التوحید و الشرک فی القرآن الکریم

اشارة

سرشناسه : سبحانی تبریزی، جعفر، 1308 -

عنوان و نام پديدآور : التوحید و الشرک فی القرآن الکریم/ جعفر سبحانی.

مشخصات نشر : بیروت: موسسه الفکر الاسلامی، 1406ق.= 1986م= 1365.

مشخصات ظاهری : 219 ص.

شابک : 220 ریال

وضعیت فهرست نویسی : برون سپاری.

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ اول: 1406ق. = 1985م. = 1364.

يادداشت : چاپ دوم.

یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس.

موضوع : توحید -- جنبه های قرآنی

موضوع : شرک -- جنبه های قرآنی

رده بندی کنگره : BP104 /ت9 س2 1365

رده بندی دیویی : 297/159

شماره کتابشناسی ملی : 191343

تقديم:

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه ربّ العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و آله الطاهرين.

نفتتح المقال بكلمة مباركة مأثورة عن الأكابر و هي: بني الإسلام على دعامتين: كلمة التوحيد و توحيد الكلمة.

أمّا الأُولى فقد اتفق عليها المسلمون قاطبة، و شعارهم في جميع المواقف هو لا إله إلّا اللَّه و لا نعبد إلّا إيّاه، فإذا كان للتوحيد مراتب فالكل متفقون على أنّه لا خالق و لا مدبّر و لا معبود إلّا إيّاه، و لا يمكن تسجيل اسم واحد في سجل الإسلام إلّا إذا شهد بالتوحيد بعامة مراتبه، و أخصّ بالذكر منها انّه لا معبود سوى اللَّه سبحانه و لا مستعان غيره، و لأجل ذلك نرى أنّ المسلمين يقولون في كل يوم و ليلة في صلواتهم: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» و يذكر القرآن الكريم أنّ التوحيد في العبادة هو الهدف الوحيد من بعث الأنبياء قال سبحانه: «وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ» (النحل- 36) و قال سبحانه: «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ» (الأنبياء-

25).

و لا أظن أنّ أحداً من المسلمين يشك في هذه القاعدة الكلية.

نعم ربّما يقع الكلام و النقاش في الجزئيات و المصاديق الخارجية و أنّه هل هي

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 4

عبادة أو لا؟ مثلًا يقع البحث في أنّ التوسّل بالرسول بذاته و شخصيته و دعائه حيّاً و ميتاً عبادة للرسول أو توسل بالسبب.

و الذي دعاني إلى تأليف هذا الكتاب هو إيضاح بعض الأُمور الرائجة بين المسلمين من عصر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم إلى يومنا هذا و لم يكن هناك أي اختلاف فيها إلى القرن الثامن، و لكن بدأ الخلاف و النقاش فيها منذ قرون و استفحل في عصرنا هذا، فصار ذلك سبباً لتفريق الكلمة و تبدد الأُمّة إلى طائفتين: فطائفة: ترى التوسل و طلب الشفاعة و التبرك تمسكاً بالأسباب التي ندب إليها الشرع كتاباً و سنّة، و أُخرى: تنظر إليها كأنّها لا تلائم التوحيد في العبادة.

و قد عالج لفيف من المحقّقين هذه الناحية من مشاكلنا الدينية و لكن دراستهم لم تكن مركزة على البحث القرآني، فحاولت أن أعالج الموضوع من منظار القرآن الكريم و أنظر إلى التوحيد و الشرك من ذلك الجانب حتى يستبين حكم هذه الأُمور التي عُدت شركاً مضاداً للتوحيد.

و أمّا الثانية فقد دعى إليها الإسلام و قال: «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا»، و لا يشك أحد في أنّ صيانة كيان الإسلام و إعادة مجده التالد رهن توحيد الكلمة و تقريب الخطى.

و أحسب أنّي خدمت كلتا الكلمتين فأوضحت حال حكم هذه الموضوعات من كونها عبادة أم لا، و بذلك دعمت الكلمة الثانية، أعني:

توحيد الكلمة. و أرجو من اللَّه أن يكون مصباحاً لمن يريد الاهتداء.

انّه بذلك قدير و بالإجابة جدير.

و اللَّه من وراء القصد.

جعفر السبحاني

20- محرم الحرام- 1416 ه

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 5

مراتب التوحيد

اشارة

التوحيد أساس دعوة الأنبياء

التوحيد و نبذ الشرك من أهم المسائل الاعتقادية التي تصدّرت المفاهيم و التعاليم السماوية على الإطلاق، و يُعَدُّ أساساً لسائر التعاليم و المعارف الإلهية العليا التي جاء بها أنبياء اللَّه و رسله في ما أُوتوا من كتب.

ثمّ إنّ مسألة التوحيد و الشرك من المسائل التي اتّفق فيها جميع المسلمين، و لم يختلف في أُصولها أحد منهم، فهم عن بكرة أبيهم يوحّدون اللَّه سبحانه من حيث الذات، و الفعل، و العبادة.

فاللَّه سبحانه- عندهم جميعاً- واحد في ذاته لا نظير له في الوجود و لا مثيل، كما أنّه هو المؤثر و الخالق الواقعي في كل ما نسمّيه مؤثراً و خالقاً. فلو كان هناك مؤثر سواه أو خالق غيره، فإنّما يفعل و يخلق بقدرته سبحانه و إرادته.

كما أنّه هو المعبود الوحيد لا معبود سواه، و لا تحل عبادة غيره على الإطلاق. كل ذلك ممّا يؤيّده الكتاب و السنّة و العقل و الإجماع.

هذا و بما أنّ للتوحيد مراتب قد فصّلها علماء الإسلام في كتبهم الكلامية و الاعتقادية نأتي بها- هنا- على سبيل الإجمال، و نردف كل قسم من تلك الأنواع بما

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 6

يدل عليه من القرآن الكريم. غير أنّنا نركّز البحث على «التوحيد في العبادة» الذي صار ذريعة بأيدي البعض. فنقول: للتوحيد مراتب عديدة هي:

الأُولى التوحيد في الذات

و المراد منه هو أنّه سبحانه واحد لا نظير له، فرْدٌ لا مثيل له، بل لا يمكن أن يكون له نظير أو مثيل.

و يدل عليه- مضافاً إلى البراهين العقلية- قوله سبحانه:

«فاطِرُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَ مِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ».

(الشورى 11).

و قوله سبحانه:

«قُلْ هُوَ اللَّهُ

أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ* وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ». (سورة الإخلاص).

و قوله سبحانه:

«هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» (الزمر- 4).

و قوله سبحانه:

«وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» (الرعد- 16).

إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنّه تعالى واحد لا نظير له و لا مثيل، و لا ثان له و لا عديل.

و أمّا البراهين العقلية في هذا المجال، و إبطال خرافة «الثنوية» و «التثليث» فموكول إلى الكتب المدونة لذلك «1».

______________________________

(1). و قد جاء تفصيل الكلام في هذا النوع من التوحيد و غيره من الأنواع و المراتب في كتاب «مفاهيم القرآن في معالم التوحيد» الصفحة 274 للمؤلف، و للاستزادة فراجع.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 7

الثانية: التوحيد في الخالقية

و المراد منه هو أنّه ليس في صفحة الوجود خالق أصيل غير اللَّه، و لا فاعل مستقل سواه سبحانه، و أنّ كل ما في الكون من كواكب و أرض و جبال و بحار، و عناصر و معادن، و سحب و رعود، و بروق و صواعق، و نباتات و أشجار، و إنسان و حيوان، و ملك وجن، و كل ما يطلق عليه أنّه فاعل و سبب فهي موجودات غير مستقلّة التأثير، و أنّ كل ما ينتسب إليها من الآثار ليس لذوات هذه الأسباب بالاستقلال، و إنّما ينتهي تأثير هذه المؤثرات إلى اللَّه سبحانه، فجميع هذه الأسباب و المسببات- رغم ارتباط بعضها ببعض- مخلوقة للَّه، فإليه تنتهي العلّية، و إليه تؤول السببية، و هو معطيها للأشياء، و هو مجرِّد الأشياء من آثارها إن شاء.

و يدل على ذلك- مضافاً إلى الأدلة العقلية- قوله سبحانه:

«قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» (الرعد- 16).

و قوله سبحانه:

«اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ عَلى كُلِّ

شَيْ ءٍ وَكِيلٌ» (الزمر- 62).

و قوله سبحانه:

«ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ..» (المؤمن- 62).

و قوله سبحانه:

«ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فَاعْبُدُوهُ ..» (الأنعام- 102).

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 8

«هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ..» (الحشر- 24).

و قوله سبحانه:

«أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ ..» (الأنعام- 101).

و قوله تعالى:

«يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ..» (فاطر- 3).

و قوله تعالى:

«أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» (الأعراف- 54)

و أمّا البرهان العقلي على حصر الخالقية في اللَّه سبحانه فبيانه موكول أيضاً إلى الكتب الاعتقادية و الكلامية.

الثالثة: التوحيد في الربوبية و التدبير «1»

و المراد منه هو أنّ للكون مدبّراً واحداً، و متصرّفاً واحداً لا يشاركه في التدبير شي ء، فهو سبحانه المدبّر للعالم، و انّ تدبير الملائكة و سائر الأسباب بعضها لبعض إنّما هو بأمره سبحانه، و هذه على خلاف ما كان يذهب إليه بعض المشركين حيث كان يعتقد أن الذي يرتبط باللَّه تعالى إنّما هو الخلق و الإيجاد و الابتداء، و أمّا تدبير الأنواع و الكائنات الأرضية فقد فُوّض إلى الأجرام السماوية

______________________________

(1). فسر كتّاب الوهابيّة «التوحيد في الخالقية» بالتوحيد في الربوبية مع أنّ الثاني غير الأول؛ فإنّ الثاني ناظر إلى التوحيد في التدبير و الإدارة و الأول ناظر إلى التوحيد في الخلق و الإيجاد، و كان المشركون موحّدين في المجال الأوّل أي التوحيد في الخالقية، و إن كان بعضهم مشركاً في المجال الثاني أي التوحيد في التدبير و الإدارة.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 9

و الملائكة و الجن و الموجودات الروحية التي كانت تحكي عنها الأصنام

المعبودة، و ليس له أيّ دخالة في أمر تدبير الكون و إرادته، و تصريف شئونه.

إنّ القرآن الكريم ينص- بمنتهى الصراحة- على أنّ اللَّه هو المدبّر للعالم، و ينفي أيّ تدبير مستقل لغيره سبحانه، و انّه لو كان هناك مدبّر سواه فإنّما يدبّر بأمره. قال سبحانه:

«إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ» (يونس- 3).

و قال تعالى:

«اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ» (الرعد- 2).

فإذا كان هو المدبّر وحده فيكون معنى قوله سبحانه:

«فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» (النازعات- 5). و قوله سبحانه: «وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ..» (الأنعام- 61). أنّ هؤلاء مدبّرات بأمره و بإرادته، فلا يُنافي ذلك انحصار التدبير الاستقلالي في اللَّه سبحانه.

و من كان مُلمّاً بما ورد في القرآن الكريم عرف بأنّه سبحانَه حينما ينسب كثيراً من الأفعال إلى نفسه و في الوقت نفسه ينسبها إلى غيره في مواضع أُخرى لا يكون هناك أيّ تناقض أو تناف بين ذلك النفي و هذا الإثبات، لأنّ الحصر على ذاته إنّما هو على وجه الاستقلال، و لا ينافي ذلك تشريك الغير في هذا الفعل، بعنوان أنّه مظهر أمره سبحانه، و منفِّذ إرادته، و لأجل أن يظهر هذا النوع من المعارف نأتي بأمثلة في المقام:

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 10

1- يعد القرآن- في بعض آياته- قبض الأرواح فعلًا للَّه تعالى، و يصرّح بأنّ اللَّه هو الذي يتوفّى الأنفس حين موتها إذ

يقول- مثلًا-:

«اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ..» (الزمر- 42).

بينما نجده يقول في موضع آخر، ناسباً التوفّي إلى غيره:

«حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا» (الأنعام- 61).

*** 2- يأمر القرآن- في سورة الحمد- بالاستعانة باللَّه وحده، إذ يقول:

«وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ».

في حين نجده في آية أُخرى يأمر بالاستعانة بالصبر و الصلاة، إذ يقول:

«وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ» (البقرة- 45).

*** 3- يعتبر القرآن الكريم الشفاعة حقاً مختصاً باللَّه وحده، إذ يقول:

«قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً» (الزمر- 44).

بينما يخبرنا في آية أُخرى عن وجود شفعاء غير اللَّه كالملائكة:

«وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ» (النجم- 26).

***

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 11

4- يعتبر القرآن الاطّلاع على الغيب و العلم به منحصراً في اللَّه، حيث يقول:

«قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ» (النمل- 65)

فيما يخبر الكتاب العزيز في آية أُخرى عن أنّ اللَّه يختار بعض عباده لاطّلاعهم على الغيب، إذ يقول:

«وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ» (آل عمران- 179).

*** 5- ينقل القرآن عن إبراهيم عليه السلام قوله بأنّ اللَّه يشفيه إذا مرض، حيث يقول:

«وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ» (الشعراء- 80).

و ظاهر هذه الآية هو حصر الإشفاء من الأسقام في اللَّه سبحانه، في حين أنّ اللَّه يصف القرآن و العسل بأنّ فيهما الشفاء أيضاً، حيث يقول:

«فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ» (النحل- 69).

«وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ» (الأسراء- 82).

*** 6- إنّ اللَّه تعالى- في نظر القرآن- هو الرزّاق الوحيد حيث يقول: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» (الذاريات- 58).

بينما نجد القرآن يأمر المتمكنين و ذوي الطول بأن يرزقوا من يلوذ

بهم من الضعفاء، إذ يقول:

«وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ» (النساء- 5).

***

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 12

7- الزارع الحقيقي- حسب نظر القرآن- هو اللَّه، كما يقول:

«أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ* أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ» (الواقعة- 63 و 64).

في حين أنّ القرآن الكريم في آية أُخرى يطلق صفة الزارع على الحارثين، إذ يقول:

«يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ» (الفتح- 29).

*** 8- إنّ اللَّه هو الكاتب لأعمال عباده، إذ يقول:

«وَ اللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ» (النساء- 81).

في حين يعتبر القرآن الملائكة- في آية أُخرى بأنّهم المأمورون بكتابة أعمال العباد، إذ يقول:

«بَلى وَ رُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ» (الزخرف- 80).

*** 9- و في آية ينسب تزيين عمل الكافرين إلى نفسه سبحانه يقول:

«إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ» (النمل- 4)

و في الوقت نفسه ينسبها إلى الشيطان:

«وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَ قالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ» (الأنفال- 48).

و في آية أُخرى نسبها إلى آخرين و قال:

«وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» (فصّلت- 25).

***

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 13

10- مرّ في هذا البحث حصر التدبير في اللَّه حتى إذا سئل من بعض المشركين عن المدبِّر لقالوا: هو اللَّه، إذ يقول في الآية 31 من سورة يونس:

«وَ مَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ».

بينما اعترف القرآن بصراحة في آيات أُخرى بمدبرية غير اللَّه حيث يقول:

«فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» (النازعات- 5).

*** فمن لمن يكن له إلمام بمعارف القرآن يتخيّل لأوّل وهلة أنّ بين تلك الآيات تعارضاً غير أنّ الملمّين بمعارف الكتاب العزيز يدركون أنّ حقيقة هذه الأُمور (أعني الرازقية، و الإشفاء ..) قائمة باللَّه على نحو لا يكون للَّه فيها أيّ شريك فهو تعالى يقوم بها بالأصالة و على وجه «الاستقلال»، في

حين أنّ غيره محتاج إليه سبحانه في أصل وجوده و فعله، فما سواه تعالى يقوم بهذه الأفعال و الشئون على نحو «التبعية» و في ظل القدرة الإلهية.

و بما أنّ هذا العالم هو عالم الأسباب و المسببات، و أنّ كل ظاهرة لا بد أن تصدر و تتحقق من مجراها الخاص بها المقرر لها في عالم الوجود ينسب القرآن هذه الآثار إلى أسبابها الطبيعية دون أن تمنع خالقية اللَّه من ذلك، و لأجل ذلك يكون ما تقوم به هذه الموجودات فعلًا للَّه في حين كونها فعلًا لنفس الموجودات. غاية ما في الأمر أنّ في نسبة هذه الأُمور إلى الموجود الطبيعي نفسه إشارة إلى الجانب «المباشري»، و في نسبتها إلى «اللَّه» إشارة إلى الجانب «التسبيبي».

و يشير القرآن إلى كلا هاتين النسبتين في قوله سبحانه:

«وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى (الأنفال- 17).

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 14

ففي حين يصف القرآن النبي الأعظم بالرمي، إذ يقول بصراحة «إِذْ رَمَيْتَ» نجده يصف اللَّه بأنّه هو الرامي الحقيقي. و ذلك لأنّ النبي إنّما قام بما قام بالقدرة التي منحها اللَّه له، فيكون فعله فعلًا للَّه أيضاً، بل يمكن أن يقال: إنّ انتساب الفعل إلى اللَّه (الذي منه وجود العبد و قوّته و قدرته) أقوى بكثير من انتسابه إلى العبد بحيث ينبغي أن يعتبر الفعل فعلًا للَّه لا غير و لكن شدّة الانتساب هذه لا تكون سبباً لأن يكون هو اللَّه سبحانه مسئولًا عن أفعال عباده، إذ صحيح أنّ المقدمات الأوّلية للظاهرة مرتبطة باللَّه و ناشئة منه إلّا أنّه لما كان الجزء الأخير من العلّة التامة هو إرادة الإنسان و مشيئته بحيث لولاها لما تحققت الظاهرة، يعد هو مسئولًا

عن الفعل.

هذا و حيث إنّنا ركّزنا البحث- في هذه الرسالة- على بيان موازين التوحيد و الشرك من وجهة نظر القرآن الكريم، لذلك تركنا الأدلة العقلية على هذا القسم من التوحيد، غير أنّ القرآن الكريم أشار في موضعين إلى برهان هذا القسم فنذكرهما بتوضيح إجمالي فنقول:

إنّ القرآن استدلّ على وحدة المدبّر في العالم ببرهان ذا شقوق، و قد جاء البرهان ضمن آيتين تتكفّل كل واحدة منهما بيان بعض الشقوق من البرهان، و إليك الآيتين:

«لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ» (الأنبياء- 22).

«وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ» (المؤمنون- 91).

و إليك مجموع شقوق البرهان:

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 15

إنّ تصوّر تعدد المدبّر لهذا العالم يكون على وجوه:

1- أنّ يتفرد كل واحد من الآلهة المدبّرة بتدبير مجموع الكون باستقلاله؛ بمعنى أن يعمل كل واحد ما يريده في الكون دون ما منازع، ففي هذه الصورة يلزم تعدد التدبير لأنّ المدبر متعدد و مختلف في الذات فيلزم تعدد التدبير، و هذا يستلزم طروء الفساد على العالم و ذهاب الانسجام المشهود و هذا ما يشير إليه قوله سبحانه:

«لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ»

2- و أمّا أن يدبّر كل واحد قسماً من الكون الذي خلقه، و عندئذ يجب أن يكون لكل جانب من الجانبين نظام مستقل خاص مغاير لنظام الجانب الآخر و غير مرتبط به أصلًا، و عندئذ يلزم انقطاع الارتباط و ذهاب الانسجام من الكون، في حين أنّنا لا نرى في الكون إلّا نوعاً واحداً من النظام يسود كل جوانب الكون من

الذرّة إلى المجرّة.

و إلى هذا الشق أشار بقوله: في الآية الثانية:

«إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ».

3- أن يتفضّل أحد هذه الآلهة على البقية و يكون حاكماً عليهم و يوحّد جهودهم، و أعمالهم و يسبغ عليها الانسجام و الاتحاد و عندئذ يكون الإله الحقيقي هو هذا الحاكم دون الباقي.

و إلى هذا يشير قوله سبحانه:

«وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ».

فتلخّص أنّ الآيتين بمجموعهما تشيران إلى برهان واحد ذا شقوق تتكفل كل واحدة منهما بيان شق خاص.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 16

الرابعة: التوحيد في التشريع و التقنين:

لا يشك عاقل في أنّ حياة الإنسان الاجتماعية تحتاج إلى قانون ينظّم أحوال المجتمع البشري و أوضاعه و يقوده إلى الكمال الذي الذي خلق له، (و الكل ميسَّر لما خلق).

غير أنّ القرآن الكريم لم يعترف بتشريع للبشرية سوى تشريع اللَّه سبحانه، و لا قانون سوى قانونه، فهو يراه المشرّع الوحيد الذي يحق له التقنين خاصة، و غيره المنفِّذ للقانون الإلهي المطبِّق لتشريعه.

و قد وردت في هذا الصدد آيات في الذكر الحكيم نكتفي بذكر قسم منها:

«ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» (يوسف- 40).

فالمراد من حصر الحاكمية على اللَّه هو حصر الحاكمية التشريعية عليه سبحانه، فالآية تهدف إلى أنّه لا يحق لأحدٍ أن يأمر و ينهى و يُحرّم و يُحلّل سوى اللَّه سبحانه، و لأجل ذلك قال بعد قوله:

«إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ»*: «أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ».

فكأنّ أحداً يسأل عن أنّه إذا كان الأمر مختصاً به سبحانه فما ذا أمر اللَّه في مورد العبادة فأجاب على الفور:

«أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا

إِيَّاهُ».

و قال سبحانه:

«أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» (المائدة- 50).

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 17

إنّ هذه الآية تقسم القوانين الحاكمة على البشر إلى قسمين: إلهي، و جاهلي، و بما أنّ ما كان من صنع الفكر البشري ليس إلهياً فهو بالطبع يكون حكماً جاهلياً.

و قال سبحانه:

«.. وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ».

و قال:

«.. وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ».

و قال:

«.. وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» (المائدة- 44 و 45 و 47).

و هذه الآيات و إن كانت تصف الحاكم بغير ما أنزل اللَّه بالصفات الثلاث لا المقنِّن و المشرِّع البشري غير أنّها تدل تلويحاً على حرمة نفس التقنين بغير إذنه، لأنّ الهدف من تشريع الأحكام و تقنين القوانين جعلها وسيلة للحكم و القضاء، و إلّا فالتشريع و التقنين بدون التنفيذ و التطبيق لا يحوم حوله عاقل.

فهذه المقاطع الثلاثة توضح أنّ ممنوعية التقنين و التشريع بهدف الحكم على وفقه كانت موجودة في الشرائع الإلهية السالفة أيضاً، و ما ذلك إلّا لأجل أنّ التقنين أوّلًا، و الحكم ثانياً حقّ مخصوص باللَّه سبحانه، لم يفوّضه إلى أحد من خلقه، و لأجل ذلك يصف المبدِّل للنظام الإلهي بالكفر تارة، و الظلم اخرى و بالفسق ثالثة.

فهم كافرون لأنّهم يخالفون التشريع الإلهي بالرد و الإنكار و الجحود.

و هم ظالمون لأنّهم يسلمون حق التقنين الذي هو خاص باللَّه إلى غيره.

و هم فاسقون لأنهم خرجوا بهذا الفعيل عن طاعة اللَّه سبحانه.

و أمّا ما يفعله العلماء و الفقهاء فهو تخطيط كل ما يحتاج إليه المجتمع الإسلامي في إطار القوانين و الضوابط الإلهية و الإسلامية، و ليس

ذلك بتشريع أو تقنين.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 18

الخامسة: التوحيد في الطاعة:

و المراد منه أنّه ليس هناك من تجب طاعته بالذات إلّا اللَّه تعالى فهو وحده الذي يجب أن يُطاع، و هو وحده الذي يجب أن تُمتثل أوامره، و أمّا طاعة غيره فتجب بإذنه و أمره، و إلّا كانت محرّمة، موجبة للشرك.

و لأجل ذلك نجد القرآن الكريم يطرح مسألة الطاعة للَّه وحده مصرّحاً بانحصارها فيه إذ يقول:

«وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» (البيِّنة- 5) و الدين في الآية بمعنى الطاعة، أي مخلصين الطاعة له و لا يطيعون غيره.

و يقول:

«فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَ اسْمَعُوا وَ أَطِيعُوا وَ أَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ» (التغابن- 16).

ثمّ يصرّح القرآن الكريم بأنّ النبي لا يطاع إلّا بإذنه سبحانه إذ قال:

«وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ» (النساء- 64)

و على ذلك فكل من افترض اللَّهُ طاعَته، و الانقياد لأوامره، و الانتهاء عن مناهيه، فلأجل إذنه سبحانه.

فإطاعة النبي و أُولي الأمر، و الوالدين و غيرهم إنّما لأجل إذنه و أمره سبحانه، و لولاه لم تكن لتجز طاعتهم، و الانقياد لأوامرهم.

و على الجملة فهاهُنا مطاع بالذات؛ و هو اللَّه سبحانه و غيره مطاع بالعرض و بأمره. و أمّا علّة اختصاص الطاعة و وجهه فبيانه موكول إلى الكتب الكلامية.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 19

السادسة: التوحيد في الحاكمية:

لا يشك أيّ عاقل يدرك أنّ الحكومة حاجة طبيعية يتوقف عليها حفظ النظام في المجتمع البشري، و قيام الحضارة المدنية، و تعريف أفراد المجتمع بواجباتهم و وظائفهم، و ما لهم و ما عليهم من الحقوق.

و حيث إنّ إعمال الحكومة و الحاكمية في المجتمع لا ينفك عن التصرف في النفوس و الأموال، و تنظيم الحريات و تحديدها أحياناً، و التسلّط عليها، احتاج ذلك إلى ولاية بالنسبة إلى

الناس، و لو لا ذلك لَعُدَّ التصرف عدواناً.

و بما أنّ جميع الناس سواسية أمام اللَّه، و الكل مخلوق له بلا تمييز، فلا ولاية لأحد على أحد بالذات، بل الولاية للَّه المالك الحقيقي للإنسان، و الكون، و الواهب له وجوده و حياته فلا يصح لأحد الإمْرَة على العباد إلّا بإذنٍ من اللَّه سبحانه.

فالأنبياء و العلماء و المؤمنون مأذونون من قِبله سبحانه في أن يتولّوا الأمر من جانبه و يمارسوا الحكومة على الناس من قبله، فالحكومة حق مختص باللَّه سبحانه، و الامارة ممنوحة من جانبه.

قال سبحانه:

«إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» (يوسف- 40).

و الحكم له معنى وسيع أوسع من التشريع و التقنين و المراد منه هنا هو الحاكمية على الإنسان و لأجل كونه واجداً لذلك المقام، أصدر أمراً بعدم عبادة غيره.

و يوضح الانحصار قوله سبحانه:

«إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ» (الأنعام- 57).

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 20

«أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ» (الأنعام- 62)

نعم إنّ اختصاص حق الحاكمية باللَّه سبحانه ليس بمعنى قيامه شخصياً بممارسة الإمرة، بل المراد أنّ من يمثّل مقام الإمرة في المجتمع البشري يجب أنّ يكون مأذوناً من جانبه سبحانه لإدارة الأُمور، و التصرّف في النفوس و الأموال.

و لأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يمنح لبعض الأنبياء حق الحكومة بين الناس، إذ يقول:

«يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» (سورة ص- 26).

و لأجل ذلك يجب أن تكون الحكومة في المجتمع الإسلامي مأذونة من قبل اللَّه سبحانه ممضاة من جانبه، و إلّا كانت من حكم الطاغوت،

الذي شجبه القرآن في أكثر من آية.

السابعة: التوحيد في العبادة:

و المراد منه حصر العبادة للَّه سبحانه وحده و هذا هو الأصل المتفق عليه بين جميع المسلمين بلا اختلاف منهم قديماً، و في هذا العصر، فلا يكون المسلم مسلماً إلّا بعد الاعتراف بهذا الأصل.

بيد أنّ الاتفاق على هذا الأصل لا يستلزم الاتفاق في بعض الأُمور التي وقع الاختلاف في كونها عبادة لغير اللَّه سبحانه، أو أنّها تكريم و احترام، و إكبار و تبجيل.

و على الجملة فالكبرى أعني كون العبادة خاصة اللَّه لا يشاركه فيها شي ء، مما لم يختلف فيها اثنان، و إنّما الكلام في تشخيص الصغرى و إنّه هل العمل الفلاني

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 21

- مثلًا- عبادة لغير اللَّه حتى يكون نفس العمل شركاً، و الفاعل مشركاً فيخرج عن ربقة الإسلام، وجادة التوحيد، أو أنّه تكريم و تبجيل لأهداف مقدسة لا يمت إلى العبادة- فضلًا عن عبادة غير اللَّه- بصلة؟

و هذا الأصل هو الذي عزمنا في هذه الرسالة على بيانه و توضيحه فانّ كثيراً من الوهابيين جعلوا «الشرك في العبادة» ذريعة لتكفير كثير من المسلمين، و جعلهم في سلك المشركين في العبادة، و لأجل أن يتجلّى هذا الموضوع بأفضل نحو نقول:

إنّ الأصل الذي يجب أن نتوصل إليه قبل كل شي ء، هو تحديد مفهوم العبادة في ضوء القرآن الكريم و السنّة المطهرة حتى يكون معياراً ثابتاً في تشخيص العبادة عن غيرها، إذ لو لا هذا لم يثمر البحث، و لم يتم الجدال و النقاش.

فهذا هو الأصل اللازم الذي غفل عنه مؤلّفو الوهابية، فأخذوا يصفون كثيراً من أعمال المسلمين بالشرك في العبادة من دون أن يحدّدوا قبل ذلك ضابطة قرآنية ثابتة و واضحة؛ غير أنّنا قبل أنّ

نتوصل، الى تحديد مثل هذه الضابطة نقدّم أُموراً هي:

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 23

الفصل الأوّل: عشر مقدمات ضرورية ..

1- نبذ الشرك أساس دعوة الأنبياء:

الأمر الذي كان يشكّل أساس دعوة الأنبياء في جميع عهود الرسالة السماوية هو: دعوة البشر إلى عبادة (اللَّه الواحد) و الاجتناب عن عبادة غيره.

فالتوحيد في العبادة و تحطيم أغلال الشرك و الوثنية كان من أهم التعاليم السماوية التي تحتل مكان الصدارة في رسالات الأنبياء عليهم السلام حتى كأنّ الأنبياء و الرسل لم يبعثوا- أجمع- إلّا لِهدف واحد هو تثبيت دعائم التوحيد و محاربة الشرك.

لقد ذكر القرآن هذه الحقيقة- بجلاء- إذ قال:

«وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ» (النحل- 36).

«وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ» (الأنبياء- 25).

ثمّ في موضع آخر يصف القرآن الكريم التوحيد في العبادة بأنّه الأصل المشترك بين جميع الشرائع السماوية إذ يقول:

«قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 26

وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً» (آل عمران- 64).

و إذا أردت أن تعرف كيف بيّن القرآن الكريم (الشرك) في العبادة أو جميع أقسامه و صور المشرك في فقده ما يعتمد عليه في حياته فتدبّر في الآية التالية إذ يقول تعالى:

«وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ»!! (الحج- 31).

و لا يستطيع أيّ تشبيه على ترسيم بطلان الشرك و ضياع المشرك و خيبته و حيرته بأوضح مما رسمته هذه الآية الكريمة.

2- منشأ الشرك و الوثنية:

من العسير جداً إبداء الرأي في جذور الوثنية و منشأ هذا الانحراف العقيدي و نموّه بين البشر، خاصة أنّ موضوع الوثنية لم يكن عند قوم أو قومين، و لا في شكل أو شكلين، و لا في منطقة

أو منطقتين ليتيسّر للباحث إبداء نظر قطعي فيه و في نشوئه.

فالوثنية عند «عرب الجاهلية» مثلًا تختلف عمّا عليها عند «البراهمة» و هي عند «البوذيين» تختلف عمّا هي عليها عند «الهندوس» فاعتقادات هذه الطوائف و الشعوب مختلفة في موضوع الشرك بحيث يعسر تصوّر قدر مشترك بينها «1».

أمّا العرب البائدة مثل عاد و ثمود أُمم هود و صالح، و مثل سكنة مدين

______________________________

(1). شرحت دوائر المعارف، و بخاصة دائرة معارف البستاني معتقدات هذه الشعوب الآسيوية التي تعيش في رقعة كبيرة في آسيا.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 27

و سبأ: أُمم شعيب و سليمان، فكانوا بين وثنيين و عبدة الشمس «1» و قد ذكرت عقائدهم و طريقة تفكيرهم في القرآن الكريم.

و قد كان عرب الجاهلية من أولاد إسماعيل موحّدين ردحاً من الزمن، يتبعون تعاليم النبي إبراهيم و ولده إسماعيل عليهما السلام و لكن- على مر الزمان و على أثر الارتباط بالشعوب و الأُمم الوثنية- حلّت الوثنية محل التوحيد في المجتمع العربي الجاهلي تدريجيّاً «2».

هذا حال الأُمة العربية العائشة في تلكم النواحي. و أمّا الأُمّة العائشة في مكة و ضواحيها المقاربة لعصر الرسول فقد نقل المؤرخون أنّ أوّل من أدخل الوثنية في مكة و نواحيها و روّجها فيها هو: «عمرو بن لحي».

فقد رأى في سفره إلى البلقاء من أراضي الشام أُناساً يعبدون الأوثان، و عند ما سألهم عمّا يفعلون قائلًا:

ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدونها؟!

قالوا: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا و نستنصرها فتنصرنا!

فقال لهم: أ فلا تعطونني منها فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه؟

و هكذا استحسن طريقتهم و استصحب معه إلى مكة صنماً كبيراً باسم «هبل» و وضعه على سطح الكعبة المشرّفة، و دعا الناس إلى عبادتها «3»!.

ثمّ إنّه

لما أصابَ المسلمين مطرٌ في الحديبية لم يبل أسفل نعالهم أي ليلًا، فنادى منادي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: أن صَلّوا في رحالكم، و قال صلى الله عليه و آله و سلم صبيحة ليلة الحديبية لما

______________________________

(1). قال سبحانه: (وَجَدْتُها وَ قَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) (النمل- 24).

(2). و هذا يعطي أنّ الوثنية تمتدّ جذورها في المجتمع العربي الجاهلي إلى زمن بعيد و إن كان دخولها إلى مكة و ضواحيها ليس بذاك البعد حسب ما ينقله ابن هشام و غيره من أهل السيرة و التاريخ.

(3). سيرة ابن هشام: 1/ 79.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 28

صلّى بهم: «أ تدرونَ ما قال ربّكم»؟ قالوا: اللَّه و رسوله أعلم قال: قال اللَّهُ عزّ و جلّ:

صَبَّح من عبادي مؤمنٌ بي و كافر، فأمّا من قال: مُطرْنا برحمةِ اللَّه و فضله فهو مؤمن باللَّه و كافر بالكواكب، و من قال: مُطرنا بنجم كذا و في رواية بنوء كذا و كذا فهو مؤمن بالكواكب و كافر بي» «1».

و هذان النصّان التاريخيان يثبتان في نفس الوقت بأنّ العرب الجاهليين بعضهم أو كلهم كانوا مشركين في الربوبية، و معتقدين بأنّ الأمطار بيد الأصنام فكانوا يستمطرونها، و يزعمون بأنّها تمطرهم. فاجعل هذا على ذكر منك لأهميته في الأبحاث القادمة.

هذا و يرى بعض الباحثين أنّ «الوثنية» نشأت من تعظيم الشخصيات و تكريمهم و تخليدهم؛ فعند ما كان يموت أحد الشخصيات كانوا ينحتون له تمثالًا لإحياء ذكراه و تخليد مثاله في أفئدتهم، و لكن مع مرور الزمن و تعاقب الأجيال كانت تتحول هذه التماثيل- عند تلك الأقوام- إلى معبودات، و إن لم تقترن ساعة صنعها بمثل هذا الاعتقاد.

و أحياناً كان رئيس

عائلة يحظى باحترام و تعظيم كبيرين- في حياته- حتى إذا مات نحتوا له تمثالًا على صورته و عكفوا على عبادته.

و في اليونان و الروم القديمتين كان رب العائلة و رئيسها يعبد من قبل أهله فإذا توفّي عبدوا تمثاله.

و توجد اليوم في متاحف العالم أصنام و تماثيل لرجال الدين و للشخصيات البارزة الذين كانوا- ذات يوم- أو كانت أصنامهم تعبد كما يعبد الإله.

______________________________

(1). السيرة الحلبية: 3/ 29.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 29

و من محاورة النبي إبراهيم عليه السلام مع كبير قومه: «نمرود» يستفاد بوضوح أنّ نمرود كان موضع العبادة من جانب قومه.

كما يتبين بأنّ فرعون زمان موسى عليه السلام رغم أنّه كان بنفسه معبوداً عند قومه كان يعبد أصناماً، خاصة، لعلّها كانت أشكالًا لشخصيات سابقة من أسلاف فرعون، حيث يخبرنا القرآن الكريم قائلًا:

«وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَ تَذَرُ مُوسى وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ» (الأعراف- 127).

خلاصة النظر أنّ هذه الأصنام و التماثيل كانت تنحت و تصنع بادئ الأمر لتخليد ذكرى رجال دين و زعماء و شخصيات كبار، و لكن مع مرور الزمن و انقراض أجيال و حلول أجيال أُخرى مكانها كان هذا الهدف ينحرف عن مجراه الأصلي، و تتحول تلك التماثيل إلى معبودات، و تلك الأصنام إلى آلهة مزعومة.

3- حصر التوحيد في العبادة باللَّه تعالى:

و المقصود بهذا التوحيد هو أن نفرد خالق الكون بالعبادة و نرفض عبادة غيره مما يكون مخلوقاً له تعالى. و هذا في مقابل الشرك في العبادة الذي يعني أن يعبد الإنسان- رغم اعتقاده بوحدانية خالق هذا الكون- مخلوقاً، أو مخلوقات، لسبب من الأسباب.

و هذا هو ما تسميه الوهابية بالتوحيد في الألوهية، كما تسمّي التوحيد الذاتي بالتوحيد في الربوبية، و كلا

الاصطلاحين خطأ لما ستعرف من معنى الألوهية و أنَّ معناها ليس المعبودية، بل (الإله، و اللَّه) متساويان من حيث المبدأ أو المفهوم، غير

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 30

أنّ الأوّل كلّي و الثاني علم لواحد من مصاديق ذاك الكلي.

و أمّا الربوبية فهي بمعنى التدبير و التصرف في الكون، لا «الخالقية» و إن كان التدبير من حيث الأدلة الفلسفية لا ينفك عن الخالقية.

و الأولى بل المتعيّن أن نعبّر عن التوحيد الذاتي بالتوحيد في الألوهية، و أنّه ليس هناك إله إلّا اللَّه، لا أنّ هناك إله أعلى و هو اللَّه سبحانه، و آلهة صغار يملكون بعض شئونه سبحانه، من الشفاعة و المغفرة و غيرهما مما هو من أفعاله سبحانه كما كان عليه عرب الجاهلية.

كما أنّ المتعين أن نعبّر عن «التوحيد في الخلق» بالتوحيد في الخالقية لا التوحيد في الربوبية- لما عرفنا من أنّ الرب ليس بمعنى الخالق و إن كان لا ينفك عنه في الصعيد الخارجي حسب البرهان العقلي.

كما أنّ المتعين أن نعبّر عن التوحيد في العبادة بهذا اللفظ نفسه لا بالتوحيد الألوهي لما عرفت من أنّ الإله ليس بمعنى المعبود.

و الحاصل أنّه ليس المطروح في هذه المرحلة من الشرك هو: تعدد الإلهة و لا الاعتقاد بأنّ للكون أجمع خالقاً غير اللَّه الواحد الذي خلق الكون بما فيه من الآلهة المزعومة و لكن مع هذا الاعتراف ربما تترك عبادة الإله الواحد، و يعبد غيره.

و تختلف دوافع «عبادة المخلوق أو المخلوقات» عند الأُمم و الشعوب، فربما كانت علّة بسيطة، و أحياناً كان يتّخذ الدافع صبغة فلسفية.

و فيما يلي نستعرض أهم دوافع الشرك.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 31

4- دوافع الشرك في العبادة:

اشارة

نشير- من بين الدوافع الكثيرة- إلى ثلاثة:

أ) الاعتقاد بتعدّد الخالق.

كان الوثنيون و من شاكلهم من القائلين بالتثليث، بحكم اعتقادهم بالثنوية و التثليث مضطرين إلى عبادة أكثر من إله.

ففي البوذية تجلّى الإله الأزلي الأبدي في ثلاثة آلهة، أو ثلاثة مظاهر بالأسماء التالية:

1- براهما- أي الإله الموجد.

2- فيشنو- أي الإله الحافظ المبقي.

3- سيفا- أي الإله المفني.

و في النصرانية ظهر بالأسماء التالية:

1- الأب.

2- الابن.

3- روح القدس.

و في الدين الزرادشتي اعتقد- إلى جانب «اهورا مزدا» بإلهين آخرين هما:

1- يزدان.

2- اهريمن «1».

______________________________

(1). و على هذا التفسير يصير المجوس من الثنوية بلحاظ، و من أهل التثليث بلحاظ آخر فتدبّر.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 32

و إن كانت عقيدة الزرادشتيّين- الواقعة في شأن هذين الإلهين الأخيرين تكتنفها حالة من الإبهام و الغموض.

و على كل حال فإنّ الاعتقاد بتعدّد الذات الإلهية كان أحد الدوافع وراء عبادة غير اللَّه، و السبب للشرك في العبادة، و قد أبطل القرآن الكريم بالبراهين العديدة الواضحة أساس مثل هذا الاعتقاد.

ب) تصوّر ابتعاد الخالق عن المخلوق:

و قد كان الدافع الثاني لعبادة اللَّه هو تصوّر ابتعاد اللَّه عن المخلوق، بمعنى أنّهم كانوا يظنّون أنّ اللَّه بعيد عن المخلوقين لا يسمعهم و لا تبلغه أدعيتهم و طلباتهم.

و لذلك اختاروا وسائل ظنّوا أنّها تتكفّل إيصال أدعيتهم إليه، و كأنّ المقام الربوبي كالمقامات البشرية لا يمكن الوصول إليها إلّا عن طريق الوسائط، و من أجل هذا راحوا يعبدون القدّيسين و الملائكة و الجن و الأرواح لتوصل دعواتهم إلى المقام الربوبي.

و لقد أبطل القرآن الكريم هذه التصورات ببيانات متنوعة و متعدّدة يقول فيها: بأنّ اللَّه أقرب من كل قريب.

و أنّه تعالى يسمع سرهم و نجواهم و علانيتهم.

و أنّه تعالى محيط بما يسرّون و يعلنون.

و لذلك فلا حاجة إلى اتّخاذ تلك الآلهة المصطنعة، و لا حاجة إلى عبادتها،

إذ لو كان الهدف من عبادتها هو توسّطهم لإيصال مطالبهم إلى اللَّه فاللَّه يعلم بها جميعاً و هو الذي لا يعزب عنه شي ء.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 33

و جاء كل هذا في الآيات التالية:

«وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» (ق- 16).

«أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ» «1» (الزمر- 36).

«ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» «2» (غافر- 60).

«قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ» (آل عمران- 29).

«ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ» (المجادلة- 7).

و بهذه الآيات و غيرها يُبطل القرآن هذا الدافع للوثنية و الشرك ....

ج) تفويض التدبير إلى صغار الآلهة:

يجد كل إنسان في قرارة نفسه الخضوع للقدرة العليا، و يستصغر نفسه في قبالها، و مثل هذا الإحساس الفطري و إن لم يظهر على اللسان و الجوارح الأُخرى لكنّه يكمن في قرارة الضمير في صورة نوع من الإحساس بالخضوع هذا من جانب. و من جانب آخر اعتاد الإنسان على التعامل مع الموجودات المحسوسة فيريد صب كل أمر في قالب المحسوس ....

و على هذا الأساس يريد المشرك أن يصب القوى الغيبية في صورة الأجسام المشاهدة، و الأشكال المنظورة، أضف إلى ذلك أنّه لقصور فكره، أو لتصوّر أنّ كل حادثة في هذا الكون أُنيطت إلى قوة قاهرة هي أيضاً مخلوقة للَّه كإله البحر، و إله الحرب، و إله السلام، و كأنّ حكومة الكون مثل حكومات الأرض يفوّض فيها كل جانب من جوانب الحياة إلى واحد. و تكون هذه القدرة مختارة فيما تريد، و فعّالة لما

______________________________

(1). نعم ليست صراحة الآيتين في ما نرتئيه، مثل الآية المتقدمة فلاحظ.

(2). نعم ليست صراحة الآيتين في ما نرتئيه، مثل الآية المتقدمة فلاحظ.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 34

تشاء!!!

من

أجل هذا عبد سكنة شواطئ البحار (إله البحر) لكي يجود عليهم بنعم البحر و يدفع عنهم آفاته و غوائله كالطوفان؛ فيما عبد سكنة الصحاري (إله البر) ليفيض عليهم بمنافعها، و يدفع عنهم مضارها، كالزلزال و ما شابه ذلك من آفات الأرض، و غوائل الصحراء.

و لكن حيث إنّهم ما كانوا متمكّنين من رؤية هذه الآلهة التي توهّموها و اخترعوها، افترضوا لها صوراً خيالية، و أشكالًا وهمية، و نحتوا على غرارها تماثيل و أصناماً، و راحوا يعبدون هذه الأصنام المصنوعة بدلًا عن عبادة القوى الغيبية نفسها التي تمثلها هذه الأصنام- كما في زعمهم-.

لهذا السبب كان بين عرب الجاهلية فريق يعبد الملائكة، و فريق آخر يعبد الجن، و ثالث يعبد الكواكب الثابتة كالشعرى رابع يعبد الكواكب السيارة، و كان الهدف من عبادتها- جميعاً- هو جلب خيرها و نفعها، و اجتناب ضررها و شرورها.

و لقد كانوا يتمتعون- في صنع التماثيل و الأصنام- من سعة نظر خاصة، فهم لم يلزموا أنفسهم بأن يصنعوا ما ينطبق على الصور الواقعية لتلك الأشياء و لذلك كانوا يصنعون لكل واحد من الآلهة الموهومة أصناماً لا تشبه صورها الواقعية أبداً كإله الحرب، و إله السلام، و إله الحب، و لكن في كل هذا كان الدافع الوحيد هو صب الأُمور الغيبية في قالب المحسوسات، و حيث إنّ هذه الأرباب و الآلهة (الصغار) لم تكن بذاتها في متناول الإحساس، و كان للكواكب طلوع و أُفول، و كان التوجّه إليها لا يخلو- لذلك- من مشقة فتوجهوا صوب تماثيلها، و صاروا إلى عبادتها.

و لقد انتقد القرآن و شجب بشدة فكرة تفويض القدرة و أمر تدبير الكون إلى الآلهة الصغار المدعاة المخلوقة للَّه، و وصف اللَّه في مواضع عديدة، بأنّه

المدبر

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 35

الوحيد لأُمور الكون حيث يقول:

«ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ» (يونس- 3) «1».

لقد جعل القرآن الكريم- في آيات كثيرة- الخلق و الإحياء و الإماتة و تسيير الكواكب و الأفلاك و تنظيم الشمس و القمر و الأرزاق، أفعالًا مختصة باللَّه تعالى «2» و شجب بعنف و شدة كل فكرة تقضي بإشراك أية قدرة مع اللَّه، و كل فكرة تقول: بتفويض تدبير الأُمور الكونية إلى مخلوقاته.

إنّ الآيات القرآنية الواردة في هذا الشأن من الكثرة بحيث يعسر نقل عشرها هنا، و لكن للاطّلاع نذكر و نورد بعض هذه الآيات:

«إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» (الأعراف- 54).

«قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ مَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ مَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ* فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ» (يونس- 31- 32).

***______________________________

(1). راجع الرعد الآية (2) و السجدة الآية (5).

(2). اختصاص هذا النوع من الأُمور باللَّه لا يمنع من توسيط الأسباب التي تعمل هي أيضاً بأمر اللَّه و مشيئته و تكون قدرتها في طول القدرة الإلهية، و واضح أنّ الاعتقاد بتلك الأُمور بما هي أسباب لا يعني تفويض أمر الكون إليها. فراجع كتاب مفاهيم القرآن الجزء الأوّل- الفصل الثامن؛ التوحيد في الربوبية و التدبير.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 36

إلى هنا بيّنا ثلاثة دوافع للإشراك باللَّه في العبادة و لن

ندّعي- مطلقاً- بأن لا يكون ثمة دافع آخر للشرك غير ما ذكرناه، و لكن الدوافع التي ينتقدها القرآن الكريم كانت أساس نشوء الشرك و انتشاره في العالم.

إنّ المسلم المعتقد بإله الكون، الإله الواحد، الإله الحاضر في كل مكان، القريب إلى عباده، الإله الذي بيده الخلق المدبّر للكون بنفسه الذي لم يعط أمره و لم يفوّضه إلى أحد.

إنّ المسلم مع هذا الاعتقاد، لا يمكن أن يتّخذ معبوداً سوى اللَّه، بل لا تكفي عبادته وحده، إنّما يجب عليه أن يحارب عقائد الشرك و الوثنية، و أن لا يرضى بتجاوز أحد عن دائرة التوحيد لحظة واحدة.

*** و حول الدافع الثالث نذكّر بنكتة مهمة و هي: أنّه قد يمكن أنّ يعتقد أحد بأن أمر الكون كلّه للَّه، و لم يسلّم هذا النوع من الأُمور إلى غيره، و لكن يعتقد بأنّ الأُمور المعنوية التي ترتبط بأعمال العباد كالشفاعة و المغفرة الّتي هي من الأُمور المختصة باللَّه قد أعطاها و منحها للأفراد، و هذا هو أحد دوافع عبادة غير اللَّه، و لقد جعل القرآن الكريم: الشفاعة- بصراحة تامة- محض حق اللَّه فلا يمكن لأحد أن يشفع بدون إذنه إذ يقول:

«قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً» (الزمر- 44).

كما جعل الغفران و المغفرة لذنوب عباده حقاً مختصاً به سبحانه لا يشاركه فيه أحد غيره، و من زعم أنّ المغفرة بيد غيره سبحانه فقد أشرك.

قال تعالى:

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 37

«فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ» (آل عمران- 135).

و لقد كان فريق من وثنيي عصر الرسالة يعبدون الأصنام التي كانوا يتصورون أنّها من ذوي النفوذ عند اللَّه، أنّها أُنيطت بهم أُمور الشفاعة و المغفرة.

و سوف نتحدث في البحوث القادمة حول هذا النوع من

الشرك الذي هو أضعف أنواعه. و إذا تبيّنت هذه الدوافع و اتّضحت لنا كيفية انتقاد القرآن الكريم لها يلزم أن نلتفت إلى ما يذكره أغلب كتّاب الوهابيين و مؤلّفيهم في كتبهم.

5- تفسير التوحيد الألوهي و الرُّبوبي:

لم يزل مؤلّفوا الوهابية يعترفون بنوعين من التوحيد و يسمّون النوع الأوّل من التوحيد ب «التوحيد الربوبي» و يسمّون النوع الآخر ب «التوحيد الألوهي» ثمّ يذكرون أنّ التوحيد الربوبي، و الاعتقاد بوحدانية الخالق لا يكفي بمجرده في التوحيد الذي بعث الأنبياء و الرسول الأعظم خاصة من أجل إقراره و نشره في المجتمع الإنساني، بل يجب- علاوة على التوحيد الربوبي- أن يفرد اللَّه بالعبادة و لا يشرك به أحد، لأنّ مشركي العرب مع أنّهم كانوا يوحّدون خالق الكون و يعتقدون بأنّه واحد لا أكثر فأنّ القرآن كان يعتبرهم مشركين إذ يقول:

«وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ» (يوسف- 106) «1».

______________________________

(1). «فتح المجيد» تأليف الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب المتوفى عام (1285 ه): ص 12 و 20 و هذا يدرّس الآن في المناهج الدراسية عندهم، و يؤكدون على هذين النوعين من التوحيد ثمّ يتهمون المسلمين بأنّهم موحّدون ربوبياً لا ألوهياً.

و قد عرفت في ما مضى أنّ تسمية التوحيد في الخالقية بالتوحيد الربوبي، و تسمية التوحيد في العبادة بالتوحيد الألوهي خطأ من حيث اللغة و مصطلح القرآن.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 38

و لا كلام في هذا المطلب و ليس من المسلمين أحد يتحلّى بالواقعية ينكر عدم كفاية التوحيد الربوبي وحده، بل للتوحيد- كما أسلفنا- مراحل أربع و إن اقتصر الوهابيون على مرحلتين منها و نسوا أو تناسوا المرحلتين الأُخريين.

غير أنّ الجدير بالذكر هو: أنّه لا يختلف أحد مع هؤلاء

في هذه المسألة الكلية، فالجميع متّفقون على وجوب الاجتناب عن عبادة غير اللَّه، و لكن المهم هو أنّ الوهابيين يتصوّرون أنّ تعظيم الأنبياء، و أولياء اللَّه- مثلًا- عبادة، في حين أنّ بين التعظيم و العبادة- في نظر الآخرين- بوناً شاسعاً و فرقاً كبيراً جداً.

و بعبارة أُخرى ليس بين المسلمين خلاف في هذا الأصل الكلّي، و هو عدم جواز عبادة غير اللَّه أبداً، و إنّما الخلاف هو في نظر الفرقة الوهابية إلى بعض الأعمال- كالزيارة مثلًا عند بعضهم- حيث اعتبرتها عبادة، في حين لا تكون هذه الأعمال عبادة- في نظر الآخرين-.

و بصيغة علمية لا بد أن نقول: ليس الخلاف في الكلّي و إنّما الخلاف هو في تعيين المصداق.

و لأجل حل هذه المشكلة لا بد- أوّلًا- من التعرّف على المفهوم الواقعي للعبادة لنميّز في ضوء ذلك: العبادة عن غيرها.

و هكذا أيضاً يمكن الوقوف على حقيقة الحال في غير موضوع الزيارة من الأُمور التي يعدها الوهابيون من العبادة كالتوسل بأولياء اللَّه، و طلب الحاجة منهم في حين يخالفهم المسلمون في ذلك، فيجوّزون هذه التوسلات، و يعتبرونها نوعاً من الأخذ و التمسك بالأسباب، الذي ورد في الشرع الشريف.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 39

6- هل العبادة هي مطلق الخضوع أو التكريم؟

لأئمة اللغة العربية في المعاجم تعاريف متقاربة للفظة العبادة، فهم يفسّرون العبادة بأنّها «الخضوع و التذلّل» و إليك فيما يلي نص أقوالهم:

1- يقول ابن منظور في «لسان العرب»: «أصل العبودية: الخضوع و التذلّل».

2- و يقول الراغب في «المفردات»:

«العبودية: إظهار التذلّل، و العبادة أبلغ منها، لأنّها غاية التذلّل، و لا يستحق إلّا من له غاية الإفضال، و هو اللَّه تعالى، و لهذا قال: «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ».

3- و في «القاموس المحيط» للفيروزآبادي: «العبادة: الطاعة».

4- و قال

ابن فارس في «المقاييس»:

«العبد له أصلان كأنهما متضادان، و الأوّل من ذينك الأصلين يدلّ على لين و ذل، و الآخر على شدّة و غلظ». ثمّ أتى بموارد المعنى الأوّل و قال: من الباب الأول: البعير المعبد أي المهنوء بالقطران، و هذا أيضاً يدل على ما قلناه لأنّ ذلك يذلّه و يخفض منه.

و المعبد: الذلول، يوصف به البعير أيضاً.

و من الباب الثاني: الطريق المعبّد، و هو المسلوك المذلّل.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 40

7- ليس مطلق الخضوع عبادة:

بيد أنّ العبادة و إن فسّروها بالطاعة و الخضوع و التذلّل أو إظهار نهاية التذلّل، لكن جميع هذه التعاريف ما هي إلّا نوع من التعريف بالمعنى الأعم، لأنّ الطاعة و الخضوع و إظهار التذلّل ليست- على وجه الإطلاق- عبادة، لأنّ خضوع الولد أمام والده، و التلميذ أمام أُستاذه، و الجندي أمام قائده لا يعدّ عبادة مطلقاً مهما بالغوا في الخضوع و التذلّل، و تدلّ الآيات- بوضوح- على أنّ غاية الخضوع و التذلّل، فضلًا عن كون مطلق الخضوع، ليست عبادة، و دونك تلك الآيات:

1- سجود الملائكة لآدم الذي هو من أعلى مظاهر الخضوع حيث قال سبحانه:

«وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ» (البقرة- 34)

فالآية تدل على أنّ آدم وقع مسجوداً للملائكة، و لم يحسب سجودهم له شركاً و عبادة لغير اللَّه، و لم تعد الملائكة بذلك العمل مشركة، و لم يجعلوا بعملهم ندّاً للَّه و شريكاً في المعبودية، بل كان عملهم تعظيماً لآدم و تكريماً لشأنه.

و هذا هو نفسه خير دليل على أنّه ليس كل تعظيم أمام غير اللَّه عبادة له، و أنّ جملة: «اسْجُدُوا لِآدَمَ» و إن كانت متّحدة مع جملة:

«اسْجُدُوا لِلَّهِ» إلّا أنّ الأول لا يعدّ أمراً بعبادة غيره سبحانه و يعد

الثاني أمراً بعبادة اللَّه «1».

و يمكن أن يتصوّر- في هذا المقام- أنّ معنى السجود لآدم- في هذه الآية- هو الخضوع له لا السجود بمعناه الحقيقي و المتعارف، و معلوم أنّ مطلق الخضوع ليس عبادة بل «غاية الخضوع» التي هي السجود، هي التي تكون عبادة. أو يمكن

______________________________

(1). و هذا يدل على أنّ الاعتبار إنّما هو بالنيات و الضمائر لا بالصور و الظواهر.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 41

أنّ يتصوّر أنّ المقصود بالسجود لآدم هو جعله «قبلة» لا السجود له سجوداً حقيقياً.

و لكن كلا التصورين باطلان.

أمّا الأوّل فلأنّ تفسير السجود في الآية بالخضوع خلاف الظاهر، و المتفاهم العرفي إذ المتبادر من هذه الكلمة- في اللغة و العرف- هو الهيئة السجودية المتعارفة لا الخضوع، كما أنّ التصوّر الثاني هو أيضاً باطل، لأنّه تأويل بلا مصدر و لا دليل.

هذا مضافاً إلى أنّ آدم عليه السلام لو كان قبلة للملائكة لما كان ثمة مجال لاعتراض الشيطان إذ قال:

«أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً» (الإسراء- 61).

لأنّه لا يلزم- أبداً- أن تكون القبلة أفضل من الساجد ليكون أي مجال لاعتراضه، بل اللازم هو: كون المسجود له أفضل من الساجد في حين أنّ آدم لم يكن أفضل في نظر الشيطان، و هذا ممّا يدل على أنّ السجود كان لآدم لا أن يكون آدم قبلة.

يقول الجصاص: و من الناس من يقول: إنّ السجود كان للَّه و آدم بمنزلة القبلة لهم و ليس هذا بشي ء لأنّه يوجب أن لا يكون في ذلك حظ التفضيل و التكرمة، و ظاهر ذلك يقتضي أن يكون آدم مفضّلًا مكرّماً، و يدل على أنّ الأمر بالسجود قد كان أراد به تكرمة آدم عليه السلام و تفضيله، قول إبليس فيما حكى

اللَّه عنه:

«أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً* قالَ أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ» (الإسراء- 61- 62).

فأخبر إبليس أنّ امتناعه من السجود لأجل ما كان من تفضيل اللَّه و تكرمته بأمره إيّاه بالسجود له و لو كان الأمر بالسجود له على أنّه نصب قبلة للساجدين

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 42

من غير تكرمة له و لا فضيلة لما كان لآدم في ذلك حظ و لا فضيلة تُحسَد كالكعبة المنصوبة للقبلة «1».

و على هذا فمفهوم الآية هو أنّ الملائكة سجدوا لآدم بأمر اللَّه سجوداً واقعياً، و أنّ آدم أصبح مسجوداً للملائكة بأمر اللَّه، و هنا أظهر الملائكة من أنفسهم غاية الخضوع أمام آدم، و لكنّهم- مع ذلك- لم يكونوا ليعبدوه.

و أمّا ربّما يتصوّر من أنّ سجود الملائكة لما كان بأمره سبحانه صح سجودهم له، إنّما الكلام في الخضوع الذي لم يرد به أمر، فسيوافيك الجواب عن هذا الاحتمال الذي يردّده كثير من الوهابيين في المقام.

2- إنّ القرآن يصرّح بأنّ أبوي يوسف و إخوته سجدوا له حيث قال:

«وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَ قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا» (يوسف- 100).

و رؤياه التي يشير إليها القرآن في هذه الآية هو ما جاء في مطلع السورة:

«إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ» (يوسف- 4).

و قد تحقّقت هذه الرؤيا بعد سنوات طويلة في سجود إخوة يوسف و أبويه له، و عبّر القرآن- في كل هذه الموارد- بلفظ السجود ليوسف.

و من هذا البيان يستفاد- جلياً- أنّ مجرد السجود لأحد بما هو مع قطع النظر عن الضمائم و الدوافع ليس عبادة، و السجود كما نعلم هو

غاية الخضوع و التذلّل.

ثمّ إنّ بعض من يفسّر العبادة بمطلق الخضوع يجيب عن الاستدلال بهذه الآيات بأنّ السجود لآدم أو ليوسف، حيث كان بأمر اللَّه سبحانه فبذلك خرج عن كونه شركاً. و سنرجع إلى هذا البحث تحت عنوان «هل الأمر الإلهي يجعل

______________________________

(1). أحكام القرآن: 1/ 302.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 43

الشرك غير شرك؟» فلاحظ.

3- يأمر اللَّه تعالى بالخضوع أمام الوالدين و خفض الجناح لهم، الذي هو كناية عن الخضوع الشديد يقول:

«وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ» (الإسراء- 24).

و مع ذلك لا يكون هذا الخفض: عبادة.

4- إنّ جميع المسلمين يطوفون- في مناسك الحج- بالبيت الذي لا يكون إلّا حجراً و طيناً، و يسعون بين الصفا و المروة و قد أمر القرآن الكريم بذلك حيث قال:

«وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ» (الحج- 29).

«إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما» (البقرة- 158)

فهل ترى يكون الطواف بالتراب و الحجر و الجبل عبادة لهذه الأشياء؟

و لو كان مطلق الخضوع عبادة لزم أن تكون جميع هذه الأعمال ضرباً من الشرك المجاز المسموح به، تعالى اللَّه عن ذلك علواً كبيراً.

إنّ المسلمين كلّهم يستلمون الحجر الأسود- في الحج- و استلام الحجر الأسود من مستحبات الحج، و هذا العمل يشبه من حيث الصورة (لا من حيث الواقعية) أعمال المشركين تجاه أصنامهم في حين أنّ هذا العمل يعدّ في صورة شركاً، و في أُخرى لا يعد شركاً بل يكون معدوداً من أعمال الموحدين المؤمنين و هذا يؤيد ما ذكرناه آنفاً من أنّ الملاك هو النيات و الضمائر لا الصور و الظواهر و إلّا فهذه الأعمال بصورها الظاهرية لا تفترق عن أعمال الوثنيين.

5- إنّ

القرآن الكريم يأمر بأن نتخذ من مقام إبراهيم مصلّى عند ما يقول:

«وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» (البقرة- 125).

و لا ريب في أنّ الصلاة إنّما هي للَّه، و لكن إقامتها في مقام إبراهيم الذي يرى

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 44

فيه أثر قدميه أيضاً نوع من التكريم لذلك النبي العظيم و لا يتصف هذا العمل بصفة العبادة مطلقاً.

6- إنّ شعار المسلم الواقعي هو التذلّل للمؤمن و التعزّز على الكافر كما يقول سبحانه:

«فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ» (المائدة- 54).

إنّ مجموع هذه الآيات من جانب و مناسك الحج و أعماله من جانب آخر تدل على أن مطلق الخضوع و التذلّل، أو التكريم و الاحترام ليس عبادة، و إذا ما رأينا أئمة اللغة فسّروا العبادة بأنّها الخضوع و التذلّل كان هذا من التفسير بالمعنى الأوسع، أي أنهم أطلقوا اللفظة و أرادوا بها المعنى الأعم، في حين أنّ العبادة ليست إلّا نوعاً خاصاً من الخضوع سنذكره عمّا قريب.

و من هذا البيان يمكن أيضاً أن نستنتج أنّ تكريم أحد و احترامه ليست- بالمرة- عبادة، لأنّه في غير هذه الصورة يلزم أن نعتبر جميع البشر حتى الأنبياء مشركين، لأنّهم أيضاً كانوا يحترمون من يجب احترامه.

و قد أشار المرحوم الشيخ جعفر كاشف الغطاء (و هو أول من أدرك- في عصره- عقائد الوهابية و أخضعها للتحليل) أشار إلى ما ذكرنا إذ قال:

«لا ريب أنّه لا يراد بالعبادة التي لا تكون إلّا للَّه، و من أتى بها لغير اللَّه فقد كفر، مطلق الخضوع و الانقياد كما يظهر من كلام أهل اللغة، و إلّا لَزم كفر العبيد و الاجراء و جميع الخدّام للأُمراء، بل كفر الأنبياء

في خضوعهم للآباء» «1».

______________________________

(1). راجع منهج الرشاد: 24 (ط 1343 ه) تأليف الشيخ الأكبر المرحوم الشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفى عام (1228 ه). و قد ألّف المرحوم هذا الكتاب في معرض الإجابة على رسالة من أحد أُمراء السعودية الذين كانوا من مروّجي الوهابية منذ أول يوم إلى زماننا هذا.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 45

8- تميز المعنى الحقيقي عن المجازيّ:

نعم ربما تستعمل لفظة العبادة و ما يشتق منها في موارد في العرف و اللغة و لكن استعمال لفظ في معنى ليس دليلًا على كونه مصداقاً حقيقيّاً لمعنى اللفظ، بل قد يكون من باب تشبيه المورد بالمعنى الحقيقي لوجود مناسبة بينهما و إليك هذه الموارد:

1- العاشق الولهان الذي يظهر غاية الخضوع أمام معشوقته، و يفقد تجاه طلباتها عنان الصبر و مع ذلك لا يسمّى مثل هذا الخضوع «عبادة» و إن قيل في حقه مجازاً إنّه (يعبد المرأة).

2- الأشخاص الذين يأسرهم الهوى فيفلت من أيديهم- تحت نداءات النفس الأمّارة- زمام الاختيار لا يمكن اعتبارهم عبدة واقعيين للهوى و لا عدّهم مشركين، كمن يعبد الوثن و لو قيل في شأنه إنّه (يعبد هواه) فإن ذلك نوع من التشبيه و ضرب من التجوز.

فها هو القرآن يسمّي الهوى إلهاً و يلازم ذلك كون الخضوع للهوى عبادة له لكن مجازاً إذ يقول:

«أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا» (الفرقان- 43)

فكما أنّ إطلاق اسم الإله على الهوى نوع من التجوّز فكذا إطلاق العبادة على متابعة الهوى هو أيضاً ضرب من المجاز.

3- هناك فريق من الناس يضحّون بكل شي ء في سبيل الحصول على جاه و منصب حتى ليقول الناس في حقّهم إنّهم يعبدون الجاه و المنصب، و لكنّهم في نفس الوقت لا يُعدّون

عبدة حقيقيين للجاه، و لا يصيرون بذلك مشركين.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 46

4- إنّ المتوغلين في العنصرية- كبني إسرائيل- و في الأنانية، الذين لا يهمّهم إلّا المأكل و المشرب رغم أنّهم يطلق عليهم بأنّهم عباد العنصر و النفس و الشيطان، و لكن الوجدان يقضي بأنّ عملهم لا يكون عبادة ... و انّ إتباع الشيطان شي ء و عبادته شي ء آخر.

و إذا ما رأينا القرآن يسمّي طاعة الشيطان «عبادة» فذلك ضرب من التشبيه، و الهدف منه هو بيان قوة النفرة و شدة الاستنكار لهذا العمل، إذ يقول:

«أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» (يس: 60- 61).

و مثل هذه الآية، الآيتان التاليتان:

1- «يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا» (مريم- 44).

2- «أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَ قَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ» (المؤمنون- 47)

لا شك في أنّ بني اسرائيل ما كانوا يعبدون فرعون و ملأه غير أنّ استذلالهم لما بلغ إلى حد شديد صح أن يطلق عليه عنوان العبادة على نحو المجاز.

و القرآن و إن أطلق على هذه الموارد عنوان العبادة لكن لا بمعنى أنّه جعلهم في عداد المشركين. فلا يمكن التصديق بأنّ كل خضوع و طاعة و كل تكريم و احترام «عبادة» و عند ذاك يستكشف أنّ استعمالها في هاتيك الموارد بعناية خاصة، و علاقة مجازية.

و بعبارة أُخرى أنّ عُبّاد الهوى و النفس و الجاه و ... و إن كانوا يعتبرون مذنبين، تنتظرهم أشد العقوبات إلّا أنّه لا يكونون في عداد المشركين في العبادة الذين لهم أحكام خاصة في الفقه الإسلامي.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 47

كيف لا، و نحن نقرأ في

الحديث الشريف:

«من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق يؤدي عن اللَّه عزّ و جلّ فقد عبد اللَّه و إن كان الناطق يؤدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان» «1».

فالناس يستمعون اليوم إلى وسائل الإعلام و يصغون إلى أحاديث المتحدّثين و المذيعين من الراديو و التلفزيون، و أكثر أُولئك المتحدّثين ينطقون عن غير اللَّه، فهل يمكن لنا أن نصف كل من يستمع إلى تلك الأحاديث بأنهم عبدة لأُولئك المتحدثين؟!

بل الصحيح هو أن نعتبر استعمال لفظ العبادة في مثل هذه الموارد نوعاً من التجوّز، لأجل وجود المناسبة بين المعنى الحقيقي و المعنى المجازي.

فلطالما يتردّد في لسان العرف بأنّ فلاناً (عبد البطن) أو (عبد الشهوة) فهل يكون هؤلاء- حقاً- عبدة البطن و الشهوة، أو لأنّ الخضوع المطلق تجاه نداءات الشهوات النفسانية حيث كان شبيهاً بالخضوع المطلق الذي يمثله الموحدون أمام خالق الكون، أطلق عنوان العبادة على هذه الموارد.

9- هل الأمر الإلهي يجعل الشرك غير شرك؟

ربما يقال: إنّ سجود الملائكة لآدم، و استلام الحجر الأسود، و ما شابههما من الأعمال لما كان بأمر اللَّه، لا يكون شركاً، و لا يعد فاعلها مشركاً «2».

و بعبارة أُخرى أنّ حقيقية العبادة و إن كانت الخضوع و الاحترام، و لكن لمّا كانت تلك الأعمال مأتيّاً بها بأمره سبحانه تعد عبادة للآمر لا لسواه.

______________________________

(1). الكليني: الكافي: الجزء 7/ 434. سفينة البحار ج 2 مادة «عبد».

(2). القائل هو الشيخ عبد العزيز إمام المسجد النبوي في محاورته مع بعض الأفاضل.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 48

و لكن القائل و من تبعه يغفلون عن نقطة مهمة جداً و هي:

إنّ تعلّق الحكم بموضوع لا يغيّر- بتاتاً- حقيقة ذلك الموضوع، و لا يوجب تعلّق الأمر الإلهي به تبدّل ماهيته.

إنّ العقل السليم يقضي بأن سبّ

أحد و شتمه إهانة له- طبعاً- و ذلك شي ء تقتضيه طبيعة السباب و الفحش و الشتم، فإذا أوجب اللَّه سب أحد و شتمه- فرضاً- فأنّ أمر اللَّه لا يغير ماهية السبب و الشتم- أبداً-.

كما أنّ الضيافة و إقراء الضيف بطبيعتهما تكريم للوافد، و احترام للضيف، فإذا حرمت ضيافة شخص لم تتبدّل ماهية العمل، أعني الضيافة التي كانت بطبيعتها احتراماً، لتصير إهانة في صورة تحريمها، بل تبقى ماهية الضيافة على ما كانت عليه و لو تعلّق بها تحريم فإذا عدّت أعمال- كالسجود و استلام الحجر الأسود و ما شابههما- عبادة ذاتاً فإنّ الأمر الإلهي لا يغير ماهيتها، فلا تخرج من حال كونها عبادة لآدم أو يوسف أو الحجر، و ما يقوله القائل من أنّها عبادة ذاتاً و طبيعةً، و لكن حيث تعلّق بها الأمر الإلهي خرجت عن الشرك، يستلزم أن تكون هذه الأعمال من الشرك المجاز، و تخصيصاً في حكمه و هو لا يقبل التخصيص.

و الخلاصة أنّ المسألة تدور مدار إمّا أن نعتبر هذه الأعمال خارجة- بطبيعتها عن مفهوم الشرك، أو أن نقول إنّها من مصاديق الشرك في العبادة و لكنّها شرك أذن اللَّه به و أجازه!!!

و القول الثاني على درجة من البطلان بحيث لا يمكن أن يحتمله أحد فضلًا عن الذهاب إليه، و سيوافيك أنّ بعض الأعمال يمكن أن تكون باعتبارٍ تعظيماً و تواضعاً، و باعتبارٍ آخر شركاً، فلو كانت الملائكة- مثلًا- تسجد لآدم باعتقاد أنّه إله كان عملهم شركاً قطعاً و إن أمر اللَّه به- على وجه الافتراض- و أمّا إذا كانت تسجد بغير هذا الاعتقاد لم يكن فعلها شركاً حتى لو لم يأمر به المولى جلّ شأنه.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 49

لقد

كان الشيخ عبد العزيز إمام المسجد النبوي يحاول توجيه صحة و شرعية هذه الاحترامات بورود الأمر الإلهي بشأنها، و يستشهد بما قاله عمر بن الخطاب حول الحجر الأسود إذ قال- ما مضمونه-: «إنّي أعلم أنّك حجر لا تنفع و لا تضر و لو لا أنّي رأيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم يقبّلك لما قبّلتك» «1».

و لكنّه كان غافلًا عن: إنّ مفاد كلامه هو أن تكون هذه الأفعال من الشرك المجاز في هذه الحالة، و بالتالي أن يأمر اللَّه بالفحشاء و لو مرّة واحدة.

و نلفت نظر الشيخ إلى الآية الكريمة:

«قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ»؟ (الأعراف- 28).

فلو كانت ماهية السجود لآدم عليه السلام و استلام الحجر الأسود عبادة لآدم و الحجر و شركاً، لما كان اللَّه سبحانه، يأمر بها- أبداً-.

10- معنى الألوهية و الربُوبية:

اشارة

و أمّا الألوهية فلا نظن أنّ القارئ الكريم يحتاج في فهم معنى «إله» إلى التعريف، فإنّ لفظي: «إله» و «اللَّه» من باب واحد فما هو المتفاهم من الثاني أي «اللَّه» هو المتفاهم من الأوّل أي «إله». و إن كانا يختلفان في المفهوم اختلاف الكلّي و الفرد.

غير أنّ لفظ الجلالة علم لفرد من ذاك الكلّي و لمصداق منه، دون ال «إله» فهو باق على كلّيته و إن لم يوجد عند الموحّدين مصداق له بل انحصر فيه. فكما أنّه لا يحتاج في الوقوف على معنى لفظ الجلالة إلى التعريف فلفظة «إله» مثله

______________________________

(1). صحيح البخاري: 3/ 149، كتاب الحج، طبعة عثمان خليفة.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 50

التوحيد و الشرك فى القرآن 99

أيضاً، إذ ليس ثمة من فارق بين اللفظتين إلّا فارق الجزئية و الكلّية، فهما

على وجه كزيد و إنسان، بل أولى منهما لاختلاف الأخيرين (زيد و إنسان) في مادة اللفظ بخلاف «إله» و «اللَّه» فهما متحدان في تلك الجهة، و ليس لفظ الجلالة إلّا نفس إله حذفت همزته و أُضيفت إليه «الألف و اللام» فقط، و ذلك لا يخرجه عن الاتحاد، لفظاً و معنى.

و إن شئت قلت: إنّ هاهنا اسماً عاماً و هو «إله» و يجمع على «آلهة» و اسماً خاصاً و هو «اللَّه» و لا يجمع أبداً. و يرادفه في الفارسية «خدا» و في التركية «تاري» و في الانگليزية «گاد». غير أنّ الاسم العام و الخاص في اللغة الفارسية واحد و هو «خدا» و يعلم المراد منه بالقرينة، غير أنّ «خداوند» لا يطلق إلّا على الاسم الخاص. و أمّا «گاد» في اللغة الانجليزية فكلّما أُريد منه الاسم العام كتب على صورة «god» و أمّا إذا أُريد الاسم الخاص فيأتي على صورة «God» و بذلك يشخّص المراد منه.

و لعل اختصاص هذا الاسم (اللَّه) بخالق الكون كان بهذا النحو: و هو أنّ العرب عند ما كانت في محاوراتها تريد أن تتحدث عن الخالق كانت تشير إليه ب «الإله» أي الخالق، و الألف و اللام المضافتان إلى هذه الكلمة كانتا لأجل الإشارة الذهنية (أي الإشارة إلى المعهود الذهني)، يعني ذاك الإله الذي تعهده في ذهنك و هو ما يسمّى في النحو بلام العهد، ثمّ أصبحت كلمة «الإله» مختصة في محاورات العرب بخالق الكون و مع مرور الزمن انمحت الهمزة الكائنة بين اللامين و سقطت من الألسن و تطوّرت الكلمة من «الإله» إلى «اللَّه» التي ظهرت في صورة كلمة جديدة و اسم خاص بخالق الكون تعالى و علماً له سبحانه «1».

و إلى

ما ذكرنا يشير العلامة الزمخشري في «كشّافه»:

______________________________

(1). في هذا الصدد نظريات أُخرى أيضاً راجع لمعرفتها تاج العروس: 9/ مادة «إله».

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 51

[ «اللَّه» أصله: «الإله»، قال الشاعر:

معاذ الإله أن تكون كظبيةو لا دمية و لا عقيلة ربرب «1»

و نظيره: الناس أصله: الاناس، فحذفت الهمزة، و عوض عنها حرف التعريف،

و لذلك قيل في النداء: تاللَّه، بالقطع، كما يقال: يا إله، و الإله من أسماء الأجناس كرجل و فرس «2».

و ينقل العلامة الطبرسي في «تفسيره» عن سيبويه أنّ «اللَّه» أصله «إله» على وزن فعال فحذفت فاء فعله، و هي الهمزة، و جعلت الألف و اللام عوضاً لازماً عنها، بدلالة استجازتهم قطع هذه الهمزة الداخلة على لام التعريف في القسم و النداء في قوله: يا اللَّه اغفر لي، و لو كانت غير عوض لم تثبت الهمزة في الوصل كما لم تثبت في غير هذا الاسم «3».

و قال الراغب في «مفرداته»: «اللَّه أصله إله فحذفت همزته و أدخل عليه الألف و اللام، فخصّ بالباري و لتخصّصه به قال تعالى: «هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا»» «4».

و على ذلك فلا نحتاج في تفسير «إله» إلى شي ء وراء تصوّر أنّ هذا اللفظ كلّي، لما وضع عليه لفظ الجلالة. و بما أنّ هذا اللفظ من أوضح المفاهيم، و أظهرها فلا نحتاج في انفهام اللفظ الموضوع الكلّي إلى شي ء أبداً. نعم أنّ لفظ الجلالة و إن كان علماً للذات المستجمعة صفات الكمال، أو الخالق للأشياء، إلّا أنّ كون الذات مستجمعة لصفات الكمال، أو خالقاً للأشياء، ليس من مقوّمات معنى الإله، بل من الخصوصيات الفردية التي بها يمتاز الفرد عمّن سواه من

______________________________

(1). استعاذ الشاعر باللَّه من تشبيه حبيبته بالظبية أو

الدمية، و الربرب هو السرب من الوحش.

(2). الكشاف: 1/ 30، تفسير البسملة.

(3). مجمع البيان: 1/ 19، طبعة صيدا.

(4). مفردات الراغب: 31، مادة إله.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 52

الأفراد، و أمّا الجامع بينه و بين سائر الأفراد، أو التي ربما تفرض (لا المحقّقة) فهو أمر سواه سنشير إليه.

و يؤيد وحدة مفهومهما، بالذات، مضافاً إلى ما ذكرناه من وحدة مادتهما: أنّه ربما يستعمل لفظ الجلالة مكان الإله «1» أي على وجه الكلّية و الوصفية، دون العلمية فيصح وضع أحدهما مكان الآخر، كما في قوله سبحانه:

«وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ» (الأنعام- 3).

فإنّ وزان هذه الآية وزان قوله سبحانه:

«وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ» (الزخرف- 84).

«وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ» (النساء- 171).

«هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ» «هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (الحشر: 23- 24).

و لا يخفى أنّ لفظة الجلالة في هذه الموارد و ما يشابهها يراد منه ما يرادف الإله على وجه الكلية، (أي ما معناه أنّه هو الإله الذي يتصف بكذا و كذا).

و يقرب من الآية الأُولى قوله سبحانه:

«قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (الإسراء- 110)

______________________________

(1). استعمالًا مجازياً مثل قول القائل: هذا حاتم قومه و يونس أبنائه.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 53

فإنّ جعل لفظ الجلالة في عداد سائر الأسماء و الأمر بدعوة

أيّ منها، ربما يشعر بخلوّه عن معنى العلمية، و تضمّنه معنى الوصفية الموجودة في لفظ: «الإله» و غيره، و مثله قوله سبحانه:

«هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (الحشر- 24)

فلا يبعد في هاتين الآيتين أن يكون لفظ الجلالة ملحوظاً على وجه الكلّية لا العلمية الجزئية، كما هو الظاهر لمن أمعن فيها.

نعم، ربما يقال من أنّ لفظ الجلالة من إله بمعنى عبد، أو من إله بمعنى تحيّر، لأجل أنّ العبد إذا تفكّر فيه تحيّر، أو من إله معنى فزع لأنّ الخلق يفزعون إليه في حوائجهم، أو من إله بمعنى سكن لأنّ الخلق يسكنون إلى ذكره.

أو أنّه متّخذ من لاه بمعنى احتجب لأنّه تعالى المحتجب عن الأوهام، أو غير ذلك ممّا ذكروه «1» و لكن ذلك مجرد احتمالات غير مدعمة بالدليل، و على فرض صحتها، أو صحة بعضها فلا تدل على أكثر من ملاحظة تلك المناسبات يوم وضع و أُطلق لفظ الجلالة أو لفظ الإله عليه سبحانه، و أمّا بقاء تلك المناسبات إلى زمان نزول القرآن، و أنّ استعمال القرآن لهما كان برعاية هذه المناسبات فأمر لا دليل عليه مطلقاً.

و الظاهر أنّ هذه المعاني من لوازم معنى الإله و آثاره، فإنّ من اتّخذ أحداً إلهاً لنفسه فإنّه يعبده قهراً، و يفزع إليه عند الشدائد، و يسكن قلبه عند ذكره، إلى غير ذلك من اللوازم و الآثار التي تستلزمها صفة الألوهية، و لو لاحظ القارئ الكريم الآيات التي ورد فيها لفظ الإله، و ما احتفّ بها من القرائن لوجد أنّه لا يتبادر من الإله غير ما يتبادر من لفظ الجلالة، سوى كون الأوّل كلّياً و الثاني جزئياً.

______________________________

(1). راجع مجمع البيان: 9/ 19.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص:

54

هل الإله بمعنى المعبود؟

نعم يظهر من كثير من المفسّرين بأنّ إله بمعنى عبد، و يستشهدون بقراءة شاذة في قوله سبحانه:

«لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ» (الأعراف- 127).

حيث قرئ و الاهتك، أي عبادتك.

و لعل منشأ هذا التصوّر هو كون الإله الحقيقي، أو الآلهة المصطنعة موضعاً للعبادة- دائماً- لدى جميع الأُمم و الشعوب، و لأجل ذلك فسّرت لفظة «الإله» بالمعبود، و إلّا فإنّ المعبودية هي لازم الإله و ليست معناه البدئي.

و الذي يدل- بوضوح- على أنّ الإله ليس بمعنى المعبود هو: كلمة الإخلاص: «لا إله إلّا اللَّه» إذ لو كان المقصود من الإله «المعبود» لكانت هذه الجملة كذباً صريحاً، لأنّ من البديهي وجود آلاف المعبودات في هذه الدنيا، غير اللَّه، و مع ذلك فكيف يمكن نفي أي معبود سوى اللَّه؟

و لأجل ذلك اضطر القائل بأنّ الإله بمعنى المعبود أن يقدّر كلمة «بحق» بعد إله لتكون الجملة هكذا: «لا إله [بحق إلّا اللَّه» ليتخلّص من هذا الإشكال، و لكن لا يخفى أنّ تقدير كلمة «بحق» هنا خلاف الظاهر، و انّ هدف كلمة الإخلاص هو نفي أي إله في الكون سوى اللَّه، و انّه ليس لهذا المفهوم (أي الإله) مصداق بتاتاً سواه سبحانه، و هذا لا يجتمع مع القول بأنّ «الإله» بمعنى «المعبود»، لوجود المعبودات الأُخرى في العالم و إن كانت مصطنعة.

و أمّا جمعه على الآلهة فليس على أساس انّه بمعنى المعبود، بل لأجل اعتقاد العرب بأنّ هاهنا آلهة غير اللَّه سبحانه، قال تعالى:

«أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا» (الأنبياء- 43).

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 55

و إن شئت ان تفرغ ما نفهمه من لفظ الإله في قالب التعريف فارجع إلى الأُمور التي تعد عند الناس من شئون الربوبية و

لوازمها فالقائم بتلك الشئون- كلّها أو بعضها- هو: الإله، فالخلق و التدبير و الإحياء و الإماتة و التقنين و التشريع و المغفرة و الشفاعة بالاستقلال كلّها من شئون الربوبية، فالقائم بهذه الشئون حقيقة أو تصوّراً: إله، واقعاً أو عند المتصوّر.

و هنا آيات تدل بوضوح على أنّ الإله ليس بمعنى المعبود، بل بمعنى المتصرّف المدبّر أو من بيده أزمّة الأُمور، أو ما يقرب من ذلك ممّا يعد فعلًا له تعالى. و إليك بعض هذه الآيات:

1- «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» (الأنبياء- 22).

فانّ البرهان على نفي تعدّد الآلهة لا يتم إلّا إذا جعلنا «الإله» في الآية بمعنى المتصرّف المدبّر أو من بيده أزمّة الأُمور أو ما يقرب من هذين.

و لو جعلنا الإله بمعنى المعبود لانتقض البرهان، لبداهة تعدّد المعبودين في هذا العالم، مع عدم الفساد في النظام الكوني، و قد كانت الحجاز يوم نزول هذه الآية مزدحمة الآلهة، و مركزها مع كون العالم منتظماً، غير فاسد.

و عندئذ يجب على من يجعل «الإله» بمعنى المعبود أن يقيّده بلفظ (بالحق) أي لو كان فيهما معبودات- بالحق- لفسدتا و لمّا كان المعبود بالحق مدبراً و متصرّفاً لزم من تعدّده فساد النظام و هذا كلّه تكلّف لا مبرر له.

2- «مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ» (المؤمنون- 91).

و يتم هذا البرهان أيضاً لو فسّرنا الإله بما ذكرنا من انّه كلّي ما يطلق عليه لفظ الجلالة. و ان شئت قلت: إنّه كناية عن الخالق أو المدبّر المتصرّف، أو من

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 56

يقوم بأفعاله و شئونه. و المناسب في هذا المقام هو

الخالق. و يلزم من تعدّده ما رتّب عليه في الآية من ذهاب كل إله بما خلق و اعتلاء بعضهم على بعض.

و لو جعلناه بمعنى المعبود لانتقض البرهان، و لا يلزم من تعدّده أي اختلال في الكون. و أدل دليل على ذلك هو المشاهدة. فانّ في العالم آلهة متعددة، و قد كان في أطراف الكعبة المشرّفة ثلاثمائة و ستون إلهاً و لم يقع أي فساد و اختلال في الكون.

فيلزم على من يفسّر (إله) بالمعبود ارتكاب التكلّف بما ذكرناه في الآية المتقدّمة.

3- «قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا» (الإسراء- 42).

فانّ ابتغاء السبيل إلى ذي العرش من لوازم تعدّد الخالق أو المدبّر المتصرّف أو من بيده أزمّة أُمور الكون أو غير ذلك ممّا يرسمه في ذهننا معنى الألوهية، و أمّا تعدّد المعبود فلا يلازم ذلك إلّا بالتكلف الذي أشرنا إليه فيما سبق.

4- «إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ* لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها» (الأنبياء- 98 و 99).

و الآية تستدل من ورود الأصنام و الأوثان في النار على كونها غير آلهة إذ لو كانت آلهة ما وردت النار.

و الاستدلال إنّما يتم لو فسّرنا الآلهة بما أشرنا إليه فانّ خالق العالم أو مدبّره و المتصرف فيه أو من فوّض إليه أفعال اللَّه أجلّ من أن يحكم عليه بالنار و أن يكون حصب جهنّم.

و هذا بخلاف ما إذا جعلناه بمعنى المعبود فلا يتم البرهان، لأنّ المفروض أنّها

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 57

كانت معبودات و قد جعلت حصب جهنّم. و لو أمعنت في الآيات التي وردت فيها لفظ الإله و الآلهة لقدرت على استظهار ما اخترناه.

و إليك

مورداً منها في قوله تعالى:

«فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَ بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ» (الحج- 34).

فلو فسّر الإله في الآية بالمعبود لزم الكذب، إذ المفروض تعدّد المعبود في المجتمع البشري، و لأجل هذا ربما يقيّد الإله هنا بلفظ «الحق» أي المعبود الحق إله واحد. و لو فسّرناه بالمعنى البسيط الذي له آثار في الكون من التدبير و التصرف و إيصال النفع، و دفع الضر على نحو الاستقلال لصحّ حصر الإله- بهذا المعنى في واحد بلا حاجة إلى تقدير كلمة بيانية محذوفة إذ من المعلوم أنّه لا إله في الحياة البشرية و المجتمع البشري يتصف بهذه الصفات التي ذكرناها.

و لا نريد أن نقول: إنّ لفظ الإله بمعنى الخالق المدبر المحيي المميت الشفيع الغافر، إذ لا يتبادر من لفظ الإله إلّا المعنى البسيط. بل هذه الصفات عناوين تشير إلى المعنى وضع له لفظ الإله. و معلوم أنّ كون هذه الصفات عناوين مشيرة إلى ذلك المعنى البسيط، غير كونها معنى موضوعاً للّفظ المذكور كما أنّ كونه تعالى ذات سلطة على العالم كلّه أو بعضه سلطة مستقلة غير معتمدة على غيره، وصف مشير إلى المعنى البسيط الذي نتلقاه من لفظ الإله، لا أنّه نفس معناه.

إلى هنا- أيّها القارئ الكريم- قد وقفت على معنى الإله، و الألوهية، و أنّه ليس الإله بمعنى المعبود، بل المراد منه هو المراد من لفظة «اللَّه» لا غير، إلّا أنّ أحدهما عَلَمُ، و الآخر كُلّي.

يبقى أن نقف على معنى الرب و الربوبية التي يكثر ورودها في كلمات الوهابيين فنقول:

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 58

معنى الربّ و الربوبية:

«الرب، المالك، الخالق، الصاحب. و الرب المصلح للشي ء يقال: ربَّ فلان ضيعته إذا قام على إصلاحها، و الرب: المصلح للشي ء، و اللَّه

جل ثناؤه الرب، لأنّه مصلح أحوال خلقه. و الراب، الذي يقوم على أمر الربيب» «1».

و يكتب الفيروزآبادي قائلًا:

«رب كل شي ء: مالكه و مستحقه و صاحبه ...

ربّ الأمر: أصلحه» «2».

و جاء في المنجد:

«الرب: المالك، المصلح، السيد» «3».

و ما يشابه هذا المعنى في كتب اللغة و القواميس الأُخرى

هل للرب معان مختلفة؟

إنّ وظيفة كتب اللغة و القواميس هي ضبط موارد استعمال اللفظة، سواء أ كان المستعمل فيه هو الذي وضع عليه اللفظة أم لا، و أمّا تعيين الأوضاع و تمييز الحقائق عن المجازات فخارج عما ترتئيه كتب اللغة.

و هذا هو نقص ملحوظ و مشهود بوضوح في كتب اللغة و معاجمها، إذ ما

______________________________

(1). مقاييس اللغة: 2/ 381.

(2). قاموس اللغة، مادة «رب».

(3). المنجد، مادة «رب».

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 59

أكثر ما يجد الإنسان عدّة معاني متباينة و متمايزة للفظة واحدة حتى أنّه ليتصور- في أوّل وهلة- أنّ الواضع العربي جعل هذه اللفظة على عشرة معان في عشرة أوضاع؛ و لكن بعد التحقيق و الدراسة يتبيّن أنّه ليس لهذه اللفظة سوى معنى واحد لا غير و أمّا بقية المعاني المذكورة فهي من شعب المعنى الأصلي.

و من الصدف أنّ لفظة رب تعاني من هذا المصير حتى أنّ كاتباً كالمودودي تصوّر أنّ لهذه اللفظة خمسة معان- في الأصل- و ذكر لكل معنى من المعاني الخمسة شواهد من القرآن الكريم.

و لا شك في أنّ لفظة رب استعملت في الكتاب العزيز و اللغة في الموارد التالية التي لا تكون إلّا صورة موسعة و مصاديق متعدّدة لمعنى واحد لا أكثر.

و إليك هذه الموارد و المصاديق:

1- التربية، مثل رب الولد، رباه.

2- الإصلاح و الرعاية مثل رب الضيعة.

3- الحكومة و السياسة مثل فلان قد رب قومه أي ساسهم

و جعلهم ينقادون له.

4- المالك كما جاء في الخبر عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أ ربّ غنم أم ربّ إبل.

5- الصاحب مثل قوله: رب الدار أو كما يقول القرآن الكريم:

«فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ» (قريش- 3).

لا ريب أنّ هذه اللفظة قد استعملت في هذه الموارد ومايشابهها و لكن جميعها يرجع إلى معنى واحد أصيل، و ما هذه المعاني سوى مصاديق و صور مختلفة لذلك المعنى الأصيل، و سوى تطبيقات متنوعة لذلك المفهوم الحقيقي الواحد؛ أعني: من فوّض إليه أمر الشي ء المربى من حيث الإصلاح و التدبير و التربية.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 60

فإذا قيل لصاحب المزرعة إنّه ربها، فلأجل أنّ إصلاح أُمور المزرعة مرتبطة به و في قبضته.

و إذا أطلقنا على سائس القوم، صفة الرب، فلأنّ أُمور أُولئك القوم مفوّض إليه فهو قائدهم، و مالك تدبيرهم و منظم شئونهم.

و إذا أطلقنا على صاحب الدار و مالكه اسم الرب، فلأنّه فوّض إليه أمر تلك الدار و إدارتها و التصرّف فيها كما يشاء.

فعلى هذا يكون المربي و المصلح و الرئيس و المالك و الصاحب ومايشابهها مصاديق و صور لمعنى واحد أصيل يوجد في كل هذه المعاني المذكورة، و ينبغي أن لا نعتبرها معاني متمايزة و مختلفة للفظة الرب بل المعنى الحقيقي و الأصيل للّفظة هو: من بيده أمر التدبير و الإدارة و التصرّف، و هو مفهوم كلّي و متحقّق في جميع المصاديق و الموارد الخمسة المذكورة (أعني: التربية و الإصلاح و الحاكمية و المالكية و الصاحبية).

فإذا أُطلق يوسف الصدّيق عليه السلام لفظ الرب على عزيز مصر، حيث قال:

«إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ» (يوسف- 23).

فلأجل أنّ يوسف تربى في بيت عزيز مصر و كان العزيز

متكفّلًا لتربيته و قائماً بشئونه.

و لو وصف يوسف عزيز مصر بكونه رباً لمصاحبه في السجن فقال:

«أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً» (يوسف- 41).

فلأنّ عزيز مصر كان سيد مصر و زعيمها و مدبّر أُمورها و متصرّفاً في شئونها و مالكاً لزمامها.

و إذا وصف القرآن اليهود و النصارى بأنّهم اتّخذوا أحبارهم أرباباً إذ يقول:

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 61

«اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» (التوبة- 31).

فلأجل أنّهم أعطوهم زمام التشريع و اعتبروهم أصحاب سلطة و قدرة فيما يختص باللَّه.

و إذا وصف اللَّه نفسه بأنّه «رب الْبَيْتِ» فلأنّ إليه أُمور هذا البيت ماديّها و معنويّها، و لا حق لأحد في التصرف فيه سواه.

و إذا وصف القرآن «اللَّه» بأنّه:

«رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» (الصافات- 5).

و أنّه:

«رَبُّ الشِّعْرى (النجم- 49).

و ما شابه ذلك، فلأجل أنّه تعالى مدبّرها و مديرها و المتصرّف فيها و مصلح شئونها و القائم عليها.

و بهذا البيان نكون قد كشفنا القناع عن المعنى الحقيقي للرب؛ الذي ورد في مواضع عديدة من الكتاب العزيز.

*** إنّ الشائع بين الوهابيين تقسيم التوحيد إلى:

1- التوحيد في الربوبية.

2- التوحيد في الألوهية.

قائلين: إنّ التوحيد في الربوبية بمعنى الاعتقاد بخالق واحد لهذا الكون كان موضع اتفاق جميع مشركي عهد الرسالة.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 62

و أمّا التوحيد في الألوهية فهو التوحيد في العبادة الذي يُعنى منه أن لا يعبد سوى اللَّه، و قد انصبّ جهد الرسول الكريم على هذا الأمر.

و الحق أنّ اتفاق جميع مشركي عهد الرسالة في مسألة التوحيد الخالقي ليس موضع شك، و لكن تسمية التوحيد الخالقي بالتوحيد الربوبي خطأ و اشتباه.

و ذلك لأنّ معنى «الربوبية» ليس هو الخالقية كما توهم هذا الفريق، بل هو- كما أوضحنا و بينّا سلفاً-

ما يفيد التدبير و إدارة العالم، و تصريف شئونه و لم يكن هذا- كما بينّا- موضع اتفاق بين جميع المشركين و الوثنيين في عهد الرسالة كما ادّعى هذا الفريق.

نعم كان فريق من مثقفي الجاهليين يعتقدون بعدم وجود مدبر سوى اللَّه و لكن كانت تقابلهم جماعات كبيرة ممّن يعتقدون بتعدّد المدبر و التدبير، و هي قضية تستفاد من الآيات القرآنية مضافاً إلى المصادر المتقدّمة.

هنا نلفت نظر الوهابيين الذين يسمّون التوحيد في الخالقية بالتوحيد في الربوبية إلى الآيات التالية ليتضح لهم أنّ الدعوة الى التوحيد في الربوبية لا تعني الدعوة الى التوحيد في الخالقية بل هي دعوة الى «التوحيد في المدبِّرية» و التصرّف، و قد كان بين المشركين في ذلك العصر من كان يعاني انحرافاً و شذوذاً من التوحيد الربوبي، و يعتقد بتعدّد المدبر رغم كونه معتقداً بوحدة الخالق.

و لا يمكن- أبداً- أن نفسّر الرب في هذه الآيات بالخالق و الموجد. و إليك بعض هذه الآيات:

أ- «بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ» (الأنبياء- 56).

فلو كان المقصود من الرب هنا هو الخالق و الموجد لكانت جملة «الَّذِي فَطَرَهُنَّ» زائدة بدليل أنّنا لو وضعنا لفظة الخالق مكان الرب في الآية للمسنا عدم الاحتياج- حينئذ- إلى الجملة المذكورة (أعني: الذي فطرهنَّ) بخلاف ما إذا فسّر

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 63

الرب بالمدبر و المتصرّف، ففي هذه الصورة تكون الجملة الأخيرة مطلوبة، لأنّها تكون- حينئذ- علّة للجملة الأُولى فتعني هكذا: أنّ خالق الكون هو المتصرّف فيه و هو المالك لتدبيره و القائم بإدارته.

ب- «يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ» (البقرة- 21).

فانّ لفظة الرب في هذه الآية ليست بمعنى «الخالق» و ذلك على غرار ما قلناه في الآية المتقدّمة

المشابهة لما نحن فيه، إذ لو كان الرب بمعنى الخالق لما كان لذكر جملة «الَّذِي خَلَقَكُمْ» وجه، بخلاف ما إذا قلنا بأن الرب يعني المدبّر فتكون جملة «الَّذِي خَلَقَكُمْ» علّة للتوحيد في الربوبية، إذ يكون المعنى حينئذ هو: أنّ الذي خلقكم هو مدبّركم.

ج- «قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ ءٍ» (الأنعام- 164).

و هذه الآية حاكية عن أنّ مشركي عصر الرسالة كانوا على خلاف مع الرسول الكريم صلى الله عليه و آله و سلم في مسألة الربوبية على نحو من الأنحاء و أنّ النبي الأعظم كان مكلّفاً بأن يفنِّد رأيهم و يبطل عقيدتهم و لا يتخذ غير اللَّه رباً على خلاف ما كانوا عليه. و من المحتم أنّ خلاف النبي مع المشركين لم يكن حول مسألة «التوحيد في الخالقية» بدليل أنّ الآيات السابقة تشهد في غير إبهام بأنّهم كانوا يعترفون بأنّه لا خالق سوى اللَّه تعالى، و لذلك فلا مناص من الإذعان بأنّ الخلاف المذكور كان في غير مسألة الخالقية و ليست هي إلّا مسألة تدبير الكون، بعضه أو كلّه.

د- «أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ» (الأعراف- 172).

فقد أخذ اللَّه في هذه الآية- من جميع البشر- الإقرار بالتوحيد الربوبي و كانت علّة ذلك هي ما ذكره من أنّه سيحتج على عباده بهذا الميثاق يوم القيامة كما يقول:

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 64

«أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَ فَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ» (الأعراف- 173).

إذا تبيّن هذا فنقول: إنّ نزول هذه الآية في بيئة مشركة دليل- و لا شك- على وجود فريق معتد به في تلك البيئة

كانوا يخالفون هذا الميثاق، فإذا كانت الربوبية بمعنى الخالقية استلزم ذلك أن يكون في تلك البيئة من يخالفون النبي في الخالقية، و لكن الفرض هو عدم وجود أي اختلاف في مسألة «توحيد الخالقية» في عصر الرسالة فلم يكن المشركون في ذلك العصر مخالفين في هذه المسألة ليعتبروا مخالفين للميثاق المذكور؛ فلا محيص- حينئذ- من أنّ الخلاف كان- آنذاك- في مسألة تدبير العالم و إدارة الكون.

و بهذا التقرير يكون معنى الرب في الآية المبحوثة هنا هو المدبّر.

ه- «أَ تَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ» (غافر- 28).

تتعلّق هذه الآية بمؤمن آل فرعون الذي كان يدافع عن النبي موسى عليه السلام وراء قناع النصيحة و الصداقة لآل فرعون و يسعى تحت ستار الموافقة معهم أن يدفع الخطر عن ذلك النبي العظيم. و أمّا دلالتها على كون الرب بمعنى المدبّر فواضحة، لأنّ فرعون ما كان يدّعي الخالقية للسماء و الأرض و لا الشركة مع اللَّه سبحانه في خلق العالم و إيجاده، و هذه حقيقة يدل عليها تاريخ الفراعنة أيضاً. و في هذه الصورة يجب أن يكون المراد من دعوة النبي موسى بقوله: ربّي اللَّه، هو حصر «التدبير» في اللَّه سبحانه لا مسألة الخلق. و لو كانت تتعلّق بمسألة الخلق و الإيجاد لما كان بينه و بين فرعون أي خلاف و نزاع، إذ المفروض اعتراف فرعون بخالقية اللَّه- كما أسلفنا-، هذا مضافاً إلى أنّ اللَّه تعالى يقول في الآية السابقة لهذه الآية:

و- «ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ» (غافر- 26)

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 65

فإنّ التوحيد في الخالقية لم يكن موضع خلاف لتكون دعوة موسى لبني اسرائيل سبباً

لأي تبدّل و تبديل.

و من هذا البيان يتضح المراد من قول فرعون:

«أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (النازعات- 24).

ز- «فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً» (الكهف- 14).

إنّ الفتية الذين فرّوا من ذلك الجو الخانق الذي أوجده طواغيت ذلك الزمان كانوا جماعة يسكنون في مجتمع يعتقد بألوهية غير اللَّه، و لكن ألوهية غير اللَّه- في ذلك المجتمع- لم تكن في صورة تعدّد الخالق، خاصة و أنّ واقعة أهل الكهف حدثت بعد ميلاد السيد المسيح حيث كانت عقول البشرية و أفكارها قد تقدّمت في المسائل التوحيدية بشكل ملحوظ و حظت من الرقي بمقدار معتد به و لم يكن يعقل- في ظل هذا الرقي الفكري- وجود مجتمع منكر لخالقية اللَّه، أو مشرك فيها فلا بد أن يقال إنّ شركهم يرجع الى أمر آخر و هو الاعتقاد بتعدّد المدبّر.

ح- إنّ البرهان الواضح على أنّ مقام الربوبية هو مقام المدبّرية و ليس الخالقية كما يتوهم، هو الآية المتكرّرة في سورة الرحمن:

«فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ».*

فقد وردت هذه الآية في السورة المذكورة 31 مرة و جاءت لفظة ربّ جنباً إلى جنب مع لفظة الآلاء التي تعني النعم، و غير خفي أنّ قضية النعمة مع التذكير بمقام ربوبية اللَّه لحياة البشر و حفظها من الفناء أنسب و أكثر انسجاماً، إذ ذكر النعم (التي هي من شعب التربية الإلهية التي يوليها سبحانه للبشر) يناسب موضوع التربية و التدبير الذي تندرج فيه إدامة النعم و إدامة الإفاضة.

ط- لقد اقترنت مسألة الشكر مع لفظة الرب في خمسة موارد في القرآن

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 66

الكريم، و الشكر إنّما يكون في مقابل النعمة التي هي سبب بقاء الحياة الإنسانية و دوامها و حفظها

من الفناء و صيانتها من الفساد، و ليست حقيقة تدبير الإنسان إلّا إدامة حياته و حفظها من الفساد و الفناء.

و إليك هذه الموارد:

«وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ» (إبراهيم- 7).

«وَ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ» (النمل- 19).

«قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ» (النمل- 40).

«قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ» (الأحقاف- 15).

«كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ» (سبأ- 15).

ي- و ممّا يدل على ما قلناه قوله سبحانه:

«فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً* وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً» (نوح: 10- 12).

و مثله في سورة هود الآية 52.

و هكذا: يلاحظ القارئ الكريم كيف جعلت إدارة الكون و تدبير شئونه تفسيراً للرب: فهو الذي يرسل المطر، و هو الذي يمدد بالأموال و البنين، و هو الذي يجعل الجنات، و هو الذي يجعل الأنهار، و كل هذه الأُمور جوانب و صور من التدبير.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 67

نتيجة هذا البحث:

من هذا البحث الموسّع يمكن أن نستنتج أمرين:

1- أنّ ربوبية اللَّه عبارة عن مدبّريته تعالى للعالم لا عن خالقيته.

2- دلّت الآيات المذكورة في هذا البحث على أنّ مسألة «التوحيد في التدبير» لم تكن موضع اتفاق بخلاف مسألة «التوحيد في الخالقية» و أنّه كان في التاريخ ثمّة فريق يعتقد بمدبّرية غير اللَّه للكون كلّه أو بعضه، و كانوا يخضعون أمامها باعتقاد أنّها أرباب.

و بما أنّ الربوبية في التشريع غير الربوبية في التكوين فيمكن أن

يكون بعض الفرق موحداً في الثاني، و مشركاً في القسم الأوّل فاليهود و النصارى تورّطوا في «الشرك الربوبي» التشريعي لأنّهم أعطوا زمام التقنين و التشريع إلى الأحبار و الرهبان و جعلوهم أرباباً من هذه الجهة، فكأنّه فوّض أمر التشريع إليهم!!!، و من المعلوم أنّ التقنين و التشريع من أفعاله سبحانه خاصة.

فها هو القرآن يقول عنهم:

«اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» (التوبة- 31).

«وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» (آل عمران- 64).

في حين أنّ الشرك في الربوبية لدى فريق آخر ما كان ينحصر بهذه الدائرة بل تمثل في اسناد تدبير بعض جوانب الكون، و شئون العالم إلى الملائكة و الجن و الأرواح المقدسة أو الأجرام السماوية، و إن لم نعثر- إلى الآن- على من يعزي تدبير «كل» جوانب الكون إلى غير اللَّه، و لكن مسألة الشرك في الربوبية تمثلت في الأغلب في تسليم «بعض» الأُمور الكونية إلى بعض خيار العباد و المخلوقات.

إنّ الآيات الدالّة على هذه النتيجة- في الحقيقة- أكثر من أن يمكن سردها

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 68

هنا، لهذا نكتفي بما ذكرنا من الآيات تاركين للقارئ الباحث التفتيش عنها في القرآن الكريم.

إذا وقفت- أيها القارئ الكريم- على هذه المقدمات العشر يكون قد آن الأوان لأن نركّز البحث على تحديد معنى العبادة و حقيقتها الذي هو المهم في المقام، إذ بتحديد معنى العبادة و حقيقتها، نعلم معنى التوحيد و الشرك، و نميّز الموحّد عن المشرك في هذا المجال (أي مجال العبادة)، و يكون ذلك ضابطة ثابتة لتشخيص كثير من الأعمال التي جرت سيرة المسلمين على القيام بها في حياتهم منذ عصر الرسالة، و إلى هذا اليوم، و نعرف كيف أنّها لا

تمت إلى الشرك بصلة أبداً.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 69

الفصل الثاني: تحديد حقيقة العبادة ..

اشارة

العبادة: هي الخضوع عن اعتقاد بألوهية المعبود و ربوبيته و استقلاله في فعله

لفظ العبادة من المفاهيم الواضحة كالماء و الأرض، فهو مع وضوح مفهومه يصعب التعبير عنه بالكلمات رغم حضور هذا المفهوم في الأذهان. و العبادة كما هي واضحة مفهوماً، فهي واضحة- كذلك- مصداقاً بحيث يسهل تمييز مصاديقها عن مصاديق التعظيم و التكريم و غيرهما من المفاهيم. فتقبيل العاشق الولهان دار معشوقته، و احتضان ثيابها شوقاً، أو تقبيل تراب قبرها بعد الموت، لا يدعى عبادة للمعشوقة.

كما أنّ ذهاب الناس إلى زيارة من يعنيهم من الشخصيات، و الوفود إلى مقابرهم لزيارتها و الوقوف أمامها احتراماً، و إجراء مراسم و طقوس خاصة لديها لا يعد عبادة- أبداً- و إن كانت هذه الأفعال تبلغ- في بعض الأحايين- من حيث شدة الخضوع إلى درجة كبيرة. إنّ الضمائر اليقظة هي وحدها تقدر على أن تكون الحكم العدل- في مثل هذا البحث- لتمييز الاحترام و التعظيم عن العبادة، دون حاجة إلى تكلّف، و لكن إذا تقرر أن نعرّف العبادة بتعريف موضوعي أمكننا أن نعرّفها بثلاثة تعاريف:

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 72

1- تعاريف ثلاثة للعبادة:

التعريف الأوّل:

اشارة

العبادة: هي الخضوع اللفظي أو العملي الناشئ عن الاعتقاد ب «ألوهية» المخضوع له و سيوافيك معنى «الألوهية».

و آيات كثيرة تدل على هذا التفسير، فمن ملاحظة هذه الآيات يتضح لنا أمران:

الأوّل: أنّ عرب الجاهلية الذين نزل القرآن في أوساطهم و بيئاتهم كانوا يعتقدون بألوهية معبوداتهم.

الثاني: أنّ العبادة عبارة عن القول أو العمل الناشئين من الاعتقاد بألوهية المعبود، و انّه ما لم ينشأ الفعل أو القول من هذا الاعتقاد لا يكون الخضوع أو التعظيم و التكريم عبادة.

فهنا دعويان:

الأُولى أنّ عرب الجاهلية بل الوثنيين كلّهم و عبدة الشمس و الكواكب و

الجن، كانوا يعتقدون بألوهية معبوداتهم، و يتخذونهم آلهة صغيرة و فوقهم «الإله الكبير» الذي نسمّيه «اللَّه» سبحانه.

الثانية: أنّ الظاهر من الآيات هو أنّ العبادة عبارة عن الخضوع المحكي بالقول و العمل الناشئين من الاعتقاد بالألوهيّة، ألوهية صغيرة أو كبيرة.

أمّا الدعوى الأُولى فتدل عليها آيات كثيرة نشير إلى بعضها:

يقول سبحانه:

«الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» (الحجر- 96).

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 73

«وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» (الفرقان- 68).

«وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا» (مريم- 81).

«أَ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى (الأنعام- 19).

«وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً» (الأنعام- 74).

فهذه الآيات تشهد على أنّ دعوة المشركين كانت مصحوبة بالاعتقاد بألوهية أصنامهم، و قد فسّر الشرك في بعض الآيات «باتخاذ الإله» مع اللَّه و ذلك عند ما يقول سبحانه:

«وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ* الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» (الحجر: 94- 96).

و لذلك يفسّر القرآن حقيقة الشرك ب «اعتقادهم بألوهية معبوداتهم» إذ قال سبحانه:

«أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ» (الطور- 43).

ففي هذه الآية جعل اعتقادهم بألوهية غير اللَّه هو الملاك للشرك، و المراد هنا «الشرك في العبادة».

و بمراجعة هذه الآيات و نظائرها التي تعرضت لموضوع الشرك و بالأخص لموضوع شرك الوثنيين تتجلّى هذه الحقيقة- بوضوح تام- أنّ عبادتهم كانت مصحوبة مع الاعتقاد بألوهيتها، بل يمكن استظهار أنّ شركهم كان لأجل اعتقادهم بألوهية معبوداتهم، و لأجل ذاك الاعتقاد كانوا يعبدونهم و يقدمون لهم النذور و القرابين و غيرهما من التقاليد و السنن العبادية. و بما أنّ كلمة التوحيد تهدم عقيدتهم بألوهية غيره سبحانه، كانوا يستكبرون عند سماعه

كما قال سبحانه:

«إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ» (الصافات- 35).

أي يرفضون هذا الكلام، لأنّهم يعتقدون بألوهية معبوداتهم و يعبدونها لأجل

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 74

أنّها آلهة- حسب تصوّرهم-.

و لأجل تلك العقيدة السخيفة كانوا إذا دعي اللَّه وحده كفروا به، لأنّهم لا يحصرون الألوهية به و إذا أشرك به آمنوا، لانطباقه على فكرتهم كما قال سبحانه:

«ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ» (غافر- 12).

إلى هنا ظهرت الدعوى الأُولى بوضوح و جلاء.

و أمّا الدعوى الثانية فتدل عليها الآيات التي تأمر بعبادة اللَّه، و تنهى عن عبادة غيره، مدللًا ذلك بأنّه لا إله إلّا اللَّه إذ يقول:

«يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» (الأعراف- 59).

و معنى ذلك أنّ الّذي يستحق العبادة هو من كان إلهاً، و ليس هو إلّا اللَّه، و عندئذ فكيف تعبدون ما ليس بإله، و كيف تتركون عبادة اللَّه و هو الإله الذي يجب أنّ يعبد دون سواه؟

و قد ورد مضمون هذه الآية في 10 موارد أو أكثر في القرآن الكريم، و يمكن للقارئ الكريم أن يراجع- لذلك- الآيات التالية:

الأعراف: 65، 73، 85، هود: 50، 61، 84، الأنبياء: 25، المؤمنون: 23، 32، طه: 14.

فهذه التعابير (التي هي من قبيل تعليق الحكم عن الوصف) تفيد أنّ العبادة هي ذلك الخضوع و التذلّل النابعين من الاعتقاد بألوهية المعبود، إذ نلاحظ- بجلاء- كيف استنكر القرآن على المشركين عبادة غير اللَّه بأنّ هذه المعبودات ليست آلهة، و انّ العبادة من شئون:

الألوهية، فإذا وجد هذا الوصف (أي وصف الألوهية) في الطرف جاز عبادته و اتخاذه معبوداً. و حيث إنّ هذا الوصف لا يوجد

إلّا في اللَّه سبحانه لذلك تجب عبادته دون سواه.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 75

سؤال و جواب:

أمّا السؤال فهو أنّه لا شك أنّ الدعوى الأُولى ثابتة فالمشركون كانوا معتقدين بألوهية الاوثان، و ما أورد من الآيات قد أثبتت ذلك بوضوح، غير أنّ الدعوى الثانية غير ثابتة، و قصارى ما يستفاد من هذه الآيات هو أنّ عبادتهم كانت ناشئة من الاعتقاد بألوهيتها و هذا لا يدل على دخول مفهوم الألوهية في مفهوم العبادة كما هو المدعى أو دخول كون النشوء عن ذلك الاعتقاد، في مفهومها.

و على الجملة فهذه الآيات لا تدل على أكثر من أنّ عبادتهم للأوثان كانت مصحوبة بهذا الاعتقاد أو ناشئة عنه.

و أمّا كون العبادة موضوعة للخضوع الناشئ عن الاعتقاد بالألوهيّة بحيث يكون النشوء عن تلك العقيدة جزءاً لمعنى العبادة فلا يستفاد من الآيات.

و أمّا الجواب فنقول: إنّما يرد الإشكال لو قلنا بأنّ «الاعتقاد بالألوهيّة» داخل في «مفهوم العبادة» وضعاً حتى يقال إنّ هذه الآيات لا تعطي أزيد من أنّ العبادة من شئون الألوهية، و هذا غير القول باندراج مفهوم الالوهية في مفهوم العبادة، انّما المراد انّ العبادة ليست مطلقة الخضوع و التذلل بل أضيق و أخص منهما، و هذا أمر يعرفه كل إنسان بوجدانه و فطرته، غير أنّنا نشير إلى هذه الخصوصية و نميز هذا الضيق بأنّه خضوع «ناشئ عن الاعتقاد بالألوهيّة أو الربوبية» كما سيوافيك في التعريف الثاني، لا أنّ هذه الجملة (ناشئ عن الاعتقاد بالألوهيّة و الربوبية) داخلة بتفصيلها في مفهوم العبادة، و معناها.

و بعبارة اخرى أنّ الإنسان قد لا يقدر على تعريف شي ء بنوعه و فصله، أو حدّه و رسمه حتى يحدّه تحديداً عقلياً لا خدشة فيه، و لكنّه يجد في

نفسه ما هو

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 76

بمنزلة الجنس و الفصل فيضعهما مكان الجنس و الفصل الواقعيين، و الأمر فيما نحن فيه كذلك إذ نجد أنّ التعظيم و الخضوع و التذلّل و ما أشبههما أمر مشترك بين العبادة و غيرها فيتصوّره بمنزلة الجنس لها، و يجد أنّ العبادة تتميز بخصوصية عن غيرها، و لكنّه لا يقدر على بيان تلك الخصوصية بلفظ بسيط فيتوسل بوضع جملة مكانه و هي ما ذكرناها: «ناشئ عن الاعتقاد بالألوهيّة» و يضعها مكان الفصل.

و بعبارة ثالثة: أنّ الانسان يجد أنّ «العبادة» ليست مطلق التعظيم و نهاية التذلّل بل هي من خصائص من بيده شئون الإنسان كلّها، أو شأناً من شئونه ممّا به قوام حياته عاجلًا أو آجلًا من الموت و الحياة، و الخلق و الرزق، و السعادة و الشقاء و المغفرة و الشفاعة فيدير شئونه و يخطط مصيره حسب ما يليق به.

غير أنّ هذه الجمل ليست بتفصيلها داخلة في «مفهوم» العبادة. و لكنّه يشار إلى تلك الخصوصية الكامنة و الضيق الموجود فيها، بهذه الجمل و التفاصيل و حاشا أن تؤخذ هاتيك الجمل فيها بطولها.

و على ذلك فيصح أن يقال: العبادة قسم خاص من التواضع و الخضوع لفظياً أو عملياً، (يؤتى به لتعظيم ما يعتقده العابد بألوهيته) و ما وقع بين الهلالين و إن كان خارجاً عن مفهوم العبادة إلّا أنّه يبين ما هو المقصود من القسم الخاص من الخضوع في أوّل العبارة.

و لذلك نظائر في العرف و العادة مثلًا:

1- يعرف القوس بأنّه «قطعة من الدائرة» و لا شك أنّه من باب زيادة الحد على المحدود، إذ لا يعتبر في صدق القوس كونه قطعة من الدائرة بل هو يصدق و إن

لم يكن قطعة منها (أي من الدائرة)، (أي القوس) عبارة عن سطح يحيط به خيط مستدير ينتهي طرفاه بنقطتين، من غير اعتبار كونه بعضاً من الدائرة.

إلّا أنّ أخذ هذا القيد (أعني: كونه بعض الدائرة) من باب بيان الخصوصية

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 77

الموجودة فيها بحيث لو انضم إليه قوس آخر لتحقّقت الدائرة.

2- انّ اللغويين يفسّرون الصهيل بأنّه صوت الفرس، و الزقزقة بأنّه صوت العصفور، فليس الفرس و العصفور داخلين في مفهومهما البسيطين و إنّما جي ء بقيد الفرس و العصفور، للإشارة إلى تعيين صوت خاص.

*** إلى هنا اتضح أنّ الحق في التعريف هو أن يقال: العبادة هي الخضوع النابع عن الاعتقاد بألوهية المعبود و إلى ذلك يشير آية اللَّه الحجة المرحوم الشيخ محمد جواد البلاغي، في تفسيره المسمّى ب «آلاء الرحمن» في معرض تفسيره و تحليله لحقيقة العبادة:

«العبادة ما يرونه مشعراً بالخضوع لمن يتخذه الخاضع إلهاً ليوفيه بذلك ما يراه له من حق الامتياز بالألوهيّة» «1».

لقد صب العلّامة البلاغي ما يدركه فطرياً للعبادة في قالب الألفاظ و البيان و الآيات المذكورة تؤيد صحة هذا التعريف و استقامته.

التعريف الثاني:

العبادة: هي الخضوع أمام من يعتقد بأنّه يملك شأناً من شئون وجوده و حياته و آجله و عاجله.

و توضيح ذلك: أنّ العبودية من شئون المملوكية و من مقتضياتها، فعند ما يحس العابد في نفسه بنوع من المملوكية، و يحس في الطرف الآخر بالمالكية يفرّغ إحساسه هذا- في الخارج- في ألفاظ و أعمال خاصة، و تصير الألفاظ و الأعمال

______________________________

(1). آلاء الرحمن: 57، طبعة صيدا، و قد طبع من هذا التفسير جزءان فقط.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 78

تجسيداً لهذا الإحساس، و يكون كل عمل أو لفظ مظهر لهذا

الإحساس العميق عبادة. و لا شك أنّ المقصود بالمالكية ليس مطلق المالكية فالاعتقاد بالمالكية القانونية و الاعتبارية لا يكون- أبداً- موجباً لصيرورة الخضوع عبادة، إذ أنّ البشر في عصور: «العبوديات الفردية» بالأمس، و كذا في عصر: «العبودية الجماعية» الراهن لا يعد امتثاله لأوامر أسياده عبادة ... فلا بد أن يكون المقصود من المملوكية- هنا- هي القائمة على أساس الخلق و التكوين و انّ شأناً من شئون حياته في قبضته.

و إليك بيان مناشئ أنواع المالكيات الحقيقية.

1- قد يوصف بالمالكية لكونه خالقاً، و لذلك يكون اللَّه سبحانه مالكاً حقيقياً للبشر لأنّه خالقه، و موجده من العدم، و لهذا نجد القرآن الكريم يعتبر جميع الموجودات الشاعرة- مثلًا- عبيد اللَّه، و يصفه تعالى بأنّه مالكها الحقيقي و ذلك لأنّه خلقها إذ يقول:

«إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» (مريم- 93)

و لأجل ذلك أيضاً نجده يأمرهم بعبادة نفسه معلّلًا بأنّه هو ربّهم الذي خلقهم دون سواه إذ يقول:

«يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» (البقرة- 21)

«ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فَاعْبُدُوهُ» (الأنعام- 102)

2- و قد يوصف بالمالكية لكونه رازقاً و محيياً و مميتاً، و لذلك يحس كل بشر سليم الفطرة بمملوكيته للَّه تعالى لأنّه مالك حياته و مماته و رزقه، و لهذا يلفت القرآن نظر البشر إلى مالكية اللَّه لرزق الإنسان و أنّه تعالى هو الذي يميته و هو الذي يحييه

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 79

ليلفته من خلال ذلك إلى أنّ اللَّه هو الذي يستحق العبادة فحسب. إذ يقول:

«اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» (الروم- 40)

«هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ

شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ» (الروم- 28)

«هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ» (يونس- 56)

3- و قد يوصف بها لكون الشفاعة و المغفرة بيده و حيث إنّ اللَّه تعالى هو المالك للشفاعة المطلقة:

«قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً» (الزمر- 44)

و لمغفرة الذنوب: «وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ» (آل عمران- 135)

بحيث لا يملك أن يشفع أحد لأحد من العباد إلّا بإذنه لذلك يشعر الإنسان العادي في قرارة ضميره بأنّ اللَّه سبحانه مالك مصيره من حيث السعادة الأُخروية، و إذا أحسّ إنسان بمملوكية كهذه و مالكية مثل تلك ثمّ جسّد هذا الإحساس في قالب اللفظ أو العمل فإنّه يكون بذلك عابداً له دون ريب.

و إلى ذلك يرجع ما ربّما يفسّر العبادة بأنّها الخضوع أمام من يعتقد بربوبيته فمن كان خضوعه العملي أو القولي أمام أحد نابعاً من الاعتقاد بربوبية ذلك الطرف كان بذلك عابداً له.

فالمقصود من لفظة «الرب» في التعريف هو المالك لشئون الشي ء المتكفّل لتدبيره و تربيته.

و على ذلك تكون لفظة العبودية في مقابل الربوبية، أي مالكية تربية الشي ء و تدبيره، و مصيره عاجلًا و آجلًا.

و يدل على ذلك أنّ قسماً من الآيات تعلّل الأمر بحصر العبادة في اللَّه وحده بأنّه الرب لا غير، و إليك بعض هذه الآيات:

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 80

«وَ قالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ» (المائدة- 72)

«إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ» (الأنبياء- 92)

«إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» (آل عمران- 51)

و قد ورد مضمون هذه الآيات، (أعني: جعل العبادة دائرة مدار الربوبية) في آيات أُخرى هي:

يونس: 3، الحجر: 99، مريم: 36، 65، الزخرف: 64.

و على كل حال فانّ أوضح دليل على هذا التفسير للفظ

العبادة هو الآيات التي سبق ذكرها.

التعريف الثالث:

و يمكننا أن نصب إدراكنا للعبادة في قالب ثالث فنقول:

إنّ العبادة هي الخضوع ممّن يرى نفسه غير مستقل في وجوده و فعله، أمام من يكون مستقلًا. و قد وصف اللَّه سبحانه و تعالى نفسه- في غير موضع من كتابه- بالقيّوم فقال عزّ و جلّ:

«اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» (البقرة- 255)

و مثله في آل عمران- 2.

و قال سبحانه: «وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ» (طه- 111).

و لا يراد منه سوى كونه قائماً بنفسه، و ليست فيه أيّة شائبة من الفقر و الحاجة إلى الغير بل كل ما سواه قائم به.

و بعبارة أُخرى العبادة نداء اللَّه تعالى و سؤاله و القيام بالخضوع و إنزال حاجات الدنيا و الآخرة على أنّه الفاعل المختار و المالك الحقيقي لأُمور الدنيا

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 81

و الآخرة كلّها، و المتصرّف فيها فلو نودي موجود آخر بهذا الوصف تماماً أو بعضاً فالنداء عبادة له و شرك فيها و المنادي مشرك بلا كلام.

و على ذلك فلو خضع واحد منّا أمام موجود زاعماً بأنّه مستقل في ذاته أو فعله لصار الخضوع عبادة، بل لو طلب فعل اللَّه سبحانه من غيره كان هذا الطلب نفسه عبادة و شركاً، فانّ الطلب في هاتيك الموارد لا ينفك عن الخضوع، فالذي يجب التركيز عليه هو أن نعرف ما هو فعل اللَّه سبحانه، و نميزه عن فعل غيره حتى لا نقع في ورطة الشرك عند طلب شي ء من الأنبياء و الأولياء و غيرهم من الناس فنقول:

إنّ من أقسام الشرك هو أن نطلب فعل اللَّه من غيره، و المعلوم أنّ فعل اللَّه ليس هو مطلق الخلق و التدبير و الرزق سواء أ

كان عن استقلال أم بإذن اللَّه، لأنّه سبحانه نسبها إلى غيره في القرآن، بل هو القيام بالفعل مستقلًا من دونه استعانة بغيره، فلو خضع أحد أمام آخر بما أنّه مستقل في فعله سواء أ كان الفعل فعلًا عادياً كالمشي و التكلّم، أم غير عادي كالمعجزات التي كان يقوم بها سيدنا المسيح عليه السلام «1» مثلًا، يعد الخضوع عبادة للمخضوع له.

توضيحه: أنّ اللَّه سبحانه غني في فعله، كما أنّه غني في ذاته عما سواه فهو يخلق و يرزق و يحيي و يميت من دون أن يستعين بأحد «2» أو يستعين في خلقه بمادة

______________________________

(1). كما في الآية 49 من آل عمران: (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ)

(2). نعم قد سبق منّا عند البحث عن التوحيد في الربوبية أنّ كون اللَّه سبحانه لا يستعين- في فعله- بأحد لا يلازم أن يقوم بنفسه بكل الأُمور، و بأنّ تكوّن ذاته مصدراً للخلق و الرزق و الإحياء و الإماتة من دون أن يتسبّب في كل ذلك بالأسباب، بل معناه أن يكون في فعله- سواء في أفعاله المباشرية أو التسبيبية- مستغنياً عن غيره، و إن كانت أفعاله جارية عبر نظام الأسباب و العلل. فراجع كتابنا مفاهيم القرآن الجزء الأوّل- الفصل الثامن.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 82

قديمة غير مخلوقة له، بل اللَّه سبحانه يخلق الجميع بنفسه من دون استعانة بأحد أو بشي ء، فهو يخلق المادة و يصوّرها كيف شاء. فلو اعتقدنا أنّ أحداً مستغن في فعله العادي، و غير العادي عمّن سواه، و أنّه يقوم بما

يريد من دون استعانة أو استمداد من أحد حتى اللَّه سبحانه فقد أشركناه مع اللَّه و اتخذناه ندّاً له تعالى.

و صفوة القول هي: إنّ ملاك البحث في هذا التعريف هو: «استقلال الفاعل» في فعله و عدم استقلاله، و التوحيد بهذا المعنى ممّا يشترك فيه العالم و الجاهل.

نعم ما يدركه المتألّه المثالي من التفاصيل في مورد الاستقلال في المعبود و عدمه في العابد على ضوء الأدلّة العقلية و الكتاب العزيز ممّا يدركه غيره أيضاً بفطرته التي خلق عليها، و عقليته التي نما عليها، فلا يلزم من اختصاص فهم التفاصيل بهذه الطبقة (أي المتألّهين البصيرين) حرمان عرب الجاهلية من فهم معاني العبادة و مشتقاتها الواردة في القرآن و محاوراتهم العرفية، فالعبادة بهذا المعنى (أي باعتقاد كون المعبود مستقلًا) يشترك فيه العالم و الجاهل، و الكامل و غير الكامل، غير أنّ كل فرد من الناس يفهمه على قدر ما أُعطي من الفهم و الدرك كما قال سبحانه:

«فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها» (الرعد- 17)

غير أنّ الدارج في ألسن المتكلّمين هو «التفويض» فليشرح مقاصدهم.

2- ما ذا يراد من التفويض؟

اشارة

اتفقت كلمة الموحدين على أنّ الاعتقاد بالتفويض موجب للشرك، و أنّ الخضوع النابع من ذاك الاعتقاد يعد عبادة للمخضوع له، و التفويض يتصوّر في أمرين:

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 83

1- تفويض اللَّه تدبير العالم إلى خيار عباده من الملائكة و الأنبياء و الأولياء. و يسمّى بالتفويض التكويني.

2- تفويض الشئون الإلهية إلى عباده كالتقنين و التشريع، و المغفرة و الشفاعة مما يعد من شئونه سبحانه. و يسمّى بالتفويض التشريعي.

أمّا القسم الأوّل:

فلا شك أنّه موجب للشرك، فلو اعتقد أحد بأنّ اللَّه فوّض أُمور العالم و تدبيرها من الخلق و الرزق و الإماتة و نزول الثلج و المطر و غيرها من حوادث العالم إلى ملائكته أو صالحي عباده، فقد جعلهم أنداداً له سبحانه، إذ لا يعني من التفويض، إلّا كونهم مستقلّين في أفعالهم، منقطعين عنه سبحانه فيما يفعلون و ما يريدون.

و بالجملة: فتفويض التدبير الى العباد قسم من استقلال العبد في فعله و عمله عمّن سواه، سواء أ كان ذاك الاستقلال في الأفعال الراجعة إلى نفسه كمشيه و تكلّمه أم في الأفعال الراجعة إلى تدبير العالم و الحوادث الواقعة فيه. غير أنّه لما كان زعم الاستقلال في أفعال العباد العادية بحثاً فلسفياً بحتاً لم يتوجه إليه مشركو الجاهلية، لذلك خصّوا البحث بالاعتقاد باستقلالهم في تدبير العالم.

و ان أصبح الأوّل أيضاً مثار بحث و نقاش في العهود الإسلامية الأُولى بحيث قسّم الباحثين إلى جبري و تفويضي.

و الخلاصة: انّ الأمر دائر بين كون العبد ذا فعل بالاستقلال و الانقطاع عن اللَّه سبحانه، أو كونه ذا شأن بأمره تعالى و إذنه و مشيئته، و ليس التفويض أمراً ثالثاً، بل هو داخل في القسم الأوّل.

و أمّا الاعتقاد بأنّ القدّيسين من الملائكة و

الجن، أو النبيّ و الولي مدبّرون

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 84

للعالم بإذنه و مشيئته، و أمره و قدرته من دون أن يكونوا مستقلّين فيما يفعلون، أو مفوّضين فيما يصدرون فلا يكون ذاك موجباً للشرك بل أمره دائر- حينئذ- بين كونه صحيحاً مطابقاً للواقع كما في الملائكة أو غلطاً مخالفاً للواقع كما في النبي و الولي، فانّ الأنبياء و الأولياء غير واقعين في سلسلة العلل و الأسباب، بل هم كسائر الناس يستفيدون من النظام الطبيعي بحيث يختل عيشهم و حياتهم عند اختلال تلك النظم، و معلوم أنّه ليس كل مخالف للواقع يعتبر شركاً إذ عند ذاك يحتل الولي مكان العلّة الطبيعية و النظم المادية، و ليس الاعتقاد بوجود هذا النوع من العلل و الأسباب مكان النظم المادية للظاهرة شركاً.

هذا و من الجدير بالذكر أنّ مشركي عهد الرسالة كانوا يعتقدون لآلهتهم نوعاً من الاستقلال في الفعل. و كانوا يتوجهون إليها على هذا الأساس و قد مرّ أنّ عمر بن لحي عند ما سافر من مكة إلى الشام و رأى أُناساً يعبدون الأصنام فسألهم عن سبب عبادتهم لها فقالوا له:

«هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا و نستنصرها فتنصرنا» «1».

و قد كان ثمّة فريق من الحكماء يعتقدون بأن لكل نوع من الأنواع «ربّ نوع» فوض إليه تدبير نوعه، و سلّمت إليه إدارة الكون التي هي من شأن اللَّه و من فعله تعالى. كما أنّ عرب الجاهلية الذين عبدوا الملائكة الكواكب- سياراتها و ثوابتها- إنّما كانوا يعبدونها لأنّ أمر الكون و أمر تدبيره قد فوض إليها- كما في زعمهم- و أنّ اللَّه عزل عن مقام التدبير عزلًا تامّاً، فهي مالكة التدبير دون اللَّه، و بيدها هي دونه ناصية التصرف،

و لهذا كان يعتبر أي خضوع يجسد هذا الاحساس عبادة. و سيوافيك عقائد عرب الجاهلية حول معبوداتهم.

______________________________

(1). سيرة ابن هشام: 1/ 79، و قد مرّ مفصّل هذه القصة، و ما قاله رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم في الحديبية حول الاستمطار بالنوء الذي كان سائداً لدى الجاهليّين، و الذي نقلناه لك من السيرة الحلبية: 3/ 29، في المقدمة رقم 2 من هذا الكتاب فراجع ص: 27- 28.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 85

القسم الثاني من التفويض:

إذا اعتقدنا بأنّ اللَّه سبحانه فوّض إلى أحد مخلوقيه بعض شئونه كالتقنين و التشريع، و الشفاعة و المغفرة فقد أشركناه مع اللَّه، و جعلناه نداً له سبحانه، كما يقول القرآن الكريم:

«وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ» (البقرة- 165).

و لا ريب أنّ الموجود لا يقدر أن يكون نداً للَّه سبحانه إلّا إذا كان قائماً بفعل أو شأن من أفعال اللَّه و شئونه سبحانه «مستقلّا» لا ما إذا قام به بإذن اللَّه و أمره، إذ لا يكون عند ذاك نداً للَّه، بل يكون عبداً مطيعاً له، مؤتمراً بأمره، منفذاً لمشيئته تعالى.

هذا و قد كان أخف ألوان الشرك و أنواعه بين اليهود و النصارى و عرب الجاهلية اعتقاد فريق منهم بأنّ اللَّه فوّض حق التقنين و التشريع الى الرهبان و الأحبار كما يقول القرآن الكريم: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» (التوبة- 31) و أنّ اللَّه فوّض حق الشفاعة و المغفرة التي هي حقوق مختصة باللَّه إلى أصنامهم و معبوداتهم، و أنّ هذه الأصنام و المعبودات مستقلّة في التصرف في هذه الشئون و لأجل ذلك كانوا يعبدونها، لأجل أنّها شفعاؤهم عند اللَّه، و بأيديها

أمر الشفاعة، كما يقول سبحانه:

«وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» (يونس- 18).

و لذلك أصرّت الآيات القرآنية على القول بأنّه لا يشفع أحد إلّا بإذن اللَّه، فلو كان المشركون يعتقدون بأنّ معبوداتهم تشفع لهم بإذن اللَّه لما كان لهذا الإصرار

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 86

على مسألة متّفق عليها بين المشركين، أي مبرر، على أنّ ذلك الفريق من عرب الجاهلية الذين كانوا يعبدون الأصنام، إنّما كانوا يعبدونها لكونها تملك شفاعتهم لا أنّها خالقة أو مدبرة للكون، و على أساس هذا التصوّر الباطل كانوا يعبدونها و كانوا يظنون أنّ عبادتهم لها توجب التقرّب إلى اللَّه إذ قالوا:

«ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى (الزمر- 3).

3- لا ملازمة بين توزيع الالوهية و نفي الإله الأعلى

إنّ توزيع الالوهية على صغار الآلهة المتخيلة أمر باطل عقلًا و نقلًا، و لا نطيل الكلام بسوق براهينه العقلية و ما تدل عليه من الآيات.

ثمّ إنّ توزيع شئون الالوهية- كما في زعم عرب الجاهلية- ما كان يلازم نفي الإله الأعلى القاهر، بل كان الجاهليون يعتقدون بالإله الأعلى رغم عبادتهم للأصنام و اعتقاد توزيع الالوهية عليها.

لكن الأُستاذ المودودي «1» أبطل فكرة توزيع الالوهية معلّلًا بأنّ: هذا التوزيع لا يجتمع مع الاعتقاد بإله أعلى حيث قال:

«إنّ أهل الجاهلية ما كانوا يعتقدون في آلهتهم أنّ الالوهية قد توزّعت فيما بينهم فليس فوقهم إله قاهر بل كان لديهم تصوّر واضح لإله كانوا يعبّرون عنه بكلمة اللَّه في لغتهم» «2».

و في هذا الكلام نظر، فإنّ الجمع بين قوله: «إنّ الالوهية توزّعت فيما بينهم» و قوله: «فليس فوقهم إله قاهر» يوهم بأنّ القول بتوزيع الالوهية يلازم القول بنفي الإله القاهر الذي هو فوق الكل، و لكنّه ليس

كذلك، فإنّ الصابئة الذين ورد

______________________________

(1). راجع بحار الأنوار: 25/ 320- 350.

(2). كتاب المصطلحات الأربعة: 19.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 87

ذكرهم في القرآن أثبتوا للشمس الألوهية و التدبير مع القول بوجود إله قاهر حيث قالوا:

«إنّ الشمس ملك من الملائك و لها نفس و عقل و منها نور الكواكب و ضياء العالم، و تكوّن الموجودات السفلية فتستحق التعظيم و السجود و التبخير و الدعاء» «1».

و أي الوهية أكبر من تكوين الموجودات السفلية التي ينسبها اللَّه سبحانه في القرآن إلى ذاته.

و من الصابئة من يقول:

«إنّ القمر ملك من الملائك، يستحق العبادة و إليه تدبير هذا العالم السفلي و الأُمور الجزئية، و منه نضج الأشياء المتكوّنة و إيصالها إلى كمالها» «2».

و ليس لأحد أن يفسّر قولهم بأنّ الشمس و القمر كانا- في عقيدتهم- يحتلّان محل العلل الطبيعية، و انّهما كانا يقومان بنفس الدور لا أكثر، فانّ المفروض أنّهم جعلوهما من الملائكة و أثبتوا لهما العقل و النفس و التدبير القائم على التفكير، و هذا يناسب الالوهية، و كونهما إلهين، لا كونهما عللًا طبيعية، إذ لو كان عللًا طبيعية لما عبدوهما بتلك العبادة. فإذن لا مانع من أن يعتقد المشرك- في حين اعتقاده بتوزيع شئون الالوهية بين صغار الآلهة- بوجود إله قاهر و هو الذي وزّع الالوهية.

فالعربي الجاهلي كان يعتقد بتفويض المغفرة و الشفاعة إلى أصحاب الأصنام و الأوثان مع اعتقاده بوجود إله آخر قاهر و أعلى. و المغفرة و الشفاعة من شئون الالوهية، و الدليل على أنّهم كانوا يعتقدون بالتفويض، هو إصرار القرآن على القول بأنّه لا شفاعة إلّا بإذن اللَّه سبحانه:

«مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» (البقرة- 255).

______________________________

(1). الملل و النحل للشهرستاني: ص 265- 266.

(2). الملل

و النحل للشهرستاني: ص 265- 266.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 88

و أنّ اللَّه هو الذي يغفر الذنوب: «وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ» (آل عمران- 135).

و أظنّ- و لعلّه ظنّ مصيب- أنّ للأُستاذ وراء هذا الكلام (توزيع الالوهية ينافي الاعتقاد بإله آخر) قصداً و هدفاً آخر، و هو إثبات أنّ الإله في القرآن إنّما هو بمعنى المعبود تبعاً لشيخ منهجه «ابن تيمية» فتوصيف الأصنام بالالوهية إنّما هو بملاك المعبودية، لا بملاك أنّهم صغار الآلهة، و اللَّه سبحانه كبيرها.

و الأُستاذ و تلاميذ مدرسته نزهوا المشركين عن قولهم بألوهية الأصنام، و إنّما كانوا يعبدونها من دون أن يتّخذوها آلهة صغاراً في مقابل إله قاهر.

أضف إلى ذلك أنّهم شوّهوا بذلك سمعة جمهرة من المسلمين حيث فسّروا الآيات الناهية عن اتخاذ الآلهة، بالنهي عن عبادتها، لأنّ الإله عندهم بمعنى المعبود، ثمّ طبّقوا هذه الآيات على توسّل المسلمين و زيارتهم لقبور أوليائهم.

فتفسير الآيات الناهية عن اتّخاذ الآلهة، باتخاذ المعبود خبط، و على فرض الصحة فإنّ تطبيقها على توسّلات المسلمين و زيارتهم قبور أوليائهم خبط آخر.

4- خلاصة القول:

خلاصة القول في المقام أنّ أيّ عمل ينبع من هذا الاعتقاد (أي الاعتقاد بأنّه إله العالم أو ربّه أو غنيّ في فعله و أنّه مصدر للأفعال الإلهية) و يكون كاشفاً عن هذا النوع من التسليم المطلق يعد عبادة، و يعتبر صاحبه مشركاً إذا فعل ذلك لغير اللَّه.

و يقابل ذلك: القول و الفعل و الخضوع غير النابع من هذا الاعتقاد.

فخضوع أحد أمام موجود و تكريمه- مبالغاً في ذلك- دون أن ينبع من الاعتقاد بألوهيته لا يكون شركاً و لا عبادة لهذا الموجود، و إن كان من الممكن أن

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 89

يكون

حراماً، مثل سجود العاشق للمعشوقة أو المرأة لزوجها، فإنّها و إن كانت حراماً في الشريعة الاسلامية، لكنّها ليست عبادة. فكون شي ء حراماً، غير القول بأنّه عبادة، فإنّ حرمة السجود أمام بشر من غير اعتقاد بألوهيته و ربوبيته إنّما هي لوجه آخر.

من هذا البيان يتّضح جواب سؤال يطرح نفسه في هذا المقام و هو: إذا كان الاعتقاد بالالوهية أو الربوبية أو التفويض، شرطاً في تحقق العبادة فيلزم أن يكون السجود لأحد دون ضمّ هذه النية جائزاً؟

و يجاب على هذا: بأنّ السجود حيث إنّه وسيلة عامة للعبادة، و حيث إنّ بها يعبد اللَّه عند جميع الأقوام و الملل و الشعوب و صار بحيث لا يراد منه إلّا العبادة، لذلك لم يسمح الإسلام بأن يستفاد من هذه الوسيلة العالمية حتى في الموارد التي لا تكون عبادة. و هذا التحريم إنّما هو من خصائص الإسلام إذ لم يكن حراماً قبله، و إلّا لما سجد يعقوب و أبناؤه ليوسف عليه السلام إذ يقول: «وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً» (يوسف- 100).

قال الجصاص: «قد كان السجود جائزاً في شريعة آدم عليه السلام، للمخلوقين و يشبه أن يكون قد كان باقياً إلى زمان يوسف عليه السلام فكان فيما بينهم لمن يستحق ضرباً من التعظيم و يراد إكرامه و تبجيله، بمنزلة المصافحة و المعانقة فيما بيننا و بمنزلة تقبيل اليد، قد روي عن النبي عليه السلام في إباحة تقبيل اليد أخبار، و قد روي الكراهة، إلّا أنّ السجود لغير اللَّه على وجه التكرمة و التحية منسوخ بما روت عائشة و جابر و أنس أنّ النبيّ قال: ما ينبغي لبشر أن يسجد لبشر، و لو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت

المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقّه عليها» «1».

***______________________________

(1). أحكام القرآن: 1/ 32.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 90

إلى هنا استطعنا- بشكل واضح- أن نتعرف على حقيقة «العبادة» و «الشرك» و يلزم أن نستنتج من هذا البحث فنقول: إذا خضع أحد أمام آخرين و تواضع لهم، لا باعتقاد أنّهم «آلهة» أو «أرباب» أو «مصادر للأفعال و الشئون الإلهية» بل لأنّ المخضوع لهم إنّما يستوجبون التعظيم، لأنّهم «عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ» (الأنبياء: 26- 27) فانّ هذا الخضوع و التعظيم و التواضع و الكريم لن يكون عبادة قطعاً، فقد مدح اللَّه فريقاً من عباده بصفات تستحق التعظيم عند ما قال:

«إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ» (آل عمران- 33).

و في موضع آخر من القرآن صرّح اللَّه تعالى باصطفاء إبراهيم لمقام الامامة إذ يقول تعالى:

«قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً» (البقرة- 124).

و كل هذه الأوصاف العظيمة التي مدح اللَّه بها: نوحاً و إبراهيم و داود و سليمان و موسى و عيسى و محمّداً- صلوات اللَّه عليهم أجمعين- أُمور توجب نفوذهم في القلوب و الأفئدة، و تستوجب محبتهم و احترامهم حتى أنّ مودة بعض الأولياء فرضت علينا بنص القرآن «1».

فاذا احترم أحد هؤلاء، في حياتهم أو بعد وفاتهم، لا لشي ء إلّا لأنّهم عباد اللَّه المكرمون، و أولياؤه المقربون و عظمهم دون أن يعتقد بأنّهم «آلهة» أو «أرباب» أو «مصادر للشئون الالهية» لا يعدّ فعله عبادة- مطلقاً- و لا هو مشركاً، أبداً.

و على هذا لا يكون تقبيل يد النبي أو الإمام أو المعلّم، أو الوالدين، أو تقبيل

______________________________

(1). (قل لا أسئلكم عليه أجراً إلّا المودّة في القربى الشورى الآية:

23.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 91

القرآن أو الكتب الدينية، أو أضرحة الأولياء و ما يتعلق بهم من آثار، إلّا تعظيماً و تكريماً، لا عبادة.

5- نحن و مؤلّف المنار:

اشارة

و في ختام هذا البحث يجدر بنا أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى طائفة من التعاريف للعبادة، و نذكر بعض ما فيها من الضعف:

1- قال في المنار:

«العبادة ضرب من الخضوع، بالغ حدّ النهاية، ناشئ عن استشعار القلب عظمة المعبود لا يعرف منشؤها، و اعتقاده بسلطة لا يدرك كنهها و ماهيتها» «1».

و هذا التعريف لا يخلو عن قصور، إذ بعض مصاديق العبادة، لا تكون خضوعاً شديداً، و لا يكون بالغاً حدّ النهاية كبعض الصلوات الفاقدة للخشوع، ثمّ ربما يكون خضوع العاشق أمام معشوقته و الجندي أمام آمره، أشدّ خضوعاً ممّا يفعله كثير من المؤمنين باللَّه تجاه ربّهم في مقام الدعاء و الصلاة و العبادة و مع ذلك لا يقال لخضوعهما بأنّه عبادة، في حين يكون خضوع المؤمنين تجاه ربهم عبادة و إن كان أخف من الخضوع الأوّل.

نعم لقد ذكر هذا المؤلف نفسه- في ثنايا كلامه- ما يمكن أن يكون معرفاً صحيحاً للعبادة و متفقاً- في محتواه- مع ما قلناه حيث قال:

«للعبادة صور كثيرة في كل دين من الأديان شرعت لتذكير الإنسان بذلك الشعور بالسلطان الإلهي الأعلى الذي هو روح العبادة، و سرّها» «2».

______________________________

(1). المنار: 1/ 57.

(2). المنار: 1/ 57.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 92

إنّ عبارة: «الشعور بالسلطان الإلهي» حاكية عن أنّ الفرد العابد حيث إنّه يعتقد بألوهية المعبود، لذلك يكون عمله عبادة و ما لم يتوفر مثل هذا الاعتقاد في عمله لا يتصف بالعبادة.

2- و قد جاء شيخ الأزهر الأسبق الشيخ محمود شلتوت بتعريف يتحد مع ما ذكره المنار معنى

و يختلف معه لفظاً فقال:

«العبادة خضوع لا يحد لعظمة لاتحد» «1».

فالتعريفان متحدان نقداً و إشكالًا فليلاحظ و إن كان تفسير المنار يختص بإشكال آخر حيث إنّه يقول: «العبادة ناشئة عن استشعار القلب عظمة لا يعرف منشؤها» في حين أنّ العابد يعلم أنّ علّة العظمة هي: السلطة الإلهية، التي هي ألوهية المعبود و الإحساس بالحاجة الشديدة إليه، و أنّ بيده مصير العابد، و غير ذلك من الدوافع، فكيف لا يعرف منشؤها؟ «2».

3- و أكثر التعاريف عرضة للإشكال هو تعريف ابن تيمية إذ قال:

«العبادة اسم جامع لكل ما يحبه اللَّه و يرضاه من الأقوال و الأعمال الباطنية و الظاهرية كالصلاة، و الزكاة و الصيام، و الحج، و صدق الحديث، و أداء الأمانة و برّ الوالدين، وصلة الأرحام» «3».

و هذا الكاتب لم يفرّق- في الحقيقة- بين العبادة، و بين التقرّب، و تصوّر أنّ كل عمل يوجب القربى إلى اللَّه فهو عبادة له تعالى أيضاً، في حين أنّ الأمر ليس كذلك، فهناك أُمور توجب رضا اللَّه، و تستوجب ثوابه قد تكون عبادة كالصوم و الصلاة و الحج، و قد تكون موجبة للقربى إليه دون أن تعدّ عبادة كالإحسان إلى

______________________________

(1). تفسير القرآن الكريم: 37.

(2). آلاء الرحمن: 59.

(3). مجلة البحوث الإسلامية العدد: 2/ 187، نقلًا عن كتاب «العبودية»: 38.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 93

الوالدين و إعطاء الزكاة و الخمس، فكل هذه الأُمور (الأخيرة) توجب القربى الى اللَّه في حين لا تكون عبادة، و إن سمّيت في مصطلح أهل الحديث عبادة فيراد منها كونها نظير العبادة في ترتّب الثواب عليها.

و بعبارة أُخرى أنّ الإتيان بهذه الإعمال يعد طاعة للَّه، و لكن ليس كل طاعة عبادة.

و إن شئت قلت: إنّ هناك

أُموراً عبادية، و أُموراً قربية، و كل عبادة مقرّب، و ليس كل مقرّب عبادة، فدعوة الفقير إلى الطعام و العطف على اليتيم- مثلًا- توجب القرب و لكنّها ليست عبادة بمعنى أن يكون الآتي بها عابداً بعمله للَّه تعالى.

لقد وقفت- أخي العزيز- على معنى «العبادة» و مفهومها و حقيقتها في ضوء الكتاب و السنّة، و لم يبق لك أي إبهام في معناها و لا أي غموض في حقيقتها، و الآن يجب عليك- بعد التعرف على الضابطة الصحيحة في العبادة- أن تقيس الكثير من الأعمال الرائجة بين المسلمين من عصر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى زماننا هذا لترى هل هي تزاحم التوحيد، و تضاهي الشرك، أو أنّها عكس ذلك توافق التوحيد، و ليست من الشرك في شي ء أبداً؟

و لهذا نجري مَعَك في هذا السبيل (أي عرض هذه الأعمال على الضابطة التي حقّقناها في مسألة العبادة) جنباً الى جنب فنقول:

إنّ الأعمال التي ينكرها الوهابيون على المسلمين هي عبارة عن:

1): التوسّل بالأنبياء و الأولياء في قضاء الحوائج، و تحقيق المطالب:

فهل هذا شرك أم لا؟.

يجب عليك أخي القارئ أن تجيب على هذا السؤال بعد عرضه على

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 94

الضابطة التي مرَّت في تحديد معنى العبادة و مفهومها، فهل المسلم المتوسّل بالأنبياء و الأولياء يعتقد فيهم «ألوهية» أو «ربوبية» و لو بأدنى مراتبها و قد عرفت معنى الألوهية و الربوبية بجميع مراتبهما و درجاتهما، أو أنّه يعتقد بأنّهم عباد مكرَّمون عند اللَّه تعالى تُستجاب دعوتهم، و يُجابُ طلبُهم بنص القرآن الكريم.

فلو توسّل المتوسّل بالأنبياء و الأولياء بالصورة الأُولى كان عمله شركاً، يخرجه عن ربقة الإسلام.

و لو توسّل بالعنوان الثاني لم يفعل ما يزاحم التوحيد و يضاهي الشرك أبداً.

و أمّا أنّ توسّله

بهم مفيد أم لا، محلّل أو محرّم من جهة أُخرى غير الشرك فالبحث فيهما خارج عن نطاق البحث الحاضر الذي يتركز الكلام فيه على تمييز التوحيد عن الشرك، و بيان ما هو شرك و ما هو ليس بشرك.

2): طلب الشفاعة من الصالحين الذين ثبتت شفاعتهم بنص القرآن الكريم و السنّة الصحيحة:

فانّ طلب الشفاعة منهم إن كان بما أنّهم مالكون للشفاعة و أنّها حق مختص بهم، و إنّ أمر الشفاعة بيدهم، أو أنّه قد فوّض إليهم ذلك المقام، فلا شك أنّ ذلك شرك و انحراف عن جادة التوحيد، و اعتراف بألوهية الشفيع (المستَشْفَع) و ربوبيته، و دعوة الصالحين للشفاعة بهذا المعنى و القيد شرك لا محالة.

و أمّا إذا طلب الشفاعة من الصالحين بما أنّهم عباد مأمورون من جانب اللَّه سبحانه للشفاعة في من يأذن لهم اللَّه بالشفاعة له، و لا يشفعون لمن لم يأذن اللَّه بالشفاعة له، و انّ الشفاعة بالتالي حق مختص باللَّه بيد أنّه تعالى، يجري فيضه على عباده عن طريق أوليائه الصالحين المكرمين.

فالطلب بهذا المعنى و بهذه الصورة لا يزاحم التوحيد، و لا يضاهي الشرك،

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 95

فهو طلب شي ء من شخص مع الاعتراف بعبوديته المحضة و مأموريَّته الخاصة.

و أمّا أنّه طلب مفيد أم لا، أو أنّه محلل أو محرم من جهة أُخرى غير جهة الشرك و التوحيد فهو أمر خارج عن إطار هذا البحث الذي يتركز- كما أسلفنا- على بيان التوحيد و الشرك في العبادة.

3): التعظيم أمام أولياء اللَّه و قبورهم و تخليد ذكرياتهم:

فهل هذا العمل يوافق ملاك التوحيد أو يوافق ملاك الشرك؟

الجواب هو أنّ هذا العمل قد يكون توحيداً من وجه، و قد يكون شركاً من وجه آخر.

فإن كان التعظيم و التكريم- بأيّ صورة كان- قد صدر عن الأشخاص تجاه أُولئك الأولياء بما أنّ هؤلاء الأولياء عباد أبرار وقفوا حياتهم على الدعوة إلى اللَّه، و ضحّوا بأنفسهم و أهليهم و أموالهم في سبيل اللَّه، و بذلوا في هداية البشرية كل غال و رخيص، فأنّ مثل هذا التعظيم يوافق مواصفات التوحيد، لأنّه تكريم عبد من عباد اللَّه

لما أسداه من خدمة في سبيل اللَّه، مع الاعتراف بأنّه عبد لا يملك شيئاً إلّا ما ملكه اللَّه، و لا يقدر على عمل إلّا بما أقدره اللَّهُ عليه.

إنّ مثل هذا التعظيم يوافق أصل التوحيد بمراتبه المختلفة دون أي شك.

و أمّا إذا وقع التعظيم و التكريم للولي معتقداً بأنّه- حيّاً كان أو ميتاً- مالك لواقعية الألوهية أو درجة منها، أو أنّه واجد لمعنى الربوبية أو مرتبة منها، فانّه- و لا شك- شرك و خروج عن جادة التوحيد.

و أمّا أنّه مفيد أو لا، أو أنّه حلال أو حرام من جهة أُخرى غير جهة الشرك و التوحيد فخارج عن نطاق هذا البحث المهتم ببيان ما هو شرك و ما هو ليس بشرك.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 96

4): الاستعانة بالأولياء:

فهل هو يوافق التوحيد أم يوافق الشرك؟ إنّ الإجابة على ذلك تتضح بعد عرض الاستعانة هذه على الميزان الذي أعطاه القرآن لنا، فلو استعان أحدٌ بولىٍّ- حيّاً كان أو ميتاً- على شي ء موافق لما جرت عليه العادة أو مخالف للعادة كقلب العصا ثعباناً، و الميت حيّاً، باعتقاد أنّ المستعان إلهٌ، أو رب، أو مفوّض إليه بعض مراتب التدبير و الربوبية فذلك شرك دون جدال.

و أمّا إذا طلب منه كل ذلك أو بعضه بما أنّه عبد لا يقدر على شي ء إلّا بما أقدره اللَّه عليه، و أعطاه، و أنّه لا يفعل ما يفعل إلّا بإذن اللَّه تعالى، و إرادته، فالاستعانة به و طلب العون منه حينئذ من صلب التوحيد، من غير فرق بين أن يكون الولي المستعان به حيّاً أو ميتاً، و أن يكون العمل المطلوب منه عملًا عادياً أو خارقاً للعادة.

و أمّا أن المستعان قادر على الإعانة أو لا، أو

أنّ هذه الإعانة مجدية أم لا، و أنّ هذه الاستعانة محلّلة أو محرّمة، من جهات أُخرى أم لا؟ فكل ذلك خارج عن إطار هذا البحث.

5): طلب الشفاء و الإشفاء من أولياء اللَّه:

هل ذلك يوافق أصل التوحيد أو لا؟ فلو طلب أحد الشفاء من ولي من أولياء اللَّه معتقداً بأنّ الشفاء بيد اللَّه سبحانه فهو الشافي حقيقةً غير أنّه شاء أن يجري فيضه و يوصله إلى عباده عن طريق الأسباب الطبيعية و غير الطبيعية فهذا الطلب يوافق التوحيد و يتلاءَم معه، و لا ينافيه، لأنّه يرى أنّ المسئول لا يفعل إلّا بأمر اللَّه و لا يصدر إِلّا عن إِرادته.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 97

و أمّا إذا اعتقد- و هو يطلب منه الإشفاء- بأنّه مستقل في الإشفاء و انّه يملك الاشفاء أو أنّه مفوض إليه ذلك، كان عمله ذلك شركاً، و خروجاً عن إطار التوحيد.

و أمّا أنّ الاستشفاء بأولياء اللَّه مفيد أو لا، أو أنّهم قادرون على الاشفاء أم لا، و أنّ مثل هذا العمل جائز أو غير جائز من جهة غير جهة التوحيد و الشرك، فخارج عن مهمة و نطاق هذا البحث الذي يهدف معرفة ما هو شرك في طبيعته و ما هو ليس بشرك.

هذا و قد أتينا بهذه الأمثلة لتكون نموذجاً يقتديه القارئ الكريم في دراسة بقية الأُمور التي ينكرها الوهابيون مما لم نذكره، هنا اختصاراً.

*** و بما أنّ للوهابية أخطاءً و اشتباهات في معنى الألوهية و الربوبية، و كذا أخطاء في تحديد معايير التوحيد و الشرك فإنّنا نردف هذا البحث بمعالجة ما تصوروه- خطأ- معياراً للتوحيد و الشرك، ممّا ورد في كتب الكثير من مفكّريهم و كُتّابهم.

و قبل أن نستوفي البحث حول هذه المسائل و الأُمور نذكر في ختام

هذا البحث عقائد الوثنيّين في العهد الجاهلي و كيفية دعوتهم للأصنام، لأنّ الوقوف على هذا خير عون لمعرفة الكثير من الآيات التي اتخذت ذريعة لوصف كثير من التوسّلات و الدعوات بالشرك اغتراراً بظواهرها من دون تأمل في القرائن الحافة بها.

و إليك هذه الخاتمة.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 98

6- عقائد العرب الجاهليين و الوثنيين:

اشارة

إنّ الوثنيين في ذاك العصر كانوا ينقسمون إلى أصحاب الهياكل و الأشخاص و الحرنانية و الدهرية، و إليك توضيح عقائد بعض هذه الطوائف:

أ- أصحاب الهياكل:

و كانوا يقولون: إنّ الإنسان ليس في مستوى عبادة اللَّه و الاتصال المباشر به بل لا بد له من واسطة، فيتوجه إليه و يتقرّب به، و حيث إنّ الأرواح لم تكن في متناول أيديهم فزعوا إلى الهياكل التي هي السيارات السبع، و كانوا يتقرّبون إلى هذه الهياكل تقرّباً إلى الروحانيات، و يتقرّبون إلى الروحانيات تقرّباً إلى البارئ تعالى لاعتقادهم بأنّ الهياكل أبدان الروحانيات.

و كانوا يقومون بمراسيم خاصة لدى عبادة هذه الهياكل فيعملون الخواتيم على صورها و هيئتها و صنعتها، و يلبسون اللباس الخاص به في ساعات مخصوصة من اليوم و يبخرون ببخوره الخاص و يعبدون كل واحد من تلك السيارات في وقت معين ثمّ يسألون حاجتهم منها، و يسمّونها: «أرباباً» «آلهة» و اللَّه هو ربّ الأرباب و إله الآلهة «1».

ب- أصحاب الأشخاص:

و كان هؤلاء يشتركون مع الفريق السابق- في بعض العقائد- إلّا أنّهم كانوا يعبدون أشكال السيارات بدل السيارات نفسها، لأنّ لها طلوعاً و أُفولًا، و ظهوراً بالليل و خفاءً بالنهار، و لهذا صنعوا لها صوراً ثابتة على مثالها و يقولون: نعكف

______________________________

(1). الشهرستاني: الملل و النحل: 2/ 244.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 99

عليها و نتوسل بها إلى الهياكل فنتقرّب إلى الروحانيات و نتقرّب بالروحانيات إلى اللَّه سبحانه و تعالى فنعبدهم «لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «1».

ج- عقائد العرب الجاهلية:

قليل من العرب من كان يتديّن بالدهرية فقالوا بالطبيعة المحيية، و الدهر المفني و كانت الحياة- في نظرهم- تتألّف من الطبائع و العناصر المحسوسة في العالم السفلي، فيقصرون الحياة و الموت على تركّبها و تحلّلها، فالجامع هو الطبع و المهلك هو الدهر و لكن أغلبهم كانوا يقرّون بالخالق و حدوث الخلق، و ينكرون البعث و الإعادة و إرسال الرسل من جانب اللَّه «2».

و منهم من كان يعبد الملائكة و الجن و يعتبرونها بناتاً للَّه سبحانه. و صنف منهم كانوا من الصابئة الذين يعبدون الكواكب.

و منهم من كان ينكر الخالق، و حدوث الخلق و البعث و إرسال الرسل، و لكن كلا الفريقين كانوا يعبدون الأصنام و يعتبرونها مالكة لمقام الشفاعة عند اللَّه.

و من العرب من كان يتدين باليهودية أو بالنصرانية. و كانت المدينة محطّ الأُولى و نجران محط الثانية.

و أمّا الطوائف المسيحية الثلاث التي كانت تختلف فيما بينها في السيد المسيح و روح القدس و الأب، فكانت عبارة عن: الملكانية و النسطورية و اليعقوبية.

و كانت هذه الطوائف رغم اختلافاتها تشترك في عبادة المسيح الذي لم يكن غير رسول.

______________________________

(1). الملل و النحل: 2/ 244.

(2). الملل و النحل: 2/ 244.

التوحيد و الشرك

فى القرآن، ص: 100

التوحيد و الشرك فى القرآن 147

و في الآيات المتعرّضة لذكر احتجاج إبراهيم، إشارة إلى عقائد عبدة الكواكب و الأجرام السماوية.

كما أنّه وردت في بيان عقائد المسيحيين آيات.

و الآيات التي شجب فيها القرآن، الوثنية- بشدة و عنف- ترتبط بعرب الجاهلية الذين كانوا يعتنقون عقائد مختلفة إذ كان أكثرهم يعبد الأصنام باعتقاد أنّها الشفعاء و أنّها آلهة صغار، و من هذه الآيات- على سبيل المثال-:

«وَ إِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَ هُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ» (الأنبياء- 36).

«أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ» (الأنبياء- 43).

«وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَ خَلَقَهُمْ وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ» (الأنعام- 100).

«أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَ الْعُزَّى* وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (النجم- 19- 20).

إلى من تشير هذه الآيات؟

إنّ الهدف الأساس في هذه الآيات و نظائرها هو: النهي عن دعوة الفرق الوثنية، التي كانت تتخذ الأصنام شريكة للَّه في بعض لتدبير أو مالكة للشفاعة على الأقل فكان ما يقومون به من خضوع و استغاثة و استشفاع بهذه الأصنام باعتبار أنّها آلهة صغار، فوض إليها جوانب من تدبير الكون و شئون الدنيا و الآخرة.

فأيّ ارتباط لهذه الآيات بالاستغاثة بالأرواح الطاهرة مع أنّ المستغيث بها لا يتجاوز عن الاعتقاد بكونها عباد اللَّه الصالحين.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 101

فالمقصود من قوله سبحانه: «وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً»

و ما شابهها ممّا تقدم في أوّل البحث هو الدعوة العبادية التي كان المشركون يقومون بها أمام اللّات و العزّى و مناة أو الأجرام الفلكية و الملائكة و الجن، و كأنّ الآية تريد أن تقول: (فلا تعبدوا مع

اللَّه أحداً).

فلو نهى القرآن الكريم عن إشراك غير اللَّه معه سبحانه في العبادة، فأيّ ربط لهذه المسألة بمسألة دعوة الصالحين و طلب الحاجة منهم ممّا يقدرون عليها بإذن اللَّه و إقداره:

فإذا قال القرآن الكريم:

«وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ ءٍ» (الرعد- 14).

«وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ» (الأعراف- 197).

«إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ» (الأعراف- 194).

«وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ» (فاطر- 13).

«قُلْ أَ نَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَ لا يَضُرُّنا» (الأنعام- 71).

«وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ» (يونس- 106).

و ما سواها من الآيات ممّا يوجد في القرآن بوفرة، فكل هذه الآيات مرتبطة بالدعوة التي تكون عبادة للأصنام و الكواكب و الملائكة و الجنّ، باعتبار أنّها آلهة صغار و باعتبار أنّها معبودات و مدبرة للكون و شفعاء تامّي الاختيار، و لا مرية في أن أية دعوة تكون هكذا، تكون مصطبغة- لا محالة- بصبغة العبادة، فأيّ ربط لهذه الآيات بدعوة الصالحين و طلب الشفاعة منهم مع الاعتقاد بأنّهم لا يقدرون على شي ء بدون الإذن الإلهي، و مع الاعتقاد بأنّهم لا يملكون أيّ مقام إلهي و ربوبي و تدبير، و ما شابههما؟! فهل يمكن قياس الدعوتين بالأُخرى و بينهما بون شاسع.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 102

إنّ أوضح دليل على التباين بين هاتين الدعوتين هو أنّ الوهابيين يعتقدون بأنّ مثل هذا الطلب من الأنبياء الصالحين شرك حرام بعد وفاتهم، و جائز مشروع حال حياتهم. و قد أثبتنا- فيما سبق- أنّ الموت و الحياة غير مؤثّرين- مطلقاً- في ماهية العمل، و في جوازه و عدم جوازه.

و مما سبق تبيّن ما

في «فتح المجيد» إذ قال:

«و قوله: (أو يدعو غيره): اعلم أنّ الدعاء نوعان: دعاء عبادة، و دعاء مسألة، و يراد به في القرآن هذا تارة و هذا تارة أُخرى و يراد به مجموعهما.

فدعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضرّ و لهذا أنكر اللَّه على من يدعو أحداً من دونه ممّن لا يملك ضراً و لا نفعاً كقوله تعالى: «قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ اللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» (المائدة: 76) و قوله: «أَ نَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَ لا يَضُرُّنا وَ نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» (الأنعام- 71) و قال: «وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ» (يونس- 106).

قال شيخ الاسلام [ابن تيمية]: فكلّ دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، و كل دعاء مسألة متضمّن لدعاء العبادة قال اللَّه تعالى: «ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» (الأعراف- 55) و قال تعالى: «قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَ تَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ» (الأنعام- 40- 41). و قال تعالى: «وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً» (الجن- 18) و قال تعالى: «لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ ءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى

التوحيد و

الشرك فى القرآن، ص: 103

الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَ ما هُوَ بِبالِغِهِ وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ» (الرعد- 14) و أمثال هذا في القرآن في دعاء المسألة أكثر من أن يحصر و هو يتضمّن دعاء العبادة، لأنّ السائل أخلص سؤاله للَّه و ذلك من أفضل العبادات، و كذلك الذاكر للَّه و التالي لكتابه و نحوه طالباً من اللَّه في المعنى فيكون داعياً عابداً.

فتبيّن بهذا من قول شيخ الاسلام إنّ دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة، كما انّ دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة» «1».

فمن هذا البحث الضافي حول الدعوتين و كون إحداهما مسألة عبادية، و الأُخرى مسألة غير عبادية، تتضح أُمور:

الأوّل: كيف استفاد ابن تيمية من الآية: «ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً» و الآية: «وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً» انّ طلب الحاجة من أحد تكون دعوة عبادة للمدعو.

فإذا كانت لفظة «ادْعُوا» في قوله سبحانه: «ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً» و لفظة «لا تَدْعُوا» في قوله سبحانه: «فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ» بمعنى المناداة فكيف تكون الدعوة الطلبية مستلزمة للدعوة العبادية؟

إنّ هاتين الآيتين- على فرض دلالتهما- (و لا دلالة لهما) لا تدلّان على أكثر من النهي عن دعوة غير اللَّه، و أمّا أنّ دعوته تكون مستلزمة لعبادته، فلا يدل ظاهر الآية عليه أبداً إذ أنّ النهي عن الشي ء ليس دليلًا على كون المنهي عنه مصداقاً للعبادة.

الثاني: انّ الدعوة الطلبية إنّما تستلزم الدعوة العبادية إذا اعتقد الداعي بألوهية المدعو على مراتبها، ففي هذه الموارد تستلزم الدعوة الطلبية: الدعوة

______________________________

(1). فتح المجيد: 166.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 104

العبادية، بل هي الدعوة العبادية عينها و ليست مستلزمة لها، و تكون مثل هذه الدعوة عبادة لا أنّها مستلزمة للعبادة.

و لكن

إذا دعى الداعي أحداً، مجرداً عن الاعتقاد المذكور، فلا تكون دعوته- حينئذ- عبادة له.

الثالث: من الغريب جداً أن تصح الاستغاثة بالأحياء و تكون مشروعة- على الإطلاق- غافلًا عن أنّه لو كان مطلق الاستغاثة بغير اللَّه (حتى إذا لم تكن مصحوبة بالاعتقاد بألوهية أو مالكية المستغاث) شركاً لما كان لموت المدعو و حياته أي أثر في هذا القسم.

و ما ورد عن النبي الأكرم من أنّ الدعاء مخ العبادة، فالمراد هو الدعوة الخاصة، أعني: ما إذا كانت مصحوبة بالاعتقاد بألوهية المدعو.

و بتعبير آخر: أنّ المقصود بالدعاء في الحديث المذكور انّما هو دعاء اللَّه، فيكون دعاء اللَّه مخ العبادة.

فأي ربط لهذا الحديث بدعوة الصالحين التي لا تكون مقرونة بأي شي ء من الاعتقاد بألوهية المدعو؟!!

نعم يبقى هنا سؤال و هو انّ دعوة الغير و إن لم تكن عبادة له على ما أوضحناه، و لكنّها أمر محرّم بحكم هذه الآيات، فدعوة الصالحين من الأموات من الدعوات المحرمة، لأنّها دعوة غيره سبحانه، و دعوة الغير منهية عنه، نعم لا تشمل الآيات دعوة الأحياء، لأنّه أمر جائز بالضرورة، فيستنتج منها حرمة دعوة الصلحاء الماضين و إن لم يكن شركاً.

و الجواب عنه واضح بعد الإحاطة بما ذكرناه لأنّ الآيات ناظرة إلى دعوة خاصة صادرة من المشركين، و هي دعوة آلهتهم و أربابهم المزعومة، و النهي عن هذه الدعوة المخصوصة لا توجب حرمة جميع الدعوات حتى فيما لم تكن بهذه المثابة.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 105

و أوضح دليل على ما ذكرناه هو ما اعترف به السائل من عدم شمول الخطابات لدعوة الأحياء و طلب الحاجة منهم، فإنّ خروج هذا القسم ليس خروجاً عن حكم الآيات حتى يكون تخصيصاً، بل خروج عن موضوعها و

عدم شمولها له من أوّل الأمر، و ليس الوجه لخروجه عن الآيات إلّا ما ذكرناه من أنّ الآيات ناظرة إلى الدعوة التي كان المشركون يقومون بها طيلة حياتهم و هي دعوة الأصنام و الأوثان بما هي آلهة، بما هم يملكون لهم النفع و الضر و الشفاعة و الغفران، و هذا الملاك ليس بموجود في دعوة الصلحاء.

و لأجل هذه العقيدة في حق الآلهة يقول سبحانه، في الإله الذي صنعه السامري:

«هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى فَنَسِيَ* أَ فَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَ لا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً» (طه 88- 89).

و ممّا يدل على ما ذكرناه هو تكرار كلمة «مِنْ دُونِهِ»* في الآيات فإنّها ليست لتعميم كل دعوة متوجهة إلى غيره سبحانه حتى نحتاج إلى إخراج بعض الأقسام أعني: دعوة الأحياء لطلب الحوائج، أو دعوة الأموات لا لطلب الحاجة، بل للتوسّل و الاستشفاع، بل جي ء به لتبيين خصوصية هذه الدعوة. و هي دعوة الغير بظن أنّه يقوم بالفعل مستقلًا من دون اللَّه كما هو المزعوم للمشركين في آلهتهم.

و أمّا طلب الحاجة ممن لا يقوم (في زعم الداعي) إلّا بأمره سبحانه و مشيئته بحيث لا تكون دعوته منفكة عن دعوة اللَّه سبحانه فلا يصدق عليه قوله تعالى:

«وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ ءٍ» (الرعد- 14).

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 107

الفصل الثالث: الوهابيون و ملاكات التوحيد و الشرك ..

هل الاعتقاد بالسلطة الغيبية لغير اللَّه معيار التوحيد و الشرك؟

اشارة

لا شك في أنّ طلب الحاجة من أحد- بصورة جدية- انّما يصح إذا اعتقد طالب الحاجة بأنّه قادر على إنجاز حاجته. و هذه القدرة قد تكون قدرة ظاهرية و مادية، كأن نطلب من أحد أن يسقينا ماء، و يجعله تحت تصرّفنا. و قد تكون القدرة قدرة غيبية، خارجة عن نطاق المجاري الطبيعية

و القوانين المادية، كأن يعتقد أحد بأنّ الإمام علياً عليه السلام قلع باب «خيبر» بالقدرة الغيبية، كما جاء في الحديث.

أو أنّ المسيح عليه السلام كان يقدر، بقدرة غيبية على منح الشفاء لمن استعصى علاجه، دون دواء، أو إجراء عملية جراحية.

و الاعتقاد بمثل هذه القدرة الغيبية إن كان ينطوي على الاعتقاد بأنّها مستندة إلى الإذن الإلهي و إلى القدرة المكتسبة منه سبحانه، فهي حينئذ لا تختلف عن القدرة المادية الظاهرية، بل هي كالقدرة المادية التي لا يستلزم الاعتقاد بها الشرك، لأنّه سبحانه الذي أعطى القدرة المادية لذلك الفرد، هو أيضاً أعطى القدرة الغيبية لآخر، دون أن يعد المخلوق خالقاً، و أن يتصوّر استغناء أحد عن اللَّه.

فلو قام أحد بمعالجة المرضى عن طريق السلطة الغيبية، فقد قام بأمر اللَّه،

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 110

و إذنه و مشيئته، و مثل ذلك لا يعد شركاً. و تمييز السلطة المستندة إلى اللَّه عن السلطة المستقلة هو حجر الأساس لامتياز الشرك عن التوحيد، و بذلك يظهر خطأ كثير ممّن لم يفرّقوا بين السلطة الغيبية المستندة، و السلطة الغيبية غير المستندة.

و قالوا: لو أنّ أحداً طلب من أحد الصالحين- حيّاً كان أم ميتاً- شفاء علّته أو رد ضالّته أو أداء دينه، فهذا ملازم لاعتقاد السلطة الغيبية في حق ذلك الصالح و انّ له سلطة على الأنظمة الطبيعية، الحاكمة على الكون بحيث يكون قادراً على خرقها و تجاوزها، و الاعتقاد بمثل هذه السلطة لغير اللَّه عين الاعتقاد بألوهية ذلك المسئول، و طلب الحاجة في هذا الحال يكون شركاً.

فلو طلب إنسان ظامئ الماء من خادمه فقد اتّبع الأنظمة الطبيعية لتحقّق مطلبه، أمّا إذا طلب الماء من إمام أو نبي موارى تحت التراب، أو

عائش في مكان ناءٍ، فانّ مثل هذا الطلب ملازم للاعتقاد بسلطة غيبية لهذا النبي، أو الإمام على نحو ما يكون للَّه سبحانه، و مثل هذا عين الاعتقاد بألوهية المسئول!!

و ممّن صرّح بهذا الكلام الكاتب أبو الأعلى المودودي إذ يقول:

«صفوة القول إنّ التصوّر الذي لأجله يدعو الإنسان الإله، و يستغيثه، و يتضرّع إليه هو- لا جرم- تصوّر كونه مالكاً للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعة و للقوى الخارجة عن دائرة نفوذ قوانين الطبيعة» «1».

و هذا الكلام صريح في أنّه جعل الاعتقاد بهذه السلطة المهيمنة ملاكاً للاعتقاد بالألوهيّة، و قد صرّح بذلك في موضع آخر من كتابه حيث جعل ملاك الأمر في باب الألوهية، هو الاعتقاد بأنّ الموجود المسئول قادر على أن ينفع أو يضر

______________________________

(1). المصطلحات الأربعة: 17.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 111

بشكل خارج عن إطار القوانين و السنن الطبيعية المألوفة إذ قال:

«فالذي يتخذ كائناً ما ولياً له و نصيراً و كاشفاً عنه السوء، و قاضياً لحاجته و مستجيباً لدعائه، و قادراً على أن ينفعه، كل ذلك بالمعاني الخارجة عن نطاق السنن الطبيعية يكون السبب لاعتقاده ذلك ظنّه فيه انّ له نوعاً من أنواع السلطة على نظام هذا العالم، و كذلك من يخاف أحداً و يتّقيه يرى أنّ سخطه يجر عليه الضرر، و مرضاته تجلب له المنفعة لا يكون مصدر اعتقاده ذلك و عمله إلّا ما يكون في ذهنه من تصوّر أنّ له نوعاً من السلطة على هذا الكون ثمّ إنّ الذي يدعو غير اللَّه و يفزع إليه في حاجته بعد إيمانه باللَّه العلي الأعلى فلا يبعثه على ذلك إلّا اعتقاده فيه أنّه له شركاً في ناحية من نواحي السلطة الألوهية» «1».

و صريح هذا الكلام هو التلازم

بين القدرة على النفع و الضرر، و الاعتقاد بالسلطة الألوهية، و انّ كل قدرة على النفع و الضرر من غير المجاري الطبيعية ينطوي على الألوهية، بالملازمة.

و هذا جداً عجيب من المودودي.

إذ مضافاً- إلى أنّ الاعتقاد بالألوهيّة لا يستلزم الاعتقاد بالسلطة في الطرف الآخر، بل يكفي الاعتقاد بكونه مالكاً للشفاعة و المغفرة كما كان عليه فريق من عرب الجاهلية، إذ كانوا يعتقدون في شأن أصنامهم بأنّها آلهتهم، لأنّها مالكة شفاعتهم و مغفرتهم و معلوم- جيداً- انّ مالكية الشفاعة غير القول بوجود السلطة التي يراد منها: السلطة على عالم التكوين- إنّ الاعتقاد بالسلطة الغيبية الخارجة عن إطار السنن الطبيعية لا يوجب الاعتقاد بالألوهيّة.

______________________________

(1). المصطلحات الأربعة: 23، و في موضع آخر صرّح بهذا الاستلزام إذ قال في ص 30: «إنّ كلًا من السلطة و الألوهية تستلزم الأُخرى .

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 112

إنّ السلطة على الكون بجميعه- فضلًا عن بعضه- إذا كانت بأقدار اللَّه تعالى و بإذن منه- فهي بنفسها- لا تلازم الألوهية، فكما أنّ اللَّه أعطى لآحاد الإنسان قدرة محدودة في أُمورهم العادية و فضّل بعضهم على بعض في تلك القدرة، فكذلك لا مانع من أن يعطي لفرد أو أفراد من خيار عباده قدرة تامة غير عادية على جميع الكون، أو بعضه، و ذلك بنفسه لا يستلزم الألوهية، و الذي يمكن أن يقع عليه الكلام هو البحث عن وجود تلك القدرة و أنّه سبحانه هل أعطى ذلك أو لا؟ و القرآن يصرّح بذلك في عدّة موارد، منها ما ورد في شأن يوسف عليه السلام.

النبيّ يوسف و السلطة الغيبية:

أمر يوسف عليه السلام إخوته بأن يأخذوا قميصه إلى أبيه و يلقوه على بصره ليرتدّ بصيراً كما يقول القرآن الكريم في هذا

الشأن:

«اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً» (يوسف- 93).

«فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً» (يوسف- 96).

إنّ ظاهر الآية يعطي أنّ رجوع البصر إلى يعقوب كان بإرادة يوسف و انّه لم يكن فعلًا مباشرياً للَّه سبحانه و إنّما فعل ما فعله يوسف بقدرة مكتسبة منه سبحانه.

و لو كان إشفاء يعقوب مستنداً إلى اللَّه سبحانه مباشرة بلا دخالة يوسف لما أمر إخوته أن يلقوا قميصه على وجه أبيهم، بل يكفي هناك دعاؤه من مكان بعيد، و ليس هذا إلّا تصرّف لولي اللَّه في الكون بإذنه سبحانه.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 113

النبيّ موسى و السلطة على الكون:

و نظير هذا نجده في أنبياء آخرين كموسى عليه السلام، إذ قيل له:

«اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً» (البقرة- 60).

فلو لم يكن لضربه بالعصا عن إرادته، تأثير في تفجير الماء من الصخر لما أمر به اللَّه سبحانه.

و ربما يتصوّر أنّ موسى يضرب بعصاه و لكن اللَّه هو الذي يفجّر الأنهار، فهذا لا يدل على سلطة غيبية لموسى إذ غاية الأمر أنّ اللَّه تعالى يفعل تفجير الأنهار عند ضربه، لكنّه ضعيف يرجع إلى لغوية الأمر بالضرب بالعصا، فانّ الضرب بالعصا ليس من قبيل الدعاء حتى يقال إنه سبحانه يجيب دعوته عند دعائه، و على الجملة لا يمكن أن تنكر دخالة ضربه بالعصا و إرادته ذاك العمل في تفجّر الأنهار و إن كان إذنه سبحانه و مشيئته فوقه. و لا تدل الآية على أزيد من هذا.

و مثله قوله سبحانه:

«فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ» (الشعراء- 63).

و دلالة هذه الآية على ما نرتئيه لا تقصر عن دلالة الآية السابقة.

أصحاب سليمان و السلطة الغيبية:

أنّ مثل هذه السلطة الغيبية لم تقتصر على من ذكرنا بل يثبتها القرآن الكريم لأصحاب سليمان و حاشيته فها هو أحد حاشيته يضمن له عليه السلام بإحضار عرش ملكة سبأ قبل أن يقوم من مقامه، و قبل أن ينفض مجلسه إذ قال سبحانه:

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 114

«قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ* قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ» (النمل: 38- 39).

بل و يضمن له آخر من حواشيه أن يحضر العرش المذكور في أقل من طرفة عين إذ قال: «قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ

مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي» (النمل- 40).

و لم يتبيّن- إلى الآن- ما المراد من هذا العلم الذي كان يحمله قائل هذا القول: «أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ» «1».

و سواء أ كان المراد من ذلك هو العلم بخواص الأشياء الغريبة و كيفية معالجتها و إحضارها من مكان بعيد في أقل من طرفة عين، أم كان المراد منه غيره.

و على أيّ تقدير فليس هذا العلم من سنخ العلوم الفكرية التي تقبل الاكتساب و تنال بالتعلّم، و هذا يكفي في عدّ عمله خارقاً للنواميس العادية و السنن الطبيعية المكشوفة الرائجة.

و ربما يحتمل أنّه إذا كان عمله مستنداً إلى عمله بغرائب خواص الأشياء المستورة على الناس لا يخرج عن كونه عملًا طبيعياً، و إن كان يعد غريباً و لعلّه كان له علم بغرائب الخواص.

يلاحظ عليه بأنّه- مع أنّه احتمال غير مدعم بدليل- لا يخرج عمل العامل عن كونه قرين المعجزات و عديل الكرامات التي لا يقدر عليها إلّا أولياء اللَّه سبحانه.

و قد احتمل بعض في باب المعجزات أن يكون عمل الآتي بها، مستنداً إلى

______________________________

(1). ذكر المفسّرون هناك أقوالًا و احتمالات، فراجع الميزان: 15/ 363.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 115

علمه بالسنن الطبيعية التي لم يقف عليها أحد من الناس، فيتصرّف في الطبيعة لإحاطته بتلك القوانين غير المعروفة، و ليس هذا من العلوم الفكرية التي تقبل الاكتساب و التعلّم، و هذا يكفي في عدِّه معجزة أو كرامة.

النبيّ سليمان و السلطة الكونية:

و يصرّح القرآن كذلك بسلطة خارقة لسليمان عليه السلام في سور مختلفة:

1- إنّه كان لسليمان سلطة على الجن و الطير حتى أصبحت من جنوده:

«وَ حُشِرَ

لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ الطَّيْرِ ...» (النمل- 17).

2- إنّه وهب السلطة على عالم الحيوانات حتى إنّه كان يخاطبهم و يهدّدهم و يطلب منهم تنفيذ أوامره:

«وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ* لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» (النمل: 20- 21).

3- و إنّه سلّط على الجنّ فكانوا يعملون بأمره و إرادته.

«وَ مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ... يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ» (سبأ: 12- 13).

4- و إنّه سلّط على الريح أيّما تسليط:

«وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ» (الأنبياء- 81).

و على أيّ تقدير فأيّة سلطة أعظم و أوضح من هذه السلطة على عالم التكوين التي كانت لسليمان، و الجدير بالذكر أنّ بعض الآيات صرّحت بأنّ كل هذه الأُمور غير العادية كانت تتحقّق له بأمره.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 116

النبيّ المسيح و السلطة الغيبية:

و مثله ما صدر عن عيسى المسيح عليه السلام من تصرّف يكشف عن وجود سلطة خارقة للعادة، إذ كان يخلق من الطين كهيئة الطير و ينفخ فيه فيكون طيراً يتحرك و يطير، أو يعالج ما استعصى من الأمراض و العلل دون ما آلة أو دواء، كما يحدّثنا القرآن الكريم حيث يقول:

«أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (آل عمران- 49).

و الجدير بالذكر أنّ اللَّه يصرّح في آية أُخرى بأنّ هذه التصرّفات كانت نتيجة فعل عيسى نفسه، الكاشف عن سلطته نفسه (و إن كانت مستندة إلى اللَّه مآلًا) إذ يقول تعالى:

«وَ

إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي» (المائدة- 110).

و لمّا كان صدور هذه الآيات منه مستنداً إلى اللَّه تعالى من غير أن يستقل عيسى بشي ء منها كرر جملة «بِإِذْنِ اللَّهِ»* في كل مورد، لكيلا يضل فيه الناس فيعتقدوا بألوهيته، لصدور تلك الآيات منه، و لأجل ذلك قيد المسيح كل آية يخبر بها عن نفسه كالخلق و إحياء الموتى ب «إذن اللَّهِ» ثمّ ختم الكلام في آية أُخرى بقوله:

«إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» (آل عمران- 51).

و ظاهر قوله: «أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ» صدور هذه الآيات منه في الخارج و لم يكن الهدف منه مجرد الاحتجاج و التحدي، و لو كان المراد ذلك لكان حق الكلام تقييده بقوله: إن سألتم أو أردتم.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 117

على أنّ ما يحكيه اللَّه سبحانه عنه و يخاطبه به يوم القيامة، يدل على وقوع هذه الآيات أتم دلالة حيث قال:

«وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى ...»

و هاهنا يبرز سؤال و هو: إذا كان الإخبار عن الغيب آية من آياته المعجزة فلما ذا لم يقيّده ب «إذن اللَّه» فيما سبق: «وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ» كما قيّد الآيات الأُخر بهذا القيد مع أنّ الإتيان بكل آية من آيات الرسل مقيد بإذن اللَّه سبحانه حيث يقول:

«وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» (غافر- 78).

و الإجابة عن هذا السؤال واضحة: فإنّ الأخبار عن ما يأكله الناس و يدّخرونه في بيوتهم ليس كالخلق و الإحياء

و إبراء الأكمه و الأبرص، فإنّ القلوب الساذجة تقبل و تتوهّم ألوهية خالق الطير و محيي الموتى و مبرئ الأكمه و الأبرص بأدنى وسوسة و مغالطة بخلاف ألوهية من يخبر عن المغيّبات، فإنّها لا تذعن بالاختصاص الغيب باللَّه سبحانه، بل تعتقده أمراً يناله كل مرتاض أو كاهن، و لأجل ذلك لم ير حاجة إلى تقييده ب «إذن الله» «1».

سؤال آخر هو: أنّ قوله سبحانه: «أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ» مشتمل على أُمور:

1- خلق هيئة الطير من الطين.

2- النفخ في تلك الهيئة.

3- صيرورتها طيراً بإذن اللَّه.

______________________________

(1). الميزان: 3/ 218.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 118

و ما هو فعل عيسى عليه السلام إنّما هو الأوّلان، و الثالث خارج عن فعله، بل هو فعل اللَّه بقرينة تقييد الثالث بإذن اللَّه دون الأوّل و الثاني.

و على الجملة للخلق معنيان:

1- الإيجاد من العدم.

2- التقدير.

و المتعيّن في المقام هو المعنى الثاني، و الإيجاد من العدم إنّما يتصوّر فيما لم تكن هنا مادة متحوّلة، و المفروض وجود «الطين» في المقام و ما صدر عن عيسى هو «التقدير» أعني: تقدير الطين كهيئة الطير، و بقي الثالث و هو صيرورته طيراً حقيقياً فهو فعل اللَّه يتحقّق بإذنه سبحانه، فلم يبق هنا فعل غير عادي يصح استناده إلى المسيح عليه السلام.

أمّا الجواب فنقول أوّلًا: إنّا لا نُسَلّم بأنّ قوله تعالى: «بِإِذْنِ اللَّهِ» راجع إلى الأمر الثالث، بل من المحتمل جداً رجوعه إلى الأُمور الثلاثة، و الشاهد عليه أنّه قيّد الأمر الأوّل من سورة المائدة بهذا القيد حيث قال سبحانه:

«وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي» (المائدة- 110).

و على ذلك فلا يدل

تقييد الأمر الثالث بإذن اللَّه على أنّ الأمرين الأوّلين فعل عيسى و الأمر الثالث فعل اللَّه سبحانه، بل الكلّ فعله عليه السلام من جهة، و فعل اللَّه من جهة أُخرى

و ثانياً: لو سلّمنا ذلك التكلّف في خلق الطير، فما ذا يمكن ان يقال في إبراء الأكمه و الأبرص و إحياء الموتى التي هي من أفعال اللَّه، كصيرورة الطين طيراً، فقد نسبه اللَّه إلى نفسه، و قال:

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 119

«أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ» (آل عمران- 49).

حتى أنّ اللَّه سبحانه نسبها إلى المسيح و خاطبه بها و قال:

«وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي» (المائدة- 110).

على أنّ اللَّه يصف طائفة من ملائكته أيضاً بهذه السلطة فيقول عن جبرئيل بأنّه:

«شَدِيدُ الْقُوى (النجم- 5).

أي قواه العلمية كلّها شديدة فيعلم و يعمل «1» و كيف لا يكون ذا قوة و قد اقتلع قرى قوم لوط فرفعها إلى السماء ثمّ قلبها، و من شدة قوته صيحته على قوم ثمود حتى هلكوا «2» و لو كان المراد من شديد القوى هو جبرائيل فقد وصفه اللَّه في موضع آخر بقوله:

«ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ» (التكوير- 20).

و من هذا هو شأنه فله السلطة الغيبية بإذن اللَّه سبحانه على الكون.

و هل هناك سلطة غيبية أظهر من هذه التي يثبتها القرآن الكريم لفريق من عباد اللَّه و أوليائه، فإذا كان الاعتقاد بالسلطة الغيبية لأحد ملازماً للاعتقاد بألوهيته لزم أن يكون جميع هؤلاء: آلهة من وجهة نظر القرآن، بل لا بد من القول بأنّ تحصيل مثل هذه السلسلة الغيبية أمر ممكن لأشخاص آخرين- حتى غير الأنبياء- عن طريق العبادة.

فالعبادة- التي يتصوّر أغلبية الناس

أنّ آثارها تنحصر في جلب رضاء اللَّه، و دفع غضبه فقط- ربّما تمنح الروح قدرة عظيمة، و بعداً أعمق من ذلك.

______________________________

(1). مجمع البيان: 5/ 173.

(2). مفاتيح الغيب للرازي: 7/ 702.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 120

فالعبادة ذات تأثير جداً عظيم، و في الباطن، و الروح.

إذ الانتهاء عن المحرّمات، و المكروهات، و التزام الواجبات و المستحبات، الإخلاص فيها ذو أثر عظيم، و عميق في تقوية الروح، و تجهيزها بقدرة خاصة خارقة للقوانين و السنن بحيث تكون الروح منشأ لآثار خارقة للعادة.

و هذا هو ما أشارت إليه أحاديث صحاح منها: ما روي في الحديث القدسي عن قوله تعالى:

«ما تقرّب إليَّ عبد بشي ء أحبّ إليَّ مما افترضت عليه، و انّه ليتقرب إليَّ بالنافلة حتى أحبّه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، و بصره الذي يبصر به، و لسانه الذي ينطق به، و يده التي يبطش بها» «1».

فالحق: أنّ السلطة الغيبية التي أعطاها سبحانه لخيار عباده ليتصرّفوا في الكون بإذنه و مشيئته، و يخرقوا قوانين الطبيعة في مجالات خاصة لا تستلزم الاعتقاد بالألوهيّة، و لا يكون صاحبها نداً و شريكاً للَّه تعالى.

نعم، الاعتقاد بالسلطة الغيبية «المستقلة» من دون أن تكون مستنداً إليه سبحانه هو الموجب للاعتقاد بالألوهيّة، و قد قال سبحانه في هذا الصدد:

«وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» (الرعد- 38).

______________________________

(1). أصول الكافي: 1/ 352، روى هذا الحديث باسناد صحيح، و الرواية ظاهرة في أنّ العبادة تخلق للنفس قدرة خارقة ممّا لا ينكر، و احتمال أنّ المقصود منها أنّ فعل العبد يكون محفوفاً برضاء اللَّه سبحانه، و أنّه لا يفعل و لا يترك إلّا ما فيه رضاه، احتمال مرجوح جداً، فانّ الحركة على طبق

رضاه طيلة الحياة، ليست أثر خصوص فعل الصلوات- فرائضها و نوافلها- بل هي قبل كل شي ء إثر الإيمان باللَّه و ثوابه و عقابه، لا الإقبال على الفرائض و النوافل، و لو كان لهذه الأفعال تأثير في تلك الحركة فليكن للصوم و الحج و الجهاد، تأثير أيضاً، فلما ذا لم يذكرها؟

فعلم أنّ للصلاة- فريضتها و نافلتها- تأثيراً في تقوية النفس و الروح و ترفعتها إلى حدّ يقدر معه الإنسان، على أن يكون مظهراً للَّه سبحانه في بصره و سمعه. و بطشه و تكلّمه، فيبصر ببصره، و يسمع بسمعه، ما لا يبصر و لا يسمع بغيره.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 121

كلام آخر للمودودي:

يصف المودودي عقائد الجاهليين و يقول:

«كانت عقيدتهم الحقيقية في شأن سائر الآلهة أنّ لهم شيئاً من التدخّل و النفوذ في ألوهية ذلك الإله الأعلى و أنّ كلمتهم تتلقّى بالقبول، و أنّه يمكن أن تتحقق أمانينا بواسطتهم، و نستدر النفع، و نتجنّب المضار باستشفاعهم» «1».

يلاحظ عليه: أنّ ما صوّر به عقيدة الجاهلية في شأن سائر الآلهة «بأنّ لهم شيئاً من التدخل و النفوذ في ألوهية الإله الأعلى يحتاج إلى التوضيح، فإنّ تدخل الغير في شئونه سبحانه على قسمين:

الأوّل: بصورة كونهم مستقلين في أفعالهم و أعمالهم، و هذا يوجب الشرك و كون المتدخل إلهاً، و التوجّه إليه عبادة.

الثاني: التدخل و النفوذ بإذنه سبحانه، و أمره فلا نسلم بطلانه، و ليس الاعتقاد به شركاً، و الطلب عبادة كيف و القرآن يصرّح بأنّ الملائكة تدبّر الأُمور الكونية، إذ يقول: «فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» (النازعات- 5).

و أنّهم هم الذين يقبضون الأرواح و يهلكون الأُمم العاصية، إذ يقول عن لسان الملائكة:

«إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ ... فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَ

أَمْطَرْنا» (هود- 70 و 82).

فإنّنا نلاحظ- بجلاء- أنّ اللَّه هو الجاعل، و لكن المباشر للإهلاك هم: الملائكة، إذن فلا مناص من تبديل كلمة التدخّل و النفوذ في كلامه بكلمة «التفويض» و غيرها ممّا ينطوي على التصرف في معزل عن أمر اللَّه و إذنه و إرادته.

و أمّا ما نقل عنهم من أنّهم كانوا يعتقدون في حق آلهتهم «بأنّه يمكن أن

______________________________

(1). المصطلحات الأربعة: 19.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 122

تتحقّق أمانيهم بواسطتها، و يستدر النفع، و يتجنّب المضار باستشفاعهم» لا يخلو من قصور «1».

فإن أراد «أنّ النفع الأُخروي و التجنب عن الضرر الأُخروي لا يجوز سؤاله من غير اللَّه سبحانه، و يكون عند ذلك مثل الوثنيين الجاهليين» فقد صرّح القرآن بخلافه، إذ لا شك انّ دعاء الرسول لمؤدّي الزكاة موجب للسكن لهم، و رافع للاضطراب عنهم، اذ قال سبحانه: «وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ» (التوبة- 103).

كما أن استغفار الرسول موجب لغفران الذنوب لقوله سبحانه:

«وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً» (النساء- 64).

كما كان دعاء يعقوب موجباً لغفران ذنوب أبنائه لقولهم: «يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا».

فأجابهم يعقوب عليه السلام إذ قال: «سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي» (يوسف- 98).

و هو كاشف عن جدوى استغفاره، إذ لو لا ذلك لما وعدهم به، و عندئذ يجوز أن يطلب من الرسول الدعاء و الاستغفار و هو طلب النفع الأُخروي.

و أي نفع- ترى أولى من النفع الأُخروي، و أي دفع ضرر أهم من دفع

______________________________

(1). أضف إلى ذلك: أنّ عرب الجاهلية و إن كان يتجنّب المضار باستشفاعهم، إلّا أنّ عملهم هذا كان مبنياً على القول بألوهيتهم و لأجل ذلك عُدَّ عملهم

شركاً، و كم فرق بين طلب دفع المضار بالاستشفاع بما أنّ الشفيع عبد مكرّم يشفع بإذنه سبحانه، أو أنّه إله يُعبد و يستقل في فعله و على ذلك لا فرق بين الضرر الدنيوي و الأُخروي، في جوازه على الأوّل، و عدمه على الثاني مطلقاً، و كان على الأُستاذ تركيز البحث على اعتقاد السائل في حقّ من يطلب منه جلب النفع و دفع الضرر في أنّه هل يعتقد بألوهية المسئول و استقلاله في الجلب و الدفع، أو يعتقد بعبوديته و إنّه لا يجلب و لا يدفع إلّا بإذنه؟ يجب أن يركّز على هذا لا على الفرق بين الضرر الدنيوي و الأُخروي.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 123

عذاب اللَّه بدعاء النبي؟ و لو طلب أحدٌ من الرسول دعاءه و استغفاره لجلب هذا النفع لا يكون مشركاً و لا عابداً للنبي.

فهل- بعد هذه النماذج الواضحة- يتصوّر أن يكون الاعتقاد بتأثير النبي و الولي في دفع الضرر و جلب النفع الأُخرويين و طلبهما منه موجباً للشرك، و القرآن يصرّح به بأعلى صوته و على رءوس الأشهاد.

و إن أراد من النفع و الضرر- في كلامه- النفع و الضرر الدنيويين و إنّ طلبهما موجب للشرك فقد اعترف القرآن بوقوعه فضلًا عن إمكانه أيضاً.

فقوم موسى عليه السلام استسقوه و هم في التيه فطلبوا منه النفع الدنيوي فلم يردعهم موسى عليه السلام بل استسقى لهم من اللَّه و سقاهم في الحال.

و يشير القرآن الكريم إلى هذا إذ يقول:

«وَ إِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ» (البقرة- 60).

كما انّهم طلبوا منه إنزال النعم السماوية فلم يزجرهم عن هذا الطلب، بل دعا لهم.

و قد طلب آل فرعون منه أن يرفع عنهم الرجز (أي العذاب الدنيوي المذكور قبل الآية)

و قالوا:

«وَ لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ» (الأعراف- 134).

فكل ذلك يدل على أنّ استدرار النفع و طَلب دفع الضرر الدنيوي من الغير بإذن اللَّه جائز هو أيضاً، إذ لو لا ذلك لكان على النبي أن يردعهم و يزجرهم في كل هذه الموارد، و للزم أن يلفت نظرهم إلى اللَّه، ليسألوه تعالى هو مباشرة لا أن يسألوه و يطلبوا منه ذلك، و هو خلق من خلق اللَّه، و عبد من عبيده.

و لا شك انّ لموسى مدخلية في جلب النفع الدنيوي، و كذا في دفع الضرر أيضاً.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 124

فيجب على الأُستاذ أن يقيّد كلامه في منع استدرار النفع و دفع الضرر بقولنا: بالاستقلال و نحوه، بحيث يكون المسئول مستقلًا في ذلك.

و صفوة القول هي أنّ الحل في هذه المسألة هو أن نفرّق بين السلطة المستندة إلى إرادة اللَّه و إذنه و مشيئته، و السلطة المستقلة و لا نخلط بينهما.

تكملة:

إنّ النظريات في صدور المعجزات عن عباد اللَّه الصالحين لا تخرج عن أربعة أقوال:

الأُولى ما عليه الغلاة و المفوّضة من كونهم مستقلّين في الخلق و الإيجاد و الإحياء و الإماتة.

الثانية: أنّ اللَّه يوجد تلك الأُمور مقارناً لإرادتهم، و قد مرّت النظريتان عند البحث عن التفويض.

الثالثة: ما استظهرنا من الآيات من أنّ الفعل مستند إليهم عليهم السلام بإذن اللَّه سبحانه و أقداره.

الرابعة: النظرية التسخيرية التي وردت فيها روايات غير ما أشرنا إليه، و لا تعارض بين الثلاث الأخيرة، فهي غير مانعة الجمع كما لا يخفى.

و النظرية الأخيرة مبنية على سريان الشعور و الإدراك في جميع الموجودات.

و عليه

فما في الكون يأتمر بأمر النبي إذا أمر بشي ء، و ينقاد لطلبه و يؤيده قوله سبحانه:

«فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ» (ص- 36).

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 125

2

هل عادية السبب و غير العادية ملاك التوحيد و الشرك؟

اشارة

ذهب بعض المتصوّفة و الدراويش في وصف أقطابهم و شيوخ طرقهم إلى حد الشرك، كما هو ظاهر، و بذلك هدموا حدود التوحيد و الشرك و تجاوزوا معاييرهما، و يبدو هذا الأمر- بجلاء- من الأبيات التي مجّد بها القوم مشايخهم حيث تفوح من أكثرها رائحة الشرك الجلي فضلًا عن الخفي، تلك الأبيات التي لا تنسجم مع أُسس (التوحيد القرآني) بحال، و إن كان بعضهم يحاول أن يجد لتلك الأبيات و الكلمات محامل بمنأى عن الشرك، و لكن الحق هو أنّ الموحّد لا ينبغي له، بل و لا يجوز، أن يجري على لسانه كلاماً غير منسجم مع (التوحيد الإسلامي القرآني) الجلي الملامح، الواضح الطريق. نعم لا يعم ذلك جميع المتصوّفة بل بعضهم.

و لقد كانت نظرة هذه الفرقة إلى مفهوم الشرك نظرة خاصة و شاذّة جداً، حيث راحت تعد الكثير من أنواع الشرك القطعي بأنّه (عين التوحيد)!! و بذلك ضيّقوا (دائرة الشرك) أيّما تضييق!!

في مقابل هذه الفرقة- تماماً- وقف الوهابيون، فهم توسّعوا في فهم حقيقة الشرك و إطلاقه، توسعاً يكاد يشمل كل حركة و سكون و كل تصرف يصدر من أهل التوحيد تجاه أولياء اللَّه بهدف الاحترام و التكريم حيث اعتبره الوهابيون عين

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 126

الشرك، و الحيدة عن جادة التوحيد!! و سمّوا فاعله مشركاً، حتى أنّه اتفق لي أن التقيت ذات يوم بواحد من «هيئة الأمر بالمعروف» في المسجد الحرام، فاتفق أن صدر منّي تكريم بانحناء رأسي- أثناء ذلك اللقاء- و إذا

بذلك الشخص يقول- في جدّ و انزعاج-:

لا تفعل هذا ... إنّه شرك محرّم ... لا تحني رأسك إنّه شرك!!

و الحق أنّه لو كان معنى الشرك و التوحيد هو كما ما يراه الوهابيون و يقولون به، إذاً لما أمكن أن نمنح لأيّ أحد تحت هذه السماء و فوق هذه الأرض (هوية الموحّد) و لما استحقّ أحد أن تطلق عليه تلك الصفة أبداً.

لقد نقل لي صديق ثقة أن إمام المسجد النبوي و خطيبه: الشيخ عبد العزيز كان يقول في تحديد الشرك:

(إن كل تعلّق بغير اللَّه شرك)!

أقول: لو كان معنى الشرك هو هذا الذي يقوله إذن لا بد أن نعتبر كل البشر على هذه الأرض مشركين، بلا استثناء، حتى الوهابيين أنفسهم، لأنّهم يتوصلون إلى تحقيق مآربهم و تنفيذ حاجاتهم عن طريق التعلّق و التوسّل بالأسباب مع أنّه لا يمكن أنّ يقال إنّ الأسباب و العلل هي اللَّه، بل هي غير اللَّه، فينتج هذا أن يكون تعلّقهم بالأسباب و توسّلهم بالعلل توسّلًا بغير اللَّه، و تعلّقاً بسواه!

في حين أنّ هذا النوع من التعلّقات و التشبّثات ليست لا تعدّ شركاً فقط بل هي (عين التوحيد و صميمه) لأنّ حياة الإنسان في هذه الدنيا مشدودة إلى الأسباب و العلل.

غاية الأمر أنّ عليه أن لا يعتقد لهذه الأسباب و العلل أيّ استقلال و انقطاع عن الإرادة الإلهية العليا، بل لا بد أن يعتقد بتأثيرها تبعاً لمشيئته سبحانه، نعم إنّ التعلق بالأسباب و العلل الظاهرية المادية قد يكون (عين التوحيد) من جهة،

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 127

و (عين الشرك) من جهة أُخرى فعند ما لا نعتقد بأيّ استقلال لهذه الأسباب- عند تشبثنا بها- و لا نعتبر تأثيرها في مصاف الإرادة الإلهية و

في عرضها بل نعتقد بأنّها تقع في ضمن السلسلة التي تنتهي- بالمآل- إلى اللَّه، فلا نخرج عن إطار التوحيد.

و ليس في (الفكر التوحيدي) من مناص إلّا الاعتقاد بمثل هذا الإمرة و على هذا النمط.

أمّا عند ما نرى لهذه الأسباب و العلل استقلالًا، و نعتقد بإمكان تأثيرها بمعزل عن الإرادة الإلهية، لا بنحو التبعية ففي هذه الصورة سنكون معتقدين بخالقين، و مؤثرين!!

إنّ على الموحّد أن يحافظ على الاعتقاد بوجود قانون (العلّية و السببية) الحاكم في الظواهر الطبيعية، و إنّ هذه الأسباب و العلل لا تملك استقلالًا في تأثيرها مطلقاً بل هي مفتقرة إلى اللَّه في تأثيرها كما في وجودها و بقائها.

إنّ الموحد رغم أنّه يعرف هذه الحياة و يتعامل معها على أساس أنّها خاضعة لنظام العلّية إلّا أنّه ينظر إلى هذه العلل على أساس أنّ وجودها و بقاءها و تأثيرها من اللَّه.

فالسبب الأوّل هو اللَّه سبحانه، و أمّا الأسباب الأُخرى فهي مخلوقة له خاضعة لإرادته واقعة في طول مشيئته لا في عرضها.

إنّ الفارق الأساسي بين الموحّد و المادّي يكمن في هذا المقام.

فالثاني يعتقد ب «أصالة العلل المادية و استقلالها في التأثير» في حين يسندها الموحّد إلى اللَّه خالق كل شي ء، مع أنّه يعترف بقانون العلّية الحاكم في هذا الكون.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 128

شهادة القرآن:

إنّ قضية استقلال و عدم استقلال العلل الطبيعية المادّية هو الفاصل بين التوحيد و الشرك، و به يعرف الموحّد عن المشرك- بوضوح- و إلى هذه الحقيقة أشار القرآن الكريم في آيات عديدة، فهناك فريق من الناس عند ما يواجهون المشاكل المستعصية و تنسد في وجوههم جميع الأبواب و السبل و يقابلون المهالك وجهاً لوجه، يتوجهون إلى اللَّه و يلوذون به و

لا يرون سواه ملجأ و مخلصاً، فإذا ما نجوا عادوا إلى شركهم مرة أُخرى و هذه حالة فريق من الناس، و إلى هذه الحالة تشير طائفة من آيات القرآن، و ها نحن نذكر فيما يلي بعضها على أنّ المهم لنا هو أن نعرف ما هو المقصود بالشرك المذكور في هذه الآيات.

و إليك فيما يلي نصّ الآيات:

«وَ إِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ» (الروم- 33).

«فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ» (العنكبوت- 65).

«قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ» (الأنعام- 64).

«ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ» (النحل- 54).

هذه بعض الآيات في هذا المجال، و الواجب هو الإمعان في عبارة «إذا هم يشركون».

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 129

إنّ المقصود من الشرك في هذه الآيات- ليس فقط أنّ هؤلاء إذا وصلوا إلى البرّ أو نجوا عكفوا على عبادة الأوثان، بل المراد ما هو أوسع من ذلك فانّهم إذا نجوا عادوا إلى نسيان الحالة السابقة، و التجأوا إلى الأسباب الماديّة متصوّرين أنّها أسباب مستقلّة تمدّهم في إدامة الحياة من دون استمداد من اللَّه سبحانه و ناظرين إليها بعين العلل المستقلة غير المعتمدة على اللَّه، و لا شك أنّ النظر إلى الأسباب العادية من نافذة: الاستقلال، هو أيضاً شرك يجب الاجتناب عنه، و هي نقطة الافتراق بين المدرسة الإلهية و المدرسة المادية، و لو طالعت هذه الآيات المتعلّقة بالشرك و التوحيد بروح علمية لوجدت كيف أنّ القرآن الكريم يصرّ على أنّه ليست في عالم الوجود قدرة في مصاف القدرة الإلهية،

و لا إرادة في عرض تلك الإرادة.

و يرشدك إلى هذا أنّ القرآن يعتقد بأنّه سبحانه هو الهادي في ظلمات البرّ و البحر، و هو مرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته و منزل الغيث، و يقول:

«أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ مَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» (النمل- 63).

مع أنّ البشر كان و لا يزال يستفيد من الأسباب و الوسائل الطبيعية كالنجوم و البوصلات و يهتدي بها و بغيرها من الأدوات التكنولوجية في أسفاره البرية و البحرية، و ليس هذا إلّا لأجل أنّ سببية الأسباب بتسبيب من اللَّه سبحانه.

كما أنّ الرياح و الأمطار في هذه الطبيعة ينشئان نتيجة سلسلة طويلة من تفاعل العلل الطبيعية التي تتسبب في وجود ظاهرة الرياح، أو الأمطار، و لكن القرآن مع ذلك يقول:

«وَ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ» (الأعراف- 57).

«وَ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَ يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ» (الشورى 28).

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 130

و ليس ذلك إلّا لأنّ اللَّه وراء تلك الأسباب و هي تفعل بأمره و إقداره.

و بكلام آخر أنّ هذه العلل و الأسباب حيث إنّها غير مستقلّة، لا في وجودها و لا في تأثيرها، بل هي مخلوقة بأسرها و بتمام وجودها، و تأثيرها للَّه، لذا يصرّح القرآن الكريم بأنّه سبحانه الهادي في ظلمات البرّ و البحر و المرسل الرياح و منزل الغيث من بعد ما قنطوا.

و هذه الحقيقة- بعينها- مبيّنة بوضوح تام في آيات سورة الواقعة.

إنّ هذا لا يعني أنّ القرآن الكريم يتنكر للعلل و الأسباب الطبيعية، و ينكر وجودها و دخالتها، و يلغي دورها. بل حيث إنّ هذه العلل

و الأسباب لا تملك من لدن نفسها استقلالًا و تقوم باللَّه سبحانه قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي بحيث لو قطعت عنها عنايته تعالى آناً ما، انهارت و تهافتت جملة واحدة، و انقلب عالم الوجود مع كل وضوحه إلى ظلام و عدم، لذلك تفنّن في تفسير الظواهر الطبيعية تارة بنسبتها إلى اللَّه سبحانه و أُخرى إلى سائر العلل و الثالثة إليهما معاً، قال:

«وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى (الأنفال- 17).

التوسّل بالأسباب غير الطبيعية:

إلى هنا تبيّن أنّ النظرة إلى الأسباب الطبيعية بلحاظ أنّها علل غير مستقلّة عين التوحيد، و بلحاظ استقلالها في التأثير عين الشرك، و أمّا غير الطبيعية من العلل فحكمها حكم الطبيعية، حيث إنّ التوسّل على النحو الأوّل عين التوحيد و على النحو الثاني عين الشرك حرفاً بحرف، غير أن الوهابيين جعلوا التوسّل بغير الطبيعية من العلل توسلًا ممزوجاً بالشرك و يقول المودودي في ذلك:

«فالمرء إذا كان أصابه العطش- مثلًا- فدعا خادمه و أمره بإحضار الماء

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 131

لا يطلق عليه حكم «الدعاء» و لا أنّ الرجل اتّخذ الخادم إلهاً، و ذلك أنّ كل ما فعله الرجل جار على قانون العلل و الأسباب، و لكن إذا استغاث بوليّ في هذا الحال فلا شكّ أنّه دعاه لتفريج الكربة و اتّخذه إلهاً.

فكأنّي به يراه سميعاً بصيراً، و يزعم أنّ له نوعاً من السلطة على عالم الأسباب ممّا يجعله قادراً على أن يقوم بإبلاغه الماء، أو شفائه من المرض».

«و صفوة القول إنّ التصوّر الذي لأجله يدعو الإنسان الإله و يستغيثه و يتضرّع إليه هو لا جرم تصوّر كونه مالكاً للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعة و للقوى الخارجة عن دائرة نفوذ الطبيعة».

أقول: إنّ الحديث في

المقام في موردين:

الأوّل: إذا اعتقد إنسان بأنّ للظاهرة المعينة سببين: طبيعياً و غير طبيعي فإذا يئس من الأوّل و لاذ بالثاني فهل يعدّ فعله شركاً أو لا؟

الثاني: إذا اعتقد بأنّ لشخص خاص سلطة غيبية على الكون بإذنه سبحانه فهل يعدّ هذا الاعتقاد اعتقاداً بألوهيته؟

و قد حقّقنا القول حول الأمر الثاني و نركّز البحث على الأمر الأوّل فنقول:

إذا اعتقد إنسان بأنّ لبرئه من المرض طريقين أحدهما طبيعي و الآخر غير طبيعي، و قد سلك الطريق الأوّل و لم يصل إلى مقصوده فعاد يتوسّل إلى مطلوبه بالتمسك بالسبب الثاني كمسح المسيح يديه عليه، فهل يعدّ اعتقاد هذا و طلبه منه شركاً و خروجاً عن جادة التوحيد أو لا؟

و أنت إذا لاحظت الضوابط التي قد تعرّفت عليها في تمييز الشرك عن غيره لاستطعتَ على الإجابة بأنّه لا ينافي التوحيد و لا يضادّه بل يلائمه كمال الملائمة فإنّه يعتقد بأنّ اللَّه الذي منح الأثر للأدوية الطبيعية أو جعل الشفاء في العسل هو

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 132

الذي منح المسيح قدرة يمكنه ان يبرئ المرضى بإذنه سبحانه، و معه كيف يعدّ اعتقاده هذا شركاً؟!

و بكلام آخر: ان الشرك عبارة عن الاعتقاد باستقلال شي ء في التأثير، بمعنى أن يكون أثره مستنداً إليه لا إلى خالقه و بارئه و المفروض عدمه، و مع ذلك كيف يكون شركاً، و التفريق بين التوسّل بالأسباب الطبيعية و غيرها بجعل الأوّل موافقاً للتوحيد دون الثاني تفريق بلا جهة فأنّ نسبتها إلى اللَّه سبحانه في كون التأثير بإذنه سواسية.

نعم يمكن لأحد أن يخطئ القائل في سببية شي ء، و يقول بأنّ اللَّه لم يمنح للولي الخاص تلك القدرة و أنّه عاجز عن الإبراء، و لكنّه خارج عن

محطّ بحثنا فإنّ البحث مركّز على تمييز الشرك عن غيره لا على إثبات قدرة لأحد أو نفيها عنه و أظن أنّ القائلين بكون هذا الاعتقاد و الطلب شركاً لو ركّزوا البحث على تشخيص ملاك الشرك عن غيره لسهّل لهم تمييز الحق عن غيره، إذ أيّ فرق بين الاعتقاد بأنّ اللَّه وهب الإشراق للشمس و الإحراق للنار و جعل الشفاء في العسل، و بين إقداره وليّه مثل المسيح و غيره على البرء، أو اعطاءه للأرواح المقدسة من أوليائه قدرة على التصرّف في الكون و إغاثة الملهوف.

و قد ورد في القرآن الكريم نماذج من إعطاء آثار خاصة لعلل غير طبيعية تلقي الضوء على ما ذكرنا. فإليك بيانها:

1- إنّ القرآن يصف عجل السامري بقوله:

«فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى فَنَسِيَ» (طه- 88).

فبعد ما رجع موسى من الميقات و رأى الحال فسأل السامري عن كيفية عمله و أنّه كيف قدر على هذا العمل البديع؟ فأجاب:

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 133

«بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَ كَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي» (طه- 96).

فعلّل عمله هذا بأنّه أخذ قبضة من أثر الرسول فعالج بها مطلوبه فعاد العجل ذي خوار. و هذا يعطي أنّ التراب المأخوذ من أثر الرسول كان له أثر خاص و قد توسل به السامري.

2- إنّ القرآن يصف كيفية برء يعقوب ممّا أصاب عينيه، و يقول حاكياً عن يوسف أنّه قال: «اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ» (يوسف- 93).

«فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» (يوسف-

96).

فإذا اعتقد الإنسان بأنّ الذي خلق في التراب المأخوذ من أثر الرسول المعين أثراً خاصاً بحيث إذا امتزج مع الحلي يجعلها ذات خوار، أو منح للقميص ذلك الأثر العجيب هو الذي أعطى لسائر العلل غير الطبيعية آثاراً خاصة يستفيد منها الإنسان في ظروف معينة فهل يجوز لنا رمي المعتقد بهذا، بأنّه مشرك؟ و أيّ فرق بين ما أخذ السامري من أثر الرسول أو قميص يوسف و سائر العلل مع أنّ الجميع علل غير مألوفة؟

إنّ التوسل بالأرواح المقدسة و الاستمداد بالنفوس الطاهرة الخالدة عند ربّها نوع من التمسّك بالأسباب في اعتقاد التمسّك و قد قال سبحانه:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ» (المائدة- 35)

و ليست الوسيلة منحصرة في العمل بالفرائض و التجنب عن المحرمات بل هي أوسع من ذلك فتوسل ولد يعقوب بأبيهم كان ابتغاءً للوسيلة أيضاً.

و أمّا البحث عن أنّ هذه الأرواح و النفوس هل في مقدورها أنّ تغيث من يستغيث بها أو لا فهو خارج عمّا نحن بصدده.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 134

3

هل الحياة و الموت يدخلان في مفهومَي التوحيد و الشرك؟

لا شك أنّ التعاون، و التعاضد بين أبناء الإنسان أساس الحياة، و ما التاريخ الإنساني إلّا حصيلة الجهود البشرية التي نبعت من التعاون، و تقاسم المسئوليات و الاستفادة المتبادلة من الطاقات الإنسانية.

و القرآن حافل بنماذج كثيرة من استمداد البشر بمثله إذ يقول:

«فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ» (القصص- 15).

إذن فاستمداد الإنسان بالإنسان الآخر أمر واقع في الحياة البشرية، و جائز عند جميع الأُمم غير أنّ للوهابيين تفصيلًا في المقام يرونه هو الحد الطبيعي الفاصل بين (التوحيد و الشرك).

فيقولون: إنّ التوسّل بالأنبياء و الأولياء جائز في حال حياتهم دون مماتهم و يقول

محمد بن عبد الوهاب في هذا الصدد:

«و هذا جائز في الدنيا و الآخرة أن تأتي رجلًا صالحاً تقول له: ادع اللَّه لي كما كان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يسألونه في حياته. و أما بعد مماته فحاش و كلّا أن يكونوا سألوا ذلك، بل أنكر السلف على من قصد دعاء اللَّه عند قبره فكيف

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 135

بدعاء نفسه» «1».

إنّ للتوحيد و الشرك معايير خاصة بها يمتاز أحدهما عن الآخر، و إنّ الإسلام لم يترك تلك المعايير إلينا بل حدّد كل واحد بحد خاص.

و قد ألمعنا بها فيما سبق و لم يذكر في تلك المعايير أنّ الحياة و الموت حدّان للتوحيد و الشرك.

و ستعرف أنّه لا دخالة لحياة المستغاث منه و مماته في تحديد الشرك أو التوحيد مطلقاً، لأنّ الاستمداد و الاستغاثة بالحيّ مع الاعتقاد باستقلاله في القدرة و التأثير، و أصالته في إغاثة المستغيث يوجب الشرك، و كون الاستغاثة بالحيّ أمراً رائجاً بين العقلاء لا يوجب صحتها إذا كانت مقرونة مع الاعتقاد باستقلال المستغاث في الإغاثة، لأنّ الدارج بين العقلاء هو: أصل الاستغاثة بالحيّ لا باعتباره مستقلًا في العمل.

فلا تكون استغاثة شيعة موسى مطابقة للتوحيد إلّا في صورة واحدة و هي:

أن لا يعتقد معها باستقلال موسى في التأثير، بل يجعل قدرته، و تأثيره في طول القدرة الإلهية، و مستمدّة منه تعالى.

إنّ نفس هذه الحقيقة جارية في الاستمداد، و الاستغاثة ب «الأرواح المقدسة» العالمة الشاعرة حسب أخبار القرآن و تأييد العلوم الحديثة، فإذا استغاث شيعة موسى عليه السلام به بعد خروج روحه عن بدنه بهذه العقيدة لم يكن عمله شركاً، و لم يجعل موسى شريكاً للَّه لا

في الذات و لا في الصفات و لا في الأفعال و لا في العبادة، و لم يعبد موسى بهذه الاستغاثة و الطلب.

و أمّا لو استغاث به و هو يعتقد باستقلال روحه في الإغاثة و يعتقد بأنّها قادرة

______________________________

(1). كشف الشبهات، تأليف محمد بن عبد الوهاب: 70، طبع مصر.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 136

على التأثير دون القدرة الإلهية. فإنّ هذا المستغيث يعدّ مشركاً و يكون موسى كما يقتضي اعتقاده- في صف الآلهة.

و لو كانت حياة المستغاث و مماته مؤثّرة في الأمر فانما تكون مؤثّرة في جدوائية الاستغاثة أوّلًا. لا في تحديد التوحيد و الشرك. و البحث عن الجدوائية و خلافها خارج عن موضوع بحثنا.

و من العجب العجاب اعتبار التوسّل و الاستغاثة بالحيّ و الاستشفاع به عين التوحيد و عدّ هذه الاستغاثة و الاستشفاء- مع نفس الخصوصيات- بميت شركاً و فاعلها واجب الاستتابة و إن لم يتب فيستحق القتل.

إنّ الوهابيين يسلّمون أنّ اللَّه سبحانه أمر العصاة بأن يذهبوا إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم و يطلبوا منه أن يستغفر لهم أخذاً بظاهر الآية (النساء- 64) كما يسلّمون أنّ أولاد يعقوب طلبوا من أبيهم أن يستغفر لهم (يوسف: 97- 98) غير أنّهم يقولون إنّ هذين الموردين إنّما ينطبقان مع أُصول التوحيد لأجل حياة المستغاث، و أمّا إذا سئل ذلك في مماته عدّ شركاً.

غير أنّ القارئ النابه جداً عليم بأنّ حياة الرسول و مماته لا يغيّران ماهية العمل، إذ لو كان التوسّل شركاً حقيقةً للزم أن يكون كذلك في الحالتين من دون فرق بين حالتي الحياة و الممات.

و لو اعترض على الاستغاثة بالميت بأنّه عمل عبثي أوّلًا، و بدعة لم ترد في الشرع ثانياً، فيقال: في

جوابه:

أوّلًا: أنّ هذا العمل إنّما يصطبغ بلون البدعة إذا أتى به المستغيث بعنوان كونه وارداً في الشرع و أمّا لو أتى به من جانب نفسه من دون أن ينسبه إلى مقام، فلا يعدّ بدعة و إحداثاً في الدين. لأنّ البدعة هو إدخال ما ليس من الدين في الدين. و هو فرع الإتيان بالعمل بما أنّه أمر ديني.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 137

ثانياً: أنّ البحث في المقام إنّما هو عن تحديد التوحيد و الشرك و لا عن كون العمل مفيداً أو غيره أو بدعة، و غير بدعة فكل ذلك خارج عن بحثنا، أضف إلى ذلك أنّه قد ثبت في محلّه مشروعية التوسّل بالأرواح المقدسة بالدلائل النقلية الصريحة «1».

و على كل حال لا يمكن اعتبار الاستغاثة بالميت شركاً إذ لم يفوض ملاك التوحيد و الشرك إلينا بل الميزان في الشرك هو الاعتقاد باستقلال الفاعل في ذاته و فعله و التوجه به كذلك. كما أنّ الاعتقاد بعدم استقلاله في ذاته و صفاته و أفعاله يعد اعترافاً بعبوديته و يعد التوجّه به تكريماً و احتراماً. و لو تناسينا هذه القاعدة لما وجد على أديم الأرض موحّداً أبداً.

و فيما يلي نلفت نظر القارئ الكريم إلى كلام لتلميذ ابن تيمية في هذا المجال. يقول ابن القيم:

«و من أنواع الشرك طلب الحوائج من الموتى و الاستعانة بهم، و التوجه إليهم. و هذا أصل شرك العالم، فانّ الميت قد انقطع عمله و هو لا يملك لنفسه ضرا و لا نفعا» «2».

و ما ذكره من الدليل لا يثبت مدعاه لأنّ قوله: «فانّ الميت قد انقطع عمله» دليل على عدم فائدة الاستغاثة بالميت، و ليس دليلًا على كونها شركاً، و هو لم يفرق بين

الأمرين، و الأغرب من ذلك قوله: «و لا يملك لنفسه ضرا و لا نفعا» إذ لا فرق في ذلك بين الحي و الميت، فلا يملك أحدٌ ضرّاً لنفسه و لا نفعاً بدون إذن اللَّه و إرادته، سواء أ كان حيّاً، أم ميتاً. و مع الإذن الإلهي يملكون النفع و الضر، أحياء كانوا أم أمواتاً.

______________________________

(1). راجع رسالتنا: التوسل في ضوء الكتاب و السنّة.

(2). فتح المجيد: 68، الطبعة السادسة.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 138

و من هذا اتضح ضعف ما افاده ابن تيمية إذ قال:

«كل من غلا في نبي، أو رجل صالح و جعل فيه نوعاً من الإلهية مثل أنّ يقول: يا سيدي فلان انصرني أو أغثني ... فكل هذا شرك و ضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب، و إلّا قتل» «1».

إذا كانت الاستغاثة ب «الأرواح المقدسة» أو (الأموات) حسب تعبير الوهابيين ملازمة لنوع من الاعتقاد بألوهية تلك الأرواح، إذاً يلزم أن تكون الاستغاثة بأيّ شخص- أعمّ من الحيّ و الميت- ملازمة لمثل هذا الاعتقاد لأنّ حياة المستغاث و مماته حدّ لجدوائية الاستغاثة و لا جدوائيتها، لا أنّها حدّ التوحيد و للشرك في حين أنّ الاستغاثة بالحيّ يعدّ من أشد ضروريات الحياة الاجتماعية البشرية، و ممّا به قوامها.

و إليك فيما يلي نبذة أُخرى من كلام ابن تيمية في هذا الصدد فهو يقول:

«و الذين يدعون مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى مثل المسيح و الملائكة و الأصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنزل المطر و إنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم، أو يعبدون صورهم يقولون: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى أو هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا» «2».

إنّ قياس الاستغاثة بأولياء اللَّه بما كان يقوم به المسيحيون و الوثنيون ابتعاد عن

الموضوعية، لأنّ المسيحيين كانوا يعتقدون، في حقّ المسيح بنوع من الألوهية، و كان الوثنيون يعتقدون بأنّ الأوثان تملك بنفسها مقام الشفاعة، بل كان بعضهم- على ما نقل عن ابن هشام- يعتقد بأنّها متصرفة في الكون، و مرسلة الأمطار- على الأقل- و لأجل هذا الاعتقاد كان طلبهم و استغاثتهم بالمسيح و بتلك الأوثان عبادة لها.

______________________________

(1). فتح المجيد: 167.

(2). فتح المجيد: 167.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 139

فعلى هذا إذا كانت الاستغاثة مقرونة بالاعتقاد بألوهية المستغاث كانت شركاً حتماً، و أمّا إذا كانت الاستغاثة- بالحي أو الميت- خالية و عارية عن هذا القيد لم تكن شركاً و لا عبادة بل استغاثة بعبد نعلم أنّه لا يقوم بشي ء إلّا بإذنه سبحانه.

نعم يجب في موارد الاستغاثة بالموتى أنّ نبحث في فائدة مثل هذه الاستغاثة و عدم فائدتها، لا في كونها شركاً و عبادة لغير اللَّه، و الكلام إنّما هو في الثاني دون الأوّل.

و من العجب أنّ الوهابية يجوّزون التبرك بآثار النبيّ في حال حياته، لأنّ الصحابة كانوا يتبركون بها، و يرون التبرك بآثاره في حال مماته شركاً.

و هؤلاء في هذا التفصيل وقعوا في ورطة الشرك من حيث لا يعلمون فإنّ تخصيص جواز التبرك بحياته صلى الله عليه و آله و سلم لا ينفك عن الاعتراف بأنّ لحياته تأثيراً فيما يُقصد في التبرك من البرء و الشفاء، و نزول المطر و غيره، أ و ليس هذا الاعتقاد في مدرسة هؤلاء شركاً؟! إذ لازمه الاعتقاد بتأثير نفس النبيّ في برء المريض، و نزول المطر و هو نفس القول بأنّ للنبي سلطة غيبية على الكون.

فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون قولًا؟!

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 140

4

هل القدرة و العجز حدّان للتوحيد و الشرك؟

اشارة

ربما يستفاد من كلمات الوهابيين

أنّ هناك معياراً آخر للشرك في العبادة و هو «قدرة المستغاث على تحقيق الحاجة و عجزه عنه» فإذا طلب أحد من آخر حاجة لا يقدر عليها إلّا اللَّه عدّ عمله عبادة و شركاً، فها هو ابن تيمية يكتب في هذا الصدد قائلًا:

«من يأتي إلى قبر نبي أو صالح، و يسأله حاجته، و يستنجد به مثل أن يسأله أن يزيل مرضه و يقضي دينه أو نحو ذلك ممّا لا يقدر عليه إلّا اللَّه عزّ و جلّ، فهذا شرك صريح يجب أن يستتاب صاحبه فإن تاب و إلّا قتل». «1»

لقد جعل الكاتب في هذه العبارة للشرك معياراً آخر و هو قدرة المسئول و عجزه عن تلبية السائل، و لو كان هذا هو الميزان يجدر بابن تيمية أن يضيف بعد قوله: «قبر نبي أو صالح» جملة أُخرى هي: «أو ولي حي» ليتضح أنّ المعيار الذي اعتمده- هنا- ليس هو موت المستغاث و حياته، بل قدرته على تلبية الحاجة و عدم قدرته على ذلك، كما فعل الصنعاني و هو أحد المتأثرين من الوهابية إذ قال: «من الأموات أو من الأحياء».

______________________________

(1). زيارة القبور و الاستنجاد بالمقبور: 156، و في رسائل الهدية السنية: 40، نجد ما يقرب من هذا المطلب أيضاً.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 141

و إليك فيما يأتي نص عبارة الصنعاني في المقام:

«الاستغاثة بالمخلوقين الأحياء فيما يقدرون عليه ممّا لا ينكرها أحد.

و إنّما الكلام في استغاثة القبوريين و غيرهم بأوليائهم، و طلبهم منهم أُموراً لا يقدر عليها إلّا اللَّه تعالى من عافية المريض و غيرها، و قد قالت أُمّ سليم: يا رسول اللَّه خادمك أنس ادع اللَّه له.

و قد كانت الصحابة يطلبون الدعاء منه و هو حي و هذا

أمر متفق على جوازه.

و الكلام في طلب القبوريين، من الأموات أو من الأحياء أن يشفوا مرضاهم و يردّوا غائبهم و نحو ذلك من المطالب التي لا يقدر عليها إلّا اللَّه» «1».

و هكذا نعرف أنّ المعيار هنا هو غير ما سبق.

ففي المبحث السابق كان المعيار هو: حياة و موت المستغاث فلم يكن الطلب من الحي موجباً للشرك بينما كان الطلب من الميت موجباً لذلك، و لكن في هذا المبحث جعلت قدرة المستغاث على تحقيق الحاجة المطلوبة منه، أو عجزه عنها هي الميزان و المدار للتوحيد و الشرك.

فلو سأل أحد شخصاً لقضاء حاجة و كانت تلك الحاجة ممّا لا يقدر عليها غيره سبحانه فانّه يعتبر- حسب هذا المعيار الجديد- مشركاً دون أن يكون لحياة و موت المستغاث أيّ ربط بذلك.

فإذن لا تفاوت في هذا المعيار بين حياة المستغاث و موته.

مناقشة هذا الرأي:

و الحق أنّ هذا الرأي أضعف من أن يحتاج إلى مناقشة و نقد، و ذلك لأن قدرة المستغاث أو عجزه إنّما يكون معياراً لعقلائية مثل هذا الطلب و عدم عقلائيته

______________________________

(1). كشف الارتياب: 272.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 142

لا معياراً للتوحيد و الشرك، فالساقط في بئر- مثلًا- لو استغاث بالأحجار و الصخور المحيطة به و استنجد بها عُدَّ- في نظر العقلاء- عابثاً أمّا لو استغاث بإنسان واقف عند البئر قادر على إنقاذه كان طلبه عملًا عقلائياً.

و أغلب الظنّ أنّ مراد الوهابيين من قولهم «ممّا لا يقدر عليه إلّا اللَّه عزّ و جلّ» ليس هو التفريق بين القادر و العاجز، و أنّ طلب الحاجة من الثاني شرك دون الأوّل، و إن كان هذا تفيده ظواهر كلماتهم و عباراتهم، بل المقصود من تلك الجملة هو التفريق بين طلب

ما هو من فعل اللَّه و شأنه و ما لا يكون من فعله و شأنه فتكون النتيجة أنّه لو طلب أحد من غير اللَّه ما هو من فعل اللَّه و شأنه ارتكب شركاً، كما تشعر بذلك عبارة ابن تيمية إذ قال: «أن يسأله أن يزيل مرضه و يقضي دينه أو نحو ممّا لا يقدر عليه إلّا اللَّه عزّ و جلّ» و مثله عبارة الصنعاني إذ قال: «من عافية المريض و غيرها ...».

و لا شك أنّ طلب ما هو من فعل اللَّه و شأنه من غيره من أقسام الشرك، و يعد السائل عابداً له، و عمله عبادة. و قد سبق منّا بيان هذا القسم من الشرك عند الكلام في التعريف الثالث للعبادة، و نحن و المسلمون جميعاً نوافقهم في هذا الأصل.

إلّا أنّ الكلام كلّه إنّما هو في تشخيص ما يعدّ فعلًا للَّه سبحانه عن فعل غيره، و قد سلّم ابن تيمية بأنّ إشفاء المريض و قضاء الدين على وجه الإطلاق من أفعاله سبحانه و لذلك لا يجوز طلبه من غيره مطلقاً، بيد أنّ الحق انّ هذه الأُمور ليست من فعل اللَّه مطلقاً بل القسم الخاص منها يعدّ فعلًا له سبحانه و هو قضاء حاجة المستنجد (كإبراء المريض و قضاء الدين و رد الضالّة و غيرها من الأفعال) على وجه الاستقلال من دون استعانة بأحد.

و أمّا القسم الذي يقوم به غيره بإذنه سبحانه و إقداره فلا يعدّ فعلًا خاصاً به، و لأجل ذلك لو طلب أحد هذه الأُمور من غير اللَّه من الاعتقاد بأنّ المستغاث

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 143

يقوم بهذه الأُمور مستمداً من قدرة اللَّه و نابعاً عن إذنه و مشيئته، لم يكن شركاً.

كيف

لا و قد نسب القرآن الكريم إشفاء المرضى و الأكمه إلى المسيح عليه السلام مع التلويح بالإذن الإلهي إذا قال:

«وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي» (المائدة- 110).

كما نسب أيضاً: الخلق و التدبير و الإحياء و الإماتة و الرزق إلى كثير من عباده مع أنّها- و لا شك- من أوضح أفعاله سبحانه و لا يقل وضوح انتسابه إلى اللَّه ممّا مثل به ابن تيمية.

و ليست هذه النسبة إلى غير اللَّه إلّا لأجل ما أشرنا إليه، في محلّه من أنّ ما يعد فعلًا للبارئ سبحانه ليس هو مطلق الخلق و الرزق، و التصرّف و التدبير، و الإحياء و الإماتة، حتى يناقض نسبتها إلى غيره سبحانه (كما في كثير من الآيات) بل القسم الخاص منها و هو ما يكون الفاعل مستقلًا في فعله، منحصر به سبحانه كما أنّه ليس ثمة مسلم يطلب هذه الأفعال بهذا النحو من غيره سبحانه حتى يعد عمله شركاً و يكون سؤاله عبادة.

فالواجب على ابن تيمية و أتباعه دراسة أفعاله سبحانه و تمييزها عن أفعال غيره أوّلًا، فإنّه مفتاح الوحيد لحل هذه المشكلة، بل هو المفتاح و الطريق لحل كل الاختلافات بين ظواهر الآيات التي تبدو متعارضة مع بعضها في نسبة الأفعال.

و على ذلك فانّ طلب إزالة المرض ورد الضالة و غيرهما على نحوين:

قسم يختص به سبحانه و لا يجوز طلبه عن غيره و إلّا لَعادَ الطالب مشركاً و عابداً لغير اللَّه.

و قسم يجوز طلبه من غيره و لا يعد الطالب مشركاً، و لا يكون بطلبه عابداً لغير اللَّه.

و أمّا انّ المسئول و المستغاث هل يقدر على تحقيق الحاجة أو لا. و إنّ اللَّه هل أقدره على ذلك أو لا؟ فهي أُمور خارجة عن

موضوع بحثنا الفعلي.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 144

5

هل طلب الأُمور الخارقة حدٌّ للشرك؟

لا شك أنّ لكل ظاهرة- بحكم قانون العلّية- علّة لا يمكن للمعلول أن يوجد بدونها، فليس في الكون الفسيح كلّه من ظاهرة حادثة لا ترتبط بعلّة، و معاجز الأنبياء، و كرامات الأولياء غير مستثناة من هذا الحكم فهي لا تكون دون علّة، غاية الأمر أنّ علّتها ليست من سنخ العلل الطبيعية، و هو غير القول بكونها موجودة بلا علّة مطلقاً.

فإذا ما تبدلت عصا موسى عليه السلام إلى ثعبان يتحرّك و يبتلع الأفاعي و إذا ما عادت الروح إلى جسد ميّت بال، بإعجاز السيّد المسيح عليه السلام و إذا ما انشقّ القمر نصفين بإعجاز خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله و سلم أو تكلّم الحصى معه، أو سبّح في يده فليس معنى ذلك أنّها لا ترتبط بعلة كسائر الظواهر الحادثة، بل ترتبط بعلل خاصة غير العلل الطبيعية المألوفة.

فلو استمد إنسان بإنسان آخر لقضاء حاجته عن علله الطبيعية لقد جرى على السنَّة مألوفة بين العقلاء، إنّما الكلام في الاستمداد في قضاء الحاجة عن الطرق الغيبية و العلل غير الطبيعية و هذا هو ما يتصوّر أنّه شرك و في ذلك يقول المودودي لو طلب حاجة و أمراً لتعطى له من غير المجرى الطبيعي و خارجاً عن

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 145

أطار السنن الطبيعية كان شركاً و ملازماً للاعتقاد بألوهية الجانب الآخر المسئول «1».

غير أنّ هذا التفصيل لا يمكن الركون إليه إذ جرت سيرة العقلاء على طلب المعجزة و الأُمور الخارقة للعادة من مدّعي النبوّة، و قد نقل القرآن تلك السيرة عن الذين عاصروا الأنبياء من دون أن يعقب على ذلك بالرد و النقد، قال سبحانه حاكياً

عنهم:

«قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» (الأعراف- 106).

و قد كان الأنبياء يدعون الناس ليشهدوا ما يقع على أيديهم من خوارق العادات و على هذا فالإنسان المستهدي المتطلّب لمعرفة صدق دعوى المتنبئ كالسيد المسيح و غيره إذا طلب منه أن يبرئ الأكمه و يشفي الأبرص- بإذن اللَّه- «2» لا يكون مشركاً و مثله فيما إذا طلب ذلك منه بعد رفعه إلى اللَّه سبحانه فلا يمكن التفكيك بين الصورتين باعتبار الأوّل عملًا توحيدياً، و الثاني عملًا ممزوجاً بالشرك.

أضف إلى ذلك أنّ بني إسرائيل طلبوا من موسى الماء و المطر و هم في التيه ليخلّصهم من الظمأ إذ يقول سبحانه: «وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ» (الأعراف- 160).

و قد طلب سليمان من حضار مجلسه إحضار عرش المرأة التي كانت تملك قومها كما يحكي سبحانه:

«قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ* قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ» (النمل:

38- 39).

______________________________

(1). راجع المصطلحات الأربعة: 14.

(2). راجع للوقوف على معاجز سيدنا المسيح سورة آل عمران الآية 249 و المائدة الآية 110.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 146

فلو كان طلب الخوارق من غيره سبحانه شركاً كيف طلب بنوا إسرائيل من نبيّهم موسى ذلك الأمر أو كيف طلب سليمان من أصحابه إحضار ذلك العرش من المكان البعيد و كل ذلك يعطي بأنّ طلب الخوارق أو طلب الشي ء عن غير مجاريه الطبيعية ليس حدّاً للشرك كما أنّ الحياة و الموت ليسا حدّين للشرك، فلا يمكن أن يقال بأنّ طلب الخوارق جائز من الحيّ دون الميت، و لأجل ذلك ركّزنا البحث في التعرّف على ملاك الشرك

و التوحيد.

و تصوّر أنّ طلب الخوارق ملازم للاعتقاد بالسلطة الغيبية الملازمة للألوهية فقد عرفت جوابه في ذلك الفصل.

و تصور أنّ طلب شفاء المريض و أداء الدين طلب لفعل اللَّه من غيره، مدفوع بما عرفت من أنّ الملاك في تمييز فعله سبحانه عن غيره ليس هو كون الفعل خارجاً عن إطار السنن الطبيعية و خارقاً للقوانين الكونية ليكون طلب مثل هذا من غير اللَّه طلباً للفعل الإلهي من غيره.

بل المعيار في الفعل و الشأن الإلهي هو ما كان الفاعل مستقلًا في الخلق و الإيجاد غير معتمد على غيره سواء أ كان الأمر أمراً طبيعياً أم غير طبيعي. و يجب على متطلّب الحقيقة أن يدرس فعل اللَّه و فعل غيره دراسة معمّقة نابعة عن الكتاب و السنّة و العقل السليم.

و بكلام آخر: أنّه ليس القيام بأمر عن طريق عادي فعلًا للإنسان، و القيام به عن طريق غير عادي فعلًا للَّه سبحانه بل الفعل على قسمين:

قسم منه يعدّ فعلًا له سبحانه لا يجوز طلبه من غيره سواء أ كان عادياً أم غير عادي، و قسم يعد فعلًا لغير اللَّه يجوز طلبه من غيره سواء أ كان عادياً أم غير عادي أيضاً، و بذلك يعلم أنّ طلب الشفاء من الأولياء على النحو الذي بيّناه لا يخالف أُصول التوحيد.

***

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 147

الفصل الرابع: عقائد الوهابيين ..

اشارة

إنّ مَن سَبر كتب الوهابية و عاش بين ظهرانيهم رأى بأنّ الاتّهام بالشرك أكثر شي ء تردّده كتبهم و ألسنتهم و محافلهم، فلا يميل المرء يميناً أو شمالًا إلّا و يسمع أنّهم يصفونه فوراً بأنّه مشرك و أنّ عمله بدعة و أنّه بذلك مبتدع، بحيث إذا كان المقياسُ هو ما ذكروه أو يذكرونه في كتبهم و

محافلهم لما استطاع الإنسان أن يسجّل كثيراً من المسلمين في ديوان الموحّدين.

ترى ما هذا الضيق الذي أوجَده الوهابيون في دائرة الأُمة الإسلامية و هل هذا بدافع تحرّي الحقيقة، و تمييز الموحّد عن المشرك، أو أنّ هناك أُموراً سياسية و أحداثا تخلقها يد الاستعمار بهدف إيجاد التفرقة بين المسلمين، و تمزيق صفوفهم، و تفكيك العرى بينهم، ليتسنّى له الوصول إلى مآربه و مطامعه؟ و اللَّه أعلم.

غير أنّنا نريد هنا أن نعرض هذا الأمر على كتاب اللَّه و سنّة رسوله، و سيرة خلفائه لنرى هل كتاب اللَّه و سيرة النبي و خلفائه على هذا الضيق؟ الجواب هو كلّا كما ستعرف ..

المرونة في قبول الإسلام:

إنّ من يلاحظ عصر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و ما تلاه من عصور التحوّل العقائدي و الفكري يجد إقبال الأُمم المختلفة ذات التقاليد و العادات المتنوعة على الإسلام

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 150

و كثرة دخولهم و اعتناقهم هذا الدين، و يجد أنّ النبي و المسلمين كانوا يقبلون إسلامهم، و يكتفون منهم بذكر الشهادتين دون أن يعمدوا إلى تذويب ما كانوا عليه من عادات اجتماعية، و صوغهم في قوالب جديدة تختلف عن القوالب و العادات و التقاليد السابقة تماماً.

و قد كان احترام العظماء- أحياءً و أمواتاً- و إحياء ذكرياتهم و الحضور عند القبور، و إظهار العلاقة و التعلّق بها من الأُمور الرائجة بينهم.

و اليوم نجد الشعوب المختلفة- الشرقية و الغربية- تعظّم و تخلّد ذكريات عظمائها، و تزور قبور أبنائها، و تتردد على مدافنهم، و تسكب في عزائهم الدموع و العبرات ... و تعتبر كل هذا الصنيع نوعاً من الاحترام النابع من العاطفة و المشاعر الداخلية الغريزية.

و صفوة القول أنّنا لا نجد

مورداً عمد فيه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى قبول إسلام الوافدين و الداخلين فيه بعد أن يشرط عليهم أن ينبذوا تقاليدهم الاجتماعية هذه ... و بعد أن يفحص عقائدهم، بل نجده صلى الله عليه و آله و سلم يكتفي من المعتنقين الجدد للإسلام بذكر الشهادتين و رفض الأوثان.

و إذا كانت هذه العادات و التقاليد شركاً لزم أن لا يقبل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إسلام تلك الجماعات و الأفراد إلّا بعد أن يأخذ منهم الاعتراف بنبذ تلكم التقاليد و المراسم.

و الحاصل أنّ ترك التوسّل بالأولياء و التبرّك بآثارهم و زيارة قبورهم لو كان شرطاً لتحقّق الإيمان المقابل للشرك و الصائن للدم و المال لوجب على نبيّ الإسلام اشتراط ذلك كلّه (أي ترك هذه الأُمور) عند وفود القبائل على الإسلام، و للزم التصريح به على صهوات المنابر و على رءوس الأشهاد مرة بعد أُخرى و لو صرّح بذلك لما خفي على المسلمين، إذن فكل ذلك يدل على عدم اشتراط ترك هذه

التوحيد و الشرك فى القرآن 199

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 151

الأُمور و ليس ذلك إلّا لأنّ تركها ليس شرطاً لتحقّق الإيمان و رفض الشرك و لعدم كون الآتي بها مجانباً للإيمان و معتنقاً للشرك.

و لو كان التوسّل و التبرّك و الزيادة ملازماً للاعتقاد بالألوهيّة لما خفي ذلك على المسلمين الذين جرت سيرتهم العملية على ذلك حتى يكون عملهم مخالفاً لاعترافهم بإله واحد.

و قد تواترت الأخبار عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و آله بأنّ الإسلام يحقن به الدم، و يصان به العرض، و المال، و تؤدي به الأمانة، إلى غير ذلك من الأحكام

المترتبة على الإسلام.

و حسبك أيّها القارئ الكريم ما أخرجه البخاري عن ابن عباس عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن:

«إنّك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلّا اللَّه و أنّ محمداً رسول اللَّه، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أنّ اللَّه قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم و ليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن اللَّه قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم و ترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإيّاك و كرائم أموالهم» «1».

و أخرج البخاري و مسلم في باب فضائل عليّ عليه السلام أنّه «2» قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يوم خيبر:

«لأعطيّن هذه الراية رجلًا يحب اللَّه و رسوله يفتح اللَّه على يديه».

قال عمر بن الخطاب: ما أحببت الإمارة إلّا يومئذ قال:

______________________________

(1). صحيح البخاري: 5/ 162، باب بعث أبي موسى و معاذ إلى اليمن.

(2). و اللفظ لمسلم، و راجع البخاري: 2 في مناقب علي عليه السلام.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 152

فتساورت لها رجاء أن أُدعى لها، قال: فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم عليّ بن أبي طالب فأعطاه إيّاها و قال: «امش و لا تلتفت حتى يفتح اللَّه عليك» فسار عليّ شيئاً ثمّ وقف و لم يلتفت و صرخ: يا رسول اللَّه على ما ذا أُقاتل الناس؟

قال صلى الله عليه و آله و سلم:

«قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلّا اللَّه و أنّ محمداً رسول اللَّه. فإذا فعلوا ذلك فقد

منعوا منك دماءهم و أموالهم إلّا بحقها و حسابهم على اللَّه» «1».

و أخرج البخاري و مسلم و الترمذي و النسائي عن عبد اللّه بن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«بني الإسلام على خمس:

شهادة أن لا إله إلّا اللَّه.

و أنّ محمّداً رسول اللَّه.

و إقام الصلاة.

و إيتاء الزكاة.

و الحج.

وصوم رمضان» «2».

و أخرج البخاري- أيضاً- عن ابن عمر أنّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم قال:

«أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلّا اللَّه و أنّ

______________________________

(1). صحيح مسلم: 6، باب فضائل علي بن أبي طالب عليه السلام.

(2). راجع التاج الجامع للأُصول في أحاديث الرسول تأليف الشيخ منصور علي ناصف: 1/ 20.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 153

محمّداً رسول اللَّه، و يقيموا الصلاة، و يؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم و أموالهم إلّا بحق الإسلام و حسابهم على اللَّه» «1».

إلى غير ذلك من الأحاديث النبوية في كتاب الإيمان في كتب الصحاح و السنن.

و أمّا ما روي عن أئمّة أهل البيت فيكفيك ما رواه سماعة عن الإمام الصادق عليه السلام قال:

«الإسلام: شهادة أن لا إله إلّا اللَّه و التصديق برسول اللَّه به حقنت الدماء و جرت المناكح و المواريث» «2».

و كل هذه الأحاديث تصرّح بأنّ ما تحقن به الدماء و تصان به الأعراض و يدخل الإنسان به في عداد المسلمين هو الاعتقاد بتوحيده سبحانه و رسالة الرسول.

و على ذلك جرت سنّة النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقد كان يكتفي من الرجل بإظهاره الشهادتين، و لم يُر منه أنّه سأل الوافدين المظهرين للشهادتين: هل هم يتوسّلون بالأنبياء و الأولياء و القديسين أو لا، هل هم

يتبركون بآثارهم أو لا هل هم يزورون قبور الأنبياء أو لا؟ فيشترط عليهم أن يتركوا التوسّل و التبرّك و الزيادة.

أجل كل ذلك يدل على أنّ الإسلام الحاقن للدماء، الصائن للأعراض

______________________________

(1). صحيح البخاري: 1، كتاب الإيمان، باب فان تابوا و أقاموا الصلاة، و في صحيح ابن ماجة: 2/ 457 باب الكف عمّن قال: لا إله إلّا اللَّه.

(2). الكافي: 2/ 25، الطبعة الحديثة، راجع باب الإيمان يشارك الإسلام و الإسلام لا يشارك الإيمان، ترى فيها نصوصاً رائعة و صريحة في هذا المقام.

و راجع التاج: 1/ 20- 34، كتاب الإسلام و الإيمان.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 154

و الأموال هو قبول الشهادتين و إظهارهما فقط، و أمّا ما وراء ذلك فلا دخالة له في حقن الدماء و الأموال و الأعراض.

نعم انّ اللَّه فرض على المسلمين عند ما تنازعوا، أو اختلفوا في أمر أن يردّوه إلى اللَّه و الرسول كما قال سبحانه:

«فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ» (النساء- 59).

و قال سبحانه:

«وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» (النساء- 83).

و على ذلك فليس لأحد من المسلمين سبّ طائفة منهم و شتمها و رميها بالكفر و الإلحاد ما دامت تتمسّك بالشهادتين و تقيم الصلاة و تؤتي الزكاة و ذلك لأجل توسّلهم بالأنبياء أو تبرّكهم بآثارهم، أو غير ذلك من المسائل الفكرية الدقيقة التي تضاربت فيها آراء علمائهم و نظرياتهم.

فإن طعن فيهم طاعن أو رماهم بالشرك فقد خرج عن النهج الذي شاءه اللَّه للمسلمين، و قال:

«إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ ءٍ» (الأنعام- 159)

و قال:

«وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ

السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً» (النساء- 94).

و قال سبحانه:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ* وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا» (آل عمران:

102- 103).

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 155

و المراد بحبل اللَّه الذي يجب الاعتصام به هو دينه المفسر بالإسلام كما قال:

«إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» (آل عمران- 19).

و الإسلام هو إظهار الشهادتين و لا ريب في وجوده في طوائف المسلمين إلّا من اتّفقت كلمتهم على تكفيرهم كالنواصب.

و من راجع الكتاب و السنّة يجد أنّهما يركّزان دعوتهما على لزوم التوادد و التحابب بين المسلمين لا على التنافر، و رمي بعضهم بعضاً بالكفر، و التعدّي بالضرب و الشتم و القتل.

و أخرج البخاري بطرق عديدة عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال في حجة الوادع:

«انظروا و لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» «1».

فكيف يسمح الوهابيون لأنفهسم إذن بأن يرموا المسلمين الموحّدين بالشرك ليس إلّا لأنّهم يظهرون ما يضمرونه من محبة و ودّ للنبي صلى الله عليه و آله و سلم بتقبيل ضريحه و تعظيمه.

و مع ذلك كلّه فنحن نعرض عقائد الوهابيين على الكتاب و السنّة في مجال التوحيد و الشرك فقط بالتفصيل حتى تظهر الحقيقة بأجلى مظاهرها، و نكتفي- هنا- بالقليل من الكثير فنقصر البحث في المسائل التالية:

1- هل طلب الشفاء و الإشفاء من غيره سبحانه شرك؟ 2- هل طلب الشفاعة من عباد اللَّه سبحانه شرك؟ 3- هل الاستعانة بأولياء اللَّه شرك؟

4- هل دعوة الصالحين شرك؟

______________________________

(1). البخاري: 9/ كتاب الفتن، الباب السابع، الحديث الأوّل و الثاني، و رواه أيضاً في مختلف كتبه؛ و رواه ابن ماجة في باب سباب المسلم فسوق راجع:

2/ 462، ط مصر.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 156

5- هل تعظيم أولياء اللَّه و تخليد ذكرياتهم شرك؟

6- هل التبرّك بآثار النبيّ و الأولياء شرك؟

7- هل البناء على القبور شرك؟

8- هل زيارة القبور شرك؟

9- هل الصلاة عند قبور الصالحين شرك؟

10- هل الحلف بغير اللَّه و إقسامه بمخلوق أو حقّه عليه شرك؟

و على تقدير عدم كون هذه الأُمور شركاً، فهل هو جائز أو لا؟ و قد رَكّزنا البحث على الأوّل، و بحثنا عن الثاني على وجه الإجمال لكون المطلوب في هذه الرسالة هو تحديد التوحيد و الشرك، لا جواز الشي ء أو منعه. و ربما يمكن أن لا يكون عمل شركاً و لكن يكون حراماً.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 157

المسائل العشر

1 هل طلب الإشفاء من غيره سبحانه شرك؟

لا شك في أنّ هذا الكون عالم منظّم، فجميع الظواهر الكونية فيه تنبع من الأسباب و العلل التي- هي بدورها- مخلوقة للَّه تعالى، و معلولة له سبحانه.

و حيث إنّ هذه العلل و الأسباب لا تملك من لدن نفسها أيّ كمال ذاتي، بل وجدت بمشيئة اللَّه، و صارت ذات أثر بإرادته سبحانه لذلك صحّ أنّ ينسب اللَّه آثارها و أفعالها إلى نفسه، كما يصح أن تنسب إلى عللها.

هذا ما أوضحناه في ما سبق أتمّ إيضاح، و بذلك يظهر أنّ الشفاء تارة ينسب إلى اللَّه سبحانه و أُخرى إلى علله القريبة المؤثرة بإذنه و بذلك يرتفع التعارض الابتدائي بين الآيات فبينما يخصّ القرآن الإشفاء باللَّه سبحانه و يقول:

«وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ» (الشعراء- 80)

و بينما ينسب الشفاء إلى غيره كالقرآن و العسل، و الجواب أنّه ليس هنا في الحقيقة إلّا فعل واحد و هو الإشفاء ينسب تارة إلى اللَّه على وجه التسبيب و إلى غيره من الأسباب العادية

كالعسل و الأدوية و غيرها على وجه المباشرة.

فهو الذي وهب أنبياءه و أولياءه: القدرة على الإشفاء و المعافاة، و الإبراء. و هو الذي اذن لهم بأن يستخدموا هذه القدرة الموهوبة ضمن شروط خاصة.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 158

فهذا القرآن إذ يصف اللَّه تعالى بأنّه هو الشافي الحقيقي (كما في آية 80 الشعراء) يصف العسل بأنّه الشافي أيضاً عند ما يقول:

«فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ» (النحل- 69).

أو ينسب الشفاء إلى القرآن عند ما يقول:

«وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» (الإسراء- 82).

و طريق الجمع الذي ذكرناه وارد هنا و جارٍ في هذا المقام كذلك، و هو بأن نقول:

إنّ الإبراء و الإشفاء- على نحو الاستقلال- من فعل اللَّه لا غير.

و على نحو التبعية و اللااستقلال من فعل هذه الأُمور و الأسباب فهو الذي خلقها، و أودع فيها ما أودع من الآثار، فهي تعمل بإذنه و تؤثّر بمشيئته.

ففي هذه الصورة إذا طلب أحد الشفاء من أولياء اللَّه و هو ملتفت إلى هذا الأصل «1» كان عمله جائزاً و مشروعاً و موافقاً للتوحيد المطلوب تماماً.

لأنّ الهدف من طلب الشفاء من الأولياء هو تماماً مثل الهدف من طلب الشفاء من العسل و العقاقير الطبية، غاية ما في الباب أنّ العسل و العقاقير تعطي آثارها بلا إرادة و إدراك منها، بينما يفعل ما يفعله النبيّ و الولي عن إرادة و اختيار، فلا يكون الهدف من الاستشفاء من الولي إلّا مطالبته بأن يستخدم تلك القدرة الموهوبة له و يشفي المريض بإذن اللَّه كما كان يفعل السيد المسيح عليه السلام إذ كان يبرئ من استعصى علاجه من الأمراض بإذن اللَّه و القدرة الموهوبة له من اللَّه.

و واضح أنّ مثل هذا العمل

لا يعدّ شركاً إذ لا تنطبق على ذلك معايير الشرك أو قل المعيار الواحد الحقيقي.

______________________________

(1). نعني كونهم يؤثرون بإذن اللَّه و قدرته و مشيئته.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 159

نعم يمكن المناقشة في أنّهم هل يقدرون على ذلك أو لا، و هل أُعطيت لهم تلك المقدرة أو لا؟ غير أنّ البحث مركز على كونه طلباً توحيدياً أو غير توحيدي.

و مما يوضح ذلك أنّ الفراعنة كانوا يطلبون من موسى كشف الرجز كما في قوله سبحانه: «قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ» (الأعراف- 134).

و لا نريد أن نستدلّ بطلب فرعون أو قومه بل الاستدلال إنّما هو بسكوت موسى أمام مثل هذا الطلب.

و على الجملة فلو طلب رجل من السيد المسيح و قال له: إنّك تقول:

«وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ» (آل عمران- 49).

و هذا ولدي قد ابتُلي بالمرض الصعب العلاج فأبرِئه بإذن اللَّه، و هذا أخي قد مات فأطلب منك أن تحييه، و عند ذلك أنا و جميع أُسرتي نؤمن بك و برسالتك.

فهل ترى أنّ المسيح ينسب هذا الطلب إلى الشرك و يعدّ الطالب مشركاً؛ قائلًا: بأنّ الإبراء و الإحياء من أفعاله سبحانه؟ أو أنّه يتلقّى هذا الرجل متحرياً للحقيقة، و طالباً للهداية، و أنّ الإبراء و الإحياء إنّما يُعدّان من أفعاله سبحانه إذا قام الفاعل بهما على وجه الاستقلال، و الاعتقاد بأنّ المطلوب واجد لهذا النحو من القدرة اعتقاد بألوهيته و الطلب منه عبادة له؟

و أمّا الإبراء و الإحياء و بقدرة مكتسبة من اللَّه و إذنٌ و إرادةٌ منه سبحانه بحيث يُعدّ المبرئ و المحيي أدوات فعله و

أسباب نفوذ إرادته، و مظهر مشيئته فلا يُعدّ مثل هذا الاعتقاد اعتقاداً بالألوهيّة و لا الطلب عبادة.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 160

المسائل العشر

2 هل طلب الشفاعة من غيره سبحانه شرك؟

اشارة

لا مرية في أنّ الشفاعة حق خاص باللَّه سبحانه، فالآيات القرآنية- مضافة إلى البراهين العقلية- تدل على ذلك مثل آية:

«قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً» (الزمر- 44).

إلّا أنّ في جانب ذلك دلّت آيات كثيرة أُخرى على أنّ اللَّه أذن لفريق من عباده أن يستخدموا هذا الحق، و يشفعوا- في ظروف و ضمن شروط خاصة- حتى أنّ بعض هذه الآيات صرّحت بخصوصيات و أسماء طائفة من هؤلاء الشفعاء كقوله تعالى:

«وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَرْضى (النجم- 26).

كما أنّ القرآن أثبت لنبيّ الإسلام «المقام المحمود» إذ يقول:

«عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» (الإسراء- 79).

و قد قال المفسّرون: إنّ المقصود بالمقام المحمود هو: مقام الشفاعة، بحكم الأحاديث المتضافرة التي وردت في هذا الشأن.

كل هذا مما اتّفق عليه المسلمون إنّما الكلام في أنّ طلب الشفاعة ممن أُعطي

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 161

له حق الشفاعة كأن يقول «يا رسول اللَّه اشفع لنا» هل هو شرك أو لا؟

و ليس البحث في المقام- كما ألمعنا إلى ذلك غير مرة- في كون هذا الطلب مجدياً أو لا إنّما الكلام في أنّ هذا الطلب هل هو عبادة أو لا؟

فنقول: قد ظهر الجواب مما أوضحناه في الأبحاث السابقة، فلو اعتقدنا بأنّ من نطلب منهم الشفاعة، لهم أن يشفعوا لمن أرادوا و متى أرادوا و كيفما ارتأوا، دون رجوع إلى الإذن الإلهي أو حاجة إلى ذلك، فإنّ من المحتم أنّ هذا الطلب و الاستشفاع عبادة و أنّ الطالب

يكون مشركاً حائداً عن طريق التوحيد لأنّه طلب الفعل الإلهي و ما هو من شئونه من غيره.

و أمّا لو استشفعنا بأحد هؤلاء الشفعاء و نحن نعتقد بأنّه محدود مخلوق للَّه لا يمكنه الشفاعة لأحد إلّا بإذنه فهذا الطلب لا يختلف عن طلب الأمر العادي ماهية و لا يكون خارجاً عن نطاق التوحيد.

و إن تصوّر أحد أنّ هذا العمل (أعني طلب الشفاعة من أولياء اللَّه) يشبه- في ظاهره- عمل المشركين، و استشفاعهم بأصنامهم، فهو تصوّر باطل بعيد عن الحقيقة.

لأنّ التشابه الظاهري لا يكون أبداً معياراً للحكم بل المعيار الحقيقي للحكم إنّما هو: قصد الطالب، و كيفية اعتقاده في حق الشافع، و من الواضح جداً أنّ المعيار هو النيات و الضمائر، لا الأشكال و الظواهر، هذا مع أنّ الفرق بين العملين واضح من وجوه:

أوّلًا: إنّه لا مرية في أنّ اعتقاد الموحد في حق أولياء اللَّه يختلف- تماماً- عن اعتقاد المشرك في حق الأصنام.

فانّ الأصنام و الأوثان كانت- في اعتقاد المشركين- آلهة صغاراً يملكون شيئاً من شئون المقام الألوهي من الشفاعة و المغفرة، بخلاف أهل التوحيد فإنّهم

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 162

يعتقدون بأنّ من يستشفعون بهم: عباد مكرمون لا يعصون اللَّه و هم بأمره يعملون، و أنّهم لا يملكون من الشفاعة شيئاً، و لا يشفعون إلّا إذا أذن اللَّه لهم أن يشفعوا في حق من ارتضاه.

و بالجملة فانّ تحقق الشفاعة منهم يحتاج إلى وجود أمرين:

1- أن يكون الشفيع مأذوناً في الشفاعة.

2- أن يكون المشفوع له مرضياً عند اللَّه.

فلو قال مسلم لصالح من الصالحين: (اشفع لي عند اللَّه) فانّه لا يفعل ذلك إلّا مع التوجّه إلى كونه مشروطاً بالشرطين المذكورين.

ثانياً: إنّ المشركين كانوا يعبدون الأصنام مضافاً إلى

استشفاعهم بها، بحيث كانوا يجعلون استجابة دعوتهم و شفاعتهم عوضاً عما كانوا يقومون به من عبادة لها بخلاف أهل التوحيد فانّهم لا يعبدون غير اللَّه طرفة عين أبداً.

و أمّا استشفاعهم بأُولئك الشفعاء فليس إلّا بمعنى الاستفادة من المقام المحمود الذي أعطاه اللَّه سبحانه لنبيّه في المورد الذي يأذن فيه اللَّه، فقياس استشفاع المؤمنين بما يفعله المشركون ليس إلّا مغالطة. و قد مرّ غير مرة أنّه لو كان الملاك التشابه الظاهري للزم أن نعتبر الطواف بالكعبة المشرّفة و استلام الحجر و السعي بين الصفا و المروة موجباً للشرك و عبادة للحجر.

***

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 163

الوهابيون و طلب الشفاعة:

إنّ الوهابيين يعتبرون مطلق طلب الشفاعة شركاً و عبادة و يظنّون أنّ القرآن لم يصف الوثنيين بالشرك إلّا لطلبهم الشفاعة من أصنامهم كما يقول سبحانه:

«وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» (يونس- 18)

و على هذا فالشفاعة و إن كانت حقاً ثابتاً للشفعاء الحقيقيين إلّا أنّه لا يجوز طلبه منهم لأنّه عبادة لهم، قال محمد بن عبد الوهاب:

«إن قال قائل: الصالحون ليس لهم من الأمر شي ء و لكن اقصدهم و أرجو من اللَّه شفاعتهم، فالجواب أنّ هذا قول الكفار سواء بسواء و اقرأ عليهم قوله تعالى:

«وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى (الزمر- 3)

و قوله:

«وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» (يونس- 18) «1».

و إن قال: إنّ النبي أُعطي الشفاعة و أنا أطلبه ممّن أعطاه اللَّه، فالجواب أنّ اللَّه أعطاه الشفاعة و نهاك عن طلبها منه فقال تعالى:

«فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً» (الجن- 18).

و

أيضاً فإنّ الشفاعة أُعطيها غير النبيّ. فصح أنّ الملائكة يشفعون، و الافراط يشفعون، و الأولياء يشفعون، أ تقول إنّ اللَّه أعطاهم الشفاعة فأطلبها منهم؟ فان قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكرها اللَّه في كتابه» «2».

______________________________

(1). كشف الشبهات: 7- 9، طبعة القاهرة.

(2). كشف الشبهات: 7- 9، طبعة القاهرة.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 164

استدل ابن عبد الوهاب على حرمة طلب الشفاعة بآيات ثلاث:

الأُولى قوله سبحانه:

«وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ»

إذ قال بأنّ عبادة المشركين للأوثان كانت متحقّقة بطلب الشفاعة منهم لا بأمر آخر.

الثانية: قوله سبحانه:

«وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى (الزمر- 3).

قائلًا بأنّ عبادة المشركين للأصنام كانت متحقّقة بطلب شفاعتهم منها.

الثالثة: قوله سبحانه:

«فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً» (الجن- 18)

و لا بد من البحث حول هذه الآيات الثلاث التي استدل بها القائل على أنّ طلب الشفاعة ممّن له حق الشفاعة عبادة له فنقول:

أمّا الاستدلال بالآية الأُولى فالإجابة عنه بوجهين:

1- ليس في قوله سبحانه «وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ ...»، أيّة دلالة على مقصودهم، و إذا ما رأينا القرآن يصف هؤلاء بالشرك فليس ذلك لأجل استشفاعهم بالأوثان، بل لأجل أنّهم كانوا يعبدونها لغاية أن يشفعوا لهم بالمآل.

و حيث إنّ هذه الأصنام لم تكن قادرة على تلبية حاجات الوثنيين لذلك كان عملهم و طلبهم عملًا سفيهاً لا أنّه كان شركاً.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 165

فالإمعان في معنى الآية و ملاحظة أنّ هؤلاء المشركين كانوا يقومون بعملين: (العبادة و طلب الشفاعة كما يدل عليه قوله: «وَ يَعْبُدُونَ» و يقولون) يكشف عن أنّ علّة اتّصافهم بالشرك و

استحقاقهم لهذا الوصف كانت لأجل عبادتهم لتلك الأصنام لا لاستشفاعهم بها، كما لا يخفى.

و لو كان الاستشفاع بالأصنام عبادة لها في الحقيقة لما كان هناك مبرر للإتيان بجملة أُخرى أعني قوله: «وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا» بعد قوله: «وَ يَعْبُدُونَ» إذ كان حينئذ تكراراً.

إنّ عطف الجملة الثانية على الأُولى يدل على المغايرة بينهما، إذن لا دلالة لهذه الآية على أنّ الاستشفاع بالأصنام كان عبادة فضلًا عن كون الاستشفاع بالأولياء المقرّبين عبادة لهم، نعم قد ثبت أنّ الاستشفاع بالأصنام كان عبادة لهم بملاك آخر غير موجود في الاستشفاع بالنبيّ، كما سيوافيك في التالي.

2- إنّ هناك فرقاً بين الاستشفاعين فالوثني يعتبر الصنم ربّاً مالكاً للشفاعة يمكنه أنّ يشفع لمن يريد و كيفما يريد. و الاستشفاع بهذه العقيدة شرك، و لأجل ذلك يقول سبحانه نقداً لهذه العقيدة.

«قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً» (الزمر- 44)

و الحال أنّ المسلمين لا يعتقدون بأنّ أولياءهم يملكون هذا المقام فهم يتلون آناء الليل و أطراف النهار قوله سبحانه:

«مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» (البقرة- 255)

و مع هذا التفاوت البيّن و الفارق الواضح كيف يصح قياس هذا بذلك؟

و الدليل على أنّ المشركين كانوا معتقدين بكون أصنامهم مالكة للشفاعة أمران:

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 166

الأوّل: تأكيد القرآن في آياته بأنّ شفاعة الشافع مشروطة بإذنه سبحانه و ارتضائه:

قال سبحانه:

«مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» (البقرة- 255)

و قال:

«ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ» (يونس- 3)

و قال:

«يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ» (طه- 109)

و قال:

«لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ» (النجم- 26)

و قال:

«وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى (الأنبياء- 28)

الثاني: تأكيد القرآن على أنّ الأصنام لا تملك الشفاعة

بل هي لمن يملكها:

قال سبحانه:

«وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ» (الزخرف- 86)

و قال سبحانه:

«لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً» (مريم- 87)

فالشفاعة محض حق لمالكها، و ليس هو إلّا اللَّه، كما تصرّح بذلك الآيات السابقة، و أمّا المشركون فكانوا يعتقدون أنّ أصنامهم تملك هذا الحق، و لذلك كانوا يعبدونها أوّلًا، و يطلبون منها الشفاعة عند اللَّه ثانياً.

نعم انّ الظاهر من قوله سبحانه:

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 167

«لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً» (مريم- 87)

و قوله سبحانه: «وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ» (الزخرف- 86)

هو: أنّ المتّخذين للعهد و الشاهدين بالحق يملكون الشفاعة كما هو مقتضى الاستثناء.

لكن المراد من المالكية في هاتين الآيتين هو: المأذونية بقرينة سائر الآيات لا المالكية بمعنى التفويض و إلّا لزم الاختلاف و التعارض بين مفاد الآيات، و ما ورد في السير و التواريخ من أن المشركين كانوا يقولون عند الإحرام و الطواف: (الّا شريك هو لك تملكه و ما ملك) «1» يحتمل الأمرين.

و بذلك يظهر ضعف الاستدلال بالآية الثانية: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا ...» إذ حمل ابن عبد الوهاب قوله سبحانه: «ما نَعْبُدُهُمْ» على طلب الشفاعة مع أنّ الآية المتقدمة صريحة في مغايرة العبادة لطلب الشفاعة.

نعم إنّما يكون عبادة إذا اتَّخذ الشافع المدعو إلهاً أو من صغار الآلهة- كما تقدم-.

و أمّا ما اعترف به ابن عبد الوهاب (ضمن كلامه المنقول سلفاً) من أنّ اللَّه أعطى الشفاعة لنبيّه و لكنّه تعالى نهى الناس عن طلبها منه فغريب إذ لا آية و لا سنّة تدل على النهي عن طلبها مضافاً إلى غرابة هذا النهي من

الناحية العقلية إذ مثله أن يعطي للسقاء ماء و ينهى الناس عن طلب السقي منه، أو يعطي الكوثر لنبيّه و ينهى الأُمّة عن طلبه.

و أمّا قوله تعالى: «فلا تدعوا مع اللَّه احداً» و هي ثالثة الآيات التي استدلّ بها ابن عبد الوهاب فسيوافيك مفادها عن قريب حيث نبيّن- هناك- أنّ المراد من

______________________________

(1). الملل و النحل: 2/ 255.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 168

الدعوة في الآية المذكورة هو: العبادة، فيكون معنى «فَلا تَدْعُوا» هو: فلا تعبدوا مع اللَّه أحداً، فالحرام المنهي عنه عبادة غير اللَّه، لا مطلق دعوة غير اللَّه، و ليس طلب الشفاعة إلّا طلب الدعاء من الغير لا عبادة الغير، و بين الأمرين بون شاسع.

و من ذلك يظهر ضعف دليل رابع لمحمد بن عبد الوهاب في كشف الشبهات ما حاصله:

«أنّ الطلب من الشفيع ينافي الإخلاص في التوحيد الواجب على العباد في قوله: «مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ»* «1».

إنّ دعوة الشفيع- بعد ثبوت الإذن له و الرضا من اللَّه- ليست عبادة للشفيع حتى تنافي إخلاص العبادة للَّه سبحانه، بل هو طلب الدعاء منه، و إنّما يشترط الاخلاص في العبادة، لا في طلب الدعاء من الغير، كما لا تنافي دعوة اللَّه، و لا تنفك عنها إذ الشفاعة من الشفع و طلب الشفاعة من الشفيع بمعنى أنّ المستشفع يدعو الشفيع لأن ينضمّ إليه، و يجتمعا و يدعوا اللَّه سبحانه- معاً-، فدعوة المستشفع للشافع ليس إلّا دعوة الثاني إلى أن يدعو اللَّه في حقه ليغفر ذنوبه لا أكثر ... فأيّ ضير في هذا ترى !

و من العجب تفسير (طلب الشفاعة) من النبيّ و غيره بأنّه دعاء للنبي مع اللَّه كما في أسئلة الشيخ ابن بلهيد: قاضي القضاة من علماء

المدينة «2» حيث قال:

«و ما يفعل الجهاّل عند هذه الضرائح من التمسّح بها و دعائها مع اللَّه».

______________________________

(1). كشف الشبهات: 8.

(2). نقلت جريدة أُم القرى في عددها 69، المؤرّخ 17 شوال عام 1344 كل نص هذه الأسئلة و الأجوبة.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 169

و لا يخفى ما في كلامه من ضعف:

أمّا أوّلًا: فانّ هؤلاء المتوسّلين عند الضرائح لا يشركون أحداً في الدعاء (الذي هو مخ العبادة) و لا يدعون إلّا اللَّه الواحد القهار، و إنّما يطلبون من أوليائهم أن يضمّوا دعاءهم إلى دعاء المتوسّلين، فيشتركوا معهم في دعاء اللَّه لنجاح حاجتهم، و لو لا ذلك لما كان لطلب الشفاعة معنى فانّ الشفاعة مأخوذة من الشفع- كما قلنا- الذي هو ضد الوتر، فهو يطلب من وليّه أن ينضمّ إليه في الدعاء و يجتمع معه في العمل فأين ذلك من تشريك غير اللَّه معه في الدعاء؟!.

و ثانياً: انّ المسلمين لا يدعون الضرائح بل يطلبون من (صاحب) الضريح أن يشترك معهم في الدعاء لأنّه ذو مكانة مكينة عند اللَّه، و إن كان متوفياً، و لكنّه حيّ يرزق عند ربّه- بنص الكتاب العزيز- و أنّه لا يرد دعاءه لقوله سبحانه في حقّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم مثلًا:

«وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً» (النساء- 64)

«وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ» (التوبة- 103)

ثمّ إنّه يظهر من ابن تيمية في بعض رسائله «1»، و تلميذ مدرسته محمد بن عبد الوهاب في رسالة «أربع قواعد» «2» إنّهما استدلّا على تحريم طلب الشفاعة من غير اللَّه بقوله سبحانه:

«قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً» (الزمر- 44)

______________________________

(1). رسالة «زيارة القبور و الاستغاثة

بالمقبور»: 156.

(2). ص 25، راجع كشف الارتياب: 240- 241 و كشف الشبهات لمحمد بن عبد الوهاب: 8.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 170

و كأنّ الاستدلال مبنيّ على أنّ معنى الآية هو: و للَّه طلب الشفاعة فقط.

و لكنّه تفسير خاطئ للآية إذ ليس معنى الآية أنّ اللَّه وحده هو الذي يشفع و غيره لا يشفع، لأنّه تعالى لا يشفع عند أحد، و انّما الأنبياء و الصالحون و الملائكة هم الذين يشفعون لديه.

كما أنّه ليس معناها أنّه لا يجوز طلب الشفاعة إلّا منه سبحانه بل معناها أنّ اللَّه مالك أمرها فلا يشفع عنده أحد إلّا بإذنه.

قال سبحانه: «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» و قال: «وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى .

و يتّضح ما قلناه إذا لاحظنا صدر الآية و هو:

«أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَ وَ لَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَ لا يَعْقِلُونَ* قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً» (الزمر- 43 و 44)

فالمقطع الأخير من الآية بصدد الرد على الذين اتّخذوا الأصنام و الأحجار شفعاء عند اللَّه، و قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه مع أنّها ما كانت تملك شيئاً فكيف كانت تملك الشفاعة و هي لا عقل لها حتى تشفع.

يقول الزمخشري- في كشّافه-:

«مِنْ دُونِ اللَّهِ» أي من دون إذنه «قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً» أي مالكها فلا يشفع أحد إلّا بشرطين:

أن يكون المشفوع له مرتضى و أن يكون الشفيع مأذنوناً له و هاهنا الشرطان مفقودان جميعاً «1».

و ما ذهب إليه ابن عبد الوهاب و من قبله ابن تيمية و أتباعهما من أنّ الآية

______________________________

(1). تفسير «الكشاف»: 3/ 34.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 171

هذه تدل على أنّ طلب الشفاعة لا يكون إلّا من اللَّه وحده، دون

طلبها من المخلوق و إن كان له حق الشفاعة، لم يذكره أحد من المفسرين.

*** ثمّ إنّه كيف يمكن التفريق بين طلب الشفاعة من الحيّ و طلبها من الميت فيجوز الأوّل بنصّ قوله تعالى:

«وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً» (النساء- 64)

و بدليل طلب أولاد يعقوب من أبيهم الشفاعة و قولهم:

«يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا» (يوسف- 97)

و وعد يعقوب عليه السلام إيّاهم بالاستغفار لهم، بينما لا يكون الثاني (أي الاستشفاع بالميت) جائزاً؟

أ فيمكن أن تكون الحياة و الممات مؤثرتين في ماهية عمل و قد سبق أنّ الحياة أو الممات ليست (معياراً) للتوحيد و الشرك و بالنتيجة لجواز الشفاعة أو عدم جوازها.

و إذا لاحظت كتب الوهابيين لرأيت أنّ الذي أوقعهم في الخطأ و الالتباس هو مشابهة عمل الموحّدين في طلب الشفاعة و الاستغاثة بالأموات و التوسّل بهم، لعمل المشركين عند أصنامهم، و معنى ذلك أنّهم اعتمدوا على الأشكال و الظواهر و غفلوا عن النيات و الضمائر.

و أنت أيّها القارئ لو وقفت على ما في ثنايا هذه الفصول لرأيت أنّ الفرق بين العملين من وجوه كثيرة، نذكر منها:

1- إنّ المشركين كانوا يقولون بألوهية الأصنام بالمعنى الذي مرّ ذكره،

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 172

بخلاف الموحّدين.

2- إنّ الأوثان و الأصنام كانت أعجز من أن تلبّي دعوتهم و هذا بخلاف الأرواح الطاهرة المقدّسة فإنّها أحياء بنصّ الكتاب العزيز، و قادرة على ما يُطلب منها في الدعاء.

3- إنّ الأوثان و الأصنام غير مأذونة لها، بخلاف النبيّ الأكرم فإنّه مأذون بنص القرآن الكريم:

«عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» (الإسراء- 79)

و المقام المحمود- باتفاق المفسّرين- مقام الشفاعة.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 173

المسائل العشر

3 هل الاستعانة بغير اللَّه شرك؟

اشارة

إنّ الاستعانة بغير اللَّه يمكن أن يتحقّق بصورتين:

1- إنّ نستعين بعامل- سواء أ كان طبيعياً أم غير طبيعي- مع الاعتقاد بأنّ عمله مستند إلى اللَّه بمعنى أنّه قادر على أن يعين العباد و يزيل مشاكلهم بقدرته المكتسبة من اللَّه و إذنه.

و هذا النوع من الاستعانة- في الحقيقة- لا ينفك عن الاستعانة باللَّه ذاته، لأنّه ينطوي على الاعتراف بأنّه هو الذي منح تلك العوامل ذلك الأثر و أذن به و إن شاء سلبها و جرّدها منه.

فإذا استعان الزارع بعوامل طبيعية كالشمس و الماء و حرث الأرض، فقد استعان باللَّه- في الحقيقة- لأنّه تعالى هو الذي منح هذه العوامل:

القدرة على إنماء ما أودع في بطن الأرض من بذر و من ثمّ إنباته و الوصول به إلى حد الكمال.

2- و إذا استعان بإنسان أو عامل طبيعي أو غير طبيعي مع الاعتقاد بأنّه مستقلّ في وجوده، أو في فعله عن اللَّه فلا شك انّ ذاك الاعتقاد يصير شركاً و الاستعانة في هذه الحالة عبادة للاعتقاد بالالوهية فيه.

فإذا استعان زارع بالعوامل المذكورة و هو يعتقد بأنّها مستقلّة في تأثيرها، أو أنّها مستقلة في وجودها و مادتها كما في فعلها و قدرتها، فالاعتقاد شرك و الطلب عبادة.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 174

مع مؤلّف المنار في تفسير حصر الاستعانة:

إنّ مؤلّف المنار تصوّر أنّ حدّ التوحيد هو: أن نستعين بقدرتنا و نتعاون فيما بيننا- في الدرجة الأُولى ثمّ نفوّض بقية الأمر إلى اللَّه القادر على كل شي ء، و نطلب منه- لا من سواه- و يقول في ذلك:

«يجب علينا أن نقوم بما في استطاعتنا من ذلك و نبذل لإتقان أعمالنا كل ما نستطيع من حول و قوّة و أن نتعاون، و يساعد بعضنا بعضاً، و نفوّض الأمر فيما

وراء كسبنا إلى القادر على كل شي ء و نلجأ اليه وحده، و نطلب المعونة للعمل و الموصل لثمرته منه سبحانه دون سواه» «1».

إذ صحيح أنّنا يجب أن نستفيد من قدرتنا، أو من العوامل الطبيعية المادية و لكن يجب بالضرورة أن لا نعتقد لها بأيّة أصالة و غنى و استقلال و إلّا خرجنا عن حدود التوحيد.

فإذا اعتقد أحد بأنّ هناك- مضافاً إلى العوامل و القوى الطبيعية- سلسلة من العلل غير الطبيعية التي تكون جميعها من عباد اللَّه الأبرار الذين يمكنهم تقديم العون «2» لمن استعان بهم تحت شروط خاصة و بإذن اللَّه و إجازته دون أن يكون لهم أيّ استقلال لا في وجودهم و لا في أثرهم، فأنّ هذا الفرد لو استعان بهذه القوى غير الطبيعية مع الاعتقاد المذكور- لا تكون استعانته عملًا صحيحاً فحسب بل تكون- بنحو من الأنحاء- استعانة باللَّه ذاته كما لا يكون بين هذين

______________________________

(1). المنار: 1/ 59.

(2). البحث مركّز في أنّ طلب العون و الحال هذه شرك أو لا؟ و أمّا أنّه هل أُعطيت لهم تلك المقدرة على العون أو لا؟ فخارج عن موضوع بحثنا، و إنّما إثباته على عاتق الأبحاث القرآنية الأُخرى و قد نبّهنا على ذلك غير مرة.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 175

النوعين من الاستعانة (الاستعانة بالعوامل الطبيعية و الاستعانة بعباد اللَّه الأبرار) أيّ فرق مطلقاً.

فإذا كانت الاستعانة بالعباد الصالحين- على النحو المذكور- شركاً لزم أن تكون الاستعانة في صورتها الأُولى هي أيضاً معدودة في دائرة الشرك، و التفريق بين (الاستعانة بالعوامل الطبيعية) و (الاستعانة بغيرها) إذا كانتا على وزان واحد و على نحو الاستمداد من قدرة اللَّه و بإذنه و مشيئته، بكونها موافقة للتوحيد في أُولى الصورتين،

و مخالفة له في ثانية الصورتين، لا وجه له.

من هذا البيان اتّضح هدف صنفين من الآيات وردا في مسألة الاستعانة:

الصنف الأوّل: يحصر الاستعانة باللَّه فقط و يعتبره الناصر و المعين الوحيد دون سواه.

و الصنف الثاني: يدعونا إلى سلسلة من الأُمور المعيّنة غير اللَّه و يعتبرها ناصرة و معينة، إلى جانب اللَّه.

أقول: من البيان السابق اتّضح وجه الجمع بين هذين النوعين من الآيات و تبيّن أنّه لا تعارض بين الصنفين مطلقاً، إلّا أنّ فريقاً نجدهم يتمسّكون بالصنف الأوّل من الآيات فيخطئون أيّ نوع من الاستعانة بغير اللَّه، ثمّ يضطرون إلى إخراج (الاستعانة بالقدرة الإنسانية و الأسباب المادية) من عموم تلك الآيات الحاصرة للاستعانة باللَّه بنحو التخصيص بمعنى أنّهم يقولون:

إنّ الاستعانة لا تجوز إلّا باللَّه إلّا في الموارد التي أذن اللَّه بها، و أجاز أن يستعان فيها بغيره، فتكون الاستعانة بالقدرة الإنسانية و العوامل الطبيعية- مع أنّها استعانة بغير اللَّه- جائزة و مشروعة على وجه التخصيص، و هذا ممّا لا يرتضيه الموحّد.

في حين أنّ هدف الآيات هو غير هذا تماماً، فأنّ مجموع الآيات يدعو إلى أمر

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 176

واحد و هو: عدم الاستعانة بغير اللَّه، و أنّ الاستعانة بالعوامل الأُخرى يجب أن تكون بنحو لا يتنافى مع حصر الاستعانة باللَّه بل تكون بحيث تعدّ استعانة باللَّه لا استعانة بغيره.

و بتعبير آخر: إنّ الآيات تريد أن تقول: بأنّ المعين و الناصر الوحيد و الذي يستمد منه كل معين و ناصر، قدرته و تأثيره، ليس إلّا اللَّه سبحانه، و لكنّه- مع ذلك- قيم هذا الكون على سلسلة من الأسباب و العلل التي تعمل بقدرته و أمره، و على استمداد الفرع من الأصل، و لذلك تكون الاستعانة

بها كالاستعانة باللَّه، ذلك لأنّ الاستعانة بالفرع استعانة بالأصل.

و إليك فيما يلي إشارة إلى بعض الآيات من الصنفين:

«وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» (آل عمران- 126)

«إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» (الحمد- 4)

«وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (الأنفال- 10)

هذه الآيات نماذج من الصنف الأوّل و إليك فيما يأتي نماذج من الصنف الآخر الذي يدعونا إلى الاستعانة بغير اللَّه من العوامل و الأسباب:

«وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ» (البقرة- 45)

«وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى (المائدة- 2)

«ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ» (الكهف- 95)

«وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ» (الأنفال- 72)

و مفتاح حلّ التعارض بين هذين الصنفين من الآيات هو ما ذكرناه و ملخّصه:

إنّ في الكون مؤثراً تامّاً، و مستقلًّا واحداً غير معتمد على غيره لا في وجوده

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 177

و لا في فعله و هو اللَّه سبحانه.

و أمّا العوامل الأُخر فجميعها مفتقرة- في وجودها و فعلها- إليه و هي تؤدي ما تؤدي بإذنه و مشيئته و قدرته، و لو لم تعط تلك العوامل ما أعطيت من القدرة و لم تجر مشيئته على الاستمداد منها لما كانت لها أية قدرة على شي ء.

فالمعين الحقيقي في كلّ المراحل- على هذا النحو تماماً- هو اللَّه فلا تصحُّ الاستعانة بأحد باعتباره معيناً مستقلًا. لهذه الجهة حصرت مثل هذه الاستعانة باللَّه وحده، و لكن هذا لا يمنع بتاتاً من الاستعانة بغير اللَّه باعتباره غير مستقل (أي باعتباره معيناً بالاعتماد على القدرة الإلهية)، و معلوم أنّ استعانة- كهذه- لا تنافي حصر الاستعانة باللَّه سبحانه لسببين:

أوّلًا: لأنّ الاستعانة المخصوصة باللَّه هي غير الاستعانة بالعوامل الأُخرى فالاستعانة المخصوصة باللَّه هي: ما

تكون باعتقاد أنّه قادر على إعانتنا بالذات، و بدون الاعتماد على غيرها، في حين أنّ الاستعانة بغير اللَّه سبحانه إنّما هي على نحو آخر، أي مع الاعتقاد بأنّ المستعان قادر على الإعانة مستنداً على القدرة الإلهية، لا بالذات، و بنحو الاستقلال، فاذا كانت الاستعانة- على النحو الأوّل- خاصة باللَّه تعالى فإنّ ذلك لا يدل على أنّ الاستعانة بصورتها الثانية مخصوصة به أيضاً.

ثانياً: إنّ استعانة- كهذه- غير منفكّة عن الاستعانة باللَّه، بل هي عين الاستعانة به تعالى، و ليس في نظر الموحّد (الذي يرى أنّ الكون كلّه من فعل اللَّه و مستند إليه) مناص من هذا.

و ممّا سبق يتبيّن لك أيّها القارئ الكريم ما في كلام ابن تيمية من الإشكال إذ يقول:

«أمّا من أقرّ بما ثبت بالكتاب و السنّة و الإجماع من شفاعته صلى الله عليه و آله و سلم و التوسّل به

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 178

و نحو ذلك، و لكن قال: لا يدعى إلّا اللَّه و أنّ الأُمور التي لا يقدر عليها إلّا اللَّه فلا تطلب إلّا منه، مثل غفران الذنوب و هداية القلوب و إنزال المطر و إنبات النبات و نحو ذلك، فهذا مصيب في ذلك بل هذا ممّا لا نزاع فيه بين المسلمين أيضاً كما قال تعالى:

«وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ» (آل عمران- 135)

و قال: «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» (القصص- 56)

و كما قال تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ» فاطر- 3)

و كما قال تعالى: «وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ

عِنْدِ اللَّهِ» (آل عمران- 126)

و قال: «إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا» (التوبة- 40) «1».

فقد غفل ابن تيمية عن أنّ بعض هذه الأُمور يمكن طلبها من غير اللَّه مع الاعتقاد بعدم استقلال هذا الغير في تحقيقها، و هذا لا ينافي طلبها من اللَّه مع الاعتقاد باستقلاله و غناه عمّن سواه في تحقيقها.

نعم، لا تقع هذه الاستعانة مفيدة إلّا إذا ثبتت قدرة غيره سبحانه على إنجاز الطلب و لكنّه خارج عن محط بحثنا، فإنّ البحث مركّز على كون هذا العمل شركاً أو لا، و أما كون المستعان قادراً فالبحث عنه خارج عن هدفنا.

و ربّما يتوهّم أنّها لا تنفع أيضاً إلّا إذا ثبتت مأذونية الغير من قبله سبحانه في الإعانة، كما يتوقف على ذلك جواز أصل طلب العون، و إن كان غير شرك.

______________________________

(1). مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية، الرسالة الثانية عشرة: 482.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 179

و لكنه مدفوع، بأنّ إعطاء القدرة دليل على المأذونية في أعمالها في الجملة، إذ لا معنى لأن يعطيه اللَّه القدرة و يمنعه عن الأعمال مطلقاً، أو يعطيه القدرة و يمنع الغير عن طلب اعمالها.

و يكفي في الجواز، كون الأصل في فعل العباد، الجواز و الإباحة، دون الحظر و المنع إلّا أن ينطبق على العمل أحد العناوين المحرمة في الشرع.

و أخيراً نذكّر القارئ الكريم بأنّ مؤلف المنار حيث إنّه لم يتصوّر للاستعانة بالأرواح إلّا صورة واحدة، لذلك اعتبرها ملازمة للشرك فقال:

«و من هنا تعلمون: أنّ الذين يستعينون بأصحاب الأضرحة و القبور على قضاء حوائجهم و تيسير أُمورهم و شفاء أمراضهم و نماء حرثهم و

زرعهم، و هلاك أعدائهم و غير ذلك من المصالح هم عن صراط التوحيد ناكبون، و عن ذكر اللَّه معرضون» «1».

و لا يخفى عدم صحّته إذ الاستعانة بغير اللَّه (كالاستعانة بالعوامل الطبيعية) على نوعين:

أحدهما: عين التوحيد، و الآخر: موجب الشرك، أحدهما: مذكّر باللَّه، و الآخر: مبعد عن اللَّه.

إنّ حد التوحيد و الشرك ليس هو كون الأسباب ظاهرية أو غير ظاهرية، إنّما هو الاستقلال و عدم الاستقلال، هو الغنى و الفقر، هو الأصالة و عدم الاصالة.

إنّ الاستعانة بالعوامل غير المستقلّة المستندة إلى اللَّه، التي لا تعمل و لا تؤثر إلّا بإذنه تعالى ليس فقط غير موجبة للغفلة عن اللَّه، بل هو خير موجّه، و مذكّر باللَّه. إذ معناها: انقطاع كلّ الأسباب و انتهاء كل العلل إليه.

______________________________

(1). المنار: 1/ 59.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 180

و مع هذا كيف يقول صاحب المنار: «أُولئك عن ذكر اللَّه معرضون» و لو كان هذا النوع من الاستعانة موجباً لنسيان اللَّه و الغفلة عنه للزم أن تكون الاستعانة بالأسباب المادية الطبيعية هي أيضاً موجبة للغفلة عنه.

على أنّ الأعجب من ذلك هو كلام شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت الذي نقل- في هذا المجال- نص كلمات عبده دون زيادة و نقصان، و ختم المسألة بذلك، و أخذ بظاهر الحصر في «إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» غافلًا عن حقيقة الآية و عن الآيات الأُخرى المتعرّضة لمسألة الاستعانة «1».

نقد نظر ثالث:

و هناك رأي آخر يتوسّط بين الرأيين، و هو أنّه تجوز الاستعانة بالأسباب الطبيعية في الحوائج الحيوية، و لا تجوز الاستعانة بالأسباب غير العادية إلّا إذا كان بصورة التوسّل و الاستشفاع إلى اللَّه سبحانه.

و هذا القول و إن كانت عليه مسحة من الحق و لمسة من الصدق إلّا أنّه ليس

عينه.

فإنّ المنع عن الاستعانة بالأسباب غير العادية إذا لم يكن بكلا النحوين خاطئ فإنّه إن كان لأجل كونه مستلزماً للشرك، فالمفروض عدمه، إذ المستعين إنّما يستعين، باعتقاد أنّ المستعان إنّما يعين بالقدرة المعطاة له من اللَّه سبحانه، و يعملها بإذنه و مشيئته. و طلب العون مع هذا الاعتقاد لا يستلزم الشرك. و مع فرضه فأيّ فرق بين الممنوع (طلب العون) و المجاز و هو التوسّل و الاستشفاع؟

و إن كان المنع لأجل عدم وجود القدرة فيهم على الإعانة، فهو مناقشة و هو

______________________________

(1). راجع تفسير شلتوت: 36- 39.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 181

في الصغرى خارج عن موضوع بحثنا فأنّ البحث إنّما هو على فرض قدرتهم.

و إن كان المنع، لأجل كون الأصل في فعل المكلف، هو المنع حتى يثبت الجواز، فهو محجوج بأصالة الإباحة ما لم يمنع عنه دليل قاطع.

و عدم ورود تلك الاستعانة في الأدعية و غيرها على فرض صحته لا يدل على المنع.

و لو كان المنع لأجل أن قوله سبحانه: «وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» شامل لهذه الاستعانة التي لا تنفك عن الاستعانة به سبحانه كما أوضحناه، فلا يمكن تخصيصه بالتوسّل و الاستشفاع لأنّ لسانه آبٍ عن التخصيص و غير قابل له.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 182

المسائل العشر

4 هل دعوة الصالحين عبادة لهم؟

اشارة

تبيّن من البحوث السابقة أنّ (طلب الحاجة من غير اللَّه) مع الاعتقاد بأنّه لا يملك شيئاً من شئون المقام الألوهي، و لم يفوّض إليه شي ء، بل لو قام بشي ء لا يقوم به إلّا بإذن اللَّه سبحانه، لا يكون شركاً.

و بقي في هذا المجال مطلب آخر و هو: أنّ القرآن الكريم نهى في موارد متعدّدة- عن دعوة غير اللَّه سبحانه غير أنّ الوهابية استنتجت من هذه الآيات مساوقة الدعوة

للعبادة.

و إليك فيما يأتي الآيات المتضمّنة، بل المصرّحة بهذا المطلب:

«وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً» (الجن- 18)

«لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ ءٍ» (الرعد- 14)

«وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ» (الأعراف- 197)

«إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ» (الأعراف- 194)

«وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ» (فاطر- 13)

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 183

«قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لا تَحْوِيلًا» (الإسراء- 56)

«أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ» (الإسراء- 57)

«وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ» (يونس- 106)

«إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ» (فاطر- 14)

«وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» (الأحقاف- 5)

فقد جعل دعاء الغير- في هذه الآيات- مساوياً مع دعاء اللَّه و يستنتج من ذلك أنّ دعاء الغير عبادة له، و من هذه الآيات يستنتج الوهابيون كون دعوة الأولياء و الصالحين- بعد وفاتهم- عبادة للمدعو.

و ملخّص كلامهم أنّ من قال متوسلًا: يا محمّد، فنداؤه و دعوته بنفسها عبادة للمدعو.

يقول الصنعاني في هذا الصدد:

«و قد سمّى اللَّه الدعاء: عبادة بقوله: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي» و من هتف باسم نبيّ أو صالح بشي ء، أو قال: اشفع لي إلى اللَّه في حاجتي، أو أستشفع بك إلى اللَّه في حاجتي أو نحو ذلك، أو قال: اقض ديني أو اشف مريضي أو نحو ذلك، فقد دعا ذلك النبيّ و الصالح، و الدعاء عبادة بل مخها فيكون قد عبد غير اللَّه، و صار مشركاً، إذ لا يتم التوحيد إلّا

بتوحيده تعالى في الإلهية باعتقاد أن لا خالق و لا رازق غيره، و في العبادة بعدم عبّادة غيره و لو ببعض العبادات و عبّاد الأصنام إنّما أشركوا لعدم توحيد اللَّه في العبادة» «1».

***______________________________

(1). تنزيه الاعتقاد للصنعاني كما في كشف الارتياب: 272- 274. و الآية 60 من سورة غافر.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 184

و لكن لا مرية في أنّ لفظة الدعاء تعني في لغة العرب: النداء لطلب الحاجة فلا يتحقّق مفهوم الدعوة إلّا بطلب الحاجة، و لو استعملت في مورد في مطلق النداء و لم يكن معه طلب حاجة فإنّما هو لأجل أنّ المنادي يطلب توجّه المنادي إلى نفسه، بينما تعني لفظة «العبادة» معنى آخر (و هو الخضوع النابع من الاعتقاد بالألوهيّة و الربوبية على ما مرّ تفصيله)، و لا يمكن اعتبار اللفظتين مترادفتين، و مشتركتين في المفاد و المعنى بأن يكون معنى الدعاء هو العبادة، لأسباب عديدة هي:

أوّلًا- إنّ القرآن استعمل لفظة الدعوة و الدعاء في موارد لا يمكن أن يكون المراد فيها العبادة مطلقاً مثل:

«قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَ نَهاراً» (نوح- 5)

فهل يمكن أن نقول: إنّ مراد نوح عليه السلام هو أنّه عبد قومه ليلًا و نهاراً؟!!

و أيضاً مثل قوله تعالى حاكياً عن الشيطان قوله:

«وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي» (إبراهيم- 22)

فهل يحتمل أن يكون مقصود الشيطان هو أنّه عبد اتباعه، في حين أنّ العبادة- لو صحت و افترضت- فإنّما تكون من جانب أتباعه له لا من جانبه تجاه أتباعه.

و مثل هاتين الآيتين ما يأتي من الآيات:

«وَ يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَ تَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ» (غافر- 41)

«وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا

يَتَّبِعُوكُمْ» (الأعراف- 193)

«وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا» (الأعراف- 198)

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 185

«وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (المؤمنون- 73)

«فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ» (آل عمران- 61)

ففي هذه الآيات و أمثالها استعملت لفظة الدعاء و الدعوة في غير معنى العبادة و لهذا لا يمكن أن نعتبرهما مترادفتين. و لذلك فلو دعى أحد وليّاً أو نبياً أو رجلًا صالحاً، فأنّ عمله ذلك لا يكون عبادة له، لأنّ الدعاء أعمّ من العبادة و غيرها «1».

ثانياً- إنّ المقصود من الدعاء في مجموع الآيات (المذكورة في مطلع البحث هذا) ليس هو مطلق النداء، بل نداء خاص يمكن أن يكون- مآلًا- مرادفاً للفظ العبادة.

لأنّ مجموع هذه الآيات وردت حول الوثنيين الذين كانوا يتصورون بأنّ أصنامهم آلهة صغار قد فوّض إليها بعض شئون المقام الألوهي، و يعتقدون في شأنها بنوع من الاستقلال في التصرف و الفعل.

و معلوم أنّ الخضوع و التذلّل أو أيّ نوع من القول و العمل أمام شي ء باعتقاد أنّه إله كبير أو إله صغير لكونه ربّاً أو مالكاً لبعض الشئون الإلهية، يكون عبادة.

لا شكّ أنّ خضوع الوثنيين و دعاءهم و استغاثتهم أمام أوثانهم كانت بوصف أنّ هذه الأصنام آلهة أو أرباب أو مالكة لحقّ الشفاعة، و باعتقاد أنّها آلهة

______________________________

(1). النسبة بين الدعاء و العبادة عموم و خصوص من وجه: ففي هذه الموارد يصدق الدعاء و لا تصدق العبادة، و أمّا في العبادة الفعلية المجرّدة عن الذكر كالركوع و السجود، فتصدق العبادة لأنّها تقترن مع الاعتقاد بألوهية المسجود له و لا يصدق الدعاء لخلوّه عن الذكر اللفظي.

و يصدق كلا المفهومين: «الدعاء و العبادة» في أذكار الصلاة لأنّها دعوة بالقول ناشئة عن الاعتقاد بألوهية المدعو.

التوحيد

و الشرك فى القرآن، ص: 186

مستقلّة في التصرّف في أُمور الدنيا و الآخرة. و من البديهي أنّ أيّة دعوة لهذه الموجودات و غيرها مع هذه الشروط، عبادة لا محالة.

و تدل طائفة من الآيات:

على أن دعوة الوثنيين كانت مصحوبة بالاعتقاد بألوهية الأصنام أو مالكيتها لمقام الشفاعة و المغفرة و إليك بعضها:

«فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ» (هود- 101)

ففي هذه الآية يتّضح جلياً بأنّهم كانوا يعبدونها متصوّرين و معتقدين بأنّها تغنيهم من شي ء كما يمكن للإله الحقيقي أن يفعل ذلك.

«وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ» (الزخرف- 86)

«وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ» (فاطر- 13)

«فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لا تَحْوِيلًا» (الإسراء- 56)

فالآيات المذكورة (في مطلع هذا الفصل) لا ترتبط بموضوع بحثنا مطلقاً، إذ الموضوع هو الدعوة دون الاعتقاد بألوهية، و لا مالكية لشي ء و لا استغناءه، و استقلاله في التصرف في أُمور الدنيا و الآخرة، بل لأجل أنّ المدعو عبد من عباد اللَّه المكرمين. و إنّه ذو مقام معنوي استحق به منزلة النبوة أو الإمامة، و لأنّه وعد المتوسّلون به بقبول أدعيتهم، و إنجاح طلباتهم فيما إذا قصدوا اللَّه عن طريقه. كما ورد في حق النبي الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم:

«وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً» (النساء- 64)

ثالثاً- يمكن أن يقال: إنّ المراد من الدعاء في هذه الآيات هو القسم الخاص منه، أعني ما كان ملازماً للعبادة لا بمعنى أنّ الدعاء مستعمل في مفهوم

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 187

العبادة ابتداءً، بل بمعنى أنّها مستعملة في معناها الحقيقي، غير أنّها لمّا

كانت في موارد الآيات مقرونة باعتقاد الدعاة بألوهيتهم يكون المنهي عنه ذلك القسم من الدعوة لا مطلقاً، و تكون عقيدة الدعاة في حق المدعوين قرينة متصلة على أنّ المقصود ذلك القسم المعيّن لا جميع أقسامها، و من المعلوم أنّ الدعاء مع هذه العقيدة يكون مصداقاً للعبادة.

و الدليل على أنّ المراد من الدعوة في هذه الآيات هو القسم الملازم للعبادة أنّه ربما وردت في إحدى الآيتين ذاتي مضمون واحد لفظة الدعوة، و وردت في الآية الأُخرى لفظة الدعاء مثل قوله:

«قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً» (المائدة- 76)

بينما يقول في الآية الأُخرى و هي:

«قُلْ أَ نَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَ لا يَضُرُّنا» (الأنعام- 71)

و يقول أيضاً في الآية 13 من سورة فاطر:

«وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ»

ففي هذه الآية و ما قبلها استعملت لفظة «تَدْعُونَ» و «نَدْعُوا» في حين استعملت في الآية الأُولى لفظة «تَعْبُدُونَ».

و نظير ما سبق قوله سبحانه:

«إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً» (العنكبوت- 17)

هذا و قد ترد كلتا اللفظتين في آية واحدة و تستعملان في معنى واحد:

«قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» (الأنعام- 56)

و قوله سبحانه:

«وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 188

سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ» (غافر- 60)

و الآية و ما تقدّمها ظاهرتان في أنّ المراد من الدعوة هو العبادة لا مطلق النداء و طلب الحاجة، و ليس ذاك بمعنى استعمال الدعاء ابتداءً في معنى العبادة حتى يكون الاستعمال مجازياً بل إنّما استعملت في معناها الحقيقي، أعني: الدعاء، و لكن لمّا كان الدعاء

مقروناً باعتقاد الداعي بألوهية المدعو صار المراد منه- بالمآل- العبادة، و قد تقدمت تلك النكتة آنفاً.

و يؤيد ما ذكرناه ما ورد في دعاء سيد الساجدين زين العابدين عليه السلام مشيراً إلى مفاد الآية المتقدمة حيث يقول:

«و سمّيتَ دعاءك عبادة، و تركه استكباراً و توعّدت على تركه دخول جهنم داخرين» «1».

و إنّا لنطلب من القارئ الكريم أن يراجع بنفسه مادة الدعوة في المعجم المفهرس فسيرى ورود مضمون واحد تارة بلفظ العبادة و أُخرى بلفظ الدعاء و الدعوة.

و هذا هو أوضح دليل على أنّ المقصود من الدعوة في الآيات المذكورة (في مطلع هذا الفصل) هو العبادة و ليس مطلق النداء.

هذا و القارئ الكريم إذا درس مجموع الآيات التي ورد فيها لفظ الدعوة و أُريد منه القسم الملازم للعبادة لرأى أنّ الآيات إمّا وردت حول خالق الكون الذي يعترف جميع الموحدين بألوهيته و ربوبيته و مالكيته. أو وردت في مورد الأوثان التي كانت عبدتها يتصوّرون ألوهيتها و أنّها مالكة لمقام الشفاعة، و في هذه الحالة فإنّ الاستدلال بهذه الآيات في مورد بحثنا الذي هو الدعاء مجرّداً عن تلك العقيدة لمن أعجب العجب!

______________________________

(1). الصحيفة السجادية: الدعاء 49.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 189

سؤال و جواب:

إلى هنا تبيّن أنّ دعوة العباد الصالحين بأيّ شكل كان، سواء أ كان لأجل التوسّل و الاستشفاع أم لأجل طلب الحاجة و إنجازها ليست عبادة و لا تشملها الآيات الناهية عن الدعوة بتاتاً غير أنّه يطرح هنا سؤال و هو: أنّه إذا كان غيره سبحانه لا يملك من قطمير و لا يملك كشف الضر و التحويل، فما فائدة هذه الدعوة إذ قال سبحانه:

«فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لا تَحْوِيلًا» (الإسراء- 56)

«وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ

ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ» (فاطر- 13)

و الجواب: أنّ عبدة الأصنام كانوا معتقدين بانّهم يملكون فوق القطمير و يملكون كشف الضر فجاءت الآيات رادة عليهم.

و أمّا توسّل عباد اللَّه بالنبي فليس مبنياً على انّه يملك كشف الضر و يقدر عليه من عند نفسه، بل يكفي كونه مأذوناً في الدعاء و طلب العون من اللَّه بالنسبة إلى عباده المتوسلين به أو قادراً على انجاز الأمر باذنه سبحانه.

ملخّص البحث:

إنّ هذه الآيات راجعة إلى أصنام العرب الخشبية و المعدنية و الحجرية و يتّضح ذلك من سياق الآيات. هذا أوّلًا، و ثانياً أنّ الهدف من نفي المالكية عن غير اللَّه ليس هو مطلقها بل المراد المالكية المناسبة لمقامه سبحانه، أعني: المالكية المستقلّة، و نفي هذه المالكية عن غيره سبحانه لا يدل على انتفاء ما يستند إليه سبحانه، عنهم، و يؤيد ذلك أنّه سبحانه يقول:

«يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» (فاطر- 15)

و المراد من الفقر هنا هو الفقر الذاتي و لا ينافي القدرة المكتسبة و الفعّالة بإذنه

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 190

سبحانه.

و الدليل على أنّ العرب كانوا يعتقدون في أصنامهم القدرة المستقلّة قوله سبحانه:

«قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً» (المائدة- 76)

و قوله سبحانه:

«وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ شَيْئاً وَ لا يَسْتَطِيعُونَ» (النحل- 73).

و على ذلك فلو قال سبحانه لا يملكون عن اللَّه كشف الضر و لا تحويلًا، فالمقصود هو نفي تلك المالكية لا الأعم منها و من المكتسبة.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 191

المسائل العشر

5 هل تعظيم أولياء اللَّه و تخليد ذكرياتهم شرك؟

اشارة

ينزعج الوهابيون- بشدة- من تعظيم أولياء اللَّه و تخليد ذكرياتهم، و إحياء مناسبات مواليدهم أو وفياتهم، و يعتبرون اجتماع الناس في المجالس المعقودة لهذا الشأن شركاً و ضلالًا ففي هذا الصدد يكتب محمد حامد الفقي، رئيس جماعة أنصار السنّة المحمدية في هوامشه على كتاب فتح المجيد:

«الذكريات التي ملأت البلاد باسم الأولياء هي نوع من العبادة لهم و تعظيمهم» «1».

إنّ هؤلاء لم يعيّنوا حدّاً للتوحيد و الشرك، و للعبادة على الأخص و لذلك رموا كل عمل بالشرك

حتى أنّهم تصوّروا أنّ كل نوع من التعظيم عبادةً و شركاً.

و لأجل ذلك جعل الكاتب «العبادة» إلى جانب التعظيم و تصوّر أنّ للّفظتين معنى واحداً، و ممّا لا شك فيه أنّ القرآن يعظّم فريقاً من الأنبياء و الأولياء بعبارات صريحة كما يقول في شأن زكريا و يحيى عليهما السلام:

«إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ يَدْعُونَنا رَغَباً وَ رَهَباً وَ كانُوا لَنا خاشِعِينَ» (الأنبياء- 90).

______________________________

(1). فتح المجيد: 154، ثمّ نقل عن كتاب قرّة العيون ما يشابه هذا المضمون.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 192

فلو أنّ أحداً أقام مجلساً عند قبر من عناهم اللَّه و سمّاهم في هذه الآية، و قرأ في ذلك المجلس هذه الآية المادحة، معظّماً بذلك شأنهم، فهل اتّبع غير القرآن؟!.

كما و يقول في شأن أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

«وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً» (الدهر- 8).

فهل ترى لو اجتمع جماعة في يوم ميلاد علي بن أبي طالب- و هو أحد الآل- و قالوا: إنّ علياً كان يطعم الطعام للمسكين و اليتيم و الأسير، كانوا مشركين؟!

أو ترى لما ذا يكون مشركاً لو أنّ أحداً تلا الآيات المادحة لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم في حفلة عامة في يوم مولده الشريف كالآيات التالية:

«وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» (القلم- 4).

«إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً* وَ داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً» (الأحزاب: 45 و 46).

«لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» (التوبة- 128).

«إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً» (الأحزاب- 56).

فلو تلا أحد هذه الآيات

المثنية على النبي، أو قرأ ترجمتها بلغة أُخرى أو سكب هذا المديح الإلهي القرآني في قالب الشعر و أنشد ذلك في مجلس كان مشركاً؟!

إنّ عدم وجود هذه الاحتفالات في زمن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ليس دليلًا على كونها شركاً، و أقصى ما يمكن أن يقال إنّها بدعة لا شركاً و لا عبادة للإنسان الصالح، بل

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 193

لا تعدّ بدعة، إذ لو نسب إقامة الاحتفالات التكريمية أو مجالس العزاء في الذكريات، إلى الشارع المقدس و ادّعى بأنّ اللَّه أمر بذلك يلزم أن نتفحص عن مدى صحة هذه النسبة و صدق هذا الادّعاء، لا أن نصف إقامة هذه المجالس بأنّها: شرك.

و أمّا لو أقامها من جانب نفسه من دون أن يسندها إلى أمره سبحانه فلا تكون بدعة بتاتاً.

إنّ الآيات القرآنية تدل على جواز هذه الاحتفالات بعناوين خاصة نشير إليها:

أ- إقامة ذكرى النبيّ تعزيزاً له:

كيف لا، و هذا القرآن الكريم يثني على أُولئك الذين أكرموا النبي صلى الله عليه و آله و سلم و عظّموا شأنه و بَجّلوه، إذ يقول:

«فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (الأعراف- 157).

إنّ الأوصاف التي وردت في هذه الآية و التي استوجبت الثناء الإلهي هي:

1- آمنوا به.

2- و عزّروه.

3- و نصروه.

4- و اتّبعوا النّور الَّذي أُنزل معه.

فهل يحتمل أحد أن تختص هذه الجمل الثلاث:

«آمنوا به. و نصروه. و اتبعوا» بزمن النبي صلى الله عليه و آله و سلم؟ الجواب: لا.

فإنّ الآية لا تعني الحاضرين في زمن النبي- خاصة- فعندئذ من القطعي أن

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 194

لا تختص جملة «عزّروه» بزمان النبي، أضف إلى ذلك أنّ القائد

العظيم يجب أن يكون موضعاً للتكريم و الاحترام و التعظيم في كل العهود و الأزمنة.

فهل إقامة المجالس لإحياء ذكريات: المبعث أو المولد النبوي، و إنشاء الخطب و المحاضرات و القصائد و المدائح إلّا مصداق جلي لقوله تعالى: «وَ عَزَّرُوهُ» و التي تعني: أكرموه و عظّموه.

عجباً كيف يعظّم الوهابيون أُمراءهم بالاحترام الذي يفوق ما يفعله غيرهم تجاه أولياء اللَّه فلا يكون ذلك شركاً، و أمّا إذا أتى أحد بشي ء يسير من ذلك في حقّهم عدّ شركاً؟!!

إنّ المنع عن تعظيم الأنبياء و الأولياء و تكريمهم- حيّاً و ميتاً- يصوّر الإسلام في نظر الأعداء ديناً جامداً لا مكان فيه للعواطف الإنسانية، كما يصور تلك الشريعة السمحاء المطابقة للفطرة الإنسانية ديناً يفقد الجاذبية المطلوبة القادرة على اجتذاب أهل الملل الأُخرى و اكتسابهم.

ما ذا يقول- الذين يخالفون إقامة مجالس العزاء للشهداء في سبيل اللَّه- في قصة يعقوب عليه السلام؟ و ما ذا يقولون فيه و هو يبكي على ابنه أسفاً و حزناً في فراق ولده يوسف، ليله و نهاره، و يسأل كل من لقيه عن ابنه المفقود حتى فقد بصره، كما يقول سبحانه:

«وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ» (يوسف- 84).

فلما ذا يكون إظهار مثل هذه العلاقة في حال حياة الولد جائزاً و مشروعاً و مطابقاً لأُصول التوحيد بينما إذا كان في حال مماته عدّ شركاً؟!

فاذا اتّبع أحد طريق يعقوب فبكى على فراق أولياء اللَّه و أحبّائه يوم استشهادهم فلما ذا لا يعدّ عمله اقتداءً بيعقوب عليه السلام.

لا ريب في أنّ مودة ذوي القربى هي إحدى الفرائض الإسلامية التي دعا

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 195

إليها بأوضح تصريح فلو أراد أحد أن يقوم بهذه الفريضة الدينية بعد أربعة عشر قرناً فكيف يمكنه،

و ما هو الطريق إلى ذلك؟ هل هو إلّا أن يفرح في أفراحهم، و يحزن في أحزانهم؟

فاذا أقام أحد- لإظهار مسرّته- مجلساً يذكر فيه حياتهم، و تضحياتهم أو يبيّن مصائبهم فهل فعل إلّا إظهار المودة، المندوبة إليها في القرآن الكريم ..؟!

و إذا زار أحد- لإظهار مودة أكثر- مقابر أقرباء النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أقام مثل هذه المجالس عند تلكم القبور فإنّه لم يفعل- في نظر العقلاء- إلّا إظهار المودة.

ب- إقامة الذكرى ترفيع لذكر النبي.

إنّ القرآن الكريم يصرّح بأنّ اللَّه سبحانه مَنَّ على رسوله بشرح صدره و وضع الوزر عنه و إعلاء اسمه الذي عبّر عن كل ذلك بقوله:

«أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ* وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ* الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ* وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ ..» (الانشراح: 1- 4).

فاللَّه سبحانه رفع اسمه و أعلاه و جعله مشهوراً معروفاً في العالم إجلالًا له.

فهذه الاحتفالات التي يقصد منها تخليد ذكرى النبي لا تتعدى رفع ذِكر رسول اللَّه و إعلاء اسمه، و إلفات نظر العالم إلى مقامه و مكانته السامية، فإذا كان القرآن أُسوة، فلما ذا لا نقتدي بالقرآن و لما ذا لا نرفع ذكره، و اسمه؟

ج- نزول المائدة السماوية و اتّخاذه عيداً.

إن المسيح عليه السلام سأل ربه سبحانه بأن ينزل عليه مائدة إذ قال سبحانه حاكياً:

«قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا وَ آيَةً مِنْكَ وَ ارْزُقْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» (المائدة- 114).

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 196

فالمسيح عليه السلام اتّخذ نزول المائدة السماوية و البركة الإلهية عيداً، لأنّه سبحانه أكرمه و أكرم تلاميذه بهذه المائدة، فاذا كانت المائدة السماوية سبباً لاتّخاذ يوم نزولها «عيداً» فلما ذا لا يجوز أن نتّخذ يوم «البعثة النبوية» الذي هو يوم البركة، و يوم نزول المائدة المعنوية عيداً؟

هل يستطيع أن يدّعي أحدٌ أنّ وجود رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم و ما جاء به من شريعة عظيمة خالدة أقل بركةً من المائدة المادية التي نزلت على المسيح عليه السلام و تلاميذه؟!

و في الختام نقول: إنّ من راجع الكتاب و السنّة يقف على أنّ حُبّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم أصل من أُصول الدين،

و للحب مظاهر، فكما أنّ من مظاهره الاتّباع، فهكذا تكريمه مطلقاً من غير فرق بين ميلاده و غيره من مظاهره، لكن الظروف دفعتنا إلى اختيار يوم ميلاده لإظهار حبنا و ودّنا له من غير أن ننسب خصوصية ذلك اليوم إلى الدين، و إنّما المنسوب إليه هو الدعوة إلى نفس الحب و الودّ، فما كان له أصل في الدين لا يعدّ تجسيده في يوم خاص، بدعة.

فإذا أمر الإسلام بالتدريب العسكري، فنحن نخصّ العمل بذلك الأصل بيوم أو يومين في الأسبوع، فلا يعدّ التخصيص- بعد وجود الأصل في الشريعة- بدعة.

أو إذا أمر الشارع بتعليم الأولاد معالم الدين و كتابه المنزل و إذا خصّصنا- خضوعاً لظروف و حوافز خاصة- يوماً خاصاً في كل أسبوع، فلا يعدّ الاجتماع في ذلك اليوم للتعلّم بدعة.

و ما أكثر الأمثال و النظائر للمسألة.

على أنّه يظهر من الروايات أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان يهتم بيوم ميلاده و قد جئنا بتفصيله في كتابنا «البدعة» فلاحظ.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 197

المسائل العشر

6 هل التبرّك بآثار النبي و الأولياء شرك؟

لقد جرت سنّة السلف الصالح على التبرّك بآثار النبي و آله، سنّة قطعية لا يشك فيها كل من له إلمام بتاريخ المسلمين، [و لهذا ألّف الشيخ محمد طاهر المكّي كتاباً في ذلك و أسماه «تبرّك الصحابة بآثار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم» نقل فيه شواهد تاريخية قطعية على تبرّكهم و تبرّك التابعين بآثاره قاطبة، و قد طبع هذا الكتاب عام 1385 ه، ثمّ أُعيد طبعه عام 1394 ه]، بيد إنّ الوهابيين أنكروا ذلك أشدّ الإنكار و عَدّوه شركاً، و إن كان بدافع محبة النبي و آله، و مودّتهم.

غير أنّ المتبرّك إذا اعتمد في عمله

على عمل يعقوب حيث وضع قميص يوسف على عينيه، فارتدّ بصيراً هل يصح لنا رميه بالشرك، إذ أيّ فرق بين التبرّك بآثار النبي و آثار سائر الأولياء و تبرّك يعقوب بقميص يوسف. قال سبحانه:

«فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً» (يوسف- 96).

فنحن نرى أنّ يعقوب عليه السلام يتبرّك بقميص يوسف، و قد ذكر القرآن ذلك، كما ذكر أنّه ارتدّ بصيراً بهذا التبرّك.

فلو كان هذا العمل مستلزماً للشرك، و لما ارتكبه ذلك النبي العظيم، و لما ذكره القرآن الكريم و لما كان مؤثراً.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 198

فأيّ فرق بين القميص المنسوج من القطن، و الضريح المصنوع من الحديد؟!

و كيف يكون العمل الأوّل غير مزاحم للتوحيد و يكون مؤثراً في ردِّ البصر، و يكون تقبيل الضريح النبوي الطاهر شركاً و خروجاً عن جادة التوحيد؟!.

فلما ذا هذا التفريق الذي يقوم به الوهابيون؟! هذا و بما أنّ بحثنا في هذا الكتاب يقتصر على دراسة هذه الأُمور التي يستنكرها الوهابيون، في ضوء القرآن الكريم فانّنا نكتفي بهذا القدر من الكلام، و إلّا ففي السنّة و التاريخ شواهد كثيرة على وقوع هذا التبرّك، إذ كان الصحابة و التابعون يتبرّكون بآثار النبي صلى الله عليه و آله و سلم و بعض الأولياء.

هذا و لقد وردت في الصحاح و غيرها من كتب الحديث و السير أخبار و روايات تكشف عن تبرّك الصحابة و التابعين بآثار النبي صلى الله عليه و آله و سلم نذكر بعضها هنا على سبيل المثال لا الحصر:

ففي صحيح البخاري باب غزوة الطائف عن أبي موسى قال: كنت عند النبي صلى الله عليه و آله و سلم و هو نازل بالجعرانة بين مكة و المدينة و

معه بلال، فأتى النبيَّ صلى الله عليه و آله و سلم أعرابيٌّ فقال: أ لا تنجز لي ما وعدتني؟ فقال له: «أبشر»، فقال: قد أكثرتَ عليَّ من أبشر، فأقبل على أبي موسى و بلال كهيئة الغضبان فقال: «ردَّ البشرى فاقبلا أنتما»، قالا: قبلنا، ثمّ دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه و وجهه فيه و مجَّ فيه ثمّ قال: «اشربا منه و أفرغا على وجوهكما و نحوركما و أبشرا»، فأخذا القدح ففعلا، فنادت أُم سلمة من وراء الستر أن أفضلا لأُمكما، فأفضلا لها منه طائفة .. «1»

و في صحيح البخاري في كتاب اللباس باب القبة الحمراء من أدم، عن ابن

______________________________

(1). صحيح البخاري: 5/ 157.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 199

أبي جحيفة عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم و هو في قبة حمراء من أدم و رأيت بلالًا أخذ وضوء النبي صلى الله عليه و آله و سلم و الناس يبتدرون الوضوء فمن أصاب منه شيئاً تمسَّح به، و من لم يُصِب منه شيئاً أخذ من بلل يد صاحبه «1».

ففي صحيح مسلم في كتاب الفضائل باب قرب النبي صلى الله عليه و آله و سلم من الناس و تبرّكهم به؛ عن أنس بن مالك قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا صلّى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء فما يؤتى بإناء إلّا غمس يده فيها فربّما جاءه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها «2».

و في صحيح البخاري في كتاب الأدب، باب حسن الخلق و السخاء، عن سهل بن سعد قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم ببُردة فقال سهل

للقوم: أ تدرون ما البردة؟ فقال القوم: هي شملة، فقال سهل: هي شملة منسوجة فيها حاشيتها فقالت: يا رسول اللَّه أكسوك هذه؟ فأخذها النبي صلى الله عليه و آله و سلم محتاجاً إليها فرآها عليه رجل من الصحابة فقال: يا رسول اللَّه ما أحسن هذه فاكسنيها، فقال: «نعم»، فلمّا قام النبي صلى الله عليه و آله و سلم لامه أصحابه، قالوا: ما أحسنت حين رأيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم أخذها محتاجاً إليها ثمّ سألته إيّاها و قد عرفت أنّه لا يُسأل شيئاً فيمنعه، فقال: رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه و آله و سلم لعلّي أُكفنُ فيها «3».

______________________________

(1). صحيح البخاري: 7/ 154.

(2). صحيح مسلم: 7/ 79.

(3). صحيح البخاري: 8/ 14.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 200

التوحيد و الشرك فى القرآن 226

المسائل العشر

7 البناء على القبور

اشارة

إنّ البناء على قبور الأنبياء و الأولياء ممّا جرت عليها اتباع الأنبياء و الشرائع السماوية قبل الإسلام، و بعده.

فقد كانوا يشيّدون الأبنية و الأضرحة على قبور الأنبياء و الأولياء، و لا زال كثيرها قائماً إلى الآن في العراق و فلسطين و الشام.

غير أنّ الوهابيين زعموا أنّ ذلك من الشرك أو من البدعة، فأجمعوا أمرهم على هدم هذه الأبنية و الأضرحة.

يقول ابن القيم في كتابه «زاد المعاد في هدى خير العباد»: يجب هدم المشاهد التي بنيت على القبور و لا يجوز إبقاؤها، بعد القدرة على هدمها و إبطالها يوماً «1».

و على هذه السنّة السيئة جرى الوهابيون؛ فإنّهم بعد أن استولوا على الحجاز استفتوا علماء المدينة عن تلك الأضرحة و القبور، ذاكرين في استفتائهم الحكم و الجواب الذي يجب أن يجيب به علماء المدينة فطرح ابن بلهيد-

يومذاك- سؤالًا قال فيه:

______________________________

(1). زاد المعاد: 661.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 201

«ما قول علماء المدينة المنورة زادهم اللَّه فهماً و علماً في البناء على القبور و اتّخذاها مساجد؛ هل هو جائز أو لا؟ و اذا كان غير جائز بل ممنوع منهيّ عنه نهياً شديداً «1» فهل يجب هدمها و منع الصلاة عندها؟» «2».

و بما أنّ البحث هنا مركّز على دراسة هذه المسائل في ضوء القرآن الكريم، فإنّنا نطرح هذه المسألة على الكتاب الإلهي العزيز لنرى ما هو الجواب الصحيح فيها.

و إليك ما نستفيده في هذا المجال من القرآن الكريم:

1- يظهر من بعض الآيات أنّ أهل الشرائع السماوية كانوا يبنون المساجد على قبور أوليائهم أو عندها و لأجل ذلك لما كشف أمر أصحاب الكهف تنازع الواقفون على آثارهم فمنهم من قال و هم المشركون:

«ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ»

و قال الآخرون و هم المسلمون:

«لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً» (الكهف- 21).

قال الزمخشري في تفسير قوله: «ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً»: أي ابنوا على باب كهفهم لئلّا يتطرق إليهم الناس ضناً بتربتهم و محافظة عليها كما حفظت تربة رسول اللَّه بالحظيرة.

و قال في تفسير قوله: «قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً»: أي قال المسلمون و كانوا أولى بهم و بالبناء عليهم: لنتّخذن على باب الكهف مسجداً، يصلّي فيه المسلمون و يتبرّكون بمكانهم «3».

______________________________

(1). أنظر إلى الجواب الذي يمليه المستفتي على علماء الدين الذين عليهم أن يفتوا وفقه!!!

(2). جريدة أُم القرى العدد: 17 من أعلام: 14.

(3). الكشاف: 2/ 254.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 202

و قال في تفسير الجلالين: فقالوا- أي الكفّار-: ابنوا عليهم- أي حولهم- بنياناً يسترهم، ربّهم أعلم بهم «قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ»: أمر الفتية و هم

المؤمنون: «لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ»- حولهم- «مَسْجِداً» يصلى فيه) «1».

و على الجملة فقد اتفق المفسّرون على أن القائل ببناء المسجد على قبورهم كان هم المسلمون و لم ينقل القرآن هذه الكلمة منهم إلّا لنقتدي بهم و نتّخذهم في ذلك أُسوة.

و لو كان بناء المسجد على قبورهم أو قبور سائر الأولياء أمراً محرّماً لتعرّض عند نقل قولهم بالرد و النقد لئلّا يضل الجاهل.

و أمّا ما روي عن النبيّ من قوله: لعن اللَّه اليهود و النصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد «2» فالمراد منه هو السجود على قبور الأنبياء و اتّخاذها قبلة في الصلاة و غيرها و المسلمون بريئون عن ذلك، و قد أوضحه القسطلاني في كتابه إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري.

إنّ قبور الأنبياء المنتشرة حول بيت المقدس كقبر داود عليه السلام في القدس و قبور إبراهيم، و بنيه إسحاق و يعقوب و يوسف الذي نقله موسى من مصر إلى بيت المقدس في بلد الخليل، كلّها مبنية مشيّدة قد بني عليها بالحجارة العادية العظيمة من قبل الإسلام، و بقي ذلك بعد الفتح الإسلامي الى اليوم.

غير أنّ ابن تيمية اعتذر عن ذلك في كتابه: «الصراط المستقيم» بأنّ البناء الذي كان على قبر إبراهيم الخليل عليه السلام كان موجوداً في زمن الفتوح، و زمن الصحابة إلّا أنّ باب ذلك البناء كان مسدوداً إلى سنة 400 ه.

و لكن هذا الكلام لا يفيده أبداً و لا يضرنا؛ فانّ «عمر» لما فتح بيت المقدس

______________________________

(1). تفسير الجلالين: 2/ 3.

(2). صحيح البخاري: 2/ 111، كتاب الجنائز.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 203

رأى ذلك البناء و مع ذلك لم يهدمه. و سواء أصح قول ابن تيمية أنّه كان مسدوداً إلى عام 400 أم لم يصح يدل

على عدم حرمة البناء على القبور، و قد مضت على هذا البناء الأعصار و الدهور، و توالت عليها القرون، و دول الإسلام، و لم يسمع عن أحد من العلماء و الصلحاء و أهل الدين و غيرهم قبل الوهابية أنّه أنكر ذلك و أمر بهدمه أو حرّمه، أو فاه في ذلك ببنت شفة على كثرة ما يرد من الزوار و المتردّدين من جميع أقطار المعمورة.

هذا مضافاً إلى أنّه قد دفن النبي في حجرة بيته و دفن فيها صاحباه و لا فرق بين البناء السابق و اللاحق، و لم يقل أحد بالفرق بين البناء السابق و اللاحق كمالا يخفى

و في تاريخ بناء الحرم النبوي ما يفيدك في هذا المجال، جداً، فلاحظ.

الوهابية و رواية ابن الهيّاج:

هذا و في الختام نشير إلى ما اتّخذه الوهابيون ذريعة لهدم القبور و هو ما رواه مسلم في صحيحه إذ قال: حدثنا يحيى بن يحيى و أبو بكر بن أبي شيبة و زهير بن حرب، قال يحيى أخبرنا، و قال الآخران: حدّثنا وكيع عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل، عن أبي الهيّاج الأسدي قال: قال لي عليّ بن أبي طالب: أ لا أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم أن لا تدع تمثالًا إلّا طمسته، و لا قبراً مشرفاً إلّا سوّيته» «1».

فقد استدل الوهابيون بقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «و لا قبراً مشرفاً إلّا سوَّيته» على لزوم هدم

______________________________

(1). صحيح مسلم: 3/ 61 كتاب الجنائز؛ و سنن الترمذي: 2/ 256، باب ما جاء في تسوية القبر؛ سنن النسائي: 4/ 88، باب تسوية القبر.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 204

القبور و تسويتها

بالأرض.

بيد أنّ الاستدلال بالحديث المذكور يتوقف على أمرين:

1- أن يكون السند صحيحاً و رواته موثوق بهم.

2- دلالة الحديث على المراد.

و لكن الحديث مخدوش من جانبين:

أمّا السند ففيه أشخاص لا يصح الاحتجاج بأحاديثهم و هم عبارة عن:

1- وكيع.

2- سفيان الثوري.

3- حبيب بن أبي ثابت.

4- الوائل الأسدي.

و أما وكيع فقد قال الإمام أحمد بن حنبل عنه أنّه «أخطأ في خمسمائة حديث» «1».

كما نقل عن محمد بن المروزي أنّه (أي وكيع) كان يحدّث بالمعنى و لم يكن من أهل اللسان أي لم يرو الأحاديث بنصوصها و ألفاظها كما أنّه لم يكن عارفاً باللغة العربية «2».

و أمّا سفيان الثوري فقد نقل عن ابن مبارك أنّه قال: حدّث سفيانُ بحديث فجئته و هو يدلّسه فلمّا رآني استحيا «3».

و قد نقل في ترجمة يحيى بن القطان عنه أنّه قال كان سفيان يحاول أن يوثق لي

______________________________

(1). تهذيب التهذيب: 11/ 125.

(2). المصدر نفسه: 11/ 130.

(3). المصدر نفسه: 4/ 115.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 205

شخصاً غير ثقة فلم يستطع «1».

و أمّا حبيب بن أبي ثابت فقد نقل عن أبي حبان أنّه: كان مدلساً «2».

كما نقل عن عطا أنّه قال عنه: لا يتابع عليه و ليست محفوظة «3».

و أما وائل فيقال عنه أنّه كان مبغضاً لعلي عليه السلام.

هذا حال السند.

و أمّا الأمر الثاني (أعني دلالة الحديث) فلا بدّ من الدقة في اللفظتين الواردتين فيه و هما «مشرفاً» و «سوَّيته».

أمّا المشرف فالمراد منه هو المكان العالي المطلّ على غيره «4».

و قد جاء في القاموس: الشرف- محرّكةً-: العلوّ، و من البعير سنامه «5».

و أمّا التسوية فيراد منها تسوية المعوج يقال سوّى الشي ء: جعله سوياً، و يقال: سويت المعوج فما استوى صنعه مستوياً.

و جاء في القرآن

الكريم:

«الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى» (الأعلى 2)

و على ذلك فمن القريب أن يكون معنى سوّيته تسوية القبر بتسطيح سنامها لا هدم القبر من أساسه. و هذا هو مذهب جماعة منهم الشافعي؛ حيث جاء في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة: «و يندب ارتفاع التراب فوق القبر بقدر

______________________________

(1). تهذيب التهذيب: 11/ 218.

(2). المصدر نفسه: 3/ 179.

(3). الشرح الحديدي.

(4). المنجد «مادة شرف».

(5). القاموس «مادة شرف».

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 206

شبر» «1» و جاء أيضاً: و يجعل كسنام البعير، و قال الشافعي: جعل التراب مستوياً أفضل من تسنيمه «2».

فهذا الحديث يؤيد مذهب الشافعي و عليه الشيعة الإمامية أيضاً.

و من الجدير بالانتباه أنّ مسلم صاحب الصحيح أورد هذا الحديث تحت عنوان «باب الأمر بتسوية القبر» لا تحت عنوان «الأمر بتخريب القبور و هدمها» «3».

و يؤيد ذلك أنّ مسلم نقل في صحيحه ما يؤيد ما استظهرناه من الحديث المذكور من المعنى قال- بعد ذكر جملة من الرواة-: قال ثمامة بن شُفيّ: كنّا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودِسَ فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوي ثمّ قال: سمعت رسول اللَّه يأمر بتسويتها.

و لا شك أنّ المراد من التسوية ليس جعلها و الأرض سواء، لأنّ ذلك خلاف السنّة القطعية التي تقضي بأن يرتفع القبر عن الأرض بشبر واحد، فيكون المراد أن يسطح سنامها، و لهذا جاء في عبارة النووي عند تفسير الحديث المذكور في صحيح مسلم «و لا يُسَنَّم بل يُرفَع نحو شبر و يسطَّح» «4».

و لم ننفرد نحن بهذا التفسير للحديث بل ذهب إليه ابن حجر القسطلاني في كتابه «إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري» «5» إذ قال- بعد أن ذكر أنّ السنّة هي تسطيح القبر و أنّه لا

ينبغي ترك التسطيح مخالفة للشيعة-: «لأنّه لم يُرِدْ تسويتَه

______________________________

(1). الفقه على المذاهب الأربعة: 1/ 420.

(2). المصدر نفسه: 1/ 420.

(3). صحيح مسلم: 3/ 61، كتاب الجنائز.

(4). شرح صحيح مسلم للنووي 7/ 36.

(5). إرشاد الساري: 2/ 468.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 207

بالأرض و إنّما أراد تسطيحه جمعاً بين الأخبار».

و أخيراً لم يرد في حديثه صلى الله عليه و آله و سلم بل قال: «و لا قبراً إلّا سويته و لا بناءً مبنياً على القبر و لا قبّة إلّا سويتها»، فإذن المراد ليس إلّا ما ذكرناه من عدم جعل نفس القبر مسنّماً، و أمّا البناء فوق القبر فليس بمقصود و ليس هناك ما يدل من الحديث على عدم جواز البناء على القبور، بل السيرة العملية للمسلمين على خلافه كما عرفت.

و حتى لو فرضنا أنّ المراد من التسوية هو تخريب القباب و الأبنية المقامة على القبور، فمن المحتمل جدّاً أن يكون المراد هو قبور المشركين المقدّسين- آنذاك- من قبل الوثنيين و أهل الشرك، إذ كانت تلك القبور بعد ظهور الإسلام متروكة على حالها، و يؤيد هذا أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم بعث عليّاً عليه السلام لمحو الصور و هدم التماثيل الموجودة في أطراف المدينة أو غيرها، و ليست هذه التماثيل و الصور، إلّا الأصنام و الأوثان التي كانت تعبد حتى بعد ظهور الإسلام.

و على هذا فأيّ ارتباط لهذا الحديث بقبور الأنبياء و الأولياء و الصالحين؟

2- قال اللَّه الكريم:

«فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ* رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ

الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ» (النور: 36- 37).

الاستدلال بهذه الآيات على جواز البناء على القبور يتوقف على أمرين:

1- ما هو المراد من هذه البيوت؟

2- ما المراد من رفعها؟

أمّا الأمر الأوّل فقد روي عن ابن عباس أنّ المراد بها هي المساجد؛ تكرّمُ و ينهى عن اللغو فيها، و يذكر فيها اسمه.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 208

غير أنّه يجب علينا- في المقام- التأمّل في هذا التفسير، حيث إنّ الظاهر أنّ تفسير ابن عباس للبيوت بالمساجد بيان لأحد المصاديق، لا المصداق المنحصر، و كم لهذا التفسير من نظير، في غير هذا المقام.

بل يمكن أن يقال: إنّ «البيوت» غير المساجد، لأنّ المساجد يستحبّ أن تكون عمارتها مكشوفة غير مسقّفة، و أفضل الأربعة «المسجد الحرام» و نراه بالحسّ و العيان قد بني مكشوفاً، و البيت لا يُطلق حقيقة على المكان المكشوف، بل هو عبارة عن المكان الذي يكون له سقف و ظهر، قال تعالى:

«لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ» (الزخرف- 33).

و قال:

«وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها» (البقرة- 189).

و هذا واضح بملاحظة العرف أيضاً، فإنّه يطلق على بيوت الأعراب و على خيامهم الموجودة في البادية و لا يطلق على نفس البادية لكونها مكشوفة بخلاف الخيام فإنّها مسقفة، و لأجل ما ذكرناه لا تكاد تجد في القرآن الكريم موضعاً أُطلق فيه البيت على المسجد، بخلاف الكعبة فإنّها حيث كانت مسقّفة أُطلق عليها البيت في مواضع شتى

قال سبحانه:

«طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ» (البقرة- 125).

و قال سبحانه:

«جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ» (المائدة- 97).

و قال سبحانه:

«ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ» (الحج- 33).

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 209

و على ذلك فالمراد بها غير المساجد بل البيوت المشرّفة التي أذن اللَّه

أن تُرفع، و يُذكر فيها اسمه، و بيوت الأنبياء و الأولياء من أوضح مصاديقها لِما خَصَّ اللَّه هذه البيوت و أهاليها بمزيد الشرف، و الكرامة فقد قال اللَّه عن البيت النبوي و أهله:

«إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» (الأحزاب- 33).

و هذا البيت نظير بيت إبراهيم حيث قالت الملائكة في شأنه لامرأة إبراهيم:

«أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» (هود- 73).

و لأجل ذلك نرى العلّامة السيوطي بعد نقل قول ابن عباس نقل عن مجاهد قوله: إنّ المراد؛ هي بيوت النبي.

و أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك و بريدة أنّه قال: قرأ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم هذه الآية، فقام إليه رجل فقال: أيّ بيوت هذه يا رسول اللَّه؟

قال: بيوت الأنبياء، فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول اللَّه هذا البيت منها؟ (يعني بيت عليّ و فاطمة) قال: نعم من أفاضلها «1».

هذا عن الأمر الأوّل.

و أمّا المراد من الرفع (هو الأمر الثاني) فهو يحتمل أحد معنيين:

أ): أذن اللَّه أن ترفع تلك البيوت بالبناء و العمارة للعبادة التي وردت في نفس الآية من ذكر اسمه تعالى فيها، و التسبيح فيها بالغدوّ و الآصال.

و يدل على ذلك قوله سبحانه:

______________________________

(1). الدر المنثور في التفسير بالمأثور: 5/ 50 في تفسير الآية.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 210

«وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ» (البقرة- 127).

فالظاهر هو أنّ المراد من «الرفع» في كلا المقامين واحد، و هو بناؤها و عمارتها- البيوت- و إعلاؤها.

ب): إنّ المراد من الرفع هو تعظيمها و توقيرها.

فلو كان المراد هو الأوّل لكان نصّاً صريحاً في المطلوب (و هو

البناء على القبور التي في بيوتهم).

و لو كان المراد الثاني كان نصّاً في توقيره و تعظيمه و تكريمه، و من المعلوم أنّ عمارة البيت و صونه عن الخراب بتعميره و تجديد بنائه، و فرشه بالسجاجيد و الإسراج فيه و تزيينه بغير ما نهى اللَّه عنه، و الدفاع عن قصد تخريبه و هدمه، توقيراً و تعظيماً له كما يكون ستر الكعبة المعظّمة بالأستار الثمينة تعظيماً لها عرفاً.

كل ذلك تكريماً للنبي و تعظيماً له حتى تتحقّق- بها أيضاً- الغايات التي ذكرتها الآية، (من ذكر اسم اللَّه و التسبيح له بالغدوّ و الآصال).

3- البناء على القبور تعظيم للشعائر، و قد قال اللَّه تعالى:

«وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ» (الحج- 32).

و الشعائر جمع شعيرة بمعنى العلامة، و ليس المراد منه علائم وجوده سبحانه لأنّ العالَم برمّته علائم وجوده بل علائم دينه، و لأجل ذلك فسّره المفسّرون بمعالم الدين، و اللَّه يصف «الصفا و المروة» بأنّهما من شعائر اللَّه إذ يقول:

«إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ» (البقرة- 158).

و يقول:

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 211

«وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ» (الحج- 36).

و يقول:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ» (المائدة- 2).

و ليس المراد إلّا كونها علامات دينه ..

فإذا وجب تعظيم شعائر اللَّه بتصريح القرآن معلّلًا بأنّها من تقوى القلوب جاز تعظيم الأنبياء و الأولياء باعتبارهم أعظم آية لدين اللَّه و أعظم تعظيم و أفضل تكريم. فهم الذين بلّغوا دين اللَّه إلى البشرية فيكون حفظ قبورهم و أضرحتهم و آثارهم عن الاندراس و الاندثار خير تكريم و تعظيم لهم.

و إن شئت قلت: إنّ تعظيم كل شي ء بحسبه، فتعظيم الكعبة يكون بسترها بالأستار، و تعظيم البُدن

الذي هو من شعائر اللَّه بالمواظبة على إبلاغها إلى محلّها و ترك الركوب عليها و تعليفها، و تعظيم الأنبياء و الأولياء في حياتهم بنحو و بعد وفاتهم بنحو آخر.

فكل ما يعدّ تعظيماً و تكريماً يجوز بنص هذه الآية من غير شك و لا شبهة.

و ورود الآية في مشاعر الحج و شعائره لا يكون دليلًا على اختصاصها بها فإنّ قوله تعالى «وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ» ضابطة كلية و مبدأ هام، ينطبق على مصاديقه و أفراده و جزئياته الكثيرة.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 212

المسائل العشر

8 زيارة القبور

اتّفق المسلمون على جواز زيارة القبور، و يظهر وجه ذلك لمن راجع الكتب الفقهية و الحديثية، و لا نطيل المقام بذكر الأحاديث المتضافرة الواردة في هذا المجال.

و يكفي في ذلك ما أفتى به أئمة المذاهب الأربعة حيث جاء في كتاب «الفقه على المذاهب الأربعة» ما يلي:

«زيارة القبور مندوبة للاتّعاظ و تذكّر الآخرة، و تتأكد يوم الجمعة و يوماً قبلها و يوماً بعدها.

و ينبغي للزائر الانشغال بالدعاء و التضرّع و الاعتبار بالموتى و قراءة القرآن للميت فإنّ ذلك ينفع الميت على الأصح- إلى أن قال:- و لا فرق في الزيارة بين كون المقابر قريبة أو بعيدة، بل يندب السفر لزيارة الموتى خصوصاً مقابر الصالحين، و أمّا زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فهي من أعظم القرَب» «1».

و من أراد الوقوف على الروايات الواردة في هذا المورد فليراجع كتب الحديث من الصحاح و السنن.

______________________________

(1). الفقه على المذاهب الأربعة: 1/ 424- 425، آخر كتاب الصلاة.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 213

و من جملة هذه الروايات قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم:

«قد كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور

فقد أُذن لمحمد في زيارة قبر أُمّه فزوروها فإنّها تذكّر بالآخرة».

رواه الخمسة إلّا البخاري و اللفظ للترمذي.

و لا تنحصر الروايات الواردة في هذا المجال بهذا بل هناك روايات متضافرة جمعها العلّامة السمهودي في كتابه «وفاء الوفا» «1».

غير أنّنا نريد هنا أن نستدل لجواز هذا العمل بنفس الكتاب العزيز فنقول:

إنّ اللَّه سبحانه نهى نبيّه عن الوقوف على قبور المشركين و الصلاة عليهم إذ قال:

«وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ» (التوبة- 84).

فالآية الكريمة تنهى عن الوقوف على قبر المنافق و المشرك و الصلاة عليه كما تدل عن طريق المفهوم؛ على أنّ القيام عند قبور المؤمنين و الدعاء لهم، و الصلاة عليهم كان من سيرة النبي صلى الله عليه و آله و سلم و ليس المراد بالقيام هو خصوص القيام عند الدفن حتى لا يشمل القيام للزيارة لعدم الدليل على التقييد و اللفظ مطلق.

و لأنّ المعنى بحكم واو العطف: لا تقم على قبره أبداً يعني في جميع الأزمان فيشمل ما بعد الدفن أيضاً، كما إذا قيل: ما جاءني زيد قط و لا عمرو، أو قيل: لا تطعم زيداً أبداً و لا تسقه و هذا واضح.

و لعلّه لما ذكرنا فسّره في «الجلالين» بقوله «لدفن» أو «لزيارة».

ليس المراد من الصلاة خصوص صلاة الميت، إذ لو أُريد ذلك لم يكن وجه لقوله «أبداً» ضرورة أنّ الصلاة على الميت تجب مرة واحدة، و لا تتكرر حتى يقول

______________________________

(1). وفاء الوفا: 2/ 3903- 3904.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 214

أبداً، و ليس المراد إفادة الاستغراق الافرادي و بيان شمول الحكم لجميع أفراد المنافقين، لسبق الدلالة على ذلك بقوله «على أحد منهم» و لأنّ ظاهر لفظ «أبداً»

هو بيان استمرار الحكم في الأزمان، لا الاستغراق في الافراد. قال تعالى:

«وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً ..» (الأحزاب- 53)

يعني و لو بعد عشر سنين أو عشرين سنة، إلى آخر الأبد؛ فدلّ على أنّ المراد بالصلاة، مطلق طلب الرحمة الذي يكرر في مدة العمر لا خصوص صلاة الميت، نعم هي أيضاً داخلة في عموم الآية و هو واضح.

فإذا كان ذلك من سيرة النبي صلى الله عليه و آله و سلم بدلالة القرآن فكيف يكون بدعة؟ بل يكون حينئذ سنّة، و قال تعالى:

«لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» (الأحزاب- 21).

و قال:

«قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ» (آل عمران- 31).

فإذا استحبت زيارة قبر المؤمن- أعني القيام عند قبره- لسيرة النبي فكيف بقبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم و قبور الأئمة عليهم السلام و هم أركان الدين و رؤساء المؤمنين و أكملهم و أفضلهم و سادتهم أجمعين.

و في الختام نشير إلى ما تمسَّكَ به الوهابيون لمنع شدّ الرحال إلى زيارة القبور فقد استدلّوا بما رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال:

«لا تُشد الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، و مسجد النبي، و المسجد الأقصى .

فقد قال عبد اللّه بن محمد بن عبد الوهاب: «و تسنُّ زيارة النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلّا أنّه لا يُشد الرحل إلّا لزيارة المسجد، و الصلاة فيه، و إذا قصد مع ذلك الزيارة

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 215

فلا بأس» «1».

و الحق أنّ الحديث الذي تمسّك به الوهابيون لا يدل على حرمة شدّ الرحل إلى زيارة القبور، و الأماكن و المشاهد

المشرفة، و ذلك لأنّ الاستثناء الوارد في الحديث مفرَّغ قد حذف فيه المستثنى منه، فكما يمكن أن يكون تقدير المستثنى منه: «لا تشد الرحال إلى مكان من الأمكنة» يمكن أن يكون تقديره: «لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد».

و لكن المتعيّن هو الثاني لكون الاستثناء متصلًا و هو يقتضي تقدير «المسجد» بعنوان المستثنى منه، لا غيره.

إنَّ الضرورة قاضية بجواز شدّ الرحال إلى طلب التجارة، و إلى طلب العلم، و إلى الجهاد، و زيارة العلماء و الصلحاء، و إلى التداوي و النزهة، و أنّ المسلمين في مواسم الحج يشدّون الرحال إلى عرفة و المزدلفة و منى، و إلى أماكن كثيرة، و مع ذلك فكيف يمكن أن يُقال: إنّ المراد هو «لا تُشَدُّ الرحال الى مكان من الأمكنة إلّا إلى هذه الثلاث»؟!.

و الحاصل أنّه لا يشك من عنده أدنى معرفة باللغة و التراكيب العربية في أنّ المراد بقوله «لا تُشدُّ الرحال» أي لا ينبغي أن يسافر المرء إلى مسجدٍ غير هذه المساجد لا أنّه لا يسافر إلى مكان مطلقاً.

هذا مضمون الحديث و معناه و مع ذلك لا يُفهم من هذا الحديث و أشباهه حرمة السفر إلى باقي المساجد، بل هي ظاهرة في أفضلية هذه المساجد على ما عداها بحيث بلغ فضلها أن تستحق شد الرحال و السفر إليها للصلاة فيها.

و أمّا سائر المساجد فليس لها هذا الشأن، لأنّ المترقّب من الثواب حاصل

______________________________

(1). الرسالة الثانية من الرسائل الموسومة ب «الهدية السنية».

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 216

من التوجّه إلى كلّ مسجد، فإنّ سائر المساجد إمّا مسجد الجامع، أو مسجد السوق أو مسجد المحلّة فلكل واحد من هذه المساجد نظير في بلد المرء فلا ينبغي أن يشد إليها

الرحال في البلاد الأُخرى ما دامت تتساوى في الفضيلة، نعم ما يترتب على الصلاة في هذه المساجد الثلاثة لا يترتب على الصلاة في سائر المساجد و لذلك يستحب شدّ الرحال إليها.

فتلخّص أوّلًا أنّ معنى الحديث هو عدم شدّ الرحال إلى مسجد من المساجد لا إلى مكان من الأمكنة و لا إلى قبر.

هذا أوّلًا و نقول ثانياً: إنّ النهي عن شد الرحال إلى سائر المساجد دون الثلاثة ليس نهياً إلزامياً، بل هو للإرشاد إلى عدم ترتّب ثواب وافر على التوجه إلى سائر المساجد.

و يدل على ذلك أنّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم كان يشد الرحال إلى غير المساجد المذكورة في الحديث كما في صحيح البخاري:

ففي باب إتيان مسجد قبا راكباً و ماشياً عن ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم يأتي قباء راكباً و ماشياً «1».

و في باب من أتى مسجد قباء كل سبت؛ عن ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم يأتي مسجد قباء كلَّ سبت ماشياً و راكباً و كان عبد اللّه (بن عمر) يفعله «2».

و في باب مسجد قباء عن ابن عمر أنّه كان يحدّث أنّ رسول اللَّه يزوره راكباً و ماشياً «3».

______________________________

(1). صحيح البخاري: 2/ 61.

(2). المصدر نفسه: 2/ 61.

(3). المصدر نفسه: 2/ 61.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 217

فهذا هو الإمام البخاري يروي لنا أنّ النبي كان يشدّ الرحال إلى مسجد «قباء» في كل سبت؛ أو ليس هذا دليلًا على جواز شدّ الرحال إلى غير هذه الثلاثة من المساجد و الأماكن.

و بما أنّه ربّما تترتب على زيارة سائر المساجد مصالح خاصّة و انّ مثلها موجودة في محل الراحل،

يكون الرحيل إليها أيضاً أمراً مستحسناً بالعرض.

أو ليس صحيح البخاري أجمع و أصح كتاب عند أهل السنة؟ و أين قول العلّامة السيوطي في حقّه:

فما من صحيح كالبخاري جامعاًو لا مسند يلفى كمسند أحمد

فلما ذا تركوه وراءهم ظهرياً و آمنوا ببعضه دون بعض.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 218

المسائل العشر

9 الصلاة عند القبور

يقول ابن تيمية في رسالة «زيارة القبور»: «لم يذكر أحد من أئمة السلف أنّ الصلاة عند القبور و في مشاهدها مستحبة، و لا أنّ الصلاة و الدعاء أفضل منها في غيرها، بل اتفقوا كلّهم على أنّ الصلاة في المساجد و البيوت أفضل منها عند قبور الأنبياء» «1».

هذا كلام ابن تيمية و من حذا حذوه من الوهابية؛ فنقول:

إنّ ما دلَّ على جواز الصلاة و الدعاء في كل مكان يدل بإطلاقه على جواز الصلاة، و الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم و قبور سائر الأنبياء و الصالحين أيضاً، و لا يشك في الجواز من له أدنى إلمام بالكتاب و السنّة، و إنّما الكلام هو في رجحانها عند قبورهم فنقول في هذا المجال:

إنّ إقامة الصلاة عند تلك القبور لأجل التبرّك بمن دفن فيها و هذه الأمكنة مشرفة بهم و قد تحقّق شرف المكان بالمكين، و ليست الصلاة- في الحقيقة- إلّا للَّه تعالى لا للقبر و لا لصاحبه، كما أنّ الصلاة في المسجد هي للَّه أيضاً، و إنّما تكتسب الفضيلة بإقامتها هنا لشرف المكان، لا أنّها عبادة للمسجد، فالمسلمون يصلّون عند قبور من تشرفت بمن دفن فيها لتنالهم بركة أصحابها الذين جعلهم اللَّه

______________________________

(1). زيارة القبور: 159- 160.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 219

مباركين، كما يصلّون عند المقام الذي هو «حَجَر» شُرّف بملامسة قدمي

إبراهيم الخليل لها.

قال سبحانه:

«وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ...» (البقرة- 125).

فليس لاتخاذ المصلّى عند ذلك المقام الشريف سبب إلّا التبرّك بقيام إبراهيم عليه السلام عليه، و هم يدعون اللَّه عند القبور لشرفها بمن دُفِن فيها فيكون دعاؤهم عندها أرجى للإجابة و أقرب للاستجابة، كالدعاء في المسجد أو الكعبة أو أحد الأمكنة، أو الأزمنة التي شرفها اللَّه تعالى.

و الحاصل أنّه يكفي في جواز الصلاة الإطلاقات و العمومات الدالّة على أنّ الأرض جُعِلت لأُمة محمد مسجداً و طهوراً.

و أما الرجحان فللتبرّك بالمكان المدفون فيه النبي أو الولي ذي الجاه عند اللَّه، كالتبرّك بمقام إبراهيم.

أ فلا يكون المكان الذي بورك بضمّه لجسد النبي الطاهر، مباركاً، مستحقاً لأن تستحب عنده الصلاة و تندب عبادة اللَّه فيه.

و العجب أنّ ابن القيم جاء في كتابه «زاد المعاد» بما يخالف عقيدته، و عقيدة أُستاذه ابن تيمية إذ قال:

«إنّ عاقبة صبر هاجر و ابنها على البعد و الوحدة، و الغربة و التسليم إلى ذبح الولد آلت إلى ما آلت إليه من جعل آثارهما، و مواطئ أقدامهما مناسك لعبادة المؤمنين، و متعبدات لهم إلى يوم القيامة و هذه سنته تعالى فيمن يريد رفعه من خلقه» «1».

______________________________

(1). زاد المعاد في هَدْي خير العباد، طبعة البابي الحلبي، مصر، مراجعة طه عبد الرءوف طه عام 1390 ه- 1970 م.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 220

فإذا كانت آثار إسماعيل و هاجر لأجل ما مَسَّها من الأذى مستحقة لجعلهما مناسك و متعَبّدات، فآثار أفضل المرسلين، الذي قال: «ما أُوذي نبيّ قط كما أُوذيت» لا تستحق أن يُعبد اللَّهُ فيها، و تكون عبادة اللَّه عندها، و التبرّك بها شركاً و كفراً؟؟

كيف و قد كانت السيدة عائشة ساكنة في الحجرة

التي دُفِن فيها النبي، و بقيت ساكنة فيها بعد دفنه و دفن صاحبيه، و كانت تصلّي فيها، و هل كان عملها هذا عبادة لصاحب القبر يا ترى !

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 221

المسائل العشر

10 الحلف بغير اللَّه سبحانه و إقسامه بمخلوق أو بحقّه عليه

اشارة

لقد منع الوهابيون من الحلف بغير اللَّه تعالى و عَدُّوه شركاً على الإطلاق و هكذا فعلوا بالنسبة إلى إقسام اللَّه بمخلوق من مخلوقاته أو بحقّه عليه.

و إليك الكلام في كلتا المسألتين:

1- الحلف بغير اللَّه سبحانه

و قبل أن نستعرض النصوص الحديثية الدالة على جواز هذا الأمر لا بد أن نعرض المسألة على كتاب اللَّه لنرى هل أنّ اللَّه سبحانه حلف بالمخلوق أو لا؟

إنّ مراجعة آيات القرآن الكريم تفيد أنّ اللَّه حلف بمخلوقه في مواضع كثيرة تقارب الأربعين من حيث المقسم به.

فَحَلَف بالملائكة (الصفات، المرسلات، النازعات، الذاريات).

و بالنبي إذ قال:

«لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ» (الحجر- 72).

(و البروج- 3) و (البلد- 1)

و أقسم بالقرآن (يس: 1- 3) و (الدخان: 1- 3) و (ق: 1- 3) و (الزخرف- 41) و (ص- 1).

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 222

و حلف بالنفس الإنسانية (الشمس: 7- 10) و (القيامة- 2).

و حلف بالنون و القلم (القلم- 1).

و حلف بالكتاب (الطور 2- 3).

و حلف بالافراس العاديات (العاديات- 2).

و حلف بالوالد و ما وَلَد (البلد- 3).

و حلف بالشمس و نورها (الشمس- 1).

و حلف بالسماوات (الذاريات- 7) و (البروج- 1) و (الطارق- 11).

و حلف بالصبح (المدّثر- 34) و (التكوير- 18) (الفجر- 1)؛ و بالتالي حلف بالنهار، و الضحى، و غروب الشمس، و الليل، و ليال عشر، و النجوم و الأرض، و القمر و الرياح، و السحب، و البحر، و السفن، و التين، و الزيتون، و العصر، و الشفع، و الوتر، و بالوجود جميعاً. كما يتّضح من مراجعة الآيات القرآنية في السور المختلفة التي تركنا ذكرها تفصيلًا بعد ذكر نماذج منها.

فهل يمكن أن يكون الحلف بغيره شركاً و قبيحاً، و مع ذلك يصدر من اللَّه سبحانه؟

أ فهل يمكن أن يقع

مثل هذا الحلف في الكتاب العزيز مرات عديدة جداً، و مع ذلك يكون محرماً على غيره، دون أن يذكر اللَّه ذلك التحريم و الحظر في كتابه المجيد؟

و هل يصح أن نقول: إنّ الحلف بالمخلوق من الشرك إذا صدر من المخلوق، و ليس من الشرك إذا صدر من اللَّه الخالق سبحانه، إلّا خطلًا من القول و شططاً من الكلام، لأنّ العمل الواحد من حيث الماهية، و الذات لا يتصور له حالتان، و لا يتلون بلونين متضادين.

و بالجملة إذا كان القرآن قدوة و أُسوة و كان كل ما جاء فيه من القول و العمل

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 223

منهاجاً لجميع المسلمين، فكيف يمكن أن تصدر هذه الأقسام من اللَّه سبحانه و تجوز عليه و لا تجوز على غيره؟ و يكون عين التوحيد تارةً و نفس الشرك أُخرى مع وحدة ماهية العمل و حقيقته.

إنّ الغاية من حلفه سبحانه بمخلوقاته تتردد بين الدعوة إلى التدبر في خلقه و السنن المكنونة في وجوده كما هو الحال في أكثر اقساماته و بين اظهاره كرامته و جلالته عند اللَّه كما هو الحال في الحلف بعمر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم.

هذا بالنسبة إلى كتاب اللَّه تعالى.

و أمّا السنّة الشريفة فقد روى مسلم في صحيحه أنّه: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول اللَّه أيُّ الصدقة أعظم أجراً؟ فقال: أما وَ أبيك لَتُنَبَّأنَّهُ، أن تصدَّق و أنت صحيح شحيح تخشى الفقر «1».

فقد حلف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم بأبي السائل قائلًا «و أبيك».

و روي أيضاً أنّه جاء رجل إلى رسول اللَّه من أهل نجد يسأل عن الإسلام؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و

آله و سلم: «خمس صلوات في اليوم و الليلة»، فقال: هل عليَّ غيرهنّ؟ قال: «لا إلّا أن تطّوع، و صيام شهر رمضان»، فقال: هل عليّ غيره؟ قال: «لا إلّا أن تطّوع»، و ذكر له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم الزكاة فقال: و هل عليَّ غيره؟ قال: «لا، إلّا أن تطّوع»، فأدبر الرجل و هو يقول: و اللَّه لا أزيد على هذا و لا أنقص منه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«أفلح و أبيه إن صدق» أو «دخل الجنة و أبيه إن صدق» «2».

و في حديث آخر في مسند الإمام أحمد بن حنبل أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: «فلعمري لئن تكلّم بمعروف و تنهى عن منكر خير من أن تسكت» «3».

______________________________

(1). صحيح مسلم: 3/ 94.

(2). صحيح مسلم: 1/ 31- 32، باب ما هو الاسلام و بيان خصاله.

(3). مسند أحمد بن حنبل: 5/ 225، و راجع أيضاً مسند أحمد: 5/ 212، سنن ابن ماجة: 4/ 995 و 1/ 225.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 224

و قد أفتى بعض أئمة المذاهب الأربعة بجواز ذلك أيضاً، فقد جاء في «الفقه على المذاهب الاربعة» ما يلي:

«الحنفية قالوا: الحلف بنحو أبيك و لعمرك و نحو ذلك جاز على كراهة.

الشافعية قالوا: يكره الحلف بغير اللَّه تعالى إذا لم يقصد شيئاً ممّا ذكر في أعلى الصحيفة (أي إشراك اللَّه ...).

المالكية قالوا: الحلف بمعظّم شرعاً كالنبي و الكعبة و نحوهما فيه قولان: الحرمة و الكراهة، و المشهور الحرمة.

الحنابلة قالوا: يحرم الحلف بغير اللَّه تعالى و صفاته و لو بنبيّ أو ولي» «1». و على كل تقدير فسواء أجاز الحلف بغيره سبحانه

أم لا، لا يُعَدّ شركاً و لا الحالف مشركاً.

لأنّ الحلف بشي ء لا يدل على أنّ الحالف يعتقد بألوهيته و ربوبيته و أقصى ما يعرف عنه أنّه يعظّمه و يكرمه، و اختلاف الفتيا (الفتاوى يعرف عن أنّ المسألة مختلف فيها، و هل يمكن اتّهام المسلم بالشرك بعمل تضاربت فيه الفتيا؟!

نعم لا ينعقد الحلف بغيره سبحانه و لا يقضى في المحاكم إلّا بالحلف به سبحانه، و هذا لا يعتبر دليلًا على كون الحلف بغيره سبحانه و تعالى، شركاً أو حراماً.

2- الإقسام بمخلوق أو بحقّه:

لقد منع الوهابيون من الإقسام على اللَّه بمخلوق من مخلوقيه، مثل أن يقول السائل: أُقسم عليك بفلان، أو بحق فلان، أو أسألك بفلان أو بحقه، و هو- في نظرهم- نوع من التوسّل.

______________________________

(1). الفقه على المذاهب الأربعة: 2/ 75.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 225

إذن هَلُمَّ معي نحاسب هذا المنع، هل يوافق السيرة العملية للمسلمين أو لا؟

و قبل كل شي ء نقول: إنّ الإقسام بغير الخالق لا يُعد شركاً و لا الحالف، لما عرفت ما قرّرناه من معيار الشرك أو التوحيد، و إنّما الكلام في جوازه و عدمه فنقول:

لا شكَّ أنّ اللَّه سبحانه مدح جماعة بقوله:

«الصَّابِرِينَ وَ الصَّادِقِينَ وَ الْقانِتِينَ وَ الْمُنْفِقِينَ وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ» (آل عمران- 17).

فلو قال الرجل في عدواته و مناجاته: اللّهمّ إنّي أسألك بحق المستغفرين بالأسحار إلّا غفرت لي ذنوبي؛ فهل ارتكب شركاً، و لما ذا يكون عمله هذا شركاً؟ و قد سبق أن عرفت ملاك الشرك في العبادة، و أنّه إنّما يتحقّق عنوان الشرك العبادي إذا كان الداعي يعتقد الألوهية و الربوبية في مَدعُوه فهل- في الصورة التي ذكرناها- يعتقد المتكلم في من يقسم بهم على اللَّه غير ما يصفه اللَّه بهم، إذ يقول

«الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ»؟.

إنّ الشرك و التوحيد لم يناطا بنظرنا فليس متروكاً لنا أن نعدّ عملًا شركاً و آخر توحيداً، و هذا مشركاً، و ذاك موحّداً، فقد عرّف القرآن الميزان الواقعي للشرك و التوحيد في موارد كثيرة، فالمشرك هو من يصفه اللَّه بقوله:

«وَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» (الزمر- 45).

و المشرك هو الذي يصفه القرآن الكريم أيضاً بقوله:

«إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ* وَ يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَتارِكُوا

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 226

آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ» (الصافات: 35- 36).

فهل يصح لنا أن نجعل، المقسمين، بخيرة خلق اللَّه، من هؤلاء الذين وصفهم اللَّه سبحانه في الآيات السابقة.

فاذا تبيّن أنّ الإقسام بأحد على اللَّه ليس بشرك، في ميزان القرآن الكريم، فلنعرض المسألة على الأحاديث الشريفة.

فلقد ورد عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه علّم أعمى أن يقول:

«اللّهمّ إنّي أسألك و أتوجّه إليك بنبيك محمّد نبيّ الرحمة» «1».

كما أنّه روى أبو سعيد الخدري عن النبي أنّه كان يقول:

«اللّهمّ إني أسألك بحقّ السائلين عليك و أسألك بحقّ ممشاي هذا» «2».

يبقى أن نعرف أنّهم يعترضون على هذا الأمر بأنّه ليس لأحد حق على اللَّه، فيقولون: إنّ المسألة بحقّ المخلوق لا يجوز لأنّه لا حقّ للمخلوق على الخالق.

و الجواب: هو أنّ هذا صحيح إلّا إذا جَعَلَ الخالق حقاً للغير على نفسه و قد فعل ذلك إذ قال:

«وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ» (الروم- 47).

و قال:

«وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ» (التوبة- 111).

و قال: «كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ» (يونس- 103).

و قال:

«إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ» (النساء- 17).

______________________________

(1). سنن

ابن ماجة: 1/ 441، مسند أحمد: 4/ 138 و غيرهما.

(2). سنن ابن ماجة: 1/ 262 و 261، مسند أحمد: 3/ 2.

التوحيد و الشرك فى القرآن، ص: 227

و جاء في الحديث:

1- «حق على اللَّه عون من نكح التماس العفاف ممّا حرم اللَّه» «1».

2- قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: «ثلاثة حقٌّ على اللَّه عونهم: الغازي في سبيل اللَّه ...» «2».

3- «أ تدري ما حقّ العباد على اللَّه ...»؟ «3».

فتبيّن من هذا البحث أنّ الحلف بغيره سبحانه و لا إقسامه بمخلوق لا يمتّ إلى الشرك بصلة، بل لا يخرج عن دائرة الإكرام و التبجيل، و ليس كل تعظيم و تكريم- خصوصاً تعظيم من عظّمه اللَّه و تكريم من أكرمه اللَّه- شركاً.

و دلّت الروايات وراء ذلك على جوازه، و إباحته. فما ذا بعد الحق إلّا الضلال.

هذا آخر ما أردنا إيراده في هذه الرسالة حول ميزان التوحيد و الشرك في القرآن الكريم آملين أن ينفع اللَّه به المسلمين و يكون خطوة على طريق وحدتهم و تقارب طوائفهم. و أن يرزقهم اللَّه توحيد الكلمة كما رزقهم كلمة التوحيد.

و آخر دعوانا أن الحمد للَّه رب العالمين

______________________________

(1). الجامع الصغير للسيوطي: 2/ 33.

(2). سنن ابن ماجة: 2/ 841.

(3). النهاية لابن الأثير «مادة حق».

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.