

وذکر المحقق الإصفهانی(1) وجهاً آخر للإنحلال، وملخّصه هو:

إنّ الوجوب والواجب والإرادة والمراد تابع للغرض، فإنْ کان الغرض نفسیّاً کانت الإرادة والمراد والوجوب کلّها نفسیّة، وإن کان الغرض غیریّاً، کانت کلّها غیریّةً. وفی مورد الأقلّ والأکثر الإرتباطیین الغرض واحد، ولیس هنا أغراض متعدّدة بعدد الأجزاء، بل الأجزاء دخیلة فی تحقّق الغرض الواحد، وهو غرض نفسی _ لا غیری _ یترتّب علی الکلّ، کما یتعلّق الغرض الواحد النفسی بالعام المجموعی، والوجوب المتعلّق بالأقلّ والأکثر الإرتباطیین یشبه اللّحاظ المتعلّق بالمرکّب، حیث أنّ المرکّب بکلّ أجزائه یُلحظ باللّحاظ الواحد.

والحاصل: إنّ الإرادة واحدة ومتعلّقها متعدد، والوجوب واحد ومتعلّقه متعدّد.

هذا هو واقع الأمر فی الأقلّ والأکثر الإرتباطیین.

ص: 326


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 295.

وأمّا فی مرحلة قیام الحجّة وتنجّز التکلیف، فإنّ قیام الحجّة وتنجّز التکلیف یتوقّف علی العلم _ وهذا المحقّق یری أنّ مرتبة الفعلیّة والتنجّز واحد، لا إثنان کما یقول المیرزا، ولکنْ لا أثر لهذا الخلاف فی المطلب هنا _ وإذا کان حکم العقل باستحقاق العقاب یدور مدار العلم، فإنّ العلم قد تعلّق بالوجوب النفسی _ سواء کان الواجب هو الأقلّ أو الأکثر _ وهذا الوجوب النفسی قد تعلّق بالأقلّ یقیناً، ولکنّ الشک هو فی حدّ المتعلّق، وأنّه محدود بالأجزاء العشرة أو یتجاوز هذا الحدّ إلی الجزء الحادیعشر؟ ولمّا کان القدر المعلوم یقیناً هو العشرة، فإنّ الجزء الحادیعشر یکون مشکوک الوجوب، فتجری فیه البراءة العقلیّة، لأنّ «البیان» هنا هو «العلم»، ولا علم بالنسبة إلی الأکثر، فالعقاب علی ترکه قبیح.

هذا هو الوجه، والفرق بینه وبین الوجهین السّابقین واضح.

المناقشة

إنّ الإنحلال إمّا حقیقی، کما لو علم بعد الشک بکون الدم فی هذا الطرف. أو حکمی، کما لو کان لأحد الطرفین حالة سابقة. فالقضیّة المنفصلة _ إمّا هنا وإمّا هنا _ قد انحلّت حقیقةً فی الصّورة الأُولی، وأمّا فی الثانیّة، فموجودةٌ وجداناً إلاّ أنّ الحکم منحلّ.

فالإنحلال هو إرتفاع القضیّة المنفصلة حقیقةً أو حکماً. هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّه یعتبر فی الإنحلال الجزمُ بحصول الإمتثال والفراغ الیقینی بعد الإشتغال بالعلم الإجمالی، سواء کان الفراغ بالعلم الوجدانی أو بالحکم الشرعی بتحقّق الإمتثال.

ص: 327

وبعد المقدّمتین نقول: إنّه توجد القضیّة المنفصلة فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر، ولا ریب فی وجوب الأقلّ علی أیّ تقدیرٍ، أی سواء کان الواجب هو ذات الأقلّ أو فی ضمن الأکثر، لکنّ المهمّ هو أنْ یکون الإتیان بالأقلّ مبرءً للذمّة وموجباً للفراغ فی مرحلة الإمتثال، وهذا هو المقصود فی البحث، وهل یتحقّق ذلک بالإتیان بالأقل؟ إنّه لا یتحقّق. لأنّ المکلّف عند الإتیان بالصّلاة بدون السّورة متردّد فی وجوب السّورة وعدمه، وإذا کان کذلک، فتعلّق الوجوب بالصّلاة الفاقدة للسّورة مشکوک فیه، ومع الشک فی مطابقة المأتی به للمأمور به، کیف تنحلّ القضیّة المنفصلة ویتحقّق الیقین بالفراغ؟

طریق المحقق العراقی

طریق المحقّق العراقی(1)

وهو یتوقّف علی بیان أمرین: الأوّل: کیفیّة دخل کلّ جزءٍ من أجزاء المرکّب فی تحقّق الغرض من إیجابه. والثانی: تعیین الوجوب والواجب.

توضیح الأوّل:

إن دخل کلّ جزءٍ من أجزاء المرکب فی تحقّق الغرض من الحکم بوجوبه، هو نظیر دخل کلّ جزءٍ من أجزاء العلّة التامّة فی تحقّق المعلول، فإذا فقد المقتضی أو الشرط أو وجد المانع، فإنّ المعلول لا یتحقّق. إذن، لابدّ من سدّ باب عدم وجود المعلول من جهة کلّ واحدٍ من أجزاء العلّة التامّة. فکذلک دخل کلّ من التکبیر والقراءة والرکوع والسّجود، فی تحقّق الغرض من إیجاب الصّلاة المرکّبة من تلک

ص: 328


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 375.

الأجزاء، ولابدّ من تحقّق کلّ واحدٍ منها حتی ینسدّ باب عدم الغرض من ناحیته.

وتوضیح الثانی:

إنّه لا یحکم العقل فی مقام الإشتغال إلاّ بالعلم بالوجوب وبالواجب، فإذا حصل العلم بالوجوب وتعلّق بالواجب، حکم العقل بإشتغال الذمّة، وإنْ وقع الإختلاف فی حدود الواجب، فالموضوع لحکم العقل هو الوجوب والواجب فقط.

وفی الأقلّ والأکثر، لا یوجد الشک فی الوجوب ولا فی الواجب، وإنّما وقع الشک فی حدّ الواجب، هل أنّه عشرة أجزاء أو أکثر؟ فإذا ثبت أنْ لا دخل للحدّ فی الوجوب والواجب، لم یتحقّق الإشتغال بالحدّ بل جرت البراءة عنه.

لقد قام البرهان علی أنّ «الحدّ» أی حدّ الأقلّ وحدّ الأکثر غیر دخیل فی الواجب، إذْ لیس هو العشرة أجزاء بحدّ الأقلیّة بناءً علی الأقلّ، وکذا الأکثر، فإنّه لیس هو الأکثر بحدّ الأکثریّة، وذلک:

لأنّ تحدید الواجب بحدّ الأقلیّة وتحدیده بحدّ الأکثریّة إنّما یکون بعد تعلّق الوجوب بالمرکّب، وإذا کان متأخّراً رتبةً عن تعلّق الوجوب إستحال أنْ یکون دخیلاً فی الواجب. وذلک لأنّ الواجب _ وهو متعلَّق الوجوب _ متقدّم رتبةً علی الوجوب، لکنّ النسبة بین الوجوب والواجب هی التضائف، فالواجب بما هو واجب فی مرتبةٍ واحدة مع الوجوب، لأنّ المتضایفین متکافئان قوّةً وفعلاً، لکنّ متعلّق الوجوب مقدّم رتبةً علی الوجوب، إذْ لا یتحقّق الوجوب إلاّ بتحقّق متعلَّقه، ولکنْ یمکن تحقّق المتعلّق والحال أنّ الوجوب غیر متحقّق، فکلّما وجد

ص: 329

وجوب الصّلاة، فالصّلاة موجودة، ولکنْ قد تکون الصّلاة موجودةً والوجوب غیر موجود.

فتلخّص: أنّ ذات الواجب _ لا بوصف الوجوب _ مقدّمة رتبةً علی الوجوب، والوجوب مقدّم علی الحدّ رتبةً، فلو أُرید أخذ الحدّ فی الواجب، لزم أخذ ما هو فی الرتبة المتأخّرة فیما هو فی المرتبة المتقدّمة. وهذا محال.

وعلی هذا، فما تعلّق به العلم فی مورد دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر، هو الوجوب لا الواجب، وإنّما الشک فی حدّ الواجب بأنّه محدودٌ بحدّ الأقلیّة أو بحدّ الأکثریّة، ولمّا ظهر أنّ الحدّ خارج عن حریم الوجوب، فهو خارج عن حریم الواجب، کان الشکّ فی التکلیف الزائد، وهو مجری قاعدة قبح العقاب بلا بیان.

وملخّص هذا الوجه هو: إنّ الحدّ فی ناحیة الوجوب، وهذا الحدّ یستحیل أن یؤخذ فی المتعلّق، فالوجوب المعلوم وجوب شخصی لا تردید فیه، والتردید فی الحدّ لا أثر له فی حکم العقل بالتنجّز، لأنّ موضوع حکم العقل هو العلم بالوجوب والعلم بالواجب بلا کلام، فینحلّ العلم الإجمالی، ویکون الأقلّ هو الواجب وتجری البراءة العقلیّة عن الأکثر.

المناقشة

أوّلاً: إنّ الأقلیّة والأکثریّة لیست من إنقسامات الوجوب کما قال، بل من إنقسامات متعلّق الوجوب، وإنقسامات المتعلّق بتبع المتعلّق تکون فی المرتبة السّابقة علی الوجوب، لتقدّم کلّ متعلّق علی الحکم طبعاً، وتأخّر کلّ حکم بالنسبة إلی متعلّقه طبعاً.

ص: 330

وعلیه، فإنّ ما تعلّق به الوجوب إمّا هو الأقلّ وإمّا هو الأکثر، إذْ لا یعقل الإهمال من الحاکم بالنسبة إلی متعلّق حکمه، فلو قال: أکرم العلماء، فإنّ الحکم هو وجوب الإکرام، والإکرام الذی تعلّق به الوجوب له إنقسامات، لأنّ للإکرام کیفیّات مختلفة، وکون المولی الملتفت فی مقام الحکم مهملاً هذه الإنقسامات محال. إذن، لابدّ وأنْ یرید کیفیّةً معیّنة، فلابدّ من التقیید وإلاّ یکون مطلقاً.

وفیما نحن فیه، قد قال: الصّلاة واجبة، فجاء بالوجوب علی هذا المرکّب، لکن المفروض إنقسامه إلی ذیالعشرة أجزاء والأحدعشر جزءً، أی إلی واجد السّورة وفاقدها. أمّا الإهمال فمحال. فإمّا الإطلاق وإمّا التقیید.

وإذا کان الحدّ فی مقام الثبوت من إنقسامات المتعلّق، وجب قیام الکاشف عنه فی مقام الإثبات، والکاشف هو کیفیّة الوجوب.

وثانیاً: إنّ الأحکام مطلقاً تابعة _ علی مسلک العدلیّة _ للأغراض القائمة بالمتعلّق الّتی هی المنشأ للحکم، ولا یخفی أنّه لیس النسبة بین الغرض والحکم نسبة العلّة إلی المعلول، بل الحکم معلول للحاکم وإنّما الحکم سبب تحقّق الغرض، فالغرض هو العلّة الغائیّة، والإهمال فی الأغراض محالٌ قولاً واحداً، لأنّ الغرض أمر واقعی والإهمال فی الواقعیّات محال. وعلیه، فإنّ الغرض الواقعی من الحکم بوجوب الصّلاة إمّا قائم بذات العشرة أجزاء أو بذات العشرین جزء مثلاً، لأنّ متعلّق الحکم هو الحامل للغرض بالضرورة.

فتلخّص: سقوط قوله بأنّ الحدّ یأتی من ناحیة الوجوب ولیس هو فی المرتبة السّابقة علی الوجوب.

ص: 331

فالإنحلال عن هذا الطریق أیضاً غیر تام.

إنّ المهم هو الإنحلال وحصول النتیجة المطلوبة منه، لأنّ المکلّف بعدما اشتغلت ذمّته یفحص عن الطریق المثبت لمطابقة ما أتی به لما أمر به المولی. وبعبارة أُخری: لابدّ من إقامة طریق یفید الخروج عن العهدة وفراغ الذمّة.

وقد ظهر عدم تمامیّة الإنحلال بشیء من الطرق المذکورة.

أدلّة القول بعدم جریان البراءة العقلیّة

اشارة

واستدلّ للقول الثانی، وهو الإحتیاط بوجوه:

الوجه الأوّل

اشارة

إنّ الإنحلال یتوقّف علی تنجّز التکلیف علی کلّ تقدیر، أی سواء تعلّق بالأقلّ أو الأکثر، ولکنْ من تنجّز التکلیف بالنسبة إلی الأکثر یلزم الخلف، لأنّه لو تنجّز الأکثر لزم عدم جریان البراءة بالنسبة إلیه، فیبطل الغرض من الإنحلال. وبعبارة أُخری: إنّ الإنحلال یستلزم البراءة بالنسبة إلی الأکثر، وهو یستلزم عدم الإنحلال بالنسبة إلیه.

الجواب

والجواب:

لیس الإنحلال متوقّفاً علی تنجّز التکلیف بالنسبة إلی الأکثر، بل الذی یتوقّف علیه هو العلم بتعلّق التکلیف بأحد الطرفین، فإن کان أحدهما معلوم الوجوب کان الطرف الآخر مشکوک التکلیف.

ص: 332

وفیما نحن فیه: الأقلّ معلوم الوجوب علی کلّ تقدیر، أی سواء کان وجوبه نفسیّاً أو غیریّاً.

الوجه الثانی

اشارة

ما ذکره المحقّق المیرزا(1) بتوضیح منّا:

إنّ العلم الإجمالی متقوّم بالعلم بالجامع وتردّده بین الخصوصیّتین، والإنحلال هو إنعدام المقوّم المذکور.

لکنّ إنحلال العلم الإجمالی بما هو مقوّم له معناه: إنعدام الشیء بما هو مقوّمٌ له، وهذا یستلزم أنْ یکون علّة وجود الشیء علّةً لعدمه، وهو محال بالضّرورة.

وتطبیق ما ذکر علی ما نحن فیه هو:

نحن نعلم إجمالاً بوجوب العشرة أجزاء إمّا لا بشرط بالنّسبة إلی الحادیعشر أو بوجوبها بشرط وجوده معها، فهنا علم بالجامع وهو العشرة وشک فی الخصوصیّة، فالمعلوم هو العشرة المهملة بالنسبة إلی اللاّبشرط والبشرط، وخصوصیّة البشرطیة أو اللاّبشرطیة مشکوک فیها، فلو أُرید الإنحلال بالنسبة إلی الجامع بأنْ یقال بوجوب الأقلّ، فإنّ الأقلّ مردّد أمره بین البشرط لا واللاّبشرط القسمی، ولا یعقل الإنحلال، لأنّ کلاًّ من الخصوصیّتین مشکوک فیه. إذنْ، لابدّ من إنحلال العلم بالجامع بین الخصوصیّتین، لکن إنحلال العلم الإجمالی بالجامع یعنی الإنحلال بالمقوّم له، وقد ذکرنا أنّه محال.

ص: 333


1- 1. أجود التقریرات 3 / 491.
إشکال السیّد الخوئی

وذکره فی مصباح الأصول ثمّ أشکل علیه بقوله(1):

إن ما ذکره رحمه اللّه متین لو قلنا بالإنحلال الحقیقی، فإنّ العلم التفصیلی بالجامع هو عین العلم الإجمالی بإحدی الخصوصیّتین، فکیف یکون موجباً للإنحلال الحقیقی؟ ولکنّا نقول بالإنحلال الحکمی، بمعنی أنّ المعلوم بالإجمال وإن کان یحتمل إنطباقه علی خصوصیّة الإطلاق وعلی خصوصیّة التقیید، إلاّ أنّه حیث تکون إحدی الخصوصیّتین مجری للأصل دون الأُخری، کان جریان الأصل فی إحداهما فی حکم الإنحلال، لما ذکرناه غیر مرّة من أن تنجیز العلم الإجمالی متوقّف علی تعارض الأصول فی أطرافه وتساقطها، فبعد العلم بوجوب الأقلّ بنحو الإهمال الجامع بین الإطلاق والتقیید، وإن لم یکن لنا علم بإحدی الخصوصیّتین حتی یلزم الإنحلال الحقیقی، إلاّ أنّه حیث یکون التقیید مورداً لجریان الأصل بلا معارض، کان جریانه فیه مانعاً عن تنجیز العلم الإجمالی، فیکون بحکم الإنحلال. وهذا الإنحلال الحکمی لا یکون فی المتباینین، لعدم جریان الأصل فی واحد منهما، لابتلائه بالمعارض، فإنّ الأصلین فی المتباینین یتساقطان للمعارضة. وهذا هو الفارق بین المقامین.

التحقیق فی المقام

والتحقیق _ کما أفاد شیخنا دام بقاه _ سقوط الإستدلال والإشکال معاً، لابتناء کلیهما علی أنّ أجزاء المرکّب کلّ واحد منها بالنسبة إلی الآخر بشرط شیء. لکن

ص: 334


1- 1. مصباح الأصول: 433.

قد تقدّم سابقاً عدم تقیّد الأجزاء بعضها ببعض، لأنّ کلاًّ منها یصیر شرطاً ومشروطاً معاً، وهذا یستلزم اجتماع التقدّم والتأخّر فی الشیء الواحد وهو محال. هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّ الأمر لمّا تعلّق بالمرکّب ینتزع منه جزئیّة کلّ واحدٍ من الأجزاء، وحینئذٍ یلغو إعتبار الشرطیّة.

هذا کلّه ثبوتاً.

وأمّا إثباتاً، فإنّه لا یوجد عندنا غیر الدلیل القائم علی وجوب المرکّب، فلا دلیل علی الشرطیّة حتی یقال بأنّ الأقلّ لا بشرط والأکثر بشرط.

وأمّا الإشکال، فإنّه یبتنی علی الإطلاق والتقیید، وأنّه لمّا کان الإطلاق عدم الإشتغال ولا کلفة فیه فلیس بمجری البراءة، بخلاف التقیید فتجری فیه لوجود الکلفة.

وقد عرفت أنْ لا إطلاق وتقیید فی أجزاء المرکّب.

وهذا هو الجواب الصحیح عن الوجه المذکور. ولو تنزّلنا عن ذلک وقلنا بوجود الإطلاق والتقیید فی أجزاء المرکّب، فإنّ الإطلاق لا یتعلّق به التکلیف، وإنّما هو لحاظ الأجزاء بنحو اللاّبشرط، فالحاکم یلحظ الرقبة مطلقاً عن الإیمان عندما لا یکون دخیلاً فی غرضه من العتق، أمّا فی مثل الصّلاة لمّا یقول: أقم الصّلاة، فإنّه یلحظ الأجزاء، فإنْ کان الجزء الحادیعشر دخیلاً أخذه وإلاّ رفضه، والرفض هو الإطلاق وعدم الإشتراط به. فذات الأجزاء هی المتعلّق للحکم ولیس الرفض بمتعلّقٍ له حتی یقال بأنّ المجعول هو العشرة لا بشرط.

ص: 335

وعلی ما ذکرنا، فإنّ العلم ینحلّ، لأنّه إن کان الواجب مردّداً بین المطلق والمشروط، أی بین العشرة والأحدعشر، فلا ینحلّ العلم، لأنّ ذات العشرة تصبح الجامع، ویصیر الإطلاق والإشتراط محلّ الشک والتردّد. لکنْ إذا لم یکن الإطلاق داخلاً تحت الطلب ولم یتعلّق به الحکم _ کما ذکرنا _ ، وإنّما التقیید هو المتعلّق للحکم، فإنّ صورة المسألة تختلف، لأنّ الواجب إمّا العشرة وإمّا العشرة مقیّدةً بالحادیعشر، والعشرة متیقن الوجوب، وتقیّدها بالحادیعشر مشکوک فی وجوبه فتجری فیه البراءة.

هذا، ولو تنزلنا عن هذا أیضاً، نقول: لقد فصّل المیرزا فی البراءة فقال بجریان الشرعیّة دون العقلیّة، إمّا ینحلُّ العلم وإمّا لا، فإنْ أمکن إنحلاله _ حقیقةً أو حکماً _ فلا فرق، وإنْ لم ینحل فکذلک.

الوجه الثالث

اشارة

لعدم جریان البراءة العقلیّة هو: إنّ تحصیل الأغراض الإلزامیّة واجب عقلاً، والإشتغال الیقینی بها یستلزم البراءة الیقینیّة عنها. وفی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر نعلم علماً یقینیّاً بغرض المولی، فإن جئنا بالأکثر، حصل الیقین بالبراءة، وإن جئنا بالأقل نشکّ. إذنْ، لابدّ عقلاً من الإتیان بالأکثر.

جواب الشیخ

أجاب الشیخ(1)

ص: 336


1- 1. فرائد الأصول 2 / 319.

أوّلاً: إنّه یتمّ علی مسلک العدلیّة فقط، ولا یتمّ علی مسلک الأشاعرة، ولابدّ من أن یکون الإستدلال علی المسلکین.

أُورد علیه: لا یلزم تمامیّته علی المسلکین، بل یکفی علی المسلک الحق.

ثانیاً: إنّ الأحکام العقلیّة _ کالشرعیّة _ مشروطة بالقدرة علی الإمتثال وتحصیل الغرض، وهنا لا یمکن تحصیله علی وجه الیقین، لأنّ الموجب للیقین بذلک هو الإتیان بالمأمور به بجمیع الخصوصیّات الدخیلة فی الغرض. وفیما نحن فیه: یحتمل دخل قصد الوجه، وهذا غیر ممکن، لأنّ الإتیان بالأقل بقصد الوجه یستلزم التشریع، لعدم العلم بتعلّق التکلیف بالأقل، وکذا الإتیان بالأکثر.

إذن، لا یمکن تحصیل غرض المولی، لاحتمال دخل قصد الوجه فی حصوله.

إشکال الخوئی علی الوجه الثانی

إشکال الخوئی

وأشکل السیّد الخوئی(1) علی الجواب الثانی بوجوه:

أوّلاً: إن ما ذکره من عدم إمکان القطع بحصول الغرض لو تمّ، فإنّما یتمّ فی التعبّدیّات دون التوصّلیّات، لعدم توقّف حصول الغرض فیها علی قصد الوجه قطعاً، فیلزم القول بوجوب الإحتیاط فی التوصّلیّات دون التعبّدیّات، وهو مقطوع البطلان، ولم یلتزم به أحد حتی الشیخ نفسه.

ص: 337


1- 1. مصباح الأصول: 435.

وثانیاً: إنّ إعتبار قصد الوجه علی القول به یختصّ بصورة الإمکان دون ما لو لم یمکن قصد الوجه أصلاً، لعدم المعرفة بالوجه کما فی المقام، إذ القول باعتبار قصد الوجه مطلقاً مستلزم لعدم إمکان الإحتیاط فی المقام، لأن معنی الإحتیاط هو الإتیان بما یحصل معه العلم بفراغ الذمّة، وهذا ممّا لا یمکن العلم به، بناءً علی اعتبار قصد الوجه مطلقاً، إذ لا یحصل العلم بالفراغ بالإتیان بالأقل، لاحتمال وجوب الأکثر، ولا بالإتیان بالأکثر لاحتمال إعتبار قصد الوجه، فلا یحصل العلم بالفراغ، لا بالإتیان بالأقلّ ولا بالإتیان بالأکثر، وهذا ممّا لم یلتزم به أحد حتی الشیخ رحمه اللّه نفسه، إذ لا إشکال ولا خلاف فی إمکان الإحتیاط، بل فی حسنه بالإتیان بالأکثر، إنّما الکلام فی وجوبه وعدمه، والسرّ فیه أن قصد الوجه علی القول بوجوبه یختصّ بصورة الإمکان، ففی مثل المقام لا یکون واجباً قطعاً، وإلاّ لزم بطلان الإحتیاط رأساً.

وثالثاً: إنّ إحتمال إعتبار قصد الوجه ممّا لم یدلّ علیه دلیل وبرهان، بل هو مقطوع البطلان، علی ما تقدّم بیانه فی بحث التعبّدی والتوصّلی.

ورابعاً: إنّ إعتبار قصد الوجه مع عدم تمامیّة دلیله، إنّما هو فی الواجبات الإستقلالیّة دون الواجبات الضمنیّة، أی الأجزاء، فراجع الأدلّة الّتی ذکروها لاعتبار قصد الوجه.

ص: 338

إشکال النائینی

وأشکل المحقّق النائینی(1): بأنّ الغرض تارة: تکون نسبته إلی الفعل المأمور به نسبة المعلول إلی علّته التامّة، کالقتل بالنسبة إلی قطع الأوداج، وأُخری: تکون نسبته إلیه نسبة المعلول إلی العلل الإعدادیّة. والفرق بینهما واضح، فإنّ الغرض علی الأوّل، مترتّب علی الفعل المأمور به بلا توسّط أمر آخر خارج عن قدرة المکلّف، وعلی الثانی، لا یترتّب علی الفعل المأمور به، بل یتوقّف علی مقدّمات أُخری خارجة عن قدرة المکلّف، کحصول السّنبل من الحبّة، فإنّ الفعل الصادر من المکلّف هو الزرع والسّقی ونحوهما من المقدّمات الإعدادیّة، وأمّا حصول السّنبل، فیتوقّف علی مقدّمات أُخری خارجة عن قدرة المکلّف، کحرارة الشمس وهبوب الریح مثلاً.

فلو علمنا بأنّ الغرض من القسم الأوّل یجب القطع بحصوله، بلا فرق بین أن یکون الأمر فی مقام الإثبات متعلّقاً بنفس الغرض أو بعلّته، ففی مثله لو دار الأمر بین الأقلّ والأکثر کان مورداً للإحتیاط، فیجب الإتیان بالأکثر تحصیلاً للقطع بغرض المولی. ولو علمنا بکون الغرض من القسم الثانی، فلا إشکال فی أن حصول الغرض لیس متعلّقاً للتکلیف، لعدم صحّة التکلیف بغیر المقدور، فلا یجب علی المکلّف إلاّ الإتیان بما أمر به المولی، وهو نفس الفعل المأمور به.

وفی مثله، لو دار الأمر بین الأقلّ والأکثر وجب الإتیان بالأقلّ، للعلم بوجوبه علی کلّ تقدیر، وکان وجوب الأکثر مورداً للأصل، لعدم العلم به.

ص: 339


1- 1. أجود التقریرات 3 / 499.

وأمّا لو شککنا فی ذلک ولم نعلم بأن الغرض من القسم الأوّل لیجب الإحتیاط عند دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر، أو من القسم الثانی لیرجع إلی أصالة البراءة عن الأکثر، فلا مناص من الرجوع إلی الأمر، فإن کان متعلّقاً بالغرض کالأوامر المتعلّقة بالطّهارة من الحدث فی مثل قوله: «إنْ کُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا» یستکشف منه کون الغرض مقدوراً لنا، لأنّه لو لم یکن مقدوراً لم یأمر المولی الحکیم به، لقبح التکلیف بغیر المقدور، فیجب الإحتیاط عند دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر تحصیلاً للعلم بغرض المولی. وإن کان متعلّقاً بفعل المأمور به کالأوامر المتعلّقة بالصّلاة والصّوم ونحوهما، یستکشف منه کون الغرض غیر مقدور لنا، وإلاّ کان تعلّق الأمر به أولی من تعلّقه بالمقدّمة، فلا یجب الإحتیاط عند دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر.

والمقام من هذا القبیل، فإنّ الأمر قد تعلّق بنفس الفعل المأمور به، ویستکشف منه أنّ الغرض لیس متعلّقاً للتکلیف، فلا یجب علینا إلاّ الإتیان بما علم تعلّق التکلیف به وهو الأقلّ، وأمّا الأکثر فیرجع فیه إلی الأصل.

الإشکال علیه من السید الخوئی

هذا جواب المیرزا کما فی مصباح الأصول.

الإشکال علیه

ثمّ إنّ تلمیذه المحقّق قد أشکل علیه بما أورده المیرزا علی نفسه وأجاب عنه، وملخّص الإشکال(1) هو:

ص: 340


1- 1. مصباح الأصول: 439.

أنّه مع الإقتصار علی الأقلّ، یُشکّ فی تحقّق الغرض المترتّب علی المأمور به، ولکنّ الإتیان بالأکثر محقّقٌ له یقیناً، فیجب الإتیان به.

فأجاب: بأنّه إذا أمر المولی بأمرٍ، وکان شیء آخر دخیلاً فی تحقّق الغرض منه، وجب علیه الأمر بالإحتیاط.

وتوضیح ذلک هو: إنّه لو تعلّق الأمر بالغَسل والمسح _ ولم یتعلّق بالطّهارة المسبّبة منهما والمترتّب علیها الغرض _ کان الغسل والمسح هو المحقّق للغرض، إذْ لو کان هناک شیء آخر له دخل فی تحقّق الطّهارة والغرض، لأمر المولی بالإحتیاط بالإتیان، فعدم جعل الإحتیاط یکشف عن عدم دخل الشیء فی الغرض. فکذلک ما نحن فیه، فإنّه لو کان یحتمل دخل الأکثر فی الغرض، کان علی المولی جعل الإحتیاط بالنسبة إلیه، لأنّه لو کان فی متن الواقع دخیلاً لکان فوت الواقع مستنداً إلی المولی.

والمهمّ هو: أن یتحقّق الإنحلال فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر _ إمّا حقیقةً أو حکماً _ بحیث یقال: بأنّ الأقلّ واجب یقیناً والأکثر مشکوک الوجوب. وما ذکره المیرزا لا یفید هذه الجهة.

التحقیق فی المقام

وبعد أنْ ظهر عدم وفاء الوجوه المذکورة من الشیخ وغیره للجواب عن الإشکال وإثبات الإنحلال، فإنّ التحقیق فی نظر الأُستاذ أنْ یقال:

إنّه لیس للعلم التفصیلی فی أحد الطرفین موضوعیّة فی إنحلال العلم

ص: 341

الإجمالی، لأنّ ما له الموضوعیّة فی الأحکام الشرعیّة هو الوجوب والحرمة، وما له الموضوعیّة فی الأحکام العقلیّة هو إستحقاق العقاب وعدمه. إذ العقل یحکم بلزوم الإتیان بالواجب والإجتناب عن الحرام من أجل الأمن من العقاب، وهذا هو الغرض الأقصی فی الأحکام العقلیّة، وهذا هو ما بالذات وما عداه عرض ینتهی إلیه.

وهنا: هل الإتیان بالأقلّ وترک الأکثر یکفی للأمن من العقاب أوْ لا؟

إن ترک الأقلّ یستتبع إستحقاق العقاب بلا شک ولا إشکال، فلا موضوع للبراءة العقلیّة بالنسبة إلیه، بل إنّ وجوبه قطعی. وأمّا الأکثر _ أی الأقلّ مع الزیادة _ فلا یحکم العقل باستحقاق العقاب علی ترکه، لأنّ وجوبه مشکوک فیه، وکذا کونه حاملاً للغرض، لعدم قیام البیان علی ذلک، فموضوع القاعدة محقّق فیه، والمانع عن جریانها مفقود، فهی جاریة فی الأکثر.

وتحصّل: إنّ الإشکال لا ینحلّ بالنظر إلی الفعل وبالنظر الموضوعی للوجوب الشرعی. أمّا بالنظر إلی الترک، فإنّه ینحلّ بالوجه المذکور. قد لوحظ الوجوب بالنظر الطریقی من حیث أنّ ترکه یوجب إستحقاق العقاب أوْ لا. وقد ظهر أنّه لا یوجبه بالنسبة إلی الأکثر. فالإنحلال حاصل.

البرائة الشرعیّة

اشارة

ویقع الکلام فی البراءة الشرعیّة، فهل تجری أوْ لا؟

أمّا مع جریان البراءة العقلیّة، فلا إشکال فی جریان الشرعیّة، لأنّ العقاب

ص: 342

علی الأکثر یکون بلا بیان، فیجری حدیث الرفع.

وأمّا بناءً علی مسلک صاحب الکفایة والمیرزا من عدم جریان البراءة العقلیّة، فهل تجری أوْ لا؟ قولان.

قیل: بوجود الملازمة بین البراءتین وجوداً وعدماً.

وقیل: بعدم الملازمة. وهو مختار المحقّقین المذکورین.

دلیل المحقّق الخراسانی للجریان

وقد ذکر صاحب الکفایة(1): إنّ مورد البحث هو العلم الإجمالی بوجوب الأقلّ أو الأکثر، فیعود البحث إلی إجمال الدلیل القائم علی الأجزاء وأنّ الواجب هو العشرة أو الأحدعشر، فنحتاج إلی الرافع لهذا الإجمال، وهو إمّا الدلیل الخاصّ أو العام، أمّا الأوّل فمفقود، وأمّا الدلیل العام، فهو حدیث الرفع، للشک فی وجوب السّورة مثلاً، فهو موضوع للحدیث المذکور ویجری لرفع جزئیّتها، لأنّ وضع الجزئیّة لها کان بید الشارع، فرفعها بیده کذلک، وحدیث الرفع یجری لرفع الإجمال، وإثبات عدم وجوب السّورة.

إشکالان:

أورد علی نفسه:

الأوّل: إن هذا الحدیث إنّما یرفع ما کان وضعه بید الشارع، والجزئیّة لیست

ص: 343


1- 1. کفایة الأصول: 366.

من المجعولات الشرعیّة حتی ترتفع بالحدیث، لأنّها لیست من الأُمور القابلة للجعل. وأیضاً: لیس للجزئیّة أثر شرعی مجعول.

لا یقال: إنّ أثرها هو وجوب الإعادة.

لأن وجوب الإعادة أثر للأمر الأوّل وهو قوله: صلّ مع السّورة. هذا أوّلاً.

وثانیاً: وجوب الإعادة أثر عقلی لا شرعی.

وأجاب: إنّه وإنْ لم تکن الجزئیّة مجعولة شرعاً لکونها من الأُمور الإنتزاعیّة، لکنّ حدیث الرفع جارٍ بالنسبة إلیها، لجریانه فی منشأ إنتزاع الجزئیّة، وهو من المجعولات الشرعیّة، والمنشأ هو الأمر بکلّ الأجزاء بقوله: «صلّ»، ولمّا کان کذلک، فهو قابل للرفع بالحدیث.

الثانی: إنّه إذا رفع منشأ الإنتزاع _ وهو الأمر بکلّ أجزاء الصّلاة _ من أجل رفع جزئیّة السّورة، إرتفع الأمر بالنّسبة إلی غیرها من الأجزاء، لأنّ الأمر بالکلّ أمرٌ واحدٌ بسیط، فالتکبیر والرکوع والسّجود وغیرها تکون بلا أمرٍ.

وأجاب: إنّ نسبة حدیث الرفع إلی الأدلّة الواقعیّة نسبة الإستثناء إلی المستثنی منه، وعلی هذا، فإنّ مقتضی الجمع بینه وبینها هو: أنّ الجزئیّة موجودة إلاّ فی مورد النسیان والإضطرار والجهل ... .

وإذا کانت النسبة کذلک، فإنّ مقتضاها خروج المستثنی بقدر ما قام علیه الدلیل من تحت المستثنی منه، وبقاء ما عداه. وعلیه، فإنّ حالة الجهل بالنسبة إلی السّورة خرجت من تحت الأدلّة الواقعیّة بحدیث الرفع، وبقیت الأجزاء تحت تلک الأدلّة.

ص: 344

إشکال الاصفهانی والعراقی علی الکفایة

فأشکل المحقّق الإصفهانی(1) _ وقریبٌ منه کلام المحقّق العراقی _ فی قضیّة الإستثناء الذی ذکره. وذلک، لأنّه لابدّ من أن یکون المستثنی والمستثنی منه فی مرتبةٍ واحدةٍ، لأنّ الإستثناء هو الإخراج، والإخراج فرع الدخول، فلو اختلفا فی المرتبة لم یتحقّق الإستثناء، لأنّه إذا تأخّر الإستثناء رتبةً تأخّر المستثنی، وما یکون فی المرتبة المتأخّرة لا یکون داخلاً فیما فی المرتبة المتقدّمة حتی یخرج، وما یکون فی المرتبة المتقدّمة یستحیل أن یتأخّر.

هذه هی الکبری.

وفیما نحن فیه: إنّ أدلّة الأجزاء تثبت الأمر الواقعی ویکون المنشأ للجزئیّة الواقعیّة للسّورة مثلاً، وحدیث الرفع موضوعه عدم العلم بالواقع. لکنّ العلم أو الجهل بالواقع متأخّر رتبةً عن الواقع، فالواقع هو المتعلَّق للجهل فی (ما لا یعلمون) والإضطرار فی (ما اضطروا إلیه) وهکذا.

إذن «الموضوع» هو «الواقع». و«المحمول» هو «الرفع».

ومن المعلوم أنّ «الرفع» فی مرتبةٍ متأخّرة من (ما لا یعلمون) و(ما لا یعلمون) متأخّر مرتبةً عن «الجزئیّة».

فظهر أنّ الإستثناء محال.

فما ذکره صاحب الکفایة غیر تام، فیعود الإشکال.

ص: 345


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 326.

التحقیق فی المقام:

قال شیخنا: لنا طریقان لتحقیق المطلب:

الطّریق الأوّل:

أن یقال: لا خلاف بین الأصحاب فی تبعیّة الأحکام للأغراض والملاکات، ثمّ إنّ الإهمال فی الغرض غیر معقول، لأنّه من الأُمور الواقعیّة، ولا یعقل الإهمال والإجمال فی الواقعیّات، فالغرض من جزئیّة السّورة أیّاً ما کان لا إهمال فیه، فإمّا هو مختصٌ بالعالم وإمّا هو أعمّ من العالم والجاهل.

وأمّا الحکم، فإنّه معلول لإرادة الحاکم واعتباره، لکنّ الحکم لا یتخلّف عن الغرض، بل هو تابع له سعةً وضیقاً.

وعلی هذا، فإنْ لم یکن الغرض مترتّباً علی جزئیّة السّورة فی صورة الجهل بها، کان مقیّداً ومحدوداً بالعالم، وإنْ کان مترتّباً حتی فی صورة الجهل، فالسّورة جزء من الصّلاة مطلقاً، فلا یمکن سعة الغرض مع ضیق الحکم، إلاّ أنّه لو لم یتمکّن المولی من إفادة سعة الحکم بالدلیل الأوّل، أفاد ذلک بالدلیل الثانی.

هذا بالنسبة إلی مقام الثبوت.

وأمّا فی مقام الإثبات، فإنّ حدیث الرفع یکشف عن قابلیّة الغرض والحکم للثبوت فی مرتبة الشکّ، وإلاّ لم یعقل الرفع. فالحدیث بنفسه کاشف عن عدم إختصاص الحکم بالعالم. هذا أوّلاً.

وثانیاً: فإنّ البرهان علی بطلان التصویب وعدم إختصاص الأحکام بالعالمین قطعی، فلولا حدیث الرفع لکان مقتضی القاعدة العموم والسّعة.

ص: 346

لکنّ مدلول حدیث الرفع هو رفع جزئیّة السّورة عن الجاهل بالحکم الواقعی.

وأمّا الإشکال باختلاف المرتبة بین الرفع والواقع.

فالجواب عنه هو: أن لا إختلاف فی المرتبة، لأنّ النقیضین فی مرتبة واحدة بحسب الوجود لا بحسب العدم، فوجود الحرارة فی مرتبةٍ متأخّرة عن النار، وأمّا عدم الحرارة فلیس متأخّراً عن النار.

وما نحن فیه من هذا القبیل، فإنّ عدم الحکم الواقعی بالنسبة إلی جزئیّة السّورة _ هذا العدم _ فی مرتبة الشک فی الحکم الواقعی، فیکون مفاد حدیث الرفع بیان عدم الجزئیّة فی ظرف الشک، فهو یدلّ علی عدم إعتبار الشارع الجزئیّة للجاهل، ویکون جهله عذراً له. وهذا المقدار کافٍ للبراءة الشرعیّة.

وبعبارة أُخری: لیس مفاد حدیث الرفع هو الرفع للحکم الموجود مع الجهل، بل هو عدم الجعل للحکم فی ظرف الشک.

الطریق الثانی:

أن یقال: إنّ النسبة بین حدیث الرفع والأدلّة الأولیّة فی الأجزاء هی الحکومة، وذلک: لأنّه متی کان الدلیلان واردین فی الموضوع الواحد، وکان لأحدهما نظر إلی الآخر، بأنْ یکون الناظر محتاجاً إلی المنظور دون العکس، کانت النسبة بین الدلیلین نسبة الحکومة.

إنّ الأدلّة الأولیّة تفید جزئیّة الأجزاء، وحدیث الرفع یرفع الجزئیّة فی ظرف الجهل والإضطرار والنسیان ...

ص: 347

إن حکم حدیث الرفع بالنسبة إلی الأدلّة الأولیّة حکم دلیل نفی الضرر ونفی الحرج ونحوهما، فإنّها أدلّة ثانویّة تشرح الأدلّة الأولیّة فی موارد الحرج والضرر ونحو ذلک توسعةً أو تضییقاً، کما فی زید عالم وزید لیس بعالمٍ، بالنسبة إلی أکرم العلماء.

وبهذا یکون حدیث الرفع بمنزلة الإستثناء، وتندفع الإشکالات.

إشکالان والجواب عنهما

الإشکال الأوّل: إنّه لو لم ینحلّ العلم الإجمالی، فإنّ مقتضی الإشتغال الیقینی بالغرض هو البراءة الیقینیّة، فلا یجوز الإکتفاء بالأقلّ، لأنّ حدیث الرفع أفاد رفع جزئیّة السّورة فی ظرف الشک فی وجوبها، وأمّا أنّ الغرض مترتّب علی الأقلّ، فهذا لازم عقلی لحدیث الرفع، ولوازمه العقلیّة لیست بحجّة.

والجواب:

إن حکم العقل بلزوم تحصیل الغرض یتوقّف علی قیام الدلیل علی التکلیف، فإذا لم یقم الدلیل فلا إبتلاء بالغرض لیجب تحصیله عقلاً. هذه مقدّمة.

والمقدّمة الثانیة: إن حکم العقل بلزوم تحصیل غرض المولی لیس تنجیزیّاً بل هو تعلیقی، فإذا جاء المؤمّن من قبل المولی الشارع سقط حکم العقل.

وحینئذٍ نقول:

إنّه فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر نحتمل توجّه التکلیف إلی الأکثر، فإنّه إذا کان کذلک لزم عقلاً الإتیان به حتی یتحقّق الغرض منه. ومع قیام المؤمّن من

ص: 348

ناحیة الشارع بالنسبة إلی الأکثر _ والمؤمّن هو حدیث الرّفع _ سقط وجوبه ووجوب تحصیل الغرض منه، لأنّ حکم العقل معلّق علی عدم التأمین الشرعی.

الإشکال الثانی: دعوی الملازمة(1) بین البراءة العقلیّة والبراءة الشرعیّة، فإذا لم تجر الأُولی بالنسبة إلی الأکثر لم تجر الثانیة. ووجه ذلک هو:

إنّ الأمر فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر یدور بین الإطلاق والتقیید، أی: إنّ وجوب الأقلّ إمّا مطلق بالنسبة إلی الأکثر أو مقیّد به، فعلی القول بأنّ التقابل بین الإطلاق والتقیید من العدم والملکة، فإنّ نفی القید یکفی لثبوت الإطلاق لکونه عدم التقیید، وحدیث الرفع یفید النفی. وعلی القول بأنّ التقابل من التضادّ، لأنّ حقیقة التقیید أخذ القید وحقیقة الإطلاق رفض القید، فکلاهما وجودیّان، وبینهما تضاد، فإنّ حدیث الرفع یفید عدم التقیید، وأمّا إفادة الإطلاق فلا، إلاّ علی الأصل المثبت، لأنّهما ضدّان لا ثالث لهما، فنفی أحدهما یستلزم عقلاً إثبات الآخر، لکنّ حدیث الرفع لا یفید هذا اللاّزم العقلی، ولیس لازمة بحجّةٍ.

والحاصل: إنّه مع رفع التقیید لا یثبت الإطلاق، فلا براءة عن الأکثر.

والجواب:

أوّلاً: مبنی هذا الإشکال وجود الإطلاق والتقیید فی أجزاء المرکّب، بأنْ یکون کلّ جزءٍ مقیّداً ومشروطاً بالجزء الآخر. وقد ثبت بطلان هذا المبنی.

ثانیاً: سلّمنا، لکنّ الذی یدخل تحت الأمر الشرعی هو الشرط والقید، فالذی یدخل تحت الأمر فی «أعتق رقبة مؤمنة» هو تقیّد الرقبة بالإیمان، وأمّا

ص: 349


1- 1. مصباح الأصول: 439.

الإطلاق فغیر داخل أبداً تحت الطلب، وإنّما تشتغل الذمّة بما یدخل تحت الطلب وتلزم البراءة عنه. فإنْ کان الأکثر هو الواجب، فقد تقیّد به الأقلّ واشتغلت الذمّة به، لکنّ حدیث الرفع یرفع إحتمال التقیّد المذکور، فکان الواجب هو الإتیان بما قام علیه البیان وهو الأقلّ، ویکفی لعدم وجوب الأکثر _ أی الإطلاق _ عدم قیام البیان بالنسبة إلیه، ولا حاجة إلی إثبات الإطلاق.

وتلخّص: إندفاع الإشکال علی فرض قبول المبنی، وقبول أنّ النسبة بین الإطلاق والتقیید هو التضاد لا العدم والملکة.

فالحق: إنحلال العلم الإجمالی فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر، والبراءة العقلیّة جاریة علی ما ذکر. وعلی فرض عدم جریانها فالشرعیّة جاریة.

هذا، ولکنّ المشکلة بناءً علی مسلک العلیّة هی أنّ حدیث الرفع إنّما یرفع التکلیف عن الزائد فقط، ولا یفید أنّ الأقلّ بدلٌ عن الواقع. والحال أنّ مقتضی القاعدة بناءً علی المسلک المذکور أن یکون المأتی به فی ظرف الجهل بالواقع بدلاً عن الواقع. وهذا الإشکال لا یأتی بناءً علی مسلک الإقتضاء وکفایة جریان الأصل بلا معارض وإنْ لم یکن مثبته حجّةً.

وبالجملة، لا تجری البراءة الشرعیّة علی مسلک العلیّة.

وتحصّل فی المسألة ثلاثة أقوال:

1_ جریان العقلیّة والنقلیّة وهو للشیخ.

2_ عدم جریان العقلیّة والنقلیّة.

3_ التفصیل وهو لصاحب الکفایة والمیرزا.

والتحقیق هو الأوّل.

ص: 350

الإستصحاب

اشارة

وهل یمکن إنحلال العلم الإجمالی بإجراء الإستصحاب فی الأکثر والقول بوجوبه أو عدم وجوبه عن طریقه؟

هنا مسلکان:

أحدهما: إجراؤه فی الأکثر والقول بالإشتغال به.

والآخر: إجراؤه فیه والقول بالبراءة عنه.

الإستدلال بالإستصحاب للإشتغال

تقریب الأوّل: أنّ المورد من صغریّات القسم الثانی من أقسام إستصحاب الکلّی، وذلک: لأنّه إذا وقعت الصّلاة ذات العشرة أجزاء، نشکّ بأنّه إنْ کان الواجب العشرة فهو، وإنْ کان الأحدعشر فالإمتثال غیر حاصل. نظیر ما إذا کان الحیوان البقّة، فإنّه بعد الثلاثة أیّام میّت، وإلاّ فهو باق. إذ فی هذه الصّورة، لا یجری الإستصحاب فی الفرد، لأنّه إن کان ذاک فزائل وإن کان هذا فباق، بل یجری الإستصحاب فی الکلّی، أی کلّی الحیوان، لتمامیّة أرکانه. للعلم السّابق بوجود الحیوان فی البیت والشک لاحقاً فی وجوده، فیستصحب بقاؤه.

وهنا لا یجری الإستصحاب فی خصوص الأقلّ أو الأکثر، وإنّما یجری فی الصّلاة الواجبة، أی: الجامع بین الأقلّ والأکثر، فإنّه بعد الإتیان بذات العشرة، نشکّ فی فراغ الذمّة، فیستصحب بقاء الوجوب.

ص: 351

المناقشة

وفیه: إنّ جریان إستصحاب الکلّی منوطٌ بعدم إمکان تعیین تکلیف الفرد بأصلٍ من الأُصول، کما لو کان الأصل جاریاً فی کلّ من الطرفین ویتعارضان، کما فی ما لو صدر الحدث وشک فی أنّه صغیر أو کبیر، فأصالة العدم فی کلیهما متعارضة، ویجری الأصل فی الکلّی. وأمّا مع جریانه فی طرفٍ بلا معارض، لم تصل النوبة إلی إستصحاب الکلّی. وما نحن فیه کذلک.

والحاصل: إنّما یتمسّک باستصحاب الکلّی حیث یجری الأصل فی الطرفین ویتعارض الأصلان، وفیما نحن فیه یجری فی طرفٍ بلا معارض.

هذا هو الإشکال الأوّل.

والإشکال الثانی: إنّ إستصحاب الکلّی معارَض باستصحاب عدم تعلّق الوجوب بالأکثر. توضیحه: إنّه مع الإتیان بالأقل، یشکّ فی سقوط الوجوب، فیستصحب بقاؤه. ومن جهة أُخری: نشکّ فی تعلّق الوجوب بالأکثر أی السّورة، ومقتضی الإستصحاب الأزلی عدم وجوبه، فیتعارض الأصلان. لکنّ النسبة بینهما هی الحکومة، لأنّ الثانی حاکم علی الأوّل، من جهة أنّ الشکّ فی بقاء الوجوب وعدم بقائه ناشئ من الشکّ فی وجوب الأکثر، ومع جریان الأصل فی طرف الأکثر یرتفع الشک المزبور.

وفیه: إنّ هذه الحکومة إنّما تتمّ فیما إذا کان بین الأصلین سببیّة ومسبّبیّة، وأنْ تکون السّببیّة شرعیّة لا عقلیّة. ولکنّ بقاء إستصحاب الکلّی وارتفاعه من اللّوازم العقلیّة لاستصحاب عدم وجوب الأکثر، فإنّ وجود وعدم الفرد ملازم

ص: 352

عقلاً لوجود الکلّی وعدمه. فالحکومة غیر جاریة، فما فی مصباح الأصول من أنّه «لو لم نقل بالحکومة»(1) مخدوش.

والصّحیح فی الإشکال الثانی أن یقال بتعارض الإستصحابین.

الإستدلال بالإستصحاب للبراءة

وتقریب ذلک هو:

إنّه مع دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر، یقع الشکّ فی جزئیّة الأکثر، والجزئیّة منتزعة من تعلّق الأمر، فإنّ الأمر الکلّی لمّا تعلّق بالرکوع والسّجود وغیرهما، انتزعت الجزئیّة لکلّ واحدٍ منها، ومع الشک فی تعلّق الأمر بالجزء الحادیعشر نشکّ فی جزئیّته، فیجری إستصحاب العدم، ونتیجة ذلک هو البراءة عن الجزء الزائد. ولا مانع عن هذا الإستصحاب، لعدم الشکّ فی وجوب العشرة أجزاء حتی یجری الأصل ویتعارض الأصلان.

إشکال و جواب

أشکل علیه(2)

بوجود المعارض، إذ لا إهمال فی حکم المولی بوجوب العشرة أجزاء، وعلیه، فهذه الأجزاء إمّا مطلقة بالنسبة إلی الحادیعشر وإمّا مقیّدة به، ومن المعلوم أنّ البراءة إنّما تجری فی طرف التقیید، لوجود الکلفة فیه، دون الإطلاق،

ص: 353


1- 1. مصباح الأصول: 444.
2- 2. المصدر: 445.

لکن هذا الأصل معارض باستصحاب عدم تعلّق الوجوب بالعشرة لا بشرط عن الحادیعشر، وإذ لا ترجیح بینهما یتساقطان، فیسقط الإستصحاب المستدلّ به للبراءة.

وفیه:

إنّ هذا الإشکال مبنیّ علی أن تکون أجزاء المرکّب مشروطاً بعضها ببعض. وقد تقدّم أنّه یستلزم الدّور واجتماع المتقابلین فی الشیء الواحد. هذا ثبوتاً.

وأمّا إثباتاً، فإنّ تعلّق الأمر بالکلّ یغنی عن إعتبار اشتراط البعض بالبعض الآخر فیکون لغواً.

وتلخّص: أنّه مع سقوط المبنی، یسقط الإشکال علی الإستصحاب، وأنّ الصّحیح جریانه، خلافاً لمصباح الأصول.

ص: 354

دوران الأمر بین الأقل والأکثر فی الأجزاء التحلیلیّة

اشارة

لو دار الأمر بین الأقلّ والأکثر فی الأجزاء التحلیلیّة، فهل تجری البراءة عن الأکثر؟

والمراد من الأجزاء التحلیلیّة هی الأجزاء العقلیّة، فی مقابل الأجزاء الخارجیّة الّتی تقدّم البحث عنها.

هی علی ثلاثة أقسام

والأجزاء العقلیّة علی ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن یکون الأکثر المشکوک فی وجوبه موجوداً بوجودٍ مستقلّ عن الأقل، مثل «السَّتر». فهل الصّلاة واجبة، سواء مع السَتر وبدونه أو بشرط السّتر.

الثانی: أن لا یکون وجود الأکثر المشکوک فی وجوبه مستقلاًّ عن الأقلّ، کما لو شکّ فی وجوب الإیمان فی الرقبة.

الثالث: أن یکون وجود المشکوک فیه مقوّماً لوجود الأقلّ، کأن یدور الأمر

ص: 355

فی «إطعام الحیوان» الواجب، بین إطعام جنس الحیوان _ الأعم من الإنسان وغیره _ وخصوص النوع وهو الإنسان، حیث أنّ خصوصیّة الإنسانیّة مشکوک فیها، وهی زائدة عن القدر المتیقّن وهو الجنس ومقوّمة له کما لا یخفی.

والکلام تارةً: فی البراءة العقلیّة، وأُخری: فی الشرعیّة.

کلام الکفایة فی القسمین الأوّلین:

قال المحقّق الخراسانی(1) ما محصّله: إنّ عدم جریان البراءة عقلاً فی الأجزاء التحلیلیّة أولی من عدم جریانها فی الخارجیّة، وإنّما تجری الشرعیّة فقط.

والوجه فی ذلک فی القسمین الأوّل والثانی من الأقسام الثلاثة هو:

إنّ البراءة العقلیّة منوطة بوجود القدر المتیقّن فی مقام تعلّق الحکم والتکلیف، ولیس فی هذین القسمین قدر متیقّن، بل یدور أمر الصّلاة مثلاً بین أنْ تکون مع السّتر وبدونه، والنسبة بینهما هو التباین لا الأقلّ والأکثر. وکذا فی العتق، لأنّ نسبة الرقبة بلا إیمان إلی الرقبة المؤمنة لیس نسبة الأقلّ إلی الأکثر، بل کلّ منهما وجود مباین للآخر.

وبالجملة، فإنّ ملاک الإنحلال أن یکون الأقلّ هو القدر المتیقّن، وهو فی القسمین مفقود، فیکون حال هذین القسمین من الأجزاء التحلیلیّة، أدون من حال الأجزاء الخارجیّة فی البراءة العقلیّة، لأنّ النسبة هنا التباین لا الأقلّ والأکثر.

أمّا البراءة الشرعیّة، فالمقتضی لجریانها موجود والمانع مفقود.

ص: 356


1- 1. کفایة الأصول: 367.

هذا کلّه فی القسمین _ الأوّل والثانی _ وأمّا الثالث، فسیأتی الکلام حوله.

الإشکال علیه بوجهین

الإشکال علیه

أشکل علیه السیّد الخوئی(1) بوجهین:

الأوّل: إنّ اللاّزم هو القدر المتیقّن فی مقام تعلّق التکلیف، وهو موجود، لأنّ الشکّ هو فی تعلّق التکلیف بالصّلاة مشروطةً بالسّتر أو مطلقةً منه. وکذا فی العتق، هل التکلیف تعلّق به بشرط الإیمان أو لا بشرط عنه. فالقدر المتیقّن وهو الصّلاة والعتق، موجود، لأنّ النسبة هی الأقلّ والأکثر.

نعم، فی مقام الإمتثال لا یوجد القدر المتیقّن، لأنّ النسبة هی التباین.

مناقشة الإشکال الأوّل

وفیه: إنّ هذا الإشکال مندفع بوجهین:

أحدهما: إنّه جعل القدر المتیقّن هو الطبیعی الجامع بین البشرط واللاّبشرط فی القسمین، أعنی الصّلاة والرقبة، فإنّ هذا معلوم الوجوب، والتردید إنّما هو بین الفرضین من البشرط واللاّبشرط، وعلیه، فإنّ مقوّم العلم الإجمالی هو طبیعی الصّلاة المردّد، وطبیعی الرقبة المردّد، وانحلال العلم الإجمالی بما هو مقوّم العلم الإجمالی محال، بل اللاّزم هو الإنحلال إلی أحد طرفی التردید.

والثانی: إنّ قوله بأنّ اللاّزم فی الإنحلال هو العلم التفصیلی فی مرحلة تعلّق

ص: 357


1- 1. مصباح الأصول: 446.

التکلیف لا فی مرحلة الإمتثال. باطل. وذلک لأنّ أساس التنجیز عند العقل فی العلم الإجمالی هو الإشتغال الحاصل من العلم، لأنّه الذی قامت علیه الحجّة، والإشتغال بالجامع علی وجه الیقین یقتضی الفراغ الیقینی، وهو لا یحصل إلاّ بالجمع بین طرفی التردید، ولو حصل الإنحلال خرج أحد الطرفین عن دائرة التکلیف.

وبالجملة، فإنّا فی العلم الإجمالی نحتاج إلی الإتیان فی مرحلة الإمتثال بما هو مصداق الواجب. والقول بعدم الحاجة إلی القدر المتیقّن فی مقام الإمتثال. فیه: أنّه إن لم یحصل ذلک، وقع الشک فی تحقّق الإمتثال، والعقل یری وجوب الإطاعة لِما تعلّق به التکلیف الشرعی وهو الصّلاة والعتق.

الثانی: إنّ ما ذکره لو تمّ لجری فی الشکّ فی الجزئیّة أیضاً، وذلک لأنّ کلّ واحدٍ من الأجزاء له إعتباران: الأوّل: إعتبار الجزئیّة، وأن الوجوب المتعلّق بالمرکّب متعلّق به ضمناً. الثانی: إعتبار الشرطیّة، وأن سائر الأجزاء مقیّد به، لأنّ الکلام فی الأقلّ والأکثر الإرتباطیین، فیکون الشکّ فی الجزئیّة شکّاً فی الشرطیّة بالإعتبار الثانی، فیجری الوجه المذکور، فلا وجه للإختصاص بالشکّ فی الشرطیّة.

مناقشة الإشکال الثانی

وفیه: إنّ هذا الإشکال مبنائی، فإنّ صاحب الکفایة لا یری وجود اللّحاظین فی الأجزاء، وهو الحق، وقد تقدّم البرهان علی ذلک ثبوتاً وإثباتاً.

ص: 358

التحقیق:

والتحقیق: وجود الفرق بین الأجزاء الخارجیّة والتحلیلیّة، لما تقدّم من استحالة الإشتراط والتقیّد فی الخارجیّة. وأمّا التحلیلیّة، فإنّه فی القسمین _ الأوّل والثانی _ أی: فی دوران الأمر بین اللاّبشرط والبشرط، وبین المطلق والمقیّد، یلزم الإشتراط والتقیید ثبوتاً، ویوجد الکاشف عن ذلک إثباتاً، ففی مورد الإشتراط یوجد الدلیل علیه، وکذا فی مورد التقیید.

إنّه یوجد الیقین بوجوب الصّلاة والعتق، لکنّ الشکّ فی الأوّل فی اشتراطه بالسّتر وعدم الإشتراط به، وفی الثانی فی تقیّد الرقبة بالإیمان وإطلاقها عنه. وحینئذٍ، فإنّه لا یحتمل وجوب العقاب فی طرف اللاّبشرط، وطرف الإطلاق، وإنّما یحتمل العقاب فی طرف البشرط والتقیید، وحیث لا بیان علی ذلک، تجری البراءة العقلیّة، وحیث لا علم بالإشتراط والتقیید، تجری البراءة الشرعیّة.

وتلخّص: إنحلال العلم، لکنّه إنحلال حکمی لا وجدانی، لعدم الیقین بعدم اشتراط الصّلاة بالسّتر، وعدم تقیّد الرّقبة بالإیمان.

کلام المحقّق الاصفهانی:

فإنّه بعد أنْ ذکر طرق الإنحلال وناقش فیها، إختار طریقاً آخر فقال(1) ما هذا توضیحه:

إنّ الأحکام الشرعیّة تابعة للأغراض والملاکات الواقعیّة. والأُمور الدخیلة

ص: 359


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 329.

فی مرحلة الواقع _ بقطع النظر عن مرحلة الحکم _ علی قسمین، منها: ما یقوم به الغرض، ونسبته إلی الغرض نسبة المقتضی إلی المقتضی. ومنها: ما تکون نسبته إلی الغرض نسبة الشرط إلی المشروط. ومن المعلوم أنّ حقیقة الشّرط ما هو المتمّم لفاعلیّة الفاعل أو لقابلیّة القابل.

مثلاً: یترتّب غرض الشارع علی الصّلاة، ویکون لکلّ جزء من أجزائها دخل فی تحقّق الغرض من الأمر بها، فکلٌّ منها جزءٌ للمقتضی. بخلاف السّتر والطّهارة ونحوهما، فإنّها لا دخل لها فی الغرض، بل إنّ أثرها هو نقل الأجزاء _ من القراءة والرکوع والسّجود _ من مرحلة إقتضاء الدخل فی الغرض إلی مرحلة الفعلیّة. فظهر الفرق بین أجزاء الصّلاة وشرائط الصّلاة، فإنّه افتراق ذاتی، ولذا کان هذا جزءً وذاک شرطاً. وحاصله: إنّ ما کان دخیلاً فی تحقّق الغرض، فهو جزء، وإنّ ما کان غیر دخیل فیه، بل هو مؤثّر فی فعلیّة الجزء، فهو شرط. ومن هنا: یکون الجزء مطلوباً نفسیّاً والشرط مطلوباً غیریّاً، فالطلب هناک نفسی وهنا غیری. ویشهد بذلک مقام الإثبات، فإنّ الأوامر النفسیّة تکشف عن الإرادة النفسیّة والغرض النفسی، فیقول «أقِمِ الصَّلاة»، والأوامر الغیریّة کاشفة عن کون الإرادة غیریّة، إذ یقول «إذَا قُمْتُمْ إلَی الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا». فهذا البیان بیان الطلب الغیری، وذاک بیان الطلب النفسی.

فظهر الفرق ثبوتاً وإثباتاً بین الأجزاء والشّروط، فالشرط سواء کان له وجود خارجی کالسّتر أوْ لا کالإیمان، له دخلٌ فی فعلیّة تأثیر الجزء فی تحقّق الغرض، فلو علم إجمالاً بوجوب الصّلاة أو العتق، وشکّ فی السّتر أو الإیمان، کان وجوب

ص: 360

الصّلاة وعتق الرقبة وجوباً نفسیّاً، والسّتر أو الإیمان وجوباً غیریّاً، فینحلّ العلم إلی العلم بوجوب الصّلاة والعتق وجوباً نفسیّاً، والشکّ فی وجوب السّتر والإیمان وجوباً غیریّاً. وبهذا الترتیب ینحلّ العلم الإجمالی فی المقام، کما کان ینحلّ فی الأجزاء الخارجیّة، حیث کان یوجد العلم بوجوب القراءة والرکوع والسّجود، والشکُّ فی إنبساط هذا الوجوب علی السّورة، وحیث لا بیان بالنسبة إلی السّتر والإیمان، فإنّ البراءة العقلیّة تجری بلا إشکال.

وعلی الجملة، فإن البراءة العقلیّة جاریة هنا کجریانها فی الأجزاء الخارجیّة، غیر أنّ الوجوب هناک وجوب واحدٌ وهو نفسی، ویشکّ فی إنبساطه علی السّورة، وهنا وجوبان، أحدهما نفسی متیقّن والآخر غیری مشکوک فیه.

کلام المحقّق العراقی:

وقال المحقّق العراقی(1) ما محصّله کلام الإصفهانی، فإنّه قال بأنّ الإنحلال فی دوران الأمر بین البشرط واللاّبشرط، وبین المطلق والمقیّد، یکون بأنّ متعلّق الوجوب المتیقّن بمطلوبیّته النفسیّة هو الذات، والمشکوک فیه هو تقیّد الذات بالقید، وحینئذٍ، فإنّه لمّا کان التقیّد بالسّتر وبالإیمان جزءً _ لکنّه جزء عقلی لا خارجی _ یرجع الشکُّ إلی إعتبار الجزء الزائد فی الواجب، ومع الشک فیه لعدم البیان له، تجری البراءة عنه. وأیضاً: لمّا کان وضع الجزئیّة للسّتر والایمان بید الشارع، فمع الشکّ فیه یجری حدیث الرفع، فتکون البراءة الشرعیّة أیضاً جاریةً.

ص: 361


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 396.

وتلخّص إنّه علی مسلک هذین المحقّقین یکون الواجب بالوجوب النفسی معلوماً یقیناً، والشکّ إنّما هو فی الوجوب الغیری للشرط أو القید علی مسلک الأوّل، وفی الزائد علی الذات علی مسلک الثانی. وأرکان البراءة العقلیّة والنقلیّة تامّة.

التحقیق:

إنّ الإنحلال یتقوّم بحصول العلم التفصیلی الوجدانی بأحد الطرفین، بأن یکون هو الواجب المطلوب بالوجوب النفسی، وبالشکّ الوجدانی فی تعلّق الطلب والوجوب الغیری بالنسبة إلی الشرط أو القید.

وفیما نحن فیه: الجامع الذی یترتّب علیه الغرض هو المقتضی، ولکنّ المراد بالإرادة النفسیّة لیس المقتضی وحده، بل المقتضی مع الشرط والقید، فلو تجرّد من الشرط أو القید کان باقیاً فی مرحلة الإقتضاء ولم یصل إلی المطلوبیّة النفسیّة، وانحلال العلم الإجمالی إنّما یکون بفعلیّة الطلب.

وبعبارة أُخری: إن کان المراد بالإرادة النفسیّة هو ذات المقتضی، تمّ ما ذکره المحقّق الإصفهانی، لکنّ المراد کذلک هو المقتضی المقترن بالشرط، کما فی إحراق النّار، فإنّ المقتضی للإحراق موجود فی النار، لکن فعلیّته متوقّفة علی المماسّة مع الحطب، لأنّ الذی یدعو إلی الطلب لیس قوّة الغرض بل فعلیّة الغرض، ومن المعلوم أنّها تابعة لوجود الشرط، لأنّ الشرط متمّم لفاعلیّة الفاعل أو قابلیّة القابل.

ص: 362

وعلی هذا، فإنّ الصّلاة الفاقدة للسّتر والرقبة الفاقدة للإیمان لا تکون معلومة المطلوبیّة بالطلب النفسی بالوجدان، لاحتمال أن یکون الغرض مترتّباً فی الواقع علی الصّلاة مع السّتر، والرقبة مع الإیمان.

إنّه لابدّ من حکم العقل بأنّ المأتی به هو المطلوب للمولی والمحصّل لغرضه، ومع الإحتمال المذکور لا یحکم العقل بهذا الحکم، فتبقی الذمّة مشغولةً بالصّلاة أو العتق المحصّل لغرض المولی.

وتلخّص: أنّ الإنحلال علی تقریب المحقّق الإصفهانی محال.

وأمّا بیان المحقّق العراقی، فقد جاء فیه: وأمّا إذا کان التردید بین الأقلّ والأکثر فی شرائط المأمور به وموانعه، فالکلام فیه هو الکلام فی الأجزاء حرفاً بحرف فصریحه.

قیاس الأجزاء التحلیلیّة علی الأجزاء الخارجیّة.

وفیه نظر. لأنّ عمدة القول بالبراءة فی الأجزاء الخارجیّة، هو أنّ العشرة متیقّنة والحادیعشر مشکوک فی وجوبه، فیجری الأصل فیه. فالأقلّ متیقّن الوجوب علی کلّ تقدیر. وأمّا الأجزاء التحلیلیّة، فکما یظهر من العنوان، یکون جزئیّتها بتحلیلٍ من العقل، فهو یحلّل إلی أن هناک رقبة وهناک إیمان، هناک صلاة وهناک ستر، وحینئذٍ، یأتی العقل بالجزئیّة العقلیّة للسّتر والإیمان، وإلاّ، فإنّ العرف لا یری فی الرقبة المؤمنة أو فی الصّلاة مع السّتر شیئین. فظهر الفرق بین الأجزاء الخارجیّة والشرائط والقیود، وقیاسها علیها غیر صحیح، فإنّ الإثنینیّة بین الأقلّ والأکثر فی الخارجیّة واقعیّة، وأمّا فی التحلیلیّة، فلا أقلّ وأکثر عرفاً، بل المأمور به

ص: 363

واحد، حیث یقول المولی: صلّ متستّراً، أعتق رقبةً مؤمنةً، وإنّما التحلیل من العقل.

وعلی هذا، لا یصحّ فی التحلیلیّة أنْ یقال: الواجب إمّا ذات الصّلاة وإمّا الصّلاة مع السّتر. إمّا ذات الرقبة وإمّا الرقبة مع الإیمان.

فالتحقیق أن یقال بحصول الإنحلال فی القسمین من جهة أن الأصل العقلی والشرعی لا یجریان فی طرف اللاّبشرط والإطلاق، فیکونان جاریین فی الطرف الآخر بلا معارض.

الکلام فی القسم الثالث

وهو: أن یکون الطرف المشکوک فیه مقوّماً، کما لو تعلّق الأمر بالتیمّم بالصّعید، وتردّد الصّعید بین خصوص التراب ومطلق وجه الأرض، فهل خصوصیّة الترابیة دخیلة أوْ لا، ولا یخفی کونها مقوّمةً لوجود المأمور به؟

قد وقع الخلاف بین الأعلام فی هذا القسم:

القول بالإشتغال

فصاحب الکفایة والمیرزا علی الإشتغال، فلا تجری البراءة لا شرعاً ولا عقلاً.

وقد أوضح المحقّق(1) المیرزا وجه الإشتغال: بأنّ هذا القسم یکون من صغریات دوران الأمر بین التعیین والتخییر، وقد تقرّر هناک الإحتیاط والإشتغال.

ص: 364


1- 1. أجود التقریرات 3 / 507.

الکلام فی دوران الأمر بین التعیین والتخییر

اشارة

وتفصیل الکلام فی کبری دوران الأمر بین التعیین والتخییر، هو:

إنّ هذا الدوران یکون تارة: فی الحجیّة. وأُخری: فی الأحکام التکلیفیّة فی مقام الإمتثال. وثالثة: فی الأحکام التکلیفیّة فی مقام الجعل.

القسم الأوّل:

فإنْ کان من قبیل القسم الأوّل، فأصالة التعیین هی الجاریة قطعاً، کما لو شک فی أنّ الحجّة قول المجتهد الأعلم أو مطلق المجتهد، فإنّ الأعلم هو المتعیّن، ولا یخرج المکلّف عن العهدة إلاّ بالعمل بقول الأعلم. وهذا هو الإشتغال.

وکذا لو شکّ بنحو الشّبهة الموضوعیّة، فاحتمل کون أحدهما أعلم وکونهما متساویین فی العلم، فإنّه یتعیّن العمل بقول محتمل الأعلمیّة. وهذا هو الإشتغال.

ووجه القول بالإشتغال فی هذا القسم:

أوّلاً: حکم العقل، لأنّ العقل فی هذه الحالة یقطع بکون العمل بقول الأعلم مبرءً للذمّة، أمّا العمل بقول الآخر، فمشکوک فی ذلک، وحینئذٍ، یحکم بالأخذ بما هو متیقّن الحجیّة دون المشکوک فی حجیّته، لأنّ ما شک فی حجیّته فی الواقع یقطع بعدم حجیّته فی الظاهر.

ثانیاً: الأصل الشرعی، فإنّ الحجیّة من المجعولات، فمتی شکّ فیها جری أصالة العدم. ولهذا الإستصحاب تقریبان، أحدهما: إستصحاب عدم الجعل. والآخر: إستصحاب عدم المجعول. نعم، الإستصحاب الأوّل أصل مثبت، دون الثانی، فإنّه لا إشکال فیه.

ص: 365

نعم، یقع الإشکال فی أنّ الإستصحاب هل یجری فی الشبهات الحکمیّة أوْ لا؟

والمختار عندنا جریان الإستصحاب فی الشبهات الحکمیة، لأنّه لا تعارض بین عدم الجعل ووجود المجعول، وإذا جری الإستصحاب لا تصل النوبة إلی التمسّک بالحکم العقلی.

هذا تمام الکلام فی القسم الأوّل.

القسم الثانی:

أن یدور الأمر بین التعیین والتخییر فی مقام الإمتثال لحکم المولی. وهذا یکون فی مورد التزاحم، حیث القدرة واحدة والواجب متعدّد، کما فی إنقاذ الغریقین.

وتفصیل المطلب هو: إنّه تارةً: نقطع بتساوی الملاک، وأُخری: نقطع بأقوائیّته فی أحدهما، وثالثة: نحتمل أقوائیّة الملاک فی أحدهما.

فإن کان القطع بالتساوی، فقولان:

أحدهما: سقوط کلا التکلیفین، وأنّ العقل یستکشف الوجوب التخییری.

والآخر: سقوط إطلاق الدلیلین، فیکون کلٌّ منهما مشروطاً بترک الآخر، والنتیجة التخییر کذلک.

غیر أنّ کیفیّة الفتوی تختلف، فعلی الأوّل، یفتی بوجوب الإنقاذ تخییراً. وعلی الثانی، یفتی بوجوب إنقاذ هذا الغریق فی حال عدم إنقاذ ذاک، وبالعکس.

وإنْ أُحرز أهمیّة أحدهما:

ص: 366

فلا ریب فی أنّ الوظیفة هی التعیین، کما لو کان أحدهما عالماً والآخر عامّیاً. وذلک، لأنّ مع وجود الأهم یسقط إطلاق الخطاب بالنسبة إلی المهم، أمّا الأهم، فالخطاب وإطلاقه موجودان. ویقع الکلام فی سقوط الخطاب من أصله بالنسبة إلی المهم وعدم سقوطه، وهذا البحث یرجع إلی مسألة الترتّب، فالمنکر یقول بسقوط أصل الخطاب، والقائل بالترتّب یقول ببقاء أصل الخطاب.

والحاصل: یجب إنقاذ العالم، سواء أمکن إنقاذ غیره أوْ لا. فإنْ عصی الأمر بإنقاذ العالم وجب إنقاذ غیره.

وإنْ احتمل أهمیّة أحدهما:

کان المقام من دوران الأمر بین التعیین والتخییر.

والحق هو الأوّل، لوجهین: أحدهما من ناحیة الخطاب. والآخر من ناحیة الملاک.

تقریر الأوّل: إنّه لو دار الأمر بین الصّلاة فی آخر الوقت وإزالة النجاسة عن المسجد، واحتملنا أهمیّة الصّلاة، وجب الصّلاة علی وجه التعیین. ولکنْ قد یقع الشکّ فی أهمیّة الصّلاة من الإزالة، کما لو تنجّس المسجد النبوی، أو احتمل کون أحد الغریقین من العلماء الکبار، ففی مثله یدور الأمر بین التعیین والتخییر، ولمّا کان الإطلاق حجّةً فإن إسقاط إطلاق کلّ منهما یحتاج إلی الدلیل لکنّه فی الطرف المتیقّن عدم أهمیّته یسقط، سواء کان الطرف الآخر هو الأهم أوْ لم یکن، وأمّا المحتمل الأهمیّة فیکون سقوط إطلاقه مشکوکاً فیه، وکلّ حجّةٍ شک فی سقوطها وجب العمل بها. والنتیجة هی التعیین لمحتمل الأهمیّة.

ص: 367

وتقریر الثانی: إنّ تحصیل غرض المولی من حکمه واجب عقلاً، والرافع لهذا الحکم العقلی أحد الأمرین من المعجّز التکوینی والمعجّز الشرعی. أمّا الملاک المحتمل الأهمیّة، فغیر ساقط قطعاً، لأنّ الملاک غیر تابع للقدرة. وحینئذٍ یکون موجوداً، سواء کانت القدرة أوْ لا، وهذا الملاک والغرض لابدّ من تحصیله عقلاً، أمّا المعجّز التکوینی، فغیر موجود، لوجود القدرة علی محتمل الأهمیّة، وحینئذٍ، لا إطلاق بالنسبة إلی غیر محتمل الأهمیّة.

ویبقی الکلام فیما إذا کان الإحتمال قویّاً والمحتمل ضعیفاً. والحق فیه: إنّ المؤثّر هو القدرة أو الضعف فی ناحیة المحتمل، لأن محتمل الأهمیّة هو المقدّم وإنْ کان الإحتمال فیه ضعیفاً. والدلیل علی ذلک هو: إنّ الأدلّة الناهیة عن العمل بالظنّ تسقط الإحتمال الأقوی عن الأثر لکونه ظنّاً و«إنَّ الظَّنَّ لاَ یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئاً» فقوّة الإحتمال لا أثر لها، وإنّما الأثر هو لمحتمل الأهمیّة.

القسم الثالث:

اشارة

وهو: ما إذا دار الأمر بین التعیین والتخییر فی مرحلة الجعل، وهو علی ثلاثة صور:

1_ الدوران مع إحراز وجوب الطرفین.

2_ أن یکون أحد الطرفین واجباً، ویدور أمر الطرف الآخر بین أنْ یکون واجباً بالوجوب التخییری أو مسقطاً لوجوب الطرف. ومثاله _ وإنْ نوقش فیه _ أنْ تکون القراءة فی الصّلاة واجبةً، ثمّ یشکّ فی أنّ الصّلاة جماعةً یسقط وجوب القراءة أو أنّ الصّلاة جماعةً عدلٌ لوجوب القراءة، فیکون الوجوب تخییریّاً.

ص: 368

3_ أن یقطع بوجوب طرف، ثمّ یشکّ فی الطّرف الآخر هل هو واجب کذلک، فیکون عدلاً للواجب التخییری، أوْ أنّه لیس بواجب أصلاً؟

مثاله: الیقین بوجوب الصّوم کفّارةً، ثمّ إحتمال أن یکون الإطعام واجباً کذلک، أو أنّه لیس بطرفٍ للصّوم، بل الصّوم واجب تعییناً.

مقدّمة

ذکر فی مصباح الأصول(1) قبل الشروع فی البحث أمرین:

الأوّل: إنّ محلّ الکلام إنّما هو فیما إذا کان الوجوب فی الجملة متیقّناً ...

الثانی: إنّ محلّ الکلام إنّما هو فیما إذا لم یکن فی البین أصل لفظی من الإطلاق ونحوه، ولا إستصحاب موضوعی یرتفع به الشک ...

أقول:

لکنّ النکتة المهمّة هی فی الإستصحاب، فإنّه من الإستصحاب فی الأحکام الکلیّة الإلهیّة، وفی جریانه فیها ثلاثة أقوال:

أحدها: عدم الجریان، لعدم المقتضی، ذهب إلیه من المعاصرین السیّد الخونساری فی جامع المدارک، لأنّ مورد أدلّة الإستصحاب هو الشبهات الموضوعیّة، والقول بعمومها للحکمیة مشکل، فلا إقتضاء لجریانها فیها.

والثانی: عدم الجریان، لا لعدم الإقتضاء، بل لوجود المانع _ وعلیه النراقی وتبعه الخوئی _ وذلک: لأنّ إستصحاب الحکم المجعول، یعارضه إستصحاب عدم الجعل.

ص: 369


1- 1. مصباح الأصول: 449.

الثالث: الجریان. فالمقتضی موجود خلافاً للقول الأوّل، والمانع مفقود خلافاً للقول الثانی. والتفصیل فی محلّه.

والحاصل: إنّ القائل بعدم جریان الإستصحاب فی الشبهات الحکمیّة، لعدم المقتضی أو وجود المانع، لیس له التمسّک فی المقام بالإستصحاب.

الصّورة الأُولی

قال المحقّق الخوئی(1): أمّا الصّورة الأُولی، فلا أثر للشک فیها فیما إذا لم یتمکّن المکلّف إلاّ من أحد الفعلین، ضرورة وجوب الاتیان به حینئذ، إمّا لکونه واجباً تعیینیّاً أو عدلاً لواجب تخییری متعذّر.

وبعبارة أُخری: یعلم بکونه واجباً تعیینیّاً فعلاً، غایة الأمر لا یعلم أنّه تعیینی بالذّات أو تعیینی بالعرض، لأجل تعذّر عدله. وإنّما تظهر الثمرة فیما إذا تمکّن المکلّف من الإتیان بهما معاً، فیدور الأمر بین وجوب الإتیان بهما وجواز الإقتصار علی أحدهما. والتحقیق هو الحکم بالتخییر، وجواز الإکتفاء بأحدهما، لأنّ تعلّق التکلیف بالجامع بینهما متیقّن، وتعلّقه بخصوص کلّ منهما مشکوک فیه، فهو مورد لجریان البراءة بلا مانع.

قال شیخنا: فی هذا الإستدلال تأمّل سیأتی بیانه.

ص: 370


1- 1. مصباح الأصول: 450.
الصّورة الثانیة

وقال السیّد الخوئی(1): أمّا الصّورة الثانیة، فقد عرفت أنّه لا ثمرة فیها فی کون الوجوب تعیینیّاً أو تخییریّاً، إلاّ فیما إذا تعذّر ما علم وجوبه فی الجملة، فإنّه علی تقدیر کون وجوبه تخییریّاً، یجب علیه الإتیان بالطّرف الآخر المعلوم کونه مسقطاً للواجب، وعلی تقدیر کون وجوبه تعیینیّاً لا شیء علیه، فالشک فی التعیین والتخییر فی هذه الصّورة یرجع إلی الشکّ فی وجوب ما یحتمل کونه عدلاً للواجب عند تعذّره، وهو مورد للبراءة، فتکون النتیجة فی هذه الصّورة هی نتیجة التعیین دون التخییر.

قال: ثمّ إنّ المحقّق النائینی رحمه اللّه إستدلّ علی کون الوجوب تعیینیّاً فی خصوص مسألة القراءة والإئتمام الّتی ذکروها مثالاً لهذه الصّورة بما ورد عن النّبیّ صلّی اللّه علیه وآله من أن سین بلال عند اللّه شین(2)، بتقریب أنّ الإئتمام لو کان عدلاً للقراءة لوجب علیه الإئتمام علی تقدیر التمکّن منه، وعدم جواز الإکتفاء بالسّین بدلاً عن الشّین.

فردّ علیه بضعف الروایة، وعدم تمامیّة الدلالة علی المدّعی. فراجعه.

الصّورة الثالثة
اشارة

وهی: ما لو علم بوجوب الإطعام کفّارةً، وشکّ فی وجوب الصّوم کذلک،

ص: 371


1- 1. مصباح الأصول: 451.
2- 2. عدة الداعی ونجاح الساعی: 21.

بأنْ یکون عدلاً للإطعام علی وجه الواجب التخییری أوْ لا؟

فیه قولان:

دلیل القول بالتعیین

الأوّل: التعیین. ذهب إلیه صاحب الکفایة والمیرزا، لوجوه:

الوجه الأوّل
اشارة

ما ذکره المیرزا: من أنّ الشکّ فی المقام لیس فی مقام الإشتغال، بل فی حصول الإمتثال بعد العلم بثبوت التکلیف، فیکون المرجع قاعدة الإشتغال والحکم بالتعیین، فلو دار أمر الکفارة بین خصوص الصّوم وبین الصّوم والإطعام، کان الصّیام مفرغاً للذمّة یقیناً، لکنْ یشکّ فی سقوط التکلیف المعلوم بالصّوم وحده، فیجب الإتیان عقلاً بالإطعام أیضاً.

والحاصل: إنّ مجری البراءة عقلاً ونقلاً هو الشک فی الإشتغال والتکلیف.

الإشکال علیه

أشکل علیه تلمیذه المحقّق(1) بقوله:

والّذی ینبغی أن یقال: إنّ التخییر المحتمل فی المقام إمّا أن یکون تخییراً عقلیّاً، کما إذا دار الأمر بین تعلّق التکلیف بحصّة خاصّة أو بالجامع العرفی بینهما

ص: 372


1- 1. مصباح الأصول: 454.

وبین غیرها من سائر حصص الجامع. وإمّا أن یکون تخییراً شرعیّاً. کما إذا کان مایحتمل وجوبه مبایناً فی الماهیّة لما علم وجوبه فی الجملة ولم یکن بینهما جامع عرفی، نظیر ما تقدّم من المثال فی کفارة تعمّد الإفطار. وقد ذکر فی محلّه أنّ الوجوب التخییری فی هذا القسم یتعلّق بالجامع الإنتزاعی المعبّر عنه بأحد الشیئین أو أحد الأشیاء. أمّا فی موارد إحتمال التخییر العقلی، فتعلّق التکلیف بالجامع معلوم، وإنّما الشک فی کونه مأخوذاً فی متعلّق التکلیف علی نحو الإطلاق واللاّبشرط، أو علی نحو التقیید وبشرط شیء، إذ لا یتصوّر الإهمال بحسب مقام الثبوت، والإطلاق والتقیید وإن کانا متقابلین ولم یکن شیء منهما متیقّناً، إلاّ أنک قد عرفت سابقاً أنّ إنحلال العلم الإجمالی غیر متوقّف علی تیقّن بعض الأطراف، بل یکفی فیه جریان الأصل فی بعض الأطراف بلا معارض. وقد سبق أن جریان أصالة البراءة العقلیّة والنقلیّة فی جانب التقیید غیر معارض بجریانها فی طرف الإطلاق، فإذا ثبت عدم التقیید ظاهراً لأدلّة البراءة، لا یبقی مجال لدعوی رجوع الشکّ إلی الشکّ فی الإمتثال، لیکون المرجع قاعدة الإشتغال، فإنّ الشکّ فی الإمتثال منشأه الشکّ فی إطلاق الواجب وتقیّده، فإذا ارتفع إحتمال القید بالأصل، یرتفع الشکّ فی الإمتثال أیضاً. ومن ذلک یظهر الحال فی موارد إحتمال التخییر الشرعی، وإن الحکم فیه أیضاً هو التخییر، لأنّ تعلّق التکلیف بعنوان أحد الشیئین فی الجملة معلوم، وإنّما الشکّ فی الإطلاق والتقیید، فتجری أصالة البراءة عن التقیید، وبضمّ الأصل إلی الوجدان یحکم بالتخییر.

ص: 373

المناقشة

وأورد علیه شیخنا دام بقاه بوجهین:

الأوّل: إنّ الأقوال فی حقیقة الواجب التخییری مختلفة.

فمنهم من قال: إنّ الوجوب متعدّد لکنّها وجوبات مشروطة، فالإطعام واجب إذا ترک الصّوم، والصّوم واجب إذا ترک الإطعام.

ومنهم من قال: کلّ واحدٍ واجب لکنّه یجوز ترکه إلی بدل.

ومنهم من قال: بأنّ الواجب هو الجامع الإنتزاعی بین الخصال. أی عنوان أحدهما أو أحدها.

فالجواب المذکور إنّما یتمّ بناءً علی القول الثالث الذی اختاره السیّد الخوئی. ولا یتمّ بناءً علی سائر المبانی.

الثانی: إنّ لاستکشاف متعلّق الحکم طریقین:

أحدهما: عن طریق لسان الدلیل القائم فی مقام الإثبات.

والثانی: عن طریق الغرض.

فأمّا الأدلّة، فغیر متعلّقة بالجامع الإنتزاعی، بل تقول: أطعم ستّین مسکیناً أو أعتق رقبةً أو صم ستّین یوماً. فهی لیست متعلّقة بالجامع الإنتزاعی، وإنّما هذا الجامع من صنع العقل، ولیس بمتعلّقٍ للحکم الشرعی.

وأمّا الغرض، فإنّ مقتضی أنّ الأحکام الشرعیّة تابعة للأغرض، کما هو مذهب العدلیّة، وأنّ إعتبار الحاکم فی مقام الحکم لا یتخلّف عن متعلّق الغرض وإلاّ یلزم تخلّف الحکم عن الغرض وهو محال، هو أنْ یکون بیان الحاکم مطابقاً

ص: 374

للواقع لا مخالفاً له، وقد عرفت أنّ الجامع الإنتزاعی من صنع العقل، ولا وجود له إلاّ فی الذهن، ومن المعلوم أنّ الوجود الذهنی غیر حامل للغرض، بل الغرض مترتّب علی الخصوصیّة الخارجیّة.

والحاصل، إنّه لا معنی لتعلّق التکلیف بالجامع، بل هو متعلّق بالخصوصیّة، فخصوصیّة الصّوم محقّقة للغرض، وکذا خصوصیّة الإطعام والعتق، وخطاب الشارع یأتی مع (أو)، کما أنّ خطابه فی التعیینات یأتی مع (الواو).

وبما ذکرنا یظهر أنّ تعلّق التکلیف بالخصوصیّة معلوم، إنّما الشکّ فی أنّ لها بدلاً أوْ لا، وحینئذ یعود الأمر إلی مقام الإمتثال بعد العلم بالتکلیف، فیتمّ کلام المیرزا.

نعم، لو کان المتعلّق هو الجامع الإنتزاعی ورد الإشکال علیه.

هذا بالنسبة إلی کیفیّة الخطاب.

وأمّا بالنسبة إلی الغرض، حیث العلم بالحکم موجود، وهو تابع للغرض، لکنْ لا ندری هل یتحقّق الغرض بالصّوم بخصوصه أو یتحقّق بعدله وهو الإطعام أیضاً؟ فإنّ العقل یحکم بوجوب الإتیان بالصّوم فقط، حتی یتیقّن بتحصیل الغرض.

هذا تمام الکلام علی الوجه الأوّل للقول بالتعیین.

الوجه الثانی
اشارة

ما ذکره المیرزا أیضاً: من أنّه متی علم بوجوب شیء، ثمّ احتمل وجوب

ص: 375

شیء آخر یکون عدلاً للواجب الأوّل حتی یکون الوجوب تخییریّاً، فإنّ الأصل هو التعیین. وذلک، لأنّ الوجوب التخییری یحتاج إلی المؤنة فی مقام الثبوت ومقام الإثبات.

أمّا فی مقام الثبوت، فإنّ العدل یحتاج إلی أن یلحظه المولی ویعلّق الحکم علی الجامع بینه وبین الواجب المعلوم.

وأمّا فی مقام الإثبات، فلأنّ العِدل یحتاج إلی البیان.

وما لم تقم الحجّة علی المؤنة الزائدة، فإنّ الأصل عدمها. فیثبت الوجوب التعیینی.

الإشکال علیه

وأشکل علیه تلمیذه المحقّق(1) بوجهین فقال فیه:

أوّلاً: إنّا لا نسلّم أنّ الوجوب التخییری بحسب مقام الثبوت یحتاج إلی مؤنة زائدة بنحو الإطلاق، أی سواء کان التخییر المحتمل تخییراً عقلیّاً أو تخییراً شرعیّاً، فإنّ التخییر العقلی یحتاج إلی لحاظ الجامع فقط، کما أنّ الوجوب التعیینی یحتاج إلی لحاظ الواجب الخاصّ فقط، فلیس هناک مؤنة زائدة فی الوجوب التخییری. نعم، فیما کان التخییر المحتمل تخییراً شرعیّاً یحتاج إلی مؤنة زائدة، لأن الجامع فی التخییر الشرعی هو عنوان أحد الشیئین کما تقدّم. ومن الواضح أنّ لحاظ أحد الشیئین یحتاج إلی لحاظ نفس الشیئین، فیکون الوجوب التخییری محتاجاً إلی

ص: 376


1- 1. مصباح الأصول: 455.

مؤنة زائدة بالنسبة إلی الوجوب التعیینی.

المناقشة

فأورد علیه شیخنا: بأنّ الإهمال فی مقام الثبوت محال، فعلی الحاکم لحاظ متعلّق الحکم، فإنْ کان الجامع هو المتعلّق، فإنّ الجامع لا یکون مهملاً بالنسبة إلی الحصص، فإن کانت دخیلةً فی الغرض من الحکم، وجب لحاظها وأخذها فی الحکم، وإلاّ فإنّه یرفضها، ویکون حکمه مطلقاً بالنسبة إلیها.

والحاصل: إنّه لابدّ من اللّحاظ فی التخییر العقلی أیضاً، إذ الإهمال ثبوتاً محال، فإنْ کان خصوصیّة الإطعام دخیلةً فی الحکم، لزم تقییده بها، وإلاّ جاء الحکم مطلقاً بالنسبة إلیها.

وتلخّص: أنّ إستدلال المیرزا لیس بأخصّ من المدعی، بل هو جارٍ علی التخییر العقلی والشرعی معاً.

قال:

ثانیاً: إنّ مرجع ما ذکره إلی إستصحاب عدم لحاظ العدل. وإثبات الوجوب التعیینی به متوقّف علی القول بالأصل المثبت ولا نقول به، مضافاً إلی کونه معارضاً باستصحاب عدم لحاظ الطّرف الآخر بالخصوص، علی ما سیجیء التعرّض له فی الجواب عن الوجه الرابع إن شاء اللّه تعالی. هذا کلّه فیما ذکره بحسب مقام الثبوت.

وأمّا ما ذکره من أنّ الوجوب التخییری یحتاج إلی مؤنة زائدة فی مقام الإثبات، فهو إنّما یتم فیما إذا دلّ دلیل لفظی علی وجوب شیء من دون ذکر عدل

ص: 377

له، فیتمسّک بإطلاقه لإثبات کون الوجوب تعیینیّاً. وأمّا فیما إذا لم یکن هناک دلیل لفظی، کما هو المفروض فی المقام، إذ محلّ کلامنا عدم وجود دلیل لفظی والبحث عن مقتضی الأصول العملیّة، وقد أشرنا إلی ذلک فی أوّل بحث دوران الأمر بین التعیین والتخییر، فلا یترتّب علیه الحکم بالوجوب التعیینی فی المقام بل لا إرتباط له بمحلّ البحث أصلاً(1).

وحاصله ورود الإشکال من وجوه:

أحدها: إنّ اللّحاظ لیس بحکمٍ شرعی ولا هو موضوع للحکم الشرعی، فلا یجری الأصل بالنسبة إلی الخصوصیّة.

ثانیاً: إنّه معارض باستصحاب عدم لحاظ الطرف الآخر بالخصوص.

ثالثاً: هذا أصل مثبت ولا نقول به.

أقول:

إن کان المستصحب هو اللّحاظ، توجّه ما ذکر من الإشکال.

وأمّا لو قرّر الحکم: بأنّ الواجب یقیناً هو الإطعام، غیر أنّ المکلّف یشکّ فی أنّ الإطعام واجب علی وجه التعیین أو هو عِدل للصّوم مثلاً. فالمتیقّن تعلّق الوجوب بالإطعام ولا شک فیه، بل الشکّ فی تعلّق الوجوب بالصّوم أیضاً علی أنْ یکون عدلاً للإطعام أوْ لا. وبعبارة ثالثة: یشکّ فی أنّ المولی قال _ بعد إیجاب الإطعام _ «أو صمْ» أو لم یقل؟

وحینئذٍ نقول: لا ریب فی أنّ الوجوب من الأُمور الحادثة، وأنّه لم یکن

ص: 378


1- 1. مصباح الأصول: 455 _ 456.

لا تعییناً ولا تخییراً فی الزمان السّابق، ثمّ إنّ هذا العلم بالعدم انتقض بالنسبة إلی الإطعام، فکان واجباً یقیناً، وهل انتقض بالنسبة إلی الصّوم أوْ لا؟ یستصحب عدم تعلّق الوجوب بالنسبة إلی الصّوم، ولا إشکال فیه.

وتلخّص:

أوّلاً: لابدّ من تصحیح إستدلال المیرزا.

وثانیاً: إنّ الإشکال علی الوجه الذی ذکرناه فی التصحیح مندفع.

والحاصل: إنّ الأصل هو التعیین وفاقاً للمیرزا.

الوجه الثالث
اشارة

ما ذکره صاحب الکفایة من أنّ دوران الأمر بین التعیین والتخییر إن کان من جهة إحتمال أخذ شیء شرطاً للواجب، فیحکم فیه بالتخییر، لأنّ الشرطیّة أمر قابل للوضع والرفع، فیشملها حدیث الرفع عند الشک فیها. وأمّا إن کان الدوران بینهما من جهة إحتمال دخل خصوصیّة ذاتیّة فی الواجب _ کما فی المقام _ لا یمکن الرجوع فیه إلی أدلّة البراءة، لأنّ الخصوصیّة إنّما تکون منتزعة من نفس الخاصّ، فلا تکون قابلة للوضع والرفع، فلا یمکن الرجوع عند الشک فیها إلی أدلّة البراءة، فلا مناص من الحکم بالإشتغال والإلتزام بالتعیین فی مقام الإمتثال.

الإشکال علیه

أشکل علیه السیّد الخوئی(1) بقوله:

ص: 379


1- 1. مصباح الأصول: 453.

وفیه: إنّ الخصوصیّة وإن کانت منتزعة من نفس الخاصّ وغیر قابلة للوضع والرفع، إلاّ أنّ اعتبارها فی المأمور به قابل لهما، فإذا شکّ فی ذلک کان المرجع هو البراءة.

أقول:

حاصل کلام الکفایة هو: إن کانت الخصوصیّة فی الأقلّ غیر منتزعةٍ من نفس الذات، کان من قبیل الأقلّ والأکثر، وتجری البراءة عن الأکثر. کما فی الصّلاة والسّتر، فإنّه لو دار الأمر بین وجوب الصّلاة مطلقةً ووجوبها مشروطةً بالسّتر، جری أصالة البراءة عن الإشتراط بالسّتر.

وإن لم تکن الخصوصیّة ذات وجودٍ مستقل عن الذّات، بل کانت منتزعةً منها، کما فی دوران الأمر بین وجوب إکرام مطلق الإنسان ووجوب إکرام زید بالخصوص، فإنّ الأمر لیس من قبیل الأقلّ والأکثر، بل هما متباینان، وحینئذٍ لا تجری البراءة عن الخصوصیّة.

وتلخّص: التفصیل بین الموارد، فما کان من قبیل الشرط والمشروط، تجری فیه البراءة، وما کان من قبیل الجنس والنوع، فلا تجری.

التحقیق

فقال شیخنا: إنّ ما ذکره صاحب الکفایة بحسب مقام الخارج صحیح، إذ لیس عندنا فی الخارج «إنسان» و«زید» أو «حیوان» و«إنسان». وکذلک ما ذکره بالنسبة إلی «الصّلاة» و«السّتر».

إلاّ أنّ الکلام فی مقام الجعل والتکلیف، فمن الممکن أن یتعلّق الحکم

ص: 380

بالحیوان ولا تؤخذ الإنسانیّة فی متعلّق الحکم، أو تؤخذ کذلک، فیکون من قبیل الأقلّ والأکثر، وکذلک الحال فی الصّلاة والسّتر.

وبالجملة، فإنّ التفصیل المذکور بالنظر إلی مرحلة الجعل مردود.

الوجه الرابع

وقال المحقّق العراقی(1) بالتعیین.

أمّا فی مورد دوران الأمر بین الجنس والنوع، فقال بأنّ القاعدة فی الأقلّ والأکثر هی أن یکون الأقلّ فی ضمن الأکثر بذاته لا بحدّه، وإلاّ یکونان من قبیل المتباینین. مثلاً: للنّور مراتب، والمرتبة الضعیفة موجودة فی ضمن الشدیدة، وعند دوران الأمر تجری البراءة عن الأکثر.

أمّا الکلّی والفرد، فلیس من قبیل الأقلّ والأکثر، بل هما متباینان، لأنّ نسبة الکلّی إلی الفرد نسبة الآباء إلی الأبناء، والحصّة الموجودة مع زیدٍ من الإنسانیّة متباینة مع الحصّة الموجودة مع عمرو.

وعلی هذا، فإنّه مع العلم بوجوب الإطعام والشک فی وجوب الصّوم عدلاً له حتی یکون الواجب تخییریّاً، یتحقّق العلم الإجمالی، وهذا العلم یوجب الإحتیاط عقلاً بوجوب الإطعام معیّناً، لأنّه إمّا یحرم ترک الإطعام مطلقاً _ أی سواء أُتی بالصّوم أوْ لا _ وإمّا یحرم ترک الإطعام فی حال ترک الصّوم، کما یحرم ترک الصّوم فی حال ترک الإطعام، فالحرام، إمّا هو ترک الإطعام مطلقاً وإمّا هو حرمة

ص: 381


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 396.

ترکه فی حال ترک الصّوم، وحیث لا جامع بین الترکین، وجب الإتیان بالإطعام علی وجه التعیین، لحصول الإمتثال به علی کلّ تقدیر، أمّا مع الإتیان بالصّوم فالفراغ عن التکلیف الیقینی مشکوک فیه.

هذا کلّه بالنظر إلی حکم العقل.

وأمّا بالنظر إلی حکم الشرع، فمن الممکن إجراء البراءة علی مسلک الإقتضاء، لجریان الأصل بلا معارض فی بعض الصّور، وذلک:

لأنّه إن ترک الإطعام فی ظرف ترک الصّیام، فقد ارتکب الحرام بلا کلام، لأنّ الإطعام إن کان واجباً تعییناً فقد ترک، وإن کان تخییریّاً، فالمفروض ترک العدلین معاً.

وإن ترک الإطعام مع فعل الصّیام، فالحرمة مشکوک فیها، لاحتمال کون الواجب تخییریّاً، والمفروض الإتیان بطرفٍ، ومع الشکّ فی الحرمة تجری البراءة.

وإنْ ترک الصّیام فی فعل ترک الإطعام، فالحرمة مشکوک فیها کذلک، لأنّه إنْ کان الإطعام واجباً تعییناً، فلا حرمة لترک الصّیام.

فتحصّل الشکّ فی الحرمة فی صورتین، وإذا شکّ فی ذلک جرت البراءة، ولا مجال لوجوب الإحتیاط بالإتیان بالإطعام فیهما، ونتیجة جریان البراءة بلا معارض هو التخییر.

النظر فیه

إنّ ما ذکره فی مسألة دوران الأمر بین الکلّی والأفراد، وبین الجنس والنوع،

ص: 382

هو فی الحقیقة نفس ما ذکره شیخه فی الکفایة. والجواب هو:

صحیحٌ أنّ النسبة هی نسبة الآباء والأبناء، والحیوانیّة الموجودة فی الإنسان مغایرة مع الحیوانیّة الموجودة فی الغنم، والإنسانیّة الموجودة فی زید غیرها الموجودة فی عمرو، والحق أنّ الطبیعی موجود بوجود فرده. لکنّ کلّ هذا فی مرحلة الوجود والتحقّق الخارجی، أمّا فی مرحلة الإنشاء وجعل الحکم _ وهی مرحلة التصوّر _ تکون الحیوانیّة غیر الناطقیّة وغیر الصّاهلیّة، ففی مرحلة الحکم یمکن للحاکم أنْ یجعل الجنس أو النوع موضوعاً لحکمه، وأنْ یجعله مطلقاً أو مقیّداً بخصوصیّة.

وأمّا ما ذکره من حکم العقل بالإحتیاط عند دوران الأمر بین التعیین والتخییر، ففیه:

إنّه مع العلم بوجوب الإطعام ثمّ الشکّ فی وجوب الصّوم، یدور أمر الإطعام بین التعیین والتخییر، بمعنی أنّه یشکّ فی أنّ الإطعام هل هو مطلوبٌ للمولی سواء أُتی بالصّوم أوْ لا، أو أنّ المطلوب هو الإطعام فی حال ترک الصّیام؟

الحقیقة: إنّ أمر الإطعام مردّد بین التعیین والتخییر، فیوجد قدرٌ متیقّن وطرفان للشک، فالمتیقّن أن ترک الإطعام حرام، فإنّه إن کان واجباً تعییناً حرم ترکه سواء أُتی بالصّوم أو ترک، وإنْ کان تخییریّاً حرم ترکه مع ترک الصّوم. فترک الإطعام مع ترک الصّوم متیقّن الحرمة، ویقع الشکّ فی موردین:

أحدهما: ترک الإطعام مع فعل الصّوم.

والثانی: ترک الصّیام مع فعل الإطعام.

ص: 383

وإذا شکّ فی الحرمة جرت البراءة.

والحاصل: إنّ المحّرم ترک الإطعام علی کلّ تقدیر، وفی ما سوی هذا الفرض تکون الحرمة مشکوکاً فیها، وهذا هو میزان الإنحلال.

التحقیق فی المقام والرأی المختار

إنّ العلم الإجمالی یکون مؤثّراً فیما إذا دار الأمر بین الأمرین، ولم یکن قدر متیقّن فی البین، ولکنْ قد ظهر وجود القدر المتیقّن، فالعلم منحلّ.

ولکنّ المختار هو:

إذا کان هناک جامع عرفی قابلٌ لتعلُّق التکلیف به بحسب القاعدة، فإنّه مع تعلّق التکلیف به یقیناً والشکّ فی تقییده وإطلاقه، کما لو أُمر بإطعام الحیوان _ والحیوان جامع عرفی _ وشکّ فی أنّ المطلوب هو مطلق الحیوان أو خصوص الإنسان، فإنّ الأصل لا یجری فی الإطلاق، لعدم الکلفة فیه، وإنّما یجری فی طرف التقیید _ وهو خصوصیّة الإنسان _ بلا معارض، فینحلّ العلم حکماً. وهذا مقتضی مبنی الإقتضاء للعلم الإجمالی.

وأمّا قول أعیان القوم بالإنحلال الحقیقی، بأنْ یکون الجامع فی هذا التقدیر هو القدر المتیقّن وإنّما الشکّ فی القدر الزائد.

ففیه: ما ذکرناه فی بحث الأقلّ والأکثر، من أنّ القدر المتیقّن من تعلّق الحکم هو الجنس الموجود فی ضمن الإنسان، وأمّا بالنسبة إلی الغنم والبقر، فإنّ أصل تعلّق الحکم به مشکوک فیه.

ص: 384

هذا بالنسبة إلی الأقلّ والأکثر، وحاصله: أنّه لابدّ عقلاً من الإتیان بما تعلّق به التکلیف، إمّا بنفسه وإمّا ببدله، کما فی موارد قاعدة التجاوز مثلاً، ومتی لم یحرز الإمتثال بالإتیان بأحدهما، فإنّ قاعدة الإشتغال محکّمة.

وهذه القاعدة محکّمة کذلک فی موارد دوران الأمر بین التعیین والتخییر، فإنّه مع العلم بتعلّق التکلیف بالإطعام والشکّ فی جعل الصّیام عدلاً له، لو ترک الإطعام وأتی بالصّیام، یشکّ فی الفراغ، وقد تقدّم أنّ العقل یحکم بضرورة الإتیان بالمتعلّق أو بدله.

نعم، لو تمّ القول بأنّ متعلّق الوجوب فی الواجب التخییری هو عنوان «أحدهما» مثلاً، فإنّه یکون العنوان القدر الواجب، ویشکّ فی تقیّده بالخصوصیّة، فتجری البراءة عن الخصوصیّة، وینحلّ العلم الإجمالی.

لکنّ المبنی غیر تام، ثبوتاً وإثباتاً. کما ذکرنا فی محلّه سابقاً.

إنتهی البحث ویتلوه التنبیهات.

ص: 385

ص: 386

تنبیهات دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر

اشارة

ص: 387

ص: 388

التنبیه الأوّل: هل الجزئیّة مخصوصة بحال الذکر أو مطلقة؟

اشارة

لو وقع الشکّ بالنسبة إلی جزءٍ من أجزاء المرکّب أو شرطٍ من شرائط الواجب: بأنّه هل هو جزءٌ أو شرط مطلقاً أو فی خصوص حال الذکر، وأنّه مع النسیان لیس بشرط أو جزء، فما هو مقتضی القاعدة؟

وهذا بحث مهمٌ له آثار فقهیّة، لأنّ من الواضح أنّ الکلّ ینتفی بانتفاء الجزء، والمشروط ینتفی بانتفاء الشرط، فإن کان الشرط أو الجزء مطلقاً، فسوف ینتفی الکلّ أو المشروط بانتفائه، سواء کان إنتفاؤه عن عمدٍ أو نسیانٍ، وإنْ کانت الجزئیّة أو الشرطیّة منوطةً بالذکر، فإنّه مع النسیان لا ینتفی الکلّ والمشروط.

ولا یخفی أنّ هذا البحث لا یختصّ بالذکر والنسیان، بل یطرح فی الإضطرار والإکراه والإختیار أیضاً.

ثمّ إنّ هذا البحث مبنیٌ علی مسألة أنّه هل مع النسیان لجزءٍ، یکون الشّخص مکلّفاً بالأجزاء الأُخری غیر الجزء المنسیّ، أوْ لا یعقل تکلیفه بها، أو أنّه لو نسی الشّرط، فهل یعقل تکلیفه بالمشروط أوْ لا؟ ففی المسألة قولان.

ص: 389

القول الأوّل ودلیله

قال الشیخ(1) وأتباعه باستحالة التکلیف بغیر المنسی أو بالمشروط مع نسیان جزءٍ أو شرطٍ. ونتیجة ذلک هو الحکم بعدم إجزاء العمل الفاقد للجزء أو للشّرط.

ودلیلهم علی ذلک هو: إنّ التکلیف یتوجّه دائماً إلی المخاطب الملتفت، ولولا الإلتفات فلا یعقل التکلیف أصلاً، لأنّ الغرض من التکلیف هو إیجاد الداعی للإمتثال والإنبعاث، وحیث لا یعقل الإنبعاث من غیر الملتفت، فلا یعقل توجّه التکلیف إلیه. وعلیه، لا یمکن الحکم بإجزاء العمل الفاقد للشّرط أو الجزء.

القول الثانی

اشارة

وقال صاحب الکفایة(2) والمیرزا وغیرهما، بالإمکان. واستدلّوا بوجهین:

الوجه الأوّل للقول الثانی
اشارة

إنّ الإشکال باستحالة توجیه الخطاب إلی الناسی أو لغویّته، إنّما یتوجّه إنْ کان المخاطب معنوناً بعنوان النّاسی، ولکنْ یجوز توجیه الخطاب إلیه بعنوانٍ آخر ملازم له.

ص: 390


1- 1. فرائد الأصول 2 / 387.
2- 2. کفایة الأصول: 368.
الإشکال علی الوجه الأوّل

ویرد علیه _ کما فی المصباح(1) _ إنّ هذا مجرّد فرض وهمی لا واقع له، لا سیّما وأنّ النسیان لیس له میزان مضبوط لیفرض له عنوان ملازم، فإنّه یختلف باختلاف الأشخاص والأزمان واختلاف متعلّقه من الأجزاء والشرائط، فکیف یمکن فرض عنوان یکون ملازماً للنسیان أینما تحقّق.

الوجه الثانی وهو الصحیح

أن یقال بأنّ التکلیف بأرکان الصّلاة متوجّه إلی عامّة المکلّفین، أمّا بالنسبة إلی غیرها کالتّشهد _ مثلاً _ فخاصّ بأهل الذکر، وأنّ من کان قد نسی التشهّد مثلاً فهو مخاطب بالأرکان.

وهذا الوجه تام ثبوتاً، وإثباتاً أیضاً فی الصّلاة، لقاعدة لا تعاد، فإشکال السیّد البروجردی(2) علیه غیر وارد.

وبعد أنْ تقرّر إمکان تکلیف الناسی لجزءٍ أو شرطٍ بالمشروط وبقیّة الأجزاء، نقول: إنّ الإمکان بوحده لا یکفی، بل لابدّ من إقامة الدلیل حتی یظهر أنّ الجزئیّة أو الشرطیّة مقیّدة بحال الذُکر أو هی مطلقة وهذا موضوع التنبیه.

فههنا صور أربع:

1_ أن یکون دلیل الواجب _ وهو الصّلاة _ ودلیل الجزء _ وهو التشهّد _ مطلقین.

ص: 391


1- 1. مصباح الأصول: 460.
2- 2. الحاشیة علی کفایة الأصول 2 / 301 _ 303.

2_ أنْ لا یکون شیء منهما مطلقاً.

3_ أن یکون الأوّل مطلقاً والثانی مقیّداً.

4_ أن یکون عکس الثالث.

تفصیل أصل المطلب

1_ إنْ کان دلیل الواجب ودلیل الجزء هو الإجماع، أو کان الدلیل فیهما لفظیّاً لکنّه مجملٌ أو مهملٌ. فالقاعدة هی الرجوع إلی مقتضی الأصل العملی.

2_ وإنْ کان الدلیلان مطلقین. ففی هذه الصّورة یقع التعارض بین إطلاق الدلیلین، لدلالة دلیل الواجب علی وجوب غیر التشهّد علی کلّ مکلّف، فلو نسی التشهّد وجب علیه البقیّة، ودلالة دلیل الجزء علی وجوب التشهّد مطلقاً، فالصّلاة بدون التشهّد باطلة. ولکنّ هذا التعارض بدویّ غیر مستقر، لأنّ دلیل الجزء ناظر إلی الکلّ، أمّا دلیل الکلّ فغیر ناظر إلی الجزء، فإذا أمر بمرکّب ثمّ أمر بإضافة شیء إلیه، فإنّ الأمر الثانی یکون بمنزلة الحاکم والشارح للأمر الأوّل، فیجمع بین الإطلاقین، وتکون النتیجة تقیّد إطلاق الواجب بغیر الناسی.

3_ وإنْ کان دلیل الواجب المرکّب غیر مطلق ودلیل الجزء مطلق. ففی هذه الصّورة، یتقدّم الإطلاق، وتکون الصّلاة الفاقدة للجزء _ التشهّد _ نسیاناً باطلة.

4_ وإنْ کان دلیل الواجب مطلقاً ودلیل الجزء غیر مطلق، فالصّلاة واجبة سواء ترک التشهّد نسیاناً أوْ لا، والنتیجة وجوب الإتیان ببقیّة الأجزاء.

هذا کلّه فی مرحلة الکبری.

ص: 392

وأمّا من حیث الصغری، فهل یوجد الإطلاق أوْ لا؟

تارةً: یکون الدلیل القائم علی الجزئیّة لبّیّاً، فلا إطلاق، لانتفاء الموضوع.

وأُخری: یکون الدلیل لفظیّاً. وهذا علی قسمین:

1_ أن یکون الدلیل علی الجزئیّة والشرطیّة بصیغة الأمر.

2_ أن یکون بغیر صیغة الأمر، کالخبر: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الکتاب»(1) فهذا لسان الوضع، ویدلّ علی إنتفاء الصّلاة بانتفاء الفاتحة، فالإطلاق فیه منعقد، فلا صلاة بدون الفاتحة، سواء کان بسبب النسیان أوْ لا. وکذا فی الشرط کالخبر: (من لم یقم صلبه فی صلاته فلا صلاة له)(2).

وبالجملة، فالصّلاة باطلة إلاّ أن یقوم دلیل آخر.

إنّما الکلام فیما لو کان لسان الدلیل بصیغة الأمر، کما لو ورد: «إذا جلست فتشهّد ...» فهذا بلسان الأمر، و لا إشکال فی إعتبار القدرة فی توجیه الأمر _ وإنْ وقع الخلاف فی أنّه تعتبر القدرة بحکم العقل أو باقتضاء الخطاب نفسه _ . وأنّ تکلیف العاجز غیر میسّر، والمفروض کون المکلّف هنا ناسیاً، فهو غیر قابل لتوجّه الخطاب إلیه، سواء کان الخطاب مطلقاً أو غیر مطلق. إذنْ، لا یمکن الإطلاق.

ص: 393


1- 1. عوالی اللآلی 1 / 196.
2- 2. وسائل الشیعة 4 / 313، الباب 9 من أبواب القبلة، رقم: 3.
بیانات لإثبات الإطلاق:
بیان المیرزا

قال المحقّق النائینی(1):

أوّلاً: إنّ الأوامر المتعلّقة بالأجزاء والشرائط لیست مولویة بل هی إرشادیّة، وإعتبار القدرة علی الإمتثال إنّما هو فی الأوامر المولویّة لا الإرشادیّة. وإذا ارتفع هذا المشکل صحّ القول بإطلاق مثل: «إذا جلست فتشهّد»، وتکون النتیجة بطلان صلاة الناسی للتشهّد.

لکنّ المهمّ هو وجه حمل تلک الأوامر علی الإرشادیّة، وقد ذکر لذلک وجهان:

الوجه الأوّل: إنّه لو کان الأمر بالجزء أو الشرط مولویّاً، لکان المکلّف به واجباً فی واجب، فینقطع علاقة الکلیّة والجزئیّة وعلاقة الشرطیّة والمشروطیّة. وهذا باطل بالضرورة من الفقه.

والوجه الثانی: إنّ وزان الأوامر والنواهی فی العبادات وزان الأمر والنواهی فی المعاملات، فکما أنّ الأمر بالموالاة بین الإیجاب والقبول والنهی عن الغرر، إرشادٌ إلی الشرطیّة والمانعیّة ولیس مولویّاً، کذلک الأوامر والنواهی المتعلّقة بالعبادات المرکّبة.

وثانیاً: إنّ الأوامر المتعلّقة بأجزاء المرکّب إنّما هی تفصیلٌ للمرکّب، فالشارع بعد أنْ أمر بالصّلاة، وهی مرکبة من التکبیر والقیام والرکوع والسّجود

ص: 394


1- 1. أجود التقریرات 3 / 520 _ 521.

والتشهّد، أمر بکلٍّ من تلک الأجزاء علی نحو التفصیل، فلیست بأوامر أُخری غیر الأمر بالمرکّب. وعلیه، فکما أنّ الصّلاة منوطة بالقدرة، کذلک الأجزاء التی ورد الأمر بها واحداً واحداً، فهی منوطة بالقدرة. ولمّا کان الناسی عاجزاً عن الإمتثال بالنسبة إلی التشهّد، فإنّ المرکّب یسقط عنه، وتکون الصّلاة باطلة.

وتحصّل من ذلک عدم الفرق بین ما إذا کان دلیل الجزئیّة أو الشرطیّة بصیغة الأمر أو غیرها، فإنّ الجزئیّة أو الشرطیّة مطلقة، والمرکّب ینتفی بانتفاء جزئه والمشروط ینتفی بانتفاء شرطه.

بیان العراقی

وقال المحقّق العراقی(1): بأنّ الدلیل _ سواء کان بلسان الأمر أو بلسانٍ آخر _ یدلّ علی الجزئیّة أو الشرطیّة المطلقة، وتکون النتیجة بطلان المرکّب بفقد الجزء أو الشرط علی أثر النسیان، وذلک لوجهین:

الأوّل: إن أدلّة الأجزاء _ وکذا الشرائط _ لها ظهوران، أحدهما: فی التکلیف، والآخر: فی الوضع.

ثمّ إنّ الأحکام العقلیّة منها ضروریّة ومنها نظریّة. ولمّا کانت الضروریّة حافّة بالکلام، فإنّها تکون قرینةً علی سقوط ظاهر الکلام من أصله. أمّا النظریّة _ المحتاجة إلی النظر والإستدلال _ فإنّ حکمها حکم القرینة المنفصلة، فلا یسقط أصل الظهور وإنّما تسقط حجیّة الظاهر.

ص: 395


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 420 _ 421.

وفیما نحن فیه، فإنّ إعتبار القدرة علی الإمتثال وأنّ النّاسی لا یعقل توجّه الخطاب إلیه، من الأحکام العقلیّة النظریّة _ لا من الضروریّة _ لأنّه یحتاج إلی النظر والاستدلال، ولیس فی الوضوح کبطلان إجتماع الضدّین، وعلی هذا، فإنّ ظهور «تشهّد» فی المولویّة یسقط حجیّةً، وأمّا أصل الظهور، فباق. فهو ظاهر فی الحکم الوضعی _ الجزئیّة _ وحینئذٍ، یکون مطلقاً. وعلیه، تکون الصّلاة الفاقدة للتشهّد عن النسیان باطلةً.

والثانی: إنّ کلّ أمرٍ مثل «تشهّد» ففیه مادّة وهیئة کما هو واضح، وکلٌّ منهما مطلق. فإذا قال «تشهّد» دلّ من حیث المادّة علی مطلوبیّة التشهّد فی کلّ حالٍ، ودلّ من حیث الهیئة _ وهی صیغة الأمر _ علی الوجوب، وهو مطلق ولا قید له. لکنّ دلیل قبح تکلیف النّاسی یقیّد مدلول الهیئة، دون المادّة، وحینئذٍ، یسقط الطلب فی حال النسیان. أمّا الحکم الوضعی _ وهو الجزئیّة _ المتعلّق بالمادّة، فیکون باقیاً علی إطلاقه.

بیان الإصفهانی

وقال المحقّق الإصفهانی(1): إنّ الشارع فی مقام الشارعیّة، لا فی مقام بیان الواقع، فلمّا قال: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الکتاب» أراد بیان الحکم الوضعی. أی: إنّ فاتحة الکتاب جزء من أجزاء المأمور به الذی تعلّق به الغرض. وهو الصّلاة، نعم. لو کان یرید بیان الغرض، فالغرض یمکن أن یکون مطلقاً، أی: إنّه موجود فی مورد الناسی والذاکر معاً.

ص: 396


1- 1. نهایة البدایة 4 / 340.
المناقشة

أجاب الأُستاذ: صحیح أنّ المولی فی مقام بیان أجزاء المأمور به، لکنّ قوله: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الکتاب» المشتمل علی النفی والإستثناء، ظاهر فی دوران الصّلاة وجوداً وعدماً مدار الفاتحة، فإذا انتفت الفاتحة انتفت الصّلاة، وهذا لیس إلاّ الجزئیّة المطلقة للفاتحة بالنسبة إلی الصّلاة.

التحقیق فی المقام

تارةً: نقول بتبعیّة الدلالة الإلتزامیّة للدلالة المطابقیّة فی الحجیّة، وأُخری لا نقول.

إنّه لا ریب فی أنّ اللاّزم تابع للملزوم فی عالم الثبوت. أمّا فی عالم الإثبات فکذلک، فإذا قام الدلیل علی النّار کان دلیلاً علی الحرارة أیضاً. إنّما الکلام فی مرحلة الحجیّة، بأنّه لو سقط الدلیل القائم علی الملزوم أو اللاّزم عن الحجیّة تسقط دلالته علی حجیّة الآخر أوْ لا؟

والوجهان المتقدّمان عن المحقّق العراقی مبنیّان علی هذا البحث.

إنّه یکشف الأمر بالصّلاة عن جزئیّة التشهّد، فالدلالة علی جزئیّته تابعة لدلالة الأمر بالصّلاة، فلو سقط الأمر عن الحجیّة، هل تسقط جزئیّة التشهّد؟ مثلاً: لو سقط الدلیل علی طلوع الشمس هل تبقی الحجّة علی وجود النهار؟

إن کانت الحجیّة للاّزم باقیةً، تمّ ما ذکر العراقی فی المقام.

لکنّ التحقیق خلاف ذلک. وعلیه، فإذا سقط الأمر عن الحجیّة بسبب النسیان،

ص: 397

من جهة عدم إمکان تکلیف العاجز، کانت الجزئیّة أیضاً ساقطة ولا حجّة علیها.

هذا بالنسبة إلی الوجه الأوّل فی کلام المحقّق العراقی.

وأمّا الثانی، وهو بقاء إطلاق المادة بعد سقوط إطلاق الهیئة وحاصله:

إنّ مدلول الهیئة هو الطلب الوجوبی، وهو مقیّد بالقدرة عقلاً، والناسی عاجز، فلا طلب بالنسبة إلیه. لکنّ المادة _ وهی التشهّد _ غیر منوطة بالقدرة، فالإطلاق فیها باق.

ففیه: إنّه لا طریق إلی جزئیّة التشهّد إلاّ الأمر، وعلیه، فإنّ إطلاق المادّة متفرّع علی إطلاق الهیئة، وإذا سقط إطلاق الهیئة سقط إطلاق المادّة.

وتلخّص: سقوط الوجهین علی أساس تبعیّة اللاّزم للملزوم فی الحجیّة وجوداً وعدماً.

وأمّا بالنسبة إلی کلام المحقّق المیرزا _ من أنّ الأوامر والنواهی فی الأجزاء إرشاد إلی الجزئیّة والمانعیّة، وفی الشرائط إرشاد إلی الشرطیّة وهو مبنی العراقی والخوئی أیضاً، فکلّها أحکام وضعیّة منسلخة عن التکلیف، فکأنّه بقوله: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الکتاب» یرید أنّ الفاتحة جزءٌ من الصّلاة، فهی لبّاً جملة خبریّة _ فإنّ المرجع فی مثل هذه الموارد هو العرف والإرتکاز العرفی والقواعد مع لحاظ الخصوصیّات.

إنّ «التشهّد» فیه مادّة وهیئة، ومدلول الهیئة دائماً هو الطلب، فما البرهان علی انسلاخها عن مدلولها فی خصوص هذه الموارد؟

إنّه فی العرف، عندما یطلب صنع معجون فیؤمر بأجزائه، فإنّ الأمر بکلّ

ص: 398

واحد یکشف عن أنّ الأمر به لیس استقلالیّاً. هذا المقدار صحیح، وأمّا أنْ لا یدلّ علی الطلب أصلاً، فما هو البرهان علی ذلک؟

والحاصل: إنّ التکلیف موجود، لکن لا بنحو الإستقلال بل بنحو الضمنیّة للمرکّب. هذا صحیح، وأمّا أنْ یدلّ علی الضمنیّة والجزئیّة فقط، ولا دلالة علی المطلوبیّة فمن أین؟

ویشهد بذلک ما ذکره المحقّق المیرزا فی الوجه الآخر، من أنّ الأمر بکلّ جزءٍ أمرٌ بقطعةٍ من المرکّب، فهی أوامر تفصیلیّة لما دلّ علیه الأمر بالکلّ علی وجه الإجمال.

ثمّ إنّ القائلین بالإرشادیّة متّفقون علی أنّ الجزئیّة والشرطیّة لیست ممّا یقبل الجعل بالإستقلال، بل من الأُمور الإنتزاعیّة، فالجزئیّة تنتزع من الأمر المتوجّه إلی الجزء، وهکذا الشرطیّة، وقد صرّحوا بذلک فی بحث البراءة، کما لا یخفی علی من یراجع التقاریر فی مفاد حدیث الرّفع. وصرّح المحقّق العراقی بأنّ الأمر بالجزء إرشاد، أی: أنّه یکشف عن تعلّق الأمر بالجزء فی ضمن الکلّ، ومن المعلوم أنّ الکاشف لا یمکن أن یکون أوسع دائرةً من المنکشف، ولمّا لم یکن للمنکشف إطلاقٌ لیشمل الناسی، کیف یمکن أن یکون للکاشف إطلاق یشمله؟

وبعد هذا نقول:

إنّ الوجوه التی ذکرت إن لم تکن دلیلاً علی نفی الإطلاق وتقیّد الأمر بالذاکر، فلا أقلّ من صلاحیّتها لأنْ تکون ما یحتمل القرینیّة والصارفیّة، فلا ینعقد الإطلاق.

ص: 399

خلاصة الکلام:

وتلخّص أنّه: إن کان دلیل المرکّب ودلیل الجزء مطلقین، فلا کلام فی بطلان الصّلاة الفاقدة للتشهّد.

وکذا إن کان دلیل الجزء مطلقاً دون دلیل الکلّ.

وإنْ کان دلیل الکلّ مطلقاً دون دلیل الجزء، فالصّلاة الفاقدة للجزء صحیحة، لأنّ القدر المتیقّن من جزئیّة الجزء حال الذکر، إنْ کان الخطاب بصیغة الأمر.

الصّورة الرابعة

وهی عدم الإطلاق لا للکلّ ولا للجزء، فما هو مقتضی القاعدة من جهة الأصول العملیّة؟

تارةً: یکون متعلّق التکلیف هو الفرد، وأُخری هو الطبیعی.

فی الأوّل: کما لو أمر بالإمساک یوماً، فنسی الإمساک ساعةً، فهل یجب الإمساک فی بقیّة النهار أوْ لا؟ المفروض عدم الإطلاق، وعدم الدلیل الخاصّ علی وجوب الإمساک، وتصل النوبة إلی الأصل، وهو فی الدرجة الأُولی: الإستصحاب. أی: أصالة عدم تعلّق التکلیف بما بقی من النهار.

ویتلخّص: جریان أصالة عدم الوجوب.

وهذا الإستصحاب مقدّم علی البراءة بالحکومة.

ولو تنزّلنا عن الإستصحاب تصل النوبة إلی البراءة الشرعیّة، لحدیث الرّفع، ثمّ العقلیّة، لقاعدة قبح العقاب بلا بیان.

وفی الثانی: کأن یکون الأمر بالإتیان بالصّلاة بین الحدّین، فنسی جزءً أو

ص: 400

اضطرّ إلی ترکه، فهل یجب إعادة العمل أوْ لا؟

المفروض عدم الإطلاق وعدم الدلیل بالخصوص.

فإنْ قلنا: باستحالة تکلیف الناسی، فلا یکلّف بالباقی، بل لابدّ من إعادة العمل، وذلک لحکم العقل بلزوم حفظ الأغراض الإلزامیّة للمولی وتحصیلها، لأنّا علی یقینٍ من أنّ للشارع من هذا الحکم غرضاً، ونشکّ فی محصلیّة العمل الفاقد للجزء، فیلزم إعادة العمل، فالأصل الجاری هنا هو الإشتغال.

وإنْ قلنا: بإمکان تکلیف الناسی بغیر المنسی، رجع الشک إلی مقتضی الأصل فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر الإرتباطیین، وذلک للیقین بواجبٍ فی العهدة، مع الشکّ فی أنّ الجزئیّة للتشهّد مقیّدة بحال الذکر أو مطلقة؟ فإنْ کانت مقیّدةً، وجب ما بقی، وإنْ کانت مطلقة، فالواجب کلّ العمل. فالمورد من صغریات تلک الکبری، والأصل هو البراءة.

هذا تمام الکلام فی التنبیه الأوّل.

ص: 401

التنبیه الثانی: فی حکم الزیادة والنقیصة فی الأجزاء

اشارة

لا یخفی أنّ المرکّبات الشرعیّة _ کالصّلاة _ مرکّبة من حقائق متباینة قد حصل الترکیب الإعتباری فیها، فیقع البحث فی حکم الزیادة والنقیصة فی أجزاء المرکّب. وکلّ منهما تارةً: یکون عن عمد، وأُخری: عن سهو.

وتفصیل ذلک فی أربعة مقامات، إذْ یبحثُ حول کلٍّ من الموضوع والحکم فی مقامین.

فی المقام الأوّل:

1_ هل یعقل تحقّق الزیادة فی المرکّب الإعتباری؟

2_ بأیّ شیء تتحقّق الزیادة؟

وفی المقام الثانی:

1_ ما هو حکم الزیادة بحسب القاعدة؟

2_ ما هو حکم الزیادة بحسب النصوص؟

ص: 402

البحث الموضوعی:

1_ هل یعقل تحقّق الزیادة فی المرکّب الإعتباری؟
اشارة

قیل:

لا یعقل. وذلک: لأنّ أجزاء المرکّب لا تکون مهملةً بالنسبة إلی الزائد، فإمّا هی لا بشرط عن الزائد وإمّا هی بشرط لا.

فإنْ کان الرکوع _ مثلاً _ بشرط لا عن الزیادة، فإنّ الزیادة محال، لرجوع الزیادة إلی النقیصة، لأنّ الجزء هو الرکوع بشرط عدم الزیادة، فکان الجزء مقیّداً ومشروطاً بقید عدم الزیادة، وکلّ مقیّد ینتفی بانتفاء قیده، وکلّ مشروط ینتفی بانتفاء شرطه، فوقعت النقیصة لا الزیادة.

وإن کان الرکوع لا بشرط عن الزیادة، أی إنّ الرکوع قد اعتبر فی المرکّب مطلقاً من حیث الزیادة وعدمها، فإنّ اللاّبشرط یجتمع مع ألف شرط، ویصدق علی کلٍّ من الأفراد صدقاً حقیقیّاً. فالرکوع اللاّبشرط عن الزیادة یصدق مع الرکوع الواحد ومع الرکوع عشر مرّات، فالزیادة مستحیلة، لأنّها ترجع إلی النقیصة، وهما ضدّان لا یجتمعان.

الجواب عن دلیل العدم:

وقد أجاب المیرزا(1) وغیره عن هذا الإستدلال بوجهین:

ص: 403


1- 1. أجود التقریرات 3 / 524.

الأوّل:

إنّ هذا الإستدلال عقلی، والخطابات العرفیّة ملقاة إلی العرف العام، فنحن تابعون للعرف فی تشخیص موضوعات الخطابات، لا للعقل، والعرف یری تحقّق الزیادة بالإتیان بالوجود الثانی للجزء.

وفیه تأمّل

لأنّه وإنْ کان المرجع هو العرف، لکن العرف الفاهم الدقیق الذی یفهم انتفاء المقیّد بانتفاء القید والمشروط بانتفاء الشرط، وما نحن فیه من هذا القبیل، فإنّه إذا شرح وبُیّن للعرف فَهِمَه وحکم بالإستحالة.

وعلی الجملة، إن کان المتَّبع نظر العرف حتی فی مثل هذه القضایا العقلیّة البرهانیّة، تمّ الجواب وإلاّ فهو غیر تام.

مثلاً: العقل یری أنّ البخار هو الماء، لکنّ العرف یری أنّ الماء غیر البخار، وفی مثله یتّبع نظر العرف لا العلم والعقل، أمّا لو شرح الموضوع للعُرف وأدرکه، فإنّ المناط هو نظر العرف الدقیق. وما نحن فیه من هذا القبیل.

الثانی:

إنّ ما ذکر إنّما یتمُّ لو کان متعلّق إعتبار الجزئیّة هو الطبیعیّ اللاّبشرط عن الوحدة والتعدّد، لکنّ المتعلّق هو صرف الوجود، وهو یتحقّق بتحقّق الوجود الأوّل کما هو واضح، فإذا تحقّق، حصل الإنطباق قهراً ووقع الإجزاء عقلاً، فیکون الوجود الثانی زائداً.

وهذا الجواب هو الصحیح.

ص: 404

2_ بماذا تتحقّق الزیادة؟

إنّ تحقّق الزیادة فی المرکّبات الخارجیّة لا یتوقّف علی القصد والإعتبار کما لا یخفی، فهل الأمر فی المرکّب الإعتباری کذلک؟ کلاّ، بل الزیادة إنّما تتحقّق بالقصد، لأنّ المرکّب نفسه إعتباری، فلو زاد فی الصّلاة قراءةً بقصد الجزئیّة صدقت الزیادة وإلاّ لم تصدق.

هذا بحسب الفهم العرفی.

نعم، قد ورد التعبیر بالزیادة فی النصّ الوارد فی سجدة العزائم، إذ قال علیه السّلام: (لا تقرأ فی المکتوبة بشیء من العزائم فإنّ السّجود زیادة فی المکتوبة)(1) أی: وإنْ کانت السّجدة سهویّة.

وقد اعتبر الفقهاء ذلک أیضاً فی الرکوع الزائد بالأولویّة، فحکموا ببطلان الصّلاة کذلک.

إنّما الکلام فی غیر هذین الموردین، فهل یحکم ببطلان الصّلاة؟

البحث الحکمی

اشارة

بعد أن تقرّر أنّ القاعدة العرفیّة عدم صدق الزیادة مع عدم قصد الجزئیّة _ هذه القاعدة التی خُصّصت بسجدة العزیمة نصّاً والرکوع بالأولویة _ هل یحکم ببطلان صلاة من زاد فی صلاته لا بقصد الجزئیّة؟ هنا مقامان:

ص: 405


1- 1. وسائل الشیعة 6 / 105، الباب 40 من أبواب القراءة فی الصّلاة، رقم: 1.
1_ فی حکم الزیادة بحسب القاعدة

تارة: تقع الزیادة فی الرکن، وأُخری: فی غیر الرکن.

وعلی کلّ تقدیر، تارةً: هی عن عمد، وأُخری: عن سهو.

وأیضاً: تارةً المرکّب توصّلی، وأُخری: تعبّدی.

واعلم أنّ المبنی فی الزیادة مطلقاً _ رکناً أو غیر رکن، عمداً أو سهواً _ هو المختار فی بحث الأقلّ والأکثر، لأنّ البحث یعود إلی أنّ هل هذا المرکّب الإعتباری مقیّد بعدم الزیادة علیه أوْ لا؟ مشروط بعدم زیادة شیء علیه أو هو لا بشرط؟

وبعبارة أُخری: هل للزیادة مانعیّة أوْ لا؟ إن کان لها المانعیّة، فالمرکّب مقیّد بعدمها، وإلاّ فهو لا بشرط.

وهذا الأقلّ والأکثر إرتباطی، إنّ الأقلّ هو اللاّبشرط بالنسبة إلی عدم الزیادة، والواجب بشرط عدم الزیادة هو الأکثر.

هذا صغری البحث.

وأمّا الکبری _ أی الأقلّ والأکثر الإرتباطیّان _ ففیها ثلاثة مسالک:

1_ الإشتغال. وعلیه، فالحکم هو البطلان.

2_ البراءة عقلاً وشرعاً.

3_ البراءة شرعاً والإشتغال عقلاً. وهو مختار صاحب الکفایة.

وحینئذٍ، یقع البحث عن إنطباق الکبری علی الصّغری.

ولا یخفی أنّ کون المسألة من صغریات تلک الکبری، إنّما هو بناءً علی

ص: 406

إمکان الزیادة فی المرکّب الإعتباری وإلاّ فلا صغرویّة.

وعلی المختار فی الکبری، فالحکم هو صحّة هذه الصّلاة، سواء کانت الزیادة عن عمدٍ أو سهو، وسواء کان رکناً أوْ لا. هذا مقتضی القاعدة.

إلاّ أنّ فی العبادات بحثاً إضافیّاً، لأنّ العبادة متوقّفة علی قصد القربة، وهذا إنّما یتحقّق بقصد الأمر، فلو اعتقد أنّه قد أُمر برکوعین _ مع أنّه فی الواقع رکوع واحد _ فجاء بالصّلاة برکوعین، فما هو مقتضی القاعدة؟

تارةً: یقصد فی عمله الأمر الواقعی، إلاّ أنّه قد أخطأ فی عقیدته، فالعمل صحیح بمقتضی القاعدة، لأنّ الزیادة غیر مانعة، وقد أتی بالعمل واجداً للشرائط والأجزاء وفاقداً للموانع. وأُخری: یعتقد أنّ الرکوع الواجب فی الصّلاة واحد، فیقصد الأمر به، لکن یأتی برکوعین تشریعاً، فهنا وجهان:

تارةً: یقال بأنّ التشریع مفسد للعبادة مطلقاً _ سواء فی الأمر أو فی تطبیق الأمر _ فالصّلاة باطلة. وأُخری: یقال بمفسدیّة التشریع فی أصل الأمر، بأن یأتی بالعبادة بداعی أمرٍ غیر موجودٍ، فالبطلان، لکون العمل فاقداً للأمر. وأمّا لو أتی بالعمل بداعی الأمر الواقعی معتقداً بتعلّقه برکوعین، فهو غیر باطل.

هذا تمام الکلام فی حکم الزیادة بحسب القاعدة.

2_ حکم الزیادة بحسب النصوص

وأمّا بحسب النصوص، فإنّها علی قسمین فی خصوص الصّلاة، منها: ما یدلّ علی البطلان بالزیادة مطلقاً، کقوله علیه السّلام: (من زاد فی صلاته فعلیه

ص: 407

الإعادة)(1). ومنها ما ورد بعنوان قولهم علیهم السّلام: (لا تعاد الصّلاة إلاّ من خمسة: الطهور، والوقت، والقبلة، والرکوع، والسّجود)(2).

الکلام فی حدیث لا تعاد

ویقع البحث فی حدیث «لا تعاد» فی جهات:

(الجهة الأُولی) هل هو مختصّ بالنقیصة أو أعم منها ومن الزیادة؟

هنا وجهان:

الأوّل: إنّ الحدیث مختصّ بنقص الجزء أو الشرط، لأنّ الطّهور والقبلة والوقت لا تقبل التعدّد، فلا یصدق الزیادة فیها، وتقبل النقیصة، وهذا هو المراد.

الثانی: إنّ مدلول الحدیث أعمّ من الزیادة والنقیصة، لعدم وجود کلمة «النقص» فیه، وکون الثلاثة لا تقبل الزیادة لا یوجب الإختصاص. فمعنی الحدیث: أنّ الإخلال فی الأجزاء والشرائط فی غیر الأرکان لا یوجب البطلان، وأمّا فیها فهو موجب للبطلان.

(الجهة الثانیة) فی النسبة بین الحدیث وأدلّة الأجزاء والشرائط.

إنّ النسبة هی الحکومة، لوجود ضابطة الحکومة هنا، وهی أن یکون أحد الدلیلین ناظراً إلی الآخر، فالناظر هو الحاکم. أو أن یکون الدلیلان بحیث یکون أحدهما بقطع النظر عن الآخر فاقداً للموضوع، فالفاقد یکون هو الحاکم والواجد

ص: 408


1- 1. وسائل الشیعة 8 / 231، الباب 19 من أبواب الخلل الواقع فی الصلاة، رقم: 2.
2- 2. وسائل الشیعة 1 / 372 _ 383، الباب 3 من أبواب الوضوء، رقم: 8.

للموضوع هو المحکوم.

ومن الواضح إنطباق الضابطة علی الحدیث، فهو الحاکم، فإنّه ناظر إلی تلک الأدلّة ولولاها یکون لغواً.

(الجهة الثالثة) فی النسبة بین الحدیث وحدیث: من زاد فی صلاته فعلیه الإعادة.

فإنّ حدیث (من زاد) ظاهر فی مانعیّة الزیادة، لکن حدیث (لا تعاد) یقول بعدم الإعادة، لأنّ الزیادة لیست من الخمس. لکنّ حدیث من زاد موضوعه «الزیادة» وهو مطلق بالنسبة إلی الأرکان وغیر الأرکان، والسّهو والعمد، فهو من جهة أخصّ ومن جهةٍ أعم، وحیث «لا تعاد» یختصّ بغیر العمد _ السّهو أو السّهو والجهل عن قصور معاً؟

المشهور: الإختصاص بالسّهو والنسیان. وجماعة علی عمومه للجاهل القاصر، لکنّه أعم من الزیادة والنقیصة. فالنسبة العموم من وجه.

لکن لا تعارض بینهما فی الزیادة العمدیّة رکناً أو غیر رکن.

وتلخّص: بطلان الزیادة العمدیّة مطلقاً، بالنصّ وبالقاعدة.

لکنّ الإشکال فیما لو زاد فی غیر الأرکان، فعموم (من زاد فی صلاته) شامل له ویوجب البطلان، لکنّ عقد المستثنی منه فی (لا تعاد) یفید أنّ الإخلال بالزیادة عن سهو غیر مضر، فالنسبة العموم من وجه، ومقتضی القاعدة التساقط.

لکن تقدّم أنّ لا تعاد حاکم، ومن المعلوم تقدّم النصّ علی القاعدة الأوّلیّة التی اقتضت البطلان فی کلّ زیادة.

ص: 409

وتحصّل:

إنّ مقتضی (لا تعاد) هو أنّ الصّلاة لا تعاد بالإخلال فی أجزائها وشرائطها إلاّ فی الخمسة، وحیث أنّ الزیادة _ بمقتضی (من زاد فی صلاته) _ إخلالٌ أیضاً، إلاّ أنّه بمقتضی (لا تعاد) لا یوجب الإعادة، لحکومته علی (من زاد)، لأنّه لیس من الخمسة، غیر أنّ ثلاثةً من الخمسة لا یتصوّر فیها الزیادة.

فإن کانت الزیادة عمدیّة، بطلت الصّلاة رکناً أو غیر رکن، وإنْ کانت غیر عمدیّة، بطلت إن کانت فی الرکن وهو الرکوع والسّجود.

رأی الإصفهانی

وذکر المحقّق الإصفهانی أنّ مقتضی الأخبار: عدم مبطلیّة الزیادة غیر العمدیّة فی الأرکان. ثمّ أمر بالتأمّل(1). وتوضیح کلامه هو:

إنّ ظاهر الأمر بالإعادة إن ترک جزءً عن سهوٍ، هو ترک جمیع أجزاء المرکّب، أی: بطلان الصّلاة، لأنّ «لا تعاد» یشتمل علی نفیٍ وإثبات، فهو نافٍ بالنسبة إلی غیر الخمسة ومثبت بالنسبة إلیها، فهو یدلّ علی وجوب الإعادة بالنسبة إلی الخمسة، ومن المعلوم أنْ لیس الإعادة من فعل الخمسة، فهی لا محالة من ترکها ونقصانها. فیکون حاصل الحدیث: أنّه لو ترک شیء من الخمسة سهواً وجب إعادة الصّلاة، ولا تعاد لو ترک شیء من غیر الخمسة. هذا مطلب.

ومطلب آخر هو: إنّ ظاهر (لا تعاد) نفی الإعادة بالنسبة إلی مطلق الأجزاء، سواء الجزء الوجودی أو العدمی، مثل عدم الصّلاة فیما لا یؤکل لحمه وعدم

ص: 410


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 378.

التکلّم وعدم القهقهة. ومن الأجزاء العدمیّة: «عدم الزیادة»، فهو جزء عدمی للصّلاة، یعمّه إطلاق لا تعاد، ویدلّ علی عدم وجوب إعادة الصّلاة بسبب انعدام هذا الجزء وهو «عدم الزیادة»، أی بسبب وقوع الزیادة فی الصّلاة.

وبقی الحدیث یدلّ علی بطلان الصّلاة بنقص الأرکان الخمسة.

النظر فیه:

والجواب هو: إنّه لیس ظاهر الحدیث الفعل أو الترک حتی یؤخذ بإطلاقه من هذه الجهة، بل إنّه ظاهر فی «الإخلال» أی: لا تعاد الصّلاة بحدوث الإخلال فیها، إلاّ إذا وقع فی الخمسة، أی: زیادة أو نقیصةً، فهی لا تعاد لو وقع الإخلال فی شیء من أجزائها أو شرائطها أو موانعها، إلاّ إذا وقع فی الخمسة، فإنّ الإخلال فیها زیادةً لها أو نقیصة لها یوجب بطلان الصّلاة، عمداً کان أو سهواً.

والحاصل: إنّ المتعلّق هو «الإخلال» لا «الفعل» أو «الترک»، فهو یوجب البطلان فی الخمسة زیادةً ونقیصة عمداً أو سهواً، وإن کانت الزیادة غیر متصوّرة فی ثلاثة من الخمسة.

ولعلّ ما ذکرنا هو السرّ فی الأمر (بالتأمّل).

هذا کلّه فی الصّلاة.

وأمّا فی غیر الصّلاة من المرکّبات الإعتباریّة کالحج مثلاً، فقد تقدّم أنّ مقتضی الأصل _ لولا الدلیل _ هو عدم البطلان بالزیادة السّهویّة، فلو زاد فی الطواف، لم تکن الزیادة مانعةً عن صحّته، إلاّ إذا تمّ الخبر: (الطواف بالبیت صلاة) سنداً، بأنْ یکون عمل الأصحاب جابراً له. وهو محلّ الکلام صغریً وکبری،

ص: 411

فیؤخذ بإطلاقه ویرتّب علی الطواف کلّ أحکام الصّلاة.

وأمّا بالنظر إلی نصوص الطواف، فإنّ الزیادة العمدیّة فیه مبطلة، وأمّا السّهویّة، فإن کان قد اجتاز الحجر ولم یبلغ الرکن، فالطواف صحیح، وإن اجتاز الرکن أیضاً، تخیّر بین إلغاء الزیادة، والطواف محکوم بالصحّة، أو جعلها جزءً من الطواف الثانی.

ولو زاد فی السّعی کان حکمه حکم الطّواف.

الإستصحاب
اشارة

بقی الکلام فی أنّه هل یمکن التمسّک بالإستصحاب لرفع مانعیّة الزیادة فی الصّلاة أوْ لا یمکن؟

تقریبات الإستصحاب والکلام علیها

وقد ذکروا لتقریب الإستصحاب هنا وجوهاً، نذکرها ونتکلّم علیها باختصار:

الأوّل:

أنْ یستصحب «الوجوب» الجامع بین الوجوب النفسی المتعلّق بکلّ الأجزاء، والوجوب الغیری المتعلّق بکلّ فردٍ فردٍ من الأجزاء، بأنْ یقال: إنّه لمّا تعذر أحد الأجزاء، فلا شکّ فی إنتفاء الوجوب عن البقیّة من حیث النفسیّة، لفرض تعلّقه بالکلّ وقد زال یقیناً، ولکنّ الشکّ فی بقائه بالنظر إلی الوجوب

ص: 412

الغیری لها موجود، فیستصحب الجامع.

الإشکال علیه

ویرد علیه وجوه من الإشکال، ویکفی منها عدم اتّصاف الأجزاء بالوجوب الغیری. وأمّا الوجوب النفسی، فقد ارتفع یقیناً. هذا أوّلاً. وثانیاً: سلّمنا، لکنّ هذا الإستصحاب لا أثر له، لأنّ الوجوب الغیری لا یستتبع إشتغال الذمّة ولا یُستحق علیه العقاب.

الثانی:

أنْ یستصحب الوجوب الجامع بین الإستقلالی والضمنی، بأنْ یقال: قد کانت الأجزاء الباقیة واجبةً بالوجوب الضمنی، ومع الشکّ فی بقاء هذا الوجوب _ بعد ارتفاع الوجوب الإستقلالی _ یکون الإستصحاب جاریاً.

الإشکال علیه

ویرد علیه کذلک توقّفه علی أنْ یکون کلّ جزءٍ واجباً بالوجوب الضّمنی، وهذا خلاف التحقیق. وعلی فرض التسلیم، فإنّه من موارد ما لا یجری فیه الإستصحاب من أقسام إستصحاب الکلّی. فتدبّر.

الثالث:

أنْ یستصحب التکلیف بالصّلاة، فإنّها قبل تعذّر الجزء کانت واجبةً، فیشکّ بعده فی زوال الوجوب فیستصحب.

الإشکال علیه

إنّ «الوجوب» و«التکلیف» من الأُمور ذات التعلّق _ لا بمعنی أنّه من

ص: 413

العوارض کما فی کلمات بعض الأکابر _ أی: أن ذاتها التعلّق بالغیر، فلا معنی لاستصحاب الوجوب بدون المتعلّق، فلا محالة یرجع الأمر إلی الأجزاء ویعود الإشکال.

الرابع:

أنْ یستصحب الوجوب الإستقلالی المتعلّق بالمرکّب، فإنّه بعد تعذّر أحد أجزائه یشک فی بقائه، فیجری الإستصحاب ویحکم بوجوب الأجزاء الباقیة.

الإشکال علیه

إنّ هذا الإستصحاب یتوقّف علی أنْ لا یکون الجزء المتعذّر من الأجزاء المقوّمة للمرکّب، وإلاّ، فالموضوع متغیّر فلا یجری الإستصحاب. ونحن لا طریق عندنا لاستکشاف ذلک.

وتلخّص: عدم تمامیّة الإستصحاب فی المقام.

وهذا تمام الکلام فی الزیادة.

الکلام فی نقصان الجزء أو الشرط
1_ مقتضی القاعدة:

أمّا لو نقص جزء أو شرط، فإنّ مقتضی الأصل بطلان الصّلاة _ عکس الزیادة _ ، لأنّ الناقص إن لم یکن جزءً أو شرطاً، فهذا خلف، لمفروض الکلام، وإن کان جزءً أو شرطاً، فإنّ الکلّ ینتفی بانتفاء الجزء، والمشروط ینتفی بانتفاء شرطه.

ص: 414

2_ مقتضی النصوص

أمّا إن کان النقص عمدیّاً، فالبطلان بلا کلام.

وأمّا إن کان سهویّاً، فإنّ حدیث (لا تعاد) أفاد التفصیل بین الأرکان وغیرها. ففی الأرکان البطلان وفی غیرها الصحّة.

ثمّ إنّ ما ذکرناه فی التنبیه الأوّل آتٍ هنا، لأنّ دلیل الجزء أو الشرط إن کان مطلقاً بالنسبة إلی العمد والسهو، فالبطلان، وإلاّ فلا بطلان فی صورة السّهو، فلا تصل النوبة إلی قاعدة لا تعاد، بل الدلیل نفسه یقتضی الصحّة بإطلاقه.

ومع عدم الإطلاق، فإن أمکن الأمر ببقیّة الأجزاء، فالأصل الجاری عند الشک هو البراءة، وإن کان غیر ممکن، فالإشتغال، للشک فی وفاء المأتی به للمأمور به.

هذا بالنسبة إلی الصّلاة.

وکذلک الحال بالنسبة إلی الحج، ولابدّ من لحاظ النصّ الخاصّ.

وأمّا النقص السّهوی فی الطواف، فالنصوص تدلّ علی أنّه إن تذکّر فی المحلّ أتی به، وإن تذکّر فی أثناء السعی قطع ورجع وأتمّ الطواف، ثمّ رجع لإتمام السعی، وإن تذکّر بعد السعی، عاد ورفع نقیصة الطواف، وإن رجع إلی أهله، فإن أمکنه الإتیان بنفسه فهو وإلاّ إستناب.

وحکم السّعی حکم الطواف.

هذا تمام التنبیه الثانی.

ص: 415

التنبیه الثالث: لو تعذّر جزء أو شرطٌ فما حکم الباقی والمشروط؟

1_ مقتضی القاعدة

أمّا علی القاعدة، فقد تقدّم فی التنبیه الأوّل، حیث قلنا بأنّ البحث أعمّ من نسیان الجزء والشرط أو الإکراه والإضطرار.

2_ مقتضی الأصل العملی

ذهب الشیخ(1) إلی أنّه مع تعذّر الجزء أو الشرط، تجری البراءة عن الباقی والمشروط.

وقال بعضهم بجریان الإستصحاب.

لکنّ هذا الإستصحاب من القسم الثالث من أقسام إستصحاب الکلّی.

وتمسّک صاحب الکفایة(2) بحدیث الرّفع، وأنّ نسبة هذا الحدیث إلی أدلّة الأجزاء والشرائط نسبة الإستثناء، فهو یجری فی نسیان الجزء، وحینئذٍ، یکون مقتضی الأدلّة الأوّلیّة وجوب الباقی.

ص: 416


1- 1. فرائد الأصول 2 / 387.
2- 2. کفایة الأصول: 368.

والجواب: هو إنّ جزئیّة الأجزاء إن کانت مجعولةً بالإستقلال حتی وصل إلی التشهّد فنساه، أمکن رفعها بالحدیث وبقی الباقی. لکنّ الصحیح أنّ جزئیّة الأجزاء _ کلّ واحدٍ منها _ مجعولةٌ بالأمر المتعلّق بالکلّ، وإذا کان الوضع هکذا فالرّفع کذلک، ولا یبقی الأمر بالنسبة إلی الباقی.

3_ مقتضی النصوص:

هل یمکن التمسّک بقاعدة المیسور ونحوه قبل الرجوع إلی الأصل العملی؟

الکلام فی قاعدة المیسور

اشارة

هنا ثلاثة روایات وهذه ألفاظها:

1_ إذا أمرتکم بشیء فاْتوا منه ما استطعتم.

2_ ما لا یدرک کلّه لا یترک کلّه.

3_ المیسور لا یسقط بالمعسور.

وقد وقع الکلام فیها سنداً ودلالةً:

الروایة الأُولی
اشارة

لا توجد إلاّ فی کتاب (عوالی اللئالی)(1).

ص: 417


1- 1. عوالی اللئالی 4 / 58، رقم: 205 وفیه: لا یترک المعسور بالمیسور.

وفی کتب العامّة(1) أیضاً، وهی عن أبیهریرة قال: خطبنا رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله فقال: أیّها الناس، قد فرض اللّه علیکم الحج فحجّوا. فقال رجل: أکلّ عام یا رسول اللّه؟ فسکت. حتی قالها ثلاثاً. فقال رسول اللّه: لو قلت نعم لوجب ولما استطعتم، ثمّ قال: ذرونی ما ترکتکم، فإنّما هلک من کان قبلکم بکثرة سؤالهم واختلافهم علی أنبیائهم، فإذا أمرتکم بشیء فاتوا منه ما استطعتم، وإذا نهیتکم عن شیء فدعوه.

حول السند

ذکر المحقّق العراقی(2) أنّ اشتهار الحدیث یغنی عن البحث السندی.

ولکن القول باعتبار، أیّ خبرٍ من الأخبار یکون إمّا بوجود السند المعتبر أو الوثوق بالصّدور، ولا طریق ثالث، والإشتهار حتّی فی الکتب المعتبرة لا یکون دلیل الإعتبار. اللهمّ إلاّ إذا عمل الأصحاب بالرّوایة، فإنّ عملهم یوجب إعتباره علی مبنی القائلین بذلک. هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّ عمل الأصحاب بهذه الروایة غیر محرز، وفتوی الفقهاء بالإتیان بالمیسور فی الصّلاة دلیلها الخبر: «إنّها لا تدع الصّلاة علی حال»(3)، ولا یوجد دلیلٌ فی مطلق المرکّبات بوجوب الإتیان بغیر المتعذّر کالحج.

وثالثاً: عمل المشهور لو کان، لا یوجب الإعتبار تعبّداً، وإنّما یکون منشأ للوثوق الشخصی بالصّدور، وحصوله هنا فی غایة الإشکال، أو یکون توثیقاً عملیّاً

ص: 418


1- 1. مسند أحمد 2 / 258، سنن النسائی 5 / 110 _ 111.
2- 2. نهایة الأفکار 3 / 455.
3- 3. وسائل الشیعة 2 / 605، الباب 1 من أبواب الإستحاضة، رقم: 5.

للسّند کما قیل، ولکنّه یختصُّ بالروایة المسندة، وهذه الروایة مرسلة.

حول الدلالة

إن متن الحدیث مختلف، ففی روایة: (فاتوا منه ما استطعتم) وفی أُخری: (فاتوا به ما استطعتم). والثانی خارج عن البحث، لکنّ المهم أنّ الحدیث الواحد إذا نقل بلفظین مختلفین فی المعنی، ولا ندری أیّ اللّفظین هو الصّادر، فإنّه یسقط بالإجمال. نعم، لو نقل بسندین، فالأصل هو التعدّد، ولیس هذا الحدیث کذلک.

وبعد التنزّل عمّا ذکر، فهل یدلّ (فاتوا منه ما استطعتم) علی وجوب الإتیان بالباقی؟

إنّ الإستدلال یتوقّف علی عموم «الشیء» فی الروایة بالنسبة إلی الکلّ والکلّی، حیث أنّ الشیء المأمور به، إن کان کلاًّ، فعند تعذّر بعض الأجزاء یجب الإتیان بما استطیع وهو البقیة. وإنّ کلیّاً، فعند تعذّر بعض الأفراد، یجب الإتیان بما استطیع.

ولکنّ کلا الإحتمالین ساقط.

وذلک، لأنّ مورد السؤال فی الروایة هو الحج، فإنّه قد سئل صلّی اللّه علیه وآله عن وجوب الحج فی کلّ عام، والجواب بناءً علی الإحتمالین یکون أجنبیّاً عن السؤال، فلیس المراد ذلک، إذ لا یجب الحجّ إلاّ مرّةً واحدة بالضرورة، ولا مخالف إلاّ الشیخ الصّدوق بالنسبة إلی أهل جدّة والمتمکّنین، مستدلاًّ بروایةٍ معارضةٍ بالنصوص والإجماع.

ص: 419

وتلخّص: أنّ الروایة ظاهرة فی أنّ علی المکلّفین الإتیان بالشیء المأمور به مع القدرة، وإنّه یسقط عن الوجوب مع العجز.

الروایة الثانیة
اشارة

ما لا یدرک کلّه لا یترک کلّه

وفیها بحثان:

السند و الدلالة

السند:

وهذه الروایة مرسلة. وما تقدّم فی الأُولی آتٍ هنا.

والدلالة:

أمّا ما یحتمل فیها ثبوتاً، فأربعة إحتمالات:

1_ أن یکون «کلّ» فی الجملتین إستغراقیّاً. وهذا باطل قطعاً، لأنّه إذا کان الکلّ غیر مقدور فلا یمکن عدم ترکه.

2_ أن یکون «کلّ» فیهما مجموعیّاً. وهذا باطل کذلک.

3_ أن یکون «کلّ» الأوّل إستغراقیّاً والثانی مجموعیّاً. والمعنی: ما کان جمیع أفراده غیر قابل لتعلّق القدرة، فلا یُترک مجموع أفراده. وهذا أیضاً محال.

4_ أن یکون الأوّل مجموعیّاً والثانی إستغراقیّاً. والمعنی: ما کان غیر مقدورٍ بمجموعه فلا یترک کلّه. وهذا المعنی معقول.

فظهر أنّ الإحتمالات الثبوتیّة ثلاثة منها باطلة، لأنّه تکلیفٌ بغیر المقدور، ومقتضی القاعدة هو حمل الکلام علی المعنی المعقول، لأنّ المفروض کونه من کلام الحکیم، ولابدّ من صون کلامه عن اللّغویّة.

ص: 420

فما هو مدلول الروایة حینئذٍ؟

هذه الجملة خبریّة، وقد ذهب جماعة کالنراقی(1) إلی أنّ الجملة الخبریّة لا ظهور لها فی البعث والزجر، فلا تدلّ علی الوجوب والحرمة.

لکنّ التحقیق خلافه.

وقیل: لا یدلّ إلاّ علی الإستحباب والکراهة. وهذا خلاف التحقیق کذلک.

وتلخّص دلالة الروایة علی الوجه الرابع.

رأی صاحب الکفایة

فأشکل فی الکفایة(2): بأنّ ظهور النهی فی التحریم یعارضه إطلاق الموصول الشامل للمستحبّات أیضاً، وحیث لا مرجّح لأحدهما علی الآخر، فإنّه لا یستفاد منها إلاّ رجحان الإتیان بما هو مقدور دون وجوبه.

الکلام حول الإشکال علیه

وأشکل علیه فی مصباح الأصول(3) بوجهین:

أوّلاً: إنّ الوجوب غیر داخل فی مفهوم الأمر ولا الحرمة فی مفهوم النهی، بل هو بحکم العقل، وعلیه، فإنّ الأمر مستعمل فی موارد الوجوب والإستحباب فی معنی واحدٍ وهو طلب الفعل، غیر أنّ المولی لم یرخّص فی الترک فی الأوّل

ص: 421


1- 1. مناهج الأصول: 41.
2- 2. کفایة الأصول: 371.
3- 3. مصباح الأصول: 481.

ورخّص فی الثانی. والنهی مستعمل فی موارد الحرمة والکراهة فی معنی واحدٍ وهو طلب الترک، غیر أنّ المولی لم یرخّص فی الفعل فی الأوّل ورخّص فی الثانی. فتحصّل: أنّ شمول الموصول للمستحبات لا ینافی ظهور النهی فی التحریم، لأنّ الترخیص بترک المقدور من أجزاءها لا ینافی حکم العقل بلزوم الإتیان بالمقدور من أجزاء الواجب بعد عدم ثبوت الترخیص فی ترکها.

إنّ هذا الّذی ذکره مبنائی، لأنّ صاحب الکفایة یری دلالة الأمر علی الوجوب والنهی علی الحرمة.

وثانیاً: إنّ رجحان الإتیان بغیر المتعذّر من أجزاء الواجب یستلزم وجوبه، لعدم القول بالفصل، فإنّ الأمر دائر بین کونه واجباً أو غیر مشروع، فرجحانه مستلزم لوجوبه.

أوّلاً: من أین نحرز عدم الفصل؟

وثانیاً: سلّمنا، لکن هذا الإجماع محتمل المدرک.

الإشکال علی الإستدلال بالروایة

وأشکل السیّد الخوئی(1) علی الاستدلال بالروایة فقال: والتحقیق فی الجواب أن یقال:

إن أمر الروایة دائر بین حملها علی تعذّر الإتیان بمجموع أجزاء المرکّب مع التمکّن من بعضها، لیکون الوجوب المستفاد منها مولویّاً، وبین حملها علی تعذّر

ص: 422


1- 1. مصباح الأصول: 482.

بعض أفراد الواجب مع التمکّن من البعث الآخر، لیکون الوجوب إرشادیّاً إلی حکم العقل بعدم سقوط واجب بتعذّر غیره، وحیث أنّه لا جامع بین الوجوب المولوی والإرشادی لتکون الروایة شاملةً لهما، ولا قرینة علی تعیین أحدهما، فتکون الروایة مجملة.

توضیح ذلک:

إنّ هذا الحدیث مطلق بالنسبة إلی الکلّ ذی الأجزاء والکلّی ذی الأفراد، وعدم جواز الترک مع تعذّر بعض أفراد الکلّی لما هو المقدور المیسور، حکم عقلی، لأنّ کلّ واحدٍ من أفراد الکلّی له حکم یخصّه _ فالأحکام للکلّی متعدّدة بعدد أفراده _ ، فلو قال: أکرم کلّ من فی المدرسة، کان لکلّ فردٍ حکمه من حیث الإطاعة والعصیان، فإذا تعذّر إکرام أحدهم، لم یسقط عقلاً وجوب إکرام غیره، بل یجب إکرام البقیّة. وأمّا فی الکلّ ذی الأجزاء، فإنّ وجوب الإتیان بالنسبة إلی بقیّة الأجزاء _ مع تعذّر البعض _ مولوی، وحیث لا جامع بین المولویّة والإرشادیّة، فالروایة مجملة.

أقول:

إنّما یتوجّه هذا الإشکال علی الإستدلال بالروایة فیما لو قلنا بأنّ هیئة الأمر فی الروایة مستعملة فی خصوص الحرمة العقلیّة أو المولویّة، بأنْ یکون المدلول هذا أو ذاک، لأنّ اللّفظ الواحد لیس له إلاّ مدلول واحد. وأمّا بناءً علی أنّ مدلول الأمر فی الروایة هو الطلب والبعث، ومدلول النهی هو الزجر، فالمدلول واحد، والمولویّة والإرشادیّة خارجة عن المدلول، بل تکون الداعی إلی الطلب والزجر،

ص: 423

کما هو الحال فی الأوامر الإمتحانیّة والتعجیزیّة وغیر ذلک. فهذا الجواب غیر وافٍ، بل الإستدلال بالبیان المذکور تام. لکنّ الخبر غیر تام سنداً.

هذا تمام الکلام فی هذه الروایة.

الروایة الثالثة:
اشارة

المیسور لا یسقط بالمعسور

حول السند و الدلالة

أمّا سنداً:

فهی فی کتاب (العوالی)(1) مرسلةً، والکلام الکلام.

وأمّا دلالةً:

فإنّ لفظ الحدیث وإن کان إخباراً لکنّه إنشاء لبّاً، فهو نهی عن ترک المیسور من الأجزاء بسبب تعذّر ما تعذّر منها. أو أنّه إخبارٌ علی الحقیقة؟ وجهان.

أمّا علی الوجه الأوّل، فیرد إشکال الکفایة من أنّه مطلق یعم الواجبات والمستحبات، فیقع التعارض مع الحکم بوجوب الإتیان بالبقیّة المیسورة. والکلام الکلام.

ویرد إشکال السیّد الخوئی من عدم اجتماع الإرشادیّة والمولویّة، وانتهاء الأمر إلی الإجمال. والکلام الکلام،

مضافاً إلی أنّ السیّد الخوئی نفسه یری عدم مجیء هذا الإشکال هنا، لأنّ النهی _ مولویّاً کان أو إرشادیّاً _ لابدّ وأن یتعلّق بفعل المکلّف وما هو تحت قدرته، وسقوط الواجب عن ذمّة المکلّف کثبوته بید الشارع.

ص: 424


1- 1. عوالی اللئالی 4 / 58، رقم: 205.
الإشکال علی الإستدلال

وأمّا علی الوجه الثانی، وأنّ الجملة خبریة محضة أرید بها الإخبار عن عدم سقوط الواجب والمستحب إذا تعذّر بعض أجزاء الکلّ أو بعض أفراد الکلّی، فإنّه کما یصحّ إسناد السقوط والثبوت إلی الحکم، کذلک یصحّ إسنادهما إلی نفس الواجب والمستحب، فیقال سقط الوجوب مثلاً.

فقد أشکل السیّد الخوئی(1): بأنّ السقوط فرع الثبوت، فالروایة مختصّة بتعذّر بعض أفراد الکلّی، لکون وجوب الأفراد غیر المتعذّرة ثابتاً من قبل _ لأنّ الوجوب المتعلّق بالکلّی ینحلّ إلی وجوبات مستقلّة بعدد الأفراد _ فیصدق أنّه لا یسقط بتعذّر غیره، ولا تجری الروایة فی تعذّر بعض أجزاء المرکّب، لأنّه کان واجباً بالوجوب الضّمنی، وقد سقط هذا الوجوب بتعذّر المرکّب من حیث المجموع، فلو کان یجب الإتیان بالبقیّة، لکان وجوبه بوجوبٍ إستقلالی حادث.

المناقشة

إنّه یبتنی علی أن یکون للأجزاء وجوبات متعدّدة ضمنیّة.

لکنّ التحقیق هو أنّ الوجوب المتعلّق بالصّلاة وجوب واحد بسیط، فکما نلحظ ونتصوّر المرکّب لحاظاً واحداً، کذلک نحکم علیه بحکمٍ واحد، فإذا تعذّر بعض أجزاء المرکّب تغیّر الموضوع، وبذلک یرتفع الوجوب عن الباقی، ویحتاج وجوبه إلی حکمٍ جدید.

ص: 425


1- 1. مصباح الأصول: 484.
دفع الحائری الإشکال

والشیخ الحائری دفع الإشکال عن الإستدلال(1) بوجهین:

أحدهما: إنّ الوجوب الغیری الذی تعلّق بالأجزاء قبل تعذّر بعضها هو عند العرف نفس الوجوب النفسی الحادث بعد التعذّر والحاصل: إنّ الحکم واحد. وحینئذٍ یصدق: المیسور لا یسقط بالمعسور.

المناقشة

أوّلاً: لیس الوجوب بعد التعذّر عند العرف نفس الوجوب الذی کان قبل التعذّر حتی یصدق المیسور لا یسقط بالمعسور، فإنّ العرف لا یری أنّ الأمر بنصب السلّم هو الأمر بالکون علی السّطح.

وثانیاً: إتّصاف الأجزاء بالوجوب الغیری محال، لأنّ الأجزاء عین الکلّ فی الحقیقة.

فالوجه الأوّل من الشیخ الحائری مندفع ثبوتاً وإثباتاً.

والثانی: إنّه کما أنّا فی الإستصحاب تبع لوحدة الموضوع عرفاً، ویکفی لجریانه کون الموضوع عند العرف بقاءً نفس الموضوع حدوثاً، کذلک هنا، فإنّ العرف یری «المیسور» عین «المعسور»، ووحدة الموضوع کافیة لتمامیّة الإستدلال بالروایة.

والحاصل: إنّ الموضوع واحد. نعم، یعتبر أن یکون الباقی من الأجزاء

ص: 426


1- 1. درر الأصول: 501.

مقداراً یصح معه عرفاً أن یقال ببقاء الموضوع.

وفیه:

إنّه لیس الموضوع باقیاً عند العرف الدقیق بعد فقد جزءٍ من أجزاء المرکّب أو شرطٍ من شروطه.

التحقیق

والتحقیق أن یقال:

أمّا نقضاً: فقد جاءت کلمة «لا تسقط» فی النصّ الصریح إذ قال علیه السّلام «الصّلاة لا تسقط بحالٍ». فکلّما یقال هناک یقال فی الرّوایة.

وأمّا حلاّ: فإنّ حمل کلمة «السّقوط» علی المعنی الحقیقی فی المرکّب غیر ممکن، لأنّا سواء قلنا بوجوب المقدّمات الداخلیّة بالوجوب الغیری أو الضّمنی، فإنّ الوجوب بعد تعذّر البعض قد سقط یقیناً، لأنّ الوجوب الغیری یتبع النفسی المتعلّق بالکلّ، وهو معلول له، فکیف یبقی بعد زواله، فلو حدث وجوبٌ آخر فإنّه ثبوتٌ ولیس عدم السّقوط.

وکذلک الوجوب الضّمنی، فإنّه فرع النفسی المتعلّق بالکلّ، لأنّ معنی الوجوب الضّمنی هو أن یأخذ کلّ جزءٍ من الأجزاء حصّة لنفسه من الوجوب المتعلّق بالکلّ، فإذا زال المتعلّق بالکلّ لم یبق شیء.

وما قیل: من أنّ هناک إرادة قد تعلّقت بالأجزاء، ونسبة الإرادة إلی الأجزاء نسبة البیاض إلی الجدار، فکما لو زال قسمٌ من بیاض الجدار یکون الباقی موجوداً، کذلک الحال بالنسبة إلی الأجزاء.

ص: 427

ففیه: إنّ الأرادة أمر بسیط، وإنّما الترکّب فی متعلّقها وهو الصّلاة، وحکم الإرادة بالنسبة إلی الأجزاء حکم اللّحاظ، فإنّ أجزاء الصّلاة تتعلّق بها الإرادة الواحدة کما تلحظ باللّحاظ الواحد.

خلاصة الکلام

وتحصّل: عدم إمکان حمل السقوط علی المعنی الحقیقی، والمراد هو المعنی المجازی. لکن لا یخفی أنّ هذا یتم فی الأجزاء، وأمّا عدم سقوط الوجوب عن الأفراد الباقیة بعد تعذّر البعض، فحقیقی لا مجازی، لکون کلّ فردٍ منها ذا وجوب مستقلّ، فلا یسقط وجوب الباقی بسقوطه عن المتعذّر، فلو أرید تعمیم الروایة إلی الکلّ والکلّی یلزم إرادة الحقیقة والمجاز معاً من اللّفظ الواحد فی الإستعمال الواحد. وهذا إشکال آخر فی الدلالة.

هذا تمام الکلام علی هذا الحدیث سنداً ودلالةً.

ویبقی الکلام علی موضوعه، فما المراد من «المعسور» و«المیسور»؟

فی المراد من المیسور والمعسور

وهذا البحث الموضوعی إنّما یحتاج إلیه بناء علی اعتبار الخبر، ونحن نتعرّض له تکمیلاً للمطلب.

ولا یخفی: أنّ المیسور یصدق حتی مع بقاء الجزء الواحد من الصّلاة أو الحج، لکنّ أحداً لا یفتی بوجوب الإتیان به عملاً بالحدیث. هذا أوّلاً.

ص: 428

وثانیاً: لا ذکر للأجزاء فی الخبر، فیحتاج إلی التقدیر. والمعنی: إنّ المیسور من الأجزاء لا یسقط بالمعسور منها. وعلیه، فلابدّ أن تکون الأجزاء ذات مراتب، فلو أنّ إصبعاً من الید انکسر فصار جبیرةً وَجَب العمل بقاعدة المیسور فی سائر أجزاء الید، لأنّه إذا فقدت مرتبة وجبت الأُخری. والقیام الکامل فی الصّلاة إذا تعذّر، وجب المیسور منه، ولکن ماذا نفعل لو تعذّر جزءٌ من المرکّب ولا ندری هل هو رکن أو لا؟ لأنّ الغرض الشرعی من العبادة غیر معلوم؟ هل هو باق بعد تعذّر الجزء؟ ولا ندری أیّ جزء مقوّم للمرکّب وأیّ جزءٍ غیر مقوّم له؟ فکیف نتمسّک بالقاعدة، وهو من التمسّک بالعام فی الشّبهة الموضوعیّة، للجهل بأنّ الباقی هو المیسور من الواجب أو لا؟

قیل: المرجع فی هذه الحالة عمل المشهور، ومتی لم یعملوا بالحدیث لا نعمل.

وفیه: إنّ عمل المشهور _ إن کان جابراً _ یجبر ضعف السّند لا ضعف الدلالة، اللهمّ إلاّ أن یکشف عن رأی المعصوم، وإلاّ، فإنّ فهمهم لا یکون حجّةً علی غیرهم. ولذا قال المیرزا برفع الید عن الخبر فی هکذا موارد. والإستصحاب أیضاً لا یحلّ المشکلة، لعدم الیقین بوحدة الموضوع، لأنّا لا ندری هل الجزء الفائت رکنٌ أو لا، مقوّم للغرض أو لا؟ فکیف نستصحب بقاء الأمر بالصّلاة.

وقال العراقی: المرجع فی تمییز الرکن هو العرف.

وفیه: إنّما یرجع إلی العرف فی تشخیص مفاهیم الألفاظ، أمّا المصادیق

ص: 429

فلا، وشکّنا من الثانی. وبعبارة أُخری: العرف هو المرجع فی الشبهات المفهومیّة لا المصداقیّة.

ویمکن أن یقال: إنّ الشارع إذا جعل الحکم ولم یرد عنه بیانٌ بالنسبة إلی الموضوع، وجب الرجوع فیه إلی العرف، لئلاّ تلزم لغویّة الحکم. فما ذکره العراقی هو الصحیح بعد ضمّ هذه المقدّمة إلیه.

هذا تمام الکلام علی التنبیه الثالث.

ص: 430

التنبیه الرابع: لو تردّد الأمر بین أن یکون الشیء جزءً للمرکّب أو شرطاً وأن یکون مانعاً أو قاطعاً، فما هو مقتضی القاعدة؟

اشارة

مثلاً: لو لم یکن له إلاّ الثوب الواحد لیستر به عورته فی الصّلاة، لکنّ الثوب نجس، فلا ندری هل شرط الصّلاة محقّق له فیصلّی فیه أو أنّ النجاسة مانعة عن الصّلاة ووظیفته الصّلاة عاریاً ... وتفصیل المطلب فی مسائل:

فیه مسائل

المسألة الأُولی:

ما إذا کان الحال من قبیل المثال المذکور والوقت ضیّق، حیث الواجب واحد شخصی ولیس له أفراد طولیّة ولا عرضیّة.

والحکم ههنا هو التخییر، لعدم إمکان الموافقة القطعیّة، والمخالفة بترک الصّلاة غیر جائزة یقیناً، فلابدّ من الموافقة الإحتمالیّة، وهی تحصل بأحد الطرفین، من الصّلاة فی الثوب أو الصّلاة عاریاً، لأنّ العقل یحکم فی دوران الأمر بین المحذورین مع عدم إمکان الموافقة القطعیّة والمخالفة القطعیّة، بضرورة الإتیان بما یحصّل غرض المولی، وأنّ الضرورات تتقدّر بقدرها.

وأمّا بالنظر إلی الأصل العملی، فإنّ البراءة عن خصوص الصّلاة عاریاً وکذا

ص: 431

عن خصوص الصّلاة مع الثوب النجس جاریة، والنتیجة هی التخییر العقلی.

المسألة الثانیة:

ما إذا کان المأمور به هو الطبیعی کذلک، وله أفراد طولیّة والإحتیاط _ بالإتیان مرةً مع الثوب وأُخری عاریاً _ ممکن، لسعة الوقت، فهل یجب الإتیان بالصّلاة کذلک تحصیلاً للعلم بالموافقة أو لا، بل هو التخییر کذلک؟ قولان.

ظاهر کلام الشیخ: إبتناء هذه المسألة علی المختار فی الأقلّ والأکثر، وحیث أنّ المختار هناک هو البراءة، فهنا کذلک. والوجه فی جریان البراءة هو: أنّ الحکم یدور مدار الأفراد، وکلّ فردٍ یدور أمره بین المحذورین، فهذا الفرد من الصّلاة دائر أمره بین الإتیان به فی الثوب النجس أو عاریاً، فالأصل البراءة، وکذلک الفرد الثانی فی الساعة الثانیة وهکذا. وهذا ما علیه الشیخ(1).

وفی المقابل القول بالإحتیاط، _ وهذا مختار جماعة وعلیه السیّد الخوئی(2) _ وهو التحقیق. والوجه فی ذلک: أنّ الواجب فی الواجبات الموسّعة لیس الأفراد بل الطبیعی، فإنّ الأمر بالصّلاة لا یتعلّق بهذه الصّلاة الواقعة فی هذه السّاعة أو تلک الواقعة فی الثانیة، ولذا لا یقصد الأمر بالفرد عند الإتیان بالصّلاة لعدم تعلّقه به، بل قد تعلّق بالصّلاة، ولمّا کان کذلک، وجب رعایة قانون العلم الإجمالی حتی تحصل الموافقة القطعیّة لفرض سعة الوقت، وعلیه الإتیان بالصّلاة مرّتین. ومن المعلوم عدم جریان الأصل فی أطراف العلم، إمّا بتعارضها وتساقطها

ص: 432


1- 1. فرائد الأصول 2 / 400.
2- 2. مصباح الأصول: 487.

_ علی مسلک الإقتضاء _ وإمّا بعدم جریانها علی مسلک العلیّة.

المسألة الثالثة:

ما إذا کانت الوقائع متعدّدة وإن لم یکن للواجب أفراد طولیّة ولا عرضیّة، کما لو دار الأمر بین أن یکون الشیء شرطاً فی الصّوم أو مانعاً عنه.

والحکم فی هذه المسألة یبتنی علی منجّزیّة العلم الإجمالی فی التدریجیّات وعدمها، فعلی القول بالعدم، فهو فی کلّ یومٍ مخیّر بین الإتیان بذلک الشیء المشکوک فیه وترکه، وعلی القول بالمنجّزیّة _ کما هو المختار _ یکون العلم منجّزاً، وتکون النتیجة التخییر الإبتدائی، بأن یختار الفعل فی کلّ یوم یوم أو الترک فی کلّ یوم یوم إلی آخر الشهر، ولیس هو مخیّراً بالإستمرار، بأن یفعل فی بعض الأیام ویترک فی بعضٍ، للزوم المخالفة القطعیّة.

هذا تمام الکلام فی التنبیهات.

ویقع الکلام فی شرائط الأصول.

ص: 433

ص: 434

شرائط جریان الأصول

اشارة

ص: 435

ص: 436

خاتمة

فی شرائط الأصول

عندما یفقد الفقیه «العلم» بالنسبة إلی الحکم الشرعی، ویفقد «العلمی» أی «الأمارات»، تصل النوبة فی مقام الإستنباط إلی الأصول العملیّة، ولکنْ لإجرائها شرائط وأحکام.

ولا یخفی أنّ مرحلة النظر فی الشرائط متأخّرة عن مرحلة وجود المقتضی، فلولا تمامیّة المقتضی لا یلحظ الشرط، ولذا فإنّهم وإن جعلوا العنوان «شرائط الأصول»، فلابدّ وأن یریدوا من «الشرائط» الأعم منها ومن المقتضی. وتوضیح ذلک:

إنّ «الشرط» فی الإصلاح: هو المتمّم لفاعلیّة الفاعل أو لقابلیّة القابل، فهو «متمّم» لقابلیّة «النار» ل_«الإحراق» مثلاً، أمّا لو لم تکن «النار» موجودةً، فلا یبحث عن شرط الإحراق.

وفیما نحن فیه: البراءة العقلیّة قبل الفحص عن «البیان» الشرعی لا مقتضی لجریانه أصلاً، فالفحص عن البیان هو لتحقّق المقتضی لا إنّه شرط. بخلاف البراءة

ص: 437

الشرعیّة، فإنّ موضوعها (ما لا یعلمون) والفحص عن الدلیل فیها شرط، وإنّما یفحص عن الدلیل فی مورده، للإجماع وغیره ممّا دلّ علی سقوط إطلاق (رفع ما لا یعلمون) وتقیّده بما بعد الفحص.

فظهر أنّ المقصود من «شرائط الأصول» فی عنوان البحث أعمّ من الشرط الإصطلاحی.

ثمّ إنّ من الأصول ما هو مضیّق علی المکلّف وهو الإحتیاط، ومنها ما هو موسّع وهو البراءة، ومنها ما قد یکون مضیّقاً وقد یکون موسّعاً وهو الإستصحاب. وأمّا التخییر، فمورده دوران الأمر بین المحذورین.

والأصل: تارة: عقلی وهو الإشتغال والإحتیاط والبراءة العقلیّة، وتارة: شرعی، وهو الإستصحاب والبراءة النقلیّة.

شرط الإحتیاط

اشارة

إنّه عندما یحتمل الواقع، یأتی دور إحراز الواقع عن طریق الإحتیاط، فهو فی الحقیقة التحفّظ علی أغراض المولی وأحکامه، فموضوع الإحتیاط هو «إحتمال الواقع» لا «إحراز الواقع» کما فی کلام بعض الأعلام.

ولا ریب فی حسن الإحتیاط عقلاً وشرعاً. وأضاف صاحب الکفایة قید: ما لم یؤدّ إلی اختلال النظام، ولکن التحقیق عدم الحاجة إلیه، لأنّ الإحتیاط _ کما تقدّم _ هو إحراز مطلوب المولی غَرَضاً أو حکماً، وحیث یختلّ النظام فلا غرض للمولی، فلا موضوع للإحتیاط، لا أنّه یرتفع قیده.

ص: 438

وبعبارة أُخری: نحن نرید حفظ أغراض المولی وأحکامه بواسطة الإحتیاط، أمّا لو ترتّبت المفسدة أو لزم فوت المصلحة، ینقلب الإحتیاط بالإتیان إلی الترک.

الإشکالات

اشارة

وبعد، فلننظر فی الإشکالات المطروحة علی الإحتیاط:

الأول
اشارة

الأوّل: إنّه إذا قامت الأمارة الظنّیّة فإن إحتمال الخلاف یلغی، ویُرتّب الأثر علیها، لقول الإمام علیه السّلام: (لا عذر لأحدٍ من موالینا فی التشکیک فیما یؤدّیه عنّا ثقاتنا»(1)، وعلیه السّیرة العقلائیّة، فإنّ قوام العمل بالأمارة هو إلغاء إحتمال الخلاف.

لکنّ حقیقة الإحتیاط هو الإعتناء باحتمال الخلاف وترتیب الأثر علیه، وهذا خلاف الشرع، فکیف یکون حَسَناً؟

الجواب:

لا ریب فی أنّ العقلاء یلغون إحتمال الخلاف فی خبر الثقة ویجعلونه طریقاً إلی الواقع وکاشفاً عنه، فقول الراوی للإمام علیه السّلام: (أ فیونس بن عبدالرحمن ثقة، آخذ عنه مااحتاج إلیه من معالم دینی؟)(2) یکشف عن کون کبری إلغاء الخلاف عن خبر الثقة أمراً فطریّاً، وإنّما سؤاله عن الصغری، ومتی کان

ص: 439


1- 1. وسائل الشیعة 1 / 38، الباب 2 من أبواب مقدّمة العبادات، رقم: 22.
2- 2. وسائل الشیعة 27 / 147، باب وجوب الرجوع فی القضاء والفتوی إلی رواة الحدیث، رقم: 33.

السؤال عن الصغری فالکبری عقلائیة، ومتی کان السؤال عن الکبری، فالکبری شرعیّة تعبّدیّة.

فالحاصل: إنّه لا کلام فی إلغاء العقلاء إحتمال الخلاف، والأدلّة الشرعیّة کقوله علیه السّلام: «لا عذر» إمّا تعبّدیّة وإمّا إرشاد إلی السیر العقلائیّة. لکنّ النکتة هی: إنّ إلغائهم الخلاف هو فی مقام العمل بقول الثقة، لا أنّهم یرون خبره حاملاً للواقع بحیث یترکون الإحتیاط لرجاء درک الواقع، ولذا نراهم إذا أرادوا درک الواقع _ حتی مع قیام خبر الثقة _ یحتاطون بالإتیان للأطراف المحتمل وجود الواقع فیها، من أجل الوصول إلیه.

وبعبارة أُخری: إنّهم فی الوقت الذی یأخذون بخبر الثقة، یرون حسن الإحتیاط أیضاً، بل یقومون بذلک فی الموارد الکثیرة، خاصّة المهمّة منها، وهذا یکشف عن أن إلغائهم إحتمال الخلاف إنّما هو لترتیب الأثر علی خبر الثقة فی مقام العمل.

والحاصل: إنّ قولنا: خبر الثقة کاشفٌ عند العقلاء، لیس بمعنی منعهم عن الإحتیاط من أجل درک الواقع.

الثانی:
اشارة

الإشکال الثانی:

التنافی بین الإحتیاط والإنشاء. وذلک، لأنّ الإحتیاط حسنٌ فی الشبهات البدویّة فی التوصّلیّات بلا کلام، لوجود المقتضی وعدم المانع، وکذلک لا کلام فی لزومه فی الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی.

أمّا فی العقود والإیقاعات، فإنّه یعتبر الإنشاء، ویعتبر الجزم فی الإنشاء،

ص: 440

ولکنّ الإحتیاط إنّما هو حیث لا جزم، فکیف یکون الإحتیاط فی العقود والإیقاعات؟

الجواب:

إنّ الإنشاء علی جمیع المبانی فی حقیقته _ تسبّب الإنشاء فی إیجاد المنشأ من علقة الزوجیّة والبینونة وغیر ذلک. أو الإعتبار والإبراز. أو إیجاد المعنی بالوجود اللّفظی _ أمر قصدی، ولا تردّد للشخص فی أصل الإنشاء، وإنّما یتردّد ویشکّ فی تحقّقه فی النکاح _ مثلاً _ بصیغة «أنکحت» أو «زوّجت»، فیأتی بکلیهما من باب الإحتیاط حتی یتیقّن بتحقّق الإنشاء المؤثّر.

وبعبارة أُخری: هو جازم فی إنشائه وغیر جازم فی آلة الإنشاء، فیأتی بجمیع ما یحتمل آلیّته حتی یتحقّق المنشأ، من النکاح والطلاق والبیع وغیر ذلک.

وأمّا الکلام فی العبادات:

فتارةً: یستلزم الإحتیاط التکرار للعبادة، کما فی مسألة التسبیحات الأربع، هل الواجب المرة أو الثلاث، وأُخری، یتردّد فی الواجب، هل هذا الفرد أو ذاک؟ کما فی ظهر یوم الجمعة، حیث لا یدری هل الواجب صلاة الظهر أو صلاة الجمعة. وثالثةً: یتردّد فی أنّ المأمور به أیّ الحالین، الصّلاة فی الثوب النجس أو الصّلاة عاریاً.

أمّا إن لم یستلزم التکرار لنفس العمل، یقع الإشکال فی:

1_ قصد الوجه والتمییز فی العبادة

فإنّه علی القول باعتباره فی العبادة، غیر حاصل فی صورة العمل الإحتیاطی.

ص: 441

الجواب

والجواب:

إحتمال إعتبار قصد الوجه والتمییز یندفع بالإطلاقات اللّفظیّة، وذلک، لأنّ التمسّک بالإطلاق بالنسبة إلی الإنقسامات المتأخّرة عن الأمر غیر المترتّبة علیه، جائز بلا کلام، کالصّلاة فی المسجد أو المدرسة. وأمّا الإنقسامات المترتّبة علیه، کقصد الوجه والقربة، فالمشهور العدم، إذ ما لم یتعلّق الأمر بالشیء فلا معنی لقصده، فکان الإطلاق متوقّفاً علی الأمر، وهذا هو الدّور، واجتماع التقدّم والتأخّر فی الشیء الواحد، لأنّ الإطلاق معناه لحاظ الشیء ورفض القیود عنه، فیکون مقدّماً، لکنّ قصد الوجه من الإنقسامات المتأخّرة عن الأمر اللاّحقة به.

وهذا هو الإشکال المعروف المشهور.

فأُجیب: بإمکان الإطلاق بالخطاب الثانی المعبّر عنه بمتمّم الجعل. فقیل: لا یکون بالجملة الإنشائیّة ولابدّ من الخبریّة. وقیل: بإمکانه بالإنشائیّة أیضاً.

والتحقیق عندنا: جواز التمسّک بالإطلاق للإنقسامات المتأخّرة.

والحاصل: إذا أمکن الإطلاق _ بأیّ مسلکٍ _ سقط إعتبار قصد الوجه والتمییز، وإذا سقط، أمکن الإحتیاط، فیندفع الإشکال.

وأمّا علی القول بعدم إمکان الإطلاق لا بالأمر الأوّل ولا بالأمر الثانی، تصل النوبة إلی الجواب عن الإشکال بالتمسّک بالإطلاق الحالی.

ومع التنزّل، تصل النوبة إلی الأصل العملی، حیث یشکّ فی إعتبار دخل قصد الوجه فی العبادة، ومقتضی الأصل وهو الإستصحاب العدم.

ومع التنزّل، فالبراءة العقلیّة والشرعیّة.

ص: 442

2_ إعتبار الجزم فی النیّة فی العبادة

وذلک: لأنّ الإنبعاث یجب أن یکون من أمر المولی، وهذا غیر حاصل فی مورد الإحتیاط، بل الإحتیاط یکون إنبعاثه من إحتمال الأمر، وهذا لا یفید، لأنّ من کان بإمکانه الفحص عن أمر المولی والإنبعاث عنه علی وجه التفصیل، لا معنی لأن یأتی بالعمل بداعی إحتمال الأمر.

الجواب

والجواب:

أمّا نقضاً، فإنّه فی موارد العلم بالأمر، یکون الإنبعاث من العلم بالأمر لا من الأمر، وکذا فی موارد قیام العلمی. وبالجملة: لیس الباعث فی جمیع الموارد هو الأمر الخارجی بل الصّورة الذهنیّة للأمر.

وأمّا حلاًّ، فإنّ حقیقة الحکم وجوب الإطاعة للمولی والإتیان بالمأمور به مضافاً إلیه فی التعبّدیّات، والحاکم بهذا هو العقل _ ولذا کانت الأوامر والنواهی الواردة فی لسان الشارع إرشاداً إلی حکم العقل _ ، والعمل المأتی به بقصد إحتمال الأمر واجدٌ لهذه الخصوصیّة، أی الإضافة إلی المولی، فیکون محبوباً إلیه ومقرّباً لدیه، بل هذا أحبّ إلیه ممّا یکون هناک علمٌ بالأمر أو علمی.

أمّا أن یقال بأنّ النوبة لا تصل إلی الإمتثال بداعی إحتمال الأمر مع إمکانه بداعی الأمر المعلوم تفصیلاً، فهذا لا برهان علیه.

ومع التنزل عمّا ذکر، والشک فی إعتبار الجزم بالنیّة فی العبادة، فإن رجع الشکّ إلی أصل الإعتبار والتکلیف، فالبراءة، وإن رجع إلی تحقّق الإمتثال بلا جزم فی النیّة، فقاعدة الإشتغال.

ص: 443

وأمّا إن کان الإحتیاط مستلزماً لتکرار العبادة، فیقع إشکال آخر _ زائداً علی ما تقدّم _ وهو لزوم العبث واللّعب بأمر المولی، وهذا ینافی مقام العبودیّة.

والجواب:

إنّ الإحتیاط _ کما تقدّم _ هو الجمع بین المحتملات، والمفروض أنّ المکلَّف فی مقام الإمتثال ویرید الإطاعة لأمر المولی، فلو لم یفحص عن الأمر أو فحص ویئس وکرّر العبادة، لتوقّف الإمتثال علی تکرارها، بالإتیان بالطّرفین أو جمیع الأطراف المحتمل وجود الأمر فیها وتحقّق الإمتثال بها، عدّ منقاداً للمولی ومهتمّاً بالعبودیّة له، فضلاً عن أن یکون عابثاً ومتلاعباً بأحکامه.

هذا تمام الکلام فی جریان الإحتیاط فی مورده، وشرط الجریان بالمعنی الذی ذکرناه.

شرط البراءة العقلیّة

اشارة

وأمّا شرط البراءة العقلیّة، فهو الفحص عن البیان، فلا یجوز التمسّک بها إلاّ بعده.

الإستدلال لوجوب الفحص

وقد استدلّ لوجوب الفحص بوجهین:

الوجه الأوّل:

إنّ البیان الذی هو موضوع القاعدة هو البیان القابل للوصول إلی المکلّف،

ص: 444

وإذا کان البیان کذلک، وجب الفحص عنه، وإلاّ إستحق العقاب علی مخالفته والأخذ بالقاعدة.

وبعبارة أُخری: لمّا یکون البیان فی معرض الوصول، ولا ندری هل یوجد فی المسألة بیانٌ أو لا، یجب الفحص عنه وإلاّ یکون التمسّک بالقاعدة تمسّکاً بالدلیل فی الشّبهة الموضوعیّة.

الوجه الثانی:

إنّه مع العلم بإقامة المولی البیان علی أغراضه بنحوٍ یمکن وصوله إلی العبد وعثوره علیه، کان علی العبد الفحص عنه للعمل به من أجل تحقّقه، فلو ترک الفحص وأخذ بالقاعدة، فقد خالف وظیفة العبودیّة، ومخالفة الوظیفة ظلم علی المولی، والظلم علیه موجب لاستحقاق العقاب.

فعلی المجتهد المتمکّن من الفحص عن الأدلّة أن یفحص، وما لم یفحص لم یجز له الأخذ بالقاعدة.

ولا یخفی الفرق بین الوجهین، لأنّه فی ترک الفحص یستحق العقاب علی مخالفة الواقع علی الوجه الأوّل، وعلی نفس ترک الفحص علی الوجه الثانی.

إشکال المحقق الإصفهانی

وأشکل المحقق الإصفهانی(1):

ص: 445


1- 1. نهایة الدرایة 4 / 406.

أمّا علی الوجه الأوّل، وهو الّذی اعتمده الأعاظم، فبما حاصله:

إنّ الغرض من الفحص عن البیان تنجیز الحکم الواقعی وعدم جریان القاعدة، ولکنّ تنجّز التکلیف الواقعی فی مرتبةٍ متأخّرة عن فعلیّته، والفعلیّة متقوّمة بالوصول، وإذ لا وصول فلا فعلیّة فلا تنجّز.

والوجه فی هذا المدّعی هو: إنّ حقیقة الحکم هو البعث والزجر، وهما ما لم یصلا إلی العبد فلا إمکان للداعویّة والزاجریّة، ومع عدم إمکانهما، فلا حکم، حتی یجب الفحص عنه.

الجواب:

إنّ هذا الإشکال مبنیٌّ علی ما ذکر من دوران فعلیّة الأحکام مدار الوصول إلی المکلّف، وإذ لا فعلیّة فلا تنجّز فلا یجب الإمتثال. لکنّ الصحیح أنّ الحکم لیس إلاّ الإعتبار، وهو متقوّم بالإنشاء وکون الموضوع مفروض الوجود، فإذا تحقّق إنشاء الحکم من المولی وکان موضوعه مفروض الوجود، کان فعلیّاً، کما فی « وَلِلّهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَن اسْتَطَاعَ إلَیْهِ سَبِیلاَ ». فإنّه إنشاء من المولی، وبمجرّد تحقّق الإستطاعة یکون الحکم فعلیّاً. غیر أنّ المکلّف تارةً: عالمٌ به تفصیلاً، فیجب علیه العمل به، وأُخری: عالم به إجمالاً، فقانون العلم الإجمالی، وثالثة: یحتمل وجوده، فیجب علیه الفحص عنه.

فالإشکال مندفع، لعدم تمامیّة المبنی.

وأمّا علی الوجه الثانی:

فبأن الظلم إنّما یتحقّق بمخالفة التکلیف الواصل، ووصول التکلیف إمّا

ص: 446

بالعلم التفصیلی وإمّا بالعلم الإجمالی، بأن یعلم بالوجوب إمّا هنا أو هناک، وإمّا أن یعلم بوجود أحکامٍ للمولی بالنسبة إلی موضوعات معیّنة، ففی هذه الحالات الثلاث یتحقّق الظلم من العبد علی المولی إن لم یعتنِ بأحکامه، بل لابدّ من الإحتیاط بالنسبة إلیها.

وأمّا حیث لا یوجد العلم مطلقاً، بل هو مجرّد إحتمال، فإنّ عدم إعتنائه بالمحتمل وترکه الإحتیاط بالنسبة إلیه، لیس ظلماً علی المولی. ومورد البحث فی البراءة العقلیّة من هذا القبیل.

الجواب:

إن فرض الکلام هو فی مورد المولی الذی علیه أن یبیّن إرادته بواسطة المبلّغین عنه، وأنّ علی العبد تحصیل تلک البیانات والعثور علیها، فبیاناته کالکعبة تزار ولا تزور. وعلی هذا، یکون الواجب علی العبد الفحص وإلاّ یکون ظالماً. نعم، لو کان بناء المولی علی عدم إیصال التکالیف إلی العبد، لم یجب علی العبد الفحص عمّا لم یصل إلیه.

وهذا تمام الکلام فی البراءة العقلیّة.

شرائط البراءة الشرعیّة

اشارة

وفی البراءة الشرعیّة یعتبر الفحص أیضاً. لکنّ الفرق بین حدیث الرّفع وقاعدة قبح العقاب هو: أنّ الحدیث یصدق فی الشّبهة الحکمیّة، سواء فُحص أو لا، لأنّ الجهل موجود قطعاً. ولکن وقع الکلام بینهم فی ثبوت الإطلاق للحدیث.

ص: 447

رأی المحقّق العراقی

فالمحقّق العراقی علی ثبوته فیه فی الشبهات الحکمیّة، واستدلّ(1) بتمسّک الفقهاء بالحدیث فی الشبهات الموضوعیّة، وأنّهم لا یوجبون الفحص فی التکالیف، إلاّ فی موارد معیّنة، کنصاب الزکاة والدَّین والفروج والدماء، وأمّا فی غیرها، فإطلاق الحدیث قبل الفحص محکّم، وإلاّ لم یتمسّکوا به فی الشبهات الموضوعیّة.

الإشکال علیه

لکن فیه: أنّ الإستدلال بفعل الفقهاء معناه أن یکون فهمهم _ بتمامیّة مقدّمات الإطلاق فی الحدیث _ حجةً علی الآخرین، وهذا غیر صحیح. لأن عمل الفقهاء لو کان جابراً لضعف الحدیث، فلیس بجابر للدلالة. هذا أوّلاً.

وثانیاً: من أین ثبت أنّ مستندهم هو حدیث (رفع ما لا یعلمون)، فلعلّه الحدیث: (والأشیاء کلّها علی هذا حتی تستبین لک غیر ذلک أو تقوم به البیّنة)(2)؟

ثمرة البحث

والثمرة للإطلاق وعدمه _ مع وجوب الفحص علی کلّ حال _ هی أنّه إن لم یکن الحدیث مطلقاً، فلا مقتضی للتمسّک به، وإن کان مطلقاً، فلوجود المانع فی هذا البحث. إذن، لا فرق من الناحیة العملیّة، فی مسألة وجوب الفحص، وعدم جواز التمسّک بالحدیث قبله. هذه ثمرة.

ص: 448


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 469.
2- 2. وسائل الشیعة 17 / 89، کتاب التجارة، باب عدم جواز الإنفاق من کسب الحرام، رقم: 4.

والثمرة الثانیة: إن کان الحدیث مطلقاً، کان بیاناً علی عدم التکلیف، فیتحقّق الموضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بیان، فلا تجری القاعدة مع وجوده، ویکون مقدّماً علیها فی المرتبة، وإن لم یکن مطلقاً یکونان فی العرض.

والثمرة الثالثة: إنّه إن تمّ الإطلاق فی الحدیث، کان دلیلاً علی عدم وجوب الفحص فی الشبهات الموضوعیّة، لعدم وجود الدلیل المانع، أمّا فی الشبهات الحکمیّة، فیوجد المانع عن التمسّک بالإطلاق.

الکلام فی إطلاق حدیث الرفع

ولکنّ البحث _ کما أشرنا _ فی أصل ثبوت الإطلاق.

والعمدة للقول بعدم کونه مطلقاً هو:

إنّ الإطلاق یتوقّف علی عدم وجود القرینة اللّفظیّة والعقلیّة وما یحتمل القرینیّة، وهنا یوجد الحکم العقلی المانع من ثبوت الإطلاق، وکما ذکرنا _ فی المباحث السّابقة _ الحکم العقلی علی قسمین:

فمنه أحکام عقلیّة نظریّة، وهذه الأحکام تصلح لأن تکون بحکم المخصّص أو المقیّد المنفصل، فلا یبقی معها الإطلاق أو العموم.

ومنه أحکام عقلیّة ضروریّة، وهذه الأحکام إذا حفّت بالکلام منعت من أصل إنعقاد الإطلاق أو العموم.

وفیما نحن فیه: حدیث الرفع محفوف بالحکم العقلی القائم علی ضرورة الفحص من باب وظیفة العبودیّة کما تقدّم.

ص: 449

وفیه:

إنّ الأحکام العقلیّة منها تنجیزیّة ومنها تعلیقیّة، والقسم الأوّل یمنع من إنعقاد الإطلاق والعموم، دون الثانی، وما نحن فیه من القسم الأوّل. فالعقل یحکم بلزوم الفحص عن أحکام المولی من أجل حفظ أغراضه وأحکامه، ولکنّه معلّق علی عدم الترخیص والتوسعة من ناحیة المولی، وحدیث الرفع ترخیصٌ، فلو أراد الحکم العقلی تقییده یلزم المحال. وذلک، لأنّ المقتضی للإطلاق فی الحدیث موجود، فإن منع الحکم العقلی المذکور عن تمامیة الإطلاق فهو وإلاّ فالإطلاق تام. ولکنّ الحکم القطعی المذکور _ لکونه معلّقاً علی عدم ترخیص المولی _ لا یمکنه المانعیّة، فمانعیّته موقوفة علی عدم إطلاق حدیث الرّفع، وعدم إطلاقه موقوف علی مانعیّة الحکم العقلی. وهذا دور.

التحقیق عدم الإطلاق

ولکنّ التحقیق عدم الإطلاق لوجهین:

الأوّل: إنّ جمیع الأُمور التسعة المذکورة فی حدیث الرّفع أعذار للعبد أمام المولی، ومنها الجهل بأحکامه، والجهل إنّما یکون عذراً له فیما لو فحص عن الأحکام، وأمّا قبله فلا ... .

وهذه قرینة فی داخل الحدیث تمنع من إنعقاد الإطلاق.

والثانی: إنّ مذاق الشارع کما یدلّ علیه الکتاب والسنّة هو التفقّه فی الدین والعمل علی وجه الیقین قدر الإمکان، وإذا کان هذا مذاقه، فکیف یعطی الترخیص

ص: 450

للعبد ویسمح له العمل عن الجهل؟

وهذه قرینة من خارج الحدیث تمنع من الإطلاق.

و علی فرض الإطلاق هل من مقید؟

وعلی فرض الإطلاق؟

وعلی فرض الإطلاق للحدیث بالنسبة إلی الشبهات الحکمیّة، فهناک مقیّدان:

المقیّد الأوّل: الإجماع.

فقد ادّعی الإجماع علی عدم جواز الأخذ بحدیث الرّفع فی الشبهات الحکمیّة قبل الفحص.

وفیه:

هذا الإجماع لا کلام فیه صغرویّاً، إلاّ أنّه یحتمل أن یکون مدرکیّاً، فلیس بالإجماع الحجّة.

المقیّد الثانی: العلم الإجمالی.

فإنّ الفقیه یعلم إجمالاً بوجود المحرّمات والواجبات فی الشریعة، ویحتمل وجود الحکم فی المورد من الشّبهة الحکمیّة، ومعه کیف یجوز له أن یتمسّک بحدیث الرّفع؟ لأنّ الترخیص به فی جمیع أطراف الشّبهة یستلزم المعصیة بلا کلام، وفی بعضها دون بعضٍ ترجیح بلا مرجّح. فالحدیث ساقط فی جمیع الشبهات الحکمیّة قبل الفحص عن الحکم.

ص: 451

الإشکال علی الدلیل المقیّد

اشارة

وقد أُشکل هنا بوجهین:

الأوّل: إنّه أعمّ من المدّعی

إنّ مورد بحث الفقهاء هو: إن حدیث الرفع لا یجری مع وجود التکالیف الإلزامیّة فی الکتب المعتبرة. لکنّ الدلیل أعمّ من الکتب المعتبرة وغیرها.

الجواب:

إنّ المقام من قبیل دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر، ومقتضی القاعدة هو إنحلال الأکثر بالأقلّ، وعلیه، فإنّ الأحکام الشرعیّة المعلومة بالإجمال هی بین الأمارات المعتبرة وغیر المعتبرة، لکنّ هذا العلم الإجمالی الکبیر ینحلُّ بالعلم الإجمالی المتوسّط، وهو وجود الأحکام بین الأمارات المعتبرة الموجودة بین أیدینا، لکنّ هذا العلم الإجمالی أیضاً ینحلّ بالعلم الإجمالی بأنّ الأمارات المعتبرة مجتمعة فی کتاب «وسائل الشیعة» الجامع بین «الکتب الأربعة». فلیس الدلیل أعمّ من المدّعی.

الثانی: إنّه أخصّ من المدّعی

وهو: إنّ المدّعی وجوب الفحص فی الشبهات الحکمیّة کلّها، والعلم الإجمالی مانع عن التمسّک بحدیث الرّفع. ولکن لا ریب فی أنّه بعد الظفر بمقدارٍ من الأحکام ینحلُّ العلم الإجمالی، فلا یجب الفحص عن بقیّة موارد الشّبهة

ص: 452

الحکمیّة. أورده صاحب الکفایة(1).

جواب المحقّق النائینی

أجاب المیرزا عن الإشکال(2): بأنّ متعلّق العلم الإجمالی عنوان «ما فی الکتب الأربعة» إذن، یجب الفحص عن بقیّة الشبهات فی الکتب الأربعة. کما لو علم إجمالاً بأنّ علیه دیوناً مسجّلة فی دفاتره، فعثر علی مقدارٍ منها، فهو لا یزال یفحص عنها فی سائر الدفاتر ولا یقول بانحلال العلم.

المناقشة

وفیه: إنّ عنوان «ما فی الکتب الأربعة» لیس له موضوعیّة، بل هو عنوان مشیر إلی الأحکام الموجودة فی تلک الکتب، فالمهم هو النظر إلی المشار إلیه، والمفروض دوران أمره بین الأقلّ والأکثر، وقد تقرّر إنحلال العلم الإجمالی المردّد بین الأقلّ والأکثر بعد الظفر بمقدارٍ من الأطراف، والرجوع فی الباقی إلی حدیث الرّفع. هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّ المیرزا من القائلین باقتضائیّة العلم الإجمالی بالنسبة إلی الموافقة القطعیّة. ومعنی ذلک: أنّ منجّزیّة العلم بالنسبة إلی الموافقة تدور مدار تعارض الأصول، وأنّه بمجرّد انتفاء التعارض فیما بینها یسقط العلم عن المنجّزیّة. وبناءً

ص: 453


1- 1. کفایة الأصول: 375.
2- 2. أجود التقریرات 3 / 558.

علی هذا، فإنّه بمجرّد العثور علی قسمٍ من الأحکام، یکون العلم بالنسبة إلی هذا القسم تفصیلیّاً، ویتحقّق الموضوع للأصل وهو الشک بالنسبة إلی غیره، فیجری فیه بلا معارض.

فظهر سقوط جواب المیرزا علی مبناه أیضاً.

جواب المحقّق العراقی

وأجاب المحقّق العراقی(1) عن إشکال شیخه: بأنّ متعلّق العلم الإجمالی هنا هو «مجموع ما فی الکتب الأربعة». وعلیه، فکلّ حدیثٍ حدیثٍ فیها طرفٌ لاحتمال التکلیف، فیکون التکلیف منجّزاً، والعقل یحکم بضرورة الإمتثال بالإحتیاط بالنسبة إلی المجموع، لأنّ المفروض تنجّز التکلیف بالنسبة إلی المجموع، إذ یحتمل إنطباق عنوان «المجموع» علی کلّ طرفٍ، ولا فائدة فی جریان الأصل فی بعض الأطراف، لأنّ العراقی یری علیّة العلم الإجمالی بالنسبة إلی وجوب الموافقة القطعیّة، فالأصل الجاری هو الإشتغال.

المناقشة

وفیه: إنّ مورد الکلام هو العلم الإجمالی بوجود الأحکام الإلزامیّة التی لو تفحّصنا عنها لعثرنا علیها، هذا من جهة. ومن جهة أُخری: فإنّ هذا العلم مردّد بین الأقلّ والأکثر. ومن جهة ثالثة: فإنّ المفروض أنّ ما عثرنا علیه یکون أمارةً علی

ص: 454


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 470.

الحکم الإلزامی بالنسبة إلی ما قامت الأمارة علیه من الأطراف.

وبعد الإلتفات إلی هذه الجهات الموجودة فی البحث: فإنّه مع العثور علی مقدارٍ من الأمارات، ینحلُّ العلم الإجمالی حتی بناءً علی العلیّة، لأنّ الطرف الذی قامت علیه الأمارة یخرج عن دائرة الإحتمال یقیناً، بل یجب العمل بالقائمة علیه بالإتفاق. ولمّا کانت الأطراف من قبیل الأقلّ والأکثر، فإنّ الأقلّ یکون هو المتیقّن والأکثر یکون المشکوک فیه، ویجری فیه الأصل.

جواب المحقّق الخوئی

وأجاب السیّد الخوئی فی مصباح الأصول(1) عن إشکال الکفایة بأنّ: أحادیث الوقوف عند الشّبهة تعارض حدیث الرّفع وغیره من أدلّة البراءة، والنسبة بینها هی التباین، لأنّ روایة (الوقوف) تفید وجوب الإحتیاط قبل الفحص، وحدیث الرّفع یفید البراءة قبل الفحص وبعده. لکن بعض أخبار الوقوف خاصّ بصورة قبل الفحص وهو قوله علیه السّلام: (أرجه حتی تلقی أمامک)(2)، وهذا البعض یخصّص عموم (أخبار الوقوف)، وحینئذٍ تنقلب النسبة بین (أخبار الوقوف) و(أخبار البراءة)، وتصبح تلک أخصّ من هذه، فتقیّد (أخبار الوقوف) إطلاق (أخبار البراءة).

ص: 455


1- 1. مصباح الأصول: 494.
2- 2. وسائل الشیعة 27 / 107، کتاب القضاء، باب وجوه الجمع بین الأحادیث المختلفة، رقم: 1.

المناقشة

أوّلاً: أخبار البراءة مقدّمة علی أخبار الوقوف بالحکومة، لأنّها ترخیصٌ من الشارع فلا یبقی شبهةٌ.

وثانیاً: أخبار الوقوف إرشادیّة، لکونها معلّلة بقوله علیه السّلام: (فإنّ الوقوف عند الشّبهة خیر من الإقتحام فی الهلکة)(1).

وثالثاً: قوله علیه السّلام (أرجه حتّی تلقی إمامک) قد جاء فی مقبولة عمر بن حنظلة بعد سقوط جمیع المرجّحات، وأیّ علاقة له بمورد بحثنا حیث لا فحص أصلاً؟ هذا أوّلاً.

وثانیاً: بحثنا فی زمن الغیبة، و(أرجه حتی تلقی إمامک) ظاهر فی زمن الحضور.

وثالثاً: روایة (أرجه) معارضة بموثقة سماعة حیث قال علیه السّلام: (فهو فی سعة)(2). ولو تنزّلنا، فإنّ الإحتیاط غیر لازم بالإتفاق، بل المرجع إمّا التخییر وإمّا التساقط بین الخبرین المتعارضین، وإمّا الأخذ بالأحدث کما علیه المحقّق النراقی.

الجواب الصحیح عن إشکال الکفایة:

هو الرجوع إلی النصوص الّتی دلّت علی وجوب الفحص:

ص: 456


1- 1. وسائل الشیعة 20 / 259، کتاب النکاح، باب وجوب الإحتیاط فی النکاح فتوی وعملاً، رقم: 2.
2- 2. وسائل الشیعة 27 / 108، کتاب القضاء، باب وجوه الجمع بین الأحادیث المختلفة، رقم: 5.

1_ الخبر فی (هلاّ عملت) قال: لم أکن أعلم. قال: (هلاّ تعلّمت؟)(1). فلو أخذنا بإطلاق حدیث الرّفع لزم لغویّة هذه النصوص. فهذه النصوص تقیّد حدیث الرّفع، وهو إنّما یجری بعد الفحص.

2_ روایة عبدالرحمن بن الحجّاج، إذ سأل الإمام علیه السّلام عن حکم رجلین أصابا صیداً فی حال الإحرام، فهل علی کلیهما الجزاء؟ قال علیه السّلام لعبدالرحمن إذا سئلت عن مسألةٍ لا تدری الحکم فیها فلا تجب حتی تسأل.

وهذا تمام الکلام فی البراءة الشرعیّة.

ثمرة البحث عن إطلاق حدیث الرفع

وللبحث عن الإطلاق فی حدیث الرفع وعدمه ثمراتٍ، منها:

إنّه بناءً علی الإطلاق بالنسبة إلی الشبهات قبل الفحص وتمامیّة المقتضی، یقع الکلام حول وجود المانع، أمّا فی الشبهة الحکمیّة، فالمانع موجود کما تقدّم، وأمّا فی الشبهة الموضوعیّة فهو مفقود، فلذا یُفتی بجواز الإرتکاب فیها من دون الفحص، اللهمّ إلاّ أنْ یقوم دلیل آخر، کالدّلیل علی لزوم الفحص فی الأموال من حیث الشکّ فی بلوغ المال حدّ النصاب أو تعلّق الخمس به، فیکون ذلک الدلیل هو المرجع، ویفتی بوجوب الفحص وإنْ کانت الشبهة موضوعیّة.

وأمّا بناءً علی قصور الحدیث عن الشمول للشبهات قبل الفحص، وجب الفحص حتی فی الشبهات الموضوعیّة.

ص: 457


1- 1. الأمالی للشیخ المفید: 228، الأمالی للشیخ الطوسی: 9 _ 10.

شرط الإستصحاب

وإنّه إمّا مثبت للتکلیف، وإمّا ناف له. فإن کان مثبتاً، کان حکمه حکم الإحتیاط قبل الفحص، فلا مشکلة من حیث العمل. لکن المشکلة من الناحیة العلمیّة هی أنّ موضوع الإستصحاب هو الشک، فإن کان الفحص ولم یحصل الظفر بالحجّة علی الوجوب أو الحرمة، تمّت أرکان الإستصحاب، أمّا مع عدم الفحص، فإنّ إجرائه یتوقّف علی وجود الشک، ومع عدم الفحص وإحتمال الظفر لو فحصنا، هل یتحقّق الشک فی التکلیف؟ لا ریب أنّه مع الفحص والظفر بالدلیل، لا یبقی مجال للإستصحاب، لأنّه یزیل الشک.

فظهر أنّه یعتبر الفحص فی الإستصحاب وإن کان مثبتاً للتکلیف، من الناحیة العلمیّة، وإن کان لنا من الناحیة العملیّة إبقاء الحکم السّابق.

وأمّا إن کان نافیاً للتکلیف، فالفحص لازم کما فی البراءة، لأنّ الدلیل إمّا وارد علی الإستصحاب وإمّا حاکم علیه کما هو التحقیق.

شرط التخییر

اشارة

فإنّه إن کان من قبیل دوران الأمر بین المحذورین، أمکن توهّم عدم لزوم الإحتیاط، لعدم إمکان الموافقة القطعیّة. لکنّ مقتضی التحقیق هو الإحتیاط بالفحص، لأنّ أصالة التخییر فی دوران الأمر بین المحذورین حکم عقلی _ لأنّ المکلّف إمّا فاعل وإمّا تارک _ وقیل: بأنّ کلاًّ من الطرفین _ من الوجوب والحرمة _ مشکوک الحکم، فکلٌّ منهما مجری للبراءة، لکنّ الأصلین لا یجریان للزوم

ص: 458

الترخیص الشرعی فی المخالفة القطعیّة، وهو إمّا قبیح وإمّا محال _ کما هو التحقیق _ فیسقط الأصلان، وتلزم المخالفة الإلتزامیّة حینئذٍ، ولا محذور فیها.

وعلی کلا المسلکین، یجب الفحص عن الدلیل. أمّا علی المسلک الثانی، فلعدم الموضوع لحدیث الرفع قبل الفحص، لقصوره عن الشمول لما قبل الفحص فی الشّبهة الحکمیّة، أو لوجود المانع عن جریانه من حدیث التعلّم وغیره.

وأمّا علی المسلک الأوّل، فلأنّ حکم العقل بالتخییر مقیّد بعدم إمکان الموافقة للحکم الواقعی، وأمّا مع إمکانه، فلا یحکم العقل بالتخییر، لأنّه مع إحتمال العثور علی الحجّة من ناحیة المولی، یحکم بلزوم المتابعة للحجّة والعمل علی طبقها، حتی لا تلزم المخالفة العملیّة.

وههنا تنبیهات:

ص: 459

التنبیه الأوّل: أیّ مقدار یجب الفحص؟
اشارة

والکلام تارةً فی الشّبهة الحکمیّة، وأُخری فی الشّبهة الموضوعیّة.

وأیضاً یقع الکلام تارةً: فی وجوبه علی المقلّد، وأُخری: فی وجوبه علی المجتهد.

وجوب الفحص علی المقلِّد فی الشّبهة الحکمیّة

أمّا المقلِّد، فیجب علیه الفحص فی الشّبهة الحکمیّة عن الحجّة. والحجّة للمقلِّد فی الشّبهة الحکمیّة علی الحکم الشرعی هی فتوی المجتهد الأعلم، فعلیه أن یفحص عن الأعلم، وعن فتواه فی المسألة، فإن حصل له العلم بأعلمیّة هذا المجتهد وبأنّ فتواه کذا، عمل. لکنّ حصول العلم بالأمرین غیر میسّر لکلّ المقلّدین، فتصل النوبة إلی الإطمینان. لکن یقع البحث فی حجیّة الإطمینان بالأعلمیّة وبالفتوی، وعلیه الفحص حینئذٍ عن حجیّة الإطمینان.

ص: 460

وجوب الفحص علی المجتهد فی الشّبهة الحکمیّة

وأمّا المجتهد، فإنّ البحث تارةً فی أُصول الدین، وأُخری فی فروع الدین، ومسائل الفروع، منها ما هو مورد للإبتلاء المجتهد عملاً أیضاً، ومنها ما لیس کذلک، فیحتاج إلی الحکم لکی یفتی فقط، ووجوب الفحص فیها کفائی لا عینی.

ثمّ إنّ الفحص فی المسألة الأصولیّة، یعتبر فیه الوصول إلی العلم الوجدانی، وأمّا فی الفرعیّة، فالمعتبر هو الحصول علی الحجّة علماً أو علمیّاً، أو أصلاً من الأصول العملیّة.

والحاصل: إنّ الفحص واجب علی المجتهد، علی التفصیل المذکور، ویختلف مقدار الفحص بالنسبة إلیه باختلاف الإحتمالات عنده، فإذا فحص فی دائرةٍ من الإحتمالات، واحتمل وجود روایةٍ أو قولٍ فی خارج تلک الدائرة، وجب علیه الفحص هناک أیضاً.

وجوب الفحص من أیّ قسمٍ من أقسام الوجوب؟

ثمّ یقع الکلام فی أنّ وجوب الفحص من أیّ قسمٍ من أقسام الوجوب، فهنا أقوال والعمدة منها أربعة:

الأوّل: إنّه وجوب طریقی، لغرض التحفّظ علی الواقعیّات من الأحکام الشرعیّة. وهذا هو المشهور، وعلیه، تکون المؤاخذة علی الواقع.

الثانی: إنّه وجوب نفسی، وعلیه صاحب المدارک والأردبیلی. فلو ترک الفحص عوقب علی ترکه، سواء صادف الواقع أو لا. لکن یقع البحث فیما لو

ص: 461

لم یخالف الواقع، هل یستحق أن یعاقب علی التجرّی علی المولی أو لا؟

والثالث: إنّه وجوبٌ بحیث یعاقب علی ترک الفحص إنْ صادف الواقع، وعلیه الشیخ والمیرزا.

والرابع: إنّه وجوب إرشادی إلی حکم العقل. وعلیه العراقی، فیجب الفحص بحکم العقل لوجوب تحصیل أحکام المولی، بمناط إحتمال العقاب قبل الفحص.

أدلّة القول بوجوب التعلّم والفحص وجوباً نفسیّاً

هذا القول الذی ذهب إلیه صاحب المدارک والأردبیلی(1)، استدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: إنّه مقتضی الأصل.

والمقصود من ذلک إنّه مقتضی الإطلاق، أی إطلاق الخطاب. فإنّه یقتضی أن یکون الوجوب نفسیّاً عینیّاً تعیینیّاً، لأنّ کونه غیریّاً أو کفائیّاً أو تخییریّاً یحتاج إلی مؤنةٍ زائدة فی مقام الثبوت لاحتیاجه إلی اللّحاظ الزائد، وفی مقام الإثبات، إذ یحتاج إلی بیانٍ زائد. ومن المعلوم أنّ الأصل عدم المؤنة الزائدة.

فالوجه الأوّل هو الإطلاق اللّفظی.

الوجه الثانی: إنّ تارک الفحص غافلٌ عند العمل عن أنّ عمله مخالف لأمر المولی، ولا ریب فی قبح معاقبة الغافل. فلو کان إستحقاق العقاب علی الواقع

ص: 462


1- 1. مجمع الفائدة 2 / 110، مدارک الأحکام: 123.

_ لا علی مخالفة الأمر بالفحص بعنوان نفسه _ لزم عقاب الغافل. فاستحقاق العقاب یکون علی نفس ترک الفحص.

الوجه الثالث: مشکلة الواجبات المشروطة، وذلک:

تارةً: یکون الواجب مطلقاً غیر موقتٍ وغیر مشروط، فالفحص واجب من أجل الوصول إلیه.

وأُخری: یکون الواجب مشروطاً، کالصّلاة المشروط وجوبها بالزوال. ففی هذا القسم لا وجوب للصّلاة قبل الزوال لفقد الشرط، إذن، لا وجوب للفحص قبل الزوال. وأمّا بعد الزوال، فلو ترک المکلّف الفحص، کان غافلاً عن التکلیف أو عاجزاً عنه، والتکلیف لا یتوجّه إلی العاجز والغافل، فلا وجوب بعد الزوال أیضاً لفقد الشرط. إذن، یبطل وجوب الفحص مطلقاً. فالقول بوجوب الفحص لا یتمُّ إلاّ بناءً علی الوجوب النفسی للفحص.

الجواب عن أدلّة القول بالوجوب النفسی للتعلّم والفحص

أمّا الوجه الأوّل:

فلا إشکال فی الکبری، إنّما الکلام فی الصّغری، لأنّ تمامیّة الإطلاق متوقّفة علی إنعقاده، بعدم وجود القرینة المتّصلة _ حالیةً أو لفظیةً علی التقیید _ ، وعلی حجیّته، بعدم وجود القرینة المنفصلة علی التقیید.

وهنا القرینة موجودة فی کلتا المرحلتین. أمّا فی أصل الإطلاق، فلأنّ الفحص والسؤال والتعلّم إنّما هو من أجل الوصول إلی المطلب والعمل.

ص: 463

وقد ذکر السیّد الخوئی(1) أنّ دلیل وجوب التعلّم هو آیة السؤال.

وأجاب: بأنّ للسؤال الطریقیّة ولیس له موضوعیّة ونفسیّة.

ولکنّ الإستدلال بالآیة لمقامنا والجواب عنه بما ذکر فی غیر محلّه. لأنّ السؤال فی الآیة لیس عن الطریق. هذا أوّلاً.

وثانیاً: السؤال فی الآیة لیس مقدّمةً للعمل، بل هو مقدّمة للعلم، کما فی الآیة نفسها.

وثالثاً: الآیة واردة فی أصول الدین، فلا علاقة لها بالبحث.

بل القرینة المانعة عن الإطلاق هی الصحیحة الواردة فی الصّید(2)، حیث اشترک جمعٌ فی صیدٍ وهم فی حال الإحرام، فسئل عن الجزاء هل علیهم جزاء واحد أو علی کلّ واحدٍ. فقال علیه السّلام للراوی: فی مثل هذا المورد حیث لا تعلم بالحکم توقّف حتی تلقی الامام.

فالسؤال فی هذه الروایة مقدّمة للعمل، فالأمر بوجوب الفحص لیس علی إطلاقه، حتی یکون الفحص واجباً نفسیّاً.

والقرینة المنفصلة، ما ورد فی احتجاج اللّه تعالی علی العباد یوم القیامة: (هلاّ تعلّمت) بعد السؤال عن (هلاّ عملت) والإعتذار بالجهل. فإنّ هذه(3) الأخبار ظاهرة فی أنّ السؤال من أجل العلم مقدّمة للعمل.

ص: 464


1- 1. مصباح الأصول: 496 _ 497.
2- 2. وسائل الشیعة 13 / 46، الباب 18 من أبواب کفّارات الصید.
3- 3. السنن الکبری للبیهقی 1 / 226.

وأیضاً: ما ورد فی غسل المجدور الذی أجنب فاغتسل، حیث أدّی الغسل إلی الموت، وقد کانت الوظیفة التیمّم قال علیه السّلام: (ما لهم، قتلوه، قتلهم اللّه _ ثلاثاً _ )(1) .

وتلخّص: أنّ الوجه الأوّل للقول بنفسیّة وجوب التعلّم والفحص غیر تام.

وأمّا الوجه الثانی:

فالجواب عنه: صحیح أنّ الغافل لا یعاقب، لکن فرقٌ بین الغفلة المسبّبة عن القصور وعن التقصیر. وما نحن فیه من قبیل الثانی، ولذا تقرّرت القاعدة بأنّ الإمتناع بالإختیار لا ینافی الإختیار.

ثمّ إنّ المفروض تنجّز التکالیف الواقعیّة علی المکلّف وإستحقاق العقاب علی مخالفتها، فلو قیل باستحقاق العقاب علی ترک الفحص أیضاً _ لکون الفحص واجباً نفسیّاً _ لزم الإلتزام بترتّب العقابین عند ترک الفحص والوقوع فی خلاف الواقع. ولا یلتزم به أحد.

وأمّا الوجه الثالث: فقد أُجیب عنه بوجوه:

الأوّل: ما یستفاد من کلمات الشیخ(2) من التمسّک بالسّیرة العقلائیّة والإرتکاز العقلائی، فإنّهم لا یفرّقون بین الواجبات المطلقة المشروطة فی إستحقاق العقاب علی ترکها علی أثر عدم الفحص والتعلّم.

وفیه: إنّ هذا الجواب لا یکفی، لأنّ السّیرة مستندة إلی دلیلٍ، فما هو الدلیل

ص: 465


1- 1. بحارالأنوار 2 / 29 رقم 10. وقد تقدّم.
2- 2. فرائد الأصول 2 / 422.

علی سیرتهم علی إستحقاق العقاب علی ترک الفحص فی الواجبات المشروطة؟

الثانی: ما أفاده صاحب الکفایة(1) من أنّه لابدّ من الإلتزام بالوجوب النفسی أو القول بأنّ الواجبات المشروطة ترجع إلی الواجبات المعلّقة، بأن یکون الشرط شرطاً للواجب لا للوجوب.

وتوضیحه: إنّ الواجب المشروط هو کون الوجوب مشروطاً بالشرط ومقیّداً بالقید. فإذا قال: «إذا دخل الوقت فصلّ» یکون مدلول الهیئة «صلّ» معلّقاً علی دخول الوقت، ومقتضی ذلک عدم الوجوب قبل الوقت. والواجب المعلّق هو أن یکون القید متعلّقاً بالمادة «الصّلاة»، فلم یدلّ الخطاب علی عدم وجوب الصّلاة قبل الوقت، بل الوجوب قبل الوقت فعلیٌ، لکنّ الواجب وهو «الصّلاة» استقبالی معلّق علی الوقت.

الثالث: ما ذکره المحقّق العراقی من الإرادة المنوطة.

وتوضیح ذلک: لقد ذهب المحقّق العراقی إلی أنّ الإرادة تنقسم إلی المطلقة والمنوطة. وفی الواجبات المشروطة لا توجد الإرادة المطلقة قبل الشرط، أمّا الإرادة المنوطة فموجودة، فإنّ المولی یلحظ المشروط عند تحقّق شرطه ویتحقّق له الشوق إلیه.

وعلی هذا المبنی یندفع الإشکال، ولا یلزم القول بکون وجوب التعلّم نفسیّاً، لأنّ أساس الإشکال هو عدم وجود الوجوب قبل تحقّق الشرط، والمحقّق العراقی یری وجوده علی نحو الإناطة.

ص: 466


1- 1. کفایة الأصول: 376.

ولکنّ المبنی غیر صحیح، کما بحث عنه فی محلّه من مباحث الألفاظ.

الرابع: ما ذکره السیّد الخوئی فی مصباح الأصول(1)، وهو الجواب المقبول، وهو أنّ للمسألة صوراً:

الصّورة الأُولی:

قد یکون الواجب فعلیّاً مع اتّساع الوقت لتعلّمه والإتیان به، فلا إشکال فی عدم وجوب التعلّم علیه قبل الوقت، لعدم فعلیّة وجوب الواجب فإنّه بعد الوقت مخیّر بین التعلّم والإمتثال التفصیلی، والأخذ بالإحتیاط والإکتفاء بالإمتثال الإجمالی، سواء کان الإحتیاط مستلزماً للتکرار أم لا، بناءً علی ما تقدّم بیانه من أنّ الصحیح جواز الإکتفاء بالإمتثال الإجمالی، ولو کان مستلزماً للتکرار، مع التمکّن من الإمتثال التفصیلی.

الصّورة الثانیة:

وقد یکون الواجب فعلیّاً مع عدم اتّساع الوقت للتعلّم وللإتیان به، ولکن المکلّف یتمکّن من الإحتیاط والإمتثال الإجمالی، ولا إشکال أیضاً فی عدم وجوب التعلّم علیه قبل الوقت، لعدم فعلیّة وجوب الواجب، ولا بعد الوقت، لعدم اتّساع الوقت له وللإتیان بالواجب علی الفرض، فله أن یتعلّم قبل الوقت، وله أن یحتاط بعد دخوله. وتوهّم _ أنّ الإمتثال الإجمالی إنّما هو فی طول الإمتثال التفصیلی، فمع القدرة علی الثانی لا یجوز الإکتفاء بالأوّل _ غیر جار فی هذا الفرض، لعدم التمکّن من الإمتثال التفصیلی فی ظرف العمل، نعم، هو متمکّن من

ص: 467


1- 1. مصباح الأصول: 498.

التعلّم قبل الوقت، إلاّ أنّه لا یجب علیه حفظ القدرة علی العمل قبل الوقت ولم یقل بوجوبه أحد.

الصّورة الثالثة:

وقد یکون الواجب فعلیّاً مع عدم اتّساع الوقت للتعلّم وللإتیان به، ولا یکون المکلّف متمکّناً من الإحتیاط، ولکنّه متمکّن من الإمتثال الإحتمالی فقط، کما إذا شکّ فی الرکوع حال الهویّ إلی السّجود، مع عدم تعلّمه لحکم ذلک قبل العمل، فإنّه لا یتمکّن من الإحتیاط وإحراز الإمتثال، إذ فی الرجوع والإتیان بالرکوع إحتمال زیادة الرکن، وهو مبطل للصّلاة وفی المضیّ فی الصّلاة وعدم الإعتناء بالشکّ إحتمال نقصان الرکن، وهو أیضاً مبطل للصّلاة فلا یتمکّن من الإحتیاط. وفی کلّ من الرجوع والإتیان بالرکوع والمضیّ فی الصّلاة إحتمال الإمتثال. هذا إذا کان الشکّ متعلّقاً بالأرکان کما مثلناه.

وأمّا إن کان متعلّقاً بغیر الأرکان، فهو متمکّن من الإحتیاط والإتیان بالمشکوک فیه رجاء، وهو خارج عن هذا الفرض، ففی هذا الفرض وجب علیه التعلّم قبل الإبتلاء بالشکّ بحکم العقل بملاک دفع العقاب المحتمل عند فعلیّة الشکّ وتشمله أدلّة وجوب التعلّم أیضاً، فإنّه لو یم یتعلّم قبل الإبتلاء واکتفی بالإمتثال الإحتمالی فلم یصادف الواقع، کانت صلاته باطلة وصحّ عقابه، ولا یصحّ اعتذاره بأنّی ما علمت، لأنّه یقال له هلاّ تعلّمت حتی عملت کما فی الروایة. ومن هذا الباب فتوی لأصحاب بوجوب تعلّم مسائل الشکّ والسّهو قبل الإبتلاء، حتّی أفتوا بفسق من لم یتعلّم. وأنت تری أنّ الإشکال المذکور من ناحیة وجوب التعلّم

ص: 468

غیر جار فی هذه الصورة یقیناً. فلاحظ.

الصّورة الرابعة:

وقد لا یکون الواجب فعلیّاً بعد دخول الوقت، لکونه غافلاً ولو کانت غفلته مستندة إلی ترک التعلّم أو لکونه غیر قادر، ولو کان عجزه مستنداً إلی ترک التعلّم قبل الوقت، مع عدم اتّساع الوقت للتعلّم وللإتیان بالواجب. والإشکال المذکور مختصّ بهذه الصّورة.

قال:

والّذی ینبغی أن یقال: إنّه إن کانت القدرة المعتبرة فی مثل هذا الواجب معتبرة عقلاً من باب قبح التکلیف بغیر المقدور، وغیر دخیلة فی الملاک کما إذا ألقی أحد نفسه من شاهق إلی الأرض، فإنّه أثناء الهبوط إلی الأرض وإن لم یکن مکلّفاً بحفظ نفسه، لعدم قدرته علیه، إلاّ أن قدرته لیست دخیلة فی الملاک ومبغوضیّة الفعل للمولی باقیة بحالها، ففی مثل ذلک، لا ینبغی الشکّ فی وجوب التعلّم قبل الوقت للتّحفظ علی الملاک الملزم فی ظرفه، وإن لم یکن التکلیف فعلیّاً فی الوقت، لما تقدّم سابقاً من أنّ العقل یحکم بقبح تفویت الملاک الملزم، کما یحکم بقبح مخالفة التکلیف الفعلی.

وإن کانت القدرة معتبرة شرعاً ودخیلة فی الملاک، فلا یجب التعلّم قبل الوقت حینئذ، بلا فرق بین القول بوجوبه طریقیّاً والقول بوجوبه نفسیّاً. أمّا علی القول بالوجوب الطریقی، فالأمر واضح، إذ لا یترتّب علی ترک التعلّم فوات واجب فعلی ولا ملاک ملزم. وأمّا علی القول بالوجوب النفسی، فلأنّ الواجب إنّما

ص: 469

هو تعلّم الأحکام المتوجّهة إلی شخص المکلّف، والمفروض أنّه لم یتوجّه إلیه تکلیف ولو لعجزه، ولا یجب علی المکلّف تعلّم الأحکام المتوجّهة إلی غیره، وهو القادر، ولذا لا یجب علی الرجل تعلّم أحکام الحیض.

قال:

وظهر بما ذکرناه أنّه لا ثمرة عملیّة بیننا وبین المحقّق الأردبیلی رحمه اللّه، إذ قد عرفت عدم وجوب التعلّم فی هذا الفرض علی کلا القولین، فلا یجدی الإلتزام بالوجوب النفسی فی دفع الإشکال المذکور، بل الحقّ هو الإلتزام بالإشکال وعدم وجوب التعلّم، ولا یلزم منه محذور.

هل إستحقاق العقاب علی ترک الواقع أو ترک التعلّم؟

قد ظهر أنّ تارک التعلّم یستحق العقاب، لکن علی ترک الواقع، لأنّ وجوب التعلّم طریقی لا نفسی، فهو طریق لحفظ المصالح والأحکام.

رأی المیرزا

وذهب المیرزا(1) إلی أنّ إستحقاق العقاب لیس علی ترک التعلّم، سواء وقع فی خلاف الواقع أو لا کما قال المقدّس الأردبیلی، ولیس علی ترک الواقع کما قال المشهور، وإنّما علی ترک التعلّم المستلزم لترک الواقع. وهذا قول برزخ بین القولین، وهو المستفاد من کلمات الشیخ.

ص: 470


1- 1. فوائد الأصول 4 / 281.

یقول المیرزا: إنّ الخطابات الشرعیّة علی قسمین، منها ما هو خطابٌ لأجل خطابٍ آخر، ومنها ما لیس لأجل خطابٍ آخر. والثانی هو الواجب النفسی والأوّل هو الواجب الغیری.

وینقسم الثانی إلی أقسام، فقد یکون متعلّق الخطاب نفس ما یقوم به الغرض، کما فی معرفة اللّه سبحانه، فإنّ معرفته واجبة وهی الغرض من الأمر بالمعرفة، وقد یکون الأمر سبباً لتولّد الغرض، کأنْ یأمر بالإلقاء فی النار، فإنّه سبب لتحقّق الإحراق. وقد یکون الأمر مقدّمة إعدادیّة لحصول الغرض، کأنْ یأمر بالصّلاة لحصول الغرض منها وهو الإنتهاء من الفحشاء والمنکر.

فکان لهذا القسم ثلاثة أقسام.

وأمّا القسم الأوّل، فهو علی قسمین:

الأوّل: أنْ یکون الخطاب الآخر مغنیاً عن الأمر بالشیء، کأنْ یکون المطلوب هو الصّعود إلی السطح المتوقّف علی نصب السلّم، لکنّ الأمر بالصّعود یکفی عن الأمر بنصبه.

والثانی: أنْ لا یکون مغنیاً عنه، بل لابدّ من التصریح به، فیحتاج إلی الخطابین، ولهذا أقسام:

الأوّل: ما لا یمکن تحقّق الواجب والوصول إلی جمیع أجزائه وشرائطه إلاّ بالخطاب الآخر. مثل الصّلاة وقصد القربة بها، فإنّ الأمر بقصد القربة بالصّلاة هو لأجل الصّلاة، ولولاه لما تحقّقت.

الثانی: ما لا یمکن الوصول إلی الواجب إلاّ بالخطاب الآخر، لعدم القدرة

ص: 471

علیه، مثل الحج، فإنّه یجب علی المکلّف، ولکن لا قدرة علیه إلاّ بالسّیر إلی مکّة، فیأتی خطاب آخر یتعلّق بالسّیر. والفرق بین القسمین واضح.

الثالث: أن یکون الخطاب من أجل خطابٍ آخر، للتحفّظ علی متعلّق الخطاب الآخر، مثل الأمر بالإحتیاط، ومثل الأمر بترتیب الأثر علی الطریق کقوله: صدّق العادل. فإنّ المقصود من الأمر بالإحتیاط، ومن الأمر بترتیب الأثر علی الطریق هو حفظ الواقع. وهذا معنی الوجوب الطریقی عند المیرزا.

فیقول المیرزا: إنّ الخطاب بالتعلّم والفحص هو لأجل خطابٍ آخر، لا من قبیل الخطاب بقصد القربة ولا من قبیل المقدّمة، ولا من قبیل السیر للوصول إلی مکّة من أجل الحج، بل هو قسمٌ رابع، فإنّه من أجل التحفّظ علی الخطابات الواقعیّة کما فی صدّق العادل، إذ الغرض مترتّب علی حفظ الواقع.

وعلی هذا، فإنّ إستحقاق العقاب لیس لترک الفحص مطلقاً _ کما قال الأردبیلی، ولا علی ترک الواقع کما هو المشهور، لعدم البیان علی الواقع فیکون العقاب علی مخالفته قبیحاً، بل علی ترک التعلّم المستلزم لترک الواقع.

وقد جاء هذا المطلب فی تقریر السیّد الخوئی بعبارةٍ أُخری وملخّصها:

إنّ موضوع إستحقاق العقاب مرکّب من جزئین، فهو ترک الفحص واستلزامه مخالفة الواقع، لأنّ العقاب علی ترک التعلّم فقط لا یصح، لکونه خطاباً من أجل خطابٍ آخر، ولا یعقل إستحقاق العقاب علی ترک مثله، ولأنّ العقاب علی ترک الواقع فقط یخالف قاعدة قبح العقاب بلا بیان.

ص: 472

الإشکال علیه

ویتوجّه علیه الإشکال: بأن البیان المصحّح للعقاب لیس العلم الوجدانی أو العلم التعبّدی فحسب، إذْ لا خصوصیّة لذلک، بل المراد منه هو «الحجة»، الأعمّ من العلم والأصول المحرزة وغیر المحرزة. وفیما نحن فیه: الأخبار الواردة فی التعلّم حجّةٌ وبیانٌ علی الواقع، ومعها لا یکون العقاب بلا بیان.

ولقد ذهب السید الخوئی إلی أنّ الخطابات الواردة فی باب الطرق طریقیّة، والقول بعدم کونها حجةً علی الواقع، باطل بالضرورة، وإذا کانت حجّةً، فإنّ الحجّة هی ما یصحّ الإحتجاج به والعقاب علی مخالفته، فلا مجال معها لقاعدة قبح العقاب.

فظهر سقوط هذا الوجه نقضاً وحلاًّ.

رأی العراقی

وذهب المحقّق العراقی(1) إلی أنّ العقاب علی ترک الواقع، لکنّ الأخبار الواردة فی وجوب التعلّم مثل «هلاّ تعلّمت» محمولة علی الإرشاد، لا علی الوجوب الطریقی کما علیه المیرزا. ولبیان نظره مقدّمة هی:

إنّ لوجوب تعلّم الأحکام فی عالم الثبوت أنحاء:

1_ الوجوب النفسی الإستقلالی. بأن یکون تعلّم الأحکام الشرعیّة واجباً نفسیّاً، کما هو الحال فی وجوب معرفة اللّه.

2_ الوجوب النفسی التهیّؤی. بأن یکون المکلّف علی أثر التعلّم متهیّئاً للإمتثال.

ص: 473


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 476.

3_ الوجوب الشرطی. أی: یجب تعلّم الأحکام والفحص عنها لیتحقّق شرط إجراء الإستصحاب والبراءة، فإنّ شرط جریانهما عدم وجود خبر الثقة مثلاً.

4_ الوجوب المقدّمی. فیکون التعلّم مقدّمة للعمل، کنصب السلّم للصّعود إلی السّطح.

5_ الوجوب الطریقی. فیکون من قبیل صدّق العادل، فهو لحفظ الواقع.

6_ الوجوب الإرشادی. فلا جعل من المولی، بل إنّ العقل یدرک ضرورة التعلّم والشارع یرشد إلیه.

وفی مقام الإثبات:

الوجوب النفسی باطل، سواء الإستقلالی والتهیّؤی.

والوجوب الشرطی، باطلٌ، لأن ظاهر «هلاّ تعلّمت» هو التعلّم بلحاظ العمل.

وکذا الوجوب المقدّمی، لأنّ معنی المقدّمة توقّف ذی المقدّمة علیها وترتّبه علیها. لکنّ العمل بالواقع غیر متوقّف علی التعلّم، بل یمکن درکه بالإحتیاط. نعم، لو کان ترک التعلّم _ بعد تحقّق شرط التکلیف _ موجباً للعجز عن الإمتثال، کان التعلّم واجباً.

فتعیّن أنّه وجوب طریقی للتحفّظ علی الواقع کما هو الإحتیاط، فللمکلّف أنْ یترک التعلّم ویعمل بالإحتیاط، وجواز ذلک یکشف عن أنّ الغرض هو حفظ الواقع، ولا خصوصیّة للتعلّم.

لکنّ المحقّق العراقی ذهب إلی أنّه لا وجوب مولوی، بل هو درکٌ من

ص: 474

العقل، وما ورد عن الشارع من الأمر بالتعلّم إرشاد إلی حکم العقل. وقال مستشکلاً علی المیرزا بما حاصله:

إنّ الوجوب الطریقی للتحفّظ علی الواقع، إنّما هو حیث یکون موضوع الأمر الطریقی متّحداً مع موضوع الحکم الواقعی، کما هو الحال فی صدّق العادل، فإنّه أمر بتصدیق العادل المخبر عن وجوب صلاة الجمعة مثلاً، فإنّ معناه صلّ صلاة الجمعة التی أخبر العادل بوجوبها. وکذلک الحال فی الأوامر المتعلّقة بالإحتیاط، فإن موضوعها وموضوع الواقع المحتاط فیه واحد.

وأمّا فی مثل الأمر بالتعلّم والأمر بالحکم الواقعی، فلیس الموضوع واحداً، فلیس أمره بالتعلّم طریقیّاً.

المناقشة

وفیه: إنّه لا یوجد أی دلیل من الکتاب والسنّة، ولا أی برهان عقلی، علی اعتبار وحدة الموضوع، فالکبری التی ذکرها العراقی غیر تامّة.

نعم، إشکاله علی المیرزا وارد، من جهة أنّه _ کما ذکر مقرّره المحقّق الخوئی _ معترف بضرورة الإتّحاد الموضوعی، وهو مفقود بین وجوب التعلّم والأحکام الواقعیّة.

وتلخّص:

أنّ وجوب التعلّم طریقی. وأنّ إستحقاق العقاب إنّما هو «علی ترک الواقع» کما علیه «المشهور». وما ذهب إلیه المیرزا من أنّه علی ترک التعلّم المنتهی إلی ترک

ص: 475

الواقع، قد عرفت الإشکال فیه، إذ قلنا بأنّ الواقع قد قام علیه البیان، وهو الخبر الوارد فی وجوب التعلّم.

ویرد علی المیرزا إشکالات أُخری أیضاً.

التنبیه الثانی: حکم العمل المأتیّ به بلا فحص
اشارة

لو عمل المکلّف بلا فحصٍ _ سواء کان مجتهداً، فلم یفحص، أی لم یستخدم ملکة الإجتهاد لإستنباط الحکم الشرعی، أو مقلِّداً، أی: لم یفحص عن رأی المقلَّد الأعلم فی المسألة _ فوقع العمل منه لا عن إجتهاد ولا تقلید، فما هو الحکم؟

ولا یخفی أنّ علی کلّ مکلّف أن یمتثل الحکم الشرعی علی الوجه الصّحیح، لأنّ الأثر _ سواء فی العبادات والمعاملات _ إنّما یترتّب علی العمل الصحیح الواقعی، لأنّ الأمارات کلّها طریق إلی الواقع کما هو القول الحق.

وأیضاً: إنّ الأوامر الظاهریّة لا تدلّ علی الإجزاء واقعاً، وإنّما تفید الإجزاء فی عالم الظاهر، أی ما لم ینکشف الخلاف.

فنقول:

لو أتی بالعمل مع عدم التعلّم والفحص، کان العمل باطلاً ظاهراً. أی لا یترتّب علیه الأثر _ عبادةً کان أو معاملةً _ فی عالم الظاهر. وإنّما نقول: فی عالم الظاهر، لاحتمال کونه مطابقاً للواقع.

ص: 476

والدلیل علی بطلانه ظاهراً:

أمّا فی المعاملات، فهو أصالة الفساد، لأنّ المعاملة قد وقعت مع الشک فی جامعیّتها للأجزاء والشرائط، أو الشک فی فقدها للموانع، فیقع الشکّ حینئذٍ فی إفادتها للنقل والإنتقال، والأصل بقاء کلٍّ من المالین علی ملک صاحبه.

وإن شئت فقل: إنّه حینئذٍ یشک فی صحّة هذه المعاملة، بمعنی هل أنّ الشارع جعل الصحّة علی مثلها أو لا؟ والأصل عدم جعل الصحّة علیها.

وأمّا فی العبادات:

فلأنّ المکلّف إذا کانت ذمّته مشغولةً بالصّلاة الواقعیّة _ مثلاً _ ، ثمّ أتی بها قبل الفحص عن أحکامها، فإنّه یشک فی فراغ ذمّته، وإستصحاب الإشتغال یوجب الحکم بالبطلان، ومع التنزّل عن الإستصحاب فالمرجع قاعدة الإشتغال.

هذا، ولا یخفی أنّه لابدّ فی المعاملات من قصد الإنشاء جدّاً، فلو قصد لا کذلک وقعت المعاملة باطلة ظاهراً. أمّا مع عدم القصد، فالمعاملة باطلة واقعاً.

وفی العبادات کذلک، فإنّه لو جاء بالعبادة بقصد الرجاء بطلت ظاهراً. وأمّا مع عدم قصد القربة فهی باطلة واقعاً.

هذا کلّه، لو عمل قبل الفحص والظفر بالحجّة الشرعیّة.

وأمّا لو ترک الفحص وعمل، ثم ظفر بالحجّة، فللعمل أربع صور، فتارةً: هو مطابق للحجّة فی حینه وللحجّة الفعلیّة. وأُخری: هو مخالف للحجّة فی حینه والحجّة الفعلیّة. وثالثةً: موافق للحجّة فی حینه ومخالف للحجّة الفعلیّة. ورابعة: موافق للحجّة الفعلیّة ومخالف للحجّة فی حینه.

ص: 477

مثلاً: لو ترک المقلّد الفحص عن رأی المجتهد الذی قوله حجّة علیه، ثمّ ظهر مطابقة عمله مع قول المجتهد الذی کان رأیه الحجّة عند العمل، وقول المجتهد الذی قوله حجّةٌ فعلاً علیه لموت ذلک المجتهد. ففی هذه الصّورة _ حیث وقع العمل مطابقاً للحجّة عند العمل والحجّة الفعلیّة _ یحکم بصحّة العمل، أی یترتّب علیه الآثار، عبادةً کان أو معاملةً. نعم، بترکه الفحص یکون متجریّاً ویستحقّ العقاب لذلک.

أمّا لو ظهر مخالفة عمله لکلیهما، فلا شبهة فی بطلانه.

فالحکم فی هاتین الصّورتین بلا کلام.

الصّورة الثالثة: ما لو طابق عمله للحجّة حین العمل وخالف الحجّة الفعلیّة، فما هو حکم العمل؟ وهل یستحق العقاب؟

أمّا بالنسبة إلی العمل، فلابدّ من رعایة الحجّة الفعلیّة لا الحجّة عند العمل، فلو کان فتوی مقلَّده حین العمل صحّة صلاته، وفتوی مقلَّده فعلاً البطلان، حکم ببطلان صلاته. هذا بالنسبة إلی العامّی.

وأمّا المجتهد، فلو لم یفحص عند العمل، مع أنّه کانت روایة لو فحص عنها لعثر علیها، والآن قد عثر علی روایة معارضة لتلک الروایة، والترجیح مع هذه الروایة الدالّة علی البطلان، فالحکم هو البطلان کذلک.

ووجه البطلان هو: إنّ فتوی المرجع الفعلی هو الطریق للمکلَّف العامی. کما أنّ الروایة الثانیة هی الطریق للمجتهد، بناءً علی الطریقیّة والمنجّزیّة کلیهما.

والحاصل: إنّ مقتضی إستصحاب إشتغال الذمّة وقاعدة الإشتغال هو البطلان.

ص: 478

وقد قیل: بالصحّة. لقاعدة الإجزاء، أی: إجزاء الأمر الظاهری عن الأمر الواقعی.

لکنّ هذا الوجه مبنی علی تمامیّة مقدّمتین: إحداهما: أصل الإجزاء، فإنّه خلاف الأصل والقاعدة. نعم، یتمّ الإجزاء حیث لا ینکشف الواقع بالعلم أو العلمی، والمفروض هنا الإنکشاف. هذا أوّلاً.

وثانیاً: علی فرض تمامیّة الکبری، فإنّ إجزاء الأمر الظاهری عن الواقعی هو حیث یکون المکلَّف مستنداً فی عمله إلی الأمر الظاهری، وإلاّ فلا.

نعم، قام الدلیل الخاصّ علی الإجزاء فی الصّلاة إن کان الخلل فی غیر الأرکان، وهو قاعدة لا تعاد، فلو اقتضت الحجّة الفعلیّة البطلان، کانت القاعدة دلیلاً علی الصحّة.

لکنّ الکلام فی عموم القاعدة للجاهل المقصّر کما فی ما نحن فیه، ففیها قولان، فعلی القول باختصاصها بالقاصر کالناسی، لم تجر القاعدة هنا.

الصّورة الرّابعة: ما لو طابق العمل الحجّة الفعلیّة وخالف الحجّة حین العمل. فإنْ کان الإنکشاف فی خارج الوقت، فلا قضاء علیه، لأنّ المفروض مطابقة الصّلاة للحجّة فهی صحیحة، وإن کان الإنکشاف فی داخل الوقت فعلیه الإعادة.

الکلام حول موارد الإستثناء

إلاّ أنّ هناک موارد قام النصّ والإتفاق فیها علی الصحّة، وهی:

1_ الصّلاة جهراً فی موضع الإخفات، وبالعکس.

ص: 479

2_ الصّلاة تماماً فی موضع القصر.

3_ الصّوم فی السّفر.

فالحکم فی هذه الموارد هو الصحّة مع الجهل ولو عن تقصیرٍ، وإنْ کان مستحقّاً للعقاب علی مخالفة الواقع بسبب ترک الفحص والتعلّم.

وقد وقع الکلام بینهم فی کیفیّة الجمع بین الحکم بصحّة العمل المأتیّ به والحکم باستحقاق العقاب علی ترک التعلّم؟ فذکروا وجوهاً، ونحن نذکرها ونتکلّم علیها باختصار:

طریق الکفایة

فالوجه الأوّل: ما ذکره صاحب الکفایة(1)، وهو: إنّ الصّلاة الإخفاتیة أو الجهریة _ مثلاً _ مشتملة علی مصلحة زائدةٍ، لکنّ الصّلاة المأتی بها حال الجهل _ إذ جهر فی موضع الإخفات أو أخفت فی موضع الجهر _ مشتملة علی مصلحةٍ ملزمة، فهی صحیحة لذلک إلاّ أن تلک المصلحة الزائدة قد فاتت بسبب التقصیر، فاستحقّ العقاب علی تفویتها، ولا منافاة.

الإشکال علیه

وأورد علیه فی مصباح الأصول(2) بوجهین أحدهما: أنّ المصلحتین إن کانتا إرتباطیتین، فلا وجه للحکم بصحّة المأتی به مع فرض عدم حصول المصلحة

ص: 480


1- 1. کفایة الأصول: 378.
2- 2. مصباح الأصول: 507.

الأُخری، وإن کانتا إستقلالیتین، لزم تعدّد الواجب وتعدّد العقاب عند ترک الصّلاة رأساً، وهو خلاف الضّرورة.

طریق کاشف الغطاء

والوجه الثانی ما ذکره الشیخ الکبیر فی کشف الغطاء(1) من الإلتزام بالترتّب، لکون الواجب هو صلاة القصر مثلاً، وعلی تقدیر ترکه وإستحقاق العقاب علی المعصیة، فالواجب هو التمام، فلا منافاة، کما ذکر فی محلّه تفصیلاً.

الإشکال علیه

وأورد علیه المحقّقان النائینی والإصفهانی(2) بعدم تمامیّته ثبوتاً. وتوضیح ذلک: إنّ الترتّب یدور مدار عدم القدرة علی الإمتثال أو التزاحم بین الغرضین. مثال الثانی: ما إذا کان یملک 25 من الإبل وزکاته خمس شیاه، فصارت فی أثناء السنة 26 وزکاته إبل واحد، فیدور أمره بین دفع الخمسة شیاه ودفع الإبل، وهو قادر علی کلیهما، إلاّ أنّ الدلیل أفاد عدم وجوب الزکاتین فی السنة الواحدة، فکان المحذور هو الجمع بین الملاکین. ومثال الأوّل: هو قضیّة دوران الأمر بین الصّلاة وإزالة النجاسة عن المسجد.

وما نحن فیه لیس من موارد تزاحم الغرضین لوجود القدرة علی الغرض، ولیس من موارد عدم القدرة، لأنّ الخطاب الترتّبی کان موضوعه عصیان الأهم،

ص: 481


1- 1. کشف الغطاء: 27.
2- 2. أجود التقریرات 3 / 572، نهایة الدرایة 4 / 430.

وهذا غیر ممکن هنا، لأنّ المکلّف بمجرّد إلتفاته إلی العصیان یخرج عن الجهل، فلا یحکم بصحّة ما أتی به، وإنْ لم یلتفت إلی ذلک، لم یعقل کون الحکم المجعول محرّکاً بالنّسبة إلیه فی مقام العمل. هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّ وجوب الصّلاة موسّع، ولا یتحقّق العصیان له إلاّ بخروج الوقت، وعلیه، لا یعقل تحقّق العصیان فی أثناء الوقت الّذی فرض کونه الموضوع للحکم الثانی.

وأضاف المیرزا الإشکال الإثباتی: بأنّه لو سلّم إمکان الترتّب هنا فلا دلیل علی وقوعه.

الجواب

أجاب المحقّق الخوئی(1) عن الإشکالات فقال:

أمّا الوجهان الأوّلان، فقد ذکرنا فی محلّه أنّ الإلتزام بالخطاب الترتّبی لا یتوقّف علی أنْ یکون موضوعه عصیان التکلیف الأهم، بل یصحّ مع کون الموضوع فیه مطلق الترک. فیصحّ أن یقال هنا: إنّ القصر واجب مطلق، والتمام واجب مشروط بترک القصر جهلاً بوجوبه.

وأمّا الوجه الأخیر، فلأنّ الدلیل علی صحّة العمل المأتی به قائم، غیر أنّ المشکلة فی کیفیّة الجمع بین الصحّة وإستحقاق العقاب، وهی منحلّة بالترتّب.

لکنّ الترتّب غیر جارٍ هنا، لاستلزامه أوّلاً: تعدّد العقاب فی صورة ترک الصّلاة رأساً. وثانیاً: إنّه ینافی الروایات الکثیرة الدالّة علی أنّ الواجب فی کلّ یوم

ص: 482


1- 1. مصباح الأصول: 508.

ولیلة خمس صلوات، والقول بالترتّب یستلزم أن یکون الواجب علی من أتمّ صلاته وهو مسافر ثمان صلوات. وکذا علی من جهر فی موضع الإخفات وبالعکس.

أقول:

أمّا مناقشة المیرزا مع کاشف الغطاء فی جریان الترتّب وعدم جریانه، فترجع إلی المبنی فی شرط وجوب المهم، وأنّه هل هو العزم علی ترک الأهمّ أو معصیة الأمر به أو مطلق الترک؟

والکلام الآن فی إشکالی السیّد الخوئی:

فأمّا الأوّل، فیمکن الجواب عنه بالفرق بین ما نحن فیه ومسألة دوران الأمر بین الصّلاة وإزالة النجاسة، وذلک، لأنّ الواجب هناک واجبان ولکلٍّ منهما غرض، فلو ترکهما إستحقّ العقابین، أمّا فیما نحن فیه، فالغرض واحد تشکیکی، لأنّ الغرض من الصّلاة الجهریّة لا یختلف عمّا لو أُتی بها إخفاتاً إلاّ أنّه مع الجهر أتم منه مع الإخفات، فلو ترک الصّلاة رأساً لم یستحقّ إلاّ عقاباً واحداً.

وأمّا الثانی، فإنّ تحصیل الإجماع علی وجوب الصّلوات الخمس حتّی بالنّسبة إلی المکلّف الجاهل المقصّر مشکل جدّاً. وعلی فرض ثبوته، فکاشفیّته عن رأی المعصوم أوّل الکلام، خاصّةً مع وجود النصوص، فالمرجع هو النصوص، ولکنّها مطلقات قابلة للتقیید.

وتلخّص: أنّ کلّ ما أُشکل به علی کاشف الغطاء فهو قابل للبحث والمناقشة، ویکون حاصل کلامه فی وجه الجمع: أنّ الّذی وجب علی المکلّف

ص: 483

فی السّفر هو القصر، لکنّه إذا ترک القصر عن الجهل والتقصیر، وجب علیه التمام من باب الترتّب. ولا یرد علی هذا الوجه إشکال لا عقلاً ولا نقلاً.

طریق العراقی

والوجه الثالث: ما ذکره المحقّق العراقی(1)، وتقریب ذلک: أن هنا مصلحةً قائمة بالجامع بین القصر والتمام، والجهر والإخفات، وهی مصلحة لزومیّة، ومصلحة أُخری قائمة بالحصّة من هذا الجامع وهی صلاة القصر من المسافر مثلاً، وبین المصلحتین تضادُّ فلا یمکن الجمع بینهما، فإذا صلّی المسافر تماماً فقد أدرک المصلحة القائمة بالجامع وصحّت صلاته، لکنّه فوّت المصلحة القائمة بالحصّة _ وهی الصّلاة قصراً _ فاستحقّ العقاب علی تفویتها.

المناقشة

وهذا الوجه یرجع إلی طریق صاحب الکفایة، فیرد علیه ما ورد علیه.

وقد أورد علیه المحقّق الإصفهانی(2) بما حاصله: أنّ الأمر بالجامع وبالحصّة غیر معقول، لأنّه إنْ کان بعنوان الوجوب التخییری، لزم التخییر بین الشیء ونفسه، لکون الکلّی نفس الفرد، وإن کان بعنوان الوجوب التعیینی، لزم إجتماع الوجوبین فی الشیء الواحد.

فأجاب شیخنا عن ذلک _ بعد ما تقرّر من أنّ کلّ حکمٍ فهو مقصور علی

ص: 484


1- 1. نهایة الأفکار 3 / 484.
2- 2. نهایة الدرایة 4 / 433.

متعلَّقه ولا یسری إلی غیره، وأنّ الخارج دائماً ظرف سقوط الحکم لا ثبوته _ بأنّ هنا أمراً قد تعلّق بالجامع بین القصر والإتمام ولا یسری إلی الحصّة، وأمراً آخر قد تعلّق بحصّة القصر، فکان لکلٍّ منهما متعلّقه، فالوجوب تعیینی لا تخییری، ولا یلزم الإجتماع، لکون الحصّة متعلّقةً للتکلیف المتعلّق بالجامع.

قال: لکنّ الإشکال الوارد علی المحقّق العراقی هو: لزوم اللغویّة، لأنّ الغرض من الأمر إیجاد الدّاعی علی الإمتثال، ومع تعلّقه بالحصّة قد تحقّق الدّاعی، فما فائدة تعلّقه مرّةً أُخری بالجامع؟

طریق الخوئی

والوجه الرابع: ما ذکره المحقّق الخوئی(1) بقوله:

والّذی ینبغی أنْ یقال فی مقام الجواب عن أصل الإشکال: أنّا لا نلتزم بإستحقاق العقاب فی هذه الموارد، لأن إستحقاقه وعدم الإستحقاق له من الأحکام العقلیّة، ولا دخل للإجماع فی ذلک، علی أنّ الإجماع غیر متحقّق.

المناقشة

قال شیخنا بعد توضیح هذا الوجه: إنّه وجه وجیه، لکنّ مقام الإثبات لا یساعد علیه، لأنّ الوجه المذکور یرجع إلی الوجوب التخییری، وهذا ما لا یناسبه «لا ینبغی» الوارد فی النصوص.

ص: 485


1- 1. مصباح الأصول: 508.
طریق النائینی

والوجه الخامس: ما ذکره المحقّق النائینی(1) ویتلخّص فی أن: مقتضی النصّ الصّحیح أنّ صلاة من جهر فیما لا ینبغی الجهر فیه تامّة صحیحة. وأمّا إستحقاق العقاب علی التقصیر، فلأنّ الأصل الأوّلی فی واجبات الصّلاة هو الإرتباطیّة لا الإستقلالیّة، ومقتضی ذلک بطلان الصّلاة بترک أحد الأجزاء والشرائط، والجهر والإخفات فی القراءة یمکن تصویرهما ثبوتاً بنحو وحدة المطلوب والإشتراط، بأنْ تکون القراءة مقیّدة فی الجهریّة بالجهر مثلاً، أو بنحو تعدّد المطلوب، أی الظرف والمظروف، والواجب فی الواجب، فکانت الصّلاة صحیحةً بدلیل النصّ، وکان إستحقاق العقاب لترک الشرط أو الواجب، والدلیل علیه هو الإجماع.

المناقشة

وفیه: إن جعل الواجب فی الواجب للجاهل المقصر لغو، لعدم الداعویّة له بالنّسبة إلیه کما هو واضح، وهذا کافٍ للإشکال علی هذا الوجه.

طریق شیخنا الأُستاذ

وذکر شیخنا الأُستاذ أوّلاً: أن لا دلیل علی إستحقاق العقاب فی المقام إلاّ الإجماع المدّعی، لکنّه غیر ثابت، والمنقول لیس بحجّةٍ، وعلی فرض الثبوت،

ص: 486


1- 1. أجود التقریرات 3 / 575.

فکاشفیّته عن رأی المعصوم غیر ثابتة، علی أنّه فی مسألةٍ عقلیّة، وهو فیها غیر معتبر.

ثمّ أفاد أنّه لابدّ من التأمّل فی نصوص المسألة، فذکر بعد الدّقة والتأمّل أنّها ظاهرة فی جعل البدل فی مقام الإمتثال إمتناناً علی المکلَّف، فهی نظیر أخبار قاعدة لا تعاد من جهة التصرّف فی مقام الإمتثال والتوسعة علی المکلّفین، وإنْ کانت لا تشمل الجاهل المقصر علی التحقیق وتختصّ بالجاهل القاصر، وهذا هو الظّاهر منها فی مقام الإثبات، وأمّا ثبوتاً فلا مانع منه.

وهذا تمام الکلام فی هذا التنبیه.

وبه ینتهی الکلام علی شرائط الأصول فی الشبهة الحکمیّة.

التنبیه الثالث: فی الفحص فی الشبهة الموضوعیّة
اشارة

إنّ المشهور جواز التمسّک بالأصول وعدم وجوب الفحص فی الشّبهات الموضوعیّة، لإطلاق أدلّة الأصول، مضافاً إلی بعض النصوص الخاصّة، کصحیحة زرارة فی الإستصحاب(1). إلاّ أنّ هنا قولین آخرین:

أحدهما: وجوب الفحص فی الشبهات الموضوعیّة(2) الّتی یتوقّف الحکم فیها علی الفحص عادةً، کأنْ یشک فی أنّه مستطیعٌ للحجّ أوْ لا؟ أو یشک فی

ص: 487


1- 1. تهذیب الأحکام 1 / 8، الباب 1، رقم: 11.
2- 2. فوائد الأصول 4 / 301 ونسبه فی مصباح الأصول: 510 إلی جماعة.

وجوب الخمس علیه؟ أو الفحص عن الوصول إلی المسافة الشرعیّة وعدمه. ففی مثل هذه الموارد الّتی یفوت فیها الحکم الشرعی لولا الفحص، یکون الفحص واجباً.

والثانی: ما ذهب إلیه المحقّق النائینی(1) من وجوبه فیما إذا توقف العلم بالحکم علی مجرَّد النّظر فی الموضوع. کمن توقّف علمه بطلوع الشّمس وعدمه حتّی یصلّی قضاءً أو أداءً علی مجرّد النّظر إلی الأُفق، ففی هذه الحالة لا یجوز له الرجوع إلی الأصل، بل علیه الفحص والنّظر.

تفصیل الکلام

وتفصیل الکلام هو: أنّه لا ریب فی إطلاق أدلّة الأُصول من حدیث الرفع وأدلّة الإستصحاب وغیرها، ودعوی الإنصراف فیها غیر مسموعة، کما أنّه لا مانع عن إقتضاء تلک الأدلّة، ولیس العقل حاکماً بالفحص أو الإحتیاط فی الشّبهات الموضوعیّة ولا السّیرة العقلائیّة قائمة علی ذلک، کما لیس فی المورد دلیلٌ علی وجوب التعلّم کما کان فی الشّبهات الحکمیّة. ولذا کان علی القائلین بالتفصیلین المذکورین إقامة الدلیل کما سیأتی.

ثمّ إنّه قد یقال بأنْ لا مقتضی لجریان البراءة العقلیّة فی الشّبهات الموضوعیّة، لأن موضوعها هو «البیان»، ولیس فی مورد الموضوعات بیانٌ من الشّارع، بل إنّ بیانات الشّارع کلّها أحکام کلیّة.

ص: 488


1- 1. أجود التقریرات 3 / 556.

والتحقیق هو النّظر فی موضوع حکم العقل وهو إستحقاق العقاب وعدمه، ولکنّ حکمه بذلک منوطٌ بالوصول، فإنْ کان الحکم من المولی واصلاً إلی المکلّف، فإنّ العقل یلزمه بالإطاعة ویحکم باستحقاقه للعقاب فی صورة المعصیة، وإلاّ، فإنّه یراه معذوراً أمام المولی. ومن المعلوم أنّ «الوصول» لا یتمُّ إلاّ بتمامیّة الکبری والصغری، بأنْ یعلم المکلّف بخمریّة هذا الإناء ویعلم بحرمة شرب الخمر، وبانتقاء کلٍّ منهما ینتفی الوصول، وتجری القاعدة.

وبعبارة أُخری: یدور الحکم العقلی مدار قیام الحجّة علی المکلّف، ومع قیامها یتمّ المقتضی للحکم العقلی. وهل من مانع؟

ذهب المحقّق الخراسانی(1) إلی انّ السّیرة العقلائیّة قائمة علی وجوب الفحص عن موضوعات الأحکام بین الموالی والعبید.

ولکنّ التحقیق هو التفصیل بین الموارد، ففی مثل حفظ النفوس والأعراض لا نشکّ فی لزوم الإحتیاط، وأمّا فی غیر ذلک ممّا لا یحتاط فیه لحفظ أغراض المولی، فالسّیرة غیر ثابتة.

وتلخّص:

تمامیّة الإطلاق فی أدلّة الأصول، فالمقتضی فیها تام، والمانع عن ذلک مفقود. ویبقی الکلام فی التفصیلین:

أمّا التّفصیل الأوّل، فقد أُجیب عنه(2): بأنّ العلم بتحقّق المسافة فی السفر

ص: 489


1- 1. الحاشیة علی الرسائل: 271.
2- 2. مصباح الأصول: 511.

وبلوغ المال حدّ النصاب أو کفایته للحجّ أو زیادته عن مؤونة السنة، قد یحصل بلا إحتیاج إلی الفحص، وقد یحصل العلم بعدمه، وقد یکون مشکوکاً فیه کبقیّة الموضوعات الخارجیّة. نعم، ربّما یتّفق توقّف العلم بالموضوعات المذکورة علی الفحص والتوقّف أحیاناً من باب الإتّفاق، وهذا لا یوجب الفحص، وإلاّ لوجب الفحص عن أکثر الموضوعات.

لکنّ هذا الجواب لا یدفع الإستدلال بأنّ ترک الفحص فی هذه الموارد یلازم غالباً فوت الواجب.

ثمّ إنّ الموارد المذکورة منها ما یکون من الشّبهة الموضوعیّة فی الأموال ومنها ما یکون من الشّبهة الموضوعیّة فی الحجّ والصّلاة. أمّا فی القسم الأوّل، فالسّیرة العقلائیّة قائمة قطعاً علی وجوب الفحص، فمن احتمل اختلاط مال الغیر بأمواله وتوقّف الأمر علی الفحص، فإنّه یبادر إلی الفحص یقیناً، وفی مثل هذا المورد یتقیّد إطلاق الأدلّة بالسّیرة العقلائیّة بلا شک.

وأمّا فی القسم الثانی، فإنّ النصوص فی المنع من التهاون فی أمر الحجّ والصّلاة والإستحقاق للعقاب بذلک وإن کانت تقتضی وجوب الفحص، لکنّ أدلّة الإستصحاب تصلح للمنع، فلا یمکن المساعدة مع القائلین بالتفصیل فی هذا القسم.

وأمّا التفصیل الثانی، فهو الحقّ الحقیق بالقبول کذلک.

وما أُجیب به(1): من أنّ مجرّد النّظر وفتح العین من دون إعمال مقدّمة

ص: 490


1- 1. مصباح الأصول: 512.

أُخری وإنْ کان لا یعدّ من الفحص، إلاّ أنّ الفحص بعنوانه لم یؤخذ فی لسان دلیلٍ لیکون الإعتبار بصدقه عرفاً، بل المأخوذ فی أدلّة البراءة إنّما هو الجاهل وغیر العالم، ولا شک فی أنّ المکلّف بالصّوم فی المثال المذکور جاهل بطلوع الشّمس ولا دلیل علی وجوب النظر لیکون مقیّداً لإطلاقات الأدلّة الدالّة علی الإستصحاب أو البراءة، فالإطلاقات محکّمة.

فغیر تام، لأنّ دلیل الإستصحاب أو البراءة منصرف عن مثل هذا المورد.

التنبیه الرابع: فی شرطین ذکرهما الفاضل التونی لجریان البراءة
اشارة

قد ذکر الفاضل التونی(1) لجریان البراءة شرطین آخرین هما:

1_ أن لا یکون مستلزماً لثبوت حکم إلزامی من جهة أُخری، کما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین، فإن جریان البراءة عن وجوب الإجتناب عن أحدهما یوجب الإجتناب عن الآخر، للعلم الإجمالی بنجاسة أحدهما.

2_ أنْ لا یکون جریانها موجباً للضّرر علی مسلمٍ أو من بحکمه، کما لو فتح إنسان قفص طائر فطار أو حبس شاةً فمات ولدها أو أمسک رجلاً فهربت دابّته. فإن جریان البراءة فی هذه الموارد یوجب الضّرر علی المالک.

ص: 491


1- 1. الوافیة فی الأصول: 193.
التحقیق فی الشّرط الأوّل

أمّا الشّرط الأوّل، فإن ترتّب الحکم الإلزامی علی جریان البراءة له صور:

الصّورة الأُولی: أن لا یکون بین الحکم والبراءة ترتّب لا شرعاً ولا عقلاً إلاّ أن شیئاً خارجیّاً أوجب ذلک بینهما، کما فی المثال الّذی ذکره، فإن نجاسة أحد الإناءین غیر مترتّبة علی جریان البراءة فی الآخر، بل إنّها مترتّبة علی الأمر الّذی نشأت منه النجاسة، ومن الممکن أنْ یکون ذاک الإناء نجساً وهذا طاهراً، أو یکون کلاهما نجساً فی الواقع. فوجوب الإجتناب فی طرفٍ غیر مترتّب عقلاً ولا شرعاً علی طهارة الطرف الآخر، وإنّما العلم الإجمالی هو الّذی أوجب الترتّب المذکور وکان هو المنشأ لذلک، وهو السّبب لعدم جریان الأصل لا ما ذکره الفاضل التونی من کون الأصل فیه مثبتاً.

الصّورة الثانیة: أن یکون الترتّب عقلیّاً، کما لو حصل التزاحم بین الواجب الأهمّ والواجب المهم، فیتقدّم الأهمّ وإلاّ یلزم التکلیف بالضّدین، فلو وقع الشکّ فی وجوب الأهمّ، ترتّب وجوب المهمّ عقلاً علی جریان البراءة فی الأهمّ، فاشتراط جریان البراءة بعدم ترتّب الحکم الإلزامی باطل.

الصّورة الثالثة: أن یکون الترتّب شرعیّاً، کأنْ یشکّ المکلّف فی أنّه مدیون أوْ لا، فإنْ کان مدیناً بدینٍ حالٍّ وجب علیه أداء الدین ویخرج عن الإستطاعة للحجّ، وإلاّ وجب علیه الحج، ومع الشکّ فی کونه مدیناً یجری أصل البراءة عن الدین، وبمجرّد جریانه یترتّب وجوب الحجّ شرعاً، وفی هذه الصّورة لا مناص من إجراء أصالة البراءة. فالقول باشتراط جریانها بعدم ترتّب حکمٍ إلزامی باطل.

ص: 492

التحقیق فی الشّرط الثانی

قال: إنّه یترتّب الضّرر علی المالک بجریان البراءة عن الحکم التکلیفی أو الوضعی _ وهو الضّمان _ فی الموارد الّتی ذکرها، لکنّ الضّرر منفیّ فی الشّریعة، فعدم ترتّبه شرط فی جریانها. وأیضاً، فإنّ المنشأ لعدم الجریان هو وجود العلم الإجمالی بترتّب أحد الحکمین علی تلک الأفعال، إذ الأصول لا تجری فی أطراف العلم الإجمالی. فأشکل الشیخ علی التقریب الأوّل: بأنّ عدم جریان أصالة البراءة _ مع جریان قاعدة لا ضرر _ مستند إلی وجود الدلیل، فإنّ الأصول لا تجری حیث یوجد الدلیل، وقاعدة لا ضرر من الأدلّة. وإنْ لم یکن القاعدة جاریةً، فإنّ مجرّد إحتمال کون الفاعل متلفاً لمال الغیر لا یمنع من جریان البراءة.

وعلی التقریب الثانی: بأنّ الرجل الّذی فعل أحد تلک الأفعال إنْ کان متعمّداً، فهو آثمٌ وضامن قطعاً، وإنْ لم یکن متعمّداً، فلا علم إجمالی.

هذا، وکلام الفاضل التونی وإنْ کان فیه مناقشات عدیدة، ومن ذلک تقییده قاعدة لا ضرر بالضّرر غیر المتدارک، فإنّ هذا القید غیر موجود فی أدلّة هذه القاعدة، لکنّ المختار فی معنی أدلّتها هو أنّ الحکم الضّرری غیر مجعولٍ فی الإسلام، فلو شککنا فی حکم الفاعل هل هو آثم وضامنٌ أوْ لا؟ یکون التمسّک بحدیث الرفع فی مورده تشریعاً للحکم الضرری، وهذا منفیّ عن الشّریعة، وهذا تقریب کلام الفاضل، لأنّ جریان البراءة فی الموارد المذکورة هو لزوم تشریع الحکم الضرری، ولیس فی الشریعة المطهّرة.

ص: 493

لکنّ من المعلوم أنّ الموضوع لأصالة البراءة هو «الشک» ومع وجود الإجماع علی أنّ من أتلف مال الغیر فهو له ضامن، لا یبقی الشکّ فی الإثم والضّمان. ولو تنزّلنا عن دعوی الإجماع، فلا ریب فی قیام السّیرة العقلائیّة علی أنّ الإتلاف یوجب الضمان. وحینئذٍ، لا موضوع لجریان البراءة، وهذا هو المانع عن جریانها لا قاعدة لا ضرر. فما ذکره الفاضل التونی مردود.

وهذا تمام البحث فی أصالة البراءة وأصالة الإشتغال.

والحمد للّه ربّ العالمین وصلّی اللّه علی محمّد وآله الطاهرین.

ویقع الکلام فی الإستصحاب إن شاء اللّه.

ص: 494

المحتویات

کلمة المؤلف ··· 5

أصالة التخییر

فی دوران الأمر بین المحذورین؟

7 _ 87

الکلام فی دوران الأمر بین المحذورین التوصلیین ··· 10

الوجوه فی الشّبهة الحکمیّة ··· 11

الوجه الأوّل: التوقّف ··· 11

الوجه الثانی: التخییر العقلی والإباحة الشرعیّة ··· 13

إشکال الاصفهانی ··· 16

المناقشة ··· 17

ص: 495

إشکال المیرزا ··· 20

المناقشة ··· 20

إشکال العراقی ··· 23

المناقشة ··· 23

التحقیق فی الإشکال علی صاحب الکفایة ··· 23

الکلام حول قیاس ما نحن فیه بتعارض الخبرین ··· 27

توضیح کلام الکفایة ··· 27

النظر فیه ··· 30

کلام السیّد الأُستاذ ··· 32

الوجه الثالث: التخییر ··· 34

الوجه الرابع: تقدیم جانب الحرمة ··· 35

الوجه الخامس: البراءة ··· 35

الإشکالات ··· 36

جواب السیّد الخوئی ··· 40

المختار فی دوران الأمر بین المحذورین ··· 42

عدم جریان أصالة الإباحة ··· 42

عدم جریان البراءة الشرعیة ··· 43

عدم جریان البراءة العقلیة ··· 43

ص: 496

جریان الإستصحاب ··· 44

الکلام حول الموانع عنه ··· 45

هل الحکم بالتخییر مطلق؟ ··· 48

التحقیق فی المقام ··· 50

إن کان منشأ الدوران تعارض الخبرین ··· 52

دوران الأمر بین المحذورین _ فی الشّبهة الموضوعیّة ··· 53

دوران الأمر بین المحذورین التوصّلیین أو أحدهما غیر المعیَّن توصّلی ··· 56

لو کانا تعبّدیین أو أحدهما ··· 56

الإشکال علی الشیخ والکفایة ··· 57

إشکال العراقی علی الکفایة وردّه ··· 57

التحقیق ··· 59

تعدّد الواقعة ··· 61

الأقوال فی المسألة ··· 61

1_ التخییر الابتدائی ··· 62

2_ التخییر الاستمراری ··· 63

النظر فی کلمات الشیخ ··· 64

التحقیق ··· 66

رأی الکفایة ··· 69

ص: 497

توجیه المخالفة العملیّة ··· 70

3_ تفصیل المیرزا ··· 72

المناقشة ··· 73

رأی المحقّق العراقی ··· 74

خلاصة الکلام والتحقیق فی المقام ··· 75

رأی السیّد الأستاذ ··· 78

لو کانت احدی الواقعتین محتمل الأهمیّة ··· 80

کلام الشیخ فی الخبرین ··· 81

الإشکال علی الشیخ والنظر فیه ··· 83

أصالة الإشتغال

87 _ 93

مقدّمات ··· 89

دوران الأمر بین المتباینین

93 _ 157

طریق الکفایة وتوضیحه ضمن مقدمات ··· 95

نتیجة المقدّمات ··· 99

ص: 498

إشکال الإصفهانی ··· 100

الجواب ··· 101

الإشکال الثانی ··· 101

إشکال الإیروانی ··· 103

الإشکال الوارد علی صاحب الکفایة ··· 103

طریق المیرزا ··· 105

الکلام علی الطریق المذکور ··· 107

التحقیق فی المقام ··· 110

طریق الاصفهانی وله مقدمات ··· 112

خلاصة المقدّمات ··· 116

الکلام حول الطریق المذکور ··· 117

فی المقدّمة الأُولی ··· 117

فی المقدّمة الثانیة ··· 119

فی المقدّمة الرابعة ··· 120

المختار فی المقام ··· 121

الکلام فی وجوب الموافقة القطعیّة ··· 123

نظریّة العلیّة والاستدلال لها بوجهین: ··· 124

الوجه الأول: ما ذکره صاحب الکفایة ··· 124

ص: 499

إشکال السیّد الخوئی ··· 124

نصّ عبارة الکفایة ··· 125

النظر فی إشکال السیّد الخوئی ··· 127

الوجه الثانی: ما ذکره العراقی وله مقدّمات: ··· 127

المقدّمة الأُولی ··· 127

المقدّمة الثانیّة ··· 128

المقدّمة الثالثة ··· 128

المقدّمة الرابعة ··· 129

المقدّمة الخامسة ··· 130

إشکالات السیّد الخوئی ··· 131

المناقشة ··· 132

ثمرة هذا الوجه ··· 134

نظریة الإقتضاء ··· 135

إشکالان من العراقی ··· 136

الجواب عن الإشکال الأوّل ··· 137

الجواب عن الإشکال الثانی ··· 138

إشکال الکفایة ··· 139

الجواب ··· 139

ص: 500

إشکال الإصفهانی علی نظریة جعل البدل ··· 140

المناقشة ··· 142

القول بالتخییر ··· 146

الجواب ··· 147

تقریب العراقی ··· 148

الجواب ··· 148

تقریب العراقی بوجه آخر ··· 149

التحقیق فی الجواب عنه ··· 150

الکلام علی التخییر ··· 150

التحقیق فی الجواب عن التخییر ··· 152

کلام الشیخ الحائری ونقده ··· 153

تتمیمٌ وفیه أمران ··· 155

تنبیهات دوران الأمر بین المتباینین

157 _ 305

التنبیه الأوّل: فی الأُصول الجاریة فی أطراف العلم ··· 159

رأی السیّد الخوئی ··· 161

رأی المیرزا ··· 162

ص: 501

التنبیه الثانی: هل یعتبر کون عنوان المعلوم بالإجمال معیّناً؟ ··· 168

دلیل قول صاحب الحدائق ··· 168

کلام المحقّق العراقی ··· 169

التنبیه الثالث: فی المأتیّ به بناءً علی الموافقة الإحتمالیّة ··· 172

التنبیه الرّابع: فیما لو کان بعض الأطراف خارجاً عن الإبتلاء ··· 174

التحقیق ··· 175

التنبیه الخامس: فیما لو کان لأحد الطرفین أثر زائد ··· 177

التنبیه السادس: فیما لو کان متعلَّق العلم تدریجیّاً ··· 179

المقام الأوّل ··· 183

دلیل القول بالتفصیل ··· 183

دلیل القول بالتنجیز مطلقاً ··· 187

بیان المیرزا ··· 187

بیان العراقی ··· 188

بیان الإصفهانی ··· 189

المقام الثانی ··· 193

رأی الشیخ والکلام حوله ··· 194

رأی المیرزا ··· 196

رأی العراقی ··· 197

ص: 502

التحقیق ··· 199

التنبیه السّابع: فی الشّبهة غیر المحصورة ··· 202

تعریفها ··· 202

دلیل عدم تنجیز العلم فی الشّبهة غیر المحصورة ··· 203

ما ذکره الشیخ ··· 203

ما ذکره فی الکفایة ··· 204

الإشکال علی صاحب الکفایة ··· 204

الإشکال الوارد ··· 206

ما ذکره المیرزا ··· 207

ما ذکره العراقی ··· 208

روایة الجبن ··· 209

أُمورٌ تتعلّق بالشّبهة غیر المحصورة ··· 212

الأمر الأوّل (هل العلم کلا علم أو أنّ الشبهة تزول؟) ··· 212

الأمر الثانی (لو وقع الشک فی کون الشبهة غیر محصورة) ··· 213

الأمر الثالث (فی شبهة الکثیر فی الکثیر) ··· 216

التنبیه الثامن: لو اضطرّ إلی إرتکاب أحد الأطراف ··· 218

المقام الأوّل _ فی الإضطرار إلی الفرد المعیّن. وفیه صور: ··· 218

الصورة الأُولی ··· 218

ص: 503

الصّورة الثانیة _ وفیها قولان ··· 219

رأی السیّد الأُستاذ ··· 222

الإستدلال بالإستصحاب للقول الأوّل ··· 223

المناقشة ··· 224

الصورة الثالثة _ وفیها قولان ··· 226

الأوّل: عدم التنجیز، ذهب إلیه الخراسانی ··· 226

الثانی: التنجیز ··· 226

بیان الشیخ ··· 227

بیان المحقّق الخراسانی ··· 228

بیان المحقّق العراقی ··· 229

بیان المحقّق النائینی ··· 230

خلاصة البحث ··· 230

المقام الثانی: لو اضطرّ إلی إرتکاب الفرد غیر المعیَّن ··· 231

دلیل عدم التنجیز _ الوجه الأوّل ··· 231

جواب الشیخ ··· 232

الإشکال علیه ··· 232

الوجه الثانی ··· 233

المختار عند الشیخ الأُستاذ ··· 234

ص: 504

تنبیه ··· 235

خلاصة البحث ··· 241

التنبیه التاسع: فی الابتلاء وعدمه ··· 243

بیان الشیخ ··· 244

بیان المحقّق الخراسانی ··· 247

إشکال الأُستاذ ··· 247

بیان المیرزا لدفع الإشکال ··· 248

قال الأُستاذ ··· 249

بیان المحقّق الاصفهانی ··· 249

المناقشة ··· 251

نظریة أُخری ··· 252

الإشکال علیها بوجوه ··· 254

إشکالٌ علی القول باعتبار الابتلاء ··· 259

مطلب آخر فی حقیقة الحکم التکلیفی والعرفی ··· 260

المسألة الأُولی: لو وقع الشک فی إعتبار الإبتلاء وعدمه ··· 263

کلام الشیخ ··· 263

إشکالات المحقّق الخراسانی علیه ··· 264

الجواب عن الإشکال الأوّل ··· 265

ص: 505

الجواب عن الثانی ··· 266

الجواب عن الثالث ··· 267

إشکال الإصفهانی علی الشیخ ··· 267

الجواب ··· 268

المسألة الثانیة: لو کان الشک بنحو الشّبهة المفهومیّة ··· 269

المسألة الثالثة: لو کان الشک بنحو الشّبهة الموضوعیّة ··· 270

دلیل القول بعدم التنجیز ··· 270

دلیل القول بالتنجیز ··· 270

بیان المیرزا ··· 271

إشکال الأُستاذ ··· 272

بیان العراقی ··· 273

إشکال الأُستاذ ··· 273

التنبیه العاشر: فی عدم التنجیز فی الأصول الطولیّة ··· 275

التنبیه الحادیعشر: حکم ملاقی بعض أطراف الشّبهة المحصورة ··· 278

ذکر أُمور قبل البحث: الأوّل ··· 278

الأمر الثانی ··· 279

الأمر الثالث ··· 280

الکلام فی نماء وفائدة أحد طرفی العلم ··· 284

ص: 506

ملاقی الشّبهة المحصورة وله صور: ··· 287

الصّورة الأُولی ··· 287

دلیل القول بوجوب الإجتناب من الکتاب ··· 287

الإشکال علیه ··· 288

من السنّة ··· 288

الإشکال علیه ··· 289

من العقل ··· 289

الإشکال علیه ··· 289

الجواب ··· 290

المناقشة ··· 290

جواب آخر عن الاستدلال العقلی ··· 291

المناقشة ··· 291

تفصیل السیّد الخوئی ··· 292

التحقیق فی المقام ویقع فیمقامین: ··· 292

المقام الأوّل ··· 293

المقام الثانی ··· 294

الصّورة الثانیة وهی علی ثلاثة أقسام ··· 295

دلیل القول بعدم الإجتناب فی القسم الأوّل ··· 296

ص: 507

دلیل القول بالاجتناب فی القسم الأوّل ··· 297

المناقشة والجواب ··· 298

القسم الثانی من الصّورة الثانیة، وفیه قولان ··· 299

الصّورة الثالثة، وفیها قولان ··· 302

دلیل وجوب الإجتناب ··· 302

دلیل عدم وجوب الإجتناب ··· 303

دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر

305 _ 387

الفرق بین دوران الأمر بین المتباینین والأقلّ والأکثر ··· 307

نظریة العراقی والکلام حولها ··· 307

نظریة المحقّق صاحب الحاشیة والکلام حولها ··· 309

مقدّمتان ··· 311

1_ فی تقسیم الأقلّ والأکثر ··· 311

2_ هل البحث کبروی أو صغروی؟ ··· 312

الأقوال فی الأقل والأکثر الإرتباطیین ··· 312

أدلّة القول بالبراءة ··· 313

طریق الشیخ، وفیه وجهان، الأوّل ··· 313

ص: 508

إشکال المحقّق الخراسانی ببرهانین ··· 314

بیان البرهان الأوّل ··· 315

بیان البرهان الثانی ··· 315

جواب السیّد الخوئی عن کلا البرهانین ··· 316

المناقشة ··· 317

الإشکال الثانی علی إستدلال الشیخ ··· 318

التحقیق فی المقام ··· 320

الوجه الثانی ··· 322

توضیح السیّد الخوئی ··· 323

المناقشة ··· 324

طریق المحقق الاصفهانی ··· 326

المناقشة ··· 327

طریق المحقّق العراقی ··· 328

المناقشة ··· 330

أدلّة القول بعدم جریان البراءة العقلیّة ··· 332

الوجه الأوّل ··· 332

الجواب ··· 332

الوجه الثانی ··· 333

ص: 509

إشکال السیّد الخوئی ··· 334

التحقیق فی المقام ··· 334

الوجه الثالث ··· 336

جواب الشیخ بوجهین ··· 336

إشکال الخوئی علی الوجه الثانی ··· 337

إشکال النائینی ··· 339

الإشکال علیه من السیّد الخوئی ··· 340

التحقیق فی المقام ··· 341

البرائة الشرعیّة ··· 342

دلیل المحقّق الخراسانی للجریان ··· 343

إشکالان ··· 343

إشکال الإصفهانی والعراقی علی الکفایة ··· 345

التحقیق فی المقام ··· 346

إشکالان والجواب عنهما ··· 348

الإستصحاب ··· 351

الإستدلال بالإستصحاب للإشتغال ··· 351

المناقشة ··· 352

الإستدلال بالإستصحاب للبراءة ··· 353

ص: 510

إشکال وجواب ··· 353

دوران الأمر بین الأقل والأکثر فی الأجزاء التحلیلیّة ··· 355

هی علی ثلاثة أقسام ··· 355

کلام الکفایة فی القسمین الأوّلین ··· 356

الإشکال علیه بوجهین ··· 357

مناقشة الإشکال الأوّل ··· 357

مناقشة الإشکال الثانی ··· 358

التحقیق ··· 359

کلام المحقّق الإصفهانی ··· 359

کلام المحقّق العراقی ··· 361

التحقیق ··· 362

الکلام فی القسم الثالث ··· 364

القول بالإشتغال ··· 364

الکلام فی دوران الأمر بین التعیین والتخییر ··· 365

القسم الأوّل ··· 365

القسم الثانی ··· 366

القسم الثالث، وهو علی ثلاثة صور ··· 368

مقدّمة ··· 369

ص: 511

الصّورة الأُولی ··· 370

الصّورة الثانیة ··· 371

الصّورة الثالثة ··· 371

دلیل القول بالتعیین ··· 372

الوجه الأوّل ··· 372

الإشکال علیه ··· 372

المناقشة ··· 374

الوجه الثانی ··· 375

الإشکال علیه ··· 376

المناقشة ··· 377

الوجه الثالث ··· 379

الإشکال علیه ··· 379

التحقیق ··· 380

الوجه الرابع ··· 381

النظر فیه ··· 382

التحقیق فی المقام والرأی المختار ··· 384

تنبیهات دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر

387 _ 435

ص: 512

التنبیه الأوّل: هل الجزئیّة مخصوصة بحال الذکر أو مطلقة؟ ··· 389

القول الأوّل ودلیله ··· 390

الوجه الأوّل للقول الثانی ··· 390

الإشکال علی الوجه الأوّل ··· 391

الوجه الثانی وهو الصحیح ··· 391

تفصیل أصل المطلب ··· 392

بیانات لإثبات الإطلاق ··· 394

بیان المیرزا ··· 394

بیان العراقی ··· 395

بیان الإصفهانی ··· 396

المناقشة ··· 397

التحقیق فی المقام ··· 397

خلاصة الکلام ··· 400

التنبیه الثانی: فی حکم الزیادة والنقیصة فی الأجزاء ··· 402

البحث الموضوعی: 1_ هل یعقل تحقّق الزیادة فی المرکّب الإعتباری ··· 403

الجواب عن دلیل العدم ··· 403

2_ بماذا تتحقّق الزیادة؟ ··· 405

البحث الحکمی ··· 405

ص: 513

1_ فی حکم الزیادة بحسب القاعدة ··· 406

2_ فی حکم الزیادة بحسب النصوص ··· 407

الکلام فی حدیث لا تعاد ··· 408

رأی الإصفهانی ··· 410

النظر فیه ··· 411

الإستصحاب ··· 412

تقریبات الإستصحاب والکلام علیها ··· 412

الکلام فی نقصان الجزء أو الشرط ··· 414

1_ مقتضی القاعدة ··· 414

2_ مقتضی النصوص ··· 415

التنبیه الثالث: لو تعذّر جزء أو شرطٌ فما حکم الباقی والمشروط؟ ··· 416

1_ مقتضی القاعدة ··· 416

2_ مقتضی الأصل العملی ··· 416

3_ مقتضی النصوص ··· 417

الکلام فی قاعدة المیسور ··· 417

الروایة الأولی ··· 417

حول السند ··· 418

حول الدلالة ··· 419

ص: 514

الروایة الثانیة ··· 420

السند والدلالة ··· 420

رأی صاحب الکفایة ··· 421

الکلام حول الإشکال علیه ··· 421

الإشکال علی الإستدلال بالروایة ··· 422

الروایة الثالثة ··· 424

حول السند والدلالة ··· 424

الإشکال علی الإستدلال ··· 425

المناقشة ··· 425

دفع الحائری الإشکال ··· 426

المناقشة ··· 426

التحقیق ··· 427

خلاصة الکلام ··· 428

فی المراد من المیسور والمعسور ··· 428

التنبیه الرابع: لو تردّد الأمر بین أن یکون الشیء جزءً للمرکّب أو شرطاً وأن یکون مانعاً أو قاطعاً، فما هو مقتضی القاعدة؟ ··· 431

فیه مسائل ··· 431

شرائط جریان الأصول

435 _ 495

ص: 515

شرط الإحتیاط ··· 438

الإشکالات ··· 439

الأوّل ··· 439

الجواب ··· 439

الثانی ··· 440

الجواب ··· 441

1_ قصد الوجه والتمییز فی العبادة ··· 441

الجواب ··· 442

2_ اعتبار الجزم فی النیّة فی العبادة ··· 443

الجواب ··· 443

شرط البراءة العقلیّة ··· 444

الإستدلال لوجوب الفحص ··· 444

إشکال المحقق الإصفهانی ··· 445

الجواب ··· 446

شرائط البراءة الشرعیّة ··· 447

رأی المحقّق العراقی ··· 448

الإشکال علیه ··· 448

ثمرة البحث ··· 448

ص: 516

الکلام فی إطلاق حدیث الرفع ··· 449

التحقیق عدم الإطلاق ··· 450

وعلی فرض الإطلاق هل من مقیّد؟ ··· 451

الإشکال علی الدلیل المقیّد ··· 452

أوّلاً: إنّه أعمّ من المدّعی ··· 452

ثانیاً: إنّه أخصّ من المدّعی ··· 452

جواب المحقّق النائینی ··· 453

المناقشة ··· 453

جواب المحقّق العراقی ··· 454

المناقشة ··· 454

جواب المحقّق الخوئی ··· 455

المناقشة ··· 456

الجواب الصحیح عن إشکال الکفایة ··· 456

ثمرة البحث عن إطلاق حدیث الرفع ··· 457

شرط الإستصحاب ··· 458

شرط التخییر ··· 458

التنبیه الأوّل: أیّ مقدار یجب الفحص؟ ··· 460

وجوب الفحص علی المقلِّد فی الشّبهة الحکمیّة ··· 460

ص: 517

وجوب الفحص علی المجتهد فی الشّبهة الحکمیّة ··· 461

وجوب الفحص من أیّ قسمٍ من أقسام الوجوب؟ ··· 461

أدلّة القول بوجوب التعلّم والفحص وجوباً نفسیّاً ··· 462

الجواب عن أدلّة القول بالوجوب النفسی للتعلّم والفحص ··· 463

هل إستحقاق العقاب علی ترک الواقع أو ترک التعلّم؟ ··· 470

رأی المیرزا ··· 470

الإشکال علیه ··· 473

رأی العراقی ··· 473

المناقشة ··· 475

التنبیه الثانی: حکم العمل المأتیّ به بلا فحص ··· 476

الکلام حول موارد الإستثناء ··· 479

طریق الکفایة ··· 480

الإشکال علیه ··· 480

طریق کاشف الغطاء ··· 481

الإشکال علیه ··· 481

الجواب ··· 482

طریق العراقی ··· 484

المناقشة ··· 484

ص: 518

طریق الخوئی ··· 485

المناقشة ··· 485

طریق النائینی ··· 486

المناقشة ··· 486

طریق شیخنا الأُستاذ ··· 486

التنبیه الثالث: فی الفحص فی الشبهة الموضوعیّة ··· 487

تفصیل الکلام ··· 488

التنبیه الرابع: فی شرطین ذکرهما الفاضل التونی لجریان البراءة ··· 491

التحقیق فی الشّرط الأوّل ··· 492

التحقیق فی الشّرط الثانی ··· 493

الفهرس ··· 495

المحتویات···

ص: 519

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.