عنوان و نام پديدآور : ميقات الحج : مجله نصف سنويه، تعني بالشوون الثقافيه .....محمد محمدي ري شهري.
مشخصات نشر : [بي جا: بي نا، 1417ق = 1375.
مشخصات ظاهري : 300ص.:نمونه، عكس.
شابك : 5000 ريال
وضعيت فهرست نويسي : فهرست نويسي توصيفي
يادداشت : عربي.
يادداشت : شماره پنج اين مجله بنام ميقات الحج است.
يادداشت : پشت جلد به انگليسي: Mighat al - Haj.
يادداشت : كتابنامه.
شناسه افزوده : محمدي ري شهري، محمد، 1325 -، مدير مسئول
شناسه افزوده : قاضي عسكر، سيدعلي، 1325 -
شماره كتابشناسي ملي : 1542896
ص: 1
يرجى من العلماء و المحققين الأفاضل الذين يرغبون في التعاون مع المجلة أن يراعوا عند إرسال مقالاتهم النقاط التالية:
1- أن تقترن المقالات بذكر المصادر و الهوامش بدقّة و تفصيل.
2- أن لا تتجاوز المقالة 40 صفحة و أن تكون مضروبة على الآلة الكاتبة إن أمكن أوأن تكتب بخط اليد على وجه واحد من كلّ ورقة.
3- أن تكون المادّة المرسلة للنشر في المجلة غير منشورة سابقاً و غير مرسلة للنشر إلى مجلة أخرى.
4- تقوم هيئة التحرير بدارسة و تقييم البحوث و الدراسات المقدمة إلى المجلة، ولها الحقّ في صياغتها و تعديلها بما تراه مناسباً مع مراعاة المضمون والمعنى.
5- يعتمد ترتيب البحوث و المقالات في المجلة على أسس فنيّة و ليس لأسباب أخرى.
6- تعتذر هيئة التحرير عن إعادة المقالات إلى أصحابها سواء أنشرت أم لم تنشر.
7- المقالات و البحوث التي تنشر على صفحات المجلة تمثل وجهات نظر و آراء كتّابها.
8- ترسل جميع البحوث و المقالات على عنوان المجلة في طهران.
9- ترحّب هيئة التحرير في مجلة ميقات الحج بملاحظات القرّاء الكرام و مقترحاتهم.
ص: 2
الله سبحانه وتعالى حكيم، لهذا كان لأفعاله أهداف (1)، نعم، إنّه تبارك وتعالى منزّه عن الهدف أيضاً بسبب غناه الذاتي، إلّا أنّ العالم نفسه له هدفٌ وجوديّ يناله ويبلغه. والهدف الأسمى والكمال النهائي للمخلوق يكمن في صيرورته عبداً لله وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْانسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (2).
ومن الواضح أنّ الله تعالى ليس محتاجاً حتّى يُعبد؛ إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْارْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ (3) فالعبادة- بظاهرها وباطنها- غايةٌ للمخلوق، وليست غاية للخالق الغنيّ المحض.
«الحجّ» مثل سائر العبادات، غاية للخلق، لا للخالق، لأنّه عين الغنى ومحض الكمال، وبذلك يظهر سرّ الكلام الإلهي واضحاً حيث يقول: وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَن اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (4)؛ لأنّ الحجّ عبادة فرضت من الله تعالى على عبيده، وهم الذين يحتاجون لإقامة الحجّ والعمرة، فإذا كفروا- والحال هذه- فعليهم أن يعلموا أنّ الله غير محتاج للعالمين، فكيف يحتاج للخلق من الناس وعبادتهم؟!
العبادة، وسيلة الشهود الوحيدة
هدف الإنس والجنّ في نظام التشريع هو تكاملهم العبادي، وإذا ما فتق الإنسان صاحب الروح العقلي المجرّد، روحَه، فإنّه سوف يصبح هدفاً للكثير من المخلوقات التي تقع دونه، وإن كان الهدف النهائي هو الله سبحانه وتعالى.
إنّ هدف خلق العالم هو اطّلاع الإنسان على علم الله وقدرته العظيمين اللهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَات وَمِنْ الْارْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْامْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْ ء قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْ ء عِلْماً (5)، والعلم الحصولي واليقين الاستدلالي وإن كانا كمالًا علميّاً وهدفاً مقصوداً إلّا أنّهما يعدّان وسيلةً- فقط- مقارنةً بالعلم الحضوري واليقين الشهودي كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوْنّ الْجَحِيمَ* ثُمَّ لَتَرَوْنّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (6)، أي أنّه يمكن الوصول إلى عين اليقين بعلم اليقين.
بناءً عليه، يمكن اعتبار اليقين الشهودي بالمعارف هدفاً نهائيّاً للخلقة، وهذا اليقين الشهودي يعتمد دائماً على العبادة التي هي الوسيلة الوحيدة لشهود السالك وظهور الغيب وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (7)؛ أي أنّه يمكن الوصول إلى عين اليقين بعلم اليقين.
نعم، شكل الاعتماد على العبادة يتناسب في كلّ نشأة مع تلك النشأة، ففي الدُّنيا تعتمد على العبادات التشريعيّة، وفي الآخرة تقوم على باطن تلك العبادات.
إنّ العبادة وإن كانت- بالمعنى الذي ذكرناه- غاية الخلقة، إلّا أنّها في نفسها مقدّمة لليقين، واليقين هو الغاية وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ، والحجّ أيضاً يمثِّل إعداداً لهذا الهدف الرفيع للعبادة، أي اليقين؛ لأنّه نورٌ وبصيرة وشهود، من هنا جاء في الروايات أنّ تارك الحجّ يحشر أعمى، وأنّه أعمى في الدُّنيا وفي الآخرة كذلك وأضلّ (8).
ويُستنتج من الآية الشريفة: اللهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَات وَمِنَ الْارْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْامْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْ ء قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْ ء عِلْماً (9)، أنّ هدف ظهور العالم، أي ظهور الحقّ في مرآة الخلق، هو اطّلاع الإنسان السالك على علم الحقّ وقدرته، وهذا العلم الشهودي يجعل العارف الواصل مظهراً للعليم القدير، بحيث إذا أذِنَ الله تعالى، يمكنه ببسم الله الرحمن الرحيم أن يفعل ما كان يتحقّق في الآخرة بصرف الإرادة ... أن يفعله في الدُّنيا كذلك، وكلّ ما يريد أن يعلمه فإنّه يشاهده.
ص: 3
كشف سبيل سرّ العبادة
إنّ ما يقع داخل إطار عمل الجوارح أو على مستوى خواطر الجوانح، يكون من أحكام العبادات أو من آدابها، وليس أيّ منهما سرّاً للعبادة، فقط ما يقع في مدار شهود العقل النظري وانبعاث العقل العملي .. هو ما يمكن عدّه سرّاً للعبادة.
وكما تجب مراعاة قوانين الفقه الأصغر، دون أن تكفي في نيل أسرار العبادات، فإنّ مراعاة الفقه الأوسط، أي فنّ الأخلاق الشريف، يظلّ لازماً أيضاً، لكنّه أيضاً لا يكفي، بل المطلوب احترام إرشادات الفقه الأكبر، عنيت العرفان النظري والعملي، حيث يُتمكّن من العثور على السبيل لمصدر نزول العبادة عبر الضمير الشاهد والسرّ الطاهر، ليتمّ عبر ذلك إنجاز الأمر من خلال السُبل الإدراكيّة والتحريكيّة للمعبود، كما يشير إلى زاوية من ذلك حديثُ قرب النوافل (1). وهناك لا يكتفي السالك الواصل ببلوغ سرّ العبادة، بل يصبح بنفسه في موقع سرّ المعبود، ومخزن علمه: «هم موضع سرّه، ولجأ أمره، وعيبة علمه، وموئل حُكمه، وكهوف كتبه، وجبال دينه» (2).
حقيقة الإنسان الكامل سرّ العبادات كافّة
ثمَّة علامات لبلوغ سرّ العبادات، وتوضيح ذلك أنّ ما هو شروط الصحّة والقبول الطولي للعبادات- لا الشرط العرضي- يحسب من أسرارها، فمثلًا الطهارة شرط صحّة الصلاة، إلّا أنّ هذا النوع من الاشتراط وإن اشتمل تقدّماً رتبيّاً، إلّا أنّه على مستوى معرفة السرّ يقع في عَرْض العبادات المشروطة والموقوفة، لا في طولها؛ لأنّ الشرط الطولي لقبول الطهارة والصلاة هو الورع والتقوى، قال تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (3).
إنّ قبول التقوى رهن بولاية الإنسان الكامل؛ لأنّ أيّ عبادة- بل تقوى- ليست مقبولةً دون تولّي المعصومين:، حتّى أنّ القبول بولايتهم دون الاعتقاد بولايتهم التكوينيّة التي هي سرّ كونهم ولاةً، هو الآخر غير مقبول (4)؛ لأنّ القبول بولايتهم وإدارتهم- كالصلاة والصوم والزكاة والحجّ و ...- من فروع الدِّين (5)، ولكلّ فرع أصل، يعدّ سرّاً لهذا الفرع، من هنا يُعلم أنّ حقيقة الإنسان الكامل هي سرّ العبادة، وكلّ سالك ينال سرّ العبادة بمقدار بلوغه من الكمال الإنساني، وأكمل البشر هم المعصومون (عليهم السلام) الواصلون للسرّ النهائي للعبادة؛ لهذا كانوا الصراط المستقيم (6)، وميزان الأعمال (7).
وبغية الوصول إلى هذا الهدف السامي، لا مجال سوى بإعمال العقل واليقظة والوعي في مراقبة حرم القلب الآمن؛ فالحكمة لا تحصل دون تدبّر وتعمّق، وصيرورة الإنسان أهل رأي ونظر لا تحصل دون حمل السرّ وطهارة الضمير وصيانة الذات: «الظفر بالحزم، والحزم بإجالة الرأي، والرأي بتحصين الأسرار» (8).
سرّ الحجّ وثمراته
الصورة الباطنيّة للحجّ
لكلّ عبادة بطنٌ وسرّ، وذلك:
أوّلًا: إنّ العبادات امور تحدّث عنها الله سبحانه في كتابه.
ص: 4
ثانياً: لكتاب الله ظاهر وباطن: «... إنّ لكتاب الله ظاهراً وباطناً» (1)، وهذا معناه أنّ كلّ ما جاء في القرآن- ومنه الحجّ- له ظاهر يعرفه الناس، وباطن لا يراه إلّا الشهوديّون والعرفاء، ولا يناله غيرهم.
بعبارة اخرى: كلّ ما أثنى عليه الوحي الإلهي فله ظاهر يتواصل معه الناس بجسدهم وقوالبهم، وباطن يتّصل به الإنسان بالقلب ويناله به.
وتنزل العبادات- ومن بينها الحجّ- حالها حال سائر موجودات العالم الاخرى ... من خزائن الغيب الإلهي: وَإِنْ مِنْ شَيْ ء إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَر مَعْلُوم (2)، وهي كغيرها من الموجودات تنزل إلى واقعيّات متّكئةً على مخازن الغيب، وعليه فمن يعرف هذه الامور العبادية ويعمل بها يصل إلى اصولها وجذورها في مخزن الغيب.
وهناك روايات واردة في الصور الباطنيّة للأعمال العباديّة، وهي تنظر إلى هذه النقطة التي أشرنا إليها، حيث يتعرّف الإنسان في البرزخ الصعودي أو النزولي على تلك الواقعيّات، وطبعاً عدد قليل من الناس يعرفون هذه الحقائق قبل تنزّل الأعمال لهذا العالم (في البرزخ النزولي)، تماماً كما يعرف سائر الناس بعد الموت (في البرزخ الصعودي) حقيقة الصلاة والحجّ والزكاة ويفهمونها، ويرون صورها الملكوتيّة.
وكما يقول الحديث: «إذا مات العبد المؤمن دخل معه في قبره ستةّ صور، فيهنّ صورة أحسنهنّ عن يمينه، واخرى عن يساره، واخرى بين يديه، واخرى خلفه، واخرى عند رجله، وتقف التي هي أحسنهنّ فوق رأسه؛ فإن أتى عن يمينه منعته التي عن يمينه، ثمّ كذلك إلى أن يؤتى من الجهات الستّ، فتقول أحسنهنّ صورةً: ومن أنتم جزاكم الله عنّي خيراً؟ فتقول التي عن يمين العبد: أنا الصلاة، وتقول التي عن يساره: أنا الزكاة، وتقول التي بين يديه: أنا الصيام. وتقول التي خلفه: أنا الحجّ والعمرة. وتقول التي عند رجليه: أنا برّ من وصلت من إخوانك. ثمّ يقلن: مَنْ أنت؟ فأنت أحسننا وجهاً، وأطيبنا ريحاً، وأبهانا هيئة. فتقول: أنا الولاية لآل محمّد صلوات الله عليهم أجمعين» (3).
تدلّ هذه الرواية على أنّ للحجّ صورةً باطنيّة تظهر في صورة ملكوتيّة عندما ينتقل الجميع من عالم المُلك إلى عالم الملكوت، ويسافرون ويهاجرون حيث تتبدّل الدُّنيا إلى آخرة.
ولأماكن الحرم- مكاناً مكاناً- وكذلك لمناسك الحجّ والعمرة، أسرار ورموز، لا تنكشف إلّا لزائرين خاصّين يشاهدون صاحب البيت في المجالي والتمظهرات المختلفة، وينالون اللِّقاء بربّ البيت وشهود الآيات الآفاقيّة والأنفسيّة له، ويمتثلون الحجّ الإبراهيمي والاعتمار الأصيل الحسيني (عليهما السلام).
ويوضح الإمام الصادق (ع) بعض أسرار الحجّ، والتي تشكِّل الوجهة الباطنيّة له، فيقول:
«... ثمّ اغسل بماء التوبة الخالصة ذنوبك، والبس كسوة الصّدق والصفاء والخضوع والخشوع، وأحرم عن كلّ شي ء يمنعك من ذكر الله ويحجبك عن طاعته، ولبِّ بمعنى إجابة صافية خالصة زاكية لله عزَّ وجلَّ في دعوتك، متمسّكاً بالعروة الوثقى. وطف بقلبك مع الملائكة حول العرش كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت. وهرول هرباً من هواك وتبرّياً من جميع حولك وقوّتك. واخرج عن غفلتك وزلّاتك بخروجك من منى، ولا تتمنّ ما لا يحلّ لك ولا تستحقّه. واعترف بالخطايا بعرفات. وجدّد عهدك عند الله بوحدانيّته، وتقرّب إلى الله واتّقه بمزدلفة. واصعد بروحك إلى الملأ الأعلى بصعودك إلى الجبل. واذبح حنجرة الهواء والطمع عند الذبيحة. وارم الشهوات والخساسة والدناءة والأفعال الذميمة عند رمي الجمرات. واحلق العيوب الظاهرة والباطنة بحلق شعرك. وادخل في أمان الله وكنفه وستره وكلاءته من متابعة مرادك بدخولك الحرم. وزُر البيت متحقّقاً لتعظيم صاحبه ومعرفة جلاله وسلطانه. واستلم الحجر رضاءً بقسمته وخضوعاً لعزّته. وودّع ما سواه بطواف الوداع. وأصف روحك وسرّك للقاء الله يوم تلقاه بوقوفك على الصفا. وكُن ذا مروّة من الله نقيّاً أوصافك عند المروة ...
ص: 5
واعلم بأنّ الله تعالى لم يفترض الحجّ ولم يخصّه من جميع الطاعات بالإضافة إلى نفسه بقوله عزّ وجلّ: وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَن اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا (1)، ولا شرع نبيّه (ص) سنّة في خلال المناسك على ترتيب ما شرعه، إلّا للاستعداد والإشارة إلى الموت والقبر والبعث والقيامة ...» (2).
سرّ الحجّ في السير إلى الله
كما كان الحجّ لله ووجوبه منه: وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا (3)، كذلك لابدّ أن يكون امتثاله والقيام به لله أيضاً؛ فإذا أراد شخص الحجّ بقصد السياحة والتجارة وأمثال ذلك فإنّ حجّه هذا ليس له أيّ سرّ من حيث إنّه ليس سيراً إلى الله تعالى، فإنّ أهمّ أسرار الحجّ هو السير إلى الله سبحانه، تماماً كما طبّقت بعض الروايات الآية الكريمة: فَفِرُّوا إِلَى اللهِ (4) على الحجّ (5).
إنّ سفر الحجّ فرار من غير الله إلى الله سبحانه، وحيث الله في كلّ مكان (6)، فليس معنى «السير إلى الله» هو السير المكاني أو الزماني، بل الفرار إلى الله معناه ترك الإنسان ما سوى الله وطلبه لله سبحانه، وعليه فإذا سافر إنسانٌ إلى الحجّ بقصد التجارة أو الشهرة أو ما شابه ذلك، فقد حقّق «الفرار من الله» لا «الفرار إلى الله».
إنّ مسيرة إقامة الحجّ التي تكمن في الانقطاع عمّا سوى الله والهجرة إليه سبحانه، كي يُنال لقاؤه ... كلّها «إلى الله» و «في الله» و «مع الله» و «لله»، من هنا جاء في بعض أدعية الحجّ وأمثاله: «بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله» (7).
زاد سفر الحجّ
لم يرد تعبير «الزاد» في القرآن الكريم سوى في الآية الشريفة: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى (8)، حيث يشتمل صدرها- بل وما قبلها وما بعدها من آيات- على بيان بعض أحكام الحجّ؛ وسرّ المطلب وجود سفر في الحجّ: وَأَذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِر يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجّ عَمِيق (9) وحيث كانت هناك حاجة في السفر للزاد والمؤونة، لذا ذكّر الله سبحانه بذاك السفر الأصلي والأصيل الذي هو الآخرة، فأمر بالتقوى.
إنّ قوله تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى:
أوّلًا: يرشد إلى الطريق، وبدلالته على تعيين الزاد، وهو التقوى، فإنّه يبيّن أنّ المراد هنا هو السلوك إلى الله تعالى، فإنّ الله هو أهل التقوى، كما أنّه أهل الجود والجبروت.
ثانياً: يحذّر الناس بأنّهم جميعاً مسافرون؛ لأنّ التزوّد علامة أنّ الإنسان مسافر.
ثالثاً: يُعلِم بأنّ المسافر من دون زاد لا يمكنه الحركة ولا التقدّم.
رابعاً: يرشد الجميع إلى أنّ أفضل الزاد هو التقوى.
خامساً: يبيّن أنّ الحجّ من أبرز مصاديق التقوى.
سادساً: يذكِّر بأنّ أفضل نوع من أنواع التقوى هو التقوى الإلهيّة، (فَاتَّقُونِ)، فإنّ زاد السالكين الذين ينشأ ورعهم وتقواهم من الخوف من نار جهنّم أو الشوق إلى الجنّة، ينتهي زادهم في وسط الطريق، ولا يصلون إلى لقاء الله في سفر الآخرة؛ لأنّ هدفهم كان الفرار من جهنّم أو الوصول إلى الجنّة، وبعد ذلك يقفون في حركتهم، لأنّهم لا زاد معهم لغيرها.
ص: 6
أمّا تقوى الأحرار التي لا تنشأ من خوف النار ولا طمع الجنّة، وإنّما من محبّة الله سبحانه، فإنّها تستمرّ بهم إلى لقاء الله، فيصلون إليه، لما عندهم من الزاد، فالتقوى التي تنال الله تعالى ليست صفةً منفصلة عن روح المتّقي وذاته، فصاحبها متّق يحظى بلقاء الله.
إنّ سفر الحجّ للزائر الذي وصل للمقصد وعثر على مقصوده في ذلك المقصد ثمّ رجع، هو سفرٌ «من الحقّ إلى الخلق بالحقّ»، وهذا المسافر لديه سفر نفسي إلى جانب السفر الافقي والآفاقي، وهو يدرك أنّ الله تعالى معه: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ (1)، إنّ مثل هذا الزائر يرجع إلى دياره ومعه مضيفه نفسه (2)، بنورانيّة تجعله كأنّه ولد من امّه من جديد «مَن أَمَّ هذا البيت حاجّاً أو معتمراً مبرءاً من الكبر، رجع من ذنوبه كهيئة يوم ولدته امّه» (3)، والناس مكلّفون بزيارة مثل هذا القادم من سفر الحجّ قبل أن يتلوّث حجّه بأيّ معصية أو ذنب، فينالون بذلك من النور الإلهيّ لِحجَّتهِ (4).
تزكية الروح في ضوء معرفة الأسرار
يقع قسم مهمّ من تزكية النفوس في ضوء معرفة أسرار العبادات والأحكام الدينيّة، إنّ تعليم الكتاب والحكمة الوارد في الآية الشريفة: يُعَلِّمُهُم الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ (5)، مفهوم يستوعب العقائد والأخلاق والأعمال العباديّة، كما يستوعب أيضاً القضايا الاقتصاديّة، والسياسيّة، والعسكريّة، وما شابهها، من هنا فالتزكية المذكورة في هذه الآية أتت أيضاً لبيان باطن هذه الامور كافّة، وكما أنّ تزكية أيّ عمل تكون بنيل أسرار ذلك العمل، فإنّ أيّ عمل له سرّ، يكون الاهتمام به أساساً لتزكية الروح.
والحجّ مثله مثل سائر العبادات والآداب والسنن والفرائض، جاء لتهذيب النفس، فمحرّمات الحجّ جاءت لتطهير القوى التي تتورّط أحياناً بالمعاصي والمهلكات. كما أشارت الآية الشريفة: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِى الْحَجِّ) (6)، إلى ثلاثة محرّمات في الحجّ، يتعلّق كلّ واحد منها بتطهير قوّة من القوى الإنسانيّة، ف- (لا رفث) تنظر إلى تطهير القوّة الشهوانيّة، و (لا فسوق) لتطهير القوّة الغضبيّة، و (لا جدال) لتهذيب القوى الفكريّة.
وبطهارة هذه القوى الثلاث تطهر جملة أعمال الإنسان؛ لأنّ أيّ عمل يصدر من الإنسان يرجع بالتحليل الدقيق إلى هذه القوى الثلاث، وتفصيل هذا البحث موكول إلى علم الأخلاق.
والجدير بالذِّكر أنّ أيّ عمل إنّما يصدر من مصدر خاصّ ويحكي عن خصوصيّاته، فالصدر المشروح يصدر عنه عمل خالص ومشروح، غير مبتلى بنقص ولا ملوّث بعيب؛ وعلى هذا الأساس فإنّ زائر بيت الله الحرام، يغدو حجّه خالصاً وخلوصاً ومشروحاً أكثر بتبع درجة معرفته بأسرار الحجّ نفسه؛ لأنّ الخلوص الذي هو معيار الاستفادة من الثواب، وشأنٌ من شؤون العقل العملي، مسبوقٌ بالمعرفة؛ والمعرفة من شؤون العقل النظري، فعلى السالك- في البداية- أن يفهم المراحل العباديّة ويعيها، حتّى يكون لديه في مقابل فهمه ومعرفته إقدامٌ خالص على الفعل.
إذن، فبدون التعرّف على أسرار الأعمال لن يتيسّر طيّ مراحل الإخلاص كاملةً، وهذا الأمر صادق في حقّ التعرّف على أسرار سائر العبادات أيضاً.
وعليه، فعندما يشرع شخص- قبل التعرّف على أسرار الحجّ- بالسفر إلى بيت الله، فحجّه وإن كان يمكن أن يكون صحيحاً بحسب الظاهر، إلّا أنّه بذلك لم يحقّق الحجّ الكامل والمقبول، ولم تكن الضيافة من نصيبه؛ لأنّ روح إقامة الحجّ لم تتعالى عنده بسبب عدم اطّلاعه على أسرار هذه الفريضة.
ص: 7
ولمزيد من التعرّف على أسرار الحجّ، لابدّ من الرجوع إلى عادات وسيرة الحجّاج الصالحين الحقيقيّين؛ أعني المعصومين (عليهم السلام)؛ لوضع حجّهم تحت مجهر المطالعة الدقيقة والتأسّي بهم في ذلك؛ لأنّ هؤلاء كانوا يراعون- مع الآداب والسنن والفرائض والأعمال الظاهريّة للحجّ- العناصر التكوينيّة التي تقوم عليها هذه الأعمال.
ويظلّ استذكار هذا الأمر مفيداً، وهو أنّ سرّ الكثير من العبادات غير مخفيّ ولا مستور عن القائمين بها، إلّا أنّ فهم أسرار مناسك الحجّ يبقى أمراً عسيراً وشاقّاً، فالكثير من أسرار الحجّ يصعب شرحها بالعقل البشري أو لا يتيسّر ذلك أساساً؛ من هنا احتوت مناسك الحجّ عبوديّة محضة وتامّة، منسجمة مع التعبّد الشديد الزائد عن أمثاله في سائر الأحكام الدينيّة، تماماً كما قال رسول الله (ص) عند التلبية: «لبّيك بحجّة حقّاً تعبّداً ورقّاً» (1).
التناغم بين سيرة الحاجّ وسرّ الحجّ
عدّ الله سبحانه الحجّاج والمعتمرين من شعائره؛ فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْىَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً (2)، فالحاجّ عندما يعزم على زيارة البيت يغدو جزءاً من الشعائر الإلهيّة.
نعم، من الواضح أنّ الذي يقصد من سفر الحجّ والعمرة، السياحة والتجارة والشهرة وما شابه ذلك، لا يكون ضمن الحُرمات الإلهيّة.
إنّ الزوّار المدعوين من جانب الحقّ سبحانه واللائقين بالتكريم الإلهي هم الواجدون للشروط والأوصاف الخاصّة، وقد بيّن القرآن الكريم هذه الأوصاف تارةً بنحو العموم، واخرى بذكر مصاديقها.
أمّا الشرائط العامّة فقد ذكرها في العهد الذي عهده إلى باني الكعبة ومساعده- أي إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام)- حين قال: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِى لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (3).
وطبقاً للآية الشريفة: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِن اللهِ وَرِضْوَاناً (4)، فإنّ مصداق «الركّع السجود» الذين أمر الخليل والذبيح (عليهما السلام) بتطهير البيت لضيافتهم، هم الامّة الحقيقيّة لرسول الله (ص)، الذين يملكون- إلى جانب الصلاة والركوع والسجود- الصلابة الإبراهيميّة ضدّ النمروديين ورؤوس الكفر والنفاق والطغيان، كما لديهم رأفة خليل الرحمن بالمسلمين المحرومين في أنحاء العالم الإسلامي.
بناءً عليه، فمَن كان ملوّثاً بالفكر الباطل أو العمل الطالح لن يكون ضيفاً للبيت الطاهر، فليس الساعي وراء الامتيازات والمقامات والمناصب ضيفاً لبيت المساواة والمواساة، وليس عبد الهوى أو عبد المستكبرين والملحدين ضيفاً للبيت العتيق الحرّ، بيت الحرية والأحرار، وليس من لديه مئات الأصنام بضيفٍ على بيت التوحيد، ومن وجّه وجهه للخلف وأدار ظهره للقبلة مصلّياً صلاته لا يكون ضيفاً على قبلة المسلمين، ومن وضع مكان التبرّي من الشرك والنِّفاق والكفر، الولاية لرموز الإلحاد كيف يكون ضيفاً على مطاف العاكفين؟! فليس من يخضع للاستعمار بضيف على بيت الراكعين والساجدين، ليس كلّ حاجّ بعارف لأسرار الحجّ، أو بممتثل للحجّ الكامل، إنّما هم الحافظون للسرّ الإلهي ولمخازن العلوم الربّانية من يطّلع الله على أسراره ليحفظوها، فهم مطّلعون على سرّ الحكم ويصلون لهذا السرّ.
ص: 8
السيرة اللاإنسانية لبعض الحجّاج
تصنع العقائد والأخلاق والأعمال والنيّات حقيقةَ أيّ إنسان، كذلك الحجّ- كما سائر العبادات- يبني الإنسان، بل يتناغم سرّ الحجّ مع سريرة الإنسان، فيبنى على أساس ذلك، وإذا لم يوفّق شخص لبلوغ السرّ، فإنّ صورته تكون صورة الإنسان، إلّا أنّ حقيقته وسيرته ستكونان سيرة الحيوان: «فالصورة صورة إنسان والقلب قلب حيوان» (1).
يقول أبو بصير للإمام الباقر (ع): «ما أكثر الحجيج وأعظم الضجيج! فقال (ع): بل ما أكثر الضجيج وأقلّ الحجيج، أتحبّ أن تعلم صدق ما أقوله، وتراه عياناً؟ فمسح يده على عينيه، ودعا بدعوات فعاد بصيراً، فقال: انظر يا أبا بصير إلى الحجيج. قال: فنظرت فإذا أكثر الناس قردةً وخنازير، والمؤمن بينهم مثل الكوكب اللّامع في الظلماء ...» (2).
وفي حديث آخر: قال عليّ بن الحسين (عليهما السلام)- وهو واقف بعرفات- للزهري: «كم تقدِّر من الناس هاهنا؟» قال: أُقدّر أربعة ألف ألف و [ظ أربعمائة ألف أو] خمسمائة ألف؛ كلّهم حجّاج قصدوا الله بأموالهم ويدعونه بضجيج أصواتهم. فقال له: «يا زهريّ! ما أكثر الضجيح وأقلّ الحجيج»، فقال الزهري: كلّهم حجّاج أفهم قليل؟ فقال: «يا زهريّ! أدن إليَّ وجهك». فأدناه إليه، فمسح بيده وجهه.
ثمّ قال: «انظر». فنظر إلى الناس. فقال الزهري: فرأيت أُولئك الخلق كلّهم قردة لا أرى فيهم إنساناً إلّا في كلّ عشرة ألف واحد من الناس. ثمّ قال لي: «ادنُ يا زهريّ». فدنوت منه فمسح بيده وجهي، ثمّ قال: «انظر». فنظرت إلى الناس. قال الزهريّ: فرأيت اولئك الخلق كلّهم خنازير.
ثمّ قال لي: «ادنُ إليَّ وجهك». فأدنيت منه فمسح بيده وجهي فإذا هم كلّهم ديبة (ذئبة) إلّا تلك الخصائص من الناس النفر اليسير.
فقلت: بأبي وامّي أنت يا ابن رسول الله، قد أدهشتني آياتك وحيّرتني عجائبك. قال: «يا زهريّ! ما الحجيج من هؤلاء إلّا النفر اليسير الذين رأيتهم بين هذا الخلق الجمّ الغفير».
ثمّ قال لي: «امسح يدك على وجهك». ففعلت فعاد اولئك الخلق في عيني اناساً كما كانوا أوّلًا.
ثمّ قال لي: «مَن حجّ ووالى موالينا وهَجَر معادينا ووطّن نفسه على طاعتنا ثمّ حضر هذا الموقف مسلّماً إلى الحجر الأسود ما قلّده الله من أمانتنا (أماناتنا) ووفيّاً بما ألزمه من عهودنا، فذلك هو الحاج والباقون هم من قد رأيتهم.
يا زهريّ! حدّثني أبي عن جدّي رسول الله (ص) أنّه قال: ليس الحاج المنافقون المعاندون لمحمّد وعليّ محبّيهما الموالون لشانئيهما، وإنّما الحاجّ المؤمن المخلصون الموالون لمحمّد وعليّ ومحبّيهما المعادون لشانئيهما. إنّ هؤلاء المؤمنين الموالين لنا المعادين لأعدائنا لتسطع أنوارهم في عرصات القيامة على قدر موالاتهم لنا؛ فمنهم مَن يسطع نوره مسيرة ثلاث مائة ألف سنة وهو جميع مسافة تلك العرصات، ومنهم مَنْ تسطع أنواره إلى مسافات بين ذلك يزيد بعضها على بعض على قدر مراتبهم في موالاتنا ومعاداة أعدائنا يعرفهم أهل العرصات من المسلمين والكافرين بأنّهم الموالون المتولّون المتبرّؤون، يُقال لكلّ واحد منهم: يا وليّ الله! انظر في هذه العرصات إلى كلّ من أسدى إليك في الدُّنيا معروفاً أو نفّس عنك كُرباً أو أغاثك إذ كنت ملهوفاً أو كفَّ عنك عدوّاً أو أحسن إليك في معاملة فأنت شفيعه ...» (3).
طبقاً لحديث آخر عن الإمام السجّاد؛ فإنّ الأشخاص الذين يكون ملكوتهم بصورة إنسان هم المتمسّكون بالقرآن والعترة، والمعتقدون بالوحي والرسالة والولاية، وقد أحاط الدين وأمّن ظاهرهم وباطنهم؛ من هنا كان ظاهرهم وباطنهم إنسانيّاً، أمّا الذين كان باطنهم الفصل بين القرآن والعترة، ويقولون بأنّ الرسول اجتهد في تعيين الإمام بعده، فهو في الحقيقة جحود وإنكار للحقّ، وهو ما يظهر بصورة حيوانيّة.
ص: 9
وقد اتّضح من الرواية المُشار إليها دور الاعتراف بولاية الأئمّة المعصومين (عليهم السلام)، وكذلك إنكارهم، في بناء سلوك الإنسان وحقيقته.
وفي هذا السياق نفسه، يقول سدير الصيرفي: كنتُ مع الصادق 7 في عرفات، فرأيت الحجيج وسمعتُ الضجيح، فتوسّمت وقلتُ في نفسي: أترى هؤلاء كلّهم على الضلال؟ فناداني الصادق 7 فقال: «تأمّل!» فتأمّلتهم، فإذا هم قردة وخنازير (1).
وسرّ هذا الأمر هو ما جاء في الحديث عينه، وهو أنّ الذي يتغافل النصّ الصريح للنبيّ الأكرم (ص) فيما يخصّ خلافة الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) عامداً عالماً، وينكر ذلك، ولا يعتقد بولايتهم، فإنّ حقيقته ليست إنسانيّة.
ونتيجة الكلام أنّه وإن كان من الممكن أن يكون كلّ الحاضرين في مراسم الحجّ زوّاراً لبيت الله الحرام في إحصاء ظاهريّ، إلّا أنّ الكثير منهم لا يحسبون إنساناً من حيث الإحصاء الباطني والحقيقي لهم، على مستوى أسرار الحجّ.
إنّ هذا المشهد الذي رأيناه وإن حصل أن وقع في عرفات، إلّا أنّه يمكن تحقّقه أيضاً في الصفوف الطويلة لصلوات الجماعة التي قد يبلغ العدد فيها أحياناً مبلغاً كبيراً، بحيث لا نجد سوى القليل من المقيمين الحقيقيّين للصلاة.
والجدير ذكره هنا، أنّ هذا البحث وإن ورد في باب الحجّ؛ إلّا أنّ مرجعه إلى سرّ الولاية، لا سرّ الحجّ، اللّهُمَّ إلّا إذا قيل: حيث كانت الولاية مُرخيةً بظلالها على جميع الأعمال والعبادات، لذا فإنّ حقيقتها سوف تظهر تحت عنوان سرّ الأعمال والعبادات، فمن لا يقبل بسرّ الولاية فقدْ فَقَدَ إنسانيّته ولو أدّى الصلاة، والصوم، والزكاة، والحجّ، انطلاقاً من فقدان أعماله السرّ والحقيقة؛ لأنّ سرّ العبادة هو ما يبني الإنسان وينشؤه ويربّيه، ومن لم يبلغ هذا السرّ فلن تكون سريرته إنسانيّة.
الإحرام
الحرم هو الأمن الإلهي وهو أرض الحجّ، ميزةٌ لا يشاركه فيها شي ء، ليس فقط في موسم الحجّ، وإنّما على امتداد العام، حيث لا يمكن الدخول إليه إلّا مع الإحرام. كذلك الحال في عدم حقّ غير المسلم في دخول منطقة التوحيد ومهبط الوحي؛ لأنّ إحرامه غير صحيح، ودخول غير المحرم إلى الحرم ممنوع.
وقد حدّدت لكلّ من يريد الدخول إلى الحرم مواقيت للإحرام؛ يقصد بذلك حفظ حرمة الحرم الذي وجد بالمسجد الحرام والكعبة المشرّفة؛ فالإحرام من الميقات للدخول إلى الحرم مثل صلاة تحيّة المسجد التي وضعت لحفظ كرامة المسجد، مع فارق وهو أنّ تحيّة المسجد مستحبّة، فيما الإحرام لدخول الحرم واجب، ويجب على الحاجّ عند الإحرام أن يقصد أن يحرِّم على نفسه ما حرّمه الله عليه (2)
فبعض الامور تحرم على الإنسان مؤقّتاً وحال الإحرام فقط. مثل قلع الشعر، والنظر في المرآة، والصيد و ... لكن بعضها حرام مطلقاً مثل ما ورد في حديث الشبلي من لزوم ترك تمام المعاصي حال الإحرام.
وعليه فالإحرام في الميقات يعني كأنّك تقول لله: «إلهي! إنّني أتعهّد أن احرِّم على نفسي تمام المحرّمات، وأن أتركها دائماً وإلى الأبد».
ص: 10
حقيقة الإحرام
للإحرام أجزاء ثلاثة واجبة، يتحقّق الإحرام بوجودها، وهي:
1- ارتداء قطعتي لباس من غير المخيط (للرجال).
2- قصد الإحرام للحجّ أو العمرة.
3- التلبية.
إنّ الإحرام كما جاء في الكلام النوراني للإمام السجّاد (ع) يعني مناداة الله: «إلهي! لقد قطعت تعلّقي بغيرك»، وعليه فهذا «العقد» والعهد، يلازمه «حلّ» الارتباط بغير الله سبحانه، فبدايةً تُقطع التعلّقات بغير الله ثمّ بعد ذلك يحصل الاتّصال والارتباط به سبحانه.
من الواضح جدّاً مدى ظهور التوحيد وتجلّيه البالغ في الإحرام، مرفقاً بالتعرّي من كلّ زينة في الحياة الدنيويّة، وكأنّ في ذلك محاكاةً للحشر والمعاد اللّذين هما العودة إلى المبدأ.
على هذا الأساس، فمن لم يخاطب- عند الإحرام- الله بقلبه: «إلهي! غسلت يديّ من غيرك، ولم أرتبط إلّا بولائك»، لم يذهب للميقات حقيقةً ولم يحرم واقعاً! طبقاً لتوجيهات الإمام السجّاد (ع).
نعم المراد نفي الكمال، لا نفي الصحّة.
غسل الإحرام
سرّ استحباب الغسل في الميقات، كما يبيّن الكلام المنير للإمام السجّاد (ع)، أن يقصد الحاج به تطهير نفسه من الذنوب والخطايا، فالنظافة في الميقات تتعدّى تطهير البدن لتدلّل على تطهير القلب، وهذا أوّل سرّ من أسرار الحجّ.
وبناءً عليه، يتعهّد الزائر مع غسل الإحرام:
أوّلًا: أن لا يلوّث نفسه بعد ذلك بالذنب والمعصية.
ثانياً: من الآن فصاعداً لا يخطو خطوةً إلّا في طريق الطاعة.
ثالثاً: أن يجبر النواقص السابقة ويرمّمها.
إنّ غسل الإحرام سيكون بهذا القصد غسلًا للتوبة، وعند ذاك سيلبس زائر بيت الله الحرام لباس الطاعة بروحه وجسده الطاهرين.
صلاة الإحرام
تقرأ في الميقات صلاة الإحرام قبل الغسل، ويفتي أكثر الفقهاء باستحباب هذه الصلاة، فيما يقول بعضهم بالاحتياط الوجوبي في أدائها، وبناءً عليه من المناسب أن يوقع الإنسان الإحرام بعد الصلاة.
إنّ العازم على السفر إلى بيت الله الحرام يتوجّه إلى سرّ صلاة الإحرام ويقول: «إلهي! إنّني أقتربُ منك بعمود دينك».
ارتداء لباس الإحرام
إنّ خلع الملابس المخيطة حال الإحرام يعني الخروج من لباس المعصية، كما أنّ ارتداء لباس الإحرام غير المخيط ولا الملوّن، والمصنوع من الحلال والطهارة والنظافة، يعني اشتمال لباس الطاعة.
ص: 11
السرّ الآخر لارتداء هذا اللِّباس الخاصّ هو تذكّر اليوم الذي يأتي فيه الإنسان بلباس غير مخيط، ألا وهو يوم الموت الذي يرتدي فيه الكفن، من هنا تتجلّى في مناسك الحجّ ومراسيمه بعض أسرار القيامة، فسفر الموت والحضور في عرصات القيامة يتجسّد في نظر الحجيج.
كما أنّ ارتداء لباس الإحرام المتواضع والبسيط يزيل الامتيازات الظاهريّة الشكليّة بين الناس، ممّا يلغي أيّ أرضيّة لخلق رغبة في التفاضل أو التفاخر أو التباهي.
النيّة
الحجّ (التمتّع- القران- الإفراد) والعمرة من العناوين القصديّة والقُربيّة، لهذا يجب فيه مراعاة شيئين وقصدهما: أحدهما عنوان العمل، وثانيهما: غاية الفعل وهدفه، ألا وهو التقرّب إلى الله تعالى.
كما أنّ كلّ الأركان والأجزاء الداخلة تحت هذا العنوان تصبح قصديّةً أيضاً، فيغدو امتثالها- كامتثال الحجّ والعمرة- باطلًا غير متحقّق إذا فقد قصد العنوان الخاصّ.
نعم، القصد الإجمالي الأوّل كاف؛ حيث يلقي بظِلاله على سائر الامور والأجزاء.
ويجب في الحجّ والعمرة- كسائر العناوين القصديّة الاخرى- المحافظة على قصد العنوان حتّى آخر جزء من العمل؛ لأنّ العناوين القصديّة لا يكفي فيها القصد بمجرّد الحدوث وفي مرحلته، بل لابدّ فيها أيضاً من القصد في مرحلة البقاء.
وبعض الامور، يُضاف إلى كونها من الأعمال القصديّة، أنّها من العبادات، فلا تتحقّق من دون قصد القُربة بنحو مستمرّ ودائم، فلا يمكن فيها عروض شائبة الرياء لا حدوثاً ولا بقاءاً، لأنّ ذلك يخلّ بخلوص قصد التقرّب. والحجّ والصلاة والعمرة والصيام من هذا النوع من الأعمال.
ويكفي في قصد القربة أن ينوي الفاعل من بداية فعله إلى نهايته أن ينجز هذا العمل بدافع الالتزام بالأوامر الإلهيّة، إنّ مثل هذا القصد عندما يستمرّ ويحفظ من عروض الرياء عليه يعدّ كافياً في تحقيق عباديّة الفعل.
والإطاعة المذكورة لها غاية حتماً، لأنّ امتثال الأمر الإلهي لا يقع- غالباً- من دون دافع أو هدف، وغاية الامتثال هنا تتحدّد بقدر معرفة الممتثل وهمّته ونشاطه واطّلاعه؛ فإنّ الدرجة الوجوديّة لأيّ ممتثل تشكّل العلّة المعيِّنة لمدى معرفته وقدر همّته واستعداده، كما أنّ مرتبة المعرفة ودرجة الهمّة تمثِّلان علامةً دالّة على الدرجة الوجوديّة.
إنّ الحجّاج والمعتمرين يقعون على فئات ثلاث وفقاً لحديث التثليث المعروف (1)؛ فإنّ عبادتهم إمّا من نوع عبادة العبيد، أو عبادة الطالبين للمصلحة، أو عبادة الأحرار؛ لكن مع ذلك هناك مراتب لكلّ صفة من هذه الأوصاف الثلاثة: الخوف، والشوق، والحريّة، وأعلاها مرتبةً عبادة الأحرار، هناك يكون التعبّد الذي يحصل عليه الإنسان الكامل بطيّ مراحل قُرب الفرائض والنوافل (2)، فيغدو هذا الإنسان محلًا للكون الجامع للحضرات الخمس، ومظهراً للإسم الأعظم في تدبير ما سوى الله بإذن الله.
بعض الناس يكون دافعهم العبادي راجعاً لما قد حصل ومضى، كالشكر لدفع نقمة أو رفعها، أو حدوث نعمة فيما مضى، وبعضهم صدق عبادتهم يعود للمستقبل؛ لدفع خطر أو جلب منفعة فيما سيأتي، وهذا يمتدّ إلى القيامة، حيث يسعى العابد للخلاص من نار الله العظيم الجبّار أو للوصول إلى جنّته العليا. أمّا الفريق الثالث فدافعه من الامتثال أرفع من دفع ضررٍ أو جلب منفعة بلحاظ الماضي أو المستقبل، بل أرفع من تمام حالات الماضي والمستقبل؛ إنّهم يعبدون الله لأنّ الله عندهم أهلٌ للعبادة يليق بها.
ص: 12
إنّ دافع الإنسان السالك الصالح من عباداته الواجبة والمستحبّة- لا سيما الحجّ والعمرة- أن يصبح خليفة الله؛ فاولئك الذين يريدون الوصول إلى مقام الخلافة الرفيع، عليهم التحرّر- في مناخ التربية العباديّة- من مضارّ المفاسد الحيوانيّة والشيطانيّة، حتّى يصلوا إلى قُلّة العلم وأوج العقل، فيكونون أهلًا لعنوان خلافة من لا عنوان له.
وبعد طيّ مقام «خليفة الله» تصل النوبة لسفرٍ أرفع وأسمى، وهو أن يفوّض العبد تمام شؤونه وأوضاعه لمالكه الأصلي ومليكه الحقيقي، حتّى يكون مولاه خليفته؛ أي يكون الله خليفة خليفته.
من هنا لا يسند أيّ فعل في هذا المقام الرفيع للعبد، بل يكون كما جاء في التعبير القرآني: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى (1)، فالله هنا لايقول: إرم بإذن الله، وإنّما يقول: إنّ هذا الرمي الظاهري لك هو رمي حقيقي واقعي من جانب الله.
إنّ الوقوع في مقام خلافة الله معناه صيرورة العبد آيةً ومظهراً له سبحانه، كما أنّ جعل الله خليفةً للعبد معناه صيرورته قيّماً ووليّاً عليه، إنّ هذا المقام يأتي تحت ظلّ قرب النوافل، فمثل هذا العبد الذي يصبح تحت الولاية الإلهيّة، يتكلّم باللِّسان الإلهي، لا بلسانه، ويرى بعين الله، لا بعينه، ويسمع بسمع الله، لا بسمعه (2).
حقيقة النيّة
حقيقة النيّة هي قُرب العبد من ساحة قدس المولى، وهي لا تحصل دون انبعاث الروح والسير الملكوتي؛ إذ مجرّد تصوّر أنّ امتثال الحجّ والعمرة هو لله سبحانه، وإن صدق عليه أنّه نيّة بالحمل الأوّلي، إلّا أنّه غفلة بالحمل الشائع، فعندما لا يتخلّق الحاجّ والمعتمر في حياته وسلوكه وسيرته بالأخلاق الإلهيّة، ولا يرى أنّ هدفه النهائي من تمام شؤون حياته هو نيل رضا الله تعالى ولقائه، فإنّ نيّته على أرض الواقع تكون غفلةً؛ لأنّ قصد التقرّب لا يحصل دون تحقّق السير الملكوتي، ومجرّد تصوّر القصد المشار إليه لا يحقّق مصداق النيّة.
من هنا، ننتقل لموضوع آخر، وهو أنّ عباديّة أيّ فعل رهينة لقصد القُربة، وقصد القربة لا يتحقّق دون تحقّق القُرب، وحصول التقرّب قصدٌ بالحمل الأوّلي وغفلةٌ بالحمل الشائع .. إذاً فالتقرّب معتبر في حقيقة أيّ أمر عباديّ، تماماً كما جاء في الصلاة: «الصلاة قربان كلّ تقيّ» (3)، وقريب من هذا التعبير جاء في الزكاة أيضاً، حيث ورد: «إنّ الزكاة جُعلت مع الصلاة قرباناً لأهل الإسلام» (4).
من هنا، لزم في الحجّ والعمرة أن يُمزجا بالتقرّب من حيث كونهما عبادة؛ والتقرّب لا يحصل من دون السفر الباطني.
ومن خلال ما تقدّم يمكن ترتيب مراتب نيّة القربة في ظلّ الأسفار الأربعة، والمعيّن لمدارج هذا السير، ومعارج هذا السفر، ومعالي هذا الصعود، ومراقي هذا العروج .. هو معرفة السالك وهمّة الناسك.
التلبية
التلبية من الأجزاء الواجبة في عقد الإحرام، وهي ذِكرٌ خاصّ يستحبّ تكراره أيضاً بعد الإحرام حتّى الوصول إلى مكان معيّن أو متخطياً زماناً خاصّاً، إنّ تكرار التلبية عند كلّ مرتفع ومنخفض، وعند كلّ ارتفاع وانحدار يعني تجديد الإنسان في كلّ آن عهده مع إلهه تبارك وتعالى.
ولعلّ السرّ في كون الرسول (ص) هو أعظم مَظْهَر للأسماء الإلهيّة أنّه كان أفضل شخص حجّ، وفهم أسرار الحجّ، لا سيما التلبية، إنّ حجّ الرسول الأكرم كان يوازي معراجه، تماماً كما يقول الإمام الصادق (ع) في بيانه لعلّه إحرام رسول الله (ص) من
ص: 13
مسجد الشجرة: «... لأنّه لمّا اسري به إلى السماء وصار بحذاء الشجرة، نُودي: يا محمّد! قال: لبّيك، قال: ألم أجدك يتيماً فآويتك، ووجدتك ضالًّا فهديتك؟ (1)، فقال النبيّ (ص): إنّ الحمدَ والنِّعمة والمُلك لك، لا شريكَ لك ...» (2).
رهبانيّة امّة الإسلام
يقول رسول الله (ص): «ابدِلنا بها [الرهبانيّة] الجهادَ والتكبير على كلّ شرف» (3).
إنّ تعبير «التكبير على كلّ شرف» ناظر إلى ذكر التلبية الذي يردّده زوّار بيت الله الحرام عند كلّ مرتَفَع، بصوت عال واثق: «لبّيك» فهذه هي الرهبانيّة الممدوحة والمحمودة التي دعا الله سبحانه عباده إليها، قال تعالى: وَإِيَّاىَ فَارْهَبُونِ (4).
إنّ احترام الله المأمور به في هذه الآية يعني أخذ حريم اعتقادي له، بمعنى أنّ على الإنسان التواضع والخشوع في المحضر الإلهي الذي لا يرى غيره، ولا يعتمد على ما سواه، ولا يرتبط قلبه بما دونه، وهناك يعلن القول: لقد لبّيت أمرك وأتيتُ لمحضرك «لبّيك ...».
مثل هذا الحاجّ هو راهب الله، وهذا هو الحجّ الذي يشمل الرهبانيّة الممدوحة والمحمودة، التي دعينا إليها (5).
تجلّي التوحيد في التلبية
حول ذكر التلبية: «لبّيك اللّهُمَّ لبيّك، لبّيك لا شريكَ لك لبّيك، إنّ الحمدَ والنِّعمة لكَ والمُلك، لا شريكَ لك لبّيك، لبّيك ذا المعارج لبّيك ...»، يقول الإمام الصادق (ع): «... واعلم أنّه لابدّ من التلبيات الأربع التي كُنّ في أوّل الكلام، وهي الفريضة، وهي التوحيد، وبها لبّى المرسلون، وأكثر من ذي المعارج؛ فإنّ رسول الله (ص) كان يُكثر منها، وأوّل مَن لبّى إبراهيم (ع) ...» (6).
وفي نهاية جوابه عن سؤال حول «إشعار البدن» (7) الذي يعدّ بمثابة التلبية في بعض أقسام الحجّ ... يقول الإمام الصادق: «... ثمّ قُل: بسم الله، اللّهُمَّ منك ولك، اللّهُمَّ تقبَّل منّي» (8).
إنّ هذا الحديث الشريف، مثل دعاء الإحرام: «اللّهُمَّ إنّي أسألُكَ أن تجعلني ممّن استجاب لك، وآمن بوعدك، واتّبع أمرك، فإنّي عبدُك، وفي قبضتك، لا أوقى إلّا ما وقيت، ولا آخذ إلّا ما أعطيت» (9) ناظرٌ إلى ما سبق أن تحدّثنا عنه حول تمثّل التوحيد في الحجّ، حيث المقصود من الحجّ لقاء الله، وطرد كلّ ما سواه.
إنّ التلبية جواب خالص لله سبحانه، من هنا فهي تُذيب كلّ الخسائس والانحطاطات، وتطرد كلّ شيطان خبيث متمرّد، تماماً كما يقول الإمام الصادق (ع) حول البيداء (10) التي لبّى منها رسول الله (ص): «ها هنا يخسف بالأخابث» (11).
طرد الجاهليّة القديمة والحديثة
يطرد الحجّ بتلبيته الخاصّة المذكورة كلّ جاهليّة، ويكسر كلّ صنم أو علامة للشرك الجاهلي، ويحطّم كلّ أنواع الباطل القديمة والجديدة، وبناءً عليه، فالحجّ شفاءٌ للقلوب من أمراض الشرك أو ما يتلوّث به، كالرِّياء والهوى والبخل والعُجب و ...
ولتوضيح هذه النقطة نذكّر بأنّ التلبية في الحجّ في العصر الجاهلي كانت نداءً للشرك وصرخةً للوثنيّة؛ لأنّ المشركين كانوا يقولون في تلبيتهم: «لبّيك اللّهُمَّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك، إلّا شريكٌ هو لك، تملكهُ وما مَلك» (12)؛ وبهذا الكلام كانوا يثبتون لله الشريك، رغم كون هذا الشريك مملوكاً لله نفسه!
ص: 14
أمّا التلبية في الإسلام، فهي تضرّع واستغاثة بالمحضر الواحد المحض وصرخة صاعقة ضدّ مختلف أنواع الشرك الجلي أو الخفيّ، وهذا أمرٌ واضح لكلّ من شاهد صرخات التلبية في الصحراء القاحلة، وداوم على ذكرها عند كلّ منخفض ومرتفع من الأرض.
إنّ نصوص أهل البيت (عليهم السلام) شاهدٌ على ما قلناه، ومن بينها أنّ أيّ شخص يعمل بسنّة الجاهليّة، أو يتلوّث بالمال الحرام، فإنّه يقال له عندما يلبّي: «لا لبّيك عبدي، ولا سعديك» (1)، من هنا يقول الإمام الكاظم (ع): «إنّا أهل بيت، حج صرورتنا، ومهور نسائنا، وأكفاننا، من طهور أموالنا» (2).
إنّ الحجّ صرخة ضدّ الجاهليّة، وهذا ما يجعلنا نفهم السبب في أنّ الروايات الواردة في تلبية إبراهيم الخليل وموسى الكليم وخاتم النبيّين (عليهم السلام) أكثر بكثير من الروايات الواردة حول سائر الأنبياء والرسل (3).
سرّ التلبية
الإحرام والتلبية استجابة لنداء الوحي والدعوة الإلهيّة، من هنا يقع الحجّاج الحقيقيّون عند التلبية في خوف عقلي مهول، يغيّر لونهم فيصير مصفرّاً، ويأخذ بأصواتهم، ويدهشون ويقولون: نحن نخشى أن يُقال لنا بأنّكم لم تلبّوا نداء الحجّ على نحو الحقيقية، «لا لبّيك ولا سعديك» (4).
إنّ الحاج يعقد في الحقيقة عهداً مع الله عندما يلبّي، مضمونه أنّني لن أنطق بعد الآن إلّا بطاعتك، وسوف أقفل فمي عن النطق بالمعاصي كلّها (5).
إنّ حجم اللِّسان قليل، لكنّ جرمه كبير وكثير، والتلبية تطهير للِّسان عن كلّ معصية ترتبط به، من هنا كان اللِّسان الزائر لبيت الله هو اللسان الطاهر.
من هذا كلّه يظهر أنّ سرّ التلبية هو إطلاق اللِّسان بالحقّ والطاعة، ومنعه وتطهيره من مقولات الباطل والمعصية، وهذا ليس في زمان الحجّ والعمرة فحسب، بل و إلى الأبد.
مراتب التلبية والملبّين ودرجاتهما
تتفاوت مراتب الملبّين طبقاً لتفاوت مراتب التلبية، فبعضهم يلبّون إعلان الأنبياء، وبعضهم يلبّون دعوة الله سبحانه، بعضهم يقول: إنّنا نستجيب لمن دعانا إلى الله، وقد جئنا نقول: «لبّيك داعي الله، لبّيك داعي الله» (6)، وهؤلاء هم المتوسّطون من زوّار بيت الله حيث أجابوا دعوة إبراهيم الخليل، الذي دعا إلى الحجّ بأمر من الله سبحانه: وَأَذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِر يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجّ عَمِيق (7).
وأعلى من هؤلاء، اولئك الذين يسمعون دعوة الله: وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَن اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (8)، ويستجيبون لهذه الدعوة.
نعم، إنّ جواب خليل الله هو جوابٌ لله سبحانه، ولا جواب لله من دون جواب دعوة الخليل، إلّا أنّ التفاوت يقع في شهود الزائر العارف لبيت الله، فكلّ إنسان يقع في درجة هويّته ومرتبة إيمانه، ويعرف الله طبقاً لها، ويمضي معه الميثاق كذلك، كما يمتثل أوامره بالطريقة عينها.
بعضهم يعرفون الله بالواسطة، وبعضهم مثل الأنبياء (عليهم السلام) يعرفونه بلا واسطة، ويعقدون معه العهد، ويعملون بأحكامه.
ص: 15
إنّ الذي يظهر في نشأة الشهادة هو حصيلة عهد مرتبة الغيب، وبناءً عليه، رغم أنّ الجميع عقدوا العهد مع نداء الله الجليل سبحانه، إلّا أنّ بعضهم كان بواسطة الخليل وبعضهم بلا واسطة، ولهذا لم تكن التلبية واحدة عند الجميع، بل يمكن أن يقول شخص: «لبّيك ذا المعارج لبّيك»، إلّا أنّه في واقع الأمر يلبّي وَأَذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ، ويُجيب دعوة الخليل، لا دعوة الجليل، ذلك أنّ التلبية في مقام الظاهر تابعة لاستجابة الدعوة الإلهيّة في عالم الميثاق الإلهي.
وتجليةً لهذه النقطة، نلاحظ أنّ الناس جميعاً يلبّون مرّتين، وهاتان المرّتان تقعان في طول بعضهما، إنّ هذه الإجابة والاستجابة ليست أمراً تاريخيّاً حتّى يكون قد مضى وانتهى، وإنّما هي امتداد واستمرار.
لقد تحدّث الله سبحانه عن الاولى منهما بقوله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِى آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى (1).
أمّا الثانية؛ فكانت أمر الله لإبراهيم الخليل بإعلان الدعوة العامّة للحجّ: وَأَذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ، وقد وصلت هذه الدعوة للناس جميعاً حتّى للّذين هم في أصلاب آبائهم، واستجابوا لهذه الدعوة.
يقول الإمام الصادق (ع) في هذا المضمار: «لمّا أُمِرَ إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) ببناء البيت وتمّ بناؤه، قعد إبراهيم على ركن، ثمّ نادى: هلم الحجّ، هلم الحجّ ... فلبّى الناس في أصلاب الرجال: لبّيك داعي الله، لبّيك داعي الله عزّ وجلّ ... فمَن لبّى عشراً يحجّ عشراً ... ومَنْ لبّى أكثر من ذلك، فبعدد ذلك، ومَنْ لبّى واحداً حجّ واحداً، ومَن لم يلبِّ لم يحجّ» (2).
إنّ مشهد التلبية لدعوة الخليل تشابه مشهدها لدعوة الله سبحانه في عالم الذرّ والذرّية، فكما أنّ القضيّة مستمرّة في المشهد الأوّل، كذلك هي في المشهد الثاني؛ لأنّ حديثنا هنا عن استجابة الفطرة والروح، لا عن استجابة الذرّات في الأصلاب والأرحام بوصف ذلك حدثاً تاريخيّاً.
إنّ تفاوت المراتب المذكورة للملبّين، حدثٌ يتكرّر في الكثير من القضايا الدينيّة الاخرى، مثل تلاوة القرآن الكريم وتلقّي السلام الإلهي.
محرّمات الإحرام
الحجّ مجموعة منتظمة من سلسلة عباديّة خاصّة، تستحقّ كلّ حلقة فيها تأمّلًا ونظرة؛ فكما تحرم امور عديدة بأداء تكبيرة الإحرام في الصلاة وتصبح غير منسجمة مع العبادة، لتظلّ محرّمة حتّى يؤدّي المصلّي التسليم نهاية الصلاة، كذلك الحال في الحجّ والعمرة، فبالإحرام والتلبية تحرم الكثير من الامور (3) التي يكون البُعد التعبّدي في اجتنابها قويّاً، والاختبار الإلهي فيها كذلك، وبهذا تكون دورة الإحرام رحلةً تعبّديّة محضة وامتحاناً صرفاً (4).
وبالقيام بمناسك الحجّ والوصول إلى مراسم التحليل ينفكّ عقد الإحرام، ويخرج المحرم من دائرة المنع في هذه المحرّمات.
إنّ الإحرام ورعاية حدوده يحرّر الروح من أيّ قيد لا سيما من قيود الشهوة والغضب، ويطهّر العقل من كلّ فكر باطل، وينجّي القلب من الخيال الغافل؛ لأنّ كلّ ما يوجب ظلمة الروح وتلوّن النفس قد حرّم حال الإحرام، حتّى تكون الروح الطاهرة والنفس الخالصة أهلًا للطواف في بيت الله، ذلك البيت المنزّه عن كلّ لوث وقذارة.
بيت الله هو محور الحريّة ومدارها، من هنا لم يكن يحقّ للمحرم الآتي لزيارته أن يأسر فيه الصيد، أو يساعد على أسره، أو ينفّره أو يدلّ الصيّاد عليه؛ لأنّ هذه الأعمال كلّها تتنافى مع روح الرغبة في الحريّة، وما لم يُحرِّر الإنسان نفسه فلن يكون لديه صلاحيّة الطواف في محلّة الحريّة.
ص: 16
من هذا كلّه، وضع الله سبحانه مكاناً مقدّساً بظروف مناطقيّة غير ملائمة ليجعله مركزاً للاختبار في سياق إيجاد التناغم بين التكوين والتشريع، حتّى يتمكّن الخلق من التخلّص من الملوّثات والتعلّقات والأقذار والتطهّر من الخبائث والنجاسات في رياضاتهم الممدوحة التي تتمّ من خلال محرّمات الإحرام، وكذلك عبر مناسك الحجّ والعمرة (1).
وكأنموذج على الاختبار المذكور، جرى تحريم الاستفادة من العطور والروائح الجميلة حال الإحرام من جهة، كما منع- من جهة اخرى- من إغلاق الأنف ووضع اليد عليه عندما يحتكّ الإنسان حال أداء مناسك الحجّ والعمرة أو يجالس أشخاصاً تفوح منهم الرائحة الكريهة، وكذلك عند العبور من مكان ذبح الأضاحي ... إنّ مثل هذه الامور تكسر أنانيّة الإنسان وعنجهيّته وكبرياءه وتفاخره، بحيث تحوّله بعد إنجاز أعمال الحجّ والعمرة إلى عبد حرّ مُنعتق لله.
هذه الدورة البانية للإنسان، تؤثّر تأثيراً كبيراً في المجتمع، فاولئك الذين لم يكونوا ليتورّعوا عن أكل العظاية في عصر الجاهليّة الوحشي، وكانوا يتسابقون في اصطياد هذا الحيوان، أصبحوا الآن يترفّعون عن ظبي الصحراء، حتّى تمكّنوا في عصر التمدّن الإسلامي من الانتصار على كلّ الميول والرغبات الذاتيّة بتأثير من الأوامر الإلهيّة.
لدورة الإحرام الغنيّة بالمُعطيات تأثيرٌ كبير على بناء الشخصيّة الإنسانيّة، تشاهد نتائجها العمليّة الرائعة في المجتمع المعتقد والملتزم بمحتوى الحجّ والزيارة.
ص: 17
ص: 18
ص: 19
ص: 20
الخلفيّة التاريخيّة للسعي
السعي في الحجّ يرمز إلى قصّة هاجر وإسماعيل (عليهما السلام)، وقصّتهما معروفة عندما تركهما إبراهيم (ع) بواد قفر غير ذي زرع، وترك عندهما قليلًا من الماء والطعام.
فلمّا نفذ ما كان عندهما من الماء غلب الظمأ على إسماعيل وخافت امّه هاجر عليه من الهلاك فبدأت تسعى جاهدةً تبحث له عن ماء، من الصفا إلى المروة وبالعكس؛ تنظر إلى الافق البعيد تبحث لطفلها عن الماء، حتّى إذا كانت في الشوط السابع من سعيها بين الصفا والمروة ألقت من المروة نظرة إلى حيث يقع بئر زمزم اليوم بالقرب من موقع المسجد الحرام فوجدت الماء يتفجّر من تحت قدم الطفل، فتركت سعيها، وهرولت نحو إسماعيل تسقيه، وتلملم الماء لئلّا يذهب هدراً في الأرض القفر، وتقول: زم زم.
وقد سجّل الله تعالى سعي هذه المرأة الصالحة امّ إسماعيل يومئذ إلى الماء لإنقاذ رضيعها في ذاكرة التاريخ، وجعل من سعيها منسكاً من مناسك الحجّ.
معنى السعي
إذن (السعي) في الحجّ يرمز إلى مسألة أساسيّة في حياة الإنسان؛ وهي حركة الإنسان في الدُّنيا سعياً من وراء الرزق في الدُّنيا، أو رضوان الله ورحمته في الآخرة.
وسعي هاجر من هذا السعي، وسعي المريض إلى الطبيب، والتلميذ إلى المعلّم، والعامل في العمل، والفلّاح في المزرعة، والتاجر في السوق، من هذا السعي، ومن ذلك سعي الإنسان إلى اكتساب رضوان الله ورحمته في الآخرة وَمَنْ أَرَادَ الْاخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (1).
وعلى نحو الاختصار: السعي كلّ حركة هادفة تؤمِّن للإنسان حاجاته، وهذه الحاجات قد تكون في الدُّنيا، وقد تكون في الآخرة.
وللإنسان حاجات كثيرة في الدُّنيا فهو يحتاج إلى أن يؤمِّن لنفسه رزقه واستقراره وراحته وأمنه وكرامته وشهواته وغرائزه في الدُّنيا.
وقد يكون ذلك بالسعي الحلال، وقد يكون ذلك بالسعي الحرام ... يقول تعالى: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (2)؛ وهو إشارة إلى تنوّع سعي الإنسان في الدُّنيا من السعي الحلال والحرام، والسعي الصحيح والباطل.
وللإنسان حاجات للآخرة، يسعى لها في الدُّنيا من غفران الله ورحمته ورضوانه ونعيمه في الجنّة.
دروس من سعي امّ إسماعيل (عليهما السلام)
في الوادي القفر
المشاهد الثلاثة لقصّة إبراهيم 7 وهاجر 3 والدروس الثلاثة:
سعي هاجر، امّ إسماعيل، في الواد القفر، مشهد واحد من ثلاثة مشاهد من قصّة هجرة إبراهيم (ع) بهاجر، وإسماعيل إلى الحجاز، بواد غير ذي زرع إلى موضع البيت الحرام اليوم.
ص: 21
هذه القصّة بفصولها الثلاثة تعدّ من روائع التوحيد.
وهي ذات مشاهد ثلاثة:
بطل المشهد الأوّل فيها هو إبراهيم (ع) حيث هاجر بزوجته (امّ ولده) امّ إسماعيل، وولده إسماعيل (عليهما السلام) إلى واد غير ذي زرع، وتركهما لوحدهما في واد قفر، لا ماء فيه ولا زرع، ولا بشر ولا طير، وغادرهما مستودعاً الله إيّاهما.
وبطلة المشهد الثاني هاجر (س)، امّ ولد إبراهيم، حيث تتقبّل هذه الهجرة؛ لأنّ الله تعالى أمره بها، فلمّا نفذ ما لديها من الماء وغلب الظمأ على إبنها إسماعيل (ع) بدأت بالسعي بين الجبلين بحثاً عن الماء حتّى استجاب الله تعالى لسعيها ودعائها وفجّر لها الماء من تحت قدم إسماعيل.
وبطل المشهد الثالث هو إسماعيل (ع)، حين عاد إليه أبوه إبراهيم- وهو يومئذ شاب يافع- فأبلغه بأمر الله تعالى له بأن يذبح ابنه بيده: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يَا بُنَىَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى. قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللهُ مِن الصَّابِرِينَ* فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ* وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ (1).
ويتضمّن كلّ مشهد من مشاهد القصّة الثلاثة درساً عالياً من دروس التوحيد، نُشير إليه هنا باختصار:
الدرس الأوّل: التوكّل والثقة بالله
لقد جاء إبراهيم (ع) بزوجته هاجر (امّ إسماعيل) إلى هذا الواد القفر بأمر من الله: «وكان إبراهيم لا يمرّ بموضع حسن فيه شجر ونخل وزرع إلّا قال لجبرئيل إلى هاهنا، فيقول: لا أمض حتّى أتى مكّة ... فلمّا نزلوا في ذلك المكان كان فيه شجرة، فألقت هاجر على ذلك الشجر كساءً كان معها فاستظلّوا تحته، فلمّا سرحهم إبراهيم ووضعهم وأراد الانصراف منهم إلى سارة، قالت له هاجر: يا إبراهيم لِمَ تدعنا في موضع ليس فيه أنيس ولا ماء ولا زرع؟ فقال إبراهيم: الله الذي أمرني أن أضعكم في هذا المكان، ثمّ انصرف ... فلمّا بلغ كراء، وهو جبلٌ بذي طوى التفت إليهم إبراهيم فقال: رَبَّنَا إِنِّى أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِى بِوَاد غَيْرِ ذِى زَرْع عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِن النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ، ثمّ مضى وبقيت هاجر» (2).
وهذا هو الدرس الأوّل في هذه القصّة.
ثقة مطلقة بالله تعالى وطاعة له وتوكّلٌ عليه، يترك زوجته وولده إسماعيل، في هذا الوادي القفر ويذهب عنهم بأمر الله تعالى، قد جعل الله تعالى عليهم وكيلًا عنه في رعايتهم وحراستهم، وغادرهما واثقاً بالله، متوكّلًا عليه، سائلًا إيّاه أن يرعاهما ويرزقهما من الثمرات.
الدرس الثاني: السعي
وهذا هو الدرس الثاني الذي يتضمّنه موقف امّ إسماعيل، تقول الرواية المتقدّمة، وهي عن هشام، عن أبي عبدالله (ع):
«فلمّا ارتفع النهار عطش إسماعيل، وطلب الماء، فقامت هاجر في الوادي في موضع السعي، ونادت، هل في الوادي من أنيس؟ فغاب عنها إسماعيل، فصعدت على الصفا ولمع لها السراب في الوادي وظنّت أنّه ماء، فنزلت في بطن الوادي وسعت ... حتّى بلغت سبع مرّات، فلمّا كان في الشوط السابع، وهي على المروة، نظرت إلى إسماعيل، وقد ظهر الماء من تحت رجليه، فعادت إليه» (3).
ص: 22
وهذا هو درس السعي ... لم تيأس من طلب الماء في ذلك الوادي القفر، ولم تتعب من السعي سبعة أشواط من الصفا إلى المروة وبالعكس، حتّى رزقها الله الماء في الوادي غير ذي الزرع.
الدرس الثالث: التسليم والطاعة والصبر على الطاعة
الدرس الثالث لابنها إسماعيل (ع)، إذ عاد إليه أبوه إبراهيم (عليهما السلام)، وقد تركه طفلًا صغيراً بجانب امّه بواد قفر غير ذي زرع، من غير طعام ولا شراب، ولا أنيس، فعاد إليه وهو شاب يافع يرعى الأغنام مع شباب جُرْهم، يملأ عيني أبيه الشيخ وقلبه بجماله ... فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يَا بُنَىَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللهُ مِن الصَّابِرِينَ* فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (1).
يستسلم إسماعيل لأمر الله، ويقول لأبيه: سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللهُ مِن الصَّابِرِينَ.
هذه دروس ثلاثة في التوحيد من إبراهيم وزوجه وولدهما (عليهم السلام):
(التوكّل على الله والثقة به)، و (السعي إلى رزق الله)، و (التسليم لأمر الله والصبر على ذلك).
وكلّ هذه الدروس من التوحيد ... ولست بقادر على الترجيح فيما بينها وتفضيل بعضها على بعض.
أيّ موقف هو الأفضل؟ موقف الأب وهو يترك زوجه وولده بواد غير ذي زرع، من دون أنيس ولا طعام ولا شراب ويقدم على ذبح ولده إسماعيل، أم الامّ وهي تسعى في ذلك الوادي للبحث عن الماء لتنقذ ابنها من الهلاك، أم موقف الولد وهو يستسلم لأمر الله أن يُذبح على يد أبيه، وهو يقول: سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللهُ مِن الصَّابِرِينَ.
ولكنّها دروس عالية في التوحيد.
سبعة دروس من سعي امّ إسماعيل:
ونحن هاهنا نقتصرها على درس (السعي) وهو الدرس الذي نتلقّاه هنا، في هذه القصّة من امّنا امّ إسماعيل (س).
لقد شاء الله تعالى أن يثبت سعي هاجر (امّ إسماعيل) في واحدة من أعظم فرائض الإسلام ألا وهي فريضة الحجّ.
ويأمر الله تعالى الأبناء أن يجروا في كلّ عام على خُطى امّهم امّ إسماعيل بين الجبلين الصفا والمروة، ويعيدوا ذِكر سعيها في هذا الوادي، جيلًا بعد جيل.
لقد تضمّن سعي امّ إسماعيل يومئذ بجوار البيت الحرام دروساً في التوحيد والسلوك إلى الله، نذكر طائفة منها، بقدر ما يتّسع له صدر هذا المقال. وإليك هذه الدروس تِباعاً:
1- السعي من منازل الرحمة
إنّ رحمة الله تعالى نازلة تفيض على الناس، في كلّ زمان ومكان، لا يخلو منها زمان ولا مكان، ولكن لرحمته تعالى منازل خاصّة، تنزل الرحمة في هذه المنازل، لا كما تنزل في سائر المواضع ... إنّها تصبّ في هذه المنازل بغير حساب.
ومن يطلب رحمة الله فعليه أن يطلبها في هذه المنازل، والعارفون من عباد الله هم الذين يعرفون هذه المنازل، كما يعرف الناس بيوتهم وأولادهم، يرصدون هذه المنازل ويبتغون فيها رحمة الله.
من هذه المنازل المنازل الزمانيّة؛ مثل ليلة الجمعة، وليلة النصف من شعبان، ويوم عرفة، وليلة القدر، وشهر رمضان، وشهر رجب وشعبان، وقد ورد في شهر رجب أنّ الرحمة تصبّ فيه صبّاً، لذلك يُقال له: (رجب الأصبّ).
ومن هذه المنازل المنازل المكانيّة؛ مثل بيت الله الحرام، ومسجد رسول الله (ص)، ومسجد الكوفة، والمسجد الأقصى، والحائر الحسيني وسائر المساجد.
ص: 23
ومنها المنازل النفسيّة؛ كحالة الإنكسار والبكاء والخشوع فإنّها أقرب الحالات إلى رحمة الله تعالى، ويُستجاب فيها الدّعاء وقد ورد في النصوص الدينية: إنّ الله في القلوب المنكسرة، ومنها غير ذلك ... والدّعاء من منازل الرحمة، والتقوى من منازل الرحمة.
و (السعي) من منازل الرحمة، فمَن أراد الرزق فعليه أن يسعى في الأسواق، ومَن أراد العلم فعليه أن يسعى إليه في المدارس، ومَن أراد الشفاء فعليه أن يسعى إليه لدى الأطبّاء ... وهكذا.
جعل الله (السعي) من منازل الرزق والرحمة، فلو أنّ الإنسان لم يخرج من بيته سعياً إلى الرزق لا يُرزق، ولو أنّ الإنسان لم يخرج إلى المدارس سعياً إلى العلم لا يتعلّم.
لقد كانت امّ إسماعيل تعلم أنّها في واد غير ذي زرع، لا يوجد فيه ماء، ولا إنسان، ولكنّها لمّا وجدت أنّ وحيدها إسماعيل (ع) يكاد أن يهلك من الظمأ تحرّكت وسعت، وأعادت الحركة والسعي سبعة أشواط، لا تكلّ ولا تملّ، ولا تتعب ولا تيأس من السعي حتّى رزقها الله الماء.
2- والرزق من عند الله
قد جعل الله تعالى السعي مفتاحاً للرزق، ولكن الرزّاق هو الله تعالى، وعلى الإنسان أن يعرف كلًّا من هاتين الحقيقتين.
وقد يطلب الله من عبده السعي ثمّ يجعل رزقه في غير موضع السعي؛ حتّى يأخذ العبد بأسباب السعي ويتكامل بالسعي، ثمّ يجعل رزقه في غير موضع السعي، حتّى تبقى ثقة العبد في الرزق بالله تعالى، ويعلم أنّ الله هو الرزّاق.
لقد بلَّغ رسول الله (ص) الإسلام في مكّة طويلًا، ودعا قريش إلى دين الله، وتحمّل من قريش هو وأصحابه الكثير، وذهب إلى الطائف، وبعث أصحابه إلى اولى الهجرتين، الحبشة، فلمّا أذِنَ الله تعالى لهذا الدِّين أن ينتشر جعل الله تعالى الانفتاح الأوّل على الإسلام في يثرب (المدينة) وليس في مكّة، ولا في الطائف، ولا الحبشة، وإنّما كان في يثرب حيث كان الفتح الأوّل لهذا الدِّين.
وقد سعت هاجر في هذا الوادي القفر سبعة أشواط بحثاً عن الماء، تسعى من الصفا إلى المروة، ثمّ من المروة إلى الصفا، ولكن الله تعالى لم يجعل رزقها ورزق ابنها من الماء في موضع سعيها وبحثها بين الصفا والمروة، وإنّما جعله على طرف الوادي عند البيت الحرام.
كان لابدّ لها من السعي، بحثاً عن الماء، وكان لابدّ لها أن تعلم أنّ الله هو الذي فجّر الماء من تحت قدم إبنها، وليست هي التي اكتشفت الماء، كان لابدّ لها من السعي، ولابدّ لها من الوعي إنّ السعي ضرورة من ضرورات حياة الإنسان في التكوين والتشريع معاً، لايمكن أن يستغني عنه الإنسان، ولا يسمح بالتخلّي عنه الدين، ولكن السعي- للأسف- عامل مضلّل في حياة الإنسان، يحجب الإنسان عن الله، ولكي لا يؤدّي السعي إلى تضليل الناس، فقد يجعل الله تعالى رزق عباده في غير موضع سعيهم، وهكذا كان الأمر في سعي هاجر.
3- التوحيد في السعي
إنّ سعي الإنسان شتّى، فقد يسعى لآخرته، وقد يسعى لدُنياه، وقد يسعى لمعاشه وقد يسعى لمعاده. الإنسان قد يعمل في السوق، ويذهب للتجارة، ويتزوّج، وقد يصلّي ويصوم ويحجّ ويذكر الله، وكلّ ذلك سعي.
فهل تكون وجهة الإنسان في صلاته وصومه وحجّه وذكره إلى الله تعالى، وفي زواجه وسعيه في السوق إلى نفسه (الأنا)، وفي علاقاته الاجتماعيّة وخدماته الإنسانيّة إلى الآخرين ...؟
وهذه هي حالة (تعدّدية الوجهة)، وهي حالة معروفة لدى أكثر الناس، وهذه الحالة تشتّتهم وتحرفهم عن التوحيد.
ص: 24
وفي مقابل هذه الحالة حالة (وحدة الوجهة)، وهي الحالة التي دعا إليها أبونا إبراهيم (ع): إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِى لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْارْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِن الْمُشْرِكِينَ (1).
فتكون وجهة الإنسان في كلّ أحواله إلى الله سواءً في المسجد، أم في السوق، أم في البيت، أم في المزرعة، أم في الحرب أم في السلم، وفي السرّاء والضرّاء، وفي اليُسر والشدّة.
فإنّ من الناس من يتوجّه إلى الله في البأساء والضرّاء، وينقلب إلى نفسه ودُنياه في أيّام العافية والسرّاء.
ومن الناس من يتوجّه إلى الله في المسجد، وإلى دنياه في السوق.
ولا يكتمل للإنسان التوحيد، إلّا حينما يجعل الله تعالى وجهته في السرّاء والضرّاء، وفي الشدّة والرخاء، وفي المسجد والسوق ... في كلّ هذه المواقع تكون وجهته إليه تعالى (2).
4- السعي والكلم الطيّب
إنّ سلوك الإنسان إلى الله «سعي» و «كلم طيّب»، وإلى هذا يشير قوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ، والكلم الطيّب الصاعد إلى الله هو نيّة التقرّب إلى الله، والإخلاص، والخشوع، والتضرّع، والحبّ والبغض، والولاء، والبراء.
والذي يصعد إلى الله هو الكلم الطيّب، إلّا أنّ الذي يرفع الكلم الطيّب إلى الله هو العمل الصالح وهو (السعي)، وسوف يأتي توضيح أكثر لهذه الآية.
فلا يصحّ تفريغ السعي من الكلم الطيّب؛ لأنّ السعي من دون الكلم الطيّب لا قيمة له ولا يعرج منه شي ء إلى الله.
ولا يصحّ تجريد الكلم الطيّب عن العمل الصالح (السعي)؛ لأنّ الكلم الطيّب يبقى عندئذ على الأرض، ولا يصعد إلى الله؛ لأنّ العمل الصالح هو الذي يرفع الكلم الطيّب إلى الله وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ.
ولستُ أدري ماذا كان يغلي في نفس امّ إسماعيل يومئذ، في ذلك الوادي القفر، وهي تلهث راكضةً من الصفا إلى المروة وبالعكس، من الدّعاء، والاستغاثة بالله، والاضطرار إلى الله، وهي ترى وحيدها إسماعيل يكاد يهلك من شدّة الظمأ، ولا تعرف لابنها ولنفسها مخرجاً من هذا الهلاك إلّا أن يرحمها الله.
لستُ أدري ماذا كان يغلي في صدرها من دعاء واستغاثة لله تعالى ...؟ ولكنّنا نعلم أنّ الله تعالى أسرع في الاستجابة لدعائها واستغاثتها وسعيها، وأغاث لهفتها، وفجّر الماء تحت قدم ابنها، فرجعت المرأة إلى ابنها وهي قريرة العين باستجابة الله لدعائها أوّلًا، وبنبع الماء من الأرض تحت قدم ابنها ثانياً.
أيّهما كان أقرّ لعين تلك المرأة يومئذ في ذلك الوادي القفر:
شعورها بملأ قلبها وعقلها بأنّ الله تعالى أغاثها واستجاب دعاءها، أم الماء العذب البارد الذي كان يتدفّق من الأرض تحت قدم ولدها، وهي تلملمه، وتقول: زم زم لئلّا يذهب هدراً.
نحن لا نتردّد لحظة واحدة أن نقول: إنّ الأوّل كان أقرّ لعينها من برد الماء المتدفّق من الأرض.
وأيّ شي ء أقرّ لعين إنسانة واعية عارفة من مثل هاجر أن تعرف أنّ الله تعالى سمع في ذلك الوادي القفر دعاءها وعرف اضطرارها، وكان سعيها ولهاثها بعينه وسمعه تبارك وتعالى، فاستجاب لدعائها. في حين لم يسمعها، ولم يسمع نداءها واستغاثتها أحدٌ في ذلك الهجير، ولم يرَ أحد سعيها ولهاثها بحثاً عن الماء .. ولكن الله تعالى رآها وسمعها ورحمها وأغاثها، واستجاب لها، وأذاقها برد الاستجابة والإغاثة بعد الاضطرار ولهفة الاستغاثة.
حنانيك ياربّ، ما أعذب رحمتك، وما أجمل صنعك، وما أسرع إغاثتك، وما أوسع رحمتك بعبادك.
ص: 25
وَرَحِمَكِ الله يا امّنا، فقد فقدت في ذلك القفر الهجير الأهل وحنانهم، وفقدت الماء والطعام، وفقدت من يسمعك ويعينك ... ولكنّك وجدت الله.
فماذا فقدت؟ وماذا وجدت؟
وسلام الله على عليٍّ زين العابدين حيث يناجي الله قائلًا: إلهي ماذا فقد مَن وجدك.
فما أرخص ما فقدت وما أغلى ما وجدت، ولعلّ الله يرزق أبناءك في تقلّبهم في الحياة بعض ما وجدت يومئذ في ذلك القفر الهجير.
5- المباركة للسعي
إنّ السعي الصادق، الخالص، الناصح منزل من منازل رحمة الله دائماً، ينزل الله تعالى إليه بركاته.
لقد جعل الله تعالى تلك العين التي تفجّرت عند قدم إسماعيل بسعي هاجر امّ إسماعيل، ماءً مباركاً ومنهلًا عذباً لحجّاج بيته، على مرّ العصور، منذ عصر إبراهيم وهاجر وإسماعيل إلى اليوم، يشرب منه الحجّاج ويروون منه ويتبرّكون به ... وقد روي عن رسول الله (ص): «ماء زمزم لما شرب له. من شربه لمرض شفاه الله، أو لجوع أشبعه الله، أو لحاجة قضاها الله» (1).
وقد كان الناس يشربون من ماء زمزم ليرزقهم الله العلم والمعرفة (2).
ولا زال الناس يستشفون ويتبرّكون بماء زمزم. ولا زال زمزم يروي ملايين الحجّاج والمعتمرين الذين يقصدون البيت الحرام في كلّ عام.
إنّ السعي لوحده، إذا انسلخ عن النيّة الصادقة والإخلاص وسائر الكلم الطيّب لا يكون موضعاً لمثل هذه البركات العظيمة.
إنّ هذه البركات من صنع الله تعالى، وليس من صنع الإنسان، لا يصنعها الإنسان بسعيه وجهده، وإنّما يصنعها الله تعالى حيث يعرف الصدق والإخلاص في السعي.
إنّ السعي عقيم من دون الصدق والإخلاص، ومبارك تتّصل بركاته ومنافعه بالصدق والإخلاص ... وهما الكلمتان الطيّبتان المباركتان في سعي الإنسان، والبركة ليست بحجم العمل، فقد أسّس رسول الله (ص) في المدينة المنوّرة مسجداً على التقوى من الطين وجذوع النخيل وسعف النخيل ... وكان هذا المسجد مصدر خير وبركات كثيرة على المسلمين منذ أسّسه رسول الله (ص) على التقوى إلى اليوم ... وبنى الملوك والخلفاء والسلاطين مساجد عظيمة، بتكاليف باهظة لا تجد لها اليوم أثراً غير الخرائب التي يحتفظ بها هواة الآثار ... أرأيت مسجد العبّاسيّين في سامراء؟
6- التكريم
وكم يسعى الناس في حياتهم، ويعملون ويتحرّكون، ولكن الله تعالى ينتقي سعي هذه المرأة الصالحة، في الوادي القفر، دون سائر سعي الناس، ليكون جزءاً من مناسك الحجّ.
كيف رقى هذا السعي عند الله إلى هذا الموقع المتميّز الممتاز، فكان جزءً من مناسك فريضة الحجّ دون سائر سعي الساعين؟ لا نعلم.
ولكن لكلّ انتقاء واختيار من عند الله سنن وقوانين وقواعد وحساب ... ولسنا نعلم من هذه السنن والقواعد إلّا القليل.
لقد كانت هاجر (أَمَة)، ولم تكن حُرّة، وكانت امّ ولد إبراهيم، والناس لا يعبؤون في حساباتهم في التقييم بمثل هذه المرأة، ولا يدخل سعيها في أولويّات التقسيم والتفضيل.
ص: 26
ولكن لله تعالى حساب آخر في التقييم والتفضيل، يختلف عن حساب سائر الناس، فيكرمها الله تعالى دون كثير من الرجال والنساء الأحرار، وينتقي سعيها فيجعله جزءاً من مناسك الحجّ والعمرة، ويأمر أنبياءه وأولياءه وعباده أن يحذوا حذو تلك المرأة الصالحة بين جبلي الصفا والمروة في السعي.
إنّ كلّ هذا التكريم من ربّ العالمين كان لإمرأة ابتلاها الله تعالى في هذا الوادي قبل عدّة آلاف من السنين سعت في هذا الوادي بحثاً عن الماء تلهث من الصفا إلى المروة وبالعكس، راضيةً بقضاء الله، منقادة لأمره، داعيةً له، ومستغيثةً به ... ولم يرها يومئذ أحدٌ من الناس، ولكن الله تعالى رآها، واستجاب دعاءها، وأكرمها، وثبّت سعيها في مناسك الحجّ والعمرة، ليتعلّم الناس أنّ مقاييس التقييم والتفضيل عند الله شي ء آخر، غير ما في أيدي الناس من المقاييس، وأنّ من تزدريه عيون الناس قد يرفعه الله، ومن يعظّمه الناس قد يزدريه الله ويحتقره.
7- لم تستسلم لليأس والإحباط
عجيب أمر هذه المرأة في ذلك الوادي القفر، لم تستسلم لليأس، ولم يسلبها التعبُ القدرةَ على السعي والحركة، ولم تفقد الأمل في تحصيل الماء.
والرواية تذكر أنّها رفعت صوتها مستغيثةً فلم يجبها أحد، وأخذت تسعى بين الصفا والمروة وبالعكس تبحث عن الماء، ولم يتطرّق إلى روحها اليأس، ولم يعطّل التعب حركتها، حتّى رأت الماء، في الشوط السابع من على قمّة المروة، يتدفّق تحت قدم ابنها، بالقرب من موقع الكعبة المشرّفة اليوم.
ولو أنّ هذه المرأة كانت مقطوعة عن الله لم يكن بوسعها أن تقاوم كلّ هذه المقاومة، ولاستسلمت لليأس والتعب وسقطت على الأرض، ولكن الإيمان بالله، والثقة برحمته، والأمل العظيم في غوثه السريع، يهب من القوّة والمقاومة والصمود والثبات للمؤمنين، ما لا قِبلَ لأحد به.
عجبٌ أمر هذه المرأة في توكّلها العظيم على الله، حيث قبلت أن تبقى في الوادي القفر وحدها مع ولدها عندما فارقها إبراهيم (ع).
وفي أملها ورجائها العظيم برحمة الله، حيث لم يصبها يأس ولا إحباط في السعي، حتّى فجّر الله الماء من تحت قدم ابنها إسماعيل بجانب موضع الكعبة.
إنّ هذه القوّة والمقاومة والصبر والثبات لا يكتسبها الإنسان إلّا من الإيمان بالله تعالى، ولا نعرف في هذا الكون العريض كلّه عاملًا يمنح الإنسان كلّ هذه القوّة والثبات والصمود والصبر مثل الإيمان بالله تعالى.
فلسفة السعي
إنّ السعي شرط الرزق، وما ينال أحد شيئاً إلّا بالسعي إلى أسبابه. فلا يسأل الإنسان العافية والشفاء إلّا بالسعي إلى الطبيب والعلاج، ولا ينال الإنسان الرزق إلّا بالسعي إلى السوق، ولا ينال العلم إلّا بالسعي إلى الدراسة، ولا ينال الآخرة إلّا بالسعي في الدُّنيا.
وهذه سُنّةٌ ثابتة من سنن الله تعالى في الحياة الدُّنيا.
وأمّا في الآخرة فليس الأمر كذلك؛ فإنّ الإنسان ينال ما يُريد في الجنّة من دون سعي، فإنّ الجنّة قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (1)، وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (2)، وَفَاكِهَة مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (3).
وهذه الآيات وغيرها تُشعر أنّ الجنّة ليست بدار سعي لَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ ...
ص: 27
ولكن الدُّنيا دار سعي، سعي في الدُّنيا للدُّنيا، وسعي في الدُّنيا للآخرة.
ونتساءل لماذا كانت الدُّنيا دار سعي ... ولا ينال الإنسان شيئاً من رزق الله تعالى إلّا بالسعي في الدُّنيا؟
والجواب: إنّ سُلَّم تكامل الإنسان في الدُّنيا في الابتلاء، ولا ينال الإنسان كمالًا في الدُّنيا والآخرة إلّا من خلال سُنّة (الابتلاء)، ولا يتمّ الابتلاء إلّا بالعبور من خلال الأهواء والشهوات والفتن والمُغريات في الدُّنيا ... وفي هذا العبور يتكامل الإنسان أو يسقط، وكمال الإنسان في الدُّنيا والآخرة هو أن يجتاز هذا الصراط من دون أن يسقط في شرك الشهوات والمُغريات. وسقوطه هو الوقوع في شرك سلطان الأهواء والفتن والمغريات.
إنّ هذا العبور الصعب من وسط الأهواء والشهوات (في داخل النفس) من جانب، ومن خلال المُغريات والفتن في (ساحة الحياة) من جانب آخر، هو سرّ تكامل الإنسان، وهو سبب سقوط الإنسان وهلاكه وشقائه، إذا وقع الإنسان في هذا العبور في أسر الأهواء والفتن.
وليس للملائكة مثل هذا العبور الصعب، كما ليس للحيوان مثل هذا العبور، ولذلك يسمو الإنسان على الملائكة إذا عبر هذه المنطقة الصعبة بسلام، ويكون أحطّ من الحيوانات إذا سقط في هذه المنطقة أُوْلَئِكَ كَالْانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ (1)، إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (2)، وهذا العبور هو (السعي). ولولا السعي لا يتمكّن الإنسان من هذا العبور الصعب.
فلو أنّ الإنسان انزوى في بيته أو في الكهوف والمغارات وتفرّغ للعبادة ولم ينزل إلى الشارع، ولم يختلط بالناس، ولم يلتق بالمُثيرات والمغريات والفتن، ولم تتعرّض الغرائز التي أودعها الله في نفسه لإثارات حادّة، لم يبلغ (كمال الإنسان)، ولذلك جعل الله تعالى السعي شرطاً في الرزق في هذه الدُّنيا؛ لأنّ تكامل الإنسان لا يتمّ إلّا من خلال (السعي)، إلّا أنّ العِدْل الآخر لهذا الكمال هو السقوط.
وهذا السقوط هو ضريبة ذلك الكمال، وقد هيّأ الله تعالى للإنسان كلّ أسباب سلامة العبور والخروج من هذه المنطقة الصعبة، من وسائل الهداية الباطنية (العقل) والخارجيّة (الأنبياء والوحي)، ومكّن الإنسان من الاختيار، وهو يختار بعد ذلك الهدى أو الضلال إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (4).
السعي من منازل رحمة الله
جعل الله تعالى لرحمته منازل ومواقع في حياة الناس، فمَن كان يسعى إلى رحمة الله فعليه أن يطلبها في منازلها، ولرحمة الله مفاتيح فمَن طلبها فعليه أن يقصدها بمفاتيحها ومن أبوابها.
وهذا باب واسع من أبواب المعرفة لا نريد أن ندخله الآن، و (السعي) من أعظم منازل رحمة الله.
ولا شكّ أنّ الرازق هو الله تعالى، ولكن (السعي) من أبواب رزق الله تعالى ومنازل رحمته، فمَن أراد الرزق فعليه السعي في السوق، ومَن أراد العلاج فعليه السعي إلى الأطبّاء، ومَنْ أراد العلم فعليه السعي إلى العلماء والمدارس، ومَن أراد النصر فعليه السعي إلى الأعداء والتحضير والتخطيط له.
إلّا أنّ الرزق من عند الله، والشفاء من عند الله، والعلم من عند الله، والنصر من عند الله، وما السوق والطبيب والمدرسة والإعداد والتحضير للحرب إلّا مفاتيح ومداخل لها.
وكذلك الآخرة بما يرزق الله تعالى فيها عباده من المغفرة والنعيم والرِّضوان ... مفتاحها السعي.
ومَن أراد الدُّنيا أو الآخرة من غير أن يسعى إليهما بسعيهما، فلا ينال ما يُريد فيهما.
ص: 28
وهذه من سنن الله تعالى التي لا تتبدّل ولا تتغيّر: وهي أنّ الله تعالى جعل السعي مفتاحاً لرحمته في الدُّنيا والآخرة.
ولا ينال الإنسان رزقاً من رزق الله إلّا بالسعي، يقول تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْانسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (1).
أُصول النظريّة الإسلاميّة في السعي للدُّنيا
عوداً على بدء، نعود إلى الحديث مرّةً اخرى عن مجمل التصوّر الذي يقدِّمه الإسلام عن (السعي).
وأهمّ النقاط التي تدخل في تكوين النظريّة الإسلاميّة في (السعي)، هي:
1- الدعوة إلى السعي وإقراره، والتأكيد عليه، والدعوة إلى عمارة الأرض من خلال السعي، يقول تعالى: فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِى الْارْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ (2).
2- تعميق مبدأ أنّ الرزق من عند الله تعالى فقط. يقول تعالى: إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (3).
ويقول تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِن السَّمَوَاتِ وَالْارْضِ قُلْ اللهُ (4).
ويقول تعالى: وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَاب (5).
ويقول تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (6).
وهذا مبدأ هامّ في الإسلام، وشعبة من شعب التوحيد؛ وهو توحيد الله تعالى في الرزق ... وكذلك الأمر في توحيد الله في الشفاء وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (7)، وتوحيد الله في (النصر) وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ (8)، وغير ذلك من وجوه سعي الإنسان في الحياة الدُّنيا.
3- وسعي الإنسان في طلب الرزق لا يزيد على أن يكون ابتغاءً للرزق من فضل الله ورحمته وطلباً لرزقه.
وفرق شاسع بين المفهومين:
بين أن يكون الإنسان هو الذي يحقّق رزقه بيده في السوق.
أو أن يطلب رزق الله وفضله الذي قدّره تعالى له في السوق.
والأوّل من الشرك، والثاني من التوحيد.
والقرآن الكريم يؤكّد بشكل عجيب على تثبيت أنّ الرزق من عند الله، وأنَّ سعي الإنسان في طلب الرزق لا يزيد على أن يكون ابتغاءً من فضل الله ورحمته.
وهذه النقطة تأتي نتيجة للنقطة المتقدِّمة، فإنّ الرزق إذا كان من عند الله تعالى خالصاً، فلا محالة يكون دور الإنسان في السعي إلى الرزق هو ابتغاء فضل الله.
ففي آية سورة الجمعة التي تلوناها قبل قليل وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ.
4- التجمّل في طلب الرزق.
وينهى الإسلام عن الحرص والجشع في طلب الرزق، ويأمرنا بالتجمّل في السعي، وينهانا عن أن نمدّ عيوننا إلى ما متّع الله الناس به من زهرة الحياة الدُّنيا.
يقول تعالى: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (9).
ويزهّدنا الله في متاع الحياة الدُّنيا ويرغّبنا في متاع الآخرة.
يقول تعالى: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْاخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (10).
ص: 29
ويأمرنا الله تعالى أن نعرِض عن اولئك الذين تستغرق الحياة الدُّنيا كلّ اهتمامهم وطموحهم، يقول تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (1).
وينهانا الإسلام عن الحرص في طلب الحياة الدُّنيا.
يقول أمير المؤمنين (ع) في وصف الدُّنيا: «مَن ساعاها فاتته، ومَن قعد عنها واتته» (2).
يعني مَنْ بذل كلّ اهتمامه وجهده في طلب الدُّنيا فاتته، ومَنْ تجمّل في طلب الرزق واتته الدُّنيا.
5- وينهى الله تعالى عن طلب الرزق من غير الموارد التي حلّلها الله تعالى، وقد حدّد الله حدوداً للسعي إلى الرزق، وحرّم تجاوز هذه الحدود، وحرّم أكل المال بالباطل.
يقول تعالى: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ (3).
ويقول تعالى: إِنَّ كَثِيراً مِن الْاحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ (4).
6- ويُرغّبنا الله تعالى بابتغاء فضل الله بالسعي إلى الرزق.
يقول تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ (5).
ويقول تعالى: وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6).
ويقول تعالى: رَبُّكُمْ الَّذِى يُزْجِى لَكُمْ الْفُلْكَ فِى الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ (7).
ويقول تعالى: اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمْ الْبَحْرَ لِتَجْرِىَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ (8).
وهذا أيضاً من المبادئ الهامّة في القرآن الكريم، وعلى الإنسان أن يجعل وجهه دائماً في ابتغاء الرزق إلى الله، وكما يسلّم الإنسان وجهه لله تعالى في العبادة، كذلك عليه أن يسلّم وجهه لله عند السعي في طلب الرزق، فإنّ السعي في الرزق هو ابتغاء فضل الله ورحمته.
7- الموازنة بين الدُّنيا والآخرة، فلا ينصرف إلى الدُّنيا كلّ الانصراف حتّى تُنسيه الآخرة، ولا يعرِض عن الدُّنيا وعمّا يؤتي الله تعالى عباده من الرزق فيها، كلّ الإعراض، ولا يقبض يده كلّ القبض، ولا يبسطها كلّ البسط، وإنّما يسعى للموازنة بين الدُّنيا والآخرة في سعيه وجُهده.
يقول تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْاخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِن الدُّنْيَا (9).
ويقول تعالى فيما يعلِّم عباده من الدُّعاء: رَبَّنَا آتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الْاخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (10).
هذه خلاصة من النهج الإسلامي لتهذيب (السعي) في الحياة الدُّنيا، وهي جميعاً، كما يتّضح من خلال قراءة سريعة، توجّه سعي الإنسان إلى الحالة الربّانية، وإضفاء الصبغة الإلهيّة على سعي الإنسان في الدُّنيا.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا ابتغاء وجهه الكريم في أحوالنا جميعاً في كدحنا وسعينا.
الضوابط الأربعة للسعي
علمنا أنّ السعي جزء لا يتجزّأ من حركة الإنسان إلى الله، ولا يتكامل الإنسان في هذه الدُّنيا إلّا من خلال (السعي). ولا يخلو إنسان خلقه الله تعالى على وجه الأرض من (السعي).
إذن، فالسعي مسألةٌ ذات أهمّية كبيرة في حياة الإنسان في هذه الدُّنيا. ومن الضروري أن نتوقّف عند تحديد الضوابط التي جعلها الإسلام للسعي، وهذه الضوابط أربعة، نذكرها تِباعاً:
1- التوحيد.
ص: 30
2- الإخلاص.
3- الذِّكر.
4- التقوى.
وإليك شرح كلّ واحد من هذه الضوابط بقدر ما يتّسع له هذا المقال.
1- التوحيد في السعي
إنّ (السعي) يمكن أن يكون سُلّماً إلى التوحيد، ويمكن أن يكون حجاباً يحجب صاحبه عن التوحيد ... وذلك عندما يخال الإنسان أنّ سعيه هو مصدر رزقه، وقوته، وعزّته، وكثرته، وحوله، وطوله، وعلمه، وهذا هو الحجاب الذي يحجب صاحبه عن الله، وهو من الشرك بالله، إن لم يبلغ أحياناً الكفر بالله العظيم.
والمنهج الصحيح في (السعي): أن يبتغي الإنسان بالسعي فضله ورحمته فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِى الْارْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ (1).
وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ (2).
وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ (3).
فالرزق كلّه من الله تعالى:
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِن السَّمَوَاتِ وَالْارْضِ قُلْ اللهُ (4).
هَلْ مِنْ خَالِق غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِن السَّمَاءِ وَالْارْضِ (5).
والشفاء من عند الله: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (6).
والنصر من عند الله: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (7).
والزرع من عند الله: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ* أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (8).
والحول والقوّة كلّها لله تعالى: مَا شَاءَ اللهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ (9).
والإنسان في جولة السعي في هذه الحياة الدُّنيا لا يزيد على أن يطلب الرزق والشفاء والعلم والنصر من عند الله، وإنّما السعي في الأسواق، والسعي إلى الطبّ والدواء، والسعي إلى العلم، والسعي للتخطيط والإعداد لساحات القتال، مفاتيح للمال والشفاء والعلم والنصر فقط، وليست مصادر لها.
لقد برز قارون لقومه بزينته فرِحاً مختالًا بما اوتي من المال، فقال له العلماء الصالحون من بني إسرائيل: لا تفرح، أي لا يغرّك هذا المال ولا يُصيبك الاختيال، فإنّ الله لا يحبّ الفرحين المغرورين المختالين: إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (10).
فكان جواب قارون لهم أنّه قد كسب هذا المال كلّه بعلمه ومعرفته وذكائه ... قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْم عِندِى (11)؛ أي إنّما اوتيت هذا المال بسبب من علمي ومعرفتي، وهذا هو الكفر بالله العظيم.
إنّ السعي الذي أوصل قارون إلى هذا المال الكثير حجبه عن الله تعالى، وهذا الحجاب هو الكفر بالله العظيم.
وفي قصّة صاحب الجنّتين نقرأ في سورة الكهف هذا الحوار بينه وبين صاحبه الفقير المؤمن:
فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَراً ...
قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِنْ تُرَاب ثُمَّ مِنْ نُطْفَة ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا.
لَكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّى وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّى أَحَداً.
ص: 31
وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ إِنْ تَرَنِى أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَداً (1).
والفرق بين المنطقين في هذا الحوار المتبادل بين صاحب الجنّتين، وصاحبه الفقير (الأقلّ مالًا وولداً):
أنّ صاحب الجنتين عندما وجد نفسه أكثر مالًا وأعزّ نفراً لم يعرف فضل الله تعالى، ولم يذكر فضل الله تعالى عليه في هذه الكثرة والعزّة، وإنّما رأى نفسه فقط أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَراً، وهذه (الأنا) هو الحجاب الأعظم الذي يحجب الإنسان عن الله.
ولكن صاحبه (الأقلّ مالًا وولداً) ينبّهه إلى خطئه، فيقول له: لو كنت ترى في هذه الكثرة والعزّة التي رزقك الله مشيئة الله وقوّته تعالى ورحمته ورزقه، ولا ترى نفسك حيث وجدتني أنا أقلّ منك مالًا وولداً ... كان هو الصواب وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ إِنْ تَرَنِى أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَداً.
إنّ (السعي) الذي أوصل صاحب الجنّتين إلى الكثرة والعزّة والتقدّم على صاحبه أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَراً لم يكن إلّا مدخلًا إلى ابتغاء رحمة الله تعالى ووسيلة إلى ابتغاء الكثرة والعزّة من عند الله ... وأمّا الكثرة، والعزّة، والحول، والقوّة، والمال، والثروة، والشفاء، والنصر، والحول، والسلطان، فلا يكون إلّا من عند الله ... وليس للعبد إلّا أن يطلبه من عند الله بسعيه وحركته.
وهذه هي الرؤية التوحيديّة للسعي. وأمّا الرؤية الاخرى التي كان يرى بها صاحب الجنّتين جنّتيه أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَراً فهي من الشرك إن لم يكن هي الكفر بعينه. والفاصل بينهما كبيرٌ وشاسع.
2- الإخلاص في السعي:
إنّ سعي الناس لشتّى- ولكن السعي الذي ينفع الإنسان في الآخرة ويتكامل به في الدُّنيا والآخرة هو السعي الذي يخلص فيه الإنسان لله تعالى.
هذا السعي هو الذي يُقرّبه إلى الله، وهو الذي يتقبّله الله، وقد روي عن رسول الله (ص) أنّه قال: «إنّ الله لا يقبل من العمل إلّا ما كان له خالصاً، وابتغ (وأُبتغي) به وجهه» (2).
وليس الإخلاص فقط في العبادات كالصلاة والصوم والحجّ والزكاة، بل ينبغي أن يكون الإخلاص في كلّ سعي للإنسان، حتّى فيما يتعلّق بمعاشه وحياته العائليّة واموره الشخصية ... فإنّ من الممكن أن يؤدّي الإنسان كلّ ذلك، وهو ينوي فيه وجه الله تعالى، وابتغاء مرضاته. قُلْ إِنَّ صَلَاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاى وَمَمَاتِى للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (3).
والذي يلفتنا في هذه الآية إنّ الله تعالى لم يأمر نبيّه (ص) أن يخلص له في صلاته ونسكه، بل أمره بالإخلاص في حياته ومماته وَمَحْيَاى وَمَمَاتِى، وهي مساحة واسعة جدّاً، بل هي كلّ مساحة حياة الانسان.
ولقد كنّا نجد في عباد الله الصالحين من إذا طلب منه أحد شيئاً استمهله حتّى تحضره النيّة.
فإذا انقلب سعي الإنسان كلّه إلى ابتغاء وجه الله الكريم كان سعيه كلّه عبادة، وحياته كلّها عروجاً وقُرباً إلى الله.
أُولئك هم الذين يعيشون في وسط الناس، كما يعيش سائر الناس، في الأسواق، والدوائر، والبيوت، والمتاجر، والمعامل، والمصانع، والمزارع، ولكن قلوبهم عند الله، وغايتهم هي ابتغاء وجهه الكريم، واولئك يتقبّل الله تعالى سعيهم في الحياة الدُّنيا كلّه؛ لأنّ سعيهم كلّه لله تعالى.
وفي هؤلاء يصحّ أن نقول: إنّ هؤلاء يعيشون مع الناس، وليسوا مع الناس، يختلطون بالناس كما يختلط الناس بعضهم ببعض، ولكن بأجسامهم، أمّا قلوبهم فلم تفارق الله تعالى لحظةً واحدة.
ص: 32
3- الذِّكر والسعي
إنّ السعي عند كثير من الناس يشغلهم ويحجبهم عن الله؛ لأنّهم في سعيهم يعتمدون الأسباب المادّية ويتوسّلون بها إلى حاجاتهم ... وهو حقّ، فإنّ الله تعالى قد جعل لكلّ شي ء سبباً، فإذا طلب الإنسان الرزق، فلابدّ أن يطلبه من أسبابه، ومن أسبابه التجارة، والسوق، والكدح في الأسواق، وإن طلب النصر فلابدّ أن يطلبه من أسبابه، وإذا طلب الشفاء والعافية فلابدّ أن يطلبهما من أسبابهما، وهذا حقٌّ كما ذكرنا، ولكن هذه الأسباب لا تزيد على أن تكون أسباباً مباشرة للأشياء، ومسبّب هذه الأسباب هو الله تعالى، والله خالقها وجاعلها، وهو وليّ التوفيق يهبُ التوفيق لمن يشاء، ويسلب التوفيق عمّن يشاء، يهب الرزق لمن يشاء (بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْ ء قَدِيرٌ) (1)، ويقطع الرزق عمن يشاء.
يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ (2).
يَزِيدُ فِى الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ (3).
وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (4).
وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ (5).
وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَىْ ء قَدِيراً (6).
إذن الرزق، والشفاء، والنصر، والعلم، والتوفيق من عند الله تعالى فحسب، وهذه الأسباب مسخّرة لله يخلقها ويعدمها، ويضعها حيث يشاء، ويرفعها من حيث يشاء (7)، وهي لا تزيد على أن تكون مفاتيح إلى خزائن رحمة الله ورزقه.
والأسباب ليست أنداداً لله، ولا أضداداً له في سلطانه وملكه، وإنّما هي مخلوقات له، مسخّرات بأمره ... يهبُ منها مَن يشاء ما يشاء.
وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَاب (8).
وَاللهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ (9).
يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ (10).
وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ (11).
يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ (12).
يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ (13).
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ (14).
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ (15).
وهو الحاكم على الأسباب، وليس محكوماً لها.
والتصوّرات في هذه المسألة ثلاثة؛ منهم من يقرأ آي الكتاب، في حاكميّة الله وسلطانه، فيلغي الأسباب إلغاءً كاملًا، وينفي قانون العلّية والسببيّة مطلقاً، وهو وهم، يخالف القرآن والعقل.
ومنهم من يحكّم هذه الأسباب على مشيئة الله وإرادته ويعتقد أنّ الله تعالى هو خالق الأسباب، ولكن هذه الأسباب تعمل باستقلال، بعد أن خلقها الله، وليس لله تعالى بعد أن خلق الأسباب أن يتصرّف في هذا الكون، ويبسط الرزق لمن يشاء ويُقَدّرُ على مَن يشاء، ويهب الملك والرزق والنصر لمن يشاء، ويمنعه عمّن يشاء وهؤلاء هم اليهود، كانوا يقولون، كما يحدّثنا القرآن: يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ (16).
وهذا هو التصوّر الثاني، يشجبه القرآن ويلعن قائليه.
ص: 33
والتصوّر الثالث هو التصوّر الذي يعلّمنا القرآن، يثبّت قانون العلّية، ثمّ يعلن أنّ هذا الكون كلّه والوجود كلّه مسخّر لأمره، وهو الخالق الحاكم المهيمن على الكون كلّه يرزق من يشاء، بما يشاء، كيف يشاء، وينصر مَن يشاء، بما يشاء.
وسعي الإنسان في هذا الكون إلى أسباب الرزق ينبغي أن يكون من هذا المنطلق، وبهذه الرؤية التوحيديّة.
ولا ينبغي أن تحجبه الأسباب عن المسبّب الأوّل والمبدء الأوّل الحاكم على الكون والوجود كله.
وحجاب الأسباب حجاب كثيف، يُعمي الإنسان، ويسلبه البصر والبصيرة، فيرى الإنسان الأسباب ولا يرى يد الله تعالى من وراء الأسباب وفوقها ومعها.
وهذا هو شرط (التوحيد) في (السعي)، وقد تحدّثنا عنه، ولا نريد أن نعيد الحديث عن هذا الشرط.
وما نريد أن نقوله هنا هو: إنّ هذه الرؤية التوحيديّة لعلاقة الكون بالله تعالى، وحاكميّة الله المطلقة على هذا الكون، يدعو الإنسان أن يكون ذاكراً لله تعالى في كلّ مراحل سعيه، وكلّ أنماط سعيه، يطلب من الله ما يشاء، ويدعو الله تعالى فيما يريد، ولا يشغله الكدح في السوق من أن يطلب الرزق من عند الله، ولا يشغله السعي إلى الأسباب المادّية الميدانيّة للنصر في المعركة من أن يطلب النصر من عند الله.
وهذا هو قوله تعالى: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فإنّ تقديم المفعول (إيّاك) على الفعل (نستعين) يفيد الحصر، ومعنى ذلك أنّ على الإنسان أن لا يستعين في سعيه بغير الله، وكلّ استعانة بغير الله فهي من الشرك الذي يشجبه القرآن الكريم.
وعليه يبقى الإنسان ذاكراً لله تعالى، في كلّ سعيه، يدعوه عزّ شأنه للتوفيق والتأييد والرزق، ولا يشغله شي ءٌ من هذه الأسباب عن ذكر الله تعالى ودعائه وسؤاله واللجوء إليه عزَّ شأنه، في كلّ مراحل السعي ومنعطفاته.
4- التقوى والسعي
الكلمة الأخيرة في ضوابط السعي (التقوى) فإنّ الله تعالى إنّما يتقبّل من المتّقين .. وأيّ سعي لا يأخذ فيه صاحبه بضوابط التقوى لا يتقبّله الله.
وكما لا يتقبّل الله من السعي ما لا يخلص فيه صاحبه لله كذلك لا يتقبّل الله سعياً لا يأخذ فيه صاحبه بضوابط التقوى إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِن الْمُتَّقِينَ (1)، وأيّ سعي لا تضبطه التقوى فلا قيمة له عند الله.
والتقوى هي التي تُنجح سعي الإنسان، وتفتح له في الأزمات الصعبة مخرجاً من الضيق وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ (2).
والتقوى لا تضيق على الإنسان مساحة سعيه، ففي ما أحلَّ الله تعالى رحمة وبركة ورزق، وفيما حرّمه الله تعالى شقاء وحرمان للإنسان.
فلابدّ أن يجري الإنسان في سعيه في هذه الدُّنيا طِبقاً لحدود الله تعالى في الحلال والحرام، ولا يتجاوز حدّاً من حدود الله.
الإنسان بين السعي والكلم الطيّب
يقول تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ (3)، هذا هو كلّ ما يملكه الإنسان في هذه الدُّنيا، ويأخذه معه إلى لقاء الله.
1- السعي وهو العمل الصالح، حسب الآية العاشرة من سورة فاطر.
2- والكلم الطيّب، وهي النيّة والحالات القلبيّة الكامنة وراء العمل الصالح من الخشوع والتبتّل، والتقوى والحبّ والبغض والذِّكر (القلبي)، والتوحيد والإخلاص ...
ص: 34
إنّ قيمة العمل بالكلم الطيّب.
ولولا الكلم الطيّب فلا قيمة للعمل.
إنّ الصلاة من دون نيّة القربة، ومن دون الخشوع وحضور القلب لا قيمة لها ... وقيمة الصلاة بهذا الكلم الطيّب.
والصوم من دون كفّ النفس عن مشتهياتها والقُرب إلى الله بذلك لا قيمة له.
والذي يصعد إلى الله من الإنسان هو هذا الكلم الطيّب: وهو (الإخلاص، والتوحيد، والإيمان، والتعبّد، والتقوى، والحبّ، والإيثار ... إلى آخره) إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ. أمّا العمل الصالح الذي يمارسه الإنسان، فلا يزيد على أن يكون عاملًا لصعود الكلم الطيّب إلى الله وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ.
صحيح أنّ التقوى هي التي تصعد إلى الله، ولكن الذي يرفع التقوى إلى الله هو كفّ النفس عن شهواتها عندما يواجه الإنسان فتنة من مغريات الدُّنيا ... وهذا هو العمل الصالح، وصحيح أنّ التوحيد هو الذي يصعد إلى الله، ولكن الذي يرفع التوحيد إلى الله، هو عبادة الله تعالى وحده وطاعته ورفض الطاغوت والشيطان، وعدم الانقياد والطاعة لهما ومكافحتهما، وهذا هو مقام العمل.
وصحيح أنّ الإيثار هو الذي يصعد إلى الله، ولكن الإنفاق هو الذي يرفع الإيثار إلى الله، وهو العمل.
إذن، الذي يصعد إلى الله هو الكلم الطيّب، وأمّا العمل الصالح فهو الذي يرفع الكلم الطيّب إلى الله.
ومن دون الكلم الطيّب لا قيمة للعمل.
ومن دون العمل لا يصعد الكلم الطيّب إلى الله.
والكلمات الطيّبة الأربع التي ذكرناها في ضوابط السعي هي التي تصعد إلى الله، وليس السعي، ولكنّها لا تصعد إلى الله إلّا بالسعي، ومن دون السعي، ومجرّدة عن السعي لا تصعد إلى الله. فالسعي شرطٌ لصعود الكلمات الطيّبة الأربع إلى الله.
كما أنّ قيمة (السعي) وكماله في هذه الكلمات الأربع، ومن دونها لا قيمة للسعي.
إذن، بإمكاننا أن نختصر هذا العنوان بهاتين الكلمتين:
1- لا قيمة للسعي من دون الكلمات الأربع المتقدِّمة.
2- ولا تصعد هذه الكلمات إلى الله تعالى من دون عامل (السعي).
قيمة السعي بالكلمات الأربع
لقد تحدّثنا عن الكلمات الأربع التي تضبط سعي الإنسان في الحياة الدُّنيا، وهي: التوحيد، والإخلاص، والذِّكر، والتقوى.
وهذه الكلمات هي أعظم الكلمات التي تضبط سعي الإنسان في الحياة الدُّنيا، ولكلّ منها دور في سعي الإنسان.
أمّا (التوحيد) فهو شرط الإيمان، ومن دون هذا الشرط يكون السعي نوعاً من أنواع الشرك الخفيّ أو الجليّ ... وبالشرك تسقط قيمة السعي سقوطاً نهائياً.
إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ (1).
وأمّا شرط (التقوى) فهو شرط في سلامة العمل، ومن دون التقوى يكون العمل باطلًا وفاسداً، وهو دون شرط التوحيد، لأنّ الله لا يغفر أن يُشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
وهو شرط قبول السعي؛ لأنّ الله تعالى إنّما يتقبّل من المتّقين إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِن الْمُتَّقِينَ (2).
ص: 35
والسعي الذي يفقد التقوى يقع بين معصية الله ورفض القبول من جانب الله.
أمّا المعصية، فإنّ الله تعالى قد يغفر لصاحبها وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ (1). وأمّا رفض القبول، فإنّ الآية السابعة والعشرين من سورة المائدة واضحة في أنّ التقوى شرط القبول، ومن دونها لا يتقبّل الله الأعمال: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ وإنّما هنا للحصر، والحصر بمعنى الإيجاب والسلب.
وأمّا شرط (الذِّكر) و (الإخلاص) فهما شرطان في كمال السعي، ويبلغ السعي ذروته بالإخلاص والاستعانة بالله وذكر الله تعالى.
أعراض السعي للدُّنيا
وكما أنّ السعي من منازل رحمة الله، فإنّ للسعي للدُّنيا في حياة الناس أعراضاً على درجة كبيرة من الخطورة؛ وذلك أنّ السعي للدُّنيا يتطلّب الاحتكاك والتماس مع (المال) ومع (الناس).
ولهذا التماس المزدوج مردودات سلبيّة ثلاثة في حياة الإنسان، يسقط عندها خلقٌ كثير، وهذه المردودات الثلاثة، هي:
1- في علاقة الإنسان بالله.
2- وفي علاقة الإنسان بالناس.
3- في علاقة الإنسان بالمال.
وإليك توضيح موجز لهذه المردودات الثلاثة:
أ- أعراض السعي في علاقة الإنسان بالله
التعامل المباشر مع (المال) و (المادّة)، من دون وجود ضمانات ومؤمّنات تؤمِّن وتضمن سلامة الإنسان في علاقته بالله تعالى يُعرِّض علاقة الإنسان بالله تعالى لأضرار وأخطار كبيرة.
ذلك أنّ التعامل المباشر والمستمرّ مع (الأسباب) تضعّف علاقة الإنسان ب- (المسبِّب) الحقيقي، وهو الله تعالى، وتضعّف إحساس الإنسان ووعيه لسلطان الله تعالى وحوله وقوّته التي يؤول إليها كلّ حول وقوّة وسلطان.
وهو أثرٌ طبيعيّ للتعامل مع الأسباب المادّية في السوق، إذا كان لا يقترن بذكر الله. وذكر الله تعالى هو المؤمّن والضمان الحقيقي للسلامة من هذا الخطر.
ويتدرّج الإنسان على هذا الخطّ النازل في علاقته بالله فتقوى ثقته بالأسباب المادّية التي يتعامل معها في الأسواق، أو في ساحة السياسة والإعلام، أو في المعمل، أو في المزرعة، وبقدر ما تتأكّد ثقته بها، تضعف ثقته بالله من حيث يشعُر أو لا يشعُر.
فتتحوّل ثقة الإنسان بالتدريج من المسبِّب إلى السبب. وهذا هو بعض حدود الشرك وبعض أنواع الشرك الخفيّ الذي يتسلّل إلى عقل الإنسان وقلبه، من دون أن يشعر أحياناً.
وإذا تحوّلت ثقة الإنسان بالتدريج من المسبِّب إلى الأسباب تضعف إستعانته بالله وتوكّله على الله.
سعي الإنسان بين إياك نعبد وإيّاك نستعين
وهو أحد شطري علاقة الإنسان بالله تعالى؛ فإنّ علاقة الإنسان بالله لا تتجاوز (خطّ العبادة) و (خطّ الاستعانة).
ص: 36
وخطّ العبادة هو الخطّ الصاعد إلى الله تعالى من ذِكر، وحمد، وشكر، وثناء، وصلاة، وصيام، وحجّ، وإنفاق، وتبتّل، وتضرُّع، وبكاء، وخشية، وشوق، وولاء، وطاعة ... وهذا هو الخطّ الصاعد في علاقة الإنسان بالله وهو خطّ العبادة.
والخطّ الثاني خطّ الاستعانة، وهو الخطّ الذي يستنزل به العبد رحمة الله تعالى ورزقه إليه، مثل التوكّل على الله، والدُّعاء، والاستعانة، والاستعاذة، والتوبة، والاستغفار، وكل ما يستنزل رحمة الله تعالى على عبده من رزق، وموهبة، وشفاء، وعلم، وخير، وعفو، ومغفرة، ونصر.
وعلاقة الإنسان بالله تعالى كلّها تتلخّص في هذين الخطّين: الخطّ الصاعد (العبادة)، والخطّ النازل (الاستعانة).
وإليها يشير قوله تعالى في سورة الحمد: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (1).
وهذان الخطّان؛ الصاعد والنازل، من التوحيد، الذي لا يجوز فيه الشرك، والدليل على ذلك تقديم المفعول (إيّاك) على الفعل (نعبد، نستعين)، وقد ذكر علماء العربيّة أنّ تقديم المفعول على الفعل يدلّ على الحصر.
وبناءً عليه فإنّ العبادة والاستعانة في هذه الآية يدخلان كلاهما في مقولة التوحيد. والناس يعرفون التوحيد في العبادة فقط، دون الاستعانة.
ولكن التوحيد الذي يدعو إليه القرآن توحيد في العبادة والاستعانة معاً، وهو أن لا يُشرك الإنسان بالله تعالى في العبادة، كالشكر، والصلاة، والصيام، والذِّكر. كما لا يُشرك به تعالى في الاستعانة مهما توثّقت العلاقة بينه وبين الأسباب المادّية؛ من مال، وإعلام، وقوّة، وعلم. فيجب عليه أن يَحْذَر كُلّ الحذر من أن تحجبه هذه الأسباب عن المسبِّب الحقيقي والمبدأ الأوّل لكلّ سبب في هذا الكون وهو الله تعالى.
وأساس التوحيد في الاستعانة: البصيرة، والمعرفة بالله من جانب، والثقة بالله تعالى من جانب آخر.
فإذا ضعُفت بصيرته بالله بسبب الاحتكاك الدائم والتعامل المستمرّ مع الأسباب المادّية في الحياة الدُّنيا ضعفت استعانته بالله، واختلط عنده التوحيد بالشرك في واحد من اثنين من خطّي العلاقة بالله.
وتلك خسارةٌ كبيرة في حياة الإنسان لا يعوّضها شي ء مهما استفاد الإنسان من الأسباب المادّية التي يتعامل معها.
وبناءً على هذا الوعي القرآني للسعي، فإنّ كلّ سعي للإنسان في الدُّنيا يجب أن يكون من مقولة التوحيد.
فإنّ سعي الإنسان الراشد في الدُّنيا لا يخلو إمّا أن يكون من الخطّ الصاعد إلى الله، وهو العبادة في (إيّاك نعبد)، أو يكون من الاستعانة بالله في السعي للدُّنيا والآخرة، وهو (إيّاك نستعين)، وهو من الخطّ النازل في علاقة الإنسان بالله.
وليس للإنسان سعيٌ راشد آخر غير هذا وذاك.
وفي كلّ منهما لابدّ أن يوحِّد العبد الله تعالى، في العبادة وفي الاستعانة معاً؛ فلا يطلب في العبادة إلّا وجه الله تعالى، وهو التوحيد في العبادة (إيّاك نعبد)، ولايستعين في سعيه في الدُّنيا، للدُّنيا وللآخرة، بغير الله تعالى وهو (إيّاك نستعين)، إلّا أن يؤمن أنّ ذلك في امتداد الاستعانة بالله، وليس نِدّاً لله، ولا ضدّاً له.
إذن، كلّ سعي للإنسان في الدُّنيا يجب أن يكون توحيداً لله ... وليس يجوز للإنسان الشرك في سعيه في الدُّنيا، سواءً كان سعيه عبادةً لله، أم إستعانةً بالله في سعيه للدُّنيا أو الآخرة.
فإذا سعى إلى الطبيب كان سعيه إليه في امتداد استعانته بالله، وليس في عرضه. وإذا سعى إلى السوق كان سعيه في امتداد استعانته بالله للرزق، وليس في عرضه، وليس السوق إلّا سبباً سخّره الله تعالى لعباده في الرزق ... وهذا الوعي من مراتب وعي التوحيد، وقليلٌ من الناس يعي التوحيد بمثل هذا الوعي في صلاته كلّما قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.
ضمان الذِّكر
ص: 37
ولكي يسلم الإنسان في تعامله مع الأسباب المادّية من هذا الشرك الذي ينزلق إليه الكثيرون من الناس ... جعل الله تعالى الذِّكر أماناً للناس من منزلق الشِّرك في الحياة الدُّنيا.
فإنّ الذِّكر يحصِّن الإنسان من الشرك، في تعامله وتماسّه الدائم مع الأسباب المادّية، وينبّهه بصورة دائمة بأن (لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم)، وأنّ كلّ حول وقوّة في هذا الكون من عند الله تعالى حصراً، ومسخَّر لأمر الله، والله تعالى يضع هذه الأسباب من حياة الناس أينما يشاء وكيفما يريد، ويرفعه ويمنعه حيث لا يحبّ ولا يريد، يَهبُ مَن يشاء ما يشاء، ويمنعُ ما يشاء عمّن يشاء، يوفّق مَن يشاء لما يشاء، ويحرم مَن يشاء عمّا يشاء، بيده الأمر والسلطان والحول والقوّة كلّه في هذا الكون.
فإذا أيقن الإنسان بهذه الحقائق الكونيّة كلّها، وآمن بأنّ كلّ حول وقوّة في هذا الكون لا يكون إلّا بالله، واستحضر سلطان الله تعالى وحوله وقوّته، فلا تحجبه هذه الأسباب عن خالقها ومسبّبها.
وإذا امتلأ قلب الإنسان وعقله بجلال الله، وجماله، وسلطانه، وحوله، وقوّته، فلن تحجبه عندئذ الأسباب المادّية عن الله، ولن تؤدّي هذه الأسباب، مهما قويت وتوثّقت علاقته بها، إلى ضعف في ثقته بالله تعالى، وتوكّله عليه عزَّ وجلّ ..
والقرآن لا ينهانا عن السعي والعمل في السوق والمزرعة والسياسة والحياة الاجتماعيّة، وحقول المعرفة المختلفة، ولكن على أن يقترن ذلك كلّه بذِكر الله تعالى؛ والذِّكر يحمي الإنسان ويحفظه ويحصّنه من تسلّل الشرك إلى نفسه من حيث يعلم أو لا يعلم.
ضمان التقوى
والخطر الآخر الذي يواجه الإنسان في علاقته بالله عندما يتماسّ الإنسان ويتعامل مع الأسباب المادّية هو خطر الانزلاق إلى الحرام، وهو خطر آخر غير خطر الانزلاق إلى الشرك.
فإن سعي الإنسان في الدُّنيا يقع بين فكّي الهدى والفتنة، بين سلطان الهوى والشهوات والغرائز من جانب (من داخل النفس)، وبين إغراءات المال والسلطان والجنس الآخر من جانب آخر (من خارج النفس)، وهما ما سميناه (الهوى والفتنة).
والضلع الثالث لهما (الشيطان) الذي يقوم بدور السمسار بينهما في تزيين مغريات الحياة الدُّنيا للأهواء والشهوات، وفي إثارة الشهوات والأهواء من جانب آخر.
وكثيراً ما يقع الإنسان فريسة سهلة لهذا المثلّث الرهيب.
من هذا المنطلق ينزلق الإنسان إلى معصية الله تعالى واقتراف الذنوب. وهذا الانزلاق انزلاق إلى مخالفة الله تعالى ومعصيته، وهو غير الانزلاق إلى الشرك، أعاذنا الله تعالى منهما.
والضمان الذي يؤمّن سلامة الإنسان من هذا الانزلاق هو (التقوى) ... فإنّ التقوى عاصمٌ يعصِم الإنسان من هذه المنزلقات.
يقول أمير المؤمنين (ع) كما في الرواية الشريفة الواردة في نهج البلاغة: «اعلموا عباد الله أنّ التقوى دار حصن عزيز، والفجور دار حصن ذليل» (1).
وكما أنّ الحصون تُحصِّن الناس والبلاد من السقوط في يد العدوّ، كذلك (التقوى) تُحصِّن الإنسان من السقوط في شرك الشيطان ومعصية الله.
وبعكس ذلك الفجور، فإنّها تسهِّل للشيطان مهمّة تسقيط الإنسان وتحريفه وجرّه إلى معصية الله.
ص: 38
فإذا حصّن الإنسان نفسه بالتقوى ومخافة الله فإنّ التقوى تعصمه وتحفظه من الانزلاق إلى معصية الله تعالى ومخالفته.
الذِّكر والتقوى
إنّ (الذِّكر) و (التقوى) ضمانان أمينان يحفظان الإنسان في سعيه في الحياة الدُّنيا من مزالق (الشرك) و (الذنوب).
إنّ السعي في الدُّنيا ضرورة من الضرورات لا يمكن أن يستغني عنه الإنسان، ولا يصحّ أن يتهرّب منه، إنّه سُنّة تكوينيّة، وسنّة تشريعيّة لله تعالى في حياة الإنسان. ولكن هذه السنّة الكونيّة الكبيرة تُعرِّض الإنسان لنوعين من المزالق الخطرة؛ وهما الانزلاق إلى (الشرك) والانزلاق إلى (الذنوب والمعاصي).
وإنّما يتكامل الإنسان في هذه الدُّنيا بالسعي؛ لأنّ السعي يعرّضه لهذه المزالق الُمخيفة.
وقد جعل الله تعالى للإنسان في هذه المزالق الصعبة ضمانين إثنين، يحفظان سلامة الإنس، وأمنه من الشرك والذنوب، وهذان الضمانان هما (الذِّكر) و (التقوى).
ب- أعراض السعي في علاقة الإنسان بالدُّنيا
كلّما يزداد حظّ الإنسان من الدُّنيا يزداد حرصه بها، والدُّنيا كماء البحر كلّما شرب منه الإنسان ازداد ظمؤه، وهذه خصلة معروفة في الدُّنيا يعرفها الناس.
رُوي عن رسول الله (ص) أنّه قال:
«لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب» (1).
وعن الإمام الباقر (ع): «مَثَل الحريص على الدُّنيا كمَثَل دود القزّ، كلّما ازدادت من القزّ لفّاً كان أبعد لها من الخروج حتّى تموت» (2).
وشكى رجلٌ إلى أبي عبدالله الصادق (ع) أنّه يطلب فيُصيب، وتنازعه نفسه إلى ما هو أكبر، فقال: علّمني شيئاً أنتفعُ به.
فقال (ع): «إن كان ما يكفيك يُغنيك فأدنى ما فيها يُغنيك، وإن كان ما يكفيك لا يُغنيك فكلّ ما فيها لا يُغنيك» (3).
ومن خصائص الحرص أن يُطيل أمل الإنسان في الدُّنيا، وطول الأمل يُنسي الإنسان الموت، ونسيان الموت مصدر كثير من شقاء الإنسان.
ومن خصائص الحرص أنّ الدُّنيا تستغرق هموم صاحبه وشخصيّته، فلا يكون للحريص همٌّ إلّا الدُّنيا، وتكون الدُّنيا كلّ همّ الحريص وامنيته، فيفقد بذلك حالة التوازن في الدُّنيا والآخرة.
واختلال التوازن بين الدُّنيا والآخرة في حياة الإنسان مصدر عذاب وشقاء كثير للإنسان.
وعلاج هذه الحالة في علاقة الإنسان بالدُّنيا تقصير الأمل بالدُّنيا، وذِكر الموت، والتجمّل في طلب الرزق.
ج- أعراض السعي في علاقة الإنسان بالآخرين
السعي إلى الرزق يتمّ- عادةً- في أجواء من الاحتكاك والتماسّ بالآخرين، والمنافسة معهم على مصادر المعيشة.
ص: 39
وهذا الاحتكاك والتماسّ يؤدّي إلى مجموعة من الأعراض المرضيّة في أخلاق الناس وعلاقاتهم؛ مثل الحسد، وسوء الظنّ، والبُخل، والشحّ، والاستئثار، والاختلاف، والعدوان، والمكر، والكيد بالآخرين، وما يتّصل بذلك من سوء الأخلاق في العلاقات الاجتماعيّة.
إنّ المال يُفسد أخلاق الناس، ويُفرِّق شملهم، ويُفسد علاقاتهم، ويُثير بينهم الحسد والبغضاء والعدوان.
وعلاجه الزُّهد في الدُّنيا، ومكافحة حال التعلّق بالدُّنيا، حتّى يكون المال تحت سلطان صاحبه، ولا يكون صاحب المال تحت سلطان المال، عندئذ تنتفي الآثار السلبيّة التي يتركها (المال) و (الموقع) في علاقات الناس الاجتماعيّة.
سعي الإنسان بين (السوق) و (المسجد)
إنّ ساحة الحياة تنشطر إلى شطرين:
شطر في علاقة الناس بالله في صلاتهم وصيامهم وحجّهم وذِكرهم لله، وفي التقوى والطاعة، والولاية لله. وشطرٌ في حركتهم في السوق، والمزرعة، والسياسة، والإعلام، وحقول المعرفة، والعلاقات الاجتماعيّة، والحياة الزوجيّة، وما يؤمِّن معيشة الإنسان، وعلاقاته الاجتماعيّة والعائليّة.
ونرمز إلى ساحة عمل الناس في الشطر الأوّل ب- (المسجد)، ونرمز إلى ساحة عمل الناس في الشطر الثاني من الحياة ب- (السوق)، فإنّ المسجد أكثر المواقع التي يجمع ويضمّ اهتمامات الإنسان وأعماله وكدحه من الشطر الأوّل. والسوق أبرز المواقع التي تستقطب اهتمامات الإنسان وسعيه من الشطر الثاني.
والمقارنة بين هاتين البؤرتين في حياة الإنسان تؤدّي إلى نتائج غريبة:
أ- إنّ المسجد يُصلِح نفوس الناس ويهديهم، والسوق يُفسد نفوس الناس وأخلاقهم.
ب- المسجد يُقرِّب الإنسان إلى الله، والسوق يُبعد الإنسان عن الله.
ج- المسجد يُلطِّف العلاقات الاجتماعيّة فيما بين الناس على أساس المحبّة والتعاون وحسن الظنّ والنصيحة. أمّا في السوق فيتعامل الناس مع بعضهم بعضاً على أساس الحسد، وسوء الظنّ، والاستئثار، والاستغلال، والبغضاء، والمكر ...
د- المسجد يجمع شمل الناس ويوحّدهم، والسوق يفرِّقهم ويشتّتهم.
وهكذا نجد أنّ هاتين البؤرتين اللّتين تجمعان وتستقطبان اهتمامات الناس وسعيهم وأعمالهم وجهدهم تقعان في قطبين مختلفين.
وليس ما ذكرناه من المقارنة بين خصائص كلّ من (المسجد) و (السوق) قاعدة رياضيّة لا تختلف ولا تتخلّف، ولكنّها هي الطابع الغالب والصيغة الغالبة لكلّ من المسجد والسوق.
وقد ذكرنا إنّا نرمز بالسوق إلى المواقع التي تستقطب اهتمامات الإنسان للحياة الدُّنيا وسعيه فيها، ونرمز بالمسجد إلى المواقع التي تستقطب اهتمامات الإنسان وكدحه وسعيه إلى الله تعالى، فلا نُعيد.
ولا غنى للإنسان عن السوق، كما لا غنى له عن المسجد، بل لا يتمكّن الإنسان من أن يرقى من المسجد إلى الله، إلّا أن يكون السوق الباب الذي يدخل منه الإنسان إلى المسجد، فمن السوق يرقى الإنسان إلى المسجد، ومن المسجد يرقى إلى الله ... وهذا هو سرّ اهتمام الإسلام بعمارة الحياة الدُّنيا والاهتمام بها، والتصريح بأنّ الدُّنيا مزرعة الآخرة، وأنّ الدُّنيا متجر أحبّاء الله، والأمر بالعمل والسعي في الدُّنيا، والنهي عن البطالة والرهبانيّة، والتحذير من الفراغ والكسل.
تهذيب السعي
ص: 40
إذن، لابدّ من الدخول في السوق، ولا غنى للإنسان عن السعي رغم كلّ السلبيّات والأعراض المترتّبة على السعي في الأسواق.
وإلى جانب ذلك لابدّ من عمل واسع لتوجيه السعي، وتهذيبه في حياة الناس، ويتلخّص برنامج الإسلام في تهذيب سعي الإنسان في السوق في نقطتين:
النقطة الاولى: الاستعانة بالله والتوكّل عليه في السعي، والإيمان بأنّ الله تعالى مبدأ كلّ سبب، ومصدر كلّ حول وقوّة، ولا حول ولا قوّة في هذا الكون بغير الله، ومن دون إذن الله لا يحقِّق الإنسان بسعيه أمراً، ولا يستغني الإنسان بسعيه، وجهده، وماله، وسلطانه، مهما بلغ عن الاستعانة بالله تعالى، ولا يُغنيه أحدٌ عن الله، ولا يكفيه شي ء من غير الله، ولا تصحّ الاستعانة بغير الله إلّا بإذن الله، فلا يستقلّ شي ء في الكون في الفعل والتأثير عن الله، فهو سبحانه مبدأ كلّ شي ء والمُهيمن على كلّ شي ء، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.
وبهذا البيان يدخل السعي في السوق في دائرة الاستعانة بالله وتحت مقولة التوحيد، ويكون- كما ذكرنا من قبل- أحد شطري التوحيد، فإذا آمن الإنسان بهذه الحقيقة الكونيّة الكُبرى، وآتاه الله مثل هذا الوعي والبصيرة، لا يستقلّ في سعيه عن ذكر الله، والدّعاء، والتوكّل، ويقترن سعيه في السوق بذكر الله والاستعانة به.
وهذا الارتباط بالله في السعي يعدِّل السعي ويلطّفه، ويُزيل عنه الأعراض السلبيّة التي تجتمع حوله في علاقته بالله وبالناس وبالدُّنيا.
في هذه الصورة يخرج السعي عن حالة التقاطع مع الذِّكر والعبادة، ويقع في امتداده.
النقطة الثانية: في تعديل سعي الإنسان في السوق؛ هي التقوى والالتزام بحدود الله، وحلاله وحرامه. وهذا الالتزام بالحدود الإلهيّة يعدِّل سعي الإنسان في السوق وساحات المعيشة بشكل كامل. والتقوى هي الالتزام بطاعة الله تعالى في الحلال والحرام. وبالتقوى يقع السعي في حوزة الشريعة ولا يخرج عن حدود الله تعالى في الحلال والحرام.
وعلى هذا النهج يدخل (السعي) في امتداد (العبادة والذِّكر) أوّلًا، ويقع تحت هيمنة الشريعة وحدودها ثانياً.
وبهذه الصورة يتمّ تأمين وضمان سعي الإنسان في الأسواق، فيواصل الإنسان عمله سعياً للرزق في الدُّنيا بصورة أمينة، دون أن تتعرّض علاقته بالله، وبالناس، وبالدُّنيا، للخطر والأذى.
وقد ذكرنا من قبل أنّ حياة الإنسان شطران؛ شطرٌ يختصّ بسعي الإنسان للآخرة، وشطرٌ آخر يختصّ بسعي الإنسان للحياة الدُّنيا، وأكثر مصائب الإنسان ومحنه نابع من الشطر الثاني، وليس للإنسان غنىً عن الشطر الثاني؛ فهو سُلّم الإنسان الذي يرقى منه إلى الشطر الأوّل، ولابدّ له من السعي كما لابدّ له من الكدح إلى الله بالعبادة.
بقاء السعي وضياعه
سعي الإنسان يبقى ويضيع، وأقصد ببقاء السعي: أنّه ينتفع منه صاحبه بعد موته ولا يندثر ولا ينفد، ويبقى غضّاً طريّاً.
وهذا هو العمل الذي يقصد به صاحبه وجه الله، ويلتزم فيه بحدود الله تعالى، فلا يتجاوز فيه حدّاً من حدود الله، وهذا هو الإخلاص والتقوى.
ص: 41
فإذا صحَّ هذا وذاك في العمل، يبقى العمل ويخلد مع صاحبه عند الله، ويُكسِب صاحبه نوراً يوم القيامة يسعى بين يديه، وإذا سألهم المنافقون يومئذ أن يسمحوا لهم أن يقتبسوا من نورهم ليخرجوا به من الظلمات إلى النور، قالوا لهم: إرجعوا وراءكم إلى الدُّنيا فالتمسوا نوراً، فإنّ هذا النور هو النور الذي اقتبسوه من الإيمان والعمل الصالح في الدُّنيا.
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُم الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْانْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً (1).
إنّ هذا الجواب الذي يقابلون به المنافقين، وإن كان على نحو السخرية، إلّا أنّه يحمل الحقيقة كلّها، فإنّ المنافقين خسروا هذا النور في الدنيا يوم خسروا الإيمان والعمل الصالح فيها.
وهذا هو السعي الذي يبقى للإنسان، وينفعه ويستنير به يوم القيامة، وقد يكون هذا السعي عملًا صغيراً لا قيمة له في حساب الآدميّين في الدُّنيا، إلّا أنّه ينقلب يوم القيامة إلى نور ونعيم ورضوان، يستنير به صاحبه وينعُم به يوم القيامة، ويكسب به رضوان الله؛ وذلك إذا أخلص فيه لله والتزم بحدوده في الحلال والحرام.
وهذا هو السعي المذكور الذي يشكره الله تعالى لعباده ويحفظه لهم وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (2).
هذا هو السعي الباقي النافع المشكور.
ومن السعي السعي الباطل الزائل الضائع يوم القيامة، يأمل فيه صاحبه في يوم فقره وفاقته يومئذ أن ينفعه، فيضلّ عنه ويضيع ولا ينتفع به قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالًا* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (3).
وهذا هو السعي الذي لم يرد به صاحبه وجه الله، ولم يلتزم فيه بتقوى الله، فلا ينتفع منه صاحبه، ويضلّ عنه، أي يبطل، ويفقد قيمته.
إنّ أعمال الإنسان لا تفنى، وهذه واحدة من مسلّمات القرآن، ولكن الإنسان قد يضع ثقته يوم القيامة في عمل، لم يقصد به وجه الله، ولم يلتزم فيه بتقوى الله في الدنيا، فيتصوّر يومئذ أنّه ينفعه، فيضلّ عنه ويضيع ويبطل، فلا تبقى له قيمة، ويكون مثله مثل السراب يحسبه الظمآن ماءً فإذا بلغه لم يجده شيئاً وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَاب بِقِيعَة يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4).
إنّها صورة مُخيفة مُرعبة ليوم القيامة، حيث يقبِل الإنسان على أعماله التي كان يتصوّر أنّها تنفعه، فإذا هي كالسراب الذي ينقشع قد كان مرصوداً مُراقَباً من قِبل الله، وأنّ الله تعالى كان مطّلعاً على سرّه وأعماله في الدُّنيا، فيلغيها يومئذ ويُبطلها، ويحاسبه على نيّته وعمله.
وهذا هو السعي الضائع في حياة الإنسان.
ص: 42
ص: 43
ص: 44
يظهر من سبر التاريخ وفلتات مراقبيه أنّ المنع من تدوين الحديث والروايات لم يظهر بعد وفاة النبيّ (ص)، بل له جذور في أيّام حياته (ص) وأنّ هناك بعض الناس كانوا بصدد الحظر على الحديث أن ينشر والمنع على الروايات أن تُذاع وتُنقل.
وذلك خلافاً لما كان رسول الله (ص) يريده من نشر أقواله وإفشاء آثاره خوفاً لها من الاندراس وحفظاً عليها من الاندثار حتّى أنّه ورد عنه في الحديث المشهور: «مَنْ حفظ على امّتي أربعين حديثاً بعثه الله يوم القيامة فقيهاً».
فيا ترى، حفظ الحديث إذا كان مطلوباً فالمنع من نشره كيف يتلائم معه؟ فهل الحفظ المطلوب هو الحفظ عن ظهر القلب لا الحفظ بالكتابة؟!
أوليس ثبت الحديث وكتابته من وجوه حفظ الحديث ومصاديقه؟!
فما الذي أحلّ رواية الحديث وحرّم كتابته؟!
ثمّ لماذا يحثّ النبيّ (ص) الامّة على نشر حديثه وهناك اناس يمنعون من ذلك؟! وما الذي يدعوهم إلى مخالفة رسول الله (ص)؟! فهل أنّ ذلك اجتهاد على خلاف نصّه (ص)؟!
أو لم يكن رسول الله (ص) أدرى من صحبه بما ينبغي العمل عليه؟!
أفهل كان رسول الله (ص) لا يدرك من الصلاح ما أدركه من منع من نشر الحديث؟! هذا ورسول الله (ص) لا ينطق عن الهوى بل ما يقوله إنّما هو وحيٌ يُوحى علّمه شديد القوى. وهو يعلم أنّه لو تقوّل على الله بعض الأقاويل لأخذ الله منه باليمين ثمّ لقطع منْهُ الْوَتِينَ وَمَا أَحَد عَنْهُ حَاجِزِينَ.
ثمّ المعروف أنّ منع تدوين الحديث أمر حادث بعد وفاة النبيّ (ص) ولكن كما ذكرنا يظهر من بعض النصوص أنّ الأمر أسبق والقضيّة أقدم؛ فقد روى في مسند أحمد بسنده عن عبدالله بن عمر قال: كنت أكتب كلّ شي ء أسمعه من رسول الله (ص) اريد حفظه فنهتني قريش فقالوا: إنّك تكتب كلّ شي ء تسمعه من رسول الله (ص) و رسول الله (ص) بشرٌ يتكلّم في الغضب والرِّضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله (ص) فقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منّي إلّا حقّ ... (1)
ومثله رواية الدارمي وأبي داود إلّا أنّ فيها:
وذكرت ذلك لرسول الله (ص) فأومأ بإصبعه إلى فِيه وقال:
اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلّا حقّ (2).
وممّا يتناغم مع حديث منع تدوين الحديث هو قولة القائل: حسبنا كتاب الله، دَع ما ضمّ إليه القائل من أنّ رسول الله (ص) يهجر الذي هو تصريحٌ بهجر الكتاب وترك العمل به حيث يقول: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَى (3)، وهل يبقى للرسول اعتبار فيما جاء به لو جاز عليه الهجر في القول والشطط في الكلام؟!
والعجب كلّ العجب من الاعتذار عن قائل الهجوة المتقدِّمة وصاحب الزلّة الآنفة أو اعتذاره نفسه بأنّه فعل ما فعل لحفظ الإسلام من الضياع وصون الدِّين من الانمحاء، وصاحب الرسالة أولى وأدرى بحفظ ما جاء به، والنبيّ (ص) أعلم وأخبر بذاك وهو ممدودٌ بالوحي ومؤيَّدٌ بالسماء ومُسدّدٌ بالنبوّة، والله يرعاه والملائكة خَدَمَتهُ.
ويظهر من ملاحظة الآثار ودراسة الأخبار أنّ القولة المتقدّمة صدرت أو كان صدورها مترقّباً للنبيّ (ص) من بعض الامّة حسبما يستفاد من بعض النصوص، وأنّه (ص) ردَّ عليها في حال صحّته وسلامته كي لا يبقى عذر لمعتذر ولا ذريعة لمتشبّث ولا يكون هناك حجّة لمن يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر.
ص: 45
فقد روى ابن الأثير عن الترمذي وأبي داود رواية المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله (ص): «ألا هل من رجل يبلغه الحديث عنّي هو متّكئ على أريكته، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالًا استحللناه وما وجدنا فيه حراماً حرّمناه وإنّما حرّم رسول الله (ص) كما حرّم الله».
وفي رواية أبي داود، قال: قال رسول الله (ص): «ألا إنّي اوتيت هذا الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجلٌ شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه، ألا لا يحلّ لكم الحمار الأهلي ولا كلّ ذي ناب من السباع ...».
وروى عن أبي داود والترمذي من أبي رافع: أنّ رسول الله (ص) قال: «لا أعرفنّ الرجل منكم يأتيه الأمر من أمري إمّا أمرت به أو نهيت عنه وهو متّكئ على أريكته فيقول: ما ندري ما هذا، عندنا كتاب الله وليس هذا فيه، وما لرسول الله أن يقول ما يخالف القرآن؛ وبالقرآن هداه الله» (1).
وفي لفظ أخصر: إنّ رسول الله (ص) قال: «لا ألفينّ أحدكم متّكئاً على أريكته يأتيه أمري ممّا أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتّبعناه» (2).
وأيّاً كان السبب لمنع تدوين الحديث فقد أوجب ذلك ضياع أحاديث النبيّ (ص) عن الناس إلّا ما بقي على الخواطر وما لعبت بضبطه أيدي النسيان والاضطراب فانتهى إلى الناس من الحديث ما حوى الاختلاف وبقي لهم ما تضمّن الاضطراب واشتمل على السهو، هذا كلّه بالغضّ عمّا وضعته بعض الأيادي وقالته بعض الكَذَبَة على النبيّ (ص) عمداً ودسّه بعض المفترين ضمن الكثير من النصوص قصداً، وناهيك في إثبات ذلك مؤلّفات الفريقين في فرز الأحاديث الموضوعة وتشخيص النصوص المعمولة.
وقد قيّض الله لحفظ الشريعة منذ حياة رسول الله (ص) أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) فعملوا في مجال حفظ الحديث وصيانته ونشره، ولم تتمكّن السلطات الحاكمة من حجمهم عن ذاك ولا منعهم عن نشاطهم في هذا المجال، فليس في المسلمين كتاب في الحديث أقدم من كتابهم في مجال الفقه والأحكام ولا موجود عند الناس مضمار محفوظ أسبق من مضاميرهم (عليهم السلام)، فقد صرّحت النصوص المتواترة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) بأنّ أمير المؤمنين عليّاً كتب بيده عن إملاء رسول الله (ص) ما يكفي الناس في مجال الأحكام وسدّ حاجتهم إلى يوم القيامة، فلم يبق عند المسلم في الانحراف عن فقه أهل البيت لو كان معذوراً عن التسليم لخلافتهم وإمامتهم في مجال تولّي الحكم وإدارة شؤون الناس؛ فإنّ أئمّة أهل البيت ثقات باعتراف الامّة قاطبةً، فلا مجال للنكول عن التسليم لرواياتهم بعد كونها مرويّة عن النبيّ (ص) بسند متّصل ولا حجّة لأحد في الغضّ عن أقوالهم (عليهم السلام) بعد تصريحهم بأنّها أقوال النبيّ (ص) انتهت إليهم عبر الوسائط الثقات ممّن تعتبر الامة بأسرها بعدلهم وورعهم وصدقهم ووثاقتهم.
ولو أردت أن أستقصي ما روي في مجال روايات أهل البيت وسابقتها لطال بي الكلام ولو رمتُ أن أجمع ما يتعلّق بشأن حديث أئمّة أهل البيت ووصفهم لضاق بي المقال، إلّا أني أُشير إلى بعض ما ورد في ذلك وأحكي نزراً ممّا روي في هذا المجال، وما ذاك إلّا كقبة العجلان لضيق المجال وقصور الوقت عن الإحاطة، ولكن الميسور لا يترك بالمعسور فإنّ ما لا يُدرك كلّه لا ينبغي أن يُترك كلّه.
ففي معتبرة سماعة بن مهران عن أبي الحسن موسى (ع) في حديث قال: قلت: أصلحك الله أتى رسول الله (ص) الناس بما يكتفون به في عهده؟ قال: «نعم ما يحتاجون إليه إلى يوم القيامة» قلت: فضاع من ذلك شي ء؟ قال: «لا هو عند أهله» (3).
فأهل رسول الله (ص) حفظوا تراثه من الضياع وصانوا حديثه من الاندراس ومنعوا رواياته (ص) من النسيان.
ص: 46
وفي معتبرة أبي بشير المرويّة في الكافي عن أبي عبدالله (ع) في حديث قال: «علّم رسول الله (ص) عليّاً ألف باب يفتح كلّ باب منها ألف باب» إلى أن قال: «فإنّ عندنا الجامعة صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول الله (ص) وإملائه من فلق فيه وخطّ عليّ (ع) بيمينه فيها كلّ حلال وحرام وكلّ شي ء يحتاج إليه الناس حتّى الأرش في الخدش، وضرب بيده إليَّ فقال لي: «تأذن لي يا أبا محمّد؟» قال: قلت: جعلت فداك إنّما أنا لك فاصنع ما شئت، قال: فغمز لي بيده، ثمّ قال: «حتّى أرش هذا» كأنّه مغضب» (1).
وفي معتبرة أبان عن أبي شيبة قال: سمعت أبا عبدالله (ع) يقول: «ضلّ علم ابن شبرمة عند الجامعة إملاء رسول الله (ص) وخطّ عليّ بيده؛ إنّ الجامعه لا تدع لأحد كلاماً، فيها الحلال والحرام» (2).
نعم إنّ الجامعة لا تدع لأحد كلاماً سواء ابن شبرمة أم غيره، وذلك لأنّ حكم الناس عادةً يكون عن خرص وتخمين أو قياس واستحسان وما شاكل ذلك، ولئن قُدّر لمثل ذلك الاعتبار فإنّما هو حيث فقد النصّ ولم توجد رواية ولا كان نقل ثقة لحديث وخبر عن صادق، وهذا بإجماع الامّة لا يختلف فيه إثنان، وحيث إنّ الجامعة كتاب عليّ وإملاء رسول الله (ص) متضمّن لحكم كلّ قضيّة وحاو لما يحتاج إليه الناس في وظيفتهم فلا يبقى موضوع للعمل بالقياس ولا هناك مورد للاكتفاء بالظنون الارتجاليّة ولا محلّ للتعويل على الحدس والتخمين.
وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (ع) في حديث: «إنّ الحسين (ع) دفع إلى ابنته فاطمة كتاباً ثمّ دفعته إلى عليّ بن الحسين (عليهما السلام)، قال: ثمّ صار والله ذلك الكتاب إلينا يا زياد. قال: قلت: فما في ذلك الكتاب؟ قال: فيه والله ما يحتاج إليه ولد آدم منذ خلق الله آدم إلى أن تفنى الدُّنيا، والله إنّ فيه الحدود حتّى أنّ فيه أرش الخدشة» (3).
وفي معتبرة أبي عبيدة عن أبي عبدالله (ع) في حديث: إنّه سُئِلَ عن الجامعة، فقال: «تلك صحيفةٌ طولها سبعون ذراعاً في عرض الأديم مثل فخذ الفالج، فيما ما يحتاج إليه الناس وليس من قضيّة إلّا وهي فيها حتّى أرش الخدش» (4).
إلى غير ذلك من النصوص التي فاقت حدّ التواتر وجازت حدّ اليقين، وقد أوردنا شطراً منها في كتاب المبسوط عند التعرّض للمباحث التمهيديّة في مجال استنباط الأحكام الفقهيّة للمسائل المعاصرة، كما أورد شطراً كبيراً منها الشيخ الحرّ العاملي في كتاب الوسائل وفي كتاب الفصول المهمّة في اصول الأئمّة.
فراجع صحاح وروايات الصيرفي، وسليمان بن خالد، وأبي بصير، ومحمد بن سليم، وعبدالله بن سنان، وابن فضّال، وسليم بن قيس، ومحمّد بن حكيم، وغيرها من النصوص المرويّة فيما أزمعنا إليه وفي غيره من الكتب.
ولا تستغرب اشتمال كتاب أو صحيفة طولها سبعون ذراعاً على عامّة أحكام الفقه، فإنّ كتب الحديث إنّما طالت لاشتمال كلّ رواية منها على سند غير ما للآخر، ولو حذفت أسانيدها حيث كان لها سند واحد لتقلّصت إلى حدٍّ كبير، كما أنّ تلك الكتب تشتمل على تكرار وتأكيد وتطويلات لا ضرورة فيها، ولو حذفت لاختلف مقدار الكتاب وطوله جدّاً، ولو نظرت إلى متون الفقه في كتب الفريقين شيعةً وسنّة لصدّقت ما أقول ووافقتني فيما ذكرت، مع اشتمال المتون على عامّة أحكام الفقه، فكيف إذا كان الماتن رسول الله (ص) والكاتب أمير المؤمنين والراوي عنهما أولادهما وأهل بيتهما من فقهاء المسلمين وعظمائهم، دع عنك استحقاقهم لمنصب الخلافة والإمامة وكونهم أولى بالناس من أنفسهم بعد رسول الله (ص).
وقد ورد التصريح بسند أهل بيت رسول الله (ص) في روايتهم عن جدّهم بما لا يبقي ريباً لمرتاب ولا يَدَع شكّاً لأحد إلّا لمن كان في قلبه زيغ أو كان في فهمه رين.
ص: 47
فقد روي عن هشام بن سالم وحمّاد بن عثمان وغيرهما قالوا: سمعنا أبا عبدالله (ع) يقول: «حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدّي وحديث جدّي حديث الحسين وحديث الحسين حديث الحسن وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين (ع) وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله (ص) وحديث رسول الله قول الله عزّ وجلّ» (1)
والعارف باللغة لا يخفى عليه أنّ قوله (ع): حديثي حيث أضاف الحديث إلى نفسه يفيد العموم وليس معناه حديث واحد، بل مفهومه أنّ كلّ ما يعدّ حديثه فهو مرويّ بهذا الإسناد ومحكيّ بهذا الاستناد؛ ولاحظ أيضاً ما يأتي.
وقد روي في الصحيح عن سيف بن عميرة، عن عمرو بن شمر، عن جابر، قال: قلت لأبي جعفر (ع): إذا حدّثتني بحديث فاسنده لي، فقال: «حدّثني أبي عن جدّي عن رسول الله (ص) عن جبرئيل عن الله تبارك وتعالى وكلّ ما أُحدّثك بهذا الإسناد» (2).
وروي عن ابن سنان عن أبي عبدالله (ع) قال: سمعته يقول: «ليس عليكم فيما سمعتم منّي أن ترووه عن أبي، وليس عليكم جُناح فيما سمعتم من أبي أن ترووه عنّي ليس عليكم في هذا جناح» (3).
وفي رواية عن حفص بن البختري، قال: قلت لأبي عبدالله (ع): نسمع الحديث منك فلا أدري منك سماعه أو من أبيك؟ فقال: «ما سمعته منّي فاروه عن أبي وما سمعته منّي فاروه عن رسول الله (ص)» (4).
وفي رواية عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبدالله (ع): الحديث أسمعه منك أرويه عن أبيك أو أسمعه من أبيك أرويه عنك؟ قال: «سواء، إلّا أنّك ترويه عن أبي أحبُّ إليَّ». وقال أبو عبدالله (ع) لجميل: «ما سمعته منّي فاروه عن أبي» (5).
هذا كلّه بالغضّ عمّا ورد في وفور علم أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وأنّهم ورثة علوم الأنبياء وخاتمهم محمّد (ص)، فهم يعلمون علوم رسول الله (ص) بتعليمه أمير المؤمنين (ع)، ثمّ إنّ أوصيائه (عليهم السلام) تناقلوها من بعده وتوارثوها، وأنّ محمّداً (ص) ورث علم من كان قبله من الأنبياء والمرسلين (6)، وأنّ رسول الله صيّر ما صار إليه من علم النبيّين بأسره وكلّه عند أمير المؤمنين (ع)، وأنّ العلم يتوارث فلا يموت عالم إلّا وترك من يعلم مثل علمه (7).
وأنّ رسول الله (ص) لمّا قبض ورث عليّ (ع) علمه وسلاحه، ثمّ صار إلى الحسن، ثمّ صار إلى الحسين، ثمّ بعد ذلك عليّ بن الحسين، ثمّ إلى محمّد بن عليّ، ثمّ إلى جعفر بن محمّد (عليهم السلام)، وإنّه لا يموت منهم عالم إلّا وترك من يعلم مثل علمه، وما تواتر من كتب الفريقين أنّ رسول الله (ص) علّم عليّاً (ع) ألف باب يُفتح من كلّ باب ألف باب (8).
وما ورد من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) يعلمون كلّ ما أظهر الله عليه ملائكته وأنبيائه ورسله (9).
فهذا الذي ذكرناه يعيّن على فقهاء المسلمين أن لا يتغاضوا حيث يريدون الإفتاء عمّا يفتي به أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)؛ حيث إنّ فتاويهم هي مضمون رواياتهم عن النبيّ (ص) وأقوالهم هي ما تضمّنته أحاديث رسول الله (ص) ممّا نقل إليهم في كتاب الجامعة المدوّنة في حياة رسول الله (ص).
وأنت تعلم أنّه لا يجوز الإفتاء في مسألة إلّا بعد الفحص عن النصوص، ولا يجوز إبداء الرأي إلّا بعد الاستقصاء وبذل الطاقة في مجال الأحاديث، ولا ينبغي القول في حكم إلّا بعد اليأس عن وجود دليل بخلافه من مخصّص أو مقيّد أو حجّة على خلاف الظهور.
فإذا كان المسلمون يعترفون لأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) بالصدق والأمانة كما ينبغي الاعتراف لهم بالضبط والاتقان بعد تدوينهم النصوص عن صاحب الشريعة مباشرةً، فلا ينبغي بعد هذا وذاك الوقوف تجاه رواياتهم (عليهم السلام) بالحياد فضلًا عن الانحراف عنها والإعراض عن العمل بها وترجيح آراء غيرهم عليها، بعد كون تلك الآراء مبنيّة على الاجتهاد والحدس في كثير من مواردها، وعلى الغفلة- إن لم يكن التغافل- عن روايات أئمّة أهل البيت في جملة وفيرة منها، مع ما كان أصحاب تلك
ص: 48
الآراء يكنّون لأهل البيت من الاحترام ويضمرون لهم من المرتبة، بل ويتظاهرون لهم من التجليل والحرمة ويتصادقون لهم على الفقاهة والعلم، إضافة إلى الوثاقة والضبط، بل وكانوا يعترفون لشيعتهم والرواة عنهم بالفضل والفقه والوثاقة والعدالة مع اختلافهم معهم في المذهب والعقيدة، فلا يمنعهم ذلك من تصديقهم وقبول أقوالهم، والشواهد على ذلك كثيرة، وأنا أكتفي في المقام بذكر رواية واحدة تصدّق ما أقول وتشهد بما ذكرت.
فقد روى الكليني بإسناده عن السيّاري قال: روي عن ابن أبي ليلى أنّه قدم إليه رجل، فقال: إنّ هذا باعني هذه الجارية فلم أجد على ركبها حين كشفتها شعراً وزعمت أنّه لم يكن لها قطّ، قال: فقال له ابن أبي ليلى: إنّ الناس يحتالون لهذا بالحيل حتّى يذهبوا به فما الذي كرهت؟ قال: أيُّها القاضي إن كان عيباً فاقض لي به، قال: إصبر، حتّى أخرج إليك فإنّي أجد أذىً في بطني، ثمّ دخل وخرج من باب آخر، فأتى محمّد بن مسلم الثقفي فقال له: أيّ شي ء تروون عن أبي جعفر (ع) في المرأة لا يكون على ركبها شعر، أيكون ذلك عيباً؟ فقال محمّد بن مسلم: أمّا هذا نصّاً فلا أعرفه، ولكن حدّثني أبو جعفر (ع) عن أبيه عن آبائه عن النبيّ (ص) أنّه قال: «كلّ ما كان في أصل الخلقة فزاد أو نقص فهو عيب»، فقال له ابن أبي ليلى: حسبك، ثمّ رجع إلى القوم فقضى لهم بالعيب (1).
وأنا أقترح على الامّة الإسلاميّة من أيّ مذهب كانوا وعلى أيّ أصل عوّلوا في عقائدهم واصول دينهم ومذهبهم أن ينظروا فيما أقول ويتأمّلوا في كلامي هذا فإنّي لا أظنّ منافاته لمذهب من المذاهب، ولا أنّه مخالف للدِّين على شتّى المسالك.
بل اصول المسلمين قاضية بلزوم الأخذ بما أقول وعقيدتهم حاكمة بتعيّن العمل بما أذكر ألا وهو اعتبار روايات أهل بيت النبيّ (ص) وحجّيّة نصوصهم، بل وتقدّمها على آراء سائر المسلمين حيث إنّ نصوصهم هي متون أقوال النبيّ (ص)، ورواياتهم هي اصول كلمات رسول الله (ص) ولم يزيدوا فيها من أنفسهم شيئاً ولم ينقصوا ولم يحرّفوا ولا أنّهم بدّلوا تبديلًا.
وإن شئت مزيد توضيح لهذا الكلام، أقول متوكّلًا على الله:
إنّ أسباب الانصراف عن أحاديث أهل بيت النبيّ (ص) بعد اتّفاق المسلمين على حجّية أخبار الثقات واعتبار أقوالهم لا تخلو من أحد مناشئ:
الأوّل: التشكيك في وثاقة أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أنفسهم.
الثاني: التشكيك في وثاقة الرواة عن الأئمّة من شيعتهم ومحبّيهم.
الثالث: إرسال روايات أئمّة أهل البيت لعدم إدراكهم للنبيّ (ص) في حياته.
الرابع: التشكيك في كون أحاديثهم رواية واحتمال كونها اجتهادات وفتاوى منهم (عليهم السلام).
وإذا بطلت هذه الاحتمالات فثبت وثاقة الأئمّة أنفسهم والرواة عنهم، وتحقّق كون أقوالهم روايات لا فتاوى وأنّ رواياتهم متّصلة الإسناد إلى رسول الله (ص) لا إرسال فيها ولا انقطاع.
لم يبق هناك مناص من اعتبار تلك الروايات، ولا مجال في الترديد في حجّية تلك النصوص. وسوف أتعرّض بما يناسب المقام من التفصيل لكلّ من هذه الامور الأربعة إن شاء الله تعالى.
أمّا ما ورد عن الأئمّة (عليهم السلام) من النصوص، فهي روايات لا اجتهادات، فقد أسمعناك ما صرّحوا به أنفسهم من أنّ حديثهم هو حديث النبيّ (ص) ورواياتهم هي أقوال رسول الله (ص).
وأمّا قضيّة إرسال أحاديثهم، فقد سمعت أنّ رواياتهم هي بواسطة آبائهم حتّى تنتهي إلى أمير المؤمنين عليّ (ع) وهو قد أدرك النبيّ (ص) منذ بدء الرسالة وصاحبه طيلة حياته ولم يفارقه حتّى وفاته (ص)، وهو أوّل مَنْ أسلم وكان ملازماً له (ص)، ناهيك
ص: 49
عن أنّ روايات أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) لا تحتاج إلى سند، ونصوصهم لا تحتاج إلى بيان الوسائط؛ وذلك لأنّها مضمون الكتاب الواصل إليهم عن جدّهم رسول الله (ص) ألا وهو كتاب عليّ (ع) الذي تواترت روايات أهل البيت (عليهم السلام) في شأنه وأنّه كتابٌ أملاهُ رسول الله (ص) من فلق فيه على عليّ أمير المؤمنين فكتبها بخطّه (ع)، ومثل هذا الكتاب قطعيّ لهم لا يحتاج إلى ذكر السند.
ألا ترى أنّ المسلمين لا يحتاجون في إسناد كتاب البخاري ومسلم وكتاب الكافي والتهذيب إلى مصنّفها وعزو نسخها إلى أصحابها إلى سند ووسائط، ولو ذكرت هناك الوسائط كان مجرّد تشريف، فيا تُرى أنّ أحداً يشكّ في أنّ القانون والشفا لابن سينا حتّى يحتاج إلى ذكر سند معنعن أو طريق متّصل؟!
بل هل ترى أحداً يشكّ في كتب وصلتنا من أفلاطون وغيره من السابقين على الإسلام أنّها لهم وهم ألّفوها؟
وإن شئت قلت: إنّ نسبة مثل هذه الكتب إلى أصحابها قطعيّة وصدورها من مؤلّفيها بتيّة لتواترها عنهم أو لغير ذلك.
ومع هذا كلّه، فليفرض حاجة نسبة كتاب عليّ (ع) إليه إلى سند بين الأئمّة من أهل بيت نبيّه (عليهم السلام) الذين هم رواة كتابه ونَقَلَة آثاره.
فلم يبق إلّا قضيّة وثاقة الأئمّة أنفسهم أو الرواة عنهم؛ أمّا وثاقة الأئمّة فالأمر فيه أوضح من أن يسطر وأظهر من أن يحتاج إلى إثبات، وقد تسالم المسلمون ممّن عرفوهم على ذلك ولا يرتاب فيه مَن له أدنى إنصاف، ولا يشكّ فيه إلّا أهل الاعتساف.
ولو أردت أن أتعرّض لما ذكره أرباب السِّير في شأنهم (عليهم السلام) لطال بنا الكلام واحتاج إلى مجلّدات، ولو أردت أن أجمع ما أثنى به أصحاب المعاجم والتراجم على أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) لكانت مجموعة ضخمة.
وحيث إنّ كثيراً من روايات أهل البيت هي من الإمامين محمّد بن علي الباقر وابنه جعفر بن محمّد الصادق (عليهم السلام) فإنّي أذكر يسيراً من ترجمتهما واشير إلى نزر من فضلهما بما يكفي العاقل ويطمئن به ذوو الألباب، ثمّ احيل القارئ في سائر فضلهما وفضل سائر الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) إلى المراجعة إلى المصادر والوقوف على المراجع.
وأقول على الإجمال: إنّ الأئمّة من آل محمّد (ص) كلّهم نورٌ واحد وهم شركاء في الجلالة والفضل والسيادة والعظمة، وقد شهد لهم أعداؤهم بالفضل والسؤدد، وأقرَّ لهم مخالفوهم بالعظمة والجلال، وقديماً قالوا: الفضل ما شهدت به الأعداء.
وإنّني أقتصر هنا على مصادر غير الشيعة، حتّى لا يحتمل كون الحامل لهم على الإطراء والمدح الاعتقاد بإمامتهم في المذهب، فإنّ الشيعة يعتقدون فيهم العصمة كما يرونها للأنبياء.
وقبل التعرّض لشأنهما أقول: قد توسّط بينهما وبين رسول الله (ص) في أحاديثهما عليّ بن الحسين زين العابدين وسيّد الساجدين، ثمّ الواسطة بينه وبين النبيّ (ص) أبوه وعمّه الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة وريحانتا رسول الله (ص) وسبطاه، ثمّ الواسطة بين الحسنين وبين رسول الله (ص) حيث لم يرويا مباشرةً عنه (ص) هو أبوهما أخو رسول الله وابن عمّه وزوج ابنته عليّ بن أبي طالب (ع) وهو من إن كان الحديث عن صحبة النبيّ (ص) فلا تجد مَن هو أسبق صحبةً منه فإنّه أوّل المسلمين وأوّل مَنْ صلّى وعبد ولم يُشرك بالله طرفة عين، وما ورد في فضله من القرآن والحديث لا تجد في كتاب أو دفتر ولا يحصر في العدد فإنّه نفس النبيّ 9 بنصّ الكتاب وأخوه بنصّ الرسول، وزوج ابنته وأبو ذرّيته بلا ريب، ووصيّه ووارث علمه وكاتب وحيه، وإجمال القول: إنّه ما من فضيلة إلّا وهو حائزها، ولا من مكرمة إلّا وهو صاحبها، وهو خليفة رسول الله والإمام الذي نصَّ النبيّ (ص) على أنّه مع الحقّ والحقّ معه، يدور معه حيثما دار.
ص: 50
وإنّي لأستحيي من ربّي أن أتصدّى لإثبات وثاقة هذه السلسلة من السند أو أتعمّد لتحكيم صدق هؤلاء، وهم في غنىً عمّن سواهم والكلّ محتاجون إليهم، ولكن عذري في ذلك سنّة الدهر في ظلمه على أصحاب الفضائل وهوانه في عداه على أرباب الكمال، فلا محيص لي عن التعرّض لهذا والتصدّي له وأروم الاختصار وأقصد التلخيص، بعد أن أجوز بيان شأن عليّ وابنيه والامّة عالمة بفضلهم والمسلمون مذعنون بأمانتهم وإمامتهم، أتعرّض لشأن الأئمّة الثلاثة عليّ بن الحسين وابنه محمّد بن عليّ الباقر وابنه جعفر بن محمّد الصادق (عليهم السلام).
قال الذهبي- وهو ممن يعرفه أهل السِّير بأنّه لا يجامل ولا يبالغ في ذِكر فضيلة لأهل بيت النبيّ (ص) إذا لم ينقصهم حقّهم أو يبخسهم فضلهم، كما أنّ موقفه مع شيعتهم معروف ولسانه في وصف مواليهم معلوم.
أذكر كلام الذهبي وأُحيل الزيادة عليه على سائر الكتب من مؤلّفات أرباب السِّير والتراجم ومن جملتها تهذيب الكمال.
وكيف كان، قال الذهبي:
عليّ بن الحسين (ع) ابن الإمام عليّ بن أبي طالب بن عبد المطّلب بن هاشم ابن عبد مناف، السيّد الإمام، زين العابدين، الهاشمي العَلَويّ، المدنيّ.
يُكنّى أبا الحسين ويُقال: أبو الحسن، ويُقال: أبو محمّد، ويُقال: أبو عبدالله. وامّه امّ ولد، اسمُها سلامة سُلافة بنت ملك الفرس يزدجرد، وقيل: غزالة.
وُلِدَ في سنة ثمان وثلاثين ظنّاً.
وحدَّث عن: أبيه الحسين الشهيد، وكان معه يوم كائنة كربلاء وله ثلاثٌ وعشرون سنة، وكان يومئذ موكوعاً فلم يُقاتل، ولا تعرّضوا له، بل أحضروه مع آله إلى دمشق، فأكرمهُ يزيد، وردّه مع آله إلى المدينة، وحدَّث أيضاً عن جدّه مرسلًا، وعن صفيّة امّ المؤمنين، وذلك في «الصحيحين»، وعن أبي هريرة، وعائشة وروايته عنها في «مسلم»، وعن أبي رافع، وعمّه الحسن، وعبدالله بن عبّاس، وامّ سَلَمة، والمِسوَر بن مخرَمة، وزينب بنت أبي سلمة، وطائفة. وعن مروان بن الحكم، وعُبيد الله بن أبي رافع، وسعيد بن المسيّب، وسعيد بن مرجانة، وذَكوان مولى عائشة، وعمرو بن عثمان بن عفّان، وليس بالمُكثِر من الرواية.
حدَّث عنه: أولاده: أبو جعفر محمّد، وعُمر، وزيد المقتول، وعبدالله، والزُّهري، وعمرو بن دينار، والحَكَم بن عُتيبة، وزيد بن أسلم، ويحيى بن سعيد، وأبو الزِّناد، وعليّ بن جُدعان، ومسلم البَطِين، وحبيب ابن أبي ثابت، وعاصم بن عبيدالله، وعاصم بن عمر بن قتادة بن النُّعمان، وأبوه عمر، والقعقاع بن حكيم، وأبو الأسود يتيم عروة، وهشام بن عروة، وأبو الزبير المكّي، وأبو حازم الأعرج، وعبدالله بن مسلم بن هرمز، ومحمد بن الفرات التميمي، والمِنهال بن عمرو، وخَلْقٌ سواهم.
وقد حدَّث عنه أبو سلمة، وطاووس، وهما من طبقته.
قال ابن سعد: هو عليّ الأصغر، وأمّا أخوه عليّ الأكبر، فقُتِل مع أبيه بكربلاء (1). وكان عليّ بن الحسين ثِقَةً، مأموناً، كثير الحديث عالياً، رفيعاً، ورِعاً (2).
روى ابن عُيينة، عن الزُّهري، قال: ما رأيت قُرشيّاً أفضل من عليّ بن الحسين (3).
وقيل: إنّ عمر بن سعد قال يوم كربلاء: لا تعرِّضُوا لهذا المريض- يعني عليّاً.
ابنُ وَهْب: عن مالك، قال: كان عُبيد الله بن عبدالله من العلماء، وكان إذا دخل في صلاته، فقعد إليه إنسان، لم يُقبِل عليه حتّى يفرُغ، وإنَّ عليّ بن الحسين كان من أهل الفضل، وكان يأتيه، فيجلسُ إليه، فيطوِّل عُبيد الله في صلاته، ولا يلتفت إليه، فقيل له: عليٌّ وهو ممّن هو منه! فقال: لابُدَّ لمَن طلب هذا الأمر أن يُعنّى به.
ص: 51
وقال: قال نافع بن جُبير لعليّ بن الحسين: إنّك تُجالس أقواماً دوناً! قال: آتي مَن أنتفعُ بمجالسته في ديني. قال: وكان نافعٌ يجِدُ في نفسه، وكان عليّ بن الحسين رجلًا له فضلٌ في الدِّين.
ابن سعد، عن عليّ بن محمّد، عن عليّ بن مجاهد، عن هشام بن عروة، قال: كان عليّ بن الحسين يخرجُ على راحلته إلى مكّة ويرجع لا يَقْرعُها، وكان يُجالِسُ أسلمَ مولى عُمَر، فقيل له: تَدَعُ قريشاً، وتُجالسُ عَبْد بني عدِيّ!؟ فقال: إنّما يجلس الرجلُ حيثُ ينتفع.
وعن عبد الرحمن بن أردك (1)- أخو عليّ بن الحسين لُامّه- قال: كان عليّ ابن الحسين يدخل المسجد، فيشُقُّ الناس حتّى يجلس في حلقة زيد بن أسلم، فقال له نافع بن جُبير: غفر الله لك، أنتَ سيّد الناس، تأتي تتخطّى حتّى تجلس مع هذا العبد، فقال عليّ بن الحسين: العلم يُبتغى ويُؤتَى ويُطلَبُ من حيث كان.
الأعمش، عن مسعود بن مالك، قال لي عليّ بن الحسين: تستطيع أن تجمع بيني وبين سعيد بن جُبير؟ قلت: ما حاجتك إليه؟ قال: أُريد أن أسأله عنها، إنّ الناس يأتوننا بما ليس عِندنا.
ابن عُيَيْنَة، عن الزُّهري، قال: ما كان أكثر مجالستي مع عليّ بن الحسين، وما رأيت أحداً كان أفقه منه، ولكنّه كان قليل الحديث.
وروى شعيب، عن الزُّهري، قال: كان عليّ بن الحسين من أفضل أهل بيته، وأحسنهم طاعةً، وأحبّهم إلى مروان، وإلى عبد الملك.
مَعْمَر، عن الزُّهري: لم أُدرك من أهل البيت أفضل من عليّ بن الحسين.
وروى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: ما رأيتُ فيهم مثل عليّ بن الحسين.
ابن وهب، عن مالك، قال: لم يكُن في أهل البيت مِثلُه، وهو ابنُ أمة.
حمّاد بن زيد، عن يحيى بن سعيد: سمعتُ عليّ بن الحسين- وكان أفضل هاشميّ أدركتُه- يقول: يا أيّها الناس، أحبّونا حُبَّ الإسلام، فما بَرِحَ بنا حُبّكم حتّى صار علينا عاراً.
أبو معاوية، عن يحيى بن سعيد، عن عليّ: يا أهل العراق، أحبُّونا حُبَّ الإسلام، ولا تحبّونا حُبَّ الأصنام، فما زال بنا حُبّكم حتّى صار علينا شَيْناً.
قال الأصمعي: لم يكن له عقِب- يعني الحسين- إلّا من ابنه عليّ، ولم يكن لعليّ بن الحسين ولدٌ إلّا من امّ عبد الله بنت الحسن وهي ابنة عمّه، فقال له مروان: أرى نسلَ أبيك قد انقطع، فلو اتّخذتَ السّراري لعلَّ الله يرزُقَكَ منهنَّ، قال: ما عندي ما أشتري، قال: فأنا أُقرِضُك. فأقرضه مائة ألف، فاتّخذ السراري، ووُلدَ له جماعة من الولد. ثمّ أوصى مروان لمّا احتضر أن لا يُؤخذ منه ذلك المال.
إسنادها منقطع، ومروان ما احتُضر، فإنّ امرأته غَمّتهُ تحت وسادة هي وجواريها.
قال أبو بكر بن البرقي: نَسْلُ الحسين كلّه من قِبَل ابنه عليّ الأصغر؛ وكان أفضل أهلِ زمانه. ويقال: إنّ قريشاً رَغِبَتْ في امّهات الأولاد بعد الزُّهد فيهنّ حين نشأ عليّ بن الحسين، والقاسم بن محمّد، وسالم بن عبدالله.
قال العِجليّ: عليّ بن الحسين مدنيّ، تابعي، ثقة.
وقال أبو داود: لم يسمع عليّ بن الحسين من عائشة؛ وسمعتُ أحمد بن صالح يقول: سِنّهُ وسِنُّ الزُّهري واحد.
قلت: وَهِمَ ابن صالح، بل عليّ أسنُّ بكثير من الزُّهريّ.
ورُوي عن أبي بكر بن أبي شيبة، قال: أصحُّ الأسانيد كلّها: الزُّهري، عن عليّ بن الحسين، عن أبيه، عن عليّ.
ص: 52
عبدالله بن عمر العُمري، عن الزُّهري، قال: حدَّثْتُ عليّ بن الحسين بحديث، فلمّا فرَغْتُ قال: أحسنت! هكذا حُدِّثناهُ؛ قلتُ: ما أُراني إلّا حدّثتك بحديث أنتَ أعلمُ به منّي، قال: لا تَقُلْ ذاك، فليس ما لا يُعرفُ من العِلم، إنّما العِلم ما عُرِف، وتواطأت عليه الألسن.
وقيل: إنّ رجلًا قال لابن المُسيِّب: ما رأيت أورعَ من فلان؛ قال: هل رأيتَ عليّ بن الحسين؟ قال: لا. قال: ما رأيتُ أورعَ منه.
وقال جويريةُ بن أسماء: ما أكلَ عليّ بن الحسين بقرابتهِ من رسول الله (ص) دِرهماً قطّ.
محمّد بن أبي معشر السِّنديّ، عن أبي نوح الأنصاري، قال: وقعَ حريقٌ في بيت فيه عليّ بن الحسين وهو ساجد، فجعلوا يقولون: يا ابن رسول الله! النار. فما رفعَ رأسهُ حتّى طُفِئت. فقيل له في ذلك، فقال: ألهَتني عنها النار الاخرى.
ابن سعد: عن عليّ بن محمّد، عن عبدالله بن أبي سليمان، قال: كان عليّ بن الحسين إذا مشى لا تجاوز يدهُ فخذيه ولا يخطِرُ بها، وإذا قام إلى الصلاة، أخذتهُ رِعدة، فقيل له، فقال: تدرون بين يديّ مَنْ أقوم ومَنْ اناجي (1)!.
وعنه، أنّه كان إذا توضّأ اصفرَّ.
إبراهيم بن محمّد الشافعي، عن سفيان: حجّ عليّ بن الحسين، فلمّا أحرم، اصفرَّ وانتفضَ ولم يستطِع أن يُلبّي، فقيل: ألا تُلبّي؟ قال: أخشى أن أقول: لبّيك، فيقول لي: لا لبّيك، فلمّا لبّى، غُشيَ عليه، وسقط من راحلته، فلم يزَلْ بعضُ ذلك به حتّى قضى حجّه. إسنادها مرسل.
وروى مصعب بن عبدالله، عن مالك، أحرم عليّ بن الحسين، فلمّا أراد أن يُلبِّي، قالها، فاغميَ عليه، وسقط من ناقته، فهُشِم. ولقد بلغَني أنّه كان يُصلّي في كلّ يوم وليلة ألف ركعة إلى أن مات. وكان يُسمى زين العابدين لعبادته.
ويُروى عن جابر الجُعفي، عن أبي جعفر: كان أبي يُصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة، فلمّا احتُضِر، بكى، فقلت: يا أبتِ ما يُبكيك؟ قال: يا بُنيّ، إنّه إذا كان يوم القيامة لم يبق ملَكٌ مقرّب، ولا نبيٌّ مرسل، إلّا كان لله فيه المشيئة، إنْ شاء عذّبه، وإن شاء غَفَرَ له. إسنادها تالف (2).
عن طاووس: سمعتُ عليّ بن الحسين وهو ساجد في الحِجْر يقول: عُبَيْدُكَ بفنائك، مسكينُك بفنائك، سائِلُكَ بفِنائك، فقيرُكَ بفِنائك. قال: فوالله ما دعوتُ بها في كَرب قطّ إلّا كُشِفَ عنّي.
حجّاج بن أرطأة، عن أبي جعفر، أنّ أباه قاسَمَ الله تعالى مالَهُ مرّتين. وقال: إنّ الله يحبّ المُذنِبَ التوّاب.
ابن عُيينة، عن أبي حمزة الثمالي، أنّ عليّ بن الحسين كان يحمل الخُبز بالليل على ظهره يتَّبعُ به المساكين في الظُّلمة، ويقول: إنّ الصدقة في سواد الليل تُطفئ غضب الرّب.
يونس بن بُكير، عن [محمّد] (3) بن إسحاق: كان ناسٌ من أهل المدينة يعيشون، لا يدرون من أين كان معاشهم، فلمّا مات عليّ بن الحسين، فقدوا ذلك الذي كانوا يؤتَوْنَ بالليل.
جرير بن عبد الحميد، عن عمرو بن ثابت: لمّا ماتَ عليّ بن الحسين، وجدوا بظهره أثراً ممّا كان ينقُل الجُرْبَ بالليل إلى منازل الأرامِل.
وقال شَيبةُ بن نعامة: لمّا مات عليّ وجدوه يَعُولُ مائة أهلِ بيت.
قلت: لهذا كان يُبخّل، فإنّه يُنفِق سِرّاً ويظُنُّ أهله أنّه يجمع الدراهم.
وقال بعضهم: ما فقدنا صدقة السرّ، حتّى تُوفّي عليّ.
ص: 53
وروى واقد بن محمّد العُمَري، عن سعيد بن مرجانة، أنّه لمّا حدَّث عليّ بن الحسين بحديث أبي هريرة: «مَن أعتق نسمةً مؤمنةً أعتق الله كلّ عضو منه بعضو منه من النار، حتّى فرْجَهُ بِفَرْجِهِ» (1) فأعتقَ عليٌّ غلاماً له، أعطاه فيه عبد الله بن جعفر عشرة آلاف درهم.
وروى حاتِمُ بن أبي صغيرة، عن عمرو بن دينار، قال: دخل عليّ بن الحسين على محمّد بن اسامة بن زيد في مرضه، فجعل محمّد يبكي، فقال: ما شأنُكَ؟ قال: عليَّ دَيْن؛ قال: وكَمْ هو؟ قال: بِضعة عشر ألف دينار، قال: فهي عليَّ.
عليّ بن موسى الرضا: حدّثنا أبي عن أبيه، عن جدّه، قال عليّ بن الحسين: إنّي لأستحيي من الله أن أرى الأخ من إخواني، فأسأل الله له الجنّة وأبخلَ عليه بالدُّنيا، فإذا كان غداً قيل لي: لو كانت الجنّة بيدك لكنتَ بها أبخَل وأبخَل.
قال أبو حازم المدني: ما رأيتُ هاشميّاً أفقه من عليّ بن الحسين، سمعته وقد سُئل: كيف كانت منزلة أبي بكر وعمر عند رسول الله (ص)؟ فأشار بيده إلى القبر، ثمّ قال: بمنزلتهما منه الساعة.
رواها ابن أبي حازم عن أبيه.
أحمد بن عبد الأعلى الشيباني: حدّثني أبو يعقوب المدني، وكان بين حسن بن حسن وبين ابن عمّه عليّ بن الحسين شي ء، فما تركَ حسنٌ شيئاً إلّا قاله، وعليٌّ ساكت، فذهب حسن، فلمّا كان في الليل، أتاهُ عليٌّ، فخرج، فقال عليّ: يا ابن عمّي إن كنت صادقاً فغفرَ الله لي، وإن كنتَ كاذباً، فغَفَر الله لك، السلامُ عليك. قال: فالتزمه حسنٌ، وبكى حتّى رثى له.
قال أبو نُعيم: حدّثنا عيسى [بن] (2) دينار- ثقة- قال: سألتُ أبا جعفر عن المختار، فقال: قام أبي على باب الكعبة، فلَعَنَ المختار، فقيل له: تلعنُهُ وإنّما ذُبِحَ فيكم؟! قال: إنّه كان يكذِبُ على الله وعلى رسوله.
وعن الحَكَم، عن أبي جعفر، قال: إنّا لنُصلّي خلفَهُمْ- يعني الأُمويّة- من غير تقيّة، وأشهدُ على أبي أنّه كان يُصلّي خلفهم من غير تقيّة.
رواه أبو إسرائيل المُلائي (3)
وروى عُمر بن حبيب، عن يحيى بن سعيد، قال: قال عليّ بن الحُسين: والله ما قُتِل عثمان رحمه الله على وجه الحقّ.
نقل غيرُ واحد، أنّ عليّ بن الحسين كان يخضِبُ بالحِنّاء والكَتَم. وقيل: كان [له] (4) كِساءٌ أصفر يلبسُهُ يوم الجمعة.
وقال عثمان بن حكيم: رأيتُ على عليّ بن الحسين كِساء خَزّ، وجُبّةَ خزّ.
وروى حُسين بن زيد بن عليّ، عن عمّه، أنّ عليّ بن الحسين كان يشتري كساءَ الخَزّ بخمسين ديناراً يشتُو فيه، ثمّ يبيعه، ويتصدّقُ بثمنه.
وقال محمّد بن هلال: رأيتُ عليّ بن الحسين يَعْتَمُّ، ويُرْخي منها خلف ظهره.
وقيل: كان يَلبَسُ في الصيف ثوبين مُمشّقين من ثياب مِضر ويتلو: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ (5).
وقيل: كان عليّ بن الحسين إذا سار في المدينة على بغلته، لم يقُل لأحد: الطريق ... ويقول: هو مُشترك ليس لي أن انحّي عنه أحداً.
وكان له جلالة عجيبة، وحقَّ له والله ذلك، فقد كان أهلًا للإمامة العظمى لشرفه وسؤدده وعِلمِه وتألّههِ وكمال عقله. قد اشتهرت قصيدة الفرزدق- وهي سماعُنا- أنّ هشام بن عبد الملك حجَّ قُبيل ولايته الخلافة، فكان إذا أراد استلام الحَجر زُوحِمَ عليه، وإذا دنا عليّ بن الحسين من الحجر تفرّقوا عنه إجلالًا له، فوجَمَ لها هشام وقال: مَنْ هذا؟ فما أعرفهُ،
ص: 54
فأنشأ الفرزدق يقول:
هذا الذي تعرفُ البطحاءُ وطأتهُ والبيتُ يعرِفهُ والحِلُّ والحَرَمُ
ه-- ذا ابنُ خير عبادِ الله كلّهمُ هذا التقيّ النقيّ الطاهِرُ العَلَمُ
إذا رأتهُ قريشٌ قالَ قائِلُها إلى مكارِمِ هذا ينتهي الكَرَمُ
يَكادُ يُمسِكُهُ عِ-- رفان راحتهِ رُكنَ الحطيم إذا ما جاء يَستَلِمُ
يُغضِي حياءً ويُغضى من مهابتهِ ف-- ما يُكلِّمُ إلّا حينَ يَبْتَسِمُ
هذا ابن فاطمة إن كُنتَ جاهلُه بجدّهِ أنبياءُ الله قد خُتِموا
وهي قصيدة طويلة. قال: فأمرَ هشام بحبس الفرزدق، فحُبِسَ بعُسفان، وبعث إليه عليّ بن الحسين باثني عشر ألف درهم، وقال: أعذِر أبا فراس. فردّها، قال: ما قلتُ ذلك إلّا غضباً لله ولرسوله. فردّها إليه وقال: بحقّي عليك لما قَبِلْتها، فقد علم الله نيّتك ورأى مكانَك. فقَبِلها.
وقال في هشام:
أيحبُسني بين الم-- دينة والتي
إليها قُلوبُ الناس يَهوي مُنيبُها
يُقلِّبُ رأساً لم يكُن رأسَ سيِّد
وعينين حَولاوين باد عُيوبُها
وكانت امّ عليّ من بنات ملوك الأكاسرة، تزوّج بها بعد الحسين (ع) مولاه زُبَيْد، فولدت له عبدالله بن زييد- بياءين- قاله ابن سعد.
وقيل: هي عمّة امّ الخليفة يزيد بن الوليد بن عبد الملك.
قال الواقدي، وأبو عبيد، والبخاري، والفلّاس: مات سنة أربع وتسعين. ورُوي ذلك عن جعفر الصادق.
وقال يحيى أخو محمّد بن عبدالله بن حسن: مات في رابع عشر ربيع الأوّل ليلة الثلاثاء سنة أربع.
وقال أبو نُعيم وشَباب: تُوفّي سنة اثنتين وتسعين.
وقال مَعْنُ بن عيسى: سنة ثلاث. وقال يحيى بن بُكير: سنة خمس وتسعين. والأوّل الصحيح.
قال أبو جعفر الباقر: عاشَ أبي ثمانياً وخمسين سنة.
أبو جعفر الباقر (ع)
هو السيّد الإمام، أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ، العلويّ، الفاطميّ، المَدَنيّ، ولَدُ زين العابدين، وُلِدَ سنة ستٍّ وخمسين في حياة عائشة وأبي هريرة، أرّخ ذلك أحمد بن البرقي.
ص: 55
روى عن: جدّيه: النبيّ (ص)، وعليّ (ع) مرسلًا، وعن جدّيه الحسن والحسين (عليهما السلام) مرسلًا أيضاً، وعن ابن عبّاس، امّ سلمة، وعائشة مرسلًا، وعن ابن عمر، وجابر، وأبي سعيد، وعبدالله بن جعفر، وسعيد بن المسيّب، وأبيه زين العابدين، ومحمّد ابن الحنفيّة، وطائفة. وعن أبي هريرة، وسمُرة بن جُندب مرسلًا أيضاً، وليس هو بالمُكثِر، هو في الرواية كأبيه وابنه جعفر، ثلاثتهم لا يبلغُ حديث كلّ واحد منهم جزءاً ضخماً، ولكن لهم مسائل وفتاوٍ.
حدَّث عنه: ابنه، وعطاء بن أبي رباح، والأعرج مع تقدّمهما، وعمرو بن دينار، وأبو إسحاق السبيعي، والزُّهري، ويحيى بن أبي كثير، وربيعة الرأي، وليث ابن أبي سُليم، وابن جُريج، وقُرّةُ بن خالد، وحجّاج بن أرطأة، والأعمش، ومُخَوّل ابن راشد، وحربُ بن سُريج، والقاسم بن الفضل الحُدّاني، والأوزاعي، وآخرون.
وروايته عن الحسن وعائشة في سنن النسائي، وذلك منقطع.
وروايته عن سَمُرة في سُنن أبي داود.
وكان أحد مَن جمعَ بين العلم والعمل والسؤدد، والشرف، والثقة، والرّزانة، وكان أهلًا للخلافة. وهو أحد الأئمّة الإثني عشر الذين تُبجّلهم الشيعة الإماميّة وتقول بعصمتهم وبمعرفتهم بجميع الدِّين. فلا عصمة إلّا للملائكة والنبيّين، وكلّ أحد يُصيبُ ويُخطئ، ويُؤخذ من قوله ويُترك سوى النبيّ (ص) فإنّه معصوم، مؤيّدٌ بالوحي.
وشُهِرَ أبو جعفر: بالباقر، مِن: بَقَرَ العلم، أي شقّهُ فعرَفَ أصلهُ وخفِيّه. ولقد كان أبو جعفر إماماً، مجتهداً، تالياً لكتاب الله، كبير الشأن، ولكن لا يبلغ في القرآن درجة ابن كثير ونحوه، ولا في الفقه درجة أبي الزّناد، وربيعة؛ ولا في الحِفظ ومعرفة السُّنن درجة قتادة وابن شهاب، فلا نُحابيه، ولا نحيفُ عليه، ونُحبّه في الله لما تجمّعَ فيه من صفات الكمال.
[ويواصل الذهبي حديثه قائلًا:] قال ابن فُضيل، عن سالم بن أبي حفصة: سألت أبا جعفر وابنه جعفراً عن أبي بكر وعمر، فقالا لي: يا سالم، تولّهُما وابرأ من عدوِّهما، فإنّهما كانا إمامَي هدىً.
كان سالم فيه تشيّع ظاهر، ومع هذا فيَبُثُّ هذا القول الحقّ، وإنّما يَعرِفُ الفضل لأهل الفضل ذو الفضل، وكذلك ناقِلها ابن فضيل، شيعيّ ثقة. فعثّر الله شيعة زماننا ما أعرقهُم في الجهل والكذب، فينالون من الشيخين وزيري المصطفى (ص)، ويحملون هذا القول من الباقر والصادق على التقيّة.
وعن عبدالله بن محمّد بن عقيل، قال: كنتُ أنا وأبو جعفر نختلفُ إلى جابر نكتبُ عنه في ألواح، وبلغنا أنّ أبا جعفر كان يُصلّي في اليوم والليلة مائة وخمسين ركعة.
وقد عدّه النسائي وغيره من فقهاء التابعين بالمدينة. واتّفق الحفّاظ على الاحتجاج بأبي جعفر.
قال الزبير بن بكّار: كان يُقال لمحمّد بن عليّ: باقر العلم، وامّه هي امّ عبدالله بنت الحسن بن عليّ، وفيه يقول القرظي:
يا باقِرَ العلم لأهل التُّقى وخيرَ مَنْ لبّى على الأجبُلِ
وقال فيه مالك بن أعين (1): إذا طلَبَ الناس عِلمَ القُرآنِ
كانتْ قُريشٌ عليه عِيالا وإنْ قيل: ابن ابنِ (2) بنتِ الرَّسولِ
نِلتَ بذلك فَرعاً طُوالا تَحُومُ تُهلِّلُ (3) ل-- لمُدلِج-- ينَ
جِبالٌ تُورّثُ عِلماً جِبالا
ص: 56
ابن عُقدة (1): حدّثنا محمّد بن عبدالله بن أبي نجيح، حدّثنا عليّ بن حسّان القرشي، عن عمّه عبد الرحمن بن كثير، عن جعفر بن محمّد، قال: قال أبي: أجلَسَني جدّي الحسين في حِجره، وقال لي: رسول الله (ص) يُقرِئُكَ السلام.
عن أبان بن تغلب، عن محمّد بن عليّ، قال: أتاني جابر بن عبدالله، وأنا في الكتّاب. فقال لي: اكشِفْ عن بطنك، فكشفتُ، فألصقَ بطنهُ ببطني، ثمّ قال: أمرني رسول الله أن اقرئكَ منه السلام.
قال ابن عديّ: لا أعلمُ رواهُ عن أبان غيرُ المُفضّل بن صالح أبي جميلة النخّاس.
لوين (2): حدّثنا أبو يعقوب عبدالله بن يحيى، قال: رأيتُ على أبي جعفر إزاراً أصفر، وكان يُصلّي كلّ يوم وليلة خمسين ركعة بالمكتوبة.
وعن سلمة بن كُهَيل، في قوله: لَايَات لِلْمُتَوَسِّمِينَ (3) قال: كان أبو جعفر منهم.
الزُّبير في «النسَب»: حدّثني عبد الرحمان بن عبدالله الزّهري، قال: حجَّ الخليفة هشام، فدخل الحَرَم مُتّكئاً على يد سالم مولاه، ومحمّد بن عليّ بن الحسين جالس، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا محمّد بن عليّ، فقال: المَفْتُونُ به أهلُ العراق؟ قال: نعم. قال: إذهب إليه فقُل له: يقول لك أمير المؤمنين: ما الذي يأكل الناس ويشربون إلى أن يُفصَل بينهم يوم القيامة؟
فقال له محمّد: يُحشر الناسُ على مثل قُرصةِ النّقيّ (4)، فيها الأنهار مفجّرة. فرأى هشام أنّه قد ظَفر، فقال: الله أكبر، إذهب إليه، فقُل له: ما أشغلَهُمْ عن الأكل والشرب يومئذ! ففعل. فقال: قُل له: هم في النار أشغل، ولم يُشغَلوا أن قالوا: أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللهُ (5).
قال المُطّلب بن زياد: حدّثنا ليث بن أبي سُليم، قال: دخلتُ على أبي جعفر محمّد بن عليّ وهو يَذْكُر ذُنوبه وما يقول الناس فيه، فبكى.
وعن أبي جعفر، قال: من دخلَ قلبه ما في خالص دين الله، شَغَله عمّا سِواه. ما الدُّنيا! وما عسى أن تكون! هل هو إلّا مركبٌ ركبتَهُ وثَوبٌ لبِستهُ، أو امرأةٌ أصبتها.
أبو نعيم: حدّثنا أبو جعفر الرازي: عن المِنهال بن عمرو، عن محمّد بن عليّ: قال: اذكروا من عظمة الله ما شئتم، ولا تذكرون منه شيئاً إلّا وهي (6) أعظمُ منه؛ واذكروا من النار ما شئتم، ولا تذكرونَ منها شيئاً إلّا وهيَ أشدُّ منه، واذكروا من الجنّة ما شئتم، ولا تذكرون منها شيئاً إلّا وهي أفضل.
وعن جابر الجعفيّ، عن محمّد بن عليّ، قال: أجمع بنو فاطمة على أن يقولوا في أبي بكر وعُمر أحسنَ ما يكون من القول.
قلت: امّ فروة بنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر الصدِّيق هي صاحبة أبي جعفر الباقر، وامّ ولدهِ جعفر الصادق (7).
أبو بكر بن عيّاش، عن الأعمش، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ، قال: يزعمون أنّي المهديّ، وإنّي إلى أجلي أدنى منّي إلى ما يَدْعُون.
قال سفيان الثوري: اشتكى بعضُ أولاد محمّد بن علي، فجزع عليه، ثمّ اخبر بموته، فسُرّي عنه. فقيل له في ذلك، فقال: ندعو الله فيما نُحِبّ، فإذا وقع ما نكرهُ، لم نُخالف الله فيما أحبّ.
قال ابن عُيينة: حدّثنا جعفر بن محمّد: سمعت أبي يقول لعمّته فاطمة بنت الحسين: هذا تُوفي لي ثمانياً وخمسين سنة. فمات فيها.
قال عفّان: حدّثني معاوية بن عبد الكريم، قال: رأيتُ على أبي جعفر محمّد بن عليّ جُبّة خزّ ومُطرف خزّ.
ص: 57
وقال عبيد الله بن [موسى] (1): حدّثنا إسماعيل بن عبد الملك، قال: رأيت على أبي جعفر ثوباً مُعْلَماً، فقلتُ له: فقال: لا بأس بالأصبعين من العَلم بالإبريسم في الثوب.
وقال عمرو بن مَوْهَب: رأيتُ على أبي جعفر مِلحَفةً حمراء.
وروى إسرائيل، عن عبد الأعلى، أنّه رأى محمّد بن عليّ يُرسل عِمامته خلفه، وسألتهُ عن الوسْمَة، فقال: هو خضابُنا أهل البيت.
مات أبو جعفر سنة أربع عشرة ومائة بالمدينة. أرّخهُ أبو نُعَيم وسعيد بن عُفير، ومُصعَب الزُّبيري. وقيل: تُوفّي سنة سبع عشرة.
ومن عالي روايته: أنبأنا عليّ بن أحمد وطائفة، قالوا: أنبأنا عُمر بن محمّد، أنبأنا عبد الوهاب الأنماطي، أنبأنا أبو محمّد بن هزارمرد، أنبأنا ابن حَبابَة، أنبأنا أبو القاسم البَغَويّ، حدّثنا عليّ بن الجَعْد، حدّثنا القاسم بن الفضل، عن محمد بن عليّ، قال: كانت امّ سلمة تقول: قال رسول الله (ص) «الحجُّ جهادُ كُلِّ ضعيف» (2).
جعفر بن محمّد بن عليّ، ابن الشهيد أبي عبدالله.
ريحانة النبيّ (ص) وسبطه ومحبوبه الحسين ابن أمير المؤمنين أبي الحسن عليّ بن أبي طالب عبد مناف بن شيبة، وهو عبد المطّلب بن هاشم، واسمه عمرو بن عبد مناف بن قصيّ، الإمام، الصادق، شيخ بني هاشم أبو عبدالله القرشي، الهاشمي، العلوي، النبوي، المدني، أحد الأعلام.
وامّه هي امّ فروة بنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر التّيميّ، وامّها هي أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، ولهذا كان يقول: ولدني أبو بكر الصدِّيق مرّتين.
وكان يغضب من الرافضة، ويمقتُهم إذا علم أنّهم يتعرّضون لجدّه أبي بكر ظاهراً وباطناً. هذا لا ريب فيه، ولكن الرافضة قوم جهلة، قد هوى بهم الهوى في الهاوية، فبُعداً لهم.
ولد سنة ثمانين، ورأى بعض الصحابة، أحسبه رأى أنس بن مالك، وسَهل بن سعد.
حدّث عن: أبيه أبي جعفر الباقر وعُبيد الله بن أبي رافع، وعروة بن الزبير، وعطاء بن أبي رباح وروايته عنه في مسلم. وجدّه القاسم بن محمّد، ونافع العمري، ومحمّد بن المنكدر، والزُّهري، ومُسلم بن أبي مريم وغيرهم، وليس هو بالمُكثر إلّا عن أبيه. وكانا من جلّة علماء المدينة.
حدَّث عنه: ابنه موسى الكاظم، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ويزيد بن عبدالله ابن الهاد وهما أكبر منه، وأبو حنيفة، وأبان بن تغلب، وابن جُريج، ومعاوية بن عمّار الدُّهني، وابن إسحاق في طائفة من أقرانه، وسفيان، وشُعبة، ومالك، وإسماعيل بن جعفر، ووهب بن خالد، وحاتم بن إسماعيل، وسليمان بن بلال، وسفيان بن عُيينة، والحسن بن صالح، والحسن بن عيّاش أخو أبي بكر، وزهير بن محمد، وحفص بن غياث، وزيد بن حسن الأنماطي، وسعيد بن سفيان الأسلمي، وعبدالله بن
ص: 58
ميمون، وعبد العزيز بن عمران الزُّهري، وعبد العزيز الدراورديّ، وعبد الوهّاب الثقفي، وعثمان بن فرقد، ومحمّد بن ثابت البُنانيّ، ومحمد بن ميمون الزعفراني، ومسلم الزّنجي، ويحيى القطان، وأبو عاصم النبيل، وآخرون.
قال مصعب بن عبدالله: سمعت الدراوردي يقول: لم يرو مالك عن جعفر حتّى ظهر أمر بني العبّاس.
قال مصعب: كان مالك يَضُمه إلى آخر. وقال عليّ عن يحيى بن سعيد، قال: أملى عليَّ جعفر بن محمّد الحديث الطويل، يعني في الحجّ (1)، ثمّ قال: وفي نفسي منه! مجالد أحبُّ إليَّ منه.
قلت: هذه من زلقات يحيى القطان، بل أجمع أئمّة هذا الشأن على أنّ جعفراً أوثق من مجالد. ولم يلتفتوا إلى قول يحيى.
[والكلام لازال للذهبي] وقال إسحاق بن حكيم: قال يحيى القطّان: جعفر ما كان كذوباً.
وقال إسحاق بن راهويه: قلت للشافعي في مناظرة جرت: كيف جعفر بن محمّد عندك؟ قال: ثقة.
وروى عبّاس عن يحيى بن معين: جعفر بن محمّد ثقة مأمون.
وروى أحمد بن زهير، والدارمي، وأحمد بن أبي مريم، عن يحيى: ثقة. وزاد ابن أبي مريم عن يحيى: كنت لا أسأل يحيى بن سعيد عن حديثه. فقال: لِمَ لا تسألني عن حديث جعفر؟ قلت: لا أريده. فقال: إن كان يحفظ، فحديث أبيه المسند، يعني حديث جابر في الحجّ.
ثمّ قال يحيى بن معين: وخرج حفص بن غياث إلى عبّادان وهو موضع رباط، فاجتمع إليه البصريّون، فقالوا: لا تحدّثنا عن ثلاثة؛ أشعث بن عبد الملك، وعمرو بن عُبيد، وجعفر بن محمّد. فقال: أمّا أشعث فهو لكم، وأمّا عمرو فأنتم أعلم به، وأمّا جعفر فلو كنتم بالكوفة لأخذتكم النّعالُ المُطرَقَة.
قال ابن أبي حاتم: سمعت أبا زُرعة، وسُئِلَ عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، وسُهيل عن أبيه، والعلاء عن أبيه، أيّها أصحّ؟ قال: لا يُقْرَنُ جعفر إلى هؤلاء. وسمعت أبا حاتم يقول: جعفر لا يُسأل عن مثله.
قلت: جعفر، ثقةٌ صدوق، ما هو في الثبت كشعبة، وهو أوثق من سهيل وابن إسحاق. وهو في وزن ابن أبي ذئب ونحوه. وغالب رواياته عن أبيه مراسيل.
قال أبو أحمد بن عدي: له حديث كثير عن أبيه، عن جابر وعن آبائه، ونُسَخٌ لأهل البيت. وقد حدّث عنه الأئمّة، وهو من ثقات الناس كما قال ابن معين.
وعن عمرو بن أبي المِقدام قال: كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمّد علمت أنّه من سلالة النبيّين، قد رأيته واقفاً عند الجمرة يقول: سَلُوني، سَلُوني.
وعن صالح بن أبي الأسود، سمعتُ جعفر بن محمّد يقول: سلوني قبل أن تفقدوني، فإنّه لا يُحدِّثكم أحدٌ بعدي بمثل حديثي.
ابن عقدة الحافظ، حدّثنا جعفر بن محمّد بن حسين بن حازم، حدّثني إبراهيم بن محمّد الرمّاني أبو نجيح، سمعت حسن بن زياد، سمعت أبا حنيفة، وسئل: مَنْ أفقه من رأيت؟
قال: ما رأيت أحداً أفقه من جعفر بن محمّد، لمّا أقدمه المنصور الحيرة، بعث إليَّ فقال: يا أبا حنيفة، إنّ الناس قد فُتِنُوا بجعفر بن محمّد، فهيّئ له من مسائلك الصِّعاب. فهيّأت له أربعين مسألة. ثمّ أتيت أبا جعفر، وجعفر جالس عن يمينه، فلمّا بَصرتُ بهما، دخلني لجعفر من الهيبة ما لا يدخلني لأبي جعفر، فسلّمت وأذن لي، فجلست. ثمّ التفتَ إليَّ جعفر، فقال: يا أبا عبدالله، تعرِفُ هذا؟ قال: نعم. هذا أبو حنيفة. ثمّ أتبعها: قد أتانا.
ص: 59
ثمّ قال: يا أبا حنيفة، هات من مسائلك نسأل أبا عبدالله، فابتدأت أسأله. فكان يقول في المسألة: أنتم تقولون فيها كذا وكذا، وأهل المدينة يقولون كذا وكذا، ونحن نقول كذا وكذا، فربما تابَعَنا وربما تابعَ أهل المدينة، وربما خالفنا جميعاً، حتّى أتيت على أربعين مسألة ما أخرِمُ منها مسألة. ثمّ قال أبو حنيفة: أليس قد روينا أنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس؟!
وبه، قال أبو نُعيم: حدّثنا أبو أحمد الغِطرِيفي، حدّثنا محمّد بن أحمد بن مُكرَم الضّبي، حدّثنا عليّ بن عبد الحميد، حدّثنا موسى بن مسعود، حدّثنا سفيان قال: دخلتُ على جعفر بن محمّد وعليه جبّة خزّ دكناء أبدجاني فجعلتُ أنظر إليه تعجّباً، فقال: ما لكَ يا ثوريّ؟ قلت: يا ابن رسول الله، ليس هذا من لباسك، ولا لباس آبائك، فقال: كان ذاك زماناً مقتراً، وكانوا يعملون على قدر إقتاره وإفقاره، وهذا زمان قد أسبل كلّ شي ء فيه عزاليه (1). ثمّ حسر عن ردن جبّته، فإذا فيها جبّة صوف بيضاء يقصر الذيلُ عن الذّيلِ، وقال: لبسنا هذا لله، وهذا لكم، فما كان لله أخفيناه، وما كان لكم أبديناه.
وقيل: كان جعفر يقول: كيف أعتذر وقد احتججت، وكيف أحتج وقد علمت؟
روى يحيى بن أبي بكير عن هيّاج بن بسطام، قال: كان جعفر بن محمّد يُطعم حتّى لا يَبقى لعياله شي ء.
قال المدائني، وشباب العُصفري، وعدّة: مات جعفر الصادق في سنة ثمان وأربعين ومائة. وقد مرَّ أنّ مولده سنة ثمانين، أرّخه الجِعَابي (2)، وأبو بكر بن منجويه، وأبو القاسم اللَّالكائي (3)، فيكون عمره ثمانياً وستّين سنة رحمه الله.
لم يخرج له البخاري في الصحيح، بل في كتاب الأدب وغيره.
وله عدّة أولاد: أقدمهم إسماعيل بن جعفر ومات شابّاً في حياة أبيه، سنة ثمان وثلاثين ومائة، وخلّف محمّداً وعليّاً وفاطمة، فكان لمحمّد من الولد جعفر وإسماعيل فقط، فولد جعفر محمّداً، وأحمد دَرَجَ، ولم يُعقب، فولد لمحمّد بن جعفر، جعفر وإسماعيل وأحمد وحسن، فولد لحسن جعفر الذي مات بمصر سنة ثلاث وتسعين ومائتين، وخلّف ابنه محمّداً، فجاءه خمسة بنين، وولد لإسماعيل بن محمّد، أحمد ويحيى ومحمّد وعلي دَرَج ولم يُعقب، فولد لأحمد جماعة بنين، منهم إسماعيل بن أحمد المتوفّى بمصر سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، فبنُوا محمّد بن إسماعيل بن جعفر عدد كثير كانوا بمصر، وبدمشق وقد استوعبهم الشريف العابد أبو الحسين محمد بن عليّ بن الحسين بن أحمد بن إسماعيل بن محمّد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، ويُعرف هذا بأخي مُحسّن، كان يسكن بباب توما (4). مات قبل الأربعمائة. وذكر منهم قوماً بالكوفة. وبالغ في نفي عُبيد الله المهدي من أن يكون من هذا النسب الشريف، وألّف كتاباً في أنّه دعي، وأنّ نحلته خبيثة، مدارها على المخرقة والزندقة.
رجعنا إلى تتمّة آل جعفر الصادق، فأجلّهم وأشرفهم ابنه:
موسى الكاظم (ت، ق). الإمام، القوة، السيّد أبو الحسن العلوي، والد الإمام عليّ بن موسى الرضا، مدنيّ نزل بغداد.
وحدّث بأحاديث عن أبيه، وقيل: إنّه روى عن عبدالله بن دينار، وعبد الملك بن قدامة.
حدّث عنه أولاده: عليّ، وإبراهيم، وإسماعيل، وحسين. وأخواه: عليّ بن جعفر، ومحمّد بن جعفر، ومحمّد بن صدقة العنبري، وصالح بن يزيد، وروايته يسيرة لأنّه مات قبل أوان الرواية، رحمه الله.
ذكره أبو حاتم فقال: ثقة، صدوق، إمام من أئمّة المسلمين.
قلت: له عند الترمذي، وابن ماجة حديثان.
قيل: إنّه ولد سنة ثمان وعشرين ومائة بالمدينة.
قال الخطيب: أقدمه المهدي بغداد، وردّه، ثمّ قدمها. وأقام ببغداد في أيّام الرشيد، قدم في صحبة الرشيد سنة تسع وسبعين ومائة، وحبسه بها إلى أن توفّي في محبسه.
ص: 60
ثمّ قال الخطيب: أنبأنا الحسن بن أبي بكر، أنبأنا الحسن بن محمّد بن يحيى العلوي، حدّثني جدّي يحيى بن الحسن بن عُبيد الله بن الحسين بن عليّ بن الحسين، قال: كان موسى بن جعفر يُدعى العبد الصالح من عباداته واجتهاده.
روى أصحابنا أنّه دخل مسجد رسول الله (ص) فسجد سجدةً في أوّل الليل، فسمع وهو يقول في سجوده: عَظُم الذنبُ عندي فليحسُن العفو من عندك، يا أهل التقوى، ويا أهلَ المغفرة، فجعل يُردّدها حتّى أصبح.
وكان سخيّاً كريماً، يبلغه عن الرجل أنّه يُؤذيه فيبعث إليه بصرّة فيها ألف دينار. وكان يصرُّ الصُّرر بثلاثمائة دينار، وأربعمائة، ومائتين، ثمّ يقسِمُها بالمدينة، فمن جاءته صُرّة، استغنى. حكاية منقطعة، مع أنّ يحيى بن الحسن متّهم.
ثمّ قال يحيى هذا: حدّثنا إسماعيل بن يعقوب، حدّثنا محمّد بن عبدالله البكري، قال: قدمتُ المدينة أطلب بها دَيْناً، فقلت: لو أتيتَ موسى بن جعفر فشكوتَ إليه، فأتيته بنَقَمَى (1) في ضيعته، فخرج إليَّ، وأكلتُ معه، فذكرت له قصّتي فأعطاني ثلاثمائة دينار.
ثمّ قال يحيى: وذكر لي غيرُ واحد، أنّ رجلًا من آل عمر كان بالمدينة يؤذيه ويشتم عليّاً، وكان قد قال له بعض حاشيته: دعنا نقتله، فنهاهم، وزجرهم.
وذُكر له أنّ العُمريّ يزْدَرعُ بأرض، فركب إليه في مزرعته، فوجده، فدخل بحماره، فصاحَ العُمَريّ: لا توطّئ زرعنا فوطئ بالحمار حتّى وصل إليه، فنزل عنده وضاحكه. وقال: كم غرِمت في زرعك هذا؟ قال: مائة دينار. قال: فكم ترجو؟ قال: لا أعلم الغيب وأرجو أن يجيئني مائتا دينار. فأعطاه ثلاثمائة دينار. قال: هذا زرعُك على حاله. فقام العُمريّ فقبَّل رأسه، وقال: الله أعلمُ حيثُ يجعل رسالاته. وجعل يدعو له كلّ وقت. فقال أبو الحسن لخاصّته الذين أرادوا قتل العمري: أيما كان خيرٌ؟ ما أردتم أو ما أردت أن أصلح أمره بهذا المقدار؟
قلت: إن صحّت، فهذا غاية الحلم والسماحة.
وقال الخطيب: أنبأنا أبو العلاء الواسطي، حدّثنا عمر بن شاهين، حدّثنا الحُسين بن القاسم، حدّثني أحمد بن وهب، أخبرني عبد الرحمن بن صالح الأزدي، قال: حجَّ الرشيد فأتى قبر النبيّ (ص) ومعه موسى بن جعفر، فقال: السلام عليك يا رسول الله، يا ابن عمّ، افتخاراً على من حوله. فدنا موسى وقال: السلام عليك يا أبة. فتغيّر وجه هارون، وقال: هذا الفخر يا أبا الحسن حقّاً.
قال يحيى بن الحسن العلوي: حدّثني عمّار بن أبان قال: حبس موسى بن جعفر عند السندي بن شاهك، فسألته اخته أن تولَّى حبسَهُ وكانت تَدَيَّنُ، ففعل. فكانت على خدمته، فحكي لنا أنّها قالت: كان إذا صلّى العَتَمَة، حمدَ الله ومجّده ودعاه. فلم يَزل كذلك حتّى يزول الليل. فإذا زالَ الليل، قام يُصلّي حتّى يُصلّي الصبح. ثمّ يذكر حتّى تطلع الشمس، ثمّ يقعد إلى ارتفاع الضحى، ثمّ يتهيّأ ويستاك، ويأكل. ثمّ يرقد إلى قبل الزوال، ثمّ يتوضّأ ويُصلّي العصر، ثمّ يذكر في القبلة حتّى يُصلّي المغرب، ثمّ يُصلّي ما بين المغرب إلى العَتَمة.
فكانت تقول: خابَ قومٌ تعرّضوا لهذا الرجل. وكان عبداً صالحاً.
وقيل: بعث موسى الكاظم إلى الرشيد برسالة من الحبس يقول: إنّه لن ينقضي عنّي يوم من البلاء إلّا انقضى عنك معه يومٌ من الرّخاء حتّى نُفضيَ جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء يخسرُ فيه المُبطلون.
وعن عبد السلام بن السندي قال: كان موسى عندنا محبوساً، فلمّا مات، بعثنا إلى جماعة من العدول، من الكَرْخ فأدخلناهم عليه، فأشهدناهم على موته، ودُفن في مقابر الشونيزيّة.
ص: 61
قلت: له مشهدٌ عظيم مشهورٌ ببغداد. دُفن معه فيه حفيده الجواد. ولولده عليّ بن موسى مشهدٌ عظيم بطُوس. وكانت وفاة موسى الكاظم في رجب سنة ثلاث وثمانين ومائة. عاش خمساً وخمسين سنة وخلف عدّة أولاد. الجميع من إماء: عليّ، والعبّاس، وإسماعيل، وجعفر، وهارون، وحسن، وأحمد، ومحمّد، وعبيد الله، وحمزة، وزيد، وإسحاق، وعبد الله، والحُسين، وفضل، وسليمان، سوى البنات، سمَّى الجميع: الزبير في «النسب».
انتهى كلام الذهبي.
بعد هذا كلّه، لم يبق من موانع قبول حديث الشيعة ورواياتهم إلّا قضيّة وثاقتهم أنفسهم وصدقهم في مقالهم وإنّ المسلم المنصف إذا راجع تراجم الرجال ووصف الرواة في المعاجم المعدّة لذلك ليرى كوضح النهار أنّ شأن الشيعة في الوثاقة والصدق لا يقلّ- على الأقلّ- من شأن غيرهم من المسلمين الذين رووا، ولا أنّ أمرهم من ذلك أنقص- على الأقلّ- من أمر غيرهم؛ فترى أنّ أصحاب التراجم وكتب الرجال على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم يذكرون كثيراً من الشيعة ويعترفون لهم بصدق الحديث والأمانة في القول بعدما وصفوهم بالتشيّع في المذهب، وربّما سبّوهم أو لعنوهم لمذهبهم، ولكن لم يكن عندهم مجال للقدح فيهم من حيث الوثاقة ولا لهم مناص من الاعتراف بالصدق.
فلم يؤخذ عليهم إلّا أنّ مذهبهم التشيّع ولا رأوا لهم زلّة إلّا موالاتهم لأهل بيت نبيّهم (ص)، وقد جمع الإمام السيّد شرف الدِّين العاملي في كتابه المراجعات ما يزيد على مائة ممّن وصف بالتشيّع مع الاعتراف من مخالفيهم لهم بالصدق والاعتماد إليهم في الحديث والركون إليهم في الرواية.
ويكفيك في هذا المجال أن تراجع كتاب الذهبي الذي قلّما يشذّ عن سبّه ولعنه شيعيّ أو ينجو من طعنه ولسانه موالي لأهل البيت (عليهم السلام)، ومع ذا وذاك فاعترافه بوثاقة جمٍّ غفير من الشيعة بيِّن، ومصادقته لهم على الوثاقة في طيّات كتابه غير خفيّ، وكفى بذلك فضلًا.
قال الذهبي في سالم بن أبي حفصة العجلي الكوفي: رأى ابن عبّاس وروى عن الشعبي وطائفة؛ وعنه السفيانان ومحمّد بن فضيل.
قال الفلّاس: ضعيف مفرط في التشيّع، وأمّا ابن معين فوثّقه.
وقال النسائي: ليس بثقة.
وقال ابن عدي: عيب عليه الغلوّ، وأرجو أنّه لا بأس به (1).
أقول: إنّما عابوا عليه تشيّعه أو غلوّه حسب زعمهم.
وقال في محمد بن فضيل بن غزوان: كوفيّ صدوق مشهور؛ وثّقه ابن معين.
وقال أحمد: حسن الحديث شيعي.
وقال أبو داود: كان شيعيّاً محترفاً.
وقال ابن سعد: بعضهم لا يحتجّ به، وله تصانيف.
وقال النسائي: لا بأس به (2).
أقول: ظنّي أنّ عدم احتجاج البعض لتشيّعه ولم يؤخذ عليه إلّا ذلك وكم له من نظير.
وعلى أيّة حال، فهذا الذي أشرنا إليه غيضٌ من فيض في توثيق رجالات الشيعة بعد الاعتراف بتشيّعهم، ومن أراد الزيادة فليراجع كتب التراجم.
ص: 62
وقد جرت سيرة الناس عامة على نسبة المذاهب إلى أصحابها بواسطة ثبوتها عن طريق أتباعهم وشيعتهم؛ فهذه فتاوى الشافعي ومالك وأبي حنيفة وغيرهم محسوبة عليهم عند أهل السنّة؛ وإنّما نقلها عنهم أتباع مدارسهم وتلامذتهم مباشرةً أو بواسطة أو وسائط.
وثبوت مذهب أهل البيت (عليهم السلام) عنهم لا يشذّ عن هذا الوجه ولا ينبغي أن يتخلّف عن هذا المسلك.
ص: 63
ص: 64
السياسة وفقه الحج
هل السياسة بعيدة عن الحج وفقهه وقضاياه؟ وهل يفترض بحقّ تحييد الحج عن قضايا السياسة؟ وهل يلعب الحج دوراً في الحياة السياسية؟
هناك في أوساط العلماء والفقهاء المسلمين أكثر من اتجاه يختلف في هذه القضية التي التبس فيها الأمر.
الاتجاه الأول: ويذهب هذا الفريق إلى علمنة العبادات الدينية عموماً، ويرى أن الفقه الإسلامي يقدّم العبادات معلمنة خالية من أي علاقة أو دور في الحياة السياسية العامّة؛ فنحن إذا قرأنا كتب بعض الفقهاء المسلمين عندما يتحدثون عن العبادات بشكل عام، والحج بصورة خاصّة، نجد غياباً تاماً للسياسة والاجتماع؛ فهل تجد أن هناك كلمة لهذا الفقيه أو ذاك في ربط الصوم بواقع الاجتماع الإسلامي والسياسة؟ ومتى وجدنا ربطاً في كلمات الفقه الإسلامي بين الصلاة وقضايا المسلمين الكبرى؟
إن الذي يسود التصوّرات الفقهيّة للعبادات، هو منطق علماني بشكل تام أو شبه تام؛ لهذا يرى أنصار الاتجاه الأوّل أن من الطبيعي الفصل بين فقه العبادات عامة- والحج خاصة- وبين قضايا السياسة والاجتماع؛ لأن هذا هو الأمر الطبيعي الذي يخرج به أيّ مطالع لتراث المسلمين في فقه العبادات.
إن الفصل بين الدين العبادي وبين السياسة أمر نجده حتى في طبيعة الأعمال الفكرية لبعض الذين لايؤمنون بالفصل بين الدين والسياسة عامّة؛ فالعبادات ظلّت الجانب المحايد في الدين عن قضايا الاجتماع السياسي، بل نحن نجد في ثقافة المسلمين اليوم نزعة ميّالة لتحييد دُوْر العبادة وبيوتها أيضاً عن الاجتماع والسياسة؛ فتراهم يقولون: المسجد لله؛ وليس للعمل السياسي لهذا الحزب أو ذاك التنظيم أو ذلك التجمّع .. حيّدوا المساجد عن الصراعات السياسية!!
وعندما يكبر هذا المسجد ليصير المسجد الحرام أو المسجد النبوي الشريف، فمن الطبيعي أن يتضاعف الصوت المطالب بتحييد هذين المسجدين عن مثل ذلك، وبهذه الطريقة تمّت علمنة العبادات، وهي علمنة ساهم فيها بعض الفقهاء المسلمين أنفسهم قديماً وحديثاً.
1- نقد نظرية علمنة العبادات
والذي نلاحظه على اتجاه علمنة العبادات الدينية:
أولًا: إذا وجدنا في النصوص التي هي مرجع عمل الفقهاء وفتاواهم ما يؤكد لنا الدور السياسي للعبادات وبيوت الصلاة والدعاء؛ فسنكون مضطرين لاستبدال مرجعية الفقه الموروث بمرجعية أخرى هي الأصل و الأساس، عنيت مرجعية الكتاب والسنّة، لأن الفقه هو الفرع الذي يخرج من ذاك الأصل، فلا يصحّ له أن يتخطاه أو يتجاوزه.
وإذا رجعنا إلى العبادات في الكتاب والسنّة سنجد المدلول السياسي والاجتماعي حاضراً؛ فالأحاديث تذكر- ومنها خطبة الرسول الأكرم (ص) في استقبال شهر رمضان المبارك- أن الصوم يبعث على إحساس طبقات المجتمع ببعضها، أي إنّه يساعد على تقصير المسافة بين الطبقة الغنية والطبقة الفقيرة، وبهذا ندخل- شئنا أم أبينا- في سياق سياسي داخلي، في علاقات طبقات المجتمع ببعضها؛ لأن السياسة لا تعني قضايا الحرب والسلم فحسب، بل تطال- بالمفهوم العام- مختلف قضايا الاجتماع الإسلامي العامّة.
ص: 65
وهكذا عندما نجد أن الصلاة والحج و ... فيها مثل هذه الخصوصيات، كما سوف نلمح بعون الله تعالى.
ثانياً: لنفرض أن النصوص ليس فيها أيّ إشارة لهذا الموضوع، لكن تحليل بعض هذه العبادات يدفعنا للاقتناع بذلك، فالخمس والزكاة بأنواعهما من العبادات في الرأي الفقهي السائد، هل يستطيع أحد أن يفصلهما عن المفهوم السياسي العام؟! ألا يدخلان في السياسة الاقتصادية وفي علاقات الناس ببعضها؟!
ثالثاً: لنفرض أننا تنازلنا عن الأمرين السابقين، لكن وجدنا بالتجربة أنه يمكن توظيف هذه العبادة أو تلك في الصالح العام للمسلمين، هل يكون تفعيل دور العبادات في الصالح العام أمراً مرفوضاً؟! هل القاعدة العامة ترفض ذلك إذا استطعنا تجنّب بعض سلبيات التطبيق أم تدعمه؟! إذا جعلنا من الحج مؤتمراً سنوياً ليفتح المسلمون فيه قلوبهم لبعضهم، ويطرحوا فيه قضاياهم، ويتعرّفوا على أوضاعهم، ويتبادلوا الرأي في حلّ مشكلاتهم الكبرى، هل قوله تعالى- في الآية التي ذكرت محرّمات الحج-: فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِى الْحَجِّ (1) تحظر مثل هذا الأمر، أم أن العمومات والقواعد العامّة تساعد عليه، مثل الحديث الشريف: «من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم، ومن سمع رجلًا ينادي: يا للمسلمين، فلم يجبه، فليس بمسلم» (2)؟!
نعم، رفض علمانية العبادات وتعطيلها عن التأثير على حياتنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، يجب أن يلحظ معه بعض الأمور، حتّى لا يؤدي ذلك إلى التورّط في بعض السلبيات، ومن هذه الأمور التي لا نقصدها ما يلي:
أ- الخلط بين القضايا السياسية والاجتماعية الكبرى، وبين المخاصمات الحزبية الضيقة أو الاستغلال الحزبي والسياسي المحدود الأفق للعبادات، فعندما نقول: إنّ المسجد له دور في الحياة السياسية، وأنّ المسجد النبوي كان مركزاً للعمل السياسي في حياة الرسول (ص)، وأنّه يمثل البرلمان الإسلامي على حدّ قول الدكتور علي شريعتي .. عندما نقول ذلك، لا يعني أن تنقسم مساجدنا انقساماً سياسياً، فهذا المسجد للجماعة الفلانية، وذاك للجماعة الأخرى، وهذا المسجد لا ندخله؛ لأنّه للحزب الفلاني، وآخر ندخله لأنه للحزب الآخر الذي ننتمي إليه.
وحتّى لو تخطينا المدلول الضيّق لتسييس المسجد، فإن الأمر عينه يجري على مذهبة المساجد، فهذا المسجد شيعي إذاً فلا يدخله السني، وهذا المسجد سني إذاً فلا يدخله الشيعي، وذاك المسجد أباضي إذا فلا يدخله الإسماعيلي ...
هذا المعنى لتسييس المساجد ومذهبتها لا أساس له في الدين، فههنا نقول: المسجد لله تعالى، هو للصلاة، هو بيت الله، لا بيت هذا الزعيم ولا ذاك، هو بيت الرحمن لا بيت هذا الحزب السياسي أو ذاك، هو بيت الصلاة، وليس بيت هذا المذهب أو ذاك.
وهذا ما يظهر جلياً في المساجد والمشاهد الإسلامية الكبرى، فهي للمسلمين عموماً وإن تولاها هذا المذهب أو ذاك، أو هذه الجماعة السياسية أو تلك، أو هذا الزعيم أو ذاك، أو هذه الدولة أو تلك.
فعندما أدخل المسجد الحرام فأنا أدخل مسجد الله ومكان عبادته، ولا أدخل مسجداً سلفياً أو سعودياً أو عربياً، وهكذا عندما أدخل الحرم الرضوي في مدينة مشهد في إيران، فأنا لا أدخل مشهداً شيعياً ولا إيرانياً ...
نعم، هذا المعنى للتسييس مرفوض؛ إنّه استغلال لبيت الله وللعبادات وليس استخداماً له لخدمة الدين، فعلينا أن لا نخلط بين علاقة العبادة بالسياسة والاجتماع، وبين هذه المعاني الضيّقة للسياسة.
ب- تغيب الدور الروحي للعبادات؛ فعندما نتحدّث عن علاقة العبادات- ومنها الحج- بالسياسة والاجتماع الإسلاميين، فهذا لا يعني تغييب أو إضعاف الدور الروحي للعبادات؛ حيث يفترض أن لا يكون هذا على حساب ذاك، ولا ذاك على حساب هذا، بل يفترض تحقيق التوازن الذي يضع كل واحدة في موضعها؛ تفادياً لأيّ إفراط أو تفريط.
ص: 66
وبهذا يتبين أن اتجاه علمنة العبادات ليس اتجاهاً صائباً عند ما يؤخذ على إطلاقه.
2- الحج واتجاه الاعتدال بين الحقّ والخلق
الاتجاه الثاني: وهو الاتجاه الذي يرى أن للعبادات وجهين: أحدهما روحي غيبي في اتصاله مع الله سبحانه، وثانيهما اجتماعي- سياسي في علاقته بالخلق، وأنه لا يصح تجاهل أحد الوجهين لصالح الآخر، بل يفترض إيجاد التوازن بينهما.
وطبقاً لهذا الإطار العام الذي يحكم العبادات، يجرى تطبيق المفهوم عينه على الحج، فللحج بُعد سياسي ووحدوي واجتماعي كما يقول الشيخ محمود شلتوت (1)، ونجد ما ينصر هذا البعد في آيات القرآن الكريم، قال تعالى: جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَ الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ الْهَدْىَ وَ الْقَلائِدَ ... (2)، فكلمة «قياماً» لها دلالة على مكانة هذه المسميات الواردة في الآية في إقامة شؤون الناس.
وقال سبحانه: وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْقانِعَ وَ الْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (3)، وقال عز من قائل: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِى أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (4).
فهذه الآيات تضع الهدي في سياق تعاون اقتصادي يكفل فيه الغنيّ الفقير ليطعمه، فلا ينظر للجانب الروحي الصرف، وإنما يربط العبادة بجانبها الاجتماعي أيضاً.
من هنا، نميل إلى الاتجاه الثاني الذي يحافظ على كلا بُعدي العبادة، فلا يفرط هنا أو هناك، ونحن نجد في السيرة النبوية كيف لم ينأى الرسول (ص) عن إقحام القضايا السياسية في الحج، فلم يقل: إنّ الناس في حج، ولا ينبغي في أثناء العبادات أن نعلن البراءة من المشركين، بل أرسل علياً (ع) ليعلن هذا القرار السياسي الهام جداً، والذي أمره به القرآن الكريم في مطلع سورة التوبة (5).
نعم، قد نختلف في كيفية وطريقة وآلية المحافظة على البعد السياسي في الحج، وربما أرجّح طريقةً وترجّح أنت أخرى، وهذا شي ء طبيعي لا يضرّ بأصل الحفاظ على الحيثية الاجتماعية والسياسية لهذه الفريضة، إنما حديثنا عن المبدأ الذي لا ينبغي هدره لأجل الخلاف في التفاصيل والآليات.
بين فقه الحج و فقه الزيارة
في قضية فقه الحج وفقه الزيارة، نجد أنّه لابدّ من دراسة هذا الموضوع ورصده على مستوى الاهتمام، فنحن نلاحظ وجود تيارات ثلاثة في هذا المجال، وهي:
التيار الأول: يرى أنصار هذا التيار الفكري والديني والثقافي أن الزيارات مبدأ مرفوض، فلا معنى لزيارة القبور في البقيع وغيرها، وأن الله تعالى قد نهانا عن ذلك من خلال السنّة النبوية، فالحاج عليه الذهاب إلى الحج وأداء أعماله ومناسكه، وأن لا يلتهي بمثل هذه الزيارات للقبور ونحوها عن أعمال الحج وذكر الله والتضرّع إليه، نعم زيارة الرسول الأكرم (ص) وردت بها السنّة من حيث زيارة المسجد النبوي.
التيار الثاني: ويرى أو يمارس اهتماماً عظيماً بأمر الزيارات، حتّى أننا نجده يذهب إلى الحجاز والزيارة حاضرة في قلبه ومشاعره أكثر من حضور الحج نفسه، إنّه يعتقد أن الزيارات مقوّم أساس لإيمان المرء وأنّها يجب أن تكون في سلّم الأولويات في فقه الحج وقضاياه.
ص: 67
التيار الثالث: وهو الذي نميل إليه، فنحن نعتقد أنّه لابد من إصلاحات على وجهة نظر الفريق الأوّل والثاني معاً؛ لوضع الأمور في نصابها الطبيعي والصحيح، فعلى مستوى الفريق الأوّل نقول: إن زيارة المشاهد والمراقد والأماكن التاريخية في مكة والمدينة وعامة بلاد الحجاز ليست أمراً محرماً في حدّ نفسه حتّى نتشدّد معه بهذه الطريقة، فأيّ مانع أن يرتبط الناس بهؤلاء العظماء في البقيع وغيرها من وجوه وكبار أئمة أهل البيت النبوي والصحابة والشهداء وغيرهم، إنّه ارتباط بالقيم والمثل التي حملوها في تاريخ حياتهم، وزيارة المشاهد التاريخية تذكّر بتاريخ الإسلام ليبقى راسخاً في ذاكرة الحاجّ والمعتمر، يحدّث عن هؤلاء العظماء وعن ذاك التاريخ الحافل، بعد عودته إلى موطنه، إنها مقاصد شرعية عليا تظهر جلية في هذا الأمر، وبدل أن نحاربها علينا أن ندعمها ونرسّخها لربط الناس بهذا التاريخ وبهؤلاء الرجال.
نحن نعتقد أنه حتى الرسائل العملية الفقهية يجب أن تحوي- ولو باختصار- موجزاً عن تاريخ الإسلام في بلاد الحجاز والشخصيات الكبرى والأولى في هذا التاريخ؛ فالحاج عندما يذهب إلى هناك يذهب واعياً للتاريخ ولما هو موجود، فيكون حجّه عن وعي، فكلما رأى مَعْلَماً تذكّر كل ذلك المجد العريق للإسلام، فبدل أن ندمّر هذه الذاكرة التاريخية العظيمة علينا المحافظة عليها، فإن في ذلك ربط الناس- كما قلت- بالإسلام ومثله وقيمه.
نعم، نستدرك- وهنا نتحاور مع بعض أنصار الفريق الثاني أيضاً- ونقول: قد تصدر هنا أو هناك طرائق في التعبير لا نتفق معها، فالحديث عن عدم الاهتمام بالحج و شعائره وعدم الحضور الروحي معها لصالح التفاعل العاطفي مع الزيارات فحسب ... هذا الحديث غير صحيح إسلامياً، ويجب ترشيد الناس الذين لا نوايا خبيثة لهم، ففي الزيارات- كما في أيّ عبادة أخرى- يجب على الفقه الإسلامي وعلى القيّمين على تطبيق الفقه والأخلاق، أن ينتبهوا من أيّ ممارسات مبالغ بها وتحوي إفراطاً وخروجاً عن جادّة الشرع، ليقفوا في وجهها حتّى لو كان فاعلها غير سيئ النية، فيجب ممارسة الإرشاد معه في هذا المجال أو ذاك، وهذا شي ء لا يحصل في الزيارات فقط، بل يحصل في كل الأمور، فإذا ارتكب بعض المسلمين أخطاء في إحياء المولد النبوي الشريف فلا يعني ذلك حرمة إحياء هذا المولد، بل يعني ضرورة تصحيح هذه الأخطاء لو كانت موجودة. وإذا فعل الحجاج خطأ ما في طوافهم أو سعيهم فالمطلوب تصحيح الخطأ لا إلغاء الطواف والسعي.
نعم، من واجب علماء الدين في المذاهب كافة، أن ينتبهوا على الدوام للأخطاء التي يرتكبها عامة الناس أثناء أدائهم لعبادة هنا أو هناك، وأن يكونوا المصفاة التي تنقّي الدين من الكادورات التي تعلق به، إما عن عمد وسوء نية من بعض الناس أو عن جهل وعدم قصد سيئ من آخرين، وهذا يسري على المذاهب كافة ولا يختص بمذهب أو بآخر، حتّى نضع كل اهتمامنا بمذهب وكأن أتباع المذاهب الأخرى منزهون عن ذلك أو مثله!!
إذن، فرفض الزيارات بمعناها الواسع مرفوض لأنّه لا مبرّر شرعي له، كذلك إرخاء العنان للعامة من الناس أن يفعلوا أو يعتقدوا ما شاؤوا دون تصويب حركتهم أمر غير صحيح؛ فالمفترض التوازن والسير على جادّة الشريعة، كلٌّ حسب مذهبه، ولا يصح لنا الدخول في نوايا الناس وقصودها لاتهام هذا بالشرك وذاك بالغلو، وثالث بالتقصير ورابع باللامبالاة، بل نتعامل مع الظاهر ونحمل المؤمن والمسلم على الأحسن، كما أمرنا في الكتاب والسنة أن نتعامل بود وأخوة مع المسلمين.
ص: 68
ص: 69
سورة الفجر سورة مكية وآياتها ثلاثون آية. بدأت بأقسام أربعة وَ الْفَجْر* وَ لَيالٍ عَشْرٍ* وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْر* وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ... في هذه المقالة نقف عند الآيتين الأوليين فأكثر الكلام فيهما وأكتفي ببعض الإشارات أو الأقوال للآية وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْر.
إن الأيام كلها عند الله تعالى- وهي من مخلوقاته- تعد أوقات بركة، وأبواب خير ورحمة للناس، إلا أن عملية التفضيل تبقى مع ذلك- أمراً وارداً فيها، كما هو في كل شي ء وفي كل ما خلق الله تعالى .. لهذا وبعد أن خلق الله سبحانه وتعالى الأرض ميّز بعضها على بعض، وفضل بعضها على بعض، وخلق الزمان وفضل بعض أيامه على بعضها الآخر، فخصّ بعض الشهور والأيام والليالي بمزايا وفضائل لا تجدها في غيرها، يعظم فيها الأجر، ويضاعف فيها الثواب من قبله سبحانه وتعالى، ويكثر فيها الفضل والعطاء، رحمة منه بعباده، و تشجيعاً لهم على الزيادة في العمل الصالح والرغبة في الطاعة، وعوناً منه تعالى لهم في تجديد النشاط؛ ليحظى المسلم بنصيب وافر من التقوى، فالأجر والثواب .. ويتأهب للموت قبل قدومه ويتزود للآخرة قبل أوانها: وتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى.
فالأيام والأزمنة وكذا الأماكن، التي تميزها السماء وتفضلها على غيرها هي في الحقيقة وقفات تدبر وتأمل و محطات تزوّد، كما وأنها مواسم مباركة تصب بخيرها علينا .. مواسم عبادة يحب الله تعالى أن يعبد فيها ويجزل فيها العطاء للعابدين، فصول يستدرك فيها الإنسان ما فاته ويسد الخلل، ويبدل النقص، ويعوض ما فاته في حياته، فيستأنف نشاطاً سليماً مرضياً عند بارئه وخالقه عز وجل، وما من موسم من هذه المواسم الفاضلة، إلا وقد شرع لله تعالى فيه وظيفة من وظائف الطاعة يتقرب بها العباد إليه .. وإلا لله تعالى فيها لطيفة من لطائف كرمه، ونفحة من نفحاته يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات خصوصاً المفضلة سماوياً، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من طاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار، ولا يصيبه شقاء بعدها، والنفحات جمع نفحة والنفحة لغةً تعني الطيب الذي ترتاح له النفس. (1)
وقد نسب إلى رسول الله (ص) قوله:
«إن لربكم في أيام دهركم نفحات، فتعرضوا لها، لعل أحدكم أن يصيبه منها نفحة لا يشقى بعدها أبداً». (2)
إن لَيالٍ عَشْر هي العشر الأوائل من ذي الحجة، وهو قول يعد أصحّ الأقوال كما يبدو من خلال دراسة أقوالهم العديدة فيها والتي سنأتي عليها، وهي تعد من أعظم المناسبات، فقد ثبت أن لهذه الليالي العشر الأوائل من شهر ذي الحجة فضلًا كبيراً نستقيه:
أولًا: من كتاب الله سبحانه وتعالى فقد قال الله تعالى:
وَ الْفَجْر* وَ لَيالٍ عَشْرٍ
وإذا أقسم الله بشي ء دلّ هذا على عظم مكانته وفضله؛ إذ العظيم لا يقسم إلا بالعظيم.
ثانياً: من كونها أياماً معلومات شرع الله تعالى فيها ذكره المبارك، ويحظون فيها بمنافع عظيمة ويؤدون فيها أموراً أخرى كالذي حمله قوله تعالى:
لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِى أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ* ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (3)
و هذه الأيام هي عشر ذي الحجة كما عليه الأكثر، حتى ورد كما نسب إلى رسول الله (ص) أنه شهد أنها أفضل أيام الدنيا.
ص: 70
فعن جابر 2 عن النبي (ص) قال:
«أفضل أيام الدنيا أيام العشر- يعني عشر ذي الحجة- قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: ولا مثلهن في سبيل الله إلا رجل عفر وجهه بالتراب.»
ثالثاً: مما صح من الأحاديث عن رسول الله (ص) التي توضح فضلها؛
فعن ابن عباس عن النبي (ص) أنه قال: ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر فقالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشي ء»
«أنه ما من أيام أحب إلى الله تعالى العمل فيهن من هذه الأيام، يعني أيام العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله يا رسول الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا أن يخرج الرجل بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشي ء».
رابعاً: من العبادات: الصلاة والصيام والصدقة والحج .. فمن أظهر أسباب فضل وامتياز هذه الأيام العشر من ذي الحجة، اجتماع أفضل العبادات فيها، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج ..
وفي الفتح قال الحافظ ابن حجر: «والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيها، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره». «... وإن صيام يوم منها يعدل بصيام سنة، والعمل فيهن يضاعف بسبعمائة ضعف».
«ما من أيام أحب إلى الله أن يُتعبد له فيها من عشر ذي الحجة، يعدل صيام كل يوم منها بسنة وكل ليلة منها بقيام ليلة القدر».
وفي التاج الجامع قالت أم سلمة أو حفصة: كان النبي (ص) يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء. وفي الهامش: إلا إذا كان في الحج فلا يصوم عرفة.
و صيام يوم عاشور فيه كلام ليس هذا محله.
وعن أبي هريرة عن النبي (ص) أنه قال: «ما من أيام أحب إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر».
رواه الترمذي وإن كان سنده ضعيفاً كما يشيرون، ولكنهم يؤيدونه بالذي قبله ثم يقولون: ومعناه أن الله تعالى يحب العبادة في عشر ذي الحجة أكثر من كل وقت، بل ثواب صوم اليوم الواحد منهنّ كثواب صوم سنة، وقيام الليلة فيها كقيام ليلة القدر، وهذا ترغيب عظيم وفضل الله أعظم.
وفي هامش الصفحة 94: 2 من التاج: وهي التي أقسم الله بها في قوله تعالى:
وَ الْفَجْر* وَ لَيالٍ عَشْرٍ* وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْر* وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ* هَلْ فِى ذلِكَ قَسَمٌ لِذِى حِجْرٍ
وهي العشر الأول من ذي الحجة. فالعمل الصالح في هذه العشر أفضل منه في كل وقت، إلا من خرج يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله فاستشهد فإن درجته أعظم. (1)
ومعروف أن الصيام، وهو من أعظم الأعمال الصالحة، وهو العبادة التي لا يمكن أن يدخلها رياء، يمتاز بأن الله تعالى اصطفاه لنفسه كما في الحديث القدسي: قال الله تعالى: «كل عمل بني آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به».
خامساً: من استحباب التبكير إلى الفرائض في هذه الليالي والأيام والإكثار من التكبير فقد نسب الى رسول الله (ص) القول:
ص: 71
«ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهنّ من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد». «فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير وذِكْر الله ..»
وعن الصادق (ع): «إن أبواب السماء لا تغلق تلك الليلة لأصوات المؤمنين، لهم دوي كدوي النحل يقول الله عز وجل: أنا ربكم وأنتم عبادي، أديتم حقي وحقٌّ علي أن أستجيب لكم، فيحط تلك الليلة عمن أراد أن يحط عنه ذنوبه ويغفر لمن أراد أن يغفر له».
حتى قال الشيخ الصدوق في عقب هذه الرواية: فإذا ازدحم الناس فلم يقدروا على أن يتقدموا ولا يتأخروا كبروا فإن التكبير يذهب بالضغاط. (1)
ولأهمية التكبير وفضيلته قال بعضهم: فالتكبير المطلق يجوز من أول ذي الحجة إلى أيام العيد، له أن يكبر في الطرقات وفي الأسواق، وفي منى، ويلقى بعضهم بعضاً فيكبر الله ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيراً .. والتكبير المقيد فهو ما كان عقب الصلوات الفرائض، وخاصة إذا أديت في جماعة، وكذلك في مصلى العيد .. في الطريق إليه، وفي الجلوس فيه، على الإنسان أن يكبر، ولا يجلس صامتاً .. سواء في عيد الفطر، أو عيد الأضحى؛ لأن هذا اليوم ينبغي أن يظهر فيه شعائر الإسلام، ومن أبرز هذه الشعائر التكبير .. وقد قيل: «زيّنوا أعيادكم بالتكبير».
سادساً: من استحباب الإكثار من النوافل وأفضلها قيام الليل، فإن أبواب السماء لا تغلق في تلك الليالي فهي ليالي الرحمة والمغفرة ..
سابعاً: استحباب الإكثار من السجود؛ لقوله (ص):
«عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجدلله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة» (2)
ثامناً: من استحباب الإكثار من التصدق والإنفاق وفعل غيرهما من أعمال البر والخير والصلاح .. فعن ابن عباس حول العمل الصالح فيها أن رسول الله (ص) قال: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، يعني أيام العشر، قالوا يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع بشي ء».
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله (ص): «ما من أيام أفضل عند الله، ولا العمل فيهن أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام».
تاسعاً: من ذلك اليوم العظيم؛ الحج عرفة: إنه يوم عرفة يوم الحج الأكبر، ويوم مغفرة الذنوب، ويوم العتق من النيران، ولو لم يكن في عشر ذي الحجة إلا يوم عرفة لكفاها ذلك فضلًا.
و يوم عرفة هو: اليوم التاسع من ذي الحجة، حيث يقف الحجيج بعرفات (على بعد اثني عشر ميلًا من مكة)، والوقوف بعرفات ركن الحج الأعظم لقول النبي (ص): «الحج عرفة»، وهو يوم مبارك، وهو:
«أفضل الأيام يوم عرفة».
«مَا مِنْ يَوْمٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللهِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، يَنْزِلُ اللهُ تَعَالَى إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِأَهْلِ الْأَرْضِ أَهْلَ السَّمَاءِ».
كلاهما عن الصحابي الجليل جابر عن رسول الله (ص).
وفي رواية: «إنَّ اللهَ يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَةَ مَلائِكَتَهُ، فَيَقُولُ: يَا مَلائِكَتِي، انْظُرُوا إلَى عِبَادِي، قَدْ أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا ضَاحِينَ».
كما يشهد لفضل يوم عرفة قول الله عز وجل: وَ الْفَجْر* وَ لَيالٍ عَشْرٍ
ص: 72
وهو قَسَم يحمل عظمة هذه الأيام وعرفة منها، فالله عز وجل يقسم ببعض مخلوقاته لبيان فضلها، وقسمه سبحانه بالليالي العشر لبيان منزلتها، والترغيب بالعمل الصالح فيها .. إنه يوم مغفرة الذنوب والعتق من النار.
فعن الإمام الصادق (ع) أنه قال: «الحاج إذا وقف بعرفات خرج من ذنوبه».
وقال أبو جعفر (ع): «ما يقف أحد على تلك الجبال بر ولا فاجر إلا استجاب الله له، فأما البر فيستجاب في آخرته ودنياه، وأما الفاجر فيستجاب له في دنياه».
وقال الصادق (ع): «ما من رجل من أهل كورة (المدينة والناحية) وقف بعرفة من المؤمنين إلا غفر الله لأهل تلك الكورة من المؤمنين، وما من رجل وقف بعرفة من أهل بيت من المؤمنين إلا غفر الله لأهل ذلك البيت من المؤمنين».
«سمع علي بن الحسين (عليهما السلام) يوم عرفة سائلًا يسأل الناس، فقال له: «ويحك أغير الله تسأل في هذا اليوم؟ إنه ليرجى لما في بطون الحبالى في هذا اليوم أن يكون سعيداً».
«ومن أعتق عبداً له عشية يوم عرفة فإنه يجزي عن العبد حجة الإسلام ويكتب للسيد أجران: ثواب العتق وثواب الحج».
«وأعظم الناس جرماً من أهل عرفات الذي ينصرف من عرفات وهو يظن أنه لم يغفر له، يعني الذي يقنط من رحمة الله عز وجل».
وقال الصادق (ع): «إذا كان عشية عرفة بعث الله عز وجل ملكين يتصفحان وجوه الناس، فإذا فقدا رجلًا قد عود نفسه الحج، قال أحدهما لصاحبه: يا فلان ما فعل فلان؟ قال: فيقول: الله أعلم، قال: فيقول أحدهما: اللهم إن كان حبسه عن الحج فقر فأغنه، وإن كان حبسه دين فاقض عنه دينه، وإن كان حبسه مرض فاشفه، وإن كان حبسه موت فاغفر له وارحمه». (1)
وعن عائشة أن رسول الله (ص) قال:
«ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو، ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء». قال ابن عبد البر: وهو يدل على أنهم مغفور لهم؛ لأنه لا يباهي بأهل الخطايا والذنوب إلا بعد التوبة والغفران.
وفي صيام هذا اليوم نسب إلى رسول الله 9 القول:
«صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده». (2)
فقالوا يستحب صيامه لغير الحاج، أما الحاج فلا ينبغي أن يصومه حتى يتقوى على الوقوف وذكر الله تعالى.
وعن صيام يوم عرفة- تحت باب صيام عرفة لغير الحاج في التاج الجامع- نسب إلى رسول الله (ص) قوله:
عن أبي قتادة عن النبي (ص): «صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده».
أحتسب على الله أي أرجوه، ورجاؤه (ص) محقق، فصوم يوم من عرفة يكفر ذنوب السنة الماضية والسنة الآتية، إن وقعت فيها ذنوب تقع مغفورة، والمراد الصغائر وإن لم تكن فيرجى التخفيف من الكبائر وإلا رفع له به درجات. (3)
وفي أفضلية الدعاء في يوم عرفة، روى الترمذي أن رسول الله (ص) قال:
«أفضل الدعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شي ء قدير».
وروى أيضاً أن الإمام علي بن أبي طالب (ع) قال:
أكثر ما دعا به النبي (ص) يوم عرفة في الموقف:
ص: 73
«اللهم لك الحمد كالذي نقول وخيراً مما نقول، اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي، وإليك مآبي ولك ربي تراثي. اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر وشتات الأمر .... (1)
عاشراً: وتقتبس فضيلتها من ذلك اليوم العظيم المبارك التاسع من ذي الحجة يوم إكمال الدين و إتمام النعمة ورضا الله تعالى، وقد نزل فيه قوله تعالى:
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَ رَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً (2)
وعن مجمع البيان في تفسير الآية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ قيل فيه أقوال:
أحدها: أن معناه أكملت لكم فرائضي وحدودي وحلالي وحرامي بتنزيلي ما أنزلت وبياني ما بينت لكم، فلا زيادة في ذلك ولا نقصان منه بالنسخ بعد هذا اليوم، وكان ذلك يوم عرفة عام حجة الوداع عن ابن عباس والسدي واختاره الجبائي والبلخي قالوا: ولم ينزل بعد هذا على النبي (ص) شي ء من الفرائض في تحليل ولا تحريم وأنه مضى بعد ذلك بإحدى وثمانين ليلة، فإن اعترض معترض فقال: أكان دين الله ناقصاً وقتاً من الأوقات حتى أتمَّه في ذلك اليوم؟ فجوابه أن دين الله لم يكن إلا في كمال كاملًا في كل حال ولكن لما كان معرضاً للنسخ والزيادة فيه ونزول الوحي بتحليل شي ء أو تحريمه لم يمتنع أن يوصف بالكمال إذا أمن من جميع ذلك فيه كما توصف العشرة بأنها كاملة، ولا يلزم أن توصف بالنقصان لما كانت المائة أكثر منها وأكمل.
وثانيها: أن معناه اليوم أكملت لكم حجكم وأفردتكم بالبلد الحرام تحجّونه دون المشركين ولا يخالطكم مشرك، عن سعيد بن جبير وقتادة. واختاره الطبري قال: لأن الله سبحانه أنزل بعده: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلالَةِ قال الفراء: وهي آخر آية نزلت وهذا الذي ذكره لو صحّ لكان لهذا القول ترجيح لكن فيه خلاف.
وثالثها: أن معناه اليوم كفيتكم الأعداء وأظهرتكم عليهم، كما تقول: الآن كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد بأن كفينا ما كنا نخافه عن الزجاج.
والمروي عن الإمامين أبي جعفر وأبي عبدالله 8 أنه إنما أنزل بعد أن نصب النبي 9 علياً 7 علماً للأنام يوم غدير خم منصرفه عن حجة الوداع قالا: وهو آخر فريضة أنزلها الله تعالى ثم لم ينزل بعدها فريضة.
وأما البخاري فقد روى بسنده: قالت اليهود لعمر: إنكم تقرءون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً فقال عمر رضي الله عنه: إني لأعلم حيث أنزلت، وأين أنزلت وأين كان رسول الله (ص) حين أنزلت: نزلت يوم عرفة إنا والله بعرفة قال سفيان: وأشك كان يوم الجمعة أم لا: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا (3)
وإكمال الدين في ذلك اليوم حصل؛ لأن المسلمين لم يكونوا حجوا حجة الإسلام من قبل فكمل بذلك دينهم لاستكمالهم عمل أركان الإسلام كلها، ولأن الله أعاد الحج على قواعد إبراهيم (ع)، ونفى الشرك وأهله فلم يختلط بالمسلمين في ذلك الموقف منهم أحد.
وأما إتمام النعمة فإنما حصل بالمغفرة فلا تتم النعمة بدونها، كما قال الله تعالى لنبيه: لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ (4) وهي تختم بأول يوم من أيام عيد الأضحى؛
فعن أبي أمامة أن النبي (ص) قال:
«يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب» (5)
«فنزول هذه الآية في عرفة التي هي أظهر معالم الحج وفي يوم جمعة الذي هو عيد الأسبوع معلنة بإكمال الدين وإتمام النعمة، واختيار أحسن الأديان جدير بأن يكون من أعظم الأعياد فلله مزيد الحمد ووافر الشكر». (6)
ص: 74
حادي عشر: وتحظى بفضلها من يوم النحر وهو أعظم أيام السنة عند بعض العلماء، قال رسول الله (ص):
«أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر، ويوم القر هو اليوم الذي يلي يوم النحر؛ لأن الناس يقرون فيه بمنى بعد أن فرغوا من الطواف والنحر واستراحوا». (1)
وعن الإمام الصادق (ع): «ما من عمل أفضل يوم النحر من دم مسفوك، أو مشي في بر الوالدين أو ذي رحم قاطع يأخذ عليه بالفضل ويبدأه بالسلام، أو رجل أطعم من صالح نسكه ثم دعا إلى بقيته جيرانه من اليتامى وأهل المسكنة والمملوك وتعاهد الأسراء».
«يغفر لصاحب الأضحية عند أول قطرة تقطر من دمها».
والأضحية شكر لنعمة الله تعالى، وإحياء لسنة خليله إبراهيم (ع). وفيها تذكر معاني الصبر، وتقديم محبة الله تعالى على شهوة النفس، وفيها توسعة على الأهل والجار والفقير.
فإن كنت ممن وسع الله في رزقه فاحرص على الأضحية. فقد ورد ذلك في الكتاب والسنة، قال تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ) (2)، المعنى صلِّ العيد وانحر البدن، وقد ثبت في صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله (ص) ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر.
ثاني عشر: كونها أي لَيالٍ عَشْر هي التي- كما عليه بعض المفسرين- أعطاها الله تعالى لنبيه موسى (ع) وهي عشر ذي الحجة ليتم الميقات كما جاء بالآية المباركة:
وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً (3)
وفي اليوم العاشر منها يؤدي المسلمون صلاة عيد الأضحى وأنها من ضمن ما تؤشر إليه هذه الصلاة أنها تعبير عن شكر الإنسان المؤمن لما أنعم الله تعالى عليه في هذه الأيام المباركة من الطاعة، ويسأل فيه الله تعالى أن يقبل أعماله وأن يثيبه وأن يجنبه كل سوء .. فهو يوم شكر ورجاء .. وأخيراً ينبغي على هذا المسلم أن يحرص حرصاً شديداً ويعزم عزماً جاداً على عمارة هذه الأيام بالأعمال والأقوال الصالحة، ومن عزم على شي ء أعانه الله وهيأ له الأسباب التي تعينه على إكمال العمل، ومن صدق الله صدقه الله، قال تعالى:
(وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (4)
بعد أن تعرضنا لما أودع الله تعالى في هذه الأيام من فضائل ومن أجر وخير وثواب، نبدأ الكلام عن الآيتين المباركتين والأقوال المختلفة فيها وما تحملانه وما قيل فيهما:
الآيتان إعراباً ولغةً وقراءةً:
الواو: حرف قسم وجر، والفجر مجرور بواو القسم، والجار والمجرور متعلقان بأقسم، والواو حرف عطف، وليال عطف على الفجر مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة المقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين. وقد أشار ابن مالك إلى هذه القاعدة الهامة بقوله:
وكن لجمع مشبه مفاعلا أو المفاعيل بمنع كافلا
وذا اعتلال منه كالجواري رفعاً وجراً أجره كساري
ص: 75
واختلف في جواب القسم فقيل: هَلْ فِى ذلِكَ قَسَمٌ لِذِى حِجْرٍ وقيل: هي للتقرير كقولك: ألم أنعم عليك إذا كنت قد أنعمت، والجواب على هذا محذوف مضمر وتقديره: لنجازين كل أحد بما عمل، وقدّره الزمخشري: لتعذبن وقيل: الجواب مذكور وهو إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ..
وفي مجمع البيان للشيخ الطبرسي: جواب القسم إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ وقيل: جوابه محذوف تقديره ليقبضن على كل ظالم أو لينتصفن كل مظلوم من ظالمه ..
وفي الدر المصون قوله: وَلْفَجْر: جوابُ هذا القَسَم قيل: مذكورٌ وهو قولُه: إِنَّ رَبَّكَ لَبِلْمِرْصَادِ
قاله ابن الأنباري.
وقيل: محذوفٌ لدلالةِ المعنى عليه، أي: لَنُجازِيَنَّ أحدٍاً بما عَمل؛ بدليلِ تعديدِه ما فعلَ بالقرونِ الخاليةِ. وقدَّر الزمخشري: ليُعَذِّبَنَّ قال: يَدُلُّ عليه أَلَمْ تَرَ (1) إلى قولِه: فَصَبَّ (2)
وقدَّر بما دَلَّتْ عليه خاتمةُ السورةِ قبلَه سورة الغاشية: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ لإِيابُهم إلينا وحِسابُهم علينا. (3)
وعشر نعت لليال.
الفجر: من الفعل فجر .. وهو انكشاف ظلمة الليل عن نور الصبح وهما فجران: أحدهما المستطيل وهو الكاذب، والآخر المستطير المنتشر في الأفق وهو الصادق. (4)
وفي مجمع البيان في تفسير القرآن، الآية، قال الشيخ الطبرسي في اللغة: الفجر شق عمود الصبح فجره الله لعباده فجراً إذا أظهره في أفق المشرق مبشراً بإدبار الليل المظلم وإقبال النهار المضي ء. وهما فجران: أحدهما الفجر المستطيل وهو الذي يصعد طولًا كذنب السرحان ولا حكم له في الشرع. والآخر هو المستطير المنتشر في أفق السماء وهو الذي يحرم عنده الأكل والشرب لمن أراد أن يصوم في شهر رمضان وهو ابتداء اليوم.
ولصاحب تفسير البحر المحيط أبي حيان كلام في تنكير ليال:
فإن قلت: فما بالها منكرة من بين ما أقسم به؟ قلت: لأنها ليال مخصوصة من بين جنس الليالي العشر، بعض منها أو مخصوصة بفضيلة ليست لغيرها.
فإن قلت: فهلا عرفت بلام العهد لأنها ليال معلومة معهودة؟ قلت: لو فعل ذلك لم تستقل بمعنى الفضيلة الذي في التنكير، ولأن الأحسن أن تكون اللامات متجانسة ليكون الكلام أبعد من الألغاز والتعمية، انتهى.
وعن كتاب مسائل الرازي من غرائب آي التنزيل يقول:
فإن قيل: كيف نكر الليالي العشر دون سائر ما أقسم به، وهلا عرفها بلام العهد وهي ليالي معلومة معهودة، فإنها ليالي عشر ذي الحجة في قول الجمهور؟
قلنا: لأنها مخصوصة من بين جنس الليالي العشر بفضيلة ليست لغيرها، فلم يجمع بينها وبين غيرها بلام الجنس، وإنما لم تعرف بلام العهد لأن التنكير أدل على التفخيم والتعظيم بدليل قوله تعالى: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ونظيره قوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ فعرفه ثم قال وَوالد فنكّره، والمراد به آدم وإبراهيم أو محمد (ص)، ولأن الأحسن أن تكون اللامات كلها متجانسة، ليكون الكلام أبعد عن الألغاز والتعمية، وهي في الباقي للجنس.
انتهى ما قاله محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي في سورة الفجر.
ص: 76
وعن القراءة:
قرأ ابن عباس: «وليالِ عَشْرٍ» بالإِضافةِ. فبعضهم يكتبُ «ليالِ» في هذه القراءةِ دونَ ياءٍ، وبعضُهم قال: «وليالي» بالياء، وهو القياسُ. قيل: والمرادُ: وليالي أيام عشرٍ، وكان مِنْ حَقِّه على هذا أن يُقال: عشرةٍ؛ لأنَّ المعدودَ مذكرٌ. ويُجاب عنه: بأنَّه إذا حُذِف المعدودُ جاز الوجهان، ومنه «وأتبعه بسِتٍّ من شوال» وسَمَعَ الكسائي: «صُمْنا من الشهر خمساً».
والعامَّةُ على «ليالٍ» بالتنوين، «عَشْرٍ» صفةٍ لها.
وقد قرأ أبو الدينار الأعرابي: والفجر، والوتر، ويسر بالتنوين في الثلاثة. قال ابن خالويه: هذا كما روي عن بعض العرب أنه وقف على آخر القوافي بالتنوين، وإن كان فعلًا، وإن كان فيه ألف ولام. قال الشاعر:
أقليّ اللوم عاذل والعتابا وقولي إن أصبت لقد أصابا
انتهى.
وهذا ذكره النحويون في القوافي المطلقة إذا لم يترنم الشاعر، وهو أحد الوجهين اللذين للعرب إذا وقفوا على الكلم في الكلام لا في الشعر، وهذا الأعرابي أجرى الفواصل مجرى القوافي.
وقرأ الجمهور: وَ لَيالٍ عَشْرٍ بالتنوين؛ وابن عباس: بالإضافة، فضبطه بعضهم. وَ لَيالٍ عَشْرٍ بلام دون ياء، وبعضهم وليالي عشر بالياء، ويريد: وليالي أيام عشر. ولما حذف الموصوف المعدود، وهو مذكر، جاء في عدده حذف التاء من عشر.
والجمهور: والوتر بفتح الواو وسكون التاء، وهي لغة قريش. والأغر عن ابن عباس، وأبو رجاء وابن وثاب وقتادة وطلحة والأعمش والحسن: بخلاف عنه؛ والأخوان: بكسر الواو، وهي لغة تميم، واللغتان في الفرد، فأما في الرحل فالكسر لا غير.
وحكى الأصمعي فيه اللغتين؛ ويونس عن أبي عمرو: بفتح الواو وكسر التاء. والجمهور: (يسر) بحذف الياء وصلًا ووقفاً؛ وابن كثير: بإثباتها فيهما؛ ونافع وابن عمرو: بخلاف عنه بياء في الوصل وبحذفها في الوقف. (1)
هذا ما ورد في اللغة والإعراب والقراءة.
الأقوال:
ولهم في تفسير الفجر أقوال:
1- الفجر فجر يوم عرفة ويبدو أنه قول أكثر المفسرين.
2- فجر يوم النحر؛ لأنه يقع فيه القربان ويتصل بالليالي العشر عن أبي مسلم.
3- فجر أول يوم من ذي الحجة؛ لأن الله تعالى قرن الأيام به فقال: (وَ لَيالٍ عَشْرٍ) وهي عشر ذي الحجة عن مجاهد والضحاك.
4- فجر أول المحرم لأنه تتجدد عنده السنة عن قتادة.
5- فجر كل يوم أو فجر النهار وهو انفجار الصبح كل يوم، عن عكرمة والحسن والجبائي ورواه أبو صالح عن ابن عباس .. أقسم به كما أقسم بالصبح، ويراد به الجنس، لا فجر يوم مخصوص.
6- أراد بالفجر النهار كله عن ابن عباس.
7 فجر يوم الجمعة.
8- الفجر هو صلاة الصبح. وقرآنها هو قرآن الفجر.
9- وقيل: فجر العيون من الصخور وغيرها.
وفي وَ لَيالٍ عَشْرٍ لهم أقوال عديدة،
ص: 77
وقبل ذلك يمكننا أن نشير إلى أن هناك قولين يعدان من أهم الأقوال في المراد من وَ لَيالٍ عَشْرٍ نؤشر عليهما باختصار:
القول الأول: هو عشر ذي الحجة لما ذكرناه من أسباب خصت بها هذه الليالي منحتها صفات رائعة وجعلتها أياماً فاضلة.
القول الثاني: إن المراد ب- وَ لَيالٍ عَشْرٍ ليال العشر الأخيرة من رمضان؛ لأن الأصل في الليالي أنها الليالي وليست الأيام، وقالوا: إن ليال العشر الأخيرة من رمضان فيها ليلة القدر التي قال الله عنها في سورة القدر: خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ وقال: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِى لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (1)
وقال هذا الفريق: وهذا القول أرجح من القول الأول، وإن كان القول الأول هو قول الجمهور، لكن اللفظ لا يسعف قول الجمهور، وإنما يرجح القول الثاني أنها الليالي العشر الأواخر من رمضان، وأقسم الله بها لشرفها، ولأن فيها ليلة القدر، ولأن المسلمين يختمون بها شهر رمضان الذي هو وقت فريضة من فرائض الإسلام وأركان الإسلام، فلذلك أقسم الله بهذه الليالي.
ويمكن أن يقال: إن اللغة العربية من السعة بدرجة عالية تسمح بأن تطلق الليالي ويراد بها الأيام والأيام تطلق ويراد بها الليالي.
بعد هذا نذكر الأقوال:
1- العشر الأول من ذي الحجة عن ابن عباس والحسن وعبدالله بن الزبير وقتادة ومجاهد والضحاك والسدي. قال ابن عباس والحسن ومجاهد والضحاك: وهي العشر الأول من ذي الحجة شرفها الله تعالى ليسارع الناس فيها إلى عمل الخير واتقاء الشر على طاعة الله في تعظيم ماعظم وتصغير ما صغره، وينالون بحسن الطاعة الجزاء بالجنة.
وقد اعتمد هذا القول الشيخ الطوسي في تبيانه بعد أن أضاف للقائلين به كلًا من عبدالله بن الزبير ومسروق وابن زيد. وذكر القول الثاني: العشر من أول محرم، قال: والأول هوالمعتمد.
2- العشر الأوائل من شهر محرم.
3- العشر الأواخر من شهر رمضان في رواية أخرى عن ابن عباس.
4- وقيل: إنها عشر موسى للثلاثين ليلة التي أتمها الله بها.
وفي تفسير الأمثل تفصيل وأقوال أخرى ننقلها كما جاءت عنده:
الْفَجْر: في الأصل، بمعنى الشقّ الواسع، وقيل للصبح «الْفَجْر»؛ لأنّ نوره يشقّ ظلمة الليل.
وكما هو معلوم فالفجر فجران: كاذب وصادق.
الفجر الكاذب: هو الخيط الأبيض الطويل الذي يظهر في السماء، ويشبّه بذنب الثعلب، تكون نقطة نهايته في الافق، وقسمه العريض في وسط السماء.
الفجر الصادق: هو النور الذي يبدأ من الافق فينتشر، وله نورانية وشفافية خاصة، كنهر من الماء الزلال يغطي افق الشرق ثمّ ينتشر في السماء.
ويعلن الفجر الصادق عن انتهاء الليل وابتداء النهار، وعنده يمسك الصائمون، وتصلى فريضة الصبح.
وفُسّر الْفَجْر في الآية بمعناه المطلق، أي: بياض الصبح.
ص: 78
ولا شك فهو من آيات عظمة الله سبحانه وتعالى، ويمثل انعطافاً في حركة حياة الموجودات الموجودة على سطح الأرض، ومنها الإنسان، ويمثل كذلك حاكمية النور على الظلام، وعند مجيئه تشرع الكائنات الحية بالحركة والعمل، ويعلن انتهاء فترة النوم والسكون.
وقد أقسم الله تعالى ببداية حياة اليوم الجديد.
وفسّره بعض، بفجر أوّل يوم من محرم وبداية السنة الجديدة.
وفَسّره آخرون، بفجر يوم عيد الأضحى، لما فيه من مراسم الحج المهمّة ولاتصاله بالليالي العشرة الاولى من ذي الحجّة.
وقيل أيضاً: إنّه فجر أوّل شهر رمضان المبارك، أو فجر يوم الجمعة.
ثم يخلص إلى أن مفهوم الآية أوسع من أن تحدد بمصداق من مصاديقها، فهي تضم كلّ ما ذكر.
وذهب البعض إلى أوسع ممّا ذكر حينما قالوا: هو كلّ نور يشع وسط ظلام .. وعليه، فبزوغ نور الإسلام ونور المصطفى (ص) في ظلام عصر الجاهلية هومن مصاديق الفجر، وكذا بزوغ نور قيام المهدي [في وسط ظلام العالم (كما جاء في بعض الرّوايات) (1)
ومن مصاديقه أيضاً، ثورة الحسين (ع) في كربلاء الدامية، لشقها ظلمة ظلام بني اميّة، وتعرية نظامهم الحاكم بوجهه الحقيقي أمام النّاس.
ويكون من مصاديقه، كلّ ثورة قامت أو تقوم ضدّ الكفر والجهل والظلم على مرّ التاريخ ..
وحتى انقداح أوّل شرارة يقظة في قلوب المذنبين المظلمة تدعوهم إلى التوبة، فهو «فجر».
وممّا لا شك فيه أنّ المعاني هي توسعة لمفهوم الآية، أمّا ظاهرها فيدل على «الفجر» المعهود.
وأخيراً وبعد ذكره لكل هذه الأقوال يذكر ما يلي:
والمشهور عن «ليال عشر»: إنّهن ليالي أوّل ذي الحجّة، التي تشهد أكبر اجتماع عبادي سياسي لمسلمي العالم من كافة أقطار الأرض، وورد هذا المعنى فيما رواه جابر بن عبد الله الأنصاري عن النّبي (ص). (2)
وقيل: ليالي أوّل شهر محرم الحرام.
وقيل أيضاً: ليالي آخر شهر رمضان، لوجود ليلة القدر فيها.
والجمع بين كلّ ما ذُكر ممكن جدّاً.
وذكر في بعض الرّوايات التي تفسّر باطن القرآن: إنّ «الفجر» هو «المهدي المنتظر [» .. و «ليال عشر» هم الأئمّة العشر قبله (عليهم السلام) .. و «الشفع»- في الآية- هما عليّ وفاطمة (عليهما السلام).
وعلى أيّة حال، فالقسم بهذه الليالي يدلّ على أهميتها الإستثنائية نسبة لبقية الليالي، وهذا هو شأن القسم، ولا مانع من الجمع بين كلّ ما ذكر من معان.
وفي الهامش يذكر جاءت: وَلَيالٍ عَشْرٍ بصيغة النكرة للدلالة على عظمتها وأهميتها، وإلّا فهي تنطبق على كلّ ما ذكر أعلاه.
انتهى ما قاله صاحب التفسير الأمثل الشيخ مكارم الشيرازي عند تفسيره سورة الفجر.
ملاحظة:
وإن كان حديثنا يتناول الآيتين الأولى والثانية فقط من سورة الفجر، فمن الضروري ذكر المراد من الآية: وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ باختصار:
ص: 79
لهم أيضاً في الآية وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ أقوال عديدة كما هي في الآيتين السابقتين، ومن ضمن هذه الأقوال في المراد من الشفع والوتر:
الأول:
الشفع: هو يوم النحر.
الوتر: هو يوم عرفة.
وهذان ينسبان إلى كل من ابن عباس وعكرمة والضحاك وهي رواية جابر عن النبي (ص)، والوجه فيه أن يوم النحر يشفع بيوم نفر بعده، وينفرد يوم عرفة بالموقف.
الثاني:
الشفع: يوم التروية.
الوتر: يوم عرفة.
وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله 8.
الثالث:
قيل: إن الشفع والوتر في قول الله عز وجل: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فالشفع النفر الأول، والوتر النفر الأخير .. (1)
هذا، وقد ذكر كتاب التحرير والتحبير فيها ستة وثلاثين قولًا وذكر ابن عطية في الشفع والوتر أربعة عشر قولًا، والزمخشري ثلاثة أقوال ...
ومن الأقوال: مارواه أبو أيوب عنه (ص):
«الشفع يوم عرفة ويوم الأضحى، والوتر: ليلة النحر».
فيما روى جابر عنه (ص):
«الشفع يوم النحر، والوتر يوم عرفة».
وفي حديث عن جابر:
«صوم عرفة وتر لأنه تاسعها، ويوم النحر شفع لأنه عاشرها».
وفي حديث آخر عن أبي الزبير عن جابر عن النبي (ص) قال: «إن العشر عشر الأضحى، والوتر يوم عرفة، والشفع يوم النحر»، ورواه النسائي. وذكره ابن كثير في تفسيره.
وسنجد هذا في أقوال بعضهم.
قالوا عن: لَيالٍ عَشْر
لهم العديد من الأقوال عن هذه الأيام المباركة، نسجل بعضها:
عن سعيد بن جبير:
1. «لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر»، كناية عن القراءة والقيام.
2. ابن حجر:
السبب في امتياز عشر ذي الحجة: لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يأتي ذلك في غيره.
3. ابن رجب:
ص: 80
لما كان الله سبحانه قد وضع في نفوس عباده المؤمنين حنيناً إلى مشاهدة بيته الحرام، وليس كل أحد قادراً على مشاهدته كل عام، فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره، وجعل موسم العشر مشتركاً بين السائرين والقاعدين.
4- وقال آخرون:
أيام عشر ذي الحجة أفضل الأيام، وليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل الليالي.
5- أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة.
6- أنس بن مالك:
كان يقال: أيام العشر بكل يوم ألف يوم، ويوم عرفة بعشرة آلاف يوم.
7. الإمام الأوزاعي:
بلغني أن العمل في اليوم من أيام العشر كقدر غزوة يصام نهارها ويحرس ليلها إلا أن يختص امرؤ بشهادة ..
أقوال بعض المفسرين:
وهنا نذكر بإيجاز ما قاله عدد من المفسرين بخصوص هاتين الآيتين: وَالْفَجْر* وَلَيالٍ عَشْر
بدأ الرازي في تفسيره لهذه الآيات بقوله:
اعلم أن هذه الأشياء التي أقسم الله تعالى بها لا بد وأن يكون فيها إما فائدة دينية، مثل كونها دلائل باهرة على التوحيد، أو فائدة دنيوية توجب بعثاً على الشكر، أو مجموعهما، ولأجل ما ذكرناه اختلفوا في تفسير هذه الأشياء اختلافاً شديداً، فكل أحد فسّره بما رآه أعظم درجة في الدين، وأكثر منفعة في الدنيا.
ثم راح يعدد فقط وجوهاً لتفسير المراد من: وَالْفَجْر* وَلَيالٍ عَشْر.
وقال عن وَلَيالٍ عَشْر إنما جاءت منكرة من بين ما أقسم الله به لأنها ليال مخصوصة بفضائل لا تحصل في غيرها والتنكير دال على الفضيلة العظيمة.
وقبل أن يصوب الطبري قولًا، يذكر عدداً من الروايات عن مراد وَلَيالٍ عَشْر وهذه هي:
وقوله: وَلَيالٍ عَشْرٍ اختلف أهل التأويل في هذه الليالي العشر أيّ ليال هي؟ فقال بعضهم: هي ليالي عشر ذي الحجة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، وعبد الوهاب ومحمد بن جعفر، عن عوف، عن زرارة، عن ابن عباس، قال: إن اللياليَ العشر التي أقسم الله بها، هي ليالي العشر الأول من ذي الحجة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: وَلَيالٍ عَشْرٍ: عشر الأضحى قال: ويقال: العشر: أولَ السنة من المحرم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وَهب، قال: أخبرني عمر بن قيس، عن محمد بن المرتفع، عن عبد الله بن الزّبير وَلَيالٍ عَشْرٍ: أوّل ذي الحجة إلى يوم النحر.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا عوف، قال: ثنا زرارة بن أوفى، قال: قال ابن عباس: إن الليالي العشر اللاتي أقسم الله بهنّ: هن الليالي الأُوَل من ذي الحجة.
ص: 81
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مسروق وَلَيالٍ عَشْرٍ قال: عشر ذي الحجة، وهي التي وعد الله موسى (ع).
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا عاصم الأحول، عن عكرِمة وَلَيالٍ عَشْرٍ قال: عشر ذي الحجة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن الأغرّ المنقريّ، عن خليفة بن حصين، عن أبي نصر، عن ابن عباس وَلَيالٍ عَشْرٍ قال: عشر الأضحى.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: وَلَيالٍ عَشْرٍ قال: عشر ذي الحجة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة وَلَيالٍ عَشْرٍ قال: كنا نحدّث أنها عشر الأضحى.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثَور، عن معمر، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، قال: ليس عمل في ليال من ليالي السنة أفضل منه في ليالي العشر، وهي عشر موسى التي أتمَّها الله له.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن مسروق، قال: ليال العشر، قال: هي أفضل أيام السنة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَلَيالٍ عَشْرٍ) يعني: عشر الأضحى.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وَلَيالٍ عَشْرٍ قال: أوّل ذي الحجة، وقال: هي عشر المحرّم من أوّله.
بعد أن ذكر الرازي ذلك يخلص إلى:
والصواب من القول في ذلك عندنا: أنها عشر الأضحى، لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه، وأن عبد الله ابن أبي زياد القَطْوانيّ:
حدثني قال: ثني زيد بن حباب، قال: أخبرني عياش بن عقبة، قال: ثني جُبير بن نعيم، عن أبي الزبير، عن جابر، أن رسول الله (ص) قال: وَالْفَجْر* وَلَيالٍ عَشْرٍ، قال: عَشْرُ الأَضْحَى.
وفي تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور:
وقوله: وَلَيالٍ عَشْر: هي ليال معلومة للسامعين موصوفة بأنها عشر واستُغني عن تعريفها بتوصيفها بعشر وإذ قد وصفت بها العدد تعين أنها عشر متتابعة، وعدل عن تعريفها مع أنها معروفة ليتوصل بترْك التعريف إلى تنوينها المفيد للتعظيم، وليس في ليالي السَّنة عشرُ ليال متتابعة عظيمة مثل عشر ذي الحجّة التي هي وقتُ مناسك الحج، ففيها يكون الإِحرام ودخول مكة وأعمال الطواف، وفي ثامنتها ليلة التروية، وتاسعتها ليلة عرفة وعاشرتها ليلة النحر. فتعين أنها الليالي المرادة بليال عشر. وهو قول ابن عباس وابن الزبير ..
ابن كثير في تفسيره:
.. والليالي العشر المراد بها: عشر ذي الحجة؛ كما قاله ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف، وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس مرفوعاً: «ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام» يعني: عشر ذي الحجة، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلًا خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشي ء».
ص: 82
وواصل كلامه في ذكر القول الثاني:
وقيل: المراد بذلك: العشر الأول من المحرم، حكاه أبو جعفر بن جرير، ولم يعزه إلى أحد، وقد روى أبو كدينة عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس: (وَلَيالٍ عَشْرٍ) قال: هو العشر الأول من رمضان.
ثم ينتهي إلى القول:
والصحيح القول الأول. قال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا عياش بن عقبة، حدثني خير بن نعيم عن أبي الزبير عن جابر عن النبي (ص) قال: «إن العشر عشر الأضحى، والوتر يوم عرفة، والشفع يوم النحر»، ورواه النسائي عن محمد بن رافع وعبدة بن عبد الله، وكل منهما عن زيد بن الحباب به. ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث زيد بن الحباب به، وهذا إسناد رجاله لا بأس بهم، وعندي أن المتن في رفعه نكارة، والله أعلم.
وقوله تعالى: وَلشَّفْعِ وَلْوَتْرِ قد تقدم في هذا الحديث: أن الوتر يوم عرفة؛ لكونه التاسع، وأن الشفع يوم النحر؛ لكونه العاشر، وقاله ابن عباس وعكرمة والضحاك أيضاً (قول ثان) وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثني عقبة بن خالد عن واصل بن السائب قال: سألت عطاء عن قوله تعالى: وَلشَّفْعِ وَلْوَتْرِ قلت: صلاتنا وترنا هذا؟ قال: لا، ولكن الشفع يوم عرفة، والوتر ليلة الأضحى (قول ثالث) قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عامر بن إبراهيم الأصبهاني، حدثني أبي عن النعمان، يعني: ابن عبد السلام، عن أبي سعيد بن عوف، حدثني بمكة قال: سمعت عبد الله بن الزبير يخطب الناس، فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين! أخبرني عن الشفع والوتر، فقال: الشفع قول الله تعالى: فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ والوتر قوله تعالى: وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ. وقال ابن جريج: أخبرني محمد بن المرتفع: أنه سمع ابن الزبير يقول: الشفع أوسط أيام التشريق، والوتر آخر أيام التشريق ...
القرطبي في تفسيره:
قوله تعالى: وَلْفَجْرِ أقسم بالفجر. وَلَيالٍ عَشْرٍ* وَلشَّفْعِ وَلْوَتْرِ* وَللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ أقسام خمسة.
واختُلِف في «الفجر»، فقال قوم: الفجر هنا: انفجار الظلمة عن النهار من كل يوم؛ قاله عليّ وابن الزُّبير وابن عباس رضي الله عنهم. وعن ابن عباس أيضاً أنه النهار كله، وعَبَّر عنه بالفجر لأنه أوّله. وقال ابن مُحَيْصِن عن عطية عن ابن عباس: يعني فجر يوم المحرم. ومثله قال قتادة. قال: هو فجر أوّل يوم من المحرم، منه تنفجر السنة. وعنه أيضاً: صلاة الصبح.
وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: «والفجر»: يريد صبيحة يوم النحر؛ لأن الله تعالى جل ثناؤه جعل لكل يوم ليلة قبله، إلا يوم النحر لم يجعل له ليلة قبله ولا ليلة بعده؛ لأن يوم عرفة له ليلتان: ليلة قبله وليلة بعده، فمن أدرك الموقف ليلة بعد عرفة، فقد أدرك الحج إلى طلوع الفجر، فجر يوم النحر. وهذا قول مجاهد.
وقال عكرمة: «والفجر» قال: انشقاق الفجر من يوم جَمْع. وعن محمد بن كعب القُرَظيّ: «والفجرِ» آخر أيام العشر، إذا دفَعْتَ من جَمْع. وقال الضحاك: فجر ذي الحجة، لأن الله تعالى قرن الأيام به فقال: وَلَيالٍ عَشْرٍ أي ليال عشر من ذي الحجة. وكذا قال مجاهد والسدّيّ والكلبيّ في قوله: وَلَيالٍ عَشْرٍ هو عشر ذي الحِجة، وقال ابن عباس. وقال مسروق هي العشر التي ذكرها الله في قصة موسى (ع)
وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ (1)
وهي أفضل أيام السنة.
ص: 83
وروى أبو الزبير عن جابر: أن رسول الله (ص) قال: «وَلْفَجْرِ* وَلَيالٍ عَشْرٍ- قال: عشر الأضحى، فهي ليال عشر على هذا القول؛ لأن ليلة يوم النحر داخلة فيه، إذ قد خصها الله بأن جعلها موقفاً لمن لم يدرك الوقوف يوم عرفة. وإنما نكرت ولم تعرّف لفضيلتها على غيرها، فلو عُرِّفت لم تستقل بمعنى الفضيلة الذي في التنكير، فنكرت من بين ما أقسم به، للفضيلة التي ليست لغيرها. والله أعلم.
وعن ابن عباس أيضاً: هي العشر الأواخر من رمضان؛ وقاله الضحاك. وقال ابن عباس أيضاً ويمان والطبريّ: هي العشر الأول من المحرّم، التي عاشِرها يوم عاشوراء. وعن ابن عباس «وَلَيَالِ عَشْرٍ» (بالإضافة) يريد: وليالي أيام عشر.
وأما الزمخشري في تفسير الكشاف فقد صرح بأنه أراد بالليالي العشر: عشر ذي الحجة.
فإن قلت: فما بالها منكرة من بين ما أقسم به؟ قلت: لأنها ليال مخصوصة من بين جنس الليالي العشر بعض منها. أو مخصوصة بفضيلة ليست لغيرها. فإن قلت: فهلا عرفت بلام العهد، لأنها ليال معلومة معهودة؟ قلت: لو فعل ذلك لم تستقل بمعنى الفضيلة الذي في التنكير؛ ولأن الأحسن أن تكون اللامات متجانسة، ليكون الكلام أبعد من الألغاز والتعمية، وبالشفع والوتر: إما الأشياء كلها شفعها ووترها، وإما شفع هذه الليالي ووترها. ويجوز أن يكون شفعها يوم النحر، ووترها يوم عرفة، لأنه تاسع أيامها وذاك عاشرها، وقد روي عن النبي (ص) أنه فسرهما بذلك. وقد أكثروا في الشفع والوتر حتى كادوا يستوعبون أجناس ما يقعان فيه، وذلك قليل الطائل، جدير بالتلهي عنه ..
والسيد الطباطبائي لا يستبعد أن يكون المراد بالفجر هو فجر يوم النحر وهو عاشر ذي الحجة فيما يصف الوجوه الأخرى أنها ردية كما يعبر، أما فيما يتعلق بالآية: وَ لَيالٍ عَشْرٍ فهو يميل إلى أنها الليالي العشر من أول ذي الحجة، وأن وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ يوم التروية ويوم عرفة. وهذا هو نص كلامه:
ولعل ظاهر قوله:
وَ الْفَجْرِ أن المراد به مطلق الفجر ولا يبعد أيضاً أن يراد به فجر يوم النحر وهو عاشر ذي الحجة.
وقيل: المراد فجر ذي الحجة، وقيل: فجر المحرم أول السنة وقيل: فجر يوم الجمعة، وقيل فجر ليلة جمع، وقيل: المراد به صلاة الفجر، وقيل: النهار كله وقيل: فجر العيون من الصخور وغيرها وهي وجوه ردية.
وقوله: وَ لَيالٍ عَشْرٍ لعل المراد بها الليالي العشر من أول ذي الحجة إلى عاشرها والتنكير للتفخيم.
وقيل: المراد بها الليالي العشر من آخر شهر رمضان، وقيل: الليالي العشر من أوله، وقيل الليالي العشر من أول المحرم، وقيل: المراد عبادة ليال عشر على تقدير أن يراد بالفجر صلاة الفجر.
وقوله وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ يقبل الانطباق على يوم التروية ويوم عرفة، وهو الأنسب على تقدير أن يراد بالفجر وليال عشر فجر ذي الحجة والعشر الأول من لياليها. (1)
كما أن علي بن إبراهيم القمي يذهب في تفسيره إلى أن وَ لَيالٍ عَشْرٍ هي عشر ذي الحجة، وكذا زيد بن علي (عليهما السلام) (120 ه-) في تفسير غريب القرآن.
وَ لَيالٍ عَشْرٍ .. حقاً إنها آيات جميلة، لا يعلم أسرارها إلا الله سبحانه وتعالى، سواء أكان مرادها العشرالأواخر من شهر رمضان المبارك أم مرادها العشرالأوائل من شهر ذي الحجة المبارك المؤيد بالروايات وبما ذهب إليه عدد من كبار المفسرين، فهي أيام لها وقع عظيم على النفوس المؤمنة وهي أوقات طيبة، تشكل موسماً يكفي في بركاته وفضائله وعطاءاته أنه أيام معلومات اختارها الله تعالى؛ لتطل السماء من خلالها على خلائق اجتمعت تلبيةً لنداء خالد أطلقه خليل الرحمن إبراهيم منذ أربعة آلاف عام تزيد أو تنقص قليلًا: وَ أَذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ
ص: 84
* لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِى أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ ...(1) لتطل رحمة ربك على وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة، تنتظرمغفرة ربها و رحمته وثوابه ..!
ص: 85
ص: 86
«ليُهْنِكَ العِلْمُ أبا المنذر» حديث شريف
أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار- وهو تيم الله- بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج، من بني النجار، من الخزرج، فهو النجاري الخزرجي المدني، وهو الصحابي الأنصاري، وهو البدري العقبي.
أمه صهيلة بنت الأسود بن حرام بن عمرو بن مالك بن النجار، تجتمع هي وأبوه في عمرو بن مالك بن النجار، وهي عمة أبي طلحة زيد بن سهل بن الأسود بن حرام الأنصاري، زوج أم سليم.
وكان لأبي بن كعب من الولد: الطفيل ومحمد، وأمهما أم الطفيل بنت الطفيل بن عمرو بن المنذر بن سبيع بن عبد نهم من دوس، وأم عمرو بنت أبي ..
كنيته: أبو المنذر، وأبو الطفيل. ويدل عليها أن رسول الله (ص) كان حين يريد أن يقول له شيئاً، يناديه: يا أبا المنذر ... وكان أبي حين يخاطب عمر بن الخطاب يقول له: يا ابن الخطاب؛ فيقول له عمر: يا أبا الطفيل ..
صفته: كان ربعة نحيفاً أو رجلًا دحداحاً، وقالوا: ليس بالقصير ولا بالطويل، أبيض الرأس واللحية، لا يغير شيبه. (1)
لقد كان من المتفوقين في مدرسة الصحبة المباركة، إيماناً وعلماً وجهاداً .. وكيف لا يكون كذلك وقد حظي بمنزلة عالية ومرتبة فاضلة؛ أن يذكر في الملأ الأعلى ذلك كونه مرجعاً أميناً في القرآن الكريم؛ حتى خص بامتيازات جليلة منها أن تقرأ عليه سورة البينة، والآمر بهذا هو رب العالمين، والمأمور بالقراءة هو رسول الله (ص)، نعم لقد خص صاحب هذه الترجمة بأنه أول من يقرأ عليه رسول الله (ص) بأمر من قبله تعالى سورة البينة، وكان أول من ذكر اسمه في الملإ الأعلى، فكان أقرأ هذه الأمة للقرآن، وكان أحد الأربعة الذين أمر النبي (ص) أن يؤخذ منهم القرآن، وكان من أبرز المفسرين للقرآن من الصحابة، وكان صاحب منهج أو مدرسة في التفسير .. وكان سيد الأنصار كما أحب رسول الله (ص) أن ينادوا أبياً به، فعن عمرو بن العاص- كما في مختصر دمشق- قال: كنت جالساً عند رسول الله (ص) في يوم عيد، فقال: «ادع لي سيد الأنصار» فدعوا أبي بن كعب ..
إسلامه
أعلن إسلامه، وتوثقت أركان إيمانه، وصار رجلًا معروفاً في مدرسة القرآن الكريم ومدرسة الصحبة النبوية الشريفة، وخلد ذكره على مر الأجيال كمجاهد وصاحب منهج قرآني، وراوية للسنة النبوية الشريفة .. توفر على كل هذه المناقب، بعد أن نشأ أبو المنذر رضوان الله تعالى عليه في ديار يثرب غاضباً على حياة قومه، معترضاً على دينها، متأملًا في الكون من حوله، وعلى الرغم من وجود اليهود في المدينة آنذاك، إلا أن ما وقع في يده من وريقاتها لم يشف غليله، ولم يرو عطشه، ولم تهد حيرته، ولم تشبع نهمه،
وكان أبي 2 يتأمل في الكون من حوله ليلًا ونهاراً، وفي إحدى الليالي خرج 2 يطوف بديار المدينة، فسمع حواراً في دار سعد بن الربيع، فسمع بأذنه كلاماً عن الإسلام و نبي الإسلام 9، وعلم أن مصعب بن عمير أتى سفيراً، وكأول سفير للإسلام؛ ليعلم الناس الإسلام أحكاماً وآداباً ومفاهيم، فما أن سمع الحوار حتى طرق الباب على سعد، وأعلن إسلامه؛ ليحظى 2 بالسفر إلى مكة؛ ثم ليشهد بيعة العقبة مع السبعين من الأنصار كما في مختصر دمشق.
ص: 87
وهذا يعني أن المقصود العقبة الثانية، ولكني وللأسف لم أجد له اسماً في السيرة النبوية لابن هشام، وهو يذكر أسماء أهل البيعتين الأولى والثانية من الأوس والخزرج.
وكان أبي بن كعب من الأنصار الذين نصروا رسول الله، واستقبلوه في يثرب، وقد شهد كل الغزوات مع النبي (ص). وبقية المشاهد، وجمع القرآن في حياة الرسول (ص) وكان رأساً في العلم وبلغ في المسلمين الأوائل منزلة رفيعة .. حتى قال عنه رسول الله (ص): أبي سيد الأنصار .. ونسب إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب أنه قال عنه مادحاً: أبي سيد المسلمين.
وهكذا توالت عليه هذه المناقب، وعظم حب المسلمين له، واشتد ودهم له، ولاذوا به في معرفة ما يشكل عليهم من علم ومعرفة، حتى جاء في الخبر عن قيس بن عباد أنه قال: كنت آتي المدينة فألقى أصحاب النبي (ص)، وكان أحبهم إليّ أبي بن كعب ... وقال: ثم قعد يحدث، فما رأيت الرجال مدت أعناقها إلى رجل مثلما مدت أعناقها متوجهة إلى أبي بن كعب ...
المؤاخاة
مشروع المؤاخاة بين المسلمين، الذي أسسه رسول الله (ص) في المدينة، كان من أروع المشاريع، وأعظمها نفعاً على كل المستويات الإيمانية والاجتماعية والسياسية .. وكان الأساس المتين والصلب لبناء قاعدة إيمانية تمهيداً لبناء مجتمع آمن متكافل، فدولة قائمة على الحب والمودة والتضامن الفاعل .. حتى غدا مجتمع المدينة ودولته في عهد رسول الله (ص) مثالًا لنموذج فذ نادر، يحلم به الشرفاء والأحرار ..
قال السهيلي: آخى رسول الله 9 بين أصحابه حين نزلوا بالمدينة؛ ليذهب عنهم وحشة الغربة، ويؤنسهم من مفارقة الأهل والعشيرة، ويشدّ أزر بعضهم ببعض، فلما عز الإسلام، واجتمع الشمل، وذهبت الوحشة، أنزل الله سبحانه: أُولُوا الأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِى كِتابِ اللهِ أعني في الميراث. ثم جعل المؤمنين كلهم إخوة، فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ يعني في التوادد، وشمول الدعوة.
فقد راح رسول الله (ص) يؤاخي بين المهاجرين والأنصار .. وآخى بين سعد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأبي بن كعب، وهو أخو بني النجار أخوين. (1)
أبي مجاهداً:
ما أن هاجر النبي (ص) إلى المدينة حتى كان أبيّ ملازماً لرسول الله (ص)، فاشترك في بناء المسجد، ثم في معركة بدرٍ الكبرى، فكان واحداً من أهلها، ولم يتخلف عن مشاهد رسول الله (ص) قط، بل حضرها كلها ..
ابَيّ قرآنياً
كان المسلمون ينظرون إلى أُبي بن كعب نظرتهم إلى ذلك الرجل القرآني الرشيد المستقيم السيرة، الطيب العنصر، العظيم في الإسلام، وجاء في الخبر أن رسول الله (ص)، قال في يوم عيد: أدعو لي سيد الأنصار؛ فدعو أُبي بن كعب.
وإنه كذلك فقد نال أبي 2 شرفاً ربما لم ينله غيره من أصحاب رسول الله (ص)، ومن ذلك- كما ذكرنا- أمر الله لنبيه (ص) أن يقرأ عليه سورة البينة، فقد ذكر كل من البخاري ومسلم في صحيحيهما: أن رسول الله (ص) قال لأبي: إن الله عز وجل أمرني أن أقرأ عليك: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا (2)
قال: وسماني لك؟ قال نعم. فبكى ..
ص: 88
وكان في حفظه القرآن وترتيله وفهم آياته من المتفوقين، قال له رسول الله (ص): «يا أبي بن كعب، إني أمرت أن أعرض عليك القرآن».
وأبي يعلم أن رسول الله (ص) انما يتلقى أوامره من الوحي، هنالك سأل الرسول الكريم في نشوة غامرة: «يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، وهل ذكرت لك باسمي؟».
فأجاب الرسول (ص): نعم، باسمك ونسبك في الملإ الأعلى ..
وكان حرياً 2 أن يؤمر الرسول (ص) بعرض القرآن عليه، وفي هذا يقول أبي: قال رسول الله (ص): إني أمرت أن أعرض عليك القرآن.
فقال أبي: بالله آمنت وعلى يديك أسلمت ومنك تعلمت.
قال: فرد الرسول (ص) القول.
فقال: يا رسول الله وذكرت هناك؟
قال: نعم بإسمك ونسبك في الملإ الأعلى.
قال: اقرأ إذًا يا رسول الله. (1)
ولما سئل 2: فرحت بذلك؟
قال: وما يمنعني وهو تعالى يقول:
قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا (2)
ولقد كان فقه أبي بالقرآن يظهر على لسانه، ومن ذلك أن رسول الله 9 سأله يوماً عن أي آية في القرآن أعظم؟
فقال أبي: اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ (3)
فضرب النبي (ص) على صدره، وقال: ليهنك العلم أبا المنْذر. (4)
ولم يكن بالمستغرب كذلك أن يأمر النبي 9 بأخذ القرآن عنه فإنه جدير بهذه المنزلة، ولم لا؟ وهو من أمر النبي 9 أن يقرأ عليه القرآن وفي الحديث: «خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبي بن كعب». (5)
وكيف لا يكون الأمر كذلك؟ وهو أقرأ هذه الأمة بالقرآن بنص حديث رسول الله (ص) حيث نسب إليه (ص) أنه قال: ... وأقرؤهم أبي بن كعب. كما رواه الترمذي، فقد كان هذا الصحابي الجليل أقرأ الناس إلى جانب كونه طيب الصوت حسن الأداء.
أبيّ كاتباً
كان أبي بن كعب في مقدمة الذين يكتبون الوحي ويكتبون الرسائل،
كان هناك عدد من الصحابة ممن وفقوا لأن يكونوا ممن يكتبون لرسول الله (ص) ما ينزل إليه من السماء عن طريق الوحي، ويكتبون رسائله إلى من يريد، وما يمليه من أجوبة عن رسائل ترد إليه، وما يبرمه من عهود ومواثيق .. وكان من هؤلاء أبي بن كعب، بل هو في مقدمة الذين يكتبون الوحي ويكتبون الرسائل.
تقول الرواية: وكان أبي بن كعب يكتب في الجاهلية قبل الإسلام. وكانت الكتابة في العرب قليلة، وكان يكتب في الإسلام الوحي لرسول الله (ص).
قال ابن أبي خيثمة: هو أول من كتب الوحي بين يدي رسول الله (ص) كان سيداً جليل القدر، ورأساً في العلم والعمل.
وقيل أول من كتب لرسول الله (ص) أبي بن كعب، وكان إذا غاب أبي كتب له زيد بن ثابت. (6)
قال الواقدي: وهو أول من كتب للنبي (ص) وأول من كتب في آخر الكتاب: وكتب فلان بن فلان ..
ص: 89
وفي أسماء من كتب للنبي (ص) علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، كانا يكتبان الوحي، فإن غابا كتبه أبي بن كعب وزيد بن ثابت. (1)
أبيّ جامعاً للقرآن
وكان في حفظه القرآن وترتيله وفهم آياته من المتفوقين، قال له رسول الله (ص): يا أبي بن كعب، إني أمرت أن أعرض عليك القرآن ... وأبي يعلم أن رسول الله (ص) إنما يتلقى أوامره من الوحي؛ هنالك سأل الرسول الكريم في نشوة غامرة: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، وهل ذكرت لك باسمي؟ ... فأجاب الرسول (ص) «نعم، باسمك ونسبك في الملأ الأعلى» ... كما قال الرسول (ص): «أقرأ أمتي أبَيّ ..».
قام أبي بن كعب بجمع القرآن الكريم في حياة النبي (ص) وعرض على النبي (ص) وحفظ منه علماً مباركاً.
قال أنس بن مالك: جمع القرآن على عهد رسول الله (ص) أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن مالك، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد أحد عمومتي.
وروى الطبراني وابن عساكر عن الشعبي، قال: جمع القرآن على عهد رسول الله (ص) ستة من الأنصار: أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وسعد بن عبيد، وأبو زيد ...
قال محمّد بن سيرين: إن عثمان بن عفان جمع اثني عشر رجلًا من قريش والأنصار، فيهم أُبي بن كعب وزيد بن ثابت في جمع القرآن.
وعده ابن النديم في فهرسته من الذين جمعوا القرآن على عهد النبي (ص) فقال ما صورته: الجمّاع للقرآن على عهد النبي (ص)، وعدّ جماعة ثم قال: أبي بن كعب وساق نسبه ..
أبيّ قارئاً
منّ الله تعالى عليه بحفظه للقرآن الكريم، وبصوت طيب، ومنهج في القراءة متميز وقد اشتهر به، وأعجب به من حوله، حتى عد من أعظم قرّاء القرآن، وفي الطبقة الأولى من صحابة النبي الأكرم (ص)، وقد وفق لأن يكون كما قال عنه رسول الله (ص):
«أقرأ أمتي أبَيّ».
عن أنس بن مالك أن رسول الله (ص)، قال لأُبي بن كعب: إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن، قال: الله سمّاني لك؟ قال: نعم سماك لي، قال: فجعل أُبي يبكي. وفي رواية: فذرفت عيناه.
وفي رواية قال أُبي في نشوة غامرة: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، آلله سمَّاني لك؟ فقال الرسول: «نعم»، فجعل أبي 2 يبكي من شدة الفرح. (2)
عن أنس قال: قال رسول الله (ص): أقرأ أمتي أبي.
وجاءت الرواية عن أبي عبد الله الصادق (ع): نحن نقرأ بقراءة أُبي بن كعب.
وفي خصوص المتعة ... قال القرطبي: قال الجمهور المراد نكاح المتعة، الذي كان في صدر الإسلام، وقرأ ابن عباس، وأبي، وابن جبير: «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن». وقال ابن كثير في تفسيره: وكان ابن عباس وأبي بن كعب، وسعيد بن جبير، والسدي، يقرأون: «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة». (3)
ص: 90
أبيّ مفسراً:
يعد هذا الصحابي من جملة من اشتهر من الصحابة بالتفسير. وقد عده السيوطي من جملة العشرة الذين اشتهروا بالتفسير من الصحابة من الطبقة الأولى من المفسرين، وهو أول من ألف في فضائل القرآن، قال ابن النديم في الفهرست: (الكتب المؤلفة في فضائل القرآن) وعدّها أحد عشر كتاباً لأحد عشر مؤلفاً وهم ... (7) أبي بن كعب الأنصاري ...
ثم يقول: وليس في العشرة الباقية أحد إلا وزمانه متأخر عن أبي، فعلم من ذلك أن أبياً أول من ألف في فضائل القرآن .. وعده ابن النديم في فهرسته من الذين جمعوا القرآن على عهد النبي (ص) فقال ما صورته: الجمّاع للقرآن على عهد النبي (ص)، وعد جماعة ثم قال: أبي بن كعب وساق نسبه .. (1)
وقد وردت عنه نسخة كبيرة في التفسير رواها أبو جعفر الرازي بسنده عنه. (2)
ويرجع ذلك- كما يبدو- إلى أسباب منها:
أ- ما حظي به من دعاء النبي (ص) الخاص حين قال له: ليهنك العلم أبا المنذر. (3)
ب- لكونه قريباً من مصدر الرسالة والوحي، فهو من كتّاب الوحي، مما جعله عالماً بعلوم القرآن والتفسير ومنها: أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد والعام والخاص، وأجواء الآيات .. وكيف لا يكون كذلك؟ وهو القائل للخليفة الثاني: «يا أمير المؤمنين إني تلقيتُ القرآن ممن تلقّاه من جبريل وهو رطب.»
ج- وعلى القول بأنه كان قبل إسلامه حبرًا من أحبار اليهود العارفين بأسرار الكتب السماوية، مما جعله على مبلغ كبير من العلم ومعرفة آيات الكتاب المجيد.
وهنا لا بد لي من وقفة تحت عنوان:
هل كان أبيّ حبراً؟
إن كونه مطلعاً على الكتب القديمة، وما ورد فيها، و تركت عنده ثقافة واسعة، وحباً للقرآن الكريم، خصوصاً وقد وجد فيه فرقاً كبيراً، وامتيازات كبيرة، ومناقب عالية تفوق كثيراً عما وجده فيما سبقه من كتب، هذا شي ء. وكونه حبراً من أحبار اليهود، وبالتالي كان يهودياً شي ء آخر. وإن كان هذا لا ضير فيه، ولا يقدح بإيمان الرجل، إلا أنني لم أجد فيما تيسر لي من مصادر من يذكر هذا الأمر، سوى صاحب كتاب الأعلام خير الدين الزركلي (1976 م) حيث قال: «كان قبل الإسلام حبراً من أحبار اليهود، مطلعاً على الكتب القديمة، يكتب ويقرأ على قلة العارفين بالكتابة في عصره، ولما أسلم كان من كتاب الوحي». وردده الدكتور محمد حسين الذهبي (1398 ه) صاحب كتاب: التفسير والمفسرون، والقيسي في تاريخ التفسير .. ويبدو أن ما ذكروه كان إما وهماً واشتباهاً، أو أنه وقع خطأً نتيجة التقارب بين الاسمين: «كعب الأحبار وأبي بن كعب».
منهجه في التفسير
كان له منهج متميز وله خصائصه، فقد عرف بتمسكه بما ورد عن رسول الله (ص) واستفاد منه في تفسيره للآيات القرآنية الكريمة، ولهذا جاء أكثر تفسيره بهذه الطريقة .. وأن رواياته جاءت موصولة السند برسول الله (ص)، ويدلل اهتمامه الكبير بهذه الروايات في تفسيره على منهجه الأهم وأسلوبه الأمثل في تفسير القرآن الكريم. وإن لم يجد من المأثور ما يفسر به، ينتقل إلى أساليب أخرى، كتفسير القرآن بالقرآن واجتهاده ..
ص: 91
هذا، وكان لتلاميذه مع أصحاب زيد بن أسلم مشاركة في إنشاء مدرسة التفسير في المدينة المنورة، والتي كان من أقطابها ثلاثة من أئمة أهل البيت، وهم: الإمام علي بن الحسين، وولده الباقر، وحفيده الصادق (عليهم السلام)، وقد امتازت هذه المدرسة بفضل وجود الأئمة الثلاثة (عليهم السلام) بالعمق والموضوعية، فيما أثر عنها من روايات تفسيرية نجدها في أمهات التفسير.» (1)
نماذج من تفسيره
تفسير القرآن بالقرآن
كان أبي يعتمد روايات عن رسول الله (ص) لتفسير آية من القرآن الكريم
ففي تفسير التبيان للشيخ الطوسي (460 ه) ولدى تفسير «الظلم» من قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ (2)
وبعد أن يذكرالشيخ الطوسي أن الظلم المذكور في الآية هو الشرك عند أكثر المفسرين: ابن عباس وسعيد بن المسيب وقتادة ومجاهد وحماد بن زيد وأبيُّ بن كعب وسلمان (رحمة الله عليه). يقول:
قال أبيُّ: ألم تسمع قوله:
إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (3)
وهو ما جاء فيما روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: لما نزلت هذه الآية شق على الناس، وقالوا: يا رسول الله! وأيّنا لا يظلم نفسه، فقال: إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا إلى ما قال العبد الصالح:
يا بُنَىَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ.
آيات ذات موضوع واحد
ولقد وجد في تفسير أبي بن كعب محاولة لجمع الآيات ذات الموضوع الواحد، ومن أمثلته ما جاء عنه في تفسير الآية الكريمة: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ لْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ
قال: «جمعهم يومئذ جميعاً ما هو كائن إلى يوم القيامة، ثم استنطقهم، وأخذ عليهم الميثاق، ثم قال: وفيهم الأنبياء (عليهم السلام) يومئذ مثل السرج، وخص الأنبياء بميثاق آخر، قال الله:
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ لنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً (4)
وهو الذي يقول تعالى ذكره: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ للهِ لَّتِى فَطَرَ لنَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ للهِ ذَلِكَ لدِّينُ لْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ لنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (5) وفي ذلك قال: هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ لنُّذُرِ لأُوْلَى (6) يقول: أخذنا ميثاقه مع النذر الأولى،
ومن ذلك قوله: (وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) (7) ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُمْ بِلْبَيِّنتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ لْمُعْتَدِينَ (8) قال: كان في علمه يوم أقروا به من يصدق ومن يكذب» (9)
التفسير بالمأثور
ص: 92
كثيراً مما روي عن أبي بن كعب هو من التفسير بالمأثور، فقد راح يفسّر الآيات بما روي عن رسول الله (ص) ومن أمثلة هذا النوع من التفسير، ما رواه في تفسير قوله تعالى: ... لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى لتَّقْوَى ... (1)
عن رسول الله (ص) أنه سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى. فقال: «مسجدي هذا» (2)
التفسير بالاجتهاد
هناك روايات تفسيرية عن أبي بن كعب وموقوفة عليه، وهي قليلة جداً، ولأنها لم ترفع إلى رسول الله (ص) يمكن عدها من اجتهاده، ومن أمثلتها ما جاء في قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا لأَمَانَةَ عَلَى لسَّماواتِ وَلأَرْضِ وَلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا لإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولًا (3)
فقد روى الطبري بسنده عن أبي بن كعب أنه قال: «من الأمانة أن المرأة أئتمنت على فرجها». (4)
معرفة أبيّ بالقراءات:
لطالما أثبت حجية قراءته وصحتها بالقرآن الكريم، فقد ورد عنه أنه قرأ قوله تعالى: وَلسَّابِقُونَ لأَوَّلُونَ مِنَ لْمُهَاجِرِينَ وَلأَنْصَارِ وَلَّذِينَ تَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ للهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ (5)
وقد كان عمر بن الخطاب يقرأ: وَلسَّابِقُونَ لأَوَّلُونَ مِنَ لْمُهَاجِرِينَ وَلأَنْصَارِ وَلَّذِينَ تَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ بضم الأنصار وحذف حرف الواو من (الذين) حتى أنه أنكر على رجل قرأها بقراءة أبي، ولما حضر أبي بن كعب، وسأله عمر، استدل أبي بعدة آيات على صحة قراءته قائلًا:
«وتصديق ذلك في أول الآية التي في أول الجمعة، وأوسط الحشر، وآخر الأنفال، أما أول الجمعة: وآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ، وأوسط الحشر: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنَ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوانِنا الَّذِينَ سَبَقُونَا بالإِيمَانِ، وأما آخر الأنفال: والَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وجَاهَدُوا مَعَكُمْ فأُولَئِكَ مِنْكُمْ (6)
فقال عمر: إذن نتابع أبياً. (7)
معرفة أبيّ بأسباب النزول
كان كثير الاهتمام بأسباب النزول، ومن اهتمامه كان لا يتأخر إذا ما فاته شي ء منها، ولا يتوقف عن السؤال عنها أبداً، حتى أنه سأل أنس بن مالك (93 ه) وكان خادم رسول الله (ص) عن سبب نزول الآية: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ... إِنَّ ذلِكُمْ كَانَ عِندَ للهِ عَظِيماً (8)
فقد روى الطبري بسنده، عن أنس بن مالك أنه قال: «سألني أبيّ بن كعب عن الحجاب، فقلت: أنا أعلم الناس به، نزلت في شأن زينب، أولم النبي (ص) عليها بتمر وسويق، فنزلت: يأَيُّهَا لَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتَ لنَّبِىِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَدْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَنْتَشِرُواْ وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى لنَّبِىَّ فَيَسْتَحْيِى مِنكُمْ وَللهُ لَا يَسْتَحْيِى مِنَ لْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ (9)
ولأبيّ بن كعب أيضاً
في قوله تعالى: وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ (10)
قال أبي: هو قول الرب تعالى ذكره.
ص: 93
وفي قوله تعالى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً (1)
قال أبي: كانوا أمة واحدة حيث عرضوا على آدم ففطرهم يومئذ على الإسلام، وأقروا له بالعبودية، وكانوا أمة واحدة مسلمين كلهم، ثم اختلفوا من بعد آدم، فكان أبي يقرأ: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ إلى فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وإن الله إنما بعث الرسل وأنزل الكتب عند الاختلاف.
وفي قوله تعالى: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (2)
قال أبي: هو القتل يوم بدر. (3)
أبيّ عالماً
كان في حفظه القرآن وترتيله وفهم آياته من المتفوقين؛ لهذا تجده وقد سجل أبيّ بن كعب حضوراً متميزاً في التفسير والقراءة، وفي الفقه حتى عدّ أبرز فقهاء الصحابة وقرَّائهم .. وكان صاحب همة عالية في خدمة الناس، ولا يبخل عليهم بعلمه .. فمع أنه كثير العبادة، لكنه طالما فرغ نفسه لتعليم الآخرين. فعن أبي العالية: كان أُبي بن كعب صاحب عبادة، فلما احتاج إليه الناس، ترك العبادة، وجلس للقوم.
سأله النبي (ص) يوماً: يا أبا المنذر، أي آية من كتاب الله أعظم؟
فأجاب قائلًا: الله ورسوله أعلم.
وأعاد النبي (ص) سؤاله: يا أبا المنذر، أي آية من كتاب الله أعظم؟
وأجاب أبي: اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ.
فضرب الرسول (ص) صدره بيده، ودعا له بخير، وقال له والغبطة تتألق على محياه: ليُهْنِكَ العلم أبا منذر. (أي هنيئًا لك العلم).
وعن أبي بن كعب أن رسول الله (ص) صلّى بالناس، فترك آية فقال: أيُّكم أخذ عليّ شيئاً من قراءتي؟
فقال أبيُّ: أنا يا رسول الله، تركتَ آية كذا وكذا.
فقال النبي (ص): قد علمتُ إنْ كان أحدٌ أخذها عليّ فإنّكَ أنت هو.
وقال أبي بن كعب لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين! إني تلقيتُ القرآن ممن تلقّاه من جبريل وهو رطب ..
وكان عمر يسميه سيد المسلمين. ويقول: اقرأ يا أبي.
وأخرج الأئمة أحاديثه في صحاحهم وعدّه مسروق في الستة من أصحاب الفتيا وممن روى عنه من الصحابة عمر، وكان يسأله عن النوازل ويتحاكم إليه في المعضلات. ولما مات في خلافة عمر بن الخطاب- على رواية- قال عمر: اليوم مات سيد المسلمين.
وكان- رضي الله عنه- واحدًا من الستة أصحاب الفُتْيَا- كما روي- الذين أذن لهم رسول الله بالحكم في حوائج الناس، وفض المنازعات التي تحدث بينهم، وردِّ المظالم إلى أهلها، وكان منهم الإمام علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن حارثة ... ومما قاله (ص) فيه: وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب .. (4)
قصة الخضر وموسى:
ص: 94
ومن معرفته العالية في كتاب الله تعالى، والرواية عن رسول الله (ص) وفي التاريخ، من ذلك قصة الخضر وموسى: فقد روى أبيّ بن كعب في ذلك عنه (ص) ما حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سعيد، قال: قلت لابن عباس: إن نوفاً يزعم أن الخضر ليس بصاحب موسى، فقال: كذبَ عدو الله، حدثنا أبيّ بن كعب عن رسول الله (ص) قال: إن موسى قام في بني إسرائيل خطيباً فقيل: أيّ الناس أعلم. فقال: أنا، فعتب الله عليه حين لم يردّ العلم إليه، فقال: بل عبدٌ لي عند مجمع البحرين، فقال: يا ربّ! كيف به؟ قال: تأخذ حوتاً فتجعله في مكْتل فحيث تفقده فهو هناك. قال: فأخذ حوتاً فجعله في مكتل، ثم قال لفتاه: إذا فقدتَ هذا الحوت فأخبرني. فانطلقا يمشيان على ساحل البحر حتى أتيا صخرة، فرقّد موسى فاضطرب الحوت في المكتل، فخرج فوقع في البحر، فأمسك الله عنه جَرْية الماء فصار مثل الطاق، فصار للحوت سرَباً، وكان لهما عجباً. ثم انطلقا، فلما كان حين الغذاء قال موسى لفتاه: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هذَا نَصَباً قال: ولم يجد موسى النصَب حتى جاوز حيث أمَره الله، قال: فقال: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إلَى الصَّخْرَةِ فإنى نَسِيتُ الحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أذْكُرَهُ
وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى البَحْرِ عَجَباً قال: فقال: ذَلكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً. قال: يقّصان آثارهما. قال: فأتيا الصخرة فإذا رجل نائم مسجَّى بثوبه، فسلّم عليه موسى فقال: وأنَّى بأرضنا السلام! قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: يا موسى، إني على علْم من علم الله، علَّمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علّمكه الله لا أعلمه، قال: فإني أتبعك على أن تعلمني ممَّا عُلمْتَ رُشْداً. قال فَإِنِ اتَّبَعْتَنِى فَلَا تَسْأَلْنِى عَنْ شَىْ ءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً. فانطلقا يمشيان على الساحل، فإذا بملاح في سفينة، فعرف الخضر، فحمله بغير نَوْل، فجاء عصفور فوقع على حرفها فنقر- أو فنقد- في الماء، فقال الخضر لموسى: ما ينقص علمي وعلمك من علم الله إلا مقدار ما نقر- أو نقد- هذا العصفور من البحر. قال أبو جعفر: أنا أشكُّ، وهو في كتابي هذا" نقر" قال: فبينما هم في السفينة لم يُفجأ موسى إلا وهو يتد وتداً أو ينزع تخْتاً منها، فقال له يا موسى: حمَلنا بغير نَوْل وتخرقها لتُغْرقَ أهْلها! لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إمْراً* قَالَ أَلَمْ أقُلْ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيْعَ مَعِىَ صَبْراً* قال لَا تُؤاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ
قال: فكانت الأولى من موسى نسياناً، قال: ثم خرجا فانطلقا يمشيان، فأبصرا غلاماً يلعب مع الغلمان، فأخذ برأسه فقتله، فقال له موسى: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً قال أَلَمْ أقُلْ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيْعَ مَعِىَ صَبْراً قَالَ إنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَىْ ءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِى قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّى عُذراً.
فانطلقا حتى أتيا أهلَ قرية استطعما أهلها، فلم يجدا أحداً يطعمهم ولا يسقيهم، فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقضّ فأقامه بيده- قال: مسحه بيده- فقال له موسى: لم يُضيفونا ولم ينزلونا، لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْراً قَالَ هذا فِراقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ قال: فقال رسول الله (ص): «لوددت أنه كان صبَر حتى يقصّ علينا قصصهم».
وعن العباس بن الوليد، قال: أخبرني أبي قال: حدثنا الأوزاعي، قال: حدثني الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس: أنه تمارى هو والحُرّ بن قيس بن حصن الفزاريّ في صاحب موسى، فقال ابن عباس: هو الخضر، فمر بهما أبيّ بن كعب، فدعاه ابن عباس فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى (ع) الذي سأل السبيلَ إلى لقائه، فهل سمعت رسول الله يذكر شأنه؟ قال: نعم إني سمعت رسول الله (ص) يقول: «بينا موسى (ع) في ملأِ من بني إسرائيل، إذ جاءه رجل فقال: تعلم مكان أحد أعلم منك؟ قال موسى: لا، فأوحى إلى موسى: بَلى عبدنا الخضر، فسأل موسى السبيلَ إلى لقائه، فجعل الله الحوت آية، وقال له: إذا افتقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه، فكان موسى يتبع أثر الحوت، في البحر فقال فتى موسى لموسى: أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ وقال موسى: ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً، فوجدا الخضر، فكان من شأنهما ما قصّ الله في كتابه». (1)
ص: 95
أبيّ في كتب الرجال
سجل أبي بن كعب مكاناً متميزاً في كتب الرجال، كما هو في كتب التاريخ والتراجم ..
ففي؛
رجال الطوسي
(أبي) بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، يكنى أبا المنذر، شهد العقبة مع السبعين، وكان يكتب الوحي، آخى رسول الله بينه وبين سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، شهد بدراً والعقبة الثانية وبايع لرسول الله (ص).
معجم رجال الحديث
قال الشيخ: «أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، من أصحاب رسول الله (ص)، يكنى أبا المنذر، شهد العقبة مع السبعين، وكان يكتب الوحي، آخى رسول الله (ص) بينه وبين سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، شهد بدراً والعقبة الثانية، وبايع لرسول الله (ص).
وذكره البرقي وقال: «عربي مدني من بني الخزرج».
وعده في آخر رجاله من الإثني عشر الذين أنكروا على أبي بكر.
وذكره- كذلك- الصدوق في الخصال في أبواب الإثني عشر. (1)
وفي سير أعلام النبلاء للحافظ شمس الدين الذهبي (748 ه) وأيضاً في أسد الغابة وفي الإصابة والاستيعاب ومستدرك الحاكم كما في غيرها:
أبي بن كعب بن قيس بن زيد بن معاوية بن عمر بن مالك بن النجار، سيد القراء، أبو المنذر الأنصاري شهد العقبة الثانية وبدراً، جمع القرآن في حياة النبي (ص) وعرض على النبي (ص) وكان رأساً في العلم والعمل. وكان أحد فقهاء الصحابة وأقرأهم لكتاب الله عز وجل ...
وقال عنه الرسول (ص): (اقرأ أمتي أبي) (2)
وقال الألباني: صحيح (3)
قال الواقدي: هو أول من كتب للنبي (ص)، وأول من كتب في آخر الكتاب وكتب فلان بن فلان، توفي في سنة 22 ه- بالمدينة، وقيل: في خلافة عثمان سنة 30 ه-. (4)
ولاؤه لأهل البيت:
مما كتب عنه يظهر أنه كان محباً لأهل بيت النبوة والرسالة، ومن أوائل الصحابة الذين تابعوا مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وناصروهم بالحجة والدليل، وصدحوا بحقهم أمام الآخرين.
ففي تعليقة البهبهاني على منهج المقال: في المجالس ما يظهر منه جلالته وإخلاصه لأهل البيت (عليهم السلام). والظاهر أن مراده بالمجالس مجالس المؤمنين ففيها ما تعريبه: في الكامل البهائي أن أبي بن كعب قال: مررت عشية يوم السقيفة بحلقة الأنصار، فسألوني من أين أتيت؟ قلت: من عند أهل بيت رسول الله (ص). فقالوا: على أي حال تركتهم؟ قلت: ما يكون حال قوم
ص: 96
لم يزل بيتهم محط قدم جبرائيل ومنزل رسول الله (ص) إلى اليوم، وقد زال ذلك عنهم اليوم، وخرج حكمهم من أيديهم، ثم بكى أبيّ وبكى الحاضرون.
وفي الدرجات الرفيعة للسيد علي خان الشيرازي: .. وروي عن أبي، وذكر مثله، وفي زيارته لأهل البيت في ذلك الوقت، واجتماعه معهم، وعدم اجتماعه مع الناس، وتوجعه لهم، أكبر دليل على إخلاصه في حبهم. وذكره في كتابه الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة، وقال: من فضلاء الصحابة، شهد العقبة ... إلى آخر عبارة الشيخ الطوسي في رجاله. ثم قال: كان يسمى سيد القراء.
والسيد المرتضى عده من الشيعة، وكذا المحقق السيد محسن الأعرجي في العدة.
وفي احتجاج الطبرسي عن أبان بن تغلب أنه قال لأبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (ع): جعلت فداك، هل كان أحد في أصحاب رسول الله (ص) أنكر على الخليفة الأول فعله وجاوسه مجلس رسول الله (ص)؟
قال: نعم، كان الذي أنكر عليه اثنا عشر رجلًا من المهاجرين ... ومن الأنصار ... وأبي بن كعب .. فلما صعد المنبر تشاوروا بينهم، فقال بعضهم: والله لنأتينه ولننزلنه عن منبر رسول الله (ص). وقال آخرون منهم: والله لئن فعلتم ذلك فقد أعنتم على أنفسكم، قال الله عز وجل: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ
فذهبوا إلى أمير المؤمنين (ع) واستشاروه، فقال لهم في كلام طويل: وأيم الله، لو فعلتم ذلك لما كنتم لهم إلا حرباً، ولكنكم كالملح في الزاد، وكالكحل في العين، إلى أن قال: فانطلقوا بأجمعكم إلى الرجل، فعرفوه ما سمعتم من قول نبيكم؛ ليكون ذلك أوكد للحجة، وأبلغ للعذر، فساروا حتى أحدقوا بالمنبر يوم الجمعة،
فلما صعد المنبر، قال المهاجرون للأنصار: تقدموا وتكلموا، فقال الأنصار: بل تقدموا وتكلموا أنتم، فإن الله قدمكم في الكتاب، فأول من تكلم خالد بن سعيد بن العاص، ثم باقي المهاجرين من الأنصار. وروي أنهم كانوا غيّباً عن وفاة رسول الله (ص) ... ثم قام أبي بن كعب فقال: يا فلان! لا تجحد حقاً جعله الله لغيرك، ولا تكن أول من عصى رسول الله (ص) في وصيه، وصدف عن أمره، وأردد الحق إلى أهله تسلم، ولا تتماد في غيك فتندم، وبادر الإنابة يخف وزرك، ولا تخص نفسك بهذا الأمر الذي لم يجعله الله لك، فتلقى وبال عملك، فعن قليل تفارق ما أنت فيه، وتصير إلى ربك، فيسألك عما جنيت، وما ربك بظلام للعبيد.
وروى له في الاحتجاج أيضاً خطبة طويلة يحتج بها على القوم، ويذكر فضائل أمير المؤمنين (ع) وأنه أحق بالخلافة ... (1)
من روى عنه
بعد أن رَوى أبى بن كعب أحاديث عن رسول الله (ص)، راح يروي عنه الجماعة من الصحابة والتابعين؛ ومن الذين رووا عنه:
أبو أيوب الأنصاري، وابن عباس، وجندب بن عبد الله البجلي، وعبد الله بن الحارث بن نوفل، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الرحمن بن أبزى، وسعيد بن المسيب، وعمر بن الخطاب، ومسروق بن الأجدع، وزر بن حبيش الأسدي، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وسهل بن سعد، وعبادة بن الصامت، و أبو موسى، وسليمان بن صرد الخزاعي، وعطاء بن يسار، والمغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وأبو الأسود الدؤلي، وأبو هريرة، وسهل بن سعد، كما روى عنه أولاده: الطفيل بن أُبي بن كعب، ومحمد، وعبد الله ..
من مروياته:
ص: 97
له العديد من الروايات، يروي بعضها بنفسه، وبعضها الآخر يشترك معه آخرون، ومنها:
عن عثمان وابن مسعود وأبي: أن رسول الله (ص) كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل، فيعلمهم القرآن والعمل جميعاً.
وعن أبي نفسه قال: قال لي رسول الله (ص): إني أمرت أن أقرأ عليك القرآن.
قال: قلت: يا رسول الله (ص)، وسميت لك؟ قال: نعم.
وعنه: كان رسول الله (ص) إذا ذهب ربع الليل قام فقال: أيها الناس! أذكروا الله، اذكروا الله، جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه.
وعنه: قال لي رسول الله 9: ألا أعلمك مما علمني جبريل 7؟ قال: قلت: نعم يا رسول الله! قال: قل اللهم اغفر لي خطاياي، وعمدي، وهزلي، وجدي، ولا تحرمني بركة ما أعطيتني، ولا تفتنّي فيما حرمتني.
وعنه، قال: قال رسول الله (ص): بشر هذه الأمة بالسناء والنصر والتمكين، ومن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا فلم يكن له في الآخرة من نصيب. (1)
زهده وورعه وتقواه
عرف هذا الصحابي العالم الجليل بزهده وورعه وتقواه، فقد ورد عن جُندب بن عبد الله البجلي قال: أتيت المدينة ابتغاء العلم، فدخلت مسجد رسول الله (ص) فإذا الناس فيه حَلَقٌ يتحدّثون، فجعلت أمضي الحَلَقَ حتى أتيتُ حلقةً فيها رجل شاحبٌ عليه ثوبان كأنّما قدم من سفر.
فسمعته يقول: «هلك أصحاب العُقدة ورب الكعبة، ولا آسى عليهم» ... أحسبه قال: مراراً ... فجلست إليه فتحدّث بما قُضيَ له ثم قام، فسألت عنه بعدما قام قلت: من هذا؟.
قالوا: هذا سيد المسلمين أبي بن كعب ..
فتبعته حتى أتى منزله، فإذا هو رثُّ المنزل رثُّ الهيئة، فإذا هو رجل زاهد منقطعٌ يشبه أمره بعضه بعضاً ... هذا في زهده.
قال أبي بن كعب: يا رسول الله (ص) إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك في صلاتي؟
قال: ما شئت، وإن زدت فهو خيرٌ ... قال: الرُّبع؟ ..... قال: ما شئت، وإن زدت فهو خيرٌ .. قال: أجعلُ النصف؟.
قال: ما شئت، وإن زدت فهو خيرٌ ...
قال: الثلثين؟
قال: ما شئت، وإن زدت فهو خيرٌ.
قال: اجعل لك صلاتي كلّها؟
قال: إذاً تُكفى همَّك ويُغفَر ذنبُك.
وبعد انتقال الرسول (ص) إلى الرفيق الأعلى، ظل أبيّ على عهده في عبادته وقوة دينه، وكان دوماً يذكر المسلمين بأيام الرسول (ص) ويقول: لقد كنا مع الرسول (ص) ووجوهنا واحدة، فلما فارقنا اختلفت وجوهنا يميناً وشمالًا. وعن الدنيا يتحدث ويقول: إن طعام ابن آدم، قد ضرب للدنيا مثلًا، فإن ملحه وقزحه فانظر إلى ماذا يصير؟
ص: 98
وحين اتسعت الدولة الإسلامية ورأى المسلمين يجاملون ولاتهم، أرسل كلماته المنذرة: هلكوا ورب الكعبة، هلكوا وأهلكوا، أما إني لا آسى عليهم، ولكن آسى على من يهلكون من المسلمين .. وكان أكثر ما يخشاه هو أن يأتي على المسلمين يوم يصير بأس أبنائهم بينهم شديد.
وكان أبي بن كعب من ورعه وتقواه يبكي إذا ذكر الله تعالى، ويهتز كيانه حين يرتل آيات القرآن أو يسمعها، وكان إذا تلا أو سمع قوله تعالى: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآْياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (1)، يغشاه الهم والأسى.
وقد روي أن رجلًا من المسلمين، قال: يا رسول الله! أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا وما نلاقيها؟ قال: (كفارات)، فقال أبي ابن كعب: يا رسول الله! وإن قَلَّتْ؟ قال: (وإن شوكة فما فوقها)،
فدعا أبي أن لا يفارقه الوَعْك حتى يموت، وأن لا يشغله عن حج، ولا عمرة ولا جهاد، ولا صلاة مكتوبة في جماعة، فقال أبو سعيد الخدري 2: فما مس إنسان جسده إلا وجد حرَّه حتى مات. (2)
وقد كان أبي 2 مستجاب الدعوة، فيحكي ابن عباس أن عمر بن الخطاب 2 قال لجمع من الصحابة: اخرجوا بنا إلى أرض قومنا. فكان ابن عباس مع أبي بن كعب في مؤخرة الناس، فهاجت سحابة، فدعا أبي قائلًا: اللهم اصرف عنا أذاها. فلحق ابن عباس وأبي الناس، فوجدوا أن رحالهم ابتلت: فقال عمر: ما أصابكم؟ (أي: كيف لم تبل رحالكما؟) فقال ابن عباس: إن أبيَّا قال: اللهم اصرف عنا أذاها. فقال عمر: فهلا دعوتم لنا معكم.
وقعة الجابية
شهد أبي بن كعب مع عمر بن الخطاب وقعة الجابية، وقد خطب عمر بالجابية فقال: أيها الناس من كان يريد أن يسأل عن القرآن فليأتِ أبيَّ بن كعب ...
وأبي هو الذي كتب كتاب الصلح لأهل بيت المقدس، حيث جاء عن أبي الحويرث، قال: كان يهود من بيت المقدس، وكانوا عشرين رأسهم يوسف بن نون، فأخذ لهم كتاب أمان، وصالح عمر بالجابية، وكتب كتاباً، ووضع عليهم الجزية، وكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم، أنتم آمنون على دمائكم وأموالكم وكنائسكم ما لم تحدثوا أو تؤوا محدثاً، فمن أحدث منهم أو آوى محدثاً، فقد برئت منه ذمة الله، وإني بري ء من معرة الجيش؛ شهد معاذ بن جبل، وأبو عبيدة بن جراح، وكتب أبيّ بن كعب». (3)
أقواله ووصاياه
وكان لا يخاف في الله لومة لائم، وكان من الذين لا يطلبون من الدنيا عرضاً، فليس لها نصيب في قلوبهم، فعندما اتسعت بلاد المسلمين ورأى الناس يجاملون ولاتهم في غير حق قال:
هلكوا وربِّ الكعبة، هلكوا وأهلكوا، أما إني لا آسى (أحزن عليهم) ولكن آسى على من يهلكون من المسلمين.
وقال: ما ترك أحد منكم لله شيئاً إلا آتاه الله ما هو خير له منه من حيث لا يحتسب، ولا تهاون به وأخذه من حيث لا يعلم إلا آتاه ما هو أشد عليه من حيث لا يحتسب. وقال له رجل- ذات يوم-: أوصني فقال له أُبيُّ: اتخذ كتاب الله إماماً، وارض به قاضياً وحكماً، فإنه الذي استخلف فيكم رسولكم، شفيع، مطاع، وشاهد لايتهم، فيه ذكركم وذكر من قبلكم، وحكم ما بينكم، وخبركم وخبر ما بعدكم.
ص: 99
قال رجل لأبي بن كعب: أوصني يا أبا المنذر، قال: لا تعترض فيما لا يعنيك، واعتزل عدوك، واحترس من صديقك، ولا تغبطن حياً إلا بما تغبطه به ميتاً، ولا تطلب حاجة إلى من لا يبالي ألا يقضيها لك.
وجاء رجل إلى أبيّ فقال: يا أبا المنذر! آية في كتاب الله قد غمتني. قال: أي آية؟ قال: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ قال: ذاك العبد المؤمن ما أصابته من نكبة مصيبة فيصبر، فيلقى الله تعالى، فلا ذنب له.
وعنه أنه قال: المؤمن بين أربع؛ إن ابتلي صبر، وإن أعطي شكر، وإن قال صدق، وإن حكم عدل. فهو يتقلب في خمسة من النور، وهو الذي يقول الله: نُورٌ عَلى نُور (1) كلامه نور، وعلمه نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى نور يوم القيامة.
والكافر يتقلب في خمسة من الظلم؛ فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه في ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة. (2)
رافقته الحمى!
عاش أبو المنذر رضوان الله تعالى عليه حياته مريضاً بالحمى، وقد لازمته، لكنها لم تثنه عما يريد، فقد واصل حياته- بعزم وهمة عالية قل نظيرها مجاهداً في ميادين النزاع دفاعاً عن الدين الذي آمن به بصدق وإخلاص .. و متعلماً وعالماً ومعلماً في مدرسة القرآن الكريم والصحبة النبوية المباركة ..
كيف لا يكون كذلك، وقد أبكاه ما سمعه من رسول الله (ص) حين قال (ص) له: أمرت أن أقرئك القرآن.
فقال أبي له: أو ذكرت هناك؟
قال: نعم.
فبكى أبي، فلا أدري أشوق أم خوف ..
وقال أبي: انطلقت إلى رسول الله (ص) فضرب بيده صدري.
ثم قال: أعيذك بالله من الشك والتكذيب.
قال: ففضت عرقاً، وكأني أنظر إلى ربي فرقاً!
كل هذا وغيره جعل أبياً متعالياً على مرضه وآلامه وأوجاعه، وأعظم ثباتاً في كدحه وجهاده، وجعله أكثرعزماً في خدمته للقرآن الكريم، الذي تميزت به حياته المباركة ..
سأل أبيّ الرسول 9 جزاء الحمَّى؟
قال: تجري الحسنات على صاحبها ما اختلج عليه قدم أو ضرب عليه عرق.
فقال أبي: اللهم إني أسألك حمّى لا تمنعني خروجاً في سبيلك، ولا خروجاً إلى بيتك ولا مسجد نبيك، فلم يمس أبي إلا وبه حمّى.
وعن عبد الله بن أبي نُصير قال: عُدْنا أبي بن كعب في مرضه، فسمع المنادي بالأذان فقال: (الإقامة هذه أو الأذان؟) ... قلنا: (الإقامة) ... فقال: (ما تنتظرون؟ ألا تنهضون إلى الصلاة؟) ... فقلنا: (ما بنا إلا مكانك) ... قال: (فلا تفعلوا قوموا، إن رسول الله (ص) صلى بنا صلاة الفجر، فلمّا سلّم أقبل على القوم بوجهه فقال: (أشاهدٌ فلان؟ أشاهدٌ فلان؟).
حتى دعا بثلاثة كلهم في منازلهم لم يحضروا الصلاة فقال: إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حَبْواً،
ص: 100
واعلم أنّ صلاتك مع رجلٍ أفضل من صلاتك وحدك، وإن صلاتك مع رجلين أفضل من صلاتك مع رجل، وما أكثرتم فهو أحب إلى الله، وإن الصفّ المقدم على مثل صف الملائكة، ولو يعلمون فضيلته لابتدروه، ألا وإن صلاة الجماعة تفضل على صلاة الرجل وحدَه أربعاً وعشرين أو خمساً وعشرين.
قال الرسول (ص): «ما مِنْ شي ءٍ يصيب المؤمن في جسده إلا كفَّر الله عنه به من الذنوب ..». فقال أبي بن كعب: اللهم إنّي أسألك أن لا تزال الحُمّى مُضارِعةً لجسدِ أبي بن كعب حتى يلقاك، لا يمنعه من صيام ولا صلاة ولا حجّ ولا عُمرة ولا جهاد في سبيلك. فارتكبته الحمى فلما تفارقه حتى مات، وكان في ذلك يشهد الصلوات ويصوم ويحج ويعتمر ويغزو ...
وفاته رضوان الله تعالى عليه
اختلف في سنة وفاته فقيل: في السنة التاسعة عشرة للهجرة النبوية الشريفة، وقيل: في سنة عشرين منها، وقيل: بعد ثلاث وعشرين سنة من الهجرة، وقيل: في سنة ثلاثين، وقيل: في سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: قبل مقتل الخليفة الثالث عثمان. وقيل: في زمن الخليفة عمر، وقيل: في زمن عثمان، ولعل الثاني هو الأصحّ، أي في سنة ثلاثين، وقد ارتضاه كل من الواقدي وابن سعد، وهو أثبت الأقاويل كما عبرا عنه،
ومن الدلائل عليه: خبر محمّد بن سيرين:
قال محمّد بن سيرين: إن عثمان بن عفان: جمع إثني عشر رجلًا من قريش والأنصار، فيهم أُبي بن كعب وزيد بن ثابت في جمع القرآن.
وقبله ابن الأثير صاحب أسد الغابة في معرفة الصحابة حيث قال: وقيل: سنة ثلاثين في خلافة عثمان. قال: وهو الصحيح؛ لأن زر بن حبيش لقيه في خلافة عثمان.
ولما مات قال ابن ضمرة: رأيت أهل المدينة يموجون في سككهم، فقلت: ما شأن هؤلاء؟
فقال بعضهم: ما أنت بأهل البلد؟
قلت: لا.
قال: فإنه قد مات اليوم سيد المسلمين، أبي بن كعب.
ويقول آخر وهو عُتيّ السعديّ: قدمت المدينة في يوم ريحٍ وغُبْرةٍ، وإذا الناس يموج بعضهم في بعض.
فقلت: ما لي أرى الناس يموج بعضهم في بعض؟
فقالوا: أما أنت من أهل هذا البلد؟
قلت: لا.
قالوا: مات اليوم سيد المسلمين، أبيّ بن كعب.
حقاً لقد كنت من أولئك الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه!
فسلام عليك- أبا المنذر- في الخالدين مع الأبرار والصالحين!
ص: 101
ص: 102
ص: 103
وَاذْكُرُواْ اللهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُون (1).
أوشك موسم الحج أن ينقضي، وقربت مناسكه من نهايتها، وما هو إلا وقت يسير حتى يعود الحاج إلى أهله وبلده، وهنا يأتيه النداء الأخير ليكمل به عمله الذي بدأه، وشعائره التي تلبس بها، ومناسكه التي حرص على أدائها، وبالتالي يتم حجه الذي قدّم في سبيله ما كان غالياً عنده من جهد ومال وبُعد عن الأحبة والأهل والأولاد، وعطل لأدائه نشاطه من تجارة وكد وكسب ..
يأتيهم نداء السماء المبارك
وَاذْكُرُواْ اللهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ
شاءت السماء أن لا يغادر الحاج ساحة الحج حتى يذكر الله تعالى كما يحب سبحانه وتعالى وكما يريد، وفي الوقت الذي يشاء أن يذكر فيه فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ.
أيام معدودات لا غير، أيام حبيبة إليه تعالى، لها شأن عظيم عنده، فيها جزاء خاص لديه .. تريدها السماء للحاج؛ ليتزود فيها بما يعصمه من سيئات الدنيا وعذاب الآخرة، وليأخذ من عطاء مائدتها ما يهيئه لجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين ..
إنها أيام الذكر؛ ذكر الله تعالى، إنها أيام التشريق، إنها أيام منى، وقد جاءت تتميماً لأيام سبقتها أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ذات بركات كبيرة للحجيج لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِى أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ (2). وجاءت أيضاً بعد يوم عظيم؛ عرفة (الحج عرفة) وجاءت أخيراً وقد اقترنت بيوم النحر بيوم الأضحى، فغدت أيام الحج: يوم عرفة والنحر والتشريق .. ما أجلّها من أيام! وما أعظمها من أيام! وما أجملها من أيام! ... أيام ترغب السماء أن يكثر عباد الله الصالحون من ذكر الله تعالى فيها، فهي مفضلة وصالحة للذكر، وهي معدة للعبادة، وهي مهيئة للعطاء ... وهي تذكرهم بيوم الحشر، وتشدهم إلى يوم الحساب، إنه يوم مهيب ومخيف .. ذاك هو يوم الحشر الأكبر الذي لا ينجو فيه إلا المتقون ..
وبما أن الحاج على وشك الانتهاء من أعمال الحج، وتَرْك تلك الأماكن المباركة، والعودة إلى صخب الحياة وزخرفها، أعقب ذلك سبحانه ببيان أن لزوم المؤمن لتقوى الله ينبغي أن يكون على كل حال، وفي كل زمان، فليست تقوى الله خاصة بزمان محدد، ولا بمكان معين، وإنما هي مطلوبة في الحِلِّ والترحال، والعبادة والحياة، والشدة والرخاء، كما ثبت في الحديث: «اتق الله حيثما كنت»، في أي مكان كنت، وعلى أي حال صرت، لا كما يفعل بعض المسلمين اليوم، عند خروجهم من عبادة، كانتهاء رمضان، حيث يعودون إلى ما كانوا عليه من أعمال لا ترضي الله تعالى ورسوله (ص)؛ ولهذا جاءت: وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُون.
أمر القرآن الكريم بالتقوى في خاتمة الكلام، وراح يذكرنا بالحشر والبعث؛ لأن التقوى لا تتم، والمعصية لا تجتنب، بل والحياة لا تستقيم، إلا مع ذكر يوم الجزاء، قال تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ ..) (3).
ص: 104
وفي اختيار لفظ الحشر في قوله تعالى: أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُون، مع ما في نسك الحج من حشر الناس وجمعهم لطف ظاهر، وإشعار بأن الناسك ينبغي- وهو يعيش هذا الجمع المهيب والإفاضة- أن يذكر يوماً يحشر فيه الناس جميعاً .. وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (1).
هذا وأن من أروع ما في الحج وكله رائع، ومن أجمل ما في الحج وكله جميل، ومن أنفع ما في الحج وكله نافع .. هو تلك الدروس الكبيرة المستفادة من مظاهره ومناسكه، التي أهمها وأجلها: توحيد الله تعالى، بدءاً بالإحرام نية وأحكاماً وآداباً مروراً بالمناسك الأخرى التالية له، فمثلًا الحاج حينما يفرغ من الطواف وأدعيته التوحيدية، تراه يصلي ركعتي الطواف، فيقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة سورة الكافرون وفي الركعة الثانية يقرأ سورة الإخلاص، وفي هاتين السورتين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، ففي السورة الأولى البراءة من دين المشركين وإفراد الله بالعبادة. وفي السورة الثانية إفراد الله بصفات الكمال وتنزيهه عن صفات النقص، وبذلك يعرف العبد ربه، ويخلص له العبادة ويتبرأ من عبادة ما سواه. وهكذا في السعي بين الصفا والمروة ...
ومن ذلك يتعلم المسلم أنه لايحل الطواف و السعي في أي مكان من الأرض إلا في المكان المخصص لهما حول البيت المبارك وبين الصفا والمروة، وهكذا بقية المناسك والمواقف؛ لأنها من شعائر الله تعالى، فالسعي مثلًا بين هذين المكانين إنما هو بأمر الله تعالى، فكل سعي في مكان غيرهما فليس عبادة لله، لأنه سعي بغير أمره تعالى، وليس في زمنه المعين، وبعيداً عن مكانه المحدد .. ويتجلى بينهما ذكر الله تعالى ومظاهر التوحيد، وكذا موقفه في عرفة «الحج عرفة» وهكذا المزدلفة، تتبين في كل هذه المحطات مظاهر توحيد الله تعالى في الحج، ثم تتضح في منى وما فيها من مناسك عديدة عبر ما شرعه الله تعالى في يوم العيد وأيام التشريق. قال تعالى:
وَاذْكُرُوا اللهَ فِى أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ (2).
وذكر الله في هذه الأيام يتجلى في الشعائر العظيمة التي تؤدى في أيام منى، من رمي الجمار، وذبح الهدي، وأداء الصلوات فرضاً كانت أو استحباباً في هذا المشعر المبارك والأيام المباركة، كل هذه الأعمال ذكر لله عز وجل. فرمي الجمار ذكر لله، ولهذا يقول المسلم عند رمي كل حصاة: (الله أكبر)، وذبح الهدي ذكر لله عز وجل كما قال تعالى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِى أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ (3)، وهكذا كل ما يعمله الحاج هو ذكر لله تعالى، ومصداق للآية المباركة.
ومن فوائد هذه الآية أنها تعد الأخيرة في بيان مناسك الحجّ. وقد أبطلت سنناً جاهلية، حيث كانوا يتفاخرون في موسم العيد بآبائهم وأجدادهم وأمجادهم التي يزعمون، فسنّت بدل ذلك ذكر الله سبحانه وتعالى، فجاءت وَاذْكُرُوا اللهَ فِى أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ.
وبقرينة الآيات السابقة لهذه الآية، جاء هذا الأمر بذكر الله تعالى ناظراً إلى الأيّام الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر التي تسمّى بلسان الروايات (أيّام التشريق). وكأن صدى هذه المناسك يتردد في جنبات منى، فيؤدي إلى إشراقة الروح المؤمنة، وهي تؤدي بل تعيش مناسك الحج، وخصوصاً في أيامها الأخيرة حيث قمة المناسك وختامها.
وقت النزول
هذا وأن الوقت الذي نزلت فيه هذه الآيات هو في حجة الوداع، آخر حجة حجها رسول الله (ص)، وفيها تم تشريع حج التمتع.
الآية لغة وإعراباً وقراءة
ص: 105
الإعراب والقراءة
واذكروا الله: واو عاطفة وفعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل، واسم الجلالة مفعول به.
في أيام: جار ومجرور، ومعدودات صفة لأيام.
فمن: الفاء استئنافية، ومن: شرطية مبتدأ.
تعجّل: فعل ماض في محل جزم فعل الشرط.
في يومين: الجار والمجرور متعلقان بتعجل.
فلا إثم: الفاء رابطة ولا نافية للجنس وإثم اسمها المبني على الفتح.
عليه: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لا، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر من.
وكذا وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ
لمن اتقى: اللام حرف جر، ومن اسم موصول في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، أي ذلك التخيير. ويقول أبو البقاء: وفي لمن اتقى: خبر مبتدأ محذوف تقديره: جواز التعجيل والتأخير لمن اتقى.
واتقوا الله: الواو عاطفة، واتقوا فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، ولفظ الجلالة مفعول به.
واعلموا: عطف على اتقوا.
أنكم: أن واسمها، وإليه: الجار والمجرور متعلقان بتحشرون.
تحشرون: فعل مضارع وفاعل، والجملة الفعلية خبر أن، وأن وما بعدها في تأويل مصدر سدت مسد مفعولي اعلموا.
أبو البقاء في فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ يقول: الجمهور على إثبات الهمزة، وقرئ «فلثم» ووجهها أنه لما خلط لا بالاسم حذف الهمزة لشبهها بالألف، ثم حذف ألف لا لسكونها وسكون الثاء بعدها.
وعن معدودات: قال الكوفيون: الألف والتاء لأقل العدد، وقال البصريُّون: هما للقليل والكثير. وفي مجمع البيان للشيخ الطبرسي: المعدودات تستعمل كثيراً في اللغة للشي ء القليل، وكل عدد قل أو كثر فهو معدود، ولكن معدودات أدل على القلة؛ لأن كل قليل يجمع بالألف والتاء.
وأنقل هنا ما قاله صاحب الدر المصون، وهو يرد على ما ذكره أبو البقاء العكبري عن هذه الصفة «معدودات» يقول السمين الحلبي:
قوله تعالى: مَّعْدُودَاتٍ: صفة لأيام، وقد تقدَّم أن صفةَ ما لا يعقل يَطَّرِد جَمْعُها بالألفِ والتاءِ.
وقد طَوَّل أبو البقاء هنا بسؤال وجواب، أما السؤالُ فقال: إنْ قيل:" الأيام" واحدُها" يوم" و" المعدودات" واحدتُها" معدودةٌ"، واليومُ لا يُوَصَفُ بمعدودة، لأنَّ الصفةَ هنا مؤنثة والموصوفُ مذكَّر، وإنما الوجهُ أن يقالَ:" أيامٌ معدودةٌ" فَتَصِفُ الجمع بالمؤنثِ،
فالجوابُ إِنه أَجْرى" معدودات" على لفظ أيام، وقابَلَ الجمعَ بالجمع مجازاً، والأصلُ معدودة، كما قال:
لَن تَمَسَّنَا لنَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَّعْدُودَةً (1).
ولو قيل: إن الأيام تَشْتمل على الساعات، والساعةُ مؤنثة فجاء الجمعُ على معنى ساعات الأيام، وفيه تنبيهٌ على الأمر بالذكر في كلِّ ساعاتِ هذه الأيامِ أو في معظمِها، لكانَ جواباً سديداً.
ص: 106
ونظيرُ ذلكَ الشهر والصيف والشتاء فإنها يُجاب بها عن كم، [وكم] إنما يجابُ عنها بالعدد، وألفاظُ هذه الأشياءِ ليسَتْ عدداً وإنما هي أسماءُ المعدودات فكانت جواباً من هذا الوجهِ".
يقول صاحب الدر المصون عن هذا: وفي هذا السؤالِ والجوابِ تطويلٌ من غيرِ فائدةٍ، وقولُه:" مفرد معدودات معدودة بالتأنيث" ممنوعٌ، بل مفردُهَا" معدود" بالتذكير، ولَا يضُرُّ جمعُه بالألفِ والتاء، إذ الجمع بالألفِ والتاءِ لَايسْتْدعي تأنيثَ المفرد، ألا ترى إلى قولِهم: حَمَّامات وسِجِلَّات وسُرادِقات.
وذكر الشيخ الطوسي: وسميت معدودات لأنها قلائل، كما قال: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ (1) أي قليلة. والجمع بالألف والتاء يصلح للقليل والكثير، والقليل أغلب عليه. وقال الزجاج: الألف والتاء يصلح للكثير قال الله تعالى: وَ هُمْ فِى الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (2) وقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (3) وإنما احتمل هذا الجمع القليل والكثير، لأن جمع السلامة على طريقة واحدة لا يتميز فيه قليل من كثير، وكان القليل أغلب عليه، لشبهه بالتثنية.
(معلومات (معدودات
وردت معدودات في الآيات التالية:
الآية: 184 وهي آية الصيام، 203 وهي محل مقالتنا، وكلاهما من سورة البقرة. ولم يرد موضوع الحج ضمن عنوان «معدودات» إلا في هذه الآية.
والآية 24 من سورة آل عمران.
فيما وردت معلومات في الآيات التالية:
الآية: 197 الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ من سورة البقرة.
الآية: 28 .. وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِى أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ .. من سورة الحج. فمعلومات لم ترد إلا في آيتين تخصان فريضة الحج.
مع روايات الفريقين:
وقبل أن نتعرض إلى أقوال المفسرين في مقاطع هذه الآية، نذكر الروايات من الفريقين حول الآية ومرادها:
1- روايات أهل البيت:
في الكافي عن الصادق (ع) في قوله تعالى: وَ اذْكُرُوا اللهَ فِى أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ، قال: «وهي أيام التشريق، وكانوا إذا أقاموا بمنى بعد النحر تفاخروا فقال الرجل منهم: كان أبي يفعل كذا وكذا، فقال الله جلَّ شأنه: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرا، قال: والتكبير: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام.»
وفيه عنه (ع) قال: «والتكبير في أيام التشريق من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الفجر من اليوم الثالث، وفي الأمصار يكبر عقيب عشر صلوات». وفي الفقيه في قوله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ، سئل الصادق (ع) في هذه الآية فقال: «ليس هو على أن ذلك واسع إن شاء صنع ذا، لكنه يرجع مغفوراً له لا ذنب له».
وروي عن أبي عبدالله (ع) في قوله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ أي من مات في هذين اليومين، فقد كفر عنه كل ذنب. ومن تأخر أي أنسئ أجله، فلا إثم عليه بعدها إذا اتقى الكبائر».
ص: 107
محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله عز وجل: وَاذْكُرُوا اللهَ فِى أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ قال: «التكبير في أيام التشريق: صلاة الظهر من يوم النحر إلى صلاة الفجر من يوم الثالث، وفي الأمصار عشر صلوات» (1).
عن حماد بن عيسى قال: سمعت أباعبدالله (ع) يقول: «قال علي (ع) في قول الله وَاذْكُرُوا اللهَ فِى أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ قال: أيام التشريق».
وعن رفاعة عن أبي عبدالله (ع) قال: سألته عن الأيام المعدودات، قال: «هي أيام التشريق».
عن محمد بن مسلم قال: سألت أباعبدالله عن قول الله: وَاذْكُرُوا اللهَ فِى أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ قال: «التكبير في أيام التشريق في دبر الصلاة».
عن معاوية بن عمار عن أبي عبدالله (ع) في قول الله: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ، قال: «يرجع مغفوراً له، لا ذنب له».
عن أبي أيوب الخزاز، قال: قلت لأبي عبد الله (ع): إنا نريد أن نتعجل، فقال: «لا تنفروا في اليوم الثاني حتى تزول الشمس. فأما اليوم الثالث، فإذا انتصف فانفروا فإن الله يقول: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فلو سكت لم يبق أحد إلا يعجل، ولكنه قال عز وجل: وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ (2).
وفي الفقيه عن الصادق (ع) في قوله تعالى: لِمَنِ اتَّقى الآية، قال: «يتقي الصيد حتى ينفر أهل منى».
وعن الباقر (ع): «لمن اتقى الرفث والفسوق والجدال وما حرم الله في إحرامه».
وعنه أيضاً: «لمن اتقى الله عزَّ وجلَّ».
وعن الصادق (ع): «لمن اتقى الكبائر».
2 روايات أهل السنة:
أخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال: الأيام المعدودات ثلاثة أيام: يوم الأضحى، ويومان بعده، إذبح في أيها شئت، وأفضلها أولها.
وأخرج الفريابي وابن أبي الدنيا وابن المنذر عن ابن عمر في قوله: وَاذْكُرُوا اللهَ فِى أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ قال: ثلاثة أيام، أيام التشريق. وفي لفظ: هي الثلاثة الأيام بعد يوم النحر.
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد والمروزي في العيدين وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب والضياء في المختارة من طرق عن ابن عباس قال: الأيام المعلومات أيام العشر، والأيام المعدودات أيام التشريق.
وأخرج الطبراني عن عبدالله بن الزبير وَ اذْكُرُوا اللهَ فِى أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ قال: هن أيام التشريق يذكر الله فيهن بتسبيح وتهليل وتكبير وتحميد.
وأخرج ابن أبي الدنيا والمحاملي في أماليه والبيهقي عن مجاهد قال: الأيام المعلومات العشر، والأيام المعدودات أيام التشريق.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الأيام المعدودات أربعة أيام: يوم النحر، وثلاثة أيام بعده.
وأخرج المروزي عن يحيى بن كثير في قوله: وَ اذْكُرُوا اللهَ فِى أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ قال: هو التكبير في أيام التشريق دبر الصلوات.
ص: 108
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر، أنه كان يكبر تلك الأيام بمنى ويقول: التكبير واجب، ويتأوّل هذه الآية: وَ اذْكُرُوا اللهَ فِى أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ.
وأخرج المروزي وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن عمرو بن دينار قال: رأيت ابن عباس يكبر يوم النحر ويتلو: وَ اذْكُرُوا اللهَ فِى أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: وَ اذْكُرُوا اللهَ فِى أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ قال: التكبير أيام التشريق، يقول في دبر كل صلاة: الله أكبر الله أكبر الله أكبر.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عمر، أنه كان يكبر ثلاثاً ثلاثاً وراء الصلوات بمنى: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شي ء قدير.
وأخرج المروزي عن الزهري قال: كان رسول الله (ص) يكبر أيام التشريق كلها.
وأخرج سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: سمعت ابن عباس يكبر يوم الصدر ويأمر من حوله أن يكبر، فلا أدري تأوّل قوله تعالى: وَاذْكُرُوا اللهَ فِى أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ أو قوله: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ الآية.
وأخرج الحاكم وصححه عن عائشة قالت: أفاض رسول الله 9 من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع فمكث بمنى ليالي التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى وعند الثانية، فيطيل القيام ويتضرع، ثم يرمي الثالثة ولا يقف عندها. (1)
مع المفسرين:
للمفسرين أقوال في الآية وجاء مفادها تبعاً لما ذكرته الروايات، ونجد تلك الأقوال عبر المقاطع الأربعة للآية الكريمة:
المقطع الأول: وَاذْكُرُواْ اللهَ.
المقطع الثاني: فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ.
المقطع الثالث: فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى.
المقطع الرابع: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُون.
المقطع الأول: وَاذْكُرُوا الله
فعن الذكر ومواضعه والأقوال المختلفة فيه:
يقول الشيخ الطبرسي (548 ه):
والذكر المأمور به هو أن تقول عقيب خمس عشرة صلوات: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا والله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، وأول التكبير عندنا عقيب الظهر من يوم النحر وآخره عقيب صلاة الفجر من اليوم الرابع من النحر هذا لمن كان بمنى، ومن كان بغير منى من الأمصار يكبر عقيب عشر صلوات أولها صلاة الظهر من يوم النحر أيضاً. هذا هو المروي عن الصادق (ع)، وفي ذلك اختلاف بين الفقهاء ووافقنا في ابتداء التكبير من صلاة الظهر من يوم النحر ابن عباس وابن عمر. (2)
و يقول الشيخ البلاغي عن (وَاذْكُرُواْ اللهَ):
ص: 109
وذكر الله في التكبير كما في صحيحتي محمد ومنصور المشار إليهما. وصورته المتفق عليها بين المسلمين كما ذكره في التبيان: الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد. وزاد أصحابنا تبعاً للروايات عن أئمتهم أهل البيت وجمعاً بينها: الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا ورزقنا من بهيمة الأنعام. وهو مستحب على المشهور لصحيحة علي بن جعفر عن أخيه الكاظم قال: سألته عن التكبير في أيام التشريق أواجب أو لا؟ قال (ع): «مستحب وإن نسي فلا شي ء عليه»، فالأمر في الآية للاستحباب. ووقته بعد كل فريضة من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من اليوم الثالث عشر فيكون خمسة عشر تكبيراً، ولمن ينفر بالنفر الأول بعد الزوال فيكون عشر مرات. واختلف كلام الفقهاء من الجمهور في عدده ولكن مالكاً والشافعي في أحد أقواله وافقا أصحابنا. (1)
يقول الرازي (606 ه):
المسألة الثانية: المراد بالذكر في هذه الأيام: الذكر عند الجمرات، فإنه يكبر مع كل حصاة والذكر إدبار الصلوات والناس أجمعوا على ذلك، إلا أنهم اختلفوا في مواضع:
الموضع الأول: أجمعت الأمة على أن التكبيرات المقيدة بإدبار الصلوات مختصة بعيد الأضحى، ثم في ابتدائها وانتهائها خلاف.
القول الأول: أنها تبتدأ من الظهر يوم النحر إلى ما بعد الصبح من آخر أيام التشريق فتكون التكبيرات على هذا القول في خمس عشرة صلاة، وهو قول ابن عباس وابن عمر، وبه قال مالك والشافعي رضي الله عنهما في أحد أقواله، والحجة فيه أن الأمر بهذه التكبيرات إنما ورد في حق الحاج، قال تعالى: فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ ثم قال: وَاذْكُرُواْ اللهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وهذا إنما يحصل في حق الحاج، فدل على أن الأمر بهذه التكبيرات إنما ورد في حق الحاج وسائر الناس تبع لهم في ذلك، ثم إن صلاة الظهر هي أول صلاة يكبر الحاج فيها بمنى، فإنهم يلبون قبل ذلك، وآخر صلاة يصلونها بمنى هي صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، فوجب أن تكون هذه التكبيرات في حق غير الحاج مقيد بهذا الزمان.
القول الثاني: للشافعي رضي الله عنه أنه يبتدأ به من صلاة المغرب ليلة النحر، إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وعلى هذا القول تكون التكبيرات بعد ثماني عشرة صلاة.
والقول الثالث: للشافعي رضي الله عنه أن يبتدأ بها من صلاة الفجر يوم عرفة، وينقطع بعد صلاة العصر من يوم النحر، فتكون التكبيرات بعد ثمان صلوات، وهو قول علقمة والأسود والنخعي وأبي حنيفة.
والقول الرابع: أنه يبتدأ بها من صلاة الفجر يوم عرفة، وينقطع بعد صلاة العصر من يوم النحر من آخر أيام التشريق، فتكون التكبيرات بعد ثلاث وعشرين صلاة، وهو قول أكابر الصحابة، كعلي وعمر وابن مسعود وابن عباس، ومن الفقهاء قول الثوري وأبي يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق والمزني وابن شريح، وعليه عمل الناس بالبلدان، ويدل عليه وجوه:
الأول: ما روى جابر أن النبي (ص) صلى الصبح يوم عرفة، ثم أقبل علينا فقال: الله أكبر، ومد التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق.
والثاني: أن الذي قاله أبو حنيفة أخذ بالأقل، وهذا القول أخذ بالأكثر، والتكثير في التكبير أولى لقوله تعالى: اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (2).
الثالث: أن هذا هو الأحوط، لأنه لو زاد في التكبيرات فهو خير من أن ينقص منها.
والرابع: أن هذه التكبيرات تنسب إلى أيام التشريق، فوجب أن يؤتى بها إلى آخر أيام التشريق.
ص: 110
فإن قيل: هذه التكبيرات مضافة إلى الأيام المعدودات وهي أيام التشريق، فوجب أن لا تكون مشروعة يوم عرفة.
قلنا والقول للرازي-: فهذا يقتضي أن لا يكبر يوم النحر وهو باطل بالإجماع، وأيضاً لما كان الأغلب في هذه المدة أيام التشريق؛ صح أن يضاف التكبير إليها.
الموضع الثاني: قال الشافعي رضي الله عنه: المستحب في التكبيرات أن تكون ثلاثاً نسقاً أي متتابعاً، وهو قول مالك، وقال أبوحنيفة وأحمد: يكبر مرتين، حجة الشافعي ما روى عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، قال: رأيت الأئمة يكبرون في أيام التشريق بعد الصلاة ثلاثاً، ولأنه زيادة في التكبير، فكان أولى لقوله تعالى: اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً
ثم قال الشافعي رضي الله عنه: ويقول بعد الثلاث: «لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد» ثم قال: وما زاد من ذكر الله فهو حسن، وقال في التلبية: وأحب أن لا يزيد على تلبية رسول الله (ص)، والفرق أن من سنة التلبية التكرار فتكرارها أولى من ضم الزيادة إليها، وههنا يكبر مرة واحدة فتكون الزيادة أولى من السكوت، وأما التكبير على الجمار فقد روي أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يكبر مع كل حصاة، فينبغي أن يفعل ذلك (1).
وأما ابن عطية (546 ه)، فيقول ذاكراً أقوال آخرين:
وجعل الله الأيام المعدودات أيام ذكر الله، وقد قال النبي (ص): «هي أيام أكل وشرب وذكر الله». ومن جملة الذكر التكبير في إثر الصلوات، واختلف في طرفي مدة التكبير: فقال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس: يكبر من صلاة الصبح من يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق.
وقال ابن مسعود وأبو حنيفة: يكبر من غداة عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر.
وقال يحيى بن سعيد: يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الظهر من آخر يوم التشريق.
وقال مالك: يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وبه قال الشافعي. وقال ابن شهاب: يكبر من الظهر يوم النحر إلى العصر من آخر أيام التشريق.
وقال سعيد بن جبير: يكبر من الظهر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق.
وقال الحسن بن أبي الحسن: يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الظهر يوم النفر الأول.
وقال أبو وائل: يكبر من صلاة الظهر يوم عرفة إلى صلاة الظهر يوم النحر.
ومشهور مذهب مالك أنه يكبر إثر كل صلاة ثلاث تكبيرات، وفي المذهب رواية أنه يقال بعد التكبيرات الثلاث: لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد. (2)
ويقول الآلوسي (1270 ه):
(وَاذْكُرُواْ اللهَ) أي كبروه إدبار الصلوات وعند ذبح القرابين ورمي الجمار وغيرها. (3)
المقطع الثاني: أيام معدودات
هناك اهتمام أكيد من الدين الإسلامي الحنيف ببعض الأيام، وأفردها عن غيرها بخصائص معينة، تميزها عن غيرها من الأيام، فالأيام المعلومات هي العشر الأولى من شهر ذي الحجة، وفيها يوم التروية ويوم عرفة واليوم الأول من عيد الأضحى ويسمى يوم النحر.
ص: 111
ومن هذه الأيام التي لها أحكام خاصة بها، أيام التشريق، وتسمى أيام منى، وهي في الآية: أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ. فالذي حددته الروايات وجاءت على ضوئه أقوال المفسرين في المراد من أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ هي: الأيام الثلاثة التي تلي يوم العيد، وتسمى أيام التشريق وهي اليوم الحادي عشر، واليوم الثاني عشر، واليوم الثالث عشر. فاليوم العاشر وهو أول أيام عيد الأضحى لا يعد من أيام التشريق المرادة بالآية الكريمة: أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ. ومع هذا فقد وقع اختلاف بينهم حول عددها هل هي ثلاثة أيام، أو هي يومان؟
ونبدأ ببيان معنى التشريق، فقد قال في لسان العرب:
تشريق اللحم. تقطيعه وتقديده وبسطه، ومنه سميت أيام التشريق.
وقيل: سميت بذلك؛ لأنهم كانوا يقولون في الجاهلية أشرق ثبير كيما نغير؛ الإغارة: الدفع.
وقال ابن الأعرابي: سميت بذلك لأن الهدي والضحايا لا تنحر حتى تشرق أي تطلع.
وقال أبو عبيد: فيه قولان: يقال: سميت بذلك لأنهم كانوا يشرقون فيها لحوم الأضاحي، وقيل: بل سميت بذلك لأنها كلها أيام تشريق لصلاة يوم النحر، يقول: فصارت هذه الأيام تبعاً ليوم النحر.
قال: وهذا أعجب القولين إليَّ. قال: وكان أبو حنيفة يذهب بالتشريق إلى التكبير، ولم يذهب إليه غيره.
وقيل: المُشرّق: مصلي العيد بمكة. وقيل: مصلي العيد ولم يقيد بمكة ولا غيرها. والتشريق: صلاة العيد وإنما أخذ من شروق الشمس؛ لأن ذلك وقتها وفي الحديث: «لا ذبح إلا بعد التشريق» أي بعد الصلاة.
الحافظ ابن حجر: وسميت أيام التشريق؛ لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها أي تنشر عند الشمس، وقيل: التشريق التكبير دبر كل صلاة.
وقيل: لشروق القمر فيها طول الليل، وهو واحد من أربعة أقوال ذكرها صاحب كنز العرفان في فقه القرآن للسيوري. (1)
عدد أيام التشريق وأسماؤها
ذاك في معنى التشريق، وأما عن عددها، فإن أيام التشريق ثلاثة أيام بعد يوم النحر؛ لأن لحم الأضاحي يشرق فيها للشمس.
وقال النووي: وأيام التشريق هي الثلاثة التي بعد النحر. ويقال لها: أيام منى؛ لأن الحجاج يقيمون فيها بمنى.
وفي عددها كما قلنا وقع اختلاف، فقد قال الحافظ ابن حجر: وقد اختلف في كونها يومين أو ثلاثة. وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وهذا قول ابن عمر وأكثر العلماء، وأفضلها أولها وهو يوم القر؛ لأن أهل منى يستقرون فيه، ولا يجوز فيه النفر، وهي الأيام المعدودات وأيام منى.
القر والنفر
القر، لغةً: من قر بفتح القاف وتشديد الراء وفتحها، قر بالمكان قراً، وقراراً، بفتح القاف، وقروراً بضم القاف والراء: أقام، تقول: قررت في هذا المكان طويلًا، وقر: سكن واطمأن.
النفر، لغةً: من نفر، نفراً ونفوراً: هجر وطنه وضرب في الأرض، وفي التنزيل العزيز: فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ. وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً. ونفر من المكان: تركه إلى غيره، يقال: نفر الحاج من منى: دفعوا إلى مكة، ونفر الناس إلى العدو: أسرعوا في الخروج لقتاله، وفي التنزيل العزيز: انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالًا. (2)
ص: 112
هذا وأن اليوم (الأول) منها يقال له: يوم القر- بفتح القاف- لأن الحجاج يقرون فيه بمنى. و (الثاني) يوم النفر الأول؛ لأنه يجوز النفر فيه لمن تعجل. و (الثالث) يوم النفر الثاني. وسميت أيام التشريق؛ لأن الحجاج يشرقون فيها لحوم الأضاحي والهدايا. أي: يشترونها، ويقددونها وأيام التشريق هي الأيام المعدودات ..
وقد ذكر ابن كثير في سيرته كلاماً شبيهاً بهذا، حيث قال: أول أيام التشريق يسمى يوم القر؛ لأنهم يقرون فيه، ويقال له: يوم الرؤوس؛ لأنهم يأكلون فيه رؤوس الأضاحي، وهو أول أيام التشريق، وثاني أيام التشريق يقال له: يوم النفر الأول لجواز النفر فيه، وقيل: هو اليوم الذي يقال له: يوم الرؤوس، واليوم الثالث من أيام التشريق يقال له: يوم النفر الآخر.
وهذه الأيام هي أيام التشريق وهي الحادي عشر ويسمى يوم القر، والثاني عشر ويسمى يوم الصدر، والثالث ويسمى يوم النفر، وسميت أيام التشريق ...
وقد ورد عن أيام التشريق هذه: عن عقبة بن عامر عن النبي (ص) قال: «يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب.» (1)
وفي مفاتيح الغيب يقول الرازي (606 ه):
المسألة الأولى: إن الله تعالى ذكر في مناسك الحج الأيام المعدودات، والأيام المعلومات فقال هنا: وَاذْكُرُواْ اللهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ وقال في سورة الحج: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِى أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ (2) فمذهب الشافعي رضي الله عنه أن المعلومات هي العشر الأول من ذي الحجة آخرها يوم النحر، وأما المعدودات فثلاثة أيام بعد يوم النحر، وهي أيام التشريق، واحتج على أن المعدودات هي أيام التشريق بأنه تعالى ذكر الأيام المعدودات، والأيام لفظ جمع فيكون أقلها ثلاثة، ثم قال بعده: فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وهذا يقتضي أن يكون المراد فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ من هذه الأيام المعدودات، وأجمعت الأمة على أن هذا الحكم إنما ثبت في أيام منى وهي أيام التشريق، فعلمنا أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق،
والقفال أكد هذا بما روى في «تفسيره» عن عبد الرحمن بن نعمان الديلمي، أن رسول الله (ص) أمر منادياً فنادى: «الحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج، وأيام منى ثلاثة أيام فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه» وهذا يدل على أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق.
قال الواحدي رحمة الله عليه: أيام التشريق هي ثلاثة أيام بعد يوم النحر أولها: يوم النفر، وهو اليوم الحادي عشر من ذي الحجة ينفر الناس فيه بمنى والثاني: يوم النفر الأول لأن بعض الناس ينفرون في هذا اليوم من منى والثالث: يوم النفر الثاني، وهذه الأيام الثلاثة مع يوم النحر كلها أيام النحر، وأيام رمي الجمار في هذه الأيام الأربعة مع يوم عرفة أيام التكبير إدبار الصلوات ...
يقول الشيخ الطبرسي صاحب مجمع البيان: وَاذْكُرُواْ اللهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ هذا أمر من الله للمكلفين أن يذكروه في أيام معدودات وهي أيام التشريق ثلاثة أيام بعد النحر، والأيام المعلومات عشر ذي الحجة عن ابن عباس والحسن وأكثر أهل العلم، وهو المروي عن أئمتنا. وذكر الفراء أن المعلومات أيام التشريق والمعدودات العشر.
والشيخ البلاغي في تفسيره للأيام في الآية: وَاذْكُرُواْ اللهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ يقول: الأيام المذكورة في الآية هي أيام التشريق كما في صحيحي الكافي عن محمد بن مسلم ومنصور بن حازم وصحيحة التهذيب عن حماد بن عيسى عن الصادق (ع) كصحيحتي الوسائل عن قرب الإسناد عن حماد عنه (ع) ونحوهما روايات العياشي ورواية الدر المنثور عن ابن عباس وابن الزبير.
ص: 113
ويقول العلامة الطباطبائي في تفسيره الميزان: الأيام المعدودات هي أيام التشريق وهي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة، والدليل على أن هذه الأيام بعد العشرة من ذي الحجة ذكر الحكم بعد الفراغ عن ذكر أعمال الحج وعن دليله فيقول: والدليل على كونها ثلاثة أيام قوله تعالى: فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ ... فإن التعجل في يومين إنما يكون إذا كانت الأيام ثلاثة: يوم ينفر فيه، ويومان يتعجل فيهما فهي ثلاثة، وقد فسرت في الروايات بذلك أيضاً.
ثم راح السيد العلامة يذكر ما يؤيد قوله من الروايات، ومتن الرواية فيه المراد من الذكر أيضاً، ونحن ننقلها كما هي في هذا المقطع:
ففي الكافي عن الصادق (ع) في قوله تعالى: وَاذْكُرُواْ اللهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ الآية، قال: وهي أيام التشريق، وكانوا إذا أقاموا بمنى بعد النحر تفاخروا فقال الرجل منهم: كان أبي يفعل كذا وكذا، فقال الله جلَّ شأنه: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرا، قال: والتكبير: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام.
وفيه عنه (ع) قال: والتكبير في أيام التشريق من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الفجر من اليوم الثالث، وفي الأمصار يكبر عقيب عشر صلوات.
ابن عطية (546 ه) يقول: وأمر الله تعالى عباده بذكره في الأيام المعدودات، وهي الثلاثة التي بعد يوم النحر، وهي أيام التشريق، وليس يوم النحر من المعدودات، ودل على ذلك إجماع الناس على أنه لا ينفر أحد يوم القر، وهو ثاني يوم النحر، فإن يوم النحر من المعلومات، ولو كان يوم النحر في المعدودات لساغ أن ينفر من ينفر من شاء متعجلًا يوم القر، لأنه قد أخذ يومين من المعدودات، وحكى مكي والمهدوي عن ابن عباس أنه قال: «المعدودات هي أيام العشر»، وهذا إما أن يكون من تصحيف النسخة، وإما أن يريد العشر الذي بعد يوم النحر، وفي ذلك بُعد، والأيام المعلومات هي يوم النحر ويومان بعده؛ لإجماعهم على أنه لا ينحر أحد في اليوم الثالث، والذكر في المعلومات إنما هو على ما رزق الله من بهيمة الأنعام. وقال ابن زيد: «المعلومات عشر ذي الحجة وأيام التشريق»، وفي هذا القول بُعد. (1)
إذن الأيام المعدودات هي: أيام التشريق، قال ابن رجب: وأما الأيام المعدودات فالجمهور على أنها أيام التشريق، وروي عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما، واستدل ابن عمر بقوله تعالى: فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وإنما يكون التعجيل في أيام التشريق. قال الإمام أحمد: ما أحسن ما قال ابن عمر. والأيام المعلومات هي: أيام عشر ذي الحجة.
هذا وأن الفيروز آبادي (817 ه) في تفسيرالقرآن، يذهب إلى أنها خمسة أيام، فيقول:
وَذْكُرُواْ للهَ بالتكبير والتهليل والتمجيد فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ معلومات أيام التشريق وهي خمسة أيام يوم عرفة ويوم النحر وثلاثة أيام بعدهما .. انتهى قول الفيروزآبادي.
وأخيراً يمكن القول بعد استقراء ما ذكرناه وما لم نذكره خوف الإطالة: إن الذي يمنع جعل يوم النحر، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة كما يبدو والله العالم من فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ أي من أيام منى، هو ليس له ما يؤيده لا في القرآن ولا في السنة؛ لأن يوم النحر كانت بدايته الوقوف بالمشعر الحرام" المزدلفة" ثم تبدأ الإفاضة من المشعر الحرام إلى منى، وهو عندئذ يوم الإفاضة، وبعده جاءت الآية: وَاذْكُرُواْ اللهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ هذا أولًا.
وثانياً: الذي يمنع هو ما ورد عن النبي (ص):" أيامُ منى ثلاثة فمن تعجَّل في يومين فلا إثْم عليه".
ص: 114
فإذا جعلنا يوم النحر الذي هو العاشر من ذي الحجة واحداً من الثلاثة الواردة في الحديث، فيجوز حينئذ النفر في اليوم الحادي عشر من ذي الحجة وهو اليوم الثاني للعيد، وهو يوافق اليوم الأول من أيام منى الثلاثة الواردة في الحديث، وهو أمر لا خلاف في عدم جوازه.
هذا إضافةً إلى الأخبار والأقوال التي تحدّد أن أَيَّامٍ مَّعْلوماتٍ هي الأيام العشرالأولى من ذي الحجة، و أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ هي أيام منى والتي تسميها الروايات أيام التشريق، والتي هي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة.
المقطع الثالث: (فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى):
المراد بالتعجل هنا: انصرا ف الحاج من منى في اليوم الثاني من أيام التشريق وهو اليوم الثاني عشر من ذي الحجة، وذلك بعد رميه جمار ذلك اليوم.
وتعجل لغةً: عجل: عجلًا، وعجلةً: أسرع، وفي التنزيل العزيز: عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (1) والعجلة: السرعة، الإِسراع في شي ء والمبادرة .. ومنه تعجل: وتعجل فلاناً: حثه. وتعجل الشي ء: أخذه بسرعة .. وتعجل: يجوز أن يكون بمعنى استعجل، وهو يأتي بمعنى تفعل واستفعل .. كتكبر واستكبر .. وتيقن واستيقن، وتقضى واستقضى، وتعجل واستعجل .. وتعجل يأتي لازماً ومتعدياً، تقول: تعجلت في الشي ء وتعجلته، واستعجلت في الشي ء واستعجلت زيداً، وبمعنى الفعل المجرّد فيكون بمعنى: عجل، كقولهم: تلبث بمعنى لبث، وتعجب وعجب، وتبرّ أو برى ء، وهو أحد المعاني التي جاء لها تفعل. (2)
وجاء في مجمع البيان للشيخ الطبرسي: المعنى في ذلك الرخصة في جواز النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق، والأفضل أن يقيم إلى النفر الأخير وهو الثالث من التشريق، وإذا نفر في الأول نفر بعد الزوال إلى غروب الشمس فإن غربت فليس له أن ينفر إلى اليوم الثالث.
وقوله: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فيه قولان- أحدهما:- أن معناه لا إثم عليه لأن سيئاته صارت مكفرة بما كان من حجّه المبرور، وهو قول ابن مسعود- والثاني:- أن معناه لا إثم عليه في التعجيل والتأخير وإنما نفي الإثم لئلا يتَوهم متوهمٌ أن في التعجيل إثماً، وإنما قال عليه في التأخير على جهة المزاوجة كما يقال: إن أعلنت الصدقة فحسن وإن أسررتَ فحسن وإن كان الإسرار أحسن وأفضل عن الحسن، وقوله: لِمَنِ اتَّقى فيه قولان- أحدهما:- أن الحج يقع مبروراً مُكَفِرّاً للسيئات إذا اتقى ما نهى الله عنه والآخر: ما رواه أصحابنا أن قوله: لِمَنِ اتَّقى، متعلق بالتعجيل في اليومين، وتقديره فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه لمن اتقى الصيد إلى انقضاء النفر الأخير وما بقي من إحرامه، ومن لم يتقها فلا يجوز النفر في الأول، وهو المروي عن ابن عباس واختاره الفراء.
وقد روي أيضاً عن أبي عبد الله في قوله: فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ أي من مات في هذين اليومين فقد كُفِّرَ عنه كل ذنب ومن تأخر أي من أجله فلا إثم عليه إذا اتقى الكبائر.
وقوله: وَاتَّقُوا الله أي اجتنبوا معاصي الله اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي تحققوا أنكم بعد موتكم تجمعون إلى الموضع الذي يحكم الله فيه بينكم ويجازيكم على أعمالكم.
وعن هذا المقطع يقول البلاغي:
فَمَن تَعَجَّلَ فِى ضمن يَوْمَيْنِ من تعجل الدين أي تعجل مقامه بمنى في ضمن يومين بتعجل غايته فنفر النفر الأول. ولو كان بمنى استعجل وعجل، أو للمطاوعة كما في الكشاف، لدلت الآية على جواز النفر في اليوم الأول منها أيضاً، وهو
ص: 115
باطل بإجماع المسلمين. ولأجل جعل التعجل في ضمن يومين اشترط أصحابنا وفقهاء أهل السنة، إلا أبا حنيفة وأصحابه، كونه قبل الغروب من اليوم الثاني، فلو أمسى حرم عليه النفر الأول.
فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لهذه الجملة ظاهر لا حاجة إلى بيانه؛ لأن في رواية الكافي عن إسماعيل بن نجيح رد عليه؛ ولأن الأحاديث عن الفريقين جاءت على خلافه وهو أن المراد غفرت ذنوبه. منها صحيحة الحلبي في قوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ وصحيحة عبد الأعلى ورواية ابن عيينة ورواية ابن نجيح ورواية العياشي عن معاوية ابن عمار وعن ابن عباس في إحدى الروايتين، فيكون حاصل المراد من الآية الكريمة: فمن أتم حجه بالتعجل أو التأخر غفرت ذنوبه، فإنه لا أثر لخصوص عنواني التعجل والتأخر في غفران الذنوب.
ومن هذا الوجه وكون التعجل إتماماً للحج يعرف جوازه وأنه لِمَنِ اتَّقى النساء والصيد كما هو المشهور بين الإمامية، باعتبار الاختصاص بالأمرين المذكورين والمجمع عليه باعتبار الدخول في كل ما يحرم على المحرم كما عن ابن سعيد، أو ما يوجب عليه الكفارة كما عن ابن إدريس وأبي المجد كما ورد في خصوص النساء والصيد صحيحة حماد بن عثمان وروايته الأخرى كما في التهذيب وصحيحة جميل ومعتبرة ابن المستنير عن الصادق (ع) وبه جاءت إحدى روايات الدر المنثور عن ابن عباس، والمراد اتقاء المحرم وما يحرم عليه في حجه مما يكون بين النساء والرجال سواء كان رجلًا أو امرأة.
وهناك روايات أخرى من الفريقين لم يأخذ بمضمونها الإمامية. وعلى ذلك إجماعهم، مضافاً إلى أن قوله تعالى: لِمَن اتَّقى لا يستقيم تفسيره بالتقوى المطلقة بعمومها؛ لأن حصولها إلى حين النفر لا يتفق إلا للمعصوم، فلا يبقى موقعاً للامتنان بغفران الذنوب إذا كان ذلك قيداً له، وكذا لا يبقى مورد للتخفيف على سائر الناس كما يعرف من روايات الفريقين بأجمعها إذا كان قيداً لجواز النفر كما لا يستقيم تفسيره بمطلق حصول التقوى ومصداقها في الماضي، إذ لا فائدة على ذلك في هذا القيد، فإن كل من له حج قد حصل منه مصداق للتقوى، فلا بد من أن يراد بذلك تقوى خاصة وهو ما بينته الروايات المتقدمة، وبالنظر إلى هذا الذي ذكرناه يسقط كثير من الأحاديث. (1)
ويقول الرازي عن هذا المقطع:
أما قوله تعالى: فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى ففيه سؤالات:
السؤال الأول: لم قال فمن تعجل ولم يقل فمن عجل؟.
الجواب: قال صاحب «الكشاف»: تعجل واستعجل يجيئان مطاوعين بمعنى عجل، يقال: تعجل في الأمر واستعجل، ومتعديين يقال: تعجل الذهاب واستعجله.
السؤال الثاني: قوله: وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فيه إشكال، وذلك لأنه إذا كان قد استوفى كل ما يلزمه في تمام الحج، فما معنى قوله: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فإن هذا اللفظ إنما يقال في حق المقصّر ولا يقال في حق من أتى بتمام العمل.
والجواب من وجوه:
أحدها: أنه تعالى لما أذن في التعجل على سبيل الرخصة احتمل أن يخطر ببال قوم أن من لم يجر على موجب هذه الرخصة فإنه يأثم، ألا ترى أن أبا حنيفة رضي الله عنه يقول: القصرعزيمة، والإتمام غير جائز، فلما كان هذا الإحتمال قائماً، لا جرم أزال الله تعالى هذه الشبهة وبين أنه لا إثم في الأمرين، فإن شاء استعجل وجرى على موجب الرخصة، وإن شاء لم يستعجل ولم يجر على موجب الرخصة، ولا إثم عليه في الأمرين جميعاً.
ص: 116
وثانيها: قال بعض المفسرين: إن منهم من كان يتعجل، ومنهم من كان يتأخر، ثم كل واحد من الفريقين يعيب على الآخر فعله، كان المتأخر يرى أن التعجل مخالفة لسنّة الحج، وكان المتعجل يرى أن التأخر مخالفة لسنّة الحج، فبين الله تعالى أنه لا عيب في واحد من القسمين ولا إثم، فإن شاء تعجل وإن شاء لم يتعجل.
وثالثها: أن المعنى في إزالة الإثم عن المتأخر إنما هو لمن زاد على مقام الثلاث، فكأنه قيل: إن أيام منى التي ينبغي المقام بها هي ثلاث، فمن نقص عنها فتعجل في اليوم الثاني منها فلا إثم عليه، ومن زاد عليها فتأخر عن الثالث إلى الرابع فلم ينفر مع عامة الناس فلا شي ء عليه.
ورابعها: أن هذا الكلام إنما ذكر مبالغة في بيان أن الحج سبب لزوال الذنوب وتكفير الآثام، وهذا مثل أن الإنسان إذا تناول الترياق، فالطبيب يقول له: الآن إن تناولت السم فلا ضرر، وإن لم تتناول فلا ضرر، مقصوده من هذا بيان أن الترياق دواء كامل في دفع المضار، لا بيان أن تناول السم وعدم تناوله يجريان مجرى واحد، فكذا ههنا المقصود من هذا الكلام بيان المبالغة في كون الحج مكفراً لكل الذنوب، لا بيان أن التعجل وتركه سيان، ومما يدل على كون الحج سبباً قوياً في تكفير الذنوب قوله عليه الصلاة والسلام: «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه».
وخامسها: أن كثيراً من العلماء قالوا: الجوار مكروه، لأنه إذا جاور الحرم والبيت سقط وقعه عن عينه، وإذا كان غائباً إزداد شوقه إليه، وإذا كان كذلك احتمل أن يخطر ببال أحدنا على هذا المعنى أن من تعجل في يومين فحاله أفضل ممن لم يتعجل، وأيضاً من تعجل في يومين فقد انصرف إلى مكة لطواف الزيارة وترك المقام بمنى، ومن لم يتعجل فقد اختار المقام بمنى وترك الإستعجال في الطواف فهذا السبب يبقى في الخاطر تردد في أن المتعجل أفضل أم المتأخر؟ فبين الله تعالى أنه لا إثم ولا حرج في واحد منهما.
وسادسها: قال الواحدي رحمه الله تعالى: إنما قال: وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لتكون اللفظة الأولى موافقة للثانية، كقوله: وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها (1)وقوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ (2) ونحن نعلم أن جزاء السيئة والعدوان ليس بسيئة ولا بعدوان، فإذا حمل على موافقة اللفظ ما لا يصح في المعنى، فلأن يحمل على موافقة اللفظ ما يصح في المعنى أولى، لأن المبرور المأجور يصح في المعنى نفي الإثم عنه.
السؤال الثالث: هل في الآية دلالة على وجوب الإقامة بمنى بعد الإفاضة من المزدلفة؟.
الجواب: نعم، كما كان في قوله: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ (3) دليل على وقوفهم بها.
ثم يواصل الرازي كلامه قائلًا: واعلم أن الفقهاء قالوا: إنما يجوز التعجل في اليومين لمن تعجل قبل غروب الشمس من اليومين، فأما إذا غابت الشمس من اليوم الثاني قبل النفر فليس له أن ينفر إلا في اليوم الثالث؛ لأن الشمس إذا غابت فقد ذهب اليوم، وإنما جعل له التعجل في اليومين لا في الثالث، هذا مذهب الشافعي، وقول كثير من فقهاء التابعين، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: يجوز له أن ينفر ما لم يطلع الفجر لأنه لم يدخل وقت الرمي بعد.
وفي قوله تعالى: لِمَن اتَّقى يقول الرازي: ففيه وجوه:
أحدها: أن الحاج يرجع مغفوراً له بشرط أن يتقي الله فيما بقي من عمره ولم يرتكب ما يستوجب به العذاب، ومعناه التحذير من الاتكال على ما سلف من أعمال الحج، فبيّن تعالى أن عليهم مع ذلك ملازمة التقوى ومجانبة الاغترار بالحج السابق.
وثانيها: أن هذه المغفرة إنما تحصل لمن كان متقياً قبل حجه، كما قال تعالى: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (4)، وحقيقته أن المصرّ على الذنب لاينفعه حجه وإن كان قد أدى الفرض في الظاهر.
ص: 117
وثالثها: أن هذه المغفرة إنما تحصل لمن كان متقياً عن جميع المحظورات حال اشتغاله بالحج، كما روي في الخبر من قوله عليه الصلاة والسلام: «من حج فلم يرفث ولم يفسق ...».
واعلم أن الوجه الأول من هذه الوجوه التي ذكرناها إشارة إلى اعتباره في الحال. والتحقيق أنه لا بد من الكل وقال بعض المفسرين المراد بقوله: لِمَن اتَّقى ما يلزمه التوقي في الحج عنه من قتل الصيد وغيره، لأنه إذا لم يجتنب ذلك صار مأثوماً، وربما صار عمله محبطاً، وهذا ضعيف من وجهين:
الأول: أنه تقييد للفظ المطلق بغير دليل.
الثاني: أن هذا لا يصح إلا إذا حمل على ما قبل هذه الأيام، لأنه في يوم النحر إذا رمى وطاف وحلق، فقد تحلّل قبل رمي الجمار، فلا يلزمه اتقاء الصيد إلا في الحرم، لكن ذاك ليس للإحرام، لكن اللفظ مشعر بأن هذا الاتقاء معتبر في هذه الأيام، فسقط هذا الوجه.
ويقول الفيروز آبادي (817 ه):
فَمَن تَعَجَّلَ برجوعه إلى أهله فِى يَوْمَيْنِ بعد يوم النحر فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ بتعجيله وَمَن تَأَخَّرَ إلى اليوم الثالث فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ بتأخيره ويقال فلا عتب عليه بتأخيره يخرج مغفوراً له لِمَنِ تَّقَى يقول: التعجيل لمن اتقى الصيد إلى اليوم الثالث وَتَّقُواْ للهَ واخشوا الله في أخذ الصيد إلى اليوم الثالث وَعْلَمُواْ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ بعد الموت. (1)
هذا ويقول محمد بن أبي بكر الرازي في مسائله:
كيف قال: فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ومعلوم أن المتعجل التارك بعض الرمي إذا لم يكن عليه إثم لا يكون على المتأخر الآتي بالرمي كاملًا؟
يقول الرازي في إجابته عن هذا السؤال الذي طرحه:
كان أهل الجاهلية فريقين: منهم من جعل المتعجل آثماً، ومنهم من جعل المتأخر آثماً، فأخبر الله تعالى بنفي الإثم عنهما جميعاً، أو معناه لا إثم على المتأخر في تركه الأخذ بالرخصة مع أن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، أو معناه أن انتفاء الإثم عنهما موقوف على التقوى لا على مجرد الرخصة في الرمي، ثم قيل: المراد به تقوى المعاصي في الحج، وقيل: تقوى المعاصي بعد الحج في بقية العمر بالوفاء بما عاهد الله تعالى عليه بعرفة وغيرها من مواقف الحج من التوبة والإنابة ...
ابن عطية: وقوله تعالى: فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، قال ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد: المعنى من نفر في اليوم الثاني من الأيام المعدودات فلا حرج عليه، ومن تأخر إلى الثالث فلا حرج عليه، فمعنى الآية: كل ذلك مباح، وعبر عنه بهذا التقسيم اهتماماً وتأكيداً إذ كان من العرب من يذم المتعجل وبالعكس، فنزلت الآية رافعة للجناح في كل ذلك، ومن العلماء من رأى أن التعجل إنما أبيح لمن بَعُدَ قطره لا للمكي والقريب، إلا أن يكون له عذر، قاله مالك وغيره، ومنهم من رأى أن الناس كلهم مباح لهم ذلك، قاله عطاء وغيره.
وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وإبراهيم: معنى الآية من تعجل فقد غفر له ومن تأخر فقد غفر له، واحتجوا بقوله (ع): «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من خطاياه كيوم ولدته أمه»، فقوله تعالى: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ نفي عام وتبرئة مطلقة، وقال مجاهد أيضاً: معنى الآية من تعجل أو تأخر فلا إثم عليه إلى العام القابل، وأسند في هذا القول أثر.
وقال أبو العالية: المعنى في الآية لا إثم عليه لمن اتقى بقية عمره، والحاج مغفور له البتة.
ص: 118
وقال أبو صالح وغيره: معنى الآية لا إثم عليه لمن اتقى قتل الصيد وما يجب عليه تجنبه في الحج، وقال أيضاً: لمن اتقى في حجه فأتى به تاماً حتى كان مبروراً، واللام في قوله: لِمَنِ اتَّقى متعلقة إما بالغفران على بعض التأويلات، أو بارتفاع الإثم في الحج على بعضها، وقيل: بالذكر الذي دل عليه قوله: وَاذْكُرُوا، أي الذكر لمن اتقى، ويسقط رمي الجمرة الثالثة عمن تعجل.
وقال ابن أبي زمنين: يرميها في يوم النفر الأول حين يريد التعجل.
قال ابن المواز: يرمي المتعجل في يومين بإحدى وعشرين حصاة، كل جمرة بسبع حصيات، فيصير جميع رميه بتسع وأربعين حصاة.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: لأنه قد رمى جمرة العقبة بسبع يوم النحر.
قال ابن المواز: ويسقط رمي اليوم الثالث.
وقرأ سالم بن عبد الله: فَلا إثْمَ عَلَيه بوصل الألف، ثم أمر تعالى بالتقوى وذكر بالحشر والوقوف بين يديه.
النفر:
إذن، يستفاد من الآية المباركة أن هناك نفرين اتفقا في المكان وهو من منى، واختلفا في اليوم:
النفر الأول؛ لقوله تعالى: فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ: وهو النفر من منى.
وقته: في اليوم الثاني من أيام التشريق، أي أن الحاج يخرج من منى بعد الزوال وقبل غروب شمس اليوم الثاني عشر من ذي الحجة.
النفر الثاني؛ لقوله تعالى: وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ: وهو النفر من منى.
وقته: في اليوم الثالث من أيام التشريق، أي أن الحاج يخرج من منى بعد الزوال وقبل غروب شمس اليوم الثالث عشر من ذي الحجة.
يقول الدكتور الزحيلي: وإذا رمى في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد الزوال، فأراد أن ينفر من منى إلى مكة، وهو المراد من النفر الأول، فله ذلك؛ لقوله تعالى: فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ أي بترك الرمي في اليوم الثالث، والأفضل ألا يتعجل، بل يتأخر إلى آخر أيام التشريق، وهو اليوم الثالث منها، فيستوفي الرمي في الأيام كلها، ثم ينفر، وهو معنى النفر الثاني في قوله تعالى: وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ.
ثم نقل هذين القولين لابن عباس وابن مسعود:
قال ابن عباس في هذه الآية: فمن تعجل في يومين غفر له، ومن تأخر غفر له.
وكذا قال ابن مسعود في قوله تعالى: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ: رجع مغفوراً له، وذلك مشروط بالتقوى؛ لقوله تعالى: لِمَن اتَّقى.
التعجيل
وعن وقت التعجيل يقول الدكتور وهبة الزحيلي:
ووقت التعجيل عند الجمهور في ثاني أيام التشريق، وهو النفر الأول، يكون قبل غروب الشمس للآية السابقة، وحديث عبد الرحمن بن يعمر عند أبي داود وابن ماجه: «أيام منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه»
ص: 119
واليوم: اسم للنهار، فمن أدركه الليل، فما تعجل في يومين، فإن غربت الشمس وهو بها لم يخرج حتى يرمي من غد بعد الزوال.
وقال أبو حنيفة: للحاج أن ينفر ما لم يطلع الفجر من اليوم الرابع من أيام العيد، فإذا طلع الفجر، لم يكن له أن ينفر لدخول وقت الرمي. (1)
*** المقطع الرابع: وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُون
الحشر: جمع القوم من كل ناحية، والمحشر مجتمعهم، يقال منه: حشر يحشر حشراً .. وقال الراغب: الحشر: ضم المفترق وسوقه، وهو بمعنى الجمع .. وحشرهم حشراً: جمعهم وساقهم، ويقال: حشر الله الخلق حشراً: بعثهم من مضاجعهم وساقهم. ومنه اجتماع الخلق يوم القيامة ..
يقول الرازي:
أما في قوله تعالى فيقول: وَاتَّقُوا الله فهو أمر في المستقبل، وهو مخالف لقوله: لِمَنِ اتَّقى الذي أريد به الماضي فليس ذلك بتكرار، وقد علمت أن التقوى عبارة عن فعل الواجبات وترك المحرمات.
ويقول الرازي: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُون فهو تأكيد للأمر بالتقوى، وبعث على التشديد فيه، لأن من تصور أنه لا بد من حشر ومحاسبة ومساءلة، وأن بعد الموت لا دار إلا الجنة أو النار، صار ذلك من أقوى الدواعي له إلى التقوى، وأما الحشر فهو اسم يقع على ابتداء خروجهم من الأجداث إلى انتهاء الموقف، لأنه لا يتم كونهم هناك إلا بجميع هذه الأمور، والمراد بقوله: إليه أنه حيث لا مالك سواه ولا ملجأ إلا إياه، ولا يستطيع أحد دفعاً عن نفسه، كما قال تعالى: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ الأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلهِ (2)
وعن هذا المقطع يقول البلاغي: وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُون مقتضى سوق الآية هو أنه لا تتكلوا على غفران ما مضى من ذنوبكم بسبب الحج، بل اتقوا الله فيما بقي من أعماركم وتحققوا، وليكن على علمكم وذكركم دائماً أنكم إلى الله لا محالة تحشرون فيحاسبكم على أعمالكم ويجازيكم؛ فاستعدوا لذلك بالتقوى وتزودوا منها فإنها خير زاد. (3)
الأحكام
وقد ذكر الفقهاء أحكاماً يؤديها المكلف في هذه الأيام، ومنها:
ما ذكره السيوري:
1- الذكر في هذه الأيام وهو التكبير عقيب خمس عشرة صلاة لمن كان بمنى، وعقيب عشر لمن كان بغيرها، وصورته:
«الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبرالله أكبر ولله الحمد. الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا، والله أكبر على مارزقنا من بهيمة الأنعام».
2- وجوب الكون بمنى تلك الليالي، ويستحب النهار، وهو لازم عن الأمر بالذكر فيها، وعن قوله تعالى: فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فيستلزم ثبوت الإثم للمستعجل (لمن تعجل) قبل ذلك.
3- أن وجوب الكون في الثلاثة تخييري بينها وبين اليومين الأولين خاصة، لكن اليوم الثاني عشر له حكمان أحدهما: أنه لا يجوز النفر فيه، إلا بعد الزوال. والثاني: أنه متى غربت الشمس وهو بمنى تحتم عليه المبيت بها الليلة الثالثة؛ لأن
ص: 120
التعجيل محله النهار، فإذا مضى ولم يتعجل فلو تعجل في الليلة الثالثة لزم كون تعجيله ليس في اليومين، فيكون آثماً وهو المطلوب.
4- أن ذلك التخيير ليس مطلقاً بالنسبة إلى كل حاج، بل هو لمن اتقى. واختلف فيه على قولين، قيل: معناه اتقى الصيد والنساء في إحرامه. وقيل: اتقى ساير المحرمات في الإحرام، والأول هو المروي، والفتوى عليه.
5- أن غير المتقي يتحتم عليه الكون في الليالي الثلاث، ويكون نفره يوم الثالث عشر، ولا يجوز قبله.
6- أن من بات الليلة الثالثة عشرة، لا ينفر حتى تطلع الشمس ويرمي الجمار، وكذا في النفر الأول لا ينفر إلا بعد رمي الجمار، ووقته بعد طلوع الشمس أيضاً، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: ينفر قبل طلوع الفجر. قيل: كان في الجاهلية منهم من تأثم بالتعجيل، ومنهم من تأثم بالتأخير. فجاء القرآن برفع الإثم عنهما معاً. (1)
والرواية الأولى هنا تدل على القول الأول هي: عن حماد عن أبي جعفر (ع) عن قوله: (لِمَنِ اتَّقى) الصيد، فإن ابتلى بشي ء من الصيد ففداه، فليس له أن ينفر في يومين. (2)
الرواية الثانية وهي تدل على القول الثاني: عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر (ع) في قوله: فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى. منهم الصيد واتقى الرفث والفسوق والجدال وما حرم الله عليه في إحرامه. (3)
وختاماً، لا بد من القول: إنه بهذه الآية انتهى الكلام عن أحكام الحج، التي يرشد تعالى المؤمنين إذا فرغوا من مناسكهم بأن رموا جمرة العقبة ونحروا وطافوا طواف الإفاضة واستقروا بمنى، أن يكثروا من ذكر الله تعالى عند رمي الجمرات، وعند الخروج من الصلوات ذكراً مبالغاً في الكثرة منه على النحو الذي كانوا في الجاهلية يذكرون فيه مفاخر آبائهم وأحساب أجدادهم وأمجادهم بل أكثر وأعظم .. ثم تأتي هذه الآية أيضاً؛ لتحمل رحمة الله بعباده، ومن باب التوسعة عليهم؛ فإن شاء الحاج أقام في منى أيام الرمي الثلاثة، وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة، وإن شاء تعجل بعد أن يرمي في اليوم الأول والثاني، ثم يخرج من منى قبل مغيب شمس يوم الثاني عشر، وأيام منى ثلاثة، فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وكان قوله تعالى: لِمَنِ اتَّقى قيداً جميلًا، وكذا المقطع الأخير: وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُون. لأن الإنسان إذا علم أنه سيحشر إلى الله عزّ وجلّ، وأنه سيجازيه فإنه سوف يتقي الله سبحانه، ويقوم بما أوجبه عليه، ويترك ما نهاه عنه؛ وبهذا تعرف الحكمة من كون الله عزّ وجلّ يقرن كثيراً من الآيات بالإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر وإثبات البعث ...
ليستعد الإنسان لذلك بذكر الله سبحانه وتعالى وبشكره والحرص على طاعته ..
ص: 121
ص: 122
توطئة
أنتجت عقود الإسلام الأولى أحداثاً جساماً، تركت بصماتها الواضحة على مسار الأحداث المتلاحقة والمتسارعة في العقود التي تتابعت على الأمة، بعد التحاق نبيها محمد (ص) بالرفيق الأعلى.
تحُرِّك هذه الأحداث وتؤثر في مجرياتها مجموعة من الشخصيات التي عاصرتها وكانت صاحبة القرار فيها، وربما يبرز حدث ما من تلك الحوادث، فيصعّد شخصية إلى مسرح الأحداث لم تكن من الشهرة بمكان سوى الحدث الذي اقترنت به، فتكون مادة يسلّط المؤرخون فيها الضوء على دور هذه الشخصية ومساهماتها، وتترك شخصيات أخر انتهجت الهدوء والإنزواء مسلكاً في حياتها، أو لم يقيض لها القدر دوراً حتى تؤثر في مجريات حوادث عصرها ما دامت تمتلك المؤهلات لذلك من النسب الرفيع والعلم والوجاهة، وربما كانت شهرة الشخصيات التي زامنتها قد جعلت من الرواة والمؤرخين يغفلونها أو يقصروا من حيث تسليط الأضواء عليها.
كانت شخصية عمر بن الإمام علي بن أبي طالب (ع)، من بين الشخصيات التي لم يوف المؤرخون القدامى- ولا حتى المحدثون من الباحثين- حقها من الدراسة والتحليل، لما تبدو للقارى ء لسيرتها لأول وهلة إنها شخصية لاتستحق إفراد دراسة مستقلة لها؛ لأن دورها ليس بمؤثر في أحداث عصرها، فضلًا عن قلة الأحاديث والروايات المنسوبة لها والمسندة إليها، وذلك قياساً بأقرانه من رجالات عصره ممن هم في طبقته ونسبه، وكما صوّرت ذلك النصوص والأخبار التي تناقلتها المصادر عنه، والتي توحي للمطلع عليها أنها قد لاتكوّن بمجموعها صورة واضحة عن خلجات هذه الشخصية والظروف التي ساعدت على تنشأتها- وهذا ما أردنا إثبات عكسه- أو أن هذه الشخصية قد تباينت مواقفها من الأحداث التي عاصرتها لدرجة عدم الإسهاب في ذكر أخبارها، أو أن ما آثرته من حياة الدعة والسكينة طيلة حياتها، قد أخرجتها بذلك عن دائرة الضوء لتكون أشبه بالمتفرجة على مسار الأحداث دون اتخاذ مواقف صارمة وحازمة منها، أو حتى تشكيل حلقات موسعة للدرس والحديث في المسجد، يجعلها مقصداً لطالبي العلم.
كل ذلك، دفعني إلى تقليب صفحات المصادر والمظان، لكي أجمع ما تناقله الرواة من أخبار عن شخصية عمر الأطرف، وأدرس الأسباب التي حالت وراء المسلك الذي اختطه في حياته تلك، والعلاقة التي كانت تربطه بأفراد البيت العلوي من إخوته وأولادهم، ومن ثم الوقوف على ما رواه من أحاديث وروايات حفظها عن أبيه الإمام علي (ع)، وما أسهم به من دور إزاء الحوادث التي عاصرها بدءاً من صغره حين كان في كنف والده (ع)، وحتى وفاته بعد أن تجاوز الخمسة والسبعين عاماً على أقل تقدير؛ ممن حدد عمره من المؤرخين بهذه المدة، حتى أضحى آخر من توفي من أولاد الإمام علي (ع).
ومن ثم فمن المستبعد أن تكون مثل شخصية عمر الأطرف بن الإمام علي (ع) ذات العمر الطويل هذا- قياساً بباقي إخوته- من الشخصيات الهامشية في التاريخ الإسلامي، وذلك من حيث صلته الوطيدة بالشخصيات الفاعلة في أحداث العقود الستة التي أعقبت وفاة الرسول الأكرم (ص)، من أبيه الإمام علي (ع) خليفة المسلمين وزعيمهم، إلى أخوته الذين ذاع صيتهم (الحسن والحسين (عليهما السلام) ومحمد بن الحنفية)، فضلًا عن اغترافه للعلم من الينابيع الفكرية الرئيسة للإسلام بكونه من أولاد علي (ع)، ذلك الشخص الذي تمثل الإسلام فكرة وسلوكاً، وفوق كل ذلك كونه أحد أولاده الخمسة الذين استمر عقبه منهم، وما تركه من ذرية وأحفاد أسهموا في إشاعة ورواية الأحاديث والأخبار التي رواها جدهم عمر عن أبيه علي (ع) من جهة، إلى روايتهم عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وتبنيهم للخط الفكري والعقائدي الذي سلكوه من جهة أخرى، ثم ما لعبته
ص: 123
المصاهرات المتبادلة فيما بين ذرية آل عمر الأطرف وبين ذرية آل أبي طالب، والتي ساعدتنا في إيضاح بعض الملابسات التي وقعت في ثنايا النصوص لبعض الحوادث.
أخذت شهرة إخوة عمر (الحسن والحسين (عليهما السلام) ومحمد بن الحنفية) وباقي أهل بيته، الحيز الكبير من جهود الباحثين العلمية فانصبت عليها أقلامهم ودراساتهم المتنوعة في جميع مجالات اختصاصهم، دون أن ينبري باحث للتصدي بدراسته، إذ لم أجد بين الأكاديميين وغيرهم من الكتاب- وعلى حد علمي المتواضع- من حاول الكتابة عنه بصورة مستقلة بورقة علمية أو كتاب، وهذا مما هو مستغرب! إذ كان يذكر في ثنايا كتب الأخبار والأحاديث في تعداد أولاد الإمام علي (ع)، أو ما روى هو أولاده وأحفاده من أحاديث وروايات عن أهل البيت (عليهم السلام) ومدى قبول العلماء لتلك الأحاديث والروايات- المنسوبة- في ميزان الجرح.
وبذلك تحفزت على الخوض في البحث والدراسة عن هذه الشخصية، بعد أن تجمع لديّ عدد جيد من الأحاديث والروايات من طريق عمر الأطرف بن الإمام علي (ع)، والتي نقلتها المصادر المتقدمة عنه، إذ لو بوّبت ونسقت تلك النصوص، فلربما تعطي إضاءة حول طبيعة تلك الشخصية المسكوت عنها وخلجاتها، وإجابة عن المواقف التي انتهجتها من أحداث عصرها، ثم التركيز على الانفرادات التي تسجل له من بين تلك الأحاديث والروايات التي لم يشترك مع باقي إخوته في نقلها عن أبيهم (ع)، وتصنيف تلك الأحاديث والروايات في المواضيع التي تحدثت عنها، والجوانب المبرزة منها، ومدى قبول العلماء لها، فكان هذا البحث.
المبحث الأول: حياته ودوره في أحداث عصره
لم تحدد المصادر التي ترجمت له سنةً لولادته، ولكنها أشارت إلى أنه ولد أيام خلافة عمر بن الخطاب (13- 23 ه-)، وذلك برواية تشير إلى أن الإمام علياً قد بشر بولادته وهو عند عمر، فنحله الأخير إسمه ووهب له أحد غلمانه (1)، ولكن هذه الرواية تتعارض مع مثيلة لها يكون الواهب لهذا الغلام هو عمر بن عبد العزيز لأحد العلويين من ذرية عمر الأطرف (2)، فضلًا عن أن مسألة تحديد سنة ولادة عمر الأطرف ينتابها الشك في مدى صحتها، وذلك للتعارض في الروايات حول مقدار عمره.
ألقابه: لقب عمر بالأطرف، وذلك في حقبة لاحقة من حياته، تمييزاً له عن عمر بن علي بن الحسين الذي لقب بالأشرف، إذ أطلقت هذه التسمية عليه من قبل العلويين بعد ولادة الأخير (3)، وفي رأي آخر: إن هذه التسمية كانت لشرفية عمر بن علي من طرف واحد من خلال والده الإمام علي (ع)، لأن والدته أمة، عكس سميّه عمر بن الإمام زين العابدين علي بن الحسين (ع) الذي نال الشرف من طرفيه (الأب والأم) (4).
أمه: كانت أم عمر الأطرف، من سبايا خالد بن الوليد حينما أغار على بني تغلب في منطقة (عين تمر) (5)، وذلك أيام خلافة أبي بكر الأخيرة (6)، إذ نقل قدامة (328 ه-) في رواية مهمة- لم توردها كتب الفتوح آنفة الذكر- يستعرض فيها تفاصيل هذه الغارة وكيفية أسر الصهباء، إذ يقول: «وأتى صندوداء* وبها قوم من كندة وأياد والعجم فقاتلوه فظفر بهم وخلف بها سعد بن عمرو بن حزام الأنصاري فولده اليوم بها، وبلغه أن جمعاً لبني تغلب بالمضيح** والحصيد*** مرتدين وعليهم ربيعة بن بجير فأتاهم فقاتلهم فهزمهم وسبى وغنم وبعث بالسبي إلى أبي بكر فكانت منهم أم حبيب الصهباء بنت حبيب بن بجير، وهي أم عمر بن علي بن أبي طالب» (7).
ص: 124
والصهباء هي: أم ولد، وتسمى بأم حبيب، وهي بنت ربيعة بن بجير بن العبد بن علقمة بن الحارث بن عتبة بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل (1)، وتتوسع أحد المصادر بذكر نسب هذه المرأة لتوصله إلى عدنان لتذكر اسمها على النحو الآتي: «الصهباء، وهي: أم حبيب بنت ربيعة بن بجير بن العبد بن علقمة بن الحارث بن عتبة بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب بن أقصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان» (2).
ولدت هذه المرأة للإمام علي (ع) ولدين توأمين هما: (عمر ورقية) (3)، ولكن المصادر بعد ذلك تسكت عن ذكر أخبارها وعلاقتها بنساء البيت العلوي، وأحسب أن كونها أم ولد قد كان وراء هذا السكوت، فضلًا عن أنها لم يكن لها دور أو موقف في أحداث عصرها حتى تذكره الرواة، بإستثناء ماورد في إحدى وصايا الإمام علي (ع) لأهل بيته، التي نقلها الإمام الكاظم (ع) والمصادر المتقدمة، إلى أنه قد أشار إلى زوجاته من الإماء، إذقال الإمام علي (ع) في وصيته تلك: «أما بعد فإن ولائدي اللائي أطوف عليهن السبعة عشر، منهن أمهات أولاد معهن أولادهن، ومنهن حبالى، ومنهن من لا ولد لهن، فقضيت إن حدث بي حدث في هذا الغزو فإن من كانت منهن ليست بحبلى وليس لها ولد فهي عتيقة لوجه الله، ليس لأحد عليها سبيل، ومن كانت منهن حبلى أو لها ولد فإنها تحبس على ولدها وهي من حظه، فإن مات ولدها وهي حية فإنها عتيقة لوجه الله، هذا ما قضيت في ولائدي التسع عشرة والله المستعان» (4)، وما ورد من تسمية ولدها عمر ابنته- التي تزوجها الحسن المثنى بن الحسن بن أبي طالب- بإسم أمه لخير شاهد على المكانة التي كان يكنها لأمه (5).
نشأته: نشأ عمر في مقتبل عمره في كنف والده، وكان آخر من بقي من ذريته وأولاده (6)، وهذا مما جعله حدث السن في الحوداث التي تلاحقت على الإمام علي (ع)، وهذا مما لم يظهر له دوراً أو موقفاً بارزاً فيها، ولكن نستطيع أن نستنتج من الأحاديث التي نقلها عن أبيه، والقرارات التي اتخذها في بعض المواقف إزاء حوادث عصره، أنه كان ملاصقاً لأبيه، إذ روى أحاديث جمة عنه كما سنلاحظ من دراستنا لها وتجميعنا إياها، وهذا مما يظهر أنه قد رحل معه إلى الكوفة أيام خلافته، حتى أن الإمام الباقر (ع) في رواية نقلها الشيخ الطوسي (460 ه-) يشير إلى حضور جميع ولد الإمام علي (ع) حينما احتضر (7)، فضلًا عن ورود رواية أخرى نقلها القاضي النعمان المغربي (363 ه-) تشير إلى بكاء رقية- شقيقة عمر التوأم- أباها وهو متشحط بدمه من ضربة عبد الرحمن بن ملجم (8)، وفي مصادر أخرى تذهب إلى تحديد عدد أولاد الإمام (ع) الإثني عشر الذين حضروا عند أبيهم ليسمعوا وصيته الأخيرة لهم، حتى ارتفع فيها صوت الإمام علي (ع)، حينما وبخ أحد أبنائه (عبيد الله) لاعتراضه على خصوصية الحسن والحسين في وصية أبيهم من بين إخوته (9).
وهذا مما يؤكد لنا حقيقة ملازمته هو وأخته وربما أمه لأبيه طيلة أيامه، وهو مما يجعله على تماس مباشر مع الحوادث التي تلاحقت على أبيه ومشاهدته لها، فضلًا عن سماعه للأحاديث والكلمات التي قالها في خضم تلك الحوادث.
مواقفه من أحداث عصره: لم يؤثر عن عمر الأطرف موقف بارز في الحوادث الكبرى التي عصفت بالمجتمع الإسلامي في خلافة أبيه الإمام علي (ع) (35- 40 ه-)، إذ لم تحدثنا المصادر عن مشاركته في الحروب الثلاث (الجمل وصفين والنهروان) التي حدثت في أيام الإمام علي (ع)، بالرغم من الإشارات المتكررة حول مساهمة إخوته الحسن والحسين (عليهما السلام) و محمد بن الحنفية الفاعلة في تلك الحروب (10)، ولاسيما الأخير الذي يكبره قليلًا، إذ كان هو الآخر إبن أمة من سبايا بني حنيفة أيام الردة، إذ وردت إشارات متفرقة عن حضوره لكل من الجمل وصفين، ولكن دون أن يكون له دور أو موقف فيها، إذ ذكر الشيخ المفيد (413 ه-) في رواية نقلها الواقدي عن حفيد عمر الأطرف (عبد الله)، حيث قال: «حدثني عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب (ع) عن أبيه قال: لما سمع أبي أصوات الناس يوم الجمل وقد ارتفعت، فقال لابنه محمد: ما يقولون؟ قال يقولون:
ص: 125
يالثارات عثمان! قال: فشدّ عليه وأصحابه يهشون في وجهه يقولون: الشمس ارتفعت! الشمس ارتفعت! وهو يقول: الصبر أبلغ في الحجة» (1).
أما في صفين فلم تصرح المصادر بإسمه فيمن حضرها من أولاد الإمام علي (ع)، إذ وردت رواية واحدة نقلها نصر بن مزاحم المنقري (212 ه-) عن خروج الإمام علي (ع) وبنيه الى ميسرة الجيش في صفين وهم يحامون عنه (2).
هل كان سن عمر الصغيرة وخبرته القليلة بالقتال لم يكونا ليسمحا له بالمشاركة في تلك الحروب؟ أم أن أباه لم يعطِ له الإذن بذلك؟ أوربما لم يكن متحمساً للمشاركة فيها؟- وهذا ديدنه في معظم الحروب والوقائع التي عاصرها في أيامه- والظاهر أن كل الإحتمالات واردة ومرجحة، إذ إن الذي يستقرأ نصوص الوصايا التي أوصى بها الإمام علي (ع) لأولاده وإلى أهل بيته- التي أحلنا إلى بعض منها آنفاً- تستوقفه عبارة (الأصاغر من ولده) التي وردت في ثنايا رواية الإمام الباقر (ع) عن حادثة وصية الإمام علي (ع) لمن حضر من ولده (ع) في أثناء احتضاره (3)، إذ تبين هذه الرواية أنه لم يكن من الاكتمال الجسماني أن يشترك في مثل هذه الحروب التي زج فيها الإمام علي أولاده، وحتى الذين اشتركوا في تلك الحروب من أولاد الإمام (الحسن والحسين (عليهما السلام) ومحمد بن الحنفية)، قد كان يحاذر أن يدخلهم في مبارزة أو قتال فعلي خشية أن ينقطع نسل محمد (4)، حتى إنه خاف على إبنه محمد بن الحنفية حينما برز في صفين لعبيد الله بن عمر بن الخطاب، إشفاقاً عليه، خشية أن يقتله الأخير (5).
ذريته تزوج عمر الأطرف في تلك الأثناء من أسماء بنت عقيل بن أبي طالب، والتي كانت ذريته منها (6)، وتزوج مسلم بن عقيل أخت عمر (رقية) الشقيقة التوأم (7).
وولد عمر بن علي الأطرف ستة منهم ثلاث نساء هن: أم حبيب وأم موسى وأم يونس، والرجال: محمد وعلي وأبو إبراهيم إسماعيل، وكان إستمرار عقبه من ولده محمد، إذ لم يعقب البقية (8)، وعرف أعقابه بالعمريين ولقبوا بالعُمري (9).
علاقته بإخوته: رافق عمر الأطرف إخوته الحسن والحسين (عليهما السلام) حينما رجعوا إلى المدينة بعد الصلح الذي أبرموه مع معاوية، وظل هناك يتنقل بين صدقات أبيه وعيونه، لتسكت المصادر عن ذكر إشارة لأخباره طيلة السنوات التسع التي أعقبت الصلح، لترد إشارة في بعض المصادر إلى أنه قد حضر جنازة أخيه الإمام الحسن (ع) حينما توفي عام 50 ه-، ليروي تأبين أخيه محمد بن الحنفية للحسن (ع) وهو واقف على قبره (10).
زوَّج عمر الأطرف ابنته أم حبيب من ولد الحسن البكر الحسن المثنى، رغم اقتران الأخير ببنات أعمامه الحسين (ع) ومحمد بن الحنفية، ودخوله ببنت الأخير وابنته في ليلة واحدة، حتى إستغرب البعض من ذلك، فقال ابن الحنفية: «هو أجل إلينا منهما» (11).
تتلاحق الأحداث بعد ذلك لتشكل مواقف عمر فيها منعطفاً مهماً في حياته تتأزم فيها بعد ذلك علاقته بالبيت العلوي، بدأت تلك الأحداث بثورة الإمام الحسين (ع) عام 61 ه- وأحداثها المتلاحقة، من امتناعه (ع) عن بيعة يزيد، إلى خروجه ليلًا إلى مكة ومنها إلى العراق، إذ يحدث عمر الأطرف آل عقيل عن تلك اللحظات فيقول: «لما امتنع أخي الحسين عن البيعة ليزيد بالمدينة، دخلت عليه فوجدته خالياً، فقلت له: جعلت فداك ياأبا عبد الله، حدثني أخوك أبو محمد الحسن، عن أبيه (عليهما السلام)، ثم سبقتني الدمعة وعلا شهيقي، فضمني إليه، وقال: حدثك أني مقتول؟ فقلت: حوشيت يابن رسول الله، فقال: سألتك بحق أبيك بقتلي خبرك؟ فقلت: نعم، فلولا ناولت وبايعت» (12)، وأرخ الأطرف هذه الحادثة، فكان يخبر عن إستشهاد
ص: 126
الحسين (ع)، ووقته، فيقول: «قتل الحسين بن علي سنة إحدى وستين وهو يومئذ ابن ست وخمسين سنة في المحرم يوم عاشوراء» (1).
لم يذهب عمر الأطرف مع من ذهب من إخوته لنصرة الحسين (ع) فآثر البقاء في المدينة، حتى إنه أثر عنه أنه حينما وصل إليه نبأ إستشهاد أخيه الإمام الحسين (ع) خرج في ثياب معصفرات له وجلس بفناء داره قائلًا: «أنا الغلام الحازم ولو خرجت معهم لذهبت في المعركة وقتلت» (2).
علاقته بأفراد البيت العلوي: إن الكلمات آنفة الذكر- إن صح صدورها من عمر الأطرف- فستنفر الناس منه، ولاسيما أبناء البيت العلوي، ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد؛ بل إنه قد طالب بميراثه من إخوته القتلى في الطف، فلم يترك ذراريهم حتى صولح على شي ءٍ من أموالهم التي ورثوها من آبائهم، إذ أشارت النصوص إلى أنه قد نازع عبيد الله بن العباس بن علي في ميراث أبيه الشهيد بكربلاء (3)، فضلًا عن إستعانته بالسلطة الأموية للحصول على نصيبه من إرث إخوته شهداء الطف، والذي يعتقد أنه حقه شرعاً، حتى قالت عنه الرواة: إنه قد حاز لأجل ذلك نصف ميراث علي (4).
فقد خاصم الإمام زين العابدين علي بن الحسين (ع)، إلى عبد الملك في صدقات النبي (ص)، وأمير المؤمنين علي (ع) حينما أراد ردها إلى العلويين، إذ قصده مدعياً أحقيته بها وضيق حاله، قائلًا له: «أنا ابن المتصدق، وهذا ابن ابن، فأنا أولى بها منه»، فلم يكترث له عبد الملك وأوكل أمر تلك الصدقات إلى الإمام زين العابدين (ع) (5).
ثم كلم عمر كذلك الحجاج بن يوسف الثقفي حينما كان أميراً على الحجاز (73- 75 ه-) أن يتوسط في إقناع الحسن المثنى بن الإمام الحسن بن علي (ع) أن يدخله في صدقات علي (ع) التي كانت تحت توليته، إذ تتحدث المصادر عن هذه الحادثة بالقول: «كان الحسن بن الحسن وصي أبيه وولي صدقة علي بن أبي طالب في عصره. قال: وكان حجاج بن يوسف قال له يوماً وهو يسايره في موكبه بالمدينة وحجاج يومئذ أمير المدينة: أدخل عمك عمر بن علي معك في صدقة علي فإنه عمك وبقية أهلك قال: لا أغيّر شرط علي ولا أدخل فيها من لم يدخل. قال: إذا أدخله معك فنكص عنه الحسن بن علي حين غفل الحجاج، ثم كان وجهه إلى عبد الملك حتى قدم عليه فوقف ببابه يطلب الإذن، فمر به يحيى بن الحكم، فلما رآه يحيى عدل إليه فسلم عليه وسأله عن مقدمه وخبره وتحفى به، ثم قال له: إني سأتبعك عند أمير المؤمنين يعني عبد الملك، فدخل الحسن على عبد الملك فرحب وأحسن مساءلته وكان الحسن بن الحسن قد أسرع إليه الشيب، فقال له عبدالملك: لقد أسرع إليك الشيب ويحيى بن الحكم في المجلس، فقال له يحيى: وما يمنعه شيبته أماني أهل العراق كل عام يقدم عليه منهم ركب يمنونه الخلافة، فأقبل عليه الحسن فقال: بئس والله الرفد رفدت وليس كما قلت، ولكنا أهل بيت يسرع إلينا الشيب، وعبد الملك يسمع فأقبل عليه عبد الملك فقال له: هلم ما قدمت له فأخبره بقول الحجاج فقال: ليس ذلك له، أكتبوا إليه كتاباً لا يجاوزه ووصله وكتب له» (6).
ولم تهدأ بال عمر عن المطالبة بتولي تلك الصدقات، وهذه المرة استقدم معه أبان بن عثمان بن عفان إلى الوليد بن عبد الملك (86- 96 ه-) لكي يوليه تلك الصدقات ويؤثر على ابن أخيه الحسن، إذ يذكر المصعب الزبيري (236 ه-) وقائع تلك الحادثة قائلًا: «كان عمر آخر ولد علي بن أبي طالب وقدم مع أبان بن عثمان على الوليد بن عبد الملك يسأله أن يوليه صدقة أبيه علي بن أبي طالب، وكان يليها يومئذ ابن أخيه الحسن بن الحسن بن علي، فعرض عليه الوليد الصلة وقضاء الدين فقال: لا حاجة لي في ذلك، إنما جئت لصدقة أبي أنا أولى بها، فاكتب لي ولايتها، فكتب له وليد رقعة فيها أبيات ربيع بن أبي الحقيق اليهودي النضري:
ص: 127
إنا إذا مالت دواعي الهوى وأنصت السامع للقائل
واصطرع القوم بألبابهم نقضي بحكم عادل فاضل
لانجعل الباطل حقاً ولا نل-- ط دون الح-- ق بالباطل
نخاف أن تسفه أحلامنا فتحمل الدهر من الخامل
ثم دفع الرقعة إلى أبان، وقال: ادفعها إليه وأعلمه أني لا أدخل على ولد فاطمة بنت رسول الله (ص) غيرهم، فانصرف عمر غضبان، ولم يقبل منه صلة (1).
فضلًا عما تقدم، فإننا نجد عمر الأطرف لايصطدم بأي سلطة سياسية أو يعارضها، ولاسيما تلك التي تكون لها الغلبة في الحجاز، فقد بايع كلًا من عبد الله بن الزبير أيام حركته بالحجاز (65- 72 ه-)، والحجاج بن يوسف الثقفي، حينما قضى على حركة الأخير (2)، بالرغم من أن العلويين قد وقفوا موقفاً معارضاً لابن الزبير، والرفض لمبايعته بالخلافة، حتى همَّ الأخير بهم وتوعدهم بإحراقهم بالنار (3)، فضلًا عن حضوره لوليمة عرس الحجاج حينما بنى بأم كلثوم بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بعدما كان له دور في تزويجها منه، حتى قال له: «أحضر فلم يبق من أهلك من تحتشمه» (4).
تركت مثل تلك المواقف من عمر؛ شيئاً في نفوس العلويين، لدرجة القطيعة والنفرة منه، حتى قال الإمام زين العابدين علي بن الحسين (ع) لولد عمر (محمد) بعدما رأى نبل الأخير وفضله: «يابن عم! ما تمنعني قطيعة أبيك أن أصل رحمك فقد زوجتك ابنتي خديجة» (5).
كانت تلك المواقف التي انتهجها عمر مع أهل بيته وراء حدة الكلمات والآراء التي تفوّه بها بعض النسابة من العلويين في معرض حديثهم عن عمر الأطرف وأعقابه، إذ قال عنه ابن الطقطقي (709 ه-): «ولم يكن مرضي السيرة ...، وماروينا عنه خطبة بليغة، ولا شعراً مسموعاً، وكان نازع بني إخوته الحسن والحسين (عليهما السلام) في صدقات علي (ع) دائماً، ويريد أن يدخل معهم في ذلك، ولايظفر منهم بطائل» (6). وكذلك الحال بابن عنبة (828 ه-) الذي وجه انتقادات متعددة على مواقف عمر الأطرف تلك (7).
أفكاره وعقيدته: مع كل هذه النصوص والمواقف السابقة التي كانت من عمر إزاء أهل بيته فهو لم يكن منحرفاً عقائدياً عنهم وعن خطهم الذي سلكوه وآمنوا به، فلم تكن إستعانته بالأمويين تقرباً منه إليهم وطلب صلاتهم؛ بل وحتى مبايعته لهم، وكما تظهر عباراته آنفة الذكر مع الوليد بن عبد الملك، فهو بذلك اعتقد أن له حقاً في تلك الأموال والصدقات التي تركها أبوه (ع) ما دام محتاجاً إليها، والذي يدل على متابعته لمسار إخوته وأهل بيته فيما يعتقدونه ويؤمنون به؛ بعض المواقف والأقوال التي صدرت منه في ردّ ماشاهده من انحرافات عن خط أهل البيت والطعن عليهم، إذ ذكرت المصادر أنه قد اجتاز في سفر كان له في بيوت من بني عدي، فنزل عليهم، وكانت شدة فجاءه شيوخ الحي فحادثوه، واعترض رجل منهم ماراً له شارة، فقال: من هذا؟ فقالوا: سلم بن قتة، وله انحراف عن بني هاشم، فاستدعاه وسأله عن أخيه سليمان بن قتة، وكان سليمان من الشيعة، فخبّره أنه غائب، فلم يزل عمر يلطف له في القول ويشرح له الأدلة حتى رجع سلم إلى مذهب أخيه، وكان يصله عمر كل سنة بصلة، فلما مات عمر رثاه سلم بأبيات عدة (8).
وفي موقف آخر له نلمس منه هذه الروحية المدافعة عن خط أهل البيت والتشهير بالمنحرفين عنهم، إذ ذكر ابن أبي الحديد (656 ه-) محاورة جرت بين عمر الأطرف وبين التابعي المشهور سعيد بن المسيب، الذي عدّه ابن أبي الحديد من ضمن المنحرفين عن الإمام علي (ع)، مستشهداً بكلام عمر بحق ابن المسيب في هذه المحاورة، والتي مفادها: «روى عبد الرحمن بن الأسود، عن أبي داود الهمذاني، قال: شهدت سعيد بن المسيب، وأقبل عمر بن علي بن أبي طالب، فقال له سعيد: يابن أخي! ما أراك تكثر غشيان مسجد رسول الله (ص) كما يفعل إخوتك وبنو أعمامك! فقال عمر: يابن المسيب! أكلما دخلت المسجد أجي ء فأشهدك! فقال
ص: 128
سعيد! ما أحب أن تغضب، سمعت أباك يقول: إن لي من الله مقاماً لهو خير لبني عبد المطلب مما على الأرض من شي ء فقال عمر: وأنا سمعت أبي يقول: ما كلمة حكمة في قلب منافق فيخرج من الدنيا حتى يتكلم بها فقال سعيد: يابن أخي! جعلتني منافقا؟! فقال: هو ما أقول لك ثم إنصرف» (1).
فضلًا عن ذلك، فقد وجدنا عمر الأطرف تحتكم إليه بعض الشخصيات المتخاصمة، لما له من تقدير في نفوسهم، ولاسيما بين الكوفيين منهم على وجه التحديد (2).
وهذه المواقف التي بدرت منه، جعلت قسماً آخر من النسابة يصفه بالقول: «وكان عمر بن علي ذا لسن وجود وعفة» (3).
يضاف إلى ذلك تأكيد أحد المصادر بمنحى عمر الأطرف ومسلكه في الصلاة والأذان، إذ كان يؤذن في صلاته (بحي على خير العمل)، و يجهر في القراءة (ببسم الله الرحمن الرحيم)، إذ نقل الدارقطني (385 ه-) رواية مضمونها: «حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد، ثنا يحيى بن زكريا بن شيبان، نا محفوظ بن نصر، ثنا عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن علي قال: كان رسول الله (ص) يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في السورتين جميعاً» (4)، وهذه المراسم في الصلاة ميزت الشيعة عن غيرهم من أصحاب المذاهب الإسلامية الأخرى، حتى أجمع أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ومن بعدهم علماء الشيعة جميعهم- وبمختلف فرقهم- على عدم اعتبار الذي لايجهر بصلاته بالبسملة في السورتين من أتباع مذهبهم، لذلك عدُّوا الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم من الأمور الواجبة في الصلاة (5).
هذه النصوص تظهر لنا عقيدة هذا الرجل، ومذهبه الفكري، ولكن مع كل ذلك نجد الجاحظ (255 ه-) ينسب لعمر الأطرف مقولةً بعد أن سأله أحدهم عن حقيقة ما يتناقله بعض الناس من وجود وصية لرسول الله (ص) إلى علي (ع)، فقال له عمر: «والله إن هذا الكلام ما سمعت به قط إلا الساعة» (6)، ويضيف أبو حيان التوحيدي على ذكر رواية الجاحظ تلك: «سئل عمر بن عليّ عن الوصية فقال: إن هذا شي ءٌ ما سمعناه حتى دخلنا العراق» (7).
مثل هذا الكلام الذي نقله الجاحظ وغيره، لايتفق مع ما نقله المحدثون من أحاديث وروايات عن اهتمام عمر بالتحديث عن هذه المسألة والترويج لها وإشاعتها بين الناس على وجه التحديد، فنجد في الأوراق اللاحقة من هذه الدراسة تأكيداً من عمر على هذا الأمر، فقد نقل عنه أنه قال: «قال رسول الله (ص): إن الله تعالى عهد إلي في علي عهداً قلت: رب بيّنه لي قال: اسمع يا محمد قال: إن علياً راية الهدى بعدي وإمام أوليائي ونور من أطاعني وهو الكلمة التي أكرمتها المتقين فمن أحبه أحبني ومن أبغضه أبغضني فبشره بذلك» (8).
فضلًا عما تقدم، فإننا نجد أن ابن طاووس (673 ه-) قد وقف موقفاً علمياً صارماً في دحض رواية الجاحظ هذه، وذلك في معرض رده على رسالته العثمانية، من خلال إيراد النصوص والأحاديث التي ذكرت وصية الرسول (ص) إلى علي (ع) من مختلف المصادر الإسلامية (9).
مع كل ماتقدم، نجد أن بعض المصادر المتقدمة ترد فيها روايات مربكة ومحيرة، في ذكر موقف لعمر بن علي، وذلك في خضم الحوادث التي عصفت بالمجتمع أيام فتنة بن الزبير (65- 73 ه-)، إذ قال خليفة بن خياط (240 ه-) في حوادث سنة 67 ه-: فيها وقعة المذار. وفيها قتل عمر بن علي بن أبي طالب ومحمد بن الأشعث بن قيس (10)، ووافق ابن حبان ما قاله خليفة من جعل سنة سبع وستين عاماً لنهاية حياة عمر الأطرف (11).
وعلق ابن حجر على هذه الأخبار: «قلت: ذكر الزبير ما يدل على أنه عاش إلى زمن الوليد بن عبد الملك، ذكر غير واحد من أهل التاريخ أن الذي قتل مع مصعب بن الزبير هو عبيد الله بن علي بن أبي طالب والله أعلم» (12).
ص: 129
وترد هذه الرواية بتفصيل أكثر ووضوح أشد عند أبي حنيفة الدينوري (282 ه-) بعد ذكره لوقعة المذار* بين جيش مصعب بن الزبير والمختار الثقفي، إذ ذكر إسم عمر بن علي فيمن قتل في هذه المعركة من الأشراف، حيث قال: «وقتل عمر بن علي بن أبي طالب، وذلك إنه قدم من الحجاز على المختار فقال له المختار: هل معك كتاب محمد بن الحنفية؟ فقال عمر: لا ما معي كتابه، فقال له المختار: انطلق حيث شئت فلا خير لك عندي، فخرج من عنده وسار إلى مصعب فاستقبله في بعض الطريق فوصله بمائة ألف درهم، وأقبل مع مصعب حتى حضر الوقعة فقتل فيمن قتل من الناس» (1).
وعلق العمري النسابة (490 ه-) على تلك الروايات آنفة الذكر بما نصه: «ووجدت في بعض الكتب أن عمر شهد حرب المصعب بن الزبير، وكان من أصحابه، وأنه قتل بمسكن، وهذه رواية باطلة بعيدة عن الصواب ... ومما يدلل على بطلان ذلك أنه خاصم ابن أخيه حسناً إلى بعض بني عبد الملك في ولايته في صدقات علي (ع)، وهذا يزعم أنه مات من جراح أصابته أيام مصعب، ومصعب قتل قبل أخيه عبد الله، وعبد الملك حي، وما ولي أحد من بني عبد الملك إلا بعد موت أبيه، فهذه مناقضة» (2).
والظاهر أن هؤلاء المؤرخين قد اختلط عليهم اسم من قتل في حروب المختار ومصعب من أولاد أمير المؤمنين، إذ إن أغلب المصادر تشير إلى أن من قتل في المذار هو عبيد الله بن علي (3)، حتى أن بعض تلك المصادر، تجعل من حادثة مقتل عبيد الله بن علي تصديقاً لما أخبر به الإمام علي (ع) من مصير إبنه هذا، إذ قال له: «كأني بك وقد وجدت مذبوحاً في خيمته» (4).
لم تتضح شخصية عمر الأطرف بتلك المواقف فقط؛ بل نجده قد أشاع كثيراً من الأحاديث والروايات التي رواها في فضائل أبيه الإمام علي (ع) ومناقبه العظيمة، ولاسيما ماكان منها أيام رسول الله (ص)، إذ حفلت المصادر المتقدمة بمجموعة مهمة من الأحاديث والروايات مسندة إلى عمر الأطرف، حتى أن أحداً من علماء الإمامية المتقدمين (أبو بكر الجعابي المتوفى سنة 364 ه-)****، قد جمع تلك الأحاديث والروايات في مصنف مستقل سماه: (مسند عمر بن علي بن أبي طالب) (5)، ولأجل ذلك عرف عمر بأنه أحد التابعين ورواة الحديث وممن حمل العلم عنه (6).
وفاته:
توفي عمر الأطرف حسبما أكدت بعض المصادر ب- (ينبع*****) حتف أنفه عن عمر ناهز 85 سنة (7)، ولكن ابن عنبة حصر عمره بين 75 و 77 سنة (8)، مع العلم أن محمد بن اسماعيل البخاري (254 ه-) قد حدد عام (92 ه-) سنة لوفاة عمر بن علي؛ لرواية سمعها من أحد معاصريه (9).
وهذه الرواية الأخيرة أرجح من غيرها، لما ذكرته بعض المصادر التي ترجمت لعمر الأطرف، أنه عاش إلى أيام الوليد بن عبد الملك، واختصم عنده في صدقات أبيه (10). فإذا ما علمنا أن الأخير حكم من سنة 86- 96 ه-، فتكون تلك الرواية أقرب للواقع من غيرها.
أما بخصوص ينبع ومحلها كموضع للمثوى الأخير لعمر الأطرف فهو أمر أقرب للصواب، إذ كانت بها أوقاف الإمام علي (ع) حسبما تشير المصادر البلدانية (11)، وهي نفسها صدقاته (ع) التي تنازع عليها ولده عمر مع أولاد إخوته الحسن والحسين (عليهم السلام)، والتي أشرنا إليها آنفاً.
ص: 130
وللأسف الشديد لم يبق لعمر الأطرف قبر ظاهر ومعروف في ينبع، وهذا ما أكدته إحدى الدراسات الجادة والمعنية بتعيين وتوثيق مراقد وقبور أعلام المسلمين، وذلك بإمكانية وجدوى الكشف عن قبر عمر الأطرف بينبع وتعيينه، إذ انتهى مؤلفها إلى نتيجة مفادها: «واليوم لم يعرف قبر بارز معنون حسب تتبعنا ووقوفنا على كثير من أقوال المؤرخين وأهل السيرة» (1).
المبحث الثاني: الأحاديث والروايات التي رواها عمر الأطرف وقيمتها العلمية
تنوعت الأحاديث والروايات التي رواها عمر الأطرف، حتى عد من الرواة الأوائل (2)، فشمل هذا التنوع مناحي عدة؛ من ذكره الأحاديث النبوية التي تضمنت أحكامه وسننه، والإشادة بدور والده الإمام علي (ع) في مسار الدعوة الإسلامية ومناقبه فيها؛ إلى ذكر ما سمعه من أبيه عن أحداث السيرة وحياة صاحبها (خاتم الأنبياء محمد (ص))، ومن ثم الرواية للكلمات والأخبار التي قالها أبوه (الإمام علي (ع)) في الحوادث التي عاصرها، والمواقف التي مرت به، إذا ماعلمنا أن عمر قد لازم أباه في حلّه وترحاله حتى أيامه الأخيرة (3)، مع العلم أن مجمل الأحاديث والروايات التي رواها عمر لم تكن بحجم ما نقله الرواة والمحدثون من بقية إخوته (الحسن والحسين (عليهما السلام) ومحمد بن الحنفية)، وذلك راجع إلى عمره الصغير قياساً بهم، فهو كما لاحظنا سابقاً أصغر ولد علي (ع) من الذكور (4).
فضلًا عن ذلك، نجد اقتصار الرواة عنه على أولاده وأهل بيته فقط، إذْ إن طريق رواياته يتشعب من أولاده وأحفادهم إلى بقية الناس وليس إلى الناس مباشرة، وهذا مما يدفعنا إلى القول: إن عمر لم يكن من أصحاب الحلقات، فضلًا عما كان يعرف عنه من حدّة المزاج، والتي توضحه مواقفه التي ذكرناها آنفاً، وما ذكره أحد النسابة من أحفاده في صفاته التي كان فيه بأنه كان ذا لسان (5).
وربما لم يكن عمر يرغب بالشهرة والبروز في الحياة العامة، وهذا مادفع بعض المحدثين إلى الشك في مصداقية روايته للأحاديث المنسوبة روايتها إليه- بالرغم من توثيقهم لشخص عمر فقالوا: «عمر بن علي بن أبي طالب، تابعي ثقة» (6)- لأنها لم تأتِ معظمها بزعمهم إلا من طريق واحد، فضلًا عن شكهم في وثاقة الناقل لتلك الأحاديث والروايات من أحفاد عمر الأطرف (عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي) والتي كانت معظم الروايات ترجع إلى طريقه، إذ قال فيه ابن حبان (354 ه-): «يروي عن أبيه عن آبائه أشياء موضوعة لا يحلّ الاحتجاج به كأنه كان يهم ويخطي ء حتى كان يجي ء بالأشياء الموضوعة عن أسلافه فبطل الاحتجاج بما يرويه لما وصفت» (7)، ويضيف في مكان آخر في تقييمه للمجموع المنسوب لعيسى من أحاديث آبائه: «أخبرنا بهذه الأحاديث كلها إسحاق بن أحمد القطان، قال: حدثنا يوسف بن موسى القطان قال: حدثنا عيسى بن عبد الله قال: حدثنا أبي، عن أبيه، عن جده علي بن أبي طالب، في نسخة كتبناها عنه أكثرها معمولة» (8).
إن وراءهذا التضعيف والإسقاط لأحاديث عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي عن آبائه من قبل بعض المحدثين غايات ومقاصد عدة، إذ نجد عيسى المبارك- وكما يلقب- (9)، من المهتمين بجمع الأحاديث النبوية التي قيلت بفضائل ومناقب أهل البيت (عليهم السلام) وجده أمير المؤمنين علي (ع)، ومثالب أعدائه ومناوئيه، فضلًا عن كونه من أصحاب الإمامين الصادق والكاظم (عليهما السلام)، ومقدماً عندهم، وراوٍ لأحاديثهم (10)، حتى في بعض المواقف نجده يسأل الإمام الصادق (ع) عن الإمام بعده واهتمام الصادق (ع) بسؤاله (11)، فضلًا عن تعاطفه مع الثورات التي قام بها العلويون في العصر العباسي، إذ نجده يرثي قتلى وقعة فخ سنة (169 ه-) ويشنع على أعدائهم والذين ناصبوا العداوة لأهل هذا البيت (12).
ص: 131
وهذا المسلك مما لاشك فيه يجعله محل اتهام لدى بعضهم، فيما يقوله من أحاديث وروايات لايروق لهم سماعها ما دام يمثل خطاً معارضاً لهم ولأفكارهم، وهذا ما جعل المصادر الحديثية لاتورد بعضاً من الأحاديث النبوية التي رواها أحفاد عمر الأطرف في مصنفاتهم؛ بل قسماً من كتب التراجم قد سردت أحاديث لم توردها كتب الحديث، وهذا مما سنلاحظه في العرض التالي للأحاديث النبوية التي رواها عمر الأطرف.
والمستغرب من كل ماتقدم، هو رواية عمر الأطرف الحديث عن عمر بن الخطاب حسبما ذكره بعض الذين دونوا أخبار عمر الأطرف وأحواله (1)، وهذا مما لم نجده في طريق حديث أو رواية واحدة من التي نقلها المحدثون والمؤرخون عنه، ينتهي طريق سندها إلى عمر بن الخطاب، فمتى سمع الحديث من عمر بن الخطاب؟ وهو قد ولد في أيامه كما ذكرنا سابقا! ولم تكن مدة خلافة عمر للمسلمين سوى عشر سنوات (2).
إنبرى أحد محدثي الإمامية (الجعابي) ومصنفيهم إلى تجميع الروايات والأحاديث التي نقلها عمر الأطرف في مصنف مستقل كما أشرنا آنفاً، وللأسف فَقَدْ فُقِدَ هذا المسند مع ما فُقِدَ من عيون تراثنا، ونستطيع من خلال ما تجمع لدينا من أحاديث وروايات من إعادة تبويب وتنسيق ودراسة الإرث الفكري الذي نسب نقله وقوله إلى الأطرف، إذ اشتملت تلك الأحاديث والروايات التي رواها عمر الأطرف عن أبيه الإمام علي (ع) على محاور عدة هي:
أولًا: السنة النبوية: نقلت كتب الحديث والمتون والمساند نصوصاً من الأحاديث النبوية، كان عمر الأطرف في طرق إسناد البعض منها، وإن كانت بمجملها لاتشكل مسنداً كبيراً، مقارنة بما رواه تابعون آخرون، وهذه الأحاديث قد تنوعت الجوانب التي تضمنتها، وهذه الجوانب هي:
أ- الأحكام الشرعية: سرد لنا عمر الأطرف عدة أحاديث نبوية سمعها من طريق أبيه الإمام علي (ع) حول بعض الأحكام والمسائل الشرعية، إذ قال: «قال رسول الله (ص): ثلاث يا علي لا تؤخرهن: الصلاة إذا آتت، و الجنازة إذا حضرت، و الأيم إذا وجدت كفؤاً» (3).
ووردت سنة نبوية من طريق عمر الأطرف، يحدد بها وقت وأوان صلاة العشاء، إذ قال: «إن علياً كان إذا سافر سار بعدما تغرب الشمس حتى تكاد أن تظلم ثم ينزل فيصلي المغرب ثم يدعو بعشائه فيتعشى ثم يصلي العشاء، ثم يرتحل ويقول: هكذا كان رسول الله (ص) يصنع» (4)، وفي مورد آخر يبين سنة رسول الله (ص) وأفعاله في أثناء صلاته، ولاسيما في قراءته للسور في الركعتين الأُولى منها، وفق ماشاهده أبوه (الإمام علي (ع)) من فعل رسول الله (ص)، إذ قال: «كان رسول الله (ص) يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في السورتين جميعاً» (5).
سرد لنا الأطرف أيضاً حكماً لرسول الله (ص) من طريق علي (ع) في المسكرات سواء قلت أم كثرت، إذ قال: «قال رسول الله (ص): كل مسكر حرام، وما أسكر كثيره فقليله حرام، وقال رسول الله (ص): لا أحل مسكراً» (6).
ونقل الأطرف أيضاً حكماً لأبيه (ع) بما وعاه وسمعه عن رسول الله (ص) في رجل نكح امرأة فأصدقته المرأة واشترطت أن بيدها الجماع والطلاق فقال علي (ع): «قد خالفت السنة ووليت الحق من لم يوله الله عز وجل، فقضى أن عليه الصدقة وبيد الزوج الجماع والفرقة وقال: ذلك السنّة. وقال علي: لا يشترط المخطوب إليه طلاقاً» (7).
وفي مورد آخر نجد الأطرف ينقل حديثاً عن النبي (ص) في وصف مروره على بعض القبور التي في البقيع فقال (ص): «إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا ينثر عن بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة» (8).
ص: 132
ونقرأ أيضاً في حديث يسنده الأطرف إلى النبي (ص)، يبين فيه ما يجب على الرجل والمرأة من ستر عورتهما عن الناظرين، حتى وإن كانا من نفس جنسهما فيقول (ص): «عورة الرجل على الرجل كعورة المرأة على الرجل و عورة المرأة على المرأة كعورة المرأة على الرجل» (1).
وتستمر الأحاديث النبوية المروية بطريق عمر الأطرف، لينقل حديثاً يتضمن بعض الوصايا التي أوصى بها رسول الله (ص) أمته حيث قال (ص): «لا تزنوا فتذهب لذة نسائكم من أجوافكم، وعفوا تعف نساؤكم، حتى أن بني فلان زنوا فزنت نساؤهم» (2).
روى عمر أيضاً أحاديث نبوية أخرمن طريق أبيه (ع) في الرغائب ومستحبات الأعمال، إذ قال: «قال رسول الله (ص): إن في الجمعة لساعة لا يوافقها مسلم يسأل الله فيها إلا أعطاه إياه» (3).
ونقل عمر لأولاده حواراً جرى بينه وبين أبيه الإمام علي (ع) فيما سمعه (ع) من حديث رسول الله (ص) ما نصه: «إن الله يحب أن يأخذ برخصه كما يحب أن يأخذ بعزائمه، إن الله بعثني بالحنيفية السمحة دين إبراهيم، ثم قرأ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ فقال لي أبي: يا بني ما حرج؟ قلت: لا أدري! قال: الضيق» ((4).
ب- أحاديث الفضائل: يتضح من مجمل الأحاديث، التي تجمعت لدينا من طريق عمر الأطرف، أنها قد حوت على مجموعة طيبة من الأحاديث النبوية، التي قيلت في فضائل الإمام علي (ع)، ومواقفه المشرفة في الذبّ عن الإسلام، ومكانة أهل بيته (عليهم السلام)، إذ قال (ص): «إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله سببه بيد الله وسببه بأيديكم وأهل بيتي» (5)، وأضاف أيضاً في نقله لمثل هذه الأحاديث إذ قال: «قال رسول الله (ص): أنا وفاطمة والحسن والحسين مجتمعون، وهذه فاطمة وهذان الحسن والحسين ومن أحبهما يوم القيامة في الجنة يأكل ويشرب حتى يفرق بين العباد» (6).
وفي مورد منفصل ينقل الأطرف حديثاً للنبي (ص) في ذلك الأمر ما نصه: «قال رسول الله (ص): شفاعتي لأمتي من أحب أهل بيتي وهم شيعتي» (7).
وتنوعت الأحاديث النبوية التي قيلت بحق الإمام علي (ع) التي نقلها عمر الأطرف، إذ كان بعضها إيضاحاً من الرسول (ص) لمدلول آية قرآنية نزلت عليه في حادثة معينة، فقد وردت نصوص عديدة بينت هذا الأمر، إذ قال رسول الله (ص): «يا علي! إن الله أمرني أن أدنيك وأعلمك لتعي، وأنزلت هذه الآية، وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ فأنت أذن واعية لعلمي» (8).
وكذلك الحال في سبب نزول الآية: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ (9)، إذ تحدث الأطرف عن خلجات الرسول (ص) حين نزول هذه الآية عليه، فقال مسنداً ذلك إلى أبيه (ع): «نزلت هذه الآية على رسول الله (ص) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ فخرج رسول الله (ص) فدخل المسجد والناس يصلون بين راكع وقائم وإذا سائل فقال: يا سائل! هل أعطاك أحد شيئاً؟ فقال: لا إلا ذاك الراكع- وأشار لعلي- أعطاني خاتمه» (10).
روى عمر الأطرف أيضاً حديث الطائر المشوي الذي روته المصادر الحديثية وبطرق متعددة ترجع بأجمعها الى الصحابي أنس بن مالك، حتى أصبح هذا الحديث من الشهرة والانتشار بمكان أن روته معظم المصادر الحديثية (11). إذ كان طريقه لهذا الحديث يرجع إلى والده الإمام علي (ع)، فقد ذكر مانصه: «أهدي لرسول الله (ص) طير يقال له: الحبارى، فوضع بين يديه وكان أنس بن مالك يحجبه فرفع النبي (ص) يده إلى الله ثم قال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير. قال: فجاء علي فاستأذن، فقال له أنس، إن رسول الله (ص) يعني على حاجة، فرجع ثم دعا رسول الله (ص) فرجع، ثم دعا الثالثة فجاء علي فأدخله فلما رآه رسول الله (ص) قال: اللهم وإليّ، فأكل معه، فلما أكمل رسول الله (ص) خرج علي» (12).
ص: 133
ويسرد حديثاً آخر في فضائل الإمام علي (ع) حين استعمله رسول الله (ص) على اليمن إذ قال مسنداً ذلك إلى علي بن أبي طالب (ع)- ما نصه: «دعاني رسول الله (ص) ليستعملني على اليمن فقلت له: يا رسول الله إني شاب حدث السن ولا علم لي بالقضاء، فضرب رسول الله (ص) في صدري مرتين أو قال ثلاثاً، وهو يقول: اللهم اهد قلبه وثبت لسانه، فكأنما كل علم عندي وحشِّي قلبي علماً وفقهاً فما شككت في قضاء بين اثنين» (1).
نقل عمر الأطرف أيضاً حديث (غدير خم)******، حين رجع رسول الله (ص) من حجه الأخير سنة 10 ه- وخطبة الوداع، ولاسيما محل الشاهد منها في ذكر فضيلة علي (ع) ومكانته إذ روى عن أبيه (ع) نص هذه الحادثة، فقال: «... إن النبي (ص) قام بحفرة الشجرة بخم وهو آخذ بيد علي فقال: أيها الناس! ألستم تشهدون أن الله ربكم؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تشهدون أن الله ورسوله أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى. وإن الله ورسوله مولاكم؟ قالوا: بلى. قال: فمن كنت مولاه فإن هذا مولاه» (2).
هذا، وقد وردت حادثة غدير خم من طريق عمر الأطرف عن أبيه (ع) بتفصيل وإسهاب أكثر من ذلك في مصادر الشيعة، وذلك برواية نقلها أحد كتب الزيدية، بينت اهتمام هذه الشخصية برواية هذه الحادثة، وإشاعتها (3)، وهذا مما لم تورده بقية مصادر المسلمين ومصنفاتهم.
وترد رواية أخرى عن عمر بن علي بن أبي طالب عن أبيه (ع) يبين فيها ماقاله الرسول (ص) لسلمان الفارسي 2 في حق علي (ع)، إذ قال: «قلما طلعت على رسول الله (ص) وأنا معه إلا ضرب بين كتفي فقال: ياسلمان! هذا وحزبه المفلحون» (4).
وفي رواية أخرى تتفق مع المضمون السابق ينقل الأطرف عن أبيه حادثة وقعت في أيام الرسول (ص)، إذ قال: «قال رسول الله (ص): إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، فقال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكنه هذا خاصف النعل، وفي يد علي نعل يخصفها» (5).
وتستمر قرائن تلك الروايات التي حدث بها عمر الأطرف عن فضائل أهل البيت بما سمعه عن أبيه عن رسول الله (ص)، حتى نجد في إحداها قد رد على بعض من أراد الطعن والتوهين في مثل تلك الأخبار، إذ قال في حديث نقله عن رسول الله (ص) مانصه: «قال رسول الله: أنا و فاطمة و حسن و حسين مجتمعون، ومن أحبنا، يوم القيامة نأكل ونشرب حتى يفرق بين العباد»، فبلغ ذلك رجلًا من الناس فسأل عنه فأخبرته فقال: كيف بالعرض والحساب؟ فقلت له: كيف كان لصاحب ياسين بذلك حين أدخل الجنة من ساعته (6).
ويوافق معنى الحديث السابق ماذكره عن أبيه (ع) أيضاً في تبيان ماقاله الرسول (ص) في حقه: «إن الله تعالى عهد إليّ في علي عهداً قلت: رب بينه لي قال: اسمع يا محمد قال: إن علياً راية الهدى بعدي وإمام أوليائي ونور من أطاعني، وهو الكلمة التي أكرمتها المتقين؛ فمن أحبه أحبني ومن أبغضه أبغضني»، فبشر علياً (ع) بذلك (7).
وفي حديث آخر ينقل موقفاً للإمام علي (ع) قال: «جئت رسول الله (ص) يوماً في ملأ من قريش فنظر إليّ وقال: يا علي! إنما مثلك في هذه الأمة كمثل عيسى بن مريم أحبه قوم فأفرطوا فيه وأبغضه قوم فأفرطوا فيه قال: فضحك الملأ الذين عنده وقالوا: انظروا كيف يشبه ابن عمه بعيسى فأنزل الله القرآن: وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ» (8).
مثلما كانت تلك الأحاديث السابقة- التي رواها وأشاعها عمر الأطرف- مبرزة لمكانة الإمام علي (ع)، فقد جاءت أحاديث أخرى رواها الأطرف في تفهيم الناس لمكانة أهل بيت النبي (عليهم السلام)، وذلك بعد أن أزعجت الرسول (ص) مواقف قريش منهم، إذ قال العباس بن عبد المطلب يوماً له (ص): «يا رسول الله! إن قريشاً تلقانا فيما بينهم بوجوه لانلقاها بها، فقال (ص): أما الإيمان لا يدخل أجوافهم حتى يحبوكم لي» (9).
ص: 134
ونقل الأطرف أيضاً محاورة جرت بين رسول الله (ص) والإمام علي بن أبي طالب (ع) قائلًا له: «يا رسول الله! أمنّا الهداة أم من غيرنا؟ قال: لا بل منّا، بنا يختم الدين كما افتتح، بنا يستنقذ من الضلالة! بنا يجمع الله بين قلوبهم بعد عداوة، كما بنا جمع بينهم بعد عداوة الشرك. قال علي: يا رسول الله! فمن بقي أمؤمنون أم كافرون؟ قال: مفتون وكافر» (1).
تلك هي الأحاديث التي نقلتها المصادر المتقدمة بطريق عمر الأطرف، والتي أظهرت مدى الاهتمام والتركيز على رواية أحاديث الفضائل والمناقب التي خصّ بها الإمام علي وأهل البيت (عليهم السلام).
ثانياً: السيرة النبوية: حفلت الروايات التي تجمعت لدينا من طريق عمر الأطرف، بجوانب متعددة ومتنوعة من حياة الرسول الأعظم محمد (ص)، وإن كان بعض من هذه الروايات، مما يقف بالضد من روايات أخر خالفتها في مضمونها وتفاصيلها، ولاسيما تلك التي تختلف بها وجهات النظر، وتتدخل فيها المذاهب الفكرية والعقائدية، إذ أظهرت تلك الروايات التي حدّث بها ورواها عمر الأطرف، الجوانب التي اهتم بها من أخبار السيرة، وما أراد التركيز عليه منها، وهذا مما سيعطينا إيضاحاً لإسهام هذه الشخصية وموقعها في رواية أخبار السيرة، من بين بقية الرواة لها من معاصريه، إذا ماعلمنا، إن مصدره في هذه الأخبار لم يكن سوى والده الإمام علي (ع)، وهذا مما يعطي أخباره مصداقية قد لا تتوفر عند غيره من الناقلين والرواة لأخبار السيرة من غير أهل البيت (عليهم السلام)، بكون مثل هذه الروايات من الأهمية بمكان؛ أن صاحبها يروي عن شاهد عيان؛ عاصر حوادث عصر الرسالة منذ أيامها الأولى، وحتى التحاق النبي محمد (ص) بالرفيق الأعلى.
شملت روايات السيرة من طريق عمر الأطرف محاور عدة، ولكنها لم تكن على نسق متصل بجميع مراحل الحياة التي عاشها النبي الكريم محمد (ص)؛ بل كانت رواياته متنقلة بين حوادث السيرة المختلفة سواء اليومية منها أم المعنوية من صفاته وخصائصه وشمائله وصفاته، مع التركيز في معظم تلك الحوادث على الحقبة المدنية من عصر الرسالة، إذ لم نجد في ثنايا تلك الروايات التي نقلها عمر تركيزاً واضحاً للحقبة المكية من هذا العصر، إذ يبين العرض الآتي لمجمل الروايات حقيقة هذه النتيجة، وحتى هذه الحوادث التي ذكرها لم تكن جميعها معروضة بتفصيل مسهب، بل كان بعضها يشتمل على شذرات بسيطة عن الحادثة التي يتناولها بالذكر، فضلًا عن ذلك فإن مجمل الروايات التي ذكرها عن سيرة الرسول (ص) قد اشتركت- إن لم نقل كلها فجلّها- بخصيصة واحدة، وهي: التركيز على ما كان من دور للإمام علي (ع) في تلك الحادثة، وهذه نتيجة سنلحظها في العرض الآتي لحوادث السيرة التي ينتهي طريق روايتها إلى عمر الأطرف، والتي اشتملت على الجوانب الآتية:
أ- بناء الكعبة قبيل الإسلام:
تحدثت مصادر السيرة عن حادثة بناء قريش للكعبة قبيل الإسلام بعد أن دهمها سيل شديد تصدعت من جراء ذلك أركانها، وما كان في هذه الحادثة من دور مبرز لرسول الله (ص) في هذا البناء الذي حصل قبل خمس سنوات من البعثة المباركة (2).
جاءت روايتان من طريق عمر الأطرف عن أخبار هذه الحادثة: الأولى تمثل حديثاً لرسول (ص) يخبر فيه عن دوره في هذا البناء بما أخبر به الإمام علي (ع)، إذ قال (ع): «قال رسول الله: أنا وضعت الركن بيدي يوم اختلفت قريش في وضعه (3)».
أما الثانية فكانت رواية سمعها الأطرف من والده الإمام علي (ع)، حول ماجرى على الكعبة من الحوادث، إذ قال (ع): «لما احترقت الكعبة في الجاهلية هدمتها قريش لتبنيها فكشف عن ركن من أركانها من الأساس فإذا حجر فيه مكتوب أنا يعفر بن عبد قرا أقرأ على ربي السلام من رأس ثلاثة آلاف سنة» (4).
ص: 135
والملاحظ على هذه الرواية إنها من الانفرادات التي انفرد عمر الأطرف بروايتها من بين باقي الرواة، إذ لم نجد لهذه الرواية طريقاً آخر- في باقي المصادر الإسلامية الأخرى- غير الطريق الذي تنتهي سلسلة إسناده إلى الأطرف.
ب- مباهلة نصارى نجران:
كانت هذه الحادثة التي حدثت في سنة (10 ه-) (1) من الحوادث المشهورة في عصر الرسالة حتى نزلت فيها آية المباهلة: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (2).
عرض المفسرون ومؤرخو السيرة تفاصيل هذه الحادثة بتباينٍ ظاهر، وذلك من حيث سرد تفاصيل هذه الحادثة ومجرياتها، إذ اكتفت بعض المصادر بذكر الحادثة، دون التطرق إلى الخصيصة التي خص بها الرسول (ص) فيها أهل بيته من علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، في تقديمهم معه للمباهلة (3)، ولكن مصادر أخرى أوردت ذلك بسند ينتهي طريقه إلى عمر الأطرف وغيره، إذ انفرد أبو الفرج الأصفهاني (385 ه-) برواية حادثة المباهلة من طريق عمر الأطرف، وذلك بتفصيل قلما نجده عند آخر، إذ قال: «قدم وفد نصارى نجران وفيهم الأسقف، والعاقب وأبو حبشٍ، والسيد، وقيس، وعبد المسيح، وابن عبد المسيح الحارث وهو غلام، فلما صلى النبي (ص) الصبح، قاموا فكبروا بين يديه، ثم تقدمهم الأسقف فقال: يا أبا القاسم، موسى من أبوه؟ قال: عمران. قال: فيوسف من أبوه؟ قال: يعقوب. قال: فأنت من أبوك؟ قال: أبي، عبد الله بن عبد المطلب. قال: فعيسى من أبوه؟ فسكت رسول الله (ص)، فانقض عليه جبريل (ع) فقال: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ فتلاها رسول الله (ص)؛ فنزا الأسقف ثم دير به مغشياً عليه، ثم رفع رأسه إلى النبي (ص) فقال له: أتزعم أن الله جل وعلا أوحى إليك أن عيسى خلق من تراب! ما نجد هذا فيما أوحي إليك، ولا نجده فيما أوحي إلينا؛ ولا تجده اليهود فيما أوحي إليهم. فأوحى الله تبارك وتعالى إليه: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ.
فقال له النصراني: أنصفتنا يا أبا القاسم، فمتى نباهلك؟ فقال: بالغداة إن شاء الله تعالى.
وانصرف النصارى، وانصرفت اليهود وهي تقول: والله ما نبالي أيهما أهلك الله الحنيفية أو النصرانية. فلما صارت النصارى إلى بيوتها قالوا: والله إنكم لتعلمون أنه نبي، ولئن باهلناه إنا لنخشى أن نهلك، ولكن استقيلوه لعلّه يقيلنا. وغدا النبي (ص) من الصبح وغدا معه بعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم. فلما صلى الصبح، انصرف فاستقبل الناس بوجهه، ثم برك باركاً، وجاء بعلي فأقامه بين يديه، وجاء بفاطمة فأقامها بين كتفيه، وجاء بحسنٍ فأقامه عن يمينه، وجاء بحسينٍ فأقام عن يساره.
فأقبلوا يستترون بالخشب والمسجد فرقاً أن يبدأهم بالمباهلة إذا رآهم، حتى بركوا بين يديه، ثم صاحوا: يا أبا القاسم! أقلنا أقالك الله عثرتك. فقال النبي (ص): نعم قال: ولم يسأل النبي (ص) شيئاً قط إلا أعطاه فقال: قد أقلتكم فولوا. فلما ولوا قال النبي (ص): «أما والذي بعثني بالحق لو باهلتهم ما بقي على وجه الأرض نصراني ولا نصرانية إلا أهلكهم الله تعالى» (4).
كانت هذه الرواية- وبهذه الصيغة- التي جاءت بطريق عمر الأطرف، قد رويت بطرق أخرى في أحد المصادر (5) ولكن هذا الطريق هو محل الشاهد، إذ إن رواية عمر لحادثة المباهلة هذه؛ ليعطينا صورة مضافة لطبيعة الحوادث التي أشاعها من أخبار السيرة النبوية.
ج- معركة بدر:
خص الأطرف أحداث هذه المعركة المهمة بتاريخ المسلمين- والتي حدثت في السنة الثانية للهجرة- بجانب من رواياته التي رواها في حوادث السيرة، إذ وجدناه يسلّط الضوء على ما سمعه من أبيه الإمام علي (ع)، وهو يصف خلجات
ص: 136
الرسول (ص)، وتصرفاته في هذه المعركة، إذ قال في سند رواية نقلتها المصادر مفادها: حدث محمد بن المثنى و محمد بن معمر قالا: نا عبيد الله بن عبد المجيد قال: نا عبيد الله بن موهب قال: حدثني إسماعيل بن عون، عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي، عن أبيه محمد بن عمر، عن أبيه، عن علي: قال علي (ع): «لما كان يوم بدر قاتلت شيئاً من قتال ثم جئت مسرعاً لأنظر إلى رسول الله (ص) ما فعل فجئت فأجده و هو ساجد يقول: يا حي يا قيوم لا يزيد عليها، فرجعت إلى القتال ثم جئت و هو ساجد يقول ذلك، ثم ذهبت إلى القتال ثم جئت و هو ساجد يقول ذلك، فلم يزل يقول ذلك، حتى فتح الله عليه» (1).
علق أهل الحديث على هذا الخبر بالقول: «وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن علي عن النبي (ص) إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد» (2).
كانت هذه الرواية هي الرواية اليتيمة لعمر الأطرف عن معركة بدر، إذ لم تورد المصادر التي بين أيدينا رواية أخرى مسندة له يحدث بها بأخبار هذه المعركة.
د- حج النبي 9:
وردت روايتان بطريق عمر الأطرف عن أبيه الإمام علي (ع) في وصف حج النبي (ص) والمناسك التي عملها فيه، فقال في الأولى: «أن النبي (ص) ساق مائة بدنة في حجته» (3)، وأضاف في الثانية: «أن النبي (ص) كان قارناً (أي قرن حجه بعمرة) فطاف طوافين وسعى سعيين» (4).
ه-- وفاة النبي 9:
يمكن أن نعد الروايات التي نقلت بطريق عمر الأطرف عن سيرة الرسول (ص)؛ أن الحيز الأكبر منها كان في حادثة وفاته (ص)، والظروف والملابسات التي رافقتها، فقد جمع العديد من مؤرخي السيرة البارزين تلك الروايات؛ لما وجدوه فيها من إسهاب في عرض تفاصيل تلك الحادثة، قلما وجدت بهذا الإسهاب عند راو آخر من المتقدمين، والسر في ذلك، هو مصدر عمر في هذه الحادثة والشاهد الفعلي لها طوال مدتها منذ اعتلال النبي (ص) إلى أن وضع في ملحودة قبره الشريف، ليكون آخر من تقع عليه عيناه، ذلك هو الإمام علي (ع)، حتى أن المغيرة بن شعبة أراد أن ينال هذا الشرف بأن أسقط خاتمه متعمداً في حفرة النبي (ص)، ليسترجعه بعدئذ، وذلك بعد أن شارك في مراسم الدفن، إذ وردت رواية مسندة إلى عمر الأطرف مبينة هذا المعنى، وذاكراً فيها قول أبيه علي (ع)، إذ قال: «قال علي لما ألقى المغيرة بن شعبة خاتمه في قبر النبي (ص) لا يتحدث الناس أنك نزلت في قبر النبي (ص)، ولا تحدث أنت الناس أن خاتمك في قبره، فنزل علي رضي الله عنه و قد رأى موقعه فتناوله فدفعه إليه» (5).
وذكر عمر الأطرف في تحديد وقت اعتلال الرسول وتاريخه: «إن النبي (ص) اعتل يوم الأربعاء لليلة بقيت من صفر سنة إحدى عشرة» (6)، وفي رواية أخرى يقول: «أول ما بدأ برسول الله (ص) شكوه يوم الأربعاء، فكان شكوه إلى أن قبض (ص) ثلاثة عشر يوماً» (7).
لكن هذه الرواية أشكل عليها من حيث تعداد الأيام ومسمياته، إذ قال السخاوي في معرض نقده لهذه الرواية: «وأما ما رواه ابن سعد من طريق عمر بن علي بن أبي طالب قال: اشتكى رسول الله (ص) يوم الأربعاء لليلة بقيت من صفر، فاشتكى ثلاث عشرة ليلة ومات يوم الاثنين لاثنتي عشرة مضت من ربيع الأول، فمشكل؛ لاستلزامه أن يكون أول صفر الأربعاء، وذلك غير مطابق لكون أول ذي الحجة الخميس مهما فرضت الأشهر الثلاثة، وكذا قول ابن حبان وابن عبد البر: ثم بدأ به مرضه الذي مات منه يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر، يقتضي أن أول صفر الخميس، وهو غير مطابق أيضاً» (8).
ويضيف في سرده لحوادث الساعات التي سبقت وفاة الرسول (ص)، في رواية سمعها من أبيه الإمام علي (ع)، قال: «قال رسول الله (ص) في مرضه: ادعوا لي أخي، قال: فدعي له علي، فقال: ادن مني فدنوت منه، فاستند إلي، فلم يزل مستنداً وإنه
ص: 137
ليكلمني، حتى إن بعض ريق النبي (ص) ليصيبني، ثم نزل برسول الله (ص)، وثقل في حجري، فصحت: يا عباس! أدركني فإني هالك، فجاء العباس، فكان جهدهما جميعاً أن أضجعاه» (1).
وتستمر الروايات التي نقلها عمر عن حادثة وفاة الرسول (ص) بالتلاحق إذ قال: عن علي بن أبي طالب قال: «لما أخذنا في جهاز رسول الله (ص) أغلقنا الباب دون الناس جميعاً فنادت الأنصار نحن أخواله ومكاننا من الإسلام مكاننا، ونادت قريش نحن عصبته، فصاح أبو بكر: يا معشر المسلمين! كل قوم أحق بجنازتهم من غيرهم فننشدكم الله فإنكم إن دخلتم أخرتموهم عنه والله لا يدخل عليه أحد إلا من دعي» (2).
ويذكر في مورد آخر، تفاصيل تجهيزه (ص) وصلاة المسلمين عليه، فحين وضع رسول الله (ص) على السرير لصلاة الناس والتسليم عليه وإلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليه، قال علي (ع): «لا يقوم عليه أحد هو إمامكم حياً وميتاً، فكان يدخل الناس رسلًا رسلًا فيصلون عليه صفاً صفاً ليس لهم إمام، ويكبرون وعلي قائم بحيال رسول الله (ص) يقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، اللهم إنا نشهد أن قد بلغ ما نزل إليه ونصح لأمته وجاهد في سبيل الله، حتى أعز الله دينه وتمت كلمته. اللهم فاجعلنا ممن يتبع ما أنزل إليه وثبتنا بعده واجمع بيننا وبينه، فيقول الناس: آمين، حتى صلى عليه الرجال ثم النساء ثم الصبيان» (3).
ويستطرد في سرد تلك الحوادث، ليعدد أسماء من تولى تكفينه (ص) والنزول مع علي (ع) في حفرته (ص)، إذ قال: «كفن رسول الله (ص) في ثلاثة أثواب من كرسف سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة» (4)، وأضاف في مورد آخر: «نزل في حفرة النبي (ص) هو (علي) وعباس وعقيل بن أبي طالب وأسامة بن زيد وأوس بن خولي وهم الذين ولوا كفنه» (5).
حدد عمر الأطرف يوم وفاة الرسول (ص) بيوم الاثنين، لاثنتي عشرة مضت من ربيع الأول، سنة إحدى عشرة من هجرته المباركة (6).
كانت الروايات التي نقلها عمر الأطرف عن أبيه علي (ع) في حادثة وفاة الرسول (ص)، تعد على الطرف النقيض مما روته عائشة في هذه الحادثة التي ادعت أن النبي (ص) قد لفظ أنفاسه الأخيرة بين سحرها ونحرها، وجمع الله بين ريقها وريقه (ص) (7)، والروايات آنفة الذكر تتطابق مع ما رواه أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، عن حادثة وفاة النبي (ص) وما كان فيها للإمام علي (ع) من دور، وإن اختلف معهم في تحديد تاريخ وفاته، التي أرخوها بيوم الثامن والعشرين من صفر سنة إحدى عشرة للهجرة (8).
و- صفة النبي 9 وشمائله:
حفلت الروايات التي رواها عمر الأطرف عن سيرة النبي (ص) بنصوص متعددة عن صفاته وشمائله (ص)، وكانت هي الأخرى من طريق والده الإمام علي (ع)، إذ تحدث في رواية من تلك الروايات قال: «قيل لعلي: يا أباحسن! انعت لنا النبي (ص)، قال: «كان أبيض مشرب بياضه حمرة أهدب الأشفار أسود الحدقة، لا قصيراً ولا طويلًا، وهو إلى الطول أقرب، عظيم المناكب في صدره مسربة لا جعد ولا سبط شثن الكف والقدم إذا مشى تكفأ كأنما يمشي في صعد، كأن العرق في وجهه اللؤلؤ، لم أر قبله ولا بعده مثله (ص)» (9).
ويرد نص آخر بهذا الطريق آنف الذكر، وفي هذا المحور من سيرة النبي (ص) إذ قال عمر في رواية نسبها لأبيه (ع) مفادها: «بعثني رسول الله (ص) إلى اليمن فإني لأخطب يوماً على الناس وحبر من أحبار اليهود واقف في يده سفر ينظر فيه فنادى إلي، فقال: صف لنا أبا القاسم فقال علي رضي الله عنه: رسول الله (ص) ليس بالقصير ولا بالطويل البائن وليس بالجعد القطط ولا بالسبط، هو رجل الشعر أسوده ضخم الرأس مشرب لونه حمرة، عظيم الكراديس شثن الكفين والقدمين، طويل المسربة، وهو الشعر الذي يكون في النحر إلى السرة، أهدب الأشفار مقرون الحاجبين، صلت الجبين، بعيد ما بين
ص: 138
المنكبين، إذا مشى يتكفأ كأنما ينزل من صبب، لم أر قبله مثله ولم أر بعده مثله. قال علي: ثم سكت، فقال لي الحبر: وماذا؟ قال علي: هذا ما يحضرني. قال الحبر: في عينيه حمرة، حسن اللحية، حسن الفم، تام الأذنين، يقبل جميعاً ويدبر جميعاً فقال علي: هذه والله صفته، قال الحبر: وشي ء آخر، فقال علي: وما هو؟ قال الحبر: وفيه جنأ قال علي: هو الذي قلت لك كأنما ينزل من صبب قال الحبر: فإني أجد هذه الصفة في سفر آبائي ونجده يبعث من حرم الله وأمنه وموضع بيته، ثم يهاجر إلى حرم يحرمه هو ويكون له حرمة كحرمة الحرم الذي حرم الله، ونجد أنصاره الذين هاجر إليهم قوماً من ولد عمرو بن عامر أهل نخل وأهل الأرض قبلهم يهود. قال: قال علي: هو هو وهو رسول الله (ص) فقال الحبر: فإني أشهد أنه نبي الله وأنه رسول الله (ص) إلى الناس كافة: فعلى ذلك أحيا وعليه أموت وعليه أبعث إن شاء الله قال: فكان يأتي علياً فيعلمه القرآن ويخبره بشرائع الإسلام. ثم خرج علي والحبر هنالك حتى مات في خلافة أبي بكر وهو مؤمن برسول الله (ص) يصدق به» (1).
وورد نعت رسول الله (ص) وصفته من طريق عمر الأطرف عن علي أيضاً بصورة مقتضبة وتحاكي النصوص السابقة، إذ قيل للإمام علي (ع): انعت لنا رسول الله (ص)، فقال: «كان أبيض مشرباً بياضه حمرة وكان أسود الحدقة أهدب الأشفار» (2)، ويحتمل أنَّ هذا السؤال قد تكرر على الإمام علي (ع)، فلذلك تنوعت الإجابات عليه من حيث الإطناب والاقتضاب، كما لاحظنا في الروايات السابقة.
وينقل الأطرف رواية أخرى في ذكر الطعام الذي كان يحبه رسول الله (ص) بما رواه عن أبيه علي (ع) قال: «كان أحب الشاة إلى النبي (ص) الذراع» (3).
ن- أهل بيته وذريته:
كان لأخبار سيدتنا الزهراء (س) وفضائلها حيزاً في روايات عمر الأطرف، إذ قال: «تزوج علي فاطمة في رجب سنة مقدمهم المدينة، وبنى بها مرجعه من بدر، ولها يومئذ ثمان عشرة سنة» (4)، وهذا مما ينسجم مع ما ذكرته أغلب المصادر حول تحديد عمر الزهراء (س)، في أثناء اقترانها بالإمام علي (ع)، وزمان هذه الحادثة (5).
ونجد في ثنايا الروايات التي أسندها المحدثون إلى الأطرف في فضائل الزهراء (س) ما سمعه من أبيه علي (ع)، إن رسول الله (ص) قال: «إذا كان يوم القيامة، حملت على البراق، وحملت فاطمة على ناقة العضباء، وحمل بلال على ناقة من نوق الجنة، وهو يقول: الله أكبر إلى آخر الأذان، يسمع الخلائق» (6).
وجاءت رواية أخرى من طريق عمر أيضاً يحدث فيها عن علة تسمية الزهراء (س).
وحفلت رواياته أيضاً بالإشارة إلى أخبار مارية القبطية زوجة الرسول (ص) وولدها إبراهيم، وذلك بإيراد حادثتين منفصلتين: تمثلت الأولى بسماع الرسول (ص) كلاماً لبعض المغرضين يتهمون فيه زوجته مارية القبطية في قريب لها يغشاها ويراودها عن نفسها، فما كان من الرسول (ص) إلا أن أرسل الإمام علياً (ع) إلى هذا الرجل ليطلع على حقيقة هذا الأمر؛ وليتأكد من صدق هذا الكلام بعد أن أخذ في نفسه (ص) مأخذاً كبيراً، وقال له: «اقتله»، فرد عليه علي (ع): «يا رسول الله! إذا بعثتني أكون كالسكة المحماة أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ قال: الشاهد يرى ما لا يرى الغائب» (7)، فأخذ علي (ع) السيف يضرب به القبطي وهو على نخلة فإذا هو حصور ليس له ذكر فجاء النبي (ص) فأخبره فقال: «إنما شفاء العي السؤال» (8)، وقد وردت هذه الحادثة في المصادر الأخرى وبطرق مختلفة، ولكن بتباين يسير في مضمونها (9).
أما الحادثة الثانية فهي: وفاة ولدها إبراهيم بن رسول الله (ص)، إذ وردت رواية من بين مجموع الروايات التي رواها عمر الأطرف يصف بها حادثة وفاة إبراهيم بن رسول الله، وفق ما سمعه من أبيه الإمام علي (ع) الذي كان شاهد عيان فيها، وذلك في نص ذكره ابن كثير (774 ه-) عارضاً فيه هذه الحادثة مسندة إلى عمر الأطرف، إذ قال: «بعث علي بن أبي طالب إلى
ص: 139
أمه مارية القبطية، وهي في مشربة فحمله علي في سفط، وجعله بين يديه على الفرس، ثم جاء به إلى رسول الله (ص)، فغسله وكفنه وخرج به، وخرج الناس معه فدفنه في الزقاق الذي يلي دار محمد بن زيد، فدخل علي في قبره حتى سوّى عليه ودفنه، ثم خرج ورش على قبره، وأدخل رسول الله يده في قبره، ... وبكى رسول الله (ص) وبكى المسلمون حوله حتى ارتفع الصوت، ثم قال رسول الله (ص): «تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يغضب الرب، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون» (1).
ي- أخبار جعفر بن أبي طالب:
كان لأخبار جعفر بن أبي طالب 2 مكان في روايات عمر الأطرف، إذ ذكر حادثة هجرة جعفر إلى الحبشة بصحبة زوجته أسماء بنت عميس، ورجوعه منها في السنة السابعة من الهجرة، إذ تزامنت مع فتح الرسول (ع) لخيبر، وكان لكلتا الحادثتين وقع مؤثر على نفس الرسول محمد (ص)، حتى قال: «لا أدري بأيهما أفرح: بفتح خيبر أم بقدوم جعفر» (2)، مع العلم أن خبر هذه الحادثة قد ورد بطرق أخرى غير طريق الأطرف (3) ولكن الذي يهمنا محل الشاهد في رواية عمر لهذا الحديث الذي ينتهي طريقه إليه.
والحادثة الأخرى في ذكر استبسال جعفر وشجاعته في قتال الروم في معركة مؤتة والتي استشهد فيها، إذ قال: «ضرب جعفر بن أبي طالب رجل من الروم فقطعه بنصفين، فوقع إحدى نصفيه في كرم، فوجد في نصفه ثلاثون أو بضع و ثلاثون جرحاً» (4).
أخبار المغيبات التي أخبر بها الرسول (ص) وما سيجري في لاحق الأيام:
حدّث عمر بأحاديث عديدة عن الرسول (ص) بفكرة المهدي في سؤال من أبيه الإمام علي (ع) لرسول الله (ص) ما نصه: «أمنا المهدي أم من غيرنا يا رسول الله؟ قال: بل منا، بنا يختم الله كما بنا فتح، وبنا يستنقذون من الشرك، وبنا يؤلف الله بين قلوبهم بعد عداوة بينة، كما بنا ألف بين قلوبهم بعد عداوة الشرك. قال علي: أمؤمنون أم كافرون: فقال: مفتون وكافر» (5).
وكذلك يؤكد في نص آخر: «أن علياً قال: تكون فتن ثم تكون جماعة على رأس رجل من أهل بيتي ليس له عند الله خلاق فيقتل أو يموت فيقوم المهدي» (6)
ويقدم عمر الأطرف حديثاً آخر عن رسول الله (ص) من طريق أبيه (ع) في أخبار المغيبات، يصور فيه حال المؤمن والهوان الذي يصيبه في لاحق الأيام، إذ قال (ص): «يأتي على الناس زمان يكون المؤمن فيه أذل من شاته» (7).
أبرزت الروايات السابقة في السيرة النبوية التي رواها عمر الأطرف إهتماماً ملحوظاً أيضاً- كمثيلاتها السابقة في السنة النبوية- في الأخبار التي شملت مواقف الإمام علي (ع) في أحداث عصر الرسالة ودوره في مجرياتها، مع العلم أن تلك الروايات لم تشمل جميع مواقف الإمام علي (ع) في أحداث عصر الرسالة، وربما لم يدوّن الرواة جميع ما ذكره عمر الأطرف، إذا ما علمنا- كما أوردنا سابقاً- أن هنالك كتاباً جمع فيه أبو بكر الجعابي الروايات التي قالها عمر الأطرف، وربما كان هذا المجموع قد حوى على بعض تلك الحوادث التي لم يروها المؤرخون والمحدثون. وهذا مماشكل ظاهرة بارزة في طبيعة ومجموع الروايات والأحاديث التي رواها الأطرف، مع الإشارة إلى قلة من حمل الحديث عن عمر- كما بينا سابقاً- وهذا سوف ينسحب بلا شك على كمية ومجموع الروايات والأحاديث المنقولة عنه.
هذا ما استطعنا جمعه من نصوص عن هذه الشخصية، ونأمل أن نكون قد وفقنا في دراستها من حيث مواقفها في الحياة والأحداث التي عاصرتها، والروايات والأحاديث التي نقلتها، والله الموفق.
ص: 140
ص: 141
ص: 142
ص: 143
ص: 144
ص: 145
ص: 146
إن الحجّ إذا ما أداه الحاج المؤمن كما هو مرسوم له من قبل السماء وكما هو الحج الإبراهيمي الصحيح، فلا نستغرب إذا ما استعنت بهذا التشبيه الرائع الوارد في الاية المباركة: كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ.
فأقول: إنه يمكن أن يستفاد منه في وصف المؤمنين وهم في مواقف الحج وساحته بما يحملونه من قيم السماء بأن يكونوا كما هم في ميادين جهادهم لأعدائهم، وكما ينبغي أن يكونوا في ساحات القتال، بنيان مرصوص بنيان متين بقيمه ومبادئه، أن يكونوا- هكذا- صافين أنفسهم متضامنين متكافلين متماسكين محكمين في أخلاقهم ومواقفهم وآرائهم وأهدافهم، كأنهم قطعة واحدة فقط لا اثنتين أو أكثر، لا فرجة فيها تخترق، ولا ثغرة فيها تستغل من قبل الآخرين أو تعطي صورة سيئة لهذا المشهد وهو يعيش معناه العبادي الواسع ..
إنه بنيان أخلاقي دقيق نظيف لأمناء منهج السماء في الأرض ينأى هذا البنيان المبارك بنفسه عن عصبيات عديدة عصبية اللون وعصبية الجنس وعصبية القبيلة والعشيرة والنسب وعصبية المال والجاه .. ويعد هذا حلقة من حلقات التربية الصالحة السليمة للحجاج وهم يمثلون أمتهم الأوسع والأكبر في كل مواسم الحج، ففريضة الحج تجربتهم التي من خلالها يمارسون عملياً ذلك البنيان ويتدربون عليه، والحج كما نعلم دورة تدريبية لكل معاني الدين ومفاهيم الحياة ...
لعلّي أكون موفقاً في اختياري واقتباسي عنواناً من الآية الكريمة الرابعة من سورة الصف- التي سميت السورة بالصف انطلاقاً من الآية المذكورة وتأكيداً على أهمية الصف المتماسك- لوصف ماهو مطلوب ويهدف إليه من قبل مناسك الحج ذات المظاهر الوحدوية العديدة وهي ما أكثرها وأعظمها مظاهر الوحدة في موسم الحج، وهي تتجلى في كل مواقيته ومناسكه وأنشطته ...
فإضافة إلى أن موسم الحج بحد ذاته أيامه رائعة جميلة وملتقى تعارفي جليل نافع، فهو يبني هيبة له في النفوس وجلالة له في القلوب ويشكل مسيرة نادرة قلّ مثيلها بل انعدم، ويترك مظهراً رائعاً للحجيج وهم يقفون تلك المواقف المهيبة وقد اتحدوا مكاناً وزماناً ولباساً، وهم يتحركون جميعاً من ميقات إلى آخر ومن منسك إلى آخر، ومن منزل إلى آخر، ومن أثر إلى آخر، فالمشاعر والمواضع كلها هدف لوحدة المشاعر وهدف للتوحيد. وقبل أن نستعرض ما في هذا الموسم وهذه الفريضة مما يتيسر لنا من مظاهر وعوامل توحيد الصف لا بد من كلمة أضيفها إلى ما ذكرت:
إن مما لاريب فيه أن الاجتماع والاتفاق توحيد للصف وسبيل إلى القوة والبقاء، وأن التفرق والاختلاف تمزيق للصف وطريق إلى الضعف والانهزام، و لا خلاف في أنه ما ارتفعت أمة من الأمم وعلت رايتها إلا بتوحيد صفوفها وتوحيد جهودها والتعاون والتلاحم بين أفرادها ..
وهنا نحاول أن نلقي أضواءً على فريضة الحج، وهي- وكما نراها- خير دليل على وحدة الصف المؤمن، الذي يظهر لنا وهو يؤدي مناسك الحج المتعددة وكأنه فعلًا بنيان مرصوص، لا تجد فيه خللًا ولا شائبةً ولا نقصاً، ما أروعه من كيان متماسك متين، وما أجله من جمع هائل تباركه العقول، وتهابه النفوس، وتهتز له المشاعر والعواطف فخراً واعتزازاً.
تعال معي أخي المؤمن، حتى نرى ما يحمله الحج من معان جميلة استحق معها أن يحتل المكانة الأكبر والمنزلة الأعظم دينياً وأمنياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً ليؤسس رصانة في المواقف، وثباتاً في المبادئ، وعظمة في المظاهر الموحدة.
فالحج بداية نموذجاً يعد مبدأ عظيماً يدور حول إطاعة الله سبحانه وتعالى والرسول (ص)؛ لأن هذه الطاعة هي أساس كل خير للأمة وبداية كل خير وأول الخير هو وحدتها. والآيات القرآنية و السنة النبوية الشريفة تدعو إلى تلك الطاعة وتحذر هذه
ص: 147
النصوص من الاختلاف والتنازع، لأن هذه الأمراض إن وقعت تنخر كيان الأمة وتجعله هشيماً متفتتاً، قال تعالى: وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (1)
وفي صحيح مسلم عن أبي مسعود 2 أنه قال: كان رسول الله (ص) يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم.
والحج يشكل في كل عام موسماً عبادياً عظيماً، تتجسد فيه تلك الطاعة لله سبحانه وتعالى ورسوله (ص) عبادة وأخلاقاً وسيرة، وتنبثق بسببها وحدة المسلمين وقوتهم في أحسن مظاهرها وأبهى حللها، حيث تذوب الفوارق، وتتلاشى الحواجز، ويجتمع المسلمون في مشهد رائع أخّاذ، يبعث على السرور، ويسعد النفوس، ويبهج الأرواح والقلوب.
والحج كما صرح القرآن الكريم، والأحاديث الشريفة، إلى جانب كونه عبادة وتقرباً إلى الله سبحانه، وإلى كون العبادة ظاهرة واضحة تحيط أجواءه وساحاته ومعالمه، فإنه لا يلغي ولا يقلل ما يتضمنه من منافع اجتماعية وفوائد ثقافية، واقتصادية وسياسية، وتربوية، تساهم في بناء المجتمع الإسلامي، وتزيد في وعيه وتوجيهه، وتساهم في حل مشاكله، وتنشيط مسيرته .. بل على العكس يوجدها وينميها ويدعو إليها ويحث عليها ..
والحج يذكرنا بمن سار على تلك البطاح المباركة من أنبياء الله تعالى ورسله صلوات الله تعالى عليهم، ويذكرنا بعباده الصالحين وبالشهداء؛ ويتذكر الصحابة الغر المنتجبين رضي الله عنهم، وما لاقوه من البلاء في سبيل نشر هذا الدين الحنيف.
فيشعر كل منا بأنه امتداد لتلك السلسلة المباركة، وذلك الركب الميمون.
ويتذكر أن هذا البيت الذي يطوف حوله والمسعى الذي يسعى فيه والمعالم الأخرى ما كانت لتصل إليه لولا إرادة الله عز وجل وجهود الأنبياء والأئمة والشهداء والصالحين ..
والحج موسماً وفريضة هو ذلك النموذج الفذ والذي يعد مظهر وحدة المسلمين وقوتهم، فهم يشهدون في موسم الحج أروع مظاهر المساواة والتواضع والأخوة الإنسانية، عبر إلغاء كل ما من شأنه التمييز والطبقية والتعالي، وعبر خلع أسباب الظهور الاجتماعي كالأزياء مثلًا، ثم الظهور باللباس العبادي الموحد، حيث يحس الجميع أنهم بلا فوارق، وبالتالي يحسّون بوحدتهم وبالأخوة والمساواة ..
والحج تظاهرة إيمانية رائعة تشترك فيها صنوف متعددة من الأجناس والفئات والطبقات والقوميات على موعد واحد، وفي أرض واحدة، يرددون هتافاً واحداً، ويمارسون شعاراً واحداً، ويتجهون لغاية واحدة، وهي الإعلان عن العبودية والولاء لله وحده، والتحرر من كل آثار الشرك والجاهلية، بطريقة جماعية حركية، تؤثر في النفس، وتشبع المشاعر والأحاسيس بالإيمان وآثاره، وبمداليل التوحيد وثمارها ..
والحج يستشعر فيه المسلمون وحدة البشر ووحدة الأرض، فتنهار بينهم الحدود التي صنعتها الأنانيات والأطماع الإقليمية والقومية والعنصرية. فهم يأتون من كل فج عميق من كل طريق بعيد ومكان ناء، يقطعون آلاف الأميال، ويخترقون كل الحواجز والحدود والبحار والمحيطات، ويجتازون كل الموانع التي صنعها الأعداء على أرض الله سبحانه وتعالى، استجابة لنداء العقيدة وتلبية لهتاف الإيمان وتلبية لدعوة شيخ الأنبياء إبراهيم (ع) الحية الباقية الخالدة ..
والحج يلتقي فيه المسلمون بمؤتمرهم الكبير، فيتذاكرون في شؤونهم، ويتشاورون في أمور حياتهم وعقيدتهم، ويتبادلون الخبرات والتجارب والآراء والعادات الحسنة. ويتعرف بعضهم على مشاكل بعض، ويطلع بعضهم على رأي بعض، ويتعرف بعضهم على أخبار بعضهم الآخر، فيزداد الوعي، وتنمو المعرفة، وتشحذ الهمم من أجل الإصلاح والتغيير والاهتمام
ص: 148
بشؤون الأمة والعقيدة، فتخطط المشاريع، ويفكر في الأعمال، وتؤسس المراكز الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، ويستعين بعضهم ببعض، وكأنهم جسد واحد، وروح واحدة، وكيان واحد ..
فللحج إذن وقت محدد ومكان معين ومناسك وإن تعددت فهي واحدة، وزي موحد ونداء واحد، يجتمع فيه المسلمون ليؤدوا فيه مناسكهم، وقد تحدث عن هذا القرآ ن الكريم:
ألْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِى الْحَجِّ (1)
جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْىَ وَالْقَلَائِدَ
ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ
هكذا إذن حددت الآيات زمناً وعينت مكاناً لهذه الفريضة المباركة وهما يشكلان وغيرهما مظهراً مهماً من مظاهر الوحدة، فتوحيد الزمن والموضع من توحيد الهدف. كما أن الكل مطالب بأداء مناسك الحج من أماكن محددة بدءاً بالإحرام من المواقيت المعروفة من غير تجاوز، والطواف بالبيت المحدد دون غيره، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة، ثم المزدلفة والمبيت بمنى ليلتين أو ثلاثاً لأداء أعمالها من الذبح والحلق أو التقصير ورمي الجمار ...
لا فقط إذن الظرف الزمني محدد والظرف المكاني معين والمواقيت، بل حتى المناسك والأنشطة التي يكلف بها الحجاج هي الأخرى محددة، فكلهم يقومون بنفس الأعمال مما يجسد ويعمق المساواة بينهم تمهيداً لبناء الأخوة والمحبة، ويجعل الوحدة بينهم متجددة في كل ساعة وفي كل مكان وفي كل عمل يقومون به ويؤدونه، وتعيش معهم في كل خطوة يخطونها وفي كل ساعة يقضونها .. وبالتالي جميع هذا يعد دليلًا على الترغيب الملحّ والتشجيع في توحيد الصفوف وتحقيق ما في الوحدة من قوة وصلابة ..
الحج كما هو واضح من وظائفه ومهامه وأهدافه، يفسح المجال ويعطي الفرصة ويهيؤها للمسلمين لمواساة بعضهم بعضاً من خلال لقاءاتهم المتكررة، وتقارب آمالهم وآلامهم، وهذا مقوم مهم لقوتهم ووحدتهم .. و هذا أيضاً من مظاهر هذه الفريضة المباركة ..
الحج يعد موسماً كبيراً واعياً رائداً واعداً لاجتماع العلماء والمفكرين والدعاة إلى الله والمصلحين، وهم أهل الذكر والفكر وهم القادرون على التشاور بينهم، لأنهم الأجدر في البحث بشأن هموم الدين ومشاكل الأمة والعمل على إيجاد حلول لها و جمع شملها، والبحث في الوسائل والأساليب المعينة على ذلك ..
والحج موسم لاجتماع الأغنياء بالفقراء، والعمل على مواساتهم، والتعرف على آلامهم وحاجاتهم ثم التخفيف عنهم، مما يجسد مبدأ التضامن والتلاحم بين أفراد هذه الأمة المرحومة ...
الحج تواجد واعد في تلك البقاع المباركة لأيام وإن كانت قليلة، ويعد اختباراً لآمال الأمة وإرادتها، وبوتقةً لأنشطتها ولما يشغل بالها، حيث يتطلعون جميعاً إلى عهد زاهر تتظافر فيه جهودهم، ليشكلوا وحدة شاملة، ترفعهم فوق الأمم، وتعيد لهم تلك الريادة والسيادة التي ضاعت من أيديهم بسبب الفرقة والنزاع، ويتم الله تعالى وعده لهذه الأمة بالاستخلاف الموعود .. والله غالب على أمره، وهو يتولى الصالحين.
يقول سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لا يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون (2)
انطلاقاً من بركات هذا البيت الأول والمعمور ومن هداه ومن خصائصه و آياته البينات الأخرى:
ص: 149
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ* فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا.
والحج تتحقق فيه وحدة العبادة ووحدة الأخوة الإسلامية بكل معانيها، ومظاهر هذا واضحة جلية: فالرب واحد، والقبلة واحدة، والمشاعر واحدة، واللباس واحد، والمناسك واحدة، والزمان واحد، والمكان واحد، كل شي ء يتسم بالوحدة ويؤشر عليه. فكل هذه المظاهر تجتمع في الحج، وهي مدعاة للإحساس بوحدة الشعور، وموجبة للتآخي، والتعارف، والتعاون على مصالح الدين والدنيا، كيف لا يكون كذلك والكعبة هي الجامعة وهي عنوان التوحيد، عنوان الدين، عنوان الإسلام، وهي كما جاء في صحيح أبي بصير، عن أبي عبدالله (ع) أنه قال:
لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة.
فالكعبة تمثل العنوان الخارجي للإسلام، فما دامت الكعبة المشرفة قائمة يؤمها المسلمون في جموع كبيرة في حجهم ويطوفون بها ويعظمونها ويتوجهون إليها في عبادتهم، فالدين قائم.
كما أن الكعبة أول مظاهر الوحدة، فهي إضافة إلى أنها قبلة المسلمين التي يتوجه إليها في كل يوم خمس مرات أكثر من مليار مسلم، تلخص عنوان دعوة الرسل إلى توحيد الله، ووحدة المسلمين أي كلمة التوحيد ووحدة الكلمة ووحدة الموقف، وحتى تظهر هذه المشابهة بين الكعبة المشرفة ودعوة الرسل هو أن الكعبة كانت ولا تزال أهم العوامل لقيام الناس في توحيد الله وتعظيمه وعبادته ..
ففي الحج يجتمع المسلمون من أقطار الأرض حول الكعبة، حول البيت العتيق، الذي يتجهون إليه كما قلنا كل يوم خمس مرات، بل في كل فرض ومستحب ودعاء، البيت الذي يقصدونه بقلوبهم وأفئدتهم من خلال صلواتهم وهم في بلادهم الشاسعة البعيدة، هم الآن يجتمعون حوله ويرى بعضهم بعضاً، يتصافحون، ويتشاورون، ويتحابون، خلعوا تلك الملابس المختلفة والمتباينة من على أجسادهم، ووحدوا لباسهم، ليجتمع بياض الثياب مع بياض القلوب، فهو صفاء في صفاء، صفاء في ظواهرهم وصفاء في بواطنهم ..
ولابد من الإشارة إلى أن هذه الفريضة فيها من المعاني الروحية التي لاتعطيها أو لا تتأتى لعبادة أخرى- وهي أيضاً من أسمى مظاهر هذه الفريضة- وأن تقديس تلك الأماكن المعظمة والاهتمام بها والتواجد فيها والاستزادة من معانيها ومضامينها له الأثر البالغ في تربية الحجاج وتطهيرهم وتوعيتهم .. وعلى رأس تلك الأماكن الشريفة الكعبة المعظمة زادها الله شرفاً؛ فهي أول بيوت العبادة التي وضعها الله لعبادته:
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (1).
بعد أن بوأه الله تعالى لنبيه وخليله إبراهيم (ع):
وَ إِذْ بَوَّأْنا لإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْقائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ (2)
والله تعالى هو ربه:
(فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِى أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (3)
وهوصاحب هذا البيت دون غيره، وهي أي الكعبة أصل الأرض، كما في رواية عن أهل البيت (عليهم السلام):
إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَيْتٍ وَضَعَهُ اللهُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إِلَّا لَهُ رَبٌّ وَ سُكَّانٌ يَسْكُنُونَهُ، غَيْرَ هَذَا الْبَيْتِ، فَإِنَّهُ لَا رَبَّ لَهُ إِلَّا اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ، وَ هُوَ الْحُرُّ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ خَلَقَهُ قَبْلَ الْأَرْضِ، ثُمَّ خَلَقَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِه، فَدَحَاهَا مِنْ تَحْتِهِ.
عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ عَمَّنْ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي جَعْفَر (ع) قَالَ: قُلْتُ لَهُ: لِمَ سُمِّيَ الْبَيْتُ الْعَتِيقَ؟ قَالَ: هُوَ بَيْتٌ حُرٌّ عَتِيقٌ مِنَ النَّاسِ لَمْ يَمْلِكْهُ أَحَدٌ.
ص: 150
وقد راحت الأحاديث المباركة تبين أهمية الكعبة المشرفة، وأنها أحب البقاع إليه تعالى، وراحت تربط الناس بالكعبة وتشدهم إليها عن طريق بيان ما للإنسان المرتبط بها بأي نوع من الارتباط سواء في الطواف أم في غيره من الثواب العظيم، وقوة دافعة لثبات الموقف وتوحيد الصفوف. كما راحت هذه الروايات وغيرها عن أهل البيت (عليهم السلام) تؤكد بكل وضوح أن الترابط بينهم وبينها وثيق ولا يمكن الفصل بينهما.
عَنْ زُرَارَةَ قَالَ: كُنْتُ قَاعِداً إِلَى جَنْبِ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) وَ هُوَ مُحْتَبٍ مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ فَقَالَ: أَمَا إِنَّ النَّظَرَ إِلَيْهَا عِبَادَةٌ فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بجيلَةَ يُقَالُ لَهُ: عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ فَقَالَ لِأَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام: إِنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ الْكَعْبَةَ تَسْجُدُ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي كُلِّ غَدَاةٍ.
فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (ع): فَمَا تَقُولُ فِيمَا قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ.
فَقَالَ: صَدَقَ الْقَوْلُ مَا قَالَ كَعْبٌ.
فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (ع): كَذَبْتَ وَ كَذَبَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ مَعَكَ. وَ غَضِبَ عليه السلام. قَالَ زُرَارَةُ: مَا رَأَيْتُهُ اسْتَقْبَلَ أَحَداً بِقَوْلِ كَذَبْتَ غَيْرَهُ.
قَالَ: مَا خَلَقَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ بُقْعَةً فِي الْأَرْضِ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهَا، ثُمَّ أَوْمَأَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، وَ لَا أَكْرَمَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ مِنْهَا، لَهَا حَرَّمَ اللهُ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ فِي كِتَابِهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَةٌ لِلْحَجِّ شَوَّالٌ وَ ذُو الْقَعْدَةِ وَ ذُو الْحِجَّةِ وَ شَهْرٌ مُفْرَدٌ لِلْعُمْرَةِ رَجَبٌ.»
في الصحيح عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (ع) قَالَ:
«أَحَبُّ الْأَرْضِ إِلَى اللهِ تَعَالَى مَكَّةُ، وَ مَا تُرْبَةٌ أَحَبَّ إِلَى اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ مِنْ تُرْبَتِهَا، وَ لَا حَجَرٌ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْ حَجَرِهَا، وَ لَا شَجَرٌ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْ شَجَرِهَا، وَ لَا جِبَالٌ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْ جِبَالِهَا، وَ لَا مَاءٌ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْ مَائِهَا».
وفي النظر إليها جاء في الصحيح عَنْ حَرِيزٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (ع) قَالَ: «النَّظَرُ إِلَى الْكَعْبَةِ عِبَادَةٌ وَ النَّظَرُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ عِبَادَةٌ وَ النَّظَرُ إِلَى الْإِمَامِ عِبَادَةٌ وَ قَالَ: «مَنْ نَظَرَ إِلَى الْكَعْبَةِ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ وَ مُحِيَتْ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ.»
وَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ (ص) قَالَ: «النَّظَرُ إِلَى الْكَعْبَةِ حُبّاً لَهَا يَهْدِمُ الْخَطَايَا هَدْماً.»
ورُوِيَ أَنَّ «النَّظَرَ إِلَى الْكَعْبَةِ عِبَادَةٌ وَ النَّظَرَ إِلَى الْوَالِدَيْنِ عِبَادَةٌ وَ النَّظَرَ إِلَى الْمُصْحَفِ مِنْ غَيْرِ قِرَاءَةٍ عِبَادَةٌ وَ النَّظَرَ إِلَى وَجْهِ الْعَالِمِ عِبَادَةٌ وَ النَّظَرَ إِلَى آلِ مُحَمَّدٍ عليهم السلام عِبَادَةٌ».
وجاء في الصحيح عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (ع) قَالَ:
«إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى جَعَلَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ عِشْرِينَ وَ مِائَةَ رَحْمَةٍ، مِنْهَا سِتُّونَ لِلطَّائِفِينَ وَ أَرْبَعُونَ لِلْمُصَلِّينَ وَ عِشْرُونَ لِلنَّاظِرِينَ».
وعن الْحَسَنِ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِاللهِ (ع) قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع):
«إِذَا خَرَجْتُمْ حُجَّاجاً إِلَى بَيْتِ اللهِ فَأَكْثِرُوا النَّظَرَ إِلَى بَيْتِ اللهِ، فَإِنَّ لِلهِ مِائَةً وَ عِشْرِينَ رَحْمَةً عِنْدَ بَيْتِهِ الْحَرَامِ سِتُّونَ لِلطَّائِفِينَ وَ أَرْبَعُونَ لِلْمُصَلِّينَ وَ عِشْرُونَ لِلنَّاظِرِينَ.
فعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْخَزَّازِ عَنْ أَبِي عَبْدِاللهِ (ع) قَالَ:
«إِنَّ لِلْكَعْبَةِ لَلَحْظَةً فِي كُلِّ يَوْمٍ يُغْفَرُ لِمَنْ طَافَ بِهَا أَوْ حَنَّ قَلْبُهُ إِلَيْهَا أَوْ حَبَسَهُ عَنْهَا عُذْرٌ».
وفي الترابط بينها وبين أهل البيت (عليهم السلام) ولما لهذا الترابط والصلة من جذب للناس نحوها من أهمية ووقع على النفوس وما يستحقه من الثواب.
ص: 151
جاء في الخبر عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (ع) قَالَ:
«مَنْ نَظَرَ إِلَى الْكَعْبَةِ بِمَعْرِفَةٍ فَعَرَفَ مِنْ حَقِّنَا وَ حُرْمَتِنَا مِثْلَ الَّذِي عَرَفَ مِنْ حَقِّهَا وَ حُرْمَتِهَا، غَفَرَ اللهُ لَهُ ذُنُوبَهُ وَ كَفَاهُ هَمَّ الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ».
هذا وإن للحج أسراراً بديعة، وحكماً متنوعة، وبركاتٍ متعددة، ومنافع مشهودة، سواء على مستوى الأفراد أم على مستوى الأمة، قال الله تبارك وتعالى في محكم التنزيل: وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ (1)
الحج ميدان فسيح يتدرب فيه الحاج عملياً على اكتساب الأخلاق الجميلة والآداب الحميدة، على الحلم، والصبر، والمداراة، وكظم الغيظ من جراء ما يلقى من الزحام، والتعب، والنصب سواء في الطريق إلى الحج، أم في الطواف، أم في السعي، أم في رمي الجمار، أم غيرها من المناسك؛ فيتحمل الحاج ما يلقاه من ذلك؛ لعلمه بأن الحج أيام معدودة، ولخوفه من فساد حجه إذا هو أطلق لنفسه نوازع الشر، ولإدراكه بأن الحجاج ضيوف الرحمن؛ فإكرامهم، والصبر على ما يصدر من بعضهم، دليل على إجلال الله عز وجل.
فإذا تحمل الحاج تلك المشاق في أيام الحج صار ذلك دافعاً لأن يتخلق بالأخلاق الجميلة بقية عمره.
والحج يذكّر أصحابه ومريديه بالآخرة؛ فازدحام الناس وهم يموج بعضهم في بعض، وهم في صعيد واحد، وبلباس واحد، وقد حسروا عن رؤوسهم، وتجردوا من ثيابهم، ولبسوا الأردية والأزر، وتجردوا من ملذات الدنيا، ومتعها، تذكر يوم حشرهم على ربه؛ فيبعثهم ذلك إلى الاستعداد للآخرة، ويقودهم إلى استصغار متاع الحياة الدنيا، ويرفعهم عن الاستغراق فيها، ويكبر بِهِمتهم ويتركوا كل ما يدعو الى السوء والبغضاء وحب الأنا. فيقترب كل واحد منهم من محبة إخوانه الآخرين ويستغرق بعضهم في مودة بعضهم الآخر، ويتم الاطلاع على مشاكلهم وحاجياتهم، وهذا مدعاة لحب الوحدة وتقوية الصف المسلم والساحة المؤمنة ..
والحج يعد تجمعاً بشرياً ضخماً، يستقطب الملايين من المسلمين، من مختلف الأقطار والأمصار، فهو ينتج حركة بشرية هائلة، يتبعها تحرك اقتصادي ومالي ضخم، عن طريق النقل، والاستهلاك، وحمل البضائع وتبادل النقود، وشراء الأضاحي والحاجيات ومستلزمات الحج والإقامة والسفر والتنقل، فينتفع العديد من المسلمين بذلك، ويشهد مجتمعهم حركة اقتصادية وتجارية ومالية نشطة يكون هذا سبباً في تعارفهم و تآلفهم وتعاونهم.
الحج مدرسة يتعلم فيها الحاج، يتعلم الكرم، والبذل، والإيثار، والبر، والرحمة، وذلك من خلال ما يراه من المواقف النبيلة الرائعة التي تجسد هذه المعاني؛ فهذا سخي يجود بالإنفاق على المساكين، وذاك كريم بخلقه يعفو عمن أساء إليه، وأخطأ في حقه، وذاك رحيم يعطف على المساكين ويتلطف بهم، وذاك حليم يصبر على ما يلقاه من أذى، وذاك برّ بوالده يحمله على عاتقه، وذاك يحوط أمه العجوز بلطفه ورعايته.
بل ويكتسب الإنسان الحاج الأخلاق الجميلة عند رؤيته من لا يدركون معنى الحج، وهم الذين يغضبون لأدنى سبب، وتطيش أحلامهم عند أتفه الأمور، كيف يكون اكتسابه؟ بتجنبه ما هم عليه من خلق لا يليق بآداب وأخلاق هذا الموسم. فإذا رأى العاقل البصير سوء فعال هؤلاء انبعث إلى ترك الغضب، وتجافى عن مرذول الأخلاق، ونأى عما هم عليه.
إذن، الحج إعداد وتربية لسلوك الفرد ونوازعه بل هو إعداد وتربية لسلوك الجماعة ونوازعها، وبالتالي إعداد وتربية لسلوك الأمة ونوازعها، ففيه تتعود كل هذه المفاصل
ص: 152
- بدءاً بالفرد الحاج مروراً بالجماعة الحاجة، فالأمة الحاجة- الصبر وتحمل المشاق وحسن الخلق بدءاً باللطف والتواضع واللين وحسن المحادثة مروراً بالكرم والتعاطف والتراحم وانتهاء بالامتناع عن الكذب والغيبة والجدال والخصومة والتكبر وغير ذلك.
والحج دورة ميدانية يتعود الإنسان الحاج فرداً كان أم جماعة أم أمة، الألفة والتعارف عن طريق السفر والاختلاط فتنمو لديه الروح الاجتماعية وتتهذب عنده الملكات الأخلاقية، كل هذا وهو يشارك في كل الممارسات التربوية، ويساهم في التفاعل البشري الرائع، الذي يشهده في الحج، في حضره وفي سفره، في سكنه وإقامته وفي ترحاله، و بأرقى درجات الالتزام والاستقامة السلوكية.
وقد تحدث الإمام جعفر الصادق (ع) عن منافع الحج وفوائده، بإجابته البليغة عن سؤال أحد أصحابه وهو هشام بن الحكم، فقد سأله ما العلة التي من أجلها كلف الله سبحانه وتعالى العباد بالحج والطواف بالبيت؟
فقال (ع): «إن الله خلق الخلق ... وأمرهم بما يكون من أمر الطاعة في الدين، ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا ولينزع كل قوم من التجارات من بلد إلى بلد، ولينتفع بذلك المكاري والجمال، ولتعرف آثار رسول الله (ص) وتعرف أخباره ويذكر ولا ينسى» (1).
وقول الإمام علي بن موسى الرضا (ع) يتطابق مع تعليل الإمام الصادق وتحليله لمنافع الحج وآثاره الاجتماعية التي يجنيها الفرد والمجتمع حين قال: «إنما أمروا بالحج لعلة الوفادة إلى الله عز وجل، وطلب الزيادة، والخروج من كل ما اقترف العبد، تائباً مما مضى، مستأنفاً لما يستقبل، مع ما فيه من إخراج الأموال، وتعب الأبدان، والاشتغال عن الأهل والولد، وحظر النفس عن اللذات، شاخصاً في الحر والبرد، ثابتاً على ذلك دائماً، مع الخضوع والاستكانة والتذلل، مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع، لجميع من في شرق الأرض وغربها، ومن في البرّ والبحر ممن يحجّ وممن لم يحجّ، من بين تاجر وجالب وبائع ومشترٍ وكاسب ومسكين ومكار وفقير، وقضاء حوائج أهل الأطراف في المواضع الممكن لهم الاجتماع فيه، مع ما فيه من التفقه، ونقل أخبار الأئمة (عليهم السلام) إلى كل صقع وناحية، كما قال الله عزّ وجل:
فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (2)
لقد شاء الله تعالى أن يكون الحج محراباً للعبادة ... ومدرسة للتربية والتوجيه وموسماً للمنفعة وتحقيق المصالح الاجتماعية. وساحة مباركة لتوحيد الصفوف المؤمنة والأمة المؤمنة بما ذكرناه مما فهمناه وعرفناه وقرأناه عنه .. لتنال بذلك حب الله تعالى ورضاه، ولتحقق ما تصبو إليه من خير عميم وكرامة وعز لا يضام. وهكذا هو الحج وهكذا هي مظاهره، وهكذا هي معانيه ومفاهيمه وأبعاده وآثاره وعطا ءاته: رِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (3)
إنه بحق خير فريضة وأعظم ميدان وأصدق ساحة تطبيقية لمبدأ التعارف الجميل الذي صدعت به الاية الكريمة:
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا. (4)
ص: 153
وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدى محله فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِى الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (1).
توزعت الآيات الخاصة بالحج على سور عديدة كسورة البقرة وآل عمران والمائدة وسورة الحج .. وفي سورة البقرة وبعد أن ذكر سبحانه وتعالى أحكام الصيام، ثم تحدث عن الأهلة وأنها مواقيت للناس والحج، وعطف بذكر الجهاد، فالأشهر الحرم .. شرع في بيان مناسك الحج بالآيات 196- 203 فأمر بإتمام الحج والعمرة ..
والآية المذكورة 196 هي أول آية نزلت في خصوص الحج، بمقاطعها التي جاءت في أفعال الحج .. فيما الآيات الأخرى نزلت في حجة الوداع آخر حجة حجها رسول الله (ص) وفيها تشريع حج التمتع، حيث إن أول ما يلاحظ في بناء هذه الآيات جميعاً هو تلك الدقة التعبيرية في معرض التشريع، وتقسيم الفقرات في الآية لتستقل كل فقرة ببيان الحكم الذي تستهدفه. ومجي ء الاستدراكات على كل حكم قبل الانتقال إلى الحكم التالي .. ثم ربط هذا كله في النهاية بالتقوى ومخافة الله سبحانه وتعالى .. وما يهمنا في هذه المقالة هو أن نقف عند المقطع الأول من الآية 196 وهو: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلهِ و هذه الآية هي واحدة من آيات الحج التي يستدل ببعضها على وجوبه:
(وَ لِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (2).
روي عن ابن عباس: «ومن كفر باعتقاده أنه غير واجب».
وَ أَذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِى أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ* ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (3)
و الفقرة الأولى في الآية التي نقف عندها تتضمن الأمر بإتمام أعمال الحج والعمرة إطلاقاً متى بدأ الحاج أو المعتمر فأهلّ بحج أو بعمرة أو بهما معاً، أو أنها تتضمن الأمر بابتداء مشروعية الحج والعمرة على الاختلاف في المراد من الفعل وَ أَتِمُّوا ... كما يأتي.
و إن هذا المقطع من ضمن الآية التي نزلت- كما ذكر المفسرون- في الحديبية سنة ست للهجرة، حين صدّ المشركون المسلمين عن بيت الله الحرام، وذهب بعضهم إلى أن الحج لم يكن قد فرض بعد حيث إنه فرض في السنة التاسعة للهجرة على رأيهم بالآية: وَ لِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (4) ولهذا فهموا أن المقصود من الكلام في الآية وَأَتِمُّوُا ... العمرة وليس الحج، لأن الحج لم يفرض على رأيهم بعد، وإنما ذكر الحج تبشيراً للمؤمنين بأنهم سيتمكنون من الحج فيما بعد، وعدوا هذا من معجزات القرآن. وبالتالي فإن هذه الآية لا تدلنا على تاريخ بداية إقرار فرض الحج في الإسلام وأنه في السنة السادسة، وإلا فإن الحج فرض من عهد نبي الله إبراهيم (ع) قبل ألفي سنة قبل الميلاد تزيد أو تنقص قليلًا فهو الذي شرعه بأمر الله تعالى، وجاء الإسلام وأقرّ فريضة الحج إلى يوم القيامة وطهر رسول الله (ص) البيت من الأوثان وعبادة الأصنام كما طهربيدي نبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل (عليهما السلام) من قبل:
وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ (5)
وَ إِذْ بَوَّأْنا لإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْقائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ (6)
ص: 154
وأزال رسول الله (ص) عن هذه الفريضة المباركة كل ما أصابها من شوائب علقت بها وانحرافات أصابتها بما فعلته أيدي الناس ..
كما أن هذه الآية تعدّ واحدة من آيتين اثنتين تردد رأيهم بينهما في إثبات تاريخ وجوب الحج في الإسلام .. مع أن الآية: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلهِ .. نزلت في السنة السادسة للهجرة، و الآية الثانية 97 من سورة آل عمران المدنية: وَ لِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا نزلت في السنة التاسعة للهجرة.
حيث قال جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم آخرون: وإنما وجب علينا فرض الحج بقوله عز وجل: وَ لِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.
ففريضة الحج لم يأت وجوبها فى سورة الحج كما يبدو بل أظهر الأقوال أنه قد جاء فى قوله تعالى: وَ لِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.
وتاريخ فرض الحج فيه اختلاف كما قلنا، بل حتى الآية 97 من سورة آل عمران التي قالوا: إنها تحمل تاريخ الفريضة اختلفوا في تاريخ نزولها وتبعاً لذلك يختلف تاريخ الفريضة، وقد فصل القول في ذلك ابن عاشور في التحرير والتنوير حيث قال:
ويتجه أن تكون هذه الآية هي التي فرض بها الحج على المسلمين، وقد استدل بها علماؤنا على فريضة الحج، فما كان يقع من حج النبي (ص) والمسلمين قبل نزولها، فإنما كان تقرباً إلى الله، واستصحاباً للحنفية. وقد ثبت أن النبي (ص) حج مرتين بمكة قبل الهجرة ووقف مع الناس، فأما إيجاب الحج في الشريعة الإسلامية فلا دليل على وقوعه إلا هذه الآية، وقد تمالأ علماء الإسلام على الاستدلال بها على وجوب الحج، فلا يعد ما وقع من الحج قبل نزولها وبعد البعثة إلا تحنثاً وتقرباً، وقد صح أنها نزلت سنة ثلاث من الهجرة، عقب غزوة أحد، فيكون الحج فرض يومئذ.
وذكر القرطبي الاختلاف في وقت فريضة الحج على ثلاثة أقوال فقيل: سنة خمس، وقيل: سنة سبع، وقيل: سنة تسع، ولم يعز الأقوال إلى أصحابها، سوى أنه ذكر عن ابن هشام، عن أبي عبيد الواقدي أنه فرض عام الخندق، بعد انصراف الأحزاب، وكان انصرافهم آخر سنة خمس. قال ابن إسحاق: وولي تلك الحجة المشركون. وفي مقدمات ابن رشد ما يقتضي أن الشافعي يقول: إن الحج وجب سنة تسع، وأظهر من هذه الأقوال قول رابع تمالأ عليه الفقهاء وهو أن دليل وجوب الحج قوله تعالى: وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وقد استدل الشافعي بها على أن وجوبه على التراخي، فيكون وجوبه على المسلمين قد تقرر سنة ثلاث، وأصبح المسلمون منذ يومئذ محصرين عن أداء هذه الفريضة إلى أن فتح الله مكة ووقعت حجة سنة تسع ..
وفي هذه الآية من صيَغ الوجوب صِيغتان: لام الاستحقاق، وحرف (على) الدال على تقرّر حقّ في ذمة المجرور بها. وقد تعسّر أو تعذّر قيام المسلمين بأداء الحجّ عقب نزولها، لأنّ المشركين كانوا لا يسمحون لهم بذلك، فلعلّ حكمة إيجاب الحجّ يومئذ أن يكون المسلمون على استعداد لأداء الحجّ مهما تمكّنوا من ذلك، ولتقوم الحجَّة على المشركين بأنَّهم يمنعون هذه العبادة، ويصدّون عن المسجد الحرام، ويمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه.
إذن ابن عاشور، وكما هو واضح من كلامه، مع القول الذي يذهب إلى أن الحج تقرر فرضه في الإسلام سنة ثلاث للهجرة النبوية الشريفة بالآية .. وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ... والتي نزلت في السنة الثالثة للهجرة.
فيما ذكر الدكتور الزحيلي صاحب الفقه الإسلامي وأدلته:
ص: 155
أن الحج فرض في أواخر سنة تسع من الهجرة، وأن آية فرضه هي قوله تعالى: وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ....
نزلت عام الوفود أواخر سنة تسع وهو رأي أكثر العلماء، وأنه (ص) لم يؤخر الحج بعد فرضه عاماً واحداً، وإنما أخره (ع) للسنة العاشرة لعذر، وهو نزول الآية بعد فوات الوقت (1)، فكان حجه بعد الهجرة حجة واحدة سنة عشر، كما روى أحمد ومسلم.
وقد يصح ما يقال: إن ما ذكره ابن قيم الجوزية في كتاب: «زاد المعاد» من أن الحج فرض في السنة التاسعة أو العاشرة من الهجرة، قد يكون ارتكازنا منه إلى أن الرسول (ص) حج حجة الوداع في السنة العاشرة؛ وأنه أدى الفريضة عقب فرضها إما في السنة التاسعة أو العاشرة .. ولكن هذا لا يصلح سنداً. فقد تكون هناك اعتبارات أخرى هي التي جعلت الرسول (ص) يؤخر حجّه إلى السنة العاشرة. وبخاصة إذا لاحظنا أنه أرسل أبا بكر أميراً على الحج في السنة التاسعة. وقد ورد أن رسول الله (ص) لما رجع من غزوة تبوك همّ بالحج؛ ولأن المشركين يحضرون موسم الحج على عادتهم، وأن بعضهم يطوفون بالبيت عراة، فكره مخالطتهم .. ثم نزلت براءة، فأرسل (ص) علي بن أبي طالب (ع) يبلغ مطلع براءة للناس، وينهي بها عهود المشركين، ويعلن يوم النحر إذا اجتمع الناس بمنى:" أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. ومن كان له عهد عند رسول الله (ص) فهو إلى مدته" ... ومن ثم لم يحج (ص) حتى تطهر البيت من المشركين ومن العرايا.
نعم، هناك أمور يستأنس بها على أن فريضة الحج وشعائره قد يكون الإسلام قد أقرها قبل هذا الوقت. مثل أنها كتبت في مكة قبل الهجرة. ولكن هذا القول قد لا يجد له سنداً قوياً، اللهم إلا أن يؤخذ بالرأي الذاهب إلى أن سورة الحج نزلت في مكة فهي سورة مكية وقد ذكرت معظم شعائر الحج، بوصفها الشعائر التي أمر الله إبراهيم بها.
يقول ابن عاشور في تفسيره:
ووجه تسميتها سورة الحج أن الله ذكر فيها كيف أمر إبراهيم (ع) بالدعوة إلى حج البيت الحرام، وذكر ما شرع للناس يومئذ من النسك تنويهاً بالحج وما فيه من فضائل ومنافع، وتقريعاً للذين يصدون المؤمنين عن المسجد الحرام وإن كان نزولها قبل أن يفرض الحج على المسلمين بالاتفاق، وإنما فرض الحج بالآيات التي في سورة البقرة وفي سورة آل عمران.
إلى أن قال: وقال الجمهور: هذه السورة بعضها مكي وبعضها مدني وهي مختلطة، أي لا يعرف المكي بعينه، والمدني بعينه. قال ابن عطية: وهو الأصح. (2)
ومع أن شعائر الحج بينت في سورة الحج:
وَ إِذْ بَوَّأْنا لإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْقائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ* وَ أَذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِى أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ* ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ* ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ* حُنَفاءَ لِلهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ* ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ* لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ* وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَ بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ* الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ الصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَ الْمُقِيمِى الصَّلاةِ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها
ص: 156
خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْقانِعَ وَ الْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَ بَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ.
فلاحظ أن هذه الآيات بينت الهدي والنحر والطواف والإحلال من الإحرام وذكر اسم الله، وهي شعائر الحج الأساسية. وكان الخطاب موجهاً إلى الأمة المسلمة موصولة بسيرة أبيهم إبراهيم، مما يشير إلى أن الحج قد يكون فرضه في وقت مبكر أو على الأقل بينت مناسكه أو أحكامه، باعتباره شعيرة إبراهيم الذي إليه ينتسب المسلمون، فإذا كانت قد وجدت عقبات من الصراع بين المسلمين والمشركين- وهم سدنة الكعبة إذ ذاك- جعلت أداء الفريضة متعذراً بعض الوقت، فذلك اعتبار آخر. وقد رجح أن بعض المسلمين كانوا يؤدون الفريضة أفراداً في وقت مبكر؛ بعد تحويل القبلة في السنة الثانية من الهجرة ..
ولكن يبقى أن سورة الحج مدنية، وأن تاريخ فرض الحج متردد بين الآيتين 196 من سورة البقرة و 97 من سورة آل عمران.
لقد فرض الحج سنة ست أو سنة تسع من الهجرة على اختلاف بينهم، و سنة تسع هي سنة الوفود التي نزلت فيها سورة آل عمران، وفيها قول الله تعالى:
وَ لِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.
كما أن تأريخ الحج يعد واحداً من الأدلة التي ساقوها لإثبات أن الحج واجب على الفورية أو التراخي، فقد ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة، إلى أن الحج إنما فرض في السنة التاسعة أو في أواخر السنة التاسعة، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ.
وعلى هذا قالوا: إن الحج على الفور، والذي منع الحبيب (ع) أن يحج في السنة التاسعة هو لأجل أن كان في قريش من يطوف وهو عريان وكان من يطوف وهو مشرك.
فيما ذهب الشافعي إلى أن الحج إنما فرض في السنة السادسة، قال: لقوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ (1)، قال: إن هذه الآية نزلت مقترنة مع قوله تعالى: فَمَن كَانَ مِنْكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ (2)، قال: ومن المعلوم أن هذه الآية نزلت في حق من؟ كعب بن عجرة حينما كان آذاه هوام رأسه، فأمره النبي (ص) أن يفعل الحلق وأن يفتدي، قال الشافعي: وهذا كان في السنة السادسة وقت الحديبية.
وعلى هذا، فإن فريضة الحج على رأيهم جاءت سنة ست فأخر النبي (ص) الحج إلى سنة عشر من غير عذر فلو لم يجز التأخير لما أخره. وبالتالي فالحج عند هذا الفريق مبني على التراخي.
هذه خلاصة ما قرأته عنهم. (3)
بعد هذه المقدمة نعود الى مباحث المقطع الأول من الآية المذكورة:
وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ (4)
ففي هذا المقطع مباحث قيمة نتعرض لها:
المقطع إعراباً ولغة ومعنى
الواو عاطفة، وأتموا في مصادر اللغة: من تم بتشديد الميم تماً وتماماً: كمل، وأتم الشي ء: أكمله ..
ص: 157
وأتموا فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والحج مفعول به، والعمرة معطوف على الحج، ولله الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال، أي خالصاً لوجهه، ويصح أن يكون الجار والمجرور في (لله) متعلقاً بأتموا فتكون اللام هي لام المفعول لأجله، ويجوز أن تتعلق بمحذوف على أنها حال من الحج والعمرة، تقديره: أتموها كائنين لله. وقرأ علي وابن مسعود وزيد بن ثابت: «والعمرة»: بالرفع على الابتداء، و «لله» الخبر، على أنها جملة مستأنفة. وإنما قال في الحج والعمرة: (لله) ولم يقل ذلك في الصلاة والزكاة، من أجل أنهم كانوا يتقربون ببعض أفعال الحج والعمرة إلى أصنامهم، فخصّهما بالذكر لله تعالى، حثاً على الإخلاص فيهما.
وقد اقتبس الشعراء هذا التعبير الجميل وصرفوه إلى مناحي التغزل فقال ذو الرمة وأبدع:
تمام الحج أن تقف المطايا على خرقاء واضعة اللثام
جعل الوقوف على خرقاء وهي محبوبته من بني عامر، كبعض مناسك الحج التي لا ندحة عن إتمامها. (1)
معنى الحج: هو القصد إلى الشي ء المعظم. أو هو القصد للزيارة قال الشاعر المُخَبَّلُ السَ عدي:
وأشهد من عوف حلولًا كثيرة يحجون سِبَّ الزبرقان المزعفرا
يريد عمامته، وكانت سادة العرب تصبغ عمائمها بالزعفران.
والسِّبُ: العمامة أي يقصدون عمامة الزبرقان المصبوغة بالزعفران. (2)
وشرعاً: وقوف بعرفة، ليلة عاشر ذي الحجة، وطواف بالبيت سبعاً، وسعي بين الصفا والمروة كذلك، على وجه مخصوص (الدسوقي) وشرعاً: قصد البيت الحرام، للتقرب الى الله تعالى، بأفعال مخصوصة، في زمان مخصوص، ومكان مخصوص من حج أو عمرة (الحسين الصنعاني) ..
و الحج الأكبر هو الذي يسبقه وقوف بعرفة. وفي القرآن الكريم:
وَ أَذانٌ مِنَ اللهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِى ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ (3)
ويوم الحج الأكبر هو يوم النحر، وقيل: يوم عرفة.
معنى العمرة: بضم العين: الزيارة وقيل: القصد إلى مكان عامر، وسميت بذلك لأنها تفعل في العمر كله، وكذلك أخذت العمرة من العمارة؛ لأن الزائر للمكان يعمره بزيارته حين تضمه أرضه وسماؤه وأجواؤه، وجمعها عمر بضم العين وفتح الميم، وعمرات بضم العين والميم، وشرعاً: قصد الكعبة للنسك المعروف (الأنصاري).
وهو الحج الأصغر الذي ليس فيه وقوف بعرفة. والمعتمر: الزائر، القاصد للشي ء، من يؤدي العمرة.
ولا يغني عنها الحج وإن اشتمل عليها. (4)
1- ما المراد من الفعل وأتموا؟
لهذا الفعل الوارد في الآية مرادان تدور حولهما- كما يبدو- الروايات وتبعاً لها أقوال العلماء من المذاهب الإسلامية:
الأول: (الإتيان ابتداءاً).
أي وجوب الإتيان بالحج والعمرة ابتداءاً وإن لم يكن شرع فيهما. فالآية على هذا الرأي جاءت إنشاء لفريضة الحج.
الثاني: (الإتمام).
أي وجوب إتمامهما بعد الشروع فيهما. أي لا تدل الآية على وجوبهما أصالة وقبل الشروع فهما ليسا بواجبين ابتداء حسب هذه الآية، ولكن إذا ما بدئ بهما جاء وجوب اتمامهما.
ص: 158
إذن الفرق واضح بين الفهمين: (الابتداء والإتمام) وهذان الفهمان لمراد الآية نقف عند أقوال أصحابهما والأدلة التي ساقها كل منهما على ما ذهب إليه:
فبعد أن بين أن المراد بالحج والعمرة معناهما الشرعي المتعارف عند الفقهاء ولهما أفعال مخصوصة معلومة من كتب الفروع قال: وأتموهما: يعني ائتوا بهما تامين مستجمعين للشرائط مع جميع المناسك وتأدية كل ما فيهما. كذا في الكشاف وتفسير القاضي ومجمع البيان، أي المراد الإتيان بهما لا الإتمام بعد الشروع فيهما، ويؤيده قراءة: أقيموا الحج والعمرة.
هذا ما ذكره المحقق الأردبيلي في كتابه زبدة البيان في أحكام القرآن وفي تفسيره الآية، وواصل كلامه قائلًا:
وقيل: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك أو تفرد لكل منهما سفراً أو أن تجرده لهما، ولا تشوبه بغرض دنيوي أو أن يكون النفقة حلالًا.
فيما جاء بالخبر الصحيح أن الإحرام من الميقات من تمام الحج، وفي حسنة عمر بن أذينة قال: كتبت إلى أبي عبد الله (ع) بمسائل بعضها مع ابن بكير وبعضها مع أبي العباس وجاء الجواب بإملائه (ع)، سألت عن قول الله عز وجل: وَ لِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قال: «يعني بهما الحج والعمرة جميعاً لأنهما مفروضان».
وسألت عن قول الله عز وجل: وَأَتِمُّوُا الْحَجُّ وَالْعُمْرَةَ للهِ.
قال: يعني بإتمامهما أداءهما واتقاء ما يتقي المحرم فيهما،
وسألت عن قوله تعالى: الْحَجَّ الأَكْبَر ما يعني بالحج الأكبر؟
فقال: الحج الأكبر الوقوف بعرفة ورمي الجمار. والحج الأصغر العمرة. (1)
وقال في مجمع البيان: وقيل معناه أقيموهما إلى آخر ما فيهما، وهو المروي عن أمير المؤمنين وعلي بن الحسين وعن سعيد بن جبير ومسروق والسدي.
ثم يخلص قائلًا:
فعلى هذه التفاسير كلها تدل الآية على وجوب الحج والعمرة ابتداء وإن لم يكن شرع فيهما، والظاهر أنه لا خلاف عندنا فيه، ويدل عليه الأخبار أيضاً وعلى وجوب القربة في فعلهما، فيفهم وجوب النية فيهما وفي سائر العبادات؛ لعدم القائل بالفصل كما هو مذهبنا، فاندفع بها قول الحنفي بعدم وجوب النية، وعدم وجوب العمرة، وأما دلالتها حينئذ على إتمام الحج المندوب، وإتمام الحج الواجب الفاسد والعمرة كذلك كما قيل، فليست بواضحة إلا بتكلّف، نعم لا يبعد وجوب إتمامهما في الفاسد بدليل وجوب أصلهما، وأصل عدم سقوط الباقي بالإفساد والأصل بقاؤه.
ثم يقول بعد سرده لكل هذا:
ولكن ظاهر الآية- والقول مازال للمحقق الأردبيلي- مع قطع النظر عن التفاسير التي تقدمت وجوب إتمامهما بعد الشروع، فتفيد وجوب إتمام كل منهما بعد الشروع ندباً أو مع الإفساد، وحينئذ لا تدل على وجوبهما أصالة وقبل الشروع.
من هذا يظهر أن هناك قولين في المسألة:
الأول: أن الآية تدل على وجوب الحج والعمرة ابتداء وإن لم يشرع فيهما. الثاني: وجوب إتمامهما بعد الشروع.
وإضافة لهذا، فقد بسط المفسرون القول فيما فهموه من مقطع الآية الأول، فقد فهم بعضهم أن الأمر وَأَتِمُّوُا أمرٌ بإتمام الحج والعمرة متى بدى ء فالعمرة ليست فريضة عند بعضهم، ومع هذا ورد الأمر هنا بإتمامها كالحج. مما يدل على أن المقصود هو الأمر بالإتمام لا إنشاء الفريضة بهذا النص. ويؤخذ من هذا الأمر كذلك أن العمرة- ولو أنها ابتداء ليست واجبة
ص: 159
- إلا أنه متى أهلّ بها المعتمر فإن اتمامها يصبح واجباً. والعمرة كالحج في شعائرها ما عدا الوقوف بعرفة. والأشهر أنها تؤدى على مدار العام. وليست موقوتة بأشهر معلومات كالحج. فهنا فهمان، ونحن نذكر خلاصة ما صوّبه بعض المفسرين والفقهاء،
فبعد أن اتفقوا على أن الشروع في الحج والعمرة يلزم إتمام كل منهما، حتى عند الذين يرون استحباب العمرة لا وجوبها، بمعنى أنه إذا شرع الحاج أو المعتمر في أعمال أحد النسكين فيتعين عليه إتمامه؛ إلا أن أنظارهم تفاوتت في المقصود بقوله تعالى: (وَأَتِمُّوُا) على أقوال حاصلها:
القرطبي في الجامع لأحكام القرآن
اختلف العلماء في المعنى المراد بإتمام الحج والعمرة لله، فقيل: أداؤهما والإتيان بهما، كقوله: فَأَتَمَّهُنَّ (1) وقوله: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ (2) أي ائتوا بالصيام، وهذا على مذهب من أوجب العمرة، على ما يأتي. ومن لم يوجبها قال: المراد تمامهما بعد الشروع فيهما، فإن من أحرم بنسك وجب عليه المضي فيه ولا يفسخه، قال معناه الشعبي وابن زيد. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص، وفعله عمران بن حصين. وقال سفيان الثوري: إتمامهما أن تخرج قاصداً لهما لا لتجارة ولا لغير ذلك، ويقوي هذا قوله: «لله» وقال عمر: إتمامهما أن يفرد كل واحد منهما من غير تمتع وقران، وقاله ابن حبيب. وقال مقاتل: إتمامهما ألا تستحلوا فيهما ما لا ينبغي لكم، وذلك أنهم كانوا يشركون في إحرامهم فيقولون: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. فقال: فأتموهما ولا تخلطوهما بشي ء آخر.
الطوسي في التبيان
أحدهما: أنه يجب أن يبلغ آخر عمالهما بعد الدخول فيهما وهو قول مجاهد، وأبي العباس المبرد، وأ بي علي الجبائي.
والثاني: قال سعيد بن جبير، وعطاء، والسدي: إن معناه إقامتهما إلى آخر ما فيهما، لأنهما واجبان.
الثالث: قال طاووس: إتمامهما إفرادهما.
الرابع: قال قتادة: الاعتمار في غير أشهر الحج.
ثم يقول: وأصحّ الأقوال الأول.
الطبرسي في مجمع البيان
أي أتموهما بمناسكهما وحدودهما وتأدية كل ما فيهما عن ابن عباس ومجاهد، وقيل: معناه أقيموهما إلى آخر ما فيهما، وهو المروي عن أمير المؤمنين وعلي بن الحسين وعن سعيد بن جبير ومسروق والسدي ..
وقد صوَّب الطبري في" تفسيره" من هذه الأقوال، قول من قال: المراد بالإتمام، إتمام أعمال الحج والعمرة بعد الدخول فيهما، والقيام بهما على الوجه الذي شرّعا عليه، وهكذا هو ابن كثير الذي قال:
وظاهر السياق إكمال أفعالهما بعد الشروع فيهما. ولهذا قال بعده: فإن أحصرتم، أي صددتم عن الوصول إلى البيت ومنعتم من إتمامهما، ولهذا اتفق العلماء على أن الشروع في الحج والعمرة ملزم سواء قيل بوجوب العمرة أو باستحبابها ...
ص: 160
الرازي في التفسير الكبير
وهنا ننتقل الى ما يقوله الرازي في تفسيره للآية في التفسير الكبير، فله كلام مفصل، فهو يقسم الأمر الوارد في الآية: وَأَتِمُّوُا قسمين، ويتبنى القسم الأول ويدافع عنه بأدلة قيمة:
القسم الأول: الأمر مطلق.
القسم الثاني: الأمر مشروط بالدخول فيه.
ثم يقول: ذهب أصحابنا إلى أنه مطلق، والمعنى: افعلوا الحج والعمرة على نعت الكمال والتمام.
والقول الثاني: إن هذا الأمر مشروط، ينسبه إلى أبي حنيفة، والمعنى: أن من شرع فيه فليتمه. قالوا: ومن الجائز أن لا يكون الدخول في الشي ء واجباً إلا أن بعد الدخول فيه يكون إتمامه واجباً، وفائدة هذا الخلاف أن العمرة واجبة عند أصحابنا، وغير واجبة عند أبي حنيفة .. ثم يعرض الرازي حجة أصحابه من وجوه. والذي يهمنا منها الوجه الأول، نكتفي به دون ذكر الوجوه الأخرى:
الحجة الأولى: قوله تعالى: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلهِ وجه الاستدلال به أن الإتمام يراد به فعل الشي ء كاملًا تاماً، ويحتمل أن يراد به إذا شرعتم في الفعل فأتموه، وإذا ثبت الاحتمال وجب أن يكون المراد من هذا اللفظ هو ذاك، أما بيان الاحتمال فيدل عليه قوله تعالى: وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ أي فعلهن على سبيل التمام والكمال، وقوله تعالى ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ أي فافعلوا الصيام إلى الليل، وحمل اللفظ على هذا أولى من قول من قال: المراد فاشرعوا في الصيام ثم أتموه، لأن على هذا التقدير يحتاج إلى الإضمار، وعلى التقديرالذي ذكرناه لا يحتاج اليه، فيثبت أن قوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ يحتمل أن يكون المراد منه الإتيان به على نعت الكمال والتمام فوجب حمله عليه، أقصى ما في الباب أنه يحتمل أيضاً أن يكون المراد منه أنكم إذا شرعتم فيه فأتموه، إلا أن حمل اللفظ على الوجه الأول أولى، ويدل عليه وجوه:
الأول: أن حمل الآية على الوجه الثاني يقتضي أن يكون هذا الأمر مشروطاً، ويكون التقدير: أتموا الحج والعمرة لله إن شرعتم فيهما، وعلى التأويل الأول الذي نصرناه لا يحتاج إلى إضمار هذا الشرط، فكان ذلك أولى.
الثاني: أن أهل التفسير ذكروا أن هذه الآية هي أول آية نزلت في الحج. فحملها على إيجاب الحج أولى من حملها على الإتمام بشرط الشروع فيه.
الثالث: قرأ بعضهم «وَأَقيمُوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلهِ» وهذا وإن كان قراءة شاذة جارية مجرى خبر الواحد، لكنه بالاتفاق صالح لترجيح تأويل على تأويل.
الرابع: أن الوجه الذي نصرناه يفيد وجوب الحج والعمرة، ويفيد وجوب إتمامهما بعد الشروع فيهما، والتأويل الذي ذكرتم لا يفيد إلا أصل الوجوب، فكان الذي نصرناه أكبر فائدة، فكان حمل كلام الله عليه أولى.
الخامس: أن الباب باب العبادة فكان الاحتياط فيه أولى، والقول بإيجاب الحج والعمرة معاً أقرب إلى الاحتياط، فوجب حمل اللفظ عليه.
السادس: هب أنا نحمل اللفظ على وجوب الإتمام، لكنا نقول: اللفظ دل على وجوب الإتمام جزماً، وظاهر الأمر للوجوب، فكان الإتمام واجباً جزماً والإتمام مسبوق بالشروع، وما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدوراً للمكلف فهو واجب، فيلزم أن يكون الشروع واجباً في الحج وفي العمرة.
السابع: روي عن ابن عباس أنه قال: والذي نفسي بيده إنها لقرينتها في كتاب الله. أي أن العمرة لقرينة الحج في الأمر بهما في كتاب الله، يعني في هذه الآية، فكان كقوله: وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ فهذا تمام تقرير هذه الحجة.
ص: 161
روايات مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)
لأهل البيت (عليهم السلام) روايات في خصوص هذه الآية، منها:
في تفسير العياشي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) في قوله تعالى: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلهِ قالا: «فإن تمام الحج أن لا يرفث، ولا يفسق، ولا يجادل».
يبدو أن هذا توضيح لأهم تروك الإحرام لا حصرها بما ذكر.
وفي الكافي: عن الصادق (ع) في قوله تعالى: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلهِ قال: «يعني بتمامهما، أداؤهما واتقاء ما يتقي المحرم فيهما»
وفي الكافي عنه (ع) قال: إذا أحرمت فعليك بتقوى الله، وذكر الله كثيراً، وقلة الكلام إلا بخير، فإن من تمام الحج والعمرة أن يحفظ المرء لسانه إلا من خير، كما قال تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِى الْحَجِّ.
وفي مجمع البيان عن أمير المؤمنين وعلي بن الحسين (عليهما السلام) ..: «يعني أقيموهما إلى آخر ما فيهما».
وعن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قالوا: سألناهما عن قوله: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلهِ، قالا: فإن تمام الحج أن لا يرفث ولا يفسق ولا يجادل.
وعن الصادق (ع) في حديث قال: يعني بتمامهما أداءهما، واتقاء ما يتقي المحرم فيهما. (1)
و بعد أن يستظهر ابن كثير في تفسيره- كما ذكرنا- أن الآية تعني كما هو ظاهر السياق، إكمال أفعالهما بعد الشروع فيهما؛ ولهذا قال بعده: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ أي: صُدِدْتم عن الوصول إلى البيت ومنعتم من إتمامهما. ولهذا اتفق العلماء على أن الشروع في الحج والعمرة مُلْزِمٌ، سواء قيل بوجوب العمرة أو باستحبابها، كما هما قولان للعلماء ... شرع في ذكر روايات عن هذا الموضوع ننقل بعضها:
عن عبد الله بن سلمة، قال: جاء رجل إلى عليّ رضوان الله عليه، فقال: أرأيتَ قَول الله عز وجل: وَأَتِمّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ؟ قال: أن تحرم من دُوَيْرة أهلك.
وكذا عن محمد بن سوقة، عن سعيد بن جبير، قال: من تَمام العُمرة أن تحرم من دُوَيرة أهلك.
وكذا قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، وطاوس. وعن سفيان الثوري أنه قال في هذه الآية: إتمامهما أن تحرم من أهلك، لا تريد إلا الحج والعمرة، وتُهِلّ من الميقات ليس أن تخرج لتجارة ولا لحاجة، حتى إذا كنت قريباً من مكة قلت: لو حججت أو اعتمرت، وذلك يجزئ، ولكن التمام أن تخرج له، ولا تخرج لغيره.
وقال مكحول: إتمامهما إنشاؤهما جميعاً من الميقات.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر عن الزهري قال: بلغنا أنّ عمر قال في قول الله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ [قال]: من تمامهما أن تُفْرد كُلَّ واحد منهما من الآخر، وأن تعتمر في غير أشهر الحج؛ إن الله تعالى يقول: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ.
وقال هُشَيْم عن ابن عون قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: إن العمرة في أشهر الحج ليست بتامة فقيل له: العمرة في المحرم؟ قال: كانوا يرونها تامة. وكذا روي عن قتادة بن دعامة، وهنا يقول ابن كثير: وهذا القول فيه نظر؛ لأنه قد ثبت أن رسول الله (ص) اعتمر أربع عُمَرٍ كلها في ذي القعدة: عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست، وعمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع، وعمرة الجِعرّانة في ذي القعدة سنة ثمان، وعمرته التي مع حجته أحرم بهما معاً في ذي القعدة سنة عشر، ولا اعتمر قَطّ في غير ذلك بعد هجرته، ولكن قال لأم هانئ: «عُمْرة في رمضان تعدل حجة معي». وما ذاك إلا لأنها [كانت] قد
ص: 162
عزمت على الحج معه (ع)، فاعتاقَتْ عن ذلك بسبب الطهر، كما هو مبسوط في الحديث عند البخاري، ونَصّ سعيد بن جبير على أنه من خصائصها، والله أعلم.
وقال السدي في قوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ أي: أقيموا الحج والعمرة. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ يقول: من أحرم بالحج أو بالعمرة فليس له أن يحل حتى يتمهما، تمام الحج يوم النحر، إذا رمى جمرة العقبة، وطاف بالبيت، وبالصفا، والمروة، فقد حل.
وقال قتادة، عن زُرَارة، عن ابن عباس أنه قال: الحج عرفة، والعمرة الطواف. وكذا روى الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة في قوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ قال: هي [في] قراءة عبد الله: «وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت» لا تُجاوز بالعمرة البيت. قال إبراهيم: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير، فقال: كذلك قال ابن عباس.
وقال سفيان عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة أنه قال: «وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت» وكذا روى الثوري أيضاً عن إبراهيم، عن منصور، عن إبراهيم أنه قرأ: «وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت».
وعن ابن عباس: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ يقول: من أحرَم بحجّ أو بعُمْرة فليس له أن يَحلّ حتى يتمهما، تَمامُ الحجّ يوم النَّحر إذا رَمَى جَمرةَ العَقبة وزار البيت فقد حَلّ من إحرامه كُلّه، وتمامُ العمرة إذا طاف بِالبيت وبالصَّفا والمروة، فقد حَلّ. وهذا معناه أن الأمر بالإتمام الذي يحمله الفعل وَأَتمُّوُا مشروط بالدخول في النسك، وليس مطلقاً. تمامُهما أن تُحرِم بهما مفردين من دُوَيْرة أهلِك.
عن سليمان بن موسى، عن طاوس، قال: تمامُهما إفرادهما مُؤْتَنَفتين من أهلك.
عن سليمان بن موسى، عن طاوس: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ قال: تفردهما مؤقتتين من أهلك، فذلك تمامهما.
تمام العمرة أن تعمل في غير أشهر الحج، وتمامُ الحج أن يُؤتى بمناسكه كلِّها، حتى لا يلزم عَامِلَه دمٌ بسبب قِران ولا متعة.
عن قتادة قوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ قال: وتمام العمرة ما كان في غير أشهر الحج.
ومن كان في أشهر الحج، ثم أقام حتى يَحُجّ، فهي مُتعة. عليه فيها الهدي إن وُجد، وإلا صَام ثلاثة أيام في الحج وسبعةً إذا رَجع.
عن قتادة قوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ قال: ما كان في غير أشهر الحج فهي عمرة تامة، وما كان في أشهر الحج فهي مُتعة وعليه الهدي.
عن ابن عون، قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: إنّ العمرة في أشهر الحج ليست بتامة. قال: فقيل له: العمرة في المحرَّم؟ قال: كانوا يَرَونها تامَّة.
عن سفيان، قال: هو يعني تمامهما أن تخرُج من أهلك لا تريد إلا الحج والعمرة، وتُهلّ من الميقات. ليس أن تخرُج لتجارةٍ ولا لحاجة، حتى إذا كنت قريباً من مكة قلت: لو حججت أو اعتمرت. وذلك يجزئ، ولكن التمام أن تخرُج له لا تخرُج لغيره. بل معنى ذلك: أتموا الحجَّ والعمرةَ لله إذا دخلتم فيهما. (1)
2 الحج:
هو من شعائر الإسلام بل هو من أركانه الخمسة، شرعه الله تعالى على يدي نبي الله تعالى إبراهيم الخليل (ع)، وأقره الإسلام إلى يوم القيامة، وهو ثلاثة أنواع:
ص: 163
حج التمتع وهو أفضلها، ثم حج القران، فحج الإفراد، وقد تكفلت كتب الفقه بتفصيل ما يتعلق بهذه الأنواع أو الأقسام من أحكام، ولا نفصّل فيه.
3- هل العمرة واجبة؟
فبعد أن اتفقوا على وجوب الحج سواء بهذه الآية محل البحث أم بغيرها كما عليه بعضهم، اختلفوا في العمرة هل هي أيضاً واجبة أو لا؟ هذا ما سنراه:
الروايات:
وقد وردت عن مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) العديد من الروايات تبين وجوب العمرة ومنها:
ففي التهذيب وتفسير العياشي عن الإمام الصادق (ع) في قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ قال: هما مفروضان.
وفي العلل عن الصادق (ع): «العمرة واجبة على الخلق بمنزلة الحج على من استطاع، لأن الله يقول: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ قيل: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، أيجزي ذلك عنه؟ قال: نعم.
وفي تفسير العياشي عن أبي جعفر (ع): «العمرة واجبة بمنزلة الحج، لأن الله يقول: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ هي واجبة مثل الحج، ومن تمتع أجزأته، والعمرة في أشهر الحج متعة».
فيما ذكر ابن كثير وكذا الطبري في تفسيرهما روايات اختلفت فيما بينها؛ فبعضها يذهب إلى عدم وجوب العمرة فيما ذهب غيره إلى وجوبها، كما أن عدداً روي عنه أن لفظة العمرة الواردة في الآية ليست منصوبة للمفعولية معطوفة على الحج، بل هي مرفوعة على الابتداء و «لله» الخبر، وبالتالي فالجملة مستأنفة وتبعاً لذلك اختلفت أقوال المفسرين والفقهاء فيهما:
قال ابن زيد: ليست العمرة واجبة على أحد من الناس. قال: فقلت له: قولُ الله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ؟ قال: ليس من الخلقِ أحدٌ ينبغي له إذا دَخَل في أمر إلا أن يتمَّه، فإذا دخل فيها لم يَنْبَغ له أن يهلّ يوماً أو يومين ثم يرجع، كما لو صام يوماً لم ينبغ له أن يفطر في نصف النهار.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال: حدثني سعيد بن أبي بردة أن الشعبي وأبا بردة تذاكرَا العمرة، قال: فقال الشعبي: تطوَّع، وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ. وقال أبو بردة: هي واجبة وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا ابن عون، عن الشعبي أنه كان يقرأ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ. أي كان الشعبي يقرأ العمرة رفعاً.
وقد روي عن الشعبي خلاف هذا القول، وإن كان المشهور عنه من القول هو هذا.
فعن المغيرة، عن الشعبي، قال: العمرةُ واجبةٌ.
فقراءة من قال: العمرة واجبة- نصبها، بمعنى أقيموا فرضَ الحجّ والعمرةَ،
حدثنا محمد بن المثنى، قال: أخبرنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت أبا إسحاق، يقول: سمعت مسروقاً يقول: أُمرتم في كتاب الله بأربع: بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، والعمرة. قال: ثم تلا هذه الآية: وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ (1)، وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثاً يروي عن الحسن، عن مسروق، قال: أمرنا بإقامة أربعةٍ: الصلاة والزكاة، والعمرة والحجّ، فنزلت العُمْرة من الحج منزلةَ الزكاة من الصلاة.
ص: 164
حدثنا ابن بشار، قال: أنبأنا محمد بن بكر، قال: ثنا ابن حريج، قال: قال علي بن حسين وسعيد بن جبير، وسُئلا: أواجبةٌ العمرة على الناس؟ فكلاهما قال: ما نعلمها إلا واجبة، كما قال الله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ.
حدثنا سَوَّار بن عبد الله، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان، عن عبد الملك بن أبي سليمان، قال: سأل رجل سعيد بن جبير عن العمرة فريضَةٌ هي أم تطوعٌ؟ قال: فريضةٌ. قال: فإن الشعبي يقول: هي تطوع. قال: كَذَب الشعبي، وقرأ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة عمن سمع عطاء يقول في قوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ، قال: هما وَاجبان: الحج، والعمرة.
قال أبو جعفر: فتأويل هؤلاء في قوله تبارك وتعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ أنهما فرضَان واجبان أمرَ الله تبارك وتعالى بإقامتهما، كما أمر بإقامة الصلاة، وأنهما فريضتان، وأوجب العمرة وجوبَ الحج. وهم عدد كثير من الصحابة والتّابعين، ومن بعدهم من الخالفين، كرهنا تطويل الكتاب بذكرهم وذكر الروايات عنهم.
وقالوا: معنى قوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ وأقيموا الحج والعمرة.
ذكر بعض من قال ذلك:
حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي قوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ يقول: أقيموا الحج والعمرة.
حدثنا أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا إسرائيل، عن ثُوير، عن أبيه، عن علي: «وأقيموا الحج والعمرة للبيت» ثم هي واجبةٌ مثل الحج.
حدثنا أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا إسرائيل، قال: ثنا ثوير، عن أبيه، عن عبد الله: «وأقِيمُوا الحجَّ والعمرةَ إلى البيت» ثم قال عبد الله: والله لولا التحرُّجُ، وأني لم أسمع من رسول الله (ص) فيها شيئًا، لقلت: إنّ العمرة واجبة مثل الحج.
وقد وردت أحاديث كثيرة من طرق متعددة، عن أنس وجماعة من الصحابة: أن رسول الله (ص) جمع في إحرامه بحج وعمرة، وثبت عنه في الصحيح أنه قال لأصحابه: «من كان معه هَدْي فليهل بحج وعمرة».
وقال في الصحيح أيضاً: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة». (1)
إذن «وجوب العمرة وعدم وجوبها» عنوان كلام دار بين علماء التفسير والفقه وكل واحد منهما راح يدلي بأدلة ما يذهب إليه، والذي يرى عدم وجوبها يتمسك بأدلة منها قراءة الرفع التي نسبت إلى علي وابن مسعود وزيد بن ثابت ونسبها القرطبي إلى الشعبي وأبي حيوة، وهي قراءة شاذة. (2)
ويناقش الرازي في هذا الخبر حيث يقول:
فإن قيل: قرأ علي وابن مسعود والشعبي: وَالْعُمْرَةَ لله بالرفع، وهذا يدل على أنهم قصدوا إخراج العمرة عن حكم الحج في الوجوب،
قلنا: هذا مدفوع من وجوه:
الأول: أن هذه قراءة شاذة فلا تعارض القراءة المتواترة.
الثاني: أن فيها ضعفاً في العربية، لأنها تقتضي عطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية.
الثالث: أن قوله: وَالْعُمْرَةُ للهِ معناه أن العمرة عبادة الله، ومجرد كونها عبادة الله لا ينافي وجوبها، وإلا وقع التعارض بين مدلول القراءتين وهو غير جائز.
ص: 165
الرابع: أنه لما كان قوله: وَالْعُمْرَةُ للهِ معناه: والعمرة عبادة الله. وجب أن يكون العمرة مأموراً بها لقوله تعالى: وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ والأمر للوجوب، وحينئذ يحصل المقصود. (1)
أما القرطبي فقال:
الرابعة: في هذه الآية دليل على وجوب العمرة؛ لأنه تعالى أمر بإتمامها كما أمر بإتمام الحج. قال الصبي بن معبد: أتيت عمر رضي الله عنه فقلت: إني كنت نصرانياً فأسلمت، وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبتين عليّ، وإني أهللت بهما جميعاً، فقال له عمر: هديت لسنة نبيك. قال ابن المنذر: ولم ينكر عليه قوله: «وجدت الحج والعمرة مكتوبتين علي»، وبوجوبهما قال علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس، وروى الدارقطني عن ابن جريج قال: أخبرني نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: ليس من خلق الله أحد إلا عليه حجة وعمرة واجبتان من استطاع ذلك سبيلًا، فمن زاد بعدها شيئاً فهو خير وتطوع. قال: ولم أسمعه يقول في أهل مكة شيئاً. قال ابن جريج: وأخبرت عن عكرمة أن ابن عباس قال: العمرة واجبة كوجوب الحج من استطاع إليه سبيلًا،
وممن ذهب إلى وجوبها من التابعين عطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين والشعبي وسعيد بن جبير وأبو بردة ومسروق وعبد الله بن شداد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وابن الجهم من المالكيين.
وقال الثوري: سمعنا أنها واجبة، وسئل زيد بن ثابت عن العمرة قبل الحج، فقال: صلاتان لا يضرك بأيهما بدأت، ذكره الدارقطني، وروي مرفوعاً عن محمد بن سيرين عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله (ص): «إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت» وكان مالك يقول: العمرة سنة ولا نعلم أحداً أرخص في تركها، وهو قول النخعي وأصحاب الرأي فيما حكى ابن المنذر، وحكى بعض القزوينيين والبغداديين عن أبي حنيفة أنه كان يوجبها كالحج، وبأنها سنة ثابتة، قال ابن مسعود وجابر بن عبد الله.
روى الدارقطني حدثنا محمد بن القاسم بن زكريا حدثنا محمد بن العلاء أبو كريب، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن حجاج، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: سأل رجل رسول الله (ص) عن الصلاة والزكاة والحج: أواجب هو؟ قال: (نعم) فسأله عن العمرة: أواجبة هي؟ قال: (لا وأن تعتمر خير لك).
رواه يحيى بن أيوب عن حجاج وابن جريج عن ابن المنكدر عن جابر موقوفاً من قول جابر، فهذه حجة من لم يوجبها من السنة.
قالوا: وأما الآية فلا حجة فيها للوجوب؛ لأن الله سبحانه إنما قرنها في وجوب الإتمام لا في الابتداء، فإنه ابتدأ الصلاة والزكاة فقال: وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ (2)، وابتدأ بإيجاب الحج فقال: وَ لِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ (3) ولما ذكر العمرة أمر بإتمامها لا بابتدائها، فلو حج عشر حجج، أو اعتمر عشر عمر لزم الإتمام في جميعها، فإنما جاءت الآية لإلزام الإتمام لا لإلزام الابتداء، والله أعلم.
واحتج المخالف من جهة النظر على وجوبها بأن قال: عماد الحج الوقوف بعرفة، وليس في العمرة وقوف، فلو كانت كسنّة الحج لوجب أن تساويه في أفعاله، كما أن سنّة الصلاة تساوي فريضتها في أفعالها.
أما الطبري، فيخلص بعد سرده الطويل للأدلة والروايات التي ساقها حول الآية إلى قوله التالي:
وبما استشهدنا من الأدلة، فإن أولى القراءتين بالصواب في «العمرة» قراءةُ من قرأها نصباً.
وأنّ أولى التأويلين في قوله: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ تأويلُ ابن عباس الذي ذكرنا عنه من رواية علي بن أبي طلحة عنه من أنه أمرٌ من الله بإتمام أعمالهما بعد الدُّخول فيهما وإيجابهما على ما أمِر به من حدودهما وسنَنِهما.
ص: 166
وأنّ أولى القولين في الْعُمْرَةَ بالصواب قول من قال: «هي تطوّع لا فرض». وإن معنى الآية: وأتموا أيها المؤمنون الحجّ والعمرة لله بعد دخولكم فيهما وإيجابكموهما على أنفسكم، على ما أمركم الله من حدودهما. (1)
المذاهب الإسلامية
وهنا لا بد لنا من تلخيص آراء المذاهب فقد اختلفوا في حكم العمرة، هل هي واجبة أم سنَّة؟
فذهب الحنفية والمالكية على أرجح القولين إلى أنها سنة (مؤكدة) مرة في العمر؛ لأن الأحاديث المشهورة الثابتة الواردة في تعداد فرائض الإسلام لم يذكر منها العمرة مثل حديث ابن عمر: «بني الإسلام على خمس» فإنه ذكر الحج مفرداً، وروى جابر أن أعرابياً جاء إلى رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله، أخبرني عن العمرة، أواجبة هي؟ فقال: لا، وأن تعتمر خير لك وفي رواية: «أولى لك». وروى أبو هريرة: «الحج جهاد والعمرة تطوع».
وهذا هو مذهب جابر بن عبد الله و ابن مسعود من الصحابة، و النخعي من التابعين، ولم ير أصحاب هذا القول في الآية محل البحث حجة على القول بوجوب الحج أو العمرة، بل رأوا أن دلالتها قاصرة على وجوب إتمامهما لمن أحرم بهما، وقالوا: إن دليل وجوب الحج ليس مستفاداً من هذه الآية، وإنما من أدلة أخرى، كقوله تعالى:
وَ لِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ (2).
وقال مالك: العمرة سنة، ولا نعلم أحداً أرخص في تركها.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى القول بوجوب العمرة كالحج، حيث قالوا: العمرة فرض كالحج، و استدلوا بقوله تعالى: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ أي ائتوا بهما تامين ومقتضى الأمر الوجوب،. نعم حملوا الأمر بالإتمام في قوله تعالى: وَأَتِمُّواْ على معنى وجوب فعل هذين النسكين. ولخبر عائشة قالت: «قلت: يا رسول الله، هل على النساء جهاد؟ قال: نعم، جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة».
ويستظهر الدكتور الزحيلي صحة هذا الرأي لدلالة هذه الآية ولضعف أحاديث الفريق الأول.
وذكروا أن هذا هو قول عمر و ابن عمر وبعض الصحابة، ومن التابعين عطاء و مجاهد و الحسن ..
وذكر الحنابلة- وهذا القول للزحيلي- عن أحمد: أنه ليس على أهل مكة عمرة، بدليل أن ابن عباس كان يرى العمرة واجبة، ويقول: يا أهل مكة! ليس عليكم عمرة، إنما عمرتكم طوافكم بالبيت. وروي ذلك عن عطاء، لأن ركن العمرة ومعظمها بالطواف بالبيت وهم يفعلونه، فاجزأ عنهم.
وعند الإمامية تنقسم العمرة إلى:
عمرة مفردة مستقلة عن الحج ووقتها طوال أيام السنة بالاتفاق، وأفضل أوقاتها شهر رجب وعند غيرهم شهر رمضان.
عمرة التمتع: وهي عمرة منضمة إلى فريضة الحج يأتي بها المكلف المستطيع أولًا ثم يأتي بأعمال الحج لتكتمل عنده حجة الإسلام، ووقتها أشهر الحج الثلاثة: شوال وذو القعدة وذو الحجة، وهناك فروق بين العمرتين وتفصيل لأحكامهما موكول الى محله في كتب الفقه. (3)
4-- لله:
أي لوجه الله، يعني اقصدوا الحج والعمرة لله، وافعلوهما له خاصة، أي لامتثال أمره ولموافقة إرادته وثوابه كما قيل في النية. هذا ما قاله المحقق الأردبيلي في زبدة البيان.
ص: 167
و أهم ما يدل عليه المقطع: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ هو أهمية أداء عبادتي الحج والعمرة وإتمامهما، وليس هذا فقط بل بتجريد التوجه بهما لله سبحانه وتعالى .. أي بإخلاص النية فيهما لله تعالى لا لغيره وبعيداً عن السمعة والرياء والشك والمعاصي ..
فقد جاء قوله: لله بعد الأمر بالإتمام، وهو ما يشير إلى أن المقصود من أداء هذين النسكين، وجه الله فحسب، وأنه لا ينبغي لمن يقوم بهما أن يقصد غير ذلك من متاع الدنيا، وهذا شأن العبادات خاصة، وأعمال المسلم عامة، فلا ينبغي أن يقصد بها غير وجه الله سبحانه، فهو المقصود أولًا وآخراً، وظاهراً وباطناً، قال تعالى: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (1) وقال أيضاً: وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (2)
يقول القرطبي في تفسيره الآية: وفائدة التخصيص بذكر الله هنا أن العرب كانت تقصد الحج للاجتماع والتظاهر والتناضل والتنافر وقضاء الحاجة وحضور الأسواق، وكل ذلك ليس لله فيه طاعة، ولا حظ بقصد، ولا قربة بمعتقد، فأمر الله سبحانه بالقصد إليه لأداء فرضه وقضاء حقه، ثم سامح في التجارة ..
ثم واصل كلامه قائلًا: لا خلاف بين العلماء فيمن شهد مناسك الحج وهو لا ينوي حجاً ولا عمرة- والقلم جار له وعليه- أن شهودها بغير نية ولا قصد غير مغن عنه، وأن النية تجب فرضاً، لقوله تعالى: وَأَتِمُّوُا ومن تمام العبادة حضور النية، وهي فرض كالإحرام عند الإحرام لقوله (ع) لما ركب راحلته: «لبيك بحجة وعمرة معاً ...» ثم احتج بقوله (ص): «إنما الأعمال بالنيات». انتهى القرطبي من قوله.
يؤيد هذا قوله تعالى: وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (3)، حيث إن إبطال العمل من أسباب وقوعه عدم صدق النية وعدم إدامتها ما دام العمل قائماً، ويستأنس في هذا بما خلاصته «إن أحب الدين إليه تعالى ما داوم عليه صاحبه». كما أن إخلاص النية ركن صحة العبادة وقبولها من قبله تعالى، لهذا جاءت الآية: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ لله فقط لا لغيره، وهذا الإخلاص ينطبق على جميع العبادات كالصلاة والصيام وغيرها.
وختاماً: إن لكل من الحج والعمرة أحكاماً وأجزاء وشروطاً و آداباً وردت في الشريعة الإسلامية، راح الإمام أبو عبد الله جعفر الصادق (ع) يشرح خصوصياتهما بما لا مزيد عليه، حتى نسب إلى أبي حنيفة أنه قال:
«لولا جعفر بن محمد ما عرف الناس مناسك حجهم». (4)
وقد توفرت كتب الحديث والفقه على كل هذه الأمور لهذين المنسكين المباركين اللذين جعلهما الله تعالى محطة خير وعطاء يتزوّد الناس فيهما ومنهما التقوى: وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَ اتَّقُونِ يا أُولِى الأَلْبابِ (5)، وباباً واسعاً لرحمته وغفرانه ورضاه، خصوصاً وقد اجتمعت فيهما أبعاد العبادات الروحية والبدنية والمالية وأهدافها ومقاصدها، مما يجعلهما قادرين على تلبية الزاد بكل مفاصله وأبعاده الروحية والمادية والاجتماعية .. للأفراد والجماعات والأمم ..
ص: 168