ميقات الحج المجلد3

اشارة

عنوان و نام پديدآور : ميقات الحج[پيايند: مجله]

مشخصات نشر : تهران: منظمة الحج و الزيارة، 1417 ق. - = 1375 -

فاصله انتشار : شش ماه يكبار

يادداشت : عربي

فهرست نويسي براساس سال3 شماره5 سال1417ق.

يادداشت : اين نشريه در بيروت نيز منتشر مي شود

يادداشت : المدير المسؤول: محمد محمدي ري شهري

رئيس التحرير: علي قاضي عسكر

يادداشت : كتابنامه

ترجمه عنوان : Mighat al - haj

موضوع : حج -- نشريات ادواري

شناسه افزوده : محمدي ري شهري، محمد، 1325 - ، مدير مسئول

Muhammadi Reyshahri, Muhammad

قاضي عسكر، سيدعلي، 1325 - ، سردبير

شناسه افزوده : سازمان حج و زيارت

رده بندي كنگره : BP188/8

رده بندي د... : 297/35705

ص: 1

الحجّ في احاديث الامام الخميني قدس سره

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

ص: 7

ص: 8

ص: 9

الحجّ في أحاديث الإمام الخميني قدس سره

... إنّ الحجّ يمثّل أفضل مكان لتعارف الشعوب الإسلاميّة، حيث يتعرّف المسلمون على اخوانهم وأخواتهم في الدين من شتّى أنحاء العالم، ويلتقون مع بعضهم في البيت الذي تتعلّق به كلّ المجتمعات الإسلامية مِن أتباع إبراهيم الحنيف «وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالًا وعلى كلّ ضامر يأتين من كلّ فجّ عميق» (1)

. وبنبذهم ما يمايزهم من اللون والقومية والأصل، يعودون إلى أرضهم وبيتهم الأول.

وبمراعاتهم للأخلاق الإسلاميّة الكريمة، وتجنّبهم للجدال ومظاهر الزينة، يجسّدونصفاء الأخوة الإسلاميّة ومظهر وحدة الأمّة المحمديّة ....

... أنتم يا حجاج بيت اللَّه الحرام، (يا من) وفدتم من أطراف


1- 1 الحج: 27.

ص: 10

العالم وأكنافه على بيت اللَّه مركز التوحيد ومهبط الوحي ومقام ابراهيم ومحمد الرجلين العظيمين الثائرين على المستكبرين، وسارعتم للوصول الى المواقف الكريمة التي كانت في عصر الوحي أرضاً يابسة وهضاباً جافة، غير انّها كانت مهبط ملائكة اللَّه ومحلًا لهجوم جنود اللَّه، ولتوقف أنبياء اللَّه وعباد اللَّه الصالحين!! اعرفوا هذه المشاعر الكبرى وتجهّزوا من مركز تحطيم الأصنام لتحطيم الأصنام الكبرى التي ظهرت على شكل قوى شيطانية و (على شكل) غزاة يمتصّون الدماء. ولا تخشوا هذه القوى الفارغة من الايمان، وبالاتكال على اللَّه العظيم وفي هذه المواقف الكريمة اعقدوا بينكم ميثاق الاتحاد والاتفاق أمام جنود الشرك والشيطنة، واحذروا من التفرّق والتنازع «... ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ...» (1).

ريح الايمان والإسلام، التي هي أساس النصر والقوة، تزول بالتنازع والتشرذم المنسجم مع الأهواء النفسية، والمخالف لأحكام اللَّه تعالى. والاجتماع على الحق وتوحيد الكلمة وكلمة التوحيد (عناصر تشكل) أساس عظمة الأمة الإسلامية وتؤدي إلى الإنتصار.

الهوامش:

الحجّ في احاديث الامام الخامنئي


1- 1 الأنفال: 46.

ص: 11

الحجّ في أحاديث الإمام الخامنئي

(مد ظله العالي)

... في آيات الحج نرى القرآن يدعو الجميع إلى البراءة من أوثان المشركين:

«... فاجتنبوا الرجس من الأوثان ...» (1).

وهذه الأوثان كانت يوماً تلك الأوثان المنتصبة في الكعبة، لكنها اليوم ودائماً، تلك القوى التي تمسك- دون حقّ- بزمام الحاكمية على نظام حياة البشر، وتتجلّى اليوم بوضوحٍ أكثر في قدرة الاستكبار وقدرة أمريكا الشيطانية، وقدرة ثقافة الغرب، والفساد والتحلّل المفروض على البلدان والشعوب المسلمة. واضح أنّ أذناب الحكومات المهزوزة ومأجوريها يُصرّون على أنّ الأوثان ليست إلّا «منات» و «لات» و «هبل»، التي سُحقت وحُطّمت تحت أقدام جيش


1- 1 الحج: 30.

ص: 12

رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في الفتح الإسلامي الظافر.

هدف وعّاظ السلاطين هؤلاء أن يفرغوا الحجَّ- كما يصرّحون هم بذلك- من أيّ محتوى سياسي ... غافلين أن هذا التجمع المليوني الإسلامي من كلّ حدب وصوب، في بقعة معيّنة وفي زمانٍ معيّن، ينطوي بنفسه على أكبر مضمون سياسي، إنه استعراض للأُمّة الإسلامية تذوب فيه الاختلافات العنصرية واللغوية والجغرافية والتاريخية، وينبثق منه «كلّ» واحد.

هؤلاء وأسيادهم يلفّقون كلّ ألوان الأكاذيب والخداع والأباطيل من أجل أن لا يعي المسلمون حقيقة هذا التجمع الكبير، وأن لا يستشعروا الروح الجماعية فيه .. ولكي يضيّقوا الساحة على الداعين إلى الوحدة، والمنادين بالبراءة من أئمة الشرك.

إيران الإسلام أرادت أن تقوم بأقلّ عمل- إن لم يكن بأكبر عمل- يتناسب مع موضوع الحج، وهو دعوة المسلمين إلى الاتّحاد، وتبادل الأخبار بين الشعوب، وإعلان النفرة والبراءة من أئمة الشرك والفساد. وكلّ من يجابه هذه الأهداف السامية القيّمة، فهو مهما قال، فقد قال زوراً. والقرآن يقول: «... واجتنبوا قولَ الزّور» (1).

«قول الزور» هو ذلك الحديث الباطل الذي يسي ء إلى الجمهورية الإسلامية، لأنّ الجمهورية الإسلامية رفضت حاكمية دولة الصهاينة على فلسطين الإسلاميّة، وردّت كلّ تسوية تقوم بها حفنة من الفاسدين المطرودين مع الغاصبين، وأدانت التدخّل الأميركي الاستيلائي في البلدان العربية، واستنكرت خيانة بعض حكّام العالم الإسلامي لشعوبهم المسلمة إرضاءً لأمريكا والصهيونية،


1- 1 الحجّ: 30.

ص: 13

ودعت المسلمين إلى معرفة قوَّتهم الكبرى التي لا تقوى أية قوة كبرى اليوم أن تقف بوجهها، وقرّرت أن المعرفة الإسلامية وأحكام الشريعة قادرة على إدارة البلدان الإسلاميّة، وحذّرت من غارة الثقافة الغربية على البلدان الإسلاميّة، متمثلة في التعرّي والسكر وزلزلة الإيمان ...

وبعبارة موجزة أصرّت على اتّباع القرآن.

واليوم فإنّ أي بلد من البلدان الإسلاميّة يعلنصراحة مثل هذا التبنّي وهذه المواقف، أي يرفض إسرائيل الغاصبة، ويرفض التدخّل الأمريكي المتغطرس، ويرفض الانغماس في الخمور والتحلل والفساد الجنسي واختلاط الجنسين، ويرفظ الاتفاق مع الصهاينة المغتصبين، ويدعو المسلمين إلى الوحدة والمقاومة أمام القوى الكبرى، وإلى تطبيق الأحكام الإسلاميّة في الحكم والاقتصاد والسياسة وغيرها من مجالات الحياة ....

الهوامش:

شريعة إبراهيم عليه السلام في القرآن المجيد

شريعة إبراهيم عليه السلام في القرآن المجيد

ص: 14

عبد اللَّه جوادي آملي

«يا أهل الكتاب لِمَ تحاجّون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل الّا من بعده أفلا تعقلون». «ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلِمَ تحاجّون فيما ليس لكم به علم واللَّه يعلم وأنتم لا تعلمون». «ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانيّاً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين». «انّ أولى النّاس بإبراهيم لَلذين اتبعوه وهذا النبيّ والذين آمنوا واللَّه وليّ المؤمنين» (1).

بحث تفسيري:

تتلخص المباحث التفسيريّة للآيات الآنفة الذكر، التي تستنطق سيرة النبي إبراهيم عليه السلام بعدة محاور:


1- 1 آل عمران: 65- 68.

ص: 15

1- احتجاج ومناظرة أهل الكتاب.

2- عدم وجود الارتباط بين إبراهيم عليه السلام واليهود والنصارى.

3- أصل وأساس دين إبراهيم الخليل- سلام اللَّه عليه-.

4- استدلال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بالآية، فيما يتعلق بمسألة الخلافة.

احتجاج أهل الكتاب:

بما أنّ النبيَّ إبراهيم عليه السلام يُذكر بكلّ عظمةٍ في الكتب السماويّة، وبين اتباع الأديان الإلهيّة كذلك، فإنّ كلًا من الهيود والنصارى عدّوه عليه السلام منهم، ووصفوه بأنّه مسيحي أو يهودي، وذهبوا في ذلك إلى مرحلة المحاججة والمناظرة.

محور الاحتجاج:

المستفاد من ظاهر الآية: أنّهم كانوا يحاجّون على أمرٍ غير معقول! فهل ذلك كان بسبب ما تقوله إليهود: إنّ النبي إبراهيم عليه السلام كان يعمل بشريعة موسى، أم لما تقوله المسيحيّة من أنّه عليه السلام كان يعمل طبقاً لدين عيسى؟!

من المستبعد أن يحصل مثل هذا الاحتجاج؛ لأنّه من الواضح جداً أنّه عليه السلام سبق موسى وعيسى، وعاش قبل هذين النبيّين عليهما السلام بعدة قرون، إذن كيف يمكن أن يتّبع ديناً لم يأتِ بعد؟!

قبل البدء بالبحث حول محور احتجاج أهل الكتاب، يجب أن نعلم أنّ احتجاجهم، كان حول دين النبي إبراهيم عليه السلام وشريعته الخاصّة، ولم يكن حول أصل نبوّته أو رسالته أو جهاده. ويجب أن نعلم أيضاً، أنّهم عندما كانوا يقولون «كان إبراهيم يدين بديننا»؛ كان مرادهم أنّ ديننا استمرارٌ لطريق إبراهيم ونحن

ص: 16

ورثته عليه السلام؛ لأنّه كما بينا ذلك آنفاً، ليس من المعقول أن يقول قائل: إنّ إبراهيم الذي عاش قبل عدّة قرون من نزول التوراة والإنجيل، عمل وفقاً لذينك الكتابين اللذين شُرِّعاً بعده، وكان يعمل وفقاً لهما! وإن كان لا يستعبد القول:

انّه عليه السلام كان عالماً بالشريعة اللاحقة وله اطّلاع بها.

رأي العلّامة الطباطبائي رضى الله عنهصاحب تفسير الميزان:

يمكن تلخيص رأي المرحوم الأستاذ العلّامة الطباطبائي في عدّة نقاط:

1- أنّ هذه المناظرة كانت محصورة بين إليهود والنصارى فقط.

2- أنّ إليهود والنصارى احتجّوا بنوعين من المحاجّة والمناظرة:

الف- استدلال علمي ومنطقي؛ حيث إنّ القرآن الكريم يقول بصحّة مثل هذه المحاجّة والاستدلال.

ب- احتجاجٌ غير عقلائي واستدلالٌ غير منطقي.

أسلوب الاحتجاج العلمي لليهود والنصارى:

كان النصارى يقولون لليهود- الذين يدّعون أنّ دينهم وكتابهم أبدي ولا سبيل إلى نسخِهِ: لقد نُسِخَتِ التوراة بنزول الإنجيل، الذي يبيّن شريعة عيسى عليه السلام، ويجب على أتباع الدين السابق الإيمان بالدين اللاحق، ويعدوه دينهم الحقّ هذا أولًا. وثانياً: إنّ عيسى النبيّ كان طاهراً، وإن مريم عليها السلام سيدة طاهرة وعفيفة.

وبالمقابل، فإنّ إليهود خاطبوا النصارى بقولهم: أنتم على باطل؛ لاعتقادكم بالتثليث، وقولكم المسيح ابن اللَّه.

ص: 17

الاحتجاج غير العقلائي والاستدلال غير المنطقي:

إنّ المناظرة غير العقلائية لكل منهم تتمثل بقولهم: «إنّ إبراهيم الخليل عليه السلام منّا»، ولذا من البديهي أن يكون ذم القرآن وتوبيخه لهم في هذا المحور فقط؛ لأن مثل هذه المناظرة لا تستند إلى برهان عقلي، ولا يوجد أيضاً في كتابهم السماوي حديث بهذا الخصوص، لكي تستند مناظراتهم إلى الوحي.

يقول القرآن الكريم بهذا الخصوص: «ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارةٍ من علمٍ إن كنتمصادقين» (1).

أما كون المسلمين يعدّون النبيّ إبراهيم الخليل عليه السلام منهم، فلأنّهم يستندون في ذلك على القرآن الكريم، الذي بيّن قصّته عليه السلام وقصة أتباعه.

وبناءً على ذلك، فلِمَ تحاجّون وتناقشون فيما ليس لكم به علم واطلاع، وهذه كتبكم لا تحتوي على مطلبٍ حول النبيّ إبراهيم الخليل عليه السلام يدلّ على ارتباطه بكم؟! (2) تحليل مقولة الميزان:

إن حديث المرحوم الأستاذ العلّامة الطباطبائي مقابل غيره من المفسّرين، وإن كان عميقاً وقابلًا للمناقشة والتأمّل، ولكن من الصعب أولًا: إثبات أن احتجاجهم كان محصوراً بينهم، وأن ذلك يستفاد من ظاهر الآية، وثانياً: أن قوله: إن إليهوديّة أقامت الحجّة العلمية على المسيحيّة، يمكن أن يكون تامّاً ومحل ثناء وتقدير، لو كانت الحجّة في غير محور الثقلين، ونبوّة السيد المسيح عليه السلام؛ لأنّه بإمكان المسيحيّة أيضاً، إقامة الحجّة على اليهود، حول قولهم: إنّ عزيز ابن اللَّه «وقالت إليهود عزيز ابن اللَّه» (3)

، وبناء على ذلك، فإن الطائفة المبتلاة بالشرك لا يمكنها محاججة الطرف المقابل في موضوع الشرك.


1- 1 الأحقاف: 4.
2- 2 الميزان 3: 276.
3- 3 التوبة: 30.

ص: 18

ولكن احتجاج المسيحيّة على اليهود المستند إلى نسخ الكتاب السابق بواسطة الكتاب اللاحق، احتجاج حق وصحيح.

رأي الزمخشري:

يعتقد الزمخشري بأن اللَّه- تعالى- يحقر المتحاججين في كلا الموردين ويوبخهم. وهو يفسر قوله تعالى «ها أنتم هؤلاء» على هذا النحو:

«ها أنتم هؤلاء الجهلاء قد حاججتم فيما لكم به علم، وتحدث حوله كتابكم أيضاً، فلم تحاجّون فيما ليس لكم به علم، ولم يَرِدْ في التوراة والإنجيل كلامٌ حوله؟!».

تناسب ظاهر الآية مع بيان الزمخشري:

بما أنّ الجملة تبدأ بحرفي تنبيه (ها أنتم هؤلاء)- اللذين وضعا لتحذير الغافل- فهي إذن أنسب للدلالة على التحقير. اضافة لذلك، هناك آية أخرى في القرآن الكريم، استعملت فيها (هاء) التنبيه للتحقير؛ كما هو الحال في قوله تعالى:

«ها أنتم هؤلاء تُدعَون لتنفقوا في سبيل اللَّه» (1)

؛ كالذي يعدّ نفسه للامتحان في كتابٍ لم يطالعه، ولمّا ينجح في الكتاب الذي قرأه. فيقال له هنا: إنك لم تفلح في الخروج مرفوع الرأس من امتحان الكتاب الذي طالعته، فأنّى لك أن تمتحن في كتابٍ لم تقرأه؟!

ولذا يقال لأهل الكتاب: ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم، وتحدّث به كتابكم عن موسى وعيسى ورسول اللَّه- عليهمصلوات اللَّه- وفشلتم، فكيف تحاجّون في شريعةٍ لا اطلاع لكم بها اطلاقاً، ولم يَرِدْ لها ذكرٌ في كتابكم.

«ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن حنيفاً مسلماً ...» (2).


1- 1 محمد: 38.
2- 2 آل عمران: 67.

ص: 19

في هذا الجزء من الآية، نلاحظ وجود عدّة جمل سلبية، وجملة واحدة اثباتية؛ ففي الجزء السلبي منها، تبيّن إبراهيم على أنّه منفصلٌ عن اليهودية والنصرانية، وتنفي ارتباطه عليه السلام بهاتيك المجموعتين؛ لأنّه أولًا: مثل هذا الدين الممتزج بالتحريف، ينفر منه حتّى موسى وعيسى عليهما السلام وثانياً: مع أنّ الديانتين اليهودية والنصرانية الأصليتين حقّ، إلّاأنّ إبراهيم الخليل عليه السلام لم يعمل بتعاليم دينٍ نزل فيما بعد. أما جملتها الإثباتية فهي: إنّ إبراهيم عليه السلام يعدّ مسلماً مستقيماً.

عظمة إبراهيم بين أهل الكتاب:

بما أنّ اليهود والنصارى، لم يكن بوسعهم إنكار حقّ إبراهيم الخليل الذي تحدّثت بعظمته الكتب السماوية؛ مثلصحف إبراهيم والقرآن الكريم، فإن كلًا منهما كان ينسب الخليل عليه السلام له، ويصفه على أنّه يهودي أو مسيحي.

ولكن القرآن الكريم يشطب على جميع هذه الأوهام بخطّ البطلان، وينفي انتسابه عليه السلام لليهود والنصارى «ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين».

ادّعاء اليهود والنصارى بالأنبياء الإبراهيميين ورأي القرآن بذلك:

ناهيك عن ادّعاء اليهود والنصارى بانتساب إبراهيم إليهم، فإنهم ذهبوا إلى القول بانتساب بقيّة الأنبياء الإبراهيميين إليهم، وقالوا: إنهم يهودٌ أو نصارى، ولذلك فإنّ القرآن الكريم، بيّن وجهة نظره ببقية الأنبياء الإبراهيميين على هذا الأساس: «أم تقولون إنّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى قل أأنتم أعلم أم اللَّه ...» (1).


1- 1 البقرة: 140.

ص: 20

بحث لغوي:

«الحنيف»؛ يعني المائل إلى الوسط، والمستقيم الذي يراد به الميل إلى الحق؛ فالذي يسير في الشارع مثلًا، ويسعى للابتعاد عن الرصيف والانتقال إلى الوسط، يقال عنه «حنيف»، ويقال كذلك عن الذي رجله مستقيمة ومائلة إلى الوسط بأنه «أحنف»، ولذلك ومن باب «تسمية الشي ء باسم ضدّه» يقال عن الذي اعوجّت رجله وانحرفت: بأنه «أحنف»؛ كما يقال عن الأعمى (بصير).

حنيفية المشركين:

إنّ القرآن الكريم، ومن أجل الفصل بين الحنيفيّة بمعناها الآنف الذكر، والحنيفية المتداولة بين المشركين، فقد قيّدها بكلمة «مسلماً»؛ لأنهم كانوا يؤدّون مناسك الحجّ والزيارة، مع كونهم مشركين، ولهذا السبب فقد كانوا يسمونهم حنفاء (1). ولذا ينفي القرآنصفة الشرك الموجودة عند اليهودية والنصرانية عنه عليه السلام في نهاية الآية من باب التأكيد. «وما كان من المشركين».

إبراهيم عليه السلام مسلم:

بعد أن سلب القرآن الكريم اليهودية والنصرانية عن إبراهيم الخليل، فقد قال عنه: إنه مسلم «ولكن حنيفاً مسلماً».

معنى الإسلام:

تطلق كلمة الإسلام أحياناً بمعناها الشائع والمتعارف عليه- الذي يشمل الأصول والفروع وما جاء به خاتم الأنبياء- وأحياناً يراد بكلمة الإسلام الخطوط العامة والأصول الأساسية، ويذكر بهذا المعنى في المصطلح القرآني، وإن


1- 1 ورد في مكان آخر أنه لو لم يكن قيد «مسلماً» موجوداً، فإن الموضوع كان واضحاً أيضاً، وإنما جاء القيدلغرض التوضيح ليس الّا.

ص: 21

بعض الآيات وردت بلحاظ هذا المعنى، مثل قوله تعالى: «إنّ الدّين عند اللَّه الإسلام» (1).

المراد بكون إبراهيم عليه السلام مسلماً:

أما كون المسلمين يعدّون إبراهيم الخليل عليه السلام مسلماً، وينسبونه لهم في مناظراتهم، فإنّ السبب في ذلك يعود أولًا: إلى أنهم يستظهرون سيرته عليه السلام من كتابهم السماوي. ويعود ثانياً: إلى أن مرادهم من كلمة الإسلام هو أنه عليه السلام منسجم ومتطابقٌ مع الدين الإسلامي في الخطوط الأصلية والأصول الأساسية، وإن كان عليه السلام متطابقاً مع الخطوط العامّة للتوراة والإنجيل أيضاً، ولكن بما أن ذينك الكتابين ابتليا بالتحريف وبقي القرآن مصوناً منه، لذا يمكننا أن نقول:

إنّه عليه السلام وبقية الأنبياء الإبراهيميين يتوافقون مع أصول القرآن ودين المسلمين.

«إنّ أولى الناس بإبراهيم للذين اتّبعوه وهذا النّبي والذين آمنوا واللَّه ولي المؤمنين» (2).

ارتباط ثلاثة مجاميع بسيدنا إبراهيم:

بعد أن نفت الآية الكريمة في الجزء السابق، ارتباط سيدنا إبراهيم باليهود والنصارى، ونفت كذلك انتساب وارتباط تلك المجموعتين به، فقد قدّمت ثلاثة مجاميع على أنّهم ورثته وأتباعه:

1- المؤمنون به من الذين عاصروه واتّبعوه ونصروه «لَلّذين اتّبعوه».

2- خاتم الأنبياء «وهذا النبيّ».

3- المؤمنون بخاتم الأنبياء «والذين آمنوا».


1- 1 تطرقنا إلى شرحه بالتفصيل آخر الآية.
2- 2 آل عمران: 68.

ص: 22

البحث الأدبي والتفسيري الصحيح:

قرأ البعض «هذا النبيّ» على النصب، وفسروه بهذا المعنى «أن أولى الناس بإبراهيم، لَلّذين اتبعوه وأتباع خاتم الأنبياء». إلّاأنّه ناهيك عن عدم تناسب هذه القراءة مع ظاهر الآية، فإن عبارة «والذين آمنوا» ستلغى أيضاً.

وبناءً على ذلك، فإنّ قراءة الرفع هي الأرجح.

القرآن واحترام خاتم الأنبياء:

بما أنّ القرآن الكريم ينظر باحترام خاص للسيد الخاتمصلى الله عليه و آله، ويرى أنّه أعظم من أن يكون تابعاً لأحدٍ، لذا فإنه عندما يذكر الأنبياء الإبراهيميين، يخاطبه بالقول: «فبهداهم اقتده» (1)

. إلّاأنّه يخاطبهم ويخاطب المسلمين أيضاً للاقتداء بملّة إبراهيم عليه السلام: «... ملّة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين ...» (2).

نوح عليه السلام من أول الدعاة إلى التوحيد:

يعدّ نوح عليه السلام أول نبيّصاحب كتاب وشريعة، وحصل على لقب شيخ الأنبياء. لذا عدّه القرآن الكريم من أول الدعاة إلى التوحيد، ويسلِّم عليه بكل عظمة وإجلال، ويقول: «سلامٌ على نوح في العالمين» (3)

، حيث لم يَرِد مثل هذا التعبير بحق باقي الأنبياء، كما في قوله تعالى: «سلامٌ على موسى وهارون» (4)

، «سلامٌ على إبراهيم» (5).

النبي نوح عليه السلام مؤسس التوحيد الإبراهيمي:

بعد ذلك عدّ القرآن الكريم سيدنا إبراهيم عليه السلام من أتباع نوح عليه السلام، وأنّ التوحيد الذي وضع أسسه نوح- سلام اللَّه عليه- أساسٌ لدين إبراهيم، كما في


1- 1 الأنعام: 90.
2- 2 الحج: 78.
3- 3 الصافات: 79.
4- 4 الصافات: 120.
5- 5 الصافات: 109.

ص: 23

قوله تعالى: «وإنّ من شيعته لإبراهيم» (1)

. أي «وإن من شيعة نوح إبراهيم الخليل- سلام اللَّه عليه-».

معنى الشيعة:

يسمى الشيعة «شيعة»؛ لأن رشحات الشريعة تشيع وتنتشر، على أثر اتّباع مجموعةٍ ما لصاحب تلك الشريعة.

ولاية اللَّه أساس اتّباع الأنبياء:

وتذكر الآية الكريمة في نهايتها، السبب في جعل سيّدنا إبراهيم عليه السلام محوراً:

تمتعه بالولاية الإلهية، حيث تقول الآية الكريمة: «واللَّه ولي المؤمنين»، ويتضحُ من ذلك أنه عليه السلام وأتباعه، وأنّ خاتم الأنبياءصلى الله عليه و آله والمسلمين، يعدّون من المصاديق الواضحة للمؤمنين، وأن امتلاك سيدنا إبراهيم لمثل هذا المقام، يعود إلى تمتعه بإيمان الولاية الإلهية الشامل الذي حباه اللَّه تعالى به.

صفات أتباع إبراهيم عليه السلام:

مَن أراد أن يكون من أتباعه عليه السلام، عليه أن يتّخذه أسوة له، ويعمل وفق تعاليمه؛ «قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه» (2).

البراءة من المشركين:

من جملة واجبات اتباع سيدنا إبراهيم عليه السلام، الوقوف بوجه الطواغيت، وإعلان البراءة من معتقدات المشركين، كما قال هو عليه السلام والذين آمنوا به: «إنّا بُرءؤا منكم»، والاقتداء به عليه السلام في قضية البراءة من الطواغيت والمشركين،


1- 1 الصافات: 83.
2- 2 الممتحنة: 4.

ص: 24

كاقتدائهم به في الجانب الإيجابي من الاقتداء أي المولاة، كمناسك الحج والزيارة.

إثبات الإمامة في نهج البلاغة:

الآية الكريمة: «إن أولى الناس بإبراهيم» من جملة الآيات التي استفاد منها أمير المؤمنين عليه السلام لإثبات حقّه كما ورد في نهج البلاغة، وجعلها محوراً لاستدلاله على هذا الأمر.

نموذجان من كلام الإمام عليه السلام:

النموذج الأول: عبارة عن الكتاب الذي أرسله الإمام عليه السلام إلى معاوية، حيث استنطق فيه سمةً من فضائل أهل البيت.

ويقول عليه السلام أيضاً: إن قوماً يقتلون في جبهات القتال، ولكن قتيلنا يحظى بلقب «سيد الشهداء»، وإن قوماً قطّعت أيديهم في المعارك، حتّى إذا قطعت يدُ أحدنا، بلغ مقام «الطيار في الجنّة» و «ذو الجناحين».

صلة الرحم وطاعة النبيّ عاملا تثبيت الخلافة:

يقول عليه السلام في نهاية الكتاب: «فإسلامُنا قد سُمع، وجاهليتنا لا تُدفع، وكتابُ اللَّه يجمع لنا ما شَذَّ عنّا»؛ أي: إن سوابقنا ولواحقنا واضحة، وآيات القرآن الكريم جمعت ما شذّ عنّا؛ وهو قوله سبحانه وتعالى: «... وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللَّه ...» (1)

، وقوله تعالى: «إن أولى الناس بإبراهيم لَلّذين اتبعوه وهذا النبيّ والذين آمنوا». وطبقاً لما جاء في هاتين الآيتين، نحن أولى بالإمامة والخلافة لو كانتا على أساس القرابة. وإن كانتا على أساس الطاعة والاتّباع، فنحن أولى بالأمر أيضاً، وإننا أقرب إلى النبيّ في كلتا الحالتين، فنحن


1- 1 الأنفال: 75.

ص: 25

مرّةً أولى بالقرابة وتارةً أولى بالطاعة.

بناءً على ذلك وطبقاً لما جاء في الآية الأولى، فنحن أقرب إلى النبي وأنتم أبعد، ولما جاء في الآية الثانية، نحن المطيعون وأنتم العاصون.

النموذج الثاني:- ورد في باب حِكَمِهِ عليه السلام: «إنّ أولى الناس بالأنبياء، أعلمهم بما جاءوا به».

وقد جاءت كلمة «أعملهم» بدل «أعلمهم» في بعض النسخ والكتب التفسيرية، ولكن يستفاد من القرائن المستحصلة، بأن أعلمهم هي الصحيحة، لأن المراد من كلمة العلم، في كلامه عليه السلام، ليس خصوص العلم النظري؛ لكي يتسنّى لأولئك الذين يقرءُونها أعملهم أن يستندوا في ذلك إلى مطابقة الرواية مع الآية القائلة بجعل التبعية العملية هي المحور الأساس. بل إن كلمة العلم يصطلح بها- أيضاً- على من ينسجم عمله مع قوله؛ كما جاء في إحدى الروايات: «العالم منصدق قوله فعلُه»، وكذلك قوله تعالى: «إنما يخشى اللَّهَ من عباده العلماءُ»؛ هذه الآية والرواية تدلان على هذه المسألة دلالةً واضحة؛ لأن الخوف مرحلة «عملية» ترتبط بالعقل العملي، ولا علاقة له «بالعقل النظري».

بعد ذلك يقول الإمام علي عليه السلام في استنطاق الآية الشريفة: «إنّ أولى الناس بابراهيم لَلّذين اتبعوه وهذا النبيّ»؛ يقول: «إن ولي محمدصلى الله عليه و آله من أطاع اللَّه وإن بعدت لحمته، وعدوّ محمدصلى الله عليه و آله من عصى اللَّه وإن قربت قرابته». وبناءً على ذلك، فإن الإمام يبيّن للجميع، أنه من كان مطيعاً للنبيصلى الله عليه و آله فهو من أقربائه وأوليائه وإن بعدت لحمته. وعدوّه من عصاه ولم يطع أوامره، وإن كان من أقربائه ولحمته.

ص: 26

الهوامش:

الحجّ في السنّة

ص: 27

الحجّ في السنّة

واعظ زاده الخراساني

الحجّ والعمرة في اللغة يعنيان القصد والذهاب إلى مكان معين للزيارة (1)، غير أنّ العرب أطلقت اللفظين- حتى قبل الإسلام- على نوعين من العبادة والزيارة لبيت الكعبة. والقرآن استعمل اللفظين مراراً بهذا المعنى الشائع لهما كقوله تعالى: «وأتمّوا الحجّ والعمرة للَّه» (2)

. من هنا فإنّ المعنى الشائع لهذين اللفظين ليس «حقيقة شرعية» ولا هو اصطلاح شرعي إسلاميّ كما تصوّر البعض ذلك.

كلمة «الحجّ»- بكسر الحاء- في الآية: «وللَّه على الناس حجّ البيت مَنِ استطاع إليه سبيلًا» (3)

وكذلك كلمتا «حَجَّ» و «اعتمَرَ» في الآية: «فمن حجّ البيت أو اعتمر» (4)

تدلّ جميعاً على أنّ الحجّ والعمرة بمعناهما الشائع اليوم كانا


1- 1 في القاموس وأقرب الموارد، إحدى معاني الحج القصد، وكثرة التردد، يقولصاحب أقرب الموارد حجّ فلاناً حجّاً: قصده، وبنو فلان فلاناً: إذا أطالوا الاختلاف إليه، أي يقصدونه ويزورونه. هذا أصله، ثم تُعورف استعماله في القصد الى مكة للنسك. الحِجّ بالكسر لغة في الحج، وقيل بالكسر الاسم وبالفتح المصدر، ويقول في العمرة: اسم من الاعتمار، وهي لغةً: القصد إلى مكان عامر والزيارة التي فيها عمارة الودّ، وشرعاً أفعال مخصوصة تسمّى بالحج الأصغر ....
2- 2 البقرة: 196.
3- 3 آل عمران: 97.
4- 4 البقرة: 158.

ص: 28

موجودين في اللغة العربية قبل الإسلام.

السورة 22 من القرآن تحمل اسم الحج، ويطلق أحياناً على الحجّ اسم «الحجّ الأكبر» وعلى العمرة اسم «الحجّ الأصغر» لمناسبة ما ورد في الآية:

«وأذانٌ من اللَّه ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر» (1)

، مع أنّ هذا اليوم موضع اختلاف بين أن يكون يوم عرفة أي يوم التاسع من ذي الحجة (2)، أو يوم النحر أي يوم العاشر منه.

توافرت الروايات عن طريق الفريقين أنّ الحج من دعائم الإسلام، وأنه واحد من الأسس الخمسة التي بني عليها الإسلام وهي: الشهادتان، والصلاة، والصوم، والحجّ (3)، وفي الروايات الشيعية ذكر اسم ولاية أهل البيت مكان الشهادتين (4) في آخر الأسس الخمسة.

إحدى الروايات النبوية (5) تصف كلّ واحد من أركان الدين بوصف معين، فتصف الصوم أنه جنّة، والزكاة أنه مطهّر للأموال، والجهاد بأنه عزّ الإسلام، وتصف الحج بأنه الشريعة، دلالة على أهمية هذه العبادة حتّى كأنه الشريعة بأجمعها.

أهمية فريضة الحج في الإسلام تبلغ درجة بحيث إن تركها في لسان القرآن كفر: «ومن كفر فانّ اللَّه غنيّ عن العالمين» (6)

. وفي الجواب عن السؤال بشأن (الأهلّة) يذكر القرآن الحجّ بشكل منفصل، إلى جانب مواقيت سائر الأعمال والعبادات فيقول: «يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج» (7).

يمكن دراسة الحج على أربعة أصعدة: القرآن، والسنّة، والفقه، وعمل المسلمين، وواضح أن البحث الوافي والكامل لكلّصعيد لا يمكن أن ينفصل عن بقية الأصعدة. غير أننا نستهدف دراسة الحج علىصعيد السنّة، ولابدّ قبل ذلك من استعراض سريع لآيات الحج.


1- 1 التوبة: 3.
2- 2 الكافي 4: 265 عن قول الصادق: الحج الأكبر الوقوف بعرفة ورمي الجمار، والحجّ الأصغر العمرة، في بحار الأنوار، ط كمباني 1: 74 روايات بهذا المضمون، ورواية بأنه يوم النحر ورواية في ردّ قول ابن عباس تشرح أنه يوم النحر لا يوم عرفة، جامع الترمذي 4: 162 ويقال للحج الأكبر: يوم النحر، وللحج الأصغر: العمرة.
3- 3صحيح البخاري 1: 9.
4- 4 في جامع أحاديث الشيعة 1: 461 وما بعدها، روايات عديدة بطرق وألفاظ مختلفة عن الرسول الأعظم وأئمة أهل البيت، هذه الرواية في دعائم الاسلام 1: 2 كالتالي: بني الاسلام على سبع دعائم: الولاية، والطهارة، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والجهاد.
5- 5 جامع أحاديث الشيعة 1: 475 نقلًا عن خصال الصدوق وعلل الصدوق.
6- 6 آل عمران: 97.
7- 7 البقرة: 189.

ص: 29

عرض لآيات الحجّ في القرآن:

الآيات المرتبطة بالحج والكعبة تبلغ ثلاثين آية ووردت في خمس سور هي: البقرة 13 آية (1) وآل عمران: 12 آية (2)، والمائدة: 4 آيات (3)، والتوبة:

3 آيات (4)، والحج: 8 آيات (5). هذا إلى جانب آيات سورة البقرة بشأن القبلة (6)، وحرمة القتل في الحرم (7)، وإلى جانب آيات سورتي «الفيل» و «إيلاف» التي ترتبط بالكعبة بشكل من الأشكال.

المواضيع التي تناولتها الآيات حول الحجّ بالتفصيل حينا، وبالإجمال حيناً آخر عبارة عن: بيت الكعبة أوّل معبد، وبناء البيت بيد إبراهيم وإسماعيل، ودعوة إبراهيم للناس بالحج، والآيات البيّنات ومقام إبراهيم، وكون الحرم آمناً، ووعد اللَّه للمسلمين بدخول المسجد الحرام، ووجوب الحج على المستطيع، ووجوب إتمام الحج والعمرة للَّه، وأشهر الحج، وبعض محرّمات الإحرام، والحجّ الأكبر، وسقاية الحاج، والطواف وصلاته، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف في المشعر الحرام والإفاضة من المشعر وعرفات، والحلق والتقصير، وذكر اسم اللَّه على الهدي بدل اسم الأوثان، وأكل الأضحية والتصدّق بها، وحكم المعذور عن الحج، والتكبير في أيام منى ومقدار الوقوف فيها، وحرمة الصيد في الحرم وكفارته، وحليّةصيد البحر، وحرمة الشعائر والقلائد، والأشهر الحرم وتعظيم الشعائر الإلهية، وجواز الهجوم في الحرم على من يصدّ الناس عن الحج، كما تتضمّن إشارة إلى فلسفة الحج كما في الآية: «ليشهدوا منافع لهم» (8).

لو ألقينا نظرة سريعة على آيات الحج في القرآن الكريم لاستخلصنا منها المسائل التالية:

1- الكعبة والحرم والمشاهد المقدسة، وهكذا أعمال الحج ومناسكه ذكريات بقيت عن عهد إبراهيم الخليل جدّ الرسول الأكرم، واستمرّت ما يقارب


1- 1 البقرة: الآيات 125- 129، 158، 189، 196- 201.
2- 2 آل عمران: 96 و 97.
3- 3 المائدة: 94- 107.
4- 4 التوبة: 3 و 19 و 37.
5- 5 الحج: 26- 30 و 32- 34.
6- 6 البقرة: 142- 145 و 147- 150.
7- 7 البقرة: 191- 194.
8- 8 الحج: 38.

ص: 30

من ألفي عام بين أبناء إسماعيل والعرب، لكنها انحرفت وتغيّرت بالتدريج، وهذه المناسك التوحيدية المعبّرة عن الخلوص للَّه الواحد الأحد، قد تلوّثت بالشرك والوثنيّة، وتبدل بيت التوحيد إلى بيت للأصنام.

نفهم من القرآن أنّ سيدنا إبراهيم دعا الناس- لأوّل مرّة بأمر ربّه- إلى الحج، وذكرنا أن كلمتي الحج والعمرة كانتا شائعتين قبل الإسلام، من هنا فالحج ليس عبادة فحسب، بل رسالة ودعوة، والعمل به تلبية لتلك الدعوة، والتلبية في الحج إجابة لدعوة اللَّه في الميثاق الأزلي، ودعوة شيخ الأنبياء إبراهيم معاً.

2- نظراً لعراقة مناسك الحجّ، فانّ آيات الحج إمّا أن تكون قبولًا، أو رفضاً للمناسك الشائعة بين العرب قبل الإسلام. فلم يتحدّث القرآن عن الحج بلغة التأسيس والإنشاء دون الالتفات إلى تاريخه، كما تحدّث عن سائر العبادات.

من هنا فانّ فهم كثير من آيات الحجّ يحتاج إلى فهم تاريخه وسابقته، وهذا ما نجده في محتويات السنّة، وفي الروايات والأحاديث الواردة بشأن الحج. أي أنّ الروايات الواردة عن الرسول والصحابة وأئمة آل البيت تتحدّث عن مراسم وآداب الجاهلية في بعض أعمال الحج، من خلال تفسير الآيات المرتبطة بتلك الأعمال.

3- نستطيع أن نفهم مما تقدّم سبب عدم بيان كيفية مناسك الحج والعمرة بالترتيب في القرآن الكريم. سائر العبادات طبعاً لم تُذكر أيضاً تفاصيلُها في القرآن الكريم، بما في ذلك الصلاة التي هي عمود الدين. بل ذَكر القرآن مسائلها العامة تاركاً للسنّة ذكر التفاصيل، ولذلك قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «صلّوا كما رأيتموني أُصلّي».

إضافة إلى هذه القاعدة العامة الشاملة لكلّ العبادات، هناك مسألة خاصّة بالحج. فالقرآن استند إلى فهم الناس لأعمال الحج في العصر الجاهلي، واكتفى

ص: 31

بالإشارة إلى نقاط الانحراف في تلك المناسك الجاهلية. لذلك فإنّ الحاجة ماسّة إلى السنّة في تعيين التفاصيل، وتشخيص المواضع والأمكنة داخل مكة وخارجها بما في ذلك مواقيت الإحرام. ولا تبلغ عبادة في حاجتها إلى السنّة مبلغ هذه العبادة.

4- مع أنّ القرآن ذكر في مواضع عديدة إشارة أو تصريحاً أكثر مناسك الحج وأعماله، فبعض أجزاء الحج ليس لها ذكر في القرآن، وسندها الوحيد نجده في السنّة، مثل: استلام الحجر، ورمي الجمار، أو ترتيب الحجّ والعمرة والتفاوت بينهما، وأحكام الخلل والشكوك وكفارة كثير من المحرّمات وأمثالها. ولندخل الآن فيصلب الموضوع لدراسة الحجّ في السنّة.

ما هي السنّة؟

السنّة في اللغة الطريقة والأسلوب، وفي عرف المسلمين سنّة رسول اللَّه، ويعبّر عنها وعن القرآن الكريم بالكتاب والسنّة. وهذا الاقتران بين الكتاب والسنّة باعتبارهما مصدرين أساسيين للإسلام، ورد على لسان الرسول الأعظم، وكان شائعاً دون شك في عصر الرسول (1). فحديث الثّقلين في أكثر مصادر أهل السنّة والشيعة ورد بعبارة «كتاب اللَّه وعترتي» لكنّه ورد في بعض مصادر أهل السنّة بلفظ «كتاب اللَّه وسنّتي» وإلى هذا اللفظ الأخير استند كثير من الكتّاب والمفكّرين من أهل السنّة في كتاباتهم وأحاديثهم، ناسين عبارة «كتاب اللَّه وعترتي» (2) بينما تمسك الشيعة بهذه العبارة التي بلغت حدّ التواتر في كثرة رواتها.

غير أن تعبير «الكتاب والسنّة» شائع على لسان الشيعة في مصادرهم الحديثية والفقهية مثلما هو شايع في المصادر السنيّة باعتبارهما مصدرين


1- 1 شواهد ذلك في سنن الدارمي 1: 46، 57، 58، 59، 60.
2- 2 مصادر هذا الحديث تجدها في مفتاح كنوز السنة، كلمة عترة، المراجعات: 22- ورسالة حديث الثقلين للشيخ قوام الدين الوشنوي القمي- وجامع أحاديث الشيعة 1: 22- 35 و 186 وما بعدها، فيص 22 ذكر أنّ هذا الحديث منقول عن 34صحابي وصحابية وأكثر من 180 من أكابر أهل السنة إضافة الى الشيعة، وفيص 204 ذكر اسم هؤلاء الأفراد نقلًا عنصاحب كتاب «العبقات».

ص: 32

أساسيين للشريعة (1). ففي الكافي للكليني باب تحت عنوان «باب الردّ إلى الكتاب والسنّة، وأنه ليس شي ء من الحلال والحرام، وجميع ما يحتاج الناس إليه إلّا وقد جاء فيه كتاب أو سنّة» (2) وباب آخر تحت عنوان «باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب» (3). وثمة روايات عن الإمامين الصادق والباقر مضمونها أنّ:

«ما من شي ء الّا وفيه كتاب أو سنّة».

جميع الفرق الإسلاميّة تؤمن بأنّ الكتاب والسنّة مصدران أساسيان من مصادر الفقه، وتجمع عليهما، وإن اختلفت في أصول الفقه الأخرى.

السنّة باعتبارها طريقة الرسول وسيرته قُسّمت بالتدريج إلى القول والفعل والتقرير. أي إنّ كلّ قول أو فعلصدر عن الرسول، ويُنبئ بحكم من الأحكام التكليفية أو الوضعية علىصعيد الأعمال الفردية والاجتماعية والعبادية ولو بالايحاء والإشارة المعتبرة، أو السكوت ذي المعنى، هو سنّة، وقابل للاستناد إليه. ومن هنا نستطيع أن نقول: إنّ كلّ حياة الرسول بعد النبوّة بما في ذلك الحركة والسكون والإقدام والامتناع والقول، والسكوت المفيد لحكم حسب القواعد المقرّرة في علم الأصول، هي سنّة قابلة للتأسي بها، ومصداق الآية الكريمة:

«ولكم في رسول اللَّه أسوة حسنة» (4)

؛ ولذلك اهتمّ المسلمون بتقصّي تفاصيل أعمال وأقوال وسيرة الرسول وحفظها في الصدور، ثمّ تدوينها ونقلها من جيل إلى جيل. وبين أيدينا اليوم كنوز قيّمة، ومجاميع واسعة نفيسة في سنّة الرسول هي كتب السنن وجوامع الحديث، التي هي حصيلة الجهد العلمي لعلماء المذاهب الإسلامية المختلفة. هذا وإنّ جرح الأحاديث الواردة في هذه الكتب وتعديلها وقبولها أو رفضها يحتاج إلى تخصّص في عدد من الفروع العلمية. وهذه الفروع العلمية هي أيضاً حصيلة الجهود العلمية لعلماء الحديث.

مصطلح السنّة الذي كان أساساً يطلق على سنّة رسول اللَّه اتّسع فيما بعد،


1- 1 جامع أحاديث الشيعة 1: 126، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: إنا إذا لقينا ربّنا قلنا يا ربّنا عملنا بكتابك وسنّةنبيّك، ويقول القوم برأينا، وعنه: إنا لا نعدل بكتاب اللَّه وسنّة نبيّه.
2- 2 الكافي 1: 59.
3- 3 الكافي 1: 69.
4- 4 الأحزاب: 21. انظر الى آيات حجية سنّة النبي في جامع أحاديث الشيعة 1: 120 وما بعدها.

ص: 33

وأضحى يشمل عند أهل السنّة أقوال الصحابة الذين يثقون بعدالتهم وقداستهم واجتهادهم. وأصبح قول مثل هؤلاء الصحابة تعبيراً عن قول الرسول. وفي مقابلهم وسّع الشيعة وأتباع مدرسة آل البيت مفهوم السنّة مستندين إلى حديث الثقلين وإلى أدلّة أخرى، لتشمل أقوال وأفعال أئمة آل البيت المعصومين الوارثين لعلم الرسول. ولم يفرّقوا عملياً بين سنّة الرسول وسنّة الإمام. وعلى أيّ حال، كلّ فريق يطلق كلمة السنة على الأحاديث والروايات المعتبرة لديه الدالّة على سنّة الرسول، ولو أنها كانت قول الصحابي أو فعله (أو قول الإمام أو فعله عند الشيعة)، التي يطلق عليها اسم السنّة الحاكية، مقابل ما يسمّى بالسنّة المحكيّة وهي: السنّة الواقعية لرسول اللَّه أو الإمام.

نقصد بالسنّة هنا المعنى العام الشائع لها عند الفريقين، ونستهدف تقديمصور عن أعمال الحج ومناسكه في الروايات والأحاديث الإسلامية، أو كتب السيرة والتاريخ، التي توضّح بأي حال أقوال الرسول وأفعاله في الحج، بما في ذلك آثار أهل السنّة المعتبرة، أو الشيعة الإمامية والزيدية والإسماعيلية. وسنحصر البحث في إطار السنّة، ولا نتطرّق إلى المباحث القرآنية والفقهية ذات العلاقة الأساسية بمباحث السنّة، إلّاإذا اقتضت الضرورة ذلك.

جولة في أحاديث الحجّ:

الرجوع إلى جميع المصادر الحديثية الموثقة عند المسلمين، ليس بالأمر اليسير، ولا بمقدور هذا البحث المحدود أن يستوعب ذلك. لذلك لابدّ من الاقتصار على كتب معيّنة. فمن كتب أهل السنّة نرجع إلى الصحاح الستّة، أيصحيح البخاري ومسلم وسنن النسائي، وجامع الترمذي، وسنن أبي داود، وابن ماجة، إضافةً إلى السنن الكبرى للبيهقي وسنن الدارمي .. وإلى طبقات ابن سعد

ص: 34

وموطأ مالك ... وإلى تاريخ الطبري، وسيرة ابن هشام. ومن كتب الشيعة الإمامية: الكافي للكليني، والتهذيب للشيخ الطوسي، ومن لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق، وبحار الأنوار للعلامة المجلسي، ووسائل الشيعة للشيخ الحرّ العاملي، والوافي للفيض الكاشاني، ومن الزيدية، مسند زيد بن علي، ومن الإسماعيلية، دعائم الإسلام للقاضي النعمان، ونرجع أيضاً عند الضرورة إلى مصادر أخرى.

سنستعرض أولًا الموضوعات العامة للحج، وأحاديثه في هذه الكتب، وتجنباً للإطالة نركز البحث بعدها على أحاديث حجّة الوداع.

نستطيع تقسيم محتويات أحاديث الحج إلى عدّة موضوعات:

1- موضوعات غير فقهية لها علاقة بالكعبة ومكة والحج مثل: خلق أرض الكعبة وامتداد الأرض منها (دحو الأرض)، وبدء بناء الكعبة، وحج آدم، وإبراهيم، وإسماعيل، وسائر الأنبياء عليهم السلام، وتاريخ الحجر الأسود، وسبب الحثّ على استلامه، وارتباط هذا العمل بمسألة عالم الذر، وأخذ الميثاق من الناس، وامتحان الخلائق عن طريق الكعبة، وأسرار الحج وعلل أعماله، وقصة أصحاب الفيل، وحفر زمزم، وهدم الكعبة وتجديد بنائها، وأمثال ذلك، المتوفّرة في روايات الشيعة المجموعة في الكافي (1)، ومَن لا يحضره الفقيه (2)، وبحار الأنوار (3)، أكثر من كتب أهل السنّة، وتحكي بشكل عام عن علاقة الحج بابراهيم وإسماعيل.

هذا عرض لمواضيع الحج التي لا ترتبط كثيراً بالجانب الفقهي له، وهذه الموضوعات قلّما نجدها في الكتب الحديثيّة المقتصرة على السنن والأحكام، مثل التهذيب والاستبصار للشيخ الطوسي ووسائل الشيعة، وجامع أحاديث الشيعة، ومستدرك الوسائل من كتب الشيعة، وفي الصحاح والسنن- غيرصحيحي


1- 1 الكافي 4: 184 وما بعدها.
2- 2 من لا يحضره الفقيه 2: 134 وما بعدها.
3- 3 بحار الأنوار، ط كمپاني 21: 6 وما بعدها.

ص: 35

البخاري وجامع الترمذي اللذين لا يختصان بالسنن- من كتب أهل السنّة المعتبرة، لكن كتب التفسير والتاريخ مفعمة بهذه الموضوعات.

2- الموضوعات التي تُشكّل مقدمة لسفر الحج مثل: آداب السفر، وآداب تربية الراحلة المذكورة غالباً في بداية كتب الحج أو في نهايتها، وهكذا آداب زيارة النبي، والمزارات الشريفة، وسائر الأماكن المقدّسة، المذكورة غالباً في نهاية أكثر هذه الكتب.

3- أحكام الحجّ التي هي موضوع بحثنا. القسم الأعظم من روايات الحج في كتب أهل السنّة تتضمّن شرحاً لأعمال وأقوال الرسول الأكرم في حجة الوداع، وأحياناً في عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، وفتح مكة، أو بشكل عام أحكام الحج دون ذكر الزمان والمكان. أما الكتب الحديثية للشيعة فتتضمّن عرضاً لحجة الوداع- كما سيأتي- وباباً تحت عنوان «حجّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله» في بعض هذه الكتب مثل الكافي للكليني (1)، والوافي للفيض الكاشاني (2)، وبحار الأنوار (3)، لكن أكثر الروايات في هذه الكتب تتضمّن أقوال وفتاوى وآراء أئمة آل البيت في مسائل الحج، التي كانوا يُسألون عنها، أو التي ترتبط بمظاهر الانحراف في الحج، وبمسألة حج التمتع، وهكذا تتضمن نقلًا لأحكام الحج عن رسول اللَّه عن طريق أئمة آل البيت عليهم السلام.

عناوين أبواب كتب الحديث تفصح عن مضمونها، ويمتاز كتاب «وسائل الشيعة» من بين الكتب الحديثية بوضع عناوين دقيقة للأبواب مستنداً إلى الأحكام المستفادة من الروايات. وفهرس هذا الكتاب الذي أسماه المؤلف «من لا يحضره الإمام» (4) يضمّ خلاصة وعصارة للروايات الفقهية عند الشيعة الإمامية.

4- الأحاديث المرتبطة بتفسير آيات الحج، وهو جزء من سائر الأقسام.


1- 1 الكافي 4: 244.
2- 2 الوافي 2: 30.
3- 3 بحار الأنوار، طبعة دار الكتب الإسلامية 21: 390.
4- 4 وسائل الشيعة ج 1 مقدمة الفهرست.

ص: 36

والبخاري فيصحيحه (1) اتّخذ من هذه الآيات عنواناً لعدد من أبوابصحيحه، وذكر الروايات الواردة في شرحها. لكن هذه الأحاديث وردت في عدد آخر من كتب الحديث موزّعة على الأبواب الأخرى، كلّ في محلّها. بعض الكتب الحديثية مثل الوافي للفيض الكاشاني، وبحار الأنوار للمجلسي، وجامع الأحاديث، دأبت على ذكر الآيات المرتبطة بكلّ باب في بداية ذلك الباب، وفي مكان واحد.

والعلامة المجلسي في بحار الأنوار شرح الآيات أيضاً بعد ذكرها وقبل أن يبدأ بذكر الأحاديث.

ذكرنا حتّى الآن النقاط المشتركة في كتب الحديث بشأن الحج. ونستعرض الآن روايات الحج، ورواتها في كلّ واحد من كتب أهل السنّة والشيعة، لكي نستطيع أن نقارن بينها بعد ذلك.

روايات الحج في كتب أهل السنّة، ورواتها:

التدقيق النسبي في كتب أهل السنّة المذكورة آنفاً، دلّنا على أنّ أحاديث الحجّ والعمرة نقلت عمّا يقارب من خمسة ومائةصحابي (2) وهذه الروايات تتضمّن غالباً مشاهدات الرواة، ومسموعاتهم في حجّة الوداع، بيّنوها بشكلصريح حيناً، وبشكل مبهم حيناً آخر. بين هؤلاء عددٌ روى أحاديث عن عمرة الحُدَيبية (3)، وعمرة القضاء (4)، وفتح مكة (5)، أو خروج النبيّ وهجرته من مكّة (6)، ممّا له علاقة بالحج. بين هؤلاء الصحابة أربعة فقط ممّن اشتركوا تأكيداً في حجّة الوداع، ورووا القسم الأعظم من الواقعة، أو رووا أحكام الحجّ بشكل عام، وهؤلاء الصحابة بترتيب عدد الروايات المنقولة عنهم:

1- عبد اللَّه بن عباس؛ ما يقارب من 45 حديثاً.

2- عائشة؛ ما يقارب من 42 حديثاً.


1- 1صحيح البخاري 2: 163، 164، 173، 179، 182، 204، 205.
2- 2 على النحو التالي: 1. أبو أيوب الأنصاري: 1؛ 2. أبو أمامة عمن أبصر النبي: 1؛ 3. أبو رزين العقيلي: 1؛ 4. أبو موسى الأشعري: 1؛ 5. أبو سعيد الخدري: 1؛ 6. أبو بكرة: 1؛ 7. أم الحصين: 1؛ 8. أبو غادية رجل من أصحاب النبيصلى الله عليه و آله و سلم: 1؛ 9. أبو مليكة أو ابن أبي مليكة: 1؛ 10. أبو طلحة: 1؛ 11. أبو بكر: 1؛ 12. أبو الطفيل، عامر بن وائلة: 1؛ 13. أسماء بنت أبي بكر: 1؛ 14. أبو ذر الغفاري: 3؛ 15. أم ولد شيبة: 1؛ 16. أم جندب أو أم سليمان بن عمرو: 1؛ 17. أبو هريرة: 9؛ 18. أم سلمة: 2؛ 19. أسامة بن زيد: 2؛ 20. أنس بن مالك: 13؛ 21. أم الفضل: 1؛ 22. أم حبيبة: 1؛ 23. أم معقل: 1؛ 24. أبو بردة بن دينار: 1؛ 25. أبو شريح العدوي: 1؛ 26. البراء بن عازب: 1؛ 27. بلال بن رباح: 1؛ 28. بلال بن الحارث: 1؛ 29. بديل بن الورقاء: 1؛ 30. بريدة: 1؛ 31. ثوبان مولى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: 1؛ 32. جابر بن عبد اللَّه: 21؛ 33. جبير بن مطعم: 1؛ 34. جرير بن عبد اللَّه: 1؛ 35. حارثة بن وهب الخزاعي: 1؛ 36. حجاج بن عمرو الأنصاري: 1؛ 37. حفصة بنت عمر: 1؛ 38. الحصين بن عوف: 2؛ 39. الحكم والد مسعود بن الحكم الزرقي: 1؛ 40. رافع بن عمرو المزني: 1؛ 41. رجل من الصحابة: 1؛ 42. زيد بن ثابت: 1؛ 43. زيد بن أرقم: 1؛ 44. زيد بن خالد الجهني: 1؛ 45. زيد بن الخطاب: 1؛ 46. ذويب أبي قبيصة: 1؛ 47. سبرة والد ربيع بن سبرة: 1؛ 48. سودة بنت زمعة: 1؛ 49. سعد بن مالك: 1؛ 50. سعد بن أبي وقاص:؛ 51. سراقة بن خثعم:؛ 52. سعدي بنت عوف: 1؛ 53. سهل بن سعد: 1؛ 54. السائب أبو خلاد الأنصاري: 3؛ 55. سائب بن يزيد: 1؛ 56.صعب بن جثامة: 1؛ 57. طلحة بن عبد اللَّه: 1؛ 58. عاصم والد أبي البداع: 1؛ 59. عثمان: 3؛ 60. علي عليه السلام: حوالي 13؛ 61. عمر بن الخطاب: 7؛ 62. عبد اللَّه بن عباس: 4؛ 63. عائشة: 34؛ 64. عمرو بن الأحرص: 1؛ 65. عبد اللَّه بن مسعود: 3؛ 66. عبيد اللَّه بن العباس: 1؛ 67. عبد اللَّه بن أبي بكر: 1؛ 68. عمران بن الحصين: 2؛ 69. عبد اللَّه بن عمرو بن العاص: 2؛ 70. عبد اللَّه بن السائب: 1؛ 71. عبد اللَّه بن أبي مغيث: 1؛ 72. عبد اللَّه بن يعمر الديلي: 1؛ 73. عمرو بن خارجة: 1؛ 74. عبد الرحمن بن معاذ: 1؛ 75. عبد اللَّه بن قذافة: 1؛ 76. العلاء الحضرمي: 1؛ 77. عبد اللَّه بن قرط: 1؛ 78. عروة بن مضرّس الطائي: 1؛ 79. عبد الرحمن بنصفوان: 1؛ 80. عبد الرحمن بن أبي بكر: 1؛ 81. عبد اللَّه بن الزبير: 1؛ 82. عبد اللَّه بن عدي بن حمران: 1؛ 83. عبد اللَّه بن بُجينة: 1؛ 84. عباس بن مُرداس: 1؛ 85. عبد اللَّه بن عمر: 32؛ 86. عقبة بن عامر الجهني: 1؛ 87. الفضل بن عباس: 2؛ 88. قدامة بن عبد اللَّه: 1؛ 89. كعب بن عُجزة: 1؛ 90. المطلب بن أبي دراعة السهمي: 1؛ 91. مسوّر وردان: 1؛ 92. منبط بن شُريط الأشجعي: 1؛ 93. محرّس الكعبي: 1؛ 94. مردان: 2؛ 95. ناجية الأسلمي: 1؛ 96. نبيثة: 1؛ 97. نبط والد سلمة بن نبط: 1؛ 98. والد أبي البداخ: 1؛ 99. الهرماس بن زياد الجاهلي: 1؛ 100. يحيى بن أبي كثير: 1؛ 101. يزيد بن شيبان: 1؛ 102. يعلي بن أميّة: 1؛ 103. أبو رافع: 1؛ 104. ابن أبي أوفى: 1؛ 105. أسماء بنت عميس: 1
3- 3 1. عبد اللَّه بن أبي قتادة: سنن النسائي 5: 185- 2. أبو قتادة: سنن النسائي 5: 186- 3. عبد اللَّه بن عمر: التاخ 2: 151 نقلًا عن البخاري- 4. كعب بن عُجزة: التاج 2: 153 رواه الخمسة.
4- 4 1. محرس الكعبي: سنن الدارمي 2: 52- سنن النسائي 5: 199 و 200- التاج 2: 149- 2. أنس بن مالك: سنن النسائي 5: 213- 3. جابر بن عبد اللَّه: سنن الدارمي 2: 66- 4. عبد اللَّه بن أبي أوفى: سنن الدارمي 2: 69- سنن ابن ماجة 2: 995- 5. علي عليه السلام: سنن الدارمي 2: 68.
5- 5 1. يعلي بن أمية، التاج 2: 105 رواه الخمسة- 2. أنس بن مالك، سنن الدارمي 2: 73- 3. جابر بن عبد اللَّه، سنن الدارمي 2: 74- 4. عبد الرحمن بنصفوان، التاج 2: 120 نقلًا عن أبي داود- 5. عبد اللَّه بن عباس، التاج 2: 158 و 162 رواه الشيخان- 6. أبو شريح العدوي، التاج 2: 158 رواه الشيخان والترمذي.
6- 6 1. عبد اللَّه بن عدي بن الحمراء، ....

ص: 37

3- عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب؛ ما يقارب من 32 حديثاً.

4- جابر بن عبد اللَّه الأنصاري؛ ما يقارب من 22 حديثاً.

هذه النتيجة التي توصّلنا إليها وجدناها بعد ذلك عند الإمام الشافعي إذ يقول: لهؤلاء الأربعة ميزة في حجّة الوداع (1). إضافةً إلى هؤلاء الأربعة، روي عن أنس بن مالكصحابي الرسول وخادمه ما يقارب من أربع عشرة رواية، وعن عليّ عليه السلام في كتب أهل السنّة هذا العدد نفسه تقريباً، لكن الكتب الحديثية الشيعية كما سنرى نقلت عن عليّ روايات كثيرة.

ولابدّ من الإشارة إلى مسألة لا تخفى على المتخصّصين في هذا الحقل: هي أنّ رواية الراوي في كتب الصحاح والسنن تكرّرت، بطريق واحد أحياناً، أو بطرق متعددة أحياناً أخرى، مع وجود اختلاف في ألفاظها. وفي إحصاء روايات الراوي ينبغي أن نحذف المكرّر، وهذا ما فعلناه. ومع أننا فهرسنا روايات الحج في الكتب المذكورة، راجعنا- تجنباً للمكرّر- كتاب «التاج الجامع للأصول من أحاديث الرسول» الذي أدغم مكرّر كتابٍ أو عدّة كتب، واحتسبنا أيضاً الروايات التي لم ترد في هذا الكتاب، ورويت في مصادر أخرى. ومع ذلك لا ندّعي أن إحصاءنا يطابق الواقع تماماً، لكنّه يقترب منه حتماً.

بين هؤلاء الأربعة، ينفرد جابر بن عبد اللَّه الأنصاري بروايته لحجة الوداع كاملة كما رآها، ونحن سندرس هذا الحديث، وحديثاً آخر شبيهاً له روي عن طرق الشيعة دراسة مقارنة. أما الثلاثة الآخرون فَرَووا حجة الوداع بشكل متفرّق من خلال روايات متعددة، وروايات كلّ منهم تتضمّن قسماً رئيساً من أحداث حجة الوداع. وهذا استعراض لمكانة الصحابة الأربعة من حجّة الوداع:

1- عبد اللَّه بن عباس بن عبد المطلب: ابن عم الرسول، كان في حجة الوداع مع أسرة الرسول الأعظم، وشاهد عن كثب مجريات حجة الوداع. كان له


1- 1 شرحصحيح مسلم 8: 135 في هذا المصدر ذكرت خصائص كلّ واحد من هؤلاء الأربعة بالتفصيل.

ص: 38

آنذاك من العمر ما يقارب ثلاثة عشر عاماً. ومع أنّ القسم الأعظم من رواياته في هذا المجال تعتمد على مشاهداته ومسموعاته مباشرةً- كماصرّح بذلك، هو- فمن المؤكد أنّ القسم الآخر سمعه عن الآخرين، وذكر أسماءهم أحياناً من أمثال:

الفضل (1)وعبد اللَّه (2)، شقيقيه الأكبرين، وأبي طلحة (3)، وأحياناً رجع الى أفراد من أمثال أبي أيوب الأنصاري (4) للسؤال عن الحج، ورجع أيضاً إلى الحصين بن عوف (5)، وعمر (6).

توصلتُ من خلال دراستي لروايات ابن عباس أن أكثر رواياته التي رواها عن رسول اللَّه في الموضوعات المختلفة وصلته عن طريق الآخرين، وابن عباس وسائر الصحابة لم يذكروا أسماء مَنْ رووا عنهم بسبب الثقة المتبادلة السائدة بين المسلمين آنذاك. وإلّا فإن سنّ ابن عباس لم يقتض أن يسمع ويدوّن هذا العدد من الروايات مباشرةً عن الرسول، وابن عباسصرّح بنفسه أنه استفاد من معلومات أكثر الصحابة.

إبن عباس مثل عليّ وجابر، وبعض الصحابة الآخرين، قاوم بشدّة رأي الخليفة الثاني بشأن منع حجّ التمتع الذي أقرّه الرسول الأكرم في حجّة الوداع.

وهذا الموقف ظاهرٌ في رواياته (7).

2- عائشة زوج الرسول، وابنة الخليفة الأول أبي بكر،صحبت الرسول في هذا السفر، وروت حادثة حيضها في بداية السفر، وما قرّره الرسول لها من حكم، وكيفية عمرتها مع أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر من «التنعيم» (محلّ خارج مكة) بأمر الرسولصلى الله عليه و آله، وقصة الأضاحي التي قدّمها الرسول عن أزواجه، وحوادث أخرى عن هذه السفرة (8) رواياتها حول كيفية إحرام الرسول والمسلمين في حجّة الوداع المرتبطة بمسألة عمرة التمتع الخلافية، فيها اختلاف حيّرت المحدّثين (9). يبدو أنّ هذه الروايات المنسوبة إلى أمّ المؤمنين


1- 1 طبقات ابن سعد 3: 180- وسنن ابن ماجة 2: 971، 1011، 1017.
2- 2 ...
3- 3 سنن ابن ماجة 2: 990.
4- 4 سنن ابن ماجة 2: 978.
5- 5 سنن ابن ماجة 2: 971.
6- 6 سنن ابن ماجة 2: 991- وسنن أبي داود 1: 284.
7- 7 سنن النسائي 5: 153، 154-صحيح البخاري 2: 155، 157- جامع الترمذي 2: 38- مستدرك الحاكم النيسابوري 1: 465.
8- 8 فيصحيح البخاري 2: 174 وما بعدها-صحيح مسلم 8: 134 وما بعدها، 157.
9- 9

ص: 39

فيها تحريف لطريقة الإحرام، وانحياز بشكل غير مباشر لتأييد رأي الخليفة الثاني بشأن «التمتع»، وهذا الانحياز تجلّى في آل الزبير بمن فيهم ابن أخت عائشة عروة بن الزبير (1).

3- عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب. كان يوم حجة الوداع شاباً، عمره بضع وعشرون سنة، وكان بدلالة رواياته حاضراً في تلك الحجة. استند في رواياته مراراً إلى مشاهداته في حجة الوداع، لكن موقفه من «حجّ التمتع» الذي منعه والده خلال فترة خلافته، غير واضح. بعض الروايات تحكي معارضته، ومقاومته الشديدة لرأي والده (2)، غير أنّ إصرار خلفاء بني أمية على اتباعه في مناسك الحجّ (3)، تدلّ على أنه انتهج في هذه المسألة السياسة العامة نفسها للحكم الأموي، القائمة على أساس الدفاع عن رأي الخليفة في هذه المسألة، التي اتّخذت منذ زمن عثمان طابعاً سياسياً.

4- جابر بن عبد اللَّه الأنصاري، أحد أصحاب الرسول الأوفياء، وبعد الرسول استمرّ وفاؤه لعليّ وأهل بيته حتى نهاية عمره الطويل. وتوفّي سنة 78 للهجرة.

جابر في حجة الوداع كان أيضاً شاباً ينيف على العشرين، وتابع كلّ شي ء بدقّة رؤيةً وسماعاً، واحتفظَ به في ذاكرته، ونَقَله.

عدد رواياته في الحج، مع أنها أقل من عدد روايات الثلاثة الآخرين، انفردت- كما ذكرنا وسنفصّل الحديث في ذلك- برواية حجة الوداع من أولها إلى آخرها، وإن نقل الرواة بعد ذلك فقرات من ذلك الحديث بطرق مختلفة، وأحياناً بالطريق نفسه، كما رووا عن جابر ما لم يرد في ذلك الحديث المفصّل أحياناً أخرى.

جابر نقل بصراحة «حجّ التمتع» عن الرسول، ونقل المنع الذيصدر عن


1- 1صحيح مسلم 8: 219.
2- 2 سنن الدارمي 2: 70- سنن النسائي 5: 151- جامع الترمذي 4: 39.
3- 3صحيح البخاري 2: 98 و 99.

ص: 40

الخليفة لهذا الحج، وفي الخلاف الذي ثارَ بين الصحابة بشأن هذه المسألة أصرّ جابر على العمل بسنّة الرسول (1).

من خصائص جابر الأخرى، أن روايته في حجة الوداع كانت نقطة التقاء بين فقه وحديث الشيعة وأهل السنّة في الحج. فهذه الرواية، وإن كانت قد رويت في كتب أهل السنّة بأسانيدهم وطرقهم، تضمّنت طرقها إمامين من أئمة الشيعة هما: الإمام محمد بن عليّ الباقر، والإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام، وكما سنرى فإنّ جميع الطرق تنتهي إلى جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد اللَّه.

وفي الوقت نفسه، أحداث حجّة الوداع رويت بالشكل نفسه مع بعض التفاوت بطرق الشيعة عن الإمام جعفر بن محمد الصادق. وسنفصّل الحديث في أسانيد كلّ من الروايتين، ومواضع اختلاف نصّهما. كما سنقدّم للقارئ في نهاية المقال النصّ الكامل للحديثين. ولعلّ هذه المقارنة فريدة من نوعها بشأن هذين الحديثين. ولكن قبل ذلك نلقي نظرة على روايات الحج، ورواتها في آثار فرق الشيعة، بما في ذلك الشيعة الإمامية ....

له تابع في العدد القادم

الهوامش:

اضواء من اسرار الحجّ


1- 1صحيح مسلم 8: 161 وما بعدها.

ص: 41

ص: 42

ص: 43

ص: 44

أضواء من أسرار الحجّ

جعفر السبحاني

إنّ جميع الأنبياء قد بعثوا لمحاربة الشرك، وعبادة الأصنام، ولفهم هذا الأمر بشكل واضح يكفينا مطالعة هذه الآية الشريفة:

«وما أرسلنا من قبلك من رسول إلّانوحي إليه أنّه لا إله إلّاأنا فاعبدون» (1).

إنّ هذه الآية المباركة توضح وبشكل جليٍّ، بأن من أهم واجبات الأنبياء إزالة مظاهر الشرك بأنواعه كافة في كلّ آنٍ ومكان.

من هنا ومن خلال أخذ هذا الأصل بنظر الاعتبار، فإنّ بعض الأعمال في الصلاة ومراسم الحج تبدو في ظاهر الحال وكأنها لا تتلائم مع مبدأ التوحيد؛ من قبيل: التوجه نحو الكعبة أثناء الصلاة، وما هي سوى أحجارٍ وطين، أو لمس «الحجر الأسود» باليد الذي لا يعدو كونه جماداً ليس إلّا، أو السعي بين جبلي


1- 1 الأنبياء: 25.

ص: 45

«الصفا» و «المروة» وغيرها من الأعمال. وعليه يفرض هذا التساؤل نفسه، ما هو السرّ الكامن في هذه الأعمال والواجبات؟ وما هو وجه الاختلاف بينها وبين أعمال المشركين؟

وقبل البدء في بيان أسرار هذه الأعمال، نُشير إلى أن هذا التساؤل سبق أن طرح قديماً. ففي عصر الإمام جعفر الصادق عليه السلام حضر ابن أبي العوجاء- رئيس الماديين آنذاك- مع جماعةٍ من أصحابه عند الإمام الصادق عليه السلام، وتوجّه له بالسؤال التالي:

«يا أبا عبد اللَّه! إنّ المجالس أمانات، ولابد لكلّ من به سعال من أن يسعل أتأذن لي في الكلام؟

فقال: تكلّم، فقال: إلى كم تدوسون هذا البيدر، وتلوذون بهذا الحجر، وتعبدون هذا البيت المعمور بالطوب والمدّر، وتهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر، إن مَن فكّر في هذا وقدّر علم أن هذا فعلٌ أمسه غير حكيم ولا ذي نظر. فقل فإنك رأس هذا الأمر وسنامه وأبوك أسّه وتمامه فقال أبو عبد اللَّه عليه السلام: إنّ مَن أضلّه اللَّه وأعمى قلبه استوخم الحق، ولم يستعذبه، وصار الشيطان وليّه وربّه وقرينه، يورده مناهل الهلكة ثمّ لا يصدره. وهذا بيت استعبد اللَّه به خلقه؛ ليختبر طاعتهم في إتيانه، فحثّهم على تعظيمه وزيارته، وجعله محلّ أنبيائه، وقبلة للمصلّين إليه، فهو شعبة من رضوانه، وطريق يؤدي إلى غفرانه، منصوب على استواء الكمال، ومجمع العظمة والجلال، خلقه اللَّه قبل دحو الأرض بألفي عام فأحقّ من أطيع فيه أمر، وانتهى عما نهى عنه وزجر اللَّه المنشئ للأرواح والصور» (1).

فمن خلال المنطق القويم والحديث الحكيم، كشف الإمام الصادق عليه السلام النقاب عن بعض أسرار الحج. حيث سننقل نفحاتٍ ورشحاتٍ من حديثه المبارك وسائر أئمة الهدى، الوارد في الإجابة عن هذا السؤال:

والهدف المتوخى من وراء هذا النقل،


1- 1 الكافي 4: 197 ح 1.

ص: 46

الإشارة إلى قِدَمِ هذا السؤال، ليتّضح لنا بأن هذه التساؤلات، كان لها حضورٌ في أذهان الناس.

1- سرّ التوجّه إزاء الكعبة أثناء الصلاة:

على العكس ممّا كان يجول في ذهن ابن أبي العوجاء، المادي المعروف في عصر الإمام جعفر الصادق عليه السلام، فانّ الهدف من التوجه نحو الكعبة أثناء الصلاة، لا يعني عبادة الكعبة أو حجرها وطينها. فإنّ جميع المصلّين يعبدون اللَّه تعالى، وحال توجههم نحو الكعبة، فإنّ الجميع يخاطب اللَّه الواحد الأحد بقوله: «إياك نعبد وإياك نستعين» والعلة في توجهنا نحو الكعبة حال الصّلاة، تكمن في أن الكعبة تعدّ أقدم معبدٍ وبيت للتوحيد، بني بأيدي أنبياء اللَّه العظام للموحّدين من أهل الأرض، ولا يسبقه في هذا القِدَم أيّ معبد آخر، كما يقول القرآن الكريم:

«انّ أوّل بيت وضع للناس لَلَّذي ببكّة مباركاً وهدًى للعالمين» (1).

إنّ الشريعة الإسلامية المقدّسة، ومن أجل إيجاد الوحدة بين المصلّين، وتوحيدصفوف المتوسّلين، أوجبت على الجميع أداء الصلاة بلغةٍ واحدة، والتوجّه إلى أقدم المعابد حال الصلاة، لتحفظ من خلال هذا السبيل وحدتهم حال العبادة والتعبّد؛ أي أن يتفوّه ملايين البشر في آنٍ واحدٍ بكلام واحد، ويتّجهون نحو نقطة واحدة. وأن يعلنوا وحدتهم واتّحادهم بشكل واضح وعلني. وبناءً على ذلك، فإنّ التوجّه نحو هذا المعبد ليس بمعنى عبادته، بل بمعنى جعله رمزاً لوحدتهم واتّحادهم حال العبادة.

لقد كان المسلمون فيصدر الإسلام، يقيمون الصلوات جماعة، وصلاة الجماعة من المستحبّات المؤكدة في الإسلام. فلو أراد جمعٌ أداءَ فريضةٍ ما معاً، عليهم أن يتوجهوا جميعاً إلى وجهةٍ واحدة، وبغير هذه الصورة لا


1- 1 آل عمران: 96.

ص: 47

يمكن أداء الفريضة.

إنّ نبي الإسلام والمسلمين جميعاً، ظنّوا يصلّون لفترة من الزمن متّجهين فيصلاتهم تلك نحو «المسجد الأقصى» إلّاأنّه وبعد سبعة عشر شهراً من تاريخ الهجرة، جاء الأمر بأن يتّجه المسلمون نحو المسجد الحرام والكعبة حيثما كانوا، لأسبابٍ وعللٍ ذكرت في محلّها قال اللَّه- عزّ وجلّ-:

«... فولّوا وجوهكم شطره ...» (1).

لقد ذكّر الإمام الصادق عليه السلام هذا المعترض المادي في عصره بواحدةٍ من أسرار التوجه نحو الكعبة حال الصّلاة وقال: «وهذا البيت استعبد اللَّه به خلقه؛ ليختبر طاعتهم في إتيانه، فحثّهم على تعظيمه وزيارته، وجعله محلَّ أنبيائه، وقبلة للمصلّين إليه. فهو شعبة من رضوانه، وطريق يؤدي إلى غفرانه».

2- لماذا نستلم الحجر الأسود باليد؟

يستفاد من الأحاديث الإسلامية، أن بناء الكعبة كان موجوداً، قبل عصر سيّدنا إبراهيم عليه السلام، وأن جداره تهدم على أثر طوفان نوح عليه السلام. وبعد أن أُمِرَ النبيّ إبراهيم بإعادة بناء الكعبة، وَضَعَ «الحجر الأسود» وهو جزءٌ من جبل «أبو قبيس»، وضعه بأمر اللَّه تعالى في جدارها. والآن يطرح هذا السؤال:

لماذا نستلم هذا الحجر بأيدينا؟ وما هو الهدف من هذا العمل؟

وجواب ذلك: أنّ استلام الحجر ووضع اليد عليه، يعدّ نوعاً من العهد والبيعة مع سيدنا إبراهيم؛ لمحاربة مظاهر الشرك وعبادة الأوثان بأنواعها كافة، أسوةً ببطل التوحيد، وأن لا ننحرف عن الحنيفية، ولا نخرج عن جادة التوحيد في مظاهر الحياة كافة.

وتتم البيعة مع الفرد أحياناً، بمصافحة يده وغمزها، أو بمسك طرف الثوب، وأحياناً أُخرى تتم بشكل أو بآخر. ونقرأ في التاريخ عندما نزلت الآية المباركة «يا أيّها النبيّ إذا جاءك


1- 1 البقرة: 144.

ص: 48

المؤمنات يُبايعنك على أن لا يشركن باللَّه شيئاً ...» (1)

، فإنّ النبيَّصلى الله عليه و آله أمر بإحضار إناءٍ فيه ماء، ووضع يده المباركة فيه، ثمّ أخرجها من الماء وقال:

مَنْ أرادت منكنّ أن تبايعني، فلتضع يدها في الماء، وتبايعني على ما في هذه الآية. ومن هنا فإنّ مبايعة رسول اللَّه تمت عن طريق وضع اليد في شي ء وضع هو يده فيه. ومسألة استلام «الحجر الأسود» من هذا القبيل أيضاً.

فالهدف إذن، أن نبايع بطل التوحيد ونبيّنا الأكرمصلى الله عليه و آله علىصيانة التوحيد. لذا يقول الإمام الصادق عليه السلام:

وقل عند استلامك الحجر:

«أمانتي أدّيتها وميثاقي تعاهدتُه لِتَشْهَد لي بالمؤافاة» (2).

يقول ابن عباس: «واستلامه اليوم (أي الحجر) بيعة لمن لم يدرك بيعة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله» (3).

وبناءً على ذلك فإنّ الهدف من تقبيل الحجر واستلامه، تجسيدٌ لميثاق قلبي مركزه روح الإنسان. وحقيقة الأمر، فإنّ زائري بيت اللَّه بعملهم هذا، يجسّدون ذلك الميثاق القلبي على هيئة أمرٍ ملموس ومحسوس.

وفي الكثير من بلدان العالم، يقدّس الجنود أعلام بلدانهم، ويقفون أمامها بإجلال وإكبار مجددين العهد باليمين. ومن المسلم به، أن العَلَم بضعة أمتار من القماش ليس إلّا. إلّاأنّه يمثل رمز استقلال البلد، وعنوان إرادته الوطنية والشعبية. وفي هذه الحالة، فإنّ الجندي بدلًا من مصافحة أيدي الناس أو القادة وغمزها، فإنّه يشير إلى العلم ويؤدي اليمين والعهد. وستقرأ في الجزء الآخر من الجواب، بأن الهدف من بعض مراسم الحج، هو تجسيدُ نوعٍ من الحقائق، التي جسّدت نفسها عن طريق أعمال الحج.

3- ما الهدف من السعي بين الصفا والمروة؟

إنّ حجاج بيت اللَّه، ومن خلال السعي بين الصفا والمروة، يجسّدون


1- 1 الممتحنة: 12.
2- 2 وسائل الشيعة 9: 400 باب 12 ح 1.
3- 3 وسائل الشيعة 9: 406 باب 12 ح 15 أبواب الطواف.

ص: 49

حالة السيدة هاجر أمّ إسماعيل عليه السلام.

وبشهادة التأريخ، فإنّها- ومن دون أن تيأس من رحمة اللَّه تعالى- سعت في تلك الصحراء العارية من الزرع والماء، سبع مرّات بين ذنيك الجبلين بحثاً عن الماء، وفي نهاية المطاف شملها لطف اللَّه تعالى، ونالت مقصودها، وبعد أن فار الماء تحت أقدام إسماعيل عليه السلام نجت هي وابنها من العطش.

ويستفاد من بعض الأحاديث، بأنّ الشيطان قد تجسّد لسيّدنا إبراهيم عليه السلام في هذا المكان، وأخذ يعقّبه في سعيه، ليبعده عن حرم بيت اللَّه.

وبأدائنا لهذا العمل، إنّما نجسّد ذلك العمل المعنوي (1).

وبذبح القرابين فيصحراء منى، فإنّنا نحيي ذكرى فداء سيّدنا إبراهيم عليه السلام الذي ضحّى بكلّ شي ء في سبيل اللَّه حتى ولده.

4- ما الهدف من رمي الجمرات؟

إنّ حجاج بيت اللَّه الحرام يرجمون في أيام العاشر والحادي عشر والثاني عشر، أعمدة معيّنة في أرض منى (قرب مكّة) بالحجر. وبهذا العمل فإنّهم يرمون في الظاهر نقطة معيّنة بالحجر، إلّاأنّهم يرجمون الشيطان في باطنهم.

والأحاديث الإسلامية بيّنت ماهية هذا العمل بقولها: إنّ الشيطان قد تجسّد لسيدنا إبراهيم عليه السلام في الأماكن الثلاثة هذه، ورجمهُ إبراهيم بالحجر ليظهر تنفّره منه. وبقي عمل إبراهيم هذا سنّةً إلهية في أعمال الحج.

إنّ حجاج بيت التوحيد، وإظهاراً لنفرتهم من الشيطان والشياطين، يرجمون تلك النقطة بالحجر تعبيراً عن إبراهيميتهم. وبهذا الشكل فإنّهم يعبرون عن غضبهم من كلّ موجود شرير خبيث ونجس. وإن النفرة من النجاسة وهي أمر معنوي وقلبي، يعبرون عنها بهذه الطريقة بشكل ملموس ومحسوس.

واليوم فإنّ الشعوب المستضعفة،


1- 1 وسائل الشيعة 9: 512 ح 12 أبواب السعي.

ص: 50

التي تعاني من الظلم والجور، تقوم بإحراق أعلام الدول المستكبرة السلطوية، والعلم ليس أكثر من بضعةِ أمتارٍ من القماش الملوّن. إلّاأنّ الشعوب- ومن أجل إظهار غضبها تجاه الفضائع والجرائم التي ترتكبها القوى العظمى- تقوم بإحراق رموزهم، وكأنهم قاموا بإحراقهم وإبادتهم والقضاء عليهم، وعلى الأقل فإنّ هذا العمل يبيّن إنزعاجهم الشديد من أولئك الظّلمة.

وخلاصة القول: فإنّ الذي يتأمل في تاريخ فرائض الحج، يتلمس الحقيقة التالية: وهي أنّ الكثير من هذه الأعمال، الغرض منها تجسيد طائفة من الذكريات البنّاءة من حياة وسيرة سيّدنا إبراهيم عليه السلام، ومجموعة من الأمور المعنوية والأخلاقية، التي تؤدّى بسلسلة من الأعمال بشكل نموذجي ومنظّم، وليس الغرض منها عبادة الحجر والطين والجبل مطلقاً.

الهوامش:

شرح فقرة من دعاء عرفة

ص: 51

شرح فقرة من دعاء عرفة

تحقيق: فارس حسّون كريم

تأليف السيد ماجد بن إبراهيم الحسيني الكاشاني- من أعلام القرن الثاني عشر-

الحمد للَّه سامع الدعاء، ودافع البلاء، ومفيض الضياء، وكاشف الظماء، وباسط الرجاء، وسابغ النعماء، ومجزل العطاء، ومردف الآلاء، حمداً يكافي نعمه، ويوافي مننه، ويوجب مزيده.

والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء، وسيّد الأصفياء، الحجّة على مَنْ في الأرض والسماء، وعلى آله الفائزين بخلوص الانتماء، ووجوب الاقتداء،صلاة باقية إلى يوم البعث والجزاء.

وبعد: حقيقة لا شكّ فيها: أنّ تراث الدعاء الأثيل والخالد لمدرسة أهل البيت عليهم السلام منهل عذب، قد ضمَّ من عيون الدرر ما لا يمكن جردها وحصرها، ولا سيّما أنّ الذي قد أرسى أُسس هذا التراث الضخم سيّدنا خاتم الرسل، وصاحب الحوض والكوثرصلى الله عليه و آله. وتبعه باب مدينة علومه وحكمته سيّد

ص: 52

الوصيّين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، كما يتجلّى ذلك في دعاءيه: «دعاء الصباح» و «دعاء كميل بن زياد رضى الله عنه» وغيرها. ومن ثمّ ابنه قتيل العبرات، وأسير الكربات، سيّد الشهداء من الأوّلين والآخرين الحسين بن عليّ عليه السلام كما يتجلّى ذلك في دعائه في يوم عرفة- وهو موضوع كتابنا هذا- وسائر أدعيته عليه السلام.

وأمّا الذي أغناه، وأبدى به اهتماماً خاصّاً، فهو إمام العارفين، وقائد الزاهدين، وسيّد الساجدين، وزين العابدين، ذو الثفنات، ورابع أئمّة بيت العصمة والطهارة عليهم السلام. فقد أبدع في إنشاء جملة وافرة من الأدعية، والأحراز الشهيرة، أضحت خير زاد يتقوّى به على مواصلة الطريق المؤدّي إلى مرضاة اللَّه- تعالى-. ولقد تركت أثرها البارز في إرساء دعائم المجتمع الإسلامي، وتنزيهه من الشوائب، في مرحلةٍ هي من أقسى وأحلك المراحل التي مرّت بها الأُمّة الإسلاميّة بعد شهادة أبيه الحسين عليه السلام، خلال النصف الثاني من القرن الأوّل، ومن أجل ذلك سميّت بإنجيل أهل البيت عليهم السلام، وبزبور آل محمد عليهم السلام (1).

ترجمة المؤلّف (2) اسمه:

هو السيّد ماجد بن السيّد إبراهيم الحسيني الكاشاني، كان فاضلًا، أديباً، حكيماً، فقيهاً، أريباً.

حفيده:

العالم المتّقي الحاج السيّد محمد تقي بن المير عبد الحيّ بن إبراهيم بن السيّد ماجد بن إبراهيم الپشت مشهدي الحسيني الكاشاني، من أعاظم علماء عصره،


1- 1 أوّل من أطلق هذين الاسمين هو ابن شهر آشوب، المتوفّى سنة «588 ه» في معالم العلماء: 125 و 131 في ترجمة: متوكّل بن عمير بن المتوكّل، ويحيى بن عليّ بن محمد بن الحسين الرقّي.
2- 2 ترجمه الشيخ آقا بزرگ الطهراني في طبقات أعلام الشيعة- الكواكب المنتشرة في القرن الثاني بعد العشرة-: 628، وترجمه أيضاً الملّا حبيب اللَّه الكاشاني في لباب الألقاب في ألقاب الأطياب: 63- 64.

ص: 53

ومن تلامذةصاحب «رياض المسائل» (1)، توفيّ سنة «1258 ه» (2).

معاصره:

الميرزا إبراهيم بن الميرزا غياث الدين محمد الإصفهاني الخوزاني- قاضي اصفهان، ثمّ قاضي عسكر السلطان نادر شاه-، المتوفّى سنة «1160 ه»، كتب رسالة في الغناء في الردّ على رسالة السيّد ماجد (3).

مؤلّفاته:

1- «إيقاظ النائمين وإيعاظ الجاهلين».

رسالة في أحكام الغناء وموضوعه وإثبات حرمته، في مقدّمة ومقصدين، المقدّمة في مسائل من علوم مختلفة يحتاج إليها في أبحاث الرسالة (4).

قال الملّا حبيب في لباب الألقاب: له رسالة في تحقيق الغناء، وحواشٍ على الإشارات والشفاء- على ما حكاه بعض أسباطه-، وقد نقلنا بعض كلماته في رسالتنا التي أفردناها لهذه المسألة (5).

2- «تخلّل السكون بين الحركتين».

بحث عن آراء المشائين من الفلاسفة ومذهب ابن سينا في الموضوع، ويذهب المؤلّف إلى أنّ تخلّل السكون بين الحركتين جائز (6).

3- «التخلّل والتكاثف الحقيقيّان».

يستدلّ المؤلّف في هذه الرسالة المختصرة على إمكان التخلّل بين الشيئين أو التكاثف فيهما، وهو بحث فلسفي كتبه في جواب المنكرين للموضوع (7).

4- «التشكيك في الذاتيات».

ردّ على من ذهب إلى نفي الذاتيات، وبيان أنّها من أيّ المعقولات هي (8).


1- 1 هو «رياض المسائل في بيان الأحكام بالدلائل» تأليف السيّد علي الطباطبائي، المولود سنة «1161 ه»، والمتوفّى سنة «1231 ه».
2- 2 طبقات أعلام الشيعة- الكرام البررة-: 219 رقم 448، لباب الألقاب: 74.
3- 3 ذكره في تتميم أمل الآمل: 57، طبقات أعلام الشيعة- الكواكب المنتشرة-: 8- 11، أعيان الشيعة 2: 203.
4- 4 الذريعة 2: 505 رقم 1980، فهرس مكتبة آية اللَّه العظمى المرعشي: 16/ 28 رقم 6025 الكتاب الثامن.
5- 5 لباب الألقاب: 63- 64.
6- 6 فهرس مكتبة آية اللَّه العظمى المرعشي: 17/ 221 رقم 6658.
7- 7 فهرس مكتبة آية اللَّه العظمى المرعشي: 16/ 27 رقم 6025 الكتاب السادس.
8- 8 فهرس مكتبة آية اللَّه العظمى المرعشي: 16/ 29 رقم 6025 الكتاب التاسع.

ص: 54

5- «شرح دعاء عرفة».

وهو هذا الكتاب، وسيأتي التعريف به.

6- «ماهية الزاوية».

تحقيق دقيق حول حقيقة الزاوية، وماهيتها المعرّفة في الكتب بمختلف التعاريف (1).

7- «نفي الهيولى».

يثبت المؤلّف أنّ الهيولى ليس له وجود في الخارج، ويردّ على الذاهبين إلى أنّ له وجوداً خارجياً (2).

مدّة حياته:

لم تذكر المصادر التي ترجمت السيّد المؤلّف رحمه الله تاريخ ولادته، ولا تاريخ وفاته، غير أنّه كان حيّاً سنة «1152 ه»، وهو تاريخ تأليفه لكتابه هذا- شرح دعاء عرفة-.

التعريف بالكتاب:

روى بشر وبشير ابنا غالب الأسدي، قالا: كنّا مع الحسين بن علي عليهما السلام عشيّة عرفة، فخرج عليه السلام من فسطاطه متذلّلًا خاشعاً، فجعل يمشي هوناً هوناً حتّى وقف هو وجماعة من أهل بيته وولده ومَواليه في ميسرة الجبل مستقبل القبلة، ثمّ رفع يديه تلقاء وجهه كاستطعام المسكين، ثمّ قال:

«الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَيْسَ لِقَضَائِهِ دَافِعٌ، وَلَا لِعَطَائِهِ مَانِعٌ، وَلَا كَصُنْعِهِصُنْعُصَانِعٍ، وَهُوَ الْجَوَادُ الْوَاسِعُ- إلى أن يقول:- اللَّهُمَّ لَاتَمْكُرْ بِي وَلَا تَسْتَدْرِجْنِي وَلَا تَخْدَعْنِي، وَادْرَأْ عَنِّي شَرَّ فَسَقَةِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ»

، ثمّ رفع رأسه وبصره إلى السماء وعيناه ماطرتان كأنّهما مَزادتان، وقال


1- 1 فهرس مكتبة آية اللَّه العظمى المرعشي: 16/ 29 رقم 6025 الكتاب العاشر.
2- 2 فهرس مكتبة آية اللَّه العظمى المرعشي: 16/ 28 رقم 6025 الكتاب السابع.

ص: 55

بصوتٍ عالٍ:

«يَا أَسْمَعَ السَّامِعِينَ، يَا أَبْصَرَ النَّاظِرِينَ، وَيَا أَسْرَعَ الْحَاسِبِينَ، وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ- إلى أن يقول:- لَكَ الْمُلْكُ، وَلَكَ الْحَمْدُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ، يَا رَبِّ يَا رَبِّ»

وكان يكرّر قوله «يا ربّ»، وشغل من حضر ممّن كان حوله عن الدعاء لأنفسهم، وأقبلوا على الاستماع له والتأمين على دعائه، ثمّ علت أصواتهم بالبكاء معه، وغربت الشمس وأفاض الناس معه.

أقول: إلى هنا تمّ دعاء الإمام الحسين عليه السلام في يوم عرفة على ما أورده الكفعمي في كتاب «البلد الأمين» (1)، وقد تبعه المجلسي في كتاب «زاد المعاد» (2).

ولكن زاد السيّد ابن طاووس رحمه الله في كتاب «إقبال الأعمال» (3) بعد «يا ربّ يا ربّ يا ربّ» هذه الزيادة:

«إِلهِي أَنَا الْفَقِيرُ فِي غِنَايَ فَكَيْفَ لَاأَكُونُ فَقِيراً فِي فَقْرِي؟! إِلهِي أَنَا الْجَاهِلُ فِي عِلْمِي فَكَيْفَ لَاأَكُونُ جَهُولًا فِي جَهْلِي؟!- إلى أن يقول:- هَا أَنَا أَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِفَقْرِي إِلَيْكَ، وَكَيْفَ لَاأَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِمَا هُوَ مَحَالٌ أَنْ يَصِلَ إِلَيْكَ؟ ...».

وكتابنا هذا تناول شرح الجملة الأخيرة

«هَا أَنَا أَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِفَقْرِي إِلَيْكَ، وَكَيْفَ لَاأَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِمَا هُوَ مَحَالٌ أَنْ يَصِلَ إِلَيْكَ؟»

حيث تصدّى المؤلّف رحمه الله لرفع التناقض الذي يبدو في هذه القطعة.

النسخة المعتمدة في التحقيق:

هي النسخة الخطّيّة المحفوظة في خزانة مخطوطات مكتبة آية اللَّه العظمى المرعشي النجفي في قم المقدّسة، وهي مذكورة في فهرسها ج 16ص 26 ضمن المجموعة رقم 6025- الكتاب الثالث، ومذكورة أيضاً في التراث العربي في خزانة مخطوطات مكتبة المرعشي ج 3ص 312، والنسخة تقع في 10 أوراق كتبت بخطّ فارسي جيّد «نستعليق»- بخطّ تلميذ المؤلّف- وعناوينها بارزة بخطّ


1- 1 البلد الأمين: 251- 258- عنه البحار 98: 213 ح 2.
2- 2 زاد المعاد: 248- 268.
3- 3 إقبال الأعمال: 339- 350- عنه البحار 98: 214 وعن حاشية البلد الأمين ومصباح الزائر لابن طاووس. وقال المجلسي رحمه الله في البحار 98: 227 ح 4: لا توجد هذه الزيادة في بعض النسخ العتيقة من الاقبال، وعبارات هذه الزيادة لا تلائم سياق أدعية السادة المعصومين أيضاً، وإنّما هي على وفق مذاق الصوفيّة، ولذلك قد مال بعض الأفاضل إلى كون هذه الزيادة من مزيدات بعض مشايخ الصوفيّة ومن إلحاقاته وإدخالاته. وبالجملة: فهذه الزيادة إمّا وقعت من بعضهم، أوّلًا في بعض الكتب، وأخذ ابن طاووس عنه في الاقبال غفلة عن حقيقة الحال، أو وقعت ثانياً من بعضهم في نفس كتاب الإقبال، ولعلّ الثاني أظهر على ما أومأنا إليه من عدم وجدانها في بعض النسخ العتيقة، وفي مصباح الزائر، واللَّه أعلم بحقائق الأحوال.- بتصرّف يسير.

ص: 56

النسخ،صفحاتها ذات سطور مختلفة بقياس 5. 12* 5. 8 سم، كتبت النسخة في المدرسة العمادية بكاشان سنة 1152 ه.

-صورة الصفحة الأولى من النسخة الخطّيّة-

الحمد للَّه ذي الطول والإحسان والنعم الجلائل، والصلاة على محمّد وآله أُولي الفواضل والفضائل، الذين جعلت موالاتهم خير بضاعة وأقرب الوسائل.

ص: 57

-صورة الصفحة الأخيرة من النسخة الخطّيّة-

أمّا بعد:

يقول المفتقر إلى اللَّه الغنيّ محمد بن إبراهيم المدعوّ بماجد الحسيني: لقد سألني بعض أجلّة الخلّان، وأخصّ الأخوان أن أُحرِّر شرحاً لكلام سيّد الشهداء- عليه وعلى آبائه السلام- في دعائه ليوم عرفة، وهو:

«هَا أَنَا أَتَوَسَّلُ الَيْكَ بِفَقْرِي إِلَيْكَ، وَكَيْفَ لَاأَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِمَا هُوَ مَحَالٌ أَنْ يَصِلَ

ص: 58

الَيْكَ»

بحيث يدفع أثر التناقض وغيره عنه ممّا لا يليق بأمثاله عليه السلام.

فاعتذرت إليه مع ظهور قصور باعث عن كشف جليّات الخفاء عن وجوه أبكار المعاني، ورفع أستار الارتياب عن تلقاء المقاصد المعضلة الأركان والمباني، تارة بضيق البال لتراكم أمواج بحار الأحزان، وأُخرى بقلّة المجال لكثرة تواتر نزول أفواج الحدثان، فما حلّ موقع القبول وما زاد إلّاإعادة المسؤول فأسعفت مسؤوله، وأجبت مأموله، وتصدّيت لحلّه على رأي كلّ فرقة مشتهرة بين الأنام أقوالهم واعتقاداتهم متداولة بين الناس أبلالهم ومدوّناتهم بحيث ينطبق على أُصولهم وقواعدهم انطباقاً بيّناً، محترزاً عن الردّ والقبول، لا لمخافة الإطناب والإسهاب، بل لانحطاط درجتي عن درجات هؤلاء الأعلام في كلّ بابٍ، مراعياً للايجاز واختصار الكلام، ورتّبته على مقدّمة ومقالات ثلاث:

أمّا المقدّمة فمشتملة على فصلين:

الفصل الأوّل: في بيان دأب الأنبياء والأئمّة عليهم السلام في التضرّع والابتهال، وما شاكلهما.

اعلم أنّ دأبهم عليهم السلام فيما ذكرناه في بعض الأوان التشبّث بالأسباب، والتمسّك بالوسائل أوّلًا، ثمّ الإعراض عنها أخيراً، مشعراً ببيان فساده لوجهين:

أمّا أوّلًا: فلكونه بمنزلة الاستدلال على كون المحتاج إليه هو اللَّه- سبحانه-، وأنّ لا مؤثّر في الوجود إلّاوينتهي إليه، فهو المؤثّر بالذات، ومسبّب الأسباب، فإنّ المطلوب المستدلّ عليه أوقع قبولًا من غيره، فأمثال هذه منهم بمنزلة القياس الاستثنائي، ولذا قال كثير من المفسّرين: (1) إنّ قول إبراهيم- على نبيّنا وآله وعليه السلام- بربوبيّة الكواكب مستدلًّا عليها بالإنارة والضياء والكبر أوّلًا، ثمّ الرجوع عنه مستدلًّا بالافول أخيراً، إنّماصدر عنه عليه السلام عمداً عالماً بعدم ربوبيّتها في كلا الحالين لوجوب عصمة الأنبياء عليهم السلام عن الشرك قبل البعثة


1- 1 انظر مثلًا تفسير مجمع البيان للطبرسي 2: 323- 324، ففيه تفصيل واف لما أشار إليه المؤلّف رحمه الله.

ص: 59

أيضاً.

وأمّا ثانياً: فللإشعار بتفاوت مراتب التنزيه المسبّب عن تفاوت درجات مراتب المعرفة وترتّبها، والإشارة إلى أنّ من بلوغ المرتبة العليا يُعلَم عدم جواز الرجوع إلى المرتبة الدنيا، وأنّ ما يصل به العالم إلى نعيم قربه- تعالى- سبب لبعد الأعلم منه أن جعله وسيلة، ألا ترى أنّه- سبحانه- قال: «إنّ الأبرار لفي نعيم» (1)؟

وقد ورد في الخبر: «إنّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين».

الفصل الثاني: في تحقيق معنى الفقر.

قد اختلفت الآراء في تحقيقه، فجعله بعضهم ضدّ الغنى، وحكم بكونهما أمرين وجوديّين.

وقال بعضهم بكون الغنى عدم ملكة الفقر، فحكم بكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة.

والحقّ عكس الثاني، وما قيل في تعريف الغنى من أنّه عدم الحاجة فتعريف له يلازمه لا تحديده، لأنّ الفقر بحسب النظر الدقيق ليس إلّافقد الكمال مطلقاً، أو ما يوصل إليه.

وبالجملة كلّ ما يكون وجوده شي ء أولى من عدمه له فعدمه له من حيث هو كذلك نفس فقره، وفاقده من هذه الحيثيّة فقير وإن كان غنيّاً باعتبار وجود أمر آخر كمال له من جهة أُخرى، كما أنّ الجاهل فقير لفقدان العلم الذي هو كمال لنفسه، وغني بحسب وجود الشبع مثلًا الذي هو كمال لبدنه، أو ما يتوصّل به إليه، فالفقر نفس العدم، والغنى عين الوجود، فإن كان الوجود ذاتيّاً للشي ء يكون غنيّاً بالذات، وإن كان من غيره يكون فقيراً بالذات غنيّاً بالغير، فالغنيّ بالذات هو اللَّه- سبحانه-، وما سواه فقير إليه مطلقاً.


1- 1 الانفطار: 13- المطفّفين: 22.

ص: 60

المقالة الأُولى:

في حلّه على طريقة الصوفيّة (1) وهو موقوف على بيان مقدّمة، وهي أنّ الفرق بين الواجب والممكن عندهم بالإطلاق والتقييد، ويعبّرون عنه بالتعيّن، ويقولون: هو أمر اعتباري لا حقيقي، ويعنون من الاعتباري ما لا يتّصف بالوجود، فالكثرة وما يلزمها من الغيريّة أُمور اعتباريّة غير موجودة؛ لأنّ الوجود بما هو وجود لا يقبل الكثرة، فالأمر الحقيقي هو الوجود المطلق، وهو عين حقيقة الواجبيّة، وما يعرضه من التعيّنات أُمور اعتباريّة، فالواجب هو الوجود المطلق، والمراد منه الوجود اللّابشرط لا المقيّد بقيد الإطلاق، لأنّ كلّ قيد عندهم اعتباري، والممكن هو


1- 1 فرقة ظهرت في أواسط القرن الثاني أو في النصف الأخير منه؛ قيل: سمّوا بذلك للبسهم الصوف وقد اختاروه لرفضهم زينة الدنيا، واستغراقهم في أمر الآخرة؛ وقيل: لأنّهم آثروا الذبول والتواضع والتخفّي عن أعين الناس كانوا كالخرقة الملقاة والصوفة المرميّة التي لا يرغب فيها، فقيل عنهمصوفيّة نسبة إلى الصوفة المرميّة، فتكون نسبة الصوفي إلى الصوفة كنسبة الكوفي إلى الكوفة؛ وقيل: لأنّهم في الصفّ الأوّل بين يدي اللَّه- عزّوجلّ- بارتفاع هممهم وإقبالهم على اللَّه بقلوبهم، ووقوفهم بسرائرهم بين يديه؛ وقيل ... وأكثر معتقدات الصوفيّة وطرقهم لا تلتقي مع ما جاء به الإسلام من قريب أو بعيد، كالحلول والاتّحاد، ووحدة الوجود، والحقيقة المحمّديّة، ونظام الكون، والجنّة والنار، وغيرها. ومن أقطابهم: إبراهيم بن أدهم، وحبيب العجمي، وذو النون المصري، وغيرهم. «بين التصوّف والتشيّع: 284 و 337 و 488».

ص: 61

الوجود المتعيّن لكن لا بما هو موجود، بل بما هو متعيّن، فالفقر عندهم هو نفس التعيّنات الاعتباريّة؛ لأنّها إعدامصرفه كما عرفت.

وإذا تمهّدت هذه نقول: حلّ كلامه عليه السلام على رأيهم: انّه أراد أن يشير إلى بيان مراتب قرب السالكين إلى اللَّه، والسائرين إليه، وترتّب درجاته، وتفاوت مراتبه وغير المرتبة العليا من القرب الذي هو الوصول من المراتب التي وقعت في البين إنّما يحصل للمتمسّكين بالوسائل، وتختلف مراتب قربهم حسب اختلاف الوسائل قوّة وضعفاً، وهي من الكثرة بحيث لا يكاد تنضبط، ولا شكّ أنّ أقوى الوسائل هو ما يجده المتوسّل من نفسه، لأنّ الوسيلة إذا كانت ذاتيّة يكون أتمّ وأقوى منها إذا كانت خارجيّة.

فأشار عليه السلام في الفقرة الأُولى إلى هذا المقام وجوب الفقر الذي نفس التعيّن وسيلة للقرب، وعلّة محوجة إليه ضرورة احتياج المقيّد إلى المطلق، فمعناها: ها أنا أتوسّل بسبب تعيّني وهويّتي إليك، وهذا القرب المطلق هو القرب الذي لم يبلغ درجة الوصول لكون الوسيلة فاصلة بين المتوسّل والمتوسّل إليه، والسالك في هذا المقام ملاحظ لنفسه فارق بينها وبين الذات الأحديّة، وكمال القرب هو الاتّصال الذي عبارة عن ملاحظة العبد عينه متّصلًا بالوجود الأحدي بقطع النظر عن تعيّن وجوده، وإسقاط إضافته إليه حتّى يبقى موجوداً به، ولا يرى إلّا واحداً كما قال قائلهم:

در چنين حال ديده بگشايد در نظر جز يكيش ننمايد ولا شك أنّ هذه المرتبة لا تحصل للعبد ما دام ملاحظاً لنفسه إذ لا يمكن أن يصل غبار التعيّن إلى ذيل جلال الإطلاق، فانقطع عن الوسيلة التي هي سبب للقرب المفصول طالباً للقرب الذي هو الاتّصال، وقال: كيف أتوسّل بما هو محال أن يصل إليك؟

ص: 62

المقالة الثانية:

في حلّه على دأب الأشاعرة (1) وهو موقوف على بيان مقدّمتين مترتّبتين:

الأولى: انّ ما يصدر عنه- تعالى- ليس على سبيل الايجاب بمعنى امتناع انفكاك الأثر عن الذات كما يقول به الحكماء، ولا على سبيل الوجوب العقلي كما يقول به المعتزلة (2)، بل كلّ ما يصدر عنه- تعالى- يصدر بالقدرة والاختيار، بمعنىصحّة الفعل والترك مطلقاً، سواء كان بالنظر إلى ذاته كما يوافقهم فيه جمهور المعتزلة، أو بالنظر إلى غيره بخلاف ما ذهب إليه المعتزلة من عدمصحّة الترك بالنظر إلى الداعي والعلم بالأصلح.

وبنوا على هذه المقدّمة أنّ فعله- تعالى- ليس لغاية ولا عرض، بل نفس إرادته القديمة كافية فيصدور الفعل من غير إفضائه إلى الإيجاب والوجوب المذكورين.

الثانية: أنّ لا مدخليّة لشي ء من الأشياء في وجود أمر من الأُمور، ولا في عدمها بنحوٍ من الأنحاء حتّى انّهم نفوا ربط الشرطيّة واللزوم والآليّة وغيرها بين الأشياء بعضها بالنسبة إلى بعضٍ.

وبالجملة نفوا افتقارها إلى ما سوى اللَّه مطلقاً حتّى حكموا بعدم افتقار العرض إلى الموضوع، وما يرى في الوجود من الارتباط بين الأشياء ليس ارتباطاً ذاتيّاً، بل هو ممّا جرت سنّته- تعالى- عليه.

وبنوا على هذه المقدّمة جواز تعذيب المطيع، وإثابة العاصي منه- تعالى- لعدم مدخليّة الإطاعة والعصيان في الثواب والعقاب، لكن جرت سنّته بإثابة المطيع، وتعذيب العاصي «ولن تجد لسنّة اللَّه تبديلًا» (3)

، فكلّ ما يصل من اللَّه الى العبد من الخير والثواب تفضّل منه- سبحانه- لا لأهليّة العبد واستحقاقه.


1- 1 الأشعريّة: هم أصحاب أبي الحسن عليّ بن إسماعيل بن إسحاق الأشعري؛ قيل: ولد سنة سبعين ومائتين؛ وقيل: سنة ستّين ومائتين بالبصرة، وقد توفّي سنة نيّف وعشرين وثلاثمائة. جدّه الأعلى أبو موسى الأشعري، المتوفّى سنة 42؛ وقيل: 44 وهو ابن ثلاث وستّين سنة. وإنّ أبا الحسن هذا كان معتزليّاً في بادئ أمره إلّاأنّه رجع عن الاعتزال بسبب أسئلته التي كان يوجّه بها إلى أستاذه المعتزلي أبي علي الجبائي وما كان يجد لها جواباً. وقد جاء الإمام الأشعري بمنهج معتدل، وقد أعلن أنّ المصدر الرئيس للعقائد هو الكتاب والسنّة، وفي الوقت نفسه خالف أهل الحديث- الذين يكتفون بظواهر النصوص والأحاديث- بذكاء خاصّ عن طريق استغلال البراهين العقليّة والكلاميّة على ما جاء في الكتاب والسنّة. ومن أعلامهم: القاضي أبو بكر الباقلاني، وأبو منصور عبد القاهر البغدادي، وإمام الحرمين الجويني، وغيرهم. «الملل والنحل للشهرستاني 1: 85، والملل والنحل للسبحاني 2: 6- 29».
2- 2 هم الّذين كانوا يتمسّكون بالعقل أكثر من النقل، ويؤولون النقل إذا وجدوه مخالفاً لفكرتهم وعقليّتهم، وكان التشاجر قائماً على قدم وساق بينهم وبين أهل الحديث الّذين تعبّدوا بظواهر الآيات والروايات من دون غور في مفاهيمها. قيل: إنّ سبب تسميتهم هو اعتزالهم عن علي عليه السلام في محاربته لمخالفيه؛ وقيل: اعتزالهم عن الحسن بن علي عليه السلام ومعاوية، وقيل غير ذلك. من أقطابهم: واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وأبو الهذيل العلّاف، وأبو علي الجبائي، وغيرهم. «الملل والنحل للسبحاني 2: 5، و 3: 155- 184».
3- 3 سورة الأحزاب: 62، سورة الفتح: 23.

ص: 63

إذا تمهّدت هذه نقول: على وفق قواعدهم المذكورة: إنّه عليه السلام لمّا علم جريان سنّته بإفاضة الخير والجود عند تمسّك العبد بالوسائل- وكان من أعظم الوسائل هو الفقر-، قال: «ها أنا أتوسّل إليك بفقري إليك». ولما كان هذا موهماً كونه مستحقّاً المسؤول بهذه الوسيلة، وأنّ لها أثراً في فعله- تعالى- نفاه بقوله: «وكيف أتوسّل إليك بما هو محال أن يصل إليك؟» نافياً كونه مؤثراً، مثبتاً قدرته واختياره- سبحانه- في كلا الحالين، فأثبت كونه وسيلة بحسب عادة اللَّه وسنّته، ونفى كونه وسيلة مؤثرة بحسب الواقع لعدم إمكان التأثير من غيره- تعالى- فارتفع الاشكال واندفع التناقض.

المقالة الثالثة:

في حلّه على رأي الحكماء

ويتوقّف بيانه على مقدّمتين:

إحداهما: أنّ الممكن بما هو ممكن زوج تركيبي؛ لأنّ كونه ليس من ذاته غير كونه من فاعله، وهو مركّب الحقيقة منهما، وهذا هو المراد من قولهم: الممكن في حدّ ذاته ليس وبفاعله يصير، أي فكلّ ممكن مشتمل على هاتين الجهتين، ويعبّرون عن هذا العدم بالعدم الذاتي بمعنى عدم الاقتضاء، ويحكمون باجتماعه مع الوجود الفائض من العلّة، ولا يلزم اجتماع النقيضين لاختلاف الإضافة، فجميع الممكنات معدومة في حدود ذواتها، موجودة بفاعلها.

الثانية: أنّه لابدّ من مناسبة بين العلّة والمعلول مطلقاً، سواء كانت العلّة من العلل الذاتيّة أو العرضيّة، وإلّا لجاز استناد كلّ شي ء إلى كلّ شي ء، وكون كلّ شي ء مصدراً لكلّ شي ء، وما يرى في الوجود من الاختصاص (1) يكون ترجّحاً من غير مرجّح، وهو محال، فتعيّن ضرورة المناسبة.


1- 1 أي اختصاص بعض الآثار ببعض المؤثرات دون بعض.

ص: 64

إذا تقرّرت هذه فنقول: حلّه على رأيهم أنّه عليه السلام أراد أن يشير إلى أنّه- تعالى- كما يعطي الوجود الذي هو أعلم الكمالات، وأجلّ النعم إذ به ينال العبد كلّ خير وكمال، ولذّة ووصال، وبه يصل إلى سعادة الدارين، ومقاصد النشأتين، إذ لا يمكن أن يكون للمعدوم بما هو معدوم خير وسعادة ضرورة توقف الكمالات الثابتة، وما يتفرّع عليها على الكمال الأوّل الذي هو أصل آنيته، إذ به يظهر ماهيته وما يتفرّع عليها من خواصّه واعراضه، كذلك يعطي الوسائل إلى تحصيل السعادات، واستفاضة الخيرات، فجوده منوط بجوده، ورحمته مرتبطة برحمته.

وهذا غاية التنزيه، وكمال التوحيد، ونفي الشرك الخفيّ الذي لا ينفكّ عنه إلّا الخائضون في قمامس (1) أنوار معرفته، والغائصون في بحار آثار قدرته. ولنعم ما قلت في أثناء تحرير هذا المقام:

يا من تحقّقَ وجود العالمين من وجودك

من ذرّة جودك وكرمك طَهَر الخلق

جاهلون بذاتك نحن، وكلّ ما نعلمه عنك هي معرفتنا بآثارك

لقد مزجتَ فيض الأزل بالعدم

وبعثت إلى الوجود عالم الآثار

الثرى إثر فيضك وإحسانك غدا وجهاًصبوحاً (2) علقة الدم غذت قلباً عارفاً (3) كلّ قطرة هي من بحرك

كما الشمس التي هي ذرّة تجوب المدار

الذهب بصفائه ولونه الزاهي منك

قدرة قبضة الأسد منك


1- 1 القاموس والقومَس: قعر البحر؛ وقيل: وسطه ومعظمه؛ وقيل: أبعد موضع غوراً في البحر. «لسان العرب 6: 183- قمس-».
2- 2 إشارة إلى قوله- تعالى- في سورة الحجّ: 5: «يا أيّها الناس ان كنتم في ريب من البعث فانّا خلقناكم من تراب ثمّ من نطفة ثمّ من علقة ثمّ من مضغةٍ ...».
3- 3 إشارة إلى قوله- تعالى- في سورة الحجّ: 5: «يا أيّها الناس ان كنتم في ريب من البعث فانّا خلقناكم من تراب ثمّ من نطفة ثمّ من علقة ثمّ من مضغةٍ ...».

ص: 65

الطمأنينة والعذاب والحزن والأمل

كلّ ما له وجود فهو منك يا كريم

أفصحَ كليمك عن هذا السرّ

وأنطقَ بلسان العجز والسؤال

لقد هَجَرَ الإيمان قلب السامريّ

لأنّ لا أحد غيرك يهب الجسد روحاً (1) (2) والوسيلة إلى قرب جنابه- سبحانه- إمّا أن تكون من ذات العبد الذي ليس أثراً لجعل الفاعل- أعني العدم الذاتي- المعبّر عنه بالفقر في كلامه عليه السلام أو من اللَّه- تعالى- أعني الوجود الفائض منه- سبحانه- مطلقاً، سواء كان جزء ذات العبد المتوسّل كما عرفت في المقدّمة الأولى، أو جزء ذات غيره، فإذا بطلصلوح كون الأوّل وسيلة تعيّن الثاني لامتناع الواسطة بين النفي والإثبات.

ولمّا كان الفقر مناسباً بالذات المتوسّل لضرورة مناسبة الذاتي لما هو ذاتي له، فيتوهّمصلوح كونه وسيلة أشار إليه عليه السلام في الفقرة الأولى بقوله: «ها أنا أتوسّل إليك بفقري إليك».

ولمّا كان من شرط الوسيلة أن تكون مناسبة للطرفين- أعني المتوسِّل والمتوسَّل إليه- والفقر لا يناسب الغناء المطلق والإمكان أبعد من أن يصل إلى حضرة الحقّ أشار إليه عليه السلام في الفقرة الثانية بقوله: «وكيف أتوسّل إليك بما هو محال أن يصل إليك؟».

فهذا الكلام منه عليه السلام بمنزلة القياس الاستثنائي كما علمت في مقدّمة الرسالة، فتعيّن أن يكون الوسيلة أثراً منه- سبحانه- سواء كان جزء ذاته كما عرفت أوّلًا، ولا يخفى من مناسبة الأوّل للطرفين.

أمّا مناسبته للمتوسّل فلكونه مظهراً لهويّته مبيّناً مقتضيات ذاته.


1- 1 إشارة إلى قوله- تعالى- في سورة طه: 87 و 88: «... فكذلك ألقى السّامريّ فأخرج لهم عجلًا جسداً له خُوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي».
2- 2 كان المؤلف قد أنشأ شعراً بحدود 11 بيت باللغة الفارسية، فأثبتّه بالهامش، وما في المتن هو مدلول هذه الأبيات، وهي: اى ز وجود تو وجود همه ذره از جود تو بود همه ما كه نداريم ز ذاتت خبر از تو چه گوييم بغير از اثر فيض ازل با عدم آميختى عالم آثار برانگيختى دانه جود تو كشد دم بدم طاير ديگر ز شكاف عدم از تو هوا خلعت تقرير يافت نقد سخن قيمت اكسير يافت خاك ز فيضت رخ زيبا شده قطره خونى دل دانا شده باز همان قطره ز درياى تست ذرّه خورشيد فلك ساى تست قد خم و رنگ زر برى ز تو قوت سر پنجه شيرى ز تو راحت و رنج و غم و اميد و بيم هر چه بود از تو بود اى كريم كرد كليمت سر اين راز باز با تو بگفت از سر عجز و نياز گر چه شد از سامرى ايمان بباد جز تو بتمثال كسى جان نداد

ص: 66

وأمّا للمتوسّل إليه فلكونه أثراً منه، ولا يخفى ما بين الشي ء وأثره من المناسبة، وأمّا إذا لم يكن جزء ذاته فمناسبتها للمتوسّل إليه بيّن لكونها أثراً منه، ومناسبته للمتوسّل يعلم بحكم تشابه آثار المؤثر الواحد، بل من حيث اتّحادهما سنخاً.

وبالجملة مراده عليه السلام نفي كون وسائل ذاته الإمكانيّة، وذوات الممكنات من حيث إنّها ممكنات لأنّه لو أمكن هذا لكان الفقر الذاتي الذي ليس أثراً منه- سبحانه- وسيلة وهو محال فتعيّن أن يكون منه- تعالى- سواء كان نفس وجوده الذي هو جزء ذاته أوّلًا، وهذا لا ينافي ثبوت بعض الآثار لبعض الماهيات دون بعض؛ لأنّ هذه الآثار ليست مستندة إلى إمكانه الذاتي الذي ليس متعلّق الجعل لاشتراكه بين الجميع، فتعيّن استنادها إلى المهية من حيث هي هي، والمهية كما هو الحقّ متعلّق للفعل وأثر للجعل، فصحّة كون بعض الأمور وسيلة بحسب الظاهر لحدوث بعض الآثار دون بعض لا ينافي المقصود؛ لأنّه لا يكون من جهة عدمه الذاتي الذي ليس متعلّقاً للجعل وسيلة، بل يكون وسيلة بجهة أُخرى، واعتبار آخر، وهو بهذه الجهة والاعتبار أثر منه تعالى.

هذا آخر ما أردنا إيراده، والحمد للَّه أوّلًا وآخراً.

تمّت في يوم الاثنين الرابع عشر من شهر شعبان المعظّم سنة 1152.

فهرس مصادر التحقيق:

1- القرآن الكريم.

2- أعيان الشيعة للسيّد محسن الأمين، نشر دار التعارف للمطبوعات- بيروت 1403 ه.

3- إقبال الأعمال للسيّد رضي الدين علي بن طاووس، نشر دار الكتب الإسلاميّة- طهران 1390 ه (طبعة حجرية).

4- بحار الأنوار للعلّامة محمد باقر المجلسي، نشر مؤسّسة الوفاء- بيروت 1403 ه.

ص: 67

5- بحوث في الملل والنحل للشيخ جعفر السبحاني، نشر لجنة إدارة الحوزة العلميّة- قم 1408 ه.

6- البلد الأيمن للشيخ تقيّ الدين إبراهيم الكفعمي (طبعة حجرية).

7- بين التصوّف والتشيّع لهاشم معروف الحسني، نشر دار القلم- بيروت 1979 م.

8- تتميم أمل الآمل للشيخ عبد النبي القزويني، نشر مكتبة آية اللَّه المرعشي- قم 1407 ه.

9- الذريعة إلى تصانيف الشيعة للشيخ آقا بزرگ الطهراني، نشر دار الأضواء- بيروت 1403 ه.

10- زاد المعاد للعلّامة محمد باقر المجلسي (طبعة حجرية).

11- فهرس مخطوطات مكتبة آية اللَّه العظمى المرعشي النجفي- المطبوع بالفارسيّة.

12- الكرام البررة في القرن الثالث بعد العشرة «طبقات أعلام الشيعة» للشيخ آقا بزرگ الطهراني، نشر دار المرتضى- مشهد 1404 ه.

13- الكواكب المنتشرة في القرن الثاني بعد العشرة «طبقات أعلام الشيعة» للشيخ آقا بزرگ الطهراني، نشر جامعة طهران.

14- لباب الألقاب في ألقاب الأطياب للمولى الآقا ملّا حبيب اللَّه الشريف الكاشاني، المتوفّى سنة (1340 ه)، نشر مكتبة «أبوذر الجمهري المصطفوي»- سمّاه في الذريعة 18: 277 رقم 93:

لباب الألباب في ألقاب الأطياب.

15- لسان العرب لابن منظور الأفريقي المصري، نشر أدب الحوزة- قم 1405 ه.

16- مجمع البيان في تفسير القرآن للشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي، نشر مكتبة آية اللَّه العظمى المرعشي النجفي- قم 1403 ه.

17- معالم العلماء لابن شهر آشوب المازندراني، المتوفّى سنة 588، نشر المطبعة الحيدريّة- النجف 1380 ه.

18- الملل والنحل للشهرستاني، منشورات الرضي- قم 1364 ه. ش.

ص: 68

الهوامش:

اقلّ ما يجب معرفته من تاليف الشهيد الثاني

ص: 69

ص: 70

ص: 71

أقلّ ما يجب معرفته من تأليف الشهيد الثاني

أحكام الحجّ والعمرة

تحقيق رضا المختاري

ترجمة الشهيد الثاني:

وُلد العالم الجليل والفقيه النبيل، بديعُ زمانه ونادرة أوانه، الشيخ زين الدين بن علي بن أحمد العاملي الشامي المعروف بالشهيد الثاني- أفاض اللَّه على روحه المراحِمَ الربانية، وأسكنه في جناته العلية- في يوم الثلاثاء ثالث عشر شهر شوّال سنة 911، واستُشهد في شهر رجب سنة 965.

قال في وصفه المحقق التستريصاحب المقابس:

أفضل المتأخرين وأكمل المتبحّرين، نادرة الخلف وبقيّة السلف، مُفتي طوائف الأمم، والمرشد إلى التي هي أقوم، قُدوة الشيعة ونور الشريعة، الذي قصرت الأكارم الأجلاء عن استقصاء مزاياه وفضائله السنيّة، وحارت الأعاظم الألبّاء في مناقبه وفضائله العليّة .. المؤيَّد المسدَّد بلطف اللَّه الخفي والجلي

ص: 72

.. وله كتبٌ ورسائل كثيرة فاخرة مهذَّبة في فنون مختلفة ومطالب متشعِّبة .. (1).

ووصفه العلامة الأمين بقوله:

كان عالماً فاضلًا جليل القدر رفيع المنزلة تقياً نقياً ورعاً زاهداً عابداً، حائزاً لصفات الكمال، متفرّداً منها بما لا يشاركه فيه غيره، مفخرة من مفاخر الكون وحسنة من حسنات الزمان .. كان فقيهاً ماهراً في الدرجة العليا بين الفقهاء .. والفقه أظهر وأشهر فنونه، وكتبه فيه .. مدار التدريس من عصره حتّى اليوم، ومحطّ أنظار المؤلّفين والمصنّفين، ومرجع العلماء والمجتهدين ...

وما ظنّك برجل يؤلّف مؤلّفاته الجليلة الخالدة على مرور الدهور والأعوام في حالة الخوف على دمه، لا يشغله ذلك عنها مع ما تقتضيه هذه الحالة من توزّع الفكر، واشتغال البال عن التفكير بمسألة من مسائل العلم، يؤلّفها بين جدران البيوت المتواضعة وحيطان الكروم، لا في قصور شاهقة ورياض ناضرة، ولا مساعدَ له ولا معين حتّى على تدبير معاشه ...

وما ظنّك برجل من أعظم العلماء وأكابر الفقهاء يحرس الكرم ليلًا ويطالع الدروس، وفي الصباح يلقي الدروس على الطلبة- وكرمه الذي كان له في جُبَع معروف محلّه إلى الآن- ويَحْتَطِبُ لعياله ليلًا .. ويباشر بناء داره ومسجده الذي هو جنبها في قرية جبع- وقد رأيتهما- وداره مفتوحة للضيوف والواردين وغيرهم، يخدمهم بنفسه، ويباشر أمور بيته ومعاشه .. ولا يدع لحظة تمضي من عمره في غير اكتساب فضيلة وإفادة مستفيد .. (2).

وقال في وصفه تلميذه ابن العودي:

... ولقد كان مع علوّ همّته وسموّ منزلته على غايةٍ من التواضع ولين الجانب، ويبذل جهده مع كلّ وارد في تحصيل ما يبتغيه من المطالب. إذا اجتمع بالأصحاب عدَّ نفسه كواحدٍ منهم، ولم تملْ نفسه إلى التمييز بشي ء عنهم ...


1- 1 مقابس الأنوار: 15.
2- 2 أعيان الشيعة 7: 144- 146.

ص: 73

ولقد شاهدت منه سنة ورودي إلى خدمته أنّه كان ينقل الحطب على حمارٍ في الليل لعياله، ويصلّي الصّبح في المسجد، ويشتغل بالتدريس بقيّة نهاره ...

وكان يصلّي العشاء جماعة، ويذهب لحفظ الكرم، ويصلّي الصبح في المسجد، ويجلس للتدريس والبحث كالبحر الزاخر ...

... فقد كان غالب الزمان في الخوف الموجب لإتلاف النفس، والتستّر والاختفاء الذي لا يسع الإنسان معه أن يفكّر في مسألة من الضروريات البديهية ...

... كانت أصابع يديه أقلام فضة، إذا نظر الناظر في وجهه، وسمع عذوبة لفظه لم تسمح نفسه بمفارقته، وتسلّى عن كلّ شي ء بمخاطبته، تمتلئ العيوم من مهابته، وتبتهج القلوب لجلالته. وأيمُ اللَّه، إنّه لفوق ما وصفتُ، وقد اشتمل من حميد الخصال على أكثر مما ذكرت (1).

وتحدّث عنه الشيخ علي العامليصاحب الدر المنثور حفيد الشهيد، فقال:

مما سمعته في بلادنا مشهوراً، ورأيته أيضاً مشهوراً في غيرها أنّه- قدّس اللَّه روحه- لمّا سافر إلى اصطنبول، ووصل إلى المكان الذي قُتِلَ به تغيّر لونه.

فسأله أصحابه عن ذلك، فقال ما معناه: «إنّه يقتل في هذا المكان رجل كبير- أو عظيم- له شأن». فلمّا أُخذ قتل في ذلك المكان (2).

وقال العلامة الأميني أعلى اللَّه مقامه في ترجمته:

... في رسالة مسائل السيد بدر الدين ... الحسيني المدني التي سألها عن الشيخ حسين بن عبد الصمد والد شيخنا البهائي ماصورته:

سؤال: «ما يقول مولانا فيما يروى عن الشهيد الثاني أنّه مرّ بموضع في اصطنبول، ومولانا الشيخ معه، فقال: يوشك أن يُقتل في هذا الموضع رجلٌ له شأن- أو قال شيئاً قريباً من هذا المعنى- ثمّ إنّه استشهد رحمه الله في ذلك الموضع، ولا


1- 1 الدرّ المنثور 2: 155- 157.
2- 2 الدر المنثور 2: 189.

ص: 74

ريب أنّ هذه من كراماته».

الجواب: «نعم، هكذا وقع منه قدّس اللَّه روحه، وكان الخطاب للفقير، وبلغنا أنّه استُشهِدَ في ذلك الموضع، وذلك ممّا كُشِفَ لنفسه الزكيّة، حشره اللَّه مع الأئمة الطاهرين» (1).

وفي بعض المصادر توجد بعد الجواب هذه الزيادة: «كتبه حسين بن عبد الصمد الحارثي ثامن عشر ذي الحجّة سنة 983 في مكّة المشرّفة زادها اللَّه شرفاً وتعظيماً» (2).

ونقل عن بعض مؤلفات شيخنا البهائي رحمه الله أنّه قال:

أخبرني والدي قدس سره أنّه دخل فيصبيحة بعض الأيّام على شيخنا الشهيد المعظّم عليه [كذا] فوجده متفكراً، فسأله عن سبب تفكّره، فقال: «يا أخي، أظنّ أنّي أكون ثاني الشهيدين- وفي رواية: ثاني شيخنا الشهيد في الشهادة- لأنّي رأيت البارحة في المنام أنّ السيد المرتضى علم الهدى رحمه الله عمل ضيافة جمع فيها علماء الإماميّة بأجمعهم في بيت، فلمّا دخلتُ عليهم قام السيد المرتضى ورحّب بي، وقال لي: يا فلان اجلس بجنب الشيخ الشهيد. فجلست بجنبه، فلمّا استوى بنا المجلس انتبهتُ من المنام، ومنامي هذا دليل ظاهر على أنّي أكون تالياً له في الشهادة» (3).

ورثاه ابن العودي بقصيدة مُفجعةٍ مؤلمة لمّا بلغه خبر شهادته- وكان تلميذه الملازم له، كان وروده إلى خدمته في عاشر ربيع الأول سنة 940، وانفصل عنه بالسفر إلى خراسان في عاشر ذي القعدة سنة 962 (4)- وإليك بعضها:

هذي المنازلُ والآثارُ والطلَلُ مُخبِّرات بأنّ القوم قد رحلوا

ساروا وقد بَعُدت عنّا منازلهم فالآن لا عوضٌ عنهم ولابدل


1- 1 شهداء الفضيلة: 137، وانظر الدرّ المنثور 2: 190 الهامش.
2- 2 الدر المنثور 2: 190 الهامش، أعيان الشيعة 7: 157.
3- 3 روضات الجنّات 3: 383، وانظر كلام الشهيد نفسه في عناية اللَّه تعالى به في منية المريد: 160.
4- 4 انظر منية المريد: 10 و 43 مقدمة التحقيق.

ص: 75

فسرت شرقاً وغرباً في تطلّبهم وكلّما جئت ربعاً قيل لي: رحلوا

فحين أيقنت أن الذكرَ منقطعٌ وأنّه ليس لي في وصلهم أملُ

رجعت والعين عبرى والفؤاد شج والحزن بي نازل والصبرُ مرتحلُ

وعاينت عينيَ الأصحاب في وجلٍ والعين منهم بميل الحزن تكتحلُ

هل نالكم غيرُ بعد الإلف عن وطنٍ؟ قالوا: فُجعنا بزين الدين يا رجلُ

أتى من الروم لا أهلًا بمقدمه ناع نعاه فنارُ الحزن تشتعلُ

يقول: إنّ أولي العدوان قد شهروا سيف الضلال وللمذكور قد قتلوا

لما سمعت كلام القوم خامرني وجد وحلّ بقلبي المبتلى وجلُ

وصار حزني أنيسي والبكا سكني والنوح دأبي ودمع العين ينهملُ

لهفي له نازح الأوطان منجدِلًا فوق الصعيد عليه الترب مشتملُ

مضرّجاً بالدما لا غُسل لا كفن لا قبر فيه يوارى ذلك البطلُ

لا بلّغ اللَّه عيني طيب رؤيته ان حلّ في خاطري يوماً له بدلُ

أشكو إلى اللَّه رُزْءاً ليس يُشبههُ الّا مصيبة من في كربلا قُتلوا

لكن تسلّت همومي مذ رأيتهم في النوم في جنّة الفردوس قد نزلوا

منعّمين مع الأصحاب قاطبةً في جنّة الخلد لا بؤس ولا وجلُ

هذا، وحُزني عليهم لا انقضاء له حتى أراهم عياناً حيثما نزلوا (1) *** تتلْمَذَ الشهيد الثاني على عدد كبير من علماء عصره من الخاصّة والعامّة في مختلف العلوم، منهم: والده علي بن أحمد، والشيخ علي بن عبد العالي الميسي، والسيد بدر الدين حسن بن السيد جعفر الأعرجي الحسيني الكركي، والمحقق الفيلسوف شمس الدين محمد بن مكّيّ، وشهاب الدين أحمد الرملي الشافعي، والشيخ أبو الحسن البكري، وشمس الدين ابن طولون الدمشقي الحنفي.


1- 1 الدر المنثور 2: 197- 198، والأبيات طبعت في هذا الكتاب مغلوطة، وصححناها بقدر الإمكان بعد المراجعة إلى سائر المصادر ونسخه المخطوطة.

ص: 76

وتتلْمَذَ عليه جمع غفير من العلماء منهم: الشيخ عزّ الدين حسين بن عبد الصمد والد الشيخ البهائي، والشيخ علي بن زهرة الجبعي، والسيد عليّ العاملي والدصاحب المدارك، والسيد عطاء اللَّه بن السيد بدر الدين الحسيني الموسوي، والمولو محمود بن محمد اللاهجاني، والسيد جمال الدين حسن بن السيد نور الدين، وابن شعير العاملي، والسيد علي بن الصائغ العاملي، والسيد نور الدين بن السيد فخر الدين عبد الحميد الكركي، وبهاء الدين محمد بن عليّ بن الحسن العودي الجزيني وهو من خواصّ تلاميذه، وهو الذي ألّف كتاباً في ترجمة الشهيد وسمّاه «بغية المريد في الكشف عن أحوال الشيخ زين الدين الشهيد».

ألّف الشهيد الثاني في عمره القصير (54 سنة) زهاء ستّين كتاباً ورسالةً في مختلف الموضوعات، كان الكثير منها ولا يزال المورد الصافي لإفادة العلماء. منها:

الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة، وهو أشهر مصنّفاته، مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، وهو أكبر مصنّفاته، رَوْض الجنان في شرح إرشاد الأذهان، المقاصد العليّة في شرح الرسالة الألفية، الفوائد الملية لشرح الرسالة النفلية، وتمهيد القواعد الأصولية والعربية، وهذه الكتب طبعت طبعة حجرية.

ولقد فقد عدد من آثار الشهيد مثل: غُنْية القاصدين في معرفة اصطلاحات المحدّثين، منار القاصدين في أسرار معالم الدين، بغية المريد مختصر منية المريد، مبرّد الأكبار مختصر مسكّن الفؤاد، ورسالةٌ في عشرة مباحث من عشرة علوم.

وهناك عددٌ من آثار الشهيد الموجوة لم يطبع بعد مثل: تقليد الميت، رسالة في النيّة، مناسك الحج، نيّات الحجّ والعمرة، تحقيق الإجماع في زمن الغيبة، حاشية الألفيّة، تفسير آية البسملة، أجوبة المسائل السماكية وحاشية خلاصة الأقوال.

ص: 77

لقد بدأتُ قبل عدّة أعوام تحقيق رسائل الشهيد الثاني، واللَّه أسأل أن يوفّقني لإتمام هذا العمل، وقد تجلّت أُولى عنايات الربّ لي أنْ ثقفتُ مصورة عددٍ من رسائل الشهيد كتبها بخطه الشريف قدس سره.

وهذه الرسالة هي إحدى رسائله في الحجّ، ولم تطبع بعدُ- سوى طبعتنا هذه-.

وقد حقّقناها اعتماداً على مخطوطتين منها، إحداها ضمن مجموعة محفوظة في مكتبة الأستاذ حجّة الإسلام والمسلمين الحاج السيّد محمد علي الروضاتي

ص: 78

دامت افاضاته، وثانيتها ضمن مجموعة محفوظة في مكتبة الفاضل المعاصر فخر الدين النصيري الأميني دام بقاه.

ولم أعثر لهذه الرسالة على مخطوطة غير هاتين سوى مخطوطة محفوظة في المكتبة الوطنيّة بطهران برقم 3/ 2573، مذكورة في فهرسها ج 12،ص 502- 503، ولكن لم يعلم مفهرس المكتبة أنّها من تأليف الشهيد الثاني قدس سره.

الحمد للَّه مُسَهِّلِ الصعاب وميسّر الحساب، والصلاة على أشرف الأحباب وعلى آله وأصحابه خير آلٍ وأصحاب.

وبعد، فهذه جملةٌ كافلةٌ ببيان أقلّ ما يجب معرفته من أحكام الحجّ والعمرة؛ تسهيلًا على المكلَّفين وتيسيراً على المتعلِّمين، فإنّ التيسيرَ مُرادُ اللَّه تعالى، وهو حسبنا ونعم المعين.

اعلم أنّ الواجب على الآفاقي- وهو من نأى منزلُهُ عن مكّةَ بمرحلتين مع استطاعته إلى الحجّ- حجُّ الَّتمَتُّع، وهو الذي يقدِّم عمرتَه على حجّه.

والواجب إذا وصل إلى ميقات الإحرام- وهو مسجد الشجرة لمن حجّ على طريق المدينة، والجُحْفَةُ لمن حجّ على طريق مصر، ويَلَمْلَمْ لأهل اليمن ولمن قربه، والعَقيقُ لأهل العراق ومن في معناهم، ومحاذي أحد المواقيت ولو ظنّاً لمن لم يصادف طريقه أحدها- أن يحرم منه بأن ينزع المخيط ويكشف رأسه وقدمَيْه إلّا ما يتوقّف عليه لبس النعلين إن كان رجلًا، ويزل ما على بدنه من رائحة الطيب.

ثمّ ينوي العمرة، وصفتها: «أُحْرِمُ بعمرة التمتّع لوجوبه قربة إلى اللَّه»، ولو اقتصر على قوله- ناوياً-: «أُحرِمُ بالعمرة للَّه» كفى- ثمّ يُلبّي ناوياً: «أُلبّي لوجوبه قربة إلى اللَّه»، ويكفي «ألبّي للَّه» ويقول: «لبّيك اللّهمّ لبيك، لبيّك، إنّ الحمد والنعمة

ص: 79

والملك لك، لا شريك لك لبّيك».

ويُسَنُّ قبل الإحرام توفير شعر الرأس من أول ذي القعدة، والتنظيف عنده بإزالة شعر العانة والإبط، وقصّ الأظفار، والغسل، ثمّ يصلّي سنّة الإحرام، وهي ستّ ركعات، وأقلّه ركعتان، ونيّتها: «أُصلّي ركعتين من سنّة الإحرام للَّه تعالى».

فاذا نزع المخيط لبس ثوبي الإحرام، يأتزر بأحدهما ويرتدي بالآخر أو يتوشّح به. ويعتبر كونهما من جنس ما تصحّ الصلاة فيه اختياراً، وتجوز الزيادة عليهما، ويسنّ كونهما من القطن الأبيض الخالص.

فاذا عقد الإحرام بالتلبية حرم عليهصيد البرّ الممتنع بالأصالة المحلّل، وستّة من المحرّم: الأسد والثّعلب والأرنب والضبُّ واليربوعُ والقنفذ، وأكله والإعانة عليه، والاستمتاع بالجماع ومقدّماته، وعقد النكاح، واستعمال الطيب مطلقاً، والاكتحال بالسواد، والادِّهان بالدهن المطيَّب وغيره، واخراج الدم وازالة الشعر اختياراً فيهما، وقلْمُ الأظفار، وقطع الشجر والحشيش النابتين في الحرم إلّاالإذخِر وما في معناه، والفسوق وهو الكذب مطلقاً، والجدال وهو الحلف مطلقاً، ولبس الخاتم والحناء للزينة لا للسنّة- فيهما- والفارِقُ القصد، وقتل القمل وغيره من هوامّ الجسد، والنظر في المرآة، ولبس المخيط للرجل وإن قلّت الخياطة- عدا المنطقة والهميان- وفي معناها الزَرّ، والخِلال ولبس ما أحاط بالبدن من اللِبْد والدِرْعِ، والتظليلُ سائراً اختياراً، وتغطية الرأسِ ولو بالارتماس، وستر ظهر القدم بالخفّ ونحوه، وتغطية المرأة وجهها إلّاالقدر الذي يتوقّف عليه تغطية رأسها، ويجوز لها سُدْلُ ثوبٍ على وجهها على وجه لا يصيبه، ويحرم عليها لبس ما لم تعتده من الحَلْي، وما اعتادته بقصد الزينة أو مع إظهاره للزوج.

ص: 80

فإذا فعل المحرم شيئاً من هذه المحرّمات: فإنْ كان جاهلًا أو ناسياً فلا شي ءَ عليه إلّافي الصيد، فلا يفرُقُ فيه بين العامد وغيره، وإنْ كان عامداً أثِمَ ووجبت عليه الكفّارة إلّافي الاكتحال والادِّهان بغير المطيَّب وإخراج الدم ولبس الخاتم والحنّاء والنظر في المرآة والفسوق ولبس الحَلْي، فلا شي ء فيها سوى الإثم.

والكفّارة في الباقي مفصّلةٌ في بابها.

فإذا وصل إلى مكّة وجب أنْ يبتدئ بطواف العمرة فيتطهّر من الحدث والخبث على حدّ ما يعتبر في الصلاة، ويستر عورته، «ويختتن إن كان رجلًا مع المُكْنة» كالصلاة.

وكيفيّة الطواف: أن يقف بإزاء الحجر الأسود مستقبلًا له، جاعلًا أوّل جزء منه ممّا يلي الركن اليماني، محاذياً لأوّل كتفه الأيمن ولو ظنّاً، ثمّ ينوي: «أطوف طواف العمرة لوجوبه قربةً إلى اللَّه» ثمّ ينتقل ويجعل البيت على يساره، ويطوف به سبعة أشواط من غير زيادة ولا نقصان في القدر الذي بين البيت والمقام، مدخلًا للحِجْرِ في الطواف، مخرِجاً لجميع بدنه عن البيت، فلا يَمُسُّ الحائط ماشياً بل يقف إن أراده، ولا ينتقل حتّى يخرج يده عنه.

فإذا فرغ من الطواف وجب عليهصلاة ركعتيه خلف المقام أو مع أحد جانبَيْه ونيّتهما: «أُصلِّي ركعتي طواف العمرة لوجوبه قربةً إلى اللَّه».

فإذا فرغ من الصلاة خرج إلى السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط بادئاً بالصفا خاتماً بالمروة، مستقبلًا للمطلوب بوجهه، ذاهباً بالطريق المعهود، ونيّته- وهو على الصفا-: «أسعى سعي العمرة لوجوبه قربة إلى اللَّه».

فإذا فرغ من السعي قصّر من ظفره أو من شعره مسمّاه ناوياً: «أُقصِّرُ لوجوبه قربةً إلى اللَّه».

وبالتقصير يتحلَّلُ من عمرة التمتّع- لا الحلق- وهو آخر أفعالها، ويبقى

ص: 81

على إحلاله إلى أن يحرم بالحج.

ويُستحبّ كونه يوم الثامن من ذي الحجّة من المسجد الحرام، وأفضلُه المقام أو الحِجْرُ تحت الميزاب، ونيّته: «أُحْرِمُ بحجّ التمتّع لوجوبه قربةً إلى اللَّه» ثمّ ينوي التلبية: «أُلبّي لوجوبه قربةً إلى اللَّه» [ويقول:] «لبّيك اللّهمّ لبّيك، لبّيك، إنّ الحمد والنعمة والملك لك، لا شريك لك لبّيك».

فإذا وصل إلى عرفاتٍ وجب عليه الكونُ بها من زوال الشمس يوم التاسع إلى غروبها ناوياً- قبل الزوال أو بعده بغير فصل تقريباً-: «أقِفُ بعرفةَ لوجوبه قربةً إلى اللَّه».

فاذا غربت الشمس أفاض إلى المشعر الحرام، ووجب عليه المبيتُ به بقيّة تلك الليلة ناوياً: «أبيتُ بالمشعر لوجوبه قربةً إلى اللَّه»، فإذا أصبح وجب عليه الكونُ به إلى طلوع الشمس ناوياً بعد الفجر أو قبله- كما مرّ-: «أقِفُ بالمشعر لوجوبه قربةً إلى اللَّه». ولو اقتصر على نيّةٍ واحدةٍ حين الوصول إليه ليلًا تشتملُ على قصد الكونِ به إلى طلوع الشمس كفى.

فإذا طلعت الشمس أفاض إلى منى، ووجب عليه بها ثلاثة أفعالٍ: رمي جمرة العقبة بسبع حصيات حرميةٍ أبكارٍ، مبتدئاً به عند وصوله إلى منًى، ثمّ ذبح الهدْي، وهو ثَنيٌّ من النعم تامُّ الخلقة سمينٌ بحيث يكون على كليتيه شخمٌ ولو ظنّاً، وتفريقه ثلاثة أجزاء: فيأكل شيئاً منه، ويُهْدِي ثُلْثَه لبعض إخوانه من المؤمنين، ويتصدّق بثُلْثِه على فقيرٍ من فقرائهم. ونيّة الرمي: «أرمي هذه الجمرة بسبع حصيات لوجوبه قربةً إلى اللَّه». ونيّة الذبح: «أذبَحُ هذا الهَدْيَ لوجوبه قربةً إلى اللَّه». ونيّة الأكل والإهداء والصدقة: «آكُلُ من هذا الهَدْي لوجوبه قربةً إلى اللَّه، أُهْدِي ثُلثَ هذا الهَدْي لوجوبه قربةً إلى اللَّه، أتصدّقُ بثُلْثِ هذا الهدي لوجوبه قربةً إلى اللَّه».

ص: 82

فإذا فرغ من ذلك حلق رأسه أو قصّر من شعره أو ظفره- كما مرّ- ناوياً:

«أَحلِقُ رأسي- أو أُقصِّرُ- لوجوبه قربةً إلى اللَّه».

فإذا فعل ذلك أحلَّ من كلّ شي ءٍ عدا النساء والطيّب والصيد، فإذا طاف للحجّ وسعى حلّ له الطيب، فإذا طاف للنساء حللن له.

ثمّ يخرج إلى مكّة من يومه إنْ أمكنه الرجوع قبل الغروب، وإلّا فمن غده أو بعد انتصاف الليل.

فإذا وصل إلى مكّة وجب عليه طواف الحجّ وصلاة ركعتيه، ثمّ السعي بين الصفا والمروة سبعاً- كما مرّ- ثمّ طواف النساء ثمّصلاةُ ركعتيه، وكيفيّاتها وواجباتها كما مرّ، إلّاأنّه ينوي طواف الحجّ وسعيه وطواف النساء، وصفته:

«أطوف طواف الحجّ لوجوبه قربةً إلى اللَّه، أصلّي ركعتي طواف الحجّ لوجوبه قربةً إلى اللَّه، أسعى سعي الحجّ لوجوبه قربةً إلى اللَّه، أطوف طواف النساء لوجوبه قربةً إلى اللَّه، أصلّي ركعتي طواف النساء لوجوبه قربةً إلى اللَّه».

فإذا فرغ من ذلك وجب عليه الرجوع إلى منًى للمبيت بها ليالي التشريق الثلاث، وهي الحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة.

ويجوز لمن اتّقى الصيد والنساء الاقتصار على مبيت الليلتين الأُوليين ما لم تغرب عليه الشمس في الليلة الثالثة، فيجب عليه مبيتها مطلقاً ناوياً عند الغروب: «أبيتُ هذه الليلة بمنًى لوجوبه قربةً إلى اللَّه».

ويجب رميُ الجمرات الثلاث كلّ واحدةٍ بسبع حصياتٍ في كلّ يوم يجب مبيت ليلته. ونيّة الرمي: «أرمي هذه الجمرة بسبع حصياتٍ لوجوبه قربةً إلى اللَّه».

ولو اقتصر في جميع هذه النيّات على قوله: «أفعل كذا للَّه» من غير تعرّض للوجوب ولفظ القربة كفى.

ص: 83

والنائب عن غيره يُضِيفُ إلى ذلك: «نيابةً عن فلانٍ» أو «عمّن استؤجرت عنه».

وحسبنا اللَّه وكفى، والحمد للَّه ربّ العالمين، وصلّى اللَّه على سيّدنا محمّد وآله أجمعين.

الهوامش:

امارة الحج وبيت الموسوي

ص: 84

فارس تبريزيان الحسّون

إمارة الحج وبيت الموسوي

بعد النظر والتأمّل في أُمّهات مصادر التاريخ التي لهاصلة بتاريخ الحج، وما جرى على حجاج بيت اللَّه الحرام من أنواع العذاب والزجر، يتبيّن أنّ مسلمي القرن الرابع الهجري كانوا أكثر مَن تحمّل القتل والنهب بسبب إقامتهم مراسم الحجّ، وعدم تعطيلهم لهذه الفريضة الإلهية، فقد عاشوا في زمن وظروفصعبة للغاية، حيث اضطربت أحوال الدولة، وتنازعت السلطة على الحرمين الشريفين فئات مختلفة، حتى إنّ بعض الأعراب كانت مهنتهم وعملهم اعتراض قوافل الحجاج ونهبها، ومنع الناس من مواصلة المسير نحو مكة لأداء فريضة الحج، حتّى بلغ بهم الأمر إلى أسر الحجاج واسترقاقهم، وفرض الضرائب عليهم. وكانت هذه المسائل في تزايد حتّى بلغت ذروتها في أواسط القرن الرابع الهجري، وتعدّت إلى القرن

ص: 85

الخامس الهجري.

هكذا كانت ظروف الحج في هذه البرهة من الزمن بل أكثر بكثير من ذلك، وفي مثل تلك الأزمنة وأوضاعها لم يكن الإعداد للحج، ورعاية قوافله، وأداء الشعائر، ثمّ العودة إلى الوطن أمراً سهلًا، وقد كانت هذه المهام تقع على عاتق أمير الحج أو مَن ينوب عنه.

وفي مثل تلك الفترة الشديدة- التي تعدّ أشد وأصعب فترة مرّ بها الحجاج على مرّ العصور- كانت مباشرة بيت أبي أحمد الموسوي لإمارة الحج، ومن هنا تتضح جسامة المهمّة التي تقلّدها هذا البيت الشريف.

وظائف أمير الحج:

الولاية على الحج ضربان:

أحدهما: أن تكون على تسيير الحجيج.

الثاني: أن تكون على إقامة الحج.

أما الولاية على تسيير الحجيج:

فهي ولاية سياسية وزعامة وتدبير، ويشترط في المولى والأمير على هذه المهمّة أن يكون مطاعاً، ذا رأي وشجاعة وهيبة وهداية.

وتجب على أمير الحج في هذه الولاية عشرة أشياء:

1- جمع الناس في مسيرهم ونزولهم حتى لا يتفرّقوا فيخاف التوى والتغرير.

2- ترتيبهم في المسير والنزول بإعطاء كلّ طائفة منهم مقاداً، حتى يعرف كلّ فريق منهم مقاده إذا سار، ويألف مكانه إذا نزل، فلا يتنازعون فيه ولا يضلّون عنه.

3- يَرفق بهم في السير حتى لا يعجز عنه ضعيفهم، ولا يضلّ عنه منقطعهم، فقد روي عن النبيصلى الله عليه و آله أنه قال: «الضعيف أمير الرفقة»، يريدصلى الله عليه و آله: أن من ضعفت دوابه كان على القوم أن يسيروا بسيره.

4- أن يسلك بهم أوضح

ص: 86

الطرق وأخصبها، ويتجنب أجدبها وأوعرها.

5- أن يرتاد لهم المياه إذا انقطعت، والمراعي إذا قلّت.

6- أن يحرسهم إذا نزلوا، ويحوطهم إذا رحلوا، حتى لا يتخطفهم داعر، ولا يطمع فيهم متلصص.

7- أن يمنع عنهم من يصدّهم عن المسير، ويدفع عنهم من يحصرهم عن الحج، بقتالٍ إن قدر عليه، أو ببذل مال إن أجاب الحجيج إليه. ولا يسعه أن يجبر أحداً على بذل الخفارة إن امتنع منها، حتى يكون باذلًا لها عفواً، ومجيباً إليها طوعاً، فإنّ بذل المال على التمكين من الحجّ لا يجب.

8- أن يصلح بين المتشاجرين، ويتوسط بين المتنازعين، ولا يتعرض للحكم بينهم إجباراً إلّاأن يفوّض الحكم إليه، على أن يكون من أهله، فيجوز له حينئذٍ الحكم بينهم، فإنْ دخلوا بلداً فيه حاكم جاز له ولحاكم البلد أن يحكم بينهم، فأيهما حكم نفذ حكمه.

9- أن يقوّم زائغهم ويؤدّب خائنهم، ولا يتجاوز التعزير إلى الحدّ، إلّا أن يؤذن له فيستوفيه إن كان من أهل الاجتهاد فيه.

10- أن يراعي اتساع الوقت حتى يؤمن الفوات، ولا يلجئهم ضيقه إلى الحثّ في السير، فإذا وصل إلى الميقات أمهلهم للإحرام وإقامة سننه.

وأما الولاية على إقامة الحج، فالوالي فيه بمنزلة الإمام في إقامة الصلوات، فمن شروط الولاية عليه مع الشروط المعتبرة في أئمة الصلوات: أن يكون عالماً بمناسك الحج وأحكامه، عارفاً بمواقيته وأيامه، وتكون مدّة ولايته مقدرة بسبعة أيام: أولها منصلاة الظهر في اليوم السابع من ذي الحجة، وآخرها يوم الثالث عشر من ذي الحجة.

وعلى الذي يختص بولايته خمسة أحكام متفق عليها، وحكم سادس مختلف فيه:

ص: 87

1- إشعار الناس بوقت إحرامهم، والخروج إلى مشاعرهم، ليكونوا له متبعين، وبأفعاله مقتدين.

2- ترتيبهم للمناسك على ما استقرّ الشرع عليه؛ لأنه متبوع فيها، فلا يقدّم مؤخراً ولا يؤخّر مقدماً، سواء كان الترتيب مستحقاً أو مستحباً.

3- تقدير المواقف بمقامه فيها ومسيره عنها، كما تقدّرصلاة المأمومين بصلاة الإمام.

4- اتباعه في الأركان المشروعة فيها، والتأمين على أدعيته بها؛ ليتّبعوه في القول كما اتّبعوه في العمل.

5- إمامتهم في الصلوات.

وأما السادس المختلف فيه:

حكمه بين الحجيج فيما لا يتعلّق بالحج وإقامة التعزير والحدّ في مثله (1).

هذه هي شروط أمير الحاج آنذاك، وهي ذات فروع كثيرة ومتشتتة وصعبة.

وبيت أبي أحمد الموسوي- الذي كان مشهوداً له بالإقدام علىصعاب الأمور، وتحمّل المسؤوليات- تقلّد مهمّة أمير الحاج والولاية على الحج، سواء في ذلك الولاية على تسيير الحجيج، أم الولاية على إقامة الحج، وأدّى هذا البيت المبارك هذه المهمّة أحسن أداء، وسيأتي تفصيل ذلك.

بيت أبي أحمد الموسوي:

عرف هذا البيت المبارك من بدوّ أمره بالبركة واليمن والصلاح والكرم والتديّن والإباء و ...، لأنه غصن من أغصان شجرة النبوّة، وفرع من فروع ذلك البيت الطاهر الذي أَذهب اللَّه عنه الرجس. وقد عرف من هذا البيت الشريف ثلاثة أعلام:

1- أبو أحمد الموسوي.

2- الشريف الرضي.

3- الشريف المرتضى.

أبو أحمد الموسوي:

الحسين بن موسى بن محمد بن


1- 1 الغدير 4: 240- 242.

ص: 88

موسى بن إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم عليه السلام بن الإمام جعفر الصادق عليه السلام بن الإمام محمد الباقر عليه السلام بن الإمام علي زين العابدين عليه السلام، بن الإمام الحسين السبط الشهيد عليه السلام بن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.

ولد سنة 304، وتوفي سنة 400 ه، ودفن أولًا في داره، ثمّ نقل إلى مشهد الإمام الحسين عليه السلام.

كان جليل القدر، عظيم المنزلة في دولة بني العباس ودولة بني بويه، ولقّب بالطاهر ذي المناقب، وخاطبه بهاء الدولة أبو نصر بن بويه: الطاهر الأوحد.

ولّي نقابة الطالبيين خمس دفعات، ومات وهو متقلّدها، وكان السفير بين الخلفاء وبين الملوك من بني بويه، والأمراء من بني حمدان وغيرهم.

كان مبارك الغرة، ميمون النقيبة، مهيباً نبيلًا، ما شرع في إصلاح أمر فاسد إلّاوصلح على يديه، وانتظم بحسن سفارته وبركة همّته، وحسن تدبيره ووساطته.

واجه الشريف أبو أحمد الموسوي ظروفاًصعبة وعسيرة، وذلك من قبل أعداء مذهب أهل البيت عليهم السلام، لأنهم كانوا يموتون غيضاً عندما ينظرون إلى أحد علماء الشيعة يتقلّد منصباً ما، حتى أنهم لفّقوا عليه الاتهامات، وزوّروا عليه كتاباً نسبوه إليه في إفشاء الأسرار، مما أدّى إلى عزله عن النقابة وإمارة الحج. ثم قبض عليه، وقد نصّ أكثر المؤرخين بأنه كان مظلوماً. ولمّا ولّاه بهاء الدولة قضاء القضاة، هذا المنصب المهمّ اشتدّ غيظ الأعداء، وسعوا بكلّ قدراتهم حتى تمكّنوا من تغيير هذا المنصب عنه (1).

الشريف الرضي:

محمد بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم عليه السلام، أبو الحسن الرضي الموسوي.

نقيب العلويين ببغداد، أخو


1- 1 شرح نهج البلاغد لابن أبي الحديد 1: 31- 32، المنتظم 7: 247، البداية والنهاية 11: 295، الكامل في التاريخ 9: 105، أعيان الشيعة 6: 183.

ص: 89

المرتضى، كان فاضلًا عالماً ورعاً، عظيم الشأن رفيع المنزلة.

ولد سنة 359 ه، وتوفي سنة 406 ه في السادس من المحرم، وشهد جنازته الوزير فخر الملك وجميع الأعيان والأشراف والقضاة، ورثاه أخوه الشريف المرتضى وغيره بأبيات.

وكان شاعراً مبرزاً، حتى قيل:

إنه أشعر قريش، نظم الشعر وهو ابن عشر سنين.

تعلّم في نشأته العلوم العربية وعلوم البلاغة والأدب، والفقه والكلام والتفسير والحديث على مشاهير العلماء ببغداد، كالشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان، وأبي الفتح عثمان بن جني.

كان أوحد علماء عصره، أديباً بارعاً متميّزاً، وفقيهاً متبحّراً، ومتكلّماً حاذقاً، ومفسّراً لكتاب اللَّه وحديث رسوله.

قال بعض العلماء: لولا الرضي لكان المرتضى أشعر الناس، ولولا المرتضى لكان الرضي أعلم الناس (1).

ولم يمنع الشريف الرضي انتظامه في سلك العلماء والفقهاء وأعاظم الأدباء من تولّي أعلى المناصب، بل كان يرى أنه أحقّ بالخلافة من غيره، وذلك من باب النيابة العامة التي جعلت في زمن الغيبة الكبرى للعلماء العدول الصائنين لدينهم، المخالفين لهواهم، المطيعين لأمر مولاهم.

فتقلّد الشريف الرضي نقابة الطالبيين مراراً، وكانت إليه إمارة الحج والمظالم، كان يتولى ذلك نيابة عن أبيه، وبعد وفاة أبيه مستقلًا. وحجّ بالناس مرّات، وله فيها مواقف عظيمة سجّلها التاريخ وأبقى له ذكرى خالدة، وقصائده الحجازيات من أشهر شعره (2).

قال حسن محمود: وقد تولى الرضي هذه الإمارة منذصباه، وفي أكثر أيام حياته وزيراً لأبيه ونائباً عنه ومستقلًا بها، وقد عانى الكثير، وكانت دافعاً له لتغذية طموحه نحو المجد والعلى؛ لأن تلك الإمارة مهما كانت محدودة هي مثال مصغّر لتلك المرتبة


1- 1 رجال النجاشي: 398، خلاصة الأقوال: 164، الكامل في التاريخ 9: 261- 262، مرآة الجنان 3: 18، العبر 3: 95، شرح نهج البلاغة، الجزء الأول، مقدّمة المؤلف، روضات الجنات 6: 179- 180، أعيان الشيعة 9: 216، سفينة البحار 3: 372.
2- 2 أعيان الشيعة 9: 220، روضات الجنات 6: 179 و 181، الغدير 4: 242.

ص: 90

الّتي يتوق إليها منذصغره، ويرى أنه الأجدر بها.

وكانت إمارة الحج متشعّبة، فهي إما إمارة على تسيير الحجيج أو على إقامة الحجّ، والإمارة التي تولّاها أبو أحمد وولده الرضي كانت تجمع بين الأمرين؛ لأنهما كانا إذا تخلّفا عن الركب أنابا عنهما من يحج بالناس.

وتسيير الحجيج ولاية سياسة، تقتضي تدبيراً لأمر القافلة قبل الرحلة وتأمين السبل لها، ويشترط في أميرها أن يكون مطاعاً شجاعاًصاحب رأي وهيبة وهداية، يقيم حدود اللَّه، ويقضي بين الناس، ويدبّر لهم ما يحتاجون اليه وكذلك فإنّ الولاية على إقامة الحج تقتضي منصاحبها فقهاً في الدين، وبصراً بشعائر الحج، وأن يكون قدوةصالحة (1).

ومرّ الشريف الرضي- رضوان اللَّه عليه- بظروفصعبة جدّاً، وهي على قسمين:

الأول: زمن اعتقال والده حيث لفّقوا عليه التهم وهو بري ءٌ منها، وقد سبق ذكره.

الثاني: اتهامه بالميل إلى ولاة الدولة الفاطمية بمصر، بعد أن اشتهرت قصيدة مطلعها:

ما مُقامي على الهوانِ وعندي مِقولٌصارِمٌ وأنفٌ حَميُ إلى آخر الأبيات التي فيها إظهار أمنيته بالالتحاق بمصر، وأنّ بقاءه في بغداد فيه ذلّ وضيم وهوان، ونسبت هذه القصيدة إلى الشريف الرضي، فعقد القادر باللَّه مجلساً، أحضر فيه الطاهر أبا أحمد الموسوي، وابنه أبا القاسم المرتضى، وجماعة من القضاة والشهود والفقهاء، وأبرز إليهم أبيات الرضي، وقال للنقيب أبي أحمد:

قل لولدك محمد: أيُّ هوان قد أقام عليه عندنا؟ أيّ ضيم لقي من جهتنا؟

وأيّ ذل أصابه في مملكتنا؟ وما الذي يعمل معهصاحب مصر لو مضى إليه، أكان يصنع إليه أكثر منصنيعنا؟ أَلم نولّه النقابة؟ أَلم نولّه الحجيج؟ فهل كان


1- 1 الشريف الرضي دراسة في عصره وأدبه: 144- 145.

ص: 91

يحصل له منصاحب مصر أكثر من هذا؟ ما نظنه يكون لو حصل عنده إلّا واحداً من أبناء الطالبيين بمصر.

فاعتذر والد الشريف الرضي بأنه لم يسمع هذه الأبيات منه، بل نسبها له الأعداء، فعندها أمر القادر باللَّه بترتيب محضر يتضمّن القدح في أنساب ولاة مصر، وأمضى فيه الكثير، وامتنع الرضي من إمضائه، واعتذر بخوفه من غيلة دعاة المصريين (1).

هذه هي أصل الواقعة، وهي كانت الأشعار للشريف الرضي، أم نسبت إليه لتكون مقدمة لترتيب المحضر الذي يتضمّن القدح في أنساب ولاة مصر؟ وهل وقّع في المحضر الشريف الرضي بعد الامتناع، أم استمرّ امتناعه من التوقيع حتى النهاية؟

أسئلة تحتاج إلى مزيد من البحث ليس هذا محلّها.

الشريف المرتضى:

علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم عليه السلام، أبو القاسم المرتضى ذو المجدين علم الهُدى.

حاز من العلوم ما لم يدانه فيه أحد في زمانه، متوحّد في علوم كثيرة، مجمع على فضله، مقدّم في علوم، مثل علم الكلام والفقه وأصول الفقه، والأدب من النحو والشعر واللغة وغير ذلك، وسمع من الحديث فأكثر، عظيم المنزلة في العلم والدين والدنيا،صنّف كتباً كثيرة في شتّى العلوم، وبكتبه استفادت الإمامية منذ زمنه إلى زماننا هذا.

قال الشيخ أبو العباس النجاشي: مات رضى الله عنه لخمس بقين من شهر ربيع الأول سنة 436 ه، وصلّى عليه ابنه في داره ودفن فيها، وتولّيتُ غسله ومعي الشريف أبو يعلى محمد بن الحسن الجعفري وسلّار بن عبد العزيز، وكان مولده في شهر رجب سنة 355 ه.

قرأ على الشيخ المفيد محمد بن


1- 1 شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 37- 38.

ص: 92

محمد بن النعمان وغيره من علماء الفريقين، وكان يدرّس في علوم كثيرة ويجري على تلامذته رزقاً، فكان للشيخ الطوسي أيام قراءته عليه كلّ شهر 12 ديناراً، وللقاضي ابن البراج كلّ شهر 8 دنانير.

تولّى نقابة النقباء وإمارة الحج والمظالم بعد أخيه الرضي أبي الحسن، وهو منصب والديهما، وكان هو وأخوه الرضي ينوبان والديهما في حياته في سنين كثيرة لإمارة الحج.

إمارة بيت أبي أحمد الموسوي للحج حسب تسلسل السنين:

في هذا الفصل من البحث نذكر ما سطره المؤرّخون في كتبهم من إمارة بيت أبي أحمد الموسوي حسب تسلسل السنين، وهذا لا يعني أن ما ذكره المؤرخون هو جميع ما كان من إمارتهم للحج، فإنّ الشواهد التاريخية تدلّ على أنّ إمارتهم كانت أكثر من هذا الذي ذكر بكثير، لكنه سقط من أقلام المؤرخين.

سنة 354 ه:

وفيها رابع جمادى الآخرة تقلّد الشريف أبو أحمد الحسين بن موسى والد الرضي والمرتضى نقابة العلويين، وإمارة الحاجّ، وكُتب له منشور من ديوان الخليفة (1).

سنة 358 ه:

فيها حجّ بالناس من العراق أبو أحمد الموسوي (2).

سنة 359 ه:

فيها حجّ بالناس من بغداد أبو أحمد النقيب (3).

سنة 360 ه:

فيها حجّ بالناس من بغداد النقيب الشريف أبو أحمد الموسوي (4).

وفي المنتظم 7: 247: ولي النقابة في سنة 354، ثمّصرفه أبو الفضل العباس بن الحسين الشيرازي وزير عزّ الدولة سنة ستين.


1- 1 الكامل في التاريخ 8: 565- 566، المنتظم 7: 24.
2- 2 النجوم الزاهرة 4: 26، تاريخ الإسلام: 43 حوادث سنة 351- 380.
3- 3 تاريخ الإسلام: 46 حوادث سنة 351- 380.
4- 4 النجوم الزاهرة 4: 58.

ص: 93

سنة 376 ه:

فيها أعيد أبو أحمد إلى النقابة لما مات عضدالدولة فيصفر سنة 76 ه (1).

ومن مستلزمات إعادته إلى النقابة إعادته إلى إمارة الحج.

سنة 380 ه:

في ربيع الأول قُلّد الشريف أبو أحمد الحسين بن موسى الموسوي نقابة الأشراف الطالبيين، والنظر في المظالم، وإمرة الحاج، وكتب عهده بذلك، واستخلف ولداه المرتضى أبو القاسم والرضي أبو الحسين على النقابة وخُلع عليهما من دار الخلافة.

وحجّ بالناس أبو عبد اللَّه أحمد بن محمد بن عبد اللَّه العلوي نيابة عن النقيب أبي أحمد الموسوي (2).

سنة 389 ه:

فيها حجّ بالناس محمد بن محمد بن عمر من العراق، وكان في الحج الشريفان الرضي والمرتضى، فاعترض ركب الحاج أبو الجراح الطائي، فأعطياه تسعة آلاف دينار من أموالهما حتى أطلق الحاج (3).

وهذا هو أحد المواقف المهمّة للشريفين، حيث بذلا من أموالهما الخاصّة لنجاة الحاج، ولهما- رضوان اللَّه عليهما- مواقف كثيرة مهمة في غير الحج لأجل الدفاع عن الحق والعقيدة وإقامة الشعائر.

سنة 394 ه:

فيها قلّد بهاء الدولة الشريف أبا أحمد الحسين بن موسى الموسوي قضاء القضاة والحج والمظالم ونقابة الطالبيين، وكتب له من شيراز العهد، ولقبه الطاهر الأوحد «ذو المناقب» (4).

أقول: تقليده قضاء القضاة لم يتمّ، لمخالفة البعض له.

سنة 396 ه:

فيها قلّد الشريف الرضي نقابة الطالبيين بالعراق، ولقب بالرضي ذي الحسبين، ولقب أخوه المرتضى ذا المجدين، فعل ذلك بهاء الدولة (5).

والظاهر اتّحاد هذا التقليد مع


1- 1 المنتظم 7: 247.
2- 2 الكامل في التاريخ 9: 77- 78، النجوم الزاهرة 4: 157، البداية والنهاية 11: 308.
3- 3 إتحاف الورى بأخبار القرى حوادث سنة 389، النجوم الزاهرة 4: 200.
4- 4 تاريخ الإسلام: 229 حوادث سنة 381- 400، المنتظم 7: 226- 227.
5- 5 الكامل في التاريخ 9: 189، البداية والنهاية 11: 335.

ص: 94

التقليد في السنة الآتية (397 ه)، والاختلاف في سنة وقوعه، فلاحظ.

سنة 397 ه:

في يوم الاثنين لأربع خلون من جمادى الأولى ورد كتاب من بهاء الدولة بتقليد الشريف أبي الحسن محمد بن أبي أحمد الحسين بن موسى العلوي النقابة والحج وتلقيبه بالرضي ذي الحسبين، ولقب أخوه أبو القاسم بالشريف المرتضى ذي المجدين (1).

سنة 403 ه:

فيها قلّد الشريف الرضي الموسوي نقابة الطالبيين في سائر الممالك (2).

ويحتمل تقليده إمارة الحج أيضاً مع النقابة.

سنة 406 ه:

في يوم السبت، الثالث من شهرصفر، قلّد الشريف المرتضى أبو القاسم الحج والمظالم ونقابة نقباء الطالبيين وجميع ما كان يتولاه أخوه الرضي، وجمع الناس لقراءة العهد في الدار الملكية، وحضر فخر الملك والأشراف والقضاة والفقهاء قراءة العهد، وكان في العهد:

هذا ما عاهد عبداللَّه أبو العباس أحمد الإمام القادر باللَّه أمير المؤمنين إلى علي بن موسى العلوي، حيث قربته الأنساب الزكية، وقدمته لديه الأسباب القوية، واستظلّ معه بأغصان الدوحة الكريمة، واختصّ عنده بوسائل الحرمة الوكيدة، فقلّد الحج والنقابة، وأمره بتقوى اللَّه، وذكر كلاماً فيه طول من إيصاله بالخير واللطف فيما استرعي (3).

المراجع:

1- إتحاف الورى بأخبار القرى، أبو القاسم بن فهد الهاشمي.

2- أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، دار التعارف، بيروت، 1406 ه.

3- البداية والنهاية، إسماعيل بن عمر بن كثير، مطبعة السعادة، مصر.

4- تاريخ الإسلام، محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، دار الكتاب العربي، بيروت.


1- 1 تاريخ الإسلام: 236 حوادث سنة 381- 400، المنتظم 7: 234.
2- 2 تاريخ الإسلام: 15 حوادث سنة 401- 420، البداية والنهاية 11: 347، الكامل في التاريخ 9: 242.
3- 3 المنتظم 7: 276، الكامل في التاريخ 9: 263، البداية والنهاية 12: 2، النجوم الزاهرة 4: 239، تاريخ الإسلام: 23 حوادث سنة 401- 420.

ص: 95

5- خلاصة الأقوال في معرفة الرجال، العلامة الحلي الحسن بن يوسف؛ المطبعة الحيدرية، النجف، 1381 ه.

6- رجال النجاشي، الشيخ أحمد بن علي النجاشي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم.

7- روضات الجنات، الميرزا محمد باقر الموسوي الخوانساري، الدار الإسلامية، بيروت.

8- سفينة البحار، المحدّث الشيخ عباس القمي، دار الأسوة للطباعة والنشر، 1414 ه.

9- شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد المعتزلي، دار إحياء الكتب العربية.

10- الشريف الرضي دراسة في عصره وأدبه، حسن محمود أبو عليوي، مؤسسةالوفاء، بيروت، 1406 ه.

11- العبر في خبر من غبر، الحافظ الذهبي، دائرة المطبوعات والنشر، الكويت.

12- الغدير في الكتاب والسنة والأدب، العلامة الشيخ عبد الحسين الأميني، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1414 ه.

13- الكامل في التاريخ، علي بن أبي أكرم محمد المعروف بابن الأثير، دارصادر، بيروت.

14- مرآة الجنان، عبد اللَّه بن أسعد اليافعي، مؤسسة الأعلمي، بيروت.

15- المنتظم، عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد.

16- النجوم الزاهرة، يوسف بن تغري بردي الأتابكي، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، مصر.

الهوامش:

الحجُّ والسلامُ العالمي

ص: 96

ص: 97

عبد الكريم آل نجف

الحجُّ والسلامُ العالمي

يمثل الحج محوراً مهماً من محاور النهج السلمي للإسلام، بل يمكن عدّه المحور الأساس منها. وتأتي هذه الأهمية المتميزة له من جهتين:

الأولى: أن الحجّ بشعائره، ومناسكه، وأذكاره، يمثل جزءاً مهماً من النظام التربوي والروحي في الإسلام. وهذا النظام يمثل المرحلة الثانية في النهج السلمي للإسلام. ومن المعلوم أن هذا النظام يحظى بأهمية خاصة في مختلف جوانب الحياة الإسلامية؛ لأنّه هو الذي يمنح الإسلام الفاعلية، والتأثير، والايجابية العملية لمناهجه في هذه الحياة. فأهمية الحج للنهج السلمي في الإسلام جزء من أهمية النظام التربوي والروحي للحياة الإسلامية ككل، وقد وردت في تأكيده أخبار كثيرة، حتّى عدّ أحد أركان الإسلام الخمسة، وحكم على تاركه أن يموت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً (1).


1- 1 المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني 2: 145.

ص: 98

الثانية: أن المغزى السلمي أساس العديد من شعائر الحج ومناسكه، بحيث قد لا نرى قضية إنسانية يخدمها الحج أكثر من قضية السلم، ولا نرى فريضة إسلامية أخرى تخدم قضية السلم أكثر من الحج. وعندما يتّضح ذلك، سيكون بإمكاننا أن نقرّر باطمئنان أن الحج في بعده السياسي فريضة ذات مفهوم سلمي شديد التركيز. وهو مفهوم يتكون من عدة أبعاد مهمة في الحج، هي:

أولًا: البعد الزماني:

فالحج فريضة مؤقتة بزمان خاص، وفي شهر خاص، هو شهر ذي الحجة، وهو أحد الأشهر الحرم، ويتوسط شهرين آخرين منها هما ذو القعدة ومحرم، والرابع منها هو شهر رجب، وهي الأشهر التي حرّمت الديانةُ الإبراهيمية القتالَ فيها، وأمضى الإسلامُ حرمتها.

إن تحريم القتال في هذه الأشهر على المسلمين، وإلزامهم قبل غيرهم به، يمثل محاولة رائعة لتجفيف دواعي الحرب، وتنشيط أسباب السلام في المجتمع الإنساني، لفترة زمنية تساوي ثلث السنة، يقضيها المجتمع الإسلامي في عملية تربوية إيجابية، هدفها السلام من خلال جانبين: الأول سلبي: وهو التخلي عن دواعي الحرب. وذلك بتحريمها في هذه الأشهر، والثاني إيجابي: وهو التحلي بروح السلم، واحترام الأمن، وحق الحياة للآخرين، وذلك عبر الأبعاد السلمية الأخرى في الحج. الذي تهيمن أجواؤه النفسية الايجابية على المجتمع الإسلامي كلّه مدة انشغاله بالحج، منذ الأيام الأولى لسفر الحجاج إلى الديار المقدسة، وحتى أيام عودتهم إلى أوطانهم.

إن مبدأ الأشهر الحرم يجسد نزعة سلمية عميقة لا تجعل الإسلام يكتفي من مجتمعه بأن يكون مسالماً ومحافظاً على الأمن فحسب، بل لابد له من أن

ص: 99

يكون قدوة وداعية في هذا المجال، انسجاماً مع القاعدة التوحيدية الكبرى التي يقوم عليها هذا المجتمع، والتي تجعله ركيزة السلم في المجتمع الإنساني كلّه، فحيث ينحصر التوحيد الحقيقي بالمجتمع الإسلاميّ يكون هذا المجتمع قاعدة السلم في المجتمع الإنساني.

من هنا فإنّ مبدأ الأشهر الحرم يمثل دعوة إلى إقامة نظام أمني عالمي. فإنّ التمسك بهذا المبدأ من طرف واحد، مهما كان شديداً، لا يحقّق الهدف المطلوب، فلابد من إقامة التزام دولي متبادل بهذا المبدأ. وهكذا فإن الإسلام أوقف مجتمعه على أرقى درجة يمكن أن يلتزمها لصالح السلم، فيما علق درجة التحريم المطلق للحرب في الأشهر الحرم على ظهور نظام أمني عالمي تتبادل فيه الأطراف الدولية المختلفة الاحترام لمبدأ الأشهر الحرم. ولذلك أجاز للمسلمين القتال في هذه الأشهر إذا كانوا في حالة دفاعية، أو كان خصمهم ممن لا يرى لهذه الأشهر حرمة. وهما شرطان ينسجمان تماماً مع ذلك المبدأ، لأنهما يتفقان معه على محاربة العدوان، وتضييق فرصه. فليس من مفهوم السلم- بل مما يخالف السلم- أن يُمنع المظلوم من استرداد حقه، أو يقال لأحد طرفي النزاع: كُفَّ عن القتال في هذه الأشهر، واسمح لعدوك أن يقضي عليك فيها. فإنها بهذه الصورة ستكون أشهر العدوان، لا أشهر الحرم.

وهكذا فإنّ مبدأ الأشهر الحرم هو مبدأ المسلمين الدائم حتّى يثبت عدم إيمان العدو به، لذلك «الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص» فكما لا حرمة لدم القاتل ظلماً وعدواناً لهدره حرمة دم المقتول، كذلك لا يمكن التزام حرمة شهر لا يرى العدو حرمة له. ولذلك «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم» دون أن تتجاوزوا حدَّ القصاص العادل، أو تشتط بكم نزعة الانتقام إلى حدود الظلم «واتقوا اللَّه» فإنّ الشرَّ لا يعالج بالشر «واعلموا

ص: 100

أنّ اللَّه مع المتقين» (1)

. وتأكدوا من سلامة مواقفكم، وخلوها من الشرِّ والعدوان.

ويبقى الإسلام يوالي تأكيداته على المسلمين لكي يبقوا قاعدة للأمن والسلم في الأرض. قال تعالى:

«يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر اللَّه ولا الشهر الحرام» (2).

لأنّ مبدأ الأشهر الحرم نابع من قيمومة هذا الدين على الناس، وهمينته على شؤونهم، وصلاحيته لقيادة حياتهم (3). قال تعالى:

«إنّ عدّة الشهور عند اللَّه اثنا عشر شهراً في كتاب اللَّه يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم» (4).

وبما أن هذا المبدأ لا تكمن أهميته في نفسه فقط، كقانون دولي. وإنّما مرتبط بفريضة الحج التي تمنحه الفاعلية والقدرة على التأثير من خلال المحتوى الروحي والعرفاني لهذه الفريضة. لذلك فقد شنّ القرآن الكريم جملة شعواء على المشركين لتصرفهم في الحكم الشرعي من خلال النسي ء، الذي كانوا يقومون به، إذ كانوا يستبيحون حرمة أحد الأشهر الحرم، ويعوضون عن ذلك بإسباغ الحرمة على شهر آخر يختارونه، فلا يقاتلون فيه. قال تعالى: «إنما النسي ء زيادة في الكفر يُضَلُّ به الذين كفروا يُحلّونه عاماً ويحرمونه عاماً ...» (5).

وما أحرى العالم في هذا اليوم أن يتمثل خطى الإسلام، ويجعل مبدأ الأشهر الحرم قاعدة من قواعد الحياة الدولية فيه، لكي ينعم بالسلم في ثلث حياته، ويوفر على نفسه الإمكانات الجيدة لمعالجة قضايا السلم في الثلثين الآخرين منها.

ثانياً: البعد المكاني:

وترتبط فريضة الحج كذلك بمكان خاص يتّصف بالحرمة والقداسة، وهو


1- 1 البقرة: 194.
2- 2 المائدة: 12.
3- 3 الميزان في تفسير القرآن 9: 268.
4- 4 التوبة: 36.
5- 5 التوبة: 37.

ص: 101

الحرم المكي الذي جعلته السماء منطقةً آمنةً منزوعة السلاح، ومعزولةً عن الحروب. قال تعالى:

«وإذ حعلنا البيت مثابةً للناس وأمناً» (1)

فهو قطعة أمن وأمان، لا أنه مكان يتصف بالأمن والأمان فحسب. وهذا من أبلغ التعبير وأدقه. قال تعالى:

«فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومَن دخله كان آمناً» (2).

وقد انعكست عليهصفة الأمن نتيجة لعلاقته بالتوحيد، وكونه عاصمته ومركزه في الأرض. وإذا كان البعد الزماني محدّداً من جهة الزمان، ومطلقاً من جهة المكان، فإنّ البعد المكاني بعكسه محدّد من جهة المكان، ومطلق من جهة الزمان. فحرمة الحرم المكي خاصة بأرض معينة، ولكنها ليست خاصة بزمان معين. ويلتقي البعدان عند حلول الأشهر الحرم في الحرم المكي لتتأكد حرمة القتال، وتتعزّز الحاجة إلى السلم، وتأتي فريضة الحج لتزيدهما حرمة وتأكيد السلم، وليبلغ الشعور السلمي في المجتمع المسلم ذروته وأوجه. ويفترق البعدان بعد ذلك في الباقي من أشهر السنة، حيث يجوز القتال في كلّ أرض. وفي الباقي من الكرة الأرضية حيث يجوز القتال في كلّ وقت.

وللعلة نفسها التي ذكرت سابقاً في البعد الزماني، نجد أنّ الإسلام لم يجعل حرمة القتال في الحرم المكي بصورة مطلقة، فاستثنى القتال الدفاعي. وهذا الاستثناء يجسّد الكمال في نظرية السلم والأمن في الإسلام، لأنّ التحريم المطلق للقتال في الحرم المكي، يعني فسح المجال لظهور فرص واسعة من العدوان والظلم.

وهذا ما يتنافى مع مبدأ الحرم المكي.

قال تعالى: «ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقاتلوكم فيه» (3).

وهذا يعني أنّ مبدأ الحرم المكي يمثل دعوة إسلاميّة لقيام نظام عالمي، تتبادل فيه الأطراف الدولية الاحترام لمبدأ الحرم المكي من جهة، ولقيام مجتمع


1- 1 البقرة: 125.
2- 2 آل عمران: 97.
3- 3 البقرة: 191.

ص: 102

إسلاميّ يقوم بدور القدوة الحسنة في هذا المجال من جهة ثانية.

وقد كان لهذه الدعوة أثر بالغ في الحياة الاجتماعية للمسلمين. فقد كان المرء يرى قاتل أبيه، أو أخيه في الحرم المكي فلا يتّخذ ضدّه إجراءً، مع شدة التزام العرب تقاليد الثأر. وهذا ما يمكن عدّه دليلًا على إمكان أن يلعب مبدأ الحرم المكي دوراً مماثلًا علىصعيد الأمن والسلم في العالم.

ولتأكيد الأهمية الأمنية لمكّة المكرّمة، عدّ القرآن الكريم كلّ لون من ألوان الظلم في مكة إلحاداً، وعدّ أيضاً الهمّ بذلك الظلم بمثابة القيام به من حيث استحقاق العقوبة عليه، بينما لم يأخذ بهذه الدرجة من الشدّة في البقاع الأخرى من العالم. وذلك ما يحمل دلائل واضحة على ضرورة عدم الاكتفاء بمرحلة سلم الجوارح، بل لابدّ من أن يكون المسلم في مركز التوحيد، وقد وصلت عنده المشاعر السلمية والأمنيّة درجة من النضج بحيث تستولي على قلبه أيضاً، وتمنعه من أن يخطر عليه الهمّ بالظلم والرغبة فيه.

فإذا كان المسلم في باقي الأرض هو مَن سلم الناس من يده ولسانه، فإنّ المسلم حينما يكون في مكّة المكرّمة يطلب منه أن يسلم الناس من يده ولسانه وقلبه، وأن يبلغ مرحلة سلم الجوارح والجوانح؛ لأنّ النزوع نحو السلم يجب أن يتناسب مع درجة التوحيد التي يصل إليها المؤمن. ولما كان المطلوب من المسلم أن يكون في مكة قد وصل إلى ذروة ما يمكنه الوصول إليه من التوحيد، فلابدّ من أن يكون نزوعه السلمي قد بلغ أوجه أيضاً. وهذه هي المعادلة التي جعلت الحرم المكي يمتاز على باقي بقاع الأرض بهذه الأبعاد السلمية المركزة.

قال تعالى: «ومَن يرد فيه بظلم بإلحاد نذقه من عذاب أليم» (1)

قال ابن مسعود: ما من بلد يؤاخذ العبد فيه بالهمة قبل العمل إلّامكّة.

وتلا هذه الآية ... ونسب إلى الإمام الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية قوله:


1- 1 الحج: 25.

ص: 103

«كلّ ظلم إلحاد، وضرب الخادم في غير ذنب من ذلك الإلحاد» (1).

وقال عليه السلام: «كلّ ظلم يظلمه الرجل نفسه بمكّة من سرقة أو ظلم أحد أو شي ء من الظلم، فإنّي أراه إلحاداً، ولذلك كان يتّقي الفقهاء أن يسكنوا مكّة» (2) وقد سار العرب قبل الإسلام على تقديس مكّة واحترامها، ومنع وقوع القتال فيها، وكان شاعرهم يقول:

إنّ الفضول تعاقدوا وتعاهدوا أن لا يقرّ ببطن مكة ظالم ولم يكن لبيوت المكيين مصاريع بفضل الأمن الذي كان تنعم به مكة، والتزام المكيين واجب الضيافة تجاه الوافدين عليهم من الأقطار الأخرى.

إنّ عناية الإسلام بمنطقة معيّنة من العالم، وتحريمها عسكرياً، وعزلها عن السلاح، ثمّ ربط الحج كفريضة ذات مضمون سلمي بها، حيث تفد عليها سنوياً جموع هائلة من الحجيج، ومن ورائهم قلوب المسلمين كافة، تتطلع إلى هذه المنطقة روحياً وترتبط بها معنوياً في أيام الحج. تعكس مستوى الرقي في هذا الدين، ومدى اهتمامه بالسلم والطبيعة العملية لما يتّخذه من اجراءات في هذه المضمار.

فإذا كانت الأرض كلّها مفتوحةً أمام الحروب والنزاعات التي تمزق المجتمع الإنساني، فلماذا لا تعزل من الكرة الأرضية منطقة تعدّ منزوعة السلاح، يحرم فيها القتال والعدوان؟ وإذا كانت أيام السنة كلّها يمكن القتال فيها، فلماذا لا نعزل منها أربعة أشهر حرم تكون فرصة أمام الطرفين للتثبت من براءتهم فيما يتّخذونه من مواقف قتالية؟ ثم يلتقي الزمان الحرام بالمكان الحرام في فريضة الحج التي تزيدهما حرمة، وتجعل الشعور السلمي يصل ذروته، وتحوّل مكة إلى مركز لبث الروح السلمية في العالم، وخلع النزعة العدوانية عنه. وما أحوج البشرية في هذا الزمان- وفي كلّ زمان- إلى بقعة من الأرض تتخذها مركزاً لحلّ


1- 1 المحجة البيضاء 2: 155.
2- 2 المصدر نفسه 2: 156.

ص: 104

الصراعات الدولية المختلفة.

وإذا كان الغرب قد اتّخذ من جنيف مركزاً لعقد المؤتمرات الخاصة بالسلم والأمن، وفضّ النزاعات الدولية واتّخاذ القرارات والمواقف اللازمة لدعم الأمن العالمي، فإنّ الإسلام قد سبق الغرب في هذا المجال. بل إنّ إبراهيم الخليل عليه السلام- الذي رفع القواعد من البيت، وطلب من اللَّه- سبحانه وتعالى- أن يجعل مكة بلداً آمناً قبل أربعة آلاف سنة- يعدّ المؤسس الأوّل لهذه الفكرة. قال تعالى:

«وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبني أن نعبد الأصنام» (1).

على أنّ اختيار الإسلام لمكة أرجح بكثير من اختيار الغرب لجنيف، فإنّ القانون وحده لم يكن- يوماً- كافياً لحلّ مشكلة من المشاكل الإنسانيّة، فكيف إذا كانت هذه المشكلة هي مشكلة الأمن العالمي، التي ليست هناك مشكلة أعقد منها في دنيا السياسة؟ فلا مناص، إذن، من وجود قاعدة روحية أخلاقية تملأ الحياة الإنسانيّة بإشعاعاتها الإيجابية لأي حلّ قانوني يفترض، لتعمل بشكل إيجابي يخدم قضية السلم العالمي، إمّا في عمق وجدان أهل الحلّ والعقد من أطراف الصراع، وإمّا في وجدان الجماهير التابعة لهم؛ لتكون قوّة سياسية ضاغطة عليهم بهذا الاتجاه. وليس هناك من يضمن وجود هذه القاعدة الروحية الأخلاقية غير الإسلام، كما أنه ليس في دنيا الإسلام مدينة يمكنها أن تستثير المشاعر الروحية والأخلاقية، وتجعلها فوّارة متدفّقة ومؤثرة، كمكّة، مركز التوحيد، وموطن الكعبة، التي خلقها اللَّه- سبحانه وتعالى- أوّلًا ثمّ مدّ الأرض من حولها، والتي كان آدم قد أتى إليها ألف مرّة على قدميه، والتي اختارها اللَّه من الأرض، فهي خيرته من أرضه، ويقوم الدين ما قامت، والتي حجت الملائكة إليها قبل آدم بألفي عام، كما في الأخبار عن أهل البيت عليهم السلام (2).


1- 1 إبراهيم: 35.
2- 2 المحجة البيضاء 2: 152- 153.

ص: 105

هذا من جهة. ومن جهة ثانية فإنّ فريضة الحج ترتبط بمكة دون سواها، وهذا ما يمنحها درجة إضافية من التقديس والإحترام الذي يكنه لها مليار مسلم- أي خمس البشرية المعاصرة- ولا توجد مدينة أخرى في الأرض يمكنها أن تستنفر هذا القدر الكبير من المشاعر الإنسانيّة الصادقة، وتجذب حولها قلوب هذا العدد من الناس. أضف الى ذلك أن مكة تقع في منطقة كانت منطلقاً للتأريخ الإنساني برمته، ومحطة لأعقدصراعات العالم، وهي منطقة الشرق الأوسط.

وكلّ ذلك من شأنه أن يجعل مكّة مركزاً مهمّاً في الحياة الدولية.

قال تعالى:

«جعل اللَّه الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام ...» (1).

فبالكعبة والشهر الحرام- أي بالبعد الزماني والبعد المكاني من الحج- قوام الحياة الإنسانيّة وسندها؛ لأنّهما يعطيان الإنسان التوحيدَ حتّى يستقيم عقله، والأمن حتّى يهنأ عيشه.

ثالثاً: البعد التوحيدي العرفاني:

إنّ البعد التوحيدي والعرفاني هو البعد الأرسخ في الحج. إذ ليس الحج في الجانب الأوضح منه إلّاكتلة متماسكة من الممارسات والشعائر، التي تكرس عقيدة التوحيد في شخصية المسلم؛ فالطواف، والسعي، ورمي الجمار، وغير ذلك من واجبات الحج وشعائره. كلٌّ ذات مفهوم توحيدي خالص، الغرض منها تركيز الحسّ التوحيدي عند الإنسان المسلم.

وقد عرفنا فيما سبق أن التوحيد عقيدة ذات مضمون سلمي؛ لأنها تزرع السلم حقيقة في داخل الإنسان، وتشيعه نهجاً في حياته الاجتماعية، لذلك كان السلام اسماً من أسماء اللَّه، واسماً من أسماء الجنّة، وشعاراً للمؤمنين في دار الدنيا


1- 1 المائدة: 97.

ص: 106

ودار الآخرة. كما أنّه الشعار الذي يهتف به المسلم من أعماقه في كلّ يوم خمس مرّات في خاتمةصلواته الخمس، حيث يسلم أولًا على النبيّ قائلًا: السلام عليك أيها النبيُّ ورحمة اللَّه وبركاته، ليؤكّد بقاءَه مؤمناً بهذا النبيّ، ولن يكون محارباً له، ويسلّم ثانياً على نفسه، وعلى المؤمنين، فيقول: السّلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين. فالسلام الاجتماعي يبدأ من السلام الداخلي للإنسان. ثمّ يؤكد السلام العام مرّة ثالثة فيقول: السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته.

ولقد كان الحج فريضة بدأ تشريعها منذ النبوة الإبراهيمية التي وظفت بشكل خاص لإرساء قواعد التوحيد وترسيخها في الأرض، ولم تنشغل بقضية أخرى كانشغالها بهذه القضية. والأديان التوحيدية الثلاثة اليهودية والنصرانية والإسلام إنّما تنهل من انجازات تلك النبوّة المباركة التي كان لها الفضل المشهود على كلّ موحّد.

وإذا كانت تلك النبوّة قد ربطت بين التوحيد والحج من جهة، فإنّها ربطت من جهة أخرى بين التوحيد والأمن. فقدنقل القرآن الكريم على لسان إبراهيم عليه السلام دعاءَه إلى اللَّه- سبحانه- قائلًا: «وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبني أن نعبد الأصنام» (1).

وهكذا فإنّ الحرم المكي يمثل الرمز المشترك لكلّ من التوحيد والأمن.

وفي إحدى الروايات نجد تفسيراً رائعاً للعلاقة بين إحدى الشعائر التوحيدية في الحج والأمن. قال الإمام الصادق عليه السلام: «ما من بقعة أحبّ إلى اللَّه- عزّوجل- من السعي؛ لأنّه يذلّ فيه كلّ جبار عنيد» وقال عليه السلام: «جعل السعي بين الصفا والمروة مذلّة للجبارين» (2).

فإنّ هذه الشعيرة التي تكرس العبودية المطلقة للَّه- سبحانه وتعالى- والخضوع له. تلغي ذلك المحور (الطغيان والتجبر) أيضاً؛ لأنّ السعي مذلة للطغاة


1- 1 إبراهيم: 35.
2- 2 وسائل الشيعة 9: 55.

ص: 107

والجبابرة، ووسيلة لمعالجة الطغيان عند الحكام، ذلك المرض الذي يهدد الأمن والسلام في المجتمع، ويسلمه إلى العنف والدمار.

رابعاً: البعد العبادي الأول:

ويتمثل بمجموعة من محرّمات الإحرام وهي:

1- الجدال.

2- الفسوق. بما يشمل أسباب المفاخرة والكذب، وهو أخطر من الجدال.

3- إزالة الشعر.

4- قلمُ الأظفار كلًا أو بعضاً.

5- قلع الضرس ولو لم يدمِ.

6- قلع الشجر والحشيش النابتين في الحرم، وقطعهما.

7- قتل هوام الجسد (القمل والبرغوث ونحوهما) وكذا هوام جسد الحيوانات.

8-صيد البر اصطياداً وأكلًا ... والطيور حتّى الجراد بحكم الصيد البري.

9- لبس السلاح إلّالضرورة (1).

ويمثل المحرّم الأوّل والثاني وسيلة وقائية وظيفتها الحيلولة دون حصول البغضاء والشحناء في مجتمع الحجيج، الذي يراد منه أن يكون قدوة في المحبة والوئام، ولمنع ظهور أي سبب أو مقدمة يمكن أن تؤدي إلى الإخلال بالأمن الاجتماعي.

والمحرّم الثالث والرابع والخامس: كلّ منها يمثل وسيلة تربوية تمنع الإنسان من الإضرار بما تشبه الكائن الحي. فإنّ الشعر والأظفار والأضراس أجزاء ميّتة من الإنسان، لكنها تشبه الكائن الحيّ من جهة النمو، ولأجل هذا الشبه بالحياة،


1- 1 تحرير الوسيلة، الإمام الخميني 2: 403.

ص: 108

والاقتراب من إحدىصورها المقدّسة كان لابدّ للحاج من أن يحترز من التعرض لها.

المحرّم السادس: يمثل البدء بتحريم التعرّض للحياة، فالنبات بصورة عامة يمثل الصورة الأولى للحياة. فالتعرّض لهذه الصورة لا يتناسب مع المفهوم السلمي للحج ولمبدأ حرمة الحرم المكي.

المحرّم السابع: يعني تحريم التعرّض لحياة أكثر ظهوراً من حياة النبات وهو حياة هوام الجسد. فالحاج ينبغي له احترام هذه الحياة وإن كانت تعدّصوراً بدائية من الحياة. بل وإن كان الحاج يعدّهاصوراً من الحياة مضرّة بالإنسان.

فالحاج عليه أن يحافظ على تقديسه لها تمسكاً بمبدأ تقديس أصل الحياة. وليس من شك أنه سيتلقى من وراء هذا التمسك دروساً أخلاقية رائعة تعلّمه كيف ينبغي له أن يتعايش مع الكائن الحي الذي يلتقي معه بمصلحة معيّنة، بل مع الكائن الحي الذي لا أهمية لحياته وهو مضرّ به. وكيف ينبغي عليه أن لا يفكر في التخلص منه. بل يفكر في وسائل التعايش معه ليعكس ذلك على حياته الاجتماعية، التي تمتلئ بصور كثيرة من العلاقات، التي تتّسم بالتنافر وعدم الانسجام، والتي يسرع الإنسان فيها عادة إلى التفكير في وسائل للتخلص من الطرف المقابل له.

فالمحرّم السادس يعلمه أن هذا سلوك خاطئ، وأنّ السلوك الصحيح هو عدم الردّ بالمثل والتمسك بالصفح والصبر والتجمّل بدلًا عن ذلك، فإذا كان الحاج لا يملك الحقّ في أن يلحق الضرر بحياة هوام الجسد فالأولى أن لا يلحق الضرر بحياة أخيه الإنسان. وإذا كان إيذاء هوام الجسد بالإنسان لا يبرّر الإضرار بها، فالأولى أن لا يبرّر الاختلاف بين بني الإنسان الميل نحو الإضرار المتقابل فيما بينهم.

ويمثل المحرّم الثامن تحريماً لصور أخرى من الحياة أكثر ظهوراً واحتراماً

ص: 109

من الصور السابقة. ويبقى المحرّم التاسع الواضح في مغزاه المباشر. فإنّ في لبس السلاح تهديداً لأمن الحرم، وذلك مخالف لمبدأ الأشهر الحرم، ومبدأ الحرم المكي، والمضمون السلمي لفريضة الحج.

ومن الملاحظ أنّ محرّمات الإحرام تشتمل على تحريم الوسائل المباشرة، وغير المباشرة المؤدية إلى زعزعة الأمن. ولا تشتمل على تحريم الاعتداء نفسه على حياة الإنسان. فكيف دخلت مقدّمات الاعتداء حتّى البعيدة منها في دائرة المحرّمات؟ بل كيف حولت هذه المحرّمات قسماً من مقدّمات السلام البعيدة إلى واجبات هامّة، بينما لم تُدخل في عِدادها المقدّمة الكبرى لزعزعة الأمن وهي الاعتداء نفسه؟

والواقع أن تحريم مقدّمات الشي ء ناشئ من التشدّد في تحريم الشي ء نفسه وهو نوع تأكيدٍ. وربّما كان عدم اشتمال المحرّمات على تحريم الاعتداء نفسه إشارة إلى كفاية تحريم المقدمات في الدلالة على تحريم أصل الاعتداء، بل إشارة إلى عدم الحاجة إلى ذكر تحريم أصل الاعتداء، فإنّ تحريم المقدّمات من شأنه أن يمنع ظهور حالات الاعتداء. وإلّا فإنّ الشريعة الإسلامية لا يوجد مَن هو أكثر منها يؤكّد حرمةَ الاعتداء على حياة الإنسان، خصوصاً حينما يكون هذا الاعتداء في أشهر الحرم، أو في الحرم المكي. فقد ذكر الفقهاء أن القتل في الزمان والمكان المذكورين موجب لتغليظ الدية فتكون دية وثلث الدية. بل لو رمى وهو في الحلّ بسهم ونحوه إلى من هو في الحرم فقتله فيه، لزمه التغليظ أيضاً (1).

خامساً: البعد العبادي الثاني:

ويتمثل بلباس الإحرام، الذي يرتديه الحاج، بعد أن يخلع ثيابه العادية ضمن عملية واضحة الأهداف والدلالات. فالحجّ وظيفة ذات أبعاد عالمية


1- 1 المصدر نفسه: 558.

ص: 110

تتكامل مع مشروع عالمية الإسلام الذي يستوعب العقيدة والشريعة الإسلامية. ويتّخذ من الحج مرتكزاً فعالًا، ووسيلة مهمة من وسائله التطبيقية؛ لأنّه ممارسة روحية يقدم عليها المسلم بكلّ قلبه ومشاعره، وبطوع اختياره، تبدأ بتقطيع كلّ أشكال العلاقات العنصرية، التي تربطه مع الأهل والعشيرة والوطن، وتنتهي بالتلبس بعلاقات توحيدية عالمية خالصة. فأوّل عمل يقوم به الحاج: هو توديع الأهل والأقارب والعشيرة والوطن، متّجهاً إلى حياة تخيم عليها الروح العالمية الخالصة، فلا أبناء ولا وطنَ ولا لغةَ قومية ولا زيَّ قومياً في الحج. وإنما علاقات إنسانيّة هي علاقة التوحيد، ووطن عالمي سواء فيه العاكف والباد، وهو مكة. ولغة عالمية هي اللغة العربية. وزيٌّ عالمي هو الإحرام، الذي تتساوى فيه الطبقات الاجتماعية المختلفة، وتُمحى عنده الفوارق العنصرية، ومحور موحّد تطوف حوله وفود الحجيج وهو الكعبة، التي يرمز الطواف حولها إلى بلوغ المؤمن نهاية القرب من اللَّه- سبحانه وتعالى- الذي تتقطع عنده أسباب الدنيا، وعلاقات الأرض العنصرية، وتتكامل على انقاضها العلاقات الروحية.

يقول هاملتون جب [إنّ شعيرة الحجِّ تُعدّ عاملًا قوياً في تطبيق مبدأ توحيد العالم، فهي رمز للأخاء الذي يربط المسلمين بعضهم ببعض، دون تفرقة لونية أو عنصرية] (1).

ويتحدّث الدكتور حسين مؤنس عن العناصر التي ربطت العالم الإسلامي مع بعضه البعض، وجمعت بينها في العصور الإسلامية الأولى. ويذكر الطلابَ والعلماء والتجّار والملّاحين، ويذكر الحجاجَ من ضمنهم، وهم الذين يسمون بأهل الرحلة، الذين عمقوا مفهوم الوحدة لدى الناس فيقول:

[فأمّا الحجاج فقد كانت قوافلهم تشقّ أرجاء ذلك العالم الإسلامي في مسيرة دائمة لا تتوقف، ولا تبالي بالعقبات الطبيعية من جبال وصحاري وبحار،


1- 1 الإسلام والعالم المعاصر، أنور الجندي:ص 261.

ص: 111

ولا تتراخى بسبب أخطار الحروب والقلاقل والفتن، فقد كان حجاج بيت اللَّه الحرام من الأندلس والمغرب والسودان والصين والملايو يخرجون في رحلة الحج قبل موعده بعام أو أكثر أو أقل، ومعنى هذا: أنه في كلّ وقت تقريباً كانت هناك قوافل حجاج تقصد بيت اللَّه الحرام، أو تعود منه، ألوفاً بعد ألوف من الناس، يخرجون من أطراف الأرض الأربعة، ووجهتهم بيت اللَّه الأكرم، وهم في مرورهم بالمدن والواحات يذّكرون الناس بوحدة الدين، التي تجمع بعضهم إلى بعض. والكثيرون منهم كانوا يستقرّون بعد الحج أينما شاءُوا من بلاد الإسلام، فكأن قوافل الحج كانت أسلحة محاريث قوية تشقّ الأرض الإسلاميّة، وتقلب تربتها، وتأذن لشمس العقيدة في أن تتخللها في عمق، وتبعث فيها الحياة. وهذا، ولا شك، كان في تقدير الخالق- سبحانه- حينما فرض على أمّة الإسلام الحجَّ إلى بيته الحرام ...] (1).

وليس من شك أن الدور العالمي الذي يلعبه الحجُّ في المجتمع الإسلامي دورٌ سلمي وقائي، يحمي المجتمع من أخطار التمزّق العنصري، التي لم يكن في التأريخ ما هو أشدّ منها خطراً على قضية السلم والأمن في العالم. فالحجّ من هذه الجهة نوع من التربية الروحية، والفكرية المركّزة والعميقة في الاتجاه العالمي للإسلام ...


1- 1 عالم الإسلام، د. حسين مؤنس:ص 291.

ص: 112

الهوامش:

الاعتداء على حرمة البيت وامنه

ص: 113

الاعتداء على حرمة البيت وأمنه

محمدرضا باقرصادق

مقدمة:

وإذا كانت الكعبة قد تعرّضت لأذًى من بعض الديانات المخالفة، فإنها قد تعرّضت لفظائع ممن يدّعون الإسلام مثل يزيد وأمثال يزيد.

ومرجع تهديم الكعبة وتقويضها، والاعتداء على حرمتها، يعود إلى التعصّب الجاهلي، والانحلال من قيود الدين والشريعة، وإلى الانحلال الخلقي كالتجاهر بالفسق والفجور والميوعة والفساد المتمثل في مجموعة لا تعرف من الحياة إلّا الاستهتار والخلاعة والمجون.

ومنذ عهد الإسلام حتّى يومنا هذا إجتاحت الكعبة كوارث إلحادية عارمة منبعثة عن الأهواء والمطامع الشخصية، قُوّضت الكعبة على أثرها، وانهارت وتهدّمت وانتهكت حرمتها، وفيما يلي نورد بعض هذه الأحداث.

محنة البيت أيام يزيد:

1- جاء في كتاب الكعبة والكسوة منذ أربعة آلاف سنة حتّى اليوم لمؤلفه «أحمد عبد الغفور عطار» ما نصّه:

ص: 114

«وفي سنة 63 و 64 من الهجرة تعرّضت المدينتان المقدّستان، والحرمان الشريفان، وبيت اللَّه، وحرم رسوله لكارثة غاية في البشاعة والنكر، فقد أرسل يزيد بن معاوية جيشاً من أهل الشام إلى المدينة مهاجر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وأمر يزيد قائد جنده مسلم بن عقبة المرّي أن يذيق أهل المدينة، وأهل مكة كلّ ضروب الشرِّ الذي لا شرَّ مثله. ولم يكتفِ يزيد بقتل سيدنا الحسين وآل بيت محمدصلى الله عليه و آله حتّى ثنّى ببلد رسول اللَّه فأباحها لجند الشام ثلاثة أيام يفعلون من المنكر ما لا يجوز فعله ببلاد الكفر، وقتل جندُ الشام من الصحابة والتابعين وأولادهم وأطفالهم ونساءهم آلافاً مؤلّفة، وبلغ من كفر المرّي قائد جند يزيد أن سمّى المدينة «نتنة» نكايةً بمن سماها «طيبة» وما سمّاها طيبة غير نبي الهدى، وأجبر أهل المدينة بالسيف على أن يبايعوا على أنهم عبيد ليزيد، فإن لم يبايعوا قتلهم، ورسول اللَّهصلى الله عليه و آله يقول: من أخاف المدينة أخافه اللَّه.

ويقول- عليه الصلاة والسلام-: من أراد أهلَ المدينة بسوء أذابه اللَّه كما يذوب الملح في الماء.

ولمّا انتهى المري من الشر الذيصبّه على المدينة وأهلها اتّجه مع جيش الشام إلى مكة، وفي الطريق هلك المري اللعين فتولّى القيادة الحصين بن نمير وكلّهم مثل بعضٍ في الكفر والفسوق» (1).

2- ومما جاء في كتاب «تاريخ الخلفاء» للحافظ جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 هجرية في الحديث عن يزيد، وما فعل بالكعبة ما نصّه:

«وفي سنة ثلاث وستين، بلغه أنّ أهل المدينة خرجو عليه وخلعوه، فأرسل إليهم جيشاً كثيفاً، وأمرهم بقتالهم، ثم المسير إلى مكة لقتال ابن الزبير فجاءوا، وكانت وقعة الحرّة على باب طيبة، وما أدراك ما وقعة الحرّة؟ ذكرها الحسن مرّةً فقال: واللَّه ما كاد ينجو منهم أحد، قُتل فيها خلقٌ كثير من الصحابة


1- 1 الكعبة والكسوة منذ أربعة آلاف سنة حتّى اليوم، أحمد عبد الغفور عطار، مطابع مكة المكرمة 1397 ه الطبعة الأولى:ص 110.

ص: 115

- رضي اللَّه عنهم- ومن غيرهم، ونهبت المدينة، وافتضَّ فيها ألف عذراء، فإنّا للَّه وإنا إليه راجعون! قالصلى الله عليه و آله: من أخاف أهل المدينة أخافه اللَّه، وعليه لعنةُ اللَّه والملائكة والناس أجمعين. رواه مسلم.

وكان سبب خلع أهل المدينة له أنّ يزيد أسرف في المعاصي. وأخرج الواقدي من طرقٍ: أنّ عبد اللَّه بن حنظلة بن الغسيل قال: واللَّه ما خرجنا على يزيد حتى خِفنا أن يُرمى بالحجارة من السماء! إنه رجل ينكح أمهات الأولاد والبنات والأخوات، ويشرب الخمر ويدع الصلاة» (1).

هذا هو يزيد الذي يسميه البعض أمير المؤمنين ...! وهذه هي أعماله قتلٌ وانتهاك لأعراض الناس، وفسق وفجور واستهتار بالقيم، وخمرٌ وفساد. وأما قتله للحسين فتلك مصيبة أبكت حتّى الحجر والسماء ... فمما جاء في المصدر نفسه ما نصّه:

«ولمّا قتل الحسين مكثت الدنيا سبعة أيام والشمس على الحيطان كالملاحف المعصفرة، والكواكب يضرب بعضها بعضاً، وكان قتله يوم عاشوراء، وكسفت الشمس ذلك اليوم، واحمرّت آفاق السماء ستة أشهر بعد قتله، ثم لا زالت الحمرة تُرى فيها بعد ذلك ولم تكن تُرى فيها قبله» (2).

فهل بعد هذا يبقى شك لذي عينين من فسوق يزيد وفجوره وكفره؟ وقد أضاف السيوطي إلى حديثه ما هو أعجب وأغرب وأنكى للقلب فقال:

«وقيل إنه لم يُقلب حجر بيتِ المقدس يومئذٍ إلّاوجد تحته دمٌ عبيطٌ، وصار الوَرْسُ الذي في عسكرهم رماداً، ونحروا ناقةً في عسكرهم فكانوا يرون في لحمها مثل النيران، وطبخوها فصارت مثل العلقم، وتكلم رجلٌ في الحسين بكلمة فرماه اللَّه بكوكبين من السماء فطمس بصره» (3).

«وأخرج الترمذي عن سلمى قال: دخلت على أمّ سلمة- وهي تبكي-


1- 1 تاريخ الخلفاء، جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 ه:ص 166- 167.
2- 2 تاريخ الخلفاء، جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 ه:ص 165.
3- 3 تاريخ الخلفاء للسيوطي: 165.

ص: 116

فقلتُ: ما يبكيك؟ قالت: رأيت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في المنام وعلى رأسه ولحيته التراب، فقلت: ما لكَ يا رسول اللَّه؟ قال: شهدت قتل الحسين آنفاً.

وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: رأيت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بنصف النهار أشعث أغبر، وبيده قارورة فيها دم، فقلت: بأبي وأمي يا رسول اللَّه ما هذا؟ قال: دم الحسين وأصحابه، لم أزل ألتقطه منذ اليوم، فأُحصي ذلك اليوم فوجدوه قُتل يومئذٍ» (1).

أفسد أمر الناس اثنان:

قال الحسن البصري: «أفسد أمر الناس اثنان: عمرو بن العاص يوم أشار على معاوية برفع المصاحف فحُملت، ونال من القراء، فحكم الخوارج، فلا يزال هذا التحكيم إلى يوم القيامة.

والمغيرة بن شعبة، فإنه كان عامل معاوية على الكوفة فكتب إليه معاوية:

إذا قرأت كتابي، فأقبل معزولًا، فأبطأ عنه، فلما ورد عليه قال: ما أبطأ بك؟ قال:

أمرٌ كنت أوطّؤه وأهيؤه. قال: وما هو؟ قال: البيعة ليزيد من بعدك! قال: أوَ قد فعلت؟ قال: نعم. قال: ارجع إلى عملك. فلما خرج قال له أصحابه: ما وراءك؟

قال: وضعتُ رجلَ معاوية في غرز غيٍّ لا يزال فيه إلى يوم القيامة. قال الحسن:

فمن أجل ذلك بايع هؤلاء لأبنائهم، ولولا ذلك لكانت شورى إلى يوم القيامة» (2).

والحقّ أقول: إنَّ مَنْ يأتي إلى دفَّةِ الحكم بهذا الشكل مثل يزيد الفاسق الفاجر ...صاحب الطرب واللهو والفجور، وصاحب الكلاب والقرود والفهود والمنادمة على الشراب لا يهمُّه أن يرمي الكعبة بالمجانيق وقد فعل ....

3- أما ابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ، فقال:


1- 1 تاريخ الخلفاء للسيوطي: 166.
2- 2 تاريخ الخلفاء للسيوطي: 164.

ص: 117

وكان مما أوصى به يزيد بن معاوية مسلماً بن عُقبة المُريّ أن قال له: «إن وصلت المدينة، وظهرت عليها، فأنهبها ثلاثاً فكل ما فيها من مالٍ أو دابة أو سلاح أو طعام فهو للجند» (1).

وبالفعل فقد «أباح مسلم المدينة ثلاثاً، يقتلون الناس، ويأخذون المتاع والأموال، فأفزع ذلك مَنْ بها من الصحابة» (2).

«ودعا مسلمٌ الناس إلى البيعة ليزيد على أنهم خَوَلٌ له «أي خدم وعبيد» يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء» (3).

«وكانت وقعة الحرّة لليلتين بقيتا من ذي الحجّة سنة ثلاث وستين» (4).

وحين أدرك الموت مسلماً هذا، كانت آخر وصاياه: «اللّهمّ إنّي لم أعمل قطّ بعد شهادة أن لا إله إلّااللَّه وأن محمداً عبده ورسوله عملًا أحبّ إليَّ من قتلي أهل المدينة، ولا أرجى عندي في الآخرة» (5)

أما ما كان لشأن مكة فقد «رموا البيت بالمجانيق وحرّقوه بالنار» (6).

4- ومما جاء عند المؤرخ الكبير المسعودي في مروج الذهب ما يلي:

«وكان يزيدصاحب طرب وجوارح وكلاب وقرود وفهود، ومنادمة على الشراب ... وغلب على أصحاب يزيد وعماله ما كان يفعله من الفسوق. وفي أيّامه ظهر الغناء بمكّة والمدينة، واستعملت الملاهي، وأظهر الناس شرب الشراب. وكان له قرد يكنّى بأبي قيس يُحضره مجلس منادمته، ويطرح له متكأ وكان قرداً خبيثاً» (7).

ولما بلغ يزيد خبر خلع أهل المدينة طاعتهم له «سيّر إليهم بالجيوش من أهل الشام، عليهم مسلم بن عقبة المرّيّ الذي أخاف المدينة ونهبها، وقتل أهلها، وبايعه أهلها على أنهم عبيدٌ ليزيد. وسماها نتنة، وقد سماها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله طيبة، وقال من أخاف المدينة أخافه اللَّه» (8).


1- 1 الكامل في التاريخ، ابن الأثير المتوفى سنة 630 ه: 456 حوادث سنة 63 ه.
2- 2 الكامل في التاريخ: 459 حوادث سنة 63 ه.
3- 3 الكامل في التاريخ: 460 حوادث سنة 63 ه.
4- 4 الكامل في التاريخ: 461 حوادث سنة 63 ه.
5- 5 الكامل في التاريخ: 463 حوادث سنة 63 ه.
6- 6 الكامل في التاريخ: 464 حوادث سنة 63 ه.
7- 7 مروج الذهب، علي بن الحسين بن علي المسعودي، المتوفى سنة 346؛ 3: 67.
8- 8 مروج الذهب، المسعودي 3: 69.

ص: 118

أما تجاوزه على الكعبة وحرمتها، فانه أمر مسلم بن عقبة المري- إن أدركته المنية- أن ينصِّب بعده الحصين؛ ليضرب الكعبة. وكان ابن الزبير قد التجأ إليها. وقد نصبَ الحصين فيمن معه من أهل الشام المجانيق والعرادات على المسجد من الجبال ... فتواردت أحجار المجانيق والعرادات على البيت، ورمى مع الأحجار بالنار والنفط ومشاقات الكتان وغير ذلك من المحروقات، وانهدمت الكعبة ...» (1).

«وليزيد وغيره أخبار عجيبة، ومثالب كثيرة، من شرب الخمر، وقتل ابن بنت الرسول، ولعن الوصي، وهدم البيت واحراقه، وسفك الدماء، والفسق والفجور وغير ذلك مما قد ورد فيه الوعيد باليأس من غفرانه ...» (2).

هدم الكعبة على يد الحجاج وعبد الملك بن مروان:

الحجاج بن يوسف الثقفي وسبب ولوعه بسفك الدماء:

ذكر المسعودي في مروج الذهب حكاية عن الحجاج قال:

«كانت أم الحجاج عند الحارث بن كلدة، فدخل عليها في السحر، فوجدها تتخلل، فبعث إليها بطلاقها، فقالت: لِمَ بعثت إليَّ بطلاقي؟ ألشي ء رابك مني؟ قال: نعم ... دخلتُ عليك عند السحر وأنت تتخللين، فإنْ كنتِ بادرتِ الغداء فأنت شرهة، وإن كنتِ بُتِّ والطعام بين أسنانك فأنتِ قذرة، فقالت: كلّ ذلك لم يكن، لكني تخللتُ من شظايا السواك. فتزوجها بعده يوسف بن أبي عقيل الثقفي أبو الحجاج، فولدت له الحجاج بن يوسف مشَوَّهاً لا دبرَ له، فثقب عن دبره، وأبى أنْ يقبل ثدي أمِّهِ أو غيرها، فأعياهم أمره، فيقال: إنّ الشيطان تصوَّر لهم فيصورة الحارث بن كلدة فقال: ما خبركم؟ فقالوا: ابنٌ ولد ليوسف من الفارعة- وكان اسمها- وقد أبى أن يقبل ثدي أمّه أو غيرها. فقال: اذبحوا جدياً


1- 1 مروج الذهب، المسعودي 3: 71.
2- 2 مروج الذهب، المسعودي 3: 72.

ص: 119

أسود وأولغوه دمه، فإذا كان في اليوم الثاني فافعلوا به كذلك، فإذا كان في اليوم الثالث فاذبحوا له تيساً أسود وأولغوه دمه، ثم اذبحوا له أسود، فأولغوا دمه، واطلوا به وجهه فإنّه يقبل الثدي في اليوم الرابع. قال: ففعلوا به ذلك، فكانَ بعدُ لا يصبر عن سفك الدماء لما كان منه في بَدءِ أمره، هذا وكان الحجاج يُخبر عن نفسه أنّ أكثر لذّاته سفك الدماء، وارتكاب أمور لا يقدمُ عليها غيره، ولا سبقَ إليها سواه» (1).

أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان في سطور:

1- «بويع بعهدٍ من أبيه في خلافة ابن الزبير فلم تصحّ خلافته» (2).

2- «قتل ابن الزبير سنة ثلاث وسبعين ... وفي هذا العام هدم الحجاج الكعبة» (3).

3- «دسّ على ابن عمر مَنْ طعنه بحربةٍ مسمومة فمرض منها ومات» (4).

4- «وفي سنة أربع وسبعين سار الحجاج إلى المدينة، وأخذ يتعنَّت على أهلها، ويستخفُّ ببقايا مَنْ فيها منصحابة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، وختم في أعناقهم وأيديهم يُذلّهم بذلك ... فإنّا للَّه وإنّا إليه راجعون» (5)

5- «كان عبد الملك أبخر الفم» (6) وكان يُلقب بأبي الذّبان، فمما قيل: إنَّ الذباب إذا مرّ على رأس عبد الملك سقط ميّتاً، بسبب شدّة رائحة فمه الكريهة.

6- «كان عبد الملك بن مروان كثيراً ما يجلس إلى أمّ الدرداء، فقالت له مرّة: بلغني يا أمير المؤمنين أنك شربت الطلاء بعد النسكِ والعبادة، قال: إيْ واللَّه، والدماء قد شربتها» (7).

7- «قال ابن أبي عائشة: أفضى الأمر إلى عبد الملك والمصحفُ في حجره، فأطبقه وقال: هذا آخر العهد بك» (8) وفي رواية أخرى قال: هذا فراقُ بيني وبينك.


1- 1 مروج الذهب، المسعودي 3: 125.
2- 2 تاريخ الخلفاء، جلال الدين السيوطي: 171.
3- 3 المصدر نفسه.
4- 4 المصدر نفسه.
5- 5 المصدر نفسه.
6- 6 تاريخ الخلفاء، جلال الدين السيوطي: 172.
7- 7 المصدر نفسه.
8- 8 تاريخ الخلفاء، جلال الدين السيوطي: 174.

ص: 120

8- «قال العسكري: وأولُ خليفة بخل عبد الملك وكان يسمى «رَشَحَ الحجارة» لبخله ويكنّى «أبا الذبان» لبخره» (1).

9- «أول من نهى عن الأمر بالمعروف» (2).

10- خطب على الناس يوماً فتهدّد وأزبد وأرعد، وفي نهاية خطبته قال:

«واللَّه، لا يأمرني أحد بتقوى اللَّه بعد مقامي هذا إلّاضربتُ عنقه، ثمّ نزل» (3).

11- لما حضر عبد الملك الموتُ دخل عليه ابنه الوليد وهو يبكي فقال عبد الملك: ما هذا أتحنُّ حنين الأَمة؟ إذا أنا متّ فشمِّر، وائتزر، والبس جلد النمر، وضع سيفك على عاتقك، فمن أبدى ذات نفسه لك فاضرب عنقه، ومن سكت مات بدائه (4).

هذا هو عبد الملك بن مروان ... قليل من كثير ... وهذا هو الحجاج سيئة من سيئاته و «لو لم يكن من مساوئ عبد الملك إلّاالحجاج- وتوليته إياه على المسلمين وعلى الصحابة- رضي اللَّه عنهم- يهينهم ويذلهم قتلًا وضرباً وشتماً وحبساً، وقد قتل من الصحابة وأكابر التابعين ما لا يُحصى، فضلًا عن غيرهم، وختم في عنق أنسٍ وغيره من الصحابة ختماً يزيد بذلك ذلَّهم- فلا رحمة اللَّه ولا عفا عنه» (5) فلو لم يكن من مساوئه إلّاهذا لكفاه.

هدم عبد الملك والحجاج للكعبة:

بعد هذا التمهيد الوجيز عن حياة عبد الملك والحجاج، التي يمكن أن تكون مبرراً لهما في ضرب الكعبة، وهدمها كما يقول علماء النفس.

وقد تحدّث ابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ في حوادث سنة ثلاث وسبعين، وابن كثير في البداية والنهاية، والطبري في تاريخ الأمم والملوك، والفاكهي في كتابه المنتقى في أخبار أمّ القرى، والعلامة الحبر الشيخ عبد الحسين


1- 1 المصدر نفسه.
2- 2 المصدر نفسه.
3- 3 تاريخ الخلفاء، السيوطي: 175.
4- 4 تاريخ الخلفاء، السيوطي: 176.
5- 5 المصدر نفسه.

ص: 121

الأميني في كتابه شهداء الفضيلة. كلُّ هؤلاء تحدّثوا عن تهديم الكعبة، والاعتداء على حرمتها بيد الطاغية الحجاج وسيده عبد الملك بن مروان ومفاد ذلك:

أنّ عبد الملك بن مروان بعث الحجاج بن يوسف الثقفي للقبض على عبد اللَّه بن الزبير، سنة 73 هجرية، فالتقى الفريقان في الطائف، فاقتتلوا هناك قتالًا شديداً، بعدها هرب ابن الزبير إلى مكة، وتحصّن فيها، فقصده الحجاج، وحاصره فيها فضيّق على أهلها، ونصب المنجنيق في أعالي جبل أبي قبيس حتى يُجبر ابن الزبير، ومَنْ في طاعته، على التسليم والدخول في طاعة أميره عبد الملك، وبعد أن أبى ابنُ الزبير التسليمَ وقد تحصن بالبيت الحرام، جعل الحجاج ومرتزقته يرمون الكعبة، والبيت الحرام بالمنجنيق، فقتلوا خلقاً كثيراً، وحبس عنهم الطعام والماء، فكانوا يشربون من ماء زمزم، وصارت الحجارة تقع في الكعبة فتهدَّم البيت بقذائف الحجاج ....

حتى سقط ابن الزبير إلى الأرض، فأسرعوا إليه فقتلوه وجاءوا برأسه إلى الحجاج. بعدهاصُلب ابن الزبير بعد قتله منكّساً، وأرسل رأسه لعبد الملك بن مروان فطيفَ به في البلدان (1).

الوليد بن يزيد بن عبد الملك والبيت الحرام:

إنه ... «الخليفةُ الفاسق .. كان فاسقاً، شريباً للخمر، منتهكاً حرمات اللَّه، أراد الحج ليشرب فوق ظهر الكعبة، فمقته الناس لفسقه وخرجوا عليه، فقتل في جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة هجرية» (2).

القرامطة والبيت المفجوع:

في سنة 317 ه سيّر المقتدر باللَّه العباسي رَكْبَ الحاج مع منصور الديلمي


1- 1 الكامل في التاريخ، ابن الأثير 4: 121- 126 حوادث سنة 73 ه- البداية والنهاية، ابن كثير 8: 329- المنتفى في أخبار أم القرى، محمد بن إسحاق بن العباس الفاكهي المتوفى 272،ص 170- شهداء الفضيلة، العلامة الحبر الشيخ عبد الحسيني الأميني:ص 193.
2- 2 تاريخ الخلفاء للسيوطي: 201.

ص: 122

فوصلوا مكة سالمين. وما إن طاب لهم المقام حتّى وافاهم عدوّ اللَّه أبو طاهر القرمطي بمكة يوم التروية فنهب هو وأصحابه أموال الحجاج، وقتلوهم قتلًا ذريعاً في المسجد الحرام، وفي البيت نفسه، وطرح القتلى في بئر زمزم، ودفن الباقين في المسجد الحرام بلا غسلٍ وكفن. ثم ضرب الحجر الأسود بدبوس فكسره واقتلعه، وأقام بمكة أحد عشر يوماً، ثمّ رحل مع أصحابه إلى هجر، وبقي الحجر الأسود عندهم أكثر من عشرين عاماً، وقيل: إنه لما أخذ الحجر الأسود هلك تحته أربعون جملًا من مكة إلى هجر، فلما أُعيد حُمل على قعودٍ هزيلٍ فسمِنَ.

قال محمد بن الربيع بن سليمان: كنتُ بمكة سنة القرامطة، فصعد رجلٌ لقلع الميزاب، وأنا أراه، فعيلصبري، وقلت: يا ربّ ما أحلمك! فسقط الرجل على دماغه فمات. وقال أبو الفدا: وانتهب القرمطي أموالهم واستباح قتالهم، فقتل في رحاب مكة وشعابها، والمسجد الحرام وفي جوف الكعبة من الحجاج خلقاً كثيراً. وجلس أميرهم أبو طاهر- لعنه اللَّه- على باب الكعبة والرجال تُصرع حوله، والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام في الشهر الحرام في يوم التروية الذي هو أشرف الأيام وهو يقول:

أنا للَّه وباللَّه أنا يخلقُ الخلقَ وأفنيهم أنا فكان الناس يفرّون منه فيتعلّقون بأستار الكعبة فلا يجدي ذلك عنهم شيئاً بل يُقتلون.

ودخل رجلٌ من القرامطة إلى حاشية الطواف، وهو راكب سكران قبال فرسه عند البيت، ثم ضرب الحجر بدبّوس فكسره، ثم اقتلعه، وألحد هذا اللعين في المسجد الحرام إلحاداً لم يسبقه إليه أحد ولا يلحقه فيه. والذي حملهم على ذلك شدّة كفرهم وغلوّ زندقتهم. وكانت إقامة القرمطي بمكة أحد عشر يوماً، فلما عاد القرمطي إلى بلاده رماه اللَّه- تعالى- في جسده، حتّى طال عذابه، وتقطّعت

ص: 123

أوصاله وأطرافه وهو ينظر إليها، وتناثر الدود من لحمه (1).

نكتفي بهذا القدر من الجرائم والمذابح الدامية التي راح ضحيّتها الآلاف، والاعتداءات على الأماكن المقدّسة، وعلى الكعبة المعظمة بالخصوص، وانتهاك حرمتها.

الهوامش:

القبلة والطواف


1- 1 الكامل في التاريخ، ابن الأثير 7: 53- 54 حوادث سنة 317 ه- تاريخ الخلفاء، السيوطي: 307- البداية والنهاية، ابن كثير 11: 160- شهداء الفضيلة، العلامة الأميني: 194- معجم البلدان، ياقوت الحموي المتوفى سنة 626 ه، 2: 224- دائرة المعارف، فريد وجدي 7: 713- الاعلام بأعلام بيت اللَّه الحرام، محمد بن أحمد بن محمد النهرواني المتوفى سنة 990 ه،ص 163- 166.

ص: 124

ص: 125

القبلة والطواف

محمد مهدي الآصفي

قيمة الكعبة:

شرّف اللَّه «الكعبة» وجعلها مثابةً للناس يثوبون إليها، ويجتمعون حولها، ويجدون عندها الأمن الذي يفتقدونه في حياتهم، «وإذ جعلنا البيت مثابةً للناس وأمناً ...» (1).

وهي بيت اللَّه شرّفها اللَّه- تعالى- وخصّها لنفسه، وجعلها مباركةً، وهدًى للعالمين.

وخصّ اللَّه- تعالى- الناس من بين سائر خلقه ببيته الذي أكرمه وخصّه بنفسه، فقال تعالى: «انّ أوّل بيت وضع للناس لَلَّذي ببكة مباركاً وهدًى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومَن دخله كان آمناً ...» (2).

وجعل اللَّه الكعبة قياماً للناس، تقوّم علاقتهم باللَّه وحركتهم وكدحهم


1- 1 البقرة: 125.
2- 2 آل عمران: 96.

ص: 126

إليه، وتقوّم معاشهم ومعادهم، ودنياهم وآخرتهم، وتنظّم علاقتهم باللَّه- تعالى- وبأنفسهم. «جعل اللَّه الكعبة البيت الحرام قياماً للناس» (1).

فضل الكعبة:

وقد خصّ اللَّه- تعالى- الكعبة بفضلٍ عظيم، وخصّ أمير المؤمنين عليه السلام في فضل الكعبة:

أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ، سُبْحَانَهُ، اخْتَبَرَ الْأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَصَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، الَى الْآخِرِينَ مِنْ هذَا الْعَالَمِ؛ بِأَحْجَارٍ لَاتَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَسْمَعُ، فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ «الَّذِي جَعَلَهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً». ثُمَّ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ حَجَراً، وَأَقَلَّ نَتَائِقِ الدُّنْيَا مَدَراً، وَأَضْيَقِ بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ قُطْراً.

بَيْنَ جِبَالٍ خَشِنَةٍ، وَرِمَالٍ دَمِئَةٍ، وَعُيُونٍ وَشِلَةٍ، وَقُرًى مُنْقَطِعَةٍ؛ لَايَزْكُو بِهَا خُفٌّ، وَلَا حَافِرٌ وَلَا ظِلْفٌ، فَصَارَ مَثَابَةً لِلْمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ، وَغَايَةً لِمُلْقَى رِحَالِهِمْ. تَهْوِي إِلَيْهِ ثِمَارُ الْأَفْئِدَةِ مِنْ مَفَاوِزِ قِفَارٍ سَحِيقَةٍ وَمَهَاوِي فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ، وَجَزَائِرِ بِحَارٍ مُنْقَطِعَةٍ، حَتَّى يَهُزُّوا مَنَاكِبَهُمْ ذُلُلًا يُهَلِّلُونَ (يهلّون) للَّهِ حَوْلَهُ، وَيَرْمُلُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ شُعْثاً غُبْراً لَهُ قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِيلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَشَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ، ابْتِلَاءً عَظِيماً، وَامْتِحَاناً شَدِيداً، وَاخْتِبَاراً مُبِيناً، وَتَمْحِيصاً بَلِيغاً، جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَباً لِرَحْمَتِهِ، وَوُصْلَةً الَى جَنَّتِهِ. وَلَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ، وَمَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ، بَيْنَ جَنَّاتٍ وَأَنْهَارٍ، وَسَهْلٍ وَقَرَارٍ، جَمَّ الْأَشْجَارِ دَانِيَ الثِّمَارِ، مُلْتَفَّ؟؟؟؟

مُتَّصِلَ الْقُرَى، بَيْنَ بُرَّةٍ سَمْرَاءَ، وَرَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، وَأَرْيَافٍ مُحْدِقَةٍ، وَعِرَاضٍ مُغْدِقَةٍ، وَرِيَاضٍ نَاضِرَةٍ، وَطُرُقٍ عَامِرَةٍ، لَكَانَ قَدْصَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ الْبَلَاءِ. وَلَوْ كَانَ الْأَسَاسُ الْمَحْمُولُ عَلَيْهَا،


1- 1 المائدة: 97.

ص: 127

وَالْأَحْجَارُ الْمَرْفُوعُ بِهَا بَيْنَ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ. وَيَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، وَنُورٍ وَضِيَاءٍ لَخَفَّفَ ذلِكَ مُصَارَعَةَ الشَّكِّ فِي الصُّدُورِ، وَلَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ ابْلِيسَ عَنِ الْقُلُوبِ، وَلَنَفَى مُعْتَلَجَ الرَّيْبِ مِنَ النَّاسِ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ، وَيَتَعَبَّدُهُمْ بِأَنْوَاعِ الْمَجَاهِدِ، وَيَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ الْمَكَارِهِ، اخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَإِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ، وَلِيَجْعَلْ ذلِكَ أَبْوَاباً فُتُحاً الَى فَضْلِهِ، وَأَسْبَاباً ذُلُلًا لِعَفْوِهِ.

وعن أمير المؤمنين عليه السلام: «إذا خرجتم حجاجاً إلى بيت اللَّه- عزوجل- فأكثروا النظر إلى بيت اللَّه، فإنّ للَّه- عزوجل- مائة وعشرين رحمة عند بيته الحرام، منها ستون للطائفين، وأربعون للمصلّين، وعشرون للناظرين» (1).

وعن معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللَّه، قال: «للَّه- تبارك وتعالى- حول الكعبة عشرون ومائة رحمة، منها ستون للطائفين، وأربعون للمصلّين، وعشرون للناظرين» (2).

وعن إسحاق بن عمار، قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: «يا إسحاق مَن طاف بهذا البيت طوافاً واحداً كتب اللَّه له ألف حسنة، ومحا عنه ألف سيئة، أفلا أخبرك بما هو أفضل من هذا؟ قلت: بلى. قال: من قضى لأخيه المؤمن حاجة كتب اللَّه له طوافاً وطوافاً حتّى بلغ عشراً» (3).

دروس من الكعبة:

ل (الكعبة) المشرّفة توجيهان في حياة المسلمين وهما: (القبلة) و (الطواف).

وكلّ منهما يرمز إلى معنى يختلف عن المعنى الآخر، وسوف نتحدّث إن شاء اللَّه عن كلّ منهما، ونبدأ بالقبلة.


1- 1 بحار الأنوار 99: 202.
2- 2 بحار الأنوار 99: 202.
3- 3 بحار الأنوار 99: 203.

ص: 128

1- القبلة

«فلنولّينّكَ قِبلةً ترضاها» (1) للقبلة دور مزدوج. فهي أولًا توجه المسلمين إلى اللَّه في كلّ يوم خمس مرّات على الأقل.

وتوحّد جهة المسلمين بهذا الاتجاه ثانياً.

ولابدّ من بعض التفصيل في هذا وذاك:


1- 1 البقرة: 144.

ص: 129

الدور الأول للقبلة: تسليم الوجوه إلى اللَّه:

استقبال الكعبة في الصلاة يرمز إلى تسليم الوجوه للَّه تعالى. وتسليم الوجه للَّه بمعنى أن يسلّم الانسان جهة حركته ومساره للَّه تعالى، ويعطي وجهه للَّه.

أنحاء التسليم:

والتسلم للَّه في حياة الانسان على ثلاثة أنحاء:

1- التسليم لقضاء اللَّه وقدره؛ بمعنى أن لا يعترض الانسان ولا يتذمر لما يقدر اللَّه- تعالى- له من القضاء والقدر في السرّاء والضراء. وفوق درجة التسليم هذه درجة (الرضا بقضاء اللَّه وقدره) وهو من أسمى مراتب العبودية واليقين.

2- التسليم لدين اللَّه وحكمه وشريعته، بمعنى الطاعة والانقياد والاستسلام لأمر اللَّه وحكمه، والالتزام بحدود اللَّه- تعالى- بصورة دقيقة، وهو (التقوى). وهذا التسليم يختلف عن التسليم الأول، فإنّ التسليم هنا يتمّ بالانقياد الطوعي والإرادي لحكم اللَّه تعالى وحدوده ... بينما التسليم في الفقرة الأولى بمعنى عدم الاعتراض والتذمر من قضاء اللَّه- تعالى- وقدره والرضا به. أما القضاء والقدر فينزلان على الإنسان بغير إرادته واختياره، ويقهرانه على ذلك، أراد ذلك أو لم يرد.

3- أن يسلّم الإنسان وجهه للَّه، بمعنى أن يجعل وجه اللَّه- تعالى- ومرضاته غايته في حركته، ويسعى إليه، ويكون همّه تحقيق مرضاة اللَّه، والتقرّب إليه وابتغاء وجهه الكريم.

وهذا التسليم يختلف عن التسليم في الفقرة الثانية، ففي الفقرة الثانية يأتي التسليم بمعنى الطاعة، وتجنّب المعصية، والعمل والحركة ضمن حدود اللَّه تعالى، وعدم تعدى الحدود الإلهية والاجتناب عن انتهاك حرمات اللَّه.

ص: 130

بينما التسليم في الفقرة الثالثة مسألة نفسية وذهنية وهي ابتغاء وجه اللَّه ومرضاته.

*** والتسليم للَّه بالمعنى الثالث هو رسالة القبلة، وهو أحد الدورين الذين تنهض بهما (الكعبة) في حياة الإنسان. قال تعالى: «فإن حاجّوك فقل أسلمت وجهي للَّه، ومَن اتّبعَنِ ...» (1)

. و «بلى مَن أسلم وجهه للَّه وهو محسن فله أجره عند ربه ...» (2)

، و «ومَن أحسنُ ديناً ممن أسلم وجهه للَّه وهو محسن ...» (3)

، و «ومَن يُسلم وجهه إلى اللَّه وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى ...» (4).

وكما ليس للإنسان إلّاقلب واحد «ما جعل اللَّه لرجل من قلبين في جوفه» (5)

كذلك ليس للإنسان إلّاوجه واحد. وهذا الوجه إمّا أن يكون إلى اللَّه، أو إلى جهة أخرى غير جهة اللَّه.

وقد يتمكن الإنسان في وقت واحد أن يقوم بعملين (يمشي ويتكلّم مثلًا)، ولكن لا يمكن أن يعطي وجهه في وقت واحد إلى جهتين.

إذن معنى تسليم الوجه هو أن يكون همّ الإنسان، وغايته في حركته ومسعاه هو مرضاة اللَّه تعالى «قل إنّصلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للَّه ربّ العالمين» (6).

وتسليم الوجوه للَّه- تعالى- بهذا المعنى هو أن يضع الإنسان وجهه قبال وجه اللَّه الكريم، ويعطي وجهه للَّه. وهو بمعنى الإقبال على اللَّه في الحركة والاعراض عن غير اللَّه.

إذن فإنّ (وجه اللَّه الكريم) ينظم مسير الإنسان وحركته، إذا أعطاه الإنسان وجهه وسلّمه ناصيته.

وقد يعبّر القرآن عن هذا المعنى ب (إقامة الوجه للدين).


1- 1 آل عمران: 20.
2- 2 البقرة: 112.
3- 3 النساء: 125.
4- 4 لقمان: 22.
5- 5 الأحزاب: 4.
6- 6 الأنعام: 162.

ص: 131

«وأن أقم وجهك للدين حنيفاً ولا تكوننّ من المشركين» (1).

وإقامة الوحدة للدين، بمعنى تسليم الوجوه وتوجيهها للَّه تعالى، فإنّ مهمة الدين في حياة الانسان هو توجيه وجه الإنسان إلى اللَّه.

الحالات الثلاث للإنسان:

وتوجيه الوجوه إلى اللَّه هي الحالة الوحيدة للاستقامة على الصراط المستقيم في حياة الإنسان. وهذه الحالة تقع مقابل حالة الإعراض والانحراف عن اللَّه ... وهما حالتان مختلفتان في حياة الإنسان.

فحالات الإنسان بالنسبة إلى اللَّه تعالى ثلاث:

1- حالة الاستقامة على الصراط المستقيم في حياة الإنسان.

2- حالة الإعراض والصدود عن اللَّه وهي حالة (المغضوب عليهم).

3- حالة الانحراف عن اللَّه، من دون إعراض وصدود، وهي حالة (الضالين).

فهذه ثلاث حالات للإنسان بالنسبة إلى اللَّه- تعالى- تشير إليها سورة الفاتحة.

والحالة الأولى هي الحالة الوحيدة للاستقامة في حياة الإنسان.

وأبعد حالات الإنسان عن اللَّه- تعالى- هي حالة الإعراض والصدود عن اللَّه، وهي حالة المغضوب عليهم ... وفي هذه الحالة يخرج الإنسان عن دائرة رحمة اللَّه الواسعة التي لا تضيق بشي ء إلّاأن يشاء اللَّه، وهي حالة السقوط والهلاك للإنسان ... وهذه الحالة تحجب الانسان عن اللَّه حجباً كاملًا، وبين هاتين الحالتين حالة الانحراف عن اللَّه، من دون إعراض وصدود، وهي حالة الضالين. وهذه الحالة حالة منحرفة عن اللَّه، وليست على الصراط المستقيم،


1- 1 يونس: 105.

ص: 132

ولكنها لا تحمل إعراضاً وصدوداً عنه تعالى، فهي لذلك تقع في دائرة رجاء رحمته عزوجل.

واستقبال القبلة يرمز إلى هذه الحالة الوحيدة للاستقامة على الصراط المستقيم، وهي الحالة التي يوجه الإنسان وجهه ويسلمه للَّه- تعالى- وهذا هو الدور الأوّل للقبلة.

الدور الثاني للقبلة:

والدور الثاني للقبلة أنّها توجّه وجوه الناس جميعاً إلى اللَّه. وهذه الصفة (الاجتماعية) في تسليم الوجوه للَّه تعطي الإنسان قرباً وسرعةً وإقبالًا أكثر في حركته إلى اللَّه.

ومن عجب، أنّ حركة الإنسان إلى اللَّه وسط حركة جماهير المؤمنين إلى اللَّه أسرع وأقوى وأرضى إليه تعالى، من أن يتحرّك الإنسان وحده إلى اللَّه إلّاأن يكون أمّة لوحده، كما كان إبراهيم عليه السلام أُمّةً.

واللَّه تعالى يحب أن يستقبل عباده مجتمعين، فإذا أقاموا الصلاة، أقاموها جميعاً، وإذا توجهوا إلى وجهه الكريم بوجوههم توجهوا جميعاً، وإذاصامواصاموا جميعاً، وإذا أفطروا أفطروا جميعاً. وهذه الصفة (الاجتماعية) أمر أصيل وجوهري في هذا الدين. والقبلة تحقّق هذه الصفة الاجتماعية في تسليم الوجوه إلى اللَّه، إضافةً إلى أصل التسليم.

2- الطواف

«وليطوفوا بالبيت العتيق» (1) والدور الثاني للكعبة أنّ هذه الغاية (وهي مرضاة اللَّه، ووجهه الكريم)


1- 1 الحج: 29.

ص: 133

تستوعب كلّ جهد الإنسان وهمّه وحركته، وهو ما يرمز إليه (الطواف).

فإنّ (القبلة) توجّه الإنسان إلى اللَّه فيصلاته. وهذه مهمّةصعبة وشاقّة.

إلّا أنّ هذه المهمّة- في حدود القبلة- لا تستوعب كلّ جهد الإنسان وحركته، فإنّ الإنسان يصلّي، ويسعى ويتحرّك في مناكب الأرض ابتغاءً للرزق، ويتزوّج، ويتعلّم، ويعلّم، ويحب، ويبغض، ويذهب إلى السوق، ويعود إلى البيت، وهو لا يطلب في هذه الحركة الواسعة وجه اللَّه، ولا يطلب إلّارزقه ولذّته وحاجاته، في غير معصية اللَّه، وليس عليه من بأس في ذلك، إذا كانت هذه الحركة في غير معصية اللَّه. غير أنّ شطراً كبيراً من جهد الإنسان وحركته واهتماماته يقع خارج هذه الجهة (مرضاة اللَّه ووجه اللَّه) دون أن تعارضه. ولا يستوعب وجهُ اللَّه ومرضاتُه كلَّ همومه وحركته وسعيه. ولا بأس على الإنسان في ذلك، غير أنّ حركته في هذه الحالة إلى اللَّه تكون حركة بطيئة. يتحرّك إلى اللَّه إذا أقبل بوجهه على اللَّه فيصلاته، ويتوقّف عن الحركة إلى اللَّه إذا قضىصلاته، وذهب لغيرها من شؤونه في الحياة، كالمجتمعات المسيحية المعاصرة، فانّ التوجه إلى اللَّه في هذه المجتمعات لا يستوعب إلّاجزءاً يسيراً من شخصية الناس وحركتهم في ساعة أو بضع ساعة من أيام الآحاد في الكنيسة، فإذا قضوا هذه الساعة في الكنيسة، وانصرفوا إلى سائر شؤونهم في الحياة، انصرفوا عن اللَّه إلى غيره من شؤونهم من حلال أو حرام.

وأقل ما في ذلك أنّ حركة الإنسان إلى اللَّه- تعالى- تكون بطيئة، ومنقطعة، ومثل هذه الحركة البطيئة المتقطعة، لا تكاد أن توصل الإنسان إلى (لقاء اللَّه).

و (الطواف) يعلمنا أنّ من الممكن أن يستوعب (وجهُ اللَّه) و (مرضاةُ اللَّه) كلّ جهد الإنسان وحركته وسعيه في السوق والبيت والمسجد والمدرسة وساحات الحرب وميادين السلم دون أن يعطّل شيئاً من حركته ونشاطه.

ص: 134

الحالات الثلاث للانسان:

ولابدّ من توضيح وتفسير لهذا الأمر فنقول:

انّ للإنسان تجاه اللَّه ثلاث حالات:

1- حالة الشرك.

2- حالة التوحيد.

3- حالة الإخلاص.

وفيما يلي توضيح لهذه الحالات:

1- الشرك: وهي أنّ يحكّم الإنسان أكثر من عامل على سلوكه، بمعنى أن يحكّم اللَّه- تعالى- على نفسه، ويحكّم الهوى والطاغوت في الوقت نفسه على نفسه، فيخضع في سلوكه لهذه العوامل جميعاً وليس لحكم اللَّه- تعالى- وأمره فقط، فيطيع اللَّه تعالى، ويطيع الهوى والطاغوت في معصية اللَّه، ويُحِلّ ما أحلّوه له ويحرّم ما حرّموه عليه في مقابل ما أحلّ اللَّه وما حرّم اللَّه.

وهذه الطاعة والانقياد للهوى والطاغوت ... تأتي في حياة الإنسان في عرض طاعة اللَّه، وبمعصية اللَّه ومخالفته.

والقرآن يسمّي هذه الطاعة التي تأتي في عرض طاعة اللَّه، وتتمّ بمعصية اللَّه- تعالى- ومخالفته ب (الشرك).

فيقول- تعالى- في طاعة الهوى: «أَرأيت من اتّخذ إلهه هواه أَفأنت تكون عليه وكيلًا» (1)

، «أَفرأيت من اتّخذ إلهة هواه وأضلّه اللَّه على علم ...» (2).

وطاعة الهوى هو تأليه الهوى، ولا نعرف نحن معنى آخر لتأليه الهوى غير الطاعة والتسليم لعامل الهوى: هذا في طاعة الهوى.

وأمّا في طاعة الطاغوت فيقول تعالى: «اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللَّه والمسيح بن مريم، وما أُمروا إلّاليعبدوا إلهاً واحداً» (3).


1- 1 الفرقان: 43.
2- 2 الجاثية: 23.
3- 3 التوبة: 31.

ص: 135

والعبودية هنا الطاعة، فإنّ النصارى لم يزيدوا على طاعة أحبارهم ورهبانهم فيما أحلّوا لهم وحرّموا عليهم، فعبادتهم لهم هي تحكيم أوامرهم ونواهيهم عليهم.

وقد روي في ذلك أنّ عدي بن حاتم قال لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله: إنّا لم نعبد أحبارنا ورهباننا؟ فقال له رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: أَلم تحلّوا ما أحلّوه، وتحرّموا ما حرّموه؟

2- التوحيد: وهو أن يحكّم الإنسان على نفسه حكم اللَّه- تعالى- فقط، ويأخذ بما أحلّ اللَّه- تعالى- وينتهي عمّا حرّم اللَّه- تعالى-، ولا يحلّل غير ما أحلّ اللَّه، ولا يحرّم غير ما حرّم اللَّه. ويجعل الإنسان كلمة اللَّه هي العليا في حياته، وأمر اللَّه ونهيه هو النافذ على سلوكه، يمتثل ما أمر اللَّه تعالى به وينتهي عمّا نهى اللَّه عنه.

وهذا هو (التوحيد) و (التقوى).

ولكن ليس بالضرورة أن يكون كلّ عمله وتحرّكه وسعيه لوجه اللَّه، وابتغاءً لمرضاة اللَّه، فليس ممّا يضر ب (التوحيد) أن يذهب الإنسان إلى السوق ابتغاءً للرزق، لا ابتغاءً لوجه اللَّه ومرضاته، وإنّما يضرّ بالتوحيد أن يجعل عامل الرزق حاكماً على سلوكه في عرض حاكمية اللَّه، ويأخذ بما يتطلّبه الرزق محلّلًا له، وإن كان في ذلك معصية اللَّه ومخالفته.

والخلاصة: أنّ (التوحيد) هو قبول الإنسان سيادةَ اللَّه- تعالى- وولايتَه المطلقة على حياته. و (التقوى) هو تحكيم سيادة شريعة اللَّه وحدها على سلوكه.

فلا يرتكب الإنسان ما ينهى اللَّه عنه، ولا يترك عمّا يأمر اللَّه تعالى به، وليس من الضروري في (التوحيد) و (التقوى) أن يكون سلوك الانسان كلّه- حتّى في دائرة المباح- لوجه اللَّه وابتغاء مرضاته.

3- الإخلاص: وهو فوق مرتبة التوحيد، وتتحقّق هذه الحالة عندما

ص: 136

يمحّض الانسان نفسه وحياته، وسلوكه كلّه للَّه، وابتغاءً لمرضاته ووجهه، وتستوعب مرضاةُ اللَّه كلَّ حركته ونشاطه وسلوكه، وتصبغ هذه الغاية (مرضاة اللَّه) كلَّ سلوكه ونشاطه وحركته، أولئك المخلَصون. والإخلاص بهذا المعنى هو الدعوة الثانية للأنبياء بعد دعوة (التوحيد). والإخلاص ليس بمعنى أنّ يعطّل الإنسان نشاطه وسعيه في مناكب الحياة، في السوق والبيت والمزرعة وساحات الحرب والإدارة والسياسة، ولكن بمعنى أن يطوّع الإنسان نشاطه وحركته في هذه الساحات كلّها للَّه تعالى.

ومن السهل أن يعطّل الإنسان شطراً كبيراً من نشاطاته وسعيه، لئلّا يكون سعيه وحركته لغير اللَّه، ولكن من الصعب أن يطوّع الإنسان نشاطه وحركته كلّها للَّه تعالى. ودعوة الإسلام هو أن يطوّع الإنسان حركته وسعيه للَّه، وليس أن يعطّل الإنسان نشاطه وحركته.

وهذان منهجان في التربية الروحية: التعطيل والتطوّع.

والأوّل منهج سلبي يرفضه الإسلام، والثاني منهج ايجابي يدعو إليه الإسلام.

والطواف يرمز إلى هذا الشأن الصعب في علاقة الإنسان باللَّه تعالى. ففي الطواف يطوف الإنسان دورة كاملة حول الكعبة، في هذه الدورة يتحرّك كتفه الأيمن حول محيط دائرة كاملة من الشرق إلى الغرب، ومن الجنوب إلى الشمال وفيما بين هذه الجهات جميعاً، ولا تبقى نقطة على هذا المحيط الدائري الشامل إلّا ويقطعه الإنسان بكتفه الأيمن. وهذا المحيط يساوي 3600 ولا نعرف جهة هندسية أوسع وأشمل من 3600 (أي محيط الدائرة).

وبينما يتحرّك كتف الإنسان الأيمن حول هذه الدائرة الشاملة يثبت كتفه الأيسر على مركز الدائرة وهو الكعبة، ولا يحيد عنه، في كلّ هذه الحركة الدائرية.

ص: 137

ولهذا التركيز والتثبيت إلى جانب تلك الحركة الشاملة معنى عميق في حياة الإنسان المسلم. فإنّ من الممكن أن يقوم الإنسان بكامل النشاط المباح، الذي يقوم به سائر الناس في مناكب الحياة المختلفة، دون أن ينحرف حتّى لحظة واحدة عن ابتغاء وجه اللَّه ومرضاته في شي ء من ذلك. فيذهب إلى السوق للَّه، ويسعى في مناكب الحياة للَّه، ويتزوّج للَّه، ويؤمّن معيشة أهله للَّه، ويعمل في ميادين السياسة للَّه، ويقاتل للَّه، ويدافع للَّه. وإذا أحبّ أحبّ للَّه، وإذا أبغض أبغض للَّه، وإذا سرّ سرّ للَّه، وإذا غضب غضب للَّه.

فلا تفوت الإنسان في هذه الحركة الواسعة حركة ولا نشاط ممّا ينشط له الناس في مساحة المباح، ولا ينحرف الإنسان في جزء من هذا النشاط الواسع عن ابتغاء وجه اللَّه ومرضاته، وعندئذٍ يكون مخلَصاً للَّه، أي خالصاً، لا يشوب نفسه ونيّته شي ء لغير اللَّه.

يقول تعالى عن رسوله وكليمه موسى بن عمران: «واذكر في الكتاب موسى إنّه كان مُخْلَصاً وكان رسولًا نبياً» (1).

ويقول تعالى: «وما تُجزون إلّاما كنتم تعملون إلّاعبادَ اللَّه المخلَصين» (2).

«فانظر كيف كان عاقبة المنذَرين إلّاعبادَ اللَّه المخلَصين» (3).

و (المخلَص والمخلَصين) في هذه الآيات بفتح اللام بمعنى الخالص، الذي خلصت نفسه ونيّته من كلّ شائبة لغير اللَّه تعالى.

ففي تفسير قوله تعالى: «إلّامَن أتى اللَّه بقلب سليم» (4).

عن الامام الصادق عليه السلام، والراوي سفيان بن عُيينَة، قال: سألته عن قول اللَّه «إلّامَن أتى اللَّهَ بقلبٍ سليم» قال: «القلبُ السليم الذي يلقى ربَّه وليس فيه أحدٌ سواه. قال: وكلُّ قلب فيه شركٌ أو شك فهو ساقط. وإنّما أرادوا الزهد


1- 1 مريم: 51.
2- 2 الصافات: 40.
3- 3 الصافات: 74.
4- 4 الشعراء: 89.

ص: 138

في الدنيا لِتفرغَ قلوبهم للآخرة» (1).

واذا أخلص الإنسان نفسه للَّه، وكان كلّ سعيه وحركته ونشاطه للَّه، فانّ كلّ شي ء في حياته يقربه إلى اللَّه- تعالى- ... ذلك انّه مقبل بوجهه إلى اللَّه، كادح للقاء اللَّه كدحاً في كلّ عمل وحركة ونشاط، ولا يتوقّف عن الكدح والحركة والإقبال على اللَّه في سعي أو عمل، مهما كان نوع هذا السعي والعمل، في ساحات السياسة أو القتال، وفي السراء أو الضراء، وفي السوق أو البيت أو المسجد ... كلّ ذلك يقربه إلى اللَّه. ويكون مع الصادقين في مقعدصدق عند مليك مقتدر.

*** وقبل أن ننهي هذا الدرس عن (الطواف) نضيف إلى خصائص الطواف خصلة أخرى وهي الصفة الاجتماعية في الطواف، إنّ اللَّه تعالى يحبّ أن يقبل عباده إليه مجتمعين، ويكدحون ويتحرّكون إلى وجهه الكريم فيصفوف متراصة، وحشود بشرية كبيرة من المؤمنين.

وهذه الخصلة الاجتماعية في الحركة إلى اللَّه تعطي لهذه الحركة سرعة وقوّة ومتانة واستحكاماً أكثر. وشتّان بين أن يعبد الإنسان لوحده اللَّه- تعالى-، أو يعبده في وسط حشد من المؤمنين، فإنّ العبادة الثانية أرضى وأقرب إلى اللَّه تعالى، وأسرع إلى القبول ونيل مرضاة اللَّه من الأولى.

وفي الطواف نجد هذه الخصلة الاجتماعية بوضوح. حيث يدعو اللَّه- تعالى- المؤمنين لطواف هذا البيت في أيام معدودات معلومات من السنة، فيتزاحم المؤمنون حول البيت العتيق، ويتدافعون بطبيعة الحال ويخلصون إلى اللَّه في وسط هذا التدافع والتزاحم. وهو درس عجيب من دروس الطواف.

فإنّ العبادة وابتغاء مرضاة اللَّه في وسط حشود المؤمنين يستتبع، بطبيعة الحال، مثل هذا التدافع والتزاحم، والتنافس، وأحياناً التنافس السلبي، ومع


1- 1 أصول الكافي، كتاب الإيمان والكفر، باب الإخلاص، ح 5.

ص: 139

ذلك كلّه فإنّ اللَّه- تعالى- يدعونا إلى أن نسلك الطريق إليه وسط حشود المؤمنين مع هذا التزاحم والتنافس، ويدعونا إلى التسامح والتساهل والترفّع عن المشاكل التي تحدث فيما بين المؤمنين أنفسهم. ولابدّ مِن أن يحدث مثل ذلك، ولابدّ من الترفّع عنها، والتساهل فيها.

روى داود بن سرحان قال: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول: أربع لا يخلو منهنّ المؤمن أو واحدة منهنّ مؤمن يحسده، وهو أشدُّهن عليه، ومنافق يقفو أثره، أو عدو يجاهده، أو شيطان يغويه.

وللطواف في نفوسنا مشهدان:

مشهد الطواف من الداخل، ومشهد الطواف من الخارج، ومشهد الطواف في كلّ منهما يختلف عن الآخر.

فاذا أشرفنا على الطواف من الأعلى من سطح البيت الحرام، وجدنا هذا الجمهور الحاشد يدور حول البيت في حركة هادئة مريحة متّصلة مستمرّة، وكأنّ أرض المسجد الحرام تدور بهم في حركة وديعة هادئة. وهذا هو مشهد (الطواف) من الخارج، وقراءة لحركة (التوحيد) و (الإخلاص) في التاريخ من بعيد، من أعمال التاريخ.

وللطواف مشهدٌ آخر، وقراءة أخرى من الداخل، عندما ندخل في زحمة الطواف، ويعصرنا الطائفون، ونشقّ الطريق حول بيت اللَّه الحرام في زحمة الطائفين ومنافستهم، وأحياناً مضايقاتهم ومشاكساتهم. وهذا مشهد الطواف من الداخل، وكذلك قراءة من الداخل لحركة التوحيد و (الإخلاص).

فلا تكاد تخلص حركة (التوحيد) و (الإخلاص) للَّه- تعالى- في حياتنا، فيصفوف المؤمنين الموحدين والمخلَصين من هذا التزاحم والتنافس الايجابي، والسلبي أحياناً. ومع ذلك فإنّ اللَّه- تعالى- يريد منّا أن نحمل عب رسالة

ص: 140

(التوحيد) و (الإخلاص) في الحياة في وسط جمهور المؤمنين، وحشود الدعاة إلى اللَّه- تعالى-، ويطلب منّا أن نتقبل نتائج هذا التزاحم والتنافس في العمل كأمر واقع لابدّ من أن يقع، ويدعونا إلى التساهل والتسامح في هذا الأمر، وإلى الترفّع عنه ما أمكن. وهذا هو الدرس الثاني من دروس الطواف.

الهوامش:

ص: 141

مختصر معجم

مَعَالِم مَكَّة التَّاريخيّة

عاتِق بن غيْث البَلادي

أجْياد:

كَأنّه: جمع جواد، والناس تقول (جِيَاد)، كان الإسم يطلق على شعبين كبيرين من شعاب مكة، يأتي أحدهما من الجنوب، يقاسم خُمّاً الماء فيتجه شمالًا، والآخر يأتي من الشرق من جبل الأعرف، ثم يجتمعان أمام المسجد الحرام من الجنوب فيدفعان في وادي إبراهيم. و قد أصبحا اليوم مأهولين بأحياء عديدة من أحياء مكة، أشهرها: حي جياد، و المصافي، و بئر بليلة. و من جياد الكبير طريق يفرع ريع بخش- رأس جياد- ثم ينحدر في (خُمّ) فإلى بطحاء قُرَيش فَثَوْر جنوباً. قال ميمون بن قيس (الأَعشى) (1):

فما أَنت من أَهل الحُجُون ولا الصَّفا ولا لك حقُّ الشربِ من ماءِ زَمزَم

و ما جَعَل الرَّحمنُ بيتَك في العُلا بأجْيادِ غربيّ الصفا والُمحَرَّم


1- 1 ديوانه: 184.

ص: 142

و قال عمر بن أبي ربيعة (1):

هيهات من أُمَّة الوَهَّاب مَنزِلُنا (2) لما نزلْنا بسيفِ البحر من عَدَنِ

وحَلّ أهلُك أَجْياداً فليس لنا إلّا التَّذَكُّر، أَو حَظّ من الحَزَن وله ذكر كثير في كتب المتقدمين و أشعارهم.

وقال بشر بن أبي خازم (3):

حلفتُ بربّ الداميات نُحورها وما ضَمَّ أَجيادُ المُصلَّى ومَذهبُ

لئن شبت الحربُ العوانُ التي أرى وقد طال إبعادٌ بها وتُرهبُ

لتحتملَنْ بالليل منكم ظعينةٌ إلى غير موثوق من العِزِّ تَهربُ وقال أبو بكر العبدي العدني الوزير (4):

يا مُحيَّا نُور الصَّباحِ البادي ونسيم الرِّياحِ غِبَّ الغوادي

حَيِّ أَحبابنا بمكّة ما بي - ن نواحي الصَّفا وبين جِيادِ أما أجياد الصغير فيأتي من الشرق، وكان حيّاً كالمسدود في سنة 1404 ه فتح منه نفق إلى حي العزيزية تحت جبل الأعرف، وجعلت فيه طريق مختصرة لمشاة الحجاج، فصار مرفقاً مفيداً، وقصر الطريق على سكان حي العزيزية، ومنتسبي جامعة أم القرى إلى أقل من ثلث الطريق القديم المار في الأبطح.

الأخشبان:

مثنى الأخشب وهو الجبل الخشن وعر المرقى.

قال الشريف الرّضي (5):

أُحِبُّكَ ما أَقام مِنًى وجَمْعٌ وما أرسى بمكةَ أَخشَباها

وما دَفَع الحجيج إلى المُصلَّى يجرّون المَطِيَّ على وجاها

وما نحروا بخيفِ مِنًى وكبُّوا على الأذقان مُشعَرةً ذُرَاها


1- 1. ديوانه: 348.
2- 2. أمة الوهاب: ابنة عمر بن أبى ربيعة.
3- 3. معجم البلدان أجياد.
4- 4. معجم البلدان جياد و فى الإكليل 2: 47 هو أبوبكر أحمد العيدى الأبينى، نسبه إلى أبين- و فى العقد الثمين 8: 9 ذيل: اختلف فى نسبتة، فقيل: العبدى، و العيدى، و العيدى. والصواب: العيدى؛ بالياء قبل الدال المهلة و أبين مقاطعة يمينة قرب مدينة عدن.
5- 5. ديوانه: 563.

ص: 143

وقال ساعدة بن جُؤَيَّة الهذلي (1):

ومقامهنّ إذا حُبِسن بمأزِمٍ ضَيْقٍ ألفّ وصَدّهُنّ الأخشبُ وأَكثَر الأقدمون من القول عن الأخْشَبَين، وكادوا يتفقون على أنهما: أبو قُبَيس وقُعَيْقعان، أما أبو قبيس- بضمّ القاف- فهو من أشهر جبال مكّة بل أشهرها على الاطلاق، وهو الجبل المشرف إشرافاً مباشراً على المسجد الحرام من مطلع الشّمس، ولذا يقول أهل مكّة: الواقف على أبي قبيس يرى الطائف! وسيأتي ذكرُ «قعيقعان» في بابه. أما أهل البادية فيطلقون على الجبلين المشرفين على المزدلفة من الشّرق «الأخشبين» ويسمّون الطريق بينهما «المأزمين». وقد يطلق اسم الأخشبين على جبلي منى فيميزان بأخشبي منى، وكان الشامي منهما يسمى القابل، وهو وجه ثبير غيناء من الجنوب، وثبير غيناء سيأتي معناه، وكان يسمى ثَبِير الأثْبِرة أي كبيرها، أما جبل منى اليماني فكان يسمى الصابح، وسفحه الشمالي الشرقي يسمى «خيف منى» وله شهرة في أشعار العرب، يقول الشريف الرضي:

نظرتُكِ نظرةً بالخَيْفِ كانت جلاءَ العين أو كانت قَذَاها (2)

ولم يكُ غير موقفِنا فطارت بكلّ قبيلةٍ منا نواها وعلى كلّ حال فكل هذه الأَجبُل أخاشب، ولذا يكون أبو قبيس وقعيقعان: أخشبي مكة، والقابل والصابح: أخشبي منى، والمأزمان: أخشبي مزدلفة.

أَذَاخِرُ:

كجمع أذخر. جمع قلة. وهو نبات معروف.

قال بلال بن رباح رضى الله عنه:


1- 1 معجم البلدان الأخشبان.
2- 2 في الديوان: جلاء العين مني بل قذاها.

ص: 144

ألا ليتَ شعري هل أبيتنَّ ليلةً بفخٍّ وحولي أذخر وجَلِيلُ؟

وهل أَرِدن يوماً مياهَ مَجَنَّةٍ وهل يَبْدُون لي شامةٌ وطَفيلُ؟ في هذا الشعر:

أ- فَخٌّ: بفتح الفاء وتشديد الخاء المعجمة. هو وادي مكّة الثاني، وقد ألمحنا إليه فيما تقدّم. وهذا الوادي يدخل بين حراء ومكة، فيمر في الزاهر ويذهب إلى الحديبية ثم يصب في مر الظهران فوق حداء.

ب- أَذْخُر: هو جبل أَذاخِر. وقال: أذخر ليستقيم له وزن الشعر. وليس كما فسره بعض المتأدبين بأن بلالًا كان يحب شميم الأذخر بل كان يحب مكة: شعابها وجبالها وضواحيها، كما هو ظاهر من شعره.

وأَذاخِر هذا: هو الجبل الذي يشرف على الأبطح من الشمال يتصل بالحجون من الشرق، ولا زالت هناك ثنية تعرف منذ القدم بثنية أذاخر، قال الأزرقي في أخبار مكة (2: 289) ثنية أذاخر: الثنية التي تشرف على حائط خُرمان، ومن ثنية أذاخر دخل النّبي (صلى الله عليه و آله) يوم فتح مكة، وقبر عبد اللَّه بن عمر بأصلها مما يلي مكة. أي في مقبرة آل عبد اللَّه بن أسيد. وحائط خرمان: يعرف اليوم بالخرمانية. بصدر مكة.صار رحبة تقف بها سيارات الكراء. ويشرف عليه من مطلع الشمس (قرن غراب) وسيأتي مستقبلًا، وقد عمر اليوم جله كمقر لأمانة العاصمة.

وحكى لي الأخ الاستاذ داخل المسعودي: أنهم اكتشفوا مقبرة بطرف الخرمانية كان الدم ينزف من أحد قبورها، فترجح لديهم أنها المقبرة المشار إليها، فاحيطت بجدار، وهي الآن بطرف بناية أمانة العاصمة مما يلي أذاخر.

ج- جَلِيل: بفتح أوله وثانيه: شعب يصب من حراء فيصدر فخ. وقد أصبح حياً من أحياء مكة جل سكانه من الروقة من عتيبة.

ص: 145

الأُقحُوانة:

على لفظ واحدة النبات المعروف:

كان يطلق هذا الاسم على ما بين المنحنى والمفجر الأوسط، أو بتحديد أوضح ما كان يعرف بالمحصب، وهوصدر وادي إبراهيم الذي يصب فيه سيل عقبة منى.

قيل: إنّ أهل مكة كانوا يخرجون إليه متنزهين في ثياب زاهية مختلفة الألوان شبهت بزهر الأقحوان. وتشمل الأقحوانة اليوم أحياء: الروضة والششة وما جاورهما.

قال الحارث بن خالد المخزومي:

من كان يسأل عنا: أيْنَ منزلُنا؟ فالأُقحوانةُ منا منزلٌ قَمَنُ

إذ نَلبسُ العيشَ غَضّاً لا يكدره قرف الوشاة ولا ينبو بنا الزمن بئر مَيْمُون:

قال شاعر لم أعثر على اسمه (1):

تأمل خليلي هل ترى قصرصالح وهل تعرف الأطلال من شعب واضح إلى بئر ميمون إلى العيرة التي بها ازدحم الحُجَّاج بين الأباطح في هذا الشعر: بئر ميمون: بئر حفرها ميمون أخو العلاء الحضرمي والي البحرين. عندها قبر أبي جعفر المنصور فيما يسمى اليوم بحي الجعفرية بين أذاخر والحُجُون. والعَيْرة كمؤنث العَيْر: هو الجبل الذي عليه المنحنى بالمعابدة- بالباء الموحدة- أي بين حي الملاوي وحي الروضة.

والأباطح: أبطح مكة، والجمع من عادة شعراء العرب.

هذا ما جاء في معجم معالم مكة بطبعتيه الأولى والثانية.


1- 1 أخبار مكة، 2: 222.

ص: 146

وعندما حددت بئر ميمون هذا التحديد اعتمدت على:

1- ورود ذكرها في يوم الفتح؛ حيث دخل رسول اللَّه (صلى الله عليه و آله) من أذاخر، وأنه استقى من بئر ميمون.

2- وجود هذا الحي بجوار أذاخر يسمى الجعفرية، ولم أر من نسبه فترجح عندي أنه نسبة إلى أبي جعفر المنصور.

3- ما جاء في تأريخ الفاكهي: أن أبا جعفر حين مات هناصلّي عليه في المسجد الصغير المجاور للخرمانية، وهذا يعني أنه مات قريب منه، أي أن بئر ميمون مقترنة بهذه المواضع كلها.

ولكن الشريف شاكر بن هزاع العبدلي قائم مقام مكة أوقفني بعد حجّ عام 1412 ه على بئر قديمة شرقي قصر أمارة مكّة، على يمين الطريق الذاهب إلى الشرائع فالطائف عن طريق نخلة اليمانية، فقال: هذه بئر ميمون، وأراني حجيرة قربها، قال: هذا قبر أبي جعفر المنصور.

ومع اعترافي بخبرة الشريف شاكر في جغرافية مكة، الّا ان هناك تساؤلًا، إذا كانت هذه بئر ميمون على بُعدها من أذاخر، وهو بعد معاكس لا تجاه المسجد الحرام للآتي من أذاخر، فما علاقتها برسول اللَّه (صلى الله عليه و آله) يوم الفتح؟ ثم إذا كان أبو جعفر مات في هذا المكان، لِمَ حمل إلى هذا المسجد الصغير على بعد، ثم أعيد بعد الصلاة عليه إلى بئر ميمون؟ فاذا كان المقصود دفنه حيث مات لَصلّي عليه هناك، وإذا كان المقصود التيمن بالمسجد، فالذين حملوه لم يبق بينهم وبين المسجد الحرام ما يعجزهم عن المواصلة، ثم لِمَ لمْ يدفن عند المسجد الذيصلِّي عليه فيه، وليست لبئر ميمون قدسية أو ميزة؟ ثم إن مقبرة أهل مكة كانت قريبة جداً من ذلك المسجد، فلِمَ لمْ يدفن هذا الخليفة في المقبرة؟ ولأنها كما قيل كانت قد اتسعت إلى حي الجعفرية اليوم، فلعلّه دفن في طرف المقبرة مما يلي أذاخر، ثمّ إن هذا الحيز

ص: 147

من المقبرة توقف الدفن فيه بعد إنشاء المقبرة السليمانية، فدفع الطمع بعض الناس إلى الاستيلاء على الأماكن المندثرة، فسارع الولاة إلى تسوير المقبرة القديمة، ثم أخذ ذلك الجانب اسم الجعفرية؛ لعلم الناس أن أبا جعفر مدفون فيه.

وعلى كل حال فمع عدم جزمي بأحد المكانين، فإن رأيي لم يتغيّر، واستنتاجي أجد له قوة، والبحث مفتوح لمن يدقق ويحقّق.

وأقول: إني ختمت البحث بهذا القول دون أن تكون لدي النيّة أن أُزيد فيه، ولكن تصفحت كتاب الفاكهي المطبوع قبل سنوات، فإذا فيه ما يأتي:

2482- حدّثنا أبو يحيى عبد اللَّه بن أحمد بن أبي مسرّة، قال: حدّثني محمد بن عُبيدة الشُويفِعي، قال: حدّثني إسماعيل بن عبيد اللَّه بن أبيصالح، مولى عبدِ اللَّه بن عامر، قال: تُوفِّي أبو جعفر يوم التَرْوية سنةَ ثمان وخمسين ومائة، وصُلِّي عليه عند الخُطَيْم (1) في مسجدٍ هناك، وضُرِبَ على المقبرة- يعني مقبرة مكة- سُرادقٌ، ثم أُتِيَ بنَعْشِه، فأُدخل في السرادق، فلما فُرغَ من دفنه، ورجع الناسُ، ورُفع السرادقُ، وإذا بقبرين، واحد في أعلى المقبرة، وواحد في أسفلها، مما يلي المسجد، ثمّ بنى عليهما جُنْبُذان.

قال لي أبو يحيى: أدركت أحد الجُنْبُذينِ أنا. قال: ثم حجّ المهدي بعد ذلك؛ فرأيته جاء إلى الجُنْبُذِ الأعلى في المقبرة، فوقف على ذلك القبر، والناس خلفَه فصلّى عليه.

وفي وجه شِعْبِ الخُوز دارُ لبابة بنتِ علي، ومحمد بن سليمان بن علي. وفي هذه الدار كان يسكن عبيدُ اللَّه بن قُثَم، وهو يومئذٍ والي مكة مع زوجته لُبابة بنت علي، وفيها رأى الرؤيا التي أفزعتْهُ.

2483- حدّثنا أبو يحيى عبد اللَّه بن أحمد، قال: ثنا خالد بن سالم مولى ابنصيفي المكي، قال: أخبرني إبراهيم بن سعيد بنصيفي المخزومي، وكانصديقاً


1- 1 لعله تصحيف الخطم.

ص: 148

لعبيد اللَّه بن قثم، قال: أرسل إليّ عبيد اللَّه بن قثم وهو أمير مكة نصفَ النهار، وكان نازِلًا ببئرِ ميمون، في دارِ لُبابة بنتِ علي، زوجتِه.

وترى في رواية الفاكهي: توفي أبو جعفر وصلّي عليه عند الخطم، ودفن في مقبرة أهل مكة، وقد اقترن موته فيما تقدم ببئر ميمون، ثم ترى أن بئر ميمون عند شعب الخوزأى حيث يدفع في الوادي، وهكذا تحفر الآبار، وأنه دفن في الجهة الشرقيّة حيث الجعفرية اليوم، وهذا شاهد بل هناك عدد من الشواهد على أن بئر ميمون كانت في حيز ما بين البياضية ومقبرة مكة.

البَطْحاء:

بفتح الباء وسكون الطاء: اسم مألوف- لدى العرب- لكل أرض في مسيل السيل: قال حذافة العدوى يمدح بني هاشم (1):

هُمُ ملأوا البطحاء مَجْداً وسُؤْدَداً وهم تركوا رأي السَّفَاهة والهجر وقيل: جاء هشام بن عبد الملك يطوف بالبيت فيقترب من الحجر الأسود فلا يَفْسح له أحد، فبينما هو كذلك فإذا بعلي زين العابدين بن الحسين (عليه السلام) يطوف بالبيت، فإذا اقترب من الحجر انجفل الناس عنه وتركوه له، فاغتاظ هشام لذلك فسأله أحد مرافقيه: مَن هذا؟ فقال: لا أعرفه. وكان الفَرَزْدَق حاضراً فاغتاظ لذلك فأنشأ قصيدة منها:

هذا الذي تعرف البطحاءُ وطأتَهُ والبيتُ يعرفه والحِلُّ والحَرَمُ

هذا ابنُ خيرِ عبادِ اللَّه كُلَّهُمُ هذا التَّقِىُّ النَّقِىُّ الطاهِرُ العَلَمُ

وليس قولُك: لا أعرف بضائرهِ العُرْبُ تعرف مَن أنكرتَ والعَجَمُ وكان الفرزدق في حاشية هشام، ولكن الأمويين ما كانوا يقرّبونه؛ لكثرة افتخاره بكرم أبيه وإطرائه بني هاشم، فغضب هشام فسجن الفرزدق بعُسفان.


1- 1 معجم ما استعجم البطحاء.

ص: 149

ثمّ اطلعت على أقوال في قصيدة الفرزدق هذه، فبحثتها في كتابي أمثال الشعر العربي، قافية الميم المضمومة، فاذا شئت فراجعه.

وكانت فيصغرنا بطحاء. أما اليوم فهي شارع معبد وأرصفة، وكان أهل مكة يعرفون أن البطحاء بين مهبط ريع الحجون والمسجد الحرام، فإذا تجاوزت ريع الحجون مشرقاً فهو الأبْطح إلى المنحنى عند بئر الشَّيْبي.

ويطلق عليها المعلاة، أما ما بعد المسجد جنوباً بغرب فهو المسفلة إلى قوز المَكّاسة. وقوز المَكَّاسة: دعص رمل أسفل من كُدَىِّ، كان يسمى «الرُّمَضَة».

وكان لقريش اعتزاز بالبطحاء، فالسيد العنديد يسمى (سِداد البطحاء)، وقريش مكة يسمون قريش البطاح، تمييزاً لهم عن قريش الظواهر أي ظاهر البادية.

بَلْدَح:

بفتح الباء الموحدة وسكون اللام وفتح الدال المهملة وآخره حاء مهملة أيضاً.

قال ابن قَيْس الرُّقَيَّات (1):

فمِنىً فالجِمارُ من عبد شمس مُقفرات، فَبلْدَحٌ فحِراءُ وقالوا: لما قتل الحسينصاحب فَخّ سمع على مياه غَطَفَان كلِّها هاتف يقول:

أَلا يا لقوم للسَّواد المصبّحِ ومَقتل أَولادِ النَّبيِّ ببَلْدَحِ

لِيَبْكِ حُسَيْناً كلُّ كَهْلٍ وأمرَدٍ من الجنِّ، إن لم تَبكِ للإنس نُوَّحِ وبلدح: هو وادي مكة الثّاني، الذي تقع فيه مقبرة الشُّهداء وأمُّ الدود (أمّ الجود). وسماه الأزرقي وادي مكة.

وقال: إن وادي بكَّة هو الذي يمرّ بالبيت (وادي إبراهيم)، وكان بَلْدَح في


1- 1 معجم معالم الحجاز 1: 250.

ص: 150

عهد الأزرقي لكل جزع منه اسم: فبقرب حراء يسمى مكة السِّدر، وعند الشهداء يسمّى فَخّاً. ويظهر أن اسم بلدح- من قديم- لا يطلق إلا على ما تجاوز الزاهر إلى الحديبية (الشميسي)، وهناك أقوال وتعريفات تركت للاختصار، راجعها في المعجم (1).

والحسين المقتول بفخ، الذيصار يسمىصاحب فخ: هو الحسين بن علي بن الحسن بن عمّ موسى الكاظم (عليه السلام)، خرج على الدولة العباسية سنة 169 ه فقتله والي مكة، بعد معركة دامية في المكان المعروف- اليوم- بالشهداء، فسمي هذا الحي الشهداء من يومها، أي مقبرة الشهداء. ولتلك الموقعة أخبار مطوّلة سنأتي عليها عند ذكر فخ إن شاء اللَّه.

وقد نقل بعض المؤرخين: أنَّ عبد اللَّه بن عمر دفن في هذا الموضع، وهذا وهم، فعبد اللَّه بن عمر دفن بمقبرة بني عبد اللَّه بن أسيد في أَذاخِر.

وقد تقدّم الحديث عنها في «أذاخر».

التَّنضباوي:

جزء كبير من وادي ذي طوى: وادٍ كبير يسيل من الطرف الغربي لجبل أذاخر وشمال جبل (قُعَيْقِعان)، فيسمى أعلاه اللصوص نسبة إلى ريع في رأسه يسمى ريع اللصوص، سمي الآن ريع السد، نسبة إلى سدّ فخ القريب منه.

ثم يسمى العتيبية إذاصار بين الحجون والكحل (الثنية الخضراء) وعند بئر طوى يسمى جرول.

فاذا تجاوز الطرف الغربي لجبل الكعبة سمى التنضباوي؛ والاسم الذي يكتب في الدوائر اسم غريب لم أر له اشتقاقاً أو نسبة هو الطندباوي، وهذا خطأ واضح، والاسم الصحيح هو (التنضباوي) نسبة إلى أشجار التنضب التي لحقنا


1- 1 المصدر نفسه.

ص: 151

نحن بعضها عندما كانت تبنى تحتها أكواخ التكاررة، وسألت بعض شيوخ قبيلة المجانين عن اسم هذا الوادي، فقال: كله وادي طوى.

وسألته عما كان ينبت في هذا الجزء من الوادي؛

فتبسم وقال: ما لحقنا فيه غير التنضب.

وسماه الأزرقي- في هذا الموضع- (الليط). ثم يجتمع وادي طوى بوادي إبراهيم تحت جبل (ثبير الزنج) جبل المسفلة من الجنوب الغربي، فيكون أكبر روافد وادي إبراهيم.

وكانت هناك لوحة كتب عليها الطنبدأوي، وقال بعض العامة:

الطنطباوي، إلى آخر التحريفات.

التَّنْعيم:

وادٍ ينحدر شمالًا بين جبال بشم شرقاً وجبل الشَّهيد جنوباً فيصب في وادي ياج، وهو ميقات لمن أراد العمرة من المكيين، وتسمى عمرته: عمرة التنعيم، أي مكان الاعتمار، وذلك تمييزاً لها عن عمرة الجعرانة، وكان يسمى نعمان، قال محمد بن عبد اللَّه الُّنميري:

فلم تر عيني مثلَ سِرب رأيتُه خرجنَ من التنعيم معتمرات

مررنَ بفَخّ ثم رُحنَ عشية يلبّين للرحمن مُؤتجرات

فأَصبح ما بين الأراك وحذوَه إلى الجذع جذع النخل والعمرات

له أَرَجٌ بالعنبر الغض فاغم تطلَّع رَيَّاه من الكفرات

تضوّع مِسكاً بطنُ نَعْمان إذ مشت به زينبٌ في نسوة عطرات وقد توهم بعضٌ أن نعمان الوارد هنا هو نعمان الأراك، وهذا خطأ، إذ إن من يعتمر قاصداً المسجد الحرام ليس قريباً من نعمان الأراك.

ص: 152

وقد أصبح التنعيم اليوم حياً جميلًا من أحياء مكة. وقد ثبت أن رسول اللَّه (صلى الله عليه و آله) أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة أخته من التنعيم، ومن ذلك اليوم اتخذه أهل مكة عمرة، وهو أقرب الحلّ إلى المسجد الحرام، فهو يقع على قرابة ستة أكيال شمالًا من المسجد الحرام على طريق المدينة.

وقد فسّر بعض الأدباء شعر النميري: أنه على نعمان الأراك، لورود اسم نعمان، وذكر الأراك في هذا الطريق، وليس لهم ذلك، ففي هذا الشعر: ذكر العمرة من التنعيم، ثم هبوط النسوة فخّاً بعد ذلك، متجهات إلى المسجد الحرام (موتجرات).

ثَبِير:

بفتح الثاء المثلثة، وكسر الباء:

قال عبد اللَّه بن عمرو بن عثمان بن عفان وهو الملقب بالعرجي نسبة إلى عرج الطائف (1):

وما أَنسَ مِ الأشياءِ لا أَنسَ موقفاً لنا ولها بالسَّفْح دون ثَبِيرِ

ولا قولها وهَناً وقد سَمَحتْ لنا سوابقُ دمعٍ لا تجفّ غَزِير:

أأنتَ الذي خبَّرت أنّك باكِر غداةَ غدٍ أو رائحٍ بهَجِيرِ؟ ويقول الحارث بن خالد المخزومي:

إلى طرف الجمَار وما يليها إلى ذات القَتَادة من ثَبِير قلت: معظم جبال مكة الكبار كانت تسمى الأثْبِرة جمع ثبير فمنها: ثبير غَيْناء وهو أشمخ هذه الأثْبرة، وهو الذي تسميه عامة أهل مكة اليوم جبل الرَّخَم ذلك أن على رأسه غر الطير لا يفارقه، وكان يسمى- أيضاً- ثَبير الأثْبِرة، أي كبيرها. وكان يسمى في الجاهلية سَمِيراً ثم سُمِّيصَفَراً، وكان يقال لقمته ذات


1- 1 معجم البلدان ثبير.

ص: 153

القتادة، وهو المقابل لجبل النور (حراء) من الجنوب، والمشرف على منى من الشمال، ويسمى متنه الشمالي الشرقي «ثَقَبَة» بثلاث فتحات.

وكان الجاهليون لا يفيضون من مزدلفة حتّى تشرق الشمس على رأسه.

ولذلك يقولون: أشرق ثَبِير كيما نغِير.

الأثبرةُ:

جمع ثَبِير بفتح الثاء وكسر الباء الموحدة:

اسم يطلق على عدد من جبال مكة منها ثَبِير غَيْناء- كما تقدّم- وهو أضخم جبال مكة، يشرف على الأبطح من الشرق، ويشرف على منى من الشمال، ويقابل حِرّاء من الجنوب، وتعرفه العامة اليوم بجبل الرخم- كما تقدم أيضاً-.

وثبير الزنج: جبل المسفلة الذي يشرف عليها من الغرب، ومنه جبل عُمَر وجبل الشراشف وجبل الناقة وغيرها.

أجزاء من الجبل يسمى كل منها جبلًا، وهي من عادات العرب في التسمية.

وثَبِير الخضراء: الجبل الذي يتصل بالخنادم من الشرق، يناوح ثَبِير غَيْناء من الغرب الجنوبي، يمتد جنوباً إلى جبل سُدَير، وغرباً إلى جبل السبع بنات، ومنه تشاهد جبل ثَوْر جنوباً عدلًا.

وثَبِير النَّصْع: جبل المزدلفة. وغيرها.

قال الفضل بن العباس اللُّهبي نسبةً إلى أبي لهب عمِّ النبي (صلى الله عليه و آله) (1):

هيهات منك قُعَيقعانُ وبَلْدح فجنوب أثْبِرةٍ فبطنُ عِساب

فالهاوتانِ فَكْبكَبٌ فجتاوب فالبعوصُ فالأفراع من أشْقَاب قوله: فبطن عساب، لعلصوابه (فبطن كِساب)؛ لأن كساباً جبل لا زال معروفاً في طرف وادي ملكان، وهو الذي يقول فيه عمر بن أبي ربيعة:

حي المنازل قد عمرنا خرابا بين الجرير وبين ركن كسابا (2) أما عساب- أوله عين- فلم أجد مَن يعرفه.

وثَبِير الأحْدَب: وهذا هو الطرف الشمالي من ثَبِير النصع، يقع بين جبل ثَقَبَة وجبل الطارقي شمال مُزْدَلِفة، ولا تتصل حدودها به، ومنه يسيل وادي أُفَاعية الذي يمر بين ثَبِير غَيْناء وبين حِرَاء، وكان يُكوِّنصدر وادي إبراهيم، فكان سيله يضر بالمسجد الحرام؛ لأنه يسيل من جبال شوامخ، فلمّا بني (العدل) حُوِّل ماء أفاعيه إلى مكة السدر «الصفيراء اليوم» فصار يذهب إلى فَخّ فبلدح.

وثَبِير النصع: وهذا هو الجبل الضخم الذي يشرف على مزدلفة من الشمال والشرق، ويعرف باسم جبل المزدلفة، يفصل بينه وبين المأزمين ريع يسمى رقع الْمرَار.

وثَبِير الزِّنْج: ويقول الأزرقي انه سمي بذلك، لأن زنوج مكة كانوا يحتطبون منه، ويلعبون عنده، وهو المعروف- اليوم- بجبل المسفلة، وله أسماء عديدة منها:

جبل عُمَر، يطلق على القسم المشرف على الشُّبِيكة، يأخذه ريع الحفاير، وجبل الناقة يجاور جبل عُمَر من الجنوب الشرقي، والناقة: حصاة هناك تشبه الجمل.

يجاور ذلك جبل الشراشف، وفي الجنوب الغربي يسمى جبل النُّوبة، ولعل هذا لهصلة باسم الزنج، ويسمّى غربه جبل الحفائر، والحفائر كانت تسمى في عهد الأزرقي «الممادر»، أي حيث يستخرج المدر: وهو الطين الذي كانوا يبنون به، وهي- اليوم- حي من أحياء مكة، وثَبِير الخضراء هو الجبل ذو القلة الذي يشرف على الأقحوانة من الجنوب، ويمتد غرباً بجنوب فيتصل بالخنادم، ويمتد جنوباً فيتصل بجبل سُدَير، كما تقدم.


1- 1 انظر معجم معالم مكة التأريخية والأثرية.
2- 1 انظر معجم معالم مكة التأريخية والأثرية.

ص: 154

ص: 155

وثَبِير ثَوْر: وهو يتلو هذا.

وتجدر الإشارة إلى أنه لا يعرف- اليوم- اسم ثَبِير بل أن كثيراً من جبال مكة لا تعرف لها أسماء.

ثَوْر:

بلفظ ثور البقر جبل يقع جنوب مكة: يرى من المزدلفة ومن المسفلة، وقد تقدم أيضاً أنه أحد أثبرة مكة. قال أبو طالب عمُّ النّبي (صلى الله عليه و آله) (1):

أَعوذُ بربّ الناس من كلّ طاعنٍ علينا بشرٍّ، أو مُخلِّق باطل

ومن كاشِحٍ يسعى لنا بمعِيبَةٍ ومن مُفترٍ في الدِّينِ ما لم يحاولِ

وثَوْرٍ ومن أرسى ثَبِيراً مكانه وعَيْرٍ وراقٍ في حِرَاءٍ ونازلِ وهذا الشعر يدل على أن ثَوْراً كان معروفاً في مكة. ومنذ أن لجأ إليه رسول اللَّه (صلى الله عليه و آله) عند بدء الهجرة أصبح هذا الجبل مقدّساً يزوره المسلمون للذكرى، ويدخله بعضهم تيمناً.

وجاء في سبب تسميته أطْحَل على وزن أفْعَل من الطُّحْلة وهي لون معروف (2).

قال المتقدمون: إنه اسم الجبل المعروف اليوم باسم ثور، وإنّ اسم ثور هو ابن عبد مناة بن أدّ بن طابخة، فنسب ثور هذا إلى الجبل أطحل فقيل: ثور أطحل. وإليه ينسب الفقيه المحدث سفيان بن سعد الثوري. وليس إلى ثور قضاعة.

قال البعيث الشاعر:

وجئنا بأَسلاب الملوكِ وأحرزتْ أَسنَّتُنا مَجْدَ الأسنَّة والأكلِ

وجئنا بعمروَ بعدما حلّ سربها محلَّ الذليل خلف أَطْحل أو عُكْلِ


1- 1 معجم البلدان ثور والسيرة «لامية أبى طالب».
2- 2 ان يكونصدر الدابة يميل إلى الحمرة، و هو لون مميز.

ص: 156

ويعرف هذا الجبل- اليوم وفي التاريخ الإسلامي- بجبل ثور، وفيه غار ثور الذي أوى إليه محمّد (صلى الله عليه و آله) ورفيقه في بدء الهجرة إلى المدينة.

وقد تناقل الناس- إلى اليوم- تحديداً خاطئاً لجبل ثور، فنجد في مقررات المدارس أنه جبل بأسفل مكة. وهذا خطأ، فالجبل يقع جنوباً عدلًا من مكة أي جنوب المسجد الحرام، ولكن الطريق إليه كانت من المسفلة، ثم من ريع كُدَيّ وهما أسفل مكة، فظن زائروه أنه أسفل مكة. أما اليوم فيمكن الذهاب إليه من أجياد مباشرة بعد أن شُقّ ريعٌ هناك سمّىَ ريعَ بَخْش.

والناس يزورون الغار المقدس هناك، ولهم خرافة تقول: إن من يتعسر خروجه منه فهو لغير أبيه، ولا أدري مَن أول من أطلق هذه الخرافة؟ غير أننا لم نر سميناً استطاع دخوله كما لم نر نحيفاً تعسر خروجه منه. والإسلام لا يجيز مثل هذه الإشاعات، واختراع الخزعبلات.

وشهرة غار ثور في مكة تغني عن تحديده، وأنت تراه من حيث أتيت مكة بارزاً يشبه شكله شكل ثور مستقبل الجنوب، ولعل لشكله علاقة باسمه.

الجَزْل:

بفتح الجيم وسكون الزاي ..

قال عمر بن أبي ربيعة (1):

ولقد قلت ليلة (الجَزْل) لما أخضلت ريطتي عليَّ السماء

ليت شِعْري وهل يردّنّ (ليت) هل لهذا عند (الرَّبَاب) جزاء؟ وقال السباعي في تاريخ مكة: جزل- بكسر أوله وتشديد ثانيه-: نسب إلى طائفة من الجنود كانت تلعب فيه.

وأقول: شعر عمر يدل على أن المكان كان معروفاً قبل أن تعرف مكة


1- 1 ديوانه: 17.

ص: 157

الجنود. ووصف هذا الجبل ينطبق على الجبل المعروف بجبل خليفة. وهو المقابل للمسجد الحرام من الجنوب على يمين الداخل في أجياد الكبير، فوقه قلعة بناها الشريف سرور أحد ولاة مكة في العهد العثماني.

وهذا الجبل شق تحت نفق سنة 1406 ه يوصل بين سفلة مكة وحي جياد الكبير.

الجِعْرَانةُ:

بكسر أوله وسكون ثانيه وتخفيف الراء، كذا اتفق اللغويون على ضبطها.

وأهل مكة اليوم ينطقونها بضم الجيم.

قال أحدهم (1):

فيا ليت بالجُعرانة، اليوم، دارها وداري ما بين الشآم فكَبكَب

فكنتُ أراها في الملبين ساعةً ببطنِ منىً ترمي جِمَارِ الُمحَصَّب ويقصد الشاعر أن تكون داره شمال كبكب، لأن الجعرانة هناك. ولعلصواب قوله: ما بين الشآم فكبكب يكون (ما بين الستار وكبكب)؛ ذلك أن جبل الستار يقع قرب الجعرانة من الجنوب، وهو الجبل الذي يشرف على علمى طريق نجد من الشمال، والذاهب من مكة إلى نخلة يجعل الستار على يساره عن قرب.

والجعرانة اليوم: قريةصغيرة فيصدر وادي سرف، فيها مسجد يعتمر منه أهل مكة المكرمة، ولها مركز إمارة، وتربطها بمكة طريق معبدة، وفيها زراعة قليلة. وكان النبي (صلى الله عليه و آله) اعتمر منها بعد غزوة الطائف، خرج منها ليلًا وعاد من ليلته.


1- 1 معجم البلدان جعرانة.

ص: 158

جَمْع:

ضد التفرق.

قال ابن هرمة (1):

سَلا القلبُ إلا من تَذكُّر ليلةٍ بجَمْعٍ وأُخرى أسعَفت بالُمحصَّب

ومجلس أَبكارٍ كأنّ عيونها عيونُ المها أنضين قُدَّام رَبرَب وقال آخر:

تَمنّى أن يرى ليلى بجَمْع يسكن قلبه مما يعاني

فلما أن رآها خوّلتْه بعاداً فَتَّ في عَضُد الأماني

إذا سمح الزمانُ بها وضنَّت عليَّ فأيّ ذنبٍ للزمان وقال أبو طالب عمُّ النبي (صلى الله عليه و آله):

وليلة جَمْعٍ والمنازل من مِنىً وهل فوقها من حرمةٍ ومنازلِ؟

وجَمْعٌ إذا ما المقربات أجزنه سراعاً كما يخرجن من وقع وابل وجمع هي المزدلفة سميت لاجتماع الحجاج فيها عند الإفاضة من عرفة، وبها المشعر الحرام، ومن قال: هي قزح فقد وهم. يصلي الحاج بجمعصلاة المغرب والعشاء جمع تأخير، ثم يبيت بها- على أغلب المذاهب- فيصلي الصبح ويدفع إلى منى.

وكانت العرب لا تدفع إلا بمجيز يدفع بها من جمع. فكانت الإجازة لخزاعة، ثمصارت لعدوان، وكان من عدوان أبو سيارة أحد بني سعد بن وابش بن زيد بن عدوان، فقال أحدهم (2):

نحن دفعنا عن أبي سياره وعن مواليه بني فزاره

حتى أجاز سالماً حماره مستقبل القبلةَ يدعو جاره وكان أبو سياره يدفع بالناس على أتان (3).


1- 1 معجم البلدان جمع.
2- 2 شفاء الغرام، 2: 32.
3- 3 الأتان: انثى الحمار.

ص: 159

وفزارة من غَطَفان، ولا أدري كيف كانوا موالي لأبي سيارة؟ ولم أر مَن علل ذلك.

وكان أبو سيارة يتقدم الحجاجصباح جمع راكباً حماراً ويخطب قائلًا:

اللهمّ أصلح بين نسائنا، وعاد بين رعائنا، واجعل المال بين سمحائنا، أوفوا بعهدكم، وأكرموا جاركم، وأقروا ضعيفكم. ثم يقول: أشرق ثَبِير كيما نغير.

وعلى كلّ فالناس- اليوم- لا تعرف جمعاً، إنما يعرفون المزدلفة، وهم يقولون (مزدلفة) و (مستلفة).

... يتّبع

ص: 160

الهوامش:

زمزم في الشعر العربي ماءُ زمزم لما شُربَ له

ص: 161

زمزم في الشعر العربي ماءُ زمزم لما شُربَ له

يا زمزمَ الخيرِ والرّوحُ الأمينُ أتى يَشُقّها عند إسماعيل مُرتضعا

كأسٌ من الحُبّ أهداه الكريمُ إلى طفلِ الخليل فكان الرِّيَّ والشِّبَعَا بُرْءُ السِّقامِ بها، برُّ الطّعام بها ريُّ الشّراب بها في مائها اجتمعا

أغْنَتْ أبا الذَّرِّ عن ريِّ لَياليَهُ وأسمَنَتْهُ بلا زادٍ فما جزعا

وكم سقيم رأى في مائها فرجاً لَمّا تَناولَ من سلسالها جُرَعا

سُؤْرٌ من الخُلد أبقاهُ الكريمُ على مرّ الزّمان لمن لبَّى ومَن خشعا

ضيافةٌ منه للرّاجين رحمتَه ولا يُذادُ الذي في برِّها طمعا

كذلك يَروِي ابنُ عبّاسٍ «لما شُربَتْ» فانهل بها ثمّ سَلْ ما شئتَ مُقْتَنِعا محي الدين عبد الحميد، عالج نفسك بماء زمزم: 151

زمزم

ص: 162

زمزم

ورثنا المجد عن آبا ئنا فرقا بناصعدا

وأيّ مناقبِ الخير لم تشدد بنا عضدا!

أَلم نسق الحجيجَ ونذ حر الدلّافة الرفدا

ونلقى عند تصريف ال منايا سادة سددا

وزمزم من أرومتنا وبرغم أَنف مَن حسدا

وخير الناس أولنا وخير الناس إن بعدا

فإن نهلك فلن نملك وهل من خالد خلدا

وأيّ الناس لم نملك ونُمجّده وإن مجدا مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس

***

لقد فَضَّلَ الرحمنُ آلَ محمّد بعلم وكانَ اللَّهُ بالنّاس أَخبرا

سقاهم ليسقوا الحاجَّ في الحجِّ زمزما وخطَّ لهم في جنّة الخلدِ كوثرا الفضل بن عبد الرحمن بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب

***

ولنا حوضان لم يعطهما غيرَنا اللَّهُ ومجد قد تلد

حوضنا الكوثر حقّ المصطفى يرغم اللَّهُ به أهلَ الحسد

ولنا زمزم حوض قد بدا حيث مبنى البيت في خير بلد *** كما قال أيضاً:

حوض النبيّ وحوضنا من زمزم ظمئَ امرؤٌ يَرْوِه حوضانا فإذا رأيت شريبنا ومقامه من حوضنا فشريبنا أروانا

متمكناً يقضي وينفذ أمره حتى يكون كأنه أسقانا الفضل بن العباس اللهبي

***

زعم العلاء وغيره لم يزعم أن النبيذ مع النشيل محرم

كذبوا ورب منى لقد جاشت به حُمر الحياض تحوز ذلك زمزم

هذا النبيذ ببطن مكة سُنة وإذا وردنا بطن حجر يحرم رجل من بني حنيفة

***

ويا واصفاً من ماء زمزمَ فَضْلَه نبيّ الهدى في وصفه منك أوصَفَا

شفاء لسُقْمٍ، بل طعامٌ لطاعمٍ رويناه مرفوعاً لنا، ومعرَّفا

وفي جُنْدُبٍ لما استقى بك آية بتعكين بطن منه في شدة العفا أبوذر الغفاري (جندب بن جنادة)

شوقٌ ودعاء

ص: 163

ص: 164

شوقٌ ودعاء

وزمزم ماؤُها عذبٌ فراتٌ ترى فيها الشفاءَ وخيرَ طبِ

وكم نَهِلَتْ على ظمأٍ قلوبٌ وكم هَنِئَتْ بها من دون ريبِ!

فهل لي رشفَةٌ منها قريباً أُداوي مهجتي وأبُلُّ قلبي؟

فلا تحرم إلهي من تَمنّى ولا تمنعْ إلهي أيّصَبِ

إذا ما قُلتُ: ذا ماءٌ قراحٍ يقول السّائغون: بلى وربّي

فحسبي جُرْعة أُطفي أواري وأنقعُ غُلَّتي، وأُزِيلُ كَربي محي الدين عبد الحميد، عالج نفسك بماء زمزم: 168

من اسماء زمزم عند الشعراء

من أسماء زمزم عند الشعراء

لزمزم أسماءٌ أتت فهي برّة وسيدةٌ بشرى وعصمةُ فاعلمِ

ونافعةٌ مضنونة عونةُ الورى ومُرْويةٌ سُقيا وظَبْيَة فافهمِ

وهمزةُ جبريل وهَزْمتُه كذا مباركةٌ أيضاً شفاءُ لأسقُمِ

ومُؤنِسةٌ ميمونةٌ حرميّةٌ وكافيةٌ شبّاعةٌ بتكرُّمِ

ومُغْذية عُدَّت وصافيةٌ غَدَتْ وسالمةٌ أيضاً طعامٌ لأطْعُمِ

شرابٌ لأبرار وعافيةٌ بَدَتْ وطاهرٌ تُكْتَم فأعْظِم بزمزمِ وقال آخر:

لزمزمَ أسماء منها زمزمُ طعام طُعم وشِفَا مَن يسقَمِ

سُقْيَا نبيّ اللَّه إسماعيلا مُرْوية، هزمة جبرائيلا

ص: 165

مُغْذِية عافيةٌ وكافِيَة سالمةٌ وعصمةٌ وصافيَة

وبَرَّة بركةٌ مباركة نافعة سرٌّ يغشي ناسكه

مُؤنِسةٌ حِرْمِيّة ميمونة وظَبْية طاهرة مضنونة

سيَّدة وعَونة قدْ دُعِيَتْ شبَّاعة العيال قِدْماً سُمِّيت من كتاب فضل ماء زمزم: سائد بكداش.

***

زمزم خارج بأمر اللَّه أغاثه لابن خليل اللَّه

وأُمّه هاجر حين سكنا بمكة وبعده زال العنا

والابن هذا هو إسماعيل ذاك النبيّ الصادق النبيل

ابن خليل اللَّه إبراهيم عليهما الصلاة والتسليم

وكان إسماعيل وهو يرضع عند خروج الماء وهو ينبع

قد وصلت حالته من الضرر من عطش في منتهى من الخطر

خافت عليه أُمّه الموت ولا أنيس ولا وحش لديهم لا ولا

قامت لتسعى سعيها في الوادي فربما يغيثها منادي

إذ سمعتصوتاً كصوت شخص فهرولت تسعى أشدّ الحرص

فرأت الماء يفور جارياًصارت تحوطه ليبقى باقيا

أخرجه جبريل رفقاً بهماصلّى عليه ربُّنا وسلما

في ذلك العهد من الزمان بأمر ربِّ الملك الديان

فشربت هاجر بعد أن سقت وليدَها فرويا وفرحت

أغاثها ربّ العباد المنعم وصانها من الردى المحتم بذا أتى الحديث في الصحيح فلا تمل عن قولنا الصحيح التاريخ القويم لمكّة: الكردي

زمزم

ص: 166

زمزم

هل ترى الشمس تحجّ الأربعا وضياها موشكاً أن يخشعا

هاهنا واد نداه أدمع ما تراه العين حتى تدمعا

فاخشعي يا روح في أرجائه والثمي البيت وحيي الأربعا

أربعا لم تلف إلا حرة هاهنا المجد الذي لن يركعا

هاهنا فاضت ينابيع السنا وحبا التاريخ والدنيا معا

طوّفي يا روح في الوادي فكم من نبي قام فيه وسعى

طهَّر اللَّه روابيه العلى بسلام دائم لن يفزعا

وأقام العزّ في ساحاته وبنى البيت العتيق الأرفعا

لا تقلصحراء فيها جفوة فطرة اللَّه هنا ما أروعا

إنها مدرسة المجد التي نظم اللَّه بناها ورعى

ومع الجدب فقدصارت بما قدمت للناس سهلًا ممرعا

إنما الجدب عليها قبة ومجن رد عنها المطمعا

قد حماها الروم والفرس فلم يجد الزيف إليها مهيعا

حسبها واللَّه أن أهدت لنا أحمدَ النور وكانت مرتعا

من لدن آدم كانت مرتعا للهدى يأوي إليها طيعا

يا نداء اللَّه في أرجائها يا أذان النور فيها مبدعا

يا خليل اللَّه هذي ساحة كتب اللَّه لها أن ترفعا

فامضِ يا جبريل واحفر زمزما وَ ارْوِ إسماعيل حتى يشبعا

واسق أجيالًا عطاشاً بعده من حجيج البيت كأساً منزعا

ص: 167

إن يكن ماءً ففيه نفحة كم أثارت شوقهم والأدمعا

يا ضيوفَ اللَّه لبُّوا ربّكم قد دعاكم فأجيبوا إذ دعا

يا ضيوفَ اللَّه هذي مكة فادخلوها سجداً أو ركعا

واحملوا البرَّ إلى أكنافها كتب اللَّه هنا أن يجمعا

وانثروا الدمعصلاة وانهلوا قرة العين هنا أن تدمعا

واسمعوا كلّ ملبٍّ جاءها نشوة الروح هنا أن تسمعا

واطلبوا العودة في الحِجر فكم تشتهي النفس هنا أن ترجعا

يا ضيوفَ اللَّه هذا بيته ويمين اللَّه في الأرض معا محمد بدر الدين

***

تحقيق حول شعب أبي طالب

ص: 168

تحقيق حول شعب أبي طالب

علي قاضي عسكر

علي قاضي عسكر

في بداية شارع الحجون شِعبٌ، يُسمّى في الجاهلية وبعد الإسلام ب «شعب أبي دُبٍّ»، ويسمّيه أهل مكة اليوم ب «مقبرة المعلّاة»، أو «جنة المعلّاة» (1) ومعروف بين الإيرانيين ب «مقبرة أبي طالب». وكان أهل الجاهلية وفيصدر الإسلام يدفنون موتاهم في شعب أبي دب (2) من الحجون إلى شعب الصفى،صفى السباب، وفي الشعب اللاصق بثنية المدنيين الذي هو مقبرة أهل مكة اليوم (3).

ويسمّى هذا الشعب أيضاً ب «شعب العفاريت»، ويعرف اليوم بشعبة الجن. وهو يتصل بالحجون الجاهلي (4)، وهذا مكان يقصده الكثير من حجاج بيت اللَّه


1- 1 فقه العبادات الحج: 205.
2- 2 أبو دب كنية رجل من بني سُواءة بن عامر، سكنه فسمّى به، أخبار مكة للأزرقي 2: 210- معجم معالم الحجاز: 56.
3- 3 أخبار مكة للازرقي 2: 209.
4- 4 المصدر نفسه 2: 272 في هامشه.

ص: 169

الحرام في كل عام بعد اتمام العمرة أو الحج لزيارة المدفونين فيه، منهم خديجة بنت خويلد زوجة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله امّ المؤمنين، وأبو طالب عمّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و ....

يسمّي بعض الناس هذا الشعب باسم «شعب أبي طالب»، ويريدون بذلك المكان الذي حوصر فيه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وخديجة وأبو طالب ومن كان معهم، لمدّة ثلاث سنوات من قبل المشركين، وهي تسمية غيرصحيحة من الوجهة التاريخيّة؛ لأنّ شعب أبي طالب مكان آخر بقرب المسجد الحرام.

نورد فيما يلي الأدلّة الواضحة، والقطعيّة على هذا الادّعاء:

الشعب في اللّغة:

قال الجوهري (م 393 ه) في الصحاح:

و «الشعب» بالكسر، الطريق في الجبل والجمع «الشعاب» (1).

قال ابن منظور (م 711 ه) في لسان العرب:

والشِّعْبُ: ما انْفَرَج بين جَبَلَين. والشِّعْب: مسيل الماء في بطنٍ من الأرض (2).

وقال فخر الدين الطريحي (م 1085) في مجمع البحرين:

... «الشِّعب» بالكسر، هو الطريق في الجبل، والجمع «شِعاب» ككتاب (3).

مكان شعب أبي طالب:

تقع مدينة مكة في أرض جبلية وبين شعابٍ كثيرة؛ ولهذا فهي في موقع منيع من مخاطر السيول، وتبدو كأنّها تحتضن الدور الّتي فيها، بما يشبه الحصن الطبيعي، وقد كانت موطناً لسُكنى مختلف القبائل.

وفي جوار المسجد الحرام ثلاثة شعاب متقاربة وهي:


1- 1 الصحاح 1: 156.
2- 2 لسان العرب 7: 126.
3- 3 مجمع البحرين 3: 513.

ص: 170

1- شعب أبي طالب.

2- شعب بني هاشم.

3- شعب بني عامر.

وكان أجداد النبيصلى الله عليه و آله وقومه قد سكنوا في هذه الشعاب الثلاثة.

(موضع هذه الشعاب الثلاثة موضّح في الخارطة بشكل دقيق)

ص: 171

قال الطريحي بعد تعريفه لمعنى الشعب:

وشِعبُ أبي طالب بمكة، مكان مولد النبيصلى الله عليه و آله وشعب أبي دبّ أيضاً بمكة وأنت خارج إلى منى (1).

وجاء في معجم البلدان في ذيل كلمة «شعب أبي يوسف»:

وهو الشعب الذي أَوى إليه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، وبنو هاشم لما تحالفت قريش على بني هاشم وكتبوا الصحيفة، وكان لعبد المطلب فقسّمه بين بنيه حين ضعف بصره، وكان النبيصلى الله عليه و آله أخذ حَظَّ أَبيه، وهو كان منزل بني هاشم ومساكنهم، فقال أبو طالب:

جزَى اللَّه عنّا عبد شمس ونَوْفلًا وتَيْماً ومخزوماً عقوقاً ومأثما

بتفريقهم من بعد وُدّ وأُلْفَةٍ جماعتنا كيما يَنالوا المحارما

كذبتم وبيتِ اللَّه نُبزِي محمداً ولَمّا تَرَوْا يَوْماً لدى الشِّعب قائماً (2) وقال العلّامة المجلسي قدس سره:

والشعب بالكسر: ما انفرج بين جبلين، وشعب أبي طالب معروف بمكّة، وهو الموضع الذي كان فيه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وأبو طالب، وساير بني هاشم عند إخراج قريش إياهم من بينهم. وكتب الكتاب بينهم في مهاجرتهم ومعاندتهم.

ثم يقول في ذيل كلمة الكليني رحمه الله: «في دار محمد بن يوسف»: المشهور في السّير: أن هذه الدار كانت للنّبيصلى الله عليه و آله بالميراث، ووهبها عقيل بن أبي طالب، ثم باعها أولادُ عقيل بعد أبيهم محمدَ بن يوسف أخا الحجاج فاشتهرت بدار محمد بن يوسف، فأدخلها محمد في قصره الذي يسمونه بالبيضاء، ثم بعد انقضاء دولة بني أمية حجّت خيزران أُمّ الهادي والرّشيد من خلفاء بني العباس فأفرزها عن القصر وجعلها مسجداً.- والقصوى مؤنث أقصى أي الأبعد- والمكان بهذا الوصف موجود الآن يزوره الناس (3).


1- 1 مجمع البحرين 2: 513.
2- 2 معجم البلدان 3: 393.
3- 3 مرآة العقول 5: 173 و 174.

ص: 172

الدّار التي ولد فيها النبيصلى الله عليه و آله:

معرفة الموضع الذي ولد فيه النبيصلى الله عليه و آله والديار التي كان يسكنها بنو هاشم في مكة؛ يساعدنا على أن نعرف شعب أبي طالب.

قال الأزرقي:

مولد النبيصلى الله عليه و آله أي البيت الذي ولد فيه النبيصلى الله عليه و آله وهو في دار محمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف، كان عقيل بن أبي طالب أخذه حين هاجر النبيصلى الله عليه و آله وفيه وفي غيره يقول رسول اللَّهصلى الله عليه و آله عام حجة الوداع حين قيل له: أين ننزل يا رسول اللَّه؟ وهل ترك لنا عقيل من ظل؟ فلم يزل بيده وبيد ولده حتّى باعه ولده من محمد بن يوسف، فأدخله في داره التي يقال لها البيضاء، وتعرف اليوم بابن يوسف، فلم يزل ذلك البيت في الدار حتّى حجّت الخيزران أمُّ الخليفتين موسى وهارون فجعلته مسجداً يصلى فيه، وأخرجته من الدار وأشرعته في الزقاق الذي في أصل تلك الدّار يقال له: زقاق المولد (1)، وهذا الشعب يُعرف اليوم بشعب بني هاشم وشعب علي، ويتّصل بالسّوق المسمّى بسوق الليل (2).

وذكر الفاكهي (م 272، 279 ه. ق):

ودار ابن يوسف لأبي طالب، والحق الذي يليه بعضُ دارِ ابن يوسف من مولد النبيصلى الله عليه و آله وهو الشعب الذي حاصرت فيه قُرَيشٌ بني هاشم، ورسول اللَّه مَعَهُم في الشِّعب (3).

ثم أشار محقّق هذا الكتاب في هامشه بانّ هذا الشعب يعرف اليوم ب «شِعْب علي» (4).

ثم قال الفاكهي بشأن دار أبي يوسف ما يلي:

وقال بعضُ الناس: إنّ دارَ ابن يوسفَ كانت لعبدِ المطلب، فأمر الحجاجُ


1- 1 أخبار مكة للازرقي 2: 198.
2- 2 المصدر نفسه، في هامشه.
3- 3 أخبار مكة للفاكهي 3: 264.
4- 4 المصدر نفسه.

ص: 173

أخاه محمد بن يوسف فاشتراها بمائة درهم، فدفعها الحجاجُ إليه، وأمر أخاه محمداً أن يبنيها، فبناها وكلاءُ محمد، فقال الناس: الدار لمحمد بن يوسف، فلما ولي الوليد بن عبد الملك (1) استعملَ خالدَ بن يوسف بن محمد بن يوسف على مكة، فادّعى أنها لأبيه، فخاصمه الحجاج بن عبد الملك بن الحجاج بن يوسف، فنظروا في الدواوين فوجدوا النفقةَ والثمَنَ من الحجاج، وكان الحجاج قد جعل الدارَ الخارجةَ وقفاً على وَلَدِ الحكم بن أبي عقيل، والوُسْطى على ولد محمد بن يوسف، والداخلةَ عَلى وَلَدِ الحجّاج. وذكر بعض أهل مكة أن محمد بن يوسف كان أودع عطاء بن أبي رباح المالَ الذي بناها به ثلاثين ألف دينار، فلمّا أراد وكلاؤه قبضَها، دعا النّاسَ ليشهدوا على قبضها منه، فقال سفيان بن عيينة: قال عمرو بن دينار: فكنت فيمن دُعي ليَشْهد، فكانت رؤيتُها أحبَّ الَىَّ مِنْ دِرْهَمَين.

ثمصارت هذه الدّارُ بعد ذلك لولد عبد الملك بنصالح. ثمصارت اليوم لأبي سهل محمد بن أحمد بن سهل.

الشاعر يذكر دار ابن يوسف هذه:

وموعِدُها دارُ ابن يوسفَ غُدْوةً كذا الْخَوخَةُ القُصْوى المُغَلَّقُ بابُها ويقال: انّ النبيصلى الله عليه و آله وهب حقّه من هذه الدار، والشِّعْبَ لعقيل بن أبي طالب، وكان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله سَخيّاً حَليماً سَمْحاً كريماً (2).

وقال الفاكهي في موضع آخر:

وفي دار ابن يوسف بئرٌ جاهليةٌ، حفرها عقيلُ ابن أبي طالب فلم تزل هذه الدار حتّى باعها ولدُه من محمد بن يوسف، وفي هذه الدار (3) البيتُ الذي وُلِد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وقد اتُّخِذَ مصلًّى يُصَلّى فيه، والذي يليه حق العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه حتّى دار خالصة مولاة الخَيْزَران، ثم حق المقوّم بن عبد المطلب، وهي دارُ طلوب مولاة زبيدة، ثم حق أبي لهب بن عبد المطلب وهي دار أبي يزيد


1- 1 كذا في الأصل وهو غريب، لأن الوليد بن عبد الملك توفى سنة 96 والحجاج توفى سنة 95. وقداستعمل الوليد خلال حكمه رجلين على مكة، أولهما خالد القسري، والثاني عمر بن عبد العزيز، ولم يستعمل على مكة سواهما. انظر شفاء الغرام 2: 172.
2- 2 أخبار مكة للفاكهي 3: 266.
3- 3 وكان الدار تقع على يسار الداخل إلى شعب علي، وبها مكتبة مكة المكرمة التابعة لوزارة الحج والأوقاف.

ص: 174

اللهبي، وفيها كان يسكُن الفضلُ بن العباس (1).

قال الكليني البغدادي (م 329 ه) قدس سره في ذكر مولد النبيصلى الله عليه و آله:

ولد النبيصلى الله عليه و آله لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الاوّل في عام الفيل يوم الجمعة مع الزّوال، وروى أيضاً عند طلوع الفجر قبل أن يبعث بأربعين سنة، وحملت به أُمّه في أيّام التشريق عند الجمرة الوسطى (2) وكانت في منزل عبد اللَّه بن عبد المطلب، وولدته في شعب أبي طالب في دار محمد بن يوسف (3) في الزاوية القصوى عن يسارك وأنت داخل الدار، وقد أخرجت الخيزران ذلك البيت فصيّرته مسجداً، يصلّي الناس فيه (4).

وذكر أيضاً في مكان آخر من أنّه: وماتت خديجة عليها السلام حين خرج رسول اللَّهصلى الله عليه و آله من الشِّعب.

وجاء في اتحاف الورى بأخبار أمّ القرى:

وكان الحَمْلُ برسول اللَّهصلى الله عليه و آله في شِعب أبي طالب في ليلة الجمعة من شهر رجب، وقيل في أيّام التشريق (5).

وذكر السيد الأمين في أعيان الشيعة:

ولدصلى الله عليه و آله بمكة يوم الجمعة أو يوم الاثنين ... وكانت ولادته في الدار المعروفة بدار ابن يوسف، وهو محمد بن يوسف أخو الحجاج، وكانصلى الله عليه و آله وهبها لعقيل بن أبي طالب، فلمّا توفى عقيل باعها ولده من محمد بن يوسف أخي الحجاج، فلمّا بنى داره المعروفة بدار ابن يوسف أدخل ذلك البيت في الدار، ثم أخذته الخيزران أمّ الرشيد فأخرجته وجعلته مسجداً يصلى فيه وهو معروف إلى الآن، يزار ويصلى فيه ويتبرك به. ولما أخذ الوهابيون مكة في عصرنا هذا هدموه، ومنعوا من زيارته على عادتهم في المنع من التبرك بآثار الأنبياء والصالحين، وجعلوه مربطاً للدواب (6).


1- 1 المصدر نفسه: 269.
2- 2 أي في بيت كان قريباً منها وكان البيت لعبد اللَّه أو موضع نزوله، إذ كانت لأهل مكة في منى منازل وبيوت ينزلونها في الموسم، ويحتمل أن يكون المراد بالمنزل الخيمة المضروبة له هناك- مرآة العقول 5: 173.
3- 3 كان محمد بن يوسف والياً على اليمن ومعروفاً بعدائه لآل علي عليه السلام توفّي في اليمن في سنة مائةللهجرة أو قبلها بقليل- الوافي بالوفيات 5: 242.
4- 4 الكافي 1: 439.
5- 5 إتحاف الورى بأخبار أمّ القرى 1: 15.
6- 6 أعيان الشيعة 1: 219.

ص: 175

وقال تقي الدين الفاسي المكي (م 832 ه):

ولدصلى الله عليه و آله بمكة في الدار التي كانت لمحمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف. ويقال: بالشعب. ويقال بالردْم (1). ويقال: بعسفان، قلت: قال السهيلي:

ولد بالشعب. وقيل: بالدار التي عند الصفا. وكانت بعد: لمحمد بن يوسف أخي الحجاج. ثم بنتها زبيدة مسجداً حين حجت. انتهى. والدار التي عند الصفا: هي دار الخيزران، ودار ابن يوسف بسوق الليل، وهي الموضع المعروف بمولده عليه الصلوة والسلام. وهذا الذي قاله السهيلي في ولادته بالدار التي عند باب الصفا غريب واللَّه أعلم. انتهى (2).

وجاء في السيرة الحلبية ما يلي:

وكان مولدهصلى الله عليه و آله بمكة في الدّار التيصارت تدعى لمحمد بن يوسف أخي الحجاج ... وكانت قبل ذلك لعقيل بن أبي طالب، ولم تزل بيد أولاده بعد وفاته، إلى أن باعوها لمحمد بن يوسف أخي الحجاج بمائة ألف دينار، قاله الفاكهي ...

فأدخلها في داره وسماها البيضاء أي لأنها بنيت بالجصّ، ثم طليت به فكانت كلها بيضاء، وصارت تعرف بدار ابن يوسف. لكن سيأتي في فتح مكة أنه قيل لهصلى الله عليه و آله:

يا رسول اللَّه تنزل في الدور؟ قال: هل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟ فان هذا السياق يدل على أن عقيلًا باع تلك الدار فلم يبق بيده ولا بيد أولاده بعده، إلّاأن يقال المراد باع ما عدا هذه الدار التي هي مولدهصلى الله عليه و آله ... وأن عقيلًا باع دار رسول اللَّهصلى الله عليه و آله التي هي دار خديجة أي التي يقال لها مولد فاطمة، وهي الآن مسجد يصلى فيه بناه معاوية أيام خلافته، قيل وهو أفضل موضع بمكة بعد المسجد الحرام أي واشتهر بمولد فاطمة، لشرفها والّا فهو مولد بقية اخواتها من خديجة ولعل معاوية اشترى تلك الدار ممن اشتراها من عقيل، ويدل لما قلناه قول بعضهم لم يتعرّضصلى الله عليه و آله عند فتح مكة لتلك الدار، الّتي أبقاها في يد عقيل أي التي


1- 1 قال البكري: ردم بني جُمَح بمكة، كانت فيه حرب بينهم وبين بني محارب بن فهر، فقتلت بنو محارب من بني جمح أشدّ القتل. فسُمّى ذلك الموضع بما رُدِم عليه من القتلى- شفاء الغرام 1: 432.
2- 2 العقد الثمين 18: 219 و 220.

ص: 176

هي دار خديجة، فإنّه لم يزل بهاصلى الله عليه و آله حتّى هاجر فأخذها عقيل. وفي كلام بعضهم لما فتح النبيصلى الله عليه و آله مكة ضرب مخيمة بالحجون فقيل له: ألا تنزل منزلك من الشعب؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل منزلًا ... وهي أي تلك الدار التي ولد بهاصلى الله عليه و آله عند الصفا قد بنتها زبيدة زوجة الرشيد أمّ الأمين مسجداً لما حجت. وفي كلام ابن دحية أن الخيزران أمّ هارون الرشيد لما حجت أخرجت تلك الدار من دار ابن يوسف وجعلتها مسجداً. ويجوز أن تكون زبيدة جددت ذلك المسجد، الذي بنته الخيزران فنسب لكل منهما. وأن الخيزران بنت دار الأرقم مسجداً وهي عند الصفا أيضاً. ولعلّ الأمر التبس على بعض الرواة؛ لأن كلا منهما عند الصفا.

وقيل ولدصلى الله عليه و آله في شعب بني هاشم.

ثم الحلبي يقول: قد يقال لا مخالفة لأنّه يجوز أن تكون تلك الدار من شعب بني هاشم، ثم رأيت التصريح بذلك، ولا ينافيه ما تقدم في الكلام على الحمل من أن شعب أبي طالب، وهو من جملة بني هاشم كان عند الحجون لانه يجوز أن يكون أبو طالب انفرد عنهم بذلك الشعب واللَّه أعلم (1) انتهى.

يتّضح من هذه الرواية التاريخية أن «شعب أبي طالب» لم يكن في منطقة الحجون، بل قرب المسجد الحرام وإلى جانب جبل الصفا وفي مكان فيه دار محمد بن يوسف ... ولا يوجد هنالك دليل يثبت هذا الاحتمال بأن شعب أبي طالب كان في منطقة الحجون، وربما يفهم من كلمة «واللَّه أعلم» التي أوردها الحلبي أنه لم يكن متأكداً منصحة ما نقله.

وذكر المسعودي (م 345 ه):

وكان مولده عليه الصلوة والسلام لثمان خلون من ربيع الأول من هذه السنة بمكة، في دار ابن يوسف، ثم بعد ذلك بنتها الخيزران أمّ الهادي والرشيد مسجداً (2).


1- 1 السيرة الحلبية 1: 62 و 63.
2- 2 مروج الذهب 2: 274.

ص: 177

وذكر في موضع آخر:

وفي سنة ست وأربعين كان حصار قريش للنبيصلى الله عليه و آله وبني هاشم وبني عبد المطلب في الشعب (1).

ونقل ابن الأثير (م 630 ه) عن ابن إسحاق بأن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وُلد يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الاوّل، وكان مولده بالدار التي تُعرف بدار ابن يوسف، قيل: ان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وهبها عَقِيل بن أبي طالب، فلم تزل في يده حتّى توفي، فباعها ولده من محمد بن يوسف أخي الحجاج، فبنى داره التي يقال لها: دار ابن يوسف وأدخل ذلك البيت في الدار حتّى أخرجته الخيزران فجعلته مسجداً يصلّى فيه (2).

وذكر الطبري (م 310 ه) في تاريخه نحوه (3).

وقال الفاسي المكي في ذكر المواضع المباركة بمكة المشرَّفة المعروفة بالمواليد:

فمنها المولد الذي يقال له، مولد النبيصلى الله عليه و آله بالموضع الذي يقال له سوق الليل، وهو مشهورٌ عند أهل مكة. وذكر الأزرقي أنّ عقيل بن أبي طالب أخذها لما هاجر النبيصلى الله عليه و آله إلى المدينة، ولم يزل بيده ويد أولاده حتّى باعه بعضهم من محمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف الثقفي، فأدخله في داره التي يقال لها دار البيضاء، ولم يزل هذا البيت في هذه الدار حتّى حجّت الخيزران أم الخليفتين موسى وهارون، فجعلته مسجداً يصلّى فيه، وأخرجته من الدار وشرعته إلى الزقاق الذي في أصل تلك الدار، انتهى (4).

وجاء في كتاب التاريخ القويم لمكة وبيت اللَّه الكريم:

كانت ولادة النبيصلى الله عليه و آله لمكة في دار أبي طالب، بشعب بني هاشم بقرب المسجد الحرام، ويسمّى الآن بشعب علي أي علي بن أبي طالب ولا زال محل


1- 1 المصدر نفسه: 287.
2- 2 الكامل في التاريخ 1: 294.
3- 3 تاريخ الأمم والملوك 2: 124.
4- 4 شفاء الغرام 1: 431.

ص: 178

ولادتهصلى الله عليه و آله معروفاً إلى اليوم (1).

وقد ذكر أكثر المؤرّخين أن ولادة النبيصلى الله عليه و آله كانت في شعب أبي طالب، أو في دار قرب الصفا، أو في الدار المعروفة بدار ابن يوسف وهي ثلاثة أسماء لمكان واحد (2).

وورد في كتاب سيرة ساكن الحجاز:

وكان مولدهصلى الله عليه و آله بالشِّعب وهو شعب بني هاشم (مكان معروف عند أهل مكة، يخرجون إليه في كل عام يحتلفون بذلك أكثر من احتفالهم يوم العيد إلى يومنا هذا، في الدار التي كانت لمحمد بن يوسف أخي الحجاج) (3).

وذكر محبّ الدين الطبري المكي في كتابه «القرى لقاصد أم القرى»:

كان عقيل بن أبي طالب قد استولى عليه (بيت النبيصلى الله عليه و آله) زمن الهجرة، فلم يزل بيده ويد ولده حتّى باعوه لمحمد بن يوسف (أخي الحجاج) فأدخله في داره التي يقال لها البيضاء، ثم عُرفت بدار ابن يوسف، ولم يزل ذلك، كذلك حتى حجّت الخيزران (جارية المهدي) فجعلته مسجداً يصلّى فيه، وأخرجته من الدار إلى الزقاق الذي يقال له «زقاق المولد» ... وهو الآن مكتبة عامة (4).

وقالصلاحُ الدّين الصَفَدي بعد بحث موسّع حول مكان ولادة النبيصلى الله عليه و آله:

القول الأرجح هو أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قد وُلد في عام الفيل في دار تقع في الزقاق المعروف بزقاق المولد الذي كان بيد عقيل بن أبي طالب (5).

وذكر عاتق بن غيث البلادي:

مولد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله من الناحية التاريخية ثابت أنه ولد عام الفيل 53 ق. ه تقريباً، في شعب أبي طالب المعروف اليوم بشعب علي وقد حول إلى مكتبة مكة، إبعاداً له عن زحام الناس وولعهم بالتبرك به (6).

وقد كان موضع ولادة رسول اللَّه، قبل تسلط الوهابيين على الحرمين


1- 1 التاريخ القويم لمكة وبيت اللَّه الكريم 1: 67.
2- 2 السيرة النبوية لابن هشام 1: 167.
3- 3 نهاية الايجاز في سيرة ساكن الحجاز 1: 6.
4- 4 القرى لقاصد أمّ القرى: 664.
5- 5 الوافي بالوفيات 5: 242.
6- 6 فضائل مكة: 232.

ص: 179

الشريفين موضعاً يزوره المؤمنون والمسلمون الذين يفدون إلى مكة من كل أرجاء العالم (1).

قال محمد بن علوي المالكي في كتابه باسم «في رحاب البيت الحرام»:

مولد النبيصلى الله عليه و آله وهو مكان معروف إلى الآن بمكة في سوق الليل ... ولما هاجر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله إلى المدينة استولى على هذا البيت عقيل بن أبي طالب ولم يزل بيده وبيد أولاده حتّى باعه بعضهم من محمد بن يوسف الثقفي، ثم لما حجّت الخيزران أم الخليفتين أخرجته وجعلته مسجداً يصلّى فيه، قال ابن ظهيرة ما معناه: وجرت العادة بمكة في ليلة مولد الرسول أن يتهيأ الكبار والعلماء وأعيان البلاد بالفوانس والشموع فيخرجون إلى بيت مولد الرسول لزيارته وإحياء ذكر مولده ... قال: والمعروف المشهور في مولده- عليه الصلاة والسلام- هو الذي بسوق الليل ولا اختلاف فيه عند أهل مكة ثم قال: وكون هذا مولد الرسولصلى الله عليه و آله مشهور متوارث يأثر الخلف عن السلف (2).

قال الفاسي المكي فيصفة مولد النبيصلى الله عليه و آله:

أما الصفة التي أدركناه عليها، فإنه بيت مربع وفيه اسطوانة عليها عقدان، وفي ركنه الغربي مما يلي الجنوب زواية كبيرة قبالة بابه الذي يلي الجبل، وله باب آخر في جانبه الشرقي ايضاً، وفيه عشرة شبابيك، أربعة في حائطه الشرقي، وهو الذي فيه باباه المتقدم ذكرهما، وفي حائطه الشمالي ثلاثة، وفي الغربي واحد، وفي الزاوية اثنان، واحد في جانبها الشمالي وواحد في جانبها اليماني، وفيه محراب، وبقرب المحراب حُفرة عليها درابزين من خشب، وذرْع تربيع الحُفْرة من كل ناحية ذراع وسُدس، الجميع بذراع الحديد، وفي وسط الحُفرة رخامة خضراء، وكانت هذه الرخامة مطوَّقة بالفضّة على ما ذكره ابن جبير، وذكر أنّ سعتها مع الفضة ثلثا شبر (3). وهذا الموضعُ جُعل علامة للموضع الذي وُلد فيه النبيصلى الله عليه و آله


1- 1 السيرة الحلبية 1: 57.
2- 2 في رحاب البيت الحرام: 262.
3- 3 كذا في الأصل، ولكن الذي عند ابن جبير-ص 141-: «فتكون سعتها مع الفضّة المتصلة بها شبراً».

ص: 180

من هذا المكان (1)، وذرع هذا المكان طولًا أربعة وعشرون ذراعاً وربع ذراع.

وذلك من الجدار الشمالي إلى الجدار المقابل له، وهو الجنوبي الذي يلي الجبل، وذرْعه عرضاً أحد عشر ذراعاً وثمن ذراع. وذلك من الشرقي الذي فيه بابه إلى جداره الغربي المقابل له، وطولًا الزاوية المشار إليها ثلاثة عشر ذراعاً ونصف ذراع وعرضها ثمانية ونصف، الجميع بذراع الحديد. وكان تحزير ذلك بحضوري، ولم يذكر الأزرقيصفة هذا المكان ولا ذرْعه، وقد خفي علينا كثيرٌ من خبر عمارته. والذي علمته من ذلك أن الناصر العباسي عمّره في سنة ستّ وسبعين وخمسمائة. ثم الملك المظفرصاحب اليمن في سنة ستّ وستين وستمائة، ثم حفيده المجاهد في سنة أربعين وسبعمائة، وفي سنة ثمانٍ وخمسين وسبعمائة من قِبَل الأمير شيخون أحد كبار الدولة بمصر (2)، وفي دولة الملك الأشرف شعبانصاحب مصر بإشارة مدير دولته «يلبغا الخاصكي» (3) سنة ستّ وستين وسبعمائة، وفي آخر سنة إحدى وثمانمائة، أو في التي بعدها، من المال الذي أنفذه الملك الظاهر برقوقصاحب مصر لعمارة المسجد الحرام وغيره بمكة. وكانت عمارة هذا المولد بعد موته (4).

هذا وقد وصفه ابن جبير في رحلته بوصف غير هذا، مما يدلّ على أنه لم يدم علىصفة واحدة بل كان يتغيرصفةً وبناءً بتغير الزمن.

وأعاد بناء هذا البيت بعد أن تهدم وصار خرباً مهجوراً الشيخ عباس قطان أمين العاصمة، ووضعت فيه مكتبة عامة عظيمة فَخمة، تسمّى بمكتبة مكة المكرمة مفتوحة للمطالعة والمراجعة.

وفي الأعوام الأخيرة هدم البنايات الّتي حول المكتبة لتوسيع أطراف المسجد الحرام، ويمكن ملاحظة الأبنية التي شيّدت في موضع ولادة النبيصلى الله عليه و آله من خلال التصاوير.


1- 1 شفاء الغرام 1: 433.
2- 2 توفي سنة 758 ه. الدرر الكامنة 2: 196 و 197، رقم 1950.
3- 3 هو يلبغا بن عبد اللَّه الخاصكي الناصري الأمير الكبير المشهور. قتل سنة 768 ه. قال ابن حجر: كانت ليلبغاصدقات كثيرة على طلبة العلم ومعروف كثير في بلاد الحجاز. الدرر الكامنة 4: 438- 440، رقم 1218.
4- 4 شفاء الغرام 1: 432- 434.

ص: 181

وجاء في بحار الأنوار:

... ولد النبيصلى الله عليه و آله لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأوّل في عام الفيل يوم الجمعة مع الزوال، وروي أيضاً عند طلوع الفجر قبل أن يبعث بأربعين سنة، وحملت به أمّه في أيام التشريق عند الجمرة الوسطى وكانت في منزل عبد اللَّه بن عبد المطلب، وولدته في شعب أبي طالب في دار محمد بن يوسف في الزاوية القصوى عن يسارك وأنت داخل، وقد أخرجت الخيزران ذلك البيت فصيرته مسجداً يصلّي الناس فيه (1).

وروى الزهرة عن أبي عبد اللَّه الطرابلسي، البيت الذي ولد فيه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في دار محمد بن يوسف (2).

وقال الكليني: [ولد] في شعب أبي طالب في دار محمد بن يوسف في الزاوية القصوى عن يسارك وأنت داخل الدار (3).


1- 1 بحار الأنوار 15: 251، رواية 5 باب 3.
2- 2 بحار الأنوار 15: 276 رواية 23.
3- 3 المصدر نفسه.

ص: 182

يظهر ممّا ذكرناه أوّلًا: أنّ النبيصلى الله عليه و آله قد وُلد في شعب أبي طالب. وثانياً: أنّ شعب أبي طالب موضع في مكة، قرب المسجد الحرام، وبعيداً عن المكان الذي في الحجون الذي يعرفه بعضٌ باسم هذا الشعب.

مقاطعة النبيصلى الله عليه و آله وأصحابه في شعب أبي طالب:

فلما رأت قريشٌ أنّ أصحاب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قد نزلوا بلداً أصابوا به أمناً وقراراً، وأنّ النجاشي قد منع مَن لجأ إليه منهم، وأنّ عمر قد أسْلم، فكان هو وحمزة بن عبد المطلب مع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وجعل الإسلامُ يَفشو في القبائل، اجتمعوا وائتمروا [بينهم] أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم، وبني المطّلب، على أن لا يَنْكحوا إليهم ولا يُنكحوهم، ولا يبيعوهم شيئاً، ولا يبتاعوا منهم، فلما اجتمعوا لذلك كتبوه فيصحيفة، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم عَلَّقُوا الصحيفةَ في جَوف الكعبة توكيداً على أنفسهم، وكان كاتبَ الصحيفة منصورُ بن عِكرمة بن عامر بن هاشم بن عَبْد مناف بن عبد الدار بن قُصَيّ ....

فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو المطّلب إلى أبي طالب بن عبد المطلب فدخلوا معه في شِعْبه واجتمعوا إليه، وخرج من بني هاشم أبو لَهب، عبد العُزّى بن عبد المطّلب، إلى قريش فظاهرهم (1).

وقال السيد الأمين في أعيان الشيعة:

... وحصروهم في شعب أبي طالب أول المحرم سنة سبعة من البعثة فدخل بنو هاشم الشعب، مسلمهم وكافرهم عدا أبي لهب وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب لشدة عداوتهما للرسولصلى الله عليه و آله ... وانحاز إليهم بنو المطلب بن عبد مناف فكانوا أربعين رجلًا، وحصن أبو طالب الشعب وكان يحرسه ليلًا ونهاراً ... وسمع أصواتصبيانهم من وراء الشعب وذلك أشدّ ما لقى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله


1- 1 السيرة النبوية لابن هشام 1: 375.

ص: 183

وأهل بيته بمكة، وكان هشام بن عمرو أحد بني عامر بن لؤي يأتي بالبعير بعد البعير قد أوقره طعاماً أو تمراً إلى فمّ الشِّعب فينزع عنه خطامه ويضربه على جنبيه فيدخل الشعب، فبقوا في الشعب سنتين أو ثلاث سنين ... وخرج بنو هاشم من حصار الشعب في السنة العاشرة أو التاسعة من النبوة إلى مساكنهم ... (1).

قال الكازروني في المنتقى وغيره:

... فعمد أبو طالب فأدخل الشعب ابن أخيه وبني أبيه ومن اتبعهم، فدخلوا شعب أبي طالب وآذوا النبي والمؤمنين أذًى شديداً، وضربوهم في كل طريق، وحصروهم في شعبهم، وقطعوا عنهم المارّة من الأسواق ونادى منادي الوليد بن المغيرة في قريش: أيّما رجل منهم وجدتموه عند طعام يشتريه فزيدوا عليه، فبقوا على ذلك ثلاث سنين حتى بلغ القوم الجهد الشديد، حتّى سمعوا أصواتصبيانهم يتضاغون- أي يصيحون من الجوع من وراء الشعب- ...

ويصبح قريش وقد سمعوا أصواتصبيان بني هاشم من الليل يتضاغون من الجوع ... (2).

وجاء في إتحاف الورى باخبار امّ القرى:

دعا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله على كاتب الصحيفة فشُلَّت يده، ثم غدت قريش على مَنْ اسْلَم فأوثقوهم وآذوهم، واشتد البلاءُ عليهم ... ولما فعلت قريش ذلك انحاز رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وسائر بني هاشم وبني المُطَّلب،- خلا أبا لهب- وبنو المطلب وولده في الشِّعْب، وخرج اللعين أبو لهب وولدُه إلى قريش، فظاهرهم على بني هاشم وبني المُطَّلب، وقطعوا عنهم المِيَرة والمادة، فكانوا لا يقدرون على ذلك إلّا من الموسم إلى الموسم، ولا يخرجون الّا من موسم إلى موسم، حتى بلغ بهم الجهد، وسمع أصواتصبيانهم من وراء الشِّعب يَتَضاغَوْن من الجوع. فمن قريش


1- 1 أعيان الشيعة 1: 335.
2- 2 بحار الأنوار 19: 18 و 19.

ص: 184

من سَرَّهُ ذلك ومنهم من ساءَه، ولم يكن يصل إليهم شي ء إلّا سِرّاً، حتّى إنّ المُطْعِمَ بن عَدِىّ أدخل عليهم في بعض الأيام ثلاثة أوقار من الطعام، وكان النبيصلى الله عليه و آله يَشكُرُ له ذلك، وكانت العير تأتي من الشام وعليها الحِنْطَة إلى حكيم بن حِزَام بن خُوَيْلد فيوجهها نحو الشِّعب، ثم يَضرب أدبارها فتدخل عليهم، فيأخذون ما عليها من الحنطة، وكان هشام بن عمرو بن ربيعة أوْصَلَ قريش لبني هاشم حين حُصِرُوا في الشِّعْب، أدخل عليهم في ليلة ثلاثة أحمال طعام، فعلمت بذلك قريش، فمشوا إليه فكلَّمُوه في ذلك فقال: إني غير عائد لشي ء تحالفتم عليه. ثم عاد الثانية وأدخل حِملًا أو حِمْلين، فغالظته قريش وهمّوا به، فقال أبو سفيان بن حرب: دَعُوه؛ رجلٌ وصَلَ رحمه، أما إني أحلُفُ باللَّه لو فعلنا مثل ما فعل كان أجمل (1).

وقال في موضع آخر: ... فلما رأى أبو طالب عملَ القوم جمع بني عبد المطلب وأمرهم أن يُدخِلوا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله شِعْبَهم، ويمنعوه ممن أراد قتله، فاجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم ... (2).

فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين، واشتدّ عليهم البلاء والجَهْدُ، وقطعوا عنهم الأسواق، فلا يتركوا طعاماً يَقْدُم مكة ولا بيعاً إلا بادروهم فاشتروه، يريدون بذلك أن يُدْرِكُوا سَفْكَ دم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وكان أبو طالب إذا أخذ النّاسُ مضاجعهم أمر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فاضطجع على فراشه، حتّى يرى ذلك من أراد مكراً به واغتياله، فاذا نَوَّمَ الناس أمر واحداً مِنْ بنيه، أو اخوته، أو بني عمّه فاضطجع على فراش رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وأمر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أن يأتي بعض فرشهم فينام عليه (3).

وقال ابن كثير في السيرة النبوية:

... فلما رأى أبو طالب عملَ القوم جمع بني عبد المطلب، وأمرهم أن


1- 1 إتحاف الورى بأخبار أمّ القرى، الجزء الأوّل: 283.
2- 2 المصدر نفسه: 284.
3- 3 إتحاف الورى بأخبار أمّ القرى، الجزء الأول: 284- دلائل النبوة 2: 81- 2: 43- 44- شرح المواهب 1: 278- 279.

ص: 185

يُدْخلوا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله شِعْبَهم وأمرهم أن يمنعوه ممن أرادوا قتله ... وحَصْرهم إيّاهم في شِعب أبي طالب مدّة طويلة (1).

وجاء في كتاب التاريخ القويم لمكة وبيت اللَّه الكريم: فانحاز بنو هاشم بسبب ذلك في شعب أبي طالب، وهو المعروف اليوم «بشعب علي» ودخل معهم بنو المطلب سواء في ذلك مسلمهم وكافرهم ما عدا أبي لهب فإنه كان مع قريش، فلما انفصلوا عن قريش بالشعب المذكور، جهد القوم جهداً عظيماً، وتعبوا تعباً شديداً حتّى أكلوا أوراق الأشجار، لأن قريشاً شدّدوا الحصار عليهم، وكان ذلك في السنة السابعة من البعثة، ومكثوا على هذا الحال من الضيق والتعب الشديد ثلاث سنوات (2).

وقال أيضاً في موضع آخر:

قال هذه القصيدة أبو طالب عمُّ النبيصلى الله عليه و آله في الشِّعب وهو شِعْبُ أبي طالب، الّذي آوى إليه بنو المطلب وبنو هاشم مع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ثم يذكر ما قاله في الشعب:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في رحمة وفواضل

جزى اللَّه عنّا عبد شمس ونوفلا عقوبة شر عاجلًا غير آجل

بميزان قسط لا يخس شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل

ونحن الصميم من ذؤابة هاشم وآل قصيٍّ في الخطوب الأوائل (3) وجاء في بحار الأنوار:

من معجزاتهصلى الله عليه و آله أنّ قريشاً كلهم اجتمعوا وأخرجوا بني هاشم إلى شعب أبي طالب، ومكثوا فيه ثلاث سنين إلّا شهراً، ثم أنفق أبو طالب وخديجة جميع مالهما، ولا يقدرون على الطعام إلّا من موسم إلى موسم فلقوا من الجوع والعرى ما اللَّه أعلم به ... (4).


1- 1 السيرة النبوية لابن هشام 2: 43.
2- 2 التاريخ القويم لمكة وبيت اللَّه الكريم 1: 94- 95.
3- 3 المصدر نفسه: 96.
4- 4 بحار الأنوار 19: 16.

ص: 186

وقال ابن سعد في «الطبقات الكبرى»:

... وحصروا بني هاشم في شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من حين تنبّى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وانحاز بنو المطلب بن عبد مناف إلى أبي طالب في شعبه مع بني هاشم ... (1).

وجاء في الكامل لابن الأثير:

فلما فعلت قريش ذلك انحازت بنو هاشم وبنو المطّلب إلى أبي طالب فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا ... وذكروا أن أبا جهل لقى حكيماً بن حِزام بن خُوَيْلد ومعه قمحٌ يريد به عمّته خديجة، وهي عند رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في الشِّعب متعلّق به وقال: واللَّه لا تبرح حتّى أفضحك، فجاء أبو البختري بن هشام فقال:

ما لك وله؟ عنده طعام لعمّته أفتمنعه أن يحمله إليها؟ خلّ سبيله، فأبى أبو جهل، فنال منه. فضربه أبو البختري بلَحى جمل فشجّه ووطأه وطأً شديداً، وحمزة ينظر إليهم، وهم يكرهون أن يبلغ النبيصلى الله عليه و آله ذلك فيشمت بهم هو والمسلمون.

ورسول اللَّهصلى الله عليه و آله يدعو الناس سرّاً وجهراً، والوحي متتابع إليه، فبقوا كذلك ثلاث سنين (2).

وفي السيرة للذهبي:

فلبثت بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين ... وقال محقّقه في هامشه: قال الحافظ أبو الحسن أحمد بن يحيى البلاذري عن المدائني، عن أبي زيد الأنصاري، عن أبي عمرو بن العلاء عن مجاهد عن ابن عباس قال: حصرنا في الشعب ثلاث سنين، وقطعوا عنّا الميرة حتّى إن الرجل ليخرج بالنفقة فلا يبتاع شيئاً، حتّى مات منّا قوم (3).

وجاء في الصحيح من سيرة النبي الأعظمصلى الله عليه و آله:

ودخل بنو هاشم الشعب- شعب أبي طالب- ومعهم بنو المطلب بن عبد


1- 1 طبقات ابن سعد، 1: 209.
2- 2 الكامل في التاريخ 1: 504.
3- 3 السيرة للذهبي: 221.

ص: 187

مناف، باستثناء أبي لهب- لعنه اللَّه وأخزاه- واستمروا فيه إلى السنة العاشرة ...

ووضعت قريش عليهم الرقباء حتّى لا يأتيهم أحد بالطعام. وكانوا ينفقون من أموال خديجة وأبي طالب حتّى نفدت، حتّى لقد اضطروا إلى أن يقتاتوا بورق الشجر. وكانصبيتهم يتضاغون جوعاً، ويسمعهم المشركون من وراء الشعب، ويتذاكرون ذلك فيما بينهم ... ولم يكونوا يجسرون على الخروج من شعب أبي طالب إلّا في موسم العمرة في رجب، وموسم الحج في ذي الحجة، فكانوا يشترون حينئذٍ ويبعيون ضمن ظروفصعبة جداً ... وقد استمرّت هذه المحنة سنتين أو ثلاثاً ... وكان علي أمير المؤمنين عليه السلام أثناءها يأتيهم بالطعام سرّاً من مكة، من حيث يمكن، ولو أنهم ظفروا به لم يبقوا عليه كما يقول الاسكافي وغيره (1).

وجاء في أعلام الورى:

... فلما بلغ ذلك أبا طالب جمع بني هاشم ودخل الشعب وكانوا أربعين رجلًا، فحلف لهم أبو طالب بالكعبة والحرم والركن والمقام لئن شاكت محمّداً شوكة لأثبنَّ عليكم يا بني هاشم. وحصّن الشعب وكان يحرسه بالليل والنهار ...

وكانت خديجة لها مالٌ كثيرٌ فانفقته على رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في الشِّعب (2).

وكتب اليعقوبي (م 293 ه) في هذا الصدد:

ثم حصرت قريش رسول اللَّه وأهل بيته من بني هاشم وبني المطلب ابن عبد مناف في الشعب، الذي يقال له شعب بني هاشم بعد ستّ سنين من مبعثه، فأقام ومعه جميع بني هاشم وبني المطلب في الشعب ثلاث سنين حتّى أنفق رسول اللَّه ماله وأنفق أبو طالب ماله وأنفقت خديجة بنت خويلد مالها، ثم نزل جبرئيل على رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فقال: إنّ اللَّه بعث الأرضة علىصحيفة قريش فأكلت كل ما فيها من قطيعة وظلم إلّا المواضع التي فيها ذكر اللَّه (3).


1- 1 الصحيح من سيرة النبي الأعظم 2: 108- شرح النهج للمعتزلي 13: 256.
2- 2 أعلام الورى: 59 و 60.
3- 3 تاريخ اليعقوبي 1: 389.

ص: 188

إن الوضع المهلك الذي آل إليه النبيصلى الله عليه و آله وأصحابه، حرّك نفراً من قريش لنقض الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم، فنهض هشام بن عمرو مع زهير بن أبي أُميّة، ومطعم بن عدي، وأبو البختري، وزمعة بن أسود بن المطلب، فاتّعدوا له، خَطمَ الحجون الّتي بأعلى مكة فاجتمعوا هنالك، وأجمعوا أمرهم وتعاهدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها (1).

أقول: يقع شعب الحجون في الموضع نفسه الذي فيه الآن مقبرة أبي طالب، وكان قبل الإسلام مقبرة أيضاً، وبالنتيجة فلو كان الشعب هنا، وفيه تعرض النبيصلى الله عليه و آله وأتباعه للمقاطعة، فلا معنى لأن يجعله الأشخاص المذكورون موضعاً خفيّاً لاجتماعهم وهو معرّض للخطر الدائم في أيّة لحظة!! إنّ الاستفادة من هذا المكان كموضع خفي تدل على أن الحجون كان خارج مكة، أو إلى جوارها على الأقل، بل إن بعض الروايات تصرّح بأن الحجون كان خارج مكة فيصدر الإسلام، ولهذا لا يمكن القول بأن النبيصلى الله عليه و آله وأتباعه وقومه خرجوا كلّهم من مكة وأقاموا خارجها!!

وروي في أصول الكافي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: لمّا توفي أبو طالب نزل جبرئيل على رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فقال: يا محمد، أخرج من مكة، فليس لك فيها ناصرٌ. وثارت قريش بالنبيصلى الله عليه و آله فخرج هارباً حتّى جاء إلى جبل بمكّة يقال له الحجون فصار إليه (2).

نقض الصحيفة:

بعد ثلاث سنين تقريباً، أخبر النبيصلى الله عليه و آله عمّه أبا طالب: بأنّ الأرضة قد أكلت كلَّ ما فيصحيفتهم من ظلم وقطيعة رحم، ولم يبق فيها إلا ما كان اسماً للَّه، فخرج أبو طالب من شعبه ومعه بنو هاشم إلى قريش، فقال المشركون: الجوع


1- 1 تاريخ الأمم والملوك 2: 125.
2- 2 أصول الكافي 1: 449.

ص: 189

أخرجهم ... وقالوا له: يا أبا طالب، قد آن لك أن تصالح قومك. قال: قد جئتكم بخير، إبعثوا ليصحيفتكم، لعله أن يكون بيننا وبينكمصلح فيها. فبعثوا، فأتوا بها، فلما وضعت وعليها أختامهم. قال لهم أبو طالب: هل تنكرون منها شيئاً؟

قالوا: لا. قال: إنّ ابن أخي حدّثني، ولم يكذبني قط: أن اللَّه قد بعث على هذه الصحيفة الأرضة، فأكلت كل قطيعة وإثم، وتركت كلّ اسم هو للَّه، فإن كانصادقاً أقلعتم عن ظلمنا، وإن يكن كاذباً ندفعه إليكم فقتلتموه. فصاح الناس:

أنصفتنا يا أبا طالب ... ففتحت، ثم أخرجت فإذا هي كما قالصلى الله عليه و آله فكبّر المسلمون، وامتقعت وجوه المشركين ... فقال أبو طالب:

أتبين لكم: أينا أولى بالسحر والكهانة؟ ...

فأسلم يومئذٍ عالم من الناس ... ولكن المشركين لم يقنعوا بذلك بل استمروا على العمل بمضمون الصحيفة، حتى قام جماعة منهم بالعمل على نقضها، وخرج الهاشميون حينئذٍ من شعب أبي طالب (1).

وقال ابن أبي الحديد: ... إنهم منعوا أيام الحصار في شعب بني هاشم من الماء العذب (2).

أسماء بعض بني هاشم الذين كانوا مع النبيصلى الله عليه و آله في الشعب خلال مدّة المقاطعة:

1- أبو طالب بن عبد المطلب.

2- علي بن أبي طالب.

3- حمزة بن عبد المطلب.

4- عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف.

(ومع أن عبيدة لم يكن من بني هاشم، إلّا أن اتحاد بني المطلب وبني هاشم، ومواقفهما المشتركة في الجاهلية والإسلام، يتيح لنا عدّه من بني هاشم).


1- 1 الصحيح من سيرة النبي الأعظم 2: 120 و 121.
2- 2 البحار 33: 114 رواية 408.

ص: 190

5- العباس بن عبد المطلب.

6- عقيل بن أبي طالب.

7- طالب بن أبي طالب.

8- نوفل بن الحارث بن عبد المطلب.

9- ابو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب.

10- الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب.

وكان شديداً على رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يبغضه ويهجوه بالأشعار، إلّا أنه كان لا يرضى بقتله (1).

11- خديجة بنت خويلد (2).

قد ذكر المؤرخون وكتّاب السّيرة: أنَّ الموضع الّذي حُصر فيه رسول اللَّه وأصحابه على يد قريش، هو شعب أبي طالب، أشرنا إلى بعضهم ونُشير إلى بعض آخر:

قال الطبرسي: فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب فدخلوا معه في شِعْبه، واجتمعوا إليه في شعبه ... (3).

وقال الفاسي المكي (م 832 ه):

فانحاز الهاشميون غير أبي لهب، والمطلبيون إلى أبي طالب، فدخلوا معه في شعبه، فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثاً (4).

وجاء في بحار الأنوار: وحاصروا بني هاشم في الشعب، شعب عبد المطلب أربع سنين، فأصبح النبيصلى الله عليه و آله يوماً وقال لعمّه أبي طالب: إنّ الصحيفة التي كتبتها قريش في قطيعتها قد بعث اللَّه عليها دابة فلحست كلَّ ما فيها غير اسم اللَّه (5).

وروى الواقدي:

دخل بنو هاشم في ليلة الأول من المحرم من السنة السابعة للبعثة في شعب


1- 1 شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 14: 65.
2- 2 المصدر نفسه: 59.
3- 3 تاريخ الأمم والملوك 2: 225.
4- 4 العقد الثمين 1: 230.
5- 5 بحار الأنوار 18: 120 رواية 16.

ص: 191

أبي طالب، واجتمع إليهم بنو المطلب في ذلك الشعب (1).

وقال محمد إبراهيم آيتي رحمه الله:

ولما عزمت قريش على فعلها اجتمع بنو هاشم وبنو المطلب بن عبد مناف إلى أبي طالب وصاروا كلُّهم إلى الشعب، سوى أبي لهب بن عبد المطلب الذي ناصر قريشاً (2).

وقال رفاعة رافع الطهطاوي:

شعب أبي طالب هو الموضع الذيصارت فيه المقاطعة ثم يقول: فانحاز الهاشميون إلى أبي طالب ... فدخلوا معه في شعبه، وخرج من بني هاشم أبو لهب ... وأقام بنو هاشم في الشعب ومعهم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله نحو ثلاث سنين، وكان بنو هاشم محصورين في الشعب لا يخرجون الّا من موسم إلى موسم ... واخرجوا بني هاشم وبني المطلب من الشعب وذلك في السنة العاشرة من مبعثه (3).

وكتب إبراهيم رفعت باشا في مرآة الحرمين:

القشاشية، في شرق المسجد الحرام ويطلّ عليها جبل أبي قبيس، وفي الجهة الشرقية منها شعب علي أو شعب بني هاشم (4).

وقال ياقوت الحموي:

شعب أبي يوسف، هو الشعب الذي أوى إليه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وبنو هاشم لما تحالفت عليهم قريش، على بني هاشم ...، وكان لعبد المطلب فقسمه بين بنيه حين ضعف بصره، وكان النبيصلى الله عليه و آله أخذ حظّ أبيه وهو كان منزل بني هاشم ومساكنهم (5). قال عاتق بن غيث البلادي بعد نقل هذا الموضوع في كتابه معجم معالم الحجاز:

ثم عرف هذا الشعب فيما بعد بشعب أبيصالب (6)، ثم شعب بني هاشم ويُعرف اليوم بشعب عليّ، وهو الشعب الذي يسيل بطرف أبي قُبَيْس من الشمال


1- 1 الطبقات الكبرى 1: 209.
2- 2 تاريخ پيامبر اسلام تاريخ حياة نبي الإسلام: 154.
3- 3 سيرة ساكن الحجاز، الجزء الاول: 115.
4- 4 مرآة الحرمين 1: 180.
5- 5 معجم البلدان 3: 393.
6- 6 كذا في المتن، ويمكن أن يكون المراد شعب أبي طالب.

ص: 192

بينه وبين الخندمة، فيه مولد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وهو اليوم مكتبة مكة أي المولد، يصب سيله على سوق الليل فوق المسجد الحرام بحوالي ثلاثمائة متر. كانت عند مصبّة بَّذر فهدمت سنة 1399 ه في توسعة شارع الغزّة (1).

وجبل أبي قبيس، هو أحد أشهر جبال مكة، ومنه يبدأ شعب علي أو شعب أبي طالب ويمتد إلى خندمة، وقد استودع فيه الحجر الأسود أيّام الطوفان وموضعه في شعب علي، أي المكان الذي ولد فيه الرسولصلى الله عليه و آله وذكر عبد الملك بن هشام أنه سمّى بأبي قبيس بن شامخ، وهو رجل من جُرْهُم، كان قد وَشى بين عمرو بن مُضاض وبين ابنة عمّه مَيّة، فنذَرَتْ أن لا تكلّمه، وكان شديد الكَلَف بِها فحَلَف لأقْتُلنَّ أبا قبيس، فهرب منه في الجبل المعروف به، وانقطع خَبَرُه، فإما مات وإما تردّى منه، فسُمّي الجبل أبا قبيس لذلك، في خبر طويل ذكره ابن هشامصاحب السيرة في غير كتاب السيرة، وقال أبو المنذر هشام: أبو قبيس، الجبل الذي بمكة، كَناه آدم عليه السلام بذلك حين اقتبس منه هذه النار التي بأيدي الناس إلى اليوم، من مَرْخَتَين نزَلَتا من السّماء على أبي قبيس فاحتَكَّتا، فَاوْرَتا ناراً، فاقتبَسَ منها آدم، فلذلك المَرْخُ إذا حُكَّ احَدُها بالآخر، خرجتْ منه النار (2).

بعض شعاب مكة:

كما ذكرنا سابقاً، يوجد في الشّمال الشرقي للمسجد الحرام ثلاث شعاب، وهي:

1- شعب علي أو شعب أبي طالب ويسمّى اليوم بالقشاشية (3) أيضاً.

2- شعب بني هاشم ويُسَمّى أيضاً ب «غزّة».

3- شعب بني عامر.


1- 1 معجم معالم الحجاز 5: 56.
2- 2 معجم البلدان 1: 103.
3- 3 لعل القشاشية منسوبة إلى الشيخ القشاشي، وقد كان يسكن مكة حوالي القرن الحادي عشر «انظر الجزء الثاني من كتاب تاريخ مكة للسباعي، حوادث الشريف أحمد بن عبد المطلب» من عهد الترك العثمانيين.

ص: 193

كان يسكن في هذه الأماكن الثلاثة، منذ العصر الجاهلي فما تلاه، أجداد النبيصلى الله عليه و آله وأبناء عبد المطلب وأبو طالب وبني هاشم (1).

وكذلك بعض البيوت في شعب علي، وبعض دار ابن يوسف كانت لأبي طالب، وبعض دار ابن يوسف (مولد النبيصلى الله عليه و آله) وما حوله لأبي النبيصلى الله عليه و آله عبد اللَّه بن عبد المطلب، وكذلك دار خالصة مولاة الخيزران، لعباس بن عبد المطلب ودار الطلوب مولاة زبيدة، حقّ المقوم بن عبد المطلب. وذكر غير واحد من المكيين أنّ الشعب الذي يقال له: شعب ابن يوسف- وهو شعب علي وبجانبه سوق الليل، كان لهاشم بن عبد مناف دون الناس. وكان عبد المطلب قد قسم حقه بين ولده ودفع إليهم ذلك في حياته فمن ثمّصار للنبيصلى الله عليه و آله حق أبيه عبد اللَّه بن عبد المطلب، وللعباس بن عبد المطلب أيضاً الدار التي بين الصفا والمروة التي بيد ولد موسى بن عيسى التي إلى جنب الدار التي بيد جعفر بن سليمان، ودار العباس هي الدار المنقوشة التي عندها العلم الذي يسعى منه مَن جاء من المروة إلى الصفا بأصلها، ويزعمون أنها كانت لهاشم بن عبد مناف، ولهم أيضاً دار أمّ هاني بنت أبي طالب- كان بجانب الباب المعروف باسمها- التي كانت عند الحناطين عند المنارة فدخلت في المسجد الحرام حين وسعه المهدي في الهدم الآخر سنة سبع وسبعين ومائة (2).

وقال أحمد السباعي:

... عند سوق الليل تصافحنا الدار التي كانوا يسمونها دار مال اللَّه، وكانوا ينفقون فيها على المرضى ويطعمونهم، وبالقرب من الدار يلتوي شعب ابن يوسف وهو ما نسميه شعب علي، وفيه دور عبد المطلب بن هاشم ودور أخرى لأبي طالب وأخرى للعباس بن عبد المطلب وإذا عدنا إلى استقامتنا في شارعنا العام يصافحنا دار العاص في فوهة شعب بني عامر، ثم يلتوي شعب بني عامر في


1- 1 مرآة الحرمين 1: 180 و 181.
2- 2 أخبار مكة للازرقي 2: 233.

ص: 194

دروب متعددة تقوم عليها دور لبني بكر، وأخرى لبني عبد المطلب بن عبد مناف ... ونمضي قليلًا إلى المعلاة لنجد الجزارين عن يميننا في شعب أبي دب، ثم مكان المقابر وهي بعد حدود شعب عامر ... (1).

صفوة القول:

إضافةً إلى ما مرّ ذكره، فإن شعب علي وشعب بني هاشم وشعب بني عامر، قرب المسجد الحرام محددة بشكل دقيق على الخرائط الموجودة عن الحجاز- قديماً وحديثاً- ولم يطلق أحدٌ اسم شعب أبي طالب على مقبرة أبي طالب الواقعة في شعب أبي دب، ولهذا فإن وجود الشعب في ذلك المكان مع كل هذه الأدلّة والشواهد، يمكن تبريره بالنقاط التالية:

أوّلًا: أنّ المنطقة كانت موضع سكن تلك العائلة.

وثانياً: توفّر امكانية الحياة، والاستفادة من مخزون الطعام والاشياء الأخرى الموجودة في الدور، والّا كيف يمكن البقاء على قيد الحياة لمدّة ثلاث سنوات، ومقاومة الظروف القاسية في تلك المنطقة القاحلة الخالية من أي ظل يظلهم من الشمس المحرقة، أو يقيهم لهب الرمضاء القاتلة؟!

ثالثاً: انّ المنطقة المسماة اليوم بمقبرة أبي طالب، كانت في العصر الجاهلي مقبرة ايضاً. وليس من المعقول لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله ان يترك جميع المناطق الموجودة في مكة ويلتجئ إلى مقبرة هو وأبو طالب ومجموعة من النساء والأطفال!

رابعاً: أن الحجون- كما أوضحنا سابقاً- تقع خارج مكّة، وهذا لا يتّسق والروايات القائلة بأنّ بكاء الأطفال كان يُسمع من خارج الشعب.

خامساً: جاء في بعض النصوص التاريخية أن الأوضاع كانت على درجة شديدة من القساوة، اضطر معها المحاصرون إلى أكل أوراق الأشجار


1- 1 أخبار مكة للسباعي: 31.

ص: 195

والخَبَطْ (1) (2) بينما لم تكن هناك أيّة أشجار أو نباتات في المقبرة آنذاك حتى يتناولها المحاصرون.

سادساً: يتضح مما نقله الأزرقي أن الحجون لم يسكنها أحد حتّى العام العاشر للهجرة، وظلت هذه المنطقة خارج مدينة مكة لعدة قرون.

سابعاً: لم تكن هذه المنطقة من مكة مسكونةً أساساً، وما كان فيها زرع أو دور، حتّى إنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله كان يضرب الخيام عند النزول فيها لعدّة أيام.

قال أبو الوليد:

إنّ النبيصلى الله عليه و آله بعدما سكن المدينة كان لا يدخل بيوت مكة، وكان إذا طاف بالبيت انطلق إلى أعلى مكة فاضطرب به الابنية، قال عطاء: في حجته فعل ذلك أيضاً، ونزل أعلى مكة قبل التعريف، وليلة النفر نزل أعلى الوادي (3)، ثم يضيف الأزرقي: قيل للنبيصلى الله عليه و آله يوم الفتح: أَلا تنزل منزلك بالشعب؟ قال: وهل ترك لنا عقيل منزلًا؟ فقيل لهصلى الله عليه و آله: فانزل في بعض بيوت مكة في غير منزلك، فأبى وقال: لا أدخل البيوت، فلم يزل مضطرباً بالحجون لم يدخل بيتاً، وكان يأتي المسجد من الحجون.

ونقل سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: رأيت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله مضطرباً بالحجون في الفتح يأتي لكلصلوة (4).

يتضح مما سبق أن شعب أبي طالب كان في غير موضع مقبرة أبي طالب، ولا يعرف متى حصل هذا الخلط وما سببه!!

والمؤرخ الوحيد الذي احتمل أن يكون موضع شعب أبي طالب في منطقة الحجون هو الحلبي الذي قال بعد بيانه لموضع ولادة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله:

أقول: قد يقال لا مخالفة لأنه يجوز أن تكون تلك الدار من شعب بني هاشم، ثم رأيت التصريح بذلك، ولا ينافيه ما تقدم في الكلام على الحمل من أن


1- 1 الخَبَطْ: اسم الورق السّاقط. لسان العرب 4: 16.
2- 2 الغدير 7: 363.
3- 3 أخبار مكة للازرقي 2: 161.
4- 4 المصدر نفسه.

ص: 196

شعب أبي طالب وهو من جملة بني هاشم كان عند الحجون؛ لأنه يجوز أن يكون أبو طالب انفرد عنهم بذلك الشعب. واللَّه أعلم (1).

ولكن لا يوجد هنالك دليل يثبتصحة هذا النقل. وربما يفهم من كلمة «واللَّه أعلم» التي أوردها الحلبي أنه لم يكن متأكداً منصحة ما نقله.

وعلى هذا فقد كان المسار الطبيعي للأحداث بالشكل التالي: أنه حينما تعرّض أبو طالب وبنو هاشم وبنو المطلب للخطر الداهم من العدو التقوا حول أبي طالب لكونه شخصية معروفة ومهاب الجانب، واجتمعوا في موضع يعرف بشعب أبي طالب، وتولوا حراسته دفاعاً عن أنفسهم وعن النبيصلى الله عليه و آله ولما انتهت المقاطعة، خرج بنو هاشم وبنو المطلب من الشعب، وعادوا إلى منازلهم، ولم يرجعوا إلى الشعب مرة أخرى، والنصوص التاريخية تثبت هذا المعنى، إلا أنّ البعض لم يلتفت إليها.


1- 1 السيرة الحلبية 1: 63.

ص: 197

الهوامش:

عبد اللَّه بن مسعود ورحلة الإيمان المباركة

ص: 198

ص: 199

ص: 200

(2) رجال من الحرمين الشريفين

عبد اللَّه بن مسعود ورحلة الإيمان المباركة

محمد سليمان

أُعرف ب (ابن مسعود)، اسمي عبد اللَّه بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي، كنيتي أبو عبد الرحمن، وقد اختارها لي رسول اللَّهصلى الله عليه و آله. أُمّي أمّ عبد الهذلي، كان أبي حليفاً لبني زهرة.

نشأتُ في مكّة، وعملتُ أجيراً أرعى غنماً لعُقبة بن أبي مُعيط.

سمعتُ بدعوة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله للإسلام، وكنتُ يومها غلاماً يافعاً، بعد أن قدم جمعٌ من عمومتي إلى مكة فرافقتهم، وكان في بغيتهم شراء عطر، فأُرشدوا إلى العباس بن عبد المطلب الذي كان جالساً عند زمزم، فجلسوا إليه، وجلستُ معهم. فبينا نحن عنده إذ أقبل رجل من باب الصفا ... عليه ثوبان أبيضان، كأنه القمر ليلة البدر، يمشي على يمينه غلام، حسنُ الوجه ...، تقفوهم امرأة قد سترت محاسنها، حتّى قصد الحجر فاستلمه، ثمّ استلمه الغلام واستلمته المرأة. طاف بالبيت سبعاً،

ص: 201

والغلام والمرأة يطوفان معه. ثمّ استقبل الركن، فرفع يديه وكبّر، وقامت المرأة خلفهما، فرفعت يديها وكبّرت، ثمّ ركع فأطال الركوع، ثمّ رفع رأسه من الركوع، فقنتَ مليّاً، ثمّ سجد وسجد الغلام معه والمرأة، يتّبعونه، يصنعون مثلما يصنع، فرأينا شيئاً أنكرناه، لم نكن نعرفه بمكة. فأقبلنا على العباس، وقلنا: يا أبا الفضل، إنّ هذا أمر لم نكن نعرفه فيكم!

قال: أجل، واللَّه، ما تعرفون هذا؟

فقلنا: من يكون هؤلاء؟

قال: هذا ابن أخي محمد بن عبد اللَّه، والمرأة خديجة بنت خويلد امرأته، والغلام عليّ بن أبي طالب. أما واللَّه ما على وجه الأرض أحد نعلمه يعبد اللَّه بهذا الدين إلّاهؤلاء الثلاثة.

فعدتُ إلى عملي، وقد شُغلت نفسي بما رأت. وما هي إلّاأيام حتّى أتيتُ النبيَّصلى الله عليه و آله، وأسلمتُ على يديه مبكراً، فكنت من السابقين الأوّلين، حيث كنتُ سادس ستة ما على وجه الأرض مسلمٌ غيرنا.

كما كنتُ أول مَن جهر بالقرآن الكريم بعد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في مكّة.

قرأت منه آيات بيّنات، فراحت تدوي في سماء الكعبة، وأفق مكّة البعيد، بعد أن اجتمع- يوماً- أصحاب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، فقالوا: واللَّه، ما سمعت قريش بهذا القرآن يُجهر لهابه قطّ، فمن رجل يُسمعهموه؟ فقلت: أنا.

قالوا: إنّا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلًا له عشيرة تمنعه من القوم إن أرادوه. فقلتُ: دعوني، فإنّ اللَّه سيمنعني.

وغدوت من فوري حتّى أتيتُ المقام في الضحى، وما إنصرتُ على بعد خطوات من زعماء قريش، وهم في أنديتهم حتّىصحتُ بصوت عالٍ تجاوبت أصداؤه: «بسم اللَّه الرحمن الرحيم، الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علّمه البيان ...» (1)

وأخذتُ أقرأ هذه السورة المباركة، فيما راح كلّ


1- 1 سورة الرحمن. استدلّ البعض بهذه القصة على أن سورة الرحمن مكيّة.

ص: 202

زعيم من زعماء قريش- الذين ذهلوا وأُدهشوا، وكأنصاعقة نزلت عليهم من غرابة ما يسمعون- يلتفت للآخر سائلًا؟ ما يقول ابنُ أمّ عبد؟! ويأتيه الجواب: إنّه يتلو بعض ما جاء به محمد. وفجأة أسرعوا نحوي وملامح الغضب الذي تملكهم قد ارتسمت على وجوههم، ثمّ انهالوا عليَّ بأيديهم وعصيّهم، وقد غادرت الرحمة قلوبهم، وأنا أقرأ دون توقف حتّى بلغتُ من السورة ما شاء اللَّه أن أبلغ، ثمّ انصرفتُ إلى أصحابي، وقد أُدمي رأسي من كثرة الجراح.

قالوا: هذا الذي خشينا عليك.

قلتُ: ما كان أعداءُ اللَّه أهونَ عليَّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينّهم بمثلها.

فقالوا: لا، حسبك، فقد أسمعتهم ما يكرهون.

لقد كان زعماء الشرك يتربّصون الدوائر بكلّ مؤمن بالإسلام، وبكلّصادحٍ بآيات القرآن الذي يطعن عقائدهم الضالة، ويسفّه عقولهم، ولهذا تراهم لا يكتفون بإرسال عيونهم لمتابعتنا ومراقبتنا بل يتابعوننا بأنفسهم. وأذكر أنّي ذهبتُ وسعد بن أبي وقاص، وعمار بن ياسر، وخباب بن الأرت، وسعيد بن زيد لنُصلي بعيداً عن عيونهم، في شعبٍ من شعاب مكة، فإذا بنفر من مشركي مكة منهم أبو سفيان بن حرب والأخنس بن شريق وغيرهما يطّلعون علينا، سبونا وعابونا، فحدث بيننا وبينهم عراك، وكان بيد سعد بلحى جملٍ ضرب به أحد رجالهم فشجّ رأسه، فكان أول دم أُريق منهم في الإسلام.

ولما رأى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ما حلّ بنا من البلاء، وما يُصيبنا من العذاب على أيدي قريش، قال: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإنّ فيها ملكاً لا يُظلَم أحدٌ عنده، وهي أرضصدق، حتّى يجعل اللَّه لكم فرجاً مما أنتم فيه». فكانت أول هجرة لي. وبعد عودتي منها هاجرتُ إلى يثرب حيث

ص: 203

كان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قد سبقنا إليها، فنلتُ بذلك وسام الهجرتين، فوسام البدريّين عندما شاركت في معركة بدر الكبرى، وكان النصر حليف المؤمنين وهم قلة، والهزيمة والذلّ نصيب المشركين وهم كثرة.

وقد أمر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أن يُلتمس أبو جهل الذي أصابه معوّذ بن عفراء، فعدتُ إلى ساحة المعركة، وأجلتُ نظري فيها، فوجدتُ أبا جهل في آخر رمق من حياته الآثمة، التي كان من فصولها: الإعتداء على رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وتعذيب المؤمنين، وقتل سميّة أمّ عمّار بن ياسر.

قلتُ له: الحمدُ للَّه الذي أخزاك.

قال: وبماذا أخزاني .. لمن الدائرة اليوم؟

قلت: للَّه ولرسوله.

ثمّ قال حين رآني علىصدره أُريد قتله: لقد ارتقيتَ مرتقًىصعباً يا رُوَيعيَ الغنم.

فقلت له: إنّي قاتلك يا أبا جهل!

قال: لستَ بأول عبد قتل سيده! أما إن أشد ما لقيته اليوم في نفسي لقتلك إياي، ألا يكون ولِّيَ قتلي رجلٌ من الأحلاف أو من المطيبين.

فضربته ضربةً وقع رأسه بين يديه ... وأقبلتُ برأسه وبسلاحه ودرعه وبيضته فوضعتها بين يدي رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، وقلتُ له: أبشر، يا نبيّ اللَّه، بقتل عدوّ اللَّه أبي جهل.

فقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: أحقّاً، يا عبد اللَّه؟ فو الذي نفسي بيده، لهو أحبّ إليّ من حُمر النعم، اللّهمّ قد أنجزت ما وعدتني فتمّم عليَّ نعمتك.

وسجد شكراً للَّه، ثمّ شهد لي بالجنة.

بعدها أمر النبيصلى الله عليه و آله بوضع قتلى المشركين في القليب، وعندها تذكرتُ: أنّ النبيصلى الله عليه و آله كان يُصلّي يوماً عند البيت، وأبو جهل وأصحابه له جلوس، إذ قال بعضهم لبعض: أيّكم يجي ءُ بِسَلى جزور بني فُلان، وقد نُحرت بالأمس، فيضعه على ظهر محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم عقبة بن

ص: 204

أبي معيط فجاء به، فنظر حتّى سجد النبيصلى الله عليه و آله، وضعه على ظهره بين كتفيه، وأنا أنظرُ لا أُغير شيئاً، لو كان لي منعةٌ. فجعلوا يضحكون ويميل بعضهم على بعض، ورسول اللَّهصلى الله عليه و آله ساجد لا يرفع رأسه، حتّى جاءته فاطمةٌ بعد أن أسرعت امرأة فأخبرتها، فطرحته عن ظهره، ورفع رأسه ثمّ قال: «اللّهم عليك بقريش) ثلاث مرّات، فلما سمعواصوته، شقّ عليهم، وخافوا دعوته، وكانوا يرونَ أنّ الدعوة في ذلك البلد مُستجابة، ثمّ سمّى: (اللّهمّ عليك بأبي جهل، وعليك بعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي مُعيط)، وعدّ السابع فلم أحفظه.

فو الذي نفسي بيده، لقد رأيتُ الذين عدّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آلهصرعى يوم بدر، ثمّ سحبوا إلى القليب، قليب بدر.

فنالوا بذلك جزاءهم العادل.

ووقعت معركة أُحد فكنت من الذين استماتوا بالذب عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله والدفاع عنه أمام السيل المتدافع من مشركي قريش، الذي يستهدف قتل رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بعد أن حلّت بنا هزيمة بعد نصر، كان سببها مخالفة الرماة أمرَ رسول:

«لا تبرحوا مكانكم، وإن رأيتمونا نُقتل فلا تنصرونا».

وما علمتُ أنّ أحداً من أصحاب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يريد الدنيا حتّى نزلت هذه الآية «منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة» (1)

في أولئك الرماة الذين تنازعوا أمرهم بينهم، فريقٌ سال لعابه حين رأى الغنائم التي خلّفها المشركون وراءهم، فترك موضعه، وفريق قليل ثبت مكانه امتثالًا لأمر الرسولصلى الله عليه و آله فاستشهد عن آخره.

وفي معركة حنين، ركنّا إلى قوتنا وكثرتنا، حتّى قال قائلٌ منّا: لن نُغلب اليوم من قلة، فشدّت كتائب العدو علينا شدّة رجل واحد، وأصبنا بهزيمة مباغته أول القتال، فتفرّقت جموع


1- 1 آل عمران: 152.

ص: 205

المسلمين الذين انتابهم الخوف والذعر، فيما راحت جماعة منّا تقدر بثمانين رجلًا من المهاجرين والأنصار، وكنت أحدهم تحيط برسول اللَّهصلى الله عليه و آله، الذي علاصهوة بغلته البيضاء وسط المعركة، وهو يصيح بالمنهزمين: إلى أين أيها الناس؟ هلمّوا إليّ- هلمّوا إليّ ... أنا رسول اللَّه، أنا محمد بن عبد اللَّه.

أنا النبيّ لا كذب أنا بن عبد المطلب اللّهمّ نزّل نصرك، اللّهمّ نزّل نصرك ... وإذا بالجموع المنهزمة تعود إلى ساحة المعركة، وقد غطّت تكبيرتهم وتلبيتهم فضاء الوادي، فكان النصر بعد الهزيمة، وكان الظفر بعد المذلة والهوان، وما رجعنا إلّاوقتلى المشركين قد ملأت ذلك الوادي، وأسراهم في الحبال عند رسول اللَّهصلى الله عليه و آله.

ثمّ تعال معي- عزيزي- لنقرأ كيفصوّر لنا القرآن الكريم هذهِ الواقعة أفضل تصوير بأعظم بيان.

«لقد نصركم اللَّه في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تُغنِ عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثمّ توليّتم مدبرين ثمّ أنزل اللَّه سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها وعذّب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين ثمّ يتوب اللَّه من بعد ذلك على من يشاء واللَّه غفورٌ رحيم» (1).

وبدأ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بتقسيم غنائم حنين على المسلمين، وعندها سمعت رجلًا يقول: إنّ هذه القسمة ما عُدل فيها، ما أريد بها وجه اللَّه.

فقلت؟ فمن يعدل إذا لم يعدل اللَّه ورسوله؟

وأتيتُ النبيَّصلى الله عليه و آله فأخبرتهُ، فتغيّر لونه حتّى ندمتُ على ماصنعت، ووددتُ أني لم أخبره.

ثمّ قالصلى الله عليه و آله: «رحم اللَّه موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر».

وأنزل اللَّه تعالى: «ومنهم مَن يلمزك في الصدقات فإن أُعطوا منها رضوا وإن لم يُعطوا منها إذا هم


1- 1 التوبة: 25- 27.

ص: 206

يسخطون» (1).

لقد شهدتُ مع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله كلّ مشاهده، ولم أتخلّف عنه أبداً، ولا غرابة في ذلك، فلقد تشرّفت بخدمته، ورافقته في حلّه وترحاله، حتّىصرتُصاحب سرّه. قال لي رسول اللَّهصلى الله عليه و آله:

«إذنُكَ عليَّ أن تسمع سِوادي (سرّي)، ويُرفَعَ الحجاب، حتّى أنهاك». فكنت ألجُ عليه، وأُلبسه نعليه، وأمشي معه، وأستره إذا اغتسل، وأوقظه إذا نام، ولهذا كلّه ولغيره عرفتُ عند الصحابة بصاحب السواد والسواك، وصاحب سرّ رسول اللَّه. ولهذا أيضاً ترى بعضهم يعدّني وأُمّي من آل النبيّصلى الله عليه و آله لكثرة دخولنا عليهم ولزومنا لهم. قال فيّ الصحابي الجليل حذيفة: «كان أقرب الناس هدياً ودَلًا وسمتاً برسول اللَّهصلى الله عليه و آله ابن مسعود، حتّى يتوارى عنّا في بيته. ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمدصلى الله عليه و آله أنه من أقربهم إلى اللَّه زلفاً». وكانت ملازمتي لرسول اللَّه فرصةً مباركة، نافعة لي، تزوّدت منه إيماناً وحكمة وأدباً، واستقيتُ منه علماً ومعرفة، حتّىصرتُ فقيهاً في الدين، عالماً بالقضاء وأحكامه، عارفاً بالقرآن وعلومه: ناسخه ومنسوخه، متشابهه ومحكمه ... تلقّيت كلّ ذلك من رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وبفضل وبركةصحبتي له. لقد أخذتُ من فيّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بضعاً وسبعين سورة، ولقد علم أصحاب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أنّي أعلمهم بكتاب اللَّه. فما من كتاب اللَّه سورة إلّا أنا أعلمُ حيث نزلت، وما من آية إلّا أنا أعلم فيمَ أُنزلت، ولو أعلم أنّ أحداً أعلمُ منّي لرحلتُ إليه، وما سمعتُ أحداً يردّ هذا عليّ ولا يعيبه. ولكنّي أذكر أن رجلًا قال لي يوماً: سمعتك تقول: «لو أعلم أحداً أعلم بكتاب اللَّه منّي تبلغه المطايا لرحلت إليه».

فقلتُ: نعم قلت: هذا.

فقال: فأين أنت عن عليّ.

قلت: به بدأتُ، إنّي قرأتُ عليه.

وأضيف- أيضاً- أنّي قرأت سبعين سورة على رسول اللَّهصلى الله عليه و آله،


1- 1 التوبة: 58.

ص: 207

وختمت القرآن على خير الناس بعده، عليّ بن أبي طالب ... وأن القرآن أُنزل على سبعة أحرف، ما من حرفٍ إلا وله ظهر و بطن، وإن علي بن أبي طالب عنده منه الظاهر والباطن.

كما كنت محبّاً للقرآن، حاملًا له، عارفاً بقراءاته، مجيداً لها، حسن الصوت به، وكنتُ أعدّ من القراء، ولفظة القراء هذه لا تطلق إلّاعلى نخبة قليلة تختصّ بقراءة القرآن، من بين عدد ممّن يعرفون القراءة في مجتمعنا الذي غلبت عليه الأُميّة. وقد قال فيّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «مَن سرّه أن يقرأ القرآن غضاً أو رطباً كما أُنزل فليقرأه على قراءة ابن أُمِّ عبد» وأمّ عبد كنية أُمّي. وشهد لي عليّ عليه السلام أنّي أوّل من قرأ آية من كتاب اللَّه على ظهر قلب بقوله: «أول من قرأ آية من كتاب اللَّه عن ظهر قلبه ابن مسعود».

وكثيراً ما كان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يحب أن يسمع القرآن منّي، وذات مرّة قال لي: اقرأ عليّ يا عبد اللَّه.

قلتُ: أقرأ عليك، وعليك أُنزل يا رسولَ اللَّه؟

فقالصلى الله عليه و آله: إنّي أُحبُّ أن أسمعه من غيري.

فأخذتُ أقرأ من سورة النساء، حتّى إذا بلغتُ قوله تعالى:

«فكيف إذا جئنا من كلّ أُمّة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً» فاضت عينا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله من الخشوع والخشية والإخبات للَّه ولتنزيله.

ولطالما جاءني بعض الصحابة إلى بيتي ليسمعو منّي قراءة القرآن وتفسيره؛ ولأن قراءتي هكذا كانت، ترى الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق من قبل الأمويين، الذي عرف بمكره واشتهر بإجرامه وتعطشه للقتل وتعذيب الناس، تراه يمنع قراءة القرآن كما قرأته، فيقول في ضمن كلمة له يهدّد ويتوعد بها الناس: «... ولا أجد أحداً يقرأ عليّ قراءة ابن أمِّ عبد إلّاضربتُ عنقه ...».

ص: 208

وكنتُ من الذين نزلت فيهم:

«ولا تطرد الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ يُريدون وجهه ...» (1)

نزلت في ستة نفر وأنا واحد منهم، حينما كنّا جلوساً عند رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، فقال بعض زعماء قريش: إنّا لا نرضى أن نكون أتباعاً لهؤلاء فاطردهم عنك.

فأنزل اللَّه هذه الآية.

«ولو أنّا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلّاقليل منهم» (2)

كنت من هذا القليل الذي استثناه اللَّه تعالى، فقد قلنا:

واللَّه لو أمرنا لفعلنا فالحمد للَّه الذي عافانا، فقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: إنّ من أمتي رجالًا، الإيمان في قلوبهم أنبت من الجبال الرواسي.

«الذين استجابوا للَّه وللرسول من بعد ما أصابهم القرح للَّذين أحسنوا منهم واتّقوا أجر عظيم» (3)

، نزلت هذه الآية في الذين أجابوا دعوة الرسولصلى الله عليه و آله مع ما فيهم من جراح وآلام شديدة في يوم أُحد، وكنت منهم، ندبنا الرسولصلى الله عليه و آله لنعود إلى المشركين فنقاتلهم.

ولما نزلت «ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جُناح فيما طَمِعوا إذا ما اتّقوا وآمنوا وعملوا الصالحات» (4).

قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله لي: أنت منهم.

فكانت فرحتي بذلك عظيمة جداً.

*** نلتُ شرف الرواية عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله حتّى تجدني في بعض الكتب الحديثية أُدعى ب (عبد اللَّه بن المسعود الراوي)، فقد ورد لي في كتب الحديث الكثير من الروايات المتّفق علىصحّتها، كما أن جمعاً من أعيان الصحابة والتابعين روى عني. وما نقلتُ حديثاً عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله حتّى تغير لون وجهي، وانتفخت أوداجي، وعلتني كآبة وانحدر عرقي من جبيني، ودمعت عيناي، وأقول في بداية نقلي للحديث: أو قريباً من هذا، أو نحو هذا، أو شبه هذا. كلّ ذلك خوفاً من


1- 1 الأنعام: 52.
2- 2 النساء: 66.
3- 3 آل عمران: 172.
4- 4 المائدة: 93.

ص: 209

الزيادة والنقصان، أو السهو والنسيان، فأكون قد حكيت عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ما لم يقله، أو أدخل في الدين ما ليس منه. أذكر بعض ما رويته:

منصلّىصلاة لم يصل فيها عليَّ وعلى أهل بيتي لم تقبل منه.

سبابُ المسلم فسوق، وقِتاله كفرٌ.

سألتُ النبيصلى الله عليه و آله: أيُّ العمل أحبُّ إلى اللَّه؟ قال: «الصلاةُ على وقتها».

قلتُ: ثمّ أيُّ؟ قالصلى الله عليه و آله: «ثمّ برُّ الوالدين». قلتُ: ثمّ أيُّ؟ قالصلى الله عليه و آله:

«الجهادُ في سبيل اللَّه». حدّثني بهنّ، ولو استزدتهُ لزادني.

إنّ المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخافُ أن يقع عليه، وإنّ الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرّ على أنفه.

إنّ الصدق يهدي إلى البر، وإنّ البرّ يهدي إلى الجنّة، وإنّ الرجل ليصدق حتّى يكونصديقاً، وإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النار، وإنّ الرجل ليكذب حتّى يكتب عنه اللَّه كذاباً.

سمعت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يقول بحقّ الصحابي الجليل «أبو ذر الغفاري»:

«يرحم اللَّه أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده، ويشهده عصابة من المؤمنين» وكان ذلك في مسيره إلى تبوك، حيث وقف بأبي ذر جملُهُ فتخلّف عليه، فلمّا أبطأ أخذ رحله عنه، وحمله على ظهره، وتبع النبيصلى الله عليه و آله ماشياً، فنظر الناس وقالوا: يا رسول اللَّه! هذا رجل على الطريق وحده.

فقالصلى الله عليه و آله: كن أبا ذر،

فلمّا تأمله الناس، قالوا: هو أبو ذر.

فقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: يرحم اللَّه أبا ذر، يمشي وحده ....

وبقيت طيلة سنين أفكّر بهذا القول حتّى نفى عثمان أبا ذر إلى الربذة وهو مكان يكرهه كثيراً، فأصابه بها أجلُه، ولم يكن معه إلّاامرأته وغلامه، فأوصاهما أن يغسلاه، ويكفناه ثمّ يضعاه على الطريق، فأوّل ركب يمرّ بهما

ص: 210

يستعينان به على دفنه، ففعلا ذلك. فإذا بي في رهط من أهل العراق، فأعلمتنا إمرأته بموته، حزنّا حزناً شديداً، ورحنا نبكي عليه بدموع غزيرة، وقلتُصدق حبيبي رسول اللَّهصلى الله عليه و آله:

لقد سمعته يقول: «يرحم اللَّه أبا ذر ...، ويموت وحده، ويبعث وحده، ويشهده عصابة من المؤمنين» ثمّ واريناه الثرى في سنة 32 ه.

فلك اللَّه يا أبا ذر، ما أنصفوك في شي ء.

ومن أدعيتهصلى الله عليه و آله التي رويتها هذا الدعاء:

ما من عبدٍ أصابه همٌّ، فقال: «اللّهمّ إنّي عبدُك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألكّ بكلّ اسم سميتَ به نفسك، أو ذكرته في كتابك، أو علَّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ضياءصدري، وربيع قلبي، وجلاءَ حزني، وذهاب همّي» إلّاأذهب اللَّهُ همّه، وبدّله مكان حزنه فرحاً.

ولو راجعت كتب التفسير، ومعاجم القراءات لوجدت لي قراءات أختصّ بها وحدي بلغت أربعاً وسبعين قراءة، وأخرى شاركتُ فيها آخرين، وتجد لي آراءً في القرآن وتفسير آياته أنفرد بها، وأخرى أُشارك فيها غيري، كما أنّ لي آراءً في الفقه، وفتاوى. وحكم وأقوال تناثرت في بطون الكتب، ببركات البيت النبوي الذي عشتُ في كنفه، وارتويتُ من ينبوع إيمانه وعلمه وأدبه وحكمته.

وهذه باقة من حكم وأدعية وأقوال لي:

ليس من الناس أحدٌ إلّاوهو ضيفٌ على الدنيا، ومالُه عارية: فالضيف مرتحل، والعارية مردودة.

إنّ الرجل لا يولد عالماً، وإنّما العلم بالتعلم.

ما من شي ء أولى بطول سجن من لسان.

ص: 211

ومن دعائي: اللّهم وسع عليّ من في الدنيا وزهدني فيها، ولا تُزوِها (تبعدها) عنّي وترغبني فيها ....

وإنّ لي دعاء ما أكاد أدعه:

اللّهمّ إنّي أسألك إيماناً لا يبيد، ونعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع.

إنّ في كتاب اللَّه آيتين، ما أصاب عبدٌ ذنباً فقرأهما ثمّ استغفر اللَّه إلّا غفر له:

«والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا اللَّه فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلّااللَّه ولم يُصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون» (1).

«ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللَّه يجدِ اللَّه غفوراً رحيماً» (2).

إن عملتم في دينكم بالقياس، أحللتم كثيراً مما حرّم اللَّه، وحرّمتم كثيراً مما أحلّ اللَّه.

ومن خطبة لي:

أصدق الحديث كتابُ اللَّه، وأوثق العُرى كلمة التقوى خير زاد، وأكرم الملل ملّة إبراهيم عليه السلام، وخير السنن سنّة محمدصلى الله عليه و آله .. وما قلّ وكفى خيرٌ ممّا كثر وألهى، لنفسٌ تحييها خيرٌ من إمارة لا تُحصيها. خير الغنى غنى النفس. وخير ما أُلقي في القلب اليقين.

الخمر جماع الآثام ... مَن يَغفر يُغفر له، مكتوب في ديوان المحسنين. من عفا عُفي عنه، ... السعيد مَن وعظ بغيره ...

أحسن الهدى هدى الأنبياء، أقبحُ الضلالة الضلالةُ بعد الهدى، أشرف الموت الشهادة ....

*** عرف الصحابة قدري، ومنزلتي عند رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، وسبقي وفضلي في الإسلام.

فقد ارتقيت- يوماً- شجرة لأجتني من ثمرها للصحابة وهم ينظرون إلى دقّة ساقي ويضحكون، فقال لهم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: ما يضحككم! أو تعجبون من دقّة ساقيه؛ فو الذي نفسي بيده لهما أثقلُ في الميزان


1- 1 آل عمران: 135.
2- 2 النساء: 110.

ص: 212

يوم القيامة من أُحد.

وقد سمع عليُّ عليه السلام- يوماً- ثناء جمع من الصحابة عليَّ حيث قالوا: ما رأينا رجلًا أحسن خُلقاً، ولا أرفق تعليماً، ولا أحسن مجالسة، ولا أشدّ ورعاً من ابن مسعود. فقال عليه السلام:

«أُنشدكم اللَّه أهو الصدق من قلوبكم؟

قالوا: نعم. قال: اللّهم اشهد أنّي أقول مثل ما قالوا، وأفضلَ من قرأ القرآن، وأحلّ حلاله، وحرّم حرامه، فقيهٌ في الدين، عالمٌ بالسنّة».

وها هو الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، يعين عمار بن ياسر والياً على الكوفة، ويجعلني وزيراً ومعلماً في كتاب واحد سنة 21 ه، جاء فيه:

«إنّي قد بعثتُ عمار بن ياسر أميراً، وعبد اللَّه بن مسعود معلماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، من أهل بدر، فاقتدوا بهما، وأطيعوا واسمعوا قولهما، وقد أثرتكم بعبد اللَّه على نفسي».

فكنت في الكوفة معلماً للقرآن، وفقيهاً في الدين، وأميناً على بيت مال المسلمين، حتّى آل أمر الخلافة إلى عثمان، فبعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط والياً على الكوفة في السنة الثانية من خلافته، وعقبة هذا من ألدّ أعداء رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، وقد قتله عليّ بن أبي طالب بأمر رسول اللَّهصبراً بعد أسره في معركة بدر، وأنزل اللَّه فيه: «ويوم يعضُّ الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذتُ مع الرسول سبيلًا يا ويلتى لم أتخذ فلاناً خليلًا لقد أضلّني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولًا» (1).

أما ابنه الوليد فقد أسلم يوم فتح مكّة، وكان فاسقاً بنصّ القرآن:

«يا أيّها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين» (2).

جرت بيني وبين الوليد هذا مشادة وخصومة، بعد أن استقرض مالًا من بيت مال المسلمين ولم يُرجعه، فأرسل الى عثمان يخبره بمطالبتي له


1- 1 الفرقان: 27- 28.
2- 2 الحجرات: 6.

ص: 213

بإعادة المال، وبدل أن يقف الخليفة بجانبي كتب إليّ: «إنما أنت خازن لنا فلا تتعرّض للوليد فيما أخذه من المال».

فلم يتأخّر جوابي: «كنت أظن أني خازن لمال المسلمين، فأما إذا كنت خازناً لكم فلا حاجة لي في ذلك». ثمّ خرجت إلى مسجد الكوفة وقلت: «يا أهل الكوفة، فقدتُ من بيت مالكم الليلة مائة ألف لم يأتِني بها كتاب أمير المؤمنين، ولم يكتب لي بها براءة ...».

ثمّ أعلنتُ استقالتي، وقلت:

«مَن غيّر غيّر اللَّه ما به، ومَن بدّل أسخط اللَّه عليه، وما أرىصاحبكم إلّا وقد غيّر وبدّل ... إنّ أصدق القول كتاب اللَّه، وأحسن الهدى هدى محمدصلى الله عليه و آله، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار».

فلما سمع الوليد كلّ ذلك، كتب كتاباً آخر إلى الخليفة عثمان قال فيه:

إنّه يعيبك، ويطعن عليك.

فأمر عثمان الوليد بإشخاصي إليه في المدينة، فما كان من أهل الكوفة إلّا أن اجتمعوا بسلاحهم حولي قائلين: أقم ونحن نمنعك أن يصل إليك شي ء تكرهه، فقلت: إنّي لا أحبّ أن أكون أول من فتح باب فتنٍ لا تبقي ولا تذر. فأوصيتهم بتقوى اللَّه، ولزوم القرآن.

ثمّ خرجتُ من الكوفة فيما راح أهلها يودعونني بحزن وأسى قائلين:

جزيت خيراً، فلقد علمت جاهلنا، وثبّت عالمنا، وأقرأتنا القرآن، وفقهتنا في الدين، فنعم أخو الإسلام أنت، ونعم الخليل ....

ولمّا وصلتُ مسجد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في المدينة إذ الخليفة يلقي كلمته، فلمّا رآني قال: ألا إنه قد قدمت عليكم دويبة سوء من يمشي على طعامه يقي ء ويسلح.

فقلت: لستُ كذلك، ولكنّيصاحب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يوم بدر ويوم بيعة الرضوان.

وقد أثار كلام الخليفة أمّ المؤمنين عائشة فقالت: أي عثمان،

ص: 214

أتقول هذا لصاحب رسول اللَّه؟

فقال لها: أسكتي.

ثمّ أمر بإخراجي من المسجد، فضربتُ وأُخرجت.

ومنع عطائي سنتين، وأمر بمقاطعتي، ولم يأذن لي بمغادرة المدينة.

وتوجه عليّ عليه السلام نحو الخليفة قائلًا:

يا عثمان، أتفعل هذا بصاحب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بقول الوليد بن عُقبة؟

فقال: ما بقول الوليد فعلتُ هذا، ولكن وجهتُ زبيد بن الصلت الكندي إلى الكوفة، فقال له ابن مسعود: إنّ دم عثمان حلال فردّ عليه عليّ عليه السلام: أحلت على زبيد على غير ثقة.

ثمّ حملني علي عليه السلام إلى منزله، فقام برعايتي وتعاهدني حتّى شفيتُ من آثار ضربهم لي.

ولما مرضتُ مرضي الذي متّ فيه، دخل عليّ الخليفة عائداً، وقال لي:

ما تشتكي؟

فقلت: ذنوبي.

فقال: فما تشتهي؟

فقلت: رحمة ربي.

قال: ألا أدعو لك طبيباً؟

قلتُ: الطبيب أمرضني.

قال: آمر لك بعطائك؟

قلت: منعتنيه وأنا محتاج إليه، وتعطينيه وأنا مستغنٍ عنه.

قال: يكون لولدك.

قلتُ: رزقهم على اللَّه.

قال: استغفر لي يا أبا عبد الرحمن.

قلتُ: أسأل اللَّه أن يأخذ لي منك بحقي.

ثمّ غادر بيتي دون أن يحصل على رضاي.

*** مات عبد اللَّه بن مسعود عن ستين عاماً، وصلّى عليه حبيبُه عمّار بن ياسر مع جمع من أصحابه، ودفن ليلًا في البقيع سنة 32 ه.

فسلام عليك يا أبا عبد الرحمن في الخالدين.

ص: 215

إنّ الكتب التي ذكرت حياة هذا الصحابي الجليل، وكلّ ما يتعلّق به عديدة، أكتفي هنا بذكر ما اعتمدته في هذه الترجمة له.

1- مختصر (تاريخ دمشق لابن عساكر) لابن منظور؛ تحقيق روحيّة النحاس- دار الفكر.

2- الكامل لابن الأثير.

3- حلية الأولياء لأبي نعيم الاصفهاني ج 1- اصدار دار الفكر.

4- تاريخ الطبري لأبي جعفر الطبري.

5- المغازي للواقدي.

6- أُسد الغابة في معرفة الصحابة- ابن الأثير ج 3.

7- العقد الفريد- ابن عبد ربه الأندلسي.

8- ربيع الأبرار ج 2.

9- أحاديث أمّ المؤمنين عائشة للسيد العسكري.

10-صحيح البخاري.

11-صحيح مسلم.

12- التاريخ الجامع للأصول للشيخ منصور ناصيف.

13- أضواء على السنّة النبويّة لمحمود أبو رية.

14- السيرة النبويّة لابن هشام ج 1، ج 2.

15- ترجمة الإمام عليّ عليه السلام من تاريخ مدينة دمشق، تحقيق المحمودي ج 3.

16- معجم القراءات القرآنية- اعداد الدكتور أحمد مختار عمر والدكتور عبد العال سالم مكرم.

17- تاريخ المدينة المنوّرة- ابن شبة مجلد 3- 4.

18- العدة- الشيخ الطوسي.

الهوامش:

ابعاد التأثيرات الفكريّة والأدبيّة

ص: 216

ص: 217

أبعاد التأثيرات الفكريّة والأدبيّة

أحمد الواسطي

على العقلية اليهوديّة في الجزيرة العربية

المقدمة:

تأثّرت العقلية اليهودية في المجالات الفكريّة والأدبية بالمسلمين في الجزيرة العربية، حيث نجد هذا التأثّر واضحاً وجليّاً على نتاجات اليهود اللغوية والأدبية، التي أخذت تحاكي فيها الأساليب اللغوية والأدبية للمسلمين، هذا فضلًا عن تأثّرها بالآداب الأوربية. ويحاول اليهود من خلال وسائلهم الإعلامية، وما يألفون من كتب ونشرات أن يظهروا مكانتهم الفكرية والأدبية، ويجعلوا من الجزيرة العربية أرضاً يهودية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يحاولون ربط دورهم التاريخي بدور إبراهيم الخليل عليه السلام، مع العلم بأنّ الجزيرة العربية طوال التاريخ لم تكن أرضاً يهودية، كما أنّ دورهم كان متأخراً كثيراً عن

ص: 218

دور إبراهيم الخليل عليه السلام.

مُنح اليهودصفة (أهل الكتاب) أو (أهل الذمة) عندما انتشر الإسلام، حيث أصبحت الدولة الإسلامية مسؤولة عن سلامتهم، فأخذوا بعلوم المسلمين، وألّفوا- للمرّة الأولى في التاريخ- كتب النحو ومعاجم الألفاظ تقليداً للمسلمين العرب، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل نجد أنّ الشعراء اليهود قرضوا الشعر العبري وفقاً للأبحر الشعرية المألوفة في اللغة العربية. وتناولت فنون الشعر العبري في ذلك الوقت جميع الأغراض المعروفة في الشعر العربي كالمديح، والهجاء، والفخر، والرثاء، والحكمة، والوصف ....

فالشاعر اليهودي يهوذا الحريزي يقول في المدح:

لِليقي كل ياقار نافية في نلفيه في هولفيت بئير عَل روش مِشيحاف (1) أي: لصاحبنا اللاوى احترام ورفعة، فقد بات اكليلًا على الشعراء

كما نجد أن الشعراء اليهود، حاكوا الشعراء العرب في النظم العلمي والتعليمي، وفي نظم الأحاجي والألغاز (2).

ولم يؤلّف اليهود كتباً علمية في قواعد لغتهم إلّابعد أن تتلمذوا على يد المسلمين العرب، ونشأوا في عهد الثقافة الإسلاميّة نشأةً مكّنتهم من فهم العلوم العربية على اختلاف أنواعها.

فظهر سعيد بن يوسف الفيومي فيلسوف اليهود في القرن العاشر (3). وكان أوّل النحاة العبريين، الذين وضعوا قواعد النحو العبري على غرار قواعد اللغة العربية وليس هذا فحسب، بل أخذ الكثير من العلوم الدينية، وتشرّبت روحه بمذهب «المعتزلة»، ويظهر هذا التأثّر جلياً في معالجته الديانة اليهودية، ويعدّه النحاة اليهود أبا النحو العبري.

ونقل اليهود إلى لغتهم العلوم الإسلامية كاللاهوت، والطب والفلسفة،


1- 1 د. ربحي كمال: الأدب العبري: 420.
2- 2 المصدر نفسه.
3- 3 د. ربحي كمال: قواعد اللغة العبرية: 41- 42.

ص: 219

وغيرها من أمثال كتب ابن سينا، «تهافت الفلاسفة» للغزالي، و «تهافت التهافت» لابن رشد.

ويقول الناقد (يهوذا الحريزي) بأسلوب حماسي: «اعلم أن الشعر البديع الحافل باللآلئ قد كان في بادئ الأمر ملكاً مقصوراً على أبناء العرب المسلمين وحدهم، وقد وزنوه بموازينصادقة، وهم يفوقون في شعرهم شعراء العالم قاطبة ... ومع أن لكل أمة شعراءَها، فإنّ جميع شعرهم لا قيمة له، ولا وزن في مقابل شعر الإسماعيليين (أي المسلمين العرب) لأنهم- وحدهم- المستأثرون بالشعر العذب في لفظه، الجميل في فحواه ومعناه.

ثمّ يضيف الناقد العبري الحريزي، متحدثاً عن تأثير الشعر العربي في الشعر العبري بقوله: إنّ بني شعبنا بعد جلائهم عن أرض كنعان، قد قطن الكثيرون منهم مع العرب المسلمين في أوطانهم، وألفوا التحدّث بلغتهم، والتفكير بتفكيرهم، وبامتزاجهم بهم تعلموا منهمصناعة الشعر الموزون في اللغة العبرية ...» (1).

والجدير بالذكر أن الشعراء اليهود عرفوا الأساليب البلاغية المألوفة آنئذٍ عند العرب المسلمين، التي بها كانوا يزيّنون قصائدهم ويحلّون أشعارهم. كما أن «بني إسرائيل» أول من دان باليهودية، لكنهم لم يكونوا وحدهم اليهود حتى في زمانهم (2). ولم تعرف باسم (اللغة العبرية) إلّابعد السبي البابلي (3). ولمّا استوطن (بنو إسرائيل) أرض كنعان، وعرفوا المدينة والحضارة،صاروا ينفرون من كلمة (عبري) التي كانت تذكّرهم بحياتهم الأولى حياة البداوة والخشونة، وأصبحوا يؤثرون أن يعرفوا باسم (بني إسرائيل) فقط (4).

ولا يوجد فيصحف العهد القديم ما يدلّ على أنّهم كانوا يسمّون لغة (بني إسرائيل) (باللغة العبرية)، بل كانت تارة تعرف باسم اللغة اليهودية: «يِهُوديت»


1- 1 يهوذا الحريزي: كتاب تحكموني: 98.
2- 2 ياقوت الحموي، معجم البلدان: 39.
3- 3 مصنفات المؤرخ اليهودي يوسيف: 98.
4- 4 د. اسرائيل ولقنسون: تاريخ اللغات السامية: 38.

ص: 220

كما هو واضح في [سفر اشعيا] (1).

دَقّيرنا إلْ عَقاديما أراميت كِيْ شِمْعيم أنَحْنُوا قِي أَلْ تِدَبّير إيِلينوا يِهُوديت بأُزْنيه هاعام أشير عَلْ هَحوما.

ويعني: كلّم عبيدك باللغة الأرامية ولا تكلّمنا «باللغة اليهودية» في مسامع الشعب الذي على السور.

وتارةً تعرف باسم (لغة كنعان): (2)

بَيوم هَهُوا يِهْيُو حاميش عاريم ب إيرِص مِصْريم مِدَقْروت سِفَت كِنَعَن قي نِشْباعوت لَيِهْقاصِقاءوت عِير هَهيرِس يِآمير لِ إحات.

ويعني هذا النص: كان في ذلك اليوم بأرض مصر خمس مدن تتكلّم (بلغة كنعان)، وتحلف برب الجنود، وتسمى إحدى هذه المدن مدينة الشمس.

ولقد كشفت في (تل العمارنة) بمصر رسائل يرجع تاريخها إلى القرن الرابع عشر (ق. م)، وإلى عصر الملك (أمون حوطف)، حيث كان «بنو إسرائيل» لا يزالون تحت سيطرة (مصر)، فقد ذكرت هذه الرسائل الموجهة من أمراء فلسطين والكنعانيين إلى عزيز مصر، أن قبائل (عبيري) أو (حبيري) تغزو فلسطين وتتوغّل من ناحية الصحراء في بلاد خاضعة للنفوذ المصري، ويطلبون منه النجدة (3).


1- 1 سفر أشعيا: 36: 11:ص 670 الأصل العبري.
2- 2 سفر أشعيا: 19: 18:ص 652 الأصل العبري.
3- 3 د. اسرائيل ولقنسون، تاريخ اللغات السامية: 28.

ص: 221

قلعة خيبر

وبقيت عقلية (الأديب الإسرائيلي) مطبوعة بطابع الصحراء في عصور الحضارة؛ لأنّ علاقة «بني إسرائيل» بأمم الصحراء لم تنقطع في عصر من العصور، ولا شك أن عادات «بني إسرائيل»، وأخلاقهم الاجتماعية في عصورهم الأولى كانت متأثرة بأخلاق وعادات العرب في الجاهلية، وأن كثيراً من أسماء الأعلام العبرية القديمة شائعة الاستعمال عند العرب في الجاهلية مثل:

ص: 222

(عوقْديا) وتعني: عبد اللَّه و (سَعْديا) تعني: السعد و (عفرا) تعني:

عفراء (1).

المصطلح العبري:

كان مصطلح (العبري) أو (العبراني) يطلق في نحو الألف الثانية قبل الميلاد، وفيما قبل ذلك على طائفة من القبائل العربية في شمال جزيرة العرب، وغيرهم من الأقوام العربية، حتىصارت كلمة (عبري) مرادفة لابن الصحراء أو ابن البادية بوجه عام (2).

وقد ورد اسم (عبريو) في ورقتين من أوراق البردي كُتبتا في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وفي عهد ملك مصر (رمسيس الثاني) من الأسرة التاسعة عشرة، الذي حكم من سنة 1292 إلى سنة 1225 ق. م موجودتين في متحف لايد في هولنده (3). غير أنّ (جون أ. هامرين) يحسم هذه المعلومة في المجلد الثاني من مصنّفه الضخم (تاريخ العالم) (4) بالقول: «إنّ الاعتقاد بكون «الخبيرو» أو «العبريو» هم ذاتهم عين العبريين قد ظلّ لزمن طويل يؤيده ذلك التشابه في الأسماء، بيد أنه من العسير علينا القول بهذا الرأي لعدم وجود شواهد تؤيده».

ويستدل (هامرين) في تدعيم رأيه بما ذهب إليه الأستاذ (واردل) Wardle [] Prof في مصنّفه الحديث (إسرائيل وبابل)] Israel and Babylon [بشأن القلاقل التي سبّبتها قبائل «الخبيرو» التي هاجمت فلسطين خلال القرن الرابع عشر قبل الميلاد، فاستنجد أمراؤها الذين كانوا خاضعين بالاسم لمصر بالفراعنة، الأمر الذي سجّلت وقائعه ألواح (تل العمارنة) المشهورة من سياق رسائل بلاطي (امنحتب الثالث) و (امنحتب الرابع) (اخناتون) أي: من (1400- 1360 ق. م) على وجه التقريب حين ذكر (واردل) أن مجي ء الغزاة من الصحراء


1- 1 المصدر نفسه.
2- 2 المصدر نفسه.
3- 3 محمد عزة دروزة، تاريخ بني اسرائيل من أسفارهم: 31.
4- 4 جون أ. هامرين، ج 2 الباب الخاص بفلسطين.

ص: 223

كان من الحوادث المألوفة في تاريخ فلسطين القديم، وذكّر أن (الخبيرو) لم يكونوا عبرانيين، حيث كانوا أكبر بكثير من الشعب العبري (1).

دور إبراهيم الخليل عليه السلام يسبق دور اليهود:

يمكن تحديد عصر إبراهيم عليه السلام وفقاً لسير الأحداث التاريخية، والموافق للمنطق الحسابي العقلي بالعام 1950 ق. م- تقريباً- مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة التوقف لحظات عند مسألة تحديد تواريخ الأحداث القديمة، التي لابدّ من أن يقال عنها: إنّها تقريبية إلى أبعد الحدود، وقد أفرد العالم الألماني المعاصر (كورت مارك)] Kirt W. Marek [فصلًا طويلًا لمناقشتها في كتابه المنشور عام 1955 بعنوان Lesectetdes Hittespon «أسرار الحيثيين» نجتزئ منه هذه الفقرة من الفصل الثامن «علم التواريخ»: (2) «إنّ أول عام حُدّد لابتداء التاريخ المصري، وهو تأسيس أوّل سلالة من قبل الملك مينيس (مينا) الذي حقّق وحدة مصر، قد جرى تعديله على التوالي، وخلال قرن واحد من الزمن وعلى مرّ الاكتشافات الجديدة، فقُدّم من العام 5876 ق. م الى العام 2900 ق. م ومع ذلك ليس هناك أي برهان على أن هذا التاريخ الأخيرصحيح ونهائي».

وفي ضوء ما يقوله «ب مونتي» P. Montet ودانيل روبس Rops Daniel وغيرهما من المتخصصين (3) بشأن تواكب حركة الهكسوس نحو مصر في القرن السابع عشر ق. م مع وصول يوسف وآله، وأنه في مدينه «أفاريس» بالدلتا، استقبل عاهل هكسوسي يوسف وأخوته استقبالًا حسناً.

كما نجد أنّ بعض الباحثين يغالطون أنفسهم بربط تاريخ بني إسرائيل بميلاد إبراهيم أبي الأنبياء- عليه وعليهم السلام-، أي مع منتصف القرن العشرين قبل


1- 1 محمد عزة دروزة، تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم: 32.
2- 2 سهيل ديب، التوراة تاريخها وغاياتها: 89.
3- 3 موريس بوكاي، القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم دراسة الكتب المقدّسة في ضوء المعارف الحديثة: 255.

ص: 224

الميلاد، بينما يربط عدد آخر من الباحثين تاريخ «بني إسرائيل» بموسى عليه السلام وهو خطأ آخر جسيم، كذلك رأينا فريقاً ثالثاً يرجع تاريخ اليهود إلى زمن الأكديين بالعراق، في حين نجد فريقاً رابعاً يجعل تاريخهم مواكباً لتلك الدفقات البشرية السامية (نسبة إلى سام بن نوح)، التي خفق بها قلب الجزيرة العربية فيصورة هجرات متعاقبة إلى أطراف الجزيرة شمالًا وجنوباً وشرقاً وغرباً.

وهذه الآراء جميعها على خلاف السياق المنطقي لتسلسل أحداث المنطقة، وخلافاً لما أثبتته الأحافير الأثريّة الحديثة. والجدير بالذكر ما أفاده الدكتور سوسه (1) بأن كتبة التوراة إنّما عمدوا إلى إهمال التسلسل الزمني؛ ليسهل عليهم ربط تاريخهم بعهود قديمة سبقت وجودهم، فأدخلوا التشويش على ذهن القارئ؛ بحيث أصبح تائهاً بين العصور، فلا يدري أيبد تاريخ اليهود مع عصر إبراهيم، أم يواكب عصر موسى، ويشوع بن نون تلميذه، وخليفته على بني إسرائيل، أم من زمن الهجرات السامية العربية، أم من عصر الأكديين؟!

فالحقيقة أن كل عصر من هذه العصور يتميّز عن العصر الآخر تميّزاً واضحاً، فاليهود أتباع موسى عليه السلام ظهروا خلال القرن الثالث عشر ق. م، والأكديون ظهروا قبل عصر موسى بنحو ألفين وسبعمائة عام، حينما نزحوا من جزيرة العرب إلى شواطئ الفرات حوالي (4000 ق. م) بينما ظهر إبراهيم الخليل في منتصف القرن العشرين قبل الميلاد، أي أن المساحة الزمنية التي تفصله عن عصر موسى تصل لسبعة قرون تقريباً. كما أن الهجرات السامية من قلب الجزيرة الى أطرافها سبقت وجود اليهود على ظهر البسيطة بنحو ألفي عام، ومن هنا جاء تأكيد العقاد (2)على أننا إذا فتّشنا عن نسبة لإبراهيم لم نجد أصدق من النسبة العربية، كما كانت العربية يومئذٍ بين الجزيرة العربية وبقاع الهلال الخصيب، فلا يقال: عن إبراهيم إنه إسرائيلي؛ لأن يعقوب هو أول من تسمى ب (إسرائيل)،


1- 1 د. أحمد سوسه، العرب واليهود في التاريخ: 22.
2- 2 عباس محمود العقاد، إبراهيم أبو الأنبياء: 289- 290.

ص: 225

ويعقوب حفيد إبراهيم. ولا يقال: عن إبراهيم: إنّه يهودي؛ لأنّ اليهودي ينسب إلى (يهوذا) رابع أبناء يعقوب. ولا يقال: إنه عبري إذا كان المقصود بالعبرية لغة مميزة بين اللغات السامية، تتفاهم بها طائفة من الساميين دون سائر الطوائف، فإنّ إبراهيم كان يتكلّم بلغة يفهمها جميع السكان في بقاع النهرين وكنعان، ولم تكن العبرية قد انفصلت عن سائر اللغات السامية في تلك الأيام. وقد يقال عنه:

إنّه سامي ينتمي إلى سام بن نوح، ولكنّها نسبة إلى جدّ وليست نسبة إلى قوم (1).

لذا فإبراهيم عليه السلام لم يكن يهودياً قطّ ولا نصرانياً كما يدّعي المدّعون، وما زعمُ «بني إسرائيل» بأنه يهودي، وأنهم على دينه يخالفون النصارى الذين زعموا ذات الزعم، فنزلت فيهم كلمة اللَّه الفصل ببطلان قولهم أجمعين، حيث إن التوراة نزلت من بعده بنحو سبعمائة عام، والإنجيل من بعده بنحو تسعمائة وخمسين عاماً. وعليه فما كان لليهودية أو المسيحية وجود في عهده عليه السلام، ففيم هذه المحاجاة في شأن إبراهيم، وهو الذي مال عن الأديان والعقائد الوثنية كافة الى الدين القيم مسلماً موحِداً غير مشرك باللَّه، قال تعالى: «يا أهل الكتاب لِمَ تحاجّون في إبراهيم وما أُنزلت التوراة والإنجيل إلّامن بعده أفلا تعقلون ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلِمَ تحاجّون فيما ليس لكم به علم واللَّه يعلم وأنتم لا تعلمون ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين» (2).

ثم تستطرد الآيات الكريمة القول بأن أحقّ الناس بإبراهيم عليه السلام أولئك الذين اهتدوا برسالته، واتّبعوا نور دعوته في زمانه، وهذا النبي محمدصلى الله عليه و آله: النبيّ الأُميّ لموافقته له في أكثر شرعه والذين آمنوا من أمّته، هم الذين ينبغي أن يقولوا نحن على دينه لا أنتم. واللَّه ناصر المؤمنين وحافظهم: «إن أولى الناس بإبراهيم للَّذين اتبعوه وهذا النبيّ والذين آمنوا واللَّه وليّ المؤمنين» (3).


1- 1 المصدر نفسه.
2- 2 آل عمران: 65- 67.
3- 3 آل عمران: 68.

ص: 226

فإبراهيم عليه السلام بعث في بيئة كانت لهاصلة وثيقة بنوح عليه السلام، حيث إنّ المنطقة التي بعث فيها هي منطقة نوح عليه السلام.

أما هجرته عليه السلام فكانت لأسباب وأهداف سامية، حيث واجه الظروف نفسها التي واجهها الرسولصلى الله عليه و آله عند هجرته من مكة المكرمة.

وقد هاجر عليه السلام من العراق الى الشام، وعندما يمرّ به الناس وهو في الطريق الى اليمن والشام يدعوهم إلى الإسلام (1). وتؤكّد التوراة بكلّ وضوح أن إبراهيم الخليل عليه السلام هاجر من العراق بمفرده، ولم يكن لليهود وجود في العراق في عصره، ذلك أنّ دعوة الربّ لإبراهيم الخليل عليه السلام كانت موجهة إليه بمفرده، وهي أن يهجر أرض العراق، فذهب ومعه ساراي زوجه ولوط ابن أخيه: (2)

1- قيومِر يِهقا إِل أقرام ليخ لِخا مِي أرصِنحا

أُو مِمولدتنحا أُو مِبيت أقيخا إل ها آرص

أشير أرئيخا

2- قي إيعِشخا لِگوي گدول قَأرقارفخا قأگدلا

شِميخا قي هِيه بِراخا

3- قأقارِخا مِپارَخيخا أُو مِقلِّلْخا آأور

قي نقرِخوا قِخا كُل مِشبحوت ها آداما


1- 1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار 12: 245- 246.
2- 2 سفر التكوين: 12: 1- 5 الأصل العبري:ص 16.

ص: 227

4- قَيلِخ أقرام كأشير دَپير إيلاق يِهْقا

قيلِخ إتّو لوط قى أقرام بن حاميش شانيم

قي شقعيم شانا بِصيتو ميحاران

5- قايِقّح أقرام إت ساراي اشتو

قي إت لوط بن آحيف

ويعني هذا النص:

1- وقال الرب لإبراهيم: إذهب من أرضك ومن عشيرتك إلى الأرض التي سأُريك. 2- فاجعلك أمّة عظيمة وأباركك، وأعظم اسمك. 3- وأبارك مباركيك، والعن لاعنيك، وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض. 4 و 5- فذهب إبراهيم كما قال له الربّ، فأخذ معه ساراي زوجه ولوطاً ابن أخيه.

وكان عمره خمسة وسبعين عاماً لمّا خرج.

ولم يكتفِ اليهود بأن عدّوا العراق وطنهم الأصلي، بل ربطوا تاريخهم القديم بجزيرة العرب، بدعوة أن اليهود هاجروا من فلسطين إلى جزيرة العرب، بعد تشريدهم على يد الرومان في القرن الأول للميلاد.

وعلى هذا الأساس عدّوا شبه جزيرة العرب أرضاً يهودية طوال التاريخ، وغورَ الأردن هو الذي يفصل أرض إسرائيل الشرقية عن الغربية.

هذا ما يلقّنونه لطلّاب الجيل الجديد من عرب ويهود في كتبهم المدرسية في إسرائيل (1).


1- 1 بابوريش، إسرائيل معالم البلاد وجغرافيتها للصفّ الثامن: 127- و عزرا حداد وإلياس دانيال، التاريخ للصف الخامس: 200.

ص: 228

الهوامش:

اسماء المدينة المنوّرة ونعوتُها

ص: 229

أسماء المدينة المنوّرة ونعوتُها

أحمد زماني

المدينة، وما أدراك ما المدينة؟! منار الإسلام، ورايةُ الإيمان ... مأوى الرسول الكريم، ومثواه ومسراهُ إلى الرفيق الأعلى، مختلف الملائكة ومهوى أفئدة العارفين والمسلمين، ومنشأ زعامة الصالحين في مشارق الأرض ومغاربها.

فيها يرقد الرسولُصلى الله عليه و آله، وابنته الزهراء البتول عليها السلام، وأبناؤُه الأئمة الطاهرون؛ أبو محمّد الحسن بن عليّ المجتبى، وأبو الحسن عليّ بن الحسين السّجاد زين العابدين، وأبو جعفر محمّد بن عليّ الباقر، وأبو عبد اللَّه جعفر بن محمّد الصادق عليهم السلام إلى جانب كوكبة من أجلّة الصحابة والتابعين وأعيان المدينة.

وقد دعا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله لهذا البلد الأمين وأهله فقال: «اللهمّ بارك لنا في مدينتنا، اللهمّ بارك لنا فيصاعنا ... ثمّ قال: والّذي نفسي بيده! ما من المدينة

ص: 230

شِعب ولا نَقب إلّاعليه ملكان يحرسانه» (1).

وللمدينة أسماء عديدة ومتنوّعة، وهذه الأسماء المتظافرة تدلّ على عظمة المدينة وشوكتها لأنّها موضوعة لمفاهيم عَميقة، ومبتنية على ما ورد حول المدينة من الآيات والأحاديث، وسنذكر بعضها ضمن العناوين التالية:

على أننا نكتفي هنا بذكر تسعين اسماً من أسماء المدينة، المنورة (2) ونرتّبها حسب تسلسل حروف المعجم.

1- أَثْرِب:

فهي لغة في «يثرب» حيث تنوب الهمزةُ عن الياء، وقد ذكر الشعراء ذلك كثيراً (3)، وسيأتي تفصيلها في «يثرب».

2- أَرضُ اللَّه:

ذكر بعض المفسّرين من العامّة مثل الثعلبي، ومقاتل ومجاهد في تفسير الآية الكريمة «... ألم تكن أرض اللَّه واسعة فتهاجروا فيها ...» (4)

أنّ المراد من «أرض اللَّه» المدينة (5).

وقال آخرون من الشيعة والسنة: إنّ «أرض اللَّه» مطلق البلاد، سواء كانت المدينة أو غيرها التي تقدرون فيها على إقامة أمور الدين (6)، وجاء في الميزان: وهذا يناسب سعة الأرض، ولولا فرض السعة لكان يقال: فتهاجروا منها (7).

3- أَرضُ الهِجْرَة:

هي بلدة، هاجر النبيُّصلى الله عليه و آله وأصحابه من مكّة المكرمة إليها، وسُمِّي هؤلاء


1- 1صحيح البخاري، 3: 60 باب المدينة تنفي الخبيث-صحيح مسلم، 2: 2 و 1001، كتاب الحج، باب الترغيب في سكنى المدينة- وسائل الشيعة، 10: 273، باب استحباب الإقامة بالمدينة.
2- 2 تسمية الأشياء مجازاً تحتاج إلى علاقات مناسبة كما ذكر في علم البيان والعلاقات كثيرة منها: تسميةالشي ء باسم جزئه أو سببه أو محلّه و ... وأكثر أسماء المدينة أسماء مجازيّة. شرح المختصر، تفتازاني: 156.
3- 3 لسان العرب، ابن منظور، 1: 234.
4- 4 النساء: 97.
5- 5 وفاء الوفا، السمهودي، 1: 10.
6- 6 أبي مسعود، محمد بن محمد العمادي، 2: 223- التفسير الكبير، الفخر الرازي، 11: 12.
7- 7 الميزان، العلامة الطباطبائي، 5: 50.

ص: 231

ب (المهاجرين) والذين احتضنوهم ب (الأنصار). هذا مضافاً إلى أنّ هذا الاسم ورد في الحديث النبويّ كما نقله الطبراني في الأوسط حيث قال: قال رسولُ اللَّهصلى الله عليه و آله: «المدينة قُبّة الإسلام، ودار الإيمان، وأرض الهجرة، ومَبْوَأ الحلال والحرام» (1). وأيضاً سمّيت المدينة ب

«دار الهجرة».

4، 5- أَكَّالَةُ القُرَى. وأيضاً يعبّر عنها ب «أَكَّالَةُ البُلْدَان»:

وجاء في حديث عن مالك بن أنس قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «أُمِرتُ بقرية تأكل القرى» (2) أي: أمرتُ بالهجرة إليها واستيطانها.

وقد ذكر أهل الحديث وجهين لهذه الرواية:

1- كانت المدينة مركزاً لجيوش الإسلام، وقد نصر اللَّه دينه بأهلها، فمنها فتحت القرى، وغنمت أموالها وسباياها وأسراها.

2- كان أكل المدينة وقوتها من القرى المفتتحة، وهذه القرى تُماير الطعام وتسوق إليها غنائمها (3).

فقد غلبت المدينة وأهلها على البلاد والقرى المجاورة والبعيدة، بواسطة الإسلام ونصرة اللَّه- عزّ وجلّ- فسميّت أكّالة البلدان أو أكّالة القرى.

6- الإيمَان:

جاء في تفسير البيضاوي ذيل الآية الكريمة «والذين تبوّؤُا الدار والإيمان من قبلهم ...» (4)

سَمّى اللَّه «المدينة» بالإيمان؛ لأنّ المدينة وأهلها كانوا مظهر الإيمان ومصيره (5).

ونقل ابن شُبّة حديثاً عن عبد اللَّه بن جعفر بن أبي طالب، قال: سمّى اللَّهُ المدينةَ: الدّار والإيمان (6).


1- 1 مجمع الزوائد، الهيثمي، 3: 298.
2- 2صحيح البخاري، 3: 54، باب فضل المدينة، رقم الحديث 130.
3- 3صحيح مسلم، 2: 1006، باب المدينة تنفي شرارها- لسان العرب، 11: 23، مادّة: أكل.
4- 4 الحشر: 9.
5- 5 أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي، 2: 481.
6- 6 تاريخ المدينة المنوّرة، ابن شبّة، 1: 162.

ص: 232

7، 8- البارَّةَ، البَرَّة:

هاتان الكلمتان مترادفتان، ويقصد بهما زيادة الخير والبركة التي تتناول المدينة وأهلها خصوصاً، ومنها تنتشر إلى سائر البلاد عموماً، وأنّها منبع الفيض والبركات.

قال السمهودي: يقال للمدينة: البرَّةْ، إذ هي منبع الأسرار، وإشراق الأنوار، وبها العيشة الهنيئة، والبركات النبويّة (1).

9، 10، 11، 12- البَحْر، البَحْرَة، البَحِيرَة، البُحَيْرَة:

تطلق هذه اللغات الأربع على المدينة المنوّرة. نقل الزركشي (2) ثلاث منها، والرابعة تصغير لما قبلها، وقال ياقوت الحموي: الاستبحار والبحر: السعة لأنّها بمتّسع من الأرض. ولما قال سعد بن عُبادة،- حينما دخل النبيّصلى الله عليه و آله بيته لعيادته في مرضه، وأنّهصلى الله عليه و آله شكا ممّا سمع عن عبد اللَّه بن أبيّ بن سلول: ولَقَدْ اصطلحَ أهل هذه البُحَيْرَة أن يُتَوجُوهُ فَيُعْصِّبُوهُ بالعِصابَةِ (3).

البُحَيْرَة: مدينة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وهي تصغير البَحْرَةْ (4). وهكذا يقال: هذه بَحْرَتُنا أيْ أرضنا. وقال القاضي أبو عليّ: البَحِيرة (بفتح الباء) مكبرة وهي مدينة النّبيصلى الله عليه و آله (5).

13- البَلَاط:

هو كلُّ أرض فُرشت بالحجارة والآجر، أو الحجارة المفروشة في الدار أو غيرها. والبَلاطَةُ الحَمْراء: هي حجر يُسمّى حجر السماق، ولد عليها عليّ بن أبي طالب عليه السلام في بيت اللَّه الحرام، وقد كانت في وسط الكعبة ثم غيّرت في ضلع البيت عند الباب (6). فقال الحاكم النيشابوري حول وليد الكعبة عليّ عليه السلام: فقد


1- 1 وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى، السمهودي، 1: 11.
2- 2 أعلام الساجد بأحكام المساجد، الزركشي: 253.
3- 3صحيح مسلم، 3: كتاب الجهاد، رقم الحديث 1798.
4- 4 لسان العرب، 4: 44، مادّة: بَحَرَ.
5- 5صحيح مسلم، 3: 1423، ح 1798، حكاه القاضي أبو علي عن جماهير رواة مسلم.
6- 6 مجمع البحرين، الطريحي، 4: 240، مادّة: بَلَطَ.

ص: 233

تواترت الأخبار، أنَّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب- كرّم اللَّه وجهه- في جوف الكعبة (1).

وأنشدصاحب وسائل الشيعة الشيخ الحرّ العاملي رحمه الله أرجوزة قيّمة طويلة ونحن نكتفي برباعية منها:

مَوْلِدُه بِمَكَّةٍ قد عُرِفا في داخِلِ الكَعْبَةِ زِيدَتْ شَرَفا عَلى رُخامةٍ هناك حَمْرا معروفة زادت بذاك قَدرا (2) ويطلق على المدينة «البَلاطُ» لكثرة الأحجار فيها أو لاشتمال المدينة على موضع معروف- وكان سوقاً- يصلّى فيه على الجنائز على عهد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله (3) يُسمّى «البَطْحاء».

وقال الفيروز آبادي: هو موضع بين مسجد النبيّصلى الله عليه و آله وسوق المدينة (4).


1- 1 المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيشابوري، 3: 483.
2- 2 عليّ وليد الكعبة، محمد علي الأردوبادي: 55.
3- 3 قاموس المحيط، الفيروز آبادي، 2: مادّة: بَلَطَ- لسان العرب، 7: 264.
4- 4 مجمع البحرين، الطريحي 4: 240 مادّة بَلَطَ.

ص: 234

فإطلاق «البَلاط» على المدينة إمّا مجازاً من تسمية الشي ء باسم جزئه، أو من حيث إن «المدينة» أرض أكثرها من الأحجار.

14- البَلَد:

هو المدينة كما ذكره القُرطبي في تفسير الآية الشريفة: «لا أقسم بهذا البلد وأنت حلٌّ بهذا البلد» (1)

ونقل قول الواسطي لتبيين الآية بهذه العبارة.

قال الواسطي: أيْ: نحلف لك بهذا البلد الّذي شرّفتَه بمكانك فيه حيّاً، وبركتك ميّتاً، يعني المدينة (2).

ورجّح القاضي- عياض بن موسى اليحصبي السبتي- هذا القول، وإن اتّفق أكثر المفسّرين على أنّ البلد في الآية المذكورة: مكّة المكرّمة (3).

15- بَلَدُ رسولِ اللَّه:

هذه الكلمة من أسماء المدينة كما رواه البزّاز- العالم الحنفي- عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنّه قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «إنّ الشياطين قد يئست أن تعبد ببلدي هذا- يعني المدينة- وبجزيرة العرب، ولكن التحريش (4) بينهم» (5).

البَلَد في هذا الحديث النبويّ ينسب إلى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فأطلق على المدينة؛ لأنها بلد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ...

16- بَيْتُ رسُولِ اللَّه:

عُبّر عن المدينة المنوّرة بالبيت في الآية الكريمة حيث قال: «عزّ مَن قائل»:


1- 1 البلد: 1 و 2.
2- 2 الجامع لأحكام القرآن، القُرطبي، 20: 40.
3- 3 مجمع البيان، الطبرسي، 10: 492- التفسير الكبير، الفخر الرازي، 31: 179- التبيان، الشيخ الطوسي، 10: 350.
4- 4 التحريش هو النفاق.
5- 5 مجمع الزوائد، الهيثمي، 3: 299.

ص: 235

«كما أخرجك ربّك من بيتك بالحقّ وإنَّ فريقاً من المؤمنين لكارهون» (1).

هذه الآية نزلت في غزوة بدر، حينما كره الناس أن يخرجوا من المدينة لمحاربة المشركين، فأمر اللَّه نبيّه بالخروج من المدينة مع أنّهصعب وكُره للمؤمنين (2).

وفي هذه الآية كلمة «بيت» أُضيفت إلى ضمير الخطاب «ك»، فالآيةنسبت البيت- المدينة- إلىصاحبه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فيصير معناها: بيت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله.

17- التِّين:

هو فاكهة معروفة يؤكل رطباً ويابساً (3)، والتين هو اسم للسورة الخامسة والتسعين من السور القرآنية، قال اللَّه عزّ وجلّ: «والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين» (4).

وقال أبو الحسن الأوّل في تفسير الآيات: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «انّ اللَّه- تبارك وتعالى- اختار من كلّ شي ء أربعة إلى أن قال: واختار من البلدان أربعة فقال تعالى: «والتين والزيتون ...» فالتين: المدينة، والزيتون: بيت المقدس، وطور سينين: الكوفة، وهذا البلد: مكّة» (5).

18، 19، 20، 21- جُبَار، الجَابِرَة، الجَبَّارَة، المَجْبُورَة:

هذه اللغات الأربع تطلَق على المدينة، أمّا الأولى: فهي على وزن جُذام كما نقلها ابن شبّة حيث ذكر روايةً نبويّة (6) وسنذكرها قريباً. وأمّا اللغات الثلاث الأخيرة: فهي مرويّة عن التوراة حسب ما ذكرها السمهوديّ وابن شبة (7).

وهذه الأسماء الأربعة تشترك معنىً حيث إنّ المدينة تجبر الكسير، وتغني الفقير، وتجبر البلاد على الإسلام، أو لأن الإنسان حينما يطالع ويدرس بركاتها


1- 1 الانفال: 5.
2- 2 مجمع البيان، 4: 520.
3- 3 جاء في الحديث: روى أبو ذر رحمه الله عن النبيصلى الله عليه و آله قال في التين: «لو قلت: إنّ فاكهة نزلت من الجنّة، لقلت هذه هي؛ لأنَّ فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها فإنّها تنفع من النقرس» نور الثقلين، 5: 607- مجمع البيان، الطبرسي، 10: 510.
4- 4 التين: 1- 3.
5- 5 وسائل الشيعة، 10: 283 ح 4- الخصال، الشيخ الصدوق: 212- نور الثقلين، 5: 606.
6- 6 تاريخ المدينة المنوّرة، ابن شبّة، 1: 162.
7- 7 وفاء الوفا، السمهودي، 1: 13- تاريخ المدينة المنورة، ابن شبّة، 1: 163.

ص: 236

يذعن قهراً.

22، 23- جَزِيرَة، جَزِيرَةُ العَرَب:

قال بعض العلماء في الحديث النبويّ: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» المقصود بها هي المدينة (1) ويؤيد هذا القول ما ذكر في حديث العباس:

إنَّ النبيَّصلى الله عليه و آله التفتَ إلى المدينة وقال: «إنَّ اللَّه- تعالى- قد برّأ هذه الجزيرة من الشرك» (2).

24- الجُنَّة:

وهي وسيلة الوقاية والمحافظة على الشي ء، وهذا الاسم مأخوذ عن قول الرسولصلى الله عليه و آله في غزوة أُحد حيث قالصلى الله عليه و آله: «أنا في جُنَّةٍ حصينة» وأرادصلى الله عليه و آله بها «المدينة» (3). ورواه أحمد بن حنبل مع اختلاف يسير عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري كما يلي، قال: إنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قال: «رأيتُ أنّي في درعٍ حَصِينَةٍ، ورأيت بَقراً تُنْحَرُ، فأوَّلتُ أنّ الدّرع الحصينة: المدينة، وأنّ البقر، بقر، واللَّه خير» (4).

قال الشاعر:

هي جُنَّتي ممّا أخافُ وجَنَّتي وبجاه من فيها تُخَلَّصُ مُهْجَتِي (5) 25، 26، 27، 28- الحَبِيْبَة، المُحِبَّة، المُحَبَّبَة، المَحْبُوبَة: (6) هذه الهيئات الأربع من مادّة واحدة هي: حَبَبَ. وقد جرت على لسان الناس وأُطلقت على المدينة وهي مأخوذة عن الرواية النبويّة وهي:

«اللهمّ حبّب إلينا المدينة كما حبّبت إلينا مكّة أو أشدّ» (7)، وفي كتب الحديث روايات كثيرة تتضمّن حبَّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، ودعاءه للمدينة ولأهلها.


1- 1 سنن أبي داوُد، كتاب الخراج والإمارة، باب: إخراج اليهود من جزيرة العرب، ح 3029.
2- 2 مجمع الزوائد، الهيثمي، 3: 299.
3- 3 وفاء الوفا، السمهودي: 13.
4- 4 مسند أحمد بن حنبل، 3: 351.
5- 5 فضائل المدينة المنوّرة، الصالحي الشامي: 139.
6- 6 عمدة الأخبار في مدينة المختار، أحمد بن عبد الحميد العباسي: 65.
7- 7 وسائل الشيعة، 10: 237 ح 5-صحيح مسلم، 2: ح 1376-صحيح البخاري، 3: 61 ح 148.

ص: 237

قال الشاعر:

دارُ الحَبِيبِ لَنا فَلُذْ بِرَحِيبِها فَالنَّفْسُ مُولِعَةٌ بِدارِ حَبِيبِها

اللَّهُ شَرَّفَها بِهِ لِنَصِيبِها واخْتَصَّها بِالطيِّبينَ لِطِيبِها واخْتارَها وَدَعا إلى سُكْناها (1) 29، 30- الحَرَم، المُحَرَّمَة:

وهما يطلقان على مكان مخصوص ينبغي بل يجب احترامه، وتقديسه وصيانته، ويحرم انتهاكه وهدمه، والمدينة هي من أبرز مصاديق الحرم. فقد روى امير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً أو آوى فيها محدثاً، فعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين ...» (2).

وروى جميل بن درّاج عن الصادق عليه السلام نفس الرواية المتقدمة مع زيادة:

سُئِل الصادق عليه السلام: ما الحدث؟ قال عليه السلام: القتل (3).

وبهذه القرينة نستطيع أن نقول: الُمحدِث هو القاتل، وأيضاً ورد في حديث آخر: المدينة حرم كما حكى سهل بن حنيف وقال: أهوى رسولُ اللَّهصلى الله عليه و آله بيده إلى المدينة فقال: «إنّها حرمٌ آمنٌ» (4).

ويطلق على المدينة المحرّمة كما ذكرناه آنفاً.

31- حَرَمُ رسُولِ اللَّه:

إنّه اسم آخر للمدينة لأنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله نسب «الحرم» إلى نفسه فقالصلى الله عليه و آله: «إنّ مكّة حرم اللَّه، حرّمها إبراهيم عليه السلام وإنّ المدينة حرمي ما بين لابِتَيْها حَرَم» (5).

ومضافاً إلى هذه الرواية النبويّة فقد وصفها أمير المؤمنين عليه السلام قائلًا: «مكّة


1- 1 فضائل المدينة المنورة، الصالحي الشامي: 140.
2- 2صحيح مسلم، 2: باب فضل المدينة، ح 1371- وسائل الشيعة، 10: باب وجوب احترام مكة والمدينة ...، ح 19390- الفروع من الكافي، 4: 565، ح 6.
3- 3 نفس المصادر الماضية.
4- 4صحيح مسلم، 2: باب فضل المدينة، ح 1375.
5- 5 الفروع من الكافي، 4: 564، باب تحريم المدينة، ح 5.

ص: 238

حَرَمُ اللَّه، والمدينةُ حَرَمُ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله والكوفة حرمي، لا يريدها جَبَّارٌ بحادثة إلّا قصمه اللَّه» (1).

32- حَسَنَة:

وهي اسم للمدينة لقوله- تعالى: «والذين هاجروا في اللَّه من بعد ما ظُلِموا لنُبوِّئَنَّهم في الدنيا حسنة ...» (2)

. روى الطبرسي عن ابن عباس رحمه الله أي بَلْدَةً حسنةً بدل أوطانهم وهي المدينة (3).

وأيضاً روى الفخر الرازي (4) عن الحسن والشعبي وقتادة ما ذكره الطبري، ونقل القُرطبي عن الجميع نفس ما قدّمناه (5).

33، 34- الخَيِّرَة، الخِيَرَة:

المدينة ذات خيرات كثيرة وهي مقبولة لدى الناس عامةً، ونبّه النبيّصلى الله عليه و آله الناس عليها حينما قالصلى الله عليه و آله: «المدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون» (6). ومن ثمَّ سمّيت المدينة بهما- الخَيِّرَة، الخِيَرَة-.

35- دَارُ الأَبْرَار:

بعدما هاجر النبيّصلى الله عليه و آله من مكّة إلى المدينة واستقرّ فيها، اجتمع المهاجرون والأنصار وازدادوا يوماً بعد يوم خصوصاً في السنة السابعة من الهجرة- حينما فتحت قلاع خيبر- فخرجت المدينة من جاهليّتها السابقة وأصبحت دار الأبرار (7).

36، 37- دَارُ المُخْتَار، المُخْتَارَة:

المدينة هي الموطن الثاني لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله حيث اختارها وأقامصلى الله عليه و آله فيها


1- 1 الفروع من الكافي، 4: 563، باب تحريم المدينة، ح 1.
2- 2 النّحل: 41.
3- 3 مجمع البيان، 6: 361.
4- 4 التفسير الكبير، 20: 34.
5- 5 الجامع لأحكام القرآن، 10: 71.
6- 6صحيح مسلم، 2: 1008، ح 1388.
7- 7 الكامل في التاريخ، ابن الأثير، 2: السنة السابعة.

ص: 239

العقد الأخير من عمره الشريف، وانتقل منها إلى الرفيق الأعلى. فالمدينة مختارة لمن اختاره اللَّه من خلقه في حياته ومماته (1).

38- دار الإيمان:

وضحنا في الرقم السادس علة إطلاق لفظة «الإيمان» على المدينة ولكن هذا الاسم ورد في الأحاديث مع الهيئة التركيبيّة مثل قول رسول اللَّهصلى الله عليه و آله:

«المدينة قبّة الإسلام، ودار الإيمان ...» (2).

39- دَارُ السُّنَة:

هي المكان الذي تجلّت فيه الشريعة الإسلاميّة، والسّنة المحمّدية الغرّاء وكملتا، وعمل بها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله والمسلمون الأوائل (3).

40- دارُ السَّلامَة:

المدينة هي مأمن الرسول الكريمصلى الله عليه و آله حيث أنعم اللَّه بالسّلامة والسّكينة عليه خصوصاً، وعلى المؤمنين عموماً، وهذا معنى قول رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «أنا في جُنَّةٍ حصينة» (4) أو «رأيت أنّي في درع حصينة ...».

41- ذَاتُ الحُجَر:

حُجَر وحُجَرَات جمع للحُجْرَة من البيوت، وهي كالغرفة تُجمع على غُرَف وغُرَفات والمدينة تشتمل عليها (5).

42- ذَاتُ الحَرَار:


1- 1 وفاء الوفا، السمهودي، 1: 22.
2- 2 مجمع الزوائد، الهيثمي، 3: 298، المصدر نفسه في الرقم 3.
3- 3 عمدة الأخبار، أحمد بن عبد الحميد العباسي: 69.
4- 4 مسند أحمد بن حنبل، 3: 351، ذكرت الحديث في الرقم 26.
5- 5 وفاء الوفا، السمهودي، 1: 15.

ص: 240

الحِرار جمع حَرَّهْ وهي حجارةٌ سُودٌ. والمدينة تحتوي على كثير منها (1).

43- ذَاتُ النَخْل:

لاشتمال المدينة على نخيل كثيرة كما نشاهدها، ومن ثمّ جرى هذا الاسم على لسان «ابن التوأم الحميري» و «عمران بن عامر» بدلًا عن المدينة. وأيضاً عبّر عن المدينة بذات النخل في الرواية النبويّة «أريت دار هجرتي ذات نخل وحَرَّة» (2).

44- السَّلِقَة:

نقله أبو عبد اللَّه محمّد بن أمين المشتهر ب «الأقشهري» عن التوراة، وسُميّت المدينةُ بها لاتساعها وتباعد جبالها (3).

45- سَيَّدَةُ البُلْدَان:

المدينة هي أفضل بقاع الأرض بعد مكّة المكرّمة؛ لأنّها مدفن سيد المرسلين وخاتم النبيين محمدصلى الله عليه و آله.

وكتب أبو نعيم الأصبهاني في كتاب «حلية الأولياء» أنّ عبد اللَّه بن عمر لمّا أراد أن يدخل المدينة، وقف أمامها فنادى: «يا طيبة يا سيدة البلدان» (4).

46- الشَّافِيَة:

سمّيت بهذا الإسم لقول رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «تُرابُها شِفاء من كلّ داء» (5)، وذكر ابن مُسْدِي (6): يستشفي المحموم حينما تُعَلَّقُ أسماءُ المدينة على عاتقه.

وروى ابن الأثير عن سعد ... لمّا رجع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله من غزوة تبوك، واجهصلى الله عليه و آله رجالًا من المتخلّفين المسلمين، فأثاروا غباراً، فخمَّر بعض من كان


1- 1 المصدر نفسه.
2- 2 الإصابة في تمييز الصحابة، 1: 464.
3- 3 وفاء الوفا، السمهودي، 1: 16.
4- 4 المصدر نفسه.
5- 5 الوفاء، ابن جوزي، 1: 399.
6- 6 هو الحافظ أبو بكر محمّد بن يوسف الأزدي الغرناطي الأندلسي المهلبي، قال ابن ناصر الدين: كان ذا رحلة واسعة ودراية وهو عالم وحافظ للقرآن، جاور بمكّة أواخر عمره، وشاع أنّه على مذهب أهل البيت عليهم السلام فقُتل غيلةً سنة 663 ه. شذرات الذهب، 5: 313.

ص: 241

مع النبيّصلى الله عليه و آله أنفه، فأزال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله اللثام عن وجهه وقال: «والذي نفسي بيده إنَّ في غبارها شفاءً من كلّ داء» (1).

47، 48، 49، 50، 51- طابَة، طَيْبَة، طَيِّبَة، طَائب، مُطَيِّبَة:

الأسماء الخمسة من مادّة واحدة وتختلفصيغها ومصادرها؛ لأنّ ابن شُبَّة حينما ذكر- الأولى والثانية- اعتمد على الحديث النبوي (2). وأمّا الثلاثة الأخيرة فهي مرويّة عن التوراة، كما نقلها وهب بن مُنَبِّة (3).

قال السمهودي: هذه الأسماء الخمسة مبتنية وموافقة لقول اللَّه- عزّوجلّ- وهو: «حتّى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريحٍ طيِّبَة» (4)

فكانت الريح الطيّبة جزاءً لمناجاتهم بعد خوفهم في الفلك وهذه الريح الطيّبة هي فرحة تامّة ومسرّة قويَّة (5)، فتسمية المدينة بهذه الأسماء الخمسة؛ لطيب تربتها- لمن دخل فيها، وطهارتها من الكفر والأرجاس (6).

52، 53- طِبَابَا، ظِبَابَا:

قال ياقوت الحموي: طِبَابَا من أسماء المدينة حيث يطلق على الأرض المستطيلة، وأيضاً على الطريق والثوب وغيره، فإنّ المدينة سمّيت بذلك لأنّها كذلك (7).

فإن كانت بالظاء المعجمة: فمن ظَبَّ وظبظب: إذا حمَّ حيث كانت المدينة محمومة إذا دخلها أحد ابتلى بالحمّى فنقل اللَّه- سبحانه- حمّاها إلى مُهَيْعَة بدعائهصلى الله عليه و آله (8).

54- العاصِمة:


1- 1 جامع الأصول، ابن الأثير، 9: 334.
2- 2 قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: للمدينة عشرة أسماء هي: المدينة، طيْبَة، طابة، ...» وسيأتي الحديث مفصلًا.
3- 3 فضائل المدينة المنوّرة، الصالحي الشامي: 52.
4- 4 يونس: 22.
5- 5 تفسير أبي السعود، محمّد بن محمّد العمادي، 7: يونس، الآية 22.
6- 6 معجم معالم الحجاز، عاتق بن غيث البلادي، 5: 243.
7- 7 لسان العرب، 1: 555- عمدة الأخبار: 73- معجم البلدان، ياقوت الحموي، 5: 83؛ طول المدينة 12 60 درجة، وعرضها 20 درجة.
8- 8 وسائل الشيعة، 10: 273 ح 5.

ص: 242

سمّيت بذلك لأنّ المدينة عصمت المهاجرين من كيد المشركين. وهي حصن الإسلام والمسلمين. وكان المسلمون يعتصمون بها، وقيل: معنى العاصمة المعصومة، لعصمتها قديماً بجيوش موسى وداود عليهما السلام حيث إنّهم مبعوثون إلى مَن كان فيها من الجبابرة (1)، أو لعدم دخول الطاعون والدّجال فيها، قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من أراد أهل المدينة بسوء أذابه اللَّه» (2).

55- العَذرَاء:

والدليل على تسميتها بالعذراء لصعوبتها وامتناعها على الأعداء حتّى تسلّمها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وهو المالك، وهي منقولة عن التوراة على ما رواه إبراهيم بن أبي يحيى: إنّ هذا الاسم مع أسماء أخر مذكورة في الكتب السماوية (3).

56- العَرَاء:

سمّيت بهذا الاسم لعدم ارتفاع أبنية المدينة في السماء، حيث إنّ المسلمين حاولوا أن لا ترتفع أبنيتهم على بيت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ومسجده، ومن ثمّ تُشبه المدينة بالناقة العراء الّتي لا سنام لها أو لصغر سنامها (4).

وقال الأزهري: العُرى سادات الناس الذين يعتصم بهم الضعفاء، ويعيشون بعرفهم، ومن حيث إنّ المدينةصارت محتماً للمستضعفين بعد مهاجرة النبيّصلى الله عليه و آله لكي يصبحوا سعداء، فسميّت بالعُرى (5).

57- العَرُوض:

وهو كصَبور يطلق على أرض منخفضة، تكون فيها أودية السيول والمدينة كذلك؛ ولذا تُسمّى بالعَروض لأنّها من بلاد نجد، ونجد كلّها على خطّ


1- 1 وفاء الوفا، السمهودي، 1: 17.
2- 2صحيح البخاري، 3: 57؛ باب: لا يدخل الدجال المدينة-صحيح مسلم، 2: 1008.
3- 3 عمدة الأخبار في مدينة المختار، أحمد بن عبد الحميد العباسي: 73.
4- 4 فضائل المدينة المنوّرة، الصالحي الشامي: 53.
5- 5 لسان العرب، 15: 46.

ص: 243

مستقيم طولًا، والمدينة معترضة عنها ناحية، وقال ابن سيدة: والعَرُوض مكّة والمدينة (1).

58- الغَرَّاء:

هي تأنيث الأغرّ أي الغُرَّة وهي البياض في الجبين، أو بمعنى الرجل الكريم والوسيم، أو يوم شديد الحَرّ، والغَرّاء: هي نبت طَيِّبُ الريح، والسيدة الكبيرة (2).

والمدينةُ سادتِ البلادَ؛ لأنّ فيها الكرامة والفضيلة والبركة و .. وهيصفات مرموقة تسبّب تفوُّقها على سائر البلاد.

59- غَلَبَة:

كانت المدينة تدعى في الجاهليّة «غَلَبَةْ» لأنّ إليهود نزلت على العمالقة فغلبتهم عليها، ثمّ نزلت الأوس والخزرج على إليهود فغلبوهم عليها. وبعد ظهور الإسلام نزل المهاجرون على الأوس والخزرج فغلبوهم عليها (3).

وقيل: سمّيت المدينة بالغلبة لظهورها واستيلائها على الأقطار من المدائن والأمصار (4).

60- الفاضِحَةْ:

نقل عن كُراع: لا يمكن لأحد أن يعيش في المدينة، ويكتم عقائده الفاسدة، بل يفتضح ويُبان ما في ضميره. وهذا هو أحد المعاني للحديث النبوي الشريف حيث قالصلى الله عليه و آله: «إنّما المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها» (5).

61- القَاصِمَة:


1- 1 لسان العرب، 7: 173- عمدة الأخبار في مدينة المختار، أحمد بن عبد الحميد العباسي: 75.
2- 2 المنجد، 1: مادة: غرر وغيره من اللغات- عمدة الأخبار: 75.
3- 3 عمدة الأخبار: 75.
4- 4 عمدة الأخبار: 75، منقول عن الزبير بن بكار.
5- 5 كتاب الجامع، الموطأ، 2: 882-صحيح مسلم، 2: كتاب الحج، ح 1383.

ص: 244

هي منقولة عن التوراة، حيث إنّ المدينة قصمت كلّ جبّار عناها، ومتمرّد دخل عليها، وهذا المضمون مذكور في الحديث النبوي: «من أراد أهل المدينة بسوء، أذابه اللَّه كما يذوب الملح في الماء» (1).

62- قُبَّةُ الإسلام:

هذا الاسم مأخوذ عن الرواية التي نقلها الهيثمي وهي: «المدينة قبّة الإسلام، ودار الإيمان ...» ذكرناها في الرقم (2) (3).

63، 64- القِريَة، قَرْيَة الأَنصَار:

قَرْيَة- بفتح القاف وكسرها- تطلق على مدينة تتناول حوائج سكّانها، وأهل اللغة يعبّرون عنها ب «المصر الجامع» (4).

والقرية تطلق على المدن الصغيرة والكبيرة كما قال اللَّه- عزّ وجلّ:

«وقالوا لولا نُزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم» (5).

قال الطبرسي رحمه الله: يعنون بالقريتين: مدينتي مكّة والطائف (6). وإنّ القرية استخدمت في القرآن الكريم ثلاث وثلاثين مرّة، وعنيت فيها المدن والأمصار.

غير أن هذا الاسم جرى على لسان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وقال: «إنّ اللَّه قد طَهَّرَ هذه القرية من الشرك»، وأشارصلى الله عليه و آله بيده إلى المدينة (7).

وقال أهل اللغة أيضاً: المدينة هي قرية الأنصار.

65- قَلْبُ الإيمان:

لما أورده ابن الجوزي في الحديث النبويّ: «المدينة قبّة الإسلام، قلب الإيمان و ...» (8) وهذه هي الرواية الّتي نقلها الهيثمي، إلّاأنّه زاد فيها: «قَلْبُ


1- 1صحيح مسلم، 2: 1008، ح 1387.
2- 3 المنجد، أقرب الموارد، وغيرهما من كتب اللغة، مادّة: قري.
3- 2 مجمع الزوائد، الهيثمي، 3: 298.
4- 3 المنجد، أقرب الموارد، وغيرهما من كتب اللغة، مادّة: قري.
5- 4 الزخرف: 31.
6- 5 مجمع البيان، الطبرسي، 9: 46.
7- 6 مجمع الزوائد، الهيثمي، 3: 299.
8- 7 الوفاء، ابن جوزي، 1: 399.

ص: 245

الإيمان».

66- المُؤْمِنَة:

لما نقله ابن زبالة عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله حيث قالصلى الله عليه و آله: «والذي نفسي بيده، إنّ تربتها لمؤمنة»، ثمّ قال ابن زبالة: «هذا الاسم «المؤمنة» مكتوب في التوراة (1).

67- المُبَارَكَة:

لدعاء رسول اللَّهصلى الله عليه و آله حينما نزل المدينة، قال أنس: وقف النبيصلى الله عليه و آله أمام بيت أبي أيوب الأنصاري، وقرأ هذه الآية الكريمة (2): «ربّ أنزلني منزلًا مباركاً وأنت خير المنزلين» (3)

. ومن ثمّ سميت المدينة ب «المبارك» أو «المباركة».

68- مَبْوَأ ومبيّن الحلال والحرام:

المدينة هي محلّ تمكّن هذين الحكمين واستقرارهما، ومحلّ بيانهما، حيث قال النبيصلى الله عليه و آله:

«المدينة قُبَّةُ الإسلام .. ومبوأ الحلال والحرام» وأيضاً ورد: «مبيّن الحلال والحرام» نقلهما الطبراني وابن الجوزي كما قدّمناه في الرقم «3».

69- المَجْبُورَة:

هي منقولة عن التوراة وستأتي مفصلًا (4).

70- المَحْبُورَة:

وهي من الحَبْر بمعنى الجمال وفي الحديث: «يخرج رجل من النار ذهب حَبْرَه» أي جماله وسحناؤة. والتحبير: التحسين الّذي يسرُّ به، وقال اللَّه العظيم


1- 1 وفاء الوفا: السمهودي، 1: 20.
2- 2 سنن أبي داود، 1: 123.
3- 3 المؤمنون: 29.
4- 4 سيأتي ذكرها في الرقم «80».

ص: 246

«... فهم في روضة يُحبرون» (1)

جاء في مجمع البيان اختصاص هذه الحالة بالمؤمنين في روضة وهي الجنّة، أحسن شي ء، لا يوجد مثلها عند العرب (2).

والِمحْبار من الأرض السريعة النبات الكثيرة الخيرات. والمدينة محبورة لأنّ فيها نعم اللَّه مع السرور والخيرات الكثيرة. وقد لقّب رسولنا الكريم ب (المحبور) كما جاء في دعاء النّور المروي عن سلمان الفارسي رحمه الله عن فاطمة الزهراء عليها السلام قالت: علّمني رسول اللَّهصلى الله عليه و آله هذا الدعاء: «بسم اللَّه النور بسم اللَّه الذي يقول للشي ء كن فيكون ... بسم اللَّه الذي أنزل النور على الطور بقدر مقدور في كتاب مسطور على نَبيّ مَحْبُور» (3).

71- المَحْرُوسَة:

لأنّ المدينة تُحرَسُ بالملائكة. روى الجندي عن النبيصلى الله عليه و آله قال: «المدينة مشتبكة بالملائكة على كلّ نقب منها ملك يحرسها» (4).

في هذا الحديث حراسة الملائكة تتعلّق بالنقب؛ لأنّ النقب طريق في الجبل، والعدو يتسلّل منه، وحينما كانت الطرق الجبليّة محفوظة فالمدينة محروسة.

72- المَحْفُوفَة:

وأيضاً تُسمى محفوفة: لأنّ النبيصلى الله عليه و آله قال: «المدينة ومكّة محفوفتان بالملائكة على كلّ نَقْب منها ملك لا يدخلها الدجال ولا الطاعون» (5).

قال الشاعر:

مَحْرُوسَةٌ مِنْ كُلِّ رجسٍ طارقِ ودخول دجّالِ وطعنٍ لاحقِ

فالمرأ فيها ذُو فؤادٍ واثِقِ هذي محاسنها فهل من عاشقِ كَلِفٍ شَحِيحٍ باخِلٍ بِنَواها (6)


1- 1 الروم: 15.
2- 2 مجمع البيان، الطبرسي، 7: 298.
3- 3 دلائل الإمامة، أبو جعفر الطبري الإمامي: 28، 29.
4- 4 مجمع الزوائد، 3: 309- فضائل المدينة، الجندي، ح 13.
5- 5 مسند أحمد بن حنبل، 2: 483.
6- 6 فضائل المدينة المنوّرة، الصالحي الشامي: 142.

ص: 247

73- المَحْفُوظَة:

المدينة محفوظة بإرادة الملك الدَيّان كما قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «القُرى المحفوظة أربع: المدينة ومكّة، إيليا ونجران» (1).

74- مُدْخَلَصِدقٍ:

«... ربِّ أدخلني مُدْخَلصدق وأخرجني مُخرجصدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً» (2)

. ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآية الكريمة أربعة أقوال.

ثانيها: أنّ معناه أدخلني المدينة وأخرجني منها إلى مكّة للفتح. ونسبه إلى ابن عباس والحسن البصري وقتادة وسعيد بن جبير (3).

75، 76- المَدينَة، مَدينَة رسولِ اللَّهصلى الله عليه و آله:

المدينة عَلَمٌ لعدّة مدن، منها: المدينة وهي «يثرب» (4) وهذه الكلمة «المدينة» مذكورة في أربعة عشر موضعاً من القرآن الكريم ولم يقصد بها مدينة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله الّا في المواضع الأربعة التالية:

1- سورة التوبة، 101: «وممّن حولكم من الأعراب منافقون ومِن أهلِ المدينةِ مَرَدوا على النفاقِ لا تعلمُهم نحن نعلمهم ...».

قال الكلبي: نزلت في جهينة ومزيئة وأشجع وغفّار من أهل المدينة يعني عبد اللَّه بن أُبيّ، وجد ابن قيس، ومعتب بن بشير، والجلاس بن سويد وأبي عامر الراهب (5).

2- التوبة، 120: «وما كانَ لأهلِ المدينةِ ومَن حولهم من الأعرابِ أن يتخلّفوا عن رسولِ اللَّهِ ولا يرغبوا بأنفسِهِم عن نفسه ...».


1- 1 عمدة الاخبار، احمد بن عبد الحميد العباسي: 78.
2- 2 الإسراء: 80.
3- 3 مجمع البيان، الطبرسي، 6: 435.
4- 4 المنجد، 2: الأعلام.
5- 5 أسباب النزول، ابي الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري.

ص: 248

يعنون ب «المدينة» وأهلها نفس ما مضى في الآية الكريمة المتقدمة.

3- الأحزاب، 60: «لئن لم ينتهِ المنافقون والذين في قلوبِهم مرضٌ والمُرجفون في المدينةِ لَنُغرينَّك بهم ...».

4- المنافقون، 8: «يقولون لئن رجعنا إلى المدينة لَيُخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ وللَّهِ العزّةُ ولرسوله وللمؤمنين ولكنّ المنافقين لا يعلمون».

والمدينة في هاتين الآيتين هي مدينة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله (1) كما تدلّ عليها القرائن الموجودة فيهما، وهذا هو أمر بيّن بحيث لم يتعرّض أحد خلافه. انتهى.

المدينة هي منقولة عن التوراة (2)، وجرى هذا الاسم على لسان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله حيث قالصلى الله عليه و آله: «اللهمّ حبّب إلينا المدينة كما حبّبت إلينا مكّة ...» (3).

وقال الصادق عليه السلام: لمّا دخل النبيصلى الله عليه و آله المدينة خطّ دورها برجله ثمّ قال:

«اللهمّ من باع رباعه فلا تبارك له» (4).

وأنّ النبيصلى الله عليه و آله نسب المدينة إلى نفسه عندما قال: «مَن أحدث في مدينتي هذه حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة اللَّه ...» (5).

مضافاً إلى ما تقدم: ربما كان اسم المدينة أقدم زماناً ممّا ذكرنا حيث إنّ أهلها استقبلوا النبي الأعظم في وصوله منشدين:

طلع البدر علينا من ثنيّات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا للَّه داعٍ

جئت شرّفت المدينة مرحباً يا خير داعٍ فيشهد هذا أنّ المدينة كانت مشهورة لدى العرب. وربما كان النبيصلى الله عليه و آله قد سمّاها قبل هجرته (6).

77- المَرحُومَة:

هي منقولة عن التوراة، لأنّها دار المبعوث رحمةً (7).


1- 1 مجمع البيان، 8: 371- 10: 295.
2- 2 وفاء الوفا، السمهودي، 1: 23.
3- 3 بحار الأنوار، 18: 9 ح 15 باب 6.
4- 4 بحار الأنوار، 19: 119 ح 4 باب 7.
5- 5 مجمع الزوائد، الهيثمي، 3: 307.
6- 6 معجم معالم الحجاز، عاتق بن غيث البلادي، 8: 70.
7- 7 فضائل المدينة، الصالحي الشامي: 58.

ص: 249

78- المَرزُوقَة:

سمّيت بذلك حيث إنّ اللَّه- عزّ وجلّ- كثّر حظّ المدينة ورزقهم بما شاء من النعمة، فهي مرزوقة كما ذكرها عمدة الأخبار (1).

79- المِسْكِينَة:

هذا الاسم منقول عن التوراة كما روى ذلك إبراهيم بن أبي يحيى فقال:

للمدينة في التوراة أحد عشر اسماً: المدينة، المحبّة، المحبوبة، طيبة، طابة، المسكينة، جابرة، المجبورة، المرحومة، العذراء والقاصمة (2). ووضحّنا أكثر هذه الأسماء حسب التسلسل المعجمي.

وسمّيت المدينة مِسْكِينَة لأنّها مسكن المساكين وملجأ الخاشعين والخاضعين للَّه والمتوسّلين برسول اللَّهصلى الله عليه و آله وآله الكرام.

وأنشد هذه الخماسيّة الشيخ أبو عبد اللَّه محمّد التونسي:

يا ربِّ بالمختار يَسِّرْ أَمْرَنا واغْفِرْ خطايانا وأَذْهِبْ ضُرَّنا

واجْزِل عَطايانا وأَجْمِل سَتْرنا واجْعَل بطيبة في حماه مَقَّرَنا وأَجِبْ سؤالَ نفوسنا ودُعاها

يا ربّصَلِّ على النبيّ مُحمَّدٍ والآل والصحب الكرام المُحْتَدِ

القائمين الراكعين السُجَّدِ أنصار دينك باللسان وباليَدِ والمال حُبّاً للرسول وَجاها (3) 80- المسلمة:

ذكرهاصاحب المعجم البلاذري، سميّت بها لأنّ أهل المدينة انقادوا للَّه


1- 1 عمدة الأخبار، أحمد بن عبد الحميد العباسي: 79، 74.
2- 2 عمدة الأخبار، أحمد بن عبد الحميد العباسي: 74- 79.
3- 3 وفاءالوفا، السمهودي 4: 1419 ذكرت الأبيات غير خماسيّة ولكن خمّسها أبو عبد اللَّه محمد التونسي.

ص: 250

بالطاعة وبادروا إلى نصرة نبيّه المصطفىصلى الله عليه و آله وإنّها فتحت بالقرآن (1).

81- مَضْجَعُ رسُول اللَّهصلى الله عليه و آله:

لأنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قال: «المدينة مُهاجري ومَضْجَعي في الأرض» (2) والمدينة مضجعه ومرقده حيّاً وميتاً.

82- المُقَدَّسَة:

لتنزّهها عن الشرك، وطهارتها من أرجاس الذنوب والآثام، والمدينة تنفي الذنوب حينما يدخلها المسلم ويزور النبي الكريم (3)صلى الله عليه و آله. وقال الأستاذ الدكتور الشريف رحمه الله:

فطوبى لِمَنْ زارَ خَير الورى وحَطَّ عن النّفس أوزارها

فانَّ السعادة مضمونة لمن حلّ طَيْبَة أو زارها 83- المَقَرّ:

فهذا كالمَمرِّ من القرار، ذكر في دعاء رسول اللَّهصلى الله عليه و آله كما قال أنس: كان النبيصلى الله عليه و آله إذا قدم من سفر إلى المدينة دعاصلى الله عليه و آله له وللآخرين فقال: «اللهمّ اجعل لنا بها قراراً ورزقاً حسناً» (4).

84- المَكِينَة:

لتمكّنها في المكانة والقدر والمنزلة عند اللَّه- عزّ وجلّ- كما ذكره السمهودي (5).

85- المُوَفِّيَة:


1- 1 فضائل المدينة المنوّرة، الصالحي الشامي،: 58- وفاء الوفا، السمهودي، 1: 24.
2- 2 مجمع الزوائد، 3: 310- الحجج المبيّنة للسيوطي: 25.
3- 3 وفاء الوفا، السمهودي، 1: 24.
4- 4 المصدر نفسه.
5- 5 وفاء الوفا، السمهودي، 1: 53.

ص: 251

بتشديد الفاء وتخفيفها؛ لأنّ التوفية والإيفاء بمعنى واحد، وقد سمّيت المدينة مُوفية؛ لأنها أوفت حقوق القادمين طعاماً وشراباً. وترابها شفاء الأسقام والأمراض؛ وآبارها أطيب أنهار الدنيا، وأهل المدينة الموفون بالعهد (1).

86- النَحْر:

بفتح النون وسكون الحاء- علم لأرض المدينة وهكذا علم لأرض مكّة.

والنحر هو اللّون وجمعه نحار أي من كلّ لون. والنحر أيضاً: السوق الشديد.

وقيل لشدّة حَرِّهما (2).

87- الهَذْراء:

ذكره ابن نجّار نقلًا عن التوراة- والتسمية به لشدة حَرِّها- يقال: يوم هاذر: شديد الحرّ أو لكثرة مياهها وأنهارها المُصَوِّتة عند جريانها.

ويحتمل أن تكون الدال مهملة من هدر الحمام ويقال: أرض هادرة أي كثيرة النبات (3).

88- يَثْرِب:

وهي لغة في «أثرب» كما قدّمنا وهي اسم للمدينة قبل الإسلام؛ لأنّ أوّل من سكنها بعد التّفرّق هو: يثرب بن قانية بن مهلائيل بن إرم بن عبيل بن عوض بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام (4).

وهذا الاسم مأخوذ من الثَّرْب وهو الفساد أو من التثريب وهو المؤاخذة بالذنب، أو يؤول الاسم إلى من بناها وهو غير موحّد (5). ومن ذلك لا يحبُّهُ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وغيّره فقالصلى الله عليه و آله: «لا تدعوها يثرب فإنّها طَيْبَة»- يعني المدينة- (6) وقال أبو عبيدة: إنَّ مدينة الرسول في ناحية من يثرب (7).


1- 1 عمدة الأخبار في مدينة المختار، أحمد بن عبد الحميد العباسي: 82.
2- 2 عمدة الأخبار في مدينة المختار، أحمد بن عبد الحميد العباسي: 81.
3- 3 وفاء الوفا، السمهودي، 1: 26- فضائل المدينة المنورة، الصالحي الشامي: 60.
4- 4 مجمع البحرين، الطريحي، 2: مادّة: ثرب- معجم معالم الحجاز، عاتق بن غيث البلادي، 10: 13.
5- 5 تاريخ المدينة المنورة، ابن شبّة، 1: 162.
6- 6 الدرّ المنثور، 5: 188- تفسير أبي السعود، محمد بن محمد العمادي، 7: 94.
7- 7 التبيان، الشيخ الطوسي، 8: 323.

ص: 252

89، 90- يَنْدَد، يَنْدَر (تَنْدَد، تَنْدَر):

لما رواه زيد بن أسلم عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «للمدينة عشرة أسماء هي:

المَدِينَة، وطَيْبَة، وطَابَة، ومِسْكِينَة، وجبار، ومجبُورة، ويندد، ويثرب» (1).

قال الفيروز آبادي: يَنْدَدُ من نَدَدَ، وهي المدينة وأيضاً يقول في مادّة نَدَرَ:

يَنْدَرْ كحَيْدَر وهي من أسماء المدينة المنوّرة (2). ونقل في بعض الكتب أنّهما:

تَنْدَدْ وتَنْدَرْ (3).

وفي نهاية هذه الأسماء نذكر ما ذكره السيّد المرتضى علم الهدى رحمه الله: «أنَّ من أسماء المدينة: يثرب، طَيْبَة، طَابَة، الدَّار، المِسْكِينَة، جَايِزَة، الَمحْبُورَة، الَمحَبَّة، الَمحْبُوبَة، العَذْرَاء، المَرْحُومَة، القَاصِمَة، يَنْدَد» (4).

فكلامه يحتوي على اسم آخر غير ما قدمناه وهو «جَايِزَة».

هذه هي أسماء المدينة المنوّرة الّتي جمعتُها ورتّبتُها وتعرّضتُ لذكر بعض الدقائق واللطائف- الموجودة في الروايات من الشيعة والسّنة- في وجه تسميتها بها ولا ادّعي الاستقصاء الكامل؛ لأنّ عظمة المدينة ومَن فيها أكبر من أن يؤدِّي حقّها مثلي.

الهوامش:

الروضة المقدّسة


1- 1 تاريخ المدينة المنورة، ابن شبّة، 1: 162.
2- 2 قاموس المحيط، الفيروز آبادي، مادّة: ندد، ندر.
3- 3 وفاء الوفا، السمهودي، 1: 27.
4- 4 مجمع البيان، الطبرسي، 8: 346.

ص: 253

ص: 254

ص: 255

ص: 256

ص: 257

الروضة المقدّسة

محمد جواد الطبسي

لقد كتب الكثير من المؤرخين وغيرهم حول العناوين والموضوعات التي تخصّ المدينة المنوّرة: عن شرافة أرضها ومشرّفِها، وعمن نزل وحلّ فيها وعن آثارها وأماكنها. ولكن قلّ من تعرّض لذكر الروضة المقدّسة في المسجد النبوي بنحو التفصيل، وحقّق الموضوع كما ينبغي، من حدودها واختلاف الآراء فيها وبيان معناها وعلّة شرافتها وآدابها وغير ذلك.

ولقد كان في مضماري، في السنوات التي كنت أتشرّف بزيارة قبر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، أن أتعرّف على هذه البقعة الطاهرة أكثر ممّا سمعت أو قرأت بنحو الإجمال والايجاز، فلذلك عزمت على كتابةصفحات وإن كانت بصورة موجزة، ولكن حاوية على جميع أنحاء البحث حول هذه البقعة الطاهرة، آملًا بذلك الدخول في رياض الجنّة التي وعد المتّقون بها، إن شاء اللَّه تعالى.

ص: 258

الروضة عند أهل اللغة:

قال ابن منظور: الروضة:

الأرض ذات الخضرة، والروضة:

البستان الحسن ... وقولهصلى الله عليه و آله: بين قبري أو بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة ... (1) وقال الطريحي: الروضة:

الأرض الخضرة بحسن النبات ومنه روضات الجنان، وهي أطيب البقاع وأنزهها، ومنه الحديث ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة أي كروضة (2).

ما قيل في معنى الروضة:

فسّرت الروضة الشريفة ما يقرب من ثمانية معانٍ حسب الإحصاء وهي:

1- إنّ من لزم طاعة اللَّه في هذه البقعة آلت به الطاعة إلى روضة من رياض الجنّة. قاله الخطابي (3).

2- مَن عَبَدَ اللَّه بين القبر والمنبر، فله عند اللَّه روضة من رياض الجنّة. بهذا المعنى أشار العلامة المجلسي في البحار عن العلل: العلة في أن بين قبر النبيصلى الله عليه و آله وبين المنبر روضة من رياض الجنة: أنه مَن عَبَدَ اللَّه بين القبر والمنبر، وعرف حقَّ رسول اللَّه وأهل بيته عليهم السلام، وتبرأ من أعدائهم، فله عند اللَّه- عزوجل- روضة من رياض الجنة، ولا يكون له ذلك في غير ذلك الموضع (4).

3- روضة في الدنيا للعلم والمعرفة، حيث كان يقتبس ذلك من الرسول وهو فيها، ثمّ تجعل يوم القيامة إحدى رياض الجنّة (5).

4- إن تلك البقعة نفسها روضة من رياض الجنة، كما أن الحجر الأسود من الجنة، فيكون الموضع المذكور روضة من رياض الجنة الآن، ويعود روضة في الجنة كما كان، ويكون للعامل بالعمل فيه روضة في الجنة .. (6) وأشير إلى هذا المعنى بما ورد عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: ما بين بيتي ومنبري روضة


1- 1 لسان العرب 5: 369.
2- 2 مجمع البحرين: 330.
3- 3 أخبار مدينة الرسول: 83.
4- 4 مستدرك الوسائل 10: 195، البحار 99: 382.
5- 5 الدر الثمين في معالم دار الرسول الأمين: 24.
6- 6 وفاء الوفا 2: 429.

ص: 259

من رياض الجنة، ومنبري على ترعة (1)من ترع الجنة، وقوائم منبري رتب في الجنة. قال: قلت: هي روضة اليوم؟

قال: نعم، انه لو كشف الغطا لرأيتم (2).

وقال البحراني: ويحتمل أن يكون ذلك على الحقيقة في المنبر والروضة، بأن يكون حقيقتها كذلك، وإن لم يظهر في الصورة بذلك في الدنيا؛ لأن الحقائق تظهر بالصور المختلفة (3).

5- من أقام بهذا الموضع فكأنه أقام في روضة من رياض الجنة. قاله ثعلب (4).

6- ينقل ذلك الموضع بعينه إلى الجنة. قاله ابن حجر (5).

7- العبادة فيها تؤدي إلى الجنة (6).

8- البقعة كروضة من رياض الجنة في نزول الرحمة وحصول السعادة، بما يحصل فيها من ملازمة حِلَقِ الذكر، ولاسيما في عهدهصلى الله عليه و آله .. (7) حدود الروضة:

بعد التعرف على معنى الروضة:

نودّ أن نشير إلى حدود الروضة المقدسة، وما ورد في تحديدها من روايات وأقوال، ونواصل البحث والنقاش في ذلك.

ألف- التعابير الواردة عن النبي في تحديد الروضة:

وردت تعابير مختلفة في تحديد الروضة الشريفة عن الرسول الكريمصلى الله عليه و آله، رواها عنه جمع من الصحابة: كجابر بن عبد اللَّه، وعبد اللَّه بن زيد المازني، وابن عمر، وأبي سعيد، وأنس بن مالك، وسعد بن أبي وقاص، وسنذكرها لك بالتفصيل.

1- قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة (8).

2- وقالصلى الله عليه و آله: ما بين حجرتي ومنبري روضة من رياض الجنّة (9).

3- وقالصلى الله عليه و آله: ما بين بيتي


1- 1 قال البحراني: الترعة بضمّ المثناة الفوقانية ثمّ المهملتين في الأصل: هي الروضة على المكان المرتفع خاصة، فإذا كان في المطمئنين فهي روضة .. وقيل الترعة: الدرجة وقيل: الباب .. الحدائق الناضرة 17: 415.
2- 2 وسائل الشيعة 10: 270، فروع الكافي 4: 554.
3- 3 الحدائق الناضرة 17: 416.
4- 4 لسان العرب 5: 369.
5- 5 الدر الثمين: 24، وفاء الوفا 2: 429.
6- 6 أخبار مدينة الرسول: 82، عمدة الأخبار: 138، وفاء الوفا 2: 429، اتحاف المؤمنين: 64.
7- 7 وفاء الوفا 2: 429.
8- 8 وسائل الشيعة 10: 270، فروع الكافي 4: 555، العقد الثمين 3: 410، وفاء الوفا 2: 426، أخبار مدينة الرسول: 80، عمدة الأخبار: 138.
9- 9 شفاء الغرام 2: 362، أخبار مدينة الرسول: 82.

ص: 260

ومصلاي روضة من رياض الجنّة (1).

4- وقالصلى الله عليه و آله: ما بين حجرتي ومصلاي روضة من رياض الجنّة (2).

5- وقالصلى الله عليه و آله: ما بين منبري والمصلى روضة من رياض الجنّة (3).

6- وقالصلى الله عليه و آله: ما بين مسجدي إلى المصلى روضة من رياض الجنّة (4).

7- وقالصلى الله عليه و آله: ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة (5).

8- وقالصلى الله عليه و آله: ما بين منبري وبيوتي روضة من رياض الجنّة (6)

9- وقالصلى الله عليه و آله: ما بين هذه البيوت إلى منبري روضة من رياض الجنّة (7).

ب- تحديد الروضة عن أهل البيت عليهم السلام:

ووردت روايات عن أهل البيت عليهم السلام في الروضة، وحدّها، ما يلي:

1- عن مرازم قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عمّا يقول الناس في الروضة فقال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة، ومنبري على ترعة من ترع الجنّة. فقلت له: جعلت فداك فما حدّ الروضة؟

فقال: بعد أربع أساطين من المنبر إلى الظلال. فقلت: جعلت فداك من الصحن فيها شي ء؟ قال: لا (8).

2- عن أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: حدّ الروضة في مسجد الرسولصلى الله عليه و آله إلى طرف الظلال (9).

3- عن جميل بن دراج قال:

سمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ما بين منبري وبيوتي روضة من رياض الجنّة، ومنبري على ترعة من ترع الجنّة، وصلاة في مسجدي تعدل ألفصلاة فيما سواه من المساجد إلّاالمسجد الحرام.

قال جميل: قلت له، بيوت النبي وبيت علي منها؟ قال: نعم وأفضل (10).


1- 1 وفاء الوفا 2: 428.
2- 2 المصدر نفسه.
3- 3 المصدر نفسه.
4- 4 عمدة الأخبار: 182، وفاء الوفا 2: 428.
5- 5 وسائل الشيعة 10: 270، وفاء الوفا 2: 427.
6- 6 فروع الكافي 4: 556، وسائل الشيعة 3: 543.
7- 7 وفاء الوفا 2: 428 و 429.
8- 8 البحار 97: 146، وسائل الشيعة 10: 271، فروع الكافي 4: 555.
9- 9 المصدر نفسه.
10- 10 المصدر نفسه.

ص: 261

ج- تحديد الروضة في أقوال الآخرين:

لقد وقع الخلاف في تحديد الروضة الشريفة، فمنهم من حدّدها ما بين المنبر والحجرة الشريفة التي دفن النبي فيها وعليه الأكثر، اعتماداً علىصحيحتين إحداهما قوله: ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة ..

والثّانية ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة (1)، ومنهم من قال:

إنّها تعمّ جميع المسجد الموجود في زمنه.

ومال إلى هذا الرأي الشنقيطي قائلًا: وأنا أميل إلى رأي الإمام مالك، والزين المراغي في تحديد الروضة الشريفة بما بين جميع بيوت النبي وبين منبره الشريف لأدلّة منها: ما ذكروه من حمل الخصوص في قوله (قبري) على العموم في قوله (بيتي) وما رواه أحمد: ما بين هذه البيوت إلى منبري روضة من رياض الجنّة .. وحديث وقوائم منبري على ترعة من ترع الجنّة الذي يفهم منه: أن ما كان شمال المنبر الشريف من الأرض هو ترعة من ترع الجنّة، والى الشمال الغربي من ذلك في نهاية المسجد حيث باب الرحمة كان يقع آخر بيت من بيوت الرسول .. (2) ومنهم من قال: إنّها تعمّ المسجد في زمنه وبعده. قال الراساني: إنّ اسم الروضة يعمّ مسجدهصلى الله عليه و آله كلّه مع ما زيد فيه (3).

ومنهم من قال: إنّها من حجرته إلى مصلّاه لرواية ما بين حجرتي ومصلاي على القول بأن المراد مصلّى العيد (4).

د- الروضة وحدّها في أقوال الفقهاء:

حدّد فقهاؤنا- رضوان اللَّه عليهم- الروضة بما بين القبر والمنبر اعتماداً على ما روي عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة.

وإليك بعض الآراء في هذا المجال:


1- 1 الدر الثمين في معالم دار الرسول الأمين: 24، المسجد النبوي عبر التاريخ: 49.
2- 2 المصدر نفسه.
3- 3 اتحاف المؤمنين بتاريخ مسجد خاتم المرسلين: 62.
4- 4 المصدر نفسه، عمدة الأخبار: 182.

ص: 262

1- قال الشيخ الطوسي: ...

ويستحبّ أن يصلّى ما بين القبر والمنبر ركعتين فإنّ فيه روضة من رياض الجنّة .. (1)2- وقال ابن البراج: الروضة:

هي ما بين القبر والمنبر إلى الأساطين التي تليصحن المسجد، وليس في الصحن من الروضة شي ء .. (2) 3- وقال يحيى بن سعيد: ثمّ أتى المنبر فمسح رمّانتيه، وصلّى بين القبر والمنبر، وهو روضة من رياض الجنّة .. (3) 4- وقال ابن ادريس:

ويستحب الصلاة بين القبر والمنبر ركعتين، فإنّ فيه روضة من رياض الجنّة .. (4) 5- وقال ابن حمزة: فإذا فرغ أتى المنبر ومسح وجهه وعينيه برمانتيه .. وصلّى ركعتين بين القبر والمنبر، فإنّ فيه روضة من رياض الجنّة (5).

6- وقال المحقّق الحلي: الرابع يستحبّ الغسل لدخولها وزيارة النبيصلى الله عليه و آله استحباباً مؤكداً، وزيارة فاطمة عليها السلام في الروضة والأئمة في البقيع، والصلاة بين المنبر والقبر وهو الروضة (6).

7- وقال البحراني: قد اتفقت الأخبار وكلمة الأصحاب على أنه يستحبّ لزائر المدينة بعد الدخول إكثار الصلاة في مسجد الرسول، ولا سيّما في الروضة وهي ما بين القبر والمنبر إلى طرف الظلال (7).

وقفة مع القارئ حول روايات الروضة:

كان هذا عرضاً موجزاً من الروايات المرويّة عن النبيصلى الله عليه و آله والأئمة المعصومين عليهم السلام، وما قيل في ذلك حول تحديد الروضة المقدّسة.

ولنا وقفة خاطفة وسريعة معك حول مفاد هذه الروايات من جهة حدود الروضة بداية ونهاية فإنّها تتضيق بالنظر إلى بعضها، وتتسع بالنظر إلى أخرى:


1- 1 النهاية: 317 الجوامع الفقهية.
2- 2 المهذب:.
3- 3 الجامع للشرايع: 231.
4- 4 السرائر:.
5- 5 الوسيلة: 197.
6- 6 المختصر النافع: 98.
7- 7 الحدائق الناضرة 17: 415.

ص: 263

فالرواية الأولى والثانية والثالثة والرابعة والثامنة والتاسعة جعلت بداية الروضة بيته وحجرته وبيوته الشريفة.

والرواية الخامسة جعلت بداية الروضة منبرهصلى الله عليه و آله والسادسة: المسجد الشريف والسابعة: قبرهصلى الله عليه و آله. هذا من جهة البداية.

وأمّا من جهة النهاية: فالرواية الأولى والثانية والخامسة والسابعة والثامنة والتاسعة جعلت نهاية الروضة المنبر الشريف. والرواية الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة مصلاه أو المصلّى.

فتكون حدود الروضة بحسب ما مرّ علينا من الروايات ستّة:

الحدّ الأول: ما بين بيته وحجرته والمنبر. والحدّ الثاني: ما بين حجراته والمنبر. والثالث: ما بين بيته ومصلاه. والرابع: ما بين المنبر والمصلّى.

والخامس: ما بين القبر والمنبر.

والسادس: ما بين المسجد إلى المصلّى.

وعلى هذا فيكون أضيق الحدود هو ما دار بين القبر ومصلّاه إذا فسّرنا المصلّى بمحرابه في المسجد. وأوسع الحدود: هو ما كان بين المسجد ومصلّى العيد.

وأمّا ما ورد عن أهل البيت العصمة عليهم السلام ففي بعضه: ما تحدد الروضة من المنبر إلى الظلال وفي بعض آخر: تحدّد الروضة بما بين المنبر وبيوتهصلى الله عليه و آله وبيت علي وفاطمة، وثالثه بين القبر والمنبر.

والذي يخطر بالبال بل يكون في النهاية هو المختار: أن روايات بين البيت أو القبر والمنبر روضة من رياض الجنّة كثيرة ومتظافرة ومشهورة ومنقولة في معظم الكتب الحديثيّة، ومؤيّدة بروايات وردت عن أهل البيت عليهم السلام كما مرّ عليك. وإنّنا وإن عثرنا على أحاديث نقلت عنهصلى الله عليه و آله بما يخالف الحدّ المذكور: من أن حدّ الروضة فيما بين المسجد والمصلّى، أو كل المسجد في زمن الرسول أو بعده. لكن كل هذه الأقوال مردودة وغير ثابتة وأنّهم استدلّوا

ص: 264

بأشياء أغلبها ضعيف مبناها، وهذا ما أشار إليهصاحب كتاب اتحاف المؤمنين (1).

يبقى ما رواه جميل عن الصادق عليه السلام: أن الروضة هو ما بين المنبر وبيوت النبيصلى الله عليه و آله فنقول: إنصحّت الرواية عنه. وأثبتنا أن بيوت النبي كانت تمتد إلى باب الرحمة، وقصد النبي من البيوت كل بيوته، فكلّ المسجد داخل في الروضة كما قيل.

ولكن يمكن أنّه أرادصلى الله عليه و آله غالب بيوته التي كانت تقع على جهة الشرق لا كلّ بيوته. إضافة على ذلك أنه لم يدّع أحد من علمائنا هذا الحدّ بحيث يكون كلّ المسجد داخلًا في الروضة. وأمّا بيت علي وفاطمة وإن كان بحسب الحدّ المذكور خارجاً عن حدّ الروضة، لكن يمكن أن نعدّ البيت من الروضة أيضاً اعتماداً على قول أهل البيت بأن بيت عليّ وفاطمة عليهما السلام من الروضة. وأهل


1- 1 اتحاف المؤمنين: 64.

ص: 265

البيت أدرى بما في البيت.

*** مساحة الروضة الشريفة:

وأمّا مساحة الروضة طولًا وعرضاً فقيل: يبلغ طول الروضة اثنين وعشرين متراً، وعرضها خمسة عشر متراً (1).

وقال في الدرّ الثمين: ومساحة الروضة الشريفة من المنبر الشريف غرباً إلى الحجرة شرقاً سبعة وستّون ذراعاً بالذراع الهاشمي .. (2) علّة تشريف الروضة المقدّسة:

وهناك سؤال يطرح نفسه بأنه:

لماذا فضّلت تلك البقعة الطاهرة على ساير المسجد؟

والجواب عن ذلك هو: أنّا وإن لم نعثر على شي ء يدل بوضوح على حكمة أفضلية الروضة على ساير المسجد، ولكن يكفينا ما روي عن الصادق عليه السلام قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله:

ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة .. لأنّ قبر فاطمة بين قبره ومنبره، قبرها روضة من رياض الجنّة (3).

وأن اللَّه شرف تلك البقعة الطاهرة لأنّها مدفن الزهراء فاطمة عليها السلام باعتبار أن قبر المعصوم وحواليه روضة من رياض الجنّة، كما ورد في أن قبر النبيصلى الله عليه و آله (4) والحسين عليه السلام (5) وعلي بن موسى الرضا عليه السلام (6) أيضاً روضة من رياض الجنّة ولا استغراب من ذلك. ولكن لمّا لم يعين مكان قبر الزهراء في الروضة، وكان بين القبر والمنبر؛ فلذا قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ما بين قبري ومنبري مشيراً إلى قبر الزهراء عليها السلام. وهذا الاحتمال وإن لم يكن بعيداً في نفسه، إلّاأن قبر الزهراء قد خفي علينا، فقد روي أنها دفنت في بيتها أو في البقيع (7).

ولكن يمكن الالتزام بذلك، والقول بامتداد الروضة الشريفة، ودخول قبر الزهراء في الروضة، وإن


1- 1 المسجد النبوي عبر التاريخ: 49، أشهر المساجد في الإسلام 1: 222، مرآة الحرمين 1: 451.
2- 2 الدر الثمين في معالم دار الرسول الأمين: 24.
3- 3 البحار 97: 192.
4- 4 المصدر نفسه.
5- 5 مستدرك الوسائل 10: 325.
6- 6 المصدر نفسه: 357.
7- 7 البحار 97: 192.

ص: 266

كانت مقبورة في بيتها، اعتماداً على الخبر المذكور عن الصادق، قال فيه:

قبرها روضة من رياض الجنّة، لتوسعة الروضة بحيث تشمل بيتها، كما ادّعاه العلّامة المجلسي مؤيداً بما روى جميل عن الصادق عليه السلام قال: فقلت له: بيوت النبيّ وبيت عليّ منها؟ قال: نعم وأفضل.

ويحتمل أنها لما كانت هذه البقعة الطاهرة محلّ جلوس النبيّ للوعظ والتبليغ وأداء الرسالة الإلهيّة، ولما كانت تلك البقعة معدّة لكسب العلم والمعرفة حيث كان يُقتبس ذلك من الرسولصلى الله عليه و آله وهو فيها، لذلك شرّفها اللَّه على ساير المسجد. ويحتمل أيضاً: أن هذه البقعة لمّا كانت قطعة من الجنّة وستعود إليها؛ فلذلك شرّفها اللَّه تعالى.

آداب الروضة:

اهتمّ السلف والخلف برعاية الآداب والمستحبّات في الروضة المقدّسة، ووردت روايات كثيرة ترغب في الدّعاء وتحبب الصلاة وطلب الحاجة من اللَّه- عزوجل- وحتى زيارة فاطمة بنت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في الروضة المقدّسة، وإليك نصّ ما روي في ذلك:

1- استحباب الصلاة في الروضة:

عقد الحرّ العاملي رحمه الله باباً حول استحباب الإكثار من الصلاة في مسجد النبيصلى الله عليه و آله، خصوصاً بين القبر والمنبر، وفي بيت عليّ وفاطمة عليهما السلام، وتعرض لذكر روايات مروية عن المعصومين عليهم السلام بأن الصلاة في مسجد النبيصلى الله عليه و آله تعدل ألفصلاة في غيره (1)، أو تعدل عشرة آلافصلاة (2)، وترغيبهم في الصلاة في المسجد النبوي بعد الاستشهاد بقول النبيصلى الله عليه و آله: ما بين منبري وبيوتي روضة من رياض الجنّة، وصلاة في مسجدي تعدل عشرة آلافصلاة فيما سواه من المساجد إلّا المسجد الحرام. قال جميل: قلت له:


1- 1 وسائل الشيعة 3: 192.
2- 2 المصدر نفسه.

ص: 267

بيوت النبيّ وبيت علي منها؟ قال: نعم وأفضل (1).

وقال الشيخ الطوسي: ويستحب أن يصلّي ما بين القبر والمنبر ركعتين فإنّ فيه روضة من رياض الجنّة (2).

وقال ابن ادريس الحلّي:

ويستحبّ الصلاة بين القبر والمنبر ركعتين فإنّ فيه روضة من رياض الجنّة (3).

وقال البحراني: قد اتفقت الأخبار وكلمة الأصحاب: على أنه يستحبّ لزائر المدينة بعد الدخول إكثار الصلاة في مسجد الرسولصلى الله عليه و آله ولا سيّما في الروضة وهي ما بين القبر والمنبر إلى طرف الظلال (4).

وقال المحقّق: وتستحب الصلاة بين القبر والمنبر وهو الروضة (5).

2- استحباب طلب الحاجة في الروضة:

ومن جملة الآداب والمستحبات الواردة في الروضة الدعاء والثناء وطلب الحاجة. روى معاوية بن عمار عن الصادق عليه السلام قال: إذا فرغت من الدعاء عند القبر فائت المنبر وامسحه بيدك، وخُذ برمانتيه وهما السفلاوان وامسح عينيك ووجهك به ..، وقم عنده فاحمد اللَّه واثن عليه وسل حاجتك، فإن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قال: ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنّة .. (6).

3- استحباب زيارة الزهراء في الروضة:

ومن الآداب في الروضة زيارة فاطمة بنت محمّدصلى الله عليه و آله فيها. قال الشيخ المفيد: ثمّ قف وزر فاطمة فإنها هناك مقبورة. فإذا أردت زيارتها فتوجّه إلى القبلة في الروضة، وقل: السلام عليك يا رسول اللَّه وعلى بنتك الصديقة الطاهرة، السلام عليك يا فاطمة بنت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، السلام عليك أيتها البتول الشهيدة الطاهرة .. ثمّ ارفع يديك وادع بما بدا لك .. (7)وقال المحقّق: الثالثة يستحب أن


1- 1 البحار 99: 382، وسائل الشيعة 3: 543.
2- 2 النهاية: 317 الجوامع الفقهية.
3- 3 السرائر:.
4- 4 الحدائق الناضرة 17: 415.
5- 5 شرايع الإسلام 1: 279، المسالك 2: 384.
6- 6 مستدرك الوسائل 10: 195، وسائل الشيعة 10: 270، فروع الكافي 4: 553.
7- 7 المقنعة: 71.

ص: 268

تزار فاطمة عليها السلام من عند الروضة (1).

وقال العلّامة الحلّي: والغسل عند دخولها وزيارة فاطمة عليها السلام في الروضة وبيتها والبقيع والأئمة به والصلاة في الروضة .. (2) وقال الشيخ الطوسي: ويستحبّ أن يُصلي ما بين القبر والمنبر ركعتين فإن فيه روضة من رياض الجنّة. وقد روى أن فاطمة عليها السلام مدفونةً هناك، وقد روى: أنّها مدفونة في بيتها، وقد روى أنها مدفونة في البقيع، وهذا بعيد.

والروايتان الأوليان أشبه وأقرب إلى الصواب، وينبغي أن يزور فاطمة عليها السلام من عند الروضة .. (3) 4- استحبابصلاة زيارة النبيصلى الله عليه و آله في الروضة:

ويستحبّ أيضاً لمن زار النبيصلى الله عليه و آله أن يصلّي الركعتين عند الفراغ من زيارته في الروضة. قال الشهيد في الدروس: وسادسهاصلاة ركعتين للزيارة عند الفراغ، فإن كان زائراً للنبي ففي الروضة .. (4) تلخص مما ذكرنا: أن الروضة المقدّسة الواقعة في الحرم المدني بقعة طاهرة شرّفها اللَّه، وعظّمها ببركة رسوله الكريمصلى الله عليه و آله وهي ما بين القبر والمنبر. وعلى مَن زار النبيصلى الله عليه و آله أن يحمد اللَّه ويثني عليه ويصلّي ويدعو ويزور السيدة فاطمة فيها. رزقنا اللَّه وإيّاكم زيارته.


1- 1 شرايع الإسلام 1: 279، المسالك 2: 382.
2- 2 قواعد الأحكام:.
3- 3 النهاية:.
4- 4 البحار 97: 134.

ص: 269

الهوامش:

المساجد والأماكن الاثرية المجهولة لزائر المدينة المنوّرة الميمونة

ص: 270

ص: 271

المساجد والأماكن الأثرية المجهولة لزائر المدينة المنوّرة الميمونة

عبد الرحمن خويلد

«اللّهمّ حبِّب إلينا المدينة كحبّنا مكّة أو أشدّ» رسول اللَّهصلى الله عليه و آله

مقدمة:

بما أنّ للمدينة المنوّرة فضلًا كبيراً على المسلمين، لأنّها مهاجر الرسول الكريم محمّد (صلى الله عليه و آله)، وعاصمة الإسلام الأولى، ومنها انطلق الإسلام إلى الآفاق، وعمّ بنوره البشريّة، وأنقذ مَن هداه اللَّه سبحانه من الشرك والضلالة إلى التوحيد والهداية، لذلك لابدّ من معرفة معالمها المهمّة، وآثارها الرائعة.

وقد رأيت أنّ أكثر الزائرين لطيبة الطيبة لا يعرف عنها سوى المسجد النبوي الشريف، والبقيع، والمزارات الأربعة المشهورة، وهي (مسجد قباء، ومسجد القبلتين، والمساجد السبعة، وشهداء أُحد)، علماً أنّ قسماً منهم لا

ص: 272

يعرف حتّى هذه المزارات الأربعة إلّابعد سماعه عنها من أصحابه، أو من بعض سائقي السيارات عندما يرفعون أصواتهم بعبارة (زيارة يا حاج).

أمّا بقية المساجد والأماكن الأثرية الأخرى فاعتقد أنّ أغلب زوّار هذه المدينة العزيزة إن لم يكن كلّهم لا يعرف أو لم يسمع عن بعضها، مع كثرة زياراته للمدينة المنوّرة.

وكيف تُجهل هذه المساجد والأماكن التي كانت عامرة بنزول الوحي عليه السلام، أو كونها مصلّى أو مقيل أو مبيت النبي (صلى الله عليه و آله)؟

فتجوّل زوّارها في ربوعها يعيد إلى أذهانهم الذكريات العطرة، والصور الرائعة للسيرة النبويّة على هذه الأرض المباركة، ممّا يثلجصدورهم، ويسعد نفوسهم، ويزيد إيمانهم. لذلك رأيت أنّ من الضروري إخراج كتابٍ لينتفع به الزوّار. والمنهج الذي اتّبعته فيه هو: تصوير هذه المساجد والأماكن لسهولة التعرّف عليها أوّلًا، وللحفاظ علىصورتها خشية اندثارها ثانياً، ثمّ إيضاح أماكنها، والتعليق عليها. وقد رتّبتها من حيث القرب والبعد عن مسجد الرسول (صلى الله عليه و آله)، مراعياً في ذلك موقعها في اتّجاه واحد، ووضعت خريطة تبيّن أماكنها، وتسلسل أرقامها؛ ليستطيع الزائر الوصول إليها بسهولة ويسر، كما أني حرصت على ذكر المساجد التي ثبت أنّ النبي (صلى الله عليه و آله)صلّى فيها، وختمتُ الكتاب بوضع أربعة فهارس له.

راجياً من اللَّه تعالى العون والسداد والتوفيق لما يحبّه ويرضاه، إنّه نِعم المولى ونِعم النصير.

1- مسجد المصلّى (الغمامة)

يقع هذا المسجد إلى الغرب من مسجد النبي (صلى الله عليه و آله)، ويبعد عنه حوالي

ص: 273

ص: 274

أربعمائة متر، وتقام فيه الصلوات الخمس عداصلاة الجمعة.

وكان يسمّى ب (مسجد المصلّى)، لأن أكثرصلاة النبي (صلى الله عليه و آله) للعيدين فيه (1)، ثمّ سمّي ب (مسجد الغمامة)، ولا يُعرف عند أغلب الناس في الوقت الحاضر إلّابهذا الاسم. ويُروى أن المصطفى (صلى الله عليه و آله) خرج إلى المصلّى فقال: «هذا مُستَمطَرنا ومُصلّانا لفِطرنا وأُضحانا، فلا يضيق ولا ينقص علينا» (2).

2- مسجد الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)

موقع هذا المسجد بالقرب من مسجد الغمامة في الشمال الغربي منه، ويبعد عنه بمسافة تقدّر بتسعين متراً تقريباً. ولقد ذكرت بعض كتب تاريخ المدينة (3): أنّ


1- 1 آثار المدينة: 82، والدر الثمين: 227.
2- 2 تحقيق النصرة: 142، وآثار المدينة: 82، والدر الثمين: 227.
3- 3 تحقيق النصرة: 142، ووفاء الوفا 2: 782، والدر الثمين: 228- 229.

ص: 275

النبيّ (صلى الله عليه و آله)صلّى في مكان هذا المسجد سنة أو سنتين، وقد تغنّى بعض الشعراء بالمصلّى، واشتاقوا إلى ما حوله من مساكن، قال أحدهم:

فكم من حرّة بين المصلّى إلى أُحد إلى ما حاز ريم

إلى الجماء من خدّ أسيل نقيّ اللون ليس به كلوم وقال آخر:

ليت شعري هل العقيق فسلع فقصور الجماء فالعرصتان

فإلى مسجد الرسول فما حا ز المصلّى فجانبا بطحان

فبنوا مازن كعهدي أم لي سوا كعهدي في سالف الأزمان (1) وهذا المسجد أكبر من سابقه، وقد جدّد حديثاً.

3- مسجد السقيا

مكان هذا المسجد غرب المسجد النبوي، ويبعد عنه حوالي كيلومترين ومائة متر، ويتميز بقبابه الثلاث، والوسطى أكبرها، وهو الآن داخل سور محطة السكة الحديدية- التي يطلق عليها عند عامة الناس اسم (الاستصيون)- في الجهة الجنوبيّة منه.

وبُني هذا المسجد في مكان قبّة الرسول (صلى الله عليه و آله) عند خروجه لغزوة بدر، واستعراض جيشه «1»، ووعده اللَّه- تعالى- أن تكون إحدى الطائفتين له، إما العير أو النفير، بقوله سبحانه: «وإذ يعدُكم اللَّه إحدى الطائفتين أنّها لكم وتودّون


1- 1 تاريخ معالم المدينة المنوّرة 1: 72، ووفاء الوفا 2: 972.

ص: 276

ص: 277

أنّ غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد اللَّه أن يحقّ الحقّ بكلماته ويقطع دابر الكافرين» (1)

وقدصلّى النبيّ (صلى الله عليه و آله) فيه ودعا اللَّه أن يبارك للمدينة في مدّها وصاعها (2).

وكانت إلى الجنوب من هذا المسجد بئر السقيا، التي كان يُستعذب من مائها لرسول اللَّه (صلى الله عليه و آله)، وقد دُفنت ولم يبق لها أثر (3).

4- مسجد المنارتين

يقع هذا المسجد إلى الغرب من مسجد السقيا، ويبعد عنه بمسافة تقدّر بكيلومتر واحد، وهو قبل محطة العواجي (الخضر) للبنزين بمائة متر، على يمين


1- 1 الأنفال 8: 7.
2- 2 وفاء الوفا 2: 844، والدر الثمين: 228.
3- 3 قيل: إنه كان يفصل بينها وبين المسجد طريق مكة القديم، ينظر: آثار المدينة: 92، وقيل: إنه يمر فوقها الطريق المذكور، ينظر: الدر المنثور: 228، واللَّه أعلم بالصواب.

ص: 278

الذاهب على طريق مكة القديم. وهو الآن متروك، والمتبقي منه عبارة عن بناء حجري شبه مقفل، ولا يمكن الصلاة فيه؛ لأنه لم يُهيأ لذلك. وقدصلّى النبي (صلى الله عليه و آله) في مكانه، فلذلك بُني هذا المسجد (1).

قال الأستاذ غالي الشنقيطي في كتابه الدر الثمين (2): «وعلى يسار طريق جدّة يوجد مسجد المنارتين، وقد قيل: إنّ النبيّ (صلى الله عليه و آله)صلّى في مكانه فلهذا بني ثَم مسجد، وهو الآن جديد البناء وجميل وكبير تقام فيه الصلوات الخمس».

وقد توهّم في ذلك، لأنّ المسجد يقع على يمين طريق جدّة- مكّة، كما أنّه لم يجدّد لحدّ الآن، ولم تقم فيه الصلوات.

5- مسجد الإجابة


1- 1 تحقيق النصرة 1: 129، ووفاء الوفا 2: 878، وعمدة الأخبار: 198.
2- 2ص 228.

ص: 279

يقع هذا المسجد إلى الشمال الشرقي من المسجد النبوي، ويبعد عنه بمسافة تقدّر بستمائة وخمسين متراً، ويطلق على اسم الشارع الذي يمرّ بالقرب منه شارع الستين.

وكان هذا المسجد لبني معاوية (1) من الآوس، وعُرف هذا المسجد باسمهم، لكنّه اشتهر الآن بمسجد الإجابة؛ لأنّ اللَّه تعالى استجاب لنبيّه (صلى الله عليه و آله) فيه، فروي «أنّ رسول اللَّه (صلى الله عليه و آله) أقبل ذات يوم من العالية حتّى إذا مرّ بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين، وصلّينا معه، ودعا ربّه طويلًا ثمّ انصرف إلينا، فقال: سألت ربّي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألته أن لا يهلك أمتي بالسّنة (2)فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها» (3).


1- 1 تحقيق النصرة: 129، وعمدة الأخبار: 176، وآثار المدينة: 94.
2- 2 السّنة: الجدب، وهو انقطاع المطر، ويبوسة الأرض، ينظر: المصباح المنير السين مع النون 1: 297، و الجيم مع الدال 1: 126.
3- 3 أخرجه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة 4: 2216، حديث رقم 2890، والطبراني في الصغير 1: 8.

ص: 280

وقال ابن شبه (1): «صلّى الرسول (صلى الله عليه و آله) في مسجد بني معاوية ركعتين، ثمّ قام فناجى ربّه ثم انصرف».

وقيل: إنّ النبيّ (صلى الله عليه و آله)صلّى فيه عن يمين المحراب قدر ذراعين، وقد اهتم بهذا المسجد، وجدّد في الأزمنة السابقة مرّات عديدة (2)، وقيل: إنّ المباهلة بين النبيّ محمّد (صلى الله عليه و آله)، ووفد نصارى نجران، وقعت في هذا المسجد، وذلك عندما أمر اللَّه- تعالى- رسوله (صلى الله عليه و آله) بملاعنتهم، لكنهم تراجعوا في اللحظة الأخيرة، ورفضوا الملاعنة (3).

الهوامش:

من رحلة ابن جبير عن الحج


1- 1 تاريخ المدينة المنورة 1: 68.
2- 2 الدر الثمين: 152.
3- 3 سيرة ابن هشام 2: 160.

ص: 281

من رحلة ابن جبير عن الحج

عبد اللَّه المؤمن

هذهِ بعض اللمحات التي سطرتها رحلةُ ابن جبير- أبو الحسين محمد بن أحمد بن جُبَير الكناني، الأندلسي، الشاطبي، البلنسي. ولد في يلنسية. وسمع العلوم من أبيه في شاطبة، وأخذ القرآن عن أبي الحسن بن أبي العيش أثناء رحلته الثالثة الطويلة- بعد رحلتين قصيرتين- التي استغرقت من يوم الاثنين التاسع عشر من شهر شوال سنة 578 ه وختمها يوم الخميس الثاني والعشرين من شهر محرم سنة 581 ه، وقد استغرقت رحلته الحجازية ابتداءً من ليلة الجمعة الرابعة والعشرين من شهر ربيع الأول من العام 579 ه، وانتهاءً في يوم الأحد العشرين من ذي الحجة من السنة المذكورة. أما مدة إقامته في مكة

ص: 282

فيصفها لنا بقوله:

«فكانت مدّة مقامنا بمكة،- قدسها اللَّه- من يوم وصولنا إليها، وهو يوم الخميس 13 لربيع الآخر من سنة تسع وسبعين، إلى يوم بإقلاعنا من الزاهرة، وهو يوم الخميس الثاني والعشرين لذي الحجة من السنة المذكورة، ثمانية أشهر وثُلث شهر، التي هي بحسب الزائد والناقص من الأشهر مئتا يوم اثنتان وخمسة وأربعون يوماً سعيدات مباركات ....

ونحن بهذه اللمحات سوف نعود مع ابن جبير؛ ولنرى معه أحوال الناس في ذلك الزمان، وحال العمران، وما وصفه لنا من مشاعر مقدسة وأنفاس متجهة وقلوبٍ خاشعة، وأيدٍ متضرعة.

آفة الحجّاج:

يصف لنا ابن جبير هذه الآفة، وهو في وصفه يضع الحقائق، ويوضح الواقع، ويبين كيف تعامل الإنسان في ذلك الزمان مع ما يواجهه من مصاعب.

فابن جبير- بعد أن يصل إلى جدّة عن طريق البحر الأحمر، الذي كان يسميه بحر فرعون- يصف لنا طريقةَ ذهاب الحجّاج من جدّة وإليها عن طريق البحر، فيقول:

«والركوب من جُدّة وإليها آفة للحجّاج عظيمة إلا الأقل منهم؛ ممن يسلمه اللَّه- عزّ وجلّ-، وذلك أن الرياح تُلقيهم- على الأكثر- في مراسٍ بصحارى تبعد منها مما يلي الجنوب فينزل إليهم البُجَاة، وهم نوع من السودان ساكنون بالجبال، فَيُكرون منهم الجمال، ويسلكون بهم غير طريق الماء، فربما ذهب أكثرهم عطشاً، وحَصَلوا على ما يخلّفه من نفقة أو سواها، وربما كان من الحجاج من يتعسّف (1) تلك الَمجْهَلة (2)على قدميه فيضلّ ويهلك عطشاً. والذي


1- 1 تعسف الصحراء: خبط فيها على غير هداية.
2- 2 المجهلة: الأرض التي لا يهتدى فيها.

ص: 283

يسْلَم منهم يصل إلى عيْذاب كأنه مُنْشَر من كفن، شاهدنا منهم مُدّةَ مُقامِنا أقواماً قد وصلوا على هذه الصفة في مناظرهم المستحيلة (1)، وهيئاتهم المتغيرة، آية للمتوسمين. وأكثر هلاك الحجاج بهذه المراسي، ومنهم من تساعده الريح إلى أن يحطّ بمُرْس عيذاب، وهو الأقلّ».

صفة جُدّة:

وبعد أن يصف ابن جبير في رحلته أهوال بحر فرعون- أي البحر الأحمر- ينتقل إلى وصف مدينة جُدّة- بعد أن وصل إليها- فهو يقول في وصفها:

«وجُدّة هذه قرية على ساحل البحر المذكور، أكثر بيوتها أخْصَاص، وفيها فنادق مبنية بالحجارة والطين، وفي أعلاها بيوت من الأخصاص كالغُرَف، ولها سطوح يُستراح فيها بالليل من أذَى الحَرّ، وبهذه القرية آثار قديمة تدلّ على أنها كانت مدينة قديمة، وأثرُ سُورها الُمحدِق بها باقٍ إلى اليوم، وبها موضع فيه قبّة مشيّدة عتيقة، يُذْكر أنه كان منزل حَوّاء أمّ البَشَر-صلى اللَّه عليها- عند توجّهها إلى مكّةَ، فبُني ذلك المبنى عليه تشهيراً لبركته وفضله، واللَّه أعلم بذلك».

وصف سكان جدّة:

ثم يأتي بعد ذلك إلى وصف سُكان جُدّة نسباً ومعاشاً وعملًا:

«وأكثر سُكّان هذه البلدة مع ما يليها من الصحراء والجبال أَشْرَاف عَلَوِيّون: حَسَنِيّون وحُسَيْنيّون، وجَعْفَريّون- رضي اللَّه عن سَلفِهم الكريم- وهم من شظف العيش بحالٍ يتصدّع له الجماد إشفاقاً، ويَستَخدِمون أنفسَهُم في كلّ مهنة من المِهَن: من إكراء جمال إن كانت لهم، أو مبيع لبن أو ماء، إلى غير ذلك من تمر يلتقطونه أو حَطَب يَحتَطِبونه، وربما تناول ذلك نساؤهم الشريفات بأنفسهنّ،


1- 1 المستحيلة: المتغيرة.

ص: 284

فسبحان المُقدّر لما يشاء، ولا شك أنهم أهل بيت ارتضى اللَّه لهم الآخرة ولم يرتضِ لهم الدنيا، جعلنا اللَّه ممن يَدين بحُبّ أهل البيت الذين أذهب عنهم الرجسَ وطهرهم تطهيراً».

استغلال الحجّاج:

ويصف لنا ابن جبير طائفة من الناس تستغل الحجاج سرقة واعتداءً وتذيقهم من البلاء ما لا يوصف.

«وأكثر هذه الجهات الحجازيّة وسواها فِرَق وشِيَع لا دين لهم قد تفرقوا على مذاهب شتى، وهم يعتقدون في الحاج ما لا يُعتَقد في أهل الذمة، قدصَيّروهم من أعظم غَلّاتهم التي يستغِلونها: ينتهبونهم انتهاباً، ويسبّبون لاستجلاب ما بأيديهم استجلاباً. فالحاجّ معهم لا يزال في غَرامة ومؤونة إلى أن ييسّر اللَّه رجوعه إلى وطنه».

إلى الحرم الشريف:

ثم يصف لنا ابن جبير طريقه من جُدّة إلى مكّةَ وصفاً دقيقاً فيه سرعة البديهة، وأمانة النقل.

«وفي عَشيّ يوم الثلاثاء الحادي عشر من الشهر المذكور- ربيع الآخر-، وهو في الثاني من شهر اغُشْت، كان انفصالنا من جدة بعد أن ضمن الحاج بعضهم بعضاً، وثُبتت أسماؤهم في زمام (1) عند قائد جدة علي بن مُوَفق، حسبما نفذ إليه ذلك من سلطانهصاحب مكة مُكثر بن عيسى ....

وأسرينا تلك الليلة إلى أن وصلنا القَرين مع طلوع الشمس، وهذا الموضع هو منزل الحاج، ومحطّ رحالهم، ومنه يُحْرِمون وبه يُريحون اليوم الذي يصبحونه،


1- 1 الزمام: لعله أراد السجل.

ص: 285

فإذا كانوا في عشيةٍ رَفَعُوا وأسْرَوا ليلتَهم، وصبّحوا الحرم الشريف، زاده اللَّه تشريفاً وتعظيماً.

والصادرون من الحجّ ينزلون به أيضاً ويُسْرُون منه إلى جدّة، وبهذا الموضع المذكور بئر مَعِينة عذبة، والحاج بسببها لا يحتاجون إلى تزود الماء غير ليلة إسرائهم إليه، فأقمنا بياضَ يوم الأربعاء المذكور مُريحين بالقَرين، فلما حان العشيّ رُحْنا منه مُحْرِمين بعُمْرَة، فأسرينا ليلتنا تلك، فكان وصولنا مع الفجر إلى قَريب الحرم، فنزلنا مُرتقبين لانتشار الضوء.

ودخلنا مكّة، ... وكان نزولنا فيها بدار تُعْرف بالنسبة إلى الحلال قريباً من الحرم، ومن باب السُدّة أحد أبوابه في حجرةٍ كثيرة المرافق المَسْكينَة مُشْرِفة على الحرم وعلى الكعبة المقدسة».

صفة المسجد الحرام:

ويعرج بنا ابن جبير- ونحن معه في زمانه داخل الحرم المكي الشريف- وصفاً لبنائه، وتعريفاً لعمرانه، وتبييناً لما حواه من هندسة.

«البيت المكرّم له أربعة أركان، وهو قريب من التربيع ... إن ارتفاعه في الهواء من الصفْح (1)الذي يُقابل باب الصفا، وهو من الحجر الأسود، ومنه ابتداء الطواف، ويتقهقر الطائف عنه لُيمِرّ جميعَ بدنه به، والبيت المكرّم عن يساره، وأول ما يُلْقَى بعده الركن العراقي، وهو ناظر إلى جهة الشمال، ثم الركن الشامي، وهو ناظر إلى جهة الغرب، ثم الركن اليماني، وهو ناظر إلى جهة الجنوب، ثم يعود إلى الركن الأسود، وهو ناظر إلى جهة الشرق، وعند ذلك يُتم شوطاً واحداً.

وباب البيت الكريم في الصفح الذي بين الركن العراقي وركن الحجر الأسود، وهو قريب من الحَجَر بعشرة أشبار مُحَقّقة، وذلك الموضع الذي بينهما من


1- 1 الصفح: الجانب والوجه.

ص: 286

صفح البيت يُسمّى المُلْتَزَم، وهو موضع استجابة الدعاء، والباب الكريم مرتفع عن الأرض بأحد عشر شبراً ونصف، وهو من فضة مُذهبة، بديع الصنعة، رائق الصفة، يستوقف الأبصار حُسناً وخشوعاً للمهابة التي كساها اللَّه بيته، وعُضادتاه كذلك، والعتبة العليا كذلك أيضاً. وعلى رأسها لوح ذهب خالص إبريز في سعته مقدار شبرين، وللباب نَقّارَتا فضّة كبيرتان يتعلّق عليهما قُفل الباب، وهو ناظر للشرق، وسعته ثمانية أشبار، وطوله ثلاثة عشر شبراً، وغلظ الحائط الذي ينطوي عليه الباب خمسة أشبار».

ثم يصف لنا ابن جبير- ونحن معه في رحاب التوحيد- ما يحوي البيت الكريم من فرش وأعمدة ورخام، وهو في ذلك لا يُغادر ما تقع عليه عينه دون أن يدوّنه:

«وأول ما يلقى الداخل على الباب عن يساره الركن الذي خارجه الحجر الأسود، وفيهصندوقان فيهما مصاحف، وقد علاهما في الركن بُوَيْبان من فضة كأنهما طاقان مُلْصَقان بزاوية الركن .... وفي الركن الذي يليه وهو اليماني كذلك، لكنّهما انقلعا وبقي العمود الذي كانا ملصقَيْن عليه، وفي الركن الشامي كذلك وهما باقيان، وفي جهة الركن العراقي كذلك، وعن يمينه الركن العراقي وفيه باب يُسمّى بباب الرحمة يُصْعَدُ منه إلى سطح البيت المكرّم، وقد قام له قَبْو فهو متّصل بأعلى سطح البيت، داخله الأدراج».

ثم يصف لنا ابن جبير طريق الطواف الدائري، وحجارته ذات الألوان المتعددة كأنها الرخام:

«وموضع الطواف مفروش بحجارة مبسوطة كأنه الرخام حسناً، منها سُود وسُمر وبيض قد ألصِق بعضها إلى بعض، واتّسعت عن البيت بمقدار تسع خُطًى إلا في الجهة التي تقابل المقام، فإنها امتدّت إليه حتّى أحاطت به، وسائر

ص: 287

الحرم مع البلاطات كلها مفروش برمل أبيض، وطواف النساء في آخر الحجارة المفروشة، ...».

أما كيف يسقى الحاج من ماء زمزم فيصف لنا ذلك ابن جبير بقوله:

«ويُخْرَج مع الليل لسقي الحاج في قِلال يسمّونها الدوارق، كل دَوْرَق منها ذو مقبضٍ واحد، وتَنّور بئر زمزم من رخام قد أُلصِقَ بعضه ببعض إلصاقاً لا تحيله الأيام، وأُفرِغ في أثنائه الرصاص، وكذلك داخل التنور، وحفّت به أعمدة الرصاص المُلْصَقَة إليه بلاغاً في قوّة لَزّه ورَصّه: اثنان وثلاثون عموداً قد خرجت لها رؤوس قابضة على حافة البئر دائرة بالتنّور كله، ودَوْرُه أربعون شبراً، وارتفاعه أربعة أشبار ونصف، وغِلظه شبر ونصف، وقد استدارت بداخل القبة سقاية سعَتُها شبر، وعمقها نحو شبرين، وارتفاعها عن الأرض خمسة أشبار، تُملأ ماءً للوضوء، وحولها مصطبة دائرة يرتفع الناس إليها ويتوضّأون عليها».

ثم يذكر لنا وهو يتحدّث عن الحجر الأسود، موقعه وصفته، وما يلاقيه الحاج من لُدونة عند تقبيله، ويصف الحجر الأسود تشبيهاً بالخال:

«والحجر الأسود المُبارك مُلْصَقٌ في الركن الناظر إلى جهة المشرق، ولا يُدْرَى قدرُ ما دخل في الركن، وقيل إنّه داخل في الجدار بمقدار ذراعين، وسعته ثلثا شبر، وطوله شبر وعُقَد، وفيه أربَعُ قِطَع ملصقَة.

ويقال: إن القَرْمَطِيّ (1)- لعنه اللَّه- كان الذي كسرَه، وقد شُدّت جوانبه بصفيحة فضّة يلوح بصيص بياضها على بصيص سواد الحجر ورونقه الصقيل، فيبصر الرائي من ذلك منظراً عجيباً هو قَيْدُ الأبصار.

وللحَجَر عند تقبيله لُدُونة ورطُوبة يتنعّمُ بها الفمُ حتّى يَودّ اللاثم أن لا يقلع فمه عنه، وذلك خاصّة من خواصّ العناية الإلهيّة، وكفى أن النبيَّصلى الله عليه و آله ... قال:


1- 1 يشير إلى طاهر الجنابي وإغارته على مكة، وقتله الحاج، وقلعه الحجر الأسود، وحمله معه إلى البحرين.

ص: 288

«الركن يمين اللَّه في الأرض يصافح بها عباده كما يصافح أحدكم أخاه».

وفي القطعة الصحيحة من الحجر مما يلي جانبه الذي يمين المستلم له- إذا وقف مُستقبِله- نقطة بيضاءصغيرة مُشرِقة تلوح كأنها خالٌ في تلك الصفحة المباركة، وفي هذه الشامة البيضاء أثَر: «إن النظر إليها يجلو البصر»، فيجِبُ على المقبّل أن يقصد بتقبيله موضعَ الشامة المذكورة ما استطاع».

ويتابع ابن جبير وصفه للحرم الشريف بذكرصوامعه.

«وللحرم سبعصوامع: أربع في الأربعة جوانب، وواحدة في دار الندوَة، وأخرى على باب الصفا، وهي أصغرها، وهي عَلَم لباب الصفا، وليس يُصْعَدُ إليها لضيقِها، وعلى باب إبراهيمصومعة قد ذُكرَت عند باب إبراهيم فيما بعد».

ثم يصف لنا ابن جبير كيفية كسوة الكعبة في ذلك الزمان بقوله:

«وكسوة الكعبة المقدسة من الحرير الأخضر، وهي أربع وثلاثون شُقة:

في الصفح الذي بين الركن اليماني والشامي منها تسع، وفي الصفح الذي يقابله بين الركن الأسود والعراقي تسع أيضاً، وفي الصفح بين العراقي والشامي ثمان، وفي الصفح بين اليماني والأسود ثمان أيضاً، قد وُصِلت كلها فجاءت كأنها ستر واحد يعمّ الأربعة جوانب، وقد أحاط بها من أسفلها تكفيف مبني بالجص، في ارتفاعه أزيَد من شبر، وفي سعته شبران أو أزيَد قليلًا، في داخله خشب غير ظاهر، وقد سُمّرَت فيه أوتاد حديد في رؤوسها حلقاتُ حديد ظاهرة، قد أُدخِلَ فيها مَرَسٌ من القِنّب غليظ مفتول، واستدار بالجوانب الأربعة بعد أن وُضع في أذيال الستور شبه حُجَز (1) السراويلات، وأُدخل فيها ذلك المَرَس، وخُيّطَ عليه بخيوط من القُطْن المفتولة الوثيقة، ومجتمع الستور في الأركان الأربعة مخيّط إلى أزيد من قامة، ثم منها إلى أعلاها تتصل بعُرًى من حديد يُدْخَلُ بعضها في بعض، واستدار أيضاً بأعلاها على جوانب السطح تكفيف ثانٍ، وقعت فيه أعالي الستور في


1- 1 الحجز/ الواحدة حجزة: موضع التكة من السراويل.

ص: 289

حَلَقات حديد على تلك الصفة المذكورة، فجاءت الكسوة المباركة مخيّطة الأعلى والأسفل، وثيقة الأزرار، لا تُخْلَعُ إلا من عام إلى عام عند تجديدها، فسبحان مَن خلّد لها الشرف إلى يوم القيامة، لا إله سواه».

ثم يصف لنا ابن جبير منبر الخطيب- خطيب المسجد الحرام يوم الجمعة- ويبين لباسه الذي يرتديه. وذكر الرايتين السوداوين اللتين تركزان في أول درجة من المنبر.

«وبإزاء المَقام الكريم مِنبرُ الخطيب، فإذا كان يوم الجمعة، وقَرُب وقت الصلاة، ضُمّ إلىصفح الكعبة الذي يقابل المقام، وهو بين الركن الأسود والعراقي، فيُسْنَد المنبر إليه، ثم يُقبلُ الخطِيبُ داخلًا على باب النبيِّصلى الله عليه و آله، وهو يقابل المقام في البلاط الآخذ من الشرق إلى الشمال، لابساً ثوب سَوَاد مرسوماً بذهب ومتعمماً بعمامة سوداء مرسومة أيضاً، وعليه طَيْلسان شَرْب رقيق، كل ذلك من كُسا الخليفة التي يُرْسِلُها إلى خُطباء بلاده، يرفُلُ فيها وعليه السكينة والوقار، يتهادى رُوَيداً بين رايتين سوداوين يمسكهما رجلان من قَوَمَة المؤذنين، وبين يديه ساعياً أحدُ القَوَمة، وفي يده عودٌ مخروط أحمر قد رُبط في رأسه مَرَسٌ من الأديم المفتول دقيق طويل، في طَرفه عَذَبةصغيرة ينفضُها بيده في الهواء نفضاً فتأتي بصوت عالٍ، يُسْمَعُ من داخل الحرم وخارجه، كأنه إيذان بوصول الخطيب، ولا يزال في نفضها إلى أن يقرب من المِنبر، ويسمونها «الفَرْقَعَة»، فإذا قرُبَ من المنبر عرّج إلى الحجر الأسود فقبّله ودعا عنده، ثم سعى إلى المنبر والمؤذن الزمزَمي، رئيس المؤذنين بالحرم الشريف، ساعٍ أمامه، لابساً ثيابَ السواد أيضاً، وعلى عاتقه السيف يمسكه بيده دون تقلّد له، فعندصعوده في أول درجة قلّده المؤذن المذكور السيف، ثم ضرَبَ بنعلةِ سيفِه فيها ضربةً أسمع بها الحاضرين، ثم في الثانية، ثم في الثالثة، فإذا انتهى إلى الدرجة العليا ضرب ضربة رابعة، ووقف داعياً مُستقبِلَ

ص: 290

الكعبة بدعاء خفي، ثم انفتلَ عن يمينه وشماله وقال: السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته، فيردّ الناس عليه السلام، ثم يقعد، ويبادر المؤذنون بين يديه في المنبر بالأذان على لسان واحد، فإذا فرغوا قام للخطبة فذكّر ووعظَ وخشّع فأبلغ، ثم جلس الجلسة الخطيبية، وضرب بالسيف ضربة خامسة، ثم قام للخطبة الثانية فأكثر بالصلاة على محمدصلى الله عليه و آله وعلى آله ورَضّى عن أصحابه، واختصّ الأربعة الخلفاء بالتسمية رضي اللَّه عن جميعهم، ودعا لعميّ النبيّصلى الله عليه و آله حمزة والعباس وللحسن والحسين، وَوالى الترضّي عن جميعهم، ثم دعا لأُمهات المؤمنين زوجات النبيّصلى الله عليه و آله، ورَضّى عن فاطمة الزهراء وعن خَديجةَ الكبرى بهذا اللفظ ....

وفي أثناء الخُطبة تُركَزُ الرايتان السوداوان في أول درجة من المنبر، ويمسكهما رجلان من المؤذنين، وفي جانبي باب المنبر حلقتان، تُلقَى الرايتان فيهما مركوزتين، فإذا فرغ من الصلاة، خرج والرايتان عن يمينه وشماله، والفرقعة أمامه على الصفة التي دخلَ عليها، كأن ذلك أيضاً إيذان بانصراف الخطيب، والفراغ من الصلاة، ثُم أُعيد المنبر إلى موضعه بإزاء المقام».

ثم يذكر لنا ابن جبير خصائص يمتاز بها الحرم المكي، والبيت العتيق لما له من بركة واهتمام سماوي وسمات نورانية:

«والبيت العتيق مبني بالحجارة الكبار الصُمّ السُّمر، قد رُصّ بعضُها على بعض، وأُلصِقَتْ بالعَقْد الوثيق إلصاقاً لا تُحِيله الأيام، ولا تقصمه الأزمان، ومن العجيب أن قطعة انصدعت من الركن اليماني فسُمّرت بمسامير فضة، وأُعِيدَت كأحسن ما كانت، والمسامير فيها ظاهرة.

ومن آيات البيت العتيق أنه قائم وسط الحرم كالبُرج المُشيّد وله التنزيه الأعلى. وحمام الحرم لا تُحْصى كثرة، وهي من الأمن بحيث يُضْرَبُ بها المثل، ولا

ص: 291

سبيل أن تنزل بسطحه الأعلى حمامة، ولا تحلّ فيه بوجه، ولا على حال، فترى الحَمام يتجلّى على الحرم كله، فإذا قرُبت من البيت عَرّجت عنه يميناً أو شمالًا، والطيور سواها كذلك.

ومن آياته أن بابه الكريم يُفْتَحُ في الأيام المعلومة المذكورة، والحرم قد غصّ بالخلق، فيدخله الجميع ولا يضيق عنهم بقدرة اللَّه عزّ وجلّ ولا يبقى فيه موضع إلا ويُصلّي فيه كل أحد، ويتلاقى الناس عند الخروج منه، فيسأل بعضهم بعضاً: هل دخل البيت ذلك اليوم؟

فكلٌّ يقول: دخلتُ وصليتُ في موضع كذا وموضع كذا حيثصلّى الجميع، وللَّه الآيات البينات والبراهين المعجزات، سبحانه وتعالى.

ومن عجائب اعتناء اللَّه- تبارك وتعالى- به أنه لا يخلو من الطائفين ساعةً من النهار، ولا وقتاً من الليل، فلا تجد من يُخبر أنه رآه دون طائف به، فسبحان من كرّمه وعظّمه وخلّد له التشريف إلى يوم القيامة».

أبواب الحرم: ثم نعرج مع ابن جبير عند ذكره لأبواب الحرم المكي الشريف معدّداً إياها مميزاً بينها.

«للحرم تسعة عشر باباً، أكثرها مُفَتّح على أبواب كثيرة، حسبما يأتي ذكره إن شاء اللَّه:

باب الصفا: يفتح على خمسة أبواب، وكان يسمّى قديماً بباب بني مَخزُوم.

باب الخلقيين: ويُسمّى بباب جِيَاد الأصغر مفتّح على بابين، هو مُحْدَث.

باب العباس رضى الله عنه: هو يفتح على ثلاثة أبواب.

باب علي رضى الله عنه: مفتح على ثلاثة أبواب.

ص: 292

باب النبيّصلى الله عليه و آله: يفتح على بابين.

بابصغير أيضاً بإزاء باب بني شيبة المذكور: لا اسم له.

باب بني شيبة: وهو يفتح على ثلاثة أبواب، وهو باب بني عبد شمس، ومنه كان دخول الخلفاء.

باب دار الندوة: ثلاثة (1)، البابان من دار الندوة منتظمان، والثالث في الركن الغربي من الدار.

فيكون عدد أبواب الحرم بهذا الباب المنفرد عشرين باباً.

بابصغير بإزاء بني شيبة خَوْخة (2) الأبواب: لا اسم له، وقيل: إنه يُسمّى باب الرباط، لأنه يُدخَل منه لرباط الصوفية.

بابصغير لدار العَجَلة: مُحْدَث.

باب السدّة: واحد.

باب العُمْرة: واحد.

باب حَزْوَرَة: على بابين.

باب إبراهيم عليه السلام: واحد.

باب يُنْسَب لحَزْوَرَة أيضاً: على بابين.

باب جياد الأكبر: على بابين.

باب يُنسَب لجياد أيضاً: على بابين، ومنهم من ينسب البابين من هذه الأبواب الأربعة الجيادية إلى الدقّاقين، والروايات فيها تختلف، لكنا اجتهدنا في إثبات الأقرب من أسمائها إلى الصحة، واللَّه المستعان لا ربّ سواه».


1- 1 أي يفتح على ثلاثة أبواب.
2- 2 الخوخة: الباب الصغير في الباب الكبير.

ص: 293

مكّةُ وآثارها الكريمة، وأخبارها الشريفة: ثم يصف لنا ابن جبير جغرافية مكّة، وما تتضمنها من تضاريس وتكوينات بيولوجية، وذكر أبوابها، ومدافن المسلمين فيها:

«هي بلدة قد وضعها اللَّه- عزّ وجلّ- بين جبال مُحْدِقة بها، وهي بطن واد مقدس، كبيرة مستطيلة، تسع من الخلائق ما لا يُحصيه إلا اللَّه عزّ وجلّ.

ولها ثلاثة أبواب: أولها باب المَعْل، ومنه يُخرَج إلى الجَبّانة المباركة، وهي بالموضع الذي يُعرف بالحَجون، وعن يسار المارّ إليها جبل في أعلاه ثنيّة عليها علم شبيه البرج، يُخْرَجُ منها إلى طريق العُمْرة، وتلك الثنية تُعرف بكَداء، وهي التي عنى حسّان بقوله في شعره:

تُثِيرُ النقْعَ موعدُها كَداء (1).

وبالجَبّانة المذكورة مدفن جماعة من الصحابة والتابعين والأولياء والصالحين قد دَثَرَت مشاهدُهم المباركة، وذهبت عن أهل البلد أسماؤهم ....

ثم باب المَسفل: وهو إلى جهة الجنوب، وعليه طريق اليمن ....

ثم باب الزاهر: ويعرف أيضاً بباب العُمْرَة، وهو غربي، وعليه طريق مدينة الرسولصلى الله عليه و آله وطريق الشام وطريق جُدّة، ومنه يُتَوجّه إلى التنعيم، وهو أقرب ميقات المعتمرين، يُخرَج من الحرم إليه على باب العمرة، ولذلك أيضاً يسمّى هو بهذا الاسم».

ويستمر ابن جبير في حديثه فيذكر مشاهدها المكرمة من قُبّة الوحي، والبقعة التي تبركت بولادة الرسولصلى الله عليه و آله على ثراها، أو دار الخَيْزُران التي كان النبيُّ يعبد اللَّه فيها سرّاً، وجبل ثور وغير ذلك ذكراً جميلًا ويصفها وصفاً بارعاً.

«فمن مشاهدها التي عاينّاها قُبّة الوحي، وهي في دار خديجة أمِّ المؤمنين- رضي اللَّه عنها- وبها كان ابتناء النبيّصلى الله عليه و آله بها، وقبةصغيرة أيضاً في الدار


1- 1 هو عجز بيت لحسان بن ثابتصدره: عدمنا خيلنا إن لم تروها.

ص: 294

المذكورة فيها كان مولد فاطمة الزهراء- رضي اللَّه عنها- وفيها أيضاً وَلَدتْ سَيّدَي شباب أهل الجنة: الحسن والحسين- رضي اللَّه عنهما (1)- وهذه المواضع المقدسة المذكورة مُغْلَقة مصونة قد بُنِيَت بناءً يلِيقُ بمثلها.

ومن مشاهدها الكريمة أيضاً مولد النبيّصلى الله عليه و آله، والتربة الطاهرة التي هي أول تربة مسّت جسمه الطاهر، بُنَي عليها مسجد لم يُرَ أحفل بناءً منه، أكثره ذهبٌ منزّل به، والموضع المقدّس الذي سقَط فيهصلى الله عليه و آله ... يُفْتَح هذا الموضع المبارك فيدخله الناس كافةً متبركين به في شهر ربيع الأول ويوم الاثنين منه؛ لأنه كان شهر مولد النبيّصلى الله عليه و آله وفي اليوم المذكور وُلِدصلى الله عليه و آله، وتُفتح المواضع المقدسة المذكورة كلها، وهو يوم مشهود بمكة دائماً.

ومن مشاهدها الكريمة أيضاً دار الخَيْزُران، وهي الدار التي كان النبيّصلى الله عليه و آله يعبد اللَّه فيها سرّاً مع الطائفة الكريمة المبادِرة للإسلام من أصحابه- رضي اللَّه عنهم- حتّى نشر اللَّه الإسلام منها ....

ومن الجبال التي فيها أثر كريم ومَشهد عظيم، الجبل المعروف بأبي ثور، وهو في الجهة اليمنية من مكّة على مقدار فرسخ أو أزيد، وفيه الغار الذي آوى إليه النبيّصلى الله عليه و آله معصاحبه ....

وأكثر الناس ينتابون هذا الغار المبارك، ويتجنّبون دخوله من الباب الذي حدث اللَّه- عزّ وجلّ- فيه، ويرومون دخوله من الشق الذي دخل النبيّصلى الله عليه و آله منه تبرّكاً به، فيمتد المحاول لذلك على الأرض، ويبسط خدّه بإزاء الشق، ويولج يديه ورأسه أولًا، ثم يعالج إدخال سائر جسده، فمنهم من يتأتّى له ذلك بحسب قَضَافَة بدنه (2)، ومنهم من يتوسط بدنه فم الغار فيعضّه (3) فيروم الدخول أو الخروج فلا يقدر فيَنْشَب (4)، ويلاقي مشقّة وصعوبة، حتى يُتَناوَل بالجَذْب العنيف من ورائه.


1- 1 في سائر التواريخ أن الحسن والحسين ولدا في المدينة.
2- 2 القضافة: النحافة.
3- 3 يعضه: أراد يمسك به.
4- 4 ينشب: يعلق.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.