استخراج المرام من استقصاء الافحام المجلد 2

اشارة

سرشناسه: حسيني ميلاني، علي ، 1326 -

عنوان قراردادي: منتهي الكلام.شرح

استقصاء الافحام.عربي. شرح

عنوان و نام پديدآور: استخراج المرام من استقصاءالافحام للعلم الحجة آيةالله السيد حامدحسين اللكهنوي بحوث و ردود تاليف علي الحسيني الميلاني.

مشخصات نشر: قم مركزالحقايق الاسلامية 1432 ق. - 1390-

مشخصات ظاهري: ج.

شابك: دوره ‮ 978-600-5348-50-7: ؛ 200000 ريال ج. 1 ‮ 978-600-5348-51-4: ؛ 200000 ريال ج. 2 ‮ 978-600-5348-52-1: ؛ 200000 ريال ج. 3 ‮ 978-600-5348-53-8:

يادداشت: عربي.

يادداشت: كتابنامه.

يادداشت: نمايه.

مندرجات: ج. 1. العقائد - ج. 2. التفسير والمفسرون والصحاح الستة و اصحابها - ج. 3. ائمةالمذاهب

موضوع: فيض آبادي ، حيدرعلي . منتهي الكلام -- نقد و تفسير

موضوع: كنتوري ، ميرحامد حسين 1830 - 1888م.. استقصاء الافحام -- نقد و تفسير

موضوع: شيعه -- عقايد

موضوع: شيعه -- دفاعيه ها و رديه ها

موضوع: اهل سنت -- دفاعيه ها و رديه ها

شناسه افزوده: فيض آبادي ، حيدرعلي . منتهي الكلام. شرح

شناسه افزوده: كنتوري ، ميرحامد حسين 1830 - 1888م.. استقصاء الافحام. عربي. شرح

شناسه افزوده: مركز الحقائق الاسلاميه

رده بندي كنگره: ‮ BP211/5 ‮ /ف94م80213 1390

رده بندي ديويي: ‮ 297/4172

شماره كتابشناسي ملي: 2375816

الباب الثاني: التفسير والمفسّرون عند أهل السنّة … ص: 5

اشارة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 7

المدخل: بحث حول تفسير علي بن إبراهيم القمّي … ص: 7

اشارة

إعلم:

إنّ صاحب (منتهي الكلام) بعد أنْ تكلّم علي (كتاب سليم بن قيس الهلالي) تعرّض- بنفس الاسلوب- لكتاب (تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي).

كلام صاحب منتهي الكلام في تفسير القمّي … ص: 7

اشارة

فزعم أنّ هذا التفسير هو في الحقيقة تفسير أهل البيت عليهم السلام، وكأنّه كلام الإمام الباقر والإمام الصّادق، …

وذكر أنّ جامع هذا التفسير هو عليّ بن إبراهيم القمّي، وأنّ أبا جعفر الكليني من تلامذته- كما ذكر علماء الإماميّة في كتبهم الرجاليّة ويشهد به كتاب الكافي- وهو من أصحاب الإمام بخلاف تلميذه الكليني، فقد كان في أيّام الغيبة كما في كتب الرجال.

ثمّ جعل يطعن في الكتاب ومؤلّفه … فقال بأن جلّ الروايات فيه هي عن (أبي الجارود)، وهو- بلا ريبٍ- ملحدٌ زنديق ملعون علي ألسنة أئمّة الهدي، بل لقد لقّبه الإمام المعصوم ب «الشيطان» … كما لا يخفي علي من لاحظ كتب القوم، مثل: (تبصرة العوام) و (تذكرة الأئمّة عليهم السلام) و (منهج المقال)

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 8

و (خلاصة الأقوال) وأمثالها من كتب الرجال.

ذكر الفاضل الإسترابادي نقلًا عن الكشي: «الأعمي السرحوب- بالسين المهملة المضمومة، والراء والحاء المهملتين والباء المنقطة تحتها نقطة واحدة بعد الواو- مذموم لا شبهة في ذمّه، سمّي سرحوباً باسم الشيطان الأعمي يسكن البحر. (قال): له تفسير ينسبه إلي الإمام محمّد الباقر، وعن أبي بصير قال أبو عبداللَّه عليه السلام: كثير النوا وسالم بن أبي حفصة وأبو الجارود كذّابون مكذّبون كفّار، عليهم لعنة اللَّه. قال قلت: جعلت فداك، كذّابون قد عرفتهم، فما معني مكذّبون؟ قال: كذّابون، يأتوننا فيخبروننا أنّهم يصدّقوننا وليس كذلك، ويسمعون حديثنا فيكذّبون به» «1».

قالوا: وقد كان يقول بإمامة زيد وينكر إمامة جعفر الصّادق عليه السلام، وهو المؤسّس لفرقة الجاروديّة من الزيديّة …

والشيخ محمّدباقر صاحب البحار- وبالرغم من

الإستدلال والإستشهاد بروايات تفسير هذا الزنديق، والأخ الأكبر لشيطان الطاق- قد ذكر ما تقدّم في كتابه (تذكرة الأئمّة) وأضاف أنّه قد ارتدّ في آخر عمره وعمي، فلقّبه الإمام الباقر ب «سرحوب» وهو اسم شيطان يسكن البحر، ومذهب أصحابه أنّ الرسول صلّي اللَّه عليه وآله قد نصّ بالخلافة علي علي بالصفة لا بالتسمية.

وإذا كان هذا حال علماء الشيعة وكتبهم، فكيف يجوز لهم الطعن في علماء أهل السنّة والجماعة والتكلّم في مؤلّفاتهم؟

الجواب … ص: 8
اشارة

إنّ أساس الطّعن في (تفسير القمّي) هو الطّعن في (زياد بن المنذر أبي __________________________________________________

(1) رجال الكشي: 200.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 9

الجارود)، لكنّ ما ذكره في هذا الرجل مندفع بوجوه:

1- كان أبو الجارود في أوّل الأمر مستقيما … ص: 9
اشارة

لقد كان أبو الجارود مستقيم الأمر، صحيح العقيدة، ثمّ تغيّر وضلّ، فمن أين يثبت أنّ رواياته في هذا التفسير كانت في حال التغيّر؟ بل إنّ كلام الفاضل المجلسي في (اللّوامع) صريحٌ في أنّ روايات الأصحاب عنه كانت في حال استقامته، وكذا في رجال (روضة المتّقين)، فإنه قال ما نصّه: «صنّف الأصل في حال الاستقامة، وروي أصحابنا عنه، ثمّ ضلّ، فاعتبروا أصله كما في غيره من الكفرة» «1».

هذا، وقد ناقش بعض علمائنا في خبر تسمية الإمام الباقر عليه السلام له ب «السرحوب»، أما سنداً فلأنه مرسل، وأمّا دلالةً فلأن زياداً كان مستقيماً علي عهد الإمام عليه السلام، وإنّما تغيَّر بعد وفاته بعدّةٍ سنين. فراجع.

المعتبر في قبول الرواية حال الأداء … ص: 9

ثم إنّه قد تقرّر لدي علماء الفريقين، أنّ المعتبر في قبول الرواية حال الراوي في وقت الأداء، فإذا كان حاله سليماً في وقت الأداء تقبل روايته ولو كان قبل ذلك مقدوحاً أو خرج بعد ذلك عن الإستقامة … ولأجل التيقّن من هذا الذي ذكرته أنقل كلاماً لأحد أكابر أصحابنا، وكلاماً لأحد أكابر الأئمّة عند أهل السنّة.

أمّا من أصحابنا، فالشيخ بهاء الدين العاملي المتوفّي سنة 1031 وهو

__________________________________________________

(1) روضة المتّقين للشيخ محمّد تقي المجلسي 14: 314.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 10

العالم النحرير الذي جاء مدحه في (ريحانة الألباء) لشهاب الدين الخفاجي- وهو شيخ مشايخ ولي اللَّه والد صاحب التحفة- قائلًا: «لا يدرك بحر وصفه الإغراق، ولا تلحقه حركات الأفكار ولو كان في مضمار الدهر لها السباق، زيّن عبائره العلوم النقليّة والعقليّة، وملك بنقد ذهنه الجواهر السنيّة … » «1».

لقد قال شيخنا البهائي في كتاب (مشرق الشمسين) ما نصّه: «المعتبر حال الراوي وقت الأداء لا وقت التحمّل، فلو تحمّل الحديث طفلًا أو غير

إمامي أو فاسقاً، ثمّ أدّاه في وقتٍ يظنّ أنّه كان مستجمعاً فيه لشرائط القبول قبل …

(قال): المستفاد من تصفّح كتب علمائنا المؤلّفة في السير والجرح والتعديل: إنّ أصحابنا الإماميّة- رحمهم اللَّه- كان اجتنابهم عن مخالطة من كان من الشيعة علي الحق أوّلًا، ثمّ أنكر إمامة بعض الأئمّة عليهم السّلام في أقصي المراتب، وكانوا يحترزون عن مجالستهم والتكلّم معهم، فضلًا عن أخذ الحديث عنهم، بل كان تظاهرهم بالعداوة لهم أشدّ من تظاهرهم بها للعامّة …

(قال): فإذا قبل علماؤنا- سيّما المتأخّرون منهم- رواية رواها رجل من ثقات أصحابنا عن أحد هؤلاء، وعوّلوا عليها ومالوا إليها وقالوا بصحّتها، مع علمهم بحاله، فقبولهم لها وقولهم بصحّتها لابدّ من ابتنائه علي وجهٍ صحيح لا يتطرّق به القدح إليهم، ولا إلي ذلك الرجل الثقة الراوي عمّن هذا حاله، كأنْ يكون سماعه منه قبل عدوله عن الحق وقوله بالوقف، أو بعد توبته ورجوعه إلي الحق، أو أنّ النقل إنّما وقع من أصله الذي ألّفه واشتهر عنه قبل الوقف، أو من كتابه الذي ألّفه بعد الوقف، ولكنّه أخذ ذلك الكتاب عن شيوخ أصحابنا

__________________________________________________

(1) وتوجد ترجمته في: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر 3: 440- 445.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 11

الذين عليهم الإعتماد … » ثمّ ذكر أمثلة لذلك واستشهد بكلمات أعلام الطائفة «1».

وأمّا من أئمّة السنيّة، فقال النووي في (شرح صحيح مسلم) «فصل- في حكم المختلط: إذا خلط الثقة- لاختلال ضبطه بخرفٍ أو هرمٍ أو لذهاب بصره أو نحو ذلك- قبل حديث من أخذ عنه قبل الإختلاط، ولا يقبل حديث من أخذ بعد الإختلاط، أو شككنا في وقت أخذه» ثمّ ذكر بعض المخلّطين … ثمّ قال: «واعلم: أنّ ما كان

من هذا القبيل محتجّاً به في الصحيحين، فهو ممّا علم أنّه اخذ قبل الاختلاط … » «2».

وعلي الجملة، فقد عرفت أنّ رواية أصحابنا عن أبي الجارود كانت قبل ضلالته، وأنّ المعتبر في قبول الرواية هو حال وقت الأداء … فسقط الطّعن في تفسير القمي، لكون أبي الجارود في أسانيده.

2- أبو الجارود من رجال الترمذي … ص: 11

ثمّ إنّ الطعن في (أبي الجارود) يوجب الطعن في (صحيح الترمذي) الذي هو أحد الصحّاح الستّة عند القوم، والذي قال مؤلّفه عنه «من كان في بيته هذا الكتاب فكأنّما في بيته نبيّ يتكلّم» «3» كما لا يخفي علي من راجع كتب الرجال «4»، وإليك طرفاً من كلماتهم في ذمّه:

«قال ابن معين: كذّاب. وقال النسائي: متروك، وقال ابن حبّان: رافضي __________________________________________________

(1) مشرق الشمسين: 7- 8 ط مع الحبل المتين له- حجري.

(2) المنهاج- شرح صحيح مسلم بن الحجاج 1: 34 وانظر: تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي 2: 323- 331.

(3) تهذيب التهذيب 9: 389.

(4) الكاشف عن أسماء رجال الكتب الستّة 1: 287 رقم 1724، تقريب التهذيب 1: 270.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 12

يضع الحديث في المثالب والفضائل، وقال الحسين بن موسي النوبختي في كتاب مقالات الشيعة: قال الجاروديّة- وهم أصحاب أبي الجارود زياد بن المنذر- إنّ عليّاً أفضل الخلق بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وتبرّؤا من أبي بكر وعمر، وزعموا أنّ الإمامة مقصورة في ولد فاطمة، وبعضهم يري الرجعة ويحلّ المتعة» «1».

وقال الشهرستاني في (الملل والنحل): «وأمّا أبو الجارود، فكان يسمّي سرحوباً، سمّاه بذلك أبو جعفر محمّد بن علي الباقر رضي اللَّه عنه، وسرحوب شيطان أعمي يسكن البحر» «2».

3- صحّح البيهقي روايته … ص: 12

وقد صحّح الحافظ البيهقي حديث أبي الجارود كما جاء في (السيرة الحلبيّة): «قال ابن كثير في بعض الأحاديث الواردة أنّه صلّي اللَّه عليه وسلّم سمع الأذان في السماء ليلة المعراج: هذا الحديث ليس كما زعم البيهقي إنّه صحّح بل هو منكر، تفرّد به زياد بن المنذر أبو الجارود الذي تنسب إليه الفرقة الجاروديّة، وهو من المتّهمين» «3».

4- رواياته في تفسير شاهي … ص: 12

وقد وردت روايات أبي الجارود في (تفسير شاهي)، كالرواية بتفسير

__________________________________________________

(1) تهذيب الكمال 9: 517- 520.

(2) الملل والنحل 1: 109.

(3) السيرة الحلبيّة 2: 302 باب بدء الأذان ومشروعيّته.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 13

قوله تعالي «قل هذه سبيلي أدعو إلي اللَّه علي بصيرةٍ أنا ومن اتّبعني» «1»

نقلًا عن بعض التفاسير: «في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر رضي اللَّه عنه، في قوله تعالي: «قل هذه سبيلي … » يعني نفسه، ومن تبعه علي بن أبي طالب كرّم اللَّه وجهه».

وهذا التفسير من التفاسير المشهورة المعروفة عند أهل السنّة، وقد ذكره صاحب (التحفة) وغيره في عداد تفاسير أهل السنّة المعتمدة.

5- رواياته في تفسير ابن شاهين … ص: 13

وللحافظ أبي حفص عمر بن أحمد بن شاهين تفسير كبير، أكثر فيه من الرواية عن أبي الجارود في تفسير الآيات، بل أورد فيه كلّ تفسيره …

وابن شاهين، حافظ، واعظ، مفسّر، ثقة، صدوق، مكثر من الحديث …

كما بتراجمه … «2»

قال ابن حجر العسقلاني: «عمر بن أحمد بن عثمان بن أحمد بن محمّد بن أيّوب بن ازداد بن سراح، الواعظ، أبو حفص ابن شاهين. وشاهين أحد أجداد جدّه لُامّه. ولد سنة 297 … روي عنه: ابنه عبداللَّه وابن أبي الفوارس وهلال الحفّار والبرقاني والأزهري والخلال والتنوخي والعتيقي والجوهري وآخرون.

قال الخطيب: أنا أبو الحسن الهاشمي القاضي قال قال لنا ابن شاهين:

صنّفت ثلاثمائة وثلاثين مصنّفاً، منها: التفسير الكبير ألف جزء، والمسند …

__________________________________________________

(1)

سورة يوسف: 108.

(2) مرآة الجنان 2: 320 سنة 385، الأنساب- الشاهيني 3: 412.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 14

قال: وسمعت محمّد بن عمر الداودي يقول: كان ابن شاهين شيخاً ثقة يشبه الشيوخ، إلّاأنّه كان لحّاناً، وكان لا يعرف من الفقه قليلًا ولا كثيراً … قال الداودي: وقال لي الدارقطني

يوماً: ما أعمي قلب ابن شاهين! حمل إليّ كتابه الذي صنّفه في التفسير، وسألني أن اصلح ما أجد فيه من الخطأ، فرأيته وقد نقل تفسير أبي الجارود وفرّقه في الكتاب وجعله عن أبي الجارود عن زياد بن المنذر، وإنّما هو عن أبي الجارود زياد بن المنذر.

وقال حمزة السهمي: سمعت الدارقطني يقول: ابن شاهين يخطئ ويلحُّ علي الخطأ وهو ثقة» «1».

من غرائب أوهام صاحب منتهي الكلام … ص: 14

ومن غرائب أوهام صاحب كتاب منتهي الكلام أنّه لمّا كان- في كتابٍ آخر له- بصدد الطّعن في علي بن إبراهيم وتفسيره، بسبب الرواية عن أبي الجارود فيه، استند إلي كلام العلّامة الحلّي في (خلاصة الأقوال) وقوله فيه «أضرّ في وسط عمره»، فتوهّم أنّ هذه الكلمة جرحٌ من العلامة لأبي الجارود، ولم يفهم أنّ معني الكلمة: كونه ضريراً- أي أعمي- في وسط عمره … وهذا ليس بجرحٍ وقدح، كما هو واضح.

وقد ذكر هذا الوصف بترجمة كثير من العلماء:

كحمّاد بن زيد، أحد الأعلام، المتوفّي سنة 179.

وأحمد بن يوسف الكواشي المفسّر الفقيه الشافعي، المتوفّي سنة 680.

وابن كثير الدمشقي صاحب التاريخ والتفسير، المتوفّي سنة 774.

__________________________________________________

(1) لسان الميزان 4: 327.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 15

وصف بعض الأعاظم ب «الشيطان» … ص: 15

وأمّا التشنيع علي تفسير القمّي: بإخراج روايات مؤمن الطّاق فيه، فتلك شكاة ظاهر عنك عارها … فإنّ الإماميّة يفتخرون بالرواية عن هذه الشخصيّة العظيمة … كيف؟ وقد ذكر الحافظ ابن حجر أنّ الإمام الصادق عليه السلام كان يقدّمه ويثني عليه «1».

وليس وصفه ب «الشيطان» بضائره أبداً … فلقد وصف غير واحدٍ من الأعلام بهذا الوصف …

فقد ذكروا بترجمة محمّد بن سعد بن أبي وقّاص: «كان يلقّب ظلّ الشيطان، لقصره» «2».

وبترجمة عمرو بن سعيد العاص: «سمّي لطيم الشيطان» «3».

بل ذكر الراغب الإصفهاني في (محاضرات الادباء): انّه قد مرّ عمر بصبيانٍ- وفيهم عبداللَّه بن الزبير- فعدا الصبيان ووقف عبداللَّه بن الزبير، فقال عمر: ولم لم تذهب مع الصبيان؟ فقال: يا أميرالمؤمنين لم أجن عليك فأخافك، ولم يكن للطريق ضيق فأوسع عليك. فقال: أيّ شيطانٍ يكون هذا؟

__________________________________________________

(1) لسان الميزان 6: 379/ ضمن (7872).

(2) تقريب التهذيب 2: 163.

(3) فوات الوفيات 3: 161.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2،

ص: 16

قول بعض عرفائهم: أشهد أنْ لا إله لكم إلّاإبليس … ص: 16

وأيّ قبحٍ في أنْ يلقّب أحد باسم الشيطان، وهم ينقلون عن بعض كبار عرفائهم ما تقشعرّ منه الجلود؟

لقد ذكر الشيخ العارف الكبير عبدالوهّاب الشعراني بترجمة أحد كبار عرفائهم الأخيار، أنّه جاء يوم الجمعة فسألوه الخطبة فقال: بسم اللَّه، فطلع المنبر، وحمد اللَّه وأثني عليه ومجّده، ثمّ قال: «وأشهد أن لا إله لكم إلّاإبليس عليه السلام».

فقال الناس: كفر.

فسلّ السيف ونزل، فهرب الناس كلّهم.

فجلس عند المنبر إلي أذان العصر، وما يجرء أحد يدخل الجامع … » «1».

نقودٌ اخري لكلام الفيض آبادي … ص: 16

وبقيت نقاطٌ اخري ننبّه عليها:

أوّلًا: إنّ إسناد الروايات إلي أئمّة الهدي عليهم السلام في (تفسير القمّي) لا يدلُّ بالضرورة علي ثبوت صدور تلك الأخبار عنهم، وإلّا لزم أنْ يلتزم أهل السنّة بقطعيّة صدور كلّ ما اسند إلي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله في كتبهم …

فلا صاحب (البحار) ولا صاحب كتاب (الفوائد المدنيّة) ولا غيرهما من علماء الإماميّة يري صحّة جميع ما جاء في هذا التفسير.

__________________________________________________

(1) لواقح الأنوار في طبقات الأخيار- ترجمة الشيخ محمّد الحضرمي.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 17

وثانياً: دعوي أنّ (عليّ بن إبراهيم القمّي) من أصحاب الإمام عليه السلام لا دليل عليها في كتب أصحابنا الإماميّة أصلًا.

وثالثاً: دعوي أنّ جلّ روايات هذا التفسير عن أبي الجارود، مخالفة للواقع، إذْ أكثر رواياته هي عن غيره من الرواة، كما لا يخفي علي من لاحظه بالتفصيل.

ورابعاً: إنّه لا ملازمة بين فساد العقيدة والكذب في الحديث، وكم من محدّثٍ تكلّموا في عقيدته، ثمّ نصّوا علي كونه ثقةً في الرّواية …

وخامساً: انتساب كتاب (تذكرة الأئمّة) غير ثابت.

وسادساً: دعوي أنّ الشيخ المجلسي قد استدلّ أو استشهد بروايات تفسير أبي الجارود، عهدتها علي مدّعيها.

وبعد

فكأنّ هذا الرجل الذي يحاول الطّعن في (تفسير القمي) وسنده،

في غفلةٍ عن حال كتب أصحابه في التفسير ورواة أخبارها، فإليكم بعض الكلام في ذلك، تحت عنوان (التفسير والمفسّرون) عند أهل السنّة:

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 19

مقدّمة: كلمات في ذمّ كتبهم التفسيريّة … ص: 19

روي عن أحمد بن حنبل كلمة موجزة في التفسير والمفسّرين عند القوم تدلّ علي معنيً عظيم، فقد جاء في (تذكرة الموضوعات):

«قال أحمد بن حنبل: ثلاث كتب ليس لها اصول: المغازي والملاحم والتفسير» «1».

وقد ثقل هذا الكلام علي القوم، وجعلوا يذكرون له المحامل والتأويلات …

«قال الخطيب: هذا محمول علي كتب مخصوصة في هذه المعاني الثلاثة غير معتمد عليها، لعدم عدالة ناقليها وزيادة القصّاص فيها» «2».

لكنْ لا يخفي عدم صحّة هذا الحمل … علي أنّ في كتب الحديث أيضاً كتباً غير معتمد عليها لعدم عدالة ناقليها، فكان عليه أن يذكر كتب الحديث كذلك …

وقال السيوطي في (الإتقان) ناقلًا عن ابن تيميّة في أقسام التفسير:

«وأمّا القسم الذي يمكن معرفة الصحيح منه، فهذا موجود كثيراً وللَّه __________________________________________________

(1) تذكرة الموضوعات: 82.

(2) تذكرة الموضوعات: 82.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 20

الحمد، وإنْ قال الإمام أحمد: ثلاثة ليس لها أصل: التفسير والملاحم والمغازي، وذلك لأنّ الغالب عليها المراسيل» «1».

لكنْ إذا كان الغالب عليها المراسيل، فما معني حمد اللَّه علي وجودها؟!

وكون الغالب عليها المراسيل وجهٌ آخر من وجوه الطعن في تفاسيرهم …

لكنّ بعض الأئمّة يصرّحون بأنّ كتب التفسير عندهم مشحونة بالموضوعات، فقد قال المناوي في (فيض القدير):

«اجتهدت في تهذيب عزو الأحاديث إلي مخرجيها من أئمّة الحديث من الجوامع والسنن والمسانيد، فلا أعزو إلي شي ء منها إلّابعد التفتيش عن حاله وحال مخرجه، ولا أكتفي بعزوه إلي من ليس من أهله وإنْ جلّ، كعظماء المفسّرين، قال ابن الكمال: كتب التفسير مشحونة بالأحاديث الموضوعة» «2».

بل لقد

نصَّ المحدّث شاه ولي اللَّه الدهلوي، في تفسيره (الفوز الكبير)، بأنّ الأخبار المطوَّلة المروية في كتب التفسير في قصص الأنبياء السابقين، كلّها منقولة عن علماء أهل الكتاب، وفي البخاري مرفوعاً: لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم».

وقال شيخهم الأعظم ابن عربي، في الباب الثاني والسبعين بعد الثلاثمائة، من (الفتوحات المكيّة):

«وفيه علم تنزيه الأنبياء عمّا نسب إليهم المفسّرون من الطامّات ممّا لم يجي ء في كتاب اللَّه، وهم يزعمون أنّهم قد فسّروا كلام اللَّه فيما أخبر به __________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 4: 205.

(2) فيض القدير في شرح الجامع الصغير 1: 20.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 21

عنهم، نسأل اللَّه العصمة في القول والعمل، فلقد جاؤوا في ذلك بأكبر الكبائر، كمسألة إبراهيم الخليل عليه السلام وما نسبوا إليه من الشكّ، وما نظروا في قول رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: نحن أولي بالشكّ من إبراهيم، فإنّ إبراهيم ما شكّ في إحياء الموتي، ولكن لمّا علم أنّ لإحياء الموتي وجوهاً مختلفة، لم يدر بأيّ وجه منها يكون إحياء الموتي، وهو مجبول علي طلب العلم، فعيّن اللَّه له وجهاً من تلك الوجوه حتّي سكّن اللَّه قلبه فعلم كيف يحيي اللَّه الموتي.

وكذلك قصّة يوسف ولوط وموسي وداود ومحمّد، علي جميعهم أفضل الصّلاة والسّلام.

وكذلك ما نسبوه في قصّة سليمان عليه السلام إلي الملكين.

وكلّ ذلك نقلوه عن اليهود، واستحلّوا عرض الأنبياء والملائكة بما ذكرته اليهود الذين جرحهم اللَّه تعالي، وملأوا كتبهم في تفسير القرآن العزيز بذلك، وما في ذلك نصٌّ في كتاب اللَّه ولا في سنّة رسوله صلّي اللَّه عليه وسلّم، واللَّه يعصمنا من غلطات الأفكار والأقوال والأفعال».

وأورد الشيخ عبدالوهّاب الشعراني كلام الشيخ ابن عربي المتقدّم، حيث قال ما نصّه:

«قال الشيخ في

الباب الثاني والسبعين وثلاثمائة من الفتوحات المكّيّة:

يجب قطعاً تنزيه الأنبياء ممّا نسبه إليهم بعض المفسّرين من الطامّات، ممّا لم يجي ء في كتاب اللَّه ولا سنّة صحيحة، وهم يزعمون أنّهم قد فسّروا قصصهم الّتي قصّها اللَّه تعالي علينا.

وكذبوا واللَّه في ذلك، وجاؤوا فيه بأكبر الكبائر.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 22

وذلك كمسألة إبراهيم الخليل علي نبيّنا وعليه الصلاة والسلام، وما نسبوه إليه من وقوع الشكّ بحسب ما يتبادر إلي الأذهان، وما نظروا في قوله صلّي اللَّه عليه وسلّم: نحن أولي بالشكّ من إبراهيم، وذلك أنّ إبراهيم عليه السلام لم يشكّ في إحياء اللَّه تعالي الموتي معاذ اللَّه أن يشكّ نبيّ في مثل ذلك، وإنّما كان يعلم أنّ لإحياء الموتي طرقاً ووجوهاً متعدّدة، لم يدر بأيّ وجه منها يكون إحياء اللَّه تعالي للموتي، وهو مجبول علي طلب الزيادة من العلم، فعيّن اللَّه تعالي وجهاً من تلك الوجوه فسكّن ما كان عنده، وعلم حينئذٍ كيف يحيي الموتي، فما كان السّؤال إلّاعن معرفة الكيف لا غير.

وكذلك القول في قصّة سليمان وما نسبوه إلي الملكين هاروت وماروت.

كلّ ذلك لم يرد في كتاب ولا سنّة، وإنّما ذلك نقل عن اليهود، فاستحلّوا أعراض الأنبياء والملائكة بما ذكروه لهم من جرحهم أنبياء اللَّه تعالي، وملأوا تفاسيرهم للقرآن من ذلك، فاللَّه يحفظنا وإخواننا من غلطات الأفكار والأفعال والأقوال، آمين، إنتهي.

وأيضاً، قال في الباب الرابع والخمسين ومائة: ينبغي للواعظ أن يراقب اللَّه تعالي، في أنبيائه وملائكته ويستحي من اللَّه عزّ وجلّ، ويتجنّب الطامّات في وعظه، كالقول في ذات اللَّه بالفكر، والكلام علي مقامات الأنبياء عليهم الصّلاة والسلام، من غير أن يكون وارثاً لهم، فلا يتكلّم قطّ علي زلّاتهم بحسب ما يتبادر إلي أذهان

الناس بالقياس إلي غيرهم؛ فإنّ اللَّه تعالي قد أثني علي الأنبياء حسن الثناء بعد أن اصطفاهم من جميع خلقه، فكيف يستحلّ أعراضهم بما ذكره المؤرّخون عن اليهود.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 23

قال: ثمّ إنّ الداهية العظمي جعلهم ذلك تفسيراً لكلام اللَّه تعالي.

وفي تفسيرهم: قال المفسّرون في قصّة داود أنّه نظر إلي امرأة اوريا، فأعجبته فأرسله في غزاة ليموت فيأخذها.

وكقولهم في يوسف- علي نبيّنا وعليه الصلاة والسلام- أنّه همّ بالمعصية، وأنّ الأنبياء لم يُعصَموا عن مثل ذلك.

وكقولهم في قصّة لوط «لو أنّ لي بكم قوّة أو آوي إلي ركنٍ شديدٍ» العجز والبحر ونحو ذلك.

ويعتمدون علي تأويلات فاسدة وأحاديث واهية نقلت عن قوم قالوا في اللَّه ما قالوا من البهتان والزّور.

فمن أورد مثل ذلك في مجلسه من الوعّاظ، مقته اللَّه والأنبياء والملائكة، لكونه جعل دهليزاً ومهاداً لمن في قلبه زيغ يدخل منه إلي ارتكاب المعاصي، ويحتجّ بما سمعه منه في حقّ الأنبياء ويقول: إذا كان الأنبياء وقعوا في مثل ذلك فمن أكون أنا، وحاشي الأنبياء كلّهم عن ذلك الذي فهمه هذا الواعظ، فواللَّه، لقد أفسد الواعظ الامّة، وعليه وزر كلّ من كان سبباً لاستهانته بما وقع فيه من المعاصي، ولكنّه قد ورد أنّه لا تقوم السّاعة حتّي يصعد الشيطان علي كرسي الوعظ ويعظ النّاس وهؤلاء من جنوده الذين يتقدّمونه» «1».

__________________________________________________

(1) اليواقيت والجواهر 2: 232- 233.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 27

طبقة الصّحابة … ص: 27

اشارة

وطبقات المفسّرين عند علمائهم المعتمدين ست.

فالطبقة الاولي: الخلفاء والصّحابة.

قال الحافظ جلال الدين السيوطي:

«النوع الثمانون- في طبقات المفسّرين:

اشتهر بالتفسير من الصحابة عشرة: الخلفاء الأربعة، وابن مسعود وابن عبّاس وابي بن كعب وزيد بن ثابت وأبو موسي الأشعري وعبداللَّه بن الزبير» «1».

الخلفاء والتفسير … ص: 27

اشارة

والظاهر أنّ إدخال الخلفاء الثلاثة في زمرة المفسّرين من الصحابة، ليس إلّا من باب التأدّب تجاههم والتبرّك بأسمائهم! لتصريحهم بندرة رواية التفسير عن الثلاثة، والنادر كالمعدوم، ففي (الإتقان) مثلًا: «فأمّا الخلفاءُ، فأكثر من روي عنه منهم: علي بن أبي طالب، والرواية عن الثلاثة نزرة جدّاً» ثمّ قال:

«ولا أحفظ عن أبي بكر في التفسير إلّاآثاراً قليلة جدّاً، لا تكاد تتجاوز العشرة» «2».

هذا، وسيأتي عن بعضهم التصريح بقلّة الرواية في التفسير عن __________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 4: 233.

(2) الإتقان في علوم القرآن 4: 233.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 28

أميرالمؤمنين أيضاً، حتّي كادت تكون معدومة عندهم، وإذا كان هذا حال الروايات عن «أكثر من روي عنه منهم» فما ظنّك بروايات البقيّة؟

والسبب في قلّة رواية التفسير عن الثلاثة: جهلهم بذلك وعدم تعلّم شي ء منه من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم … جاء ذلك في (صحيح البخاري) عن أبي هريرة، فإنّه قال في مقام تبرئة نفسه عن الكذب علي النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم:

«إنّ إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإنّ إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإنّ أباهريرة كان يلزم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم بشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ ما لا يحفظون» «1».

وقد أسمع ذلك ابي بن كعب عمر، حينما اعترض عليه في بعض الآيات، فاعترف عمر بن الخطّاب بجهله واعتذر إليه:

في (كنز العمّال): «عن ابن جريج عن

عمرو بن دينار قال: سمعت بجالة التميمي قال: وجد عمر بن الخطّاب مصحفاً في حجر غلام، فيه: النبي أولي بالمؤمنين من أنفسهم وهو أبوهم. فقال: احككها يا غلام. فقال: واللَّه لا أحكّها وهي في مصحف ابي بن كعب، فانطلقوا إلي ابي، فقال له ابي: شغلني القرآن وشغلك الصّفق بالأسواق، إذ تعرض رداءك علي عنقك بباب ابن العجماء» «2».

وفي (كنز العمّال) أيضاً: «عن الحسن: إنّ عمر بن الخطّاب ردّ علي ابي __________________________________________________

(1) صحيح البخاري 1: 40 كتاب العلم، باب حفظ العلم.

(2) كنز العمّال 13: 259/ 36763.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 29

ابن كعب قراءة آيةٍ، فقال له ابي: لقد سمعتها من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وأنت يلهيك- يا عمر- الصفق بالبقيع. فقال عمر: صدقت» «1».

بل لقد اعترف بذلك عمر نفسه في بعض الموارد، كالحديث في (البخاري)، في قضيّة خبر أبي موسي في حكم الإستيذان وشهادة أبي سعيد الخدري له، قال عمر: «خفي عليَّ هذا من أمر النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، ألهاني الصفق بالأسواق» «2».

وفي (حياة الحيوان): «كان أبوبكر الصدّيق بزّازاً، وكذلك عثمان وطلحة وعبدالرحمن بن عوف. وكان عمر دلّالًا يسعي بين البائع والمشتري» «3».

وأمّا عليّ عليه السلام، فإنّه وإنْ نصّ السيوطي علي أنّه أكثر من روي عند التفسير من الخلفاء، لكنّ بعض المتعصّبين منهم ينفي ذلك، ويحمله علي الأكثريّة الإضافيّة، ألا تري المتكلّمين منهم- حينما يريدون الردّ علي استدلال أهل الحقّ علي أعلميّة الإمام بالقرآن والتفسير، بانتشار هذا العلم عنه بين المسلمين- يبادرون إلي القول بأنّ ما روي عن علي ليس إلّاأخباراً آحاداً، حتّي أنّ ابن تيميّة يقول بأنّ رواية ابن عبّاس في التفسير عن علي «قليلة جدّاً، ولم يخرج أصحاب الصحيح

شيئاً من حديثه عن علي» «4» ويقول: «وما يعرف بأيدي المسلمين تفسير ثابت عن علي» «5».

بل لقد قال غير واحدٍ منهم بأنّ كلّ ما روي عنه عليه السلام فهو

__________________________________________________

(1) كنز العمّال 13: 261/ 36766.

(2) صحيح البخاري 3: 72 كتاب البيوع، باب الخروج في التجارة.

(3) حياة الحيوان 1: 275 «الجزور».

(4) منهاج السنّة 4: 242.

(5) منهاج السنّة 4: 242.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 30

مكذوب عليه:

قال الذهبي في (ميزان الإعتدال): «حصين، عن الشعبي: ما كذب علي أحدٍ من هذه الامّة ما كذب علي علي رضي اللَّه عنه. وقال أيّوب: كان ابن سيرين يري أنّ عامّة ما يروي عن علي باطل» «1».

وفي (البخاري): «وكان ابن سيرين يري أنّ عامّة ما يروي عن علي الكذب» «2».

وعلي هذا … فلنعطف عنان البحث والكلام نحو سائر الصحابة الأعلام، الذين ذكرهم السيوطي في الطبقة الاولي:

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 436/ 1627.

(2) صحيح البخاري 5: 24 باب مناقب المهاجرين- باب مناقب عليّ بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن رضي اللَّه عنه.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 31

عبداللَّه بن مسعود … ص: 31
اشارة

فأمّا ابن مسعود، فهذا ما رووه أو ذكروه في كتبهم، ممّا هو من القوادح علي اصولهم، فيه وفي مصحفه، وما أخرجوا عنه في التفسير:

بين عثمان وابن مسعود … ص: 31

إنّ من ضروريّات التاريخ أنّ عثمان بن عفّان قد أحرق مصحف ابن مسعود، فقال علماؤهم دفاعاً عنه وتبريراً لما فعل:

«إنّه لو بقي مصحفه في أيدي الناس لأدّي ذلك إلي فتنةٍ كبيرةٍ في الدين» ثمّ علّلوا ذلك بقولهم: «لكثرة ما فيه من الشذوذ المنكرة عند أهل العلم بالقرآن» «1».

وقال الراغب الإصفهاني في (المحاضرات):

«أثبت ابن مسعود في مصحفه: ولو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغي إليهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّاالتراب، ويتوب اللَّه علي من تاب» «2».

وقال:

__________________________________________________

(1) تاريخ الخميس 2: 273. وغيرهما.

(2) محاضرات الادباء 4: 434.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 32

«أثبت ابن مسعود بسم اللَّه في سورة البراءة» «1».

ومن المعلوم الواضح لدي كلّ أحدٍ: أنّ من أدرج في القرآن أدعية القنوت وغيرها ممّا ليس من القرآن، وكان قرآنه يشتمل علي الشذوذ المنكرة عند أهل العلم بالقرآن، بحيث لو بقي في أيدي الناس لأدّي إلي فتنةٍ كبيرةٍ في الدين، ولانجرَّ إلي قبائح كثيرةٍ، وصار المسلمون مختلفين في كتابهم كاختلاف اليهود والنصاري في كتابهم، ولم يرفع اليد عن كلّ ذلك إلّابالسبّ والشتم … كان من المقدوحين والمجروحين …

بل المستفاد من تتبّع كلمات القوم في المقام أنْ ليس لابن مسعود علي اصولهم من الإيمان والإسلام نصيب، فضلًا عن الجلالة والسيادة والفضل والسعادة، لأنّه كان من المخالفين لعثمان والمنكرين عليه، حتّي أنّه كان يدعو عليه علي رؤوس الأشهاد:

قال الحلبي في (السيرة):

«وكان الوليد شاعراً ظريفاً حليماً شجاعاً كريماً، يشرب الخمر كلّ ليلة من أوّل الليل إلي الفجر، فلمّا أذّن المؤذّن لصلاة الفجر، خرج

إلي المسجد وصلّي بأهل الكوفة الصبح أربع ركعات، وصار يقول في ركوعه وسجوده:

إشرب واسقني، ثمّ قاء في المحراب ثمّ سلّم وقال: هل أزيدكم؟

فقال له ابن مسعود: لا زادك اللَّه خيراً ولا من بعثك إلينا» «2».

هذا، وقد نصّ صاحب (التحفة) علي أن من يطعن في الصهرين- يعني: عليّاً وعثمان- فهو ليس من أهل الإيمان.

__________________________________________________

(1) محاضرات الادباء 4: 434.

(2) إنسان العيون/ السيرة الحلبيّة 2: 284، وفيه: شرب الخمر ليلةً …

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 33

وقال ابن حجر في (الصواعق) في مطاعن عثمان:

«ومنها: أنّه حبس عطاء ابن مسعود وابي بن كعب، ونفي أباذر إلي الربذة، وأشخص عبادة بن الصّامت من الشام إلي المدينة لمّا اشتكاه معاوية، وهجر ابن مسعود، وقال لابن عوف: إنّك منافق، وضرب عمّار بن ياسر، وانتهك حرمة كعب بن عجرة، فضربه عشرين سوطاً ونفاه إلي بعض الجبال، وكذلك حرمة الأشتر النخعي.

وجواب ذلك: أمّا حبسه لعطاء ابن مسعود وهجره له، فلِما بلغه ممّا يوجب ذلك، إلقاءً ج إبقاءً ج لُابهّة الولاية» «1».

فكان قد وقع من ابن مسعود ما استحقّ به حبس العطاء والهجر، بل يظهر من ذلك أنّه ما كان يعتقد بولاية عثمان وخلافته، فلو كان يعتقد لما ألقي ابّهتها!

وقال الفخر الرازي في (نهاية العقول):

«قوله: سادساً: ضرب ابن مسعود وعمّاراً وسيّر أباذر إلي الربذة.

قلنا: كما فعل ذلك، فقد قيل عن هؤلاء أنّهم أقدموا علي أفعالٍ استوجبوا ذلك» «2».

ومن الضروري: إنّ الأفعال المستوجبة لضرب أعيان الصحابة وهتك عدولهم، ليست إلّاالكبائر الموبقة والمعاصي المهلكة …

__________________________________________________

(1) الصواعق المحرقة 1: 334.

(2) نهاية العقول- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 34

مشكلة الفاتحة والمعوّذتين وطرق حلّها … ص: 34
اشارة

ثمّ إنّ ابن مسعود كان لا يري الفاتحة والمعوّذتين قرآناً، وهذا ممّا يحزّ في قلوب القوم، ويجعلهم

يضطربون في حلّه:

قال الراغب في فصل بيان ما ادّعي أنّه من القرآن ممّا ليس في المصحف وما ادّعي أنّه ليس منه وهو فيه: «وأسقط ابن مسعود من مصحفه ام القرآن والمعوّذتين» «1».

وفي (المسند): «عن عبدالرحمن بن يزيد قال: كان عبداللَّه يحكّ المعوّذتين من مصاحفه ويقول: إنّهما ليستا من كتاب اللَّه تبارك وتعالي» «2».

وفي (الدرّ المنثور): «أخرج عبد بن حميد ومحمّد بن نصر المروزي في كتاب الصّلاة وابن الأنباري في المصاحف عن محمّد بن سيرين: إنّ ابي ابن كعب كان يكتب فاتحة الكتاب والمعوّذتين، واللّهمّ إيّاك نعبد واللّهمّ إنّا نستعينك. ولم يكتب ابن مسعود شيئاً منهنَّ. وكتب عثمان بن عفّان فاتحة الكتاب والمعوّذتين» «3».

وفي (الدرّ المنثور) أيضاً: «أخرج عبد بن حميد عن إبراهيم قال: كان عبداللَّه لا يكتب فاتحة الكتاب في المصحف وقال: لو كتبتها لكتبت في أوّل كلّ شي ء» «4».

وفي (تاريخ الخميس) بعد العبارة المنقولة آنفاً: «ولحذفه المعوّذتين من __________________________________________________

(1) محاضرات الادباء 4: 434.

(2) مسند أحمد بن حنبل 6: 154/ 20683.

(3) الدرّ المنثور 1: 10. وفيه: إيّاك نستعين، بدل: اللهمّ إنّا نستعينك.

(4) الدرّ المنثور 1: 10.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 35

مصحفه، مع الشهرة عند الصحابة أنّهما من القرآن» «1».

هذا، وقد قالوا بأنّ إنكار الفاتحة والمعوّذتين كفر، فقد جاء في (الإتقان):

«قال النووي في شرح المهذّب: أجمع المسلمون علي أنّ المعوّذتين والفاتحة من القرآن، وأنّ من جحد منها شيئاً كفر» «2».

وإذا كان «من أنكر شيئاً منها كفر» فقد أنكر ابن مسعود كلّها!!

ومن هنا وقعوا في المشكلة:

قال السيوطي في (الإتقان): «ومن المشكل علي هذا الأصل: ما ذكره الإمام فخرالدين الرازي قال: نقل في بعض الكتب القديمة أنّ ابن مسعود كان ينكر كون سورة الفاتحة والمعوّذتين من

القرآن، وهو في غاية الصعوبة، لأنّا إنْ قلنا: إنّ النقل المتواتر كان حاصلًا في عصر الصحابة بكون ذلك من القرآن، فإنكاره يوجب الكفر، وإنْ قلنا: لم يكن حاصلًا في ذلك الزمان، فيلزم أن ج يكون ج القرآن ليس بمتواتر في الأصل» «3».

وتحيّروا كيف يخرجون من هذه العويصة:

1- تكذيب الأخبار … ص: 35

قال في (الإتقان) نقلًا عن الرازي بعد ما تقدّم: «والأغلب علي الظنّ أنّ نقل هذا المذهب عن ابن مسعود نقل باطل، وبه يحصل الخلاص عن هذه __________________________________________________

(1) تاريخ الخميس 2: 273.

(2) الإتقان في علوم القرآن 1: 271.

(3) الإتقان في علوم القرآن 1: 270- 271.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 36

العقدة» «1».

وهكذا أجاب القاضي أبوبكر والنووي وابن حزم … وزعموا أنّ به يحصل الخلاص عن هذه العقدة، ولكنْ لات حين مناص، فقد تعقّب المحقّقون ذلك وتتبّعوا الأخبار به، ووجدوها صحيحةً، ولا مجال لتكذيب الأخبار الصحيحة أبداً..

ففي (الإتقان): «قال ابن حجر في شرح البخاري: قد صحّ عن ابن مسعود إنكار ذلك، فأخرج أحمد وابن حبّان عنه أنّه كان لا يكتب المعوّذتين في مصحفه. وأخرج عبداللَّه بن أحمد في زيادات المسند، والطبراني وابن مردويه من طريق الأعمش، عن أبي إسحاق، عن عبدالرحمن بن يزيد النخعي قال: كان ابن مسعود يحكّ المعوّذتين من مصاحفه ويقول: إنّهما ليستا من كتاب اللَّه.

وأخرج البزّار والطبراني من وجه آخر عنه أنّه كان يحكّ المعوّذتين من المصحف ويقول: إنّما أمر النبي أن يتعوّذ بهما، وكان ج عبداللَّه ج لا يقرأ بهما.

أسانيدها صحيحة.

قال البزّار: لم يتابع ابن مسعود علي ذلك أحد من الصحابة. وقد صحّ أنّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قرأ بهما في الصّلاة.

قال ابن حجر: فقول من قال إنّه كذب عليه، مردود، والطعن في الروايات الصحيحة

بغير مستند لا يقبل، بل الروايات صحيحة» «2».

فهذا الطريق- طريق الطعن في هذه الروايات- لا يفيد.

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 1: 271.

(2) الإتقان في علوم القرآن 1: 271- 272.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 37

2- الإبهام … ص: 37

ومنهم من سلك طريق الإبهام، فوضع بدل كلمة حكّ ابن مسعود وإنكاره الفاتحة والمعوّذتين، كلمة «كذا وكذا» وتخيّل أنّه بذلك يمكن إخفاء الحقيقة والخروج عن العقدة … وقد جاء ذلك في (صحيح البخاري) حيث قال:

«حدّثنا علي بن عبداللَّه، حدّثنا سفيان، حدّثنا عبدة بن أبي لبابة، عن زر ابن حبيش. وحدّثنا عاصم عن زر قال: سألت ابي بن كعب: يا أبا المنذر إنّ أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا. فقال ابي: سألت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فقال لي: قل، فقلت: ج قال ج فنحن نقول كما قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم» «1».

علي أنّ في هذا النقل مزيداً من الطعن والجرح علي ابن مسعود …

وقال ابن حجر في (فتح الباري):

«هكذا وقع هذا اللّفظ مبهماً، وكأن بعض الرواة أبهمه استعظاماً، وأظنّ ذلك من سفيان، فإنّ الإسماعيلي أخرجه من طريق عبدالجبّار بن العلاء عن سفيان كذلك علي الإبهام، وكنت أظنّ أوّلًا أن الذي أبهمه البخاري … » «2».

3- التأويل والحمل … ص: 37

ومنهم من سلك طريق التأويل للأخبار المنقولة عن ابن مسعود:

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 6: 223 كتاب التفسير- سورة قل أعوذ بربّ الناس.

(2) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 8: 603.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 38

قال ابن حجر في (فتح الباري):

«وقد تأوّل القاضي أبوبكر الباقلاني في كتاب الإنتصار، وتبعه عياض وغيره ما حكي عن ابن مسعود فقال: لم ينكر ابن مسعود كونهما من القرآن، وإنّما أنكر إثباتهما في المصحف، فإنّه كان يري أنْ لا يكتب في المصحف شيئاً، إلّاإنْ كان النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أذن في كتابته فيه، وكأنّه لم يبلغه الإذن في ذلك. قال: فهذا تأويل منه وليس جحداً لكونهما قرآناً. وهو تأويل حسن».

لكنّه تأويل

عجيب وتوجيه غريب، فأيّ مانعٍ من درج ما هو قرآن في القرآن حتّي لا يجوّز ابن مسعود ذلك، ويهتمّ بمحوه من المصحف؟ إنّ مثل هذا التأويل غير مجدٍ للدفاع عن حرمة ابن مسعود والمحافظة علي مقامه …

إنّ هذا التأويل لا يمكن قبوله أصلًا، ولذا قال ابن حجر بعد العبارة المتقدّمة:

«إلّا أنّ الرواية الصريحة التي ذكرتها تدفع ذلك حيث جاء فيها: ويقول:

إنّهما ليستا من كتاب اللَّه» إلّاأنّه حاول التأويل لهذه الرواية فقال: «نعم، يمكن حمل لفظ «كتاب اللَّه» علي «المصحف» فيتمّ التأويل المذكور.

وقال غير القاضي: لم يكن اختلاف ابن مسعود مع غيره في قرآنيّتهما، وإنّما كان في صفة من صفاتهما، إنتهي.

وغاية ما في هذا أنّه أبهم ما بيّنه القاضي» «1».

لكنّ هذا التأويل باطل أيضاً، إذ لا يساعده لفظ الرواية عند البزّار والطبراني التي أوردها ابن حجر أيضاً، فإنّها صريحة في أنّ ابن مسعود كان __________________________________________________

(1) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 8: 604.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 39

يقول بأنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم إنّما عوّذ بالمعوّذتين، ولم يكن يقرأ بهما، وهذا يدلّ بكلّ وضوح علي أنّ ابن مسعود ما كان يري المعوّذتين قرآناً، اللّهمّ إلّاأن يزعموا أنّ عدم القراءة بالمعوّذتين لا يثبت عدم كونهما قرآناً، وحينئذٍ، فما هو الكلام المعبّر عن ذلك؟!

ومن هنا نري أنّ بعض المتكلّمين منهم لمّا لم يتمكّنوا من توجيه رأي ابن مسعود، ولا من إنكار ما لاقاه من عثمان، اضطرّ إلي هتك حرمة ابن مسعود وتوهينه … ولم يتعرّض لشي ء من هذه التأويلات …

وكيف يمكن تأويل ما اخرج في (المسند) من أنّه «لقد كان ابن مسعود يري رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يعوّذ بهما الحسن والحسين،

ولم يسمعه يقرؤهما في شي ء من صلواته، فظنّ أنّهما معوّذتان، وأصرَّ علي ظنّه، وبالغ في إنكار كونهما من القرآن» «1»؟

ولذا نري الحافظ ابن حجر يتراجع عن كلّ التأويلات، وقد قال في آخر كلامه السّابق:

«ومن تأمّل سياق الطرق التي أوردتها للحديث استبعد هذا الجمع».

واختار بالأخرة الحمل علي عدم تواتر المعوّذتين عند ابن مسعود، قال:

«قد قال ابن الصبّاغ في الكلام علي مانعي الزكاة: وإنّما قاتلهم أبوبكر علي منع الزكاة، ولم يقل إنّهم كفروا بذلك، وإنّما لم يكفروا، لأنّ الإجماع لم يكن استقر، قال: ونحن الآن نكفّر من جحدها، وكذلك ما نقل عن ابن مسعود في المعوّذتين، يعني: إنّه لم يثبت عنده القطع بذلك، ثمّ حصل الإتفاق بعد ذلك.

__________________________________________________

(1) مسند أحمد بن حنبل 6: 154/ 20684.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 40

وقد استشكل هذا الموضع الفخر الرازي فقال: إنْ قلنا: إنّ كونهما من القرآن كان متواتراً في عصر ابن مسعود، لزم تكفير من أنكرهما. وإنْ قلنا: إنّه لم يكن متواتراً، لزم أنّ بعض القرآن لم يتواتر. قال: وهذه عقدة صعبة.

واجيب: باحتمال أنّه كان متواتراً في عصر ابن مسعود، ولكنْ لم يتواتر عند ابن مسعود، فانحلّت العقدة بعون اللَّه تعالي» «1».

إلّاأنّ هذا الحمل أضعف وأفسد من الكلّ، وذلك:

أوّلًا: إنّه ينافي ما رواه القوم- كما في (الإستيعاب) وغيره- من أنّ ابن مسعود حضر العرض الأخير للقرآن الكريم، وعلم ما نسخ منه وما بدّل، وهذا نصّ ما رواه ابن عبدالبر حيث قال:

«روي وكيع وجماعة معه، عن الأعمش، عن أبي ظبيان قال: قال لي عبداللَّه بن عبّاس: أيّ القراءتين تقرأ؟ قلت: القراءة الاولي قراءة ابن ام عبد.

فقال لي: بل هي الآخرة، إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم كان يعرض القرآن

علي جبرئيل في كلّ عام مرّةً، فلمّا كان العام الذي قبض فيه، عرضه عليه مرّتين، فحضر ذلك عبداللَّه، فعلم ما نسخ من ذلك وما بدّل» «2».

وهل من الجائز أن يقال بأنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم لم يعرض المعوّذتين، وجبريل أيضاً لم ينبّهه علي ذلك؟!

وثانياً: إذا كان تواتر المعوّذتين ثابتاً عند الصّحابة وغير ثابت عند ابن مسعود فقط، نقول: إنْ كان سائر الصحابة قد أخبروه بكون المعوّذتين من القرآن فلم يقبل منهم ولم يصدّقهم، أو لم يثبت بخبرهم تواترهما عنده، لزم __________________________________________________

(1) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 8: 604.

(2) الإستيعاب في معرفة الأصحاب 3: 992/ 1659.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 41

فسق الصّحابة، بل دلّ ذلك علي كونهم أسوء حالًا من الكفّار والفسّاق، لأنّ التواتر يحصل بإخبار الكفّار أيضاً كما بُيّن في محلّه. وإنْ كان سائر الصّحابة لم يخبروه بكون المعوّذتين قرآناً، مع علمهم بأنّه كان يحكّهما من المصاحف- كما في (المسند): «عن زر قال: قلت لأبي: إنّ أخاك يحكّهما من المصحف»، وكما في (الرياض النضرة) في مطاعن عثمان: «وأمّا الخامسة عشر، وهي إحراق مصحف ابن مسعود، فليس ذلك ممّا يعتذر عنه، بل هو من أكبر المصالح، فإنّه لو بقي في أيدي الناس أدّي ذلك إلي فتنةٍ كبيرةٍ في الدين، لكثرة ما فيه من الشذوذ المنكرة عند أهل العلم بالقرآن، ولحذفه المعوّذتين من مصحفه مع الشهرة عند الصحابة أنّهما من القرآن. وقال عثمان لمّا عوتب في ذلك: خشيت الفتنة في القرآن» «1» - فالصّحابة- وعلي رأسهم عثمان- كلّهم فسّاق!!

وبعد، فإذا كان ابن مسعود منكراً للمعوّذتين، فإنّ جميع ما يشنّع به المخالفون علي أهل الحق- لوجود بعض الأخبار الظاهرة في تحريف القرآن- القابلة

للحمل علي المحامل الصحيحة في كتبنا- يتوجّه علي ابن مسعود بالأولويّة القطعيّة، فإنّه ينكر بصراحة سورتين كاملتين، بل ثلاث سور، هي المعوّذتان وام الكتاب، وهو في نفس الوقت من أعلام الصحابة وأجلّائهم، ومن أئمّة القرآن والتفسير وأكابرهم!! بل هو محكوم عليه بالكفر والخروج عن زمرة المسلمين، وقد جاء في كتاب (فصول الأحكام) لعماد الدين حفيد برهان الدين صاحب الهداية «2»:

__________________________________________________

(1) الرياض النضرة في مناقب العشرة 3: 99.

(2) المعروف بكتاب (فصول العمادي) كما في (كشف الظنون 2: 1270) وهو في فروع الحنفيّة. وصاحب الهداية هو: برهان الدين المرغيناني المتوفّي سنة 593.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 42

«وبعض المشايخ علي أنّه- أي من زعم أنّ المعوّذتين ليستا من القرآن- يكفر. وحكي عن خاله الإمام جلال الدين أنّه قد ذكر في آخر تفسير أبي اللّيث حديثاً: من زعم أنّ المعوّذتين ليستا من القرآن فأولئك عليهم لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين. ومثل هذا الوعيد إنّما ورد في حقّ الكفّار دون المؤمنين».

وتلخّص:

سقوط جميع التأويلات، وبقاء العقدة العويصة علي حالها.

فهذا حال ابن مسعود عند القوم علي اصولهم.

ولعلَّ هذا هو السبب في توقّف عبداللَّه بن عمر عن قبول خبر ابن مسعود عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، كما في (صحيح مسلم):

«عن أبي رافع عن عبداللَّه بن مسعود: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: ما من نبيّ بعثه اللَّه في امّةٍ قبلي، إلّاكان له من امّته حواريّون وأصحاب يأخذون بسنّته ويقتدون بأمره، ثمّ إنّها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن … وليس وراء ذلك من الإيمان حبّة خردل.

قال أبو رافع: فحدّثت عبداللَّه بن عمر، فأنكره عليَّ، فقدم ابن

مسعود فنزل بقناةٍ، فاستتبعني إليه عبداللَّه بن عمر يعوده، فانطلقت معه، فلمّا جلسنا سألت ابن مسعود عن هذا الحديث، فحدّثنيه كما حدّثت ابن عمر» «1».

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم 1: 70/ 80 كتاب الإيمان الباب 20.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 43

عبداللَّه بن العبّاس … ص: 43
اشارة

وأمّا الحبر الجليل والمفسّر النبيل عبداللَّه بن العبّاس، الذين لقّبوه ب «ترجمان القرآن»، وقالوا بأنّه علم تأويل القرآن بدعاء النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، كما قال ابن القيّم في (زاد المعاد) في الاستدلال علي أنّ الخلع ليس بطلاق بقوله تعالي: «الطلاق مرّتان» الآية: «وهذا فهم ترجمان القرآن، الذي دعا له رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أن يعلّمه اللَّه تأويل القرآن، وهي دعوة مستجابة بلا شك» «1».

قوله بالمتعة وهي عند جمهورهم حرام … ص: 43

فهو- بمقتضي هفواتهم الشنيعة وخرافاتهم القبيحة- من المجوّزين للحرام، لأنّه كان يقول بحلّيّة المتعة وهي عندهم من السفاح والزنا، فاستحقّ بذلك أشدّ التشنيعات واتّصف بأقبح العيوب.

هذا، مضافاً إلي روايتهم في الصحيح- وهي مكذوبة يقيناً- عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قد زجره عن هذا القول، وحكم عليه بأنّه رجل تائه «2».

__________________________________________________

(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 4: 37.

(2) صحيح مسلم 2: 1027/ 1407 كتاب النكاح الباب 3، المعجم الأوسط للطبراني 3: 127/ 2265، سنن البيهقي 7: 201 كتاب النكاح، باب نكاح المتعة، الناسخ والمنسوخ للنحّاس: 99.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 44

وعن عبداللَّه بن الزبير أنّه وصفه بالفاجر، كما روي القاري في (المرقاة): «عن عروة بن الزبير: إنّ عبداللَّه بن الزبير قام بمكّة فقال: إنّ اناساً أعمي اللَّه قلوبهم كما أعمي أبصارهم يفتون بالمتعة،- يعرّض برجل- فناداه فقال: إنّك لجلف جاف، فلعمري لقد كانت المتعة تفعل في عهد إمام المتقين- يريد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم- فقال له ابن الزبير: فجرت بنفسك، فواللَّه لئن فعلتها لأرجمنّك بأحجارك. الحديث. رواه النسائي.

ولا تردّد في أنّ ابن عبّاس هو الرجل المعرَّض به وكان قد كفّ بصره، فلذا قال ابن الزبير: كما أعمي أبصارهم، وهذا إنّما كان في حال خلافة

ابن الزبير، وذلك بعد وفاة علي، وقد ثبت أنّه كان مستمرّ القول علي جوازها» «1».

قوله برؤية النبي ربّه … ص: 44

وأيضاً، فإنّ ابن عبّاس- بحسب روايات القوم المكذوبة عليه قطعاً- كان من المفترين علي اللَّه والرسول، إذ كان يقول بأنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم قد رأي اللَّه- سبحانه وتعالي عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً- كما جاء في (صحيح الترمذي):

«عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: رأي محمّد صلّي اللَّه عليه وسلّم ربّه.

قلت: أليس اللَّه يقول: «لا تدركه الأبصارُ وهو يُدركُ الأبصارَ»؟ قال:

ويحك، ذاك إذا تجلّي بنوره الذي هو نوره، وقد رأي محمّد ربّه مرّتين. هذا حديث حسن غريب» «2».

__________________________________________________

(1) المرقاة في شرح المشكاة 6: 318/ 3158 كتاب النكاح الباب 3.

(2) صحيح الترمذي 5: 395/ 3279 كتاب تفسير القرآن، الباب 54.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 45

بل إنّه كان يبالغ في هذا الإعتقاد ويصرّ عليه، حتّي أنّه لمّا سئل عنه مرّةً جعل يكرّر ذلك ويؤكّده، ففي (عيون الأثر): «في تفسير النقاش: عن ابن عبّاس أنّه سئل هل رأي محمّد- صلّي اللَّه عليه وسلّم- ربّه؟ فقال: رآه رآه رآه، حتّي انقطع صوته» «1».

إنكار عائشة ذلك … ص: 45

وقد أخرجوا أنّ عائشة قد بالغت في الإنكار علي ابن عبّاس، فقد جاء في (صحيح الترمذي): «حدّثنا ابن أبي عمر، نا سفيان، عن مجالد، عن الشعبي قال: لقي ابن عبّاس كعباً بعرفة، فسألهُ عن شي ءٍ، فكبّر حتّي جاوبته الجبال، فقال ابن عبّاس: إنّا بنو هاشم، فقال كعب: إنّ اللَّه قسّم رؤيته وكلامه بين محمّد وموسي، فكلّم موسي مرّتين، ورآه محمّد مرّتين.

قال مسروق: فدخلت علي عائشة فقلت: هل رأي محمّد ربّه؟ فقال:

لقد تكلّمت بشي ء قفّ له شعري. قلت: رويداً، ثمّ قرأتُ «لقد رأي من آيات ربّه الكبري» قالت: أين يذهب بك، إنّما هو جبرئيل. من أخبرك أنّ محمّداً رأي ربّه أو كتم شيئاً

ممّا امر به، أو يعلم الخمس التي قال اللَّه تعالي «إنّ اللَّه عنده علم الساعة وينزّل الغيث … » فقد أعظم الفرية، ولكنّه رأي جبرئيل، ولم يره في صورته إلّامرّتين: مرّةً عند سدرة المنتهي، ومرّةً في جياد، له ست مائة جناح، قد سدّ الافق» «2».

__________________________________________________

(1) عيون الأثر في المغازي والسير 1: 250.

(2) صحيح الترمذي 5: 394/ 3278 كتاب تفسير القرآن 545.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 46

وقد أخرج البخاري ومسلم إنكار عائشة وتكذيبها رؤية النبي ربّه «1».

وفي (عيون الأثر):

«وقد تكلّم العلماء في رؤية النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لربّه ليلة الإسراء، فروي عن مسروق عن عائشة أنّها أنكرت أنْ يكون رآه. قالت: ومن زعم أنّ محمداً رأي ربّه فقد أعظم الفرية علي اللَّه، واحتجّت بقوله سبحانه: «لا تدركه الأبصارُ وهو يُدرك الأبصارَ»» «2».

وإذا كان ابن عبّاس قد أعظم الفرية علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، فقد سقطت رواياته كلّها عن الإعتبار، سواء ما كان منها في الصحاح وفي غيرها من الكتب، لِما قرّروا في محلّه من أنّ من كذب في خبرٍ وجب إسقاط جميع أخباره:

قال النووي في (التقريب): «قال السمعاني: من كذب في خبرٍ واحدٍ وجب إسقاط ما تقدّم من حديثه».

وكذا قال شارحه السيوطي: «من كذب في حديثٍ واحدٍ رُدَّ جميع حديثه السابق» «3».

تأويل إنكار عائشة … ص: 46

ومن القوم من تجاسر علي عائشة، فزعم أنّ تكذيبها رؤية النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم كان رأياً منها لا رواية عنه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، ومن __________________________________________________

(1) صحيح البخاري 6: 175 كتاب التفسير- سورة والنجم، صحيح مسلم 1/ 159/ 177 كتاب الإيمان الباب 77.

(2) عيون الأثر في المغازي والسير 1: 250.

(3) تدريب الراوي- شرح تقريب النواوي

1: 330 و 332.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 47

العجائب ذهاب النووي إلي ذلك، كما في (المواهب اللّدنيّة) حيث قال:

«قال النووي- تبعاً لغيره- لم تنف عائشة وقوع الرؤية بحديثٍ مرفوع، ولو كان معها لذكرته، وإنّما اعتمدت الإستنباط علي ما ذكرته من ظاهر الآية، وقد خالفها غيرها من الصحابة، والصّحابي إذا قال قولًا وخالفه غيره منهم لم يكن ذلك القول حجّة اتفاقاً» «1».

لكنْ يبطله أنّ الحديث موجود في صحيح مسلم الذي شرحه النووي، وقد نبّه علي ذلك الحافظ ابن حجر أيضاً، حيث قال في (فتح الباري):

«وجزمه بأنّ عائشة لم تنف الرؤية بحديث مرفوع، تبع فيه ابن خزيمة، فإنّه قال في كتاب التوحيد من صحيحه: النفي لا يوجب علماً، ولم تحك عائشة أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أخبرها أنّه لم ير ربّه، وإنّما تأوّلت الآية.

إنتهي.

وهو عجب، فقد ثبت ذلك عنها في صحيح مسلم الذي شرحه الشيخ، فعنده من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق في الطريق المذكور قال مسروق: وكنت متّكياً فجلست فقلت: ألم يقل اللَّه تعالي: «ولقد رآه نزلةً اخري»؟ فقالت: أنا أوّل هذه الامّة سأل رسول اللَّه عن ذلك، فقال: إنّما هو جبرئيل.

وأخرجه ابن مردويه من طريق اخري عن داود بهذا الإسناد: فقالت: أنا أوّل من سأل رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم عن هذا، فقلت: يا رسول اللَّه، هل رأيت ربّك؟ فقال: لا، إنّما رأيت جبريل منهبطاً» «2».

__________________________________________________

(1) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة 2: 389.

(2) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 8: 493.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 48

أقول:

وإذا كان هذا في صحيح مسلم، فكيف يقول القائلون منهم برؤيته صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم ربّه؟ نعوذ باللَّه من استيلاء

الجهالة والإنهماك في الضلالة!

إنكار الصحابة … ص: 48

وأنكر غير عائشة من الصحابة رؤية النبي ربّه، قال في (تاريخ الخميس):

«واختلف أيضاً في رؤية النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم ربّه، فأنكرت عائشة رضي اللَّه عنها … وقال جماعة بقول عائشة، وهو المشهور عن ابن مسعود، ومثله عن أبي هريرة في قوله «ما كذب الفؤاد ما رأي» أنّه رأي جبرئيل له ستمائة جناح. ويؤيّد ذلك ما قال أبوذر: سألت رسول اللَّه: هل رأيت ربّك؟

قال: هو نورٌ أنّي أراه. وفي العروة الوثقي: قال أبو ذر: سألته عن رؤية ربّه ليلة المعراج، قال: لا، بل نوراً أري» «1».

وفي (سبل الهدي والرشاد):

«روي النسائي وابن خزيمة عن أبي ذر في الآية،- يعني الآية «ما كذب الفؤاد ما رأي» - قال: رآه بقلبه ولم يره بعينه» «2».

محاولة الجمع … ص: 48

وقد تكلّف بعض أكابر القوم الجمع بين إثبات ابن عبّاس- حسبما

__________________________________________________

(1) تاريخ الخميس 1: 313.

(2) سبل الهدي والرشاد في سيرة خير العباد 3: 63.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 49

يروون- وبين إنكار عائشة، كقول القسطلاني تبعاً لابن حجر:

«وعلي هذا، فيمكن الجمع بين إثبات ابن عبّاس، ونفي عائشة، بأن يحمل نفيها علي رؤية البصر وإثباته علي رؤية القلب» «1».

ولا يخفي بطلانه، لأنّ في حديث الترمذي عن عكرمة أنّه اعترض علي ابن عبّاس قوله بالمنافاة لقوله تعالي: «لا تدركهُ الأبصار»، فلو كان ابن عبّاس يريد الرؤية بالقلب لأجابه بذلك، لا بما جاء في الحديث، لأنّ رؤية القلب لا تختصّ بوقتٍ دون وقت.

علي أنّ هناك حديثاً صريحاً في إرادته الرؤية بالبصر، ولأجله استدرك القسطلاني الكلام قائلًا:

«لكنْ روي الطبراني في الأوسط بإسنادٍ رجاله رجال الصحيح خلا جهور بن منصور الكوفي- وجهور بن منصور قد ذكره ابن حبّان في الثقات- عن ابن عبّاس أنّه كان يقول: إنّ محمّداً

صلّي اللَّه عليه وسلّم رأي ربّه مرّتين، مرّة ببصره ومرّة بفؤاده» «2».

وذكر أيضاً: «جنح ابن خزيمة في كتاب التوحيد إلي ترجيح الإثبات، وأطنب في الاستدلال بما يطول ذكره، وحمل ما ورد عن ابن عبّاس علي أنّ الرؤية وقعت مرّتين مرّةً بقلبه ومرّةً بعينه» «3».

وكذلك محمّد بن يوسف الشامي، فإنّه ذكر الجمع المزبور في الثالث من التنبيهات، ثمّ عدل عنه في الخامس منها حيث قال:

__________________________________________________

(1) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة 2: 393.

(2) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة 2: 393.

(3) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة 2: 393.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 50

«قال ابن كثير: من روي عن ابن عبّاس أنّه رآه ببصره، فقد أغرب، فإنّه لا يصحّ في ذلك شي ء عن الصحابة، وقول البغوي: وذهب جماعة إلي أنّه رآه بعينه- وهو قول أنس والحسن وعكرمة- فيه نظر.

قلت: سبق البغوي إلي ذلك الإمام أبوالحسن الواحدي. وقول ابن كثير:

إنّه لا يصحّ في ذلك شي ء عن الصحابة، ليس بجيّد، فقد روي الطبراني بسند صحيح عن ابن عبّاس أنّه كان يقول: نظر محمّد إلي ربّه مرّتين، مرّةً ببصره ومرّةً بفؤاده» «1».

وتلخص: إنّ الجمع المذكور ساقط، والأحاديث علي خلافه.

وممّا يشهد بسقوطه: كلام الزهري، فإنّه ردّ علي عائشة إنكارها علي ابن عبّاس، كما في (عيون الأثر) قال:

«وفي تفسير عبدالرزاق: عن معمر، عن الزهري، وذكر إنكار عائشة أنّه رآه فقال الزهري: ليست عائشة أعلم عندنا من ابن عبّاس. وفي تفسير ابن سلام عن عروة أنّه كان إذا ذكر إنكار عائشة يشتدّ ذلك عليه» «2».

فلو كان للجمع المذكور أو غيره وجه لما اتّخذ الزهري هذا الموقف.

هذا، علي أنّه لا فرق بين رؤية القلب ورؤية البصر، إذ ليس المراد من «رؤية القلب» هو «العلم باللَّه»، لأنّ هذا

يحصل في كلّ وقت، وليس له وقت مخصوص، بل المراد هو حصول خلقٍ له في قلبه كما تخلق الرؤية بالعين، وهذا ما نصّ عليه الشهاب القسطلاني حيث قال:

«ثمّ إنّ المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب، لا مجرّد حصول العلم، لأنّه كان __________________________________________________

(1) سبل الهدي والرشاد في سيرة خير العباد 3: 63.

(2) عيون الأثر في المغازي والسير 1: 250- 251.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 51

عالماً باللَّه علي الدوام، بل مراد من أثبت له أنّه رآه بقلبه أنّ الرؤية التي حصلت له خلقت له في قلبه كما تخلق الرؤية بالعين لغيره، والرؤية لا يشترط لها شي ء مخصوص عقلًا، ولو جرت العادة بخلقها في العين» «1».

ومحمّد بن يوسف الشامي قال:

«قال الحافظ: المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب لا مجرّد حصول العلم، لأنّه صلّي اللَّه عليه وسلّم كان عالماً باللَّه تعالي علي الدوام، بل مراد من أثبت له أنّه رآه بقلبه: إنّ الرؤية التي حصلت له خلقت في قلبه كما تخلق الرؤية بالعين لغيره.

وزاد صاحب السراج: بخلاف غيره من الأولياء، فإنّهم إذا أطلقوا الرؤية والمشاهدة لأنفسهم، فإنّهم إنّما يريدون المعرفة، فاعلمه فإنّه من الامور المهمّة التي يغلط فيها كثير من الناس. إنتهي.

والرؤية لا يشترط لها شي ء مخصوص عقلًا، ولو جرت العادة بخلقها في العين. قال الواحدي: وعلي القول بأنّه رأي بقلبه جعل اللَّه تعالي بصره في فؤاده، أو خلق لفؤاده بصراً حتّي رأي ربّه رؤية صحيحةً كما يري بالعين» «2».

والحاصل: إنّه لا يبقي- علي هذا- فرق بين رؤية القلب ورؤية البصر، وبأيّ وجهٍ تكون دعوي الرؤية بالبصر فرية عظيمةً، كذلك دعوي الرؤية بالقلب.

__________________________________________________

(1) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة 2: 393.

(2) سبل الهدي والرشاد في سيرة خير العباد 3: 63.

استخراج المرام

من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 52

إنكار عائشة علي ابن عبّاس في مسائل اخري … ص: 52

هذا، وقد أنكرت عائشة علي ابن عبّاس في مسائل اخري أيضاً، ففي (الصحيحين): «عن عمرة بنت عبدالرحمن: إنّ زياد بن أبي سفيان كتب إلي عائشة إنّ عبداللَّه بن عبّاس قال: من أهدي هدياً حرم عليه ما يحرم علي الحاج، حتّي ينحر هديه، وقد بعثت بهدي فاكتبي إليّ بأمرك. قالت عمرة:

قالت عائشة: ليس كما قال ابن عبّاس … » «1».

قول ابن عبّاس بوقوع الغلط في القرآن … ص: 52

واشتهر عن ابن عبّاس القول بوقوع الخطأ والغلط في القرآن العظيم، الذي عليه مدار الإيمان وهو أصل الإسلام …

قال السيوطي- بعد ذكر بعض الأحاديث الدالّة علي وقوع اللّحن في القرآن:

«ويقرب ممّا تقدّم عن عائشة:

ما أخرجه ابن جرير وسعيد بن منصور في سننه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عبّاس، في قوله «حتّي تستأنسوا وتسلّموا» قال: إنّما هي خطأ من الكاتب، حتّي تستأذنوا وتسلّموا.

أخرجه ابن أبي حاتم بلفظ: هو- فيما أحسب- ممّا أخطأ به الكتّاب.

وما أخرجه ابن الأنباري من طريق عكرمة عن ابن عبّاس أنّه قرأ: أفلم __________________________________________________

(1) صحيح البخاري، كتاب الحج، باب من قلّد القلائد بيده. صحيح مسلم، كتاب الحج، باب استحباب بعث الهدي إلي الحرم …

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 53

يتبيّن الذين آمنوا أن لو يشاء اللَّه لهدي النّاس جميعاً. فقيل له: إنّها في المصحف: «أفلم ييأس الذين آمنوا». قال: أظنّ الكاتب كتبها وهو ناعس.

وما أخرجه سعيد بن منصور، من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس أنّه كان يقول في قوله «وقضي ربّك» إنما هي: ووصّي ربّك، التزقت الواو بالصّاد.

وأخرجه ابن أشتة بلفظ: استمدّ الكاتب مداداً كثيراً، فالتزقت الواو بالصاد.

وأخرج هو من طريق الضحّاك عن ابن عبّاس أنّه كان يقرأ: ووصّي ربّك ويقول: أمر ربّك، إنّهما واوان التصقت إحداهما بالصّاد.

وأخرج من طريق اخري

عن الضحّاك أنّه قال: كيف تقرأ هذا الحرف؟

قال: «وقضي ربّك» قال: ليس كذلك نقرؤها نحن ولا ابن عبّاس، إنّما هي:

ووصّي ربّك، كذلك كانت تقرأ وتكتب، فاستمدّ كاتبكم فاحتمل القلم مداداً كثيراً فالتزقت الواو بالصاد، ثمّ قرأ: «ولقد وصّينا الذين اوتوا الكتاب»، ولو كانت قضاء من ربّك لم يستطع أحد ردّ قضاء الربّ، ولكنّه وصيّة أوصي بها العباد.

وما أخرجه سعيد بن منصور وغيره، من طريق عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عبّاس أنّه كان يقرأ: ولقد آتينا موسي وهارون الفرقان ضياء، ويقول: خذوا هذه الواو واجعلوها هاهنا «والذين قال لهم النّاس إنّ النّاس قد جمعوا لكم» الآية.

وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق الزبير بن خرّيت، عن عكرمة، عن ابن عبّاس: إنزعوا هذه الواو فاجعلوها في: الذين يحملون العرش ومن حوله.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 54

وما أخرجه ابن أشتة وابن أبي حاتم من طريق عطا، عن ابن عبّاس، في قوله تعالي: «مثل نوره كمشكاة» قال: هي خطأ من الكاتب، هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة، إنّما هي مثل نور المؤمن من المشكاة» «1».

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 5: 634، 6: 197.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 55

ابيّ بن كعب … ص: 55
اشارة

وأمّا ابيّ بن كعب، فقد زاد في القرآن الكريم، وأدخل فيه ما ليس منه، كما تقدّم سابقاً. كما أنّه نقص منه، إذ وافق ابن مسعود في إنكار المعوّذتين، كما جاء في كتاب (فصول الأحكام) حيث قال:

إنكاره المعوّذتين … ص: 55

«ومن زعم أنّ المعوّذتين ليستا من القرآن، فقد ذكر في فتاوي أبي الليث أنّه لا يكفر، فإنّه روي عن ابن مسعود وابي بن كعب رضي اللَّه عنهما أنّهما ليستا من القرآن».

فابيّ علي هذا القول أيضاً، وأبو الليث وإنْ كان قد أفتي بعدم الكفر، فقد سبق أنّ جماعة من الأكابر يكفّرون المنكر، بل تقدّم عن النووي أنّه إجماع المسلمين …

بل إنّ القوم يرون بأنّ أدني المخالفة لمصحف عثمان تستوجب الهتك والتفسيق، والتضليل والتعزير، كما وقع بحقّ ابن شنبوذ:

قال ياقوت الحموي في (معجم الادباء) بترجمة محمّد بن أحمد بن أيّوب بن الصّلت بن شنبوذ:

«حدّث إسماعيل بن علي الخطيبي في كتاب التاريخ قال: واشتهر ببغداد أمر رجل يعرف بابن شنبوذ، يقرئ النّاس، ويقرأُ في المحراب بحروفٍ استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 56

يخالف فيها المصحف، فيما يروي عن عبداللَّه بن مسعود وابي بن كعب وغيرهما، ممّا كان يقرأ به قبل المصحف الذي جمعه عثمان، ويتتبّع الشواذ فيقرأ بها ويجادل، حتّي عظم أمره وفحش وأنكره النّاس، فوجّه السلطان وقبض عليه في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، وحمل إلي دار الوزير محمّد ابن مقلة، واحضر القضاة والفقهاء والقرّاء، وناظره الوزير بحضرته، فأقام علي ما ذكر عنه ونصره، واستنزله الوزير عن ذلك فأبي أن ينزل عنه، أو يرجع عمّا يقرأ به من هذه الشواذ المنكرة التي تزيد علي المصحف العثماني، فأنكر ذلك جميع من حضر المجلس وأشاروا بعقوبته ومعاملته بما يضطرّه إلي الرجوع، فأمر بتجريده

وإقامته بين الخبّازين، وأمر بضربه بالدرّة علي قفاه، فضرب نحو العشرة ضرباً شديداً، فلم يصبر واستغاث وأذعن بالرجوع والتوبة، فخلّي عنه».

«قرأت في كتاب ألّفه القاضي أبو يوسف عبدالسَّلام القزويني، سمّاه:

أفواج القرّاء، قال: كان ابن شنبوذ أحد القرّاء المتنسّكين، وكان يرجع إلي ورع، ولكنّه كان يميل إلي الشواذّ ويقرأ بها، وربّما أعلن ببعضها في بعض صلواته التي يجهر فيها بالقراءة، وسمع ذلك منه، وأنكر عليه فلم ينته للإنكار.

فقام أبوبكر ابن مجاهد فيه حقّ القيام وأشهر أمره، ورفع حديثه إلي الوزير في ذلك الوقت، وهو أبو علي ابن مقلة، فأخذ وضرب أسواطاً زادت علي العشرة ولم تبلغ العشرين، وحبس واستتيب فتاب وقال: إنّي قد رجعت عمّا كنت أقرأ به، ولا اخالف مصحف عثمان، ولا أقرأ إلّابما فيه من القراءة المشهورة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 57

وكتب عليه بذلك الوزير أبو علي محضراً بما سمع من لفظه، وأمره أن يكتب في آخره بخطّه، وكان المحضر بخطّ أبي الحسين أحمد بن محمّد بن ميمون، وكان أبوبكر ابن مجاهد تجرّد في كشفه ومناظرته فانتهي أمره إلي أن خاف علي نفسه من القتل.

وقام أبو أيّوب السمسار في إصلاح أمره، وسأل الوزير أباعلي أن يطلقه وأن ينفذه إلي داره مع أعوانه بالليل خيفة عليه لئلّا يقتله العامّة، ففعل ذلك، ووجّه إلي المدائن سرّاً مدّة شهرين، ثمّ دخل بيته ببغداد مستخفياً من العامّة» «1».

من كفر بآية من القرآن كفر بكلّه … ص: 57

هذا، ومقتضي نصوص عبارات القوم وفتاواهم، وهو كفر من كفر بآيةٍ أو بحرفٍ من القرآن الكريم:

قال القاضي عياض في (الشفا):

«قال أبو عثمان ابن الحدّاد: جميع من ينتحل التوحيد متّفقون علي أنّ الجحد لحرفٍ من التنزيل كفر. وكان أبوالعالية إذا قرأ عنده رجل لم يقل له ليس كما قرأت،

ويقول: أمّا أنا فأقرأ كذا، فبلغ ذلك إبراهيم، فقال: أراه سمع أنّه من كفر بحرفٍ منه فقد كفر به كلية» «2».

قال: «وقال محمّد بن سحنون فيمن قال المعوّذتان ليستا من كتاب اللَّه:

__________________________________________________

(1) معجم الادباء 17: 168- 171/ 57.

(2) الشفا بتعريف حقوق المصطفي 2: 648- 649.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 58

يضرب عنقه إلّاأن يتوب» «1».

وقال الشهاب الخفاجي في (نسيم الرياض):

«وقال عبداللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه- فيما رواه عبدالرزاق عنه- من كفر بآيةٍ من القرآن فقد كفر به كلّه، لأنّه تكذيب لقائلها عزّ وجلّ. وقال أصبغ ابن الفرج- بالجيم- المصري- من كذّب- بالتشديد- ببعض القرآن فقد كذّب به كلّه، ومن كذّبه كلّه فقد كفر به، ومن كفر به فقد كفر باللَّه سبحانه» «2».

__________________________________________________

(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفي 2: 648.

(2) نسيم الرياض بشرح الشفا للقاضي عياض 4: 559.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 59

زيد بن ثابت … ص: 59
اشارة

وأمّا زيد بن ثابت … فقد قدح فيه الصحابي أبو حسن المازني الأنصاري بدعوته الأنصار يوم الدار لنصرة عثمان بن عفّان، فخاطبه أبو حسن بآية من القرآن الكريم مفادها الضلال والإضلال …

وقد ترجم الحافظ ابن حجر أباحسن المازني قائلًا:

«أبو حسن الأنصاري ثمّ المازني، جدّ يحيي بن عمارة بن أبي حسن، مشهور بكنيته، واسمه تميم بن عمرو، وقيل: ابن عبد عمرو، وقيل: ابن عبد قيس بن مخرمة بن الحارث بن ثعلبة بن مازن. قال ابن السكن: بدري، له صحبة، وساق من طريق حسين بن عبداللَّه الهاشمي، ثنا عمرو بن يحيي بن عمارة بن أبي حسن، عن أبيه، عن جدّه أبي حسن- وكان عقبياً بدرياً-: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم كان جالساً ومعه نفر من أصحابه، فقام رجل ونسي نعليه،

فأخذهما آخر فوضعهما تحته، فجاء الرجل فقال: نعلي، فقال القوم: ما رأيناهما. فقال الرجل: أنا أخذتهما وكنت ألعب، فقال النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: فكيف بروعة المؤمن. قالها ثلاثاً» «1».

توصيفه بالضلال والإضلال … ص: 59

وأمّا قضيّته مع زيد بن ثابت، فقد ذكرها الحافظ ابن عبدالبر بترجمته إذ

__________________________________________________

(1) الإصابة في معرفة الصحابة 7: 43/ 272.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 60

قال:

«له صحبة، يقال: إنّه ممّن شهد العقبة وبدراً. وأبو حسن المازني هو القائل لزيد بن ثابت حين قال يوم الدار: يا معشر الأنصار كونوا أنصار اللَّه- مرّتين- فقال له أبو حسن: لا واللَّه، لا نطيعك فنكون كما قال اللَّه تعالي:

«أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلّونا السبيل» ويقال: بل قال له ذلك: النعمان الزرقي» «1».

فكان زيد ودعوته لنصرة عثمان- عند هذا الصحابي- مصداقاً للآية المباركة: «إنّ اللَّه لعن الكافرين وأعدّ لهم سعيراً خالدين فيها أبداً لا يجدون وليّاً ولا نصيراً يوم تقلّب وجوههم في النّار يقولون ياليتنا أطعنا اللَّه وأطعنا الرسولا وقالوا ربّنا إنّا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلّونا السبيلا ربّنا ءَاتِهِمْ ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً» «2».

هذا، ولا يخفي أن القول بكون القائل هو النعمان الزرقي لا يضرّ باستدلالنا لأنّه أيضاً من معارف الصحابة، وقد ترجم له في (الإستيعاب) وقال بأنّه: «كان لسان الأنصار وشاعرهم» ووصفه بأنّه «كان سيّداً» «3».

توصيفه بالجور في الحكم … ص: 60

وعن عمر بن الخطّاب- وهو خليفتهم الثاني، المدّعي له العصمة كما نقل الشيخ عبدالعلي الأنصاري في (شرح المثنوي) عن بعضهم- أنّه وصف __________________________________________________

(1) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 4: 1632/ 2915.

(2) سورة الأحزاب 33: 64- 68.

(3) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 4: 1501/ 2619.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 61

زيد بن ثابت بالجور في الحكم، في خصومةٍ كانت بينه وبين ابي بن كعب فتحاكما إليه:

«عن الشعبي قال: كان بين عمر وبين ابي بن كعب خصومة، فقال عمر:

إجعل بيني وبينك رجلًا، فجعلا بينهما زيد بن ثابت، فأتياه، فقال عمر: أتيناك لتحكم بيننا، وفي بيته

يؤتي الحكم.

فلمّا دخلا عليه وسّع له زيد عن صدر فراشه، فقال: هاهنا يا أميرالمؤمنين، فقال له عمر: هذا أوّل جور جُرتَ في حكمك، ولكنْ أجلس مع خصمي، فجلسا بين يديه، فادّعي ابي وأنكر عمر، فقال زيد لُابي: اعف أميرالمؤمنين من اليمين، وما كنت لأسألها لأحدٍ غيره، فحلف عمر، ثمّ أقسم لا يدرك زيد القضاء حتّي يكون عمر ورجل من عرض المسلمين عنده سواء.

هق كر» «1» أي رواه سعيد بن منصور في سننه، والبيهقي في سننه، وابن عساكر في تاريخه.

«عن الشعبي قال: تنازع في جداد نخل ابي بن كعب وعمر بن الخطّاب، فبكي ابي ثمّ قال: أفي سلطانك يا عمر؟! فقال عمر: إجعل بيني وبينك رجلًا من المسلمين، قال ابي: زيد، قال: رضيت.

فانطلقا حتّي دخلا علي زيد، فلمّا رأي زيد عمر تنحّي عن فراشه، فقال عمر: في بيته يؤتي الحكم. فعرف زيد أنّهما جاءا ليتحاكما إليه، فقال لُابي: تقصُّ، فقصّ، فقال له عمر: تذكّر لعلّك نسيت شيئاً، فتذكّر ثمّ قصّ، حتّي قال: ما أذكر شيئاً. فقصّ عمر، قال زيد: بيّنتك يا ابي، فقال: مالي بيّنة، قال: فاعف ج عن ج أميرالمؤمنين من اليمين، فقال عمر: لا تعف أميرالمؤمنين __________________________________________________

(1) كنز العمّال 5: 808/ 14445.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 62

عن اليمين إنْ رأيتها عليه. كر» «1».

أقول:

لم يشأ الرواة أن ينقلوا الواقعة علي ما وقعت عليه كاملةً، وحاولوا التكتّم علي بعض جزئيّاتها المهمّة.. لكنّ الباحث المحقّق قد يعثر علي طرفٍ من ذلك في سائر الكتب:

قال الراغب في (المحاضرات):

«وكان زيد بن ثابت يقضي لعمر بالمدينة، وتقدَّم إليه عمر مع ابي في جداد تنازعاه، فخرج إليهما فقال: السلام عليك يا أميرالمؤمنين، هاهنا هاهنا.

ثمّ توجّهت اليمين علي عمر، فقال

زيد لُابي: اعف أميرالمؤمنين من اليمين.

فقال له عمر: ما زلت جائراً منذ اليوم! السلام عليك يا أميرالمؤمنين، وهاهنا هاهنا، واعف أميرالمؤمنين!!» «2».

ففي هذه الرواية: «فقال عمر: ما زلت جائراً منذ اليوم»، وهذه الجملة ممّا تكتَّم عليه القوم …

أحاديث في ذمّ القاضي الجائر … ص: 62

فكان «زيد بن ثابت» قاضياً بالمدينة، وكان «جائراً» كما ذكر عمر، والأحاديث في ذم القاضي الجائر مستفيضة في كتب المسلمين:

روي الحافظ المنذري في (الترغيب والترهيب) عن أبي سعيد الخدري __________________________________________________

(1) كنز العمّال 5: 839/ 14525.

(2) المحاضرات للراغب الأصفهاني 1: 194. وجِدادُ النَّخْل: صِرامُه، وقد جَدَّه يَجُدُّه. كتاب العين 6: 10 (جد).

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 63

رضي اللَّه عنه: «قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: أحبّ النّاس إلي اللَّه يوم القيامة وأدناهم منه مجلساً إمام عادل، وأبغض الناس إلي اللَّه تعالي وأبعدهم منه مجلساً إمام جائر. رواه الترمذي والطبراني في الأوسط مختصراً إلّاأنّه قال:

أشدّ النّاس عذاباً يوم القيامة إمام جائر. وقال الترمذي: حديث حسن غريب.

وعن عمر بن الخطّاب رضي اللَّه عنه أنّ النّبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال:

أفضل النّاس عند اللَّه منزلة يوم القيامة إمام عادل رفيق، وشرّ عباد اللَّه عند اللَّه منزلة يوم القيامة إمام جائر خرق. رواه الطبراني في الأوسط، من رواية ابن لهيعة، وحديثه حسن في المتابعات.

عن عبداللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ أشدّ أهل النّار عذاباً يوم القيامة، من قتل نبيّاً أو قتله نبي وإمام جائر.

رواه الطبراني، ورواته ثقات، إلّاليث بن أبي سليم، وفي الصحيح بعضه، ورواه البزّار بإسناد جيّد إلّاأنّه قال: وإمام ضلالة.

وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم:

أربعة يبغضهم اللَّه: البيّاع الحلّاف، والفتي

المختال، والشيخ الزاني، والإمام الجائر. رواه النسائي وابن حبان في صحيحه، وهو في مسلم بنحوه إلّاأنّه قال: وملك كذّاب وعائل مستكبر.

وروي عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: ثلاثة لا يقبل اللَّه لهم شهادة أن لا إله إلّااللَّه، فذكر منهم: الإمام الجائر.

رواه الطبراني في الأوسط.

وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما عن النّبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال:

السلطان ظلّ اللَّه في الأرض يأوي إليه كلُّ مظلوم من عباده؛ فإن عدل كان له استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 64

الأجر، وكان علي الرعيّة الشكر، وإن جار أو حَافَ أو ظلم كان عليه الوزر، وعلي الرعيّة الصبر، وإذا جارت الولاة قحطت السّماء، وإذا منعت الزكاة هلكت المواشي، وإذا ظَهَرَ الزنا ظهر الفقر والمسكنة، وإذا أخفرت الذمّة اديل الكفّار أو كلمة نحوها.

عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه، أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال:

من طلب قضاء المسلمين حتّي يناله ثمّ غلب عدله جوره، فله النار ج وإن غلب جوره عدله فله النّار ج. رواه أبو داود.

وعن ابن بريدة، عن أبيه رضي اللَّه عنهما: أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: القضاة ثلاثة؛ قاضيان في النّار وقاض في الجنّة: رجل قضي بغير الحق يعلم بذلك فذلك في النّار، وقاض لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النّار، وقاض قضي بالحقّ فذلك في الجنّة. رواه أبو داود- وتقدّم لفظه- وابن ماجة والترمذي واللفظ له، وقال: حديث حسن غريب.

وعن ابن أبي أوفي رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ اللَّه مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تخلّي عنه ولزمه الشيطان. رواه الترمذي وابن ماجة وابن حبّان في صحيحه،

والحاكم إلّاأنّه قال: فإذا جار تبرّأ اللَّه منه. رووه كلّهم من حديث عمران القطّان ج وقال الترمذي حديث حسن غريب لا نعرفه إلّامن حديث عمران القطّان ج وقال الحاكم: صحيح الإسناد.

قال الحافظ: وعمران يأتي الكلام عليه إن شاء اللَّه تعالي» «1».

__________________________________________________

(1) الترغيب والترهيب 3: 167- 172/ 7 و 8 و 10 و 11 و 13 و 14 و 19 و 20 و 21.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 65

إنّه زاد في القرآن ونقص منه … ص: 65

وهذا ممّا ذكر عمر بن الخطّاب مخاطباً به زيد بن ثابت، وأخرجه القوم في كتب الحديث:

«عن زيد بن ثابت: إنّ عمر بن الخطّاب استأذن عليه يوماً، فأذن له ورأسه في يد جاريةٍ له ترجّله، فنزع رأسه، فقال له عمر: دعها ترجّلك؟ قال:

يا أميرالمؤمنين، لو أرسلت إليّ جئتك. فقال عمر: ليس هو بوحي حتّي نزيد فيه أو ننقص، إنّما هو شي ء نراه، فإنْ رأيته ووافقتني تبعته، وإلّا لم يكن عليك فيه شي ء. فأبي زيد، فخرج عمر مغضباً» «1».

فصريح هذا الكلام أنّ زيد بن ثابت زاد في القرآن ونقص منه، وقد ذكر القاضي عياض في (الشفاء) ما نصّه:

«قد أجمع المسلمون علي أنّ القرآن المتلوّ في جميع أقطار الأرض، المكتوب في المصحف بأيدي المسلمين، ممّا جمعه الدفّتان، من أوّل الحمد للَّه ربّ العالمين، إلي آخر: قل أعوذ بربّ النّاس: إنّه كلام اللَّه و وحيه المنزل علي نبيّه محمّد صلّي اللَّه عليه وسلّم، وإنّ جميع ما فيه حق، وأنّ من نقص منه حرفاً قاصداً لذلك أو بدّله بحرفٍ آخر مكانه، أو زاد فيه حرفاً ممّا لم يشتمل عليه المصحف الذي وقع الإجماع عليه، وأجمع علي أنّه ليس من القرآن، عامداً لكلّ هذا، إنّه كافر» «2».

__________________________________________________

(1) كنز العمّال 11: 63/

30631.

(2) الشفا بتعريف حقوق المصطفي 2: 647.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 66

ردّه عمر بن الخطّاب في آيةٍ مع قبوله خزيمة في اخري … ص: 66

وكما كان عمر لايعتمد علي زيد ويتكلّم فيه، كذلك زيد لم يعتمد علي عمر وردّه لمّا كان يجمع القرآن، حيث جاء عمر بآيةٍ ليكتبها فلم يقبل منه، مع أنّه قبل خزيمة بن ثابت في آية اخري وكتبها، هذا، وعمر أفضل- عندهم- من خزيمة مائة مرّة، ومع أنّهم يقولون بأنّ خبر مثل عمر بن الخطّاب بوحده مفيدٌ لليقين، كما ذكر عبدالعزيز الدهلوي، وقد ذكر القصّة الحافظ جلال الدين السيوطي حيث قال:

«قد أخرج ابن أشتة في المصاحف عن الليث بن سعد قال: أوّل من جمع القرآن أبوبكر، وكتبه زيد، وكان الناس يأتون زيد بن ثابت، فكان لا يكتب آيةً إلّابشاهدي عدل، وإنّ آخِر سورة براءة لم يوجد إلّامع خزيمة بن ثابت فقال: اكتبوها، فإنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم جعل شهادته بشهادة رجلين، فكتب. وإنّ عمر أتي بآية الرجم فلم يكتبها، لأنّه كان وحده» «1».

فكيف قبل شهادة خزيمة ولم يقبل شهادة عمر؟

وإذا كان خبر عمر مفيداً لليقين، فالقرآن ناقص.

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 1: 206.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 67

أبو موسي الأشعري … ص: 67
اشارة

وأمّا أبو موسي الأشعري، فهذا طرف من حالاته وأخباره المسقطة له عن الإعتبار والإعتماد:

إنحرافه عن أميرالمؤمنين … ص: 67

لقد كان أبو موسي الأشعري من المنحرفين عن أميرالمؤمنين عليه السلام، وهذا من الامور الثابتة، وقد ذكر بترجمته من الكتب المعروفة:

قال ابن عبدالبرّ:

«ولم يزل علي البصرة إلي صدرٍ من خلافة عثمان، ثمّ لمّا دفع أهل الكوفة سعيد بن العاص ولّوا أبا موسي، وكتبوا إلي عثمان يسألونه أنْ يولّيه، فأقرّه، فلم يزل علي الكوفة حتّي قتل عثمان، ثمّ كان منه بصفّين وفي التحكيم ما كان، وكان منحرفاً عن علي، لأنّه عزله ولم يستعمله، وغلبه أهل اليمن في إرساله في التحكيم» «1».

ترجمة ابن عبدالبر … ص: 67

وابن عبدالبر، المتوفّي سنة 463، من أكابر الحفّاظ المعتمدين، وتراجمه في كتب القدماء والمتأخّرين تنبي ء عن جلالة شأنه وعظمة قدره بين العلماء المشهورين:

__________________________________________________

(1) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 4: 1763- 1764/ 3193.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 68

ترجم له ابن خلّكان ووصفه ب «إمام عصره في الحديث والأثر وما يتعلّق بهما» ثمّ أورد عن أبي الوليد الباجي: «لم يكن بالأندلس مثل أبي عمر ابن عبدالبر في الحديث» وأنّه «أحفظ أهل المغرب» وعن أبي علي الغسّاني «ابن عبدالبر شيخنا … برع براعةً فاق فيها من تقدّمه من رجال الأندلس» ثمّ ذكر بعض تواليفه. وعن ابن حزم: «لا أعلم في الكلام علي فقه الحديث مثله فكيف أحسن منه» … «1»

وقال الذهبي بترجمته ما ملخّصه:

«ابن عبدالبر، الإمام العلّامة، حافظ المغرب، شيخ الإسلام، أبو عمر، يوسف بن عبداللَّه، صاحب التصانيف الفائقة، طلب العلم وأدرك الكبار وطال عمره وعلا سنده، وتكاثر عليه الطلبة، فكان فقيهاً عابداً مجتهداً.

قال الحميري: أبو عمر فقيه حافظ مكثر … وقال أبو علي الغساني …

قلت: كان إماماً ديّناً، ثقة، متقناً، علّامة، متبحّراً، صاحب سنّةٍ واتّباع، ممّن بلغ رتبة الأئمّة المجتهدين.

قال أبو القاسم ابن بشكوال: ابن عبدالبر

إمام عصره وواحد دهره، يكنّي أبا عمر.

قال أبو علي ابن سكّرة: سمعت أبا الوليد الباجي يقول … » «2».

كلام حذيفة بن اليمان في أبي موسي لانحرافه … ص: 68

وذكر ابن عبدالبرّ بترجمة أبي موسي في موضع آخر من كتابه:

__________________________________________________

(1) وفيات الأعيان 7: 66- 67/ 837.

(2) سير أعلام النبلاء 18: 153/ 85.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 69

«ولّاه عمر البصرة في حين عزل المغيرة عنها ج فلم يزل عليها ج إلي صدر من خلافة عثمان، فعزله عثمان عنها وولّاها عبداللَّه بن عامر بن كريز، فنزل أبو موسي حينئذٍ الكوفة وسكنها، فلمّا دفع أهل الكوفة سعيد بن العاص ولّوا أباموسي، وكتبوا إلي عثمان يسألونه أنْ يولّيه، فأقرّه عثمان علي الكوفة، إلي أنْ مات، وعزله علي رضي اللَّه عنه عنها، فلم يزل واجداً علي علي حتّي جاء منه ما قال حذيفة، فقد روي فيه لحذيفة كلام كرهت ذكره، واللَّه يغفر له.

ثمّ كان من أمره يوم الحكمين ما كان» «1».

إذنْ، فقد كان أبو موسي «منحرفاً» عن علي … و «لم يزل واجداً» علي الإمام عليه السلام … لكنْ ما هو كلام حذيفة فيه الذي «كره» ابن عبدالبر ذكره؟! وحذيفة صاحب سرّ رسول اللَّه، وهو الذي كان يعرف المنافقين من الصّحابة، لاسيّما الذين أرادوا اغتيال النبي في العقبة …

علي باب حطّة من خرج منه كان كافرا … ص: 69

وفي الحديث عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله أنّه قال: «علي باب حطّة، من دخل منه كان مؤمناً ومن خرج منه كان كافراً» أخرجه الدارقطني عن ابن عبّاس، وعنه ابن حجر المكّي في (الصواعق) والسيوطي في (الجامع الصغير) «2».

وكذا أخرجه الديلمي عن ابن عمر «3».

__________________________________________________

(1) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3: 980/ 1639.

(2) الصواعق المحرقة 2: 365- 366، الجامع الصغير 2: 177/ 5592.

(3) فردوس الأخبار 3: 90/ 3998.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 70

كتم كلام حذيفة في أبي موسي … ص: 70

ثمّ إنّ عبدالبر كره أنْ يذكر كلام حذيفة بن اليمان في أبي موسي الأشعري، تستّراً عليه، إلّاأنّ ما صرَّح به من كونه «منحرفاً عن علي» وأنّه «لم يزل واجداً» علي الإمام عليه السلام يكفي للتوصّل إلي كلام حذيفة، فإنّ الباحث اللبيب والمحقّق الخبير يفهم- من تلك القرائن، وبالنظر إلي كون حذيفة عارفاً بالمنافقين، وأنّ كلامه مقبولٌ في التعريف بهم- أنّ كلام حذيفة ليس إلّاالإعلان عن كون أبي موسي من المنافقين … وهذا ما كره ابن عبدالبر التصريح به مخالفةً منه لقوله تعالي: «ولا تلبسوا الحقّ بالباطل وتكتموا الحقّ وأنتم تعلمون».

مع أنّ كتابه (الإستيعاب) مشتمل علي فضائح كثير من الأصحاب، وتكلّم بعضهم في البعض الآخر، والإفصاح عن مثالبه:

كروايته خطبة عبداللَّه بن بديل في ذمّ معاوية وهجوه وتضليله … «1»

وكروايته خطبة أميرالمؤمنين عليه السلام، وفيها التصريح بأنّ عائشة وطلحة والزبير هم الذين ألّبوا علي عثمان وقتلوه … «2»

وكروايته أنّ معاوية هو الذي دسّ السمّ إلي الإمام الحسن السبط عليه السلام «3».

وكروايته قتل معاوية حجر بن عدي … «4»

إلي غير ذلك من مخازي الصحابة التي تظهر لمن تتبّع كتاب (الاستيعاب).

__________________________________________________

(1) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3: 873/ 1481.

(2) الاستيعاب في معرفة الأصحاب- ترجمة طلحة- 2:

767/ 1280.

(3) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 1: 389/ 555.

(4) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 1: 329/ 487.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 71

وإذا كان ابن عبدالبر يروي تلك الأخبار ويكره رواية كلام حذيفة في أبي موسي الأشعري … فلابدّ وأنْ يكون كلامه فيه أعظم من تلك الكلمات، التي رواها بتراجم الصحابة عن بعضهم في البعض الآخر …

هذا كلّه، وقد اشتهر الحديث عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم في كتب الفريقين في أنّ بغض علي نفاق، وعن غير واحدٍ من صحابته: «ما كنّا نعرف المنافقين إلّاببغضهم عليّ بن أبي طالب» وقد رواه ابن عبدالبر أيضاً بترجمة الإمام عليه السلام … وبعد ثبوت انحراف أبي موسي عنه وبغضه له، لم يبق أي ريب وشك في كون أبي موسي من المنافقين … ولا تبقي حاجة إلي ذكر الشواهد علي ذلك من كتب الحديث والتاريخ.

وإذا كان ابن عبد البر يكره رواية الخبر، فقد رواه غير واحدٍ من الأعلام، منهم ابن عساكر في (تاريخه) «1» بإسناده عن الأعمش عن شقيق قال: «كنا مع حذيفة جلوساً، فدخل عبداللَّه وأبو موسي المسجد، فقال: أحدهما منافق. ثم قال: إن أشبه الناس هدياً ودلّاً وسمتاً برسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم عبداللَّه».

من مشاهد انحراف أبي موسي عن علي … ص: 71

و مع ذلك نتعرّض لبعض الأخبار الشاهدة بانحراف الرجل عن أميرالمؤمنين عليه الصلاة والسلام:

قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري):

«قوله: بعث عليّ عمّار بن ياسر وحسن بن علي فقدما علينا الكوفة، ذكر عمر بن شبة والطبري سبب ذلك بسندهما إلي ابن أبي ليلي قال: كان عليّ __________________________________________________

(1) تاريخ دمشق 32: 93 ترجمة عبداللَّه بن قيس وهو أبو موسي الأشعري.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 72

أقرّ أبا موسي علي إمرة

الكوفة، فلمّا خرج من المدينة أرسل هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إليه أن أنهض من قبلك من المسلمين، وكن من أعواني إلي الحق، فاستشار أبو موسي السائب بن مالك الأشعري فقال: اتّبع ما أمرك به. قال: إنّي لا أري ذلك، وأخذ في تخذيل الناس عن النهوض، فكتب هاشم إلي علي بذلك وبعث بكتابه مع حجل بن خليفة الطائي، فبعث عليٌّ عمّار بن ياسر والحسن بن علي يستفزّان النّاس، وأمّر قرظة بن كعب علي الكوفة» «1».

وقال ابن قتيبة في (الإمامة والسياسة):

«وذكروا أنّ عليّاً لمّا نزل قريباً من الكوفة، بعث عمّار بن ياسر ومحمّد ابن أبي بكر إلي أبي موسي الأشعري، وكان أبو موسي عاملًا لعثمان علي الكوفة، فبعثهما عليٌّ إليه وإلي أهل الكوفة يستفزّهم، فلمّا قدما عليه، قام عمّار بن ياسر ومحمّد بن أبي بكر فدعوا النّاس إلي النصرة لعليّ، فلمّا أمسوا، دخل رجال من أهل الكوفة علي أبي موسي فقالوا: ما تري؟ أنخرج مع هذين الرجلين إلي صاحبهما أم لا؟ فقال أبو موسي: أمّا سبيل الآخرة ففي أن تلزموا بيوتكم، وأمّا سبيل الدّنيا وسبيل النار، فالخروج مع من أتاكم، فأطاعوه، فتبطأ النّاس علي علي، وبلغ عمّاراً ومحمّداً ما أشار به أبو موسي علي أولئك الرهط، فأتياه فأغلظا له في القول، فقال أبو موسي: واللَّه إنّ بيعة عثمان في عنقي وعنق صاحبكما، ولئن أرادنا للقتال مالنا إلي قتال أحد من سبيل حتّي نفرغ من قتلة عثمان.

ثمّ خرج أبو موسي وصعد المنبر ثمّ قال: أيّها النّاس! إنّ أصحاب رسول اللَّه الذين صحبوه في المواطن أعلم باللَّه وبرسوله ممّن لم يصحبه، وإنّ لكم حقّاً عَلَيّ اؤدّيه إليكم، إنّ هذه الفتنة النائم فيها خير من اليقظان، والقاعد

__________________________________________________

(1) فتح الباري في

شرح صحيح البخاري 13: 48.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 73

خير من القائم، والقائم فيها خير من الساعي، والسّاعي خير من الراكب، فاغمدوا سيوفكم حتّي تنجلي هذه الفتنة» «1».

وأخرج البخاري:

«حدّثنا بدل الُمحبَّر قال حدّثنا شعبة قال: أخبرني عمرو قال: سمعت أبا وائل يقول: دخل أبو موسي وأبو مسعود علي عمّار- حيث بعثه علي إلي أهل الكوفة يستنفرهم- فقالا: ما رأيناك أتيت أمراً أكره عندنا من إسراعك في هذا الأمر منذ أسلمت. فقال عمّار: ما رأيت منكما منذ أسلمتما أمراً أكره عندي من إبطائكما عن هذا الأمر، وكساهما حلّة حلّة، ثمّ راحوا إلي المسجد.

حدّثنا عبدان، عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن شقيق بن سلمة: كنت جالساً مع أبي مسعود وأبي موسي وعمّار، فقال أبو مسعود: ما من أصحابك أحدٌ إلّالو شئت لقلت فيه، غيرك، وما رأيت منك شيئاً منذ صَحِبْتَ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أعيب عندي من استسراعك في هذا الأمر. قال عمّار: يا أبامسعود! وما رأيت منك ولا من صاحبك هذا شيئاً، منذ صحبتما النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم أعيب عندي من إبطائكما في هذا الأمر. فقال أبو مسعود- وكان موسراً-: يا غلام! هات حلّتين، فأعطي إحداهما أباموسي والاخري عمّاراً وقال: روحا فيه إلي الجمعة» «2».

وقال الحاكم:

«أخبرنا عبدالرحمن بن الحسن القاضي بهمدان، حدّثنا إبراهيم بن الحسين، حدّثنا آدم بن أبي أياس، حدّثنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن أبي __________________________________________________

(1) الامامة والسياسة 1: 65- 66.

(2) صحيح البخاري 9: 70- 71 كتاب الفتن.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 74

وائل قال: دخل أبوموسي الأشعري وأبو مسعود البدري علي عمّار وهو يستنفر النّاس، فقالا له: ما رأينا منك أمراً منذ أسلمت أكره عندنا من إسراعك

في هذا الأمر. فقال عمّار: ما رأيت منكما منذ أسلمتما أمراً أكره عندي من إبطائكما عن هذا الأمر» «1».

وأخرج أيضاً:

«عن الشعبي قال: لمّا قتل عثمان وبويع لعلي رضي اللَّه عنهما، خطب أبو موسي وهو علي الكوفة، فنهي النّاس عن القتال والدخول في الفتنة، فعزله عليٌّ عن الكوفة من ذي قار، وبعث إليه عمّار بن ياسر والحسن بن علي فعزلاه» «2».

وفيما فعل أبو موسي من الوقاحة والتجاسر والإفتراء والكذب، ما لا يخفي، ولا بأس لتوضيح شناعة موقفه بأنْ نقول:

أوّلًا: ذكر المسعودي- وعنه سبط ابن الجوزي- أنّه لمّا خذّل أبو موسي الناس، كتب الإمام عليه السلام إليه:

«إنعزل عن هذا الأمر مذموماً مدحوراً، فإنْ لم تفعل، فقد أمرت من يقطّعك إرباً إرباً، يا ابن الحائك، ما هذا أوّل هناتك، وإنّ لك لهنات وهنات.

ثمّ بعث عليٌّ الحسن وعمّاراً إلي الكوفة، فالتقاهما أبو موسي، فقال له الحسن: لم ثبّطت القوم عنّا؟ فواللَّه ما أردنا إلّاالإصلاح. فقال: صدقت، ولكنّي سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: ستكون فتنة، يكون القاعد فيها خيراً من القائم، والماشي خيراً من الراكب. فغضب عمّار

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 3: 117.

(2) المستدرك علي الصحيحين 3: 117.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 75

وسبّه» «1».

فلقد وصفه الإمام عليه السلام بوصف أهل النّار، قال تعالي: «من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثمّ جعلنا له جهنّم يصلاها مذموماً مدحوراً» «2»

وقال: «لا تجعل مع اللَّه إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولًا» «3»

وقال:

«ولا تجعل مع اللَّه إلهاً آخر فتلقي في جهنّم ملوماً مدحوراً» «4».

قال في (تفسير الجلالين): «ج مذموماً ج ملوماً ج مدحوراً ج مطروداً عن الرحمة» «5».

وفي كتاب (النهاية في غريب الحديث): «في حديث عرفة: ما

من يوم إبليس فيه أدحر ولا أدحق منه في يوم عرفة، الدحر: الدفع بعنف علي سبيل الإهانة والإذلال، والدحق: الطّرد والإبعاد» «6».

وفيه:

«وأصل اللّعن: الطرد والإبعاد من اللَّه» «7».

وقال الفخر الرازي بتفسير الآية: «من كان يريد العاجلة»:

«قال القفّال رحمه اللَّه: هذه الآية داخلة في معني قوله «وكلّ إنسان ألزمناه طائره في عنقه» ومعناه، أنّ الكمال في الدّنيا قسمان، فمنهم من يريد

__________________________________________________

(1) مروج الذهب 3: 104/ 1630 (بنحوه) تذكرة خواص الامّة: 70.

(2) سورة الإسراء 17: 18.

(3) سورة الإسراء 17: 22.

(4) سورة الإسراء 17: 39.

(5) تفسير الجلالين ط ذيل تفسير البيضاوي 1: 581.

(6) النهاية في غريب الحديث والأثر 2: 103 «دحر».

(7) النهاية في غريب الحديث والأثر 4: 255.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 76

بالذي يعمله الدنيا ومنافعها والرياسة فيها، فهذا يأنف من الإنقياد للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والدخول في طاعتهم والإجابة لدعوتهم، إشفاقاً من زوال الرياسة عنه، فهذا قد جعل طائر نفسه شؤماً، لأنّه في قبضة اللَّه تعالي، فيؤتيه اللَّه في الدنيا منها قدراً لا كما يشاء ذلك الإنسان، بل كما يشاء اللَّه، إلّا أنّ عاقبته جهنّم يدخله فيها فيصلاها مذموماً ملوماً مدحوراً منفيّاً مطروداً من رحمة اللَّه تعالي.

وفي لفظ هذه الآية فوائد:

الفائدة الاولي: إنّ العقاب عبارة عن مضرّة مقرونة بالإهانة والذمّ، بشرط أن تكون دائمة وخالية عن شوب المنفعة. فقوله: «ثمّ جعلنا له جهنّم يصلاها» إشارة إلي المضرّة العظيمة، وقوله: «مذموماً» إشارة إلي الإهانة والذم، وقوله: «مدحوراً» إشارة إلي البعد والطرد عن رحمة اللَّه، وهي تفيد كون تلك المضرّة خالية عن شوب النفع والرحمة، وتفيد كونها دائمة وخالية عن التبدّل بالراحة والخلاص» «1».

وقال أبو البركات النسفي بتفسيرها:

««من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء» لا

ما يشاء «لمن نريد» بدل من له بإعادة الجار، وهو بدل البعض من الكلّ، إذ الضمير يرجع إلي من، أي من كانت العاجلة همّه ولم يرد غيرها كالكفرة، تفضّلنا عليه من منافعها بما نشاء لمن نريد، فقيّد المعجّل بمشيّته والمعجّل له بإرادته، وهكذا الحال، تري كثيراً من هؤلاء يتمنّون ما يتمنّون ولا يعطون إلّابعضاً منه، وكثيراً منهم يتمنّون ذلك البعض وقد حرموه، فاجتمع عليهم فقر الدّنيا وفقر الآخرة، وأمّا

__________________________________________________

(1) تفسير الرازي 20: 178.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 77

المؤمن التقي، فقد اختار غني الآخرة، فإنّ أوتي حظّاً من الدنيا فبها، وإلّا فربّما كان الفقر خيراً له «ثمّ جعلنا له جهنّم» في الآخرة «يصلاها» يدخلها «مذموماً» ممقوتاً «مدحورا»» «1».

وقال البغوي:

««ولا تجعل مع اللَّه إلهاً آخر» خاطب النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم في هذه الآيات، والمراد منه الامّة «فتلقي في جهنّم ملوماً مدحوراً» مطروداً مبعداً من كلّ خير» «2».

وقال الرازي بتفسير الآية: «ولا تجعل مع اللَّه إلهاً آخر فتلقي في جهنّم ملوماً مدحوراً»:

«ثمّ إنّه تعالي ذكر في الآية الاولي: أنّ الشرك يوجب أن يكون صاحبه مذموماً مخذولًا، وذكر في الآية الأخيرة: أنّ الشرك يوجب أن يلقي صاحبه في جهنّم ملوماً مدحوراً، فاللّوم والخذلان يحصل في الدنيا، وإلقاؤه في جهنّم يحصل يوم القيامة.

ويجب علينا أن نذكر الفرق بين المذموم المخذول، وبين الملوم المدحور فنقول: أمّا الفرق بين المذموم وبين الملوم، فهو أن كونه مذموماً معناه أن يذكر له أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر، فهذا معني كونه مذموماً، وإذا ذكر له ذلك فبعد ذلك يقال له: لم فعلت مثل هذا الفعل؟ وما الذي حملك عليه؟ وما استفدت من هذا العمل إلّاإلحاق الضرر بنفسك، وهذا هو اللّوم،

فثبت أنّ أوّل الأمر هو أن يصير مذموماً، وآخره أن يصير

__________________________________________________

(1) تفسير النسفي/ مدارك التنزيل 1: 709.

(2) تفسير البغوي/ معالم التنزيل 3: 497.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 78

ملوماً، وأمّا الفرق بين المخذول وبين المدحور، فهو أنّ المخذول عبارة عن الضعيف، يقال: تخاذلت أعضاؤه أي ضعفت، وأمّا المدحور فهو المطرود، والطرد عبارة عن الإستخفاف والإهانة، قال تعالي: «ويخلد فيه مهاناً» فكونه مخذولًا عبارة عن ترك إعانته وتفويضه إلي نفسه، وكونه مدحوراً عبارة عن إهانته والإستخفاف به» «1».

وأيضاً: فقد ورد أنّ الإمام عليه السلام قال عن أبي موسي: «هو عندي غير مأمون، وقد هرب منّي» قال سبط ابن الجوزي في خبر قضيّة التحكيم:

«ولمّا فعل معاوية ما فعل قال: نبعث حكماً نرتضي به، وابعثوا أنتم حكماً ترضون به، فاختار أهل الشام عمرو بن العاص، واختار أهل العراق أباموسي الأشعري، فقال علي عليه السلام: لا أرضي به، وهو عندي غير مأمون، وقد هرب منّي، وخذّل النّاس عنّي، ولكنْ هذا ابن عبّاس» «2».

وكما تكلّم الإمام عليه السلام في أبي موسي بما تقدّم ونحوه، كذلك تكلّم في سعد بن أبي وقّاص، لتخلّفه عنه وتركه نصرته، قال الحاكم:

«وأمّا ما ذكر من اعتزال سعد بن أبي وقّاص عن القتال، فحدّثناه أبو زكريّا يحيي بن محمّد العنبري، ثنا إبراهيم بن أبي طالب، ثنا علي بن المنذر، ثنا ابن فضيل، ثنا مسلم الملائي، عن خيثمة بن عبدالرحمن قال: سمعت سعد بن مالك، وقال له رجل: إنّ عليّاً يقع فيك أنّك تخلَّفت عنه، فقال سعد:

واللَّه إنّه لرأي رأيته وأخطأ رأيي، إنّ علي بن أبي طالب اعطي ثلاثاً، لأنْ أكون اعطيت إحداهنّ أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها:

__________________________________________________

(1) تفسير الرازي 20: 214.

(2) تذكرة خواص الامّة:

93.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 79

لقد قال له رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم يوم غدير خم بعد حمد اللَّه والثناء عليه: هل تعلمون أنّي أولي بالمؤمنين؟ قلنا: نعم. قال: اللّهمّ من كنت مولاه فعليّ مولاه، وال من والاه وعاد من عاداه.

وجي ء به يوم خيبر وهو أرمد ما يبصر، فقال: يا رسول اللَّه، إنّي أرمد، فتفل في عينيه ودعا له، فلم يرمد حتّي قتل، وفتح عليه خيبر.

وأخرج رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم عمّه العبّاس وغيره من المسجد، فقال له العبّاس: تخرجنا ونحن عصبتك وعمومتك وتسكن عليّاً؟! فقال: ما أنا أخرجتكم وأسكنته، ولكنّ اللَّه أخرجكم وأسكنه» «1».

ثانياً: إنّ سبّ عمّار بن ياسر أبا موسي الأشعري دليل آخر علي كفر أبي موسي، لأنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم قال- كما في البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة- «سباب المسلم فسوق» «2»، فلا يجوز سبّ المسلم علي الإطلاق، فكيف بالصّحابي، فلو كان لأبي موسي حظّ من الإسلام لَما جاز سبّه أصلًا.

ثالثاً: إنّ ترك أبي موسي نصرة الإمام عليه السلام وتخذيله الناس عن القتال معه ونصرته، يُشمله قول النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم لعلي: «اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله»، أخرجه الطبراني عن عمرو بن مرّة وزيد بن أرقم وحبشي بن جنادة مرفوعاً بلفظ:

«اللهمّ من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 3: 116- 117 كتاب معرفة الصحابة.

(2) جامع الاصول 10: 67 و 760/ 7535 و 8437.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 80

من نصره، وأعن من أعانه» «1».

وأخرجه الحاكم بإسناده عن جابر بن عبداللَّه يقول: «سمعت

رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم ج يقول يوم الحديبيّة ج- وهو آخذ بضبع علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه- وهو يقول: هذا أمير البررة ج و ج قاتل الفجرة، منصور من نصره ج و ج مخذول من خذله. ثمّ مدّ بها صوته. هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» «2».

رابعاً: لقد قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي» وهو حديث صادر عنه قطعاً … وقد اعترف بذلك كبار أهل السنّة من القدماء والمتأخّرين، وحتي الدهلوي صاحب (التحفة الإثني عشريّة)، وأضاف أنّ كلّ عقيدةٍ أو عملٍ مخالف للثقلين فهو باطل، ومن أنكرهما فهو ضالٌّ خارج من الدين، وهذه ترجمة كلامه في الباب الرابع من كتابه:

«واعلم أنّه قد ثبت باتّفاق الفريقين أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال:

إنّي تارك فيكم الثقلين ما إنْ تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي. وقد أفاد أنّ النبي قد دلّنا في معالم الدين وأحكام الشرع علي هذين الأمرين العظيمين، فكلّ مذهبٍ خالفهما في الامور الشرعيّة سواء في العقيدة أو العمل فهو باطل ولا اعتبار به، وكلّ من أنكرهما

__________________________________________________

(1) المعجم الكبير 4: 17/ 3514، و 5: 171/ 4985.

(2) المستدرك علي الصحيحين 3: 129 كتاب معرفة الصحابة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 81

فهو ضالّ وخارج من الدّين» «1».

ولا شكّ أنّ أباموسي الأشعري قد خالف الثقلين، فكان من الخارجين عن الدين والداخلين في زمرة الضالّين الهالكين.

خامساً: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوحٍ، من ركبها نجا

ومن تخلّف عنها غرق» وهو كذلك من الأحاديث الثابتة الصدور عنه عند الفريقين، وقد قال الدهلوي في (التحفة) في مقام الردّ علي استدلال أصحابنا بهذاالحديث علي الإمامة العامّة والولاية المطلقة- لأميرالمؤمنين عليه السلام- ما تعريبه:

«إنّ هذا الحديث لا يدلّ إلّاعلي إناطة الفلاح والهداية بحبّهم واتّباعهم، وأنّ التخلّف عن ذلك موجب للهلاك» «2».

ومن الواضح: أنّ حال أبي موسي الأشعري ليس إلّاالتخلّف عن أهل البيت والمخالفة لهم، فيكون من الضالّين الهالكين.

سادساً: إنّه لم يكن تخلّف أبي موسي عن أهل البيت عليهم السلام ومخالفته لهم في ترك النصرة وتخذيل النّاس فقط، بل تكلّم بكلماتٍ كشف فيها عن نصبه وعناده لأهل البيت، بما لا يقبل الحمل والتأويل، فكان من الهالكين والخاسرين، وقد اعترف بذلك سائر العلماء من أهل السنّة حتّي المتعصّبون منهم …

سابعاً: لقد عصي أبو موسي أميرالمؤمنين عليه السلام، ومن عصاه فقد عصي رسول اللَّه، ومن عصي رسول اللَّه فقد عصي اللَّه تعالي … وفي ذلك __________________________________________________

(1) التحفة الإثنا عشريّة، الباب الرابع: 130.

(2) التحفة الإثناعشريّة، الباب السابع: 219.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 82

أحاديث صحيحة عنه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وقد أخرج الحاكم بإسناده عن أبي ذر رضي اللَّه عنه قال: «قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: من أطاعني فقد أطاع اللَّه، ومن عصاني فقد عصي اللَّه، ومن أطاع عليّاً فقد أطاعني، ومن عصي عليّاً فقد عصاني» قال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» «1».

ثامناً: إنّه قد فارق أبو موسي أميرالمؤمنين عليه السلام بتركه نصرته والتخلّف عنه، وقد نصّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم علي أنّ من فارق عليّاً فقد فارق اللَّه ورسوله:

أخرج الحاكم بإسناده عن أبي ذر رضي اللَّه عنه قال:

«قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم لعلي: من فارقني فقد فارق اللَّه ومن فارقك فقد فارقني» «2».

تاسعاً: إنّ من الواضح أنّ أبا موسي قد آذي بأفعاله وأقواله عليّاً أميرالمؤمنين، وهذا ممّا لا يرتاب فيه مرتاب ولا يشكّ فيه أحد من اولي الألباب، وإيذاء علي إيذاء رسول اللَّه، وإيذاؤه يوجب الدخول في النّار.

أخرج الحاكم بإسناده عن عمرو بن شاس الأسلمي، قال له رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم- في حديث-: «يا عمرو، أما واللَّه لقد آذيتني.

فقلت: أعوذ باللَّه أن اوذيك يا رسول اللَّه! قال: بلي، من آذي عليّاً فقد آذاني» قال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» «3».

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 3: 121 كتاب معرفة الصحابة.

(2) المستدرك علي الصحيحين 3: 146 كتاب معرفة الصحابة.

(3) المستدرك علي الصحيحين 3: 122 كتاب معرفة الصحابة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 83

العاشر: لقد خالف أبو موسي رسول اللَّه، وعصي أوامره صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بالقتال مع أميرالمؤمنين، في حروبه مع الناكثين والقاسطين والمارقين:

أخرج الحاكم بإسناده أنّ أباأيّوب الأنصاري قال في زمان عمر بن الخطّاب: «أمر رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم علي بن أبي طالب بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين» «1».

وأخرج عنه أنّه قال: «سمعت النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم يقول لعلي بن أبي طالب: تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، بالطرقات والنهروانات وبالسعفات، قال أبو أيّوب: قلت: يا رسول اللَّه، مع من نقاتل هؤلاء الأقوام؟ قال: مع علي بن أبي طالب» «2».

وأخرج البغوي عن ابن مسعود قال: «خرج رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فأتي منزل امّ سلمة، فجاء علي، فقال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم:

يا ام سلمة، هذا- واللَّه- قاتل القاسطين والناكثين والمارقين

من بعدي» «3».

وروي المتقي حديث ابن مسعود المذكور عن الحاكم في الأربعين وابن عساكر «4».

وروي عن ابن عساكر عن زيد بن علي بن الحسين بن علي، عن أبيه، عن جدّه عن علي قال: «أمرني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم بقتال الناكثين __________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 3: 139 كتاب معرفة الصحابة.

(2) المستدرك علي الصحيحين 3: 140 كتاب معرفة الصحابة.

(3) شرح السنّة 6: 168/ 2009 كتاب قتال أهل البغي الباب 1.

(4) كنز العمّال 13: 110/ 36361.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 84

والمارقين والقاسطين» «1».

وأوضح ابن طلحة الشافعي معني الحديث- بعد أن رواه عن البغوي عن ابن مسعود- بقوله:

«ذكر في هذا الحديث فرقاً ثلاثةً، صرّح بأنّ عليّاً عليه السلام يقاتلهم من بعده، وهم الناكثون والقاسطون والمارقون، وهذه الصفات التي ذكرها رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قد سمّاهم بها، مشيراً إلي أن وجود كلّ صفةٍ منها في الفرقة المختصّة بها علّة لقتالهم مسلّطة عليه، وهؤلاء الناكثون هم الناقضون عقد بيعتهم الموجبة عليهم الطاعة والمتابعة لإمامهم الذي بايعوه حقّاً، فإذا نقضوا ذلك وصدفوا عن طاعة إمامهم، وخرجوا عن حكمه، وأخذوا في قتاله بغياً وعناداً، كانوا ناكثين باغين، فتعيَّن قتالهم، كما اعتمده طائفة. فمن تابع عليّاً عليه السلام وبايعه ثمّ نقض عهده وخرج عليه- وهم أصحاب واقعة الجمل- فقاتلهم علي عليه السلام، فهم الناكثون … » «2».

حديث خاصف النعل … ص: 84

هذا، وقد وردت عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أحاديث كثيرة- غير ما ذكر- في كون علي عليه السلام مأموراً بالقتال مع هؤلاء ومصيباً في حروبه …

منها: حديث خاصف النعل … وقد أخرجه من كبار الأئمّة والحفّاظ:

الحاكم في (المستدرك).

__________________________________________________

(1) كنز العمّال 13: 112- 113/ 36367.

(2) مطالب السئول: 104- 105.

استخراج

المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 85

والنسائي في (الخصائص).

وابن أبي شيبة في (المصنّف).

وأحمد بن حنبل في (المسند).

وأبو يعلي في (المسند).

وابن حبّان في (الصحيح).

وأبو نعيم في (حلية الأولياء).

والضياء المقدسي في (المختارة).

والذهبي في (المعجم المختص).

والمحب الطبري في (الرياض النضرة) و (ذخائر العقبي).

وابن مندة في (كتاب الصحابة).

وابن الأثير في (اسد الغابة).

والزرندي في (نظم درر السمطين).

والبغوي في (شرح السنّة).

والسيوطي في (جمع الجوامع).

والمتقي في (كنز العمّال).

ومحمّد بن معتمدخان البدخشاني في (مفتاح النجا).

وابن طلحة الشافعي في (مطالب السئول).

ولنذكر نصوص رواياتهم مع الإختصار:

أخرج الحاكم: «عن أبي سعيد الخدري قال: كنّا مع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، فانقطعت نعله، فتخلّف عليّ يصلحها، فمشي قليلًا ثمّ قال:

إنّ منكم من يقاتل علي تأويل القرآن كما قاتلت علي تنزيله، فاستشرف لها

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 86

القوم- وفيهم أبوبكر وعمر- قال أبوبكر: أنا هو؟ قال: لا، قال عمر: أنا هو؟

قال: لا، ولكن خاصف النعل- يعني عليّاً- فأتيناه فبشّرناه، فلم يرفع به رأسه، كأنّه قد كان سمعه من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم.

هذا حديث صحيح علي شرط الشيخين، ولم يخرجاه» «1».

وترجم ابن الأثير «عبدالرحمن بن بشير» فأسند عنه قال: «كنّا جلوساً عند النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم إذ قال: ليضربنّكم رجل علي تأويل القرآن كما ضربتكم علي تنزيله، فقال أبوبكر: أنا هو؟ قال: لا، قال عمر: أنا هو؟ قال:

لا، ولكن خاصف النعل، وكان علي يخصف نعل النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم.

أخرجه الثلاثة» «2».

وأخرج النسائي بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال: «كنّا جلوساً ننتظر رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فخرج إلينا وقد انقطع شسع نعله، فرمي بها إلي علي فقال: إنّ منكم من يقاتل علي تأويل القرآن كما قاتلت علي تنزيله، فقال

أبوبكر: أنا؟ فقال: لا، فقال عمر: أنا؟ فقال: لا. ولكن خاصف النعل» «3».

وفي (المسند): «عن أبي سعيد الخدري: كنّا جلوساً في المسجد، فخرج علينا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وعلي في بيت فاطمة، فانقطع شسع نعل رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فأعطاه عليّاً يصلحها، ثمّ جاء فقام علينا فقال … » «4».

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 3: 123 كتاب معرفة الصحابة.

(2) اسد الغابة في معرفة الصحابة 3: 325/ 3271.

(3) خصائص علي: 219/ 156.

(4) مسند أحمد بن حنبل 3: 501/ 11364 بنحوه.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 87

وأورد العلّامة الحلّي هذا الحديث في (نهج الحق) محتجّاً به، فقال ابن روزبهان عند الجواب: «قد صحّ هذا الحديث» «1».

ورواه الذهبي في (المعجم المختص) بترجمة «عبداللَّه بن محمّد بن أحمد ابن المطري» بإسنادٍ فيه جماعة من الأعلام الحفّاظ … «عن أبي سعيد الخدري قال: خرج علينا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، ونحن في المسجد في نحو سبعين من أصحابه كأنّ علي رؤوسنا الطير فقال: إنّ رجلًا منكم يقاتل الناس علي تأويل القرآن كما قاتلتهم علي تنزيله، فقال أبوبكر: أنا؟ فقال النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: هو خاصف النعل بالحجرة. فخرج علينا علي من الحجرة وفي يده نعل رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يصلحها أو يخصفها» «2».

وهو في (كنز العمّال) عن أبي سعيد باللّفظ المذكور عن: ابن أبي شيبة في المصنّف، وأحمد في المسند، وأبي يعلي في المسند، وابن حبّان في الصحيح، والحاكم في المستدرك، وأبي نعيم في الحلية، والضياء في المختارة «3».

وكذلك البدخشي، رواه عن الجماعة والبغوي في شرح السنّة، عن أبي سعيد الخدري، وأضاف: «وأخرج الحافظ أبو علي سعيد بن عثمان ابن السكن البغدادي

في صحاحه، عن الأخضر الأنصاري رضي اللَّه عنه، عن النبي صلّي اللَّه عليه سلّم: أنا اقاتل علي تنزيل القرآن وعلي يقاتل علي تأويله» «4».

دلّ هذا الحديث علي أنّ قتال أميرالمؤمنين عليه السلام علي تأويل __________________________________________________

(1) انظر: دلائل الصدق لنهج الحق 2: 429- 430/ 17.

(2) المعجم المختص: 91/ 143.

(3) كنز العمّال 13: 107- 108/ 36351.

(4) مفتاح النجاء في مناقب آل العباء. مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 88

القرآن بعد حياة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، إنّما يعدّ من المناقب المختصّة به، ومن خصائصه الجليلة التي قد تمنّاها أبوبكر وعمر وغيرهما من الصحابة … فكيف يجوز لأبي موسي الأشعري أو غيره أن يطعن في قتاله عليه السلام، وحروبه التي خاضها ضدّ الناكثين والقاسطين والمارقين؟ وكيف يجوز لأحد أن يسعي في حطّ مرتبة هذه الفضيلة والشرف العظيم الذي بشّر به رسول اللَّه؟ وكيف يجوز التعبير عن هذا القتال بأنّه كان للدنيا؟

هذا، ولا يخفي أنّ صاحب (التحفة) قد روي هذا الحديث، وأورده في باب الإمامة، مع إسقاط تمنّي أبي بكر وعمر، وقوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم لهما: لا «1»!

الحادي عشر: لقد خالف أبو موسي الأشعري النصوص الصريحة الواردة عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم في أنّ الحقّ مع علي وأنّه لا يفارقه أبداً.

وقد أخرج هذه الأحاديث كبار الأئمّة الحفّاظ بأسانيدهم، وقد ذكر البدخشي طرفاً منها في كتابه (مفتاح النجا في مناقب آل العباء) حيث قال:

«الفصل الثامن عشر- في قول النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: الحق معه.

أخرج الترمذي عن علي كرّم اللَّه وجهه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: رحم اللَّه عليّاً، اللّهمّ أدر الحقّ معه حيث دار.

وأخرج أبو يعلي والضياء عن

أبي سعيد رضي اللَّه عنه: أنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: الحقّ مع ذا، الحقّ مع ذا؛ يعني عليّاً.

وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي اللَّه عنها، أنّ النبي صلّي اللَّه عليه __________________________________________________

(1) التحفة الاثني عشرية: 219، الباب السابع.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 89

وسلّم قال: الحق مع علي، يزول معه حيث ما زال.

وفي رواية اخري عنها: عليّ مع الحقّ والحقّ معه.

وأخرج الطبراني في الكبير، عن كعب بن عجرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: يكون بين الناس فرقة واختلاف، فيكون هذا وأصحابه علي الحق؛ يعني عليّاً.

وأخرج أبو نعيم، عن أبي ليلي الغفاري رضي اللَّه عنه، عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: سيكون من بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فالزموا عليّ بن أبي طالب، فإنّه الفاروق بين الحقّ والباطل.

وأخرج ابن مردويه، عن عائشة رضي اللَّه عنها: أنّها لمّا عقر جملها ودخلت داراً بالبصرة، فقال لها أخوها محمّد: انشدك اللَّه أتذكرين يوم حدّثتني عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّه قال: الحقّ لن يزال مع علي وعليّ مع الحق لن يختلفا ولن يتفرقا؟ قالت: نعم.

وأخرج عن أبي موسي الأشعري رضي اللَّه عنه قال: أشهد أنّ الحقّ مع عليّ ولكن مالت الدنيا بأهلها، ولقد سمعت النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول له: يا علي أنت مع الحق والحق بعدي معك.

وأخرج عن ام سلمة رضي اللَّه عنها قالت: كان عليّ علي الحق، من اتّبعه اتّبع الحق ومن تركه ترك الحق، عهداً معهوداً قبل يومه هذا.

وأخرج عن شهر بن حوشب قال: كنت عند ام سلمة رضي اللَّه عنها فسلّم رجل، فقيل: من أنت؟ قال: أنا أبو ثابت مولي أبي ذر. قالت: مرحباً

بأبي ثابت ادخل، فدخل، فرحّبت به وقالت: أين طار قلبك حين طارت القلوب مطائرها؟ قال: مع علي بن أبي طالب. قالت: وفّقت، والذي نفس ام استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 90

سلمة بيده لسمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: علي مع القرآن والقرآن مع علي، لن يفترقا حتّي يردا علي الحوض، ولقد بعثت ابني عمر وابن أخي عبداللَّه بن أبي اميّة، وأمرتهما أن يقاتلا مع عليّ من قاتله، ولولا أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أمرنا أن نقرّ في حجالنا وفي بيوتنا، لخرجت حتّي أقف في صفّ عليّ.

وأخرج عن عليّ كرّم اللَّه وجهه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: يا علي! إنّ الحقّ معك والحقّ علي لسانك وفي قلبك وبين عينيك.

وأخرج عن عبيداللَّه بن عبداللَّه الكندي قال: حجّ معاوية، فأتي المدينة وأصحاب النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم متوافرون، فجلس في حلقة بين عبداللَّه ابن عبّاس وعبداللَّه بن عمر، فضرب بيده علي فخذ ابن عبّاس ثمّ قال:

أما كنت أحقّ وأولي بالأمر من ابن عمّك؟

قال ابن عبّاس: وبم؟

قال: لأنّي ابن عمّ الخليفة المقتول ظلماً.

قال: هذا- يعني ابن عمر- أولي بالأمر منك، لأنّ أبا هذا قتل قبل ابن عمّك.

قال: فانصاع عن ابن عبّاس وأقبل علي سعد، قال:

وأنت يا سعد الذي لم تعرف حقّنا من باطل غيرنا فتكون معنا أو علينا؟

قال سعد: إنّي لمّا رأيت الظلمة قد غشيت الأرض، قلت لبعيري هخ، فأنخته حتّي إذا أسفرت مضيت.

قال: واللَّه لقد قرأت المصحف يوماً بين الدفّتين ما وجدت فيه هخ.

فقال: أمّا إذا أبيت، فإنّي سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 91

لعلي: أنت مع الحق والحق معك.

قال:

لتجيئنّي بمن معك أو لأفعلنّ؟

قال: ام سلمة.

قال: فقام وقاموا معه حتّي دخل علي ام سلمة.

قال: فبدأ معاوية فتكلّم فقال: يا ام المؤمنين، إنّ الكذّابة قد كثرت علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم بعده، فلا يزال قائل قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ما لم يقل، وإنّ سعداً روي حديثاً زعم أنّك سمعته معه.

قالت: ما هو؟

قال: زعم أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال لعلي: أنت مع الحق والحق معك.

قالت: صدق، في بيتي قاله.

فأقبل علي سعد وقال: الآن ما ألوم ما كنت عندي، واللَّه لو سمعت هذا من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ما زلت خادماً لعلي حتّي أموت.

وأخرج الطبراني- في الأوسط والصغير- عن ام سلمة رضي اللَّه عنها قالت: سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: علي مع القرآن والقرآن مع عليّ، لا يفترقان حتّي يردا عليّ الحوض.

وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي اللَّه عنها أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: الحق مع عليّ وعليٌّ مع الحق، لن يفترقا حتّي يردا علَيّ الحوض.

وأخرج الديلمي عن عمّار بن ياسر وأبي أيّوب رضي اللَّه عنهما، أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال لعمّار: يا عمّار! إن رأيت عليّاً قد سلك وادياً

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 92

وسلك النّاس وادياً غيره، فاسلك مع علي ودع النّاس، إنّه لن يدلّك علي الردي ولن يخرجك من الهدي.

وأخرج الحاكم عن أبي ذر رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: من أطاعني فقد أطاع اللَّه عزّ وجلّ، ومن عصاني فقد عصي اللَّه، ومن أطاع عليّاً فقد أطاعني، ومن عصي عليّاً فقد عصاني.

وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن عمر رضي اللَّه

عنهما قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: من فارق عليّاً فارقني، ومن فارقني فارق اللَّه.

وفي رواية الحاكم عن أبي ذر رضي اللَّه عنه مرفوعاً بلفظ: من فارقك يا علي فقد فارقني، ومن فارقني فقد فارق اللَّه» «1».

وقال الشيخ عبدالحق الدهلوي في (رجال المشكاة):

«وورد أحاديث كثيرة في حقّانيّته وعدم مفارقته للحق قطعاً.

أخرج الحاكم- وصحّحه- عن عليّ رضي اللَّه عنه قال: بعثني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم إلي اليمن، فقلت: يا رسول اللَّه بعثتني رسولًا وأنا شابٌّ أقضي بينهم ولا أدري ما القضاء؟ فضرب في صدري ثمّ قال: اللّهمّ اهد قلبه وثبّت لسانه. فوالذي فلق الحبّة ما شككت في قضاء بين اثنين.

وأخرج الحاكم- بسند صحيح- عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال لعليّ: إنّك تقاتل علي تأويل القرآن كما قاتلت علي تنزيله.

وأخرج الطبراني- في الأوسط والصغير- عن ام سلمة رضي اللَّه عنها قالت: سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: عليّ مع القرآن والقرآن __________________________________________________

(1) مفتاح النجا في مناقب آل العباء، الفصل 18- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 93

مع علي، لا يفترقان حتّي يردا علَيّ الحوض.

وأورد السيوطي في جمع الجوامع من رواية الحديث عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: أنا وهذا حجّة يوم القيامة. يعني عليّاً.

وأورد الطبراني عن سلمان وأبي ذر معاً والعقيلي في الضعفاء وابن عدي في الكامل عن حذيفة أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: إنّ هذا أوّل من آمن بي، وهو أوّل من يصافحني يوم القيامة، وهذا الصدّيق الأكبر، وهذا فاروق هذه الامّة يفرق بين الحقّ والباطل، وهذا يعسوب المسلمين والمال يعسوب الظالمين؛ قاله لعلي.

إلي

غير ذلك من الأحاديث».

وقال الدهلوي في (إزالة الخفاء):

«أخرج الحاكم عن أبي ذر قال: قال النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: يا علي من فارقني فقد فارق اللَّه، ومن فارقك يا علي فقد فارقني.

وأخرج الحاكم عن ام سلمة رضي اللَّه عنها: سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ لن يفترقا حتّي يردا علَيّ الحوض.

وأخرج الحاكم عن عليّ قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: رحم اللَّه عليّاً، اللّهمّ أدر الحقّ معه حيث دار» «1».

وفي (كنز العمّال):

«تكون بين النّاس فرقة واختلاف، فيكون هذا وأصحابه علي الحقّ.

__________________________________________________

(1) إزالة الخفاء في تاريخ الخلفاء، عن المستدرك علي الصحيحين 3: 124.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 94

يعني عليّاً. طب. عن كعب بن عجرة» «1».

وفي (مودّة القربي):

«عن النبي: أوّل ثلمة في الإسلام مخالفة عليّ» «2».

وفي (الإكتفاء) لليمني الوصابي الشافعي:

«فصل فيما جاء من الأخبار أنّ عليّ بن أبي طالب علي الحق:

عن ام المؤمنين ام سلمة رضي اللَّه عنها قالت: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: عليّ مع القرآن والقرآن مع علي. أخرجه أبو يعلي في المسند، والضياء في المختارة.

وعن أبي سعيد رضي اللَّه عنه قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: الحق مع ذا الحق مع ذا، مشيراً إلي علي بن أبي طالب. أخرجه أبو يعلي في المسند، والضياء في المختارة.

وعن كعب بن عجرة رضي اللَّه عنه أنّ رسول اللَّه قال: سيكون بين يدي السّاعة فرقة واختلاف، فيكون هذا- مشيراً إلي عليّ بن أبي طالب- وأصحابه علي الحق. أخرجه الطبراني في الكبير.

وعن أبي ليلي الغفاري قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم:

سيكون بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فالزموا عليّ بن أبي طالب، فإنّه

الفاروق بين الحق والباطل. أخرجه أبو نعيم في المعرفة.

وعن ابن عبّاس رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم لعليّ بن أبي طالب: أما إنّك ستلقي بعدي جهداً. قال: في سلامة من ديني؟

__________________________________________________

(1) كنز العمّال 11: 621/ 33016.

(2) مودّة القربي: 28 عنه ينابيع المودّة 2: 313.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 95

قال: نعم. أخرجه الحاكم في المستدرك.

وعنه- يعني أنّ علي رضي اللَّه عنه قال-: قال لي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: لولا أن تقول فيك طوائف من امّتي ما قالت النصاري في المسيح، لقلت فيك قولًا، ثمّ لا تمرّ بملأ إلّاأخذوا من تراب رجليك وفضل طهورك أو يستشفون بك، وحسبك أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسي إلّاأنّه لا نبيّ بعدي، وإنّك تبري ء ذمّتي وتقاتل علي سنّتي، إنّك في الآخرة معي، وإنّك علي الحوض خليفتي، وإنّك أوّل من يكسي معي، وإنّك أوّل من يدخل الجنّة من امّتي، وإنّ محبّيك علي منابر من نور مبيضّة وجوههم، أشفع لهم ويكونوا غداً جيراني، وإنّ حربك حربي وسلمك سلمي، وسرّك سرّي وعلانيتك علانيتي، وأمرك أمري وسريرة صدرك كسريرة صدري، وإنّ ولدك ولدي، وأنت منجز عداتي، وإنّ الحقّ معك وعلي لسانك وفي قلبك وبين عينيك، والإيمان مخالط بلحمك ودمك كما خالط لحمي ودمي، وإنّه لن يرد علي الحوض مبغض لك، ولا يغيب عنك محبّ لك حتّي ترد الحوض معي.

قال: فخرّ عليٌّ رضي اللَّه عنه ساجداً ثمّ قال: الحمد للَّه الذي أنعم علَيّ بالإسلام، وعلّمني القرآن، وحبّبني إلي خير البريّة خاتم النبيّين وسيّد المرسلين، إحساناً منه وتفضّلًا. أخرجه ابن اسبوع الأندلسي في كتابه الشفاء» «1».

وقال البدخشي في (نزل الأبرار) وقد التزم فيه بالصحّة:

«أخرج أبو علي والضّياء عن أبي

سعيد رضي اللَّه عنه، أنّ النبي صلّي اللَّه __________________________________________________

(1) الاكتفاء في مناقب الخلفاء- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 96

عليه وسلّم قال: الحقّ مع ذا الحقّ مع ذا، يعني علي بن أبي طالب» «1».

وفي (كنز العمّال):

«الحقّ مع ذا، الحقّ مع ذا، يعني عليّاً. ع ص عن أبي سعيد» «2».

وفي (مودّة القربي):

«عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم:

يا ابن عبّاس عليك بعليّ فإنّ الحقّ علي لسانه وإنّ النفاق بجانبه، إنّ هذا قفل الجنّة ومفتاحها، وقفل النّار ومفتاحها، به يدخلون الجنّة وبه يدخلون النّار» «3».

وقال الراغب الإصفهاني في (كتاب المحاضرات) في فضائل سيّدنا أميرالمؤمنين عليه الصلاة والسلام:

«وقال صلّي اللَّه عليه وسلّم: الحقّ مع عليّ وعليّ مع الحقّ، لن يزولا حتّي يردا عليّ الحوض» «4».

وفي (الصواعق المحرقة):

«الحديث الحادي والعشرون: أخرج الطبراني في الأوسط والصغير، عن امّ سلمة قالت: سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: علي مع القرآن والقرآن مع عليّ، لا يفترقان حتّي يردا علَيّ الحوض» «5».

وقال الحاكم النيسابوري:

«أخبرنا أبوبكر محمّد بن عبداللَّه الحفيد، حدّثنا أحمد بن محمّد بن __________________________________________________

(1) نزل الأبرار بما صحّ من مناقب أهل البيت الأطهار: 24.

(2) كنز العمّال 11: 621/ 33018.

(3) مودّة القربي: 27، عنه ينابيع المودّة 2: 311.

(4) محاضرات الادباء 4: 478.

(5) الصواعق المحرقة 2: 361.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 97

نصر، حدّثنا عمرو بن طلحة القنّاد الثقة المأمون، حدّثنا عليّ بن هاشم بن البريد، عن أبيه قال: حدّثني أبو سعيد التّيمي، عن أبي ثابت مولي أبي ذر قال: كنت مع عليّ رضي اللَّه عنه يوم الجمل، فلمّا رأيت عائشة واقفة دخلني بعض ما يدخل النّاس، فكشف اللَّه عنّي ذلك عند صلاة

الظهر، فقاتلت مع أميرالمؤمنين، فلمّا فرغ ذهبت إلي المدينة فأتيت امّ سلمة فقلت: إنّي واللَّه ما جئت أسأل طعاماً ولا شراباً ولكنّي مولي لأبي ذر، فقالت: مرحباً، فقصصت عليها قصّتي. فقالت: أين كنت حين طارت القلوب مطائرها؟ قلت: إلي حيث كشف اللَّه ذلك عنّي عند زوال الشمس. قالت: أحسنت، سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ لن يتفرّقا حتّي يردا علَيّ الحوض. هذا حديث صحيح الإسناد، وأبو سعيد التيمي هو عقيصاء، ثقة مأمون ولم يخرجاه.

أخبرنا أحمد بن كامل القاضي، حدّثنا أبو قلابة، حدّثنا أبو عتاب سهل ابن حمّاد، حدّثنا المختار بن نافع التميمي، حدّثنا أبو حيّان التيمي، عن أبيه عن عليّ رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: رحم اللَّه عليّاً، اللّهمّ أدر الحقّ معه حيث دار. هذا حديث صحيح علي شرط مسلم ولم يخرجاه» «1».

دلّت هذه الأحاديث المتكثّرة علي أنّ الحقّ ما فارق عليّاً عليه السلام ولا لحظةً من حياته المباركة، وأنّ حروبه كلّها كانت علي الحق، وأنّ من تخلّف عنه فقد فارق الحق وكان علي الباطل …

وقد خالف أبو موسي مقتضي هذه الأحاديث طلباً للحطام ومخالفة

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 3: 124 كتاب معرفة الصحابة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 98

للإمام عليه السلام، ومن العجب أنّ أبا موسي نفسه أيضاً من رواة هذا المعني عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم كما تقدّم … فما عذره عند اللَّه ورسوله ممّا صنع؟ بل الأشنع من ذلك تخذيله الناس عن الإمام ومنعه إيّاهم من نصرته؟!

وأمّا ما اعتذر به من أنّه سمع النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم يقول:

ستكون فتنة … فيبطله الأحاديث المتقدّمة،

لاسيّما وأنّه من الرواة فيها …

وأيضاً، فقد أبطله وردّ عليه الصحابي العظيم عمّار بن ياسر، فيما أخرجه أبو يعلي وابن عساكر، والمتقي الهندي عنهما:

«عن أبي مريم قال: سمعت عمّار بن ياسر يقول: يا أبا موسي، انشدك اللَّه، ألم تسمع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: من كذب عليَّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النّار؟ وأنا سائلك عن حديثٍ، فإنْ صدقت وإلّا بعثت عليك من أصحاب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم من يقررك به، انشدك اللَّه، أليس إنّما عناك رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أنت نفسك فقال: إنّها ستكون فتنة بين امّتي، أنت- يا أبا موسي- فيها نائماً خير منك قاعداً، وقاعداً خير منك قائماً، وقائماً خيرٌ منك ماشياً، فخصّك رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ولم يعمّ النّاس؟ فخرج أبو موسي ولم يرد عليه شيئاً. ع، كر» أي: رواه أبو يعلي وابن عساكر «1».

قصّة التحكيم … ص: 98

وذاك موقف آخر من مواقف بغضه وعناده لأميرالمؤمنين عليه السلام __________________________________________________

(1) كنز العمّال 11: 273/ 31498.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 99

وتخلّفه عن الحق وسقوطه في دركات الجحيم:

روي سبط ابن الجوزي في قضيّة التحكيم:

«فقال عمرو- يعني لأبي موسي-: قد أردتك أن تبايع معاوية فأبيت، فهلمّ بنا نخلع عليّاً ومعاوية، ونجعل الأمر شوري يختار المسلمون من شاؤوا.

وقيل: إنّ الذي ابتدأ بذلك أبو موسي، فقال عمرو: نعم ما رأيت، فأخبر النّاس إنّا قد اتفقنا علي أمر فيه صلاح هذه الامّة. ثمّ قال: يا أبا موسي، قم فتكلّم.

فقال أبو موسي: قم أنت. فقال: أنت صاحب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، ولا يسعني الكلام قبلك. فقال عبداللَّه بن عبّاس: ويحك يا عبداللَّه بن قيس، واللَّه إنّي لأظنّ ابن النابغة قد خدعك-

وكان أبو موسي رجلًا مغفّلًا- فقال: إنّا قد اتفقنا، فقال: أيّها النّاس إنّا نظرنا في هذا الأمر، فلم نر أصلح للُامّة من خلع عليّ ومعاوية، ونستقبل الامّة بهذا الأمر فيولّوا عليهم من أحبّوا، وإنّي قد خلعتهما، ثمّ تنحّي» «1».

وفي (مفتاح النجا):

«واتفق الحكمان علي أن يخلعا عليّاً، ويختارا للمسلمين خليفة رضوا به، وتفرّق النّاس علي هذا» «2».

وقال اليافعي في (مرآة الجنان) في وقائع سنة سبع وثلاثين:

«روي أنّه اجتمع في رمضان أبو موسي الأشعري ومن معه من الوجوه وعمرو بن العاص ومن معه كذلك بدومة الجندل للتحكيم، فخلا عمرو بأبي موسي وخدعه وقال له: تكلّم قبلي، فأنت أفضل وأكبر سنّاً منّي، وأري أن __________________________________________________

(1) تذكرة خواص الامّة: 97.

(2) مفتاح النجا في مناقب آل العبا- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 100

تخلع عليّاً ومعاوية، ويختار المسلمون لهم رجلًا يجتمعون عليه، فوافقه علي هذا ولم يشعر بخدعه، فلمّا خرجا وتكلّم أبو موسي وحكم بخلعهما، قام عمرو بن العاص وقال: أمّا بعد؛ فإنّ أبا موسي قد خلع عليّاً كما سمعتم، وقد وافقته علي خلعه، وولّيت معاوية. وقيل: إنّهما اتفقا علي أن يصعد أبو موسي علي المنبر وينادي: يا معشر المسلمين، اشهدوا عليَّ أنّي قد خلعت عليّاً من الخلافة كما خلعت خاتمي هذا، ففعل ذلك، وأخرج خاتمه من أصبعه ورمي به إليهم» «1».

وقال عبداللَّه بن مسلم بن قتيبة في كتاب (الإمامة والسياسة):

«ثمّ إنّ عمراً غدا علي أبي موسي بالغد وجماعة الشهود فقال: يا أبا موسي، ناشدتك اللَّه تعالي من أحقّ بهذا الأمر، من وفي أو من غدر؟

قال أبو موسي: من وفي.

قال: ناشدتك باللَّه، ما تقول في عثمان؟

قال أبو موسي: قتل ج عثمان ج مظلوماً.

قال عمرو: فما الحكم فيمن قتله؟

قال أبو

موسي: يقتل بكتاب اللَّه.

قال: فمن يقتله؟

قال: أولياء عثمان.

قال: فإنّ اللَّه يقول في كتابه العزيز: «ومن قُتِل مظلوماً فقد جعلنا لوليّه سلطاناً».

قال: فهل تعلم أنّ معاوية من أولياء عثمان؟

__________________________________________________

(1) مرآة الجنان 1: 86- 87.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 101

قال: نعم.

قال عمرو للقوم: إشهدوا.

قال أبو موسي للقوم: اشهدوا علي ما يقول عمرو.

ثمّ قال أبو موسي لعمرو: قم يا عمرو، فقل وصرّح بما أجمع عليه رأيي ورأيك وما اتفقنا عليه.

فقال عمرو: سبحان اللَّه! أقوم قبلك، وقد قدّمك اللَّه قبلي في الإيمان والهجرة، وأنت وافد أهل اليمن إلي رسول اللَّه، ووافد رسول اللَّه إليهم، وبك هداهم اللَّه وعرّفهم شرائع دينه وسنّة نبيّه، وصاحب مغانم أبي بكر وعمر؟

ولكن أنت قم فقل، ثمّ أقوم فأقول.

فقام أبو موسي، فحمد اللَّه وأثني عليه ثمّ قال: أيّها النّاس، إنّ خير النّاس للنّاس خيرهم لنفسه، وإنّي لا أهلك ديني بصلاح غيري، إنّ هذه الفتنة قد أكلت العرب، وإنّي ج قد ج رأيت وعمرو أن نخلع عليّاً ومعاوية، ونجعلها لعبداللَّه بن عمر، فإنّه لم يبسط في هذه الحرب يداً ولا لساناً» «1».

وقال نور الدين علي بن محمّد الصبّاغ الفقيه المالكي- وترجمته في كتاب الضوء اللّامع «2» -:

«ولمّا راود عمرو بن العاص أبا موسي علي معاوية وعلي ابنه عبداللَّه فأبي أبو موسي منه، راود أبو موسي عمراً علي تولية الخلافة لعبداللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما، فأبي عمرو منه، ثمّ قال له: هات رأياً غير هذا.

فقال أبو موسي: أري أن نخلع هذين الرجلين- يعني عليّاً ومعاوية-

__________________________________________________

(1) الإمامة والسياسة: 136- 137.

(2) الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، المجلّد 3: 283/ 958.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 102

ونجعل الأمر شوري، فيختار المسلمون من أحبّوه.

فقال عمرو: الرأي ما

رأيت.

فأقبلا علي النّاس بوجوههما، وهم مجتمعون ينظرون ما يتفقان عليه.

فقال عمرو: تكلّم يا أباموسي، وأخبرهم أنّ رأينا اتفق.

فقال أبو موسي: أيّها النّاس، إنّ رأينا قد اتفق علي أمر، نرجو أن يصلح اللَّه تعالي به أمر هذه الامّة ويلمّ شعثها ويجمع كلمتها.

فقال عمرو: صدق أبو موسي وبرّ فيما قال، فتقدّم يا أبا موسي فتكلّم.

فقام إليه عبداللَّه بن عبّاس وقال له: يا أبا موسي، إن كنت وافقته علي أمر فقدّمه يتكلّم به قبلك، فإنّي أخشي من خديعته لك، وإنّي لا آمن أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك وبينه، فإذا قمت في النّاس خالفك.

فقال أبو موسي: قد توافقنا وتراضينا، وما ثمّ مخالفة أبداً.

وكان أبو موسي رجلًا سليم القلب، فتقدّم، فحمد اللَّه وأثني عليه ثمّ قال:

أيّها النّاس! إنّا قد نظرنا في أمر هذه الامّة، فلم نر أصلح لأمرها ولا ألمّ لشعثها من أمر قد اجتمع رأيي ورأي عمرو عليه، وهو أن نخلع عليّاً ومعاوية، وتستقبل هذه الامّة هذا الأمر بأنفسها، فيولّوا عليهم من أحبّوا واختاروا، وإنّي قد خلعت عليّاً ومعاوية، فاستقبلوا أمركم، وولّوا عليكم من رأيتموه أهلًا لذلك» «1».

وفي (تاريخ الخميس):

«ولمّا سئم الفريقان القتال تداعيا إلي الحكومة، فرضي عليّ وأهل الكوفة بأبي موسي الأشعري، ورضي معاوية وأهل الشام بعمرو بن العاص، فاجتمع الحكمان بدومة الجندل، واتفقا علي أن يخلعاهما معاً، ويختارا

__________________________________________________

(1) الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة: 99- 100.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 103

للمسلمين خليفة رضوا به، وقد عيّن للخلافة الحكمان يومئذٍ عبداللَّه بن عمر ابن الخطّاب، كذا في دول الإسلام، ثمّ اجتمعا بالنّاس، وحضر معاوية ولم يحضر عليّ، فبدأ أبو موسي وخلع عليّاً، ثمّ قام عمرو وقال: قد خلعت عليّاً كما خلعه، وأثبتُّ خلافة معاوية» «1».

كلام الإمام في أبي موسي بعد التحكيم … ص: 103

أمّا الإمام عليه السلام، فلمّا بلغه ما صنعه أبو موسي خطب قائلًا:

«الحمد للَّه وإنْ أتي الدهر بالخطب الفادح والحدثان الجليل، وأشهد أنْ لا إله إلّااللَّه وأنّ محمّداً رسول اللَّه. أمّا بعد، فإنّ المعصية تورث الحسرة وتعقب الندامة، وكنت أمرتكم في هذين الرجلين وفي هذه الحكومة أمري فأبيتم، ونحلتكم رأيي فما ألويتم، فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن:

أمرتهم أمري بمنعرج اللّوي فلم تبيّنوا الرشد إلّاضحي الغد

أمّا بعد، فإنّ هذين الرجلين الذين قد اخترتموهما حكمين، قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما، وأحييا ما أمات القرآن، واتّبع كلّ واحد منهما هواه بغير هديً من اللَّه، فحكما بغير حجّة ولا سنّة مضيئة، واختلفا في حكمهما، وكلاهما لم يرشدا، استعدّوا وتأهّبوا للمسير إلي الشام» «2».

وفي رواية عن الشعبي: « … وكلاهما لم يرشدا، فبرئا من اللَّه ورسوله وصالح المؤمنين، فاستعدّوا للجهاد … » «3».

وكفي بهذا شرفاً وفخاراً لأهل السنّة، حيث جعلوا هذا الملوم المذموم،

__________________________________________________

(1) تاريخ الخميس 2: 277.

(2) الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة: 101.

(3) تذكرة خواصّ الامّة في معرفة الأئمّة: 99.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 104

الخائن الفاسق، النابذ لحكم القرآن، المحيي ما أماته والمميت ما أحياه، والتابع لهواه المردي والتارك لهداه المنجي، والحاكم بغير حجّة، والقاضي بغير سنّة، والبري ء من اللَّه ورسوله وصالح المؤمنين، والتابع لإغواء الشيطان الرجيم اللّعين، إماماً وملجأً وسنداً وكهفاً ومرجعاً ومعتمداً!!

وفي كلامٍ له عليه السلام مخاطباً الخوارج:

«أيّها العصابة التي أخرجها عداوة المراء والحجاج، وصدّهم عن الحقّ اتّباع الهوي واللّجاج، إنّ أنفسكم الأمّارة بالسوء سوّلت لكم فراقي لهذه الحكومة التي أنتم بدأتموها وسألتموها وأنا لها كاره، وأنبأتكم أنّ القوم إنّما فعلوه مكيدة، فأبيتم علَيَّ إباء المخالفين، وعندتم عليَّ عناد العاصين، حتّي صرفت رأيي إلي رأيكم، وإنّي

معاشرهم- واللَّه- صغار الهام سفهاء الأحلام، فأجمع رؤساؤكم وكبراؤكم أنْ اختاروا رجلين، فأخذنا عليهما أن يحكما بالقرآن ولا يتعدّيانه، فتاها وتركا الحق وهما يبصرانه، فبيّنوا لنا بم تستحلّون قتالنا والخروج عن جماعتنا، ثمّ تستعرضون الناس تضربون أعناقهم، إنّ هذا لهو الخسران المبين» «1».

وروي أبوالفرج ابن الجوزي في (تلبيس إبليس) كتاب الإمام إلي الخوارج:

«أمّا بعد، فإنّ هذين الرجلين اللذين ارتضيا حكمين، قد خالفا كتاب اللَّه واتّبعا أهواءهما، ونحن علي الأمر الأوّل» «2».

لعن النبي أبا موسي الأشعري … ص: 104

وفي حديث أخرجه ابن عساكر بتاريخه:

__________________________________________________

(1) الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة: 103.

(2) تلبيس إبليس: 108.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 105

«عن أبي يحيي حكيم قال: كنت جالساً مع عمّار، فجاء أبو موسي، فقال: مالي ولك! قال: ألست أخاك؟

قال: ما أدري، إلّاأنّي سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يلعنك ليلة الجمل.

قال: إنّه قد استغفر لي.

قال عمّار: قد شهدت اللّعن ولم أشهد الإستغفار» «1».

أقول: ومراده من «ليلة الجمل» هي ليلة «العقبة» حيث أراد أبو موسي وأبو بكر وعمر وجماعة معهم اغتيال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله بتنفير ناقته، فعرفهم عمّار وحذيفة، فقال عمّار في أبي موسي هذه الكلمة، وقال حذيفة كلمته التي كره ابن عبد البرّ ذكرها، وقد أوردناها هناك.

ترجمة ابن عساكر … ص: 105

وابن عساكر صاحب (تاريخ دمشق) المتوفّي سنة 571 وصفه الذهبي ب «الإمام العلّامة الحافظ الكبير المجوّد، محدّث الشام، ثقة الدين» ثمّ قال:

«كان فهماً حافظاً متقناً ذكيّاً بصيراً بهذا الشأن، لا يلحق شأوه، ولا يشقّ غباره، ولا كان له نظير في زمانه» ثمّ أطال الكلام في ترجمته، وذكر كلمات الأعلام في مدحه وثقته «2».

ثمّ إنّ هذا الحديث، وإنْ كذّبه ابن عدي وتبعه ابن الجوزي فأدرجه في __________________________________________________

(1) تاريخ دمشق 32: 93/ 3461.

(2) سير أعلام النبلاء 20: 554- 571، تذكرة الحفّاظ 4: 1328- 1334، وتوجد ترجمته في سائر كتب التاريخ والرجال.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 106

(الموضوعات)، إلّاأنّ السيوطي ردّ عليهما القول بوضعه، وأثبت وثاقة راويه، حيث قال في (اللآلي المصنوعة):

«ابن عدي، ثنا أحمد بن الحسين الصوفي، ثنا محمّد بن علي بن خلف العطّار، ثنا حسين الأشقر، عن قيس بن الربيع، عن عمران بن ظبيان، عن حكيم أبي يحيي قال: كنت جالساً مع عمّار، فجاء

أبو موسي، فقال له عمّار:

إنّي سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يلعنك ليلة الجمل. قال: إنّه استغفر لي. قال عمّار: قد شهدت اللعن ولم أشهد الإستغفار.

موضوع. قال ابن عدي: والبلاء من العطّار لا من حسين.

قلت: العطّار وثّقه الخطيب في تاريخه» «1».

وقال ابن حجر في (لسان الميزان) بترجمة محمّد بن عليّ العطّار: «قال الخطيب: قال محمّد بن المنصور: كان ثقة مأموناً حسن العقل» «2».

فثبت كفر أبي موسي الأشعري علي لسان النبيّ الكريم صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم.

وفي حديثٍ آخر أورده الدهلوي في (إزالة الخفا عن سيرة الخلفا) قال:

أخرجه البيهقي:

«عن علي قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ بني إسرائيل اختلفوا، لم يزل اختلافهم بينهم حتّي بعثوا حكمين فضلّا وأضلّا. وإنّ هذه الامّة مختلفة، فلا يزال اختلافهم بينهم حتّي يبعثوا حكمين ضلّا وضلّ من اتّبعهما».

__________________________________________________

(1) اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة 1: 428.

(2) لسان الميزان 6: 358/ 7842.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 107

قنوت علي بالدعاء علي أبي موسي في جماعة … ص: 107

هذا، وقد كان أميرالمؤمنين عليه السلام يقنت في صلاته بالدعاء علي جماعة فيهم أبو موسي الأشعري … روي ذلك ابن أبي شيبة، كما في (كنز العمّال):

«عن عبدالرحمن بن معقل قال: صلّيت مع علي صلاة الغداة، فقنت فقال في قنوته: اللّهمّ عليك بمعاوية وأشياعه، وعمرو بن العاص وأشياعه، …

وعبداللَّه بن قيس وأشياعه. ش» «1».

توقف عمر عن قبول خبر أبي موسي … ص: 107

وقد اشتهر أنّ عمر بن الخطاب توقّف عن قبول خبر أبي موسي في الإستيذان، وقد استدلّ به العلماء في مبحث خبر الواحد، ونكتفي هنا بكلام ابن حجر في (فتح الباري) إذ قال:

«احتجّ من ردّ خبر الواحد بتوقّفه صلّي اللَّه عليه وسلّم في قبول خبر ذي اليدين، ولا حجّة فيه، لأنّه عارض علمه، وكلّ خبرٍ واحدٍ إذا عارض العلم لم يقبل، وبتوقّف أبي بكر وعمر في حديثي المغيرة في الجدة وفي ميراث الجنين، حتّي شهد بهما محمّد بن مسلمة، وبتوقّف عمر في خبر أبي موسي في الاستيذان حتّي شهد له أبو سعيد، وبتوقّف عائشة في خبر ابن عمر في تعذيب الميّت ببكاء الحي.

واجيب: بأنّ ذلك إنّما وقع منهم، إمّا عند الإرتياب كما في قصّة أبي __________________________________________________

(1) كنز العمّال 8: 82/ 21989.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 108

موسي، فإنّه أورد الخبر عند إنكار عمر عليه ورجوعه بعد الثلاث وتوعّده، فأراد عمر الإستثبات، خشية أنْ يكون دفع بذلك عن نفسه» «1».

__________________________________________________

(1) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 13: 197- 198.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 109

تنبيه حول كتاب الإمامة والسياسة «1» … ص: 109

اشارة

قد يحاول بعض المكابرين التشكيك في نسبة كتاب (الإمامة والسياسة) إلي ابن قتيبة، بغية التخلّص من استدلال الإماميّة بأخبار هذا الكتاب واحتجاجهم بما روي فيه من الحقائق التاريخيّة، التي طالما حاول المؤرّخون والمحدّثون من كتمها وعدم نقلها.

فكان من اللّازم علينا التأكيد علي أنّ الكتاب المذكور هو من تآليف ابن قتيبة المؤرخ المعروف والأديب الشهير …

ترجمة ابن قتيبة «2» … ص: 109

وهو: أبو محمّد عبداللَّه بن مسلم بن قتيبة الدينوري، وقيل: المروزي، النحوي اللغوي المؤرّخ، صاحب التصانيف الكثيرة المتنوّعة، والمتوفّي سنة 276 عند الأكثر.

قال ابن خلّكان: كان فاضلًا ثقةً.

وكذا قال اليافعي.

وقال الخطيب: كان ثقةً ديّناً فاضلًا.

__________________________________________________

(1) موضوع هذا التنبيه موجود في (عبقات الأنوار) وفي (استقصاء الإفحام) وقد أضفنا إلي ما ذكره السيّد رحمه اللَّه مطالب اخري.

(2) وفيات الأعيان 1: 314، مرآة الجنان والعبر- سنة 276- لسان الميزان 3: 358، سير أعلام النبلاء 10: 625، الأنساب: القتيبي، جامع الاصول.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 110

وكذا قال ابن الأثير.

وقال الذهبي: صدوق، ووصفه في موضع آخر ب «الإمام الورع».

وكذا قال ابن حجر.

كتاب الإمامة والسياسة … ص: 110

وهذا الكتاب لابن قتيبة المذكور قطعاً، فلقد نقل عنه غير واحدٍ من أعلام أهل السنّة في مختلف القرون في كتبهم نصوصاً في موضوعات مختلفة هي موجودة في كتاب (الإمامة والسياسة):

1- يقول ابن العربي المالكي المتوفّي سنة 543 في كتابه (العواصم من القواصم) الذي شحنه بغضاً وحقداً لأهل البيت عليهم السلام وعناداً للحق وأهله:

«ومن أشدّ شي ء علي الناس جاهل عاقل أو مبتدع محتال. فأمّا الجاهل فهو ابن قتيبة، فلم يبق ولم يذر للصحابة رسماً في كتاب الإمامة والسياسة، إنْ صحّ جميع ما فيه» «1».

2- ويقول أبو الحجاج يوسف بن محمّد البلوي الأندلسي المالكي المتوفّي سنة 604 «2» في كتابه (ألف باء): «ذكر ابن قتيبة في الإمامة والسياسة:

أنّه لمّا قدم علي الحجاج سعيد بن جبير قال له: ما اسمك؟ قال: أنا سعيد بن جبير. فقال الحجاج: أنت شقي بن كسير. قال سعيد: امّي أعلم باسمي … » «3».

__________________________________________________

(1) العواصم من القواصم: 248.

(2) توجد ترجمته في معجم المؤلّفين 13: 330 وذكر كتابه في كشف الظنون 1/ 150.

(3) كتاب الألف

باء في المحاضرات: 478.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 111

3- ويقول تقي الدين الفاسي المكي المتوفّي سنة 832، في ذكر الولاة علي مكّة المكرّمة: «2458- مسلمة بن عبدالملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص الاموي. أمير مكّة. ذكر ولايته عليها ابن قتيبة في الإمامة والسياسة، لأنّه قال: ذكروا أنّ مسلمة بن عبدالملك كان والياً علي أهل مكّة، فبينا هو يخطب علي المنبر، إذ أقبل خالد بن عبداللَّه القسري … » «1».

4- وكذا يقول عمر بن فهد المكي المتوفّي سنة 885، في ذكر الولاة علي مكّة كذلك، لأنّه لم يذكر ولاية مسلمة بن عبدالملك عليها غير ابن قتيبة في كتابه، كما هو ظاهر عبارة التقي الفاسي المتقدّمة، فقد اعتمد ابن فهد أيضاً علي نقل ابن قتيبة في الإمامة والسياسة فقال: «وقال أبو محمّد عبداللَّه بن مسلم بن قتيبة في كتاب الإمامة والسياسة: كان مسلمة بن عبدالملك بن مروان والياً علي أهل مكّة … » «2».

5- ويقول ابن حجر المكي صاحب (الصواعق) متضجّراً من نقل ابن قتيبة في كتاب الإمامة والسياسة ما شجر بين الصحابة بعد وفاة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، ويعترض عليه- تبعاً لابن العربي المالكي- روايته لمثل هذه الامور:

«مع تآليف صدرت من بعض المحدّثين كابن قتيبة، مع جلالته القاضية بأنّه كان ينبغي له أن لا يذكر تلك الظواهر، فإنْ أبي إلّاأن يذكرها، فليبيّن جريانها علي قواعد أهل السنّة … » «3».

__________________________________________________

(1) العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين 6: 72.

(2) إتحاف الوري بأخبار امّ القري. حوادث سنة 93.

(3) تطهير الجنان واللسان: 72.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 112

هذا، وقد نقل عن كتاب (الإمامة والسياسة) مع نسبته إلي ابن قتيبة، جماعة آخرون

من أعلام القوم:

كابن خلدون في: تاريخه المعروف … 2: 166.

وأبي عبداللَّه محمّد بن علي التوزري المصري في كتابه: صلة السمط وسمة المرط في الأدب والتاريخ «1»، في الفصل الثاني من الباب 34.

وشاه سلامة اللَّه البدايوني- أحد علماء الهند- في كتابه: معركة الآراء:

126.

وذكر حيدر علي الفيض آبادي في كتابه: منتهي الكلام في الردّ علي الشيعة: أنّهم- أي الشيعة- يعتمدون علي كتاب (الإمامة والسياسة) لابن قتيبة إعتمادهم علي القرآن الكريم … !!

فنقول: والعياذ باللَّه من هذا الكلام … فالإماميّة إنّما تستند إلي هذا الكتاب لكونه من مؤلّفات أحد أعلام أهل السنّة المنحرفين عن أهل البيت عليهم السلام، ومن باب الإلزام والإحتجاج، ولا تقول الشيعة بصحّة كلّ ما فيه من الأخبار، بل شأنه شأن سائر الكتب، فيه الحق والباطل، فكيف يقاس بالقرآن الكريم الذي «لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه» «2».

هذا، وقد نسب كتاب (الإمامة والسياسة) إلي ابن قتيبة، جلّ المؤلّفين المعاصرين أمثال:

فريد وجدي في: دائرة المعارف.

وعمر رضا كحّالة في: معجم المؤلفين.

__________________________________________________

(1) انظر: معجم المؤلفين 11: 57.

(2) سورة فصّلت: 42.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 113

وإلياس سركيس في: معجم المطبوعات العربيّة.

وجرجي زيدان في: تاريخ آداب اللغة العربيّة.

وهاهوكتاب (الإمامة والسياسة) مطبوع- بتحقيق غير واحدٍ من المحقّقين- طبعات عديدة في بلاد مختلفة، قال جرجي زيدان: ومنه نسخ خطيّة في مكتبات باريس ولندن.

قلت: ومنه نسخة نفيسة جدّاً، ترجع إلي القرن الثالث أو الرابع في مكتبة المجلس بطهران.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 114

عبداللَّه بن الزبير … ص: 114
اشارة

وأمّا عبداللَّه بن الزبير، فقوادحه تفوق الحصر والعدّ، ونحن نتعرّض لبعضها مع الإختصار …

أوّل شهادة زور في الإسلام … ص: 114

إنّ أوّل ما نذكره من مطاعن الرجل وقبائحه: كذبه وإقامته شهادة زورٍ في قضيّة كلاب الحوأب، وذلك أنّه لمّا وصلت عائشة- في مسيرها إلي البصرة تقود الجيوش من أجل قتال علي عليه السلام- إلي منطقة الحوأب ونبحتها كلابها، تذكّرت قول رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وأرادت الرجوع إلي الحجاز، فرأي ابن الزّبير أنّها إنْ رجعت انكسر جيشهم وخسروا المعركة، فجاء وحلف بأنّ هذا المكان ليس الحوأب، وأقام شهوداً علي ذلك أيضاً، فكانت أوّل شهادة زور في الإسلام، وقد قال رسول اللَّه: من سنّ سنّةً سيّئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلي يوم القيامة … وهكذا انخدعت عائشة وواصلت سيرها، ووقعت الحرب واريقت الدماء وهتكت الأعراض … كما هو مثبت في كتب التاريخ …

ونحن نكتفي هنا بإيراد بعض الأخبار في كذب ابن الزبير وشهادته الكاذبة:

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 115

قال السمعاني «1»:

«وورد في حديث عصام بن قدامة، عن عكرمة، عن ابن عبّاس: أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال لنساءه: ليت شعري أيّتكنّ صاحبة الجمل الأدبب، وقيل: الأحمر، تنبحها كلاب الحوأب.

وروي إسماعيل بن أبي خالد كذلك، عن قيس بن أبي حازم عن عائشة: أنّها مرّت بماء، فنبحتها كلاب الحوأب، فسألت عن الماء، فقالوا: هذا ماء الحوأب، والقصّة في ذلك:

أنّ طلحة والزبير بعد قتل عثمان وبيعة علي، خرجا إلي مكّة، وكانت عائشة حاجّة تلك السنة، بسبب اجتماع أهل الفساد والعيث من البلاد بالمدينة لقتل عثمان، خرجت عائشة هاربة من الفتنة، فلمّا لحقها طلحة والزبير حملاها إلي البصرة في طلب دم عثمان من علي رضي اللَّه عنه، وكان ابن

الزبير عبداللَّه ابن اختها أسماء ذات النطاقين، فلمّا وصلت عائشة رضي اللَّه عنها معهم إلي هذا الماء نبحت الكلاب عليها، فسألت عن الماء واسمه، فقيل لها: الحوأب، فتذكّرت قول النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: أيّتكنّ ينبح عليها كلاب الحوأب، فتوقّفت وعزمت علي الرجوع، فدخل عليها ابن اختها ابن الزبير وقال: ليس هذا ماء الحوأب، حتّي قيل أنّه حلف علي ذلك وكفّر عن يمينه واللَّه أعلم، ويمّمت عائشة إلي البصرة وكانت وقعة الجمل المعروفة» «2».

وقال قاضي القضاة محبّ الدين أبوالوليد محمّد بن محمّد بن الشحنة

__________________________________________________

(1) قال الذهبي: «الإمام الحافظ الكبير الأوحد الثقة، محدّث خراسان، أبو سعد عبدالكريم … السمعاني … » وأرخ وفاته بسنة 562. سير أعلام النبلاء 20: 456.

(2) الأنساب 2: 286.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 116

الحنفي الحلبي «1»:

«في سنة ست وثلاثين: أرسل علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه إلي البلاد عمّاله، فبعث عمارة بن شهاب إلي الكوفة، وكان من المهاجرين، وولّي عثمان بن حنيف الأنصاري البصرة، وعبيداللَّه بن عبّاس اليمن، وقيس بن سعد الأنصاري مصر، وسهل بن حنيف الأنصاري الشام، فرجع من الطريق لمّا سمع بعصيان معاوية، وكذلك عمارة لقيه طلحة بن خويلد الذي كان ادّعي النبوّة في خلافة أبي بكر رضي اللَّه عنه فقال له: إن أهل الكوفة لا يستبدلون بأبي موسي الأشعري، فرجع، ولمّا وصل عبيداللَّه إلي اليمن خرج الذي كان بها من قبل عثمان- وهو يعلي بن منبّه- بما بها من الأموال إلي مكّة، وصار مع عائشة وطلحة والزبير، وجمعوا جمعاً عظيماً وقصدوا البصرة، ولم يوافقهم عبداللَّه بن عمر، وأعطي يعلي بن منبّه لعائشة رضي اللَّه عنها جملًا كان اشتراه بمائة دينار اسمه عسكر، وقيل بثمانين، وركبته، ومرّوا

بمكان اسمه الحوأب، فنبحتهم كلابه.

فقالت عائشة: أيّ ماء هذا؟

فقيل لها: هذا ماء الحوأب، فصرخت وقالت: إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون، سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول- وعنده نساؤه-: ليت شعري أيّتكنّ تنبحها كلاب الحوأب، ثمّ ضربت عضد بعيرها فأناخته وقالت:

ردّوني، فأقاموا يوماً وليلة.

فقال لها عبداللَّه بن الزبير: إنّه كذب، ليس هذا ماء الحوأب.

ولم يزل بها وهي تمتنع، فقال: النجا النجا، فقد أدرككم علي.

__________________________________________________

(1) المتوفّي سنة 815 توجد ترجمته في: الضوء اللامع 10: 3 وشذرات الذهب 7: 113.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 117

فارتحلوا فوصلوا البصرة» «1».

وقال ابن قتيبة في كتاب (الإمامة والسياسة):

«فلمّا انتهوا إلي ماء الحوأب في بعض الطريق ومعهم عائشة، نبحها كلاب الحوأب، فقالت لمحمّد بن طلحة: أيّ ماء هذا؟ قال: هذا ماء الحوأب.

فقالت: ما أراني إلّاراجعة. قال: ولِمَ؟ قالت: سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول لنسائه: كأنّي بإحداكنّ قد نبحها كلاب الحوأب، وإيّاك أن تكوني هي أنت يا حميراء، فقال لها محمّد بن طلحة: تقدّمي- رحمك اللَّه- ودعي هذا القول.

وأتي عبداللَّه بن الزبير، فحلف لها باللَّه لقد خلّفته أوّل الليل، وأتاها ببيّنة زور من الأعراب، فشهدوا بذلك» «2».

قبائح ابن الزبير في هذه القصّة … ص: 117

وقد ارتكب ابن الزبير في هذه القصّة قبائح عديدة، تكفي الواحدة منها للعنه والطعن فيه، فكيف إذا اجتمع الجميع في الواقع واتّسع الفتق علي الراقع؟:

1- إنّه ارتكب الكذب، إذ قال لعائشة: إنّ هذا المكان ليس «الحوأب».

2- وقد حلف علي ذلك كاذباً.

3- وأقام شهود الزور علي كذبه.

4- وجعل يقول: النجاء النجاء، فقد أدرككم علي.

__________________________________________________

(1) روضة المناظر في علم الأوائل والأواخر، حوادث السنة 36.

(2) الإمامة والسياسة: 63.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 118

5- وكان السبب في تلك المفسدة الكبيرة التي قاموا بها

وأراقوا الدماء فيها.

هذا، وقد جاء في بعض الأخبار مشاركة طلحة والزبير في إقامة تلك الشهادة الكاذبة والآثمة:

قال سبط ابن الجوزي: قال ابن جرير في تاريخه:

« … فمرَّت علي ماء يقال له الحوأب، فنبحتها كلابه، فقالت: ما هذا المكان؟ فقال لها سائق الجمل العرني: هذا الحوأب، فاسترجعت وصرخت بأعلي صوتها، ثمّ ضربت عضد بعيرها فأناخته، ثمّ قالت: أنا- واللَّه- صاحبة كلاب الحوأب، ردّوني إلي حرم اللَّه ورسوله- قالتها ثلاثاً-.

قال ابن سعد- فيما حكاه عن هشام بن محمّد الكلبي- استرجعت وذكرت قول رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: كيف بك إذا نبحتك كلاب الحوأب؟

فقال لها طلحة والزبير: ما هذا الحوأب، وقد غلط العرني. ثمّ أحضروا خمسين رجلًا فشهدوا معهما علي ذلك وحلفوا.

قال الشعبي: فهي أوّل شهادة زور اقيمت في الإسلام» «1».

خروجه لقتال الإمام عليه السلام … ص: 118

ولا خلاف في أنّ عبداللَّه بن الزبير من الخارجين علي الإمام، والمبادرين لمحاربة أميرالمؤمنين عليه السلام، وهذا من أعظم معاصيه وأقبح مخازيه، وقد أفادت الأحاديث النبويّة الثابتة بأنّ قتال الإمام عليه السلام كفر،

__________________________________________________

(1) تذكرة خواص الامّة: 68. وانظر: تاريخ الطبري 4: 469.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 119

لأنّ قتال المسلم أشنع وأقبح من سبابه، وإذا كان سبّ أميرالمؤمنين كفراً، فمحاربته وقتاله كفر، بالأولويّة القطعيّة.

أمّا الدليل علي أنّ المحاربة والقتال أشدّ من السب، فقد أخرج البخاري في كتاب الإيمان بإسناده عن عبداللَّه: «إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال:

سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر» «1».

وفي كتاب الفتن بإسناده: «قال عبداللَّه: قال النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم:

سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر» «2».

وفي كتاب الأدب، بإسناده عن عبداللَّه قال: «قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر» «3».

وقال المنذري في (الترغيب والترهيب): «عن ابن مسعود

رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر.

رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة» «4».

فقال ابن حجر في شرحه:

«لمّا كان القتال أشدّ من السباب، لأنّه مفضٍ إلي إزهاق الروح، عبّر عنه بلفظ أشدّ من لفظ الفسق، وهو الكفر» «5».

وأمّا الدليل علي أنّ سبّ علي عليه السلام كفر، فالأحاديث الصحيحة

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 1: 19 كتاب الإيمان- باب خوف المؤمن من أن يحبط عملُهُ …

(2) صحيح البخاري 9: 63 كتاب الفتن- باب قول النبي صلّي اللَّه عليه وآله: لا ترجعوا بعدي كفّاراً …

(3) صحيح البخاري 8: 18 كتاب الأدب باب ما يُنهي من السّباب واللعن.

(4) الترغيب والترهيب 3: 466/ 2.

(5) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 1: 93.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 120

الثابتة:

أخرج الحاكم:

«أخبرنا أحمد بن كامل القاضي، حدّثنا محمّد بن سعد العوفي، حدّثنا يحيي بن أبي بكر، حدّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبداللَّه الجدلي قال: دخلت علي ام سلمة رضي اللَّه عنها فقالت لي: أيسبّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فيكم؟ فقلت: معاذ اللَّه أو سبحان اللَّه أو كلمة نحوها. فقالت:

سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: من سبّ عليّاً فقد سبّني. هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه.

وقد رواه بكير بن عثمان البجلي، عن أبي إسحاق بزيادة ألفاظ: حدّثنا أبو جعفر أحمد بن عبيد الحافظ بهمدان، حدّثنا أحمد بن موسي بن إسحاق التميمي، حدّثنا جندل بن والق، حدّثنا بكير بن عثمان البجلي قال: سمعت أبا إسحاق التميمي يقول: سمعت أبا عبداللَّه الجدلي يقول: حججت- وأنا غلام- فمررت بالمدينة، وإذا الناس عنق واحد فأتبعتهم، فدخلوا علي ام سلمة زوج النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم،

فسمعتها تقول: يا شبث بن ربعي، فأجابها رجل جلف جاف: لبّيك يا امّاه. قالت: يسبّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في ناديكم؟! قال: وأنّي ذلك. قالت: فعليّ بن أبي طالب. قال: إنّا لنقول أشياء نريد عرض الدنيا، قالت: فإنّي سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: من سبّ عليّاً فقد سبّني، ومن سبّني فقد سبّ اللَّه تعالي» «1».

وأخرج الحاكم:

«أخبرني محمّد بن أحمد بن تميم القنطري، حدّثنا أبو قلابة الرقاشي،

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 3: 121 كتاب معرفة الصحابة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 121

حدّثنا أبو عاصم، عن عبداللَّه بن مؤمّل، حدّثني أبوبكر بن عبيداللَّه بن أبي مليكة عن أبيه قال: جاء رجل من أهل الشام، فسبّ عليّاً عند ابن عبّاس، فحصبه ابن عبّاس فقال: يا عدوّ اللَّه، آذيت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم «إنّ الذين يؤذون اللَّه ورسوله لعنهم اللَّه في الدنيا والآخرة وأعدّ لهم عذاباً مهيناً» لو كان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم حيّاً لآذيته. هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» «1».

وما ذكره بعض المتكلّمين المتعصّبين في الدفاع عن أصحاب الجمل الناكثين، من أنّهم ما كانوا يقصدون المحاربة، ووقوع الحرب كان بلا إرادة من الطرفين، فإنكار للبداهة، وتخديع للعوام، ويكفينا في هذا المقام كلام ابن عبّاس في جواب ابن الزبير، وإفحامه له، وذلك ما رواه ابن عبد ربّه في كتابه (العقد) حيث قال:

«قال ابن الزبير لعبداللَّه بن عبّاس: قاتلت ام المؤمنين وحواريَّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وأفتيت بتزويج المتعة.

فقال: أمّا ام المؤمنين، فأنت أخرجتها وأبوك وخالك، وبنا سمّيت امّ المؤمنين، فكنّا لها خير بنين، فتجاوز اللَّه عنها. وقاتلت أنت وأبوك عليّاً، فإن كان عليّ مؤمناً، فقد ضللتم بقتالكم المؤمنين،

وإنْ كان علي كافراً فقد بؤتم بسخطٍ من اللَّه بفراركم من الزحف. وأمّا المتعة فإنّي سمعت علي بن أبي طالب يقول: سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم رخّص فيها، فأفتيت بها، ثمّ عمر نهي عنها. وأوّل مجمر سطع في المتعة مجمر آل الزبير» «2».

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 3: 121- 122 كتاب معرفة الصحابة.

(2) العقد الفريد 4: 414.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 122

ترجمة ابن عبد ربّه … ص: 122

وقد ترجم كبار العلماء لابن عبد ربّه الأندلسي، وأثنوا عليه الثناء الجميل:

قال ابن ماكولا: «أحمد بن محمّد بن عبد ربّه … أندلسي مشهور بالعلم والأدب والشعر، وهو صاحب كتاب العقد في الأخبار، وشعره كثير جدّاً، وهو مجيد» «1».

وقال اليافعي: «كان رأس العلماء المكثرين ج من المحفوظات ج والإطّلاع علي أخبار النّاس» «2».

وقال ابن خلّكان: «كان من العلماء المكثرين من المحفوظات والإطّلاع علي أخبار الناس، وصنّف كتابه العقد، وهو من الكتب الممتعة، حوي من كلّ شي ء» «3».

وقال السيوطي: «قال ابن الفرضي: عالم الأندلس بالأخبار والأشعار وأديبها وشاعرها، كتب الناس تصنيفه وشعره، سمع من بقي بن مخلّد وابن وضّاح والخشني. مات يوم الأحد لثنتي عشرة بقيت من جمادي الاولي، سنة 328 وهو ابن 81 سنة وثمانية أشهر» «4».

وقال الذهبي: «الأديب الأخباري العلّامة، مصنّف العقد … » «5».

__________________________________________________

(1) الإكمال 6: 36.

(2) مرآة الجنان 2: 222 حوادث سنة 328.

(3) وفيات الأعيان 1: 110/ 46.

(4) بغية الوعاة في طبقات اللغويّين والنحاة 1: 371/ 727.

(5) العبر في خبر من غبر 2: 29.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 123

بل إنّ فساد التأويل المذكور يتّضح من كلام ابن الزبير أيضاً، إذ لو كان وقوع الحرب غير مقصود من الطرفين، لَما سأل ابن عبّاس عن السبب لحربه عائشة

وأشياعها …

علي أنّ هذا السؤال من أحسن الشواهد علي أنْ لاحياء لابن الزبير، إذْ يسأل ابن عبّاس عن الدليل علي كونه مع أميرالمؤمنين الذي يدور معه الحقّ حيثما دار!!

كان عمر يري الزبير وأصحابه مفسدين … ص: 123

ومن كلامٍ لعمر بن الخطّاب مع الزبير أيضاً يتّضح منه أنّ أهل الجمل إنّما خرجوا للإفساد، وأنّه لا يوجد أيّ محملٍ صحيح لخروجهم إلي البصرة ضدّ أميرالمؤمنين عليه السلام:

أخرج الحاكم في (المستدرك): «حدّثنا أبو علي الحافظ، حدّثنا الهيثم ابن خلف الدوري، حدّثنا إسماعيل بن موسي السدّي، حدّثنا عبدالسلام بن حرب، حدّثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قال: جاء الزبير إلي عمر بن الخطّاب يستأذنه في الغزو، فقال عمر: إجلس في بيتك، فقد غزوت مع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم. قال: فردّد ذلك عليه، فقال له عمر في الثالثة- أو التي تليها- اقعد في بيتك، فواللَّه إنّي لأجد بطرف المدينة منك ومن أصحابك أن تخرجوا فتفسدوا علي أصحاب محمّد صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم» «1».

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 3: 119- 120 كتاب معرفة الصحابة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 124

كلامٌ لابن طلحة الشافعي … ص: 124

وهكذا يبطل الإعتذار لأهل الجمل بوجهٍ من الوجوه، بما ذكره الفقيه محمّد بن طلحة الشّافعي، في هذا المقام، وهذا نصّ كلامه بطوله ضمن بيان وقائع شجاعة أميرالمؤمنين عليه السلام:

«فمنها: وقعة الجمل، فإنّ المجتمعين لها رفضوا عليّاً عليه السلام ونقضوا بيعته ونكثوا عهده وغدروا به، وخرجوا عليه، وجمعوا النّاس لقتاله، مستخفّين بعقد بيعته التي لزمهم فرض حكمها، مسفّين إلي إثارة فتنة عامّة باؤوا بإثمها، لم ير إلّامقاتلتهم علي إسراع نكثهم لبيعته، ومقابلتهم علي الإقلاع عن مكثهم علي الوفاء للَّه تعالي بطاعته.

وكان من الدّاخلين في البيعة أوّلًا، الملتزمين بها، ثمّ من المحرّضين ثانياً علي نكثها ونقضها، طلحة والزبير، فأخرجا عائشة وجمعها ممّن استجاب لهما، وخرجوا إلي البصرة، ونصبوا لعليّ حبائل الغوائل وألّبوا عليه مطيعيهم، من الرامح والنابل، مظهرين المطالبة بدم عثمان رضي

اللَّه عنه، مع علمهما في الباطن أنّ عليّاً ليس بالقاتل، فلمّا رحل من المدينة طالباً إلي البصرة وقرب منها، كتب إلي طلحة والزبير يقول:

أمّا بعد؛ فقد علمتما أنّي لم أرد النّاس حتّي أرادوني، ولم ابايعهم حتّي أكرهوني، وأنتما ممّن أرادوا بيعتي وبايعوا، ولم تبايعا لسلطان غالب ولا لغرض حاضر، فإن كنتما بايعتما طائعين، فتوبا إلي اللَّه عزّ وجلّ عمّا أنتما عليه، وإن كنتما بايعتما مكرهين فقد جعلتما السبيل عليكما بإظهاركما الطاعة وكتمانكما المعصية. وأنت- يا زبير- فارس قريش، وأنت- يا طلحة- شيخ استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 125

المهاجرين، ودفعكما هذا الأمر قبل أن تدخلا فيه كان أوسع لكما من خروجكما منه بعد إقراركما به. وأمّا قولكما إنّني قتلت عثمان بن عفّان، فبيني وبينكما من تخلف عنّي وعنكما من أهل المدينة، ثمّ يلزم كلّ امرئ بقدر ما احتمل، وهؤلاء بنو عثمان- إن قُتل مظلوماً كما تقولان- أولياؤه، وأنتما رجلان من المهاجرين، وقد بايعتماني ونقضتما بيعتي، وأخرجتما امّكما من بيتها الذي أمرها اللَّه عزّوجلّ أن تقرّ فيه، واللَّه حسبكما، والسّلام.

وكتب إلي عائشة:

أمّا بعد، فإنّك خرجت من بيتك عاصية للَّه تعالي ولرسوله صلّي اللَّه عليه وسلّم، تطلبين أمراً كان عنك موضوعاً، ثمّ تزعمين أنّك تريدين الإصلاح بين الناس، فخبّريني ما للنساء وقود العساكر؟ وزعمت أنّك طالبة بدم عثمان، وعثمان رجل من بني اميّة، وأنت امرأة من بني تيم بن مرّة، ولعمري، إنّ الذي عرّضك للبلاء وحملك علي المعصية لأعظم إليك ذنباً من قتلة عثمان، وما غضبت حتّي أغضبت، ولا هجت حتّي هيّجت، فاتقي اللَّه يا عائشة، وارجعي إلي منزلك، واسبلي عليك سترك، والسّلام.

فجاء الجواب إليه:

يا ابن أبي طالب، جلّ الأمر عن العتاب، ولن ندخل في طاعتك، فاقض

ما أنت قاض، والسّلام.

ثمّ تراءي الجمعان، وقرب كلّ من الآخر، ورأي علي عليه السلام تصميم عزم أولئك علي قتاله، فجمع أصحابه ولم يترك منهم أحداً، وخطبهم خطبة بليغة منها:

واعلموا أيّها النّاس، أنّي قد تأنّيت هؤلاء القوم وراقبتهم وناشدتهم،

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 126

كيما يرجعوا ويرتدعوا، فلم يفعلوا ولم يستجيبوا، وقد بعثوا إليّ أن أثبت للجلاد وأبرز للطعان، وقد كنت وما اهدّد بالحرب ولا أدعي إليها، وقد أنصف القارّة من راماها، ولعمري، لئن أبرقوا وأرعدوا ورأوا نكايتي، فأنا أبوالحسن الذي فللت حدّهم وفرّقت جماعتهم، فبذلك القلب ألقي عدوّي وأنا علي بيّنة من ربّي لما وعدني من النصر والظفر، وإنّي لعلي غير شبهة من أمري، ألا، وإنّ الموت لا يفوته المقيم ولا يعجزه الهارب، ومن لم يقتل يمت، وإنّ أفضل الموت القتل، والذي نفس عليّ بيده لألف ضربة بالسيف أهون علَيّ من ميتة علي الفراش.

ثمّ رفع يده إلي السّماء وهو يقول:

اللّهمّ، إنّ طلحة بن عبيداللَّه أعطاني صفقة يمينه طائعاً ثمّ نكث بيعتي، اللّهمّ فعاجله ولا تمهله، اللّهمّ وإنّ الزبير بن العوام قطع قرابتي، ونكث عهدي، وظاهر عدوّي، ونصب الحرب لي وهو يعلم أنّه ظالم، اللّهمّ فاكفنيه كيف شئت وأنّي شئت.

ثمّ تقارب النّاس للقتال، وتعبّؤوا متسلّحين لابسين دروعهم، متأهّبين لذلك، هذا كلّه، وعليٌّ بين الصفّين عليه قميص ورداء، وعلي رأسه عمامة سوداء، وهو راكب علي بغلة رسول اللَّه الشهباء، فلمّا رأي أنّه لم يبق إلّا التصافح بالصّفاح والتناطح بالرماح، صاح بأعلي صوته: أين الزبير بن العوام، فليخرج إليّ؟

فقال النّاس: يا أميرالمؤمنين! أتخرج إلي الزبير وأنت حاسر، وهو مدجّج في الحديد؟!

فقال عليٌّ: ليس علَيّ منه بأس.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 127

ثمّ نادي الثانية: أين الزبير

بن العوّام، فليخرج إليّ.

فخرج إليه الزبير ج وقال: يا علي، أنا آمن من سيفك؟

فقال عليٌّ: أنت آمن ج.

فدنا منه حتّي واقفه، فقال له عليٌّ: يا أباعبداللَّه! ما حملك علي ما صنعت؟

فقال الزبير: حملني علي ذلك الطلب بدم عثمان.

فقال له علي: أنت وأصحابك قتلتموه، فيجب عليك أن تقيد من نفسك.

ولكن انشدك اللَّه الذي لا إله إلّاهو، الذي أنزل الفرقان علي نبيّه محمّد صلّي اللَّه عليه وسلّم، أما تذكر يوم قال لك رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: يا زبير أتحبُّ عليّاً؟ قلت: وما يمنعني من حبّه وهو ابن خالي. فقال لك: أمّا أنت فستخرج عليه يوماً وأنت ظالم له؟

فقال الزبير: اللّهمّ بلي قد كان ذلك.

فقال عليٌّ: فانشدك باللَّه الذي أنزل الفرقان علي نبيّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، أما تذكر يوم جاء رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم من عند ابن عوف وأنت معه وهو آخذ بيدك، فاستقبلته أنا فسلّمت عليه، فضحك رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في وجهي وضحكت أنا إليه، فقلت أنت: لا يدع ابن أبي طالب زهوه أبداً، فقال لك النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: مهلًا يا زبير، فليس به زهو، ولتخرجنّ عليه يوماً وأنت ظالم له.

فقال الزبير: اللّهمّ بلي، ولكن أنسيت، فأمّا إذ ذكّرتني ذلك لأنصرفنّ عنك، ولو ذكرت هذا لما خرجت عليك.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 128

ثمّ رجع الزبير إلي عائشة فقالت: ما ورائك يا أباعبداللَّه؟

فقال الزبير: ج واللَّه ج ورائي أنّني ما وقفت موقفاً قطّ، ولا شهدت مشهداً في شرك ولا إسلام إلّاولي فيه بصيرة، وإنّي اليوم لعلي شكّ من أمري، وما أكاد أبصر موضع قدمي.

ثمّ شقّ الصفوف وخرج من بينهم، فنزل علي قوم من بني تميم، فقام

إليه عمرو بن جرموز المجاشعي وضيّفه، فلمّا نام قام إليه، فقتله، فنفذت دعوة علي فيه في عاجلته.

وأمّا طلحة، فجاءه سهم- وهو قائم للقتال- من مروان، فقتله.

ثمّ التحم القتال، واتّصلت الحرب وكثر القتل والجرح، ثمّ تقدّم رجل من أصحاب الجمل يقال له عبداللَّه، فجعل يجول بين الصفوف وهو يقول:

أين أبوالحسن؟ ويرتجز، فخرج إليه عليٌّ عليه السلام، وشدّ عليه بالسيف وضربه ضربة أسقط بها عاتقه، فسقط قتيلًا، فوقف عليه عليٌّ وقال: قد رأيت أبا الحسن فكيف وجدته؟ ثمّ لم يزل القتل يؤجّج ناره والجمل يفني أنصاره، حتّي خرج رجل مدجّج في السلاح، يظهر بأساً ويروم مراساً، ويعرّض بعليٍّ عليه السلام حتّي قال:

أضربكم ولو أري عليّاً عمّمته أبيض مشرفيّا

فخرج إليه عليٌّ عليه السلام متنكّراً وحمل عليه، فضربه ضربة علي وجهه، فرمي بنصف قحف رأسه، ثمّ انصرف.

فسمع صائحاً من ورائه، فالتفت فرأي ابن خلف الخزاعي من أصحاب الجمل، فقال: هل لك يا علي في المبارزة؟ فقال علي: ما أكره ذلك، ولكن ويحك يا ابن خلف، ما راحتك في القتل وقد علمت من أنا؟ فقال له ابن استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 129

خلف: ذرني يا ابن أبي طالب من مدحك نفسك، وادن منّي لتري أيّنا يقتل صاحبه، فثني عليٌّ عنان فرسه إليه، فبدره ابن خلف بضربة فأخذها عليٌّ في جحظته، ثمّ عطف عليه بضربة أطار بها يمينه، ثمّ ثنّي باخري أطار بها قحف رأسه.

ثمّ استعرت الحرب حتّي عقر الجمل فسقط، وقد احمرّت البيداء بالدماء وخذل الجمل وحزبه، وقامت النوادب بالبصرة علي القتلي، وكان عدّة من قُتل من جند الجمل ستّة عشر ألفاً وسبعمائة وتسعين إنساناً، وكان جملتهم ثلاثين ألفاً، فأتي القتل علي أكثر من نصفهم، وقُتِل من أصحاب

عليِّ ألف رجل وسبعون رجلًا، وكان عدّتهم عشرين ألفاً، وفي مقابلة عليٍّ عليه السلام ثلاثين ألفاً بعشرين ومقاتلتهم، حتّي يقتل منهم أكثر من نصفهم ولم يقتل من أصحابه غير عشرهم، حجّة واضحة تشهد بشجاعته وتسجل بشهامته.

وإذا تأمّل الناظر البصير، ونظر المتأمّل الخبير فيما صدر من عليٍّ من أقواله وأفعاله، علم علماً لا يرتاب فيه: أنّه عليه السلام يخوض لجج الحروب، وينغمس في غمرات الموت، ويصادم ظباء الصوارم، ويغمد مصلت سيفه في لباب الكماة ونحور الأبطال، ولا يحمل لذلك عبأً ولا يبالي به.

ولمّا انقضت وقعة الجمل، وندمت عائشة علي ما كان، ورحلت إلي المدينة وسكنت النائرة، ورحل عليّ إلي الكوفة، قام إليه أبو بردة بن عوف الأزدي فقال: يا أميرالمؤمنين أرأيت القتلي الذين قتلوا حول الجمل، بماذا قتلوا؟

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 130

فقال علي: قتلوا بما قتلوا من شيعتي وعمّالي بلا ذنب كان منهم إليهم، ثمّ صرت إليهم وأمرتهم أن يدفعوا إليّ قتلة أصحابي، فأبوا علَيّ وقاتلوني، وفي أعناقهم بيعتي ودماء قريب من ألف رجل من أصحابي من المسلمين، أفي شكٍّ أنت من ذلك يا أخا الأزد؟

فقال: الآن استبان لي خطاؤهم وأنّك أنت المحقّ المصيب» «1».

والنقاط المستفادة من هذا الكلام:

1- قوله: «فإنّ المجتمعين» ظاهر الدلالة في أنّ أصحاب الجمل قد رفضوا اتّباع الإمام عليه السلام ونكثوا العهد ونقضوا البيعة معه وغدروه.

2- كتابه عليه السلام، إلي طلحة والزبير، فيه دلالة علي أنّ طاعته كانت واجبةً في أعناق القوم.

3- إنّهما كانا يتّهمان عليّاً عليه السلام بقتل عثمان … وهذا كذب عليه.

4- قول الإمام: «وهؤلاء بنوا عثمان … » يفيد أوّلًا: أنّ الإمام كان لا يري عثمان مظلوماً، وأن طلحة والزبير وأمثالهما ليس لهم أن يطلبوا بدم

عثمان ثانياً.

5- إنّه قد أنّب الرجلين علي إخراجهما عائشة من بيتها، لأنّه منافٍ لما أمر به اللَّه ورسوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم.

6- وقد دعا عليهما بقوله: «اللَّه حسبكما» وحسبهما دعاء الإمام عليهما.

7- وكذا في كتابه إلي عائشة، فقد دلّ علي أنّ خروجها من بيتها كان معصيةً للَّه ورسوله، وأنّه لا مجوّز له أصلًا، ولا وجه لطلبها بدم عثمان أبداً.

8- وقد ذكر أنّ ذنب المخرجين لها من بيتها أكبر من ذنب قتل عثمان،

__________________________________________________

(1) مطالب السئول في مناقب آل الرسول: 154- 159.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 131

وإذا كان قتلة عثمان كفرة- كما في (التحفة الإثني عشريّة) وغيرها- فالمخرجون لها كفّار بالأولويّة.

9- وأشار بقوله: «وما غضبت حتّي أغضبت … » إلي أنّها قد أغضبت بفعلها رسول اللَّه، ومن أغضب رسول اللَّه فقد أغضب اللَّه، كما في الحديث الشريف عنه صلّي اللَّه عليه وآله عند الفريقين.

10- وقوله: «فاتّقي اللَّه يا عائشة» ظاهر في ارتكابها أمراً محرّماً ومعصية واضحة.

11- وقوله لها: «وارجعي إلي منزلك … » دليل صريحٌ علي أنّها هاتكة لسترها.

12- وما كتبته إلي الإمام عليه السلام خروجٌ عن حكم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بوجوب إطاعة أميرالمؤمنين والكون معه، بالأحاديث الصحيحة الثابتة المتّفق عليها، من حديث الثقلين وغيره … فتكون بمخالفتها لذلك من الضالّين الهالكين …

13- وصريح كلام ابن طلحة أنّ أهل الجمل جاءوا مصمّمين علي قتال الإمام ومحاربته، فبطل ما تفوّه به صاحب (التحفة) وغيره من أنّه لم يقصد الطرفان تسعير نار هذه الحرب.

14- والإمام عليه السلام خطب القوم ووعظهم، لعلّهم يرجعون عن ضلالتهم ويقلعون من كفرهم وعنادهم … لكنّهم تمادوا في غيّهم، وأصرّوا علي باطلهم، فدعا الإمام عليه السلام علي طلحة والزبير،

وكان دعاؤه عند اللَّه مستجاباً، فأعقبهما في الدنيا خسراناً وفي الآخرة عذاباً.

15- وقد تبيّن ممّا دار بين الإمام والزبير بن العوام، أنّ الزّبير كان يتعلّل استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 132

بالطلب بدم عثمان، ويتذرّع بذلك كاذباً، إذ ذكّره عليه السلام بكلام رسول اللَّه، ولم يجد مناصاً من الإذعان والرجوع … وبعد هذا التنبّه يأتي هذا السؤال:

هل أعلم عائشة وسائر أهل الجمل بما نبّهه الإمام عليه السلام به أو لا؟ فإن كان قد أعلمهم بذلك فلم ينفعهم النصح، كان ذلك دليلًا آخر علي كفرهم، لمحاربتهم الإمام مع العلم بكونهم ظالمين له، وإنْ لم يكن أعلمهم بالحق الذي ذكّره الإمام به، كان من الكاتمين للحقّ الُمخفين له.

عبداللَّه بن الزبير يحاول إقناع أبيه … ص: 132

ولكن عبداللَّه بن الزبير حاول إقناع أبيه بالبقاء في المعركة واستمرار المحاربة والمشاركة في البغي والعدوان، قال سبط ابن الجوزي:

«ثمّ التقوا منتصف جمادي الاولي من هذه السنة- يعني سنة ست وثلاثين- فلمّا تراءي الجمعان، خرج الزبير علي فرس وعليه سلاحه، وخرج طلحة، فخرج إليهما عليّ ودنا منهما وعليه قبا طاق، حتّي ا ختلفت أعنّة خيلهم، فقال لهما علي: لعمري لقد أعددتما خيلًا وسلاحاً، فهل أعددتما عند اللَّه عذراً؟ فاتّقيا اللَّه ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً، ألم أكن أخاكما في دينكما تحرّمان دمي وأحرّم دمكما؟

فقال طلحة: ألّبت الناس علي عثمان.

فقال: لعن اللَّه من ألّب النّاس علي عثمان، وأين أنت يا طلحة ودم عثمان؟

وأنت يا زبير، أتذكر يوم مررت مع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في بني غنم، فنظر إليّ فضحك صلّي اللَّه عليه وسلّم وضحكت إليه صلّي اللَّه عليه استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 133

وسلّم، فقلتَ: لا يدع ابن أبي طالب زهوه،

فقال لك رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّه ليس بمزهو، ولتقاتلنّه وأنت ظالم له.

وفي رواية: أتذكر يوم لقيت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في بني بياضة وهو راكب علي حمار، وذكّره.

فقال الزبير: اللّهمّ نعم، ولو ذكرت هذا ما خرجت من المدينة، وواللَّه لا اقاتلك أبداً.

وفي رواية: فقال الزبير: فما الذي أصنع وقد التقتا حلقتا البطان، ورجوعي علَيّ عار؟

فقال له عليٌّ: إرجع بالعار ولا تجمع بين العار والنّار.

فرجع الزبير وهو يقول:

اخترت عاراً علي نار مؤجّجة أنّي يقوم لها خلق من الطّين نادي عليٌّ بأمر لست أجهله عار لعمرك في الدّنيا وفي الدّين فقلت حسبك من لوم أباحسنٍ فبعض هذا الذي قد قلت يكفيني وهذا من جملة أبيات الزبير قالها لمّا خرج من العسكر، وأوّلها:

ترك الامور التي يخشي عواقبها للَّه أجمل في الدنيا وفي الدين أخال طلحة وسط القوم منجدلًا ركن الضعيف ومأوي كلّ مسكين قد كنت أنصره حيناً وينصرني في النائبات ويرمي من يراميني حتّي ابتليت بأمر ضاق مصدره فأصبح اليوم ما يعنيه يعنيني ثمّ انصرف طلحة والزبير، فقال عليٌّ لأصحابه: أمّا الزبير فقد أعطي اللَّه عهداً أن لا يقاتلكم، ثمّ عاد الزبير إلي عائشة وقال لها: ما كنت في موطن منذ عقلت عقلي إلّاوأنا أعرف أمري، إلّاهذا.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 134

قالت له: فما تريد أن تصنع؟

قال: أذهب وأدعهم.

فقال له عبداللَّه ولده: جمعت هذين الفريقين، حتّي إذا جدّ بعضهم لبعض أردت أن تتركهم وتذهب، أحسست برايات ابن أبي طالب فرأيت الموت الأحمر منها أو من تحتها، تحملها فتية أنجاد سيوفهم حداد.

فغضب الزبير وقال: ويحك قد حلفت أن لا اقاتله.

فقال: كفّر عن يمينك.

فدعا غلاماً له يقال له مكحول فأعتقه.

فقال عبدالرحمن بن سليمان

التميمي:

لم أر كاليوم أخا خوان أعجب من مكفّر الأيمان بالعتق في معصية الرحمن وقال آخر:

يعتق مكحولًا لصون دينه كفّارة للَّه عن يمينه والنكث قد لاح علي جبينه وفي رواية: إنّ الزبير- لمّا قال له ابنه ذلك- غضب، فقال له ابنه: واللَّه لقد فضحتنا فضيحة لا نغسل منها رؤوسنا أبداً. فحمل الزبير حملة منكرة» «1» إنتهي بقدر الضرورة.

وفي هذه العبارة أيضاً فوائد كثيرة لا تخفي علي من تأمّل فيها، فلا الإعتذار بأنّ الطرفين ما كانا قاصدين لاشتعال الحرب ينفع، ولا الإعتذار للزبير بنسيان ما قاله رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم له من قبل …

__________________________________________________

(1)

تذكرة خواص الامة في معرفة الأئمّة: 71- 72.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 135

لكن العجيب جدّاً: إصرار عبداللَّه علي الحرب، فإنّه لم يرتدع عنها بما ارتدع به أبوه، وهو كلام رسول اللَّه الذي ذكّره الإمام به، بل جعل يؤنّب أباه ويحاول أن يعيده إلي القتال ويغريه إلي الحرب.

كلام الإمام في عبداللَّه بن الزبير … ص: 135

وهكذا كان عبداللَّه يسعي في البغض والعداء لأميرالمؤمنين عليه السلام، حتّي أنّه حاول جاهداً لأنْ يورّط أباه بعد أنْ اختار الإنعزال، واعترض عليه قائلًا: «لقد فضحتنا فضيحةً لا نغسل منها رؤوسنا أبداً» …

والذي يظهر من كلام أميرالمؤمنين عليه السلام- المروي في كتب الفريقين- أنّ عبداللَّه هو السبب في مفارقة الزبير لأهل البيت عليهم السلام …

روي سبط ابن الجوزي قال:

«وفي رواية: إنّ عليّاً رضي اللَّه عنه لمّا التقي بالزبير قال له: كنّا نعدّك من خيار بني عبدالمطّلب، حتّي بلغ ابنك السوء ففرّق بيننا وبينك، أليس رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال لك كذا وكذا. وذكر الحديث» «1».

وروي ابن الأثير:

«وكان عليٌّ- رضي اللَّه عنه- يقول: ما زال الزبير منّا أهل البيت حتّي نشأ له

عبداللَّه» «2».

وروي ابن عبدالبر:

«قال عليّ بن أبي طالب- رضي اللَّه عنه-: ما زال الزبير يعدُّ منّا أهل __________________________________________________

(1) تذكرة خواص الامّة: 72.

(2) اسد الغابة في معرفة الصحابة 3: 139/ 2947.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 136

البيت حتّي نشأ عبداللَّه» «1».

بين عبداللَّه بن الزبير والإمام الحسين عليه السلام … ص: 136

ومن دلائل حبّه للدنيا وشدّة عداوته لأهل البيت الأطهار عليهم الصلاة والسلام: موقفه مع الإمام السبط الشهيد الحسين بن علي في مكّة المكرّمة، وهذا من القضايا التاريخيّة الثابتة:

قال ابن فهد المكّي في (إتحاف الوري بأخبار امّ القري):

«وفيها خرج الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه من المدينة إلي مكّة، فلقيه عبداللَّه بن مطيع فقال: جعلت فداك أين تريد؟ فقال: فأمّا الآن فمكّة وأمّا بعد، فإنّي أستخير اللَّه تعالي، قال: خار اللَّه لك وجعلنا فداك، فإذا أتيت مكّة فإيّاك أن تقرب الكوفة فإنّها بلدة مشومة، بها قُتِل أبوك وخُذِل أخوك واغتيل بطعنة كادت تأتي علي نفسه، ألزم الحرم فإنّك سيّد العرب لا يعدل بك أهل الحجاز أحداً، ويتداما إليك الناس من كلّ جانب، لا تفارق الحرم فداك عمّي وخالي، فواللَّه لئن هلكت لنسترقّنّ بعدك.

فأقبل حتّي نزل مكّة وأهلها يختلفون إليه ويأتونه ومن بها من المعتمرين وأهل الآفاق، وابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة، فهو قائم يصلّي عندها عامّة النّهار ويطوف، ويأتي الحسين فيمن يأتيه، ولا يزال يشير عليه بالرأي وهو أثقل خلق اللَّه علي ابن الزبير، لأنّ أهل الحجاز لا يبايعونه مادام الحسين بالبلد.

وأرسل أهل الكوفة الحسين في المسير إليهم، فلمّا أراد المسير إلي __________________________________________________

(1) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3: 906/ 1535.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 137

الكوفة أتاه عمر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام فقال له: إنّي أتيتك لحاجة

اريد ذكرها نصيحة لك، فإن كنت تري أنّك مستنصح قلتها وأدّيت ما علَيّ من الحقّ فيها، وإن ظننت أنّك لا تستنصحني كففت عمّا اريد.

فقال: قل، فواللَّه ما أستغشّك وما أحملنّك بشي ءٍ من الهوي.

قال له: قد بلغني أنّك تريد العراق، وإنّي مشفق عليك أن تأتي بلداً فيها عمّاله وامراؤه، ومعهم بيوت الأموال، وإنّما النّاس عبيد الدّنيا والدرهم، فلا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره ومن أنت أحبّ إليه ممّن يقاتلك معه.

فقال له الحسين: جزاك اللَّه خيراً يا ابن عم، قد علمت أنّك مشيت بنصح وتكلّمت بعقل، ومهما يقضي من أمر يكن، أخذت برأيك أو تركت، فأنت عندي أحمد مشير وأنصح ناصح.

وأتاه عبداللَّه بن عبّاس فقال: قد ارجف النّاس أنّك سائر إلي العراق، فبيّن لي ما أنت صانع؟

فقال له: قد أجمعت السير في أحد يوميّ هذين، إن شاء اللَّه تعالي.

فقال له ابن عبّاس: فإنّي اعيذك باللَّه من ذلك، أخبرني أتسير إلي قوم قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم، فإن كانوا فعلوا فسر إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك إليهم، وأميرهم عليهم قاهر عليهم وعمّاله تجبي بلاده، فإنّما دعوك إلي الحرب، ولا آمن عليك أن يغرّوك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك، ويستنفروا إليك ويكونوا أشدّ النّاس عليك.

فقال الحسين: إنّي أستخير اللَّه وأنظر ما يكون.

فخرج ابن عبّاس.

وأتاه ابن الزبير، فحدّثه ساعة ثمّ قال: ما أدري ما تركنا هؤلاء القوم استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 138

وكفنّا عنهم، ونحن أبناء المهاجرين وولاة هذا الأمر دونهم، خبّر ما تريد أن تصنع؟

فقال الحسين: لقد حدّثت نفسي بإتيان الكوفة، ولقد كتب إليّ شيعتي بها وأشراف النّاس، وأستخير اللَّه تعالي.

فقال له ابن الزبير: أمّا لو كان لي بها مثل شيعتك لما عدلت عنها.

ثمّ خشي أن

يتّهمه فقال: أما إنّك لو أقمت بالحجاز، ثمّ أردت هذا الأمر هاهنا، حالفنا عليك وساعدناك وبايعنا لك ونصحنا لك.

فقال له الحسين: إنّ أبي حدّثني أنّ بها كبشاً يستحلّ حرمتها، فما أحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش.

قال: فأقم إن شئت، ولك الأمن تطاع ولا تعصي

قال: ولا اريد هذا أيضاً.

ثمّ إنّهما أخفيا كلامهما، فالتفت الحسين إلي من هناك وقال: أتدرون ما يقول؟

قالوا: لا ندري جعلنا اللَّه فداك.

قال: إنّه يقول: أقم في هذا المسجد أجمع لك النّاس.

ثمّ قال له الحسين: واللَّه لأن اقتل خارجاً منها بشبر أحبُّ إليَّ من أن اقتل فيها، ولأن اقتل خارجاً منها بشبرين أحبّ إليّ أن اقتل خارجاً منها بشبر، وأيم أللَّه لو كنت في جحر هامّة من هذه الهوام لاستخرجوني حتّي يقضوا بي حاجتهم، واللَّه ليعتدّنّ علَيّ كما اعتدت يهود في السبت.

فقام ابن الزبير، فخرج من عنده.

فقال الحسين: إنّ هذا ليس شي ء من الدنيا أحبّ إليه من أن أخرج من استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 139

الحجاز، وقد علم أنّ النّاس لا يعدلونه بي، فودّ أنّي خرجت حتّي يخلو له.

فلمّا كان من العشي أو من الغداة أتاه ابن عبّاس فقال: يا ابن عمّ، إنّي أتصبّر ولا أصبر، إنّي أتخوّف عليك وهذا اليوم الهلاك والإستيصال، إنّ أهل العراق قوم غدر ولا تقربنّهم، أقم بهذا البلد فإنّك سيّد أهل الحجاز، فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا، فاكتب إليهم فلينفوا عاملهم وعدوّهم ثمّ أقدم عليهم، وإن أبيت إلّاأن تخرج فسر إلي اليمن، فإنّ فيها حصوناً وشعباً، وهي أرض طويلة عريضة، ولأبيك بها شيعة، وأنت عن النّاس في عزلةٍ، فتكتب إلي النّاس، وبُثّ دعاتك، فإنّي أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحبّ في عافية.

فقال

الحسين: يا ابن عمّ، إنّي أعلم- واللَّه- أنّك ناصح مشفق، وقد أزمعت وأجمعت السير.

فقال له ابن عبّاس: فإن كنت سائراً، فلا تسر بنسائك وصبيتك، فإنّي خائف أن تقتل، كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه.

ثمّ قال له ابن عبّاس: لقد أقررت عين ابن الزبير بالخروج من الحجاز، وهو اليوم لا ينظر إليه أحد معك، واللَّه الذي لا إله إلّاهو، لو أعلم أنّك إذا أخذت بشعري وأخذت بناصيتك حتّي يجتمع علينا النّاس أطعتني وأقمت، لفعلت ذلك، ثمّ خرج ابن عبّاس من عنده، فمرّ بابن الزبير، فقال: قرّت عينك يا ابن الزبير، ثمّ قال:

يالك من قنبرة بمعمر خلا لك الجوّ فبيضي واصفري ونقّري ما شئت أن تنقّري استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 140

هذا حسين يخرج إلي العراق ويخلّيك والحجاز» «1».

فمن هذا يظهر خبث باطن ابن الزبير، وشدّة عدائه لأهل البيت عليهم السلام، وإلّا لكان الإمام الحسين عليه السلام أحبّ النّاس إليه، وبقاؤه في مكّة أقرّ لعينه، لكنّه كان بالعكس، فقد كان الإمام الحسين في مكّة أثقل النّاس إليه، وكان يقول له بلسانه غير ما كان بقلبه، ويبدي له خلاف ما يخفي عليه …

والإمام عليه السلام عارف بواقع أمره وحقيقة سرّه، وكذلك فهم ابن عبّاس، حتّي قال للإمام الحسين لمّا عزم علي الخروج: لقد أقررت عين ابن الزبير …

فلو كان له أدني حظٍّ من الإيمان وأقلّ قسط من الإيقان، لما صار قرير العين بمسير الحسين، بل بكي دماً وذاب ألماً، وصار قلبه مجروحاً وعينه مقروحاً، وأطال الحزن والكآبة ومني بالشجي والسآمة، وهل يسرّ بالفراق إلّاالشامت الكاشح والمبغض غير الناصح …

وكذا الخبر في رواية الجلال السيوطي في كتاب (تاريخ الخلفاء) حيث قال:

«فلمّا مات معاوية بايعه- يعني يزيد- أهل الشام،

ثمّ بعث إلي أهل المدينة من يأخذ له البيعة، فأبي الحسين وابن الزبير أن يبايعاه، وخرجا من ليلتهما إلي مكّة؛ فأمّا ابن الزبير فلم يبايع ولا دعا إلي نفسه، وأمّا الحسين فكان أهل الكوفة يكتبون إليه، يدعونه إلي الخروج إليهم زمن معاوية وهو يأبي، فلمّا بويع يزيد أقام علي ما هو مهموماً، يجمع الإقامة مرّة ويريد المسير إليهم اخري.

فأشار عليه ابن الزبير بالخروج.

__________________________________________________

(1) إتحاف الوري بأخبار امّ القري- حوادث السنة 60.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 141

وكان ابن عبّاس يقول له: لا تفعل.

وقال له ابن عمر: لا تخرج، فإنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم خيّره اللَّه بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة وإنّك بضعة منه، ولا تنالها- يعني الدنيا- واعتنقه وبكي وودّعه، فكان ابن عمر يقول: غلبنا حسين بالخروج، ولعمري لقد رأي في أبيه وأخيه عبرة.

وكلّمه في ذلك أيضاً جابر بن عبداللَّه وأبو سعيد وأبو واقد الليثي وغيرهم فلم يطع أحداً منهم.

وصمّم علي المسير إلي العراق، فقال له ابن عبّاس: واللَّه إنّي لأظنّك ستقتل بين نسائك وبناتك كما قتل عثمان، فلم يقبل منه، فبكي ابن عبّاس وقال: أقررت عين ابن الزبير.

ولمّا رأي ابن عبّاس عبداللَّه بن الزبير قال له: قد أتي ما أحببت، هذا الحسين يخرج ويتركك والحجاز، ثمّ تمثّل:

يالك من قنبرة بمعمر خلا لك الجوّ فبيضي واصفري ونقّري ما شئت أن تنقري» «1»

أحاديث في ذمّ بغض علي وأهل البيت عليهم السلام … ص: 141

وإذْ ظهر بغض عبداللَّه بن الزبير وعداؤه لأميرالمؤمنين وأهل البيت الطاهرين، كان من المناسب إيراد نصوص روايات عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم في ذمّ بغض عليّ أميرالمؤمنين وأبنائه وأهل البيت، والمبغض لهم … عن كتب أهل السنّة وبأسانيدهم:

__________________________________________________

(1) تاريخ الخلفاء: 164- 165.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2،

ص: 142

«أخرج الطبراني عن عليّ كرّم اللَّه وجهه قال: إنّ خليلي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: يا علي، إنّك ستقدم علي اللَّه وشيعتك راضين مرضيّين، ويقدم عليه عدوّك غضاباً مقمحين، ثمّ جمع عليٌّ يده إلي عنقه يريهم الإقماح.

وأخرج الديلمي عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: علي بن أبي طالب باب حطّة فمن دخل منه كان مؤمناً، ومن خرج منه كان كافراً.

وأخرج مسلم والترمذي والنسائي عن زر بن حبيش قال: قال عليٌّ كرّم اللَّه وجهه: والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، إنّه لعهد النبي الامّي صلّي اللَّه عليه وسلّم إليّ أن لا يحبّني إلّامؤمن ولا يبغضني إلّامنافق.

وأخرج أحمد والترمذي- وحسّنه- عن ام سلمة رضي اللَّه عنها قالت:

قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: لا يحبّ عليّاً منافق ولا يبغضه مؤمن.

وفي رواية ابن أبي شيبة عنها بلفظ: لا يبغض عليّاً مؤمن ولا يحبّه منافق.

وعند الطبراني في الكبير عنها: لا يحبّ عليّاً إلّامؤمن ولا يبغضه إلّا منافق.

وأخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري والبزّار والطبراني في الأوسط عن جابر بن عبداللَّه رضي اللَّه عنهما قالا: كنّا نعرف المنافقين ببغضهم عليّاً.

وأخرج الطبراني في الكبير عن سلمان رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم لعليّ: محبّك محبّي ومبغضك مبغضي.

وأخرج عبدالرزاق الرسعني عن أنس رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم لعلي: كذب من زعم أنّه يحبّني ويبغضك.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 143

وأخرج الطبراني في الكبير عن ام سلمة رضي اللَّه عنها، عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: من أحبّ عليّاً فقد أحبّني، ومن أحبّني فقد أحبّ اللَّه، ومن أبغض عليّاً فقد أبغضني، ومن أبغضني

فقد أبغض اللَّه.

وأخرج ابن عدي عن سلمان رضي اللَّه عنه قال: رأيت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ضرب فخذ علي بن أبي طالب وصدره، وسمعته يقول: محبّك محبّي ومبغضك مبغضي ومبغضي مبغض اللَّه.

وأخرج الحاكم والخطيب عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما قال: نظر رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم إلي عليّ بن أبي طالب فقال: أنت سيّد في الدنيا والآخرة، من أحبّك فقد أحبّني، وحبيبي حبيب اللَّه، وعدوّك عدوّي، وعدوّي عدوّ اللَّه؛ فالويل لمن أبغضك بعدي.

وأخرج الطبراني في الكبير والحاكم والخطيب عن عمّار بن ياسر رضي اللَّه عنه قال: قال النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: يا علي، طوبي لمن أحبّك وصدق فيك، وويل لمن أبغضك وكذب فيك.

وأخرج ابن مردويه عن أنس رضي اللَّه عنه أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: من حسد عليّاً فقد حسدني، ومن حسدني فقد كفر.

وأخرج أبو يعلي والبزّار عن سعد بن أبي وقّاص رضي اللَّه عنه قال:

قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: من آذي عليّاً فقد آذاني» «1».

وفي (مفتاح النجا) أيضاً:

«وأخرج الحاكم عن جابر رضي اللَّه عنه: أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: عليٌّ إمام البررة وقاتل الفجرة، منصور من نصره، مخذول من خذله.

__________________________________________________

(1) مفتاح النجا في مناقب آل العبا- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 144

وأخرج الطبراني في الكبير عن عمرو بن شراحيل رضي اللَّه عنه أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: اللّهمّ انصر من نصر عليّاً، اللّهمّ أكرم من أكرم عليّاً، اللّهمّ اخذل من خذل عليّاً.

وأخرج عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: اللّهمّ أعنه وأعن به، وارحمه وارحم به، وانصره وانصر به، اللّهمّ وال

من والاه وعاد من عاداه- يعني عليّاً.

وأخرج عبدالرزاق الرسعني عن عبداللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه قال:

رأيت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم آخذ بيد علي وهو يقول: اللَّه وليّي وأنا وليّك ومعادي من عاداك ومسالم لمن سالمك.

وأخرج الحافظ أبوبكر أحمد بن عبدالرحمن الجوال الشيرازي في كتاب ألقاب الرجال وابن النجّار في تاريخه عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما: أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: اللّهمّ اشهد لهم، اللّهمّ قد بلّغت، هذا أخي وابن عمّي وصهري وأبو ولدي، اللّهمّ كبّ من عاداه في النّار.

وأخرج ابن عدي عن جابر رضي اللَّه عنه أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال لعلي: يا علي لو أنّ امّتي أبغضوك، لكبّهم اللَّه علي مناخرهم في النّار.

وأخرج الديلمي عن الحسين رضي اللَّه عنه عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: لو أنّ عبداً عَبَدَ اللَّه مثل ما أقام نوح في قومه، وكان له مثل احد ذهباً فأنفقه في سبيل اللَّه، ومُدَّ في عمره حتّي يحجّ ألف عام علي قدميه، ثمّ قُتِل مظلوماً بين الصّفا والمروة، ثمّ لم يوالك يا علي، لم يشمّ رائحة الجنّة ولم يدخلها.

وأخرج ابن مردويه عن عطيّة بن سعد قال: دخلنا علي جابر بن عبداللَّه استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 145

رضي اللَّه عنه وهو شيخ كبير، فقلنا: أخبرنا عن هذا الرجل علي بن أبي طالب. فرفع حاجبيه ثمّ قال: ذاك من خير البشر. فقيل له: ما تقول في رجل يبغض عليّاً؟ فقال: ما يبغض عليّاً إلّاكافر.

وأخرج عن سالم بن أبي الجعد قال: تذاكروا فضل عليٍّ عند جابر بن عبداللَّه رضي اللَّه عنه، فقال: وتشكّون فيه؟ فقال بعض القوم: إنّه أحدث.

قال: وما يشكّ فيه إلّاكافر

أو منافق.

وأخرج عن عطا قال: سألت عائشة عن عليّ رضي اللَّه عنهما، فقالت:

ذاك من خير البريّة، ولا يشكّ فيه إلّاكافر.

وأخرج أحمد والبزّار وأبو يعلي وابن عدي والحاكم وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن علي كرّم اللَّه وجهه قال: دعاني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فقال: إنّ فيك مثلًا من عيسي، أبغضته اليهود حتّي بهتوا امّه، وأحبّته النّصاري حتّي أنزلوه بالمنزل الذي ليس به، ألا وإنّه يهلك فيّ اثنان: محبّ مفرط يقرظني بماليس فيّ، ومبغض يحمله شنآني علي أن يبهتني» «1».

ومن مساوئه في كتب التاريخ والحديث … ص: 145

وقد ذكر القوم مساوي ء اخري له، في كتبهم التاريخيّة والحديثيّة، نوردها باختصار:

قال ابن عبدالبرّ في (الإستيعاب):

«قال علي بن زيد الجدعاني: كان عبداللَّه بن الزبير كثير الصّلاة، كثير الصّيام، شديد البأس، كريم الجدّات والامّهات والخالات، إلّاأنّه كانت فيه __________________________________________________

(1) مفتاح النجا في مناقب آل العبا- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 146

خلال لا تصلح معها الخلافة، لأنّه كان بخيلًا، ضيّق العطاء، سيّي ء الخلق، حسوداً، كثير الخلاف، أخرج محمّد بن الحنفيّة، ونفي عبداللَّه بن عبّاس إلي الطائف» «1».

وقال ابن خلّكان في (وفيات الأعيان):

«ولمّا دعا ابن الزبير إلي نفسه وبايعه أهل الحجاز بالخلافة، دعا عبداللَّه ابن عبّاس ومحمّد بن الحنفيّة- رضي اللَّه عنهما- إلي البيعة، فأبيا ذلك وقالا:

لا نبايعك حتّي تجتمع لك البلاد ويتّفق الناس، فأساء جوارهم وحصرهم وآذاهم وقال لهما: واللَّه لئن لم تبايعا أحرقتكما بالنّار» «2».

وذكر التنوخي في كتاب (الفرج بعد الشدّة):

«كتب محمّد بن الحنفيّة إلي عبداللَّه بن عبّاس رضي اللَّه عنه، حين سيّره عبداللَّه بن الزبير من مكّة إلي الطائف كتاباً نسخته:

أمّا بعد؛ فقد بلغني أنّ عبداللَّه بن الزبير سيّرك إلي الطائف، فأحدث اللَّه لك بذلك أجراً وحطّ به عنك وزراً، يا ابن

عم، إنّما يبتلي الصالحون، وتعدّ الكرامة للأخيار، ولو لم تؤجر إلّافيما تحبّ لقلّ الأجر، وقد قال اللَّه تعالي:

«وعسي أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم» الآية، عزم اللَّه لنا ولك بالصبر علي البلاء والشكر علي النعماء، ولا أشمت بنا الأعداء، والسلام» «3».

وقال ابن حجر العسقلاني في كتاب التفسير من (فتح الباري في شرح صحيح البخاري):

__________________________________________________

(1) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3: 906/ 1535.

(2) وفيات الأعيان 4: 172/ 559.

(3) الفرج بعد الشدّة: 42.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 147

«وكان محمّد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الحنفيّة وعبداللَّه بن عبّاس مقيمين بمكّة، مذ قتل الحسين، فدعاهما ابن الزبير إلي البيعة له فامتنعا وقالا: لا نبايع حتّي يجتمع الناس علي خليفة، وتبعهما علي ذلك جماعة، فشدّد عليهم ابن الزبير وحصرهم، فبلغ المختار، فجهّز إليهم جيشاً، فأخرجوهما واستأذنوهما في قتال ابن الزبير، فامتنعا وخرجا إلي الطائف فأقاما بها، حتّي مات ابن عبّاس سنة ثمان وستّين، ورحل ابن الحنفيّة بعده إلي جهة رضوي- جبل بينبع- فأقام هناك، ثمّ أراد دخول الشام فتوجّه إلي نحو أيلة، فمات في آخر سنة ثلاث أو أوّل سنة أربع وسبعين، وذلك عقب قتل ابن الزبير، علي الصحيح، وقيل: عاش إلي سنة ثمانين أو بعد ذلك، وعند الواقدي أنّه مات بالمدينة سنة إحدي وثمانين، وزعمت الكيسانيّة أنّه حيٌّ لم يمت، وأنّه المهدي، وأنّه لا يموت حتّي يملك الأرض، في خرافات لهم كثيرة ليس هذا موضعها، وأنا لخّصت ما ذكرته من طبقات ابن سعد وتاريخ الطبري وغيرهما لبيان المراد.

وروي الفاكهي من طريق سعيد بن محمّد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: كان ابن عبّاس وابن الحنفيّة بالمدينة، ثمّ سكنا مكّة، فطلب منهما ابن الزبير البيعة

فأبيا حتّي يجتمع النّاس علي رجل، فضيّق عليهما، فبعثا رسولًا إلي العراق، فخرج إليهما جيش في أربعة آلاف، فوجدوهما محصورين وقد احضر الحطب فجعل علي الباب يخوّفهما بذلك، فأخرجوهما إلي الطائف، وذكر ابن سعد أنّ هذه القصّة وقعت بين ابن الزبير وابن عبّاس في سنة ست وستّين» «1».

__________________________________________________

(1) فتح الباري في شرح البخاري 8: 262.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 148

رواية موضوعة عن ابن عبّاس في مدح ابن الزبير … ص: 148

هذا، والعجب أنّهم قد وضعوا عن ابن عبّاس كلاماً في مدح عبداللَّه بن الزبير، ورواه البخاري في كتابه المشهور (الصحيح) حيث قال:

«حدّثني عبداللَّه بن محمّد، قال: حدّثني يحيي بن معين قال: حدّثنا حجّاج قال ابن جريج: قال ابن أبي مليكة- وكان بينهما شي ء- فغدوت علي ابن عبّاس فقلت: أتريد أن تقاتل ابن الزبير فتحلّ حرم اللَّه؟ فقال: معاذ اللَّه، إنّ اللَّه كتب ابن الزبير وبني اميّة محلّين، وإنّي واللَّه لا احلّه أبداً. قال: قال الناس بايع لابن الزبير فقلت: وأين بهذا الأمر عنه، أمّا أبوه فحواري النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم- يريد الزبير- وأمّا جدّه فصاحب الغار- يريد أبابكر- وامّه فذات النطاق، يريد أسماء، وأمّا خالته فامّ المؤمنين، يريد عائشة، وأمّا عمّته فزوج النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، يريد خديجة، وأمّا عمّة النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم فجدّته، يريد صفيّة، ثمّ عفيف في الإسلام، قارئ للقرآن، واللَّه إن وصلوني وصلوني من قريب، وإن ربوني ربوني أكفاء كرام، فآثر التوتيات والآسامات والحميدات، يريد: أبطُناً من بني أسد بني تويت وبني اسامة وبني أسد، إنّ ابن أبي العاص برز يمشي القدمية يعني عبدالملك بن مروان، وإنّه لوي ذنبه يعني ابن الزبير» «1».

وفي (فتح الباري):

«قوله: قال ابن أبي مليكة: وكان بينهما شي ء، كذا أعاد الضمير بالتثنية

علي غير مذكور اختصاراً، ومراده ابن عبّاس وابن الزبير، وهو صريح في __________________________________________________

(1) صحيح البخاري 6: 83 كتاب التفسير- سورة براءة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 149

الرواية الاولي.

قوله: محلّين، أي إنّهم كانوا يبيحون القتال في الحرم، وإنّما نسب ابن الزبير إلي ذلك- وإن كان بنو اميّة هم الذين ابتدؤوه بالقتال وحصروه، وإنّما بدا منه أوّلًا دفعهم عن نفسه- لأنّه بعد أن ردّهم اللَّه عنه حصر بني هاشم ليبايعوه، فشرع فيما يؤذن بإباحته القتال في الحرم، وكان بعض النّاس يسمّي ابن الزبير المحلّ لذلك …

قوله: لا أحلّه أبداً، أي لا أبيح القتال فيه، وهذا مذهب ابن عبّاس أنّه لا يقاتل في الحرم ولو قوتل فيه.

قوله قال: قال الناس: القائل هو ابن عبّاس، وناقل ذلك عنه ابن أبي مليكة فهو متّصل، والمراد بالنّاس من كان من جهة ابن الزبير.

وقوله: بايع، بصيغة الأمر.

وقوله: وأين بهذا الأمر عنه، أي الخلافة، أي ليست بعيدة عنه، لماله من الشرف بأسلافه الذين ذكرهم، ثمّ صفته التي أشار إليها بقوله: عفيف في الإسلام قارئ القرآن.

قوله: وإنّه لوي ذنبه، يعني ابن الزبير، لوي بتشديد الواو وبتخفيفها أي ثناه، وكنّي بذلك عن تأخّره وتخلّفه عن معالي الامور، وقيل: كنّي به عن الجبن وإيثار الدعة، كما تفعل السباع إذا أرادت النوم، والأوّل أولي

قال الداودي: المعني أنّه وقف فلم يتقدّم ولم يتأخّر، ولا وضع الأشياء مواضعها، فأدني الناصح وأقصي الكاشح» «1».

وكأنّ واضع هذا الكلام قصد أداء شي ء من حقوق ابن الزبير عليه من __________________________________________________

(1) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 8: 263- 265.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 150

أجل عدائه لأهل البيت عليهم السلام، وإلّا، فإنّ من وصفه العلماء بأوصافٍ قالوا إنّها لا تصلح

للخلافة، كيف يصحّ لمثل ابن عبّاس أنْ يراه أهلًا للخلافة ويمدحه بمثل هذا الكلام؟

لكنّ واضعه لم يحسن الوضع، فإنّ ما جاء في أوّل العبارة من «إنّ اللَّه كتب..» يدلّ علي كون ابن الزبير وبني اميّة سلكوا طريق إحلال الحرم وهتكوا حرمة البيت الحرام، وأيضاً: فما جاء في آخرها من قوله «لوي ذنبه» تهجين لابن الزبير، إذ شبّهه بالبهائم، وهو كناية عن الجبن وإيثار الدعة، أو كما قال بعض الشرّاح: يريد أنّه لم يتّزن لاكتساب المجد وطلب الحمد ولكنّه زاغ وتنحّي، أو كما قال غيره: إنّه مثل لترك المكارم والإعراض عن المعروف وإيلاء الجميل، ويجوز أن يكون كنايةً عن التخلّف.

بين عائشة وابن الزبير … ص: 150

وقد أساء ابن الزبير الأدب مع عائشة وتطاول عليها، حتّي نذرت أن تهجره ولا تكلّمه أبداً، وقد أخرج البخاري الخبر في كتاب الأدب من (الصحيح) «1».

وقال الحافظ السمهودي في (جواهر العقدين):

«وفي الصحيح أيضاً: قول عائشة: عليَّ نذر أنْ لا اكلّم ابن الزبير أبداً.

قال ابن عبدالبر: التقدير عليَّ نذر إنْ كلّمته. إنتهي. وهو موافق للرواية الاخري: للَّه عليّ نذر إنْ كلّمته، فالنذر معلَّق علي كلامها له، لأنّها نذرت ترك كلامه، وجعلت الترك قربةً تلزم بالنذر. وقصّتها في ذلك أنّها رأت أنّ ابن __________________________________________________

(1) صحيح البخاري 8: 25 كتاب الأدب- باب الهجرة …

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 151

الزبير قد ارتكب أمراً عظيماً حيث قال: أما واللَّه لتنتهيّن عائشة عن بيع رباعها أو لأحجرنّ عليها، وكانت لا تمسك شيئاً ممّا جاءها من رزق بل تتصدّق به، فرأت أنّ قوله ذلك جرأة عليها وتنقيصاً لقدرها، بنسبتها إلي ارتكاب التبذير الموجب لمنعها من التصرّف، مع كونها ام المؤمنين وخالته اخت امّه، ولم يكن أحد عندها في منزلته، فرأت ذلك منه

نوع عقوق، فجعلت مجازاته ترك مكالمته» «1».

ومن الغرائب: احتجاج بعض فقهاء القوم بهذه الزلّة الكبيرة الصّادرة من ابن الزبير، ولذا بادر ابن حزم إلي التشنيع عليه، فقال في (المحلّي):

«وأمّا الرواية عن ابن الزبير فطامّة الأبد، لا ندري كيف استحلّ مسلم أن يحتجّ بخطيئة ووهلة وزلّة كانت من ابن الزبير، واللَّه تعالي يغفر له، إذ أراد مثله مع كونه من أصاغر الصحابة أنْ يحجر علي مثل ام المؤمنين، التي أثني اللَّه تعالي عليها أعظم الثناء في نصّ القرآن، وهو لا يكاد يتجزي منها في الفضل عند اللَّه تعالي، وهذا خبر رويناه من طريق عبدالرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عوف بن الحارث ابن أخي عائشة ام المؤمنين لُامّها: إنّ عائشة ام المؤمنين حدّثت أنّ عبداللَّه بن الزبير قال في بيع أو عطاء أعطته: لتنتهين عائشة أو لأحجرنّ عليها. فقالت عائشة: أو قال هذا؟ قالوا: نعم، فقالت عائشة: هو للَّه عليَّ نذر أنْ لا اكلّم ابن الزبير كلمةً أبداً. ثمّ ذكر الحديث بطوله وتشفّعه إليها وبكاؤه لعبدالرحمن بن الأسود بن عبد يغوث والمسور بن مخرمة الزهريين، حتّي كلّمته، وأعتقت في نذرها أنْ لا تكلّمه أربعين رقبة.

قال أبو محمّد: قد بلغت به عائشة رضي اللَّه عنها ج من ج الإنكار حيث __________________________________________________

(1) جواهر العقدين: 215- 216.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 152

بلغته، فلا يخلو الأمر من أنْ يكون ابن الزبير أخطأ وأصابت هي وهو كذلك بلا شك، فلا يحتجّ بقولٍ أخطأ فيه صاحبه، أو يكون ابن الزبير أصاب وأخطأت هي، ومعاذ اللَّه من هذا ومن أنْ تكون ام المؤمنين توصف بسفهٍ وتستحق أن يحجر عليها، نعوذ باللَّه من هذا القول. فصحّ أنّ ابن الزير أخطأ في قوله» «1».

فمن

كلام ابن حزم والسمهودي يفهم أنّ ما صدر من ابن الزبير بحقّ عائشة كان طعناً عظيماً وقدحاً جسيماً، يمنع منه الكتاب والسنّة، ويقبّحه العقل ويذمّ عليه العقلاء … فكيف يجوز هذا عندهم وهم لا يجوّزون صدور معشاره من أحدٍ من الشيعة بالنسبة إلي عائشة؟

محاولة التأويل … ص: 152

ولشدّة قبح ما كان بين ابن الزبير وعائشة، وأنّه يستوجب الطعن في كليهما أو أحدهما في الأقل، وهو ما لا يتحمَّل … حاول بعضهم تأويل الخبر، ففي (الكواكب الدراري) بشرحه:

«قال ابن بطّال: فإنْ قلت: لِمَ هجرت عائشة ابن الزبير أكثر من ثلاثة أيّام؟

قلت: معني الهجرة ترك الكلام عند التلاقي، وعائشة رضي اللَّه عنها لم تكن تلقاه فتعرض عن السلام عليه، وإنّما كانت من وراء الحجاب، ولا يدخل عليها أحد إلّابالإذن، فلم يكن ذلك من الهجرة، ويدلّ عليه لفظ «يلتقيان فيعرض» إذ لم يكن بينهما لقاء فإعراض.

__________________________________________________

(1) المحلّي في الفقه 8: 292- 293.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 153

ووجه آخر، وهو: إنّه إنّما ساغ لعائشة ذلك لأنّها ام المؤمنين، لاسيّما بالنسبة إلي ابن الزبير، لأنّها خالته، وذلك الكلام الذي قال في حقّها كان كالعقوق لها، فهجرتها منه كانت تأديباً له، وهذامن باب إباحة الهجران لمن عصي» «1».

لكنْ لا يخفي وهن التوجيه الأوّل وسخافته، وتفوّه هذا العالم النحرير به عجيب، ولكن العصبيّة والمراء عضال داءٍ ليس له دواء، وذلك، لأنّ الهجران ترك الملاقاة، وقد خصّه ابن بطال بترك السلام عند الملاقاة، وهذا تأويل عليل وليس عليه دليل، وكلمة «يلتقيان فيعرض» لا دلالة فيها عليه، لأنّها تفريع علي الهجران وليست نفس الهجران، لأنّ اللفظ في (البخاري) هكذا: «إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: لا يحلّ لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث

ليال فيلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» «2».

فالصحيح هو الوجه الثاني فقط.

بل إنّ ألفاظ الخبر عند البخاري شاهدة علي بطلان التأويل الأوّل، فقد جاء فيه، في قضيّة شفاعة المسور وعبدالرحمن لابن الزبير عند عائشة:

«وطفق المسور وعبدالرحمن يناشدانها إلّاما كلّمته وقبلت منه، ويقولان: إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم نهي عمّا قد علمت من الهجرة، فإنّه لا يحلّ لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، فلمّا أكثرا علي عائشة من التذكرة والتحريج، طفقت تذكرهما وتبكي وتقول: إنّي نذرت والنذر شديد، فلم يزالا بها حتّي __________________________________________________

(1) الكواكب الدراري في شرح البخاري 21: 208، شرح صحيح البخاري لابن بطّال 9: 270.

(2) صحيح البخاري 8: 26 كتاب الأدب- باب الهجرة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 154

كلّمت ابن الزبير» «1».

فلو لم تكن بينهما هجرة لم يكن لهذه التفاصيل معني.

قول معاوية لابن الزبير: إنّك لمخالف … ص: 154

وتكلّم معاوية في عبداللَّه بن الزبير في حديثٍ كان بينهما، فقد جاء في (المسند):

«حدّثنا عبداللَّه، حدّثني أبي، ثنا محمّد بن جعفر قال: ثنا شعبة عن يزيد ابن أبي زياد قال: سألت عبداللَّه بن الحارث عن الركعتين بعد العصر، فقال:

كنّا عند معاوية، فحدّث ابن الزبير عن عائشة رضي اللَّه عنها: إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم كان يصلّيهما، فأرسل معاوية إلي عائشة- وأنا فيهم- فسألناها فقالت: لم أسمعه من النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، ولكنْ حدّثتني امّ سلمة، فسألناها فحدّثت ام سلمة: إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم صلّي الظهر ثمّ اتي بشي ء فجعل يقسّمه حتّي حضرت صلاة العصر، فقام فصلّي العصر، ثمّ صلّي بعدها ركعتين، فلمّا صلّاها قال: هاتان الركعتان كنت اصلّيهما بعد الظهر.

فقالت امّ سلمة: ولقد حدّثتها إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم نهي عنهما.

قال:

فأتيت معاوية فأخبرته بذلك.

فقال ابن الزبير: أليس قد صلّاهما؟ لا أزال اصلّيهما.

فقال له معاوية: إنّك لمخالف، لا تزال تحبّ الخلاف ما بقيت» «2».

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 8: 25 كتاب الأدب- باب الهجرة.

(2) مسند أحمد بن حنبل 7: 439/ 26111.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 155

لعن أميرالمؤمنين عليه السلام ابن الزبير … ص: 155

ومن الطرائف: رواية القوم إنّ عليّاً عليه السلام لعن عبداللَّه بن الزبير، فقد رواه ابن السمان في كتاب (الموافقة) وعنه المحب الطبري في (الرياض النضرة).

ولا يخفي أنّ المحبّ الطبري من كبار الأئمّة الحفّاظ، كما ترجم له الأسنوي في (طبقات الشافعيّة) «1» وقال الذهبي في (المعجم المختص):

«أحمد بن عبداللَّه بن محمّد، الإمام الحافظ المفتي، شيخ الحرم، ومحبّ الدين أبوالعبّاس، الطبري، ثمّ المكّي، الشافعي، مصنّف الأحكام الكبري، كان عالماً عاملًا جليل القدر، عارفاً بالآثار، ومن نظر في أحكامه عرف محلّه من العلم والفقه. عاش ثمانين سنة، وكتب إليّ بمرويّاته في سنة ثلاث وسبعين وستمائة» «2».

وهذا نصّ ما رواه المحبّ الطبري في خبر قتل عثمان:

«فبلغ عليّاً وطلحة والزبير وسعداً ومن كان بالمدينة، فخرجوا، وقد ذهبت عقولهم حتّي دخلوا علي عثمان، فوجدوه مقتولًا، فاسترجعوا، وقال علي لابنيه: كيف قتل أميرالمؤمنين وأنتما علي الباب؟ ورفع يده فلطم الحسن، وضرب صدر الحسين، وشتم محمّد بن طلحة، ولعن عبداللَّه بن الزبير، وخرج علي وهو غضبان» «3».

__________________________________________________

(1) طبقات الشافعيّة للأسنوي 2: 72/ 796.

(2) المعجم المختص للذهبي: 24/ 20.

(3) الرياض النضرة 3: 65- 66.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 156

وإذا كان في هذا الخبر فضيلة لعثمان، فهو يشتمل علي لعن الإمام عليه السلام عبداللَّه بن الزبير … وقد صرّحوا بأنّ اللعن دليل الكفر، لأنّ مرتكب الكبيرة لا يجوز لعنه عندهم كما في (التحفة الاثني عشرية) بل في (الصواعق):

«لا يجوز أن يلعن شخص بخصوصه، إلّاإن علم موته علي الكفر، كأبي جهلٍ وأبي لهبٍ. وأمّا من لم يعلم فيه ذلك فلا يجوز لعنه، حتّي أنّ الكافر الحيّ المعيَّن لا يجوز لعنه» «1».

فإذا كان أميرالمؤمنين قد لعن ابن الزبير، فلا ريب في أنّه قد مات علي الكفر، وإلّا لم يلعنه الإمام عليه السلام وقد قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم- كما في (صحيح البخاري)-: «لعن المؤمن كقتله» «2» فيشمله الوعيد في الآية: «ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها وغضب اللَّه عليه ولعنه وأعدّ له عذاباً عظيماً» «3».

وأيضاً: ففي الحديث ما معناه: إنّ اللعن غير السائغ يعود علي صاحبه، روي المتقي الهندي: «إذا خرجت اللعنة من فيّ صاحبها نظرت، فإنْ وجدت مسلكاً في الذي وجّهت إليه وإلّا عادت إلي الذي خرجت منه. هب عن عبداللَّه.

إنّ العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلي السماء فتغلق أبواب السماء دونها، ثمّ تهبط إلي الأرض فتغلق أبوابها دونها، ثمّ تأخذ يميناً وشمالًا، فإذا لم تجد مساغاً رجعت إلي الذي لعن، إن كان لذلك أهلًا، وإلّا رجعت إلي __________________________________________________

(1) الصواعق المحرقة 2: 637.

(2) صحيح البخاري 8: 19 كتاب الأدب- باب ما يُنهي من السباب واللعن.

(3) سورة النساء 4: 93.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 157

قائلها. د عن أبي الدرداء» «1».

تحريف الرواية … ص: 157

ومن هنا، فقد عمد غير واحدٍ من أئمّة القوم إلي تحريف الخبر، بحذف لفظ «اللعن»:

قال ابن حبّان في (كتاب الثقات):

«وبلغ الخبر علي بن أبي طالب وطلحة والزبير وسعداً، فخرجوا مذهلين كادت عقولهم تذهب، لعظم الخبر الذي أتاهم، حتّي دخلوا علي عثمان، فوجدوه مقتولًا واسترجعوا، وقال علي لابنيه: كيف قتل أميرالمؤمنين وأنتما علي الباب؟ قالا: لم نعلم.

قال: فرفع يده ولطم الحسن، وضرب صدر الحسين، وشتم محمّد بن طلحة وعبداللَّه بن الزبير» «2».

وقال السيوطي في (تاريخ الخلفاء) نقلًا عن ابن عساكر:

«وقال علي لابنيه: كيف قتل عثمان أميرالمؤمنين وأنتما علي الباب؟

ورفع يده، فلطم الحسن وضرب صدر الحسين وشتم محمّد بن طلحة وعبداللَّه بن الزبير» «3».

ومنهم من روي الخبر بزيادة لعن الإمام أميرالمؤمنين ولديه- والعياذ باللَّه-!! ففي كتاب (الإعلام بسيرة النبي عليه السلام) للحافظ الزرندي:

«وخرج علي وهو غضبان يسترجع، يري أنّ طلحة قد أعان علي قتله،

__________________________________________________

(1) كنز العمّال 3: 614/ 8169 و 8170.

(2) كتاب الثقات 2: 265.

(3) تاريخ الخلفاء: 127.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 158

فلقيه طلحة فقال له: مالك يا أباالحسن، ضربت الحسن والحسين؟ قال:

عليك وعليهم لعنة اللَّه، ألا يسؤني ذلك! يقتل أميرالمؤمنين، رجل من أصحاب محمّد صلّي اللَّه عليه وسلّم لم يقم عليه بيّنة ولا حجّة؟! فقال طلحة:

لو دفع مروان إليهم لم يقتل. فقال علي: لو خرج مروان إليكم لقتل قبل أن يثبت عليه حكومة» «1».

لكنّه يشتمل علي لعن طلحة أيضاً …

ثمّ عمد بعضهم إلي تحريف هذا اللفظ، فوضع كلمة «عليك كذا وكذا» بدلًا من كلمة «لعن» طلحة!.. «2»

قول النبي لابن الزبير: ويل للناس منك … ص: 158

ومن الدلائل علي سوء حال عبداللَّه بن الزبير: قول النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم له- في قضيّة-: «ويل للناس منك وويل لك من الناس» وذاك ما أخرجه الحكيم الترمذي في كتاب (نوادر الاصول) قال:

«حدّثنا موسي بن إسماعيل قال: حدّثنا الهند بن القاسم بن عبدالرحمن ابن ماعز قال: سمعت عامر بن عبداللَّه بن الزبير: إنّ أباه حدّثه أنّه أتي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وهو يحتجم، فلمّا فرغ قال: يا عبداللَّه، إذهب بهذا الدم فأهرقه حيث لا يراك أحد، فلمّا برز

عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم عمد إلي الدم فشربه، فلمّا رجع قال: يا عبداللَّه، ما صنعت بها؟ قال: جعلتها في أخفي مكان- ظننت أنّه خاف علي الناس- قال: لعلّك شربته؟ قال: نعم،

__________________________________________________

(1) الإعلام بسيرة النبي عليه السلام- مخطوط.

(2) الرياض النضرة في مناقب العشرة المبشّرة 3: 66.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 159

قال: لم شربت الدم؟ ويل للناس منك وويل لك من النّاس».

وأخرجه الحاكم في (المستدرك) بالسند واللّفظ وفي آخره: «ومن أمرك أنْ تشرب الدم؟ ويل لك من الناس وويل للناس منك» «1».

فأشار صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم إلي الفتن التي أثارها ابن الزبير في حرب الجمل، والفتن التي أثارها في أيّام حكومته بمكّة، وقد ذهبت آلاف النّفوس ضحيّة لطلب ابن الزبير الدنيا والرئاسة، كما صرَّح بذلك الصحابي الجليل أبو برزة الأنصاري فيما أخرجوه عنه:

كلام أبي برزة في ابن الزبير … ص: 159

قال الحاكم في (المستدرك):

«أخبرني الحسن بن حكيم المروزي، ثنا أبوالموجة، أنبأ عبدان، أنبأ عبداللَّه، أنبأ عوف، عن أبي المنهال، عن أبي برزة الأسلمي رضي اللَّه تعالي عنه قال: إنّ ذلك الذي بالشام- يعني مروان- واللَّه إنْ يقاتل إلّاعلي الدنيا، وإنّ ذلك الذي بمكّة- يعني ابن الزبير- واللَّه إنْ يقاتل إلّاعلي الدنيا، وإنّ الذين تدعونهم قرّاءكم واللَّه إنْ يقاتلون إلّاعلي الدنيا. فقال له أبي: فما تأمرنا إذاً؟ قال: لا أري خير النّاس إلّا … خماص البطون من أموال الناس، خفاف الظهور من دماءهم» «2».

وأبو برزة الأسلمي من الصحابة الذين يذكرونهم بالجهاد وبالورع والديانة، قال ابن حجر بترجمته في (الإصابة):

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 3: 554 كتاب معرفة الصحابة.

(2) المستدرك علي الصحيحين 4: 470 كتاب الفتن والملاحم.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 160

«قال أبو عمرو: كان إسلامه قديماً، وشهد فتح

خيبر وفتح مكّة وحنيناً …

وقال ابن سعد: كان من ساكني المدينة ثمّ نزل البصرة وغزا خراسان. وقال غيره: شهد مع علي قتال الخوارج بالنهروان وغزا خراسان بعد ذلك، ويقال:

إنّه شهد صفّين والنهروان مع علي. روي ذلك من طريق ثعلبة بن أبي برزة عن أبيه».

وذكر ابن حجر كلام أبي برزة في ابن الزبير وغيره عن البخاري قال:

«وقد أخرج البخاري في صحيحه: إنّه عاب علي مروان وابن الزبير والقرّاء بالبصرة، لمّا وقع الإختلاف بعد موت يزيد بن معاوية فقال في قصّة ذكرها حاصلها: إنّ الجميع إنّما يقاتلون علي الدنيا» «1».

وهذا نصّ الخبر في (صحيح البخاري):

«حدّثنا أحمد بن يونس قال: حدّثنا أبو شهاب، عن عوف، عن أبي المنهال قال: لمّا كان ابن زياد و مروان بالشام، ووثب ابن الزبير بمكّة، ووثب القرّاء بالبصرة، فانطلقت مع أبي إلي أبي برزة الأسلمي، حتّي دخلنا عليه في داره وهو جالس في ظلّ عُليّةٍ له من قصب، فجلسنا إليه، فأنشأ أبي يستطعمه بالحديث، فقال: يا أبا برزة، ألا تري ما وقع فيه الناس، فأوّل شي ء سمعته تكلّم به: إنّي احتسبت عند اللَّه أنّي أصبحت ساخطاً علي أحياء قريش، إنّكم- يا معشر العرب- كنتم علي الحال الذي علمتم من الذلّة والقلّة والضلالة، وإنّ اللَّه أنقذكم بالإسلام وبمحمّد صلّي اللَّه عليه وسلّم، حتّي بلغ بكم ما ترون، وهذه الدنيا التي أفسدت بينكم، إنّ ذاك الذي بالشام- واللَّه- إنْ يقاتل إلّاعلي الدنيا، وإنّ ذاك الذي بمكّة- واللَّه- إنْ يقاتل إلّاعلي الدنيا، وإنّ هؤلاء الذين __________________________________________________

(1) الإصابة في معرفة الصحابة 6: 237- 238/ 8710.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 161

بين أظهركم- واللَّه- إنْ يقاتلون إلّاعلي الدنيا» «1».

وفي (فتح الباري) لابن حجر العسقلاني:

«قوله: إنّ ذاك الذي

بالشام، زاد يزيد بن زريع: يعني مروان. وفي رواية سكين: عبدالملك بن مروان، والأوّل أولي.

قوله: وإنّ ذاك الذي بمكّة. زاد يزيد بن زريع: يعني ابن الزبير.

قوله: وإنّ هؤلاء الذين بين أظهركم، في رواية يزيد بن زريع وابن المبارك نحوه: إنّ الذين حولكم الذين تزعمون أنّهم قرّاؤكم، وفي رواية سكين وذكر نافع ابن الأزرق وزاد في آخره: فقال أبي: فما تأمرني إذاً، فإنّي لا أراك تركت أحداً؟ قال: لا أري خير الناس اليوم إلّاعصابة خماص البطون من أموال الناس، خفاف الظهور من دمائهم» «2».

وفي هذا الحديث دلالة علي القدح والذمّ لابن الزبير من وجوه:

1- قوله: «إنّي احتسبت عند اللَّه» يدلّ علي شدّة قبح أفعال ابن الزبير، بحيث كانت سبباً لسخط أبي برزة وغضبه عليه، وأنّه كان يطلب بذلك الأجر من اللَّه تعالي … قال ابن حجر بشرحه: «قوله: إنّي احتسبت عند اللَّه، في رواية الكشميهني: أحتسب، وكذا في رواية يزيد بن زريع. ومعناه: إنّه يطلب بسخطه علي الطوائف المذكورين من اللَّه الأجر علي ذلك، لأنّ الحبّ في اللَّه والبغض في اللَّه من الإيمان» «3».

وعليه، فإنّ بغض ابن الزبير من الإيمان، وموالاته توجب الخروج عنه،

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 9: 72 كتاب الفتن- باب إذا قال عند قوم شيئاً ثمّ خرج فقال بخلافه.

(2) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 13: 62.

(3) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 13: 62.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 162

لكون الغضب عليه موجباً للأجر والثواب، وكذلك بيّن ابن الملقّن الكلمة المذكورة في (شرح البخاري) فقال: «وأمّا قول أبي برزة واحتسابه سخطه علي أحياء قريش عند اللَّه تعالي، فكأنّه قال: اللّهمّ لا أرضي ما صنع قريش من التقاتل علي الخلافة فاعلم ذلك من نيّتي،

وأنّي أسخط أفعالهم واستباحتهم للدماء والأموال، فأراد أنْ يحتسب ما يعتقده من إنكار القتال في الإسلام عند اللَّه أجراً وذخراً، فإنّه لم يقدر من التغيير عليهم إلّابالقول والنيّة التي بها يؤجر اللَّه عباده».

2- قوله: «وإنّكم يا معشر العرب … » ظاهر في أنّ ما صنعه ابن الزبير كان محض الضّلال …

3- قوله: «واللَّه إنْ يقاتل إلّاعلي الدنيا» نصٌّ لا يقبل أيّ تأويل أو حملٍ.

ومن الواضح أنّ التقاتل علي الدنيا من أقبح الفواحش وأفظع المثالب.

وقد ذكر المؤرّخون أنّ امّه قالت له: «إن كنت إنّما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن قتل معك».

قال ابن فهد في (إتحاف الوري):

«فدخل- أي ابن الزبير- علي امّه أسماء بنت أبي بكر الصدّيق رضي اللَّه عنه فقال: يا امّاه، قد خذلني الناس حتّي ولدي وأهل بيتي، ولم يبق معي إلّا اليسير ومن ليس عنده أكثر من صبر ساعة، وإنّ خصومي قالوا لي إن شئت سلّم نفسك لعبدالملك بن مروان، يري فيك رأيه ولك الأمان، فما رأيك؟

فقالت له: يا ولدي! أنت أعلم بنفسك، إن كنت قاتلت لغير اللَّه، فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت قاتلت للَّه وتعلم أنّك علي حقّ وإليه تدعو، فامض استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 163

له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكّن من رقبتك يتلعّب بها غلمان بني اميّة، وإن كنت إنّما أردت الدنيا، فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن قتل معك، وإن قلت: كنت علي حقّ فلمّا وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن، وإن قلت: لم يبق معي معين علي القتل، فلعمري إنّك مغدور، ولكن شأن الكرام أن يموتوا علي ما عاشوا عليه.

فقال: يا امّاه! أخاف إن قتلني

أهل الشام أن يمثّلوا بي ويصلّبوني.

فقالت: أي بني، إنّ الشاة لا تبالي بالسلخ، فامض علي بصيرتك واستعن باللَّه تعالي.

فقبّل رأسها وقال: هذا رأيي».

4- قوله: «لا أري خير الناس اليوم … » مفهومه أنّ ابن الزبير وأمثاله قد ملأوا بطونهم من أموال الناس، وباؤوا بغضبٍ من اللَّه ومأواهم جهنّم وبئس المصير.

كلمات الحفّاظ بشرح كلام أبي برزة … ص: 163

ثمّ إنّ علماء القوم- بالرَّغم من تأوّلهم للأحاديث القادحة في الصّحابة دفاعاً عنهم- لم يتمكّنوا من تأويل كلام أبي برزة ولو بالتمحّل، بل أيّدوا بشرحه دلالته علي الذمّ والقدح لابن الزّبير، كما عرفت من كلمات ابن حجر والملقّن.

وقال ابن حجر بشرحه:

«وفيه: استشارة أهل العلم والدين عند نزول الفتن، وبذل العالم استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 164

النصيحة لمن يستشيره. وفيه: الإكتفاء في إنكار المنكر بالقول ولو في غيبة من ينكر عليه، ليتّعظ من يسمعه فيحذر من الوقوع فيه» «1».

وقال ابن الملقّن بشرحه:

«وأمّا يمينه: أنّ الذي بالشام ما يقاتل إلّاعلي الدنيا، وهو عبدالملك، فوجهه أنّه كان يريد أنْ يأخذ بسيرة عثمان والحسن. وأمّا يمينه علي الذي بمكّة، يعني ابن الزبير، فإنّه لمّا وثب بمكّة- بعد أنْ دخل فيما دخل فيه المسلمون- جعله نكثاً وحرصاً علي الدنيا، وهو في هذه أقوي رأياً منه في الاولي، وكذا القرّاء بالبصرة، لأنّه كان لا يري الفتنة في الإسلام أصلًا، وكان يري أنْ يترك صاحب الأمر حقّه لمن نازعه فيه، لأنّه مأجور في ذلك ممدوح بالإيثار علي نفسه، وكان يريد من المقاتل أنْ لا يقتحم النّار في قيامه وتفريقه الجماعة وتشتيت الكلمة، ولا يكون سبباً لسفك الدماء واستباحة الحرام، أخذاً بقول النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: إذا التقي المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النّار، فلم ير القتال البتة، وخشي أن

يقول في ابن الزبير شيئاً، لأنّه كان من العبادة بمكان، وممّا عيّر عليه في خلافته أنّه استأثر بشي ءٍ من مال اللَّه».

وما قاله ابن الملقّن في آخر كلامه من أنّ أبي برزة «خشي أنْ يقول في ابن الزبير شيئاً» واضحٌ مافيه، لأنّ أبابرزة يقسم قائلًا بأنّ ابن الزبير ما يقاتل إلّا علي الدنيا … وفي هذا الكلام كلُّ شي ء، لأنّ القتال علي الدنيا ام الخبائث والشرور وأصل الفسق والفجور، فكيف يقال أنّه لم يقل فيه شيئاً؟! وأيّ فائدةٍ مع هذا لكثرة العبادة؟

__________________________________________________

(1) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 13: 62.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 165

تكلّم ابن عمر في ابن الزبير … ص: 165

وتكلّم ابن عمر أيضاً في ابن الزبير بما لا يحتمل التأويل كذلك، فقد أخرج الحاكم بإسناده:

«عن نافع عن ابن عمر أنّه قال لرجلٍ يسأله عن القتال مع الحجاج أو مع ابن الزبير؟ فقال له ابن عمر: مع أيّ الفريقين قاتلت فقتلت، ففي لظي» قال الحاكم: «هذا حديث صحيح علي شرط الشيخين ولم يخرجاه» «1».

ومن المعلوم أنّه إذا كان من يقتل مع ابن الزبير في لظي، فإبن الزبير نفسه فيها بطريقٍ أولي، مع أنّه قد قتل في نفس هذه المعركة التي حكم عبداللَّه ابن عمر علي من قتل فيها بما حكم … هذا مضافاً إلي هتكه حرمة الحرم، ولأجل ذلك تكلّم فيه ابن عمر أيضاً، فيما رواه الحكيم الترمذي حيث قال:

«حدّثنا إبراهيم بن المستمر الهذلي قال: حدّثني عبدالرحمان بن سليمان ابن غياث أبو زيد قال: سمعت أبي يذكر عن أبيه قال: صحبت ابن عمر من مكّة إلي المدينة، فقال لنافع: لا تمر بي علي المصلوب- يعني ابن الزبير-.

قال: فما فجئه في جوف الليل إلّاأن صكّ محمله جذعه، فجلس يمسح عينيه

ثمّ قال: يرحمك اللَّه يا أبا خبيب إن كنت وإن كنت، ولقد سمعت أباك الزبير يقول: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: من يعمل سوء يجز به في الدنيا أو في الآخرة، فإن يك هذا بذاك فهه فهه.

قال أبو عبداللَّه: فأمّا في التنزيل فقد أجمله فقال: «فمن يعمل سوء يُجزَ به» ودخل فيه البرّ والفاجر والولي والعدو والمؤمن والكافر، ثمّ ميّز رسول __________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 4: 471 كتاب الفتن والملاحم.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 166

اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في هذا الحديث بين الموطنين فقال: يجز به في الدنيا وفي الآخرة، كأنّه أخبر بأن يجزي بذلك السوء في أحد الموطنين، إمّا في الدنيا وإمّا في الآخرة، وليس يجمع عليك الجزاء في الموطنين.

ألا تري أنّ ابن عمر قال: فإن يك هذا بذاك فهه فهه، معناه أنّه قاتل في حرم اللَّه، وأحدث حدثاً عظيماً فيها، حتّي أحرق البيت ورمي الحجر الأسود بالمنجنيق، فانصدع حتّي ضبب بالفضة، فهو إلي يومنا كذلك، وسمع للبيت أنين آه آه، وقد قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يوم فتح مكّة: إنّها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، وإنّما حلّت لي ساعة من نهار، وإنّها حرمت يوم خلقت السماوات والأرض.

ولمّا رأي ابن عمر فعله، ثمّ رآه مقتولًا مصلوباً، ذكر قول رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: من يعمل سوء يجز به، ثمّ قال: إن يك هذا القتل بذاك الذي فعله فهه، أي كأنّه جوزي بذلك السوء من هذا القتل والصلب» «1».

هذا، وقد رووا عن ابن عمر عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم إخباره عن صنع عبداللَّه، مع التعبير عن ذلك ب «الإلحاد»:

«يلحد رجل من

قريش بمكة يقال له عبداللَّه، عليه شطر عذاب العالم، طب عن ابن عمر».

«إنّه سيلحد في الحرم رجل من قريش، لو توزن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت. حم ك عن ابن عمر».

«يحلّها ويحلّ به رجل من قريش، لو وزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لوزنتها. حم عن ابن عمر».

__________________________________________________

(1) نوادر الأصول 2: 16. وقد اسقط منه: «قال أبو عبداللَّه … ».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 167

«يلحد بمكّة كبش- أي سيّد- من قريش اسمه عبداللَّه، عليه مثل أوزار نصف الناس. حم عن عثمان.

يلحد رجل من قريش بمكّة، يكون عليه نصف عذاب العالم. حم عن عثمان. ورجال الحديثين ثقات» «1».

بل لقد رووا أنّ ابن عمر قد ذكّر ابن الزبير بقول رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم هذا، وحذّره من أن يكون الملحد القرشي هو:

في (جمع الجوامع) للسيوطي عن ابن أبي شيبة:

«عن إسحاق بن سعيد، عن أبيه قال: أتي عبداللَّه بن عمر عبداللَّه بن الزبير، فقال لابن الزبير: إياك والإلحاد في حرم اللَّه، فإنّي سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: إنّه سيلحد فيه رجل من قريش، لو أنّ ذنوبه توزن بذنوب الثقلين لرجحت عليه، فانظر لا تكونه. ش».

فكان هذا رأي عبداللَّه بن عمر في ابن الزبير … وبذلك صرّح الحجّاج عند أسماء ام ابن الزبير، إذ قال لها- كما في (السيرة الحلبيّة)-:

«رأيت كيف نصر اللَّه الحق وأظهر أنّ ابنك ألحد في هذا البيت، وقد قال تعالي: «ومن يرد فيه بإلحادٍ بظلمٍ نذقه من عذاب أليم» وقد أذاقه اللَّه ذلك العذاب الأليم» «2».

وقال في (إتحاف الوري):

«سنة ست وستّين: فيها دعا عبداللَّه بن الزبير محمّد ابن الحنفيّة ومن معه من أهل بيته وسبعة عشر رجلًا من وجوه أهل الكوفة،

منهم أبوالطفيل __________________________________________________

(1) كنز العمّال 12: 208- 209/ 34691- 34695: وبعضه عن ابن عمرو.

(2) إنسان العيون/ السيرة الحلبيّة 1: 175.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 168

عامر بن واثلة الصحابي، ليبايعوه، فامتنعوا وقالوا: لا نبايع حتّي تجتمع الامّة.

فأكثر ابن الزبير الوقيعة في ابن الحنفيّة وذمّه، فأغلظ له عبداللَّه بن هاني الكندي وقال: لئن لم يضرّك إلّاتركنا بيعتك لا يضرّك شي ء، وإنّ صاحبنا يقول: لو بايعني الامّة كلّها غير سعد مولي معاوية قتلته، وإنّما عرّض بذكر سعد، لأنّ ابن الزبير أرسل إليه فقتله، فسبّه عبداللَّه وسبّ أصحابه وأخرجهم من عنده، فأخبروا ابن الحنفيّة بما كان منهم، فأمرهم بالصبر، ولم يلحّ عليهم ابن الزبير.

فلمّا استولي المختار علي الكوفة، وصارت الشيعة تدعو لابن الحنفيّة، خاف ابن الزبير أن يتداعي النّاس إلي الرماية، فحينئذٍ ألحّ علي ابن الحنفيّة وعلي أصحابه علي البيعة له، فحبسهم بزمزم وتوعّدهم بالقتل والإحراق، وأعطي اللَّه عهداً إن لم يبايعوه ينفذ فيهم ما توعّدهم به، وضرب لهم في ذلك أجلًا.

فأشار بعض من كان مع ابن الحنفيّة عليه، أن يبعث إلي المختار وإلي من بالكوفة رسولًا يعلمهم حالهم وحال من معهم، وما كان توعّدهم به ابن الزبير، فوجد ثلاثة نفر من أهل الكوفة حين نام الحرس علي باب زمزم، وكتب معهم إلي المختار وأهل الكوفة يعلمهم حاله وحال من معه وما توعّدهم به ابن الزبير من القتل والتحريق بالنّار، ويطلب منهم النجدة، ويسألهم أن لا يخذلوه كما خذلوا الحسين وأهل بيته.

فقدموا علي المختار، فدفعوا إليه الكتاب، فنادي في الناس، فقرأ عليهم الكتاب.

(إلي أن قال في إتحاف الوري): فوجّه- يعني المختار- أبا عبداللَّه استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 169

الجدلي في سبعين راكباً من أهل القوّة،

ووجّه ظبيان بن عمارة أخا بني تميم ومعه أربعمائة، وبعث معه لابن الحنفيّة أربعمائة درهم، وسيّر أباالمعتمر في مائة، وهاني بن قيس في مائة، وعمير بن طارق في أربعين، ويونس بن عمران في أربعين، وكتب إلي محمّد بن علي مع أبي الطفيل عامر ومحمّد بن قيس بتوجيه الجند إليه.

وخرج النّاس أثرهم في أثر بعض، وجاء أبو عبداللَّه الجدلي حتّي نزل ذات عرق في سبعين راكباً، فأقام بها حتّي أتاه عمير ويونس في ثمانين راكباً، فبلغوا مائة وخمسين رجلًا، فسار بهم حتّي دخلوا المسجد الحرام ومعهم الكافركوبات وهم ينادون: يالثارات الحسين، حتّي انتهوا إلي زمزم، وقد أعدّ ابن الزبير الحطب ليحرقهم، وكان قد بقي من الأجل يومان، فطردوا الحرس وكسروا أعواد زمزم ودخلوا علي ابن الحنفيّة فقالوا: خلّ بيننا وبين عدوّ اللَّه ابن الزبير.

فقال لهم: إنّي لا أستحلّ القتال في حرم اللَّه.

فقال ابن الزبير: واعجبا لهذه الخشبية، ينعون حسيناً كأنّي أنا قتلته، واللَّه لو قدرت علي قتلته لقتلتهم.

وإنّما قيل لهم خشبيّة، لأنّهم وصلوا إلي مكّة وبأيديهم الخشب، كراهة إشهار السيوف في الحرم.

وقيل: لأنّهم أخذوا الحطب الذي أعدّه ابن الزبير.

وقال ابن الزبير: أيحسبون أنّي اخلّي سبيلهم دون أن ابايع ويبايعون.

فقال أبو عبداللَّه الجدلي: أي وربّ الكعبة والمقام وربّ الحلّ والحرام، لتخلّينّ سبيلهم أو لنجالدنّك بأسيافنا جلاداً يرتاب منه المبطلون.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 170

فقال ابن الزبير: هل أنتم- واللَّه- إلّاأكلة رأس، لو أذنت لأصحابي ما مضت ساعة حتّي تقطف رؤوسكم.

فقال له قيس بن مالك: أما واللَّه إنّي لأرجو إذ رمت ذلك، أن يرسل إليك قبل أن تري ما تحب.

فكفّ ابن الحنفيّة أصحابه وحذّرهم الفتنة.

ثمّ قدم أبوالمعتمر في مائة، وهاني بن قيس في مائة، وظبيان بن

عمارة في مائتين ومعه المال، حتّي دخلوا المسجد الحرام فكبّروا وقالوا: يالثارات الحسين.

فلمّا رآهم ابن الزبير خافهم.

فخرج محمّد بن الحنفيّة ومن معه إلي شعب علي، وهم يسبّون ابن الزبير ويستأذنون محمّد بن الحنفيّة فيه، فيأبي عليهم، واجتمع مع محمّد في الشعب أربعة آلاف رجل، فقسّم بينهم ذلك المال.

ويقال: إنّ ابن الزبير أرسل إلي ابن عبّاس وابن الحنفيّة أن يبايعا، فقالا:

حتّي يجتمع النّاس علي إمام ثمّ نبايع فإنّك في فتنة، فعظم الأمر بينهما وغضب من ذلك، وحبس ابن الحنفيّة في زمزم، وضيّق علي ابن عبّاس في منزله، وأراد إحراقهما، فأرسل المختار جيشاً كما تقدّم.

(إلي أن قال في إتحاف الوري): سنة سبع وستّين، فيها حجّ بالنّاس عبداللَّه بن الزبير رضي اللَّه عنه، وفيها أو في التي بعدها- بعد أن قتل المختار بالكوفة- استوسقت البلاد لابن الزبير، وتضعضع حال ابن الحنفيّة وأصحابه واحتاجوا، فأرسل ابن الزبير أخاه عروة إلي ابن الحنفيّة أن ادخل في بيعتي وإلّا نابذتك.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 171

فقال ابن الحنفيّة: بؤساً لأخيك، ما ألحّه فيما أسخط اللَّه تعالي، وأغفله عن ذات اللَّه عزّ وجلّ.

وقال لأصحابه: إنّ ابن الزبير يريد أن يثور بنا، وقد أذنت لمن أحبّ الإنصراف عنّا، فإنّه لا ذمام عليه ولا لوم، فإنّي مقيم حتّي يفتح اللَّه بيني وبين ابن الزبير وهو خير الفاتحين.

فقام إليه أبو عبداللَّه الجدلي وغيره، فأعلموه أنّهم غير مفارقيه.

وبلغ خبره عبدالملك بن مروان، فكتب إليه يعلمه أنّه إن قدم عليه أحسن مقدمه، وأنّه ينزل أيّ الشام أراد، حتّي يستقيم أمر النّاس.

فخرج ابن الحنفيّة وأصحابه إلي الشام.

(إلي أن قال في إتحاف الوري): فارتحل ابن الحنفيّة إلي مكّة، ونزل شعب آل أبي طالب، فأرسل إليه ابن الزبير يأمره بالرحيل

عليه، وكتب إلي أخيه مصعب ابن الزبير يأمره أن يسيّر نساء من مع ابن الحنفيّة، فسيّر نساء منهنّ امرأة أبي الطفيل عامر بن واثلة، فجاءت حتّي قدمت عليه.

فقال أبوالطفيل:

وإن يك سيّرها مصعب فإنّي إلي مصعب متعب أقود الكتيبة مسليما كأنّي أخو عرّة أجرب وهي عدّة أبيات.

وألحّ ابن الزبير علي ابن الحنفيّة بالانتقال عن مكّة، فاستأذنه أصحابه في قتال ابن الزبير فلم يأذن لهم وقال: اللّهمّ ألبس ابن الزبير لباس الذلّ والخوف، وسلّط عليه وعلي أشياعه من يسومهم الذي يسوم النّاس، ثمّ صار إلي الطائف.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 172

فدخل ابن عبّاس علي ابن الزبير، فأغلظ له وجري بينهما كلام، وخرج ابن عبّاس أيضاً فلحق بالطائف، وأرسل ابنه عليّاً إلي عبدالملك بالشام وقال:

لأن يربّني بنو عمّي أحبّ إليّ من أن يربّني رجل من بني أسد، يعني ببني عمّه بني اميّة، لأنّهم جميعهم من ولد عبد مناف، ويعني برجل من بني أسد ابن الزبير، فإنّه من بني أسد بن عبدالعزّي بن قصي» «1».

__________________________________________________

(1) إتحاف الوري بأخبار امّ القري- حوادث السنة 66.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 173

ثمّ قال السيوطي في (الإتقان): … ص: 173

«وقد ورد عن جماعةٍ من الصحابة غير هؤلاء اليسير من التفسير.

كأنس وأبي هريرة وابن عمر وجابر وأبي موسي الأشعري.

وورد عن عبداللَّه بن عمرو بن العاص أشياء تتعلّق بالقصص وأخبار الفتن والآخرة وما أشبهها بأن يكون ممّا تحمّله عن أهل الكتاب، كالذي ورد عنه في قوله تعالي «في ظللٍ من الغمام»» «1».

أقول:

إنّه وإن كان يكفي معرفة أحوال الصحابة المذكورين، وهم الذين رووا عنهم الكثير من التفسير، لمعرفة شأن تفاسيرهم وقيمة رواياتهم وأخبارهم في التفسير، لكنّا نتعرّض لحال هؤلاء- الذين رووا عنهم اليسير- أيضاً ولو بإيجاز، فنقول:

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم

القرآن 4: 240.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 174

أنس بن مالك … ص: 174
اشارة

أمّا أنس بن مالك، فهذه عدّةٌ من مطاعنه المسقطة له عن العدالة، والموجبة له العار والخسران وعذاب النيران:

كتمانه الشهادة … ص: 174

فمنها: كتمانه الشهادة بحديث الغدير، مع أنّ الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام ناشده به، وطلب منه الشهادة، ودعا عليه لمّا كتم، فقد ذكر السيّد جمال الدين المحدّث الشيرازي في كتاب (الأربعين في فضائل أميرالمؤمنين) في بيان تواتر حديث الغدير:

«ورواه زر بن حبيش فقال: خرج علي عليه السلام من القصر، فاستقبله ركبان متقلّدي السيف، عليهم العمائم، حديثي عهد بسفر فقالوا: السلام عليك يا أميرالمؤمنين ورحمة اللَّه وبركاته، السلام عليك يا مولانا.

فقال علي عليه السلام بعد ما ردّ السلام: من هاهنا من أصحاب رسول اللَّه؟

فقام إثنا عشر رجلًا منهم: خالد بن زيد أبو أيّوب الأنصاري، وخزيمة بن ثابت ذوالشهادتين، وثابت بن قيس بن شماس، وعمّار بن ياسر، وأبوالهيثم بن التّيهان، وهاشم بن عتبة بن أبي وقّاص، وحبيب بن بديل بن ورقاء. فشهدوا أنّهم سمعوا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يوم غدير خم يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه. الحديث.

فقال علي لأنس بن مالك والبراء بن عازب: ما منعكما أنْ تقوما فتشهدا، فقد سمعتما كما سمع القوم؟

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 175

فقال: اللّهمّ إن كانا كتماها معاندةً فأبلهما؛ فأمّا البراء فعمي، فكان يسأل عن منزله فيقول: كيف يرشد من أدركته الدعوة. وأمّا أنس فقد برصت قدماه.

وقيل: لمّا استشهده علي عليه السلام علي قول النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: من كنت مولاه فعلي مولاه واعتذر بالنسيان فقال: اللّهمّ إن كانت كاذباً فأبله ببياض لا تواريه العمامة، فبرص وجهه، فسدل بعد ذلك برقعاً علي وجهه».

تحريف الحديث … ص: 175

وقد حرّف بعض علمائهم هذا الحديث، فوضع بدل الإسم الصريح كلمة «رجل» تستّراً علي أنس بن مالك، وخجلًا ممّا كان منه … فقد روي أبو نعيم الحافظ في (حلية الأولياء):

«حدّثنا سليمان بن

أحمد، ثنا أحمد بن إبراهيم بن كيسان، ثنا إسماعيل ابن عمرو البجلي، ثنا مسعر بن كدام، عن طلحة بن مصرف، عن عميرة بن سعد قال: شهدت عليّاً علي المنبر ناشداً أصحاب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وفيهم أبو سعيد وأبو هريرة وأنس بن مالك، وهم حول المنبر وعلي علي المنبر، وحول المنبر إثنا عشر رجلًا هؤلاء منهم. فقال علي: نشدتكم باللَّه هل سمعتم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه؟

فقاموا كلّهم فقالوا: اللّهمّ نعم، وقعد رجل، فقال: ما منعك أنْ تقوم؟

قال: يا أميرالمؤمنين! كبرت ونسيت.

فقال: اللّهمّ إنْ كان كاذباً فاضربه ببلاءٍ حسنٍ.

قال: فما مات حتّي رأينا بين عينيه نكتةً بيضاء لا تواريها العمامة.

غريبٌ من حديث طلحة، تفرّد به مسعر عنه مطوّلًا، ورواه ابن عائشة عن إسماعيل مثله، ورواه الأجلح وهاني بن أيّوب عن طلحة مختصراً» «1».

__________________________________________________

(1) حلية الأولياء 5: 26- 27/ 293.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 176

الكذب … ص: 176

ومنها: أنّه قد كذب في قضيّة الطائر المشوي المشهورة، وفي بعض الروايات إنه قد تكرّر ذلك منه:

قال الحاكم في (المستدرك) في الحديث:

«فقال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: يا أنس، انظر من علي الباب؟ فقلت: اللّهمّ اجعله رجلًا من الأنصار، فذهبت فإذا عليٌّ بالباب، فقلت: إنّ رسول اللَّه علي حاجة» «1».

وفي (كنز العمّال):

«عن عمرو بن دينار، عن أنس قال: كنت مع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في بستان، فاهدي لنا طائر مشوي، فقال: اللّهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك، فجاء علي بن أبي طالب، فقلت: رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله مشغول، فرجع. ثمّ جاء بعد ساعة ودقّ الباب، ورددته مثل ذلك، ثمّ قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه

وآله: يا أنس! إفتح له، فطالما رددته. فقلت: يا رسول اللَّه! كنت أطمع أن يكون رجلًا من الأنصار. فدخل علي بن أبي طالب فأكل معه من الطير، فقال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: المرء يحبّ قومه. كر وابن النجار» «2».

حضوره عند ابن زياد وهو ينكت ثنايا أبي عبداللَّه … ص: 176

ومنها: إنّه كان حاضراً عند عبيداللَّه بن زياد لمّا اتي برأس الإمام أبي عبداللَّه الحسين الشهيد، فجعل ينكت ثناياه ويقرعها بالقضيب، قال __________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 3: 132 كتاب معرفة الصحابة.

(2) كنز العمّال 13: 167/ 36507.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 177

البخاري:

«عن أنس بن مالك قال: اتي عبيداللَّه بن زياد برأس الحسين عليه السلام، فجعل في طست، فجعل ينكت وقال في حسنه شيئاً، فقال أنس: كان أشبههم برسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وكان مخضوباً بالوسمة» «1».

فقال العيني في (عمدة القاري):

«قال سبط ابن الجوزي: أما كان لرسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم علي أنس من الحقوق أن ينكر علي ابن زياد فعله ويقبّح له ما وقع منه، من قرع ثنايا الحسين بالقضيب، كما فعل زيد بن أرقم» «2».

طعن أبي حنيفة فيه … ص: 177

وأنس بن مالك كان مطعوناً عند إمامهم الأعظم أبي حنيفة، ذكر ذلك الزندويستي الحنفي- ومن أكابر علماء القوم، وصفه الكفوي في (كتائبه) بأنّه «كان إماماً فقيهاً ورعاً» «3» وترجم له عبدالقادر في (طبقاته) «4» - حيث قال:

«روي عن أبي حنيفة رضي اللَّه عنه أنّه سئل فقيل له: إذا قلت قولًا، وكان كتاب اللَّه تعالي يخالف قولك؟ قال: أترك قولي بكتاب اللَّه تعالي، فقيل:

إذا كان خبر الرسول يخالف قولك؟ قال: أترك قولي بخبر الرسول، فقيل: إذا كان قول الصحابة يخالف قولك؟ فقال: أترك قولي بقول الصحابي، فقيل له:

إذا كان قول التابعين يخالف قولك؟ قال: إذا كان التابعي رجلًا فأنا رجل.

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 5: 32- 33 كتاب المناقب- باب مناقب الحسن والحسين رضي اللَّه عنهما.

(2) عمدة القاري في شرح صحيح البخاري 16: 241. وفيه: لكن الفحل، بدل: كما فعل.

(3) كتائب أعلام الأخيار من فقهاء مذهب النعمان المختار- مخطوط.

(4) وذكره

صاحب هديّة العارفين 1: 307 وأرّخ وفاته بحدود سنة 400.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 178

ثمّ قال: أترك قولي بجميع قول الصحابة إلّاثلاثة منهم: أبو هريرة وأنس ابن مالك وسمرة بن جندب. قال الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه اللَّه:

إنّما لم يترك قوله بقول هؤلاء الثلاثة لأنّهم مطعونون» «1».

وقد روي محمّد بن سليمان الكفوي في (كتائب الأعلام) كلام أبي حنيفة حيث قال- بعد نقل كلام الصدر الشهيد في بيان وجه ترك أبي حنيفة أنس بن مالك وأباهريرة وعدم تقليدهما- وأمّا سمرة فما وجدت في نسختي ثمّ ظفرت في روضة الزندويستي في الباب السابع والتسعين في فضل الصحابة قال فيه:

وتقليد الصحابة يجوز أم لا؟ قال علماؤنا: في ظاهر الاصول يجوز، وأقاويل جميع الصحابة حجّة نعمل بها، حتّي روي عن أبي حنيفة أنّه سئل فقيل له: إذا قلت قولًا وكتاب اللَّه يخالف قولك؟ قال: أترك قولي بكتاب اللَّه وقول الرسول صلّي اللَّه عليه وسلّم. فقيل: إذا كان قول الصّحابة يخالف قولك؟ قال: أترك قولي بقول الصحابة. فقيل: إذا كان قول التابعين يخالف قولك؟ قال: هم رجال ونحن رجال.

ثمّ قال أبو حنيفة رحمه اللَّه: أترك قولي بقول الصحابة، إلّابقول ثلاثة منهم: أبو هريرة وأنس بن مالك وسمرة بن جندب.

قال الفقيه أبو جعفر الهندواني: وإنّما لم يترك قوله بقول هؤلاء الثلاثة، لأنّهم مطعونون» «2».

وأيضاً: قال الكفوي في (كتائب أعلام الأخيار من فقهاء مذهب نعمان المختار):

__________________________________________________

(1) روضة العلماء، ذكره له صاحب كشف الظنون 1: 928.

(2) كتائب أعلام الأخيار من فقهاء مذهب النعمان المختار- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 179

«قال الصدر الشهيد أيضاً: عن أبي حنيفة روايتان:

الأوّل: أنّه قال اقلّد من كان من القضاة المفتين من الصحابة، لقوله:

إقتدوا باللذين

من بعدي أبي بكر وعمر، وقد اجتمع في حقّهما القضاء والفتوي، فمن كان بمثابتهما مثل: عثمان وعلي والعبادلة الثلاثة وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وغيرهم ممّن كان في معناهم، فاقلّدهم ولا أستجيز خلافهم برأيي، وخرج عن هذا جماعة منهم: أبو أمامة وسهل بن سعد الساعدي وأبو حميد الساعدي والبراء ابن عازب وغيرهم.

والثاني: قال: اقلّد جميع الصحابة، ولا أستيجز خلافهم برأيي إلّاثلاثة نفر: أنس بن مالك وأبو هريرة وسمرة بن جندب.

فقيل له في ذلك.

فقال: أمّا أنس فقد بلغني أنّه اختلط عقله في آخر عمره، وكان يستفتي من علقمة، وأنا لا اقلّد علقمة، فكيف اقلّد من يستفتي من علقمة؟» «1».

كان يلبس الحرير … ص: 179

ومنها: إنّه كان يلبس الحرير كما في (الطبقات):

«عن عبدالسلام بن شداد قال: رأيت علي أنس عمامة حرير وجبّة خزّ ومطرف خز.

فقالوا: مالك تنهانا عن الحرير وتلبسه أنت؟

فقال: إنّ امراءنا يكسوناها، فنحبّ أنْ يروه علينا» «2».

هذا، وقد قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله كما في (صحيح البخاري):

__________________________________________________

(1) كتائب أعلام الأخيار من فقهاء مذهب النعمان المختار- مخطوط.

(2) الطبقات الكبري 7: 23- 24، وفي النسخة «الخز» بدل «الحرير».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 180

«عن أبي ذبيان خليفة بن كعب قال: سمعت ابن الزبير يقول: سمعت عمر يقول: قال النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» «1».

وعن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «قال: إنّما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة» «2».

تقصيره الصّلاة وتركه الصّيام مدّة سنتين … ص: 180

ومنها: أنّه لمّا ولي سابور من قبل الحجّاج، بقي مدّة سنتين يقصّر الصلاة، ولا يصوم شهر رمضان، معتذراً بأنّه لا يدري مدّة بقائه هناك، ومتي يعزل؟

روي ذلك أبو هلال العسكري في كتاب (الأوائل) الذي ترجم له العلماء وأثنوا عليه واعتمدوا علي إخباراته … قال السيوطي في (بغية الوعاة):

«الحسن بن عبداللَّه بن سهل … كان موصوفاً بالعلم والفقه، والغالب عليه الأدب والشعر، وكان يتبزّز احترازاً من الطمع والدناءة. روي عنه أبو سعد السمّان وغيره … له من التصانيف: كتاب صناعتي النظم والنثر، مفيد جداً، والتلخيص في اللغة، جمهرة الأمثال، شرح الحماسة، من احتكم من الخلفاء إلي القضاة، لحن الخاصة، الأوائل … قال ياقوت: لم يبلغني شي ء في وفاته، إلّا أنّه فرغ من إملاء الأوائل يوم الأربعاء لعشر خلت من شعبان سنة 395» «3».

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 7: 194 كتاب اللباس- باب لبس الحرير …

(2) صحيح

البخاري 7: 194 كتاب اللباس- باب لبس الحرير …

(3) بغية الوعاة في طبقات اللغويّين والنحاة 1: 506/ 1046.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 181

أبو هريرة … ص: 181
اشارة

وأمّا أبو هريرة، فقوادحه ومطاعنه الشنيعة كثيرة، فمنها:

موالاته عدوّ علي … ص: 181

إنّه كان من المنحرفين عن أميرالمؤمنين، ومن المؤيّدين لمعاوية رئيس الفئة الباغية، حتّي لقد ذكّره الأصبغ بن نباتة بذلك، فلم يقل إلّا: إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون، فقد روي سبط ابن الجوزي في (تذكرته) أنّه:

«قال أصبغ: فقلت له: يا معاوية، لا تعتل بقتلة عثمان، فإنّك لا تطلب إلّا الملك والسلطان، ولو أردت نصرته ج حيّاً ج لفعلت، ولكنّك تربّصت به وتقاعدت عنه لتجعل ذلك سبباً إلي الدنيا، فغضب، فأردت أن أزيده فقلت:

يا أبا هريرة، أنت صاحب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، اقسم عليك باللَّه الذي لا إله إلّاهو وبحقّ رسوله، هل سمعت رسول اللَّه يقول يوم غدير خم في حقّ أميرالمؤمنين: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه؟

فقال: إي واللَّه لقد سمعته يقول ذلك.

قال: فقلت: فإذن أنت يا أباهريرة واليت عدوّه وعاديت وليّه.

فتنفّس أبو هريرة وقال: إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون.

فتغيّر وجه معاوية وقال: يا هذا! كفّ عن كلامك، فلا تستطيع أن تخدع أهل الشام عن الطلب بدم عثمان، فإنّه قتل مظلوماً … » «1».

__________________________________________________

(1) تذكرة الخواص من الامّة: 83- 84.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 182

لعب القمار والشطرنج … ص: 182

وذكروا أنّه كان يلعب بالشطرنج، وكان يقامر … ففي (حياة الحيوان)- في كلام له عن الشطرنج-:

«وروي الصعلوكي تجويزه عن عمر بن الخطّاب وأبي هريرة … والمروي عن أبي هريرة من اللعب به مشهور في كتب الفقه» «1».

وقال ابن الأثير:

«وفي حديث بعضهم قال: رأيت أبا هريرة يلعب السدر. السدر لعبة يقامر بها، وتكسر سينها وتضم، وهي فارسية معربة ج عن «سه در» ج، يعني ثلاثة أبواب» «2».

وفي (مجمع البحار): «وحديث: رأيت أبا هريرة يلعب السّدر … » «3».

وقد نصَّ علماء القوم علي حرمة اللعب بالشطرنج، ونسب ابن تيميّة القول بالحرمة إلي جمهور العلماء،

قال:

«مذهب جمهور العلماء أنّ الشطرنج حرام، وقد ثبت عن علي بن أبي طالب مرّ بقومٍ يلعبون الشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، وكذلك النهي عنها معروف عن أبي موسي وابن عبّاس وابن عمر وغيرهم من الصحابة. وتنازعوا في أنّ أيّهما أشدّ تحريماً: الشطرنج أو النرد؟

فقال مالك: الشطرنج أشدّ من النرد، وهذا منقول عن ابن عمر. وهذا لأنّها

__________________________________________________

(1) حياة الحيوان «العقرب» 2: 62.

(2) النهاية في غريب الحديث 2: 354 «سدر».

(3) مجمع البحار «سدر».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 183

تشغل القلب بالفكر الذي يصدّ عن ذكر اللَّه وعن الصلاة أكثر من النرد. وقال أبو حنيفة وأحمد: النرد أشد» «1».

أبو هريرة في نظر الصحابة … ص: 183

وقد كان أبو هريرة متّهماً بالكذب والإختلاق علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم عند الصحابة، وعلي رأسهم أميرالمؤمنين عليه السلام، وكان عمر وعثمان وعائشة أيضاً من الطاعنين عليه، قال ابن قتيبة- في بحثٍ له مع بعضهم:

«فأمّا طعنه علي أبي هريرة بتكذيب عمر وعثمان وعلي وعائشة له، فإنّ أباهريرة صحب رسول اللَّه نحواً من ثلاث سنينٍ، وأكثر الرواية عنه، وعمَّر بعده نحواً من خمسين سنة، وكانت وفاته سنة تسع وخمسين … فلمّا أتي من الرواية عنه صلّي اللَّه عليه وسلّم بما لم يأتِ بمثله من صحبه من أجلّة أصحابه والسابقين الأوّلين إليه، اتّهموه وأنكروا عليه وقالوا: كيف سمعت هذا وحدك؟

ومن سمعه معك؟ وكانت عائشة أشدّهم إنكاراً عليه لتطاول الأيّام بها وبه، وكان عمر أيضاً شديداً علي من أكثر الرواية» «2».

والمؤيّدات لما أفاده ابن قتيبة في كتب القوم كثيرة، ومن ذلك: قول الشمس الخلخالي بشرح الحديث عن أبي هريرة:

«قوله: إنّكم تقولون. الخطاب للصحابة، أكثر أبو هريرة عن النبي. أي:

أكثر الرواية عنه عليه السلام، واللَّه الموعد:

أي: لقاء اللَّه موعدنا يعني مرجعنا.

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 3: 437- 438.

(2) تأويل مختلف الحديث: 41.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 184

يعني به يوم القيامة، فيظهر عنده صدق الصادق وكذب الكاذب لا محالة، لأنّ الأسرار تنكشف هنالك» «1».

فالقائلون والمتكلّمون في إكثار أبي هريرة هم «الصحابة» وقد كانوا يتّهمونه بالكذب، وفي يوم القيامة يظهر الصادق والكاذب!

وقول القاري في (المرقاة) بشرحه كذلك:

«وعنه- أي عن أبي هريرة- قال: إنّكم، أي معشر التابعين، وقيل:

الخطاب مع الصحابة المتأخرين، تقولون: أكثر أبو هريرة، أي الرواية عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، واللَّه الموعد، أي موعدنا، فيظهر عنده صدق الصادق وكذب الكاذب، لأنّ الأسرار تنكشف هنالك. وقال الطّيبي: أي: لقاء اللَّه الموعد، أي موعدنا يوم القيامة، فهو يحاسبني علي ما أزيد أو أنقص، لاسيّما علي رسول اللَّه، وقد قال: من كذب عليَّ متعمّداً فليتبوّء مقعده من النّار» «2».

والحاصل: إنّ الصّحابة والتابعين كانوا يكذّبون أباهريرة، ولا يصدّقونه في روايته، ولا يعتمدون عليه ولا يأخذون بها، كما سيأتي عن عائشة.

وفي (الجمع بين الصحيحين) عن أبي رزين قال:

«خرج إلينا أبو هريرة، فضرب بيده علي جبهته فقال: ألا، إنّكم تحدّثون أنّي أكذب علي رسول اللَّه … » «3».

وفي هذا دليل واضح علي أنّه كان في نظر القوم مفترياً علي رسول اللَّه …

__________________________________________________

(1) المفاتيح في شرح المصابيح- مخطوط.

(2) المرقاة في شرح المشكاة 5: 458.

(3) الجمع بين الصحيحين 3: 123/ 2333.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 185

وأمّا ما أشار إليه ابن قتيبة من ردود عائشة عليه، وأنّه قد طال ذلك بينهما، فإنّ موارد ردّها عليه كثيرة، يجدها المتتبّع في كتب القوم.

تكذيب عائشة أباهريرة … ص: 185

من ذلك: حديثه عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «قال: من لم يوتر فلا

صلاة له، فبلغ ذلك عائشة فقالت: ج و ج من سمع هذا من أبي القاسم؟ ج واللَّه ج ما بعد العهد وما نسيت، … » «1».

ومن ذلك: حديثه في شرّ الثلاثة:

«ولمّا سمعت أباهريرة يروي أنّ ولد الزنا شرّ الثلاثة قالت: كيف يصحّ هذا؟ وقد قال اللَّه تعالي: «ولا تزر وازرة وزر اخري» «2».

«وروي أنّ عائشة قالت لابن اختها: ألا تعجب من كثرة رواية هذا الرجل، ورسول اللَّه حدّث بأحاديث لو عدّها عادٌّ لأحصاها» «3».

وهذا الحديث أبطله ابن عمر أيضاً، والغالب علي الظنّ أنّهم يريدون بذلك الحماية عن أسلافهم وأكابرهم … فلا تغفل!! ففي (كنز العمّال):

«عن ميمون بن مهران: إنّه شهد ابن عمر صلّي علي ولد الزنا، فقيل له:

إنّ أبا هريرة لم يصلّ عليه وقال: هو شرّ الثلاثة، فقال ابن عمر: هو خير الثلاثة» «4».

ومن ذلك: حديثه إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمسنّ يده في __________________________________________________

(1) المعجم الأوسط 4: 393/ 4012.

(2) سورة الانعام 6: 124.

(3) الاصول لشمس الأئمّة السرخسي 1: 340- 341.

(4) كنز العمّال 5: 461/ 13617 و 11: 85/ 30716.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 186

الإناء، فقد أبطلته عائشة ووافقها ابن عبّاس «1».

ومن ذلك: حديثه في المشي في خفٍّ واحد، فقد روي ابن أبي شيبة، عن ابن عيينة، عن عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه: «إنّ عائشة كانت تمشي في خفٍّ واحدٍ وتقول: لُاخيفنَّ أبا هريرة» «2».

فإنّ هذا تكذيب منها لأبي هريرة، ولا معني له سوي ذلك، لأنّه قد ادّعي سماع النهي عن المشي في خفٍّ واحدٍ عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، فقد جاء في (الجمع بين الصحيحين):

«عن أبي هريرة: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: لا يمشي أحدكم في

نعلٍ واحدٍ، لينعلهما أو ليخلعهما جميعاً. وفي رواية القعنبي:

ليحفهما جميعاً أو لينعلهما جميعاً.

وأخرجه مسلم من حديث الأعمش عن أبي رزين قال: خرج إلينا أبو هريرة، فضرب بيده إلي جبهته فقال: ألا إنّكم تحدّثون أنّي أكذب علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم لتهتدوا وأضل، ألا وإنّي أشهد لسمعت رسول اللَّه يقول: إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمشي في الاخري حتّي يصلحها» «3».

فهو يؤكّد علي أنّه قد سمع من رسول اللَّه ذلك … وقد كذّبته عائشة، لأنّ من قال سمعته يقول كذا وكذا لا يتطرَّق إليه إلّاالتكذيب، وهذا ما نصّ عليه ابن القيّم حيث قال: «ومعلوم قطعاً، أنّ تطرّق التكذيب إلي من قال سمعته يقول كذا وكذا أو أنّه لم يسمعه، فإنّ هذا لا يتطرّق إليه إلّاالتكذيب، بخلاف __________________________________________________

(1) شرح العضدي علي مختصر ابن الحاجب 1: 184.

(2) المصنّف لابن أبي شيبة 8: 229/ 4982 الباب 846.

(3) الجمع بين الصحيحين 3: 123/ 2333.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 187

خبر من أخبر عمّا ظنّه من فعله وكان واهماً، فإنّه لا ينسب إلي الكذب. وقد نزّه اللَّه عليّاً وأنساً والبراء وحفصة عن أن يقولوا سمعناه يقول كذا ولم يسمعوه» «1».

ولتكنْ هذه الإفادة من ابن القيّم منك علي ذكر، فإنّها تفيد فائدةً عظيمةً في مواقع شتّي، ثبت فيها ردّ بعض الصحابة علي بعض فيما رووه من الأحاديث، وادّعوا سماعه من النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم.

ومن ذلك: حديثه: الشؤم في ثلاثة … إذ كذّبته عائشة وغضبت علي أبي هريرة بشدّة، قال أبو زرعة ولي الدين العراقي في (شرح الأحكام):

«الثالثة: اختلف النّاس في هذا الحديث علي أقوال، أحدها: إنكاره، وإنّه عليه الصّلاة والسّلام إنّما حكاه عن معتقد أهل الجاهليّة. رواه ابن

عبدالبر في التمهيد عن عائشة رضي اللَّه عنها، أنّها أخبرت أنّ أباهريرة رضي اللَّه عنه يحدّث بذلك عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، فطارت شقّة منها في السماء وشقّه في الأرض، ثمّ قالت: كذب والذي أنزل الفرقان علي أبي القاسم، من حدّث عنه بهذا؟ ولكن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم كان يقول: كان أهل الجاهليّة يقولون: الطيرة في المرأة والدّار والدّابّة، ثمّ قرأت عائشة: «ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلّافي كتاب من قبل أن نبرأها إنّ ذلك علي اللَّه يسير»».

فانظروا معاشر المتسنّنين- صانكم اللَّه من التعصّب المهين- إلي امّكم الصدّيقة، التي ترون أنّ خاتم النبيّين صلوات اللَّه وسلامه عليه وآله أجمعين،

__________________________________________________

(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 1: 185 ما جاء عنه في الحج والعمرة، فصلٌ في أعذار الذين وهموا في صفة حجّته.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 188

قد أمر صحابته- فضلًا عن غيرهم- بأن يأخذوا عنها شطر الدين، وتزعمون أنّ الفاسق عنها والمعرض بها والطاعن عليها من الهالكين المعاندين والخاسرين الجاحدين، كيف ألقت جلباب الإستتار والخفاء عن انهماك أبي هريرة في الكذب والإفتراء، حيث أبانت أنّه قد افتري علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم حديث أهل الجاهليّة الفجار، وعزي إليه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم ما هو من مقولات الكفّار وترّهات الأشرار، وصرّحت رافعة عقيرتها بأنّه كذب، وهل بعد ذلك التصريح الصريح مجال لريبة مرتاب، أو فسحة لتأويل معاند كذّاب؟ لا، بل لو طاروا إلي السماء وغاروا في الغبراء، وقاموا وقعدوا، وتفيّروا وتربّدوا، لما وجدوا حيلة، ولما ألفوا إلي الخلاص وسيلة، وما زادهم التعمّق والتفكّر إلّاانزعاجاً، وما أورثهم الجدّ والجهد في التبرئة إلّااختلاجاً.

وهذا الحديث رواه ابن

قتيبة أيضاً، قال:

«حدّثني محمّد بن يحيي القطيعي قال: حدّثنا عبدالأعلي، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي حسّان الأعرج: إنّ رجلين دخلا علي عائشة رضي اللَّه عنها فقالا: إنّ أباهريرة يحدّث عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّه قال: إنّما الطيرة في المرأة والدابّة والدار، فطارت شققاً ثمّ قالت: كذب والذي أنزل القرآن علي أبي القاسم، من حدّث بهذا عن رسول اللَّه؟ إنّما قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: كان أهل الجاهليّة يقولون: إنّ الطيرة في الدابّة والمرأة والدار، ثمّ قرأت «ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلّافي كتاب من قبل أن نبرأها» «1».

__________________________________________________

(1) تأويل مختلف الحديث: 98.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 189

تحريف معني الحديث … ص: 189

ومنهم من تأوّل هذا الحديث تأويلًا عجيباً، وحرّفه تحريفاً معنويّاً، إذ حمل «الكذب» علي «الغلط»، فقد قال أبو زرعة بعد العبارة السابقة: (قال ابن عبدالبر: و «كذب» في كلامها بمعني «غلط») وهو مردود بوجوه:

الأوّل: إنّه لم يأت له بشاهدٍ من الكتاب والسنّة، وكلمات الفصحاء، وأئمّة اللغة الثقات.

والثاني: إنّه خلاف المتبادر من لفظ «الكذب»، فلو ثبت استعماله بمعني «الغلط» فهو مجاز.

والثالث: إنّه خلاف السّياق، لأنّ «الغلط» من المجتهد مأجور عليه، فضلًا عن أن يستوجب الغضب والسّخط، لكنّ عائشة لمّا سمعت هذا عن أبي هريرة طارت شقّة منها في السماء وشقّة في الأرض، وهذا لا يتناسب مع «الخطأ» و «الغلط» الذي لم يخلُ منه عائشة أيضاً.

وفي (فتح الباري):

«روي أحمد وابن خزيمة والحاكم من طريق قتادة عن أبي حسان: إنّ رجلين من بني عامر دخلا علي عائشة فقالا: إنّ أباهريرة قال: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: الطيرة في الفرس والمرأة والدار. فغضبت غضباً شديداً وقالت: ما

قاله، وإنّما قال: إنّ أهل الجاهليّة كانوا يتطيّرون من ذلك» «1».

__________________________________________________

(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 6: 47.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 190

تكذيب عمر أباهريرة … ص: 190

وعمر بن الخطّاب أيضاً ممّن كذّب أباهريرة، بل أوعده وهدّده، قال السرخسي في كتاب (الاصول):

«ولمّا بلغ عمر أنّ أباهريرة يروي ما لا يعرف قال: لتكفّنّ عن هذا أو لألحقنّك بجبال دوس» «1».

وفي (كنز العمّال):

«عن السائب بن يزيد قال: سمعت عمر بن الخطّاب يقول لأبي هريرة:

لتتركنّ الحديث عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أو لألحقنّك بأرض دوس. وقال لكعب: لتتركنّ الحديث أو لألحقنّك بأرض القردة. كر» «2».

فلولم يكن أبو هريرة يستحقُّ هذا التهديد والتحقير لكان عمر ظالماً جائراً، ولو كان أبو هريرة صادقاً في إخباراته ورواياته عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، لكان عمر مانعاً من إشاعة أقوال النبي وإرشاداته وأحكام الشّريعة وآدابها … وهذا ما لا تحتمله نفوس القوم.

عزله عن البحرين وهتكه … ص: 190

وأيضاً، فقد عزله عن البحرين، ونسبه إلي السرقة، وهتك ناموسه وفضحه علي رؤوس الأشهاد … قال الزمخشري في (الفائق):

«أبوهريرة: استعمله عمر علي البحرين، فلمّا قدم عليه قال له: يا عدوّ

__________________________________________________

(1) الاصول للسرخسي 1: 341.

(2) كنز العمّال 10: 291/ 29472.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 191

اللَّه وعدوّ رسوله، سرقت من مال اللَّه؟! فقال: لست بعدوّ اللَّه ولا عدوّ رسوله، ولكنّي عدوّ من عاداهما، وما سرقت ولكنّها سهام اجتمعت ونتاج خيل. فأخذ منه عشرة آلاف درهم، فألقاها في بيت المال، ثمّ دعاه إلي العمل فأبي فقال عمر: فإنّ يوسف قد سأل العمل، فقال: إنّ يوسف منّي بري ء وأنا منه براء، وأخاف ثلاثاً واثنتين. قال: أفلا تقول خمساً؟ قال: أخاف أنْ أقول بغير حكم، وأقضي بغير علم، وأخاف أنْ يضرب ظهري، ويشتم عرضي، وأن يؤخذ مالي» «1».

فكان أبو هريرة- في رأي عمر- يستحقّ العزل والإهانة والهتك ومصادرة الأموال، حتّي خاطبه ب «عدوّ اللَّه وعدوّ رسوله»،

ومن كان هذا حاله في نظر خليفتهم، كيف يكون أهلًا لأنْ يؤخذ منه معالم الدين من التفسير وغيره؟

أبو هريرة عند أبي حنيفة … ص: 191

وكان أبو هريرة مطعوناً عند أبي حنيفة أيضاً، كما جاء في (روضة العلماء) في بيان وجه ترك أبي حنيفة روايات أبي هريرة وسمرة وأنس، حيث قال نقلًا عن أبي جعفر الهندواني:

«أمّا أبو هريرة، فإنّه روي عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّه قال:

من أصبح جنباً فلا صوم له، قالت عائشة رضي اللَّه عنها: أخطأ أبو هريرة، لأنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم كان يصبح جنباً من غير احتلام، ثمّ يتمّ صومه وذلك في رمضان، قال أبو هريرة: هي أعلم، كنت سمعته من الفضل بن __________________________________________________

(1) الفائق في غريب الحديث 1: 102.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 192

عبّاس، والفضل كان يومئذٍ ميّتاً، فقد أحال خبره إلي الميّت، فصار مطعوناً» «1».

وأورده الكفوي في (كتائب الأعلام) كذلك …

وفيه- نقلًا عن الصدر الشهيد- في وجه عدم تقليد أبي حنيفة أباهريرة:

«وأمّا أبو هريرة، كان يروي كلّ ما بلغه وسمع، من غير تأمّل في المعني» «2».

أبو هريرة عند عيسي بن أبان … ص: 192

وفي (روضة العلماء) أيضاً:

«وقال عيسي بن أبان: اقلّد أقاويل جميع الصحابة إلّاثلاثة منهم: أبو هريرة ووابصة بن معبد وأبو سنابل بن بعل» «3».

فلماذا يخالف حنفيّة اليوم إمامهم في آرائه وفتاواه «4»؟ مع أنّ المستفاد من الكتب اتّباع السابقين منهم له في الطعن في أبي هريرة، ففي (المحلّي) في مسألة الخيار:

«وأمّا احتجاج أبي حنيفة بحديث المصراة، فطامّة من طوام الدهر، وهو أوّل مخالف له وزارٍ عليه وطاعن فيه، ومخالف كلّ ما فيه، فمرّةً يجعله ذو التورّع منهم منسوخاً بتحريم الربا، وكذبوا في ذلك، ما للربا هاهنا مدخل، ومرّةً يجعلونه كذباً ويعرّضون بأبي هريرة، واللَّه تعالي يخزيهم ج يجزيهم ج بذلك في الدنيا والاخري، وهم أهل الكذب لا الفاضل البرّ أبو هريرة رضي اللَّه __________________________________________________

(1)

روضة العلماء- مخطوط.

(2) كتائب أعلام الأخيار- مخطوط.

(3) روضة العلماء- مخطوط.

(4) وهو: فقيه العراق، تلميذ محمد بن الحسن، وقاضي البصرة، توفي سنة 221 كذا في سير أعلام النبلاء 10: 440، وتوجد ترجمته في تاريخ بغداد 11: 157 والجواهر المضيّة في طبقات الحنفيّة 1: 401 وغيرهما.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 193

عنه وعن جميع الصحابة، وكبّ الطاعن علي أحدٍ منهم لوجهه ومنخريه» «1».

فإنّ ظاهر هذا الكلام متابعة الحنفيّة لإمامهم في رأيه حول أبي هريرة، حتّي دعا عليهم ابن حزم وتكلّم فيهم …

ويستفاد ذلك أيضاً من كلام الفخر الرازي في رسالته في (مناقب الشافعي) إذ قال:

«وأمّا أصحاب الرأي، فإنّ أمرهم في باب الخبر والقياس عجيب، فتارةً يرجّحون القياس علي الخبر، وتارةً بالعكس. أمّا الأوّل فهو إنّ مذهبنا أنّ التصرية سبب مثبت للردّ، وعندهم ليس كذلك. ودليلنا: ما اخرج في الصحيحين عن أبي هريرة …

واعلم أنّ الخصوم لمّا لم يجدوا لهذا الخبر تأويلًا البتّة- بسبب أنّه مفسّر في محلّ الخلاف- اضطرّوا إلي أن يطعنوا في أبي هريرة وقالوا: إنّه كان متساهلًا في الرواية، وما كان فقيهاً … ».

فإنّ المراد من أصحاب الرأي هم الحنفيّة كما هو واضح.

ويستفاد أيضاً من كلام ابن حجر في (فتح الباري):

«قال الحنابلة: واعتذر الحنفيّة عن الأخذ بحديث المصراة بأعذار شتّي، فمنهم من طعن في الحديث، لكونه من رواية أبي هريرة، ولم يكن كابن مسعود وغيره من فقهاء الصّحابة، فلا يؤخذ بما رواه مخالفاً للقياس الجلي، وهو كلام آذي قائله به نفسه، وفي حكايته غنيً عن تكلّف الردّ عليه … وقال ابن السمعاني في الإصطلام: التعرّض إلي جانب الصحابة علامة علي خذلان __________________________________________________

(1) المحلّي في الفقه 8: 372.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 194

فاعله، بل

هو بدعة وضلالة … » «1».

أبو هريرة عند محمّد بن الحسن … ص: 194

وأبو هريرة مطعون عند محمّد بن الحسن الشيباني أيضاً، قال ابن حزم في (المحلّي) في مسألة أحقّيّة البائع بالمتاع إذا أفلس:

«روينا من طريق أبي عبيد أنّه ناظر في هذه المسألة محمّد بن الحسن، فلم يجد عنده أكثر من أنْ قال: هذا من حديث أبي هريرة.

قال أبو علي: نعم، هو- واللَّه- من حديث أبي هريرة البرّ الصّادق، لا من حديث مثل محمّد بن الحسن الذي قيل لعبداللَّه بن المبارك: من أفقه أبو يوسف أو محمّد بن الحسن؟ فقال: قل: أيّهما أكذب» «2».

__________________________________________________

(1) فتح الباري 4: 290 كتاب البيوع.

(2) المحلّي في الفقه 8: 178- 179.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 195

عبداللَّه بن عمر … ص: 195
اشارة

وأمّا عبداللَّه بن عمر، فإنّ من يقرأ سيرته يشهد بكونه من المنحرفين عن أميرالمؤمنين وأهل البيت الطّاهرين عليهم السلام وله مساوئ غير ذلك.

إباؤه عن البيعة لأميرالمؤمنين … ص: 195

فأوّل ما يجده هو امتناعه عن البيعة لأميرالمؤمنين عليه السلام بعد مقتل عثمان بن عفّان، وقد بايعه جمهور المسلمين إلّامن شذّ، وقد جاء في الأخبار أنّ بعضهم قد ندم بعد ذلك، ولات حين مندم! ومن هؤلاء عبداللَّه بن عمر …

فإنّه روي ابن عبدالبر وابن الأثير وغيرهما بترجمته بأسانيدهم، عن حبيب بن أبي ثابت وعن غيره قال: «قال ابن عمر حين حضره الموت: ما أجد في نفسي من الدنيا إلّاأنّي لم اقاتل الفئة الباغية مع علي» «1».

وقد نصّ ابن حجر في (فتح الباري) علي إباء ابن عمر عن البيعة مع الإمام عليه السلام، وستسمع عبارته.

وقال سبط ابن الجوزي في (تذكرة خواصّ الامّة):

«قال ابن جرير: وممّن امتنع من بيعته: حسان بن ثابت، وأبو سعيد الخدري، والنعمان بن بشير، ورافع بن خديج، في آخرين. وفي زيد بن ثابت ومحمّد بن مسلمة خلاف. وقال غير ابن جرير: لم يبايعه قدامة بن مظعون __________________________________________________

(1) الإستيعاب 3: 953.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 196

وعبداللَّه بن سلام والمغيرة بن شعبة وعبداللَّه بن عمر وسعد وصهيب وزيد بن ثابت واسامة بن زيد وكعب بن مالك. وهرب قوم إلي الشام وهؤلاء يسمّون العثمانيّة» «1».

بيعته ليزيد بن معاوية … ص: 196

لكن ابن عمر بايع يزيد بن معاوية، كما في كتابي (البخاري) و (مسلم) «2» وغيرهما من مصادر الحديث والتاريخ … بل لقد دافع عن ذلك وحمل أهله وولده والناس علي البيعة … وإذا ثبت أنّه قد بايع ليزيد، فقد ثبت كفره بلا ريب، لأنّ الرضا بإمام باطل كفر، كما نصّ عليه أئمّة القوم … قال أبو شكور محمّد بن عبدالسعيد الكشفي الحنفي في (التمهيد في بيان التوحيد):

«ثمّ كلّ سؤال من جهة الخصم يكون مردوداً، لموافقة علي لأبي بكر، لأنّه وإنْ

لم يبايعه فسكت ولم يخالفه، وقد بيّنّا أنّه بايعه بدليل ما ذكرنا، ولو لم يصحّ خلافة أبي بكر لا يكون إماماً حقّاً، لكان لا يجوز السكوت به والإغماض عنه، لأنّ من رضي بإمام باطلٍ فإنّه يكفر».

هذا، وقد دافع بعض علماء الهند عن ابن عمر، بحمل بيعته ليزيد علي التقيّة والإضطرار، لكنّهم غفلوا عمّا شنّع به أكابر طائفتهم علي أهل الحق للقول بالتقيّة والعمل بها … لاسيّما في مقابلة القول بأنّ بيعة أميرالمؤمنين وأصحابه مع المشايخ كانت عن تقيّةٍ واضطرار، فكيف يصحّ مع هذا حمل __________________________________________________

(1) تذكرة خواص الامّة: 61.

(2) صحيح البخاري 9: 72 كتاب الفتن- باب إذا قال عند قوم شيئاً ثمّ خرج فقال بخلافه، صحيح مسلم 3: 1478/ 1851 كتاب الإمارة الباب 13.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 197

بيعة ابن عمر مع يزيد علي التقيّة؟

وممّا يشهد بعدم كون بيعة عبداللَّه بن عمر هذه عن تقيةٍ: تعجّب الزهري من ذلك، فيما رواه عنه سبط ابن الجوزي حيث قال: «قال الزهري:

والعجب أنّ عبداللَّه بن عمر وسعد بن أبي وقّاص لم يبايعا عليّاً، وبايعا يزيد ابن معاوية» «1».

ومن هنا، نجد أنّ بعض علماء الهند لمّا رأي ركاكة هذا العذر، التجأ إلي إنكار البيعة من أصلها … لكنّ بيعته له من الامور الثابتة غير القابلة للنفي والإنكار … كما أنّ موقفه من أهل المدينة وخلعهم يزيد بن معاوية مشهور ثابت:

قال ابن الملقّن في (شرح البخاري):

«بابٌ: إذا قال عند قوم شيئاً ثمّ خرج فقال بخلافه: الشرح: معني الترجمة إنّما هو في خلع أهل المدينة ليزيد بن معاوية، ورجوعهم عن بيعته وما قالوا له، وقالوا بغير حضرته خلاف ما قالوا بحضرته، وذلك أنّ ابن عمر بايعه فقال عنده بالطاعة بخلافته،

ثمّ خشي علي بنيه وحشمه النكث مع أهل المدينة، حيث نكثوا بيعة يزيد، فوعظهم وجمعهم وأخبرهم أنّ النكث أعظم الغدر» «2».

وقال ابن حجر بشرحه:

«ووقع عند الإسماعيلي من طرق مؤمل بن إسماعيل، عن حمّاد بن زيد، في أوّله من الزيادة، عن نافع: أنّ معاوية أراد ابن عمر علي أن يبايع __________________________________________________

(1) تذكرة خواص الامّة: 61.

(2) شرح صحيح البخاري- كتاب الفتن، باب: إذا قال عند قوم شيئاً …

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 198

ليزيد، فأبي وقال: لا ابايع لأميرين، فأرسل إليه معاوية بمائة ألف درهم فأخذها، فدّس إليه رجلًا فقال له: ما يمنعك أن تبايع؟ فقال: إنّ ذاك لذاك، يعني عطاء ذلك المال لأجل وقوع المبايعة، إنّ ديني عندي إذاً لرخيص، فلمّا مات معاوية كتب ابن عمر إلي يزيد ببيعته، فلمّا خلع أهل المدينة، فذكره … » «1».

وقال ابن حجر في «باب ما كان من أصحاب النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم يواسي بعضهم بعضاً في الزراعة والثمرة» من كتاب المزارعة في شرح حديث نافع: «إنّ ابن عمر كان يكري مزارعه علي عهد النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم وأبي بكر وعمر وعثمان وصدراً من إمارة معاوية»:

«قوله: وصدراً من إمارة معاوية، أي خلافته، وإنّما لم يذكر ابن عمر خلافة عليّ، لأنّه لم يبايعه، لوقوع الاختلاف عليه، كما هو مشهور في صحيح الأخبار، وكان رأي ابن عمر أن لا يبايع لمن لم يجتمع عليه الناس، ولهذا لم يبايع أيضاً لابن الزبير ولا لعبدالملك، في حال اختلافهما، وبايع ليزيد بن معاوية، ثمّ لعبدالملك بن مروان بعد قتل ابن الزبير» «2».

وقال الشهاب القسطلاني:

«عن نافع مولي ابن عمر أنّه قال: لمّا خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية، وكان ابن عمر لمّا مات معاوية

كتب إلي يزيد ببيعته … » «3».

ثمّ إنّهم رووا عن ابن عمر أنّه مدح يزيد في جمعٍ من خلفائهم وقال:

__________________________________________________

(1) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 13: 59.

(2) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 5: 19.

(3) ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري 10: 199.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 199

«كلّهم صالح لا يوجد مثله» … ومن رواته السيوطي في (تاريخ الخلفاء) وهذه عبارته:

«أخرج ابن عساكر عن عبداللَّه بن عمر قال: أبوبكر الصدّيق أصبتم اسمه، عمر الفاروق قرن من حديد أصبتم اسمه، ابن عفّان ذوالنّورين قتل مظلوماً يؤتي كفلين من الرّحمة، معاوية وابنه ملكا الأرض المقدّسة، والسّفاح وسلام ومنصور وجابر والمهدي والأمين وأمير العصب، كلّهم من بني كعب ابن لؤي، كلّهم صالح لا يوجد مثله. قال الذهبي: له طرق عن ابن عمر، ولم يرفعه أحد» «1».

فمن العجيب جدّاً، أنْ يمتنع ابن عمر عن البيعة لأميرالمؤمنين، ثمّ يبايع يزيد ويمدحه بمثل هذا الكلام؟

بل إنّه كان لا يربّع بالإمام عليه السّلام، كما هو ظاهر الحديث المتقدّم وصريح الحديث في (كنز العمّال) قال:

«عن عبداللَّه بن عمر قال: يكون علي هذه الامّة إثنا عشر خليفة: أبوبكر الصدّيق أصبتم اسمه، عمر الفاروق قرن من حديد أصبتم اسمه، عثمان بن عفّان ذوالنّورين قتل مظلوماً اوتي كفلين من الرحمة، ملك الأرض المقدّسة معاوية وابنه، ثمّ يكون السفّاح والمنصور وجابر والأمين وسلام وأمير العصب، لا يُري مثله ولا يدري مثله، كلّهم من بني كعب بن لؤي … ».

هذا، ولا يخفي أنّه في بعض نسخ (الكتابين المذكورين) نقل هذا الكلام عن «عبداللَّه بن عمرو» بدلًا عن «عبداللَّه بن عمر» «2»، وسواء كان قائل __________________________________________________

(1) تاريخ الخلفاء: 167- 168.

(2) كنز العمّال 11: 252/ 31421.

استخراج المرام

من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 200

هذا الكلام ابن عمر أو ابن عمرو بن العاص أو كلاهما، فإنّه يدلُّ علي كفر قائله وضلاله.

ابن عمر في نظر عائشة … ص: 200

وقد أكثرت عائشة من الردّ علي عبداللَّه بن عمر، وأبطلت قوله في مسائل عديدة، فقد أخرج مسلم في (الصحيح) قال:

«حدّثني هارون بن عبداللَّه، أخبرنا محمّد بن بكر البرساني، أخبرنا ابن جريج قال: سمعت عطاء يخبر قال: أخبرني عروة بن الزبير قال: كنت أنا وابن عمر مستندين إلي حجرة عائشة، وإنّا لنسمع ضربها بالسواك تستن.

قال: فقلت: يا أباعبدالرحمن! اعتمر النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم في رجب؟

قال: نعم.

فقلت لعائشة: يا امتاه! ألا تسمعين ما يقول أبو عبدالرحمان؟

قالت: وما يقول؟

قلت: يقول: اعتمر النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم في رجب.

فقالت: يغفر اللَّه لأبي عبدالرحمن، لعمري ما اعتمر في رجب، وما اعتمر من عمرة إلّاوإنّه لمعه. قال: وابن عمر يسمع، فما قال لا ولا نعم، سكت» «1».

وقال ابن القيّم في (زاد المعاد):

«أمّا عذر من قال: اعتمر في رجب، فحديث عبداللَّه بن عمر: أنّ النبي __________________________________________________

(1) صحيح مسلم بن الحجاج 2: 916/ 1255 كتاب الحج الباب 35.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 201

صلّي اللَّه عليه وسلّم اعتمر في رجب، متفق عليه، وقد غلّطته عائشة وغيرها كما في الصحيحين عن مجاهد قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبداللَّه بن عمر جالس إلي حجرة عائشة، وإذا ناس يصلّون في المسجد صلاة الضّحي. قال: فسألناه عن صلاتهم، فقال: بدعة. قلنا له: كم اعتمر رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم؟ قال: أربعاً، إحداهنّ في رجب. فكرهنا أن نردّ عليه.

قال: وسمعنا استنان عائشة امّ المؤمنين في الحجرة، فقال عروة: يا امة أو يا ام المؤمنين! ألا تسمعين ما يقول أبو عبدالرحمن؟

قالت:

ما يقول؟

قال: يقول: إنّ رسول اللَّه اعتمر أربع عُمَر، إحداهنّ في رجب.

قالت: يرحم اللَّه أباعبدالرحمان، ما اعتمر ج رسول اللَّه ج عمرة قط إلّا وهو شاهد، وما اعتمر في رجب قط. وكذلك قال أنس وابن عبّاس أنّ عمره كلّها كانت في ذي القعدة، وهذا هو الصواب» «1».

وفي (صحيح البخاري):

«عن مجاهد قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبداللَّه بن عمر جالس إلي حجرة عائشة، وإذا ناس يصلّون في المسجد صلاة الضّحي.

قال: فسألناه عن صلاتهم؟ فقال: بدعة. ثمّ قال له: كم اعتمر رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم؟ قال: أربع، إحداهنّ في رجب. فكرهنا أن نردّ عليه.

قال: وسمعنا استنان عائشة ام المؤمنين في الحجرة، فقال عروة: يا امّاه! يا امّ المؤمنين! ألا تسمعين ما يقول أبو عبدالرحمن؟

قالت: ما يقول؟

__________________________________________________

(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 1: 183- 184.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 202

قال: يقول: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم اعتمر أربع عمرات، إحداهنّ في رجب.

قالت: يرحم اللَّه أباعبدالرحمن، ما اعتمر عمرة إلّاوهو شاهده، وما اعتمر في رجب قط» «1».

وأخرج البخاري ومسلم عن عبداللَّه بن أبي مليكة:

«قال: توفّيت ابنة لعثمان رضي اللَّه عنه بمكّة، وجئنا لنشهدها، وحضرها ابن عمر وابن عبّاس رضي اللَّه عنهم … فقال عبداللَّه بن عمر لعمرو بن عثمان:

ألا تنهي عن البكاء، فإنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: إنّ الميّت ليعذّب ببكاء أهله عليه.

فقال ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما: قد كان عمر يقول بعض ذلك …

فذكرت ذلك لعائشة فقالت: رحم اللَّه عمر، واللَّه ما حدّث رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم إنّ اللَّه ليعذّب المؤمن ببكاء أهله عليه، ولكن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: إنّ

اللَّه ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه.

قال: وقالت عائشة: حسبكم القرآن «ولا تزر وازرة وزرَ اخري».

قال ابن أبي مليكة: واللَّه ما قال ابن عمر شيئاً» «2».

وأخرج الطبراني عن موسي بن طلحة:

«قال: بلغ عائشة أنّ ابن عمر يقول: موت الفجأة سخطة علي المؤمنين.

فقالت ج عائشة ج: يغفر اللَّه لابن عمر، إنّما قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه __________________________________________________

(1) صحيح البخاري 3: 3 أبواب العُمرة- باب كم اعتمر النبي صلّي اللَّه عليه وآله.

(2) صحيح البخاري 2: 101 كتاب الجنائز- باب قول النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم يُعذّب الميّت ببعض بكاء أهله عليه، صحيح مسلم 2: 641/ 928 كتاب الجنائز الباب 9.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 203

وسلّم: موت الفجأة تخفيف علي المؤمنين وسخطة علي الكافرين» «1».

وأخرج أحمد، عن يحيي بن عبدالرحمان، عن ابن عمر، عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم:

«الشهر تسع وعشرون، فذكروا ذلك لعائشة، فقالت: يرحم اللَّه أباعبدالرحمن، إنّما قال الشهر لم ترد يكون تسعاً وعشرين» «2».

وأخرج البخاري عن ابن عمر:

«إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: إنّ بلالًا يؤذّن بليل، فكلوا واشربوا حتّي يؤذّن ابن ام مكتوم» «3».

والبيهقي، عن عروة، عن عائشة:

«قالت: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ ابن امّ مكتوم رجل أعمي، فإذا أذّن فكلوا واشربوا حتّي يؤذّن بلال، وكان بلال يبصر الفجر، وكانت عائشة تقول غلط ابن عمر» «4».

فقال ابن حجر بشرحه:

«جاء عن عائشة أيضاً أنّها كانت تنكر حديث ابن عمر وتقول: إنّه غلط، أخرج ذلك البيهقي، من طريق الدراوردي، عن هشام، عن أبيه عنها.

فذكر الحديث وزاد: قالت عائشة: و كان بلال يبصر الفجر. قال: وكانت عائشة تقول: غلط ابن عمر» «5».

__________________________________________________

(1) المعجم الأوسط 3: 402/ 3150.

(2)

مسند أحمد بن حنبل 7: 77/ 23726.

(3) صحيح البخاري 3: 225 كتاب الشهادات- باب شهادة الأعمي.

(4) سنن البيهقي 1: 382.

(5) فتح الباري 2: 81.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 204

ابن عمر عند سائر الصّحابة … ص: 204

وهكذا، فقد ردّ عليه سائر الصحابة أقواله وأبطلوا آرائه، قال السيوطي في كتاب (الإتقان في علوم القرآن):

«وإنْ عبّر واحد بقوله: نزلت في كذا، وصرّح الآخر بذكر سبب خلافه، فهو المعتمد، وذاك استنباط. مثاله: ما أخرجه البخاري عن ابن عمر قال:

انزلت «نساؤكم حرثٌ لكم» في إتيان النساء في أدبارهنّ، وتقدّم عن جابر التصريح بذكر سبب خلافه، فالمعتمد حديث جابر، لأنّه نقل، وقول ابن عمر استنباط منه، وقد وهّمه فيه ابن عبّاس، وذكر مثل حديث جابر، كما أخرجه أبو داود والحاكم» «1».

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 1: 117.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 205

عبداللَّه بن عمرو بن العاص … ص: 205
اشارة

وأمّا عبداللَّه بن عمرو بن العاص، فتفسيره كان «ممّا يحمله عن أهل الكتاب» كما نصَّ عليه السيوطي، وهذا يكفي للدلالة علي عدم الإعتبار بتفسيره.

وتوضيح ذلك: أنّهم ذكروا أنّه قد حصل في حرب اليرموك علي كتب لأهل الكتاب، فكان ينقل عنها الأخبار الإسرائيليّات ويحدّث بها، ولذا قسّموا الصحابي إلي من أخذ عن الإسرائيليّات ومن لم يأخذ، قال القاري:

«الذي عرف بالنظر في الإسرائيليّات، أي من كتب بني إسرائيل أو من أفواههم … كعبداللَّه بن سلام وكعبداللَّه بن عمرو بن العاص، فإنّه كان حصل له في وقعة اليرموك كتب كثيرة من أهل الكتاب، وكان يخبر بما فيها من الامور المغيَّبة، حتّي كان بعض أصحاب رسول اللَّه ربّما قال: حدّثنا عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، ولا تحدّثنا من الصحيفة. ذكره السخاوي» «1».

وقال اللقاني في (الوطر من نزهة النظر):

«مثال الصحابي الذي لم يأخذ عن الإسرائيليّات: أبوبكر وعمر وعثمان وعلي. ومثال من أخذ: عبداللَّه بن سلام، وقيل: عبداللَّه بن عمرو بن العاص، فإنّه لمّا فتح الشام، أخذ حمل بعير من كتب أهل الكتاب وكان يحدّث منها، فلذا

اتّقاه الناس فقلَّ حديثه، وإنْ كان أكثر حديثاً من أبي هريرة باعترافه،

__________________________________________________

(1) شرح شرح نخبة الفكر: 549.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 206

والمراد بها قصص بني إسرائيل وما جاء في كتبهم».

وعلي الجملة، فالرجل ممّن يُتّقي حديثه … فلا حاجة إلي ذكر سائر مطاعنه … ومع ذلك نذكر شيئاً منها:

خروجه لقتال الإمام في صفّين … ص: 206

ومن أعظم معاصيه، بل من أكبر الأدلّة علي كفره: خروجه لحرب أميرالمؤمنين عليه السلام في صفّين، ثمّ إنشاؤه الأشعار في التبجّح والافتخار بذلك!

فقد أخرج الحاكم في (المستدرك) قال:

«قال له أبوه يوم صفّين: أخرج فقاتل. قال: يا أبتاه، أتأمرني أن أخرج فاقاتل، وقد كان من عهد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ما قد سمعت، قال:

انشدك باللَّه، أتعلم أنّ ما كان من عهد رسول اللَّه إليك أنّه أخذ بيدك فوضعها في يدي فقال: أطع أباك عمرو بن العاص؟ قال: نعم، قال: فإنّي آمرك أن تقاتل، قال: فخرج يقاتل، فلمّا وضعت الحرب، قال عبداللَّه:

لو شهدت جمل مقامي ومشهدي بصفّين يوم شاب منها الذوائب عشيّة جاء أهل العراق كأنّهم سحاب ربيع زعزعته الجنائب إذا قلت قد ولّوا سراعاً ثبتت لنا كتائب منهم وارجحنّت كتائب فقالوا لنا إنّا نري أن تبايعوا عليّاً فقلنا بل نري أنْ تضاربوا» «1»

وقال ابن الأثير في (اسد الغابة):

«وكانت معه راية أبيه يوم اليرموك، وشهد معه أيضاً صفّين، وكان علي __________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 3: 527 كتاب معرفة الصحابة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 207

الميمنة، قال له أبوه: يا عبداللَّه، اخرج فقاتل.

فقال: يا أبتاه أتأمرني أنْ أخرج فاقاتل، وقد سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يعهد إليَّ ما عهد؟ قال: إنّي انشدك اللَّه يا عبداللَّه، ألم يكن آخر ما عهد إليك رسول اللَّه

صلّي اللَّه عليه وسلّم أنْ أخذ بيدك ووضعها في يدي وقال: أطع أباك؟

قال: اللّهمّ بلي.

قال: فإنّي أعزم عليك أنْ تخرج فتقاتل.

فخرج وتقلّد سيفين.

وندم بعد ذلك، فكان يقول: مالي ولصفّين، مالي ولقتال المسلمين، لوددت أنّي متُّ قبله بعشرين سنة» «1».

قالوا: ولمّا عرض عمرو بن العاص علي أبي موسي ابنه عبداللَّه بن عمرو، قال أبو موسي: «قد غمست يده في هذه الفتنة، ولا يكون ذلك» «2».

هذا، وقد نصّ بعض علماء القوم علي أنّ محاربة الإمام أميرالمؤمنين من أعظم الكبائر «3».

تكذيب معاوية روايته … ص: 207

والعجب أنّه مع ذلك، يكذّبه معاوية في روايةٍ رواها، ويحذّر الناس من أن يقبلوها، فقد روي البخاري في (الصحيح):

__________________________________________________

(1) اسد الغابة في معرفة الصحابة 3: 246/ 3090.

(2) الفصول المهمّة: 99، تذكرة خواصّ الامّة في معرفة الأئمّة: 97.

(3) التحفة الإثنا عشريّة: 388.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 208

«عن الزهري قال: كان محمّد بن جبير بن مطعمٍ يحدّث أنّه بلغ معاوية- وهو عنده في وفدٍ من قريش- أنّ عبداللَّه بن عمرو بن العاص يحدّث أنّه سيكون ملك من قحطان.

فغضب معاوية، فقام فأثني علي اللَّه بما هو أهله ثمّ قال:

أمّا بعد؛ فإنّه بلغني أنّ رجالًا منكم يتحدّثون أحاديث ليست في كتاب اللَّه، لا تؤثر عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فأولئك جهّالكم، فإيّاكم والأماني التي تضلّ أهلها، فإنّي سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول:

إنّ هذا الأمر في قريش، لا يعاديهم أحد إلّاكبّه اللَّه علي وجهه ما أقاموا الدين» «1».

أقول:

فهذا مجمل أحوال المفسّرين عند القوم من الصحابة.

وإذا ثبت جرحهم، فلا حاجة إلي التكلّم في أحوال أئمّة التفسير منهم في سائر الطبقات، كما هو واضح.

ومع ذلك ننتقل إلي طبقة التابعين …

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 4: 217- 218 كتاب المناقب-

باب مناقب قريش.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 211

طبقة التابعين … ص: 211

اشارة

قال السيوطي:

«ومن ذلك طبقة التابعين.

قال ابن تيميّة: أعلم الناس بالتفسير أهل مكة، لأنّهم أصحاب ابن عبّاس، كمجاهد وعطاء بن أبي رباح وعكرمة مولي ابن عبّاس وسعيد بن جبير وطاووس وغيرهم. وكذلك في الكوفة أصحاب ابن مسعود، وعلماء أهل المدينة في التفسير مثل زيد بن أسلم، الذي أخذ عنه ابنه عبدالرحمان ابن زيد، ومالك بن أنس.

فمن المبرّزين منهم: مجاهد، قال الفضل بن ميمون: سمعت مجاهداً يقول: عرضت القرآن علي ابن عبّاس ثلاثين مرّة.

وعنه أيضاً قال: عرضت المصحف علي ابن عبّاس ثلاث عرضات، أقف عند كلّ آية منه وأسأله عنها، فيم نزلت وكيف كانت.

وقال خصيف: كان أعلمهم بالتفسير مجاهد.

وقال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به.

وقال ابن تيميّة: ولهذا يعتمد علي تفسيره الشافعي والبخاري وغيرهما من أهل العلم.

قلت: وغالب ما أورده الفريابي في تفسيره منه، وما أورده فيه عن ابن عبّاس أو غيره قليل جدّاً.

ومنهم: سعيد بن جبير، قال سفيان الثوري: خذوا التفسير عن أربعة:

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 212

عن سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة والضحاك.

وقال قتادة: كان أعلم التابعين أربعة: كان عطاء بن أبي رباح أعلمهم بالمناسك، وكان سعيد بن جبير أعلمهم بالتفسير، وكان عكرمة أعلمهم بالسير، وكان الحسن أعلمهم بالحلال والحرام.

ومنهم: عكرمة مولي ابن عبّاس، قال الشعبي: ما بقي أحد أعلم بكتاب اللَّه من عكرمة.

وقال سماك بن حرب: سمعت عكرمة يقول: لقد فسّرت مابين اللّوحين.

وقال عكرمة: كان ابن عبّاس يجعل في رجلي الكبل، ويعلّمني القرآن والسنن.

وأخرج ابن أبي حاتم عن سماك قال: قال عكرمة: كلّ شي ء احدّثكم في القرآن فهو عن ابن عبّاس.

ومنهم: الحسن البصري، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء بن أبي

سلمة الخُراساني، ومحمّد بن كعب القرظي، وأبوالعالية، والضحاك بن مزاحم، وعطيّة العوفي، وقتادة، وزيد بن أسلم، ومرّة الهمداني، وأبو مالك.

ويليهم: الربيع بن أنس، وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم، في آخرين.

فهؤلاء قدماء المفسّرين، وغالب أقوالهم تلقّوها عن الصحابة» «1».

__________________________________________________

(1) الاتقان في علوم القرآن 4: 240- 242.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 213

مجاهد … ص: 213

اشارة

أمّا مجاهد، الذي عرفته كما نقل السيوطي، بل نص الذهبي في (ميزان الإعتدال) علي إجماعهم علي إمامته وصحّة الإحتجاج به، وأنّه أحد الأعلام الأثبات، ونقل الشيخ عبدالحق الدهلوي بترجمته في (رجال المشكاة) عنه قوله: «كان ابن عمر يأخذ لي في الركاب ويسوّي عليَّ ثيابي».

تفسيره من أهل الكتاب … ص: 213

فقد أورده الذهبي في (ميزان الإعتدال)، وذكر أنّ ابن حبّان أدرجه في الضعفاء، قال:

«قال أبوبكر ابن عياش: قلت للأعمش: ما بال تفسير مجاهد مخالف، أو شي ء نحوه؟

قال: أخذها من أهل الكتاب» «1».

اشتماله علي المنكرات الشديدة … ص: 213

قال الذهبي:

«ومن أنكر ما جاء عن مجاهد في التفسير، في قوله «عسي أنْ يبعثك __________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 439/ 7072.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 214

ربّك مقاماً محموداً» قال: يجلسه معه علي العرش» «1».

فيا سبحان اللَّه!! هذا حال تفسير أعلم التابعين بعلم التفسير، والتفسير الذي عرض علي ابن عبّاس ثلاثين مرّة!! وإذا كان هذا حاله فما ظنّك بسائر تفاسيرهم؟

نسبته المعصية إلي يوسف عليه السلام … ص: 214

وقال الرازي في (تفسيره) في قصّة يوسف عليه السلام:

«وأمّا الذين نسبوا المعصية إلي يوسف عليه السلام، فقد ذكروا في تفسير ذلك البرهان اموراً:

الأوّل: قالوا: إنّ المرأة قامت إلي صنم مكلّل بالدرّ والياقوت في زاوية البيت فسترته بثوب. فقال يوسف: لِمَ فعلت ذلك؟ قالت: أستحيي من إلهي أنْ يراني علي معصية. فقال يوسف: أتستحين من صنم لا يعقل ولا يسمع، ولا أستحيي من إلهي القائم علي كلّ نفسٍ بما كسبت، فواللَّه لا أفعل ذلك أبداً.

قالوا: فهذا هو البرهان.

الثاني: نقلوا عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما أنّه تمثّل له يعقوب، فرآه عاضّاً علي أصابعه ويقول له: أتعمل عمل الفجّار وأنت مكتوب في زمرة الأنبياء؟ قالوا: فاستحيي منه. وهو قول عكرمة ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير ومقاتل وقتادة والضحّاك وابن سيرين. قال سعيد بن جبير: تمثّل له يعقوب، فضرب في صدره، فخرجت شهوته من أنامله … » «2».

__________________________________________________

(1) تفسير الرازي 18: 120.

(2) تفسير الرازي 18: 120.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 215

وقد نصّ الرازي علي أنّ من نسب المعصية إلي يوسف فهو شرّ من إبليس، لإنّه- بعد أنْ ذكر شهادة اللَّه، وشهادة من شهد ببراءة يوسف، وكذا إقرار إبليس بذلك- قال:

«وعند هذا نقول: هؤلاء الجهّال الذين نسبوا إلي يوسف عليه السلام هذه الفضيحة، إنْ كانوا من أتباع

دين اللَّه تعالي، فليقبلوا شهادة اللَّه تعالي علي طهارته، وإنْ كانوا من أتباع إبليس وجنوده، فليقبلوا شهادة إبليس علي طهارته، ولعلّهم يقولون: كنّا في أوّل الأمر تلامذة إبليس، إلي أنْ تخرّجنا عليه، فزدنا عليه في السفاهة … » «1».

__________________________________________________

(1) تفسير الرازي 18: 117.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 216

عكرمة مولي ابن عبّاس … ص: 216
اشارة

وأمّا عكرمة، فإنّهم وإنْ ذكروا له محامد كثيرة ومناقب عالية، حتّي نقلوا عن الشعبي: ما بقي أحد أعلم بكتاب اللَّه من عكرمة «1».

وعن سعيد بن جبير: أنّ عكرمة أعلم منه «2».

وعن البخاري وأبي حاتم وغيرهما: أنّه ثقة.

بل رووا عن يحيي بن معين قوله: «إذا رأيت إنساناً يقع في عكرمة وفي حمّاد بن سلمة، فاتّهمه علي الإسلام» «3».

بل عن شهر بن حوشب: «عكرمة حَبْرُ هذه الامّة» «4».

هو من أعلام الخوارج … ص: 216

لكنّ الرجل من أعلام الخوارج وكبار النواصب، وهذا ثابت مشهور عنه وممّا لا ريب فيه لأحدٍ، وقد نصَّ علي ذلك من الأئمّة أمثال: يحيي بن بكير، ومصعب الزبيري، وعطاء، وابن المديني، وأحمد، والحاكم، وأبي بكر الجعابي والرياشي، والذهبي، وابن خلّكان، وياقوت، والكرماني … وغيرهم ممّن __________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 4: 241.

(2) رجال المشكاة للشيخ عبدالحق الدهلوي- ترجمة عكرمة.

(3) تاريخ مدينة دمشق 41: 103/ 4743، تهذيب الكمال 7: 263/ 1482، سيرأعلام النبلاء 5: 31/ 9.

(4) ميزان الاعتدال 3: 93/ 5716.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 217

يطول المقام بذكرهم.

قوادحه كما في ميزان الاعتدال … ص: 217

وله قوادح ومعائب كثيرة أيضاً، ونحن نكتفي بإيراد ترجمته في (ميزان الإعتدال)، لاشتمالها علي طرفٍ من كلمات الأئمّة في ذمّه والطعن فيه:

«عفّان: ثنا وهيب، قال: شهدت يحيي بن سعيد الأنصاري وأيّوب، فذكرا عكرمة فقال يحيي: كذّاب. وقال أيّوب: لم يكن ج بكذّاب ج.

جرير بن يزيد عن يزيد، بن أبي زياد، عن عبداللَّه بن الحرث قال:

دخلت علي علي بن عبداللَّه، فإذا عكرمة في وثاق عند باب الحش، فقلت له:

ألا تتق اللَّه؟ فقال: إنّ هذا الخبيث يكذب علي أبي.

ويروي عن ابن المسيّب أنّه كذّب عكرمة.

الخصيب بن ناصح: ثنا خالد بن خداش: شهدت حمّاد بن زيد- في آخر يوم مات فيه- فقال: احدّثكم بحديث لم احدّث به قط، لأنّي أكره أن ألقي اللَّه ولم احدّث به، سمعت أيّوب يحدّث عن عكرمة قال: إنّما أنزل اللَّه متشابه القرآن ليضلّ به.

قلت: ما أسوءها عبارة بل أخبثها، بل أنزله ليهدي به، وليضلّ به الفاسقين.

فطر بن خليفة: قلت لعطاء: إنّ عكرمة يقول: قال ابن عبّاس: سبق الكتاب الخفّين. فقال: كذب عكرمة، سمعت ابن عبّاس يقول: لا بأس بمسح الخفّين وإن دخلت الغائط. قال عطاء:

واللَّه إن كان بعضهم ليري أنّ المسح علي القدمين يجزي.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 218

إبراهيم بن ميسرة، عن طاووس قال: لو أنّ مولي عبداللَّه بن عبّاس اتّقي اللَّه وكفّ من حديثه، لشدّت إليه المطايا.

مسلم بن إبراهيم: ثنا الصلت أبو شعيب قال: سألت محمّد بن سيرين عن عكرمة فقال: ما يسوءني أن يكون من أهل الجنّة، ولكنّه كذّاب.

إبراهيم بن المنذر: ثنا هشام بن عبداللَّه المخزومي، سمعت ابن أبي ذئب يقول: رأيت عكرمة وكان غير ثقة.

قال محمّد بن سعد: كان عكرمة كثير العلم والحديث، بحراً من البحور، وليس يحتجّ بحديثه، ويتكلّم النّاس فيه.

وقال مطرف بن عبداللَّه: سمعت مالكاً يكره أن يذكر عكرمة، ولا يري أن يروي عنه.

قال أحمد بن حنبل: ما علمت أنّ مالكاً حدّث بشي ء لعكرمة، إلّافي الرجل يطأ امرأته قبل الزيارة، رواه عن ثور عن عكرمة.

أحمد بن أبي خيثمة قال: رأيت في كتاب علي ابن المديني: سمعت يحيي بن سعيد يقول: حدّثوني- واللَّه- عن أيّوب أنّه ذكر له أنّ عكرمة لا يحسن الصلاة، فقال أيّوب: وكان يصلّي؟

الفضل السيناني عن رجل قال: رأيت عكرمة قد اقيم قائماً في لعب النرد.

يزيد بن هارون: قدم عكرمة البصرة، فأتاه أيّوب و يونس و سليمان التيمي فسمع صوت غناء فقال: اسكتوا، ثمّ قال: قاتله اللَّه، لقد أجاد. فأمّا يونس وسليمان فما عادا إليه.

عمرو بن خالد بمصر: حدّثنا خلّاد بن سليمان الحضرمي، عن خالد بن استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 219

أبي عمران قال: كنّا بالمغرب وعندنا عكرمة في وقت الموسم فقال: وددت أنّ بيدي حربة فأعترض بها من شهد الموسم يميناً وشمالًا.

ابن المديني: عن يعقوب الحضرمي، عن جدّه قال: وقف عكرمة علي باب المسجد فقال: ما فيه

إلّاكافر. قال: وكان يري رأي الأباضية.

يحيي بن بكير، قال: قدم عكرمة مصر وهو يريد المغرب. قال:

فالخوارج الذين هم بالمغرب عنه أخذوا.

قال ابن المديني: كان يري رأي نجدة الحروري.

وقال مصعب الزبيري: كان عكرمة يري رأي الخوارج، وادّعي علي ابن عبّاس أنّه كان يري رأي الخوارج.

خالد بن يزيد ج نِزَار ج ثنا عمر بن قيس، عن عطاء بن أبي رباح: أنّ عكرمة كان أباضياً.

أبوطالب: سمعت أحمد بن حنبل يقول: كان عكرمة من أعلم النّاس، ولكنّه كان يري رأي الصفريّة، ولم يدع موضعاً إلّاخرج إليه: خراسان والشام واليمن ومصر وإفريقيّة، كان يأتي الامراء فيطلب جوائزهم، وأتي الجند إلي طاووس فأعطاه ناقة.

وقال مصعب الزبيري: كان عكرمة يري رأي الخوارج، فطلبه متولّي المدينة، فتغيّب عند داود بن الحصين حتّي مات عنده.

وروي سليمان بن معبد السنجي قال: مات عكرمة وكثير عزّة في يوم، فشهد النّاس جنازة كثير، وتركوا جنازة عكرمة.

وقال عبدالعزيز الدراوردي: مات عكرمة وكثير عزّة في يوم، فما شهدهما إلّاسودان المدينة.

إسماعيل بن أبي أويس، عن مالك، عن أبيه قال: اتي بجنازة عكرمة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 220

مولي ابن عبّاس وكثير عزّة بعد العصر، فما علمت أنّ أحداً من أهل المسجد حلّ حبوته إليهما.

قال جماعة: مات سنة خمس ومائة.

وقال الهيثم وغيره: سنة ست.

وقال جماعة: سنة سبع ومائة.

عن ابن المسيّب أنّه قال لمولاه برد: لا تكذب علَيّ كما كذب عكرمة علي ابن عبّاس» «1».

قوادحه كما في معجم الادباء … ص: 220

وقال ياقوت الحموي بترجمة عكرمة من (معجم الادباء):

«ومات- فيما قرأت بخط الصولي من كتاب البلاذري- سنة خمس ومائة، وقيل ست ومائة، وهو ابن ثمانين سنة.

قال: وكان موته وموت كثير عزّة في يوم واحد، فوضعا جميعاً وصلّي عليهما، وكان كثير شيعيّاً وعكرمة يري رأي الخوارج؛ ذكره الحاكم

أبو عبداللَّه محمّد بن عبداللَّه البيّع في تاريخ نيسابور.

وذكر القاضي أبوبكر محمّد بن عمر الجعابي- في كتاب الموالي- عن ابن الكلبي قال: وعكرمة هلك بالمغرب، وكان قد دخل في رأي الحروريّة الخوارج، فخرج يدعو بالمغرب إلي الحروريّة.

أبو علي الأهوازي قال: لمّا توفّي عبداللَّه بن عبّاس، كان عكرمة عبداً مملوكاً، فباعه علي بن عبداللَّه بن عبّاس من خالد بن يزيد بن معاوية بأربعة آلاف دينار، فأتي عكرمة عليّاً فقال له: ما خير لك، أتبيع علم أبيك، فاستقال __________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 94- 97/ 5716.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 221

خالداً فأقاله وأعتقه، وكان يري رأي الخوارج ويميل إلي استماع الغناء. وقيل عنه: إنّه كان يكذب علي مولاه.

وقال عبداللَّه بن الحارث: دخلت علي علي بن عبداللَّه بن عبّاس، وعكرمة موثّق علي باب الكنيف، فقلت: أتفعلون هذا بمولاكم؟ فقال: إنّ هذا يكذب علي أبي.

وقد قال ابن المسيّب لمولاه: لا تكذب علَيّ كما كذب عكرمة علي ابن عبّاس.

وقال يزيد بن هارون: قدم عكرمة مولي ابن عبّاس البصرة، فأتاه أيّوب السختياني وسليمان التيمي ويونس بن عبيد، فبينا هو يحدّثهم، إذ سمع غناء، فقال عكرمة: اسكتوا، فتسمّع ثمّ قال: قاتله اللَّه فلقد أجاد، أو قال: ما أجود ما قال. فأمّا سليمان ويونس فلم يعودا إليه، وعاد إليه أيّوب. فقال يزيد بن هارون: لقد أحسن أيّوب.

الرياشي: عن الأصمعي، عن نافع المدني قال: مات كثير الشاعر وعكرمة في يوم واحد.

قال الرياشي: فحدّثنا ابن سلام: أنّ أكثر النّاس كانوا في جنازة كثير، لأنّ عكرمة كان يري رأي الخوارج، وتطلّبه بعض الولاة، فتغيّب عند داود بن الحصين حتّي مات عنده سنة سبع ومائة في أيّام هشام بن عبدالملك، وهو يومئذٍ ابن ثمانين سنة.

حمّاد بن

زائدة: ثنا عثمان بن مرة قلت للقاسم: إنّ عكرمة مولي ابن عبّاس قال: ثنا ابن عبّاس أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم نهي عن المزفت والمُقَيَّر والدباء والحَنْثَم والجِرَار. فقال: يا ابن أخي! إنّ عكرمة كذّاب، يحدّث استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 222

غدوة حديثاً يخالفه عشيّاً.

يحيي بن بكير: سمعت ابن عمر يقول لنافع: اتّق اللَّه- ويحك يا نافع- ولا تكذب علَيّ كما كذب عكرمة علي ابن عبّاس.

يزيد بن أبي زياد ج عن عبداللَّه بن الحارث ج قال: دخلت علي علي بن عبداللَّه بن عبّاس، وعكرمة مقيّدٌ علي باب الحش، قلت: ما لهذا كذا؟ قال: إنّه يكذب» إنتهي بالإختصار «1».

__________________________________________________

(1) معجم الادباء 12: 182- 190/ 46.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 223

الحسنُ البَصري … ص: 223
اشارة

وأمّا الحسن، فمن أشهر الأئمّة وكبار الفقهاء والمحدّثين عندهم، وقد وصفوه بأعلي المناقب وأجلّ الفضائل، كما لا يخفي علي من راجع (تهذيب الكمال) و (تهذيب التهذيب) وغيرهما من كتب التراجم والرجال.

هو من القدريّة … ص: 223

لكنّه- بناءً علي اصولهم- محكومٌ عليه بالكفر، لأنّه كان لا يري الشرّ بقدرٍ من اللَّه، ومن قال بهذه المقالة فهو عندهم كافر … قال الذهبي في (تذهيب التهذيب):

«روي معمر عن قتادة عن الحسن قال: الخير بقدر والشرّ ليس بقدر.

قلت: هذه اللّفظة أبلغ ما نقل عن الحسن في القدر» «1».

ذم القدريّة في روايات القوم … ص: 223

ولا بأس بإيراد طرفٍ من الروايات الواردة في ذمّ القدريّة:

أخرج الترمذي:

«عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم:

صنفان من امّتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدريّة. وفي الباب __________________________________________________

(1) تذهيب التهذيب- مخطوط. تهذيب التهذيب 2: 236.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 224

عن عمر وابن عمر ورافع بن خديج. هذا حديث حسن غريب» «1».

وأخرج أبو داود:

«عن ابن عمر، عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: القدريّة مجوس هذه الامّة؛ إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم» «2».

وأخرج أيضاً:

«عن حذيفة قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: لكلّ امّة مجوس، ومجوس هذه الامّة الذين يقولون لا قدر؛ من مات منهم فلا تشهدوا جنازته، ومن مرض منهم فلا تعودوهم، وهم شيعة الدجّال، وحقّ علي اللَّه أن يلحقهم بالدجّال» «3».

وفي (التمهيد في بيان التوحيد):

«روي: إنّ رجلًا دخل علي عليّ بن أبي طالب كرّم اللَّه وجهه وقال:

أخبرني عن القدر.

فقال له: طريقٌ مظلم فلا تسلكه.

فسكت ساعة، ثمّ قال له: أخبرني عن القدر.

فقال: بحر عميقٌ لا تَلِجْهُ.

فسكت ساعة، ثمّ قال له: أخبرني عن القدر.

فقال: سرّ اللَّه فلا تُفشِه.

فسكت ساعة، ثمّ قال: أخبرني عن القدر.

__________________________________________________

(1) صحيح الترمذي 4: 454/ 2149 كتاب القدر الباب 13.

(2) سنن أبي داود 5: 46/ 4691 كتاب السنة الباب 17.

(3) سنن أبي داود 5: 46/ 4692 كتاب السنة الباب 17.

استخراج المرام

من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 225

فبدأ علي رضي اللَّه عنه بالسؤال، فقال له: أخبرني مشيّتك مع مشيّة اللَّه أو دون مشيّة اللَّه؟

فتحيّر الرجل، فقال لعلي: قل أنت.

فقال له: إن قلت: بأنّ مشيّتي مع مشيّة اللَّه تعالي، فقد ادّعيت المشاركة مع اللَّه تعالي، وإن قلت: بأنّ مشيّتي دون مشيّة اللَّه، فقد ادّعيت الالوهيّة، فعلمت أنّ مشيّتك تحت مشيّة اللَّه.

فقال الرجل: تبت إلي اللَّه. وقام.

فقال عليّ رضي اللَّه عنه لأصحابه: قوموا وصافحوه، فإنّه الآن أسلم.

ففي هذا دليل علي أنّ من أنكر القدر يصير كافراً، ولأنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: القدريّة مجوس هذه الامّة؛ إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشيّعوا جنائزهم، أولئك هم شيعة الدجّال، وحقّ علي اللَّه أن يلحقهم بالدجّال، ولأنّهم أنكروا النصّ، لأنّ اللَّه تعالي قال: «وما تشاؤون إلّاأن يشاءَ اللَّهُ»».

وجاء فيه أيضاً:

«فإن قال: بأنّ اللَّه تعالي لم يخلق الشر والكفر وذلك مخلوق غير اللَّه، فقد أثبت صانعاً وخالقاً غير اللَّه، فيكون مشركاً باللَّه تعالي ويكون كافراً، وإن قال: بأنّ الشرّ مخلوق اللَّه تعالي بدون إرادته ومشيّته، فقد اعتقد بأنّ اللَّه تعالي مجبور مكره في تخليقه، وهذا كفر؛ فثبت أنّ الكلّ بمشيّة اللَّه وبإرادته وقضاءه وقدره.

ومن أنكر القدر فهو كافر باللَّه العظيم» «1».

__________________________________________________

(1) التمهيد في بيان التوحيد: 24.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 226

وقال النووي في (المنهاج):

«قال الإمام- يعني إمام الحرمين- في كتاب الإرشاد في اصول الدين:

وقد قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: القدريّة مجوس هذه الامّة، شبّههم بهم لتقسيمهم الخير والشرّ في حكم الإرادة كما قسمت المجوس، فصرفت الخير إلي يزدان والشر إلي أهرمن، ولا خفاء باختصاص هذا الحديث بالقدريّة» «1».

وفي (كنز العمّال):

«إنّ اللَّه عزّ وجلّ لم يبعث نبيّاً

قبلي إلّاكان في امّته من بعده مرجئة وقدريّة يشوشون عليه أمر امّته من بعده، ألا إنّ اللَّه عزّ وجلّ لعن المرجئة والقدريّة علي لسان سبعين نبيّاً، ألا وإنّ امّتي لُامّة مرحومة لا عذاب عليها في الآخرة وإنّما عذابها في الدنيا، ألا إنّ صنفين من امّتي لا يدخلون الجنّة:

المرجئة والقدريّة. ابن عساكر عن معاذ:

صنفان من امّتي لعنهم اللَّه علي لسان سبعين نبيّاً: القدريّة والمرجئة الذين يقولون: الإيمان إقرار ليس فيه عمل. الديلمي عن حذيفة» «2».

دفاع الذهبي عن الحسن البصري … ص: 226

ومن لطائف الامور: محاولة الذهبي للدفاع عن الحسن، بدعوي أنّه لمّا حوقق علي القول بالقدر تبرّأ من ذلك، قال الذهبي:

«الحسن بن يسار، مولي الأنصار، سيّد التابعين في زمانه بالبصرة، كان __________________________________________________

(1) شرح صحيح مسلم 1: 154 كتاب الإيمان- إثبات القَدَر.

(2) كنز العمّال 1: 135/ 635 و 636.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 227

ثقة في نفسه، حجّةً، رأساً في العلم والعمل، عظيم القدر. وقد بدت منه هفوة في القدر لم يقصدها لذاتها، فتكلّموا، فما ألتفت إلي كلامهم، لأنّه لمّا حوقق عليها تبرّأ منها» «1».

لكنْ ما معني «لم يقصدها لذاتها»؟ ألم يكن كلامه ظاهراً في معناه الذي فهمه القوم منه فتكلّموا فيه؟ إنّ ما يقوله الذهبي دعوي بلا دليل، بل هو مجرّد تخرّص وتخمين، بل هو أشبه بهذيان المجانين، ويكذّبه كلامه هو حيث قال بعد العبارة السابقة:

«قال حمّاد بن زيد عن أيّوب قال: كذب علي الحسن ضربان من الناس: قوم رأيهم القدر لينفقوه في الناس بالحسن، وقوم في صدورهم بغض له، وأنا نازلته في القدر غير مرّة حتّي خوّفته بالسلطان، فقال: لا أعود فيه بعد اليوم. وقال أيّوب: ولا أعلم أحداً يستطيع أنْ يعيب الحسن إلّابه، وأدركت الحسن- واللَّه- ما يقوله» «2».

وإذا

كان الحسن ينازله الرجال في القدر غير مرّة، ولا يرجع عن القول به إلّابعد التخويف بالسلطان، فما معني أنّه لم يكن قاصداً لما تفوَّه؟

وما ذكره الذهبي في الدفاع عنه من أنّه قد تاب عن المقالة المذكورة ورجع عنها، لا يرفع الإشكال، لأنّ الحسن من القائلين بالتقيّة إلي يوم القيامة، كما رواه البخاري عنه في (الصحيح) «3»، وأهل السنّة يقولون بعدم قبول التوبة ممّن يقول بالتقيّة.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 527/ 1968.

(2) تذهيب التهذيب- مخطوط.

(3) صحيح البخاري 9: 25 كتاب الإكراه.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 228

كان الحسن مدلّسا … ص: 228

وكان الحسن البصري يكثر التدليس في الحديث، نصَّ علي ذلك الذهبي «1».

وقال ابن حجر في (التقريب):

«وكان يرسل كثيراً ويدلّس. قال البزّار: كان يروي عن جماعةٍ لم يسمع منهم، فيتجوّز ويقول: حدّثنا وخطبنا، يعني قومه الذين حدّثوا وخطبوا بالبصرة» «2».

وفي (تهذيب التهذيب):

«قال ابن المديني: سمعت يحيي- يعني القطان- وقيل له: كان الحسن يقول: سمعت عمران بن حصين. قال: أمّا عن نفسه فلا. وقال ابن المديني وأبو حاتم: لم يسمع منه، وليس يصحّ ذلك من وجهٍ مثبت» «3».

هذا، وقد نصّ ابن حجر في (شرح نخبة الفكر) علي أنّ التدليس بصيغةٍ صريحة كذب «4»، وقد أوضح القاري في (شرحه) المراد من الصيغة الصريحة فقال: «وهي لفظة أخبرني أو حدّثني أو سمعته» «5».

وذكر ابن الجوزي أنّ التدليس من تلبيس إبليس، حيث قال في كتاب (تلبيس إبليس):

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 527/ 1968.

(2) تقريب التهذيب 1: 166/ 1357.

(3) تهذيب التهذيب 2: 234/ 488.

(4) شرح نخبة الفكر: 82.

(5) شرح شرح نخبة الفكر: 419.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 229

«ومن تلبيس إبليس علي علماء المحدّثين: رواية الحديث الموضوع من غير أنْ يبيّنوا أنّه موضوع، وهذه جناية

منهم علي الشرع، ومقصودهم تنفيق أحاديثهم وكثرة رواياتهم، وقد قال النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: من روي عنّي حديثاً يري أنّه كذب فهو أحد الكاذبين. ومن هذا الفن تدليسهم في الرواية، فتارة يقول أحدهم: فلان عن فلان، أو قال فلان عن فلان، يوهم أنّه سمع منه ولم يسمع، وهذا قبيح، لأنّه يجعل المنقطع في مرتبة المتّصل» «1».

وقال النووي في (شرح مسلم):

«التدليس قسمان: أحدهما: أن يروي عمّن عاصره ما لم يسمع منه، موهماً سماعه قائلًا: قال فلان أو عن فلان أو نحوه. وربّما يسقط شيخه أو أسقط غيره لكونه ضعيفاً أو صغيراً، تحسيناً لصورة الحديث، وهذا القسم مكروه جدّاً، ذمّه أكثر العلماء، وكان شعبة من أشدّهم ذمّاً له، وظاهر كلامه أنّه حرام وتحريمه ظاهر، فإنّه يوهم الإحتجاج بما لا يجوز الإحتجاج به، ويتسبّب أيضاً إلي إسقاط العمل بروايات نفسه، مع ما فيه من الغرور، ثمّ إنّ مفسدته دائمة، وبعض هذا يكفي في التحريم، فكيف باجتماع هذه الامور» «2».

لعبه بالشطرنج … ص: 229

وكان الحسن البصري يلعب بالشطرنج «3»، وقد ثبت في الأخبار أنّ اللّاعب بالشطرنج ملعون، إلي غير هذا من الأحاديث الواردة في تحريمه __________________________________________________

(1) تلبيس إبليس: 136- 137.

(2) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج 1: 33.

(3) حياة الحيوان 2: 62 «العقرب».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 230

وتحريم اللّعب به والنظر إليه …

نسبته المعصية إلي يوسف عليه السلام … ص: 230

وهو ممّن نسب المعصية إلي يوسف عليه السلام، كما عرفت من كلام الرازي، وعرفت أيضاً ما في هذه النسبة من كلامه.

فساد مذهبه يوجب الحكم بكفره … ص: 230

وعلي الإجمال، فقد كان هذا الرجل منحرفاً في العقيدة حتّي قالوا بكفره، وممّن نصَّ علي ذلك عبدالعزيز البخاري في (كشف الأسرار) حيث قال: «كثير من أصحاب الحديث قبلوا رواية سلفنا، كالحسن وقتادة وعمرو بن عبيد، مع علمهم بمذهبهم وإكفارهم من يقول بقولهم، وقد نصّوا علي ذلك» «1».

__________________________________________________

(1) كشف الأسرار- شرح اصول البزدوي 3: 27.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 231

عطاء بن أبي رباح … ص: 231
اشارة

وأمّا عطاء، فيكفيه فضلًا وفخراً: كونه شيخ الإمام الأعظم وما قاله أبو حنيفة في حقّه.

قال الذهبي في (ميزان الإعتدال):

«عطاء بن أبي رباح، سيّد التابعين علماً وعملًا وإتقاناً في زمانه بمكّة، روي عن عائشة وأبي هريرة والكبار، وعاش تسعين سنة أو أزيد، وكان حجةً، إماماً، كبير الشأن، أخذ عنه أبو حنيفة وقال: ما رأيت مثله» «1».

لعبه بالشطرنج … ص: 231

لكنّه كان يلعب بالشّطرنج، كما في (حياة الحيوان) «2». وقبائح الشطرنج كثيرة جدّاً، ولنذكر بعض ذلك فيما يلي من كتاب (كنز العمّال):

«ملعون من لعب بالشطرنج، والناظر إليها كالآكل لحم الخنزير. عبدان وأبو موسي وابن حزم عن حبة بن مسلم.

«ملعون من لعب بالشطرنج. الديلمي عن أنس.

«إذا مررتم بهؤلاء الذين يلعبون بهذه الأزلام والشطرنج والنرد وما كان من هذه، فلا تسلّموا عليهم، وإن سلّموا عليكم فلا تردّوا عليهم. الديلمي عن __________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 70/ 5640.

(2) حياة الحيوان 2: 62.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 232

أبي هريرة.

«ألا إنّ أصحاب الشاه في النار، الذين يقولون قتلت واللَّه شاهك.

الديلمي عن ابن عبّاس.

إنّ اللَّه تعالي ينظر في كلّ يوم ثلاثمائة وستّين نظرة، لا ينظر فيها إلي صاحب الشاه، يعني الشطرنج. الديلمي عن واثلة.

«إنّ للَّه تبارك لوحاً ينظر فيه في كلّ يوم ثلاثمائة وستّين نظرة، يرحم بها عباده، ليس لأهل الشاه فيها نصيب. الخرائطي في مساوي الأخلاق عن واثلة.

«عن علي: النرد والشطرنج من الميسر. ش وابن المنذر وابن أبي حاتم ق.

«من لعب بالميسر ثمّ قام يصلّي، فمثله مثل الذي يتوضّأ بالقيح ودم الخنزير، فيقول اللَّه: لا يقبل له صلاة. طب عن أبي عبدالرحمن الخطمي.

«عن علي، أنّه مرّ علي قوم يلعبون بالشطرنج، فوثب عليهم فقال: أما واللَّه لغير هذا خلقتم، ولولا أن تكون سنّة لضربت بها وجوهكم. ق

كر.

«عن علي: إنّه مرّ علي قومٍ يلعبون الشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، لأنْ يمسّ أحدكم جمراً حتّي يطفي خير له من أن يمسّها. ش وعبد ابن حميد وابن أبي الدنيا في ذمّ الملاهي وابن المنذر وابن أبي حاتم ق.

«عن علي قال: لا نسلّم علي أصحاب النردشير والشطرنج. كر.

«يأتي علي الناس زمانٌ يلعبون بها، ولا يلعب بها إلّاكلّ جبّار، والجبّار في النّار- يعني الشطرنج- ولا يوقّر فيه الكبير ولا يرحم فيه الصغير، يقتل بعضهم بعضاً علي الدنيا، قلوبهم قلوب الأعاجم وألسنتهم ألسنة العرب، لا

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 233

يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، يمشي الصالح فيهم مستخفّاً، أولئك شرار خلق اللَّه، لا ينظر اللَّه إليهم يوم القيامة. الديلمي عن أنس» «1».

هذا، وقد ذهب إلي حرمة الشّطرنج كافّة الأئمّة الأربعة، كما نصَّ علي ذلك صاحب (الصواقع) في فصل المكائد حيث قال:

«الثلاثون والمائة: طعن أهل السنّة بأنّهم يجوّزون اللّعب بالشطرنج، فإنّه ينخدع به أمرقعان، وهو افتراء، فإنّ اللّعب بالشطرنج حرام عند أبي حنيفة ومالك وأحمد علي الصحيح، وورد في حرمته أحاديث وآثار، وعند الشافعي في القول الأوّل مكروه، بشرط عدم إخراج الصّلوات عن وقتها، وإخلال تحفّظ الواجبات بواسطة الإشتغال به، وأن يخلو عن القمار، وأنْ لا يصير سبباً للنزاع والكذب، وأنْ لا يكون أسبابه مصوّرةً بصور الحيوانات، فإنْ فقد شي ء من هذه الشروط صار حراماً، وبالإصرار يصير كبيرةً. كذا في الإحياء،. وقد صحّ عن الشافعي أنّه رجع إلي قول الأئمّة الثلاثة، نصّ عليه الإمام أبو حامد الغزالي. واللّعب كلّه حرام عند أهل السنّة … » «2».

فظهر من هناك أنّ عطاء بن أبي رباح كان بعيداً عن الفضل والصّلاح، محروماً عن الرشد والفلاح،

منحازاً عن حيازة مغانم الأرباح، منهمكاً في الضلال والفسق والطلاح، حيث جوّز ما يلعن علي مرتكبه بالغداء والرواح.

تركه النهي عن المنكر … ص: 233

ومن قوادحه: إنّه لم ينكر علي خالد بن عبداللَّه القسري بدعته في مكّة

__________________________________________________

(1) كنز العمّال 15: 215- 226.

(2) الصواقع الموبقة- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 234

المكرّمة، فقد جاء في كتاب (إتحاف الوري) ما نصّه:

«وقد فعل خالد بن عبداللَّه القسري بمكّة المشرّفة أفعالًا من غير معرفةٍ للسنّة التي فعل فيها، فأحببت ذكر ذلك هنا، لئلّا يخلو منه هذا الكتاب.

فمن ذلك: إنّ النّاس كانوا يقومون شهر رمضان في أعلي المسجد، تركز حربة خلف المقام بربوة، فيصلّي الإمام خلف الحربة والناس وراءه، فمن أراد صلّي مع الإمام، ومن أراد طاف وركع خلف المقام. فلمّا ولي خالد ابن عبداللَّه القسري بمكّة لعبدالملك بن مروان وحضر شهر رمضان، أمر خالد الأئمّة أنْ يتقدّموا فيصلّوا خلف المقام، وأدار الصفوف حول الكعبة، وذلك أنّ النّاس ضاق عليهم أعلا المسجد، فأدارهم حول الكعبة، فقيل له: يمتنع بذلك الناس من الطواف، قال: فأنا آمرهم يطوفون بين كلّ ترويحتين بطواف سبعاً، فأمرهم ففعلوا بين كلّ ترويحتين، فقيل له: فإنّه يكون في مؤخر الكعبة وجوانبها من لا يعلم بانقضاء طواف الطائفين من فصل وغيره، فيتهيّأ للصلاة، فأمر عبيد الكعبة أنْ يكبّروا حول الكعبة ويرفعوا أصواتهم في الطواف بالتكبير، فإذا بلغوا الركن الأسود في الطواف السادس سكتوا، فيكون ذلك إعلاماً للنّاس أنّ الطواف علي انقضاء، فيتهيّأ من في الحجر ومن في جوانب المسجد من مصلٍّ وغيره، فيخفّف صلاته، ثمّ يعود الطائفون للتكبير حتّي يفرغوا من السبع، ثمّ يقوم منادٍ فينادي: الصلاة رحمكم اللَّه، ولا تنقضي صلاتهم حتّي يطلع الفجر، وكان علي جبل أبي قبيس يرقب طلوع الفجر

للمتسحرين، فإذا بان له نادي: أمسكوا رحمكم اللَّه.

وكان عطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار ونظراؤهم من العلماء

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 235

يحضرون ذلك، فلا ينكرونه» «1».

كان يأخذ من كلّ أحدٍ ويروي المرسلات … ص: 235

قالوا: وكان عطاء بن أبي رباح متساهلًا في الرواية، يأخذ من كلّ أحدٍ، ويروي المراسيل، حتّي تكلّم فيه بعض الأئمّة، ففي (تدريب الراوي):

«تكلّم الحاكم علي مراسيل سعيد فقط دون سائر من ذكر معه، ونحن نذكر ذلك، فمراسيل عطاء قال ابن المديني: كان عطاء يأخذ من كلّ ضربٍ، مرسلات مجاهد أحبّ إليّ من مرسلاته بكثير. وقال أحمد بن حنبل:

مرسلات سعيد بن المسيّب أصحّ المرسلات، ومرسلات إبراهيم النخعي لا بأس بها، ولا في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح، فإنّهما كانا يأخذان من كلّ أحد» «2».

وفي (ميزان الإعتدال):

«قال يحيي القطان: مرسلات مجاهد أحبّ إلينا من مرسلات عطاء بكثير، كان عطاء يأخذ من كلّ ضرب. وقال أحمد: ليس في المرسل أضعف من مرسل الحسن وعطاء، كانا يأخذان عن كلّ أحد» «3».

بل لقد تركه بعض الأئمّة الكبار، وإنْ حاول الذهبي حمل الترك علي معنيً آخر، ففي (ميزان الإعتدال):

«روي محمّد بن عبدالرحيم عن علي بن المديني قال: كان عطاء بأخرة

__________________________________________________

(1) إتحاف الوري بأخبار ام القري- حوادث السنة: 93.

(2) تدريب الراوي- شرح تقريب النواوي 1: 203- 204.

(3) ميزان الاعتدال 3: 70/ 5640.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 236

قد تركه ابن جريج وقيس بن سعد. قلت: لم يَعْنِ الترك الإصطلاحي، بل عني أنّهما بطّلا الكتابة عنه، وإلّا فعطاء ثبت رضي» «1».

لكنّه حمل بارد جدّاً، لأنّ المتبادر من الترك في مثل هذه المواضع هو الترك الإصطلاحي، وهو عدم كونه أهلًا لأنْ يروي عنه.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 70/ 5640.

استخراج المرام من

استقصاء الافحام، ج 2، ص: 237

عطاء بن أبي سلمة الخراساني … ص: 237

وأمّا عطاء بن أبي سلمة الخراساني، الذي ذكره السيوطي- بعد عطاء بن أبي رباح-، فلم أجده في الكتب الرجاليّة، نعم، لا يبعد أن يكون مراده عطاء ابن أبي مسلم الخراساني، فإنّه علي ما في (فتح الباري) وغيره كان له مصنَّف في التفسير، وقد وثّقه غير واحدٍ من الأعلام.

لكنْ في (ميزان الاعتدال) في ترجمته:

«وذكره العقيلي في الضعفاء، متشبّثاً بهذه الحكاية التي رواها حمّاد بن زيد عن أيّوب، حدّثني القاسم بن عاصم، قلت لسعيد بن المسيّب: إنّ عطاء الخراساني حدّثني عنك أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أمر الذي واقع أهله في رمضان بكفّارة الظهار. فقال: كذب، ما حدّثته، إنّما بلغني أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال له: تصدّق تصدّق.

وقد ذكر البخاري عطاء الخراساني في الضعفاء، فروي له هذا عن سليمان بن حرب عن حمّاد.

أحمد بن حنبل: ثنا عفّان، ثنا همام، أنا قتادة: أنّ محمّداً وعوناً حدّثاه أنّهما قالا لسعيد: إنّ عطاء الخراساني حدّثنا عنك في الذي وقع بأهله في رمضان، فأمره النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أن يعتق رقبة، فقال: كذب عطاء، إنّما قال له: تصدّق تصدّق.

وقال ابن حبّان في الضعفاء: أصله من بلخ، وعداده في البصريّين، وإنّما

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 238

قيل له الخراساني، لأنّه دخل خراسان وأقام بها مدّة طويلة ثمّ رجع إلي العراق، فنسب إلي خراسان، وكان من خيار عباد اللَّه، غير أنّه كان رديّ الحفظ، كثير الوهم، يخطئ ولا يعلم، فيحمل عنه، فلمّا كثُر ذلك في روايته بطل الإحتجاج به».

«قال الترمذي في كتاب العلل: قال محمّد يعني البخاري: ما أعرف لمالك رجلًا يروي عنه يستحقّ أن يترك حديثه، غير عطاء الخراساني. قلت:

ما شأنه؟ قال:

عامّة أحاديثه مقلوبة» «1».

وهذا أيضاً رأي السمعاني فيه، حيث قال:

«وكان من خيار عباد اللَّه، غير أنّه كان رديّ الحفظ، كثير الوهم، يخطئ ولا يعلم فحمل عنه، فلمّا كثر ذلك في روايته بطل الإحتجاج به» «2».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 74- 75/ 5642.

(2) الأنساب 2: 337. «الخراساني».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 239

أبوالعالية … ص: 239

وأمّا أبوالعالية، الذي جاء بترجمته من (رجال المشكاة) للدهلوي:

«قالت حفصة بنت سيرين: سمعته يقول: قرأت القرآن علي عمر ثلاث مرّات، وزهد في الدنيا، وحجَّ خمساً وستّين حجّة» «1».

وفي (مرآة الجنان):

«أبوالعالية، رفيع بن مهران الرياحي، مولاهم، البصري، المقري ء المفسّر، وقد دخل علي أبي بكر، وقرأ القرآن علي ابي. قال أبوالعالية: كان ابن عبّاس يرفعني علي السرير وقريش أسفل. وقال أبوبكر ابن أبي داود: ليس أحد بعد الصحابة أعلم بالقرآن من أبي العالية، وبعده سعيد بن جبير» «2».

وكذا في (تدريب الراوي) «3».

فقد أورده في (الميزان) وقال:

«قال ابن عدي: تُكلّم فيه من أجل حديث الضحك في الصّلاة» «4».

بل عن الشافعي أنّه تكلّم في حديثه كلّه وقال:

«حديث أبي العالية الرياحي رياح» «5».

__________________________________________________

(1) تحصيل الكمال في أسماء الرجال. رجال المشكاة، للشيخ عبدالحق الدهلوي.

(2) مرآة الجنان 1: 147 السنة 93.

(3) انظر تدريب الراوي 2: 400.

(4) ميزان الاعتدال 4: 543/ 10344.

(5) ميزان الاعتدال 2: 54/ 2790.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 240

وهذا الكلام- وإنْ حاول الذهبي تأويله- يدلُّ علي سقوط كافة روايات الرجل وعدم اعتباره عند الشافعي، ولذا قال السمعاني: «كان الشافعي سيّي ء الرأي فيه وفي رواياته» «1».

وفي (رسالة ترجيح مذهب الشافعي) للفخر الرازي:

«استدلّوا علي ضعف حرام بن عثمان بقول الشافعي: حديث حرام كاسمه حرام، وحديث الرياحي رياح، ومن روي عن أبي جابر البياضي بيّض اللَّه عينيه. ولمّا ثبت

أنّ العلماء رجعوا إلي فتواه في الجرح والتعديل، علمنا أنّ تقدّمه في علم الحديث كان معروفاً مسلّماً فيما بين النّاس».

وتكلّم ابن سيرين أيضاً في أبي العالية، بما لا يقبل الحمل والتأويل، فقد جاء في (العناية) بعد ما يرونه عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله من الحديث: لا وضوء علي من نام قائماً أو قاعداً:

«فإنْ قيل: هذا الحديث غير صحيح، لأنّ مداره علي أبي العالية، وهو ضعيف عند النقلة، روي عن ابن سيرين أنّه قال: حدّث عمّن شئت إلّاعن أبي العالية، فإنّه لا يبالي عمّن أخذ، أي: لا يبالي أن يروي عن كلّ أحد … » «2».

__________________________________________________

(1) الأنساب 3: 111 الرياحي.

(2) العناية في شرح الهداية 1: 44 ط هامش فتح القدير.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 241

الضحّاك بن مزاحم … ص: 241

وأمّا الضحاك بن مزاحم، فإنّهم وإنْ وثّقوه، وذكروا له مناقب كما في (مرآة الجنان) و (ميزان الاعتدال) وغيرهما من كتب الرجال «1».

لكنْ عن يحيي بن سعيد القطّان- الذي كان رأساً في الجرح والتعديل- أنّه ضعّفه. قال في (الميزان):

«قال يحيي بن سعيد: الضحاك ضعيفٌ عندنا … وكذا ابن عدي فإنّه قال:

الضحّاك بن مزاحم إنّما عرف بالتفسير، وأمّا رواياته عن ابن عبّاس وأبي هريرة وجميع من روي عنه، ففي ذلك كلّه نظر» «2».

وكذا شعبة، ففي (الكاشف):

«وقال شعبة: كان عندنا ضعيفاً» «3».

بل السيوطي نفسه نقل عن ابن الجوزي تضعيفه وأقرّه علي ذلك، كما في (اللآلي المصنوعة) في نزول قوله تعالي: «ومن يتّق اللَّه يجعل له مخرجاً..» الآية: «الضحاك ضعيف، ولم يسمع من ابن عبّاس».

__________________________________________________

(1) مرآة الجنان 1: 169 السنة 102، ميزان الاعتدال 2: 325/ 3942، تهذيب التهذيب 4: 397/ 794.

(2) ميزان الاعتدال 2: 326/ 3942.

(3) الكاشف 2: 36/ 2458.

استخراج المرام من

استقصاء الافحام، ج 2، ص: 242

عطيّة بن سعد العوفي … ص: 242

وأمّا عطيّة، فإنّه وإنْ ذكره السيوطي في عداد قدماء المفسّرين، إلّاأنّ نقدة الحديث والرجال قد تكلّموا فيه، ويكفي إيراد كلام الذهبي بترجمته من (ميزان الإعتدال) فإنّه قال:

«عطيّة بن سعد العوفي الكوفي، تابعي شهير، ضعيف، عن ابن عبّاس وأبي سعيد وابن عمر. وعنه: مسعر وحجاج بن أرطاة وطائفة وابنه الحسن.

قال أبو حاتم: يكتب حديثه، ضعيف.

وقال سالم المرادي: كان عطيّة يتشيّع.

وقال ابن معين: صالح.

وقال أحمد: ضعيف الحديث، وكان هُشيم يتكلّم في عطيّة.

وروي ابن المديني عن يحيي قال: عطيّة وأبو هارون وبشر بن حرب عندي سواء.

وقال أحمد: بلغني أنّ عطيّة كان يأتي الكلبي فيأخذ منه التفسير، وكان يكنيه بأبي سعيد فيقول: قال أبو سعيد. قلت: يعني يوهم أنّه الخدري.

وقال النسائي وجماعة: ضعيف» «1».

بل ادّعي ابن الجوزي الإجماع علي تضعيفه في كتاب (الموضوعات) «2».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 79- 80/ 5667.

(2) الموضوعات 1: 114 باب عظمة اللَّه عزّوجل.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 243

قتادة … ص: 243
اشارة

وأمّا قتادة، فإنّه وإنْ وُصف ب «الحافظ أحد الأئمّة الأعلام» «1» وأنّه «ثقة ثبت» «2» وذكر بتراجمه مناقب كثيرة «3» بل قيل أنّهم أجمعوا علي جلالته وتوثيقه وحفظه وإتقانه وفضله «4» …

كان يتّهم بالقدر … ص: 243

لكنّ المحققين النقدة منهم لم يستحيوا من قول الحق وإظهار الحقيقة، فقالوا: كان يتّهم بالقدر، وقد عرفت أنّه الكفر والضلال عندهم، وأضاف بعضهم أنّه كان حاطب ليلٍ، وهو من عبائر التضعيف والقدح … قال الذهبي:

«كان قتادة يتّهم بالقدر.

وقال ابن المديني: قلت ليحيي بن سعيد: إنّ عبدالرحمان يقول: أترك ج كلّ ج من كان رأساً في بدعة يدعو إليها. قال: كيف يصنع بقتادة وابن أبي رواد وعمر بن ذر، وذكر قوماً. ثمّ قال يحيي: إن ترك هذا الضرب ترك ناساً كثيراً.

__________________________________________________

(1)

فيض القدير 1: 156.

(2) تقريب التهذيب 2: 130/ 6199.

(3) تهذيب الكمال 23: 498/ 4848، مرآة الجنان 1: 197 السنة 117 تهذيب التهذيب 8: 315/ 637.

(4) تهذيب الأسماء واللغات 2: 57/ 66.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 244

كان كحاطب ليل … ص: 244

وقال جرير بن عبدالحميد عن مغيرة عن الشعبي قيل له: هل رأيت قتادة؟ قال: نعم رأيته كحاطب ليل.

وقال سفيان بن عيينة: قال الشعبي لقتادة: حاطب ليل. قال سفيان: قال لي عبدالكريم الجزري: ما حاطب ليل؟ قلت: إلّاأن تخبرني. قال: هو الرجل يخرج في الليل يحتطب، فتقع يده علي أفعي فتقتله. هذا مثل ضرب لطالب العلم، إنّ طالب العلم إذا حمل من العلم ما لا يطيقه قتله علمه، كما قتل الأفعي حاطب ليل» «1».

كان يدلّس … ص: 244

والذهبي نسب إليه التدليس أيضاً حيث قال في (الميزان):

«قتادة بن دعامة السدوسي، حافظ ثقة ثبت، لكنّه مدلّس ورمي بالقدر.

قاله يحيي بن معين. ومع هذا فاحتجّ به أصحاب الصحاح، لاسيّما إذا قال حدّثنا. مات كهلًا» «2».

وقال ابن خلكان:

«قال معمر: سألت أباعمرو بن العلاء عن قوله تعالي: «وما كنّا له مقرنين» فلم يجبني. فقلت: إنّي سمعت قتادة يقول: مُطِيقين. فسكت، فقلت له: ما تقول يا أبا عمرو؟ فقال: حسبك قتادة، فلولا كلامه في القدر- وقد قال __________________________________________________

(1) انظر سير أعلام النبلاء 5: 278 و 272/ 132.

(2) ميزان الاعتدال 3: 385/ 6864.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 245

صلّي اللَّه عليه وسلّم: إذا ذكر القدر فأمسكوا- لما عدلت به أحداً من أهل دهره» «1».

قصّة أبي حنيفة معه … ص: 245

هذا، وقد جاء في (تاريخ بغداد) ما نصّه:

«ودخل قتادة الكوفة ونزل في دار أبي بردة، فخرج يوماً- وقد اجتمع إليه خلق كثير- فقال قتادة: واللَّه الذي لا إله إلّاهو، ما يسألني اليوم أحد عن الحلال والحرام إلّاأجبته.

فقام إليه أبو حنيفة فقال: يا أباالخطّاب! ما تقول في رجل غاب عن أهله أعواماً، فظنّت امرأته أنّ زوجها مات، فتزوّجت، ثمّ رجع زوجها الأوّل، ما تقول في صداقها؟ وقال لأصحابه الذين اجتمعوا إليه: لئن حدّث بحديث ليكذبنّ، ولئن قال برأيه ليخطئنّ.

فقال قتادة: ويحك! أوقعت هذه المسألة؟

قال: لا.

قال: فلم تسألني عمّا لم يقع؟

قال أبو حنيفة: إنّا نستعدّ للبلاء قبل نزوله، فإذا وقع عرفنا الدخول فيه والخروج منه.

ج فقال ج قتادة: واللَّه لا احدّثكم بشي ء من الحلال والحرام، سلوني عن التفسير.

فقام إليه أبو حنيفة فقال له: يا أباالخطّاب! ما تقول في قوله تعالي:

__________________________________________________

(1) وفيات الأعيان 4: 85/ 541.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 246

«قال الذي عنده علمٌ من

الكتاب أنا آتيك به قبلَ أنْ يرتدَّ إليكَ طَرْفُكَ»؟

قال: نعم، هذا آصف بن برخيا بن سمعيا كاتب سليمان بن داود، كان يعرف اسم اللَّه الأعظم.

فقال أبو حنيفة: وهل كان يعرف الإسم سليمان؟

قال: لا.

قال: فيجوز أن يكون في زمن نبي من هو أعلم من النبي؟

قال قتادة: واللَّه لا احدّثكم بشي ء من التفسير، سلوني عمّا اختلف فيه العلماء.

قال: فقام إليه أبو حنيفة فقال: يا أباالخطّاب! أمؤمن أنت؟

قال: أرجو.

قال: ولِمَ؟

قال: يقول إبراهيم عليه السلام «والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين».

فقال أبو حنيفة: هلّا قلت كما قال إبراهيم عليه السلام: «قال أولم تؤمن قال بلي» فهلّا قلت: بلي؟

قال: فقام قتادة مغضباً ودخل الدّار، وحلف أن لا يحدّثهم» «1».

__________________________________________________

(1) تاريخ بغداد 13: 348- 349/ 7297.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 247

زيد بن أسلم … ص: 247

وأمّا زيد بن أسلم، فيكفي عن ذكر مناقبه كما في (تهذيب الأسماء) «1» كونه مولي عمر بن الخطّاب، لأنّ هذه العلقة- كما ذكر الدهلوي في (التحفة)- توجب الاتّحاد بين المالك والمولي في العقيدة والطريقة.

والأهم من ذلك دعواهم حضور الإمام علي بن الحسين السجّاد عليه السلام عنده للإستفادة، حتّي قيل له: «غفر اللَّه لك، أنت سيّد النّاس وأفضلهمْ، تذهب إلي زيد بن أسلم وهو مولي فتجلس معه؟» فقال: «ينبغي للعلم أنْ يبتغي حيث هو»!! قالوا: «وكان يتخطّي حلق قومه حتّي يأتي زيد بن أسلم فيجلس عنده ويقول: إنّما يجلس الرجل إلي من ينفعه في دينه».

هكذا في (تحصيل الكمال في أسماء الرجال) «2».

وأعوذ باللَّه من هذا البهتان الذي افتراه أهل الضّلال، تنقصياً من شأن الإمام عليه السلام.

كما لا يخفي علي اولي الأبصار والأفهام …

لكن ابن عدي أدرج زيداً في كتاب (الكامل) «3» الذي صنّفه في أسماء الضعفاء، وهو

كما قال المناوي في (فيض القدير):

__________________________________________________

(1) تهذيب الأسماء واللغات 1: 200/ 185.

(2) تحصيل الكمال في أسماء رجال المشكاة للشيخ عبدالحق الدهلوي- ترجمة زيد بن أسلم.

(3) الكامل في ضعفاء الرجال 4: 163/ 704.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 248

«أصل من الاصول المعوّل عليها المرجوع إليها، طابق اسمه معناه، ووافق لفظه فحواه، من عينه انتجع المنتجعون، وبشهادته حكم الحاكمون، وإلي ما قاله رجع المتقدّمون والمتأخّرون» «1».

وهذا ما أزعج الذهبي فقال:

«زيد بن أسلم مولي عمر، تناكد ابن عدي بذكره في الكامل. فإنّه ثقة حجّة. فروي عن حمّاد بن زيد قال: قدمت المدينة وهم يتكلّمون في زيد بن أسلم، فقال لي عبيداللَّه بن عمر: ما نعلم به بأساً إلّاأنّه يفسّر القرآن برأيه» «2».

فقد اعترض الذهبي علي ابن عدي ذكره في الضعفاء، إلّاأنّه أضاف إلي ذلك «تكلّم أهل المدينة في زيد بن أسلم» وروي عن عبيداللَّه بن عمر أنّه «كان يفسّر القرآن برأيه» وهذا يكفي لسقوط تفسيره عن الاعتبار، وقد أخرج الترمذي:

«عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال:

اتّقوا الحديث عنّي إلّاما علمتم، فمن كذب علَيّ متعمّداً فليتبوّء مقعده من النّار، ومن قال في القرآن برأيه فليتبوّء مقعده من النّار. هذا حديث حسن» «3».

__________________________________________________

(1) فيض القدير في شرح الجامع الصغير 1: 28- 29.

(2) ميزان الاعتدال 2: 98/ 2989.

(3) صحيح الترمذي 5: 199/ 2951 كتاب تفسير القرآن الباب 1.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 249

مُرّة بن شراحيل … ص: 249

وأمّا مرّة بن شراحيل، فلا يجوز الإعتماد عليه والأخذ بتفسيره، لأنّه كان من المعاندين لأميرالمؤمنين عليه السلام في حربه ضدّ الناكثين … قال أبو نعيم:

«حدّثنا عبداللَّه بن محمّد قال: ثنا أحمد بن الحسين قال: ثنا أحمد بن إبراهيم

الدورقي قال: حدّثني عبدالرحمن بن غزوان قال: ثنا محمّد بن طلحة ابن مصرف عن زبيد الأيامي قال: قيل لمرّة بن شراحيل: ألا تلحق بعليّ بصفّين؟ قال: إنّ عليّاً سبقني بخير أعماله، بدرٍ وذواتها، وأنا أكره أنْ أشركه فيما هان فيه» «1».

__________________________________________________

(1) حلية الأولياء 4: 163/ 269.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 250

عبدالرحمن بن زيد بن أسلم … ص: 250

وأمّا عبدالرحمن بن زيد بن أسلم، فقد أورده الذهبي في (الميزان) فقال:

«عبدالرحمن بن زيد بن أسلم العمري مولاهم المدني، أخوعبداللَّه واسامة.

قال أبو يعلي الموصلي: سمعت يحيي بن معين يقول: بنو زيد بن أسلم ليسوا بشي ء. وروي عثمان الدارمي عن يحيي: ضعيف. وقال أحمد: عبداللَّه ثقة، والآخران ضعيفان» «1».

وفي (الكاشف):

«ضعّفوه. له تفسير» «2».

وفي (حاشية الكاشف):

«قال البخاري وأبو حاتم: ضعّفه ابن المديني جدّاً وقال: أولاد زيد بن أسلم كلّهم ضعيف وأمثلهم عبداللَّه. وقال النسائي: ضعيف، وقال يحيي: ليس بشي ء، وقال أحمد: ضعيف» «3».

وقال ابن حجر: «ضعيف» «4».

وقال ابن القيّم في (زاد المعاد): «قال الترمذي: ليس في ولد زيد بن أسلم ثقة».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 2: 564/ 4868.

(2) الكاشف عن أسماء رجال الكتب الستّة 2: 160/ 3228.

(3) حاشية الكاشف- مخطوط.

(4) تقريب التهذيب 1: 448/ 4312.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 253

الطبقة الثالثة … ص: 253

اشارة

قال السيوطي:

ثمّ بعد هذه الطبقة، الّفت تفاسير تجمع أقوال الصحابة والتابعين، كتفسير سفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، وشعبة بن الحجاج، ويزيد بن هارون، وعبدالرزاق، وآدم بن أبي أياس، وإسحاق بن راهويه، وروح بن عبادة، وعبد بن حميد، وسُنيد، وأبي بكر بن أبي شيبة، وآخرين «1».

أقول:

وتفاسير هذه الطبقة أيضاً مقدوحة مطعون فيها، وكتب الرجال بجوارح أصحابها مشحونة، وإليك أحوال بعضهم:

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 4: 242.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 254

سفيان بن عيينة … ص: 254

اشارة

أمّا سفيان بن عيينة، فقد ذكروا:

كان يدلّس … ص: 254

إنّه كان يدلّس … قال القاري في (شرح شرح نخبة الفكر):

«قال الشيخ شمس الدين محمّد الجزري: التدليس قسمان: تدليس الإسناد وتدليس الشيوخ. أمّا تدليس الإسناد، فهو أن يروي عمّن لقيه أو عاصره ما لم يسمعه منه، موهماً أنّه سمعه منه، ولا يقول: أخبرنا وما في معناه، بل يقول: قال فلان، أو عن فلان، أو إنّ فلاناً قال، وما أشبه ذلك، ثمّ قد يكون بينهما واحد، وقد يكون أكثر، وربّما لم يسقط المدلّس شيخه، لكن يسقط من بعده رجلًا ضعيفاً أو صغير السنّ، يحسّن الحديث بذلك. وكان الأعمش والثوري وابن عيينة وابن إسحاق وغيرهم يفعلون هذا النوع. ومن ذلك ما حكي ابن خشرم: كنّا يوماً عند سفيان بن عيينة فقال: عن الزهري، …

فقيل له: حدّثك الزهري؟ فسكت. ثمّ قال: قال الزهري، فقيل له: سمعته من الزهري؟ فقال: حدّثني عبدالرزاق، عن معمر، عن الزهري» «1».

__________________________________________________

(1) شرح شرح نخبة الفكر: 420.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 255

من كلماتهم في ذمّ التدليس … ص: 255

هذا، وقد نقلنا سابقاً كلمات بعض أعلام القوم في ذمّ التدليس وتقبيحه وتحريمه، وعن شعبة: أنّه أشدّ من الزنا وأخو الكذب، قال السيوطي في أقسام التدليس:

«وأمّا القسم الأوّل فمكروه جدّاً، ذمّه أكثر العلماء، وبالغ شعبة في ذمّه فقال: لأنْ أزني أحبُّ إليَّ من أنْ ادلّس. وقال: التدليس أخو الكذب» «1».

وأمّا قول ابن الصلاح من أنّ هذا إفراط، وإنّه محمول علي الزجر والتنفير من التدليس، كما نقله السيوطي، ففيه: إنّه إنْ أراد صرف كلام شعبة عن ظهوره في حرمة التدليس، فلا سبيل إليه أصلًا، وقد تقدّم تصريح النووي بحرمته، وتقدّم أنّه من تلبيس إبليس كما نصّ عليه ابن الجوزي، علي أنّ جماعةً من المحدّثين ذهبوا إلي أنّ ارتكاب التدليس- ولو كان

مرّةً واحدة- يوجب الجرح وتردّ به الرواية، كما في (تدريب الراوي) حيث قال:

«ثمّ قال فريق منهم من أهل الحديث والفقهاء: من عرف به صار مجروحاً مردود الرواية مطلقاً وإنْ بيّن السماع» «2».

ومراده من «مطلقاً» هو عدم الفرق بين التدليس مرّةً أو أكثر، وهذا ما نصَّ عليه شرّاح (نخبة الفكر).

وقال ابن جماعة الكناني في (المنهل الروي):

«النوع الرابع: التدليس، وهو قسمان: تدليس الإسناد وتدليس الشيوخ.

__________________________________________________

(1) تدريب الراوي- شرح تقريب النواوي 1: 228.

(2) تدريب الراوي- شرح تقريب النواوي 1: 229.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 256

الأوّل: تدليس الإسناد، وهو أنْ يروي عمّن لقيه أو عاصره ما لم يسمعه منه، موهماً أنّه سمعه منه، ولا يقول أخبرنا وما في معناه ونحوه، بل يقول: قال فلان أو عن فلان أو إنّ فلاناً قال، وشبه ذلك. ثمّ قد يكون بينهما واحد، وقد يكون أكثر.

وهذا القسم من التدليس مكروه جدّاً، وفاعله مذموم عند أكثر العلماء، ومن عرف به مجروح عند قومٍ لا تقبل روايته، بيّن السماع أو لم يبيّنه» «1».

وتلخص:

إنّ سفيان بن عيينة عند هذا الفريق من الفقهاء والمحدّثين مجروح مردود الرواية، وعند الأكثر مذموم مطعون فيه.

اختلط في آخر عمره … ص: 256

ثمّ إنّه قد اختلط في أواخر حياته، كما نصّ عليه علماء الرجال، قال الذهبي:

«روي محمّد بن عبداللَّه بن عمّار الموصلي، عن يحيي بن سعيد القطّان قال: أشهد أنّ سفيان بن عيينة اختلط سنة 197، فمن سمع منه فيها فسماعه لا شي ء».

ثمّ انبري الذهبي للدفاع عن روايات القوم عن سفيان، مستبعداً كلام القطّان، ومغلّطاً الموصلي في نقله- وقد قال الزهري في حقّه: صدوق ثقة صاحب حديث «2» - فقال:

__________________________________________________

(1) المنهل الروي في علم اصول حديث النبي: 72.

(2) ميزان الاعتدال- ترجمة محمّد بن عبداللَّه بن عمّار

3: 596/ 7753. وفيه: قال النسائي: ثقة صاحب حديث.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 257

«قلت: سمع منه فيها محمّد بن عاصم صاحب ذاك الجزء العالي، ويغلب علي ظنّي أنّ سائر شيوخ الأئمّة الستّة سمعوا منه قبل سنة سبع، فأمّا سنة ثمان وتسعين ففيها مات ولم يلقه أحد فيها، لأنّه توفّي ج بمكّة ج قبل قدوم الحاجّ بأربعة أشهر.

وأنا أستبعد هذا الكلام من القطّان، وأعدّه غلطاً من ابن عمّار، فإنّ القطّان مات في صفر من سنة ثمان وتسعين وقت قدوم الحاج، ووقت تحدّثهم عن أخبار الحجاز، فمتي تمكّن يحيي بن سعيد أن يسمع اختلاط سفيان ثمّ يشهد عليه بذلك، والموت قد نزل به، فلعلّه بلغه ذلك في أثناء سنة سبع، مع أنّ يحيي متعنّت جدّاً في الرجال، وسفيان ثقة مطلقاً، واللَّه أعلم» «1».

لكنْ كيف يجتمع هذا التهجّم علي يحيي بن سعيد القطّان، مع تلك المناقب الجليلة والدرجات الرفيعة التي يذكرونها، له في العلم والورع والإتقان، حتّي قال أحمد بن حنبل: «ما رأيت مثله في كلّ أحواله»؟

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال- ترجمة سفيان بن عيينة 2: 170- 171/ 3327.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 258

وكيع بن الجرّاح … ص: 258

اشارة

وأمّا وكيع بن الجرّاح … والذي قال اليافعي في حوادث سنة 197:

«وفيها توفي الإمام العالم أبو سفيان وكيع بن الجراح. روي عن الأعمش، قال أحمد: ما رأيت أوعي للعلم ولا أحفظ من وكيع … وقال يحيي ابن أكثم: صحبت وكيعاً، وكان يصوم الدهر، ويختم القرآن كلّ ليلة. وقال أحمد: ما رأت عيني مثل وكيع» «1».

له قوادح … ص: 258

وقد ذكرت له قوادح، وتكلّم فيه بعض الأكابر منهم، ومن هنا، فقد أورده الذهبي في (الميزان) فقال:

«قال ابن المديني: كان وكيع يلحن، ولو حدّثت بألفاظه لكانت عجباً.

كان يقول: ثنا شعبي عن عيشة، وسئل أحمد بن حنبل: إذا اختلف وكيع وعبدالرحمان ابن مهدي بقول من نأخذ؟ فقال: عبدالرحمن يوافق أكثر وخاصّةً في سفيان، وعبدالرحمن يسلم منه السلف ويجتنب شرب المسكر، وكان لا يري أن تزرع أرض الفرات. قال ابن المديني في التهذيب: وكيع كان فيه تشيّع قليل. قال ابن حنبل: سمعت يحيي بن معين يقول: رأيت عند مروان بن معاوية لوحاً فيه فلان كذا وفلان رافضي، ووكيع رافضي، فقلت له:

__________________________________________________

(1) مرآة الجنان 1: 350- 351.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 259

وكيع خير منك. قال: منّي؟ قلت: نعم، فما قال لي شيئاً، ولو قال شيئاً لوثب عليه أصحاب الحديث، فبلغ ذلك وكيعاً فقال: يحيي صاحبنا» «1».

وإنّما نسب إلي الرفض، لأنّه كان يتكلّم في عثمان ولا يترحّم عليه، ففي ترجمة الحسن بن صالح من (ميزان الإعتدال) وغيره:

«قال وكيع: هو عندي إمام. فقيل: إنّه لا يترحّم علي عثمان. فقال:

أفتترحّم أنت علي الحجّاج» «2».

__________________________________________________

(1) ميزان الإعتدال 4: 336/ 9356.

(2) ميزان الإعتدال- ترجمة الحسن بن صالح 1: 499/ 1869.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 260

عبدالرزّاق بن همام … ص: 260

وأمّا عبدالرزاق بن همام … فقد ذكرت له المناقب العظيمة والفضائل الجليلة في مختلف الكتب، نكتفي منها بما جاء في (مرآة الجنان) حيث قال اليافعي في حوادث السنة 211:

«وفي السنة المذكورة: توفي الحافظ العلّامة المرتحل إليه من الآفاق، الشيخ الإمام عبدالرزاق بن همام، اليمني الصنعاني الحميري، صاحب المصنّفات، عن ست وثمانين سنة. روي عن: معمر وابن جريج والأوزاعي وطبقتهم. ورحل إليه الأئمّة إلي اليمن.

قيل: ما رحل النّاس إلي أحد بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم مثل ما رحلوا إليه. وروي عنه خلائق من أئمّة الإسلام، منهم: الإمام سفيان بن عيينة، والإمام يحيي بن معين، وإسحاق بن راهويه، وعلي بن المديني، ومحمود بن غيلان» «1».

وفي (ميزان الاعتدال):

«ج ع ج عبدالرزاق بن همام بن نافع، الإمام، أبوبكر، الحميري مولاهم، الصنعاني، أحد الأعلام الثقات. ولد سنة 126 وطلب العلم وهو ابن عشرين سنة فقال: جالست معمر بن راشد سبع سنين، وقدم الشام بتجارة فحجّ، وسمع من ابن جريج وعبيداللَّه بن عمر وعبداللَّه بن سعيد بن أبي هند وثور بن يزيد والأوزاعي وخلق، وكتب شيئاً كثيراً، وصنّف الجامع الكبير، وهو خزانة

__________________________________________________

(1) مرآة الجنان 2: 40.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 261

علم، ورحل النّاس إليه: أحمد وإسحاق ويحيي والذهلي والرمادي وعبد» «1».

ومع هذا كلّه، فقد تكلّم فيه بعض الأئمّة واتّهمه غيره بالكذب!

قال الذهبي:

«أبو زرعة عبيداللَّه: حدّثنا عبداللَّه المسندي قال: ودّعت ابن عيينة فقلت: اريد عبدالرزاق، قال: أخاف أن يكون من الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا.

العقيلي: حدّثني أحمد بن دكين ج زُكير ج الحضرمي، ثنا محمّد بن إسحاق بن يزيد البصري، سمعت مخلد الشعيري يقول: كنت عند عبدالرزاق، فذكر رجل معاوية، فقال: لا تقذر مجلسنا بذكر ولد أبي سفيان.

محمّد بن عثمان الثقفي البصري قال: لمّا قدم العباس بن عبدالعظيم من صنعاء، من عند عبدالرزاق، أتيناه فقال لنا ونحن جماعة: ألست قد تجشّمت الخروج إلي عبدالرزاق ورحلت إليه وأقمت عنده؟ والذي لا إله إلّاهو: إنّ عبدالرزّاق كذّاب … » «2».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 2: 609/ 5044.

(2) ميزان الاعتدال 2: 610- 611/ 5044.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 262

إسحاق بن راهويه … ص: 262

وأمّا إسحاق بن راهويه

… فإنّه وإنْ كان من الأئمّة الأعلام والمحدّثين العظام، لكنّه تغيّر في آخر عمره واختلط. قال في (الميزان):

«قال أبو عبيداللَّه الآجري: سمعت أبا داود يقول: إسحاق بن راهويه تغيّر قبل أن يموت بخمسة أشهر، وسمعت منه في تلك الأيّام فرميت به».

قال:

«وذكر لشيخنا أبي الحجّاج حديث فقال: قيل: إسحاق اختلط في آخر عمره» «1».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 183/ 733.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 263

روح بن عبادة … ص: 263

وأمّا روح بن عبادة، وقد أثني عليه جماعة من الأكابر كما في (تذهيب التهذيب) حيث قال:

«روح بن عبادة بن العلاء بن حسان القيسي، أبو محمّد، البصري، أحد الحفّاظ والرؤساء، عن حسين المعلم وابن عون وهشام بن حسان وحاتم بن أبي صغيرة وزكريا بن إسحاق وابن جريج وعوف الأعرابي وخلق كثير، وعنه:

أحمد وابن راهويه وإسحاق الكوسج وإبراهيم الجوزجاني وعبد بن حميد وأبوبكر الصاغاني ويحيي بن أبي طالب، وخلائق من آخرهم الكديمي.

قال الكديمي: سمعت علي بن المديني يقول: نظرت لروح بن عبادة في أكثر من مائة ألف حديث، كتبت منها عشرة آلاف.

قال يعقوب بن شبية: كان روح أحد من تحمّل الحمالات، وكان سريّاً مريّاً كثير الحديث جدّاً، صدوقاً، سمعت علي بن عبداللَّه يقول: من المحدّثين قوم لا يزالوا في الحديث … فطلبوا ثمّ صنّفوا ثمّ حدّثوا، منهم روح بن عبادة.

وقال ابن معين: صدوق» «1».

وقال ابن حجر:

«ثقة فاضل، له تصانيف» «2».

__________________________________________________

(1) تذهيب التهذيب- مخطوط. وانظر تهذيب التهذيب 3: 253/ 549.

(2) تقريب التهذيب 1: 249/ 2143.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 264

فإنّ القواريري تكلّم فيه وأنكر عليه جملةً من أحاديثه.

وقال أبو حاتم: لا يحتجّ به.

وقال النسائي: ليس بقوي.

وطعن فيه جماعة من الأئمّة. قال الذهبي في (الميزان):

«روح بن عبادة بن العلاء بن حسان البصري،

القيسي، ثقة مشهور، حافظ، من علماء أهل البصرة. عن حسين المعلم وابن عون وخلق، وعنه:

أحمد وعبد بن حميد وأبوبكر الصاغاني وخلق.

وروي الكديمي عن ابن المديني قال: نظرت لروح في أكثر من مائة ألف حديث، كتبت منها عشرة آلاف.

وقال ابن معين وغيره: صدوق.

وتكلّم فيه القواريري بلا حجّة.

وقال ابن المديني: ذكر عبدالرحمان روح بن عبادة فقلت: لا تفعل، فإنّ هاهنا قوماً يحملون كلامك، فقال: أستغفر اللَّه، ثمّ دخل فتوضّأ، يذهب إلي أنّ الغيبة تنقض الوضوء.

وقيل: إنّ عبدالرحمان تكلّم فيه، لكونه وهم في إسناد، فلا ضير.

وقال يعقوب بن شيبة: قال محمّد بن عمر: قال يحيي بن معين: هذا القواريري يحدّث عن عشرين شيخاً من الكذّابين، ثمّ يقول: لا احدّث عن روح.

ثمّ قال يعقوب: وسمعتُ عفّان لا يرضي أمر روح بن عبادة، ثمّ بلغني عنه أنّه قوّاه.

وقال أحمد بن الفرات: طعن علي روح إثنا عشر رجلًا، فلم ينفذ قولهم فيه.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 265

وروي الكتاني عن أبي حاتم قال: لا يحتجّ به.

وقال س في العلل وفي الكني: روح ليس بالقوي.

قلت: نعم، عبدالرحمان بن مهدي أقوي منه، وأمّا هو فصدوق صاحب حديث.

وقال يعقوب بن شيبة: كان روح أحد من يتحمّل الحمالات، وكان سرياً مريّاً، صدوقاً، كثير الحديث جدّاً.

وقال ابن المديني: لم يزل روح في الحديث منذ نشأ.

قال علي: وكان ابن مهدي يطعن علي روح وينكر عليه أحاديث ابن أبي ذئب عن الزهري مسائل، فلمّا قدمت علي معن أخرجها لي وقال: هي عند بصري لكم، سمعها معنا، فأتيت عبدالرحمان فأخبرته فأحسبه قال: استحلّه لي.

قال يعقوب بن شيبة: سمعت ج عن ج عفّان ج أنّه ج لا يرضي أمر روح بن عبادة.

وقال أبو عبيد الآجري: سمعت أبا داود يقول:

أكثر ما أنكر القواريري علي روح تسعمائة حديث، حدّث بها عن مالك سماعاً.

مات روح سنة خمس ومائتين» «1».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 2: 58- 60/ 2802.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 266

عبد بن حميد … ص: 266

وأمّا عبد بن حُميد، فإنّ فضائله ومكارمه مذكورة في (تذكرة الحفّاظ) وغيره من الكتب «1».

لكنّ ابن تيميّة وأتباعه لا يرتضونه، لأنّه روي نزول قوله تعالي: «إنّما وليّكم اللَّه ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة … » الآية، في أميرالمؤمنين عليه الصّلاة والسّلام، كما في (الدرّ المنثور) بتفسيرها:

«أخرج عبدالرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وأبوالشيخ وابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله: «إنّما وليّكم اللَّه ورسوله» الآية. قال: نزلت في علي ابن أبي طالب» «2».

فقال ابن تيميّة:

«أجمع أهل العلم بالنقل علي أنّها لم تنزل في علي بخصوصه».

ثمّ قال:

«وأمّا أهل العلم الكبار أصحاب التفسير، كمحمّد بن جرير الطبري وبقي بن مخلد وابن أبي حاتم وأبي بكر ابن المنذر وعبدالرحمن بن إبراهيم وأمثالهم، فلم يذكروا فيها مثل هذه الموضوعات، دع من هو أعلم منهم مثل:

أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، بل لا يذكر مثل هذا عبد بن حميد ولا

__________________________________________________

(1) تذكرة الحفّاظ 2: 89/ 551.

(2) الدر المنثور 3: 105.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 267

عبدالرزاق، مع أنّ عبدالرزاق كان يميل إلي التشيّع، ويروي كثيراً من فضائل علي، وإنْ كانت ضعيفة، لكنّه أجلّ قدراً من أن يروي مثل هذا الكذب الظاهر» «1».

ومفهوم هذا الكلام أنّ «عبد بن حميد» ليس من أهل العلم الكبار أصحاب التفسير، بل ليس من صغارهم، لأنّ إخراج مثل هذا الحديث ليس من شأن العلماء …

لكن ابن تيميّة في هذا الكلام ينكر أن يكون ابن جرير مثلًا من رواة هذا الحديث، سبحانك اللّهم هذا بهتان عظيم …

فقد عرفت من كلام السيوطي روايته، وكذا رواية ابن أبي حاتم …

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 4: 5- 6، باختلافٍ يسير في بعض الألفاظ.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 268

سُنيد بن داود … ص: 268

وأمّا سُنيد، فإنّه وإنْ ذكره ابن حبّان في الثقات، وقال ابن أبي حاتم:

صدوق. لكنْ تكلّم فيه غير واحدٍ من الأئمّة الأعلام.

قال الذهبي في (الميزان):

«سنيد بن داود المصيصي المحتسب، واسمه الحسين، عن حمّاد بن زيد وهشيم والطبقة، حافظ له تفسير، وله ما ينكر.

أنبأنا ابن علان، أنا الكندي، عن القزاز، أنا الخطيب، أنا ابن شاذان، ثنا أبوسهل القطان، ثنا عبدالكريم بن الهيثم، ثنا سنيد، نا فرج بن فضالة عن، معاوية بن صالح، عن نافع قال: سرت مع ابن عمر فقال: طلعت الحمراء؟

قلت: لا. ثمّ قلت: قد طلعت. فقال: لا مرحباً بها ولا أهلًا. قلت: سبحان اللَّه نجم سامع مطيع. قال: ما قلت إلّاما سمعت من رسول صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّ الملائكة قالت: يا ربّ! كيف صبرك علي بني آدم؟ قال: إنّي ابتليتهم وعافيتكم. قالوا: لو كنّا مكانهم ما عصيناك. قال: فاختاروا ملكين منكم، فاختاروا هاروت وماروت، فنزلا، فألقي اللَّه عليهما الشهوة، فجاءت امرأة يقال لها الزهرة، وذكر الحديث بطوله.

روي عنه أبو زرعة والأثرم وجماعة.

صدّقه أبو حاتم.

وقال أبو داود: ولم يكن بذاك.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 269

وقال النسائي: الحسين بن داود ليس بثقة.

توفي سنيد سنة ست وعشرين ومائتين» «1».

وقال ابن حجر:

«ضعيف، مع إمامته ومعرفته، لكونه كان يلقن حجّاج بن محمّد شيخه» «2».

بل إنّ السيوطي ذكر في (اللآلي المصنوعة) تضعيف أبي داود والنسائي له، نقلًا عن كتاب الموضوعات لابن الجوزي.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 2: 236/ 3567.

(2) تقريب التهذيب 1: 323/ 2925.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 270

ابن أبي شيبة … ص: 270

وأمّا أبوبكر ابن أبي شيبة، فمناقبه وفضائله أشهر من أنْ تذكر، وأكثر من أنْ تحصر، قال المناوي في (فيض القدير):

«ابن أبي شيبة، الحافظ الثبت العديم النظير، عبداللَّه بن محمّد

بن أبي شيبة العبسي الكوفي، صاحب المسند والأحكام والتفسير وغيرها … وعنه:

الشيخان وأبو داود وابن ماجة وخلق» «1».

لكنّه لمّا روي تهديد عمر بن الخطّاب فاطمة الزهراء بنت رسول اللَّه وبضعته، الصدّيقة الطاهرة، بإحراق بيتها بمن فيه، فقد قدح فيه وجرحه ابن روزبهان وبعض المتعصّبين من أمثاله.

*** أقول:

هذا بعض الكلام علي أئمّة التفسير الذين ذكرهم السيوطي.

وقد رأينا من اللازم التعرّض لحال جمعٍ آخر من أئمّة التفسير من الطبقة الثانية والطبقة الثالثة، الذين لم يذكرهم السيوطي، تتميماً للبحث وتكميلًا للمرام …

__________________________________________________

(1) فيض القدير في شرح الجامع الصغير 1: 27.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 271

ابن شهاب الزّهري … ص: 271

فمنهم: الزّهري … وصفه الشيخ عبدالحق الدهلوي في كتاب (تحصيل الكمال في أسماء الرجال) ب «الإمام، أحد الفقهاء والمحدّثين، والعلماء الأعلام من التابعين بالمدينة، المشار إليه في فنون الشريعة» «1» وإليه نسب الأعور الواسطي تفسير أهل السنّة، نافياً رجوعهم في تفسير القرآن إلي أميرالمؤمنين «2» …

إلّاأنّ الدهلوي قال بعد ذلك بترجمته:

«ويقال: إنّه قد ابتلي بصحبة الامراء بقلّة الديانة، لضرورات عرضت له، وكان أقرانه من العلماء والزهّاد يأخذون عليه وينكرون ذلك منه، وكان يقول:

أنا شريك في خيرهم دون شرّهم، فيقولون: ألا تري ما هم فيه وتسكت؟».

وهنا يناسب أن نورد كلام ابن الجوزي في ذمّ صحبة الامراء والسّلاطين، فإنّه قال في (تلبيس إبليس):

«ومن تلبيس إبليس علي الفقهاء: مخالطتهم للُامراء والسلاطين ومداهنتهم وترك الإنكار عليهم، مع القدرة علي ذلك، وربّما رخّصوا لهم ما لا رخصة فيه، لينالوا من دنياهم، فيقع بذلك الفساد لثلاثة: الأوّل: الأمير، فيقول:

لولا أنّي علي صوابٍ لأنكر عليَّ الفقيه، وكيف لا أكون مصيباً وهو يأكل من __________________________________________________

(1) تحصيل الكمال/ رجال المشكاة.

(2) رسالة الأعور الواسطي- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص:

272

مالي؟ والثاني: العامي، فإنّه يقول: لا بأس بهذا الأمير ولا بماله ولا بأفعاله، فإنّ فلاناً الفقيه لا يزال عنده. والثالث: الفقيه، يفسد دينه بذلك» «1».

وقال الغزالي في (إحياء العلوم) في علامات علماء الآخرة:

«ومنها: أن يكون منقبضاً عن السلاطين، فلا يدخل عليهم البتّة، مادام يجد إلي الفرار عنهم سبيلًا، بل ينبغي أن يحترز من مخالطتهم وإن جاؤوا إليه، فإنّ الدنيا حلوة خضرة وزمامها بأيدي السلاطين، والمخالط لهم لا يخلو عن تكلّف في طلب مرضاتهم واستمالة قلوبهم، مع أنّهم ظلمة، ويجب علي كلّ متديّن الإنكار عليهم وتضييق صدورهم بإظهار ظلمهم وتقبيح فعلهم، فالداخل عليهم إمّا أن يلتفت إلي تجهلهم، فيزدري نعمة اللَّه عليه، أو يسكت عن الإنكار عليهم، فيكون مداهناً لهم، أو يتكلّف في كلامه كلاماً لمرضاتهم وتحسين أحوالهم، وذلك هو البهت الصريح، أو يطمع في أن ينال من دنياهم، وذلك هو السحت، وسيأتي في كتاب الحلال والحرام ما يجوز أن يؤخذ من أموال السلاطين وما لا يجوز من الأدرار والجوائز وغيرها.

وعلي الجملة، فمخالطتهم مفتاح الشرّ، وعلماء الآخرة طريقتهم الإحتياط، وقد قال صلّي اللَّه عليه وسلّم: من بدي جفا، يعني من سكن البادية جفا، ومن اتّبع الصيد غفل، ومن أتي السلطان افتتن.

وقال صلّي اللَّه عليه وسلّم: سيكون عليهم امراء تعرفون منه وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع أبعده اللَّه تعالي. قيل: أفلا نقاتلهم؟ قال صلّي اللَّه عليه وسلّم: لا، ما صلّوا.

وقال سفيان: في جهنّم واد، لا يسكنه إلّاالقرّاء الزائرون للملوك.

__________________________________________________

(1) تلبيس ابليس: 140، مع بعض الاختلاف في الألفاظ.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 273

وقال حذيفة رضي اللَّه عنه: إيّاكم ومواقف الفتن. قيل: وما هي؟ قال:

أبواب الامراء، يدخل أحدكم علي

الأمير، فيصدّقه بالكذب ويقول له ما ليس فيه.

وقال النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: العلماء امناء الرسل علي عباد اللَّه تعالي، ما لم يخالطوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل، فاحذروهم واعتزلوهم.

وقيل للأعمش: قد أحييت العلم لكثرة من يأخذه عنك. فقال: لا تعجلوا، ثلث يموتون قبل الإدراك، وثلث يلزمون أبواب السلاطين فهم شرّ الخلق، والثلث الباقي لا يفلح منهم إلّاالقليل.

ولذلك قال سعيد بن المسيّب: إذا رأيتم العالم يغشي الامراء فاحترزوا منه، فإنّه لصّ.

وقال الأوزاعي: ما من شي ء أبغض إلي اللَّه عزّ وجلّ من عالم يزور عاملًا، قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: شرار العلماء الذين يأتون الامراء، وخيار الامراء الذين يأتون العلماء.

وقال مكحول الدمشقي: من تعلّم القرآن وتفقّه في الدين ثمّ أصحب السلطان تملّقاً إليه وطمعاً في يديه، خاض في بحر من نار جهنّم بعدد خطاه.

وقال سحنون: ما أقبح بالعالم أن يؤتي إلي مجلسه فلا يوجد فيُسئل عنه فيقال: إنّه عند الأمير.

قال: وكنت أسمع أنّه يقال: إذا رأيتم العالم يحبّ الدنيا فاتّهموه علي دينكم، حتّي جرّبت ذلك، إذ ما دخلت قط علي السلطان إلّاما رأيت نفسي بعد الخروج، وأنتم تعلمون وترون ما ألقاه به من الغلظة والفظاظة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 274

وكثرةالمخالفة لهواه ولوددت أن أنجو من الدخول كفافاً، مع أنّي لا آخذ منه شيئاً ولا أشرب لهم شربة ماء.

قال: وزماننا هذا شرّ من علماء بني إسرائيل، يخبرون السلطان بالرّخص وبما يوافق هواه، ولو أخبروه بالذي عليه وفيه نجاته لاستثقلهم، فكره دخولهم عليه، وكان ذلك نجاة لهم عند ربّهم.

وقال الحسن: كان فيمن كان قبلكم رجل له قدم في الإسلام وصحبة لرسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم- قال عبداللَّه بن المبارك: عني به

سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه- وكان يغشي السلاطين، فقعد عنهم، فقال له بنوه:

يأتي هؤلاء من ليس هو مثلك في الصحبة والقدم في الإسلام، فلو أتيتهم.

فقال: بني! إنّ الدنيا جيفة وقد أحاط بها قوم، واللَّه لئن استطعت لا اشاركهم فيها. قالوا: يا أبانا! إذاً تهلك هزلًا. قال: يا بني! لأن أموت مؤمناً مهزولًا، أحبّ إليّ من أن أموت منافقاً سميناً.

قال الحسن رحمه اللَّه تعالي: خصمهم واللَّه، إذ علم أنّ التراب يأكل اللّحم والسمن دون الإيمان، وفي هذا إشارة إلي أنّ الدخول علي السلطان لا يسلم فيه أحد من النفاق البتّة، وهو مضاد للإيمان.

وقال أبوذر لسلمة: يا سلمة! لا تغش أبواب السلاطين، فإنّك لا تصيب من دنياهم شيئاً إلّاأصابوا من دينك أفضل منه.

وهذه فتنة عظيمة للعلماء وذريعة صعبة للشيطان عليهم، لاسيّما من له لهجة مقبولة وكلام حلو، إذ لا يزال الشيطان يلقي إليه أنّ في وعظك لهم ودخولك عليهم ما يزجرهم عن الظلم ويقيم شعائر الشرع، إلي أن يخيّل إليه أنّ الدخول عليهم من الدين، ثمّ إذا دخل لم يلبث أن يتلطّف في الكلام استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 275

ويداهن، ويخوض في الثناء والإطراء، وفيه هلاك الدين.

وكان يقال: العلماء إذا علموا عملوا، فإذا عملوا شغلوا، فإذا شغلوا فقدوا، فإذا فقدوا طلبوا، فإذا طلبوا هربوا.

وكتب عمر بن عبدالعزيز إلي الحسن رحمهما اللَّه تعالي: أمّا بعد؛ فأشر علَيّ بأقوام أستعين بهم علي أمر اللَّه تعالي. فكتب إليه: أمّا أهل الدين فلن يريدوك، وأمّا أهل الدنيا فلن تريدهم، ولكن عليك بالأشراف، فإنّهم يصونون شرفهم أن يدنّسوه بالخيانة.

هذا في عمر بن عبدالعزيز، وكان أزهد أهل زمانه، فإذا كان شرط أهل الدين الهرب منه، فكيف يستتب طلب غيره ومخالطته،

ولم يزل السلف العلماء مثل الحسن والثوري وابن المبارك والفضيل وإبراهيم بن أدهم ويوسف بن أسباط يتكلّمون في علماء الدنيا من أهل مكّة والشام، إمّا لميلهم إلي الدّنيا أو لمخالطتهم السلاطين، حتّي قال بعضهم لو قيل: من أحمق الناس، لأخذت بيد القاضي وقلت: هذا» «1».

__________________________________________________

(1) إحياء علوم الدين 1: 68- 69.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 276

جويبر بن سعيد … ص: 276

ومنهم: جويبر بن سعيد، وهو من رجال ابن ماجة، ومن أئمّة التفسير عندهم.

قال الذهبي بترجمته من (ميزان الإعتدال):

«جويبر بن سعيد، أبوالقاسم الأزدي البلخي، المفسّر، صاحب الضحّاك:

قال ابن معين: ليس بشي ء.

وقال الجوزجاني: لا يشتغل به.

وقال النسائي والدارقطني وغيرهما: متروك الحديث.

قلت: له عن أنس شي ء، وروي عنه حمّاد بن زيد بن أسلم وابن المبارك ويزيد بن هارون وطائفة.

أبو مالك: عن جويبر، عن الضحّاك، عن ابن عبّاس مرفوعاً قال: تجب الصّلاة علي الغلام إذا عقل والصّوم إذا أطاق.

ويروي عن جويبر عن الضحاك عن ابن عبّاس حديث: من اكتحل بالإثمد يوم عاشوراء لم يرمد أبداً.

قال أبو قدامة السرخسي: قال يحيي القطان: تساهلوا في أخذ التفسير عن قومٍ لا يثقونهم في الحديث، ثمّ ذكر ليث بن أبي سليم وجويبراً والضحّاك ومحمّد بن السائب وقال: هؤلاء لا يحمد حديثهم، ويكتب التفسير عنهم» «1».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 427/ 1593.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 277

وفي (تقريب التهذيب):

«ضعيف جدّاً» «1».

__________________________________________________

(1) تقريب التهذيب 1: 139/ 1089.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 278

أبو صالح باذام … ص: 278

ومنهم: أبوصالح باذام، وهو من رجال السنن الأربعة، وذكروا له فضائل.

ولكن أورده الذهبي في (ميزان الإعتدال) ونقل الكلمات في قدحه وجرحه فقال ما نصّه:

«باذام أبو صالح، تابعي، ضعّفه البخاري، وقال النسائي: باذام ليس بثقة، وقال ابن معين: ليس به بأس، وقال ابن عدي: عامّة ما يرويه تفسير.

قلت: روي عن مولاته ام هاني وأخيها علي وأبي هريرة.

وعنه: مالك بن مغول وسفيان الثوري وابن اخته عمّار بن محمّد.

وقال يحيي القطان: لم أر أحداً من أصحابنا ترك أباصالح مولي ام هاني.

وقال محمّد بن قيس عن حبيب بن أبي ثابت: كنّا نسمّي أباصالح باذام مولي ام هاني دروغزن.

وقال زكريا بن أبي زائدة: كان الشعبي

يمرّ بأبي صالح فيأخذ باذنه فيهزّها ويقول: ويلك، تفسّر القرآن وأنت لا تحفظ القرآن؟!

وقال إسماعيل بن أبي خالد: كان أبو صالح يكذب، فما سألته عن شي ء إلّا فسّره لي.

وروي ابن إدريس عن الأعمش قال: كنّا نأتي مجاهداً فنمرّ علي أبي صالح وعنده بضعة عشر غلاماً ما نري أنّ عنده شيئاً.

ابن المديني: سمعت يحيي بن سعيد يذكر عن سفيان قال: قال الكلبي استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 279

قال لي أبو صالح: كلّ ما حدّثتك كذب.

وروي مفضّل بن مهلهل عن مغيرة قال: إنّما كان أبو صالح صاحب الكلبي يعلّم الصبيان، وضعّف تفسيره.

وقال ابن معين: إذا روي عنه الكلبي فليس بشي ء. وقال عبدالحق في أحكامه: ضعيف جدّاً، فأنكر هذه العبارة عليه أبوالحسن ابن القطّان» «1».

وفي (الميزان) أيضاً:

«أبو صالح مولي ام هاني، اسمه باذام، تركه ابن مهدي وقوّاه غيره، وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم. وانتصر له يحيي القطّان وقال: لم أر أحداً من أصحابنا تركه، وما سمعنا أحداً يقول فيه شيئاً» «2».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 296/ 1121.

(2) ميزان الاعتدال 4: 538/ 10302.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 280

ليث بن أبي سليم … ص: 280

ومنهم: ليث بن أبي سليم، وقد وصفه بعضهم بمحامد كثيرة ومناقب غزيرة، لكنَّ غير واحدٍ من أعلامهم تكلّم فيه وجرحه، فقد قال الذهبي في (ميزان الإعتدال):

«ليث بن أبي سليم الكوفي الليثي، أحد العلماء.

قال أحمد: مضطرب الحديث لكن حدّث عنه الناس.

وقال يحيي والنسائي: ضعيف.

وقال ابن معين أيضاً: لا بأس به.

وقال ابن حبّان: اختلط في آخر عمره.

وقال الدارقطني: كان صاحب سنّة، إنّما أنكروا عليه الجمع بين عطاء وطاوس ومجاهد حسب.

وقال عبدالوارث: كان من أوعية العلم.

وقال أبوبكر ابن عيّاش: كان ليث من أكثر النّاس صلاة وصياماً.

قلت: حدّث عنه شعبة

وابن عليّة وأبو معاوية والنّاس.

وقال إبن إدريس: ما جلست إلي ليث إلّاسمعت منه ما لم أسمع منه.

وقال عبداللَّه بن أحمد: حدّثنا أبي قال: ما رأيت يحيي بن سعيد أسوأ رأياً في أحد منه في ليث ومحمّد بن إسحاق وهمام، لا يستطيع أحدٌ أن يراجعه فيهم.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 281

وقال ابن معين: ليث أضعف من عطاء بن السائب» «1».

وفي (تذهيب التهذيب):

«قال عبداللَّه بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: ليث بن أبي سليم مضطرب الحديث، ولكن حدّث عنه النّاس.

وقال أيضاً: سمعت أبي يقول: ما رأيت يحيي بن سعيد أسوأ رأياً في أحدٍ منه في ليث ومحمّد بن إسحاق وهمام، لا يستطيع أحد أن يراجعه فيهم.

وقال أيضاً: سمعت عثمان بن أبي شيبة قال: سألت جريراً عن ليث وعن عطاء بن السائب وعن يزيد بن أبي زياد فقال: كان يزيد أحسنهم استقامة في الحديث، ثمّ عطاء وكان ليث أكثر تخليطاً.

قال عبداللَّه: وسألت أبي عن هذا فقال: أقول كما قال جرير.

وقال أيضاً: قلت ليحيي بن معين: ليث بن أبي سليب أضعف من يزيد ابن أبي زياد وعطاء بن السائب؟ قال: نعم.

وقال لي يحيي مرّة اخري: ليث أضعف من يزيد بن أبي زياد، ويزيد فوقه في الحديث.

وقال معاوية بن صالح: عن يحيي بن معين: ليث بن أبي سليم ضعيف إلّا أنّه يكتب حديثه.

وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري: حدّثنا يحيي بن معين، عن يحيي بن سعيد القطّان أنّه كان لا يحدّث عن ليث بن أبي سليم.

وقال علي بن المديني: سمعت يحيي يقول: مجالد أحبّ إليّ من ليث وحجّاج بن أرطاة.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 420- 421/ 6997.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 282

وقال أيضاً: قلت لسفيان: إنّ ليث

روي عن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جدّه رأي النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم يتوضّأ، فأنكر ذلك سفيان وعجب منه أن يكون جدّه طلحة لقي النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم.

وقال أبو معمر القطيعي: كان ابن عيينة يضعّف ليث بن أبي سليم.

وقال علي بن محمّد الطنافسي: سألت وكيعاً عن حديث من حديث ليث بن أبي سليم، فقال: ليث كان سيفاً لا يسعي ليثاً.

وقال محمّد بن خلف التيمي عن قبيصة قال شعبة لليث بن أبي سليم:

أنّي اجتمع لك عطاء وطاوس ومجاهد؟ فقال: إذ أبوك يضرب بالخف ليلة عرسه.

قال قبيصة: فقال رجل كان جالساً لسفيان: فما زال شعبة مبغضاً لليث منذ يومئذ.

وقال- أي عبدالرحمان بن أبي حاتم-: سمعت أبي وأبازرعة يقولان:

ليث لا يشتغل به، هو مضطرب الحديث.

وقال أيضاً: سمعت أبازرعة يقول: ليث بن أبي سليم ليّن الحديث، لا يقوم به الحجّة عند أهل العلم بالحديث» «1».

__________________________________________________

(1) تذهيب التهذيب- مخطوط. تهذيب التهذيب 8: 418.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 283

عبداللَّه بن أبي نجيح … ص: 283

ومنهم: عبداللَّه بن أبي نجيح، وقد قال الذهبي بأنّه من الأئمّة الثقات، وعن ابن المديني كونه من المحدّثين الأثبات …

لكن البخاري نسب إليه القول بالقدر، وعن ابن المديني الجزم بكونه من القدريّة. قال الذهبي:

«عبداللَّه بن أبي نجيح المكي صاحب التفسير، أخذ عن مجاهد وعطاء، وهو من الأئمّة الثقات.

وقال يحيي القطان: لم يسمع التفسير كلّه من مجاهد، بل كلّه عن القاسم بن أبي بزّة.

وقال العقيلي: ثنا آدم بن موسي: سمعت البخاري قال: عبداللَّه بن أبي نجيح كان يتّهم بالإعتزال والقدر.

وقال ابن المديني: كان يري الإعتزال.

وقال أحمد: أفسدوه بآخره وكان جالس عمرو بن عبيد.

وقال علي: سمعت القطان يقول: ابن أبي نجيح من رؤوس الدعاة.

وقال ابن المديني أيضاً: أمّا الحديث

فهو فيه ثقة، وأمّا الرأي، فكان قدريّاً معتزليّاً، وقد ذكره الجوزجاني فيمن رمي بالقدر هو وزكريّا بن إسحاق وشبل بن عباد وابن أبي ذئب وسيف بن سليمان» «1».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 2: 515/ 4651.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 284

هذا، وقد ذكر في (الميزان) نقلًا عن النسائي أنّه كان يدلّس.

وكذا في (تقريب التهذيب) «1».

وقد تقدّم بعض الكلام في ذمّ القدريّة وذمّ التدليس. ولا نعيد.

__________________________________________________

(1) انظر تقريب التهذيب 1: 427/ 4061.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 285

عيسي بن ميمون … ص: 285

ومنهم: عيسي بن ميمون، الذي وثّقوه، ولكنْ قالوا: إلّاأنّه يري القدر.

ففي (ميزان الإعتدال):

«عيسي بن ميمون، أبو موسي المكي، الجرشي المعروف بابن دايه، له تفسير صغير، أخذ عن مجاهد وقيس بن سعد وابن أبي نجيح.

روي عنه ابن عيينة وأبو عاصم، وقرأ القرآن عن ابن كثير.

وثّقه أبو حاتم وأبو داود وزاد: إلّاأنّه يري القدر.

وقال ابن معين: ليس به بأس» «1».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 327/ 6619.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 286

مقاتل بن حيّان … ص: 286

ومنهم: مقاتل بن حيّان، وقد وثّقه غير واحدٍ من الأئمّة، لكنْ نسبه بعضهم إلي الكذب، وحاول الذهبي تبرأته، وقال بعضهم: لا أحتجّ به، وهذا نصّ ما جاء في (الميزان):

«مقاتل بن حيان، أبو بسطام البلخي، الخراساني الخراز، أحد الأعلام.

روي عن الضحاك ومجاهد وعكرمة والشعبي وشهر بن حوشب وخلق، وعنه:

ابن المبارك وبكير بن معروف وعيسي غنجار وآخرون. وروي عنه من شيوخه علقمة بن مرثد، وذلك في صحيح مسلم.

وكان عابداً كبير القدر صاحب سنّة وصدق، هرب أيّام أبي مسلم الخراساني إلي كابل، ودعا خلقاً إلي الإسلام فأسلموا.

وثّقه يحيي بن معين وأبو داود وغيرهما.

وقال النسائي: ليس به بأس.

وقال أبوالفتح الأزدي: سكتوا عنه.

ثمّ ذكر أبوالفتح عن وكيع أنّه قال: ينسب إلي الكذب، كذا قال أبوالفتح، وأحسبه التبس عليه مقاتل بن حيان بمقاتل بن سليمان، فابن حيان صدوق قوي الحديث، والذي كذّبه وكيع فابن سليمان.

ثمّ قال أبوالفتح: ثنا أبو يعلي الموصلي، ثنا عثمان بن أبي شيبة، عن حميد الرؤاسي، عن الحسن بن صالح، عن هارون أبي محمّد، عن مقاتل،

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 287

عن قتادة، عن أنس مرفوعاً قال: قلب القرآن يس، فمن قرأها كتب اللَّه له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرّات.

قلت: الظاهر أنّه مقاتل بن سليمان، وقد جاء

توثيق يحيي بن معين لابن حيّان من وجوه عنه.

وقال فيه الدارقطني: صالح الحديث.

نعم، أمّا ابن خزيمة فقال: لا أحتج بمقاتل بن حيان.

قلت: مات قبل الخمسين ومائة فيما أري» «1».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 4: 171- 172/ 8739.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 288

مقاتل بن سليمان … ص: 288

ومنهم: مقاتل بن سليمان، الذي قيل: إنّ النّاس كلّهم عيال عليه في التفسير، ووصفه الأعلام بالأوصاف الجليلة «1».

لكنّ تفسيره مشحون بالأخبار المصنوعة والآثار الموضوعة، بل إنّه متّخذ من اليهود والنصاري.

وكان هو من المشبّهة الذين يشبّهون الباري تعالي بالمخلوقين.

ومنهم من نسبه إلي الكذب …

وقد جاء التصريح بهذه الأضاليل في تراجمه علي لسان الأكابر، ففي (ميزان الإعتدال) ما نصّه:

«قال أبو حنيفة: أفرط جهم في نفي التشبيه حتّي قال إنّه تعالي ليس بشي ء، وأفرط مقاتل- يعني في الإثبات- حتّي جعله مثل خلقه.

وقال وكيع: كان كذّاباً.

وقال البخاري: قال سفيان بن عيينة: سمعت مقاتلًا يقول: إنْ لم يخرج الدجّال في سنة خمسين ومائة فاعلموا أنّي كذّاب.

وقال الجوزجاني: كان دجّالًا جسوراً.

وقال ابن حبّان: كان يأخذ عن اليهود والنصاري من علم القرآن الذي يوافق كتبهم، وكان يشبّه الربّ بالمخلوق، وكان يكذب في الحديث.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 4: 173/ 8741.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 289

وقال أبو معاذ الفضل بن خالد المروزي: سمعت خارجة بن مصعب يقول: لم أستحل دم يهودي، ولو وجدت مقاتل بن سليمان خلوةً لشققت بطنه» «1».

وفي (تنزيه الشريعة):

«مقاتل بن سليمان البلخي المفسّر: كذّاب، وهو من المعروفين بوضع الحديث» «2».

وفي (تاريخ بغداد):

«قال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: أخرجت خراسان ثلاثة لم يكن لهم في الدنيا نظير- يعني في البدعة والكذب-: جهم بن صفوان وعمر بن صبيح ومقاتل بن سليمان.

وروي أبو يوسف أنّه قال: بخراسان صنفان ما علي الأرض أبغض

إليَّ منهما: المقاتليّة والجهميّة» «3».

فهذا حال من كلّ النّاس عيال عليه في التفسير، وهذا حال تفسيره …

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 4: 173- 175/ 8741.

(2) تنزيه الشريعة الغرّاء 1: 119.

(3) تاريخ بغداد 13: 164/ 7143.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 290

السدّي الكبير … ص: 290

ومنهم: السدي الكبير، أخرج عنه مسلم والأربعة، وأثني عليه العلماء وعلي تفسيره:

وقال السيوطي:

«قال أبوبكر ابن أبي إدريس: ليس أحد بعد الصحابة أعلم بالقرآن من أبي العالية، وبعده سعيد بن جبير، وبعده السدّي، وبعده سفيان الثوري» «1».

وقال اليافعي:

«الإمام السدي المفسّر الكوفي المشهور» «2».

وقال الذهبي:

«قال ابن عدي: هو عندي مستقيم الحديث، صدوق» «3».

وقال السمعاني:

«والمشهور بهذه النسبة: إسماعيل بن عبدالرحمان بن أبي ذئب وقيل:

ابن أبي كريمة السدي الأعور، مولي زينب بنت قيس بن مخرمة، من بني عبد مناف، حجازي الأصل، سكن الكوفة، يروي عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه وعبد خير وأبي صالح، وقد رأي ابن عمر رضي اللَّه عنهما، وهو السديّ __________________________________________________

(1) تدريب الراوي 2: 400.

(2) مرآة الجنان 1: 211 السنة 127.

(3) تذهيب التهذيب- مخطوط. تهذيب التهذيب 1: 273.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 291

الكبير، ثقة مأمون.

روي عنه: الثوري وشعبة وزائدة وسماك بن حرب وإسماعيل بن أبي خالد وسليمان التيمي.

ومات سنة سبع وعشرين ومائة، في إمارة ابن هبيرة.

وكان إسماعيل بن أبي خالد يقول: السدي أعلم بالقرآن من الشعبي.

قال أبوبكر أحمد بن موسي بن مردويه الحافظ: إسماعيل بن عبدالرحمان السدّي، يكني أبامحمّد، صاحب التفسير، وإنّما سمّي السدّي لأنّه نزل بالسدّة، وكان أبوه من كبار أهل إصبهان، توفي سنة سبع وعشرين ومائة، في ولاية بني مروان.

روي عن أنس بن مالك، وأدرك جماعة من أصحاب النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، منهم: سعد بن أبي وقاص وأبو سعيد الخدري وابن عمر

وأبو هريرة وابن عبّاس.

حدّث عنه: الثوري وشعبة وأبو عوانة والحسن بن صالح.

قال ابن أبي حاتم: إسماعيل بن عبدالرحمان السدّي الأعور، مولي زينب بنت قيس بن مخرمة، أصله حجازي، يعدّ في الكوفيّين، وكان شريك يقول: ما ندمت علي رجل لقيته أن لا أكون كتبت كلّ شي ء لفظ به، إلّا السدّي.

قال يحيي بن سعيد: ما سمعت أحداً يذكر السدّي إلّابخير، وما تركه أحد» «1».

وفي (الإتقان) نقلًا عن الحليمي في الإرشاد:

__________________________________________________

(1) الأنساب 3: 238- 239.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 292

«وتفسير إسماعيل السدّي يورده بأسانيد إلي ابن مسعود وابن عبّاس.

وروي عن السدّي الأئمّة مثل: الثوري وشعبة، لكن التفسير الذي جمعه رواه عنه أسباط بن نصر، وأسباط لم يتفقوا عليه، غير أنّ أمثل التفاسير تفسير السدّي» «1».

ومع ذلك كلّه … فإليك بعض الكلمات في جرحه والطعن عليه في كتبهم:

ففي (الميزان):

«إسماعيل بن عبدالرحمن بن أبي كريمة، السدّي، الكوفي. عن أنس وعبداللَّه البهيّ وجماعة. وعنه: الثوري وأبوبكر ابن عيّاش وخلق. ورأي أباهريرة.

قال يحيي بن القطّان: لا بأس به.

وقال أحمد: ثقة.

وقال ابن معين: في حديثه ضعف.

وقال أبو حاتم: لا يحتجّ به.

وقال ابن عدي: هو عندي صدوق.

وروي شريك عن سَلْم بن عبدالرحمن قال: مرّ إبراهيم النخعي بالسدّي وهو يفسّر لهم القرآن فقال: أمّا إنّه يفسّر تفسير القوم.

قال عبداللَّه بن حبيب بن أبي ثابت: سمعت الشعبي وقيل له إنّ إسماعيل السدي قد اعطي حظّاً من علم القرآن. فقال: قد اعطي حظّاً من جهل بالقرآن.

وقال الفلّاس عن ابن مهدي: ضعيف.

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 4: 238.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 293

وقال الجوزجاني عن معتمر عن ليث قال: كان بالكوفة كذّابان، فمات أحدهما: السدي والكلبي» «1».

وفي (الكاشف):

«قال أبو حاتم: لا يحتجّ به» «2».

وفي

هامشه للبدخشي:

«قال السعدي: هو كذّاب شتّام.

وقال أبو زرعة: ليّن» «3».

__________________________________________________

(1) ميزان الإعتدال 1: 236- 237/ 907.

(2) الكاشف عن أسماء رجال الكتب الستّة 1: 79/ 394.

(3) الحاشية علي الكاشف- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 294

محمّد بن السّائب الكلبي … ص: 294

ومنهم: محمّد بن السائب الكلبي «صاحب التفسير وعلم النسب، كان إماماً في هذين العلمين» «1».

وأخرج عنه الترمذي وغيره من كبار الأعلام «2».

وقال ابن عدي:

«وللكلبي غير ما ذكرت أحاديث صالحة، خاصّة عن أبي صالح، وهو معروف بالتفسير، وليس لأحدٍ تفسير أطول منه ولا أشبع منه، وبعده مقاتل بن سليمان، إلّاأنّ الكلبي يفضَّل علي مقاتل بن سليمان، لما قيل في مقاتل من المذاهب الرديّة.

وحدّث عن الكلبي الثوري وشعبة، وإن كانا حدّثا عنه بالشي ء اليسير غير المسند، وحدّث عنه: ابن عيينة وحمّاد بن سلمة وهشيم وغيرهم من ثقات الناس، ورضوه في التفسير … » «3».

«وقال الحسن بن عثمان القاضي: وجدت العلم بالعراق والحجاز ثلاثة:

علم أبي حنيفة وتفسير الكلبي ومغازي محمّد بن إسحاق» «4».

وقال البزدوي:

__________________________________________________

(1) وفيات الأعيان 4: 309/ 634.

(2) تهذيب التهذيب 9: 157.

(3) تهذيب الكمال 25: 251- 252/ 5234.

(4) تاريخ بغداد 13: 347/ 7297.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 295

«ليس من اتّهم بوجهٍ مّا يسقط به كلّ حديثه، مثل الكلبي وأمثاله … » «1».

فقال شارحه بشرح هذه الجملة:

«قوله: مثل الكلبي. هو أبو سعيد محمّد بن السائب الكلبي صاحب التفسير ويقال له أبوالنضر أيضاً، طعنوا فيه بأنّه يروي تفسير كلّ آية عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، وتسمّي زوائد الكلبي، وبأنّه روي حديثاً عند الحجّاج، فسأله عمّن يرويه، فقال: عن الحسن بن علي رضي اللَّه عنهما، فلمّا خرج قيل له: هل سمعت ذلك من الحسن؟ فقال: لا، ولكنّي رويت عن الحسن غيظاً

له.

وذكر في الأنساب أنّ الثوري ومحمّد بن إسحاق يرويان عنه ويقولان:

حدّثنا أبوالنضر، حتّي لا يعرف.

قال: وكان الكلبي سبائيّاً من أصحاب عبداللَّه بن سبأ، من أولئك الّذين يقولون: إنّ عليّاً لم يمت، وأنّه راجع إلي الدنيا قبل قيام السّاعة، فيملؤها عدلًا كما ملئت جوراً، وإذا رأوا سحابة قالوا: أميرالمؤمنين فيها، والرعد صوته، والبرق سوطه، حتّي تبرّأ واحد منهم وقال:

ومن قوم إذا ذكروا عليّاً يفصّلون الصّلاة علي السحاب مات الكلبي سنة ست وأربعين ومائة.

وأمثاله: مثل عطاء بن السائب وربيعة بن عبدالرحمن وسعيد بن أبي عروبة وغيرهم، اختلطت عقولهم فلم تُقبل رواياتهم التي بعد الإختلاط، وقبلت الروايات التي قبله.

فإن قيل: ما نقل عن الكلبي يوجب الطعن عامّاً، فينبغي أن لا تقبل __________________________________________________

(1) اصول الفقه (متن كشف الأسرار) 3: 72.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 296

رواياته جميعاً.

قلنا: إنّما يوجب ذلك إذا ثبت ما نقلوا عنه بطريق القطع، فأمّا إذا اتّهم به، فلا يثبت حكمه في غير موضع التهمة، وينبغي أن لا يثبت في موضع التهمة أيضاً، إلّاأنّ ذلك يورث شبهة في الثبوب، وبالشبهة تردّ الحجّة وينتفي ترجّح الصدق في الخبر، فلذلك لم يثبت. أو معناه ليس كلّ من اتّهم بوجه ساقط الحديث، مثل الكلبي وعبداللَّه بن لهيعة والحسن بن عمارة وسفيان الثوري وغيرهم، فإنّه قد طعن في كلّ واحد منهم بوجه، ولكن علوّ درجتهم في الدّين وتقدّم رتبتهم في العلم والورع، منع من قبول ذلك الطعن في حقّهم ومن ردّ حديثهم به، إذ لو ردّ حديث أمثال هؤلاء بطعن كلّ أحد، انقطع طريق الرواية واندرس الأخبار، إذ لم يوجد بعد الأنبياء عليهم السلام من لا يوجد فيه أدني شي ء ممّا يجرح، إلّامن شاء اللَّه تعالي، فلذلك لم يلتفت

إلي مثل هذا الطعن، فيحمل علي أحسن الوجوه، وهو قصد الصيانة كما ذكر» «1».

وقال القاضي العامري في كتاب (الناسخ والمنسوخ):

«قد خرّجت هذا من التفاسير التي سمعتها من الأئمّة رحمهم اللَّه، منها ما سمعت من الأستاذ الإمام أبي إسحاق إبراهيم بن محمّد الإسفرايني رحمه اللَّه، مثل تفسير مقاتل بن سليمان والحلبي والكلبي … ولم أعتمد إلّابما صحّ عندي بتواتر واستفاضة، أو روي في الصحاح بغير طعن الطاعن، واللَّه الموفّق لذلك» «2».

لكن العجب، أنّ أئمّة القوم يطعنون في الكلبي وتفسيره، فمنهم من __________________________________________________

(1) كشف الأسرار- شرح اصول البزدوي 3: 72- 73.

(2) الناسخ والمنسوخ للقاضي العامري- مقدّمة الكتاب.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 297

يقول هو كاذب، ومنهم من ينادي بضلالته وإلحاده، ومنهم من يحرّم أنْ يُنظر في تفسيره …

قال الذهبي في (ميزان الإعتدال):

«قال أحمد بن زهير لأحمد بن حنبل: يحلّ النظر في تفسير الكلبي؟

قال: لا.

عبّاس عن ابن معين قال: الكلبي ليس بثقة.

وقال الجوزجاني وغيره: كذّاب.

وقال الدارقطني وجماعة: متروك.

وقال ابن حبّان: مذهبه في الدين ووضوح الكذب فيه، أظهر من أن يحتاج إلي الإغراق في وصفه» «1».

وفي (تذكرة الموضوعات):

«قد قال أحمد في تفسير الكلبي: من أوّله إلي آخره كذب، لا يحلُّ النظر فيه» «2».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 558- 559/ 7574.

(2) تذكرة الموضوعات: 82.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 298

علي بن أبي طلحة … ص: 298

ومنهم: علي بن أبي طلحة، وهو من رواة تفسير ابن عبّاس، ووصف السيوطي نسخته بالجودة، وأورد كلاماً لأحمد في الاعتماد عليه، قال في (الإتقان):

«وقد ورد عن ابن عبّاس في التفسير ما لا يحصي كثرةً، وفيه روايات وطرق مختلفة، فمن جيّدها طريق علي بن أبي طلحة الهاشمي عنه.

قال أحمد بن حنبل: بمصر صحيفة في التفسير، رواها علي بن أبي طلحة،

لو رحل رجل فيها إلي مصر قاصداً ما كان كثيراً. أسنده أبو جعفر النحاس في ناسخه.

قال ابن حجر: وهذه النسخة كانت عند أبي صالح كاتب الليث، رواها عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عبّاس، وهي عند البخاري عن أبي صالح، وقد اعتمد عليها في صحيحه كثيراً، فيما يعلّقه عن ابن عبّاس. وأخرج منها ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر كثيراً، بوسائط بينهم وبين أبي صالح» «1».

لكن المشكلة هي:

أوّلًا: إنّ في إسناد هذه النسخة إرسالًا، لأنّ ابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عبّاس، قال في (الإتقان):

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 4: 237.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 299

«وقال قوم: لم يسمع ابن أبي طلحة من ابن عبّاس التفسير، إنّما أخذه عن مجاهد أو سعيد بن جبير» «1».

لكنّ ابن حجر يحاول دفع هذا الإشكال، قال السيوطي:

«قال ابن حجر: بعد أنْ عرفت الواسطة وهو ثقة، فلا ضير في ذلك» «2».

وثانياً: إنّ الرجل مطعون في وثاقته، ففي (ميزان الإعتدال) للذهبي:

«علي بن أبي طلحة، عن مجاهد وأبي الوداك وراشد بن سعد، وأخذ تفسير ابن عبّاس عن مجاهد، فلم يذكر مجاهداً، بل أرسله عن ابن عبّاس.

قال أحمد بن محمّد بن عيسي في تاريخ حمص: إسم أبيه سالم بن مخارق، فأعتقه العبّاس.

ومات علي سنة ثلاث وأربعين ومائة.

وقال أحمد بن حنبل: له أشياء منكرات.

وقال أبو داود: كان يري السيف.

وقال النسائي: ليس به بأس.

قلت: حدّث عنه معاوية بن صالح وسفيان الثوري، عداده في أهل حمص، قال دحيم: لم يسمع علي بن أبي طلحة التفسير من ابن عبّاس.

قلت: روي معاوية بن صالح عنه عن ابن عبّاس تفسيراً كبيراً ممتعاً» «3».

وفي (حاشية الكاشف):

«قال يعقوب بن سفيان: ضعيف الحديث،

يعني علي بن أبي طلحة» «4».

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 4: 237.

(2) الإتقان في علوم القرآن 4: 237.

(3) ميزان الاعتدال 3: 134/ 5870.

(4) حاشية الكاشف- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 300

وثالثاً: إنّ هذه النسخة يرويها أبو صالح عن معاوية بن صالح، وهو أيضاً مجروح جدّاً، قال في (الميزان):

«معاوية بن صالح الحضرمي الحمصي، قاضي الأندلس، أبو عمرو، روي عن مكحول والكبار، وعنه: ابن وهب وعبدالرحمن بن مهدي وأبو صالح وطائفة.

وثّقه أحمد وأبو زرعة وغيرهما.

وكان يحيي القطان يتعنّت ولا يرضاه، وقال أبو حاتم: لا يحتجّ به، ولذا لم يخرّج له البخاري، وليّنه ابن معين … » «1».

ورابعاً: إنّ أباصالح- كاتب الليث- أيضاً غير صالح. قال في (الميزان):

«عبداللَّه بن صالح بن محمّد بن مسلم الجهني المصري، أبو صالح، كاتب الليث بن سعد علي أمواله، هو صاحب حديث وعلم مكثر، وله مناكير، حدّث عن معاوية بن صالح والليث وموسي بن علي وخلق، وعنه شيخه الليث وابن وهب وابن معين وأحمد بن الفرات، والناس.

قال عبدالملك بن شعيب بن الليث: ثقة مأمون، سمع من جدّي حديثه.

وقال أبو حاتم: سمعت محمّد بن عبداللَّه بن عبدالحكم وسئل عن أبي صالح فقال: تسألني عن أقرب رجل إلي الليث، لزمه سفراً وحضراً، وكان يخلو معه كثيراً، لا ينكر لمثله أن يكون قد سمع منه كثرة ما أخرج عن الليث.

وقال أبوحاتم: سمعت ابن معين يقول: أقلّ أحواله أن يكون قرأ هذه الكتب علي الليث وأجازها له، ويمكن أن يكون ابن أبي ذئب كتب إليه بهذا الدرج.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 4: 135/ 8624.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 301

قال: وسمعت أحمد بن صالح يقول: لا أعلم أحداً روي عن الليث عن ابن أبي ذئب إلّاأبو صالح.

وقال

أحمد بن حنبل: كان أوّل أمره متماسكاً ثمّ فسد بأخرة، يروي عن ليث عن ابن أبي ذئب، ولم يسمع الليث من ابن أبي ذئب شيئاً.

وقال أبو حاتم: هو صدوق أمين ما علمته.

وقال أبو زرعة: لم يكن عندي ممّن يتعمّد الكذب، وكان حسن الحديث.

وقال أبو حاتم: أخرج أحاديث في آخر عمره أنكروها عليه، يري أنّها ممّا افتعل خالد بن نجيح، وكان أبو صالح يصحبه، وكان سليم الناحية، لم يكن وزن أبي صالح الكذب، كان رجلًا صالحاً.

وقال أحمد بن محمّد ج بن ج الحجاج بن رشدين: سمعت أحمد بن صالح يقول: متّهم ليس بشي ء- يعني الحمراوي عبداللَّه بن صالح-.

وسمعت أحمد بن صالح يقول في عبداللَّه بن صالح، فأجروا عليه كلمة اخري.

وقال ابن عبدالحكم: سمعت أبي عبداللَّه يقول ما لا احصي وقد قيل له:

إنّ يحيي بن بكير يقول في أبي صالح شيئاً، فقال: قل له: هل حدّثك الليث قطّ إلّاوأبو صالح عنده، وقد كان يخرج معه إلي الأسفار وهو كاتبه، فتنكر أن يكون عنده ما ليس عند غيره.

وقال سعيد بن منصور: كلّمني يحيي بن معين قال: أحبّ أن تمسك عن عبداللَّه بن صالح، فقلت: لا أمسك عنه وأنا أعلم النّاس به، إنّما كان كاتباً للضياع.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 302

وقال أحمد: كتب إليّ- وأنا بحمص- يسألني الزيارة.

قال الفضل بن محمّد الشعراني: إنّي مارأيت أباصالح إلّاوهو يحدّث أو يسبّح.

قال صالح جَزَرة: كان ابن معين يوثّقه، وهو عندي يكذب في الحديث.

وقال النسائي: ليس بثقة، يحيي بن بكير أحبّ إلينا منه.

وقال ابن المديني: لا أروي عنه شيئاً.

وقال ابن حبّان: كان في نفسه صدوقاً، إنّما وقعت المناكير في حديثه من قبل جارٍ له، فسمعت ابن خزيمة يقول: كان له جار

كان بينه وبينه عداوة، كان يضع الحديث علي شيخ أبي صالح ويكتبه بخط يشبه خط عبداللَّه ويرميه في داره بين كتبه، فيتوهّم عبداللَّه أنّه خطّه فيحدّث به.

وقال ابن عدي: هو عندي مستقيم الحديث، إلّاأنّه يقع في أسانيده ومتونه غلط ولا يتعمّد.

قلت: وقد روي عنه البخاري في الصحيح علي الصحيح، ولكنّه يدلّسه فيقول: ثنا عبداللَّه ولا ينسبه وهو هو، نعم علّق البخاري حديثاً فقال فيه: قال الليث بن سعد: حدّثني جعفر بن ربيعة، ثمّ قال في آخر الحديث: حدّثني عبداللَّه بن صالح، ثنا الليث، فذكره، ولكن هذا عند ابن حمويه السرخسي دون صاحبيه.

وفي الجملة؛ ما هو بدون نعيم بن حمّاد، ولا إسماعيل بن أبي أويس، ولا سويد بن سعيد، وحديثهم في الصحيحين، ولكلّ منهم مناكير تغتفر في كثرة ما روي، وبعضها منكر واهٍ، وبعضها غريب محتمل.

وقد قامت القيامة علي عبداللَّه بن صالح بهذا الخبر الذي قال: حدّثنا

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 303

نافع بن يزيد، عن زهرة بن معبد، عن سعيد بن المسيّب، عن جابر، مرفوعاً:

إنّ اللَّه اختار أصحابي علي العالمين سوي النبيّين والمرسلين، واختار من أصحابي أربعة: أبابكر وعمر وعثمان وعليّاً، فجعلهم خير أصحابي، وفي أصحابي كلّهم خير.

قال سعيد بن عمرو، عن أبي زرعة: بُلي أبو صالح بخالد بن نجيح، في حديث زهرة بن معبد عن سعيد، وليس له أصل.

قلت: قد رواه أبو العبّاس محمّد بن أحمد الأثرم … » «1».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 2: 440- 442/ 4383.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 304

سعيد بن بشير … ص: 304

ومنهم: سعيد بن بشير، صاحب قتادة، من رجال السنن الأربعة، وهذه ترجمته في (الميزان):

«سعيد بن بشير، صاحب قتادة، سكن دمشق، وحدّث عن قتادة والزهري وجماعة، وعنه: أبو مسهر وأبوالجماهر ويحيي

الوحاظي.

قال أبو مسهر: لم يكن في بلدنا أحفظ منه، وهو منكر الحديث.

وقال أبو حاتم: محلّه الصّدق.

وقال البخاري: يتكلّمون في حفظه.

وقال بقيّة: سألت شعبة عنه فقال: ذاك صدوق اللّسان.

وقال عثمان عن ابن معين: ضعيف.

وقال عبّاس عن ابن معين: ليس بشي ء.

وقال الفلّاس: حدّثنا عنه ابن مهدي ثمّ تركه.

وقال النسائي: ضعيف.

وقال ابن الجوزي: قد وثّقه شعبة ودحيم.

وقال ابن عيينة: حدّثنا سعيد بن بشير وكان حافظاً.

وقال أبو زرعة النصري: قلت لأبي الجماهر: كان سعيد بن بشير قدريّاً؟

قال: معاذ اللَّه.

وسمعت أبا مسهر يقول: أتيت سعيداً أنا ومحمّد بن شعيب فقال: واللَّه استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 305

لا أقول إنّ اللَّه يقدّر الشر ويعذّب عليه، ثمّ قال: أستغفر اللَّه، أردت الخير فوقعت في الشرّ».

«قال يعقوب الفسوي: سألت أبا مسهر عن سعيد بن بشير فقال: لم يكن في جندنا أحفظ منه، وهو ضعيف، منكر الحديث.

وقال ابن نمير: يروي عن قتادة المنكرات.

وذكره أبو زرعة في الضعفاء وقال: لا يحتجّ به، وكذا قال أبو حاتم».

«ولسعيد تفسير رواه عنه الوليد.

قال ابن عدي: لا أري بما يروي بأساً، ولعلّه يهم ويغلط.

وله عند أهل دمشق تصانيف، رأيت له تفسيراً مصنّفاً، والغالب عليه الصّدق.

قيل: مات سنة ثمان وستّين ومائة» «1».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 2: 128- 130/ 3143.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 306

الفريابي … ص: 306

ومنهم: الفريابي … فإنّه وإنْ مدح ووثّق، كما في (الوافي بالوفيات) حيث قال:

«محمّد بن يوسف بن واقد، أبو عبداللَّه الفريابي، ولد سنة 120، كان عالماً زاهداً ورعاً، من الطبقة السادسة، قال: رأيت في المنام أنّي دخلت كرماً فيه عنب، فأكلت من عنبه كلّه إلّاالأبيض، فقصصت رؤياي علي سفيان الثوري فقال: تصيب من العلوم كلّها، إلّاالفرائض فإنّها جوهر العلم، كما أنّ العنب الأبيض جوهر

العنب، وكان كما قال.

روي عن الثوري وغيره. وروي عنه الإمام أحمد وغيره.

قال البخاري: كان الفريابي من أفضل أهل زمانه، وكان ثقة صدوقاً مجاب الدعوة.

توفي سنة اثنتي عشرة أو ثلاث عشرة ومائتين» «1».

ومع هذا، فقد أورده الذهبي في (الميزان)، وحكي عن يحيي بن معين أنّه حكم علي بعض أحاديثه بالبطلان، وعن العجلي أنّ الفريابي أخطأ في مائة وخمسين حديثاً «2».

__________________________________________________

(1) الوافي بالوفيات 5: 243/ 2310.

(2) ميزان الاعتدال 4: 71- 72/ 8340.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 307

عثمان بن أبي شيبة … ص: 307

ومنهم: عثمان بن أبي شيبة.

قال اليافعي في (تاريخه):

«الحافظ عثمان بن أبي شيبة العبسي الكوفي، وكان أسنّ من أخيه أبي بكر. رحل وطوّف، وصنّف التفسير والمسند، وحضر مجلسه ثلاثون ألفاً» «1».

وقال الذهبي في (الميزان):

«خ م دق- عثمان بن أبي شيبة، أبوالحسن، أحد أئمّة الحديث الأعلام، كأخيه أبي بكر» «2».

ومع ذلك، فقد تُكلّم فيه من جهات، قال في (الميزان):

«قال عبداللَّه: وقلت لأبي: حدّثنا عثمان، ثنا جرير، عن شيبة بن نعامة، عن فاطمة بنت حسين بن علي، عن فاطمة الكبري، عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: لكلّ بني أب عصبة ينتمون إليه، إلّاولد فاطمة، أنا عصبتهم.

وقلت له: حدّثنا عثمان، ثنا أبو خالد الأحمر، عن ثور بن يزيد، عن أبي الزبير، عن جابر عن النبي صلّي اللَّه عليه وآله قال: تسليم الرجل بأصبع واحدة يشير بها فعل اليهود.

فأنكر أبي هذه الأحاديث مع أحاديث من هذا النحو، أنكرها جدّاً وقال:

__________________________________________________

(1) مرآة الجنان 2: 92 السنة 239.

(2) ميزان الاعتدال 3: 35/ 5518.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 308

هذه موضوعة أو كأنّها موضوعة.

وقال أبي: أبو بكر أخوه أحبّ إليّ من عثمان.

فقلت: إنّ يحيي بن معين يقول: إنّ عثمان أحبّ إليّ.

فقال أبي: لا.

ورواها أبو علي

ابن الصواف، عن عبداللَّه، عن أبيه وزاد فقال: ما كان أخوه أبوبكر يُطَنِّف نفسه لشي ء من هذه الأحاديث، نسأل اللَّه السلامة.

وقال: كنّا نراه يتوهّم هذه الأحاديث» «1».

«قال يحيي: ثقة مأمون.

قلت: إلّاأنّ عثمان كان لا يحفظ القرآن فيما قيل.

فقال أحمد بن كامل: ثنا الحسن بن الحباب: أنّ عثمان بن أبي شيبة قرأ عليهم في التفسير: «ألم تر كيف فعل ربّك» قالها: الف لام ميم» «2».

«قلت: لعلّه سبق لسان، وإلّا فقطعاً كان يحفظ سورة الفيل، وهذا تفسيره قد حمله النّاس عنه» «3».

وقال السيوطي في (تدريب الراوي):

«أورد الدارقطني في كتاب التصحيف كلّ تصحيف وقع للعلماء حتّي في القرآن، من ذلك ما رواه أنّ عثمان بن أبي شيبة قرأ علي أصحابه في التفسير:

«وجعل السفينة في رجل أخيه. فقيل له: إنّما هو «جعل السقاية في رحل أخيه». فقال: أنا وأخي أبوبكر لا نقرأ لعاصم. قال: وقرأ عليهم في التفسير

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 36/ 5518.

(2) ميزان الاعتدال 3: 37/ 5518.

(3) ميزان الاعتدال 3: 37/ 5518.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 309

«ألم تر كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل» قال: ا ل م. كأوّل البقرة» «1».

وفي (الميزان):

«قال الخطيب في جامعه: لم يحك عن أحد من المحدّثين من التصحيف في القرآن الكريم، أكثر ممّا حكي عن عثمان بن أبي شيبة، ثمّ ساق بسنده عن إسماعيل بن محمّد التستري: سمعت عثمان بن أبي شيبة يقرأ «فإن لم يصبها وابل فظل» وقرأ مرّة «من الخوارج مكلّبين».

وقال أحمد بن كامل القاضي: ثنا أبوالشيخ الأصبهاني محمّد بن الحسن قال: قرأ علينا عثمان بن أبي شيبة «بطشتم خبّازين».

وقال محمّد بن عبيداللَّه بن المنادي: قال لنا عثمان بن أبي شيبة: «ن والقلم» أي سورة هو؟

وقال مطين: قرأ عثمان بن

أبي شيبة «فضرب لهم سنور له ناب» فردّوا عليه فقال: قراءة حمزة عندنا بدعة.

وقال يحيي بن محمّد بن كاس النخعي: ثنا إبراهيم بن عبداللَّه الخصاف قال: قرأ علينا عثمان بن أبي شيبة تفسيره فقال: «جعل السفينة في رجل أخيه» فقيل: إنّما هو «السقاية». فقال: أنا وأخي لا نقرأ لعاصم» «2».

وكما حمل الذهبي خطأ عثمان في سورة الفيل علي سبق اللّسان، حاول حمل تصحيفاته علي المزاح والدعابة! فقال:

«قلت: فكأنّه كان صاحب دعابة، ولعلّه تاب وأناب» …

لكن الدعابة في ألفاظ القرآن توجب الفسق، ولذا قال «لعلّه تاب __________________________________________________

(1) تدريب الراوي 2: 175- النوع السادس والثلاثون.

(2) ميزان الاعتدال 3: 37/ 5518.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 310

وأناب» وهل يكفي «لعلّ» لو كان ذلك منه «دعابة»؟

والألطف من ذلك تمنّيه موت إسحاق من أجل الشهرة والرئاسة، قال في (الميزان):

«قال إبراهيم بن أبي طالب الحافظ: دخلت عليه فقال لي: إلي متي لا يموت إسحاق؟

فقلت: شيخ مثلك يتمنّي موت شيخ مثله؟!

فقال: دعني، فلو مات لصفا لي جوّي» «1».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 38/ 5518.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 313

الطبقة الرابعة … ص: 313

اشارة

قال السيوطي:

«وبعدهم: ابن جرير الطبري، وكتابه أجلّ التفاسير وأعظمها، ثمّ ابن أبي حاتم، وابن ماجة، والحاكم، وابن مردويه، وأبوالشيخ ابن حيان، وابن المنذر، في آخرين.

وكلّها مسندة إلي الصحابة والتابعين وأتباعهم، وليس فيها غير ذلك، إلّا ابن جرير، فإنّه يتعرّض لتوجيه الأقوال وترجيح بعضها علي بعض، والإعراب والإستنباط، فهو يفوقها بذلك» «1».

أقول:

إنّ أفضل وأشرف تفاسير هذه الطبقة:

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 4: 242.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 314

تفسير ابن جرير الطبري … ص: 314

كما قال السيوطي، بل لقد ادّعي الإجماع علي ذلك، حيث قال:

«فإن قلت: فأيّ التفاسير ترشد إليه، وتأمر الناظر أنْ يعوّل عليه؟

قلت: تفسير الإمام أبي جعفر محمّد بن جرير الطبري، الذي أجمع العلماء والمفسّرون علي أنّه لم يُؤلّف في التفسير مثله» «1».

وقال النووي:

«له التاريخ المشهور، وكتاب في التفسير لم يصنّف أحد مثله» «2».

وقال ياقوت الحموي نقلًا عن الخطيب:

«وله الكتاب المشهور في تاريخ الامم والملوك، وكتاب في تفسير القرآن لم يصنّف أحدٌ مثله» «3».

قال ياقوت:

«ومن كتبه: الكتاب المسمّي جامع البيان عن تأويل آي القرآن.

قال أبوبكر ابن كامل: أملي علينا من كتاب التفسير مائة وخمسين آية، ثمّ خرجه بعد ذلك إلي آخر القرآن فقرأه علينا، وذلك في سنة سبعين ومائتين، واشتهر الكتاب وارتفع ذكره. وأبوالعبّاس أحمد بن يحيي ثعلب __________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 4: 244.

(2) تهذيب الأسماء واللغات 1: 78/ 8.

(3) معجم الادباء 18: 41/ 17.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 315

وأبوالعبّاس محمّد بن يزيد المبرد يَحْيَيان، ولأهل الإعراب والمعاني معقلان، وكان أيضاً في الوقت غيرهما مثل: أبي جعفر الرستمي وأبي الحسن ابن كيسان والمفضّل بن سلمة والجعد وأبي إسحاق الزجاج وغيرهم من النحويّين من فرسان هذا الشأن، وحمل هذا الكتاب مشرقاً ومغرباً، وقرأه كلّ من كان

في وقته من العلماء، وكلّ فضّله وقدّمه.

قال أبو جعفر: حدّثتني به نفسي وأنا صبي.

قال أبو جعفر: استخرت اللَّه تعالي في عمل كتاب التفسير، وسألته العون علي ما نويته ثلاث سنين قبل أن أعمله، فأعانني.

وقال أبو محمّد عبداللَّه بن أحمد بن جعفر الفرغاني: أخبرني شيخ من جِسْرِ ابن عفيف قال: رأيت في النوم كأنّي في مجلس أبي جعفر والنّاس يقرؤون عليه كتاب التفسير، فسمعت هاتفاً بين السماء والأرض يقول: من أراد أن يسمع القرآن كما انزل فليسمع هذا الكتاب.

ولم يتعرّض- أي الطبري- لتفسير غير موثوق به، فإنّه لم يدخل في كتابه شيئاً عن كتاب محمّد بن السائب الكلبي ولا مقاتل بن سليمان ولا محمّد بن عمر الواقدي، لأنّهم عنده أظنّاء» «1».

وقال السمعاني في (الأنساب):

«قال أبو حامد الإسفرائني: لو سافر رجل إلي الصين، حتّي يحصل له كتاب تفسير محمّد بن جرير، لم يكن ذلك كثيراً» «2».

وأمّا محمّد بن جرير الطبري نفسه، فتوجد مكارمه ومحامده في الكتب __________________________________________________

(1) معجم الادباء 18: 61- 65/ 17.

(2) الأنساب 4: 46.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 316

التالية:

تذكرة الحفّاظ 2: 710- 716.

طبقات الشافعيّة للسبكي 3: 120- 128.

طبقات الحفّاظ: 307- 308.

وفيات الأعيان 4: 191- 192.

مرآة الجنان 2: 260.

تاريخ بغداد 2: 162- 169.

تهذيب الأسماء واللغات 1: 78- 79.

سير أعلام النبلاء 14: 267- 282.

وغيرها من كتب التاريخ وتراجم الرّجال.

قال ياقوت الحموي في (معجم الادباء) نقلًا عن الخطيب:

«كان أحد أئمّة العلماء، يحكم بقوله، ويرجع إلي رأيه، لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظاً لكتاب اللَّه عزّ وجلّ، عارفاً بالقراءات، بصيراً بالمعاني، فقيهاً بأحكام القرآن، عالماً بالسنن وطرقها وصحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها، عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين ومن

بعدهم من المخالفين في الأحكام ومسائل الحلال والحرام، عارفاً بأيّام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في تاريخ الامم والملوك، وكتاب في تفسير القرآن لم يصنّف أحد مثله، وكتاب سمّاه تهذيب الآثار لم أر سواه في معناه، لم يتمه.

قال ابن خزيمة- لمّا لاحظ تفسير ابن جرير-: ما أعلم علي أديم الأرض أعلم من ابن جرير.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 317

قال أبو محمّد بن عبدالعزيز بن محمّد الطبري: كان أبو جعفر من الفضل والعلم والذكاء والحفظ علي ما لا يجهله أحد، لجمعه من علوم الإسلام ما لم نعلمه اجتمع لأحد من هذه الامّة، ولا ظهر من كتب المصنّفين وانتشر من كتب المؤلّفين ما انتشر له، وكان راجحاً في علوم القرآن والقراءات وعلم التاريخ من الرسل والخلفاء والملوك واختلاف الفقهاء مع الرواية لذلك، علي ما في كتابه البسيط والتهذيب وأحكام القراءات، من غير تعويل علي المناولات والإجازات، ولا علي ما قيل في الأقوال، بل يذكر ذلك بالأسانيد المشهورة.

كان كالقاري الذي لا يعرف إلّاالقرآن، وكالمحدّث الذي لا يعرف إلّا الحديث، وكالفقيه الذي لا يعرف إلّاالفقه، وكالنحوي الذي لا يعرف إلّا النحو، وكالحاسب الذي لا يعرف إلّاالحساب، وكان عاملًا بالعبادات، جامعاً للعلوم، وإذا جمعت بين كتبه وكتب غيره وجدت لكتبه فضلًا علي غيرها» «1».

أقول:

وإذا كان الطبري بهذه المنزلة، فلماذا يسقط كلامه عن الإعتبار إذا احتجَّ به أصحابنا في موردٍ ويُتكلَّم فيه؟

لقد احتجّ العلّامة الحلّي برواية الطبري تهديد عمر بن الخطّاب فاطمة الزهراء الطاهرة عليها السلام بإحراق بيتها، فقال ابن روزبهان في جوابه:

«ومن أسمج ما افتراه الروافض هذا الخبر- وهو إحراق عمر بيت فاطمة- وما ذكر أنّ الطبري ذكره في التاريخ، فالطبري من الروافض مشهور بالتشيّع، حتّي أنّ علماء

بغداد هجروه، لغلوّه في الرفض والتعصّب، وهجروا كتبه __________________________________________________

(1) معجم الادباء 18: 41- 43 و 59 و 61/ 17.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 318

ورواياته وأخباره.

وكلّ من نقل هذا الخبر فلا يشك أنّه رافضي متعصّب، يريد إبداء القدح والطعن علي الأصحاب، لأنّ العاقل المؤمن الخبير بأخبار السلف ظاهر عليه أنّ هذا الخبر كذب صراح وافتراء بيّن، لا يكون أقبح منه ولا أبعد من أطوار السلف» «1».

وإذا كان الطبري من الروافض، شمله كلّ ما ذكره ابن تيميّة وغيره للروافض، من القبائح والمثالب التي تفوق الحصر وتتجاوز حدّ الشرح والتبيين …

هذا، وقد سبقه إلي الإتّهام بالتشيّع الفخر الرازي في كتابه (نهاية العقول) في الكلام علي النصّ علي إمامة أميرالمؤمنين عليه السلام عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم:

«الثالث: إنّ هذا النص لو كان كذباً لما دعا إلي روايته إلّاالهوي، فكان ينبغي أنْ لا يرويه من لا يهوي مقتضاه، وقد رواه أصحاب الحديث كابن جرير الطبري، وليس هو من الإماميّة، فبطل أن يكون كذباً».

فأجاب الرازي أوّلًا بأنّ الطبري لم يرو هذا النص ثمّ قال:

«ثمّ إن سلّمنا أنّه ذكره، فلعلّه رواه قبل أن تثبت عنده صحّة هذا الحديث، فإنّ من المحدّثين من يروي كلّ غثّ وسمين.

ثمّ إن سلّمنا ذلك، فلا نسلّم أنّه ما كان متّهماً بالتشيّع» «2».

فكان ابن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ ممّن يروي الغثّ __________________________________________________

(1) ورد القول في دلائل الصدق 3: 79.

(2) نهاية العقول- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 319

والسمين، وكان متّهماً بالتشيّع … !!

هذا، ومن العجائب تناقض ابن تيميّة تجاه ابن جرير وتفسيره، فإنّه لمّا لم يخرج ابن جرير حديث نزول آية الولاية في أميرالمؤمنين عليه السلام، جعل ابن تيميّة يمدحه ويمدح

تفسيره، وينصُّ علي خلوّه من الموضوعات «1»، حتّي إذا رأي أنّه قد روي بتفسير آية الإنذار نصّ النبي علي أمير المؤمنين علي عليه السلام، بالإمامة والخلافة والولاية من بعده … جعل يذمّ تفسير ابن جرير ومؤلِّفه بشدّةٍ … !! «2»

__________________________________________________

(1)

منهاج السنّة 4: 5.

(2) منهاج السنّة 4: 128.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 320

تفسير ابن أبي حاتم … ص: 320

المحدث الحافظ، الفقيه، المفسّر، الرجالي، الذي ترجم له ابن قاضي شهبة في (طبقات الشافعيّة) فقال:

«عبدالرحمان بن محمّد بن إدريس، أبو محمّد، ابن أبي حاتم، الحنظلي الرازي، أحد الأئمّة في الحديث والتفسير والعبادة والزهد والصلاح، حافظ ابن حافظ، أخذ عن أبيه وعن أبي زرعة، وصنّف الكتب المهمّة، كالتفسير الجليل المقدار، في أربع مجلّدات، غالبه آثار مسندة … » «1».

وفي (فوات الوفيات):

«قال أبو علي الخليلي: كان يعدّ من الأبدال، وقد أثني عليه جماعة بالزهد والورع التام والعلم والعمل» «2».

وذكر السيوطي في (اللآلي المصنوعة) بعد حديث تكليم اللَّه موسي:

«وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره، وقد التزم أنْ يخرّج فيه أصحّ ما ورد، ولم يخرّج فيه حديثاً موضوعاً ألبتّة» «3».

وفي (الإتقان) بعد ذكر تفسير السدّي:

«ولم يورد منه ابن أبي حاتم شيئاً، لأنّه التزم أنْ يخرّج أصحّ ما ورد» «4».

__________________________________________________

(1) طبقات الشافعيّة 1: 111/ 58.

(2) فوات الوفيات 2: 288/ 257.

(3) اللآلي المصنوعة 1: 12.

(4) الإتقان في علوم القرآن 4: 238.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 321

لكنّ ابن تيميّة يقول- في الجواب عن الإستدلال بالحديث الوارد بذيل الآية «وأنذر عشيرتك الأقربين» الذي رواه ابن أبي حاتم أيضاً، كما في (الدرّ المنثور) «1» -:

«والجواب من وجوه:

الأوّل: المطالبة بصحّة النقل، وما ادّعاه من نقل النّاس كافّة، من أظهر الكذب عند أهل العلم بالحديث، فإنّ هذا الحديث ليس في

شي ء من كتب المسلمين التي يستفيدون منها علم النقل، لا في الكتب الصحاح ولا في المسانيد والسنن والمغازي والتفسير التي يذكر فيها الإسناد الذي يحتجّ به، وإذا كان في بعض كتب التفسير التي ينقل فيها الصحيح والضعيف مثل تفسير الثعلبي والواحدي والبغوي بل وابن جرير وابن أبي حاتم، لم يكن مجرّد رواية واحد من هؤلاء دليلًا علي صحّته باتفاق أهل العلم، فإنّه إذا عرف أنّ تلك المنقولات فيها صحيح وضعيف، فلابدّ من بيان أنّ هذا المنقول من قسم الصحيح دون الضعيف، وهذا الحديث غايته أن يوجد في بعض كتب التفسير التي فيها الغثّ والسمين، بل وفيها أحاديث كثيرة موضوعة مكذوبة، مع أنّ كتب التفسير التي يوجد فيها هذا مثل تفسير ابن جرير وابن أبي حاتم والثعلبي والبغوي ينقل فيها بالأسانيد الصحيحة ما يناقض هذا».

وقال:

«الثالث: إنّ هذا الحديث كذب موضوع عند أهل المعرفة بالحديث، فما من عالم يعرف الحديث إلّاوهو يعلم أنّ هذا كذب موضوع، وهذا لم يروه أحد منهم في الكتب التي يرجع إليها في المنقولات، لأنّ أدني من له معرفة

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 6: 327- 328.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 322

بالحديث يعلم أنّ هذا كذب» «1».

وعلي هذا، فإنّ جميع المدائح المذكورة لابن أبي حاتم وتفسيره تذهب أدراج الرّياح.

هذا بالنسبة إلي تفسيره.

وأمّا بالنسبة إلي كتابه في الجرح والتعديل، فقد ذكر ابن الجوزي في (تلبيس إبليس) ما نصّه:

«وبالإسناد عن أبي الحسن علي بن محمّد البخاري يقول: سمعت محمّد ابن الفضل العبّاسي يقول: كنّا عند عبدالرحمان بن أبي حاتم وهو يقرأ علينا كتاب الجرح والتعديل، فدخل عليه يوسف بن الحسين الرازي فقال: يا أبا محمّد، ما هذا الذي تقرؤه علي الناس؟ فقال: كتاب صنّفته في الجرح والتعديل.

فقال: وما الجرح والتعديل؟ فقال: أظهر أحوال أهل العلم من كان منهم ثقة أو غير ثقة. فقال له يوسف بن الحسين: استحييت لك يا أبامحمّد من هؤلاء القوم، قد حطّوا رواحلهم في الجنّة منذ مائة سنة ومائتي سنة، تذكرهم وتغتابهم علي أديم الأرض. فبكي عبدالرحمان وقال: يا أبا يعقوب لو سمعت هذه الكلمة قبل تصنيفي هذا الكتاب لم اصنّفه» «2».

ولكنّ هذا الكلام يدلّ علي جهل ابن أبي حاتم وعدم فهمه، للزوم المفسدة العظيمة في الدين والشريعة لولا الجرح والتعديل للرجال … ولذا قال ابن الجوزي:

«قلت: عفا اللَّه عن ابن أبي حاتم، فإنّه لو كان فقيهاً لردّ عليه كما ردّ إمام __________________________________________________

(1) منهاج السنة 4: 128- 129.

(2) تلبيس إبليس: 379.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 323

القوم في الجنّة أحمد علي أبي تراب، ولولا الجرح والتعديل من أين كان يعرف الصحيح من الباطل. ثمّ كون القوم في الجنّة لا يمنع أن نذكرهم بما فيهم، وتسمية ذلك غيبة حديث سوء. ثمّ من لا يدري الجرح والتعديل ما هو كيف يذكر كلامه؟» «1».

__________________________________________________

(1) تلبيس إبليس: 379 باختلافٍ في النص.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 324

تفسير الحاكم النّيسابوري … ص: 324

الذي قال عنه المناوي في (فيض القدير):

«قال السبكي: إتفق العلماء علي أنّه من أعظم الأئمّة الذين حفظ اللَّه بهم الدين» «1».

وقال ابن قاضي شهبة:

«وقد أطنب عبدالغافر في مدحه وذكر فضائله وفوائده ومحاسنه- إلي أنْ قال: - مضي إلي رحمة اللَّه تعالي ولم يخلّف بعده مثله» «2».

وقال ابن الأثير في وصف منزلته في علم الحديث:

«كان عالماً بهذا الفن، خبيراً بغوامضه، عارفاً بأسراره» «3».

إلّاأنّه لروايته بعض مناقب أميرالمؤمنين عليه السّلام، تكلّم فيه بعض أكابر القوم، قال الذهبي في (الميزان):

«قد قال ابن طاهر: سألت أباإسماعيل عبداللَّه

الأنصاري عن الحاكم أبي عبداللَّه فقال: إمام في الحديث، رافضي خبيث» «4».

بل إنّ الفضل ابن روزبهان اتّخذ اتّهامه بالتشيّع ذريعةً للردّ علي الإماميّة حين قال:

__________________________________________________

(1) فيض القدير شرح الجامع الصغير 1: 26.

(2) طبقات الشافعية 1: 194/ 153.

(3) جامع الاصول- ترجمة الحاكم النيسابوري.

(4) ميزان الاعتدال 3: 608/ 7804.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 325

«وذكر الإمام الحاكم أبو عبداللَّه النيسابوري، المحدّث الكبير والحافظ المتقن الفاضل النحرير، في كتاب معرفة علوم الحديث، بإسناده عن الإمام أبي عبداللَّه جعفر بن محمّد الصادق عليه وعلي آبائه السلام أنّه قال: أبوبكر الصدّيق جدّي، وهل يسبُّ أحد آبائه، لاقدّمني اللَّه إنْ لا اقدّمه.

وقد اشتهر بين المحدّثين والعلماء: أنّ الحاكم أباعبداللَّه المذكور كان مائلًا إلي التشيّع».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 326

تفسير إبن ماجة … ص: 326

وأمّا تفسير ابن ماجة القزويني، فمن الرّجال الذين روي عنهم فيه:

عيسي بن قرطاس الكوفي: قال ابن حجر في (تقريب التهذيب):

«عيسي بن قرطاس الكوفي، متروك، وقد كذَّبه الساجي، من السادسة» «1».

محمّد بن عبداللَّه الأنصاري: قال الذهبي:

«قال العقيلي: منكر الحديث.

وقال ابن حبّان: منكر الحديث جدّاً.

وقال ابن طاهر: كذّاب، وله طامّات» «2».

وقال ابن حجر: «كذّبوه» «3».

نوح بن درّاج: قال ابن حجر:

«متروك، وقد كذّبه ابن معين» «4».

وقال الذهبي: «قال النسائي وغيره: ضعيف.

__________________________________________________

(1) تقريب التهذيب 2: 107/ 5983.

(2) ميزان الاعتدال 3: 598/ 7764.

(3) تقريب التهذيب 2: 186/ 6763.

(4) تقريب التهذيب 2: 313/ 8112.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 327

وقال أبو داود: كذّاب يضع الحديث» «1».

نوح بن أبي مريم: وستعرفه.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 4: 276/ 9133.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 328

تفسير ابن مردويه … ص: 328

وأمّا تفسير ابن مردويه، فقد نصّ المولوي عبدالعزيز الدهلوي صاحب التحفة الإثني عشريّة في رسالته في (اصول الحديث) بأنّه من التفاسير المشهورة، إلّاأنّه أورده في عداد كتب الطبقة الرابعة، مصرّحاً بأنّ أحاديث هذه الكتب ليست بقابلةٍ للاعتماد للدلالة علي عقيدةٍ أو حكم.

كما أنّ ابن الجوزي قد حكم بالوضع علي أحاديث كثيرة في هذا التفسير.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 329

تفسير ابن المنذر … ص: 329

الذي جاء في (طبقات الشافعيّة) لابن قاضي شهبة بترجمته:

«محمّد بن إبراهيم بن المنذر، أبوبكر النيسابوري، الفقيه، نزيل مكّة، أحد الأئمّة الأعلام، وممّن يقتدي بنقله في الحلال والحرام، صنّف كتباً معتبرة عند أئمّة الإسلام، منها … التفسير وغير ذلك، وكان مجتهداً لا يقلّد أحداً» «1».

لكنْ في (ميزان الاعتدال) ما نصّه:

«قال مسلمة بن قاسم الأندلسي: كان لا يحسن الحديث. ثمّ نسب إلي العقيلي: إنّه كان يحمل عليه وينسبه إلي الكذب، وكان يروي عن الربيع بن سليمان عن الشافعي، ولم ير الربيع ولا سمع منه، وذكر غير ذلك. توفي سنة 318، ولا عبرة بقول مسلمة فيه، وأمّا العقيلي فكلامه من قبيل كلام الأقران بعضهم في بعض، مع أنّه لم يذكره في كتاب الضعفاء له» «2».

__________________________________________________

(1) طبقات الشافعية 1: 98/ 44.

(2) ميزان الاعتدال 3: 450- 451/ 7123.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 330

تفسير ابن أبي داود السجستاني … ص: 330

الذي ذكر الذّهبي مناقبه فقال:

«قد كان أبوبكر من كبار الحفّاظ والأئمّة الأعلام، حتّي قال الخطيب:

سمعت الحافظ أبا محمّد الخلّال يقول: كان أبوبكر أحفظ من أبيه أبي داود.

وروي ابن شاهين عن أبي بكر أنّه كتب في شهر عن أبي سعيد الأشج ثلاثين ألفاً.

وقال أبوبكر النقّاش والعهدة عليه: سمعت أبابكر ابن أبي داود يقول:

إنّ تفسيره فيه مائة ألف وعشرون ألف حديث.

قلت: ولد سنة ثلاثين ومائتين، ورحل به أبوه، فلقي الكبار وسمع عيسي ابن حمّاد صاحب الليث بن سعد وطبقته، وانفرد عن طائفة.

قال أبوبكر أحمد بن إبراهيم بن شاذان: ذهب أبوبكر إلي سجستان فاجتمعوا عليه وسألوه أن يحدّثهم فقال: ليس معي كتاب. فقالوا: ابن أبي داود وكتاب؟ قال: فأثاروني فأمليت عليهم من حفظي ثلاثين ألف حديث، فلمّا قدمت بغداد قال البغداديّون: لعبت بأهل سجستان ثمّ فيّجوا فيجاً اكتروه بستة

دنانير ليكتب لهم النسخة، فكتبت وجي ء بها فعرضت علي الحفّاظ فخطّأوني في ستّة أحاديث منها ثلاثة رويتها كما سمعت.

وقال الحافظ أبوعلي النيسابوري: سمعت ابن أبي داود يقول: حدّثت بأصبهان من حفظي بستّة وثلاثين ألف حديث، ألزموني الوهم في سبعة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 331

أحاديث، فلمّا رجعت وجدت في كتابي منها خمسة علي ما حدّثتهم» «1».

لكنّ ابن أبي داود مجروح ومقدوح بقوادح عظيمة كالنصب والكذب، حتّي أنّهم نقلوا عن أبيه- أبي داود صاحب السنن- اتّهامه بالكذب … وقد أورده الذهبي في (الميزان) فقال:

«عبداللَّه بن سليمان بن الأشعث السجستاني، أبوبكر، الحافظ الثقة، صاحب التصانيف، وثّقه الدارقطني فقال: ثقة إلّاأنّه كان كثير الخطأ في الكلام علي الحديث.

وذكره ابن عدي وقال: لولا ما شرطنا وإلّا لما ذكرته- إلي أن قال: - وهو معروف بالطلب، وعامّة ما كتب مع أبيه وهو مقبول عند أصحاب الحديث.

وأمّا كلام أبيه فيه فلا أدري أيش تبيّن له منه.

ثنا علي بن عبداللَّه الداهري، سمعت أحمد بن محمّد بن عمرو كركرة، سمعت علي بن الحسين بن الجنيد، سمعت أباداود يقول: ابني عبداللَّه كذّاب.

قال ابن صاعد: كفانا ما قال أبوه فيه.

ثمّ قال ابن عدي: سمعت موسي بن القاسم الأشيب يقول: حدّثني أبوبكر يقول: سمعت إبراهيم الأصبهاني يقول: أبوبكر ابن أبي داود كذّاب.

وسمعت أبا القاسم البغوي وقد كتب إليه أبوبكر ابن أبي داود يسأله عن لفظ حديث لجدّه، فلمّا قرأ رقعته قال: أنت- واللَّه- عندي منسلخ من العلم.

وسمعت عبدان، سمعت أبا داود السجستاني يقول: من البلاء أنّ عبداللَّه يطلب للقضاء.

وسمعت محمّد بن الضحّاك بن عمرو بن أبي عاصم يقول: أشهد علي __________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 2: 435/ 4368.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 332

محمّد بن يحيي

بن مندة بين يدي اللَّه أنّه قال: أشهد علي أبي بكر ابن أبي داود بين يدي اللَّه تعالي أنّه قال: روي الزهري عن عروة قال: حفيت أظافير فلان، من كثرة ما كان يتسلّق علي أزواج النّبي صلّي اللَّه عليه وسلّم.

قلت: هذا لم يسنده أبوبكر إلي الزهري، فهو منقطع. ثمّ لا يسمع قول الأعداء بعضهم في بعض، ولقد كاد أن يضرب عنق عبداللَّه لكونه حكي هذا، فشدّ منه محمّد بن عبداللَّه بن حفص الهمداني وخلّصه من أمير أصبهان أبي ليلي، وكان انتدب له بعض العلويّة خصماً، ونسب إلي عبداللَّه المقالة، وأقام الشهادة عليه ابن مندة المذكور ومحمّد بن عبّاس الأخرم وأحمد بن علي الجارود، فأمر أبو ليلي بقتله، فأتي الهمداني وجرح الشهود … ».

وأيضاً في (الميزان):

«قلت: كان- أي عبداللَّه بن سليمان- قوي النفس، وقع ج فتنة ج بينه وبين ابن صاعد وبين ابن جرير، نسأل اللَّه العافية.

قال ابن شاهين: أراد الوزير علي بن عيسي أن يصلح بين أبي بكر ابن أبي داود وابن صاعد، فجمعهما وحضر القاضي أبو عمر، فقال الوزير لأبي بكر: أبومحمّد ابن صاعد أكبر منك فلو قمت إليه. فقال: لا أفعل. فقال له:

أنت شيخ زيف. قال أبوبكر: الشيخ الزيف الكذّاب علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم. فقال الوزير: من الكذّاب علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم؟

قال أبوبكر: هذا، ثمّ قال: إنّي أذلّ لأجل رزق يصل إليّ علي يدك، واللَّه لاأخذت من يدك شيئاً أبداً، وعليَّ مائة بدنة إن أخذت منك شيئاً، فكان المقتدر بعد يزن رزقه بيده ويبعثه علي يد خادم.

وقال محمّد بن عبداللَّه القطّان: كنت عند محمّد بن جرير فقال رجل:

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 333

ابن أبي داود يقرأ علي

النّاس فضائل علي رضي اللَّه عنه. فقال ابن جرير:

تكبيرةٌ من حارس.

قلت: وقد قام ابن أبي داود وأصحابه- وكانوا خلقاً كثيراً- علي ابن جرير ونسبوه إلي بدعة اللّفظ، فصنّف الرجل معتقداً حسناً سمعناه، تنصّل فيه ممّا قيل عنه وتألّم لذلك» «1».

هذا، وقد ذمّه ابن الجوزي علي روايته الخبر الطويل الموضوع في فضائل السّور وفرَّقه عليها، مع علمه بوضعه وبطلانه! قال:

«وإنّما عجبت من أبي بكر ابن أبي داود كيف فرّقه علي كتابه الذي صنّفه في فضائل القرآن وهو يعلم أنّه حديث محال، ولكنْ شره جمهور المحدّثين، فإنّ من عادتهم تنفيق حديثهم ولو بالبواطيل، وهذا قبيح منهم، لأنّه قد صحَّ عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّه قال: من حدّث عنّي حديثاً يري أنّه كذب فهو أحد الكاذبين» «2».

وقد أورد السيوطي كلام ابن الجوزي هذا مع إسقاط الجملة الأخيرة منه التي فيها ذمّ لجمهور المحدّثين … «3»

فكان ابن أبي داود مطعوناً عند ابن الجوزي والسيوطي أيضاً.

وحرمة رواية الحديث الموضوع- مع العلم بوضعه- ممّا استفاض فيه الحديث النبوي واتفق عليه العلماء.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 2: 433- 435/ 4368.

(2) كتاب الموضوعات 1: 240.

(3) اللآلي المصنوعة 1: 228.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 334

تفسير أبي بكر النقّاش … ص: 334

وهو من مشاهير مفسّريهم، وقد اعتمد علي تفسيره علماؤهم، حتّي أنّ صاحب (التحفة) رجّح روايته في نزول آية الولاية في المهاجرين والأنصار علي رواية الثعلبي نزولها في أميرالمؤمنين عليه السلام «1».

وقال السيوطي في (اللآلي المصنوعة):

«وأمّا النقّاش، فهو أحد العلماء بالقراءات، وأحد الأئمّة في التفسير، قال الذهبي: صار شيخ المقرين في عصره، علي ضعفٍ فيه، أثني عليه أبو عمرو الداني، وحدّث بمناكير».

واعتمد السبكي علي توثيق أبي عمرو الداني، قال:

«محمّد بن الحسن بن محمّد بن زياد بن هارون

بن جعفر بن سند، أبوبكر النقّاش، الموصلي ثمّ البغدادي، الإمام في القراءة والتفسير وكثير من العلوم … وثّقه أبو عمرو الداني وقبله وزكّاه … » «2».

لكنّ تكلّمهم فيه وفي تفسيره كثير:

قال السمعاني:

«ذكر طلحة بن محمّد بن جعفر النقّاشَ فقال: كان يكذب في الحديث والغالب عليه القصص.

__________________________________________________

(1) التحفة الإثنا عشريّة: 198.

(2) طبقات الشافعيّة 3: 145- 146/ 129.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 335

وسُئل أبوبكر البرقاني عن النقّاش فقال: كلّ حديثه منكر.

وقال البرقاني وذكر تفسير النقّاش فقال: ليس فيه حديث صحيح.

وكان هبة اللَّه الطبري اللالكائي يقول: تفسير النقّاش ذلك إشفاء الصدور ليس بشفاء الصدور» «1».

وأورد الذهبي الكلمات المذكورة في (الميزان) «2» وفيه أيضاً:

«محمّد بن الحسن، روي عنه إسحاق بن محمّد السيوطي أحاديث مختلفة في فضل معاوية، لعلّه النقّاش صاحب التفسير، فإنّه كذّاب» «3».

وكذا في (لسان الميزان) «4» و (وفيات الأعيان) «5».

__________________________________________________

(1) الأنساب 5: 517- 518 «النقّاش».

(2) ميزان الاعتدال 3: 520/ 7404.

(3) ميزان الاعتدال 3: 516/ 7390.

(4) لسان الميزان 6: 45/ 7288.

(5) وفيات الأعيان 4: 298/ 627.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 339

طبقة المتأخّرين … ص: 339

اشارة

قال السيوطي بعد الطبقات الأربع:

«ثمّ ألّف في التفسير خلائق، فاختصروا الأسانيد ونقلوا الأقوال بتراً، فدخل من هنا الدخيل والتبس الصحيح بالعليل، ثمّ صار كلّ من يسنح له قول يورده ومن يخطر بباله شي ء يعتمده، ثمّ ينقل ذلك عنه من يجي ء بعده ظانّاً أنّ له أصلًا غير ملتفت إلي تحرير ما ورد عن السلف الصالح، ومن يرجع إليهم في التفسير، حتّي رأيت من حكي في قوله تعالي: «غير المغضوب عليهم ولا الضالّين» نحو عشر أقوال، وتفسيرها باليهود والنصاري هو الوارد عن النبي وجميع الصحابة والتابعين وأتباعهم، حتّي قال ابن أبي حاتم: لا أعلم في

ذلك اختلافاً بين المفسّرين».

ثمّ قال: بعد الطبقات الخمس:

«ثمّ صنّف بعد ذلك قوم برعوا في علومٍ، فكان كلٌّ منهم يقتصر في تفسيره علي الفن الذي يغلب عليه.

فالنحوي تراه ليس له همٌّ إلّاالإعراب وتكثير الأوجه المحتملة فيه، ونقل قواعد النحو ومسائله وفروعه وخلافيّاته، كالزجاج والواحدي في البسيط وأبي حيان في البحر والنهر …

وصاحب العلوم العقليّة خصوصاً الإمام فخر الدين قد ملأ تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة وشبهها، وخرج من شي ء إلي شي ء حتّي يقضي الناظر

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 340

العجب من عدم مطابقة المورد للآية، وقال أبو حيّان في البحر: جمع الإمام الرازي في تفسيره أشياء كثيرة طويلة لا حاجة بها في علم التفسير، ولذلك قال بعض العلماء: فيه كلّ شي ء إلّاالتفسير.

والمبتدع ليس له قصد إلّاتحريف الآيات وتسويتها علي مذهبه الفاسد، بحيث أنّه متي لاح له شاردة من بعيد اقتنصها أو وجد موضعاً له فيه أدني مجال، سارع إليه» «1».

أقول:

والآن، فلننظر في أحوال هذه الطبقة من المفسّرين:

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 4: 242- 243.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 341

الزجّاج … ص: 341

فأمّا الزجّاج، وتراجمه موجودة في وفيات الأعيان، ومرآة الجنان، وتاريخ بغداد، والوافي بالوفيات، وبغية الوعاة «1» وغيرها …

فقد ذكروا عنه قصّةً فيها الإعتراف بالخيانة والكذب طمعاً في حطام الدنيا، وذلك «أنّ القاسم بن عبيداللَّه، كان قد وعده أنّه إن صار وزيراً أن يعطي الزجاج عشرين ألف، فلمّا أصبح وزيراً قال للزجاج: «أجلس النّاس وخذ رقاعهم في الحوائج الكبار، واستجعل عليها ولا تمتنع من مسألتي في شي ء إلي أن يحصل لك القدر» قال الزجاج: «ففعلت ذلك. وكنت أعرض عليه كلّ يومٍ رقاعاً فيوقّع لي فيها، وربّما قال لي: كم ضمن لك علي هذا؟ فأقول: كذا وكذا،

فيقول لي: غبنت، هذا يساوي كذا وكذا، إرجع فاستزده، فاراجع القوم واماكسهم فيزيدونني، حتّي أبلغ الحدّ الذي رسمه، فحصلت عشرين ألف دينار فأكثر في مدّة فقال لي بعد شهورٍ: حصل مال النذر؟ فقلت: لا، وجعل يسألني في كلّ شهر هل حصل؟ فأقول: لا، خوفاً من انقطاع الكسب، إلي أنْ سألني يوماً فاستحييت من الكذب المتّصل فقلت: قد حصل ببركة الوزير» «2».

__________________________________________________

(1) وفيات الأعيان 1: 49/ 13، مرآة الجنان 2: 198 السنة 311، تاريخ بغداد 6: 89/ 3126، الوافي بالوفيات 5: 347/ 2426، بغية الوعاة 1: 411/ 825.

(2) بغية الوعاة 1: 411- 412/ 825.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 342

أبو حيّان الأندلسي … ص: 342

وأمّا أثير الدين أبو حيّان الأندلسي، فترجمته في طبقات السبكي والوافي بالوفيات وبغية الوعاة والدرر الكامنة وفوات الوفيات وغيرها «1».

لكنّ أبا حيّان كان يتكلّم في ابن تيميّة ويتهجّم عليه ويرميه بكلّ سوء «2» وهذا من نقائصه، وهو يوجب الحطّ له من المحبّين لابن تيميّة …

وأبو حيّان- كما في (بغية الوعاة)-: «كان يفتخر بالبخل، كما يفتخر الناس بالكرم» «3» وهذه رذيلة عظيمة لا يخفي قبحها علي أحد!!

ومن معايبه ما ذكره الصفدي في (الوافي) قال:

«كان الشيخ تقي الدين قد نزل عن تدريس مدرسة لولده- نسيت أنا المدرسة واسم ابنه- فلمّا حضر الشيخ أثيرالدين درس قاضي القضاة تقي الدين ابن بنت الأعز، قرأ آية تفسيرها درس ذلك اليوم وهي قوله تعالي:

«قد خسر الذين قتلوا أولادهم» الآية، فبرز أبو حيّان بين الحلقة وقال: يا مولانا قاضي القضاة قدّموا أولادهم، قدّموا أولادهم، يكرّر ذلك. فقال قاضي القضاة: ما معني هذا؟ قال ابن دقيق العيد: نزل لولده فلان عن تدريس المدرسة الفلانية، فنقل المجلس إلي تقي الدين ابن دقيق العيد فقال:

أمّا أبو

__________________________________________________

(1) طبقات السبكي 9: 276/ 1336، الوافي بالوفيات 5: 267/ 2345، بغية الوعاة 1: 28/ 516، الدرر الكامنة 4: 302/ 832، فوات الوفيات 4: 71/ 506.

(2) الدرر الكامنة 4: 308/ 832.

(3) بغية الوعاة 1: 282/ 516.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 343

حيّان ففيه دعابة أهل الأندلس ومجونهم، وأمّا أنت يا قاضي القضاة، يبدّل القرآن في حضرتك وما تنكر هذا الأمر.

فما كان عن قليل حتّي عزل ابن بنت الأعز من القضاء ابن دقيق العيد، وكان إذا خلا شي ء من الوظائف التي تليق بالشيخ أثيرالدين أبي حيان يقول الناس: هذه لأبي حيان يخرجها الشيخ تقي الدين لغيره.

فهذا هو السبب الموجب لحطّ أبي حيّان وشناعته عليه … ».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 344

الفخر الرازي … ص: 344

وأمّا الفخر الرازي، فإنّه وإنْ كان من العلماء الأعلام وتفسيره في غاية الشهرة، لكنّ السّيوطي تكلّم عليه، ونقل بعض الكلام فيه، في (الإتقان).

أمّا الذهبي، فقد قال في (الميزان):

«الفخر ابن الخطيب، صاحب التصانيف، رأس في الذكاء والعقليّات، لكنّه عريّ من الآثار، وله تشكيكات علي مسائل من دعائم الدين تورث حيرة. نسأل اللَّه أن يثبّت الإيمان في قلوبنا، وله كتاب السرّ المكتوم في مخاطبة النجوم، سحر صريح، فلعلّه تاب من تأليفه إنْ شاء اللَّه» «1».

وابن تيميّة ذكر الرازي في عداد الجبريّة، وهذه عبارته:

«ثمّ المثبتون للصّفات، منهم: من يثبت الصّفات المعلومة بالسمع كما يثبت الصفات المعلومة بالعقل، وهذا قول أهل السنّة الخاصّة: أهل الحديث ومن وافقهم، وهو قول أئمّة الفقهاء وقول أئمّة الكلام من أهل الإثبات، كأبي محمّد بن كلاب وأبي العبّاس القلانسي وأبي الحسن الأشعري وأبي عبداللَّه ابن مجاهد وأبي الحسن الطبري والقاضي أبي بكر الباقلاني، ولم يختلف في ذلك قول الأشعري وقدماء

أصحابه. لكن المتأخرين من أتباعه كأبي المعالي وغيره لا يثبتون إلّاالصّفات العقليّة.

وأمّا الجبريّة، فمنهم من ينفيها ومنهم من يتوقّف فيها، كالرازي __________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 340/ 6686.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 345

والآمدي وغيرهما، ونفاة الصفات الجبريّة، منهم من يتأوّل نصوصها ومنهم من يفوّض معناها إلي اللَّه» «1».

وجاء ابن حجر في (لسان الميزان) وفصّل الكلام حول الرازي بعد كلام الذهبي، وهذه عبارته:

«الفخر ابن الخطيب صاحب التصانيف، رأس في الذكاء والعقليّات لكنّه عريّ من الآثار، وله تشكيكات علي مسائل من دعائم الدين تورث حيرة، نسأل اللَّه أن يثبّت الإيمان في قلوبنا، وله كتاب السرّ المكتوم في مخاطبة النجوم، سحر صريح، فلعلّه تاب من تأليفه إن شاء اللَّه، إنتهي.

وقد عاب التاج السبكي علي المصنّف ذكره هذا الرجل في هذا الكتاب وقال: إنّه ليس من الرواة، وقد تبرّء المصنّف من الهوي والعصبيّة في هذا الكتاب فكيف ذكر هذا وأمثاله ممّن لا رواية لهم كالسيف الآمدي، ثمّ اعتذر عنه بأنّه يري أنّ القدح في هؤلاء من الديانة، وهذا بعينه التعصّب في المعتقد، والفخر كان من أئمّة الاصول، وكتبه في الأصلين شهيرة سائرة، وله ما يقبل وما يرد، وقد ترجم له جماعة من الكبار بما ملخّصه: أنّه ولد سنة 543 واشتغل علي والده، وكان من تلامذة البغوي، ثمّ اشتغل علي الكمال السمناني، وتمهّر في عدّة علوم، وعقد مجلس الوعظ، وكان إذا وعظ يحصل له وجد زائد، ثمّ أقبل علي التصنيف، فصنّف: التفسير الكبير، والمحصول في اصول الفقه، والمعالم، والمطالب العالية والأربعين، والخمسين، والملخّص، والمباحث المشرقيّة، وطريقة في الخلاف، ومناقب الشافعي.

وكان في أوّل أمره فقيراً، ثمّ اتفق أنّه صاهر تاجراً متموّلًا وله ولدان __________________________________________________

(1) منهاج السنّة 2: 222- 223.

استخراج المرام

من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 346

فزوّجهما ابنتيه، ومات التاجر، فتقلّب الفخر في ذلك المال وصار من رؤساء ذلك الزّمان، يقوم علي رأسه خمسون مملوكاً بمناطق الذهب وحُلَل الوشي؛ قاله ابن الرسب في تاريخه. قال: وكانت له أوراد من صلاة وصيام لا يخلّ بها، وكان مع تبحّره في الاصول يقول: من التزم دين العجائز فهو الفائز، وكان يعاب بإيراد الشبه الشديدة ويقصّر في حلّها».

«وقد ذكره ابن دحية بمدح وذمّ، وذكره أبو شامة فحكي عنه أشياء رديّة، وكانت وفاته بهراة، يوم عيد الفطر سنة ست وستمائة.

ورأيت في الأكسير في علم التفسير للنجم الطوفي ما ملخّصه: ما رأيت في التفاسير، أجمع لغالب علم التفسير من القرطبي، ومن تفسير الإمام فخر الدين، إلّاأنّه كثير العيوب، فحدّثني شرف الدين النصيبي عن شيخه سراج الدين السرمياحي المصري أنّه صنّف كتاب المآخذ في مجلّدين، بيّن فيهما ما في تفسير الفخر من الزيف والبهرج، وكان ينقم عليه كثيراً ويقول: يورد شبه المخالفين في المذهب والدين علي غاية ما يكون من التحقيق … قال الطوفي:

ولعمري إنّ هذا دأبه في كتبه الكلاميّة والحكميّة حتّي اتّهمه بعض النّاس، ولكنّه خلاف ظاهر حاله، لأنّه لو كان اختار قولًا أو مذهباً ما كان عنده من يخاف منه حتّي يتستّر عنه، ولعلّ سببه أنّه كان يستفرغ قواه في تقرير دليل الخصم، فإذا انتهي إلي تقرير دليل نفسه لا يبقي عنده شي ء من القوي، ولا شكّ أنّ القوي النفسانيّة تابعة للقوي البدنيّة، وقد صرّح في مقدّمة نهاية العقول أنّه يقرّر مذهب خصمه تقريراً لو أراد خصمه أن يقرّره لم يقدر علي الزيادة علي ذلك.

وذكر ابن خليل السكوني في كتابه الرد علي الكشّاف: أنّ ابن الخطيب استخراج المرام من استقصاء الافحام،

ج 2، ص: 347

قال في كتبه في الاصول: أنّ مذهب الجبر هو الصحيح، وقال بصحّة بقاء الأعراض وبنفي صفات اللَّه الحقيقيّة، ويزعم أنّها مجرّد نسب وإضافات كقول الفلاسفة، وسلك طريق أرسطو في دليل التمانع، ونقل عن تلميذه التاج الأرموي أنّه نصر كلامه، فهجره أهل مصر وهمّوا به فاستتر، ونقلوا عنه أنّه قال عندي كذا وكذا مائة شبهة علي القول بحدوث العالم، ومنها ما قاله شيخه ابن الخطيب في آخر الأربعين، والمتكلّم يستدلّ علي القدم بوجوب تأخّر الفعل ولزوم أوليّته، والفيلسوف يستدلّ علي قدمه باستحالة تعطّل الفاعل عن أفعاله.

وقال في شرح الأسماء الحسني: أنّ من أَخَّرَ عقاب الجاني مع علمه بأنّه سيعاقبه فهو الحقود. وقد تعقّب بأنّ الحقود من أخّر مع العجز، أمّا مع القدرة فهو الحكيم، والحقود إنّما يعقل في حقّ المخلوقين دون الخالق بالإجماع.

ثمّ أسند عن ابن الطبّاخ: أنّ الفخر كان شيعيّاً، يقدّم محبّة أهل البيت كمحبّة الشيعة، حتّي قال في بعض تصانيفه: وكان علي شجاعاً بخلاف غيره، وعاب عليه تسميته لتفسيره مفاتيح الغيب ولمختصره في المنطق بالآيات البيّنات، وتقريره لتلامذته في وصفه: بأنّه الإمام المجتبي، استاذ الدنيا، أفضل العالم، فخر ابن آدم، حجّة اللَّه علي الخلق، صدر صدور العرب والعجم. هذا آخر كلامه» «1» إنتهي.

وقال الشيخ عبدالوهّاب الشعراني في (إرشاد الطالبين إلي مراتب العلماء الكاملين):

«وقد طلب الشيخ فخرالدين الرازي الطريق إلي اللَّه تعالي، فقال له الشيخ نجم الدين الكبري: لا تطيق مفارقة صنمك الذي هو علمك، فقال: يا

__________________________________________________

(1) لسان الميزان 5: 430- 435/ 6571.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 348

سيّدي، لابدّ إن شاء اللَّه تعالي، فأدخله الشيخ الخلوة وسلبه جميع ما معه من العلوم، فصاح في الخلوة بأعلي صوته: لا اطيق. فأخرجه وقال:

أعجبني صدقك وعدم نفاقك».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 349

أبو عبدالرحمن السّلمي … ص: 349

أقول:

ومن أعلام المفسّرين عند القوم: أبو عبدالرحمن السلمي، وهو من كبار مشايخ الصوفيّة، قال اليافعي بترجمته:

«الشيخ الكبير، العارف باللَّه الشهير، الحافظ أبو عبدالرحمن محمّد بن الحسين بن موسي النيسابوري السلمي الصوفي، صحب جدّه أبا عمرو بن نجيد، وسمع الأصم وطبقته، وصنّف التفسير والتاريخ وغير ذلك، وبلغت مصنّفاته مائة. وقال الخطيب: قدر أبي عبدالرحمن عند أهل بلده جليل» «1».

وفي (الأنساب):

«صاحب التصانيف للصوفيّة التي لم يسبق إليها، وكان مكثراً من الحديث» «2».

وقال عبدالغافر في (تاريخ نيسابور):

«شيخ الطريقة في وقته، الموفّق في جمع علوم الحقائق ومعرفة طريق التصوّف، … وقد ورث التصوّف عن أبيه وجدّه، وجمع من الكتب ما لم يسبق إلي ترتيبه» «3».

__________________________________________________

(1) مرآة الجنان 3: 21 السنة 412.

(2) الأنساب 3: 279.

(3) المنتخب من السياق لتاريخ نيسابور: 19/ 4.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 350

وقال أبو نعيم في (الحلية):

«ومنهم: ذوالصيام والقيام، مقري الأئمّة والأعلام مدي السّنين والأعوام، في التعبّد لبيب وفي التعليم أريب، أبو عبدالرحمن السلمي» «1».

فالعجب كلّ العجب!! أن يكون هذا الصّوفي المتعبّد والعارف الكبير، كذّاباً مفترياً يضع الحديث علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، قال ابن الجوزي في (تلبيس إبليس) في حال الصوفيّة:

«وما زال إبليس يخبطهم بفنون البدع، حتّي جعلوا لأنفسهم سنناً، وجاء أبو عبدالرحمن السُّلَمي فصنّف لهم كتاب السنن، وجمع لهم حقائق التفسير، فذكر عنهم فيه العجب في تفسيرهم القرآن بما يقع لهم، من غير إسنادٍ ذلك إلي أصلٍ من اصول العلم، وإنّما حملوه علي مذاهبهم، والعجب من ورعهم في الطعام وانبساطهم في القرآن، وقد أخبرنا أبو منصور بن عبدالرحمن القزاز قال: أخبرنا أبوبكر الخطيب قال قال لي محمّد بن

يوسف القطّان النيسابوري:

كان أبو عبدالرحمن السلمي غير ثقة، ولم يكن سمع من الأصم إلّاشيئاً يسيراً، فلمّا مات الحاكم أبو عبداللَّه ابن البيّع، حدّث عن الأصم بتاريخ يحيي ابن معين وبأشياء كثيرة سواه، وكان يضع للصوفيّة الأحاديث» «2».

وقال المناوي:

«نقل الذهبي وغيره عن الخطيب عن القطّان: إنّه كان يضع للصوفيّة.

وفي اللسان كأصله إنّه ليس بعمدة» «3».

__________________________________________________

(1) حلية الأولياء 4: 191/ 275.

(2) تلبيس إبليس: 188- 189.

(3) فيض القدير- شرح الجامع الصغير 1: 189.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 351

وفي (الميزان):

«محمّد بن الحسين أبو عبدالرحمان السلمي النيسابوري، شيخ الصوفيّة وصاحب تاريخهم وطبقاتهم وتفسيرهم. تكلّموا فيه وليس بعمدة. روي عن الأصم وطبقته، عني بالحديث ورجاله، وسأل الدارقطني. قال الخطيب قال لي: محمّد بن يوسف القطّان كان يضع الأحاديث للصوفيّة» «1».

وقال السبكي عن الذهبي أنّه قال: «له كتاب سمّاه حقائق التفسير، ليته لم يصنّفه، فإنّه تحريف وقرمطة» «2».

وقال السيوطي في (الإتقان):

«قال ابن الصلاح في فتاويه: وجدت عن الإمام أبي الحسن الواحدي المفسّر أنّه قال: صنّف أبو عبدالرحمان السلمي ج شيخ القشيري ج حقائق التفسير، فإن كان قد اعتقد أنّ ذلك تفسير فقد كفر» «3».

وفي (منهاج السنّة) في غير موضع:

إنّ ما ينقل في كتاب حقائق التفسير عن الإمام جعفر الصادق عامّته كذب عليه.

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 3: 523/ 7419.

(2) طبقات الشافعيّة 4: 147/ 320.

(3) الإتقان في علوم القرآن 4: 223.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 355

الباب الثالث: الصِّحاح الستّة … ص: 355

مقدّمة- الصحاح عند أهل السنة … ص: 355

اشارة

إعلم أنّ الصحاح الستّة عند أكثر أهل السنّة هي الموطأ وكتب: البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي، إلّاأنّها ليست في مرتبةٍ واحدة، فقد ذكر الشاه ولي اللَّه الدهلوي في كتاب (حجّة اللَّه البالغة): أنّ الطبقة الاولي من كتب الحديث هي: الموطأ وصحيح البخاري وصحيح مسلم،

ولعلّ أصحّها هو الموطّأ، والطبقة الثانية هي: جامع الترمذي وسنن أبي داود وسنن النسائي، فإنّ هذه وإنْ لم تكن في مرتبة الصحيحين إلّاأنّها قريبة منها.

ولم يجعل صاحب (جامع الاصول) كتاب ابن ماجة في عداد الصّحاح، وإنّما جعل الموطّأ منها، قال الشيخ عبدالعزيز الدهلوي في رسالته في (اصول الحديث): «والحق معه»، ثمّ نقل عن والده ولي اللَّه أنّ (مسند أحمد) أيضاً في هذه المرتبة، لكونه أصلًا في معرفة الصحيح من السقيم، وبه يعرف ماله أصل عمّا ليس له أصل.

وعلي كلّ حالٍ، فلا خلاف في تقدّم كتاب البخاري ومسلم علي سائر كتبهم الحديثيّة.

قدح الفيض آبادي في الصحيحين … ص: 355

وينبغي- قبل الورود في تحقيق حال الصحيحين وصاحبيهما من كلمات أعلام القوم- أنْ نذكر رأي (المخاطب) نفسه فيهما، وذلك: أنّه لمّا الزم ببعض استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 356

الأحاديث المخرَّجة في الكتابين، اضطرّ في كتابه (إزالة الغين) إلي تكذيبها والطعن فيهما.

فكذّب حديث «إيتوني بدواةٍ وقرطاس» وحكي عن الآمدي في مسنده القول بأنّ حديث القرطاس لا أساس له.

وكذّب حديث «فدك» ونقل عن أبي السعادات ابن الأثير قوله في مقدّمة (جامع الاصول) في ذكر المجروحين: «ومنهم: قوم وضعوا الحديث لهويً يدعون الناس إليه، فمنهم من تاب عنه وأقرّ علي نفسه، قال شيخ من شيوخ الخوارج بعد أنْ تاب: إنّ هذه الأحاديث دين، فانظروا ممّن تأخذون دينكم، فإنّا كنّا إذا هوينا أمراً صيّرناه حديثاً.

وقال أبوالعيناء: وضعت أنا والجاحظ حديث فدك، وأدخلناه علي الشيوخ ببغداد، فقبلوه، إلّاابن أبي شيبة العلوي، فإنّه قال: لا يشبه آخر هذا الحديث أوّله، وأبي أنْ يقبله … ».

فأين صارت دعوي إجماع الامّة علي صحّة ما في الكتابين؟ وأين راحت تلك الفضائل والمناقب التي يزعمونها لهما، والخرافات التي يلفّقونها لصاحبيهما؟ وأين ذهبت

شدّة احتياط البخاري لدي كتابة الأحاديث وتدوين صحيحه، حتّي أنّه لم يخرّج فيه شيئاً عن صادق أهل البيت عليه السلام!! مع روايته عن الكذّابين والنواصب والخوارج: كإسحاق بن سويد، وحريز بن عثمان، وعمران بن حطّان، وحصين بن نمير، وعبداللَّه بن سالم، وعكرمة مولي ابن عبّاس، وقيس بن أبي حازم، ووليد بن كثير، وأمثالهم، كما لا يخفي علي ناظر (ميزان الإعتدال) وغيره من كتب الرجال؟!

عجيبٌ أمر هؤلاء!!

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 357

إذا أرادوا تصحيح أحاديث هذين الكتابين والاستدلال بها أمام الإماميّة، بالغوا في مدحهما حتّي كفّروا من تكلّم فيهما وهوّن أمرهما، قال شاه ولي اللَّه في كتاب (حجة اللَّه البالغة):

«وأمّا الصحيحان، فقد اتفق المحدّثون علي أنّ جميع ما فيهما من المتّصل المرفوع صحيح بالقطع، وأنّهما متواتران إلي مصنّفهما، وأنّه كلّ من يهوّن أمرهما فهو مبتدع متّبع غير سبيل المؤمنين».

وحتّي وضعوا ما يدلّ علي جلالتهما وعظمتهما علي لسان النبي الصادق الأمين صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم!! لقد جاء في (الدر الثمين في مبشّرات النبي الأمين) لشاه ولي اللَّه الدهلوي.

«الحديث الثالث والثلاثون: أخبرني الشيخ أبو طاهر قال: أخبرنا الشيخ أحمد النخلي قال: أخبرنا شيخنا السيّد السند أحمد بن عبدالقادر قال: أخبرنا الشيخ جمال القيرواني، عن شيخه الشيخ يحيي الخطّاب المالكي قال: أخبرنا عمّي الشيخ بركات الخطّاب، عن والده، عن جدّه الشيخ محمّد بن عبدالرحمان الخطّاب شارح مختصر الخليل قال: مشينا مع شيخنا العارف باللَّه تعالي الشيخ عبدالمعطي التونسي لزيارة النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، فلمّا قربنا من الروضة الشريفة ترجّلنا، فجعل الشيخ عبدالمعطي يمشي خطوات ويقف، حتّي وقف تجاه القبر الشريف، فتكلّم بكلام لم نفهمه، فلمّا انصرفنا سألناه عن وقفاته فقال: كنت أطلب الإذن من رسول

اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في القدوم عليه، فإذا قال لي أقدم قدمت ساعة، ثمّ وقفت وهكذا حتّي وصلت إليه. فقلت:

يا رسول اللَّه، أكلّما روي البخاري عنك صحيح؟

فقال: صحيح.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 358

فقلت له: أرويه عنك يا رسول اللَّه؟

قال: أروه عنّي.

وقد أجاز الشيخ عبدالمعطي نفعنا اللَّه تعالي به الشيخ محمّد الخطّاب أن يرويه عنه، وهكذا كلّ واحد أجاز من بعده، وأجاز السيّد أحمد بن عبدالقادر النخلي أن يرويه عنه بهذا السند، وأجاز النخلي لأبي طاهر، وأجاز أبو طاهر لنا.

ووجدت هذا الحديث بخطّ الشيخ عبدالحق الدهلوي بإسناد له عن الشيخ عبدالمعطي بمعناه، وفيه: فلمّا فرغ من الزيارة وما يتعلّق بها، سأله أن يروي عنه صلّي اللَّه عليه وسلّم صحيح البخاري وصحيح مسلم، فسمع الإجازة من النبي، فذكر صحيح مسلم أيضاً».

كما ذكروا مناماتٍ فيها أمر رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بدراسة كتاب البخاري،!! فراجع (مقدّمة فتح الباري) «1».

ثمّ إنّه قد نصّ بعضهم علي أنّ أحاديث الكتابين هي الدليل عندهم علي أنَّ فرقتهم هي الفرقة الناجية في القيامة، يقول المناوي بشرح حديث:

«افترقت اليهود علي إحدي وسبعين فرقة … »:

«فإن قيل: ما وثوقك بأنّ تلك الفرقة الناجية هي أهل السنّة والجماعة، مع أنّ كلّ واحدٍ من الفرق يزعم أنّه هي دون غيره؟

قلنا: ليس ذلك بالإدّعاء والتشبّث باستعمال الوهم القاصر والقول الزاعم، بل بالنقل عن جهابذة أهل الصنعة وأئمّة الحديث الذين جمعوا صحاح الأحاديث في أمر المصطفي صلّي اللَّه عليه وسلّم وأحواله وأفعاله __________________________________________________

(1) هدي الساري- مقدمة فتح الباري: 5.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 359

وحركاته وسكناته، وأحوال الصحب والتابعين، كالشيخين وغيرهما من الثقات المشاهير، الذين اتفق أهل المشرق والمغرب علي صحّة ما في

كتبهم … » «1».

فكان المدرك لكون أهل السنّة هم الفرقة الناجية ما رواه الشيخان البخاري ومسلم، في كتابيهما المعروفين بالصحيحين …

وإذا سقط الكتابان عن الإعتبار، لاشتمالهما علي الأخبار الموضوعة والمكذوبة، بطل دعواهم علي كونهم الفرقة النّاجية، وانهدم أساس مذهبهم، وتلك هي الكارثة العظيمة …

وبعد:

فهذا بعض الكلام علي الكتب المذكورة وأصحابها:

__________________________________________________

(1) فيض القدير- شرح الجامع الصغير 2: 20- 21.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 363

صحيح البخاري … ص: 363

اشارة

أمّا صحيح البخاري، فإنّ أوّل شي ء نذكره حوله، هو أن أبا زرعة وأبا حاتم الرّازيين قد تركا البخاري ومنعا من الرواية عنه والأخذ منه.

ترك أبي زرعة وأبي حاتم البخاري … ص: 363

ففي (طبقات السبكي) عن تقي الدين ابن دقيق العيد أنّه قال: «أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، وقف علي شفيرها طائفتان من الناس:

المحدّثون والحكّام» فقال السبكي:

«قلت: ومن أمثلته قول بعضهم في البخاري: تركه أبوزرعة وأبو حاتم من أجل مسألة اللفظ. فياللَّه وللمسلمين! أيجوز لأحدٍ أن يقول: البخاري متروك؟ وهو حامل لواء الصناعة ومقدَّم أهل السنّة والجماعة» «1».

وأورد الذهبي البخاريّ في كتاب (الضعفاء والمتروكين)، فقال المناوي متضجّراً من ذلك:

«زين الامّة، إفتخار الأئمّة، صاحب أصحّ الكتب بعد القرآن، ساحب ذيل الفضل علي ممرّ الزمان، الذي قال فيه إمام الأئمّة ابن خزيمة: ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث منه، وقال بعضهم: إنّه آية من آيات اللَّه يمشي علي وجه الأرض.

قال الذهبي: كان من أفراد العالم مع الدين والورع والمتانة.

__________________________________________________

(1) طبقات الشافعية 2: 230، سير أعلام النبلاء 12: 462.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 364

هذا كلامه في الكاشف. ومع ذلك غلب عليه الغض من أهل السنّة، فقال في كتاب الضعفاء والمتروكين: ما سلم من الكلام، لأجل مسألة اللّفظ، تركه لأجلها الرازيّان.

هذه عبارته، وأستغفر اللَّه تعالي، نسأل اللَّه تعالي السلامة، ونعوذ به من الخذلان» «1».

وقال في (ميزان الإعتدال) بترجمة علي بن المديني:

«علي بن عبداللَّه بن جعفر بن الحسن، الحافظ، أحد الأعلام الأثبات وحافظ العصر. ذكره العقيلي في كتاب الضعفاء فبئس ما صنع فقال: جنح إلي ابن أبي دؤاد والجهميّة، وحديثه مستقيم إن شاء اللَّه، قال لي عبداللَّه بن أحمد:

كان أبي حدّثنا عنه، ثمّ أمسك عن اسمه وكان يقول حدّثنا رجل، ثمّ ترك حديثه بعد ذلك.

قلت:

بل حديثه عنه في مسنده.

وقد تركه إبراهيم الحربي، وذلك لميله إلي أحمد بن أبي دؤاد، فقد كان محسناً إليه.

وكذا امتنع من الرواية عنه في صحيحه لهذا المعني، كما امتنع أبو زرعة وأبوحاتم من الرواية عن تلميذه محمّد لأجل مسألة اللّفظ.

وقال عبدالرحمن ابن أبي حاتم: كان أبو زرعة ترك الرواية عنه من أجل ما كان منه في المحنة … » «2».

__________________________________________________

(1) فيض القدير- شرح الجامع الصغير 1: 24.

(2) ميزان الاعتدال 5: 167/ 5880.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 365

ترجمة أبي زرعة الرازي … ص: 365

وأبو زرعة الرازي، المتوفي سنة 264، من أعلام أئمّة القوم:

قال الذهبي: «م ت س ق- عبيداللَّه بن عبدالكريم، أبو زرعة الرازي، الحافظ، أحد الأعلام، عن أبي نعيم والقعنبي وقبيصة وطبقتهم في الآفاق.

وعنه: م ت س ق، وأبو عوانة، ومحمّد بن الحسين، والقطّان، وامم.

قال ابن راهويه: كلّ حديثٍ لا يعرفه أبو زرعة فليس له أصل.

مناقبه تطول» «1».

وقال ابن حجر: «م ت س ق- عبيداللَّه بن عبدالكريم بن يزيد بن فروخ، أبو زرعة الرازي، إمام، حافظ، ثقة، مشهور، من الحادية عشر» «2».

وقال اليافعي: «الحافظ، أحد الأئمّة الأعلام … قال أبو حاتم: لم يخلّف بعده مثله علماً وفقهاً وصيانةً وصدقاً، وهذا ممّا لا يرتاب فيه، ولا أعلم من المشرق والمغرب من كان يفهم هذا الشأن مثله. وقال إسحاق بن راهويه: كلّ حديث لا يحفظه أبو زرعة ليس له أصل» «3».

وقال الخطيب البغدادي: «عبيداللَّه بن عبدالكريم بن يزيد بن فروخ، أبوزرعة الرازي … كان إماماً ربّانيّاً متقناً حافظاً مكثراً صادقاً. قدم بغداد غير مرّة، وجالس أحمد بن حنبل وذاكره وحدّث، فروي عنه من البغداديّين:

إبراهيم بن إسحاق الحربي وعبداللَّه بن أحمد بن حنبل وقاسم بن زكريّا

__________________________________________________

(1) الكاشف 2: 223/ 3607.

(2) تقريب

التهذيب 1: 497/ 4850.

(3) مرآة الجنان 2: 131.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 366

المطرز …

حدّثني الأزهري، حدّثنا عبيداللَّه بن محمّد العكبري قال: سمعت أحمد بن سلمان قال: سمعت عبداللَّه بن أحمد بن حنبل قال: لمّا ورد علينا أبو زرعة نزل عندنا، فقال لي أبي: يا بنيّ قد اعتضت بنوافلي مذاكرة هذا الشيخ.

أخبرني إبراهيم بن عمر البرمكي: حدّثنا عبيداللَّه بن محمّد بن محمّد ابن حمدان العكبري، حدّثنا أبو حفص عمر بن محمّد بن رجاء قال: سمعت عبداللَّه ابن أحمد بن حنبل يقول: لمّا قدم أبو زرعة نزل عند أبي، فكان كثير المذاكرة له، فسمعت أبي يوماً يقول: ما صلّيت غير الفرض، استأثرت بمذاكرة أبي زرعة علي نوافلي.

أخبرني محمّد بن أحمد بن يعقوب، أخبرنا محمّد بن نعيم الضبي، حدّثنا أحمد بن الحسين القاضي عن بعض شيوخه قال: سمعت عبداللَّه بن أحمد بن حنبل يقول: قلت لأبي: يا أبت مَنِ الحفّاظ؟ قال: يا بني، شباب كانوا عندنا من أهل خراسان وقد تفرّقوا، قلت: من هم يا أبت؟ قال: محمّد ابن إسماعيل ذاك البخاري، وعبيداللَّه بن عبدالكريم ذاك الرازي، وعبداللَّه بن عبدالرحمن ذاك السمرقندي، والحسن بن شجاع ذاك البلخي.

أخبرني محمّد بن علي المقرئ، أخبرنا أبو مسلم ابن مهران، أخبرنا عبدالمؤمن بن خلف النسفي قال: سمعت أبا علي صالح بن محمّد يقول:

سمعت أبازرعة يقول: كتبت عن رجلين مائتي ألف حديث، كتبت عن إبراهيم الفراء مائة ألف حديث، وعن ابن أبي شيبة عبداللَّه مائة ألف حديث.

أخبرني أبو زرعة روح بن محمّد الرازي- إجازة شافهني بها- أخبرنا

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 367

عليّ ابن محمّد بن عمر القصّار، حدّثنا عبدالرحمن بن أبي حاتم. قال: قلت لأبي زرعة: تحزر ما كتبت

عن إبراهيم بن موسي مائة ألف؟ قال: مائة ألف كثير، قلت: فخمسين ألفاً؟ قال: نعم، وستّين ألفاً، وسبعين ألفاً. أخبرني من عدّ كتاب الوضوء والصلاة فبلغ ثمانية عشر ألف حديث.

أخبرنا أبوبكر البرقاني قال: قال محمّد بن العبّاس العصمي، حدّثنا يعقوب ابن إسحاق بن محمود الفقيه قال: حدّثنا صالح بن محمّد الأسدي قال: حدّثني سلمة بن شبيب، حدّثني الحسن بن محمّد بن أعين، حدّثنا زهير بن معاوية قال: حدّثتنا ام عمرو بنت شمر قالت: سمعت سويد بن غفلة يقرأ (وعيسٌ عين) يريد حور عين. قال صالح: ألقيت هذا علي أبي زرعة فبقي متعجّباً، وقال: أنا أحفظ في القراءات عشرة آلاف حديث، قلت: فتحفظ هذا؟

قال: لا.

أخبرنا أبوالقاسم رضوان بن محمّد بن الحسن الدينوري: حدّثنا أبو علي حمد بن عبداللَّه الأصبهاني قال: سمعت أباعبداللَّه عمر بن محمّد بن إسحاق العطّار يقول: سمعت عبداللَّه بن أحمد بن حنبل يقول: سمعت أبي يقول: ما جاوز الجسر أفقه من إسحاق بن راهويه، ولا أحفظ من أبي زرعة.

حدّثنا أبوطالب يحيي بن علي بن الطيّب الدسكري- لفظاً بحلوان- أخبرنا أبوبكر ابن المقرئ- بأصبهان- حدّثنا عبداللَّه بن محمّد بن جعفر القزويني- بمصر- قال: سمعت أباحفص عمر بن مقلاص يقول: كان أبو زرعة هاهنا عندنا بمصر- سنة تسع وعشرين ومائتين- إذا فرغ من سماع ابن بكير وعمرو بن خالد والشيوخ، اجتمع إليه أصحاب الحديث، فيملي عليهم وهو ابن سبع وعشرين سنة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 368

وقال عبداللَّه: سمعت يزيد بن عبدالصمد يقول: قدم علينا أبو زرعة الرازي سنة ثمان وعشرن فما رأينا مثله، وكنّا نجلس إليه، فلمّا أراد الخروج قلت له: يا أبازرعة، إجعلني خليفتك في هذه الحلقة، قال: فقال لي: قد جعلتك.

قال

عبداللَّه: سمعت محمّد بن عوف يقول: قدم علينا أبو زرعة فما ندري ممّا يتعجّب منه؟! ممّا وهب اللَّه له من الصيانة والمعرفة، مع الفهم الواسع. قال محمّد: قال لي أبو زرعة: ولدت سنة مائتين.

أخبرنا أبو زرعة الرازي- إجازة- أخبرنا عليّ بن محمّد بن عمر القصار حدّثنا عبدالرحمن بن أبي حاتم قال: سمعت أبا زرعة يقول: أردت الخروج من مصر، فجئت لُاودّع يحيي بن عبداللَّه بن بكير فقلت: تأمر بشي ء؟ فقال:

أخلف اللَّه علينا بخير.

أخبرنا عليّ بن محمّد المقرئ: أخبرنا صالح بن أحمد بن محمّد الهمذاني الحافظ، أخبرنا عبدالرحمن بن حمدان المرزبان، قال: قال أبو حاتم الرازي: إذا رأيت الرازي وغيره يبغض أبازرعة فاعلم أنّه مبتدع.

أخبرنا أبو سعد الماليني- قراءة- حدّثنا عبداللَّه ابن عدي الحافظ قال:

سمعت محمّد بن إبراهيم المقرئ يقول: سمعت فضلك الصائغ يقول: دخلت المدينة، فصرت إلي باب أبي مصعب، فخرج إليّ شيخ مخضوب- وكنت أنا ناعساً فحرّكني- فقال: يا مردريك، من أين أنت؟ لأيّ شي ء تنام؟ فقلت:

أصلحك اللَّه، من الري، من بعض شاكردي أبي زرعة، فقال: تركت أبازرعة وجئتني؟! لقيت مالك بن أنس وغيره، فما رأت عيناي مثله.

وقال أيضاً: سمعت فضلك الصائغ يقول: دخلت علي الربيع بمصر،

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 369

فقال لي: من أين أنت؟ قلت: من أهل الري- أصلحك اللَّه- من بعض شاكردي أبو زرعة. فقال: تركت أبازرعة وجئتني؟! إنّ أبازرعة آية، وإنّ اللَّه إذا جعل إنساناً آية أبان من شكله حتّي لا يكون له ثان.

حدّثنا أبوطالب الدسكري، أنبأنا أبوبكر ابن المقرئ، حدّثنا عبداللَّه بن محمّد بن جعفر القزويني قاضي الرملة- بمصر- قال: سمعت يونس بن عبدالأعلي سنة تسع وخمسين ومائتين يقول- وذكر أبازرعة الرازي- فقال:

أبو زرعة آية، وإذا أراد

اللَّه أن يجعل عبداً من عباده آية جعله.

أخبرنا أبو سعد الماليني، أخبرنا عبداللَّه ابن عدي، أخبرنا أحمد بن محمّد بن سعيد قال: حدّثني الحضرمي قال: سمعت أبابكر ابن أبي شيبة، وقيل له: من أحفظ من رأيت؟ قال: ما رأيت أحداً أحفظ من أبي زرعة الرازي.

كتب إليّ أبو حاتم أحمد بن الحسن بن محمّد بن خاموش الواعظ- من الري، بخطّه- قال: سمعت أحمد بن الحسن بن محمّد العطّار، يذكر عن محمّد بن أحمد بن جعفر الصيرفي، حدّثنا أبو جعفر أحمد بن محمّد بن سليمان التستري قال: سمعت أبازرعة يقول: إنّ في بيتي ما كتبته منذ خمسين سنة، ولم اطالعه منذ كتبته، وإنّي أعلم في أيّ كتاب هو، في أيّ ورقة هو، في أيّ صفحة هو، في أيّ سطر هو. قال: وسمعت أبازرعة يقول: ما سمعت اذني شيئاً من العلم إلّاوعاه قلبي، وإنّي كنت أمشي في سوق بغداد فأسمع من الغرف صوت المغنّيات، فأضع أصبعي في اذني مخافة أن يعيه قلبي.

أخبرني أبوبكر أحمد بن محمّد بن عبدالواحد المروذي، حدّثنا محمّد ابن عبداللَّه بن محمّد الحافظ- بنيسابور- قال: سمعت أباحامد أحمد بن استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 370

محمّد المقرئ الفقيه الواعظ يقول: سمعت أباالعبّاس محمّد بن إسحاق الثقفي يقول: لمّا انصرف قتيبة بن سعيد إلي الري، سألوه أن يحدّثهم فامتنع وقال:

احدّثكم بعد أن حضر مجالسي أحمد بن حنبل، ويحيي بن معين، وعليّ بن المديني، وأبوبكر ابن أبي شيبة، وأبو خيثمة؟! قالوا له: فإنّ عندنا غلاماً يسرد كلّ ما حدّثت به مجلساً مجلساً، قم يا أبازرعة، فقام أبو زرعة، فسرد كلّ ما حدّث به قتيبة، فحدّثهم قتيبة.

حدّثنا محمّد بن يوسف القطان النيسابوري- لفظاً- أخبرنا محمّد بن عبداللَّه

بن محمّد بن حمدويه الحافظ قال: سمعت أباجعفر محمّد بن أحمد الرازي يقول: سمعت أباعبداللَّه محمّد بن مسلم بن وارة يقول: كنت عند إسحاق بن إبراهيم بنيسابور، فقال رجل من أهل العراق: سمعت أحمد بن حنبل يقول: صحّ من الحديث سبعمائة ألف حديث وكسر، وهذا الفتي: - يعني أبازرعة- قد حفظ ستمائة ألف.

أخبرنا أبو سعد الماليني، حدّثنا عبداللَّه بن عدي قال: سمعت الحسن ابن عثمان التستري يقول: سمعت محمّد بن مسلم بن وارة يقول: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: كلّ حديث لا يعرفه أبو زرعة الرازي ليس له أصل.

حدّثني أبو القاسم عبداللَّه بن أحمد بن علي السوذرجاني- لفظاً، بأصبهان- وأبوطالب يحيي بن علي بن الطيب الدسكري- لفظاً، بحلوان- قال يحيي حدّثنا، وقال الآخر: أنبأنا أبوبكر ابن المقرئ، حدّثنا عبداللَّه بن محمّد بن جعفر القزويني- بمصر- قال سمعت محمّد بن إسحاق الصاغاني يقول- في حديث ذكره من حديث الكوفة فقال: هذا أفادنيه أبو زرعة عبيداللَّه بن عبدالكريم، فقال له بعض من حضر: يا أبابكر، أبوزرعة من أولئك استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 371

الحفّاظ الذين رأيتهم؟ وذكر جماعة من الحفّاظ، منهم الفلاس. فقال: أبو زرعة أعلاهم، لأنّه جمع الحفظ مع التقوي والورع، وهو يشبه بأبي عبداللَّه أحمد بن حنبل.

أخبرنا أبو نعيم الحافظ: حدّثنا الحسن بن محمّد الزعفراني، حدّثنا أحمد بن محمّد بن عمر، حدّثنا أبوبكر ابن بحر، حدّثنا محمّد بن الهيثم بن علي النسوي، قال: لمّا أن قدم حمدون البرذعي علي أبي زرعة لكتابة الحديث، دخل عليه فرأي في داره أواني وفرشاً كثيراً، قال: وكان ذلك لأخيه، فهمّ أن يرجع ولا يكتب عنه، فلمّا كان من اللّيل رأي كأنّه علي شط بركة، ورأي ظلّ شخص

في الماء، فقال: أنت الذي زهدت في أبي زرعة؟! أعلمت أنّ أحمد بن حنبل كان من الأبدال، فلمّا أن مات أبدل اللَّه مكانه أبازرعة.

أخبرنا الماليني: أخبرنا عبداللَّه بن عدي، حدّثنا أحمد بن محمّد بن سليمان القطان، حدّثنا أبو حاتم الرازي، حدّثني أبو زرعة عبيداللَّه بن عبدالكريم بن يزيد القرشي، وما خلّف بعده مثله علماً وفهماً، وصيانةً وحذقاً، وهذا ما لا يرتاب فيه، ولا أعلم من المشرق والمغرب من كان يفهم من هذا الشأن مثله، ولقد كان من هذا الأمر بسبيل.

وقال ابن عدي: سمعت عبدالملك بن محمّد يقول: سمعت ابن خراش يقول: كان بيني وبين أبي زرعة موعد أن ابكّر عليه فاذاكره، فبكّرت فمررت بأبي حاتم وهو قاعد وحده، فدعاني فأجلسني معه يذاكرني حتّي أصبح النهار، فقلت له: بيني وبين أبي زرعة موعد، فجئت إلي أبي زرعة والناس عليه منكبّون، فقال لي: تأخّرت عن الموعد؟ قلت: بكّرت فمررت بهذا المستوحش فدعاني فرحمته لوحدته، وهو أعلا إسناداً منك، وضربت أنت بالدست. أو كما قال.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 372

أخبرنا أبو منصور محمّد بن عيسي بن عبدالعزيز البزاز- بهمذان- حدّثنا صالح بن أحمد بن محمّد الحافظ قال: سمعت القاسم بن أبي صالح يقول: سمعت أباحاتم الرازي يقول: أبو زرعة إمام.

أخبرنا البرقاني: أخبرنا علي بن عمر الدارقطني، أخبرنا الحسن بن رشيق حدّثنا عبدالكريم بن أبي عبدالرحمن النسائي عن أبيه. ثمّ حدّثني الصوري، أخبرنا الخصيب بن عبداللَّه قال: ناولني عبدالكريم- وكتب لي بخطّه- قال: سمعت أبي يقول: عبيداللَّه بن عبدالكريم أبو زرعة: رازي ثقة.

أخبرنا الماليني: أخبرنا عبداللَّه بن عدي قال: سمعت أبايعلي الموصلي يقول: ما سمعنا بذكر أحد في الحفظ إلّاكان اسمه أكثر من رؤيته، إلّاأبو زرعة الرازي،

فإنّ مشاهدته كانت أعظم من اسمه، وكان قد جمع حفظ الأبواب، والشيوخ، والتفسير، وغير ذلك، وكتبنا بانتخابه بواسط ستّة آلاف.

أخبرنا هناد بن هارون النسفي: أخبرنا محمّد بن أحمد بن محمّد بن سليمان الحافظ- ببخاري- أخبرنا أبوالأزهر ناصر بن محمّد بن النضر الأسدي- بكرمينية- قال سمعت أبايعلي أحمد بن علي بن المثنّي يقول: رحلت إلي البصرة للقاء المشايخ أبي الربيع الزهراني وهدبة بن خالد، وسائر المشايخ، فبينا نحن قعود في السفينة، إذا أنا برجل يسأل رجلًا فقال: ما تقول- رحمك اللَّه- في رجل حلف بطلاق امرأته ثلاثاً أنّك تحفظ مائة ألف حديث؟ فأطرق رأسه مليّاً ثمّ رفع فقال: إذهب يا هذا وأنت بارٌّ في يمينك، ولا تعد إلي مثل هذا، فقلت من الرجل؟ فقيل لي: أبو زرعة الرازي، كان ينحدر معنا إلي البصرة.

أخبرنا الماليني: حدّثنا عبداللَّه بن عدي قال: سمعت أبي عدي بن استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 373

عبداللَّه يقول: كنت بالري- وأنا غلام في البزازين- فحلف رجل بطلاق امرأته أنّ أبازرعة يحفظ مائة ألف حديث، فذهب قوم إلي أبي زرعة بسبب هذا الرجل هل طلّقت امرأته أم لا؟ فذهبت معهم، فذكر لأبي زرعة ما ذكر الرجل، فقال: ما حمله علي ذلك؟ فقيل له: قد جري الآن منه ذلك، فقال أبو زرعة:

قل له يمسك امرأته … » «1».

ترجمة أبي حاتم الرازي … ص: 373

وكذلك أبو حاتم الرازي المتوفي سنة 277:

قال الذهبي: «محمّد بن إدريس أبو حاتم الرازي، الحافظ، سمع الأنصاري وعبيداللَّه بن موسي. وعنه: د، س، وولده عبدالرحمن بن أبي حاتم، والمحاملي. قال موسي بن إسحاق الأنصاري: ما رأيت أحفظ منه. مات في شعبان سنة 277» «2».

وقال السمعاني: «إمام عصره والمرجوع إليه في مشكلات الحديث، من مشاهير العلماء المذكورين،

الموصوفين بالفضل والحفظ والرحلة، ولقي العلماء» «3».

وقال ابن حجر: «د، س، ق محمّد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران الحنظلي، أبو حاتم الرازي، الحافظ الكبير، أحد الأئمّة … روي عنه: أبو داود والنسائي وابن ماجة في التفسير … وقال الحاكم أبو أحمد في الكني: أبو

__________________________________________________

(1) تاريخ بغداد 10/ 326- 337.

(2) الكاشف 3: 6/ 4761.

(3) الأنساب 2: 279.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 374

حاتم محمّد بن إدريس، روي عنه: محمّد بن إسماعيل الجعفي وابنه عبدالرحمن … ورفيقه أبوزرعة … وآخرون.

قال أبوبكر الخلال: أبو حاتم إمام في الحديث، روي عن أحمد مسائل كثيرة وقعت إلينا متفرقة، كلّها غريب.

وقال ابن خراش: كان من أهل الأمانة والمعرفة.

وقال النسائي: ثقة.

وقال اللّالكائي: كان إماماً، عالماً بالحديث، حافظاً له، متقناً متثبّتاً.

وقال الخطيب: كان أحد الأئمّة الحفاظ الأثبات، مشهوراً بالعلم، مذكوراً بالفضل … مات بالري 277» «1».

تكلّم الذهلي في البخاري … ص: 374

وممّن تكلّم في البخاري من الأئمّة الأعلام: محمّد بن يحيي الذهلي، فقد قدح فيه وطعن، وبدّعه في الدين، ومنع من الكتابة عنه والحضور عنده، قال السبكي بترجمة البخاري:

«قال أبو حامد ابن الشرقي: رأيت البخاري في جنازة سعيد بن مروان والذهلي يسأله عن الأسماء والكني والعلل، ويمرّ فيه البخاري مثل السهم، فما أتي علي هذا شهر حتّي قال الذهلي: ألا من يختلف إلي مجلسه فلا يأتنا، فإنّهم كتبوا إلينا من بغداد أنّه تكلّم في اللّفظ، ونهيناه فلم ينته، فلا تقربوه.

قلت: كان البخاري- علي ما روي وسنحكي ما فيه- ممّن قال: لفظي بالقرآن مخلوق، وقال محمّد بن يحيي الذهلي: من زعم أنّ لفظي بالقرآن __________________________________________________

(1) تهذيب التهذيب 9: 28- 30.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 375

مخلوق فهو مبتدع لا يجالَس ولا يكلَّم، ومن زعم

أنّ القرآن مخلوق فقد كفر».

وقال ابن حجر: «قال أبو حامد ابن الشرقي: سمعت محمّد بن يحيي الذهلي يقول: القرآن كلام اللَّه غير مخلوق، ومن زعم لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع لا يجالَس ولا يكلَّم، ومن ذهب بعد هذا إلي محمّد بن إسماعيل فاتّهموه، فإنّه لا يحضر مجلسه إلّامن كان علي مذهبه» «1».

نقد دفاع القوم عن البخاري … ص: 375

ثمّ إنّ القوم حاولوا تخليص البخاري من هذه الورطة، فأتعبوا أنفسهم وجهدوا كثيراً … فقد جاء في كتاب (الطبقات) بعد ما تقدَّم:

«وإنّما أراد محمّد بن يحيي- والعلم عند اللَّه- ما أراده أحمد بن حنبل كما قدّمناه في ترجمة الكرابيسي، من النّهي عن الخوض في هذا، فلم يرد مخالفة البخاري، وإن خالفه وزعم أنّ لفظه الخارج من بين شفة المحدّثين قديم، فقد باء بإثم عظيم، والظنّ به خلاف ذلك، وإنّما أراد هو وأحمد وغيرهما من الأئمّة النهي عن الخوض في مسائل الكلام، وكلام البخاري عندنا محمول علي ذكر ذلك عند الإحتياج إليه، فالكلام عند الإحتياج واجب، والسكوت عنه عند عدم الإحتياج سنّة.

فافهم ذلك ودع خرافات المؤرخين، واضرب صفحاً عن تمويهات الضالّين، الذين يظنّون أنّهم محدّثون وأنّهم عند السنّة واقفون، وهم عنها مبعدون.

__________________________________________________

(1) هدي الساري: 492.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 376

وكيف يظنّ بالبخاري أنّه يذهب إلي شي ء من أقوال المعتزلة، وقد صحّ عنه فيما رواه الفربري وغيره أنّه قال: إنّي لأستجهل من لا يكفر الجهميّة، ولا يرتاب المنصف في أنّ محمّد بن يحيي الذهلي لحقته الحسد التي لم يسلم منها إلّاأهل العصمة، وقد سأل بعضهم البخاري عمّا بينه وبين محمّد بن يحيي فقال البخاري: كم يعتري محمّد بن يحيي الحسد في العلم، والعلم رزق اللَّه يعطيه من يشاء، ولقد أطرف البخاري وأبان عن

عظيم ذكائه حيث قال- وقد قال له أبو عمرو الخفّاف أنّ الناس خاضوا في قولك: لفظي بالقرآن مخلوق- يا أباعمرو، إحفظ ما أقول لك، من زعم من أهل نيسابور وقومس والري وهمدان وبغداد والكوفة والبصرة ومكّة والمدينة: أنّي قلت لفظي بالقرآن مخلوق، فهو كذّاب، فإنّي لم أقله، إلّاأنّي قلت: أفعال العباد مخلوقة.

قلت: تأمّل كلامه ما أذكاه! ومعناه- والعلم عند اللَّه- إنّي لم أقل لفظي بالقرآن مخلوق، لأنّ الكلام في هذا خوض في مسائل الكلام وصفات اللَّه التي لا ينبغي الخوض فيها إلّاللضرورة، ولكنّي قلت أفعال العباد مخلوقة، وهو قاعدة مغنية عن تخصيص هذه المسألة بالذكر، فإنّ كلّ عاقل يعلم أنّ لفظنا من جملة أفعالنا، وأفعالنا مخلوقة، فألفاظنا مخلوقة.

ولقد أفصح بهذا المعني في رواية اخري صحيحة عنه، رواها حاتم بن أحمد الكيدري فقال: سمعت مسلم بن الحجّاج، فذكر الحكاية وفيها: أنّ رجلًا قام إلي البخاري فسأله عن اللّفظ بالقرآن فقال: أفعالنا مخلوقة وألفاظنا من أفعالنا، وفي الحكاية: أنّه وقع بين القوم إذ ذاك اختلاف علي البخاري، فقال بعضهم: قال لفظي بالقرآن مخلوق، وقال آخرون: لم يقل.

قلت: فلم يكن الإنكار إلّاعلي من تكلّم في القرآن، فالحاصل ما قدّمناه استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 377

في ترجمة الكرابيسي، من أنّ أحمد بن حنبل وغيره من السادات الموفّقين، نهوا عن الكلام في القرآن جملة، وإن لم يخالفوا في مسألة اللفظ فيما نظنّه فيهم إجلالًا لهم وفهماً من كلامهم في غير رواية، ودفعاً لمحلّهم عن قول لا يشهد له معقول ولا منقول، وهو أنّ الكرابيسي والبخاري وغيرهما من الأئمّة الموفّقين أيضاً أفصحوا بأنّ لفظهم مخلوق لمّا احتاجوا إلي الإفصاح، هذا إن ثبت عنهم الإفصاح بهذا، وإلّا فقد نقلنا لك

قول البخاري أنّ من نقل عنه هذا فقد كذب عليه.

فإن قلت: إذا كان حقّاً لم لا يفصح به قلت: سبحان اللَّه، قد أنبأناك أنّ السرّ فيه في الخوض في علم الكلام، خشية أن يَجُرَّ الكلام فيه إلي ما لا ينبغي وليس كلّ علم يفصح به، فاحفظ ما نلقيه إليك واشدد عليه يديك، ويعجبني ما أنشد الغزالي في منهاج العابدين لبعض أهل البيت «1»:

إنّي لأكتم من علمي جواهره كي لا يري الحقّ ذوجهل فيفتننا

يا رُبَّ جوهر علم لو أبوح به لقيل لي أنت ممّن تعبد الوثنا

ولاستحلّ رجال صالحون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا

وقد تقدّم في هذا أبو حسن الحسين ووصّي قبله الحسنا»

أقول:

لكن كلام السبكي متهافت وركيك، ألا تري أنّه يبادر إلي إنكار وقوع الخلاف بين الذهلي والبخاري، ثمّ يرجع فيرمي الذهلي بالحسد للبخاري، ثمّ تارةً يؤيّد القول بخلق التلفّظ بالقرآن، واخري ينكر أن يكون البخاري قائلًا بذلك!!

__________________________________________________

(1) منهاج العابدين: 5. نسبه للإمام زين العابدين عليه السلام.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 378

والحاصل: أنّه قد ذكر ثلاثة وجوه في الدفاع عن البخاري، أحدها: عدم الخلاف بين الذهلي والبخاري في المسألة. والثاني: إنّ ما قال الذهلي في البخاري ليس إلّاعن الحسد له. والثالث: إنّه لم يثبت عن البخاري القول بأنّ لفظي بالقرآن مخلوق.

لكن الأوّل واضح البطلان، ولا سبيل لحمل كلام الذهلي في البخاري علي أنّه إنّما كان نهياً عن الخوض في علم الكلام، وكيف يقول هذا؟ وهو ينقل عن الذهلي تكفير البخاري والردّ عليه والتكلّم فيه والمنع من الذهاب إليه والحضور عنده؟ وكيف يدّعي عدم وقوع الخلاف؟ وقد جاء في كتابه قبل هذا: «قصّته مع محمّد بن يحيي الذهلي» فقال: «قال الحسن بن محمّد بن جابر:

قال لنا الذهلي لمّا ورد البخاري بنيسابور: إذهبوا إلي هذا الرجل الصالح فاستمعوا منه، فذهب الناس إليه وأقبلوا علي السماع منه، حتّي ظهر الخلل في مجلس الذهلي، فحسده بعد ذلك وتكلّم فيه … » «1».

وذكر ابن حجر في مقدّمة شرح البخاري: «ذكر ما وقع بينه وبين الذهلي في مسألة اللّفظ، وما حصل له من المحنة بسبب ذلك وبراءته ممّا نسب إليه» فقال:

«قال الحاكم أبو عبداللَّه في تأريخه: قدم البخاري بنيسابور سنة خمس وثلاثين، فأقام بها مدّة يحدّث علي الدوام، قال: سمعت محمّد بن حازم البزار يقول: سمعت الحسن بن محمّد بن جابر يقول: سمعت محمّد بن يحيي يقول: إذهبوا إلي هذا الرجل الصالح العالم فاسمعوا منه. قال: فذهب الناس إليه وأقبلوا علي السماع منه، حتّي ظهر الخلل في مجلس محمّد بن يحيي.

__________________________________________________

(1) طبقات الشافعية للسبكي 2: 228.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 379

قال: فتكلّم فيه بعد ذلك».

قال: «وقال أبو أحمد ابن عدي: ذكر لي جماعة من المشايخ: أنّ محمّد ابن إسماعيل لمّا ورد نيسابور واجتمع الناس عنده، حسده بعض شيوخ الوقت فقال لأصحاب الحديث: إنّ محمّد بن إسماعيل يقول لفظي بالقرآن مخلوق، فلمّا حضر المجلس قام إليه رجل فقال: يا أباعبداللَّه، ما تقول في اللّفظ بالقرآن، مخلوق هو أو غير مخلوق؟ فأعرض عنه البخاري ولم يجبه ثلاثاً، فألحّ عليه، فقال البخاري: القرآن كلام اللَّه تعالي غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة، والإمتحان بدعة، فشغب الرجل وقال: قد قال لفظي بالقرآن مخلوق».

قال: «وقال الحاكم: لمّا وقع بين البخاري وبين محمّد بن يحيي في مسألة اللّفظ، انقطع الناس عن البخاري إلّامسلم بن الحجّاج وأحمد بن مسلمة فقال الذهلي: ألا من قال باللّفظ فلا يحضرنا مجلسنا».

قال: «قال الحاكم

أبو عبداللَّه: سمعت محمّد بن صالح بن هاني يقول:

سمعت أحمد بن مسلمة النيسابوري يقول: دخلت علي البخاري فقلت: يا أباعبداللَّه، إنّ هذا الرجل مقبول بخراسان خصوصاً في هذه المدينة، وقد لجّ في هذا الأمر حتّي لا يقدر أحد أن يكلّمه، فما تري؟ قال: فقبض علي لحيته وقال: وافوّض أمري إلي اللَّه إنّ اللَّه بصير بالعباد، اللّهمّ إنّك تعلم أنّي لم أرد المقام بنيسابور أشراً ولا بطراً ولا طلباً للرياسة، وإنّما أبت نفسي الرجوع إلي الوطن لغلبة المخالفين، وقد قصدني هذا الرجل حسداً لما آتاني اللَّه. ثمّ قال لي: يا أباأحمد، إنّي خارج غداً لتتخلّصوا من حديثه لأجلي».

وقال الحاكم أيضاً عن الحافظ أبي عبداللَّه ابن الأخرم قال: «لمّا قام مسلم بن الحجّاج وأحمد بن مسلمة من مجلس محمّد بن يحيي بسبب استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 380

البخاري قال الذهلي: لا يساكنني هذا الرجل في البلد، فخشي البخاري وسافر» «1».

وكيف يجتمع القول بعدم وقوع الخلاف مع دعوي حسد الذهلي للبخاري؟

لكنّ دعوي الحسد أيضاً لا تحلّ المشكلة ولا تنفعهم بل تضرّهم، لُامور:

ترجمة الذهلي … ص: 380

الأوّل: جلالة قدر الذهلي وعظمته كما بتراجمه، فقد ذكروا أنّه من مشايخ البخاري وأبي داود والترمذي وابن ماجة والنسائي وآخرين من كبار الأئمّة، وأنّ ابن أبي داود لقّبه ب «أميرالمؤمنين في الحديث»:

قال الذهبي: «وعنه: خ والأربعة وابن خزيمة وأبو عوانة وأبو علي الميداني، ولا يكاد البخاري يفصح باسمه لِما وقع بينهما. قال ابن أبي داود:

حدّثنا محمّد بن يحيي وكان أميرالمؤمنين في الحديث. وقال أبو حاتم: هو إمام أهل زمانه. توفي 258 وله ست وثمانون» «2».

وقال السمعاني: «إمام أهل نيسابور في عصره، ورئيس العلماء ومقدّمهم» «3».

وقال الصفدي: «الإمام الذهلي، مولاهم، النيسابوري، الحافظ، سمع من خلقٍ

كثير، روي عنه الجماعة خلا مسلم، قال: ارتحلت ثلاث رحلات __________________________________________________

(1) هدي الساري/ مقدّمة فتح الباري: 492.

(2) الكاشف 3: 88/ 5274.

(3) الأنساب 3: 181.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 381

وأنفقت مائة وخمسين ألفاً. قال النسائي: ثقة مأمون. قال أبو عمرو أحمد بن نصر الخفاف: رأيت محمّد بن يحيي في المنام فقلت: ما فعل اللَّه بك؟ قال:

غفر لي. قلت: ما فعل بحديثك؟ قال: كتب بماء الذهب ورفع في علّيّين» «1».

فهذه مقامات الذهلي ومنازله كما يقولون، فكيف يصدّق مع هذا رميه بالحسد للبخاري، وأنّ كلّ ما قاله فيه من التكفير وغيره هو عن الحسد له؟

اللّهمّ إلّاأن يلتجأ المدافعون عن البخاري إلي تكذيب هؤلاء المادحين للذهلي، وهذه شناعة عظيمة وداهية كبيرة بلا ارتياب، فإنّه مصداق الهرب من المطر والوقوف تحت الميزاب!!

الأمر الثاني:

إنّ هذا الوجه- المبطل للوجه السابق- لا ينفع القوم بل يضرّهم، لأنّه إذا ثبت حسد الذهلي- كما ذكر السبكي ونصَّ عليه البخاري- وأنّه كان من أجل الرياسة وحبّ الدنيا، توجّه الطعن إلي البخاري مرّةً اخري، وصار دليلًا آخر علي عدم احتياطه وتورّعه في الرواية والفتيا، لأنّ الامور التي حكاها الحاكم والسبكي وابن حجر العسقلاني مثبتة لكون الذهلي فاسقاً ضالّاً لا يجوز الأخذ منه والرواية عنه، لكنّ البخاري قد أخرج عنه في صحيحه كما في (تهذيب الكمال) «2» و (تهذيب التهذيب) «3» و (تقريب التهذيب) «4» و (الكاشف) «5» وغيرهما.

__________________________________________________

(1) الوافي بالوفيات 5: 186/ 2235.

(2) تهذيب الكمال 26: 622/ 5686.

(3) تهذيب التهذيب 9: 452/ 843.

(4) تقريب التهذيب 2: 226/ 7193.

(5) الكاشف 3: 88/ 5274.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 382

وكيف جاز له أنْ يخرج عنه في كتابه الذي لم يخرج فيه عن الإمام أبي عبداللَّه الصادق

عليه السلام؟

ومن الطرائف أن يلتزم بالرواية عنه وإخراجها في كتابه ولو مع عدم التصريح باسمه؟!

إنّه إن كان ثقة يصلح للرواية عنه، فالإخراج عنه مع إخفاء اسمه حسد له من البخاري، وإنْ كان من المجروحين عنده، فالإخراج عنه بهذه الكيفيّة خيانة وتدليس!!

الأمر الثالث:

إنّه إذا ثبت حسد الذهلي للبخاري وقدحه وتضليله إيّاه، وذمّ البخاري للذهلي وتكلّمه فيه، توجّه إلي أهل السنّة ما أورده الشاه عبدالعزيز الدهلوي في (التحفة الإثني عشريّة) بعنوان الطعن علي أهل الحق، من وجود التكاذب والتحاسد بين قدماء الأصحاب وردّ بعضهم علي البعض، كتأليف هشام بن الحكم كتاباً في الردّ علي هشام بن سالم الجواليقي ومؤمن الطاق.

يقول الدهلوي: «والعجب، إنّ قدماء الإماميّة وقدوتهم، الذين تنتهي إليهم سلاسل أسانيد أهل الأخبار منهم، كهشام بن الحكم وهشام بن سالم الجواليقي وصاحب الطاق، قد وقع بينهم أشدّ التكاذب والتحاسد، وكانوا يكذّبون بعضهم بعضاً في الروايات الواقعة بينهم، عن الأئمّة الثلاثة السجّاد والباقر والصادق عليهم السلام ويضلّلون ويكفّرون فيما بينهم، كما أنّ لهشام ابن الحكم كتاباً في الردّ علي الجواليقي وصاحب الطاق. ذكر ذلك النجاشي، فسقط جميع أخبارهم عن حيّز الإعتبار وتساقطت بالتعارض» «1».

__________________________________________________

(1) التحفة الإثني عشرية: 118 الباب الرابع.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 383

لكنّ المناظرة وردّ البعض علي البعض في المسائل العلميّة أمر، والإهانة والتكذيب بل التضليل والتكفير أمر آخر، فهشام بن الحكم وضع كتاباً في الردّ علي هشام بن سالم في مسألة اختلفا فيها، أمّا ما كان بين الذهلي والبخاري فهو الحسد والتضليل والتكفير، كما هو صريح عبارات القوم، وهو الذي ينتهي إلي سقوط أخبارهم عن حيّز الاعتبار وتساقطها بالتعارض.

وأمّا إنكار السبكي أن يكون البخاري قائلًا: لفظي بالقرآن مخلوق، فليس إلّامكابرةً منه، لأنّه بنفسه

قد حكي ذلك عن البخاري، كما أنّ ابن حجرٍ أيضاً رواه، قال السبكي:

«قال محمّد بن يوسف الفربري: سمعت محمّد بن إسماعيل يقول: وأمّا أفعال العباد مخلوقة، فقد ثنا علي بن عبداللَّه، ثنا مروان بن معاوية، ثنا أبو مالك، عن ربعي، عن حذيفة قال: قال النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ اللَّه يصنع كلّ صانع وصنعته.

وسمعت عبيداللَّه بن سعيد، سمعت يحيي بن سعيد يقول: ما زلت أسمع أصحابنا يقولون أفعال العباد مخلوقة. قال البخاري: حركاتهم وأصواتهم وأكسابهم وكتابتهم مخلوقة، فأمّا القرآن المتلو المثبت في المصاحف، المسطور المكتوب الموعي في القلوب، فهو كلام اللَّه ليس بمخلوق. قال اللَّه تعالي: «بل هو آيات بيّنات في صدور الذين اوتوا العلم».

وقال: يقال فلان حسن القراءة ورديُّ القراءة، ولا يقال حسن القرآن ولا رديّ القرآن، وإنّما ينسب إلي العباد القراءة، لأنّ القرآن كلام الربّ والقراءة فعل العبد، وليس لأحد أن يشرع في أمر بغير علم، كما زعم بعضهم أنّ القرآن بألفاظنا وألفاظنا به، شي ء واحد، والتلاوة هي المتلو، والقراءة هي استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 384

المقروء … » «1».

وقال ابن حجر في (مقدمة فتح الباري):

«قال حاتم بن أحمد بن محمود: سمعت مسلم بن الحجّاج يقول: لمّا قدم محمّد بن إسماعيل نيسابور، ما رأيت عالماً ولا والياً فعل به أهل نيسابور ما فعلوا به، فاستقبلوه من مرحلتين من البلد أو ثلاث. فقال محمّد بن يحيي الذهلي في مجلسه: من أراد أن يستقبل محمّد بن إسماعيل غداً فليستقبله، فإنّي أستقبله. فاستقبله محمّد بن يحيي وعامّة علماء نيسابور، فدخل البلد.

فقال محمّد بن يحيي: لا تسألوه من شي ء من الكلام، فإن أجاب بخلاف ما نحن عليه وقع بيننا وبينه، وشمت بنا كلّ أباضيّ

وجهميّ ومرجئ بخراسان، فازدحم الناس علي محمّد بن إسماعيل حتّي امتلأت الدار والسطوح، فلمّا كان اليوم الثاني أو الثالث من يوم قدومه، قام إليه رجل فسأله عن اللّفظ بالقرآن، فقال: أفعالنا مخلوقة وألفاظنا من أفعالنا، فقال: فوقع بين الناس اختلاف؛ فقال بعضهم: قال لفظي بالقرآن مخلوق، وقال بعضهم: لم يقل، فوقع بينهم في ذلك اختلاف حتّي قام بعضهم إلي بعض. قال: فاجتمع أهل الدار فأخرجوهم» «2».

وأيضاً قال ابن حجر: «قال الحاكم: حدّثنا أبوبكر ابن أبي الهيثم، ثنا الفربري قال: سمعت محمّد بن إسماعيل يقول: أمّا أفعال العباد مخلوقة، فقد حدّثنا عليّ ابن عبداللَّه، ثنا مروان بن معاوية، ثنا أبو مالك، عن ربعي، عن حذيفة قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ اللَّه يصنع كلّ صانع __________________________________________________

(1) طبقات الشافعية 2: 228- 229.

(2) هدي الساري: 491.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 385

وصنعته.

قال: وسمعت عبيداللَّه بن سعيد- يعني أباقدامة السرخسي- سمعت يحيي ابن سعيد يقول: لا زلت أسمع أصحابنا يقولون إنّ أفعال العباد مخلوقة.

وقال محمّد بن إسماعيل: حركاتهم وأصواتهم وأكسابهم وكتابتهم مخلوقة، فأمّا القرآن المبين المكتوب في المصاحف الموعي في القلوب، فهو كلام اللَّه تعالي غير مخلوق «بل هو آيات بيّنات في صدور الذين اوتوا العلم» «1».

وأمّا ما ذكره أخيراً في مقام الدفاع عن البخاري، وأنّه «ليس كلّ علمٍ يفصح به» فهو اعتراف بجواز التقيّة واستعمالها، فلماذا يرمون أهل الحقّ- المستعملين التقيّة من حكّام الجور وعملائهم- بأنواع التهم؟ ويسمّون «التقيّة» ب «النفاق»؟

وعلي الجملة، فإنّ قول البخاري بمقالة «لفظي بالقرآن مخلوق» وتضليل الذهلي إيّاه بهذا السبب، أمر ثابت لا ريب فيه، وكذلك سائر علماء القوم، يكفّرون من قال بذلك.

وهذا الذهبي ينصّ في غير موضع من تاريخه

علي أنّ هذه المقالة هي مذهب الجهميّة.

والعجب أنّ السبكي ينقل عن الذهبي هذا الكلام- بترجمة الحسين الكرابيسي- ويضطرب أمامه أشدّ الإضطراب.

قال السبكي: «وممّا يدلّك أيضاً علي ما نقوله، وأنّ السلف لا ينكرون أنّ لفظنا حادث، وأنّ سكوتهم إنّما هو عن الكلام في ذلك لا عن اعتقاده: أنّ الرواة رووا أنّ الحسين بلغه كلام أحمد فيه فقال: لأقولنّ مقالة حتّي يقول __________________________________________________

(1) هدي الساري: 491.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 386

أحمد بخلافها فيكفر، فقال: لفظي بالقرآن مخلوق، وهذه الحكاية قد ذكرها كثير من الحنابلة، وذكرها شيخنا الذهبي في ترجمة الإمام أحمد وفي ترجمة الكرابيسي، فانظر إلي قول الكرابيسي فيها إنّ مخالفها يكفر، والإمام أحمد- فيما نعتقده- لم يخالفها، وإنّما أنكر أن يتكلّم في ذلك.

فإذا تأمّلت ما سطرناه، ونظرت قول شيخنا في غير موضع من تاريخه إنّ مسألة اللفظ ممّا يرجع إلي قول جهم، عرفت أنّ الرجل لا يدري في هذه المضائق ما يقول، وقد أكثر هو وأصحابه من ذكر جهم بن صفوان، وليس قصدهم إلّاجعل الأشاعرة- الذين قدر اللَّه لقدرهم أن يكون مرفوعاً، وللزومهم للسنّة أن يكون مجزوماً به ومقطوعاً- فرقة جهميّة.

واعلم أنّ جهماً شرّ من المعتزلة- كما يدريه من ينظر الملل والنحل ويعرف عقائد الفرق- بل هو شرّ من القائلين بها، لمشاركته إيّاهم فيما قالوه وزيادته عليهم بطامّات، فما كفي الذهبي أن يشير إلي اعتقاد ما يتبرّء العقلاء عن قوله، من قدم الألفاظ الجارية علي لسانه، حتّي ينسب هذه العقيدة إلي مثل الإمام أحمد بن حنبل وغيره من السّادات، ويدّعي أنّ المخالف فيها يرجع إلي قول جهم، فليته دري ما يقول، واللَّه يغفر لنا وله، ويتجاوز عمّن كان السبب في خوض مثل الذهبي في

مسائل هذا الكلام، وإنّه ليعزّ عليّ الكلام في ذلك.

ولكن كيف يسعنا السكوت؟ وقد ملأ شيخنا تاريخه بهذه العظائم التي لو وقف عليها العامي لأضلّته ضلالًا مبيناً، ولقد يعلم اللَّه منّي كراهيّة الإزراء لشيخنا، فإنّه مفيدنا ومعلّمنا، وهذا النور اليسير الحديثي الذي عرفناه منه استفدناه، ولكن أري أنّ التنبيه علي ذلك حتم لازم في الدين» «1».

__________________________________________________

(1) طبقات الشافعية 2: 118- 120.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 387

قول البخاري بخلق الإيمان … ص: 387

وكما قال البخاري بخلق التلفّظ بالقرآن، كذلك قال بخلق الإيمان، وهو كفر عند الجمهور وخاصةً الحنفيّة منهم، يقول صاحب كتاب (الفصول والأحكام) وهو حفيد صاحب (الهداية) ما هذا نصّه:

«من قال بخلق القرآن فهو كافر، وكذا من قال بخلق الإيمان فهو كافر.

وروي عن بعض السلف أنّه روي عن أبي حنيفة: إنّ الإيمان غير مخلوق.

وسئل الشيخ الإمام أبوبكر محمّد بن الفضل عن الصّلاة خلف من يقول بخلق الإيمان قال: لا تصلّوا خلفه. وذكر أبو سهل بن عبداللَّه- وهو أبو سهل الكبير- عن كثير من السلف: إنّ من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: الإيمان مخلوق فهو كافر.

وحكي أنّه وقعت هذه المسألة بفرغانة، فاتي بمحضر منها إلي أئمّة بخاري، فكتب فيه الشيخ الإمام أبوبكر ابن حامد والشيخ الإمام أبو حفص الزاهد والشيخ الإمام أبوبكر الإسماعيلي: إنّ الإيمان غير مخلوق، ومن قال بخلقه فهو كافر.

وقد خرج كثير من الناس من بخاري، منهم محمّد بن إسماعيل صاحب الجامع، بسبب قولهم: الإيمان مخلوق».

ترجمة صاحب الفصول … ص: 387

وصاحب كتاب (الفصول والأحكام) من العلماء الأعلام المرموقين بين الفقهاء الحنفيّة، وقد ترجم له الكفوي حيث قال: «الشيخ الإمام أبوالفتح استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 388

زين الدين، صاحب الفصول العمادية، عبدالرحيم بن أبي بكر عماد الدين بن برهان الدين صاحب الهداية علي بن أبي بكر بن عبدالجليل الفرغاني المرغيناني الرشداني.

تفقّه علي أبيه عماد الدين ابن صاحب الهداية، وعلي صاحب مطلع المعاني حسام الدين العلياري، تلميذ الشيخ الإمام مجد الدين المفتي صاحب الفصول محمّد بن محمود الأسروشني، وهو تلميذ القاضي الإمام ظهيرالدين الحسن بن علي المرغيناني، وهو أخذ العلم عن برهان الدين عبدالعزيز بن عمر ابن مازه، عن شمس الأئمّة السرخسي، عن شمس الأئمّة الحلواني، عن أبي علي

النسفي، عن أبي بكر محمّد بن الفضل، عن الاستاد عبداللَّه السندمولي، عن أبي عبداللَّه بن أبي حفص الكبير، عن محمّد، عن أبي حنيفة رحمهم اللَّه تعالي.

رأيت في آخر فصوله: يقول جالب هذه الخصائل النفيسة، وكاتب هذه المسائل الأنيسة، أبوالفتح بن أبي بكر بن علي بن أبي بكر بن عبدالجليل المرغيناني نسباً والسمرقندي منشأ، بعد تقديم الحمد للَّه والصلاة علي محمّد عبده ونبيه، والثناء عليه وعلي آله في صباح كلّ يوم وعشيّة. إلي آخر كلامه.

ثمّ قال: نجزت كتابته في أواخر شعبان سنة إحدي وخمسين وستمائة» «1».

تصريح ابن دحية بانحراف البخاري عن أهل البيت … ص: 388

وقد كان ما لاقاه البخاري من الإهانة والتضليل، من كبار الأئمّة، كأبي __________________________________________________

(1) كتائب أعلام أخبار من فقهاء مذهب النعمان المختار- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 389

زرعة وأبي حاتم والذهلي وأئمّة بخاري، جزاءً لانحرافه عن أميرالمؤمنين وأهل البيت الطاهرين عليهم السلام، وإزرائه لهم وكتمانه فضائلهم ومناقبهم في دار الدنيا الأمر الذي صرَّح به العلامة ذوالنسبين ابن دحية في كتاب (شرح أسماء النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم) حيث قال:

«ترجم البخاري في صحيحه في وسط المغازي ما هذا نصّه: بعث عليّ ابن أبي طالب وخالد بن الوليد إلي اليمن قبل حجّة الوداع: حدّثني أحمد بن عثمان قال: ثنا شريح بن مسلمة قال: ثنا إبراهيم بن يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق قال: حدّثني أبي، عن أبي إسحاق سمعت البراء: بعثنا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم مع خالد بن الوليد إلي اليمن، ثمّ بعث عليّاً بعد ذلك مكانه فقال: مر أصحاب خالد، من شاء منهم أن يُعقّب معك فليُعَقِّب ومن شاء فليقبل، فكنت ممّن عَقَّب معه. قال: فغنمت اوَاقي ذات عدد.

حدّثني محمّد بن بشار قال: ثنا روح بن عبادة قال: ثنا علي بن

سويد ابن منجوق، عن عبداللَّه بن بريدة، عن أبيه قال: بعث النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم عليّاً إلي خالد ليقبض الخمس، وكنت أبغض عليّاً، وقد اغتسل، فقلت لخالد: ألا تري إلي هذا، فلمّا قدمنا إلي النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم ذكرت له ذلك، فقال: يا بريدة أتبغض عليّاً؟ فقلت: نعم. قال: لا تبغضه، فإنّ له في الخمس أكثر من ذلك.

قال ذوالنسبين رحمه اللَّه:

أورده البخاري ناقصاً مُبتّراً كما تري، وهي عادته في إيراد الأحاديث التي من هذا القبيل، وما ذاك إلّالسوء رأيه في التنكّب عن هذه السبيل.

وأورده الإمام أحمد بن حنبل كاملًا محقّقاً، إلي طريق الصحّة فيه موفّقاً،

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 390

فقال فيما حدّثني القاضي العدل، بقيّة مشايخ العراق، تاج الدين أبوالفتح محمّد بن أحمد بن المندائي- قراءة عليه، بواسط العراق- بحقّ سماعه علي الثقة الرئيس أبي القاسم ابن الحصين، بحق سماعه علي الثقة الواعظ أبي علي الحسين ابن المذهب، بحق سماعه علي الثقة أبي بكر أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي، بحقّ سماعه من الإمام أبي عبدالرحمن عبداللَّه، بحق سماعه علي أبيه إمام أهل السنّة أبي عبداللَّه أحمد بن حنبل قال: ثنا يحيي بن سعيد، ثنا عبدالجليل قال: انتهيت إلي حلقة فيها أبو مجلز وابنا بريدة، فقال عبداللَّه ابن بريدة: أبغضت عليّاً بغضاً لم أبغضه أحداً قط. قال: وأحببت رجلًا لم احبّه إلّا علي بغضه عليّاً. قال: فبعث ذلك الرجل علي خيل فصحبته، وما أصحبه إلّا علي بغضه عليّاً. قال: فأصبنا سبياً. قال: فكتب إلي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إبعث علينا مَنْ يخمّسه. قال: فبعث إلينا عليّاً وفي السبي وصيفة هي أفضل من في السبي، قال: فخمّس وقسّم، فخرج ورأسه يقطر. فقلنا:

يا أباالحسن ما هذا؟ قال: ألم تروا إلي الوصيفة التي كانت في السبي، فإنّي قسّمت وخمّست فصارت في الخمس، ثمّ صارت في أهل بيت النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، ثمّ صارت في آل علي ووقعت بها. قال: فكتب الرجل إلي نبيّ اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم. قلت: إبعثني، فبعثني مصدّقاً. قال: فجعلت أقرأ الكتاب وأقول: صدق صدق، فأمسك يدي والكتاب قال: أتبغض عليّاً؟ قال:

قلت: نعم. قال: فلا تبغضه، وإن كنت تحبّه فازدد له حبّاً، فوالذي نفس محمّد بيده، لنصيب آل علي في الخمس أفضل من وصيفة. قال: فما كان من الناس أحد بعد قول رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أحبّ إليّ من علي.

قال عبداللَّه: فوالذي لا إله غيره، ما بيني وبين النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 391

في هذا الحديث غير أبي بريدة» «1».

وقال ابن دحية في موضعٍ آخر من كتابه المذكور، بعد نقل حديثٍ عن مسلم:

«بدأنا بما أورده مسلم، لأنّه أورده بكماله، وقطّعه البخاري وأسقط منه علي عادته كما تري، وهو ممّا عيب عليه في تصنيفه علي ما جري، ولاسيّما إسقاطه لذكر علي رضي اللَّه عنه».

ترجمة أبي الخطّاب ابن دحية … ص: 391

ولا يخفي أنّ أباالخطّاب ابن دحية من أكبر علماء القوم وأشهر حفّاظهم.

قال ابن خلّكان بترجمته:

«أبوالخطّاب عمر بن الحسن بن علي بن محمّد بن الجميل بن فَرَح بن خلف بن قَومِس بن مُزْلال بن مَلّال بن بدر بن دِحْية بن فروة الكلبي، المعروف بذي النسبين، الأندلسي البلنسي الحافظ. نقلت نسبه علي هذه الصّورة من خطّه.

كان يذكر أنّ امّه: أمة الرحمن بنت أبي عبداللَّه بن أبي البسام موسي بن عبداللَّه بن الحسين بن جعفر بن علي بن محمّد بن علي بن موسي بن جعفر

ابن محمّد بن علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنهم، فلهذا كان يكتب بخطّه: ذوالنّسبين بين دحية والحسين، وكان يكتب أيضاً سبط أبي البسام، إشارة إلي ذلك.

__________________________________________________

(1) المستكفي في أسماء النبي المصطفي- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 392

وكان أبوالخطّاب المذكور من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء، متقناً لعلم الحديث النبوي وما يتعلّق به، عارفاً بالنحو واللغة وأيّام العرب وأشعارها، أكثر بطلب الحديث في أكثر بلاد الأندلس الإسلاميّة، ولقي بها علماءها ومشائخها، ثمّ رحل منها إلي برّ العدوة، ودخل مراكش واجتمع بفضلائها، ثمّ ارتحل إلي إفريقيّة ومنها إلي الديار المصريّة، ثمّ إلي الشام والشرق وإلي العراق، وسمع ببغداد من بعض أصحاب ابن الحصين، وسمع بواسط من أبي الفتح محمّد بن أحمد بن المندائي، ودخل إلي عراق العجم وخراسان وما والاها ومازندران، كلّ ذلك في طلب الحديث والإجتماع بأئمّة الحديث، وأخذ عنهم، وهو في تلك الحال يؤخذ عنه ويستفاد منه، وسمع بأصبهان من أبي جعفر الصيدلاني، وبنيسابور من منصور ابن عبدالمنعم الفراوي» «1».

وقال السيوطي في (بغية الوعاة):

«عمر بن الحسن بن علي بن محمّد بن الجميل بن فرح بن دحية الكلبي الأندلسي البلنسي الحافظ، أبوالخطّاب، كان من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء، متقناً لعلم الحديث وما يتعلّق به، عارفاً بالنحو واللغة وأيّام العرب وأشعارها، سمع الحديث ورحل، وله بني الكامل دار الحديث الكامليّة بالقاهرة، وجعله شيخاً، حدثّ عنه ابن الصلاح وغيره، ومات ليلة الثلاثاء رابع عشر ربيع الأوّل سنة ثلاث وثلاثين وستمائة» «2».

وقال في كتابه (حسن المحاضرة):

__________________________________________________

(1) وفيات الأعيان 3: 448- 450/ 497.

(2) بغية الوعاة في طبقات اللغويّين والنّحاة 2: 218/ 1832.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 393

«ابن دحية، الإمام العلّامة الحافظ الكبير،

أبوالخطّاب، عمر بن الحسن الأندلسي البلنسي، كان بصيراً بالحديث متقناً به، له حظّ وافر من اللغة ومشاركة في العربيّة، له تصانيف، توطّن مصر وأدّب الملك الكامل، ودرّس بدار الحديث الكامليّة، مات أربع عشرة ربيع الأوّل سنة ثلاث وثلاثين وستمائة» «1».

موقف البخاري من حديث الغدير وكلمات الأعلام فيه … ص: 393

ومن غرائب تعصّبات البخاري: طعنه في حديث الغدير المروي عن أكثر من مائة صحابي، والبالغ أضعاف شروط التواتر، والمصرَّح بتواتره من قبل الأئمّة الثقات المتبحّرين في الحديث عند أهل السنّة، كما لا يخفي علي من اقتطف الأزهار من (الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة)، واستفاد من (الفوائد المتكاثرة في الأخبار المتواترة) وكلاهما للحافظ السيوطي، أو راجع (شرح الجامع الصغير) لنورالدين العزيزي، أو (شرح الجامع الصغير) للمناوي، أو (المرقاة) لعلي القاري، أو (الأربعين في مناقب أميرالمؤمنين) لجمال الدين المحدّث الشيرازي، أو (السيف المسلول) لثناء اللَّه تلميذ ولي اللَّه والد صاحب التحفة، أو (أسني المطالب) لابن الجزري، وغير هذه الكتب.

قال ابن تيميّة- في حديث الغدير-: «وأمّا قوله: من كنت مولاه فعليّ مولاه، فليس في الصحاح، لكنْ ممّا رواه العلماء، وتنازع الناس في صحّته، فنقل عن البخاري وإبراهيم الحربي وطائفة من أهل العلم أنّهم طعنوا فيه __________________________________________________

(1) حسن المحاضرة بمحاسن مصر والقاهرة 1: 201.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 394

وضعّفوه» «1».

اللّهمّ إلّاأن يكون قد طعن في بعض طرقه، فنسب إليه ابن تيميّة الطعن في أصله … !!

فإنْ كان البخاري قد طعن في أصل حديث الغدير، فقد نصَّ غير واحدٍ من أعلام القوم علي عدم الإعتبار بكلام من طعن فيه كائناً من كان … يقول البدخشي: «هذا حديث صحيح مشهور، ولم يتكلَّم في صحّته إلّامتعصّب جاحد لا اعتبار بقوله، فإنّ الحديث كثير الطرق جدّاً، وقد استوعبها ابن عقدة في

كتابٍ مفرد، وقد نصَّ الذهبي علي كثير من طرقه بالصحّة، ورواه من الصحابة عدد كثير» «2».

وكذلك نسب الحافظ ابن الجزري منكر حديث الغدير إلي الجهل والعصبيّة «3».

ترجمة ابن الجزري … ص: 394

وابن الجزري الشافعي، حافظٌ شهير، وله تآليف معتمدة، وقد أثني العلماء عليه وعلي كتبه:

فقد ترجم له ابن حجر ووصفه بالحافظ الإمام المقرئ، وقال: «إنتهت إليه رئاسة علم القراآت في الممالك، وكان قديماً صنّف الحصن الحصين في الأدعية، ولهج به أهل اليمن واستكثروا منه … وكانت عنايته بالقراءات أكثر،

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4: 136.

(2) نزل الأبرار بما صحَّ من مناقب أهل البيت الأطهار: 21.

(3) أسني المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب: 48.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 395

فجمع ذيل طبقات القرّاء للذهبي وأجاد فيه، ونظم قصيدةً في قرائة الثلاثة، وجمع النشر في القراءات العشر … وكان يلقّب في بلاده: الإمام الأعظم …

وبالجملة، فإنّه كان عديم النظير، طائر الصيت، انتفع الناس بكتبه وسارت في الآفاق مسير الشمس» «1».

وترجم له السخاوي ترجمةً مطوّلة، فذكر مشايخه في مختلف العلوم، وأنّه قد أذن له غير واحدٍ بالإفتاء والتدريس والإقراء، وأنّه ولي مشيخة الإقراء بالعادليّة ثمّ مشيخة دار الحديث الأشرفيّة … وهكذا ذكر أسفاره إلي البلاد المختلفة وأورد طرفاً من أخباره فيها … ثمّ ذكر تصانيفه ووصفها بكونها مفيدةً، ومنها (أسني المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب). قال: وقد ذكره الطاووسي في مشيخته وقال: إنّه تفرّد بعلوّ الرواية وحفظ الأحاديث والجرح والتعديل ومعرفة الرواة المتقدّمين والمتأخّرين … ثمّ ذكر السخاوي كلام ابن حجر في حقّه … » «2».

هذا، وقد توفي ابن الجزري سنة 833.

إسترابة البخاري في بعض حديث الإمام الصادق عليه السلام!! … ص: 395

ومن أمارات بغض البخاري لأهل بيت النبوّة وانحرافه عنهم: عدم إخراجه عن الإمام الصادق عليه السلام في كتابه، بل استرابته في بعض حديثه، والعياذ باللَّه!!

قال ابن تيميّة في كلامٍ له عن الإمام عليه السلام:

__________________________________________________

(1) إنباء الغمر بأبناء العمر 3: 467.

(2) الضوء اللامع لأهل القرن التاسع

9: 255- 260.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 396

«فهؤلاء الأئمّة الأربعة ليس منهم من أخذ عن جعفر شيئاً من قواعد الفقه، لكنْ رووا عنه الأحاديث كما رووا عن غيره، وأحاديث غيره أضعاف أحاديثه، وليس بين حديث الزهري وحديثه نسبة، لا في القوّة ولا في الكثرة، وقد استراب البخاري في بعض حديثه لمّا بلغه عن يحيي بن سعيد القطّان فيه كلام، فلم يخرج له، ويمتنع أن يكون حفظه للحديث كحفظ من يحتجّ بهم البخاري» «1».

فانظر إلي كلام هذا الناصب العنيد، كيف يطعن في الإمام العظيم استناداً إلي القطّان والبخاري، مع أنّ علمائهم الكبار، من السّابقين واللّاحقين، يقولون بضرورة حبّ أهل البيت واحترامهم والإقتداء بهم والأخذ منهم، وحتّي أنّهم ينزّهون أهل السنّة من بغض أهل البيت، ويبرؤن ممّن اعترض عليهم أو تكلّم فيهم أو أعرض عنهم، ويجعلون نسبة هذه الامور إلي أهل السنّة من تعصّبات الإماميّة ضدّهم، يقول الكابلي في تعداد تعصّبات الشيعة:

«التاسع عشر: إنّ أهل السنة أفرطوا في بغض أهل البيت، ذكر ذلك ابن شهرآشوب وكثير من علمائهم، ولقَّبوهم بالنواصب، وهو كذب صرد وعصبيّة ظاهره، فإنّهم يقولون إنّ اللَّه تعالي أوجب محبّة أهل بيت نبيّه علي جميع بريّته، ولا يؤمن أحد حتّي يكون عترة النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أحبّ إليه من نفسه، ويروون في ذلك أحاديث منها: ما رواه البيهقي وأبوالشيخ والديلمي:

أنّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: لا يؤمن أحد حتّي أكون أحبّ إليه من نفسه، ويكون عترتي أحبّ إليه من نفسه.

وأخرج الترمذي والحاكم عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنه أنّه صلّي اللَّه __________________________________________________

(1) منهاج السنّة 7: 533.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 397

عليه وسلّم قال: أحبّوا أهل بيتي بحبّي.

إلي غير ذلك من

الأخبار.

ويقولون: من ترك المودّة في أهل بيت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فقد خانه، وقد قال اللَّه تعالي: «لا تخونوا اللَّه ورسوله»، ومن كره أهل بيته فقد كرهه صلّي اللَّه عليه وسلّم. ولقد أجاد من أفاد:

فلا تعدل بأهل البيت خلقاً فأهل البيت هم أهل السعاده فبغضهم من الإنسان خسر حقيقيٌّ وحبّهم عباده ويوجبون الصّلاة عليهم في الصلوات. قال الشيخ الجليل فريدالدين أحمد بن محمّد النيسابوري رحمه اللَّه: من آمن بمحمّد ولم يؤمن بأهل بيته فليس بمؤمن، أجمع العلماء والعرفاء علي ذلك ولم ينكره أحد» «1».

أقول:

فلو كانوا صادقين في قولهم «من آمن بمحمّدٍ ولم يؤمن بأهل بيته فليس بمؤمن» وأنّه قد «أجمع العلماء والعرفاء علي ذلك ولم ينكره أحد» فما ظنّهم بالقطّان والبخاري وابن تيميّة وأمثالهم؟

وقد ذكر الشاه عبدالعزيز الدّهلوي- في الكلام علي حديث: مثل أهل بيتي كسفينة نوح … -: إنّ هذا الحديث يفيد بأنّ الفلاح والهداية منوط بحبّ أهل البيت واتّباعهم، وأنّ التخلّف عن ذلك موجب للهلاك، ثمّ زعم أنّ هذا المعني يختصُّ بأهل السنّة «2»!!

فإنْ كان صادقاً فيما يقول، فما رأيه فيمن تكلّم في الإمام أبي عبداللَّه __________________________________________________

(1) الصواقع الموبقة- مخطوط.

(2) التحفة الإثني عشرية: 219.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 398

الصّادق عليه السلام؟

هذا، ولا يتوهّمنّ أحدٌ أنّ تكلّم القطّان والبخاري وأتباعهما في الإمام ليس عن بغض له وعناد، وإنّما هو تحقيقٌ في العلم واحتياط في الدين، فإنّه توهّم فاسد جدّاً، فإنّه لو لم يكن ما ذكره ابن تيميّة انحرافاً وبغضاً وعناداً، فأين العناد والعداوة والبغض؟ وبماذا يكون؟ ومن المنحرف عنهم والمتعصّب ضدّهم والناصب لهم؟

وهل شدّة الإحتياط والتورّع أدّت إلي أخذ روايات عكرمة الضالّ المضلّ والناصب المقيت، وطرح أخبار الإمام الصادق وغيره

من أئمّة أهل البيت؟

وكيف يقبل هذا الإعتذار للبخاري؟! وكيف يعتذر له بذلك؟ وقد أخرج عن الذهلي- مع ما كان بينهما من الطعن الموجب للفسق- ومع التدليس في اسمه، ولم يخرج عن الإمام الصادق؟!

ولو كان لمثل هذا الإعتذار مجالٌ لَما قال ابن تيميّة: «ويمتنع أنْ يكون حفظه للحديث كحفظ من يحتجّ بهم البخاري»!!

طعن القطّان في الإمام الصادق!! … ص: 398

هذا، وطعن القطّان في الإمام الصّادق عليه السلام مذكور في سائر الكتب الرجاليّة، وهو في جملتين إحداهما: «في نفسي منه شي ء» والاخري:

«مجالد أحبّ إليّ منه»!!:

قال الذهبي: «جعفر بن محمّد الصادق أبو عبداللَّه، وامّه ام فروة بنت القاسم بن محمّد، وامّها أسماء بنت عبدالرحمن بن أبي بكر، فكان يقول:

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 399

ولّدني الصديق مرّتين. سمع أباه والقاسم وعطاء. وعنه: شعبة والقطّان وقال:

في نفسي منه شي ء … » «1».

وقال: «جعفر بن محمّد بن علي، ثقة، لم يخرج له البخاري، وقد وثّقه يحيي بن معين وابن عدي، وأمّا القطّان فقال: مجالد أحبّ إليّ منه» «2».

ترجمة مجالد بن سعيد … ص: 399

هذا، والحال أنّ مجالد بن سعيد قد طعن فيه كثير من أئمّة القوم:

قال الذهبي: «مجالد بن سعيد بن عمير الهمداني، مشهور، صاحب حديثٍ علي لينٍ فيه. روي عن قيس بن أبي حازم والشعبي. وعنه: يحيي القطّان وأبو اسامة وجماعة.

قال ابن معين وغيره: لا يحتجّ به، وقال أحمد: يرفع كثيراً ممّا لا يرفعه الناس، ليس بشي ء. وقال النسائي: ليس بالقوي، وذكر الأشج: إنّه شيعي، وقال الدارقطني: ضعيف. وقال البخاري: كان يحيي بن سعيد يضعّفه، وكان ابن مهدي لا يروي عنه، وقال الفلّاس: سمعت يحيي بن سعيد يقول: لو شئت أن يجعلها لي مجالد كلّها عن الشعبي عن مسروق عن عبداللَّه فعل.

وقيل لخاله الطحّان: دخلتَ الكوفة فلم لم تكتب عن مجالد؟ قال: لأنّه كان طويل اللّحية، قلت: من أنكر ما له عن الشعبي عن مسروق عن عائشة مرفوعاً: لو شئت لأجري اللَّه معي جبال الذهب والفضّة» «3».

__________________________________________________

(1) الكاشف 1: 139/ 807.

(2) المغني في الضعفاء 1: 211/ 1156.

(3) ميزان الاعتدال 6: 23/ 7076.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 400

فانظر من هذا

الذي قدّمه القطان علي الإمام الصّادق عليه السلام؟

واحكم علي القطّان والبخاري وأضرابهما بما يقتضيه الدين والعدل؟

موقف الذهبي … ص: 400

والذهبي، وإنْ وثّق الإمام عليه السلام، لكنّه لم يرد علي تعصّبات القطّان والبخاري ضد الإمام، بل بالعكس، فقد أورده في كتابه (الميزان) لتكلّمهما فيه، حيث قال:

«جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين الهاشمي، أبو عبداللَّه، أحد الأئمّة الأعلام، برّ، صادق، كبير الشأن، لم يحتج به البخاري، قال يحيي بن سعيد:

مجالد أحبّ إليّ منه، في نفسي منه شي ء، وقال مصعب بن عبداللَّه عن الدراوردي قال: لم يرو مالك عن جعفر حتّي ظهر أمر بني العبّاس، قال مصعب بن عبداللَّه: كان مالك لا يروي عن جعفر حتّي يضمّه إلي أحد. وقال أحمد بن سعيد بن أبي مريم: سمعت يحيي يقول: كنت لا أسأل يحيي بن سعيد عن حديث جعفر بن محمّد، فقال لي: لم لاتسألني عن حديث جعفر؟

قلت: لا اريده، فقال لي: إنْ كان يحفظ فحديث أبيه المسند» «1».

هذا، في الوقت الذي بني في كتابه هذا علي أنْ لا يذكر فيه من قدح فيه البخاري وابن عدي، من الصحابة والأئمّة في الفروع … كما صرّح بذلك في مقدّمة الكتاب حيث قال:

«أمّا بعد، هدانا اللَّه وسدّدنا ووفّقنا لطاعته، فهذا كتاب جليل مبسوط، في إيضاح نقلة العلم النبوي وحملة الآثار، ألّفته بعد كتابي المنعوت بالمغني،

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 2: 143/ 1521.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 401

وطوّلت فيه العبارة، وفيه أسماء عدّة من الرواة زائداً علي من في المغني، زدت معظمهم من الكتاب الحافل المذيّل علي الكامل لابن عدي.

وقد ألّف الحفّاظ مصنّفات جمّة في الجرح والتعديل مابين اختصار وتطويل، فأوّل من جمع كلامه في ذلك: الإمام الذي قال فيه أحمد بن حنبل:

ما رأيت

بعيني مثل يحيي بن سعيد القطّان، وتكلّم في ذلك بعده تلامذته:

يحيي بن معين، وعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، وعمرو بن علي الفلاس، وأبو خيثمة، وتلامذتهم: كأبي زرعة، وأبي حاتم، والبخاري، ومسلم، وأبي إسحاق الجوزجاني السعدي، وخلق، ومن بعدهم مثل:

النسائي، وابن خزيمة، والترمذي، والدولابي، والعقيلي، وله مصنّف مفيد في معرفة الضعفاء، ولأبي حاتم ابن حبّان كتاب كبير عندي في ذلك، ولأبي أحمد ابن عدي كتاب الكامل هو أكمل الكتب وأجلّها في ذلك، وكتاب أبي الفتح الأزدي، وكتاب أبي محمّد ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل والضعفاء، وللدارقطني في الضعفاء، وللحاكم وغير ذلك، وقد ذيّل ابن طاهر المقدسي علي الكامل لابن عدي بكتاب لم أره، وصنّف أبوالفرج ابن الجوزي كتاباً كبيراً في ذلك، كنت اختصرته أوّلًا ثمّ ذيّلت عليه ذيلًا بعد ذيل.

والساعة، فقد استخرت اللَّه عزّ وجلّ في عمل هذا المصنّف، ورتّبته علي حروف المعجم حتّي في الآباء ليقرب تناوله، ورمزت علي اسم الرجل من أخرج له في كتابه من الأئمّة الستّة: البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي والترمذي وابن ماجة، برموزهم السائرة، فإن اجتمعوا علي إخراج رجل فالرمز (ع)، وإن اتفق عليه أرباب السنن الأربعة فالرمز (غ).

وفيه من تُكُلّم فيه مع ثقته وجلالته بأدني لين وبأقلّ تجريح، فلولا أنّ استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 402

ابن عدي أو غيره من مؤلّفي كتب الجرح ذكروا ذلك الشخص لما ذكرته لثقته، ولم أر من الرأي أن أحذف اسم أحد ممّن له ذكر بتليينٍ مّا في كتب الأئمّة المذكورين، خوفاً من أن يُتَعَقَّب عليّ، إلّاأنّي ذكرته لضعف فيه عندي إلّاما كان في كتب البخاري وابن عدي وغيرهما من الصّحابة، فإنّي أسقطتهم لجلالة الصحابة رضي اللَّه عنهم، ولا أذكرهم في

هذا المصنّف، فإنّ الضعف إنّما جاء من جهة الرواة إليهم، وكذا لا أذكر في كتابي من الأئمّة المتبوعين في الفروع أحداً، لجلالتهم في الإسلام وعظمتهم في النفوس، فإن ذكرت أحداً منهم فأذكره علي الإنصاف، وما يضرّه ذلك عند اللَّه ولا عند الناس، إذ إنّما يضرّ بالإنسان الكذب والإصرار علي كثرة الخطأ والتجرّي علي تدليس الباطل فإنّه خيانة، والمرء المسلم يطبع علي كلّ شي ء إلّاالخيانة والكذب» «1».

أفهل كان شأن الإمام عليه السلام أقلّ من شأن عمرو بن العاص وبسر ابن أرطاة وأمثالهما من فسقة الصحابة؟

أفهل كان شأن الشافعي وغيره أجلّ من شأن الإمام الصّادق؟

لكنّه التعصّب والنّصب … والعياذ باللَّه …

ترجمة القطّان … ص: 402

ثمّ انظر إلي تراجم القطّان وكلماتهم في مدحه والثناء عليه، والمبالغة في تعظيمه وتبجيله:

قال السمعاني: «القطّان- بفتح القاف وتشديد الطاء الهملة في آخرها نون، هذه النسبة إلي بيع القطن، والمشهور بها هو: أبو سعيد يحيي بن __________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 113.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 403

سعيد بن فروخ الأحول القطّان، مولي بني تميم، من أئمّة أهل البصرة، يروي عن يحيي بن سعيد الأنصاري وهشام بن عروة، روي عنه أهل العراق، مات يوم الأحد سنة ثمان وتسعين ومائة، وكان إذا قيل له في علّته يعافيك اللَّه قال:

أحبّه إليّ أحبّه إلي اللَّه عزّوجلّ، وكان من سادات أهل زمانه حفظاً وورعاً وعقلًا وفهماً وفضلًا وديناً وعلماً، وهو الذي مهّد لأهل العراق رسم الحديث، وأمعن في البحث عن الثقات وترك الضعفاء، ومنه تعلّم علم الحديث أحمد بن حنبل ويحيي بن معين وعلي ابن المديني. ذكر عمرو بن علي الفلاس أنّ يحيي بن سعيد القطّان كان يختم القرآن كلّ يوم وليلة، ويدعو لألف إنسان، ثمّ يخرج بعد العصر فيحدّث

الناس. وكان يروي عن سميّه يحيي بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة، والأعمش، وابن جريج، والثوري، وشعبة، ومالك، في آخرين. وكان يقول: لزمت شعبة عشرين سنة، فما كنت أرجع من عنده إلّابثلاثة أحاديث وعشرة أكثر ما كنت أسمع منه في كلّ يوم. وقال يحيي بن معين: أقام يحيي بن سعيد عشرين سنة يختم القرآن في كلّ ليلة، ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة، وما رئي يطلب جماعة قط» «1».

وقال النووي:

«يحيي بن سعيد القطّان هو: أبو سعيد يحيي بن سعيد بن فروح التميمي مولاهم البصري، القطّان، الإمام، من تابعي التابعين، سمع: يحيي بن سعيد الأنصاري وحنظلة بن أبي سفيان وابن عجلان وسيف بن سليمان وهشام بن حسان وابن جريج وسعيد بن عروبة وابن أبي ذئب والثوري وابن __________________________________________________

(1) الأنساب 4: 519.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 404

عيينة ومالكاً ومسعراً وشعبة وخلائق.

وروي عنه: الثوري، وابن عيينة، وشعبة، وابن مهدي، وعفّان، وأحمد بن حنبل، ويحيي بن معين، وعلي بن المديني، وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيد القاسم بن سلّام، وأبو خيثمة، وأبوبكر ابن أبي شيبة، ومسدد، وعبيداللَّه بن عمر القواريري، وعمرو بن علي، وابن مثنّي، وابن بشّار، وخلائق من الأئمّة وغيرهم.

واتفقوا علي إمامته وجلالته، ووفور حفظه وعلمه وصلاحه. قال أحمد بن حنبل: ما رأيت مثل يحيي القطّان في كلّ أحواله، وقال يحيي بن معين: أقام يحيي القطّان عشرين سنة يختم القرآن في كلّ يوم وليلة، ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة، وما رئي يطلب جماعة قط- يعني ما فاتته فيحتاج إلي طلبها-. وقال أحمد بن حنبل: يحيي القطّان إليه المنتهي في التثبّت بالبصرة، وهو أثبت من وكيع وابن مهدي وأبي نعيم ويزيد بن هارون، وقد روي

عن خمسين شيخاً ممّن روي عنهم سفيان وقال: لم يكن في زمان يحيي مثله. وقال أبو زرعة: هو من الثقات الحفّاظ. وقال يحيي بن معين: قال لي عبدالرحمن بن مهدي: لا تري بعينك مثل يحيي بن القطّان. وقال ابن منجويه:

كان يحيي القطّان من سادات أهل زمانه ورعاً وحفظاً وفهماً وفضلًا وديناً وعلماً، وهو الذي مهّد لأهل العراق رسم الحديث وأمعن في البحث عن الثقات وترك الضعفاء. وقال بندار: كتب عبدالرحمن بن مهدي عن يحيي عن يحيي القطّان ثلاثين ألفاً وحفظها، قال زهير: رأيت يحيي القطّان بعد وفاته، عليه قميص، مكتوب بين كتفيه: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، براءة ليحيي بن سعيد من النار. قال ابن سعد: توفي يحيي القطّان في صفر سنة ثمان وتسعين استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 405

ومائة، وكان مولده سنة عشرين ومائة» «1».

وقال الذهبي:

«يحيي بن سعيد بن فروخ، الحافظ الكبير، أبوسعيد التميمي مولاهم البصري القطّان، عن: عروة وحميد والأعمش، وعنه: أحمد وعلي ويحيي.

قال أحمد: ما رأيت مثله. وقال بندار: إمام أهل زمانه يحيي القطّان، واختلفت إليه عشرين سنة فما أظنّ أنّه عصي اللَّه قط، ولد القطّان 120 ومات 198 في صفر، وكان رأساً في العلم والعمل» «2».

وقال محمّد بن حبّان:

«يحيي بن سعيد بن فروخ القطّان مولي بني تميم، كنيته أبو سعيد، الأحول، من أهل البصرة، يروي عن يحيي بن سعيد الأنصاري وهشام بن عروة، روي عنه أهل العراق، مات يوم الأحد يوم الثاني عشر من صفر سنة ثمان وسبعين ومائة، وكان إذا قيل له في علّته يعافيك اللَّه قال: أحبّه إليّ أحبّه إلي اللَّه جلّ وعلا، وصلّي عليه إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبداللَّه بن عبّاس، وهو أمير

البصرة، وكان من سادات أهل زمانه حفظاً وورعاً وعقلًا وفهماً وفضلًا وديناً وعلماً، وهو الذي مهّد لأهل العراق رسم الحديث وأمعن في البحث عن الثقات، وترك الضعفاء، ومنه تعلّم علم الحديث أحمد ابن حنبل ويحيي بن معين وعلي بن المديني وسائر شيوخنا. حدّثني محمّد ابن الليث الورّاق قال: سمعت عبداللَّه بن جعفر بن الزبرقان يقول: سمعت عمرو بن علي الفلاس يقول: كان يحيي بن سعيد القطّان يختم القرآن كلّ يوم __________________________________________________

(1) تهذيب الأسماء واللغات 2: 154/ 243.

(2) الكاشف 3: 243/ 6258.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 406

وليلة، ويدعو لألف إنسان، ثمّ يخرج بعد العصر فيحدّث الناس» «1».

وقال اليافعي:

«الإمام أبو سعيد يحيي بن سعيد القطّان البصري الحافظ، أحد الأعلام.

قال بندار: اختلفت إليه عشرين سنة فما أظنّ أنّه عصي اللَّه قط. قال أحمد بن حنبل: ما رأيت مثله. وقال ابن معين: أقام يحيي القطّان عشرين سنة يختم في كلّ ليلة ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة» «2».

وقال عبدالحق الدهلوي:

«يحيي بن سعيد القطان، بفتح القاف وتشديد الطاء المهملة، أبو سعيد، الأحول التميمي، مولي بني تميم، ويقال: ليس لأحد عليه ولاء، البصري، إمام كبير، ثقة حافظ عالم، عارف بالحديث، مشهور مكثر، وكان رأساً في العلم والعمل. وقال ابن المديني: ما رأيت أعلم بالرجال منه ولا أعلم بصواب الحديث والخطأ من ابن مهدي، فإذا اجتمعا علي ترك حديث رجل ترك حديثه، وإذا حدّث عنه أحدهما حدّث عنه، وقال مرّة: لم أر أحداً أثبت من القطّان. وقال ابن معين: قال ابن مهدي: لا تري عينك مثل يحيي القطّان. وقال أحمد: ما رأيت مثله. وقال بندار: إمام أهل زمانه يحيي القطّان، واختلفت إليه عشرين سنة فما أظنّ أنّه عصي اللَّه قط.

وقال ابن سعد: كان ثقة مأموناً رفيعاً حجّة. وقال العجلي: بصريّ ثقة نقيّ الحديث، كان لا يحدّث إلّاعن ثقة.

وقال أبو حاتم: ثقة حافظ. وقال أبو زرعة: من الثقات الحفّاظ. وقال النسائي:

ثقة ثبت مرضي. وقال أبوبكر ابن منجويه: كان من سادات أهل زمانه حفظاً

__________________________________________________

(1) كتاب الثقات 7: 611.

(2) مرآة الجنان 1: 352.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 407

وورعاً وفهماً وفضلًا وديناً وعلماً وهو الذي مهّد لأهل العراق رسم الحديث، وأمعن في البحث عن الثقات وترك الضعفاء، ولد سنة عشرين ومائة، ومات في صفر سنة ثمان وتسعين ومائة. روي عن: هشام بن عروة وعبداللَّه بن عمر العمري ويحيي بن سعيد الأنصاري والأعمش والثوري وشعبة ومالك وغيرهم من الأئمّة. وروي عنه: عبدالرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وعلي ابن المديني ومسدّد ويحيي بن معين ومحمّد بن المثنّي … » «1».

أقول:

ومن هذه العبارات وأمثالها في مدح القطّان- مع علم قائليها بمقالته في الإمام الصّادق عليه الصّلاة والسّلام- تعرف مواقف القوم من أئمّة أهل البيت، فلا يقبل دفاع بعض الناس عن أهل السنة وأسلافهم بأنّهم محبّون لأهل البيت ومحترمون لهم ومستمسكون بهم …

قصّة كتاب العلل لابن المديني … ص: 407

وممّا يذكر في مقام الطعن في البخاري وورعه وأمانته وثقته: قصّته مع كتاب شيخه ابن المديني في العلل:

قال مسلمة بن قاسم في (تاريخه)- علي ما نقل عنه «2» -: «وسبب تأليف البخاري الكتاب الصحيح: أنّ علي بن المديني ألّف كتاب العلل، وكان ضنيناً به لايخرجه إلي أحد، ولا يحدّث به، لشرفه وعظم خطره وكثرة فائدته، فغاب علي ابن المديني في بعض حوائجه، فأتي البخاري إلي بعض بنيه،

__________________________________________________

(1) رجال المشكاة/ تحصيل الكمال- ترجمة القطّان.

(2) انظر ترجمته في لسان الميزان 6: 43.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص:

408

فبذل له مائة دينار علي أن يخرج له كتاب العلل، ليراه ويكون عنده ثلاثة أيّام، ففتنه المال وأخذ منه مائة دينار، ثمّ تلطّف مع امّه فأخرجت الكتاب، فدفعه إليه وأخذ عليه العهود والمواثيق أن لايحبسه عنه أكثر من الأمد الذي ذكر، فأخذ البخاري الكتاب- وكان مائة جزء- فدفعه إلي مائة من الورّاقين، وأعطي كلّ رجل منهم ديناراً علي نسخه ومقابلته في يوم وليلة، فكتبوا له الديوان في يوم وليلة وقوبل، ثمّ صرفه إلي ولد علي بن المديني وقال: إنّما نظرت إلي شي ء فيه.

وانصرف علي بن المديني فلم يعلم بالخبر، ثمّ ذهب البخاري فعكف علي الكتاب شهوراً واستحفظه، وكان كثير الملازمة لابن المديني، وكان ابن المديني يعقد يوماً لأصحاب الحديث، يتكلّم في علله وطرقه، فلمّا أتاه البخاري بعد مدّة قال له: ما حبسك عنّا؟ قال: شغلٌ عرض لي، ثمّ جعل عليٌّ يلقي الأحاديث ويسألهم عن عللها، فيبادر البخاري بالجواب بنصّ كلام عليٍّ في كتابه، فعجب لذلك ثمّ قال له: من أين علمت هذا، هذا قول منصوص، واللَّه ما أعلم أحداً في زماني يعلم هذا العلم غيري.

فرجع إلي منزله كئيباً حزيناً، وعلم أنّ البخاري خدع أهله بالمال حتّي أباحوا له الكتاب، ولم يزل مغموماً بذلك، ولم يلبث إلّايسيراً حتّي مات، واستغني البخاري عن مجالسة علي والتفقّه عنده بذلك الكتاب، وخرج إلي خراسان، وتفقّه بالكتاب، ووضع الكتاب الصحيح والتواريخ، فعظم شأنه وعلا ذكره، وهو أوّل من وضع في الإسلام كتاب الصحيح، فصار الناس له تبعاً، وبكتابه يقتدي العلماء في تأليف الصحيح».

يفيد هذا النص أنّ البخاري كان السبب في موت شيخه علي بن استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 409

المديني، لتصرّفه في كتاب العلل الذي وضعه شيخه، بعد

أخذه من أهله بالحيلة والخديعة والمكر والكذب …

طعن مسلم فيمن قال بمقالة البخاري … ص: 409

هذا، وقد صرّح مسلم بن الحجاج بالطعن والتشنيع علي بعض الأقوال وأصحابها في باب رواية الحديث ونقله، والحال أنّ البخاري من القائلين بذلك القول، وهذا نصّ كلام مسلم في باب ما تصحّ به رواية الرواة بعضهم عن بعض والتنبيه علي من غلط في ذلك:

«وقد تكلّم بعض منتحلي الحديث من أهل عصرنا في تصحيح الأسانيد وتسقيمها، بقول لو ضربنا عن حكايته وذكر فساده صفحاً، لكان رأياً متيناً ومذهباً صحيحاً، إذ الإعراض عن القول المطرح أحري لإماتته وإخمال ذكر قائله، وأجدر أن لا يكون ذلك تنبيهاً للجهّال عليه، غير أنّا لمّا تخوّفنا من شرور العواقب واغترار الجهلة بمحدثات الامور، وإسراعهم إلي اعتقاد خطأ المخطئين والأقوال الساقطة عند العلماء، رأينا الكشف عن فساد قوله ورَدّ مقالته بقدر ما يليق بها من الردّ، أجدي علي الأنام وأحمد للعاقبة إن شاء اللَّه.

وزعم القائل الذي افتتحنا الكلام علي الحكاية عن قوله والإخبار عن سوء رويّته: أنّ كلّ إسناد لحديثٍ فيه فلان عن فلان، وقد أحاط العلم بأنّهما قد كانا في عصر واحد، وجائز أن يكون الحديث الذي روي الراوي عمّن روي عنه قد سمعه منه وشافهه به، غير أنّه لا نعلم له منه سماعاً، ولم نجد في شي ء من الروايات أنّهما التقيا قط أو تشافها بحديث، أنّ الحجّة لا تقوم عنده بكلّ خبر جاء هذا المجي ء، حتّي يكون عنده العلم بأنّهما قد اجتمعا من دهرهما مرّة فصاعداً أو تشافها بالحديث بينهما، أو يرد خبر فيه بيان استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 410

اجتماعهما وتلاقيهما مرّة من دهرهما فما فوقها، فإن لم يكن عنده علم ذلك، ولم تأت به رواية صحيحة تخبر أنّ

هذا الراوي عن صاحبه قد لقيه مرّة وسمع منه شيئاً، لم يكن في نقله الخبر عمّن روي عنه علم ذلك والأمر كما وصفنا حجّة، وكان الخبر عنده موقوفاً حتّي يرد عليه سماعه منه لشي ء من الحديث، قلّ أو كثر في روايةٍ مثل ما ورد.

وهذا القول- يرحمك اللَّه- في الطعن في الأسانيد قول مخترع مستحدث غير مسبوق صاحبه إليه، ولا مساعد له من أهل العلم عليه، وذلك أنّ القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات قديماً وحديثاً:

أنّ كلّ رجل ثقة روي عن مثله حديثاً، وجائز ممكن له لقاؤه والسماع منه لكونهما جميعاً كانا في عصر واحد- وإن لم يأت في خبر قط أنّهما اجتمعا ولا تشافها بكلام- فالرواية ثابتة والحجّة بها لازمة، إلّاأن يكون هناك دلالة بيّنة أنّ هذا الراوي لم يلق من روي عنه، أو لم يسمع منه شيئاً، فأمّا والأمر مبهمٌ علي الإمكان الذي فسّرنا، فالرواية علي السماع أبداً حتّي تكون الدلالة التي بيّنّا.

فيقال لمخترع هذا القول الذي وصفنا مقالته أو للذابّ عنه، قد أعطيت في جملة قولك أنّ خبر الواحد الثقة عن الواحد الثقة حجّة يلزم به العمل، ثمّ أدخلت فيه الشرط بعد، فقلت حتّي نعلم أنّهما قد كانا التقيا مرّةً فصاعداً أو سمع منه شيئاً، فهل تجد هذا الشرط الذي اشترطته عن أحد يلزم قوله، وإلّا فهلمّ دليلًا علي ما زعمت، فإن ادّعي قول أحد من علماء السلف بما زعم من إدخال الشريطة في تثبيت الخبر طولب به، ولن يجد هو ولا غيره إلي إيجاده سبيلًا».

وأيضاً قال: «وكان هذا القول الذي أحدثه القائل الذي حكيناه في توهين استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 411

الحديث بالعلّة التي وصف، أقلّ من

أن يعرّج عليه ويُثار ذكره، إذ كان قولًا محدثاً وكلاماً خلفاً، لم يقله أحد من أهل العلم سلف، ويستنكره من بعدهم خلف، فلا حاجة بنا في ردّه بأكثر ممّا شرحنا، إذا كان قدر المقالة وقائلها القدر الذي وصفناه، واللَّه المستعان علي دفع ما خالف مذهب العلماء، وعليه التكلان» «1».

وقال النووي في شرح هذا الكلام:

«حاصل هذا الباب أنّ مسلماً- رحمه اللَّه- ادّعي إجماع العلماء قديماً وحديثاً علي أنّ المعنعن- وهو الذي فيه عن فلان- محمول علي الإتصال والسماع، إذا أمكن لقاء من اضيفت العنعنة إليهم بعضهم بعضاً، يعني مع براءتهم من التدليس، ونقل مسلم عن بعض أهل عصره أنّه قال لا يقوم الحجّة بها، ولا الحمل علي الاتصال، حتّي يثبت أنّهما التقيا في عمرهما مرّة فأكثر، ولا يكفي إمكان تلاقيهما. قال مسلم: وهذا قول ساقط مخترع مستحدث، لم يسبق قائله إليه ولا مساعد له من أهل العلم عليه، وإنّ القول به بدعة باطلة، وأطنب مسلم في الشناعة علي قائله، واحتجّ مسلم بكلام مختصره: أنّ المعنعن عند أهل العلم محمول علي الإتصال، إذا ثبت التلاقي مع احتمال الإرسال، فكذا إذا أمكن التلاقي، وهذا الذي صار إليه مسلم قد أنكره المحققون وقالوا: هذا الذي صار إليه مسلم ضعيف، والذي ردّه هو المختار الصحيح الذي عليه أئمّة هذا الفن، مثل علي بن المديني والبخاري وغيرهما» «2».

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم 1: 35.

(2) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجّاج 1: 127- 128.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 412

أحاديث باطلة في كتاب البخاري … ص: 412

اشارة

وكما تكلّمنا باختصارٍ عن البخاري، فلنتكلّم في كتابه الموصوف بالصحيح، علي ضوء أقوال كبار أئمّة الحديث، مقتصرين علي طعنهم وقدحهم في عدّةٍ من أحاديثه:

حديث خِطبة عائشة … ص: 412

(فمنها) الحديث في خطبة النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم عائشة وقول أبي بكر له: «إنّما أنا أخوك»، وهذا نصّه:

«عن عروة: إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم خطب عائشة، فقال له أبوبكر: إنّما أنا أخوك، فقال: أنت أخي في دين اللَّه وكتابه، وهي لي حلال» «1».

قال ابن حجر عن الحافظ مغلطاي: «في صحّة هذا الحديث نظر، لأنّ الخلّة لأبي بكر إنّما كانت بالمدينة، وخِطبة عائشة كانت بمكّة، فكيف يلتئم قوله: إنّما أنا أخوك.

وأيضاً: فالنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم ما باشر الخطبة بنفسه، كما أخرجه ابن أبي عاصم، من طريق يحيي بن عبدالرحمن بن حاطب، عن عائشة: إنّ النبي أرسل خولة بنت حكيم إلي أبي بكر يخطب عائشة، فقال لها أبوبكر:

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 7: 8.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 413

وهل تصلح له، إنّما هي بنت أخيه؟ فرجعت فذكرت ذلك للنبي فقال صلّي اللَّه عليه وسلّم: إرجعي فقولي له: أنت أخي في الإسلام وابنتك تصلح لي.

فأتت أبابكر فذكرت ذلك له، فقال: ادعي رسول اللَّه، فجاء فأنكحه» «1».

حديث شفاعة إبراهيم لآزر … ص: 413

(ومنها) الحديث في شفاعة سيّدنا إبراهيم عليه السلام لآزر في يوم القيامة.

وهذا الإفتراء ذكره البخاري علي حسب ديدنه في غير موضع من كتابه السقيم، وفيه غاية الإزراء بشأن إبراهيم علي نبيّنا وآله وعليه سلام الرب الرحيم، كما لا يخفي علي من له ذهن مستقيم، حيث أثبتوا له في ذلك أوّلًا:

مخالفة أمر اللَّه تعالي وثانياً: إصراره علي المخالفة والمجادلة حيث لم ينته- بناءً علي افتراءهم- لمّا نهي اللَّه عن الإستغفار له في دار الدنيا، وثالثاً: مخالفته للدلائل العقليّة الدالّة علي المنع من الإستغفار للمشركين، ورابعاً: الخطأ والغفلة في ظنّ أنّ تعذيب الكافر خزي له بل خزي أعظم، وأيّ خزي أعظم من

هذا؟ فإنّ ذلك ممّا لا يتخيّله من له أدني عقل ودراية، فضلًا عن النبي المعصوم المبعوث للهداية، وخامساً: الجهل بالمراد من وعده تعالي بأن لا يخزيه. وهذه هي ألفاظ الحديث في كتاب التفسير:

«حدّثنا إسماعيل قال: حدّثنا أخي، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: يلقي إبراهيم أباه فيقول: يا رب إنّك وعدتني ألّا تخزني يوم يبعثون، فيقول اللَّه: إنّي حرّمت __________________________________________________

(1) فتح الباري- شرح صحيح البخاري 9: 101.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 414

الجنّة علي الكافرين» «1».

وفي رواية اخري «فيقول: يا رب إنّك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، فأيّ خزي أخزي من أبي الأبعد» «2».

قال الفخر الرازي: «وأمّا قوله تعالي: «وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلّا عن موعدة وعدها إيّاه» ففيه مسائل: المسألة الاولي: في تعلّق هذه الآية بماقبلها وجوه:

الأوّل: إنّ المقصود منه أن لا يتوهّم إنسان أنّه تعالي منع محمّداً صلّي اللَّه عليه وسلّم من بعض ما أذن لإبراهيم عليه السلام فيه. والثاني: أن يقال: إنّا ذكرنا في سبب اتصال هذه الآية بماقبلها المبالغة في إيجاب الإنقطاع عن الكفار أحيائهم وأمواتهم، ثمّ بيّن تعالي أنّ هذا الحكم غير مختصّ بدين محمّد صلّي اللَّه عليه وسلّم، فتكون المبالغة في تقرير وجوب الإنقطاع كانت مشروعة أيضاً في دين إبراهيم عليه السلام، فتكون المبالغة في تقرير وجوب المقاطعة والمباينة من الكفّار أكمل وأقوي. الثالث: إنّه تعالي وصف إبراهيم في هذه الآية بكونه حليماً أي قليل الغضب، وبكونه أوّاهاً، أي كثير التوجّع والتفجّع عند نزول المضار بالناس، والمقصود أنّ من كان موصوفاً بهذه الصفة، كان ميل قلبه إلي الإستغفار لأبيه شديداً، وكأنّه قيل: إنّ إبراهيم مع جلالة

قدره، ومع كونه موصوفاً بالأوّاهيّة والحليميّة، منعه اللَّه من الإستغفار لأبيه الكافر، فلأن يكون غيره ممنوعاً من هذا المعني كان أولي» «3».

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 6: 202 كتاب التفسير، سورة الشعراء.

(2) صحيح البخاري 4: 277- 278 كتاب أحاديث الأنبياء.

(3) تفسير الرازي 16: 210.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 415

وعلي الجملة، فإنّه- بعد العلم بأنّ إبراهيم عليه السلام كان ممنوعاً من هذا الإستغفار، وأنّه قد تبرّء منه- لا يستريب مسلمٌ في أنّ حديث البخاري موضوع!

ومع قطع النظر عن هذا، فإنّ الدلائل العقليّة أيضاً قائمة علي منع الإستغفار للمشركين، كما قال الرازي:

«قوله تعالي: «ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين» يحتمل أن يكون المعني: ما ينبغي لهم ذلك فيكون كالوصف، وأن يكون معناه ليس لهم ذلك علي معني النهي. فالأوّل معناه: أنّ النبوّة والإيمان يمنع من استغفار المشركين، والثاني معناه: لا يستغفروا، والأمران متقاربان.

وسبب هذا المنع ما ذكره اللَّه تعالي في قوله: «من بعد ما تبيّن لهم أنّهم أصحاب الجحيم». وأيضاً: قال: «إنّ اللَّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك» والمعني: أنّه تعالي لمّا أخبر عنهم أنّه يدخلهم النّار فطلب الغفران لهم، جار مجري طلب أن يخلف اللَّه وعده ووعيده وإنّه لا يجوز، وأيضاً: لمّا سبق قضاء اللَّه تعالي بأنّه يعذّبهم، فلو طلبوا غفرانه لصاروا مردودين، وذلك يوجب نقصان درجة النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم وحطّ مرتبته. وأيضاً: إنّه تعالي قال: «ادعوني أستجب لكم» وقال: «أنّهم أصحاب الجحيم»، فهذا الإستغفار يوجب دخول الخلف في أحد هذين النصّين وأنّه لا يجوز» «1».

وعلي الجملة، فإنّ هذا الحديث موضوع باطل، ولا سبيل إلي إصلاحه بوجهٍ من الوجوه.

ولعلّه لذا اضطرّ بعضهم إلي التصرّف في لفظه، بوضع كلمة

«رجل»

__________________________________________________

(1) تفسير الرازي 16: 209.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 416

مكان اسم سيّدنا إبراهيم عليه السلام، كما في (فتح الباري): «وفي رواية أيّوب: يلقي رجل أباه يوم القيامة فيقول له: أيّ ابنٍ كنت لك؟ فيقول: خير ابن، فيقول: هل أنت مطيعي اليوم؟ فيقول: نعم، فيقول: خذ بأزرتي، فيأخذ بأزرته، ثمّ ينطلق حتّي يأتي ربّه … » «1».

ولكنْ لا مناص من الإعتراف ببطلانه … كما عن الحافظ الإسماعيلي وغيره.

قال ابن حجر: «وقد استشكل الإسماعيلي هذا الحديث من أصله، وطعن في صحّته، فقال بعد أن أخرجه: هذا حديث في صحّته نظر، من جهة أنّ إبراهيم عالم أنّ اللَّه لا يخلف الميعاد، فكيف يجعل ما بأبيه خزياً له مع علمه بذلك؟

وقال غيره: هذا الحديث مخالف لظاهر قوله تعالي: «وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلّاعن موعدة وعدها إيّاه فلمّا تبيّن له أنّه عدوّ للَّه تبرّء منه»» «2».

وأمّا محاولة ابن حجر تأويل هذا الحديث وتوجيهه بقوله:

«والجواب عن ذلك: أنّ أهل التفسير اختلفوا في الوقت الذي تبرّأ إبراهيم فيه من أبيه.

فقيل: كان ذلك في حياة الدنيا لمّا مات آزر مشركاً. وهذا الوجه أخرجه الطبري من طريق حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، وإسناده صحيح، وفي رواية: فلمّا مات لم يستغفر له، ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس نحوه قال: استغفر له ما كان حيّاً، فلمّا مات أمسك،

__________________________________________________

(1) فتح الباري- شرح صحيح البخاري 8: 405.

(2) فتح الباري 8: 406.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 417

وأورد أيضاً من طريق مجاهد وقتادة وعمر بن دينار نحو ذلك.

وقيل: إنّما تبرّء منه يوم القيامة لمّا أيس منه حين مُسخ، علي ما صرّح به في رواية ابن المنذر

التي أشرت إليها، وهذا أخرجه الطبري أيضاً من طريق عبدالملك بن أبي سليمان: سمعت سعيد بن جبير يقول: إنّ إبراهيم يقول يوم القيامة: ربّ والدي، ربّ والدي، فإذا كانت الثالثة أخذ بيده فيلتفت إليه وهو غضبان فيتبرّء منه، ومن طريق عبيد بن عمير قال: يقول إبراهيم لأبيه: إنّي كنت آمرك في الدنيا فتعصيني، ولست تاركك اليوم، فخذ بحقوتي، فيأخذ بضبعيه فيمسخ ضبعاً، فإذا رآه إبراهيم مسخ تبرّء منه.

ويمكن الجمع بين القولين: بأنّه تبرّء منه لمّا مات مشركاً، فترك الإستغفار، لكن لمّا رآه يوم القيامة أدركته الرأفة والرقّة فسأل فيه، فلمّا رآه مُسخ يئس منه حينئذٍ، وتبرّء منه تبرّياً أبديّاً.

وقيل: إنّ إبراهيم لم يتيقّن موته علي الكفر، لجواز أن يكون آمن في نفسه ولم يطلع إبراهيم علي ذلك، ويكون وقت تبريته منه بعد الحالة التي وقعت في هذا الحديث» «1».

فسقوطها واضح لدي كلّ عاقلٍ فضلًا عن الفاضل.

لأنّ حاصل الجواب الأوّل هو بيان الإختلاف في وقت تبرّي إبراهيم من آزر، وأيّ ربطٍ لهذا بأصل الإشكال؟ اللّهمّ إلّاأن يريد ابن حجر أنّه بناءً علي القول بكون التبرّي في يوم القيامة، فلا منافاة بين ذلك وبين الآية المباركة «وما كان … »، لكنّه وجه سخيف جدّاً، وذلك لأنّه:

أوّلًا: تأويلٌ للآية «فلمّا تبيّن له أنّه عدوٌّ للَّه تبرّء منه» الظاهرة في وقوع __________________________________________________

(1) فتح الباري 8: 406.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 418

ذلك في الزمان الماضي، ورفع اليد عن الظاهر بلا دليلٍ ممنوع، كما هو معلوم.

وثانياً: إذا كان التبرّي في دار الدنيا، كما هو مفاد رواياتٍ متعدّدة، وقد صحّح ابن حجر نفسه بعضها، فالتنافي بين الشفاعة والآية المباركة لازم لا محالة.

وثالثاً: علي فرض ثبوت الإختلاف في وقت التبرّي، ورجحان القول

الثاني علي الأوّل، يندفع الإشكال المنقول عن غير الإسماعيلي، أمّا إشكال الإسماعيلي فلا يندفع بما ذكر.

ورابعاً: حمل التبرّي علي يوم القيامة، يوجب الاختلاف في سياق الآية المباركة، لأنّ الغرض من ذكر القصّة إفادة أنّ إبراهيم عليه السلام قد منع من الإستغفار لأهل الشرك، وأنّه قد تبرّء من أبيه مع كونه أوّاهاً حليماً، فيكون غيره من سائر المؤمنين ممنوعاً من ذلك بالأولويّة … وهذا ما فهمه الفخر الرازي أيضاً إذ قال:

«إعلم أنّه تعالي إنّما وصفه بهذين الوصفين في هذا المقام، لأنّه تعالي وصفه بشدّة الرقّة والشفقة والخوف والوجل، ومن كان كذلك فإنّه تعظم رقّته علي أبيه وأولاده، فبيّن تعالي أنّه مع هذه العادة تبرّء من أبيه وغلظ قلبه عليه، لما ظهر له إصراره علي الكفر، فإنّهم بهذا المعني أولي، ولذلك وصفه أيضاً بأنّه حليم، لأنّ أحد أسباب الحلم رقّة القلب وشدّة العطف، لأنّ المرء إذا كان حاله هكذا اشتدّ حلمه عند الغضب» «1».

وعلي هذا، فلو كان المراد التبرّي في الآخرة، فأين تكون أولويّة امّة

__________________________________________________

(1) تفسير الرازي 16: 211.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 419

الإسلام بذلك؟

هذا، وكأنّ ابن حجر عالم بضعف هذا الجواب، فاضطرّ إلي أن يقول:

«ولايمكن الجواب … » لكنّه غير مطمئن بهذا الجواب، ولذا ذكره بلفظ «يمكن».

كما أنّ السيوطي قد اقتصر علي هذا الجواب إذ قال في كتاب (التوشيح): «واستشكل سؤال إبراهيم ذلك مع علمه بأنّه تعالي لا يخلف الميعاد في إدخال الكافرين النار.

واجيب: بأنّه لمّا رآه أدركته الرأفة والرقّة، فلم يستطع إلّاأنْ يسأل فيه» «1».

لكن هذا الجواب- في الحقيقة- التزام بالإشكال، لأنّه بيان للداعي إلي الإستغفار، وهو الرحمة والرأفة، فيعود الإشكال بأنّه كيف تحقّقت منه هذه الرأفة وصدرت هذه الرحمة، مع علمه بعدم

الجواز والحرمة؟ اللّهمّ إلّاأن يقولوا: بأنّ الرحمة والرأفة تجوّز طلب ما لا يجوز، وهذا بديهي البطلان وضحكة للصبيان، لا يقول به عاقل بل جاهل فضلًا عن فاضل!

وأمّا قول ابن حجر: «وقيل: إنّ إبراهيم … ».

فإنْ أراد من ذكره بيان ضعفه، فلا كلام فيه … وإنْ أراد دفع الإشكال به، فهو ينافي الأخبار الصحيحة الواردة في علم سيّدنا إبراهيم بموت آزر علي الكفر، وقد أورد ابن حجر بعضها، وفي (الدر المنثور):

«أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله «فلمّا تبيّن له» «2»

__________________________________________________

(1) التوشيح في شرح الصحيح 4: 250.

(2) سورة التوبة 9: 114.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 420

حين مات وعلم أنّ التوبة قد انقطعت منه.

وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبوالشيخ وأبوبكر الشافعي في فوائده والضياء في المختارة، عن ابن عبّاس قال: لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتّي مات «فلمّا تبيّن له أنّه عدوّ للَّه تبرّأ منه» يقول: لمّا مات علي كفره» «1».

حديث الصلاة علي ابن أبي سلول … ص: 420

(ومنها) ما أخرجه- وأخرجه مسلم أيضاً- في كتاب التفسير: «عن ابن عمر قال: لمّا توفّي عبداللَّه بن ابي، جاء ابنه عبداللَّه بن عبداللَّه إلي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فسأله أنْ يعطيه قميصه يكفّن فيه أباه، فأعطاه، ثمّ سأله أنْ يصلّي عليه.

فقام رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ليصلّي عليه.

فقام عمر فأخذ بثوب رسول اللَّه فقال: يا رسول اللَّه، تصلّي عليه وقد نهاك ربّك أنْ تصلّي عليه؟

فقال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّما خيّرني اللَّه فقال: «استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرّة» وسأزيده علي السبعين.

قال: إنّه منافق!

قال: فصلّي عليه رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم.

قال: فأنزل اللَّه «ولا تصلّ علي أحدٍ

منهم مات أبداً ولا تقم علي __________________________________________________

(1) الدر المنثور 4: 300.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 421

قبره»» «1».

وهذا الحديث- الذي وضعوه فضيلةً لعمر بن الخطّاب- مكذوب حتماً وموضوع قطعاً. وقد نصّ- والحمد للَّه- علي ذلك غير واحدٍ من أئمّة القوم:

كالغزالي بعد ذكر أخبارٍ: «هذا مزيّف، فإنّ هذه الوقائع لو جمعت ونقلت دفعةً واحدةً لم تورث العلم، وليس ذلك كوقائع حاتم وعلي مع كثرتها.

علي أنّ ما نقل في آية الإستغفار كذب قطعاً، إذ الغرض منه التناهي في تحقيق اليأس من المغفرة، فلا يظنّ برسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ذهول عنه» «2».

وكالباقلّاني وإمام الحرمين في جماعةٍ، كما ذكر شرّاح البخاري:

قال القسطلاني: «وقد استشكل فهم التخيير من الآية علي كثير، وسبق جواب الزمخشري عن ذلك، وقال صاحب الإنتصاف: مفهوم الآية زلّت فيه الأقدام، حتّي أنكر القاضي أبوبكر الباقلاني صحّة الحديث وقال: لا يجوز أنْ يقبل هذا، ولا يصحّ أنّ الرسول صلّي اللَّه عليه وسلّم قاله. وقال إمام الحرمين في مختصره: هذا الحديث غير مخرّج في الصحيح. وقال في البرهان:

لا يصحّحه أهل الحديث. وقال الغزالي في المستصفي: الأظهر أنّ هذا الخبر غير صحيح. وقال الداودي الشارح: هذا الحديث غير محفوظ، وهذا عجيب … » «3».

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 6: 131.

(2) المنخول في علم الاصول: 212.

(3) إرشاد الساري إلي صحيح البخاري 7: 155.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 422

وقال ابن حجر: «قال ابن المنير: مفهوم الآية زلّت فيه الأقدام، حتّي أنكر القاضي أبوبكر صحّة الحديث وقال: لا يجوز أن يقبل هذا ولا يصحّ أنّ الرسول قاله. إنتهي. ولفظ القاضي أبي بكر الباقلاني في التقريب: هذا الحديث من أخبار الآحاد التي لا يعلم ثبوتها، وقال إمام الحرمين في مختصره: هذا

الحديث غير مخرّج في الصحيح، وقال في البرهان: لا يصحّحه أهل الحديث، وقال الغزالي في المستصفي: الأظهر أنّ هذا الخبر غير صحيح، وقال الداودي الشارح: هذا الحديث غير محفوظ» «1».

حديث: كذب إبراهيم ثلاث كذبات … ص: 422

(ومنها) ما اخرج في الكتابين من أنّ إبراهيم عليه السلام كذب ثلاث كذبات، ففي (الجمع بين الصحيحين):

«عن محمّد عن أبي هريرة: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال:

لم يكذب إبراهيم النبي قط إلّاثلاث كذبات، ثنتين في ذات اللَّه: قوله: «إنّي سقيم» وقوله: «بل فعله كبيرهم هذا» وواحدة في شأن سارة، فإنّه قدم أرض جبّار ومعه سارة- وكانت أحسن الناس- فقال لها: إنّ هذا الجبّار إنْ يعلم أنّك امرأتي يغلبني عليك، فإنْ سألك فأخبريه أنّك اختي في الإسلام» «2».

وقد تكلّم الفخر الرازي علي هذا الحديث وأبطله، وعبَّر عن رواته بالحشويّة، فانظر إلي نصّ كلامه حيث قال:

«واعلم أنّ بعض الحشويّة روي عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّه قال:

__________________________________________________

(1) فتح الباري- شرح صحيح البخاري 8: 272.

(2) الجمع بين الصحيحين 3: 184/ 2415.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 423

ما كذب إبراهيم إلّاثلاث كذبات.

فقلت: الأولي أنْ لا يقبل مثل هذه الأخبار.

فقال- علي طريق الإستنكار- إنْ لم نقبله لزمنا تكذيب الرواة.

فقلت له: يا مسكين، إنْ قبلناه لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم عليه السلام، وإن رددناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة، ولا شكّ أنّ صون إبراهيم عن الكذب أولي من صون طائفة من المجاهيل عن الكذب» «1».

هذا، وقد أورد عمر بن عادل كلام الرازي هذا وارتضاه «2».

حديث: أنّ نبيّاً أحرق بيت النمل … ص: 423

(ومنها) ما أخرجه البخاري من أنّ نبيّاً من الأنبياء أحرق بيت النمل بسبب أنّ نملةً لدغته! قال:

«حدّثنا إسماعيل، ثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: نزل نبيّ من الأنبياء تحت شجرة، فلدغته نملة، فأمر بجهازه فاخرج من تحتها، ثمّ أمر ببيتها فاحرق بالنار، فأوحي اللَّه إليه: فهلّا نملة واحدة!!» «3».

ويكفي في إبطال هذا الحديث

كلام الفخر الرازي، الذي أورده الشاه عبدالعزيز الدهلوي واستحسنه وارتضاه حيث قال: «وللإمام فخرالدين الرازي في هذا المقام كلام يصدّقه العقل ويقع في القلب إذ قال: إنّ الروافض عندي __________________________________________________

(1) تفسير الرازي 26: 148.

(2) اللباب في علوم الكتاب 16: 324.

(3) صحيح البخاري 4: 262، كتاب بدء الخلق.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 424

أقلّ عقلًا وفهماً من نملة سليمان، لأنّ النملة قد خاطبت رفيقاتها قائلةً: «يا أيّها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون» فهي قد علمت أنّ جنود سليمان قد أثّرت فيهم المعاشرة معه فكانوا مهذَّبين ببركة صحبته، حتّي أنّهم لا يحطّمون النمل عن علمٍ وعمدٍ، ولا يظلمون الضعيف عن قصدٍ، لكنّ الروافض لم يفهموا أنّ صحبة النبي الخاتم- وهو أفضل الأنبياء- تؤثّر في صحابته الملازمين له علي الدوام، فلا يرتكبون الخيانة والشرّ، فكيف ينسبون إليهم الظلم لبنت رسول اللَّه وصهره وولده، وإحراق بيتهم عليهم، والإستيلاء علي أموالهم، وإيذائهم بشتّي أنواع الأذي؟» «1».

وذلك: لأنّ البخاري وسائر من يقول بصحّة هذا الحديث سيكونون أقلّ فهماً من النملة، لأنّهم بتصديقهم هذا الحديث يجوّزون الظلم علي النّبي المعصوم!!

حديث أمر النبي بالأكل ممّا لم يذكر اسم اللَّه عليه … ص: 424

(ومنها) ما أخرجه البخاري في كتاب الذبائح قال:

«حدّثنا معلّي بن أسد، حدّثنا عبدالعزيز بن المختار قال: حدّثنا موسي ابن عقبة قال: أخبرني سالم أنّه سمع عبداللَّه يحدّث عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّه لقي زيد بن عمرو بن فضيل بأسفل بلدح- وذاك قبل أنْ ينزل علي رسول اللَّه الوحي- فقدّم إليه رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم سفرةً فيها لحم، فأبي أنْ يأكل منها، ثمّ قال: إنّي لا آكل ممّا تذبحون علي أنصابكم، ولا

__________________________________________________

(1) مختصر التحفة الإثنا عشريّة: 193- باب الإمامة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2،

ص: 425

نأكل إلّاممّا ذكر اسم اللَّه عليه» «1».

فهل يشكّ المسلم في كذب هذا الحديث؟

والعجب من واضعه، فلم يستح أن ينسب إلي النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أمر الرجل بالأكل ممّا لم يذكر اسم اللَّه عليه، في حين ينسب إلي الرجل الإباء عن الأكل ممّا لم يذكر اسم اللَّه عليه، فيكون أورع وأفضل من النبي، والعياذ باللَّه؟! وكيف يصدّقون بمثل هذا علي النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم في حين يبذلون كلّ جهودهم لتبرّئه أبي بكر من شرب الخمر قبل التحريم، ويكذّبون الخبر في ذلك، ويقولون: قد أعاذ اللَّه الصدّيقين من فعل الخنا وأقوال أهله وإنْ كان قبل التحريم، كما في (نوادر الاصول) للحكيم الترمذي وسيجي ء عن قريب؟ ألم يكن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله سلّم من الصدّيقين؟

تصرّف بعضهم في لفظ الحديث! … ص: 425

لكنّ ابن روزبهان التجأ إلي الكذب والإفتراء علي العلّامة الحلّي، واضطرّ إلي وضع تتمّةٍ لهذا الحديث الموضوع، وذلك أنّه قال في الجواب عن كلام العلّامة الحلّي:

«أقول: من غرائب ما يستدلّ به علي ترك أمانة هذا الرجل وعدم الاعتماد والوثوق علي نقله: رواية هذا الحديث، فقد روي بعض الحديث ليستدلّ به علي مطلوبه وهو الطعن في رواية الصحاح، وما ذكر تمامه، وتمام __________________________________________________

(1) صحيح البخاري 7: 165.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 426

الحديث: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم لمّا قال زيد بن عمرو بن نفيل هذا الكلام قال: وإنّا أيضاً لا نأكل من ذبيحتهم وممّا لم يذكر عليه اسم اللَّه تعالي، فأكلا معاً.

وهذا الرجل لم يذكر هذه التتمّة ليتمكّن من الطعن في الرواية. نسأل اللَّه العصمة من التعصّب فإنّه بئس الضجيع» «1».

أقول:

لكنَّ هذا الذي وصف به العلّامة الحلّي يرجع إليه، وهو المتّصف به، لأنّ

الحديث في كتاب الذبائح من (صحيح البخاري) كما تقدّم، وهكذا نقله العلّامة الحلّي، ومن شاء فليراجع أصل كتاب البخاري!!

وقد أخرج البخاري هذا الحديث الموضوع في كتاب المناقب، وليس فيه التتمّة التي زعمها ابن روزبهان، وهذه عبارته «باب حديث زيد بن عمرو ابن نفيل، حدّثني محمّد بن أبي بكر قال: حدّثنا سالم بن عبداللَّه بن عمر: إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح، قبل أنْ ينزل علي النبي الوحي، فقدّمت إلي النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم سفرة فأبي أنْ يأكل منها، ثمّ قال زيد: إنّي لست آكل ممّا تذبحون علي أنصابكم ولا آكل إلّا ما ذكر اسم اللَّه عليه، وإنّ زيد بن عمرو كان يعيب علي قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها اللَّه، وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض، ثمّ تذبحونها علي غير اسم اللَّه، إنكاراً لذلك وإعظاماً له» «2».

فقد تبيّن أنّ العلّامة الحلّي رحمه اللَّه لم يخن في نقل الحديث، فلم يزد عليه ولم يحذف منه شيئاً، بل ابن روزوبهان قد كذب في دعوي التتمّة،

__________________________________________________

(1) إبطال الباطل- مخطوط.

(2) صحيح البخاري 5: 124.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 427

لغرض الدفاع عن البخاري وكتابه، فحقّ أن يقال في جوابه: إنّ من غرائب ما يستدلّ به علي ترك أمانة هذا الرجل وعدم الإعتماد والوثوق علي نقله: رواية تتمّة مخترعة لهذا الحديث، وقد اخترعها ليستدلّ بها علي مطلوبه وهو دفع الطعن في رواية الصحاح، نسأل اللَّه العصمة من التعصّب فإنّه بئس الضجيع.

وظهر أيضاً: أنّهم يحاولون التّغطية علي شناعة بعض أحاديثهم بالزيادة فيه أو النقيصة عنه، علي حسب ما عرض لهم من ضيق الخناق.

وكما تصرّف ابن روزبهان في الحديث بدعوي الزيادة

كما تقدّم، فقد تصرّف محمّد بن يوسف الصالحي الدمشقي في لفظه بشكلٍ آخر، فقد قال في (سبل الهدي والرشاد):

«روي البخاري والبيهقي من طريق موسي بن عقبة، عن سالم بن عبداللَّه ابن عمر عن ابن عمر- رضي اللَّه عنهما- أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم لقي زيد ابن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح، قبل أنْ ينزل عليه الوحي، فقدّمت إلي رسول اللَّه سفرة فيها لحم، فأبي أن يأكل منها، ثمّ قال لزيد: إنّي لست آكل ممّا تذبحون علي أنصابكم، ولا آكل إلّاما ذكر اسم اللَّه عليه، وإنّ زيد بن عمرو كان يعيب علي قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها اللَّه تعالي وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض، ثمّ تذبحونها علي غير اسم اللَّه تعالي، إنكاراً لذلك وإعظاماً له» «1».

لقد التفت هذا الرجل إلي شناعة لفظ هذا الحديث، فلم يجد بُدّاً من أنْ يضيف اللّام الجارة إلي لفظ زيد، فصارت الجملة: «ثمّ قال لزيد» ليكون رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم هو فاعل «قال»، وتكون جملة: «إنّي لست __________________________________________________

(1) سبل الهدي والرشاد في سيرة خير العباد 2: 182.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 428

آكل» مقول قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم … والحال أنّ لفظ البخاري في كتاب المناقب من (صحيحه) خالٍ من اللام والجملة هي: «ثمّ قال زيد» فكان زيد الفاعل للفعل «قال» وهو القائل: «إنّي لست آكل»!

وأمّا الضمير في «أبي وإنْ احتمل- في رواية كتاب المناقب- عوده إلي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، لكنّه غير محتمل في لفظ رواية كتاب الذبائح، لأنّ الحديث هناك بلفظ «فقدم» - وكذلك هو في رواية الجرجاني والإسماعيلي كما سيأتي- وعليه، فلا يكون

الضمير في «أبي» عائداً علي النبي، بل يعود إلي زيد …

وسيأتي أنّ أحمد بن حنبل وغيره من الأئمّة ينسبون أكل ذبيحة الأنصاب في هذه القصّة إلي نفس رسول اللَّه … فيكون الضمير في «أبي» في حديث كتاب المناقب أيضاً عائداً علي «زيد»، لأنّ الحديث يفسّر بعضه بعضاً.

ومن هنا، فقد أسند ابن حجر والزركشي والسهيلي والقسطلاني وغيرهم من شرّاح الحديث الفعل «أبي» إلي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم …

والحاصل: إنّ القضيّة واحدة، والحديث واحد، فكما لا يكون رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله هو الفاعل للفظ «أبي» في حديث كتاب الذبائح، كذلك لا يكون هو الفاعل له في لفظ كتاب المناقب … وإلّا لزم تكذيب حديث كتاب الذبائح بحديث كتاب المناقب، فيكون الإشكال أقوي والإفحام آكد.

توجيه البعض معني الحديث … ص: 428

وكيف كان، فلا دلالة في حديث البخاري علي إباء رسول اللَّه صلّي اللَّه استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 429

عليه وآله عن الأكل من ذبيحة الأصنام، ولذا اعترض ابن حجر علي ابن بطّال لمّا ادّعي ذلك، وردّ عليه بعدم الوقوف علي ذلك في روايةٍ من روايات القصّة … وهذا نصّ كلام ابن حجر بشرح الحديث في كتاب المناقب:

«قوله: فقدّمت. بضم القاف. قوله: إلي النبي، كذا الأكثر، وفي رواية الجرجاني: فقدّم إليه النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم سفرة. قال عياض: الصّواب الأول. قلت: رواية الإسماعيلي توافق رواية الجرجاني، ولذا أخرجه الزبير بن بكار والفاكهي وغيرهما.

وقال ابن بطّال: كانت السفرة لقريش، قدّموها للنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، فأبي أن يأكل منها، فقدّمها النبي لزيد بن عمرو بن نفيل، فأبي أن يأكل منها، وقال مخاطباً لقريش الذين قدّموها أوّلًا: إنّا لا نأكل ما ذبح علي أنصابكم. إنتهي. وما قاله يحتمل،

ولكنْ لا أدري من أين له الجزم بذلك؟

فإنّي لم أقف عليه في روايةٍ، وقد تبعه ابن المنير في ذلك» «1».

أقول:

لقد أجاد ابن حجر في الردّ علي ابن بطّال، لكنّ قوله «وما قاله يحتمل» باطل جدّاً، فقد نقل ابن حجر- كما سيأتي- عن أكابر الأئمّة تصريحهم بأنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم- والعياذ باللَّه- قد أكل من ذبيحة الأصنام، ودعا زيداً إلي الأكل منها، فأبي زيد عن ذلك … فلا أساس لقول ابن بطّال من الصحّة أصلًا.

علي أنّ عبارة ابن بطّال صريحة في أنّ النبي- بعد أنْ أبي عن الأكل من تلك الذبيحة، دعا زيداً إلي الأكل منها. وهذا من القبح والشناعة بمكان، إذ

__________________________________________________

(1) فتح الباري- شرح صحيح البخاري 7: 112.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 430

كيف يحتمل أنّ النبي- مع ما عليه من الصيانة والأمانة والأخلاق الكريمة والأوصاف الحميدة- يأبي عن أمرٍ ثمّ يدعو غيره إليه بلا ضرورة، فيواجه بالإباء ويجاب بما يقتضي الطعن والملامة؟ كلّا وحاشا، لا يجوّز ذلك ذو دين وعقل …

إلتزام بعضهم بمفاده الباطل … ص: 430

إلّاأنّ أكثر المحقّقين منهم لم يسلكوا سبيل الخيانة والتحريف، كما صنع ابن روزبهان وصاحب سبل الهدي، بل استحوذ عليهم حبّ البخاري، فصدّقوا بأكاذيبه وافتراءاته، وسلّموا لغرائب مجعولاته وهفواته، فتري الدّاودي يذهب إلي أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم كان يأكل من ذبائح المشركين، لكونه جاهلًا بحرمة الأكل منها، أمّا زيد فقد علم بذلك فلم يأكل!!، قال ابن حجر:

«قال الداودي: كان النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قبل البعث يجانب المشركين في عباداتهم، ولكنْ لم يكن يعلم ما يتعلَّق بأمر الذبائح، وكان زيد قد علم ذلك من أهل الكتاب الذين لقيهم» «1».

فكان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم- والعياذ

باللَّه- يأكل من ذبائح أهل الكتاب عن جهلٍ بحكمها، وقد علم بذلك أهل الكتاب، وتعلّمه منهم زيد بن عمرو، ولم يأكل … فانظر كيف يطعن في رسول اللَّه ويحطّ عليه؟

وكيف يجوّز المؤمن الديّن في حقّ الرسول الأمين، المؤيّد بالتأييد الإلهي والمسدّد بالمدد الربّاني، أن يجهل حكماً من الأحكام الشرعيّة، ويرتكب شيئاً

__________________________________________________

(1) فتح الباري- شرح صحيح البخاري 7: 113.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 431

من المحرّمات الإلهيّة، ويدعو غيره لارتكابه؟

تكلّفات الآخرين في حلّ العقدة … ص: 431

ومن القوم من يأبي تكذيب حديث البخاري، ويستحيي من الإلتزام بمدلوله ومعناه الظاهر بل الصريح فيه، فاشكل عليه الأمر، وجعل يتكلَّف للخروج من المأزق!

قال السهيلي- بعد نقل حديث البخاري في كتاب الذبائح-:

«وفيه سؤال: يقال: كيف وفّق اللَّه زيداً إلي ترك أكل ما ذبح علي النصب وما لم يذكر اسم اللَّه عليه، ورسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم كان أولي بهذه الفضيلة في الجاهليّة، لِما ثبت من عصمة اللَّه له؟

فالجواب من وجهين:

أحدهما: إنّه ليس في الحديث حين لقيه ببلدح، فقدّمت إليه السفرة، إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أكل منها، وإنّما في الحديث إنّ زيداً قال حين قدّمت إليه السفرة: لا آكل ممّا لم يذكر اسم اللَّه عليه.

الجواب الثاني: إنّ زيداً إنّما فعل ذلك برأي رآه لا بشرع متقدّم، وإنّما تقدّم شرع إبراهيم بتحريم الميتة لا بتحريم ما ذبح لغير اللَّه، وإنّما نزل تحريم ذلك في الإسلام، وبعض الاصوليّين يقولون: الأشياء قبل ورود الشرع علي الإباحة. فإن قلنا: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم كان يأكل ممّا ذبح علي النصب، فإنّما فعل أمراً مباحاً وإن كان لا يأكل منها، فلا إشكال، وإن قلنا أيضاً: إنّها ليست علي الإباحة ولا علي التحريم، وهو الصحيح، فالذبائح

خاصّة لها أصل في تحليل الشرع المتقدّم، فالشاة والبعير ونحو ذلك ممّا أحلّه استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 432

اللَّه تعالي في دين من كان قبلنا، ولم يقدح في ذلك التحليل المتقدّم ما ابتدعوه، حتّي جاء الإسلام وأنزل اللَّه سبحانه «ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم اللَّه عليه»، ألا تري كيف بقيت ذبائح أهل الكتاب علي أصل التحليل بالشرع المتقدم، ولم يقدح في التحليل ما أحدثوه من الكفر وعبادة الصلبان، فكذلك كان ما ذبحه أهل الأوثان محلّلًا بالشرع المتقدّم حتّي خصّه القرآن بالتحريم» «1».

أقول:

وهذا الكلام في غاية السخافة والركّة، فإنّ مناط الإشكال ليس علي مجرّد أكل ذبيحة الأصنام، بل إنّ تجويز أكلها ودعوة الغير إلي ذلك قبيح جدّاً، فحصر الإشكال في الأكل دليلٌ علي عدم التدبّر وقلّة التأمّل، وكيف يصدّق العاقل الديّن أنْ لا يتنزّه رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله عمّا تنزّه منه زيد، وهو المعصوم بالعصمة الإلهيّة- بالإجماع القطعي- وأعقل الناس طُرّاً بلا خلاف:

قال القاضي عياض: «وأمّا وفور عقله، وذكاء لبّه، وقوّة حواسّه، وفصاحة لسانه، واعتدال حركاته، وحسن شمائله، فلا مرية أنّه كان أعقل الناس وأذكاهم، ومن تأمّل تدبيره أمر بواطن الخلق وظواهرهم وسياسة العامّة والخاصّة، مع عجيب شمائله وبديع سيره- فضلًا عمّا أفاضه من العلم وقدّره الشرع، دون تعلّم سَبَقَ ولا ممارسة تقدّمت ولا مطالعة للكتب منه- لم يَمْتَرِ في رجحان عقله وثقوب فهمه لأوّل بديهة، وهذا ما لا يحتاج إلي تقرير لتحقّقه.

وقد قال وهب بن مُنَبِّه: قرأت في أحد وسبعين كتاباً، فوجدت في __________________________________________________

(1) الروض الأنف 2: 360- 363.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 433

جميعها أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أرجح الناس عقلًا وأفضلهم رأياً. وفي رواية اخري:

فوجدت في جميعها أنّ اللَّه تعالي لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلي انقضائها من العقل في جنب عقله صلّي اللَّه عليه وآله وصحبه وسلّم، إلّا كحبّة رمل من رمال الدنيا» «1».

فأيّ عاقل يقبل كلام السهيلي في حقّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، مع هذا المقام في العصمة والعقل والسداد؟

علي أنّ أكابر القوم وأئمّتهم يصرّحون بأكل النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم من ذبيحة الأصنام بالفعل.

يقول ابن حجر: «وقد وقع في حديث سعيد بن زيد الذي قدّمته، وهو عند أحمد: فكان زيد يقول: عذت بما عاذ إبراهيم، ثمّ يخرّ ساجداً للكعبة، قال: فمرّ بالنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم وزيد بن حارثة وهما يأكلان من سفرة لهما، فدعياه، قال: يا ابن أخي لا آكل ممّا ذبح علي النصب، قال: فما رؤي النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم يأكل ممّا ذبح علي النصب من يومه ذلك.

وفي حديث زيد بن حارثة عند أبي يعلي والبزار وغيرهما قال: خرجت مع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يوماً من مكة وهو مردفي، فذبحنا شاةً علي بعض الأنصاب، فأنصجناها، فلقينا زيد بن عمرو، فذكر الحديث مطوّلًا وفيه:

فقال زيد: إنّي لا آكل ممّا لم يذكر اسم اللَّه عليه» «2».

فهذا حديث أحمد وغيره من الأئمّة الأعلام … فأيّ فائدةٍ في كلام السهيلي؟

__________________________________________________

(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفي 1: 161- 162.

(2) فتح الباري- شرح صحيح البخاري 7: 113.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 434

علي أنّ ما ادّعاه، من عدم حرمة أكل ما ذبح لغير اللَّه في شريعة سيّدنا إبراهيم عليه السلام، فكذب صرف، لكنّ القوم يرتكبونه، حمايةً لأسلافهم وخرافاتهم!!

وقد كان من فضل اللَّه أنْ ردّ الزركشي دعوي السهيلي هذه، ونصَّ علي حرمة ما

ذبح لغير اللَّه في الشريعة الإبراهيميّة، إذ قال في (التنقيح) بشرح الحديث من كتاب المناقب:

«فقدّمت له سفرة، فأبي أنْ يأكل.

إن قيل: كان نبيّنا صلّي اللَّه عليه وسلّم أولي بهذه الفضيلة.

قلنا: ليس في الحديث أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أكل من السّفرة.

وأجاب السهيلي: بأنّ زيداً إنّما قال ذلك برأي منه، لا بشرع متقدّم، وفي شرع إبراهيم تحريم الميتة لا تحريم ما ذبح لغير اللَّه، وإنّما نزل تحريم ذلك في الإسلام.

وهذا الذي قاله ضعيف، بل كان في شريعة الخليل تحريم ما ذبح لغير اللَّه، وقد كان عدوّ الأصنام، واللَّه تعالي يقول: «ثمّ أوحينا إليك أن اتّبع ملّة إبراهيم حنيفاً» «1»» «2».

فالحمد للَّه علي أن جرت كلمة الحقّ هذه علي لسان الزركشي، وظهر أنّ دعوي السهيلي كذب وبهتان مبين، قصد به الحماية علي أسلافه الضالّين.

وجاء الخطّابي فسلك مسلكاً آخر … ذكره ابن حجر حيث قال:

«قوله: علي أنصابكم، بالمهملة، جمع نصب بضمّتين، وهي أحجار

__________________________________________________

(1) سورة النحل 19: 123.

(2) التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح 2: 797.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 435

كانت حول الكعبة يذبحون عليها للأصنام.

قال الخطابي: كان النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لا يأكل ممّا يذبحون عليها للأصنام، ويأكل ما عدا ذلك، وإنْ كانوا لا يذكرون اسم اللَّه عليه، لأنّ الشرع لم يكن نزل بعد، بل لم ينزل الشرع بمنع أكل ما لم يذكر اسم اللَّه عليه إلّابعد البعث بمدّة طويلة» «1».

أقول:

لكنّ هذا الكلام شعري خطابي، ولا يرفع الإشكال عن حديث البخاري، لأنّه صريح في أنّ اللّحم الذي أمر النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم زيداً بالأكل منه كان مذبوحاً علي النصب، حتّي أنّ زيداً قال للنبي: إنّي لست آكل ممّا تذبحون علي أنصابكم. ومن هنا أورد البخاري،

هذا الحديث في كتاب الذبائح، باب ما ذبح علي النصب والأصنام.

وأيضاً، فما أخرجه أحمد والبزار وأبو يعلي، ونقله ابن حجر العسقلاني، صريح في أنّ ذلك اللّحم كان مذبوحاً علي النصب.

علي أنّ القول بأنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم كان يأكل ممّا لم يذكر اسم اللَّه عليه، باطل كذلك، لما تقدَّم في كلام الزركشي من تحريم ما ذبح لغير اللَّه في شريعة سيّدنا الخليل عليه السلام، فكيف ينسب ذلك إلي رسول اللَّه؟

فظهر أنّ كلام الخطابي أيضاً ضرب في بارد الحديد، لا ينفع أصلًا في الخلاص عن الإشكال الشديد، وكيف يجوّز ذوعقل وفهم سديد أنّ البشير النذير أكل ممّا ذبح علي غير اسم الملك الحميد؟ فاللَّه يعصمنا بفضله من اتّباع الشيطان المريد.

__________________________________________________

(1) فتح الباري 7: 112- 113.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 436

حديث نفي توريث الأنبياء … ص: 436

(ومنها) ما أخرجه البخاري، وهذه ألفاظه في كتاب الفرائض:

«حدّثنا عبداللَّه بن مسلمة، عن مالك عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: إنّ أزواج النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم حين توفي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أردن أن يبعثن عثمان إلي أبي بكر يسألنه ميراثهنّ، فقالت عائشة:

أليس قد قال رسول اللَّه: لا نورّث ما تركناه صدقة» «1».

وقد بيّن علماؤنا الأعلام في كتبهم المبسوطة أنّ هذا موضوع «2»، وقد وضعوه لأن يحرموا بضعة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله ممّا ترك، فراجع كتاب (تشييد المطاعن) وغيره. ويكفي في تكذيبه أنّ عليّاً عليه السلام ردّ عليه في كلامٍ له مع أبي بكر، وأثبت مخالفته لكتاب اللَّه:

قال ابن سعد: «أخبرنا محمّد بن عمر، حدّثني هشام بن سعد، عن عبّاس بن عبداللَّه بن معبد، عن أبي جعفر قال: جاءت فاطمة إلي أبي بكر تطلب ميراثها، وجاء العبّاس

بن عبدالمطّلب يطلب ميراثه، وجاء معهما علي، فقال أبوبكر: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: لا نورّث ما تركنا صدقة،

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 8: 266.

(2) بل لقد أجري اللَّه هذه الحقيقة علي لسان أحد الأئمة الحفّاظ منهم، وهو الحافظ ابن خراش، المتوفي سنة 283، وقد ذكر ذلك عنه الحافظ الذهبي بترجمته من كتاب تذكرة الحفّاظ 2: 684/ 705:

«قال ابن عدي: سمعت عبدان يقول: قلت لابن خراش: حديث ما تركنا صدقة؟ قال: باطل، اتّهم مالك بن أوس بالكذب» وكذا الحافظ ابن حجر بترجمته من لسان الميزان 3: 509: «وقال عبدان: قلت لابن خراش: حديث: لا نورّث ما تركنا صدقة؟ قال: باطل. قلت: من تتّهم به؟ قال: مالك بن أوس».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 437

وما كان النبي يعول فعليَّ. فقال علي «وورث سليمان داود» «1»

وقال زكريّا:

«يرثني ويرث من آل يعقوب» «2»

قال أبوبكر: هو هكذا، وأنت تعلم مثل ما أعلم. فقال علي: هذا كتاب اللَّه ينطق. فسكتوا وانصرفوا» «3».

حديث مجادلة الإمام مع النبي في صلاة الليل … ص: 437

(ومنها) ما أخرجه البخاري، علي ما في كتاب (التحفة) للدهلوي، حيث جاء فيه:

«روي البخاري- الذي هو أصحّ الكتب عند أهل السنّة بعد القرآن- بطرقٍ متعدّدة أنّ الرسول صلّي اللَّه عليه وسلّم ذهب إلي بيت الأمير والبتول ليلةً وأيقظهما من مضجعهما، وأمرهما بصلاة التهجّد مؤكَّداً، فقال الأمير: واللَّه ما نصلّي إلّاما كتب اللَّه علينا. أي الصّلاة المفروضة، وإنّما أنفسنا بيد اللَّه.

يعني: لو وفّقنا اللَّه لصلاة التهجّد لصلّينا. فرجع النبي وهو يضرب علي فخذيه ويقول: «وكان الإنسان أكثر شي ء جدلًا»» «4».

وإنّ هذا لمن أقبح الإفتراءات وأشنع الأكاذيب، أيّاً كان واضعه وراويه، لكنّ القوم لا يستحيون، وبه وبمثله يحتجّون؟

فهل يصَّدق أحد إباء أميرالمؤمنين عليه السلام عن قيام الليل والصلاة للَّه

نافلةً، مع ما هو عليه من العبادة والعبوديّة للَّه عزّ وجلّ؟

وهل يصدَّق مجادلته مع رسول اللَّه في دعوته إيّاه إلي القيام والصّلاة،

__________________________________________________

(1) سورة النمل 27: 16.

(2) سورة مريم 19: 6.

(3) الطبقات الكبري 2: 315.

(4) مختصر التحفة الإثني عشرية: 281، وانظر التحفة الاثني عشرية: 286.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 438

مع ما كان عليه من كثرة إطاعته له في كلّ شي ء؟

وهل يصدَّق أن يستدلّ أمام النبيّ كاستدلال أهل الجبر؟

إنْ هذا إلّامن وضع النواصب المبغضين للنبي والوصي، ولا يصدِّق به إلّا من كان علي شاكلتهم!!

إنّك لن تجد أحداً من آحاد المؤمنين يُؤمر بالصّلاة فيأبي بهذه الشدّة ويقول: «واللَّه لا نصلّي إلّاما كتب اللَّه لنا» لاسيّما والآمر رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، لأنّ مثل هذا الكلام معه- وفي قبال دعوته إلي الصلاة والعبادة- استخفاف به وبأمره، وهذا ما لا يصدر من أحدٍ من سائر المؤمنين، فكيف بمولانا علي عليه السلام، الممتثل لأوامر رسول اللَّه، والتابع له في كلّ شي ء، والذي كان أعبد الناس بعده؟ يقول ابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي عن عبادته عليه السلام:

«وأمّا العبادة، فكان أعبد الناس وأكثرهم صلاةً وصوماً، ومنه تعلّم الناس صلاة الليل وملازمة الأوراد وقيام النافلة، وما ظنّك برجلٍ يبلغ من محافظته علي ورده أنْ يُبسط له نطع بين الصفّين ليلة الهرير، فيصلّي عليه ورده والسهام تقع بين يديه، وتمرّ علي صماخيه يميناً وشمالًا فلا يرتاع لذلك، ولا يقوم حتّي يفرغ من وظيفته، وما ظنّك برجلٍ كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده!

وأنت إذا تأمّلت دعواته ومناجاته، ووقفت علي ما فيها من تعظيم اللَّه سبحانه وإجلاله، وما يتضمّنه من الخضوع لهيبته، والخشوع لعزّته والإستحذاء له، عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص، وفهمت من

أيّ قلبٍ خرجت، وعلي أيّ لسانٍ جرت.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 439

وقيل لعليّ بن الحسين عليه السلام- وكان الغاية في العبادة-: أين عبادتك من عبادة جدّك؟ قال: عبادتي عند عبادة جدّي كعبادة جدّي عند عبادة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله» «1».

ويقول الشيخ محمّد بن طلحة الشافعي:

«الفصل السابع: في عبادته وزهده وورعه: أمّا عبادته عليه السلام، فاعلم سلك اللَّه بنا وبك سبيل السعادة: أنّ حقيقة العبادة هي الطاعة؛ فكلّ من أطاع اللَّه تعالي، وقام بامتثال الأوامر واجتناب المناهي فهو عباد، ولمّا كانت متعلّقات الأوامر الصادرة من اللَّه تعالي علي لسان نبيّه صلّي اللَّه عليه وسلّم كانت العبادة بحسب ذلك متنوّعة، فمنها الصلاة ومنها الصدقة ومنها الصيام إلي غيرها من الأنواع، وكلّ ذلك كان عليه السلام قائماً فيه، مقبلًا عليه مسارعاً إليه متحلّياً به، حتّي أدرك بمسارعته إلي طاعة اللَّه ورسوله ما فات غيره، فإنّه جمع بين الصلاة والصدقة، فتصدّق وهو راكع في صلاته، فجمع بينهما في وقت واحد، حتّي أنزل اللَّه تعالي فيه قرآناً يتلي إلي يوم القيامة».

وقال بعد ذكر قصّة الصدقة ونزول الآية «إنّما وليّكم اللَّه» في شأنه عليه السلام، وذكر تفرّده عليه السلام بالعمل بآية النجوي، ونزول «ويطعمون الطعام علي حبّه» في حقّه:

«إعلم أنّ أنواع العبادة كثيرة، وكان عليّ عليه السلام جامعاً لجميعها، فإنّ من تيقّن حقيقة الآخرة بأحوالها وتحقّق شدائد أهوالها، وأنّ كلّ نفس عند مردّها ومآلها تلزم بجواب سؤالها، وتجثو بين يدي خالقها لجدالها، وتجازي علي ما أسلفته من أعمالها، إمّا بنعيمها وإمّا بنكالها، خليق أن يكون عن ساق __________________________________________________

(1) شرح نهج البلاغة 1/ 27.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 440

جدّه في عبادته مشمّراً، وأن يجعل وقته علي اكتساب

طاعات ربّه متوفّراً، فإنّه لا يقصر في العبادة إلّامن فقد اليقين ولم يكن من المتّقين، وقد كان عليّ منطوياً علي يقين لا غاية لمداه ولا نهاية لمنتهاه، وقد صرّح بذلك تصريحاً مبيّناً فقال: لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً، فكانت عبادته إلي الغاية القصوي تبعاً ليقينه، وطاعته في الذروة العليا لمتانة دينه».

وقال أيضاً بعد ذكر طائفة من الروايات والأخبار:

«فهذه الوقائع والقضايا المفصّلة- التي أسفر له فجر نهارها وأبدر لديه قمر شعارها، وظهر عليه سرّ آثارها وانتشر عنه خبر أسارها- شاهدة له أنّه في العبادة ابن جلاها وفارع ذروة علاها، وضارب في أعشارها بمعلاها، وراكب من مطيّتها غارب مطاها، قد صدعت منطوقها ومفهومها، بأنّه قد حوي مقامات العابدين حتّي حلّ مقام الإمامة، واتّصف بسمات الزاهدين، فبيده زمام الزعامة، فتحلّي بالأمانة والعبادة والمحبّة والزهد والورع والمعرفة والتوكّل والخوف والرجاء والصبر والشكر والرضا والخشية، فهو ذو إخبات وتفكّر، ونسك وتدبّر وتهجّد وتذكّر وتأوّه وتحسّر، وأذكار وأوراد وإصدار وإيراد، فكابد من أنواع العبادات ووظائف الطّاعات ما لا يكاد الأقوياء ينهضون بحمل أعبائه، إلي أن نزل القرآن الكريم بمدحته، وأسفر بالثناء عليه من التنزيل وجه صحّته، حتّي نقل الواحدي رضي اللَّه عنه في تفسيره، يرفعه بسنده إلي ابن عبّاس رضي اللَّه عنه قال: إنّ عليّ ابن أبي طالب تملّك أربعة دراهم، فتصدّق بدرهم ليلًا، وبدرهم نهاراً، وبدرهم سرّاً، وبدرهم علانية، فنزلت فيه قوله تعالي: «الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرّاً وعلانية فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون» ومن تأمّل ما قصصناه من استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 441

الوقائع والقضايا، وتدبّر ألفاظها ومعانيها، وجدها صادعة بالشهادة له بهذه المقدّمات، جامعة فيه ما فصّله القلم من

الصفات، وكفاه شرفاً إنزال اللَّه عزّ وجلّ مدحه في السور والآيات، وإنّها تتلي بألسنة الامّة إلي يوم القيامة في وظائف الصلاة.

هذي المزايا بعض ما حُلّي بها وحُبِي من الخيرات والبركات وله وظائف طاعة أورادها معمورة الآناء والأوقات بعبادة وزهادة وتورّع وتخشّع وتدرّع الإخبات وتقلّل وتوكّل وتفكّر وتدبّر وتذكّر المثلات وإذا الظلام سجي يناجي ربّه متضرّعاً بالذكر والدعوات يعنو له بخضوع قلب خاشع وهموع طرف مسبل العبرات عِلمٌ علت درجاته وفضائل شرفت معارجها علي الشُرُفات ومناقبٌ نطقت بها آي الكتاب وحسبها إن جاء شاهدها من الآيات» «1»

قال: «ونقل أنّ معاوية قال بعد موت عليّ لضرار بن صرد: صف لي عليّاً. فقال: أوتعفني؟ قال: بل صفه. قال: أوتعفني؟ قال: لا أعفيك. قال: أمّا إذا لابدّ فأقول ما أعلمه منه:

كان- واللَّه- بعيد المدي، شديد القوي، يقول فصلًا، ويحكم عدلًا، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس باللّيل وظلمته، كان- واللَّه- غزير الدمعة، طويل الفكرة، يقلّب كفّيه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللّباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، كان- واللَّه- كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويبتدينا إذا أتيناه، ويأتينا إذا

__________________________________________________

(1) مطالب السؤول: 137.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 442

دعوناه، ونحن واللَّه مع تقريبه لنا وقربه منّا، لا نكلّمه هيبة ولا نبتديه عظمة، إن تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يُعَظِّم أهل الدين، ويحبّ المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فاشهد باللَّه لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخي الليل سجوفه وغارت نجومه، وقد مثل في محرابه قابضاً علي لحيته، يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين، وكأنّي أسمعه ويقول: يا دنيا يا دنيا، أبي تعرّضت أم إليّ تشوّقت! هيهات هيهات،

غرّي غيري، قد بتتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير وعيشك حقير وخطرك كثير، آه من قلّة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق. قال:

فذرفت دموع معاوية علي لحيته، فلم يملكها وهو ينشفها بكمّه، وقد أخفق القوم بالبكاء.

فقال معاوية: رحم اللَّه أباالحسن، كان- واللَّه- كذلك. فكيف حزنك عليه يا ضرار؟

قال: حزن من ذبح ولدها في حجرها، فلا ترقُ عبرتها ولا يسكن حزنها» «1».

وعلي الجملة، فلا يمكن وصف زهد الإمام في دار الدنيا، وعبادته للَّه تبارك وتعالي، ولا يمكن لأحدٍ إنكار ذلك، بل حتّي أعداؤه يعترفون، وليت أتباع معاوية اعترفوا كما اعترف، ولم يوافقوا علي الحديث الموضوع المختلق!

وأمّا ما في الحديث، من نسبة التمسّك بشبه الجبريّة إلي الإمام عليه السلام، فإنّها أقبح وأشنع من نسبة الإباء عن الصّلاة عليه، لأنّ التمسّك بالقدر

__________________________________________________

(1) مطالب السؤول: 131- 132.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 443

عند مثبتيه في غاية الشناعة، ونسبة ذلك إلي أميرالمؤمنين كفر وضلال …

وإليك جملةً من عبارات ابن تيميّة في بطلان الإحتجاج بالقدر:

«الإحتجاج بالقدر حجّة باطلة داحضة باتّفاق كلّ ذي عقل ودين من جميع العالمين، والمحتج به لا يقبل من غيره مثل هذه الحجّة إذا احتجّ بها في ظلم أتاه وترك ما يجب عليه من حقوقه، بل يطلب منه ماله عليه ويعاقبه علي عداوته، وإنّما هي من جنس شبه السوفسطائيّة التي تعرض في العلوم، فكما أنّك تعلم فسادها بالضرورة وإن كانت تعرض لكثير من الناس، حتّي قد يشكّ في وجود نفسه وغير ذلك من المعارف الضروريّة، فكذلك هذا يعرض في الأعمال حتّي يظنّ أنّها شبهة في إسقاط الصدق والعدل الواجب وغير ذلك، وإباحة الكذب والظلم وغير ذلك، ولكن يعلم القلوب بالضرورة أنّ هذه شبهة باطلة، وهذه لا

يقبلها أحد عند التحقيق، ولا يحتجّ بها أحد إلّامع عدم علمه بالحجّة بما فعله، فإذا كان مع علمه بأنّ فعله هو المصلحة وهو المأمور، وهو الذي ينبغي فعله، لم يحتج بالقدر، وكذلك إذا كان معه علم بأنّ الذي لم يفعله ليس عليه أن يفعله، أو ليس بمصلحة، أو ليس هو مأموراً به، لم يحتج بالقدر، بل إذا كان متّبعاً لهواه بغير علم احتجّ بالقدر، ولهذا لمّا قال المشركون «لو شاء اللَّه ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرّمنا من شي ء» قال اللَّه تعالي: «هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتّبعون إلّاالظنّ وإن أنتم إلّاتخرصون* قل فللَّه الحجّة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين».

فإنّ هؤلاء المشركين يعلمون- بفطرتهم وعقولهم- أنّ هذه الحجّة داحضة وباطلة، فإنّ أحدهم لو ظلم الآخر في ماله أو فرج امرأته أو قتل ولده أو كان مصرّاً علي الظلم، فنهاه الناس عن ذلك فقال: لو شاء اللَّه لم أفعل هذا،

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 444

لم يقبلوا هذه الحجّة، وهو لا يقبلها من غيره، وإنّما يحتجّ بها المحتج دفعاً للّوم بلا وجه، فقال اللَّه لهم: «هل عندكم علم فتخرجوه لنا» بأنّ هذا السؤال من أمر اللَّه وأنّه مصلحة ينبغي أن يفعل «إن تتّبعون إلّاظنّاً وإن أنتم إلّاتخرصون» تحرزون وتفترون.

فعمدتكم في نفس الأمر طلبكم وحرصكم، ليس عمدتكم في نفس الأمر كون اللَّه شاء ذلك وقدّره، فإنّ مجرّد المشيّة والقدرة لا تكون عمدة لأحد في الفعل، ولا حجّة لأحد علي أحد، ولا عذراً لأحد، والناس كلّهم مشتركون في القدر، فلو كان هذا حجّة وعمدة، لم يحصل فرق بين العادل والظالم والصادق والكاذب والعالم والجاهل والبرّ والفاجر، فلم يكن فرق بين ما يصلح الناس من الأعمال

وما يفسدهم، وما ينفعهم وما يضرّهم.

وهؤلاء المشركون المحتجّون بالقدر علي ترك ما أرسل اللَّه به رسله من توحيده والإيمان به، لو احتجّ بعضهم علي بعض في سقوط حقوقه ومخالفة أمره لم يقبله منه، بل كان هؤلاء المشركون يذمّ بعضهم بعضاً علي فعل ما يرونه تركاً لحقّهم أو ظلماً، فلمّا جاءهم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يدعوهم إلي حقّ اللَّه علي عباده وطاعة أمره احتجّوا بالقدر، فصاروا يحتجّون بالقدر علي ترك حقّ ربّهم ومخالفة أمره بما لايقبلونه ممّن ترك حقّهم وخالف أمرهم» «1».

وله كلام آخر طويل في تقبيح الإحتجاج بالقدر وإبطاله، ثمّ إنّه في آخر الكلام،- لنصبه وعداوته لأميرالمؤمنين عليه السلام- ينسب القدر إليه، ويتعرّض للخبر الموضوع عليه، وهذه عبارته:

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 2: 3- 5.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 445

«ثمّ نعلم إنّ هذه الحجّة باطلة بصريح العقل عند كلّ أحد مع الإيمان بالقدر وبطلان هذه الحجّة لا يقتضي التكذيب بالقدر، وذلك أنّ بني آدم مفطرون علي احتياجهم إلي جلب المنفعة ودفع المضرّة، ولا يعيشون ولا يصلح لهم دنيا ولا دين إلّابذلك، فلابدّ أن يأتمروا بما فيه تحصيل منافعهم ودفع مضارّهم، سواء بعث إليهم رسول أو لم يبعث، لكن علمهم بالمنافع والمضار بحسب عقولهم وقصودهم، والرسل صلوات اللَّه عليهم بعثوا بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، فأتباع الرسل أكمل الناس في ذلك، والمكذّبون للرسل انعكس الأمر في حقّهم، فصاروا يتّبعون المفاسد ويعطّلون المصالح، فهم شرّ الناس، ولابدّ لهم مع ذلك من امور يجتلبونها وامور يجتنبونها، وأن يدافعوا جميعاً ما يضرّهم من الظلم والفواحش ونحو ذلك.

فلو ظلم بعضهم بعضاً في دمه وماله وحرمته، فطلب المظلوم الإقتصاص والعقوبة، لم يقبل أحد من ذوي العقول احتجاج بالقدر،

ولو قال:

اعذروني فإنّ هذا كان مقدّراً عليّ، لقالوا: وأنت لو فعل بك ذلك فاحتجّ عليك ظالمك بالقدر لم تقبل منه، وقبول هذه الحجّة توجب الفساد الذي لا صلاح معه، وإن كان الإحتجاج بالقدر مردوداً في فطر جميع الناس وعقولهم، مع أنّ جماهير الناس مُقرّون بالقدر، فعلم أنّ الإقرار بالقدر لا ينافي دفع الإحتجاج به، بل لابدّ من الإيمان به ولابدّ من ردّ الإحتجاج به.

ولمّا كان الجدل ينقسم إلي حقّ وباطل، وكان من لغة العرب أنّ الجنس إذا انقسم إلي نوعين أحدهما أشرف من الآخر، خصّوا الأشرف باسم الخاص وعبّروا عن الآخر باسم العام، كما في لفظ الجائز العام والخاص والمباح العام استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 446

والخاص، وذوي الأرحام العام والخاص، ولفظ الجواز العام والخاص، ويطلقون لفظ الحيوان علي غير الناطق، لاختصاص الناطق باسم الإنسان، غلوا في لفظ الكلام والجدل، فلذلك يقولون فلان صاحب كلام ومتكلّم إذا كان يتكلّم بلا علم، ولهذا ذمّ السلف أهل الكلام والكلام، وكذلك الجدل إذا لم يكن الكلام بحجّة صحيحة لم يكن إلّاجدلًا محضاً.

والإحتجاج بالقدر من هذا الباب، كما في الصحيح: عن عليّ رضي اللَّه عنه قال: طرقني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وفاطمة فقال: ألا تقومان تصلّيان؟ فقلت: يا رسول اللَّه، إنّما أنفسنا بيد اللَّه، إن شاء أن يبعثنا بعثنا. قال:

فولّي وهو يقول: «وكان الإنسان أكثر شي ء جدلًا»، فإنّه لمّا أمرهم بقيام اللّيل فاعتلّ علي بالقدر وأنّه لو شاء اللَّه لأيقظنا، علم النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّ هذا ليس فيه إلّامجرّد الجدل الذي ليس بحق فقال: «وكان الإنسان أكثر شي ء جدلًا»» «1».

وإذا كان التمسّك والإحتجاج بالقدر بهذه المثابة من القبح، فإنّ نسبة ذلك إلي الإمام

عليه الصّلاة والسلام لا يكون إلّاعن النصب والعناد له، ولا يصدّق به أحد من ذوي الفهم والعقل، فضلًا عن أهل الإيمان والإيقان.

بل لقد ذكر ابن تيميّة في موضع آخر من كتابه، أنّ من يحتجُّ بالقدر فهو شرّ من اليهود والنصاري … إلي غير ذلك، وهذا نصّ كلامه:

«وهذا السؤال- أعني لزوم إفحام الأنبياء في جواب الكفّار- إنّما يتوجّه علي من يسوّغ الإحتجاج بالقدر، ويقيم عذر نفسه أو غيره إذا عصي بأنّ هذا مقدّر، علي أنّ شهود الحقيقة الكونيّة- وهؤلاء كثيرون في الناس، وفيهم من __________________________________________________

(1) منهاج السنّة 2: 13- 15.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 447

يدّعي أنّه من الخاصّة العارفين أهل التوحيد، الذين فنوا في توحيد الربوبيّة- يقولون: إنّ العارف إذا فني في شهود توحيد الربوبيّة لم يستحسن حسنه ولم يستقبح قبحه، وهذا الضرب كثير في متأخّري الشيوخ النسّاك والصوفيّة والفقراء بل في الفقهاء والامراء والعامّة، ولا ريب أنّ هؤلاء شرّ من الشيعة والمعتزلة الذين يقرّون بالأمر والنهي وينكرون القدر.

وبمثل هؤلاء طال لسان المعتزلة والشيعة في المنتسبين إلي السنّة، فإنّ من أقرّ بالأمر والنهي والوعد والوعيد وفعل الواجبات وترك المحرّمات، ولم يقل أنّ اللَّه خلق أفعال العباد، ولا يقدر علي ذلك ولا شاء المعاصي، هو قد قصد تعظيم الأمر وتنزيه اللَّه تعالي عن الظلم وإقامة حجّة اللَّه علي نفسه، لكن ضاق عَطْنه فلم يخيّل الجمع بين قدرة اللَّه التامّة، وبين المشيّة العامّة وخلقه الشامل، بين عدله وحكمته وأمره ونهيه ووعده ووعيده، فجعل للَّه الحمد ولم يجعل له تمام الملك، والذين أثبتوا قدرته ومشيّته وخلقه، وعارضوا بذلك أمره ونهيه ووعده ووعيده شرّ من اليهود والنصاري، كما قال هذا المصنّف، فإنّ قولهم يقتضي إفحام الرسل، ونحن إنّما نرد

من أقوال هذا وغيره ما كان باطلًا، وأمّا الحقّ فعلينا أن نقبله من كلّ قائل، وليس لأحدٍ أن يرد بدعة ببدعة ولا يقابل باطلًا بباطل، والمنكرون للقدر وإن كانوا في بدعة، فالمحتجّون به علي الأمر أعظم بدعة، وإن كان أولئك يشبهون المجوس، فهؤلاء يشبهون المشركين المكذّبين للرسل الذين قالوا «لو شاء اللَّه ما أشركنا ولا آباءنا ولا حرّمنا من شي ء» وقد كان في أواخر عصر الصحابة رضي اللَّه تعالي عنهم جماعة من هؤلاء القدريّة، وأمّا المحتجّون بالقدر علي الأمر، فلا يعرف لهم استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 448

طائفة من طوائف المسلمين معروفة، وإنّما كثروا في المتأخّرين» «1».

حديث خطبة بنت أبي جهل … ص: 448

(ومنها) ما أخرجه البخاري: من أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام خطب بنت أبي جهل علي عهد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وفي حياة الصدّيقة الطاهرة … في قضيّة موضوعة مكذوبةٍ … قال:

«حدّثنا أبواليمان، أنا شعيب، عن الزهري، ثني علي بن حسين: أنّ المسور بن مخرمة قال: إنّ عليّاً خطب بنت أبي جهل، فسمعت بذلك فاطمة، فأتت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فقالت: يزعم قومك أنّك لا تغضب لبناتك، وهذا علي ناكح بنت أبي جهل. فقام رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فسمعته حين تشهد يقول: أمّا بعد، فإنّي أنكحت أبا العاص ابن الربيع فحدّثني وصدقني، وإنّ فاطمة بضعة منّي وإنّي أكره أن يسوءها، واللَّه لا يجتمع بنت رسول اللَّه وبنت عدوّ اللَّه عند رجل. فترك علي الخطبة» «2».

فإنّ هذا الحديث فيه ذمّ ومنقصة، ولا يصدّق به مؤمن أبداً، وكيف يمكن صدوره من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، وقد كان يعلن منذ بدء الإسلام إلي ساعة وفاته عن فضائل أميرالمؤمنين ومناقبه ويشيعها بين الناس؟

وقد اعترف بعض أئمّة

القوم بدلالته علي الذم، فهذا ابن حجر يقول بشرحه:

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 2: 11- 12.

(2) صحيح البخاري 5: 95 و 4: 185.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 449

«ولا أزال أتعجّب من المسور كيف بالغ في [تغضيبه لعليّ بن الحسين، حتّي قال إنّه أودع عنده السيف لا يمكّن أحداً منه حتّي تزهق روحه، رعايةً لكونه ابن فاطمة، ولم يراع خاطره في أنّ ظاهر سياق الحديث غضاضة علي عليّ بن الحسين، لما فيه من إيهام غضّ من جدّه عليّ بن أبي طالب، حيث أقدم علي خطبة بنت أبي جهل علي فاطمة، حتّي اقتضي من النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم في ذلك من الإنكار ما وقع» «1».

وقد ذكر الدهلوي صاحب (التحفة) خبر الكلام الذي دار بين أبي حنيفة والأعمش حول هذا الحديث، وقول أبي حنيفة للأعمش بأنّ نقل هذا الحديث من سوء الأدب «2».

فكيف يصدّق بأنّ الإمام السجّاد عليه السلام قد روي هذا الحديث وسكت عليه؟ «3»

حديث شأن نزول «وإنْ طائفتان من المؤمنين … » … ص: 449

(ومنها) ما أخرجه البخاري: من قصّة أصحاب النبي مع أصحاب عبداللَّه ابن ابي، الذي كان رئيس المنافقين بعد تظاهره بالإسلام، ونزول الآية «وإنْ طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما» في القصّة، وهذه ألفاظه في كتاب الصّلح:

«حدّثنا مسدّد، ثنا معتمر قال: سمعت ابي أنّ أنساً قال: قيل للنّبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: لو أتيت عبداللَّه بن ابي، فانطلق إليه النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم وركب حماراً، فانطلق المسلمون يمشون معه، وهي أرض سبخة، فلمّا أتاه __________________________________________________

(1) فتح الباري 7: 69، 6: 162، 9: 268- 269.

(2) التحفة الإثني عشرية: 355.

(3) وفي هذا الموضوع رسالة مطبوعة ضمن (الرسائل العشر في الأحاديث الموضوعة) تأليف السيد علي الحسيني الميلاني، فليرجع إليها من شاء التفصيل.

استخراج المرام من

استقصاء الافحام، ج 2، ص: 450

النبي قال: إليك عنّي، واللَّه لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار منهم: واللَّه لحمار رسول اللَّه أطيب ريحاً منك، فغضب لعبداللَّه رجل من قومه، فشتما، فغضب لكلّ واحدٍ منهما أصحابه، فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنّها نزلت «وإنْ طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما»» «1».

فإنّ القول بنزول الآية المباركة في هذه القضيّة كذب قطعاً، لأن هذه القضية قد وقعت قبل الإسلام الظاهري للرجل، ولو كانت بعده فلا ريب في كفره وضلاله وكذا أصحابه، لقوله لرسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «إليك عنّي، واللَّه لقد آذاني نتن حمارك» فكيف يسمّيه اللَّه وأصحابه ب «المؤمنين»؟

ومن هنا قال ابن بطال: «يستحيل نزولها في قصّة … » كما قال الزركشي في (التنقيح) في شرحه:

«فبلغنا أنّها نزلت «وإنْ طائفتان» قال ابن بطّال: يستحيل نزولها في قصّة عبداللَّه بن ابي وأصحابه، لأنّ أصحاب عبداللَّه ليسوا بمؤمنين، وقد تعصّبوا له بعد الإسلام في قصّة الإفك، وقد رواه البخاري في كتاب الإستيذان عن اسامة بن زيد رضي اللَّه عنهما: إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم مرّ في مجلسٍ فيه أخلاط من المشركين والمسلمين وعبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبداللَّه بن ابي، فذكر الحديث. فدلّ علي أنّ الآية لم تنزل فيه، وإنّما نزلت في قومٍ من الأوس والخزرج، اختلفوا في حقٍّ، فاقتتلوا بالعصي والنعال» «2».

ومن الطرائف محاولة ابن حجر الردّ علي كلام ابن بطّال بقوله:

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 4: 19.

(2) التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح 2: 596.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 451

«وقد استشكل ابن بطّال نزول الآية المذكورة وهي قوله تعالي «وإنْ طائفتان من المؤمنين اقتتلوا» «1»

في هذه القصّة، لأنّ المخاصمة وقعت بين من كان مع

النبي من الصحابة وبين عبداللَّه بن ابي، وكانوا إذ ذاك كفّاراً، فكيف ينزل فيهم «طائفتان من المؤمنين» ولاسيّما إن كانت قصّة أنس واسامة متّحدة، فإنّ في رواية اسامة: فاستبَّ المسلمون والمشركون.

قلت: يمكن أن يحمل علي التغليب، مع أنّ فيها إشكالًا من جهة اخري، وهي: إنّ حديث اسامة صريح في أنّ ذلك كان قبل وقعة بدر وقبل أنْ يسلم عبداللَّه بن ابي وأصحابه، والآية المذكورة في الحجرات ونزولها متأخّر جدّاً وقت مجي ء الوفود، لكنّه يحتمل أنْ يكون آية الإصلاح نزلت قديماً، فيندفع الإشكال» «2».

أقول:

إنّ الحمل علي التغليب بلا دليل من الكتاب أو السنّة غير مقبول، ولعلّه ملتفت إلي ضعفه فقال: «يمكن … ».

خبر عدم تفضيل الإمام علي الصّحابة بعد الخلفاء … ص: 451

(ومنها) ما أخرجه البخاري في مناقب عثمان:

«عن ابن عمر قال: كنّا في زمن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لا نعدل بأبي بكر أحداً ثمّ عمر ثمّ عثمان ثمّ نترك أصحاب النبي لا نفاضل بينهم» «3».

__________________________________________________

(1)

سورة الحجرات 49: 9.

(2) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 5: 228.

(3) صحيح البخاري 5: 82.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 452

لكنّ الأدلّة القاطعة والبراهين الساطعة علي أفضليّة أميرالمؤمنين عليه السلام من الشيخين- فضلًا عن الثالث- كثيرة جدّاً، غير أنّ واضع هذه الفرية لم تسمح له نفسه الدنيّة لأنْ يقول بأفضليته عمّن سوي الثلاثة، فزعم المساواة بينه وبين معاوية وعمرو بن العاص وأمثالهما … والعياذ باللَّه.

وما أكثر الأحاديث والأخبار في بطلان هذه الفرية وسقوطها، حتّي من طرق أهل السنّة وأسانيدهم … ومن هنا، فقد بالغ ابن عبدالبرّ في ردّ الخبر، ونقل كلام ابن معين في إبطاله، فقال ما نصّه:

«أخبرنا محمّد بن زكريّا ويحيي بن عبدالرحمن وعبدالرحمن بن يحيي قالوا: حدّثنا أحمد بن سعيد بن حزم، ثنا أحمد بن

خالد، ثنا مروان بن عبدالملك قال: سمعت هارون بن إسحاق يقول: سمعت يحيي بن معين يقول: من قال: أبوبكر وعمر وعثمان وعلي، وعرف لعلي سابقته وفضله، فهو صاحب سنّة. فذكر له هؤلاء الذين يقولون: أبوبكر وعمر وعثمان ثمّ يسكتون، فتكلَّم فيهم بكلامٍ غليظ. وكان يحيي بن معين يقول: أبوبكر وعمر وعلي وعثمان.

قال أبو عمرو: من قال بحديث ابن عمر: كنّا نقول علي عهد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: أبوبكر ثمّ عمر ثمّ عثمان ثمّ نسكت، يعني لا نفاضل، وهو الذي أنكر ابن معين وتكلّم فيه بكلامٍ غليظ، لأنّ القائل بذلك قد قال بخلاف ما اجتمع عليه أهل السنّة من السلف والخلف من أهل الفقه والأثر: إنّ عليّاً أفضل الناس بعد عثمان، هذا ممّا لم يختلفوا فيه، وإنّما اختلفوا أيّهما أفضل علي أو عثمان، واختلف السّلف أيضاً في تفضيل علي وأبي بكر.

وفي إجماع الجميع الذي وصفنا دليل علي أنّ حديث ابن عمر وهم استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 453

غليظ، وأنّه لا يصحّ معناه وإنْ كان إسناده صحيحاً، ويلزم من قال به أنْ يقول بحديث جابر وأبي سعيد: كنّا نبيع امّهات الأولاد علي عهد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وهم لا يقولون بذلك. فقد ناقضوا، وباللَّه التوفيق» «1».

حديث أخذ الأجر علي كتاب اللَّه … ص: 453

(ومنها) ما أخرجه البخاري في كتاب الطب:

«حدّثنا سيدان بن مضارب أبو محمّد الباهلي قال: حدّثنا أبو معشر يوسف ابن يزيد البراء قال: حدّثني عبيداللَّه بن الأخنس أبو مالك، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عبّاس: إنّ نفراً من أصحاب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم مرّوا بماءٍ فيهم لديغ أو سليم، فعرض لهم رجل من أهل السماء فقال: هل فيكم من راق؟ إنّ في الماء رجلًا

لديغاً أو سليماً. فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب علي شاء، فبرأ، فجاء بالشاء إلي أصحابه، فكرهوا ذلك قالوا:

أخذت علي كتاب اللَّه أجراً، حتّي قدموا المدينة فقالوا: يا رسول اللَّه، أخذ علي كتاب اللَّه أجراً! فقال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ أحقّ ما أخذتم عليه أجراً كتاب اللَّه» «2».

وهذا الحديث أورده أبوالفرج ابن الجوزي برواية عائشة في كتاب (الموضوعات) «3».

__________________________________________________

(1) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3: 1116.

(2) صحيح البخاري 7: 241.

(3) كتاب الموضوعات 1: 229.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 454

حديث أسباط في الاستسقاء … ص: 454

(ومنها) ما أخرجه- بعد رواية ابن مسعود- في استسقاء الكفّار: عن مسروق قال:

«أتيت ابن مسعود فقال: إنّ قريشاً أبطؤا عن الإسلام، فدعا عليهم النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، فأخذتهم سنة حتّي هلكوا فيها، وأكلوا الميتة والعظام، فجاء أبوسفيان فقال: يا محمّد، جئت تأمر بصلة الرحم، وإنّ قومك قد هلكوا، فادع اللَّه، فقرأ: «فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين» الآية. ثمّ عادوا إلي كفرهم، فذلك قوله تعالي: «يوم نبطش البطشة الكبري» يوم بدر-:

وزاد أسباط عن منصور: فدعا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فسقوا الغيث، فأطبقت عليهم سبعاً، وشكا الناس كثرة المطر فقال: اللّهمّ حوالينا ولا علينا، فانحدرت السحابة عن رأسه، فسقوا الناس حولهم» «1».

وقد تكلّم الأئمّة في هذه الزيادة:

قال العيني: «واعترض علي البخاري بزيادة أسباط هذا.

فقال الداودي: أدخل قصّة المدينة في قصّة قريش وهو غلط.

وقال أبو عبدالملك: الذي زاده أسباط وهم واختلاط، لأنّه ركّب سند عبداللَّه بن مسعود علي متن حديث أنس بن مالك، وهو قوله: فدعا رسول اللَّه فسقوا الغيث. إلي آخره.

وكذا قال الحافظ شرف الدين الدمياطي وقال: حديث عبداللَّه بن مسعود كان بمكة، وليس فيه هذا.

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 2: 74-

75.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 455

والعجب من البخاري كيف أورد هذا وكان مخالفاً لما رواه الثقات؟

وقد ساعد بعضهم البخاري بقوله: لا مانع أن يقع ذلك مرّتين.

وفيه نظر لا يخفي.

وقال الكرماني: فإنْ قلت: قصّة قريش والتماس أبي سفيان كانت في مكة لا في المدينة. قلت: القصة مكيّة، إلّاالقدر الذي زاد أسباط، فإنّه وقع في المدينة» «1».

حديث تكثر لكم الأحاديث من بعدي … ص: 455

(ومنها) حديث نصّ التفتازاني علي إيراد البخاري إيّاه في صحيحه، وقد طعن فيه المحدّثون، وقال يحيي بن معين بأنّه حديث وضعته الزنادقة، وهو قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «تكثر لكم الأحاديث من بعدي، فإذا روي لكم حديث فأعرضوه علي كتاب اللَّه» ذكر ذلك كلّه التفتازاني في (التلويح- شرح التوضيح) في كلام له حيث قال:

«قوله: وإنّما يرد خبر الواحد في معارضة الكتاب، لأنّه مقدّم لكونه قطعيّاً متواتر النظم لا شبهة في متنه ولا في سنده، لكنّ الخلاف إنّما هو في عمومات الكتاب وظواهرها، فمن يجعلها ظنّيّة يعتبر بخبر الواحد إذا كان علي شرائطه عملًا بالدليلين، ومن يجعل العام قطعيّاً، فلا يعمل بخبر الواحد في معارضته، ضرورة أنّ الظنّي يضمحلّ بالقطعي، فلا ينسخ الكتاب به ولا يزاد عليه أيضاً، لأنّه بمنزلة النسخ.

واستدلّ علي ذلك بقوله عليه السلام: تكثر لكم الأحاديث من بعدي،

__________________________________________________

(1) عمدة القاري في شرح صحيح البخاري 7: 27- 29.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 456

فإذا روي لكم حديث فأعرضوه علي كتاب اللَّه، فما وافق كتاب اللَّه فاقبلوه وما خالفه فردّوه.

واجيب: بأنّه خبر واحد قد خصّ منه البعض، أعني المتواتر والمشهور، فلا يكون قطعيّاً، فكيف يثبت به مسألة الاصول؟ علي أنّه ممّا يخالف عموم قوله تعالي: «وما آتاكم الرسول فخذوه».

وقد طعن فيه المحدّثون بأنّ في رواته يزيد

بن ربيعة، وهو مجهول، وترك في إسناده واسطة بين الأشعب وثوبان فيكون منقطعاً.

وذكر يحيي بن معين: إنّه حديث وضعته الزنادقة.

وإيراد البخاري إيّاه في صحيحه لا ينافي الإنقطاع أو كون أحد رواته غير معروفٍ بالرواية» «1».

حديث تحريم المعازف … ص: 456

(ومنها) حديث رواه ابن حزم عن البخاري وحكم بوضعه، قال:

«ومن طريق البخاري: قال هشام بن عمّار، نا صدقة بن خالد، نا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، نا عطية بن قيس الكلابي، نا عبدالرحمن بن غنم الأشعري، حدّثني أبوعامر أو أبو مالك الأشعري- وواللَّه ما كذبني- إنّه سمع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: ليكوننَّ من امّتي قوم يستحلّون الحرير والخمر والمعازف.

وهذا منقطع، لم يتّصل مابين البخاري وصدقة بن خالد، ولا يصحّ في __________________________________________________

(1) التلويح في شرح التوضيح 2: 21.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 457

هذا الباب شي ء أبداً، وكلّ ما فيه فموضوع» «1».

حديث المؤمن لا يزني حين يزني … ص: 457

(ومنها) ما أخرجه البخاري في كتاب الأشربة قال:

«حدّثنا أحمد بن صالح قال: ثنا ابن وهب قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: سمعت أبا سلمة عن عبدالرحمن وابن المسيّب يقولان: قال أبوهريرة: إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: المؤمن لا يزني حين يزني وهو مؤمن» «2».

وهذا الحديث كذَّبه أبو حنيفة، كما في كتاب (العالم والمتعلّم) «3»، فقد جاء فيه:

«قال المتعلّم: ما قولك في اناس رووا أنّ المؤمن إذا زني خلع الإيمان من رأسه كما يخلع القميص، ثمّ إذا تاب أعاد اللَّه إيمانه، أتشكّ في قولهم أو تصدّقهم؟ فإن صدّقت قولهم دخلت في قول الخوارج، وإن شككت في قولهم شككت في قول الخوارج ورجعت عن العدل الذي وصفت، وإن كذّبت قولهم الذي قالوا: كذّبت بقول النبي عليه السلام، فإنّهم رووا عن رجال شتّي حتّي انتهي به إلي رسول اللَّه عليه السلام.

قال العالم: كذب هؤلاء، ولايكون تكذيبي هؤلاء وردّي عليهم تكذيباً

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 7: 193.

(2) صحيح البخاري 7: 190.

(3) هذا الكتاب لأبي حنيفة، والمقصود من «العالم» أبو حنيفة، ومن «المتعلّم» تلميذه:

أبو مطيع البلخي وهو راوي الكتاب.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 458

للنبي عليه السلام، إنّما يكون التكذيب لقول النبي عليه السلام أن يقول الرجل أنا مكذّب للنبي عليه السلام، وأمّا إذا قال أنا مؤمن بكلّ شي ء تكلّم به النبي عليه السلام، غير أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لم يتكلّم بالجور ولم يخالف القرآن، فهذا من التصديق بالنبي وبالقرآن وتنزيه له من الخلاف علي القرآن، ولو خالف النبي عليه السلام القرآن وتقوّل علي اللَّه، لم يدعه تبارك وتعالي حتّي يأخذه باليمين ويقطع منه الوتين، كما قال تعالي في القرآن، ونبيّ اللَّه لا يخالف كتاب اللَّه، ومخالف كتاب اللَّه لا يكون نبيّ اللَّه.

وهذا الذي رووه خلاف القرآن، ألا تري إلي قوله تعالي: «الزّانية والزّاني» «1»

ثمّ قال: «اللّذان يأتيانها منكم» «2»

ولم يعن به من اليهود ولا من النصاري، ولكن عني به من المسلمين.

فردّي علي كلّ رجل يحدّث عن النبي عليه السلام بخلاف القرآن، ليس ردّاً علي النبي ولا تكذيباً له، ولكن ردّاً علي من يحدّث عن النبي عليه السلام بالباطل، والتهمة دخلت عليه لا علي نبيّ اللَّه، وكلّ شي ء تكلّم به النبي عليه السلام سمعنا به أو لم نسمعه، فعلي الرأس والعين، قد آمنّا به ونشهد أنّه كما قال النبي عليه السلام، ونشهد أيضاً علي النبي عليه السلام أنّه لم يأمر بشي ء نهي اللَّه عنه يخالف أمر اللَّه تعالي، ولم يقطع شيئاً وصله اللَّه تعالي ولا وصف أمراً وصف اللَّه تعالي ذلك الأمر بخلاف ما وصفه النبي عليه السلام، ونشهد أنّه كان موافقاً للَّه عزّ وجلّ في جميع الامور، لم يبتدع ولم يتقوّل غير ما قال اللَّه تعالي، ولا كان من المتكلّفين، ولذلك قال اللَّه تعالي: «من يطع

الرسول __________________________________________________

(1) سورة النور 24: 2.

(2) سورة النساء 4: 16.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 459

فقد أطاع اللَّه» «1»».

حديث شريك في الإسراء … ص: 459

(ومنها) حديث البخاري عن شريك في إسراء رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وهذا لفظه:

«حدّثنا عبدالعزيز بن عبداللَّه قال: حدّثني سليمان، عن شريك بن عبداللَّه، أنّه قال: سمعت أنس بن مالك يقول: ليلة اسري برسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم من مسجد الكعبة، إنّه جاءه ثلاثة نفر، قبل أن يوحي إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أوّلهم: أيّهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم. فقال آخرهم: خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة، فلم يرهم حتّي أتوه ليلة اخري فيما يري قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، فلم يكلّموه حتّي احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم، فتولّاه منهم جبرئيل، فشقّ جبرئيل مابين نحره إلي لبّته حتّي فرغ من صدره وجوفه، فغسله من ماء زمزم بيده حتّي أنقي جوفه، ثمّ اتي بطست من ذهب فيه نور من ذهب مَحْشُوٌّ إيماناً وحكمة، فحشا به صدره ولغاديده- يعني عروق حلقه- ثمّ أطبقه، ثمّ عرج به إلي السماء الدنيا، فضرب باباً من أبوابها، فناداه أهل السماء: من هذا؟ فقال جبرئيل: قالوا: ومن معك؟ قال: معي محمّد، قالوا:

وقد بعث؟ قال: نعم، قالوا: فمرحباً به … » «2».

__________________________________________________

(1) سورة النساء 4: 80.

(2) صحيح البخاري 9: 265 كتاب التوحيد.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 460

وأخرجه مسلم قال: «حدّثنا هارون بن سعيد الأيلي، ثنا ابن وهب، قال:

أخبرني سليمان- وهو ابن بلال- قال: حدّثني شريك بن عبداللَّه بن أبي نمر قال: سمعت أنس بن مالك، يحدّثنا عن ليلة اسري برسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم من مسجد الكعبة:

أنّه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحي إليه، وهو نائم في المسجد الحرام. وساق الحديث بقصّته نحو حديث ثابت البناني، وقدّم فيه شيئاً وأخّر وزاد ونقص» «1».

قال النووي بشرحه:

«قوله: وذلك قبل أن يوحي إليه. وهو غلط لم يوافق عليه، فإنّ الإسراء أقلّ ما قيل فيه أنّه كان بعد مبعثه بخمسة عشر شهراً. وقال الحربي: كان ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة. وقال الزهري: كان ذلك بعد مبعثه بخمس سنين. وقال ابن إسحاق: اسري به وقد فشا الإسلام بمكة والقبائل.

وأشبه هذه الأقوال قول الزهري وابن إسحاق، إذ لم يختلفوا أنّ خديجة صلّت معه بعد فرض الصلاة عليه، ولا خلاف في أنّها توفّيت قبل الهجرة بمدّةٍ قيل بثلاث سنين وقيل بخمس.

ومنها: إنّ العلماء مجمعون علي أنّ فرض الصّلاة كان ليلة الإسراء، فكيف يكون هذا قبل أن يوحي إليه؟

وأمّا قوله- في رواية شريك-: وهو نائم، وفي رواية الاخري: بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان، فقد يحتجّ به من يجعلها رؤيا نوم، ولا حجّة فيه، إذْ قد يكون ذلك حالة أوّل وصول الملك إليه، وليس في الحديث ما يدلّ علي كونه نائماً في القصّة كلّها.

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم 1: 148/ 262 باب بدء الوحي من كتاب الإيمان.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 461

هذا كلام القاضي. وهذا الذي قاله في رواية شريك وأنّ أهل العلم أنكروها قد قاله غيره.

وقد ذكر البخاري رواية شريك هذه عن أنس في كتاب التوحيد من صحيحه، وأتي بالحديث مطوّلًا.

قال الحافظ عبدالحق في كتابه الجمع بين الصحيحين- بعد ذكر هذه الرواية- هذا الحديث بهذا اللفظ من رواية شريك بن أبي نمر عن أنس. وقد زاد فيه زيادةً مجهولةً، وأتي فيه بألفاظٍ

غير معروفة. وقد روي حديث الإسراء جماعة من الحفّاظ المتقنين والأئمّة المشهورين، كابن شهاب وثابت البناني وقتادة- يعني عن أنس- فلم يأت أحد منهم بما أتي به شريك، وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث. قال: والأحاديث التي تقدّمت قبل هذا هي المعوّل عليها. هذا كلام الحافظ عبدالحق» «1».

وقال الكرماني بشرحه:

«قال النووي: جاء في رواية شريك أوهام أنكرها العلماء، من جملتها:

أنّه قال: ذلك قبل أن يوحي إليه، وهو غلط لم يوافق عليه. وأيضاً: العلماء أجمعوا علي أنّ فرض الصلاة كان ليلة الإسراء، فكيف يكون قبل الوحي؟

أقول: وقول جبرئيل في جواب بوّاب السماء إذ قال: أبعث؟ نعم، صريح في أنّه كان بعده» «2».

وقال ابن قيّم الجوزيّة:

«فصلٌ- قال الزهري: عرج بروح رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم إلي __________________________________________________

(1) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج، باب بدء الوحي، المجلّد 1 ج 2: 209- 210.

(2) الكواكب الدراري في شرح البخاري 25: 204.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 462

بيت المقدس وإلي السماء قبل خروجه إلي المدينة بسنةٍ، وقال ابن عبدالبر وغيره: كان بين الإسراء والهجرة سنة وشهران. إنتهي. وكان الإسراء مرّةً واحدةً وقيل: مرّة يقظة ومرّةً مناماً، وأرباب هذا القول كأنّهم أرادوا أنْ يجمعوا بين حديث شريك وقوله ثمّ استيقظت، وبين سائر الروايات، ومنهم من قال: بل كان هذا مرّتين، مرّةً قبل الوحي، لقوله في حديث شريك: وذلك قبل أنْ يوحي إليه. ومرّةً بعد الوحي، كما دلّت عليه سائر الأحاديث، ومنهم من قال:

بل ثلاث مرّات، مرّةً قبل الوحي ومرّتين بعده.

وكلّ هذا خبط، وهذه طريقة ضعفاء الظاهريّة من أرباب النقل الذين إذا رأوا في القصّة لفظةً تخالف سياق بعض الروايات جعلوه مرّةً اخري، فكلّما اختلفت عليهم الروايات عدّدوا الوقائع.

والصواب الذي

عليه أئمّة النقل: أنّ الإسراء كان مرّةً واحدةً بمكة بعد البعثة.

ويا عجباً لهؤلاء الذين زعموا أنّه مراراً كيف ساغ لهم أنْ يظنّوا أنّه في كلّ مرّة تفرض عليه الصلاة خمسين، ثمّ يتردّد بين ربّه وبين موسي حتّي تصير خمساً ثمّ يقول: أمضيت فريضتي وخفّفت عن عبادي، ثمّ يعيدها في المرّة الثانية إلي خمسين، ثمّ يحطّها عشراً عشراً.

وقد غلّط الحفّاظ شريكاً في ألفاظٍ من حديث الإسراء، ومسلم أورد المسند منه ثمّ قال: فقدّم وأخّر وزاد ونقص، ولم يورد الحديث فأجاد رحمه اللَّه» «1».

__________________________________________________

(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 3: 41- 42 فصلٌ في المعراج النبوي.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 465

صحيح مسلم … ص: 465

اشارة

وأمّا مسلم بن الحجّاج … فإنّه- كما قالوا- كان يرتكب الغمز بالرجال الصادقين الثقات عندهم بلا حجّة، ومن ذلك ما كان منه في «إبراهيم بن عبداللَّه السعدي» قال الذهبي: «إبراهيم بن عبداللَّه السعدي النيسابوري، صدوق، له عن يزيد بن هارون ونحوه.

قال أبو عبداللَّه الحاكم: كان يستخفُّ بمسلم، فغمزه مسلم بلا حجّة» «1».

ولا ريب أنّ هذا يضرّ بعدالة مسلم ويمنع من الإعتماد عليه وعلي رواياته في كتابه، ولذا قال ابن الجوزي: «ومن تلبيس إبليس علي أصحاب الحديث: قدح بعضهم في بعض، طلباً للتشفّي، ويخرجون ذلك مخرج الجرح والتعديل الذي استعملت قدماء هذه الامّة للذبّ عن الشرع» «2».

أبو زرعة الرازي وصحيح مسلم … ص: 465

هذا، وقد اشتهر بين الأعلام طعن الإمام أبي زرعة الرازي وتكلّمه في كتاب مسلم بن الحجّاج، ففي ترجمة أحمد بن عيسي المصري من (التهذيب) و (الميزان): «قد قال سعيد البردعي: شهدت أبازرعة ذُكر عنده صحيح مسلم فقال: هؤلاء قوم أرادوا التقدّم قبل أوانه، فعملوا شيئاً

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 44.

(2) تلبيس إبليس: 135.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 466

يتسوّقون به» «1».

وقال أبوالفضل الأدفوي في (الإمتاع): «وكان أبو زرعة يذمّ وضع كتاب مسلم ويقول: كيف تسمّيه الصحيح وفيه فلان وفلان؟ فذكر جماعة».

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 126.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 467

الموضوعات في صحيح مسلم … ص: 467

اشارة

وبعد الوقوف علي طرفٍ من أسباب القدح في مسلم بن الحجّاج، وعلي طعن من مثل أبي زرعة في كتابه عموماً، فلابدّ من إيراد بعض أحاديثه الموضوعة والباطلة:

حديث الضحضاح … ص: 467

فمن أحاديثه الموضوعة والمكذوبة: حديثه في أنّ أباطالب في ضحضاحٍ من النار، قال: «حدّثنا عبيداللَّه بن عمر القواريري ومحمّد بن أبي بكر المقدمي ومحمّد بن عبدالملك الأموي قالوا: حدّثنا أبو عوانة، عن عبدالملك بن عمير، عن عبداللَّه بن الحارث بن نوفل، عن العبّاس بن عبدالمطّلب أنّه قال: يا رسول اللَّه، هل نفعت أباطالب بشي ءٍ، فإنّه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: نعم، هو في ضحضاحٍ من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» «1».

وهذه الأحاديث التي أخرجها البخاري ومسلم كلّها موضوعة مفتراة، قد وضعت للطعن في أميرالمؤمنين عليه السلام والتنقيص في شأنه، ولأجل رفع شأن أبي بكر بن أبي قحافة …

إنّه ليكفي لتكذيب ما رووه في موت سيّدنا أبي طالب علي الكفر: ما

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم 1: 134 كتاب الإيمان- باب شفاعة النبي لأبي طالب.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 468

رواه ابن سعد في الطبقات قال: «حدّثني الواقدي قال: قال علي: لمّا توفّي أبوطالب أخبرت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فبكي بكاءً شديداً، ثمّ قال:

«إذهب فاغسله وكفّنه وواره، غفر اللَّه له ورحمه.

فقال له العبّاس: يا رسول اللَّه، إنّك ترجو له؟

فقال: إي واللَّه إنّي لأرجو له.

وجعل رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يستغفر له أيّاماً لا يخرج من بيته.

وقال الواقدي: قال ابن عبّاس: عارض رسول اللَّه جنازة عمّه أبي طالب وقال:

وصلتك رحم وجزاك اللَّه خيراً» «1».

هذا، وقد أجمع أهل البيت عليهم السلام علي إيمان سيّدنا أبي طالب، وإجماعهم حجّة قطعيّة كما تقرّر في محلّه، وقد ذكر علماء السنّة إجماعهم علي ذلك،

ففي (روضة الأحباب) عن ابن الأثير في (جامع الاصول) قوله:

«زعم أهل البيت أنّ أباطالب مات مسلماً، واللَّه أعلم بصحّته».

علي أنّ أهل السنّة يدّعون المتابعة لأهل البيت والإنقياد لهم، كما جاء في كتبهم، بشرح «حديث الثقلين» وبذيل حديث «مثل أهل بيتي كسفينة نوح»، فإنْ كانوا صادقين في دعواهم تلك، فلا محالة لا يخالفون أهل البيت في إجماعهم علي إيمان أبي طالب عليه السلام.

علي أنّ أحاديث مسلم في هذا الباب متناقضة متهافتة، إذ الحديث المذكور يدلّ علي أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله قد شفع له قبل القيامة وأخرجه بالفعل من غمرات العذاب إلي ضحضاحٍ من نارٍ، وحديث أبي سعيد

__________________________________________________

(1) الطبقات الكبري 1: 123- 124.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 469

صريحٌ في عدم وقوع الشفاعة في حقّه وأنّ عذابه لم يخفّف، بل إنّ النبي يرجو أن تناله شفاعته في يوم القيامة وتنفعه في خروجه من الدركات السافلة إلي الضحضاح … فكان بعض تلك الأحاديث صريحاً في وقوع تخفيف العذاب عن أبي طالب بالفعل وبعض صريحاً في عدم حصول التخفيف، فتهافتا وتناقضا بكلّ وضوح.

الحديث الدالّ علي تعيين أبي بكر للخلافة!! … ص: 469

ومن ذلك: حديثه المتضمّن تعيين النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أبابكر للخلافة من بعده، وهو حديث موضوع مفتري قطعاً. قال في كتاب المناقب:

«حدّثني عبيداللَّه بن سعيد، حدّثنا يزيد بن هارون، أخبرنا إبراهيم بن سعد، حدّثنا صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عروة عن عائشة- رضي اللَّه عنها- قالت: قال لي رسول اللَّه في مرضه: ادعي لي أبابكر أباك وأخاك حتّي أكتب كتاباً، فإنّي أخاف أن يتمنَّ متمنٍّ ويقول القائل: أنا أولي، ويأبي اللَّه والمؤمنون إلّاأبابكر» «1».

وهذا الحديث أخرجه البخاري أيضاً، ولفظه في كتاب المرضي:

«لقد هممت أو أردت أن أرسل إلي أبي بكر

وابنه وأعهد أن يقول القائلون أو يتمنّي المتمنّون، ثمّ قلت: يأبي اللَّه ويدفع المؤمنون، أو يدفع اللَّه ويأبي المؤمنون» «2».

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم 4: 1857/ 2387.

(2) صحيح البخاري 7: 218.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 470

وهذا الحديث الذي قال النووي بشرحه: «في هذا الحديث دلالة ظاهرة لفضل أبي بكر الصدّيق رضي اللَّه عنه، وإخبار منه صلّي اللَّه عليه وسلّم بما سيقع في المستقبل بعد وفاته، وأنّ المسلمين يأبون عقد الخلافة لغيره» «1» ظاهر الكذب والبطلان، لاتّفاق القوم أنفسهم علي أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم لم ينصّ علي أبي بكر بالخلافة، ولو كان مثل هذا الكلام صادراً منه حقّاً لما احتجّوا بالأباطيل الواهيات، ولما وقعت الإختلافات والنزاعات …

ولقد نصّ النووي- بشرح حديث: من كان رسول اللَّه مستخلفاً لو استخلفه؟-: علي أنّ «فيه دلالة لأهل السنّة أنّ خلافة أبي بكر ليست بنصٍّ من النبي علي خلافته صريحاً، بل أجمعت الصحابة علي عقد الخلافة له وتقديمه بفضله، ولو كان هناك نصّ عليه أو علي غيره لم يقع المنازعة من الأنصار وغيرهم أوّلًا، ولذكر حافظ النص ما معه، ولرجعوا، ولكنْ تنازعوا أوّلًا ولم يكن هناك نص، ثمّ اتفقوا علي أبي بكر واستقرّ الأمر.

وأمّا ما تدّعيه الشيعة من النص علي علي والوصيّة إليه، فباطل لا أصل له باتّفاق المسلمين، والإتفاق علي بطلان دعواهم في زمن علي، وأوّل من كذّبهم علي بقوله: ما عندنا إلّاما في هذه الصحيفة» «2».

فتراه يستدلّ بما كان في السقيفة، ولو كان ما أورده مسلم صحيحاً لما احتاج إلي ذلك!!

وعلي الجملة، فإنّ هذا الحديث لو صحّ لاستدلّ به القوم علي إمامة

__________________________________________________

(1) شرح مسلم للنووي 15: 155.

(2) شرح مسلم للنووي 15: 154- 155.

استخراج المرام من استقصاء الافحام،

ج 2، ص: 471

أبي بكر ولم يقولوا بعدم النصّ علي خلافته، ولم يتشبّثوا بالخرافات والأباطيل الاخري، فإنّه حتّي لو كان وارداً مورد الإخبار عن الغيب، لكان الإستدلال به دون غيره أولي وأحري …

وقد نصّ أبوالسعادات ابن الأثير أيضاً علي عدم النصّ علي أبي بكر حيث قال: «ولا يصدّق الشيعة بنقل النص علي إمامة علي كرّم اللَّه وجهه والبكرية علي إمامة أبي بكر رضي اللَّه عنه، لأنّ هذا وضعه الآحاد أوّلًا وأفشوه، ثمّ كثر الناقلون في عصره وبعده من الأعصار، فلذلك لم يحصل التصديق» «1».

فوا أسفاه علي البخاري ومسلم، إذْ اشرب في قلوبهما حبّ الشيخين، فنقلا مثل هذه الأكاذيب والخرافات، التي نصّ أئمّتهم علي كونها من افتراءات البكريّة وأخبارهم الموضوعات.

حديث أنّ عمر أوّل من أمر بالأذان … ص: 471

ومن ذلك: ما أخرجه مسلم في كتاب الصّلاة، باب بدء الأذان:

«حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال: حدّثنا محمّد بن بكر، ح وحدّثنا محمّد بن رافع قال: حدّثنا عبدالرزاق قال: أخبرنا ابن جريج، ح وحدّثني هارون ابن عبداللَّه- واللفظ له- قال: حدّثنا حجّاج بن محمّد قال:

قال ابن جريج: أخبرني نافع مولي ابن عمر، عن عبداللَّه بن عمر أنّه قال: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحيّنون الصّلوات، وليس ينادي بها أحد، فتكلّموا يوماً في ذلك، فقال بعضهم: اتّخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصاري، وقال بعضهم: قرناً مثل قرن اليهود، فقال عمر: أولا تبعثون منادياً

__________________________________________________

(1) جامع الاصول 1: 121.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 472

ينادي بالصّلاة. قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: يا بلال قم فناد بالصّلاة» «1».

وهذا حديث موضوع، وضعه من يسعي وراء جعل المناقب لعمر بن الخطّاب، وهو ينافي ما وضعوه في الأذان من أنّ تشريعه كان برؤيا رآها رجل من الأنصار، كما في سنن أبي داود وغيره.

علي

أنّ الحقّ ما روي عن أميرالمؤمنين عليه السلام من أنّ تشريع الأذان كان في ليلة الإسراء، وقد أذّن جبرئيل في بيت المقدس، وما سواه فمن وضع الملحدين.

حديثان متناقضان في موضع صلاة النبي الظهر في حجّة الوداع … ص: 472

ومن ذلك: حديثان متناقضان أخرجهما مسلم، وأخرج البخاري أحدهما، في موضع صلاة النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم الظهر يوم النحر في حجّة الوداع، فأخرج عن عائشة وجابر أنّه صلّاها بمكّة، وأخرج هو والبخاري عن ابن عمر أنّه صلّاها بمني، قال القاري في كتابه في (الرجال): «قال ابن حزم في هاتين الروايتين: إحداهما كذب بلا شك».

وقد اختلف القوم في تعيين الصدق من الكذب منهما، وقد شرح ابن القيّم اختلافهم في المقام حيث قال: «فصل: ثمّ رجع إلي مني، واختلف أين صلّي الظهر يومئذ، ففي الصحيحين عن ابن عمر أنّه أفاض يوم النحر ثمّ رجع فصلّي الظهر بمني، وفي صحيح مسلم عن جابر أنّه صلّي الظهر بمكّة، وكذلك قالت عائشة، واختلف في ترجيح أحد هذين القولين علي الآخر، فقال أبو

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم 1: 285.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 473

محمّد ابن حزم: قول عائشة وجابر أولي، وتبعه علي هذا جماعة ورجّحوا هذا القول بوجوه:

أحدها: إن راويه اثنان، وهما أولي من الواحد.

الثاني: أنّ عايشة أخصّ الناس به، ولها من القرب والإختصاص والمزيّة ما ليس لغيرها.

الثالث: أنّ سياق جابر لحجّة النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم من أوّلها إلي آخرها أتمّ سياق، وقد حفظ القصّة وضبطها حتّي ضبط جزئيّاتها، حتّي ضبط منها أمراً لا يتعلّق بالمناسك، وهو نزول النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم ليلة جمع الطريق، فقضي حاجته عند الشعب ثمّ توضّأ وضوءاً خفيفاً، فمن ضبط هذا القدر فهو يضبط مكان صلاته يوم النحر بطريق أولي.

الرابع: أنّ حجّة الوداع كانت في

آذار، وهي تساوي الليل والنهار، وقد خرج من مزدلفة قبل طلوع الشمس إلي مني وخطب بها الناس، ونحر بُدناً عظيمة وقسمها، وطبخ له من لحمها وأكل منه، ورمي الجمرة وحلق رأسه وتطيّب وخطب ثمّ أفاض، فطاف وشرب من ماء زمزم ومن نبيذ السقاية ووقف عليهم وهم يسقون، وهذه أعمال يبدو في الأظهر أنّها لا تنقضي في مقدار يمكن معه الرجوع إلي مني بحيث يدرك وقت الظهر في فصل آذار.

الخامس: إنّ هذين الحديثين جاريان مجري الناقل والمبقي، فإنّ عادته صلّي اللَّه عليه وسلّم كانت في حجّته صلاته في منزله الذي هو نازل فيه بالمسلمين، فجري ابن عمر علي العادة، وضبط جابر وعائشة الأمر الذي هو خارج عن عادته، فهو أولي بأن يكون هو المحفوظ.

ورجحت طائفة اخري قول ابن عمر لوجوه:

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 474

أحدها: أنّه لو صلّي الظهر بمكّة لم يُصَلِّ أصحابه بمني وحداناً ولا زرافات، بل لم يكن لهم بدّ من الصلاة خلف إمام يكون نائباً عنه، ولم ينقل هذا أحد قط، ولم يقل أحد أنّه استناب من يصلّي بهم، ولولا علمه أنّه يرجع إليهم فيصلّي بهم لقال: إن حضرت الصّلاة ولست عندكم فليصلّ بكم فلان، وحيث لم يقع هذا ولا هذا، ولا صلّي الصحابة هناك وحداناً قطعاً، ولا كان من عادتهم إذا اجتمعوا أن يصلّوا عزين، علم أنّهم صلّوا معه علي عادتهم.

الثاني: إنّه لو صلّي بمكّة، لكان خلفه بعض أهل البلد وهو مقيم، وكان يأمرهم أن يتمّوا صلاتهم، ولنقل أنّهم قاموا فأتمّوا بعد سلامه صلاتهم، وحيث لم ينقل هذا ولا هذا بل هو معلوم الإنتفاء قطعاً، علم أنّه لم يصلّ قطعاً حينئذٍ بمكّة.

وما نقله بعض من لا علم له أنّه قال:

يا أهل مكّة أتمّوا صلاتكم فإنّا قوم سفر، فإنّما قاله عام الفتح لا في حجّته.

الثالث: إنّه من المعلوم أنّه لمّا طاف ركع ركعتي الطواف، ومعلوم أنّ كثيراً من المسلمين كانوا خلفه يقتدون به في أفعاله ومناسكه، فلعلّه لمّا ركع ركعتي الطواف والناس خلفه يقتدون به، ظنّ الظانّ أنّها صلاة الظهر، ولاسيّما إذا كان ذلك في وقت الظهر، وهذا الوهم لا يمكن دفع احتماله، بخلاف صلاته بمني فإنّها لا تحتمل غير الفرض.

الرابع: إنّه لا يحفظ عنه في حجّه أنّه صلّي الفرض بجوف مكّة، بل إنّما كان يصلّي بمنزله بالمسلمين مدّة مقامه، كان يصلّي بهم أين نزلوا، لا يصلّي في مكان آخر غير المنزل العام.

الخامس: إنّ حديث ابن عمر متفق عليه، وإنّ حديث جابر من أفراد

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 475

مسلم، فحديث ابن عمر أصحّ منه، وكذلك هو في إسناده، فإنّ راويه أحفظ وأشهر وأنفق، فأين يقع حاتم بن إسماعيل من عبيداللَّه؟ وأين يقع جعفر من حفظ نافع؟

السادس: إنّ حديث عائشة قد اضطربت في وقت طوافه، فروي عنها علي ثلاثة أوجه: أحدها أنّه طاف نهاراً، الثاني: أنّه أخّر الطواف إلي الليل، الثالث: أنّه أفاض من آخر يومه، فلم يضبط فيه وقت الإفاضة، ولا مكان الصّلاة، بخلاف حديث ابن عمر.

السابع: إنّ حديث ابن عمر أصحّ منه بلا نزاع، فإنّ حديث عائشة من رواية محمّد بن إسحاق، عن عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه عنها، وابن إسحاق مختلف في الإحتجاج به، ولم يصرّح بالسماع بل عنعنه، فكيف يقدم علي قول عبيداللَّه حدّثني نافع عن ابن عمر؟

الثامن: إنّ حديث عائشة ليس بالبيّن إنّه صلّي الظهر بمكّة، فإنّ لفظه هكذا: أفاض رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في آخر يوم

صلّي الظهر ثمّ رجع إلي مني، فمكث فيها ليالي أيّام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس، كلّ جمرة بسبع حصيات، فأين دلالة هذا الحديث الصريحة علي أنّه صلّي الظهر يومئذ بمكّة؟ وأين هذا في صريح الدلالة إلي قول ابن عمر أفاض يوم النحر ثمّ صلّي الظهر بمني راجعاً؟ وأين حديث اتفق أصحاب الصحيح علي إخراجه إلي حديث اختلف في الإحتجاج به؟ واللَّه أعلم» «1».

__________________________________________________

(1) زاد المعاد 2: 280 كيفيّة حجّة الوداع.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 476

حديث في أوّل ما نزل من القرآن … ص: 476

ومن ذلك: ما أخرجه في أنّ أوّل ما نزل من القرآن «يا أيّها المدّثّر» وقد صرّح النووي بأنّه ضعيف بل باطل … قال ولي الدين أبو زرعة أحمد بن زين الدين عبدالرحيم العراقي في شرح حديث بدء الوحي من (شرح الأحكام الصغري): «فيه دلالة واضحة علي أنّ أوّل ما نزل من القرآن «إقرأ». وقد صحّ ذلك عن عائشة، وروي عن أبي موسي الأشعري وعبيد بن عمير، قال النووي: وهو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف. وفيه قولان آخران: أحدهما إنّ أوّل ما نزل «يا أيّها المدّثّر» رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبداللَّه وأبي سلمة بن عبدالرحمن، قال النووي: وهو ضعيف بل باطل … ».

حديث في فضائل أبي سفيان … ص: 476

ومن ذلك: ما أخرجه في فضائل أبي سفيان وهذه عبارته:

«حدّثنا عبّاس بن عبدالعظيم العنبري وأحمد بن جعفر المعقري قالا:

حدّثنا النضر- وهو ابن محمّد اليمامي- قال: حدّثنا عكرمة، حدّثنا أبو زميل، حدّثني ابن عبّاس قال: كان المسلمون لا ينظرون إلي أبي سفيان ولا يقاعدونه، فقال لنبي اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: يا نبي اللَّه، ثلاث أعطنيهنّ، قال: نعم، قال: عندي أحسن العرب وأجمله ام حبيبة بنت أبي سفيان ازوّجكها. قال: نعم، قال: معاوية تجعله كاتباً بين يديك، قال: نعم، قال:

وتؤمّرني حتّي اقاتل الكفّار كما كنت اقاتل المسلمين. قال: نعم. قال أبو زميل:

ولولا أنّه طلب ذلك من النبي ما أعطاه ذلك، لأنّه لم يكن يُسئل شيئاً إلّا

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 477

قال: نعم» «1».

قال في (زاد المعاد):

«وأمّا حديث عكرمة بن عمّار: عن أبي زميل، عن ابن عبّاس: إنّ أباسفيان قال للنبي …

فهذا الحديث غلط ظاهر لا خفاء به.

قال أبو محمّد ابن حزم: وهو موضوع بلا شك، كذبه عكرمة بن عمّار.

قال ابن

الجوزي- في هذا الحديث-: هو وهم من بعض الرواة، لا شكّ فيه ولا تردّد.

وقد اتّهموا به عكرمة بن عمّار، لأنّ أهل التواريخ أجمعوا علي أنّ امّ حبيبة كانت تحت عبيداللَّه بن جحش، ولدت له، وهاجر بها وهما مسلمان إلي أرض الحبشة، ثمّ تنصّر وثبتت امّ حبيبة علي إسلامها، فبعث رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم إلي النجاشي يخطبها عليه، فزوّجه إيّاها وأصدقها عن رسول اللَّه صداقاً، وذلك في سنة سبع من الهجرة، وجاء أبو سفيان في زمن الهدنة ودخل عليها فثنت فراش رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم حتّي لا يجلس عليه.

ولا خلاف أنّ أباسفيان ومعاوية أسلما في فتح مكّة سنة ثمان.

وأيضاً: في هذا الحديث: إنّه قال له: وتؤمّرني حتّي اقاتل الكفّار كما كنت اقاتل المسلمين فقال: نعم.

ولا يعرف أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أمّر أباسفيان البتّة» «2».

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم 4: 1945/ 2501.

(2) زاد المعاد في هدي خير العباد 1: 110.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 478

من كلمات الأئمّة في الكتابين … ص: 478

اشارة

وعلي الجملة، فإنّ الأحاديث الموضوعة والباطلة في كتاب مسلم كثيرة مثل كتاب البخاري، وقد أوردنا طرفاً منها ونكتفي بها.

ومن هنا، فقد قال الملّا علي القاري في كتاب (الرجال) ما نصّه:

«وقد وقع منه- أي من مسلم- أشياء لا تقوي عند المعارضة.

فقد وضع الحافظ الرشيد العطّار كتاباً علي الأحاديث المقطوعة، وبيّنها الشيخ محي الدين النووي في أوّل شرح مسلم.

وما يقوله الناس: أنّ من روي له الشيخان فقد جاز القنطرة، هذا أيضاً من التجاهل والتساهل.

فقد روي مسلم في كتابه عن الليث عن أبي مسلم وغيره من الضعفاء.

فيقولون إنّما روي عنهم في كتابه للاعتبار والشواهد والمتابعات.

وهذا لا يقوي، لأنّ الحفّاظ قالوا: الإعتبار امور يتعرّفون بها حال الحديث وكتاب مسلم

التزم فيه الصحّة، فكيف يتعرّف حال الحديث الذي فيه بطريق ضعيفة.

وقال الحافظ: أبو الزبير محمّد بن مسلم المكّي يدلّس في حديث جابر، فما يصفه بالعنعنة لا يقبل، وقد ذكر ابن حزم وعبدالحقّ عن الليث بن سعد أنّه قال لأبي الزبير: علّم لي علي أحاديث سمعتها من جابر حتّي أسمعها منك، فعلَّم لي علي أحاديث أظنّ أنّها سبعة عشر حديثاً فسمعتها منه. قال استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 479

الحافظ: فما كان من طريق الليث عن أبي الزبير عن جابر فصحيح.

وفي مسلم عن طريق الليث من أبي الزبير عن جابر بالعنعنة أحاديث.

وقد روي أيضاً في كتابه عن جابر وابن عمر في حجّة الوداع أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم توجّه إلي مكّة يوم النحر فطاف طواف الإفاضة ثمّ رجع فصلّي الظهر بمني، فيوجّهون ويقولون: أعادها لبيان الجواز، وغير ذلك من التأويلات، ولهذا قال ابن حزم في هاتين الروايتين أحدهما كذب بلا شكّ.

وروي مسلم أيضاً حديث الإسراء فيه: وذلك قبل أن يوحي إليه، وقد تكلّم الحفّاظ في هذه اللّفظة وبيّنوا ضعفها.

وقد روي مسلم أيضاً: خلق اللَّه التربة يوم السبت. واتفق الناس علي أنّ السبت لم يقع فيه خلق، وأنّ ابتداء الخلق يوم الأحد.

وقد روي مسلم عن أبي سفيان أنّه قال للنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لمّا أسلم: يا رسول اللَّه أعطني ثلاثاً: تزوّج ابنتي ام حبيبة، وابني معاوية أجعله كاتباً، وأمّرني أن اقاتل الكفّار كما قاتلت المسلمين، فأعطاه النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم ما سأله. والحديث معروف مشهور، وفي هذا من الوهم ما لا يُحصي، فامّ حبيبة تزوّجها النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم وهي بالحبشة، وأصدقها النجاشي أربعمائة دينار وحضر وخطب وأطعم، والقصّة مشهورة، وأبوسفيان وابنه

معاوية إنّما أسلما عام الفتح، وبين الهجرة إلي الحبشة والفتح عدّة سنين، والجمهور علي أنّها تزوّجها سنة ست وقيل سبع، وأسلم أبوسفيان عام الفتح سنة ثمان من الهجرة، وأمّا إمارة أبي سفيان فقد قال الحفّاظ أنّهم لا يعرفونها.

فيجيبون بأجوبة غير طائلة، فيقولون في إنكاح ابنته: إعتقد أنّ نكاحها بغير إذنه لا يجوز وهو حديث عهد بالكفر، فأراد النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 480

تجديد النكاح، ويذكرون عن الزبير بن بكّار بأسانيد ضعيفة أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أمّره في بعض الغزوات، وهذا لا يعرفه الأثبات.

وقد قال الحافظ: أنّ مسلماً لمّا وضع كتابه الصحيح عرضه علي أبي زرعة، فأنكر عليه وتَغَيّظ وقال: سمَّيْتَه الصحيح وجعلته سُلَّماً لأهل البدع وغيرهم».

وقال ابن تيميّة: … ص: 480

«والمواضع المنتقدة غالبها في مسلم، وقد انتصر طائفة لهما- يعني للبخاري ومسلم- فيها، وطائفة قَوّت قول المنتقد، والصحيح التفصيل، فإنّ فيهما مواضع منتقدة بلا ريب مثل حديث: خلق اللَّه التربة يوم السبت، وحديث: صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وأكثر» «1».

وقال كمال الدين أبوالفضل الأدفوي في (الإمتاع في أحكام السماع): … ص: 480

«ثمّ أقول: إنّ الامّة تلقّت كلّ حديث صحيح وحسن بالقبول وعملت به عند عدم العارض، وحينئذٍ لا يختصّ بالصحيحين، وقد تلقّت الامّة الكتب الخمسة أو الستّة بالقبول وأطلق عليها جماعة إسم الصحيح، ورجّح بعضهم بعضها علي كتاب مسلم وغيره.

قال أبو سليمان أحمد الخطابي: كتاب السنن لأبي داود كتاب شريف لم يصنّف في الدين كتاب مثله، وقد رزق من الناس القبول كافّة، فصار حكماً بين فرق العلماء وطبقات الفقهاء علي اختلاف مذاهبهم، وكتاب السنن أحسن وضعاً وأكثر فقهاً من كتب البخاري ومسلم.

وقال الحافظ أبوالفضل محمّد بن طاهر المقدسي: سمعت الإمام __________________________________________________

(1) منهاج السنّة 7: 215 وانظر 5: 101.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 481

أباالفضل عبداللَّه بن محمّد الأنصاري بهراة يقول- وقد جري بين يديه ذكر أبي عيسي الترمذي وكتابه فقال-: كتابه عندي أنفع من كتاب البخاري ومسلم.

وقال الإمام أبوالقاسم سعد بن علي الزنجاني: إنّ لأبي عبدالرحمن النسائي شرطاً في الرجال أشدّ من شرط البخاري ومسلم.

وقال أبو زرعة الرازي لمّا عرض عليه ابن ماجة السنن كتابه: أظنّ إنْ وقع هذا في أيدي الناس تعطّلت هذه الجوامع كلّها، أو قال أكثرها.

ووراء هذا بحث آخر وهو: إنّ قول الشيخ أبي عمرو ابن الصلاح: إنّ الامّة تلقّت الكتابين بالقبول.

إن أراد كلّ الامّة، فلا يخفي فساد ذلك، إذ الكتابان إنّما صُنِّفا في المائة الثالثة بعد عصر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وأئمّة المذاهب المتّبعة ورؤوس حفّاظ الأخبار ونقّاد الآثار المتكلّمين في الطرق

والرجال المميّزين بين الصحيح والسقيم.

وإن أراد بالامّة الذين وجدوا بعد الكتابين، فهم بعض الامّة، فلا يستقيم له دليله الذي قرّره من تلقّي الامّة وثبوت العصمة لهم، والظاهريّة إنّما يعتنون بإجماع الصحابة خاصّة، والشيعة لا تعتدّ بالكتابين وطعنت فيهما، وقد اختلف في اعتبار قولهم في الإجماع وانعقاده.

ثمّ، إن أراد كلّ حديث فيهما تلقي بالقبول من الناس كافّة، فغير مستقيم، فقد تكلّم جماعة من الحفّاظ في أحاديث فيهما.

فتكلّم الدارقطني في أحاديث وعلّلها.

وتكلّم ابن حزم في أحاديث، كحديث شريك في الإسراء قال: إنّه استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 482

خلط.

ووقع في الصحيحين أحاديث متعارضة لا يمكن الجمع بينهما، والقطع لا يقع التعارض فيه.

وقد اتفق البخاري ومسلم علي إخراج حديث محمّد بن بشّار بندار، وأكثرا من الإحتجاج بحديثه، وتكلّم فيه غير واحد من الحفّاظ وأئمّة الجرح والتعديل ونسب إلي الكذب، وحلف عمرو بن علي الفلّاس شيخ البخاري أنّ بنداراً يكذب في حديثه عن يحيي، وتكلّم فيه أبو موسي، وقال علي بن المديني في الحديث الذي رواه في السجود: هذا كذب، وكان يحيي لا يعبأ به ويستضعفه. وكان القواريري لا يرضاه.

وأكثرا من حديث عبدالرزّاق والإحتجاج به، وتُكُلِّم فيه ونسب إلي الكذب.

وأخرج مسلم لأسباط بن نصر، وتكلّم فيه أبو زرعة وغيره.

وأخرج أيضاً عن سماك بن حرب وأكثر عنه، وتكلّم فيه غير واحد، وقال الإمام أحمد بن حنبل: هو مضطرب الحديث، وضعّفه أميرالمؤمنين في الحديث شعبة وسفيان الثوري، وقال يعقوب بن شيبة: لم يكن من المتثبّتين.

وقال النسائي: في حديثه ضعف. قال شعبة: كان سماك يقول في التفسير:

عكرمة ولو شئت لقلت له ابن عبّاس لقاله. وقال ابن المبارك: سمّاك ضعيف في الحديث، وضعّفه ابن حزم وقال: كان يُلَقَّن فَيَتَلَقَّنُ.

وكان أبو زرعة يذمّ

وضع كتاب مسلم ويقول: كيف تسمّيه الصحيح وفيه فلان وفلان؟ فذكر جماعة.

وأمثال ذلك تستغرق أوراقاً.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 483

فتلك الأحاديث عندهما ولم يتلقّوها بالقبول.

وإن أراد غالب ما فيهما، سلم من ذلك ولم يبق له حجّة».

وقال الشيخ عبدالقادر القرشي: … ص: 483

«فائدة- حديث أبي حميد السّاعدي في صفة صلاة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، في مسلمٍ وغيره، يشتمل علي أنواعٍ منها: التورّك في الجلسة الثانية، ضعّفه الطحاوي، لمجيئه في بعض الطرق عن رجل، عن أبي حميد، قال الطحاوي: فهذا منقطع علي أصل مخالفينا، وهم يردّون الحديث بأقلّ من هذا.

قلت: ولا يحنّق علينا لمجيئه في مسلم، وقد وقع في مسلم أشياء لا تقوي عند الإصطلاح، فقد وضع الحافظ الرّشيد العطّار علي الأحاديث المقطوعة المخرّجة في مسلم كتاباً سمّاه ب «غرر الفوائد المجموعة في بيان ما وقع في مسلم من الأحاديث المقطوعة»، سمعته علي شيخنا أبي إسحاق إبراهيم بن محمّد بن عبداللَّه الطاهري سنة اثنتي عشر وسبعمائة، بسماعه من مصنّفه الحافظ رشيد الدين، بقراءة الشيخ فخرالدين أبي عمرو عثمان المقابلي، وبيّنها الشيخ محي الدين في أوّل شرح مسلم.

وما يقوله الناس: إنّ من روي له الشيخان فقد جاز القنطرة، هذا أيضاً من التحنّق ولا يقوي، فقد روي مسلم في كتابه عن ليث عن أبي مسلم وغيره من الضعفاء، فيقولون: إنّما روي في كتابه للإعتبار والشواهد والمتابعات، وهذا لايقوي، لأنّ الحفّاظ قالوا: الإعتبار والشواهد والمتابعات والاعتبارات، امور يتعرّفون بها حال الحديث، وكتاب مسلم التزم فيه الصحّة، فكيف يتعرّف حال الحديث الذي فيه بطريق ضعيفة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 484

واعلم أنّ «عن» مقتضية للانقطاع عند أهل الحديث، ووقع في مسلم والبخاري من هذا النوع شي ء كثير، فيقولون علي سبيل التحنّق:

ما كان من هذا النوع في غير الصحيحين فمنقطع، وما كان في الصحيحين فمحمول علي الإتصال.

وروي مسلم في كتابه، عن أبي الزبير، عن جابر، أحاديث كثيرة بالعنعنة. وقال الحافظ: أبوالزبير محمّد بن مسلم بن مسلم بن تدرس المكّي يدلّس في حديث جابر، فما كان يصفه بالعنعنة لا يقبل، وقد ذكر ابن حزم وعبدالحق عن الليث بن سعد أنّه قال لأبي الزبير: علّم لي أحاديث سمعتها من جابر حتّي أسمعها منك، فعلّم لي أحاديث أظنّ أنّها سبعة عشر حديثاً فسمعتها منه، قال الحافظ: فما كان من طريق الليث عن أبي الزبير عن جابر، صحيح.

وقد روي مسلم في كتابه أيضاً، عن جابر وابن عمر، في حجّة الوداع، أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم توجّه إلي مكّة يوم النحر، وطاف طواف الإفاضة ثمّ رجع فصلّي الظهر بمني، فيتحنّقون ويقولون: أعادها لبيان الجواز، وغير ذلك من التأويلات، ولهذا قال ابن حزم في هاتين الروايتين: إحداهما كذب بلا شك.

وروي مسلم أيضاً حديث الإسراء وفيه: «وذلك قبل أن يوحي إليه» وقد تكلّم الحفّاظ في هذه اللّفظة وبيّنوا ضعفها.

وروي مسلم أيضاً: «خلق اللَّه التّربة يوم السبت»، واتفق الناس علي أنّ يوم السبت لم يقع فيه خلق.

وروي مسلم عن أبي سفيان أنّه قال للنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لمّا

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 485

أسلم: «يا رسول اللَّه! أعطني ثلاثاً، تزوّج ابنتي ام حبيبة، وابني معاوية اجعله كاتباً، وأمّرني أن اقاتل الكفّار كما قاتلت المسلمين، فأعطاه النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم» والحديث معروف مشهور، وفي هذا من الوهم ما لا يخفي، فامّ حبيبة تزوّجها رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وهي بالحبشة وأصدقها النجاشي عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أربعمائة دينار،

وحضر وخطب وأطعم، والقصّة مشهورة، وأبو سفيان إنّما أسلم عام الفتح، وبين الهجرة والحبشة والفتح عدّة سنين، ومعاوية كان كاتباً للنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم من قبل، وأمّا إمارة أبي سفيان فقد قال الحافظ: إنّهم لا يعرفونها.

فيجيبون علي سبيل التحنّق بأجوبة غير طائلة، فيقولون في نكاح ابنته:

اعتقد أنّ نكاحها بغير إذنه لا يجوز وهو حديث عهد بكفر، فأراد من النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم تجديد النكاح، ويذكرون عن الزبير بن بكار بأسانيد ضعيفة، أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أمّره في بعض الغزوات، وهذا لا يعرف.

وما حملهم علي هذا كلّه إلّابعض التعصّب، وقد قال الحافظ: إنّ مسلماً لمّا وضع كتابه الصحيح عرضه علي أبي زرعة الرازي فأنكر عليه وقال: سمّيته الصحيح، فجعلت سلّماً لأهل البدع وغيرهم، فإذا روي لهم المخالف حديثاً يقولون هذا ليس في صحيح مسلم. فرحم اللَّه تعالي أبا زرعة فقد نطق بالصواب فقد وقع هذا.

وما ذكرت ذلك كلّه إلّاأنّه وقع بيني وبين بعض المخالفين بحث في مسألة التورّك، فذكر لي حديث أبي حميد المذكور أوّلًا، فأجبته بتضعيف الطحاوي، فما تلفّظ وقال: مسلم يصحّح والطحاوي يضعّف، واللَّه تعالي يغفر

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 486

لنا وله، آمين» «1».

ترجمة عبدالقادر القرشي ترجم له الحافظ السيوطي بقوله: «عبدالقادر بن محمّد بن محمّد بن نصر اللَّه بن سالم، محيي الدين أبو محمّد بن أبي الوفا القرشي، درّس [وأفتي وصنّف، شرح معاني الآثار، وطبقات الحنفية، وشرح الخلاصة، وتخريج أحاديث الهداية، وغير ذلك. ولد سنة ست وسبعين وستمائة، ومات في ربيع الأوّل سنة خمس وسبعين وسبعمائة» «2».

وقال محمود بن سليمان الكفوي بترجمته: «المولي الفاضل والنحرير الكامل عبدالقادر، كان عالماً فاضلًا، جامعاً للعلوم، له مجموعات وتصانيف وتواريخ

ومحاضرات وتواليف … » «3».

__________________________________________________

(1) الجواهر المضية في طبقات الحنفية 2: 428- 430.

(2) حسن المحاضرة في محاسن مصر والقاهرة 1: 471.

(3) كتائب أعلام الأخيار من فقهاء مذهب النعمان المختار للكفوي- مخطوط- وله ترجمة في الدرر الكامنة 2: 392 وشذرات الذهب 6: 238، وتاج التراجم: 28، وغيرها أيضاً.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 489

صحيح الترمذي … ص: 489

أمّا صحيح الترمذي الذي مدحوه وأثنوا عليه، وجعلوه قريباً من الصحيحين في الصحّة والإعتبار، ووصفوه بأنّه أحسن الكتب وأكثرها فائدة …

كما قال ابن الأثير بترجمة الترمذي: «وله تصانيف كثيرة في علم الحديث، وهذا كتابه الصحيح أحسن الكتب وأكثرها فائدة، وأحسنها ترتيباً وأقلّها تكراراً، وفيه ماليس في غيره من ذكر المذاهب ووجوه الاستدلال، وتبيين أنواع الحديث من الصحيح والحسن والغريب، وفيه جرح وتعديل، وفي آخره كتاب العلل، قد جمع فيه فوائد حسنة لا يخفي قدرها علي من وقف عليها.

قال الترمذي رحمه اللَّه: صنّفت هذا الكتاب، فعرضته علي علماء الحجاز فرضوا به، وعرضته علي علماء خراسان فرضوا به، ومن كان في بيته هذا الكتاب فكأنّما في بيته نبيّ يتكلّم» «1».

وقال القاري في (مجمع الوسائل- شرح الشمائل): «هو أحد أئمّة عصره وأجلّة حفّاظ دهره، قيل: ولد أكمه، سمع خلقاً كثيراً من العلماء الأعلام وحفّاظ مشايخ الإسلام، مثل قتيبة بن سعيد والبخاري والدارمي ونظرائهم، وجامعه دالّ علي اتّساع حفظه ووفور علمه، كأنّه كاف للمجتهد وشاف للمقلّد.

ونقل عن الشيخ عبداللَّه الأنصاري أنّه قال: جامع الترمذي عندي أنفع __________________________________________________

(1) جامع الاصول 1: 194.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 490

من كتابي البخاري ومسلم.

ومن مناقبه أنّ الإمام البخاري روي عنه حديثاً واحداً خارج الصحيح.

وأعلي ما وقع له في الجامع حديث ثلاثي الإسناد، وهو قوله صلّي اللَّه عليه وسلّم:

يأتي علي الناس زمان الصابر علي دينه كالقابض علي الجمر».

الموضوعات في صحيح الترمذي … ص: 490

اشارة

ولكنّ هذا الكتاب الذي وصفوه بهذه الأوصاف وشبّهوه بنبيٍّ يتكلّم …

قالوا: فيه موضوعات كثيرة …

قال الحافظ ابن دحية- في كلامٍ له علي الحديث في أنّ نبيّنا صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: أكرم ولد آدم علي ربّه- قال: «أخرجه الترمذي في جامعه الكبير، في باب أبواب المناقب، عن رسول اللَّه، وقد تقدّم بعض أسانيدي إليه. قال: ثنا الحسين بن يزيد الكوفي … هذا حديث حسن غريب.

قال ذوالنسبين- رحمه اللَّه-: الحسن ما دون الصحيح، ممّا لا تنتهي رواته إلي درجة العدالة ولا تنحطّ ا لي درجة الفسق. وقال الترمذي في آخر كتابه: وما ذكرنا في هذا الكتاب حديث حسن فإنّما أردنا حسن إسناده عندنا، كلّ حديث يروي، لا يكون في إسناده ممّن يتّهم بالكذب ولا يكون الحديث شاذّاً ويروي من غير وجه نحو ذلك، فهو عندنا حديث حسن، وما ذكر في هذا الكتاب حديث غريب، فإنّ أهل الحديث يستغربون الحديث لمعان، ربّ حديث يكون غريباً لا يروي إلّامن وجه واحد. ثمّ تمادي في شرح ذلك ووجوهه.

وقد ذكرت في كتابي المسمّي بالعلم المشهور أحاديث كثيرة، أوردها

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 491

أبوعيسي في كتابه هذا، عن قوم كذّابين وحسّنها، وهي موضوعة ولا يصحّ أن تكون مرفوعة، فليرجع الناظر إليه فيما انتقدته عليه» «1».

وقال ابن تيمية بعد حديثٍ في مناقب أميرالمؤمنين عليه السلام:

«والترمذي قد ذكر أحاديث متعددة في فضائله، وفيها ما هو ضعيف بل موضوع» «2».

هذا، ونحن ذاكرون هنا بعض الأحاديث الموضوعة:

حديثٌ فيه بعث أبي بكر بلالًا مع النبي إلي الشام … ص: 491

فمن أحاديثه المكذوبة والباطلة: ما رواه في قضيّة سفر النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم إلي الشام مع رجالٍ من قريش، وأنّ أبابكر بعث معه بلالًا، وهذه عبارته: «حدّثنا الفضل بن سهل أبوالعبّاس البغدادي، نا عبدالرحمن

بن غزوان، أنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسي الأشعري عن أبيه قال: خرج أبوطالب إلي الشام، وخرج معه النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم في أشياخ من قريش، فلمّا أشرفوا علي الراهب هبط فحلّوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب- وكانوا قبل ذلك يمرّون به فلايخرج إليهم ولا يلتفت- قال: فهم يحلّون رحالهم- فجعل يتخلّلهم الراهب حتّي جاء فأخذ بيد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فقال: هذا سيّد العالمين، هذا رسول ربّ العالمين يبعثه اللَّه رحمة للعالمين.

فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟

__________________________________________________

(1) شرح أسماء النبي/ المستكفي- مخطوط.

(2) منهاج السنّة 5: 511.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 492

فقال: إنّكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلّاخرّ ساجداً، ولا يسجدان إلّالنبيّ، وإنّي أعرفه بخاتم النبوّة أسفل من غضروف كتفه مثل التفّاحة.

ثمّ رجع فصنع لهم طعاماً، فلمّا أتاهم به فكان هو في رعية الإبل فقال:

أرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة تُظِلُّه، فلمّا دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلي في ء الشجرة، فلمّا جلس مال في ء الشجرة عليه فقال: انظروا إلي في ء الشجرة مال عليه. قال: بينما هو قائم عليهم وهو يناشدهم أن لا يذهبوا به إلي الروم، فإنّ الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه، فالتفت فإذا بسبعة قد أقبلوا من الروم فاستقبلهم فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا أنّ هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلّابعث إليه باناس وإنّا قد اخبرنا خبره بعثنا إلي طريقك هذا. فقال: هل خلفكم أحد هو خير منكم؟ قالوا: إنّما اخترنا خيرةً لك لطريقك. قال: أفرأيتم أمراً أراد اللَّه أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس ردّه؟ قالوا: لا. قال: فبايعوه وأقاموا معه.

قال: انشدكم باللَّه أيّكم وليّه؟ قالوا:

أبوطالب. فلم يزل يناشده حتّي ردّه أبو طالب، وبعث معه أبوبكر بلالًا، وزوّده الراهب من الكعك والزيت.

قال أبو عيسي هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلّامن هذا الوجه» «1».

فقد نصّ كبار الأئمّة علي أنّه حديث موضوع:

قال الذهبي- بترجمة عبدالرحمن بن غزوان- «قلت: أنكر ماله حديثه عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسي، في سفر النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم- وهو مراهق- مع أبي طالب إلي الشام وقصّة بحيرا، وممّا يدلّ __________________________________________________

(1) صحيح الترمذي 5: 590/ 3620.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 493

علي أنّه باطل قوله: وردّه أبوطالب وبعث معه أبوبكر بلالًا، وبلال لم يكن بعد خلق، وأبوبكر كان صبيّاً» «1».

وقال ابن القيّم: «فلمّا بلغ اثني عشر سنة خرج به عمّه إلي الشام، وقيل:

كان تسع سنين، وفي هذه الخرجة رآه بحيرا الراهب وأمر عمّه أنْ لا يقدم به إلي الشام خوفاً عليه من اليهود، فبعثه عمّه مع بعض غلمانه إلي المدينة، ووقع في كتاب الترمذي وغيره: إنّه بعث معه أبوبكر بلالًا. وهو من الغلط الواضح، فإنّ بلالًا إذْ ذاك لعلّه لم يكن موجوداً، وإن كان فلم يكن معه عمّه ولا مع أبي بكر» «2».

وقال محمّد بن يوسف الشامي: «تنبيهات: الأوّل: وقع في حديث أبي موسي عند الترمذي: فلم يزل بحيرا يناشد جدّه حتّي ردّه وبعث معه أبوبكر بلالًا.

قال الحافظ شرف الدين الدمياطي- وتبعه في المورد والعيون- في قوله: وأرسل معه أبوبكر بلالًا نكارة، وأبوبكر حينئذٍ لم يبلغ العشر سنين، فإنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم أسنّ من أبي بكر بأزيد من عامين، وقد قدّمنا ما كان سنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم حين سافر هذه

السفرة.

وأيضاً: فإنّ بلالًا لم ينتقل لأبي بكر إلّابعد ذلك بأكثر من ثلاثين عاماً، فإنّه كان لبني خلف الجمحيين، وعندما عذّب في الإسلام اشتراه أبوبكر رحمة له واستنقاذاً له من أيديهم، وسيأتي بيان ذلك.

وذكر نحو ذلك الحافظ في الإصابة وزاد: أنّ هذا اللفظ مقتطع من __________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 4: 306/ 4939.

(2) زاد المعاد 1: 76- 77.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 494

حديث آخر ادرج في هذا الحديث.

وفي الجملة هو وهم من أحد رواته.

وروي ابن مندة بسند ضعيف عن ابن عبّاس قال: إنّ أبابكر صحب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وهو ابن ثماني عشرة سنة، والنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم ابن عشرين سنة، وهم يريدون الشام في تجارة، حتّي إذا نزل منزلًا فيه سدرة فقعد في ظلّها، ومضي أبوبكر إلي راهب يقال له بحيرا يسأله عن شي ء، فقال له: من الرجل الذي في ظلّ السّدرة؟ فقال له: محمّد بن عبداللَّه بن عبدالمطّلب. فقال له: هذا واللَّه نبيّ هذه الامّة، ما استظلّ تحتها بعد عيسي بن مريم إلّامحمّد، وذكر الحديث.

قال الحافظ: فهذا- إن صحّ- يحتمل أن يكون في سفرة اخري بعد سفرة أبي طالب.

وذكر نحوه في الزهر وزاد: وقول ابن دحية يمكن أن يكون أبوبكر استأجر بلالًا حينئذ، أو يكون اميّة بن خلف بعثه، غير جيّد لأمرين: أحدهما:

إنّ أبابكر لم يكن معهم ولا كان في سنّ من يملك، وذكر نحو ما سبق في سنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم إذ ذاك، ثانيهما: إنّ بلالًا كان أصغر من أبي بكر، فلا يتّجه ما قاله بحال» «1».

وقال الدياربكري بعد ذكر هذا الحديث: «وفي حياة الحيوان: قال الحافظ الدمياطي: وفي الحديث وهم في قوله: وبعث معه أبوبكر بلالًا، إذ

لم يكونا معه ولم يكن بلال أسلم، ولا ملكه أبوبكر، بل كان أبوبكر حينئذٍ لم يبلغ عشر سنين، ولم يملك أبوبكر بلالًا إلّابعد ذلك بأكثر من ثلاثين، وكذا ضعّفه __________________________________________________

(1) سبل الهدي والرشاد في سيرة خير العباد 2: 144.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 495

الذهبي.

قال ابن حجر: رجال هذا الحديث ثقات، وليس فيه منكر سوي قوله:

وبعث معه أبوبكر … » «1».

وقال ابن سيّد الناس: «قلت: ليس في إسناد هذا الحديث إلّامن خرّج له في الصحيح، وعبدالرحمن بن غزوان- أبو نوح لقبه قراد- انفرد به البخاري، ويونس بن أبي إسحاق انفرد به مسلم. ومع ذلك ففيه نكارة، وهي إرسال أبي بكر مع النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم بلالًا، وكيف؟ وأبوبكر حينئذٍ لم يبلغ العشر سنين، فإنّ النبي أسنّ من أبي بكر بأزيد من عامين، وكانت للنبي يومئذٍ تسعة أعوام علي ما قاله أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري وغيره، أو اثنا عشر عاماً علي ما قاله آخرون.

وأيضاً: فإنّ بلالًا لم ينتقل لأبي بكر إلّابعد ذلك بأكثر من ثلاثين عاماً، فإنّه كان لبني خلف الجمحيين، وعندما عذّب في اللَّه علي الإسلام اشتراه أبوبكر استنقاذاً له من أيديهم، وخبره بذلك مشهور» «2».

حديث الإئتمام بأبي بكر!! … ص: 495

ومن ذلك: الحديث في فضل أبي بكر، وهذه ألفاظ الترمذي: «حدّثنا نصر بن عبدالرحمن الكوفي، نا أحمد بن بشير، عن عيسي بن ميمون الأنصاري، عن القاسم بن محمّد، عن عائشة قالت: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: لا ينبغي لقومٍ فيهم أبوبكر أن يؤمّهم غيره. هذا حديث __________________________________________________

(1) تاريخ الخميس 1: 258- 259.

(2) عيون الأثر في المغازي والسير 1: 108.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 496

غريب» «1».

وقد أدرج ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات

إذ قال: «الحديث الثالث عشر- أخبرنا محمّد بن عبدالباقي … حدّثنا أحمد بن بشير قال: حدّثنا عيسي بن ميمون، عن القاسم بن محمّد، عن عائشة … قال المصنّف: هذا حديث موضوع علي رسول اللَّه. أمّا عيسي فقال البخاري: منكر الحديث.

وقال ابن حبّان: لا يحتجّ بروايته. وأمّا أحمد بن بشير، فقال يحيي: هو متروك» «2».

حديث إعزاز اللَّه الإسلام بعمر بن الخطّاب! … ص: 496

ومن ذلك: روايته: «حدّثنا محمّد بن بشار ومحمّد بن رافع قالا: نا أبو عامر العقدي، نا خارجة بن عبداللَّه الأنصاري، عن نافع، عن ابن عمر: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: اللّهمّ أعزّ الإسلام بأحبّ هذين الرجلين إليك: بأبي جهل أو بعمر بن الخطّاب. قال: وكان أحبّهما إليه عمر. هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن عمر» «3».

وهذا الحديث كذّبته عائشة.

قال الحلبي: «ثمّ قالوا: يا ابن الخطّاب، إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم دعا فقال: اللّهمّ أعزّ الإسلام بأحبّ هذين الرجلين بأبي جهل وعمر بن الخطّاب، وفي رواية: بعمر من غير ذكر أبي جهل. وعن عائشة إنّها قالت: إنّما

__________________________________________________

(1) صحيح الترمذي 5: 614/ 3673.

(2) كتاب الموضوعات 1: 318.

(3) صحيح الترمذي 5: 617/ 3681.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 497

قال رسول اللَّه: اللّهمّ أعزّ عمر بالإسلام، لأنّ الإسلام يُعِزّ ولا يُعز» «1».

وقال السيوطي: «ذكر أبوبكر التاريخي عن عكرمة أنّه سئل عن حديث:

اللّهمّ أيّد الإسلام. فقال: معاذ اللَّه، دين الإسلام أعزّ من ذلك، ولكنّه قال: أعزّ عمر بالدين أو أباجهل» «2».

حديث عدم صلاة النبي علي من مات مبغضاً لعثمان!! … ص: 497

ومن ذلك: حديثه كما في (التحفة الإثني عشرية) حيث قال: «روي الترمذي أنّه اتي بجنازةٍ إلي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فلم يصلّ عليه وقال: إنّه كان يبغض عثمان فأبغضه اللَّه» «3».

وقد أورده ابن الجوزي في كتاب الموضوعات، حيث قال: «الحديث الثاني: أخبرنا محمّد بن عبدالملك بن خيرون قال: أخبرنا إسماعيل بن مسعدة قال: أخبرنا حمزة بن يوسف قال: أنا أبو أحمد ابن عدي قال: حدّثنا عبدالكريم بن إبراهيم بن حيّان قال: ثنا الليث بن الحارث البخاري قال: حدّثنا عثمان بن زفر قال: حدّثنا محمّد بن زياد عن محمّد بن عجلان عن

أبي الزبير عن جابر: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم اتي بجنازة رجل، فلم يصلّ عليها، فقيل له: يا رسول اللَّه، ما رأيناك تركت الصلاة علي أحدٍ إلّاهذا. قال:

إنّه كان يبغض عثمان أبغضه اللَّه عزّ وجلّ.

طريق آخر: أخبرنا علي بن عبيداللَّه الزاغوني قال: أنا علي بن أحمد بن __________________________________________________

(1) السيرة الحلبية 1: 330.

(2) كتاب الموضوعات 1: 332.

(3) التحفة الإثني عشريّة عن سنن الترمذي 5: 588 كتاب المناقب، باب مناقب عثمان بن عفّان.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 498

البندار قال: أنبأنا عبيداللَّه بن محمّد الفقيه قال: ثنا أبوبكر أحمد بن هشام الأنماطي قال: ثنا يحيي بن أبي طالب قال: ثنا أحمد بن عمران الأخنسي قال:

ثنا محمّد بن زياد قال: حدّثنا محمّد بن عجلان عن أبي الزبير عن جابر قال:

توفي رجل من الأنصار، فأتينا النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم فأخبرناه بجنازته، فلم يصلّ عليه فدفناه، ثمّ رجعنا فقلنا قد دفنّاه يرحمه اللَّه، فلم يترحّم عليه.

فقلنا: يا رسول اللَّه ما أخبرناك بميّت إلّاصلّيت عليه وترحّمت عليه فما بال هذا؟ قال: إنّه كان يبغض عثمان، أبغضه اللَّه.

قال المصنّف: الطريقان علي محمّد بن زياد، قال أحمد بن حنبل: هو كذّاب خبيث يضع الحديث. وقال يحيي: كذّاب خبيث. وقال السعدي والدارقطني: كذّاب. وقال البخاري والنسائي والفلاس وأبو حاتم الرازي:

متروك الحديث. وقال ابن حبّان: كان يضع الحديث علي الثقات، لا يحلّ ذكره في الكتب إلّاعلي وجه القدح فيه» «1».

حديث نزول «لا تقربوا الصلاة … » الآية … ص: 498

ومن ذلك: الحديث الموضوع المفتري علي أميرالمؤمنين وسيّد الوصيّين وإمام المتقين … وهذه عبارة الترمذي: «حدّثنا عبد بن حميد، نا عبدالرحمن بن مسعد، عن أبي جعفر الرازي، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبدالرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب قال:

صنع لنا عبدالرحمن بن عوف طعاماً، فدعانا وسقانا الخمر، فأخذت الخمر منّا، وحضرت الصلاة فقدّموني فقرأت «قل يا أيّها الكافرون لا أعبد ما تعبدون» ونحن نعبد ما

__________________________________________________

(1) كتاب الموضوعات 1: 333.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 499

تعبدون. فأنزل اللَّه «يا أيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكاري حتّي تعلموا ما تقولون» هذا حديث حسن غريب صحيح» «1».

وإنّ بطلان هذا البهتان واضح من جهات:

1- إنّه يلزم بناءً علي هذا الحديث المكذوب أن يكون أميرالمؤمنين- والعياذ باللَّه- مرتكباً لشرب الخمر بعد نزول تحريمه في الكتاب، لأنّ تحريمه نازل قبل نزول الآية «يا أيّها الذين آمنوا … » التي زعم المفتري نزولها في هذه القضيّة، ولو أنّ المتعصّبين لا يقولون بعصمة مولانا أميرالمؤمنين، فإنّهم يقولون بعدالته ولو لساناً، فكيف يمكنهم تصديق هذا البهتان؟

أمّا أن تحريم الخمر كان قبل نزول الآية المذكورة، فلا يخفي علي المتتبّعين، لأنّ العلماء ينصّون علي نزول الآية «يسألونك عن الخمر … » قبل «يا أيّها الذين آمنوا لا تقربوا … » الآية … فقد جاء بتفسير النسفي ما نصّه:

«نزل في الخمر أربع آيات، نزل بمكة: «ومن ثمرات النخيل والأعناب تتّخذون منه سكراً» وكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال، ثمّ إنّ عمر ونفراً من الصحابة قالوا: يا رسول اللَّه، أفتنا في الخمر فإنّها مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزل «يسألونك عن الخمر والميسر» فشربها قوم وتركها آخرون، ثمّ دعا عبدالرحمن بن عوف جماعةً فشربوا وسكروا، فأمَّ بعضهم فقرأ: قل يا أيّها الكافرون أعبد ما تعبدون، فنزل: «لا تقربوا الصلاة وأنتم سكاري» فقلَّ من يشربها، ثمّ دعا عتبان بن مالك جماعةً، فلمّا سكروا منها تخاصموا وتضاربوا، فقال عمر: اللّهمّ بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً فنزل

«إنّما الخمر

__________________________________________________

(1) صحيح الترمذي 5: 238/ 3026.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 500

والميسر- إلي قوله- فهل أنتم منتهون» فقال عمر: انتهينا يا رب» «1».

وقال الجصّاص في بيان دلالة: «يسألونك عن الخمر … » الآية علي حرمة الخمر: «باب تحريم الخمر، قال اللَّه تعالي «يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبرُ من نفعهما» وهذه الآية قد اقتضت تحريم الخمر، لو لم يرد غيرها في تحريمها لكانت كافيةً مغنية، وذلك لقوله: «قل فيهما إثم كبير» والإثم كلّه محرَّم بقوله تعالي: «قل حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم» فأخبر أنّ الإثم محرَّم، ولم يقتصر علي إخباره بأنّ فيهما إثماً حتّي وصفه بأنّه كبير، تأكيداً لحظرهما.

وقوله «منافع للناس» لا دلالة فيه علي إباحتها، لأنّ المراد منافع الدنيا، وإنّ في سائر المحرّمات منافع لمرتكبيها في دنياهم، إلّاأنّ تلك المنافع لا تفي بضررها من العقاب المستحق بارتكابها، فذكره لمنافعها غير دالّ لإباحتها، لاسيّما وقد أكّد حظرها بقوله في سياق الآية «وإثمهما أكبر من نفعهما» يعني: إنّ ما يستحقّ بهما من العقاب أعظم من النفع العاجل الذي يبتغي منهما» «2».

2- لقد روي الحاكم هذا الخبر بإسنادٍ له من طريق أحمد عن أبي عبدالرحمن السلمي عن علي عليه السلام، وفيه أنّ الذي أمّهم وقرأ كذلك هو عبدالرحمن بن عوف فنزلت الآية، قال في المستدرك:

«حدّثنا أبو عبداللَّه محمّد بن يعقوب الحافظ، ثنا علي بن الحسن، ثنا

__________________________________________________

(1) تفسير النسفي 1: 120- 121.

(2) أحكام القرآن 1: 322.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 501

عبداللَّه بن الوليد، ثنا سفيان، حدّثنا أبو زكريّا يحيي بن محمّد العنبري، ثنا أبو عبداللَّه البوشنجي، ثنا أحمد بن حنبل، ثنا وكيع، ثنا سفيان،

عن عطاء بن السائب عن أبي عبدالرحمن السلمي عن علي رضي اللَّه عنه قال: دعانا رجل من الأنصار قبل أنْ تحرم الخمر، فتقدّم عبدالرحمن بن عوف فصلّي بهم المغرب فقرأ «قل يا أيّها الكافرون» فالتبس عليه فيها فنزلت «لا تقربوا الصلاة وأنتم سكاري». هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» «1».

فانظر كيف حرّف النواصب هذا الحديث، ووضعوا اسم أميرالمؤمنين في مكان عبدالرحمان؟

3- إنّه حتّي لو كانت القصّة قبل تحريم الخمر، فلا ريب في كونها مفتراة، لأنّ شرب الخمر كان قبيحاً عند أهل العقل والدّين، كما أنّ جعفر بن أبي طالب لم يشربه قط، لا في الجاهليّة ولا في الإسلام، قال: «لأنّي رأيتها تذهب العقول، وكنت إلي زيادة العقل أحوج من نقصانه».

فهل يعقل أن يدرك جعفر هذه الحقيقة ولا يدركها أميرالمؤمنين، وهو أفضل وأعقل وأفهم من جعفر بالقطع واليقين؟

وقد ذكر مثل ذلك عن قصي، كما في (السيرة الحلبيّة) قال:

«ولمّا احتضر قال لأولاده: اجتنبوا الخمرة، فإنّها تصلح الأبدان وتفسد الأذهان» «2».

وقال صاحب (المستطرف) في الخمر:

«وممّن تركها في الجاهلية: عبداللَّه بن جدعان، وكان جواداً من سادات قريش، وذلك أنّه شرب مع اميّة بن الصّلت الثقفي، فضربه علي عينه،

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 4: 142.

(2) السيرة الحلبية 1: 13.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 502

فأصبحت عين اميّة مخضرّةً يخاف عليها الذهاب، فقال له عبداللَّه: ما بال عينك؟ فسكت، فألحّ عليه، فقال: ألست ضاربها بالأمس؟ فقال: أو بلغ منّي الشراب ما أبلغ معه إلي هذا؟ لا أشربها بعد اليوم، ثمّ دفع له عشرة درهم وقال: الخمر عليّ حرام لا أذوقها بعد اليوم أبداً.

وممّن حرّمها في الجاهليّة أيضاً: قيس بن عاصم، وذلك أنّه سكر ذات ليلة فقام لابنته أو لُاخته، فهربت منه، فلمّا

أصبح سأل عنها فقيل له: أوما علمت ما صنعت البارحة، فأخبر القصّة، فحرّم الخمر علي نفسه.

وممّن حرّمها في الجاهليّة أيضاً: العبّاس بن مرداس وقيس بن عاصم، وذلك أنّ قيساً شرب ذات ليلة، فجعل يتناول القمر ويقول: واللَّه لا أبرح حتّي أنزله، ثمّ يثب الوثبة بعد الوثبة ويقع علي وجهه، فلمّا أصبح وأفاق قال: مالي هكذا، فأخبروه بالقصة، فقال: واللَّه لا أشربها أبداً. وقيل للعبّاس بن مرداس:

لم تركت الشراب وهو يزيد في سماحتك؟ فقال: أكره أن أصبح سيّد قومي وامسي سفيههم» «1».

4- إنّه قد صرّح الإمام عليه السلام باجتنابه الخمر مطلقاً، فيما رواه الحافظ ابن شهر آشوب السروي «2» عن تفسير القطّان، عن عمر بن حمران،

__________________________________________________

(1) المستظرف من كلّ فنّ مستطرف 2: 261.

(2) هو: محمّد بن علي بن شهرآشوب، أبو جعفر السروي المتوفي سنة 588، ترجم له الصفدي (الوافي بالوفيات 4: 164). قال: «أحد شيوخ الشيعة، حفظ أكثر القرآن وله ثمان سنين، وبلغ النهاية في اصول الشيعة، كان يرحل إليه من البلاد، ثمّ تقدّم في علم القرآن والغريب والنحو، ووعظ علي المنبر أيّام المقتفي ببغداد فأعجبه وخلع عليه، وكان بهيّ المنظر حسن الوجه والشيبة، صدوق اللهجة، مليح المحاورة، واسع العلم، كثير الخشوع والعبادة والتهجّد، لا يكون إلّاعلي وضوء».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 503

عن سعيد، عن قتادة عن الحسن البصري قال:

اجتمع عثمان بن مظعون وأبو طلحة وأبو عبيدة ومعاذ بن جبل وسهيل ابن بيضاء وأبو دجانة في منزل سعد بن أبي وقّاص، فأكلوا شيئاً، ثمّ قدّم إليهم شيئاً من الفضيخ، فقام علي وخرج من بينهم، فقال عثمان في ذلك، فقال علي: لعن اللَّه الخمر، واللَّه لا أشرب شيئاً يذهب بعقلي، ويضحك بي من رآني، وازوّج

كريمتي من لا اريد، وخرج من بينهم فأتي المسجد، وهبط جبرئيل بهذه الآية «يا أيّها الذين آمنوا» يعني هؤلاء الذين اجتمعوا في منزل سعد «إنّما الخمر والميسر … » الآية. فقال علي: تبّاً لهما، واللَّه يا رسول اللَّه، لقد كان بصري فيها نافذاً منذ كنت صغيراً. قال الحسن: واللَّه الذي لا إله إلّا هو، ما شربها قبل تحريمها ولا ساعة قط» «1».

5- لقد سعي القوم سعياً حثيثاً وراء تبرئة أبي بكر وتنزيهه من شرب الخمر، ولو قبل التحريم، حتّي قال الحكيم الترمذي في كتاب (نوادر الاصول): «من الحديث الذي تنكره القلوب: حديث رووه عن عوف، عن أبي القموص قال: شرب أبوبكر الخمر- يعني من قبل نزول تحريمها- فقعد ينوح علي قتلي بدر وهو يقول:

تحيّي بالسلامة ام بكر وهل لك بعد رهطك من سلام ذريني أصطبح يا ام بكر رأيت الموت نقّب عن هشام فنقب عن أبيك وكان قرماً من الأشرافِ شرّاب المدام وودّ بنو المغيرة لو فدوه بألفٍ من رجال أو سوام كأنّي بالطوي طوي بدر من الفتيان والخيل الكرام فبلغ ذلك رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فخرج يجرّ ثوبه من الفزع حتّي أتاه، فدفع عليه شيئاً في يده، فقال أبوبكر: أعوذ باللَّه من غضب اللَّه وغضب رسول اللَّه، فانزلت «يا أيّها الذين آمنوا إنّما الخمر والميسر … » الآية.

وزاد غيره في الأبيات:

يخبرنا رسول اللَّه بأن سنحيي فكيف حياة أصلاء وهام فهذا منكر من القول والفعل، وقد أعاذ اللَّه الصدّيقين من فعل الخنا وأقوال أهله، وإنْ كان قبل التحريم … » «1».

أقول:

فكيف ينسب الترمذي هذا الفعل الشنيع إلي أفضل الصدّيقين وإمام المتقين؟

وفي (الرياض النضرة) «عن أبي العالية الرياحي قال: قيل لأبي بكر في مجمع

من أصحاب رسول اللَّه: هل شربت الخمر في الجاهلية؟ قال: أعوذ باللَّه. فقيل: ولم؟ قال: كنت أصون عرضي وأحفظ مالي، فمن شرب الخمر كان مضيّعاً في عرضه ومروّته، فبلغ ذلك النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم فقال:

صدق أبوبكر- مرّتين. أخرجه الدارمي» «2».

ومن هذا أيضاً يظهر شناعة الفرية التي افتراها الترمذي …

أقول:

لكنّ الحقيقة هي أنّ هؤلاء كانوا يشربون الخمر، فلمّا رأي المتعصّبون لهم ذلك، عمدوا إلي نسبة الشرب إلي أميرالمؤمنين حمايةً لهم وتغطيةً علي __________________________________________________

(1) نوادر الاصول، وقد حذفته الأيدي الأثيمة لكونه ممّا تنكره القلوب!!

(2) الرياض النضرة في مناقب العشرة 1: 201.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 505

مساويهم، وهذا هو السبب الأصلي لوضع حديث الترمذي …

لقد خرج البزّار وابن مردويه والفاكهي وغيرهم خبر شرب أبي بكر، واضطرّ ابن حجر للإعتراف بثبوت الخبر … قال البخاري: «حدّثنا إسماعيل بن عبداللَّه قال: حدّثني مالك بن أنس، عن إسحاق بن عبداللَّه بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال: كنت أسقي أباعبيدة وأبا طلحة وابي بن كعب من فضيخ زهو وتمر، فجاءهم آتٍ فقال: إنّ الخمر قد حُرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس فأهرقها فأهرقتها.

حدّثنا مسدّد قال: حدّثنا معتمر عن أبيه قال: سمعت أنساً قال: كنت قائماً علي الحيّ أسقيهم عمومتي وأنا أصغرهم الفضيخ، فقيل: حُرمت الخمر.

فقالوا: أكفأها فكفأناها. قلت لأنس: ما شرابهم؟ قال: رطب وبسر. فقال أبوبكر بن أنس: وكانت خمرهم، فلم ينكر أنس».

فقال ابن حجر بشرح الحديث الأوّل ما نصّه:

«قوله: كنت أسقي أباعبيدة هو ابن الجرّاح، وأمّا أبو طلحة هو زيد بن سهل زوج ام سليم ام أنس. وابي بن كعب. كذا اقتصر في هذه الرواية علي هؤلاء الثلاثة، فأمّا أبو طلحة، فلكون القصّة كانت في

منزله كما مضي في التفسير من طريق ثابت عن أنس: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة. وأمّا أبو عبيدة فلأنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم آخي بينه وبين أبي طلحة، كما أخرجه مسلم من وجه آخر عن أنس، وأمّا ابي بن كعب، فكان كبير الأنصار وعالمهم.

ووقع في رواية عبدالعزيز بن صهيب عن أنس في تفسير المائدة: إنّي لقائم أسقي أباطلحة وفلاناً وفلاناً، كذا وقع بالإبهام.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 506

وسمّي في رواية مسلم منهم: أبا أيّوب.

وسيأتي- بعد أبواب- من رواية هشام عن قتادة عن أنس: إنّي لأسقي أباطلحة وأبادجانة وسهيل بن بيضاء. وأبو دجانة بضمّ المهملة وتخفيف الجيم وبعد الألف نون اسمه سماك بن خرشة بمعجمتين بينهما راء مفتوحات.

ولمسلم من طريق سعيد عن قتادة نحوه، وسمّي فيهم معاذ بن جبل.

ولأحمد عن يحيي القطّان عن حميد عن أنس: كنت أسقي أباعبيدة وابي بن كعب وسهيل بن بيضاء ونفراً من الصحابة عند أبي طلحة.

ووقع عند عبدالرزاق عن معمر عن ثابت وقتادة وغيرهما عن أنس: أنّ القوم كانوا أحد عشر رجلًا.

وقد حصل من الطرق التي أوردتها تسمية سبعة منهم، وأنّهم هم في رواية سليمان التيمي عن أنس وهي في هذا الباب ولفظه: كنت قائماً علي الحي أسقيهم عمومتي، موضع خفض علي البدل من قوله الحي، وأطلق عليهم عمومته، لأنّهم كانوا أسنّ منه، ولأنّ أكثرهم من الأنصار.

ومن المستغربات ما أورده ابن مردويه في تفسيره، من طريق عيسي بن طهمان عن أنس: أنّ أبابكر وعمر كانا فيهم، وهو منكر مع نظافة سنده، وما أظنّه إلّاغلطاً.

وقد أخرج أبو نعيم في الحلية، في ترجمة شعبة، من حديث عائشة قالت: حرّم أبوبكر الخمر علي نفسه، فلم يشربها في جاهليّة ولا إسلام.

ويحتمل- إن

كان محفوظاً- أن يكون أبوبكر وعمر زارا أباطلحة في ذلك اليوم ولم يشربا معهم.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 507

ثمّ وجدت عند البزّار من وجه آخر عن أنس قال: كنت ساقي القوم، وكان في القوم رجل يقال له أبوبكر، فلمّا شرب قال: تحيي بالسلامة امّ بكر …

الأبيات.

فدخل علينا رجل من المسلمين فقال: قد نزل تحريم الخمر، الحديث.

وأبوبكر هذا يقال له ابن شعوب فظنّ بعضهم أنّه أبوبكر الصدّيق وليس كذلك، لكن قرينة ذكر عمر تدلّ علي عدم الغلط في وصف الصدّيق، وفي كتاب مكّة للفاكهي من طريق مرسل ما يشدّ ذلك.

فحصلنا علي تسمية عشر، وقد قدّمت في غزوة بدر من المغازي ترجمة أبي بكر بن شعوب المذكور» «1».

وقد علم ممّا رواه ابن حجر شرب عمر أيضاً.

وفي (المستطرف) في الباب الرابع والسّبعين، في ذم الخمر وتحريمه:

«أنزل اللَّه تعالي في الخمر ثلاث آيات. الاولي قوله تعالي: «يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما» فكان في المسلمين من شاربٍ ومن تارك، إلي أنْ شربها رجل ودخل في الصلاة فهجر، فنزل قوله تعالي «يا أيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكاري» فشربها من شربها من المسلمين وتركها من تركها، حتّي شربها عمر، فأخذ بلحي بعيرٍ فشجّ به رأس عبدالرحمن بن عوف، ثمّ قعد ينوح علي قتلي بدر بشعر الأسود بن يعفر، وهو:

وكاين بالقليب قليب بدر من الفتيان والشرب الكرام أيوعدني ابن كبشة أن سنحيي وكيف حياة أصداء وهام __________________________________________________

(1) فتح الباري- شرح صحيح البخاري 10: 30- 31.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 508

أيعجز أن يردّ الموت عنّي وينشرني إذا بليت عظامي ألا من مبلغ الرحمن عنّي بأنّي تارك شهر الصيام فقل

للَّه يمنعني شرابي وقل للَّه يمنعني طعامي فبلغ ذلك رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فخرج مغضباً يجرّ رداءه، فرفع شيئاً كان في يده، فضربه به، فقال: أعوذ باللَّه من غضب اللَّه وغضب رسوله، فأنزل اللَّه تعالي: «إنّما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر اللَّه وعن الصلاة فهم أنتم منتهون».

فقال عمر: انتهينا انتهينا» «1».

هذا، وقد نصّ الجصّاص علي دلالة الآية «يسألونك عن الخمر … »

علي التحريم، وعلي أنّ عمر كان يعلم بدلالتها علي الحرمة، حيث قال في (أحكام القرآن):

«قوله: «يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير» قال: الميسر هو القمار، كان الرجل في الجاهليّة يخاطر علي أهله وماله. قال: وقوله «ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكاري حتّي تعلموا ما تقولون» قال: كانوا لا يشربونها عند الصلاة فإذا صلّوا العشاء شربوها فقابلوا بعضهم بعضاً وتكلّموا بما لا يرضي اللَّه، فأنزل اللَّه عزّ وجلّ «إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه». قال: فالميسر القمار، والأنصاب الأوثان، والأزلام القداح كانوا يستقسمون بها.

قال: وحدّثنا أبو عبيد قال: حدّثنا عبدالرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة قال: قال عمر: اللّهمّ بيّن لنا في الخمر،

__________________________________________________

(1) المستطرف من كلّ فنّ مستظرف 2: 260.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 509

فنزلت: «لا تقربوا الصلاة وأنتم سكاري حتّي تعلموا ما تقولون» فقال: اللّهمّ بيّن لنا في الخمر، فنزلت: «قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما» فقال: اللّهمّ بيّن لنا في الخمر، فنزلت: «إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلّكم تفلحون- إلي قوله- فهل أنتم منتهون» فقال عمر: انتهينا، إنّها تذهب المال وتذهب العقل.

قال: وحدّثنا أبو عبيد

قال: حدّثنا هشيم قال: أخبرنا المغيرة عن أبي رزين قال: شربت الخمر بعد الآية التي في البقرة وبعد الآية التي في النساء، فكانوا يشربونها حتّي يحضر الصلاة فإذا حضرت تركوها، ثمّ حرمت في المائدة في قوله: «فهل أنتم منتهون» فانتهي القوم عنها فلم يعودوا فيها.

فمن الناس من يظنّ أنّ قوله: «قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس» لم يدلّ علي التحريم لأنّه لو كان دالّاً لما شربوه، ولما أقرّهم النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، ولما سأل عمر البيان بعده، وليس هذا كذلك عندنا، لأنّه جائز أن يكونوا تأوّلوا في قوله «ومنافع للناس» جواز استباحة منافعها بأنّ الإثم مقصور علي بعض الأحوال دون بعض، فإنّما ذهبوا عن حكم الآية بالتأويل.

وأمّا قوله إنّها لو كانت حراماً لما أقرّهم النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم علي شربها، فإنّه ليس في شي ء من الأخبار علم النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم بشربها ولا إقرارهم بعد علمه، وأمّا سؤال عمر بياناً بعد نزول هذه الآية، فإنّه كان للتأويل فيه مساغ، وقد علم هو وجه دلالتها علي التحريم، ولكنّه سأل بياناً يزول معه احتمال التأويل، فأنزل اللَّه تعالي: «إنّما الخمر والميسر» الآية» «1».

وقال الزمخشري في (ربيع الأبرار):

__________________________________________________

(1) أحكام القرآن للجصّاص 1: 322- 324.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 510

«أنزل اللَّه سبحانه وتعالي في الخمر ثلاث آيات، أوّلها: «يسألونك عن الخمر والميسر» فكان المسلمون بين شاربٍ وتارك، إلي أنْ شربها رجل ودخل في صلاته فهجر، فنزلت «يا أيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكاري» فشربها من شربها من المسلمين، حتّي شربها عمر بن الخطّاب، فأخذ بلحي بعير فشجّ رأس عبدالرحمن بن عوف، ثمّ قعد ينوح علي قتلي بدر بشعر الأسود بن يعفر:

وكاين بالقليب

قليب بدر … ».

فذكر الزمخشري الشعر كلّه، وأنّه بلغ ذلك رسول اللَّه … فأنزل اللَّه «إنّما يريد الشيطان … ».

فقال عمر: انتهينا انتهينا» «1».

فعلم أنّ الآية «يسألونك … » دالّة علي التحريم، وأنّ عمر شرب بعد نزولها وهو عالم بدلالتها علي ذلك …

والخمر كانت محرّمةً في سائر الشرائع أيضاً، كما روي الفقيه أبوالليث السمرقندي في كتابه (تنبيه الغافلين):

«عن عطاء بن يسار: إنّ رجلًا سأل كعب الأحبار: هل حرّمت الخمر في التوراة؟ قال: نعم، هذه الآية: «إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام … »

مكتوبة في التوراة: إنّما انزل بالحقّ ليذهب الباطل ويبطل اللعب والدفّ والمزامير وهو الرقص، والخمر وهي مرّة، أي فتنة لشاربها، أقسم اللَّه بعزّته وجلاله لمن انتهكها أي ذاقها واستعملها في الدنيا لأعطشنّه يوم القيامة، ومن تركها بعد ما حرّمتها إلّاسقيته إيّاها في حظيرة القدس. قيل: وما حظيرة

__________________________________________________

(1) ربيع الأبرار 4: 51 وما بعدها.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 511

القدس؟ قال اللَّه تعالي: القدس وحظيرته الجنّة».

وأيضاً: روي عن أويس بن سمعان أنّه قال للنبي: «والذي بعثك بالحقّ نبيّاً إنّي لأجد في التوراة أنّ الخمر محرّمة خمساً وعشرين مرّة، وويل لشارب الخمر، وحقّ علي اللَّه أن لا يشربها عبد من عبيده في الدنيا إلّاسقاه اللَّه تعالي من طينة الخبال».

وأيضاً: روي عن عائشة عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «من أطعم شارب الخمر لقمة سلّط اللَّه علي جسده حيّة وعقرباً، ومن قضي له حاجة فقد أعان علي هدم الإسلام، ومن أقرضه قرضاً فقد أعان علي قتل مؤمن، ومن جالسه حشره اللَّه يوم القيامة أعمي لا حجّة له، ومن شرب الخمر فلا تزوّجوه فإن مرض فلا تعودوه، فوالذي بعثني بالحقّ نبيّاً إنّه ما

يشرب الخمر إلّا ملعون في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ومن شرب الخمر فقد كفر بجميع ما أنزل اللَّه تعالي علي أنبيائه، ولا يستحلّ الخمر إلّا كافر، ومن استحلّ الخمر فأنا بري ء منه في الدنيا والآخرة» «1».

وقال الحاكم: «حدّثنا علي بن جمشاد العدل، ثنا عبيد بن شريك، ثنا سعيد بن مريم، أنبأ الدراوردي، حدّثني داود بن صالح، عن سالم بن عبداللَّه ابن عمر، عن أبيه: أنّ أبابكر الصدّيق وعمر بن الخطّاب رضي اللَّه عنهما أو ناساً من أصحاب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم جلسوا بعد وفاة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فذكروا أعظم الكبائر، فلم يكن عندهم فيها علم ينتهون إليه، فأرسلوني إلي عبداللَّه بن عمر وأسأله عن ذلك، فأخبرني أنّ أعظم الكبائر شرب الخمر فأخبرتهم فأنكروا ذلك ووثبوا إليه جميعاً في داره،

__________________________________________________

(1) تنبيه الغافلين: 148.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 512

فأخبرهم أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: إنّ ملكاً من ملك بني إسرائيل أخذ رجلًا فخيّره: بين أن يشرب الخمر أو يقتل نفساً أو يزني أو يأكل لحم الخنزير أو يقتلوه إن أبي، فاختار أن يشرب الخمر، وإنّه لمّا شرب لم يمتنع من شي ء أراد منه … » «1».

هذا، وما اكتفي القوم بنسبة شرب الخمر إلي أميرالمؤمنين عليه السلام، بل نسبوا ذلك إلي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أيضاً- والعياذ باللَّه- جاء ذلك في كتاب (مدارج النبوّة) للشيخ عبدالحق الدهلوي، في كلامٍ له حول «مسجد الفضيخ» بالمدينة المنوّرة، وهو مسجد ردّ الشمس، فقال في بيان سبب تسميته بالاسم المذكور:

«وأخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عمر: أنّه قد اتي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في هذا

الموضع بكوزٍ فيه فضيخ فشربه، فسمّي بمسجد الفضيخ لذلك» «2».

ونعوذ باللَّه من هذا الكذب الصريح والبهتان القبيح والإفتراء الفضيح …

فانظر إلي هؤلاء القوم، كيف يحاولون صيانة أئمّتهم وحمايتهم من المعائب والمثالب، حتّي لا يمنعهم ذلك من نسبة شنائعهم وفظائعهم إلي النبي والوصي … ؟ …

ثمّ ألجأهم ذلك إلي الفتيا بجواز شرب الخمر للتقوّي … قال سعد بن عيسي بن أميرخان المفتي في (حاشية العناية): «ومن أصحابنا من قال: إذا كان الرجل صالحاً في اموره، تغلب حسناته سيّئاته، ولا يعرف بالكذب ولا

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 4: 147.

(2) مدارج النبوة: 82.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 2، ص: 513

شي ء من الكبائر غير أنّه يشرب الخمر أحياناً، لصحّة البدن والتقوّي لا للتلهّي، يكون عدلًا، وعامّة مشايخنا علي أنّه لا يكون عدلًا، لأنّ شرب الخمر يكون كبيرةً محضة وإنْ كانت للتداوي».

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.