انوار الأصول

اشارة

سرشناسه : مکارم شیرازی ناصر، 1305 - عنوان و نام پديدآور : انوار الاصول تقریرا لابحاث شیخنا الاستاذ سماحه آیه الله العظمی الشیخ ناصر مکارم الشیرازی دام ظله / احمد القدسی مشخصات نشر : [قم نسل جوان 1414ق = - 1373. شابک : 3800ریال (ج 1) بهای هرجلدمتفاوت ؛ 15000 ریال هرجلد (ج.1و2) يادداشت : ج 3. چاپ اول 1416ق = 1375 يادداشت : ج 1، 2 (چاپ دوم 1376). يادداشت : ج. 1، 2 (چاپ سوم 1420ق = 1378). يادداشت : ج 1، 2 (چاپ 1420ق = 1378). يادداشت : ج 3 (چاپ دوم 1420ق =1378). يادداشت : چاپ اول 1373؛ بهار هر جلد متفاوت یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس مندرجات : ج 1. مباحث الالفاظ "الی آخر النواهی .-- ج 2. مباحث المفاهیم الی نهایه الامارات .-- ج 3. الاصول العملیه - التعادل و التراجیع الاجتهاد و التقلید .-- موضوع : اصول فقه شیعه شناسه افزوده : امیرقدسی احمد رده بندی کنگره : BP159/8 /م 7‮الف 8 1373 رده بندی دیویی : 297/312 شماره کتابشناسی ملی : م 75-7018

الجزء الأول

كلمة المقرّر

الحمد للَّه، الذي هدانا لمعرفته، وخصّنا بولايته، ووفّقنا لطاعته، والصّلاة والسلام على رسوله الذي منّ اللَّه به على المؤمنين يتلوا عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.

وعلى أهل بيته، الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، والذين بذلوا أنفسهم في مرضاته، وصبروا على ما أصابهم في جنبه، وجاهدوا في اللَّه حقّ جهاده، حتّى أعلنوا دعوته، وبيّنوا فرائضه،

ونشروا شرائع أحكامه، وفقّهوا في الدين العلماء من شيعتهم، وعلّموهم الكتاب والسنّة، وألقوا إليهم الاصول، وفوّضوا إليهم التفريع.

وصلوات اللَّه تعالى ورحمته ومغفرته، واستغفار رسوله وملائكته على أصحابهم وتلامذتهم المقتصّين آثارهم، والسالكين سبيلهم، والمهتدين بهداهم الذين حملوا مشعل الهداية في حالك الأزمنة الداميّة من تاريخ التشيّع، ورفعوا لواء الدين في ظروف عصيبة وأجواء قاسية، وأكرمهم اللَّه تعالى بأن جعل مدادهم أفضل من دماء الشهداء، فسقَوْا بأمطار أقلامهم شجرة الدين وأبقوها طريّة مثمرة، وحرسوا حصون الاجتهاد والفقاهة.

ونحمد اللَّه تعالى أن وفّقنا للانتفاع من موائد فيضهم، والاقتطاف من سنابل بَيْدرهم، واصطفانا من الوف مؤلّفة من الخلق، فعرّفنا علماء هذا الجيل وهم:

1- الرجال النبلاء أغصان شجرة الحوزات العلميّة الإسلاميّة الطيّبة، التي أصلها ثابت، وفرعها في السماء، تُؤتى اكلها كلّ حين بإذن ربّها.

2- خبراء الدين، غير المتهرّبين من قبول المسؤوليّة، الذين لم يستوحشوا في طريق إعلاء كلمة الحقّ طيلة تاريخ حياتهم من سُخرية طالبي الدنيا الدنيّة، وضغط الطواغيت الجبابرة، وتكفير المتحجّرين المتنسّكين، بل تحركوا في طريق إبلاغ حقائق الدين ونشر

انوار الأصول، ج 1، ص: 8

المعارف العالية لأهل البيت عليهم السلام بجهد وجهاد، وصبر وسداد، واستقاموا على طريق حفظ القيم الدينيّة المتكاملة، والدفاع عن نواميس هذه المدرسة، وموازين الشريعة المحمّديّة بأفكارهم وأقلامهم وأقوالهم.

3- الفقهاء الملتزمون، الذين حرسوا ثُغور العقيدة بوعي وذكاء، وجاهدوا في إبطال تحريف المبطلين، ونفي انحراف الغالين بيد بيضاء من البرهان والفرقان.

4- المتفكّرون، الذين لم يكتفوا بإكتساب العلوم السائدة في الحوزات العلميّة، بل انتهلوا أيضاً- عن وعي واسع، وفكر حيّ متحرّك- من ينابيع العلوم الاخرى القديمة أو الجديدة، ولم يغفلوا بالاشتغال بزاوية خاصّة وبُعد خاصّ من الدين عن سائر أبعاده وزواياه.

5- المصلحون المتنوّرون، الذين انتفضوا كعَيْنٍ صافية في صحراء إعصار

الطواغيت المقْفَرة، ورفدوا أحرار ذلك الليل المظلم بالأمن والرجاء.

6- الموقنون القائمون بالقسط، الذين يرون إيجاد مجتمع ديني وتشكيل نظام حكم إلهي في الدرجة الاولى من واجبات العلماء الملتزمين، و امنيّتهم المقدّسة تحقّق الأحكام الناصعة، والمعارف الراقية للإسلام على أرض الواقع ويموج في قلوبهم نور الأمل بالمستقبل الباهر الزاهر حول مصير الامّة الإسلاميّة.

7- المحقّقون الذين لم يعيشوا قلّة الهمّة ووهن العزيمة، ولم يدفنوا في غبار التسامح والتساهل.

8- المتتبّعون المتبحّرون، الذي يعدّون من طالبي الأسرار الإلهيّة والرموز القرآنيّة، والذين تصدّوا لإشباع الحاجات المعنويّة الدينيّة في المجتمع الاسلامي، ويتحمّلون مسؤوليّة استنباط الأحكام، وتبيين الثقافة الدينيّة في مجمع الحوزات الإسلاميّة بحيث أدّى حضورهم المستمر (واستعدادهم للمراجعات الدينيّة والجواب عن كلّ مسألة عرضت عليهم) أن يصبحوا علماء ربّانيين وفقهاء متمرّسين كاملًا عبقريّاً.

9- المتنزّهون، الذين لا ينظرون إلى المقامات الاعتباريّة والمناصب الحوزويّة إلّامن جهة أنّها أداة لخدمة الدين والمذهب، ولا يشترون تلك القيم المعنويّة، والمقامات الاخرويّة، والدرجات والاجور الموعودة لأصحاب الخدمات القلمية والبيانيّة، بحُطام الدنيا ومتاعها القليل الزائل.

انوار الأصول، ج 1، ص: 9

10- وأخيراً: النجوم الزاهرة لسماء الفقاهة، الذين صاغوا من أنفسهم رجالًا محنّكين لابتعادهم عن الكسل والعُزلة، ومعرفتهم بالزمان ومقتضياته، مع نضوج الفكر وحسن السليقة واستقامتها، والدقّة والنظم الإبداع في العمل مع أهداف ساميّة عالية وشعور عقلائي رائق في البيان والكتابة، وهمّة عالية وعزم راسخ إلهي، ونفس أبيّة قويّة، وحركة دائبة وجدّ مستمر (وكأنّ أحدهم بعد مضيّ ستّين أو سبعين سنة من عمره المبارك، يعمل ويسعى سعي عدّة أفراد من الطلّاب المجدّين).

إلهي: يامن هو المبدأ لهذه المكارم الكاملة الجميلة: نسألك أن تعطينا يقظة وانشراح صدر، حتّى لا يحجبنا بعض ما نراه نقصاً فيهم عن مشاهدة أنوار حكمتهم، ولا يحرمنا بعض عثراتهم-

التي لا يخلو غير المعصوم منها- من كوثر معارفهم البالغة، فانّه لا حكيم إلّاذو عثرة «1».

كما انّا نسألك يامالك القلوب والأبصار: أن تهب لنا وفاءً وتأدّباً، حتّى لا نطلق عليهم لساناً هم صيّروه ناطقاً، وقلماً وبياناً هم علّموه البلاغة «2».

والحقير الفاقد لأيّة بضاعة يحمدك بكلّ وجوده وأعماق قلبه على أن وفّقته لتقرير حلقة (الدورة الرابعة لخارج الاصول) من حلقات درس استاذٍ هو بنفسه غُصن من هذه الشجرة الطيّبة، ونجم من هذه المنظومة المضيئة.

فأرجو اللَّه سبحانه أن لا يمنعنا حجاب المعاصرة عن مشاهدة هذه الوجوه المشرقة، ومفاخر المدرسة الجعفريّة، فندرك مكانة هذه النجوم المضيئة ومقاماتهم بعد رحيلهم عن دنيا المعرفة والحكمة، وأفولهم عن سماء العلم والهداية.

ما الذي دعاني إلى هذا ...؟

إنّ سبب اختياري درس الاستاذ (دام ظلّه) أنّي بعد ما سمعت عزمه على الشروع بالدورة

انوار الأصول، ج 1، ص: 10

الرابعة لخارج الاصول، استخرت اللَّه بكتابه الكريم فجاءت هذه الآية: «وَقَالُوا الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ» «1»

فتفأّلت بالخير، وحضرت في محضره الشريف فوجدت صدق التفأّل، فكان درسه مذهباً للحَزَن وحالّاً للعُقَد، وذلك لتوفّر بعض الشرائط والخصوصيّات فيه:

منها: تحرّر فكري وأصالة في مجال البحث والنقد: بحيث يشاهد بوضوح عدم انجذاب عقربة الفكر إلى مدرسة خاصّة من المدارس الموجودة في محافل دروس مرحلة الخارج.

والإنصاف أنّ هذه الدرجة من الحرّية والاعتماد على النفس يلعب دوراً أساسيّاً في تربية التلميذ، وتكوين شخصيته العمليّة، وقوّة اعتماده على نفسه في البحث والدراسة بعد ما أراد بخروجه من مرحلة السطح إلى مرحلة الخارج أن يقوم على قدميه، وأن يُخرج نفسه من هيمنة أفكار الأعاظم وسطوتها مع احترامها والاهتمام بها.

ومنها: السعي أن يعطى البحث- حدّ الإمكان- إتّجاهاً موضوعيّاً عمليّاً، ويخرجه من إطار الافتراضات المدرسيّة، ولعلّ

هذا ممّا يلاحظ في مدرسة الشّيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله في رسائله، وممّا يتميّز به مشربه الاصولي ومنهجه عن منهج المحقّق الخراساني رحمه الله في كفايته إلى درجة كبيرة.

فشاهدت في كثير من المباحث عدم الاكتفاء ببيان كليّات المسألة، وتركها في دائرة الفرض والتصوّر، بل يستعرض أيضاً ما يعتمد عليه الفقيه في مقام العمل والاستنباط في الأبواب المختلفة من الفقه (من الاستظهارات العرفيّة، والارتكازات العقلائيّة، وما يستظهر من روايات أهل بيت الوحي عليهم السلام وما فهم منها أصحابنا الإماميّة (رضوان اللَّه عليهم) بحسن سليقة، واستقامة فكر ... إلى أن تصل المسألة إلى موضع من التنقيح والاطمئنان.

ومنها: سلاسة البيان وسهولته، ممّا يخرج موضوع البحث من التعقيد المحيّر للفكر والعمق المتوهّم والابّهة الخياليج ة المخيّبة لأمل التلميذ في حركته العمليّة.

بل إنّ سهولة بيانه (دام ظلّه) قد تصل إلى حدّ توجب تردّد التلميذ في بدء الأمر، فيحتمل أو يظنّ أنّ للمسألة المطروحة عمقاً آخر، وأنّه لم يؤدّ حقّها.

انوار الأصول، ج 1، ص: 11

والحقير الفاقد للبضاعة- الذي وقع من هذه الجهة في تردّد ووسواس في بادي ء الأمر- كان يسعى في دراسة المسألة قبل الدرس وبعده، ويعمّق النظر في جوانبها وبمعونة أصدقائه في المباحثة، فكان- بعد فحص كثير وتأمّل بالغ- ينتهي في كثير من الموارد إلى أنّ الحقّ في المسألة هو ما أفاده الاستاذ (دام ظلّه) بتبسّط في الحديث ومن دون عبارات مغلقة وتعبيرات معقّدة، وما فهمه بذوقه السليم وفكره الثاقب.

ومن الواضح أنّ ما يلعب دوراً هامّاً أوّليّاً في سلاسة البيان إنّما هو كيفية الورود في المسألة والخروج عنها، والتحليل الصحيح لموضوع البحث، وتشقيق الموضوع الكلّي العامّ وتفكيكه وتجزئته إلى موضوعات فرعيّة خاصّة، وبالجملة إبراز الموضوعات المتشابهة الخارجة عن محلّ البحث، والإرائة الدقيقة

لمحلّ النزاع، والإنصاف أنّ للُاستاذ (دام ظلّه) في هذا المجال تضلّعاً خاصّاً.

ومن الطريف أنّ الاستاذ (دام ظلّه) يلقى افاضاته ويؤدّي كلماته بقوّة ونشاط، وطراوة ونضارة، تجعل محفل درسه ناشطاً وطريّاً بحيث لا يحسّ أحد بصعوبة وكدورة، ولا يرى نفسه متأخّراً ومتخلّفاً عن القافلة، بل أن كلّ شخص يشعر في نفسه في مسرح البحث، راجياً لفهمه، ومطمئناً بإدراكه للمسألة.

هذا- وقد تذكّرت بعدُ ما كتبه السيّد الحكيم رحمه الله صاحب المستمسك في هامش تقريرات الاستاذ (دام ظلّه) لبحثه رحمه الله قبل أربعين سنة، حيث قال: «... فوجدته متقناً غاية الاتقان، ببيان رائق، واسلوب فائق يدلّ على نضوج في الفكر، وتوقّد في القريحة، واعتدال في السليقة ...» فوجدته وافياً لما هو مرادي، والحمد للَّه.

وأخيراً: ينبغي أن اشير إلى أنّ من توفيق اللَّه تعالى عرض جميع مباحث هذا التقرير- حرفاً بحرف، وسطراً بسطر، من البدو إلى الختم- على الاستاذ (دام ظلّه) وقراءتها له في طيلة الدورة، ولذلك يشاهد بعض الاختلاف- منهجاً ومحتوى- بين مباحث الكتاب وما أفاده (دام ظلّه) في مجلس المحاضرة، فقد يتبدّل نظره الشريف حين القراءة على مستوى المنهج أو المحتوى، أو يخطر ببالي القاصر إشكال أو إضافة نكتة أو رأي، أو حذفهما، فيقابلني الاستاذ غالباً- مع انشراح صدر وكرامة بالغة- بالتأييد أو إيراده تحت عنوان: «إن قلت» ثمّ الجواب انوار الأصول، ج 1، ص: 12

عنه، أو- على الأقلّ- بإشارة إليه تحت عنوان «اللهمّ إلّاأن يقال» أو «فتأمّل» ونظيرهما.

فليكن الإخوان الكرام الذين كانوا يحضرون درس الاستاذ (دام ظلّه) على ذكر من هذا.

وختاماً: أهدى هذا الجهد المتواضع إلى كلّ من له عليّ حقّ التعليم أو الهداية، سواء من علّمني في عنفوان شبابي المفاهيم الدينيّة وولاية أهل بيت العصمة، سيّما

معرفة ذلك العزيز المستور الغائب عن الأبصار، الحاضر في القلوب والأفكار (عج) فسقاني شراب محبّته، وأنفذ في قلبي شوق خدمته، فهيّأ لي قبل الورود إلى الحوزة العمليّة، الظروف الروحيّة والفكريّة للدخول فيها.

أم كان من الأساتذة الكرام الذين صقلوا شخصيتي الخُلقيّة والعمليّة، فوطّأوا لي ظروف هذا التقرير ومقوّماته.

فأسأل العزيز القادر المتعال أن يعطيهم خير الدنيا والآخرة، ويجعل حياتهم زاخرة بالعطاء مثمرة بالخير ومحيي للدين، ويهب لهم مرافقة الأنبياء عند مليك مقتدر.

وأسأله أن يتقبّله منّي بقبول حسن، ويجعله ذُخراً خالصاً لآخرتي، فانّه بادى ء برّي وتربيتي، وخير ناصر ومعين، وله الحمد في كلّ حين.

أحمد القدسي قم المقدّسة- رمضان 1414 هجرية- اسفند 1372 شمسية

انوار الأصول، ج 1، ص: 13

المدخل علم الاصول كما ينبغي انوار الأصول، ج 1، ص: 15

علم الاصول كما ينبغي

(1) تاريخ علم الاصول وتطوّره في سطور:

المعروف أنّ أوّل ما دوّن علم الاصول هو رسالة دوّنها الشّيخ المفيد رحمه الله وأوردها المحقّق الكراجكي رحمه الله في كنز فوائده «1»، ولكن من الواضح أنّ هذا لا يعني أنّ هذا المحقّق رحمه الله هو المبتكر لهذا الفنّ، بل إنّ الفكر الاصولي وقد وضِعت دعائمه وانعقدت نطفته منذ عصر الأئمّة عليهم السلام بل منذ عصر النبي صلى الله عليه و آله، ذلك العصر الذي شهد ظهور الفقه، وتحرك فيه فقهاء الامّة ليسترفدوا من الكتاب والسنّة- بل إجماع المسلمين ودليل العقل أحياناً- لاستنباط الأحكام الالهيّة فإحتاجوا إلى معرفة أدلّة الأحكام الفقهيّة والمنابع الأصلية لها والإحاطة الدقيقة بمنابعها الأساسيّة وحدودها وخصوصيّاتها على أحسن وجه، حيث كانت أحكام الدِّين وما يحتاج إليه المكلّفون مبثوثة في الكتاب والسنّة، ولا بدّ للعلماء وأصحاب الحديث وغيرهم من رسم خطوط عامّة لكشفها واستنباطها عن أدلّتها، فكان اللازم معرفة هذه الأدلّة التي يستكشف منها أحكام الشرع وكيفية الاستدلال بها

عليها.

لكن لا إشكال في أنّ علم الاصول كان في تلك العصور مجرّد قواعد بسيطة جدّاً، متفرّقة غير مدوّنة في كتاب خاصّ، مأخوذة من كتاب اللَّه وسنّة النبي وأئمّة الهدى عليهم السلام وعُرف العقلاء، ويلقيها العلماء في كلّ زمان إلى تلامذتهم، فقد صرّح أئمّة أهل البيت عليهم السلام بأنّ «علينا إلقاء الاصول وعليكم التفريع» «2»

. وقال الإمام الباقر عليه السلام لأبان بن تغلب: «اجلس في مسجد

انوار الأصول، ج 1، ص: 16

المدينة وافتِ الناس فإنّي احبّ أن يرى في شيعتي مثلك» «1».

فمن المقطوع أنّهم منذ العصر الأوّل كانوا يفتون بمقتضى ظواهر النصوص فيستندون إلى حجّية الظواهر بعنوان أصل قطعي، ويعتمدون في الرّوايات على أقوال الثقات (حجّية قول الثقة) ويعالجون تعارض العامّ والخاصّ، والمطلق والمقيّد، من طريق التخصيص والتقييد، ويعملون بالمفاهيم كمفهوم الشرط والغاية، وحين وقوع التعارض بين الظاهر والأظهر يقدّمون الثاني على الأوّل، ويقدّمون الدليل القطعي على الظنّي و ... إلى غير ذلك من أشباهه.

هذا، ولكن كلّما اتّسع نطاق علم الفقه وظهرت فيه فروع مستحدثة اتّسع بموازاته نطاق علم الاصول إلى يومنا هذا، حتّى صار من أوسع العلوم وأعقدها، مملوّاً من دقائق عقليّة ونقليّة، وهكذا يتّسع يوماً بعد يوم.

ومن الطريف جدّاً أنّ علم اصول الفقه- كالفقه نفسه- عند أتباع أهل بيت عليهم السلام الوحي أكثر توسّعاً من اصول أهل السنّة إلى درجة كبيرة، ودليله واضح، حيث إنّ فقهاءهم قد سدّوا باب الاجتهاد على أنفسهم وعدّوا الفقهاء الأربعة (أئمّة المذاهب الأربعة) خاتمي المجتهدين والمستنبطين فمالت مسألة الاستنباط إلى الركود والجمود وتوقّف بالطبع قرين علم الفقه وشقيقه (علم الاصول) عن النموّ والحركة، ولكن أتباع أهل بيت العصمة- مضافاً إلى تأكيدهم على فتح باب الاجتهاد- أفتوا بإتّفاق الآراء بحرمة التقليد الابتدائي

عن الميّت، ولأجل ذلك لا يزال وفي كلّ عصر طائفة من علمائهم يلزمون أنفسهم بعنوان الواجب الكفائي على استنباط الأحكام الفقهيّة من منابعها الإسلاميّة وأدلّتها المعتبرة، ويقدّمونها إلى المجتمع الاسلامي، ويضعونها في متناول أيدي المسلمين، وهذا الاعتقاد- مضافاً إلى جعله مصباح الفقه أكثر إضاءة وإشراقاً ممّا كان سابقاً- أوجب إزدهار علم الاصول ونموّه يوماً بعد يوم إلى حدّ تعدّ الكتب الاصوليّة المدوّنة في سائر الفِرق الإسلاميّة بالنسبة إلى ما دوّنه علماء الشيعة كتباً إعداديّة وبدائيّة جدّاً، بل لا يمكن الإحاطة بكنه الاصول لدى الشيعة إلّاعند فحول و خبراء من أساطين الفنّ طيلة سنين متمادية.

(2) المشكلة المهمّة في اصول الفقه:

ولكن علم الاصول رغم هذا التوسّع والدقّة والظرافة في طرح المسائل- مضافاً إلى التعمق التوغّل في استكناه الحقائق- مازال بفتقد للنظام اللازم اللائق في كيفيّة الورود والخروج في المسألة ومنهج عرض المباحث.

ومن جانب آخر: فإنّ الكثير من مسائله لم توضع موضعها الأصلي المناسب، الأمر الذي يثير مشكلة جديدة على مستوى تحرير محلّ النزاع في المسألة والاستدلال عليها.

ومن جانب ثالث: هناك بعض النواقص والتفريعات الزائدة في هذا العلم الشريف كانت مطروحة في سالف الزمان، ممّا يُلزم المحقّقين الكرام في الحوزات العمليّة بذل الجهد لرفعها وإصلاحها، فكأنّ الغواصّين في هذا البحر (أعلى اللَّه مقامهم الشريف) على رغم احاطتهم بمسائل هذا العلم وإعمال الدقّة والسعي الوافر في تنقيحها كانوا- لشدّة اهتمامهم بالاصول- يطرحون في علم الاصول كلّ مسألة مهمّةٍ مرتبطة بالفقه والاستنباط بنوع من الارتباط ولم يبحث عنها في موضعها المناسب، والذي أثار هذه المشكلة وشدّدها هو التنوّع البالغ والتفريع العجيب للمسائل الاصوليّة، واختلاف مبادئها العقليّة واصولها النقليّة.

ولكن هؤلاء الأعاظم- تغمّدهم اللَّه تعالى في رحمته وعناياته، وجزاهم اللَّه عن الإسلام وأهله خير الجزاء- قد

حرّموا علينا التقليد في طلب الحقائق العمليّة، وأوصونا بأشدّ الجهاد وأوفر السعي لتفعيل هذا العلم وتطويره، ولذا نستمدّ من المولى سبحانه ونعمل على البحث عمّا في مسائل هذا العلم كما يظهر في رأينا القاصر.

(3) رسم كلّي لأبحاث علم الاصول:

اشارة

المشهور في تعريف علم الاصول أنّه: «العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة»، وأنّ موضوعه «الأدلّة الأربعة». وفي قول آخر: «ما هو الحجّة في الفقه» مطلقاً سواء كان من الأدلّة الأربعة أو غيرها.

إذن، البحث عن حجّية الأدلّة الأربعة ونحوها بحث في المسائل الأصليّة لعلم الاصول، كما أنّ البحث عن حجّية ظواهر الألفاظ وحجّية قول اللغوي أيضاً بحث من هذا القبيل، فإنّ جميعها تقع في طريق الاستنباط، أي تكون كبرى في القياس الذي ينتج حكماً من أحكام الشرع. نعم، لا يخفى أنّه قد تقع في كبرى القياس عدّة مسائل اصوليّة معاً، كمسألة حجّية

انوار الأصول، ج 1، ص: 18

الخبر الواحد وحجّية الظواهر ومرجّحات باب التعارض، فيمكن وقوعها معاً كبرى قياس يُستنبط منه حكمٌ واحد كوجوب صلاة الجمعة مثلًا.

وعلى هذا الأساس تخرج كثير من المسائل الموجودة في علم الاصول من المسائل الأصلية لهذا العلم وتلحق بالمبادى ء.

كما أنّ كثيراً من المباحث المطروحة في باب الألفاظ ليست من المباحث اللّفظيّة، ولا بدّ فيها من تغيير وتبديل.

ومن جانب آخر، لا شكّ في عدم ترتّب ثمرة على بعض المسائل الاصوليّة، فلابدّ من حذفها من علم الاصول، وبالعكس توجد فيه نقائص لا بدّ من رفعها بإضافة مباحث كفيلة بذلك والانتهاء بعلم الاصول إلى كماله المطلوب.

إذن، يمكن تلخيص مشاكل علم الاصول في عدّة أمور:

1- وجود مسائل تُعدّ في الواقع من مبادى ء علم الاصول، ولكنّها امتزجت مع المسائل الأصلية، فلابدّ من تفكيكها وطرح كلّ واحدة منهما في موضعها الحقيقي المناسب.

2-

عدم وجود بعض المسائل التي كانت مطروحة في كتب السابقين ولا نجدها الآن في علم الاصول.

3- توسّع بعض المسائل نظير مبحث الانسداد توسّعاً يوجب تضييع عدّة شهور من أوقات طلّاب هذا العلم.

4- عدم طرح كثير من المسائل في موضعها اللائق المناسب.

5- وجود القواعد الفقهيّة التي لا بدّ من طرحها في علم على حدة، ولكن قلّة العناية بعلم القواعد الفقهيّة أوجب طرح عدّة من مباحثه في علم الاصول، وعدّة اخرى في علم الفقه في عرض المسائل الفقهيّة، وهناك عدّة ثالثة بقيت بعدُ في بقعة النسيان.

فمن موارد المشكلة الاولى مباحث الأوامر والنواهي (معنى الأمر ومعنى النهي من حيث المادّة والصيغة وسائر خصوصّياتهما) وكذلك مباحث العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد ومباحث المفاهيم والمشتقّ والصحيح والأعمّ والحقيقة الشرعيّة، لأنّ جميعها تنقّح صغريات أصالة الظهور.

وبعبارة اخرى: حجّية ظواهر الألفاظ تكون من المسائل الاصوليّة التي تقع في طريق استنباط الأحكام الفقهيّة، وبدونها لا يمكن الاستفادة من أيّ دليل لفظي، ولكن البحث في أنّ انوار الأصول، ج 1، ص: 19

ظاهر اللفظ الفلاني هل هو الوجوب أو الاستحباب أو الحرمة أو الكراهة؟ وهل هو عامّ أو خاصّ؟ وهل يكون له المفهوم أو لا؟ و ... كلّ ذلك بيان لموضوعات قاعدة أصالة الظهور وصغرياتها، ولا موضع لها في مسائل الاصول.

كما أنّ حجّية قول الثقة تعدّ من مباحث الاصول، وأمّا مسألة أنّ زرارة أو محمّد بن مسلم هل هو من الثقات أو لا أو أنّ أصحاب الإجماع مَن هم؟ فليست منها قطعاً واتّفاقاً.

وعلى هذا يكون جميع المباحث السابقة خارجة عن عداد مسائل علم الاصول وداخلة في مبادئها، ولكن حيث إنّ علم اللّغة أو العلوم الأدبيّة لم تبحث هذه الامور كما هو حقّها، لذا اضطرّ علماء الاصول إلى

بحثها بعنوان مقدّمات لمسائل علم الاصول.

هذا، مضافاً إلى أنّا نشاهد مباحث في هذا العلم تُعدّ في الواقع مقدّمة لهذه المقدّمات، وتكون في الحقيقة من قبيل مبادي المبادي ء لعلم الاصول، نظير مباحث الوضع والمعاني الحرفيّة وعلائم الحقيقة والمجاز ونظائرها، فهي في الواقع مقدّمة لمقدّمات علم الاصول.

وأمّا المورد الثاني- أيّ المسائل التي ينبغي وجودها في علم الاصول، بل كانت مذكورة في كتب الماضين ولكن لا أثر لها في علم الاصول فعلًا- فهي كثيرة، كحجّية نفس الإجماع بأقسامه (لا حجّية الإجماع المنقول فقط) وحجّية أنواع السِير من سيرة المسلمين وسيرة الفقهاء ونحوهما من سائر أقسامها، والمباحث المرتبطة بالأدلّة العقليّة (حجّية دليل العقل) ومسائل الحُسن والقُبح العقليّين ووجود الملازمة بين العقل والشرع، وهكذا عدم حجّية الاستحسان والظنّ القياسي وسدّ الذرائع والمصالح المرسلة والاجتهاد الظنّي بمعناه الأخصّ وأشباهها التي هي ثابتة عند علماء أهل السنّة، وهكذا المباحث المرتبطة بالخبر المتواتر والخبر المستفيض، ونحوها.

أمّا المباحث الزائدة التي لا حاجة إليها في هذا العصر فقد مرّ بعض نماذجها (وهو مبحث الانسداد).

وأمّا المباحث التي لا بدّ من إيرادها في الاصول ولكن في موضعها المناسب فمن قبيل كثير من المباحث التي تعدّ في يومنا هذا من مباحث الألفاظ ولكنّها ليست منها قطعاً كمباحث مقدّمة الواجب، واجتماع الأمر والنهي، ودلالة الأمر بالشي ء على النهي عن ضدّه، ومبحث الترتّب، ودلالة النهي في العبادات والمعاملات على الفساد أو عدمه، ومباحث الإجزاء، فإنّ جميع هذه المسائل من المباحث العقليّة التي لا بدّ من إدخالها تحت عنوان انوار الأصول، ج 1، ص: 20

«الملازمات الحكمية» في ذيل دليل من الأدلّة الأربعة وهو دليل العقل، لأنّ وجوب ذي المقدّمة مثلًا بأيّ طريق ثبت- سواء ثبت من خلال دليل لفظي أم لا- قابل

للبحث عن أنّه هل يكون ملازماً لوجوب مقدّمته أو لا؟ وهكذا الأمر والنهي- سواء ثبتا بدليل لفظي أو عقلي أو الإجماع- يدخل في مبحث اجتماع الأمر والنهي وإمكانه واستحالته، وجميع مسائل الضدّ والترتّب والإجزاء أيضاً من هذا القبيل.

ومن المعلوم أنّ تغيير البحث من ناحية الموضع يوجب تغيير شكل البحث أيضاً، فلا يتمسّك أحد بذيل استدلالات من قبيل أنّ وجوب ذي المقدّمة لا يدلّ على وجوب المقدّمة بإحدى الدلالات الثلاث، أو أنّ النهي لا يدلّ على الفساد بإحدى الدلالات الثلاث، فما ذكره بعض أعلام المعاصرين من أنّ هذا التبديل المكاني لا يوجب تغيير ماهية البحث وجوهره قابل للمناقشة، حيث إنّه من المعلوم حينئذ تغيير كيفية الاستدلالات أيضاً، فإنّ البحث اللّفظي يطلب دلائل معينة، والبحث العقلي يطلب دلائل اخرى.

وأمّا ما يكون من سنخ القواعد الفقهيّة لا اصول الفقه «1» ولا الفقه نفسه فحيث إنّه لم يدوّن لها سابقاً علمٌ على حدة دخلت عدّة منها في الاصول (كقاعدتي الفراغ والتجاوز وقاعدة اليد ولا ضرر والقرعة) وعدّة اخرى منها في علم الفقه (نظير قاعدة ما يضمن وما لا يضمن وقواعد اخرى من هذا القبيل) وعدّة ثالثة منها المظنون عندي أنّها غير معنونة في ما نعرفه من الكتب الفقهيّة والاصوليّة بل استند الفقهاء إليها في تضاعيف المباحث الفقهيّة من دون تعرّض لشرح أدلّتها وشرائطها «2».

فتلخّص من جميع ما ذكرنا: أنّه لا بدّ من فذلكة جديدة في مباحث علم الاصول على انوار الأصول، ج 1، ص: 21

مستوى الجهات الخمس المذكورة، ولعلّ الصحيح الخالي عن الإشكالات التي مرّ ذكرها أن تذكر بهذه الكيفية:

إنّ علم الاصول يشتمل على:

1- مقدّمة.

2- ومبادى ء المبادى ء.

3- المبادى ء.

4- المسائل.

5- الخاتمة.

والمبحوث عنه في المقدّمة عبارة عن:

1- موضوع كلّ علم.

2- تمايز العلوم.

3- تعريف علم الاصول.

4- موضوع

علم الاصول.

5- تقسيم المباحث الاصوليّة.

والمبحوث عنه في مبادى ء المبادى ء امور:

الأمر الأوّل في الوضع:

1- تعريف الوضع.

2- أقسام الوضع.

3- المعنى الحرفي.

4- أقسام الحروف.

5- الفرق بين الخبر والإنشاء.

6- معنى أسماء الإشارة والضمائر «1».

انوار الأصول، ج 1، ص: 22

الأمر الثاني في وضع المركّبات.

الأمر الثالث في الحقيقة والمجاز.

الأمر الرابع في تبعيّة الدلالة للارادة وعدمها.

الأمر الخامس في علائم الحقيقة والمجاز:

1- التبادر.

2- صحّة السلب وعدمها.

3- الإطراد.

4- تنصيص أهل اللّغة وحجّية قول اللغوي.

الأمر السادس في الحقيقة الشرعيّة والمتشرّعيّة.

الأمر السابع في الصحيح والأعمّ.

الأمر الثامن في الاشتراك:

1- الاشتراك اللّفظي والمعنوي.

2- استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

3- بطون القرآن ومعناها.

الأمر التاسع في المشتقّ وما هو حقيقة فيه.

والمبحوث عنه في المبادى ء يشتمل على مقاصد:

المقصد الأوّل: الأوامر

وهو على فصول:

الفصل الأوّل: ما يتعلّق بمادّة الأمر «1».

الفصل الثاني: ما يتعلّق بصيغة الأمر.

انوار الأصول، ج 1، ص: 23

الفصل الثالث: دلالة الأمر على المرّة أو التكرار، والفور أو التراخي.

الفصل الرابع: أقسام الواجب:

1- المطلق والمشروط.

2- النفسي والغيري.

3- التخييري والتعييني (التخيير بين الأقلّ والأكثر).

4- العيني والكفائي.

5- الأصلي والتبعي.

6- التعبّدي والتوصّلي.

7- الموقت وغير الموقت.

الفصل الخامس: تعلّق الأمر بالطبائع أو الأفراد.

الفصل السادس: الأمر بعد الأمر.

الفصل السابع: نسخ الوجوب.

المقصد الثاني: النواهي وهو على فصلين:

الفصل الأوّل في مادّة النهي.

الفصل الثاني في صيغة النهي «1».

المقصد الثالث: المفاهيم وهو على فصول:

الفصل الأوّل في مفهوم الشرط.

الفصل الثاني في مفهوم الوصف.

الفصل الثالث في مفهوم الغاية.

الفصل الرابع في مفهوم الحصر.

انوار الأصول، ج 1، ص: 24

الفصل الخامس في مفهوم اللقب.

الفصل السادس في مفهوم العدد.

المقصد الرابع: العامّ والخاصّ وهو أيضاً على فصول:

الفصل الأوّل في معنى الخاصّ والعامّ.

الفصل الثاني في أقسام العامّ.

الفصل الثالث في الفرق بين العامّ والخاصّ.

الفصل الرابع في أدوات العموم:

1- النكرة في سياق النفي أو النهي.

2- لفظة كلّ وما شابههما.

3- الجمع المحلّى باللام.

الفصل الخامس في حجّية العامّ المخصّص في الباقي.

الفصل السادس في التمسّك بالعام في الشبهات المفهوميّة للمخصّص.

الفصل السابع في التمسّك

بالعام في الشبهات المصداقيّة للمخصّص.

الفصل الثامن: تأسيس الأصل في موارد إجمال المخصّص:

1- استصحاب العدم الأزلي.

2- التمسّك بالاصول العمليّة.

3- التمسّك بعموم العناوين الثانويّة.

الفصل التاسع فيما إذا دار الأمر بين التخصيص والتخصّص.

الفصل العاشر في وجوب الفحص عن المخصّص.

الفصل الحادي عشر في الخطابات الشفاهية.

الفصل الثاني عشر في تعقّب العامّ بضمير يرجع إلى البعض.

الفصل الثالث عشر في تخصيص العام بالمفهوم.

الفصل الرابع عشر في الإستثناء المتعقّب للجمل المتعدّدة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 25

الفصل الخامس عشر في تخصيص عمومات الكتاب بخبر الواحد.

الفصل السادس عشر في حالات العامّ والخاصّ.

الفصل السابع عشر في النسخ والبداء.

المقصد الخامس: المطلق والمقيّد، والمجمل والمبيّن

والمبحوث عنه في المسائل هو «الأدلّة في الفقه» في مقامين:

المقام الأوّل: الأمارات.

المقام الثاني: الاصول العمليّة.

امّا الأمارات فهي على قسمين: الأمارات المعتبرة والأمارات غير المعتبرة.

الأوّل: الأمارات المعتبرة والبحث فيها يقع في مقاصد:

المقصد الأوّل في كتاب اللَّه تعالى وحجّية ظواهر الألفاظ مطلقاً:

1- حجّية خصوص ظواهر كتاب اللَّه وعدم تحريفه.

2- جواز تخصيص الكتاب بالسنّة.

المقصد الثاني في السنّة وأقسام الخبر:

1- حجّية الخبر المتواتر وخبر الواحد والخبر المستفيض.

2- تتمّة في التعادل والتراجيح (تعارض الأدلّة اللّفظيّة من الكتاب والسنّة).

المقصد الثالث في الإجماع:

1- حجّية الإجماع ومعيار حجّيته عندنا وعند العامّة.

2- أنواع الإجماع.

المقصد الرابع في العقل.

1- حجّية العقل ومسألة الملازمة بين العقل والشرع.

2- المستقلّات العقليّة وغير المستقلّات العقليّة.

3- قول الأخباريين.

4- حجّية القطع وأقسامه.

انوار الأصول، ج 1، ص: 26

5- حجّية القياس القطعي (قياس الأولويّة، إلغاء الخصوصيّة، تنقيح المناط).

6- الاستلزامات الحكمية (الإجزاء، مقدّمة الواجب، مسألة الضدّ، مبحث الترتّب، اجتماع الأمر والنهي، النهي في العبادات والمعاملات).

الثاني: الأمارات غير المعتبرة:

1- أصالة عدم حجّية الظنّ مطلقاً إلّاما خرج بالدليل.

2- عدم حجّية الإجماع المنقول بخبر الواحد.

3- عدم حجّية الشهرة (أقسام الشهرة).

4- عدم حجّية القياس الظنّي.

5- عدم حجّية الاستحسان.

6- عدم حجّية المصالح المرسلة الظنّية.

7- عدم حجّية سدّ الذرائع الظنّية.

8-

عدم حجّية الاجتهاد الظنّي بالمعنى الخاصّ.

امّا الاصول العمليّة فهي أربعة:

1- قاعدة البراءة.

2- قاعدة الاحتياط.

3- قاعدة التخيير.

4- قاعدة الاستصحاب.

والمبحوث عنه في الخاتمة هو الاجتهاد والتقليد

هذا هو الذي ينبغي أن يبنى علم الاصول عليه حتّى تنتظم مسائله، وتحذف زوائده، وتتدارك نقائصه، وتظهر أعلامه، وتتبيّن مقاصده، ويقع كلّ مسألة في محلّها اللائق بها.

هذا ما وصل إليه نظرنا القاصر، ونحن وان اقتفينا في هذا الكتاب آثر الأصحاب، واقتدينا بعلماء السلف ومن قارب عصرنا في طرح المسائل وتبويب الأبواب لبعض ملاحظات لا تخفى انوار الأصول، ج 1، ص: 27

على القارى ء الكريم، ولكن نسأل اللَّه التوفيق لتأليف كتاب أوجز من هذا الكتاب طبقاً لما ذكرنا آنفاً من نظم المباحث وطرح المسائل الجديدة وحذف ما لا بدّ من حذفها، واللَّه الهادي إلى سواء السبيل.

انوار الأصول، ج 1، ص: 29

مقدّمة

الأمر الأوّل في مسائل:

1- موضوع كلّ علم 2- تمايز العلوم بماذا؟

3- موضوع علم الاصول 4- تعريف علم الاصول الأمر الثاني: الوضع وأحكامه:

1- حقيقة الوضع 2- من الواضع 3- أقسام الوضع 4- المعاني الحرفيّة

5- الفرق بين الإنشاء والإخبار 6- أسماء الإشارة

7- الضمائر 8- الموصولات الأمر الثالث: هل المجاز بالطبع أو بالوضع؟

الأمر الرابع: الدلالة تابعة للارادة أو لا؟

الأمر الخامس: وضع المركّبات والهيئات الأمر السادس: علائم الحقيقة والمجاز

الأمر السابع: الحقيقة الشرعيّة

الأمر الثامن: الصحيح والأعمّ.

الأمر التاسع: الاشتراك واستعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى الأمر العاشر: المشتقّ

مقدّمة

اشارة

قد جرت عادة الأصحاب المتأخّرين في علم الاصول على البحث عن امور بعنوان المقدّمة قبل الورود في نفس المسائل الاصوليّة، وأنهاها بعضهم إلى ثلاثة عشر أمراً كالمحقّق الخراساني رحمه الله في كفايته، ونحن أيضاً نقتفي آثارهم فيما له نفع في المسائل الاصوليّة دون ما لا نفع فيه «1»، فنقول- ومن اللَّه جلّ شأنه التوفيق والهداية- هنا امور:

الأمر الأوّل: يشتمل على مسائل أربع

المسألة الاولى: موضوع كلّ علم
اشارة

قال المحقّق الخراساني رحمه الله: «إنّ موضوع كلّ علم- وهو الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة أي بلا واسطة في العروض- هو نفس موضوعات مسائله عيناً ...».

فقد تصدّى للبحث عن موضوع كلّ علم من دون أن يشير أوّلًا إلى أنّه هل يحتاج كلّ علم إلى موضوع جامع بين موضوعات مسائله أو لا؟

والظاهر أنّه أرسله إرسال المسلّمات، أي كانت حاجة كلّ علم إلى موضوع عنده أمراً قطعيّاً واضحاً مع أنّه وقع مورداً للسؤال والمناقشة بين أعلام المتأخّرين عنه، فاللازم البحث في هذا قبل تعريف الموضوع.

فنقول: هل يحتاج كلّ علم إلى موضوع واحد جامع لشتات موضوعات مسائله أو لا؟

الدليل الوحيد الذي استدلّ به للزوم وحدة الموضوع هو قاعدة «الواحد لا يصدر إلّامن الواحد» حيث إنّ لكلّ علم نتيجة واحدة فليكن ما تصدر منه هذه النتيجة أيضاً واحداً، ولازمه أن يكون لجميع موضوعات المسائل جامع واحد يكون هو موضوع العلم.

وقد أورد على هذه القاعدة المحقّق العراقي رحمه الله وبعض أعاظم العصر بامور:

أوّل: إنّها مختصّة بالواحد الشخصي البسيط، لا النوعي كما قرّر في محلّه، ولا إشكال في أنّ الأهداف والأغراض المترتّبة على علم كعلم الاصول الذي يقع في طريق استنباط مسائل متنوعة في مختلف أبواب الفقه ليس لها وحدة شخصيّة.

الثاني: سلّمنا جريانها في الواحد النوعي، لكنّها مختصّة بالواحد الحقيقي الخارجي ولا تجري

في الواحد الاعتباري كسلامة البدن التي هي غاية لعلم الطبّ، ومركّبة من سلامة القلب والكبد والعروق والأعصاب وغيرها من سائر أعضاء البدن، وليس واحداً في الخارج،

انوار الأصول، ج 1، ص: 34

وكعلم الاصول فإنّه يدور مدار المباحث الاعتباريّة والقوانين التشريعيّة «1».

انوار الأصول، ج 1، ص: 35

الثالث: سلّمنا جريانها في الواحد الاعتباري أيضاً لكنّا لا نسلّم جريانها فيما يتركّب من الامور الوجوديّة والعدميّة، أو من الوجوديّات التي يكون كلّ واحد منها داخلًا في إحدى المقولات التسع العرضيّة التي هي من الأجناس العالية، وليس فوقها جنس، وذلك لعدم إمكان تصوير جامع بين الوجود والعدم وبين الأجناس العالية.

مثال القسم الأوّل: علم الفقه (الذي يعدّ غاية لعلم الاصول) حيث إنّ بعض موضوعات مسائله وجودي كالصّلاة وبعضها عدمي كالصوم، ومثال القسم الثاني: الصّلاة التي تتركّب من مقولة الوضع ومقولة الكيف المسموع وهكذا ...

الرابع: أنّه لا يحصل الغرض في كلّ علم من خصوص موضوعات مسائله، بل يحصل من النسبة الموجودة بين الموضوع والمحمول، مثلًا الغرض من علم الفقه الذي هو عبارة عن العلم بأحكام الصّلاة والصّوم وغيرهما لا يحصل من موضوع «الصّلاة» أو «الصّوم» حتّى انوار الأصول، ج 1، ص: 36

نستكشف من وحدة النتيجة وحدة الموضوع، بل إنّها تحصل من النسبة القائمة بين الموضوع والمحمول في قولنا «الصّلاة واجبة»، وحينئذٍ فليكن المستفاد من القاعدة وحدة النسبة لا وحدة الموضوع، (انتهى ما ذكره الأعلام في المقام ملخّصاً).

أقول: الصحيح من هذه الإشكالات إنّما هو الأوّل الذي يندرج فيه الإشكال الثاني أيضاً، وحاصلهما عدم جريان هذه القاعدة- على القول بها- في غير البسيط الحقيقي الخارجي، ومنشأ الاستدلال بها في ما نحن فيه هو الخلط بين المسائل الاصوليّة التي هي من سنخ الاعتباريات وبين المسائل الفلسفية التي تدور حول

الحقائق التكوينيّة، فإنّ الفلسفة تبحث عن الحقائق الواقعيّة العينيّة، والاصول يبحث عن امور اعتباريّة قانونيّة، والفرق بين الأمرين غير خفيّ، والمشاكل المتولّدة من ناحية هذا الخلط غير قليلة، أي الخلط بين الحقائق والاعتباريات في طيّات أبواب علم الاصول من أوّله إلى آخره، فلا تغفل.

وأمّا الإشكال الثالث: فيرد عليه إنّ الموضوعات في جميع مسائل الفقه امور وجوديّة وليس فيها أمر عدمي، لأنّ موضوعات مسائل الفقه عبارة عن أفعال المكلّفين من دون واسطة كما في الأحكام التكليفيّة أو مع الواسطة كما في الامور الوضعيّة، وهي وجوديّة بأسرها غاية الأمر تارةً يكون الفعل هو الكفّ كما في الصّيام واخرى هو الأعمال الخارجيّة.

وأمّا كونها من المقولات المتباينة ففيه: أنّ الموضوع المبحوث عنه في المسائل الفقهيّة إنّما هو فعل هذه الأوضاع والكيفيّات، أعني إيجاد الركوع والسجود والقراءة وغيرها، والفعل أمر واحد من مقولة واحدة.

وأمّا الإشكال الرابع: ففيه أنّ الغرض وإن كان ناشئاً من النسبة بين الموضوعات والمحمولات، إلّاأنّ وحدتها تنشأ من وحدتهما لأنّها قائمة بطرفيها فتكون وحدة النسب الموجودة في المسائل دليلًا على وحدة موضوعاتها.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا إنّه لا دليل على وجوب تحصيل موضوع واحد جامع لجميع موضوعات مسائل كلّ علم حتّى يبحث عن تعريفه وتحديده كما فعله جمع كثير من الأصحاب.

ملاك وحدة العلم:

قد يقال: إن لم يكن ملاك وحدة العلم وحدة الموضوع كما مرّ فما هو الملاك في اتّحاد مسائل العلم وانسجامها؟

انوار الأصول، ج 1، ص: 37

قلنا: لا بدّ للحصول على الجواب الصحيح لهذا السؤال من الرجوع إلى تاريخ تدوين العلوم البشريّة (لا إلى حكم العقل لعدم كون المسألة عقليّة كما لا يخفى) فنقول: إذا رجعنا إلى تاريخ تدوين العلوم نجد بساطتها واختصارها في بدو تولّدها كما يظهر من

ملاحظة فلسفة افلاطون مثلًا فإنّها متشكّلة من مسائل طفيفة في أبواب الالهيّات ومسائل في الطبيعيّات ومسائل اخرى في الفلكيّات ومباحث في سياسة المدن اندرج جميعها في علم واحد وكتاب واحد، ثمّ بعد توسّعها واحتياجها إلى تجزئة بعضها عن بعض قصد موسّعوها ومدوّنوها في الأدوار اللّاحقة إلى تدوين المسائل التي توجد علاقة خاصّة بينها علماً على حدة وتأليفها بعنوان علم مستقلّ، وكان المعيار في هذه العلاقة:

تارةً: وحدة الموضوع، كعلم معرفة الأرض في الطبيعيّات الذي يكون الموضوع في جميع مسائله شيئاً واحداً وهو الأرض وحالاتها مع أنّ الأغراض المترتّبة على مسائله مختلفة فإنّ له تأثيراً في مقاصد شتّى كما لا يخفى. أو كعلم النجوم الذي يكون الموضوع فيه أمراً واحداً وهو النجوم، ولا يخفى أيضاً أنّ الأغراض فيه متعدّدة تظهر في باب التوحيد والعبادات ونظام المجتمع الإنساني وغيرها، أو كعلم الكيمياء وهو علم تراكيب الأشياء وتجزئتها، وموضوعها هو الأجسام من حيث التجزئة والتركيب، مع أنّ فائدته تظهر في علم الطبّ والصنائع المختلفة.

واخرى: وحدة المحمول كعلم الفقه لأنّ المحمول في جميع مسائله سواء كانت تكليفيّة أو وضعية هو حكم من الأحكام الشرعيّة وليس المعيار فيه وحدة الموضوع لأنّ الموضوع فيه ليس شيئاً واحداً فإنّ الموضوع لعلم الفقه ليس خصوص أفعال المكلّفين لعدم شمولها للأحكام الوضعيّة، وارجاعها إلى أفعال المكلّفين بالواسطة لا يخلو من التكلّف.

وثالثة: وحدة الغرض خاصّة، كعلم المنطق لأنّ الغرض الحاصل من مسائله هو الحصول على التفكّر الصحيح والصيانة عن الخطأ، ولعلّ من هذا القسم علم الاصول لوحدة الغرض في جميع قضاياه، وهو تحصيل القدرة على استنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها.

ويمكن أن يكون ملاك الوحدة اثنين من هذه الامور الثلاثة أو جميعها كما لا يخفى.

فقد ظهر

من جميع ما ذكرنا أنّه لا دليل على أنّ لكلّ علم موضوعاً واحداً حتّى نحتاج إلى البحث عن حدوده وخصوصّياته، كما ظهر ضمناً أنّ الملاك في تمايز العلوم ليس أمراً واحداً بل إنّه يختلف باختلاف أنواعها كما سيأتي بيانه في محلّه تفصيلًا إن شاء اللَّه تعالى.

ثمّ إنّه لو سلّمنا حاجة كلّ علم إلى موضوع خاصّ فما هو الموضوع وما تعريفه؟

ذكر كثير منهم أنّ موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة كما حكيناه عن انوار الأصول، ج 1، ص: 38

المحقّق الخراساني رحمه الله، ولتوضيح العوارض الذاتيّة نقول: إنّ المعروف في محلّه عند القدماء أنّ العوارض على قسمين: ذاتيّة وغير ذاتيّة (غريبة)، لأنّها إمّا أن تعرض للشي ء بلا واسطة كالحرارة بالنسبة إلى النار، أو تعرضه بواسطة أمر داخلي وهو على قسمين: أمر داخلي مساوٍ للمعروض كعروض الإدراك على الإنسان بواسطة الناطقية، أو أمر داخلي أعمّ من المعروض كعروض الحركة على الإنسان بواسطة الحيوانيّة، (ولا يخفى أنّ الأمر الداخلي لا يمكن أن يكون مبايناً لمعروضه كما لا يمكن أن يكون أخصّ منه)، أو تعرّضه بواسطة أمر خارجي، وهو على أربعة أقسام: أمر خارجي مباين للمعروض كعروض الحرارة على الماء بواسطة النار، وأمر خارجي مساوٍ للمعروض كعروض الإدراك على الضاحك بواسطة الناطقية، وأمر خارجي أخصّ من المعروض كعروض الإدراك على الحيوان بواسطة الناطقية، وأمر خارجي أعمّ من المعروض كعروض المشي على الناطق بواسطة الحيوانيّة، فصارت الأقسام سبعة.

كما أنّ المعروف أنّ الأوّلين منها من العوارض الذاتيّة وهما العارض بلا واسطة والعارض بأمر داخلي مساوٍ، كما أنّه لا إشكال في كون الخامس والسابع منها (وهما العارض بواسطة الخارجي الأعمّ والعارض بأمر خارجي مباين) من العوارض الغريبة، وأمّا الثلاثة الباقية فقد

وقعت معركة للبحث والآراء ومحلّ الكلام منها هو المنطق أو الفلسفة.

أقول: أوّلًا: ما الدليل على هذا التقسيم؟ وما هو الملاك فيه؟ وما المعيار في كون العرض ذاتياً أو غير ذاتي. فإن كان هناك مصطلح خاصّ فالأمر فيه سهل ولكن التفاوت الحقيقي بين العلوم لا يدور مداره، وإن كان أمراً وراءه فلابدّ من بيانه.

وثانياً: لا دليل على أنّ مصنّفي العلوم قصدوا من العوارض الذاتيّة المعنى المذكور.

هذا- وقد أجاد بعضهم حيث اتّخذ طريقاً آخر وملاكاً جديداً للعرض الذاتي والعرض الغريب، فقال: الذاتي ما يعرض الشي ء بلا واسطة في العروض، أي بدون الواسطة مطلقاً أو مع الواسطة في الثبوت (كعروض الحرارة على الماء بواسطة النار).

والمقصود من كون الواسطة واسطة في الثبوت إنّما هو العروض حقيقة فإنّ الماء يصير بواسطة النار حارّاً حقيقة لا مجازاً وعناية، فيكون من قبيل إسناد شي ء إلى ما هو له الذي لا يصحّ سلبه عنه «1».

انوار الأصول، ج 1، ص: 39

مع أنّه بناءً على تفسير القوم داخل في العرض الغريب لأنّ النار مباينة للماء، والغريب ما يعرض الشي ء مع واسطة في العروض، أي بالعناية والمجاز، نحو عروض الحركة على الجالس في السفينة في جملة «زيد متحرّك» حيث إنّ المتحرّك الحقيقي إنّما هو نفس السفينة.

ثمّ قال: المبحوث عنه في العلوم ما يعرض الموضوع إمّا بلا واسطة في العروض أو مع واسطة في الثبوت، أي ما يعرض على الموضوع حقيقة لا عناية ومجازاً.

أقول: دليل كلامه واضح فإنّه من القضايا التي قياساتها معها لوضوح إنّه لا يبحث في العلوم عن العوارض المجازيّة. اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ مسائل العلوم لا تنحصر في العوارض الذاتيّة بهذا المعنى فحسب بل قد تشمل العوارض مع الواسطة في العروض أيضاً، فمثلًا في البحث

عن السير والتاريخ وحالات الأشخاص ينضمّ إليها البحث عن حالات آبائهم وأبنائهم وأصحابهم مع أنّه يكون من قبيل «زيد قائم أبوه» والمجاز في الإسناد.

كما أنّ قول بعضهم (وهو المحقّق الخراساني رحمه الله): «إنّ موضوع كلّ علم ... هو نفس موضوعات مسائله عيناً ... وإن كان يغايرها مفهوماً تغاير الكلّي ومصاديقه والطبيعي وأفراده» ينقتض ببعض العلوم الدارجة كعلمي الجغرافيا والهيئة وما شابههما ممّا تكون النسبة بين موضوعها وموضوعات مسائلها نسبة الكلّ إلى أجزائه ولا إشكال في أنّ عوارض الجزء لا تعدّ من العوارض الذاتيّة للكلّ (بناءً على كلا التفسيرين المذكورين للعارض الذاتي) إلّا بنحو من التكلّف، ضرورة أنّ عارض الجزء وخاصّته عارض لنفس الجزء لا للكلّ الذي تركّب منه ومن غيره إلّاعلى نحو المجاز في الإسناد الذي مرّ ذكره آنفاً.

هذا كلّه بالنسبة إلى المسألة الاولى من المسائل الأربعة في الأمر الأوّل.

المسألة الثانيّة: في تمايز العلوم

ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى أنّ تمايز العلوم بتمايز الأغراض واستدلّ عليه بوجهين:

الأوّل: إنّه لو لم يكن بالأغراض فليكن بالموضوعات وهو يستلزم أن يكون كلّ باب بل كلّ مسألة من كلّ علم علماً على حدة لشموله على موضوع على حدة.

الثاني: أنّ التمايز بالموضوعات يلزم منه تداخل العلوم بعضها في بعض لأنّه قد يكون شي ء واحد موضوعاً لمسألة يبحث عنها في علوم عديدة (كموضوع «التوبة» فإنّها يبحث عنها في انوار الأصول، ج 1، ص: 40

علم الفقه في باب العدالة وفي علم الكلام والتفسير والأخلاق لارتباطها ببعض مسائل كلّ منها كما لا يخفى).

لكنّ المشهور أنّ تمايز العلوم بالموضوعات كما هو الظاهر من تعريفهم لموضوع كلّ علم بأنّه ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة.

وحيث إنّ بعضهم لاحظ اشتراك بعض العلوم مع بعض آخر في الموضوع كاشتراك علم الصرف

مع علم النحو واللّغة والبلاغة فيه (حيث إنّ الموضوع في جميعها هو الكلمة فيلزم منه اندراجها في علم واحد) فقد أضاف إلى تعريف المشهور قيداً آخر وهو قيد الحيثيّة، وقال إنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات مقيّدة بقيد الحيثيّات، فإنّ موضوع علم الصرف مثلًا هو الكلمة من حيث تصريفها، وموضوع علم النحو هو الكلمة من حيث الاعراب والبناء، وموضوع علم اللّغة الكلمة من حيث المعنى وهكذا ...

وعلّق عليه المحقّق الإصفهاني رحمه الله بأنّه «ليس الغرض من تحيّث الموضوع كالكلمة والكلام بحيثيّة الاعراب والبناء في النحو وبحيثيّة الصحّة والاعتلال في الصرف أن تكون الحيثيات المزبورة حيثية تقييديّة لموضوع العلم، إذ مبدأ محمول المسألة لا يعقل أن يكون حيثية تقييديّة لموضوعها ولا لموضوع العلم وإلّا لزم عروض الشي ء لنفسه، ولا يجدي جعل التحيّث داخلًا والحيثية خارجة لوضوح أنّ التحيّث والتقييد لا يكونان إلّابملاحظة الحيثية والقيد، فيعود المحذور، بل الغرض من أخذ الحيثيات كما عن جملة من المحقّقين من أهل المعقول هو حيثية استعداد ذات الموضوع لورود المحمول عليه، مثلًا الموضوع في الطبيعيّات هو الجسم الطبيعي لا من حيث الحركة والسكون الفعليين كيف ويبحث عنهما فيها بل من حيث استعداده لورودهما عليه ... وفي النحو والصرف الموضوع هي الكلمة مثلًا من حيث الفاعلية المصحّحة لورود الرفع عليها ومن حيث المفعوليّة المعدّة لورود النصب عليه ...» «1».

وهذا يمكن أن يكون قولًا ثالثاً في المسألة.

وهيهنا قول رابع وهو ما أفاده في تهذيب الاصول من أنّ تمايز العلوم يكون بذواتها فإنّه قال: «كما أنّ منشأ وحدة العلوم إنّما هو تسانخ القضايا المتشتّة التي يناسب بعضها بعضاً ...

انوار الأصول، ج 1، ص: 41

كذلك تمايز العلوم واختلاف بعضها يكون بذاتها فقضايا كلّ علم مختلفة ومتميّزة

بذواتها عن قضايا علم آخر» «1».

أقول: الإنصاف أنّ جميع هذه الأقوال لا يخلو من الإشكال، والأولى أن يقال: إنّ تمايز العلوم كوحدتها قد يكون بالموضوعات واخرى بالمحمولات وثالثة بالأغراض وذلك لما مرّ في البحث عن ملاك الوحدة من تحليل تاريخي لتدوين العلوم وتأليفها، فقد ذكرنا فيه أنّ ملاك وضع كلّ علم على حدة وتمييزه عن سائر العلوم هو وجود التناسب والتناسخ بين مسائله ودخولها تحت عنوان جامع، ولا إشكال في أنّ تناسب المسائل قد يكون بوحدة الموضوع واخرى بوحدة المحمول وثالثة بوحدة الغرض فليكن التمايز أيضاً كذلك كما لا يخفى.

وأمّا مقالة المشهور فلا يتصوّر لها دليل إلّاتوهّم احتياج كلّ علم إلى موضوع لقاعدة الواحد، وقد مرّت المناقشة فيها. ومنه يظهر إشكال القول الثالث حيث إنّه مبني على قبول أن يكون تمايز العلوم بتمايز الموضوعات.

وأمّا ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله فيرد على دليله الثاني أنّ تداخل علمين في عدّة من مسائلهما لا يضرّ بتمايز أحدهما عن الآخر إذا كانت النسبة بين مسائلهما العموم من وجه، لأنّ التمايز حينئذٍ يحصل بموضع الافتراق كما لا يخفى.

كما يرد على دليله الأوّل أنّ القائل بكون التمايز بالموضوعات يدّعي أنّ تمايز العلوم يكون بتمايز الموضوعات لا العكس (وهو أنّ كلّ متمايز بموضوعه يكون علماً على حدة).

وأمّا ما أفاده في تهذيب الاصول فيرد عليه أنّ ذوات العلوم ليست أمراً خارجاً عن مسائلها لأنّه لا ريب في أنّ مسائلها عبارة عن القضايا المبحوثة عنها فيها، والقضايا ليست أمراً وراء الموضوعات والمحمولات والنسب بينهما، فذوات العلوم عين موضوعاتها ومحمولاتها ونسبها، فلابدّ أن يكون التمايز بأحد هذه الامور أو بالأغراض.

المسألة الثالثة: في موضوع علم الاصول
اشارة

وهو عند جماعة من الأصحاب (منهم صاحب القوانين) الأدلّة الأربعة، والظاهر من انوار

الأصول، ج 1، ص: 42

كلماتهم أنّ الموضوع هو الأدلّة الأربعة بوصف كونها أدلّة.

وقد أورد عليه بأنّ لازمه خروج جلّ مباحث علم الاصول عن مسائله ودخولها في المبادي ء، لأنّه حينئذٍ يكون البحث عن حجّية الأدلّة الأربعة ودليليّتا بحثاً عن نفس الموضوع لا عن عوارضه، فإنّ المفروض أنّ الدليليّة قيد للموضوع، والبحث عن قيود الموضوع يكون من المبادي ء التصوّريّة للعلم.

وقد تفطّن لهذا صاحب الفصول رحمه الله وقال في مقام دفعه: إنّ موضوع علم الاصول عبارة عن الأدلّة بذواتها لا بوصف دليليتها، أي الأدلّة بما هي هي.

ولكن أورد عليه المحقّق الخراساني رحمه الله (بعد أن اختار أنّ موضوع علم الاصول هو الكلّي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتّة) بما حاصله أنّ المراد من السنّة مثلًا إن كان هو السنّة الواقعيّة فلازم هذا القول أن يكون البحث عن السنّة في علم الاصول بحثاً عن ثبوت كلام المعصوم ووجوده بمفاد كان التامّة، والحال أنّ المسائل تبحث عن عوارض الموضوع بمفاد كان الناقصة، ثمّ قال:

إن قلت: البحث عن السنّة في علم الاصول بحث عن ثبوت الكلام الواقعي للمعصوم بخبر الواحد تعبّداً وعدمه فيقال: هل السنّة الواقعيّة تثبت بخبر الواحد تعبّداً أو لا؟ والثبوت التعبّدي (أي وجوب العمل على طبق الخبر) إنّما هو من العوارض.

قلنا: هو كذلك ولكنّه من عوارض الخبر (أي السنّة الظاهريّة) لا من عوارض السنّة الواقعيّة (قول المعصوم وفعله وتقريره واقعاً).

هذا كلّه إذا كان المراد من السنّة السنّة الواقعيّة.

وإن كان المراد من السنّة مطلق السنّة الأعمّ من الواقعيّة والظاهريّة فهو وإن كان لازمه كون المسائل المطروحة حول البحث عن حجّية الأدلّة الأربعة داخلة في علم الاصول إلّاأنّه لا يكون بعدُ جامعاً لجميع المسائل، لخروج مباحث الألفاظ وجملة من غيرها «1» عنها

بل الداخل فيها إنّما هو مباحث حجّية خبر الواحد والتعادل والتراجيح، (انتهى كلامه بتوضيح منّا).

انوار الأصول، ج 1، ص: 43

أقول: أضف إلى ذلك كلّه أنّ القول بأنّ الموضوع هو الأدلّة الأربعة بذواتها وهكذا القول الأوّل (وهو أنّ الموضوع الأدلّة الأربعة بوصف كونها أدلّة) ينافي ما التزموا به من لزوم وحدة الموضوع لأنّه لا جامع بين الأدلّة الأربعة.

وأمّا ما اختاره المحقّق الخراساني رحمه الله من «أنّ موضوع علم الاصول هو الكلّي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتّة» من دون أن يذكر له عنواناً خاصّاً واسماً مخصوصاً بإعتذاره بعدم دخل ذلك في موضوعيّته أصلًا- ففيه إشكال ظاهر لأنّه في الحقيقة فرار عن الإشكال، وليس بحلّ له، لأنّه لقائل أن يقول: أي دليل على وجود جامع واحد بين موضوعات المسائل بعد ما مرّ من المناقشة في التمسّك بقاعدة الواحد في هذا المجال؟ مضافاً إلى أنّه تعريف بأمر مبهم لا فائدة فيه، ولا يناسب ما يراد من بيان موضوع العلم لا سيّما للمبتدي ء.

وهاهنا قول رابع، وهو ما أفاده المحقّق البروجردي رحمه الله من أنّ موضوع علم الاصول هو «الحجّة في الفقه»، ولا يخفى أنّه أقلّ اشكالًا من الأقوال السابقة لأنّ عنوان «الحجّة في الفقه» عنوان جامع واحد لجميع الأدلّة فلا يرد عليه ما أُورد على القول الأوّل والثاني، مضافاً إلى وضوحه وعدم ابهامه، فيكون سالماً عمّا أوردناه على مقالة المحقّق الخراساني رحمه الله، ومضافاً إلى شموله للُاصول العمليّة بأسرها لشموله للاستصحاب مثلًا، لأنّه لا ريب في إنّه حجّة وإن لم يكن دليلًا، كما يشمل أيضاً الظنّ الانسدادي حتّى على الحكومة لكونه حجّة ومعذّراً عن العقاب، والاحتياط العقلي والبراءة العقليّة لأنّ الأوّل حجّة ومنجّز، والثاني حجّة ومعذّر، وحينئذ لا يرد على قوله

ما اورد على مقالة صاحب الفصول كما لا يخفى.

نعم يمكن الإيراد عليه من طريقين:

الأوّل: إنّه لا يعمّ المباحث اللّفظيّة لأنّها لا تعدّ حجّة في الفقه لعدم اختصاصها بالألفاظ المستعملة في خصوص لسان الشارع بل إنّها قواعد عامّة تجري في جميع الألفاظ واللغات، فإنّ قضيّة «صيغة الأمر تدلّ على الوجوب» مثلًا قاعدة لفظيّة عامّة تجري في جميع الأوامر شرعيّة كانت أو عرفيّة.

ولكن يمكن الجواب عنه بأنّ دلالة الأمر على الوجوب مثلًا تكون بمنزلة عرض عامّ يعرض الأوامر الشرعيّة أيضاً، فيمكن أن تعدّ الأوامر الشرعيّة بهذا اللحاظ مصداقاً من انوار الأصول، ج 1، ص: 44

مصاديق «الحجّة في الفقه» كما أنّ كتاب اللَّه تعالى أو العقل حجّة في الفقه وغيره معاً.

الثاني: أنّه يرد على عنوان الحجّة في الفقه بوصف كونها حجّة نفس ما أورده على عنوان الأدلّة الأربعة بوصف كونها أدلّة إلّاأن يقال أنّ الموضوع إنّما هو ذات الحجّة لا هي بوصف الحجّية كما هو المختار.

وبهذا اندفع جميع الإشكالات الواردة على هذا القول، وظهر أنّ ما ذكره المحقّق المذكور هو الذي ينبغي أن يركن إليه في هذا الباب، غير إنّه يبقى عليه أنّه في الواقع راجع إلى وحدة الغرض، وإنّما اشير إلى وحدة الموضوع من هذه الجهة، فكأنّه قيل: إنّ موضوع اصول الفقه هو كلّ شي ء ينفع في استنباط الأحكام الشرعيّة، فلا جامع بين الكتاب والسنّة ودليل العقل والإجماع والاصول الأربعة العمليّة والشهرة الفتوائيّة (على القول بحجّيتها) وغيرها من أشباهها إلّاأنّها تفيد الفقيه في استنباطاته.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّه لا يخفى إنّا في فسحة من ناحية إشكال عدم وحدة الموضوع لما اخترناه سابقاً من عدم توقّف وحدة العلم واستقلاله عليها بل يكفي فيه وحدة المحمول أو الغرض، ولا إشكال في أنّ الغرض في المسائل

الاصوليّة واحد وهو حصول القدرة على استنباط الحكم الشرعي.

المسألة الرابعة: تعريف علم الاصول

وقد ذكرت له تعاريف عديدة:

الأوّل: ما ذهب إليه المشهور وهو أنّه «العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيلية».

وقد أورد عليه بعدم شموله للُاصول العقليّة (وهي الاحتياط العقلي والبراءة والتخيير العقليين) لأنّها تدلّ على وجود العذر أو عدمه، ولا يستنبط منها الحكم الشرعي، وهكذا الظنّ الانسدادي على الحكومة.

نعم يمكن أن يقال: إنّ المراد من الحكم هو الأعمّ من الواقعي والظاهري، ولا إشكال في أنّ مفاداة الاصول العمليّة أحكام شرعيّة ظاهريّة فإنّ البراءة الشرعيّة مثلًا تدلّ على الإباحة في انوار الأصول، ج 1، ص: 45

مقام الظاهر، لكن هذا يفيد في الاصول الشرعيّة، ويبقى الكلام بعدُ في البراءة العقليّة والظنّ الانسدادي بناءً على الحكومة، لأنّهما يكشفان عن عدم العقاب فحسب ولا يدلّان على ثبوت الحكم، وكذا الاحتياط العقلي، نعم لا مانع من الاستطّراد في هاتين المسألتين.

الثاني: ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية وهو «أنّه صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام أو التي ينتهي إليها في مقام العمل».

ولا يخفى أنّ قوله «يمكن أن تقع ...» عوضاً عن تعبير المشهور «الممهّدة» إنّما تكون لأجل شمول التعريف للمباحث اللّفظيّة لأنّها وإن لم تكن ممهّدة لاستنباط الحكم الشرعي ومخصوصة به بل يستفاد منها في استنباط غيره أيضاً، إلّا إنّه لا إشكال في أنّها يمكن أن تقع في طريق الاستنباط.

كما أنّ تعريفه يشمل الاصول العقليّة والظنّ الانسدادي على الحكومة أيضاً لدخولهما تحت عنوان «أو التي ينتهي إليها في مقام العمل» الوارد في ذيل التعريف.

نعم يرد عليه: أوّلًا: أنّ تعبيره بأنّ علم الاصول «صناعة» بدل كلمة «العلم» تعبير غير مناسب عرفاً، لأنّ الصناعة تطلق في

العرف على العمل لا العلم إلّامجازاً.

وثانياً: أنّه ليس مانعاً عن دخول القواعد الفقهيّة لكونها أيضاً قواعد تقع في طريق الاستنباط.

الثالث: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله وهو «إنّه علم بالكبريات التي لو انضمّت إليها صغرياتها يستنتج منها حكم فرعي» «1».

ويرد عليه: أنّه لا يعمّ البراءة العقليّة وشبهها والظنّ الانسدادي على الحكومة لأنّ مدلول كلّ واحد منها المعذّريّة عن العقاب ولا يستنبط منها الحكم الشرعي، لا الواقعي ولا الظاهري كما أشرنا إليه آنفاً.

الرابع: ما في تهذيب الاصول من أنّه «هو القواعد الآليّة التي يمكن أن تقع في كبرى استنتاج الأحكام الكلّية الفرعيّة الإلهيّة أو الوظيفة العمليّة».

فأخرج بقيد «الآليّة» القواعد الفقهيّة لأنّها ينظر فيها لا بها فتكون استقلاليّة لا آليّة، كما

انوار الأصول، ج 1، ص: 46

أدخل بقوله «يمكن أن تقع» نحو القياس والشهرة والاستحسان التي ليست حجّة عندنا ولكنّها يمكن أن تقع حجّة عند القائلين بها، وبقوله «تقع كبرى» أخرج مباحث سائر العلوم، ولم يقيّد الأحكام بالعمليّة، لعدم كون جميع الأحكام عمليّة كالوضعيّات وكثير من مباحث الطهارة وغيرها، وإضافة قيد «الوظيفة» لادخال مثل الظنّ على الحكومة، وأمّا عدم اكتفائه بأنّه «ما يمكن أن تقع كبرى استنتاج الوظيفة» فهو لعدم كون النتيجة وظيفة دائماً، وانتهائها إلى الوظيفة غير كونها وظيفة «1».

أقول: هذا التعريف مع سلامته عمّا أُورد على غيره يرد عليه: أنّ قيد الآليّة لا يكفي لإخراج القواعد الفقهيّة بل لا بدّ من جعل قيد «التي لا تشمل على حكم شرعي» مكانه لما حقّقناه في محلّه من أنّ القواعد الفقهيّة تشتمل دائماً على حكم كلّي شرعي، تكليفي أو وضعي، وجودي أو عدمي تقع في طريق استنباط الأحكام الفرعيّة العمليّة، ومجرّد كونها تطبيقية لا يضرّ بكونها آليّة كما لا يخفى.

فظهر ممّا ذكرنا عدم تماميّة كلّ واحد من التعاريف الأربعة.

والأولى أن يقال: «إنّه القواعد التي لا تشتمل على حكم شرعي وتقع في طريق استنتاج الأحكام الكلّية والفرعيّة الإلهيّة أو الوظيفة العمليّة» والاحتراز بكلّ من هذه القيود ممّا يجب إخراجه عن التعريف أو ادخاله يظهر ممّا ذكرناه.

انوار الأصول، ج 1، ص: 47

الأمر الثاني: الوضع وأحكامه

1- حقيقة الوضع

ووجه الحاجة إلى البحث عنها ارتباط غير واحد من الأدلّة الأربعة بباب الألفاظ، فلابدّ حينئذٍ من معرفة بعض قوانينها والقواعد الموضوعة لها.

قد يتوهّم أنّ دلالة الألفاظ على معانيها ليست من ناحية الوضع بل إنّها ذاتيّة فلا حاجة إلى البحث عنه.

ولكنّه خلاف ما نجده بوجداننا إلّافي باب أسماء الأصوات، فيوجد فيها ربط ذاتي بين المعاني والألفاظ كما هو ظاهر.

وكيف كان فبناءً على عدم ذاتيتها وكونها ناشئة من ناحية الوضع يقع البحث في حقيقة الوضع وأنّها هل هي بمعنى الجعل، أو بمعنى الالتزام، أو بمعنى الانس الذهني؟

القول الأوّل: ما اختاره المحقّق الخراساني رحمه الله: «إنّه نحو اختصاص للفظ بالمعنى وارتباط خاصّ بينهما ناشٍ من تخصيصه به تارةً ومن كثرة استعماله فيه اخرى».

ولا يخفى ما فيه من الابهام الذي لا يغتفر مثله في مقام التعريف نظير ما مرّ منه في تعريفه لعلم الاصول.

القول الثّاني: إنّه نوع استيناس ذهني يحصل بين اللفظ والمعنى بحيث ينتقل الذهن من أحدهما إلى الآخر.

وهذا مقبول في الوضع التعيّني، أمّا في التعييني فلا معنى محصّل له، لأنّ الانس والعلاقة الذهنيّة أمر متأخّر عن الوضع يحصل من كثرة الاستعمال الحاصلة بعد الوضع.

القول الثالث: أنّه التزام وتعهّد من ناحية أهل اللّغة بأنّه كلّما استعمل هذا اللفظ اريد منه هذا المعنى، إن قلت: الالتزام يتصوّر بالنسبة إلى الوضع فقط، وتعهّد الواضع لا يلازم تعهّد غيره مع أنّ

غيره أيضاً يستعمل اللفظ الموضوع كإستعماله.

انوار الأصول، ج 1، ص: 48

قلت: إنّه إذا تولّد الإنسان بين أهل لغة خاصّة وعاش فيهم كان ذلك في الواقع تعهّداً ضمنيّاً على الالتزام بجميع ما كان بينهم من الآداب والسنن والالتزامات ومنها الالتزام بمعاني الألفاظ وأوضاعها.

ويرد عليه: أنّ الوجدان حاكم على أنّ جملة «وضعت هذا اللفظ لهذا المعنى» ليس بمعنى «تعهّدت إنّي كلّما ذكرت هذا اللفظ أردت منه هذا المعنى» بل هو من قبيل جعل علامة للمعنى كما يشهد به كلمة «الوضع» فإنّه بمعنى الجعل والنصب.

القول الرابع: ما أفاده جمع من المحقّقين وهو أنّ حقيقة الوضع أمر اعتباري وهو جعل اللفظ علامة للمعنى في عالم الاعتبار.

توضيحه: إنّه تارةً يوضع شي ء علامة لشي ء آخر في عالم الخارج كوضع علامات الفراسخ في الطرق، والعمامة السوداء مثلًا لكون الشخص هاشميّاً، وقد يوسم بعض الحيوانات ويجعل له علامة كي يعرفه صاحبه، واخرى يجعل شي ء علامة لشي ء آخر في عالم الاعتبار وفقاً للعلامات الخارجيّة، ومن هذا القسم جميع المفاهيم الإنشائيّة التي تكون اموراً اعتباريّة مشابهة لمصاديقها الخارجيّة من بعض الجهات، فإنّ ملكيّة الإنسان وسلطنته على ماله عند العقلاء في عالم الاعتبار مثلًا أمر ذهني يشبه ملكيته وسلطنته على نفسه تكويناً، والزوجيّة بين الزوج والزوجة تجعل في عالم الاعتبار وفقاً للزوجيّة التكوينيّة بين الأشياء الخارجيّة، وكذلك الألفاظ بالنسبة إلى معانيها في ما نحن فيه، فإنّ حقيقة الوضع جعل اللفظ علامة للمعنى في عالم الاعتبار وفقاً للعلامات التي توضع على الأشياء الخارجيّة.

أقول: وهذا أحسن ما يمكن أن يقال في المقام، إلّاأنّه يتصوّر في خصوص الوضع التعييني، أمّا في التعيّني فلا، لعدم جعل ولا إنشاء فيه.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ علينا اختيار قول خامس يشمل ويعمّ كلا نوعي الوضع،

وهو أن يلتزم بالتفكيك بين النوعين في حقيقتهما ويقال: إنّ الوضع التعييني حقيقته جعل اللفظ علامة للمعنى كما مرّ في القول الرابع، وامّا التعيّني فحقيقته هو الانس الذي يحصل من كثرة استعمال اللفظ التي توجب تبادر المعنى إلى الذهن من سماع اللفظ كما مرّ في القول الثاني، فلابدّ من الجمع بين تعريفين من التعاريف السابقة كيما يكون التعريف تامّاً وجامعاً لجميع أنواع الوضع.

2- من الواضع؟

الكلام في تعيين شخص الواضع وإنّه مَن هو؟ فهل هو اللَّه تعالى أو إنسان خاصّ، أو جماعة خاصّة من أبناء البشر، أو أفراد غير معروفين؟

من الواضح أنّ الأنبياء كانوا يتكلّمون بلسان قومهم كما قال تبارك وتعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ» «1»

، ومنه يعلم عدم نزول الألفاظ عليهم من ناحية اللَّه تعالى، كما أنّ الظاهر عدم دلالة شي ء من النصوص أيضاً على كون الواضع هو سبحانه أو أنبيائه عليهم السلام ولو فرض قبول ذلك في خصوص اللسان الذي كان يتكلّم به آدم عليه السلام فلا شكّ في أنّه غير مقبول بالنسبة إلى اللغات الاخر التي هي كثيرة جدّاً.

أمّا أن يكون الواضع شخصاً خاصّاً أو جماعة معينة فهو أيضاً لا دليل عليه من التاريخ على ما بأيدينا، بل الوجدان حاكم على خلافه، لأنّا نجد بوجداننا إبداع ألفاظ جديدة ولغات حديثة على أساس الحاجات اليوميّة الاجتماعيّة، على مدى القرون والأعصار من دون وجود واضع خاصّ معروف في البين، فيتعيّن حينئذٍ كون الواضع عدّة أفراد مختلفين في كلّ عصر من الأعصار وفي كلّ زمان ومكان.

وأمّا منشأ اختلاف اللغات فالظاهر أنّ السبب الوحيد هو انتشار الأقوام المختلفة في أقطار الأرض وتباعد كلّ قوم عن سائر الأقوام، خصوصاً بعد ملاحظة عدم وجود وسائل الاعلام الموجودة

في يومنا هذا بينهم حتّى تنتقل لغة خاصّة من قوم إلى قوم، وحينئذٍ لا بدّ لكلّ قوم من اتخاذ لغة خاصّة وفقاً لحاجاتهم وبتبعه تتعدّد اللغات ويختلف بعضها عن بعض.

3- الكلام في أقسام الوضع

لا بدّ في كلّ وضع من موضوع وموضوع له، وحيث إنّ الواضع يحتاج إلى تصوّر اللفظ والمعنى ينقسم الوضع إلى أقسام ويتنوّع إلى أنواع بلحاظ اختلاف المعنى من حيث الكليّة والجزئيّة، وباعتبار أنّ المعنى الموضوع له تارةً يتّحد مع ما يتصوّره الواضع، واخرى يختلف،

انوار الأصول، ج 1، ص: 50

فالأقسام الحاصلة أربعة.

الأوّل: أن يكون المعنى المتصوّر مفهوماً عامّاً، أي معنىً كلّياً، ويوضع اللفظ بإزاء نفس ذلك المفهوم، فيكون الوضع عامّاً والموضوع له أيضاً عامّاً (ونعني بالوضع هنا المعنى المتصوّر).

الثاني: هو أن يتصوّر معنىً عامّاً ويضع اللفظ لمصاديقه، فيكون الوضع عامّاً والموضوع له خاصّاً.

الثالث: أن يكون الوضع والموضوع له كلاهما خاصّين.

ولا كلام في إمكان جميع هذه الوجوه الثلاثة، إنّما الكلام في قسم رابع وهو أن يتصوّر معنىً جزئيّاً ويضع اللفظ لكلّيه، كأن يتصوّر زيداً مثلًا ويضع اللفظ للإنسان.

فالمشهور ذهبوا إلى استحالة هذا القسم وتبعهم المحقّق الخراساني رحمه الله، ولكن المحقّق الإصفهاني رحمه الله نقل عن بعض طريقاً لإمكانه، واستدلّ المحقّق الحائري رحمه الله أيضاً لإمكانه بوجه آخر.

أمّا المشهور فاستدلّوا للإستحالة بأنّ الخاصّ من حيث كونه خاصّاً لا يكون مرآة للعام وعنواناً له بخلاف العكس، فإنّ العامّ شامل لأفراده ووجه لها.

واستدلّ بعض القائلين بالجواز (على ما حكاه المحقّق الإصفهاني رحمه الله في نهايته: «بأنّه كالمنصوص العلّة، فإنّ الموضوع للحكم فيه شخصي ومع ذلك يسري إلى كلّ ما فيه العلّة وكذلك إذا وضع لفظ لمعنى باعتبار ما فيه من فائدة، فإنّ الوضع يسري إلى كلّ ما فيه تلك الفائدة، فيكون

الموضوع له عامّاً مع كون آلة الملاحظة خاصّاً» «1».

ويرد عليه: أنّ العلّة في منصوص العلّة تكشف في الواقع عن إنشاء حكم عامّ فتكون جملة «لأنّه مسكر» مثلًا جملة خبريّة تخبر عن ذلك الحكم الكلّي، وليست جملة إنشائيّة، وبعبارة اخرى: أنّ هنا قضيّتين: قضيّة «لأنّه مسكر» وقضيّة تقع كبرى للقياس وهي «كلّ مسكر حرام»، والمنشأ الحقيقي هو القضيّة الثانيّة التي أنشأ فيها حكم عامّ، وأمّا القضيّة الاولى فتكون كاشفة عنها، وهكذا في ما نحن فيه، فإنّ تصوّر الجزء لأجل خصوصيّة فيه يكشف عن تصوّر

انوار الأصول، ج 1، ص: 51

كلّي سابق عليه، فيكون من قبيل الوضع العامّ والموضوع له العامّ لا من قبيل الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ.

وقال المحقّق الحائري رحمه الله في هذا المقام ما إليك نصّه: «يمكن أن يتصوّر هذا القسم فيما إذا تصوّر شخصاً وجزئيّاً خارجياً من دون أن يعلم تفصيلًا بالقدر المشترك بينه وبين سائر الأفراد مثله كما إذا رأى جسماً من بعيد ولم يعلم بأنّه حيوان أو جماد، فلم يعلم إنّه داخل في أيّ نوع من الأنواع، فوضع لفظاً بإزاء ما هو متّحد مع هذا الشخص في الواقع، فالموضوع له لوحظ إجمالًا وبالوجه، وليس الوجه عند هذا الشخص إلّاالجزئي، لأنّ المفروض أنّ الجامع ليس متعقّلًا عنده إلّابعنوان ما هو متّحد مع هذا الشخص» «1».

ويرد عليه أيضاً: أنّ الجزئي المذكور في المثال ليس عنواناً لكلّيه بل ينتقل الإنسان فيه بحسب الواقع من الشخص الجزئي إلى مفهوم عامّ إجمالًا وهو عنوان «ما هو متّحد مع هذا الشخص» (كما اعترف به في ذيل كلامه) فيلاحظه ويتصوّره ثمّ يضع اللفظ بإزائه، فيكون الوضع عامّاً والموضوع له أيضاً عامّاً.

ثمّ إنّ لبعض الأعاظم في المقام كلاماً لا يخلو عن

نظر وإن كان جديراً بالقبول في النظر الأوّل، وإليك نصّه: «الحقّ إنّهما (الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ وعكسه) مشتركان في الامتناع على وجه والاكان على وجه آخر، إذ كلّ مفهوم لا يحكي إلّاعمّا هو بحذائه ويمتنع أن يكون حاكياً عن نفسه وغيره، والخصوصيّات وإن اتّحدت مع العام وجوداً إلّاأنّها تغايره عنواناً وماهية، فحينئذٍ إن كان المراد من الموضوع له في الأقسام هو لحاظه بما هو حاكٍ عنه ومرآة له فهما سيّان في الامتناع، إذ العنوان العامّ كالانسان لا يحكي إلّاعن حيثيّة الإنسانيّة دون ما يقارنها من الخصوصيّات لخروجها عن حريم المعنى اللابشرطي، والحكاية فرع الدخول في الموضوع له، وإن كان المراد من شرطيّة لحاظه هو وجود أمر يوجب الانتقال إليه فالانتقال من تصوّر العامّ إلى تصوّر مصاديقه أو بالعكس بمكان من الإمكان» «2».

ولكن يمكن الجواب عنه بأنّه من قبيل الخلط بين المفهوم والمصداق، فإنّ العامّ بمفهومه وإن كان لا يحكي عن الأفراد بخوصّياتهم، ولكن إذا لوحظ بقيد الوجود يكون إشارة إليها إجمالًا،

انوار الأصول، ج 1، ص: 52

بخلاف الخاصّ فإنّه مع قيد الوجود أيضاً لا يحكي إلّاعن بعض أفراد العامّ، فتأمّل جيّداً.

فظهر من جميع ما ذكر أنّ الصحيح إمكان الأقسام الثلاثة الاولى من الوضع دون الرابع.

4- المعاني الحرفيّة
اشارة

لا إشكال في وجود القسم الأوّل والثالث من الأقسام المذكورة للوضع (أي ما إذا كان الوضع عامّاً والموضوع له عامّاً، أو كان الوضع خاصّاً والموضوع له خاصّاً) في الخارج، فمن القسم الأوّل أسماء الأجناس، ومن الثالث الأعلام الشخصيّة.

أمّا القسم الثاني فقد وقع البحث في وقوعه خارجاً، والمشهور على ذلك، وعدّوا من مصاديقه المعاني الحرفيّة وما شابهها، فينبغي البحث والتحقيق في حقيقة المعاني الحرفيّة لما يترتّب عليه في أبواب الواجب المشروط وغيره

على قول بعض.

وهذا البحث يستدعي نظراً كلّياً إلى الأقوال المعروفة والآراء الموجودة فيه قبل الورود في تفصيله.

فنقول: هنا أقوال خمسة ننظر إليها إجمالًا ثمّ نتكلّم عن أدلّتها ونقدها تفصيلًا:

القول الأوّل: أنّ الحروف لا معاني لها بل هي علامات للمعاني الاسميّة كالاعراب في الكلمات المعربة، فكما أنّ الرفع مثلًا علامة للفاعل، والنصب علامة للمفعول، كذلك الحروف، فكلمة «من» مثلًا علامة لابتداء السير في جملة «سرت من البصرة إلى الكوفة» و «إلى» علامة لانتهائه، والقائل به «محمّد بن حسن الرضي» من أعلام القرن السابع في كتابه الموسوم بشرح الكافيّة (وإن كان المستفاد من بعض كلماته القول الثاني الآتي ذكره) والإنصاف أنّ صدر كلامه وإن كان يدلّ على القول الثاني فإنّه ذكر فيه «إنّ معنى «من» ومعنى «لفظ الابتداء» سواء، إلّاأنّ الفرق بينهما أنّ لفظ الابتداء ليس مدلوله مضمون لفظ آخر بل معناه الذي في نفسه مطابقة، ومعنى «من» مضمون لفظ آخر ينضاف ذلك المضمون إلى معنى ذلك اللفظ الأصلي» كما أنّ ذيل كلامه قد يشعر بالقول الأوّل فإنّه قال: «فالحرف وحده لا معنى له أصلًا إذ هو كالعلم المنصوب بجنب شي ء ليدلّ على أنّ في ذلك الشي ء فائدة ما» «1».

انوار الأصول، ج 1، ص: 53

ولكن المحصّل من مجموع كلامه كما لا يخفى على من راجعه ودقّق النظر فيه هو القول الخامس الذي ستأتي الإشارة إليه من أنّ الحروف تدلّ على معانٍ غير مستقلّة في الذهن والخارج.

القول الثاني: ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله وهو عكس الأوّل، وحاصله إنّه لا فرق بين الحروف والأسماء في كون معاني كليهما استقلاليّة، فلا فرق بين «من» مثلًا وكلمة «الابتداء» في دلالة كليهما على الابتداء.

إن قلت: فلماذا لا يمكن استعمال أحدهما في

موضع الآخر؟

قلت: إنّه ناشٍ من شرط الواضع لا إنّه مأخوذ في الموضوع له، فإنّ الواضع اعتبر لزوم استعمال «من» فيما إذا لم يكن معنى الابتداء ملحوظاً استقلاليّاً وشرط في كلمة الابتداء استعمالها فيما إذا لم يكن المعنى آلياً.

القول الثالث: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله وحاصله: إنّ معاني الحروف كلّها إيجاديّة يوجد بها الربط بين أجزاء الكلام، فإنّ «من» في جملة «سرت من البصرة إلى الكوفة» مثلًا توجد الربط بين كلمتي «البصرة» و «سرت».

والظاهر من كلامه إنّها ليست حاكيات عن معانيها بل وضعت لإنشائها، فإنّ «في» مثلًا لا تحكي عن الظرفيّة بل توجدها في قولك «زيد في الدار».

القول الرابع: ما أفاده بعض الأعلام، وملخّصه: إنّ المعاني الحرفيّة وضعت لتضييق المعاني الاسمية ومع ذلك لا نظر لها إلى النسب الخارجيّة كما سيأتي توضيحه «1».

القول الخامس: قول كثير من المحقّقين. وهو أنّها وضعت للحكاية عن النسب الخارجيّة والمفاهيم غير المستقلّة وهو الأظهر من الجميع.

توضيحه: أنّ المفاهيم والمعاني على قسمين: مستقلّة وغير مستقلّة، فالمستقلّة نحو «مفهوم السير» وغير المستقلّة مثل ابتدائه وانتهائه، وكما نحتاج في بيان المعاني المستقلّة والحكاية عنها إلى ألفاظ، كذلك في المعاني غير المستقلّة، فمثلًا كما نحتاج في بيان معنى «زيد» و «قائم» إلى لفظ زيد قائم، كذلك نحتاج في بيان نسبة زيد إلى قائم وصدور القيام عن زيد إلى وضع لفظ، وهو

انوار الأصول، ج 1، ص: 54

هيئة «زيد قائم» ونحتاج في بيان كيفية السير من حيث الابتداء والانتهاء في قولك «سرت من البصرة إلى الكوفة» أيضاً إلى كلمتي «من» و «إلى»، هذا ملخّص الكلام في بيان الأقوال الخمسة في المقام.

أقول: أمّا القول الأوّل: فالأحسن في مقام الجواب عنه أن يقال: إنّه مخالف لما يتبادر من

الحروف إلى الذهن عند استعمالها، وقياسه بالاعراب قياس مع الفارق، لأنّه يتبادر من كلمة «في» مثلًا في جملة «زيد في الدار» معنى خاصّ، والحال أنّه لا يتبادر شي ء من علامة الرفع في «زيدٌ» في تلك الجملة.

أمّا القول الثاني: فغاية ما يقال في توضيحه: أنّ خصوصيّة كلّ واحد من الاسم والحرف نشأت من جانب الاستعمال لا الوضع، لأنّه إن كان الموضوع له خاصّاً فلا يخلو من أحد الأمرين، إمّا أن يكون المراد الخاصّ الجزئي الخارجي فإنّه خلاف الوجدان، لأنّ في نحو «في الدار» لا يكون المصداق واحداً جزئيّاً بل إنّه كلّي لشموله لكل موضع من الدار، وإمّا أن يكون المراد جزئيّاً ذهنياً فيستلزم كون الموضوع له معنىً مقيّداً بوجوده في الذهن، لأنّ لحاظ المعنى قيد له وهو باطل لوجوه:

أحدها: لزوم تعدّد اللحاظين حين الوضع، لأنّ الوضع حينئذٍ يلاحظ المعنى الملحوظ في الذهن وهو خلاف الوجدان.

ثانيها: لزوم عدم إمكان انطباق المعنى الحرفي على الخارج لأنّه مقيّد بكونه في الذهن.

ثالثها: لزوم كون الموضوع له في جميع الأسماء حتّى في أسماء الأجناس خاصّاً لأنّه إذا كان «كونه ملحوظاً في غيره» جزءً لمعنى الحرف، يكون «اللحاظ في نفسه» أيضاً جزءً للمعنى الاسمي لأنّ المفروض كونهما موضوعين على منهاج واحد، فيكون معنى الاسم جزئيّاً حقيقيّاً ذهنيّاً أيضاً، وهو خلاف ما هو المتّفق عليه في أسماء الأجناس من كون الموضوع له فيها عامّاً.

فثبت ممّا ذكرنا أنّ هذا القيد إنّما يكون عند الاستعمال لا في الموضوع له.

إن قلت: فلا فرق حينئذٍ بين الاسم والحرف، وهو يستلزم إمكان استعمال أحدهما موضع الآخر.

قلنا: الفرق بينهما منحصر في غاية الوضع، فوضع الاسم لأن يراد في نفسه، ووضع الحرف لأن يراد في غيره، وهي تمنع عن استعمال

أحدهما موضع الآخر (انتهى).

انوار الأصول، ج 1، ص: 55

أقول يرد عليه: أنّ هذا في الحقيقة شرط من ناحية الواضع لو قلنا به، وهو لا يوجب إلزاماً لغيره من المستعملين، فيستلزم أن يكون الاسم والحرف مترادفين، إلّاأن يقال: إنّ شرط الواضع يوجب محدوديّة في الموضوع له التي تعبّر عنها في بعض الكلمات بالتضييق الذاتي، وفي كلام المحقّق العراقي رحمه الله بالحصّة التوأمة، ولكن هذا يرجع في الحقيقة إلى تغاير الموضوع له فيهما فلا تكون الحروف متّحدة مع الأسماء في الموضوع له.

وبعبارة اخرى: الذي يوجب قبوله من الواضع إنّما هو ما يكون في دائرة الوضع فإن كان هناك شي ء خارج عنها وكان الموضوع له مطلقاً بالنسبة إليه فلا مانع حينئذ في استعمال تلك اللّفظة على نحو عامّ، فلو شرط الواضع عدم استعماله بدون ذاك القيد لم يقبل منه لأنّه بما هو واضع لم يأخذه قيداً فكيف يجب قبول هذا الشرط؟

أمّا القول الثالث: وهو ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله «1» فيرد عليه أمران لا محيص عنهما:

الأوّل: (وهو العمدة) إنّه لا معنى لأن توجد النسبة بلفظ لا معنى له، ولا يدلّ على مفهوم، فإن لم يكن لكلمة «في» مثلًا معنى الظرفيّة فلا يمكن إيجادها بها في الكلام كما لا يخفى، فاللازم دلالة الحروف أوّلًا وبالذات على معنى وحكايتها عنه ثمّ إيجاد النسبة الكلاميّة بها في ضوء تلك الحكاية.

الثاني: أنّه لو كانت معاني الحروف إيجاديّة فلا سبيل للصدق والكذب إليها كما هو كذلك في جميع الإنشائيات فلا معنى لكون قضيّة «زيد في الدار» صادقة أو كاذبة، وهذا كما ترى.

نعم لا إشكال في إيجاديّة معاني بعض الحروف نحو حروف النداء وحروف التمنّي والترجّي والقسم والتأكيد التي تشكّل قسماً خاصّاً من الحروف

كما ستأتي الإشارة إليه إن شاء اللَّه.

أمّا القول الرابع: فقد مرّت الإشارة إليه وإليك توضيحه من ملخّص كلامه:

قال في هامش أجود التقريرات: «والتحقيق أن يقال: إنّ الحروف بأجمعها وضعت لتضييقات المعاني الاسمية وتقييداتها بقيود خارجة عن حقائقها، ومع ذلك لا نظر لها إلى النسب الخارجيّة بل التضييق إنّما هو في عالم المفهوميّة ... توضيح ذلك: إنّ كلّ مفهوم اسمي له سعة وإطلاق بالإضافة إلى الحصص التي تحته سواء كان الإطلاق بالقياس إلى الخصوصيّات انوار الأصول، ج 1، ص: 56

المنوّعة أو المصنّفة أو المشخّصة أو بالقياس إلى حالات شخص واحد، ومن الضروري أنّ غرض المتكلّم كما يتعلّق بإفادة المفهوم على إطلاقه وسعته كذلك قد يتعلّق بإفادة حصّة خاصّة منه كما في قولك «الصّلاة في المسجد حكمها كذا»، وحيث إنّ حصص المعنى الواحد فضلًا عن المعاني الكثيرة غير متناهية، فلابدّ للواضع الحكيم من وضع ما يوجب تخصيص المعنى وتقييده، وليس ذلك إلّاالحروف والهيئات ... وبذلك يظهر أنّ إيجاد الحروف لمعانيها إنّما هو باعتبار حدوث الضيق في مرحلة الإثبات والدلالة، وإلّا لكان المفهوم متّصفاً بالاطلاق والسعة ... وإمّا باعتبار مقام الثبوت فالكاشف عن تعلّق القصد بإفادة المعنى الضيّق إنّما هو الحرف» «1».

أقول: يرد عليه امور:

أحدها: إنّ هناك قسماً ثالثاً من الحروف لا يجري فيه شي ء ممّا ذكره كالحروف العاطفة فإنّها ليست إنشائيّة كما أنّها ليست لبيان الحصص الخاصّة من المعاني الاسميّة وغيرها.

ثانيها: إنّه قد تكون الحروف لتضييق النسب الموجودة في الكلام التي هي بنفسها من المعاني الحرفيّة كقولك «عليك بإكرام زيد في دارك» فإنّ كلمة «في» هنا إنّما هي لتضييق نسبة الإكرام إلى زيد لا تقييد الإكرام ولا تقييد نفس زيد كما لا يخفى على المتأمّل.

ثالثها: وهو العمدة ما

أوردناه سابقاً على مذهب المحقّق النائيني رحمه الله وهو أنّ التضييق لا يخلو من أحد أمرين: إمّا أن يكون مع الحكاية والدلالة على الخارج أو بدونها، فإن لم يكن مع الدلالة فلا معنى له، وإن كان مع الحكاية والدلالة فيكون دور الحروف أوّلًا هو الدلالة على معنى والحكاية عن الخارج، ثمّ تضييق المعاني الاسميّة بواسطتها.

أمّا القول الخامس: فقد مرّ بيانه ويزيدك توضيحاً: إنّ الموجودات الممكنة على ثلاثة أقسام:

الأوّل: وجود في نفسه لنفسه، أي وجود مستقلّ في الذهن والخارج وهو الجوهر، نحو الروح والجسم.

الثاني: وجود في نفسه لغيره فيكون مستقلًا في المفهوم فقط ولكن إذا وجد وجد في انوار الأصول، ج 1، ص: 57

الموضوع وهو العرض، نحو البياض والسواد.

الثالث: وجود في غيره لغيره فلا استقلال له لا في المفهوم ولا في الخارج.

ولكلّ من هذه الأقسام في عالم اللفظ كلمات تدلّ عليها وما يدلّ على القسم الثالث منها هو الحروف: فهي تدلّ على مفاهيم غير مستقلّة في الذهن والخارج وتكون حاكيات عنها كما يظهر بمراجعة الوجدان ولا تدلّ على الإيجاد أو التضييق إلّابسبب دلالتها على ما ذكرنا كما مرّ.

ولقد أجاد بعض الأعاظم حيث قال: إنّ معاني الحروف غير مستقلّة في أربع جهات: في الوجود الخارجي، والوجود الذهني وفي الدلالة، بمعنى إنّ دلالتها على المعاني ليست بمستقلّة فلا يكون لكلمة «في» مجرّداً عن الاسم أو الفعل مدلولًا، وفي كيفية الدلالة، فلا استقلال لها في الإفراد والتثنية والجمع مثلًا بل تكون تابعة لموردها، فإن كان المورد مفرداً تكون دلالتها على النسبة أيضاً مفردة وهكذا.

هذا ولكن مع ذلك كلّه فهنا سؤالان نذكرهما ونجيب عنهما:

1- ما هو الدليل على أنّ الحروف وضعت للقسم الثالث من هذه المفاهيم؟ فإنّ ما ذكر هو مجرّد

دعوى.

الجواب: هو بأنّه مقتضى حكمة الوضع، لأنّا نشاهد في الجمل الخبريّة وغيرها اموراً لا يحكي الاسم عنها ولا الفعل، فالحكمة تقتضي أن توضع بإزائها أيضاً كلمة كما وضعت للمعاني الاسميّة والفعليّة، وليست هي إلّاالحروف، ويدلّ عليه التبادر أيضاً.

2- ما هو الوجه فيما إذا استعملنا الحروف في الواجب تعالى أو الممتنع، وقلنا مثلًا: «هو الذي في السماء إله» أو «اجتماع النقيضين في محلّ واحد محال»، فكيف تدلّ كلمة «في» في الجملة الاولى على وجود نسبة حقيقية بين الواجب والسماء، وفي الثانيّة على وجود نسبة بين «اجتماع النقيضين» الذي لا وجود له، و «محلّ واحد»؟ أليس هذا من المجاز؟

الجواب: هو أنّ حكمة الوضع في الألفاظ هي رفع الحاجات اليوميّة، وبالطبع يكون المقياس هو المعاني الممكنة الاعتياديّة، بل ربّما لم يكن الواضع معتقداً بالواجب، أو لا يتحقّق له تصوّر للممتنع، وحينئذٍ يكون الموضوع له للألفاظ هو خصوص الممكنات أوّلًا وبالذات، فإذا استعمل في الواجب أو الممتنع يوسّع المعنى أو يضيق، وسيأتي بيانه وتوضيحه إن شاء اللَّه تعالى في مبحث المشتقّ.

انوار الأصول، ج 1، ص: 58

هذا ولكن هذا القول وإن كان قويّاً من بعض الجهات لكن لا يشمل تمام أقسام الحروف كما يظهر ذلك عند بيان القول المختار.

المختار في المعاني الحرفيّة

الحقّ أنّ الحروف على أقسام مختلفة لا يمكن جعلها تحت عنوان واحد، فقسم منها حاكيات عن النسب والحالات القائمة بغيرها على المنهج الذي مرّ في القول الخامس، وقسم آخر إيجادي إنشائي نحو «ليت» و «لعلّ» و «حروف النداء» وما أشبهها لا تحكي عن شي ء بل ينشأ بها معانيها، وقسم ثالث منها علامات لربط الكلام مثل حروف الاستئناف والعطف في الكلام، وقسم رابع يكون لها معنى اسمي نحو كاف التشبيه التي تكون بمعنى

«مثل»، كلّ ذلك يعلم ممّا ذكرناه في نقل الأقوال السابقة ونقدها مع ما يعلم بالتبادر منها فلا يمكن سوق جميع الحروف سياقاً واحداً.

إن قلت: فلا جامع بين المعاني الحرفيّة، فيكون الحرف مشتركاً لفظيّاً يطلق على أربعة معان.

قلنا: أوّلًا: إنّا لا نأبى عن ذلك.

وثانياً: يمكن أن يتصوّر للثلاثة الاولى جامعاً وهو «ما ليس له معنى مستقلّ» لا في الذهن ولا في الخارج أعمّ من أن يكون على نحو السالبة بانتفاء الموضوع كالقسم الثالث، أو كان له معنى غير مستقلّ وهو القسم الأوّل والثاني، أمّا القسم الرابع فإنّه وإن كان له معنى مستقلّ إلّا أنّه يلحق بالثلاثة لشباهته بها لفظاً، بل ومن حيث المعنى من بعض الجهات يكون التشبيه الذي هو مفاد الكاف قائماً بالطرفين، وهما المشبه والمشبه به، فيمكن ادخاله تحت ذلك الجامع ببعض الملاحظات، ولكن العمدة إنّه لا دليل على لزوم أخذ الجامع بينهما كما عرفت.

إن قلت: يمكن أن يقال: إنّ كاف التشبيه تحكي وتدلّ على المماثلة الخارجيّة الواقعيّة بين زيد والأسد مثلًا في جملة «زيد كالأسد» فلا فرق حينئذٍ بينهما وبين معنى الابتداء، فكما إنّ معنى الابتداء قائم في حرف «من» كذلك المماثلة تكون قائمة بالمشبه والمشبه به، وعليه يكون معنى الكاف غير مستقلّ كسائر المعاني الحرفيّة.

قلنا: هذا في الحقيقة خلط بين عدم الاستقلال في الوجود الخارجي والوجود الذهني، فإنّ انوار الأصول، ج 1، ص: 59

المماثلة وإن لم تكن مستقلة في الوجود الخارجي كجميع العوارض لا سيّما ما كانت ذات إضافة، ولكنّها معنى مستقل في الذهن، ولذلك يمكن جعل كلمة «مثل» محلّه، بخلاف معنى «من» و «في» فإنّهما غير مستقلّين في افق الذهن كما هما كذلك في الخارج، ولا يمكن جعل «الابتداء» و «الظرفيّة» محلّهما.

و

بقي هنا امور:

1- إنّ الوضع في الحروف عامّ والموضوع له خاصّ، لأنّ «من» مثلًا لم توضع للابتداء الكلّي المتصوّر في الذهن حين الوضع، بل وضعت لمصاديقه الجزئيّة في الخارج، لأنّها تحكي عن الابتداء الذي تكون حالة لغيره في مثل «سرت من البصرة إلى الكوفة» فيكون الموضوع له خاصّاً لجزئيّة المصداق، والوضع عامّاً لعدم إمكان إحصاء هذه المصاديق لكثرتها، فنحتاج في تصوّرها إلى تصوّر جامع وعنوان مشير إليها، ولولا ذلك لم يكن فرق بينه وبين لفظ الابتداء.

هذا كلّه بالنسبة إلى القسم الأوّل من الحروف.

أمّا القسم الثاني وهي التي تدلّ على المعاني الإيجاديّة فيكون الموضوع له فيها جزئيّاً حقيقيّاً خارجياً لأنّها وضعت للإنشاء الذي هو إيجاد، ومن المعلوم أنّ ما يوجد بكلمة «يا» مثلًا في جملة «يازيد» هو النداء الجزئي الخارجي لا تعدّد ولا تكثّر فيه.

أمّا القسم الثالث الذي يكون من قبيل العلامة فلا يتصوّر فيه الوضع والموضوع له المعهودان في باب الألفاظ اللّذين هما محلّ الكلام (لعدم دلالته على معنى).

وأمّا القسم الرابع فلا نأبى فيه من كون الوضع فيه عاماً والموضوع له أيضاً عامّاً كأسماء الأجناس، ولكنّه قليل جدّاً.

2- إنّ معاني الحروف وإن كانت غير مستقلّة لا تلاحظ في أنفسها بل تلاحظ في غيرها لكن ليس هذا بمعنى الغفلة عنها وعدم النظر إليها كما قيل، بل ربّما تكون هي المقصود بالبيان فقط، كما يقال: «هذا عليك لا لك» فيكون قصد المتكلّم فيها معنى «على» و «اللام»، ولا يكون غيرهما مقصوداً بالذات، وسيأتي في باب الواجب المشروط ثمرة هذه النكتة بالنسبة إلى القيود الواردة في الجملة وأنّها هل ترجع إلى المادّة أو الهيئة؟ فقال بعض استحالة رجوعها إلى انوار الأصول، ج 1، ص: 60

الهيئة لكونها من المعاني الحرفيّة،

وهي مغفول عنها لا ينظر إليها، ولكن ظهر ممّا ذكرنا في المقام أنّ عدم استقلال معاني الحروف لا يساوق عدم النظر إليها وصيرورتها مغفولًا عنها، بل المراد قيامها بالطرفين في الذهن والخارج، فلا إشكال في جواز تقييدها بالقيود الواردة في الجملة.

3- إنّه لا يمكن المساعدة على ما أفاده شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله في الواجب المشروط (من رجوع القيد إلى المادّة بدليل أنّ المعنى الحرفي جزئي حقيقي لا يقبل التقييد، وأنّ الهيئة الدالّة على الوجوب في الواجب المشروط من المعاني الحرفيّة) لما ظهر من أنّ الموضوع له في الحروف كثيراً ما يكون جزئيّاً إضافياً ذا أفراد كثيرة، يقبل التقييد، بل يكون غيره فيها نادراً جدّاً، نعم في الحروف الإيجاديّة الإنشائيّة الموضوع له جزئي حقيقي لأنّ الإنشاء من قبيل الإيجاد، والإيجاد والوجود لا يكونان إلّاجزئيّاً حقيقيّاً.

4- إنّ الفرق بين المعاني الحرفيّة والأسماء المرادفة لها نحو كلمة «الظرفيّة» بالنسبة إلى معنى «في» هو أنّ الظرفيّة الحرفيّة قائمة بخصوص الظرف والمظروف حتّى في الذهن بخلاف الظرفيّة الاسميّة فإنّها مجرّدة عن الطرفين في الذهن، وإن كانت قائمة بهما في الخارج، فالفرق بينهما فرق جوهري ليس منحصراً في مجرّد اشتراط الواضع كما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله.

5- إنّ معنى ما روى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سلام اللَّه عليه وهو: «الكلمة اسم وفعل وحرف، والاسم ما أنبأ عن المسمّى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى والحرف ما أوجد معنى في غيره ليس ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله فانه لحفظ ظاهر الحديث وقوله في ذيله:

«والحرف ما أوجد معنىً في غيره» ذهب إلى أنّ معنى الحرف إيجادي، وكأنّ هذا هو منشأ ما ذهب إليه بعض آخر من الأكابر

من أنّ معنى الحرف عبارة عن تضييق المعاني الاسميّة.

بل إنّ لهذا الحديث مضافاً إلى كونه ظنّياً من ناحية السند (لكونه خبراً واحداً فلا ينتقض به الأمر القطعي) تفسيراً آخر.

فنقول: أمّا الفقرة الاولى منها (الاسم) فمعناها واضح لا إشكال فيه.

وأمّا الفقرة الثانيّة (الفعل) فيحتمل فيها معنيان:

الأوّل: أنّ مادّة الفعل مثل «الضرب» مفهوم اسمي لا دلالة له على الزمان لكن يدلّ عليه هيئة الفعل، فهيئة «ضرب» مثلًا تدلّ على زمان وقوع الضرب ويكون بهذا المعنى منبأً عن حركة المسمّى، فالمراد من الحركة حينئذٍ هو الزمان.

انوار الأصول، ج 1، ص: 61

الثاني: أن يكون المراد أنّ الأفعال تدلّ على حدوث الاسم، والحدوث هو الحركة التي تلازم الزمان، وبعبارة اخرى: الأسماء تدلّ على مجرّد الوجود والتحقق والأفعال تدلّ على الحركة في الوجود، أي الصيرورة.

أمّا الفقرة الثالثة (الحرف) فلها أيضاً تفسيران:

أحدهما: ما هو ظاهرها وهو إيجاديّة معنى الحرف أو كونه للتضييق.

ثانيهما: أن يكون المراد أنّ الحرف لدلالته على معنى وحكايته عنه يوجد معنىً وربطاً في غيره. فلا يوجد به الربط ابتداء وبدون الحكاية كما مرّ، بل الربط ناشٍ عن حكايتها لمعانيها الخاصّة.

والأولى في تفسير الرّواية هو التفسير الثاني كما يساعده الاعتبار.

هذا كلّه من ناحية الدلالة، وأمّا من ناحية السند فالظاهر أنّه لم ينقل بطرق صحيحة عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام ولكنّه مرويّ في كتب كثيرة حتّى ادّعي اشتهارها كإشتهار الشمس في رائعة النهار، وأحسن ما رأيت في جمع هذه الطرق للحديث هو ما كتبه العلّامة السيّد حسن الصدر رحمه الله في كتابه «تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام» من صفحة 55 إلى ما بعدها فقد نقلها رحمه الله عن عدّة من الأكابر.

وقال سيّدنا المرحوم آية اللَّه البهبهاني، في كتاب كتبه في شرح هذه

الرّواية الشريفة وسمّاها بالاشتقاق «إنّ اشتهارها بين أهل العربيّة يغني عن تحقيق إسنادها».

ولم يكتف هو رحمه الله بجبر إسنادها بسبب الشهرة بل قال: «بأنّ علوّ متنها أيضاً دليل على صحّة سندها» وقال في بعض كلماته «إنّ سطوع نورها ووقود نارها واشتمالها على نفائس أسرار قد خفى جلّها على الجلّ بل على الكلّ كما سيظهر لك إن شاء اللَّه ينادي بعدم صدورها إلّا من عين صافية فينبغي تصحيح إسنادها بمتنها لا متنها بإسنادها» «1».

أقول: ولكن الإشكال هو أنّ متن الرّواية مختلف ففي غير واحد منها روي كما عرفت تفسيره آنفاً، ولكن في طريق آخر الذي نقله الأمير سيّد شريف الجرجاني في شرح الإرشاد في النحو للتفتازاني هكذا: «... والحرف أداة بينهما» «2». وهذا لا يوافق كون الحروف إيجاديّة بل انوار الأصول، ج 1، ص: 62

يوافق ما ذكرنا وما ذكره المشهور في معنى الحروف وإنّها معانٍ غير مستقلّة.

6- إنّه لا فرق بين كاف التشبيه وكلمة «مثل» في المعنى وإن افترقا في بعض الاستعمالات، فيأتي فيها كلمة «مثل» دون «الكاف» وهذا لا ينافي كون معناها مفهوماً اسميّاً كما يكون كذلك في الضمائر المتّصلة والمنفصلة، فإنّه قد لا يمكن استعمال بعضها في مورد بعض وإن كان المعنى واحداً، والشاهد على عدم الفرق جواز استعمال أحدهما في موضع الآخر وإن كان لكلّ واحد منهما آثاره الخاصّة من حيث اللفظ من قبيل وقوع «مثل» مبتدأ دون «الكاف».

هذا تمام الكلام في المعاني الحرفيّة.

5- الكلام في الفرق بين الإنشاء والإخبار

قال صاحب الكفاية رحمه الله هنا ما حاصله: إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا عدم الفرق بين الإخبار والإنشاء لا في الموضوع له ولا في المستعمل فيه، بل الفرق في كيفية الاستعمال وغايته، فالموضوع له والمستعمل فيه في جملة «بعت» حال

الإخبار والإنشاء واحد، إلّاأنّ «بعت» الخبريّة وضعت لأن يراد منها الحكاية عن الخارج و «بعت» الإنشائيّة وضعت لأن يراد منها إيجاد البيع وإنشائه في عالم الاعتبار.

أقول: قد ظهر ممّا سبق ما هو الحقّ في المسألة أيضاً، وهو أنّ الإنشاء والإخبار أمران مختلفان، ذاتاً وجوهراً كما هو مقتضى حكمة الوضع، أمّا الإخبار فهو في الواقع بمنزلة التصوير من الخارج بآلة التصوير من دون تصرّف من ناحية المصوّر. وأمّا الإنشاء فهو إيجاد معنى في عالم الاعتبار من دون أن يكون بإزائه في الخارج شي ء يحكى عنه، لأنّ يد الجعل لا تنال عالم التكوين بل هي مختصّة بالامور الاعتباريّة، ويأتي إن شاء اللَّه تعالى في مبحث الأمارات في مقام بيان حقيقة حجّية الأمارات أنّه لا معنى لكون الحجّية هناك بمعنى جعل صفة القطع كما قال به المحقّق النائيني رحمه الله، لأنّ القطع أمر تكويني لا يقبل الجعل التشريعي وبالنتيجة لا شباهة بين ماهيّة الإنشاء وماهية الإخبار، والفرق بينهما هو نفس الفرق بين الامور التكوينيّة والاعتباريّة، وأمّا نحو جملة «بعت» التي تستعمل في الإخبار والإنشاء كليهما فإنّها من قبيل الألفاظ المشتركة التي وضعت لمعنيين مختلفين ولا بأس بالالتزام به.

تكملة: في ما أفاده بعض الأعلام في المقام. وحاصله: إنّ ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله مبني انوار الأصول، ج 1، ص: 63

على ما هو المشهور بينهم بل المتسالم عليه من أنّ الجمل الخبريّة موضوعة لثبوت النسبة في الخارج أو عدم ثبوتها فيه، وإنّ الجمل الإنشائيّة موضوعة لايجاد المعنى في الخارج الذي يعبّر عنه بالوجود الإنشائي. والصحيح أنّ الجملة الخبريّة موضوعة للدلالة على قصد الحكاية والإخبار عن الثبوت أو النفي في الخارج، ولم توضع للدلالة على ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها

عنه وذلك لسببين:

أحدهما: إنّها لا تدلّ ولو ظنّاً على ثبوت النسبة أو عدمه مع قطع النظر عن حال المخبر (من حيث الوثاقة) وعن القرائن الخارجيّة مع أنّ دلالة اللفظ لا تنفكّ عن مدلوله الوضعي بقانون الوضع وإلّا لم يبق للوضع فائدة، فإذا فرضنا أنّ الجملة بما هي هي لا تدلّ على تحقّق النسبة في الواقع ولا كاشفية لها عنه أصلًا ولو ظنّاً، فما معنى كون الهيئة موضوعاً لها؟ بل يصبح ذلك لغواً فلا يصدر من الواضع الحكيم.

ثانيهما: إنّ الوضع عبارة عن التعهّد والالتزام النفساني، ومن الواضح أنّ التعهّد والالتزام لا يتعلّقان إلّابالفعل الاختياري، إذ لا معنى للتعهّد بالإضافة إلى أمر غير اختياري، وبما أنّ ثبوت النسبة أو نفيها في الواقع خارج عن الاختيار فلا يعقل تعلّق الالتزام، به فالذي يمكن أن يتعلّق الالتزام به هو إبراز قصد الحكاية في الإخبار.

والنتيجة: أنّ الجملة الخبريّة وضعت لإبراز قصد الحكاية والإخبار عن الواقع ونفس الأمر.

وأمّا الجملة الإنشائيّة فهي موضوعة لإبراز أمر نفساني غير قصد الحكاية، ولم توضع لايجاد المعنى في الخارج، والوجه في ذلك هو إنّهم لو أرادوا بالإيجاد الإيجاد التكويني فبطلانه من الضروريات. وإن أرادوا به الإيجاد الاعتباري كإيجاد الوجوب والحرمة أو الملكيّة والزوجيّة وغير ذلك، فيردّه إنّه يكفي في ذلك نفس الاعتبار النفساني من دون حاجة إلى اللفظ والتكلّم به. نعم اللفظ مبرز له في الخارج لا إنّه موجد له.

ومن هنا يعلم إنّه لا فرق بينها وبين الجملة الخبريّة في الدلالة الوضعيّة والإبراز الخارجي:

وإنّما الفرق بينهما في ما يتعلّق به الإبراز، فإنّه في الجملة الإنشائيّة أمر نفساني لا تعلّق له بالخارج، ولذا لا يتّصف بالصدق أو الكذب، بل يتّصف بالوجود أو العدم، وفي الجملة الخبريّة

انوار الأصول،

ج 1، ص: 64

أمر يتعلّق بالخارج فإن طابقه فصادق وإلّا فكاذب «1» (انتهى ملخّصاً).

لكن يرد عليه امور:

الأمر الأوّل: إنّه يستلزم كون جملة «بعت» الإنشائيّة والجملة المعادلة لها (بناءً على ما ذهب إليه) وهي «اعتبرت في نفسي ملكيّة هذا لزيد مثلًا» كالمترادفين فيصحّ حينئذٍ جعل إحديهما موضع الاخرى، مع أنّه خلاف الوجدان، لأنّا نجد بوجداننا إيجاد الملكيّة أو الزوجيّة مثلًا بجملة «بعت» أو «زوّجت» ولا نجده في جملة «اعتبرت في نفسي ملكيّة هذا» (بعنوان الحكاية عمّا في ضميره).

الأمر الثاني: إنّه لو كان حقيقة الإخبار إبراز قصد الحكاية فانه يستلزم أن لا تكون الجمل الخبريّة بنفسها مصاديق للحكاية عن الخارج، وهو خلاف الوجدان، لأنّا ندرك بصريح وجداننا إنّها حاكيات عن الخارج، وأمّا ما ذكره من أنّها لا تدلّ على ثبوت النسبة في الخارج ولو ظنّاً إلّابعد وثاقة المخبر والقرائن الخارجيّة فهو من قبيل الخلط بين الدلالة التكوينيّة كدلالة الدخّان على وجود النار، والدلالة الوضعيّة الالتزاميّة كدلالة الألفاظ على معانيها، والمنفي هو الثاني لا الأوّل.

وإن شئت قلت: الألفاظ كالصور المرتسمة، فإنّها بأجمعها تحكي عن الخارج سواء كان هناك إنسان قصد الحكاية أم لا، ومع ذلك هذه الصور قد تكون مطابقة للواقع واخرى مخالفة له.

الأمر ثالث: إنّ لازم كلامه قبول الإنشاء للصدق والكذب، فإنّ من قال: «بعت داري» يحكي عن أمر نفساني خاصّ بناءً على ما ذكره من أنّه لإبراز ما في النفس، وهذا قد يكون مطابقاً للواقع وقد يكون مخالفاً إذا لم يكن في نفسه من هذا الأمر الاعتباري عين ولا أثر.

الأمر الرابع: (وهو العمدة) إنّ الإنصاف كون حقيقة الإنشاء إيجاد أمر اعتباري بأسبابه المعتبرة عند العقلاء، وبعبارة اخرى: حقائق هذه الامور (الملكيّة والزوجيّة وغيرهما) اعتبارات عقلائيّة وقد جعلوا

للوصول إليها أسباباً، ومن توسّل بهذه الأسباب فقد أوجدها

انوار الأصول، ج 1، ص: 65

في وعائها، ولا ينافي ذلك أن يكون له شرائط مختلفة ممّا يعتبر في البائع والمشتري والعوضين، فمن تعدّاها لم يصل إلى هذه الاعتبارات. وهو نظير إمضائه في دفتر الأسناد فيما إذا أراد انتقال ملكه إلى الغير، فإنّ إمضاءه هذا يوجب اعتبار العقلاء الملكيّة للمشتري ويترتّب عليه آثار خاصّة عندهم، وبه يوجد مصداق من مصاديق سبب الملكيّة الذي اعتبره العقلاء سبباً.

وعلى هذا فيصحّ أن نقول: إنّ حقيقة الإنشاء إيجاد الامور الاعتباريّة لا إبراز الاعتبارات النفسانيّة، والاعتبارات النفسانيّة الشخصيّة بمجرّدها غير كافية في حصول هذه العناوين عند العقلاء إلّاأن يكون بأسباب خاصّة عندهم.

هذا تمام الكلام في الفرق بين الإنشاء والإخبار.

6- الكلام في معاني أسماء الإشارة

وفيه ثلاثة أقوال:

القول الأوّل: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله وإليك نصّه: «ثمّ إنّه قد إنقدح ممّا حقّقناه إنّه يمكن أن يقال إنّ المستعمل في مثل أسماء الإشارة والضمائر أيضاً عام وإن تشخّصه إنّما نشأ من قبل طور استعمالها، حيث إنّ أسماء الإشارة وضعت ليشار بها إلى معانيها وكذا بعض الضمائر، وبعضها ليخاطب بها المعنى، والإشارة والتخاطب يستدعيان التشخّص كما لا يخفى».

وفيه: أنّ كلامه هذا نشأ من ما مرّ من المبنى الذي بنى عليه في المعاني الحرفيّة فالجواب هو الجواب ولا حاجة إلى التكرار.

القول الثاني: ما قال به المحقّق الإصفهاني رحمه الله وإليك نصّ كلامه: «التحقيق أنّ أسماء الإشارة والضمائر موضوعة لنفس المعنى عند تعلّق الإشارة به خارجاً أو ذهناً بنحو من الأنحاء، فقولك «هذا» لا يصدق على زيد مثلًا إلّاإذا صار مشاراً إليه باليد أو بالعين مثلًا، فالفرق بين مفهوم لفظ المشار إليه ولفظ «هذا» هو الفرق بين العنوان والحقيقة نظير الفرق بين لفظ

الربط والنسبة، ولفظ «من» و «في» وغيرهما، وحينئذٍ فعموم الموضوع له لا وجه له بل الوضع حينئذٍ عام والموضوع له خاصّ كما عرفت في الحروف» «1».

ووافقه على ذلك المحقّق النائيني رحمه الله إلّاأنّه اكتفى بأنّها وضعت لمعانيها المقيّدة بالإشارة إليها

انوار الأصول، ج 1، ص: 66

من غير تقييد بكونها خارجيّة أو ذهنية.

إن قيل: ينتقض كلامهما بقولك: «اصلّي في هذا المسجد» إذا كنت جالساً فيه لأنّه في مثل هذه الحالة لا حاجة إلى ضمّ الإشارة بالحسّ أو الذهن بل يكتفي بلفظ «هذا المسجد» فحسب.

ولكن يمكن الجواب عنه بأنّ المسجد في هذا المثال حاضر في الذهن فيشار إليه أيضاً بالإشارة الذهنيّة، نعم يرد عليهما ما سيتّضح لك في بيان المختار في المقام فانتظر.

القول الثالث: ما في تهذيب الاصول وحاصله: إنّ ألفاظ الإشارة وضعت لايجاد الإشارة فقط.

وبعبارة اخرى: إنّ ألفاظ الإشارة تقوم مقام الإشارة بالاصبع وإشارة الأخرس، فكما أنّه بإشارة الاصبع توجد الإشارة كذلك بلفظ «هذا» مثلًا، ولذلك يقوم أحدهما مقام الآخر، فالموضوع له في كلّ واحد منهما نفس الإشارة، وعلى هذا فيندرج تلك الألفاظ في باب الحروف ولا استقلال لها لا في الذهن ولا في الخارج، فكما لا تدلّ كلمة «من» أو «إلى» على معنى مستقلّ، كذلك كلمة «هذا» فلا تدلّ على معنى كذلك، فألفاظ الإشارة في الحقيقة حروف لا أسماء، ثمّ أورد على نفسه إنّه كيف تترتّب عليها الآثار الاسميّة نحو وقوعها مبتدأ أو فاعلًا أو مفعولًا؟ وأجاب عنه بأنّ المبتدأ وشبهه في هذه الموارد ليس لفظ «هذا» مثلًا، بل هو في الواقع المشار إليه الموجود في الذهن، فيكون من القضايا التي تركّبت من أمر ذهني وأمر خارجي «1». (انتهى).

ويرد عليه ما سيأتي في مقام بيان المختار أيضاً.

المختار

في معنى أسماء الإشارة وبيانه يحتاج إلى تقديم امور:

الأوّل: أنّ حقيقة الإشارة تعيين شي ء من بين الأشياء المتشابهة في الخارج كما لا يخفى.

الثاني: أنّ لكلّ من الإشارة الحسّية والإشارة اللّفظيّة نقصاً لا يكون للآخر، فالإشارة الحسّية لا تدلّ على الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث بخلاف الإشارة اللّفظيّة، كما أنّ اللّفظيّة لا يتعيّن ولا يتشخّص بها المشار إليه بخلاف الحسّية، ولذا تضمّ إلى الإشارة اللّفظيّة

انوار الأصول، ج 1، ص: 67

الإشارة الحسّية لتعيين المشار إليه.

الثالث: أنّه لا ينبغي الشكّ في كون ألفاظ الإشارة أسماء كما عليه اتّفاق النحويين، وهو موافق لما نجده بالتبادر عند ذكرها. فإنّا نفهم وجداناً من إطلاق لفظ «هذا» وشبهه معنىً مستقلًا لا يشابه المعاني الحرفيّة وإن كان مجملًا أو مبهماً من بعض الجهات، وإنكار هذا مكابرة.

إذا عرفت هذا فاعلم: أنّ هناك ما يدلّ على الإشارة تكويناً قبل وضع الألفاظ كالإشارة باليد والعين والرأس والحصى والعصا وغيرها، وهي كلّها تدلّ على معنى معيّن في الخارج، ثمّ وضعت لها ألفاظ يقوم مقامها من جميع الجهات أو من بعضها، وهذه الألفاظ أتمّ دلالة منها من جهة دلالتها على الإفراد والتثنية والجمع والمذكّر والمؤنّث وعلى الإشارة إلى القريب والبعيد ولكنّها قاصرة من ناحية تعيين المشار إليه أحياناً، فحينئذٍ لا تتمّ دلالتها إلّابأن ينضمّ إليها الإشارة الحسّية أو الذهنيّة.

وإن شئت قلت: مدلولات أسماء الإشارات مفاهيم اسمية وإن كانت فيها رائحة الحروف فلها من حيث دلالتها على المفرد والتثنية والجمع والمذكّر والمؤنّث معانٍ اسمية، ومن حيث اشتمالها على إيجاد الإشارة- لها رائحة الحروف.

وممّا ذكرنا ظهر ضعف القول بأنّها من قبيل الحروف كما ظهر أنّه ليس مفادها مجرّد المعنى عند تعلّق الإشارة بها خارجاً أو ذهناً بل فيها إنشاء الإشارة بنفس

ألفاظها وإن كانت قاصرة من بعض الجهات، فالإشارة مأخوذة في حاق معانيها لا أمر خارج عنها.

وأمّا ما أفاده في التهذيب من أنّ الحقّ في قضيّة «هذا قائم» إنّه من قبيل التركيب بين الموضوع الخارجي واللّفظي (فالمبتدأ أمر خارجي بنفسه والخبر محكي عنه بلفظ «قائم») فهو خلاف الوجدان أيضاً، لأنّ المتبادر من هذه الجملة أنّ المبتدأ هو ما يستفاد من معنى «هذا» كما يظهر بمراجعة علماء العربيّة أيضاً، فإنّ اتّفاقهم على أنّ نفس «هذا وأشباهه» هي المبتدأ شاهد على المقصود. هذا تمام الكلام في أسماء الإشارة.

7- الكلام في الضمائر

وقع الاختلاف في تعيين مفهومها بين الاصوليين.

انوار الأصول، ج 1، ص: 68

فقال المحقّق الخراساني رحمه الله: إنّها على قسمين: فبعضها وضع ليشار به إلى معنى، وهي الضمائر الغائبة، وبعض آخر وضع لأن يخاطب به المعنى، ثمّ قال: والإشارة والتخاطب حين الاستعمال يستدعيان التشخّص فلا يكونان جزئين من الموضوع له بل الموضوع له هو المفرد المذكّر الكلّي المتصوّر حين الوضع، وعلى هذا فالوضع والموضوع له فيها عامّ.

قد يقال: إنّ الضمائر كلّها إيجاديّة، أمّا الغائب منها فيوجد بالإشارة كأسماء الإشارة، فوزانها وزان أسماء الإشارة، وأمّا المخاطبة منها فيوجد بها الخطاب.

أقول: الحقّ فيها هو التفصيل بين ضمائر الغيبة والخطاب والتكلّم، أمّا الغائب منها فلا دلالة لها على الإشارة، ويشهد عليه قيامها مقام تكرار الاسم، فيقال بدل جملة: «جاء زيد وجلس زيد» «جاء زيد وجلس» (والضمير مستتر فيه)، وأمّا ضمير المخاطب أو المتكلّم فيدلّ على نوع من الإشارة، ويشهد عليه عدم قيام اسم الظاهر مقامهما، فلا يمكن أن يقال بدل «أنا قائم» أو «أنت قائم» «زيد قائم» كما يشهد عليه أيضاً انضمام الإشارة باليد أو الرأس ونحوهما حين إطلاقهما كما في أسماء الإشارة.

إن قلت: فما

الفرق بين اسم الإشارة وضمير المتكلّم والمخاطب؟

قلنا: الفرق بينهما أنّ اسم الإشارة يدلّ على الإشارة وتعيين المشار إليه فقط، وأمّا ضمير المخاطب والمتكلّم فمضافاً إلى دلالتهما على الإشارة، يدلّان على كون المشار إليه مخاطباً (في المخاطب) ومتكلّماً (في المتكلّم). هذا كلّه في الضمائر.

8- الموصولات

ففي تهذيب الاصول ما حاصله: إنّ في الموصولات أيضاً نوعاً من الإشارة فمعانيها معاني إيجاديّة، وضعت لايجاد الإشارة إلى مبهم يتوقّع رفع ابهامه بالصلة «1».

أقول: الموصولات يكون وزانها وزان ضمائر الغيبة ولا تدلّ على الإشارة أصلًا، والشاهد عليه قيام اسم الظاهر مقامها فيقال بدل: «جاء الذي قتل عمراً» «جاء قاتل عمرو» وهي بذواتها مبهمة من جميع الجهات إلّامن ناحية الصلة والإفراد والتثنية والجمع والتذكير

انوار الأصول، ج 1، ص: 69

والتأنيث، فالمعلوم عندنا من «الذي» في المثال هو ذات مبهمة من جميع الجهات إلّامن ناحية اتّصافها بأنّها قاتل عمرو، ولذلك يقوم وصف «القاتل» مقامها.

هذا تمام الكلام في الموصولات، وبه انتهى البحث عن الأمر الثاني من الامور المبحوث عنها بعنوان المقدّمة.

وملخّص ما اخترناه فيه:

أوّلًا: أنّ الحروف المصطلحة يكون الوضع فيها عامّاً والموضوع له خاصّاً.

وثانياً: أنّ معاني أسماء الإشارة مركّبة من معنى اسمي ومعنى حرفي، فباعتبار إنّها متضمّنة للمعنى الحرفي يكون الوضع فيها عامّاً والموضوع له خاصّاً أيضاً كما في الحروف.

وثالثاً: ضمائر الخطاب والتكلّم وزانها وزان أسماء الإشارة لتضمنها معنى الإشارة، فتلحق بالحروف فيكون الوضع فيها عامّاً والموضوع له خاصّاً، وضمائر الغيبة معانيها اسمية لا تدلّ على نوع من الإشارة ولكن الموضوع له فيها عام لأنّ معانيها مبهمة إلّامن ناحية مرجعها، لا كلّي المرجع بل اشخاصه.

ورابعاً: أنّ الموصولات وزانها وزان ضمائر الغائب لا إشارة في معانيها أصلًا بل وضعت لمعان مبهمة من جميع الجهات إلّامن جهة الصلة،

لكن الظاهر أنّ الموضوع له فيها أيضاً خاصّ لأنّ قيدها ليس هو الصلة بمعنى كلّي عام بل أفراده الخاصّة، فتدبّر جيّداً.

الأمر الثالث: هل المجاز بالطبع أو بالوضع؟

اشارة

إنّ صحّة استعمال الألفاظ في المعاني المجازيّة هل هي بالوضع أو بالطبع؟ (والمراد بالوضع ليس خصوصّيات المجازات لأنّها غير محصورة بل المراد نوع العلائق).

قال المحقّق الخراساني رحمه الله: «الأظهر إنّها بالطبع بشهادة الوجدان بحسن الاستعمال فيه إذا كان مناسباً ولو مع منع الواضع عنه وبإستهجان الاستعمال فيما لا يناسبه ولو مع ترخيصه ولا معنى لصحّته إلّاحسنه».

أقول: إنّ ما اختاره هو الحقّ الحقيق بالتصديق ويمكن أن يستدلّ له بوجوه ثلاثة أشار إلى بعضها في كلامه:

الوجه الأوّل: أنّ الوجدان شاهد على أنّ الناس لا ينتظرون إذن الواضع في المجازات بل يستعملون كلّ لفظ في ما شابه المعنى الحقيقي من جهة من الجهات بعد ما يجدون حسنه في ارتكازهم.

الوجه الثاني: أنّه لو فرض أنّ الواضع منع من بعض الاستعمالات المجازيّة مع كونه مقبولًا عند الطبع لا يعتني أحد به، بل يعدّ استعماله في مثل هذا صحيحاً عند أبناء المحاورة.

الوجه الثالث: تسانخ المجازات وتشابهها في جميع الألسنة واللغات، مع أنّه لو كان الاستعمال المجازي متوقّفاً على إذن الواضع كانت وحدة المجازات في الألسنة المختلفة بعيدة جدّاً لعدم إمكان التواطؤ من ناحية الواضعين عادة. خصوصاً إذا لم يكن الواضع فرداً خاصّاً كما هو الغالب.

تتميم في الحقيقة والمجاز

هل المجاز استعمال اللفظ في غير ما وضع له كما هو المعروف والمشهور في معنى المجاز، أو استعماله في نفس الموضوع له، وملاك المجازيّة أمر آخر؟ فيه أقوال ثلاثة:

انوار الأصول، ج 1، ص: 72

أحدها: ما ذهب إليه المشهور وهو أنّ المجاز استعمال اللفظ في غير ما وضع له بالعلاقة.

ثانيها: قول السكّاكي وهو التفصيل بين مجاز الاستعارة وغيرها، ففي الأوّل قال يكون المجاز استعمالًا للفظ في نفس الموضوع له لكنّه في مصداقه الادّعائي، فيكون المجاز حينئذ تصرّفاً في

أمر عقلي لا في الكلمة (والمراد من التصرّف في الأمر العقلي جعل ما ليس بفرد فرداً له ادّعاءً) وفي الثاني ذهب إلى مثل ما اختاره المشهور.

ثالثها: ما أفاده بعض المحقّقين ممّن قارب عصرنا وهو الشّيخ محمّد رضا الإصفهاني في كتابه الموسوم بوقاية الأذهان. فإنّه ذهب إلى كون المجاز استعمالًا للفظ في الموضوع له مطلقاً سواء كان من قبيل مجاز الاستعارة أو المرسل وسواء كان مفرداً أو مركّباً وسواء كان في الكنايات أو غيرها.

أقول: الظاهر أنّ هذا المحقّق رحمه الله قد وسّع مقالة السكّاكي وإن قال في تهذيب الاصول إنّهما مذهبان متباينان.

وكيف كان، فقد استدلّ السكّاكي على مختاره بأشعار من العرب نظير قوله: «قامت تظلّلني ومن عجب- شمس تظلّلني من الشمس» حيث إنّه لولا ما ذكره لما صحّ التعجّب كما لا يخفى.

ولكن أُورد عليه بأمرين:

الأوّل: أنّه إذا كان استعمال اللفظ الكلّي نحو «أسد» في خصوص أحد مصاديقه الحقيقة بقيد الخصوصيّة استعمالًا مجازيّاً في غير الموضوع له (لأنّه لم يوضع لخصوص ذلك المصداق بل وضع للماهيّة اللابشرط معرّاة عن جميع القيود الفرديّة) فليكن استعماله في خصوص الفرد الادّعائي أيضاً مجازاً بالأولويّة القطعيّة.

الثاني: أنّ كلامه لا يصدق في الأعلام الشخصيّة مثل «حاتم» في قولك «زيد حاتم» لأنّ العلم الشخصي جزئي حقيقي لا يمكن ادّعاء مصداق آخر له، وحينئذٍ يكون استعمال لفظ «حاتم» في جملة «زيد حاتم» استعمالًا للفظ في غير الموضوع، له وهو كما ترى.

أقول: يمكن الجواب عن كلّ واحد منهما، أمّا عن الأوّل فبأنّ ظاهر كلام السكّاكي أنّ مراده من استعمال اللفظ في المصداق الادّعائي تطبيق مفهوم كلّي نحو «الأسد» على فرده الادّعائي نظير تطبيق الرجل الكلّي على بعض أفراده الحقيقيّة في قولك «هذا رجل» فهو من

باب تطبيق انوار الأصول، ج 1، ص: 73

كلّي الموضوع له اللفظ على فرد من أفراده لا من باب استعمال اللفظ الموضوع في خصوص ذلك الفرد حتّى يقاس باستعمال اللفظ الكلّي في خصوص أحد مصاديقه الحقيقيّة ويكون مجازاً.

وأمّا عن الثاني فبأنّ المدّعى في الأعلام الشخصيّة هو العينية لا التشبيه والاستعارة فيدّعى مثلًا إنّ زيداً في قولك «زيد حاتم» عين الحاتم الطائي المعروف فيكون من باب تطبيق معنى جزئي للموضوع له اللفظ على مصداق جزئي ادّعائي فاستعمل اللفظ حينئذ في معناه الموضوع له (ولكن بضميمة ادّعاء العينية) لا في غير الموضوع له حتّى يكون مجازاً.

أمّا المسلك الثالث فتوضيحه: إنّ الإرادة في استعمال الألفاظ على قسمين: إرادة استعماليّة وإرادة جدّية، وهما تارةً تتّحدان واخرى تفترقان كما في الأوامر الامتحانيّة فإنّ الإرادة فيها إرادة استعماليّة فقط لم تتعلّق بمتعلّق الأمر جدّاً، ومن موارد افتراقهما المجازات فإنّ الإرادة الاستعماليّة فيها تعلّقت على المعنى الحقيقي الموضوع له اللفظ وأمّا الإرادة الجدّية فتعلّقت على المعنى المجازي، وكذلك في الكنايات نحو «زيد كثير الرماد» فاستعمل لفظ «زيد» و «كثير الرماد» في معناهما الموضوع له اللفظ وتعلّق به الإرادة الاستعماليّة، وأمّا الإرادة الجدّيّة فتعلّقت ببيان سخاوة زيد، وهذا تعبير آخر من أنّ المجاز في أمر عقلي وإنّ التطبيق على فرد ادّعائي.

أقول: إنّ هذا هو المختار والدليل عليه أوّلًا: أنّه مقتضى البداعة واللطافة المجازيّة فإنّ البداعة وجمال البيان يتحقّق فيما إذا استعمل اللفظ في معناه الحقيقي كما في قوله: «هذا الذي تعرف البطحاء وطأته- والبيت يعرفه والحلّ والحرم» فإنّ حسن الكلام في هذا البيت مبني على كون نفس البيت أو الحرم عارفاً بمن هو المقصود فيه لا خصوص أهل البيت وأهل الحرم أو ربّ البيت وربّ

الحرم، وهذا لا يكون إلّابعد ادّعاء وجود قوّة مدركة عاقلة للبيت والحرم وكذا في سائر المجازات.

وثانياً: أنّه أيضاً مقتضى القرابة الشديدة بين المجاز والكناية، فإذا كان استعمال اللفظ في الكنايات في نفس الموضوع له فليكن كذلك في المجازات، ولا إشكال ولا خلاف في أنّ اللفظ في الكنايات يستعمل في الموضوع له لأنّ الكناية عبارة عن ذكر اللازم وإرادة الملزوم (أو بالعكس)، وتكون الإرادة الاستعماليّة فيها غير الإرادة الجدّية، ففي مثال «زيد كثير الرماد»

انوار الأصول، ج 1، ص: 74

تعلّقت الإرادة الاستعماليّة بأنّ الرماد كثير في دار زيد، ولكن الإرادة الجدّيّة تعلّقت بسخاوة زيد، وإذا كان الأمر فيها كذلك وكان المجاز والكناية في غاية القرابة بل يمكن ادخالهما تحت عنوان واحد (وهو استعمال اللفظ وإرادة غير الموضوع له في الإرادة الجدّية) فلا منع ولا بأس في أن يكون الأمر في المجازات أيضاً كذلك.

وثالثاً: إنّ الوجدان حاكم بأنّ ما استدلّ به السكّاكي في خصوص مجاز الاستعارة جارٍ في المجاز المرسل أيضاً (وهو ما تكون العلاقة فيه غير علاقة التشبيه من سائر العلاقات) فإنّ اللفظ فيه أيضاً لم يستعمل إلّافيما وضع له، فيدعى في مثل قوله «جرى الميزاب» أنّ الميزاب هو نفس المطر، وفي إطلاق الميّت على من يكون مشرفاً على الموت يدعى كونه ميّتاً بالفعل، وفي إطلاق القرية على أهلها في قوله تعالى: «فاسأل القرية» ادّعى أنّ القرية من مصاديق أهل القرية وإنّها أيضاً قابلة للسؤال عنها، مع أنّ العلاقة في هذه الموارد ليست من علاقة التشبيه، ومع إنّا نشاهد فيها نفس المبالغة التي نشاهدها فيما تمسّك به من بعض الأبيات كما لا يخفى.

وبالجملة، لطف المجاز وحسنه وبلاغته لا تتمّ إلّاعلى هذا القول كما هو ظاهر للخبير بفنون الكلام

وبدائعه «1». هذا تمام الكلام في الأمر الثالث.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمه الله عنون في ذيل هذا الأمر بحثاً تحت عنوان استعمال اللفظ وإرادة النوع أو المثل أو الصنف، منه وهذا البحث قليل الفائدة جدّاً علماً وعملًا فالأولى تركه وصرف النظر عنه.

انوار الأصول، ج 1، ص: 75

الأمر الرابع: الدلالة تابعة للارادة أو لا؟

هل الإرادة دخيلة فيما وضع له اللفظ، أو لا؟ ومآله إلى أنّ مثل لفظ «زيد» هل وضع لمجرّد المعنى فقط، أو وضع للمعنى المقيّد بكونه مراداً؟ ذهب بعضهم إلى عدمه وأنّ الموضوع له هو المعنى من حيث هو هو، كما يستفاد هذا من تهذيب الاصول أيضاً. ولكن المحقّق الحائري رحمه الله في درره ذهب إلى الثاني وأنّ الإرادة داخلة في الموضوع له وتبعه بعض أعاظم العصر.

واستدلّ المحقّق الخراساني رحمه الله للعدم بامور ثلاثة:

الأمر الأوّل: ما مرّ منه من أنّ قصد المعنى على أنحائه من مقوّمات الاستعمال ويكون خارجاً عن الموضوع له والمستعمل فيه، ولا يخفى أنّ إرادة اللافظ في المقام ليست شيئاً وراء لحاظ المعنى.

الأمر الثاني: إنّه يستلزم التجريد ولزوم التصرّف في عامّة الألفاظ لأنّ المتّصف بالقيام في «زيد قائم»، مثلًا هو زيد الخارجي لا زيد المراد الذهني، والمتّصف بالثقل في «الحجر ثقيل» إنّما هو الحجر الخارجي لا الذهني، فلابدّ من تصرّف في معنى زيد والحجر وتجريدهما عن قيد الإرادة حتّى يصحّ حمل القيام والثقل وإسنادهما إليهما.

الأمر الثالث: إنّه يلزم كون وضع عامّة الألفاظ عامّاً والموضوع له خاصّاً، لأنّ إرادة اللافظ لو كانت جزء الموضوع له أو كان قيده كان الموضوع له جزئيّاً ذهنيّاً وخاصّاً لأنّه لا مجال لتوهّم أخذ مفهوم الإرادة فيه بل المدّعى أخذ مصاديقها.

أقول: الإنصاف أنّ هذه المسألة ترجع بحسب الحقيقة إلى المبنى الذي اختاروه في

البحث عن حقيقة الوضع، فمن ذهب هناك إلى أنّ حقيقة الوضع التعهّد والالتزام فيمكن له القول بكون الإرادة دخيلة في الموضوع له، لأنّ التعهّد ملازم للارادة، ومن ذهب إلى أنّ حقيقة الوضع تخصيص اللفظ بإزاء المعنى كما هو المختار فلازم كلامه القول بعدم أخذها فيه.

ولكن قد يقال: إنّ هنا طريقاً آخر لإثبات كون الإرادة دخيلة في الموضوع له، وهو أنّ انوار الأصول، ج 1، ص: 76

العلّة الغائيّة من وضع الألفاظ هو انتقال المرادات، والعلّة تضيّق المعلول وتحدّده ويكون هذا التضييق من قبيل القضيّة الحينيّة لا الشرطيّة، فيكون قيد «حين الإرادة» دخيلًا في معنى اللفظ، أي اللفظ وضع للمعنى حين كون مراداً.

واستشكل عليه في التهذيب بأنّا لا نسلّم الصغرى، وهي أنّ غاية وضع الألفاظ انتقال المرادات، لأنّ الغاية في الوضع هو بيان الواقعيات الخارجيّة، وإرادة المعنى تكون مرآة للخارج وآلة للنيل إلى الواقع «1».

أقول: التحقيق أنّ النزاع في المسألة أشبه شي ء بالنزاع اللّفظي لأنّه إن كان المراد من دخالة الإرادة دخالتها في الموضوع له فلا يقول بها أحد حتّى تصل النوبة إلى البحث والنزاع، وإن كان المراد أنّ المقصود من وضع الألفاظ هو تبيين المرادات، والإرادة دخيلة في غاية الوضع ولو مرآة إلى الخارج، فهذا ممّا لا مجال لانكاره.

إن قلت: إنّ مقتضى تضييق المعلول بالعلّة دخالة الإرادة في الموضوع له. قلنا: العلّة المضيّقة للمعلول ليست هي العلّة الغائيّة بل هي العلّة التامّة ... فيوجد المعلول بتأثير علّته التامّة، وأمّا العلّة الغائيّة فهي من المعدّات، ولهذا لا يوجب تضييق المعلول في الكثير من الموارد، نظير ما إذا قصدت المسجد والدخول فيه للصّلاة ولكن بعد الدخول تلوت القرآن أو استمعت إلى الخطيب مثلًا، كما أنّه كذلك في الصنائع المخترعة،

فتكون المعلولات المخترعات فيها أعمّ من عللها الغائيّة الابتدائيّة لمخترعيها فتترتّب عليها آثار اخرى غير ما قصدها المخترعون كما هو ظاهر على الخبير، كما أنّه كذلك في كثير من المباحث الاصوليّة، فتكون الغاية فيها تبيين الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة ولكن تترتّب عليها آثار اخرى في الألفاظ الواردة في الوصايا والأوقاف الخاصّة والعامّة وغيرها.

بقي هنا شي ء:

وهو بيان المراد من الكلام المنقول عن الشّيخ الرئيس والمحقّق الطوسي رحمه الله من «أنّ الدلالة تابعة للإرادة».

انوار الأصول، ج 1، ص: 77

وقال المحقّق الخراساني رحمه الله في توضيح كلامهما: إنّ الدلالة على قسمين: تصوّريّة وتصديقيّة، فإنّه تارةً يكون إطلاق اللفظ موجباً للانتقال إلى المعنى اللغوي، واخرى للانتقال إلى مراد المتكلّم، ثمّ قال: الدلالة التصديقيّة تابعة للإرادة، فلا ينتقل السامع إلى المراد إذا صدر اللفظ من المتكلّم سهواً كما إذا صدر من وقوع حجر على حجر، فدلالة اللفظ على المعنى التصديقي تابعة للإرادة تبعيّة مقام الإثبات للثبوت. ثمّ قال: وعليه يحمل كلام العلمين.

أقول: أوّلًا: كيف يمكن أن تتوقّف دلالة اللفظ على مراد المتكلّم على كشف إرادة المتكلّم، مع أنّه لا حاجة إلى اللفظ بعد كشف الإرادة فإنّه تحصيل للحاصل؟

ثانياً: إنّا نحتاج في الدلالة التصديقيّة إلى امور أربع، ومع تحقّقها تتحقّق الدلالة التصديقيّة، ولا حاجة إلى كشف إرادة المتكلّم بالخصوص:

أوّلها: كون المتكلّم في مقام البيان.

ثانيها: عدم نصب القرينة على الخلاف.

ثالثها: كون المتكلّم عاقلًا شاعراً.

رابعها: ثبوت الأصل العقلائي، وهو تطابق الإرادة الاستعماليّة مع الإرادة الجدّية، ومع اجتماع الثلاثة الاولى تتحقّق الدلالة التصديقيّة الاستعماليّة، وبعد انضمام الأمر الرابع إليها تتحقّق الدلالة التصديقية الجدّية، وعليه فلا حاجة إلى كشف كون المتكلّم مريداً.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ مرادهما من كون الدلالة تابعة للإرادة ليس شيئاً وراء ذلك،

والمراد أنّ دلالة اللفظ على مراد المتكلّم تفصيلًا فرع العلم الإجمالي بكونه في مقام بيان مراده، فالدلالة تتبع الإرادة بهذا المعنى، ولكن هذا يتفاوت مع ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله كما لا يخفى، وعلى كلّ حال فهو أمر معقول.

انوار الأصول، ج 1، ص: 79

الأمر الخامس: في وضع المركّبات والهيئات

والظاهر أنّ المراد منه إنّه هل للمركّبات وضع خاصّ مضافاً إلى وضع مفرداتها وهيئاتها، أو لا؟ مثلًا في جملة «زيد قائم» مضافاً إلى وضع كلّ واحد من «زيد» و «قائم» لمعنى خاصّ، ومضافاً إلى وضع هيئة جملة المبتدأ والخبر لمعنى إخباري، هل وضعت هذه الجملة بمجموع موادّها الخاصّة وهيئتها الخاصّة لمعنى إخباري خاصّ، أو لا؟

فإن كان المقصود من العنوان هذا المعنى فلم يعرف له قائل، مضافاً إلى ورود إشكالات كثيرة عليه.

الأوّل: إنّه يستلزم أوضاعاً غير متناهية في المركّبات لأنّه لا حصر ولا حدّ للجمل التركيبية، ففي الجملة المركّبة من المبتدأ والخبر فقط يمكن تصوير مليون هيئة بتصوير الف مبتدأ تارةً والف خبر اخرى، والعدد الحاصل من ضرب الألف في الألف هو المليون!

الثاني: أنّه يستلزم اللغويّة لأنّ وضعها بموادّها وهيئاتها وافٍ بتمام المقصود منها، فلا حاجة إلى وضع آخر لها بجملتها كما لا يخفى.

الثالث: أنّه لا سبيل لنا إلى معرفة المعاني الموضوع لها في هذا القسم من الوضع ولا مرجع لنا حتّى نرجع إليه في سبيل تحصيلها كما نرجع لمعرفة معاني هيئات المفردات إلى علم الصرف، ولمعرفة معاني مواد المفردات إلى كتب اللّغة، ولمعرفة معاني هيئات الجمل إلى علم النحو.

الرابع: أنّه خلاف الوجدان، حيث إنّا نكتفي في تشكيل قوالب جديدة من الجمل بخصوص وضع المفردات والهيئات ولا ننتظر وضعاً جديداً لهذا التركيب الجديد مضافاً إلى وضع مفرداته وهيئاته.

الخامس: ما أفاده في المحاضرات

وغيره وهو أنّ هذا الوضع يستلزم منه انتقال معنى الجملة

انوار الأصول، ج 1، ص: 80

إلى الذهن مرّتين: مرّة بملاحظة وضع مفرداتها ومرّة بملاحظة وضع نفسها «1».

فتلخّص ممّا ذكرنا إنّه لا وضع لآحاد الجمل المركّبة بخصوصها ولا يتصوّر له صورة معقولة بل لا ينبغي التفوّه به.

نعم يمكن تصويره على نهج قضيّة الموجبة الجزئيّة في خصوص الأمثال المركّبة المستعملة في كلّ لغة، فيقال إنّ جملة «أراك تقدّم رجلًا وتأخّر اخرى» مثلًا وضعت من حيث المجموع لبيان التحيّر والتردّد، وهكذا غيرها من سائر الأمثال التركيبية وإن كان هذا المعنى أيضاً مخالفاً للوجدان، فإنّها كنايات متّخذة من وضع مفرداتها مع وضع هيئاتها.

ثمّ إنّ حاصل ما يمكن أن يقال في وضع الهيئات أنّ لنا أربع أنحاء من الهيئة: أوّلها: هيئات المفردات نحو هيئات الصفات مثل هيئة اسم الفاعل وهيئة اسم المفعول.

ثانيها: هيئات النسب الناقصة كهيئة المضاف والمضاف إليه.

ثالثها: هيئات النسب التامّة كهيئة جملة «زيد قائم».

رابعها: هيئات وضعت لخصوصّيات النسب كهيئة «تقديم ما حقّه التأخير» مثلًا التي تدلّ على الحصر كما هو المعروف.

والجامع بين هذه الأنحاء أنّ الوضع في جميعها نوعي، والمقصود من الوضع النوعي أنّ المعنى فيها لا يتبدّل ولا يتغيّر بتبدّل المفردات والمواد الموجودة فيها، ولا يدور مدار مادّة خاصّة، بخلاف الوضع في المفردات فإنّه فيها شخصي يدور المعنى فيها مدار خصوصيّة المواد، ومع تغيّرها يتغيّر المعنى أيضاً، ولا ينافي ذلك كون الموضوع فيها كلّياً، ولا ينقضي تعجّبي عن المحاضرات حيث أتعب نفسه الزكيّة في بيان المقصود من الوضع النوعي والشخصي مع أنّه ظاهر لا غبار عليه.

ثمّ إنّه قد يقوم بعض الكلمات المفردة مقام الهيئة في دلالتها على النسبة في بعض اللغات، فإنّ كلمة «است» في اللّغة الفارسيّة تدلّ على

النسبة في الجمل التامّة مع أنّها في اللّغة العربيّة تفهم من هيئة الجملة، ولا مانع من ذلك كما لا يخفى.

الأمر السادس: في علائم الحقيقة والمجاز

اشارة

ذكروا لتشخيص الحقيقة عن المجاز علائم يحتاج الفقيه إليها في معرفة ظواهر الألفاظ، وهذا البحث من أهمّ مباحث الألفاظ وأكثرها فائدة وأتمّها آثاراً في الفقه والتفسير والحديث وغيرها ومن المباحث التي تسمّى بالمباحث الرئيسيّة، فإنّها المدار في فهم معاني الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة، وهي امور:

1- التبادر:

وقد قيل في تعريفه إنّه انسباق المعنى إلى الذهن من حاق اللفظ، ويراد من حاق اللفظ ما يقابل الانسباق الحاصل من وجود القرينة.

وقيل أيضاً إنّه خطور المعنى في الذهن من حاق اللفظ. كما قيل: إنّه انفهام المعنى، لكن العبارات شتّى والمقصود واحد.

وقبل الشروع في البحث لا بدّ من ذكر مقدّمة، وهي أنّ التبادر علامة يعوّل عليها كلّ مستعلم في اللّغة صغيراً كان أو كبيراً، بل أهل اللّغة أيضاً في كثير من الموارد حتّى الصبي عند تعلّمه من امّه وأبيه، فإنّ الصبي إذا رأى انسباق معنى إلى أذهان والديه ومن هو أكبر منه سنّاً فيما إذا أطلق لفظ يستنتج أنّ هذا اللفظ وضع لذلك المعنى، مثلًا إذا سمع لفظ الماء من واحد منهم ثمّ رأى إتيانه هذه المادّة السيّالة وتكرّر هذا منهم يعلم الصبي أنّ معنى الماء ليس إلّاهذا، وعلى هذا الطريق يعتمد في فهم معاني الألفاظ غالباً، بل يكون هذا هو السبيل للذين يتعلّمون لغة جديدة بالمعاشرة مع أهلها، فالتبادر من أهمّ علائم الحقيقة والمجاز وله مكانة عظيمة بينها، فإنّه المدرك الوحيد في الغالب لفهم اللغات من أهلها.

إذا عرفت هذا.

فنقول: إنّ هيهنا اموراً تنبغي الإشارة إليها:

انوار الأصول، ج 1، ص: 82

الأمر الأوّل في منشأ دلالة التبادر على الوضع.

وهو أمر واضح، لأنّ منشأ ظهور لفظ في معنى ومنشأ تبادر ذلك المعنى من ذلك اللفظ لا يخلو من أحد الأمرين: إمّا الوضع

أو القرينة، فإذا انتفت القرينة وعلم أنّ المعنى فهم من حاق اللفظ كما هو المفروض في المقام يستكشف منه وضع ذلك اللفظ لذلك المعنى.

الأمر الثاني: فيما قد يقال من أنّ كون التبادر علامة للحقيقة يستلزم الدور المحال، لأنّ التبادر يتوقّف على العلم بالوضع، والمفروض أنّ العلم بالوضع أيضاً يتوقّف على التبادر وهذا دور واضح.

واجيب عن هذا بوجوه عديدة:

أوّلها: قضيّة الإجمال والتفصيل. وتوضيحها: إنّ العلم الذي يتوقّف عليه التبادر هو العلم الإجمالي الارتكازي، والعلم المتوقّف على التبادر هو العلم التفصيلي، وبعبارة اخرى: يوجد في حاق ذهن الإنسان ومرتكز أهل اللّغة معنى إجمالي يتبدّل إلى العلم التفصيلي بالتبادر.

ثمّ إنّ هذه القضيّة (الإجمال والتفصيل) قضيّة ينحلّ بها كثير من المعضلات، منها إشكال الدور المعروف الذي أُورد على الشكل الأوّل في المنطق من ناحية منكري الاستدلال والبرهان، وهو أنّه (القياس والبرهان) لا يوجب لنا علماً جديداً لأنّ جميع اشكاله ترجع إلى الشكل الأوّل، وهو دوري، لأنّ من شرائطه كلّية الكبرى، وهي تتوقّف على شمول الكبرى للنتيجة وكونها معلومة ضمن الكبرى، والحال أنّ العلم بالنتيجة أيضاً يتوقّف على كلّية الكبرى، وهذا دور ظاهر.

وقد أجاب عنه الشّيخ الرئيس بعين ما ذكرناه في التبادر وبيانه: إنّ كلّية الكبرى تتوقّف على العلم الإجمالي بالنتيجة، وأمّا ما يتوقّف على القياس فهو عبارة عن العلم التفصيلي بالنتيجة.

ثانيها: سلّمنا، ولكنّه مختصّ بما إذا إتّحد العالم والمستعلم ولا يتصوّر بالنسبة إلى الجاهل باللغة المستعلم من التبادر عند أهلها، لأنّه يصير عالماً بالوضع بتبادر المعنى من اللفظ إلى ذهن العالم بالوضع، فعلمه بالوضع يتوقّف على التبادر إلى ذهن العالم، وأمّا التبادر إلى ذهن العالم فلا يتوقّف على علم الجاهل بل يتوقّف على علم نفسه، وقد عرفت أنّ موارد

التبادر في الغالب هو من هذا القبيل أي تعدّد العالم والمستعلم.

انوار الأصول، ج 1، ص: 83

ثالثها: ما حكي عن بعض المحقّقين، وحاصله إنّه لا مانع من كون كلا العلمين (المتوقّف على التبادر والمتوقّف عليه التبادر) تفصيلياً، ولا دور في البين، لأنّهما فردان متشخّصان من العلم لحصولهما في زمانين، ويكفي في ارتفاع الدور تغاير العلمين في التشخّص «1».

ولنعم ما اتجيب عنه من أنّه مع وجود العلم التفصيلي بالوضع قبل التبادر يكون تحصيل علم تفصيلي آخر تحصيلًا للحاصل، إلّاأن يعرض عليه النسيان ومع عروض النسيان يصير العلم مجملًا ومرتكزاً ونحتاج في تبديله بالعلم التفصيلي إلى التبادر.

الأمر الثالث: أنّه يفهم استناد التبادر إلى حاق اللفظ من كثرة استعمال اللفظ في المعنى وكثرة تبادره منه (وإن لم يبلغ حدّ الاطّراد) حتّى يعلم إنّه لا تعتمد الدلالة على القرينة، ولا يمكن الاعتماد على أصل عدم القرينة لكونه من الاصول العقلائيّة التي تجري لتعيين مراد المتكلّم بعد العلم بالوضع وبعد العلم بالمعنى الحقيقي والمجازي، لا عند الشكّ في الموضوع له.

الأمر الرابع: قال المحقّق العراقي رحمه الله في المقام ما حاصله: إنّ هذا البحث إنّما يكون منتجاً بناءً على كون مدار حجّية اللفظ على أصالة الحقيقة أو أصالة عدم القرينة تعبّداً وأنّ اللفظ حجّة في المعنى الحقيقي ولو لم ينعقد للفظ ظهور فيه، لأصالة الحقيقة أو لأصالة عدم القرينة، إذ حينئذٍ نحتاج إلى معرفة الموضوع له والمعنى الحقيقي بالتبادر وأمثاله، وأمّا إذا قلنا أنّ اللفظ حجّة في المعنى الظاهر ولو كان ظهوره من جهة القرينة الحافّة به كما هو التحقيق فلا نحتاج إلى معرفة المعنى الموضوع له والحقيقي بالتبادر وأمثاله، ولا فائدة لهذا البحث «2».

أقول: يمكن الجواب عنه بأنّه كثيراً ما يكون منشأ

الظهور العرفي هو الوضع. أي ينعقد عند العرف للفظ ظهور في معناه الحقيقي، فإنّا وإن قلنا بكون مدار حجّية اللفظ هو أصالة الظهور لكن حيث إنّ سبب الظهور هو العلم بالوضع فنحتاج في معرفته إلى التبادر وأمثاله، وبعبارة اخرى: الظهور العرفي لا يكون بلا سبب بل إمّا أن ينشأ من الوضع أو من القرائن، ومعرفة الموضوع له أحد أسباب الظهور، فإذا علم الفقيه بالموضوع له يحصل له العلم بما هو الظاهر عند العرف.

الأمر الخامس: «إنّ التبادر- كما ذكره بعض الأعلام- يثبت كون المعنى حقيقيّاً للفظ وكونه انوار الأصول، ج 1، ص: 84

موضوعاً له في زمان تبادره منه، وأمّا وضع اللفظ لذلك المعنى في زمان نزول الوحي فلا يثبت بالتبادر المتأخّر، فلابدّ في إثبات ذلك من التشبّث بالاستصحاب القهقري الثابت حجّيته في خصوص باب الظهورات بقيام سيرة العقلاء وبناء أهل المحاورة عليه، فإنّهم يتمسّكون بذلك في موارد الحاجة ما لم تقم حجّة أقوى على خلافه، بل على ذلك الأصل يدور استنباط الأحكام الشرعيّة من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة، ضرورة إنّه لولا اعتباره لا يثبت لنا أنّ هذه الألفاظ كانت ظاهرة في تلك الأزمنة في المعاني التي هي ظاهرة فيها في زماننا» وهكذا الكلام في استنباط المسائل من جميع الكتب العمليّة أو التاريخية أو الأشعار أو أسناد الأوقاف والوصايا.

هذا كلّه في العلامة الاولى للحقيقة والمجاز، وهي التبادر.

2- عدم صحّة السلب وصحّته (صحّة الحمل وعدم صحّته):

والمراد منهما أنّ صحّة سلب لفظ بما له من المعنى من لفظ آخر بما له من المعنى تكون علامة لكونه مجازاً فيه، وبالعكس فإن صحّة حمل لفظ بما له من المعنى على لفظ آخر بما له من المعنى تكون علامة لكونه حقيقة فيه، فإذا قلنا «الغيث هو المطر» مثلًا واستحسنه

الطبع (إذا كان معنى المطر معلوماً لنا وواضحاً ولم يكن معنى الغيث معلوماً إلّاإجمالًا) فنحكم حينئذٍ أنّ الغيث وضع لمعنى المطر وأنّ معناهما واحد، كما أنّه إذا قلنا «الرجل الشجاع ليس بأسد حقيقة» واستحسنه الطبع أيضاً، نعلم أنّ استعمال الرجل الشجاع في الأسد يكون مجازاً.

ولكن المحقّق الخراساني رحمه الله وغيره ممّن تبعه ذكروا هنا تفصيلًا حاصله: إنّ الحمل على قسمين حمل أولى ذاتي وحمل شائع صناعي، والملاك في الحمل الاولى هو اتّحاد المفهوم فقط، وأمّا الملاك في الحمل الشائع فهو الاتّحاد في الوجود والافتراق في المفهوم (ويسمّى شائعاً لكونه هو الشائع بين الناس، وصناعياً لكونه هو المستعمل في الصناعات) ثمّ إنّ صحّة الحمل الاولى الذاتي يدلّ على كون الموضوع له في الموضوع والمحمول واحداً، وأمّا الصناعي فيستفاد منه كون الموضوع أحد مصاديق المحمول الحقيقية في قبال المصاديق المجازيّة، ولا يدلّ على الوضع، فالعلامة على المعنى الموضوع له هي الحمل الاولي لا الحمل الشائع، بل إنّه علامة على كون الموضوع مصداقاً حقيقيّاً للموضوع له في قبال المصداق المجازي.

انوار الأصول، ج 1، ص: 85

أقول: إنّ كلامه جيّد مقبول عندنا، ولكن هيهنا امور تجب الإشارة إليها لتتميم هذا البحث:

الأمر الأوّل: ما هو السرّ في كون صحّة الحمل علامة للمعنى الحقيقي؟ وجوابه ما مرّ نظيره في التبادر (من أنّ صحّة الحمل تنشأ إمّا من القرينة أو من ناحية الوضع وحيث إنّ المفروض عدم وجود القرينة يعلم أنّها ناشئة من الوضع) فصحّة سلب معنى عن لفظ علامة عدم وضعه له وإلّا لم يكن السلب صحيحاً.

الأمر الثاني: أنّ إشكال الدور الذي مرّ في مبحث التبادر يأتي هنا أيضاً، وبيانه: إنّ صحّة الحمل يتوقّف على العلم بالموضوع له في موضوع القضيّة ومحمولها (لأنّ

صحّة الحمل فرع تصوّر الموضوع والمحمول وهو فرع العلم بهما) بينما العلم بالوضع أيضاً يتوقّف على صحّة الحمل وهذا دور واضح.

ولكن يأتي هنا أيضاً الجوابان المذكوران في التبادر:

أحدهما: إن علمنا بالوضع يكون بالإجمال والارتكاز، وأمّا العلم المتوقّف على صحّة الحمل علم تفصيلي، فالمتوقّف غير المتوقّف عليه بالإجمال والتفصيل.

ثانيهما: سلّمنا، ولكنّه يختصّ بما إذا كان المستعلم من أهل اللسان، أمّا إذا كان أجنبياً عنه فإنّه يحصل له العلم بالوضع بصحّة الحمل في استعمالات أهل اللسان فلا دور.

الأمر الثالث: أنّ لبعض الأعلام هنا اشكالًا وحاصله: إنّ صحّة الحمل وصحّة السلب يكونان مسبوقين بالتبادر، فالعلامة في الحقيقة هو التبادر، وتوضيحه: إذا قلنا «الغيث هو المطر» فحيث إنّ الحمل هذا يحتاج إلى تصوّر «الغيث» و «المطر» وتصوّرهما يحتاج إلى العلم بمعناهما واتّحادهما في الخارج، والعلم هذا لا طريق لنا إليه إلّاالتبادر، فنحن عالمون بالوضع بالتبادر قبل تحقّق الحمل، فالعلامة منحصرة في التبادر هذا كلّه إذا كان المستعلم من أهل اللسان، أي كان المراد من صحّة الحمل والسلب صحّتهما عند نفسه، وأمّا إذا كان المستعلم من غيره وكان جاهلًا باللسان وأراد أن يصل إلى الوضع من طريق استعمال أهل اللسان، فإنّ هذا الحمل بالنسبة إليه يرجع إلى تنصيص أهل اللّغة، والتنصيص غير صحّة الحمل، فتلخّص أنّ صحّة الحمل إمّا أن يرجع إلى التبادر أو إلى تنصيص أهل اللّغة، وليست هي نفسها من علائم الحقيقة والمجاز «1».

انوار الأصول، ج 1، ص: 86

أقول: يمكن دفع هذا الإشكال بأنّه يكفي في صحّة الحمل قضيّة الإجمال والتفصيل، فما يتوقّف عليه صحّة الحمل هو العلم الإجمالي والارتكازي بالوضع، فلا حاجة إلى التبادر لمعرفة الوضع تفصيلًا. هذا مضافاً إلى أنّ الحمل هنا ليس حملًا خارجيّاً لفظيّاً بل

المراد منه تقريب المحمول إلى الموضوع في الذهن، فقبل تحقيق الحمل في التلفّظ والخارج نقرّب «الغيث» مثلًا بما له من المعنى الارتكازي إلى «المطر» بما له من المعنى التفصيلي، ونمارس حمله عليه حتّى نرى أيستحسنه الطبع أم لا؟ من دون أن يكون تبادر في البين، فإن استحسنه الطبع ورأى تلائم المعنيين وتناسبهما فيعلم أنّ الموضوع له فيهما واحد.

هذا كلّه في الحمل الاولى الذاتي، وكذلك في الحمل الشائع (حمل الكلّي على المصداق) فنحتاج في معرفة المصداق الحقيقي أيضاً إلى التقريب الذهني.

وإن شئت قلت: إنّ التبادر هو الرجوع إلى الارتكاز من طريق التصوّر، وأمّا صحّة الحمل فهي الرجوع إلى الارتكاز من طريق أخذ الجملة والتصديق بمفادها فأحد الطريقين في عرض الآخر، ولا يتوقّف أحدهما على الآخر.

الأمر الرابع: في بيان الإشكال الذي ذكره بعض الأعلام في المسألة، وحاصله: إنّ الحمل الذاتي لا يكشف إلّاعن اتّحاد الموضوع والمحمول ذاتاً ومغايرتهما اعتباراً، ولا نظر في ذلك إلى حال الاستعمال وإنّه حقيقي أو مجازي، وبكلمة اخرى: إنّ صحّة الحمل وعدم صحّته يرجعان إلى عالم المعنى والمدلول، فمع اتّحاد المفهومين ذاتاً يصحّ الحمل وإلّا فلا، وأمّا الحقيقة والمجاز فهما يرجعان إلى عالم اللفظ والدالّ، وبين الأمرين مسافة بعيدة، نعم لو فرض في القضيّة الحمليّة أنّ المعنى قد استفيد من نفس اللفظ من دون قرينة كان ذلك علامة الحقيقة، إلّاأنّه مستند إلى التبادر لا إلى صحّة الحمل، نعم بناءً على أنّ الأصل في كلّ استعمال أن يكون حقيقيّاً كما نسب إلى السيّد المرتضى رحمه الله يمكن إثبات الحقيقة، إلّاأنّه لم يثبت في نفسه، مضافاً إلى أنّه لو ثبت فهو أجنبي عن صحّة الحمل وعدمها «1».

أقول: قد مرّ أنّ صحّة الحمل والاستعمال إمّا أن

تكون حاصلة من القرينة أو تنشأ من حاقّ اللفظ والوضع، فإذا لم تكن قرينة في البين وكانت القضيّة عارية من أيّة قرينة نعلم بأنّ انوار الأصول، ج 1، ص: 87

صحّة الاستعمال نشأت من الوضع ومن حاقّ اللفظ (والعلم بكونه من حاق اللفظ يحصل من تكراره في مواضع متعدّدة وإن لم يبلغ حدّ الاطّراد) فلا يرد على هذه العلامة ما ذكره فتدبّر جيّداً.

الأمر الخامس: هناك فرق بين المراد من الحمل الاولى والحمل الشائع في ما نحن فيه، وبين ما يكون مصطلحاً في المعقول، لأنّ الحمل الاولى في المعقول ملاكه الاتّحاد الماهوي، سواء اتّحدا في المفهوم أيضاً ولم يتّحدا، ولكن المراد منه في ما نحن فيه حمل أحد المترادفين على الآخر، فملاكه الاتّحاد مفهوماً من دون نظر إلى الماهية والاتّحاد فيها، لأنّ عالم اللّغة عالم المفاهيم والألفاظ لا الحقائق والماهيات، نعم الاتّحاد المفهومي ملازم للإتّحاد الماهوي لا العكس كما لا يخفى. وكذلك الحمل الشائع، لأنّه في المعقول هو اتّحاد المفهومين في الوجود مع عدم ملاحظة الاتّحاد في الماهية، ولكنّه هنا بمعنى حمل الكلّي على المصداق، وملاكه كون الموضوع أحد مصاديق المحمول.

نعم، الفرد مع النظر إلى تشخّصاته الفرديّة يفترق عن الكلّي في الماهية، فيكون الفرد متّحداً للكلّي في الوجود ومفترقاً عنه في الماهية. لكن الحمل الشائع في المعقول يكون أعمّ ممّا ذكر، لأنّه أعمّ من حمل الكلّي على أفراده كما في قولنا «الإنسان كاتب» حيث لا إشكال في أنّه ليس من قبيل حمل الكلّي على أفراده.

هذا كلّه في العلامة الثانيّة من علائم الحقيقة والمجاز.

3- الاطّراد وعدمه:

المعروف أنّ الّاطراد علامة للحقيقة وعدمه علامة للمجاز، واستشكل فيه المحقّق الخراساني رحمه الله بما حاصله: إنّ ما ذكروه من كون الّاطراد علامة للحقيقة وعدمه

علامة للمجاز لعلّه بملاحظة نوع العلائق المذكورة في المجازات حيث إنّه لا يطرد صحّة استعمال اللفظ في نوع العلائق وإلّا ففي خصوص العلاقة التي يصحّ معها الاستعمال يكون المجاز مطرداً كالحقيقة، مثلًا استعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع مطرد، ولكن في نوع الحيوانات المشابهة له ليس مطرداً، فلا يستعمل في الرجل الأبخر، مع أنّ كلّا من الرجل الأبخر والرجل الشجاع مشابه له، وهكذا إسناد السؤال إلى قرية ذوي العقول مطرد، ولكن إلى نوع المحلّ والمقرّ لهم ليس مطرداً،

انوار الأصول، ج 1، ص: 88

فيصحّ أن يقال: «واسأل القرية» ولا يصحّ أن يقال «واسأل الشارع أو البساط» مع كون كلّ من القرية والشارع محلًا لذوي العقول أو معبّراً لهم، فكلام المشهور إذا كان بملاحظة الصنف الخاص من العلاقة الذي يصحّ معه الاستعمال كالشجاعة من بين أصناف الشباهة أو المسكن من بين أصناف المحلّ والمقرّ فهو ليس بصحيح، لأنّ استعمال اللفظ في المعنى المجازي أيضاً مطرد كالحقيقة، ويكون الّاطراد مشتركاً بين الحقيقة والمجاز لا مختصّاً بالمعنى الحقيقي، وإذا كان كلامهم بملاحظة نوع العلائق فهو تامّ في محلّه.

هذا حاصل ما ذكره في المقام.

ولكن هيهنا قول آخر ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله ونقله في تهذيب الاصول وفي المحاضرات، وهو كون الاطّراد من علائم الحقيقة في خصوص الكلّي بالنسبة إلى أفراده، وحاصل بيانه: إنّه إذا صحّ استعمال كلّي في عدّة من أفراده بحيث أطرد استعماله فيها نستنتج من مجموع هذه الاستعمالات إنّ معنى هذا الكلّي هو المعنى الجامع بين تلك الأفراد، وهو الموضوع لذلك المعنى، فإذا استعمل مثلًا لفظ الرجل في زيد، ثمّ استعمل أيضاً في عمرو، وثالثاً في بكر، ورابعاً في خالد نستكشف من هذا الاطّراد أنّ معنى الرجل حقيقة

هو المفرد المذكّر، وإذا لم يكن استعمال الكلّي مطرداً في الأفراد كما أنّ استعمال الأسد لا يكون مطرداً بالنسبة إلى كلّ فرد شجاع نستكشف من عدم الاطّراد هذا كون استعمال الأسد في الشجاع مجازاً «1».

واجيب عنه بأمرين:

الأمر الأوّل: إنّ استعمال الكلّي في فرده مع الخصوصيّات الفرديّة مجاز قطعاً لأنّ التشخصّات الفرديّة لا تكون جزءاً لما وضع له الكلّي، فإستعماله فيه حينئذٍ يكون استعمالًا في غير الموضوع له:

إن قلت: إنّه يكون من باب التطبيق الكلّي على فرده أو تطبيق العامّ على الخاصّ بلا إرادة الخصوصيّة.

قلنا: فالعلامة حينئذ صحّة التطبيق لا اطّراد استعمال الكلّي في الأفراد، لأنّه لم يلاحظ الخصوصيّات الفرديّة، فلم يلاحظ تعدّد الأفراد لأنّ تعدّدها يتحقّق بتشخّصها، فلا يكون الاطّراد علامة بل العلامة صحّة التطبيق، وهي ليست إلّاصحّة الحمل، وقد مرّ أنّ صحّة

انوار الأصول، ج 1، ص: 89

الحمل ترجع إلى التبادر فإنحصرت العلامة في التبادر.

الأمر الثاني: إنّ تطبيق الكلّي على فرده أمر عقلي لا يرتبط بعالم الاستعمال والألفاظ، فلا يمكن أن يكون علامة لكون الاستعمال حقيقة «1».

أقول: ليت شعري كيف نسوا ما يسلكونه عملًا في الفقه في مقام كشف المعاني الحقيقية للألفاظ المستعملة في الأبواب المختلفة من الفقه؟ أو لسنا هناك فيما إذا أردنا فهم معنى الغنيمة مثلًا في قوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ...» وإنّه هل يعمّ كلّ فائدة، ولو كانت في غير حروب أو تختصّ بما تؤخذ في معركة الحرب؟ نتمسّك بذيل الاستعمالات المختلفة للفظ الغنيمة في الآيات والرّوايات ونهج البلاغة وأشعار العرب ونستدلّ بها على الخصم، ونقول إنّ اطّراد استعمالها في الرّوايات وغيرها في مطلق الفوائد أو في غير غنائم الحرب يدلّنا على كونها موضوعة لمطلق الفائدة

ولو لم تحصل من ناحية القتال، أو إذا أردنا أن نعيّن معنى في «الكنز» في كتاب الزّكاة وإنّه هل يختصّ بما يخرج من تحت الأرض أو يعمّ كلّ مال مذخور مستور ذي قيمة؟ نتمسّك بمثل قوله تعالى: «وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا» (في قضيّة خضر وموسى) وأشباهه ونظائره ثمّ نستدلّ بإطراده في هذا المعنى في استعمالات العرب على كونه حقيقة في مطلق الأشياء الغالية المستورة عن النظر ولو لم يكن تحت الأرض، وهذا هو المحقّق النحرير الطبرسي رحمه الله في مجمع بيانه وغيره من المفسرين لا يزالون يتمسّكون لفهم معاني الألفاظ الواردة في القرآن بأشعار العرب وسائر موارد استعمالاتها كما لا يخفى على من راجع كلماتهم، كما إنّك ترى أيضاً رجوع كثير من أرباب اللّغة إلى استعمالات العرب في نظمهم ونثرهم، ولذلك كانوا يستأنسون بأهل البوادي ويعاشرونهم، فإذا رأوا اطّراد استعمال لفظ في معنى في محاوراتهم يحكمون بأنّه وضع لذلك المعنى، كما أنّ هذا أيضاً منهج العلماء في مناظراتهم فهم يقنعون بأبيات من أشعار العرب وغيرها إذا عرض عليهم في موارد مختلفة لإثبات معاني الألفاظ فيما إذا أطرد استعمال لفظ في معنى، وسيأتي الفرق بين هذه العلامة وبين ما هو منقول عن علم الهدى رحمه الله.

ثمّ إنّ هيهنا اموراً لا بدّ من الإشارة إليها:

الأمر الأوّل: إنّه كيف يدلّ الاطّراد على الحقيقة؟

انوار الأصول، ج 1، ص: 90

وجوابه: إنّ كثرة استعمال لفظ في معنى وصحّة ذلك الاستعمال مع كثرته دليل على أنّ هذا الاستعمال لا يعتمد على القرينة ولا يضرّ احتمال وجود بعض القرائن الحاليّة وغيرها أحياناً لأنّه يتصوّر في استعمال واحد أو بالنسبة إلى موارد معدودة من الاستعمال لا بالنسبة إلى الكثير منه، فإذا ثبت أنّ صحّة الاستعمال

في هذه الموارد لم يعتمد على القرينة نعلم بأنّها نشأت من الوضع.

فالإنصاف أنّ الاطّراد وعدمه من أحسن علائم الحقيقة والمجاز، وعليه العمل في كشف معاني الألفاظ، واعراض جمع من الأعلام عنه هنا قولًا، مع التزامهم به في الكتب الفقهيّة عملًا، غير ضارّ.

الأمر الثاني: أنّه لا يجري في الاطّراد أيضاً ما مرّ من إشكال الدور، لأنّ المستعلم هنا يستعلم الوضع من كثرة استعمالات أهل اللسان ويكون جاهلًا بالوضع ولا يكون المستعلم والعالم واحداً.

الأمر الثالث: أنكر المحقّق العراقي رحمه الله كون الاطّراد من العلائم وحاصل كلامه: إنّه إمّا أن يكون المراد من الاطّراد الاطّراد في التبادر، أو الاطّراد في الاستعمال، فإن كان المراد هو الاطّراد في التبادر فمعناه تبادر معنى خاصّ من لفظ خاصّ في موارد كثيرة، ومرجع هذا إنّه يعتبر في دلالة التبادر على الوضع عدم إتّكائه على القرينة، وهو يحرز بإطراد التبادر، فيكون الاطّراد حينئذٍ شرطاً من شرائط كون التبادر علامة وليس علامة مستقلّة، وإن كان المراد هو الثاني فهو ليس منحصراً بالمعنى الحقيقي لوجوده في المجازات أيضاً فلا يمكن أن يكون علامة «1».

أقول: نختار الشقّ الثاني من كلامه. وأنّ المراد من الاطّراد هو الاطّراد في الاستعمال، لكّنا نقول في جوابه: إنّ أدنى تأمّل في محاوراتنا اليوميّة يدلّنا على أنّ الاستعمالات الحقيقيّة أكثر من الاستعمالات المجازيّة بمراتب، وما قيل من أنّ أكثر كلمات العرب مجازات قول زور، ولا أساس له، نعم يمكن أن يقال: إنّ المجاز في الأشعار والخطب كثير مطّرد، ولكنّه أيضاً لا يكون بمرتبة كثرة الحقيقة فيهما، وحينئذٍ يكون اطّراد الاستعمال سبباً للاطمئنان بأنّه مستعمل في المعنى الحقيقي، وأمّا في الكلمات المتعارفة فالأمر أوضح، وإن شئت اختبر نفسك في يوم واحد

انوار الأصول، ج 1،

ص: 91

وما تتكلّم به من الكلمات، فترى أنّ أكثرها استعمالات حقيقيّة، والمجاز فيها قليل جدّاً.

الأمر الرابع: قال المحقّق الحائري رحمه الله ما نصّه: «إنّ المراد من الاطّراد حُسن استعمال اللفظ في كلّ موقع من غير اختصاص له بمواقع خاصّة كالخطب والأشعار ممّا يطلب فيها أعمال محاسن الكلام ورعاية الفصاحة والبلاغة، بخلاف المجاز فإنّه إنّما يحسن في تلك المواقع خاصّة» «1» انتهى.

وفيه: أنّه مشعر بأنّ الاطّراد في الخطب والأشعار ليس دليلًا على الوضع، ولكنّك قد عرفت أنّ المجاز فيهما أيضاً ليس مطرداً وإن كان فيهما أكثر من الكلمات اليوميّة، فالاطراد فيهما أيضاً دليل على الحقيقة (فتأمّل).

الأمر الخامس: قد ظهر ممّا ذكرناه أنّه فرق بين مختارنا في المقام وما نسب إلى السيّد المرتضى رحمه الله من أنّ الاستعمال علامة الحقيقة وأنّ الأصل في الاستعمال هو الحقيقة، لأنّا لا نقول بأنّ احتمال القرينة واحتمال المجاز ينتفي بمجرّد الاستعمال ولو في كلام واحد، بل نقول إنّ اطّراد الاستعمال يكون نافياً ورادّاً للمجاز ووجود القرينة، وفرق بين اطّراد الاستعمال ومجرّد الاستعمال، وما ذكره ممّا لا دليل عليه كما أشار إليه المحقّقون من الأصحاب.

4- من علائم الحقيقة والمجاز نصّ أهل اللّغة:

قد ذكر من العلامات نصّ أهل اللّغة، ولكن ليس هنا محلّ البحث عنه بل يبحث عنه في باب حجّية ظواهر الألفاظ وحجّية قول اللغوي، فسوف يأتي إن شاء اللَّه تعالى في محلّه أنّه هل يكون تنصيص أهل اللّغة حجّة أو لا؟ فانتظر.

وفيه: بحث كبروي وأنّه هل يكون تنصيصهم حجّة وإن لم يحصل منه العلم بل حصل الظنّ من قول الخبرة؟ وبحث صغروي وهو أنّ كلمات اللغويين من هذا الباب، أو بيان لموارد الاستعمال؟

الأمر السابع: الحقيقة الشرعيّة

اشارة

وينبغي التنبيه على مقدّمة قبل الشروع في أصل البحث، وهي أنّ الألفاظ تارةً توضع لفهم عموم الناس وهي أكثر الألفاظ المتداولة بينهم، وتسمّى بالحقائق اللغويّة أو العرفيّة، واخرى توضع لصنف خاصّ منهم وتسمّى بالمصطلحات نظير لفظ «الاصول العمليّة» فإنّه وضع في علم الاصول للُاصول الأربعة العمليّة المعهودة، وأمّا في اللّغة فوضع لفظ «الأصل» و «العمل» لما هو أوسع من ذلك كما هو واضح، والفرق بين القسمين أنّ الحقائق اللغويّة تفيد معانيها اللغويّة كيفما استعملت، من دون أن تكون مقيّدة بكلام خاصّ، وأمّا المصطلحات فإفادتها المعاني المصطلحة متوقّفة على استعمالها في مواردها الخاصّة.

إذا عرفت هذا فنقول: إنّ لنا في الشرع ماهيّات مخترعة نحو الصّلاة والحجّ والزّكاة، واموراً اخرى مشابهة لها، نحو عنوان «التكبير» الذي في اللّغة بمعنى مطلق التعظيم، في الشرع وضع لصيغة «اللَّه اكبر» ولكنّه ليس ماهية مخترعة مستقلّة تتركّب من أجزاء وأعمال كماهيّة الصّلاة، ولا إشكال في أنّ الألفاظ الدالّة على هذه الماهيات المخترعة في زماننا هذا حقيقة في المعاني الشرعيّة، ولكن لا بدّ من البحث في أنّها هل صارت حقيقة فيها في عصر الشارع حتّى تحمل على تلك المعاني في لسانه (وتسمّى حينئذٍ بالحقائق الشرعيّة) أو صارت حقيقة في الأزمنة

اللّاحقة بأيدي المتشرّعين، وحينئذٍ تحمل الألفاظ الواردة في لسان الشارع على معانيها اللغويّة عند فقد القرينة، وعلى معانيها الشرعيّة عند وجودها (وتسمّى حينئذٍ بالحقائق المتشرّعيّة) فيه قولان:

أحدهما: ثبوت الحقيقة الشرعيّة والثاني: عدمه. وتوضيح الحال يستدعي البحث في امور أربع:

الأوّل: في أدلّة القولين.

الثاني: في حدود هذه الماهيّات وعددها، فهل تكون محدودة بمثل الصّلاة والصّوم والحجّ،

انوار الأصول، ج 1، ص: 93

أو أنّ دائرتها أوسع منها.

الثالث: في بيان ثمرة المسألة.

الرابع: في تعيين الوظيفة حين الشكّ في بعض الاستعمالات إذا شكّ في أنّ الألفاظ المستعملة فيها هل استعملت في هذه الموارد قبل صيرورتها حقيقة في المعاني الشرعيّة، أو بعدها؟

الأمر الأوّل: في أدلّة القولين:

فاستدلّ النافون بأصالة عدم النقل، حيث إنّه أصل من الاصول العقلائيّة في باب الألفاظ التي تكون بحكم الأمارات وليست من الاصول التعبّديّة الشرعيّة لأنّ بناء العقلاء استقرّ على حمل الألفاظ على معانيها الأوّليّة إلّاإذا ثبت نقلها بدليل.

واستدلّ المثبتون بوجوه عمدتها التبادر، والمراد منه تبادر المعاني الخاصّة من تلك الألفاظ إلى أذهان معاصري النبي صلى الله عليه و آله عند استعمالها من دون قرينة، والتبادر علامة الحقيقة.

توضيحه: أنّ فهم الأصحاب المعاني الجديدة من هذه الألفاظ المستعملة في كلمات الرسول صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام ممّا لا ريب فيه، وذلك لا يخلو من أحد وجوه ثلاثة: فإمّا أن يكون لوجود قرائن لفظيّة في البين، أو لوجود قرائن حاليّة، أو أنّه ناشٍ من ناحية الوضع، ولا إشكال في أنّ لازم الأوّلين القول بأنّ القرائن ضاعت فلم تصل إلينا وهذا أمر مستبعد جدّاً، فيتعيّن الأخير وهو المطلوب.

نعم هاهنا «سؤال» وهو أنّ منشأ هذا التبادر ما هو؟ فهل هو الوضع التعييني أو التعيّني؟

وجوابه: إنّ الوضع التعييني يستلزم الالتزام بأنّ النبي صلى الله عليه

و آله كان يصرّح وينصّ بأنّي وضعت هذا لهذا، وذاك لذاك، وهذا أيضاً أمر مستبعد جدّاً، لأنّه لو كان لبان، ونقل إلينا، لتوفّر الدواعي على نقله، فيتعيّن تكون المنشأ الوضع التعيّني، وحينئذٍ يقع البحث في زمان تحقّق هذا الوضع، أي زمان صيرورة المعنى المجازي حقيقيّاً لأنّه يحتاج إلى كثرة الاستعمال، فيقع السؤال عن إنّه هل يكفي عصر الرسول صلى الله عليه و آله لهذه الكثرة حتّى نلتزم بكونه زمان الوضع، أو لا يكفي حتّى نلتزم بأنّ الوضع والتعيّن حصل في عصر المعصومين عليهم السلام؟

هذا إذا كان نوع الوضع منحصراً في القسمين المذكورين (التعيّني والتعييني)، لكن المحقّق انوار الأصول، ج 1، ص: 94

الخراساني رحمه الله أبدع هنا قسماً ثالثاً يمكن تسميته بالوضع التعييني العملي فإنّه قال: ربّما يكون الإنسان بصدد الوضع من دون أن يصرّح به فلا يقول: «وضعت هذا لهذا» بل يستعمل اللفظ عملًا في معناه فيقول مثلًا: «ايتني بالحسن» وهو يريد به وضع لفظ الحسن لهذا المولود، من دون أن ينصب قرينة على المجاز بل إنّما ينصب القرينة على كونه بصدد الوضع (ولعلّه من هذا القبيل قول الرسول صلى الله عليه و آله «صلّوا كما رأيتموني اصلّي»)، ثمّ قال: لا يبعد كون هذا النوع من الوضع هو منشأ التبادر في الحقائق الشرعيّة، لكن أورد عليه جماعة ممّن تأخّر عنه منهم المحقّق النائيني رحمه الله «بأنّ حقيقة الاستعمال كما بيّناه إلقاء المعنى في الخارج بحيث يكون الألفاظ مغفولًا عنها فالاستعمال يستدعي كون الألفاظ مغفولًا عنها وتوجّه النظر إليه بتبع المعنى بخلاف الوضع فإنّه يستدعي كون اللفظ منظوراً إليه باستقلاله، ومن الواضح إنّه لا يمكن الجمع بينهما في آن واحد» «1».

ثمّ وقع الأعاظم بعده في حيص وبيص

في مقام دفع هذا الإشكال وأجاب كلٌّ بجواب، فأجاب بعض من تأخّر عنه بما حاصله: إنّ المستحيل هو اجتماع اللحاظين في ملحوظ واحد، وفي ما نحن فيه متعلّق أحد اللحاظين غير متعلّق الآخر، لأنّ اللحاظ الآلي متعلّقه شخص اللفظ، واللحاظ الاستقلالي متعلّقه نوع اللفظ من أي متكلّم كان «2».

ولكن يرد عليه: أنّ المفروض استعمال لفظ الحسن مثلًا مرّة واحدة لا مرّتين، فيكون النوع والشخص موجودين بوجود واحد، فيبقى محذور اجتماع اللحاظين على حاله.

وأجاب بعض الأعلام في تعليقته على أجود التقريرات بما حاصله: إنّ هذا الإشكال وارد على مبنى كون حقيقة الوضع إنشاء، لأنّ الوضع حينئذٍ يتحقّق بنفس التلفّظ والإنشاء، وأمّا بناءً على مختارنا من كونه هو التعهّد والالتزام فيقع الوضع قبل الاستعمال بطبيعة الحال، لأنّ الالتزام يتحقّق قبل التكلّم، فلا يكون في نفس الاستعمال لحاظان «3».

وفيه: أوّلًا: ما مرّ من الإشكال في أصل مبناه في حقيقة الوضع.

وثانياً: سلّمنا- إلّاأنّ التعهّد المحض من دون الإبراز والإظهار لا أثر له لعدم إيجابه التفاهم انوار الأصول، ج 1، ص: 95

في الألفاظ الذي هو الغاية في الوضع، ولا إشكال في أنّ الالتزام مع الإبراز يحتاج إلى اللحاظ الاستقلالي مضافاً إلى اللحاظ الآلي، لأنّ إبراز الالتزام باللفظ يحتاج إلى النظر إليه مستقلًا، فيبقى الإشكال على حاله.

وأجاب عنه: في تهذيب الاصول بأنّه «يمكن أن يكون من باب جعل ملزوم بجعل لازمه ويكون الاستعمال كناية عن الوضع من غير توجّه إلى الجعل حين الاستعمال وإن التفت إليه سابقاً أو سيلتفت إليه بنظرة ثانيّة، وهذا المقدار كافٍ في الوضع» «1».

أقول: كلامه هنا منافٍ لما صرّح به في باب حقيقة الوضع، لأنّه قال هناك: إنّ الوضع نوع من الإنشاء، وإليك نصّ كلامه: «الوضع هو جعل

اللفظ للمعنى وتعيينه للدلالة عليه» «2».

ووجه التنافي إنّ الإنشاء والجعل يحتاج إلى تصوّر المجعول والمجعول له والنظر الاستقلالي إليهما، فكيف يمكن أن يكون الاستعمال الموجب للوضع كناية بحيث يصير اللفظ الموضوع مغفولًا عنه؟

فظهر ممّا ذكرناه عدم تماميّة شي ء من هذه الأجوبة الثلاثة، والتحقيق في الجواب أن يقال:

إنّ الإشكال في المقام متوقّف على كون اللفظ آلة ومرآة للمعنى وفانياً فيه، وهو ممنوع جدّاً لأنّ كلّ مستعمل للكلمات والألفاظ ينظر أوّلًا إلى كلّ واحد من اللفظ والمعنى نظراً استقلالياً، ثمّ يستعمل اللفظ في المعنى كما هو واضح بالنسبة إلى من هو حديث العهد بلغة، فإنّه إذا أراد مثلًا استعمال لفظ «الخبز» في معناه باللغة العربيّة يتفحّص ابتداءً في ذاكرته الحافظة، ويختار من بين الألفاظ المخزونة فيها لفظ «الخبز» فينظر إليه بالطبع نظراً استقلاليّاً كما ينظر إلى معناه أيضاً كذلك ثمّ يستعمل اللفظ في معناه بعد ذلك ويقول: «هل عندك خبز؟». نعم يحصل له الغفلة عن اللفظ بعد استعمالات كثيرة وحصول السلطة على الاستعمال ولكن هذه الغفلة المترتّبة على تلك السلطة ليس معناها دخلها واعتبارها في حقيقة الاستعمال وفناء اللفظ في المعنى حين الاستعمال.

أضف إلى ذلك أنّ الاستعمال ليس من الامور الآنيّة بالدقّة العقليّة بل يمكن إحضار معانٍ متعدّدة في الذهنّ أوّلًا ثمّ ذكر اللفظ لإفادتها كما ذكرناه في مبحث جواز استعمال اللفظ المشترك انوار الأصول، ج 1، ص: 96

في المعاني المتعدّدة، فظهر من جميع ذلك أنّ هذا النوع من الوضع ممّا لا غبار عليه.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ هذا الاستعمال هل يكون حقيقة أو مجازاً؟

ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى أنّه نوع ثالث من الاستعمال (لا حقيقة ولا مجاز) والميزان في صحّته استحسان الطبع، وقال: «دلالة اللفظ على المعنى

في هذا الاستعمال بنفسه لا بالقرينة وإن كان لا بدّ حينئذٍ من نصب قرينة إلّاأنّه للدلالة على ذلك (على كونه في مقام الوضع) لا على إرادة المعنى كما في المجاز» «1».

أقول: الظاهر أنّه لا بدّ في هذا الاستعمال من نصب قرينتين: قرينة على كون المستعمل في مقام الوضع، وهذا ما اعترف به المحقّق الخراساني رحمه الله أيضاً، وقرينة على استعمال اللفظ في المعنى الجديد كالإشارة إلى المولود مثلًا عند قوله: «ائتني بالحسن» لأنّه مع عدم نصب هذه القرينة لا يفهم المعنى من اللفظ كما هو واضح، وحينئذٍ إمّا أن لم يكن اللفظ قبل هذا الوضع موضوعاً لمعنى آخر، فيكون الحقّ عندئذٍ مع المحقّق المذكور من أنّه ليس حقيقة ولا مجازاً، أو كان قبل هذا موضوعاً لمعنى آخر فيكون استعماله في المعنى الجديد استعمالًا في غير الموضوع له فيكون مجازاً، فكلام المحقّق بإطلاقه غير مرضيّ.

ثمّ يبقى الكلام في أنّ الألفاظ الدائرة في لسان الشرع للُامور المستحدثة هل وضعت لها بالوضع التعييني بأحد نوعيه، أو التعيّني؟

ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى الأوّل وقال: «دعوى الوضع التعييني في الألفاظ المتداولة في لسان الشارع هكذا قريبة جدّاً ومدّعى القطع به غير مجازف قطعاً» «2».

ولكنّه دعوى بلا بيّنة وقول بلا برهان، والصحيح حصوله من طريق خصوص الوضع التعيّني فإنّ هذا هو ما نجده بوجداننا العرفي، فاختبر نفسك في الأوضاع الجديدة في حياتنا الاعتياديّة فإنّك تشاهد عندك ألفاظاً وضعت لمعان جديدة بكثرة الاستعمال كلفظ «الشيطان الأكبر» و «المستضعف» و «المستكبر» و «الطاغوت» إلى غير ذلك من الألفاظ المتداولة اليوم انوار الأصول، ج 1، ص: 97

في معانٍ خاصّة غير معانيها اللغويّة، بل يمكن أن يقال بتحقّق الوضع في المعاني الشرعيّة من هذا الطريق

بكثرة الاستعمال حتّى في خصوص عصر النبي صلى الله عليه و آله أيضاً، بل في سنة أو أقلّ، وكذا بالنسبة إلى عصر الأئمّة عليهم السلام في ألفاظ اخر، وإصرار المحقّق الخراساني رحمه الله على المنع من حصوله في خصوص لسان الشارع ممّا لا وجه له.

وهنا مذهب آخر وهو أنّه يمكن أن يقال: إنّ بعض الألفاظ المعهودة المعروفة بعنوان الحقائق الشرعيّة ليست في الواقع بحقائق شرعيّة بل إنّها حقائق لغويّة لاستعمالها في الشرائع السابقة كما تشهد عليه جملة من الآيات:

منها قوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» «1».

وقوله تعالى: «وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً» «2».

وقوله تعالى: «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ» «3».

فإنّ هذه الآيات تشهد على أنّ الصّيام والصّلاة والحجّ كانت موجودة بمعانيها الشرعيّة في الشرائع السابقة أيضاً، كما اعترف به جمع من المحقّقين.

نعم قد يرد على هذا بأنّ غاية ما يستفاد من هذه الآيات أنّ معاني هذه الألفاظ كانت موجودة قبل الإسلام ولا تدلّ على كون هذه الألفاظ أسماء لها فتدلّ آية الحجّ مثلًا على أنّ أعمال الحجّ وجملة من مناسكه كانت معمولة من عصر إبراهيم خليل اللَّه عليه السلام، ولا تدلّ على أنّه كان يعبّر عنها بلفظ الحجّ في اللّغة العربيّة.

ولكن يمكن دفعه بأنّ العرب في عصر الجاهلية كانوا يتكلّمون فيما بينهم عن عبادات اليهود والنصارى قطعاً خصوصاً إذا لاحظنا وجود طائفة منهم في المدينة وإنّهم يتكلّمون بما يتكلّم به غيرهم من قبائل العرب، ومن البعيد جدّاً كون الألفاظ التي كان العرب يتكلّمون بها عن عبادات اليهود والنصارى وصومهم وصلاتهم غير الألفاظ المستعملة في لسان القرآن، لأنّ لازمه وضع ألفاظ جديدة عربيّة لتلك المعاني مع عدم الحاجة إليها بل هو

أشبه شي ء بتحصيل الحاصل.

انوار الأصول، ج 1، ص: 98

ويؤيّد ذلك أنّ كلمة «الصّلاة» بهذه اللّفظة موجودة في إنجيل برنابا الموجود في زماننا هذا لا بلفظة اخرى عبرانيّة أو سريانيّة، وهذا يشهد على أنّه كما أنّ المعاني لم تكن مستحدثة، كذلك الألفاظ التي يعبّر عنها (وإن كانت صحّة هذا الانجيل محلّ الكلام).

والذي يسهّل الخطب إنّ إثبات المعاني اللغويّة لهذه الألفاظ بهذا الدليل لا أثر له في الثمرة المعروفة لهذه المسألة بل يؤكّد حملها على المعاني المعروفة الشرعيّة بطريق أولى، فإنّ لازم هذا الكلام كون الصّلاة مثلًا حقيقة في الأركان المخصوصة حتّى قبل ظهور الإسلام فلا تحمل على معنى الدعاء إذا وردت في لسان الشارع بلا قرينة.

الأمر الثاني: في دائرة الحقائق الشرعيّة

وقد أشرنا سابقاً إلى أنّ دائرتها أوسع من الألفاظ المتداولة في ألسنة الاصوليين، والدليل عليه أنّ الحقيقة الشرعيّة التي ينبغي البحث عن ثبوتها وعدمه على أقسام:

1- ما وضعت للعبادات المخترعة في الشرع مثل «الصّلاة» و «الزّكاة» و «الحجّ» وغيرها.

2- ما وضعت لأقسام هذه العبادات وهو بالنسبة إلى الصّلاة ك «صلاة الآيات» و «صلاة الليل» و «صلاة الفطر» و «صلاة القضاء» و «صلاة الأداء» و «صلاة الفريضة» و «صلاة النافلة» وهكذا بالنسبة إلى الصّوم والزّكاة والحجّ.

3- ما وضعت لأجزاء هذه العبادات مثل عنوان «الطواف» و «السعي» و «الوقوف» و «التقصير» في الحجّ، و «الركوع» و «السجود» و «التشهّد» و «القنوت» في الصّلاة.

4- ما وضعت في غير العبادات، مثل عنوان «الحدّ» و «التعزير» و «الكرّ» و «الماء القليل» وغيرها.

والظاهر أنّ جميع هذه الألفاظ محلّ الكلام في المقام، فهل الحقيقة الشرعيّة ثابتة في جميعها أو في بعضها؟ والإنصاف أنّه يشكل دعوى ثبوتها في جميع ما ذكرنا، فاللازم الأخذ بالقدر المتيقّن منها.

نعم توجد هنا ألفاظ

نعلم بعدم كونها حقائق شرعيّة، أي لم توضع لمعانيها الخاصّة في لسان الشارع بل كانت موجودة في العرف العامّ وإنّما اضيف إليها من جانب الشارع شرائط وخصوصّيات فحسب بحيث لم تتبدّل إلى معانٍ جديدة غير ما في العرف العامّ، مثل لفظ

انوار الأصول، ج 1، ص: 99

النكاح والطلاق والبيع، ولذلك يصحّ التمسّك في الموارد المشكوكة بإطلاق قوله تعالى: «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» وقوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» مثلًا، ومن هذا القسم كلمة «الذبح» وأمثاله، فإنّها باقية على معانيها التي كانت قبل ظهور الإسلام في العرف العامّ وإن أضاف الشارع إليها شرائط وقرّر لها حدوداً، لأنّ هذه قيود حكميّة لا دخل لها في المعنى الموضوع له.

هذا كلّه في سعة دائرة النزاع، وسيأتي دخلها في ترتّب الثمرة العمليّة على البحث في الأمر الآتي.

الأمر الثالث: في ثمرة المسألة

المعروف في ثمرة المسألة حمل الألفاظ المستعملة في لسان الشارع والرّوايات على معانيها الشرعيّة عند فقدان القرينة إن قلنا بثبوت الحقيقة الشرعيّة، وإلّا تحمل على معانيها اللغويّة، فإذا قال الشارع المقدّس مثلًا: «صلّوا عند رؤية الهلال» ولم ينصب قرينة على مراده، حملت الصّلاة على معناها الشرعيّة وهو الأركان المخصوصة بناءً على ثبوت الحقيقة الشرعيّة، وعلى معناها اللغويّة وهو الدعاء بناءً على عدمه.

لكن قد أورد على هذه الثمرة في تهذيب الاصول والمحاضرات بأنّه لا طائل تحتها (مع اختلافهما في التعبير).

فقال في المحاضرات: «إنّ الرّوايات التي وصلت عن المعصومين عليهم السلام إلينا المشتملة على هذه الألفاظ كان المراد منها معلوماً فلا ثمرة، بل لا داعي لهذا البحث بعد ذلك» «1».

وقال في تهذيب الاصول: «وعلى كلّ حال الثمرة المعروفة أو الفرضيّة النادرة الفائدة ممّا لا طائل تحتها عند التأمّل حيث إنّا نقطع بأنّ الاستعمالات الواردة في مدارك فقهنا إنّما يراد منها

هذه المعاني التي عندنا فراجع وتدبّر» «2».

أقول: إنّما يصحّ الإشكال لو كان النزاع في خصوص لفظ الصّلاة والصّيام وشبهها، أمّا لو كانت دائرته أوسع ممّا ذكر، كما هو المختار وقد مرّ بيانه آنفاً فالثمرة لهذا البحث كثيرة، وما أكثر الألفاظ التي وردت في روايات المعصومين عليهم السلام ولا يعلم أنّ المراد منها معانيها الشرعيّة أو اللغويّة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 100

توضيح ذلك: أنّ هذه الألفاظ على أقسام:

الأوّل: صارت حقيقة في معانيها في زمان الرسول صلى الله عليه و آله بلا إشكال.

الثاني: (وهي أسماء أجزاء العبادات وأقسامها) لا دليل على صيرورتها كذلك في زمن الرسول بل لا يبعد أنّها صارت حقيقة في زمان الصادقين عليهما السلام.

الثالث: لا دليل ولا شاهد أيضاً على صيرورتها حقيقة إلى زمان الصادقين مثل ألفاظ الأحكام الخمسة، فلا نعلم المراد من صيغة «يكره ذلك» مثلًا (إذا استعملت في رواية) هل يكون المراد منها الحرمة، أو الكراهة المصطلحة في الفقه.

ولا يخفى أنّ البحث عن ثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمه يكون له ثمرة عمليّة بالنسبة إلى كثير من هذه الألفاظ، والظاهر أنّ الشبهة إنّما نشأت من تحديد البحث في ألفاظ معدودة محدودة.

بقي هنا شي ء:

وهو ما يستظهر من بعض الكلمات من أنّ الأحاديث النبويّة ليست من المنابع الفقهيّة عند الإماميّة، حتّى تكون الألفاظ الواردة فيها داخلة في نطاق البحث.

ولكنّه يرد عليه: أوّلًا: بوجود الخبر المتواتر فيها كحديث الغدير (فإنّه وإن لم يكن حديثاً فقهيّاً ولكنّه يشتمل على مسألة اصوليّة وهي حجّية قول أمير المؤمنين عليه السلام فتدبّر).

وثانياً: كم من حديث نبوي اشتهر الاستدلال به في الفقه مثل «الناس مسلّطون على أموالهم» و «المؤمنون عند شروطهم»، وفي الاصول مثل «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» و «إذا

أمرتكم بشي ء فأتوا منه ما استطعتم» سواء قلنا بحجّية هذه المرسلات وأشباهها بسبب اشتهارها بين العلماء كما هو كذلك في الجملة، أو جعلناها مؤيّدة لإثبات بعض المسائل، فإنّ التأييد أيضاً نوع من الأثر.

ثالثاً: قد تجعل الأحاديث النبويّة مؤيّدة لبعض الأدلّة، فهي وإن لم تكن حينئذٍ أدلّة على إثبات المقاصد ولكنّها كجزء دليل.

الأمر الرابع: فيما إذا شكّكنا في تاريخ الاستعمال وتاريخ النقل

يعني إذا وردت كلمة مثل الصّلاة في حديث، ولم نعلم أنّ الحديث ورد قبل نقل هذه اللّفظة

انوار الأصول، ج 1، ص: 101

إلى المعنى الشرعي أو بعد نقلها إليه، فإن كان الأوّل لا بدّ من حملها على معناها اللغوي، وإن كان الثاني وجب حملها على المعنى الشرعي.

وحاصل الكلام هنا: إنّه تارةً يكون تاريخ الاستعمال وتاريخ النقل كلاهما معلومين واخرى يكون تاريخ الاستعمال معلوماً وتاريخ النقل مجهولًا أو بالعكس، وثالثاً يكون كلاهما مجهولين.

لا كلام في الصورة الاولى والثالثة فإنّ حكمهما واضح كما لا يخفى، إنّما البحث والإشكال في الصورة الثانيّة، فهل يجري فيها أصل من الاصول العمليّة أو لا؟

لا شكّ في عدم جريان استصحاب عدم المجهول إلى زمان المعلوم في كلا شقّيها، لأنّ الاستصحاب يجري في الأحكام الشرعيّة وموضوعاتها، فإنّه من الاصول التعبّديّة التي وضعها الشارع فيها، ولذلك لا بدّ في جريانها من أثر شرعي بلا واسطة، ولا ريب في أنّ عدم الاستعمال أو عدم النقل في ما نحن فيه ليس له أثر شرعي بلا واسطة.

نعم تجري أصالة عدم النقل التي هي من الاصول اللّفظيّة العقلائيّة، وتكون من الأمارات في صورة الجهل بالنقل والعلم بالاستعمال لا العكس.

لكن يرد عليه: بأنّ أصل عدم النقل يجري فيما إذا شكّكنا في أصل النقل لا ما إذا كان أصل النقل معلوماً وكان تاريخه مجهولًا، فإنّ بناء العقلاء ثابت في الأوّل

دون الثاني، وعلى هذا فلا أصل عملي يجري في المقام.

الأمر الثامن: الصحيح والأعم

اشارة

وهو من أهمّ المباحث الاصوليّة لما فيها من آثار عمليّة، ولا بدّ فيه من تقديم امور قبل الورود في أصل البحث:

الأمر الأوّل: في عنوان البحث فقد عنونه المحقّق الخراساني رحمه الله هكذا: «وقع الخلاف في أنّ ألفاظ العبادات أسام لخصوص الصحيحة أو للأعمّ منها».

ولكن يرد عليه: أوّلًا: أنّ موضوع الصحيح والأعمّ لا يختصّ بالعبادات بل يشمل ألفاظ المعاملات أيضاً مثل لفظ النكاح والطلاق والبيع، بل ويشمل غيرهما كالألفاظ الموضوعة لموضوعات الأحكام نظير لفظ الدينار والحلّة في باب الديّة، فيقع النزاع في أنّ الدينار مثلًا هل وضع للصحيح منه أو للأعمّ؟

وثانياً: يستشمّ من تعبيره بالأسامي من أنّ النزاع يدور مدار القول بالحقيقة الشرعيّة مع أنّ من المعلوم عدم اختصاصه به.

وعنونه بعض الأعلام بأنّ «ألفاظ العبادات والمعاملات هل تكون أسامى للصحيحة أو للأعمّ».

ويرد عليه: أيضاً الإشكال الثاني ممّا أُورد على المحقّق الخراساني رحمه الله، وكذلك الأوّل بالنسبة إلى غير العبادات والمعاملات كما لا يخفى.

وقال بعض الأعاظم في مقام بيان عنوان البحث: «الأصل في استعمالات الشارع لألفاظ العبادات ماذا؟».

ويرد عليه: 1- بعض ما مرّ كما هو ظاهر، 2- أنّ لازم قوله «استعمالات الشارع» تحديد دائرة النزاع بالألفاظ المستعملة في لسان الشارع مع أنّ النزاع كلّي يجري بالنسبة إلى مطلق الألفاظ سواء كانت مستعملة في لسان الشارع أم لا، وإن كان الغرض من هذا البحث الحصول انوار الأصول، ج 1، ص: 104

على كيفية استعمالات الشارع فحسب نظير البحث في سائر المباحث اللّفظيّة كمبحث الأوامر والنواهي فإنّ النزاع فيها يكون في مطلق صيغة الأمر أو صيغة النهي مثلًا، من أي مولى صدرت، ولكن الغرض منه هو الحصول على كيفية دلالة صيغة

الأوامر والنواهي الصادرة من ناحية الشارع.

وثالثاً: إنّ قوله «ماذا؟» كلمة مبهمة لا تبيّن المراد من البحث وإنّه من جهة الصحيح والأعم أو الحقيقة والمجاز أو جهات اخرى.

فالأولى أن يقال: «إنّ ألفاظ العبادات والمعاملات وغيرهما بمقتضى الوضع الشرعي أو اللغوي أو القرينة العامّة هل هي للصحيح أو للأعمّ منه؟» فإنّه لا يرد عليه شي ء ممّا ذكر كما لا يخفى.

الأمر الثاني: في أنّه لا فرق في جريان النزاع بين القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمه وبين أن تكون الألفاظ مجازات في المعاني الشرعيّة أو حقائق لغويّة فيها (كما قال بعض بعض) أو حقائق لغويّة في المعاني واللغويّة كما يحكى عن الباقلاني.

وذلك لأنّ المعنى الحقيقي أو المجازي هنا يشتمل على أجزاء وشرائط على كلّ حال ويتصوّر فيها الصحيح والفاسد فيجري النزاع فيها حتّى على القول بأنّ الصّلاة في استعمالات الشرع مثلًا يراد منها الدعاء فإنّه لا إشكال في أنّ هذا الدعاء في هذه الاستعمالات مقيّد بقيود خاصّة فيتصوّر فيها الصحيح والأعمّ، والجامع للشرائط والأجزاء أو الفاقد لبعضها.

الأمر الثالث: في معنى الصحّة والفساد وإنّه ما هو المقصود منهما؟ ونكتفي ببيان معنى الصحّة حتّى يعرف معنى الفساد أيضاً فإنّ الأشياء تعرف بأضدادها.

وقد ذكر لها معانٍ مختلفة، فقال بعض أنّها بمعنى اسقاط الإعادة والقضاء، وهذا منسوب إلى الفقهاء، وقال بعض آخر أنّها بمعنى موافقة الأمر، وهو منسوب إلى المتكلّمين، ولا يخفى عدم تماميّة شي ء منهما بل كلّ من الفقيه والمتكلّم فسّر الصحّة وفقاً لمسلكه الخاصّ، فالفقيه حيث يبحث عن الإعادة والقضاء في باب العبادات فسّرها بإسقاطها مع أنّه لا يصدق في أبواب المعاملات، والمتكلّم حيث إنّه يبحث في علم الكلام عن مسائل المعاد وعن الثواب والعقاب، وهما يترتّبان على موافقة الأمر ومخالفته،

فقد فسّر الصحّة بالموافقة، وفي الواقع أنّهم أخذوا بلوازم الصحة المطلوبة لهم. والمحقّق الخراساني رحمه الله فسّرها بالتماميّة وهو أيضاً غير تامّ لأنّه انوار الأصول، ج 1، ص: 105

مبهم لم يعيّن فيه حيثيّة التماميّة وجهتها، فهل المراد التماميّة من ناحية الأجزاء أو من جهة الأجزاء والشرائط، أو من جهات اخرى؟

والتعريف الرابع ما هو المعروف بين من تأخّر عن المحقّق المذكور، وهو تعريفها بالجامعية للأجزاء والشرائط.

ولنا تعريف خامس يكون أقرب إلى الواقع وهو أن يقال: إنّ الصحيح ما يترتّب عليه جميع الآثار المطلوبة منه (أي الآثار الكاملة) وبتعبير آخر الشي ء الصحيح هو ما يكون واجداً للخاصّية المترقّبة منه، والفاسد هو ما يكون فاقداً لها.

بيان ذلك: إنّ المركّبات على قسمين: حقيقة واعتباريّة، فالمركّب الحقيقي ما يكون بين أجزائه ربط خارجي حقيقي كبدن الإنسان وجسم الشجر، والمركّب الاعتباري ما لا يكون كذلك بل اعتبر نحو ربط بين أجزائه المتشتّة في الخارج كالصّلاة والعقود، وحيث إنّ مدار البحث في الصحيح والأعمّ هو المركّبات الاعتباريّة في الغالب فلابدّ لنا من تعيين معيار الوحدة وسبب الارتباط فيها، ولا إشكال في أنّ عامل الوحدة في المركّبات الاعتباريّة إنّما هو تأثير الأجزاء المختلفة المتشتّة في أثر واحد أو آثار معيّنة.

إذاً ينبغي لنا أن نأخذ هذا المعنى في تفسير الصحّة حتّى يكون التعريف تعريفاً مطابقاً لما في الواقع ومساعداً للاعتبار وطبيعة الحال، ولذلك نقول: الصحيح ما يترتّب على تركيب أجزائه وانسجامها الأثر المطلوب المترتّب منه فالصلاة المركّبة من الركوع والسجود والتكبير والتسليم مع الطهارة واستقبال القبلة أمر وحداني في نظر الشارع المقدّس يراد منه تحقيق أثر خاص عند اجتماعها سواء كان النهي عن الفحشاء والمنكر أو غيره، وهكذا الصّيام وغيره.

إن قلت: من أين نفهم أنّ

هذا المركّب يحقق الأثر المطلوب منه؟ فلا سبيل إليه إلّامن طريق جامعيّته للأجزاء والشرائط فمآل الأمر إلى ما جاء في التعريف الرابع.

قلنا: محلّ البحث في المقام إنّما هو مقام الثبوت، والمعيار فيه هو ترتّب الأثر المرغوب، نعم في مقام الإثبات قد لا نعلم بذلك ولا طريق لنا إليه إلّامن ناحية الجامعية للأجزاء والشرائط.

وهذا شي ء آخر لا دخل له بأصل المعنى.

ثمّ إنّه ينبغي أن يعلم أنّ الصحّة والفساد أمران إضافيّان، فيختلف شي ء واحد صحّة وفساداً بحسب الحالات المختلفة الطارئة عليه، فيكون تامّاً بحسب حالة وفاسداً بالنسبة إلى انوار الأصول، ج 1، ص: 106

حالة اخرى كالصّلاة الرباعيّة، فإنّها صحيحة بالنسبة إلى الحاضر وفاسدة للمسافر إلى غير ذلك من الأمثلة.

الأمر الرابع: بناءً على تعريف الصحّة بالجامعيّة هل تكون الشرائط أيضاً داخلة في المسمّى عند الصحيحي أو لا؟

لا إشكال في دخول الأجزاء في المسمّى عنده، وأمّا الشرائط فهي على ثلاثة أقسام:

أحدها: ما أخذ في المأمور به كالطهارة والاستقبال.

ثانيها: ما لم يؤخذ في المأمور به ولكن نفهمه من الخارج من دليل العقل وإن كان أخذه في المأمور به شرعاً أيضاً ممكناً ولكنّه لم يؤخذ، فلا يلزم من أخذه محذور، مثل شرط عدم ورود النهي وعدم الابتلاء بالضدّ.

ثالثها: ما لا يمكن أخذه في المأمور به شرعاً نحو قصد القربة على قول المشهور من استلزام أخذه الدور المحال (وسيأتي في مبحث التوصّلي والتعبّدي إن شاء اللَّه أنّ المختار إمكان أخذه بلا محذور فانتظر) وقد ذهب شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله (بناءً على ما حكي عن تقريراته) إلى عدم أخذ جميع هذه الأقسام في المأمور به عند الصحيحي، فصحيح هو ما كان تامّ الأجزاء، ولا يلاحظ الشرائط مطلقاً وذلك لتأخّرها عن الأجزاء رتبة فإنّ

الأجزاء بمنزلة المقتضي للأثر، والشرائط معدّات لها فلا يمكن أخذها في المسمّى في عرض الأجزاء.

لكنّه ممّا لا يمكن المساعدة عليه، لأنّ تأخّر الشرائط عن الأجزاء بحسب الوجود لا ربط له بمقام التسمية، فإنّه لا مانع في هذا المقام من الجمع بين لحاظ المتقدّم في الوجود ولحاظ المتأخّر فيه ثمّ وضع الاسم عليهما معاً كما لا يخفى.

وهذا بالنسبة إلى القسم الأوّل من الشرائط أمر واضح، أمّا القسم الثاني فقد يقال أنّه حيث لم يؤخذ في المأمور به في لسان الشارع فلا يصحّ أخذه في المسمّى أيضاً، لأنّ أخذه في المسمّى مع عدم كونه مأموراً به يستلزم تعلّق أمر الشارع بما ليس مأموراً به.

ولكن يرد عليه أنّ عدم الأخذ في المأمور به وإطلاقه بحسب الظاهر لا يلازم عدم الأخذ في المسمّى والمأمور به بحسب الواقع، لأنّ إطلاقه الظاهري مقيّد في الواقع بدليل العقل، فالمأمور به واقعاً مقيّد بعدم ورود النهي عنه مثلًا، لعدم جواز اجتماع الأمر والنهي على الفرض بحكم العقل، فالقسم الثاني يرجع إلى القسم الأوّل بحسب الواقع، وعليه فلا وجه لما ورد في انوار الأصول، ج 1، ص: 107

المحاضرات من أنّ دخل هذا القسم في المسمّى واضح البطلان.

كما يظهر منه ضعف ما أفاده في تهذيب الاصول حيث قال: «بعد ما عرفت من أنّ الموضوع له ليس عنواني الصحيح والأعمّ يمكن أن يقال إنّ الشرائط ليست على نسخ واحد بل بعضها من قيود المسمّى بحيث ينحلّ المسمّى إلى أجزاء وتقيّدات، وبعضها الآخر من شروط تحقّق المسمّى خارجاً، ولا دخالة له في الماهيّة، أو من موانع تحقّقه في الخارج من دون أن يكون عدمه دخيلًا في الماهيّة أيضاً، ولا يبعد أن يكون ما يأتي من قبل الأمر من

شروط التحقّق، كما أنّ الشرائط العقليّة مثل عدم ابتلائه بالضدّ وعدم كونه منهيّاً عنه من قبيل نفي موانع التحقّق فهما غير داخلين في الماهيّة وخارجان عن محلّ البحث والنزاع ... والمسألة بعد لا تخلو عن غموض وإشكال» «1».

أقول: الظاهر أنّه لا فرق بين هذه الأقسام أيضاً (قيود الماهية وشروط تحقّقها في الخارج) لا سيّما بعد ما عرفت من أنّ الموضوع له على القول بالصحيح هو المؤثّر للآثار المطلوبة، ومن الواضح أنّ انعدام كلّ واحد من هذه الشرائط يوجب نفي الأثر فلا يكون مصداقاً للصحيح، فالصلاة الفاقدة لقصد القربة أو المنهي عنها لبعض الجهات لا يترتّب عليها ما هو المقصود منها، فلا تسمّى صلاة شرعاً فلا يبقى وجه للفرق بين شروط الوجود والماهيّة، بل قصد القربة من مقدّمات العبادة، فأخذها فيها أظهر من كلّ شرط وجزء.

وإن شئت قلت: إنّ القسم الثاني والثالث في الحقيقة يرجعان إلى القسم الأوّل، مثلًا إن قصد القربة في القسم الثالث وإن كان لا يمكن أخذه في المأمور به شرعاً على مذاق القائلين به إلّا أنّه لا إشكال في أنّه متبادر من العبادة وبه قوامها، فكيف لا يكون داخلًا في مسمّاها؟ كما أنّ عدم الابتلاء بالمزاحم وعدم ورود النهي عنها (وبعنوان كلّي عدم المانع) في القسم الثاني يرجعان إلى قصد القربة ومحكومان بحكمه.

نعم يمكن أن يقال إنّ الشرائط مختلفة بحسب دخلها في التأثير بالقوّة أو بالفعل، مثلًا إذا صنع الطبيب معجوناً من عشرة أجزاء وسمّاها بالسقمونيا، فكان من شرائط تأثيره بالقوّة أن يكون مائعاً مثلًا، فإذا يبس بطل تأثيره فيقال إنّه فاسد، فالأجزاء العشرة كلّها داخلة في انوار الأصول، ج 1، ص: 108

المسمّى على قول القائلين بالصحّة، كما أنّ اشتراط كونه بحال الميعان

أيضاً داخل في مسمّى الصحيح لعدم الأثر في جامده.

ولكن هناك شرائط لفعليّة تأثيره مثل لزوم شربه قبل الغذاء أو بعده، كما أنّ هناك موانع من تأثيره بالفعل مثل الاجتناب عن بعض الأغذيّة كالملح والدسوم واللحوم مثلًا، ولا شكّ أنّ أمثال هذه الامور من الشرائط والموانع خارجة عن مسمّى ذاك المعجون وإن كانت دخلية في فعليّة تأثيره.

ولكن الظاهر أنّ الطهارة والاستقبال وقصد القربة وعدم الابتلاء بالضدّ وأمثال ذلك كلّها من القسم الأوّل، ولا نجد في العبادات مصداقاً للقسم الثاني، اللهمّ إلّاأن يقال إنّ الإيمان شرط لصحّة العمل ولكن ليس دخيلًا في مسمّى الصّلاة والصّيام والحجّ، فتدبّر جيّداً.

الأمر الخامس: تصوير القدر الجامع من أهمّ المقدّمات وله دور رئيسي في حلّ مشكلة مبحث الصحيح والأعمّ.

لا إشكال في أنّ ألفاظ العبادات والمعاملات كالصّلاة والبيع ليست من المشترك اللّفظي بالنسبة إلى أفرادها ومصاديقها الكثيرة بل إنّها من قبيل المشترك المعنوي، وحينئذٍ لا يخفى لزوم تصوّر قدر جامع لافرادها ومصاديقها حتّى يوضع اللّفظ بإزائه، كما لا إشكال في أنّ الصحيحي والأعمّي فيه سيّان، ولذلك وقع كلّ منهما في حيص وبيص لوجود إشكالين في بيان القدر الجامع:

الإشكال الأوّل: كثرة أفراد العبادات والمعاملات واختلافها من حيث أجزائها وشرائطها.

الإشكال الثاني: صحّة صدق كلّ واحد من أسامي العبادات والمعاملات على كلّ فرد منها، فيصحّ إطلاق اسم الصّلاة مثلًا على فاقد كلّ جزء وعلى واجده، وهو يستلزم كون كلّ جزء جزءً عند وجوده، وعدم كونه جزءً عند فقدانه، فيستلزم كونه مقوّماً للصّلاة عند وجوده، غير مقوّم لها عند عدمه، ولازم هذا تبدّل الماهية، أي تفاوت الأفراد في الماهية، وهو مانع عن تصوير جامع بينها كما لا يخفى، وبعبارة اخرى: الصّلاة التي يؤتى بها عن قيام أو

مع الركوع والسجود يكون القيام والركوع والسجود أجزاءً لها، ولكن إذا أتى بها عن جلوس ومع الايماء أو بلا إيماء عند عدم القدرة عليه لا تكون هذه الامور جزءً لها، وهذا ممّا لا يقبله العقل انوار الأصول، ج 1، ص: 109

ولا يمكن معه أخذ الجامع بين هذه الأفراد.

وسيوافيك إنّ كلّ واحد من الصحيحي والأعمى يتّهم صاحبه بعدم تصويره ووجدانه قدراً جامعاً مع أنّ له دوراً رئيسيّاً في حلّ المسألة كما أشرنا إليه.

إذا عرفت هذا.

فنقول: قد ذكر في كلمات الصحيحيين عناوين مختلفة للقدر الجامع فنذكرها أوّلًا ثمّ نبحث عمّا ذكره الأعمّي:

أحدها: ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله قال: «لا إشكال في وجوده (القدر الجامع) بين الأفراد الصحيحة وإمكان الإشارة إليه بخواصّه وآثاره، فإنّ الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد يؤثّر الكلّ فيه بذاك الجامع، فيصحّ تصوير المسمّى بلفظ الصّلاة مثلًا بالناهية عن الفحشاء وما هو معراج المؤمن ونحوهما- ثمّ قال- في جواب بعض الإشكالات إنّ الجامع إنّما هو مفهوم واحد (بسيط) منتزع عن هذه المركّبات المختلفة زيادة ونقيصة بحسب اختلاف الحالات».

أقول: يرد عليه:

أوّلًا: أنّ أساس كلامه في المقام قاعدة الواحد، وفيها ما مرّ من اختصاصها عند القائلين بها بالواحد الحقيقي البسيط من جميع الجهات، فلا تجري في الماهيّات الاعتباريّة مثل الصّلاة والصّوم التي تكون وحدتها اعتباريّة.

ثانياً: أنّه خلاف الوجدان والمتبادر العرفي، لأنّه إذا اطلقت الصّلاة لا ينسبق إلى الذهن إلّا تلك الأركان أو الأعمال المخصوصة والمركّب الخارجي من الأجزاء، لا الأمر البسيط المذكور في كلامه.

ثانيها: ما ذكره المحقّق النائيني رحمه الله بعد اشكاله على جميع ما ذكره الأعمّي والصحيحي وحاصله: إنّ القدر الجامع في الصّلاة مثلًا هو المرتبة العليا من مراتبها، وأمّا إطلاقها

على المراتب الدانيّة فإمّا أن يكون بنوع من الادّعاء والتنزيل، أي تنزيل الفاقد منزلة الواجد، فإطلاق الصّلاة على صلاة من يأتي بها جالساً يكون بتنزيلها منزلة صلاة القائم، أو لاكتفاء الشارع بها عن الصّلاة الكاملة كما في صلاة الغريق، وهذا لا يختصّ بالصحيحي بل هو عند الأعمّي كذلك، فإنّ القدر الجامع عنده أيضاً هو المرتبة العليا من الصّلاة وإطلاقها على الفاسد

انوار الأصول، ج 1، ص: 110

منها يكون بتنزيله منزلة الصحيح «1». (انتهى).

ويرد عليه: أوّلًا: أنّ المرتبة العليا أمر مجهول مبهم، فهل هي الصّلاة الرباعيّة أو الثلاثيّة أو الثنائيّة؟ فإنّ المرتبة العليا في كلّ واحد منها غيرها في الآخر.

وثانياً: أنّه أيضاً خلاف الوجدان والمتبادر العرفي، لأنّ إطلاق الصّلاة على المأتي بها جالساً إطلاق حقيقي، فهي صلاة حقيقة لا مجازاً وادّعاءً.

وثالثاً: إنّه يستلزم عدم ترتّب ثمرة إمكان التمسّك بالإطلاق وعدمه على النزاع بين الصحيحي والأعمى، وهذا ممّا لا يلتزم به المشهور، فتأمّل.

ثالثها: ما ذكره بعض الأعلام من أنّ الجامع هو مرتبة من الوجود، المحدود من طرف القلّة بكونه جامعاً للأركان كلّها، والملحوظ من طرف الزيادة بنحو اللابشرط بحيث يشمل الأقلّ والأكثر.

توضيح كلامه: إنّ الجامع بين الأفراد الصحيحة ليس جامعاً مقوليّاً ولا جامعاً عنوانيّاً بل هو جامع وجودي، أمّا عدم كونه جامعاً مقوليّاً فلكون الصّلاة مثلًا من مقولات مختلفة، فإنّ بعض أجزائها نحو الأذكار من مقولة الكيف المسموع، وبعضها الآخر نحو الركوع والسجود من مقولة الوضع وهكذا، وحيث إنّ المقولات من الأجناس العالية لا جنس فوقها فلا يمكن تصوّر جامع بينها، وأمّا عدم كونه جامعاً عنوانيّاً نحو عنوان «الناهي عن الفحشاء والمنكر» فلأنّه خلاف الوجدان حيث إنّ الوجدان حاكم على أنّ الصّلاة اسم لنفس الأجزاء لا لعنوان الناهي فلابدّ

من جامع وجودي وهو في الصّلاة مثلًا مرتبة من الوجود شاملة لأركان الصّلاة من جانب القلّة وتكون بنحو اللابشرط من جانب الكثرة.

ثمّ أورد على نفسه:

أوّلًا: بأنّ لازم هذا وجود قدر جامع في الأركان مع أنّه لا جامع فيها أيضاً فإنّه لا جامع مثلًا بين الانحناء من حال القيام والايماء بالنسبة إلى الركوع.

وثانياً بأنّ لازم كون الجامع المذكور لا بشرط في جانب الكثرة صدق الصّلاة على الصّلاة الفاسدة من ناحية غير الأركان أيضاً، وهو مخالف للقول بالصحيح.

انوار الأصول، ج 1، ص: 111

وتخلّص عن الأوّل بأنّ المراد من الأركان نفس الأركان وأبدالها، وعن الثاني بإضافة قيد «مع كونه مقروناً بالخصوصّيات والإضافات من جانب الشارع».

هذا تمام ما أفاده قدّس سرّه الشريف في هذا المقام.

لكن يرد عليه:

أوّلًا: أنّ الجامع هذا يستلزم عدم كون الصّلاة مثلًا من الماهيّات المتساوية نسبتها إلى الوجود والعدم (لكونها مقيّدة بالوجود على الفرض) فلا يصحّ قولك: «لم يتحقّق اليوم صلاة» مع أنّه واضح البطلان فتأمّل.

وثانياً: أنّ معنى اللابشرط في كلامه أن يكون الجزء عند وجوده داخلًا في المسمّى وعند عدمه خارجاً عنه، وهو خلاف ما قرّر في محلّه من أنّ معنى اللابشرط في ماهيّة بالنسبة إلى أمر عدم مزاحمته في صدق تلك الماهية لا كونها جزءً للماهية عند وجوده، مثلًا إذا قلنا: «صدق مفهوم زيد على مصداقه يكون لا بشرط من حيث كون عمرو معه وعدمه» ليس معناه إنّه إذا كان عمرو معه صدق اسم زيد على كليهما بل معناه إنّه لا يزاحم صدق زيد على ذاك الشخص بعينه، مع أنّ من الواضح أنّ غير الأركان إذا وجدت كان من أجزاء الصّلاة وداخلًا في مصداقه.

وثالثاً: سلّمنا، ولكنّه مختصّ بالماهيات التي تعلّقت على خصوصيّاتها ومزاياها أوامر من

جانب الشارع وصدر من جانبه بيان فيها، فلا يجري في أبواب المعاملات والموضوعات المخترعة العرفيّة مع أنّه لا إشكال في أنّ النزاع بين الصحيحي والأعمى جارٍ فيها أيضاً.

رابعها: ما ذهب إليه في تهذيب الاصول وإليك نصّ كلامه: «إنّها (أي المركّبات الاعتباريّة) وضعت لهيئة خاصّة مأخوذة على نحو اللابشرط فانيّة فيها موادّها الخاصّة من ذكر وقرآن وركوع وسجود تصدق على الميسور من كلّ واحد، وهيئتها صورة إتّصالية خاصّة حافظة لمادّتها أُخذت لا بشرط في بعض الجهات» «1».

ويرد عليه أيضاً:

أوّلًا: أنّ هذا الجامع مبهم جدّاً، بل مبهم في مبهم كما لا يخفى فكيف يمكن تصوّره ووضع اللفظ له؟

وثانياً: ما مرّ آنفاً بالنسبة إلى قيد اللابشرط في مقام ردّ كلام بعض الأعلام من أنّ حيثية

انوار الأصول، ج 1، ص: 112

لا بشرط في ماهية بالنسبة إلى أمر معناها عدم مزاحمته في صدق تلك الماهية لا كونها جزءً لها كما مرّ بيانه.

خامسها: ما ذكره في هامش أجود التقريرات وحاصله: إنّه لا بدّ في تسميّة كلّ شي ء من الرجوع إلى مخترعه، وهو في ما نحن فيه الشارع المقدّس الذي قال: «الصّلاة أوّلها التكبير وآخرها التسليم» وقال أيضاً: «الصّلاة ثلثها الركوع وثلثها السجود وثلثها الطهور» فما اعتبره الشارع في هذه الرّوايات يكون من أجزاء المسمّى وأمّا غير ذلك من الأجزاء والشرائط فيكون المسمّى بالنسبة إليها على نحو اللابشرط «1».

أقول: قد ظهر ممّا ذكرنا كلّه ضعف كلامه أيضاً، حيث يرد عليه أوّلًا: ما مرّ في تفسير حيثية لا بشرط.

وثانياً: أنّ هذا الجامع أيضاً لا يتصوّر في المخترعات العرفيّة التي ليس لها مخترع خاصّ حتّى نرجع إليه في التسمية.

وثالثاً: أنّ لازم كلامه بطلان صلاة من لم يأت بالتسليم سهواً لأنّ المفروض في كلامه إنّ التسليم

جزء للمسمّى فلا تكون صلاة من لم يأت بالتسليم صلاة وهو أوّل الكلام، وبعكسه من ترك القيام مطلقاً حتّى القيام المتّصل بالركوع، إلّاأنّ صلاته باطلة وإن كان ساهياً.

المختار في الجامع الصحيحي:

إذا عرفت إنّه لا يمكن الموافقة لما ذكره الأعلام في المقام فنقول: الصحيح في تشخيص القدر الجامع إنّما هو الرجوع إلى الآثار المترتّبة على الماهيات فإنّها قطب الرحى الذي يدور عليه مدار التسمية في العرف والشرع.

توضيحه: أنّ المركّبات الشرعيّة تكون على وزان المخترعات العرفيّة، فلابدّ لمعرفتها من تشريح المخترعات العرفيّة وتفسيرها، ولا ريب أنّ المخترعات العرفيّة تدور غالباً مدار الأثر، فالساعة مثلًا من مخترعات العرف والأثر المطلوب منها إنّما هو تعيين الأوقات ولا دخل لمادّة

انوار الأصول، ج 1، ص: 113

خاصّة بل لهيئة خاصّة في الحصول على هذا الأثر، ولذلك نرى تغييرها من مادّة إلى مادّة وهيئة إلى هيئة (فتبدّلت الساعة الرملية مثلًا إلى المائيّة ثمّ إلى الرقّاصيّة ثمّ إلى الكهربائيّة) مع ثبوت الأثر المرغوب منها (وهو تعيين الوقت) وثبوت الاسم الموضوع عليها أوّلًا وهو اسم «الساعة»، وهكذا بالنسبة إلى سائر المخترعات نظير المصباح والسيارة والبناء، فإنّ ثبات هذه الأسامي مع التغيير الكثير في المادّة والهيئة من جميع الجهات يوحي إلينا أنّ ملاك التسمية في هذه المخترعات إنّما هو الآثار والخواصّ المطلوبة منها، وحيث إنّ الأثر كان ثابتاً وباقياً على حاله بقى الاسم كذلك.

وإن شئت قلت: كما أنّ منشأ الاختراع والمحرّك نحوه يكون هو الأثر المطلوب منه والمترتّب عليه، كذلك في التسمية، فيلاحظ فيها ذلك الأثر من دون دخل لمادّة أو هيئة خاصّة.

إذا عرفت هذا فنقول: إنّ وزان المخترعات الشرعيّة وزان المخترعات العرفيّة، فإنّ الشارع مع ملاحظته الآثار والخواصّ وضع الأسماء لمعانيها ففي الصّلاة مثلًا نظر إلى أثر النهي

عن الفحشاء والمنكر مثلًا أو شي ء آخر وجعل لفظة الصّلاة لكلّ مجموعة توجب هذا الأثر، سواء كانت صلاة المريض أو الصحيح أو كانت صلاة المسافر أو الحاضر أو صلاة الغريق أو غيرها، فلا مانع من إطلاق الصّلاة حتّى على صلاة الغريق إذا تحقّق بها ذلك الأثر، كما أنّه لا دخل للمعرفة بهذا الأثر بعينه والعلم به تفصيلًا بل يكفي العلم إجمالًا بأنّ صدور هذه المجموعة العباديّة من الشارع كان لأثر خاصّ ومصلحة خاصّة، فالفرق بينها وبين المركّبات العرفيّة أنّ الأثر الذي يدور عليه رحى التسمية معلوم مشهور ولكن أثر العبادات غير معروف لنا إلّا بمقدار ما بيّنه الشارع، فهو العالم بترتّبه على أفرادها بعرضها العريض.

نعم يمكن أن يكون لهذا الأثر مراتب مختلفة بعدد مصاديق للصّلاة مختلفة نظير مراتب النور في الأفراد المختلفة للمصباح، ولكن هذا التفاوت الرتبي لا يضرّ بالاطلاق والتسمية، فلو كان كلّ صلاة صحيحة من كلّ إنسان يترتّب عليها بعض مراتب النهي عن الفحشاء بنظر الشارع المقدّس كفى في إجرائه التسمية على جميعها. فقد ظهر إنّ القدر الجامع في المقام يدور على أساس وحدة الأثر، فهو في كلّ عبادة مجموعة من الأجزاء والشرائط التي توجب الأثر المترقّب منها بنظر الشارع المقدّس.

انوار الأصول، ج 1، ص: 114

هذا هو المختار في المسألة ولكن يرد عليه في بدو النظر أربع إشكالات لا بدّ من الجواب عنها:

1- في الفرق بينه وبين مختار المحقّق الخراساني رحمه الله فلقائل أن يقول: إنّه لا فرق بينهما فإنّه رحمه الله أيضاً جعل القدر الجامع ما يوجب النهي عن الفحشاء.

أقول: إننا لا نأبى عن الاقتداء بهؤلاء الأعاظم فيما لو كان المراد واحداً، ولكن بينهما بوناً بعيداً، لأنّ المحقّق رحمه الله جعل المسمّى أمراً

بسيطاً تمسّكاً بقاعدة الواحد بينما نحن نقول: إنّ المسمّى أمر مركّب من مجموعة من الأجزاء توجب ذلك الأثر، كما في مثال السراج وغيره.

2- في الفرق بينه وبين ما أفاده في تهذيب الاصول المذكور سابقاً.

وجوابه إنّه صرّح بأنّ المسمّى هيئة خاصّة فانيّة في الموادّ مأخوذة على نحو اللابشرط، مع أنّ المختار إنّ الهيئة أيضاً لا خصوصيّة لها كالمادّة، وإنّما الخصوصيّة للآثار، وبعبارة اخرى: إنّ مدار التسمية (على المختار) إنّما هو الأثر، ولا أثر منه في كلامه.

3- ما يمكن أن يقال: بأنّ هذا مبنيّ على ما إذا كان لجميع أنواع الصّلاة أثر واحد لا ما إذا كان لكلّ واحد منها أثر يخصّه.

وجوابه: أنّ تفاوت آثار الصّلاة دعوى بلا برهان وقول بلا دليل، نعم يمكن أن يكون من قبيل تفاوت أنوار المصابيح شدّة وضعفاً ولوناً وهيئة مع أنّ جميعها تشترك في نفي الظلمة.

4- إنّ لازمه القول بالاشتغال في موارد الأقلّ والأكثر الارتباطيين لأنّ الشكّ فيه (بناءً على دخالة الأثر في المسمّى) يرجع إلى الشكّ في المحصّل.

والجواب عنه: أنّ الأسباب الشرعيّة على قسمين: قسم منها ما نعلم بمسبّباتها ويمكن لنا تحصيلها والوصول إليها ولذلك نكون مكلّفين بإيجادها، فلا إشكال في أنّ الأصل فيها هو الاشتغال، لأنّ الذمّة اشتغلت بالمسبّبات قطعاً وهو يقتضي البراءة اليقينية، وقسم لا يمكن فيه تحصيل المسبّبات لكونها محجوبة عنّا، فالقرينة العرفيّة قائمة هنا على أنّا غير مكلّفين بها بل نكون مأمورين بإتيان الأسباب فقط، ومن المعلوم أنّ بيان الأسباب حينئذٍ على عهدة الشارع وأنّ الواجب على المكلّف إتيانها بمقدار ذلك البيان، فإذا شككنا في جزئيّة شي ء مثلًا تجري أصالة البراءة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وإن كان المأمور به من قبيل الأقلّ والأكثر الارتباطيين، مثلًا

إذا كان المولى طبيباً فإخترع معجوناً لدفع بعض الأمراض وسمّاه بإسم انوار الأصول، ج 1، ص: 115

خاصّ بملاحظة ذاك الأثر، ولم يكن للعبد خبرة بأمر الطب أصلًا فحينئذٍ لا معنى لأمره بتحصيل ذاك الأثر، بل العرف يرون بيان أجزاء المعجون وشرائطه من وظائف المولى، وعند عدم البيان يحكمون بالبراءة، وسوف يأتي في محلّه مزيد توضيح لهذا فإنتظر.

هذا تمام الكلام في تصوير القدر الجامع بناءً على مسلك الصحيحي.

تصوير الجامع للأعمّي:

وأمّا تصويره على مسلك الأعمّي فقد ذكر له وجوه خمسة:

الوجه الأوّل: أن يكون عبارة عن الأركان، فالصلاة مثلًا وضعت لما اشتملت على الأركان.

ويرد عليه:

أوّلًا: أنّه خلاف الوجدان في مثل الصّلاة، لأنّ التسمية بالصّلاة لا يدور مدار الأركان بل قد يكون تمام الأركان موجودة، ومعه لا يصحّ إطلاق الصّلاة كما إذا أخلّ بسائر الأجزاء والشرائط مثل القبلة والطهارة والتشهّد والسلام، كما أنّه قد لا يكون تمام الأركان موجودة ولكن يطلق على المأتي به عنوان الصّلاة (بالمعنى الأعمّ) كما إذا أخلّ مثلًا بالركوع فقط.

وثانياً: أنّه يستلزم كون إطلاق الصّلاة على ما اشتملت على جميع الأجزاء والشرائط مجازاً من باب استعمال ما وضع للجزء في الكلّ.

إن قلت: يمكن دفعه بأنّ الأركان أخذت في المسمّى لا بشرط بالنسبة إلى سائر الأجزاء، فلا يكون إطلاق الصّلاة على ما اجتمعت فيها الأركان مجازاً.

قلنا: قد مرّ أنّ معنى لا بشرط أنّ سائر الأجزاء لا يضرّ بصدق الصّلاة على المسمّى وجوداً وعدماً وليس معناه إنّها جزء للمسمّى على فرض وجودها، مع أنّ من الواضح صدق الصّلاة على جميع الأجزاء على فرض وجودها.

إن قلت: إنّ غير الأركان الداخلة في المأمور به خارجة عن المسمّى.

قلت: هذا أمر عجيب لعدم الشكّ لأحد في صدق الاشتغال بالصّلاة إذا كان مشتغلًا بالقراءة

أو التشهّد مثلًا.

انوار الأصول، ج 1، ص: 116

كما أنّ قول بعض الأعلام، في ما نحن فيه بأنّه «لا استحالة في دخول شي ء في مركّب اعتباري عند وجوده وخروجه عند عدمه إذا كان ما أخذ مقوّماً للمركّب مأخوذاً فيه لا بشرط» «1» لا يخلو من نوع من التناقض لأنّ تركّب المسمّى من خصوص سبعة أجزاء ضمن عشرة أجزاء مثلًا وكونه لا بشرط بالنسبة إلى ثلاثة أجزاء اخرى معناه أنّ الأجزاء في مثل الصّلاة سبعة وأنّ الثلاثة الاخرى ليست بجزء، وكون الثلاثة جزءً للصّلاة حال وجودها وخارجة عنها حال عدمها معناه أنّ أجزاء المسمّى ليست بسبعة بل إنّها عشرة، وهذا هو التناقض، وما يظهر من كلام المحاضرات «2» (كما أشار إليه فيما نقلناه عنه من تعليقته على أجود التقريرات) من أنّ هذا ممكن في الامور الاعتباريّة دون الامور الحقيقيّة (ومثّل له بالدار فإنّ قوامها هو الحيطان والساحة والغرفة، وأمّا السرداب فيكون جزءً عند وجوده ولا يكون جزءً عند عدمه) أيضاً عجيب، فإنّ التناقض غير ممكن لا في الامور الحقيقيّة ولا في الاعتباريّة، والمسمّى الواحد يحتاج إلى قدر جامع بحيث يكون غيره خارجاً عنه زائداً عليه، وأمّا كون الشي ء داخلًا فيه عند وجوده وخارجاً عنه عند عدمه معناه أنّه جزء وليس بجزء وأنّ القدر المشترك واحد وليس بواحد، أمّا مثال الدار والسرداب فهو من قبيل المصادرة بالمطلوب، وأمّا تعيين السعر حين الدعوى، فإنّ الكلام هنا في حلّ هذه المشكلة وأنّه كيف يكون السرداب جزءاً لمسمّى الدار حين وجوده ولا يكون جزءً حين عدمه؟

وثالثاً: بأنّه أخصّ من المدّعى لعدم تصوّر الأركان في بعض العبادات كالصوم.

ورابعاً: بأنّ اصطلاح الأركان اصطلاح مستحدث في الفقه ولا يوجد في لسان الشرع شي ء بهذا الاسم

وأنّها أربعة أو خمسة، نعم قد ورد في جملة من الأخبار: «إنّ الصّلاة لا تعاد من خمسة، الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود» «3»

و «إنّ فرائض الصّلاة سبع: الوقت والطهور والتوجّه والقبلة والركوع والسجود» «4»

و «إنّ حدود الصّلاة أربعة: معرفة

انوار الأصول، ج 1، ص: 117

الوقت والتوجّه إلى القبلة والركوع والسجود» «1»

. ولا يخفى أنّ بعضها غير الأركان المصطلحة عند الفقهاء.

اللهمّ إلّاأن يقال: ليس الكلام في اسم الأركان، وإنّما الكلام في مسمّاها وهو ما تبطل الصّلاة بزيادته ونقيصته وهو موجود في روايات الباب.

الوجه الثاني: أن يكون الجامع عبارة عن معظم الأجزاء التي تدور مدارها التسمية عرفاً، ولا يخفى أنّ صدق الاسم عرفاً يكشف عن وجود المسمّى كما أنّ عدم صدقه عرفاً يكشف عن عدم وجود المسمّى.

وأورد عليه:

أوّلًا: بأنّه يستلزم كون الاستعمال في المجموع مجازاً، وهو ممّا لا يرضى به الأعمّي، وأمّا قضيّة اللابشرطيّة بالنسبة إلى الأكثر فقد مرّ ما فيها من المناقشة.

وثانياً: بأنّه يستلزم أن يتبادل ما هو المعتبر في المسمّى من أجزاء إلى أجزاء فيكون شي ء واحد داخلًا فيه تارةً وخارجاً عنه اخرى، لأنّ معظم الأجزاء ليست أمراً ثابتاً في جميع أنواع الصّلاة كما لا يخفى.

هذا إذا كان المراد من معظم الأجزاء مصداقه، ولو كان المراد مفهومه وعنوانه فيرد عليه أنّه خلاف الوجدان، فإنّه لا يتبادر من الصّلاة عنوان معظم الأجزاء بل مصداقها، أعني الأركان والأفعال.

الوجه الثالث: أن يكون وضعها (الصّلاة) كوضع الأعلام الشخصيّة كزيد، فكما لا يضرّ تبادل الحالات المختلفة من الصغر والكبر ونقص بعض الأجزاء وزيادته في صدق لفظ زيد على معناه، كذلك في مثل الصّلاة.

أقول: لا بدّ من البحث أوّلًا في كيفية الوضع في الأعلام الشخصيّة، وثانياً في صحّة قياس الوضع في المقام على

الوضع فيها.

فنقول: قد وقع النزاع بين الأعلام في ما وضع له الأعلام الشخصيّة، فقد يقال بأنّها وضعت للنفس الناطقة المتشخّصة بتشخّصٍ مّا، مثل كونها الابن الأوّل لزيد، أي أنّها وضعت للنفس انوار الأصول، ج 1، ص: 118

الناطقة المتعلّقة بالبدن، وحيث إنّ النفس باقية مع تبادل الحالات البدنيّة يكون صدق العلم أيضاً باقياً على حاله.

ويرد عليه:

أوّلًا: أنّ الأعلام ليست منحصرة في الإنسان حتّى يقال إنّها وضعت للنفس الناطقة بل إنّها تتصوّر في غيره من الأبنية والحيوانات أيضاً ك «المسجد الأعظم» و «مدرسة الإمام أمير المؤمنين» و «ذو الفقار» و «ذو الجناح».

وثانياً: الواضح في الأعلام هو العرف العامّ وهم لا يفهمون من النفس الناطقة شيئاً.

هذا- مضافاً إلى أنّ كثيراً من المادّيين منكرون لوجود النفس في الإنسان ويعتقدون بأنّ الإنسان ليس إلّاهذا البدن المادّي مع أنّهم أيضاً يضعون لأبنائهم أسماء ويجعلونها أعلاماً لهم، ولا يخفى أنّ هذا أيضاً من ثمرات خلط المسائل العرفيّة بالمسائل الفلسفية!

وقال بعض: أنّها وضعت للوجود الخاصّ المتشخّص، فزيد مثلًا وضع لحصّة من الوجود الذي تولّد من أب خاصّ وامّ خاصّة في مكان معيّن وزمان مشخّص، ولا إشكال في أنّ هذا المعنى من الوجود لا يتغيّر أبداً على مرّ الدهور ومضي الأعصار، هذا في الإنسان، وكذلك في سائر الأعلام فإنّ الكوفة مثلًا وضعت لمّا بنى في قطعة خاصّة من الأرض ويكون متشخّصاً بتشخّص تلك القطعة، وهذا هو المختار.

إن قلت: إنّ لازمه كون الموضوع في الأعلام حصّة خاصّة من الوجود لا الماهية بينما هي وضعت للماهيات المتشخّصة، ولذلك يحمل عليها الوجود تارةً والعدم اخرى ويقال مثلًا: لم يكن زيد موجوداً فصار موجوداً.

قلنا: سيأتي إن شاء اللَّه من أننا نعتقد بأنّ الموضوع له في جميع الألفاظ المستعملة في

لسان العرف هو الوجود (وما مرّ منّا سابقاً من أنّها وضعت للماهية كان مبنيّاً على مذاق المشهور) ويكون إطلاقها على المعدوم بضرب من التوسّع في المفهوم نظير إطلاق «العالِم» على ذات الباري تعالى (الذي علمه عين ذاته) مع أنّه وضع لذات ثبت لها العلم، ونظير اعتباره تعالى مفرداً مذكّراً في الكلام مع أنّ التذكير والتأنيث من خصوصّيات الممكن، ويشهد لما ذكرنا كونه مقتضى حكمة الوضع، لأنّ مراد الواضع من وضعه رفع الحاجات الاعتياديّة اليوميّة التي ترتفع بالوجودات الخارجيّة (لأنّه منشأ كلّ أثر) فإنّه يرى في حياته الاعتياديّة الشمس مثلًا

انوار الأصول، ج 1، ص: 119

ويحتاج إلى لفظ يشير به إليها، فيضع لفظ الشمس لمّا رآها من وجودها في الخارج، وكذلك بالنسبة إلى البحر والشجر والماء والخبز وغيرها.

نعم بين الأعلام الشخصيّة وغيرها فرق، وهو أنّ الأعلام وضعت لشخص المعنى الخارجي، وأمّا غيرها كلفظ الشجر والبحر فقد وضعت لوجوده الواسع، ومن هذا القسم ألفاظ العبادات والمعاملات.

وإذا عرفت هذا يظهر لك أنّ قياس الألفاظ الموضوعة للأشخاص بألفاظ العبادات قياس مع الفارق، لأنّ الأعلام وضعت للأشخاص، والشخص لا يتغيّر، بينما الصّوم والصّلاة ونظائرهما من أعلام الأجناس فإنّها تتغيّر بتغيّر الحالات.

الوجه الرابع: أنّها وضعت ابتداءً للكامل الواجد لجميع الأجزاء والشرائط إلّاأنّها تطلق على الناقص تنزيلًا للفاقد منزلة الواجد على نحو المجاز في الأمر العقلي، أو المجاز في الكلمة، أو لصيرورتها حقيقة فيه لكثرة الاستعمال كما في أسامي المعاجين حيث إنّها وضعت للواجد لجميع الأجزاء والشرائط لكن ربّما تطلق على الناقص من ناحية فقدان جزء من الأجزاء أو تبدّله إلى الآخر لأحد هذه الوجوه الثلاثة، والعمدة على مذهب الأعمى هو الثالث.

ويرد عليه: بأنّه يتمّ في مثل أسامي المعاجين وسائر المركّبات الخارجيّة لا في

ما نحن فيه، لأنّه لا يتصوّر حدّ كامل مشخّص للصّلاة مثلًا، لأنّه في بعض الصّلوات ركعتان، وفي بعض آخر ثلاث ركعات، وفي بعضها أربع ركعات.

ولكن يمكن دفعه:

اوّلًا: بأنّ الصّلاة ابتداءً وضعت لصلاة الحاضر المختار اليوميّة المركّبة من أربع ركعات، ثمّ استعمل في الركعتين أو ثلاث ركعات مجازاً، فتأمّل، فإنّ الالتزام بكونها مجازاً في صلاة الصبح أو المغرب مشكل جدّاً.

والعمدة في الإشكال على هذا القول أنّ استعمالها في الناقص إمّا يكون على نحو المجاز أو على نحو الحقيقة، والمجاز ممّا لا يرضى به الأعمى سواء كان مجازاً في الكلمة أو في الأمر العقلي، لأنّه قائل بالحقيقة، وأمّا الحقيقة فهي لا تخلو من نحوين: إمّا على نحو الاشتراك اللّفظي أو الاشتراك المعنوي، والأوّل لا يقول به أحد، والثاني يحتاج إلى وجود قدر جامع بين الكامل والناقص (لأنّ كلّ واحد منهما حينئذ مصداق للمعنى المشترك) فيعود الإشكال.

انوار الأصول، ج 1، ص: 120

وثانياً: يلزم منه عدم جواز إجراء أصل البراءة، وهكذا عدم جواز التمسّك بالاطلاق للأعمّي، أمّا الأوّل فلأنّ المطلوب من المكلّف بناءً على هذا القول هو الحدّ الكامل، والشكّ في وجوب الأكثر يسري إلى تحقّق ذلك الحدّ وهو يقتضي الاشتغال كما لا يخفى، وأمّا الثاني فلأنّ الدليل اللّفظي الآمر بالصّلاة مع وضعها لخصوص الحدّ الكامل ليس له إطلاق، لأنّ المفروض عدم صدق الصّلاة على غير الكامل حقيقة، ويكون مثل «أقيموا الصّلاة» ناظراً إلى الفرد الكامل ومستعملًا فيه، فلا يتصوّر في البين قدر جامع يتعلّق به الأمر بالصّلاة حتّى يتحقّق الإطلاق.

الوجه الخامس: أن يكون حالها حال أسامي المقادير والأوزان، مثل المثقال والحقّة والوزنة والكيلو غرام، فكما أنّ مقياس الكيلو مثلًا حقيقة في الزائد والناقص، والواضع وإن لاحظ الف غرام حين

الوضع إلّاأنّه لم يضع له بخصوصه بل للأعمّ منه ومن الزائد والناقص، أو أنّه وإن خصّ به أوّلًا إلّاأنّه بكثرة الاستعمال فيهما بعناية إنّهما منه عرفاً قد صار حقيقة في الأعمّ ثانياً.

يرد عليه: واستشكل فيه أيضاً بما مرّ في الوجه السابق:

أوّلًا: بأنّ هذا القياس قياس مع الفارق، لأنّ الصحيح في العبادات كالصّلاة ونحوها ليس أمراً واحداً مضبوطاً كي يتّخذ مقياساً ويكون هو الملحوظ أوّلًا عند الواضع ثمّ يوضع اللفظ بإزاء الأعمّ منه ومن الزائد والناقص، بل هو مختلف بحسب اختلاف الحالات والأوقات كما مرّ.

ثانياً: أنّ التسامح في الأوزان يتصوّر في النقصان القليل والزيادة القليلة، فلا يقاس به الصّلاة التي يكون بين صحيحها وفاسدها تفاوت كثير وبون بعيد.

مضافاً إلى أنّ إطلاق لفظ «الكيلو» مثلًا في الأوزان على الزائد والناقص يكون من باب المجاز والتسامح كما يظهر بمراجعة الوجدان، فلا يكون 950 غرام مثلًا مصداقاً لألف غرام، أي الكيلو حقيقة، ولذا إذا اريد توزين الذهب وشراء هذا المقدار، لا يتسامح فيه شي ء ويصحّ سلب اسم الكيلو عمّا يكون أقلّ منه، وهذا ممّا لا يرضى به الأعمّي في مثل الصّلاة، وذلك لأنّ الصّلاة تستعمل عنده في الناقص حقيقة لا تسامحاً ومجازاً.

فتبيّن من جميع ذلك إنّه ليس للقول بالأعمّ جامع يمكن وضع اللفظ له، وهذا من أهمّ انوار الأصول، ج 1، ص: 121

الإشكالات الواردة على هذا القول كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى.

الأمر السادس: في أنّ الوضع في ألفاظ العبادات والمعاملات هل هو من قبيل الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، أو الوضع العامّ والموضوع له العامّ؟

ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى «أنّ الظاهر أن يكون الوضع والموضوع له في ألفاظ العبادات عامين واحتمال كون الموضوع له خاصّاً بعيد جدّاً لاستلزامه

كون استعمالها في الجامع في مثل «الصّلاة تنهى عن الفحشاء» أو «الصّلاة معراج المؤمن» أو «عمود الدين» و «الصّوم جنّة من النار» مجازاً، أو نمنع استعمالها في الجامع في الأمثلة المذكورة، وكلّ منهما بعيد إلى الغاية».

والأولى أن يقال: إنّ طبيعة الوضع في أمثال هذه الألفاظ والمفاهيم يقتضي وضع اللفظ لنفس المعنى الذي تصوّر إلّاأن يمنع عنه مانع، وإلّا فلا داعي لوضع اللفظ لغير ذلك المعنى المتصوّر.

وإن شئت قلت: العدول من الوضع العامّ والموضوع له العامّ إلى الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ إنّما يكون لموانع تمنع عنه وإلّا لم يكن داعٍ إليه كما لا يخفى بالرجوع إلى موارده، وحيث إنّ في أسماء الأجناس مثل لفظ الشجر والحجر لا مانع لوضع اللفظ لنفس المعنى الجامع المتصوّر فيكون الوضع والموضوع له عامين.

وأمّا في مثل أسماء الإشارة فحيث إنّ في معانيها نوع من الإيجاد والإنشاء ويكون الإيجاد جزئيّاً حقيقيّاً فلا يمكن أن يوضع اللفظ للجامع، فيحتاج إلى قنطرة بين اللفظ والمعنى وأخذ مرآة للمصاديق الجزئيّة، فيكون الوضع عامّاً والموضوع له خاصّاً.

وبعبارة اخرى: لا إشكال في أنّ المحتاج إليه في مثل أسماء الإشارة إنّما هو المصداق الخارجي للإشارة، وإذا وضعت للمعنى الكلّي كما إذا وضع لفظ «هذا» مثلًا لكلّي «المفرد المذكّر» المشار إليه لا يمكن استعمالها في المصداق الخارجي، ويصير الوضع للكلّي غير مفيد، فلابدّ من وضعه لمصاديق ذلك الكلّي، ولا يخفى أنّ ألفاظ العبادات والمعاملات من قبيل الأوّل، فالصلاة مثلًا اسم جنس تستعمل في جنس الصّلاة لا في المصاديق (بأن تكون الخصوصيّة جزءً للمفهوم) فيكون وضعها للمصداق لغواً، فيستنتج أنّ الوضع في ألفاظ العبادات والمعاملات عام والموضوع له أيضاً عام.

الأمر السابع: في ثمرة المسألة

ذكر الأعلام للمسألة ثمرتين:

الثمرة الاولى: إنّه لا يمكن للصحيحي

التمسّك بالاطلاق في صورة الشكّ في جزئيّة شي ء، لأنّ المسمّى بناءً على مسلكه بسيط تحتمل دخالة الجزء المشكوك فيه، فلا يحرز صدق المسمّى على المأتي به من دون إتيان ذلك الجزء، خلافاً للأعمى لأنّ الصّلاة مثلًا تصدق على مسلكه وإن لم يأت ببعض الأجزاء والشرائط.

ولكن أورد عليه أمران:

الأمر الأوّل: إنّها مجرّد فرض فحسب لا مصداق له في الفقه، لعدم وجود لفظ مطلق في باب العبادات يكون في مقام البيان ويمكن التمسّك به عند الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة، وأمّا مثل «أقيموا الصّلاة» و «آتوا الزّكاة» فهو في مقام بيان أصل وجوب الصّلاة والزّكاة في الشريعة المقدّسة لا في مقام بيان حدودهما وأحكامهما.

واجيب عنه بجوابين:

أحدهما: أنّه من البعيد جدّاً عدم وجود مطلق في باب العبادات كما أفاده في تهذيب الاصول حيث قال: «كيف ينكر الفقيه المتتبّع في الأبواب وجود الإطلاق فيها».

ثانيهما: أنّه يكفي في المسألة الاصوليّة وجود الثمرة الفرضيّة، فإنّها عبارة عن ما تكون ممهّدة لاستنباط الأحكام، فإنّ الملاك فيها صرف التمهيد للاستنباط وإن لم يصل إلى حدّ العمل.

أقول: أوّلًا: لنا أن نطالبهم بالمثال لما ادّعوه من وجود إطلاقات في مقام البيان، فلقائل أن يقول: إنّه لو كان في باب العبادات إطلاق، لتمسّك به الفقهاء في محلّه كما تمسّكوا بمطلقات نظير «اوفوا بالعقود» و «أحلّ اللَّه البيع» في باب المعاملات.

وثانياً: أنّه لا يكفي مجرّد فرض الثمرة في المسألة الاصوليّة مع عدم وجود مصداق له في الفقه للزومه اللغويّة حينئذٍ كما لا يخفى.

إن قلت: كيف لا يلتفت في المقام إلى الإطلاقات الواردة في أبواب المعاملات مع أنّها أيضاً داخلة في محلّ النزاع.

قلنا: لخصوصيّة فيها توجب إمكان التمسّك بها للصحيحي أيضاً، وهي أنّ الإطلاقات الواردة في باب المعاملات منصرفة

إلى الصحيح عند العرف لا الصحيح عند الشرع لعدم انوار الأصول، ج 1، ص: 123

تأسيس فيها للشارع المقدّس، وحينئذٍ إذا شكّ الصحيحي في اعتبار قيد عند الشارع زائداً على القيود المعتبرة عند العرف والعقلاء يمكن له أن يتمسّك لدفعه بإطلاق «اوفوا بالعقود» مثلًا.

نعم ربّما يتمسّك لإثبات وجود الإطلاق في أبواب العبادات برواية حمّاد المعروفة الواردة في أبواب أفعال الصّلاة «1» حيث إنّ الإمام فيها يكون في مقام بيان تمام ما له دخل في ماهيّة الصّلاة كما لا يخفى على المتأمّل فيها.

ولكن الإنصاف أنّها لا ربط لها بالمقام أصلًا، وتوضيحه: أنّ الإطلاق على نحوين: لفظي ومقامي، والإطلاق اللّفظي هو ما يكون الحكم فيه معتمداً على لفظ وكان ذاك اللفظ في معرض التقييد من بعض الجهات كما في قولنا «اعتق رقبة» بالنسبة إلى احتمال تقييده بقيد الأيمان ثمّ يتمسّك بالاطلاق لنفي هذا القيد.

أمّا الإطلاق المقامي فهو ما ليس الحكم فيه معتمداً على لفظ في معرض التقييد بل الإطلاق مستفاد من كون المتكلّم في مقام بيان قيود شي ء أو أجزائه وشرائطه من طريق العمل، فإذا علم منه ذلك ولم يصرّح ببعض القيود أو الأجزاء أو الشرائط يعلم عدم اعتباره، كما إذا علمنا أنّه بصدد بيان أجزاء الصّلاة وشرائطها، وعدّ الحمد والركوع والسجود ولم يذكر السورة، أو أتى بها في مقام العمل ولم يأت بالسورة فيعلم منه عدم كونه جزءً.

هذا- وبينهما فرق آخر وهو أنّ كون المتكلّم في مقام البيان في الإطلاق المقامي يعلم بالقرائن بينما هو في الإطلاق اللّفظي يحرز بأصل عقلائي يدلّ على أنّ كلّ متكلّم في مقام البيان إلّا أن يثبت خلافه.

إذا عرفت هذا فنقول: إنّ محلّ النزاع في ما نحن فيه هو القسم الأوّل (الإطلاق اللّفظي)

فإنّ البحث عن الصحيح والأعمّ بحث لغوي لفظي وأمّا الإطلاق المقامي فلا فرق فيه بين الصحيحي والأعمّي في إمكان التمسّك به لأنّ الصحيحي أيضاً يتمسّك به (على فرض وجوده)، ولا إشكال في أنّ الإطلاق الموجود في حديث حمّاد إنّما هو الإطلاق المقامي لا اللّفظي.

انوار الأصول، ج 1، ص: 124

هذا كلّه في الإشكال الأوّل على الثمرة الاولى.

الأمر الثاني: أنّه لا يمكن للأعمّي أيضاً التمسّك بالاطلاق، لأنّ الأوامر الشرعيّة بنفسها قرينة على كون المأمور به، والمتعلّق فيها هو العبادة الصحيحة لأنّها هي المطلوب للشارع، وعليه لا إطلاق لها حتّى يمكن التمسّك به، فلا يمكن للأعمى أن يقول في مقام الشكّ: «إنّ الشارع أمرني بالصّلاة، والمأتي به من دون الجزء المشكوك صلاة» لأنّ الشارع لم يأمره بمطلق الصّلاة بل أمره بالصّلاة الصحيحة.

ويمكن الجواب عنه: إنّ الصحّة قيد ينتزع بعد انطباق المأمور به على المأتي به فيكون في الرتبة المتأخّرة عن الأمر، لأنّ الصحّة عند الأعمى هنا بمعنى موافقة الأمر وبعد أن علّق الشارع أوامره على الأجزاء وكان المأتي به مطابقاً لجميع الأجزاء والشرائط المأمور بها يقال:

إنّه صحيح، وينتزع عنوان الصحّة منه، وعلى هذا فلا يمكن أخذها في المتعلّق.

إلى هنا تمّ البحث عن الثمرة الاولى في المسألة، وقد ظهر منه عدم ترتّب هذه الثمرة عليها.

الثمرة الثانيّة: جواز التمسّك بالبراءة وعدمه.

وأوّل من ذكرها هو المحقّق القمّي رحمه الله وبيانها: إنّه إذا شكّ في جزئيّة السورة مثلًا للصّلاة ولم يكن في البين إطلاق يمكن التمسّك به لدفعها أمكن للأعمّي الرجوع إلى أصل البراءة، لأنّ المفروض عنده أنّ الصّلاة تصدق على فاقد الجزء أيضاً، وأمّا الصحيحي فلا يمكن له التمسّك به لأنّ شكّه هذا يسري إلى مسمّى الصّلاة وأنّ المسمّى هل صدق أو

لا؟ ولا إشكال في أنّ المرجع حينئذ إنّما هو أصالة الاشتغال.

والمعروف في الجواب عن هذه الثمرة أنّ البراءة والاشتغال لا ربط لهما بالصحيح والأعمّ بل أنّ جريانهما مبني على الانحلال وعدم الانحلال في الأقلّ والأكثر الارتباطيين، فإن قلنا هناك أنّ العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ أو الأكثر الارتباطيين ينحلّ إلى العلم التفصيلي والشكّ البدوي، فالمرجع إنّما هو البراءة عن الأكثر المشكوك، وإن قلنا بعدم الانحلال فالمرجع هو أصالة الاشتغال، ولا يخفى أنّه لا فرق في هذه الجهة بين الأعمّي والصحيحي.

وقال المحقّق النائيني رحمه الله ما حاصله: «إنّ الحقّ هو ترتّب هذه الثمرة لما عرفت من أنّه بناءً على الصحيح وأخذ الجامع بالمعنى المتقدّم (أي كونه بسيطاً خارجاً عن نفس الأجزاء

انوار الأصول، ج 1، ص: 125

والشرائط) لا محيص عن القول بالاشتغال لرجوع الشكّ فيه إلى الشكّ في المحصّل» «1».

ولكن يرد عليه:

أوّلًا: أنّ القول بالصحيح لا يلازم القوم ببساطة القدر الجامع بل ذهب كثير من الصحيحيين إلى تركّبه.

وثانياً: سلّمنا كونه بسيطاً ولكن يأتي فيه ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله، ونعم ما أفاد من أنّ العنوان البسيط ليس أمراً مسبّباً عن الأجزاء بحيث لا يمكن انطباقه عليها بل أنّه عين الأجزاء والشرائط ومنطبق عليها، وحينئذ لا يرجع الشكّ إلى الشكّ في المحصّل.

وبعبارة اخرى: أنّ نسبة القدر الجامع البسيط إلى الأجزاء والشرائط نسبة الطبيعي إلى أفراده أو نسبة العنوان إلى معنونه ومعه لا يكون المأمور به مغايراً في الوجود للأجزاء والشرائط.

أقول: الحقّ في المسألة هو التفصيل بين المباني المختلفة في القدر الجامع للصحيح، وأنّ الثمرة إنّما تظهر على بعض تلك المباني.

وتوضيحه: أنّه إن قلنا بأنّ القدر الجامع أمر مركّب (كما ذهب إليه كثير من الأعلام وهم اللّذين صرّحوا بأنّه عبارة

عن مجموع من الأجزاء على نحو اللابشرط من جانب الزيادة) فلا تترتّب هذه الثمرة لإمكان إجراء البراءة حينئذٍ للصحيحي أيضاً كما لا يخفى، وإن قلنا بأنّه أمر بسيط انتزاعي ينطبق على الأجزاء كما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله، فكذلك لا تترتّب الثمرة المذكورة، لما مرّ آنفاً من البيان، وإن قلنا أنّه أمر بسيط خارجي لا ينطبق على الأجزاء (لأنّ الانطباق عليها يتصوّر في العنوان أو الطبيعة بالنسبة إلى المعنون أو الأفراد) أو قلنا بأنّه مجموعة من الأجزاء والشرائط التي تؤثّر الأثر المطلوب (كما هو المختار) فيمكن ظهور الثمرة كما لا يخفى أيضاً، ولكن قد مرّ أنّه على المبنى المختار أيضاً يمكن الأخذ بالبراءة لما مرّ من أنّ الآثار المرغوبة من العبادات امور خفيّة عنّا، وبطبيعة الحال لم نؤمر بها بل اللازم على المولى بيان الأجزاء والشرائط المؤثّرة في هذا الأثر الخفي، فإذا لم يثبت أمره ببعض الأجزاء أو الشرائط فيمكن الأخذ بالبراءة.

فقد تحصّل من جميع ما ذكرنا عدم ترتّب هذه الثمرة أيضاً على المسألة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 126

بقي هنا امور:

الأوّل: قد يقال بأنّ المسألة ليست اصوليّة لأنّ ملاكها وقوع المسألة كبرى الاستنباط مستقلّة من دون ضمّ مسألة اصوليّة اخرى، ومسألة الصحيح والأعمّ لا يتمّ الاستنباط بها إلّا بعد ضمّ مسألة الأقلّ والأكثر الارتباطيين إليها كما لا يخفى.

ولكن فيه: أنّ لازم هذا خروج أكثر المسائل الاصوليّة عن علم الاصول لعدم وقوعه كبرى في الاستنباط مستقلّة، فإنّ حجّية خبر الواحد (التي هي من أهمّها) مثلًا لا تقع كبرى الاستنباط إلّابضميمة حجّية الظواهر إليها.

نعم الحقّ خروج مسألة الصحيح والأعمّ من مسائل الاصول من جهة اخرى، وهي أنّ البحث فيها يكون في أنّ الألفاظ الشرعيّة هل وضعت للصحيح

فقط أو للأعمّ منه ومن الفاسد، أي أنّ الصّلاة مثلًا ظاهرة في الصحيح أو في الأعمّ؟ ولا إشكال في أنّ هذا بحث صغرى لمسألة حجّية الظواهر.

الثاني: ربّما يقال بأنّ ثمرة النزاع في المقام تظهر في النذر، فإنّه إذا نذر أن يعطي ديناراً لمصلّي ركعتين مثلًا فبناءً على القول بالأعمّ- يجزي اعطائه لمصلّيهما ولو كانت صلاته فاسدة، وعلى القول بالصحيح لا يجزي ذلك.

وفيه: إنّ لازم هذه الثمرة رجوع البحث في الصحيح والأعمّ إلى تشخيص موضوع النذر فيما إذا تعلّق بماهية من الماهيات الشرعيّة، ولا يخفى أنّه ليس حكماً فرعيّاً كلّياً لكي تكون المسألة من المسائل الاصوليّة التي ثمرتها استنباط الحكم الكلّي الفرعي، بل ليست من المسائل الفقهيّة أيضاً لأنّها بحث في أنّ هذه الصّلاة مثلًا صلاة، أم لا؟ وهو بحث موضوعي خارج عن شؤون الفقيه كما هو المعروف، كما إذا تعلّق النذر مثلًا بوقوع الصّلاة في مسجد الكوفة، وشككنا في أنّ هذا المسجد هل هو مسجد الكوفة أو لا؟ وهذا أمر جارٍ في جميع موارد النذر، أضف إلى ذلك أنّه يعتبر في صحّة النذر إحراز رجحان المتعلّق ولا رجحان للصّلاة الفاسدة.

الثالث: ربّما قيل بأنّ ثمرة المسألة تظهر في مسألة محاذات المرأة للرجل حال الصّلاة، فبناءً على القول بالأعمّ تصير صلاة الرجل منهيّاً عنها وإن علمنا بفساد صلاة المرأة المحاذية للرجل أو المتقدّمة عليه، لصدق عنوان الصّلاة حينئذٍ على ما أتت بها المرأة، فيصدق «أنّه صلّى وبحذائه امرأة تصلّي» بينما لا يصدق هذا بناءً على القول بالصحيح فيما إذا علمنا بفساد صلاة المرأة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 127

ولكنّه يردّ بأنّ الأدلّة الناهية عن المحاذات منصرفة إلى الصّلاة الصحيحة وإنّ المنهيّ عنها هي محاذات المرأة حين إتيانها بها كذلك.

أدلّة القول بالصحيح:
اشارة

قد مرّ أنّ الحقّ في المسألة وضع الألفاظ للصحيح، ويستدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: التبادر

إنّ المتبادر من الألفاظ عند إطلاقها هو الصحيح، فيكون إطلاقها على الفاسد بنوع من المجاز والعناية.

ولكن هيهنا مشكلتان لا بدّ من حلّهما لكي يتمّ هذا الوجه:

الاولى أنّ التبادر فرع وجود معنى مبيّن للألفاظ، مع أنّ الألفاظ على القول بالصحيح مجملات (في مثل العبادات) إذ من الواضح وقوع الشكّ في جملة من أجزاء الصّلاة وشروطها، فعلى هذا القول يكون معناها مجملًا مردّداً بين الأقلّ والأكثر، فكيف يدّعي الصحيحي تبادر الصحيح التامّ من ألفاظها؟

وقد إلتفت المحقّق الخراساني رحمه الله إلى هذه العويصة وأشار إليها في كلماته وأجاب عنها بأنّ معاني الألفاظ وإن كانت على هذا القول مجملات ولكنّها مبيّنات في الجملة من ناحية بعض الخواصّ والآثار، فتكون الصّلاة مثلًا هي التي تنهى عن الفحشاء، أو تكون معراجاً للمؤمن، أو عمود الدين ونحو ذلك. وهذا المقدار من البيان الإجمالي يكفي في صحّة التبادر.

وقد أشار في تهذيب الاصول إلى هذا الجواب وأورد عليه بأنّ «للماهية في وعاء تقرّرها تقدّماً على لوازمها وعلى الوجود الذي هو مظهر لها، كما أنّها متقدّمة على لوازم الوجود بمرتبتين، لتوسّط الوجود بينها وبين لوازم الوجود، وإذ أضفت ذلك إلى ما قد علمت سابقاً من- أنّ النهي عن الفحشاء وكونها معراج المؤمن وما أشبهها من لوازم الوجود لا من آثار الماهيّة لعدم كونها منشأً لتلك الآثار في حدّ نفسها- تعرف أنّه لا وجه لهذا التبادر أصلًا، لأنّ تلك العناوين في مرتبة متأخّرة عن نفس المعنى الماهوي الموضوع له، بل لو قلنا أنّها من عوارض انوار الأصول، ج 1، ص: 128

الماهية أو لوازمها كانت أيضاً متأخّرة عنه، فمع ذلك كيف يمكن دعوى تبادرها من

لفظ الصّلاة مثلًا؟» «1».

أقول: ولكن يمكن دفعه بما اخترناه في مبحث الوضع، وهو أنّ أكثر الألفاظ المستعملة عند أهل اللّغة موضوعة للوجود (كما أنّه مقتضى حكمة الوضع) لا للماهية، وإذاً لا إشكال في تبادر المعنى إلى الذهن بتبادر الآثار، لوجود الملازمة بين الوجود وآثاره، لأنّ الآثار من لوازم الوجود، والإنصاف أنّ الخلط بين المصطلحات الفلسفية والمفاهيم العرفيّة هو الذي أوجب هذه المفاسد الكثيرة في علم الاصول كما مرّ سابقاً.

الثانيّة: أنّ الوجدان حاكم على صحّة إطلاق الألفاظ في المركّبات الخارجيّة على بعض الأفراد الناقصة من دون وجود عناية وتسامح في البين (نظير إطلاق لفظ الإنسان على الفاقد لعضو من الأعضاء من اليد أو الرجل مثلًا) مع أنّ لازم دعوى تبادر المعنى الصحيح إلى الذهن كون هذا القبيل من الاستعمالات مجازاً.

والجواب: واضح بناءً على مختارنا في حقيقة الوضع أيضاً، فإنّا قلنا هناك أنّ الموضوع له إنّما هو المؤثّر، للأثر ولا إشكال في أنّ الأثر قد يكون أمراً ذا مراتب، مرتبة واجدة لتمام الأثر، ومرتبة واجدة لمعظمه، ومرتبة واجدة لضعيفه ونازله، والإطلاق حقيقي بشهادة التبادر وصحّة السلب فيما إذا كان العمل واجداً لمعظم الأثر، ومجاز في ما يكون فاقداً له، ولا يخفى أنّه كلّما كان إطلاق اللفظ على الفاقد لجزء من الأجزاء أو لشرط من الشرائط حقيقيّاً بلا عناية ومجاز كشفنا منه وجود معظم الأثر، كما أنّه لا إشكال في أنّ الأثر المترتّب على الصّلاة في ما نحن فيه من هذا القبيل أي ممّا يكون ذا مراتب عديدة، وحينئذٍ نقول: إنّ إطلاق الصّلاة على صلاة المريض مثلًا حقيقي لتحقّق معظم أثر الصّلاة بها وذلك لحكم الشارع بصحّتها فإنّ حكمه بالصحّة في كلّ مورد يكون كاشفاً عن وجود معظم

الآثار كما أنّ حكمه بالفساد كاشف عن عدم وجودها كما لا يخفى.

وبهذا تنحلّ العويصتان المذكورتان بالنسبة إلى دليل التبادر.

الوجه الثاني: صحّة السلب عن الفاسد

وهو وجه تامّ إلّامن ناحية تانك العويصتين اللّتين اجيب عنهما فإنّ الإشكال هو الإشكال والجواب هو الجواب.

الوجه الثالث: وجود روايات تلائم مذهب الصحيحي فقط

وهي الرّوايات الدالّة على آثار الصّلاة نحو قوله عليه السلام «الصّلاة عمود الدين» وقوله عليه السلام:

«الصّلاة معراج المؤمن» وكذلك الرّوايات الدالّة على نفي ماهيّة الصّلاة عن فاقد بعض الأجزاء، نظير قوله عليه السلام: «لا صلاة إلّابالطهور» وقوله «لا صلاة إلّابفاتحة الكتاب» فإنّ القول بالأعمّ يستلزم تقييد لفظة الصّلاة في هذه الرّوايات بقيد «الصحيحة» وهو خلاف ظواهرها فإنّ ظاهرها ترتّب هذه الآثار على نفس الصّلاة بما لها من المعنى من دون أي قيد، وحيث إنّها لا تترتّب على الفاسد منها نستكشف أنّ الصّلاة في لسان الشارع وضعت للصحيح وما تترتّب عليه هذه الآثار.

هذا بالنسبة إلى الطائفة الاولى من الرّوايات وكذلك بالنسبة إلى الطائفة الثانيّة فإنّ ظاهرها إنّ فاقدة الطهور أو فاقدة الفاتحة ليست بصلاة أصلًا لا أنّها ليست صلاة صحيحة.

أقول: صحّة الاستدلال بهذه الرّوايات تتوقّف على أمرين:

الأوّل: ترتّب الآثار المذكورة على خصوص الصّلاة الصحيحة (كما أنّه كذلك).

الثاني: كون استعمال لفظ في معنى دليلًا على كونه معنىً حقيقيّاً له كما هو مذهب السيّد المرتضى رحمه الله، ومن المعلوم أنّ المشهور من العلماء لم يوافقوا على الأمر الثاني فإنّ الاستعمال عندهم أعمّ من الحقيقة والمجاز.

هذا- مضافاً إلى أنّ المدّعى في المقام أسوأ حالًا من مقالة السيّد المرتضى رحمه الله حيث إنّ المدّعى في ما نحن فيه أنّ المستعمل فيه تمام الموضوع له، ومذهب السيّد رحمه الله إنّما هو مجرّد كون المستعمل فيه المعنى الحقيقي فحسب.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ ظاهر هذه الرّوايات استعمال لفظ الصّلاة في معناها من دون عناية ومجاز ومن دون قيد وقرينة خاصّة، فالاستدال متوقّف على هذا الظهور لا

على قبول مذهب السيّد رحمه الله.

انوار الأصول، ج 1، ص: 130

إن قلت: لماذا لم يتمسّك بذيل أصالة الحقيقة لإثبات أنّ الموضوع له خصوص الصحيح (بعد ما علمنا أنّ المراد من الصّلاة في هذه الأخبار هو خصوص الصحيح) مع أنّها من الاصول المعتبرة اللّفظيّة؟

قلنا: إنّ أصالة الحقيقة من الاصول اللّفظيّة المراديّة تجري في خصوص ما إذا كان المراد مشكوكاً لا ما إذا علمنا بالمراد كما في المقام (حيث إنّ المفروض كون المراد هو خصوص الصحيح والشكّ إنّما وقع في كون الاستعمال حقيقة أو مجازاً).

إن قلت: إنّ لازم وضع الصّلاة للأعمّ خروج الصّلاة الفاسدة من هذه الأخبار بالتخصيص، ولازم وضعها للصحيحة خروجها بالتخصّص، ومقتضى أصالة عدم التخصيص (أصالة العموم) خروجها بالتخصّص، وهو يستلزم كون اللفظ موضوعاً للصحيح.

قلنا: إنّ وزان أصالة العموم وزان أصالة الحقيقة في أنّها من الاصول المراديّة فيكون الجواب هو الجواب.

فظهر ممّا ذكر عدم إمكان التمسّك بهذه الرّوايات لإثبات القول بالصحيح، إلّاأن يقال: إنّ ظاهرها كون استعمال الصّلاة فيها استعمالًا حقيقيّاً وأنّ الآثار آثار لماهية الصّلاة لا لمصداق من مصاديقها لعدم وجود قيد ولا قرينة فيها بل الظاهر كون هذه الألفاظ بما لها من المعنى عند الشرع واجدة لهذه الآثار وفاقدة لتلك الموانع وهذه الدعوى ليست ببعيدة، نعم يمكن أن يستدلّ أيضاً بإطّراد استعمال لفظة الصّلاة في هذه الأخبار في الصحيح، والاطّراد من علائم الحقيقة على المختار، ولا يخفى أنّ الاطّراد في الاستعمال غير مجرّد الاستعمال.

الوجه الرابع: أنّه مقتضى حكمة الوضع، لأنّ مورد الحاجة إنّما هو المعنى الصحيح.

وأورد عليه: أنّ الفاسد أيضاً محلّ للحاجة، فإنّ الحاجة إلى الفاسد لو لم تكن أكثر من الحاجة إلى الصحيح لم تكن أقلّ منها.

أقول: الأولى في تقريب هذا الوجه هو

الرجوع إلى المخترعات العرفيّة، فلا ريب أنّ المقصود في كلّ مخترع من المخترعات العرفيّة أوّلًا وبالذات هو الوصول إلى الآثار التي تترتّب عليها والإنسان المخترع يلاحظ حين التسمية تلك الآثار ويضع اللفظ لمنشئها، ولا إشكال في أنّ منشأها إنّما هو الفرد الصحيح فيصير هو المسمّى للفظ، نعم يستعمل اللفظ بعد ذلك في انوار الأصول، ج 1، ص: 131

الفرد الفاسد مجازاً، هذا في المخترعات العرفيّة، وكذلك في المخترعات الشرعيّة فإنّ المستفاد من قوله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ» أنّ الشارع اختار في أوضاعه سيرة العقلاء لأنّها أقرب إلى التفهيم الذي يراد من وضع الألفاظ.

إن قلت: إنّ المخترع جزئي حقيقي يستلزم وضع اللفظ بإزائه كون إطلاقه على سائر الأفراد المصنوعة بعده مجازاً، وهذا كاشف عن أنّ الواضع المخترع لا يضع اللفظ لخصوص هذا الفرد الذي بين يديه بل ينتقل من تصوّره إلى تصوّر الجامع الارتكازي المعرّى عن الخصوصيّات الفرديّة من الصحّة والفساد وغيرهما ثمّ يضع اللفظ لذلك الجامع الأعمّ من الصحيح والفاسد.

قلنا: إذا كان الجزئي عبارة عن الفرد الصحيح كان المنتقل إليه أيضاً هو الجامع للأفراد الصحيحة فإنّه يقول مثلًا: «وضعت هذا اللفظ للجامع بين هذه السيارة وكلّ ما كان مثلها» فيكون وصف الصحّة ملحوظاً في الجامع أيضاً.

هذا تمام الكلام في أدلّة القول بالصحيح وقد عرفت صحّة بعضها وإن كان بعضها الآخر قابلًا للمناقشة.

أدلّة القول بالأعمّ:
اشارة

واستدلّ له أيضاً بامور:

الأمر الأوّل والثاني: التبادر وعدم صحّة السلب عن الفاسد

فإن كلًا من الصحيحي والأعمّي استدلّ بهما.

والجواب عنهما أنّهما فرع تصوّر القدر الجامع وقد مرّ أنّه لا جامع للأعمّي، هذا- مضافاً إلى ما مرّ من أنّ الوجدان حاكم على أنّ المتبادر إنّما هو الصحيح من الألفاظ لا الأعمّ.

الأمر الثالث: صحّة تقسيم الصّلاة إلى صحيحها وفاسدها

فيقال: الصّلاة إمّا صحيحة أو فاسدة، والتقسيم يتوقّف على وضع الصّلاة للأعمّ كما لا يخفى.

انوار الأصول، ج 1، ص: 132

وفيه: أنّ استعمال الصّلاة في الأعمّ عند ذكر المقسّم أعمّ من الحقيقة والمجاز ولا يكون دليلًا على الحقيقة إلّاعلى مختار السيّد المرتضى فيما حكي عنه وقد عرفت ضعفه.

الأمر الرابع: الرّوايات الواردة

وقد أطلقت الرّوايات لفظة الصّلاة على الفاسد منها من دون نصب قرينة على نحو قوله عليه السلام: «دع الصّلاة أيّام اقرائك» فإنّ المراد من الصّلاة فيه هو الصّلاة الفاسدة قطعاً، لعدم كون إتيان الصّلاة الصحيحة مقدوراً لها، فيلزم عدم صحّة النهي عنها بناءً على الصحيح، ونحو قوله عليه السلام «بني الإسلام على خمس الصّلاة والزّكاة والحجّ والصّوم والولاية ولم ينادِ أحد بشي ء كما نودي بالولاية فأخذ الناس بالأربع وتركوا هذه فلو أنّ أحداً صام نهاره وقام ليله ومات بغير ولاية لم يقبل له صوم ولا صلاة» فإنّه بناءً على بطلان صلاة تاركي الولاية لا يمكن أخذ الناس بالأربع إلّاإذا كانت هذه الأسامي للأعمّ لأنّهم أخذوا بالصّلاة الفاسدة وكذا غيرها.

واجيب عنه بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّه يمكن أن يقال (بالنسبة إلى حديث الولاية) أنّ الولاية إنّما تكون شرطاً للقبول لا للصحّة كما تشهد عليه الرّوايات الواردة في أبواب مقدّمات العبادات «1» فقد ورد بعضها «أنّ عملهم لا يقبل» وفي بعضها الآخر «لا عمل له» وفي ثالث «أكبّه اللَّه على منخريه في النار» فبملاحظة هذه الأخبار يمكن أن يقال: إنّ العمل صحيح وغير مقبول، وأمّا العقاب فهو يترتّب على عدم قبولهم للولاية لا على عدم صحّة الصّلاة خصوصاً إذا لاحظنا رواية في باب الزّكاة بالنسبة إلى من استبصر بالولاية حيث إنّ الإمام عليه السلام استثنى فيها من الأعمال خصوص الزّكاة فحكم بوجوب قضائها

لأنّها وقعت في غير محلّها، ولا إشكال في أنّ ظاهرها حينئذٍ وقوع غير الزّكاة من سائر الأعمال في محلّها فيكون عدم القضاء من جهة صحّتها.

ومسألة اشتراط العبادات بالولاية محتاجة إلى البحث والتأمّل وفيها كلام في محلّها.

وبالنسبة إلى رواية «دعِ الصّلاة أيّام اقرائك» نقول: إنّ النهي الوارد فيها ليست نهياً

انوار الأصول، ج 1، ص: 133

تشريعيّاً بل إنّه إرشاد إلى عدم وقوعها صحيحة وأنّ الحيض مانع عن وقوع الصّلاة صحيحة، فكأنّها تقول: «لا تصلّ لأنّك لا تقدرين عليها» ومن المعلوم أنّ حدث الحيض مانع عن الصّلاة الصحيحة لا الفاسدة.

الوجه الثاني: سلّمنا أنّها استعملت في مثل هذه الرّوايات في الأعمّ ولكنّه لا يكون دليلًا على الحقيقة لأنّه لم يصل إلى حدّ الاطّراد.

الوجه الثالث: أنّ المستعمل فيه في هذه الأخبار ليس هو المعنى الأعمّ بل هو المعنى الصحيح، لكن الصحيح بحسب اعتقادهم (في رواية الولاية) والصحيح لولا الحيض (في رواية الحائض) فتكون هذه الأخبار حينئذٍ على خلاف المقصود أدلّ.

الأمر الخامس: أنّه لا ريب في صحّة تعلّق النذر أو الحلف بترك الصّلاة في مكان تكره فيه كالحمام وغيره، ولا ريب أيضاً في حصول الحنث بفعلها في ذلك المكان بعد النذر أو الحلف، وحينئذ يقال: أنّ الألفاظ لو كانت موضوعة للصحيح وكان النذر أو الحلف قد تعلّق بترك الصحيح لم يحصل الحنث بفعل الصّلاة في ذلك المكان المكروه، لأنّها بعد تعلّق النذر أو الحلف بتركها فيه تحرم فتفسد، وبالصّلاة الفاسدة لا يكاد يحصل الحنث لأنّه خلاف ما تعلّق النذر بتركه، مع أنّ حصول الحنث به أمر مفروغ عنه، بل يلزم منه (من تعلّق النذر بترك الصحيح) محال، لأنّه يلزم من فرض الصحّة تحقّق النذر، ومن تحقّق النذر عدم الصحّة، فيلزم من فرض

الصحّة عدم الصحّة وهو محال.

ويرد عليه امور:

الأمر الأوّل: أنّه لا ربط لهذه المسألة بمسألة الصحيح والأعمّ، لأنّ مفادها عدم إمكان تعلّق النذر بترك الصّلاة الصحيحة في مكان تكره فيه بل اللازم تعلّقه بالأعمّ من الصحيح والفاسد، فهي مسألة فقهيّة مخصوصة بباب النذر ترشد كلّ واحد من الصحيحي والأعمّي إلى عدم صحّة تعلّق النذر على الصّلاة الصحيحة، فهما سيّان فيها ولا ربط له بالمسائل اللغويّة وأنّ الألفاظ هل وضعت للصحيح منها أو للأعمّ لأنّها تقتضي عدم صحّة تعلّق النذر بالصحيح ولا تقتضي عدم وضع اللفظ له شرعاً.

الأمر الثاني: أنّه يمكن أن يقال بأنّ المراد فيها أيضاً الصّلاة الصحيحة ولكن الصحيحة لولا النذر كما تقتضيه طبيعة الحال، ومرّ نظيره في خبر «دع الصّلاة أيّام اقرائك».

انوار الأصول، ج 1، ص: 134

ومن المعلوم أنّ الفساد الناشي ء من قبل النذر لا ينافي الصحّة لولا النذر فإنّ صدق الموضوع إنّما هو مع قطع النظر عن ورود الحكم عليه.

الأمر الثالث: أنّه لا بدّ من تعلّق النذر بالصحيح لأنّ تعلّقه بالأعمّ يستلزم عدم انعقاده لعدم كون ترك الأعمّ من الصحيح والفاسد راجحاً.

هذا مضافاً إلى ما بني عليه المشهور في تحرير محلّ النزاع من خروج الشرائط عن المسمّى خصوصاً الشرائط المتأخّرة عن الأمر، وفي ما نحن فيه تكون علّة بطلان الصّلاة عدم تحقّق قصد القربة وهو من الشرائط المتأخّرة.

لكن قد عرفت أنّ المختار كون الشرائط برمّتها داخلة في محلّ البحث كما يشهد عليه هذا الاستدلال وما أشبهه.

إلى هنا تمّ الكلام في استدلالات القائلين بالأعمّ، وقد عرفت عدم تماميّة شي ء منها.

تنبيهات (في مسألة الصحيح والأعمّ)
التنبيه الأوّل: في دخول أسامي المعاملات في محلّ النزاع

وقد ذهب المحقّق الخراساني إلى التفصيل بين ما إذا كانت أسامي المعاملات موضوعة للمسبّبات فلا مجال للنزاع في كونها موضوعة للصحيحة، أو للأعمّ وما إذا

كانت موضوعة للأسباب فيكون للنزاع فيه مجال، وحاصل كلامه: أنّه إذا كانت الأسامي موضوعة للمسبّبات فلا إشكال في أنّها حينئذٍ امور بسيطة لا تتّصف بالصحّة والفساد بل أمرها دائر بين الوجود والعدم، فجريان نزاع الصحيحي والأعمّي في ألفاظ المعاملات متوقّف على كونها موضوعة للأسباب، ثمّ ذهب إلى أنّه لا يبعد دعوى كونها موضوعة للصحيحة أيضاً وأنّ الموضوع هو العقد المؤثّر لأثر كذا شرعاً وعرفاً، واختلاف الشرع والعرف فيما يعتبر في تأثير العقد لا يوجب الاختلاف في المعنى.

وبعده أتعب المحقّق العراقي رحمه الله نفسه الزكيّة حيث أراد إثبات جريان النزاع ولو قلنا بوضع الألفاظ للمسبّبات فإنّه قال: يمكن تصوير جريان النزاع في المسبّبات على ثلاثة أنحاء:

انوار الأصول، ج 1، ص: 135

الأوّل: أن يكون المسبّب أمراً واحداً وله مفهوم واحد والمصاديق واحدة، ولا يكون نزاع بين العرف والشرع فيه، وأمّا ردع الشارع في بعض الموارد فإنّه من باب تخطئة العرف في المصداق لا من باب الاختلاف في المفهوم.

الثاني: أن نقول إنّ للمسبّب مفهومين وبالنتيجة له مصداقان، فقبل الشارع أحدهما وردّ الآخر فقال مثلًا: بأنّ المعاطاة عندي ليست بيعاً.

الثالث: أن نقول أنّ للمسبّب مفهوماً واحداً وله مصاديق كثيرة ولكن ردع الشارع بعض المصاديق ليس من باب التخطئة في المصداق بل من باب الإستثناء في الحكم، فيقول مثلًا: إنّ المعاملة الربوية وإن كانت من مصاديق البيع لكنّها حرام حكماً.

ثمّ قال: فإن قلنا بالأوّل فلا يتصوّر فيه النزاع بين الصحيحي والأعمّي لدوران أمره بين الوجود والعدم دائماً، وأمّا إذا قلنا بالثاني فيمكن تصوير النزاع في أنّ الألفاظ وضعت لخصوص المفهوم المقبول للشارع أو وضعت للأعمّ منه، وكذلك إن قلنا بالثالث فيمكن تصوير النزاع فيه بأنّ الألفاظ وضعت لخصوص المصداق الذي لم

يستثن الشارع حكمه، أو وضعت للأعمّ منه ومن المستثنى في الحكم «1» (انتهى).

أقول: يرد عليه أنّ المفروض في باب المعاملات عدم وجود الحقيقة الشرعيّة بينما الصورة الثانيّة والثالثة في كلامه تستلزمانها كما لا يخفى، لأنّه يبحث فيهما في أنّ الألفاظ في لسان الشرع وضعت لأي مصداق؟

ثمّ إنّ هيهنا كلاماً آخر للمحاضرات ذهب فيه أيضاً بجريان النزاع حتّى بناءً على وضع الألفاظ للمسبّبات، واستدلّ له بأنّ المسبّب في باب المعاملات اعتبار قائم بنفس المعتبر، فإنّ البيع مثلًا ملكيّة يعتبرها البائع في نفسه وهو ممّا يتصوّر فيه الصحّة والفساد لأنّه إن أمضاه العقلاء والشرع كان صحيحاً وإلّا ففاسد «2».

أقول: إنّ المسبّب في المعاملات ليس الاعتبار القائم بالنفس فإنّه ليس أمراً شخصيّاً فحسب بل إنّه نفس الاعتبار العقلائي الدائر بينهم كما لا يخفى، ويكون اعتبارها بيد العقلاء، وأهل العرف، فإذا صدرت صيغة عقد مثلًا من بايع واعتبر العقلاء الملكيّة في موردها تتحقّق انوار الأصول، ج 1، ص: 136

الملكيّة، وإن لم يعتبروها فلا تتحقّق فيكون أمرها حينئذٍ دائراً مدار الوجود والعدم عندهم وفي اعتبارهم فلا تتّصف بالصحّة والفساد.

فظهر إلى هنا أنّ تفصيل المحقّق الخراساني رحمه الله متين لا غبار عليه، نعم أنّه مربوط بمقام الثبوت.

وأمّا مقام الإثبات ومن ناحية الموضوع فهل المراد من أسامي المعاملات الأسباب أو المسبّبات؟

يمكن أن يقال إنّه إذا استعملت الألفاظ في المعنى المصدري فلا إشكال في أنّ المراد منها الأسباب فإنّها التي تعلّق بها الإيجاد أوّلًا وبالذات، وأمّا إذا استعملت في المعنى اسم المصدري فيكون المراد منها المسبّبات، لأنّ المسبّبات هي النتائج الحاصلة من الأسباب وتناسب المعنى اسم المصدري، فلابدّ حينئذ من ملاحظة كيفية الاستعمال، فتختلف أسامي المعاملات بحسب اختلاف كيفية استعمالاتها في لسان الشارع، فالتي استعملت

في الأسباب داخلة في محلّ النزاع، والتي استعملت في المسبّبات خارجة عنه، اللهمّ إلّاأن يقال أنّها ظاهرة في المسبّبات دائماً لترتّب الآثار عليها بلا واسطة، وفي موارد استعمالها بالمعنى المصدري يكون النظر إلى إيجادها من طريق التوسّل بالأسباب كما في قولك «أحرقته» فإنّه بمعنى نفس الإحراق ولو بالتوسّل بأسبابه لا نفس الأسباب والفرق بينهما واضح.

التنبيه الثاني: التمسك باطلاقات المعاملات

بناءً على جريان النزاع في باب المعاملات فهل تترتّب عليه أيضاً الثمرة المتقدّمة في العبادات فيمكن التمسّك بإطلاقات المعاملات بناءً على الوضع للأعمّ دون الوضع للأخصّ أو لا تترتّب؟

قد يقال: بعدم ترتّبها لجواز التمسّك بالاطلاقات حتّى على القول بالصحيح لما مرّ من أنّ الصحيح في باب المعاملات هو الصحيح عند العقلاء، وأنّ المعاملات امور عرفيّة عقلائيّة وليست من الماهيات المخترعة من قبل الشارع المقدّس، إذاً تكون تلك الإطلاقات مسوقة لإمضاء المعاملات العرفيّة العقلائيّة، فالصحيحي أيضاً إذا شكّ في دخالة قيد من جانب الشارع في عقد من العقود، وكان ذلك العقد صحيحاً عند العرف والعقلاء بدون ذلك القيد يمكن له أن يتمسّك بإطلاق «اوفوا بالعقود» مثلًا لنفي ذلك القيد ويثبت به عدم اعتباره شرعاً.

انوار الأصول، ج 1، ص: 137

وذهب المحقّق النائيني رحمه الله إلى تفصيل في المقام وقال: «لو قلنا بأنّ ألفاظ المعاملات موضوعة بإزاء الأسباب فلا ينبغي الإشكال في صحّة التمسّك بالمطلقات ولو قلنا بأنّها موضوعة للصحيحة، لأنّ الإطلاق يكون منزلًا على ما يراه العرف صحيحاً، وأمّا إذا قلنا بأنّها موضوعة للمسبّبات فيشكل الأمر لأنّ إمضاء المسبّب لا يلازم إمضاء السبب.

وما يقال في حلّه من أنّ إمضاء المسبّب يلازم عرفاً إمضاء السبب إذ لولا إمضاء السبب كان إمضاء المسبّب لغواً، فليس بشي ء، إذ لا ملازمة عرفاً في ذلك، واللغويّة إنّما تكون

إذا لم يجعل الشارع سبباً أو لم يمض سبباً أصلًا إذ لا لغويّة لو جعل سبباً أو أمضى سبباً في الجملة، غايته أنّه يلزم حينئذ الأخذ بالمتيقّن (والاحتياط في الباقي) فلزوم اللغويّة لا يقتضي إمضاء كلّ سبب بل يقتضي إمضاء سبب في الجملة».

ثمّ إنّه لمّا رأى نتيجة كلامه- وهي عدم إمكان التمسّك بشي ء من الإطلاقات الواردة في باب المعاملات- خلاف سيرة الفقهاء، تصدّى من طريق آخر لحلّ الإشكال وقال:

«فالتحقيق في حلّ الإشكال هو أنّ باب العقود والايقاعات ليست من باب الأسباب والمسبّبات، وإن اطلق عليها ذلك بل إنّما هي من باب الإيجاد بالآلة، والفرق بين باب الأسباب والمسبّبات وبين باب الإيجاد بالآلة هو أنّ المسبّب في باب الأسباب ليس فعلًا اختياريّاً للفاعل بحيث تتعلّق به إرادته أوّلًا وبالذات بل الفعل الاختياري وما تتعلّق به الإرادة هو السبب ويلزمه حصول المسبّب قهراً، وهذا بخلاف باب الإيجاد بالآلة فإنّ ما يوجد بالآلة كالكتابة هو بنفسه فعل اختياري للفاعل ومتعلّق لارادته ويصدر عنه أوّلًا وبالذات فإنّ الكتابة ليست إلّاعبارة عن حركة القلم على القرطاس بوضع مخصوص وهذا بنفسه فعل اختياري صادر عن المكلّف أوّلًا وبالذات بخلاف الإحراق فإنّ الصادر من المكلّف هو الإلقاء في النار لا الإحراق، وباب العقود والايقاعات كلّها من قبيل الإيجاد بالآلة فإنّ هذه الألفاظ كلّها آلة لايجاد الملكيّة والزوجيّة والفرقة وغير ذلك، وليس البيع مثلًا مسبّباً توليديّاً لهذه الألفاظ بل البيع بنفسه فعل اختياري للفاعل متعلّق لارادته أوّلًا وبالذات، ويكون إيجاده بيده، فمعنى حلّية البيع هو حلّية إيجاده، فكلّ ما يكون إيجاداً للبيع بنظر العرف فهو مندرج تحت إطلاق قوله تعالى: «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» والمفروض أنّ العقد بالفارسيّة مثلًا يكون مصداقاً لايجاد البيع بنظر

العرف، فيشمله إطلاق حلّية البيع، وكذا الكلام في سائر الأدلّة وسائر الأبواب، فيرتفع موضوع الإشكال، إذ مبنى الإشكال هو تخيّل أنّ المنشئات بالعقود من قبيل انوار الأصول، ج 1، ص: 138

المسبّبات التوليديّة فيستشكل فيه من جهة أنّ أمضاء المسبّب لا يلازم إمضاء السبب، والحال أنّ الأمر ليس كذلك، فتأمّل في المقام جيّداً» (انتهى مع تلخيص في بعض كلماته) «1».

وفيما ذكره إشكال من جهتين:

الجهة الاولى: ما ذكره من عدم كون الأفعال التوليديّة فعلًا للإنسان أوّ: وبالذات ...- إن أراد أنّه لا يمكن تعلّق الحكم أو إرادة المولى به فهو ممنوع قطعاً، لأنّ المقدور بالواسطة مقدور واقعاً ويمكن تعلّق الإرادة التكوينيّة والتشريعيّة به، وإن أراد غير ذلك فهو غير مضرّ بالمقصود.

الجهة الثانيّة: ما ذكره من كون الإنشاء والعقد من قبيل الآلة لا من قبيل الأسباب التوليديّة فهو أيضاً ممنوع أشدّ المنع، فإنّ الآلة إنّما تكون في موارد يكون للمكلّف فعل بنفسه سوى ما يتحقّق بالآلة كما في الكتابة، فإنّ للكاتب هناك فعلًا، وهو حركة اليد، وللآلة أثراً وهو ترسيم السطور، ولكن في باب المعاملات ليس كذلك، فليس للبائع فعل سوى إنشاء البيع (والمراد بالإنشاء ليس مجرّد ذكر الألفاظ بل الألفاظ مع القصد) وأمّا الملكيّة العقلائيّة أو الشرعيّة فهي من آثار الإنشاء الجامع للشرائط، وإن هو إلّاكالإحراق الذي يتوسّل به الإنسان من طريق الإلقاء في النار وليس للمحرق فعل مباشرة إلّاالإلقاء كما أنّه ليس هنا للبائع فعل مباشرة إلّاالإنشاء.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ التمسّك بالاطلاقات في أبواب المعاملات لا مانع منه، سواء قلنا بوضع الألفاظ للأسباب أو للمسبّبات، وسواء قلنا بوضعها للصحيح أو للأعمّ.

بقي هنا أمران:

الأوّل: أنّه لو فرض عدم وجود إطلاقات لفظيّة في البين أمكن التمسّك بالاطلاق المقامي، لأنّ

الشارع المقنّن الذي يكون في مقام التقنين والتشريع قد لاحظ المعاملات الرائجة بين العرف والعقلاء ثمّ شرع أحكامه وحينئذٍ لو كان لشي ء دخل فيها بعنوان الجزء أو الشرط كان انوار الأصول، ج 1، ص: 139

عليه بيانه ولوصل إلينا، وحيث إنّه لم يصل إلينا شي ء نستكشف عدم دخل ذلك الشي ء.

الثاني: أنّه لو فرض عدم وجود إطلاق لا لفظي ولا مقامي أمكن التمسّك بالسيرة العقلائيّة الجارية على اعتبارهم للمعاملات الرائجة بينهم التي كانت بمرأى ومسمع من الشارع ويستكشف إمضاؤه لها من سكوته وعدم ردعه.

التنبيه الثالث: في دخول الشرائط في محلّ النزاع وعدمه

وقد مرّ البحث عنه في الأمر الرابع من الامور المبحوثة عنه بعنوان المقدّمة ولكن نكرّره هنا على شكل أوسع تأسّياً بالأعاظم.

قال المحقّق الخراساني رحمه الله ما حاصله: إن دخل شي ء في المأمور به على أربعة أقسام:

فتارةً يكون بعنوان الجزئيّة فيكون دخيلًا في قوام الماهية كالركوع والسجود بالنسبة إلى الصّلاة.

واخرى بعنوان الشرطيّة فيكون التقيّد داخلًا في الماهية والقيد خارجاً نحو الطهارة بالنسبة إلى الصّلاة.

وثالثة يكون دخيلًا بعنوان الجزئيّة في فرد من أفراد الماهيّة نحو القنوت الذي يكون جزء للفرد الأفضل من الصّلاة.

ورابعة يكون شرطاً للفرد، نحو إتيان الصّلاة مع الجماعة الذي يكون شرطاً للفرد الأفضل (انتهى).

ويمكن تصوير قسم خامس وإن لم يكن محلًا للبحث، وهو ليس من باب دخل شي ء في شي ء بل من باب وقوع واجب في واجب أو واجب في مستحبّ نحو السجدة الواجبة لتلاوة آية السجدة في أثناء الصّلاة على القول بجوازها حين الصّلاة، واجبة كانت الصّلاة أم مستحبّة، فإن كانت واجبة فيكون وجوب السجدة من باب وقوع واجب في واجب، وإن كانت مستحبّة فيكون من باب وقوع واجب في مستحبّ.

ثمّ إنّه لا شكّ في عدم دخول القسم الثالث والرابع في محلّ

النزاع لصدق الصّلاة وصحّتها بدونهما، فتصحّ الصّلاة بدون الجماعة أو بدون القنوت مثلًا، كما لا إشكال في دخول القسم الأوّل (وهو الأجزاء) عند الصحيحي والأعمّي معاً، والفرق بينهما أنّ الصحيحي يقول:

انوار الأصول، ج 1، ص: 140

بدخول جميع الأجزاء في الماهية، والأعمّي يقول: بدخالة بعضها.

أمّا القسم الثاني وهو الشرائط، فقال المحقّق الخراساني رحمه الله في بدو كلامه بأنّه يمكن أن يقال بعدمه، ولكن صرّح في آخره بأنّها داخلة فيه، وظاهره دخولها مطلقاً، وقد يقال بعدم دخولها مطلقاً، وقد يفصل فيها بتفاصيل عديدة: تفصيل للمحقّق النائيني، وتفصيل ثاني للمحقّق العراقي، وتفصيل ثالث لتهذيب الاصول، ورابع يكون هو المختار.

أمّا القول الأوّل، وهو دخل الشرائط مطلقاً فيمكن الاستدلال له بوجهين:

الأوّل: أنّ الجامع الذي لا بدّ من تصويره قد استكشفناه من ناحية الآثار كالنهي عن الفحشاء وغيره، ومن المعلوم أنّها مترتّبة على الصحيح التامّ جزءً وشرطاً لا على الصحيح في الجملة، أي من حيث الجزء فقط دون الشرط.

الثاني: أنّ الأدلّة التي أقمناها على الصحيح من التبادر، وصحّة السلب عن الفاسد، والأخبار المثبتة لبعض الآثار للمسمّيات، والنافيّة للطبيعة بفقد جزء أو شرط، وهكذا دعوى استقرار طريقة الواضعين على الوضع للمركّبات التامّة- كلّها ممّا تساعد الوضع للصحيح التامّ جزءً وشرطاً لا الصحيح في الجملة.

وهذان الوجهان تامّان لا غبار عليهما ولكن لا ينافيان ما سنذكره إن شاء اللَّه من التفصيل.

ويمكن أن يستدلّ للقول الثاني وهو القول بعدم الدخالة مطلقاً بأمرين:

الأوّل: أنّ الأجزاء بمنزلة المقتضي، والشرائط بمنزلة شرط تأثير المقتضي فتكون رتبتها متأخّرة عن رتبة الأجزاء ولا يمكن أخذها في المسمّى في عرض الأجزاء كما حكي عن شيخنا العلّامة الأنصاري رحمه الله في تقريراته.

الثاني: أنّ الصّلاة من الامور القصديّة، وكثير من الشرائط لا يعتبر فيه

القصد نحو طهارة الثوب وطهارة البدن (بل يمكن أن يقال أنّ الوضوء أيضاً من هذا القبيل لأنّه من الشرائط المقارنة للصّلاة ولا يعتبر قصدها حين الصّلاة) ودخل الشرائط في المسمّى تستلزم تركيب الصّلاة من الامور القصديّة وغير القصديّة والمفروض أنّها برمّتها من الامور القصديّة.

أقول: ويرد على الأوّل أنّ التأخّر في الوجود بحسب المرتبة لا دخل له بالتأخّر في التسمية، وعلى الثاني أنّا لا نسلّم كون الصّلاة أمراً قصديّاً لجميع شراشرها بل يعتبر القصد في خصوص أجزائها لا شرائطها.

انوار الأصول، ج 1، ص: 141

أمّا القول الثالث، وهو القول بالتفصيل فقد مرّ أنّ هناك ثلاثة أنواع من التفصيل وبتعبير أصحّ ثلاث بيانات مختلفة لتفصيل واحد:

البيان الأوّل: ما أفاده المحقّق العراقي رحمه الله على ما في بدائع الأفكار فإنّه قال: الشرائط على ثلاثة أقسام: قسم أخذ في المأمور به، نحو شرط القبلة بالنسبة إلى دليل «صلّ إلى القبلة» وشرط الوقت بالنسبة إلى دليل «صلّ في الوقت» والطهارة بالنسبة إلى دليل «صلّ مع الطهارة»، وقسم لم يؤخذ فيه من ناحية الشرع بل الدالّ عليه هو العقل ولكن يمكن أخذه في المأمور به نحو عدم المزاحمة بالأهمّ وعدم تعلّق النهي، وقسم يستحيل أخذه في المأمور به والكاشف عنه هو العقل أيضاً، نحو قصد الأمر بناءً على ما هو المشهور من استحالة أخذه في متعلّق الأمر لاستلزامه الدور.

ثمّ ذهب إلى دخول القسم الأوّل في المسمّى، وأمّا الإشكالان المذكوران من جانب القائلين بالعدم فالمهمّ منهما عنده هو الإشكال الأوّل، وأجاب عنه بقضيّة الحصّة التوأمة فقال: المعتبر في الصّلاة هو الركوع والسجود وسائر الأجزاء المحصّصة بالحصّة المقارنة مع القسم الأوّل من الشرائط والتوأمة معها من دون أن تكون مقيّدة بها أو مطلقة بالنسبة إليها.

أمّا

القسم الثاني والثالث فقال بأنّهما خارجان عن حريم النزاع للإجماع والاتّفاق على صدق مسمّى الصّلاة في صورة التزاحم مع الأهمّ وصورة فقدان قصد الأمر فيقال الصّلاة المتزاحمة مع الأهمّ والصّلاة الفاقدة لقصد الأمر. هذا ملخّص كلامه رحمه الله «1».

ويرد عليه:

أوّلًا: أنّه لا معنى محصّل للحصّة التوأمة لأنّ الواقع ليس خالياً من أحد الأمرين، فإمّا أن تكون القضيّة في مرحلة الواقع مشروطة أو تكون مطلقة بنحو القضيّة الحينيّة، فإن كانت مشروطة فمعناه دخل الشرائط في المسمّى وكونه مقيّداً بها وإن كانت مطلقة بنحو القضيّة الحينية فمعناه عدم تقيّده بها، وليس في الواقع أمر ثالث، كما أنّه لا معنى للاهمال في مرحلة الثبوت والواقع.

وثانياً: أنّ الإجمال المدّعى قيامه على صدق الصّلاة في صورة عدم القسم الثاني والثالث في انوار الأصول، ج 1، ص: 142

الشرائط غير ثابت، لما مرّ من أنّ الصّلاة وضعت لما ينشأ منه الأثر، ولا شكّ في دخل قصد القربة كركن في تأثيرها في الآثار المطلوبة منها، وقد عرفت أنّ مسألة نفي المزاحم أو النهي ترجع في النهاية إلى قصد القربة، فيكون القسم الثاني والثالث أيضاً داخلين في محلّ النزاع، مضافاً إلى عدم حجّية الإجماع في إثبات حقيقة لغويّة أو حقيقة شرعيّة التي لا بدّ فيها من الرجوع إلى التبادر وصحّة السلب ونحوهما، وليست من المسائل التعبّديّة.

البيان الثاني: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله في المقام، وهو نفس ما ذهب إليه المحقّق العراقي رحمه الله إلّاأنّ دليل أحدهما غير دليل الآخر، ودليل المحقّق النائيني رحمه الله على خروج القسم الثاني والثالث: أنّ صدق المزاحمة أو ورود النهي فرع وجود المسمّى وإلّا لا يصدق مزاحمة شي ء لشي ء ولا عنوان المنهي عنه، وعلى هذا تكون التسمية قبل الابتلاء

بالمزاحم وقبل ورود النهي، هذا هو الوجه في خروج القسم الثاني عن محلّ النزاع، وأمّا القسم الثالث فالوجه في خروجه عنده تأخّره عن المسمّى برتبتين، لأنّ قصد القربة أو قصد الأمر متأخّر عن الأمر، والأمر متأخّر عن موضوعه وهو الصّلاة مثلًا. (انتهى ملخّص كلامه «1»).

أقول: يرد عليه أنّا لا نسلّم كون المزاحمة أو ورود النهي متفرّعاً على التسمية (المسمّى بما أنّه مسمّى) بل يمكن أن يتعلّق النهي لبعض المسمّى إرشاداً إلى دخل شي ء في تمام المسمّى كما في قوله عليه السلام «دع الصّلاة أيّام اقرائك» فالأمر متأخّر عن ذات المسمّى لا عن التسمية، وهكذا بالنسبة إلى قصد الأمر، فيمكن أن يقول الشارع: «كبّر، اركع، اسجد، مع قصد الأمر المتعلّق بها» فيكون قصد الأمر متأخّراً عن متعلّق الأمر، وهو وجود المسمّى لا عن تسميته بالصّلاة مثلًا.

ويجاب عن الثاني بأنّ المختار جواز أخذ ما لا يتأتّى إلّامن قبل الأمر في المأمور به، لأنّ الأمر فرع تصوّر موضوعه، وتصوّر المتأخّر وجوداً ممكن جدّاً، فقد وقع الخلط بين تأخّر الوجود برتبتين وتأخّر التصوّر، والذي يعتبر في الأمر هو الثاني لا الأوّل، وحينئذٍ يمكن أخذه في التسمية أيضاً على نحو ما مرّ في القسم السّابق، فتدبّر جيّداً.

البيان الثالث: ما أفاده بعض الأعاظم في تهذيب الاصول فإنّه قال في صدر كلامه بدخول انوار الأصول، ج 1، ص: 143

جميع الأقسام في المسمّى، وأجاب عن إشكال تقدّم التسمية على الطلب وقال بإمكان تأخّرها عنه لإمكان تعلّق الطلب على عناوين اخرى غير عنوان الصّلاة ووقوع التسمية بعده، ثمّ قال: إن قلت: وقوع التسمية بعد الطلب لغو لا فائدة فيه.

قلت: كان النزاع في الإمكان وعدمه وفي مقام الثبوت لا في مقام الإثبات، واللغويّة غير الاستحالة وداخل

في مقام الإثبات، ولكن عدل عنه في ذيل كلامه وقال: الشرائط على قسمين: شرائط «المسمّى» (شرائط الماهية) وشرائط «وجود المسمّى» وتحقّقه، والقسم الأوّل من الشرائط لا يبعد أن يكون من شرائط الماهية فيكون داخلًا في محلّ النزاع، وأمّا القسم الثاني والثالث فهما من شرائط الوجود فليسا داخلين في محلّ البحث، لأنّ البحث في الصحيح والأعمّ يكون في تعيين ما به مسمّى الألفاظ لا تشخيص شرائط وجوده. (انتهى ملخّص كلامه «1»).

أقول: يلاحظ على بيانه بأمرين:

الأوّل: أنّ ما ذهب إليه من التفصيل بين الشرائط وتقسيمها بشرط الماهية وشرط الوجود مبني على القول بأنّ الألفاظ وضعت للماهيات، وأمّا بناءً على مختارنا في المقام من أنّ جميع الألفاظ (إلّا ما شذّ) وضعت للوجودات الخارجيّة فهو في غير محلّه كما لا يخفى.

الثاني: أنّه يمكن أن يقال بدخول القسم الثاني والثالث في محلّ النزاع أيضاً لأنّ مقوّم ماهية العبادة هو العبوديّة والمقربيّة، ولا ريب في أنّ مقوّم العبوديّة إنّما هو قصد القربة بل هو أهمّ ما يكون داخلًا في ماهية الصّلاة، لأنّ خروجه عنها يستلزم خروج العبادة عن كونها عبادة، فكيف لا يكون داخلًا في ماهيّة المسمّى؟ ولا إشكال في أنّ الصّلاة والحجّ ونحوهما من مصاديق العبادة، والعجب منه ومن العلمين (المحقّق العراقي والنائيني رحمهما الله) حيث ذهبوا إلى أنّ قصد القربة خارج عن ماهيّة مسمّى العبادة حتّى على مبنى الصحيحي، مع أنّها بدون القربة لا تكون عبادة.

والمختار في المسألة هو ما ننتهي إليه بعد الرجوع إلى الاصول الموجودة في تسمية المخترعات العرفيّة كما مرّ، فإنّا قد قلنا بأنّ السيارة مثلًا وضعت لما يكون منشأً للأثر المرغوب انوار الأصول، ج 1، ص: 144

منها، ثمّ نقول: إنّ تأثيرها في الأثر له نوعان من

الشرائط: فنوع منها يكون شرطاً لفعلية المقتضي، كوجود النفط في المصباح مثلًا بالنسبة إلى تأثيرها في الإضاءة، وكشرب الدواء في صباحاً قبل الطعام، ونوع منها يكون شرطاً لاقتضاء المقتضي نحو كميّة الأجزاء وكيفيتها في المعاجين، ومن الواضح عدم دخالة النوع الأوّل في المسمّى كما يحكم به الوجدان، فإنّه لا يقول أحد بأنّ النفط داخل في مسمّى المصباح، وشرب الدواء قبل الطعام مثلًا داخل في مسمّى الأدوية بخلاف النوع الثاني.

هذا في المخترعات العرفيّة، وكذلك في المخترعات الشرعيّة فإنّ شرائط الصّلاة مثلًا على قسمين، قسم منها يكون من شرائط اقتضاء الصّلاة للأثر، فيكون داخلًا في مسمّاها كالطهارة وقصد القربة، وقسم منها يكون من شرائط فعلية تأثير الصّلاة مثل كون المصلّي مؤمناً (على القول باشتراط الإيمان في الصحّة لا في القبول فقط) ومثل الموافاة على الإيمان فيكون خارجاً عن مسمّاها، ولا بدّ من ملاحظة الأدلّة في باب شرائط العبادات وغيرها وملاحظة تناسب الحكم والموضوع حتّى يعلم أنّ هذا الشرط أو ذاك من القسم الأوّل أو القسم الأخير.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ عدم الابتلاء بالمزاحم وعدم ورود النهي يرجعان إلى قصد القربة كما مرّ في الأمر الرابع من الامور المذكورة في المقدّمة.

نعم إنّه سيأتي في مبحث الترتّب أنّ عدم الابتلاء بالمزاحم ليس من الشرائط (أي إن الابتلاء بالمزاحم ليس من الموانع) كما هو المعروف والجاري في ألسنة جمع من الأعلام، وإنّ كونه من الشرائط مبني على إنكار الترتّب.

وبهذا يتمّ الكلام في مبحث الصحيح والأعمّ والحمد للَّه.

انوار الأصول، ج 1، ص: 145

الأمر التاسع: في الاشتراك واستعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى

اشارة

ولا بدّ فيه من تقديم امور:

الأمر الأوّل: في إمكان وضع الألفاظ المشتركة وعدمه، ثمّ في وقوعه بعد ثبوت إمكانه.

ففيه ثلاث مذاهب: مذهب القائلين بالإمكان، ومذهب القائلين بالاستحالة، ومذهب القائلين بالوجوب.

المذهب الأوّل: فاستدلّ له بوجوه أحسنها وقوع الاشتراك في اللّغة، وأدلّ دليل على إمكان شي ء وقوعه، ووقوعه أمر وجداني ثابت بمثل التبادر ونحوه من سائر علائم الحقيقة، مضافاً إلى أنّ الإمكان يثبت بنفي أدلّة القائلين بالامتناع والوجوب كما سيأتي.

أمّا القائلين بالامتناع: فاستدلّوا له بدليلين:

الدليل الأوّل: ما ذكره غير واحد من أنّ الاشتراك مخالف لحكمة الوضع لأنّ به لا يحصل التفهيم والتفهّم.

وفيه: أوّلًا: أنّه يمكن حصول التفهّم بالقرينة ولا حاجة إلى كونها لفظيّة حتّى يستشكل بأنّه تطويل بلا طائل بل يمكن كونها مقاميّة أو حاليّة، مضافاً إلى أنّه ليس من قبيل التطويل بل قد يكون موافقاً للفصاحة والبلاغة.

وثانياً: أنّه قد تقتضي الحكمة إطلاق الكلام مجملًا مبهماً، والتكلّم من وراء الحجاب وغائباً عن الأغيار، ولا إشكال حينئذ في ثبوت الحاجة.

الدليل الثاني: (وهو مبني على كون الوضع بمعنى التعهّد والالتزام وكون الوضع تعييناً) استحالة أن يتعهّد الإنسان أوّلًا على أن يستعمل اللفظ في أحد المعنيين للفظ كلّما استعمله في انوار الأصول، ج 1، ص: 146

كلامه، ثمّ يتعهّد ثانياً كذلك بالنسبة إلى المعنى الآخر، لأنّ أحد التعهّدين مناقض للآخر.

أقول: يمكن التعهّد والالتزام بأنّه كلّما استعمل هذا اللفظ أراد أحد هذين المعنيين، وأمّا تعيين أحدهما بعينه فهو إنّما يكون بالقرينة فلا يلزم حينئذٍ محذور التناقض.

وأمّا القائلين بالوجوب: (وهو في المقام بمعنى اللابدّية) فاستدلّوا له بأنّ الألفاظ محدودة والمعاني غير متناهية ولولا الألفاظ المشتركة لوقعنا في ضيق وحرج بالنسبة إلى المعاني التي لم توضع بإزائها ألفاظ، فلابدّ لنا من المصير إلى الاشتراك.

والجواب عنه:

أوّلًا: إن كان المراد من عدم التناهي، عدم التناهي حقيقة فلا ترتفع الحاجة

إلى غير المتناهي بالمتناهي ولو زيد عليه ألف مرّة كما لا يخفى، وإن كان المراد منه الكثرة.

ففيه: أنّ الألفاظ أيضاً كثيرة بل تتجاوز مئات الملايين كما يظهر لنا بمحاسبة ساذجة، بملاحظة ثلاثين حرفاً من الحروف الهجائيّة (لو فرضنا كونها ثلاثين حرفاً) وضربها في نفسها (30* 30: 900) ليحصل منه التراكيب الثنائيّة، ثمّ ضرب العدد الحاصل في الثلاثين أيضاً ليحصل به الكلمات الثلاثيّة (900* 30: 27000)، ثمّ ضرب العدد الحاصل في الثلاث لإمكان تغيير موضع الحروف الثلاثة وإمكان تصوير كلّ كلمة ثلاثيّة على ثلاث صور، (27000* 30: 810000) وهكذا إلى آخره فيضرب العدد الحاصل في الثلاثين أيضاً ليتشكّل منه الكلمات الرباعيّة، ثمّ ضربه في الأربع، ثمّ ضربه في اثني عشر، ثمّ في الثلاثين أيضاً، ثمّ في خمسة وعشرين ثمّ ملاحظة كيفية الحركات الثلاثة (810000* 30: 2430000* 4: 9720000* 12* 30* 25* ...) وعليه فلا إشكال في كفاية الألفاظ عن المعاني بل أنّها أكثر من المعاني، أي تكون القضيّة على العكس، فيمكن أن يقال: إنّ الألفاظ غير متناهية عرفاً، والمعاني التي نحتاج إليها في حياتنا متناهية.

ثانياً: سلّمنا كون المعاني غير متناهية وكون الألفاظ متناهية إلّاأنّ كلّية كثير من الألفاظ بل أكثرها توجب رفع المشكلة لأنّ مورد الحاجة كثيراً ما يكون هو الكلّي وأمّا الجزئيات والمصاديق فترتفع الحاجة إليها بتطبيق الكلّي على الفرد كما لا يخفى، فإنّا نحتاج إلى وضع اسم لكلّي الحجر أو الشجر أو الدار مثلًا ولا نحتاج إلى وضع لفظ لافرادها بل نتكلّم عنها بتطبيق كلّياتها عليها.

انوار الأصول، ج 1، ص: 147

وثالثاً: لا ينحصر طريق حلّ المشكل في الاشتراك بل إنّ باب المجاز واسع.

فظهر: أنّ الحقّ إمكان الاشتراك لا وجوبه ولا امتناعه، كما أنّ الحقّ إمكان

الترادف أيضاً لكونه مقتضى حكمة الوضع، فربّما تقتضي الفصاحة استعمال ألفاظ مترادفة في معنى واحد للتأكيد أو غيره.

الأمر الثاني: في علّة الاشتراك ومنشئه

لا إشكال في أنّه من البعيد جدّاً أن يكون منشأ اشتراك بعض الألفاظ وضع واضع واحد، فيضع لفظاً واحداً تارةً لمعنى واخرى لمعنى آخر، بل يحتمل فيه وجهان آخران:

الوجه الأوّل: أن يكون المنشأ تعدّد الوضع التعييني بسبب تعدّد القبائل والطوائف في لغة واحدة كأن تضع قبيلة لفظاً في معنى، وتضع قبيلة اخرى من نفس تلك اللّغة ذلك اللفظ في معنى آخر.

الوجه الثاني: الوضع التعيّني، فوضع لفظ العين مثلًا في بدو الأمر للعين الباكية ثمّ استعمل في الجارية مجازاً بعلاقة الجريان، وصار بعد كثرة الاستعمال حقيقة، وكذلك بالنسبة إلى المتجسّس بعلاقة النظر وكونه بمنزلة البصر على الخصم، وهكذا بالنسبة إلى سائر معانيه.

أضف إلى ذلك ما يقع في الأعلام الشخصيّة، فإنّه كثيراً ما يختارون اسم «محمّد» لأفراد كثيرة، أو اسم فاطمة لعدّة بنات تبرّكاً بإسم النبي صلى الله عليه و آله وبنته الزهراء سلام اللَّه عليها، فيكون هذا من أسباب الاشتراك في الأعلام، أو يسمّون مسجداً باسم أمير المؤمنين عليه السلام في بعض البلاد، ومسجداً آخر بإسمه عليه السلام في بلدة اخرى وهكذا.

لكن هنا أمر ينبغي التنبيه عليه، وهو أنّا وإن قلنا بإمكان المشترك ووقوعه لا سيّما في باب الأعلام إلّاأنّ كثيراً من الألفاظ التي يتوهّم كونها مشتركاً لفظيّاً، مشترك معنوي أو من قبيل الحقيقة والمجاز، نحو «القرء» فإنّ المعروف كونه مشتركاً لفظياً وإنّه وضع للطهر تارةً وللحيض اخرى، مع أنّه مشترك معنوي وضع لمعنى انتقال المرأة من حال إلى حال، والانتقال له فردان: الانتقال من الطهر إلى الحيض وبالعكس، ويشهد عليه استعماله في مطلق الانتقال في لسان القرآن وكلمات

بعض أهل اللّغة، ولعلّ لفظ «العين» بالنسبة إلى معانيها الكثيرة أيضاً كذلك، كما يشهد له عبارات المفردات للراغب في ذيل البحث عن كلمة «عين» وإليك نصّها

انوار الأصول، ج 1، ص: 148

بالحرف: عين: العين الجارحة ... ويستعار العين لمعانٍ هي موجودة في الجارحة بنظرات مختلفة، ويستعار للثُقب في المِزادة تشبيهاً بها في الهيئة وفي سيلان الماء منها، فاشتقّ منها سقاءٌ عيِّن ... والمتجسّس عين تشبيهاً بها في نظرها، وقيل للذهب عين تشبيهاً بها في كونها أفضل الجواهر، كما أنّ هذه الجارحة أفضل الجوارح، ومنه قيل: أعيان القوم لأفاضلهم، وأعيان الاخوّة لبني أب وام ... ويقال لمنبع الماء عين تشبيهاً بها لما فيها من الماء، وعن عين الماء اشتقّ «ماء معين» أي ظاهر للعيون ... ويقال لبقر الوحش «أعين» و «عيناء» لحسن عينيه. (انتهى).

ولا يخفى أنّ هذه العبارة تنادي بأعلى صوته أنّ العين ليس مشتركاً لفظيّاً، والظاهر عدم اختصاص هذا المعنى بهذه اللّفظة، بل يجري في كثير من الألفاظ التي يدّعي اشتراكها.

اللهمّ إلّاأن يقال في خصوص لفظ «العين» إنّ ما ذكره الراغب في المفردات إنّما هو بيان لوجه استعمال العين في غير الجارحة المعروفة، والعلاقة الموجودة بينهما، ولكن بعد كثرة الاستعمال صار حقيقة فيها كما هو حقيقة في الجارحة المعروفة، فحصل الاشتراك اللّفظي.

وعلى كلّ حال نحن وإن قلنا بأنّ كثيراً من الألفاظ التي يتصوّر اشتراكها لفظاً تكون من المشترك المعنوي واقعاً، ولكن ما قد يظهر من بعض (مثل صاحب كتاب: «التحقيق في كلمات القرآن الكريم») من إرجاع جميع الكلمات المشتركة الواردة في القرآن الكريم إلى أصل واحد ممّا لا دليل عليه، ولا داعي له، ومن أقوى الأدلّة على نفي هذا القول بعض التكلّفات التي ارتكبها في كثير من

اللغات المشتركة بداعي ارجاعها إلى أصل واحد.

الأمر الثالث: في إمكان وقوعه في كلام اللَّه تعالى

ويدلّ عليه أوّلًا: أنّه مقتضى بلاغة الكلام لأنّها تقتضي أحياناً إطلاق الكلام مجملًا مردّداً، ولا إشكال في أنّ كلام اللَّه تعالى أبلغ الكلمات.

وثانياً: ما قد يقال: إنّ أدلّ الدليل على إمكان شي ء وقوعه، ولقد وقع استعمال المشترك في القرآن نحو لفظ العين فإنّه تارةً استعمل في العين الجارية في قوله تعالى «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ» واخرى في العين الباكيّة في قوله تعالى: «وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ» ولكن قد عرفت الإشكال في كون لفظ العين من المشتركات اللّفظيّة.

هذا تمام الكلام فيما أردناه من الامور الثلاثة بعنوان المقدّمة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 149

ولنرجع إلى البحث في استعمال المشترك في أكثر من معنى، الذي له أثرات مهمّة في الفقه والتفسير، وليس محل النزاع استعمال اللفظ المشترك في القدر الجامع بين المعنيين فإنّه لا مانع منه ولا خلاف فيه، بل البحث في استعمال لفظ واحد في آنٍ واحد في كلّ من المعنيين في عرض واحد، كما أنّ النزاع يعمّ الحقيقة والمجاز أو الحقيقة والكناية أي استعمال لفظ واحد في معناه الحقيقي والمجازي أو في معناه الحقيقي والكنائي في عرض واحد، لعدم كون النزاع مختصّاً بالألفاظ المشتركة، ولتداخل الجميع في كثير من الأدلّة، وعليه فعنوان البحث «هل يجوز استعمال لفظ واحد في أكثر من معنى سواء كان من باب الاشتراك، أو الحقيقة والمجاز أو الحقيقة والكناية؟».

الأقوال في مسألة استعمال المشترك في أكثر من معنى

والأقوال فيها كثيرة يمكن جمعها في ثلاثة:

الأوّل: الجواز مطلقاً، الثاني: الاستحالة مطلقاً، الثالث: التفصيل تارةً بين المفرد والتثنية والجمع، واخرى بين النفي والإثبات.

وقد ذهب كثير من الأعاظم إلى الاستحالة عقلًا، بل هو المشهور بين المتأخّرين مثل المحقّق الخراساني والمحقّق النائيني رحمهما الله وغيرهما، وذهب إلى الجواز في التهذيب والمحاضرات وهو المحقّق المختار.

واستدلّ القائلون بالاستحالة

بما حاصله: أنّ استعمال لفظ واحد في المعنيين يستلزم الجمع بين اللحاظين في آنٍ واحد وهو محال.

توضيحه: أنّ حقيقة الاستعمال ليست عبارة عن جعل اللفظ علامة للمعنى حتّى يقال أنّه لا مانع من جعل لفظ واحد علامة لمعنيين أو الأكثر، بل هو فناء اللفظ في المعنى وجعله وجهاً ومرآة وعنواناً للمعنى، كأنّ ما يجري على اللسان هو نفس المعنى لا اللفظ، كما يشهد عليه سراية قبح المعنى إلى اللفظ وبالعكس، إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ استعمال لفظ واحد في معنيين يستلزم كونه فانياً في كلّ واحد مستقلًا، ومن المعلوم أنّ لحاظه كذلك في معنى ينافي لحاظه في معنى آخر فلا يكون وجهاً لمعنيين وفانياً في اثنين إلّاأن يكون اللاحظ أحول العينين.

انوار الأصول، ج 1، ص: 150

ويرد عليه:

أوّلًا: أنّ القول بكون حقيقة الاستعمال فناء اللفظ في المعنى كلام شعري لا دليل عليه، بل هي عبارة عن جعل اللفظ علامة للمعنى كما عرفت بيانه في محلّه، وأمّا قضيّة سراية القبح والحسن فليست من جهة الفناء بل هي ناشئة من كثرة الاستعمال وحصول الانس أو المنافرة بالنسبة إلى المعنى، ولذا لا يحسّ متعلّم اللّغة الجديدة قبحاً ولا حسناً في الألفاظ لعدم حصول كثرة الاستعمال والانس بالنسبة إليه.

ثانياً: سلّمنا كون اللفظ فانياً في المعنى لكن إنّما يستلزم المحال فيما إذا تحقّق اللحاظان في آن واحد، وأمّا ملاحظة المعنيين بلحاظين مستقلّين في آنين مختلفين قبل وقوع الاستعمال ثمّ استعمال اللفظ فيهما ثانياً فلا مانع منه ولا يلزم منه محذور ولا حاجة إلى لحاظ المعنيين في آنٍ واحد، أي لا دليل على لزوم وحدة آن اللحاظ في الاستعمال.

وثالثاً: أنّ أدلّ دليل على إمكان شي ء وقوعه، ولا ينبغي الإشكال في وقوع استعمال اللفظ

في أكثر من معنى واحد في كلمات الفصحاء والبلغاء، كما يقال في جواب من شكى وجعاً في عينه الباكية وجفاف عينه الجارية: «أصلح اللَّه عينك» ويراد منه كلا المعنيين، بل لا يخفى لطفه وأنّه يستحسنه الطبع والوجدان اللغوي، كما لا إشكال في أن يقول من دخل على زيد في داره ورأى جوده وسخائه مضافاً إلى كثرة رماده: «أنت كثير الرماد» بمعنيين فيريد المعنى الحقيقي والمعنى الكنائي معاً في استعمال واحد، وكقول الشارع في مدح النبي الأعظم صلى الله عليه و آله في شعر لطيف له:

المرتمى في الدجى والمبتلى بعمى والمشتكى ظمئاً والمبتغى ديناً

يأتون سدّته من كلّ ناحية ويستفيدون من نعمائه عيناً

فاستعمل لفظ العين في معانٍ أربعة: الشمس والعين الباكية والعين الجارية والذهب «1».

انوار الأصول، ج 1، ص: 151

لا يقال: إنّه استعمل حينئذٍ في الجامع بينهما وهو المسمّى بالعين فيكون من باب المشترك المعنوي، لأنّ استعماله في جامع من هذا القبيل في غاية الغرابة وخارج عن المحسنات الذوقيّة بل يوجب خروج تلك الأبيات عن جمالها ولطافتها إلى أمر مبتذل كما لا يخفى. مضافاً إلى كونه خلاف الوجدان، ولا فرق في ذلك بين كون العين مشتركاً لفظيّاً أو حقيقة في الجارحة ومجازاً في غيرها.

ورابعاً: الرّوايات الكثيره الواردة في بيان أنّ للقرآن بطناً أو سبعة أبطن أو أكثر من ذلك ظاهرة في أنّ اللفظ الواحد استعمل في معانٍ متعدّدة.

وقد جمعها العلّامة المحقّق المجلسي رحمه الله في المجلّد 89 في كتاب القرآن في الباب 8 «أنّ للقرآن ظهراً وبطناً ...» وقد أورد فيها أكثر من ثمانين رواية كثير منها دليل على المطلوب.

منها: ما رواه عن المحاسن عن جابر بن يزيد الجعفي قال «سألت أبا جعفر عليه السلام عن شي ء من

التفسير فأجابني ثمّ سألته عنه ثانيّة فأجابني بجواب آخر، فقلت: جعلت فداك كنت أجبتني في هذه المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم، فقال: ياجابر، إنّ للقرآن بطناً وللبطن بطن وله ظهر وللظهر ظهر» «1».

ومنها: ما رواه عن تفسير العياشي عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذه الرّواية «ما في القرآن آية إلّاولها ظهر وبطن ... ما يعني بقوله «لها ظهر وبطن» قال: ظهره تنزيله وبطنه تأويله، منه ما مضى ومنه ما لم يكن بعد، يجري كماتجري الشمس والقمر ...» «2».

وقد رويت هذه الرّواية في الوسائل بعبارة أوضح عن فضيل بن يسار قال سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذه الرّواية: «ما من القرآن آية إلّاولها ظهر وبطن» فقال: ظهره تنزيله وبطنه تأويله منه ما قد مضى ومنه ما لم يكن يجري كما يجري الشمس والقمر- إلى أن قال- وما يعلم انوار الأصول، ج 1، ص: 152

تأويله إلّااللَّه والراسخون في العلم» «1».

إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا المعنى، هذا من جانب.

ومن جانب آخر هناك روايات كثيرة وردت في تفسير آيات القرآن ممّا لا يحتمله ظاهره أو يعلم أنّه ليس بمراد من ظاهره، مثل تفسير «البحرين» في قوله تعالى «مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ» بأمير المؤمنين وفاطمة عليهما السلام، وتفسير «اللؤلؤ والمرجان» في قوله تعالى «يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ» بالحسنين عليهما السلام وكذلك تفسير «الماء المعين» في قوله تعالى: «أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ» بظهور الحجّة عليه السلام وتفسير قوله تعالى: «ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ» (التفث بمعنى الوسخ) بلقاء الإمام عليه السلام حيث سأل عنه عبداللَّه بن سنان عن الصادق عليه السلام فقال: أخذ الشارب وقصّ الأظفار وما أشبه ذلك، قال:

جعلت فداك فإنّ ذريحاً المحاربي حدّثني أنّك قلت: ثمّ ليقضوا تفثهم لقى الإمام ... فقال: صدق ذريح وصدقت، إنّ للقرآن ظاهراً وباطناً ومن يحتمل ما يحتمل ذريح» «2» إلى غير ذلك من أشباهه.

ولا ريب أنّ الحسنين عليهما السلام ليسا معنىً حقيقيّاً للؤلؤ والمرجان، وكذلك المهدي (أنفسنا لنفسه الوقاء) ليس مصداقاً حقيقيّاً للماء المعين بل معناه الحقيقي هو المادّة السيّالة المخصوصة حتّى أنّ الماء المضاف من معانيه المجازيّة فكيف بغيره؟ فلا يبقى هنا مجال إلّاالاستعمال في أكثر من معنى، كلّ واحد مستقلّ عن الآخر، معنى حقيقي ومعنى مجازي (وإن كان المجاز هنا أرقى من الحقيقة من حيث الجمال الأدبي وروعة البيان).

إن قلت: لِمَ لا يجوز استعماله في القدر الجامع المشترك بين المعنيين اشتراكاً معنويّاً كأن يقال: إنّ المراد بالماء المعين هو الذي يكون سبباً للحياة، والمراد باللؤلؤ والمرجان هو الشي ء النفيس مادّياً كان أو معنويّاً، وكذلك «التفث» أعمّ من الوسخ الظاهري والباطني، فالأوّل يزول بقصّ الأظفار وأخذ الشارب وغيرهما، والثاني بملاقاة الإمام عليه السلام؟

قلنا: أوّلًا: لازم ذلك أن تكون الآيات القرآنيّة محمولة على المجازات كلّها أو جلّها لأنّ جميعها يشتمل على البطون، ومن الواضح أنّ البطن معنى مجازي (كاستعمال الماء المعين في انوار الأصول، ج 1، ص: 153

المهدي أرواحنا فداه) واستعمال اللفظ في القدر الجامع بين المعنى الحقيقي والمجازي استعمال مجازي (لأنّ النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمتين) ولا يمكن الالتزام بذلك.

وثانياً: لازم ذلك أن يكون قوله تعالى: «يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ» (مثلًا) عامّاً شاملًا لكلّ شي ء نفيس، فلا ينحصر بوجود الحسنين عليهما السلام بل يشمل كلّ ما كان ثميناً معنويّاً، ولا يمكن الالتزام بذلك أيضاً، وكذلك الماء المعين يشمل جميع ما كان سبباً للحياة المعنويّة من العلم والتقوى

والمعرفة، وكلّ إنسان له حظّ من المعنويات، وهل يلتزم القائل بذلك؟

وإن شئت قلت: الجامع بين خصوص «اللؤلؤ والمرجان» الظاهريين اللّذين هما المعنى الحقيقي لهذين اللّفظين بحسب المتبادر ونصّ أهل اللّغة، وبين وجود الحسنين عليهما السلام بحيث لا يشمل غيرهما، غير موجود، والموجود من القدر الجامع يشمل كلّ موجود له نفاسة وقيمة.

وثالثاً: حمل اللفظ على القدر الجامع بين المصاديق المادّية والمعنويّة (الحقيقيّة والمجازيّة وإن كان المجاز ما فوق الحقيقة) أمر يعرفه كلّ من له خبرة بمعنى الكلمات ولا يختصّ ذلك بالراسخين في العلم من الأئمّة المعصومين عليهم السلام.

ويستفاد من جميع ذلك أنّ البطون ليست سوى معانٍ مستقلّة اريدت من الكلام إلى جنب المعنى الظاهري، وعلمها عند أهلها، فيكون من باب استعمال اللفظ في أكثر من معنى، وإن لم يكن كلّها معانٍ حقيقيّة (فإنّ محلّ الكلام أعمّ).

إن قلت: أو لست تقول: إنّ استعمال اللفظ في أكثر من معنى وإن كان جائزاً ولكنّه يحتاج إلى القرينة، ولا نرى قرينة للبطون.

قلنا: نعم، ولكن اقيمت القرينة لمن قصد افهامه من اللفظ وهم الأئمّة المعصومون الراسخون في العلم، وإرادة معنى من اللفظ في خطاب جميع الناس وإرادة معنى آخر (مضافاً إلى المعنى الأوّل) لأوحدي منهم مع إقامة القرائن له فقط- لا يعدّ أمراً مستنكراً كما لا يخفى.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله لتوجيه روايات البطون غير مرضي عندنا فإنه قال:

1- إنّ المراد من البطون معانٍ اخرى قد اريدت في أنفسها في حال الاستعمال لا من اللفظ.

2- يمكن أن يكون المراد لوازم المعنى المستعمل فيه اللفظ وإن كانت أفهامنا قاصرة عن ادراكها.

ولكن الجواب الأوّل عجيب منه، فإنّ لازمه أنّ المراد من بطون القرآن معانٍ كانت انوار الأصول، ج 1،

ص: 154

موجودة في ذهن المتكلّم فأرادها مقارناً للمعنى المستعمل فيه اللفظ من دون أي ربط بينهما ومن دون استعمال اللفظ في تلك المعاني، وهذا عجيب منه ومعلوم بطلانه.

وأمّا الجواب الثاني ففيه أنّه ينتقض بما يعدّ من بطون القرآن ولا يكون من لوازم المعنى الموضوع له، نحو كلمة «الجوار الخنّس» في الآية التي فسّرت في الرّواية بالامام الغائب (أنفسنا له الفداء) مع كونه في اللّغة بمعنى الكواكب المتحرّكة التي تغرب وتحتجب عن النظر، ولا ملازمة بين المعنيين كما لا يخفى.

وأمّا القول بأنّه استعمل في معنى جامع- و يرد عليه ما سبق آنفاً من الإيرادات الثلاثة.

وممّا ذكرنا ظهر أمران:

الأوّل: أنّ استعمال اللفظ في أكثر من معنى وإن كان ممكناً إلّاأنّه حيث كان مخالفاً لظاهر الكلام فيحتاج إلى القرينة المعيّنة للمعاني المرادة لا القرينة على المجاز كما في الأبيات المذكورة آنفاً، وبدونها لا يصحّ حمل اللفظ على المعنيين أو أكثر، بل يحمل على معنى واحد من معانيه، فإن كان هناك قرينة معيّنة فيها فهو وإلّا كان مجملًا.

نعم لا فرق بين أن تكون القرينة داخلية أو خارجيّة، فالداخلية مثل ما مرّ في ما مضت من الأبيات، فإنّ كلمة «في الدجى» وكلمة «ظمئاً» مثلًا قرينتان على استعمال العين في الشمس والعين الجارحة، والخارجيّة نظير ما مرّ من تفسير الإمام عليه السلام في الآيات الثلاث.

الثاني: قد ظهر ممّا ذكرنا هنا أنّه لا فرق من ناحية العقل بين استعمال اللفظ في المعنيين الحقيقيين، أو المعنى الحقيقي والمجازي، أو الحقيقي والكنائي نفياً واثباتاً، لأنّ دليل الاستحالة المذكورة سابقاً كان منحصراً في امتناع اجتماع اللحاظين، وهو يتصوّر في كلّ واحد من التقادير، فبمنعه يثبت الجواز أيضاً في جميعها.

إلى هنا تمّ الدليل الأوّل للامتناع، وقد تبيّن ممّا

ذكر في جوابه دليل المختار من جواز الاستعمال في أكثر من معنى.

وأمّا الدليل الثاني فهو ما قد يقال من أنّ الألفاظ وجودات تنزيلية للمعاني وكأنّ المعنى يوجد بإيجاد اللفظ، ولذلك قالوا بأنّ للوجود أنواعاً أربعة: وجوداً خارجياً، ووجوداً ذهنياً، ووجوداً كتبيّاً، ووجوداً لفظيّاً، فعدّ اللفظ أيضاً من أنواع الوجود، وحيث لا يكون لحقيقة

انوار الأصول، ج 1، ص: 155

واحدة وجودان خارجيان، فكذلك لا يكون للفظ واحد معنيان.

والجواب عنه: إنّ المراد من كون الألفاظ وجودات تنزيلية للمعاني تشبيه للألفاظ بالوجودات الخارجيّة، ويكون المقصود هيهنا أنّ وجود اللفظ علامة لوجود المعنى، وإلّا لا إشكال في أنّ اللفظ ودلالته على معناه أمر اعتباري عقلائي ولا يقاس بالوجودات الحقيقيّة الخارجيّة، فإنّ هذا أيضاً من الموارد التي وقع فيها الخلط بين المسائل اللغويّة والمسائل الفلسفية، وعليه لا مانع من استعمال لفظ وإرادة معنيين.

وإن شئت قلت: سلّمنا كون اللفظ وجوداً تنزيليّاً للمعنى، ولكن أي مانع من تنزيل شي ء واحد منزلة الشيئين، فإنّ التنزيل أمر اعتباري ولا مانع من اجتماع امور اعتباريّة عند استعمال لفظ واحد.

الثالث: إنّه باللفظ يوجد المعنى، واللفظ يكون علّة للمعنى ولا يصدر من العلّة الواحدة إلّا معلول واحد.

وفيه: أنّ هذا أيضاً من أوضح مصاديق الخلط بين المسائل الفلسفية والحقائق الاعتباريّة، فإنّ قاعدة الواحد (على القول بها) مختصّة بالواحد البسيط الحقيقي التكويني كما مرّ غير مرّة، وأمّا وضع الألفاظ فأمر اعتباري محض ولا يجري فيه قانون العلّية فضلًا عن قاعدة الواحد.

هذا أوّلًا.

وثانياً: سلّمنا- لكن ليس اللفظ في استعماله في أكثر من معنى تمام العلّة لايجاد المعنى بل هو جزء للعلّة التامّة، والجزء الآخر هو القرينة ولا إشكال في أن يصير لفظ واحد بضمّ قرينة علّة لايجاد معنى، وبضمّ قرينة اخرى علّة

لايجاد معنى آخر فتأمّل «1».

هذا كلّه في أدلّة القائلين بالاستحالة العقليّة.

أمّا القائلون بعدم الجواز لغة وعرفاً فهم طائفتان: طائفة قالوا بعدم الجواز حقيقة والجواز مجازاً، وطائفة اخرى قالوا بعدم الجواز حقيقة ومجازاً، والإنصاف أنّ طريق هاتين الطائفتين أسلم اشكالًا من طريق القائلين بالاستحالة العقليّة وإن كانت مقالتهم أيضاً لا تخلو من الضعف والإشكال كما سيأتي.

انوار الأصول، ج 1، ص: 156

واستدلّ الطائفة الاولى بوجهين:

الأوّل: أنّ الوحدة جزء للموضوع له لأنّ اللفظ وضع للمعنى الواحد، فإذا استعمل في المعنيين استعمل في غير ما وضع له فيصير مجازاً.

الثاني: أنّ اللفظ وضع للمعنى في حال الوحدة، فكأنّ الواضع اشترط أن يستعمل اللفظ حال الوحدة، حيث إنّ اللغات توقيفيّة، فلابدّ لاستعمال اللفظ في المتعدّد إلى إذن من الواضع.

وأمّا الطائفة الثانيّة: فاستدلّوا لعدم الجواز حقيقة بنفس ما استدلّ به الطائفة الاولى، ولعدم الجواز مجازاً بعدم وجود علاقة بين الواحد والمتعدّد لأنّهما ضدّان، لكون أحدهما مأخوذاً بشرط شي ء والآخر بشرط لا، ولا إشكال في أنّهما متباينان، وأمّا علاقة الكلّ والجزء فلا تتصوّر هنا لأنّ الوحدة شرط للموضوع له وليست بجزء له.

والجواب: عن كلتا الطائفتين: إن كان المراد من قيد الوحدة أنّ اللفظ وضع لمعناه لأن يستعمل فيه باللحاظ الاستقلالي فإنّه حاصل في ما نحن فيه، لأنّ المراد من استعمال لفظ في أكثر من معنى استعماله في كلّ واحد بلحاظ مستقلّ لا في المجموع من حيث المجموع.

وإن كان المراد منها أنّ اللفظ وضع لأن يراد منه معنى واحد لا معنيان وإن كان يلاحظ كلّ واحد منهما مستقلًا فهو دعوى بلا دليل.

وإن كان المراد أنّ اللفظ يستعمل في الاستعمالات المتعارفة في معنى واحد وهذا يوجب ظهور اللفظ في معنى واحد، فهو حقّ ولكنّه ظهور انصرافي،

أي ينصرف اللفظ إلى الوحدة لا ظهور حقيقي بحيث يكون في غيره مجازاً، لأنّ منشأ الظهور هنا كثرة الاستعمال في العرف لا التبادر الذي يكون من علائم الوضع، فليست الوحدة جزءاً للموضوع له بل اللفظ ظاهر في معنى واحد ولا بدّ لاستعماله في الأكثر من قرينة معيّنة للأكثر وصارفة عن المعنى الواحد.

وأمّا القائلون بالتفصيل بين التثنية والجمع والمفرد فتمسّكوا لعدم الجواز في المفرد بما مرّ من اعتبار الوحدة أيضاً فقالوا: إنّ التثنية أو الجمع في حكم تكرار اللفظ فلا ينافيان قيد الوحدة فإنّ «العينين» مثلًا بمعنى عين وعين.

والجواب عنه: أنّه لا إشكال في أنّ معنى التثنية هو الفردان من معنى واحد، وكذلك الجمع فإنّه أفراد من كلّي واحد كما أنّ المفرد فرد واحد من ذلك المعنى فالتثنية والجمع في حكم تكرار الفرد لا تكرار اللفظ.

انوار الأصول، ج 1، ص: 157

إن قلت: فما تقول في «زيدان» مع أنّ المفرد فيه جزئي لا يتصوّر فيه الأفراد؟

قلت: الوجدان حاكم على أنّ المراد من «زيدان» فردان من كلّي «المسمّى بزيد».

وأمّا القائلون بالتفصيل بين النفي والإثبات فاستدلّوا بأنّ ما وقع في حيّز النفي يفيد معنى الجمع فدليلهم هو الدليل، والجواب أيضاً هو الجواب.

انوار الأصول، ج 1، ص: 159

الأمر العاشر: في المشتق

اشارة

قد وقع النزاع في أنّ المشتقّ هل يكون حقيقة في خصوص ما يتلبّس بالمبدأ في الحال (حال النسبة) أو في الأعمّ منه وممّا مضى منه التلبّس بعد الاتّفاق على كونه مجازاً في ما يتلبّس بالمبدأ في المستقبل؟ فلفظ الصائم مثلًا هل يكون حقيقة فيمن يكون صائماً في زمان الحال فقط، أو يطلق حقيقة أيضاً على من كان صائماً؟ بعد الاتّفاق على مجازيته في من يصوم في الاستقبال.

ولنقدّم قبل الورود في أصل البحث اموراً:

الأمر الأوّل: في تعيين حدود محلّ النزاع

هل النزاع يختصّ بالمشتقّ الصرفي فحسب؟ وبعبارة اخرى: هل المشتقّ في الاصول هو المشتقّ في علم الصرف، أو له اصطلاح خاصّ؟

الظاهر أنّ له اصطلاحاً جديداً في الاصول وأنّ النسبة بين المشتقّ الاصولي والمشتقّ الصرفي عموم من وجه، والمهمّ في المشتق الاصولي أن يحوى امورزاً اربعة:

الأوّل: الذات المتلبّسة بالمبدأ.

الثاني: مبدأ الاشتقاق.

الثالث: تحقّق التلبّس في زمان من الأزمنة الثلاثة.

الرابع: انقضاء التلبّس. فالملاك في دخول شي ء في محلّ النزاع اجتماع هذه الامور فيه، وحيث إنّ بعض المشتقّات الصرفيّة لا يكون واجداً لتمامها فيكون خارجاً عن محلّ البحث كالفعل الماضي أو المستقبل (فإنّ ذات الفاعل فيهما ليست جزءً) وإن كانا مشتقّين في اصطلاح الصرفيين، بل أنّه نفس الحدث الواقع في زمان من الأزمنة، وكذلك الأوصاف التي لا يتصوّر فيها انقضاء المبدأ نحو المولد حينما يقال: «مولد النبي صلى الله عليه و آله مكّة» لأنّ وصف التولّد يتحقّق في انوار الأصول، ج 1، ص: 160

زمان ومكان، ولا يكون له بقاء حتّى يتصوّر انقضائه أو عدمه، وكذلك الأوصاف التي تكون من ذاتيات الشي ء كالمحرقيّة بالنسبة إلى النار، وبالعكس يدخل بعض الجوامد الصرفيّة في محلّ النزاع لاجتماع الامور الأربعة المذكورة فيه كالزوج والزوجة، ولذلك قلنا بأنّ النسبة بين المشتقّ في

علم الاصول والمشتقّ في علم الصرف هي العموم من وجه، فموضع اجتماعهما نظير اسم الفاعل والمفعول، وموضع الافتراق هو الأفعال والجوامد.

بقي هنا شيئان:

1- قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ ثمانيّة أقسام من المشتقّات الصرفيّة (اسم الفاعل، اسم المفعول، الصفة المشبهة، صيغة المبالغة، اسم الزمان، اسم المكان، اسم التفضيل واسم الآلة) والجوامد الواجدة للمعيار المذكور تكون داخلة في محلّ النزاع، فلا وجه لتخصيص صاحب الفصول محلّ النزاع باسم الفاعل وما بمعناه من الصفات المشبهة وإخراج سائر المشتقّات، وهي اسم المفعول وصيغة المبالغة واسمي الزمان والمكان واسم الآلة، واستدلاله للخروج بأنّ من اسم المفعول ما يطلق على الأعمّ كقولك: «هذا مقتول زيد» أو «مصنوعه» أو «مكتوبه» ومنه ما يطلق على خصوص المتلبّس نحو «هذا مملوك زيد» أو «مسكونه» أو «مقدوره» ولم نقف فيه على ضابطة كلّية، وهكذا اسم المكان نحو المسجد، واسم الزمان نحو المقتل، واسم الآلة نحو المفتاح، بل يصدق المسجد على مكان السجدة ولو لم يسجد فيه بالفعل، ويصدق المقتل على زمان القتل والمفتاح على آلة فتح الباب سواء حصل المبدأ أو لم يحصل بعدُ.

لأنّه يرد عليه ما مرّ من أنّ الأوصاف التي لا يتكرّر الوصف فيها تكون خارجة عن محلّ النزاع، ومنها مثال المقتول المذكور في كلامه، ولا يوجب خروج مصداق من مصاديق اسم المفعول عن محلّ النزاع (لعدم تكرّره) خروج اسم المفعول بجميع مصاديقه، وأمّا سائر الأمثلة في كلامه فسيأتي أنّ للتلبّس بالمبدأ أنحاء منها: التلبّس بالفعل ومنها: التلبّس بالملكة ومنها:

التلبّس بالحرفة ومنها: التلبّس بالشأنيّة أو الاستعداد والقابلية، والانقضاء في كلّ منها بحسبه، ففي مثل المسجد والمفتاح يكون التلبّس بالملكة والاستعداد لأنّ المسجد مكان يكون مستعدّاً للسجدة، والمفتاح ما يكون مستعدّاً لفتح الباب به،

وإذا انقضى هذا الاستعداد يقع البحث في أنّهما حقيقتان في خصوص ما تلبّس بمبدأ الاستعداد في الحال، أو في الأعمّ منه والمنقضي عنه انوار الأصول، ج 1، ص: 161

التلبّس بالاستعداد؟ وأمّا اسم الزمان فسيأتي الكلام فيه فانتظر.

2- إنّه يمكن الاستدلال لدخول بعض الجوامد في محلّ النزاع بثلاثة وجوه:

منها: صدق عنوان البحث عليه وهو «ما مضى عنه المبدأ» ولا إشكال في صدق هذا العنوان على مثل الزوج والزوجة.

ومنها: أنّه سلّمنا عدم اتّخاذ الاصولي مصطلحاً جديداً وكان العنوان هو المشتقّ الصرفي لكن يجري النزاع في بعض الجوامد لوجود الملاك فيه وهو اجتماع الامور الأربعة المذكورة فيها.

ومنها: استدلالات الأعلام في الفقه، فإنّهم بنوا أدلّتهم لبعض المسائل على عناوين ليست بمشتقّ صرفي كعنوان الزوج والزوجة مع أنّ مبنى استدلالهم بها كون هذه العناوين مشتقّات بل أرسلوه إرسال المسلّمات وهذا يكشف عن وجود اصطلاح خاصّ للمشتقّ الاصولي أيضاً، ومن تلك المسائل مسألة «من كانت له زوجتان كبيرتان وزوجة صغيرة وأرضعت الكبيرتان الصغيرة» وسيأتي الكلام فيها في محلّه وإنّهم بنوا حكم هذه المسألة على مسألة المشتقّ.

الأمر الثاني: في خروج اسم الزمان عن محلّ النزاع وعدمه

ووجه الإشكال فيه عدم وجود بعض الأركان الأربعة فيه، وهو بقاء ذات تتلبّس بالمبدأ، أي يكون للذات المتلبّس فردان فرد متلبّس في الحال وفرد تلبّس بها وانقضى عنه المبدأ، وهذا غير متصوّر في اسم الزمان، لأنّ الذات فيه وهي الزمان ممّا ينقضي بإنقضاء نفس المبدأ، وعليه فكيف يجري النزاع في كون اسم الزمان حقيقة في خصوص المتلبّس في الحال، أو في الأعمّ منه وما انقضى عنه المبدأ، مع عدم وجود ما انقضى عنه في الخارج؟، فوقع الأعلام لدفع هذا الإشكال في حيص وبيص وأجابوا عنه بوجوه:

الوجه الأوّل: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله فإنّه قال: يمكن

أن يضع الواضع اللفظ لمعنى كلّي وإن كان له في الخارج فرد واحد فقط، فإسم الزمان وضع لكلّي ما تلبّس بالمبدأ سواء تلبّس به في الحال أو في الماضي مثلًا وإن كان منحصراً في الخارج في فرد واحد وهو المتلبّس انوار الأصول، ج 1، ص: 162

بالمبدأ في الحال، وهو أمر ممكن نظير النزاع في اسم الجلالة (اللَّه) في أنّه وضع لكلّي واجب الوجود، أو وضع لشخص الباري تعالى مع أنّه منحصر في فرد واحد خارجاً، مضافاً إلى أنّه لا إشكال في أنّ لفظ واجب الوجود وضع لكلّي الواجب مع انحصار مصداقه في ذات الباري.

أقول يرد عليه:

أوّلًا: أنّ وضع اسم الزمان للكلّي مع انحصاره في فرد واحد يستلزم اللغويّة لعدم الحاجة إليه، وبعبارة اخرى: إنّ حكمة الوضع تقتضي عدمه فإنّ الحكمة فيه إنّما هي الحاجات الاعتياديّة اليوميّة، ومع انحصار الكلّي في فرد واحد لا حاجة إلى الوضع لنفس الكلّي.

وثانياً: أنّه لا يصحّ النقض بلفظ الجلالة، لكونه مستعملًا عند غير الموحّدين أيضاً، ولعلّ واضعه من الوثنيين مثلًا الذين لا يعتقدون بإنحصاره في فرد واحد، وأمّا واجب الوجود فليس لفظاً خاصّاً معيّناً لمعنى خاصّ، بل هو مركّب من كلمتين ولكلّ واحد منهما معناه الخاصّ ولا ربط له بالمقام.

الوجه الثاني: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله وهو «أنّ المقتل عبارة عن الزمان الذي وقع فيه القتل وهو اليوم العاشر من المحرّم، واليوم العاشر لم يوضع بإزاء خصوص ذلك اليوم الذي وقع فيه القتل بل وضع لمعنى كلّي متكرّر في كلّ سنة وكان ذلك اليوم الذي وقع فيه القتل فرداً من أفراد ذلك المعنى العامّ المتجدّد في كلّ سنة، فالذات في اسم الزمان إنّما هو ذلك المعنى العامّ وهو باقٍ حسب

بقاء الحركة الفلكية، وقد انقضى عنها المبدأ الذي هو عبارة عن القتل، فلا فرق بين الضارب وبين المقتل ... نعم لو كان الزمان في اسم الزمان موضوعاً لخصوص تلك القطعة الخاصّة من الحركة الفلكية التي وقع فيها القتل، لكانت متصرّمة كتصرّم نفس المبدأ، إلّاأنّه لا موجب للحاظ الزمان كذلك» «1».

أقول: يمكن أن يستشكل فيه بأنّ أخذ كلّي يوم العاشر من المحرّم بعنوان ما وضع له لفظ مقتل الحسين يستلزم عدم انقضاء تلبّس مبدأ القتل عنه إلى الأبد، لأنّ له في كلّ عاشوراء من كلّ سنة فرد إلى الأبد يكون متلبّساً بمبدأ القتل، فيقال في كلّ عاشوراء من كلّ سنة «اليوم مقتل الحسين عليه السلام» ولازمه عدم فرض مصداق انقضى عنه المبدأ فيه، فيعود الإشكال بنحو آخر.

انوار الأصول، ج 1، ص: 163

الوجه الثالث: ما يستفاد من بعض الأعاظم، وهو أنّ الوضع في اسم الزمان والمكان واحد، ويكون الموضوع له فيهما جامعاً يطلق على الزمان تارةً وعلى المكان اخرى، وهو عبارة عن ظرف الفعل الأعمّ من كونه زماناً أو مكاناً، وعليه فيمكن وضع هيئة «مفعل» مثلًا لخصوص المتلبّس فعلًا، أو للأعمّ منه والمنقضي عنه المبدأ، غاية الأمر أنّه لا يتصوّر فيه الانقضاء بالنسبة إلى أحد مصداقيه، وهو اسم الزمان، ولكن يكفي في صحّة الوضع للكلّي تصوّر بقاء الذات بعد انقضاء المبدأ بالنسبة إلى مصداق واحد.

أقول: أنّه جيّد فيما إذا كانت هيئة «مفعل مشترك معنوي ولكنّها مشترك لفظيي» ويدلّ على أنّا لم نجد مورداً استعمل اللفظ فيه في القدر الجامع مع أنّه مقتضى حكمة الوضع فإنّها تقتضي استعمال الموضوع في الموضوع له ولو أحياناً وفي بعض الموارد.

الوجه الرابع: ما أفاده المحقّق العراقي رحمه الله من أنّ الأشياء على قسمين:

امور تدريجيّة غير قارّة، وامور فيها ذات ممتدّة قارّة، والقسم الأوّل لما لم يكن فيه ذات قابلة للتلبّس بالمبدأ تارةً والخلو عنه اخرى لامتدادها وعدم قرار لذاتها يستشكل فيه بأنّه خارج عن محلّ النزاع، وما نحن فيه وهو اسم الزمان من هذا القبيل، ولكن يندفع الإشكال بأنّ الأزمنة والآنات وإن كانت وجودات متعدّدة متعاقبة ولكنّه حيثما لا يتخلّل بينها سكون وتكون الآنات متّصلة يعدّ أمراً قارّاً وحدانياً يتصوّر فيه الانقضاء، وتكون مجموع الآنات إلى انقضاء الدهر موجوداً واحداً شخصيّاً مستمرّاً.

ثمّ أورد على نفسه بأنّه يستلزم بقاء جميع أسماء الأزمنة إلى الأبد وأن يكون كلّ آن مولد عيسى عليه السلام مثلًا.

وأجاب عنه: بأنّه كذلك ولكنّه فيما إذا لم يكن هناك تجزئة للزمان من ناحية العرف بأجزاء مثل السنة والشهر واليوم والساعة، وإلّا فلابدّ من لحاظ جهة الوحدانيّة في خصوص ما عنون بعنوان خاصّ، فيلاحظ جهة المقتلية مثلًا في السنة أو الشهر أو اليوم أو الساعة بجعل مجموع الآنات التي فيما بين طلوع الشمس مثلًا وغروبها أمراً واحداً مستمرّاً، فيضاف القتل إلى اليوم أو الشهر أو السنة ويقال «هذا اليوم مقتل الحسين عليه السلام» وإن وقع القتل في ساعة خاصّة منه فيمكن إطلاق الزمان مع انقضاء حدثه وعارضه ما لم يصل إلى الجزء العرفي اللاحق وهو اليوم الحادي عشر من المحرّم في المثال، وكذلك يقال هذا الشهر مقتل الحسين عليه السلام انوار الأصول، ج 1، ص: 164

ما لم يصل إلى الشهر اللاحق (انتهى ملخّص كلامه) «1».

أقول: ولقد أجاد فيما أفاد، فإنّه يندفع به الإشكال على الأقلّ بالنسبة إلى الأزمنة والآنات المتقاربة، فإذا قال الشارع «لا تصلّ عند مطلع الشمس» يصدق المطلع عرفاً في الدقائق اللّاحقة لطلوع الشمس ما

لم يمض زمان طويل يخرج عن هذا الحدّ العرفي.

فتلخّص ممّا ذكرناه: أنّ جريان النزاع في اسم الزمان غير ممكن بالدقّة العقليّة لعدم بقاء له ولكن يجري فيه بنظر العرف، لأنّهم يرون للزمان بقاءً بحسب الحدود التي يجعلونها له، ومن المعلوم أنّ الإطلاقات إنّما هي بنظر العرف.

الأمر الثالث: في خروج اسم المفعول واسم الآلة عن حريم النزاع وعدمه

وقد مرّ أن صاحب الفصول ذهب إلى خروج اسم المفعول عن محلّ النزاع لصدقه على من وقع عليه الفعل إلى الأبد بمجرّد تحقّق الفعل مرّة واحدة فلا معنى للانقضاء فيه.

وكذلك في اسم الآلة لصدقها على الذات وإن لم يتحقّق منها فعل كالمفتاح فأنّه يصدق على آلة الفتح وإن لم يفتح بها شي ء.

أقول: أمّا بالنسبة إلى اسم المفعول، فالجواب عنه: إنّ الأفعال المتصوّرة في اسم المفعول على قسمين: فقسم منها يكون آنيّ الوجود والتحقّق أو شبيهاً له كالقتل والضرب، وقسم لا يكون كذلك كالعلم والجهل، وقد وقع الخلط في كلامه رحمه الله بين هذين القسمين، لأنّه وإن كان لا يتصوّر الانقضاء في القسم الأوّل لكنّه يصدق في القسم الثاني، فلا إشكال في انقضاء المعلوميّة والمجهوليّة مع بقاء الذات فيهما، مضافاً إلى انتقاض كلامه بإسم الفاعل لجريان هذين القسمين بعينهما فيه أيضاً فكما أنّه لا معنى للانقضاء في مثل صفة المقتوليّة لا معنى كذلك للانقضاء في القاتلية، فإن كان وجود هذا القسم في اسم المفعول موجباً لخروجه فليكن في اسم الفاعل أيضاً كذلك.

هذا مضافاً إلى ما مرّ من أنّ التلبّس بالمبدأ على أنحاء: التلبّس بالفعل والتلبّس بالحرفة

انوار الأصول، ج 1، ص: 165

والصناعة، والتلبّس بالملكة والتلبّس بالشأنيّة، فيتعدّد به أنحاء الانقضاء أيضاً، وحيث إنّ التلبّس في اسم الآلة هو التلبّس بالشأنيّة فيعتبر في جريان النزاع فيه انقضاء الشأنيّة والاستعداد كما في المفتاح المكسور،

فيقع النزاع في أنّه يصدق عليه المفتاح حينئذ أم لا؟

الأمر الرابع: في خروج الأفعال والمصادر عن محلّ النزاع وعدمه
اشارة

الحقّ كما قال بعض المحقّقين خروج مطلق الأفعال عن محلّ النزاع سواء كانت حلوليّة نحو «أبيض» أو صدوريّة نحو «ضرب» لدلالتها على المعنى الحدثي فقط، وهو المبدأ، أي أحد الأركان الأربعة المعتبرة في المشتقّ، وأمّا الفاعل فيها فليس جزءً لمدلول الأفعال كما قرّر في محلّه، وأمّا المصادر فإنّها على قسمين: مجرّدة ومزيدة، أمّا المجرّدة فهي خارجة عن محلّ النزاع لعدم اشتقاقها كما سيأتي في محلّه، وأمّا المزيد فإنّها وإن كانت من المشتقّات الصرفيّة إلّاأنّها ليست مشتقّاً اصولياً لدلالتها على المعنى الحدثي فقط أيضاً.

تنبيه: هل الزمان داخل في معاني الأفعال أم لا؟

قد قام المحقّق الخراساني رحمه الله للرّدّ مقام الردّ على جمهور الصرفيين والنحويين في قولهم إنّ الفعل هو ما دلّ على صدور حدث في زمان من الأزمنة فقال: إنّ الزمان ليس داخلًا في معنى الفعل واستدلّ له بوجوه أربعة:

الأوّل: أنّه ينتقض بالأمر والنهي فإنّهما فعلان من الأفعال مع عدم دلالتهما على الزمان.

الثاني: أنّه يستلزم كون استناد الأفعال إلى اللَّه تعالى والإسناد في مثل قولك «مضى الزمان» مجازاً، وهو خلاف الوجدان.

الثالث: أنّه يحتاج إلى تصوّر قدر جامع بالنسبة إلى الفعل المضارع لعدم كونه مشتركاً لفظيّاً، ولا يتصوّر قدر جامع بين الحال والاستقبال.

الرابع: أنّه ينافي كون استعمال الماضي في المضارع وبالعكس في مثل «يجي ء زيد بعد سنة وقد ضرب عمراً قبل شهر» ومثل «جاءني زيد وهو يبكي» مجازاً لعدم دلالة المضارع في انوار الأصول، ج 1، ص: 166

الثاني على زمان الحال والاستقبال، وعدم دلالة الماضي في الأوّل على زمان الماضي.

إن قلت: إنّ عدم دلالة الفعل على الزمان يستلزم إمكان استعمال كلّ فعل موضع فعل آخر وهو ممّا لم يقل به أحد.

قلت: إنّ عدم إمكان استعمال كلّ فعل مكان الآخر ينشأ من وجود خصوصيّة في كلّ

من الماضي والمضارع يوجب امتيازه عن غيره وليست تلك الخصوصيّة هي الزمان بل إنّما هي خصوصيّة «التحقّق» بالنسبة إلى فعل الماضي و «الترقّب» في المضارع (بناءً على نقل بعض تلاميذه) فأنّ خصوصيّة الدلالة على التحقّق في الماضي والترقّب في المضارع توجب امتياز أحدهما عن الآخر وعدم إمكان استعمال أحدهما مكان الآخر. (انتهى حاصل كلامه رحمه الله).

أقول: في كلامه مواقع للنظر ...

أوّلًا: إنّا إذا تدبّرنا في معنى الماضي والمضارع وجدنا أنّه يتبادر منهما الزمان فيتبادر من «ذهب» وقوع الذهاب في زمان الماضي، ومن «يذهب» وقوعه في المستقبل.

وثانياً: (بالنسبة إلى إسناد الأفعال إلى اللَّه وإلى نفس الزمان) أنّه ينتقض بسائر الامور المختصّة بالممكنات التي تنسب إلى اللَّه كإسناد الأفراد والتذكير إليه مع أنّه لا معنى لهما بالنسبة إليه، هذا من ناحية النقض.

وأمّا من جهة الحلّ فإنّ المجاز على قسمين: قسم في مقابل الحقيقة، وقسم يكون بمعنى التجريد، ولا إشكال ولا قبح في القسم الثاني بالنسبة إلى الباري تعالى لأنّه فوق الحقيقة، فإنّ السميع مثلًا حقيقة فيمن له السمع والاذن، ومجاز بالنسبة إلى ما لم يكن له الاذن، وأمّا بالنسبة إلى من يكون فوق المعنى الحقيقي كذات الباري فيكون تجريداً لا مجازاً بالمعنى المعروف، وإن كان مجازاً كان مجازاً فوق الحقيقة لا دونها.

والقول بأنّ مثل لفظ «السميع» وضع للمعنى الأعمّ من المادّي والمجرّد فلا يكون مجازاً في المجرّدات- نشأ من الغفلة عن حكمة الوضع حيث إنّها كانت عبارة عن رفع الحاجات العاديّة الماديّة، فوضعت الألفاظ للمعاني الماديّة ثمّ احتجنا إلى تجريدها من الخصوصيّات الماديّة بالنسبة إلى المجرّدات كذات الباري تعالى، وهذه قضيّة قياسها معها ولا ينبغي الاستيحاش منها.

هذا كلّه بالنسبة إلى استعمال الألفاظ في المجرّدات، وكذلك بالنسبة إلى

استعمال الماضي انوار الأصول، ج 1، ص: 167

والمضارع في الإسناد إلى نفس الزمان لكونه أيضاً من قبيل التجريد لا المجاز.

وبالجملة لا يمكن الفرار من ارتكاب المجاز على كلّ حال (إمّا على نحو المجاز المصطلح أو على نحو التجريد) في الألفاظ المستعملة في ذات الباري تعالى ولا تصلح الأجوبة المذكورة لحلّ المشكلة.

ثالثاً: إنّ ما ذكره من عدم تصوّر جامع بين الحال والمستقبل ففيه: أنّه يمكن أن يقال: إنّ الجامع بينهما هو «كلّ زمان كان بين الحدّين» أي حدّ الآن إلى اللأبد فيصير المضارع مشتركاً معنويّاً.

وإن أبيت عن ذلك وقلت: إنّ عدم استعمال المضارع في هذا الجامع ولو لمرّة واحدة يكشف عن عدم وضعه له فنختار كونه مشتركاً لفظيّاً ولا نأبى عن ذلك.

مضافاً إلى أنّ استعمال المضارع في ما بين الحدّين المذكورين- أي القدر الجامع- ليس بقليل كما في مبحث الأوامر، يقال: «تعيد أو تقضي صلاتك» والمطلوب أعمّ من الحال والاستقبال.

وبالجملة، إمّا أن نلتزم بكون المضارع مشتركاً معنويّاً، وهذا فرع جواز استعماله في القدر الجامع كما هو الحقّ، أو نقول بكونه مشتركاً لفظيّاً ولا بأس به أيضاً.

رابعاً: أنّه قال بأنّ استعمال الماضي في غير الماضي الحقيقي واستعمال المضارع في غير المضارع الحقيقي كاشف عن عدم كون الزمان جزءً لهما.

وفيه: إنّ الموضوع له في كلّ واحد منهما هو الأعمّ من الحقيقي والنسبي (أي بالمقايسة إلى فعل آخر كما في الأمثلة السابقة) لا خصوص الحقيقي.

خامساً: إنّ تبديل الزمان الماضي والزمان المضارع بعنوان التحقّق والترقّب ليس سوى تلاعباً بالألفاظ والكلمات ولا تحلّ به المشكلة، لأنّ عنوان التحقّق يستلزم الزمان الماضي وعنوان الترقّب يستلزم الزمان المضارع، مضافاً إلى أنّ المضارع قد يكون للحال فلا يكون فيه ترقّب بل الموجود هو التحقّق.

سادساً: إنّ

قياس الماضي والمضارع بالأمر والنهي قياس مع الفارق، لأنّ الأوّلين من باب الخبر، والأخيرين من باب الإنشائيات، والمحتاج إلى التحقّق في زمان من الأزمنة هو الخبر (لأنّه إخبار عن التحقّق الخارجي الواقع في أحد الأزمنة) لا الإنشاء.

انوار الأصول، ج 1، ص: 168

ثمّ إنّ المحقّق العراقي رحمه الله وكذلك صاحب المحاضرات تبعا المحقّق الخراساني رحمه الله في عدم دخل الزمان في معنى الفعل، أمّا المحاضرات فلا نجد فيه بياناً أكثر ممّا أفاده، وأمّا المحقّق العراقي رحمه الله فقال (مضافاً إلى بيان المحقّق الخراساني رحمه الله المذكور) إنّ للفعل هيئة ومادّة، والزمان لا يستفاد من المادّة لكونها اسماً، والاسم لا يدلّ على الزمان، وكذلك لا يستفاد من الهيئة لكونها من المعاني الحرفيّة والمعنى الحرفي لا يدلّ على الزمان.

وبعبارة اخرى: إنّ دخل الزمان في الفعل إمّا يكون على نهج الجزئيّة، أو يكون على نحو الشرطيّة، أو على نحو الحصّة التوأمة، أمّا عدم كونه جزءً فلما مرّ آنفاً، وأمّا الأخيرتان فللزوم المجاز في أفعال اللَّه تعالى ونفس الزمان «1». (انتهى ملخّص كلامه).

والجواب عنه: إنّا نختار من الصور الثلاثة الصورة الثانيّة وهي الشرطيّة ونقول: إنّ المادّة تدلّ على المبدأ، وأمّا الهيئة فإنّها تحكي عن النسبة المقيّدة بزمان الماضي أو الحال أو الاستقبال بحيث يكون القيد خارجاً والتقيّد داخلًا، والجواب عن الأفعال المسندة إلى اللَّه تعالى هو ما مرّ في الجواب عن كلام المحقّق الخراساني رحمه الله بعينه، مضافاً إلى ما مرّ سابقاً من أنّه لا معنى محصّل للحصّة التوأمة، فإنّ الإهمال في مقام الثبوت غير ممكن، فالمعنى إمّا مقيّد أو مطلق ولا ثالث له.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ أفعال اللَّه تعالى على قسمين: قسم يرجع إلى صفات الذات فيكون خالية عن الزمان

نحو «كان اللَّه» أو «علم اللَّه»، وقسم يرجع إلى صفات الفعل فيكون الزمان داخلًا فيها قطعاً، نحو «إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً» أو «رزقني اللَّه ولداً في يوم كذا» فأخذ الزمان فيهما باعتبار وقوع الفتح في السنة السادسة من الهجرة مثلًا، ووقوع التولّد في يوم كذا، وكلاهما من الزمانيات فقد أخذ هنا باعتبارهما لا باعتبار ذاته، وأكثر أفعال اللَّه تعالى من هذا القسم، والنتيجة أنّ الالتزام بدخالة الزمان في ما وضع له الفعل لا يستلزم كثرة المجاز في الأفعال المنسوبة إلى الباري تعالى (لو كانت هذه الأفعال مجازاً في حقّه تعالى) ولا يتحمّل مؤونة كثيرة.

الأمر الخامس: اختلاف المبادى ء في المشتق

(وهو من أهمّ الامور وتترتّب عليه ثمرات كثيرة في الفقه).

إنّ للمشتقّ مبدأ وتلبّساً بذلك المبدأ، ويختلف أنحاء التلبّس بالمبدأ باختلاف المبادى ء، ونذكر هنا ستّة أنواع منه:

النوع الأوّل: التلبّس بمجرّد الفعل كالجالس والقائم، فإنّ الجالس مثلًا يطلق على من تلبّس بالجلوس ولو مرّة واحدة.

النوع الثاني: التلبّس على نحو الحرفة كالتاجر والكاسب، فإنّ التاجر مثلًا يطلق على من تلبّس بحرفة التجارة ولا يكفي فيه مجرّد تجارة واحدة اتّفاقاً.

النوع الثالث: التلبّس على نحو الصنعة كالحائك والنسّاج، ففي النسّاج مثلًا تكون الذات متلبّسة بصنعة النسج.

النوع الرابع: التلبّس على نحو المنصب كالقاضي والوالي، فإنّهما يطلقان على من تصدّى الولاية والقضاء.

النوع الخامس: التلبّس على نحو الملكة كالمجتهد، فإنّه لا يطلق إلّاعلى من كان عنده ملكة الاستنباط.

النوع السادس: التلبّس على نحو الشأنيّة نحو «القاتل» في قولنا «السمّ القاتل»، فإنّ القتل لم يصدر منه فعلًا بل إنّما يكون فيه شأن القتل.

ثمّ إنّه لا إشكال في وجود هذه الأنحاء المختلفة في الواقع والخارج، و إنّما الإشكال في منشأ اختلافها، فهل الاختلاف في نفس المبادى ء والموادّ، أو في الهيئة، أو

في مرحلة الجري والنسبة الموجودة في الجملة؟

ظاهر المحقّق الخراساني رحمه الله هو الأوّل، وظاهر عبارات غير واحد من المتأخّرين هو الثاني وحيث تفهّم الشأنيّة من هيئة لفظ «المفتاح» مثلًا، وظاهر بعض إنّه يستفاد من الجري والنسبة الكلاميّة.

والحقّ هو التفصيل وأنّ كلّ واحد منها صحيح في مورد خاصّ، فمثلًا «التاجر» يكون التلبّس فيه على نحو الحرفة وكذلك «الزارع»، ويستفاد هذا من مادّة التجارة والزراعة كما لا يخفى، وأمّا أسماء الآلة فيستفاد التلبّس بالشأنيّة فيها من الهيئة لا المادّة، لأنّ هيئة اسم الآلة في انوار الأصول، ج 1، ص: 170

مثل المفتاح وهي المفعال إنّما وضعت للشأنيّة والاستعداد القريب، وأمّا مثل القاتل فإنّما يستفاد كيفية تلبّسها من كيفية استعمالها، لأنّا إذا قلنا «اجتنب عن السمّ القاتل» يدلّ المشتقّ فيه على الشأنيّة، بخلاف ما إذا قلنا «زيد قاتل» لأنّه يدلّ على التلبّس بالفعل لا على التلبّس بالشأنيّة كما لا يخفى.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ الانقضاء والتلبّس في كلّ مورد بحسبه، فإذا كان التلبّس بالشأنيّة مثلًا فليكن الانقضاء أيضاً كذلك، كالمفتاح المكسور الذي خرج من شأنيّة الفتح.

ولعلّ هذا الاختلاف والتفصيل في أنحاء التلبّس وأنحاء المبادى ء صار منشأً للخلط والاشتباه في كثير من كلمات القوم، والأقوال الموجودة في المسألة نشأت منها.

الأمر السادس: إنّ كلمة «الحال» في عنوان البحث

(هل المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدأ في الحال أو فيما يعمّه وما انقضى عنه المبدأ) يحتمل ثلاث احتمالات:

الأوّل: أن يكون المراد منه حال التلبّس، الثاني: حال الجري والنسبة، الثالث: زمان النطق.

أمّا الاحتمال الأوّل: فلا يمكن تصويره إلّاعلى نحو سيأتي بيانه في مقالة المحقّق العراقي رحمه الله ممّا توجب تغيير عنوان البحث فانتظر، لأنّه لا معنى لقولنا: هل المشتقّ حقيقة فيما تلبّس بالمبدأ في حال التلبّس ...؟

وأمّا الاحتمال الثاني: فيمكن الاستدلال لكونه

هو مراد الأعلام بوجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: إنّه لا إشكال في كون الاستعمال في قولك «زيد كان ضارياً أمس» أو «زيد سيكون ضارباً غداً» مثلًا حقيقة لا مجازاً مع أنّ زمان التلبّس فيهما ليس هو زمان النطق، فلو كان المراد من الحال في العنوان هو حال النطق، كان المثال الأوّل داخلًا في محلّ الخلاف، والمثال الثاني مجازاً قطعاً.

الوجه الثاني: أنّ المشتقّ اسم من الأسماء ولا يدلّ الاسم على الزمان كما عليه اتّفاق أهل العربيّة، فلو كان المراد من الحال في عنوان المسألة هو حال النطق كان النزاع لا محالة في دلالة المشتقّ على زمان النطق وعدمه.

لا يقال: إنّ حال النسبة والجري أيضاً زمان فلا يدلّ عليه المشتقّ.

انوار الأصول، ج 1، ص: 171

لأنّا نقول: المراد من عدم دلالة المشتقّ على الزمان عدم دلالته على الزمان الخاصّ على نحو الجزئيّة، وأمّا مطلق الزمان إجمالًا فلا ننكر دخالته في معنى المشتقّ وتقييده به، لأنّه لا بدّ للنسبة الموجودة فيه من ظرف وهو مطلق الزمان لا خصوص زمان الحال والنطق، فالدخيل في المشتقّ هو كلّي الزمان سواء كان ماضياً أو حالًا أو مستقبلًا.

الوجه الثالث: لزوم المجاز في الموارد التي لا يكون فيها زمان كما في الصفات المنسوبة إلى اللَّه تعالى وفي ما ينسب إلى نفس الزمان نحو «اللَّه عالم» أو «الأمس ماضٍ».

أقول: لا تمكن المساعدة على الوجه الثالث لما مرّ من كون الاستعمال في الصفات المنسوبة إلى ذات الباري من باب التجريد وفوق المجاز، فالعمدة في الاستدلال هو الوجه الأوّل والثاني، وكلّ منهما تامّ في محلّه.

أمّا الاحتمال الثالث وهو كون المراد من كلمة الحال زمان النطق فيمكن أن يستدلّ له بوجهين:

أحدهما: الاتّفاق على أنّ مثل «زيد ضارب غداً» مجاز فهو دليل

على أخذ حال النطق في قولك «زيد ضارب» وإن قيّد «غداً» يوجب استعمالها في غير ما وضع له فيصير مجازاً.

ثانيهما: إنّ إطلاق الكلام في مثل «زيد ضارب» يتبادر منه حال النطق، والتبادر دليل على كونه مأخوذاً في الموضوع له.

أقول: يمكن الجواب عن الوجه الأوّل بأنّا لا نسلّم كونه مجازاً إذا اتّحد زمان التلبّس مع زمان النسبة، نعم إذا كان زمان الجري فيها هو زمان النطق، وزمان التلبّس هو الغد فلا إشكال في مجازيته، فإذا كان معنى الجملة إنّ زيداً متّصف بالضاربيّة الآن بملاحظة ضربه في الغد كان مجازاً، وإن كان المراد من جملة «زيد ضارب غداً» أنّ زيداً يضرب غداً، فيكون زمان النسبة والتلبّس كلاهما غداً، فهو حقيقة بلا إشكال.

ويمكن الجواب عن الوجه الثاني بأنّه سيأتي أنّا وإن قلنا بكون المشتقّ حقيقة في المتلبّس بالمبدأ في حال النسبة لا حال النطق إلّاأنّه لا كلام لنا في أنّ الظاهر في صورة عدم القرينة اتّحاد حال النسبة مع زمان النطق وانطباقه عليه.

ومنشأ الانصراف إلى زمان النطق اتّحاده غالباً مع زمان النسبة، وإلّا فإنّ المأخوذ في الموضوع له هو زمان النسبة، والشاهد عليه كون الاستعمال حقيقة في صورة افتراقها عن انوار الأصول، ج 1، ص: 172

زمان النطق، كما إذا قلنا «زيد كان قائماً» أو «سيكون قائماً».

إن قلت: إنّ تبادر زمان النسبة يتصوّر فيما إذا وجدت نسبة في الكلام كما توجد في «زيد ضارب»، وأمّا في مثل «أكرم العالم» فلا، لعدم وجود نسبة زمانيّة في الإنشائيات، فلا يصحّ أن يقال إنّ المنصرف إليه والمتبادر مطلقاً هو زمان النطق، وهذا يكشف عن كون المراد من الحال في العنوان هو زمان النطق لأنّ الإنشائيات أيضاً داخلة في محلّ النزاع، ويمكن أن يجعل

هذا دليلًا ثالثاً للقول بأنّ المراد من الحال حال النطق.

قلنا: إنّ النسبة المبحوث عنها في المقام هي الأعمّ من النسبة التامّة والنسبة الناقصة، وفي مثل «أكرم العالم» توجد الناقصة بين الإكرام والعالم، ويشهد عليه أنّ جملة «أكرم العالم» عبارة اخرى عن جملة «إكرام العالم واجب» ولا إشكال في أنّ نسبة الإكرام إلى العالم نسبة المضاف إلى المضاف إليه، وهي نسبة ناقصة فاللازم على القول باعتبار النسبة أن يكون من يقع عليه الإكرام موصوفاً بصفة العلم في حال الإكرام.

وهيهنا كلام للمحقّق العراقي رحمه الله وإليك نصّه: «التحقيق أنّ الزمان سواء اضيف إلى النطق أم إلى النسبة الحكمية أم إلى التلبّس أم إلى الجري خارج عن مفهوم المشتقّ، لأنّ المشتقّ كسائر الألفاظ موضوع للمعنى من حيث هو بلا تقييد بالوجود أو بالعدم فضلًا عن زمانهما، ويدلّ عليه أيضاً ما عرفت من أنّ المشتقّ مركّب من مادّة وهيئة وأنّ المادّة تدلّ على الحدث، والهيئة تدلّ على نسبة ذلك الحدث إلى ذات ما، فلم يبق في البين ما يمكن أن يدلّ على الزمان، مضافاً إلى أنّ أخذ التقيّد بحال النسبة والجري في المفهوم يستلزم أخذ ما هو متأخّر عن المفهوم برتبتين فيه، ضرورة تأخّر رتبة الجري والنسبة عن المفهوم» (انتهى) «1».

أقول: كأنّه قد وقع خلط في المقام، فإنّه لم يقل أحد بأنّ الزمان (بأي معنى كان) مأخوذ في مفهوم المشتقّ الذي هو مفهوم اسمي، بل الكلام في أنّه لا ريب في وجود نسبة ناقصة في المشتقّ، فإنّ العالم هو بمعنى «الذي ثبت له العلم» وحينئذ يأتي الكلام في أنّ هذه النسبة لا بدّ أن تقع في زمان مّا، فهل هذا الزمان الذي هو ظرف للنسبة الناقصة يجب أن يكون

مطابقاً لزمان النسبة الكلاميّة أم لا؟، فإذا قيل: «رأيت عالماً أمس» هل يجب أن يكون تلبّس الذات بالعلم (أي انوار الأصول، ج 1، ص: 173

النسبة الناقصة) أيضاً في أمس الذي هو في النسبة التامّة أم لا؟ فالقائل باعتبار حال التلبّس يقول: بوجوب مطابقة الزمانين زمان النسبة الناقصة وزمان النسبة التامّة، والقائل بالأعمّ يقول: بعدم وجوب التطابق.

وأمّا حديث تقدّم اللحاظ وتأخّره فقد ذكرنا مراراً أنّه لا مانع من لحاظ المراتب المتأخّرة في عالم التصوّر ثمّ وضع اللفظ للمطلق أو المقيّد، والتقدّم والتأخّر في الوجود الخارجي لا دخل له بالتقدّم والتأخّر في اللحاظ الذهني.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ ما مرّ من أنّ المشتقّ عند الإطلاق وعدم وجود القرينة منصرف إلى حال النطق مختصّ بما إذا وقع في الجملة الاسمية كقولك «زيد ضارب»، بل يمكن أن يقال: إنّ الجملة الاسمية وضعت لزمان النطق، ويشهد عليه أنّا إذا أردنا استعمالها لزمان الحال جرّدناها عن أي قيد وقلنا «زيد ضارب» مثلًا من دون إضافة قيد «الآن»، وأمّا إذا أردنا استعمالها لزمان الماضي كان اللازم إضافة «كان» إليها فيقال «زيد كان قائماً» ولزمان المستقبل يقال: «زيد يكون قائماً» كما يشهد عليه أيضاً أنّ جملة «زيد قائم» في حال كونها مجرّدة عن القيود تعادل قولك «زيد قائم است» في اللّغة الفارسيّة فيما إذا اريد استعمالها لزمان الحال من دون إضافة قيد «الآن» أي لا نقول: «زيد حالا قائم است» فيستفاد زمان الحال من كلمة «است»، وحيث لا إشكال في أنّه لا توجد في اللّغة العربيّة كلمة تعادل «است» نستكشف إنّ الدالّ على وقوع النسبة في زمان الحال في اللّغة العربيّة إنّما هو هيئة الجملة الاسمية المجرّدة عن أي قيد، فظهر أنّ انصراف كلمة المشتق

إلى زمان النطق لا يكون إلّامن جهة وقوعه في الجملة الاسمية، فالدالّ عليه إنّما هو هيئة الجملة الاسمية لا أنّه مأخوذ في معناه الموضوع له.

الأمر السابع: في تأسيس الأصل في المسألة

والغرض من هذا البحث تعيين من يكون قوله مخالفاً للأصل ويكون قائله مدّعياً في البحث حتّى يطالب هو بالدليل، لأنّ من كان قوله موافقاً للأصل يكفيه الأصل، مضافاً إلى تعيين الوظيفة العمليّة عند الشكّ لو كان الأصل من الاصول العمليّة فالبحث عن تأسيس الأصل يتضمّن فائدتين.

انوار الأصول، ج 1، ص: 174

فنقول ومنه سبحانه نستمدّ التوفيق والهداية: إنّ الاصول على نوعين: الاصول اللّفظيّة والاصول العمليّة:

أمّا الاصول اللّفظيّة: فليس هناك أصل لفظي يدلّ على خصوصيّة الموضوع له في المشتقّ أو عموميته، لأنّ الاصول اللّفظيّة معلومة محدودة متعيّنة كأصالة عدم القرينة، وعدم النقل، وأصالة الإطلاق، وأصالة الحقيقة، ولا يجري واحد منها في المقام، غاية ما يمكن أن يقال بجريانه إنّما هو أصلان:

الاصل الأوّل: ترجيح المشترك المعنوي على الحقيقة والمجاز إذا دار الأمر بينهما، وما نحن فيه من هذا القبيل، أي يدور الأمر فيه بين وضع المشتقّ للأعمّ من المتلبّس ومن انقضى عنه التلبّس فيكون المشتقّ مشتركاً معنويّاً، وبين وضعه لخصوص المتلبّس وكونه مجازاً فيمن انقضى عنه التلبّس فيكون حقيقة ومجازاً، وحيث إنّ الاشتراك المعنوي يغلب على الحقيقة والمجاز فيرجّح عليها لأنّ العقل يلحق الشي ء بالأعمّ الأغلب ولا يخفى أنّ النتيجة موافقة لرأي الأعمّي.

واجيب عنه: أوّلًا: بأنّ الغلبة ممنوعة من أصلها، وثانياً: لا حجّية لها على فرض ثبوتها.

الاصل الثاني: الاستصحاب، وهو أصالة عدم وضع المشتقّ للأعمّ فيما إذا شككنا في وضعه للأعمّ، وبعبارة اخرى: وضع المشتقّ للمتلبّس بالمبدأ في الحال ولمن انقضى عنه التلبّس مشكوك فيه، والأصل عدم وضعه له، وهو يرجع إلى استصحاب العدم

الأزلي كما لا يخفى، وهذا موافق لرأي الصحيحي.

ويرد عليه أمران:

الأوّل: أنّ استصحاب عدم الوضع للأعمّ معارض لاستصحاب عدم الوضع للأخصّ، لأنّ المفروض كون الاشتراك معنويّاً لا لفظيّاً، أي ليس في البين وضعان بل المفروض وحدة الوضع، أي يكون الموضوع له أمراً واحداً لا على نحو الأقلّ والأكثر، فإذا شككنا في كون الموضوع له هو الأعمّ أو الأخصّ فالأصل عدم كلّ واحد منهما.

الثاني: سلّمنا تعدّد الوضع ولكن هذا الاستصحاب مثبت، لعدم كون المستصحب فيه موضوعاً لأثر شرعي بلا واسطة لأنّك تقول: الأصل عدم وضعه للأعمّ، فوضع للأخصّ، فيكون اللفظ ظاهراً في الأخصّ، ثمّ يترتّب عليه الأثر الشرعي، وليس هذا إلّاأصلًا مثبتاً قد

انوار الأصول، ج 1، ص: 175

قرّر في محلّه عدم حجّيته، مضافاً إلى أنّ الاستدلال بالاستصحاب هنا كأصل لفظي إنّما يتمّ بناءً على كونه من الأمارات، وهذا خلاف التحقيق.

هذا كلّه بالنسبة إلى الاصول اللّفظيّة.

أمّا الاصول العمليّة: فإنّها تختلف باختلاف الموارد فتارةً: يكون الأصل البراءة واخرى: الاستصحاب وثالثة: الاشتغال ورابعة: التخيير.

أمّا الأوّل البراءة: كما إذا قال المولى «أكرم العالم» وشككنا في شموله لمن قضى عنه العلم.

وأمّا الثاني الاستصحاب: كما في نفس المثال إذا صدر الأمر حين تلبّس زيد مثلًا بالعلم، ثمّ خرج عن التلبّس بالنسيان ونحوه، فصار الحكم شاملًا، ثمّ شككنا في بقائه بعد الانقضاء فيجري استصحاب وجوب الإكرام (بناءً على كون العلم من الحالات لا مقوّماً للموضوع) ومثل استصحاب النجاسة في الكرّ المتغيّر بالنجاسة بعد زوال تغيّره بنفسه، ولكنّه مبنيّ على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية، وسوف يأتي في محلّه عدم جريانه فيها.

وأمّا الثالث الاشتغال: فكما إذا قال المولى «أكرم عالماً» فمقتضى الاشتغال اليقيني عدم حصول البراءة بإكرام من قضى عنه العلم، لأنّه تقتضي البراءة اليقينية، فلابدّ

من إكرام من تكون متلبّساً بالعلم (ولنفرض الكلام فيما إذا ورد الحكم بعد زمان الانقضاء فلم يمكن الاستصحاب).

وأمّا الرابع التخيير: فكما إذا قال المولى «أكرم العالم» و «لا تكرم الجاهل» واشتبه حال زيد مثلًا من حيث العلم والجهل فعلًا، ولم يعلم الحالة السابقة لتوارد الحالات المختلفة عليه.

فظهر ممّا ذكرنا أنّه لا وجه لحصر المحقّق الخراساني رحمه الله الاصول العمليّة الجارية في المقام في البراءة والاستصحاب، بل إنّها تختلف باختلاف الموارد ويجري كلّ واحد من الاصول الأربعة في مورده الخاصّ به.

ثمّ إنّ بعض الأعلام قال في المقام ما حاصله:

إنّه لا فرق بين موارد الشكّ في الحدوث وموارد الشكّ في البقاء، ففي كلا الموردين المرجع هو أصالة البراءة دون الاستصحاب، أمّا في موارد الشكّ في الحدوث فالأمر واضح، وأمّا في موارد الشكّ في البقاء فبناءً على مسلكنا في باب الاستصحاب من عدم جريانه في الشبهات الحكمية خلافاً للمشهور فالأمر أيضاً واضح، وأمّا على المسلك المشهور فإنّه لا يجري في انوار الأصول، ج 1، ص: 176

المقام أيضاً لاختصاص جريانه بما إذا كان المفهوم متعيّناً وكان الشكّ متمحّضاً في سعة المجعول وضيقه كما لو شككنا في بقاء نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره، فالمرجع هو استصحاب بقاء النجاسة، وأمّا فيما لا يتعيّن فيه مفهوم اللفظ ومعناه وهو المعبّر عنه بالشبهة المفهوميّة فلا يجري الاستصحاب فيه لا حكماً ولا موضوعاً «1».

أقول: ما ذكره إنّما يتمّ في الاستصحاب الموضوعي لا الحكمي فإنّ الاستصحاب الحكمي يجري عند تغيّر الأوصاف إلّاإذا كان الوصف من المقوّمات كالعلم في المجتهد، فلا يجوز استصحاب جواز تقليده عند زواله، ففي المثال المعروف في باب الشكّ في المغرب بعد استتار القرص وقبل زوال الحمرة لا يمكن استصحاب عدم حصول

المغرب، لأنّه من قبيل الشبهة المفهوميّة (الاستتار حاصل والحمرة لم تزل والشكّ في معنى لفظ المغرب ولا معنى للاستصحاب فيه) أمّا استصحاب حرمة الإفطار مثلًا أو عدم جواز صلاة المغرب فهو جائز بناءً على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة، والقول بأنّ الموضوع فيه قد تبدّل كما ترى، لعدم التفاوت بينه وبين مثل التغيّر في الماء المتغيّر كما لا يخفى.

الأقوال في مسألة المشتقّ وأدلّتها:

وهي كثيرة يمكن تلخيصها في ثلاثة أقوال:

القول: بوضع المشتقّ لخصوص المتلبّس بالمبدأ، والقول: بوضعه للأعمّ منه ومن انقضى عنه التلبّس، والقول: بالتفصيل.

أمّا القول الأوّل: حكي عن الأشاعرة وعليه المتأخّرون من الأصحاب.

وأمّا القول الثاني: نقل عن المعتزلة وعليه المتقدّمون من الأصحاب.

وأمّا القول الثالث: فله أقسام، فبعضهم فصل بين ما اشتقّ من المتعدّي وما اشتقّ من اللازم، فالأوّل: وضع للأعمّ نحو السارق والقاتل، الثاني: وضع للأخصّ كالجالس والذاهب، وبعض آخر فصل بين المحكوم عليه والمحكوم به، فالمحكوم عليه وضع للأعمّ نحو «السارق» في قوله تعالى: «السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا» والمحكوم به وضع للأخصّ نحو جالس في انوار الأصول، ج 1، ص: 177

«زيد جالس» إلى غير ذلك، وسيأتي أنّ منشأ خطأ القائلين بالتفصيل اختلاف المبادى ء أو وجود قرائن في الكلام.

والمختار وضع المشتقّ للأخصّ، والوجوه التي استدلّ بها على وضعه للأخصّ على دليلين:

«لفظيّة» و «عقليّة».

أمّا الأدلّة اللّفظيّة: «التبادر» فالمتبادر من كلمة «العالم» مثلًا عند إطلاقه هو المتلبّس بمبدأ العلم في الحال، توضيح ذلك (الذي يرتفع به بعض الإشكالات الواردة على هذا الوجه): إنّ المبادى ء في المشتقّات على أربعة أقسام:

الأول: تكون ذات المبدأ قرينة على أنّ إطلاق المشتقّ منه في جميع الموارد يكون بلحاظ الانقضاء نحو مبدأ التولّد، فإنّ كلمة «المتولّد» المشتقّ منه يكون إطلاقه بلحاظ انقضاء التولّد، ونفس مادّة التولّد قرينة

عليه، والسرّ فيه إنّه لا بقاء ولا تكرّر فيه، فلا معنى لتبادر خصوص المتلبّس منه بل يكون هذا القسم خارجاً عن محلّ النزاع كما مرّ.

الثاني: تكون القضيّة بالعكس، فنفس المبدأ قرينة على كون إطلاق المشتقّ بلحاظ التلبّس في الحال في جميع الموارد نحو الإمكان والوجوب، فإنّ المشتقّ منهما وهو «الممكن» و «الواجب» يطلق في جميع الإطلاقات على المتلبّس الفعلي، لأنّ المبدأ فيهما ممّا لا يزول بل يبقى بدوام الذات، فلا معنى لتبادر خصوص المتلبّس في هذا القسم أيضاً.

الثالث: ما يمكن فيه الاستمرار والتكرار لكن لا يكون فيه الدوام والبقاء غالباً، نحو السرقة والقتل، فحيث إنّ الغالب في هذا القسم عدم دوام المبدأ يصير هذا قرينة على كون التلبّس بلحاظ الانقضاء وموجباً لانصراف الذهن إلى من انقضى عنه المبدأ فإنّ «السارق» مثلًا أو «القاتل» إنّما يتلبّس بالسرقة والقتل في ساعة معيّنة، وبعد ذلك يبقى عليه هذا العنوان وهذا الوصف وإن لم يكن متلبّساً.

الرابع: ما يتصوّر فيه الدوام والانقضاء معاً، نحو العدالة والفسق والجلوس والقيام والاجتهاد والاستطاعة، وليس ذات المبدأ قرينة على أحدهما، وهذا هو محلّ النزاع ومصبّ دعوى التبادر.

والإنصاف أنّ عدم إلتفات كثير من المفصّلين إلى اختلاف هذه الأقسام أوجب إنكارهم للتبادر في القسم الأخير مع أنّ خصوص هذا القسم داخل في محلّ النزاع وغيره خارج عنه،

انوار الأصول، ج 1، ص: 178

أي إنّا لا ندّعي وجود التبادر في الأقسام الثلاثة الاولى بل نعتقد بوجود القرينة فيها.

ثمّ إنّ هذه القرينة هل هي قرينة المجاز، أو قرينة على كون الجري فيها بلحاظ حال الانقضاء، فلا فرق بينها وبين «كان زيد قائماً» وإن كان مخالفاً لما هو الظاهر من إطلاقها (لأنّ الظاهر كما قلنا سابقاً اتّحاد زمان الجري وحال النطق)؟

الحقّ

هو الثاني، فإذا قلنا «هذا سارق» يكون نفس مبدأ السرقة قرينة على أنّ السارق بمعنى «من سرق من قبل» أي «هذا هو الذي سرق من قبل» ومبدأ القتل على أنّ القاتل بمعنى «من قتل من قبل» فمعنى «هذا قاتل» «هذا هو الذي قتل من قبل» فاستعمل السارق والقاتل في المنقضي عنه التلبّس بلحاظ حال التلبّس فيما قبل، وعلى هذا فلا يلزم مجاز.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه: أنّ شرط التبادر عدم وجود القرينة، وعلى هذا فلا تصل النوبة إلى ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله من لزوم كثرة المجاز بناءً على كون المشتقّ حقيقة فيمن تلبّس في الحال، لأنّه ظهر ممّا ذكر أنّ الاستعمال في الأقسام الثلاثة الاول ليس مجازاً بل يكون حقيقة بلحاظ حال التلبّس فيما قبل، والمفروض أنّ القرينة من ناحية المبدأ قائمة هنا.

هذا كلّه هو الدليل الأوّل على كون المشتقّ حقيقة في خصوص من تلبّس بالمبدأ في الحال.

وأمّا الدليل الثاني فهو قضيّة الصفات المتضادّة.

وتوضيحه: إنّا لا نشكّ في وجود صفات متضادّة فيما بين الصفات نحو القائم بالنسبة إلى القاعد، والعالم في مقابل الجاهل، والنائم في مقابل المستيقظ، والقول بالأعمّ يوجب عدم التضادّ بين هذه الصفات لأنّه حينئذ يصدق على القائم فعلًا مثلًا إنّه قاعد أيضاً حقيقة بلحاظ ما انقضى عنه، وعلى العالم فعلًا إنّه جاهل حقيقة بلحاظ ما انقضى عنه، وهو خلاف الارتكاز والوجدان.

والإنصاف أنّ هذا الوجه في الحقيقة يرجع إلى الوجه الأوّل، أي التبادر، لابتنائه على الوجدان والارتكاز وهو ليس إلّاتقريباً آخر للتبادر.

وأمّا الدليل الثالث: صحّة السلب عمّن انقضى عنه التلبّس، فإنّه يمكن لنا الحكم قطعاً وجزماً بأنّ القاعد فعلًا ليس بقائم.

إن قلت: لا يصحّ السلب في مثل السارق والقاتل.

قلت: إنّه خارج

عن محلّ البحث كما مرّ آنفاً.

انوار الأصول، ج 1، ص: 179

إن قلت: إمّا أن يكون المسلوب هو مطلق الأفراد والمصاديق الأعمّ من المتلبّس في الحال والمتلبّس في الماضي، أو خصوص المتلبّس في الحال، فإن كان المسلوب مطلق الأفراد فهو ممنوع، لعدم صحّة القول بأنّ هذا ليس بقائم لا في الحال ولا في الماضي، وإن كان المسلوب خصوص فرد الحال، فإنّ السلب صحيح إلّاأنّه ليس علامة المجازيّة لأنّه مجرّد نفي مصداق من المصاديق، والدليل على المجازيّة هو نفي مطلق المصاديق كما لا يخفى.

قلت: وقع الخلط بين رجوع قيد «الآن» في «زيد ليس بقائم الآن» أو «في الحال» إلى النسبة الموجودة في الجملة وبين رجوعه إلى المحمول أعني المشتقّ، فإن قلنا برجوعه إلى المشتقّ فالحقّ كما ذكره، وأمّا إذا قلنا برجوعه إلى النسبة فتكون المسلوب هو القيام الموجود في الأعمّ من الحال والماضي، ويكون المعنى «إنّ زيداً ليس إلّاقائماً» لا «إنّ زيداً ليس القائم المقيّد بالحال».

وأمّا الدليل الرابع: ما يظهر من كلام شيخنا المحقّق الحائري رحمه الله في الدرر وحاصله: إنّا نعلم بعدم دخالة الزمان في الأسماء ومنها المشتقّات فبناءً على دخالة الذات في معنى المشتقّ يكون معناه الذات المتقيّدة بالمبدأ، وهي لا تصدق إلّاإذا حصل المبدأ وتكون الذات واجدة له ومتلبّسة به، كما أنّ العناوين المأخوذة من الذاتيات في الجوامد لا تصدق إلّاعلى ما كان واجداً لها كالانسان والحجر والماء من دون اعتبار المضيّ والاستقبال، وإلّا كان من الممكن أن يوضع لفظ الإنسان لمفهوم يصدق حتّى بعد صيرورته تراباً، فكذلك العناوين التي تحقّق بواسطة عروض العوارض من دون اعتبار المضيّ والاستقبال، ولعلّ هذا بمكان من الوضوح (انتهى كلامه) «1».

أقول: أمّا قوله بعدم دخل الزمان في الأسماء فقد

عرفت الكلام فيه عند ذكر كلام المحقّق العراقي رحمه الله في البحث عن المراد من الحال في المسألة، وأمّا إثبات المقصود في المقام بمجرّد تشبيه «المشتقّ» بالجوامد كالانسان والماء، فهو لا يعدّ دليلًا في مثل هذه المسألة اللّفظيّة إلّاأن يرجع إلى التبادر أو صحّة السلب، فهو قياس ذوقي بين المسألتين من دون أن يكون دليلًا.

أمّا الأدلّة العقليّة: فمنها: إنّ حمل صفة على ذات لا يكون إلّالغرض عقلائي، ويحصل هذا

انوار الأصول، ج 1، ص: 180

الغرض إذا وجدت تلك الصفة في الخارج وتلبّست الذات بها، وأمّا إذا انقضت فهي كالمعدوم، فكأنّ الذات لم تتّصف بها أصلًا، فإطلاق العالم على زيد يصحّ فيما إذا كان العلم موجوداً فيه، لأنّه مع وجود العلم يحصل ذلك الغرض العقلائي، أمّا إذا زال العلم عنه فلا فرق بينه وبين من لم يتّصف بصفة العلم من أوّل الأمر ولا يتعلّق به غرض عقلائي.

وبعبارة اخرى: إن حمل المشتقّ على من انقضى عنه التلبّس يكون نقضاً للغرض الذي وضع المشتقّ لأجله.

الجواب: إنّ الغرض كما يتعلّق بالذات لكونها متّصفة ومتلبّسة بالوصف في الحال كذلك يتعلّق بها لكونها كانت متّصفة به أحياناً كما يتعلّق الغرض بزيد مثلًا لأنّه كان مجاهداً في سبيل اللَّه.

وبعبارة اخرى: يمكن أن يتعلّق الغرض بذات لصرف اتّصافها بالوصف في زمان ما سواء في زمان الحال أو في الماضي، وحينئذٍ لا يلزم نقض الغرض إذا وضع المشتقّ للأعمّ من المتلبّس والمنقضي عنه.

هذا مضافاً إلى أنّه لا يصحّ الاستدلال بهذه الوجوه العقليّة في الأبحاث اللّفظيّة.

ومنها: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله فإنّه بنى هذه المسألة على المسألة الآتية من أنّه هل يكون المشتقّ مركّباً من الذات والمبدأ، أو يكون هو خصوص المبدأ، وقال: أمّا أن يكون

مفهوم المشتقّ المبدأ اللابشرط في قبال المصدر الذي يكون بشرط لا، أو يكون مركّباً من الذات والمبدأ، فعلى الأوّل يكون المشتقّ موضوعاً للأعمّ من المتلبّس والمنقضي، لأنّ الأساس والركن الركين في المشتقّ حينئذٍ هو الذات، وانتساب المبدأ إليها يكفي فيه التلبّس في الجملة، فلا محالة يكون المشتقّ حينئذٍ موضوعاً للأعمّ، وعلى القول بالبساطة يكون المشتقّ موضوعاً للأخصّ، لأنّ مفهوم المشتقّ حينئذٍ ليس إلّانفس المبدأ المأخوذ لا بشرط، فيكون صدق المشتقّ ملازماً لصدق نفس المبدأ، ومع انتفائه ينتفي العنوان الاشتقاقي لا محالة، ويكون حاله حينئذٍ حال الجوامد في كون المدار في صدق العنوان فعلية المبدأ.

ثمّ عدل رحمه الله عنه في ذيل كلامه وقال: الحقّ هو وضع المشتقّ لخصوص المتلبّس مطلقاً سواء قلنا بالبساطة أم بالتركّب، أمّا على البساطة فواضح، وأمّا على التركّب فلأنّ وضع المشتقّ متوقّف على تصوير جامع بين المنقضي عنه والمتلبّس في الواقع، ومع عدمه فلا مجال لدعوى انوار الأصول، ج 1، ص: 181

كون المشتقّ موضوعاً للأعمّ اثباتاً «1» (انتهى ملخّص كلامه).

أقول: يرد عليه امور:

الأوّل: أنّه سيأتي أنّ المشتقّ أمر مركّب، ومنشأ القول بالبساطة هو الخلط بين المسائل الفلسفيّة واللّفظيّة فانتظر (هذا إشكال في المبنى).

الثاني: أنّ قوله في صدر كلامه «إنّا إن قلنا بالتركّب يكون الركن الركين في المشتقّ هو الذات ويكفي في انتساب المبدأ التلبّس في الجملة» دعوى بلا دليل بل معنى تركيب المشتقّ من الذات والمبدأ دخل كلّ واحد منهما في قوام المشتقّ في الجملة، وأمّا كون أحدهما ركناً والآخر غير ركن فهو أوّل الكلام.

الثالث: أنّ تصوّر قدر جامع بين المتلبّس والمنقضي عنه التلبّس أمر سهل جدّاً، نظير عنوان «من تلبّس بالمبدأ في الجملة» وهو أعمّ ممّن تلبّس بالمبدأ في الحال ومن تلبّس

به في الماضي وانقضى عنه التلبّس.

أدلّة القول بالأعمّ وهي امور:

1- التبادر، أي تبادر الأعمّ من المتلبّس والمنقضي عنه التلبّس فيما إذا أطلق المشتقّ، كما يتبادر من «المضروب» المضروب في الآن والمضروب في ما قبل، وهكذا بالإضافة إلى «القاتل» و «الزاني» و «السارق» فيتبادر من كلّ واحد منهما المعنى الأعمّ.

الجواب: إنّ تبادر المعنى الأعمّ من هذه الألفاظ لم ينشأ من حاقّ اللفظ بل نشأ من قرينية المبدأ كما مرّ في تحرير محلّ النزاع، ومرّ أيضاً إنّ محلّ البحث ما يكون مبدأه قابلًا للدوام والاستمرار وإن كان قابلًا للتكرار، والأمثلة المذكورة ليست من هذا القبيل كما لا يخفى.

2- عدم صحّة سلب المشتقّ عمّن انقضى عنه المبدأ كما في «القاتل» و «المضروب» ونحوهما أيضاً، فلا يصحّ القول بأنّ «شمراً ليس بقاتل الحسين عليه السلام» مثلًا، وعدم صحّة السلب دليل على الحقيقة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 182

أوّلًا: ويرد عليه ما أوردناه على الوجه الأوّل ولا حاجة إلى التكرار.

وثانياً: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله من أنّ عدم صحّة السلب في مثلهما إنّما هو لأجل إنّه قد اريد من المبدأ معنى يكون التلبّس به باقياً فعلًا وهو أثر الضرب أو القتل كالتألّم وازهاق الروح ونحو ذلك فإرادة هذا المعنى من المبدأ وإن كان مجازاً قطعاً لأنّه خلاف معناه الحقيقي وهو الضرب أو القتل كالتألّم وازهاق الروح ونحو ذلك، فإرادة هذا المعنى من المبدأ وإن كان مجازاً قطعاً لأنّه خلاف معناه الحقيقي وهو الضرب أو القتل ولكن بعد ما اريد منه ذلك يكون المشتقّ لا محالة مستعملًا في معناه الحقيقي، وهو المتلبّس بالمبدأ في الحال، وقد عرفت في الأمر الرابع إنّ اختلاف المشتقّات في المبادى ء ممّا لا يوجب اختلافاً في المهمّ المبحوث عنه، نعم هذا

الكلام لا يجري في جميع الأمثلة التي تمسّك بها القائل بالأعمّ كالمضروب إذا لم يكن ضرباً يبقى أثره، فالحقّ في الجواب في مثله هو الأمر الأوّل، وهو أنّ خصوصيّة المبدأ قرينة على المجاز، بل يمكن أن يقال: إنّ المبدأ في الأمثلة المذكورة يكون قرينة على كون الاستعمال فيها بلحاظ حال التلبّس فتكون مانعة من انصراف الإطلاق إلى اتّحاد حال النسبة بحال النطق، فلا يلزم مجازاً ولا يثبت وضع المشتقّ للأعمّ.

3- إنّ الوضع لخصوص المتلبّس يستلزم كثرة المجازات، لأنّ الغالب في استعمال المشتقّات استعمالها في من قضى عنه المبدأ، وهي بعيدة في نفسها مخالفة لحكمة الوضع.

وأجاب عنه في المحاضرات بأنّه مجرّد استبعاد ولا مانع من أن يكون الاستعمال في المعنى المجازي أكثر من الاستعمال في المعنى الحقيقي مع القرينة ولا محذور في ذلك أبداً، كيف فإنّ باب المجاز أوسع وأبلغ من الاستعمال في المعنى الحقيقي ومن هنا تستعمل أنواع المجازات و «الكناية» و «الاستعارة» و «المبالغة» (التي هي من أقسام المجاز) في كلمات الفصحاء والبلغاء أكثر من استعمالها في كلمات غيرهم» «1».

أقول: يمكن المناقشة فيه بأنّه ليس جواباً عن إشكال المخالفة لحكمة الوضع، لأنّ الكلام في أنّ الوضع كيف وضع المشتقّ في المعنى الأخصّ مع كون أكثر الحاجات في المعنى الأعمّ، اللهمّ إلّا أن يقال إنّ الغرض لا يحصل إلّابالعدول عن الحقيقة إلى المجاز فتدبّر جيّداً فإنّه لطيف.

والحقّ في الجواب أن يقال أنّا لا نقبل كون الاستعمال في المعنى المجازي في المشتقّات أكثر

انوار الأصول، ج 1، ص: 183

من استعمال في المعنى الحقيقي لإمكان أن يكون الإسناد فيه بلحاظ حال التلبّس كما مرّ.

4- قوله تعالى: «لَايَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» «1»

الدالّ على أنّ الظالم لا يليق لمنصب الولاية بضميمة استدلالّ

الإمام عليه السلام بها لعدم لياقة من عبد الأوثان لأمر الامامة، وحيث إنّ استدلاله يكون بظاهر الآية على من لا يكون متلبّساً بمبدأ الظلم في الحال بل كان ظالماً في الماضي فلا يكون تامّاً إلّاإذا كان عنوان الظالم حقيقة في الأعمّ من المتلبّس ومن انقضى عنه المبدأ.

و «من الرّوايات» ما رواه هشام بن سالم في حديث قال: قد كان إبراهيم نبيّاً ليس بإمام حتّى قال اللَّه تبارك وتعالى: «إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَايَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» من عبد صنماً أو وثناً أو مثالًا لا يكون إماماً «2».

و «منها» ما رواه عبداللَّه بن مسعود قال قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنا دعوة أبي إبراهيم، قلت:

يارسول اللَّه وكيف صرت دعوة إبراهيم أبيك؟ (إلى أن قال) فإنتهت الدعوة إليّ وإلى علي عليه السلام لم يسجد أحدنا لصنم قطّ فاتّخذني نبيّاً وإتّخذ عليّاً وصيّاً» «3». (ونحوهما ح 13 من نفس الباب).

ويمكن الجواب عنه:

الجواب أوّل: بما قاله المحقّق الخراساني رحمه الله وتبعه غيره بعبارات متفاوتة مع اشتمال جميعها على روح واحد، وينبغي قبل ذكره أن نشير إلى حقيقة معنى الامامة المذكورة في الآية.

فنقول: يستفاد من الآية المذكورة والرّوايات الواردة في ذيلها أنّ مقام الامامة فوق مقام النبوّة لأنّها وسيلة لتحقّق أهداف النبوّة في ناحية «التشريع» و «التكوين» ودورها «الإيصال إلى المطلوب» بعد ما كان دور النبوّة «ارائة الطريق».

وبعبارة اخرى: إنّ هدف الرسالة هو ابلاغ الأحكام، وهدف الامامة هو إجرائها وتحقّقها في الواقع الخارجي في بُعد التشريع والظاهر (بتشكيل الحكومة الإلهيّة كما أنّ الرسول صلى الله عليه و آله وضع الحجر الأساسي لها في المدينة وقد كان صلى الله عليه و آله رسولًا وإماماً كجدّه

إبراهيم عليه السلام) وكذلك في المحتوى الداخلي للأشخاص كما يدلّ عليه كثير من الرّوايات الدالّة على نفوذ الإمام عليه السلام في النفوس المستعدّة وتربيته لها، وإيصاله إيّاها إلى جوار قرب اللَّه تعالى، فمنها ما شبه الإمام انوار الأصول، ج 1، ص: 184

الغائب فيها بالشمس وراء السحاب التي لا تؤثّر في الأشياء من جهة الظاهر والعيان بل تؤثّر من ناحية الباطن والمعنى، ومنها: ما يشير إلى ارتباط قلوب المؤمنين بقلوب النبي صلى الله عليه و آله والأئمّة الهادين من بعده فتحزن بحزنهم وتفرح بفرحهم «1»، ويدلّ عليه قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ» «2»

حيث إنّها تدلّ على إخراج الملائكة المؤمنين من الظلمات إلى النور من طريق المعنى والباطن ولا إشكال في أنّ الأئمّة مختلف الملائكة، وهم أولى بذلك من الملائكة، وأيضاً قوله تعالى: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا» «3»

لأنّ إطلاقها يشمل الهداية التشريعيّة والتكوينيّة معاً وإلّا فمجرّد الهداية التشريعيّة من آثار النبوّة لا الامامة، ولا يخفى أنّ نفوذ الإمام عليه السلام في نفوس المؤمنين وولايته على قلوبهم شأن من شؤون الولاية التكوينيّة.

ويظهر ممّا ذكرنا امور:

الأوّل: أنّ الامامة عهد اللَّه إلى خلقه، لا انتصاب ولا انتخاب فيها من ناحية العباد، كما يدلّ عليه نسبته تعالى إيّاها إلى نفسه في قوله تعالى: «إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً».

الثاني: إنّها تحتاج إلى المعرفة والعلم، كما يدلّ عليه قوله تعالى: «وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ» «4»

وتحتاج من ناحية العمل إلى جهد وسيع وتوفيق ونجاح في الابتلائات والامتحانات الإلهيّة، كما يدلّ عليه قوله تعالى: «وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ» «5».

الثالث: أنّها مرتبة لا يعرفها ولا يعلمها إلّااللَّه، فهو يعلم حيث يجعل رسالته.

الرابع: أنّ الظالم ليس

لائقاً بهذا المقام ولو سبق منه الظلم في زمن بعيد من الأزمنة السابقة لعلوّ شأن الامامة وعظمة مقام الإمام.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه ذكر صاحب الكفاية في مقام الجواب عن الاستدلال بقوله انوار الأصول، ج 1، ص: 185

تعالى: «لَايَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» إنّه لا يتوقّف الاستدلال بهذه الآية في مسألة الامامة على كون المشتقّ موضوعاً للأعمّ، بل يتمّ الاستدلال ولو كان موضوعاً لخصوص المتلبّس.

توضيح ذلك: إنّ الوصف العنواني الذي يؤخذ موضوعاً للحكم في لسان الدليل على أقسام ثلاثة: فقد يكون لمجرّد الإشارة إلى المعنون من دون دخل للعنوان في الحكم أصلًا كقول الإمام عليه السلام في جواب من سأله عن عالم يرجع إليه في مسائله الشرعيّة: «عليك بهذا الجالس» مشيراً إلى بعض أصحابه الذي كان يستحقّ هذه المنزلة لعلمه ووثاقته، ومن الواضح أنّه ليس لعنوان الجلوس دخل في هذا الحكم إلّابعنوان الإشارة إلى موضوعه الواقعي.

وقد يكون لأجل علّية العنوان للحكم لكن حدوثاً لا بقاءً بحيث إذا صدق عليه العنوان ولو آناً مّا ثبت الحكم ولو بعد زوال العنوان كما في قوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ» «1».

وقد يكون لأجل علّية العنوان للحكم حدوثاً وبقاء بحيث يدور الحكم مدار صدق العنوان فمهما صدق العنوان كان الحكم ثابتاً، ومهما لم يصدق لم يثبت، كما في الاجتناب عن النجس أو وجوب تقليد الأعلم ونحو ذلك.

والمشتقّ في الآية الشريفة لو كان من القسم الثالث فاستدلاله عليه السلام بالآية ممّا يبتني على كون الظالم فيها حقيقة في الأعمّ، إذ لو لم يكن حقيقة في الأعمّ لم يكن العنوان باقياً حين التصدّي.

أمّا لو كان من القسم الثاني فاستدلاله بالآية لا يبتنى على كون الظالم حقيقة في الأعمّ بل الاستدلال

إنّما هو لأجل كفاية صدق عنوان الظالم ولو آناً مّا لعدم النيل إلى منصب الولاية إلى الأبد كما أنّه كذلك في الزاني والسارق، ولا دليل على كون الآية من قبيل القسم الثالث بل جلالة قدر الامامة قرينة جليّة على كونها من قبيل القسم الثاني.

أقول: ونزيدك وضوحاً إنّ القرائن هنا كثيرة:

منها: ما مرّ من أنّ الآية الشريفة في مقام بيان عظمة مقام الامامة والخلافة الالهيّة ورفعة محلّها وأنّ لها خصوصيّة من بين المناصب الإلهيّة، ومن المعلوم أنّ المناسب لذلك هو أن لا

انوار الأصول، ج 1، ص: 186

يكون المتقمّص بها متلبّساً بالظلم أصلًا كما لا يخفى.

ومنها: ما ثبت في محلّه في مسألة عصمة الأنبياء أنّه يعتبر في النبوّة والامامة أن يكون النبي أو الإمام معصوماً حتّى قبل نبوّته أو امامته ولا يكون لهما سابقة سيّئة ممّا تتنفّر النفوس به وإلّا لا يمكن أن يكون قدوة واسوة، ولا تطمئن النفوس إليه.

ومنها: ما أفاده بعض الأعلام وهو أنّه قد ورد في عدّة من الرّوايات النهي عن الصّلاة (تحريماً أو تنزيهاً) خلف المحدود بالحدّ الشرعي في زمانٍ مّا والمجذوم والأبرص وولد الزنا والأعرابي، فتدلّ على أنّ المتلبّس بهذا لا يليق أن يتصدّى منصب الامامة للجماعة، فتدلّ بالأولوية القطعيّة على أنّ المتلبّس بالظلم (أي عبادة الأوثان) أولى بعدم اللياقة للجلوس على كرسي الخلافة «1».

منها: أنّ حمل الآية على القسم الثالث يستلزم أن تكون من قبيل توضيح الواضح لوضوح عدم لياقة المتلبّس بالظلم وعبادة الأوثان لمنصب الخلافة حين تلبّسه بذلك.

فتخلّص من جميع ما ذكرنا أنّ القرائن الخارجيّة والداخليّة هي التي أوجبت حمل الآية على الأعمّ فلا يجوز الاستدلال بها في المقام.

الجواب الثاني: أنّه لا شكّ في تلبّس بعض الخلفاء في زمان مّا بعبادة

الأوثان فإذا كان متلبّساً به في زمان كان محكوماً في ذاك الزمان بقوله تعالى: «لَايَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» في خطابه لإبراهيم عليه السلام ومن الواضح أنّه مطلق، أي لا ينال عهدي هذا الظالم في هذا الحال وفي المستقبل، ففي الحقيقة نتمسّك بإطلاق قوله تعالى: «لا ينال» في نفس زمان تلبّسه بالظلم، فلا يتفاوت الحال في الاستدلال بالآية بين القول بالأعمّ والقول بالأخصّ.

بقي هنا شي ء:

وهو ما أفاده بعض الأعلام من عدم ترتّب ثمرة على النزاع في المشتقّ أصلًا.

توضيحه: أنّ الظاهر من العناوين الاشتقاقيّة المأخوذة في موضوعات الأحكام أو متعلّقاتها (بنحو القضايا الحقيقيّة) هو أنّ فعلية الأحكام تدور مدار فعليتها حدوثاً وبقاءً،

انوار الأصول، ج 1، ص: 187

وبزوالها تزول لا محالة وإن قلنا بأنّ المشتقّ موضوع للأعمّ، فمن هذه الجهة لا فرق بينها وبين العناوين الذاتيّة، نعم قد ثبت في بعض الموارد بمناسبة داخلية أو خارجيّة كون العنوان علّة محدثة ومبقية معاً، وكيف كان فلا أثر للقول بأنّ المشتقّ وضع للأعمّ أو للأخصّ «1».

أقول: إنّ هذا الكلام عجيب لأنّ النزاع في المشتقّ لا مساس له بمسألة كون الأحكام على نهج القضيّة الحقيقيّة أو الخارجيّة أصلًا، بل يجري النزاع وإن كانت على نهج القضايا الحقيقيّة، لأنّه وإن كان الظاهر من العناوين الاشتقاقيّة المأخوذة في موضوعات الأحكام على نهج القضيّة الحقيقيّة دوران فعليّة الأحكام مدار فعليّة الموضوعات حدوثاً وبقاءً، لكن الكلام في أنّ مدار الفعليّة ماذا؟ فالقائلون بالأعمّ يقولون: بأنّ عنوان الفاسق فعلي حتّى بعد انقضاء المبدأ، بينما القائل بالأخصّ يعتقد إنّه ليس كذلك، فليس الكلام في اعتبار فعليّة العنوان المأخوذ في الحكم، إنّما الكلام في أنّ مدار الفعليّة ماذا؟ وكأنّ وضوح كون المشتقّ حقيقة فيمن تلبّس بالمبدأ في حال النسبة صار

سبباً لهذا الاشتباه.

تنبيهات:

الأوّل: في بساطة مفهوم المشتقّ وتركّبه
اشارة

وهو مهمّ من جهه ابتناء النزاع في المشتقّ عليه في كلمات بعض الأعاظم كالمحقّق النائيني رحمه الله كما مرّ بيانه (وإن عدل عنه في ذيل كلامه) ولهذا ذكره بمنزلة إحدى المقدّمات في أوّل البحث.

فكيف كان ينبغي تقديم مقدّمتين قبل الورود في أصل البحث وبيان الأقوال فيه:

المقدمة الاولى: في تحرير محلّ النزاع

فنقول: يتصوّر للبساطة والتركيب ثلاثة معان:

الأوّل: البساطة والتركّب التصوّري، فالمركّب ما يتبادر منه إلى الذهن معنيان مستقلّان انوار الأصول، ج 1، ص: 188

كما في كلمة «غلام زيد» والبسيط ما يتصوّر منه معنى واحد كما في مثل «زيد».

الثاني: البساطة والتركّب عند التحليل العقلي الفلسفي كتحليل الإنسان لدى العقل إلى الحيوان والناطق.

الثالث: البساطة والتركّب عند التحليل المفهومي، فالمركّب ما يكون مفهومه مشتملًا على أجزاء بعد تحليل مفهومه، وإن كان قبل ذلك وحدانياً في بدء النظر ك «العلماء».

أمّا المعنى الأوّل: فليس داخلًا في محلّ النزاع قطعاً، لأنّه لا يقول أحد بإنسباق معنيين مستقلّين من إطلاق «القائم» مثلًا إلى الذهن من دون وجود وحدة بينهما.

وأمّا الثاني: فكذلك يكون خارجاً عن محلّ النزاع، لأنّ الكلام في المقام لفظي لا دخل لتحليلات العقليّة فيه، لأنّه لا مدخل للعقل في تعيين مفاهيم الألفاظ وفي تعيين الموضوع له، فيتعيّن المعنى الثالث، فيقع البحث في أنّ مفهوم المشتقّ هل يكون مركّباً من ذات ومبدأ مع تصوّر صورة واحدة له فكأن المشتقّ ذات ثبت له المبدأ، أو يكون عبارة عن المبدأ لا بشرط؟

وبعبارة اخرى: هل المشتقّ في الحقيقة مفهومان مندمجان، أو أنّه مفهوم واحد من دون وجود اندماج فيه؟

وبعبارة ثالثة: إنّ للمشتقّ هيئةً ومادّةً، فهل يبدو للذهن من الهيئة والمادّة شيئان، أو يبدو شي ء واحد؟

المقدمة الثانيّة: في الأقوال في المسألة فإنّها خمسة

أحدها: أنّ المشتقّ مركّب من ثلاثة امور: الذات والمبدأ والنسبة.

ثانيها: أنّه مركّب من أمرين، المبدأ والنسبة، فالمشتقّ هو الحدث المقيّد بالنسبة أو الحدث المنتسب (فيفهم الذات من المشتقّ حينئذٍ بالدلالة الالتزاميّة لعدم تصوّر النسبة بدون الذات لكونها قائمة بطرفيها).

ثالثها: أنّه بسيط فوضع لمجرّد المبدأ لكن للحصّة التوأمة مع النسبة، أي الحدث حين النسبة أو التوأم مع النسبة (لا مقيّدة بالذات ولا

مقيّدة بالنسبة) فيستفاد الذات والنسبة بالدلالة الالتزاميّة أيضاً.

رابعها: أنّه وضع للمبدأ الّابشرط عن الحمل فيكون أيضاً بسيطاً.

انوار الأصول، ج 1، ص: 189

خامسها: أنّه مركّب من الذات والمبدأ من دون وجود نسبة في البين.

أمّا الأوّل: فهو المشهور بين القدماء فيما حكي عنهم.

وأمّا الرابع: فهو المشهور بين المتأخّرين من الاصوليين والفلاسفة، ويستفاد من كلمات المحقّق الخراساني رحمه الله في بدء النظر إنّه قائل بالبساطة لكنّه ذهب إلى التركّب في أواخر البحث.

والمختار هو القول الأوّل (ولا يخفى أنّ هذه المسألة أيضاً من المسائل التي وقع الخلط فيها بين المباحث اللّفظيّة والعقليّة).

فإذا عرفت هذا فنقول: استدلّ للقول ببساطة المشتقّ بوجوه:

الوجه الأوّل: ما أفاده السيّد مير شريف في حاشيته على شرح كتاب المطالع بعد أن انتهى صاحب المطالع إلى تعريف الفكر وقال في تعريفه: إنّ جمعاً من المحقّقين عرّفوا الفكر بأنّه ترتيب امور معلومة للوصول إلى أمر مجهول، ثمّ نقل عن بعض أنّه أورد على هذا التعريف بأنّه ينتقض بكون الفكر في بعض الموارد أمراً واحداً كالناطق في جواب السؤال عن حقيقة الإنسان فلا يصحّ تعريفه بأنّه ترتيب امور، ثمّ أجاب عنه بأنّه ليس ناقضاً لكون الناطق مركّباً لأنّه شي ء ثبت له النطق فلا يكون أمراً واحداً فقال: ليس الناطق مركّباً وإلّا يستلزم أحد الإشكالين على سبيل منع الخلو:

أحدهما: دخول العرض العامّ في الذاتي لو كان المراد من الشي ء في تعريف الناطق مفهوم الشي ء لكون الناطق فصلًا، من الذاتيات، ومفهوم الشي ء عرض عامّ لشموله جميع الكائنات ودخول العرض العامّ الخارج عن الذات في أمر ذاتي محال.

ثانيهما: انقلاب الممكنة إلى الضروريّة لو كان المراد من الشي ء مصداق الشي ء، لأنّ مصداق الشي ء في مثل الكاتب هو الإنسان فمعنى الكاتب «إنسان ثبت له الكتابة»

فإنقلبت قضيّة «الإنسان كاتب» إلى قضيّة «الإنسان إنسان ثبت له الكتابة» وهي قضيّة ضروريّة، فيتعيّن أن يكون المشتقّ بسيطاً (انتهى كلامه) «1».

وأجاب عنه صاحب الفصول بأنّه يمكن أن يختار الوجه الأوّل (أي كون المأخوذ مفهوم الشي ء) ويدفع الإشكال بأنّ كون الناطق فصلًا مبني على عرف المنطقيين حيث اعتبروه انوار الأصول، ج 1، ص: 190

مجرّداً عن مفهوم الذات وذلك لا يوجب أن يكون وضعه لغة كذلك (انتهى).

وأورد المحقّق الخراساني رحمه الله على كلام صاحب الفصول بأنّ من المقطوع إنّ المنطقيين قد اعتبروا مثل الناطق فصلًا بلا تصرّف في معناه أصلًا بل بما له من المعنى لغة.

ثمّ قال: الحقّ في الجواب أن يقال: ليس الناطق فصلًا حقيقيّاً بل أنّه فصل مشهوري فيكون من العوارض الخاصّة كالضاحك، فلا يستلزم دخول العرض العامّ في الذاتي (والظاهر أنّ مراده كون النطق من مقولة الكيف المسموع إن كان بمعنى النطق باللسان وكونه من مقولة الكيف النفساني إن كان بمعنى إدراك الكلّيات، فلا يكون من الذاتيات على كلا التقديرين) ثمّ استشهد لكلامه وقال: ولذا ربّما يجعل عرضان مكان الفصل الحقيقي إذا كانا متساوي النسبة إليه كالحسّاس والمتحرّك بالإرادة في تعريف الحيوان فيقال: «إنّه نامٍ حسّاس متحرّك بالإرادة» والحسّاس والمتحرّك بالإرادة عرضان من عوارض الحيوان والزمان قد وضعا مكان الفصل الحقيقي، وليسا بفصلين حقيقيين للحيوان لوضوح امتناع أن يكون للشي ء فصلان.

أقول: ويشهد له أيضاً أنّه يقال في تعريف الفرس: «حيوان صاهل» مع أنّ الصهل هو صوت الفرس وهو كيف مسموع وكذلك في تعريف الحمار إنّه «حيوان ناهق» وغيره من الفصول المذكورة بعنوان المثال في المنطق.

واستشكل المحقّق النائيني رحمه الله على المحقّق الخراساني رحمه الله بأنّ «هذا الإيراد مبني على جعل الناطق بمعنى المدرك للكلّيات

فإنّ إدراك الكلّيات يكون من خواصّ الإنسان وعوارضه وأمّا لو كان الناطق عبارة عمّا يكون له النفس الناطقة التي بها يكون الإنسان إنساناً فهو فصل حقيقي للإنسان وليس من العوارض» «1».

وقال في المحاضرات (بعد نقل كلام استاذه هذا): «وغير خفي أنّ هذا من غرائب ما صدر عنه فإنّ صاحب النفس الناطقة هو الإنسان وهو نوع لا فصل» «2».

أقول: ليس مراد المحقّق من صاحب النفس الناطقة الإنسان بل إنّه يريد بذلك سبب النطق وهو النفس الإنساني الذي ينشأ منها النطق.

انوار الأصول، ج 1، ص: 191

والصحيح في المسألة أن يقال:

أوّلًا: أنّ المراد من مبدأ النطق الخصوصيّة الموجودة في نفس الإنسان الموجبة للنطق اللّفظي أو المعنوي فهو فصل حقيقة ويشار إليه بالنطق اللّفظي أو المعنوي أي إدراك الكلّيات فيرتفع الإشكال.

وثانياً: لا يجوز قبول الشقّ الأوّل من كلام السيّد الشريف (وهو كون المراد من الشي ء مفهوم الشي ء) لأنّ الشي ء هنا كناية عن الذات، فليكن المراد مصداق الشي ء.

ثالثاً: الخطأ الأساس يكمن في منهج البحث، فالبحث هنا بحث لغوي، والمعيار فيه هو التبادر، ولا يدخل فيه مثل هذه الاستدلالات العقليّة الدقّية.

هذا كلّه في الشقّ الأوّل من كلام السيّد مير شريف.

أمّا الشقّ الثاني: منه وهو لزوم انقلاب الممكنة الخاصّة إلى الضروريّة، فإستشكل فيه صاحب الفصول أيضاً بأنّ المحمول في القضيّة ليس مجرّد مفهوم الإنسان فحسب حتّى يلزم انقلابها إلى الضروريّة بل المحمول الإنسان المقيّد بالكتابة ولا يكون ضروريّاً للإنسان (انتهى).

وإستشكل عليه المحقّق الخراساني رحمه الله بأنّ الكتابة إمّا شرط أو جزء فإن كانت شرطاً فيكون خارجاً عن المحمول فيصدق «الإنسان إنسان» بدون القيد وهي ضروريّة، وإن كان جزءً فينحلّ القضيّة إلى قضيّتين: احديهما «الإنسان إنسان» والثانيّة «الإنسان له الكتابة»، والاولى ضروريّة والثانيّة ممكنة،

فيصدق انقلاب الممكنة إلى الضروريّة على كلّ حال.

أقول: الإنصاف أنّ ما ذكره صاحب الفصول كلام جيّد ويمكن الدفاع عنه بامور:

الأمر الأوّل: أنّه لو كانت الكتابة شرطاً كان الشرط خارجاً عن المشروط إلّاأنّ الاشتراط والتقيّد داخل، وفرق بين «الإنسان المقيّد بالكتابة» و «الإنسان المطلق منها» حيث إنّ الأوّل ضروري للإنسان بخلاف الثاني.

الأمر الثاني: أنّه لو فرض كون الكتابة جزءً لم تنحلّ القضيّة إلى قضيتين، لأنّ التركيب بينهما أيضاً قيد للمحمول، فليس المحمول كلّ من الذات والكتابة باستقلاله بل هما مركّباً محمول واحد للإنسان، فلا يصحّ عندئذ حمل كلّ منهما مستقلًا على الموضوع، وهو نظير الماء الذي تركّب من عنصري هيدروجين واوكسجين ويقال «الماء هو هذا وهذا» فيحمل انوار الأصول، ج 1، ص: 192

العنصران عليه معاً في حال التركّب لكن لا يصحّ حمل أحدهما مستقلًا على الماء.

نعم إن قلنا بكون المبدأ (وهو الكتابة في المثال) من قبيل الخبر بعد الخبر، تنحلّ القضيّة إلى قضيتين لكن لا يقول به أحد.

ولقد أجاد بعض الأعلام حيث قال: إن قلنا بكون المشتقّ مركّباً لا يكون مركّباً تفصيلًا بل إنّه مركّب انحلالي فلا يكون من قبيل الخبر بعد الخبر «1».

فظهر إلى هنا أنّ الحقّ مع صاحب الفصول الذي قال بعدم لزوم انقلاب الممكنة إلى الضروريّة.

الأمر الثالث: أنّه قد مرّ كراراً بأنّ جرّ الأبحاث الاصوليّة إلى المسائل الفلسفية خروج عن محور البحث لأنّه لا يرجع في كشف المعنى اللغوي للمشتقّ إلى الفلسفة وما يصل إليه العلماء المتبحّرون في هذا الفنّ، فما قد يقال من رجوع هذا الدليل إلى التبادر في ذهن المنطقيين لا يرجع إلى محصّل.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ صاحب الفصول قد رجع عن مقالته في خاتمة كلامه تحت عنوان «فيه نظر» (وليته لم

يرجع) فقال: «إنّ الإنسان الذي يكون موضوعاً في القضيّة، إمّا أن يكون كاتباً في الواقع والخارج، أو لا، فعلى الأوّل يلزم الانقلاب إلى الضروريّة الموجبة، لأنّ الموضوع هو الإنسان الكاتب واقعاً فيصير القضيّة «الإنسان الكاتب كاتب» وهي ضروريّة، وعلى الثاني يلزم الانقلاب إلى الضروريّة السالبة كما لا يخفى، ثمّ قال بجريان نفس هذا البيان في الشقّ الأوّل أيضاً فقال: لأنّ لحوق مفهوم الذات أو الشي ء لمصاديقهما أيضاً ضروري ولا وجه لتخصيصه بالوجه الثاني» (إنتهى كلامه).

أقول: لقد أجاد من أجاب عنه بأنّ واقعية المحمول وخارجيته غير دخيلة في الموضوع، وإلّا يستلزم رجوع جميع القضايا إلى الضروريّة، بل الموضوع هو الإنسان مثلًا مع قطع النظر عن اتّصافه الخارجي بالكتابة أو عدمها.

انوار الأصول، ج 1، ص: 193

هذا كلّه في الدليل الأوّل على البساطة.

الوجه الثاني: ما استدلّ به المحقّق النائيني رحمه الله وحاصله أنّ المشتقّ لو كان مركّباً من الذات والمبدأ والنسبة يستلزم كون المشتقّات مبنيات لأنّ النسبة معنى حرفي فيوجب شباهة المشتقّات بالحروف، ولكن كونها من المعربات دليل على عدم دخالة النسبة في معنى المشتقّ، ويستكشف منه عدم دخول الذات أيضاً في المشتقّ لأنّ النسبة تلازم الذات لكونها قائمة بطرفيها «1».

أقول: أوّلًا: إنّ المشتقّ مادّة وهيئة، والمادّة هي المعنى الاسمي، ويمكن أن يكون معرباً لأجلها.

ثانياً: أنّ البناء أو الاعراب أمر سماعي لا قياسي، والقياس على الحرف ممنوع وليس هناك قاعدة كلّية يرجع إليها في جميع مواردها وفي معرفة كون المشتقّ معرباً أو مبنياً، بل علينا أن نرجع إلى أهل اللّغة واستعمالاتهم فيها.

الوجه الثالث: من الأدلّة على البساطة ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله أيضاً وحاصله: لغويّة أخذ الذات في المشتقّ (لكفاية أخذ المبدأ لا بشرط عن الحمل في صحّة

الحمل) وهو خلاف حكمة الواضع الحكيم، وإليك نصّ كلامه: «إنّ كلّ محمول جامداً أو مشتقّاً لا بدّ وأن يؤخذ لا بشرط حتّى يكون قابلًا للحمل، فأخذ الذات فيه خلف لأنّه ملازم لأخذه بشرط شي ء، وهو ينافي المحموليّة الصرفة، مع أنّه يلزم من أخذ الذات فيه محاذير أُخر منها: إنّ الواضع الحكيم لا بدّ وأن يلاحظ في أوضاعه فائدة مترتّبة عليها ولا يترتّب فائدة على أخذ الذات أصلًا» «2».

أقول: أوّلًا: لا يكفي أخذ المبدأ لا بشرط في صحّة الحمل لأنّه يحتاج إلى نوع من الاتّحاد بين الموضوع والمحمول، ولا اتّحاد بين الذات الذي يكون جوهراً والمبدأ الذي يكون عرضاً وإن أخذ لا بشرط.

إن قلت: المراد من اللابشرط هنا هو اللابشرط بالنسبة إلى الحمل، فلا مانع من حمل المبدأ حينئذ على الذات.

قلت: إنّ اللابشرط بالنسبة إلى الحمل لا معنى محصّل له، فإنّ الحمل تابع للمفهوم، فلو كان انوار الأصول، ج 1، ص: 194

المبدأ متّحداً معه الذات كان الحمل صحيحاً، وإلّا كان باطلًا.

وبعبارة اخرى: الحمل أو عدمه ليس من قيود المعنى بل من آثاره الناشئة من وحدة الموضوع والمحمول وعدمها، وهما ناشئان عن مفهومهما الخاصّ، فالضرب وذات زيد ليسا متّحدين بطبيعتهما فلا معنى للقول بأنّه يؤخذ الضرب لا بشرط الحمل.

وثانياً: يكفي في ارتفاع اللغويّة التصريح بما يكون سبباً للوحدة وعدم الاكتفاء باللوازم.

الوجه الرابع: أنّ أخذ الذات يستلزم أن يكون هناك نسبتان في قضيّة واحدة في عرض واحد، احديهما نسبة تامّة بين الموضوع والمحمول، وثانيهما نسبة ناقصة في خصوص المحمول.

ويرد عليه: أنّه ليس كذلك، بل احديهما في طول الاخرى، لأنّ النسبة في المحمول ناقصة تشكّل الخبر فقط، فتكون رتبته مقدّمة على النسبة التامّة بين المبتدأ والخبر.

الوجه الخامس: إنّ أخذ الذات

في المشتقّ يستلزم التكرار في الموصوف فجملة «زيد قائم» تكون بمعنى: زيد زيد له القيام، وهو كما ترى.

وفيه: إنّه ينتقض بمثل «زيد رجل عالم فاضل» الذي تكرّر فيه المبتدأ الموصوف بالصراحة، ولا كلام في صحّته وحسنه.

مضافاً إلى أنّ المأخوذ في المشتقّ هو ذات مبهم من جميع الجهات التي تنطبق على المبتدأ ولا يكون نفس المبتدأ بعينه فلا يلزم حينئذ تكرار.

الوجه السادس: أنّه يستلزم دخول المعروض في العرض في مثل «الضارب»، والجنس في الفصل في مثال «الناطق»، لأنّ الضارب مثلًا عرض، والذات معروض، فيلزم من أخذها فيه دخول المعروض في العرض، كما أنّ الذات في الناطق، جنس يتميّز بوصف النطق فيكون الوصف فصلًا لها، وأخذها في الوصف يستلزم دخول الجنس في الفصل.

أقول: أوّلًا: إنّ «الضارب» عرضي لا عرض، خلافاً للضرب الذي يكون من مقولة الفعل إحدى المقولات التسعة العرضيّة، وعرضي الشي ء غير عرضه.

وثانياً: أنّ قياس الذات في ما نحن فيه بالجنس المنطقي قياس مع الفارق لما تقرّر في محلّه من أنّ الجنس هوية غير متحصّلة، ولا تحصّل ولا تحقّق له في الخارج إلّابفصله، بينما الذات فيما نحن فيه له معنا متحصّلًا لما مرّ من أنّ المأخوذ في المشتقّ هو مصداق الشي ء لا مفهومه.

وما ذكرنا سابقاً- من أنّ الذات المأخوذة في المشتقّ مبهمة من جميع الجهات إلّامن جهة

انوار الأصول، ج 1، ص: 195

المبدأ- لا ينافي ذلك، فإنّ الابهام في الجنس ابهام وجودي فلا تحصّل له إلّابالفصل، ولكن الابهام في المقام ليس من ناحية الوجود بل من ناحية المفهوم من الجهات العرضيّة فقط.

ثالثاً: سلّمنا، إلّاأنّ اللازم دخول الجنس في الفصل فيما إذا قلنا بدخول الذات في الوصف المنطقي أيضاً لا ما إذا قلنا بتجريد المنطقيين الناطق والضارب عن الذات،

والقول بأنّ المتبادر إلى ذهن أهل اللّغة هو المتبادر إلى ذهن المنطقي كما ترى.

وذكر المحقّق العراقي رحمه الله في وجه بساطة المشتقّ عن الذات مع القول بتركّبه من المبدأ والنسبة على نحو تقييده بها، وجهين:

الأوّل: التبادر وأنّ المتبادر من المشتقّ هو المبدأ والنسبة ولا يتبادر منه الذات.

الثاني: أنّ للمشتقّ هيئة ومادّة فالمادّة، تدلّ على المبدأ فقط والهيئة تدلّ على النسبة، كذلك وليس هناك دالّ آخر يدلّ على الذات.

ثمّ قال: إن قلت: إنّ النسبة قائمة بطرفيها، فكيف تتصوّر وتستفاد من المشتقّ بدون الذات؟

قلت: نفهم الذات بالدلالة الالتزاميّة لأنّ النسبة قائمة بطرفيها، إحداهما، هو الذات في الموضوع وثانيهما، هو المبدأ المحمول كما نقول به أيضاً في جواب ما يقال: «من أنّ المشتقّ لا يخلو من أن يقع أحد الأمرين، إمّا أن يقع موضوعاً أو محمولًا، وفي كلا الحالين لا بدّ من وجود الذات، أمّا إذا وقع موضوعاً فلأنّ المبدأ مع النسبة بدون الذات لا يبتدأ به، وأمّا إذا وقع محمولًا فلأنّ الحمل يحتاج إلى اتّحاد بين الموضوع والمحمول، وبدون أخذ الذات في المحمول لا يحصل الاتّحاد» فنقول في جوابه أيضاً إنّ المشتقّ يدلّ على الذات بالدلالة الالتزاميّة لا المطابقية حتّى تكون الذات جزءً من مفهوم المشتقّ (انتهى ملخّص كلامه) «1».

أقول: وفي كلامه مواقع للنظر:

الأوّل: أنّ الوجدان حاكم على تبادر الذات في المشتقّ عند إطلاقه فيتبادر من «السارق» من يسرق، فتكون الذات جزء من معناه المطابقي لا الالتزامي.

الثاني: أنّ الوجدان حاكم أيضاً على أنّ الوحدة التي تكون بين المبتدأ والخبر هي الوحدة بين ذاتين تكونان مدلولين لهما بالدلالة المطابقية لا الوحدة بين المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي.

انوار الأصول، ج 1، ص: 196

الثالث: أنّ لازم كلامه عدم دخول نفس الزمان والمكان

في معنى اسم الزمان والمكان، وكذا عدم دخول الآلة في معنى اسم الآلة (لأنّ الذات في هذه الأسماء عبارة عن نفس الزمان والمكان والآلة) مع أنّ الزمان هو القوام والأساس في اسم الزمان، وكذا المكان والآلة في اسم المكان واسم الآلة بل لا معنى لهذه الأسماء بدون تلك الأشياء، وحيث إنّه لم يقل أحد بالفرق بين هذه الثلاثة وسائر المشتقّات فنستكشف منه أنّه وزان الجميع واحد.

وأمّا انحصار مدلول الهيئة في النسبة فهو دعوى بلا دليل.

هذا كلّه ما استدلّ به على عدم أخذ الذات في المشتقّ، وقد ظهر ضمن المناقشات الواردة أنّ المختار في المقام هو التركّب من الذات والمبدأ والنسبة معاً، وظهر أيضاً بعض ما يدلّ عليه، وملخّص الكلام أنّه يمكن أن يستدلّ للتركّب بصور:

الاولى: التبادر في أذهان أهل العرف فإنّهم إذا سُئِلوا عن معنى الضارب مثلًا يقولون: معناه «الذي يضرب»، والقاتل هو «الذي يقتل».

الثانيّة: صحّة حمل المشتقّ على الذات، وهي كاشفة عن أخذ الذات فيه، لأنّ الحمل يحتاج إلى اتّحاد بين الموضوع والمحمول كما مرّ.

الثالثة: عدم تصوّر عدم أخذها في بعض المشتقّات، وهو اسم الزمان والمكان واسم الآلة كما مرّ آنفاً.

الرابعة: (وقد يكون مجرّد مؤيّد في المسألة لا دليلًا مستقلًا على المدّعى) عروض الصفات المختصّة بالذات على المشتقّ مثل «التأنيث والتذكير والإفراد والتثنية والجمع» فيثنّى الضارب مثلًا حينما تثنّى الذات، ويؤنّث حينما يكون الذات مؤنّثاً.

إن قلت: إنّه ينتقض بعروض التثنية والجمع على الفعل أيضاً.

قلت: ما يثنّى أو يجمع في الفعل أيضاً هو الضمير الفاعلي لا نفس الفعل.

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: ما أفاده بعض الأعلام في مقام إثبات مختاره في المقام (وهو تركّب المشتقّ من المبدأ والذات بدون النسبة) فإنّه قال بعد الإشارة إلى أنّ

الذات هنا مبهم من جميع الجهات إلّإ

انوار الأصول، ج 1، ص: 197

من ناحية وصف كذا: إنّ المراد من التركّب من الذات والمبدأ هو التركّب التحليلي لا التفصيلي.

توضيحه: أنّ المفاهيم على ثلاثة أنواع:

الأوّل: ما يكون بسيطاً من ناحية الدالّ والمدلول والدلالة جميعاً كمفهوم الجسم.

الثاني: ما يكون متعدّداً تفصيلًا كذلك كمفهوم «له القيام».

الثالث: ما يكون متعدّداً في الجهات الثلاثة عند التحليل لا تفصيلًا كمفهوم «القائم» الذي يكون مصداقاً من مصاديق المشتقّ، وبالنتيجة تكون المشتقّات كالبرازخ بين الجمل التفصيلية والجوامد.

أقول: كلامه جيّد حيث أوضح المراد من التركّب والبساطة في المشتقّ إلّاأنّ فيه: إنّ المشتقّ مركّب من الذات والمبدأ والنسبة جميعاً لا من الأوّلين فقط، لأنّ تلبّس الذات بالمبدأ لا يتصوّر بدون النسبة الناقصة كما مرّ.

الأمر الثاني: ما أفاده المحقّق الإصفهاني رحمه الله في بعض عباراته، وحاصله: إنّ المشتقّ قد أخذ في مفهومه ما يصحّ به الحمل ولكن ليس هذا من مفهوم الذات وإلّا لم يصحّ القول بأنّ «الوجود موجود» أو «البياض أبيض» لعدم تصوّر ذات في «الموجود» و «الأبيض» هنا، نعم يوجد فيهما شي ء إجمالًا يصحّ بذلك الحمل «1».

أقول: أوّلًا: إنّا لا نريد من الذات أكثر من ذلك الشي ء الذي يصحّ به الحمل كما اعترف به.

ثانياً: لا ينتقض القول بأخذ الذات في المشتقّ بهذين المثالين لأنّهما ليست من الإطلاقات العرفيّة التي يثبت بها المعنى الموضوع له حتّى تكون معياراً في تعيين مداليل الألفاظ، فلا يصحّ عرفاً إطلاق الأبيض على البياض.

إلى هنا تمّ التنبيه الأوّل وظهر أنّ الحقّ فيه تركّب المشتقّ من الذات والمبدأ والنسبة جميعاً.

التنبيه الثاني: في الفرق بين المشتقّ ومبدئه

إن قلنا بأنّ الذات مأخوذ في المشتقّ فالفرق بينه وبين مبدئه واضح، فلا تصل النوبة حينئذ إلى البحث عنه، وأمّا إذا قلنا بعدم أخذها

فيه فيقع البحث في الفرق بين المشتقّ ومبدئه،

انوار الأصول، ج 1، ص: 198

وحيث إنّ المحقّق الخراساني رحمه الله قائل بعدم أخذ الذات في المشتقّ عنون هذا البحث في الكفاية وقال: الفرق بين المشتقّ ومبدئه أنّ المشتقّ يكون لا بشرط عن الحمل، والمبدأ يكون بشرط لا، وبعبارة اخرى: إنّ المشتقّ لا يكون آبياً عن الحمل خلافاً للمبدأ.

ثمّ نقل عن صاحب الفصول اشكالًا وهو أنّ اعتبار لا بشرط أو بشرط لا لا يوجب تغييراً في حقيقة المفهوم فلا يوجب فرقاً بين حقيقة المفهومين.

ثمّ أجاب عنه: بأنّه توهّم أنّ مرادهم من هذين الاعتبارين إنّما هو بلحاظ الطوارى ء والعوارض الخارجيّة مع الغفلة من أنّ المراد منهما الاباء عن الحمل وعدم الاباء عنه مفهوماً (انتهى كلامه).

أقول: قد مرّ آنفاً أنّ اعتبار اللابشرطيّة لا يوجب صحّة الحمل ما لم يكن في المعنى ما يوجب الوحدة بين الموضوع والمحمول، بل الملاك هو التغاير من جهة، والاتّحاد من جهة اخرى، ولا يخفى أنّ الاتّحاد لا يمكن بدون أخذ الذات في المحمول.

ولكن يستفاد من بعض الكلمات أنّ هنا نوعين من الاعتبار في معنى اللابشرط والبشرط لا، أحدهما لا يوجب تغييراً في المفهوم وهو اعتبارها بلحاظ العوارض الخارجيّة، والآخر يوجب تغيير المفهوم وهو اعتبارهما بلحاظ الحمل، بل يدلّ عليه صريح عبارة الكفاية، حيث قال: «وصاحب الفصول حيث توهّم أنّ مرادهم إنّما هو بيان التفرقة بهذين الاعتبارين بلحاظ الطوارى ء والعوارض الخارجيّة مع حفظ مفهوم واحد، أورد عليهم بعدم استقامة الفرق بذلك».

أقول: إذا قلنا بتعدّد المفهوم لا بدّ وأن يكون الفارق بينهما هو الذات لأنّ صرف الاعتبار لا يوجب تعدّد المفهوم، وعلى هذا يكون النزاع في أخذ الذات في المشتقّ وعدمه لفظيّاً لأنّ الجميع ملتزمون بدخوله فيه (وإن

أنكره بعضهم باللسان وقلبه مطمئن بالايمان) حيث إنّهم قالوا بتعدّد المفهوم كما يشهد عليه تنظيرهم المقام بالجنس بالنسبة إلى المادّة، والفصل بالنسبة إلى الصورة، ولا إشكال في أنّ مفهوم الجنس غير مفهوم المادّة ومفهوم الفصل غير مفهوم الصورة.

إن قلت: الفارق بين مفهوم الجنس والمادّة أو بين مفهوم الفصل والصورة هو اعتبار إلّا بشرطيّة في أحدهما والبشرط لائيّة في الآخر كما قرّر في محلّه، فليكن كذلك في الممثّل أيضاً

انوار الأصول، ج 1، ص: 199

وهو المشتقّ والمبدأ في ما نحن فيه.

قلنا: هو كذلك، أي يكون الفارق بين المشتقّ والمبدأ اعتبار اللابشرطيّة والبشرط لائيّة ولكن هذا الاختلاف ناشٍ عن اختلاف المفهومين لا بدونه.

التنبيه الثالث: في صفات الباري تعالى

هناك صفات ومشتقّات تجري على ذات اللَّه تعالى في الكتاب العزيز والسنّة وكلمات العلماء، ولكن قد يبدو فيها إشكالات أو أسئلة:

أوّلها: كون المبدأ فيها عين الذات مع تغايرهما في سائر المشتقّات.

ثانيها: إنّ المبدأ قائم بالذات وعارض عليها مع أنّه لا قيام ولا عروض في صفات اللَّه تعالى.

ثالثها: أنّ الصفات المنسوبة إلى الممكنات كلّ واحدة منها غير الاخرى مفهوماً ومصداقاً مع أنّ جميع الصفات المنسوبة إليه تعالى واحدة في عين كثرتها ويكون كلّ واحد منها عين الآخر فهو عالم بقدرته وقادر بعلمه وهكذا.

وبعبارة اخرى: اللَّه تعالى وجود كلّه علم، وكلّه قدرة، إلى غير ذلك من الصفات.

والعمدة من هذه الثلاثة هنا هو الأوّل، وقد اجيب عن الإشكال بوجوه:

منها: ما إلتزم به صاحب الفصول من كونها مجازات فإنه قال: يعتبر في صدق المشتقّ على شي ء حقيقة قيام مبدأ الاشتقاق به، فيكون استعمال الصفات في اللَّه استعمال للمشتقّ في غير ما وضع له.

وأجاب عنه المحقّق النائيني رحمه الله بما حاصله: أنّ القول بالمجاز يستلزم تعطيل تلك الصفات وعدم حصول المعرفة

بالنسبة إليها لأنّ العرف يجري هذه الصفات عليه تعالى كما يجريها على غيره فيفهم من «العالم» المنسوب إليه تعالى ما يفهم من «العالم» المنسوب إلى غيره، لا مجرّد عدم كونه جاهلًا فحسب «1».

وأورد عليه بأنّ مراد صاحب الفصول من التجوّز أنّ العالم مثلًا إذا استعمل في ذات الباري انوار الأصول، ج 1، ص: 200

كان بمعنى العلم، فجملة «اللَّه عالم» بمعنى «اللَّه عين العلم».

وأجاب المحقّق الخراساني رحمه الله على صاحب الفصول بأنّ المبدأ في صفاته تعالى وإن كان عين ذاته المقدّسة إلّاأنّ هذا الاتّحاد والعينية يكون في الخارج لا في المفهوم، والتغاير المفهومي كافٍ في صحّة الحمل.

واستشكل على كلامه: بأنّ المتبادر من تغاير المبدأ للذات في المشتقّات هو التغاير الخارجي مضافاً إلى التغاير المفهومي.

وأجاب المحقّق العراقي رحمه الله عن الإشكال بجواب ثالث وإليك نصّ ما ورد في تقريراته:

«التحقيق في الجواب أن يقال: إنّ أهل العرف لغفلتهم عن اتّحاد ذاته تعالى مع مبادى ء صفاته الحسنى التي نطق بها البرهان الصادق، يحملون عليه تعالى هذه العناوين المشتقّة بما لها من المفاهيم، ويتخيّلون أنّ مطابقها في ذاته المقدّسة كما هو مطابقها في ذات غيره، وليس ذلك إلّا لإفادته المعاني التي تحصل من حمل هذه العناوين المشتقّة على ذاتٍ ما، من الاتّصاف بمبادئها من العلم والقدرة والوجود، فيقولون: أنّه تعالى عالم موجود كما يقولون زيد عالم موجود، مع أنّهم يعتقدون أنّه تعالى لا موجود له ...» «1».

أقول: لا يخفى أنّ الإشكال بعد باقٍ على حاله بالإضافة إلى الاستعمالات الجارية على ألسنة الأنبياء والأولياء والجارية على لسان القرآن الكريم.

والجواب الرابع: ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله «2» وهو أنّه لا يعتبر في صحّة الحمل والجري تغاير المبدأ للذات، وليس للتغاير دخل

في مفهوم المشتقّ بل معنى العالم مثلًا من له العلم سواء كان هو غير العلم أو كان عينه، وقد صرّح في المحاضرات «3» باتّحاد هذا الجواب مع ما أفاده المحقّق الخراساني وهو كذلك لرجوعه إلى كفاية التغاير المفهومي وعدم اعتبار التغاير الخارجي في صحّة الحمل.

فيرد عليه أيضاً ما مرّ من أنّ هذا خلاف ما يتبادر منه، لأنّ المتبادر من مفهوم المشتقّ تغاير الذات للمبدأ خارجاً.

انوار الأصول، ج 1، ص: 201

الخامس: (وهو المختار) أن يجاب عنه بطرق ثلاثة كلّ واحد يجري في قسم من الصفات (على سبيل منع الخلو).

الطريق الأوّل: ما مرّ في مبحث الصحيح والأعمّ في بيان القدر الجامع للصحيحي، من أنّ اللفظ وضع لما يكون منشأً للأثر المرغوب منه، فالساعة مثلًا وضعت لما يقدّر به الأوقات، والسراج وضع لما ينشأ منه الضياء لدفع الظلمة، وهما يصدقان على كلّ ما يكون سبباً لهذين الأثرين ولو اختلفت الموادّ والهيئات كما يرى في الساعات المائيّة والرمليّة والكهربائيّة فلا شكّ في أنّ كلّها ساعة، وهذا المعنى صادق في قسم من صفات الباري كالسميع والبصير، فإنّ السميع مثلًا وضع لمن يكون محيطاً بالمسموعات، والبصير وضع لمن يكون محيطاً بالمبصرات، سواء كان ذلك بالآلة أو بدونها (فتأمّل).

الطريق الثاني: أن تكون مجازاً ولكنّه مجاز فوق الحقيقة بحيث تكون الحقيقة فيها قنطرة المجاز على عكس ما هو المعروف من أنّ المجاز قنطرة الحقيقة فإنّ استعمال العالم في اللَّه تبارك وتعالى وإن فرض مجازاً، ولكنّه مجاز أعلى من الحقيقة فإنّ العلم هنا عين الذات، لا أمر عارض عليه، فيكون المعنى المجازي أعلى وأشرف وأتمّ من المعنى الحقيقي، ولا ضير في الالتزام بذلك مع وجود القرينة، ووضوح المفهوم وهكذا الحال في ما يشبه العالم من

الصفات كالقادر وغيره.

الطريق الثالث: النقل، بأن يقال بانتقال المعنى المحدود إلى المعنى الوسيع بعد كثرة استعماله في ذات الباري تعالى، فكان العالم مثلًا موضوعاً لما يكون المبدأ فيه غير الذات، لكن لكثرة استعماله في اللَّه عزّوجلّ وضع تعييناً أو تعيّناً للأعمّ منه، وهذا أيضاً يجري في مثال العالم والقادر وما أشبههما فتأمّل جيّداً.

التنبيه الرابع: في قيام المبدأ بالذات

لا إشكال في أنّ الوصف والاتّصاف يحتاج إلى قيام المبدأ بذات لأنّه لو لم يكن المبدأ قائماً بالذات لا يتحقّق اتّصاف لذات دون ذات، بل يلزم اتّصاف كلّ ذات بكلّ وصف، وهذا واضح لا إشكال فيه، ولكن هيهنا أمثلة صارت منشأً للنزاع والإشكال، ففي قسم منها مثل الضارب والمؤلم بالكسر، ليس المبدأ فيه وهو الضرب والألم قائماً بذات الضارب والمؤلم، بل إنّهما قائمان انوار الأصول، ج 1، ص: 202

بالمضروب والمؤلَم (بالفتح)، كما لا يخفى، وفي قسم آخر منها نحو اللابن والتامر ممّا يكون المشتقّ فيه من الجوامد لا معنى لقيام المبدأ (وهو اللبن والتمر في المثال) بذات اللابن والتامر، وفي قسم ثالث منها وهو الصفات التي تنسب إلى ذات الباري تعالى أيضاً كذلك فليس المبدأ فيها قائماً بالذات لأنّها عينه.

أقول: وحيث إنّ بعضهم لم يظفر على جواب مناسب لهذه الأمثلة أنكر من الأساس اعتبار قيام المبدأ بالذات في جميع المشتقّات، ولكن يمكن الجواب عن الجميع:

أمّا القسم الأوّل: فيمكن أن يقال: إنّ الإشكال فيه حصر القيام في نوع واحد، وهو القيام الحلولي، مع أنّ للقيام أنواعاً متفاوتة:

منها: القيام الحلولي كما هو كذلك في الصفات المشبّهة وأسماء الفاعل المشتقّة من الفعل اللازم.

ومنها: القيام الصدوري، كما في مثل الضارب والقاتل وغيرهما.

ومنها: القيام بمعنى الوقوع فيه، كما في اسمي الزمان والمكان.

ومنها: القيام بمعنى الوقوع به في مثل

اسم الآلة.

ومنها: القيام الانتزاعي كما في مثل الصفات الانتزاعي، نحو صفة الممكن الذي تنتزع من تساوي الوجود والعدم بالنسبة إلى الذوات الممكنة، فإنّ مبدأ الإمكان فيه قائم بذات الممكن انتزاعاً، فالقيام في جميع المشتقّات حاصل ولكن كلّ واحد بنوع من القيام.

هذا كلّه بالنسبة إلى القسم الأوّل من الأمثلة.

أمّا القسم الثاني: مثل اللابن والتامر فالجواب عنه إنّه لا يشتقّ من الجامد وصف إلّابعد اشراب معنى وصفي فيه، فاشرب في اللبن والتمر مثلًا معنى البيع ويكون اللابن والتامر مشتقّين في الواقع من مادّة بيع اللبن ومادّة بيع التمر، وهما قائمان بفاعلهما قياماً صدوريّاً.

أمّا القسم الثالث: فالطريق الصحيح في حلّه ما اخترناه سابقاً من كونها مجازات فوق الحقيقة.

ففي مثل العالم نقول: إنّ اللَّه منزّه من أن يكون العلم قائماً به، بل ذاته تعالى عين العلم، فيكون فوق الحقيقة، ولا غرابة ولا استهجان فيه، وعلى هذا فلا يرد علينا إشكال تعطيل الصفات، أو كونه تعالى جاهلًا بالمقايسة إلى الممكنات تعالى اللَّه عن ذلك.

انوار الأصول، ج 1، ص: 203

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمه الله قد سلك في المسألة طريقة اخرى وتبعه المحقّق النائيني رحمه الله وهو أنّ العرف مرجع في تعيين المفهوم لا المصداق، فيمكن أن يكون هناك مصاديق لم يدركها العرف وفي ما نحن فيه: كذلك، فإنّ مفهوم المشتقّ هنا عرفاً هو المبدأ القائم بالذات لكن من مصاديق القيام وأعلى مراتبه هو القيام على نحو العينية وإن لم يدركه العرف!

ويرد عليه:

أوّلًا: أنّ العرف قد يكون مرجعاً في المصاديق أيضاً، كما في تطهير الثوب المتنجّس بالدم فيما إذا بقي فيه لون من الدم، ففي مثله وإن كان العقل يحكم ببقاء عين الدم، لاستحالة انتقال العرض (على القول به) إلّاأنّه حيث إنّ

العرف لا يعدّه من مصاديق الدم يحكم بعدم وجوده وبطهارة الثوب، نعم المرجع في المصاديق هو العرف الدقّي لا التسامحي، فلا يرجع إلى المسامحات العرفيّة كما إذا حكم على تسعة وتسعين مثقالًا أنّه مائة مثقال مسامحة.

وثانياً: أنّ القيام يلازم الاثنينية ولا توجد اثنينية فيما إذا كان المبدأ عين الذات، وأمّا كون الاتّحاد من أعلى مصاديق القيام فهو كلام شعري لا محصّل له بعد ما عرفت من وجود الاثنينية في معنى القيام.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ ما مرّ من البيان في صفات الباري يختصّ بصفات ذاته تعالى ولا يشمل صفات الفعل، لأنّ المبدأ في الصفات الفعليّة غير الذات وليست عينها قطعاً بل ينتزعها العقل من الأفعال الصادرة منه تعالى فينتزع مثلًا عنوان «الرازق» بعد صدور فعل «الرزق» منه تعالى، وكذلك في عنوان «الخالق» وغيره من صفات الفعل ولهذا يقال بحدوث صفات الفعل بمعنى أنّ الانتزاع العقلي لهذه الصفات من الأفعال حادث بحدوث الفعل فلا يرد إشكال من ناحية قدم الذات مع حدوث الصفات كما لا يخفى.

نعم القدرة على فعل الخلق أو الرزق قديم، إلّاأنّ مفهوم القادر غير مفهوم الخالق والرازق، ومحلّ النزاع في المقام إنّما هو الصفات المنتزعة من نفس هذه الأفعال، لا صفة القدرة عليها.

التنبيه الخامس: في أنّ ثبوت المبدأ للذات لا بدّ أن يكون ثبوتاً حقيقيّا

هل يكون كلمة «الجاري» في مثل جملة «الميزاب جارٍ» حقيقة ولو كان وصفاً للميزاب، أو مجازاً لأنّه وصف للماء واقعاً لا للميزاب؟

وقع الخلاف فيه بين المحقّق الخراساني وصاحب الفصول رحمهما الله، لأنّ صاحب الفصول رحمه الله ذهب إلى اعتبار كون ثبوت المبدأ للذات في استعمال المشتقّ ثبوتاً حقيقيّاً، فكلمة «جارٍ» في الجملة المذكورة مجاز لا حقيقة، واستشكل عليه المحقّق الخراساني رحمه الله وقال: إنّه خلط بين المجاز في الكلمة والمجاز في

الإسناد، والمثال من قبيل الثاني لا الأوّل.

أقول: الإنصاف أنّ الخلط إنّما هو في كلام المحقّق الخراساني رحمه الله، لأنّ الذات المبحوث عنها في المقام هي الذات الموجود في المشتقّ لا المبتدأ أو الموصوف في الجملة الخبريّة، والمتبادر من المشتقّ إنّما هو اتّصاف الذات الموجود فيه بالمبدأ حقيقةً، وأمّا مثل «جار» في المثال المذكور فيمكن أن يكون من باب المجاز في الكلمة لا المجاز في الإسناد.

وبعبارة اخرى: المراد من الجاري هنا الجاري مجازاً لا حقيقة، ومن المعلوم أنّ إسناد هذا المعنى إلى الميزاب حقيقي كما أنّ إسناد الأسد بمعنى الرجل الشجاع إلى زيد في قولنا «زيد أسد» ليس إسناداً مجازيّاً بل هو إسناد حقيقي وإن كان الأسد استعمل في معناه المجازي.

نعم لو اريد من الجاري معناه الحقيقي كان إسناده إلى الميزاب إسناداً مجازيّاً فتدبّر جيّداً.

فتلخّص: أنّ ما مرّ في مفهوم المشتقّ من لزوم كون المبدأ قائماً بالذات، لا بدّ أن يكون القيام فيه حقيقياً لا مجازيّاً.

التنبيه السادس: في تعيين مبدأ المشتقّات

وقع الخلاف بين الأعلام في أنّ المبدأ للمشتقّات هل هو «المصدر» كما قال به الكوفيون أو «الفعل» كما نقل عن البصريين أو «المادّة الهيولائيّة التي لا خصوصيّة فيها من جهة الهيئة والنسبة» كما عليه المحقّق النائيني رحمه الله في بعض تقريراته؟ وجوه:

وقد أورد على القول الأوّل: بأنّ «المصدر مشتمل على مادّة وصورة من حيث لفظه، وحدث ونسبة من حيث المعنى، ويستحيل أن يكون مثله مبدأ لبقيّة المشتقّات إذ لا بدّ وأن انوار الأصول، ج 1، ص: 205

يكون المشتقّ مشتملًا على المبدأ، والمصدر مباين مع بقيّة المشتقّات لفظاً ومعنى» «1».

ولكن يرد عليه:

أوّلًا: أنّ المراد من الأصل هو أوّل ما وضع في المشتقّات ثمّ أخذ منه الباقي، ولا يخفى أنّ اللفظ يحتاج إلى

هيئة ما لا يمكن وضعه بدونها لأنّ الوضع لا محالة يتعلّق بصيغة خاصّة وتركيب خاصّ لا بحروف مقطّعة منثورة.

وثانياً: لقائل أن يقول: أنّه لا دلالة للهيئة في المصدر على معنى خاصّ بل إنّها لمجرّد إمكان التلفّظ به، فلا تفيد الهيئة فيه معنى خاصّاً غير ما تفيده مادّته وإن كان اللازم علينا عند التكلّم به الاحتفاظ بتلك الهيئة لأنّه أمر سماعي لا يجوز التخلّف عنه، كما أنّه لا نسبة في المصدر إلى شي ء (والمراد المصدر من الثلاثي).

وأمّا القول الثاني: وهو كون المبدأ الفعل ففيه: أنّه يستلزم زيادة الأصل على الفرع لأنّ في الفعل زيادة على المصدر من حيث الزمان والنسبة، لأنّ المصدر مجرّد حدث لا زمان فيه ولا نسبة، بينما الفعل واجد لكليهما.

نعم يفهم من المصدر النسبة بالدلالة الالتزاميّة، فإنّ الحدث إذا أخبر عنه يحتاج في وقوعه إلى نسبة خارجيّة، ولكن لا يكون هذا في معناه المطابقي.

ولعلّ منشأ هذا القول أنّ علّة الحاجة إلى اللّغة أوّلًا إنّما هي بيان الفعل، والحاجة إلى بيان المصدر والصفات ناشئة من الحاجة إلى فهم الأفعال، لأنّ الضارب مثلًا لا يكون ضارباً ولا يتّصف بهذا الوصف إلّابعد أن صدر منه فعل الضرب، ولكن مجرّد هذا لا يكون دليلًا على كون الفعل أصلًا بعد وجود زيادات فيه ليست في المصدر.

فتبيّن وتحصّل ممّا ذكرناه أنّ المتعيّن كون المصدر هو الأصل.

وما مرّ من أنّ للمصدر هيئة لا تكون ثابتة في سائر المشتقّات قد عرفت الجواب عنه كما عرفت الجواب عن قول القائل بأنّ في المصدر نسبة لا توجد في سائر المشتقّات (لكن هذا كلّه في المصدر الثلاثي المجرّد).

انوار الأصول، ج 1، ص: 206

إلى هنا قد فرغنا من مقدّمات المباحث الاصوليّة فلنرجع إلى البحث عن نفس

مسائلها، والكلام يقع في مقاصد ثمانيّة:

1- الأوامر.

2- النواهي.

3- المفاهيم.

4- العامّ والخاصّ.

5- المطلق والمقيّد.

6- الأمارات المعتبرة عقلًا أو شرعاً.

7- الاصول العمليّة.

8- تعارض الأدلّة والأمارات.

والخاتمة في الاجتهاد والتقليد.

المقصد الأوّل: الأوامر ويقع البحث فيها في فصول عديدة

الفصل الأوّل معنى الأمر

وهو يستدعي بنفسه وقوع البحث في مقامين:

المقام الأوّل: في مادّة الأمر (امَرَ)

المقام الثاني: في صيغة الأمر (صيغة افعل).

ولا يخفى لزوم التفكيك بين المقامين، ومع الأسف وقع الخلط بينهما في كلمات القدماء من أصحابنا الاصوليين، ولذا ترى صاحب المعالم رحمه الله استدلّ لدلالة صيغة الأمر على الوجوب بقوله تعالى: «فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ...» مع أنّ مدلوله إنّما هو دلالة مادّة الأمر على الوجوب، (على فرض دلالتها).

المقام الأوّل: في مادّة الأمر

اشارة

ولا بدّ قبل الورود في أصل البحث تقديم مقدّمة في معنى المادّة، فنقول: قد ذكر لكلمة الأمر معانٍ كثيرة:

1- الطلب كما يقال: «أمره بكذا» أي طلب منه كذا.

2- الشأن كقولك: «هذا الأمر شغلني».

3- الفعل كقوله تعالى: «وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ» أي وما فعل فرعون برشيد.

4- الفعل العجيب كقوله تعالى: «فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا» (في قصّة لوط).

5- الشي ء، كقولك: رأيت اليوم أمراً عجيباً.

6- الحادثة كقولك: هل حدث أمر؟

7- الغرض كقولك: جاء بأمر كذا.

وقد اضيف إليها معانٍ تصل إلى خمسة عشر معنىً.

انوار الأصول، ج 1، ص: 210

ولكن المهمّ هنا إنّما هو كشف مبدأ هذه المعاني ومرجعها، والبحث في أنّها هل ترجع إلى أصل واحد، أو أصلين، أو أكثر؟ وبعبارة اخرى: هل تكون مادّة الأمر من قبيل المشترك اللّفظي أو من المشترك المعنوي؟

ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى أنّ عدّ بعض هذه المعاني من معاني مادّة الأمر يكون من قبيل اشتباه المصداق بالمفهوم وأنّه لا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة والشي ء، ثمّ عدل عنه في ذيل كلامه، وقال: لا يبعد أن يكون ظاهراً في المعنى الأوّل فحسب أي الطلب، واختار صاحب الفصول أنّه حقيقة في المعنيين الأوّلين، أي الطلب والشأن، وذهب المحقّق النائيني رحمه الله إلى أنّه

«لا إشكال في كون الطلب المنشأ بإحدى الصيغ الموضوعة معنى له وإنّ استعماله فيه بلا عناية، وأمّا بقية المعاني فالظاهر أنّ كلّها راجعة إلى معنى واحد وهو الواقعة التي لها أهميّة في الجملة، وهذا المعنى قد ينطبق على الحادثة وقد ينطبق على الغرض وقد يكون غير ذلك» ثمّ عدل عنه في ذيل كلامه وقال: «بل يمكن أن يقال: إنّ الأمر بمعنى الطلب أيضاً من مصاديق هذا المعنى الواحد فإنّه أيضاً من الامور التي لها أهميّة» «1».

أقول: في مثل هذا الموارد لا بدّ من الرجوع إلى أمرين: منابع اللّغة، والتبادر.

أمّا اللّغة: فقد ذكر في منابعها لمادّة الأمر أصلان:

الأصل الأوّل: أنّه ضدّ النهي.

الأصل الثاني: الشي ء كما اشير إليه في بعض الكلمات، وأمّا الطلب فهو أعمّ من الأمر لشموله الطلب النفساني أيضاً كقولك «اطلب ضالّتي» أو «اطلب العلم» مع أنّه لا يمكن وضع الأمر موضعه فلا يقال: «آمر ضالّتي» أو «آمر العلم»، اللهمّ إلّاأن يقال أنّ معناه مساوق لمعنى «الطلب من الغير» ولكنّه أيضاً ممنوع لأنّه قد يقال «طلب منه شيئاً» ولا يمكن تبديله بالأمر فيقال «أمره بكذا».

وكيف كان فالمعنى الأوّل لمادّة الأمر هو، الأمر ضدّ النهي كما قال به في لسان العرب، والمعنى الثاني: الشي ء، فإنّه قد يقال: «هذا أمر لا يعبأ به» أو «هذا أمر لا يعتنى بشأنه» أي هذا شي ء لا يعبأ به أو لا يعتنى بشأنه، فهو مشترك لفظي بين المعنيين من دون أن يكون قدر

انوار الأصول، ج 1، ص: 211

جامع بينهما حتّى يصير مشتركاً معنويّاً، والدليل على كونه مشتركاً لفظيّاً (وإنّه لا جامع بينهما).

أوّلًا: قول أرباب اللّغة (فراجع).

وثانياً: التبادر فإنّ المتبادر من قولك «جئت لهذا الأمر» أو «رأيت اليوم أمراً عجيباً» إنّما هو الشي ء

ولا يمكن تأويلها إلى الطلب لوجود التباين بينهما.

وثالثاً: ما صرّح به غير واحد منهم من أنّ الأوّل يجمع على فواعل (أوامر) والثاني على فعول (امور).

ورابعاً: كون أحدهما (وهو المعنى الأوّل) مصدراً ومبدأً للاشتقاق، والثاني اسم لا يشتقّ منه شي ء.

ومن هنا يظهر وقوع الخلط بين المفهوم والمصداق بالنسبة إلى سائر المعاني وإنّها ترجع في الواقع إلى هذين المعنيين كالمعنى الثالث وهو الفعل، فإنّ الأمر في قوله تعالى: «وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ» ليس بمعنى الفعل بل إنّه عبارة عن أوامر فرعون وأحكامه فينطبق على المعنى الأوّل، وهكذا المعنى الرابع فإنّ الأمر في قوله تعالى: «فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا» أيضاً بمعنى الأمر التكويني للَّه تعالى بالعذاب نظير قوله تعالى: «أَتَى أَمْرُ اللَّهِ» أي أتى أمره التكويني بالعذاب.

ثمّ إنّه ذكر في تهذيب الاصول أنّ ما هو المعروف بين الاصوليين من أنّ لفظ الأمر مشترك لفظي بين ما هو أمر حدثي وبين غيره غير صحيح إذ الموضوع للحدث هو المادّة الساريّة في فروعها التي لم تتحصّل بهيئة خاصّة، والموضوع لمعانٍ اخر هو لفظ الأمر جامداً» «1».

ولا يخفى ما فيه، فإنّ النزاع في مادّة المشتقّات لا دخل له بما نحن فيه، بل الكلام في أنّ كلمة الأمر بهذه الهيئة لفظ واحد له معنيان مختلفان:

أحدهما: المعنى المصدري الحدثي.

والثاني: المعنى غير الحدثي الجامد وليس المشترك اللّفظي إلّاهذا، سواء كان الأصل في المشتقّات هو المصدر أو المادّة الساريّة في فروعها.

إذا عرفت هذا فنقول: لا بدّ من التكلّم حول مادّة الأمر بالمعنى الأوّل في عدّة امور:

الأمر الأوّل: في اعتبار العلوّ أو الاستعلاء في هذا المعنى

والأقوال فيه خمسة: اعتبار العلوّ فقط، اعتبار الاستعلاء فقط، اعتبار العلوّ والاستعلاء معاً، كفاية أحدهما، عدم اعتبار شي ء منهما.

وتنبغي الإشارة أوّلًا إلى معنى العلوّ والاستعلاء فنقول: أمّا العلوّ فهو أن

يكون المتكلّم الآمر في مقام عالٍ إمّا ظاهريّاً كما في أوامر فرعون، أو معنويّاً كما في أوامر الأنبياء، وأمّا الاستعلاء فهو التكلّم عن مقام عالٍ، والأمر أو النهي عن منصب عالٍ (وليس بمعنى التجبّر والتكبّر) لا عن موضع شافع أو ناصح أو صديق سواء كان له مقام عالٍ خارجاً أو لم يكن، ولا يخفى أنّ أحدهما غير الآخر، فقد يأمر الإنسان عن موضع منصب عالٍ وليس بعالٍ وبالعكس كما ورد في الحديث النبوي صلى الله عليه و آله «قال: أتأمرني به يارسول اللَّه (أي أتطلب منّي الصلح عن مقام منصب الولاية) قال: إنّما أنا شافع» هنا يكون فيه العلوّ (لعلوّ مقام النبي صلى الله عليه و آله ومولويته) دون الاستعلاء.

إذا عرفت هذا فنقول: الحقّ أنّ كليهما مأخوذان في المعنى في بدو النظر بمقتضى التبادر أوّلًا: (ولذلك يقال لمن أمر من دون أن يكون له علوّ: ما شأنك حتّى تأمرني» أو «ما لك من حقّ الأمر بي» فيستحقّ التوبيخ والملامة) وصحّة السلب.

ثانياً: فيقال: ليس هذا أمراً بل هو استدعاء كما وقع في الحديث المزبور.

لكن مع ذلك كلّه قد نشكّ في ذلك عند ما نلاحظ موارد استعمالات مادّة الأمر في القرآن الكريم فنحتمل حدوث هذين القيدين في الأزمنة الأخيرة وعدم وجودهما في عصر النزول وصدور الرّوايات (من باب أنّ الاطّراد من علامات الحقيقة).

فمثلًا في قوله تعالى: «يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ» «1»

لا إشكال في عدم علوّ لأصحاب فرعون عليه، اللهمّ إلّاأن يحمل على المجاز، أو يأوّل بأنّه لم يكن لفرعون علوّ ولا استعلاء حين صدور هذا القول بل كانا لملأه من باب أنّ الطواغيت إذا انهزموا أو وقعوا في شدّة وبلاء صاروا أذلّين وخاشعين

فيرون الداني عالياً.

وهكذا في قوله تعالى: «قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَنِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ» من باب أنّ انوار الأصول، ج 1، ص: 213

قومه صلى الله عليه و آله كانوا دانين بالنسبة إليه لا سيّما بملاحظة قوله صلى الله عليه و آله «أيّها الجاهلون» الدالّ على تحقير شديد.

ويشهد له ما ورد من الآيات والرّوايات في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووجوبها على جميع المكلّفين لأنّه لا إشكال في أنّه ليس لكلّ واحد منهم علوّ على باقي الناس، كما يشهد له أيضاً قياس الأمر بالنهي حيث إنّ الظاهر عدم اعتبار واحد منهما في النهي.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز وأنّه في ما نحن فيه لم يصل إلى حدّ الاطّراد فنرجع إلى أصالة عدم النقل.

والتحقيق في المسألة أن يقال أنّ المتبادر من الأمر إنّما هو نوع من الإلزام (في مقابل الاستدعاء الذي ليس فيه إلزام) وهو يتصوّر فيمن كان مطاعاً بنحو من الأنحاء، أي يصدر الإلزام ممّن هو مطاع إمّا شرعاً أو عرفاً أو عقلًا، وحيث إنّ لزوم الطاعة يلازم غالباً العلو والاستعلاء فتوهّم من ذلك اعتبارهما في المعنى الموضوع له الأمر.

وبعبارة اخرى: المتبادر من الأمر إنّما هو الإلزام، وأمّا العلو والاستعلاء فهما من اللوازم الغالبية له.

الأمر الثاني: في دلالة المادّة على الوجوب

واستدلّ لها بوجوه:

الوجه الأوّل: التبادر والظهور العرفي، فإنّ المتبادر عرفاً من لفظ الأمر فيما إذا كان مجرّداً عن قرينة على الاستحباب هو الطلب الإلزامي.

وإن شئت قلت: أنّ مفاده البعث كما عرفت، والبعث يستدعي الانبعاث كما هو الحال في البعث الفعلي بأن يأخذ بيده ويبعثه نحو العمل، فكما أنّ البعث الفعلي ظاهر في الوجوب، فكذا البعث القولي يتبادر منه الوجوب، بل سيأتي إن شاء اللَّه تبادر الفوريّة منه أيضاً.

لا نقول

إنّ استعماله في المستحبّ مجاز كما سيأتي، بل نقول: المتبادر من الإطلاق هو الوجوب، والانصراف إلى بعض أفراد المطلق ليس بمعنى كونه مجازاً في غيره.

الوجه الثاني: قوله تعالى: «فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ انوار الأصول، ج 1، ص: 214

عَذَابٌ أَلِيمٌ» «1»

من باب إنّه مشتمل على مذمّة من يخالف الأمر وتهديده بالعذاب.

الوجه الثالث: قوله صلى الله عليه و آله: «لولا أن أشقّ على امّتي لأمرتهم بالسواك عند وضوء كلّ صلاة» «2» حيث إنّه صلى الله عليه و آله نفى الأمر مع ثبوت الاستحباب.

الوجه الرابع: ما نقل «أنّ بريرة لمّا طلب النبي صلى الله عليه و آله منها الرجوع إلى زوجها قالت: تأمرني يارسول اللَّه؟ فقال: لا بل إنّما أنا شافع» «3» فنفي الأمر أيضاً مع ثبوت استحباب إصلاح أمر الزوجة.

الوجه الخامس: قوله تعالى: «مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ» «4»

لشموله على التوبيخ والمذمّة لمن خالف أمره تعالى بالسجدة (وهو ابليس).

ولكن يمكن نقض جميع هذه الموارد للأمر غير الأمر الأوّل بموارد استعمال الأمر في القدر الجامع بين الوجوب والاستحباب:

منها: قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ» «5»

لثبوت استحباب الاحسان.

ومنها: قوله تعالى: «لَاخَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ» «6»

فإنّه لا ريب أيضاً في استحباب هذه الموارد الثلاثة.

ومنها: قوله عليه السلام في كتابه لمالك: «هذا ما أمر به عبداللَّه علي أمير المؤمنين ... ثمّ قال: أمره بتقوى اللَّه ... أمره أن يكسر نفسه عند الشهوات» فلا إشكال في استعماله أيضاً في خصوص الاستحباب أو في القدر الجامع بين الوجوب والاستحباب.

إلى غير ذلك من الأمثلة التي تبلغ حدّ الاطّراد، والاطّراد دليل الحقيقة كما مرّ في محلّه، وأمّا

استعماله في خصوص أحدهما فإنّما هو من باب تطبيق الكلّي على الفرد، وهذا لا ينافي انصراف انوار الأصول، ج 1، ص: 215

الإطلاق إلى خصوص الوجوب، فظهر أنّ الدليل الوحيد على دلالة مادّة الأمر على الوجوب إنّما هو الوجه الأوّل، أي التبادر والظهور العرفي، وأمّا سائر الوجوه فهي على حدّ التأييد للمدّعى لا أكثر، لأنّها استعمالات لهذه المادّة في خصوص الوجوب، ومجرّد الاستعمال غير دالّ على الحقيقة ما لم يبلغ حدّ الاطّراد.

وعلى أيّ حال: لا كلام في ظهوره في الوجوب، إنّما الكلام في منشأ هذا الظهور، فهل هو الوضع بحيث يكون الأمر بمادّته موضوعاً للطلب الوجوبي، أو منشأه غلبة استعماله في الوجوب، أو أنّه قضيّة الإطلاق ومقدّمات الحكمة كما ذهب إليه المحقّق العراقي رحمه الله، أو المنشأ إنّما هو حكم العقل بوجوب طاعة المولى الآمر قضاءً لحقّ المولويّة والعبوديّة كما ذهب إليه بعض المعاصرين «1»؟

قال المحقّق العراقي رحمه الله بعد أن نفى الوجه الأوّل (لصحّة التقسيم وصحّة الإطلاق على الطلب غير الإلزامي) والوجه الثاني (بدعوى وضوح كثرة استعماله في الاستحباب أيضاً مع نقله كلام صاحب المعالم رحمه الله وأنّه بعد أن اختار كون الأمر حقيقة في خصوص الوجوب قال: «إنّه يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المرويّة عن الأئمّة عليهم السلام أنّ استعمال الأمر في الندب كان شائعاً في عرفهم بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجّح الخارجي» مع أنّ كلامه رحمه الله هذا مرتبط بصيغة الأمر لا بمادّته فراجع): «وحينئذٍ فلابدّ وأن يكون الوجه في ذلك هو قضيّة الإطلاق ومقدّمات الحكمة، ثمّ قرّبه بوجهين:

الأوّل: أنّ الطلب الوجوبي لمّا كان أكمل بالنسبة إلى الطلب الاستحبابي لما في الثاني من جهة نقص لا

يقتضي المنع من الترك، فلا جرم عند الدوران يكون مقتضى الإطلاق هو الحمل على الطلب الوجوبي، إذ الطلب الاستحبابي باعتبار ما فيه من النقص يحتاج إلى نحو تحديد وتقييد، بخلاف الطلب الوجوبي، فإنّه لا تحديد فيه حتّى يحتاج إلى التقييد، وحينئذ فكان مقتضى الإطلاق بعد كون الآمر بصدد البيان هو كون طلبه طلباً وجوبياً لا استحبابياً.

الثاني: أنّ الأمر بعد أن كان فيه اقتضاء لوجود متعلّقه في مرحلة الخارج (ولو باعتبار منشئيته لحكم العقل بلزوم الإطاعة والامتثال) يكون اقتضائه- تارةً- بنحو يوجب مجرّد

انوار الأصول، ج 1، ص: 216

خروج العمل عن اللااقتضائيّة، بحيث كان حكم العقل بالإيجاد من جهة الرغبة لما يترتّب عليه من الأجر والثواب فحسب، واخرى يكون اقتضاؤه لتحريك العبد بالإيجاد بنحو أتمّ بحيث يوجب سدّ باب عدمه حتّى من طرف العقوبة على المخالفة علاوة عمّا يترتّب على إيجاده من المثوبة الموعودة، وفي مثل ذلك نقول: بأنّ قضيّة إطلاق الأمر يقتضي كونه على النحو الثاني لعدم تقيّده بشي ء (انتهى ملخّصاً) «1».

أقول: الأولى في المقام أن يقال: إنّ منشأ الانصراف أنّ طبيعة الطلب ليس فيها عدم الطلب وإذن في الترك، فإنّ الطلب بعث إلى الشي ء، والبعث يقتضي الانبعاث فلا سبيل لعدم الانبعاث في ماهيته، فالإلزام والوجوب لازم لطبيعة الطلب وماهيته، فما لم يصرّح المولى بالترخيص ولم يأذن بالترك ينصرف الطلب إلى الوجوب ويتبادر منه اللزوم، والشاهد على ذلك أنّه إذا لم يمتثل العبد أمر المولى اعتذاراً بأنّي كنت أحتمل الندب لم يقبل عذره ويقال له «إذا قيل لك افعل فأفعل».

نعم، إذا قامت قرينة على الاستحباب والترخيص لم يكن مجازاً لأنّ الموضوع له عامّ يشمل الوجوب والاستحباب وإن كان إطلاقه منصرفاً إلى الوجوب.

نعم أُورد على المحقّق العراقي رحمه

الله في تهذيب الاصول بأنّ «ما ذكره صاحب المعالم إنّما هو في صيغة الأمر دون مادّته كما أنّ مورد التمسّك بالاطلاق هو صيغة الأمر دون مادّته» «2».

لكن الإنصاف عدم ورود اشكاله بالنسبة إلى التمسّك بالاطلاق (وإن كان وارداً بالنسبة إلى نقل كلام صاحب المعالم كما أشرنا إليه ضمن نقل كلام هذا العلم) وذلك لأنّه لا فرق في هذه الجهة بين صيغة الأمر ومادّته، فكما تجري مقدّمات الحكمة ويمكن التمسّك بالاطلاق في صيغة الأمر، تجري أيضاً في مادّته من دون فرق بين ما يكون المولى فيه في مقام الإنشاء كما في قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ» وقوله عليه السلام: هذا ما أمر به عبداللَّه ... (في كتاب علي عليه السلام لمالك) وما يكون المولى فيه في مقام الإخبار كقوله عليه السلام: «أمر رسول اللَّه بالزكاة في تسعة أشياء» فإنّه يمكن أن يقال فيها أيضاً (كما يمكن أن يقال في صيغة الأمر) أنّ المولى كان في مقام البيان فأمر بشي ء من دون تقييد وبيان زائد يستفاد منه الاستحباب، فيستفاد منه الوجوب انوار الأصول، ج 1، ص: 217

من باب وجود نقيصة في الطلب الاستحبابي يحتاج رفعها إلى مؤونة زائدة من البيان.

إن قلت: يتمسّك بالاطلاق غالباً لادخال جميع الأفراد وشمول اللفظ لها جميعاً بينما التمسّك به هنا يكون لأجل تعيين أحد الفردين.

قلنا: المطلوب في التمسّك بالاطلاق إنّما هو نفي القيد لا تكثير الفرد وتجميع الأفراد، نعم نفي القيد يلازم غالباً في الخارج شمول الأفراد، كما أنّ التقييد يلازم غالباً إخراج الفرد وإلّا قد يستلزم من نفي القيد تعيين أحد الفردين كما إذا كان لعنوان كلّي فردان: أحدهما مع القيد، والآخر بدون القيد، فينفى باجراء أصالة الإطلاق القيد ويثبت

تعيين الفرد المطلق كما فعله المحقّق الخراساني رحمه الله (وتبعه الآخرون) في دوران الأمر بين الواجب التعييني والواجب التخييري، فإذا شككنا في أنّ التسبيحات الأربعة في الركعتين الأخيرتين مثلًا واجب تعييني أو يكون المكلّف مخيّراً بينها وبين قراءة الحمد، نتمسّك بإطلاق أدلّة التسبيحات ونقول: أمر الشارع بها وطلبها من المكلّف مطلقاً سواء قرأ سورة الحمد أو لم يقرأها.

ولكن التمسّك بالاطلاق لا يخلو عن إشكال، لأنّ الوجوب والاستحباب هما من مراتب الطلب ليس وأحدهما مطلقاً، والآخر مقيّداً، كما لا يخفى على الخبير.

فقد تلخّص من جميع ما ذكرنا:

أوّلًا: أنّ مادّة الأمر مشترك معنوي بين الوجوب والندب في اللّغة، والدليل هو ما مرّ من الاطّراد وعدم صحّة السلب عن مورد الاستحباب.

وثانياً: أنّها مع اشتراكها معنويّاً بحسب اللّغة تنصرف إلى الوجوب بمقتضى طبيعة الوجوب.

الأمر الثالث: في اتّحاد الطلب والإرادة

وهي مسألة كلاميّة قبل أن تكون مسألة اصوليّة وقد ذكرت ببعض المناسبات في الاصول، وعنوانها أنّه هل تكون الإرادة والطلب متّحدين في المعنى، أي هل يكون مفهوم الإرادة متّحداً مع مفهوم الطلب أو لا؟

ذهبت الأشاعرة وفئة قليلة من الإماميّة إلى اختلاف الإرادة والطلب مفهوماً ومصداقاً، وهو المستفاد هو أيضاً من بعض كلمات المحقّق النائيني رحمه الله، ولكن المعتزلة وأكثر الإماميّة على انوار الأصول، ج 1، ص: 218

اتّحادهما، وهم طائفتان: طائفة ذهبوا إلى اتّحادهما مفهوماً ومصداقاً، واخرى إلى اتّحادهما في خصوص المصداق.

ولا بدّ أوّلًا من تبيين أساس النزاع والجذور التاريخية للمسألة لكي يتّضح موضع النزاع ومحلّ الخلاف، ولكن المحقّق الخراساني رحمه الله حيث ورد في المسألة من أواسطها ولم يتعرّض لمنشأ الاختلاف وقع في بعض الإشكالات كما سيأتي.

فنقول: إن أصل هذه المسألة متفرّع من مسألة اخرى مطروحة في علم الكلام، وهي البحث عن وجود الكلام النفسي للباري

تعالى المتفرع بدوره من البحث في كلام اللَّه وأنّه هل هو قديم كسائر صفاته الذاتيّة أو حادث كسائر صفاته الفعليّة؟

توضيح ذلك: لا شكّ في أنّ اللَّه تبارك وتعالى متكلّم كما تكلّم مع أنبيائه وملائكته كما نطق به الأنبياء والكتاب الكريم في قوله تعالى مثلًا: «وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً» فمن صفاته جلّ وعزِ صفة «المتكلّم»، فوقع البحث حينئذ في أنّ هذه الصفة قديمة أو حادثة (أي أنّها من صفاته الذاتيّة أو الفعليّة كالخلق والرزق) وهذه المسألة من المسائل التي ازدحمت فيها الآراء وكثر فيها الخلاف واريقت بسببها الدماء في القرون الأوّلى للإسلام، بل إنّه هو الوجه في تسمية علم الكلام بإسم الكلام، فإنّ أكثر النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة كان في الكلام النفسي- الأمر الذي صار من أسباب التفرقة الشديدة بين فرق المسلمين وآلة بأيدي طالبي الرئاسة والحكومة من بني العبّاس ومثاراً لايجاد التنازع والاختلاف من جانبهم تحكيماً لمباني حكومتهم وادامة لرئاستهم وتحقيقاً لميولهم النفسانيّة الخبيثة، فذهب الأشاعرة إلى أنّ كلام اللَّه قديم، والمعتزلة وجماعة الإماميّة إلى حدوثه لأنّ صفات الباري تعالى عندهم تقسّم إلى قسمين: صفات الذات وصفات الفعل، والقسم الأوّل قديم بقدم الذات والقسم الثاني حادث بحدوث أفعاله تعالى، فإنّ صفات الفعل عبارة عمّا ينتزعه الذهن بعد وقوع الفعل من ناحيته كصفة الخالق والرازق من دون أن تقوم بذاته تعالى، وحكي عن الحنابلة أنّهم قالوا بأنّ كلام اللَّه صفة حادثة قائمة بالذات القديم، حتّى نقل في المحاضرات عن كتاب المواقف عن بعضهم القول بأنّ جلد كلام اللَّه حادث قائم بالذات القديم فضلًا عن النقوش والخطوط، ولكنّه كما ترى غير لائق بالبحث.

وكيف كان: لا إشكال في صحّة قول المعتزلة وجماعة الإماميّة، لأنّ من الواضح أنّ كلام

انوار الأصول، ج 1، ص: 219

الباري تعالى مع موسى عليه السلام مثلًا عبارة عن أمواج صوتيّة خلقها اللَّه تعالى فظهرت على طور سيناء عن جانب الشجرة وسمعها موسى باذنيه، أو عبارة عن النقوش المكتوبة في كتابه الكريم بعد أن أوحى إليه صلى الله عليه و آله جبرئيل. فكلّ من تلك الأصوات وهذه النقوش مخلوق من مخلوقاته وفعل من أفعاله الحادثة.

وأمّا الأشاعرة فوقعوا في حيص وبيص في تفسير قولهم وبيان مرادهم من كلام اللَّه، لأنّه لو كان المراد منه النقوش فلا ريب في حدوثها، ولذلك ذهبوا إلى أنّ للكلام معنيين كلام لفظي وكلام نفسي، والكلام اللّفظي عبارة عمّا يجري على اللسان أو القلم وهو حادث، والكلام النفسي عبارة عن المعنى الموجود في فؤاد المتكلّم (إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما- جعل اللسان على الفؤاد دليلًا) وبالنسبة إلى الباري تعالى عبارة عمّا هو موجود في ذاته فيكون قديماً بتبع قدم ذاته، وحينئذ أورد عليهم من جانب الإماميّة والمعتزلة هذا السؤال: هل يكون الكلام النفسي بهذا المعنى غير علمه تعالى بالمفاهيم الكلّية وغير قدرته على إيجاد الأصوات (كما أنّ المراد بالسميع والبصير عبارة عن علمه بالمسموعات والمبصرات) فإن كان هو عينهما فلم تأتوا بشي ء جديد، وإن كان غيرهما فما هو؟ فوقعوا في حرج ولم يأتوا بجواب واضح بل ادّعوا أنّ للَّه تعالى صفة اخرى غير القدرة والعلم تسمّى بالكلام النفسي.

هذا كلّه في الأخبار والجمل الخبريّة.

وأمّا في الإنشاءات الواردة في القرآن الكريم كقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا» فقال المعتزلة أيضاً أنّ هذه النقوش أو الأصوات حادثة وحقيقتها هي إرادته تعالى والإرادة من الصفات المعروفة، فلا يكون في البين أيضاً صفة جديدة قائمة بالذات غير الصفات المعروفة.

وأمّا

الأشاعرة فادّعوا أنّ هنا صفة اخرى غير الإرادة تسمّى بالطلب، وهو من الصفات القديمة للباري تعالى قائمة بذاته.

فاجيب عنهم بأنّ الطلب هو نفس الإرادة ومتّحد معها، ومن هنا وقع النزاع بينهم في اتّحاد الطلب والإرادة.

فظهر أنّ النزاع في ما نحن فيه نزاع ميتافيزيقي، له جذور في المباحث الكلاميّة والمشاجرات الاعتقاديّة بين الأشاعرة والمعتزلة، فلا يمكن أن يقال: «إنّ النزاع لفظي وإنّ من انوار الأصول، ج 1، ص: 220

قال باختلافهما أراد من الإرادة الإرادة الحقيقيّة ومن الطلب الطلب الإنشائي ولا إشكال في اختلافهما، ومن قال باتّحادهما إرادة من الإرادة الإرادة الحقيقيّة ومن الطلب أيضاً الطلب الحقيقي ولا إشكال في اتّحادهما» فإنّ هذا بعيد عمّا ذكروه ومخالف لما أودعوا في كتبهم كما عرفت.

هذا أوّلًا، وثانياً: ليس النزاع في لفظ الطلب والإرادة والمعنى اللغوي لهما حتّى يقال: بأنّ ما نفهم من لفظ الطلب عرفاً ولغة غير ما نفهمه من لفظ الإرادة كذلك فيمكن حلّ المسألة بالرجوع إلى العرف واللّغة، بل النزاع في الواقع في مصطلح اخترعه الأشاعرة في باب صفات الباري باسم الطلب وادّعوا أنّه غير الإرادة في باب الإنشائيات والأوامر الإنشائيّة الموجودة في القرآن، كما ادّعوا في إخباره تعالى والجمل الخبريّة الموجوة في الكتاب الكريم وجود صفة اخرى له تعالى باسم الكلام النفسي وادّعوا أنّه غير علمه وقدرته.

دلائل الأشاعرة:
اشارة

ثمّ إنّ الأشاعرة استدلّوا لمقالتهم في باب الإنشائيات بامور:

الأوّل: الأوامر الامتحانيّة

حيث إنّها أوامر تصدر منه تعالى بداعي البعث والطلب فحسب ولا يكون وراءها جدّ ولا إرادة وهي تدلّ على وجود الطلب دون الإرادة وانفكاكها عنه في هذا الموارد، فهو يدلّ على تعدّدهما.

والجواب: عنه أنّه مبني على انحصار الإرادة في الإرادة الحقيقيّة مع أنّها على قسمين: إرادة إنشائيّة، وإرادة جدّية حقيقيّة، كما أنّ الطلب أيضاً ينقسم إلى الإنشائي والحقيقي، والموجود في الأوامر الامتحانيّة إنّما هو الإرادة الإنشائيّة والطلب الإنشائي وهو لا ينافي اتّحادهما.

ولتوضيح البحث ينبغي بيان حقيقة الامتحان: فنقول: فرق بين امتحان المخلوق للمخلوق وامتحان الخالق للمخلوق فإنّ حقيقة الأوّل إنّما هو كشف المجهول كما لا يخفى، وأمّا حقيقة الثاني إنّما هو إظهار الأعمال التي يستحقّ بها الثواب والعقاب (كما ورد في نهج البلاغة

انوار الأصول، ج 1، ص: 221

لأمير المؤمنين علي عليه السلام: «... لكن لتظهر الأفعال التي يستحقّ بها الثواب والعقاب» «1») وبالنتيجة إبراز الملكات النفسانيّة في صور الأعمال لأن يستعدّ الإنسان بذلك للرشد والتكامل.

وإن شئت قلت: إنّ حقيقة الأوامر الامتحانيّة مطلقاً سواء في الخالق والمخلوق عبارة عن مجرّد إنشاءات ليست ورائها إرادة حقيقيّة، تصدر من المنشى ء الآمر لاظهار الصفات النفسانيّة والسريرة الباطنية في مقام العمل بداعي كشف المجهول في امتحان المخلوق، وظهور الأفعال واستحقاق الثواب والعقاب في امتحان الخالق، فنتعلّق الإرادة الإنشائيّة والطلب الإنشائي هو العمل، وأمّا الإرادة الجدّية والطلب الحقيقي فلا يتعلّقان بنفس العمل، بل بكشف المجهول (في المخلوق) واستحقاق الثواب والعقاب (في الخالق).

ومن هنا يعلم أنّ الموجود في الأوامر الامتحانيّة إنّما هو الأمر الإنشائي المتّحد مع الإرادة الإنشائيّة لا الأمر الجدّي ولا الطلب الواقعي ..

الثاني: تكليف العصاة

وبيانه أنّه لا شكّ في أنّ التكاليف الإلهيّة تشمل المطيع والعاصي كما تشمل المؤمن والكافر، كما لا شكّ

في أنّ حقيقة التكليف هي طلب الفعل أو طلب الترك، فهو تبارك وتعالى طلب من العصاة أيضاً إتيان المكلّف به مع أنّه لو كان الطلب هو عين الإرادة لم يمكن عصيان العصاة لأنّ لازمه تخلّف إرادته تعالى عن مراده وهو محال كما قال في كتابه الكريم: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» «2»

فلابدّ من التفكيك بين الإرادة والطلب، وهو المطلوب.

والجواب عنه: أنّ للَّه تعالى إرادتين: إرادة تكوينيّة وإرادة تشريعيّة، وقد وقع الخلط بينهما هنا، فإنّ عدم إمكان تخلّف الإرادة عن المراد إنّما هو في الاولى لا الثانيّة، فإنّ الثانيّة أي الإرادة الإنشائيّة في الباري تعالى متعلّقها هو إتيان العبد العمل باختياره وبإرادته، فإنّ المفروض أنّ العبد أيضاً مختار ومريد، تارةً يريد الفعل واخرى يريد الترك.

وبالجملة الموجود في تكاليف العصاة إنّما هو الإرادة التشريعيّة والطلب التشريعي لا

انوار الأصول، ج 1، ص: 222

الإرادة التكوينيّة والطلب التكويني، وبعبارة اخرى: المتعلّق لامتثال العبد وإتيان العمل هو إرادته التشريعيّة وطلبه التشريعي وأمّا إرادته التكوينيّة وطلبه التكويني فإنّما تعلّق باختيار العبد وكونه مختاراً، فوقع الخلط في الواقع في كلام الأشاعرة بين الإرادة التكوينيّة والإرادة التشريعيّة، والاختلاف إنّما هو بين الإرادة التكوينيّة والطلب التشريعي وهو لا يلازم اختلاف الإرادة والطلب التشريعيين أو التكوينيين.

الثالث: تكليف المطيعين
اشارة

وبيانه على مبناهم في مسألة الجبر؛ إنّ فيها أيضاً يوجد الطلب دون الإرادة لأنّ الإرادة تتعلّق بالمقدور، والمقدور للإنسان عبارة عن ما ليس فيه مجبوراً، وحيث إنّه مجبور في تكاليفه فليست مقدورة له فلا تتعلّق بها الإرادة، وحينئذٍ تنفكّ عن الطلب.

والجواب عنه: أنّه لو كان المراد إرادة الإنسان وطلبه فكما لا إرادة له في غير المقدور له بناءً على كونه مجبوراً لا طلب له أيضاً، وبعبارة اخرى:

الطلب والإرادة إمّا يتعلّقان معاً بغير المقدور أو لا يتعلّقان معاً، ولا معنى لتعلّق أحدهما دون الآخر.

ولو كان المراد إرادة اللَّه تعالى فإنّه كما طلب تشريعاً أراد أيضاً تشريعاً، ولا يمكن التفكيك بينهما كما مرّ بيانه آنفاً في الجواب عن الدليل الثاني، وبالجملة قد وقع الخلط في هذا الدليل أيضاً بين الإرادة التكوينيّة والإرادة التشريعيّة وبين إرادة الخالق وإرادة المخلوق.

هذا- مضافاً إلى فساد المبنى وهو كون الإنسان مجبوراً كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى ومضافاً الى أنّه لا يناسب مبناهم من إنكار الحسن والقبح بالنسبة إلى أفعال الباري تعالى. وأنّ تكليفه تعالى العباد بما لا يكون مقدوراً لهم غير قبيح.

الرابع: أنّ للمحقّق النائيني رحمه الله هنا كلاماً يكون بمنزلة دليل رابع لاختلاف الإرادة مع الطلب وإليك نصّ كلامه: «إنّ الكلام في اتّحاد الطلب والإرادة يقع في موضعين:

الأوّل: في اتّحاد مفهومهما وعدمه.

والثاني: في أنّ الموجود في النفس المترتّب عليه حركة العضلات هل هو امور ثلاثة:

التصوّر والتصديق بالفائدة والشوق المؤكّد المعبّر عنه غالباً بالإرادة كما هو المعروف، أو هناك أمر آخر متوسّط بين الإرادة والحركة، ونسبته إلى النفس نسبة الفعل إلى فاعله لا نسبة

انوار الأصول، ج 1، ص: 223

الكيف إلى موضوعه (كما ذهب إليه جماعة من محقّقي المتأخّرين).

أمّا الكلام في الموضع الأوّل: فحاصله أنّ المدّعي للوحدة وجداناً إن أراد أنّ المفهوم من أحدهما هو عين المفهوم من الآخر بأن يكون لفظا الطلب والإرادة مترادفين فالإنصاف أنّ الوجدان على خلاف ما ادّعوه، فإنّ الإرادة باتّفاق الجميع عبارة عن الكيف النفساني القائم بالنفس، وأمّا الطلب فهو عبارة عن التصدّي لتحصيل الشي ء في الخارج فلا يقال: طالب الضالّة، إلّالمن تصدّى لتحصيلها في الخارج دون من يشتاق إلى تحصيلها فقط وإن لم

يتصدّ لتحصيلها في الخارج، وإطلاقه على الفعل النفساني بناءً على ثبوت مرتبة اخرى غير الإرادة فإنّما هو من باب أخذ الغايات وترك المبادى ء كما في إطلاق الأكل على مجرّد البلع دون مضغ، وإن أراد أنّهما مفهومان متغايران غاية الأمر أنّهما يصدقان على أمر واحد باعتبارين فهو وإن كان وجيهاً بالنسبة إلى الدعوى الاولى إلّاأنّه أيضاً فاسد في حدّ ذاته، فإنّ الإرادة كما عرفت من مقولة الكيف والطلب من مقولة الفعل، ويستحيل صدق المقولتين على أمر واحد باعتبارين لتباينهما.

وأمّا الموضع الثاني: فالحقّ فيه أيضاً أنّ هناك مرتبة اخرى بعد الإرادة تسمّى بالطلب وهو نفس الاختيار وتأثير النفس في حركة العضلات وفاقاً لجماعة من محقّقي المتأخّرين، ومنهم المحقّق صاحب الحاشية رحمه الله، والبرهان عليه أنّ الصفات القائمة بالنفس من الإرادة والتصوّر والتصديق كلّها غير اختياريّة فإن كانت حركة العضلات مترتّبة عليها من غير تأثير النفس فيها وبلا اختيارها فيلزم أن لا تكون العضلات منقادة للنفس في حركاتها وهو باطل وجداناً، وللزم أن تصدق شبهة أمام المشكّكين في عدم جواز العقاب بأنّ الفعل معلول للإرادة، والإرادة غير اختياريّة وأن لا يمكن الجواب عنها ولو تظاهر الثقلان كما ادّعاه، وأمّا الجواب عنها بأنّ استحقاق العقاب مترتّب على الفعل الاختياري أي الفعل الصادر عن الإرادة وإن كانت الإرادة غير اختياريّة فهو لا يسمن ولا يغني من جوع بداهة أنّ المعلول لأمر غير اختياري غير اختياري.

والحاصل: أنّ علّية الإرادة للفعل هادم لأساس الاختيار ومؤسّس لمذهب الجبر بخلاف ما إذا أنكرنا علّية الصفات النفسانيّة من الإرادة وغيرها للفعل، وقلنا: بأنّ النفس مؤثّرة بنفسها في حركات العضلات من غير محرّك خارجي، وتأثيرها المسمّى بالطلب إنّما هو من انوار الأصول، ج 1، ص: 224

قبل ذاتها

فلا يلزم محذور أصلًا ويثبت الأمر بين الأمرين.

إن قلت: إنّ الأمر الرابع الذي بنيت عليه ثبوت الأمر بين الأمرين هل هو ممكن أو واجب؟ لا سبيل إلى الثاني وعلى الأوّل فهل علّته التامّة اختياريّة أو غير اختياريّة وعلى الأوّل يلزم التسلسل، وعلى الثاني يتمّ مذهب الجبر.

قلنا: لا إشكال في كونه حادثاً وممكناً إلّاأنّه نفس الاختيار الذي هو فعل النفس وهي بنفسها، تؤثّر في وجوده فلا يحتاج إلى علّة موجبة لا ينفكّ عنها أثرها، إذ العلّية بنحو الإيجاب إنّما هي في غير الأفعال الاختياريّة، نعم لا بدّ في وجوده من فاعل، وهو النفس، ومرجّح وهي الصفات النفسانيّة، والاحتياج إلى المرجّح إنّما هو من جهة خروج الفعل عن العبثية، وإلّا فيمكن للإنسان إيجاد ما هو منافر لطبعه فضلًا عن إيجاد ما لا يشتاقه لعدم فائدة فيه، ثمّ إنّ المرجّح المخرج للفعل عن العبثية هي الفائدة الموجودة في نوعه دون شخصه بداهة أنّ الهارب والجائع يختار أحد الطريقين وأحد القرصين مع عدم وجود مرجّح في واحد بالخصوص» «1» (انتهى ملخّص كلامه).

وهناك عدّة ملاحظات في كلامه:

الاولى: أنّه قد ظهر بملاحظة تاريخ المسألة أنّها ليست مسألة لفظيّة لغويّة حتّى نتكلّم عن معنى الإرادة والطلب في اللّغة، فلا يمكن أن يكون النزاع في اتّحادهما مفهوماً ولغويّاً بل أنّه بحث كلامي وقع في اتّحادهما أو اختلافهما خارجاً بحسب ما اختاروه في بحث صفات الباري.

الثانيّة: أنّ الإرادة في تعريفهم ليست هي الشوق المؤكّد النفساني كما قال، كما أنّ دعوى كونه معروفاً ليست بثابتة، وإنّما الإرادة في تعريفاتهم عبارة عن الشوق المؤكّد المحرّك للعضلات، فهي في الواقع عبارة عن تلك المرحلة الرابعة المحرّكة للعضلات، وهي نفس الطلب أو الاختيار أو تأثير النفس على ما جاء في كلامه،

فكلّ من الطلب والإرادة يطلق على تلك المرتبة، فاللازم هو اتّحاد الإرادة والطلب فتأمّل.

الثالثة: أنّ ما ذكره من المراحل الأربعة في إرادة الإنسان خارج عن محلّ النزاع بأسره،

انوار الأصول، ج 1، ص: 225

لأنّ النزاع في إرادة اللَّه تعالى وطلبه لا إرادة الإنسان وطلبه، وفي الباري تعالى لا تتصوّر هذه المراحل، بل طلبه عين إرادته، وإرادته عين علمه على ما هو المعروف.

الرابعة: مع غضّ النظر عمّا ذكر، فلا ريب في أنّ الكلام في الطلب التسبيبي لا المباشري، فإنّ النزاع إنّما هو في الأوامر، وهي ما تتعلّق بفعل العباد، فتكون عبارة عن طلب الفعل بواسطة العبد، ولو سلّمنا لزوم الجبر من عدم الالتزام بالمراحل الأربعة المزبورة فهو إنّما في الطلب النفساني المباشري لا التسبيبي والإنشاء الخارجي، لأنّ انتفاء المرحلة الرابعة في طلب الآمر لا يلازم الجبر في أفعال العبد المأمور.

الخامسة: أنّ التصوّر والتصديق والشوق كثيراً ما تكون اختياريّة فلا يمكن أن يقال أنّها دائماً غير اختياريّة.

وأمّا ما ورد في كلامه ممّا يتعلّق بمسألة الجبر والاختيار من الإشكال والجواب فسنتكلّم عنها إن شاء اللَّه عن قريب عاجل، كما سنتكلّم أنّ الإرادة عين الاختيار فهي فعل إرادي بذاتها لا بإرادة اخرى، وعلى كلّ حال فهذا مرتبط بحلّ مشكلة الجبر لا مسألة اتّحاد الطلب والإرادة.

ثمّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا ما في كلام المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية حيث قال: الحقّ (كما عليه أهله وفاقاً للمعتزلة وخلافاً للأشاعرة) هو اتّحاد الطلب والإرادة بمعنى أنّ لفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد، وما بإزاء أحدهما في الخارج يكون بإزاء الآخر، والطلب المنشأ بلفظه أو بغيره عين الإرادة الإنشائيّة فهما متّحدان مفهماً وإنشاءً وخارجاً، وفي مراجعة الوجدان عند طلب شي ء والأمر به حقيقة كفاية فلا

يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان، ولو أبيت إلّاعن كونه موضوعاً للطلب مطلقاً سواء كان حقيقيّاً أو إنشائيّاً فلا أقلّ من كونه منصرفاً إلى الإنشائي منه عند إطلاقه لكثرة الاستعمال في الطلب الإنشائي، كما أنّ الأمر في لفظ الإرادة على عكس ذلك، فإنّ المنصرف عنها عند إطلاقها هو الإرادة الحقيقيّة واختلافهما في المعنى المنصرف إليه اللفظ ألجأ بعض أصحابنا إلى الميل إلى ما ذهب إليه الأشاعرة من المغايرة بين الطلب والإرادة.

ثمّ قال في ذيل كلامه: أنّه يمكن ممّا حقّقناه أن يقع الصلح بين الطرفين ولم يكن نزاع في البين بأن يكون المراد بحديث الاتّحاد ما عرفت من العينية مفهوماً ووجوداً، حقيقيّاً وإنشائيّاً،

انوار الأصول، ج 1، ص: 226

ويكون المراد بالمغايرة هو اثنينية الطلب الإنشائي والإرادة الحقيقيّة فيرجع النزاع لفظيّاً (انتهى ملخّص كلامه).

وقد ظهر ممّا ذكرنا ما يرد عليه:

أوّلًا: من أنّ النزاع ليس لفظيّاً لغويّاً بل هو نزاع متأصل موجود في علم الكلام من قديم الأيّام، كما مرّ بيانه.

وثانياً: ما ادّعاه من انصراف الطلب إلى الطلب الإنشائي عند إطلاقه دعوى بلا شاهد ودليل، كما أنّ دعوى كثرة استعماله في الإنشائي ليست بثابتة، والشاهد على ذلك موارد استعماله في الكتاب الكريم حيث إنّه استعمل فيه في أربعة موارد واريد منه في جميعها الطلب الحقيقي، كما أنّ التعبيرات الرائجة بيننا كطالب العلم وطلبة وطالب المال وطالب الضالّة يراد من جميعها الطلب الحقيقي، نعم الطلب من الغير ظاهر في الإنشائي كما لا يخفى.

ثمّ إنّ هنا كلاماً للمحقّق العراقي رحمه الله في توجيه مذهب القائلين بالتعدّد، وحاصله: أنّ هنا معنى آخر للطلب غير العلم والإرادة والحبّ والبغض، وهو البناء والقصد المعبّر عنه بعقد القلب في باب الاعتقادات حيث إنّه من جملة أفعال

النفس، ولذا قد يؤمر به كالبناء في باب الاستصحاب وفي الشكوك المعتبرة في الصّلاة، وقد ينهى عنه كما في التشريع المحرّم، ويكون كالإرادة في كونه ذا إضافة وإن خالفها في أنّها من مقولة الكيف وهذا من مقولة الفعل للنفس، فيمكن توجيه كلمات القائلين بالتعدّد بحمل الطلب في كلماتهم على مثل هذا البناء والقصد، والإرادة على تلك الكيفية النفسانيّة «1».

ولكن يرد عليه أيضاً أنّه إن كان المراد من البناء النفساني هو الاعتقاد الجازم بشي ء فهذا ليس من الطلب في شي ء، وإن كان المراد ما هو المحرّك للعضلات نحو العمل فليس إلّاالإرادة، وإن كان المراد البناء الذي يوجد مثله في باب التشريع وشبهه كما يظهر من كلماته فهذا وإن كان من أفعال النفس وكان مبايناً للإرادة ولكنّه ليس من الطلب في شي ء أيضاً، وتسميته طلباً لا يغيّر الواقع الذي هو عليه.

هذا تمام الكلام في أدلّة القائلين بالتعدّد.

انوار الأصول، ج 1، ص: 227

وأمّا القائلون باتّحادهما فاستدلّوا لها بوجوه:

أحسنها التمسّك بالوجدان حيث إنّا إذا راجعنا إلى أنفسها لا نجد أمرين: أحدهما: الطلب، والثاني: الإرادة، بل الإرادة من الغير إنّما هي البعث نحو العمل وتسمّى طلباً أيضاً، هذا في الإنشائيات، وكذلك في الإخباريات فلا نجد في أنفسنا شيئين: أحدهما: العلم، والثاني: الكلام النفسي، بل الموجود في النفس شي ء واحد، تارةً يسمّى بالعلم (وهو التصوّر والتصديق) واخرى يسمّى بالكلام النفسي.

هذا بالنسبة إلى أنفسنا، وكذلك بالنسبة إلى الباري تعالى، فإنّا بوجداننا لا نتصوّر ما وراء علمه وقدرته شيئاً يسمّى بالكلام النفسي حتّى نصدّقه، والتصديق فرع التصوّر وكذلك لا نتصوّر وراء الإرادة (وإرادته عين علمه) شيئاً باسم الطلب النفساني، وإذا لم يمكن تصوّره لم يمكن تصديقه، وهذا أمر ظاهر لا سترة عليه.

بقي هنا أمران:

الأمر

الأوّل: ذهب بعض الأعلام تبعاً لُاستاذه المحقّق النائيني رحمه الله إلى اختلاف الإرادة والطلب ببيان آخر يقرب ممّا مرّ، وهو أنّ الإرادة بواقعها الموضوعي من الصفات النفسانيّة، ومن مقولة الكيف القائم بالنفس، وأمّا الطلب فهو من الأفعال الاختياريّة الصادرة عن الإنسان بالإرادة والاختيار حيث إنّه عبارة عن التصدّي نحو تحصيل شي ء في الخارج، ومن هنا لا يقال: طالب الضالّة أو طالب العلم إلّالمن تصدّى خارجاً لتحصيلهما.

وبكلمة اخرى: أنّ الطلب عنوان للفعل سواء أكان الفعل نفسانياً أم خارجياً، فلا يصدق على مجرّد الشوق والإرادة النفسانيّة.

ويظهر ذلك بوضوح من مثل قولنا: «طلبت زيداً فما وجدته» أو «طلبت من فلان كتاباً مثلًا فلم يعطني» وهكذا، ضرورة أنّ الطلب في أمثال ذلك عنوان للفعل الخارجي وليس إخباراً عن الإرادة والشوق النفساني فحسب من دون الفرق بين أن يكون متعلّقاً بفعل نفس انوار الأصول، ج 1، ص: 228

الإنسان وأن يكون متعلّقاً بفعل غيره، فتحصّل أنّ الطلب مباين للإرادة مفهوماً ومصداقاً «1». (انتهى ملخّصاً).

أقول: يرد عليه أيضاً:

أوّلًا: ما مرّ كراراً من أنّ النزاع ليس لغويّاً بل النزاع في ما اصطلح عليه الأشاعرة بالنسبة إلى الباري تعالى وإلتزموا بوجود صفتين له تعالى، أحدهما يسمّى بالطلب والآخر يسمّى بالإرادة، ونتيجته أنّ الطلب غير الإرادة، لا أن يكون النزاع في أنّ مفهوم الطلب في اللّغة هل هو عين مفهوم الإرادة أو لا؟

ثانياً: لو سلّمنا كون النزاع لغويّاً فالصحيح أنّ للطلب في اللّغة قسماً واحداً يتعلّق بالفعل الخارجي فحسب ولا يكون له قسم آخر يسمّى بالطلب النفساني فقوله «إنّ الطلب عنوان للفعل سواء أكان الفعل نفسانياً أم خارجياً» لا محصّل له، كما أنّ ما ذكره من الأمثلة تشهد لذلك، فإنّ الطلب في جميعها متعلّق بأفعال خارجيّة

كما لا يخفى.

فتحصّل ممّا ذكرنا أنّه لو كان النزاع نزاعاً لغويّاً فالحقّ مع القائلين بالتعدّد لأنّ الطلب فعل خارجي والإرادة أمر نفساني، وأمّا إذا كان النزاع نزاعاً اصطلاحياً فلا شكّ في اتّحادهما بل لم يقل بالاختلاف أحد من الإماميّة، وأمّا ما مرّ من المحقّق النائيني رحمه الله وتلميذه في المحاضرات فهو مبني على جعلهما النزاع لفظيّاً لغويّاً كما مرّ.

الأمر الثاني: فيما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله تحت عنوان «وهم ودفع» من أنّه ليس غرض الأصحاب والمعتزلة من قولهم: «أنّه ليس في النفس غير العلم في الجمل الخبريّة، وغير الإرادة والتمنّي والترجّي والاستفهام في الجمل الإنشائيّة صفة اخرى قائمة بالنفس كانت كلاماً نفسياً ومدلولًا للكلام اللّفظي» إنّ تلك الصفات القائمة بالنفس هي المدلولات للكلام اللّفظي فيكون مدلول جملة «زيد قائم» «أعلم بقيام زيد» كما توهّمه القوشجي في شرح التجريد، بل المدلول للكلام اللّفظي هو غير تلك الصفات، فمدلول الجمل الخبريّة هو النسب الخبريّة المتحقّقة في الخارج، وأمّا مدلول الجمل الإنشائيّة فهو ما ينشأ بالصيغ المخصوصة في انوار الأصول، ج 1، ص: 229

عالم نفس الأمر من قصد ثبوت معانيها وتحقّقها، نعم لا مضايقة عن كونها مدلولات له بالالتزام، فالجمل الإنشائيّة تدلّ بالالتزام على ثبوت تلك الصفات في النفس، (انتهى ملخّصاً).

أقول: إنّ ما ذكره من التوجيه لكلام الأصحاب خروج عن ظاهر كلماتهم، فإذا رجعنا إلى الجذور التاريخية للمسألة فسوف نجد أنّ مراد الأشاعرة من قدم كلام اللَّه ووجود صفة اخرى غير الصفات المشهورة في ذات اللَّه- أنّ مدلول هذه الألفاظ كان موجوداً في ذاته منذ القديم مع عدم كونه عين علمه وقدرته، ومراد الأصحاب من الانكار عليهم أنّه ليس في البين صفة اخرى غير العلم والقدرة، فليس النزاع في

ما وضع له لفظ الطلب والإرادة حتّى يكون مراد الأشاعرة أنّ ما وضع له لفظ الطلب ليس هو العلم والقدرة بل هو صفة اخرى، ويكون مفهوم قول من ينكره أنّ ما وضع له لفظ الطلب هو نفس العلم، إمّا بالمطابقة كما نسب إلى القوشجي، أو بالالتزام كما إلتزمه المحقّق الخراساني رحمه الله في ذيل كلامه، بل النزاع في أنّه إذا كان كلامه تعالى قديماً فما المقصود بالقديم؟ هل هو نفس العلم أو القدرة أو صفة اخرى؟ فيدّعي الأشاعرة أنّه صفة اخرى غيرهما، ويقول الإماميّة والمعتزلة: أنّه نفس العلم أو القدرة، وحينئذٍ لا يبقى مجال لما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله في قوله: «وهم ودفع».

هذا تمام الكلام في الطلب والإرادة.

الرابع: في الجبر والاختيار
اشارة

وحيث انتهى كلام بعضهم في مسألة اتّحاد الطلب والإرادة إلى مسألة الجبر والاختيار حتّى أنّ بعضهم صرّح بأنّ لازم القول باتّحادهما هو القول بالجبر، وأنّه لا مناصّ عن القول بتعدّدهما على مذهب الاختيار فلابدّ لنا أن نتعرّض لهذه المسألة تتميماً لما اخترناه من مسألة الاتّحاد، مضافاً إلى ما في نفس المسألة من الأهميّة الكبيرة في جميع الأبواب من العقائد والاصول والفروع والأخلاق والتفسير والحديث، فنقول (ومن اللَّه نستمدّ التوفيق والهداية):

ذهب جماعة إلى أنّ العبد مجبور في أعماله، وهم على طائفتين، طائفة من الالهيين، وطائفة اخرى من المادّيين.

والالهييون ذهبوا إلى أنّ أفعال العباد تتحقّق بإرادة اللَّه، أي عند إرادة العبد لفعل معين تؤثّر إرادة اللَّه في تحقّقه ولا أثر لإرادة العبد نفسه، بل إنّما هو مكتسب في البين، أي الفاعل إنّما

انوار الأصول، ج 1، ص: 230

هو اللَّه تعالى فقط وأمّا العبد فهو يوجد الفعل عند إرادته.

وكلامهم هذا لا يختصّ بالأفعال الاختياريّة للإنسان بل يأتي في جميع العلل والمعلولات،

فكلّ علّة تؤثّر في معلولها بإرادة اللَّه تعالى، فالنار مثلًا لا تحرق بل إرادته محرقة مقارنة لإلقاء شي ء في النار.

وبعبارة اخرى: عادة اللَّه جرت على إيجاد كلّ معلول عند وجود علّته، وبعبارة ثالثة: صدور الفعل من اللَّه يقترن دائماً بإرادة الإنسان، فالإحراق هو فعل اللَّه مباشرةً ولكنّه يفترن بنحو الصدفة الدائمية بالنار.

والمادّيون يقولون: أنّ فعل الإنسان معلول كسائر المعلولات في عالم الطبيعة يتحقّق في الخارج جبراً وقهراً من دون أن يكون اختياريّاً، والاختيار مجرّد توهّم وخيال يرجع في الواقع إلى عدم تشخيص العلل الخفيّة المؤثّرة في وجود الفعل كالمحيط والوراثة والغريزة.

وهذه مسألة لها جذور تاريخية قديمة بل هي من أقدم المسائل التاريخية، تمتد إلى حيث بداية الإنسان، فإنّ الإنسان من بدو وجوده كان يرى نفسه متردّداً بين الأمرين، فمن جانب كان يرى عدّة من العوامل الخارجيّة تؤثّر في أفعاله وإرادته، ومن جانب اخرى يرى فرقاً بينه وبين الحجر الذي يسقط من الفوق على الأرض، فقال قوم بالاختيار، وقال قوم بالجبر.

استدلّ الطائفة الاولى من الجبريين على مذهبهم بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّه لا شكّ في أنّ اللَّه تعالى مريد، وإرادته نافذة في كلّ الأشياء، ولا حدّ لارادته، ولا يوجد شي ء في عالم الوجود من دون إرادته، ومن جملة الأشياء جميع أفعال العباد، فهي أيضاً تحت نفوذ إرادته، وإلّا يلزم تخلّف إرادته عن مراده أو خروج أفعال العباد عن سلطانه، فإذا تعلّقت إرادته بعصيان العبد أو اطاعته لا يمكن للعبد التخلّف عنه فإنّه إذا أراد اللَّه شيئاً فإنّما يقول له كن فيكون، ولا يقال أنّ هذه إرادة تشريعيّة له، بل إرادته التكوينيّة نافذة في كلّ شي ء ومحيطة على كلّ شي ء ولا يوجد شي ء في هذا العالم إلّابهذه الإرادة.

هذا ملخّص

كلامهم في الدليل الأوّل الذي يمكن تمسيته بإسم توحيد الإرادة وشمولها.

والجواب عنه: أنّا ننكر نفوذ إرادته تعالى في جميع الأشياء، بل نقول أنّ من الأشياء التي انوار الأصول، ج 1، ص: 231

تعلّقت مشيئته وإرادته بها هو كون العبد مختاراً في أفعاله، فهو أراد واختار أن يكون العبد مريداً ومختاراً، وحينئذٍ لازم عدم كون الإنسان مختاراً تخلّف إرادته عن مراده وعدم نفوذ إرادته ومشيّته في جميع الأشياء، وهو خلف.

وبعبارة اخرى: المؤثّر في تحقّق الأفعال في الخارج ارادتان: إرادة العبد وإرادة اللَّه، ولكن إرادة العبد في طول إرادة اللَّه، فلا تنافي إطلاق سلطنته ونفوذ مشيّته في جميع الأشياء، فاللَّه يريد كون العبد مختاراً في أفعاله، والعبد يريد الفعل باختياره وإرادته.

الوجه الثاني: ما يشبه الدليل الأوّل، ولكنّه من طريق آخر وهو وصف الخالقية، ببيان إنّ اللَّه تعالى خالق لكلّ شي ء، ولا شريك له في خالقيته لجميع الأشياء التي فاللَّه أفعال العباد هو الخالق لأفعال الإنسان لا أنّ الإنسان هو خالق لها (وهذا دليل عموم الخلقة وتوحيدها).

والجواب عنه: يشبه الجواب عن الوجه السابق، وهو أنّ خلق العبد أفعاله أيضاً يكون ناشئاً من إرادته وخالقيته، فإنّه تعالى خلق للعبد إرادة خالقة وجعله قادراً على الخلق والإيجاد في أفعاله، فخلق العبد في طول خلق اللَّه، وقدرته على الخلق في طول قدرته، فاللَّه تبارك وتعالى خالق بالذات ومستقلًا، والعبد خالق بالغير وفي طول خلقه، وخلقه مستند إلى خلقه، وهذا لا يعدّ شركاً بل هو عين التوحيد.

الوجه الثالث: دليل العلم، وبيانه أنّ اللَّه تعالى كان عالماً بأفعال العباد خيرها وشرّها وطاعتها ومعصيتها بتمام خصوصّياتها من الأزل ولا بدّ من وقوعها مطابقة لعلمه (سواء كان علمه علّة لها أو كاشفاً عنها) وإلّا يلزم أن يصير

علمه جهلًا، فنحن مجبورون في أفعالنا حتّى لا يلزم هذا المحذور الفاسد (وهذا ممّا ظهر في لسان بعض الأشعار كقول الشاعر الفارسي: «گر مى نخورم علم خدا جهل شود» أي لو لم أشرب الخمر لكان علمه تعالى جهلًا لأنّه كان يعلم من الأزل أنّي أشرب الخمر!

والجواب عنه أيضاً واضح، لأنّه تعالى كان يعلم من الأزل أنّ العبد يصدر منه الفعل باختياره وإرادته (أي إرادة العبد) فلو صدر منه الفعل جبراً لزم صيرورة علمه تعالى جهلًا، لأنّه كان يعلم بصدوره عن اختياره، ولذا قال الشاعر الفارسي العالم الخبير في الجواب عن الشعر السابق «علم ازلى علت عصيان گشتن- نزد عقلا ز غايت جهل بود»، وهذا نظير نسخة المريض التي يكتبها الطبيب لرفع مرضه مع أمره باجتنابه عن بعض المأكول أو

انوار الأصول، ج 1، ص: 232

المشروب، فلو فرضنا أنّ الطبيب علم من بعض القرائن عدم امتثاله وارتكابه لما نهى عنه وبالنتيجة دوام مرضه وموته، فهل يمكن حينئذٍ أن يستند موت المريض إلى علم الطبيب؟

وهكذا إذا علم الاستاذ الممتحن عدم نجاح تلميذه في الامتحان من بعض القرائن من قبل، فهل يصحّ أن يستند عدم نجاحه إلى علم الاستاذ؟ أو فرضنا اختراع آلة ينعكس فيها جميع أفعال العباد والحوادث الآتية فهل يجوز استناد جميع تلك الحوادث إلى تلك الآلة؟ كلّا، فإنّ علم الباري تعالى بأفعال عباده من هذا الباب.

والإنصاف أنّ هذا الدليل أشبه شي ء بالمغالطة، وسيأتي أنّ الميل إلى مذهب الجبر ليس له دليل فلسفي برهاني، بل له جذور أخلاقيّة أو اجتماعيّة أو نفسانيّة، وأنّ الإنسان يميل إليه ويلتزم به لأن يكون مستريحاً في المعاصي في مقابل وجدانه القاضي بعصيانه والحاكم باستحقاقه للمذمّة والعقاب، وقد قال اللَّه تعالى في حقّ

منكري القيامة: «بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ» «1»

وهكذا حال منكري الاختيار المتمسّكين بمذهب الجبر.

هذا كلّه ما استدلّ به الجبريون المعتقدون باللَّه.

وهناك وجوه اخرى للقول بالجبر يشترك فيها كلتا الطائفتين الالهيّون والمادّيون:

الوجه الأوّل: برهان التكرار

وهو أنّه لو كنّا مختارين في أعمالنا لوجب القدرة على تكرار الأعمال بعينها، فإذا ألقينا حجراً في موضع خاصّ وكان هو معلولًا لاختيارنا وإرادتنا فلنكن قادرين على إلقائه في نفس ذلك الموضع في المرّة الثانيّة مع أنّه نتخلّف عنه غالباً، بل قد يقع على نفس الموضع السابق صدفة.

وأجاب عنه المحقّق الطوسي رحمه الله: بوجهين ولنا جواب ثالث لعلّه أدقّ منهما:

الأوّل: فهو النقض بأنّه قد يصدر عنّا أعمال تكراريّة متشابهة كحركة اليد والأصابع.

انوار الأصول، ج 1، ص: 233

الثاني: (هو جواب حلّي منه رحمه الله) فهو إنّا غير عالمين بتفاصيل العمل وإلّا لو علمنا به تفصيلًا لكنّا قادرين على تكراره بعينه، فمثلًا لو علمنا بمقدار الماء في الاغتراف الأوّل لأستطعنا أن نغترف منه بنفس ذلك المقدار في المرّة اللّاحقة.

وأمّا الجواب الثالث فهو أن نقول: إنّ الاختياري من العمل في المثال المزبور إنّما هو أصل إلقاء الحجر فحسب، وهو ممّا يمكن تكراره بعينه بلا إشكال، وأمّا خصوصّياته وجزئياته فلا بأس بكونها خارجة عن الاختيار.

وبعبارة اخرى: ههنا عدّة من العوامل الجبريّة تكون دخيلة في عمل الإلقاء كبعض ارتعاشات اليد ومقدار القوّة الموجودة في اليد في كلّ مرّة ولكنّها لا تنافي اختياريّة أصل العمل كما لا يخفى.

الوجه الثاني: برهان العلم بالتفاصيل

وبيانه أنّ اختياريّة العمل تستلزم العلم بتفاصيله وهو مفقود بالوجدان كما في حركة الساهي أو النائم وانقلابه من جنب إلى جنب وفي الأعمال الاعتياديّة، فلا يعلم الإنسان بكميّة عمله وكيفيته (في المثال الأوّل) كما لا يعلم بعدد خطواته وكيفيتها (في المثال الثاني وفي الأعمال الاعتياديّة) فإن كانت هذه الأعمال اختياريّة له فكيف لا يكون عالماً بتفاصيلها؟

وأجاب عنه المحقّق الطوسي رحمه الله: بما يخصّ بالمثال الأوّل بأنّ ملاك اختياريّة العمل إنّما هو صدوره عن علم

وإلتفات، وهما منفيان في حال النوم أو السهو، فلا يكون العمل في هذا الحال اختياريّاً.

وأمّا في المثال الثاني وهو الأعمال الاعتياديّة فيمكن أن يقال: أنّها معلومة إجمالًا لأنّها قبل أن تصير اعتياديّة كانت تصدر من الإنسان عن علم وإلتفات تفصيلي، وبعد تحقّق العادة أيضاً تصدر عن علم وإلتفات، ولكن على نحو الإجمال، ولا دليل على اعتبار العلم التفصيلي في اختياريّة الأعمال.

الوجه الثالث: برهان العلّية

أي «قاعدة الشي ء ما لم يجب لم يوجد»

انوار الأصول، ج 1، ص: 234

بيانه: أنّه لا إشكال في أنّ كلّ معلول ما لم تتحقّق علّته التامّة لم يوجد، بل يمتنع وجوده، فإذا تحقّقت علّته التامّة فلابدّ من تحقّق المعلول، ولا يمكن تخلّفه عنها، فكلّ فعل عند تحقّق علّته واجب وجوده، وعند عدم تحقّق علّته ممتنع وجوده، فأمره دائماً دائر بين الوجوب والامتناع، أي أنّه إمّا ضروري الوجود، أو ضروري العدم، وهذا هو معنى الجبر، فلا اختيار في البين.

والجواب عنه: أنّ الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار كما أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافيه أيضاً

وتوضيحه: إنّا نقبل قاعدة «إنّ الشي ء ما لم يجب لم يوجد» ولكن نقول أيضاً: إنّ الجزء الأخير للعلّة التامّة في الأفعال الاختياريّة هو الإرادة والاختيار، ولا إشكال في أنّ الوجوب الذي ينشأ من العلّة التي يكون جزؤها الأخير الاختيار لا ينافي الاختيار، بل يؤكّد الاختيار.

الوجه الرابع: برهان الإرادة

(الذي أدرجه بعض في برهان العلّية ولكن ينبغي إفراده عنه لما فيه من خصوصيّة التبيين) وهو عبارة عن «أنّ اختياريّة العمل إنّما تكون بالإرادة، فننقل الكلام إلى الإرادة ونقول: هل الإرادة أيضاً إراديّة واختياريّة، أو لا؟ فإن لم تكن إراديّة لزم، كون الفعل الذي ينتهي إليها غير ارادي أيضاً، وإن كانت إراديّة فلابدّ أن تكون تلك بإرادة اخرى، ثمّ ننقل الكلام إلى تلك الإرادة، فإن كانت إراديّة فيلزم التسلسل وإلّا لزم الجبر، فيدور الأمر بين قبول التسلسل وقبول مذهب الجبر، وحيث إنّ الأوّل باطل فيتعيّن الثاني.

وهذا هو من أهمّ أدلّتهم، وهو الذي بالغ فيه أمام المشكّكين حتّى توهّم أنّه لو اجتمع الثقلان لم يأتوا بجوابه.

ولكن اجيب عنه بوجوه عديدة:

الوجه الأوّل: ما أجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه الله وحاصله: أنّ الثواب والعقاب

يترتّبان على الإطاعة والمعصية، وهما تنشئان من الإرادة، والإرادة أيضاً تنشأ من مقدّماتها الناشئة من الشقاوة والسعادة الذاتيتين، والذاتي لا يعلّل، والسعيد سعيد في بطن امّه والشقي شقي في بطن امّه والناس معادن كمعادن الذهب والفضّة كما في الخبر.

انوار الأصول، ج 1، ص: 235

وقد نقل عنه رحمه الله أنّه عدل عن هذه المقالة بعد ذلك.

وكيف كان، يرد عليه:

أوّلًا: أنّ كلامه هذا يوجب إراديّة الفعل في مقام التسمية فحسب لا الواقع، وهو لا يوافق مذهب الاختيار والأمر بين الأمرين حقيقة كما هو ظاهر.

ثانياً: إذا كانت الشقاوة ذاتيّة وتكون هي المنشأ الأصلي للعصيان فكيف يؤاخذ اللَّه العاصي بما هو ذاتي له؟ فهل هو إلّاظلم فاحش (تعالى اللَّه عنه علوّاً كبيراً)؟

وأمّا ما استشهد به من الرّوايتين فالحقّ أنّ الثاني منهما (وهو قوله صلى الله عليه و آله الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة) على خلاف مقصوده أدلّ، لأنّه يقول: أنّ جميع الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة، فهم على تفاوتهم واختلاف درجاتهم (كتفاوت درجات معادن الذهب والفضّة) حسن السريرة بحسب ذواتهم وسعداء بحسب فطرتهم الأوّليّة فلا شقاوة ذاتيّة لهم.

الأوّل: منهما وهو قوله صلى الله عليه و آله: «السعيد سعيد في بطن امّه والشقي شقي في بطن امّه» فقد فسّر بتفسيرين:

أحدهما: أنّ اللَّه تبارك وتعالى يعلم أنّ المولود الفلاني يصير سعيداً أو شقيّاً. (كما في الخبر).

وثانيهما: حمله على المقتضيات الذاتيّة، فيكون المراد منه أنّ بعض الناس أقرب إلى السعادة بحسب اقتضائه الذاتي واستعداده الفطري، وبعض آخر أقرب إلى الشقاوة كذلك من دون أن يكون هذا القرب أو البعد علّة تامّة للطاعة أو العصيان، بل الجزء الأخير هو إرادة واختيار الإنسان نفسه.

إن قلت: هذا وإن كان يرفع الجبر ولكن أليس هو تبعيض قبيح

عند العقل؟

قلنا: أنّه كذلك إذا كانت مجازاتهما بنسبة واحدة، مع أنّه ليس كذلك، لأنّ كلّ إنسان يجازى على عمله بملاحظة الشرائط والمساعدات الذاتيّة والعائلية والوراثيّة والاجتماعيّة، فيكون الميزان في الثواب والعقاب نسبة العمل مع مقدار الإمكانات والعلم والاستعداد، فمن كانت قدرته ومكنته أكثر، ينتظر منه سعي أكثر وعمل أوفر، ومن هذا الباب يقال حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين، وقوله تعالى لنساء النبي صلى الله عليه و آله: «يَا نِسَاءَ النَّبِىِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ

انوار الأصول، ج 1، ص: 236

يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ...» «1»

وقوله تعالى للحواريين بعد طلبهم نزول المائدة من السماء: «إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لَاأُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ» «2».

الوجه الثاني: ما مرّ من المحقّق النائيني رحمه الله في البحث عن اتّحاد الطلب والإرادة (واستحسنه بعض أعاظم تلامذته في هامش تقريراته وزاده توضيحاً ومثالًا وقال: ما أفاد شيخنا الاستاذ هو محض الحقّ الذي لا ريب فيه) وقد وعدنا أن نجيب عن ما يرتبط من كلامه بمبحث الجبر والاختيار في هذا المقام.

فنقول: كان كلامه ذاك مركّباً من خمس مقدّمات:

الاولى: إنّ الإرادة عبارة عن الشوق المؤكّد، ولكن هناك أمر آخر متوسّط بين الإرادة وحركة العضلات يسمّى بالطلب، وهو عبارة عن نفس الاختيار وتأثير النفس في الحركة.

الثانيّة: إنّ النفس مؤثّرة بنفسها في حركات العضلات من غير سبب خارجي وواسطة في البين.

الثالثة: إنّ قاعدة «الشي ء ما لم يجب لم يوجد» مختصّة بالأفعال غير الاختياريّة.

الرابعة: إنّ الاحتياج إلى المرجّح في وجود الفعل من ناحية فاعله (وهو النفس) إنّما هو من جهة خروج الفعل عن العبثية وإلّا فيمكن للإنسان إيجاد ما هو منافر لطبعه فضلًا عن إيجاد ما لا يشتاقّه لعدم فائدة فيه.

الخامسة: إنّ المرجّح

المخرج للفعل عن العبثية هي الفائدة الموجودة في نوعه، دون شخصه بداهة أنّ الهارب والجائع يختار أحد الطريقين وأحد القرصين مع عدم وجود مرجّح في واحد بالخصوص، ويعلم من ذلك عدم وجود أمر إلزامي إجباري يوجب صدور الفعل حتّى يهدم أساس الاختيار، وأمّا الاختيار فهو فعل النفس وهي بذاتها تؤثّر في وجوده، والمرجّحات التي تلاحظها النفس إنّما هي لخروج الفعل عن كونه عبثاً لا أنّها موجبة للاختيار.

أقول: يرد على الاولى: مناقشة لفظيّة وهي أنّ الإرادة عند المشهور ليست عبارة عن مجرّد الشوق المؤكّد فحسب بل إنّما هي الشوق المؤكّد المحرّك للعضلات.

انوار الأصول، ج 1، ص: 237

وعلى الثانيّة: أنّ كون النفس علّة تامّة للفعل أو الترك ينافي تسويتها بالنسبة إلى كلّ من الفعل والترك وأنّها إن شاءت فعلت وإن شاءت تركت، أي ينافي حالة اختيارها، لأنّ كونها علّة تامّة للفعل أو الترك يستلزم دوران الأمر بين الوجوب والامتناع بمقتضى قاعدة «الشي ء ما لم يجب لم يوجد»، وإنكاره جريان هذه القاعدة في الأفعال الاختياريّة (وهي المقدّمة الثالثة) يساوق إنكار قانون العلّية والتسليم بالصدفة كما لا يخفى.

وعلى الرابعة والخامسة: أنّ كفاية المرجّح النوعي إنّما هي في رفع العبثية، وأمّا إذا كان المرجّح مؤثّراً في تكوّن العلّة التامّة وتحقّقها فلا يكفي بل لا بدّ من المرجّح الشخصي، لأنّ المرجّح النوعي قد تكون نسبته إلى الفعل والترك على السواء، نعم إنّ كلامه صحيح بناءً على مبناه من عدم جريان قاعدة «الشي ء ما لم يجب لم يوجد» في الأفعال الاختياريّة.

وأمّا مثال الهارب والعطشان فإنّا ننكر عدم وجود مرجّح شخصي فيهما بل ندّعي وجود مرجّح خاصّ فيهما قطعاً كقرب أحد الإنائين أو سبق النظر إلى أحدهما من الآخر، وإلّا لو لم يلتفت إلى

مرجّح خاصّ لتوقّف في المشي أو الشرب، ولكن هذا مجرّد فرض، فتلخّص أنّ حلّ مشكلة الإرادة من هذا الطريق غير ممكن وإن كان بعض ما ذكره من المقدّمات صحيح، وعمدة ما يرد عليه هو ما ذكره في إستثناء الأفعال الاختياريّة من قاعدة: الشي ء ما لم يجب لم يوجد، فإنّه مساوق لانكار قانون العلّية كما لا يخفى.

الوجه الثالث: ما أفاده المحقّق العراقي رحمه الله في المقام وإليك نصّ كلامه: «إنّ عوارض الشي ء على أقسام ثلاثة:

أحدها: ما يعرض على الشي ء وليس بلازم لوجوده ولا لماهيته كالبياض للجسم مثلًا.

ثانيها: ما يعرض الشي ء ويكون لازماً لماهيته (كزوجيّة الأربعة).

ثالثها: ما يعرض الشي ء ويكون لازماً لوجوده كالحرارة للنار، أمّا القسم الأوّل فلا ريب في أنّ جعل المعروض (بمعنى إيجاده) لا يستلزم جعل عارضه، بل يحتاج العارض إلى جعل مستقلّ، وأمّا القسمان الأخيران فما هو قابل لتعلّق الجعل به هو المعروض وهو المجعول بالذات، وأمّا لازم كلّ من القسمين المذكورين فيحقّق قهراً بجعل نفس ملزومه ومعروضه بلا حاجة إلى جعل مستقلّ، فإرادة المعروض تكفي في تحقّقه عن تعلّق إرادة أزليّة اخرى به.

ثمّ قال: إذا عرفت ذلك: فاعلم أنّ أوصاف الإنسان على قسمين:

أحدهما: إنّه يكون من عوارض وجوده وليس بلازم لوجوده أو ماهيته كالعلم والضحك انوار الأصول، ج 1، ص: 238

ونحوهما، وقد عرفت أنّ هذا النحو من العوارض يحتاج إلى جعل مستقلّ يتعلّق به.

ثانيهما: أنّ يكون الوصف من لوازم وجوده كصفة الاختيار للإنسان، فإنّه من لوازم وجوده ولو في بعض مراتبه، وقد عرفت أنّ هذا النحو من الأوصاف لا يحتاج في تحقّقه إلى جعل مستقلّ غير جعل معروضه، فالانسان ولو في بعض مراتب وجوده مقهور بالاتّصاف بصفة الاختيار، ويكفي في تحقّق صفة الاختيار للإنسان

تعلّق الإرادة الأزليّة بوجود نفس الإنسان.

ثمّ قال: لا ريب في أنّ كلّ فعل صادر من الإنسان بإرادته، له مبادى ء كعلم بفائدته وكشوق إليه وقدرة عليه واختياره في أن يفعله وأن لا يفعله وإرادته المحرّكة نحوه، وعليه يكون للفعل الصادر من الإنسان نسبتان:

إحداهما: إليه باعتبار تعلّق اختياره به الذي هو من لوازم وجود الإنسان المجعولة بجعله لا بجعل مستقلّ.

والاخرى: إلى اللَّه تعالى باعتبار إيجاد العلم بفائدة ذلك الفعل في نفس فاعله وإيجاد قدرته عليه وشوقه إليه إلى غير ذلك من المبادى ء التي ليست من لوازم وجود الإنسان، وحينئذٍ لا يكون الفعل الصادر من الإنسان بإرادته مفوّضاً إليه بقول مطلق ولا مستنداً إليه تعالى كذلك ليكون العبد مقهوراً عليه، ومعه يصحّ أن يقال: لا جبر في البين لكون أحد مبادى ء الفعل هو اختيار الإنسان المنتهى إلى ذاته، ولا تفويض بملاحظة كون مبادئه الاخرى مستندة إليه تعالى ولا مانع من أن يكون ما ذكرنا هو المقصود بقوله عليه السلام: لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين» «1».

ويمكن تلخيص مجموع كلامه هذا في ثلاث مقدّمات:

الاولى: أنّ الاختيار من لوازم وجود الإنسان وذاته ولا يحتاج إلى جعل مستقلّ عن جعل ذاته.

الثانيّة: أنّ الاختيار غير الإرادة فإنّه صفة كامنة في النفس وموجود فيها بالفعل وعند تحقّق الفعل يصير بالفعل.

انوار الأصول، ج 1، ص: 239

الثالثة: أنّ الفاعل للفعل هو الإنسان بوصف كونه مختاراً والباقي شروط ومعدّات.

ولكن يرد على المقدّمة الاولى: أنّه لا حاجة إليها لأنّه وإن كان الاختيار مجعولًا بجعل مستقلّ فمع ذلك لا يضرّ بكون العمل اختياريّاً، لأنّه على أيّ حال: خلق مختاراً، أي تكون أصل قوّة الاختيار جبريّاً وقهريّاً، وهذا لا ينافي أن يكون الفعل المستند إلى هذه القوّة اختياريّاً

كما لا يخفى.

وعلى الثانيّة: أنّها مبهمة من جهة أنّه لا يعلم أنّ مراده ما ذكره المحقّق النائيني؛ من أنّ الاختيار نفس الطلب والطلب غير الإرادة، أو غير ذلك، فإن كان الأوّل فقد عرفت الكلام فيه، وإن كان غير ذلك فليبيّن حتّى يبحث عنه.

وأمّا الثالثة: فلا مانع من المساعدة عليها، لكن يبقى الكلام في أنّ الإنسان المختار متساوي النسبة إلى وجود الفعل وعدمه فكيف يصدر الفعل منه دون عدمه فإن كان هو من جهة تخصيص قاعدة الوجوب فيعود الإشكال الذي ذكرناه في كلام المحقّق النائيني رحمه الله أو شي ء آخر فما هو؟

المختار في حلّ مشكلة الإرادة على مذهب الاختيار
اشارة

الحقّ في المسألة أن يقال: إنّ هناك أمرين:

1- صفة الاختيار وقوّته التي تكون ذاتيّة للإنسان، ومقتضى هذه الصفة هي كون الإنسان بالنسبة إلى أفعاله على نحو سواء بحيث إنّ شاء فعل وإن شاء ترك.

2- الاختيار الفعلي، وهو نفس الإرادة والانتخاب في الخارج والتصدّي للعمل.

فإنّه بعد تصوّر الإنسان لفعل وتصديق الفائدة فيه وحصول الشوق المؤكّد له ترد صفة الاختيار في ميدان العمل وتنتخب الفعل أو الترك.

وإن شئت قلت: ترد النفس في ميدان العمل بصفة الاختيار وقوّته التي تكون من شؤونها وذاتياتها فتريد الفعل أو الترك وتنتخب أحدهما.

ولازم هذا أن تكون الإرادة نفس الاختيار، ولكن- الاختيار الفعلي لا صفة الاختيار أي الاختيار بالقوّة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 240

توضيح ذلك: أنّ الإنسان يكون بفطرته وذاته طالباً للمنفعة ودافعاً للضرر، أي من غرائزه الفطريّة الجبلية غريزة طلب المنفعة ودفع الضرر، وبمقتضى هذه الغريزة إذا لاحظ شيئاً والتفت إلى منفعة أو ضرر، أي إذا تصوّر أحدهما وصدّقه يحصل في نفسه شوق إلى تحصيل المنفعة أو دفع الضرر، ومع ذلك يرى نفسه قادراً على الجلب وعدمه، أو على الدفع وعدمه، وأنّ

له أن يتحرّك ويجلب المنفعة أو يدفع الضرر، وله أن يجلس ويتحمّل الضرر أو يحرم نفسه عن المنفعة ويشتري المذمّة والملامة، فإذا اختار الفعل وانتخبه وأراده ورجّحه على الترك تتحرّك عضلاته نحو العمل فيفعله ويحقّقه في الخارج.

وبهذا يظهر أنّ التصوّر والتصديق والشوق كثيراً ما تكون جبريّة غير اختياريّة، فإنّ التصوّر كثيراً ما يحصل للإنسان جبراً بمعونة حواسّه وادراكاته، ويترتّب عليه التصديق فيكون التصديق أيضاً جبريّاً غالباً ويترتّب على التصديق الشوق أو الكراهة بمقتضى غريزة جبريّة وهي غريزة جلب المنفعة ودفع الضرر.

ثمّ تصل النوبة بعد هذه إلى أعمال النفس واختيارها وارادتها بمقتضى سلطانه الذاتي وقوّة الاختيار وقدرة الانتخاب التي جعلها اللَّه تعالى لذاتها، فلها أن تختار وتنتخب، ولها أن لا تختار ولا تنتخب.

ثمّ إذا اختارت وانتخبت تصل النوبة إلى حركة العضلات نحو العمل، والإرادة عين هذا الاختيار الفعلي والانتخاب الخارجي، هذا أوّلًا.

وثانياً: ظهر أنّ الإرادة ليست في طول الشوق المؤكّد بلا تخلّل شي ء، بل صفة الاختيار متخلّلة بينهما، والشاهد على ذلك أنّ الإنسان كثيراً ما يتصوّر شيئاً ذا منفعة وفائدة ويصدّق فائدته ويشتاق إليه، ولكن مع ذلك لا يتصدّى له في الخارج ولا تترشّح من النفس إرادة العمل لما يكون لها من صفة الاختيار وقوّته، وحينئذ نشاهد تخلّل صفة الاختيار بين الشوق والإرادة.

وبهذا تنحلّ مشكلة عدم اختياريّة الإرادة، فإنّه إذا كانت الإرادة عبارة عن الاختيار الخارجي الفعلي والتصدّي في الخارج بمقتضى صفة الاختيار الذاتيّة للإنسان كانت إراديّة، وإراديتها إنّما تكون بذاتها لا بقوّة اختياريّة اخرى حتّى يتسلسل.

وإن شئت قلت: إنّ إراديّة كلّ فعل إنّما هي بالإرادة، وإراديّة الإرادة إنّما هي بصفة

انوار الأصول، ج 1، ص: 241

الاختيار الكامنة في النفس، وإراديّة صفة الاختيار واختياريتها إنّما هي بذاتها فإنّ

كلّ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات، وذلك مثل أنّ المعلوم يكون معلوماً بتعلّق العلم به، والعلم معلوم بذاته لا يتعلّق علم آخر به.

يبقى الكلام في توضيح نكتة أنّ الإرادة كيف تترشّح وتنشأ من صفة الاختيار الكامنة في النفس وأنّ النفس تخلقها وتوجدها بذاتها وبلا وسائط اخرى خارجيّة، فنذكر في هذا المجال ما أفاده في رسالة الطلب والإرادة، ونعم ما أفاد، فإنّه جدير بالدقّة والتأمّل وإليك نصّ كلامه:

«اعلم أنّ الأفعال الاختياريّة الصادرة من النفس على نوعين:

النوع الاوّل: ما يصدر منها بتوسّط الآلات الجرمانيّة كالكتابة والصياغة والبناء ففي مثلها تكون النفس فاعلة الحركة أوّلًا وللأثر الحاصل منها ثانياً وبالعرض، فالبنّاء، إنّما يحرّك الأحجار والأخشاب من محلّ إلى محلّ ويضعها على نظم خاصّ وتحصل منه هيئة خاصّة بنائيّة وليست الهيئة والنظم من فعل الإنسان إلّابالعرض، وما هو فعله هو الحركة القائمة بالعضلات أوّلًا وبتوسّطها بالأجسام، وفي هذا الفعل تكون بين النفس المجرّدة والفعل وسائط ومبادٍ من التصوّر إلى العزم وتحريك العضلات.

النوع الثاني: ما يصدر منها بلا وسط أو بوسط غير جسماني كبعض التصوّرات التي يكون تحقّقها بفعّاليّة النفس وإيجادها لو لم نقل جميعها كذلك، مثل كون النفس خلّاقة للتفاصيل، ومثل اختراع نفس المهندس صورة بديعة هندسيّة، فإنّ النفس مع كونها فعّالة لها بالعلم والإرادة والاختيار لم تكن تلك المبادى ء حاصلة بنحو التفصيل كالمبادى ء للأفعال التي بالآلات الجسمانيّة، ضرورة أنّ خلق الصور في النفس لا يحتاج إلى تصوّرها والتصديق بفائدتها والشوق والعزم وتحريم العضلات، بل لا يمكن توسيط تلك الوسائط بينها وبين النفس بداهة عدم إمكان كون التصوّر مبدئاً للتصوّر بل نفسه حاصل بخلّاقيّة النفس، وهي بالنسبة إليه فاعلة بالعناية بل بالتجلّي لأنّها مجرّدة، والمجرّد واجد لفعليات ما

هو معلول له في مرتبة ذاته، فخلّاقيته لا تحتاج إلى تصوّر زائد بل الواجدية الذاتيّة في مرتبة تجرّدها الذاتي الوجودي تكفي للخلّاقيّة، كما أنّه لا يحتاج إلى إرادة وعزم وقصد زائد على نفسه.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ العزم والإرادة والتصميم والقصد من أفعال النفس، ولم يكن سبيلها سبيل الشوق والمحبّة من الامور الانفعاليّة، فالنفس مبدأ الإرادة والتصميم، ولم تكن انوار الأصول، ج 1، ص: 242

مبدئيتها بالآلات الجرمائيّة بل هي موجدة لها بلا وسط جسماني، وما كان حاله كذلك في صدوره من النفس لا يكون بل لا يمكن أن يكون بينه وبينها إرادة زائدة متعلّقة، به بل هي موجدة له بالعلم والاستشعار الذي في مرتبة ذاتها، لأنّ النفس فاعل إلهي واجد لأثره بنحو أعلى وأشرف» «1» (انتهى).

إن قلت: إن كانت النفس علّة تامّة وفاعلة للفعل باختيارها من دون دخالة شي ء آخر من الخارج فلماذا صدر الفعل الفلاني منها في اليوم دون الأمس مع أنّ المعلول لا ينفكّ عن علّته التامّة؟

قلنا: المفروض أنّ النفس بما لها من صفة الاختيار تكون علّة تامّة للفعل، ولا إشكال في أنّ هذه الصفة تقتضي بذاتها تخصيص الفعل بوقت دون وقت، وهذا نظير ما يقال به في باب صفات الباري من أنّه تعالى مختار واختياره عين ذاته، ولازمه تخصيص فعله (وهو خلق حادثة فلانيّة كخلق الشمس والقمر) بزمن خاصّ لا من الأزل.

والحاصل: أنّه يمكن قياس فعل العبد من هذه الجهة على فعل اللَّه، فهل العالم قديم؟ لا إشكال في حدوثه، فهل العلّة التامّة لوجوده هو ذات الباري بما له من الإرادة والاختيار بل الإرادة والاختيار عين ذاته، فلماذا حصل الخلق وحدث بعد أن لم يكن؟ فهل كانت هناك علّة من الخارج؟ والمفروض أنّه

لم يكن هناك شي ء فما العلّة في تخصيص حدوثه بوقت دون وقت؟

والجواب: أنّ ذاته تعالى بما له من الاختيار كان سبباً وعلّة، وهكذا الكلام في أفعال العباد من هذه الجهة وإن كان يتفاوت مع أفعاله تعالى من جهات اخرى.

ثمّ إنّ لبعض المعاصرين (قدّس سرّهم الشريف) هنا كلاماً لا يخلو ذكره عن فائدة، فإنّه قال في حلّ مشكلة الإرادة وقاعدة «إنّ الشي ء ما لم يجب لم يوجد» إنّ هذه القاعدة لو كانت قاعدة عقليّة لم يكن هناك معنى للالتزام بالتخصيص فيها، لكن الصحيح أنّها ليست قاعدة عقليّة مبرهنة بل هي قاعدة وجدانيّة، إذن فلابدّ من الرجوع في هذه القاعدة إلى الفطرة السليمة، والفطرة السليمة تحكم أنّ هناك صفة في النفس وهي السلطنة، وينتزع منها مفهوم الاختيار، ومعناها إنّه حينما يتمّ الشوق المؤكّد في أنفسنا نحو عمل لا نقدم عليه قهراً ولا يدفعنا إليه أحد بل نقدم عليه بالسلطنة، ونسبتها إلى الوجود والعدم وإن كانت متساوية لكنّها كافية

انوار الأصول، ج 1، ص: 243

في إيجاد المطلوب بلا حاجة إلى ضمّ شي ء آخر إليها لأجل تحقّق أحد الطرفين، فلا يجري فيه قاعدة «إنّ الشي ء ما لم يجب لم يوجد» وإلّا لزم الخلف، لأنّ السلطنة لو وجدت لا بدّ من الالتزام بكفايتها «1». (انتهى ملخّصاً).

وفيه: إنّا لا نجد فرقاً بين مفهوم السلطنة والاختيار، وما ذكره ليس أمراً جديداً فقد عبّر بالسلطنة بدل الاختيار كما عبّر بعض آخر بهجوم النفس (فإنّه عبارة اخرى عن إعمال الاختيار أي الاختيار الفعلي) أو الطلب الموجود في النفس فلو لم يكن وجود الاختيار كافياً في حلّ هذه المشكلة فالتعبير عنه بعبارة اخرى لا يفيد في حلّها أيضاً فإنّه يبقى السؤال في أنّ هذه السلطنة متساوية النسبة

إلى الوجود والعدم فترجيح أحد الطرفين يحتاج إلى مرجّح.

وإن شئت قلت: إنّ السلطنة كانت موجودة في النفس من الأوّل، فلو كانت كافية بذاتها للوجود بلا ضمّ شي ء إليها فلابدّ أن توجد الأفعال كلّها من قبل ولا معنى لتخصيص فعل بزمان دون زمان، فلا يبقى طريق لحلّ هذه المشكلة إلّاما عرفت سابقاً.

أدلّة القائلين بالاختيار:

وأمّا القائلون بالاختيار فاستدلّوا لمقالتهم بوجوه أيضاً:

الوجه الأوّل: ما هو مشترك بين الإلهيين والمادّيين وهو الرجوع إلى الوجدان، فإنّ الضرورة قاضية باستناد أفعالنا إلينا على تعبير المحقّق الطوسي رحمه الله (والمراد من الضرورة في كلامه ضرورة الوجدان لا ضرورة دليل العقل).

وتوضيحه: أنّ الوجدان على نوعين: الوجدان الفردي والوجدان العمومي، أمّا الوجدان الفردي فهو قاضٍ بوجود الفرق الواضح بين أفعالنا نظير ضربان القلب وجريان الدم في العروق وحركة يد المرتعش، وبين أفعال اخرى لا تصدر من الإنسان إلّابعد التصوّر والتصديق والإرادة سواء صدرت من الإنسان بلا تأمّل ومشقّة وبمجرّد تعلّق الإرادة والمشيّة عليه كحركة اليد غير المرتعش فإنّها تتحقّق بمجرّد الإرادة، أو لا تتحقّق بمجرّد الإرادة بل تحتاج إلى حصول مقدّمات ومبادٍ كسيلان الدموع، فلا إشكال في أنّ الوجدان حاكم على عدم انوار الأصول، ج 1، ص: 244

اختياريّة القسم الأوّل كما لا إشكال في أنّه يقضي باختياريّة القسم الثاني والثالث، بل لو اقيمت صورة الف برهان على العكس نعلم إجمالًا بوجود اختلال في بعض مقدّماته، لأنّه لا يقاوم الوجدان.

وأمّا الوجدان العمومي فلا إشكال أيضاً في أنّ جميع العقلاء من الإلهي والمادّي حتّى القائلين بمذهب الجبر يحكمون بأنّ المسؤول في الجرائم والتخلّفات والجنايات إنّما هو الإنسان نفسه، فيذمّونه ويجعلون لشخص المتخلّف غرامة معيّنة، والقول بالجبر يستلزم كون جميع المحاكم القضائيّة ظالمة ويستلزم أن يكون جميع المجازات ظلماً.

وبعبارة اخرى: أنّ

أصل المجازاة واستحقاق الظالم لها وجداني وإن كانت كيفيتها وخصوصّياتها اعتباريّة ومجعولة من قبل المقنّن المشرّع.

وهذا ممّا يقضي به الجبريون أيضاً بوجدانهم، والمنكر إنّما ينكره باللسان وقلبه مطمئن بالايمان، نظير إنكار السوفسطائي لأصل الوجود والمثالي للوجود الخارجي، فلا إشكال في أنّ القائلين بهذه المقالات يعترفون في مقام العمل بوجود الأعيان الخارجيّة كالنار والماء والهواء والسيارات والطيّارات فيطلبونها ويركبونها كسائر الناس من دون أي فرق.

كذلك العالم الجبري إذا قام في ميدان العمل ورأى نفسه في المجتمع البشري يلوم من غصبه حقّه ويشكو منه ويرى تعزيره وسجنه عدلًا بينما تكون جميع هذه الامور على اعتقاده ظلماً وجوراً.

ويؤيّد ما ذكرنا من قضاء الوجدان بالاختيار ما رواه في اصول الكافي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه كان جالساً بالكوفة منصرفة من صفّين إذ أقبل شيخ فجثا بين يديه، ثمّ قال له: ياأمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام أبقضاء من اللَّه وقدر؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: «أجل ياشيخ، ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن وادٍ إلّابقضاء من اللَّه وقدر» فقال له الشّيخ:

عند اللَّه أحتسب عنائي ياأمير المؤمنين؟ فقال له: «مه ياشيخ فواللَّه لقد عظّم اللَّه الأجر في مسيركم وأنتم سائرون وفي مقامكم وأنتم مقيمون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ولم تكونوا في شي ء من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرّين» فقال له الشّيخ: وكيف لم نكن في شي ء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرّين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا؟ فقال له: «وتظنّ أنّه كان قضاء حتماً وقدراً لازماً؟ إنّه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر

انوار الأصول، ج 1، ص: 245

والنهي والزجر من اللَّه وسقط معنى الوعد والوعيد فلم تكن لائمة للمذنب ولا محمدة للمحسن ولكان المذنب أولى بالاحسان

من المحسن ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب، تلك مقالة اخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وحزب الشيطان، وقدريّة هذه الامّة مجوسها، إنّ اللَّه تبارك وتعالى كلّف تخييراً ونهى تحذيراً وأعطى على القليل كثيراً ولم يُعص مغلوباً ولم يطع مكرهاً ولم يملّك مفوّضاً ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلًا، ولم يبعث النبيين مبشّرين ومنذرين عبثاً، ذلك ظنّ الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار».

فأنشأ الشّيخ يقول:

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته يوم النجاة من الرحمن غفرانا

أوضحت من أمرنا ما كان ملتبساً جزاك ربّك بالاحسان احسانا «1»

وفي نقل آخر «2» رواه العلّامة المجلسي في البحار بعد ذكر ما مرّ: ثمّ تلا عليهم «وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» وفي نقل ثالث في البحار «3» أيضاً بعد عدّه عليه السلام الموارد العشرة من قضاء اللَّه تعالى وقدره قال: «كلّ ذلك قضاء اللَّه في أفعالنا وقدره لأعمالنا».

وهذا الحديث الذي هو من غرر الأحاديث ومحكمات الأخبار المأثورة عن المعصومين عليهم السلام الذي تلوح عليه آثار الصدق ناظر إلى تفسير القضاء والقدر بالقضاء والقدر التشريعيين (كما ورد في ذيله) ثمّ تمسّك لإثبات بطلان مقالة الجبريين والقدريين بالوجدان الصريح من عشرة وجوه: أحدها: الثواب والآخر: العقاب والثالث: الأمر الرابع: النهي ... إلى آخر ما ذكره عليه السلام فإنّه لا يجتمع الثواب مع الجبر على الطاعة ولا العقاب مع الجبر على المعصية كما أنّه لا معنى للأمر على فرض الجبر على الطاعة لأنّه تحصيل للحاصل، ولا في فرض الجبر على المعصية فإنّه تكليف بما لا يطاق، وهكذا مسألة اللائمة والمحمدة والسؤال والعتاب كلّ ذلك لغو أو ظلم على القول بالجبر، وهو أمر واضح لكلّ أحد.

الوجه الثاني: ما يختصّ بالالهيين وهو «دليل العدالة» وهو

أنّ الجبر ينافي عدله تعالى كما أنّ القول بالتفويض ينافي التوحيد ويلزم منه خروجه تعالى عن سلطنته، وقد نصّ على هذا

انوار الأصول، ج 1، ص: 246

المعنى أبو الحسن الرضا في عبارة وجيزة لطيفة وقد سأل عنه الراوي وقال: اللَّه فوّض الأمر إلى العباد؟ قال: اللَّه أعزّ من ذلك. قلت: فجبرهم على المعاصي؟ قال: «اللَّه أعدل وأحكم من ذلك» «1».

وقد أجاب عنه الأشاعرة بوجهين:

أحدهما: من طريق إنكار الحسن والقبح العقليين وإنّ الظلم ليس قبيحاً على الباري تعالى.

ثانيهما: أنّه لو سلّمنا وقبلنا الحسن والقبح عند العقل إلّاأنّه لا يصدق الظلم على أفعاله تعالى حتّى يحكم العقل بقبحه لأنّها تصرّفات في ملك نفسه وله أن يتصرّف في ملكه بما يشاء كيف يشاء لا يسأل عمّا يفعل.

ويجاب عن الوجه الأوّل: بأنّه سفسطة مخالفة للوجدان، مضافاً إلى أنّه مستلزم لانهدام أساس المذهب وهو معرفة الباري لأنّها مبنية على قبول وجوب التحقيق عن وجوده تعالى، وهو مبني على وجوب شكر المنعم ووجوب دفع الضرر المحتمل وقبح تركهما، وكذلك معرفة النبي صلى الله عليه و آله لأنّها أيضاً متوقّفة على قبح اعطاء اللَّه تعالى المعجزة بغير النبي الصادق الصالح لمقام النبوّة وإلّا لو لم يكن اعطائه بالشيطان مثلًا قبيحاً لم تثبت النبوّة والرسالة ولم يحكم العقل بوجوب النظر إلى دعوى من يدّعي النبوّة ومعجزته.

وعن الوجه الثاني: بأنّه لا دليل على جواز تصرّف الإنسان مثلًا في مملوكاته مطلقاً بما شاء وكيف يشاء، فلا يجوز له مثلًا إحراق أمواله بل العقل يحكم بخلافه وبجواز التصرّفات غير القبيحة، كذلك بالنسبة إلى أفعال الباري تعالى فإنّ تصرّفاته لا تكون إلّاعن مصلحة، ومن المعلوم أنّ ما ذكر قبيح مخالف للمصلحة.

الوجه الثالث: «دليل الحكمة» فإنّ القول بالجبر يلازم كون

بعث الرسل وانزال الكتب لغواً، لأنّه أمّا أن اللَّه تعالى أراد طاعة عبده وأنّ ذات العبد مقتضية للطاعة فبعثه وزجره تحصيل للحاصل، وإمّا أن لا تكون ذاته مقتضية للطاعة بل لها اقتضاء العصيان فيكون بعثه أو زجره تكليفاً بما لا يطاق وكلاهما ينافيان حكمة الباري تعالى.

وهذا الوجه تامّ حتّى بناءً على إنكار الحسن والقبح العقليين، لأنّ كونه تعالى حكيماً ثابت بالنقل.

انوار الأصول، ج 1، ص: 247

نعم أنّه وارد على مقالة من يقول: بأنّ الجبر في أفعال الإنسان ينشأ من إرادة اللَّه تعالى ومشيّته الأزليّة، ولا تدفع قول من يرى أنّه ناشٍ من عوامل اخرى أمّا نفسانيّة ذاتيّة للإنسان كعامل الوراثة، أو خارجيّة عن ذاته كعامل الطبيعة والمجتمع إذا كانت قابلة للتغيير ولو جبراً.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمه الله أورد مسألة الجبر والاختيار في مبحث التجرّي أيضاً، ثمّ ذكر هذا الوجه تحت عنوان «إن قلت» وأنّه ما فائدة انزال الكتب وإرسال الرسل؟ وأجاب عنه بأنّ فائدة انزال الكتب وإرسال الرسل هو انتفاع من حسنت سريرته منها وتكامله بها، وإتمام الحجّة بالنسبة إلى من خبثت سريرته.

أقول: هذا البيان مثله من مثله بعيد جدّاً لأنّه لا معنى للانتفاع أو إتمام الحجّة بناءً على العلّية التامّة في مقام الذات، اللهمّ إلّاأن يقال إنّ مقصوده من العلّية إنّما هو الاقتضاء لا العلّية التامّة، ولكن هذا عدول عن ظاهر كلامه ومن يقول بمقالته ويحذو حذوه. هذا تمام الكلام في الأدلّة العقليّة لمذهبي الجبر والاختيار.

الأدلّة النقليّة على القول بالاختيار:

وأمّا الأدلّة النقليّة: من الآيات والرّوايات فهي كثيرة لكلّ من الطرفين، فالجبريّون استدلّوا بطوائف خمسة من الآيات التي تدلّ بظاهرها على أنّ الفاعل إنّما هو الباري تعالى فقط (ولعلّ من مناشى ء القول بالجبر هو ظاهر هذا القبيل من

الآيات مع الجمود على ظواهرها من دون ملاحظة سائر الآيات والقرائن العقليّة):

الطائفة الاولى: ما تدلّ على أنّه تعالى خالق لكلّ شي ء كقوله تعالى: «ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فَاعْبُدُوهُ» «1»

وقوله تعالى: «أَمْ جَعَلُوا للَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ» «2»

وقوله تعالى: «فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ» «3».

انوار الأصول، ج 1، ص: 248

والجواب عنها: أمّا الآيتان الأوّليان فالمراد من «كلّ شي ء» فيهما إنّما هو الذوات والأعيان الخارجيّة بقرينة أنّ الكلام فيهما وفيما قبلهما من الآيات إنّما هو في خلق السموات والأرض وبقرينة أوائل الآية الثانيّة وهو قوله تعالى: «قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَايَمْلِكُونَ لِانفُسِهِمْ نَفْعاً وَلَا ضَرّاً» فإنّه وارد في ما اتّخذوه شركاء للَّه تعالى وليست ناظرة إلى أفعال الإنسان كما لا يخفى.

وأمّا الآية الثالثة فهي أيضاً ناظرة إلى أوثانهم بما هي أوثان وذوات خارجيّة لا بما هي أعمال، والشاهد على ذلك قوله تعالى «ما تنحتون» فإنّ كلمة «ما» هنا موصولة لا مصدريّة، وبالجملة يستفاد من مجموع هذه القرائن أنّ هذا القبيل من الآيات منصرفة إلى الأعيان والذوات الخارجيّة، كما يشهد على ذلك كلمة «شي ء» حيث إنّها أيضاً تنصرف إلى خصوص الأعيان غالباً ولا يطلق على العمل.

هذا- ولو سلّمنا عموم هذه الآيات بالنسبة إلى الأفعال أيضاً، لكن قد عرفت أنّ إسناد العمل إلى اللَّه تعالى لا يمنع عن إسناده إلى الإنسان نفسه، لأنّ أحدهما في طول الآخر، وهو معنى الأمر بين الأمرين كما سيأتي تفصيلًا إن شاء اللَّه.

الطائفة الثانيّة: الآيات التي تدلّ على نفي المشيّة عن العبد نحو قوله تعالى: «وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ» «1».

والجواب عنها: أنّ مقتضى

مذهب الأمر بين الأمرين عدم استقلال مشيّة العبد عن مشيّة اللَّه تعالى وإن كانت إرادة العبد واختياره في طول ارادته وإنّ اللَّه أراد أن يختار العبد ويريد الفعل الفلاني كما سيأتي في توضيح الأمر بين الأمرين مزيد بحث لذلك، فمشيّة العبد حينئذ لا تنفكّ عن مشيّة اللَّه أبداً، وهذا لا ينافي الاختيار كما لا يخفى.

الطائفة الثالثة: الآيات التي تدلّ على نفي الفعل عن العباد كقوله تعالى: «فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى» «2».

ويمكن الجواب عنها بوجهين:

الجواب الأوّل: أنّ المراد منه نفي استقلال العبد في التأثير وكون الفاعل المستقلّ هو اللَّه انوار الأصول، ج 1، ص: 249

تعالى. وبعبارة اخرى: كما أنّ الوجود بالأصالة مختصّ بذاته تعالى، وغيره موجود بإرادته، فكذلك الأفعال الإنسانيّة منسوبة إلى اللَّه تعالى بالأصالة ومنسوبة إلى العباد بسبب أنّ اللَّه تعالى أعطاهم القدرة والاختيار والقوّة.

الجواب الثاني: أنّ هذا التعبير وارد في شأن غزوة بدر التي تختصّ بالامدادات الغيبية ونزول الملائكة حيث إنّ القتل إمّا أن يكون قد تحقق بأيدي الملائكة، فسلب القتل عن المقاتلين لا بأس به، وإمّا أن يكون قد صدر من المقاتلين مع نصرة من الملائكة فكذلك يمكن سلب القتل عنهم بهذا الاعتبار، أي لولا الامداد الغيبي ونصرة الملائكة لم تقدروا على شي ء، وحينئذ يصدق قوله تعالى: «وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ».

هذا بالنسبة إلى الفقرة الاولى، وأمّا الفقرة الثانيّة فالمراد منها أنّ تأثير الرمي كان من اللَّه تعالى، أي وما رميت إذ رميت رمياً مؤثّراً، والشاهد على هذا وجود إسنادين في الآية، فكما أنّه تعالى يسند الرمي إلى نفسه يسنده إلى رسوله أيضاً، وهذا يشهد على أنّ المقصود من الرمي الأوّل إنّما هو رمي التراب أو الحصى

ومن الرمي الثاني تأثيرها في قبض عيون الناظرين كما في الرّوايات «1»، وبالجملة الفقرتين كلتيهما تفسّران بالقرينة المقاميّة الموجودة في الآية.

الطائفة الرابعة: ما تدلّ على أنّ الإيمان والعمل بجعل اللَّه تعالى وبمساعدته نحو قوله تعالى:

«رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ» «2»

وقوله تعالى: «أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ» «3».

والجواب عنها أوضح من الجواب عن الطائفة السابقة عليها، فإنّها من قبيل التعبير الرائج بيننا من أنّ التوفيق بيد اللَّه، والتوفيق عبارة عن تهيئة أسباب الخير ومقدّمات العمل الصالح على حدّ الاقتضاء والاعداد لا العلّية التامّة كما لا يخفى، وأمّا المراد من كتابة الإيمان فهو إثبات انوار الأصول، ج 1، ص: 250

الإيمان واستقراره في القلب، والمستفاد من الآية بقرينة الآيات السابقة عليها أنّ الحبّ في اللَّه والبغض في اللَّه يوجب ثبوت الإيمان ورسوخه في القلب، فهو بمنزلة الجزاء والنتيجة لعمل اختياري صالح للإنسان، أي التولّي والتبرّي في اللَّه، فلا ينافي كونه اختياريّاً، فإنّ ما يكون بعض مقدّماته اختياريّاً اختياري.

الطائفة الخامسة: آيات الهداية والضلالة والتي تسندهما إلى اللَّه تعالى وهي كثيرة:

منها: قوله تعالى: «فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» «1».

ومنها: قوله تعالى: «وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ» «2».

ومنها: قوله تعالى: «مَنْ يَشَأْ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» «3».

ومنها: «إِنَّكَ لَاتَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ» «4».

ومنها: «فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً» «5».

والجواب عنها أيضاً واضح، ولكن قبل بيان الجواب الأصلي والمختار ننقل هنا ما قاله بعض الأعلام في مقام الجواب عنها، وهو أنّ الهداية على معانٍ ثلاثة:

المعنى الأوّل: أنّ الهداية بمعنى إرائة

الطريق ومنه قوله تعالى: «وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» «6».

المعنى الثاني: أنّها بمعنى الإيصال إلى المطلوب، ومنه ما مرّ آنفاً من قوله تعالى: «إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ» فإنّ ما على النبي صلى الله عليه و آله إنّما هو إرائة الطريق فقط لا الإيصال إلى المطلوب (والمراد من الإيصال اعداد المقدّمات والتوفيق الموصل إلى المقصود).

انوار الأصول، ج 1، ص: 251

الثالث أنّها بمعنى ترتّب الثواب على العمل، وتقابلها الضلالة بمعنى حبط الأعمال، ومنه قوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ» «1».

أقول: إن كان مراده تفسير الضلالة بالمعنى الأخير كما يظهر من بعض كلماته فهو واضح الإشكال، فإنّ كثيراً من آيات الضلالة لا تلائم هذا المعنى ولا دخل لها بمسألة الثواب والعقاب، وإن كان المراد إنّ كلًا من هذه المعاني الثلاثة للهداية تقابله الضلالة فهو حقّ لا ريب فيه، فإنّ كثيراً من آيات الضلالة بمعنى سلب التوفيق وعدم اعداد المقدّمات نحو المطلوب كما ذكره كثير من المحقّقين، وهذا أيضاً أمر اختياري، لأنّ التوفيق وكذا سلبه من قبل اللَّه لا يكون بلا دليل بل هو ناشٍ عن بعض أعمال الإنسان الحسنة أو السيّئة أو نيّاته وصفاته الحسنة والخبيثة.

والمختار في الجواب- عن مسألة الهداية والضلالة في القرآن- هو ما يستفاد من نفس الآيات الكريمة، تارةً: على نحو الإجمال واخرى: على نحو التفصيل:

فالجواب الإجمالي: ما جاء في ذيل بعض الآيات المزبورة (وهو قوله تعالى: «فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ») فإنّ قوله «وهو العزيز الحكيم» إشارة إجماليّة إلى أنّ مشيّة اللَّه وإرادته ضلالة بعض العباد وهداية بعض آخر تنشأ من حكمته وعزّته، فإنّ قدرته وعزّته متقاربة مع حكمته ومندرجة فيها، ومشيّته

ناشئة من كلتيهما معاً لا من القدرة فقط، فإذا علمنا بأنّ إرادته تنشأ من الحكمة فإضلاله أو هدايته مبنية على ما يصدر من العباد أنفسهم من الأعمال السيّئة أو الحسنة، وعلى أساس ما اكتسبوه من الاستحقاق أو عدم الاستحقاق للهداية والضلالة.

وأمّا الجواب التفصيلي: فهو ما تصرّح به كثير من الآيات من أنّ الهداية أو الضلالة تنشأ ممّا كسبته أيدي العباد وقدّمته أيديهم، فبالنسبة إلى الهداية نظير قوله تعالى:

1- «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا» «2».

2- «وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ» «3».

انوار الأصول، ج 1، ص: 252

3- «إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ» «1».

4- «قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ» «2».

5- «ذَلِكَ الْكِتَابُ لَارَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» «3».

والمراد من التقوى هنا ظاهراً هو حالة قبول الحقّ وعدم اللجاج.

وبالنسبة إلى الضلالة نظير قوله تعالى:

1- «يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ» «4».

2- «فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَايَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» «5».

3- «إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ» «6».

4- «إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ» «7».

5- «كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ» «8».

6- «إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ» «9».

فالمستفاد من الطائفة الأخيرة من الآيات أنّ أسباب الضلالة عبارة عن الفسق والظلم والكذب والكفر والاسراف والريب والاصرار على الكفر، وهي بأجمعها امور اختياريّة تصدر من الإنسان وتوجب سلب توفيقه وقدرته على الهداية، فيضلّ عن طريق الحقّ بسوء اختياره، ولا إشكال في أنّ الآيات المطلقة التي تسند الهداية أو الضلالة إلى اللَّه تعالى مطلقاً تقيّد بهذه الآيات طبقاً لقاعدة الإطلاق والتقييد وتفسّر بها، ويستنتج أنّ هدايته فيض من انوار الأصول، ج 1، ص:

253

جانبه يفاض على النفوس المستعدّة والقلوب المطهّرة بالأعمال الصالحة، كما أنّ الضلالة عبارة عن قطع الفيض والاستعداد والتوفيق عن النفوس غير المساعدة وذلك بسبب الأعمال السيّئة والنيّات الخبيثة الصادرة عنهم، فهذه الآيات مضافاً إلى أنّها غير دالّة على مذهب الجبر، ظاهرة بل كالصريحة في مذهب الاختيار، لأنّها بعد ضمّ بعضها إلى بعض تدلّ على أنّ الهداية والضلالة ناشئتان من الإنسان نفسه وإن كان ذلك بتسبيب إلهي من باب أنّ الأسباب تستمد قوتها من ساحته المقدّسة، ومن هنا تنسب المسبّبات إليه تعالى أيضاً حقيقة.

الآيات الدالّة بصراحتها على نفي الجبر:
اشارة

ثمّ إنّ هناك آيات كثيرة تدلّ على الاختيار بصراحتها أو ظهورها، وهي على طوائف عديدة:

الطائفة الاولى: ما ينطق بمذهب الاختيار بالصراحة: نحو قوله تعالى «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً» «1»

فإنّه يدلّ بوضوح على الاختيار خصوصاً بملاحظة ما قبله من الآية: «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً» «2»

(والمشيج بمعنى الخليط) فإنّه يستفاد منه أنّ الإنسان بحسب الفطرة مخلوط ومعجون من أسباب الهداية والضلالة ولذلك يكون في موقف الابتلاء والامتحان بإرائة الطريق وهداية السبيل، فهو إمّا يشكر فيهتدي، وإمّا يكفر فيضلّ. وهو مجموع ما يستفاد من الآيتين، ونحو قوله تعالى: «وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» «3».

وقوله تعالى: «إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا» «4».

وقوله تعالى: «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ» «5».

الطائفة الثانيّة: ما يدلّ على أنّ الإنسان رهين لأعماله، ولازمه كونه مختاراً وإلّا لا يكون مرتهناً بها:

انوار الأصول، ج 1، ص: 254

منها: قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» «1».

ومنها: قوله تعالى: «كُلُّ امْرِءٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ» «2».

ومنها: قوله تعالى: «لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ»

«3».

الطائفة الثالثة: ما يدلّ على حسرة أهل النار وتمنّيهم الرجوع إلى الدنيا لجبران ما فاتهم من الإيمان والأعمال الصالحة، فلو كانوا مضطرّين في أعمالهم لم ينفعهم الرجوع إلى الدنيا ولو ألف مرّة.

منها: قوله تعالى: «قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِي لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيَما تَرَكْتُ» «4».

ومنها قوله تعالى: «وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ» «5».

ومنها قوله تعالى: «لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الُمحْسِنِينَ» «6».

وكيف ينطق إنسان بذلك إذا لم ير نفسه مختارة؟

الطائفة الرابعة: جميع الآيات الدالّة على ترتّب الثواب والعقاب والمدح والذمّ والسؤال والعتاب على أعمال العباد، فإنّها مع القول بالجبر لا معنى لها ولا تكون مقبولة لدى العقل السليم بل تكون خطابات غير معقولة وكلمات مزوّرة باطلة (العياذ باللَّه).

الطائفة الخامسة: جميع الأوامر والنواهي الواردة في الكتاب الكريم الدالّة على تكليف الناس، فإنّ لازم مذهب الجبر خلوّها عن المغزى والمحتوى ولغويّة تبليغ الأنبياء وجميع معلّمي الأخلاق، لأنّها إمّا أن تكون تحصيلًا للحاصل أو تكليفاً بالمحال كما لا يخفى على أرباب النهى.

الطائفة السادسة: جميع الآيات الدالّة على الامتحان والاختيار كقوله تعالى: «أَحَسِبَ انوار الأصول، ج 1، ص: 255

النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَايُفْتَنُونَ» «1».

الطائفة السابعة: مجموع الآيات الدالّة على إسناد الأفعال إلى العباد حقيقة وهي كثيرة جدّاً كقوله تعالى: «الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ» فإنّ نسبة إيجاد الوسوسة في صدور الناس إلى الجنّ والانس دليل على أنّها مستندة إليهم حقيقة لا مجازاً، والقرآن مشحون بمثل هذه الآيات.

وبها نجيب عن طائفة من الجبريين الذين يقولون: بأنّ إسناد الأفعال إلى العباد في الآيات الكريمة إسناد مجازي وإنّ عادة الباري تعالى جرت على أعمال إرادته عند إرادة الإنسان وإنّ العلّة التامّة إنّما

هو إرادة اللَّه فقط، فإنّ هذا ينافي ظهور هذه الإسنادات بكثرتها في الحقيقة، فإنّ حملها كلّها على المجاز مجازفة جدّاً.

إلى هنا تمّ الكلام في الأدلّة النقليّة والعقليّة الدالّة على نفي الجبر والتفويض.

بقي هنا امور:

الأوّل: في مسألة الأمر بين الأمرين

وهو مذهب أهل بيت العصمة الذين لا يزالون يدعون إليه في مقابل مذهبي الجبر والتفويض، وقد وردت من جانبهم في هذا المجال روايات كثيرة في الجوامع المعتبرة للحديث، وحيث إنّ بعض القائلين بهذا المذهب انسحب بالمآل إلى مذهب الجبر كمن يقول: بأنّ العلّة النهائيّة في إرادات الإنسان إنّما هي حسن سريرته أو سوئها، كما أنّ بعضاً آخر انجرّ إلى مذهب التفويض كذلك، فلابدّ أوّلًا من تفسير الأمر بين الأمرين وبيان حقيقته ثمّ إيراد جملة من تلك الرّوايات المأثورة عنهم عليهم السلام.

فنقول: إنّ «الأمر بين الأمرين» عبارة عن الجمع بين الأصلين: التوحيد الأفعالي (أي فاعليته تعالى في الأفعال كلّها) والعدالة، فإنّ حقيقة هذا المذهب أنه لا يخرج الباري تعالى عن انوار الأصول، ج 1، ص: 256

سلطانه المطلق في جميع الأشياء حتّى في الأفعال الاختياريّة للإنسان، هذا من جانب، ومن جانب آخر لا يتّهمه بإجباره العباد على المعاصي ثمّ أخذهم بالعذاب.

وقد ورد عن أبي بصير عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «من زعم أنّ اللَّه يأمر بالفحشاء فقد كذب على اللَّه ومن زعم أنّ الخير والشرّ إليه فقد كذب على اللَّه» «1».

وعن هشام بن سالم عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «اللَّه أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون واللَّه أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد» «2».

فلا يخفى أنّه جمع في هذين الخبرين بين عدالته تعالى وعدم ظلمه على العباد بإجبارهم وتكليفهم بما لا يطيقون ولا يقدرون على إتيانه أو

على تركه وبين سلطانه وتوحيده في جميع الأفعال.

وعن اسماعيل بن جابر قال: كان في مسجد المدينة رجل يتكلّم في القدر والناس مجتمعون قال: فقلت ياهذا أسألك؟ قال: سل قلت: قد يكون في ملك اللَّه تعالى ما لا يريد؟ قال: فأطرق طويلًا ثمّ رفع رأسه إليّ فقال: يا هذا لئن قلت أنّه يكون في ملكه ما لا يريد أنّه لمقهور، ولئن قلت لا يكون في ملكه إلّاما يريد أقررت لك بالمعاصي قال: فقلت لأبي عبداللَّه عليه السلام سألت هذا القدري فكان من جوابه كذا وكذا، فقال: «لنفسه نظر أمّا لو قال غير ما قال لهلك» «3»

، (والمراد منه أنّه بسبب هذا الجواب أنجى نفسه من هلكة الكفر والعذاب لأنّ كلّ واحد من الأمرين الجبر والتفويض ينتهي إلى الكفر أحدهما يوجب سلب العدالة عنه تعالى عن ذلك وثانيهما يوجب الشرك في الأفعال).

فقد ظهر لك أنّ معنى الأمر بين الأمرين أنّ أفعال العباد تكون باختيارهم وإرادتهم ولذلك يكونون مسؤولين ويجزون بالثواب أو العقاب في مقابل طاعتهم أو معصيتهم، ولكن في نفس الوقت ومن جانب آخر تستند أفعالهم إلى الباري تعالى حقيقة لأنّ اختيارهم من جانب اللَّه وتفاض إرادتهم من ناحيته تعالى إليهم في كلّ لحظة لحظة وهو القيّوم عليهم وعلى أفعالهم وجميع الأشياء، وليس شي ء منها خارجاً عن سلطانه وسطوته، فاختيار الإنسان وإرادته ينشأ من اختياره تعالى الذي أفاضه عليه وحيث إنّ أفعال الإنسان الاختياريّة ناشئة من انوار الأصول، ج 1، ص: 257

اختياره وإرادته تعالى فهي ناشئة حقيقة من اختيار اللَّه وإرادته، لأنّ إرادة الملزوم لا تنفكّ عن إرادة اللازم، فهذا هو الأمر بين الأمرين.

فهو كما ذكره بعض الأعلام نظير ما إذا فرضنا أنّ يد العبد مشلولة لا يتمكّن

من تحريكها إلّا مع إيصال الحرارة إليها بالقوّة الكهربائيّة، فأوصل المولى القوّة إليها بوساطة سلك الكهرباء الذي يكون زرّه بيد المولى فقام العبد باختياره بفعل حسن أو قبيح، والمولى كان يعلم بذلك فحينئذ يكون الفعل اختياريّاً للعبد ويستند إليه حقيقة لأنّه صدر منه باختياره، ويستند إلى مولاه أيضاً حقيقة لأنّ السلك بيد المولى وهو الذي يعطي القوّة للعبد آناً فآناً.

نعم ما يستند إلى العبد إنّما هو نسبة المسؤوليّة، وما يستند إلى المولى إنّما هو نسبة الخالقية كما لا يخفى.

الثاني: دوافع القول بالجبر

وهي على ثلاثة أنواع: فلسفية، روحية (نفسانيّة)، سياسيّة.

أمّا الأسباب الفلسفية فهي امور:

1- ملاحظة تفاوت الأشخاص من حيث الذاتيات والاستعدادات، فبعضهم ذو سريرة حسنة ولبعضهم الآخر سريرة سيّئة خبيثة من أوّل الأمر وقبل التأثّر بتربية مربّ وتعليم معلّم من الخارج.

2- ملاحظة تأثير المحيط والعائلة، فالذين تولّدوا في محيط طيّب وعائلة طيّبة لهم روحيات وصفات طيّبة أيضاً في الغالب، وبخلاف الذين تولّدوا ونشأوا في محيط سيّى ء أو عائلة غير أصيلة فلهم خلقيات وضيعة دنيئة غالباً.

3- الانغمار في مسألة التوحيد الأفعالي وتوهّم أنّه لا يلائم فاعلية غير اللَّه تعالى في أفعاله.

4- عدم القدرة على حلّ مشكلة الإرادة وكيفية جريان قاعدة «الشي ء ما لم يجب لم يوجد» مع القول بالاختيار وعدم الجبر، فهذه الامور جميعاً أو شتاتاً صوّرت أنّ الحقّ مع مذهب الجبر، غفلوا عن أنّ تأثير النفسانيات أو المحيط والمجتمع إنّما هي على حدّ الاقتضاء والعلّية الناقصة، فربّ إنسان له سريرة حسنة لكن بسوء اختياره يهوى إلى النار، وربّ إنسان له سريرة سيّئة ينجو بحسن اختياره ويعمل على تحسين سريرته وخلقياته ويكون من أهل الجنّة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 258

وكذلك الذين يعيشون في المجتمعات الصالحة أو الفاسدة، فليس شي ء من

ذلك علّة تامّة للسعادة والشقاوة والطاعة والمعصية بل الجزء الأخير هو إرادة الإنسان.

وكذلك قبول التوحيد بأقصى مراتبه لا ينافي القول بالاختيار كما عرفت تفصيل الكلام فيه ولا حاجة إلى مزيد توضيح أو تكرار.

وأمّا السبب الروحي والنفساني فهو ما يحاوله الإنسان عند الفشل والهزيمة من سلب المسؤوليّة عن نفسه وإسناد العلّة والسبب إلى أمر آخر جبري فيقول: «إنّي سيّى ء الحظّ» مثلًا أو يقول: «فلان حسن الحظّ» وهكذا الحال في تبريره لسلوكه الشائن وأفعاله الشريرة من أجل التخلّص من الضغط الروحي والملامات الوجدانيّة فيقول: «أراد اللَّه هكذا ولم يكن فعلي تحت اختياري وإرادتي، بل كان مقدّراً من قبل، ولا يمكن الفرار عن تقديره تعالى» أو «لا يمكن الفرار عن جبر المحيط والداوفع» إلى غير ذلك، كما يشاهد في كثير من المسجونين الذين سجنوا بما قدّمت أيديهم من المآثم والكبائر.

وأمّا الأسباب السياسيّة فهي ما ينطق به تاريخ البشريّة من الاساليب المضلّلة لحكومات الجور وقوى الانحراف في طرح مسألة الجبر والقضاء والقدر لتوجيه تحكّماتهم وجناياتهم وبغرض تسليم الناس في مقابل رغباتهم الشرّيرة ولتخدير أفكارهم والتقدّم في مقاصدهم الخبيثة، كما نسب في التاريخ إلى جنود المغول وكما جاء في كلمات بعض الأعاظم «أنّ الجبر والتشبيه امويان والعدل والتوحيد (أو التوحيد والتنزيه) علويّان» ومعناه أنّ بني اميّة كانوا ينشرون مذهب الجبر لتوجيه جناياتهم.

الثالث: في معنى السعيد سعيد في بطن امّه ...

أمّا ما استند به المحقّق الخراساني رحمه الله من الحديثين (حديث: «السعيد سعيد في بطن امّه والشقي شقي في بطن امّه» وحديث «الناس معادن كمعادن المذهب والفضّة»).

وهما ممّا ورد في منابع الفريقين، فأمّا الرّواية الاولى فقد رواها الكناني عن الصادق عليه السلام قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «الشقي من شقى في بطن امّه الخبر»

«1»

، ومن طريق العامّة «2» رواها

انوار الأصول، ج 1، ص: 259

عبداللَّه بن عمر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بنفس التعبير.

وأمّا الرّواية الثانيّة فقد رواها الكليني رحمه الله عن سهل عن بكر بن صالح رفعه عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة فمن كان له في الجاهلية أصل فله في الإسلام أصل» «1».

كما أنّها رويت أيضاً من طريق العامّة «2» عن أبي هريرة عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بتقديم الفضّة على الذهب. وكيف كان يمكن تفسير مجموع الحديثين بوجهين:

الوجه الأوّل: حمل قوله صلى الله عليه و آله «السعيد سعيد في بطن امّه والشقي شقي في بطن امّه» على علم الباري تعالى بأنّه سيكون كذلك كما فسّره المعصوم عليه السلام بذلك في رواية اخرى رواها ابن أبي عمير قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام عن معنى قول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «الشقي من شقى في بطن امّه والسعيد من سعد في بطن امّه» فقال: «الشقي من علم اللَّه وهو في بطن امّه أنّه سيعمل أعمال الأشقياء، والسعيد من علم اللَّه وهو في بطن امّه أنّه سيعمل أعمال السعداء ... الحديث» «3»

، فلا إشكال في أنّ الحديث بهذا المعنى يخرج عن ظاهره ولا ينافي اختيار الإنسان في أعماله كما لا يخفى.

الوجه الثاني: ما ينطبق على كلا الحديثين وهو الحمل على اختلاف الاستعدادات والمقتضيات الذاتيّة للأفراد، والروايتان كلتاهما تعبّران عن أنّ الناس يختلفون من ناحية الاستعداد الذاتي للطاعة أو العصيان، فبعضهم قريب إلى الطاعة في ذاته وبعض آخر قريب إلى المعصية كذلك، لكن لا على حدّ الإلزام والعلّة التامّة بل على حدّ الاقتضاء، نظير

ما نشاهده من اختلاف الأفراد في استعدادهم للصيام مثلًا فبعضهم يجد في نفسه استعداداً للصوم أكثر من الآخر، إلّاأنّ هذا لا يعنى أنّه مجبور على الصّيام وأنّ الآخر مجبور على تركه، وهكذا في الامور العارضة على الذات كالتفاوت الجغرافي واختلاف المناطق في الحرارة الجويّة في المناطق الحارّة أو الباردة أو لجهة شغلية كالتفاوت الموجود بين الخبّاز والبقّال بالنسبة إلى انوار الأصول، ج 1، ص: 260

الصّيام في شهر رمضان، والحاصل أنّ صاحب الاستعداد القوي للصيام وكذا من يعيش في المناطق الباردة مثلًا يكون أقرب إلى طاعة اللَّه من غيره وبهذه المناسبة يعدّ أقرب إلى السعادة من غيره من دون أن يكون ذلك علّة تامّة للطاعة أو المعصية.

إن قلت: سلّمنا، ولكن أليس هذا الاختلاف بهذا المقدار مخالفاً للعدالة؟

قلنا: قد اجيب عن هذه الشبهة في لسان الرّوايات الواردة عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام ببيان واضح وهو «إنّ أفضل الأعمال أحمزها». «1»

وتوضيحه: أنّ التفاوت هذا إنّما يستلزم عدم العدالة فيما إذا لم تلاحظ تلك الخصوصيّة الذاتيّة أو العرضيّة في ميزان الأعمال وترتّب الثواب والعقاب مع أنّه لا ريب في دخلها في ميزان الأعمال، فيكون أفضل الأعمال أحمزها وتلاحظ النسبة الموجودة بين الاستعداد والعمل، فمن كان له استعداد أكثر وفرض أفضل للطاعة والعمل الصالح يطلب منه عمل أوفر وحصيلة أكثر، ومن كان بعكس ذلك ولديه استعداد أشدّ للمعصية ينتظر منه عمل أقلّ وحصيلة أخفّ ولا ريب أنّ صلاة جار المسجد في المسجد لا تعادل في الفضيلة مع صلاة من يكون بعيداً منه، وعين هذا الكلام يجري في الاختلافات الذاتيّة وتفاوت الاستعدادات الخلقية.

الكلام في القضاء والقدر:

وحيث انتهى الكلام إلى مسألة الجبر والاختيار ينبغي أن نتكلّم بكلام موجز عن مسألة القضاء والقدر التي هي من

أهمّ المسائل كتاباً وسنّة وعقلًا لما بينهما من الصلة الوثيقة، وقد ورد الكلام في القضاء والقدر في الأخبار المأثورة عن أئمّتنا عليهم السلام «2».

ولا بدّ قبل بيان المختار في أصل المسألة من تقديم امور:

الأمر الأوّل: في أنّه ما الفرق بين المسألتين: مسألة الجبر والاختيار ومسألة القضاء والقدر؟

انوار الأصول، ج 1، ص: 261

تفترق مسألة القضاء والقدر عن مسألة الجبر والاختيار في أمرين:

أحدهما: أنّ الاولى أعمّ من الثانيّة من ناحية سعة شمولها لأعمال العباد وغيرهم فإنّ القضاء والقدر جاريان في جميع الكائنات بخلاف مسألة الجبر والاختيار فإنّها مطروحة في مجال أعمال الإنسان فقط.

ثانيهما: أنّ المسألة الاولى بلحاظ انتساب الأفعال إلى اللَّه تعالى والمسألة الثانيّة بلحاظ انتساب الأفعال إلى العباد أنفسهم كما لا يخفى. ولكن مع ذلك فإنّ بينهما قرابة شديدة وربط وثيق وإنّ أدلّة المسألتين متقاربة جدّاً.

الأمر الثاني: أنّ القضاء والقدر في لسان الفلاسفة يأتي على معنيين:

أحدهما: القضاء والقدر العلميين، بمعنى أنّ القضاء عبارة عن العلم الإجمالي للباري تعالى بجميع الموجودات وهو عين ذاته تعالى، وأمّا القدر فهو علمه التفصيلي بجميع الموجودات وهو عين ذات الموجودات نفسها.

ثانيهما: القضاء والقدر العمليين التكوينيين، بمعنى أنّ القضاء هو خلق الصادر الأوّل الذي يتضمّن جميع الموجودات واندرج فيه العالم بتمامه، والقدر عبارة عن إيجاد الموجودات المتكثّرة، ولا يخفى ما فيه من الإشكال في المباني.

الأمر الثالث: في معنى القضاء والقدر في اللّغة وفي لسان الآيات.

ففي مفردات الراغب: «القضاء فصل الأمر، قولًا كان ذلك (مثل قول القاضي) أو فعلًا (نحو قوله تعالى فقضاهنّ سبع سموات) وكلّ واحد منهما على وجهين: إلهي وبشري ... إلى أن قال في مقام بيان الفرق بين القضاء والقدر: والقضاء من اللَّه أخصّ من القدر لأنّه الفصل بعد التقدير، فالقدر

هو التقدير والقضاء هو الفصل بعد التقدير».

وأمّا المستفاد من موارد استعمالها في القرآن فهو أنّ القضاء هو الحكم القطعي الإلزامي تكوينياً كان أو تشريعيّاً، فالتكويني منه نظير ما جاء في قوله تعالى: «إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» «1»

والتشريعي ما جاء في قوله تعالى: «وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً» «2»

، وأمّا القدر فهو بمعنى تعيين المقدار إمّا تكويناً نحو قوله تعالى: «وَإِنْ انوار الأصول، ج 1، ص: 262

مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ» «1»

ونحو قوله تعالى: «وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ» «2»

، أو تشريعاً نحو قوله تعالى: «عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ» «3»

الذي ورد في تعيين وتحديد تكليف المعسر والموسع في متعة المطلّقات اللاتي لم يفرض لهنّ المهر.

والمختار في المقام الذي يلائم المعنى اللغوي وظواهر الآيات والرّوايات هو أنّ القضاء والقدر على نحوين: تشريعي وتكويني، والمراد من القضاء التشريعي هو مطلق الواجبات والمحرّمات التي أمر المكلّف بإتيانها أو نهى عن ارتكابها، ومن القدر التشريعي هو مقدار هذه الواجبات والمحرّمات وحدودها ومشخّصاتها، فمثلًا أصل وجوب الصّلاة قضاء اللَّه، ووجوب إتيانها سبع عشرة ركعات في الأوقات الخمسة قدره، وهكذا بالنسبة إلى الزّكاة والصّيام والحجّ وسائر التكاليف، ومن أوضح الشواهد على هذا المعنى وأتقنها ما مرّ من بيان المولى أمير المؤمنين عليه السلام حينما كان جالساً بالكوفة منصرفاً من صفّين وهو حديث طويل يشتمل على فوائد جمّة، وقد ورد في ذيله: «ثمّ تلا عليه: «وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» ولا إشكال في أنّ المراد من القضاء في هذه الآية إنّما هو القضاء التشريعي.

وأمّا المراد من القضاء والقدر التكوينيين فهو نفس قانون العلّية وإنّ كلّ شي ء يوجد في عالم

الوجود وكلّ حادث يتحقّق في الخارج يحتاج إلى علّة في أصل وجوده (وهو القضاء)، وفي تقديره وتعيين خصوصّياته (وهو القدر) فمثلًا إذا انكسر زجاج بحجر فأصل الانكسار هو القضاء، أي عدم تحقّقه بدون العلّة، وأمّا مقدار الانكسار المناسب لقدر الحجر وشدّة الاصابة فهو القدر.

لا يقال: «لو كان الأمر كذلك أي كانت جميع الكائنات محكومة لقانون العلّية والقضاء والقدر التكوينيين لزم أن تكون أفعال العباد أيضاً محكومة لهذا القانون ويلزم منه الجبر» لأنّه قد مرّ سابقاً أنّ من قضاء اللَّه التكويني وقدره صدور أفعال العباد من محض اختيارهم وإرادتهم وأنّ الجزء الأخير للعلّة التامّة فيها إنّما هو اختيار الإنسان الذي قضى اللَّه عليه وقدره في وجوده، ولذلك قلنا: أنّ إسناد الفعل إلى الإنسان حقيقي كما أنّ إسناده إلى اللَّه تعالى في نفس الوقت حقيقي أيضاً.

انوار الأصول، ج 1، ص: 263

والشاهد على ذلك ما هو المعروف من رواية ابن نباتة قال: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر فقيل له: ياأمير المؤمنين، تفرّ من قضاء اللَّه؟ قال: «أفرّ من قضاء اللَّه إلى قدر اللَّه عزّوجلّ» «1».

فإنّه على كلا تفسيريه شاهد لما قلناه، فإن كان المراد منه القضاء والقدر التكوينيين فمعناه أنّي أفرّ من قضاء اللَّه التكويني (وهو أصل سقوط الحائط المائل على الإنسان الموجب للجرح أو القتل) إلى قدره التكويني وهو أنّ الحائط المائل يوجب قتل الإنسان أو جرحه فيما إذا لم يعمل الإنسان اختياره ولم يفرّ منه بإرادته، فإنّ أصل إيجاب الحائط المائل بعد سقوطه قتل الإنسان من قضاء اللَّه، ولكن هذا القضاء مقدّر ومشروط بعدم إعمال الإنسان اختياره وإرادته وبعدم عدوله وفراره منه إلى مكان آخر.

وإن كان المراد منه القضاء

التكويني والقدر التشريعي فمعناه أنّ موت الإنسان بالحائط المائل وإن كان بقضاء اللَّه وإرادته ولكنّه تعالى أمر الإنسان تشريعاً بالعدول والفرار، فكما أنّ موت الإنسان بالحائط من قضاء اللَّه التكويني يكون فرار الإنسان منه أيضاً من قدره التشريعي.

ولا يخفى أنّ الحديث على كلا المعنيين أصدق شاهد على أنّ شمول قانون العلّية لجميع الأشياء التي منها أفعال الإنسان الاختياريّة لا ينافي اختياره وإرادته.

إلى هنا تمّ الكلام في المقام الأوّل من «الجهة الاولى» من البحث في معنى الأمر.

المقام الثاني: في صيغة الأمر:
اشارة

ويبحث فيها في أمرين:

الأمر الأوّل: في مفادها في الجملة

لا إشكال في أنّها وضعت للطلب الإنشائي وبتعبير المحقّق الخراساني رحمه الله لانشاء الطلب،

انوار الأصول، ج 1، ص: 264

وعلى تعبير بعض الأعاظم لنفس البعث والاغراء (فإنّها تعابير مختلفة والمقصود واحد) فإنّه تارةً يطلب الإنسان شيئاً بنفسه مباشرة فيتحرّك نحو الماء مثلًا لرفع العطش بنفسه، واخرى يطلبه بالتسبيب، والثاني على قسمين: تارةً يحرّك الإنسان الشخص المأمور نحو المأمور به بحركة تكوينيّة فيبعثه نحو العمل بعثاً خارجياً ويدفعه بقوّة يده مثلًا، واخرى يحرّكه ويبعثه نحو العمل بإبراز إرادته وطلبه النفساني بلفظ خاصّ، ومن الألفاظ التي يستعملها الإنسان في القسم الثاني صيغة الأمر فإنّها لفظ ينشأ بها الطلب، ويتوسّل به إلى مطلوبه.

ثمّ إنّ دواعي هذا البعث والإنشاء مختلفة: فتارةً يكون الداعي فيه الإيجاد في الخارج جدّاً، فيكون الطلب طلباً جدّياً، واخرى لا يكون بداعي الجدّ بل بداعي الهزل أو التحقير أو التعجيز أو التهديد أو التمنّي أو الترجّي، ولكنّه لا يوجب الاختلاف في المستعمل فيه بل إنّه في جميع هذه الموارد واحد، وهو البعث والطلب، والتفاوت إنّما هو في الداعي فحسب.

فقولك: أقم الصّلاة، لا يختلف عن قولك «اعمل ما شئت»! في أنّ المستعمل في كليهما هو الطلب الإنشائي، والفرق بينهما إنّما هو في أنّ الداعي لقولك الأوّل إنّما هو الجدّ وإيجاد العمل في الخارج حقيقة، وفي الثاني التهديد وإيجاد الخوف الرادع العمل، وهذا ممّا يشهد عليه الوجدان ويعضده التبادر، وحينئذ يكون الاستعمال في جميعها حقيقيّاً ولا مجاز في البين أصلًا.

الأمر الثاني: في دلالتها على الوجوب

لا ينبغي الإشكال في أنّه إذا اجاءت صيغة الأمر مطلقة وبدون القرينة فانّه يفهم منها الوجوب كما عليه سيرة الفقهاء في الفقه في مقام العمل والاستنباط فإنّهم يعدّون صيغة الأمر حجّة على الوجوب إذا استعملت في الكلام مجرّدة عن

القرينة، وعليه بناء العقلاء عموماً في أوامر الموالي إلى من تحت حكمهم، إنّما الكلام والإشكال في منشأ هذا الظهور وهذه الدلالة، وفيه أربع احتمالات:

الاحتمال الأوّل: ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية، فإنّه أسندها إلى التبادر وقال: لا يبعد تبادر الوجوب عند استعمالها بلا قرينة.

ولكن اشكاله واضح فإنّه يستلزم المجاز عند استعمال الصيغة في الندب، مع أنّ الوجدان يحكم بخلافه، فإنّا لا نرى في استعمالها في الندب عناية ولا رعاية علاقة من علاقات المجاز

انوار الأصول، ج 1، ص: 265

(بناءً على القول بها) ففي قول المولى تعالى «أحسن كما أحسن اللَّه إليك» أو قوله تعالى:

«وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ» (بناءً على استحباب الكتابة في الدَين كما هو المشهور والمعروف) لا يصحّ سلب معنى الأمر منهما وجداناً، فلا يصحّ أن يقال أنّه ليس بأمر مع أنّ المجازيّة تستلزم صحّة السلب كما لا يخفى.

الاحتمال الثاني: ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله وهو «أنّ الوجوب إنّما يكون حكماً عقليّاً ومعناه أنّ العبد لا بدّ أن ينبعث عن بعث المولى إلّاأن يرد منه الترخيص بعد ما كان المولى قد أعمل ما كان من وظيفته وأظهر وبعث وقال مولويّاً «افعل» وليس وظيفة المولى أكثر من ذلك، وبعد إعمال المولى وظيفته تصل النوبة إلى حكم العقل من لزوم انبعاث العبد عن بعث المولى، ولا نعني بالوجوب سوى ذلك» «1».

والإنصاف عدم تماميته أيضاً، لأنّ حكم العقل بوجوب الانبعاث في مقابل مطلق بعث المولى أوّل الكلام، بل أنّ وجوبه أو استحبابه متفرّع على كيفية إرادته واستعماله لصيغة الأمر، فإن استعملها في الوجوب يحكم العقل بوجوب الانبعاث وإن استعملها في الندب يحكم العقل باستحباب الانبعاث، فوجوب الإطاعة والعمل على وفق مراد المولى مسلّم، إنّما

الكلام في مراد المولى من أمره.

الاحتمال الثالث: ما ذكر في تهذيب الاصول، وهو «أنّها كاشفة عن الإرادة الحتمية الوجوبيّة كشفاً عقلائيّاً ككاشفية الأمارات العقلائيّة، ويمكن أن يقال أنّها وإن لم تكن كاشفة عن الإرادة الحتمية إلّاأنّها حجّة بحكم العقل والعقلاء على الوجوب حتّى يظهر خلافه» «2».

أقول: كلا الوجهين قابلان للمناقشة جدّاً، لأنّه لا حجّة للعقلاء في باب الألفاظ إلّامن طريق الدلالة حيث إنّه لا معنى لأماريّة الألفاظ إلّامن ناحية دلالتها على معنى، والبناءات العقلائيّة والحجج المعتبرة عندهم في باب الألفاظ لها مجارٍ خاصّة، فهي إمّا أن تكون من باب الوضع أو من باب مقدّمات الحكمة أو القرينة، وإذاً لا بدّ من تعيين أحد هذه الطرق حتّى نعيّن كيفية الدلالة ومنشأها.

والحاصل: أنّ بناء العقلاء على الوجوب فرع دلالة هذا اللفظ عليه بأحد أنحاء الدلالة،

انوار الأصول، ج 1، ص: 266

وبدونها لا معنى لبنائهم على الوجوب.

الاحتمال الرابع: ما أفاده المحقّق العراقي رحمه الله وهو نفس ما ذهب إليه في المقام الأوّل، أي في مبحث مادّة الأمر من أنّ دلالتها على الوجوب إنّما تنشأ من قضيّة الإطلاق ومقدّمات الحكمة ببيانين:

أحدهما: أنّ الطلب الوجوبي لمّا كان أكمل بالنسبة إلى الطلب الاستحبابي فلا جرم أن كان مقتضى الإطلاق عند الدوران هو الحمل على الطلب الوجوبي إذ الطلب الاستحبابي باعتبار ما فيه من النقص يحتاج إلى نحو تحديد وتقييد.

ثانيهما: أنّ الأمر بعد أن كان فيه اقتضاء لوجود متعلّقه في الخارج (ولو باعتبار منشئيته للحكم بلزوم الإطاعة والامتثال) يكون اقتضاؤه تارةً بنحو يوجب مجرّد خروج العمل عن اللااقتضائيّة بحيث كان حكم العقل بالإيجاد من جهة الرغبة لما يترتّب عليه من الأجر والثواب فحسب، واخرى يكون اقتضاؤه لتحريك العبد بالإيجاد بنحو أتمّ بحيث يوجب سدّ

باب عدمه حتّى من طرف العقوبة على المخالفة علاوة عمّا يترتّب على إيجاده من المثوبة الموعودة، وفي مثل ذلك. نقول: إنّ قضيّة إطلاق الأمر يقتضي كونه على النحو الثاني لأنّ النحو الأوّل فيه جهة نقص فيحتاج إرادته إلى مؤونة بيان «1». (انتهى مع تلخيص في عبارته).

أقول: أمّا بيانه الأوّل ففيه: أنّ غاية ما يقتضيه هو كون الطلب ذا مراتب: خفيفة وهي الاستحباب، وشديدة وهي الوجوب، كما أنّ الوجوب أو الاستحباب أيضاً ذا مراتب كثيرة، ومجرّد ذلك لا يوجب انصراف الطلب إلى أحدها دون الآخر كما أنّ النور ذو مراتب مختلفة ولا يكون إطلاقه منصرفاً إلى بعض أفراده وهو النور الشديد، بل كلّ واحد يحتاج إلى البيان فإنّ كلّ واحد له حدّ.

وأمّا بيانه الثاني: فإن كان المراد منه الانصراف إلى الفرد الأكمل فهو أيضاً قابل للمناقشة، لأنّ الانصراف إلى الفرد الأكمل ممّا لا دليل عليه، فلذا لا ينصرف «العالم» إلى أعلم العلماء، وإن كان المراد ما ذكرناه في مادّة الأمر فهو حقّ لا ريب فيه.

توضيح ذلك: أنّ صيغة الأمر تدعو إلى إيجاد الفعل في الخارج من دون أن يتطرّق إليه انوار الأصول، ج 1، ص: 267

الترك، أي إن طبيعة الطلب لا يتطرّق إليها الاذن بالترك فهي بظاهرها تقتضي الانبعاث، ولا سبيل لعدم الانبعاث إليها ما لم يصرّح الآمر المولى بالترخيص فتنصرف حينئذٍ إلى الوجوب واللزوم، ويشهد على ذلك عدم قبول اعتذار العبد بأنّي كنت أحتمل الندب، بل يقال له «إذا قيل لك افعل فافعل».

فظهر أنّ منشأ انصراف صيغة الأمر إلى الوجوب ودلالتها عليه إنّما هو طبيعة الطلب الظاهرة في سدّ جميع أبواب العدم (عدم الطلب) فيها، وإن هو إلّانظير الدفع باليد نحو الخروج فإذا دفعت إنساناً بيدك

نحو الخروج لا مجال فيه لاحتمال استحبابه، وكذا البعث بصيغة الأمر (اخرج) فإنّه شبيه البعث التكويني، أي الدفع باليد، ولا فرق في هذا الظهور بين كون الطلب من العالي أو المساوي أو الداني، نعم بينها فرق في وجوب الإطاعة وعدمه، وهذا بحث كلامي لا دخل له بما نحن فيه من البحث اللّفظي.

إن قلت: أيّة ثمرة تترتّب على هذا البحث، مع العلم بأنّ المستفاد من صيغة الأمر هو الوجوب على جميع هذا الأقوال ومن أيّ منشأ كان.

قلنا: إنّ ثمرة هذا البحث تظهر فيما إذا علمنا بعدم كون المتكلّم في مقام البيان حيث تدلّ صيغة الأمر حينئذ على الوجوب بناءً على كونها من باب الوضع ولا تدلّ عليه بناءً على كونها من باب الإطلاق ومقدّمات الحكمة فإنّ من المقدّمات كون المتكلّم في مقام البيان، إلى غير ذلك.

هذا كلّه في الفصل الأوّل من الفصول التي يبحث عنها في مبحث الأوامر.

الفصل الثاني: الجمل الخبريّة

لا إشكال في أنّه كثيراً ما تستعمل الجملة الخبريّة موضع الإنشاء ويراد منها الطلب نحو قوله تعالى: «وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ» وقوله تعالى: «وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ» وقد ورد مثل هذا الطلب في روايات كثيرة أيضاً بل لعلّ أكثر الأوامر الواردة فيها يكون من هذا النوع نظير قوله عليه السلام «يعيد صلاته» مكان قوله: «ليعد صلاته» أو قوله عليه السلام «يغتسل» أو «يسجد سجدتي السهو» إلى غير ذلك، كما تستعمل في أكثر الموارد بصورة فعل المضارع والجملة الفعليّة، وقليلًا ما تكون على هيئة الجملة الاسمية، وكيف كان فالبحث يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في أنّه كيف يمكن استعمال الجملة الخبريّة وإرادة الإنشاء منها، فهل هو حقيقة أو مجاز أو كناية؟

المقام الثاني: في أنّها هل تدلّ على الوجوب أو لا؟

أمّا

المقام الأوّل فالأقوال فيه ثلاثة:

1- أنّه مجاز لاستعمال الجملة الخبريّة التي وضعت للأخبار في غير ما وضعت له.

ولكنّه بعيد جدّاً، لأنّ المجاز لا بدّ فيه من علاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، ومن الواضح أنّه لا علاقة بين الإخبار والإنشاء.

2- ما مرّ من بعض الأعلام في المعاني الحرفيّة بالنسبة إلى الجمل الخبريّة من أنّها تدلّ على النسبة الايقاعيّة الإيجاديّة، إلّاأنّ إيجاد النسبة وايقاعها قد يكون بداعي الحكاية والإخبار كما في الجمل الخبريّة التي تصدر من المتكلّم للاخبار، وقد يكون بداعي البعث والطلب كما في ما نحن فيه، فالجملة حينئذٍ استعملت في ما وضعت له، فلا مجاز ولا حاجة إلى قرينة المجاز، إلّإ

انوار الأصول، ج 1، ص: 270

أنّ الدواعي حيث كانت مختلفة فتارةً يوقع المتكلم النسبة بداعي الإخبار والحكاية، واخرى يوقعها بداعي الطلب والإنشاء، أي أنّ لها فردين من النسبة فلابدّ من قيام قرينة لتعيين أحد الفردين.

وربّما يستشهد لكونها ايقاعيّة أنّها توجب السرور أو الكراهة في نفس المخاطب فإنّه يسرّ إذا قيل له «أنت بحر عميق» ويتأذّى وينزعج إذا قيل له «أنت فاسق جاهل» مثلًا.

ولكن قد مرّ أيضاً جوابه تفصيلًا فإنّا قلنا سابقاً أنّ الجملة الخبريّة بمبتدئها وخبرها ونسبتها أي بشراشرها تدلّ على الحكاية والإخبار عن الخارج، وأنّ النسبة أيضاً أمر تكويني خارجي تحكي عنها النسبة الخبريّة، وليست من الامور الاعتباريّة حتّى توجد في عالم الاعتبار فراجع.

3- أنّها كناية عن الطلب والإنشاء ببيان اللازم وإرادة الملزوم فإنّ المولى إذا رأى عبده مطيعاً لأوامره (إمّا من طريق أنّ العبد قدم إلى المولى للسؤال عن وظيفته وتكليفه أو من أي طريق آخر) يفترض أوّلًا امتثاله واطاعته في الخارج وأنّه يتصدّى للعمل في الخارج بمجرّد أنّ علم بطلب المولى وإرادته،

ثمّ يخبر عن امتثاله وتصدّيه كناية عن طلبه، أي يذكر اللازم وهو انبعاث العبد وحركته نحو العمل ويريد منه ملزومه وهو طلب المولى وإرادته لذلك العمل، وحينئذ لا فرق بين قوله «يغتسل» مثلًا في مقام الإخبار وقوله «يغتسل» في مقام الإنشاء في أنّ كلًا منهما استعمل في الإخبار والحكاية عن الخارج، إلّاأن الأوّل يكون بداعي الإخبار حقيقة، وأمّا الثاني فهو كناية عن الطلب النفساني للعمل.

إن قلت: يلزم من هذا الدور المحال لأنّ لازمه أن يتوقّف الانبعاث على الإخبار، ويتوقّف صحّة الإخبار على الانبعاث.

قلنا: أنّه كذلك فيما إذا كان الإخبار إخباراً حقيقة بينما هو في المقام كناية عن البعث والطلب، والمتوقّف على الانبعاث إنّما هو صحّة الإخبار الحقيقي لا ما يكون كناية عن الإنشاء.

إن قلت: إنّ لازمه الكذب كثيراً لكثرة عدم وقوع المطلوب في الخارج من العصاة، تعالى اللَّه وأولياؤه عن ذلك.

قلنا: الكذب في باب الكنايات متوقّف على عدم وجود المكنّى عنه في الخارج لا على عدم وجود المحكي للجملة الخبريّة التي استخدمت للكناية، ففي قولك «زيد كثير الرماد» (للكناية

انوار الأصول، ج 1، ص: 271

عن جود زيد) يلزم الكذب إذا لم يكن زيد جواداً لا ما إذا لم يكن كثير الرماد، بل قد لا يكون له رماد أصلًا.

هذا كلّه في المقام الأوّل.

وأمّا المقام الثاني: وهو دلالتها على الوجوب فالكلام فيه هو الكلام في صيغة الأمر من جهة الظهور عند العقلاء وأهل العرف، فلا إشكال هنا أيضاً في أصل الدلالة على الوجوب كما أنّ منشأها هنا أيضاً ما يرجع إلى طبيعة الطلب وما تقتضيه ماهية البعث، وأنّ جواز الترك قيد إضافي وتحتاج إلى البيان وذكر القرينة.

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: المعروف والمشهور أنّ دلالة الجمل الخبريّة على الوجوب آكد

من دلالة صيغة الأمر، ببيان أنّها في الحقيقة إخبار عن تحقّق الفعل بإدّعاء أنّ وقوع الامتثال من المكلّف مفروغ عنه.

ولكن الإنصاف أنّه من المشهورات التي لا أصل لها، فإنّ الجملة الخبريّة حيث إنّها في مقام الكناية عن الطلب تكون أبلغ في الدلالة على الإنشاء كما في سائر الكنايات فإنّها أبلغ في بيان المقصود والدلالة على المطلوب من غيرها، لا أنّها آكد وأنّ الطلب المنشأ بها يكون أقوى وأشدّ، كما يشهد عليه الوجدان، فلا فرق بالوجدان بين قوله تعالى: «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ» وقولك «يغسلون وجوههم» من حيث شدّة الطلب وضعفه والأهمّية وعدمها إلّاأنّ الثاني أبلغ في الدلالة على وجوب الغسل من باب أنّ الكناية أبلغ من التصريح كما قرّر في محلّه.

الأمر الثاني: ما أشرنا إليه آنفاً من أنّ ملاك الصدق والكذب في باب الكنايات إنّما هو صدق المعنى المكنّى عنه وكذبه، لا المدلول المطابقي والمعنى الموضوع له اللفظ، وحينئذ لا بأس بكثرة عدم وقوع المطلوب في الخارج، وهي لا تلازم الكذب في قول اللَّه وأولياؤه (تعالى اللَّه وأولياؤه عن ذلك علواً كبيراً).

إلى هنا تمّ الكلام في الفصل الثاني من مبحث الأوامر.

انوار الأصول، ج 1، ص: 273

الفصل الثالث التعبّدي والتوصّلي
اشارة

ولا بدّ من تقديم امور قبل الورود في أصل البحث:

الأمر الأوّل: في تعريف التعبّدي والتوصّلي وبيان الميزان فيهما

فقد ذكر لهما تعاريف كثيرة التي لا حاجة إلى ذكر جميعها بل نذكر هنا أشهرها وما يرد عليه من الإيراد ثمّ نذكر التعريف المختار.

فالمشهور أنّ الواجب التوصّلي ما لا يتوقّف حصول الامتثال أو حصول الغرض فيه على قصد القربة نظير تطهير المسجد «1» فإنّ الغرض فيه يحصل وبتبعه يسقط الأمر بمجرّد التطهير من دون قصد القربة أو قصد الأمر وبأيّ طريق حصل التطهير، وأمّا الواجب التعبّدي فهو ما يتوقّف حصول الغرض والامتثال فيه على قصد القربة.

ولكن الإنصاف أنّه تعريف ببعض اللوازم وليس بياناً لماهية الواجب التعبّدي والتوصّلي، فإنّ اعتبار قصد القربة أو عدمه ينشأ من خصوصيّة في ماهية الواجب التعبّدي أو التوصّلي وإنّهما مع قطع النظر عن قصد القربة مفترقان ماهية وذاتاً.

توضيح ذلك: إنّ الأفعال الاختياريّة للإنسان على قسمين: الأفعال التي يأتي بها لرفع حاجاته اليوميّة كالتجارة والبيع والنكاح والطلاق وغيرها، والأفعال التي يأتي بها لاظهار عبوديته ونهاية خضوعه وتعظيمه في مقابل ربّه ومولاه، وهي بنفسها على قسمين أيضاً:

انوار الأصول، ج 1، ص: 274

الأوّل: ما يكون بذاته تعظيماً وتجليلًا ويعدّ خضوعاً وعبوديّة كالسجدة فإنّها تعدّ بذاتها عبوديّة ولو مع عدم قصد القربة ووقوعها في مقابل أي شخص أو أيْ شي ء، وهي عبادة ولو وقعت في مقابل صنم من الحجر والشجر.

الثاني: ما يكون عبادة ولكن لا بذاته وماهيته بل باعتبار المولى وجعله كعباديّة الصّيام (التي ترجع إلى عباديّة الامساك) والطواف والسعي في الصفا والمروة والهرولة في موضعها وغير ذلك من أشباهها من الواجبات التعبّديّة في الشرع المقدّس، فإنّها امور وضعت للخضوع والتعظيم في مقابل المولى الحكيم فإنّه جعلها للعبادة والعبوديّة ووسيلة للتقرّب إليه، ولا إشكال في أنّ

هذا القسم أيضاً يتشخّص بتشخّص العبادة ويتلوّن بلونها بالجعل والاعتبار مع قطع النظر عن قصد القربة والتعظيم وقصد العبادة، فإنّه نظير ما يعتبر للتعظيم ويوضع للاحترام بين الملل والأقوام، فعند بعضهم جعل رفع القلنسوة والبُرنيطة للاحترام فيعدّ وضعها إهانة وهتكاً مع أنّ عكسه يعدّ تعظيماً عندنا فيعتبر وضع العمامة مثلًا إحتراماً ورفعها هتكاً، وكذلك الحال في العبادات، فالعمدة فيها الجعل والاعتبار، نعم العبادة المطلوبة تتحقّق بقصد القربة لا بذات العبادة.

فتلخّص: أنّ الفرق بين التعبّدي والتوصّلي لا ينحصر في قصد القربة وعدمه فقط بل إنّهما تفترقان في الماهية أيضاً، فماهية العمل التعبّدي تفترق عن ماهية العمل التوصّلي، وبعبارة اخرى: أنّ للعبادة التي توجب التقرّب إلى المولى ركنين: حسن فاعلي وهو أن يكون العبد في مقام الإطاعة والتقرّب إلى المولى، وحسن فعلي وهو أن يكون ذات العمل مطلوباً للمولى.

ثمّ إنّ المقصود من التعظيم في الموالي العرفيّة إنّما هو تكريم المولى واعظامه ليكون أكرم وأعظم عند الناس، وأمّا بالنسبة إلى الباري تعالى الكامل بالكمال المطلق والغني الحميد بغناء لا نهاية له فالمقصود منه إنّما هو تقرّب العبد ورشده وقتباس شي ء من نوره وصفاته ولو كان كضوء الشمع في مقابل الشمس أو أقلّ من ذلك.

وفي تهذيب الاصول ذكر للواجب قسماً ثالثاً، فبدّل التقسيم الثنائي إلى الثلاثي حيث قسّم ما يعتبر فيه قصد القربة إلى قسمين:

أحدهما: ما ينطبق عليه عنوان العبوديّة للَّه تعالى، بحيث يعدّ العمل منه للربّ عبوديّة له كالصّلاة والاعتكاف والحجّ.

انوار الأصول، ج 1، ص: 275

وثانيهما: ما لا يعدّ نفس العمل تعبّداً أو عبوديّة وإن كان قربيّاً لا يسقط أمره إلّابقصد الطاعة كالزّكاة والخمس، ثمّ قال: وهذان الأخيران وإن كان يعتبر فيهما قصد التقرّب لكن لا يلزم أن يكونا عبادة

بالمعنى الكذكور إذ كلّ فعل قربى لا ينطبق عليه عنوان العبوديّة فإطاعة الولد لوالده والرعايا للملك لا تعدّ عبوديّة لهما بل طاعة، كما أنّ ستر العورة بقصد امتثال الأمر وانقاذ الغريق كذلك ليسا عبوديّة له تعالى بل طاعة لأمره وبعثه، وحينئذٍ يستبدل التقسيم الثنائي إلى الثلاثي فيقال: الواجب امّا توصّلي أو تقرّبي، والأخير إمّا تعبّدي أو غير تعبّدي ...

إلى أن قال: فالأولى دفعاً للالتباس حذف عنوان التعبّديّة وإقامة التقرّب موضعها «1». (انتهى).

أقول: قد قرّر في محلّه أنّ لبعض الأعمال القربيّة كالزّكاة والخمس حيثيتين: حيثيّة تسمّى بحقّ اللَّه وحيثية يعبّر عنها بحقّ الناس، أمّا الحيثية الثانيّة فهو ما يوجب تعلّق حقّ الفقراء بأموال المكلّفين وهو يؤخذ منهم ولو جبراً سواء قصد القربة بذلك أو لم يقصدها، وأمّا الحيثية الاولى فهي ما يوجب تلوّن العمل بلون قربى إلهي ويجعله كسائر الواجبات التعبّديّة كتحمّل الجوع في شهر رمضان أو الهدية والوقوف بمنى وعرفات أو السعي بين الصفا والمروة في أيّام الحجّ، فكما أنّ اشتراط قصد القربة هناك علامة لجعلها ووضعها للخضوع والعبوديّة بحيث لولاها فسد العمل كذلك هنا من دون أي فرق بينهما في هذه الجهة.

هذا بالنسبة إلى ما ذكره من مثال الخمس والزّكاة، وأمّا بالنسبة إلى سائر ما ذكره من الأمثلة كستر العورة امتثالًا لأمر اللَّه وانقاذ الغريق، كذلك، فمن الواضح أنّه لا يفسد أمثال هذه الامور بترك قصد القربة، فلو أنقذ الغريق من دون هذا القصد فقد أتى بما وجب عليه وإن لم يستحقّ الثواب، وهذا أي عدم الاشتراط بالقربة دليل على أنّه لم يجعل عبادة في الشرع المقدّس، وبعبارة اخرى: العبادة كما ذكره القوم على قسمين: العبادة بالمعنى الأخصّ وهي ما يشترط فيه قصد القربة

وبدونها تكون فاسدة، والعبادة بالمعنى الأعمّ وهي ما يؤتى بقصد القربة وإن لم يعتبر في صحّتها ذلك، فلو ترك القربة فيها لم يستحقّ الثواب وإن كان عمله صحيحاً بسبب كونه توصّلياً، والمراد من التعبّدي في المقام هو القسم الأوّل، أي ما يشترط فيه قصد القربة لا ما يؤتى بقصد القربة وإن لم يشترط بها.

انوار الأصول، ج 1، ص: 276

ثمّ إنّه قال في المحاضرات: إنّ الواجب التوصّلي يطلق على معنيين:

الأوّل: ما لا يعتبر فيه قصد القربة.

الثاني: ما لا تعتبر فيه المباشرة من المكلّف بل يسقط عن ذمّته بفعل الغير سواء أكان بالتبرّع أم بالاستنابة، بل ربّما لا يعتبر في سقوطه الالتفات والاختيار، بل ولا إتيانه في ضمن فرد سائغ، فلو تحقّق من دون إلتفات وبغير اختيار، أو في ضمن فرد محرم كفى.

وإن شئت قلت: إنّ الواجب التوصّلي مرّة يطلق ويراد به ما لا تعتبر فيه المباشرة من المكلّف، ومرّة اخرى يطلق ويراد به ما لا يعتبر فيه الالتفات والاختيار، ومرّة ثالثة يطلق ويراد به ما لا يعتبر فيه أن يكون في ضمن فرد سائغ (انتهى) «1».

أقول: إنّ ما أفاده جيّد في محلّه، ولكنّه لو كان في مقام بيان مصطلح القوم في الواجب التوصّلي فلم نتحقّقه في كلماتهم، وإن كان في مقام جعل اصطلاح جديد فلا مشاحّة في الاصطلاح، ولعلّه كان في مقام بيان آثار الواجب التوصّلي ولوازمه، ولكن وقع السهو في العبارة فجعل ذلك أقساماً للواجب التوصّلي، والحاصل أنّ الواجب التوصّلي شي ء واحد وكلّ ذلك من لوازمه وآثاره.

الأمر الثاني: في أنحاء قصد القربة

قد ذكر في بعض الكلمات أنحاء أربعة لقصد القربة وأشار إليها المحقّق الخراساني؛ أيضاً في بعض كلماته: أوّلها: التقرّب بقصد الأمر، ثانيها: التقرّب بقصد المحبوبيّة، ثالثها: التقرّب بقصد المصلحة،

ورابعها: التقرّب بقصد كونه للَّه وإنّ اللَّه أهل للعبادة.

أقول: أمّا التقرّب قصد الأمر: فهو يتصوّر في ما تكون عباديته بالجعل والاعتبار حيث إنّ هذا القبيل من الامور العباديّة تحتاج في تحديدها وتعيين نوعها وكيفيتها إلى أمر واعتبار من ناحية الشارع، وأمّا ما تكون عباديته ذاتيّة كالسجود فلا حاجة فيها إلى قصد الأمر ليكون عبادة لأنّها خضوع ذاتاً ولا تتصوّر فيه أشكال مختلفة فيكون في حالٍ خضوعاً للَّه تعالى وفي حال آخر غير خضوع، وقصد الأمر لا بدّ منه في ما إذا تصوّر لعمل واحد دواعٍ مختلفة وحالات متفاوتة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 277

وأمّا التقرّب بقصد المحبوبيّة: فلا إشكال في جوازه حيث إنّ قصد المحبوبيّة أيضاً يمكن أن يصير احترازاً عن سائر الدواعي وبياناً للقسم الذي يكون عبادة.

وأمّا التقرّب بقصد المصلحة: فإن كان المقصود من المصلحة ما يترتّب على العبادة من الخضوع والتكامل المعنوي (وهو ما نسمّيه بالمصلحة الأخلاقيّة) فهو يرجع إلى القسم السابق، أي قصد المحبوبيّة، وإن كان المراد منها المصالح الماديّة كالصحّة في الصّيام (كما ورد في الحديث: «صوموا تصحّوا») وكإصلاح أمر المعاش والامور الاقتصاديّة للمسلمين في الحجّ (فإنّ من أبعاد الحجّ بعده الاقتصادي كما اشير إليه في الحديث أيضاً) فلا إشكال في عدم إمكان التقرّب بقصدها كما لا يخفى، فإنّ هذه الامور ليست اموراً قربيّة إلّاإذا لوحظ كونها مقدّمة للعبادة والإطاعة بمعنى أنّه يريد صحّة جسمه مثلًا ليقوى على طاعة اللَّه.

وأمّا التقرّب بقصد كون العمل للَّه: لأنّ اللَّه أهل للعبادة فلا يصحّ أيضاً، لأنّ التقرّب بعمل خاصّ متفرّع على عباديته في الرتبة السابقة إمّا ذاتاً أو بالجعل والاعتبار، فإن كان عبادة ذاتاً فهو وإلّا فلابدّ لصيرورته عبادة من أن يقصد محبوبيته عند اللَّه أو كونه

مأموراً به حتّى يمتاز عن أشباهه ونظائره، وأمّا مجرّد إتيانه لأنّ اللَّه تعالى أهل للعبادة لا يوجب عباديته كما لا يخفى.

فظهر أنّ الصحيح من الأنحاء الأربعة في العبادات المجعولة الاعتباريّة من جانب الشارع إنّما هو القسم الأوّل والثاني فقط، وأمّا في العبادات الذاتيّة فلا حاجة إلى شي ء من ذلك، نعم إذا أتى بالسجدة بقصد كونها للَّه تكون عبادة للَّه، وإن اريد بها الصنم تكون عبادة للصنم، فهي عبادة على كلّ حال ذاتاً من دون حاجة إلى جعل واعتبار.

الأمر الثالث: في إمكان أخذ قصد الأمر في المأمور به
اشارة

فقد وقع الخلاف في أنّه هل يجوز أخذ قصد الأمر في متعلّقه شرعاً أو لا؟ ذهب جماعة من الأعلام إلى عدم الإمكان وإنّ قصد الأمر ممّا يعتبر في العبادات عقلًا لا شرعاً ولهم بيانات مختلفة في إثباته:

منها: ما أفاده المحقّق الخراساني؛ من لزوم الدور، وبيانه: إنّ قصد الأمر متأخّر عن الأمر، والأمر متأخّر عن متعلّقه فلو اعتبر قصد الأمر المتأخّر عن الأمر في المتعلّق السابق على الأمر لزم تقدّم الشي ء على نفسه برتبتين وهو محال.

انوار الأصول، ج 1، ص: 278

ثمّ أورد على نفسه:

أوّلًا: بما حاصله، إنّ قصد الأمر متأخّر عن الأمر خارجاً فما لم يتحقّق الأمر في الخارج لم يمكن قصده، وأمّا تأخّر الأمر عن متعلّقه (كتأخّر الأمر بالصّلاة عن وجود الصّلاة خارجاً) فهو باطل لأنّه تحصيل للحاصل، نعم الأمر متأخّر عن وجود متعلّقه ذهناً لأنّه ما لم يتصوّر الصّلاة لا يأمر به.

وأجاب عنه: بأنّ الإتيان بالصّلاة بداعي الأمر غير مقدور للمكلّف حتّى بعد الأمر إذ لا أمر للصّلاة كي يأتي بها بداعيه فإنّ الأمر حسب الفرض قد تعلّق بالمجموع أي بالصّلاة المقيّدة بداعي الأمر لا بنفس الصّلاة وحدها كي يمكن الإتيان بها بداعي أمرها، والأمر لا يدعو إلّا

إلى ما تعلّق به (وهو المجموع) لا إلى غيره (وهو الصّلاة وحدها).

ثانياً: بقوله، نعم إنّ الأمر تعلّق بالمجموع ولكن نفس الصّلاة أيضاً صارت مأموراً بها بالأمر بها مقيّدة (أي بالأمر الضمني).

وأجاب عنه بقوله: كلًا، لأنّ ذات المقيّد لا يكون مأموراً بها، فإنّ الجزء التحليلي العقلي (وهو ذات «المقيّد» و «التقيّد» حيث إنّهما بعد تعلّق الأمر بمجموع الصّلاة المقيّدة بداعي الأمر جزءان تحليليّان نظير الجنس والفصل) لا يتّصف بالوجوب أصلًا إذ لا وجود له في الخارج غير وجود الكلّ الواجب بالوجوب النفسي الاستقلالي كي يتّصف بالوجوب ضمناً كما هو الشأن في الجزء الخارجي.

ثالثاً: بقوله، نعم، لكنّه إذا أخذ قصد الأمر شرطاً وقيداً وأمّا إذا أخذ شطراً وجزءً فينبسط الأمر حينئذ على الأجزاء ويتّصف كلّ من الصّلاة وقصد الأمر بالوجوب النفسي الضمني أي يكون تعلّق الوجوب بكلّ جزءٍ بعين تعلّقه بالكلّ ويصحّ أن يؤتى به بداعي ذاك الوجوب، ضرورة صحّة الإتيان بكلّ جزء من أجزاء الواجب بداعي وجوبه.

وأجاب عنه:

أوّلًا: بأنّ تعلّق الأمر بإرادة الأمر وقصده ممتنع لأنّ اختياريّة الأفعال تكون بالإرادة وهي القصد، فلو كانت اختياريّة الإرادة بإرادة اخرى لتسلسلت.

وثانياً: بأنّ الإتيان بالجزء إنّما يمكن في ضمن الإتيان بالمجموع بداعي الأمر المتعلّق بالمجموع، وإتيان المجموع بداعي أمره لا يكاد يمكن في ما نحن فيه، لأنّه يلزم الإتيان بالمركّب انوار الأصول، ج 1، ص: 279

من قصد الأمر وغيره بقصد الأمر وهو محال. (انتهى كلامه بتوضيح منّا).

أقول: وفي كلامه مواقع للنظر:

الأوّل: أنّ جوابه عن الإشكال الأوّل بمنزلة تغيير لموضع البحث وقبول حلّ مسألة الدور والدخول في مسألة اخرى فكأنّه اعترف برفع إشكال الدور بمسألة اللحاظ فإنّ اعتباره في المتعلّق يحتاج إلى تصوّره ذهناً فقط لا إلى وجود الأمر خارجاً.

الثاني: أنّه

اعترف أيضاً ضمن الإشكالين الأخيرين بإمكان أن يكون قصد الأمر جزءً للمأمور به مع أنّ الجزء داخل في ذات المأمور به وفي قوامه كأحد الأجزاء في المعاجين وكالركوع والسجود في الصّلاة، بينما قصد الأمر ليس في عداد الأجزاء وإنّما هو يعرض الأجزاء ويكون من قبيل الحالات التي تعرض الشي ء فهو من سنخ الشرط لا الجزء، نظير الاستقبال أو الطهارة في الصّلاة.

الثالث: أنّه أنكر وجود الأمر الضمني النفسي بالنسبة إلى الشرائط وحصر وجوده في الأجزاء مع أنّه يمكن تصوّر الأمر الضمني في الشرائط أيضاً، غاية الأمر أنّ متعلّقه هو الأجزاء وتقيّدها بالقيد، حيث إنّ التقيّد أيضاً جزء كسائر الأجزاء المطلوبة وإن كان القيد خارجاً، فإنّ تقيّد الصّلاة بالطهارة أيضاً متعلّق للأمر النفسي الضمني وإن كانت نفس الطهارة خارجة عنها.

الرابع: أنّه أشار في مقام الجواب عن الإشكال الثالث إلى ما مرّ منه سابقاً من أنّ اختياريّة سائر الأفعال بالإرادة، وإراديّة الإرادة ليست بها للزوم التسلسل، وقد مرّ الجواب عنه في البحث عن اتّحاد الطلب والإرادة فراجع.

الخامس: الوجدان أصدق شاهد على إمكان أخذ قصد الأمر في المأمور به كأن يقول المولى: «كبّر واسجد واركع ... مع قصد هذا الأمر» وكلّ ما ذكر من الأشكال شبهة في مقابل الوجدان لا يعتنى به، فمثلًا اشكاله بأنّه «يلزم منه وجوب إتيان المأمور به المركّب من قصد الأمر بقصد الأمر، أي يلزم أن يتعلّق قصد الأمر بقصد الأمر وهو محال» يمكن الجواب عنه بأن لا إشكال في أنّ المحتاج إلى قصد القربة إنّما هو الأجزاء، وأمّا الشرائط فالذي يحتاج من بينها إلى قصد القربة إنّما هو الطهارة عن الحدث فقط حين تحصيلها لا حين تقيّدها وأمّا سائر الشرائط كالاستقبال والستر والطهارة عن

الخبث وقصد القربة نفسه فلا حاجة فيها إلى قصد

انوار الأصول، ج 1، ص: 280

القربة بل يكفي تحقّق ذواتها بأي نحو حصلت ولو بدون قصد القربة.

وحينئذ نقول: لو فرضنا كون الأجزاء في الصّلاة تسعة وتعلّق الأمر بها فيصير عشرة مع تقيّدها بقصد الأمر، فينبسط الأمر على الجميع فيأتي بها بقصد الأمر الضمني، وهو يرى أنّ الجزء العاشر يحصل بمجرّد ذلك، فيكون الأمر الضمني في ضمن الكلّ، والمحتاج إلى قصد الأمر هو الأجزاء لا الشرائط لعدم قيام دليل عليه.

السادس: سلّمنا إستحالة أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر ولكن الطريق في جعل عباديّة العبادات وأخذ قصد التقرّب بها في المتعلّق ليس منحصراً في أخذ قصد الأمر فيه بل يمكن لذلك أخذ قصد المحبوبيّة أو قصد المصلحة المعنويّة في المتعلّق فيقال مثلًا «صلّ بقصد المحبوبيّة أو قصد المصلحة المعنويّة» فإذا لم يأخذه المولى في المتعلّق وأطلقه نتمسّك بإطلاقه لعدم اعتبار قصد القربة وعدم كون الواجب تعبّديّاً.

ثمّ إنّه قد ذُكر هيهنا طريق آخر لأخذ قصد الأمر في المأمور به، وهو ما أفاده الشّيخ الأعظم رحمه الله على ما في تقريراته، ثمّ ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله فيما أورده على نفسه رابعاً، وهو عبارة عن تصحيح اعتبار قصد الأمر في المأمور به من طريق أمرين: أحدهما: يتعلّق بذات العمل، والآخر: بإتيانه بداعي أمره، فلو لم يعتبر المولى قصد القربة بواسطة أمر ثانٍ وكان هو في مقام البيان نستكشف عدم اعتباره.

ثمّ أجاب المحقّق الخراساني رحمه الله عنه:

أوّلًا: بأنّا نقطع بأنّه ليس في العبادات إلّاأمر واحد كسائر الواجبات التوصّلية.

وثانياً (وهو العمدة) بأنّ الأمر الأوّل المتعلّق بأصل الفعل إن كان توصّلياً يسقط بمجرّد الإتيان بالفعل ولو بداعي أمره فلا يكاد يبقى مجال لموافقة الأمر الثاني،

لسقوط الأمر الأوّل بمجرّد الإتيان بالفعل لا بداعي أمره، وإن كان تعبّديّاً لا يسقط بمجرّد الإتيان بالفعل بغير داعي أمره، فلا وجه لعدم السقوط إلّاكون الواجب عباديّاً لا يحصل الغرض منه إلّامع الإتيان به بداعي أمره، ومع كون الواجب كذلك يستقلّ العقل لا محالة بوجوب إتيانه على نحو يحصل به الغرض أي بداعي أمره وعلى وجه التقرّب به من دون حاجة إلى أمر آخر بإتيانه كذلك.

أقول: يرد على جوابه الأوّل: بأنّه يوجد في باب العبادات أمران: أحدهما: متعلّق بذات انوار الأصول، ج 1، ص: 281

العمل وهو واضح، والآخر: بإتيانه بداعي أمره، وهو ما يستفاد من إجماع الفقهاء على اعتبار قصد القربة فإنّه كدليل منفصل وارد بعد الأوامر العباديّة.

فإنّ المقصود من الأمر إنّما هو الدليل الكاشف عن قول المعصوم عليه السلام ولا إشكال في أنّ الإجماع دليل شرعي يوجب القطع بصدور أمر من المعصوم عليه السلام يدلّ على اعتبار قصد القربة.

ويرد على جوابه الثاني: أنّا نختار الشقّ الثاني من كلامه وهو كون الأمر الأوّل تعبّديّاً لا يسقط بمجرّد الإتيان بالفعل بغير داعي أمره ولكن مع ذلك لا يكون الأمر الثاني لغواً، لأنّ الكاشف عن تعبّديّة الأمر الأوّل وعدم حصول الغرض منه إلّابداعي أمره إنّما هو الأمر الثاني، وليس هناك دليل آخر في مقام الإثبات إلّاالأمر الثاني.

ثمّ إنّه لو فرضنا استحالة أخذ قصد الأمر في المأمور به بأمر واحد وانحصار طريق أخذه في أمرين، فلا إشكال في أنّ الإطلاق الذي يتمسّك به في صورة عدم أخذ قصد الأمر بأمر ثانٍ ليس إطلاقاً لفظيّاً لأنّ المفروض عدم إمكان تقييد الأمر الأوّل بقصد الأمر حتّى يتصوّر فيه الإطلاق، بل هو إطلاق مقامي، وهو عبارة عن كون المولى في مقام بيان

حكم أفراد كثيرة من دون أن يصوغه في قالب لفظي شامل لجميع الأفراد بل يذكر حكم كلّ فرد فرد بصيغته الخاصّة فيقول مثلًا: «كبّر، اسجد، اركع ...» فحينئذٍ لو شككنا في وجوب جزء خاصّ أو قيد خاصّ فليس هنا لفظ كان من الممكن أن يقيّده بذلك الجزء، ومثل أن يقول السائل: «بيّن لي الأغسال الواجبة» وأجاب الإمام عليه السلام غسل الجنابة والحيض و ... من دون ذكر غسل الجمعة، فيعلم منه بمقتضى الإطلاق المقامي عدم وجوبه، أي أنّ المولى كان في مقام لو تعلّق غرضه بجزء آخر لذكره، وحيث إنّه لم يذكره فلم يقل مثلًا «اقنت» في عرض سائر الأجزاء نستكشف عدم وجوبه، وهذا نظير ما إذا قام الدائن في مقام تصفية الديون فأحصى كلّ مورد مورد من موارد الدين وترك المجلس بعنوان التصفية فلو شكّ المدين بعدئذٍ في وجود طلب آخر فله أن يتمسّك بإطلاق المقام ويقول: حيث إنّ الدائن كان في مقام التصفية ولم يذكر هذا المورد فهذا دليل على عدم بقاء مورد آخر لدينه، فهذا إطلاق مقامي من باب أنّه ليس في البين لفظ صدر من جانب الدائن كقوله «لا دين لي عليك» حتّى يتمسّك بإطلاقه.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّه يمكن أخذ قصد القربة في المأمور به بثلاثة طرق: 1- أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر الأوّل، 2- أخذ قصد الأمر في الأمر الثاني، 3- أخذ مطلق قصد القربة في المتعلّق الأعمّ من قصد الأمر وقصد المحبوبيّة وغيرهما، وقد عرفت جواز الجميع.

هل الأصل في الأوامر هو التعبّديّة أو لا؟

إذا عرفت هذا المقدّمات فلنتكلم عن أصل البحث وهو مقتضى الأصل الأوّلي في الأوامر وأنّه هل هو التعبّديّة أو التوصّليّة؟

فنقول: فيه ثلاثة أقوال:

1- أنّ الأصل هو التوصّلية وهو المختار.

2-

أنّ الأصل هو التعبّديّة وهو المنقول من الكلباسي صاحب الإشارات.

3- فقدان الأصل اللّفظي فلابدّ من الرجوع إلى الاصول العمليّة وهو مختار المحقّق النائيني رحمه الله.

أمّا القول الأوّل: فقد ظهر بيانه ممّا ذكرنا من أنّه يمكن للمولى أخذ قصد الأمر ضمن أمر واحد أو أمرين فحيث لم يأخذه وكان في مقام البيان نتمسّك بإطلاق كلامه، ونثبت به عدم اعتباره عنده.

وأمّا القول الثاني: فاستدلّ له بامور:

الأمر الأوّل: أنّ غرض المولى من الأمر هو إيجاد الداعي في المكلّف للعمل وإخراجه من حالة عدم إحساس المسؤوليّة إلى حالة إحساس المسؤوليّة في قبال المولى، وكلّما حصل هذا الغرض حصل قصد القربة طبعاً لأنّه ليس إلّاإحساس المكلّف بالمسؤوليّة في مقابل المولى وانبعاثه من بعثه وتحرّكه من تحريكه، فالأصل الأوّلي في الأوامر أن تكون تعبّديّة، والتوصّلية تحتاج إلى دليل خاصّ.

ولكن يمكن الجواب عنه:

أوّلًا: أنّه لا دليل على أنّ غرض المولى في أوامره هو تحريك العبد مطلقاً، فإنّه أوّل الكلام حيث يمكن أن يكون غرضه تحريك العبد في ما إذا لم يكن متحرّكاً بنفسه، فلو علم المولى بتحرّك العبد بنفسه وحركته إلى الماء مثلًا لرفع عطش المولى لم يأمره بإتيان الماء، وهذا نظير ما ورد في بيان الإمام السجّاد عليه السلام حيث قال: «ولست اوصيكم بالدنيا فإنّكم بها مستوصون وعليها حريصون وبها مستمسكون» «1».

انوار الأصول، ج 1، ص: 283

ثانياً: أنّ وظيفة العبد إنّما هو تحصيل غرض المولى من المأمور به لا قصد التقرّب مثلًا حيث إنّ العقل يحكم بوجوب رفع عطش المولى مثلًا على أيّ حال: فلو اهرق الماء لا بدّ من إتيان ماء آخر مرّة اخرى وهكذا حتّى يرفع عطش المولى مع أنّه قد امتثل الأمر وأتى بالماء، فإنّ هذا هو مقتضى حقّ

الطاعة والعبوديّة.

وبعبارة اخرى: إنّ غرض المولى من أمره حصوله على ما هو موجود في المأمور به من المصلحة لا تحريك العبد إلى المأمور به بقصد امتثال أمره فحسب، إلّاإذا ثبت كون الغرض منه هو العبوديّة والتقرّب إليه.

الأمر الثاني قوله تعالى: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» «1»

ببيان أنّها تدلّ على أنّ جميع الأوامر صدرت من جانب الباري تعالى للعبادة مخلصاً والاخلاص عبارة عن قصد التقرّب في العمل، ولازمه أن تكون جميع الأوامر الشرعيّة تعبّديّة إلّاما خرج بالدليل.

والجواب عنه واضح: لأنّ الآية إنّما تكون في مقام نفي الشرك وإثبات التوحيد كما يشهد عليه بعض الآيات السابقة عليها وهو قوله تعالى: «لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ» «2»

، وكذلك بعض الآيات اللّاحقة وهي قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا» «3».

بل وهكذا ما ورد في نفس الآية من التعبير بالحنفاء حيث إنّ الحنيف هو المائل من الباطل إلى الحقّ، فيطلق على الإنسان الموحّد الذي لا يعبد إلّااللَّه، ولذلك وصفهم بعد ذلك بإقامة الصّلاة وإيتاء الزّكاة اللّذين هما من لوازم التوحيد باللَّه ومن أوصاف العباد الموحّدين، على أيّ حال: إنّ الآية في مقابل المشركين وأهل الكتاب تدلّ على انحصار العبادة باللَّه تعالى وأنّ الناس امروا لأن لا يعبدوا إلّااللَّه تعالى لا أنّ جميع الأوامر الشرعيّة الصادرة من جانب اللَّه تعالى تكون تعبّديّة، وأين هذا من ذاك.

ويشهد عليه أيضاً ذهاب المفسّرين ظاهراً على هذا المعنى، فهذا هو المحقّق الطبرسي رحمه الله في انوار الأصول، ج 1، ص: 284

ذيل هذه الآية يقول: «أي لم يأمرهم اللَّه تعالى إلّالأن

يعبدوا للَّه وحده لا يشركون بعبادة، فهذا ممّا لا يختلف فيه الامّة ولا يقع منه التغيير» وقال في ذيل قوله تعالى «مخلصين له الدين»:

«لا يخلطون بعبادته عبادة من سواه» وكذلك غيره.

أضف إلى ذلك أنّ المعنى المذكور للآية يستلزم منه التخصيص بالأكثر حيث إنّه لا ريب في أنّ أكثر الأوامر توصّلية.

مضافاً إلى أنّ لحن الآية آبية عن التخصيص لمكان التأكيدات العديدة الشديدة الواردة فيها كما لا يخفى.

الأمر الثالث: التمسّك بروايات تدلّ على أنّ الأعمال إنّما هي بالنيّات:

منها: ما رواه أبو حمزة عن علي بن الحسين عليه السلام قال: «لا عمل إلّابنيّة» «1».

ومنها: ما رواه اسحاق بن محمّد قال: حدّثني علي بن جعفر بن محمّد، وعلي بن موسى بن جعفر هذا عن أخيه وهذا عن أبيه موسى بن جعفر عليه السلام عن آبائه عليهم السلام عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في حديث. قال: «إنّما الأعمال بالنيّات، ولكل امرى ء ما نوى» «2»

وهكذا الرّواية الثانيّة والثالثة من نفس الباب.

وتقريب الاستدلال: إنّ هذه الرّوايات تدلّ على اعتبار نيّة القربة في جميع الأعمال بشهادة عموم التعبير ب «الأعمال» في الرّواية الاولى، والنكرة في سياق النفي في الرّواية الاولى، فلابدّ من قصد القربة في جميع الأعمال إلّاما خرج بالدليل.

والجواب عنه:

أوّلًا: أنّه لا دليل على كون المراد من النيّة في هذه الرّوايات نيّة القربة بل لعلّها نيّة عنوان العمل بالنسبة إلى العناوين القصديّة حيث إنّ كثيراً ما يكون لعمل واحد عناوين عديدة ووجوه متفاوتة يتميّز كلّ واحد منها عن غيرها بالنيّة، فمثلًا إذا أعطى زيد درهماً أمكن أن يكون من باب الأمانة أو الهبة أو الخمس أو الزّكاة أو أداء الدَين أو ردّ المظالم أو القبض، ولكنّه تتميّز وتتعيّن بالقصد والنيّة.

وإن

شئت قلت: لا بدّ في الرّواية من تقدير يدور أمره بين الاحتمالين: احتمال أن يكون انوار الأصول، ج 1، ص: 285

المقدّر الصحّة، أي إنّما صحّة الأعمال بالنيّات، واحتمال أن يكون المقدّر الأجر والثواب، أي إنّما أجر الأعمال بالنيّات، فعلى الأوّل يثبت مطلوب الخصم أي اعتبار قصد القربة في جميع الأعمال كما لا يخفى، وأمّا على الثاني فيكون معنى الرّواية أنّ ترتّب الثواب على الأعمال مشروط بقصد القربة فإزالة النجاسة عن المسجد يترتّب عليها الثواب إذا تحقّقت بنيّة القربة لا أنّ صحّتها تتوقّف عليها، واين هذا من تعبّديّة جميع الأعمال؟ وهذا الاحتمال الثاني هو المتعيّن في تفسير الرّواية بقرينة ما ورد في ذيل الرّواية الثانيّة من قوله عليه السلام: «ولكلّ امرى ء ما نوى، فمن غزى إبتغاء ما عند اللَّه فقد وقع أجره على اللَّه عزّوجلّ ومن غزى يريد عرض الدنيا أو نوى عقالًا لم يكن له إلّاما نوى»، والرّوايات يفسّر بعضها بعضاً.

وبعبارة اخرى: إنّ النزاع في ما نحن فيه إنّما هو في العبادة بالمعنى الأخصّ أي ما يشترط قصد القربة في صحّة العمل لا العبادة بالمعنى الأعمّ أي ما يعتبر في ترتّب الثواب عليه قصد القربة، ولا إشكال في أنّ الجهاد من القسم الثاني، فلو كانت الرّواية في مقام اعتبار قصد القربة في جميع الأعمال لزم خروج مورد الرّواية عنها.

ويشهد لهذا التفسير للرواية أيضاً ما رواه أبو عروة السلمي عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إنّ اللَّه يحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة» «1».

وما رواه أبو ذرّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في وصيّة له قال ياأبا ذر: «ليكن لك في كلّ شي ء نيّة حتّى في النوم والأكل» «2».

وثانياً: ما مرّ في الجواب عن

الدليل الثاني من قضيّة التخصيص بالأكثر كما لا يخفى.

فقد تلخّص من جميع ذلك عدم تماميّة جميع الوجوه التي استدلّ بها للقول الثاني.

وأمّا القول الثالث: وهو ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله من عدم وجود أصل لفظي في المقام فاستدلّ له بما حاصله «إنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة فيتصوّر الإطلاق فيما يتصوّر التقييد فيه، وحيث إنّ التقييد ممتنع هنا يكون الإطلاق أيضاً ممتنعاً، فيكون الحقّ حينئذٍ هو الإهمال وعدم الإطلاق مطلقاً، ووجه كون الإطلاق من قبيل عدم الملكة لا العدم المطلق أنّ الإطلاق وإن كان عدمياً إلّاأنّه موقوف على ورود الحكم على انوار الأصول، ج 1، ص: 286

المقسم وتماميّة مقدّمات الحكمة فالتقابل بينهما لا محالة يكون تقابل العدم والملكة، فإذا فرضنا في مورد عدم ورود الحكم على المقسم فلا معنى للتمسّك بالاطلاق قطعاً، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ انقسام المتعلّق بما إذا أتى به بقصد الأمر وعدمه يتوقّف على ورود الأمر فإنّه من الانقسامات الثانويّة، فليس قبل تعلّق الأمر وفي رتبة سابقة عليه مقسّم أصلًا، فالحكم لم يرد على المقسّم بل صحّة التقسيم نشأت من قبل الحكم فلا معنى للتمسّك بالاطلاق» «1».

والجواب عنه: ظهر ممّا سبق حيث إنّا لم نقبل عدم إمكان أخذ قصد الأمر في المتعلّق حتّى نلتزم بالإهمال بل قلنا بإمكانه من طرق ثلاثة: أخذ قصد الأمر في الأمر الأوّل، وأخذه في الأمر الثاني، وعدم انحصار التقرّب في قصد الأمر.

هذا كلّه بالنسبة إلى الأصل اللّفظي.

الأصل العملي في المقام:

لو أنكرنا وجود الأصل اللّفظي إمّا من طريق عدم إمكان أخذ قصد الأمر في المأمور به أو عدم كون المولى في مقام البيان، فما هو مقتضى الأصل العملي في المقام؟ فيه ثلاثة وجوه:

الوجه الأوّل:

أنّ الأصل هو البراءة بمقتضى العقل والنقل ونتيجته التوصّلية، وهذا هو المختار.

الوجه الثاني: عدم جريان البراءة لا عقلًا ولا شرعاً بل الأصل هو الاشتغال ونتيجته التعبّديّة وهذا ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله ومن تبعه.

الوجه الثالث: جريان البراءة الشرعيّة دون العقليّة.

أمّا القول الأوّل: فيظهر وجهه ممّا سنذكره في الجواب عن القول الثاني.

وأمّا القول الثاني: فاستدلّ لعدم جريان البراءة العقليّة فيه بما حاصله: إنّ الشكّ في المقام واقع في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم، والعقل يستقلّ بلزوم الخروج عن عهدته، فإذا علمنا أنّ شيئاً خاصّاً كالعتق مثلًا واجب قطعاً، ولم نعلم أنّه تعبّدي يعتبر فيه قصد القربة، أم انوار الأصول، ج 1، ص: 287

توصّلي لا يعتبر فيه ذلك، فما لم يؤت به بقصد القربة لم يعلم الخروج عن عهدة التكليف المعلوم تعلّقه به، فإذا لم يؤت به كذلك وقد صادف كونه تعبّديّاً يعبتر فيه قصد القربة فلا يكون العقاب حينئذ عقاباً بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان.

وببيان آخر: إنّ مردّ الشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة إلى الشكّ في حصول الغرض من المأمور به بدون قصد القربة وعدمه، وحيث إنّ تحصيل غرض المولى أيضاً لازم بحكم العقل كإتيان المأمور به فلابدّ أن يقصد القربة حتّى يتيقّن بتحصيل الغرض وسقوط ما وجب عليه والخروج عن عهدة ما اشتغلت ذمّته به.

وهذا نظير الشكّ في وجوب قصد الوجه والتمييز، فإنّه إذا شكّ في اعتبار قصد الوجه والتمييز في العبادات وشكّ في دخلهما في الطاعة والغرض من المأمور به فلا مجال إلّالأصالة الاشتغال، نعم يمكن التخلّص عن الاحتياط وجريان أصالة الاشتغال فيهما بأنّهما ممّا يغفل عنه عامّة الناس ولا يلتفت إليه إلّاالأوحدي منهم، وفي مثله كان على الآمر بيان دخله في غرضه فحيث

لم يبيّن يقطع بعدم دخله فيه، فلا يجب الاحتياط حينئذٍ (وأمّا قصد القربة فليس بهذه المنزلة).

واستدلّ لعدم جريان البراءة الشرعيّة بأنّه لا بدّ في جريان أدلّة البراءة الشرعيّة كحديث الرفع وأخواته من شي ء قابل للرفع والوضع، وما نحن فيه ليس كذلك حيث إنّ دخل قصد القربة ونحوها في الغرض ليس بشرعي بل واقعي فلا يقبل الرفع.

إن قلت: إنّ دخل الجزء والشرط أيضاً واقعي، فكيف يرفع بحديث الرفع ونحوه في باب الأقلّ والأكثر الارتباطيين؟

قلنا: إنّ دخلهما وإن كان واقعياً إلّاأنّهما قابلان للرفع، فبدليل الرفع يكشف أنّه ليس هناك أمر فعلي بما يعتبر فيه المشكوك حتّى يجب الخروج عن عهدته عقلًا، بخلاف المقام فإنّه علم فيه بثبوت الأمر الفعلي. (انتهى ملخّص كلام المحقّق الخراساني رحمه الله ومن تبعه في الاستدلال على أنّ الأصل هو الاشتغال).

أقول: فيه مواقع للنظر:

الموقع الأوّل: للاشكال في المبنى، فقد مرّ إمكان أخذ قصد الأمر في المتعلّق بطرقه الثلاثة.

الموقع الثاني: (وهو العمدة) أنّه لا دليل على وجوب تحصيل غرض المولى، بل على العبد

انوار الأصول، ج 1، ص: 288

أن يؤتي بمتعلّقات التكاليف الموجّهة إليه فقط حتّى لو كانت نسبة المصالح والملاكات إلى متعلّقات التكاليف من قبيل المسبّبات التوليديّة إلى أسبابها أو من قبيل العلّة والمعلول التكوينيين، لأنّ الواجب في الحقيقة إنّما هو ذات المتعلّق لا بما أنّه سبب أو علّة، فالغسلتان والمسحتان في باب الوضوء مثلًا واجبتان بذاتهما لا بما إنّهما موجبتان للطهارة الباطنية، لأنّ هذا أمر خفي علينا لا بدّ للشارع من بيان أسبابه، فإذا شكّ في مدخلية شي ء في تماميّة علّيته أو سببيته ولم يكن دليل على أخذه في متعلّق التكليف فلا دليل على لزوم الإتيان به على العبد فيكون الشكّ شكّاً في ثبوت

التكليف وموجباً لجريان البراءة.

هذا كلّه بناءً على أن يكون حال متعلّقات التكاليف بالنسبة إلى ملاكاتها من قبيل الأسباب والمسبّبات التوليديّة أو من قبيل العلّة والمعلول التكوينيين، وأمّا إذا كان من قبيل المعدّ والمعدّ له كما هو الحقّ فعدم وجوب تحصيل الغرض أوضح لأنّه ليس حينئذٍ من فعل العبد، فاللازم عليه هو إتيان متعلّق التكاليف فقط.

وإن شئت قلت: إنّ العبد لا يفهم من أمر المولى بالصّلاة مثلًا إلّالزوم الإتيان بالقيام والركوع والسجود ونحوها، وأمّا كيفية الغرض وخصوصّياته وأنّه بأي طريق يحصل فهي من شؤون المولى، وعليه أن يبيّن للعبد الأسباب الموصلة إليه كالطبيب الذي عليه أن يبيّن للمريض مقدار الدواء وطريق استعماله، وأمّا كيفية تأثيره ومقداره فهو أمر مرتبط بالطبيب ولا يفهمه المريض وإلّا صار طبيباً، وحينئذٍ ليس على العبد إلّاالعمل بالمتعلّقات بمقدار ما وصل إليه من البيان.

نعم إذا علم العبد تفصيلًا بغرض المولى وبأنّه لا يحصل بمتعلّق الأمر فقط يجب عليه إتيان المشكوك أيضاً كما إذا أمره المولى بالإتيان بالماء وعلم أنّ الغرض منه رفع عطشه، فلو اهرق الماء بعد وصوله بيد المولى كان اللازم على العبد الإتيان به مرّة اخرى لعدم حصول الغرض، وأمّا في صورة الاحتمال أو العلم الإجمالي فلا يجب عليه إلّاالإتيان بمتعلّق الأمر بمقدار البيان وإلّا لم يبق مورد للبراءة مطلقاً بل يجري الاشتغال في جميع موارد الشكّ.

ثالثاً: سلّمنا بوجوب تحصيل الغرض على العبد لكن تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان بالنسبة إلى الغرض أيضاً كما تجري بالنسبة إلى المأمور به لأنّه يمكن للمولى أن يبيّن مقدار غرضه، فكما أنّ المأمور به أمره دائر بين الأقلّ والأكثر كذلك الغرض، فإنّه أيضاً مقول انوار الأصول، ج 1، ص: 289

بالتشكيك، نعم لو كان الغرض

أمراً بسيطاً وكان أمره دائراً بين الوجود والعدم فالأصل هو الاشتغال مع قطع النظر عن ما مرّ آنفاً.

إلى هنا تمّ الكلام عن التعبّدي والتوصّلي، أي الفصل الثالث من مبحث الأوامر.

الفصل الرابع وجوب المباشرة في الأوامر وعدمه

إذا دار الأمر بين المباشرة والتسبيب، أي شككنا في أنّ امتثال الأمر الفلاني مشروط بالمباشرة أو يكفي التسبيب أيضاً أو يسقط الأمر حتّى بإتيان العمل تبرّعاً فما هو مقتضى الأصل اللّفظي والعملي؟

توضيح ذلك: إنّ الأفعال على ثلاثة أقسام: قسم منها لا يقبل النيابة قطعاً ولا بدّ فيه من المباشرة كالصّلاة والصّيام في حياة المكلّف، وقسم منها يقبل النيابة والتسبيب قطعاً كأداء الدَين بل يسقط بالأداء تبرّعاً، وقسم منها يكون الأمر فيه دائراً بين الأمرين فلا نعلم هل تكفي فيه النيابة أو التبرّع أو لا؟ كوجوب قضاء صلوات الأب الميّت على ولده الأكبر، فهل يجب عليه القضاء بالمباشرة أو يكفي التسبيب بغيره أو التبرّع من ناحية متبرّع، ونظير بعض مناسك الحجّ كالطواف ورمي الجمرات، ففي هذه الموارد ما هو مقتضى الإطلاقات والعمومات أوّلًا؟ وما هو مقتضى الأصل العملي ثانياً؟ فيقع البحث في مقامين.

وقد تعرّض لهذه المسألة بعض الأكابر في ذيل البحث عن التعبّدي والتوصّلي وذكر له مقدّمة، وهي «أنّ خطاب المكلّف بالفعل الذي يسقط وجوبه عنه بفعل غيره لا يكون مشروطاً بعدم فعل الغير كما توهّم، بل هو خطاب توجّه إليه في حين عدم فعل الغير كما هو شأن الواجب التخييري، كما أنّ الخطاب في مثل هذا الواجب لم يتعلّق بالجامع بين فعل المكلّف وفعل غيره كما يتعلّق به في الواجب التخييري، وذلك لخروج فعل الغير عن قدرته واختياره، وكما أنّ الخطاب لم يتعلّق به بنحو التخيير بينه وبين التسبيب إلى فعل غيره لأنّ الجامع الذي

يحصل به الغرض ليس مشتركاً بين فعل المكلّف وبين التسبيب إلى فعل غيره بل بين فعل المكلّف وبين نفس فعل الغير، وإنّما العقل يرشد إلى المكلّف إلى ما يسقط به التكليف عنه وهو

انوار الأصول، ج 1، ص: 292

فعل الغير فيتسبّب إليه بما يراه سبباً لصدور الفعل من الغير» (فتكون القضيّة في الفعل الذي يسقط وجوبه عنه بفعل غيره حينية لا مشروطة ولا من قبيل الجامع).

ثمّ قال: «إذا عرفت هذه المقدّمة تعرف أنّ إطلاق الخطاب يقتضي كون الوجوب مطلقاً في جميع الأحوال وأزمنة الإمكان لا أنّه قضيّة حينية أي أنّه ثابت في حين دون حين وحال دون حال، ونتيجة ذلك هو عدم سقوط الوجوب عن المكلّف وعدم حصول الغرض بفعل غيره» «1».

أقول: الحقّ أنّ فعل الغير كثيراً ما يكون في الموارد التي يسقط وجود الفعل عنه بفعل غيره من قبيل إفناء الموضوع الذي يوجب إفناء الحكم، وهذه ليست قضيّة حينية ولا مشروطة ولا تخييريّة، حيث إنّ القضيّة الحينيّة أو المشروطة تكون من قيود الحكم ولا ربط لها ببقاء الموضوع.

نعم إذا خيّر المكلّف بين أن يأتي بالفعل بنفسه أو الاستنابة فهو من قبيل الواجب التخييري، فإذا شككنا في جواز التسبيب وانتفاء الموضوع بفعل الغير أو شككنا في تعيين الفعل عليه أو التخيير بين المباشرة والاستنابة، فالإنصاف أنّ الإطلاق يقتضي المباشرة لأنّه إذا تعلّق خطاب المولى بعبده فما لم يحصل له اليقين بإمكان التسبيب فلا يجوز له التسبيب بالغير لأنّ ظاهر الخطاب أنّ المأمور إنّما هو العبد نفسه، ومن هنا يعلم أنّ تمسّك بعض بإطلاق المادّة من «أنّ مقتضى إطلاق المادّة قيام المصلحة والغرض بها وإن صدرت من الغير ولو بتسبيب المخاطب» في غير محلّه لأنّ إطلاق المادّة يقيّد

بإطلاق الهيئة، أي ظاهر توجيه الخطاب الذي يقتضي حصره في فعل المأمور يمنع عن تماميّة إطلاق المادّة.

وإن شئت قلت: ما لم يثبت انتفاء موضوع الأمر أو حصول المطلوب كانت دعوته إلى الامتثال باقية، وما لم يثبت التخيير بين المباشرة والتسبيب كان مقتضى الإطلاق هو المباشرة، فعلى كلّ حال لا يجوز الاكتفاء بفعل الغير ما لم يقم عليه دليل.

أضف إلى ذلك أنّ القضيّة الحينية في أوامر الموالي إلى العبيد لا معنى لها، لأنّ الإهمال في مقام الثبوت غير ممكن بل أمره دائر بين الإطلاق والتقييد، والحينية لا بدّ أن ترجع إلى الواجب المشروط، فتدبّر جيّداً.

انوار الأصول، ج 1، ص: 293

ثمّ إنّه لو فرض عدم كون المولى في مقام البيان أو لم يكن في البين لفظ بل كان الدليل لبّياً تصل النوبة إلى الأصل العملي، والاحتمالات فيه ثلاثة:

1- إنّ الأصل هو البراءة ونتيجتها كفاية فعل الغير كما ذهب إليه المحقّق العراقي رحمه الله فإنّه قال: إنّ مقتضى الأصل العملي هو البراءة عن التكليف بالفعل المزبور حين صدوره من الغير ولو قلنا بالاحتياط في مقام الدوران المزبور هو وجود العلم الإجمالي باشتغال ذمّة المكلّف، وهذا العلم الإجمالي غير موجود في محلّ الكلام لأنّه يعلم تفصيلًا بأنّه مخاطب بهذا الفعل لخروج فعل غيره عن قدرته واختياره، فلا يكون عدلًا لفعله في مقام التكليف ليحتمل كونه مكلّفاً تخييراً بأحد الأمرين، وبما أنّ المكلّف يعلم أنّه مخاطب بالفعل المزبور في حال ترك غيره له يشكّ بوجوبه عليه في حال إتيان الغير به يصحّ له الرجوع إلى البراءة في مقام الشكّ المذكور» «1».

2- إنّ الأصل الاشتغال، وذلك ببيان أنّه من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير، والأصل فيه هو التعيين، ولازمه الاشتغال وعدم

سقوط الفعل بفعل غيره.

3- التفصيل بين ما إذا كان التكليف دائراً بين فعل نفسه وفعل غيره تبرّعاً فالحقّ حينئذٍ مع المحقّق العراقي رحمه الله من أنّ الأصل هو البراءة، لأنّ فعل الغير ليس عدلًا لفعل المكلّف حتّى يتصوّر التخيير ويكون المورد من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير كما مرّ، وفي ما إذا كان التكليف دائراً بين فعل نفسه والاستنابة فالأصل هو الاشتغال، حيث إنّ الاستنابة أيضاً تكون من فعل المكلّف، فيدور الأمر بين التعيين والتخيير، والأصل فيه هو التعيين الذي لازمه الاشتغال.

أقول: الصحيح هو القول الثالث أي التفصيل، أمّا إذا كان المحتمل من قبيل الواجب التخييري فلأنّه من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير بناءً على وجوب الاحتياط فيه، وأمّا إذا كان من قبيل افناء الموضوع فلأنّ الشكّ يرجع إلى الشكّ في انتفاء الموضوع وعدمه، والأصل حينئذٍ هو استصحاب بقاء الموضوع أو الاشتغال كما لا يخفى.

الفصل الخامس هل الأصل في الواجبات النفسيّة أو الغيريّة؟ والتعيينية أو التخييريّة؟ والعينية أو الكفائيّة؟

والمناسب ذكر هذه المسألة في البحث عن تقسيمات الواجبات في ذيل مبحث الأوامر كما لا يخفى.

وعلى كلّ حال البحث هنا أيضاً يقع في مقامين: في مقتضى الأصل اللّفظي، ومقتضى الأصل العملي، ولكن قبل الورود في أصل البحث لا بدّ أن نشير إجمالًا إلى ماهيّات هذه الامور.

فنقول: أمّا الواجب النفسي فهو عبارة عن ما يجب لنفسه وتكون مصلحته قائمة بنفسه بخلاف الواجب الغيري الذي يجب لغيره ويكون مطلوباً لكونه مقدّمة لغيره، ونتيجته أن يكون وجوبه تابعاً لوجوب غيره كنصب السلّم للصعود على السطح، والوضوء والاستقبال بالنسبة إلى الصّلاة.

وأمّا الواجب التعييني والتخييري فالاحتمالات فيهما كثيرة والجدير منها بالذكر هنا احتمالان:

الاحتمال الأوّل: أنّ الواجب التخييري عبارة عن وجوب عدّة امور يسقط، بإتيان بعضها بخلاف الواجب التعييني الذي هو عبارة عن وجوب

شي ء واحد فلا يسقط إلّابإتيان نفس ذلك الشي ء.

الاحتمال الثاني: أن يكون الواجب التخييري عنوان أحد الفعلين أو أحد الأفعال فالوجوب تعلّق بجامع انتزاعي وهو عنوان «أحدهما» أو «أحدها» بخلاف الواجب التعييني الذي يتعلّق الوجوب فيه بشخص الفعل لا بالجامع.

انوار الأصول، ج 1، ص: 296

ونحن نبحث هنا بناءً على كلا المبنيين، وأمّا أيّهما هو الصحيح فسنتكلّم عنه في ذيل مبحث الأوامر عند البحث عن تقسيمات الواجب.

وأمّا الواجب العيني والكفائي فيأتي فيه نظير ما مرّ في الواجب التعييني والتخييري ولكنّه بالنسبة إلى المكلّف لا المتعلّق، فالواجب الكفائي يحتمل أن يكون الوجوب فيه متعلّقاً بجميع المكلّفين على نحو العموم الاستغراقي مع سقوط الوجوب بإتيان من به الكفاية، ويحتمل أن يكون الوجوب فيه متعلّقاً بجامع أحد المكلّفين أو جماعة من المكلّفين.

إذا عرفت هذا فنقول: إذا شككنا في النفسيّة والغيريّة كما إذا شككنا في أنّ غسل الجنابة مثلًا واجب نفسي أو واجب غيري، أو شككنا في التخييري والتعييني كما إذا شككنا في أنّ صلاة الجمعة في عصر الغيبة هل هي واجب تعييني أو واجب تخييري يخيّر المكلّف بينها وبين صلاة الظهر، أو شككنا في العينية والكفائيّة كما إذا شككنا في أنّ الجهاد واجب كفائي أو عيني (ولا إشكال في أنّ الشكّ هذا من قبيل الشبهة الحكمية لا الموضوعيّة) فيقع البحث في مقامين:

الأوّل: في مقتضى الأصل اللّفظي، والثاني: في مقتضى الأصل العملي.

أمّا المقام الأوّل: فذهب المحقّق الخراساني رحمه الله وجماعة إلى أنّ مقتضى إطلاق الأوامر هو النفسيّة والعينية والتعيينيّة.

وهو واضح بالنسبة إلى النفسيّة والغيريّة، فإذا قال المولى لعبده «اغتسل للجنابة» من دون أن يقيّده بشي ء فلا إشكال في أنّ ظاهره وجوب غسل الجنابة مطلقاً سواء كانت الصّلاة أيضاً واجبة أو لا؟

وبعبارة اخرى:

إنّ إطلاقه يقتضي عدم تقيّد وجوب غسل الجنابة بوجوب شي ء آخر، ولازمه النفسيّة.

وقد تمسّك بعض الأعلام أيضاً بإطلاق الأمر بالصّلاة من أنّ مقتضاه عدم تقيّد وجوب الصّلاة بغسل الجنابة ولازمه العقلي كون غسل الجنابة واجباً نفسياً، وإليك نصّ كلامه: «لو كان لقوله تعالى «أقيموا الصّلاة» إطلاق فمقتضاه عدم تقييد الصّلاة بالطهارة أو نحوها فالتقييد يحتاج إلى دليل ومؤونة زائدة والإطلاق ينفيه، ولازم ذلك هو أنّ وجوب الطهارة المشكوك نفسي لا غيري» «1».

انوار الأصول، ج 1، ص: 297

وأمّا بالنسبة إلى التخييريّة والتعيينية فكذلك تمسّك المحقّق الخراساني رحمه الله بإطلاق الأمر لنفي التخييريّة وإثبات التعيينية وهو في محلّه لأنّ الواجب التخييري مقيّد بما إذا لم يأت بالبدل وإطلاق الصيغة ينفي هذا القيد.

نعم إنّه إنّما يكون تامّاً بالنسبة إلى مبنى وجوب جميع الأطراف مع سقوط وجوب كلّ من الأطراف بفعل أحدها حيث إنّه يرجع حينئذ إلى اشتراط وجوب كلّ منها بعدم الإتيان بالآخر، والاشتراط منفيّ بإطلاق الصيغة، وأمّا بناءً على مبنى كون الواجب عنوان أحد الأفعال أو أحد الفعلين فلا، لأنّا لا نعلم من أوّل الأمر أنّ صلاة الجمعة واجب بما هي صلاة الجمعة أو بما أنّها أحد الفعلين، أو أحد الأفعال، ولا معنى للأخذ بالاطلاق هنا، نعم ظهور العنوان في الخصوصيّة أعني خصوصيّة عنوان «الجمعة» ينفي عنوان «أحدهما» وهذا غير مسألة الإطلاق والتقييد، فتدبّر فإنّه دقيق.

وأمّا بالنسبة إلى العينية والكفائيّة فكذلك تمسّك المحقّق الخراساني رحمه الله بإطلاق صيغة الأمر لإثبات العينية في محلّه بناءً على مبنى من يقول في الواجب الكفائي: أنّ التكليف به متوجّه إلى عموم المكلّفين (على نحو العموم الاستغراقي) إلّاأنّ وجوبه على كلّ مشروط بترك الآخر لأنّ مقتضى إطلاق الصيغة عدم الاشتراط فيثبت كونه واجباً

عينياً.

وأمّا بناءً على مبنى من يقول: بأنّ التكليف في الواجب الكفائي متوجّه إلى أحد المكلّفين أو جماعة منهم لا بعينها فلا، حيث إنّ المكلّف حينئذٍ لا يعلم من أوّل الأمر أنّ التكليف توجّه إلى نفسه أو إلى عنوان أحد المكلّفين، كما إذا دقّ الباب فأمر المولى بفتح الباب ولا يعلم العبد من أوّل الأمر أنّه هل المولى وجّه الخطاب إلى شخصه وقال «افتح أنت الباب» أو وجّه الخطاب إلى أحد العبيد لا بعينه وقال «ليفتح أحدكم الباب»، فليس في البين لفظ مشخّص حتّى ينعقد له إطلاق فيتمسّك به، نعم يجري فيه ما مرّ سابقاً في الشكّ بين التخييريّة والتعيينيّة من أنّ ظاهر توجّه الخطاب إلى شخص أو صنف خاصّ أو أخذ عنوان معيّن في لسان الدليل هو اعتباره في الحكم ولازمه هو العينية.

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ لازم الإطلاق في جميع الموارد ليس هو التوسعة في الأفراد بل قد يكون لازمه التضييق والتحديد، حيث إنّ لازم التعيينية في ما نحن فيه هو تضييق الأفراد وحصرها في فرد واحد، كما أنّ لازم العينية هو توسعة أفراد المكلّفين وتعميم التكليف بالنسبة إلى جميعهم.

انوار الأصول، ج 1، ص: 298

هذا كلّه بالنسبة إلى المقام الأوّل وهو مقتضى الأصل اللّفظي.

وأمّا المقام الثاني: وهو مقتضى الأصل العملي فيبدو في أوّل النظر أنّ الأصل هو البراءة، وهي تقتضي الغيريّة والتخييريّة والكفائيّة فإنّ القدر المتيقّن من وجوب الوضوء مثلًا هو وجوبه بعد الوقت، وأمّا قبله فينتفي بأصل البراءة، ولازمه نفي النفسيّة وإثبات الغيريّة، وكذلك بالنسبة إلى التخييريّة والتعيينية، لأنّ ما تمّت الحجّة بالنسبة إليه هو وجوب أحد الفعلين، فإذا أتينا بالظهر مثلًا نشكّ في وجوب صلاة الجمعة وهو ينتفي بأصل البراءة، وكذلك

بالنسبة إلى الكفائيّة والعينية فإنّه بعد تصدّي الغير للعمل يشكّ المكلّف في الوجوب على نفسه، وهو أيضاً ينتفي بأصل البراءة.

وبالجملة: إنّ القدر المتيقّن من الخطاب هو التخييريّة والكفائيّة والغيريّة وأمّا الزائد عليها فهو منفي بأصل البراءة.

هذا ما يبدو للإنسان في أوّل النظر، ولكن عند التأمّل والدقّة يمكن التفصيل في التخييريّة والتعيينية والنفسيّة والكفائيّة على المباني المختلفة لأنّه بناءً على المبنى الأوّل في الواجب التخييري والكفائي (من أنّ الخطاب توجّه إلى جميع الأطراف أو جميع المكلّفين) فبعد إتيان أحد الأفراد أو أحد المكلّفين يقع الشكّ في سقوط البدل أو سقوط التكليف عن الآخرين، وحيث إنّ المفروض أنّ التكليف تعلّق بالجميع فمقتضى استصحاب بقاء التكليف أو أصالة الاشتغال هو عدم سقوط التكليف كما لا يخفى، فالبيان المزبور تامّ بناءً على أحد المبنيين فقط.

انوار الأصول، ج 1، ص: 299

الفصل السادس الأمر عقيب الحظر

إذا ورد أمر عقيب الحظر أو عقيب توهّم الحظر فهل يدلّ على الإباحة أو على الوجوب؟

كقوله تعالى: «... غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ» «1»

. مع ما ورد في قوله تعالى: «وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا» «2»

، فهل هو دليل على وجوب الصيد بعد الاستحلال أو يدلّ على جوازه فقط؟

وكقوله تعالى: «يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» «3»

وقوله تعالى: «فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ» «4».

وقوله تعالى: «يَسْأَلُونَكَ عَنْ الَمحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الَمحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ» «5»

فما هو مقتضى القاعدة عند الشكّ فيما إذا دار الأمر بين الجواز والوجوب؟

فيه أربعة أقوال:

1- دلالته على الإباحة، وهو المشهور عندنا.

2- دلالته على الوجوب كسائر الموارد، وهو المنقول عن كثير من العامّة.

3- التفصيل بين ما إذا كان

معلّقاً على زوال علّة الحرمة فيعود إلى ما قبله من الحكم، وبين ما إذا لم يكن معلّقاً عليه فيكون ظاهراً في الوجوب، ففي مثل قوله تعالى: «فَإِذَا انسَلَخَ انوار الأصول، ج 1، ص: 300

الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ» المرجع هو ما كان قبله من الحكم، وهو جواز قتل المشركين لأنّ الأمر فيه معلّق على زوال علّة الحرمة وهي وجود الأشهر الحرم (بخلاف قولنا لا تكرم زيداً يوم الجمعة وبعده أكرمه).

4- عدم دلالته على شي ء فليرجع إلى الاصول العمليّة.

والصحيح عندنا الأخير كما ذهب إليه جمع من المحقّقين لما قرّر في محلّه من أنّه إذا كان الكلام محفوفاً بما يحتمل القرينة فهو يوجب الإجمال، وما نحن فيه من هذا القبيل، لأنّ فيه أمر وهو قوله تعالى «فآتوهنّ» مثلًا وفي جنبه يوجد ما يحتمل القرينية وهو المنع والحظر السابق فيحتمل أن يكون قرينة على مطلق الجواز والإباحة، أي يوجب عدم انعقاد ظهور للأمر في الوجوب.

هذا إذا كان الأمر والحظر في كلام واحد كالمثال المذكور، وأمّا إذا كان في كلامين مثل الأمر بالصيد والحظر عنه الواردين في آيتين مختلفين فيمكن أن يقال أيضاً بأنّ العرف بعد ملاحظة النهي لا يرى ظهوراً للأمر في الوجوب، فيكون كالقرينة المنفصلة.

وإن شئت قلت: يرفع اليد عن ظهوره بعد ورود هذه القرينة.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّه إذا ورد نهي بعد الأمر كما إذا قيل «صم شهر رمضان ولا تصم بعده» فالإنصاف أنّ الكلام فيه هو الكلام في الأمر الوارد عقيب الحظر، وهو الإجمال والرجوع إلى الاصول العمليّة بنفس البيان.

انوار الأصول، ج 1، ص: 301

الفصل السابع في المرّة والتكرار

ولا بدّ قبل الورود في أصل البحث من تقديم أمرين:

الأمر الأوّل: في تعيين محلّ النزاع، فهل هو مادّة الأمر أو هيئته؟

ذهب بعض (وهو صاحب

الفصول) إلى أنّ النزاع في الهيئة فقط، لأنّ المادّة هي المصدر بدون الألف واللام وهي تدلّ على صرف الطبيعة فقط بالاتّفاق.

ولكن أورد عليه المحقّق الخراساني رحمه الله بأنّ الاتّفاق على أنّ المصدر المجرّد عن اللام والتنوين لا يدلّ إلّاعلى الماهية (على ما حكاه السكّاكي) لا يوجب كون النزاع هيهنا في الهيئة (فقط) كما في الفصول، فإنّه غفلة وذهول عن كون المصدر كذلك لا يوجب الاتّفاق على أنّ مادّة الصيغة لا تدلّ إلّاعلى الماهية، ضرورة أنّ المصدر ليس مادّة لسائر المشتقّات بل هو صيغة مثلها، كيف وقد عرفت في باب المشتقّ مباينة المصدر وسائر المشتقّات بحسب المعنى، فكيف يكون مادّة لها بمعناه؟ فعليه يمكن دعوى اعتبار المرّة أو التكرار في مادّته (أيضاً) كما لا يخفى.

أقول: نعم، يمكن حصر محلّ النزاع في الهيئة ولكن ببيان آخر، وهو أنّ المرّة والتكرار من خصوصّيات الطلب الذي هو مفاد للهيئة كما أنّ الوجوب والاستحباب والفور والتراخي أيضاً من شؤون الطلب وهو مفاد للهيئة.

الأمر الثاني: قد يقال بأنّ هذه المسألة مرتبطة بمسألة الإجزاء، فعلى القول بالاجزاء يدلّ الأمر على المرّة، وعلى القول بعدمه يدلّ على التكرار.

ولكن الحقّ أنّه لا ربط بين المسألتين، لأنّ الإجزاء عبارة عن إتيان المأمور به على وجهه، فلو كان المأمور به إتيان العمل مرّة فإتيانه كذلك يوجب الإجزاء، ولو كان المأمور

انوار الأصول، ج 1، ص: 302

به إتيانه مكرّراً فإتيانه مكرّراً يوجب الإجزاء، فمسألة الإجزاء تكون في طول هذه المسألة ومتأخّرة عنها، إذا عرفت هذين الأمرين فلنرد في أصل المسألة.

فنقول: المشهور بين المتأخّرين أنّ هيئة الأمر لا يدلّ على المرّة والتكرار بل يدلّ على صرف الطبيعة فقط غاية الأمر أنّها تحصل بفرد واحد.

والوجه في دلالتها على مجرّد الطبيعة هو

التبادر فالمتبادر من قوله: «اغتسل» إنّما هو طلب طبيعة الغسل التي تحصل بإتيان مصداق واحد ونتيجته هو المرّة.

هذا ما استحسنه القوم وتلقّوه بالقبول، ولكن الصحيح عندنا أنّها تدلّ على المرّة ولكن لا بالدلالة اللّفظيّة بل من باب مقدّمات الحكمة، لأنّ المولى كان في مقام البيان، فلو كان مطلوبه إتيان الطبيعة أكثر من مرّة واحدة لكان عليه البيان، لأنّ القدر المتيقّن من مدلول اللفظ إنّما هو المرّة، وإمّا التكرار فهو يحتاج إلى مؤونة زائدة، وحيث إنّ المفروض كون المولى في مقام البيان ولا إهمال في مقام الثبوت (لأنّ المولى إمّا أن أراد المرّة أو أراد التكرار) ومع ذلك لم يأت في مقام الإثبات بما يدلّ على التكرار فنستكشف أنّ مطلوبه إنّما هو إتيان العمل مرّة.

نعم، هيهنا امور لا بدّ من بيانها:

الأمر الأوّل: في ما نلاحظه من الفرق بين الأمر والنهي وإنّ الأمر يكفي في امتثاله إتيان فرد واحد بينما النهي لا بدّ لامتثاله من ترك جميع الأفراد مع أنّ المتعلّق في كليهما أمر واحد وهو الطبيعة، والطبيعي موجود بوجود أفراده، ونسبة الطبيعي إلى أفراده هي نسبة الآباء إلى الأبناء لا نسبة أب واحد إلى الأبناء، فكما أنّه يتحقّق بفرد واحد منه وبصرف وجوده في الأمر فليتحقّق تركه أيضاً بصرف تركه ولو بترك فرد واحد مع أنّه ليس كذلك بل لا بدّ في النهي من ترك جمع أفراد الطبيعي. فمن أين نشأ هذا الفرق؟

وقد اجيب عن هذا السؤال بوجوه عديدة:

الوجه الأوّل: أنّ الفرق يرجع في الحقيقة إلى خصوصيّة الوجود والعدم فإنّ وجود الطبيعة يتحقّق بوجود فرد واحد، وأمّا عدمها فلا يتحقّق إلّابترك الجميع.

ولكن يرد عليه: أنّ التحقيق كون العدم بديلًا للوجود فكما يتصوّر لوجود الطبيعة أفراد كثيرة

كذلك يتصوّر لعدم الطبيعة اعدام كثيرة، فإنّ نسبة الطبيعي إلى أفراده نسبة الآباء إلى الأبناء كما مرّ آنفاً من دون فرق بين الوجود والعدم، فكما أنّ وجود زيد يكون عين وجود

انوار الأصول، ج 1، ص: 303

طبيعي الإنسان- كذلك عدم زيد يكون عين عدم طبيعي الإنسان.

الوجه الثاني: أنّ متعلّق الأمر والنهي كليهما إنّما هو الطبيعة السارية في جميع الأفراد ولكن حيث إنّه لا يمكن الإتيان بجميع الأفراد (بينما يمكن ترك جميعها) وليس هناك قرينة على عدد معيّن فهذا بنفسه قرينة عقليّة على كفاية فرد واحد في الأمر دون النهي.

ويرد عليه أيضاً: أنّ غاية ما تقتضيه هذه القرينة العقليّة لزوم إتيان الطبيعة السارية في الأمر بقدر الإمكان لا كفاية فرد واحد منها كما لا يخفى.

الوجه الثالث: أنّ متعلّق الأمر والنهي هو الطبيعة المهملة، وهي في النهي يوجد بترك جميع الأفراد، ولكن في الأمر يدور أمرها بعد جريان مقدّمات الحكمة بين العام البدلي والعام الاستغراقي وحيث إنّ العام البدلي يكون أخفّ مؤونة من العام الاستغراقي من ناحية البيان، أي يحتاج العام الاستغراقي إلى بيان زائد، فمقتضى مقدّمات الحكمة كفاية فرد واحد على البدل.

وهذا أيضاً ممّا لا يمكن المساعدة عليه، لأنّه لا دليل على أن يكون الشيوع والإطلاق في ناحية الوجود على نحو العام البدلي وفي ناحية العدم على نحو العام الاستغراقي بل لو كان الإطلاق في ناحية الوجود على نحو العام البدلي فليكن كذلك في العدم أيضاً.

الوجه الرابع: (وهو المختار) أنّ هذا الفرق يرجع في الواقع إلى الفرق الموجود بين طبيعة المصلحة وطبيعة المفسدة، فإنّ تحصيل المصالح يقتضي الاكتفاء بالمرّة بخلاف دفع المفاسد فإنّه لا يتحقّق إلّابترك جميع الأفراد، فإنّ مفسدة الخمر أو السمّ مثلًا إنّما تترك فيما إذا

تركنا جميع أفراد الخمر أو السمّ مع أنّ المصلحة الموجودة في شرب دواء خاصّ يتحقّق بفرد واحد منه، وهذه قرينة عقليّة خارجيّة توجب أن يكون المتعلّق في الأوامر صرف وجود الطبيعة وفي النواهي ترك جميع الأفراد، فإنّ الأوامر كاشفة عن مصالح في المتعلّق، والنواهي كاشفة عن مفاسد فيه.

ولا إشكال في أنّ سيرة العقلاء في الموالي والعبيد أيضاً كذلك ومنشأها ما ذكرناه.

الأمر الثاني: في جواز التكرار وعدمه بعد ثبوت عدم دلالة الأمر على التكرار.

وقد ذكر فيه ثلاثة وجوه: 1- أنّه جائز مطلقاً. 2- عدم الجواز مطلقاً 3- ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله من التفصيل بين ما إذا كان الامتثال علّة تامّة لحصول الغرض الأقصى انوار الأصول، ج 1، ص: 304

(كما إذا أمر المولى بإهراق الماء في فمه لرفع عطشه فأهرقه العبد) فلا يجوز، وما إذا لم يكن الامتثال علّة تامّة لذلك (كما إذا أمر بالماء ليشربه فأتى به ولم يشربه) فعند ذلك له تبديل الامتثال، أي يأتي بفرد آخر أحسن من الأوّل على أن يكون به الامتثال أيضاً لا بخصوص الفرد الأوّل.

وأورد عليه في المحاضرات: «بأنّ الصحيح هو عدم جواز الامتثال بعد الامتثال، وذلك لأنّ مقتضى تعلّق الأمر بالطبيعة بدون تقييدها بشي ء (كالتكرار أو نحوه) حصول الامتثال بإيجادها في ضمن فرد ما في الخارج، لفرض انطباقها عليه قهراً، ولا نعني بالامتثال إلّاانطباق الطبيعة المأمور بها على الفرد المأتي به في الخارج، ومعه لا محالة يحصل الغرض ويسقط الأمر، فلا يبقى مجال للامتثال مرّة ثانيّة لفرض سقوط الأمر بالامتثال الأوّل وحصول الغرض به، فالإتيان بها بداعيه ثانياً خلف ... (إلى أن قال): ومن ضوء هذا البيان يظهر نقطة الخطأ في كلام صاحب الكفاية وهي الخلط بين

الغرض المترتّب على وجود المأمور به في الخارج من دون دخل شي ء آخر فيه وبين غرض الآمر، كرفع العطش مثلًا حيث إنّ حصوله يتوقّف على فعل نفسه وهو الشرب زائداً على الإتيان بالمأمور به، ومن الطبيعي أنّ المكلّف لا يكون مأموراً بإيجاده وامتثاله، لخروجه عن قدرته واختياره، فالواجب على المكلّف ليس إلّاتمكين المولى من الشرب وتهيئة المقدّمات له، فإنّه تحت اختياره وقدرته وهو يحصل بصرف الامتثال الأوّل» «1».

أقول: الحقّ هو جواز تبديل الامتثال وإنّ هذا البيان ليس جواباً عن ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله من مثال تبديل ماء بماء أحسن قبل شربه وإهراق الأوّل، فهل هذا تبديل للامتثال بآخر أو تكرار الامتثال فيما إذا أتى بماء أحسن من دون إهراق الماء الأوّل، أي وضع ماء آخر إلى جنب الماء الأوّل أم لا؟ لا إشكال في أنّه وإن حصل الغرض من فعل العبد ولكن حيث إنّ غرض الآمر لم يحصل بعدُ يجوز عند العرف والعقلاء إتيان فرد آخر وإنّهم يعدّونه امتثالًا آخر لأمر المولى بل يمدحونه عليه، ولعلّ جواز إتيان الصّلاة جماعة بعد إتيانها فرادى في الشرع من هذا الباب، فالصحيح هو إمكان تبديل الامتثال أو تكراره في مقام الثبوت، فلو

انوار الأصول، ج 1، ص: 305

دلّ دليل في مقام الإثبات على عدم حصول الغرض الأقصى للمولى نعمل به من دون محذور.

الأمر الثالث: في أنّه هل المراد من المرّة والتكرار هو الفرد والأفراد، أو الدفعة والدفعات؟

والفرق بينهما واضح حيث إنّه إذا كان المراد منهما هو الأوّل فبناءً على دلالة صيغة الأمر على المرّة لا بدّ في مقام الامتثال من إتيان فرد واحد ولا يجوز إتيان أكثر من الواحد ولو بدفعة واحدة، بينما إذا كان المراد هو الدفعة

والدفعات فبناءً على دلالة صيغة الأمر على المرّة يمكن إتيان أفراد عديدة دفعة واحدة.

وقد ذهب صاحب الفصول إلى الثاني، واستدلّ بأنّه لو كان المراد هو الأوّل كان الأنسب بل اللازم أن يجعل هذا المبحث تتمّة للمبحث الآتي، وهو البحث عن تعلّق الأوامر بالطبائع أو بالافراد، فإنّ المبحوث عنه هناك أنّ الأمر متعلّق بالطبيعة أو بالفرد وعلى القول بتعلّقه بالفرد هل يقتضي الفرد الواحد أو الأفراد؟ فيكون النزاع في ما نحن فيه جارياً على أحد القولين في تلك المسألة.

ولكن الحقّ أنّه لا ربط بين المسألتين، أي يجري النزاع هنا حتّى على القول بتعلّق الأمر بالطبيعة فإنّا نقول: ولو كان متعلّق الأمر هو الطبيعة مع ذلك لا يجب إتيان أكثر من فرد واحد ولو في دفعة واحدة بنفس البيان السابق من اقتضاء مقدّمات الحكمة ذلك، فلو قال المولى مثلًا «اعتق الرقبة» فلا يجوز عتق رقاب متعدّدة ولو في دفعة واحدة بعنوان امتثال واحد، نعم أنّه يجوز بناءً على ما مرّ آنفاً من جواز تبديل الامتثال أو تكراره في ما إذا لم يحصل الغرض الأقصى للمولى.

فتلخّص: أنّ المراد من المرّة والتكرار إنّما هو الفرد والأفراد لا الدفعة والدفعات.

الأمر الرابع: في أنّه إذا أتى دفعة واحدة بافراد كثيرة فبناءً على تعلّق الأمر بالطبيعة هل يعدّ هذا امتثالًا واحداً أو امتثالات متعدّدة؟

نقل عن المحقّق البروجردي رحمه الله في تهذيب الاصول بأنّه امتثالات متعدّدة محتجّاً بأنّ الطبيعة متكثّرة بتكثّر الأفراد ولا يكون فردان أو أفراد منها موجودة بوجود واحد، لأنّ المجموع ليس له وجود غير وجود الأفراد، فكلّ فرد محقّق للطبيعة، ولمّا كان المطلوب هو الطبيعة بلا تقيّد بالمرّة أو التكرار، فحينئذٍ إذا أتى المكلّف بافراد متعدّدة فقد أوجد المطلوب في

ضمن كلّ فرد مستقلًا، فيكون كلّ امتثالًا برأسه كما هو موجود بنفسه، ونظير ذلك الواجب انوار الأصول، ج 1، ص: 306

الكفائي حيث إنّ الأمر فيه متعلّق بنفس الطبيعة ويكون جميع المكلّفين مأمورين باتيانها فمع إتيان واحد منهم يسقط الوجوب عن الباقي، وأمّا لو أتى به عدّة منهم دفعة يعدّ كلّ واحد ممتثلًا ويحسب لكلٍ امتثال مستقلٍ لا أن يكون فعل الجميع امتثالًا واحداً (انتهى).

ثمّ أورد عليه: بأنّ وحدة الامتثال وكثرته بوحدة الطلب وكثرته لا بوحدة الطبيعة وكثرتها، ضرورة أنّه لولا البعث لم يكن معنى لصدق الامتثال وإن أوجد آلاف من أفراد الطبيعة ... إلى أن قال: وقياسه بالواجب الكفائي قياس مع الفارق لأنّ البعث في الواجب الكفائي يتوجّه إلى عامّة المكلّفين بحيث يصير كلّ مكلّف مخاطباً بالحكم، فهناك طلبات كثيرة وامتثالات عديدة لكن لو أتى واحد منهم سقط البعث عن الباقي لحصول الغرض وارتفاع الموضوع ... بخلاف المقام» «1».

أقول: يمكن المناقشة في إيراده:

أوّلًا: بأنّه لو لم يكن كلّ مصداق امتثالًا برأسه لزم منه أن يكون الامتثال بأحد المصاديق لا بعينه، ومن الواضح أنّ الواحد لا بعينه غير موجود في الخارج وإنّما هو من مخترعات الذهن، فتأمّل.

ثانياً: أنّ قياس ما نحن فيه بالواجب الكفائي ليس قياساً مع الفارق بناءً على القول بأنّ متعلّق الواجب الكفائي عنوان «أحد المكلّفين» أو «جماعة من المكلّفين» وأنّه ليس المتعلّق جميعهم وأنّه مثل قول المولى «ليقم واحد منكم ويفتح الباب» وعلى كلّ حال الحقّ ما أفاده المحقّق البروجردي رحمه الله.

توضيح ذلك: إنّ المسألة لا تخلو عن احتمالات:

إمّا أن لا يكون هناك امتثال في الأمثلة المذكورة، وفي مثل قوله: «أطعم فقيراً لكفّارة الصّيام»، فأطعم فقراء في مجلس واحد، مع عدم كون المطلوب بشرط

لا، فهذا ممّا لا مجال له قطعاً بل حصل الامتثال بطريق أكمل.

وإمّا أن يكون المطلوب الواحد لا بعينه، أو المجموع من حيث المجموع، ومن الواضح أنّ شيئاً من هذين العنوانين غير موجود في الخارج، فالواحد لا بعينه موجود ذهني كما أنّ انوار الأصول، ج 1، ص: 307

المجموع من حيث المجموع كذلك.

أو يقال أنّ المطلوب صرف الوجود، وقد حصل في المثال وشبهه ولكن الإنصاف أنّ صرف الوجود أيضاً لا يخرج عمّا ذكر.

فلا يبقى إلّاأن يقال أنّ كلّ واحد مصداق للامتثال.

إن قلت: الأمر الواحد كيف يكون له امتثالات متعدّدة؟

قلنا: لا مانع من ذلك، ولكن يكون الثواب والأجر واحداً، وإن هو إلّامثل الواجب الكفائي بأن يقول المولى مخاطباً لغلمانه: «ليقم واحد منكم ويأتيني بالماء»، فقام أكثر من واحد أو جميعهم فأتاه بماء في آنٍ واحد، فلا شكّ في أنّ كلّ واحد امتثل أمر المولى، ولكن لو كان هنا جزاء، كان لا محالة مقسّماً بينهم، وهكذا الأمر في باب الجعالة، فإذا قال واحد: «من يأتيني بالماء مثلًا فله كذا» فأتاه جمع بالماء، فلا شكّ أنّ كلّ واحد منهم عمل بمقتضى الجعالة، ولكن للجميع اجرة واحدة تقسّم بينهم.

انوار الأصول، ج 1، ص: 309

الفصل الثامن في الفور والتراخي

هل الأمر يدلّ على الفور، أو التراخي، أو لا يدلّ على واحد منهما بل يدلّ على الطبيعة المجرّدة؟

فيه ثلاثة وجوه، والصحيح عند المتأخّرين من الأصحاب هو الوجه الثالث لأنّ مفاد صيغة الأمر ومادّته بحكم التبادر ليس إلّاطلب إيجاد الطبيعة التي ليس فيها مرّة ولا تكرار ولا فور ولا تراخي أبداً، بل تستفاد هذه الخصوصيّات من دليل آخر.

لكن الصحيح عندنا أنّها تدلّ على الفور أيضاً كماتدلّ على المرّة، وذلك لأنّ العرف والعقلاء لا يعدّون العبد معذوراً إذا أخّر الامتثال.

هذا مضافاً

إلى أنّ البعث التشريعي يطلب الانبعاث فوراً عند العقل كما في البعث التكويني ولا معنى لأنّ يكون البعث في الحال والانبعاث في المستقبل، فإنّ البعث التشريعي بمنزلة دفع إنسان بيده لطلب خروجه من الدار مثلًا.

وإن شئت قلت: كما أن طبيعة الأمر والطلب تقتضي الوجوب كذلك تقتضي الفوريّة إلّاأن يثبت خلافه.

ومن هنا لا بدّ في باب القضاء من إقامة دليل من الخارج على أنّ وقت القضاء موسّع، وإلّا مقتضى البيان المذكور أنّ وقته مضيّق فلابدّ من القضاء فوراً.

ولعلّ ما ذكرنا هو مراد من استدلّ على دلالة الأمر على الفور بأنّه من قبيل العلّة التكوينيّة، فكما أنّ العلل التكوينيّة تقتضي معلولها فوراً فكذا العلل التشريعيّة مثل الأوامر فإنّه لا بدّ أن يحمل على ما ذكرناه، وإلّا فقد عرفت أنّ العلّة للتشريع هو نفس المولى، والأمر لا يكون علّة تامّة للامتثال فلا يقاس بالعلل التكوينيّة التامّة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 310

بقي هنا شي ء:

وهو أنّه لو لم يمتثل المكلّف المأمور به فوراً فهل يجب عليه الإتيان فوراً ففوراً بناءً على القول بالفوريّة، أو يسقط الحكم بالمرّة، أو تسقط فوريته؟

قال المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية: إنّ المسألة مبنية على أنّ مفاد الصيغة على القول بالفور هو وحدة المطلوب أو تعدّده؟ فإن كان على نحو تعدّد المطلوب بأن كان الإتيان بالمأمور به مطلوباً وإتيانه على الفور مطلوباً آخر، فالواجب الإتيان به لو عصى في الفور، وأمّا لو كان المجموع مطلوباً واحداً سقط الوجوب بعد عصيان الفوريّة، ثمّ أضاف إليه بأنّه لو قيل بدلالتها على الفوريّة لما كان لها دلالة على نحو المطلوب من وحدته أو تعدّده، ولازم ما ذكره كون الأمر ساكتاً عن الوحدة والتعدّد، وعند الابهام من هذه الناحية يجب

الرجوع إلى الاصول.

أقول: إن قلنا بأنّ الفوريّة مستفادة من البعث وإنّ بعث المولى مفهومه الانبعاث فوراً فهذا يدلّ على الانبعاث فوراً ففوراً، ولا يسقط الحكم إلّابإنعدام الموضوع أو الامتثال أو مضيّ الزمان إذا كان موقتاً وإلّا وجب الإتيان به فوراً ففوراً.

والحاصل: أنّ طبيعة البعث كما عرفت تقتضي الفوريّة بحيث لا يسقط المطلوب بعصيان الفوريّة في زمان، وظهر من ذلك أنّه لا ربط لها بمسألة تعدّد المطلوب كما يظهر من الأوامر في الموالي العرفيّة، إلّاأن يدلّ دليل خاصّ على سقوط الطلب عند عصيانه فوراً.

انوار الأصول، ج 1، ص: 311

الفصل التاسع الإجزاء في الأوامر
اشارة

الإتيان بالمأمور به على وجهه هل يقتضي الإجزاء، أم لا؟

وقبل الورود في أصل البحث لا بدّ من تقديم امور:

الأمر الأوّل: في أنّ المسألة عقليّة أو لفظيّة؟

مقتضى تعبير المحقّق الخراساني رحمه الله في عنوان البحث (كما نسب نفس التعبير إلى صاحب التقريرات ومن تأخّر عنهما أيضاً) أنّه بحث عقلي، حيث قال: «الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء في الجملة بلا شبهة» فإنّ الاقتضاء فيه يكون بمعنى العلّية لأنّه نسب إلى الإتيان دون صيغة الأمر فيبحث حينئذ في مبحث الإجزاء في أنّ العقل هل يحكم بالإجزاء بعد الإتيان بالمأمور به بتمام أجزائه وشرائطه أو لا؟ فيكون البحث عقليّاً.

ولكن مقتضى ما نسب إلى المحقّق القمّي وصاحب الفصول رحمهما الله ومن تقدّمهما من الاصوليين أنّ البحث لفظي حيث إنّهم قالوا في عنوان البحث: «أنّ الأمر بالشي ء يقتضي الإجزاء أم لا»؟

فنسبوا الاقتضاء إلى الأمر وهيئته.

ولا إشكال في أنّ لازم التعبير الأوّل بناءً على الاقتضاء المزبور لزوم إيقاع هذا البحث ضمن المباحث العقليّة مع أنّهم أوردوه في المباحث اللّفظيّة (وهو نفس ما يرد عليهم بالنسبة إلى مباحث «جواز اجتماع الأمر والنهي» و «دلالة النهي في العبادة على الفساد» و «مقدّمة الواجب» و «دلالة الأمر بالشي ء على النهي عن ضدّه» حيث إنّ جميعها مباحث عقليّة وردت ضمن المباحث اللّفظيّة).

ولكن هذا كلّه ما يقتضيه ظاهر التعبير في بدو النظر، والصحيح إمكان كون البحث لفظيّاً

انوار الأصول، ج 1، ص: 312

حتّى بناءً على ما اختاره المحقّق الخراساني رحمه الله من التعبير.

توضيحه: أنّ الأوامر على قسمين: واقعية وظاهريّة، والواقعيّة تنقسم أيضاً إلى قمسين:

واقعية اختياريّة وواقعية اضطراريّة (كالأمر بالتيمّم عند فقدان الماء) والظاهريّة نظير الأمر بالاستصحاب عند الشكّ في الطهارة مثلًا مع اليقين السابق بها، وسيأتي دخول كلا القسمين في محلّ النزاع، ولا

إشكال في أنّ النزاع يكون عقليّاً بالنسبة إلى الأوامر الواقعيّة الاختياريّة، وأمّا بالنسبة إلى الواقعيّة الاضطراريّة والأوامر الظاهريّة فيمكن أن يكون النزاع لفظيّاً لأنّ البحث فيهما يدور في الواقع مدار دلالة أدلّتهما اللّفظيّة (دليل التيمّم ودليل الاستصحاب مثلًا) على الإجزاء واستظهاره منها وعدمه فيبحث فيهما عن مفاد ظواهر الأدلّة وهو بحث لفظي كما لا يخفى.

هذا كما يمكن أن يكون البحث عقليّاً حتّى بناءً على التعبير الثاني وهو ما نقل عن قدماء الأصحاب ونسب الاقتضاء فيه إلى الأمر دون الإتيان، حيث إنّه يمكن أن يكون مرادهم من اقتضاء الأمر للإجزاء أنّ الأمر يدلّ على إرادة المولى للمتعلّق المأمور به، والإرادة تدلّ على وجود غرض للمولى في المتعلّق، وبعد إتيان المكلّف بالمأمور به يحصل الغرض عقلًا وبه تسقط الإرادة وبتبعه يسقط الأمر كذلك وهو معنى الإجزاء، ولا إشكال في أنّه بحث عقلي فحسب، وبهذا يندفع الإيراد المزبور الوارد على التعبير الأوّل بالنسبة إلى مبحث الإجزاء ويثبت أنّ مجرّد نسبة الاقتضاء إلى الإتيان ليس دليلًا على أنّ المسألة عقليّة، مضافاً إلى عدم كون هذا التعبير أمراً متّفقاً عليه عند القوم كي يستكشف منه كون الاقتضاء في عنوان البحث بمعنى العلّية والتأثر عقلًا.

الأمر الثاني: في المراد من لفظ «على وجهه» المأخوذ قيداً في عنوان البحث

والاحتمالات فيه ثلاثة:

1- أن يكون قيداً توضيحاً لكلمة «المأمور به» فيكون المعنى إتيان المأمور به مع جميع الشرائط المأخوذة فيه من ناحية الشرع.

2- أن يكون المراد منه نيّة الوجه وهو الوجوب والندب.

انوار الأصول، ج 1، ص: 313

3- أن يكون قيداً احترازيّاً فيكون المعنى إتيان المأمور به مع جميع قيوده وشرائطه الشرعيّة والعقليّة المعتبرة فيه، فيشمل الإتيان بالعبادات مع قصد القربة حتّى بناءً على مبنى القائلين بأنّ اعتباره بحكم العقل دون الشرع لعدم إمكان أخذه في المأمور به

في لسان الشارع.

ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى الوجه الثالث لا الوجه الثاني لأنّه لا خصوصيّة له من بين القيود والشرائط حتّى يختصّ بالذكر في عنوان البحث، مضافاً إلى عدم اعتباره عند معظم الأصحاب، ومضافاً إلى أنّ من قال باعتباره لم يقل به إلّافي خصوص العبادات، ومحلّ النزاع في ما نحن فيه أعمّ منها ومن غيرها، ولا الوجه الأوّل لأنّ ظاهر القيود الواردة في عنوان البحث أنّها قيود احترازيّة لا توضيحية، مضافاً إلى أنّه يستلزم خروج التعبّديات عن حريم النزاع بناءً على ما اختاره من كون اعتبار قصد القربة في العبادات هو بحكم العقل لا بحكم الشرع وذلك لوضوح عدم كون الإتيان بها على الكيفية المعتبرة فيها شرعاً، بلا مراعاة لما اعتبر فيها عقلًا- مجزياً قطعاً.

أقول: المختار هو الوجه الأوّل، وذلك لما اخترناه من إمكان أخذ قصد القربة في المأمور به، مع أنّ الوجه الثالث لازمه كون مبنى جميع من عنون النزاع بالعبارة المزبورة هو مبنى المحقّق الخراساني رحمه الله من عدم إمكان أخذ قصد القربة في المأمور به شرعاً وهو غير ثابت.

وبعبارة اخرى: إنّ شبهة عدم إمكان أخذ قصد القربة في المأمور به شبهة حادثة في الأزمنة المتأخّرة، فكيف يمكن أن يكون مبنى القدماء من الأصحاب عدم إمكان قصد القربة في المأمور به؟

الأمر الثالث: في معنى «الاقتضاء» الوارد في العنوان

فهل هو بمعنى العلّية والتأثير أو بمعنى الكشف والدلالة؟ ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله (كما مرّ آنفاً في الأمر الأوّل) إلى أنّه هو الاقتضاء بنحو العلّية، ولذا قد نسب إلى الإتيان، فلو كان المراد منه هو الدلالة والكشف كان الأنسب نسبته إلى الصيغة.

ثمّ قال: إن قلت: هذا إنّما يكون كذلك بالنسة إلى أمره لا بالنسبة إلى أمر آخر فلا يكون إتيان

المأمور به في الأمر الاضطراري أو الظاهري علّة لاسقاط الأمر الواقعي الاختياري لأنّ النزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما (الأمر الاضطراري والأمر الظاهري) على نحو يفيد الإجزاء وعدمها.

انوار الأصول، ج 1، ص: 314

قلنا: نعم لكنّه لا ينافي كون النزاع فيهما أيضاً في الاقتضاء بمعنى العلّية لأنّ كاشفية الدليل فيهما تكون كاشفية عن حصول تمام المصلحة وهو يكون صغرى لعلّية الإجزاء، أي كلّما حصل تمام المصلحة حصل الإجزاء وحصول الإجزاء علّة لسقوط الأمر فيصحّ التعبير فيهما أيضاً بأنّ إتيان المأمور به علّة للإجزاء لأنّه كاشف عن صغرى علّية الإجزاء وهي حصول تمام المصلحة (انتهى بتوضيح منّا).

وقال في تهذيب الاصول ما حاصله: لا يتصوّر العلّية في ما نحن فيه بأيّ معنى فسّر به الإجزاء سواء فسّر بالكفاية أو بسقوط الأمر أو سقوط الإرادة، أمّا الأوّل فلأنّها معنى انتزاعي لا يقع مورد التأثير والتأثّر التكوينيين، وأمّا الثاني فلأنّ الإتيان ليس علّة مؤثّرة في سقوط الأمر كما أنّ السقوط والاسقاط ليسا من الامور القابلة للتأثير والتأثّر الذين هما من خصائص التكوين، وأمّا الثالث فلأنّ منشأ إرادة المولى تصوّره المراد بما له من المصلحة وهي علّة لأمره بإتيان المأمور به فيكون الإتيان معلولًا للإرادة، فكيف يصير المعلول علّة لانعدام علّته؟ فالأولى دفعاً لهذه التوهّمات أن يقال: إنّ الإتيان بالمأمور به هل هو مجزٍ أو لا؟ «1» (انتهى).

أقول: ولكن يرد عليه:

أوّلًا: أنّ الامور الانتزاعيّة وإن لم تقع مورداً للتأثير والتأثّر إلّاأنّ لها منشأً للانتزاع، وهو في ما نحن فيه تحقّق المصلحة وحصول الغرض، فيمكن أن يقال بأنّ الإتيان علّة للإجزاء والكفاية باعتبار علّيته لمنشأ انتزاع الكفاية وهو حصول الغرض.

ثانياً: أنّ منشأ الإرادة ليس خصوص تصوّر المراد بما له من المصلحة بل هو

بضميمة فقدان المراد كفقدان الماء في قولك «اسقني الماء» فيكون الفقدان موضوعاً للإرادة والطلب، وبعد الإتيان يتبدّل الفقدان إلى الوجدان، فينعدم موضوع الطلب بوجدان الماء مثلًا وبتبعه ينعدم نفس الطلب والأمر، وهو أمر وجداني غير قابل للانكار فصار إتيان المأمور به علّة لسقوط الأمر وانعدامه.

وثالثاً: لا يندفع الإشكال بتبديل العنوان المزبور إلى ما ذكره من العنوان وهو «أنّ الإتيان انوار الأصول، ج 1، ص: 315

بالمأمور به مجزٍ» لأنّ حمل الخبر (مجزٍ) على المبتدأ (الإتيان بالمأمور به) في هذا العنوان أيضاً لا يخلو من أحد الأمرين: فإمّا أن يكون المبتدأ فيه علّة للخبر، أو يكون كاشفاً عنه فيعود الإشكال.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّه لا مانع من كون الاقتضاء بمعنى العلّية إمّا لأنّ الإتيان علّة لمنشأ الإجزاء (إذا كان بمعنى الكفاية) أو لأنّه موجب لانعدام موضوع الأمر أو الإرادة (إذا كان بمعنى سقوط الأمر أو سقوط الإرادة) فما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله متين في محلّه.

الأمر الرابع: في معنى الإجزاء

ذهب بعض إلى أنّ لفظ الإجزاء المأخوذ في العنوان بمعنى الكفاية، أي معناه اللغوي، فلا يكون حقيقة شرعيّة، وذهب بعض آخر إلى أنّه حقيقة شرعيّة وضع في لسان الشرع لاسقاط الإعادة.

أقول: الإنصاف رجوع أحد المعنيين إلى الآخر، لأنّ من لوازم الكفاية الاسقاط فلا يكون حقيقة شرعيّة بل هو بمعناه اللغوي، وحيث إنّ من مصاديق الكفاية في الفقه اسقاط الإعادة استعمل فيه استعمال الكلّي في بعض مصاديقه.

الأمر الخامس: الفرق بين المسألتين
اشارة

أولًا: الفرق بين هذه المسألة ومسألة: المرّة والتكرار.

ثانياً: الفرق بينها وبين مسألة: أنّ القضاء هل هو بأمر جديد أو بالأمر الأوّل.

أمّا الأوّل: فربّما يتوهّم أنّه لا فرق بين المسألتين لأنّ لازم الإجزاء هو إتيان المأمور به مرّة واحدة، ولازم عدم الإجزاء هو إتيانه مكرّراً، وعليه فلا وجه لعقدهما مسألتين مستقلّتين.

لكن الفرق بينهما واضح جدّاً، لأنّ البحث في مسألة المرّة والتكرار يكون في مقدار دعوة الأمر ومقدار المأمور به، وأمّا في مسألة الإجزاء فيكون في كفاية إتيان المأمور به بما له من الدعوة سواء كان المأمور به واحداً أو أكثر، والفرق بينهما واضح جدّاً.

أمّا الثاني: فربّما يتوهّم أيضاً بأنّه لا فرق بين مسألة الإجزاء ومسألة القضاء بأمر جديد، لأنّ الإجزاء معناه كون القضاء بأمر جديد وعدم كونه تابعاً للأداء بل يكون الأمر باقياً في انوار الأصول، ج 1، ص: 316

خارج الوقت، وعدم الإجزاء معناه تبعيّة القضاء للأداء وكون القضاء بالأمر الأوّل المتعلّق بالأداء، فلا وجه أيضاً لعقدهما مسألتين مستقلّتين.

لكن هذا التوهّم أيضاً خاطى ء، لأنّ بينهما بون بعيد فإنّ القضاء يتصوّر فيما إذا لم يأت بالمأمور به أصلًا، وعدم الإجزاء يتصوّر فيما إذا أتى بالمأمور به إمّا بأمر اضطراري أو بأمر ظاهري ولكنّه لا يكون مجزياً، فالموضوع في إحدى المسألتين الإتيان مع

عدم الإجزاء، وفي الاخرى عدم الإتيان أصلًا، وفرقهما واضح أيضاً.

إذا عرفت هذا كلّه فاعلم أنّ البحث يقع في مقامات أربع:

1- في إجزاء الإتيان بالمأمور به مطلقاً سواء كان واقعياً أو ظاهريّاً أو اضطراريّاً عن أمر نفسه.

2- في إجزاء الإتيان بالمأمور به الاضطراري عن الواقعي الاختياري.

3- في إجزاء الإتيان بالمأمور به الظاهري الشرعي عن الواقعي.

4- في إجزاء الإتيان بالمأمور به الظاهري العقلي (كحكم العقل بجواز الإفطار فيما إذا قطع بغروب الشمس مع عدم غروبها في الواقع، ويعبّر عنها بتعبير أدقّ الأوامر الخياليّة لأنّ فيها يتخيّل بوجود الأمر في الواقع مع عدمه واقعاً) عن الواقعي.

المقام الأوّل- إجزاء الإتيان بالمأمور به مطلقاً عن أمر نفسه

والحقّ أنّه لا إشكال في كون إتيان المأمور به فيها مجزياً عنها، والدليل عليه هو العقل لأنّ الامتثال بعد الامتثال مع حصول الغرض تحصيل للحاصل.

ولكن قد خالف فيه أبو هاشم وعبدالجبّار من قدماء المتكلّمين من أهل السنّة فقالا: بأنّه يمكن القول بعدم الإجزاء فيها، ومنشأ خطأهما وجود بعض الأمثلة في الفقه قد أمر فيها بإتمام العمل مع الأمر بإعادته كالحجّ الفاسد الذي أمر الشارع بإتمام مناسكه مع إيجابه الإعادة في السنة القابلة.

والمسألة عندنا لا إشكال فيها ولا غبار عليها لما مرّ من حكم العقل بالإجزاء وأمّا ما أشار إليه من مثال الحجّ ونحوه فالمستفاد من جملة من الرّوايات الواردة عن طريق أئمّة أهل البيت عليهم السلام أنّها ليست من قبيل الامتثال بعد الامتثال بالنسبة إلى أمر واحد، بل هناك أمران انوار الأصول، ج 1، ص: 317

يطلب كلّ واحد منهما من المكلّف امتثالًا يخصّ به، ومن جملتها ما رواه زرارة قال: سألته عن مُحرمٍ غشى امرأته وهي محرمة قال: «جاهلين أو عالمين؟» قلت: أجبني في (عن) الوجهين جميعاً، قال عليه السلام: «إن كانا جاهلين

استغفرا ربّهما ومضيا على حجّهما وليس عليهما شي ء، وإن كانا عالمين فرّق بينهما من المكان الذي أحدثا فيه وعليهما بدنة وعليهما الحجّ من قابل، فإن بلغا المكان الذي أحدثا فيه فرّق بينهما حتّى يقضيا نسكهما ويرجعا إلى المكان الذي أصابا فيه ما أصابا» قلت: فأي الحجّتين لهما قال: «الاولى التي أحدثا فيها ما أحدثا، والاخرى عليهما عقوبة» «1».

حيث إنّ هذه الرّواية تدلّ على وجود أمرين في المسألة يكون لكلّ واحد منهما امتثال على حدّه، أمر واقعي أوّلي وأمر واقعي ثانوي، فلا تكون من باب الامتثال بعد الامتثال بالنسبة إلى أمر واحد حتّى يستفاد منها عدم إجزاء الإتيان بالمأمور به عن الأمر الأوّل.

بقي هنا شي ء:

وهو جواز الامتثال بعد الامتثال في الجملة.

ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى جوازه وتبعه المحقّق النائيني رحمه الله «2» وذهب المحقّق العراقي إلى عدم جوازه وتبعه بعض أعاظم العصر «3».

قال المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية: «لا يبعد أن يقال بأنّه يكون للعبد تبديل الامتثال والتعبّد به ثانياً بدلًا عن التعبّد به أوّلًا لا منضمّاً إليه كما أشرنا إليه في المسألة السابقة وذلك فيما علم أنّ مجرّد امتثاله لا يكون علّة تامّة لحصول الغرض وإن كان وافياً به لو اكتفى به كما إذا أتى بماء أمر به مولاه ليشربه فلم يشربه بعدُ، فإنّ الأمر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعدُ، ولذا لو اهرق الماء وإطّلع عليه العبد وجب عليه إتيانه ثانياً كما إذا لم يأت به أوّلًا، ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه وإلّا لما أوجب حدوثه، فحينئذ يكون له الإتيان بماء آخر موافق للأمر كما كان له قبل إتيانه الأوّل بدلًا عنه، نعم فيما كان الإتيان علّة تامّة لحصول

انوار الأصول، ج 1، ص: 318

الغرض فلا يبقى موقع للتبديل كما إذا أمر بإهراق الماء في فمه لرفع عطشه فأهرقه بل لو لم يعلم أنّه من أي القبيل فله التبديل بإحتمال أن لا يكون علّة فله إليه سبيل، ويؤيّد ذلك بل يدلّ عليه ما ورد من الرّوايات في باب إعادة من صلّى فرادى جماعة وأنّ اللَّه تعالى يختار أحبّهما إليه» (انتهى كلامه).

وما ذكره من الرّواية إشارة إلى ما رواه أبو بصير قال قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: «اصلّي ثمّ أدخل المسجد فتقام الصّلاة وقد صلّيت فقال: صلّ معهم يختار اللَّه أحبّهما إليه» «1».

واستدلّ القائل بعدم الجواز بما حاصله: إنّ الإتيان بالمأمور به في الخارج علّة تامّة لحصول الغرض الداعي إلى الأمر به، والإجزاء في مثله عقلي محض لاستقلال العقل حينئذٍ بسقوط الغرض وسقوط الأمر بسقوطه بمجرّد الموافقة وإيجاد المأمور به فلا يبقى مقتضٍ للإتيان به ثانياً بوجه أصلًا، نعم هذا مبني على القول بوجوب مطلق المقدّمة، وأمّا إذا قلنا بوجوب خصوص المقدّمة الموصلة فلازمه جواز الإتيان بالمأمور به ثانياً بعنوان امتثال الأمر بالطبيعة مع عدم اختيار المولى إيّاه، لأنّ الغرض الداعي إلى الأمر باقٍ على حاله، غايته أنّه ليس له الفاعلية والمحرّكيّة بعد الإتيان بالمأمور به أوّلًا بملاحظة صلاحية المأتي به للوفاء بالغرض لا أنّه يسقط رأساً بمجرّد الإتيان به، ولازم ذلك التفكيك بين «فعلية الأمر» و «فاعليته» وجواز الإتيان بالمأمور به ثانياً، ونتيجة ذلك في فرض تعدّد الإتيان بالمأمور به هو وقوع الامتثال بخصوص ما اختاره المولى منهما لا بهما معاً وصيرورة الفرد الآخر لغواً محضاً فلا يكون من باب الامتثال بعد الامتثال «2».

أقول: الحقّ جواز تبديل الامتثال بالامتثال وفاقاً للمحقّق الخراساني والمحقّق النائيني رحمهما

الله والدليل عليه أنّ الغرض المترتّب على الأمر يكون على نحوين: غرض يترتّب على فعل المكلّف وهو غرض ابتدائي كإتيان الماء ووضعه بين يدي المولى، وغرض نهائي يترتّب على فعل المولى وهو رفع العطش الذي يترتّب على شرب المولى الماء، وما لم يحصل الثاني كان المحلّ باقياً لتبديل الامتثال ويقوم الامتثال الثاني مقام الامتثال الأوّل، وبعبارة اخرى: يعدّ الإتيان الأوّل امتثالًا لأنّه يوجب سقوط الأمر، ويكون الإتيان الثاني امتثالًا آخر (بدل الامتثال انوار الأصول، ج 1، ص: 319

الأوّل) لأنّه محصّل للغرض الذي لم يحصل بالامتثال الأوّل.

وأمّا قضيّة وجوب المقدّمة الموصلة وعدمه فالحقّ أنّه لا ربط لها بالمسألة لأنّها مختصّة بما إذا كان كلّ من المقدّمة وذي المقدّمة فعلًا للمكلّف مثل مقدّمية الوضوء بالنسبة إلى الصّلاة، بخلاف ما إذا كانت المقدّمة عملًا للمكلّف وكان ذو المقدّمة من عمل المولى كما في ما نحن فيه حيث إنّ الشرب فيه يكون عملًا للمولى.

هذا كلّه في مقام الثبوت، أمّا في مقام الإثبات:

فنقول: يوجد في الفقه موردان يحتمل كون الإتيان الثاني فيهما مصداقاً لتبديل الامتثال إلى امتثال آخر:

أحدهما باب صلاة الكسوف حيث ورد فيه رواية يستدلّ بها للمسألة وهي خبر معاوية بن عمّار قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «صلاة الكسوف إذا فرغت قبل أن ينجلي فأعد» «1».

لكن الإنصاف خروجها عن ما نحن فيه لأنّ الإعادة فيها تنشأ من أمر استحبابي فتكون امتثالًا لأمر آخر غير الأمر الأوّل، وهو نظير الإتيان بالحجّ في العامّ الثاني والثالث، وإن أبيت عن ذلك فلا أقلّ من احتماله، وحينئذ لا تكون الرّواية شاهدة قطعية لجواز تبديل الامتثال، ولا يصلح الاستدلال بها عليه.

ثانيهما: باب صلاة الجماعة.

والرّوايات الواردة فيه على طائفتين: طائفة تدلّ على إعادة الصّلاة في

مقام التقيّة فتكون الإعادة لأجلها بحيث لولا التقيّة لما كان موجب لمشروعيتها فهي أجنبية عن محلّ الكلام، وطائفة تدلّ على إعادة الصّلاة جماعة، منها ما مرّ آنفاً من خبر أبي بصير قال قلت: لأبي عبداللَّه عليه السلام اصلّي ثمّ أدخل المسجد فتقام الصّلاة وقد صلّيت فقال: «صلّ معهم يختار اللَّه أحبّهما إليه» ولا إشكال في أنّ هذه الرّواية ظاهرها تبديل الامتثال بالامتثال بقرينة ذيلها:

«يختار اللَّه أحبّهما إليه» فإنّه يدلّ على أنّ الامتثال الثاني يقوم مقام الامتثال الأوّل وأنّه بدل عنه، نعم الإشكال في سندها.

ومنها ما رواه حفص بن البختري عن أبي عبداللَّه عليه السلام في الرجل يصلّي الصّلاة وحده ثمّ يجد

انوار الأصول، ج 1، ص: 320

جماعة، قال: «يصلّي معهم ويجعلها الفريضة» «1»

فإنّ ظاهر قوله عليه السلام «ويجعلها الفريضة» أيضاً أنّ الجماعة تقوم مقام الفرادى ويتقبّل اللَّه الجماعة بعنوان الفريضة مقام الفرادى، وإنّ الامتثال بالفرادى يتبدّل إلى الامتثال بالجماعة.

فتخلّص من جميع ما ذكرنا: أنّ تبديل الامتثال إلى امتثال آخر جائز عقلًا وأنّ بعض الرّوايات الواردة في لسان الشرع يشهد عليه.

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.

المقام الثاني: إجزاء الإتيان بالمأمور به الاضطراري عن الواقعي الاختياري

الصحيح فيه طرح البحث في مقامين: مقام الثبوت ومقام الإثبات كما فعله المحقّق الخراساني رحمه الله حيث تكلّم:

أوّلًا: عن أنحاء الأمر الاضطراري ثبوتاً وبيّن مقتضى كلّ منها من حيث الإجزاء وجواز البدار قبل ضيق الوقت.

وثانياً: عن حال الأمر الاضطراري إثباتاً وأنّه من أي نحو هو؟ فهل هو من القسم المقتضي للإجزاء أو لا.

وحاصل بيانه في مقام الثبوت: أنّ الاضطراري إمّا أن يكون في حال الاضطرار مشتملًا على تمام مصلحته (فيكون حاله كحال الاختياري في حال الاختيار) وإمّا أن لا يكون مشتملًا على تمام مصلحته بل يبقى منه شي ء، وعلى الثاني إمّا أن

يمكن تدارك الباقي وإمّا أن لا يمكن، وعلى الأوّل إمّا أن يكون الباقي بمقدار يجب أو بمقدار يستحبّ، فهذه أربع صور:

أمّا الصورة الاولى: فيجزي الاضطراري عن الواقعي بلا كلام لاشتماله على تمام مصلحته، وأمّا جواز البدار فيها وعدمه فيدور مدار كون الاضطراري بمجرّد الاضطرار مشتملًا على تمام مصلحة الواقعي أو بشرط الانتظار إلى آخر الوقت أو بشرط طروّ اليأس من الاختيار.

وأمّا الصورة الثانيّة: (وهي أن لا يكون الاضطراري مشتملًا على تمام مصلحة الواقعي انوار الأصول، ج 1، ص: 321

وكان الباقي ممّا يمكن تداركه وكان بمقدار يجب) فلا يجزي قطعاً، وأمّا البدار فيها فيجوز، غايته أنّه يتخيّر بين البدار والإتيان بعملين: العمل الاضطراري قبل ضيق الوقت والعمل الاختياري بعد رفع الاضطرار، وبين الانتظار والاقتصار بإتيان ما هو تكليف المختار.

وأمّا الصورة الثالثة: (وهي أن لا يكون الاضطراري مشتملًا على تمام الواقعي وكان الباقي ممّا يمكن تداركه وكان دون حدّ الإلزام) فيجزي قطعاً غير أنّه يستحبّ الإعادة أو القضاء لدرك الباقي، وأمّا البدار فيها فيجوز أيضاً بل يستحبّ لدرك أوّل الوقت ثمّ الإعادة أو القضاء بعد رفع الاضطرار لدرك الباقي المفروض كونه دون حدّ الإلزام.

وأمّا الصورة الرابعة: (وهي أن لا يكون الاضطراري مشتملًا على تمام مصلحة الواقعي ولا يمكن تدارك الباقي) فيجزي أيضاً بعد فرض عدم إمكان التدارك أصلًا كما لا يجوز له البدار في هذه الصورة إلّالمصلحة كانت فيه لما فيه من نقض الغرض، وتفويت مقدار من المصلحة لولا مراعاة ما هو فيه من الأهمّ (انتهى كلامه في مقام الثبوت).

أقول: الصورة الثالثة (وهي أن لا يكون الاضطراري مشتملًا على تمام المصلحة وكان الباقي ممّا يمكن تداركه وكان دون حدّ الإلزام) خارجة عن محلّ الكلام لأنّ النزاع في المقام

فيما إذا تحقّق الاضطرار حقيقة، ولا إشكال في أنّ الاضطرار حقيقة لا يصدق إلّافيما إذا فاتت من الواجب مصلحة ملزمة لا مجرّد الكمال والفضيلة هذا «أوّلًا».

وثانياً: يمكن تقسيم المسألة رباعياً على نحو آخر تكون بجميع صورها الأربع داخلة في محلّ النزاع، أي كانت المصلحة في جميعها ملزمة، وذلك بأن نقول: إمّا أن يكون الاضطراري وافياً بتمام مصلحة الواقعي أو لا يكون، وعلى الثاني إمّا أن يمكن تدارك الباقي أو لا يمكن، وعلى الأوّل إمّا أن يعارض التدارك مفسدة أهمّ من تلك المصلحة الباقية أو لا يعارض مفسدة كذلك، فتأمّل.

هذا كلّه بالنسبة إلى مقام الثبوت.

وأمّا مقام الإثبات فالبحث فيه يقع في مقامين:

الأوّل: ما إذا ارتفع الاضطرار في داخل الوقت (أي الإعادة).

الثاني: ما إذا ارتفع الاضطرار في خارج الوقت (أي القضاء).

وفي كلّ منهما تارةً يكون النظر إلى مفاد الأدلّة الخاصّة كقوله تعالى: «... فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» في باب التيمّم، واخرى يكون النظر إلى مقتضى العمومات انوار الأصول، ج 1، ص: 322

والإطلاقات (مع قطع النظر عن الأدلّة الخاصّة) كقوله صلى الله عليه و آله «رفع ما اضطرّوا إليه».

أمّا المقام الأوّل: وهو فيما إذا ارتفع الاضطرار في داخل الوقت، فبالنسبة إلى الأدلّة الخاصّة لا بدّ من ملاحظة لسان هذه الأدلّة وأنّه هل هو لسان التنويع والتقسيم، أي تنويع المكلّفين مثلًا إلى الواجدين للماء والفاقدين له (كما في آية التميّم) أو إلى السالمين والمرضى، أو إلى القادرين على القيام والعاجزين عنه، أو يكون لسانها لسان البدليّة حيث تجعل التيمّم مثلًا للفاقد للماء بدلًا عن الوضوء للواجد للماء؟

فعلى الأوّل: لا إشكال في أنّ مقتضى الإطلاق المقامي (بناءً على كون المولى في مقام بيان تمام وظيفة المضطرّ) هو الإجزاء، فإنّ

المولى إذا نوّع المكلّفين إلى أنواع وجعل لكلّ نوع منهم وظيفته الخاصّة به فأمر المكلّف الواجد للماء مثلًا بالصّلاة مع الطهارة المائيّة وأمر المكلّف الفاقد للماء بالصّلاة مع الطهارة الترابيّة (وهكذا بالنسبة إلى سائر الأنواع) ولم يحكم بالإعادة بعد رفع الاضطرار، فيعلم من هذا التنويع مع هذا الإطلاق وعدم الحكم بالإعادة كفاية الاضطراري عن الواقعي وإجزائه عنه، حيث إنّ المفروض أنّ المكلّف المضطرّ أيضاً كالمكلّف المختار أتى بوظيفته الخاصّة به، فلو كانت الإعادة واجبة عليه لحكم المولى بها قطعاً بعد فرض كونه في مقام البيان.

كما لا إشكال في أنّ مقتضى إطلاقها الأزماني جواز البدار، فمقتضى إطلاق قوله تعالى:

«... فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» من حيث الزمان وكذلك إطلاق قوله عليه السلام «التراب أحد الطهورين» «1»

أو قوله عليه السلام «ويكفيك عشر سنين» «2»

كون التراب كافياً وطهوراً وقابلًا للتيمّم عليه في أيّ ساعة من ساعات الوقت، أوّله أو وسطه أو آخره، وهو معنى جواز البدار.

وعلى الثاني: أي ما إذا كان ظاهر لسان الدليل البدليّة بمعنى أنّ المولى يقول: أنّ المأمور به في باب الطهارة مثلًا إنّما هو الوضوء ولكن أتقبّل التيمّم حين الاضطرار بدلًا عن الوضوء- فالأصل في المأمور به إنّما هو الوضوء وأمّا التيمّم فهو فرع له وبدل عنه، فحينئذٍ يلاحظ نطاق البدليّة وأنّ التيمّم مثلًا هل هو بدل مطلقاً أو أنّ بدليته مقيّدة بما لم يجد الماء في تمام الوقت؟

فعلى الأوّل يكون الحكم هو الإجزاء، وعلى الثاني عدم الإجزاء، ولا يبعد كون ظاهره مطلقاً

انوار الأصول، ج 1، ص: 323

بالنسبة إلى إجزاء الوقت.

وإن شئت قلت: لا بدّ حينئذٍ من ملاحظة لسان الدليل وأنّه هل يستفاد منه البدليّة في تمام الملاك أو في بعضه والباقي هل هو

مصلحة ملزمة أو غير ملزمة؟ والملزمة هل يمكن تداركها أو لا؟ فيؤخذ بمقتضى كلّ منها.

ولو فرض عدم دلالة الدليل على شي ء من ذلك فالمرجع هو العمومات والإطلاقات ثمّ الاصول العمليّة، وقد عرفت أنّ مقتضى الاولى (أي الإطلاقات والعمومات) الإجزاء حتّى بالنسبة إلى داخل الوقت وأنّ مقتضاها جواز البدار كماأ نّ مقتضى الأصل عدم جوازه لما عرفت من الاشتغال.

هذا بالنسبة إلى مقتضى الأدلّة الخاصّة.

وأمّا الإطلاقات والعمومات نظير حديث الرفع أعني قوله صلى الله عليه و آله «رفع ما اضطّروا إليه» فحيث إنّ العنوان المأخوذ فيها إنّما هو عنوان الاضطرار وهو يصدق فيما إذا استوعب الاضطرار تمام الوقت (وأمّا إذا فقد الماء مثلًا في جزء من الوقت فقط فلا يصدق عنوان الاضطرار إلى التراب) فلا يمكن التمسّك بها للإجزاء في داخل الوقت أو جواز البدار كما لا يخفى.

هذا- وقد أنكر الإجزاء فيما نحن فيه (أي ما إذا ارتفع الاضطرار في داخل الوقت) في المحاضرات وقال: «الصحيح في المقام أن يقال: أنّه لا إطلاق لأدلّة مشروعيّة التيمّم بالقياس إلى من يتمكّن من الإتيان بالعمل الاختياري في الوقت بداهة أنّ وجوب التيمّم وظيفة المضطرّ ولا يكون مثله مضطرّاً لفرض تمكّنه من الصّلاة مع الطهارة المائيّة في الوقت، ومجرّد عدم تمكّنه منها في جزء منه لا يوجب كونه مكلّفاً بالتكليف الاضطراري ما لم يستوعب تمام الوقت» «1».

أقول: وما أفاده جيّد إذا كان المعتمد في المسألة هو الأدلّة العامّة، وذلك لأنّ موضوعها هو عنوان الاضطرار (كما قال) ومع التمكّن من الصّلاة المائيّة في الوقت لا يتحقّق الاضطرار، لكن الدليل على الإجزاء عندنا هو الأدلّة الخاصّة الموجودة في مثل باب التيمّم كآية التيمّم، حيث انوار الأصول، ج 1، ص: 324

إنّ مقتضى إطلاقها المقامي

هو الإجزاء كما مرّ بيانه.

وبعبارة اخرى: أنّا تابعون لاطلاق قوله تعالى: «إذا قمتم ... فلم تجدوا ...» لا عنوان الاضطرار، وكذلك قوله عليه السلام «التراب أحد الطهورين» وأمثاله.

والعجب منه حيث إنّه قبل الإجزاء في مورد التقيّة لاطلاق أدلّتها الخاصّة ولم يقبله في التيمّم مع أنّ الأدلّة الخاصّة هنا أيضاً مطلقة، والمقامان من باب واحد.

هذا كلّه في المقام الأوّل من مقام الإثبات، وهو ما إذا ارتفع الاضطرار في داخل الوقت.

أمّا المقام الثاني: وهو ما إذا ارتفع الاضطرار في خارج الوقت فالحقّ أنّ ظاهر الأدلّة أيضاً هو الإجزاء إذا كان لسانها التنويع والتقسيم كما مرّ بيانه في المقام الأوّل، وأمّا إذا كان لسانها البدليّة ببيان مرّ أيضاً في المقام الأوّل فإمّا أن يكون له إطلاق يعني هذا بدل عن ذاك إلى الأبد، فنأخذ به ونقول بالإجزاء، وأمّا إذا كان في لسانه إهمال وإجمال فاللازم الرجوع إلى الاصول العمليّة كما لا يخفى، والأصل العملي فيه هو البراءة، لأنّ القضاء يحتاج إلى أمر جديد وهو منفي بأصل العدم.

إن قلت: موضوع القضاء هو فوت الفريضة كما ورد في بعض أخبار الباب: «من فاتته فريضة فليقضها كما فات» والمفروض في المقام عدم استيفاء المكلّف تمام المصلحة في داخل الوقت، فيصدق عنوان الفوت بالنسبه إليه ولازمه عدم الإجزاء.

قلنا: المستفاد من ظاهر أخبار الباب أنّ الموضوع إنّما هو عنوان فوت الفريضة بتمامها كما يستظهر من التعبير المزبور (من فاتته فريضة) وهو غير فوت بعض مصلحة الفريضة كما في ما نحن فيه حيث إنّ بعضها الآخر يستوفى بإتيان البدل، وعليه فلا يصدق عنوان الفوت الذي أخذ في موضوع القضاء.

فظهر أنّ النتيجة صارت في نهاية المطاف الإجزاء مطلقاً (سواء في داخل الوقت أو خارجه) فيما

إذا كان ظاهر الأدلّة التنويع والتقسيم، وعدم الإجزاء في الجملة فيما إذا كان لسان الأدلّة البدليّة، ولعلّ المقامات مختلفة وتفصيله في الفقه.

بقي هنا شي ء:

وهو ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله بالنسبة إلى القضاء والإجزاء في خارج الوقت وحاصله:

انوار الأصول، ج 1، ص: 325

«أنّ التقيّد بالطهارة المائيّة إمّا أن يكون ركناً في الصّلاة مطلقاً وبها قوام مصلحتها في حالتي التمكّن وعدمه، وإمّا أن لا يكون ركناً كذلك بل كان ركناً في خصوص حال التمكّن، فعلى الأوّل لا يعقل الأمر بالصّلاة الفاقدة للطهارة المائيّة، بل لا بدّ من سقوط الأمر الصلاتي كما في صورة فقد الطهورين، وحيث إنّه أمر بالصّلاة مع فقدان الماء فلابدّ أن لا يكون لقيد الطهارة المائيّة دخل لا في الخطاب بالصلاه ولا في الملاك في صورة الفقدان وتكون الصّلاة مع الطهارة الترابيّة واجدة لكلّ من الخطاب والملاك الذي تتقوّم به الصّلاة، وحينئذٍ لا يعقل القضاء لأنّه لم يفت من المكلّف شي ء حتّى يقضيه» «1». (انتهى).

أقول: مدّعاه وهو الإجزاء وإن كان حقّاً ولكن دليله غير وافٍ بالمسألة، لأنّه يتصوّر هناك شقّ ثالث وهو أن يتوجّه إليه الأمر بعد وجدان الماء، وإن أتى بالصّلاة، لعود الملاك الملزم، وهذا جائز في الامور الاعتباريّة، وبعبارة اخرى: تكون الطهارة المائيّة كافية في زمن الفقدان دون الوجدان، ونظيره واقع في العرفيّات.

هذا تمام الكلام في المقام الثاني من مبحث الإجزاء.

المقام الثالث- إجزاء الأوامر الظاهريّة الشرعيّة
اشارة

ويبحث عنه أيضاً في مباحث الاجتهاد والتقليد (في البحث عن تبدّل رأي المجتهد) وله نتائج كثيرة في الفقه، وقد فصّل المحقّق الخراساني رحمه الله فيه بين الاصول والأمارات، وبين ما كان منهما جارياً في إجزاء الواجب وشرائطه وموانعه (سواء في الشبهات الحكمية والموضوعيّة) وما كان جارياً منهما لإثبات أصل التكليف، وذهب

إلى الإجزاء في القسم الأوّل (أي ما كان جارياً منهما في الإجزاء والشرائط والموانع) في خصوص موارد الاصول دون الأمارات (إلّا بناءً على مبنى السببيّة في الأمارات فذهب فيها أيضاً إلى الإجزاء في الجملة) وإلى عدم الإجزاء في القسم الثاني (ما كان جارياً منهما لإثبات أصل التكليف) مطلقاً سواء في الأمارات والاصول.

وعلى هذا لا بدّ من البحث في موردين:

انوار الأصول، ج 1، ص: 326

المورد الأوّل: الأحكام الظاهريّة من الاصول والأمارات التي تجري في إجزاء واجب أو شرائطه وموانعه، أي تجري لتنقيح موضوع تكليف آخر سواء كانت من الشبهات الحكمية أو الموضوعيّة نظير قاعدة الفراغ مثلًا بالنسبة إلى من شكّ في إتيان جزء أو شرط أو مانع، ونظير استصحاب العدم لمن شكّ في إتيان جزء في محلّه، ونظير البيّنة القائمة على إتيان جزء أو عدم إتيانه مثلًا (هذا في الشبهات الموضوعيّة) ونظير حديث الرفع الدالّ على رفع جزئيّة السورة أو الاستعاذة، وقاعدة الطهارة الدالّة على طهارة الحيوان المتولّد من طاهر ونجس مثلًا المقتضية لجواز الصّلاة مع ملاقاة البدن له (في الشبهات الحكمية).

المورد الثاني: الأحكام الظاهريّة التي تجري لإثبات تكليف مستقلّ، وتكون بالطبع جارية في الشبهات الحكمية فقط، ولا تتصوّر في الشبهات الموضوعة نظير ما إذا كان مفاد الأمارة أو الأصل وجوب صلاة الجمعة أو عدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو حرمة شي ء أو عدم حرمته.

أمّا المورد الأوّل: فحاصل ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله فيه (مع توضيح وتحرير): أنّ الحكم الظاهري على قسمين:

الأوّل: حكم ظاهري مجعول في ظرف الشكّ والجهل بالواقع حقيقة من دون نظر إلى الواقع أصلًا فهو يجري في تنقيح ما هو موضوع التكليف وتحقيق متعلّقه، ويكون بلسان تحقّق ما هو شرطه أو شطره.

الثاني:

حكم ظاهري مجعول أيضاً في ظرف الشكّ في الواقع والجهل به إلّاأنّه ناظر إلى الواقع وكاشف عنه ويكون بلسان أنّه ما هو الشرط واقعاً.

والأوّل مفاد الاصول العمليّة كقاعدتي الطهارة والحلّية أو استصحابهما، والثاني مفاد الأمارات.

ولا إشكال في أنّ مقتضى كيفية الجعل في القسم الأوّل حكومة الاصول العمليّة على الأدلّة الواقعيّة في مرحلة الظاهر وتوسعة دائرتها حيث إنّ ما دلّ على شرطيّة الطهارة أو الحلّية للصّلاة مثلًا ظاهر في الطهارة أو الحلّية الواقعيّة ولكنّها جعلت الشرط أعمّ منها ومن الطهارة أو الحلّية الظاهريّة، ومقتضى هذه الحكومة أنّه كما أنّ المكلّف إذا كان واجداً للطهارة الواقعيّة كان واجدا للشرط حقيقة، فكذلك إذا كان واجداً للطهارة الظاهريّة، فلو صلّى معها ثمّ انوار الأصول، ج 1، ص: 327

انكشف الخلاف لم ينكشف أنّ العمل فاقد للشرط بل هو واجد له حقيقة فيجزي.

كما أنّ مقتضى كيفية الجعل في الأمارات هو عدم الإجزاء فإنّ المجعول فيها إنّما هو حجّيتها بلحاظ نظرها إلى الواقع وإثباتها له على ما هو عليه من دون جعل شي ء آخر فيها في مقابل الواقع، فلو كانت خاطئة وغير مطابقة له لم تؤدّ إلى حكم شرعي أصلًا لا واقعي ولا ظاهري، ونتيجته عدم الإجزاء.

هذا بناءً على ما هو الأظهر الأقوى في الطرق والأمارات من أنّ حجّيتها ليست بنحو السببيّة، وأمّا بناءً عليها فيجزي لو كان الفاقد كالواجد في كونه وافياً بتمام الغرض، ولا يجزي لو لم يكن كذلك، فيجب الإتيان بالواجد لاستيفاء الباقي إن وجب، وإلّا لأستحبّ. (انتهى كلامه).

وقد أورد عليه المحقّق النائيني رحمه الله بالنسبة إلى بيانه في الاصول العمليّة بامور خمسة:

1- «إنّ الحكومة عند هذا القائل (المحقّق الخراساني رحمه الله) لا بدّ وأن تكون بمثل كلمة «أعني» و

«أردت» وأشباه ذلك، ولأجله لم يلتزم بحكومة أدلّة نفي الضرر على أدلّة الأحكام الواقعيّة ولا بحكومة الأدلّة الاجتهاديّة على الاصول العمليّة، ومن الواضح عدم تحقّق الحكومة بهذا المعنى في المقام».

أقول: للمحقّق الخراساني رحمه الله أن يقول: أنّ مفاد «أعني» وأشباهه تارةً يستفاد من الأدلّة الحاكمة بمدلولها المطابقي واخرى يستفاد منها بمدلولها الالتزامي، ولا إشكال في أنّ مثل قول الشارع «كلّ شي ء لك طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» يكون مدلوله الالتزامي بالنسبة إلى قوله عليه السلام: «لا صلاة إلّابالطهور» عبارة عن قولك «أعني أنّ الطهارة المشروط بها في الصّلاة هي الأعمّ من الطهارة الواقعيّة والظاهريّة» بحيث لولاه لم تكن فائدة في قوله «كلّ شي ء طاهر ...».

2- إنّ وجود الحكم الظاهري لا بدّ وأن يكون مفروغاً عنه حين الحكم بعموم الشرط الواقعي للطهارة الواقعيّة والظاهريّة أو بعمومه للاباحة كذلك، ومن الواضح أنّ المتكفّل لإثبات الحكم الظاهري ليس إلّانفس دليل قاعدة الطهارة أو أصالة الإباحة، فكيف يمكن أن يكون هو المتكفّل لبيان كون الشرط أعمّ من الواقعيّة والظاهريّة منهما؟».

ويرد عليه أيضاً: أنّه يمكن أن تكون دلالة أدلّة الاصول كدليل قاعدة الطهارة أو الحلّية على الحكم الظاهري (أي الطهارة الظاهريّة أو الحلّية الظاهريّة) بالدلالة المطابقية، وأمّا

انوار الأصول، ج 1، ص: 328

دلالتها على كون الشرط أعمّ من الواقعيّة والظاهريّة منهما فهي بالدلالة الالتزاميّة.

3- «إنّ الحكومة في المقام وإن كانت مسلّمة إلّاأنّها لا تستلزم تعميم الشرط واقعاً، فإنّ الحكومة على قسمين: قسم يكون الدليل الحاكم في مرتبة الدليل المحكوم ولا يكون الشكّ في المحكوم مأخوذاً في الدليل الحاكم كقوله عليه السلام «لا شكّ لكثير الشكّ» الحاكم على أدلّة الشكوك في الصّلاة فلا محالة يكون الدليل الحاكم موجباً لعموم الدليل المحكوم أو مخصّصاً

له بلسان الحكومة، ويسمّى هذا القسم حكومة واقعية.

وقسم آخر يكون الشكّ في المحكوم مأخوذاً في الدليل الحاكم، فلا محالة يكون الدليل الحاكم متأخّراً عن المحكوم لأخذ الشكّ فيه موضوعاً في الدليل الحاكم، فيستحيل كونه معمّماً أو مخصّصاً له في الواقع، فتكون حكومته ظاهريّة لا محالة، ويترتّب على ذلك جواز ترتيب آثار الواقع ما لم ينكشف الخلاف، فإذا انكشف الخلاف ينكشف عدم وجدان العمل لشرطه ويكون مقتضى القاعدة هو عدم الإجزاء كما في الأمارات، وإذا انقسمت الحكومة إلى قسمين مختلفين في الأثر فإثبات الإجزاء يتوقّف على إثبات كون الحكومة في المقام واقعية مع أنّها مستحيلة، ضرورة أخذ الشكّ في موضوع أدلّة الاصول ومعه تكون الحكومة ظاهريّة غير مستلزمة للإجزاء قطعاً».

ويمكن تقرير هذا الإشكال ببيان أوضح وأقصر، وهو أنّ غاية ما يستفاد من دليل أصالة الطهارة مثلًا ثبوت أحكامها لموردها ما دام الشكّ موجوداً ولازمه عدم وجود تعميم في الحكم الواقعي.

وهذا الإشكال جيّد في الجملة.

4- «إنّ الحكومة المدعاة في المقام ليست إلّامن باب جعل الحكم الظاهري وتنزيل المكلّف منزلة المحرز للواقع في ترتيب آثاره، وهذا مشترك فيه جميع الأحكام الظاهريّة سواء ثبتت بالأمارة، أم بالأصل، محرزاً كان أم غير محرز، بل الأمارة أولى بذلك من الأصل فإنّ المجعول في الأمارات إنّما هو نفس صفة الإحراز وكون الأمارة علماً تعبّداً، وأمّا الاصول فليس المجعول فيها إلّاالتعبّد بالجري العملي وترتيب آثار إحراز الواقع في ظرف الشكّ».

ويرد عليه: أنّه إشكال مبنائي لا يرد على المحقّق الخراساني رحمه الله حيث إنّ مبناه في باب الأمارات هو المنجزيّة والمعذريّة، (نعم قد يستفاد من بعض كلماته في الكفاية أنّه قائل بجعل انوار الأصول، ج 1، ص: 329

الحكم المماثل كما سيأتي في باب الأمارات وحينئذٍ

يكون الإشكال هذا وارداً عليه).

أضف إلى ذلك ما قد مرّ سابقاً من الإشكال في المبنى من أنّه لا معنى محصّلًا لتعلّق الجعل بالعلم، فلا يمكن أن يكون المجعول في باب الأمارات كون الأمارة علماً تعبّداً لأنّه من الامور التكوينيّة التي لا تصل إليها يد الجعل بل مجاله الامور الاعتباريّة كما لا يخفى.

5- «إنّ الحكومة لو كانت واقعية فلابدّ من ترتيب جميع آثار الواقع لا خصوص الشرطيّة، فلابدّ وأن لا يحكم بنجاسة الملاقي لما هو محكوم بالطهارة ظاهراً ولو انكشف نجاسته بعد ذلك، ولا أظنّ أن يلتزم به أحد» «1».

أقول: ويمكن الجواب عنه أيضاً بأنّ صاحب الكفاية لم يدّع حكومة أصالة الطهارة على ما دلّ على أنّ كلّ شي ء لاقى نجساً فقد تنجّس، بل هي حاكمة على أدلّة الواجبات وشرائطها، وأمّا الأحكام الوضعية مثل النجاسة بالملاقاة فهي تابعة لواقعها، فلو انكشف الخلاف وجب التطهير.

فلم يبق من الإشكالات عليه إلّاالثالث، وهو كون الحكومة هنا ظاهريّة ما دام الشكّ موجوداً.

ثمّ إنّ هيهنا كلام أفاده في تهذيب الاصول يشبه مقالة المحقّق الخراساني رحمه الله في المقام، حيث إنّه فصّل أيضاً بين الاصول والأمارات وقال بالإجزاء في الاصول بدعوى حكومة أدلّة الاصول على أدلّة الشرائط والإجزاء، وبعدم الإجزاء في الأمارات وقال: «التحقيق عدم الإجزاء فيها بناءً على الطريقية كما هو الحقّ وفاقاً لجملة من المحقّقين سواء قلنا بأنّ الطرق التي بأيدينا كلّها طرق وأمارات عقلائيّة وليس للشرع أمارة تأسيسية بل لم يرد من الشارع أمر باتّباعها وإنّما استكشفنا من سكوته وهو بمرآه، رضائه، ومن عدم ردعه إمضائه، أم قلنا بورود أمر منه بالاتّباع لكنّه بنحو الإرشاد إلى ما هو المجبول والمرتكز في فطره العقلاء، أم قلنا بأنّ الطرق المتعارفة في

الفقه ممّا أسّسها الشارع كلّها أو بعضها وصولًا إلى الواقع، ولم يكن عند العقلاء منها عين ولا أثر.

توضيح ذلك: أمّا على الوجهين الأوّلين فلأنّ المتّبع فيهما حكم العقلاء وكيفية بنائهم، ولا

انوار الأصول، ج 1، ص: 330

شكّ أنّ عملهم لأجل كشفها نوعاً عن الواقع مع حفظ نفس الأمر على ما هو عليه من غير تصرّف فيه ولا انقلابه عمّا هو عليه، ومع هذا كيف يمكن الحكم بالإجزاء مع انكشاف الخلاف؟ وأمّا على الوجه الأخير على فرض صحّته فلا شكّ في أنّ لسان أدلّة حجّيتها هو التحفّظ على الواقع لا التصرّف فيه وقلبه إلى طبق المؤدّى، أضف إلى ذلك أنّ معنى كون شي ء أمارة ليس إلّاكونه كاشفاً عن الواقع عند المعتبر، فلو تصرّف مع ذلك فيه وقلب الواقع على طبق مؤدّاه لدى التخلّف لخرجت الأمارة عن الأماريّة ... ومعه لا معنى للإجزاء «1».

ولكن يمكن أن يناقش فيه:

أوّلًا: بما مرّ من عدم حكومة لأدلّة الاصول على أدلّة الإجزاء والشرائط.

ثانياً: بأنّه لا فرق بين الأمارات والاصول في كون كلّ واحدة منهما من المخترعات العقلائيّة، فإنّ البراءة بل الاستصحاب أيضاً ممّا استقرّ عليه بناء العقلاء، وإن كانت دائرتهما في الشرع أوسع أو أضيق منه، والعقلاء ليس بناؤهم إلّاعلى العمل بها ما دام الشكّ موجوداً لا على توسعة الأحكام الواقعيّة.

المختار في مسألة إجزاء الأوامر الظاهريّة الشرعيّة

وفي نهاية المطاف نقول: الحقّ والإنصاف في المسألة هو ما ذهب إليه بعض المحقّقين المعاصرين وهو سيّدنا الاستاذ المحقّق العلّامة البروجردي قدّس سرّه الشريف فإنه ذهب إلى الإجزاء مطلقاً سواء في الاصول والأمارات بل كان يصرّ عليه بل قال في بعض كلماته:

«الظاهر تسالم الفقهاء إلى زمن الشّيخ رحمه الله على ثبوت الإجزاء وإنّما وقع الخلاف فيه من زمنه حتّى أنّ بعضهم قد

أفرط فإدّعى استحالته (انتهى موضع الحاجة من كلامه) «2».

والدليل عليه (بعد أن كان محلّ النزاع أوّلًا ما اذا كانت الأوامر الظاهريّة أوامر مولويّة، وثانياً ما إذا لم تقم قرينة على عدم حصول غرض المولى بالمأمور به، أي على عدم الإجزاء) أنّه هو الظاهر عرفاً من أمر المولى بالمأمور به الظاهري، فإنّه إذا أمر المولى عبده بشي ء في انوار الأصول، ج 1، ص: 331

صورة الشكّ بالواقع أو الجهل به وقال «إذا شككت في المأمور به الواقعي أو جهلت به فاعمل كذا وكذا وإنّ هذا هو وظيفتك» استفاد العرف منه أنّ ذلك هو تكليفه الفعلي وأنّ المولى لا يطلب منه شيئاً غيره، وإنّ الإتيان به يوجب استيفاء غرض المولى.

وبعبارة اخرى للمحقّق المزبور: لا إشكال في أنّ المتبادر من قوله عليه السلام «كلّ شي ء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر» مثلًا أنّ المكلّف بعد إتيانه الصّلاة في الثوب المشكوك فيه قد أدّى وظيفته الصلاتيّة وامتثل قوله تعالى: «أَقِيمُوا الصَّلَاةَ» لا أنّه عمل عملًا يمكن أن يكون صلاة وأن يكون لغواً، وتكون الصّلاة باقية في ذمّته «1».

أضف إلى ذلك أنّ عدم الإجزاء في الاصول والأمارات يستلزم فساد أكثر أعمال المكلّفين وعدم حصولهم على مصالح الأحكام الواقعيّة، لوجود العلم الإجمالي بأنّ كثيراً ممّا نحكم بطهارته مثلًا نجس في الواقع ولازمه بطلان عدد كثير من الصّلوات اليوميّة بناءً على اعتبار الطهارة الواقعيّة في ماء الوضوء والغسل (لا في الثوب والبدن فإنّ المعتبر فيهما أعمّ من الواقعيّة والظاهريّة). فإذا توضّأ أو اغتسل بالماء القليل وكان في الواقع نجساً كان لازمه بطلان الوضوء والغسل وما يترتّب عليهما من العبادات المختلفة.

وهكذا بالنسبة إلى أعمال مقلّدي مجتهد تبدّل رأيه أو مات وخالف رأيه قول المجتهد الحي، فهل

يمكن أن يقال بأنّ الشارع وضع قانوناً لمصلحة خاصّة لا تصل إليها أيدي أكثر المكلّفين؟

وكذلك بالنسبة إلى الصّيام والحجّ وغيرهما.

هذا كلّه في المورد الأوّل من المقام الثالث، وهو ما إذا كان الأصل أو الأمارة جارياً لتنقيح ما هو موضوع التكليف وتحقيق متعلّقه، أي كان جارياً في الأجزاء والشرائط سواء في الشبهات الحكمية أو الموضوعيّة.

أمّا المورد الثاني: وهو ما إذا كان الأصل أو الأمارة جارياً لإثبات أصل التكليف فذهب أكثر الأعلام فيها إلى عدم الإجزاء، منهم المحقّق الخراساني والمحقّق النائيني والمحقّق العراقي رحمهم الله بل المحقّق الخراساني رحمه الله ذهب إلى عدم الإجزاء حتّى على مبنى السببيّة ببيان أنّ صلاة الجمعة وإن فرض إنّها صارت ذات مصلحة لأجل قيام الأمارة السببيّة على وجوبها ولكن لا ينافي انوار الأصول، ج 1، ص: 332

ذلك بقاء صلاة الظهر على ما هي عليه من المصلحة والوجوب، فبعد كشف الخلاف لا بدّ من الإتيان بصلاة الظهر أيضاً، نعم إلّاإذا قام دليل خاصّ من إجماع ونحوه على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد.

ولكن خالفه بعض الأعلام في المحاضرات وذهب إلى الإجزاء بناءً على مبنى السببيّة بجميع معانيها، نعم ذهب في المعنى الأخير بالنسبة إلى خصوص الأداء إلى عدم الإجزاء.

وملخّص كلامه: أنّ السببيّة في الأمارات تتصوّر على ثلاثة وجوه:

الوجه الأوّل: ما نسب إلى الأشاعرة (وإن كانت النسبة غير ثابتة) من أنّ اللَّه تعالى لم يجعل حكماً من الأحكام في الشريعة المقدّسة قبل تأدية نظر المجتهد إلى شي ء وإنّما يدور جعله مدار تأدية نظرية المجتهد ورأيه.

الوجه الثاني: ما نسب إلى المعتزلة وهو أن يكون قيام الأمارة سبباً لكون الحكم الواقعي بالفعل هو المؤدّى، وذلك لأنّ قيام الأمارة يوجب احداث مصلحة أو مفسدة في متعلّقه، وحيث

إنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها فبطبيعة الحال ينحصر الحكم الواقعي الفعلي فيه، أي تنحصر الأحكام الواقعيّة الفعليّة في مؤدّيات الحجج والأمارات ولا حكم في غيرها إلّاشأناً واقتضاءً.

الوجه الثالث: ما نسب إلى بعض الإماميّة، وهو أن يكون قيام الأمارة سبباً لاحداث المصلحة في السلوك على طبق الأمارة وتطبيق العمل على مؤدّيها مع بقاء الواقع على ما هو عليه من دون أن يوجب التغيير والانقلاب فيه أصلًا.

ثمّ قال: أمّا على ضوء السببيّة بالمعنى الأوّل فلا مناصّ من القول بالإجزاء حيث لا واقع على الفرض ما عدا مؤدّى الأمارة لنبحث عن أنّ الإتيان به مجز عنه أو لا؟ إلّاأنّ السببيّة بذلك المعنى غير معقولة في نفسها بداهة أنّ تصوّرها في نفسه كافٍ للتصديق ببطلانها بلا حاجة إلى إقامة برهان عليه من لزوم دور ونحوه، حيث إنّ هذا المعنى من السببيّة خلاف الضرورة من الشرع.

وأمّا على ضوء السببيّة بالمعنى الثاني فالأمر أيضاً كذلك، يعني أنّه لا مناصّ من القول بالإجزاء حيث إنّه لا واقع على ضوئها أيضاً في مقابل مؤدّى الأمارة ليقع البحث عن أنّ الإتيان به هل هو مجزٍ عنه أم لا؟ بل الواقع هو مؤدّى الأمارة، هذا من ناحية، ومن ناحية

انوار الأصول، ج 1، ص: 333

اخرى: إنّ السببيّة بهذا المعنى وإن كان أمراً معقولًا بحسب مقام الثبوت بأن يكون ثبوت الواقع مقيّداً بعدم قيام الأمارة على خلافه، إلّاأنّ الأدلّة لا تساعد على ذلك، أمّا الإطلاقات الأوّليّة فلأنّ مقتضاها ثبوت الأحكام الواقعيّة للعالم والجاهل ولا دليل على تقييدها بعدم قيام الأمارة على الخلاف، وأمّا أدلّة الاعتبار فلسانها لسان الطريقية لا السببيّة، أمّا السيرة العقلائيّة فلأنّها جرت على العمل بها بملاك كونها طريق إلى الواقع، وأمّا الآيات

والرّوايات فلأنّ الظاهر منها إمضاء ما هو حجّة عند العقلاء.

وأمّا السببيّة بالمعنى الثالث فذهب شيخنا الاستاذ رحمه الله إلى أنّ حال هذه السببيّة حال الطريقة في عدم اقتضائها الإجزاء، لأنّ المصلحة القائمة بسلوك الأمارة تختلف باختلاف السلوك (وهو الزمان الذي لم ينكشف الخلاف فيه) فإن كان السلوك بمقدار فضيلة الوقت، فكانت مصلحته بطبيعة الحال بمقدار يتدارك بها مصلحتها فحسب، لأنّ فوتها مستند إليه دون الزائد، وأمّا مصلحة أصل الوقت فهي باقية فلابدّ من استيفائها بالإعادة، وهكذا إذا كان السلوك بمقدار تمام الوقت وكان انكشاف الخلاف في خارجه فكون مصلحته بمقدار يتدارك بها مصلحة تمام الوقت الفائتة، وأمّا مصلحة أصل العمل فهي باقية فلابدّ من استيفائها بالقضاء في خارج الوقت.

ولكن قوله بالنسبة إلى القضاء يرجع في الحقيقة إلى القول بأنّ القضاء تابع للأداء، مع أنّ الحقّ أنّ القضاء يحتاج إلى أمر جديد، ونتيجته أنّ سلوك الأمارة في مجموع الوقت إذا كان وافياً بمصلحة الصّلاة في الوقت كما هو مقتضى القول بالسببية بهذا المعنى لا مناصّ من القول بالإجزاء أيضاً، فالصحيح بناءً على هذا المعنى من السببيّة هو التفصيل بين الأداء والقضاء، والقول بالإجزاء في القضاء دون الأداء.

هذا- ولكن أوّلًا: قد حقّقنا في محلّه أنّه لا ملزم للإلتزام بهذه المصلحة التي تسمّى بالمصلحة السلوكيّة لتصحيح اعتبار الأمارات وحجّيتها، لأنّه يكفي في ذلك ترتّب المصلحة التسهيلية عليه.

وثانياً: لا يمكن الالتزام بها لإستلزام القول بها التصويب وتبدّل الحكم الواقعي. (انتهى كلامه بتلخيص منّا) «1».

انوار الأصول، ج 1، ص: 334

أقول: الإنصاف كما سيأتي مشروحاً في مسألة التخطئة والتصويب في مبحث الاجتهاد والتقليد أنّ ما ذكره هذا المحقّق وغيره (قدّس اللَّه أسرارهم) (من كون القسم الأوّل من التصويب مستلزماً للدور أو واضح

البطلان بالضرورة من الشرع وغيره) ناشٍ عن الغفلة عمّا بنى عليه القول في هذه المسألة، فإنّهم قالوا بأنّ الوقائع الخاليّة عن النصّ خاليّة عن الحكم الواقعي الشرعي وإنّ الشارع أوكل حكم التشريع في هذه المسائل إلى الفقهاء من طريق الاستحسان أو القياس على غيره أو ملاحظة المصالح المرسلة وغيرها، فإذا أفتى فقيه بحكم في هذه الموارد صوّب اللَّه رأيه.

وهذا وإن كان باطلًا لعدم قيام دليل على جواز التشريع للفقيه لا من الكتاب ولا من السنّة بل هو ازراء للشريعة من حيث إستلزامها النقص في أحكامها وعدم إكمال الدين وإتمام النعمة بل استلزامه نوعاً من الشرك الخفي.

ولكن هذا كلّه لا دخل له بلزوم الدور وشبهه، هذا أوّلًا.

وثانياً: ما ذكره من وجود مصلحة التسهيل في الطرق والأمارات هو بعينه المصلحة السلوكيّة، ومن العجب أنّه أثبت مصلحة التسهيل ونفي المصلحة السلوكيّة مع اتّحادهما أو كون التسهيل من مصاديقها البارزة.

وثالثاً: ما أفاده من لزوم القول بالتصويب وتبدّل الحكم الواقعي في القسم الثالث أيضاً ممنوع جدّاً، لأنّ المصلحة السلوكيّة ليست في عرض مصلحة الحكم الواقعي بل هي في طولها.

وإن شئت قلت: إنّ المكلّف إذا سلك طريق الأمارة للوصول إلى الحكم الواقعي الذي هو ذو مصلحة في نفسه فأخطأه كان سلوكه هذا الطريق مستلزماً لمنافع جابرة لما فات منه من منافع الحكم الواقعي (وسيأتي الإشارة إلى هذا إن شاء اللَّه في مباحث الاجتهاد والتقليد أيضاً).

إذا عرفت هذا فلنرجع إلى أصل المسألة فنقول ومن اللَّه التوفيق والهداية:

الحقّ أنّ هذه المسألة هي مسألة تبدّل رأي المجتهد، فنذكر هنا إجمالًا منها ونترك تفصيلها إلى محلّها من مبحث الاجتهاد والتقليد.

فنقول: ذهب جماعة من الأصحاب إلى الإجزاء فيما إذا تبدّل رأي المجتهد، واستدلّوا عليه بوجوه:

انوار الأصول،

ج 1، ص: 335

أوّلها: الإجماع، وقد استدلّ به جماعة من أعاظم المتأخّرين، بينما نقل بعض آخر كالسيّد الحكيم في مستمسكه عن العلّامة الإجماع على الخلاف، ولو سلّمنا وجود الإجماع كما لا يبعد، لكنّه ليس بحجّة في أمثال المقام لاحتمال استنادهم إلى سائر الوجوه.

ثانيها: إنّ عدم الإجزاء يستلزم العسر والحرج.

واجيب عنه: بأنّ قاعدة العسر والحرج قاعدة شخصية لا نوعيّة، أي لا يسقط الحكم ممّن لا يكون في عسر إن كان غيره فيه.

ثالثها: إنّ الاجتهاد الثاني كالاجتهاد الأوّل، فإذا لم يكن الاجتهاد الأوّل مجزياً عن الواقع لم يكن الاجتهاد الثاني أيضاً مجزياً، لأنّه أيضاً أمارة ظنّية الدلالة بالنسبة إلى الواقع وإن كان مجزياً فكذا الأوّل.

واجيب عنه: بأنّ المفروض في المقام ما إذا انكشف في الاجتهاد الثاني أنّ الأوّل على خلاف الواقع ولو بحسب الموازين الظاهريّة، مع أنّه لم يحصل بالنسبة إلى الاجتهاد الثاني نفسه، فهو نظير ما إذا قام دليل أقوى على خلاف الدليل الأوّل في الموضوعات الخارجيّة، كما إذا قامت أمارة على أنّ هذا الماء كان كرّاً أو قليلًا من قبل، فيعمل بمقتضى الدليل الثاني حتّى بالنسبة إلى ما سبق.

رابعها: إنّ الواقعة الواحدة لا تتحمّل اجتهادين بل الأعمال السابقة داخلة في نطاق الاجتهاد الأوّل، والأعمال اللّاحقة داخلة في لاجتهاد الثاني، فلا يعمّ الاجتهاد الثاني ما سبق من الأعمال، ولازمه الإجزاء.

وفيه: أنّه إن كان المراد منه عدم قبول الواقعة الواحدة الاجتهادين في زمان واحد فهو صحيح وأمّا في زمانين فهو دعوى بلا دليل.

خامسها: إنّ تبدّل رأي المجتهد يكون بمنزلة النسخ، فكما لا تجب إعادة الأعمال السابقة في ما إذا نسخ الحكم السابق فكذلك إذا تبدّل رأي المجتهد سواء بالنسبة إلى أعمال نفسه أو أعمال مقلّديه.

واجيب عنه: بأنّ النسخ

يتعلّق بالأحكام الواقعيّة، ومعناه تغيّر الحكم الواقعي، بينما رأى المجتهد يتعلّق بالأحكام الظاهريّة، وهو لا يوجب انقلاب الحكم الواقعي من حين تبدّل رأيه بل إنّه يقول بعد تبدّل رأيه أنّ حكم اللَّه إنّما هو مؤدّى الاجتهاد الثاني من بدو جعله تعالى إيّاه، فقياسه بالنسخ قياس مع الفارق.

انوار الأصول، ج 1، ص: 336

وهيهنا وجه سادس: لا غبار عليه، وهو عدم شمول أدلّة جواز العدول إلى المجتهد الثاني (فيما إذا عدل المقلّد من مجتهد إلى مجتهد آخر) أو أدلّة حجّية الاجتهاد الثاني (فيما إذا تبدّل رأي المجتهد) الأعمال السابقة وأنّه لا إطلاق لها بالنسبة إلى ما سبق، بل القدر المتيقّن منها الأعمال اللّاحقة، والحاصل أنّ حجّية الاجتهاد الثاني إنّما هي بالنسبة إلى أعماله في الحال وفي المستقبل، أمّا بالنسبة إلى الماضي فلا يكشف عن فسادها.

ولعلّ هذا هو مراد من قال: «الواقعة الواحدة لا تتحمّل اجتهادين» ومن قال: «إنّ تبدّل رأي المجتهد كالنسخ»، ومن قال: «إنّ الاجتهاد الثاني كالاجتهاد الأوّل» وإن كانت عباراتهم غير وافية بهذا المعنى، وهذا الوجه خالٍ عن الإشكال، وافٍ بتمام المقصود.

هذا كلّه بالنسبة إلى أعمال المقلّدين، وأمّا حكم المجتهد نفسه بالنسبة إلى أعماله السابقة فالإجزاء أو عدم الإجزاء فيها مبني على شمول أدلّة حجّية الأمارات والاصول للأعمال السابقة، لأنّ المحكّم بالنسبة إليه إنّما هو هذه الأدلّة لا أدلّة التقليد كما هو واضح، فإن استظهر عمومها بالنسبة إليها فالحكم هو عدم الإجزاء ووجوب الإعادة أو القضاء، وإلّا يؤخذ بالقدر المتيقّن وهو الأعمال اللّاحقة، ولازمه هو الإجزاء.

فالمهمّ بالنسبة إلى المجتهد نفسه حينئذٍ إنّما هو وجود هذا الإطلاق وعدمه في مقام الإثبات والاستظهار من الأدلّة، والإنصاف أنّها أيضاً لا إطلاق لها بالنسبة إلى الأعمال السابقة، والقدر المتيقّن هو

حجّيتها بالنسبة إلى الأعمال اللّاحقة فتأمّل جيّداً.

هذا كلّه فيما إذا انكشف الخلاف بأمارة اخرى أو أصل كذلك، أمّا إذا ظهر الخلاف بالقطع واليقين فالحكم بالإجزاء مشكل لعدم الدليل عليه.

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: أنّ ما اخترناه من الإجزاء لا يختصّ بالأحكام التكليفية بل يعمّ المعاملات بالمعنى الأخصّ وهو العقود والايقاعات، فإذا أفتى مجتهد بجواز إجراء عقد النكاح بالصيغة الفارسيّة ثمّ تبدّل رأيه أو عدل المقلّد إلى مجتهد آخر يفتي بعدم الجواز، كانت العقود الجاريّة بها مجزيّة ولا تجب إعادتها بالصيغة العربيّة، وهكذا إذا إشترى داراً معاطاة لفتوى مقلّده بجوازها ثمّ تبدّل رأيه، بل يعمّ المعاملات بالمعنى الأعمّ أيضاً كما إذا أفتى المجتهد بجواز قطع انوار الأصول، ج 1، ص: 337

الأوداج الأربعة من الذبيحة عن القفا ثمّ تبدّل رأيه إلى عدم جوازه، فيكون مجزياً ولا تترتّب على المذكّى أحكام الميتة بل أحكام المذكّى.

والعمدة في ذلك كلّه عدم إطلاق أدلّة حجّية الفتوى الجديدة بالنسبة إلى الأعمال السابقة أو الأحكام الماضيّة، ولا أقلّ من الشكّ في ذلك (فيؤخذ بالقدر المتيقّن وهو الأعمال اللّاحقة) خصوصاً بالإضافة إلى المقلّدين، لأنّ الدليل على حجّية الفتوى الثانيّة بالنسبة إليهم إنّما هو بناء العقلاء، وهو دليل لبّي لا إطلاق له لما سبق، والشاهد على ذلك أنّ العقلاء لا يقيسون أحكامهم السابقة بالأحكام اللّاحقة، ويقولون: إنّ القانون الجديد لا يعمّ الوقائع السابقة، وقد شاع هذا بينهم فصار كالأمثال السائرة: «إنّ القانون لا يعطف على ما سبق» وهذا وإن كان جارياً في نسخ القوانين، ولكن الظاهر أنّه جارٍ في الأمارات أيضاً.

الأمر الثاني: أنّه لا كلام ولا إشكال في الإجزاء في أجزاء الصّلاة وشرائطها ولو لم نقل به في غيرها وذلك لمكان حديث لا تعاد، فإنّه يدلّ على

الإجزاء في أجزاء الصّلاة وشرائطها غير الامور الخمسة المذكورة في عقد المستثنى (وهي الأركان الخمسة) نعم أنّه لا يعمّ الجاهل المقصّر كما قرّر في محلّه بل عليه الإعادة أو القضاء مطلقاً.

الأمر الثالث: قد مرّ أنّ الإجماع في ما نحن فيه ليس بحجّة، وذلك لا لأنّه محتمل المدرك فحسب، بل لخصوصيّة في المقام وهي أنّ الاجتهاد والتقليد بالصورة الموجودة في أزماننا لم يكن له عين ولا أثر في الأزمنة المقارنة لعصر الأئمّة المعصومين عليهم السلام كما هو واضح لمن تتبّع في تاريخ الاجتهاد والتقليد تطوّراً، وعليه لا يمكن أن يحرز من الإجماع الموجود في زماننا وجوده في ذلك العصر حتّى يكون كاشفاً عن قول المعصوم عليه السلام، لا أقول أنّ الاجتهاد والتقليد أمر مستحدث في أعصارنا، فإنّه كان في عصر الأئمّة عليهم السلام أيضاً بشكل بسيط، بل أقول: إنّ مسألة التبدّل وأشباهه لم تكن بهذه الكيفية في سابق الأيّام.

الأمر الرابع: أنّ ما ذكرنا إلى هنا كان مختصّاً بصورة كشف الخلاف ظنّاً، وأمّا إذا تبدّل رأي المجتهد وانكشف الخلاف عن طريق القطع كما إذا أفتى على حديث نقله خطأً ثمّ قطع بالخطأ والحكم الواقعي، فلا وجه حينئذ للإجزاء لأنّ حجّية القطع ذاتي وبحكم العقل، ولا معنى للاطلاق وعدمه فيه.

الأمر الخامس: ذهب صاحب الفصول إلى التفصيل بين المتعلّقات والأحكام في المقام،

انوار الأصول، ج 1، ص: 338

فقال بالإجزاء في المتعلّقات دون الأحكام، واستدلّ له بامور: منها: أنّ واقعة واحدة ومتعلّقاً واحداً لا تتحمّل اجتهادين «1»، والظاهر أنّ مراده من المتعلّق هو متعلّق الحكم نظير ما مرّ من مثال فري الأوداج الأربعة أو إجراء عقد النكاح بالصيغة الفارسيّة.

وفيه: أنّه دعوى بلا دليل كما أشار إليه صاحب الكفاية في مبحث الاجتهاد والتقليد،

فقال: «ولم يعلم وجه للتفصيل بينهما كما في الفصول وإنّ المتعلّقات لا تتحمّل اجتهادين بخلاف الأحكام إلّاحسبان أنّ الأحكام قابلة للتغيّر والتبدّل، بخلاف المتعلّقات والموضوعات، وأنت خبير بأنّ الواقع واحد فيهما وقد عيّن أوّلًا بما ظهر خطأه ثانياً».

هذا تمام الكلام في المقام الثالث من مبحث الإجزاء.

المقام الرابع: في إجزاء الأوامر الظاهريّة العقليّة (الخياليّة)
اشارة

ويتصوّر فيما إذا قطع بالأمر ثمّ انكشف خلافه فقطع مثلًا بدخول وقت الصّلاة أو بجهة القبلة ثمّ انكشف الخلاف (هذا في الشبهات الموضوعيّة) أو قطع بوجود الإجماع على وجوب صلاة الجمعة ثمّ انكشف عدمه (هذا في الشبهات الحكمية) فيبحث في أنّه هل يكون قطعه هذا مجزياً عن الأعمال المأتي بها على طبقه أو لا؟

لا إشكال في عدم الإجزاء لأنّ جميع الوجوه المذكورة في إثبات الإجزاء فيما سبق لا يأتي شي ء منها في المقام، أمّا ما اختاره صاحب الكفاية بالنسبة إلى خصوص الاصول العمليّة من حكومة أدلّتها على الأوامر الواقعيّة (وقد مرّ كلامه في ابتداء المقام الثالث) فلأنّ المفروض في المقام أنّه لم يقم أصل على الحكم حتّى يكون دليله حاكماً مجزياً، وأمّا ما اخترناه من أنّ الإجزاء من اللوازم العرفيّة لأمر المولى فلأنّه لا أمر من ناحية المولى الشارع في المقام على حجّية القطع بل حجّيته ذاتيّة وبحكم العقل، وهكذا ما مرّ في تبدّل رأي المجتهد من أنّه لا إطلاق لأدلّة حجّية رأي المجتهد بالنسبة إلى الأعمال السابقة حيث إنّه أيضاً يتصوّر فيما إذا قامت أمارة أو أصل على الحجّية وكان لها إطلاق لفظي.

لكن مع ذلك كلّه يستثنى منها موارد تكون خارجة عنها خروجاً موضوعياً على نحو الإستثناء المنقطع:

انوار الأصول، ج 1، ص: 339

منها: غير الامور الخمسة التي وردت في حديث لا تعاد، فلا إعادة فيه بمقتضى عقد المستثنى منه،

فإذا حصل العلم بإتيان سورة الحمد مثلًا ثمّ انكشف أنّه لم يأت بها لم تجب الإعادة، والوجه في خروجه موضوعاً أنّ سبب الإجزاء فيه إنّما هو الجهل بالواقع الذي يكون موضوع حديث لا تعاد (لا القطع بعدم الإتيان حتّى يكون إستثناء هذا المورد عن المقام استثناءً متّصلًا) حيث إنّ مورد الحديث هو الجاهل بالموضوع جهلًا مركّباً أو بسيطاً عن قصور وكذا الناسي.

وإن شئت قلت: جزئيّة الحمد إنّما هو في ظرف الالتفات والعلم فقط.

ومنها: ما إذا قام دليل خاصّ على حصول تمام مصلحة الواقع في الجاهل بالحكم أو حصول بعض المصلحة مع عدم كون الباقي قابلًا للتدارك، كما إذا قطع بكون الواجب عليه هو الإتمام ثمّ انكشف أنّ عليه حكم المسافر، أو قطع بأنّ الوظيفة إتيان الصّلاة عن إخفات مع كون الواجب إتيانها جهراً، فإنّ الإجزاء في كليهما ثبت بأدلّة خاصّة، نعم إنّ الإجزاء فيهما أيضاً ليس من خصوصّيات القطع بالخلاف بل الشارع حكم به في مورد الجهل تعبّداً.

وإن شئت قلت: الشرطيّة إنّما هي في ظرف العلم فقط.

ومنها: ما إذا كان القطع مأخوذاً في موضوع الحكم كما أنّه كذلك في باب الطهارة والنجاسة، فإنّ الشرط للصّلاة هو العلم بالطهارة الظاهريّة أو الواقعيّة فلو قطع بطهارة ثوبه في الصّلاة فصلّى بالثوب النجس ثمّ علم بنجاسته لم تجب الإعادة، والسرّ فيه أنّ المعتبر ليس الطهارة الواقعيّة حتّى يتكلّم في أنّ الحكم الظاهري الشرعي الحاصل من الأمارات والاصول أو الظاهري العقلي الحاصل من القطع هل يقوم مقام الواقع أو لا يقوم لأنّ الشرط أعمّ منهما، وأيّهما حصل كان الشرط حاصلًا، فهو كالإتيان بالأوامر الواقعيّة كما هو حقّه.

تنبيه: الإجزاء ومسألة التصويب

هل يوجب القول بالإجزاء مطلقاً أو في بعض الموارد التصويب المحال أو

التصويب المجمع على بطلانه، أو لا؟

الإنصاف أنّه لا يوجب ذلك، لأنّ التصويب المحال (وهو ما نسب إلى الأشاعرة من أنّه لم انوار الأصول، ج 1، ص: 340

يجعل حكم في الشريعة المقدّسة قبل تأدية نظر المجتهد إلى شي ء وإنّما يدور جعله مدار نظره ورأيه فهو يبحث ويجتهد عمّا لا يكون إلّاتابعاً لنظره) أو التصويب المجمع على بطلانه (وهو المنسوب إلى المعتزلة، وحاصله أن يكون قيام الأمارة سبباً لتبدّل الحكم الواقعي إلى مؤدّاها لحصول مصلحة أو مفسدة في متعلّقه) لا دخل له بمسألة الإجزاء، لأنّ التصويب على كلّ حال هو إنكار الحكم الواقعي المشترك بين العالم والجاهل، والقول بالإجزاء لا يستلزم هذا الانكار، بل لازمه القول بوجود الحكم الواقعي المشترك، وهذا الحكم باقٍ على مصالحه ومفاسده، أدّت إليه الأمارة أو لم تؤدّ، نعم لا يكون هذا الحكم فعليّاً في بعض الموارد، وهو ما إذا قامت الأمارة أو الاصول على خلافه، وانكشاف الخلاف فيما بعد لا يوجب فعليته بعد أن لم يكن فعليّاً حين العمل به.

وإن شئت قلت: المباني في مسألة الإجزاء مختلفة، أمّا على المختار فقد عرفت أنّ العمدة في الإجزاء هو عدم شمول الاجتهاد اللاحق للقضايا السابقة لعدم إطلاق في أدلّة حجّيتها، وأين هذا من مسألة التصويب.

وأمّا على مبنى صاحب الكفاية ومن تبعه فلأنّهم يرون أن أدلّة بعض الاصول توجب التوسعة في مفاد أدلّة الشرائط والإجزاء، ومع توسعة الحكم الواقعي يكون العمل مطابقاً له بلا زيادة ولا نقصان، وأين هذا من التصويب لأنّه ليس هنا إلّاحكم واحد قد عمل به المكلّف لا حكمان، أحدهما واقعي والآخر ظاهري، بل الإنصاف أنّه لا دخل لهذا القول بمسألة الإجزاء في الأحكام الظاهريّة فإنّ الحكم هنا واقعي بعد توسعة مفاده.

نعم، لو

قيل بالإجزاء من ناحية القول بالسببية- أي سببية قيام الأمارة لتحقّق المصلحة التي تفوق على مصلحة الواقع- كان بين المسألتين ربط قويْ، ولكن القول بالسببية بهذا المعنى مطروح ممنوع من ناحية المحقّقين من أصحابنا.

هذا بالنسبة إلى ربط المسألتين- مسألتي الإجزاء والتصويب- وأمّا الكلام في أصل مسألة التصويب والأقوال الموجودة فيها وأقسامها وأدلّة القائلين بها ونقد آرائهم فسيأتي الكلام فيها مستوفاً إن شاء اللَّه في محلّه من الاجتهاد والتقليد في آخر مباحث الاصول، فانتظر.

انوار الأصول، ج 1، ص: 341

الفصل العاشر مقدّمة الواجب
اشارة

ولا بدّ قبل الورود في أصل البحث من التكلّم في عدّة جهات:

الجهة الاولى: ما هي موضوعيّة مقدمة الواجب

في أنّ هذه المسألة هل هي من المسائل الاصوليّة أو أنّها مسألة فقهيّة، أو أنّها كلاميّة، أو هي من المبادى ء الأحكاميّة للفقه؟ ففيها وجوه.

يمكن أن يقال أنّها اصوليّة نظراً إلى أنّ المهمّ المبحوث عنه في هذه المسألة إنّما هي الملازمة بين وجوب الشي ء شرعاً ووجوب مقدّمته كذلك، فيترتّب عليها وجوب المقدّمة شرعاً، وهذا هو شأن المسألة الاصوليّة حيث إنّها تقع في طريق استنباط الأحكام الكلّية الفرعيّة الإلهيّة أو الوظيفة العمليّة، ولا إشكال في أنّ وجوب المقدّمة شرعاً حكم كلّي فرعي إلهي يستنبط من وجود الملازمة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب المقدّمة بناءً على قبولها.

ويمكن أن يقال بأنّها فقهيّة نظراً إلى أنّ موضوعها فعل المكلّف وهو المقدّمة في المقام، ومحمولها الحكم الشرعي وهو الوجوب، والبحث في ما نحن فيه يقع في وجوب المقدّمة وعدمه.

ويمكن أن يقال بأنّها كلاميّة لأنّها تبحث عن ترتّب الثواب على فعل المقدّمة والعقاب على تركها (بناءً على وجوبها) وهذا هو شأن المسألة الكلاميّة (حيث إنّها تبحث عن شؤون المبدأ والمعاد) لا لأنّها مسألة عقليّة كما قد يتوهّم فإنّ مجرّد كون البحث عنها عقليّاً لا يوجب دخولها في المسائل الكلاميّة، ضرورة أنّ المسائل الكلاميّة صنف خاصّ من المسائل العقليّة وهي التي يبحث فيها عن المبدأ والمعاد فحسب.

انوار الأصول، ج 1، ص: 342

ويمكن أن يقال بأنّها من المبادى ء الأحكاميّة للفقه كما ذهب إليه بعض المحقّقين المعاصرين «1» حيث قال: «إنّه كان للقدماء مباحث يبحث فيها عن معاندات الأحكام وملازماتها يسمّونها بالمبادى ء الأحكاميّة، ومنها هذه المسألة».

ولا يخفى أنّ المبادى ء الأحكاميّة في الحقيقة ترجع إلى المبادى ء التصوّريّة (فإنّ تصوّر وجوب المقدّمة يلازم تصوّر وجوب ذيها)

أو ترجع إلى المبادى ء التصديقية لأنّه يمكن الاستدلال بوجوب المقدّمة على وجوب كثير من الأفعال في الفقه.

هذا كلّه هي الوجوه المتصوّر للبحث عن مقدّمة الواجب.

قال المحقّق الخراساني رحمه الله: «الظاهر أنّ المهمّ المبحوث عنه في هذه المسألة البحث عن الملازمة بين وجوب الشي ء ووجوب مقدّمته، فتكون المسألة اصوليّة لا عن نفس وجوبها كما هو المتوهّم من بعض العناوين كي تكون فرعيّة، وذلك لوضوح أنّ البحث كذلك لا يناسب الاصولي، والاستطّراد لا وجه له بعد إمكان أن يكون البحث على وجه يكون من المسائل الاصوليّة».

ويرد عليه: أنّ عنوان المسألة في كلمات الأصحاب عبارة عن أنّه «هل المقدّمة واجب، أم لا؟» وهو غير عنوان الملازمة بين وجوب الشي ء ووجوب مقدّمته، والشاهد على ذلك وقوع المتأخّرين في حيص وبيص، فذكر كلّ واحد منهم لكون المسألة على العنوان المزبور وجهاً.

وقال المحقّق النائيني رحمه الله في مقام دفع كون المسألة فقهيّة: «علم الفقه متكفّل لبيان أحوال موضوعات خاصّة كالصّلاة والصّوم وغيرها، والبحث عن وجوب كلّي المقدّمة التي لا تنحصر صدقها بموضوع خاصّ لا يتكفّله علم الفقه أصلًا» «2».

وفيه: أنّه قد وقع الخلط بين العناوين الأوّليّة والعناوين الثانويّة، لأنّ مثل عنوان مقدّمة الواجب كعنوان اطاعة الوالدين والوفاء بالنذر عناوين ثانويّة تتعلّق وتنطبق على مثل عنوان الصّلاة والحجّ الذي هو من العناوين الأوّليّة، ولا فرق بين القسمين من العنوان إلّافي أنّ أحدهما أوّلي والآخر ثانوي ويكون لكلّ منهما مصاديق كثيرة.

فمجرّد كون العنوان ذا مصاديق كثيرة لا يخرجها عن قسم المسائل الفقهيّة. إلّاأن يرجع إلى ما نذكره عن قريب.

انوار الأصول، ج 1، ص: 343

والإنصاف أنّ هذه النزاعات والتطويلات قد نشأت من عدم التفكيك بين المسألة الاصوليّة والمسألة الفقهيّة وبين القاعدة الفقهيّة، فإنّ المسألة من

القواعد الفقهيّة وليست من المسائل الاصوليّة ولا من المسائل الفقهيّة، وسرّه يظهر بملاحظة ما ذكرنا في أوّل الاصول من معيار كون المسألة اصوليّة أو فقهيّة أو قاعدة فقهيّة، فقد مرّ هناك: أنّ المسألة الاصوليّة هي القواعد التي لا تشمل على حكم شرعي بل تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي أو الوظيفة العمليّة، وإنّ المسألة الفقهيّة هي التي تبحث عن نفس الأحكام الفرعيّة الخاصّة والتكاليف الجزئيّة العمليّة في كلّ باب باب من أبواب الفقه المعدّة لعمل المقلّدين، وأمّا القاعدة الفقهيّة فهي عبارة عن الأحكام الكلّية الفرعيّة التي تجري في جميع أبواب الفقه أو في أبواب عديدة من الفقه، ولا يمكن تفويض أمر تطبيقها على مصاديقها إلى المقلّدين مثل قاعدة «لا تعاد» التي تجري في جميع أبواب الصّلاة، وقاعدة «لا حرج» التي تكون جارية في جميع أبواب الفقه، فكلّ واحدة منهما تسمّى قاعدة لكونها كلّية، وفقهيّة لكون الحكم فيها حكماً من الأحكام الفرعيّة الشرعيّة (والمراد من الحكم هو الأعمّ من عقده الإثباتي والنفي فيشمل حتّى مثل مفاد قاعدة لا حرج الذي هو عبارة عن نفي الحكم لا الحكم نفسه).

فظهر أنّ مسألة وجوب المقدّمة من القواعد الفقهيّة لأنّها حكم فرعي كلّي حتّى بناءً على عنوانها الآخر وهو ثبوت الملازمة بين وجوب الشي ء ووجوب مقدّمته وعدمه، لأنّ لازم وجود الملازمة بين وجوب شي ء ووجوب مقدّمته إنّ المقدّمة واجبة بوجوب ذيها، وعلى هذا لا يمكن تفويض أمر تطبيقها على مصاديقها إلى المقلّدين، فإنّه يحتاج إلى دقّة ونظر وإحاطة بامور لا يقدر عليها المقلّد، كما في سائر القواعد الفقهيّة: فقد يكون وجوب المقدّمة معارضاً لحرمة ذاتيّة لا بدّ من ملاحظة الأرجح منهما كما في الدخول في الأرض المغصوبة لنجاة الغريق، وقد

يكون وجوب ذي المقدّمة مشروطاً إلى غير ذلك ممّا لا يسع المقلّد تشخيصها.

كما ظهر إلى هنا أنّه لا وجه لتغيير عنوان ذكره الأقدمون للمسألة إلى عنوان آخر، والمسألة ليست لفظيّة كذلك، فذكرها في باب الألفاظ استطّرادي كما أنّ ذكرها في علم الاصول مطلقاً كذلك.

انوار الأصول، ج 1، ص: 344

الجهة الثانية: في معنى الوجوب

لا إشكال في أنّ الوجوب في ما نحن فيه ليس بمعنى اللابديّة العقليّة، لأنّه لا نزاع في وجوب المقدّمة عقلًا بهذا المعنى، بل المراد منه الوجوب الشرعي الالهي وأنّه هل يكون العقل كاشفاً عن وجود الملازمة بين وجوب الشي ء شرعاً ووجوب مقدّمته كذلك حتّى تكون نتيجتها وجوب المقدّمة شرعاً أو لا؟

كما أنّ المراد منه إنّما هو الوجوب الإجمالي الارتكازي بحيث لو إلتفت المولى إلى المقدّمة وتوقّف ذيها عليها حكم بوجوبها وجوباً تبعيّاً غيريّاً، وليس المراد منه الوجوب تفصيلًا لعدم إلتفات المولى إليها غالباً.

الجهة الثالثة: في تقسيمات المقدّمة
اشارة

قد ذكروا للمقدّمة تقسيمات عديدة:

الأوّل: تقسيمها إلى المقدّمة الداخليّة والمقدّمة الخارجيّة
اشارة

والمراد من الداخليّة إنّما هي الأجزاء المأخوذة في الماهية المأمور بها، أي الأجزاء التي يتركّب منها المأمور به، والمراد من الخارجيّة ما كان خارجاً عن المأمور به وكان له دخل في تحقّقه من الشرائط وعدم الموانع والمقتضى والأسباب.

ولكن قد يستشكل في كون الأجزاء مقدّمة للمأمور به بأنّ المقدّمة تجب أن تكون سابقة على ذي المقدّمة كما هو مقتضى تسميتها بها، والأجزاء ليست هي سابقة عليه بل أنّها نفس ذي المقدّمة، هذا- مضافاً إلى أنّ المقدّمة تجب أن تكون غير ذي المقدّمة ليترشّح الوجوب الغيري منه إليها على القول بالملازمة، والأجزاء ليست مبائنة مع ذي المقدّمة بل هي عين ذي المقدّمة.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه الله: بأنّ المقدّمة الداخليّة هي الأجزاء بما هي هي ولا بشرط، وأمّا ذو المقدّمة أي الواجب فإنّما هو الأجزاء بشرط الاجتماع وإتّصال بعضها ببعض، فتكون المقدّمة سابقة على ذيها ولو رتبة، ومغايرة معه ولو اعتباراً.

ولكن يرد عليه: عدم كفاية التغيّر الاعتباري في المقام، فإنّه أمر ذهني مجاله الذهن،

انوار الأصول، ج 1، ص: 345

والمقدّمة وذو المقدّمة هما بمنزلة العلّة والمعلول في الخارج العيني، ومجرّد المغايرة الذهنيّة غير كافٍ قطعاً.

هذا كلّه بالنسبة إلى إمكان تصوّر المقدّمة الداخليّة وعدمه، وقد ظهر أنّها أمر معقول يمكن تصوّرها.

ثمّ على فرض إمكان تصوّرها وقع البحث في أنّها هل هي داخلة في محلّ النزاع في المقام أو لا؟

واستدلّ لخروجها عنه بأنّ الأجزاء هي عين الكلّ خارجاً وإن تغايرا اعتباراً وحينئذٍ تجب الأجزاء بعين وجوب الكلّ، غايته أنّه يجب الكلّ بوجوب نفسي استقلالي ويجب كلّ واحد من الأجزاء بوجوب نفسي ضمني، أي في ضمن وجوب الكلّ، ومن المعلوم أنّه بعد اتّصاف كلّ واحد من الأجزاء

بالوجوب النفسي الضمني يكون اتّصافه بالوجوب الغيري لغواً بل غير ممكن عقلًا وذلك لامتناع اجتماع المثلين.

وأجاب عنه المحقّق النائيني رحمه الله: إنّ اجتماع الحكمين في شي ء واحد لا يؤدّي إلى اجتماع المثلين بل يؤدّي إلى اندكاك أحدهما في الآخر فيصيران حكماً واحداً مؤكّداً كما في الواجبين النفسيين مثل الظهر والعصر «1».

وأورد المحقّق العراقي، على المحقّق النائيني رحمه الله: إنّ اندكاك أحد الوجوبين في الوجوب الآخر إنّما يصحّ في الواجبات فيما إذا كان ملاك أحدهما في عرض ملاك الآخر، وليس كذلك مورد النزاع، فإنّ ملاك الوجوب الغيري في الأجزاء في طول ملاك الوجوب النفسي في الكلّ، ومع اختلاف الرتبة يستحيل اتّحاد المتماثلين بالنوع «2».

أقول: إنّ استحالة اجتماع المثلين بحكم العقل إنّما هو في الامور التكوينيّة الحقيقية لا الامور الاعتباريّة كما في ما نحن فيه، فلا يلزم من اجتماع المثلين في المقام محذور غير اللغويّة.

وبالجملة: إنّ المستحيل عقلًا إنّما هو اجتماع البياضين أو البياض والسواد مثلًا في محلّ واحد لا اجتماع الوجوبين أو الوجوب والحرمة على شي ء واحد كالصّلاة (مثل صلاة الظهر الواجبة بنفسها وكمقدّمة لصلاة العصر فيوجب التأكّد) وحينئذٍ لا مانع عقلًا من اجتماع وجوب نفسي انوار الأصول، ج 1، ص: 346

ووجوب غيري في الأجزاء.

والحقّ في المسألة أن يقال: إنّ وجوب الأجزاء ليس وجوباً مقدّمياً وإن فرضنا مقدّميتها للكلّ بنحو من التكلّف، بل وجوب كلّ واحد منها وجوب ضمني فكأنّ الأمر بالكلّ انبسط على الأجزاء، فكان كلّ جزء بعض المأمور به، وحينئذٍ لا تصل النوبة إلى الأمر المقدّمي الناشي ء من الأمر بالكلّ، فكما أنّ الحبّ المتعلّق مثلًا بدار أو كتاب أو طعام ينبسط على كلّ جزء جزء منها ويكون كلّ جزء بعض المحبوب، كذلك الحال في الأمر

بالصّلاة من ناحية المولى، فالذي يتعلّق بجزء جزء من الصّلاة هو نفس ما يتعلّق بمجموعها، ولا دليل على تعلّق إرادة اخرى بكلّ جزء غير الإرادة التي تعلّقت بالجميع حتّى يكون للأجزاء وجوب تبعي غيري غير الوجوب النفسي الضمني.

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: في الشرائط، فهل هي من المقدّمات الداخليّة أو الخارجيّة؟

لا إشكال في أنّ ذات الشرط خارج عن المأمور به وإن كان التقيّد به داخلًا، كما اشتهر «التقيّد جزء والقيد خارجي» وذلك نظير المعجون الذي تركّب من أجزاء مختلفة وكان لاستعماله للمريض شرائط مثل أن يكون قبل الغذاء صباحاً وشبه ذلك، فإنّ هذه الشرائط خارجة بذواتها عن المعجون، ولكن تقيّد المعجون بها داخل فيه.

وبعبارة اخرى: إنّ استعماله مع تلك الشرائط يوجب عروض حالة وكيفية به، والداخل في المعجون إنّما هو هذه الكيفية لا ذات الشرائط، وهكذا الشرائط الشرعيّة في المخترعات الشرعيّة فانّ الوضوء مثلًا يوجب عروض وصف على المأمور به كوقوع الصّلاة حال الطهارة الحاصلة منه، ويكون هذا الوصف داخلًا في المأمور به لا ذات الوضوء.

فظهر أنّ الشرائط إن لوحظت بذواتها فانّها تعدّ من المقدّمات الخارجيّة، وإن لوحظ تقيّد المأمور به واتّصافه بها تكون من المقدّمات الداخليّة.

الأمر الثاني: في ثمرة البحث

وهي ممّا قلّ من تعرّض لها ولكن نقل في المحاضرات عن بعض الأعاظم رحمهم الله «أنّ الثمرة بين انوار الأصول، ج 1، ص: 347

القول باتّصاف الأجزاء بالوجوب الغيري والقول بعدم اتّصافها به في مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين بدعوى أنّه على القول الأوّل لا ينحلّ العلم الإجمالي بوجوب أحدهما بالعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ، وذلك لأنّ مناط الانحلال هو انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل على كلّ تقدير، وبما أنّ في المقام لا ينطبق كذلك باعتبار أنّ المعلوم بالإجمال هو الوجوب النفسي، والمعلوم بالتفصيل هو الجامع بين الوجوب الغيري والنفسي، فلا انحلال في البين، وعلى القول الثاني ينحلّ إلى العلم التفصيلي بوجوب نفسي متعلّق بذات الأقلّ (وهي المركّب من تسعة أجزاء مثلًا) والشكّ البدوي في اعتبار أمر زائد، وعندئذٍ فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عن وجوب

الزائد» «1».

أقول: إنّ الأجزاء واجبة بالوجوب النفسي الضمني سواء كانت متّصفة بالوجوب الغيري أيضاً أم لا، فتجري البراءة عن الأكثر على أيّ حال: ولا صلة لها باتّصاف القدر المتيقّن من الأجزاء بالوجوب الغيري وعدم اتّصافه.

وإن شئت قلت: الوجوب الضمني ثابت على أيّ حال: وهو السبب للانحلال، فوجود الوجوب الغيري وعدمه هنا سيّان.

هذا كلّه في التقسيم الأوّل للمقدّمة.

الثاني: تقسيمها إلى المقدّمة العقليّة والشرعيّة والعاديّة

والعقليّة مثل العلّة بالنسبة إلى المعلول، والشرعيّة مثل الوضوء بالنسبة إلى الصّلاة، والعاديّة كنصب السلّم للكون على السطح أو حفر البئر للوصول إلى الماء للوضوء والغسل، والمهمّ في هذا التقسيم هو أن نعلم أنّ جميعها داخلة في محلّ النزاع أم لا؟ وأنّه هل يكون للتوقّف (أي توقّف ذي المقدّمة على المقدّمة) في جميع هذه الثلاثة معنى واحد، أو يكون له في كلّ واحدة منها معنى على حده؟

والصحيح أنّ للتوقّف مفهوماً واحداً إلّاأنّ الكاشف عنه تارةً يكون هو العقل واخرى الشرع وثالثة العادة، كما أنّ الصحيح دخول جميعها في محلّ النزاع، وذلك لأنّ المقدّمة الشرعيّة

انوار الأصول، ج 1، ص: 348

والعاديّة ترجعان في الواقع إلى المقدّمة العقليّة، والتفاوت بينهما أنّ الشرعيّة كشف عنها الشارع، والعاديّة يكون ممّا لا بدّ منها بحسب العادة فهي من هذه الجهة عقليّة.

الثالث: تقسيمها إلى مقدّمة الوجوديّة ومقدّمة الصحّة ومقدّمة الوجوب و مقدّمة العلم

وتعريف كلّ واحد منها واضح وكذلك مثاله الشرعي أو العرفي، إنّما الكلام في دخول كلّ منها في محلّ النزاع وعدمه.

فلا إشكال في دخول إثنان منها فيه، وهما مقدّمة الوجود ومقدّمة الصحّة.

أمّا مقدّمة الوجود: فهي القدر المتيقّن منها، حيث إنّ أصل النزاع في مقدّمة الواجب إنّما هو فيما يتوقّف على وجوده وجود ذي المقدّمة، فكيف لا تكون مقدّمة الوجود داخلة فيه؟

وأمّا مقدّمة الصحّة: فلرجوعها إلى مقدّمة الوجود حتّى على القول بالأعمّ، لأنّ الواجب والمأمور به بأمر المولى إنّما هو الصحيح من العمل ولا إشكال في توقّفه على مقدّمة الصحّة وإن لم يتوقّف المسمّى عليها كما صرّح به المحقّق الخراساني رحمه الله.

وأمّا مقدّمة الوجوب: فمن المعلوم خروجها عن محل النزاع، إذ قبل تحقّق مقدّمة الوجوب لا وجوب للواجب حتّى يقع البحث في ترشّح الوجوب منه إلى مقدّماته، وبعد تحقّقها لا معنى لترشّح الوجوب

من الواجب إليها لأنّه تحصيل للحاصل.

وأمّا مقدّمة العلم: فقد يقال أنّ وجوبها ليس من باب الملازمة وترشّح الأمر الغيري من ذي المقدّمة إلى المقدّمة، وذلك لعدم توقّف وجوب الواجب عليها كي يستقلّ العقل بالملازمة بين وجوب الشي ء ووجوب ما يتوقّف عليه وجوده، بل المتوقّف عليها هو العلم بالواجب، وذلك لإمكان حصول الواجب بدونها صدفة كما إذا غسل يده ولم يغسل شيئاً يسيراً ممّا فوق المرفق وقد صادف المقدار الواجب، أو صلّى إلى إحدى الجهات الأربع ولم يصلّ إلى سائر الجهات وقد صادفت القبلة الواقعيّة، وعليه ظهر أنّ وجوبها كان من باب استقلال العقل به تحصيلًا للأمن من العقوبة لا من باب الملازمة كما ظهر خروجها عن محلّ النزاع حتماً.

وببيان آخر: «لا شبهة في خروجها عن مورد البحث، وذلك لأنّ الصّلاة التي وقعت إلى القبلة في المثال هي نفس الواجب وليست مقدّمة له، وأمّا غيرها فهي مغايرة للواجب ولا

انوار الأصول، ج 1، ص: 349

تكون مقدّمة له وإنّما هي مقدّمة لحصول العلم بالواجب وفراغ الذمّة والأمن من العقاب» «1»، هذا ما ذكره بعض الأعلام وهكذا غيره من سائر الأعلام، فقد أرسلوا المسألة إرسال المسلّمات، بل لم يعنونوها غالباً بزعم أنّ خروجها عن محلّ النزاع واضح.

ولكن مع ذلك كلّه فالحقّ عندنا أنّها داخلة في محلّ النزاع وذلك لرجوعها أيضاً إلى مقدّمة الوجود، فإنّ المكلّف في المثال المزبور لا يكون قادراً على إتيان الواجب وإيجاده في الخارج إلّا بإتيان جميع أطراف العلم الإجمالي كما أنّ المولى إذا أمر عبده مثلًا بجلب سارق اختفى في إحدى هذه البيوت العشرة والعبد يعلم إجمالًا بإختفائه فيها، فلا إشكال في أنّ العبد ليس بقادر على جلب السارق إلّابالبحث عنه في تلك البيوت ويعدّ عمله

هذا عرفاً من مقدّمات امتثاله وإيجاد المأمور به في الخارج، كذلك في الامور الشرعيّة، فإنّ المكلّف بالصّلاة في المثال المزبور لا يكون قادراً على إتيانها إلّابإيجادها إلى الجهات الأربع، ويكون إتيان الصّلاة إلى جميع هذه الجهات مقدّمة للإتيان بالصّلاة المأمور بها في الخارج، نعم قد تصادف الصّلاة الاولى للقبلة ولكن هذا أمر خارج عن اختيار المكلّف لا يتعلّق به التكليف، ولذا لا يمكن للمولى أمره بخصوص ما يصادف في أوّل مرّة، فلا يمكن تكليف العبد بتحصيل المأمور به إلّا من طريق أربع صلوات. وبهذا يكون مردّ المقدّمة العلمية إلى مقدّمة الوجود، أي أنها تعدّ مقدّمة العلم بلحاظ معيّن ومقدّمة الوجود بلحاظ آخر، فتكون حينئذ داخلة في محلّ النزاع.

الرابع: تقسيمها إلى المتقدّم والمقارن والمتأخّر

والمقارن نظير القبلة والطهارة بالنسبة إلى الصّلاة، والمتقدّم نظير عقد الوصيّة بالنسبة إلى ملك الموصى له، والمتأخّر نحو الأغسال الليلية بالإضافة إلى صحّة صيام المستحاضة في اليوم الماضي عند بعض.

واستشكل في المتأخّر والمتقدّم بأنّ العلّة التامّة يجب عقلًا أن تكون مقارنة زماناً للمعلول وإن كانت مقدّمة عليه رتبة، إذ لا يعقل التفكيك بينهما في الزمان، هذا من جانب، ومن جانب آخر إنّا نشاهد أمثلة لهما في الشرع المقدّس كالأمثلة المزبورة كما نشاهدها في العرفيات نظير

انوار الأصول، ج 1، ص: 350

ما إذا أمر المولى عبده بإستقبال زيد واعداده مقدّمات الاستقبال قبل قدومه من السفر، فقدوم زيد في المستقبل شرط لوجوب الاستقبال وتهيئة مقدّماته في الحال، (هذا في المتأخّر) ونظير ما إذا قال: إن جاءك زيد في يوم الخميس ففي يوم الجمعة يجب عليك اطعامه (وهو في المتقدّم)، إذن لا بدّ لدفع الإشكال من توجيه لمثل هذه الموارد، وقد تصدّى له المحقّق الخراساني،، وحاصل كلامه ببيان منّا: التحقيق في دفع

هذا الإشكال أن يقال: إنّ الموارد التي توهّم انخرام القاعدة فيها لا تخلو: إمّا أن يكون المتقدّم أو المتأخّر شرطاً للتكليف، أو للوضع، أو للمأمور به، أمّا إذا كان شرطاً للتكليف (وكذلك الوضع) فإنّ الإيجاب هو فعل من الأفعال الاختياريّة للمولى، والشرط له ليس نفس المجي ء السابق (في المثال المتقدّم) أو قدوم زيد في اللاحق كي يلزم تقدّم الشرط على المشروط أو تأخّره عنه، بل هو نفس لحاظه وتصوّره، وهو مقارن للايجاب، وهكذا الأمر في الوضع (كالوصيّة والصرف والسلّم في المتقدّم، فالعقد سابق والملكيّة حاصلة عند الموت أو عند القبض، وكالاجازة في العقد الفضولي في المتأخّر بناءً على الكشف) فحكم المولى بالملكية فعل من أفعال الحاكم وليس شرطه نفس الاجازة المتأخّرة أو نفس الامور السابقة المعتبرة في الوصيّة والصرف والسلم للحكم، بل الشرط هو نفس لحاظ تلك الامور وتصوّرها وهو مقارن للحكم بالوضع.

أقول: يرد عليه:

أوّلًا: أنّه كيف يمكن أن يكون اللحاظ دخيلًا في تكليف الآمر مع أنّ لازمه دخله في حصول المصلحة؟ ولا معنى له، لأنّ اللحاظ والتصوّر مرآة للمصلحة التي توجد في الخارج وكاشف عنها، فكيف يكون دخيلًا في إيجادها؟ فإنّ المولى يأمر بالاستقبال مثلًا لوجود مصلحة في مجي ء زيد تؤثّر في إيجاب المولى بوجودها الواقعي لا بوجودها اللحاظي التصوّري، كما أنّه كذلك في الامور التكوينيّة، فإنّ العلّة لصناعة السرير مثلًا والداعي إليه إنّما هو المصالح الواقعيّة التي تترتّب عليها بوجودها الخارجي لا بوجودها الذهني.

وإن شئت قلت: علّة الحكم حقيقة هي إرادة المولى ولكن الداعي إليه هو المصالح الموجودة في الفعل خارجاً.

ثانياً: أنّه عمّم الإشكال إلى الشرط المتقدّم، وهو خطأ جدّاً لأنّ استحالة التكفيك بين العلّة والمعلول تتصوّر بالنسبة إلى الجزء الأخير من العلّة

لا سائر الأجزاء حيث إنّ شأن سائر

انوار الأصول، ج 1، ص: 351

الأجزاء شأن المعدّات في العلل الخارجيّة وتكون غالباً مقدّمة على وجود المعلول زماناً كوجود الحطب والآلة المحرقة في الإحراق.

ثالثاً: يمكن النقاش في بعض الأمثلة المذكورة في كلامه أيضاً كمثال العقد في الوصيّة والصرف والسلم حيث إنّ العقد بالنسبة إلى الملكيّة المتأخّرة فيها ليس من الشروط المتقدّمة لأنّه بوجوده الإنشائي مقارن لها وإن صارت الألفاظ معدومة حين صدور الإنشاء.

والأولى أن يقال: إنّ مقامنا هذا أيضاً يكون من موارد الخلط بين الامور التكوينيّة والامور الاعتباريّة، فإنّا قد ذكرنا كراراً أنّ الأحكام الشرعيّة امور اعتباريّة لا واقع لها إلّا اعتبار الشارع ولا صلة لها بالقواعد الحاكمة على الوجودات التكوينيّة الخارجيّة. وقضيّة استحالة التفكيك بين العلّة والمعلول تختصّ بالتكوينيات، وأمّا الاعتباريات فأمر وضعها ورفعها وجعل الشرائط فيها مقارنة أو متأخّرة أو متقدّمة إنّما هو بيد الشارع المعتبر، ولا يكون الشرط المعتبر فيها من مصاديق العلّة والسبب حتىّ يستلزم من تأخيره أو تقديمه محذوراً عقلًا، فإنّ الشارع كما يمكن له اعتبار شرط مقارن للواجب يمكن له اعتبار شرط متقدّم عليه أو متأخّر عنه.

إن قلت: إنّ للشرائط الشرعيّة دخلًا في تحقّق المصالح المترتّبة على الواجبات، ولا إشكال في أنّها مصالح واقعية تكوينيّة، إذن كيف يمكن أن يؤثّر شرط اعتباري متأخّر في مصلحة تكوينيّة متقدّمة؟

قلنا: إنّ المصالح التكوينيّة المترتّبة على الواجبات الشرعيّة الاعتباريّة إنّما تتحقّق في الخارج بعد تحقّق الواجب الاعتباري بجميع أجزائه وشرائطه المقارنة والمتأخّرة والمتقدّمة، فمصلحة صيام المستحاضة مثلًا تتحقّق في الخارج بعد تحقّق الصّيام بجميع شرائطه ومنها الغسل الليلي المتأخّر ولم يدّع أحد تحقّق المصلحة بمجرّد تحقّق الشرط المتقدّم أو المتأخّر فحسب (أي يكون الشرط المتقدّم أو المتأخّر بمجرّده

علّة في وجود المصلحة) حتّى يلزم التفكيك بين العلّة والمعلول.

توضيح ذلك: إنّ منشأ عبادات الشرعيّة أنّها تعبّر عن نهاية الخضوع للشارع المقدّس، وحينئذٍ نقول: كما أنّ الاحترامات العرفيّة كالقيام عند ورود الوالدين أو الاستاذ أو المولى وكالسلام والتحيّة إذا إشترطت بشروط متأخّرة- تنتزع منها عناوينها الخاصة وتترتّب انوار الأصول، ج 1، ص: 352

عليها مصالحها الواقعيّة- فيما لو تحقّقت تلك الشروط في ظرفها، كذلك العبادات الشرعيّة حيث ينتزع منها هذا العنوان وتترتّب عليها مصالحها الخاصّة بعد تحقّق جميع الأجزاء والشرائط، فقبل تحقّق الشرط المتأخّر لا تتحقّق مصلحة حتّى يستلزم انخرام قاعدة العلّية.

وما قد يقال: من «أنّ الاعتبار ليس مجرّد لقلقة اللسان بل للاعتبار واقع، غايته أنّ واقعها عين اعتبارها، وبعد اعتبار شي ء شرطاً لشي ء وأخذه مفروض الوجود في ترتّب الحكم عليه كما هو الشأن في كلّ شرط كيف يمكن تقدّم الحكم على شرطه» «1»

يدفعه: أنّه من قبيل قياس الشرائط الشرعيّة بالشرائط التكوينيّة، فإنّ أخذ الشرط مفروض الوجود في ترتّب الأثر إنّما هو في التكوينيات لا في الاعتباريات كما هو ظاهر، فلا مانع من جعل المتأخّر شرطاً في الاعتباريات.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني رحمه الله ذهب إلى امتناع الشرط المتأخّر وأنّه يؤول إلى الخلف والمناقضة، وحاصل كلامه: أنّ القضايا في الأحكام الشرعيّة قضايا حقيقية والمجعول الشرعي في القضايا الحقيقية لو قلنا بأنّه هي السببيّة دون المسبّبات عند وجود أسبابها لكان تأخّر الشرط عن المشروط به من تأخّر العلّة عن معلولها حقيقة، وهو واضح الاستحالة، وإذا قلنا بأنّ المجعول الشرعي هو نفس المسبّب وانما تنتزع السببيّة من جعل المسبّبات عند امور خاصّة كما هو الحقّ فلابدّ من أن يكون نسبة الشرائط إلى الأحكام نسبة الموضوعات إليها فكما يمتنع وجود المعلول

قبل وجود علّته للزوم الخلف والتناقض، كذلك يمتنع وجود الحكم قبل وجود موضوعه المقدّر وجوده في مقام الجعل «2».

وفيه: أنّه سيأتي في البحث عن الواجب المشروط أنّ الشرائط لا ترجع إلى قيود الموضوع بل أنّها من شرائط الحكم نفسه ومن قيوده، فانتظر.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ الحقّ إمكان الشرط المتأخّر أو المتقدّم عقلًا في الامور الاعتباريّة خلافاً للمحقّق الخراساني والمحقّق النائيني رحمه الله.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ جميع الشروط المذكورة في هذا التقسيم إنّما هي داخلة في محلّ انوار الأصول، ج 1، ص: 353

النزاع فيما إذا كانت شروطاً للمكلّف به لا التكليف كما لا يخفى فيحكم بوجوبها بناءً على وجوب المقدّمة.

هذا كلّه في الجهة الثالثة.

الجهة الرابعة: في تقسيمات الواجب
اشارة

ينقسم الواجب أيضاً إلى تقسيمات عديدة:

الأوّل: تقسيم الواجب إلى المطلق والمشروط
اشارة

وهو من أهمّ مسائل مبحث مقدّمة الواجب، والواجب المطلق نظير الصّلاة بالنسبة إلى الوضوء مثلًا، والمشروط نظير الحجّ بالنسبة إلى الاستطاعة.

وأمّا تعريف كلّ واحد منهما فقال المحقّق الخراساني،: قد ذكر لكل منهما تعاريف وحدود، تختلف بحسب ما أخذ فيها من القيود، وربّما اطيل الكلام بالنقض والإبرام في النقض على الطرد والعكس مع أنّها كما لا يخفى تعريفات لفظيّة لشرح الاسم وليست بالحدّ ولا بالرسم.

ثمّ قال: والظاهر أنّه ليس لهم اصطلاح جديد في لفظ المطلق والمشروط، بل يطلق كلّ منهما بما له من معناه العرفي، كما أنّ الظاهر أنّ وصفي الإطلاق والاشتراط وصفان إضافيان لا حقيقيان وإلّا لم يكد يوجد واجب مطلق، ضرورة اشتراط وجوب كلّ واجب ببعض الامور، لا أقلّ من الشرائط العامّة كالبلوغ والعقل.

أقول: إنّ كلامه مقبول عندنا بتمامه إلّاما مرّ كراراً من قوله بأنّ التعاريف التي تذكر لموضوعات علم الاصول هي من قبيل شرح الاسم، فقد مرّ أيضاً في جوابه أنّ هذا لا يلازم كون القوم أيضاً في مقام شرح الاسم فقط بل إصرارهم على ذكر قيود للتعريف لأن يصير جامعاً ومانعاً، وكذلك مناقشات كلّ واحد منهم في سائر التعاريف بعدم الطرد أو العكس والدفاع عمّا ذكره- بنفسه من أوضح الشواهد على أنّهم في مقام ذكر تعاريف حقيقية للموضوعات المختلفة كما هو واضح، مضافاً إلى أنّ ما يفيد المبتدى ء في هذه الأبحاث هو

انوار الأصول، ج 1، ص: 354

التعريف الجامع للأفراد والمانع عن الأغيار، نعم التعاريف شرح الاسمية إنّما تفيد اللغوي لا المدقّقون في الأبحاث العلمية كما هو ظاهر.

رجوع القيد إلى الهيئة أو المادّة:

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ هيهنا بحثاً له أهمية خاصّة، وهو أنّ القيود المأخوذة في لسان الأدلّة بعنوان الشرط أو غيره هل هي حقيقة راجعة إلى

الهيئة أو المادّة؟ مع تسالم الكلّ على أنّ ظاهر القضيّة الشرعيّة رجوعها إلى الهيئة بل هو معنى الاشتراط وتعليق الجزاء على الشرط، فمعنى «إن جاءك زيد فأكرمه» مثلًا أنّ وجوب الإكرام مقيّد بمجي ء زيد ومعلّق عليه بل قد اعترف بهذا الظهور العرفي من هو مخالف للمشهور في المسألة وهو الشّيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله، إلّاأنّه يقول: لا بدّ من رفع اليد عن هذا الظهور (لمحذور عقلي) وإرجاع القيد إلى المادّة فيكون معنى قولك «إن استطعت يجب عليك الحجّ» حينئذٍ «أنّه يجب عليك من الآن إتيان الحجّ عند تحقّق الاستطاعة» فيكون القيد وهو الاستطاعة في المثال من قيود الواجب، مع أنّ ظاهر القضيّة أنّه من قيود الوجوب، نعم أنّه يقول: فرق بين قيد الواجب الذي يستفاد من القضيّة الشرطيّة وسائر قيود الواجب، فيجب تحصيل القيد وإيجاده في الخارج في الثاني دون الأوّل قضاء لحقّ القضيّة الشرطيّة.

واستدلّ لمقالة الشّيخ الأعظم رحمه الله أو يمكن أن يستدلّ لها بامور:

الأمر الأوّل: أنّ مفاد الهيئة من المعاني الحرفيّة، وقد قرّر في محلّه أنّ الوضع فيها عام والموضوع له خاصّ، أي المعنى الحرفي جزئي حقيقي، ومن البديهي أنّ الجزئي لا يقبل التقييد والإطلاق.

وببيان آخر: أنّ المعاني الحرفيّة إيجاديّة بأسرها، ولو لم يكن الجميع كذلك فلا أقلّ من خصوص مفاد هيئة الأمر، أي الطلب، فلا إشكال في كونه إيجاديّاً، والمعنى الإيجادي جزئي حقيقي، فإنّ الإيجاد هو الوجود، ولا ريب في أنّ الوجود الخارجي عين التشخّص والجزئيّة فلا يقبل التقييد والإطلاق.

ولكن يرد عليه: أنّه قد مرّ في مبحث المعاني الحرفيّة أنّ كون الموضوع له خاصّاً ليس معناه كونه جزئيّاً حقيقيّاً بل أنّه بمعنى الجزئي الإضافي، فمعنى الابتداء في قولنا: «سر من انوار الأصول،

ج 1، ص: 355

البصرة إلى الكوفة» مثلًا كلّي تتصوّر له أفراد كثيرة بملاحظة وجود بوّابات كثيرة مثلًا للبصره أو الكوفة وأمكنة متعدّدة لابتداء السير، فالامتثال لهذا الْامر له مصاديق كثيرة، وكلّ ما كان له مصاديق كثيرة كان كلّياً.

وأمّا كونها إيجاديّة وأنّ الإيجاد جزئي حقيقي فيمكن الجواب عنه أيضاً بأنّه كذلك، أي يكون الإيجاد جزئيّاً حقيقيّاً، ولكن البحث هنا ليس بحثاً عن التقييد بمعنى التضييق والتخصيص بل أنّه بحث عن التقييد بمعنى التعليق، وسيأتي في الوجه الرابع أنّ أحدهما غير الآخر حيث إنّ التعليق إيجاد على فرض، فيمكن تعليق الإيجاد أو الوجود على شي ء مفروض الوجود وإن لم يمكن تقييده، فلا مانع مثلًا من تعليق وجود إكرام زيد ولو بنحو خاصّ على مجيئه وإن كان جزئيّاً حقيقياً.

الأمر الثاني: ما يستفاد من كلمات بعض الأعاظم من أنّ المعنى الحرفي وإن كان كلّياً إلّاأنّه ملحوظ باللحاظ الآلي ولا يلحظ استقلالًا حتّى يمكن تقييده، حيث إنّ التقييد أو الإطلاق من شؤون المعاني الملحوظة باللحاظ الاستقلالي «1».

ويرد عليه: أيضاً إنّا لم نقبل في محلّه كون المعاني الحرفيّة معاني مرآتيّة آليّة بمعنى المغفول عنها، بل قد ذكرنا هناك أنّه ربّما يكون المعنى الحرفي أيضاً مستقلًا في اللحاظ بهذا المعنى ويكون تمام الالتفات والتوجّه إليه كما إذا قلت: هل الطائر في الدار أو على الدار؟ ومرادك السؤال عن «الظرفيّة» و «الاستعلاء» في مثل الطائر الذي تعلم بوجود نسبة بينه وبين الدار، لكن لا تدري أنّ هذه النسبة هي الظرفيّة أو الاستعلاء.

نعم، إنّ المعاني الحرفيّة تابعة للمعاني الاسمية في الوجود الخارجي والذهني، ولا إشكال في أنّ التبعيّة في الوجود لا تلازم كون المعنى الحرفي مغفولًا عنه، فقد وقع الخلط هنا بين التبعيّة في الوجود

الذهني وعدم قيام المفهوم بنفسه وبين الغفلة عنه مع أنّ بينهما بون بعيد.

الأمر الثالث: لزوم اللغويّة حيث أنّه إذا كان الوجوب استقبالياً فلا ثمرة للايجاب والإنشاء في الحال، وبعبارة اخرى: إذا لم يكن المنشأ طلباً فعليّاً يكون الإنشاء لغواً.

والجواب عنه واضح: لأنّ المفروض أنّ أحكام الشارع أحكام كلّية تصدر على نهج انوار الأصول، ج 1، ص: 356

القضايا الحقيقية وشاملة لجميع المكلّفين الواجدين منهم للشرائط المذكورة فيها وغيرهم، فوجوب الحجّ مثلًا يشمل المستطيع فعلًا ومن سيستطيع، وعندئذٍ لا بدّ من صدور الخطاب بشكل القضيّة الشرطيّة حتّى يكون فعليّاً بالنسبة إلى من كان الشرط محققاً له الآن، واستقبالياً بالنسبة إلى من يحصل الشرط له فيما بعد، أي يكون الخطاب الواحد بالنسبه إلى بعض فعليّاً وبالنسبة إلى آخر مشروطاً تقديريّاً، والغفلة عن هذه الحقيقة أوجبت الإيراد باللغويّة.

أضف إلى ذلك أنّه ربّما يلزم تقديم الإنشاء لمراعاة حال المكلّف ولو كان الإنشاء شخصيّاً لكي لا يواجه التكليف فجأةً بل يكون على ذكر منه فيهيّ ء نفسه للامتثال، أو مراعاة حال نفسه فلا يكون بحاجة إلى خطاب جديد مثلًا، فلعلّه لا يتمكّن في ذلك الوقت من الإيجاب والإنشاء (وهذا ما يجري حتّى في القضايا الشخصيّة فضلًا عن الحقيقية الكلّية) إلى غير ذلك من المصالح.

الأمر الرابع: أنّ الإنسان إذا توجّه إلى شي ء وإلتفت إليه فلا يخلو: إمّا أن يطلبه أم لا، ولا ثالث في البين، لا كلام على الثاني، وعلى الأوّل لا يخلو من أنّ الفائدة إمّا أن تقوم بطبيعي ذلك الشي ء من دون دخل خصوصيّة من الخصوصيّات فيها، أو تقوم بحصّة خاصّة منه، وعلى الأوّل فطبيعي أن يطلبه المولى على إطلاقه وسعته، وعلى الثاني يطلبه مقيّداً بقيد خاص، وهذا القيد، تارةً يكون اختياريّاً

واخرى غير اختياري، وعلى الأوّل تارةً يكون مورداً للطلب والبعث، وذلك كالطهارة مثلًا بالإضافة إلى الصّلاة، واخرى لا يكون كذلك بل أخذ مفروض الوجود، وذلك كالإستطاعة بالإضافة إلى الحجّ، وعلى الثاني أي فرض كونه غير اختياري فهو لا محالة أخذ مفروض الوجود في مقام الطلب والجعل لعدم صحّة تعلّق التكليف به، وكزوال الشمس بالإضافة إلى وجوب الصّلاة، وعلى جميع التقادير فالطلب فعلي ومطلق، والمطلوب مقيد من دون فرق بين كونه اختياريّاً أو غير اختياري، ونتيجته رجوع القيد بشتّى ألوانه إلى المادّة.

ويرد عليه: أيضاً أنّ الاحتمالات لا تنحصر في ما ذكر، والحصر ليس بحاصر، بل هنا احتمال آخر لم يشر إليه المستدلّ في كلامه، حيث إنّ الإنسان إذا إلتفت إلى شي ء فإمّا أن لا يطلبه مطلقاً فلا كلام فيه، وإمّا أن يطلبه مطلقاً أي لا يكون طلبه مشروطاً بشي ء ومعلّقاً على انوار الأصول، ج 1، ص: 357

شي ء، (وإن كان مطلوبه مقيّداً بشي ء أحياناً) وإمّا أن يكون طلبه معلّقاً على شي ء فهو لا يطلب ولا يبعث إلّابعد حصول ذلك الشي ء كالإستطاعة، وما ذكره من الصور العديدة إنّما هي من شقوق القسم الأوّل (أي ما إذا كان طلبه مطلقاً)، وأمّا القسم الأخير فلم يأت به في كلامه (وإن أتى بمثاله وهو الحجّ بالنسبة إلى الاستطاعة والصّلاة بالنسبة إلى دلوك الشمس) حيث إنّ كلامه في تقسيمات الواجب والمطلوب لا في تقسيمات الوجوب والطلب، والقسم الأخير أي التعليق في الطلب هو المراد من الواجب المشروط عند المشهور، وسيأتي بيان ماهيته.

الأمر الخامس: أنّ رجوع الشرط إلى الهيئة دون المادّة يوجب تفكيك الإنشاء عن المنشأ، فالإنشاء يكون فعليّاً والمنشأ وهو وجوب الإكرام في مثال «إن جاءك زيد فأكرمه» يكون استقبالياً حاصلًا بعد المجي ء،

وهذا غير معقول بل هو أسوأ حالًا من تفكيك العلّة عن المعلول حيث إنّ العلّة والمعلول أمران واقعيان، ويكون الواقع فيهما متعدّداً، بخلاف الإنشاء والمنشأ أو الإيجاد والوجود أو الإيجاب والوجوب فإن الواقع فيهما واحد يكون إنشاءً أو إيجاداً أو إيجاباً إذا نسب إلى الفاعل، ويكون منشأً أو وجوداً أو وجوباً إذا نسب إلى القابل.

وقد اجيب عنه بوجوه:

الوجه الأوّل: ما أجاب به المحقّق الخراساني رحمه الله وحاصله: أنّ الإنشاء حيث تعلّق بالطلب التقديري، فلابدّ أن لا يكون الطلب حاصلًا فعلًا قبل حصول الشرط وإلّا لزم تخلّف الإنشاء عن المنشأ.

وبعبارة اخرى: أنّ الطلب في الواجب المشروط تقديري، ولازمه عدم فعلية الطلب والإنشاء، فلو كان الطلب فعليّاً يستلزم الخلف.

ولكن الإنصاف أنّه لا يندفع به الإشكال بل هو أشبه بالمصادرة، لأنّ الكلام في إمكان هذا النحو من الإنشاء بالوجدان مع أنّ الإنشاء هو الإيجاد، والإيجاد أمره دائر بين الوجود والعدم، فإمّا وجد الإنشاء أو لم يوجد ولا ثالث له حتّى يسمّى بالإنشاء التقديري.

الوجه الثاني: ما أفاده بعض الأعلام وهو مبني على ما اختاره في المعاني الحرفيّة (من أنّ الإنشاء عبارة عن إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج بمبرز من قول أو فعل)، فإنّه قال: «الصحيح أن يقال أنّه لا مدفع لهذا الإشكال بناءً على نظرية المشهور من أنّ الإنشاء

انوار الأصول، ج 1، ص: 358

عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ ضرورة عدم إمكان تخلّف الوجود عن الإيجاد وأمّا بناءً على مختارنا (وهي ما مرّ آنفاً) فيندفع الإشكال المذكور من أصله» «1».

أقول: وقد بني على هذا المبنى في معنى الإنشاء نتائج كثيرة في علم الاصول:

أوّلًا: أنّه خلاف الوجدان حيث إنّ الوجدان حاكم بأنّ البائع مثلًا في قوله «بعت» إنّما يكون في مقام

إيجاد شي ء في عالم الاعتبار لا الأخبار عن اعتبار موجود في نفسه.

وثانياً: أنّ لازمه تطرّق احتمال الصدق والكذب في الإنشاء كالاخبار (حيث إنّ الإبراز المذكور في كلامه لو كان مطابقاً لما في ضمير المبرز فهو صادق وإلّا كان كاذباً) وهو ممّا لا يلتزم به أحد.

وثالثاً- وهو العمدة- أنّ الإنشاء إيجاد في عالم اعتبار العقلاء والقوانين العقلائيّة (لا في عالم الخارج ولا في عالم الذهن) فتوجد بقول البائع «بعت» ملكيّة قانونيّة في عالم الاعتبار في مقابل الملكيّة الخارجيّة والسلطنة الخارجيّة على الأموال، وبعبارة اخرى: كانت الملكيّة والسلطة في أوّل الأمر منحصرة عند العقلاء في السلطة الخارجيّة ثمّ أضافوا إليها قسماً آخر من السلطة وهي السلطة القانونيّة واعتبروا لايجادها أسباباً لفظيّة وغيرها، فما ذكره من أنّ «الإيجاد في عالم الخارج لا معنى له، وفي عالم النفس لا يحتاج إلى الإنشاء اللّفظي» مدفوع بأنّه إيجاد في وعاء اعتبار العقلاء بالتوسّل بأسبابها.

أضف إلى ذلك كلّه أنّ ما ذكره لا يتصوّر بالنسبة إلى بعض أنواع الإنشاء مثل النداء والإشارة فإنّه لا معنى لوجود شي ء في نفس المنادي أو المشير بإسم النداء والإشارة بل الموجود قبل التلفّظ بأداة النداء أو الإشارة إنّما هو إرادة النداء أو الإشارة فحسب، وأمّا نفس النداء أو الإشارة فإنّما توجد بأداتها مع نيّتها.

وبهذا يظهر أنّ الحقّ في حقيقة الإنشاء إنّما هو مذهب المشهور من أنّه إيجاد لا إخبار.

الوجه الثالث: ما أفاده في تهذيب الاصول وإليك نصّ كلامه: «إنّ الخلط نشأ من إسراء حكم الحقائق إلى الاعتبارات التي لم تشمّ ولن تشمّ رائحة الوجود حتّى يجري عليه أحكام الوجود، ولعمري أنّ ذلك هو المنشأ الوحيد في الاشتباهات الواقعة في العلوم الاعتباريّة إذ

انوار الأصول، ج 1، ص: 359

الإيجاد الاعتباري

لا مانع من تعليقه، ومعنى تعليقه أنّ المولى بعث عبده على تقدير وإلزام، وحكم شيئاً عليه لو تحقّق شرطه، ويقابله العدم المطلق أي إذا لم ينشأ ذلك على هذا النحو» «1».

أقول: إنّا لا ننكر ما يقع كثيراً مّا من الخلط بين الامور التكوينيّة والاعتباريّة وما يترتّب عليه من الإشكالات الكثيرة، وما أكثرها في الفقه والاصول، ولكن هذا ليس بمعنى عدم حكومة ضابطة في الاعتباريات مطلقاً، والسرّ في ذلك والنكتة التي صارت مغفولًا عنها في المقام هي أنّه فرق بين المعتبر والاعتبار، وإنّ ما يكون من الامور الاعتباريّة إنّما هو المعتبر، وأمّا نفس الاعتبار فهو أمر تكويني ومحكوم للقوانين الحاكمة على التكوينيات، فاعتبار الوجوب وإيجاده أمر تكويني دائر أمره بين الوجود والعدم ولا يتصوّر شي ء ثالث بينهما، ومجرّد تسمية شي ء باسم الوجود التقديري أو المعلّق مصادرة إلى المطلوب ولا يرفع المحذور في المسألة، ولذا لا يجتمع الاعتبار في زمان معيّن مع عدمه لعدم جواز الجمع بين النقيضين، ومن هذا الباب ما نحن بصدده وهو أنّ الإيجاد الاعتباري لا معنى لكونه معلّقاً على شي ء.

أضف إلى ذلك أنّ مسألة الوجود المعلّق والاشتراط بالقضيّة الشرطيّة لا تختصّ بالاعتباريات حتّى يكون مفتاح حلّ المشكل في اعتباريّة المسألة، بل تتصوّر أيضاً في الامور التكوينيّة كما في قولك: «إن طلعت الشمس فالنهار موجود» فوجود النهار الذي صار معلّقاً على طلوع الشمس ليس من الاعتباريات كالملكية، فهو إمّا موجود في الخارج أو ليس بموجود ولا ثالث بينهما فيعود الإشكال.

المختار في مسألة الواجب المشروط
اشارة

الوجه الرابع: ما يعتبر حلًا نهائيّاً في المسألة، وهو عبارة عن تحليل معنى الاشتراط والتأمّل في حقيقة مفهوم «إن» الشرطيّة وما يسمّى في اللّغة الفارسيّة ب «اگر»، فنقول لا إشكال في أنّ مفاد كلمة

«إنّ» (اگر) يساوق معنى كلمة «افرض» أي أن الإنسان يفرض أوّلًا وجود شي ء في الخارج ثمّ يحكم عليه بحكم ويرتّب عليه آثاراً، فيفرض مثلًا طلوع الشمس أوّلًا ثمّ يرتّب عليه وجود النهار، فالقضية الشرطيّة حينئذٍ عبارة عن حكم على فرض.

انوار الأصول، ج 1، ص: 360

توضيح ذلك: الإنسان تارة ينظر ويرى أنّ الشمس قد طلعت فيحكم بأنّ الشمس طالعة من غير شرط، واخرى يكون الناظر في ظلمات الليل ولكن يفرض وجود الشمس ثمّ يحكم بوجود النهار في وعاء فرض وجود الشمس فيقول: «إن طلعت الشمس فالنهار موجودة»، وكذلك في الإنشائيات.

وبعبارة اخرى: إنّ للإنسان في أحكامه الإخباريّة والإنشائيّة حالتين، فتارةً يكون مطلوبه في الإنشائيات أو ما يخبر عنه في الإخباريات موجوداً في عالم الخارج بالفعل، فيبعث إليه أو يخبر عنه من دون قيد وتعليق، واخرى لا يكون موجوداً في الخارج فيفرض وجوده أوّلًا ثمّ يحكم عليه إخباراً أو إنشاءً.

إن قلت: على أيّ حال: هل وجد شي ء في الخارج من ناحية حكمه أو لم يوجد؟

قلنا: قد وجد شي ء في الخارج ولكن معلناً على فرض، نظير ما إذا كانت أُمّ تعيش في فراق ولدها فتتصوّر مجي ء ولدها فتحنّ إليه وتسيل دموعها من شوق لقائه، فإنّ سيلان دمعها وبكاؤها أمر تكويني موجود في الخارج ولكن بعد فرضها وتصوّرها مجي ء ولدها، ونظير ما إذا تصوّر المولى عطشه وإشتاقت نفسه بعد ذلك الفرض والتصوّر إلى الماء، فأمر عبده بقوله «إذا كنت عطشاناً فاسقني» فإشتياقه إلى الماء ثمّ بعثه إلى إتيان الماء وجد في الخارج ولكنه مترتّب على فرضه عطشه، فطلبه وبعثه متوقّف على هذا الفرض، وحيث إنّه فرض ولا وجود له في الخارج فعلًا فيمكن أن يقال بأنّه لا إيجاب ولا وجوب كما

ذهب إليه المشهور.

وبعبارة اخرى: الوجوب وجد بالإيجاب ولكن متأخّراً عن فرض ومعلّقاً على تقدير موجود في عالم الذهن ولا عالم الخارج، لأنّ المفروض أنّ الفرض ليس بإزائه شي ء في الخارج حين الفرض.

والحاصل: أنّ هذا الإيجاب موجود من جهة وغير موجود من جهة، فهو موجود بعد فرض وجود الشرط في افق الذهن وغير موجود من دون هذا الفرض.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّه قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ مآل القضايا الحقيقية إلى قضايا شرطيّة حيث إنّها صادقة حتّى مع عدم وجود ما أخذ بعنوان الموضوع فيها حين صدورها وجعلها، فقضيّة «النار

انوار الأصول، ج 1، ص: 361

حارّة» قضيّة حقيقيّة صادقة مع عدم وجود نار في الخارج بل عدم وجود معدّاتها وأسبابها وليس ذلك إلّالأنّها راجعة إلى قضيّة شرطيّة، أي «كلّما وجد في الخارج شي ء وكان ناراً فهي حارّة» فأوّلًا فرض وجود نار في الخارج ثمّ حكم عليها بأنّها حارّة، وهذا هو مراد من قال: إنّ عقد الوضع في القضايا الحقيقية يرجع إلى القضايا الشرطيّة، أي يوجد بين القضيّة الحقيقية والشرطيّة قرابة وشباهة، حيث إنّ كلًا منهما حكم على فرض، لا أنّ كلّ شرط يرجع إلى قيد الموضوع كما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله بل أنّه قيّد للحكم كما هو ظاهر القضيّة الشرطيّة.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ الحقّ مع المشهور وأنّ القيود في القضايا الشرطيّة راجعة إلى الهيئة لا إلى المادّة خلافاً لما نسب إلى الشّيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله.

بقي هنا امور:

الأوّل: في ثمرة النزاع في المسألة

من الواضح أنّ الثمرة في هذا النزاع تظهر في تحصيل المقدّمات المفوّتة كتهيئة الزاد والراحلة وأخذ الجوازات بالنسبة إلى الحجّ، فبناءً على مذاق المشهور لا دليل على وجوبها لعدم وجوب ذي المقدّمة على الفرض، وأمّا على المبنى

المنسوب إلى الشّيخ الأعظم رحمه الله فتحصيلها واجب قبل مجي ء زمان الواجب، فيجب مثلًا حفظ الماء قبل مجي ء وقت الصّلاة إذا كان تحصيل الطهارة بعد مجي ء وقت الصّلاة متوقّفاً عليه، وكذلك تحصيل مقدّمات السفر إلى الحجّ بعد حصول الاستطاعة وقبل الموسم.

نعم ربّما يجب تحصيل المقدّمات حتّى على مبنى المشهور، وهو ما إذا علمنا بفوت غرض المولى في صورة عدم تحصيل المقدّمات، فإنّ العقل يحكم حينئذ بحفظ غرض المولى لمكان حقّ الطاعة والمولويّة، كما إذا علم العبد بأنّه لو لم يحفظ الماء الآن يبقى المولى عطشاناً في المستقبل، فلا إشكال في أنّه لو لم يحفظ الماء وصار المولى عطشاناً صار مستحقّاً للملامة والمؤاخذة، وفي الشرعيات نظير ما إذا علمنا ببعض القرائن مثلًا بإهتمام الشارع بالصّلاة مع الطهارة المائيّة وأنّ غرضه منها لا يحصل بغيرها، فيحكم العقل بحفظ الماء ولو قبل مجي ء زمان وجوب الصّلاة.

الثاني: في محلّ النزاع

هل أنّ البحث عن وجوب المقدّمة هو خصوص الواجب المطلق، أو يكون الواجب المشروط أيضاً داخلًا في محلّ النزاع؟

الحقّ كما صرّح به المحقّق الخراساني رحمه الله دخول كلا القسمين فيه، غاية الأمر بناءً على وجوب المقدّمة يكون وجوب مقدّمات الواجب المطلق مطلقاً أيضاً ووجوب مقدّمات الواجب المشروط مشروطاً، وإلّا يلزم زيادة الفرع على الأصل كما لا يخفى، فإذا كان وجوب الحجّ مشروطاً بالاستطاعة كان وجوب مقدّماته كتحصيل الزاد والراحلة وأخذ الجوازات مشروطاً بالاستطاعة.

الثالث: دخول مقدّمات الواجب المشروط في محل النزاع

بناءً على دخول مقدّمات الواجب المشروط في محلّ النزاع لا إشكال في أنّ المقدّمة التي أخذت بعنوان الشرط في حكم المولى كالإستطاعة بالنسبة إلى الحجّ فلا يكون تحصيلها واجباً، أمّا بناءً على مذاق المشهور فهو واضح لأنّه قبل حصول مثل هذه المقدّمة أي الاستطاعة لم يتعلّق وجوب بالحجّ حتّى تكون مقدّمته واجبة، وبعد حصول الاستطاعة وإن صار الحجّ واجباً ولكن لا معنى لترشّح الوجوب إلى هذه المقدّمة، أي الاستطاعة لأنّه تحصيل للحاصل.

وأمّا بناءً على مبنى الشّيخ الأعظم رحمه الله فلأنّه صرّح بنفسه بأنّه وإن كانت جميع المقدّمات حتّى مثل الاستطاعة المأخوذة شرطاً في القضيّة الشرطيّة من الشرائط الوجوديّة وإنّ جميع القيود ترجع إلى المادّة ولكن على نحو لا يترشّح عليه وجوبه.

ولكن الإنصاف أنّ هذا لا يخلو من نوع من التناقض، فكيف يمكن أن يكون شي ء من المقدّمات الوجوديّة ومع ذلك لا يكون تحصيله واجباً ولم يترشّح عليه وجوب ذي المقدّمة؟

وبعبارة اخرى: كيف يكون الحجّ مثلًا واجباً مطلقاً وتكون الاستطاعة قيداً لوجوده ومع ذلك لا يطلبه المولى من العبد في صورة عدم استطاعته بل يطلبه منه إذا حصلت إتّفاقاً؟

الرابع: هل أنّ العلم من الشرائط العامّة للتكليف؟

لا إشكال في أنّ العلم من الشرائط الأربعة العامّة للتكليف، ولكن مع ذلك وقع البحث في انوار الأصول، ج 1، ص: 363

وجوب تحصيله وعدمه، وأنّه هل يكون تحصيله غير واجب كسائر شرائط التكليف، أو له خصوصيّة من بينها فيجب تحصيله؟ وهكذا بالنسبة إلى العلم بالمكلّف به، فإذا علمنا بأصل وجوب الحجّ مثلًا وعلمنا أيضاً بحصول الاستطاعة في السنة اللّاحقة فهل يجب تحصيل العلم بمسائل الحجّ أو لا؟ المعروف والمشهور وجوب تحصيل العلم في القسم الأوّل، أي العلم بأصل التكليف، ويمكن أن يستدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ تحصيل العلم

واجب نفسي، فهو واجب مع قطع النظر عن كونه مقدّمة لواجب آخر، وتدلّ عليه آيات وروايات نظير ما ورد في بعض الأخبار من أنّه يسأل عن الإنسان يوم القيامة: هلّا عملت؟ يقول: ما علمت، فيقال له: هلّا تعلّمت؟ وما ورد عن الصادق عليه السلام: «ليت السيّاط على رؤوس أصحابي حتّى يتفقّهوا في الدين»، ونظير آية النفر التي تدلّ على وجوب تحصيل العلم ووجوب تعليمه معاً.

وفيه: أنّ العلم في أمثال المقام طريقي لا موضوي، ولذا لو أتى بالواقع من طريق الاحتياط أجزأه قطعاً ولا يؤاخذ على ترك تحصيل العلم مع أنّه لو كان واجباً نفسياً لم يجز العمل بالاحتياط في موارد الجهل بالحكم.

الوجه الثاني: العلم الإجمالي بوجود تكاليف في الشريعة حيث يقتضي تحصيل العلم التفصيلي بها للامتثال.

وهو جيّد في الجملة، ويمكن النقاش فيه بأنّ لازمه عدم وجوب الفحص وتحصيل العلم بالتكليف إذا علم بالمقدار المعلوم إجمالًا وانحلّ العلم الإجمالي بسبب ذلك، مع أنّ الفحص واجب مطلقاً حتّى مع الشكّ البدوي في وجوب تكليف.

الوجه الثالث: حكم العقل (أو بناء العقلاء) وهو العمدة، فإنّ العبد موظّف في مقابل مولاه وحقّ العبوديّة والطاعة أن يفحص عن تكاليف المولى في مظانّها، نعم، له العمل بالاحتياط وترك تحصيل هذا العلم، وأمّا الأخذ بالبراءة من دون فحص فهو أمر غير جائز كما يتّضح لك بالرجوع إلى أهل العرف في مناسبات الموالي مع عبيدهم.

نعم بعد الفحص بالمقدار المتعارف بين العقلاء يجوز التمسّك بالبراءة لعدم العلم بتحقّق التكليف مع أنّه لو كان من شرائط الوجود لكان الأصل فيه الاشتغال.

هذا كلّه في العلم بالتكليف.

انوار الأصول، ج 1، ص: 364

وأمّا العلم بالمكلّف به فكذلك يمكن القول بوجوب تحصيله في الجملة، وهو ما إذا علم بحصول الاستطاعة وعدم

إمكان تحصيل العلم بالمناسك في الموسم، فلا يبعد حينئذ القول بوجوب تحصيل العلم بها من باب حفظ غرض المولى مع أنّه ليس الحجّ واجباً فعلًا.

ثمّ إذا شككنا في أنّ الواجب مطلق أو مشروط فما هو مقتضى القاعدة؟ سيأتي الكلام عنه في ذيل البحث عن الواجب المعلّق فانتظر.

إلى هنا تمّ الكلام في التقسيم الأوّل للواجب.

الثاني: تقسيم الواجب إلى المنجز والمعلّق
اشارة

وقد عرّف الواجب المنجّز في كلام صاحب الفصول المبتكر لهذا التقسيم بما يتعلّق وجوبه بالمكلّف ولا يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له كالمعرفة، وعرّف الواجب المعلّق بما يتعلّق وجوبه به ويتوقّف حصوله على أمر غير مقدور كالحجّ (بالنسبة إلى حلول زمانه) فإنّ وجوبه يتعلّق بالمكلّف من أوّل زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة، ويتوقّف فعله على مجي ء وقته وهو غير مقدور له «1».

نعم أنّه عمّم المعلّق في ذيل كلامه إلى ما يتوقّف على أمر مقدور أيضاً، وقال: «واعلم أنّه كما يصحّ أن يكون وجوبه على تقدير حصول أمر غير مقدور وقد عرفت بيانه، كذلك يصحّ أن يكون وجوبه على تقدير حصول أمر مقدور فيكون بحيث لا يجب على تقدير عدم حصوله، وعلى تقدير حصوله يكون واجباً قبل حصوله، وذلك كما لو توقّف الحجّ المنذور على ركوب الدابة المغصوبة» «2».

ولكن يمكن النقاش في تمثيله للمقدور بالحجّ المنذور المتوقّف على ركوب الدابّة المغصوبة لأنّ ركوب الدابّة المغصوبة غير مقدور شرعاً والمنع الشرعي كالمنع العقلي، وكان يمكن له التمثيل بأمر مقدور مباح لا يترشّح إليه الوجوب وهو ما إذا أخذه المولى قيداً للواجب بنحو لا

انوار الأصول، ج 1، ص: 365

يجب تحصيله كما إذا قال المولى: «حجّ عند إستطاعة». أو «صلّ عند ما تتطهّر» فإنّ ظاهرهما وجوب الحجّ والصّلاة فعلًا مع أنّ وجود الحجّ متوقّف على

حصول الاستطاعة إتّفاقاً مع كونها أمراً مقدوراً للمكلّف، كما أنّ وجود الصّلاة متوقّف على حصول الطهارة إتّفاقاً مع كونها أمراً مقدوراً للمكلّف.

نعم قد ظهر ممّا ذكرنا أنّه لا يرد عليه ما أورده المحقّق الخراساني رحمه الله عليه بقوله: «لا وجه لتخصيص المعلّق بما يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور بل ينبغي تعميمه إلى أمر مقدور متأخّر» فكأنّه رحمه الله لم يلاحظ ذيل كلامه.

كما ظهر أنّه لا فرق بين الواجب المشروط على مبنى الشّيخ الأعظم رحمه الله والواجب المعلّق على التعريف المزبور حيث إنّه أخذ في الواجب المعلّق جميع ما أخذه الشّيخ في الواجب المشروط من كون القيد فيه راجعاً إلى المادّة لا الهيئة وكونه ممّا لا يترشّح عليه الوجوب، مع أنّه شرط للوجود لا الوجوب إلّاإذا أخذنا بصدر كلامه الذي حصر الواجب المعلّق فيه بما يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور، حيث إنّ كلام الشّيخ رحمه الله في الواجب المشروط يكون أعمّ منه وممّا يتوقّف حصوله على أمر مقدور.

نعم، الفرق بين الواجب المعلّق والواجب المشروط على مبنى المشهور واضح فإنّ القيد عندهم في الواجب المشروط راجع إلى الهيئة والوجوب لا الواجب والوجود كما مرّ.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه ذهب جماعة من الأعلام إلى إمكان الواجب المعلّق وجماعة آخرون إلى استحالته، واستدلّ القائلون بالاستحالة بامور:

الأمر الأوّل: ما أفاده الشّيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله من أنّه لا يمكن تصوّر شي ء ثالث في الواجب غير المطلق والمشروط.

ولا يخفى أنّ كلامه في محلّه ولكن بناءً على مختاره في الواجب المشروط، حيث إنّه حينئذ يرجع أحدهما إلى الآخر كما مرّ آنفاً وليس الواجب المعلّق قسماً ثالثاً للواجب، وأمّا بناءً على مبنى المشهور، فالفرق بين الواجب المعلّق والمطلق والمشروط واضح فإنّه

إن لم يكن الواجب مقيّداً بقيد سمّي بالواجب المطلق وإن كان مقيّداً ورجع القيد إلى الهيئة سمّي بالواجب المشروط وإن كان مقيّداً ولكن رجع القيد إلى المادّة كان على قسمين: فإمّا أن يترشّح الوجوب من ذي المقدّمة إلى المقدّمة فيسمّى منجزاً، وهو في الواقع قسم من الواجب المطلق، وإمّا أن لا

انوار الأصول، ج 1، ص: 366

يترشّح منه إليه فيسمّى معلّقاً.

الأمر الثاني: لزوم انفكاك زمان الوجوب عن زمان الواجب وهو محال ببيانين:

أحدهما: مقايسة التشريع بالتكوين، فإنّ الطلب الإنشائي في التشريعيات إنّما هو بإزاء الإرادة المحرّكة للعضلات في التكوينيات، فكما أنّ الإرادة في التكوينيات لا تنفكّ عن المراد (وهو حركة العضلات) وإن كان المراد متأخّراً رتبة فليكن الطلب الإنشائي في التشريعيات أيضاً غير منفكّ عن المطلوب وإن كان المطلوب متأخّراً رتبة، وعليه فلا يمكن أن يكون الطلب في الواجب المعلّق حالياً والمطلوب استقبالياً متأخّراً عن الطلب زماناً.

ثانيهما: الرجوع إلى حقيقة بعث المولى، فإنّها عبارة عن إيجاد ما يكون داعياً إلى العمل، فلو بعث المولى إلى الحجّ، أي أوجد الداعي إليه في نفس العبد، فيستحيل أن لا ينبعث إليه العبد.

ويمكن الجواب عنه أيضاً نقضاً وحلًا، أمّا النقض فلانّه ينتقض بالواجبات المطلقة فيما إذا كانت لحصولها في الخارج مقدّمات عديدة لا بدّ في تحصيلها من زمان طويل.

وأمّا الحلّ فلأنّ الإرادة ليست بمعنى الشوق المؤكّد المحرّك للعضلات من دون تخلّل شي ء بين الشوق وحركة العضلات لأنّ لازمه الجبر كما لا يخفى، بل يتخلّل بينهما شي ء آخر يسمّى بالاختيار، فللمكلّف المنع عن حركة العضلات، ولا إشكال في أنّ لازمه إمكان الانفكاك بين البعث والانبعاث وبين الطلب والمطلوب.

وإن شئت قلت: يمكن المناقشة في المقيس عليه وهو الإرادة التكوينيّة بأنّها كما تتعلّق بأمر حالي

فلا تنفكّ عن المراد زماناً كذلك تتعلّق بأمر استقبالي متأخّر فتنفكّ عنه زماناً، كما إذا تعلّقت الإرادة بالسفر إلى بلاد بعيدة بعد أشهر، فيكون فعلًا بصدد مقدّمات السفر وتحصيل معدّاتها، فتعلّقت الإرادة من الآن بالسفر بعداً (وإلّا لم يكن المريد فعلًا بصدد تحصيل المقدّمات) ولازمه انفكاك الإرادة عن المراد زماناً.

الأمر الثالث: عدم قدرة المكلّف على المكلّف به في حال البعث على المفروض في المقام مع أنّها من الشرائط العامّة.

ويمكن الجواب عنه أيضاً نقضاً: بأنّه ينتقض بالواجب المطلق إذا كان له مقدّمات تحتاج إلى الزمان وبوجوب أجزاء الواجب جميعاً حين الشروع في العمل مع أنّ المكلّف ليس قادراً

انوار الأصول، ج 1، ص: 367

مثلًا على التشهّد والتسليم حين تكبيرة الإحرام فإنّ قدرته على الأجزاء تحصل شيئاً فشيئاً، وما لم يأت بالتكبير لا يكون قادراً على القراءة في محلّها المفروض وهكذا.

وحلًا: بأنّه لا دليل على اعتبار القدرة على المكلّف به قبل مجي ء زمان العمل بل القدرة المعتبرة في التكليف عقلًا هي القدرة على المكلّف به في زمان المكلّف به فإنّه كثيراً ما يتّفق أنّ العبد لا يكون قادراً على الإتيان بالمأمور به حين البعث ولكنّه يصير قادراً عليه بنفس البعث والتحريك، فلا إشكال حينئذٍ في أنّ العقل لا يمنع عن بعثه بمجرّد عدم قدرته على العمل فعلًا.

الأمر الرابع: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله وحاصله: أنّ امتناع الواجب المعلّق في الأحكام الشرعيّة التي تكون على نهج القضايا الحقيقيّة بمكان من الوضوح بحيث لا مجال للتوهّم فيه، لأنّ معنى كون القضيّة حقيقيّة هو أخذ العنوان الملحوظ مرآة لمصاديقه المفروض وجودها موضوعاً للحكم فيكون كلّ حكم مشروطاً بوجود الموضوع بما له من القيود، ولا فرق بين أن يكون القيد هو الوقت

أو أمر آخر، وحينئذ ينبغي أن يسأل ممّن قال بالواجب المعلّق أنّه أي خصوصيّة للوقت حيث قلت بتقدّم الوجوب عليه ولم تقل بذلك في سائر القيود من البلوغ والاستطاعة مع اشتراك الكلّ في أخذه قيداً للموضوع «1».

أقول: لا يخفى أنّ هذا الوجه مبتنٍ على مبنى المحقّق النائيني رحمه الله في أنّ جميع القيود المأخوذة في الأحكام ترجع حقيقة إمّا إلى الموضوع أو إلى المأمور به، مع أنّه قد مرّ عدم تماميّة المبنى وأنّ الاشتراط في الواجب المشروط يكون من قبيل التعليق والتقدير لا التقييد، أي أنّ المولى إذا لم تكن شرائط مطلوبه حاصلة في الحال فأوّلًا يفرض تلك الشرائط، ثمّ يحكم في وعاء ذلك الفرض بمطلوبه، فيكون إيجابه وحكمه إيجاب وحكم على فرض، فيرجع شرطه وفرضه إلى الحكم، أي «يجب مثلًا على المكلّف الحجّ إن استطاع» لا إلى الموضوع حتّى يكون مآل تعبيره «يجب على المستطيع الحجّ»، فعلى المبنى المختار في حقيقة الواجب المشروط الحقيق بالتصديق لا يتمّ ما ذكره.

الأمر الخامس: ما هو المختار في مقام الإشكال على الواجب المعلّق وهو أنّ الواجب المعلّق مستبطن لنوع من التضادّ في إنشائه حيث إنّ المولى يقول يوم الاثنين: «يجب عليك غسل يوم انوار الأصول، ج 1، ص: 368

الجمعة أو صيامه. فإمّا أن يكون هو كناية عن وجوب تهيئة المقدّمات، فلا بأس به كما سيأتي، ولكن حينئذٍ لا يكون الواجب معلّقاً بل أنّه من مصاديق الواجب المشروط، لأنّ المفروض عدم وجوب ذي المقدّمة، وإمّا يكون دالًا على أنّ غسل يوم الجمعة أو صيامه واجب من يوم الاثنين مع أنّ ظرف امتثاله هو يوم الجمعة، فهو متضمّن لنحو من التضادّ، لأنّ كلّ بعثٍ يطلب من العبد انبعاثاً وكلّ طلب يتعقّب

امتثالًا، فلو كان الوجوب فعليّاً يوم الاثنين كان معناه وجوب الامتثال في ذلك اليوم مع أنّ المفروض أنّ زمان الامتثال هو يوم الجمعة فلازم وجود الطلب يوم الاثنين هو فعلية الوجوب في ذلك اليوم، ولازم عدم وجوب امتثاله يوم الاثنين عدم فعليّة الوجوب في ذلك اليوم، وليس هذا إلّاالتضادّ.

والشاهد على ما ذكرناه ما تسالم عليه الفقهاء على أنّه لو مات المكلّف بعد استطاعته في الطريق فلا يجب قضاء الحجّ عنه مع تصريحهم بأنّ الوجه في ذلك أنّ الاستطاعة هي أعمّ من الاستطاعة الماليّة والبدنيّة والطريقية والزمانيّة، فإنّ هذا أقوى شاهد على أنّ ارتكازهم الفقهي والمتشرّعي يكون على أنّ جميع هذه الأربعة شرط لوجوب الحجّ لا خصوص الاستطاعة الماليّة، ولذلك أوّلوا ما ورد في بعض الرّوايات ممّا ظاهره وجوب القضاء بامور اخرى، وذكروا في توجيهه وجهان: أحدهما: حمله على الاستحباب، والثاني: حمله على من استقرّ عليه الحجّ من قبل.

إن قلت: إنّ مثل هذا التعبير (أي يجب عليك من هذا اليوم إكرام زيد يوم الجمعة) شائع عند العرف.

قلنا: شيوع مثل هذا التعبير عند العرف يحتمل فيه وجوه اخرى:

منها: أن يكون من قبيل الواجب المشروط، فترجع القضيّة المزبورة إلى قولك: إذا كان يوم الجمعة كان عليك إكرام زيد) ويرجع مثل قولك «أكرم ضيوفي يوم الجمعة» إلى قولك: «إذا كان يوم الجمعة وقدم ضيوفي فأكرمهم» خصوصاً بملاحظة ما مرّ من أنّ الأحكام القانونيّة ترجع إلى قضايا حقيقيّة، والقضايا الحقيقية أيضاً ترجع إلى قضايا شرطيّة.

ومنها: أن يكون مجازاً بعلاقة الأوّل والمشارفة كما إذا قلت «جاء زيد» مع أنّه لم يجي ء بعدُ، بل سيأتي عن قريب.

ومنها: أن يكون كناية عن إيجاب تهيئة المقدّمات، بأن يكون مراد المولى من تصريحه انوار الأصول،

ج 1، ص: 369

بوجوب إكرام ضيوفه يوم الجمعة من هذا اليوم وجوب تهيئة مقدّمات الإكرام من هذا اليوم، وأمّا الاحتمال الآخر الذي يكون احتمالًا رابعاً في المسألة وهو أن يتعلّق الوجوب من الآن بذي المقدّمة (لا المقدّمة) الذي يأتي فيما بعد فمردود لاشتماله على التناقض كما مرّ، وليت شعري كيف يرضى القائل بالواجب المعلّق بمثل هذا التناقض الواضح بأن يقول المولى للعبد: «أيّها العبد اريد منك الآن إكرام زيد في يوم الجمعة» فله أن يقول في جوابه: «إن كنت تريد الآن فلماذا تقول يوم الجمعة؟ وإن كنت تريد يوم الجمعة فلماذا تقول الآن؟» إلّاأن يكون مرادك تهيئة المقدّمات من الآن.

ثمرة المسألة:

والثمرة التي تتصوّر في المسألة وهي التي دعت صاحب الفصول إلى القول بالواجب المعلّق إنّما هي حلّ فتاوى في الفقه لم يكن لها توجيه عنده إلّاكونها من قبيل الواجب المعلّق.

منها: فتواهم بوجوب تهيئة مقدّمات الحجّ قبل الموسم وبعد الاستطاعة.

ومنها: فتواهم بوجوب الأغسال في الليل للجنب والحائض والمستحاضة في شهر رمضان قبل طلوع الفجر.

ومنها: فتواهم بوجوب تعلّم أحكام الصّلاة قبل مجي ء وقتها إذا علم بعدم القدرة على التعلّم بعده، فكأنّ صاحب الفصول لم ير طريقاً للتخلّص عن هذه الفتاوي إلّاالقول بتصوّر قسم للواجب سمّاه بالواجب المعلّق.

ولكن الإنصاف أنّ الطريق ليس منحصراً في ذلك بل هناك طرق اخرى لتوجيهها يمكن قبول بعضها:

منها: طريق الواجب المشروط على نحو ما نسب إلى الشّيخ الأعظم رحمه الله، ولكن قد مرّ أنّه نفس الواجب المعلّق وليس أمراً آخر.

ومنها: أنّ الإجماع قام على وجوب هذه الامور وجوباً نفسياً تهيّئياً، أمّا كونه نفسياً فلعدم إمكان ترشّحه من وجوب ذي المقدّمة بناءً على أنّ المفروض عدم كون ذي المقدّمة واجباً فعلًا، وأمّا كونه تهيئياً فلأنّه

وإن لم يترشّح من وجوب ذي المقدّمة ولكن الحكمة فيه هي التهيّؤ

انوار الأصول، ج 1، ص: 370

لإتيان ذي المقدّمة في زمانه، فلا يتصوّر لتركه عقاب مستقلّ بل حيث إنّ تركه يؤدّي إلى ترك ذي المقدّمة في ظرفه فيكون العقاب مترتّباً على خصوص ترك ذي المقدّمة فحسب.

ومنها: أن يكون من قبيل الواجب المشروط بالشرط المتأخّر، أي يكون إدراك ذي المقدّمة في ظرفه شرطاً متأخّراً لوجوب هذه المقدّمات من الآن، فمثلًا إدراك الحجّ في الموسم شرط متأخّر لوجوب مقدّماته قبل الموسم.

ولكن هذا خلاف ظاهر الأدلّة، لأنّ ظاهرها أنّ الشرط المذكور فيها من قبيل الشرط المقارن.

ومنها: أنّ حفظ أغراض المولى يقتضي عقلًا وجوب إتيان المقدّمات المزبورة قبل حلول زمان الواجب عند الشارع، أي العقل يكشف عن وجوبها شرعاً، فإذا علمنا أنّ غرض الشارع تعلّق بالحجّ مثلًا على أيّ حال: وأنّه لا يرضى بتركه (كما أنّه كذلك بالنسبة إلى مثل الحجّ) فلا مانع من إيجاب الشارع تحصيل المقدّمات قبل الموسم من باب أنّ انتظاره إلى أيّام الحجّ يساوق تعطيل الحجّ غالباً، بل هو نقض للغرض، وهو قبيح على المولى الحكيم.

وبالجملة هناك قرينة عقليّة على وجوب المقدّمات التي يوجب تركها تفويت غرض المولى ومصلحة الواجب.

وهنا طريق آخر لحلّ الإشكال، وهو أنّ الملازمة بين وجوب المقدّمة وذيها وإن كانت ثابتة ولكنّهما ليسا من قبيل العلّة والمعلول بل كلاهما من قبيل الحكم والإرادة الصادرة من نفس المولى، والملازمة من قبيل الداعي، والعلّة في الواقع نفس المولى بالنسبة إلى الجميع.

وكما أنّ وجود شي ء في الحال يمكن أن يكون داعياً إلى أمرٍ- كذلك وجوده في المستقبل.

إن قلت: فعلى هذا لا بدّ من وجوب جميع المقدّمات قبل مجي ء زمان الواجب كالوضوء ومعرفة القبلة بالنسبة إلى الصّلاة.

قلنا:

إنّه كذلك في خصوص المقدّمات التي يوجب تركها تفويت الغرض في زمانه حتماً لا مثل الوضوء الذي يحتمل إمكان تحصيله في الوقت.

بقي هنا شي ء:

إذا شككنا في أنّ القيد يرجع إلى الوجوب أو إلى الوجود، وبتعبير آخر: يرجع إلى الهيئة أو

انوار الأصول، ج 1، ص: 371

إلى المادّة، فما هو مقتضى الأصل اللّفظي والعملي؟

أمّا الأصل العملي فنقول: لا بدّ فيه من التفصيل بين الشرط المشكوك رجوعه إلى المادّة أو الهيئة وبين مشروطه.

أمّا الشرط كالإستطاعة بالنسبة إلى الحجّ، فلا إشكال في أنّ مردّ الشكّ فيه إلى الشكّ في وجوب تحصيله وعدمه، والأصل حينئذٍ هو البراءة كما لا يخفى، وقد أفتى به بعض الفقهاء في باب صلاة الجمعة بإنّ إقامة صلاة الجمعة من شرائط الوجوب لا الواجب لظاهر قوله تعالى:

«إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ...» حيث إنّ ظاهرها أنّ السعي إلى ذكر اللَّه وحضور الجمعة متوقّف على إقامتها من قبل جماعة والنداء إليها، وبدون ذلك لا يجب الحضور. ولو فرض الشكّ في ذلك فالأصل هو البراءة عن وجوب الإقامة.

وأمّا بالنسبة إلى المشروط كالحجّ بالنسبة إلى الاستطاعة، فيتصوّر فيه حالات ثلاثة:

فتارةً: لا يحصل الشرط فلا تتحقّق الاستطاعة فلا إشكال أيضاً في أنّ الأصل هو البراءة عن وجوب الحجّ، لأنّ الشكّ في كون الاستطاعة شرطاً للوجوب أو للواجب يسري إلى المشروط، ونتيجته الشكّ في أصل وجوب الحجّ والأصل فيه البراءة.

واخرى: يتحقق الشرط فتتحقق الاستطاعة مثلًا، فلا كلام في وجوب الحجّ وهو واضح.

وثالثة: فيما لو تحقق الشرط ثمّ زال، فيتصوّر له أيضاً ثلاث حالات:

الاولى: ما إذا علمنا أنّ الشرط قد شُرط حدوثاً وبقاءً فلا إشكال في عدم وجوب الحجّ من دون حاجة إلى جريان البراءة، للعلم بعدم وجوبه حينئذٍ، وذلك نظير صحّة

البدن بالنسبة إلى الصّيام فإنّه شرط له حدوثاً وبقاءً.

الثانيّة: ما إذا علمنا أنّ الشرط هو شرط حدوثٍ فحسب فلا كلام أيضاً في وجوب المشروط لحصول شرطه.

الثالثة: ما إذا شككنا في أنّه شرط حدوث وبقاء معاً أو حدوث فقط، فالأصل هو الاستصحاب لثبوت وجوب المشروط بحدوث الشرط، فإذا شككنا في بقائه من جهة الشكّ في شرطيّة بقاء الشرط كان الأصل هو استصحاب بقاء الوجوب.

إن قلت: لا بدّ في الاستصحاب من وحدة الموضوع (أي موضوع القضيّة المتيقّنة والمشكوكة) وهي مفقودة في المقام لأنّ الموضوع في القضيّة المتيقّنة إنّما هو عنوان المستطيع،

انوار الأصول، ج 1، ص: 372

والمفروض زواله بقاءً.

قلنا: الموضوع للقضيّة المتيقّنة إنّما هو عنوان المكلّف، وأمّا الاستطاعة فهي تعدّ من حالات الموضوع لا مقوّماته، وعنوان المكلّف باقٍ على الفرض، وسيأتي في مباحث الاستصحاب تعيين الملاك في كون شي ء من حالات الموضوع أو مقوّماته.

هذا كلّه بالنسبة إلى الأصل العملي، وهو البراءة في موردين والاستصحاب في مورد واحد.

أمّا الأصل اللّفظي: فيدور الأمر فيه في الواقع مدار إطلاق المادّة وإطلاق الهيئة وأنّه هل يقدّم إطلاق الهيئة على إطلاق المادّة حتّى تكون نتيجته رجوع القيد إلى المادّة وكون الشرط شرطاً للواجب، أو يكون المقدّم إطلاق المادّة فيرجع القيد إلى الهيئة ونتيجته كون الشرط شرطاً للوجوب؟

ذهب الشّيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله إلى تقديم إطلاق الهيئة على إطلاق المادّة، ويمكن الاستدلال له بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ إطلاق الهيئة شمولي وإطلاق المادّة بدلي، ومن المعلوم أنّ الإطلاق الشمولي ممّا يقدّم على البدلي، فإذا شككنا مثلًا في قوله تعالى: «للَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» أنّ قيد الاستطاعة يرجع إلى هيئة «للَّه على الناس» التي مفادها وجوب الحجّ، أو يرجع إلى المادّة (وهي الحجّ)

قدّمنا إطلاق الهيئة، وصارت النتيجة وجوب الحجّ مطلقاً مع اشتراط صحّته بالاستطاعة، يعني يجب تحصيل الاستطاعة له.

الوجه الثاني: أنّ تقييد الهيئة ممّا يوجب بطلان محلّ الإطلاق في المادّة بخلاف العكس، أي لا يبقى مع تقييد الهيئة محلّ لاطلاق المادّة فإذا فرض تقييد مفاد الهيئة وهو الوجوب بالاستطاعة مثلًا فلا يبقى محلّ لاطلاق الحجّ بالنسبة إلى الاستطاعة، إذ الحجّ لا ينفكّ عن الاستطاعة فيقيّد بتقييد الوجوب قهراً، بخلاف ما إذا فرض تقييد الحجّ بالاستطاعة، فيبقى معه مجال لاطلاق الوجوب، وذلك لجواز تقييده حينئذ بالاستطاعة، ومن المعلوم أنّه كلّما دار الأمر بين تقييدين أحدهما يبطل محلّ الإطلاق في الآخر دون العكس كان العكس أولى، لأنّ التقييد وإن لم يكن مجازاً ولكنّه خلاف الأصل، ورجوع القيد إلى المادّة لازمه ارتكاب خلاف واحد للأصل لأنّه تقييد واحد، ورجوع القيد إلى الهيئة لازمه ارتكاب خلافين للأصل لأنّه يرجع إلى تقييدين.

انوار الأصول، ج 1، ص: 373

إن قلت: كيف يستدلّ الشّيخ الأعظم رحمه الله بهذا الوجه مع أنّه قائل برجوع القيد إلى المادّة؟

على أيّ حال: فلا يتصوّر عنده تقييد الهيئة عقلًا حتّى يدور الأمر بينه وبين تقييد المادّة.

قلنا: إنّه كذلك ولكنّه كان يحتمل رجوع القيد إلى الهيئة في ظاهر اللفظ ومقام الإثبات، وأنّه وإن كان يرجع إلى المادّة لبّاً ولكن لهذا الظهور أثر عملي، وهو عدم ترشّح الوجوب من ذي المقدّمة إلى مثل هذا القيد، فقد مرّ منه أنّ القيود الراجعة إلى المادّة على قسمين: قسم يكون راجعاً إلى المادّة في ظاهر اللفظ أيضاً فيترشّح الوجوب من ذي المقدّمة إليه فيجب تحصيله، وقسم لا يكون راجعاً إليها في ظاهر اللفظ، فهو وإن كان راجعاً إليها لبّاً ولكن نستكشف من عدم أخذه قيداً للمادّة

في ظاهر اللّفظ ومقام الإثبات عدم ترشّح الوجوب إليه، أي عدم وجوب تحصيله.

فظهر أنّ لرجوع القيد إلى الهيئة وعدم رجوعه إليها ثمرة حتّى على مبنى الشّيخ الأعظم رحمه الله، فالوجه الثاني المذكور لمقالته في مقام الشكّ أيضاً لا غبار عليه من هذه الناحية.

ولكن يمكن الجواب عن كلا الوجهين.

أمّا الوجه الأوّل: فيجاب عنه أوّلًا: بأنّ «تقسيم الإطلاق إلى الشمولي والبدلي غير صحيح لأنّ الذي يستفاد من الإطلاق ليس إلّاكون ما وقع موضوعاً للحكم تمام العلّة لثبوته، وأمّا الشمول والبدليّة بمعنى كون الحكم شاملًا لجميع الأفراد أو فرد منها، أو بمعنى أنّ الطلب هل يسقط بإيجاد فرد منها أو بإيجاد كلّها فغير مربوط بالاطلاق بل لا بدّ في استفادة أيّ واحد من الشمول والبدل من إلتماس دليل آخر غير الإطلاق» «1»، وهذا الجواب تامّ لا غبار عليه.

وثانياً: بأنّ المناط في تقدّم أحد الإطلاقين على الآخر ليس هو كونه شمولياً فإنّ الشمولي ليس بأقوى من البدلي، بل هو الاستناد إلى الوضع وعدمه، فإذا كان العموم الشمولي مستنداً إلى الوضع كما في صيغة كلّ ونحوها، والإطلاق البدلي مستنداً إلى مقدّمات الحكمة كالاطلاقات المنعقدة لأسامي الأجناس نوعاً قدم العموم الشمولي الوضعي على الإطلاق البدلي المستفاد من مقدّمات الحكمة لكن لا بملاك كونه شوليّاً بل بملاك كونه وضعيّاً وأنّه أظهر من البدلي حينئذٍ، وإذا انعكس الأمر فكان العموم الشمولي مستنداً إلى مقدّمات الحكمة كما في «أحلّ اللَّه البيع» والإطلاق البدلي مستنداً إلى الوضع كما في كلمة «أيّ»، قدّم الإطلاق البدلي انوار الأصول، ج 1، ص: 374

الوضعي على العموم الشمولي المستفاد من مقدّمات الحكمة، وعليه ففي المقام حيث إنّ كلًا من إطلاق الهيئة وإطلاق المادّة مستند إلى مقدّمات الحكمة فلا ترجيح لأحدهما على

الآخر.

وثالثاً: لو سلّمنا أقوائيّة الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي لكن لا نسلّم إنّها توجب تقديم الشمولي على البدلي ما لم يصل إلى حدّ الظهور العرفي للفظ في الشمول بحيث تعدّ البدليّة مخالفة للظهور.

وأمّا الوجه الثاني: فالجواب عنه واضح، لأنّ الأمر في ما نحن فيه دائر بين تقييد وتقييد، لا بين تقييد وتقييدين: لأنّ تقييد الهيئة يوجب ارتفاع موضوع التقييد في المادّة على نحو السالبة بانتفاع الموضوع لا إنّه يلازم تقييدها مع بقاء موضوعه، فإن قيّدنا الهيئة لزم تقييد واحد، وإن قيّدنا المادّة لزم تقييد واحد أيضاً فالأمر دائر بين تقييد وتقييد.

إلى هنا تمّ الكلام عن التقسيم الثاني للواجب.

الثالث: تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري
اشارة

وقد عرّف الأصحاب الواجب النفسي بأنّه عبارة عن ما أمر به لنفسه، والغيري بأنّه عبارة عن ما أمر به لغيره.

وهيهنا إشكال معروف وهو أنّ هذا التعريف يوجب كون جلّ الواجبات غيريّة لأنّها إنّما وجبت لغيرها وهو المصالح التي تترتّب عليها، فينحصر الواجب النفسي في مثل معرفة اللَّه تعالى حيث إنّها مطلوبة لذاتها.

ولعلّ هذا أوجب عدول المحقّق الخراساني رحمه الله من التعريف المشهور إلى قوله في الكفاية:

«فإن كان الداعي فيه هو التوصّل به إلى واجب لا يكاد التوصّل بدونه إليه لتوقّفه عليه فالواجب غيري وإلّا فهو نفسي، سواء كان الداعي محبوبيّة الواجب بنفسه كالمعرفة باللَّه أو محبوبيته بما له من فائدة مترتّبة عليه كأكثر الواجبات من العبادات والتوصّليات».

ولكنّه أورد عليه أخيراً بما حاصله: أنّ أكثر الواجبات النفسيّة التي أمر بها لأجل ما فيها من الخواصّ والفوائد على هذا تكون واجبات غيريّة، فإنّ تلك الفوائد لو لم تكن لازمة واجبة

انوار الأصول، ج 1، ص: 375

لما دعت المولى إلى إيجاب ذي الفوائد فينطبق حينئذٍ على أكثر الواجبات النفسيّة تعريف الغيري.

ثمّ ذكر

في مقام دفع هذا الإيراد وتصحيح التعريف ما حاصله: إنّ الخواص والفوائد المترتّبة على أكثر الواجبات النفسيّة وإن كانت لازمة قطعاً ولكنّها حيث كانت خارجة عن تحت قدرة المكلّف لم يصحّ تعلّق التكليف بها لتكون واجبة وينطبق على أكثر الواجبات النفسيّة تعريف الغيري.

وأجاب عنه: بأنّ الفوائد وإن كانت بنفسها خارجة عن تحت القدرة ولكنّها مقدورة للمكلّف بالواسطة، وهي تكفي في صحّة تعلّق التكليف بها فإنّ القدرة على السبب قدرة على المسبّب، ولذا قد يؤمر بالتطهير والتمليك والطلاق إلى غير ذلك من المسبّبات التي هي خارجة بنفسها عن تحت القدرة.

ثمّ صحّحه بطريق آخر وحاصله: أنّ الواجب النفسي معنون بعنوان حسن في نفسه ولم يؤمر به إلّالحسنه الكذائي وإن كان مقدّمة لواجب آخر، أي لما يترتّب عليه من الخواصّ والفوائد اللازمة الواجبة، والواجب الغيري ما أمر به لأجل واجب آخر وإن كان معنوناً بعنوان حسن في نفسه كما في الطهارات الثلاثة (انتهى).

واستشكل عليه المحقّق النائيني رحمه الله: بأنّ «حسن الأفعال المقتضى لايجابها إن كان ناشئاً من كونها مقدّمة لما يترتّب عليها من المصالح فإشكال لزوم كون جلّ الواجبات واجبات غيريّة قد بقي على حاله، وإن كان الحسن ثابتاً لها في حدّ ذواتها مع قطع النظر عن ما يترتّب عليها من المصالح فلازمه أن لا يكون الوجوب المتعلّق بها متمحّضاً في النفسيّة ولا في الغيريّة لثبوت ملاكهما حينئذٍ كما في أفعال الحجّ فإنّ المتقدّم منها واجب لنفسه ومقدّمة للمتأخّر فلا يكون وقع للتقسيم حينئذٍ أصلًا» «1».

ثمّ أجاب المحقّق المذكور عن أصل الإشكال بأنّ «الأفعال بالإضافة إلى ما يترتّب عليها من المصالح من قبيل المعدّات التي يتوسّط بينها وبين المعلول امور غير اختياريّة، فلا يمكن تعلّق الإرادة التكوينيّة بها،

فكذلك التشريعيّة لما بيّنا من الملازمة بينهما إمكاناً وامتناعاً، فهي انوار الأصول، ج 1، ص: 376

من قبيل الدواعي لتعلّق الإرادة بالأفعال لا أنّها بأنفسها تحت التكليف حتّى يكون الأمر المتعلّق بالأفعال مترشّحاً من الأمر المتعلّق بها، وما قيل من أنّها مقدورة بالواسطة ولا فرق في القدرة بين أن تكون بلا واسطة وأن تكون بالواسطة قد عرفت ما فيه من أنّه إنّما يتمّ في الأفعال التوليديّة لا في العلل المعدّة» «1».

أقول: يمكن النقاش في جميع ما ذكر، أمّا ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله بعنوان الحلّ النهائي للاشكال من أنّ الواجب النفسي معنون بعنوان حسن في نفسه، ففيه: أنّه لا تتصوّر عبادة يكون لها حسن ذاتي مع قطع النظر عن المصالح التي تترتّب عليها بعد تعلّق الأمر بها التي هي عبارة عمّا ورد في قوله عليه السلام: «فرض اللَّه الإيمان تطهيراً من الشرك والصّلاة تنزيهاً عن الكبر والصّيام ابتلاءً لاخلاص الخلق والحجّ تقوية للدين والجهاد عزّاً للإسلام» «2»

وغير ذلك من نظائره، حتّى في مثل السجود والركوع حيث إنّا لا نعقل لحسنهما معنىً غير ما يترتّب عليهما من المصالح من تربية النفوس والقرب إلى اللَّه، نعم أنّه يتصوّر في مثل معرفة اللَّه وغيرها من أشباهها.

وبهذا يظهر ما في كلام بعض الأعلام في المحاضرات حيث إنّه سلّم وجود حسن ذاتي في مثل السجود والركوع مع قطع النظر عن تعلّق الأمر به.

وأمّا ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله من أنّ أفعال الواجبات بالإضافة إلى ما يترتّب عليها من المصالح من قبيل المعدّات لا الأسباب.

ففيه: أنّه مخالف لظواهر الآيات والرّوايات، حيث إنّ ظاهرها أنّ الصّلاة مثلًا بنفسها مع جميع اجزائها وشرائطها علّة للتنزيه عن الكبر أو للنهي عن الفحشاء والمنكر، وهكذا

الصّوم بالنسبة إلى الاخلاص، والجهاد بالنسبة إلى العزّة، والحجّ بالنسبة إلى تقوية الدين، ولا أقلّ من أنّها مقتضية تؤثّر أثرها مع اجتماع شرائطه لا أنّها معدّات لإفاضة تلك المصالح من جانب اللَّه تعالى.

فالأولى في الجواب أن يقال: إنّ المصالح التي تترتّب على الأفعال امور خارجة عن دائرة علم المكلّفين بتفاصيلها، وبالتبع خارجة عن دائرة قدرتهم بل أنّها معلومة للمولى وتكون انوار الأصول، ج 1، ص: 377

دواعي لأوامره، وحينئذ لا يعقل تكليف العباد بتحصيلها ولا محالة تكون فوق دائرة الأمر لا تحته.

ويشهد لما ذكرنا امور:

الأمر الأوّل: ما اشير إليه من أنّ العبد غالباً يكون جاهلًا بتفاصيل المصالح التي تترتّب على الأحكام، فهو يعلم إجمالًا بوجود رابطة بين الصّلاة مثلًا والنهي عن الفحشاء وإنّ الصّيام جنّة من النار، وأمّا الجزئيات والخصوصيّات فهي مجهولة له بل قد لا يعلم بعض المصالح لا تفصيلًا ولا إجمالًا كجعل صلاة الصبح ركعتين، هذا مضافاً إلى كون المصلحة في كثير من مواردها ليست دائمية وبمنزلة العلّة بل بصورة الأغلبية وبمثابة الحكمة كعدم اختلاط المياه في وجوب الأخذ بالعدّة.

الأمر الثاني: أنّ المصلحة قد تكون في نفس الأمر والإنشاء ولا مصلحة في متعلّقه كما في الأوامر الامتحانيّة في الشرع ونظير الأوامر التي تصدر من جانب الموالي العرفيّة أو الامراء عند نصبهم لمجرّد تثبيت المولويّة أو الأمارة.

الأمر الثالث: أنّ المصلحة قد لا تترتّب على فعل مكلّف خاصّ حتّى يؤمر بتحصيلها بل أنّها تترتّب على أفعال جماعة من المكلّفين بل قد تترتّب على أفعال أجيال منهم نظير أمر الإمام عليه السلام في تلك الرّواية المعروفة بكتابة الأحاديث للأجيال القادمة في غيبة الإمام عليه السلام، فإنّ المصلحة التي تترتّب على هذا الأمر تظهر بعد مضيّ مدّة طويلة من

الزمان، نسلًا بعد نسل، وجماعة بعد جماعة.

نعم مع ذلك كلّه قد يبيّن المولى شيئاً من المصالح لمجرّد تشويق العباد وإيجاد الرغبة والداعي فيهم إلى إتيان التكاليف نظير قوله تعالى «إنّ الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر» ونظير جميع الرّوايات التي وردت في باب علل الشرائع.

إن قلت: إن لم تكن المصالح داخلة في دائرة الحكم الشرعي للمكلّف فكيف يقال بوجوب حفظ الغرض في كلماتهم كما مرّ كراراً في الأبحاث السابقة؟

قلنا: المراد من الغرض الواجب تحصيله في هذا التعبير إنّما هو نفس المأمور به قبل تعلّق الأمر به أو شبه ذلك لا الآثار والمصالح المترتّبة عليه، فالغرض من الحجّ مثلًا (الذي تمسّكنا في إثبات وجوب مقدّماته المفوتة فيه من قبيل تهيئة الزاد والراحلة بوجوب حفظ الغرض) إنّما

انوار الأصول، ج 1، ص: 378

هو نفس مناسك الحجّ التي لا يرضى الشارع بتركها لا ما يتربّ عليها من المصالح.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ تعريف المشهور للواجب النفسي والغيري ممّا لا غبار عليه، وإنّ ما اورد عليه من الإشكال المعروف ليس بوارد، فالواجب النفسي هو ما أمر به لنفسه، والغيري ما أمر به للوصول إلى واجب آخر.

ثمّ إنّه إذا شكّ في واجب أنّه نفسي أو غيري كما إذا شكّ في أنّ غسل الجنابة واجب نفسي مطلوب لنفسه أو أنّه واجب لأجل واجب آخر كالصّلاة والصّيام؟ فما هو مقتضى الأصل اللّفظي والعملي؟

وقد مرّ إجمال البحث عنه في الفصل الخامس من مبحث الأوامر، وقلنا هناك أنّ موضعه الأصلي هو البحث في تقسيمات الواجب:

فنقول: أمّا الأصل اللّفظي فقد ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى أنّ مقتضى إطلاق صيغة الأمر كون الواجب نفسياً لا غيريّاً، لأنّه لو كان شرطاً لغيره لوجب التنبيه عليه على المتكلّم الحكيم في مقام

البيان.

وقد أورد عليه أوّلًا: إنّ الصيغة موضوعة لمصاديق الطلب الحقيقي المنقدح في نفس الطالب لا لمفهوم الطلب فإنّ الفعل لا يتّصف بالمطلوبيّة إلّابواسطة تعلّق واقع الإرادة وحقيقتها عليه لا بواسطة مفهومها، ومن المعلوم أنّ الفرد من الطلب الحقيقي المنقدح في نفس الطالب جزئي لا يعقل فيه التقييد والإطلاق، فلا معنى للتمسّك بإطلاق الصيغة لكون الواجب نفسياً لا غيريّاً «1».

ولكن اجيب عنه: إنّ مفاد الهيئة ليس الأفراد بل هو مفهوم الطلب لأنّ الطلب الحقيقي من الصفات الخارجيّة كالشجاعة والجود ونحوهما لا الامور الاعتباريّة كالزوجيّة والملكيّة وغيرهما ممّا يقبل الإنشاء بالصيغة (نعم إنّ منشأ الطلب الإنشائي ربّما يكون هو الطلب الحقيقي) ومن المعلوم أنّ مفهوم الطلب الإنشائي ممّا يقبل التقييد والإطلاق، فقد وقع الخلط بين المفهوم والمصداق.

أقول: يرد عليه ما مرّ في اتّحاد الإرادة والطلب من أنّ الطلب ليس قائماً بالنفس بل القائم انوار الأصول، ج 1، ص: 379

بها هو الإرادة وهي غير الطلب، وأمّا الطلب فالحقيقي منه عبارة عن التصدّي الخارجي نحو المطلوب، والإنشائي منه إنّما هو بعث الغير واغرائه إلى المطلوب ولا إشكال في أنّ البعث إيجاد والإيجاد أمر جزئي حقيقي لا يقبل الإطلاق والتقييد.

والأولى في الجواب عن الإشكال أن يقال: إنّ الجزئي وإن استحال تقييده بعد تحقّقه في الخارج إلّاأنّه لا ريب في إمكان تقييده وتضييقه قبل الإيجاد من باب «ضيق فم الركّية».

وأورد على التمسّك بالاطلاق ثانياً: بأنّ «المعاني الحرفيّة وإن كانت كلّية إلّاأنّها ملحوظة بتبع لحاظ متعلّقاتها أعني المعاني الاسمية لكونها قد إتّخذت آلة لملاحظة أحوال المعاني الاسمية، وما كان هذا شأنه فهو دائماً مغفول عن ملاحظته بخصوصه، وعليه فكيف يعقل توجّه الإطلاق والتقييد إليه؟ لاستلزامه الالتفات إليه بخصوصه في حال كونه مغفولًا عنه

بخصوصه وهذا خلف» «1».

والجواب عنه واضح وذلك لما مرّ في مبحث المعاني الحرفيّة من أنّ المعاني الحرفيّة تابعة للمعاني الاسمية في الوجود الذهني والخارجي، وهو لا يلازم كونها مغفولًا عنها بل أنّها قد تصير ملحوظة وملتفتاً إليها بتمام اللحاظ والتوجّه، نظير ما نقل عن المحقّق نصير الدين الطوسي رحمه الله حيثما حضر في محضر درس المحقّق رحمه الله صاحب الشرائع وأفتى المحقّق باستحباب التياسر في القبلة لأهل العراق فسأله المحقّق الطوسي رحمه الله: التياسر من القبلة أو إلى القبلة؟

فأجاب المحقّق رحمه الله بقوله: «من القبلة إلى القبلة»، فلا مانع من إطلاق المعنى الحرفي وتقييده من هذه الناحية أيضاً.

هذا كلّه بالنسبة إلى الأصل اللّفظي، فقد تحصّل أنّ التمسّك بالاطلاق تامّ.

أمّا الأصل العملي فيما إذا لم يكن هناك إطلاق فيتصوّر له ثلاث صور:

الصورة الاولى: ما إذا شككنا في النفسيّة والغيريّة قبل مجي ء وقت ما يحتمل كون المشكوك مقدّمة له، كما إذا شككنا قبل الظهر في أنّ غسل الجنابة واجب نفسي أو غيري للصّلاة، فلا إشكال في أنّ الأصل في هذه الصورة إنّما هو البراءة، فإنّه إن كان غيريّاً لم يجب الإتيان به لعدم وجوب ذي المقدّمة فعلًا.

انوار الأصول، ج 1، ص: 380

الصورة الثانيّة: ما إذا شككنا فيها بعد مجي ء وقت ما يحتمل كون المشكوك مقدّمة له وبعد فعليّة وجوبه، فالأصل فيه أيضاً هو البراءة عن وجوب إتيانه قبل إتيان ذي المقدّمة، لأنّ الشكّ يرجع إلى الشكّ في وجوب إتيانه قبل ذي المقدّمة، أي يرجع إلى الشكّ في الشرطيّة، أعني شرطيّة الغسل للصّلاة مثلًا، والأصل فيه هو البراءة، نعم يجب الإتيان بهذا الواجب على كلّ حال للعلم بوجوبه حينئذ، إمّا لنفسه أو لغيره.

الصورة الثالثة: ما إذا جاء وقت ما

يحتمل كونه ذا المقدّمة ومضي وقته كما إذا صارت المرأة حائضاً بعد دخول وقت الصّلاة بعد أن كانت جنباً، فلا نعلم أنّ غسل الجنابة واجب غيري حتّى يظهر سقوط وجوبه بسقوط وجوب الصّلاة أو أنّه واجب نفسي حتّى يكون باقياً على وجوبه؟

لا إشكال في أنّ الأصل هو الاستصحاب حيث إنّ الشكّ هنا يرجع إلى الشكّ في سقوط وجوب ثبت من قبل، والأصل بقاؤه (بناءً على قول القائلين بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية).

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: هل أنّ هنا واجباً آخرا

ما أفاده بعض الأعلام من أنّه «قد يتوهّم أنّ هنا قسماً آخر من الواجب لا يكون نفسياً ولا غيريّاً، وذلك كالمقدّمات المفوتة مثل غسل الجنب ليلًا لصوم غد، وركوب الدابّة ونحوه للإتيان بالحجّ في وقته بناءً على استحالة الواجب التعليقي.

أمّا أنّه ليس بواجب غيري فلأنّ الواجب الغيري على مسلك المشهور ما كان وجوبه معلولًا لوجوب واجب نفسي ومترشّح منه، فلا يعقل وجوبه قبل إيجابه، وأمّا أنّه ليس بواجب نفسي فلأنّ الواجب النفسي ما يستوجب تركه العقاب، والمفروض أنّ ترك هذا الواجب لا يستوجب العقاب عليه وإنّما يستحقّ العقاب على ترك ذي المقدّمة» «1».

انوار الأصول، ج 1، ص: 381

أقول: الحقّ- كما أفاد هذا العلم في دفع هذا التوهّم- عدم وجود قسم ثالث للواجب لأنّه يمكن أن تكون الموارد المزبورة من مصاديق الواجب الغيري لما مرّ من أنّ وجوب المقدّمة لا ينشأ ولا يترشّح من وجوب ذي المقدّمة كترشّح المعلول من علّته حتّى لا يعقل وجوبها قبل إيجابه، بل العلّة لوجوبها إنّما هي إرادة المولى، وأمّا وجوب ذي المقدّمة فهو مجرّد داعٍ لارادته، ومن المعلوم أنّ الداعي للإرادة كما يمكن أن يكون أمراً حالياً كذلك يمكن أن يكون أمراً استقبالياً، هذا- وقد مرّ أنّ

هذا هو أحد طرق حلّ الإشكال في المسألة، وقد ذكرنا هناك طرقاً اخر لحلّها، منها كون وجوب المقدّمة قبل إيجاب ذيها من باب وجوب حفظ غرض المولى وقد مرّ تفصيلها في البحث عن الواجب المعلّق فراجع.

الأمر الثاني: في ترتّب الثواب على الواجب الغيري وعدمه

والتحقيق في المسألة وتنقيح المقال فيها يحتاج إلى رسم مقدّمة قبل الورود في أصل البحث، وهي أنّ الثواب المترتّب على الواجب النفسي هل هو من باب الاستحقاق، أو التفضّل؟

اختلفت فيه كلمات الفقهاء والمتكلّمين، والمشهور والمعروف أنّه من باب الاستحقاق، ولكن حكي عن الشّيخ المفيد رحمه الله وجماعة أنّه من باب التفضّل من اللَّه سبحانه، ولا إشكال في أنّ الظاهر من آيات الكتاب هو الأوّل حيث تعبّر عن الثواب بالأجر في عدد كثير منها «1» وأكثرها مربوطة بمسألة الجزاء في يوم القيامة، ومن المعلوم أنّ كلمة «الأجر» ظاهرة عند العرف في الاستحقاق لا التفضّل فلا يعبّر عرفاً عن الضيافة والاطعام تطوّعاً وتقرّباً إلى اللَّه تعالى مثلًا بأجر الضيوف كما لا يخفى، كما أنّ ظاهر المقابلة بكلمة الباء في مثل قوله تعالى:

«سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ» «2»

وقوله تعالى: «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ» «3»

أيضاً هو الاستحقاق، بل وقوع المقابلة بين الأجر والفضل في مثل قوله تعالى: «لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ انوار الأصول، ج 1، ص: 382

وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» «1»

ظاهر في هذا المعنى أيضاً فإنّ الأجر والفضل إذا اجتمعا افترقا.

هذا- ولكن الإنصاف أنّ الاستحقاق هنا ليس من قبيل استحقاق العامل الأجير لُاجرة عمله، فإنّ المكلّفين هم العبيد واللَّه تعالى هو المولى، ومن المعلوم أنّه يجب على العبيد اطاعة مواليهم لحقّ المولويّة والطاعة، فإنّ العبد بجميع شؤونه وأمواله ملك للمولى، فلا اختيار له في مقابله حتّى يطلب منه شيئاً بإزاء عمله بل أن الوجود كلّه هو من

ساحته ويفاض على الموجودات آنفاً فآناً.

هذا- مضافاً إلى أنّ التكاليف الشرعيّة الصادرة من جانب المولى الحقيقي مشتملة على مصالح ترجع إلى العباد أنفسهم، فهي بحسب الحقيقة منّة من جانبه تعالى عليهم فكيف يستحقّون بإطاعاتهم وامتثالهم الأجر والاجرة؟ وكيف يستحقّ المريض أجراً من الطبيب بإزاء عمله بأوامر الطبيب؟ (ولعلّ هذا هو مراد المفيد رحمه الله وأمثاله حيث ذهبوا إلى أنّه من باب التفضّل لا الاستحقاق) بل الاستحقاق هنا بمعنى اللياقة لقبول التفضّل من جانب الباري تعالى، أي أنّ من كان مطيعاً كان إنساناً كاملًا، والإنسان الكامل يليق بإنعام اللَّه تعالى وتفضّله عليه بمقتضى حكمة الباري فإنّ التسوية بين المطيع والعاصي والمؤمن والفاسق مخالف للحكمة.

وبعبارة اخرى: الاستحقاق للُاجرة والاستعداد لها (بحيث يعدّ عدم اعطائها ظلماً) شي ء، واللياقة للتفضّل شي ء آخر، والاستحقاق في ما نحن فيه بالمعنى الثاني لا الأوّل، فلا يعدّ ترك الثواب حينئذٍ من مصاديق الظلم، نعم أنّه ينافي حكمه الباري الحكيم لأنّ لازمه التسوية بين المطيع والعاصي.

وبهذا يظهر أنّ الاستحقاق في المقام لا ينافي التفضّل بل أنّه بحسب الحقيقة من مصاديقه.

نعم، قد يجتمع مع تفضّل أكثر يعبّر عنه في لسان الآيات بالفضل كما يعبرّ عن الأوّل بالأجر، ويدلّ عليه قوله تعالى: «لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» (وقد مرّ آنفاً) واختلاف التعبير ناظر إلى اختلاف مراتب الفضل فحسب، فالتعبير بالأجر مخصوص بمرتبة من التفضّل يعطى على أساس الكسب والعمل ولياقة اكتسبها العبد بالطاعة وترك المعصية،

انوار الأصول، ج 1، ص: 383

والتعبير بالفضل مختصّ بمرتبة اخرى وليس على أساس العمل مباشرة.

ومع ذلك كلّه فالأصل في كلّ واحد منهما إنّما هو رحمة الربّ لا سعي العبد فلا يكون مقدارهما بمقدار العمل، «وما قدر أعمالنا في جنب كرمك، وكيف نستكثر أعمالًا

نقابل بها كرمك» «1».

نعم أنّه مع حفظ النسبة بين أعمال العباد أنفسهم.

وما ذكرنا في المقام هو أحد طرق الجمع بين ما ورد في باب ثواب الأعمال التي يكون بعضها معارضاً بحسب الظاهر مع بعض آخر في تعيين مقدار الثواب حيث يكون الدالّ على الثواب الأكثر مشيراً إلى مرتبة الأجر والفضل معاً ويكون الدالّ على الأقلّ مشيراً إلى خصوص مرتبة الأجر فقط، فتأمّل جيّداً.

الأمر الثالث: كيفية الثواب والعقاب الاخرويين

حكي في تهذيب الاصول آراء ثلاثة في كيفية الثواب والعقاب الاخرويين:

أحدها: أنّهما من لوازم الأعمال بمعنى أنّ الأعمال الحسنة والأفعال القبيحة في الدنيا تورث استعداداً للنفس حقيقة، به يقتدر على إنشاء صور غيبية بهيئة من الحور والقصور وكذا في جانب الأعمال السيّئة.

ثانيها: الأخذ بظواهر الآيات والأخبار وهي أنّهما من المجعولات كالجزاءات العرفيّة في الحكومات والسياسيات.

ثالثها: أنّ الثواب والعقاب بالاستحقاق وإنّ العبد يستحقّ من عند ربّه جزاء العمل إذا أطاع أو عصى، ولا يجوز له تعالى التخلّف عنه عقلًا في الطاعة وأمّا جزاء السيّئة فيجوز له العفو.

ثمّ أخذ في تحليل هذه الآراء وقال: «إنّ ترتّب الثواب والعقاب على المسلك الأوّل أمر مستور لنا، إذ لا نعلم أنّ النفس بالطاعات والقربات تستعدّ لانشاء الصور الغيبية وإيجادها، وعلى فرض العلم بصحّته إجمالًا فالعلم بخصوصّياتها وتناسب الأفعال وصورها الغيبية ممّا لا

انوار الأصول، ج 1، ص: 384

يمكن لأمثالنا، نعم لا شبهة أنّ لإتيان الأعمال الصالحة لاجل اللَّه تعالى تأثيراً في صفاء النفس وتحكيماً لملكة الانقياد والطاعة ولها بحسب مراتب النيّات وخلوصها تأثيرات في العوالم الغيبية».

وقال في شرح المسلك الثاني بعد أن اعترف بأنّه ظاهر قوله تعالى: «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا» إلى غير ذلك، وأنّه هو المرضي عند المحقّق النهاوندي

رحمه الله على ما حكي عنه- ما نصّه: «لا شكّ أنّ التخلّف بعد الجعل قبيح لاستلزامه الكذب لو اخبر عنه مع علمه بالتخلّف كما في المقام أو لاستلزامه التخلّف عن الوعد والعهد لو أنشأه، وامتناعهما عليه تعالى واضح جدّاً»، (ومقصوده أنّ ترتّب الثواب ليس من باب الاستحقاق بحيث يلزم من عدمه الظلم بل أنّه من باب العمل بالوعد والعهد ومن باب أنّ عدمه يلزم الكذب والتخلّف عن الوعد).

وأمّا المسلك الثالث فقال «أنّه خلاف التحقيق في جانب الثواب لأنّ من عرف مقام ربّه من الغنى والعظمة ومقام نفسه من الفقر والفاقة يعرف نقصان ذاته وإنّ كلّ ما ملكه من أعضاء وجوارح ونعم كلّها منه تعالى لا يستحقّ شيئاً إذا صرفه في طريق عبوديته» «1».

أقول: أمّا القول الأوّل: فمضافاً إلى ما أورده عليه (من أنّه أمر مستور لنا) يرد عليه أنّه مخالف لظواهر الآيات والرّوايات حيث إنّ ظاهرها أنّ الجنّة والنار خلقا من قبل كقوله تعالى:

«وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ» وقوله تعالى: «اتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ» فإنّ كلمة «اعدت» ظاهرة أو صريحة في أنّهما مخلوقان في الحال.

نعم هناك أمر يسمّى بتجسّم الأعمال وهو يستفاد من غير واحد من الآيات والرّوايات نظير ما ورد في باب الأعمال من أنّها تظهر للإنسان على أحسن صورة فيسأل عنها ما أنت؟

فتجيب بأنّي صلاتك أو صومك، ولكن هذا شي ء آخر غير ما ذكر لأنّ تبدّل العمل بصورة تناسبه شي ء، وخلق النفس صوراً غيبية بهيئة من الحور والقصور شي ء آخر، فتدبّر جيّداً.

وأمّا القول الثاني: فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّه لا غبار عليه وأنّه موافق لظواهر الآيات انوار الأصول، ج 1، ص: 385

والرّوايات، فللثواب والعقاب مصداقان، أحدهما ما اعدّ للعباد

قبل العمل، والثاني ما ينشأ من ناحية العمل ويتجسّم العمل فيه.

وأمّا القول الثالث: فإن كان المراد من الاستحقاق نظير استحقاق العامل الأجير للُاجرة، فالحقّ ما أورده عليه من أنّه خلاف التحقيق في جانب الثواب لنفس ما ذكره، وإن كان المراد منه ما مرّ بيانه من اللياقة للمطيع وعدم المساواة بينه وبين العاصي فلا بأس به كما مرّ.

هذا كلّه في أنّ الثواب المترتّب على الواجب النفسي هل هو من باب الاستحقاق أو التفضّل، فلنرجع إلى أصل المسألة وهو ترتّب الثواب على الواجب الغيري وعدمه.

فنقول: فيه وجوه أو أقوال:

1- عدم ترتّب الثواب مطلقاً، وهو ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية.

2- ترتّب الثواب مطلقاً، ولم نجد له قائلًا.

3- الفرق بين ما تعلّق به الأمر الأصلي وما تعلّق به الأمر التبعي، فيترتّب الثواب على الأوّل دون الثاني.

4- ما ذهب إليه في تهذيب الاصول من أنّه يختلف باختلاف المباني الثلاثة المذكورة آنفاً في كيفية ترتّب الثواب والعقاب الاخرويين، فعلى المبنى الأوّل لا فرق بين الواجبات النفسيّة والواجبات الغيريّة فكما أنّ الإتيان بالواجبات النفسيّة يوجب استعداد النفس لانشاء صور غيبية كذلك الإتيان بالواجبات الغيريّة، لكن قد عرفت الإشكال في أصل المبنى وتصوّره في مقام الثبوت، وعلى المبنى الثاني فلا فرق أيضاً بين القسمين من الواجبات حيث إنّه كما يجوز الجعل على أصل العمل يجوز الجعل على المقدّمات أيضاً (من دون الالتزام بكونها عبادة برأسها) كما يظهر من عدّة من الأخبار نظير ما ورد في باب زيارة الإمام الطاهر أبي عبداللَّه الحسين عليه السلام من ترتّب الثواب على كلّ خطوة.

وعلى المبنى الثالث- على فرض صحّته- المبنى فرق بين الواجبات النفسيّة والغيريّة فيترتّب الثواب على الأوّل دون الثاني، لأنّ الاستحقاق

إنّما هو على الطاعة ولا يعقل ذلك في الأوامر الغيريّة، لأنّها بمعزل من الباعثية لأنّ المكلّف حين إتيان المقدّمات لو كان قاصداً لامتثال الأمر النفسي فالداعي حقيقة هو ذاك الأمر دون الغيري، وإن كان راغباً عنه معرضاً

انوار الأصول، ج 1، ص: 386

فلا معنى لإتيان المقدّمات لأجل ذيها «1».

5- التفصيل بين ما إذا أتى بالمقدّمات بشرط قصد التوصّل به إلى الواجب النفسي، وما إذا أتى بها لا بهذا القصد، فيترتّب الثواب على الأوّل دون الثاني، ذهب إلى هذا التفصيل المحقّق النائيني رحمه الله وتلميذه المحقّق في المحاضرات، والفرق بينهما أنّ المحقّق النائيني رحمه الله ذهب إلى أنّ الثواب المترتّب على المقدّمة نفس ما يترتّب على ذي المقدّمة وليس ثواباً مستقلًا، غاية الأمر أنّ الآتي بالواجب الغيري إن قصد به التوصّل إلى الواجب النفسي فهو شارع في الإطاعة من حين الشروع بالمقدّمة ويزيد الثواب حينئذ «2»، ولكن قال في المحاضرات أنّه ثواب مستقلّ فيستحقّ العبد على الإتيان بالمقدّمة وذيها ثوابين إذا قصد بإتيان المقدّمة التوصّل إلى الواجب النفسي «3».

أقول: الحقّ في المسألة وجه آخر، وهو ترتّب الثواب على المقدّمة بشرط قصد التوصّل بها إلى ذيها مضافاً إلى اشتراط الوصول الفعلي إلى ذي المقدّمة لولا المانع، أي يترتّب الثواب على خصوص المقدّمة الموصلة مع قصد التوصّل بها بل يترتّب الثواب أيضاً حتّى لو لم يصل إلى ذي المقدّمة ولكن لحدوث مانع غير اختياري.

أمّا أصل ترتّب الثواب على المقدّمة في مقابل من ينكره على الإطلاق فلما اخترناه في الواجب النفسي في مقدّمة هذا البحث من أنّ الاستحقاق في ما نحن فيه إنّما هو بمعنى لياقة يكتسبها العبد بطاعته وتقرّبه، وإنّ حكمة المولى الحكيم تقتضي عدم التسوية بين المطيع والعاصي فإنّه

لا إشكال في أنّ هذه اللياقة وهذا التقرّب يحصل وجداناً أيضاً لمن أتى بالمقدّمات بقصد التوصّل إلى ذي المقدّمة حيث إنّ العبد بإتيانه المقدّمات يتقرّب إلى الواجب، والوجدان حاكم بأنّ المتقرّب إلى ما أوجبه اللَّه تعالى متقرّب إلى اللَّه نفسه.

ويؤيّد هذا بل يدلّ عليه ما ورد من الآيات والرّوايات التي تؤكّد جدّاً على ترتّب الثواب على بعض المقدّمات، نظير قوله تعالى بالنسبة إلى مقدّمات الجهاد في سبيل اللَّه بل ومقارناته:

انوار الأصول، ج 1، ص: 387

«مَا كَانَ لِاهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَايُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الُمحْسِنِينَ وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» «1»

، ونظير ما وردت من الرّوايات الكثيرة بالنسبة إلى زيارة قبر الإمام أبي عبداللَّه عليه السلام، وبالنسبة إلى الذهاب إلى المسجد وترتّب الثواب على كلّ خطوة، وهكذا ما ورد بالنسبة إلى مقدّمات تحصيل العلم.

وأمّا ترتّبه على خصوص ما إذا قصد بإتيان المقدّمة الوصول إلى ذي المقدّمة فلأنّ الأعمال بالنيّات، والتقرّب المزبور إنّما يحصل فيما إذا قصد بالمقدّمة امتثال تكليف إلهي والوصول إلى واجبه.

وأمّا ترتّبه على خصوص المقدّمة الموصلة بالوصول الفعلي عند عدم المانع فلأنّه لو شرع بالمقدّمات ثمّ انصرف عنها من دون عذر لم يحصل له التقرّب المزبور كما لا يخفى.

وبما ذكرنا يظهر أنّ ما قد يقال «من أنّ الثواب عند العرف والعقلاء لا يترتّب على المقدّمة بل هو إنّما يترتّب على خصوص

ذي المقدّمة فإنّهم لا يعطون اجرة على ما يتحمّله الأجير للبناء مثلًا من مقدّمات الوصول إلى ذي المقدّمة كطيّ مسافة من بلدة إلى بلدة»، في غير محلّه، حيث إنّا قلنا أنّ الاستحقاق في ما نحن فيه ليس من قبيل الاجرة للأجير بل هو بمعنى اللياقة والاستعداد لفضل اللَّه تعالى، والمعيار فيه إنّما هو القرب الذي يحصل للعبد وهو حاصل في الإتيان بالمقدّمات أيضاً.

كما يظهر أنّ المترتّب على المقدّمة ثواب مستقلّ وليس هو نفس ما يترتّب على ذي المقدّمة كما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله.

واستدلّ المحقّق الخراساني رحمه الله لعدم ترتّب الثواب مطلقاً بحكم العقل، بمعنى أنّه إذا أتى بالواجبات بما لها من المقدّمات لم يستقلّ العقل إلّاباستحقاق ثواب واحد.

وقد ظهر ممّا ذكرنا الجواب عنه أيضاً، لأنّه إن كان مراده ما إذا لم يقصد من المقدّمة الوصول إلى ذي المقدّمة، فالحقّ ما ذهب إليه من حكم العقل بعدم ترتّب ثواب مطلقاً، وأمّا إن كان مراده ما إذا قصد بالمقدّمة الوصول إلى ذيها فالإنصاف أنّ ضرورة العقل على عكس ما ذكر،

انوار الأصول، ج 1، ص: 388

فإنّه حكم بترتّب الثواب على إتيان المقدّمة أيضاً، لما يحصل منه من اللياقة والتقرّب كما مرّ.

هذا- مضافاً إلى أنّ لازم كلامه رفع اليد عن ظواهر الآيات والرّوايات (وحملها على بعض المحامل كما أنّ المحقّق الخراساني رحمه الله حملها على توزيع ثواب ذي المقدّمة على المقدّمة وأنّ المقدّمات مهما كثرت إزداد ثواب ذي المقدّمة لصيرورته حينئذٍ من أفضل الأعمال حيث صار أشقّها وأحمزها) مع أنّه تكلّف واضح.

وممّا ذكرنا ظهر حال سائر الأقوال في المسألة وجوابها.

ثمّ إنّه يمكن أن يقال: إنّ الثواب كما يترتّب على المقدّمات يترتّب على لوازم المقدّمات أيضاً، فكما يترتّب الثواب

على تهيئة الزاد والراحلة وطيّ الطريق في مثال الحجّ، كذلك يترتّب على تحمّل الأذى والتعب في هذا الطريق أو المرض الذي يعرضه فيه، ويدلّ عليه ملاحظة العناوين الواردة في الآية المزبورة حيث إنّ أكثر هذه العناوين وهي «الظمأ» و «النصب» و «المخمصة» وما ينالونه من العدوّ من المصائب البدنيّة أو الماليّة أو العرضيّة، وهكذا قطع الوادي حين الرجوع من الجهاد من ملازمات الفعل لأنفسه كما لا يخفى.

إن قلت: لازم ترتّب الثواب على فعل المقدّمة ترتّب العقاب على تركها، وهو ممّا لا يمكن الالتزام به.

قلنا: بل نلتزم به فيما إذا ترك مقدّمة الواجب بقصد أن يترك ذيها، وذلك لأنّ ترك المقدّمة مع هذا القصد يوجب بُعداً عن اللَّه تعالى وهو ملاك العقاب، مثل ما إذا منع الآخرين من بناء المساجد لكي يمنع الناس عن الصّلاة والعبادة، نعم إذا ترك مقدّمة الواجب لا بقصد ترك أمر المولى سبحانه بل لما سوّلت له نفسه وغلبه هواه (كما ورد في بيان الإمام السجّاد عليه السلام في دعاء أبي حمزة الثمالي: إلهي لم أعصك حين عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد ولا بأمرك مستخفّ ...

ولكن خطيئة عرضت وسوّلت لي نفسي وغلبني هواي وأعانني عليها شقوتي وغرّني سترك المُرْخى عليّ) فلا يعاقب على ترك المقدّمة عقاباً مستقلًا على عقاب ترك ذيها، نعم لمّا كان تركها سبباً لترك الواجب فهو تارك للواجب عالماً عامداً.

ومن هنا يعلم ترتّب العقاب على فعل مقدّمة الحرام إذا أتى بها بقصد الإيصال إلى الحرام وقد صرّح به في بعض الرّوايات نظير ما ورد في شرب الخمر: «إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لعن في الخمر عشرة، غارسها وحارثها وعاصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها

انوار الأصول، ج 1،

ص: 389

ومشتريها وآكل ثمنها» «1»، حيث إنّ ذا المقدّمة في باب الخمر إنّما هو شربه فقط، وأمّا سائر العناوين (غير آكل الثمن الذي يكون من اللوازم المترتّبة على بيع الخمر) فهي من المقدّمات كما لا يخفى.

اللّهمّ إلّاأن يقال: إنّ لعن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إنّما هو من باب دخول هذه العناوين تحت عنوان جامع آخر محرّم، وهو عنوان «الإعانة على الإثم»، ومن المعلوم أنّه عنوان محرّم نفسي لا مقدّمي.

ولكن الظاهر من أدلّة حرمة التعاون على الإثم كقوله تعالى: «وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ» أنّه عنوان يرجع إلى فعل الغير، أي المراد منه اعانة الغير على الإثم، فلا يعمّ اعانة الإنسان نفسه على الإثم، بينما هذه الرّواية تشمل من غرس الكرم بقصد أن يصنع من عنبها خمراً لنفسه أيضاً، وهذا يشهد على أنّ اللعن فيها ليس بملاك تطبيق عنوان التعاون على الإثم فقط بل يشمله وغيره، فتدبّر جيّداً.

الأمر الرابع: الكلام في الطهارات الثلاث

وقد اشتهر فيها الإشكال من ثلاثة جوانب:

الأوّل: أنّها تعدّ من العبادات ويترتّب عليها الثواب، فكيف يجتمع مع القول بعدم ترتّب الثواب على المقدّمة؟

الثاني: أنّه يشترط فيها قصد التقرّب مع عدم إمكان التقرّب بالأمر الغيري المقدّمي.

الثالث: أنّ عباديّة هذه الطهارات متوقّفة على قصد أمرها الغيري مع أنّ قصد الأمر فيها أيضاً متوقّف على عباديتها، لأنّ قصد الأمر متفرّع على تعلّق أمر بالمقدّمة بما هي مقدّمة، والمقدّمة في المقام هي الطهارات الثلاث بوصف أنّها عبادة، فيلزم الدور.

وقد اجيب عنها بوجوه:

الوجه الأوّل: ما هو المختار في الجواب عن الأوّل والثاني من إمكان التقرّب بالمقدّمة وترتّب الثواب عليها إذا أتى بها بقصد التوصّل إلى ذي المقدّمة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 390

وأمّا الإشكال الثالث، أي إشكال الدور.

ففيه: إنّا نسلّم كون عباديّة

الطهارات متوقّفة على قصد الأمر، ولكن توقّف قصد الأمر على عباديّة الطهارات إنّما يوجب الدور فيما إذا كان المتوقّف عليه عباديتها في الرتبة السابقة على الأمر أو المقارنة معه، مع أنّه عبارة عن اجتماع شرائط العبادة حين الامتثال، أي إن تعلّق أمر المولى بها لا يحتاج إلى كونها عبادة حين الأمر بل إنّه يأمر بها لاجتماع شرائط العبادة فيها حين الامتثال، وذلك نظير توقّف الأمر على قدرة المكلّف على الفعل، فإنّه ليس معناه لزوم القدرة على الفعل حين الأمر بل تكفي قدرته حين الامتثال، فلو كان العاجز ممّن يقدر على العمل بعد أمر المولى وحين الامتثال كان للمولى أن يأمره. ولذلك قد يقال: إنّ القدرة شرط للإمتثال لا للتكليف.

هذا كلّه بناءً على شرطيّة قصد الأمر في عباديّة العبادة، وأمّا بناءً على ما مرّ في مبحث التعبّدي والتوصّلي من أنّها ليست منوطة بقصد الأمر فالأمر أوضح وأسهل.

الوجه الثاني: ما أفاده الشّيخ الأعظم رحمه الله وتبعه المحقّق الخراساني رحمه الله وكثير من الأعاظم (وهو جيّد لا غبار عليه) وحاصله: أنّ الطهارات عبادات في أنفسها مستحبّات في حدّ ذاتها، فعباديتها لم تنشأ من ناحية الأمر حتّى يلزم الدور.

ولكن قد أورد عليه بوجوه أهمّها وجهان:

الأوّل: أنّ هذا تامّ في الوضوء وقد يقال به في الغسل أيضاً، وأمّا التيمّم فلم يقل أحد باستحبابه النفسي.

ويمكن الجواب عنه: بأنّه بعد أن لم يكن إجماع على عدم مطلوبيّة التيمّم ذاتاً يكفي في إثباتها له ما ورد في الرّوايات من «أنّ التراب أحد الطهورين» إذا انضمّ إلى ما يستفاد من إطلاقات الباب من أنّ المستحبّ إنّما هو الكون على الطهارة في نفسه.

توضيح ذلك: أنّه قد ذكرنا في محلّه في الفقه من أنّ معنى كون

الوضوء مستحبّاً نفسيّاً ليس هو مطلوبيّة الغسلتان والمسحتان فيه، بل المطلوب ذاتاً إنّما هو الكون على الطهارة الذي يترتّب على الغسلتان والمسحتان، ويعدّ غاية للوضوء، وأنّه هو المقدّمة والشرط للصّلاة في الحديث المعروف «لا صلاة إلّابطهور»، ولا إشكال في أنّ مقتضى قوله عليه السلام «إنّ التراب أحد الطهورين» أنّ وزان التيمّم هو وزان الوضوء وأنّ كلّ ما يترتّب على الوضوء يترتّب على انوار الأصول، ج 1، ص: 391

التيمّم أيضاً، ومن الغايات المترتّبة على الوضوء هو الكون على الطهارة، فيترتّب هو على التيمّم أيضاً ونتيجته كون التيمّم أيضاً، مستحبّاً نفسيّاً بنفس المعنى في الوضوء.

الثاني: أنّ الأمر النفسي الاستحبابي المتعلّق بها كثيراً مّا يكون مغفولًا عنه ولا سيّما للعامي، بل ربّما يكون الشخص معتقداً عدمه بإجتهاد أو تقليد أو نحو ذلك، ومع هذا يكون الإتيان بها بداعي التوصّل بأمرها الغيري صحيحاً، فلو كان منشأ عباديتها ذلك الأمر النفسي لم تقع صحيحة.

واجيب عنه: بأنّ الاكتفاء بقصد أمرها الغيري إنّما هو لأجل أنّه لا يدعو إلّاإلى ما هو عبادة في نفسه، فإنّها المقدّمة والمتعلّق للأمر الغيري، فإذا أتى بالطهارات بداعي أمرها الغيري فقد قصد في الحقيقة إتيان ما هو عبادة في نفسه إجمالًا فيكون قصد الأمر الغيري عنواناً إجمالياً ومرآتاً واقعياً لقصد ما هو العبادة في نفسه.

الوجه الثالث: أنّ اعتبار قصد القربة في الطهارات ليس لأجل أنّ الأمر المقدّمي ممّا يقتضي التعبّديّة (أي عدم حصول الغرض منه إلّاإذا أتى بالفعل بداعي القربة) بل لأجل أنّ ذوات تلك الحركات الخاصّة في الوضوء والغسل والتيمّم ليست مقدّمة للصّلاة بل هي بعنوان خاصّ تكون مقدّمة لها، وحيث لا نعلم تفصيل ذلك العنوان المأخوذ فيها فنأتي بتلك الحركات بداعي أمرها الغيري كي يكون إشارة

إلى ذاك العنوان، فإنّ الأمر لا يدعو إلّاإلى متعلّقه، فإذا أتينا بتلك الحركات بداعي وجوبها الغيري فقد أتينا بها بعنوانها الخاصّ المأخوذ فيها، والحاصل أنّ قصد الأمر هنا إنّما هو لتحصيل العنوان القصدي لا للحصول على القربة الذي يتمكّن منها بقصد الطاعة.

ولكن يرد عليه إشكالات عديدة:

منها: أنّ لازمه كفاية تحقّق مجرّد العنوان في تحقّق الامتثال وعدم اعتبار عباديّته مع أنّ عباديّة الطهارات إجماعيّة.

وإن شئت قلت: أنّه لو كان وجه اعتبار قصد الأمر في الطهارات الثلاث هو الإشارة إلى العنوان الخاصّ المأخوذ فيها لجازت الإشارة إليه بقصد الأمر وصفاً أيضاً بأن كان أصل الداعي لإتيانه شيئاً آخر غير قربى فيقول مثلًا: إنّي آتٍ بالوضوء الواجب لأجل التبريد أو التنظيف ونحوهما من الدواعي النفسانيّة، فيكون قصد الأمر حينئذ بنحو التوصيف كافياً

انوار الأصول، ج 1، ص: 392

كالغائي كما إذا قال مثلًا: إنّي آتٍ بالوضوء لوجوبه شرعاً، بل قصد الأمر بنحو التوصيف يكون أظهر في الإشارة إلى العنوان الخاصّ المأخوذ فيها من قصده غاية، مع أنّه لا يكفي مثل هذا القصد قطعاً.

منها: أنّ هذا غير وافٍ بدفع إشكال ترتّب المثوبة عليها كما لا يخفى.

الوجه الرابع: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله وحاصله: أنّه لا وجه لحصر منشأ عباديّة الطهارات الثلاث في الأمر الغيري والأمر النفسي الاستحبابي ليرد الإشكال على كلّ منهما، بل هناك منشأ ثالث وهو قصد الأمر النفسي الضمني الذي نشأ من جانب الأمر النفسي على ذي المقدّمة، لأنّ الأمر النفسي المتعلّق بالصّلاة مثلًا كما ينحلّ إلى أجزائها كذلك ينحلّ إلى شرائطها وقيودها.

ثمّ أورد على نفسه بأنّ لازم ذلك هو القول بعباديّة الشرائط مطلقاً من دون فرق بين الطهارات الثلاث وغيرها لفرض أنّ الأمر النفسي تعلّق بالجميع على نحو

واحد.

وأجاب عن ذلك بأنّ الفارق بينهما هو أنّ الغرض من الطهارات الثلاث (وهو رفع الحدث) لا يحصل إلّاإذا أتى المكلّف بها بقصد القربة دون غيرها من الشرائط، ولا مانع من اختلاف الشرائط من هذه الناحية بل لا مانع من اختلاف الأجزاء أيضاً بالعباديّة وعدمها في مرحلة الثبوت وإن لم يتّفق ذلك في مرحلة الإثبات (أي أنّ أمر اعتبار قصد القربة وعدمه بيد المولى الآمر، فله أن يلغى اعتباره حتّى عن بعض الأجزاء فضلًا عن الشرائط) «1».

أقول: يرد عليه ما ذكرنا سابقاً من أنّ الأمر النفسي المتعلّق بالصلاه مثلًا إنّما تعلّق باجزائها وتقيّدها بالشرائط، وأمّا نفس الشرائط فهي خارجة عن ذات المأمور به، (كما قيل:

التقيّد جزء والقيد خارجي) فلا يمكن حلّ المشكل من هذا الطريق لأنّه يعود إلى الأمر المقدّمي لا محالة.

فقد تلخّص من جميع ما ذكرنا في هذا المجال أنّ لتصحيح عباديّة الطهارات الثلاث طرق ثلاثه:

أحدها قصد الأمر الغيري.

انوار الأصول، ج 1، ص: 393

ثانيها قصد الأمر النفسي الاستحبابي.

ثالثها قصد الأمر النفسي الضمني، والطريق الأوّل بنفسه يتصوّر على صورتين:

الصورة الاولى: قصد الأمر الغيري بقصد التوصّل إلى ذي المقدّمة.

الصورة الثانيّة: قصده لتحصيل عناوين الطهارات الثلاث، فصارت الطرق أربعة، وقد ناقشنا في اثنين منها ووافقنا على اثنين منها:

أحدهما: قصد الأمر الغيري لما مرّ من كفايته في العباديّة.

ثانيهما: قصد الأمر النفسي الاستحبابي.

نكتتان:

النكتة الاولى: أنّه قد إتّضح ممّا ذكرنا أنّه لا إشكال في صحّة الوضوء مثلًا إذا أتى به قبل الوقت بداعي أمره النفسي الاستحبابي أو بداعي أمره الغيري للتوصّل إلى ذي المقدّمة (أي بعض الغايات الاخر غير الصّلاة التي لم يدخل وقتها بعد) وهكذا بداعي الأمر النفسي الضمني بناءً على مختار المحقّق النائيني رحمه الله وإن مرّ الإشكال فيه، وكذلك

لا إشكال في الإتيان به بعد الوقت بداعي أمره الغيري للتوصّل إلى ذي المقدّمة أي الصّلاة.

إنّما الإشكال في جواز إتيانه بعد الوقت بداعي أمره النفسي الاستحبابي، فقد يتوهّم أنّ الوضوء بعد اتّصافه بالوجوب الغيري بعد دخول الوقت خرج عن استحبابه النفسي لوجود المضادّة بين الأحكام الخمسة، فلا يمكن اجتماع وصف الاستحباب والوجوب في زمان واحد.

وقد اجيب عن هذا الإشكال بأنّه لا مانع من اجتماعهما في ما نحن فيه بناءً على جواز اجتماع الأمر والنهي في شي ء واحد من جهتين: لأنّ الجهات في المقام متعدّدة، فإنّ جهة الوجوب الغيري وهي المقدّميّة غير جهة الاستحباب النفسي الموجودة فيه.

والأولى في الجواب أن يقال: إنّ ملاك الاستحباب وهو المحبوبيّة الذاتيّة للطهارات لا يزول بعد دخول الوقت وبعد تعلّق الأمر الوجوبي الغيري بها بل هو باقٍ على حاله، وذلك نظير أكل الفاكهة مثلًا فإنّه مطلوب في نفسه، وهذه المطلوبيّة لا تزول بعد أمر الطبيب بأكلها بل هي باقية على حالها، نعم أنّه يرتفع حدّها الاستحبابي أي الترخيص في الترك، إذن فإن أتى انوار الأصول، ج 1، ص: 394

المكلّف بها بقصد هذه المحبوبيّة ولو بعد دخول الوقت حصلت العبادة بلا إشكال.

النكتة الثانيّة: إذا أتى المكلّف بالطهارات الثلاث بداعي التوصّل إلى الواجب النفسي وكان غافلًا عن محبوبيّتها النفسيّة، ثمّ بدا له في الإتيان بذلك الواجب أو نسيه أو مضى وقته، فهل تقع الطهارات حينئذٍ عبادة حتّى يمكن له إتيان ذلك الواجب بعد الوقت أو إتيان سائر الغايات المترتّبة على الطهارات، أو لا؟

يختلف الجواب باختلاف المباني في المقدّمة، فإن قلنا بأنّ الواجب من المقدّمة إنّما هو المقدّمة الموصلة إلى ذي المقدّمة، فلا إشكال في بطلان الطهارة حينئذٍ لعدم تحقّق شرط المقدّمة وهو الإيصال، وإن

قلنا بكفاية قصد التوصّل إلى ذي المقدّمة وأنّه لا يضرّ عدم الإيصال الفعلي إلى ذي المقدّمة لوجود مانع فلا إشكال أيضاً في صحّة الطهارة ووقوعها عبادة عند وجود المانع، وحينئذٍ يمكن إتيان سائر الغايات، وهكذا إن قلنا بأنّ الواجب هو المقدّمة مطلقاً كما لا يخفى.

هذا كلّه بناءً على اشتراط قصد الأمر في تحقّق العبادة.

وأمّا بناءً على عدم اعتباره وكفاية الحسن الذاتي (وهو كون الفعل قريباً وحسناً ذاتاً) مع الحسن الفاعلي (أي كون الفاعل قاصداً للتقرّب به إلى اللَّه) كما هو الحقّ عندنا في محلّه فلا إشكال في صحّة الطهارة ووقوعها عبادة، فيصحّ الإتيان بسائر الغايات، ومن هنا يظهر الحال فيما إذا اغتسل الجنب لصلاة الصبح ثمّ تبيّن له طلوع الشمس قبل أن يصلّي.

الرابع: تقسيم الواجب إلى الأصلي والتبعي

إنّ الأصالة والتبعيّة تارةً: تلحظان بالنسبة إلى مقام الدلالة والإثبات كما لاحظهما المحقّق القمّي وصاحب الفصول رحمهما الله، فعرّفهما المحقّق القمّي رحمه الله بأنّ الواجب الأصلي ما يكون مقصوداً بالإفادة من الكلام، والواجب التبعي ما لا يكون مقصوداً بالإفادة من الكلام، وإن استفيد تبعاً، كدلالة الآيتين على أقلّ الحمل.

وعرّفهما المحقّق صاحب الفصول رحمه الله بأنّ الأصلي ما فهم وجوبه بخطاب مستقلّ، أي غير

انوار الأصول، ج 1، ص: 395

لازم لخطاب آخر وإن كان وجوبه تابعاً لوجوب غيره، والتبعي بخلافه، وهو ما فهم وجوبه تبعاً لخطاب آخر وإن كان وجوبه مستقلًا كما في المفاهيم، فالمناط في الأصالة والتبعيّة هو الاستقلال بالخطاب وعدمه، فإن كان مستفاداً من خطاب مستقلّ فهو الأصلي، وإن فرض وجوبه غيريّاً تابعاً لوجوب غيره، كما قال اللَّه تعالى: «إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا ...» «1»

الآية، وإن لم يكن مستفاداً من خطاب مستقلّ فهو التبعي، وإن فرض وجوبه نفسيّاً غير تابع لوجوب غيره،

كما إذا استفيد ذلك بنحو المفهوم.

فالمداليل الالتزاميّة اللّفظيّة تبعيّة عنده لعدم كونها واردة بخطاب مستقلّ، وإنّما هي لازم لخطاب آخر، بينما هي أصليّة عند المحقّق القمّي رحمه الله لكونها مقصوداً بالإفادة للمتكلّم.

وتارةً اخرى: تلحظان بلحاظ مقام الثبوت كما لاحظهما كذلك شيخنا الأعظم رحمه الله بناءً على ما في التقريرات، فيكون الأصلي حينئذٍ عبارة عمّا تعلّقت به إرادة مستقلّة من جهة الالتفات إليه بما هو عليه من المصلحة، والتبعي عبارة عمّا لم تتعلّق به إرادة مستقلّة لعدم الالتفات إليه بما يوجب إرادته كذلك، وإن تعلّقت به إرادة إجماليّة تبعاً لإرادة غيره كما في الواجبات الغيريّة الترشّحيّة.

والمحقّق الخراساني رحمه الله اختار التفسير الأخير وأنّ التقسيم يكون بلحاظ مقام الثبوت لا بلحاظ مقام الإثبات والدلالة نظراً إلى أنّ لازمه عدم اتّصاف الواجب الذي لم يكن مفاد دليل لفظي بشي ء من الأصلي والتبعي وهو كما ترى.

وهيهنا تفسير آخر وهو أنّ المراد من الأصلي ما اريد لذاته، وبالتبعي ما اريد لغيره، وهو أيضاً تقسيم بلحاظ مقام الثبوت، ولا إشكال في رجوعهما حينئذٍ إلى الواجب النفسي والغيري وإنّما الاختلاف في التعبير.

أقول: إنّ لازم التفسير الثالث الذي هو تقسيم للواجب بلحاظ مقام الثبوت عدم جريان هذا التقسيم في الواجبات النفسيّة وكون جميعها من الواجبات الأصلية، لأنّ الإرادة في الواجب النفسي مستقلّة قطعاً فإنّه لا معنى لكون الواجب نفسياً ذا مصلحة نفسية ملزمة ولا يكون منظوراً ومراداً بالاستقلال بل أنّه جارٍ في خصوص الواجبات الغيريّة، فإنّها تارةً

انوار الأصول، ج 1، ص: 396

تكون متعلّقة لإرادة مستقلّة للمولى كالوضوء بالنسبة إلى الصّلاة، واخرى لا تتعلّق بها إرادة مستقلّة كما في كثير من الواجبات الغيريّة.

والمهمّ في المقام أنّ التعبير بالأصليّة والتبعيّة لم يرد في حديث ولا في

آية من كتاب اللَّه ولا تترتّب عليه ثمرة لا في الاصول ولا الفقه بل إنّهما مجرّد اصطلاح فحسب، وحينئذٍ لا فرق بين أن يلاحظ بالنسبة إلى مقام الثبوت أو مقام الإثبات فإنّه لا مشاحّة في الاصطلاح.

ثمّ إنّه لو شككنا في أنّ الواجب أصلي أو تبعي، فبناءً على التفسير الأوّل والثالث لا أصل في المسألة، لأنّهما أمران وجوديان، وبناءً على التفسير الثاني يكون الأصل العملي الجاري في المسألة هو استصحاب عدم تعلّق إرادة مستقلّة به، وبه تثبت التبعيّة، ولكن هذا إذا كان التقابل بين الأصلية والتبعيّة تقابل العدم والملكة، أي كان الواجب التبعي أمراً عدميّاً وعبارة عمّا لم يتعلّق به إرادة مستقلّة، وأمّا إذا كان التبعي أيضاً كالأصلي أمراً وجوديّاً وعبارة عمّا تعلّقت به إرادة إجماليّة تبعاً لإرادة غيره فلا تجري أصالة عدم تعلّق إرادة مستقلّة لإثبات أنّ المتعلّق هو إرادة إجماليّة تبعيّة إلّاعلى القول بالأصل المثبت، مضافاً إلى أنّه كما تجري أصالة عدم تعلّق الإرادة المستقلّة تجري أيضاً أصالة عدم تعلّق الإرادة التبعيّة، فتتعارضان وتتساقطان، ونتيجته عدم وجود أصل في المسألة الاصوليّة.

هذا كلّه بناءً على تصوّر ثمرة فقهيّة للمسألة، وقد مرّ أنّه لا ثمرة للمسألة أصلًا لا في الاصول ولا في الفقه، وحينئذٍ لا موضوع للأصل العملي الذي يجري فيما إذا كان في المسألة أثر شرعي، ولذلك لا معنى للبحث عن الأصل بالنسبة إلى المسألة الفقهيّة أيضاً.

إلى هنا تمّ الكلام عن الجهة الرابعة من الجهات التي رسمناها قبل الورود في أصل البحث عن وجوب مقدّمة الواجب.

الجهة الخامسة: كيفية وجوب المقدّمة
اشارة

إذا قلنا بوجوب المقدّمة، فهل هي واجبة مطلقاً أو مشروطة بشرط؟ وعلى الثاني، ما هو ذلك الشرط؟

انوار الأصول، ج 1، ص: 397

فيه أقوال عديدة وتفاصيل مختلفة:

القول الأوّل: ما اختاره المحقّق

الخراساني رحمه الله في الكفاية من أنّ وجوب المقدّمة بناءً على الملازمة يتبع في الإطلاق والاشتراط وجوب ذي المقدّمة، فإن كان وجوب ذي المقدّمة مطلقاً كان وجوب المقدّمة أيضاً مطلقاً، ولا يعتبر فيه أيّة خصوصيّة، وإن كان مشروطاً كان وجوب المقدّمة أيضاً مشروطاً.

القول الثاني: ما يلوح من كلام صاحب المعالم من اشتراط وجوب المقدّمة على القول به بإرادة ذي المقدّمة، فإن أراد المكلّف الإتيان بذي المقدّمة وجبت المقدّمة وإلّا فلا، وإليك نصّ كلامه في مبحث الضدّ: «وأيضاً فحجّة القول بوجوب المقدّمة على تقدير تسليمها إنّما ينهض دليلًا على الوجوب في حال كون المكلّف مريداً للفعل المتوقّف عليها كما لا يخفى على من أعطاها حقّ النظر».

نعم، قد يقال بأنّ «هذه العبارة ظاهرة بل نصّ في أنّ القضيّة حينية لا شرطيّة وأنّ وجوبها في حال إرادة الفعل المتوقّف عليها لا مشروطة بإرادته» «1» وسيأتي في القول الخامس إشارة إليه.

القول الثالث: ما نسب إلى شيخنا العلّامة الأنصاري رحمه الله من أنّ الواجب هو المقدّمة المقصود بها التوصّل إلى ذيها، فإن أتى بها ولم يقصد بها التوصّل فلا تقع على صفة الوجوب أصلًا.

والفرق بين هذا وسابقه أنّ إرادة الإتيان بذي المقدّمة بناءً على القول الأوّل شرط للوجوب فلا تجب المقدّمة إلّابعد تحقّق إرادة إتيان ذي المقدّمة سواء قصد بإتيان المقدّمة التوصّل إلى ذيها أو أمر آخر كالكون على الطهارة في الوضوء مثلًا، بينما هي بناءً على القول الثاني قيّد للواجب، فالمقدّمة واجبة على أيّ حال سواء أراد إتيان ذي المقدّمة أو لم يرده، ولكن يجب عليه حين إتيان المقدّمة قصد التوصّل إلى ذي المقدّمة فتأمّل.

القول الرابع: مختار صاحب الفصول والذي اختاره في تهذيب الاصول أيضاً من أنّ الواجب إنّما

هو خصوص المقدّمة الموصلة، أي أنّ الواجب خصوص المقدّمة التي يترتّب انوار الأصول، ج 1، ص: 398

عليها ذو المقدّمة، وأمّا إذا لم يترتّب عليها ذو المقدّمة فلا تقع على صفة الوجوب سواء قصد بها التوصّل إلى ذي المقدّمة أو لم يقصد.

القول الخامس: ما اختاره المحقّق العراقي والمحقّق النائيني وشيخنا الحائري رحمهم الله وهو نفس ما حمل عليه كلام صاحب المعالم آنفاً من أنّ الواجب هو المقدّمة حال إرادة الإتيان بذي المقدّمة على نهج القضيّة الحينية لا مقيّداً بها على نهج القضيّة الشرطيّة.

هذا كلّه هو الموقف القولي في المسألة، وقبل الورود في أدلّة الأقوال ينبغي التنبيه على أمرين:

الأمر الأوّل: أنّ المنهج الصحيح في البحث يقتضي تأخّر هذا النزاع عن النزاع في أصل وجوب المقدّمة لأنّه من فروعه، فكان ينبغي أن يتكلّم أوّلًا عن أصل وجوب المقدّمة، وبعد إثباته يتكلّم ثانياً عن كيفية وجوبها وأنّه هل هو مطلق أو مقيّد بخصوصيّة، ولكن حيث إنّ القوم قدّموه عليه فنحن أيضاً تبعاً لهم وتأسّياً بهم في منهج البحث نقدّمه عليه وننتظر تصحيح هذه المواقف في المستقبل إن شاء اللَّه.

الأمر الثاني: أنّ كثرة الأقوال المزبورة وشدّة النزاع في المسألة ترشدنا إلى وجود معضلة هامّة فيها، وهي معضلة المقدّمة المحرّمة كالدخول في الأرض المغصوبة الذي هو مقدّمة لانقاذ الغريق، حيث إنّ لازم القول بوجوب المقدّمة مطلقاً من دون أي قيد وخصوصيّة (كما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله) هو جواز الورود في الأرض المغصوبة ولو لم يقصد به انقاذ الغريق، وسواء تحقّق بعد ذلك انقاذ الغريق أو لم يتحقّق مع أنّه مخالف للوجدان الفقهي والارتكاز المتشرّعي.

فلحلّ هذه المعضلة والتخلّص عنها تمسّك كلّ واحد من المحقّقين بذيل قيد كما لاحظت في بيان الأقوال

المزبورة.

هذا- مضافاً إلى أنّ هيهنا مشكلة اخرى، وهي ما اشير إليه في كلام صاحب الفصول من مسألة الضدّ الخاصّ، حيث إنّ القول بوجوب المقدّمة مطلقاً لازمه بطلان الضدّ الخاصّ الذي يكون تركه مقدّمة لإتيان واجب أهمّ فيما إذا كان الضدّ أمراً عباديّاً كالصّلاة بالنسبة إلى إزالة النجاسة عن المسجد، فحيث إنّ ترك الصّلاة مقدّمة لفعل الإزالة فبناءً على وجوب المقدّمة مطلقاً يجوز ترك الصّلاة (بل يجب) فيما إذا وجب عليه إزالة النجاسة سواءً قصد به التوصّل انوار الأصول، ج 1، ص: 399

إليها أو لم يقصد، وسواء تحقّق بعد ذلك الإزالة أو لم تتحقّق، وسواء أراد الإزالة أو لم يردها مع أنّه أيضاً مخالف للوجدان والارتكاز الديني.

إذا عرفت هذا فنقول: استدلّ المحقّق الخراساني رحمه الله على القول الأوّل (أي أنّ وجوب المقدّمة مطلق إن كان ذو المقدّمة واجباً مطلقاً ومشروط إن كان ذو المقدّمة واجباً مشروطاً) بالبداهة والضرورة وقال: «إنّ نهوض حجّة القول بوجوب المقدّمة (على تقدير تسليمها) على التبعيّة واضح لا يكاد يخفى وإن كان نهوضها على أصل الملازمة لم يكن بهذه المثابة».

ويبدو كلامه هذا جيّداً في بادى ء النظر ولكن سيأتي عند التعرّض لأدلّة سائر الأقوال عدم مقاومته لها فانتظر.

وأمّا القول الثاني: وهو ما ذهب إليه صاحب المعالم من أنّ وجوب المقدّمة مشروط بإرادة ذي المقدّمة، فهو لم يستدلّ له بشي ء، وإنّما قال بأنّ حجّة القول بوجوب المقدّمة لا تنهض على أكثر من ذلك، ولذلك فجوابه واضح لأنّ حجّة القول بوجوب المقدّمة تدلّ على وجود الملازمة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب المقدّمة، والملازمة تقتضي تبعيّة أحدهما عن الآخر في الإطلاق والاشتراط وأن يكون أحدهما مثل الآخر في القيود والخصوصيّات إلّاما قام الدليل على خلافه، هذا- مضافاً

إلى أنّ لازمه كون وجوب المقدّمة تابعاً لإرادة المكلّف ودائراً مدار اختياره وعزمه وهو باطل قطعاً، بداهة أنّ لازمه عدم الوجوب عند عدم الإرادة.

هذا كلّه مع قطع النظر عمّا مرّ من بعض الأعاظم من أنّ المستفاد من كلمات صاحب المعالم في مبحث الضدّ أنّ مراده إنّما هو القول الخامس وأنّه ليس شيئاً مستقلًا عنه.

وأمّا القول الثالث: (وهو ما نسب إلى الشّيخ الأعظم رحمه الله من أنّ الواجب هو المقدّمة التي قصد بها التوصّل إلى ذي المقدّمة) فقد اختلف في صحّة انتسابه إلى الشّيخ الأعظم رحمه الله أيضاً، فقال بعض بأنّ مراده اشتراط قصد التوصّل إلى الواجب في مقام الامتثال والطاعة وترتّب المثوبة، أي لا بدّ في مقام الإتيان بالمقدّمة والتقرّب بها إلى اللَّه تعالى من قصد التوصّل بها إلى ذي المقدّمة حتّى يترتّب عليها الثواب، ولكن على فرض صحّة الانتساب يستدلّ لهذا القول بأنّ الواجب إنّما هو الفعل بعنوان المقدّمة لا ذات الفعل فحسب، وعليه فلابدّ في الإتيان بها من لحاظ هذا العنوان وإلّا لم يأت بالواجب، ولحاظ العنوان يساوق قصد التوصّل بها إلى ذي المقدّمة، فثبت المطلوب.

انوار الأصول، ج 1، ص: 400

إن قلت: لازم ذلك عدم حصول الغرض فيما إذا أتى المكلّف بالمقدّمة من دون التوصّل مع أنّه لا شبهة في حصوله فيما إذا كانت المقدّمة من التوصّليات.

قلنا: ربّما يسقط الغرض من المأمور به بما ليس بمأمور به، فينتفي الواجب بانتفاء موضوعه، وهذا ممّا يتّفق كثيراً ما في الواجبات التوصيلية كما إذا حصل تطهير المسجد بنزول المطر أو بماء مغصوب لم يكن التطهير به مأموراً به قطعاً، ولكنّه لا ينافي اختصاص الوجوب بحصّة خاصّة من المقدّمة وهي الحصّة المقيّدة بقصد التوصّل.

وقد أورد عليه بما حاصله:

إنّ الواجب إنّما هو ذات المقدّمة التي هي مقدّمة بالحمل الشائع، وأمّا عنوانها فهو من الجهات الباعثة على وجوبها كالمصالح والمفاسد الكامنة في متعلّقات الأحكام (فهو في الواقع من الجهات التعليلية لوجوب المقدّمة لا من الجهات التقييديّة له) فلو أتى بالمقدّمة بدون قصد التوصّل فقد أتى بالواجب، وإلّا لو لم يكن الواجب مطلق المقدّمة لم يجتز بما لم يقصد به التوصّل ولم يسقط به الوجوب قطعاً، فلابدّ من نصب السلّم مرّة اخرى مثلًا بقصد التوصّل مع أنّه ممّا لم يقل به أحد ويخالفه حكم العقل القطعي، ولا يقاس ذلك بمثل تطهير المسجد بمقدّمة محرمة كماء مغصوب أو بنزول المطر لأنّ عدم اتّصاف المقدّمة فيهما بالوجوب ليس إلّالأجل المانع عنه، وهو الاتّصاف بالحرمة في المثال الأوّل، والخروج عن القدرة في المثال الثاني لا لفقد المقتضي فيه، أي الملاك من التوقّف والمقدّميّة، فلولا المانع لأتّصفا أيضاً بالوجوب قطعاً كغيرهما من الفرد المباح والفرد الداخل في القدرة.

ثمّ إنّ المحقّق الإصفهاني رحمه الله في حاشية الكفاية تصدّى إلى توجيه مراد الشّيخ رحمه الله بما حاصله:

أنّه فرق بين الواجبات العقليّة والواجبات الشرعيّة، فإنّ الجهات التعليلية في الثانيّة غير الجهات التقييديّة فيها، فإن الصّلاة مثلًا تكون الجهة التعليلية فيها النهي عن الفحشاء مثلًا، وهو ليس قيداً لها حتّى يكون الواجب الصّلاة الناهية عن الفحشاء، بخلاف الأحكام العقليّة فتكون الجهة التعليلية فيها بعينها هي الموضوع لحكم العقل، فحكم العقل بحسن ضرب اليتيم للتأديب مثلًا حكم بحسب الواقع والحقيقة بحسن التأديب، كما أنّ حكمه بقبح الضرب للايذاء حكم في الواقع بقبح الايذاء، فتكون الجهة التعليلية فيها بعينها هي الجهة التقييديّة والموضوع للحكم، وعلى هذا الضوء فبما أنّ مطلوبيّة المقدّمة ليست لذاتها بل لحيثية

مقدّميتها والتوصّل انوار الأصول، ج 1، ص: 401

بها، فالمطلوب الجدّي والموضوع الحقيقي للحكم العقلي إنّما هو نفس التوصّل «1».

وقد ناقش فيه بعض الأعلام «بأنّ رجوع الجهات التعليلية في الأحكام العقليّة إلى الجهات التقييديّة وإن كان في نهاية الصحّة والمتانة إلّاأنّه أجنبي عن محلّ الكلام في المقام، وذلك لما تقدّم في أوّل البحث من أنّ وجوب المقدّمة عقلًا بمعنى اللابدّيّة خارج عن مورد النزاع وغير قابل للانكار، وإنّما النزاع في وجوبها شرعاً الكاشف عنه العقل، وكم فرق بين الحكم الشرعي الذي كشف عنه العقل وحكم العقل، وقد عرفت أنّ الجهات التعليلية في الأحكام الشرعيّة لا ترجع إلى الجهات التقييديّة، فما أفاده رحمه الله لا ينطبق على محلّ للنزاع» «2».

أقول: الأولى في مقام الدفاع عن مقالة الشّيخ رحمه الله أن نقول: أنّه قد وقع الخلط في المقام بين العناوين القصديّة التي لا تتحقّق بدون القصد كعنوان التأديب الذي يحصل بالضرب المقصود منه التأديب (وإلّا يكون ظلماً وإيذاءً) وبين غيرها من العناوين كعنوان الغصب الذي يحصل بالتصرّف في مال الغير من دون طيب نفسه وإن لم يقصد به الغصب، والمقدّمة في ما نحن فيه إنّما تكون من القسم الأوّل، فلابدّ في تحصيلها إلى قصد المقدّميّة، وهو يساوق قصد التوصّل بها إلى ذيها.

لكن الإنصاف أنّه لا دليل على كونه من القسم الأوّل بل المقامات مختلفة، فلذا ينتقض بمثل نصب السلّم الذي يحصل بلا قصد التوصّل أيضاً، فالإشكال باقٍ على حاله فإنّه لا يجب نصبه مرّة اخرى بقصد التوصّل قطعاً.

بقي هنا شي ء:

وهو ما أشرنا إليه سابقاً من أنّه وقع النزاع في تعيين مراد الشّيخ الأعظم رحمه الله، فهل مقصوده اعتبار قصد التوصّل قيداً في المقدّمة كما هو الظاهر من كلماته وكان

هو مدار البحث إلى هنا، أو أنّ مقصوده اعتباره في مقام الامتثال وترتّب المثوبة (كما أيّده في تهذيب الاصول) «3» وأنّ من أراد التقرّب بالمقدّمة إلى اللَّه تعالى وترتّب الثواب عليها فليأت بها بقصد التوصّل بها إلى ذيها،

انوار الأصول، ج 1، ص: 402

وحينئذٍ لا إشكال في صحّة ما إدّعاه حتّى بناءً على مبنى القائل بوجوب المقدّمة مطلقاً، حيث إنّه لا خلاف في اعتبار قصد التوصّل في مقام الطاعة لترتّب المثوبة، أو أنّ مراده ما ذكره المحقّق النائيني رحمه الله بعنوان احتمال ثالث في كلامه، وهو اعتبار قصد التوصّل قيداً في خصوص حال المزاحمة كما إذا كانت المقدّمة محرّمة، وقال أنّه تساعد عليه جملة من عبارات التقرير، وكان الاستاذ المحقّق السيّد العلّامة الإصفهاني رحمه الله ينسب ذلك إلى الشّيخ رحمه الله ولا نعلم أنّ نسبته هذه هل كانت مستندة إلى استظهار نفسه أو إلى سماعه ذلك من المحقّق سيّد أساتيذنا العلّامة الشيرازي رحمه الله عن استاذه المحقّق العلّامة الأنصاري رحمه الله» «1»؟ ولكن يرد عليه ما ذكره المحقّق النائيني رحمه الله فأنّه بعد تقريبه وتوجيهه بأنّ «المقدّمة إذا كانت محرّمة وتوقّف عليها واجب فعلي فغاية ما يقتضيه التوقّف المزبور في مقام المزاحمة هو ارتفاع الحرمة عن المقدّمة فيما إذا أتى بها بقصد التوصّل، وأمّا مع عدم قصده فلا مقتضى لارتفاع حرمتها».

أورد عليه: بأنّ المزاحمة إنّما هي بين حرمة المقدّمة ووجوب ما يتوقّف عليه ولو لم نقل بوجوب المقدّمة أصلًا، فالتزاحم إنّما هو بين وجوب إنقاذ المؤمن وحرمة التصرّف في الأرض المغصوبة مثلًا، فلا مناصّ عن الالتزام بارتفاع الحرمة لفرض كون الواجب أهمّ سواء في ذلك القول بوجوب المقدّمة والقول بعدمه فاعتبار قصد التوصّل في متعلّق الوجوب المقدّمي

أجنبي عمّا به يرتفع التزاحم المذكور بالكلّية» «2».

أقول: وما أفاده متين.

وجوب المقدّمة الموصلة

أمّا القول الرابع: هو ما ذهب إليه صاحب الفصول من وجوب المقدّمة الموصلة، أي وجوب خصوص المقدّمة التي تنتهي إلى ذي المقدّمة (وقد كان يعتقد بأنّه ممّا لم يتفطّن له غيره) واستدلّ له بثلاثة وجوه:

الوجه الأوّل: أنّ العقل لا يدرك أزيد من الملازمة بين طلب شي ء وطلب مقدّماته التي في سلسلة علّة وجود ذلك الشي ء في الخارج بحيث يكون وجودها فيه توأماً وملازماً لوجود

انوار الأصول، ج 1، ص: 403

الواجب، وأمّا ما لا يقع في سلسلة علّته ويكون وجوده خارجاً مفارقاً عن وجود الواجب فالعقل لا يدرك الملازمة بين إيجابه وإيجاب ذلك أبداً، ونتيجته وجوب خصوص المقدّمة الموصلة.

الوجه الثاني: إمكان تقييد المقدّمة بقيد الإيصال من جانب المولى وجداناً لأنّه بنفسه دليل على انحصار حكم العقل في المقدّمة الموصلة، وإلّا لو كانت دائرة حكم العقل أوسع منها لم يمكن تقييد ما حكم به العقل.

الوجه الثالث: أنّ الواجب على المكلّف إنّما هو تحصيل غرض المولى فحسب، ولا إشكال في أنّ غرضه من إيجاب المقدّمة هو الوصول إلى ذي المقدّمة، فيكون الواجب خصوص ما يوصله إلى ذي المقدّمة.

ولكن قد أورد عليه أيضاً بامور:

الأمر الأوّل: أنّ العقل لا يفرّق بين الموصل وغيره لأنّ ما يتوقّف عليه الواجب خارجاً إنّما هو ذات المقدّمة، والملازمة ثابتة في الخارج بين وجود ذاتها ووجود ذي المقدّمة.

الأمر الثاني: أنّ الغرض من إيجاب المقدّمة ليس هو الوصول إلى ذي المقدّمة بل إنّما هو التمكّن من الوصول، ومن المعلوم أنّ التمكّن من الوصول يترتّب على المقدّمة مطلقاً لا خصوص الموصلة منها.

وبعبارة اخرى: إنّ المتوقّع من كلّ شي ء ما يكون صدوره منه ممكناً، فالمتوقّع من نصب السلّم مثلًا

ليس هو الوصول إلى السطح لأنّه بمجرّده لا يوجب الوصول إليه بل يتوقّع منه إمكان الوصول إلى السطح، كما أنّ المتوقّع من الوضوء إنّما هو التمكّن من الإتيان بالصّلاة، ولا إشكال في أنّ هذا التمكّن يوجد في جميع المقدّمات فإنّ المكلّف بالوضوء يصير قادراً على الصّلاة، سواء أتى به بنيّة الصّلاة أو لا؟

نعم، إنّه كذلك في المقدّمات التوليديّة حيث إنّ ما يترتّب عليها إنّما هو الوصول إلى ذي المقدّمة لا مجرّد التمكّن منه، لكن ليست المقدّمة في محلّ النزاع منحصرة في العلل التامّة والأسباب التوليديّة.

الأمر الثالث: إذا أتى المكلّف بالمقدّمة ولم يأت بذي المقدّمة بعد فإمّا أن يسقط الأمر الغيري المتعلّق بها أو لا يسقط، لا مجال للثاني لأنّ بقاء الأمر الغيري على حاله مع حصول انوار الأصول، ج 1، ص: 404

المقدّمة في الخارج تحصيل للحاصل، وعلى الأوّل فإمّا أن يكون السقوط لأجل العصيان أو لفقد الموضوع أو لموافقة الخطاب وحصول الامتثال، والأول غير حاصل لفرض الإتيان بالمقدّمة، وكذا الثاني لبقاء وجوب ذي المقدّمة، فيتعيّن الثالث وهذا هو المطلوب، إذ لو كان الواجب هو خصوص المقدّمة الموصلة لم يسقط الأمر الغيري، فالسقوط كاشف عن أنّ الواجب هو مطلق المقدّمة ولو لم توصل إلى ذيها.

أقول: يمكن الدفاع عن صاحب الفصول:

أوّلًا: بأنّ للمولى نوعين من الغرض: غرض ابتدائي وهو التمكّن من الوصول إلى ذي المقدّمة، وغرض نهائي وهو الوصول إلى نفس ذي المقدّمة، فليس الغرض منحصراً في إمكان الوصول، فإذا تحقّق الأوّل بقي الثاني.

ثانياً: صحيح أنّ المتوقّع من كلّ شي ء لا بدّ أن يكون خصوص ما يترتّب عليه من الأثر وما يمكن صدوره منه، وأنّ المترتّب على إيجاد المقدّمة إنّما هو التمكّن من الوصول لا نفس الوصول، ولكن

لا إشكال في أنّ الوصول به إلى ذي المقدّمة يكون مقدوراً للمكلّف، فللمولى أن يطلب من المكلّف خصوص الوصول إلى ذي المقدّمة، وأنّ يكلّفه بخصوص مقدّمة توصّله إلى ذي المقدّمة، لأنّ ملاك صحّة التكليف بشي ء إنّما هو كونه مقدوراً للمكلّف وهو حاصل في المقام.

ثالثاً: نحن لا نوافق سقوط الأمر بإيجاد مطلق المقدّمة مع عدم ترتّب ذي المقدّمة عليه بل إنّه باقٍ على فعليّته وداعويّته ما لم يأت بذي المقدّمة، أي أنّ بقاء داعويته مشروط بعدم الإتيان بذي المقدّمة على نحو الشرط المتأخّر، فإن أتى بذي المقدّمة يسقط الأمر بالمقدّمة عن داعويته، وما دام لم يأت بذي المقدّمة تكون الداعويّة باقية على حالها، كما أنّه كذلك في إجزاء الواجب النفسي بالنسبه إلى الأمر النفسي الضمني المتعلّق بكلّ جزء جزء، فسقوطه عن الفعليّة والداعويّة مشروطة بنحو الشرط المتأخّر بإتيان سائر الأجزاء وإن كان لا يجب تحصيل الحاصل، فما نحن فيه من هذه الجهة أشبه شي ء بأجزاء الواجب النفسي.

ثمّ إنّه مضافاً إلى ما اورد على صاحب الفصول من الإشكالات الثلاثة المزبورة ذكر بعضهم لمقالته ثلاثة توالٍ فاسدة:

الأوّل: أنّ لازم مقالته كون ذي المقدّمة تابعاً في وجوبه وعدمه لإرادة المكلّف في المقدّمات انوار الأصول، ج 1، ص: 405

المحرّمة، وهو واضح البطلان لأنّ لازمه عدم الوجوب عند عدم الإرادة.

وبيان الملازمة: إنّ انقاذ الغريق مثلًا المتوقّف على الدخول في الأرض المغصوبة إنّما يكون واجباً فيما إذا كان الدخول في الأرض المغصوبة ممكناً، والدخول في الأرض المغصوبة إنّما يصير ممكناً فيما إذا كان مباحاً، وإباحته تتوقّف على كونه موصلًا إلى ذي المقدّمة بناءً على وجوب خصوص المقدّمة الموصلة، والإيصال إلى ذي المقدّمة متوقّف على إرادة المكلّف الوصول إليه، ونتيجته توقّف وجوب الانقاذ على

إرادة المكلّف.

وبعبارة اخرى: لو لم يرد المكلّف الوصول إلى ذي المقدّمة لم تكن المقدّمة موصلة قطعاً ومع عدم إيصالها تكون باقية على حرمتها، ومع بقاء حرمتها تكون غير ممكنة شرعاً، وإذا كانت المقدّمة غير ممكنة يسقط ذو المقدّمة عن وجوبه، فوجوب ذي المقدّمة تابع لإرادة المكلّف.

ولكن يمكن الجواب عنه بأنّه مغالطة واضحة، لأنّ كلًا من إيجاد ذي المقدّمة وإمكان المقدّمة معلول لعلّة واحدة، وهي إرادة المكلّف، أي إذا أراد المكلّف الوصول إلى ذي المقدّمة صارت المقدّمة مباحة ممكنة قطعاً فإباحتها وبالمآل الوصول إلى ذي المقدّمة متوقّف على إرادة المكلّف، ولا إشكال في أنّ إرادته اختياريّة ومقدورة له، ونتيجته أن يكون كلّ من المقدّمة وذي المقدّمة مقدوراً له بالواسطة، فيصحّ تكليفه بإتيانهما.

الثاني: لزوم الدور، لأنّ مردّ هذا القول كون الواجب النفسي مقدّمة للمقدّمة لفرض أنّ ترتّب وجوده عليها قد اعتبر قيداً لها، فيلزم كون وجوب الواجب النفسي ناشئاً من وجوب المقدّمة وهو يستلزم الدور، فإنّ وجوب المقدّمة على الفرض إنّما نشأ من وجوب ذي المقدّمة فلو نشأ وجوبه من وجوبها لدار.

والجواب عنه أوّلًا: إنّه من قبيل الدور المعي الذي ليس محالًا عقلًا حيث إنّ كلّ واحد من المقدّمة وذي المقدّمة يتوقّف على أمر ثالث وهو إرادة المكلّف فهما معلولان لعلّة واحدة.

وثانياً: يمكن أن يقال: إنّ وجوب ذي المقدّمة لا يتوقّف على وجوب مقدّمته قطعاً، لأنّ المفروض أنّه واجب نفسي، نعم يلزم من وجوب المقدّمة الموصلة وجوب غيري آخر لذي المقدّمة زائداً على وجوبه النفسي ولا مانع منه، وهو جيّد.

الثالث: أنّه يستلزم محذور التسلسل، لأنّ الواجب إذا كان هو خصوص المقدّمة الموصلة، فبطبيعة الحال تكون المقدّمة مركّبة من جزئين: ذات المقدّمة وقيد الإيصال، وكلّ من هذين انوار

الأصول، ج 1، ص: 406

يكون مقدّمة لوجود المركّب منهما، فننقل الكلام إلى هذين الجزئين، فهل هما واجبان مطلقاً، أو مع قيد الإيصال؟ والأوّل خلاف الفرض، والثاني يوجب تركّب كلّ من الجزئين من ذات وقيد وهكذا إلى أن يتسلسل.

ويمكن الجواب عنه: بأنّ هذا مبني على كون الأجزاء الداخليّة مقدّمة للمركّب مع أنّه قد أنكرناه سابقاً وقلنا أنّها عبارة عن نفس المركّب لا مقدّمة له.

هذا- مضافاً إلى أنّ التسلسل ممتنع في الامور التكوينيّة لا الاعتباريّة، فإنّها تدور مدار الاعتبار كلّما أمسك المعتبر من اعتبارها انتهت.

ولقد أجاد بعض الأعلام حيث قال: «والتحقيق في المقام أن يقال: إنّ الالتزام بوجوب المقدّمة الموصلة لا يستدعي اعتبار الواجب النفسي قيداً للواجب الغيري أصلًا، والسبب في ذلك هو أنّ الغرض من التقييد بالايصال إنّما هو الإشارة إلى أنّ الواجب إنّما هو حصّة خاصّة من المقدّمة، وهي الحصّة الواقعة في سلسلة العلّة التامّة لوجود الواجب النفسي دون مطلق المقدّمة، وبكلمة اخرى: أنّ المقدّمات الواقعة في الخارج على نحوين:

أحدهما: ما كان وجوده في الخارج ملازماً لوجود الواجب فيه وهو ما يقع في سلسلة علّة وجوده.

وثانيهما: ما كان وجوده مفارقاً لوجوده فيه وهو ما لا يقع في سلسلتها، فالقائل بوجوب المقدّمة الموصلة إنّما يدّعي وجوب خصوص القسم الأوّل منهما دون القسم الثاني، وعليه فلا يلزم من الالتزام بهذا القول كون الواجب النفسي قيداً للواجب الغيري، فإذن لا موضوع لإشكال الدور أو التسلسل أصلًا» «1».

هذا كلّه في القول الرابع.

امّا القول الخامس: وهو وجوب المقدّمة حال الإيصال، ذهب إليه شيخنا الحائري والمحقّق النائيني والمحقّق العراقي قدس سرهم (كما مرّ) فإنّهم بعد أن لاحظوا حكم الوجدان بوجوب المقدّمة الموصلة ومن جانب آخر استلزام هذا الحكم محاذير عقليّة كالدور والتسلسل

التجأوا إلى هذا

انوار الأصول، ج 1، ص: 407

القول تخلّصاً عن تلك المحاذير مع اتّحاده بذلك القول في الأثر، وهذا بنفسه أحد الوجهين اللّذين يمكن الاستدلال بهما لمقالتهم.

والوجه الثاني: ما أفاده المحقّق الحائري رحمه الله في درره وهو أنّ الآمر بعد تصوّر المقدّمات بأجمعها يريدها بذواتها لأنّ تلك الذوات بهذه الملاحظة لا تنفك عن المطلوب الأصلي، ولو لاحظ مقدّمة منفكّة عمّا عداها لا يريدها جزماً، فإنّ ذاتها وإن كانت مورداً للإرادة لكن لمّا كانت المطلوبيّة في ظرف ملاحظة باقي المقدّمات معها لم تكن كلّ واحدة مرادة بنحو الإطلاق بحيث تسري الإرادة إلى حال انفكاكها عن باقي المقدّمات» «1».

والحاصل: أنّ الواجب هو المقدّمة حين ملاحظة سائر المقدّمات أي حين لحاظ الإيصال إلى ذي المقدّمة لأنّ ملاحظة سائر المقدّمات تساوق ملاحظة الإيصال إلى ذي المقدّمة كما لا يخفى.

وقد ورد هذا المعنى ببيان آخر في كلمات المحقّق النائيني رحمه الله أيضاً فإنّه بعد أن ناقش في المقدّمة الموصلة على نحو يكون التوصّل قيداً للواجب قال: «لكن مع ذلك لا تكون الذات مطلقاً واجبة بل الذات من حيث الإيصال والمراد بالذات من حيث الإيصال هو الذات في حال الإيصال، على وجه يلاحظ المقدّمة وذا المقدّمة توأمين، من دون أن يكون أحدهما قيداً للآخر، بل يلاحظ المقدّمة على ما هي عليها من وقوعها في سلسلة العلّة، فإنّه لو كانت سلسلة العلّة مركّبة من إجزاء فكلّ جزء إنّما يكون جزء العلّة إذا كان واقعاً في سلسلة العلّة لا واقعاً منفرداً، فإنّ لحاظ حال إنفراده ينافي لحاظه جزءً للعلّة بل إنّما يكون جزء العلّة إذا لوحظ على ما هو عليه من الحالة، أي حالة وقوعه في سلسلة العلّة من دون أن تؤخذ سائر الأجزاء

قيداً له، ففي المقام يكون معروض الوجوب المقدّمي هي الذات لكن لا بلحاظ إنفرادها ولا بلحاظ التوصّل بها بأن يؤخذ التوصّل قيداً بل بلحاظها في حال كونها ممّا يتوصّل بها، أي لحاظها ولحاظ ذيها على وجه التوأميّة» «2».

ولكن يمكن النقاش فيه أيضاً بأنّ الأحكام في مقام الثبوت لا تخلو من أحد الأمرين، فإمّا أن تنشأ على نحو القضيّة المطلقة، أو على نحو القضيّة المشروطة المقيّدة، ولا شي ء ثالث في البين انوار الأصول، ج 1، ص: 408

يسمّى بالحصّة التوأمة على بعض التعابير، وبالقضيّة الحينية على تعبير آخر، لأنّه لا إهمال في مقام الثبوت، فإنّ المولى إمّا أن يطلب الوضوء مثلًا مع تقيّده بقيد الإيصال فيكون من قبيل القضيّة المشروطة، أو لا يطلبه في الواقع كذلك فيكون من قبيل القضيّة المطلقة، ولا نعقل شيئاً ثالثاً في مقام الثبوت والواقع.

وقد يجاب عن هذه المناقشة بأنّه يمكن تصوير شقّ ثالث في مقام الثبوت وهو ما قد يعبّر عنه بالتضيّق الذاتي في المعلول بالنسبة إلى علّته، فإنّ كلّ نار مثلًا لا توجد مطلق الحرارة بل إنّما توجد الحرارة المضيّقة بها نفسها، فالحرارة بالنسبة إليها لا مطلقة وهو واضح، ولا مقيّدة لأنّ في التقييد يكون القيد والمقيّد في رتبة واحدة، والحرارة معلولة للنار، والمعلول ليس في رتبة علّته فلابدّ من القول أنّ الحرارة مضيّقة بالنار في مرتبة الذات، وهكذا في ما نحن فيه، فالوضوء لا مطلق بالنسبة إلى الصّلاة ولا مقيّد بها، لكونهما في رتبتين، فيكون مضيّقاً بها بتضيّق ذاتي، ولعلّ هذا هو المراد من الحصّة التوأمة.

ولكن يمكن الجواب عنه أيضاً: بأنّ التضيّق الذاتي أمر مقبول في باب العلّة والمعلول، وقد مرّ كراراً أنّ مثل المقام ليس من ذلك الباب، فإنّ العلّة

لوجوب الوضوء إنّما هي إرادة المولى لا وجوب الصّلاة، بل وجوب الصّلاة من قبيل الداعي للمولى إلى إيجاب الوضوء فقياس الوضوء، بالنسبة إلى الصّلاة بالحرارة بالنسبة إلى النار مع الفارق، ولا يمكن تصوير شقّ ثالث باسم التضيّق الذاتي فيه، بل يدور الأمر فيه بين الإطلاق والاشتراط كما عرفت، وحيث إنّه ليس من باب العلّة والمعلول فلا مانع من التقييد والاشتراط فيه، أي يقول المولى: إنّما اريد هذا الوضوء مقيّداً بإيصاله إلى الصّلاة، فرجع الكلام بالمآل إلى المقدّمة الموصلة.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ جميع الأقوال غير تامّة إلّاالقول الرابع وهو مقالة صاحب الفصول.

فنقول: الحقّ في المسألة هو هذا القول، أي وجوب المقدّمة الموصلة ويمكن أن يستدلّ له بامور ثلاثة:

الأمر الأوّل: الوجدان، وهو العمدة، فإنّ الوجدان الفقهي في المقدّمات المحرّمة حاكم بأنّ تبديل حكم حرمة المقدّمة إلى جوازها بل وجوبها منحصر فيما إذا أوصل المكلّف إلى ذي المقدّمة، فمن دخل الدار المغصوبة ولم ينقذ الغريق فقد عصى، ومن دخلها وأنقذ الغريق فقد

انوار الأصول، ج 1، ص: 409

أطاع وامتثل حتّى في ما إذا لم يكن من قصده الانقاذ، نعم إنّه تجري حينئذٍ على المولى فيعاقب على التجرّي بناءً على ترتّب العقاب عليه، كما أنّه إذا قصد الانقاذ ولم ينقذ لعذر فقد عصى ولم يمتثل أمر المولى في الواقع ولكن لا يعاقب عليه لكونه معذوراً بحسب قصده واعتقاده، وبعبارة اخرى: يترتّب على فعله مفسدة من دون المصلحة الراجحة ولكنّه معذور لعدم علمه بذلك.

الأمر الثاني: أنّ العقل لا يأبى عن النهي عن المقدّمة غير الموصلة بأن يقول الآمر الحكيم مثلًا، إنّي اريد الحجّ واريد المسير الذي يتوصّل به إليه ولا اريد المسير الذي لا يتوصّل به إليه، فإنّ جواز هذا

النهي عند العقل شاهد على أنّ الواجب هو خصوص المقدّمة الموصلة لأنّه لا تخصيص في حكم العقل.

الأمر الثالث: تقيّد الغرض بالمقدّمة الموصلة، حيث إنّ الغرض وهو الوصول إلى ذي المقدّمة يترتّب على خصوص الموصلة كما مرّ، وأمّا قول المحقّق الخراساني رحمه الله من أنّ الغرض هو التمكّن من الوصول وهو يترتّب على مطلق المقدّمة فقد مرّ الجواب عنه بأنّه غرض ابتدائي، والغرض النهائي إنّما هو الوصول إلى ذي المقدّمة.

ثمرة القول بوجوب المقدّمة الموصلة:

وقد ذكر لها عدّة ثمرات:

الثمرة الاولى: ما عرفت في المقدّمات المحرّمة كالدخول في الأرض المغصوبة لانقاذ الغريق حيث إنّه إن قلنا بوجوب المقدّمة مطلقاً يصير الدخول فيها مباحاً وإن لم يقصد به الانقاذ ولم يتحقّق بعده الانقاذ، وأمّا إن قلنا بوجوب خصوص المقدّمة الموصلة فلا يصير الدخول مباحاً إلّا في صورة تحقّق الانقاذ خارجاً، نعم أنّه لا يعاقب على الدخول إذا قصد به الانقاذ ولم يقدر عليه لمانع كما مرّ آنفاً.

الثمرة الثانيّة: بطلان الوضوء (وسائر المقدّمات العباديّة) فيما إذا أتى به ولم يأت بالصّلاة بعده بناءً على عدم كون الوضوء مطلوباً نفسيّاً واعتبار قصد الأمر في العبادة، لأنّه إن قلنا بوجوب خصوص المقدّمة الموصلة فحيث إنّ هذا الوضوء لم يكن موصلًا فلم يكن مأموراً به فوقع باطلًا، بخلاف ما إذا كان الواجب مطلق المقدّمة (ويجري مثل هذا الكلام في أمثال الوضوء كالغسل وغيره).

انوار الأصول، ج 1، ص: 410

الثمرة الثالثة: ما ذكره كثير من الأصحاب من أنّه بناءً على القول بوجوب المقدّمة مطلقاً تكون عبادة تارك الضدّ الواجب الأهمّ باطلة كصلاة تارك الإزالة بناءً على أن يكون ترك الضدّ مقدّمة لإتيان الضدّ الآخر، فيكون ترك الصّلاة واجباً لكونه مقدّمة للازالة الواجبة، فيكون فعلها حراماً لأنّ الأمر بالشي ء يقتضي

النهي عن ضدّه العامّ، والضدّ العامّ للترك الواجب هو الفعل، فتكون العبادة باطلة.

وأمّا بناءً على القول بوجوب المقدّمة الموصلة تقع الصّلاة صحيحة، لأنّ اشتغال المكلّف بالصّلاة في صورة ترك الإزالة كاشف عن وجود صارف عن الإزالة وعن عدم إرادتها، فلم يكن ترك الصّلاة موصل إلى الإزالة لوجود هذا الصارف، فلم يكن واجباً، فلا يكون فعلها حراماً، ونتيجته صحّة الصّلاة.

ولكن أورد على هذه الثمرة شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله (على ما في تقريراته) بما لفظه:

«إنّ الترك الخاصّ (يعني به الترك الموصل) نقيضه رفع ذلك الترك وهو أعمّ من «الفعل» (مثل فعل الصّلاة) و «الترك المجرّد» لأنّ نقيض الأخصّ أعمّ مطلق كما قرّر في محلّه فيكون الفعل لازماً لما هو من أفراد النقيض، وهذا يكفي في إثبات الحرمة، وإلّا لم يكن الفعل المطلق محرّماً فيما إذا كان الترك المطلق واجباً (أي بناءً على وجوب المقدّمة مطلقاً) لأنّ الفعل على ما عرفت ليس نقيضاً للترك لأنّه أمر وجودي ونقيض الترك إنّما هو رفعة (ترك الترك)، ورفع الترك إنّما هو يلازم الفعل مصداقاً وليس عينه كما هو ظاهر عند التأمّل.

فكما أنّ هذه الملازمة تكفي في إثبات الحرمة لمطلق الفعل فكذلك يكفي في المقام (إلى أن قال) غاية الأمر أنّ ما هو النقيض في مطلق الترك إنّما ينحصر مصداقه في الفعل فقط، وأمّا النقيض للترك الخاصّ فله فردان وذلك لا يوجب فرقاً فيما نحن بصدده كما لا يخفى» «1» (انتهى).

وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه الله: بأنّ فعل الصّلاة بناءً على القول بوجوب المقدّمة الموصلة لا يكون إلّامقارناً لما هو النقيض، وهو رفع الترك الموصل الذي يجامع مع الفعل تارةً ومع الترك المجرّد غير الموصل اخرى، ولا يكاد يسري حرمة الشي ء

إلى ما يلازمه فضلًا عمّا يقارنه أحياناً، نعم لا بدّ أن لا يكون الملازم محكوماً فعلًا بحكم آخر على خلاف حكمه لا أن يكون محكوماً بحكمه، وهذا بخلاف فعل الصّلاة على القول بوجوب المقدّمة مطلقاً، لأنّه حينئذٍ

انوار الأصول، ج 1، ص: 411

بنفسه يعاند الترك المطلق وينافيه لا أن يكون ملازماً لترك الترك، فإنّ الفعل حينئذٍ وإن لم يكن عين الترك بحسب الاصطلاح مفهوماً لكنّه متّحد به عيناً وخارجاً فإن كان الترك واجباً فلا محالة يكون الفعل منهياً عنه قطعاً.

أقول: الإنصاف أنّ الحقّ مع الشّيخ الأعظم رحمه الله حيث يقول: إنّ نقيض الترك الموصل له مصداقان: أحدهما: فعل الصّلاة، والآخر: الترك غير الموصل، فيكون فعل الصّلاة من مصاديق النقيض لا من مقارناته لأنّه يكون من قبيل الصّوم الذي هو عبارة عن ترك المفطّرات مع قصد القربة، ولا إشكال في أنّ لنقيضه مصداقين: أحدهما: الإفطار بأحد المفطّرات، وثانيهما: ترك المفطّرات بدون قصد القربة، فكلّ من الأمرين مصداق لترك الصّيام لا من مقارناته، ولذلك كلّ واحد منهما يوجب المعصية ومخالفة أمر الصووم.

وإن شئت قلت: يرد نفس الإشكال على المحقّق الخراساني رحمه الله أيضاً حيث إنّ فعل الصّلاة كما لا يكون نقيض الترك الموصل بل يكون من مقارناته أو لوازمه كذلك لا يكون نقيض الترك المطلق، حيث إنّ نقيض الترك إنّما هو ترك الترك لا الفعل كما صرّح به الشّيخ الأعظم رحمه الله أيضاً في ذيل كلامه المزبور، فظهر إلى هنا أنّ إشكال الشّيخ الأعظم رحمه الله على الثمرة الثالثة تامّ في محلّه.

ويرد إشكالان آخران على هذه الثمرة:

الإشكال الأوّل: أنّ قيد الإيصال شرط الواجب لا الوجوب وحينئذٍ يجب تحصيله على أيّ حال: أي يكون ترك الصّلاة الموصل واجباً حتّى مع

وجود الصارف عن الإزالة.

وبعبارة اخرى: يجب على المكلّف أمران: ترك الصّلاة وإيصاله إلى الإزالة، ولا يوجب ترك أحدهما سقوط الآخر عن الوجوب، فلا يوجب ترك الإيصال إلى الإزالة سقوط المقدّمة، أي ترك الصّلاة عن الوجوب، كما أنّ ترك الصّلاة لا يوجب سقوط الوضوء عن الوجوب (فإنّه شرط للواجب لا الوجوب).

الإشكال الثاني: سلّمنا أنّ الصّلاة تقع صحيحة بناءً على القول بوجوب المقدّمة الموصلة ولكنّها تقع صحيحة بناءً على وجوب مطلق المقدّمة أيضاً، وذلك من طريق القول بالترتّب إذا قلنا بعدم دلالة الأمر بشي ء على النهي عن ضدّه الخاصّ، اللهمّ إلّاأن يقال أنّه خروج عن الفرض.

الجهة السادسة: في ثمرة القول بوجوب المقدّمة

إن قلنا بأنّ المسألة اصوليّة وأنّ البحث فيها في ثبوت الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها وعدمها فلا إشكال في أنّ الثمرة حينئذٍ هي ثبوت الملازمة بين وجوب كلّ واجب ووجوب مقدّماته، وهي ثمرة لمسألة اصوليّة تقع كبرى قياس استنباط الأحكام الفرعيّة فيقال مثلًا: الملازمة ثابتة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها، والصّلاة واجبة فتجب جميع مقدّماتها، وأمّا إن قلنا بأنّ المسألة قاعدة فقهيّة كما هو المختار ومقتضى ما عنونه المشهور (من أنّ المقدّمة واجبة أم لا؟) فتكون النتيجة وجوب كلّ مقدّمة وهو حكم كلّي فرعي يستنتج منه أحكام فرعيّة جزئيّة.

ولكن قد خالف فيه بعض وقال بأنّ هذه الثمرة لا أثر لها، أمّا أوّلًا: فلأنّ هذا الوجوب ممّا لا أثر له حيث إنّه وجوب غيري لا يترتّب عليه ثواب ولا عقاب ولا يمكن التقرّب به.

وأمّا ثانياً: فلما ذكره بعض الأعلام من أنّه لا إشكال في اللابدّية العقليّة في باب المقدّمة، ومعها يكون إيجاب آخر شرعي لغواً لا أثر له.

ولكن كلا الوجيهن غير تامّ أمّا الأوّل: فلما مرّ من إمكان التقرّب بالواجب الغيري

وأنّه يترتّب عليه أيضاً الثواب.

وأمّا الثاني: فلأنّه يرجع في الحقيقة إلى عدم وجوب المقدّمة شرعاً مع أنّ النزاع في ترتّب الثمرة وعدمه مبني على وجوب المقدّمة كذلك.

هذا كلّه في الثمرة الاولى وهي امّ الثمرات.

ثمّ إنّه قد ذكروا لبحث مقدّمة الواجب ثمرات اخرى:

الثمرة الاولى: أنّه على القول بوجوب المقدّمة إذا نذر الإتيان بواجب شرعي فيحصل البرء من النذر بالإتيان بمقدّمة من مقدّمات الواجب، وعلى القول بعدمه لا يحصل البرء به.

ويرد عليه:

أوّلًا: أنّ هذا ليس ثمرة لمسألة اصوليّة تقع كبرى لقياس الاستنباط بل إنّه بحث موضوعي في أنّه هل تكون المقدّمة من مصاديق عنوان الواجب الذي تعلّق به النذر أو لا؟ والمعروف أنّ انوار الأصول، ج 1، ص: 413

البحث عن الموضوعات الخارجيّة لا يعدّ مسألة فقهيّة وإن كان لنا كلام فيه في محلّه إجمالًا.

وقد أورد عليه ثانياً: بأنّ البرء وعدمه تابعان لقصد الناذر، ولكن يمكن الجواب عنه بأنّه ربّما يقصد الناذر ما يصدق عليه عنوان الواجب مهما كان، ولا إشكال في أنّه حينئذٍ إن قلنا بوجوب المقدّمة يحصل البرء بإتيانها أيضاً وإلّا فلا.

الثمرة الثانيّة: أنّه على القول بوجوب المقدّمة لا يجوز أخذ الاجرة على المقدّمة لحرمة أخذ الاجرة على الواجبات، بخلاف ما إذ لم نقل بوجوبها فيجوز أخذها عليها.

ويرد عليه أيضاً: أنّه ليس ثمرة اصوليّة، فإنّ جواز أخذ الاجرة على المقدّمة أو عدمه حكم جزئي يستنبط من كبرى فقهيّة، وهي عدم جواز أخذ الاجرة على الواجبات.

واستشكل عليه أيضاً: بأنّ أخذ الاجرة على الواجب لا بأس به، وتوضيح ذلك أنّ عمل الإنسان تارةً: يرجع نفعه إلى نفسه فحسب كما إذا أتى بواجب توصّلي لا نفع فيه للغير، فلا إشكال في عدم جواز أخذ الاجرة عليه من الغير لعدم الفائدة

فيه للغير، فيكون سفهيّاً وهو خارج عن محلّ البحث، واخرى: يرجع نفعه إلى الغير ولكنّه عمل عبادي كما إذا أتى بصلاة أو صوم للغير، فيمكن أن يقال أيضاً بعدم جواز أخذ الاجرة عليه من باب منافاته مع قصد القربة، وهذا أيضاً خارج عن محلّ الكلام، وثالثة: يكون العمل من التوصّليات ويرجعه نفعه إلى الغير أيضاً كتطهير المسجد الذي يوجب سقوط وجوبه عن الغير فإنّ هذا هو محلّ الكلام، فذهب المحقّق الخراساني رحمه الله وكثير من الأعلام إلى جواز أخذ الاجرة عليه لعدم جريان إشكال السفاهة ولا إشكال قصد القربة فيه، وأمّا ثبوت عدم جوازه في بعض الواجبات بل في بعض المستحبّات فهو من باب أدلّة خاصّة تدلّ على لزوم إتيانه مجّاناً كما في تجهيز الميّت أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الأذان، وإلّا لو لم تثبت المجّانيّة فلا إشكال في جواز أخذ الاجرة.

أقول: قد ذكرنا في محلّه في المكاسب المحرّمة عدم جواز أخذ الاجرة حتّى في مثل المقام، لأنّ ذلك ينافي الوجوب، لأنّ معنى وجوب شي ء كونه وظيفة على العبد، ويوجد عند العرف والعقلاء نوع تضادّ بين أداء الوظيفة وأخذ الاجرة، ويعدّ أخذ الاجرة على إتيان الوظيفة باطلًا عندهم، فيكون أكل المال به أكلًا للمال بالباطل، وبذلك يصدق موضوع قوله تعالى: «لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ» بل لعلّ هذا هو دليل من قال بالمجّانيّة وحرمة أخذ الاجرة في انوار الأصول، ج 1، ص: 414

مثل تجهيز الميّت، وإلّا لا يوجد دليل لفظي خاصّ يدلّ عليها، وشرح هذا الكلام يطلب من محلّه من أبحاثنا في المكاسب المحرّمة.

الثمرة الثالثة: حصول الفسق بترك الواجب النفسي مع مقدّماته الكثيرة على القول بوجوبها وعدم حصوله على القول بعدمه، نعم هذا إذا

كان ترك الواجب النفسيْ من الصغائر دون الكبائر وإلّا لكان تركه بنفسه موجباً للفسق.

واجيب عنها بوجوه:

الوجه الأوّل: إنّه لا يترتّب العقاب على ترك المقدّمة حتّى يوجب تحقّق المعصية، وإن قلنا بترتّب الثواب على فعلها كما مرّ فتأمّل.

الوجه الثاني: أنّ المعصية تتحقّق بترك أوّل مقدّمة من المقدّمات ومعه لا يكون العاصي متمكّناً من إتيان ذي المقدّمة وحينئذٍ لا يكون ترك سائر المقدّمات بحرام حتّى يتحقّق به الاصرار على المعصية الموجب لارتفاع العدالة وحصول الفسق.

ولكن يمكن الجواب عن هذا بأنّ التارك للمقدّمة الاولى وإن كان تاركاً في الواقع لخصوصها مباشرةً ولكنّه تارك أيضاً لذي المقدّمة بالتسبيب، والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

اللهمّ إلّاأن يقال: الاصرار على المعصية عنوان عرفي لا يتحقّق إلّابترك واجبات مستقلّة لا واجبات مرتبطة بعضها ببعض- يحصل بها غرض واحد للمولى.

الثمرة الرابعة: لزوم اجتماع الأمر والنهي في المقدّمات المحرّمة بناءً على وجوب المقدّمة، فعدم جواز إتيان المقدّمة حينئذٍ متوقّف على القول بإمتناع الاجتماع وترجيح جانب الحرمة بخلاف ما إذا قلنا بعدم وجوب المقدّمة.

ولكن يرد عليها: إنّها ليست ثمرة لمسألة اصوليّة، لأنّ البحث عن أنّ المقدّمة هل هي مجمع لعنواني الأمر والنهي أو لا، بحث عن موضوع لمسألة اصوليّة، فهو من مبادى ء مسائل علم الاصول لا من نفسها ولا من المسائل الفقهيّة.

وقد أورد عليها أيضاً:

أوّلًا: أنّ مقدّمة الواجب ومسألة اجتماع الأمر والنهي مختلفان موضوعاً، فإنّ موضوع مسألة الاجتماع هو ما له جهتان تقييديتان يتعلّق الأمر بإحداهما والنهي بالاخرى، وهذا بخلاف مقدّمة الواجب فإنّ عنوان المقدّميّة ليس من الجهات التقييديّة بل التعليليّة، لأنّ انوار الأصول، ج 1، ص: 415

معروض الوجوب المقدّمي هو ذات المقدّمة، والمقدّميّة علّة لعروض الوجوب على الذات، وعليه فلا يتصوّر في المقدّمة جهتان تقييديتان حتّى

يتعلّق الأمر بإحداهما والنهي بالاخرى، نعم أنّها تندرج في مسألة النهي عن العبادة إن كانت المقدّمة عبادة، وفي مسألة النهي عن المعاملة إن كانت معاملة.

ولكن يمكن الجواب عنه: بأنّ الحيثيات التعليليّة في الأحكام العقليّة ترجع في الواقع إلى الحيثيات التقييديّة، فإذا حكم العقل بوجوب المقدّمة شرعاً لأنّها مقدّمة كان الواجب حينئذ هو عنوان المقدّمة لا ذاتها.

وثانياً: بأنّه لا يلزم اجتماع الوجوب والحرمة في المقدّمة المحرّمة حتّى على القول بالوجوب، وذلك لأنّ المقدّمة إن كانت منحصرة في الفرد المحرم منها كإنحصار المركوب في الدابّة المغصوبة مثلًا فلا محالة تقع المزاحمة حينئذٍ بين وجوب ذي المقدّمة كالحجّ في المثال وبين حرمة مقدّمته كالركوب، فعلى تقدير كون وجوب الحجّ أهمّ من حرمة مقدّمته لا تتّصف المقدّمة إلّا بالوجوب، وعلى تقدير كون حرمة المقدّمة أهمّ من وجوب الحجّ لا تتّصف المقدّمة إلّا بالحرمة، فعلى التقديرين لا يجتمع الوجوب والحرمة في المقدّمة حتّى تندرج في مسألة اجتماع الأمر والنهي (هذا مع قطع النظر عن المراد بالاستطاعة في المثال).

وإن لم تكن المقدّمة منحصرة في الفرد المحرّم فلا تتّصف المقدّمة المحرّمة بالوجوب حتّى يلزم الاجتماع لأنّ حرمتها تمنع عن سراية الوجوب الغيري إليها.

ويمكن الجواب عنه أيضاً: بأنّه تامّ بناءً على امتناع اجتماع الأمر والنهي وانحصار المقدّمة بالمحرّمة، وأمّا بناءً على القول بجواز الاجتماع وعدم سراية النهي من متعلّقه إلى ما ينطبق عليه متعلّق الأمر في صورة عدم الانحصار فلا موجب لتخصيص الوجوب حينئذٍ بخصوص المقدّمة المباحة، وذلك لأنّ لكلّ من دليلي الأمر والنهي إطلاقاً يشمل المقدّمة المحرّمة أيضاً.

وثالثاً: بأنّه لو سلّمنا صغرويّة المقدّمة المحرّمة لمسألة الاجتماع إلّاأنّه لا يترتّب عليها ثمرة عمليّة، وذلك لأنّ المقدّمة إمّا توصّلية وإمّا تعبّديّة، فعلى الأوّل يمكن

التوصّل بالمقدّمة إلى ذي المقدّمة من دون فرق بين القول بجواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه، ومن دون فرق بين القول بوجوب المقدّمة وعدمه، لأنّ التوصّل بها إلى ذي المقدّمة ذاتي وغير مستند إلى الأمر بها فيحصل مطلقاً، وعلى الثاني (أي ما إذا كانت المقدّمة تعبّديّة كما إذا كانت من الطهارات الثلاث) ففائدة المقدّمة- وهي التوصّل بها إلى ذيها- لا تترتّب عليها بناءً على امتناع الاجتماع انوار الأصول، ج 1، ص: 416

من دون فرق بين وجوب المقدّمة وعدمه، وتترتّب عليها بناءً على جواز الاجتماع من دون فرق أيضاً بين وجوب المقدّمة وعدمه.

توضيح ذلك: إذا قلنا بجواز الاجتماع وكانت المقدّمة عباديّة (وهي منحصرة حينئذٍ في الطهارات الثلاث) كانت المقدّمة صحيحة يترتّب عليها ذوها، وهي الصّلاة، وإن لم نقل بوجوب المقدّمة لأنّ حسنها الذاتي في الطهارات الثلاث يكفي في صحّتها وعباديتها فلا حاجة إلى تعلّق أمر مقدّمي بها، وأمّا إذا قلنا بإمتناع الاجتماع فتكون المقدّمة باطلة لا يترتّب عليها ذوها بلا فرق أيضاً بين وجوب المقدّمة وعدمه، لأنّها باطلة لوقوع المزاحمة بين الأمر والنهي، لأنّ المفروض هو امتناع الاجتماع وترجيح جانب النهي، هذا إذا كانت المقدّمة واجبة، وإلّا كان البطلان أوضح.

أقول: يمكن الجواب عن هذا الإيراد أيضاً بأنّه لقائل أن يقول: بعدم الحسن الذاتي للطهارات الثلاث فيحتاج لعباديتها حينئذٍ إلى قصد الأمر، فوجوب المقدّمة يوجب صحّة الطهارات الثلاث حتّى عند من أنكر حسنها الذاتي (بناءً على جواز اجتماع الأمر والنهي وكفاية الأمر المقدّمي في قصد القربة).

الجهة السابعة: في تأسيس الأصل في المسألة
اشارة

وفائدته تعيين من يجب عليه إقامة الدليل ويكون قوله مخالفاً للأصل الأوّلي في المقام، ومن لا يجب عليه إقامة الدليل لكون قوله موافقاً للأصل، وهذا واضح لا غبار عليه.

لا إشكال في أنّه لا

معنى للأصل العملي في ما نحن فيه إذا كانت المسألة اصوليّة، أي كان المبحوث عنه فيها وجود الملازمة وعدمه بين وجوب المقدّمة شرعاً ووجوب ذيها، كما صرّح به المحقّق الخراساني رحمه الله، وذلك لأنّ الملازمة ممّا ليست لها حالة سابقة عدميّة كي تستصحب إلّا على القول بالاستصحاب للعدم الأزلي.

وأمّا بناءً على كون المسألة فقهيّة أو قاعدة فقهيّة أي كون النزاع في وجوب المقدّمة وعدمه، فمقتضى أصل الاستصحاب عدم وجوبها، لأنّ وجوب المقدّمة شرعاً لو قيل به أمر حادث مسبوق بالعدم، فإذا شكّ فيه يستصحب عدمه.

انوار الأصول، ج 1، ص: 417

ولكن استشكل عليه في المحاضرات: بأنّ موضوع الاستصحاب وإن كان تامّاً إلّاأنّه لا أثر له بعد استقلال العقل بلزوم الإتيان بها لأجل لا بدّية الإتيان بها على كلّ تقدير «1».

أقول: يمكن الجواب عنه بأنّ المستصحب في المقام إنّما هو الوجوب الشرعي أو عدمه، وهو نفسه أثر شرعي، وليس المستصحب موضوعاً من الموضوعات حتّى لا يمكن استصحابه إلّا إذا ترتّب عليه أثر شرعي، وبعبارة اخرى: المفروض في المقام حصول الشكّ في وجوب المقدّمة بعد أن كان جعله معقولًا وعدم كونه لغواً، فإذا فرضنا أنّ إيجاب المقدّمة شرعاً لا يكون لغواً مع وجود اللابدّية العقليّة وفرضنا حصول الشكّ في إيجابها، فلا إشكال في جواز استصحاب عدمه لأنّ الوجوب بنفسه أثر شرعي وليس المستصحب موضوعاً حتّى يحتاج إلى أثر شرعي يترتّب عليه.

نعم إنّه مبني على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية كما هو المشهور، وأمّا إذا قلنا بعدم جريانه فيها كما هو المختار فلا يجري الاستصحاب هنا.

هذا بالنسبة إلى أصل الاستصحاب.

وأمّا البراءة فقد يقال بعدم جريانها بكلا قسميها: «أمّا العقليّة فلأنّها واردة لنفي المؤاخذة والعقاب، والمفروض أنّه لا عقاب على ترك

المقدّمة وإن قلنا بوجوبها، والعقاب إنّما هو على ترك الواجب النفسي فتدبّر، وأمّا الشرعيّة فبما إنّها وردت مورد الامتنان فيختصّ موردها بما إذا كانت فيه كلفة على المكلّف ليكون في رفعها بها امتناناً، والمفروض أنّه لا كلفة في وجوب المقدّمة حيث لا عقاب على تركها» «2».

ولكن يمكن الجواب عنه بالنسبة إلى البراءة الشرعيّة بأنّ دليلها لا ينحصر في حديث الرفع حتّى يحتاج في جريانها إلى صدق الامتنان، بل هناك وجوه اخرى تدلّ عليها كما تأتي في محلّها في مبحث البراءة فتأمّل.

إلى هنا تمّ الكلام عمّا أردنا إيراده من المقدّمات قبل الورود في أصل البحث عن وجوب المقدّمة وعدمه.

أدلّة القول بوجوب المقدّمة
اشارة

اختلف الأعلام في وجوب المقدّمة على أقوال، فذهب المشهور إلى وجوبها وتبعهم المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية والمحقّق النائيني رحمه الله، وذهب جماعة إلى عدم الوجوب وهو مختار تهذيب الاصول والمحاضرات، وقد يكون هناك بعض التفاصيل في المسألة.

ولا بدّ قبل بيان أدلّة القولين أو الأقوال بيان الفرق بين الوجوب الشرعي واللابدّية العقليّة، فنقول أمّا اللابدّية العقليّة، فمعناها واضح، بل هي من قبيل القضايا قياساتها معها فإنّ معنى كون شي ء مقدّمة لشي ء آخر توقّفه عليه تكويناً وخارجاً عند العقل، أي أنّ العقل يدرك هذا التوقّف الخارجي ويكشف عنه بنحو القطع والبتّ من دون أن يعتبر شيئاً، وأمّا الوجوب الشرعي فهو أمر اعتباري وعبارة عن قانون يجعله الشارع ويعتبره في عالم الاعتبار، فيكون الفرق بين الأمرين حينئذٍ هو الفرق بين الجعل وعدم الجعل، وبين الأمر الاعتباري والأمر التكويني.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه استدلّ لوجوب المقدّمة بامور عديدة:

الأمر الاوّل: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله من مقايسة الإرادة التشريعيّة بالإرادة التكوينيّة وإليك نصّ كلامه: «لا ينبغي الإشكال في وجوب

المقدّمة لوضوح أنّه لا يكاد يتخلّف إرادة المقدّمة عند إرادة ذيها بعد الالتفات إلى كون الشي ء مقدّمة وأنّه لا يمكن التوصّل إلى المطلوب إلّا بها، وإن أردت توضيح ذلك فعليك بمقايسة إرادة الآمر بإرادة الفاعل، فهل ترى أنّك لو أردت شيئاً وكان ذلك الشي ء يتوقّف على مقدّمات يمكنك أن لا تريد تلك المقدّمات؟ لا، بل لا بدّ من أن تتولّد إرادة المقدّمات من إرادة ذلك الشي ء قهراً عليك، بحيث لا يمكنك أن لا تريدها بعد الالتفات إلى المقدّمات، وإلّا يلزم أن لا تريد ذا المقدّمة، وهذا واضح وجداناً، وإرادة الآمر حالها حال إرادة الفاعل» «1».

ولكن قد اورد عليه:

أوّلًا: بأنّ «البرهان لم يقم على التطابق بين التشريع والتكوين لو لم نقل بقيامه على خلافه، وتوضيح الفرق أنّ تعلّق الإرادة بالمقدّمات من الفاعل المريد، لملاك أنّه يرى أنّ الوصول إلى انوار الأصول، ج 1، ص: 419

المقصد وإلى الغاية المطلوبة لا يحصل إلّابإيجاد مقدّماته، فلا محالة يريده مستقلًا بعد تماميّة مقدّماتها، وأمّا الآمر غير المباشر فالذي يلزم عليه هو البعث نحو المطلوب وإظهار ما تعلّقت به إرادته ببيان وافٍ، بحيث يمكن الإحتجاج به على العبد، ويقف العبد به على مراده حتّى يمتثله، وأمّا إرادة المقدّمات فلا موجب له ولا غاية، بعد حكم العقل بلزوم إتيانها، والحاصل أنّه فرق بين المباشر والآمر فإنّه لا مناصّ في الأوّل عند تعدّد الإرادة، لأنّ المفروض إنّه المباشر للأعمال برمّتها فلا محالة تتعلّق الإرادة بكلّ ما يوجده بنفسه، وأمّا الآمر فيكفي في حصول غرضه بيان ما هو الموضوع لأمره وبعثه، بأن يأمر به ويبعث نحوه، والمفروض أنّ مقدّمات المطلوب غير خفي على المأمور، وعقله يرشد إلى لزوم إتيانها فحينئذٍ لأيّ ملاك تنقدح إرادة اخرى

متعلّقة بالمقدّمات؟» «1».

وثانياً: بأن ترشّح إرادة من إرادة اخرى بمعنى كون إرادة الواجب علّة فاعلية لارادتها من غير احتياج إلى مبادى ء اخر كالتصوّر والتصديق بالفائدة ممّا لا أصل له، لأنّ الحاكم بوجوب المقدّمة على الفرض هو الشارع الفاعل المريد المختار، وإنّ سبب الوجوب إنّما هو نفس المولى وإرادته، فتوقّف ذي المقدّمة على المقدّمة يكون حينئذٍ داعياً لايجابه المقدّمة، لا أن يكون سبباً بنفسه لوجوبها «2».

ولكن يمكن الجواب عن كلا الوجهين:

أمّا الوجه الثاني: فلأنّه يمكن أن يقال بأنّ مراد المحقّق النائيني رحمه الله ومن يحذو حذوه من الترشّح إنّما هو أنّ المولى الحكيم يريد المقدّمات عند إرادة ذيها لا محالة، أي إذا تعلّقت الإرادة بذي المقدّمة تعلّقت مبادئها من التصوّر والتصديق وغيرهما بمقدّماتها أيضاً، غاية الأمر أنّها إرادة غيريّة تبعيّة، مع كونها في نفس الوقت مولويّة لا إرشاديّة، فليس المقصود من الترشّح التولّد القهري غير الإرادي حتّى يقال بأنّه لا أصل له، بل المراد منه التلازم بين الإرادتين، بمعنى أنّ المولى الحكيم إذا التفت إلى توقّف ذي المقدّمة على مقدّماتها يتولّد في نفسه مبادى ء إرادتها بمقتضى حكمته.

إن قلت: ليس الكلام في الإرادة وتولّدها في نفس المولى بل الكلام في جعل قانون واعتبار

انوار الأصول، ج 1، ص: 420

حكم على المقدّمة، والإرادة لا تكفي فيه، بل يكون جعل الحكم لغواً.

قلنا: وجود حكم العقل في مورد لا يوجب لغويّة حكم الشارع في ذلك المورد، كما نلاحظه في حكم الشارع بوجوب الاحسان أو استحبابه وحرمة الظلم ونحوهما، ولذلك قيل (ونعم ما قيل) «إنّ الواجبات الشرعيّة الطاف في الواجبات العقليّة» وبعبارة اخرى: حكم الشارع في موارد حكم العقل يكون تأكيداً لحكم العقل ولا لغويّة في التأكيد، هذا أوّلًا.

وثانياً: لا حاجة في وجوب

المقدّمة إلى جعل واعتبار فعلي من طريق الخطابات الأصليّة بل يمكن كشف حكم الشارع من ناحية كشف وجود الشوق والإرادة، أي من ناحية كشف مبادى ء الحكم ووجود ملاكه فإنّه يساوق الحكم نفسه كما سيأتي بناءً على قول المنكرين للترتّب من أنّ تزاحم المهمّ مع الأمر بالأهمّ يوجب عدم فعليّة الأمر بالمهم، ولكنّه مع ذلك لا يوجب بطلان المهمّ العبادي بعد ترك الأهمّ لوجود الملاك، فتدبّر جيّداً.

وأمّا الوجه الأوّل: فالجواب عنه أنّه لا إشكال في أنّ الفعل التسبيبي أيضاً يعدّ فعلًا للمولى كالفعل المباشري ويستند إلى المولى، وإذاً كيف يمكن أن يتسامح الفاعل في مقدّمات فعليه، فإن أراد المولى صعود العبد إلى السطح حقيقتاً فلا محالة يريد نصب السلّم وغيره من المقدّمات أيضاً، وإن أراد أمير العسكر من عسكره فتح بلد حتماً وتعلّقت إرادته به حقيقة فسوف تتعلّق إرادته بمقدّماته من تهيئة التداركات وإيجاد النظام بين أفراد العسكر وتهيئة طرح للعمليّات بلا ريب، نعم قد يكون وضوح الإتيان بالمقدّمات للعبد بحيث لا يحتاج المولى إلى مزيد بيان، ولكن لا بمعنى أنّه لا يريدها بل بمعنى أنّه لا يحتاج إلى بيان هذا الأمر لوضوحه.

هذا كلّه في الدليل الأوّل على وجوب المقدّمة، وقد ظهر أنّه تامّ في محلّه.

الأمر الثاني: ما ذكره بعضهم من أنّ الوجدان أقوى شاهد على أنّ الإنسان إذا أراد شيئاً له مقدّمات، أراد تلك المقدّمات لو التفت إليها بحيث ربّما يجعلها في قالب الطلب مثله، ويقول مولويّاً: «ادخل السوق وإشتر اللحم» مثلًا بداهة أنّ الطلب المنشأ بخطاب «ادخل» مثل المنشأ بخطاب «اشتر» في كونه بعثاً مولويّاً، فحيث تعلّقت إرادته بشراء اللحم ترشّحت منها له إرادة اخرى بدخول عبده السوق بعد الالتفات إليه وأنّه يكون مقدّمة

له كما لا يخفى.

أقول: قد ظهر ممّا ذكرنا في مقام الدفاع عن الوجه الأوّل ضعف ما أُورد على هذا الوجه في المحاضرات من أنّ الوجدان حاكم على الخلاف للزوم اللغويّة فتدبّر، فإنّك قد عرفت:

انوار الأصول، ج 1، ص: 421

أوّلًا: أن الأوامر الشرعيّة كثيراً ما تكون تأكيداً للواجبات العقليّة.

وثانياً: أنّ عدم الحاجة إلى البيان في بعض الموارد لا يكون دليلًا على عدم إرادة المولى، ويكفي في هذه المقامات وجود الإرادة ولو في نفس المولى.

الأمر الثالث: ما ورد في لسان الشارع من الأوامر الغيريّة التي تعلّقت ببعض المقدّمات فإنّها صدرت من جانب الشارع إمّا لوجوب خصوصيّة في تلك المقدّمات غير كونها مقدّمة، أو من باب أنّها مقدّمة لبعض الواجبات، والأوّل ممنوع بالاتّفاق، فلا إشكال في أنّ وجوبها إنّما هو بملاك المقدّميّة، فنتعدّى منها إلى سائر المقدّمات من باب تنقيح المناط.

ومن هذه الأوامر:

منها: قوله تعالى في باب الغسل: «وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا» «1».

ومنها: قوله تعالى في باب التيمّم: «... فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» «2».

ومنها: قوله تعالى في باب الوضوء: «إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ» «3».

ومنها: قوله تعالى في آية النفر: «فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ» «4».

ومنها: قوله تعالى في باب الجهاد: «انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالًا» «5».

ومنها: قوله تعالى في آية السؤال: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ» «6».

ومنها: قوله تعالى في آية النبأ: «إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا» «7»

(حيث إنّ التبيّن ليس واجباً نفسيّاً لإمكان الاحتياط).

ومنها: قوله تعالى في باب صلاة الجمعة: «إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى انوار الأصول، ج 1، ص: 422

ذِكْرِ اللَّهِ» «1».

ومنها: قوله تعالى: «إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ»

«2»

(حيث إنّ الامتحان واجب مقدّمة لتشخيص الإيمان والكفر) إلى غير ذلك من الأوامر الغيريّة الواردة في الكتاب الكريم، ففي جميع ذلك وأشباهها أمر اللَّه تعالى بالواجبات الغيريّة المقدّميّة.

وقد توهّم بعض انحصار هذا القبيل من الأوامر في ما تعلّق بالطهارات الثلاث ثمّ استشكل على الاستدلال بها في المقام بأنّها ليست أوامر مولويّة بل إرشاديّة ترشد إلى شرطيّة الطهارات الثلاث فقط.

ولكنّه قد ظهر عدم انحصارها في ذلك، مضافاً إلى أنّه سيأتي إن شاء اللَّه تعالى في باب استصحاب الأحكام الوضعية من مباحث الاستصحاب من أنّ الشرطيّة والجزئيّة أمران منتزعان من الأحكام التكليفية كغيرهما من الأحكام الوضعية، وبعبارة اخرى: أنّ الشرطيّة أو الجزئيّة متأخّرة عن الأمر رتبة، وهي تنتزع من الأمر المولوي المتعلّق بالمأمور به، فكيف يمكن أن يكون الأمر إرشاداً إليها؟ فتدبّر فإنّه حقيق به.

الأمر الرابع: ما نسب إلى أبي الحسن البصري الأشعري من أنّ المقدّمة لو لم تكن واجبة لجاز تركها، وحينئذٍ فإن بقى الواجب على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق وإلّا خرج الواجب المطلق عن وجوبه.

واجيب عنه: بأنّا نلتزم بالشقّ الأوّل في كلامه، وهو بقاء الواجب على وجوبه ولكن لا يلزم التكليف بما لا يطاق، لأنّا لا نقول حينئذٍ بوجوب ترك المقدّمة حتّى تكون ممتنعة شرعاً ويصير ذو المقدّمة غير مقدور، بل نقول بعدم وجوبها شرعاً، أي المراد من جواز تركها عدم المنع الشرعي عن تركها، فتكون باقية على وجوبها العقلي ولا إشكال في أنّه لا يلزم حينئذٍ محذور عقلي في الأمر بذي المقدّمة.

هذا تمام الكلام في أدلّة القائلين بوجوب المقدّمة، وقد عرفت تماميّة الوجوه الثلاثة الاولى بلا إشكال، وإن كان بعضها كالأخير قاصراً عن إثبات المطلوب.

وأمّا القائلون بعدم وجوبها فاستدلّوا بلزوم اللغويّة مع

وجود اللابدّية العقليّة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 423

ولكن الإنصاف أنّه في غير محلّه لأنّه أوّلًا: إنّ اللغويّة على تقدير لزومها تختصّ بما إذا كان وجوب المقدّمة ملازماً لجعل الشارع واعتباره إيّاه حيث يقال حينئذٍ: لا حاجة إلى جعله واعتباره من جانب الشارع مع وجود اللابدّية العقليّة، ولكن الملازمة ممنوعة، لأنّه يكفي في وجوب شي ء في الواقع كونه محبوباً للمولى ومتعلّقاً لشوقه وإرادته واقعاً، وهو حاصل في ما نحن فيه، وبعبارة اخرى: اللغو في المقام إنّما هو جعل الحكم واعتباره، ولا حاجة إليه في إثبات الوجوب الشرعي لكفاية إحراز الملاك في ذلك.

وثانياً: اللغويّة ممنوعة جدّاً، لما عرفت من كفاية كونه تأكيداً، فكم من واجب شرعي يكون تأكيداً في واجب عقلي!

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: عدم منافاة الوجوه الأربعة للمحتار

ما ذكرنا من الوجوه الأربعة لإثبات وجوب المقدّمة آنفاً لا ينافي مفاد التامّ منها- وهو الثلاثة الاولى- ما اخترناه سابقاً من وجوب المقدّمة الموصلة، أمّا دليل الوجدان فلأنّه حاكم على أنّ الإنسان المريد لإتيان ذي المقدّمة إنّما يريد مقدّماته لايصالها إلى ذيها كما لا يخفى، وأمّا الأوامر الغيريّة الواردة في لسان الشرع فالقدر المتيقّن منها أيضاً وجوب الموصل من المقدّمات، فالقدر المتيقّن من مفاد قوله تعالى: «فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ» إنّما هو وجوب السعي الموصل إلى ذكر اللَّه لا مطلق السعي، وأمّا مقايسة التشريع بالتكوين فكذلك، لأنّ المباشر لذي المقدّمة في الإرادة التكوينيّة إنّما يريد المقدّمات التي توصل إلى ذيها، وهو واضح فليكن كذلك في الإرادة التشريعيّة.

أضف إلى ذلك ما مرّ بالنسبة إلى المقدّمة المحرّمة للواجبات حيث قلنا هناك أنّ حرمة المقدّمة إنّما ترتفع فيما إذا كانت المقدّمة موصلة فقط، فكذلك في غيرها.

الأمر الثاني: في بيان تفصيلين في المسألة:

التفصيل الأوّل: التفصيل بين السبب وغيره، بمعنى أنّ المقدّمة إذا كانت من الأسباب انوار الأصول، ج 1، ص: 424

كالعقود والايقاعات بالنسبة إلى المسبّبات فتجب، وإلّا لو كانت من المعدّات كدخول السوق لشراء اللحم أو نصب السلّم للكون على السطح ونحو ذلك فلا تجب، وبعبارة اخرى: إن كان ذو المقدّمة من الأفعال التسبيبية التوليديّة كالزواج والطلاق والعتاق ونحو ذلك ممّا ليس بنفسه تحت القدرة والاختيار إلّاأسبابها من العقود والايقاعات وكالإلقاء في النار للاحراق ونحوها، فهذا ممّا تجب مقدّمته، وإلّا لو كان ذو المقدّمة من الأفعال المباشريّة كشراء اللحم والصعود على السطح ونحوهما ممّا كان بنفسه تحت القدرة والاختيار فهذا ممّا لا تجب مقدّمته.

والسرّ في الوجوب في الأوّل دون الثاني أنّ الواجب في الأوّل بنفسه ليس أمراً مقدوراً للمكلّف، فلابدّ من صرف التكليف النفسي منه

إلى مقدّمته بخلافه في الثاني فهو بنفسه مقدور له فلا ملزم لصرفه عنه إلى مقدّمته.

ولكن يرد عليه:

أوّلًا: أنّه خروج عن محلّ النزاع لوجهين: أحدهما: أنّ محلّ النزاع ما إذا كان ذو المقدّمة واجباً على أيّ تقدير، مع أنّ المفروض في الصورة الاولى لهذا التفصيل عدم وجوب ذي المقدّمة، وثانيهما: أنّ النزاع في الوجوب الغيري للمقدّمة وعدمه، مع أنّ الوجوب للمقدّمة في الصورة الاولى يكون نفسياً لأنّه نفس الوجوب الذي صرف إليها جاء من ناحية ذي المقدّمة.

وثانياً: إنّ المسبّب في الشقّ الأوّل أمر مقدور للمكلّف بواسطة سببه، لأنّ المقدور بالواسطة مقدور، فلا بأس بتعلّق التكليف به.

التفصيل الثاني: تفصيل المحقّق النائيني رحمه الله، وإليك نصّ كلامه: «إنّ ما يسمّى علّة ومعلولًا إمّا أن يكون وجود أحدهم مغايراً لوجود الآخر في الخارج أو يكونا عنوانين لموجود واحد وإن كان انطباق أحدهما عليه في طول انطباق الآخر لا في عرضه، أمّا ما كان من قبيل الأوّل كشرب الماء ورفع العطش فلا إشكال في أنّ الإرادة الفاعلية تتعلّق بالمعلول أوّلًا لقيام المصلحة به ثمّ تتعلّق بعلّته لتوقّفه عليها فيكون حال الإرادة التشريعيّة الآمريّة أيضاً كذلك، وهذا معنى ما يقال من أنّ المقدور بالواسطة مقدور.

وأمّا ما كان من قبيل الثاني كالإلقاء في النار والإحراق المتّصف بهما فعل واحد في الخارج وإن كان صدق عنوان الإلقاء متقدّماً على صدق عنوان الإحراق رتبة وكذلك عنوان الغسل والتطهير فقد بيّنا سابقاً أنّ كلًا من العنوانين قابل لتعلّق التكليف به كما في قوله عليه السلام: «اغسل انوار الأصول، ج 1، ص: 425

ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» وقوله تعالى: «وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ» فإذا تعلّق بالمسبّب في ظاهر الخطاب فهو متعلّق بذات السبب في نفس الأمر لا

محالة، كما أنّه إذا تعلّق بالسبب فهو يتعلّق به بما أنّه معنون بمسبّبه، وهذا القسم هو مراد العلّامة الأنصاري رحمه الله في المحصّل في ما ذهب إليه من أنّ البراءة لا تجري عند الشكّ في المحصّل كما أشرنا إليه سابقاً، فإذا كان الأمر بكلّ منهما أمراً بالآخر فلا معنى للاتّصاف بالوجوب الغيري فيكون هذا القسم خارجاً عن محلّ النزاع، فلا وجه للتعبير بصرف الخطاب فإنّه فرع التعدّد، والمفروض فيما نحن فيه هو الوحدة والاتّحاد» «1».

وقد أورد عليه بحقّ في هامش أجود التقريرات بالإضافة إلى تمثيله للقسم الثاني بعنواني الإلقاء والإحراق وبعنواني الغسل والتطهير «بأنّ الإلقاء غير الإحراق خارجاً وكذلك الطهارة بمعنى النظافة العرفيّة موجودة في الخارج بوجود مغاير لوجود الغسل ومترتّبة عليه بالوجدان، وأمّا الطهارة الشرعيّة فهي حكم شرعي مترتّب على وجود موضوعه خارجاً وهو الغسل، فكيف يعقل أن يكون عنوان الطهارة منطقباً على ما ينطبق عليه عنوان الغسل» «2».

أقول: ويرد عليه أيضاً أنّه لا معنى لاتّحاد السبب مع المسبّب في الخارج لأنّ العلّة والمعلول وجودان مختلفان في عالم الخارج، واتّحادهما خارجاً يوجب إنكار العلّية الخارجيّة كما لا يخفى، هذا مضافاً إلى أنّ المفروض قيام الملاك بالمسبّب بعنوانه، فالإرادة أوّلًا وبالذات إنّما تتعلّق به ولا يكون السبب بعنوانه إلّاواجباً غيريّاً، فتأمّل.

وهيهنا تفصيل ثالث للمحقّق الحائري رحمه الله في درره، وهو التفصيل بين ما إذا كانت الواسطة من قبيل الآلات مثل إنكسار الخشبة المتحقّق بإيصال الآلة قوّة الإنسان إليها، وبين ما إذا لم يكن كذلك كما لو كان في البين فاعل آخر، كما في إلقاء إنسان إلى السبع فيلقي حتفه، أو إلقاء الشخص في النار فتحرقه، ففي مثل الصورة الاولى يكون الأمر حقيقة متعلّقاً بالمسبّب لأنّ

مثل إنكسار الخشبة بالآلة يعدّ عرفاً فعلًا من أفعال الإنسان وإن تحقّق بسبب الآلة، فيكون وجوب السبب فيها من باب المقدّمة، وأمّا في الصورة الثانيّة فحيث إنّ مثل الإحراق والقتل في المثالين ليس من أفعال الإنسان بل من أفعال الواسطة حقيقة يجب إرجاع الأمر المتعلّق انوار الأصول، ج 1، ص: 426

بالمسبّب إلى السبب، فيكون وجوب السبب نفسيّاً لا من باب المقدّمة «1».

أقول: يرد عليه أنّ المهمّ في المقام إنّما هو صدق عنوان المقدور وعدمه وكون ذي المقدّمة مقدوراً للإنسان أم لا، لا صدق إنّها فعل للإنسان عرفاً وعدمه، ولا إشكال في أنّ مثل الإحراق يصدق عليه أنّه مقدور للإنسان، لأنّ المقدور بالواسطة مقدور ولو فرض عدم عدّه من أفعاله عند العرف، بل الإنصاف صدق كونه فعلًا له عرفاً ولو بالتسبيب لقوّة السبب بالنسبة إلى المباشر في هذه المقامات، والمهمّ أنّ الملاك في جميع هذه الموارد قائم بذي المقدّمة دون مقدّمته، فتكون واجباً بالوجوب الغيري.

الأمر الثالث: التفصيل في وجوب المقدّمة

قد يفصّل في وجوب المقدمة بين الشرط الشرعي وغيره، بمعنى أنّ مثل الطهارات الثلاث والستر والقبلة ونحو ذلك من الشرائط الشرعيّة واجب شرعاً، نظراً إلى أنّه لولا وجوبه شرعاً لما كان شرطاً، فإنّه ليس ممّا لا بدّ منه عقلًا أو عادة كي يعرف بذلك أنّه شرط، فإذا كان مع ذلك شرطاً يعرف أنّه واجب شرعاً وبه صار شرطاً، وأمّا غيره من المقدّمات العقليّة والعاديّة كالسير إلى الحجّ أو دخول السوق لشراء اللحم أو نصب السلّم للصعود على السطح ونحو ذلك ممّا يتوقّف عليه الواجب عقلًا أو عادةً فهو غير واجب شرعاً.

وقد اورد عليه:

أوّلًا: بأنّه ربّما يستفاد شرطيّة شي ء من طريق بيان حكم وضعي كالطهارة التي تستفاد شرطيتها للصّلاة من قوله عليه السلام

«لا صلاة إلّامع الطهور» أو قوله عليه السلام: «صلّ مع الطهور» فلا تتوقّف إثبات شرطيّة الشرائط الشرعيّة على تعلّق أمر تكليفي بها حتّى يلزم منه تعلّق الوجوب بها شرعاً.

وثانياً: إنّ قبول وجوب المقدّمة في بعض المقدّمات كالمقدّمات الشرعيّة يستلزم قبوله في سائر المقدّمات لوحدة الملاك، فإنّ ملاك الوجوب في المقدّمات الشرعيّة إنّما هو مقدّميتها للواجبات وهي موجودة في غيرها أيضاً.

انوار الأصول، ج 1، ص: 427

ثالثاً: قد مرّ سابقاً أنّ الشرائط الشرعيّة ترجع حقيقة إلى شرائط عقليّة ومقدّمات عقليّة، وأنّ غاية الفرق بينهما أنّ الكاشف عن التوقّف في المقدّمات الشرعيّة هو الخطاب الشرعي، بينما الكاشف عن التوقّف في المقدّمات العقليّة هو العقل فقط.

رابعاً: إنّ لازم ما ذكر من أنّه «لولا وجوبه شرعاً لما كان شرطاً» هو الدور المحال، لأنّ الوجوب الشرعي أيضاً يتوقّف على كون المتعلّق شرطاً، فالشرطيّة تتوقّف على الوجوب الشرعي، والوجوب الشرعي أيضاً متوقّف على الشرطيّة (هذا مع قطع النظر عن كون الشرطيّة للواجب منتزعة من الأمر بشي ء واعتباره فيه ولكن مع ذلك لولا دخله في الملاك لما أمر به المولى الحكيم).

الأمر الرابع: في مقدّمة المستحب

لا إشكال في أنّ بعض الوجوه المزبورة التي استدلّ بها لوجوب مقدّمة الواجب تعمّ مقدّمة المستحبّ أيضاً، فتدلّ على ثبوت الملازمة بين المستحبّ ومقدّمته، وهو ظاهر بالنسبة إلى دليل الوجدان ودليل تطابق الإرادتين (الإرادة التكوينيّة والإرادة التشريعيّة) فإنّ الوجدان حاكم بأنّ المولى إذا تعلّقت إرادته غير الإلزاميّة بشي ء تعلّقت بمقدّماته لا محالة كذلك، كما أنّ العقل أيضاً يحكم بأنّ الإرادة التشريعيّة المتعلّقة بالمستحبّات كالإرادة التكوينيّة التي تتعلّق بعمل راجح غير إلزامي، فكما أنّ المباشر لإتيان عمل راجح يريد مقدّماته على حدّ الرجحان فكذلك غير المباشر الذي أراد إتيان عمل بالتسبيب والتشريع.

هذا- مضافاً إلى

جريان الوجه الثالث من الوجوه السابقة في المقام، وهو الأوامر التي وردت في لسان الشارع وتعلّقت ببعض المقدّمات المستحبّة كالذهاب إلى المسجد والجلوس فيه منتظراً لإقامة الصّلاة عن جماعة وغيرهما.

الأمر الخامس: في مقدّمة الحرام

وفيها تفصيل نظير ما مرّ في مقدّمة الواجب، فإنّها أيضاً تنقسم إلى أربعة أقسام:

أوّلها: ما يكون من قبيل الأسباب التوليديّة، سواء كانت العلّة التامّة أو الجزء الأخير منها كالإلقاء في النار بالنسبة إلى الإحراق.

ثانيها: ما يكون من قبيل العلّة الناقصة لايجاد ذي المقدّمة ولكن المكلّف يقصد بإتيانها

انوار الأصول، ج 1، ص: 428

التوصّل إلى الحرام وتكون موصلة إلى الحرام في الخارج أيضاً.

ثالثها: نفس القسم الثاني مع عدم الإيصال إلى ذي المقدّمة.

رابعها: نفس القسم الثاني أيضاً مع عدم قصد التوصّل بها إلى الحرام.

لا إشكال في حرمة القسم الأوّل والثاني بناءً على مبنى وجوب مقدّمة الواجب لنفس ما مرّ هناك، أمّا دليل الوجدان ودليل تطابق الإرادتين فهما واضحان، وأمّا النواهي الواردة في لسان الشارع المتعلّقة بالمقدّمات المحرّمة فهي كثيرة جدّاً، والعجب من فتوى بعض الفقهاء بعدم حرمة مقدّمة الحرام مع إنّا نعلم بأنّ ملاك النهي في هذه الرّوايات إنّما هو مقدّميّة متعلّقاتها للحرام لا غير، فإنّ من هذه النواهي ما مرّ بالنسبة إلى الخمر ولعن غارسها وحارثها وغيرهما من العناوين العشرة التي هي من مقدّمات شرب الخمر، وأوضح من ذلك هو الرّوايات التي وردت في باب صلاة المسافر وتدلّ على وجوب القصر لمن كان سفره حراماً، وقد أفتى بها الفقهاء بالاتّفاق بل لم يكتفوا بالأمثلة الواردة في هذه الرّوايات وتعدّوا إلى غيرها من أشباهها، ولا إشكال في أنّ السفر في كثير من هذه الأمثلة مقدّمة للحرام وليس الحرام نفسه.

إن قلت: ملاك الحرمة في هذه المقدّمات كونها مصداقاً للاعانة على

الإثم وهي حرام نفسي لا غيري.

قلنا: قد مرّ سابقاً أنّ إطلاق هذه الرّوايات يعمّ ما إذا أتى المكلّف بالمقدّمة لنفسه فقط، فالتي وردت في باب الخمر تعمّ مثلًا من غرسها ليتنفع بها هو ولا إشكال في عدم صدق عنوان الإعانة والتعاون حينئذٍ فإنّه عنوان يصدق في خصوص ما إذا أتى بالمقدّمة بقصد توصّل الغير إلى الحرام.

وعلى أيّ حال: إذا كانت المقدّمة في هذه الرّوايات حراماً لمقدّميتها لا لخصوصيّة اخرى يستكشف من ذلك حرمة سائر مقدّمات الحرام أيضاً لوجود الملاك.

وأمّا القسم الثالث: من المقدّمات فلا إشكال أيضاً في عدم حرمتها إلّامن باب التجرّي.

وأمّا القسم الرابع: منها فعدم حرمتها واضح لأنّ المفروض أنّه لم يقصد بها التوصّل إلى الحرام فهي ليست حراماً بالنسبة إليه لا واقعاً ولا ظاهراً.

نعم هذا إذا لم تكن موصلة إلى الحرام، وأمّا مع فرض الإيصال وبناءً على قبول المقدّمة الموصلة (كما هو المختار) فلا إشكال في أنّها مصداق من مصاديق الحرام الواقعي حينئذٍ وأنّ من انوار الأصول، ج 1، ص: 429

أتى بها ارتكب حراماً واقعاً إلّاأنّه لا يعاقب على ذلك لعدم قصده التوصّل بها إلى الحرام وعدم فعلية الحرمة بالنسبة إليه.

ثمّ إنّ للمحقّق الخراساني رحمه الله تفصيلًا في المقام وحاصله: التفصيل بين المقدّمات التي لا يبقى معها اختيار ترك الحرام أو المكروه على حاله بل بمجرّد الإتيان بها خارجاً يتحقّق الحرام أو المكروه قهراً كما في المقدّمة الأخيرة في الأفعال التسبيبية التوليديّة وبين غيرها من مقدّمات الأفعال الاختياريّة المباشريّة التي لو أتى بتمامها كان اختيار المكلّف باقياً محفوظاً على حاله، إن شاء أتى بالفعل وإن شاء ترك، ففي القسم الأوّل تتّصف المقدّمة بالحرمة لعدم توسّط الاختيار بينها وبين الفعل فتسري المبغوضيّة إلى الجميع، وفي

القسم الثاني لا تتّصف المقدّمة بالحرمة لتوسّط الاختيار بينهما، فيكون المكلّف متمكّناً من ترك الحرام بعد حصول المقدّمات كما كان متمكّناً قبله، فلا ملاك لتعلّق الحرمة بها، وأمّا نفس الاختيار فلا يمكن أن يتعلّق به التكليف للزوم التسلسل (انتهى).

ويمكن أن يوجّه كلامه بأنّ أفعال الإنسان على قسمين: قسم يخرج عن اختياره بعد تحقّقه كالسهم الذي خرج من القوس، وهذا ما يسمّى بالأفعال التوليديّة، وقسم يبقى تحت الاختيار حتّى بعد التحقّق فيمكن له تركه في كلّ آن كمسّ كتابة القرآن الذي يمكن للإنسان أن يرفع يده عنها، فيكون مراد المحقّق الخراساني رحمه الله من تخلّل الاختيار في هذا القسم الثاني ومن كونه من قبيل الجزء الأخير للعلّة التامّة عدم خروجه عن سيطرته وسلطنته.

نعم، مع ذلك يرد عليه ما مرّ منّا في مبحث الجبر والتفويض من أنّ الإرادة ليست غير اختياريّة بل هي إراديّة واختياريّة بذاتها، ولا تحتاج في إراديتها إلى إرادة اخرى حتّى يلزم التسلسل.

هذا مضافاً إلى ما مرّ من الحرمة في هذا القسم الأخير إذا قصد به التوصّل وكانت موصلة إلى الحرام.

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: ما نسب إلى بعض من أنّ حرمة المقدّمة في الأفعال التوليديّة المحرّمة نفسية لا غيريّة من باب أنّ النهي النفسي متعلّق بها لا بذيّها لعدم كونه مقدوراً للمكلّف، «فإذا تعلّق انوار الأصول، ج 1، ص: 430

النهي بالمسبّب في ظاهر الخطاب فهو متعلّق بذات السبب في نفس الأمر لا محالة كما أنّه إذا تعلّق بالسبب فهو يتعلّق به بما أنّه معنون بمسبّبه فإذا كان الأمر بكلّ منهما أمراً بالآخر فلا معنى للاتّصاف بالوجوب الغيري» «1».

ولكنّه غير تامّ، لأنّ ذا المقدّمة في هذه الموارد أيضاً مقدور للمكلّف، فإنّ المقدور بالواسطة مقدور، فيمكن تعلّق

الأمر أو النهي به حينئذٍ فإذا تعلّق النهي مع ذلك بالمقدّمة كان غيريّاً.

وإن شئت قلت: ملاك المبغوضيّة والحرمة قائم بنفس المسبّب لا السبب.

الأمر الثاني: ما ذهب إليه في تهذيب الاصول من أنّ الحرام من مقدّمة الحرام بناءً على الملازمة إنّما هو الجزء الأخير إذا كانت أجزاء العلّة مترتّبة، أو الواحد من الأجزاء إذا كانت عرضيّة، لا أن تكون جميع المقدّمات محرّمة كما تجب جميع مقدّمات الواجب، واستدلّ لذلك بمساعدة الوجدان عليه وبأنّ «الزجر عن الفعل مستلزم للزجر عمّا يخرج الفعل من العدم إلى الوجود لا عن كلّ ما هو دخيل في تحقّقه لأنّ وجود سائر المقدّمات وعدمها سواء في بقاء المبغوض على عدمه، والمبغوض هو انتقاض العدم بالوجود، وما هو سبب لذلك هو الجزء الأخير في المترتّبات، وفي غيرها يكون المجموع كذلك وعدمه بعدم جزء منه» «2».

أقول: إنّ الوجدان حاكم بأنّ المؤثّر في العدم والناقض له هو جميع المقدّمات معاً لا خصوص الأخير منها، فإنّه من قبيل مصباح كهربائي يضاء بمائة زرّ مترتّبة، فإنّ سبب الإضاءة حينئذٍ جميع المائة ولكلّ واحد منها دخل في الإضاءة، فتكون معاً ناقضة للعدم والظلمة لا خصوص الأخير منها، فلو كان ايقاد السراج هنا مبغوضاً للشارع المقدّس كان جميع ما هو مؤثّر في هذا الأمر أيضاً مبغوضاً له بالملازمة.

وإن شئت قلت: عدم بعض هذه الأجزاء الطوليّة أو العرضيّة وإن كان كافياً في انعدام مبغوض المولى ولكن جميعها مؤثّرة في إيجاد مبغوضه بحيث لا يكفي بعضها فيه، وحينئذٍ يسري البغض إليها جميعاً، وفي الحقيقة ليس العدم مطلوباً بل الوجود مبغوض.

انوار الأصول، ج 1، ص: 431

الفصل الحادي عشر مسألة الضد
اشارة

والتحقيق في المسألة يستدعي تقديم امور قبل الورود في أصل البحث:

الأمر الأوّل: في عنوان المسألة

قال بعضهم: «إنّ الأمر بالشي ء هل يقتضي النهي عن ضدّه، أو لا؟» بل هو ظاهر أكثرهم، والمعنون في كلماتهم، وقال بعض آخر: «إنّ الملازمة ثابتة بين وجوب شي ء وحرمة ضدّه أو لا؟» وهو مختار من جعل المسألة اصوليّة، ولكن حيث إنّ المعنون في كلمات القوم غالباً هو الأوّل بل هو ظاهر أكثر أدلّتهم فيكون هو المختار لنا في المسألة، والعجب من المحاضرات حيث إنّه مع اعترافه بأنّ النزاع في ثبوت الملازمة وعدمه مع ذلك جعل العنوان أنّ الأمر بالشي ء يقتضي النهي عن ضدّه أم لا؟

الأمر الثاني: في أنّ المسألة عقليّة

أنّ المعروف بين الاصوليين كون المسألة عقليّة لعدم إرتباطها بباب الألفاظ وإن عنونوها في مباحث الألفاظ، ولذلك يجري النزاع فيها وإن ثبت الأمر من غير طريق الألفاظ.

لكن الأولى أن يقال: إنّ المسألة عقليّة ولفظيّة معاً، لأنّ من المسائل التي يتكلّم عنها في مقام الاستدلال وبيان الأدلّة هو الدلالات الثلاث، وهي من أقسام الدلالة اللّفظيّة، ولعلّ المدّعي للملازمة يدّعي اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ فتدخل في الدلالة اللّفظيّة أيضاً.

الأمر الثالث: في أنّ المسألة اصوليّة أو فقهيّة؟

وهذه المسألة اصوليّة عند من جعل العنوان ثبوت الملازمة وعدمه، ومن جعله «أنّ الأمر

انوار الأصول، ج 1، ص: 432

بالشي ء يقتضي النهي عن ضدّه أو لا» مال إلى كونها فقهيّة، لأنّ الكلام حينئذٍ في حرمة الضدّ وعدمها وهي مسألة فقهيّة.

والصحيح أنّها من القواعد الفقهيّة لأنّ تعريف القاعدة الفقهيّة وهو «ما يشتمل على حكم كلّي لا يختصّ بباب دون باب أو بكتاب دون كتاب» صادق على حرمة الضدّ، وهو واضح بعد أن كان المختار في عنوان المسألة أنّ الأمر بالشي ء يقتضي النهي عن ضدّه أو لا؟ ولذلك لا يمكن إيكال تطبيق هذه المسألة على مصاديقها إلى المقلّد بل هو من وظيفة المجتهد كما في سائر القواعد الفقهيّة.

ولا نأبى مع ذلك عن ذكرها في الاصول وما أكثر نظائرها المذكورة في الاصول أيضاً.

الأمر الرابع: في المراد من كلمة الاقتضاء في عنوان المسألة.

ذهب المشهور إلى أنّه أعمّ من أن يكون بنحو المطابقة والعينية أو التضمّن أو الالتزام، ويشهد له ما سيأتي في مبحث الضدّ العامّ من أنّ بعضهم ذهب إلى أنّ الأمر بالشي ء عين النهي عن ضدّه العامّ، وبعض آخر إلى أنّ النهي عن ضدّ شي ء جزء للأمر به، وذهب ثالث إلى أنّه من لوازمه، ولا إشكال في أنّ لازم هذا عموم معنى الاقتضاء في عنوان المسألة.

ويمكن أن يكون الاقتضاء هو التلازم غير البيّن الذي لا يكون من الدلالات اللّفظيّة بل اقتضاء عقلي.

الأمر الخامس: في المراد من كلمة الضدّ.
اشارة

فهل المراد منه معناه الفلسفي وهو «أنّ الضدّين أمران وجوديان بينهما غاية التباعد» أو المراد منه معناه اللغوي فيعمّ النقيض الفلسفي أيضاً؟

الصحيح هو الثاني لأنّ من فروعات المسألة هو البحث عن الضدّ العامّ وهو أمر عدمي ويكون نقيضاً للفعل المأمور به بمعناه الفلسفي.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الكلام في ما نحن فيه يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في الضدّ العام وهو ترك المأمور به.

انوار الأصول، ج 1، ص: 433

المقام الثاني: في الضدّ الخاصّ (والمراد منه أمر وجودي يزاحم الفعل المأمور به).

وقد وقع البحث عن الضدّ الخاصّ مقدّماً على البحث عن الضدّ العامّ في كلمات القوم لكن الأولى تأخيره لسهولة البحث فيه واختصاره فنقول:

أمّا المقام الأوّل: فالأقوال فيه أربعة:

أحدها: الاقتضاء بنحو العينية والمطابقة.

ثانيها: الاقتضاء بنحو التضمّن والجزئيّة.

ثالثها: الاقتضاء بنحو الالتزام إجمالًا أعمّ من أن يكون اللزوم لفظيّاً على نحو يكون النهي عن الضدّ من اللوازم البيّنة بالمعنى الأخصّ للأمر بالشي ء أو عقليّاً على نحو يكون من اللوازم البيّنة بالمعنى الأعمّ.

رابعها: عدم الاقتضاء مطلقاً.

أمّا القول الأوّل: فلا إشكال في فساده ثبوتاً وإثباتاً، أمّا مقام الإثبات فواضح، لأنّ المفروض أنّ الصّلاة مثلًا وتركها اثنان، وإنّ الأمر دعوة إلى الشي ء

والنهي زجر عن الشي ء، ولا معنى حينئذٍ للعينية.

وبعبارة اخرى: إنّ اللزوم ملاك الاثنينية لا الاتّحاد والعينية، والبعث والزجر أمران مختلفان، وأمّا مقام الثبوت فلأنّ ملاك الحرمة هو وجود مفسدة في متعلّقها، كما أنّ ملاك الوجوب وجود مصلحة في متعلّقه، فما لا مفسدة فيه لا حرمة له، وما لا مصلحة فيه لا وجوب له، ولا شكّ في أنّه ليس كلّ ما كان ذا مصلحة في فعله كان في تركه مفسدة، بل كثيراً ما يساوق تركه فقدان المصلحة فقط، وهذا واضح جدّاً.

وأمّا القول الثاني: فإنّه متفرّع على قبول تركّب الوجوب من طلب الفعل والمنع من الترك وهو ممنوع جدّاً، لأنّ الوجوب معنى بسيط، وهو البعث الشديد نحو الفعل، في مقابل الحرمة التي هي الزجر الشديد عن الفعل.

وأمّا القول الثالث: فهو أيضاً غير تامّ لنفس ما مرّ في الجواب عن القول الأوّل، لأنّ وجود الملازمة بين وجب شي ء وحرمة ضدّه العامّ يستلزم وجود الملازمة بين وجود المصلحة في فعل ووجود المفسدة في تركه مطلقاً، فيكون في ترك كلّ ذي مصلحة مفسدة، وهو ممنوع كما مرّ.

انوار الأصول، ج 1، ص: 434

فظهر أنّ المتعيّن هو القول الرابع، وهو عدم الاقتضاء مطلقاً، نعم قد يعبّر بالاقتضاء مسامحة كما أنّه قد يكون من باب التلازم الاتّفاقي بأن تكون المصلحة في الفعل مقارنة للمفسدة في الترك، كما هو كذلك في مثل الصّلاة والزّكاة وبعض الواجبات الاخر.

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.

أمّا المقام الثاني: وهو البحث عن الضدّ الخاصّ كالصّلاة بالنسبة إلى إزالة النجاسة عن المسجد أو أداء الدَين ففيه قولان:

أحدهما: ما ذهب إليه بعضهم من أنّ الأمر بالشي ء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ.

ثانيهما: ما عليه كثير من المحقّقين المتأخّرين وهو عدم الاقتضاء.

واستدلّ للقول الأوّل

بوجهين:

الوجه الأوّل:- وهو العمدة- ما هو مبني على مقدّميّة ترك الضدّ للفعل المأمور به، فيقال:

1- إنّ ترك الضدّ مقدّمة للفعل المأمور به.

2- إنّ مقدّمة الواجب واجبة.

3- والأمر بالشي ء يقتضي النهي عن تركه الذي هو الضدّ العامّ، فلازم المقدّمة الاولى والثانيّة وجوب ترك الصّلاة لازالة النجاسة عن المسجد في المثال المعروف، ولازم المقدّمة الثالثة حرمة فعل الصّلاة ونتيجتها بطلانها.

ولا يخفى أنّ النكتة الأصلية في هذا البرهان إنّما هي المقدّمة الاولى ولذلك تدور كلمات الأعاظم كالمحقّق الخراساني والميرزا النائيني والمحقّق العراقي رحمهم الله مدارها، وقد ذكر لإثباتها وجهان:

الوجه الأوّل: أنّه قد قرّر في محلّه أنّ عدم المانع من أجزاء العلّة التامّة، وحيث إنّ العلّة مقدّمة على معلولها فيكون عدم المانع أيضاً مقدّماً على وجود المعلول، والمعلول في ما نحن فيه فعل الواجب المأمور به كالازالة في المثال، والمانع هو الصّلاة، فيصير ترك الصّلاة مقدّمة لفعل الإزالة، وهو المطلوب في المقدّمة الاولى من البرهان.

ويجاب عن هذا بعدّة أجوبة:

انوار الأصول، ج 1، ص: 435

الجواب الأوّل: أنّ التمانع إنّما هو بمعنى عدم الاجتماع في الوجود، وهو لا يلازم مقدّميّة أحد المتمانعين للآخر وتقدّمه عليه رتبة، بل غاية ما يقتضيه إنّما هو كون وجود أحدهما مع عدم الآخر في رتبة واحدة.

هذا حاصل ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية، وقد قرّره المحقّق النائيني رحمه الله ببيان أوفى وهو «إنّ مرتبة مانعية المانع متأخّرة عن وجود المقتضي وعن وجود جميع الشرائط، بمعنى أنّ الرطوبة مثلًا لا يمكن أن يقال: أنّها مانعة عن احتراق الجسم إلّابعد وجود النار ومماسّتها مع الجسم القابل للاحتراق، نعم يمكن أن يكون وجود الرطوبة في الجسم القابل للاحتراق قبل وجود النار وقبل مماسّتها لذلك الجسم ولكن اتّصافها بصفة

المانعية وفعلية هذه الصفة فيها لا يمكن إلّابعد وجود المقتضي للاحراق وجميع شرائطه، وعلى هذا الأساس ينكر إمكان كون شي ء شرطاً لشي ء، ضدّه مانعاً عنه لأنّ مانعية الضدّ لا تتحقّق إلّابعد وجود الشرط الذيي هو عبارة عن الضدّ الآخر، وبعد وجود ذلك الضدّ الذي هو شرط يمتنع وجود هذا الآخر الذي يدّعي أنّه مانع، وإلّا يلزم اجتماع الضدّين، ومع امتناع وجوده كيف يمكن أن يكون مانعاً؟ ... (إلى أن قال): إذا تقرّر ذلك. فنقول: توقّف وجود الإزالة على عدم الصّلاة- مثلًا- لا بدّ وأن يكون من جهة عدم المانع، أي حيث إنّ وجود الصّلاة مانع عن وجود الإزالة، وعدم المانع من أجزاء علّة الشي ء، والعلّة لا بدّ وأن توجد بجميع أجزائها وخصوصّياتها حتّى يوجد المعلول ومن جملتها عدم المانع، وقد تبيّن أنّ كون الصّلاة مانعة عن وجود الإزالة لا يمكن إلّابعد وجود المقتضي للازالة ووجود جميع شرائطها، وقد عرفت ممّا تقدّم أنّه إذا وجد المقتضي للازالة لا يمكن أن يوجد المقتضي للصّلاة أصلًا لما ذكرنا من عدم إمكان اجتماع المقتضين للضدّين في عالم الوجود، ففي هذا الفرض (أي فرض وجود المقتضي للازالة) لا بدّ وأن تكون الصّلاة معدومة لعدم وجود المقتضي لها ومع انعدامها كيف تكون مانعة عن وجود الإزالة؟» «1».

هذا هو الجواب الأوّل عن الوجه الأوّل وهو تامّ في محلّه.

الجواب الثاني: أنّ مقدّميّة عدم أحد الضدّين يستلزم الدور، لأنّه بناءً على المقدّميّة يكون انوار الأصول، ج 1، ص: 436

عدم أحد الضدّين مقدّمة لوجود الضدّ الآخر، ومن جانب آخر وجود أحد الضدّين مقدّمة لعدم الآخر، فعدم القيام مثلًا مقدّمة لفعل الجلوس، وفعل الجلوس أيضاً مقدّمة لعدم القيام، وفي المثال المعنون في المقام يكون عدم الصّلاة مقدّمة

لفعل الإزالة وفعل الإزالة أيضاً سبب لترك الصّلاة، وهذا دور محال.

إن قلت: إنّ المقدّميّة هنا أمر فعلي من أحد الطرفين وشأني من طرف آخر، بينما لا بدّ في تحقّق الدور من كون المتوقّف والمتوقّف عليه فعليين، وبيان ذلك أنّ ترك الصّلاة مثلًا مقدّمة للازالة فعلًا، ولكن الإزالة مقدّمة لترك الصّلاة فيما إذا لم يكن في البين صارف عن الصّلاة كعدم إرادتها لا مطلقاً، أي عدم الصّلاة في صورة عدم إرادتها يستند إلى عدم المقتضي ووجود الصارف، ولا يستند إلى الإزالة حتّى تكون الإزالة مقدّمة له.

قلنا: أنّه يكفي في تحقّق الدور مجرّد الشأنيّة للمقدّميّة، بل يتحقّق الدور حتّى فيما إذا كان الطرفان كلاهما شأنيين، فلا يمكن أن يكون كلّ من «الألف» و «الباء» مقدّمة للآخر حتّى شأناً.

الجواب الثالث: أنّ شأن وجود أحد الضدّين مع عدم الآخر شأن وجود أحد النقيضين مع ارتفاع الأخر، فكما لا ترتّب ولا توقّف وجداناً بين وجود الإنسان مثلًا وارتفاع اللاإنسان بل إذا حصل سبب وجود الإنسان حصل الإنسان وارتفع اللاإنسان في رتبة واحدة من دون أن يرتفع اللاإنسان أوّلًا ثمّ يحصل الإنسان في المرتبة المتأخّرة، كذلك إذا حصلت إرادة المأمور به حصل هناك أمران في عرض واحد بالوجدان فعل المأمور به وترك ضدّه، فيكونان إذاً معلولين لعلّة واحدة لا تقدّم لأحدهما على الآخر.

وإن شئت قلت: أنّه لا ريب في كون وجود أحد الضدّين في رتبة وجود الضدّ الآخر، ولا ريب أيضاً في كون وجود كلّ من الضدّين في رتبة عدم نفسه لأنّهما متناقضان، ولازمه أن يكون وجود كلّ واحد من الضدّين في رتبة عدم الضدّ الآخر، لأنّ مساوي المساوي مساوٍ، فإذا كان وجود أحد الضدّين مساوياً لوجود الضدّ الآخر رتبة وكان

وجود كلّ واحد منهما مساوياً لعدمه رتبة- كان وجود أحدهما مساوياً لعدم الآخر أيضاً رتبة، وحينئذٍ لا ترتّب ولا توقّف بينهما وهو المطلوب.

الجواب الرابع: ما أفاده في تهذيب الاصول وحاصله: «أنّ العدم مفهوم اعتباري يصنعه انوار الأصول، ج 1، ص: 437

الذهن إذا تصوّر شيئاً ولم يجده شيئاً إذا رجع إلى الخارج فهو مسلوب عنه أحكام الوجود والثبوت، إذ لا شيئية له، فلا تقدّم له ولا تأخّر ولا مقارنة، بل كلّ الحيثيات مسلوبة عنه سلباً تحصيليّاً لا بمعنى سلب شي ء عن شي ء بل السلب عنه من قبيل الإخبار عن المعدوم المطلق بأنّه لا يخبر عنه، فما يتكرّر بين كلمات المشاهير من أهل الفنّ من عدّ عدم المانع من أجزاء العلّة مرجعه إلى أنّ وجوده مانع عن تحقّق المعلول لا أنّ عدمه دخيل، إذ العدم مطلقه ومضافه أقصر شأناً من أن يحوم حوله التوقّف لأنّه البطلان واللاشيئية» «1».

أقول: وهذا الجواب أيضاً متين في محلّه.

إلى هنا تمّ الكلام عن الوجه الأوّل من الوجهين اللّذين استدلّ بهما للقول الأوّل في المقام.

الوجه الثاني: مسلك التلازم واتّحاد المتلازمين في الحكم، (وهو غير الوجه الأوّل الذي كان مبنياً على مقدّميّة ترك أحد الضدّين لوجود الآخر) وهو أيضاً يتوقّف على ثلاث مقدّمات:

1- إنّ وجود أحد الضدّين ملازم لعدم الآخر وإلّا يستلزم ارتفاع النقيضين، لأنّ عدم الضدّ الآخر يكون نقيضاً لوجوده، فإذا لم يكن وجود الضدّ الأوّل ملازماً لا لوجوده ولا لعدمه يستلزم ارتفاع النقيضين، وهو واضح (بل هذا هو معنى التضادّ).

2- إنّ المتلازمين متساويان في الحكم فتتساوى مثلًا الإزالة وترك الصّلاة في الوجوب.

3- أنّ وجوب ترك فعل يقتضي النهي عن ضدّه وهو وجوده بمقتضى ما سبق في الضدّ العامّ. فيستنتج من هذه الثلاثة أنّ

الأمر بالإزالة يقتضي حرمة فعل الصّلاة من دون حاجة إلى إثبات مقدّميّة ترك الصّلاة لفعل الإزالة كما في الوجه الأوّل.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه الله بالنقاش في المقدّمة الثانيّة، وحاصل بيانه أنّ غاية عدم اختلاف المتلازمين عدم اختلافهما في الحكم بحيث يكون كلّ واحد منهما محكوماً بحكم فعلي مغاير لحكم الآخر لا أن يكونا متّحدين في الحكم بل يجوز أن يكون الملازم محكوماً إنشاءاً بحكم مخالف لحكم ملازمه لكن قد سقط فعليّته بفعلية الأهمّ الملازم له، كما إذا وجب انقاذ الغريق وحرم إنشاءاً ترك الصّلاة الملازم له لكن قد سقطت حرمته الفعليّة لأهمّية الانقاذ.

انوار الأصول، ج 1، ص: 438

لا يقال: إنّه إذا لم يجب أن يكون الملازم محكوماً بحكم ملازمه لزم خلوّه عن الحكم.

لأنّا نقول: أنّ عدم جواز خلوّ الواقعة عن الحكم إنّما هو بالنسبة إلى الحكم الواقعي ولو كان إنشائيّاً لا الحكم الفعلي، والملازم وإن لم يكن محكوماً فعلًا بحكم ملازمه، ولكنّه محكوم واقعاً بحكم إنشائي ولو كان مخالفاً لحكم ملازمه.

أقول: ونضيف إلى ذلك: أنّه لا إشكال في جواز خلوّ الواقعة عن الحكم إنشاءً وفعلًا إذا لم تكن الواقعة ذات شأن كاللعب بالسبحة مثلًا، أو يكون جعل الحكم فيها لغواً أو شبه ذلك، بل لا بدّ للشارع جعل الحكم بالنسبة إلى الوقائع التي يبتلي به المكلّفون وتكون ذات شأن في الخارج، وإلّا يستلزم نقصان الشريعة المقدّسة، وما نحن فيه من القسم الأوّل، لأنّ جعل الوجوب لترك الصّلاة الملازم لفعل الإزالة لغو لا حاجة إليه مع وجوب الإزالة لأنّه يحصل بفعل الإزالة قهراً سواء أراده المكلّف أو لم يرده وسواء كان واجباً أو مباحاً.

إن قلت: ظاهر بعض الرّوايات والآيات أنّه ما من واقعة إلّاولها حكم في

الشرع.

قلنا: هذه الرّوايات أو الآيات ناظرة إلى القسم الثاني من الوقائع، أي الوقائع التي تكون ذات شأن في الواقع ويبتلى به المكلّف ممّا له فائدة.

ثمّ إنّه يمكن المناقشة في هذا الوجه بالنسبة إلى المقدّمة الثالثة أيضاً حيث إنّها مبنيّة على اقتضاء الأمر بالشي ء النهي عن ضدّه العامّ، لأنّ ترك الصّلاة ضدّ عام لفعل الصّلاة، وقد مرّ في المقام الأوّل عدم نهوض دليل على ذلك.

فظهر أنّ السالم من الإشكال إنّما هو المقدّمة الاولى، وهي وجود التلازم بين وجود أحد الضدّين وعدم الآخر، ومن العجب إشكال تهذيب الاصول في هذه المقدّمة أيضاً حيث قال:

«إنّ نقيض كلّ شي ء رفعه لا إثبات هذا الرفع فنقيض قولنا «يصدق عليه السواد» هو «أنّه لا يصدق عليه السواد» لا أنّه يصدق عليه عدم السواد، وكم فرق بين السالبة المحصّلة وبين الموجبة المعدولة أو الموجبة السالبة المحمول، كما إذا قلت: «يصدق عليه أنّه ليس بسواد» «1».

وفيه: أنّ من المعلوم أنّ الضدّين لا يجتمعان في الوجود بلا إشكال، وإذا لم يجتمع وجود أحد الضدّين مع وجود الضدّ الآخر، يجتمع لا محالة مع عدمه لأنّ النقيضان لا يرتفعان، وليس في البين قضيّة حتّى يتكلّم عن أنّ نقيضها سالبة محصّلة أو موجبة معدولة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 439

وإن شئت قلت: وجود البياض ملازم لعدم السواد إلّاأنّه يصدق عليه عدم السواد، وكم فرق بين الملازمة وبين صدقه عليه.

هذا، وقد ظهر إلى هنا أنّه لا يمكن إثبات أنّ الأمر بالشي ء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ لا من طريق مقدّميّة ترك أحد الضدّين للضدّ الآخر ولا من طريق وجود التلازم بينهما، ولكن لنا في المسألة بالنسبة إلى مسلك المقدّميّة تفصيل فنقول: ربّما يكون الضدّان فعلين قائمين بشخص واحد، فلا إشكال

في أنّ ترك أحدهما ليس مقدّمة لوجود الآخر بل إرادة أحدهما يلازم ترك الآخر قهراً، فمثلًا حصول الجلوس ليس متوقّفاً على ترك القيام بل يحصل الجلوس وينعدم القيام في عرض واحد وفي رتبة واحدة بإرادة الجلوس فقط، كما أنّ تحقّق النوم لا يكون متوقّفاً على اعدام اليقظة في الرتبة السابقة بل تنعدم اليقظة ويحصل النوم بإرادة النوم فقط.

وإن شئت قلت: إذا حصل الداعي لأحدهما يحصل الصارف عن غيره في رتبة واحدة.

وهذا بخلاف ما إذا كان الضدّان فعلين قائمين بشخصين كإشغال محلّ خاصّ من المسجد، فإنّه لا يمكن إشغال زيد له إلّابترك إشغال عمرو له، أو كانا فعلين قائمين بشخص واحد ولكن المحلّ واحد وموضوع خارجي فلا يمكن أن يملأ إناء الماء مثلًا من اللبن بدون فراغه من الماء، وهكذا كتابة شيئين في لوح واحد فلا يمكن كتابة أحدهما إلّابعد محو الآخر، فهنا يكون عدم أحدهما مقدّمة للآخر.

إن قلت: لازم هذا- التفريق بين الضدّين اللّذين كان أحدهما موجوداً من قبل، وما ليس كذلك، فالمقدّميّة حاصلة في الأوّل دون الثاني، أي أنّها موجودة رفعاً لا دفعاً.

قلنا: عدم وجود أحد الضدّين من قبل في القسم الأخير لا يلازم عدم كونه مقدّمة، بل لازمه حصول المقدّمة من قبل، ففراغ الإناء من الماء لقبول اللبن ليس دليلًا على أنّ عدم الماء فيه لا يكون مقدّمة للبن، بل معناه حصول المقدّمة من قبل، وهو واضح.

وإلى ما ذكرنا يشير ما هو المعروف في محلّه من «أنّ التخلية قبل التحلية»، نعم إنّ الأمثلة المتداولة في كلمات القوم في المقام كمثال الصّلاة والإزالة إنّما هي من القسم الأوّل، ولعلّ ملاحظة هذه الأمثلة أوجبت إنكار المحقّقين للمقدّميّة في مطلق الأضداد، فتدبّر جيّداً حتّى تعرف الفرق

بين الموردين فإنّه دقيق.

ثمرة البحث في مسألة الضدّ:

للمسألة ثمرتان:

الثمرة الاولى: نفس الحكم بحرمة الضدّ في صورة الاقتضاء، فإنّه حكم فقهي ينشأ من النهي عن الضدّ، ويوجب فعله العصيان والعقاب كما يوجب تركه بقصد الامتثال الثواب بناءً على ما مرّ سابقاً من أنّ الأمر الغيري أو النهي الغيري يوجب الثواب أو العقاب إذا أتى بالمأمور به أو المنهي عنه بقصد التوصّل إلى ذي المقدّمة «فتأمّل».

الثمرة الثانيّة: فساد الضدّ إذا كان عبادة، لأنّ النهي يدلّ على الفساد، فتصير الصّلاة في المثال المزبور باطلة بناءً على الاقتضاء.

نعم ربّما يناقش فيه بأنّه مبني على كون متعلّق النهي مبغوضاً، والنهي المقدّمي لا يوجب مبغوضيّة متعلّقه، فلا يلزم منه فساده، ولكن قد عرفت الإشكال فيه آنفاً.

كما يمكن المناقشة في المثال المعروف، لأنّ بطلان الصّلاة مبني على فوريّة وجوب الإزالة أو أداء الدَين، ولا إشكال في أنّها عرفيّة لا تنافي إتيان الصّلاة بسرعة ثمّ الإزالة أو أداء الدَين من دون فصل (وإن كانت المناقشة في بعض الأمثلة لا تقدح في أصل الحكم).

ثمّ إنّ الشّيخ البهائي (قدّس اللَّه نفسه) أورد على هذه الثمرة بشي ء انتهى إلى بحث الترتّب، وهو أنّ بطلان الضدّ ليس متوقّفاً على اقتضاء الأمر بالشي ء النهي عن ضدّه، بل أنّه ثابت بناءً على عدم الاقتضاء أيضاً، لأنّ الأمر بالشي ء لو لم يقتض النهي عن ضدّه فلا أقلّ من اقتضائه عدم الأمر بضدّه وإلّا يلزم التكليف بالمحال لامتناع الجمع بين الضدّين، فإذا لم يكن الضدّ مأموراً به بطل إذا كان عبادة لأنّ صحّتها متوقّفة على تعلّق الطلب بها.

وقد اجيب عنه بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّه يكفي في صحّة العبادة مجرّد قصد الملاك والمصلحة والرجحان الذاتي، ولا ينحصر قصد القربة المعتبرة في العبادات بقصد الأمر فقط كي

إذا سقط الأمر بطلت العبادة كما مرّ بيانه في مبحث التعبّدي والتوصّلي.

الوجه الثاني: أنّ متعلّق الوجوب في الصّلاة مثلًا إنّما هو طبيعة الصّلاة، وخصوصيّة الأفراد خارجة عن حيّز الأمر، ولا إشكال في أنّ تكليف العباد بإيجاد ماهيّة لا يتوقّف على كون جميع أفرادها مقدورة، وحينئذٍ سقوط الأمر بالنسبة إلى بعض الأفراد (وهو الفرد المزاحم في ما نحن انوار الأصول، ج 1، ص: 441

فيه) لا يوجب سقوط الأمر بالطبيعة مطلقاً وإذا كان الأمر بالطبيعة باقياً على حاله أمكن الإتيان بذاك الفرد المزاحم بقصد ذلك الأمر المتعلّق بكلّي الصّلاة.

الوجه الثالث: أنّه يمكن الالتزام بوجود أمر خاصّ بالضدّ المهمّ بنحو الترتّب على عصيان الأمر بالأهمّ ومشروطاً بعدم امتثاله، وحينئذٍ يكون الأمر بالأهمّ مطلقاً، وأمّا الأمر بالمهمّ فهو مشروط بعصيان الأمر بالأهمّ على نحو الشرط المتأخّر، أو مشروط بالبناء على المعصية أو إرادة المعصية على نحو الشرط المتقدّم أو المقارن، وهذا هو المراد من الأمر بالضدّين على نحو الترتّب.

الكلام في الترتّب

هل يجوز الأمر بالضدّين على نحو الترتّب، أو لا؟

توجد جذور هذا البحث في كلمات المحقّق الثاني الكركي رحمه الله وأوضحه وشرحه أخير الشّيخ الكبير كاشف الغطاء قدّس اللَّه سرّه، ثمّ بيّنه المحقّق الميرزا الشيرازي رحمه الله، ونقّحه تلميذه المحقّق الفشاركي رحمه الله، وبالأخرة فصّله المحقّق النائيني رحمه الله ورتّبه وشيّد أركانه بذكر مقامات خمسة على ما سيأتي.

واستدلّ القائلون بالأمر الترتّبي بالضدّين بوجهين. (وهما العمدة في المقام):

الوجه الأوّل: أنّ منشأ الإشكال في الأمر بالضدّين إنّما هو التزاحم الموجود بين المهمّ والأهمّ، ولا إشكال في أنّ التزاحم إنّما يتصوّر فيما إذا كان كلا الأمرين مطلقاً وفي عرض واحد، وأمّا إذا كان أحدهما مطلقاً والآخر مشروطاً بعصيانه فلا مضادّة ولا مطاردة بينهما.

الوجه الثاني: الوجدان،

وأقوى الدليل على إمكان شي ء وقوعه، ولا ريب في أنّ الوجدان حاكم بجواز الأمر الترتّبي ووقوعه في الخارج، من قبيل أمر الوالد ولده بقوله: تعلّم الفقه وإلّا فتعلّم الطبّ، وهكذا في أوامر الموالي العرفيّة لعبيدهم، كأن يقول: «كن في الدار في الساعة الفلانيّة وإن عصيتني وخرجت من الدار فكن على جانبه حتّى لو قصدني عدو بسوء تسمع ندائي» أو يقول المولى: كن عالماً ربّانياً وإلّا فكن متعلّماً على سبيل النجاة.

ولكن اجيب عن الوجه الأوّل: بأنّ التزاحم والمضادّة وإن لم تكن بين الأمرين في مرحلة

انوار الأصول، ج 1، ص: 442

الأمر بالأهمّ، ولكنّها موجودة بينهما في مرحلة الأمر بالمهمّ، بداهة أنّ فعليّة الأمر بالأهمّ باقية على قوّتها ولا تسقط بإرادة العصيان.

إن قلت: الأمر بالأهمّ وإن كان فعليّاً بعد، ولكن لا يمنع عن الأمر بالمهمّ إذا كان ترك الأهمّ ناشئاً عن سوء اختيار المكلّف كما في ما نحن فيه، فهو بسوء اختياره أوجب الجمع بين الأمر بالضدّين.

قلنا: الجمع بين الضدّين محال ولا يمكن صدور الأمر به من جانب المولى الحكيم، ولا فرق فيه بين سوء اختيار المكلّف وحسن اختياره كما لا يخفى.

إن قلت: إنّ المزاحمة والمضادّة موجودة بين الأمرين المتعلّقين بضدّين إذا كانا في عرض واحد لا ما إذا كان أحدهما في طول الآخر، لأنّ الأمر بالمهمّ حينئذٍ يكون متوقّفاً على إرادة عصيان الأمر بالأهمّ.

قلنا: المفروض أنّ كلّ واحد من الأمر بالأهمّ والأمر بالمهمّ فعلي حتّى بعد إرادة عصيان الأهمّ، ومعه كيف ترتفع المضادّة؟ وبعبارة اخرى: المزاحمة والمطاردة وإن لم تكن موجودة في مرتبة المهمّ، بالنسبة إلى الأهمّ ولكنّها موجودة من جانب الأهمّ بالنسبة إلى المهمّ والمزاحمة من جانب واحد أيضاً محال.

واجيب عن الوجه الثاني بتوجيه الأمر بالمهمّ بأمرين:

الأمر

الأوّل: أنّ المولى قطع نظره ورفع يده عن الأمر بالأهمّ بعد عصيان العبد وبدّله بالأمر المهمّ.

الأمر الثاني: أنّ أمر المولى بالمهمّ ليس مولويّاً بل إنّه إرشاد إلى بقاء محبوبيته وملاكه.

ولكن الإنصاف عدم تماميّة الجواب في كلا الوجهين، أمّا الأوّل فلأنّ المستحيل إنّما هو الجمع بين الأهمّ والمهمّ في مقام الامتثال لا في مقام الإنشاء، وفي ما نحن فيه لم يجمع المولى بين طلب الأهمّ وطلب المهمّ في مقام الامتثال.

توضيح ذلك: أنّ للحكم مراتب أربعة:

1- مرتبة المصلحة والاستعداد والاقتضاء.

2- مرحلة الإنشاء من قبيل تصويب القانون في مجالس التقنين في يومنا هذا.

3- مرحلة الفعليّة والابلاغ وهي مرحلة التنجيز أيضاً.

انوار الأصول، ج 1، ص: 443

4- مرحلة الامتثال.

وفي الحقيقة أنّ المرحلة الاولى خارجة عن حقيقة الحكم كالمرحلة الرابعة، فإنّه لا إشكال في أنّ المصلحة من مبادى ء الحكم لا من مراتب نفس الحكم، كما أنّ الامتثال مرحلة متأخّرة عن الحكم، فالمراتب الحقيقية للحكم عبارة عن مرحلة الإنشاء ومرحلة الفعليّة، وعدّ غيرهما من مراتبه إنّما هو من باب التوسعة.

وعلى أيّ حال لا معنى للمضادّة والمطاردة بين الضدّين بالنسبة إلى المرحلة الاولى لأنّه يمكن أن يكون لكلّ من الضدّين مصلحة غير مصلحة الآخر، فكما أنّ انقاذ ابن المولى يكون ذا مصلحة- يكون انقاذ عبده أيضاً ذا مصلحة إلّاأنّ الأولى أهمّ والثانيّة مهمّ، بل أنّه لازم معنى التزاحم بين الأمرين، فلو لم يكن لكلّ منهما مصلحة لم يقع بينهما تزاحم بل أنّ أكثر الامور مشتملة على مصالح متزاحمة، بعضها أهمّ من بعض وكذلك المرحلة الثانيّة أي مرحلة الإنشاء، فإنّ إنشاء الأمر بالأهمّ لا ينافي إنشاء الأمر بالمهمّ مع قطع النظر عن مرحلة الامتثال، وكذلك مرحلة الفعليّة لأنّه ما دام المولى لم يأمر في مرحلة

الإنشاء بالجمع بين الحكمين في آنٍ واحد لم يلزم مضادّة في مرحلة الفعليّة بل الحكم الفعلي بالنسبة إلى الأهمّ إنّما هو فرد خاصّ معيّن لأنّه واجب مضيّق فوري، وبالنسبة إلى المهمّ هو طبيعي الفعل كطبيعي الصّلاة الذي ينحلّ إلى أفراد عديدة بعدد آنات الوقت.

وإن شئت قلت: إنّ الأمر بالواجب الفوري ينحلّ إلى أوامر متعدّدة بتعدّد الآنات، ففي كلّ آن إذا فرض العصيان كان الأمر بالأهمّ ساقطاً وصار المهمّ منجزاً، وهكذا في الآن الثاني والثالث إلى آخر الآنات، وعليه فلا يجتمع في آنٍ من الآنات أمران منجزان بفعلين متضادّين أصلًا.

وبهذا يظهر الحكم بالنسبة إلى المرحلة الرابعة، لأنّ المولى إذا لم يأمر بالجمع بين الفعلين في مرحلة الإنشاء والفعليّة لم يجب على المكلّف إتيانهما في آنٍ واحد في مقام الامتثال فلا مضادّة بينهما في هذه المرحلة أيضاً.

هذا بالنسبة إلى الجواب عن الوجه الأوّل.

وهكذا الجواب عن الوجه الثاني وهو دليل الوجدان، فإنّ مجرّد افتراض كون الأمر بالمهمّ إرشاديّاً في بعض الموارد لا يستلزم الإرشاديّة في سائر الموارد وهكذا رفع اليد عن الأمر

انوار الأصول، ج 1، ص: 444

بالأهمّ في بعض الموارد لا يستلزم رفع اليد عنه في سائر الموارد، فإنّا نجد بوجداننا في كثير من الموارد أنّ المولى يأمر بالمهمّ مولويّاً مع بقاء أمره بالأهمّ على قوّته بتصريحه بذلك، فيقول مثلًا:

«اطعم الفقير بهذا الطعام» ويؤكّد على ذلك بمرّات فإذا شاهد عصيان العبد يقول: «الآن أيضاً.

أقول: اطعم الفقير بهذا الطعام وإن كنت لا تطعمه فكله بنفسك ولا تسرف» أو يأمر الوالد ولده ويقول: «صلّ جماعة ثمّ يقول: صلّ جماعة وإن لم تصلّ جماعة فصلّ فرادى» إلى غير ذلك من الأوامر المتداولة بين الموالي والعبيد أو بين الوالد وولده أو بين الأمير

وعسكره أو بين الرؤساء والمرؤوسين.

نعم هذا كلّه بالنسبة إلى مقام الثبوت (أي بالنسبة إلى عدم المضادّة بين الأمر بالأهمّ والمهمّ في مقام الواقع).

أمّا مقام الإثبات فيمكن أن يقال: إنّ كلّ واحد من الخطابين اللّذين تعلّقا بالأهمّ والمهمّ مطلق، ولا دليل على تقييد الأمر بالمهمّ بعصيان الأهمّ.

ولكن إذا كان إطلاق كلا الخطابين مستلزماً لطلب المحال في مقام الامتثال ولم يكن إشكال في مقام الثبوت في الأمر الترتّبي بحكم العقل يلزم تقييد أحد الخطابين بمقدار يوجب ارتفاع الاستحالة فحسب، فإنّ الضرورات تتقدّر بقدرها، وحينئذٍ نقول: لا معنى لتقييد الأهمّ بترك المهمّ لمكان أهمّيته فيتعيّن تقييد المهمّ بعصيان الأهمّ وهو المطلوب.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني رحمه الله قد فصّل الكلام وأطاله بشرح وبسط، وذكر مقدّمات خمس، وهي كما يلي:

المقدمة الاولى: في بيان أمرين:

أحدهما: أنّ الفعلين المتضادّين إذا كان التكليف بكلّ منهما أو بخصوص أحدهما مشروطاً بعدم الإتيان بمتعلّق الآخر فلا محالة يكون التكليفان المتعلّقان بهما طوليين لا عرضيين، وبعبارة واضحة: لا يلزم من الطلبين كذلك طلب الجمع بين الضدّين.

ثانيهما: أنّه في فرض عدم قدرة المكلّف على امتثال التكليفين الموجب لوقوع التزاحم بينهما وإن كان لا بدّ من رفع اليد عمّا به يرتفع التزاحم لاستحالة التكليف بغير المقدور عقلًا إلّا أنّه لا مناصّ حينئذٍ من الاقتصار على ما يرتفع به التزاحم المزبور: وأمّا الزائد عليه فيستحيل سقوطه فإنّه بلا موجب.

انوار الأصول، ج 1، ص: 445

المقدمة الثانيّة: إنّ شرائط التكليف كلّها ترجع إلى قيود الموضوع، ولا بدّ من أخذها مفروضة الوجود في مقام الجعل والإنشاء، فلا تكون من قبيل العلّة لثبوت الحكم لموضوعه، وحينئذٍ يتّضح فساد القول بإنقلاب الواجب المشروط مطلقاً بعد حصول شرطه في الخارج، ويترتّب عليه فساد توهّم أنّ الالتزام

بالترتّب لا يدفع محذور التزاحم بين الخطابين بتوهّم أنّ الأمر بالمهمّ بعد حصول عصيان الأمر بالأهمّ المفروض كونه شرطاً له يكون في عرض الأمر بالأهمّ، فيقع بينهما التزاحم والمطاردة.

المقدمة الثالثة: إنّ فعلية الخطاب في المضيّقات تكون مساوقة لوجود آخر جزء من موضوعه وشرطه، ولا يكون بينهما تقدّم وتأخّر زماناً، فإنّ نسبة الحكم إلى موضوعه وإن لم تكن نسبة المعلول إلى علّته التكوينيّة إلّاأنّها نظيرها، فتخلّف الحكم عنه ولو لآنٍ مّا من الزمان يرجع إلى الخلف والمناقضة، ومن ذلك يعلم أنّ تأخّر الامتثال عن الخطاب أيضاً رتبي لا زماني، فإنّ نسبة الامتثال إلى الخطاب كنسبة المعلول إلى العلّة أيضاً، وأوّل زمان الخطاب هو أوّل زمان الامتثال.

المقدمة الرابعة: أنّ انحفاظ الخطاب في تقدير مّا إنّما يكون بأحد وجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: أن يكون مشروطاً بوجود ذلك التقدير، أو يكون مطلقاً بالإضافة إليه، وهذا إنّما يكون في موارد الانقسامات السابقة على الخطاب، فالإطلاق كالتقييد حينئذٍ يكون لحاظياً.

الوجه الثاني: أن يكون الخطاب بالإضافة إلى ذلك التقدير مطلقاً بنتيجة الإطلاق أو يكون مقيّداً به بنتيجة التقييد، وهذا إنّما يكون في الانقسامات المتأخّرة عن الخطاب اللّاحقة له.

الوجه الثالث: أن يكون الخطاب بنفسه مقتضياً لوضع ذلك التقدير أو لرفعه محفوظاً في الصورتين لا محالة، وهذا القسم مختصّ بباب الطاعة والعصيان.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ خطاب الأهمّ في ظرف عصيانه يكون انحفاظه من القسم الثالث، أي يكون انحفاظه من قبيل انحفاظ المؤثّر في ظرف تأثيره، والعلّة في ظرف وجود معلوله، والمقتضي في ظرف وجود ما يقتضيه، فخطاب الأهمّ يقتضي إيجاد متعلّقه وامتثاله واطاعته وهدم عصيانه الذي هو من أجزاء موضوع المهمّ، فخطاب الأهمّ دائماً يطرد ويهدم ما

انوار الأصول، ج 1، ص: 446

هو من أجزاء موضوع

المهمّ، أي عصيان الأهمّ، وأمّا خطاب المهمّ فلا تعرّض له لا لعصيان الأهمّ ولا لعدمه لأنّه موضوع له والحكم لا يستدعي وجود موضوعه.

وبهذه المقدّمة يثبت أوّلًا: طوليّة الأمرين، لأنّ أمر الأهمّ مقدّم على عصيانه الذي هو من جزاء موضوع المهمّ، فأمر الأهمّ مقدّم على أمر المهمّ برتبتين.

وثانياً: عدم مزاحمة أحدهما للآخر إذا كانا بهذا الشكل.

وثالثاً استحالة أن يكون مقتضى هذين الخطابين الجمع بين متعلّقيهما لأنّ مقتضى أحدهما رفع الآخر وهدمه.

المقدمة الخامسة: إنّ محذور طلب الجمع بين الضدّين إنّما يترتّب على إطلاق الخطابين دون فعليتهما. (انتهى) «1».

أقول: المهمّ من هذه المقدّمات في نظره الشريف هو المقدّمة الرابعة، مع أنّ الحقّ إنّما هو المقدّمة الاولى، وهي تتضمّن نكتتين:

النكتة الاولى: إنّ الأمر بالضدّين إنّما يستلزم طلب الجمع بينهما فيما إذا كانا عرضيين لا ما إذا كانا طوليين على نحو الترتّب، بل على فرض المحال لو أتى المكلّف بهما بعنوان المطلوبيّة وجمع بينهما في عرض واحد كان ذلك تشريعاً محرّماً.

النكتة الثانيّة: ما مرّ آنفاً من أنّه عند التزاحم لا بدّ من رفع اليد بمقدار يرتفع به التزاحم لا أزيد.

ولا إشكال في أنّ الأولى نكتة ثبوتيّة والثانيّة إثباتيّة.

وعلى أيّ حال إنّه استنتج منهما بعد ضمّ سائر المقدّمات جواز الأمر الترتّبي، وادّعى بعد ذلك وقوع موارد كثيرة من الأمر الترتّبي في لسان الشرع، وإنّ إنكار الترتّب في الاصول يوجب إنكار الضروريات في الفقه:

منها: ما إذا حرمت الإقامة على المسافر في مكان مخصوص، فإنّه مع كونه مكلّفاً فعلًا بترك الإقامة وهدم موضوع وجوب الصّوم مكلّف بالصوم قطعاً على تقدير عصيانه لهذا الخطاب وقصده الإقامة، ولا يمكن لأحدٍ الالتزام بعدم وجوب الصّوم عليه على تقدير قصده الإقامة

انوار الأصول، ج 1، ص: 447

عصياناً وليس ذلك

إلّاللترتّب.

ومنها: ما لو فرض وجوب الإقامة على المسافر من أوّل الزوال فيكون وجوب القصر عليه مترتّباً على عصيان وجوب الإقامة، حيث إنّه لو عصى ولم يقصد الإقامة توجّه خطاب القصر، وكذا لو فرض حرمة الإقامة فإنّ وجوب التمام يكون مترتّباً على عصيان حرمة الإقامة.

ومنها: وجوب الخمس المترتّب على عصيان خطاب أداء الدَين إذا لم يكن الدَين من عام الربح، وأمّا إذا كان من عام الربح فيكون خطاب أداء الدَين بنفس وجوده رافعاً لخطاب الخمس لا بامتثاله «1».

قلت: أنّ ما ذكره في ذيل كلامه من الموارد الفقهيّة يعدّ في الحقيقة دليلًا ثالثاً في المسألة، ونسمّيه الدليل الفقهي في مقابل الدليل الأوّل الذي كان عقليّاً، والدليل الثاني الذي كان وجدانياً، ولكن الإنصاف أنّه غير تامّ بل لا يناسب تفطّن المحقّق النائيني رحمه الله ودقّته في المسائل، والعجب من المحاضرات حيث إنّه نقل هذا الدليل من استاذه ولم يرد عليه شيئاً مع أنّ إشكاله ظاهر، وهو أنّ جميع هذه الموارد خارجة عن مسألة الترتّب بل إنّها من قبيل تبدّل الموضوع، فإنّ وجوب القصر على المسافر في صورة عدم قصده الإقامة في المورد الثاني يكون من باب بقاء موضوع المسافر على حاله ومن باب صدق عنوان المسافر عليه، ووجوب الصّيام عليه في صورة قصده الإقامة مع حرمته عليه في المورد الأوّل يكون أيضاً من باب تبدّل موضوع المسافر إلى الحاضر، وهكذا في المورد الثالث لأنّه لعصيانه وعدم أدائه الدَين بربحه يصير مشمولًا لآية الغنيمة (إذا كان الدَين من السنين السابقة) ويتحقّق موضوع الغنيمة والفائدة، فيجب عليه التخميس، وهذا بخلاف وجوب الصّلاة في صورة عدم الإزالة لأنّه بعصيانه وجوب الإزالة لم يتغيّر موضوع الإزالة إلى موضوع آخر بل أنّها باقية

على وجوبها وإنّما هي مزاحمة للصّلاة فقط لا أكثر، فقياس ما نحن فيه بتلك الموارد مع الفارق ولا ربط بين المسألتين.

كلام التهذيب في الترتّب

ثمّ إنّه ذهب في تهذيب الاصول إلى ما هو أوسع ممّا ذكره القوم وادّعى جواز الأمر بالأهمّ انوار الأصول، ج 1، ص: 448

والمهمّ في عرض واحد بلا تقييد واحد منهما بالعصيان (كما عليه القوم في تصوير الأمر بالمهمّ وقد مرّ منّا أيضاً حيث قلنا أنّ الأمر بالمهمّ مترتّب على عصيان أمر الأهمّ) ثمّ ذكر لتصوير ذلك مقدّمات سبعة والمهمّ منها الثلاثة الأخيرة، كما أنّ أهمّ الثلاثة هو المقدّمة الخامسة، وإليك نصّ كلامه بتلخيص منّا: «إنّ توضيح المختار يستدعي رسم مقدّمات:

الاولى: التحقيق كما سيأتي أنّ الأوامر متعلّقة بالطبائع لأنّ الغرض قائم بنفس الطبيعة بأي خصوصيّة تشخّصت، وفي ضمن أي فرد تحقّقت فلا معنى لادخال أيّة خصوصيّة تحت الأمر بعد عدم دخالتها في الغرض.

الثانيّة: إنّ الإطلاق بعد فرض تماميّة مقدّماته ليس معناه إلّاكون الطبيعة تمام الموضوع للحكم بلا دخالة شي ء آخر، أو ليس إلّاأنّ ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع له، هذا ليشمل ما إذا كان الموضوع جزئيّاً، وأمّا جعل الطبيعة مرآتاً لمصاديقها أو جعل الموضوع مرآتاً لحالاته فخارج من معنى الإطلاق وداخل تحت العموم أفراديّاً أو أحوالياً.

الثالثة: إنّك قد عرفت أنّ الأوامر المتعلّقة بالطبائع لا تعرض لها على أحوال الطبيعة وأفرادها، ومنه يظهر أنّ التزاحمات الواقعة في الخارج بين أفراد الطبائع بالعرض غير ملحوظة في تلك الأدلّة، لأنّ الحكم مجعول على العناوين الكلّية، وهو مقدّم على التزاحم الواقع بين الأفراد برتبتين: رتبة تعلّق الحكم بالعناوين، ورتبة فرض ابتلاء المكلّف بالواقعة، وما له هذا الشأن من التقدّم لا يتعرّض لحال ما يتأخّر عنه برتبتين، والحاصل أنّ

التزاحم بين وجوب إزالة النجاسة عن المسجد ووجوب الصّلاة حيث يتحقّق- متأخّر عن تعلّق الحكم بموضوعاتها وعن ابتلاء المكلّف بالواقعة المتزاحم فيها ولا تكون الأدلّة متعرّضة لحاله فضلًا عن التعرّض لعلاجه إذ قد تقدّم أنّ المطلق لا يكون ناظراً إلى حالات الموضوع في نفسه فضلًا عن حالاته مع غيره، وعن طروّ المزاحمة بينهما فضلًا عن أن يكون ناظراً إلى علاج المزاحمة، فاتّضح بطلان اشتراط المهمّ بعصيان الأهمّ الذي يتبنّى عليه أساس الترتّب.

الرابعة: إنّك إذا تتبّعت كلمات الأعلام في تقسيم الحكم إلى مراتبه الأربعة تجد فيها ما لا يمكن الموافقة معه بل الأحكام منقسمة إلى حكم إنشائي وهو ما لم ير الحاكم صلاحاً في إجرائه وإن كان نفس الحكم ذو صلاح، أو يرى صلاحاً في إجرائه ولكن أنشي ء بصورة العموم والإطلاق ليلحق به خصوصه وقيده، وإلى حكم فعلي قد بيّن وأُوضح بخصوصه وقيوده وآن انوار الأصول، ج 1، ص: 449

وقت إجرائه وإنفاذه، وعليه إذا فرضنا حصول عائق عن وصول الحكم إلى المكلّف وإن كان قاصراً عن إزاحة علّته، أو عروض مانع كالعجز والاضطرار عن القيام بمقتضى التكليف لا يوجب ذلك سقوط الحكم عن فعليته، والسرّ في ذلك أنّ غاية ما يحكم به العقل هو أنّ المكلّف إذا طرأ عليه العذر أو دام عذره وجهله أن لا يكون مستحقّاً للعقاب لا أن يكون الحكم إنشائيّاً.

الخامسة: كلّ حكم كلّي قانوني فهو خطاب واحد متعلّق لعامّة المكلّفين بلا تعدّد ولا تكثر في ناحية الخطاب بل التعدّد والكثرة في ناحية المتعلّق، ويشهد عليه وجدان الشخص في خطاباته، فإنّ الشخص إذا دعا قومه لانجاز عمل أو رفع بليّة فهو بخطاب واحد يدعو الجميع إلى ما رامه لا أنّه يدعو كلّ واحد بخطاب

مستقلّ ولو انحلالًا للغويّة ذلك بعد كفاية الخطاب الواحد بلا تشبّث بالانحلال ... وملاك الانحلال في الإخبار والإنشاء واحد، فلو قلنا بالانحلال في الثاني لزم القول به في الأوّل أيضاً مع أنّهم لا يلتزمون به، وإلّا يلزم أن يكون الخبر الواحد الكاذب أكاذيب في متن الواقع ... وأمّا الميزان في صحّة الخطاب الكلّي فهو إمكان انبعاث عدّة من المخاطبين بهذا الخطاب لا انبعاث كلّ واحد منهم ... والضرورة قائمة بأنّ الأوامر الإلهيّة شاملة للعصاة لا بعنوانهم، والمحقّقون على أنّها شاملة أيضاً للكفّار مع أنّ الخطاب الخصوصي إلى الكفّار وكذا إلى العصاة المعلوم طغيانهم من أقبح المستهجنات بل غير ممكن لغرض الانبعاث ... والإرادة التشريعيّة ليست إرادة متعلّقة بإتيان المكلّف وانبعاثه نحو العمل وإلّا يلزم في الإرادة الإلهيّة عدم تفكيكها عنه وعدم إمكان العصيان، بل هي عبارة عن إرادة التقنين والجعل على نحو العموم، وفي مثله يراعى الصحّة العقلائيّة، ومعلوم أنّه لا تتوقّف عندهم على صحّة الانبعاث من كلّ أحد كما يظهر بالتأمّل في القوانين العرفيّة.

السادسة: إنّ الأحكام الشرعيّة غير مقيّدة بالقدره لا شرعاً ولا عقلًا وإن كان حكم العقل بالاطاعة والعصيان في صورة القدرة ... لأنّه لو كانت مقيّدة بها من الشرع لزم القول بجريان البراءة عند الشكّ في القدرة، وهم لا يلتزمون به بل قائلون بالاحتياط مع الشكّ فيها، وأمّا تقييد العقل مستقلًا فلأنّ تصرّف العقل بالتقييد في حكم الغير وإرادته مع كون المشرّع غيره باطل، إذ لا معنى أن يتصرّف شخص في حكم غيره.

السابعة: إنّ الأمر بكلّ من الضدّين أمر بالمقدور الممكن، والذي يكون غير مقدور هو جمع انوار الأصول، ج 1، ص: 450

المكلّف بين متعلّقيهما في الإتيان وهو غير متعلّق للتكليف.

وقد نبّهنا فلا

تنسى أنّ توارد الأمرين على موضوعين متضادّين مع أنّ الوقت الواحد غير وافٍ إلّابواحد منهما إنّما يقبح لو كان الخطابان شخصيين، وأمّا الخطاب القانوني الذي يختلف فيه حالات الأشخاص فربّ مكلّف لا يصادف أوّل الزوال إلّاموضوعاً واحداً، وهو الصّلاة، وربّما يصادف موضوعين فيصحّ توارد الأمرين على عامّة المكلّفين ومنهم الشخص الواقف أمام المتزاحمين ولا يستهجن.

إذا عرفت هذه المقدّمات:

فنقول: إنّ متعلّقي التكليفين قد يكونان متساويين في الجهة والمصلحة وقد يكون أحدهما أهمّ، فعلى الأوّل لا إشكال في حكم العقل بالتخيير ... وأمّا إذا كان أحدهما أهمّ فإن اشتغل بإتيان الأهمّ فهو معذور في ترك المهمّ لعدم القدرة عليه مع اشتغاله بضدّه بحكم العقل، وإن اشتغل بالمهمّ فقد أتى بالمأمور به الفعلي لكن لا يكون معذوراً في ترك الأهمّ، فيثاب بإتيان المهمّ ويعاقب بترك الأهمّ.

فظهر ممّا قدّمنا أمران:

الأوّل: أنّ الأهمّ والمهم نظير المتساويين في أنّ كلّ واحد مأمور به في عرض الآخر، وهذان الأمران العرضيان فعليّان متعلّقان على عنوانين كلّيين من غير تعرّض لهما لحال التزاحم وعجز المكلّف، إذ المطاردة التي تحصل في مقام الإتيان لا توجب تقييد الأمرين أو أحدهما أو اشتراطهما أو اشتراط أحدهما بحال عصيان الآخر لا شرعاً ولا عقلًا.

والثاني: إنّ الأمر بالشي ء لا يقتضي عدم الأمر بضدّه في التكاليف القانونيّة كما في ما نحن فيه» «1».

نقد كلام التهذيب:

أقول: في كلامه رحمه الله مواقع للنظر:

الموقع الأوّل: فيما أفاده في المقدّمة الخامسة من عدم انحلال الأحكام القانونيّة، فإنّه أوّلًا: لا إشكال في أنّ الحكم لا يتعلّق بالعنوان بما أنّه موجود في الذهن بل يتعلّق به بما أنّه عبرة إلى انوار الأصول، ج 1، ص: 451

الخارج، فوجوب الحجّ في قوله تعالى: «للَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ

إِلَيْهِ سَبِيلًا» تعلّق بعنوان المستطيع لا بما أنّه عنوان كلّي موجود في الذهن بل تعلّق به بما أنّه مشير إلى ما في الخارج، وحينئذٍ يكون المتعلّق حقيقة هو الأفراد، ولا معنى للانحلال إلّاهذا، وبه يندفع ما استدلّ به في هذه المقدّمة من «لغويّة دعوة كلّ واحد بخطاب مستقلّ بعد كفاية خطاب واحد» وذلك لأنّه لا لغويّة في البين إذا كان مراد الشارع هو الأفراد لأنّه لا طريق حينئذٍ لتوجيه الخطاب إليهم إلّابتوجيهه إلى عنوان كلّي مشيراً إليهم على نحو الانحلال.

وهكذا يندفع ما استدلّ به ثانياً من «لزوم أكاذيب من الخبر الواحد الكاذب» وذلك لأنّ الصدق أو الكذب من صفات ظاهر الكلام، وهو في وحدته أو تعدّده تابع لوحدة الكلام وتعدّده، ولا إشكال في أنّ الكلام في المقام واحد والانحلال من صفات واقع الكلام، وخطاب الشارع في نفس الأمر ينحلّ إلى أحكام متعدّدة لا إلى خطابات عديدة مستقلّة.

وأمّا قضيّة الاستهجان ففيها: أنّ إتمام الحجّة على جميع العباد يقتضي شمول الحكم وتعميمه لجميع المكلّفين في مرحلة الإنشاء، كما أنّه في مرحلة الابلاغ والفعليّة أيضاً يعمّ جميع المكلّفين لاتمام الحجّة ولأن يهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة.

وثانياً: لازم عدم الانحلال هو التفصيل في الأحكام الكلّية القانونيّة بين العمومات والمطلقات، لأنّه لا إشكال في انحلال الخطابات التي صدرت بنحو العموم الإفرادي إلى أحكام عديدة بعدد الأفراد كما اعترف نفسه به، ولا وجه لهذا التفصيل لوضوح أنّ الأحكام لا تختلف بسبب كون الدالّ عليه مطلقاً أو عامّاً، فلا فرق بين المطلق والعام الافرادي من حيث الانحلال، نعم الفرق بينهما أنّه في العام الافرادي يكون ذلك بالدلالة المطابقية، وفي المطلق بالدلالة الالتزاميّة.

ثالثاً: لو لم يصحّ الانحلال فما

هو الفارق بين العامّ المجموعي والعام الافرادي، فإنّه لا فرق بينهما إلّابالانحلال إلى أحكام متعدّدة في الافرادي دون العام المجموعي فإنّه حكم واحد على موضوع واحد.

ورابعاً: لازم عدم الانحلال عدم إمكان قصد الأمر للمكلّف، لأنّه حينئذٍ لم يتعلّق الأمر بشخص المكلّف، مع أنّه لا كلام ولا إشكال في إمكان قصد الأمر لكلّ مكلّف، ولازمه أن يكون المتعلّق اشخاص المكلّفين في الواقع، ولكن بإندراجهم في عنوان واحد، بإنشاء واحد

انوار الأصول، ج 1، ص: 452

وبخطاب واحد، وهذا نظير ما إذا قال البائع: «بعت هذه المائة» الذي لا إشكال في انحلاله إلى مائة تمليك، ولذلك لو كان بعضها ملكاً لغير البائع صار البيع باطلًا أو فضولياً بالنسبة إليه مع بقائه على صحّته بالإضافة إلى غيره، وليس هذا إلّامن باب تعدّد المنشأ وإن كان الخطاب والإنشاء واحداً.

الموقع الثاني: فيما أفاده في المقدّمة الرابعة بالإضافة إلى مرتبة الإنشاء والفعليّة من الحكم، فإنّه لا إشكال في أنّ الفارق بين الإنشاء والفعليّة إنّما هو وجود البعث أو الزجر في مرحلة الفعليّة وعدم وجودهما في مرحلة الإنشاء، فشمول مرحلة الفعليّة للجاهل والعاجز لازمه توجّه البعث أو الزجر إليهما مع أنّ من شرائط البعث أو الزجر الانبعاث أو الانزجار، ولا إشكال في عدم انبعاثهما وعدم انزجارهما، ولذلك في مقام الجمع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري نقول: إذا كان الحكم الواقعي مخالفاً للظاهري صار إنشائيّاً لأنّه حينئذٍ يكون مجهولًا للمكلّف، والجاهل لا يمكن بعثه أو زجره، فلا يمكن أن يكون الحكم المجهول فعليّاً بالنسبة إليه.

الموقع الثالث: فيما أفاده في المقدّمة السادسه من «أنّ الأحكام الشرعيّة غير مقيّدة بالقدرة لا شرعاً ولا عقلًا وإنّما يكون العاجز معذوراً بحكم العقل» فإنّه كيف يمكن للحكيم أن يوجّه حكمه إلى

العاجز على نحو الإطلاق مع إلتفاته بعجزه؟ أليس هذا تكليفاً بما لا يطاق ومخالفاً لما ورد من الآيات والرّوايات في هذا المقام كقوله تعالى: «لَايُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا» وكقول الصادق عليه السلام: «اللَّه أكرم من أن يكلّف ما لا يطيقون، واللَّه أعزّ أن يكون في سلطانه ما لا يريد» «1»

؟ وبالجملة إنّ القدرة من الشرائط العامّة للتكليف ويدلّ عليه:

أوّلًا: إنّ الإطلاق وعدم التقييد بالقدرة من جانب الحكيم قبيح عقلًا فإنّ الإطلاق وإن لم يكن بمعنى جمع القيود، ولكن تعلّق الحكم بطبيعة المتعلّق وتوجّه البعث إليها بحيث تكون هي تمام المطلوب للمولى الحكيم من دون ملاحظة القدرة والعجز قبيح عليه، وبعبارة اخرى: لا إهمال في مقام الثبوت، فإمّا أنّ المولى لاحظ القدرة ثبوتاً أو لم يلاحظ، لا إشكال في ملاحظته إيّاها ولكن ترك ذكرها في الخطاب من باب الوضوح وعدم الحاجة إلى البيان عقلًا.

انوار الأصول، ج 1، ص: 453

وثانياً: الآيات والرّوايات الواردة في هذا المجال، فمن الآيات مضافاً إلى ما مرّ آنفاً قوله تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ» وقوله: «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ» وقوله: «فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً»، ومن الرّوايات أيضاً مضافاً إلى ما مرّ آنفاً ما روي عن النبي صلى الله عليه و آله: «إذا أمرتكم بشي ء فأتوا منه ما استطعتم». هذا بالنسبة إلى الحكم الفعلي، وأمّا بالنسبة إلى الحكم الإنشائي فيمكن أن يقال بعدم كونه مقيّداً بالقدرة، وكذا الكلام بالنسبة إلى العلم فإنّه من شرائط الوجوب بالنسبة إلى مقام الفعليّة وإن كان الحكم الإنشائي مطلقاً من هذه الجهة شاملًا للعالم والجاهل، فراجع ما ذكروه في باب الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري تجده شاهداً على هذا المعنى.

الموقع الرابع: في

استشهاده لعدم أخذ القدرة قيداً في الحكم بجريان البراءة عند الشكّ فيها- فإنّه قد اجيب عنه في محلّه من أنّه وإن كانت القاعدة عند الشكّ في التكليف البراءة، ولكن العقلاء يجرون الاحتياط في خصوص الشكّ في القدرة من دون لزوم قبح العقاب بلا بيان، لأنّ جريان البراءة في موارد الشكّ في القدرة يستلزم تعطيل أغراض المولى وعدم الحصول عليها في كثير من الموارد، ومن هذا الباب الاحتياط ولزوم الفحص لتشخيص النصاب وحصول الاستطاعة وموضوع الخمس، وبالجملة إنّ بناء العقلاء مبنيّ على جريان الاحتياط عند الشكّ في القدرة، نظير جريانه في الشبهات قبل الفحص، فوجوب الاحتياط في هذه الموارد مستند إلى قاعدة عقلائيّة لا إلى عدم أخذ القدرة في المأمور به.

الموقع الخامس: فيما أفاده في المقدّمة السابعة من «أنّ المحال هو طلب الجمع بين الضدّين لا الأمر بالضدّين» ففيه: إذا كان الأمر أنّ المتعلّقان بالضدّين مطلقين ولم يكن أحدهما مشروطاً بترك الآخر كان لازمه طلب الجمع كما إذا قال المولى لعبده: «انقذ هذا وانقذ هذا» لأنّ المفروض أنّ لكلّ واحد منهما بعثاً يخصّه، والجمع بين البعثين في آنٍ واحد محال.

الموقع السادس: فيما أفاده في آخر كلامه من «حكم العقل بالتخيير في صورة تساوي متعلّقي التكليفين في المصلحة، وأمّا إذا كان أحدهما أهمّ فإن اشتغل بإتيان الأهمّ فهو معذور في ترك المهمّ وإن اشتغل بالمهمّ فقد أتى بالمأمور به الفعلي لكن لا يكون معذوراً في ترك الأهمّ» فهو حقّ ولكن لا يكون الترتّب إلّاهذا، فإنّ عدم عقابه بترك المهمّ عند الاشتغال بالأهمّ مع عقابه في صورة العكس يكون من آثار الترتّب، بل عند التحليل لا يكون إلّاالأمر بشيئين على سبيل الترتّب.

انوار الأصول، ج 1، ص: 454

وإن شئت قلت:

كيف يكون الأمر بالمهمّ فعليّاً مع أنّه معذور في تركه عند الاشتغال بالأهمّ؟ أليس هذا معنى كونه إنشائيّاً كما هو المختار؟ وهل يمكن البعث الفعلي نحو المهمّ مع وجود البعث الفعلي نحو الأهمّ مع عجز المكلّف عن الإتيان بهما؟ وتسميته بعثاً فعليّاً بالنسبة إلى العاجز لكون الخطاب شاملًا للقادر أيضاً من قبيل التلاعب بالألفاظ.

الموقع السابع: أنّ ما أفاده بعد هذا الكلام الطويل لا يتفاوت في النتيجة مع مقالة المشهور في الترتّب، وحاصله كونه مطيعاً غير عاصٍ عند الإتيان بالأهمّ مع كونه مطيعاً عاصياً عند الإتيان بالمهمّ، هذا مع إمكان قصد الأمر عند الإتيان بالمهمّ وصحّته إذا كان عبادة، والباقي مناقشات لفظيّة، اللهمّ إلّاأن يكون مراده أنّ هذا حكم العقل بينما مقالة المشهور بحسب مقام الإثبات ناظر إلى حكم الشرع، والإنصاف أنّه أيضاً قليل الجدوى مع قبول الملازمة بين الحكمين.

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: قد أشرنا سابقاً أنّ ما ذكرنا إلى هنا بالنسبة إلى جواز الترتّب إنّما هو بحسب مقام الثبوت، وأمّا مقام الإثبات فهل يوجد دليل على وقوع الترتّب في الشرع أم لا؟- الجواب عنه كما عرفت أنّه لا حاجة إلى دليل في مقام الإثبات بل يكفي إمكانه العقلي ثبوتاً لإثبات وقوعه إثباتاً، لأنّه إذا كان للشارع أمران مطلقان أحدهما بالإزالة مثلًا، والآخر بالصّلاة- لا إشكال في أنّ لازم بقائهما على إطلاقهما في صورة التزاحم طلب المحال، فلابدّ من تقييد أحدهما لرفع هذا المحذور، وحيث إنّ المفروض أنّ أحدهما أهمّ من الآخر لفوريته فلا يمكن تقييده، فيتعيّن تقييد المهمّ وهو الصّلاة في المثال بعصيان الأهمّ، ونتيجته بقاء الأهمّ على إطلاقه وتقييد المهمّ بعصيان الأهمّ، ولا دليل على رفع اليد من الدليلين بأكثر من هذا المقدار، لأنّ

الضرورات تتقدّر بقدرها، وليس المقصود من الترتّب إلّاهذا، فظهر من هذا البيان أنّ اللابدّية العقليّة كافية لإثبات الترتّب في مقام الإثبات أيضاً.

الأمر الثاني: قد مرّ في مقام نقل كلام تهذيب الاصول ونقده اعتبار القدرة في صحّة التكليف عقلًا وشرعاً من طريقين:

انوار الأصول، ج 1، ص: 455

أحدهما: من طريق حكمة الباري وقبح توجّه الخطاب من جانب الحكيم إلى العاجز.

وثانيهما: من طريق الآيات والرّوايات الدالّة على أنّ اللَّه تعالى لا يكلّف نفساً بغير المقدور، وبالجملة إنّ القدرة قيد للتكليف الفعلي في جميع الموارد عقلًا وشرعاً.

ولكن بعض الأعاظم فصّل بين الموارد وقسّمها إلى قسمين: قسم تعتبر القدرة فيه بحكم العقل فيدخل في بحث الترتّب، وقسم تعتبر القدرة فيه بحكم الشرع فلا يدخل في بحث الترتّب.

الأمر الثالث: كان البحث إلى هنا في الترتّب بين الواجبين، ولكن هل يمكن الترتّب في اجزاء واجب واحد إذا كان أحد الأجزاء أهمّ من الجزء الآخر، أم لا؟ فإذا كان المكلّف قادراً بإتيان أحد الجزئين كالركوع والسجود، وكان أحدهما أهمّ من الآخر فلو ترك الأهمّ وأتى بالمهمّ فهل يقع الواجب صحيحاً من باب الأمر الترتّبي أو لا؟ فقد حكي عن جماعة من المحقّقين القول بكونه داخلًا في باب الترتّب مع أنّ الإنصاف عدم جريانه في اجزاء الواجب، لأنّ أجزاء الواجب تدريجية الوجود فهو مأمور بالقيام مثلًا في هذا الآن وليس مأموراً بالجلوس، فإذا جلس بطلت الصّلاة.

وبعبارة اخرى: إذا كانت الأجزاء تدريجية الوجود كانت باعثية الأمر إليها أيضاً تدريجية، فالمكلّف في هذا الآن مبعوث إلى الجزء المتقدّم وليس مبعوثاً إلى الجزء المتأخّر حتّى كان حفظ القدرة لإتيانه واجباً عليه ولو كان أهمّ من الجزء المتقدّم.

الأمر الرابع: ما مرّ بناءً على جواز الترتّب من أنّ وجوب المهمّ

مشروط بعصيان الأهمّ هل هو على نحو الشرط المتقدّم أو المقارن أو المتأخّر؟

لا إشكال في عدم كونه على نحو الشرط المتقدّم، لأنّ معناه أنّ عصيان الأهمّ في الزمان الخاصّ به شرط الإتيان بالمهمّ في الزمان الخاصّ به، أي «إن عصيت الأمر بالأهمّ ومضى زمانه إئت بالمهمّ»، ومن الواضح أنّه حينئذ خارج عن محلّ البحث لأنّ محلّ البحث في الترتّب إنّما هو الأمر بالضدّين في زمان واحد على نحو ترتّب أحدهما على الآخر رتبة، بينما هنا يكون الأمر بالضدّين في زمانين مختلفين، وأمّا الشرط المقارن فلا بأس به، لأنّ معناه أنّ الأمر بالمهمّ مقارن زماناً مع عصيان الأهمّ وأنّ يتوجه إلى المكلّف في نفس لحظة عصيان الأهمّ، وكذلك الشرط المتأخّر لأنّه معناه توجه الأمر بالمهمّ إلى المكلّف حينما قصد عصيان الأهمّ.

انوار الأصول، ج 1، ص: 456

ويمكن أن يقال: إنّ الشرط هنا مقارن لو كان الأمر بالمهم مشروطاً بإرادة عصيان الأهمّ، ومتأخّر لو كان مشروطاً بنفس عصيان الأهمّ في الخارج.

الأمر الخامس: ممّا أُورد على القول بجواز الترتّب ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله بقوله: «ثمّ إنّه لا أظنّ أن يلتزم القائل بالترتّب بما هو لازمه من الاستحقاق في صورة مخالفة الأمرين لعقوبتين ضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر عليه العبد، ولذا كان سيّدنا الاستاذ رحمه الله لا يلتزم به على ما ببالي وكنّا نورد به على الترتّب».

وتوضيح ما أفاده: أنّه بناءً على جواز الترتّب لا إشكال في تعدّد الأمر، واقتضاء كلّ واحد منهما عقاباً على تركه على تقدير تركهما فيتعدّد العقاب، مع أنّ لازمه هو العقاب على أمر غير مقدور لأنّ المفروض أنّ المكلّف كان قادراً على الإتيان بأحد الضدّين فقط.

وقال في المحاضرات ما حاصله: أنّا نلتزم

بتعدّد العقاب بل لا مناصّ منه لأنّ المستحيل إنّما هو كون العقاب على ترك الجمع بين الواجبين (الأهمّ والمهم) لا كونه على الجمع في الترك، بمعنى أنّه يعاقب على ترك كلّ منهما في حال ترك الآخر، والجمع بين تركي الأهمّ والمهمّ خارجاً مقدور للمكلّف فلا يكون العقاب عليه عقاباً على غير مقدور «1».

أقول: إنّ ما ذكره أشبه شي ء بالسفسطة، لأنّ المفروض جواز الترتّب في مثل إنقاذ الغريق الذي لا يكون قادراً على الجمع بين الضدّين حتّى على نحو الترتّب بل يكون قادراً على أحدهما فقط مطلقاً، فيكون العقاب على كليهما عقاباً على أمر غير مقدور، فليكن العقاب واحداً.

إن قلت: كيف يكون العقاب واحداً مع أنّ الأمر متعدّد؟

قلنا: إنّ الأمر متعدّد ولكن على نحو الترتّب فيكون المطلوب على كلّ تقدير شي ء واحد، فيكون العقاب واحداً ولكنّه يعاقب بمقدار العقاب المترتّب على ترك الأهمّ بناءً على ترك كليهما، وبمقدار ما به التفاوت بين عقاب الأهمّ وعقاب المهمّ بناءً على ترك الأهمّ وإتيان المهمّ.

وإن شئت قلت: المولى لا يريد كليهما معاً، فكيف يعاقب على تركهما معاً؟ والظاهر أنّ منشأ الاشتباه هو عدم التوجّه إلى الفرق بين الأوامر المطلقة والمترتّبة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 457

الأمر السادس: قد يقال بإمكان حلّ مسألة اجتماع الأمر والنهي من ناحية الترتّب لأنّها في مثال إتيان الصّلاة في الدار المغصوبة مثلًا ترجع في الحقيقة إلى أن يقول المولى لعبده: «لا تغصب وإن غصبت فلا أقلّ صلّ» ولكن الصحيح أنّه لا ربط بين المسألتين، لأنّ مسألة الترتّب تجري في الضدّين اللّذين هما شيئان وجوديان لا يجتمعان في الوجود، بخلاف مسألة اجتماع الأمر والنهي التي يكون المتعلّق فيها شي ء واحد وإن كان مجمعاً لعنوانين، فإنّ تعدّد العنوان

لا يوجب تعدّد المعنون على القول بالامتناع مع قطع النظر عن الترتّب كما هو المفروض.

الأمر السابع: في ثمرة البحث عن الترتّب.

إنّ ثمرة البحث تصحيح العمل إذا كان من العبادات من طريق قصد الأمر، فإنّ لازم جواز الترتّب كون الصّلاة مثلًا في المثال المعروف مأموراً بها فيمكن إتيانها بقصد هذا الأمر.

نعم هيهنا طريقان آخران لتصحيح العمل أيضاً:

أحدهما: قصد الملاك والمحبوبيّة.

والثاني: قصد الأمر المتعلّق بكلّي الصّلاة بلحاظ تعلّقه بسائر الأفراد غير هذا الفرد المزاحم.

إن قلت: إنّ متعلّق الأمر وإن كان هو طبيعة الصّلاة وماهيتها، ولكن لا إشكال في أنّها قنطرة إلى أفرادها في الخارج وعنوان مشير إليها، فكأنّ الأمر تعلّق بالافراد من أوّل الأمر، وحينئذٍ كيف يمكن تصحيح هذا الفرد بقصد الأمر المتعلّق بذاك الفرد مع أنّهما فردان مختلفان؟

قلنا: المفروض أنّه لا فرق بين الفردين إذا كانا فردين لماهية واحدة، إنّما الفرق في وقوع المزاحمة لأحدهما دون الآخر.

وهنا ثمرات اخرى لجواز الترتّب:

منها: في ما إذا أتى بالصّلاة إخفاتاً بدل إتيانها جهراً وبالعكس، أو أتى بالصّلاة قصراً بدل إتيانها تماماً وبالعكس، فقد ذهب المشهور إلى صحّة الصّلاة إذا كان جاهلًا مقصّراً مع ترتّب العقاب، ولكن استشكل عليهم بأنّه كيف يترتّب العقاب مع صحّة الصّلاة، فمن الوجوه التي ذكرت لحلّ هذا الإشكال ما ذكره الشّيخ الكبير كاشف الغطاء رحمه الله من أنّه داخل في باب الترتّب، وأنّ المكلّف مأمور أوّلًا بإتيان الصّلاة جهراً مثلًا، وعلى فرض عصيانه مأمور به انوار الأصول، ج 1، ص: 458

إخفاتاً، فهو يثاب على إتيان المهمّ وهو الصّلاة عن إخفات، ويعاقب على ترك الأهمّ وهو الصّلاة عن جهرٍ، وتحقيق المسألة يترك إلى محلّه في الفقه.

ومنها: نفس كشف الأمر بالمهمّ مع ترك الأهمّ، لأنّ وجوب المهمّ أي

وجوب الصّلاة فيما إذا ترك الإزالة حكم من الأحكام الخمسة وفرع من الفروعات الفقهيّة، والمسألة الاصوليّة هي ما يستنبط منها حكم من الأحكام الفقهيّة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 459

الفصل الثاني عشر أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه

هل يجوز أمر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه، أو لا؟

الظاهر أنّ منشأ طرح هذا البحث هو الأوامر الامتحانيّة من باب أنّ الآمر فيها عالم بانتفاء شرط المأمور به وأنّ المكلّف ليس قادراً بإتيان المأمور به.

وكيف كان: المشهور بين أصحابنا هو عدم الجواز، بينما المشهور عند المخالفين هو الجواز، ولكن قبل بيان أدلّة القولين لا بدّ من تحرير محلّ النزاع فنقول: فيه احتمالات أربع:

الاحتمال الأوّل: أمر المولى جدّاً مع العلم بانتفاء شرط الأمر، أي طلب المولى شيئاً على نحو الجدّ مع انتفاء شرطه، وهو الشوق النفساني إلى المأمور به، ولا إشكال في استحالته، لأنّ الشرط هذا من أجزاء العلّة، والأمر بشي ء جدّاً مع عدم الشوق إليه يرجع إلى حصول المعلول من دون حصول علّته وهو محال.

الاحتمال الثاني: أن يكون الكلام في الإمكان الذاتي، بأن يكون الكلام في أنّ أمر المولى جدّاً بشي ء مع عدم حصول شرطه ممكن ذاتاً وثبوتاً أم لا؟ والفرق بينه وبين الوجه الأوّل هو أنّ البحث في الأوّل كان في الإمكان الوقوعي وبالغير لأنّ حصول المعلول من دون علّته محال بالغير، بخلاف الكلام في هذا الوجه فإنّه يكون في الإمكان الذاتي، وكيف كان فهذا الوجه لتصوير محلّ النزاع أيضاً غير معقول، لأنّ من الواضح أنّ أمر الآمر مع انتفاء شرطه لا يكون مستحيلًا ذاتاً من قبيل اجتماع الضدّين.

الاحتمال الثالث: أن يكون المراد أمر الآمر مع اجتماع شرائطه في مرحلة الإنشاء وانتفاء شرائطه في مرحلة الفعليّة كما إذا كان بداعي الامتحان فقط، فيكون مردّ العنوان إلى

أنّه «هل يجوز إنشاء الأمر مع انتفاء شرط الفعليّة للتكليف أو لا؟».

انوار الأصول، ج 1، ص: 460

لا إشكال في أنّ هذا وجه معقول يمكن وقوعه خارجاً، لأنّه لا مانع لانشاء الأمر من دون حصول شرائط فعليّته لتصوّر مصالح اخرى في أمر المولى غير حصول العبد على مصالح المكلّف به كمصلحة الامتحان، وهو واضح، وقد عرفت أنّ منشأ طرح المسألة أيضاً هذا المعنى.

الاحتمال الرابع: ما ذكره في الفصول وذهب إليه في تهذيب الاصول وهو أن يكون المراد أمر الآمر مع العلم بانتفاء شرط وجود المكلّف به (والفرق بينه وبين الثلاثة الاولى أنّ المعلوم هنا هو انتفاء شرط وجود المكلّف به، بينما المعلوم في الثلاثة هو انتفاء شرط التكليف) وهو نظير بعض الأوامر الامتحانيّة حيث إنّ المولى يأمر فيه مع العلم بانتفاء شرط وجود المكلّف به، وهو عدم النسخ لأنّه يعلم بأنّه سوف ينسخ.

فإن كان المراد في المسألة هذا الوجه فهو أيضاً وجه معقول ولكن يمكن المناقشة في المثال بأنّه راجع إلى الوجه الثالث، لأنّ عدم النسخ من شرائط التكليف بقاءً لا المكلّف به، فإنّ النسخ عبارة عن رفع التكليف وإزالة الحكم، وعلى أيّ حال: الوجه المعقول في تصوير محلّ النزاع إنّما هو الوجه الثالث والرابع، والحقّ التفصيل بين ما إذا كان الضمير الموجود في العنوان (مع العلم بانتفاء شرطه) راجعاً إلى وجوب المأمور به، فيكون المراد من الشرط حينئذٍ شرط التكليف كالإستطاعة، ويكون محلّ النزاع هو الوجه الثالث، وبين ما إذا كان الضمير راجعاً إلى وجود المأمور به، فيكون الشرط شرط المكلّف به كالوضوء ويكون محلّ النزاع هو الوجه الرابع، فإن قلنا بالأوّل فيمكن أن يقال: إنّ هذا البعث لغو لأنّ لازمه أن يقول المولى لعبده:

«إذا استطعت

فحجّ» مع علمه بعدم استطاعته، ومن واضح أنّه لا فائدة لمثل هذا البعث اللهمّ إلّا أن يلاحظ فيه منافع وأغراض اخر.

وإن قلنا بالثاني فلا إشكال في جوازه كما إذا أمر بالصّلاة مع علمه بعدم كونه متوضّأً.

والإنصاف أنّ هذه المسألة من المسائل التي عنونها بعض الأشاعرة مع عدم وضوح المراد منها ومع عدم ترتّب ثمرة عليها، ولها نظائر في المسائل الاصوليّة.

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: فيما أفاده في تهذيب الاصول من التفصيل بين الأوامر القانونيّة والأوامر

انوار الأصول، ج 1، ص: 461

الشخصيّة وأنّه «إن كان الأمر شخصياً متوجّهاً إلى شخص معيّن فالحقّ هو القول بالامتناع إذ الملاك هو احتمال انبعاثه وهو لا يجتمع مع العلم بانتفاء شرطه أيّ شرط كان من شرط الجعل أو المجعول بل مع انتفاء الاحتمال من جهة القصور أو التقصير من المكلّف، وأمّا الأوامر الكلّية القانونيّة المتوجّهة إلى عامّة المكلّفين فلا يجوز مع العلم بفقد عامّتهم للشرط، وأمّا مع كون الفاقد والواجد مختلطين موجودين في كلّ عصر ومصر كما هو الحال خارجاً، فالتكليف عامّ شامل للقادر والعاجز، وفعلي في حقّ العاصي والمطيع والنائم والساهي، نعم للعقل الحكومة المطلقة في تشخيص المستحقّ للعقاب من غير المستحقّ فيجعل العاجز ومن أشبهه في عداد المعذورين في مخالفة الحكم الفعلي» «1».

أقول: إنّ هذا مبني على عدم انحلال خطاب واحد إلى خطابات متعدّدة مستقلّة كما صرّح به في تتمّة كلامه، وقد مرّ في مبحث الترتّب المناقشة فيه وفي ما يترتّب عليه من الأحكام الكثيرة، نعم مع قطع النظر عن مبنى الانحلال لو علم بانتفاء الشرط عن عامّة المكلّفين كان أمر الآمر لغواً فلا يجوز أمره مع العلم بانتفاء شرطه كما أشار إليه فيما عرفت من كلامه، وأمّا إذا علم بانتفاء

الشرط عن بعض المكلّفين فلا إشكال في أمره وخطابه بلحاظ وجود الشرط في سائر المكلّفين، بل لا فرق حينئذ بين القول بالانحلال وعدمه، لأنّ الخطاب على أيّ حال واحد ولو كان الحكم منحلًا بأحكام عديدة، وحيث إنّ الخطاب واحد صدر على نحو الكلّي فلا يلزم لغويّة لأنّها ترجع إلى اللفظ، واللفظ واحد.

الأمر الثاني: فيما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله من «أنّ هذه المسألة باطلة من أصلها وليس فيها معنى معقول يبحث عنه لما عرفت في مبحث الواجب المشروط أنّ فعلية الحكم في القضايا الحقيقية مشروطة بوجود موضوعه خارجاً ويستحيل تخلّفها عنه، وعلم الآمر بوجوده أو بعدمه أجنبي عن ذلك، فلا معنى للبحث عن جواز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه، كما قد عرفت أنّ الحكم في القضايا الخارجيّة يدور مدار علم الحاكم ووجود شروط الحكم، وأمّا نفس وجودها في الخارج أو عدمها فيه فهو أجنبي عن الحكم فلا معنى للبحث عن الجواز المزبور فيها أيضاً» «2».

انوار الأصول، ج 1، ص: 462

أقول: قد أورد تلميذه المحقّق المقرّر له في الهامش «بأنّ فعلية الحكم في القضايا الحقيقية وإن كانت تدور مدار وجود الموضوع خارجاً إلّاأنّ جعل الحكم على الموضوع المقدّر وجوده مع العلم بعدم تحقّقه خارجاً لغو لا يمكن صدوره من الحكيم» «1»، وهو جيّد متين.

الأمر الثالث: قد يقال بأنّ ثمرة هذه المسألة تظهر في باب الصّوم من باب أنّه إذا كان المكلّف سالماً مثلًا في شهر رمضان فأفطر ثمّ صار مريضاً أو سافر بعد الإفطار أو حاضت فتبيّن بذلك انتفاء شرط الوجوب وهو بقاء شرائط الوجوب إلى المغرب، فإن قلنا بجواز أمر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه تجب عليه الكفّارة لأنّه خالف الأمر المتعلّق بالصّيام الشامل له

أيضاً، وأمّا إن قلنا بعدم الجواز فلا كفّارة بل لا قضاء عليه لانكشاف عدم وجوب الصّيام عليه في الواقع.

ولكن الإنصاف عدم ارتباط المسألة بالمقام لأنّ الثابت من أدلّة الكفّارات انحلال وجوب الصّوم إلى تكاليف متعدّدة بتعدّد الآنات وأنّ الصّيام واجب ما دام الموضوع باقياً، ولذلك قام الإجماع على عدم جواز الإفطار قبل الخروج عن حد الترخّص لمن يعلم من طلوع الفجر بمسافرته في أثناء يومه، وبعبارة اخرى: المستفاد من الأدلّة عدم انتفاء شرط التكليف في هذه المسألة، وحينئذٍ لا تكون من مصاديق المقام.

الفصل الثالث عشر هل الأمر متعلّق بالطبائع أو بالأفراد؟

وهي مسألة معروفة بين الاصوليين، وقد أعطاها بعض الأعاظم «1» شكلًا فلسفيّاً ببيانات عديدة منها: «أنّ الكلّي الطبيعي هل يكون بنفسه موجوداً في الخارج أو أنّه موجود بوجود أفراده؟».

ولكن الإنصاف أنّها مسألة عرفيّة كما هو الغالب في المسائل الاصوليّة، توضيح ذلك: أنّه لا إشكال في أنّ كلّ طبيعة إذا وجدت في الخارج يكون لها لوازم قهريّة خارجيّة بحسب الزمان والمكان أو الكمّ والكيف وغيرها من العوارض كالجهر والاخفات وخصوصيّة الوقوع في أيّ زمان ومكان بالنسبة إلى طبيعة الصّلاة التي هي عبارة عن الركوع والسجود والقيام والتكبير والتسليم وغيرها من الأذكار الواجبة، وحقيقة البحث في المقام هي أنّه هل تكون هذه اللوازم القهريّة والخصوصيّات الخارجيّة داخلة تحت الطلب، أو أنّ متعلّق الطلب هو طبيعة الصّلاة مجرّدة عن هذه اللوازم، ولا ريب أنّ هذا بحث عرفي عقلائي، ويكون عنوان البحث حينئذٍ أنّ الخصوصيّات الفرديّة الخارجيّة التي لا تنفكّ عن الطبيعة في الخارج هل هي داخلة تحت الطلب، أو لا؟ ولا يخفى أنّ محلّ النزاع ما إذا لم يصرّح المولى بخصوصيّة فرديّة في كلامه، وإلّا فلا إشكال في أنّها داخلة تحت الطلب كما إذا قال

مثلًا: «صلّ في أوّل الوقت».

إن قلت: «إنّ تشخّص الوجود بذاته لا بالخصوصّيات التي تلحق به، وبعبارة اخرى: إنّ الوجود عين التشخّص ويكون لكلّ واحد من العوارض مثل الزمان والمكان والكمّ والكيف وجود آخر مضافاً إلى وجود الجوهر وقائماً عليه، فيكون لكلّ واحد من هذه الوجودات تشخّص بذاته وامتياز بنفسه عن غيره، سواء كان جوهراً أو عرضاً، ولا يكون وجود عرض انوار الأصول، ج 1، ص: 464

مشخّصاً لوجود عرض آخر، وكذلك وجود جوهر بالإضافة إلى وجود جوهر آخر، أو وجود عرض بالنسبة إلى جوهره الذي يقوم به، بل العرض إنّما يكون ملازماً لجوهره في الخارج ولا ينفكّ عنه، لا أن يكون مشخّصاً له بل تشخّصه بذاته، وبناءً على ذلك: فإنّ الامور المتلازمة للوجود الجوهري خارجاً التي لا تنفكّ عنه كأعراضه من الكمّ والكيف وغيرهما لا يعقل أن تكون مشخّصات لذلك الوجود، فإطلاق المشخّصات على تلك الأعراض مسامحة جدّاً، وعليه فليست هذه الأعراض واللوازم متعلّقة للأمر سواء قلنا بتعلّق الأمر بالطبائع أو بالأفراد.

وبعبارة اخرى: إنّ تلك اللوازم كما أنّها خارجة عن متعلّق الأمر على القول بتعلّقه بالطبيعة، كذلك هي خارجة عن متعلّقه على القول بتعلّقه بالفرد» «1».

قلنا: الإنصاف أنّه لا سبيل لهذه التدقيقات الفلسفية في محلّ البحث، فإنّا نقبل أنّ الوجود متشخّص بذاته لا بعوارضه، لكن الكلام في أنّ هذه العوارض بملاحظة عدم انفكاكها عن الطبيعة في الخارج هل يسري الأمر من الطبيعة إليها على البدل عند العرف أو لا، سواء كان تشخّصها بتلك العوارض أو لم يكن؟ فالمسألة عرفيّة لا فلسفية.

ثمّ إنّ ثمرة المسألة تظهر في موارد عديدة:

منها: باب اجتماع الأمر والنهي كالصّلاة في الدار المغصوبة فإنّه قد يقال: بأنّه إذا تعلّق الأمر بالطبائع كانت النتيجة جواز

الاجتماع، لأنّ الأمر المتعلّق بالصّلاة لا يسري إلى الخصوصيّات الفرديّة كغصبية الدار في المثال، وإن قلنا بتعلّقه بالافراد كانت النتيجة الامتناع، لأنّ الخصوصيّة المزبورة (أي الغصبية) تصير أيضاً منهياً عنها ويستحيل تعلّق الأمر بالمنهي عند الآمر والمبغوض عنده (فتأمّل).

منها: حكم الضمائم المباحة في الوضوء وغيره من أبواب العبادات كالوضوء بالماء الحارّ في الشتاء والبارد في الصيف، فلو توضّأ مثلًا بالماء البارد مع قصد التبريد وقلنا بتعلّق الأمر بالطبيعة، فلا إشكال في صحّة الوضوء لأنّ المأمور به إنّما هو مجرّد الطبيعة، وقد وقعت بقصد القربة، وأمّا إن قلنا بتعلّق الأمر بالافراد يقع الوضوء باطلًا، لأنّ الخصوصيّة أيضاً وقعت متعلّقة للأمر العبادي فلابدّ من إتيانها أيضاً بقصد القربة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 465

وهكذا إذا أتى بالصّلاة في مكان حارّ في فصل الشتاء.

إذا عرفت ذلك فنقول: ذهب المحقّقون إلى أنّ الأوامر متعلّقة بالطبائع واستدلّوا له بوجوه:

الوجه الأوّل: الوجدان كما صرّح به في الكفاية بقوله: «وفي مراجعة الوجدان غنىً وكفاية عن إقامة البرهان على ذلك حيث يرى إذا راجعه أنّه لا غرض له في مطلوباته إلّانفس الطبائع ولا نظر له إلّاإليها من دون نظر إلى خصوصّياتها الخارجيّة وعوارضها العينية بحيث لو كان الانفكاك عنها بأسرها ممكناً لما كان ذلك ممّا يضرّ بالمقصود أصلًا».

الوجه الثاني: أنّ الطلب سعة وضيقاً تابع للغرض فيدخل فيه ما يكون دخيلًا في الغرض، ولا ريب أنّ الغرض قائم بطبيعة الصّلاة مثلًا فحسب لا خصوصّياتها الزمانيّة أو المكانيّة.

نعم لا يخفى أنّ هذا الوجه في الواقع تصوير برهاني لدليل الوجدان ولا يكون دليلًا مستقلًا عنه.

الوجه الثالث: التبادر فإنّ المتبادر من الأوامر والنواهي إنّما هو طلب إيجاد الطبيعة أو تركها فقط، وهذا كافٍ في إثبات المقصود.

واستدلّ لتعلّقها بالافراد بوجهين:

أحدهما:

إنّ الموجود في الخارج هو الفرد لا الطبيعة، وحينئذٍ يكون تعلّق الأمر بالطبيعة بلحاظ أنّها مرآة إلى الخارج لا بلحاظ نفسها، وينتقل الأمر من طريق الطبيعة إلى الأفراد، وهو المقصود.

ولكن اجيب عنه: بأنّ هذا مبني على عدم وجود الكلّي الطبيعي في الخارج مع أنّه قد قرّر في محلّه أنّ الطبيعي موجود في الخارج ضمن أفراده، فيكون وجود الطبيعة متعلّقاً للأمر دون ضمائمه.

ثانيهما: إنّ المتلازمين في الوجود لا يختلفان في الحكم، وحيث إنّ اللوازم الخارجيّة والخصوصيّات الفرديّة تكون من لوازم الوجود في الخارج فيسري الحكم إليها.

والجواب عنه ما مرّ في بعض الأبحاث السابقة من أنّ غاية ما يقتضيه التلازم إنّما هو عدم اختلاف المتلازمين في الحكم بأن يكون أحدهما محكوماً بالوجوب والآخر محكوماً بالحرمة مثلًا لا اتّحادهما في الحكم أيضاً فإنّه لا دليل عليه البتة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 466

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: ربّما يتوهّم من قولنا بأنّ الأوامر تتعلّق بالطبائع أنّ المتعلّق هو الطبيعة من حيث هي هي، فيعترض عليه بأنّ الطبيعة من حيث هي هي ليست إلّاهي، لا مطلوبة ولا مبغوضة، ومقتضاه كون الطبيعة في حدّ ذاتها خاليّة عن القيود فإنّ كلّ شي ء في مرتبة ذاته ليس إلّانفس ذلك الشي ء لا غير.

وبعبارة اخرى: المراد من الماهية إنّما هو نفس مفهوم الإنسان مثلًا وهو ليس إلّانفسه، وليس مفهوم الشجر والحجر وغيرهما، أي أنّ كلّ ماهية يكون لها مرتبة خاصّة لا سبيل لغيرها إليها.

وبعبارة ثالثة: ما هو متعلّق الأوامر؟ فإن كان هو الماهية من حيث هي هي فإنّها ليست إلّا هي لا محبوبة ولا مبغوضة، وإن قلنا أنّه الماهية بقيد الوجود فإنّه تحصيل للحاصل، وإن قلنا أنّه الماهية بقيد العدم فهو محال.

واجيب عنه: بأنّ متعلّق الطلب إنّما

هو إيجاد الماهية في الخارج، وبتعبير آخر: إنّ الوجود يتصوّر على قسمين: الوجود بالمعنى المصدري والوجود بالمعنى اسم المصدري، والمتعلّق للأوامر إنّما هو الأوّل أي الإخراج من كتم العدم إلى عالم الوجود أو انقلاب العدم إلى الوجود، والتحصيل للحاصل إنّما هو الوجود بمعنى اسم المصدري لا المصدر.

توضيح ذلك: الطلب التشريعي يكون بمنزلة الطلب التكويني، فكما أنّ المولى في طلبه التكويني للماء مثلًا لا يطلب الماهية من حيث هي هي لأنّها لا ترفع العطش ولا يطلب السقي الموجود بل يطلب إيجاد السقي في الخارج، كذلك في طلبه التشريعي من العبد، فيطلب الإيجاد، أي المعنى المصدري لا السقي الحاصل بمعنى اسم المصدر ولا الماهية من حيث هي هي.

نعم هذا كلّه في الطلب، وأمّا هيئة الأمر فقد يقال بأنّ متعلّقها إنّما هو نفس الطبيعة لا وجودها، لأنّ نفس الهيئة متضمّنة لمعنى الوجود، أي أنّها بنفسها بمعنى طلب الوجود، ومع ذلك لا معنى لأن يكون الوجود جزءً لمتعلّقها، أي جزءً لمادّة الأمر.

وبعبارة اخرى: إنّ الوجود جزء للهيئة لا المادّة والمتعلّق.

ولكن الإنصاف أنّ هيئة الأمر أيضاً وضعت لطلب الوجود لأنّها عبارة عن البعث إلى الفعل، ويكون بمنزلة البعث التكويني، فكما أنّ البعث التكويني يتعلّق بإيجاد المطلوب فكذلك انوار الأصول، ج 1، ص: 467

البعث التشريعي، أي مفاد هيئة «افعل».

الأمر الثاني: أنّ المراد من الوجود في ما نحن فيه إنّما هو الوجود السعي الساري في جميع الأفراد لا وجود خاصّ من قبيل الجزئي الحقيقي، بل يكون حينئذٍ من قبيل الجزئي الإضافي وشبيهاً للكلّي في باب المفاهيم بحيث ينطبق على كثيرين.

الأمر الثالث: قال المحقّق العراقي رحمه الله: «إنّ الذي يقتضيه التحقيق هو تعلّق الأوامر والطلب بنفس الطبيعة لكن بما هي مرآة للخارج وملحوظة بحسب

اللحاظ التصوّري عين الخارج لا بالوجود الخارجي كما هو الشأن في سائر الكيفيات النفسيّة من المحبّة والاشتياق بل العلم والظنّ ونحوهما، كما يشهد لذلك ملاحظة الجاهل المركّب الذي يعتقد بوجود شي ء بالقطع المخالف للواقع، فيطلبه ويريده أو يخبر بوجوده وتحقّقه في الخارج، إذ لولا ما ذكرنا من تعلّق الصفات المزبورة بالعناوين والصور الذهنيّة بما هي ملحوظة خارجيّة، يلزم خلوّ الصفات المزبورة عن المتعلّق في مثل الغرض مع أنّ ذلك كما ترى (إلى أن قال): وعلى ذلك لا يبقى مجال لجعل المتعلّق للطلب في الأوامر عبارة عن الوجود أو صرف الإيجاد» «1».

أقول: إنّا نقبل تعلّق الأوامر بالطبائع بما هي مرآة للخارج لكنّه بنفسه دليل على أنّ حقيقة المطلوب هو الوجود الخارجي الذي لا شكّ في أنّه منبع كلّ أثر، وأنّ الأوامر وإن تعلّقت ابتداءً وفي بدو النظر بالوجود الذهني ولكنّها لا تستقرّ عليه بل تعبر منه إلى الإيجاد في الخارج فما تتعلّق به الأوامر حقيقة إنّما هو الإيجاد في الخارج، ولكن من طريق تعلّقها بعناوين تشير إلى الخارج وتعبّر عنه ولا يقاس الأمر على العلم والظنّ.

الفصل الرابع عشر إذا نسخ الوجوب فهل يبقى الجواز أو لا؟

ويمكن أن نعبّر عن عنوان البحث بأنّه إذا نسخ الوجوب فهل يبقى الجواز على حدّ الاستحباب، أو لا؟

واعلم أنّه لم يذكر في كلمات القوم مثالًا من الأمثلة الفقهيّة للمقام ولكن يمكن التمثيل له بقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَايَفْقَهُونَ» «1»

حيث يمكن أن يقال بأنّه يدلّ على وجوب الجهاد وإن كان المسلمون من حيث العدد عُشر عدد الكفّار ولكنّه نسخ بقوله تعالى بعده: «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ

فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» «2»

فإنّه يدلّ على تخفيفه تعالى عن المسلمين ورفع وجوب الجهاد إلّافيما إذا كان عدد المسلمين نصف عدد الكفّار على الأقلّ، فيبحث حينئذٍ في أنّه هل يبقى جواز الجهاد أو استحبابه فيما إذا كان عدد المسلمين عُشر عدد الكافرين أو لا؟

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المعروف بين المحقّقين عدم بقاء حكم الجواز فضلًا عن الاستحباب، وهو الصحيح في المسألة، وذلك لأنّ بقاء الجواز إمّا يستفاد من دليل الناسخ أو من دليل المنسوخ أو من دليل آخر خارج عنهما، أمّا الدليل الناسخ فلا إشكال في عدم دلالته عليه حيث إنّه دالّ على مجرّد نسخ الحكم فقط لا أكثر وهذا واضح، وبعبارة اخرى: أنّ لسانه لسان الرفع لا الوضع والإثبات.

انوار الأصول، ج 1، ص: 470

وأمّا دليل المنسوخ فقد يقال بدلالته على بقاء الجواز ببيان أنّ الوجوب الذي يكون مدلولًا له- مركّب من أمرين: طلب الفعل والمنع من الترك، والمنفي بدليل الناسخ إنّما هو الجزء الثاني أي المنع من الترك، وأمّا الجزء الأوّل وهو طلب الفعل واستحبابه فهو باقٍ على حاله.

ولكن اجيب عنه: بأنّ الوجوب ليس أمراً مركّباً بل أنّ حقيقته أمر بسيط، والتعبير بتركيبه من طلب الفعل والمنع عن الترك تعبير تسامحي، ولو سلّمنا كونه مركّباً منهما إلّاأنّ أوّلهما بمنزلة الجنس وثانيهما بمنزلة الفصل، وقد قرّر في محلّه أنّ الجنس والفصل من الأجزاء العقليّة الانتزاعيّة لا الحقيقية الخارجيّة حيث إنّ الجنس عبارة عن ماهية مبهمة لا محصّلة وإنّما يحصّل في الخارج بالفصل، ومن الواضح أنّه لا يبقى بزوال الفصل حينئذٍ تحصّل للجنس في الخارج.

وأمّا الدليل من الخارج فلا يتصوّر

في البين دليل إلّاأصالة الاستصحاب، أي استصحاب كلّي الجواز، وقد اجيب عنه أيضاً بأنّ الاستصحاب في ما نحن فيه يكون من قبيل القسم الثالث من استصحاب الكلّي (نظير ما إذا كان كلّي الإنسان موجوداً في الدار مثلًا ضمن وجود زيد وبعد خروجه عن الدار شككنا في بقاء كلّي الإنسان بدخول عمرو) وقد ثبت في محلّه عدم حجّيته.

نعم، يمكن أن يقال أنّه قد استثنى من القسم الثالث صورة ما إذا كان الفرد الزائل والفرد المحتمل وجوده من مراحل شي ء واحد في نظر العرف كالسواد الشديد والسواد الخفيف، حيث إنّهما وإن كانا متباينين بالدقّة العقليّة إلّاأنّهما عند العرف يعدّان من المراحل الوجوديّة لشي ء واحد، فيستصحب كلّي السواد إذا علمنا بزوال الفرد الشديد واحتملنا بقاء الفرد الخفيف، وما نحن فيه من هذا القبيل، لأنّ الوجوب والاستحباب (أو الجواز) من المراحل الوجوديّة لحكم واحد عند العرف، وهذا لا ينافي بساطة معنى الوجوب كما لا يخفى.

ولكن اجيب عنه أيضاً بأنّه خلاف ما نجده بوجداننا العرفي حيث إنّ الأحكام الخمسة متباينات عند العرف، والميزان في باب الاستصحاب والحكم بتعدّد المتيقّن والمشكوك أو اتّحادهما إنّما هو العرف.

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: ربّما يقاس ما نحن فيه بما ثبت في محلّه من أنّه إذا دلّت رواية على وجوب انوار الأصول، ج 1، ص: 471

شي ء ورواية اخرى على جواز تركه كان مقتضى الجمع العرفي بينهما رفع اليد من ظهور الأولى في الوجوب وحملها على الاستحباب، فليكن المقام أيضاً من هذا القبيل، فيحمل دليل المنسوخ على الاستحباب.

ولكنّه قياس مع الفارق، حيث إنّ الكلام هناك أنّ الدليل الدالّ على جواز الترك يكون قرينة عرفيّة على كون المراد من الدليل الأوّل من أوّل الأمر هو الاستحباب مع أنّ المدّعى

في المقام كون الحكم من أوّل الأمر إلى زمان ورود دليل الناسخ هو الوجوب لا غير.

الأمر الثاني: قال بعض الأعلام في المحاضرات: «إنّ دعوى بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل لو تمّت فإنّما تتمّ في المركّبات الحقيقيّة كالانسان والحيوان وما شاكلهما، وأمّا في البسائط الخارجيّة فلا تتمّ أصلًا ولا سيّما في الأحكام الشرعيّة التي هي امور اعتباريّة محضة وتكون من أبسط البسائط، ضرورة أنّ حقيقتها ليست إلّااعتبار الشارع ثبوت الفعل على ذمّة المكلّف أو محروميته عنه، ومن هنا قلنا أنّ الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة جميعاً منتزعة من اعتبار الشارع بحكم العقل وليس شي ء منها مجعولًا شرعياً، فالمجعول إنّما هو نفس ذلك الاعتبار، غاية الأمر أنّ نصب الشارع قرينة على الترخيص في الترك فينتزع العقل منه الاستحباب وإن لم ينصب قرينة عليه فينتزع منه الوجوب، وعلى ضوء هذا فلا يعقل القول بأنّ المرفوع بدليل الناسخ إنّما هو فصل الوجوب دون جنسه ضرورة أنّ الوجوب ليس مجعولًا شرعياً ليكون هو المرفوع بتمام ذاته أو بفصله» «1».

أقول: في كلامه رحمه الله مواقع للنظر:

أوّلًا: فلأنّ ما ذكره بالإضافة إلى حقيقة الأحكام الشرعيّة من «أنّ حقيقتها ليست إلّا اعتبار الشارع ثبوت الفعل على ذمّة المكلّف أو محروميته عنه» يستلزم عدم الفرق بين الأحكام التكليفية والوضعية مثل الديون، حيث إنّه لا إشكال في أنّ مثل هذا الحكم الوضعي جعل في الذمّة، فلو كان الحكم التكليفي أيضاً جعلًا للفعل مثلًا على الذمّة فما هو الفرق بين النوعين من الحكم؟

وإن شئت قلت: المتبادر من هيئة «افعل» في قوله «صلّ» مثلًا ومن هيئة «لا تفعل» في انوار الأصول، ج 1، ص: 472

قوله «لا تشرب الخمر» إنّما هو البعث إلى الصّلاة والزجر عن شرب الخمر، لا جعل

ثبوت الصّلاة في الذمّة أو جعل المحروميّة عن الشرب فإنّه مخالف لاتّفاق أرباب اللّغة والاصوليين من أنّ معنى الأمر طلب الفعل أو البعث إلى الفعل، وأنّ معنى النهي طلب الترك أو الزجر عن الفعل، فالتعبير بالدَين أو البقاء في الذمّة في بعض الكلمات (حيث يعبّر مثلًا أنّ الصّلاة باقية على ذمّتي أو إنّي مديون بها) بالنسبة إلى الأحكام التكليفية يكون من قبيل العناية والمجاز بلا إشكال.

ثانياً: ينتقض كلامه بالاباحة التي هي أيضاً من الأحكام الخمسة حيث إنّه لا معنى محصّل لجعل الجواز أو الإباحة على ذمّة المكلّف فيلزم التفكيك بينه وبين سائر الأحكام التكليفية مع أنّ جمعيها من سنخ واحد، فتأمّل.

ثالثاً: إنّ بيانه بالنسبة إلى الاستحباب والكراهة مستبطن لنوع من التناقض في الجعل، لأنّ الجعل على الذمّة لازمه كون المكلّف مديوناً للشارع، والدَين لا يجتمع مع الترخيص عند العرف والعقلاء كما في الديون الماليّة، فإن كان الإنسان مديوناً فلا يكون مرخّصاً وإن كان مرخّصاً فلا يكون مديوناً.

رابعاً: إنّ ما ذكره بالنسبة إلى الحرمة أيضاً لا يمكن الالتزام به لأنّ المحروميّة أمر عدمي لا يقبل الجعل والاعتبار، إلّاأن يراد منه جعل الترك والكفّ، وهو وإن كان موافقاً لما ذهب إليه القدماء من الاصوليين ولكنّه خلاف التحقيق عند المحقّقين المتأخّرين حيث ذهبوا إلى أنّ النهي عبارة عن الزجر عن الفعل لا طلب الترك أو الكفّ.

خامساً: سلّمنا ما ذكره بالنسبة إلى حقيقة الحكم ولكنّه لا ينافي تصوير الجنس والفصل هنا ودعوى بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل، لأنّ الوجوب والاستحباب بناءً على هذا المبنى مشتركان في كون كليهما مجعولًا على ذمّة المكلّف إلّاأنّ الشارع نصب القرينة على الترخيص في أحدهما دون الآخر، فلهما قدر مشترك، وهو أصل اعتبار الشارع

ثبوت الفعل على الذمّة (فيكون بمنزلة الجنس لهما) ويكون لكلّ واحد منهما أمر يختصّ به، وهو عدم الترخيص في الترك في الوجوب (فيكون بمنزلة الفصل للوجوب) والترخيص في الترك في الاستحباب (فيكون بمنزلة الفصل للاستحباب) وحينئذٍ يمكن أن يقال: إنّ عدم الترخيص يرفع بدليل الناسخ، وأمّا أصل الاعتبار فيبقى على حاله.

انوار الأصول، ج 1، ص: 473

وإن شئت قلت: بين الحكمين أي الوجوب والاستحباب ما به الاشتراك وما به الامتياز (أو بين منشأ انتزاعهما) وهما وإن لم يكونا في المقام من الجنس والفصل ولكنّهما من قبيلهما، فيمكن ارتفاع أحدهما وبقاء الآخر لأنّ كليهما مجعولان من قبل الشارع.

إذا عرفت ذلك وانتهى الكلام إلى حقيقة الأحكام الشرعيّة وناقشنا في المبنى المزبور فينبغي البحث في أنّ حقيقتها ماذا؟

فنقول: أمّا الوجوب والحرمة فحقيقتهما إتّضحت ضمن الأبحاث السابقة، فإنّ الوجوب عبارة عن البعث الشديد إلى الفعل، والحرمة هي الزجر الشديد عن الفعل، وأمّا الاستحباب فحقيقته أيضاً هو البعث إلى الفعل ولكن مرتبة خفيفة من البعث، كما أنّ الكراهة أيضاً حقيقتها هي الزجر عن الفعل ولكن زجراً خفيفاً و هذا كلّه ما يوافقه الارتكاز العرفي مع قطع النظر عن بيان الشرع.

وأمّا الإباحة فهي إرسال تشريعي وترخيص إنشائي اعتباري من جانب الشارع نظير الترخيص التكويني فيما إذا فتحت باب دارك مثلًا ورفعت الموانع عن الدخول فيها، فكما أنّ الإباحة التكوينيّة عبارة عن رفع المانع وإطلاق السراح والترخيص كذلك الإباحة الإنشائيّة التشريعيّة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 475

الفصل الخامس عشر الواجب التخييري
اشارة

لا إشكال في أصل وجود الواجب التخييري في القوانين الشرعيّة والعقلائيّة نظير التخيير في باب الكفّارات بين اطعام الستّين مسكيناً أو كسوتهم أو تحرير الرقبة، وفي باب الديّات بين الامور الستّة المعروفة وفي باب الصّلاة بين الحمد والتسبيحات الأربعة

في الركعة الثالثة والرابعة، وفي القوانين العقلائيّة نظير التخيير بين المجازاة بالمال والمجازاة بالحبس، وعند الموالي العرفيّة نظير قول المولى لعبده: «إشتر من هذا السوق أو من ذاك».

إنّما الإشكال في بيان حقيقته وتوجيه ماهيّته، وقد توجّهت من جانب المحقّقين عدّة إشكالات وعويصات لا بدّ من حلّها.

أحدها: أنّ الواجب التخييري إن كان واجباً من الواجبات فكيف يجوز تركه؟

ثانيهما: أنّه كيف يمكن تعلّق الإرادة التشريعيّة بعنوان أحدهما اللامعيّن مع عدم إمكان تعلّق الإرادة التكوينيّة به؟

ثالثها: قضيّة تعدّد العقاب ووحدته إذا ترك كلّ واحد من الأطراف، أو تعدّد الثواب ووحدته إذا أتى بجميع الأطراف.

فما هو التصوير الصحيح عن الواجب التخييري بحيث يمكن ارتفاع هذه الشبهات والتخلّص عنها؟

فنقول: قد ذكر في مقام تصويره وجوه عديدة:

منها: أن يكون الواجب حقيقة هو الفرد المردّد، وهذا هو مختار المحقّق النائيني رحمه الله.

ومنها: أن يكون المأمور به هو الجامع الانتزاعي، وهو عنوان أحدهما الكلّي، وهذا ما اختاره في المحاضرات وهو الأقوى.

انوار الأصول، ج 1، ص: 476

ومنها: أن يكون المأمور به جامعاً حقيقيّاً بين الأفراد، أي كان للافراد قدراً مشتركاً واقعيّاً يراه الشارع فقط فيأمر به ولا يراه المكلّف، فهو نظير الحرارة التي تكون مشتركاً خارجاً وحقيقة بين الشمس والنار، وقدراً جامعاً حقيقيّاً بينهما، وهذا ممّا لم نعرف له قائلًا مشخّصاً.

ومنها: أن يكون كلّ واحد من الطرفين (أو الأطراف) واجباً مشروطاً بعدم إتيان الآخر، وهذا ما يستفاد من بعض كلمات المحقّق الإصفهاني رحمه الله.

ومنها: أن يكون لكلّ واحد من الأطراف نوع خاصّ من الوجوب إجمالًا يمتاز عن الوجوب في الواجب التعييني، وهذا هو ظاهر كلام السيّد اليزدي رحمه الله في حاشيته على المكاسب في مباحث البيع الفاسد.

ومنها: أن يكون الواجب طرفاً معيّناً من الأطراف عند

اللَّه تبارك وتعالى، وهو نفس ما يختاره المكلّف في مقام الامتثال، وحيث إنّ اللَّه تعالى كان عالماً بمختار المكلّف أوجب عليه خصوص ذلك الفرد، وقد نسب هذا القول إلى الأشاعرة، وقيل أنّ كلًا من الأشاعرة والمعتزلة نسب هذا الوجه إلى صاحبه لسخافته.

ومنها: التفصيل الذي أفاده المحقّق الخراساني في الكفاية بين ما إذا كان هناك غرض واحد قائم بكلا الطرفين (أو بكلّ واحد من الأطراف) فيكون الواجب هو القدر الجامع الحقيقي بينهما ويكون التخيير عقليّاً، وبين ما إذا كان في البين غرضان يقوم بكلّ واحد منهما واحد من الطرفين، فيكون الواجب حينئذٍ كلّ واحد من الطرفين (أو الأطراف) على نحو من الوجوب ويكون التخيير حينئذٍ شرعيّاً.

إذا عرفت الأقوال المختلفة والوجوه العديدة في المسألة فنقول: لا بدّ من طرح البحث في مقامين: مقام الثبوت ومقام الإثبات (وقد وقع الخلط بينهما في بيان المحاضرات).

أمّا مقام الثبوت: فالأولى في حلّ الإشكال في هذا المقام هو الرجوع إلى الواجبات التخييريّة الموجودة عند العرف وتحليل ما يوجد في الأشياء الخارجيّة من المصالح.

فنقول: أنّ المصالح الموجودة في الأشياء تتصوّر على صور أربعة: فتارةً: تقوم المصلحة بشي ء لا يقوم مقامه شي ء آخر كما إذا كان الوصول إلى مقصد متوقّفاً على طيّ طريق خاصّ ولم يوجد طريق آخر إليه، أو انحصر علاج مرض بدواء خاصّ.

انوار الأصول، ج 1، ص: 477

واخرى: تقوم مصلحة واحدة بأمرين مختلفين، فيكون مثلًا لمرض خاصّ طريقان من العلاج، ويقوم أحدهما مقام الآخر كما أنّه يتّفق كثيراً مّا في الخارج عند العرف والعقلاء فيقال:

هذا مشابه لذاك.

وثالثة: توجد هناك مصلحتان مختلفتان يقوم كلّ واحدة منهما بطريق يخصّه، فيمكن استيفاء مصلحة كلّ منهما بطريقه الخاصّ به، فلا يقوم أحدهما مقام الآخر بل أحدهما يوجب

اعدام أثر الآخر كداوئين مختلفين يؤثّران في علاج مرضين مختلفين لا يمكن الجمع بينهما.

ورابعة: توجد هناك مصلحتان متلائمان لا تباين ولا تضادّ بينهما في التأثير بل أحدهما يقوم مقام الآخر، ولكن لا يقدر المكلّف على الجمع بينهما في زمان واحد كإنقاذ الغريقين.

لا إشكال في أنّ الواجب في الصورة الاولى واجب تعييني وهو واضح، كما لا إشكال في أنّ الواجب في الصورة الثانيّة إنّما هو القدر الجامع الحقيقي بين الأمرين، أي الواجب واحد ولكن له مصداقان يوجب تخيير الإنسان عقلًا.

وأمّا الصورة الثالثة والرابعة (اللتان يكون التضادّ في أحدهما من جانب ذاتي الشيئين وفي الآخر من جانب المكلّف وعدم قدرته على الجمع بينهما في مقام الامتثال) فيكون التخيير فيهما مولويّاً ويكون متعلّق الطلب عنوان أحدهما، أي الجامع الانتزاعي، لأنّ المفروض أنّه ليس في البين جامع حقيقي حتّى يكون هو متعلّق الغرض والطلب، بل يكون الغرض قائماً بأحدهما، فليكن الطلب أيضاً متعلّقاً بعنوان أحدهما الذي يكون عنواناً مشيراً إلى أحد الفردين في الخارج- وهذا هو الوجه الثاني أو القول الثاني من الوجوه المذكورة آنفاً.

أمّا الوجه الأوّل: وهو أن يكون الواجب الفرد المردّد.

ففيه: أنّ الفرد المردّد لا يكون كلّياً يمكن انطباقه على كلّ واحد من الفردين بل إنّه جزئي حقيقي يتصوّر فيما إذا تعلّق الحكم بفرد معيّن خاصّ ولكنّه تردّد بين الفردين بحصول جهل أو نسيان، وأمّا في المقام فلم يتعلّق الطلب بفرد معيّن، بل المتعلّق فيه كلّي «أحدهما» الذي ينطبق على كلّ من الطرفين على حدّ سواء.

إن قلت: إذا علم بنجاسة أحد الإنائين، ثمّ عرض له النسيان ثمّ انكشف له كون كلّ واحد منهما نجساً في الواقع، فلا إشكال حينئذٍ في تعلّق علم الإنسان بالفرد المردّد مع عدم

تعيّنه في الخارج، فلا منافاة بين أن يكون متعلّق العلم الإجمالي الفرد المردّد وبين عدم تعيّنه في الخارج،

انوار الأصول، ج 1، ص: 478

وإذا أمكن هذا في الصفات الحقيقيّة كالنجاسة والطهارة أمكن في الامور الاعتباريّة بطريق أولى، فيمكن أن يتعلّق التكليف بالفرد المردّد بين الشيئين مع عدم تعيّنه في الخارج «1».

قلنا: إنّ متعلّق العلم الإجمالي في المثال المزبور أيضاً متعيّن في الواقع وفي علم اللَّه تعالى، لأنّ ما علم المكلّف بنجاسته كان إناءً خاصّاً معيّناً وحصل العلم فيه بطريق خاصّ كالرؤية بالبصر مثلًا، ولا إشكال في أنّ متعلّق هذا الطريق- أي المرئيّ بالبصر- شي ء معيّن خاصّ، فقياس ما نحن فيه بمثل هذه الموارد قياس مع الفارق.

هذا- مضافاً إلى أنّ قوام الفرديّة بالتعيين والتشخّص، أي يكون الفرد جزئيّاً حقيقيّاً وإلّا لا يكون فرداً، وهذا لا ربط له بالواجب التخييري الذي يكون المتعلّق فيه كلّياً وهو عنوان «أحدهما».

وأمّا الوجه الثالث: وهو أن يكون الواجب هو القدر الجامع الحقيقي.

ففيه: أنّ لازمه إنكار التخييري الشرعي وإرجاع جميع الواجبات التخييريّة إلى التخيير العقلي، لأنّ لازم كون الواجب هو القدر الجامع الحقيقي في جميع الموارد وجود جامع حقيقي فيها، ومع وجوده يكون التخيير بين الأطراف هو التخيير بين مصاديق كلّي واحد كالصّلاة بالنسبة إلى أفرادها الكثيرة من حيث الزمان أو المكان، ولا إشكال في أنّ تخيير المكلّف بين مصاديق الصّلاة، أي تخييره بين أن يأتي بها في هذا المكان أو ذاك المكان، أو تخييره بين أن يأتي بها في هذه الساعة أو تلك الساعة، تخيير عقلي، مع أنّ محلّ البحث إنّما هو الواجبات التخييريّة الشرعيّة أو المولويّة الموجودة في القوانين العقلائيّة أو في لسان الشرع.

وأمّا الوجه الرابع: وهو أن يكون وجوب كلّ واحد

من الطرفين مشروطاً بترك الآخر- ففيه أنّه يستلزم تعدّد العقاب في صورة ترك كلا الطرفين، لأنّ ترك كلّ واحد منهما يوجب تحقّق شرط وجوب الآخر، فيصير وجوب كلّ منهما فعلياً، ويكون لازم ترك كليهما ترك الواجبين وتحقّق معصيتين، ولازمه تعدّد العقاب، مع أنّه لا نظنّ أن يلتزم به أحد.

وأمّا القول الخامس: وهو أن يكون الواجب كلّا من الطرفين ولكن بنوع من الوجوب غير الوجوب التعييني، وهو بمعنى جواز تركه إلى بدله.

انوار الأصول، ج 1، ص: 479

ففيه: أنّ الوجدان حاكم على أنّ للوجوب نحواً واحداً لا أنحاء مختلفة لأنّه بمعنى البعث تشريعاً كالبعث التكويني، ولا إشكال في أنّ البعث التكويني لا يتصوّر له أنحاء مختلفة، إنّما الفرق في المتعلّق، فإنّ المتعلّق في الواجب التعييني هو أحدهما المعيّن وفي الواجب التخييري أحدهما اللامعيّن.

وأمّا القول السادس: وهو أن يكون الواجب ما يختاره المكلّف وما يكون معيّناً عند اللَّه تعالى- ففيه أنّه أسوأ حالًا من سائر الأقوال، ولذلك قد تبرّأ منه كلّ من الأشاعرة والمعتزلة ونسبه إلى صاحبه، وذلك لأنّ مقام الامتثال واختيار المكلّف وانبعاثه متأخّر رتبة عن مقام البعث والإيجاب، فكيف يتقدّم عليه ويكون جزءً لموضوعه؟

هذا- مضافاً إلى أنّ لازمه كون إرادة اللَّه تابعة لإرادة المكلّف واختياره- تعالى اللَّه عن ذلك علوّاً كبيراً.

وأمّا القول السابع: وهو تفصيل المحقّق الخراساني رحمه الله فقد ظهر الجواب عنه ممّا مرّ في الجواب عن القول الخامس، لأنّ لازمه أيضاً أن يكون للوجوب أنحاء مختلفة، حيث إنّ الواجب عنده- فيما إذا كان لكلّ واحد من الطرفين غرض على حدة لا يقوم أحدهما مقام الآخر- هو كلّ واحد من الطرفين بنحو من الوجوب، ولازمه أن يكون للواجب التخييري نحو من الوجوب غير الوجوب التعييني.

هذا- مضافاً

إلى وقوع الخلط في كلامه رحمه الله بين التخيير العقلي والتخيير الشرعي، فإنّ محلّ الكلام في المقام إنّما هو تبيين حقيقة التخيير الشرعي، أي ما إذا كان متعلّق الخطاب أحد الشيئين أو أحد الأشياء كما صرّح به في صدر كلامه، فجعل المقسم في تقسيمه وتفصيله ما «إذا تعلّق الأمر بأحد الشيئين أو الأشياء» مع أن متعلّق الأمر في التخيير العقلي شي ء واحد، وهو القدر الجامع الحقيقي بين الأطراف.

هذا كلّه بالنسبة إلى مقام الثبوت.

وأمّا مقام الإثبات: فلا إشكال أيضاً في أنّ المتعلّق إنّما هو عنوان «أحدهما» أو «أحدها» في موارد العطف بكلمة «أو» لأنّ المتبادر عرفاً من هذه الكلمة أنّ الخصوصيّات الفرديّة لا دخل لها في الحكم وأنّ الحكم تعلّق بأحد الشيئين أو أحد الأشياء، نظير ما ورد في قوله تعالى في باب الكفّارات: «فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ

انوار الأصول، ج 1، ص: 480

كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ» «1»

، كما أنّ المتبادر منها أنّ الأغراض متعدّدة لأنّه لو كان الغرض واحداً وهو ما يقوم بالقدر الجامع الحقيقي كان الأولى أن يتعلّق الخطاب به من دون العطف بكلمة «أو»، فإنّ الظاهر المتبادر من قولك: «اجعل زيداً أو عمراً صديقاً لنفسك» أنّ الخصوصيّات الفرديّة لزيد وعمرو تكون دخيلة في الغرض، وإلّا كان الأولى أن تقول:

«اجعل الإنسان صديقاً لك» وبالجملة إنّ ظاهر العطف بكلمة «أو» عدم كون التخيير عقليّاً إلّا إذا قامت قرينة على الخلاف، وكذا كلّ ما يؤدّي معنى هذه الكلمة.

لا يقال: «أنّ الكلّي المنتزع كعنوان أحدهما غير ملحوظ في الأوامر العرفيّة ولا يلتفت إليه» «2» لأنّا نقول: فرق بين عمل الانتزاع الذهنبي في وعاء الذهن وتحليل حقيقة الانتزاع والمفاهيم الانتزاعيّة الذهنيّة، والإنصاف أنّ ما

يكون غير ملحوظ عند العرف إنّما هو الثاني، وأمّا الأوّل فلا إشكال في أنّ عمل الانتزاع يتحقّق في ذهن العرف كثيراً من غير إلتفات إلى حقيقته كما أنّه كذلك في كثير من القضايا المنطقية كما لا يخفى.

بقي هنا شي ء:

جواز التخيير بين الأقلّ والأكثر

لا إشكال في وقوع التخيير بين الأقلّ والأكثر في لسان العرف والشرع نظير التخيير بين الواحد والثلاث أو بين الواحد والأكثر في ذكر الركوع والسجود والتسبيحات الأربعة ونظير التخيير بين الثلاثين دلواً والأربعين دلواً مثلًا في بعض منزوعات البئر، والتخيير بين القصر والإتمام في الأماكن الأربعة المعروفة (ويمكن أن يناقش في الأخير بأنّه من قبيل المتباينين لاعتبار اندراج الأقلّ بتمام أجزائه وخصوصّياته ضمن الأكثر بينما صلاة القصر ليست كذلك لأنّها مندرجة في الإتمام مجرّدة عن التسليم) هذا في لسان الشرع، وأمثلته في العرف أيضاً كثيرة.

إنّما الإشكال فيما ذكر لعدم إمكانه عقلًا من دعوى أنّه مع تحقّق الأقلّ في الخارج وحصوله انوار الأصول، ج 1، ص: 481

يحصل الغرض، ومعه يكون الأمر بالأكثر لغواً لا يمكن صدوره من الحكيم.

وقد أجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه الله، بأنّه يمكن أن يفرض أنّ المحصّل للغرض فيما إذا وجد الأكثر هو الأكثر لا الأقلّ الذي في ضمنه، أي كان لجميع أجزائه دخل في حصول الغرض، والمحصّل له فيما إذا وجد الأقلّ هو الأقلّ كذلك، أي كان كلّ منهما بحدّه محصّلًا للغرض، وعليه فلا محيص عن التخيير بينهما، إذ تخصيص الأقلّ بالوجوب حينئذٍ يكون بلا مخصّص.

وقد اجيب عنه: بأنّ هذا خارج عن مفروض الكلام وهو التخيير بين الأقلّ والأكثر، وذلك لأنّ ما فرضه وإن كان تخييراً بينهما صورة إلّاأنّه بحسب الواقع تخيير بين المتباينين، وذلك لفرض أنّ الماهية «بشرط لا» تباين الماهية «بشرط شي ء».

أقول:

الصحيح هو التفصيل بين ما إذا يحصل الأقلّ ضمن الأكثر دفعة واحدة كما إذا أردنا إلقاء الميّت الغريق (الذي لا يمكن إيصاله إلى ساحل البحر) إلى قعر الماء بشي ء ثقيل، فتخيّرنا عقلًا بين أن يكون وزن ذلك الشي ء الثقيل عشرين كيلو مثلًا أو أربعين كيلو، وبين ما إذا يحصل الأقلّ ضمن الأكثر تدريجاً كما في مثال الصّلاة، فإنّ إشكال اللغويّة المزبورة لا تتصوّر في القسم الأوّل لأنّ الغرض فيه لا يحصل بخصوص الأقلّ إذا اختار المكلّف الأكثر بل يكون المحصّل للغرض حينئذٍ تمام الأكثر (وفي المثال تمام الأربعين كيلو) فيكون التخيير بين الأقلّ والأكثر فيه بلا إشكال، نعم أنّها تتصوّر في القسم الثاني، ولا يمكن التفصّي عنها بما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله لنفس ما ذكرناه من الجواب.

هذا في التخيير العقلي، وكذلك في التخيير الشرعي، فلا إشكال فيه أيضاً فيما إذا أتى بالأكثر دفعةً كما إذا أمر المولى بإدخال ثلاثة رجال أو خمسة في الدار فأدخل العبد الخمسة دفعةً.

وبما ذكرنا يظهر أنّ التخيير بين الواحد والثلاث في مثل التسبيحات الأربعة ممّا لا يمكن المساعدة عليه، لأنّ الأقلّ يتحقّق ضمن الأكثر تدريجاً، فلابدّ أن يقال أنّ الواجب فيها هو الأقلّ، وأمّا الأكثر وهو التسبيح مرّة ثانيّة وثالثة فيحمل على الاستحباب.

وبما ذكرنا ظهر الجواب عن الشبهات التي طرحناها في أوّل البحث:

أمّا الاولى منها: وهي أنّ الوجوب ينافي جواز الترك- فجوابها أنّا لا نقول بوجوب كلّ من الطرفين، بل الواجب عندنا عنوان أحدهما، وهو لا يجوز تركه بكلا مصداقيه.

وأمّا الثانيّة منها: وهي أنّ الطلب التشريعي وزانه وزان الطلب التكويني فلا يمكن تعلّقه انوار الأصول، ج 1، ص: 482

بعنوان أحدهما اللّامعين، فالجواب عنها ما أفاده المحقّق النائيني في بعض كلماته

وإن كان مغايراً من بعض الجهات للمختار (كما مرّت الإشارة إليه في أوائل البحث تحت عنوان «لا يقال») وإليك نصّ كلامه: «أنّه يمكن تعلّق إرادة الآمر (الإرادة التشريعيّة) بأحد الشيئين وإن لم يمكن تعلّق إرادة الفاعل (الإرادة التكوينيّة) بذلك، ولا ملازمة بين الإرادتين على هذا الوجه، مثلًا لا إشكال في تعلّق إرادة الآمر بالكلّي مع أنّ إرادة الفاعل لا يعقل أن تتعلّق بالكلّي مجرّداً عن الخصوصيّة الفرديّة، والوجه في ذلك أنّ الإرادة الفاعلية إنّما تكون مستتبعة لحركة عضلاته ولا يمكن حركة العضلات نحو المبهم المردّد، وهذا بخلاف إرادة الآمر فإنّه لو كان كلّ من الشيئين أو الأشياء ممّا يقوم به غرضه الوجداني، فلابدّ أن تتعلّق إرادته بكلّ واحد، لا على وجه التعيين بحيث يوجب الجمع، فإنّ ذلك ينافي وحدة الغرض، بل على وجه البدليّة، ويكون الاختيار حينئذٍ بيد المكلّف في اختيار أيّهما شاء، ويتّضح ذلك بملاحظة الأوامر العرفيّة، فإنّ أمر المولى عبده بأحد الشيئين أو الأشياء بمكان من الإمكان» «1».

وأمّا الشبهة الثالثة: وهي قضيّة تعدّد العقاب فسيأتي الجواب عنها في البحث الآتي، وهو البحث عن الواجب الكفائي فانتظر.

انوار الأصول، ج 1، ص: 483

الفصل السادس عشر الواجب الكفائي

لا إشكال أيضاً في وجود الواجب الكفائي في العرف والشرع (كالواجب التخييري) ففي لسان الشرع نظير وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتجهيز الميّت، والمكاسب الضروريّة لحفظ النظام وتحصيل الفقه إلى حدّ الاجتهاد والجهاد في كثير من الموارد، والتصدّي لأمر القضاء والقيام بالامور الحسبيّة، وفي العرف نظير ما إذا أمر المولى عبده بقوله «ليفتح أحدكم الباب» ونظير ما وقع في قصّة أصحاب الكهف حيث ورد فيها «فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ» «1»

، وفي القوانين العقلائيّة نظير ما يوضع في إدارة الاطفاء لموظّفي

تلك الادارة حيث إنّ أمر إطفاء الحريق كثيراً مّا يتحقّق بجماعة معيّنة.

إذا عرفت هذا فاعلم: أنّ جميع الصور التي ذكرناها في بيان حقيقة الواجب التخييري غير واحدة منها تأتي هنا أيضاً، إلّاأنّ الترديد هناك كان في المكلّف به، وفي ما نحن فيه في المكلّف كما لا يخفى، وحينئذٍ يكون متعلّق الخطاب هنا بناءً على الوجه الأوّل الذي مرّ في الواجب التخييري- «الفرد المردّد من المكلّف»، وعلى الوجه الثاني عنوان «أحد المكلّفين» الذي يكون من العناوين الانتزاعيّة، وعلى الوجه الرابع «كلّ واحد من المكلّفين» مشروطاً بعدم مبادرة سائر المكلّفين إلى العمل، وعلى الوجه الخامس «كلّ واحد من المكلّفين» على نحو من الوجوب غير الوجوب العيني بحيث إذا قام أحدهم للعمل سقط الوجوب عن السائرين، وعلى الوجه السادس «المكلّف المعلوم عند اللَّه» وهو من بادر إلى الامتثال بالنسبة إلى غيره، فيأتي في المقام ستّة وجوه من الوجوه السبعة المذكورة هناك، والوجه الذي لا يتصوّر هنا هو

انوار الأصول، ج 1، ص: 484

الوجه الثالث منها وهو أن يتعلّق الخطاب بالقدر الجامع الحقيقي لعدم تصوّره بالنسبة إلى المكلّفين، فإنّ المكلّف يكون آحادهم لا الجامع الكلّي.

وكيف كان لا بدّ من طرح البحث هنا أيضاً في مقامين: مقام الثبوت ومقام الإثبات:

أمّا مقام الثبوت: فيأتي فيه مثل ما مرّ في الواجب التخييري، وهو أنّ المصالح التي تترتّب على الأشياء خارجاً على أنحاء مختلفة، فقسم منها لا يحصل إلّاباجتماع جميع الأيادي كحمل جسم ثقيل مثلًا من مكان إلى مكان آخر، وقسم منها تكون المصالح فيه متعدّدة يحصل كلّ واحدة منها بيد فرد واحد من الأفراد سواء كانت المصالح متّحدة في النوع أو مختلفة، وقسم ثالث منها تكون المصلحة فيه واحدة ويكفي في تحصيله قيام فرد

واحد كفتح الباب مثلًا، وهنا قسم رابع وإن قلّ مصداقه في الخارج، وهو ما إذا كانت المصلحة متعدّدة ولكن لا يمكن الجمع بينها، إمّا لعدم قدرة المكلّفين على الجمع وإن لم يكن بينها تباين في حدّ ذاتها كما إذا كان للمولى مشاوران، أحدهما مشاور لأمر الدين، والآخر مشاور لأمر الدنيا، ولكن قد ثبت له بالتجربة وقوع المنازعة بينهما وعدم قدرتها على ايفاء المصلحتين معاً، أو لكون المصلحتين مثلًا متباينين في حدّ ذاتهما.

هذه أقسام أربعة للأشياء من حيث المصلحة الموجودة فيها.

لا إشكال في أنّ الوجوب يكون على نهج العام المجموعي بناءً على القسم الأوّل، وعلى نهج العام الافرادي بناءً على القسم الثاني مع كونه وجوباً عينياً في كليهما كما لا يخفى، كما لا إشكال في كون الوجوب في القسم الثالث والقسم الرابع كفائيّاً وإنّ متعلّقه إنّما هو عنوان أحد المكلّفين بما أنّه مشير إلى الخارج.

وبعبارة اخرى: يكون متعلّق الوجوب فيهما صدور الفعل من صرف وجود المكلّف كما في الواجب التخييري (حيث إنّ متعلّق الوجوب فيه أيضاً كان صرف وجود الطبيعة المأمور بها) بينما كان المتعلّق في القسمين الأوّلين صدور الفعل من مطلق وجود المكلّف، ولا يمكن أن يقال:

إنّ متعلّق الوجوب فيهما (أي في الواجب الكفائي في القسمين الأخيرين) جميع المكلّفين ولكن على نحو من الوجوب غير الوجوب العيني، لأنّ الوجوب عبارة عن البعث إنشاءً كالبعث التكويني ويكون له سنخ واحد، ولا يعقل أن يكون له أنحاء مختلفة كما مرّ في الواجب التخييري، وهكذا بالنسبة إلى سائر الوجوه المتصوّرة في المسألة. هذا كلّه بالنسبة إلى مقام الثبوت.

انوار الأصول، ج 1، ص: 485

وأمّا مقام الإثبات: فالإنصاف أنّ القرائن الموجودة في الواجبات الكفائيّة الواردة في لسان الشارع ومناسبات الحكم والموضوع

فيها ترشدنا إلى أنّ المكلّف فيها ليس جميع المكلّفين بل إنّما هو عنوان أحد المكلّفين أو عنوان بعض المكلّفين أو طائفة منهم نظير ما ورد في قوله تعالى: «السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا»، وقوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ» فإنّ مقتضى مناسبة الحكم والموضوع أنّ متعلّق خطاب «اقطعوا» و «اجلدوا» بعض المكلّفين لا جميعهم، كما أنّ القرينة الخارجيّة تدلّنا على أنّ متعلّق خطاب «كونوا» في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ» إنّما هو بعض المكلّفين لأنّا نعلم من الخارج بكفاية شاهدين من المؤمنين لإقامة الشهادة، كما أنّه مقتضى كلمة «أو» أو كلمة «أحدكما» أو كلمة «أحدهم» في بعض الخطابات، كما إذا قال المولى لعبده «أنت أو أخوك يفعل ذلك» ومقتضى كلمة «طائفة» في مثل آية النفر وقوله تعالى:

«وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ» «1»

وقوله تعالى: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ» «2»

وهكذا قوله تعالى: «فَلَوْلَا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ» «3».

وبالجملة: إنّ مثل كلمة «طائفة» أو «امّة» بضمّ كلمة «من» التبعيضيّة (طائفة منكم) قرينة حتمية على أنّ المتعلّق في الواجبات الكفاية ليس جميع المكلّفين بل المتعلّق إنّما هو عنوان بعض المكلّفين المشير إلى الخارج.

ويظهر ممّا ذكرنا كلّه ضعف سائر الوجوه أو الأقوال لا سيّما مع ملاحظة ما مرّ في الواجب التخييري.

بقي هنا امور

الأمر الأوّل: مسألة تعدّد العقاب ووحدته، فهل يعاقب جميع المكلّفين فيما إذا خالف الجميع، أو يعاقب بعضهم فقط؟

انوار الأصول، ج 1، ص: 486

الصحيح أنّ العقاب واحد، ولكنّه يوزّع على جميع المكلّفين الذين حضروا الواجب، أمّا الوجه في وحدة العقاب فلأنّ غرض المولى يكون واحداً أي

المصلحة التي تترتّب على العمل واحدة، وأمّا وجه توزيعه على جميع المكلّفين فلأنّ متعلّق الخطاب كان عنوان بعض المكلّفين، ولا إشكال في أنّ كلّ واحد من المكلّفين مصداق لهذا العنوان.

الأمر الثاني: هل يجوز قيام جميع المكلّفين بإتيان المأمور به في الواجب الكفائي مع قصد الورود أو لا؟

وللمسألة صور مختلفة: ففي بعض الصور لا إشكال في عدم إمكان إتيان الجميع للعمل لا بالاشتراك ولا بالاستقلال لعدم قابلية الفعل لذلك ذاتاً كقطع يد واحدة في باب السرقة، وفي بعض آخر يكون المحلّ قابلًا لإتيان الجميع في حدّ ذاته ولكن لا يجوز أيضاً لأنّ المولى أخذ متعلّق خطابه بشرط لا كما في إجراء الحدّ بمائة جلدة، فلا يجوز لكلّ واحد من المؤمنين إجراء الحدّ الكامل على الزاني مثلًا، وفي صورة ثالثة يكون المحلّ أيضاً قابلًا ويكون إتيان كلّ واحد من المكلّفين مطلوباً للمولى كطلب العلم إلى حدّ الاجتهاد فيما إذا لم يكن مخلًا للنظام ولكن مع ذلك لا يجوز إتيان الجميع بقصد الوجوب والورود بل يجوز بقصد المطلوبيّة أعمّ من الوجوب والاستحباب، وهناك صورة رابعة، وهي نفس الصورة الثالثة إلّاأنّه لا دليل على كون إتيان الجميع مطلوباً، ولا على أخذ المتعلّق بشرط لا، كتجهيز الميّت والصّلاة عليه، ففي هذه الصورة يفصّل بين ما إذا أتى الجميع بالمأمور به معاً ودفعةً، فيكون كلّ واحد ممتثلًا للتكليف لصدق صرف وجود المكلّف على جميعهم حينئذٍ، وما إذا أتوا به تدريجاً فيكون إتيان المبادر بالامتثال امتثالًا للتكليف بلا إشكال، ويقع إتيان الباقين لغواً لأنّ بإتيان المبادر تحقّق صرف وجود المتعلّق وبتحقّقه يسقط الأمر.

ومن هنا يظهر الحكم في الواجب التخييري فيما إذا أراد المكلّف إتيان جميع الأطراف فيأتي فيه جميع الصور الأربعة، نعم

فيما إذا أتى المكلّف بجميع الأطراف دفعةً لا إشكال أيضاً في كون كلّ واحد منها مصداقاً للمأمور به ولكن مع ذلك يترتّب عليها ثواب عمل واحد لأنّ المأمور به والمطلوب كان واحداً، وتعدّد الثواب تابع لتعدّد الغرض والمطلوب لا لتعدّد ما يتحقّق به الغرض.

الأمر الثالث: قد يصير الواجب الكفائي عينياً كما أنّ الواجب التخييري أيضاً قد يصير

انوار الأصول، ج 1، ص: 487

تعيينياً، وهو فيما إذا لم يقم للواجب الكفائي قدر الكفاية كما إذا لم يقم لتحصيل العلم من به الكفاية، وفي الواجب التخييري ما إذا لم يمكن إتيان أحد الطرفين كتحرير الرقبة في زماننا هذا مثلًا، فيصير الطرف الآخر واجباً تعيينياً كما لا يخفى.

الأمر الرابع: كما أنّ التخيير بين الأقلّ والأكثر في الواجب التخييري لم يكن معقولًا فيما إذا أتى بالأكثر تدريجاً كذلك لا يعقل في الواجب الكفائي، نظير ما إذا خاطب المولى عبيده بقوله:

«يجب أن يفعل العمل الفلاني عشرة منكم أو عشرون» فإن أتى العشرون بالعمل دفعةً فلا إشكال في أنّ جميعهم ممتثلون للتكليف وإن أتوا به تدريجاً فبعد إتيان العشرة يتحقّق المطلوب، ويكون إتيان الأكثر تحصيلًا للحاصل كما مرّ بيانه في الواجب التخييري بعينه.

انوار الأصول، ج 1، ص: 489

الفصل السابع عشر الواجب الموقّت

اشارة

يتصوّر الواجب من حيث الزمان على ثلاث صور:

الصورة الاولى: أن لا يكون له أي تقيّد بالزمان ولا يكون للزمان أي دخل في تحقّق مصلحته وإن كان تحقّقه في الخارج محتاجاً إلى الزمان (من باب أنّ الإنسان بما أنّ وجوده زماني تكون أفعاله أيضاً زمانيّة) نظير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونظير أداء الدَين فإنّ مقوّم المصلحة، فيهما إنّما هو نفس طبيعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونفس طبيعة أداء الدَين بحيث لو أمكن انفكاكهما عن الزمان

لما وقع خلل في تحقّق المقصود ووقوع المصلحة فيكون واجباً مطلقاً من هذه الجهة.

الصورة الثانيّة: أن يكون للزمان دخل في المصلحة ولكنّه أوسع من مقدار الواجب فيسمّى موقّتاً موسّعاً كما في الصّلوات اليوميّة والعمرة الواجبة.

الصورة الثالثة: أن يكون للزمان دخل أيضاً في تحقّق المصلحة ولكنّه يكون بقدر الواجب فيسمّى موقّتاً مضيّقاً كما في صيام رمضان وبعض مناسك الحجّ كالوقوف في العرفات.

وهناك صورة رابعة ذكرها في تهذيب الاصول «1» وهي ما إذا كان مطلق الزمان دخيلًا في تحقّق الغرض، ولكن أوّلًا لم نظفر بمثال له في الفقه، وثانياً أنّه ممّا لا مجال للأمر به للزوم اللغويّة (كما صرّح به نفسه) لأنّ المكلّف لا يقدر على إيجاده في غير الزمان حتّى يكون الأمر صارفاً عنه وداعياً نحوه.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه استشكل في تصوير كلّ واحد من المضيّق والموسّع، فبالنسبة إلى انوار الأصول، ج 1، ص: 490

الواجب المضيّق، فقد يقال، أنّه لا إشكال في أنّ زمان الانبعاث متأخّر عن زمان البعث ولو آناً مّا، فلو فرضنا أنّه بمجرّد طلوع الفجر مثلًا وقع الإيجاب في لحظة بعد الطلوع، وأنّ إرادة المكلّف وعزمه على الفعل أيضاً يحتاج إلى لحظة من الزمان فلا أقلّ من أن يتأخّر الانبعاث عن البعث بمقدار لحظتين من الزمان، ولازمه خروج كلّ واجب مضيّق عن كونه مضيّقاً ودخوله في الواجب الموسّع، وأن يكون كلّ واجب موقّت موسّعاً.

ولكنّه إشكال واهٍ وضعيف غاية الضعف، حيث إنّ المفروض أنّ القضايا الشرعيّة قضايا شرطيّة حقيقة صدرت من جانب الشارع قبل مجي ء زمان الواجب بل قبل تولّد هذا المكلّف، وأنّ المكلّف يطلع عليها قبل دخول الوقت، فهو يعلم مثلًا أنّ وجوب الصّيام يصير فعليّاً بالنسبة إليه بمجرّد طلوع الفجر، وأنّ عليه

أن يمسك عن الأكل والشرب من أوّل طلوع الفجر (كما ورد في قوله تعالى: «كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ» «1»

) فهو يريد الامساك ويعزم عليه لحظات قبل الطلوع من باب المقدّمة العلمية، وعليه يكون زمان البعث منطبقاً على زمان الانبعاث كما لا يخفى.

واستشكل في الواجب الموسّع بأنّ لازمه جواز ترك الواجب في زمان وجوبه وهذا ينافي معنى الوجوب.

والجواب عنه أيضاً واضح: لأنّ متعلّق الواجب إنّما هو طبيعة الصّلاة الواقعة بين الحدّين من الزمان، وليس المتعلّق أفرادها الطوليّة كما لا يكون المتعلّق أفرادها العرضيه كإتيانها في المسجد أو في الدار، وبعبارة اخرى: الساعات الواقعة بين الحدّين إنّما هي بمنزلة الأفراد والمصاديق لتلك الطبيعة التي يكون المكلّف مخيّراً بينها تخييراً عقليّاً، ولا إشكال في أنّ اختيار المكلّف فرداً من أفراد الواجب التخييري أي طرفاً من أطرافه لا يستلزم تركه للواجب بل يتحقّق ترك الواجب بترك جميع الأفراد والابدال.

هل القضاء تابع للأداء، أو بأمر جديد؟

ثمّ إنّ هيهنا بحثاً معروفاً قديماً وحديثاً، وهو أنّه هل يجب القضاء بمجرّد ترك الواجب في انوار الأصول، ج 1، ص: 491

داخل الوقت أو يحتاج وجوبه إلى دليل خاصّ؟ وبعبارة اخرى: هل القضاء تابع للأداء، أو يكون بأمر جديد؟

لا إشكال في أنّ هذه المسألة تعدّ من القواعد الفقهيّة ولا تكون من المسائل الفقهيّة ولا من المسائل الاصوليّة، لأنّ النزاع إنّما هو في وجوب قضاء كلّي الواجب (أي واجب كان) إذا فات في وقته، فيكون الحكم فيه كلّياً لا يختصّ بباب دون باب، فلا تكون مسألة خاصّة من الفقه، فينطبق عليه تعريف القاعدة الفقهيّة وهو الحكم الكلّي الشرعي الذي لا يختصّ بباب دون باب، ولا تكون مسألة اصوليّة لأنّ ملاكها وقوعها في طريق الحكم

الشرعي، والحال أنّ المسألة حكم شرعي بنفسها.

وكيف كان ففي المسألة أقوال كثيرة، والمهمّ منها ثلاث:

القول الأوّل: وجوب القضاء بالأمر الأوّل أي تبعيّة القضاء للأداء مطلقاً.

القول الثاني: حاجته إلى أمر جديد، أي عدم التبعيّة مطلقاً.

القول الثالث: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية من التفصيل بين ما إذا كان التوقيت بدليل منفصل ولم يكن له إطلاق على التقييد بالوقت وكان لدليل الواجب إطلاق فتكون قضيّة الإطلاق ثبوت وجوب القضاء بعد انقضاء الوقت أي تبعيّة القضاء للأداء، وبين ما إذا ارتفع إحدى هذه القيود الثلاثة فيحتاج وجوب القضاء إلى أمر جديد.

أقول: لا بدّ من طرح البحث هنا أيضاً في مقامين: مقام الثبوت ومقام الإثبات.

أمّا مقام الثبوت: فالصحيح أن يقال: إن كان التقيّد بالوقت على نحو وحدة المطلوب، أي كان المطلوب الصّلاة المأتي بها في الوقت مثلًا، فلابدّ لوجوب القضاء في خارج الوقت إلى أمر جديد، لأنّه بعد مضيّ الوقت يرتفع الطلب وهو واضح، وأمّا إن قلنا بكون المطلوب متعدّداً، أي كان أصل الصّلاة مطلوباً وكان إتيانه داخل الوقت مطلوباً آخر، فلا إشكال في بقاء وجوب الصّلاة بعد مضيّ الوقت، أي في بقاء المطلوب الأوّل على حال وجوبه بعد عدم الإتيان بالمطلوب الثاني.

وأمّا مقام الإثبات: فهو تابع للسان الأدلّة، فإن فهمنا من لسان الدليل وحدة المطلوب فيسقط الأمر الأوّل بعد إتمام الوقت، وإن فهمنا منه تعدّد المطلوب كان الطلب باقياً بالنسبة إلى أصل الواجب، وطريق فهم تعدّد المطلوب تارةً يكون بالشرائط الثلاثة المذكورة في كلام انوار الأصول، ج 1، ص: 492

المحقّق الخراساني رحمه الله (وهي استفادة التوقيت من دليل منفصل أوّلًا، وعدم إطلاق له على التقييد بالوقت ثانياً وكون دليل الواجب مطلقاً ثالثاً) واخرى من مناسبات الحكم والموضوع

كما إذا قال المولى: «اقرأ القرآن يوم الجمعة» أو قال: «اقرأ القرآن بالصوت الحسن» فلا إشكال في أنّ مقتضى مناسبة الحكم والموضوع في هذين المثالين أنّ مطلق قراءة القرآن مطلوب، وقراءته يوم الجمعة أو بالصوت الحسن مطلوب آخر.

بل قد يقال أنّه كذلك في جميع المستحبّات الواردة في لسان الشرع كما هو المعروف، فيقال أنّ الأصل في المستحبّات هو تعدّد المطلوب.

وأمّا الواجبات فيمكن التمثيل لتعدّد المطلوب بالإضافة إلى غير الموقّتة منها بقوله تعالى:

«الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ... وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ» «1»

فإنّ مقتضى مناسبة الحكم والموضوع فيه أنّ شهادة طائفة من المؤمنين مطلوب وأصل إجراء الحدّ المطلوب آخر مع ورودهما في خطاب واحد.

ثمّ إنّه لو فرضنا إجمال الدليل الاجتهادي بالنسبة إلى وحدة المطلوب وتعدّده فما هو مقتضى الأصل العملي؟

ذهب بعض إلى أنّ مقتضى استصحاب بقاء الوجوب بعد مضيّ الوقت كون المطلوب متعدّداً فيجب القضاء.

ولكن يرد عليه: أوّلًا: عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية.

وثانياً: أنّ جريانه مبني على بقاء الموضوع، أي عدم كون الوقت جزءً لموضوع الوجوب بل قيداً للحكم عند العرف، فإن كان الوقت جزءً مقوّماً للموضوع لم يكن الاستصحاب جارياً لأنّ من شرائط الاستصحاب وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة وإن لم يكن الوقت جزءً مقوّماً للموضوع، كما أنّه كذلك في قوله تعالى: «أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ» حيث إنّ الحدّ المذكور لوقت الصّلاة قيّد لهيئة «أقم» فلا إشكال في بقاء الموضوع وبالنتيجة جريان استصحاب الوجوب.

انوار الأصول، ج 1، ص: 493

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: أنّه قد يقال: يمكن إثبات وجوب القضاء في خارج الوقت بالتمسّك بقاعدة الميسور.

ولكنّه مشكل من جهتين:

الجهة الاولى: أنّه لا عموم لهذه القاعدة حتّى يعمّ ما إذا كان

الوقت من المعسور فتأمّل.

الجهة الثانيّة: أنّه يعتبر في جريانها صدق أنّ هذا ميسور لذلك المعسور عند العرف، فيعتبر في المثال المزبور أن يصدق على الصّلاة خارج الوقت أنّها ميسور للصّلاة داخل الوقت، وهو ممّا يشكل إحرازه.

الأمر الثاني: أنّ ما ذكرنا بالنسبة إلى قيد «الوقت» يجري بالنسبة إلى سائر القيود الواردة في الصّلاة وفي جميع الواجبات الشرعيّة أيضاً، فمثلًا لو صار المكلّف فاقداً للطهورين أو لم يكن قادراً على تحصيل القبلة مثلًا فيجري فيهما نفس النزاع الجاري في الوقت وأنّه هل يجب على المكلّف إتيان الصّلاة مع فقد شرط الطهارة أو القبلة، أو لا؟ فيبحث في أنّه هل يكون تقييد الصّلاة بالطهارة أو القبلة على نحو وحدة المطلوب أو تعدّده؟- إلى آخر ما مرّ هناك.

الأمر الثالث: في ثمرة المسألة، وهي واضحة، لأنّ كثيراً من الواجبات الموقّتة ليس لها دليل خاصّ يدلّ على وجوب قضائها إذا فاتت في وقتها كزكاة الفطرة التي يجب أدائها قبل ظهر يوم الفطر، ونظير صلاة الآيات إذا لم يأت بها قبل الشروع في الانجلاء أو قبل تمام الانجلاء، ونظير بعض مناسك الحجّ إذا فاتت في وقته الخاصّ به، فلا إشكال في أنّه إن قلنا بتعدّد المطلوب كان القضاء واجباً ولو لم يرد خطاب مستقلّ يدلّ عليه، وإن قلنا بوحدة المطلوب لم يكن القضاء واجباً ما لم يرد خطاب مستقلّ يدلّ على وجوبه.

نعم قد يقال في مقام نفي هذه الثمرة: أنّه لا حاجة إلى طرح أصل هذه المسألة (هل القضاء تابع للأداء أو بأمر جديد) بعد ورود رواية مشهورة وهي قوله عليه السلام «إقض ما فات كما فات» «1»

بطرق عديدة حيث إنّ مقتضاها وجوب قضاء كلّ ما فات من الفرائض سواء دلّت أدلّة

الأداء عليه، أو لم تدلّ.

انوار الأصول، ج 1، ص: 494

ولكن قد اجيب عنه في محلّه بأنّ مثل هذه الرّواية وهذا التعبير ليس في مقام بيان أصل وجوب القضاء وبيان موضوعه، بل أنّها في مقام بيان كيفية الإتيان والامتثال بعد ثبوت أصل القضاء وثبوت الموضوع.

فتقول هذه الرّواية: كلّما ثبت أصل القضاء في مورد وجب إتيان ما ثبت وجوب قضائه بنفس الكيفية التي فاتت، وتشهد لذلك ملاحظة سؤال السائل وموارد ورود روايات الباب فراجع.

انوار الأصول، ج 1، ص: 495

الفصل الثامن عشر الأمر بالأمر

هل الأمر المتعلّق بالأمر بفعل- أمر بذلك الفعل حتّى يجب على المكلّف امتثاله إذا علم به وإن لم يصل الأمر الثاني (أي أمر الواسطة) إليه، أو لا يكون أمراً بذلك الفعل فلا يجب على المكلّف الامتثال ما لم يصل إليه من طريق الواسطة؟

لا إشكال في أنّ أمثلة الأمر بالأمر كثيرة في الآيات والرّوايات نظير قوله تعالى: «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ...» «1»

وقوله تعالى: «قُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ» «2»

وقوله تعالى: «قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَايَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ» «3»

وقوله تعالى: «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ» «4»

، وفي الرّوايات نظير الأحاديث القدسيّة، والوصايا التي تصدر من جانب الأئمّة المعصومين عليهم السلام إلى شيعتهم تحت عنوان قوله عليه السلام: «قل لشيعتي كذا وكذا»، وعند العرف نظير ما إذا قال المولى لابنه: «مُرْ زيداً أن يفعل كذا وكذا» فهل هذا أمر بذاك الفعل بحيث إذا علم زيد بالأمر من قبل أن يأمره ابن المولى كان الإتيان به واجباً عليه، أو لا يكون أمراً به فلا يجب الإتيان ما لم يأمره ابن المولى؟».

الأولى إيراد البحث أيضاً في مقامين: مقام الثبوت ومقام الإثبات.

الأوّل في مقام الثبوت: فتارةً تكون الواسطة مجرّد طريق لوصول أمر المولى إلى

عبده المكلّف، فلا إشكال في وجوب الامتثال على المكلّف إذا علم به وإن لم يصل إليه من جانب انوار الأصول، ج 1، ص: 496

الواسطة، واخرى يكون وصول أمر المولى من ناحية أمر الواسطة تمام الموضوع في الوجوب، فأراد المولى مثلًا توقيره وتعظيمه وإثبات رفعة شأنه عنده، فلا إشكال أيضاً في عدم وجوب الامتثال على العبد ما لم يصل الأمر من جانب الواسطة، وثالثة يكون وصول الأمر من ناحية أمر الواسطة جزء للموضوع كما هو الغالب في الأوامر الاداريّة والفرامين القانونيّة العقلائيّة، فلابدّ لوجوب امتثالها من إبلاغها بطريق خاصّ فلا يجب الامتثال إلّاإذا بلغ الحكم من ذلك الطريق.

الثاني في مقام الإثبات: فالذي يستظهر من الآيات والرّوايات هو القسم الأوّل فيكون الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله في الآيات المذكورة في أوّل البحث مجرّد مبلّغ لايصال الأوامر الإلهيّة إلى العباد، بل هو المتبادر من نفس كلمة «الرسول» كما لا يخفى، وحينئذٍ يجب على العباد الإطاعة وامتثال الأوامر الشرعيّة وإن لم تصل إليهم من جانب شخص الرسول بل وصلت إليهم من طرق اخرى.

ثمّ إنّ بعض الأعلام جعل ثمرة هذا النزاع شرعيّة عبادة الصبي وقال: «إنّ الثمرة المترتّبة على هذا النزاع هي شرعيّة عبادة الصبي بمجرّد ما ورد في الرّوايات من قوله عليه السلام «مروهم بالصّلاة وهم أبناء سبع سنين»، فإنّه بناءً على ما ذكرناه من أنّ الأمر بالأمر بشي ء ظاهر عرفاً في كونه أمراً بذلك الشي ء تدلّ تلك الرّوايات على شرعيّة عبادة الصبي لفرض عدم قصور فيها لا من حيث الدلالة كما عرفت، ولا من حيث السند لفرض أنّ فيها روايات معتبرة».

ثمّ قال: «قد يقال كما قيل «1» أنّه يمكن إثبات شرعيّة عبادة الصبي بعموم أدلّة التشريع كقوله

تعالى: «أَقِيمُوا الصَّلَاةَ» وقوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» وما شاكلهما ببيان أنّ تلك الأدلّة بإطلاقها تعمّ البالغ وغيره ... وحديث «رفع القلم عن الصبي حتّى يحتلم» لا يقتضي أزيد من رفع الإلزام ... لا أصل المحبوبيّة عنها، ثمّ أجاب عنه بأنّ الوجوب أمر بسيط لا تركيب فيه أصلًا، لأنّه عبارة عن اعتبار المولى الفعل على ذمّة المكلّف وإبرازه في الخارج بمبرز من لفظ أو نحوه، وحديث الرفع يكون رافعاً لهذا لاعتبار، فيدلّ على أنّ الشارع لم يعتبر فعلًا كالصّلاة والصّوم وما شاكلهما على ذمّة الصبي» (انتهى ملخّصاً) «2».

انوار الأصول، ج 1، ص: 497

أقول: يرد عليه:

أوّلًا: أنّ الثمرة ليست منحصرة بما ذكره من شرعيّة عبادات الصبي بل تظهر في مثل قوله تعالى: «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ» فيما إذا فرضنا عدم وصول أمر بغضّ الأبصار من جانب النبي صلى الله عليه و آله إلينا، فيمكن حينئذٍ الاستدلال بهذه الآية بناءً على أن يكون الأمر بالأمر بشي ء أمراً بذلك الشي ء كما مرّ أنّه كذلك، وكما أنّ الفقهاء لا يزالون يستدلّون لحرمة النظر إلى الأجنبي وفروع هذه المسألة بإطلاق هذه الآية، وقد لا يكون في هذه الفروع دليل إلّاإطلاق هذه الآية.

ثانياً: الرّوايات الواردة في باب عبادات الصبي الدالّة على شرعيّة عباداتهم ليست منحصرة فيما يشتمل على الأمر بالأمر، بل انظر إلى الباب 29 من أبواب من يصحّ منه الصّوم من كتاب الوسائل حتّى ترى روايات عديدة تأمر الصبيان بالعبادة بلا واسطة كقول الإمام عليه السلام: «إذا أطاق الغلام صومه ثلاثة أيّام متتابعة فقد وجب عليه صوم شهر رمضان» ولا يخفى أنّ قوله عليه السلام «وجب» دالّ على التأكيد في الاستحباب لا الوجوب، ونحوها

غيرها.

ثالثاً: الإشكال في مسألة مشروعيّة عبادات الصبي ليس منحصراً في أنّ الأمر بالأمر بشي ء هل يكون أمراً بذلك الشي ء أو لا؟ بل هناك إشكال آخر، وهو دعوى وجود قرينة في تلك الرّوايات تدلّ على أنّها صدرت من جانب الشارع لمجرّد الإرشاد إلى التمرين والممارسة، فهي أوامر إرشاديّة وليست مولويّة حتّى يستفاد منها الاستحباب.

نعم، يرد على القائل بهذا القول (وهو السيّد الحكيم كما أشرنا إليه سابقاً في الهامش) أنّ هذا يتمّ بناءً على عموم الأدلّة الأوّليّة أو إطلاقها بالنسبة إلى الصبي، بينما يمكن أن يقال أنّها خطابات توجّهت إلى خصوص المكلّفين وتكون منصرفة عن الصبي من بدو الأمر.

انوار الأصول، ج 1، ص: 499

الفصل التاسع عشر الأمر بعد الأمر

إذا ورد أمر بعد الأمر قبل امتثال الأمر الأوّل فهل يدلّ هو (الأمر الثاني) على التأكيد حتّى يكون المطلوب واحداً ويكفي امتثال واحد، أو يدلّ على التأسيس وتعدّد المطلوب فلابدّ من الامتثال الثاني وإتيان العمل مرّة اخرى؟

الصحيح أنّ للمسألة صور عديدة:

الصورة الاولى: أن يكون للمتعلّق أو المادّة قيد يستفاد منه التأسيس وتعدّد المطلوب كما إذا قال: «صلّ» ثمّ قال «صلّ صلاة اخرى» أو قال: «اعطني درهماً» ثمّ قال «اعطني درهماً آخر» فلا ريب في أنّ المأمور به حينئذٍ يكون متعدّداً بل إنّه خارج عن محلّ النزاع.

الصورة الثانيّة: أن تكون الهيئة مقيّدة، فصدرت القضيّة مثلًا على نهج القضيّة الشرطيّة كما إذا قال مثلًا: «إن ظاهرت فاعتق رقبة» ثمّ قال: «إن قتلت نفساً خطأً فاعتق رقبة» فلا إشكال أيضاً في أنّ ظاهرهما تعدّد المطلوب والمأمور به، إنّما الكلام في تداخل الأسباب وعدمه فيما إذا كانت الأسباب متعدّدة مع وحدة المسبّب وسيوافيك البحث عنه في مباحث المفاهيم مبحث مفهوم الشرط فانتظر.

الصورة الثالثة: أن لا يكون قيد لا

للمادّة ولا للهيئة حتّى يستفاد منه التعدّد، كما إذا قال:

«أقيموا الصّلاة» ثمّ قال مرّة ثانيّة: «أقيموا الصّلاة» وهذه الصورة هي محلّ الكلام، فقال المحقّق الخراساني رحمه الله: إنّ مقتضى إطلاق المادّة كون الأمر الثاني تأكيداً ومقتضى إطلاق الهيئة كونه تأسيساً، لأنّ كلّ أمر وكلّ هيئة تدلّ على طلب على حدة، فيدعو إلى مطلوب يخصّه، وحينئذٍ يقع التعارض بين الإطلاقين، وذهب بعض الأعلام في المحاضرات إلى أنّ المتفاهم عرفاً هو

انوار الأصول، ج 1، ص: 500

التأكيد وأنّه قضيّة إطلاق المادّة وعدم تقييدها بشي ء «1»، من دون أن يشير إلى قضيّة إطلاق الهيئة وتعارضها مع إطلاق المادّة، نعم صرّح في صدر كلامه أنّ الأمر بشي ء في نفسه ظاهر في التأسيس ولكنّه ليس محلًا للنزاع.

أقول: الإنصاف أنّ الهيئة في حدّ ذاتها لا تدلّ على شي ء لا على التأكيد ولا على التأسيس، بل التأكيد والتأسيس من شؤون المادّة، فإذا كانت المادّة مطلقاً كانت قضيّة إطلاقها التأكيد.

وإن شئت قلت: الهيئة هنا تابعة للمادّة، فإن كانت عين الأوّل كانت تأكيداً، وإن كانت غيره كانت تأسيساً.

وبهذا تمّ الكلام عن مبحث الأوامر ونشرع الآن في مبحث النواهي بعون اللَّه تعالى.

المقصد الثّاني: النواهي ويقع البحث فيها في فصول عديدة

الفصل الأوّل في دلالات صيغة النهي

اشارة

وفيه جهات من البحث:

الجهة الاولى: في حقيقة النهي ومدلول صيغته

المعروف بين القدماء وكثير من المتأخّرين أنّ مفاد النهي متّحد مع مفاد الأمر في دلالة كليهما على الطلب، إنّما الفرق في متعلّقهما، فمتعلّق النهي هو الترك، ومتعلّق الأمر هو الفعل، وقد ذهب إليه جماعة من المتأخّرين أيضاً منهم المحقّق النائيني رحمه الله، ولكن ذهب جماعة اخرى من المحقّقين المعاصرين إلى العكس، فمتعلّق الأمر والنهي عندهم واحد وهو الفعل، ومدلولهما مختلف، فمدلول النهي هو الزجر عن الفعل، ومدلول الأمر هو البعث إلى الفعل، وهذا هو المختار، ومختار تهذيب الاصول واختاره أيضاً بعض الأعلام في المحاضرات وفي هامش أجود التقريرات.

ويمكن أن يستدلّ له:

أوّلًا: بالتبادر فإنّ المتبادر من هيئة «لا تفعل» هو الزجر والمنع عن الفعل لا طلب تركه.

وإن شئت قلت: النهي التشريعي كالنهي التكويني فكما أنّ الناهي عن فعل تكويناً وخارجاً يمنع المنهي ويزجره عن الفعل بيده مثلًا لا أنّه يطلب تركه- كذلك الناهي تشريعاً.

ثانياً: إنّ النواهي لا تصدر من جانب الناهي إلّالوجود مفاسد في الأفعال المنهي عنهاكما أنّ الأوامر تصدر من جانب الآمر لأجل مصالح موجودة في الأفعال المأمور بها، فالنهي عن شرب الخمر لا يكون إلّالأجل مفسدة فيه، كما أنّ الأمر بالصّلاة لا يكون إلّالأجل مصلحة موجودة في الصّلاة، لا أنّ النهي عن شرب الخمر يكون لأجل مصلحة في تركه حتّى يكون انوار الأصول، ج 1، ص: 504

النهي طلباً للترك، (والتعبير بأنّ عدم المفسدة بنفسه مصلحة تعبير تسامحي) كما أنّ الأمر بالصّلاة لا يكون لأجل مفسدة في ترك الصّلاة.

واستدلّ في تهذيب الاصول بوجه ثالث وهو «أنّ العدم والترك من الامور الباطلة الوهمية لا يمكن أن يكون ذا مصلحة تتعلّق به اشتياق وإرادة أو بعث وتحريك، إذ البطلان المحض لا يترتّب عليه أثر

حتّى يقع مورد التصديق بالفائدة، وقد عرفت أنّ ما هو المشهور من أنّ للاعدام المضافة حظّاً من الوجود ممّا لا أصل له إذ الوجود لملكاتها لا لاعدامها» «1».

ولكن الإنصاف أنّه مجرّد دقّة عقليّة، فإنّ العدم لو سلّمنا كونه بطلاناً محضاً بنظر فلسفي عقلي، إلّاأنّ الكلام في الأوامر والنواهي العرفيّة العقلائيّة، ولا يبعد أن يطلب مولى عرفي من عبده عدم شي ء أو ينهاه عنه، كما أنّه كثيراً مّا يتّفق أنّ الطبيب يطلب من المريض ترك أكل غذاء خاصّ أو ترك شرب مائع خاصّ كالماء البارد.

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ النهي من الإنشائيات لا الإخباريات حيث إنّه وضع لانشاء الزجر وليس بمعنى «زجرت»، كما أنّ الأمر أيضاً وضع لانشاء البعث وليس بمعنى «بعثت».

هذا- وقد وقع بين القائلين بأنّ معنى النهي طلب الترك نزاع معروف، وهو أنّه ما المراد من الترك؟ فهل هو عبارة عن «أن لا يفعل»، أو يكون بمعنى الكفّ ذهب المحقّق الخراساني والمحقّق النائيني رحمهما الله إلى الأوّل، ويمكن أن يستدلّ له بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّه هو المتبادر إلى الذهن.

الوجه الثاني: أنّ الترك أمر عدمي، وهو يحصل بمجرّد ترك الفعل، والتكليف بالكفّ تكليف بأمر وجودي زائد على مطلق الترك فيحتاج إلى مؤونة زائدة من الدليل وهي مفقودة.

والقائلون بأنّ المراد من الترك هو الكفّ استدلّوا بأنّ مجرّد «أن لا يفعل» عدم خارج عن تحت القدرة والاختيار فلا يمكن أن يتعلّق به البعث والطلب، والشاهد على ذلك أزليّة العدم بمعنى أنّه كان قبل أن يكون المكلّف موجوداً.

واجيب عنه: بأنّه إذا كان وجود شي ء تحت القدرة والاختيار كان عدمه أيضاً كذلك لاستحالة الانفكاك بين وجود شي ء وعدمه من هذه الجهة، فإنّ الجبر في جانب العدم يستلزم انوار

الأصول، ج 1، ص: 505

الجبر في جانب الوجود وهذا خلف، وأمّا كون العدم خارجاً عن تحت الاختيار من الأزل فهو لا ينافي اختياريته من حيث البقاء والاستمرار.

نعم بقي هنا شي ء وهو أنّه من البعيد جدّاً أن يكون مراد القائلين بالكفّ الكفّ الفعلي فإنّه يستلزم حصول وسوسة وتزلزل نفساني بالنسبه إلى إتيان العمل المنهي عنه حتّى يتحقّق كفّ النفس عنه خارجاً، مع أنّه ممّا لا يتفوّه به أحد، بل المراد منه الكفّ التقديري وبالقوّة، ولا إشكال في أنّه يرجع حينئذٍ إلى المعنى الأوّل للترك أعني «أن لا يفعل» فيصير النزاع لفظيّاً.

وهيهنا نكتة اخرى: أنّ هذا البحث يجري بعينه أيضاً بالنسبة إلى المذهب المختار، أي كون النهي بمعنى الزجر عن الفعل حيث إنّه لا بدّ من أن يبحث في أنّه هل المراد من الزجر الزجر بالفعل أو الزجر التقديري وبالقوّة، لا إشكال في أنّ المراد منه أيضاً هو الزجر بالقوّة، لأنّه لا معنى للزجر الفعلي بالنسبة إلى من يكون منزجراً بنفسه.

ثمّ إنّ هيهنا بحثاً آخر معروفاً، وهو أنّه كيف يدلّ النهي على وجوب ترك جميع الأفراد العرضيّة مع كفاية تحقّق صرف الوجود للامتثال في الأمر؟ فما هو منشأ هذا الفرق؟

ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله وكثير من المتقدّمين إلى أنّه حكم العقل بلحاظ خصوصيّة في الأمر الوجودي والأمر العدمي، وإليك نصّ كلام المحقّق الخراساني رحمه الله: «ثمّ إنّه لا دلالة لصيغته (صيغة النهي) على الدوام والتكرار كما لا دلالة لصيغة الأمر وإن كان قضيّتهما عقلًا تختلف ...

(إلى أن قال) ضرورة أنّ وجودها يكون بوجود فرد واحد وعدمها لا يكاد يكون إلّابعدم الجميع» (انتهى).

لكن الإنصاف أنّه في غير محلّه، لأنّ الوجود والعدم متقابلان تقابل النقيضين وأنّ أحدهما بديل للآخر ولازمه،

أن يحصل العدم بفرد واحد كما يحصل الوجود بفرد واحد.

وبعبارة اخرى: كما أنّ وجود الطبيعي يكون بوجود أفراده فيتعدّد وجوده بتعدّد أفراده، كذلك عدم الطبيعي ينعدم بتعداد اعدام أفراده، فإنّ العدم يتصوّر بتعداد وجودات الأفراد ويكون بإزاء كلّ وجود عدم خاصّ.

فالصحيح أن يقال: إنّ المنشأ لهذا التفاوت يتلخّص في أمرين:

الأمر الأوّل: اختلاف طبيعة المصلحة وطبيعة المفسدة اللتين هما الغايتان الأصليتان في البعث والزجر، فإنّ المصلحة بمقتضى طبيعتها وذاتها تحصل بصرف الوجود، أي تحصل الغاية

انوار الأصول، ج 1، ص: 506

منها بصرف الوجود، من دون فرق بين الامور الشرعيّة والامور العرفيّة، وأمّا المفسدة فلا يكفي فيها صرف الترك حيث إنّها موجودة في كلّ فرد فرد من أفراد الطبيعة المنهي عنها، وبالطبع تحصل الغاية من النهي بترك جميع الأفراد كالمفسدة الموجودة في السمّ حيث إنّ الغاية في النهي عن شربه إنّما هو حفظ النفس وهو متوقّف على ترك جميع الأفراد كما لا يخفى، وحيث إنّ هذه الخصوصيّة هي الغالبيّة في المصالح والمفاسد حصل من جانبها انصراف في الأوامر والنواهي، فإنصرف الأمر إلى فرد واحد وانصرف النهي إلى جميع الأفراد.

الأمر الثاني: أنّ المفاسد في النواهي تتصوّر على ثلاثة أقسام: ففي قسم منها- وهو الغالب- يكون صرف العدم من المفسدة حاصلًا فيكون النهي عنها (لتحقّق صرف العدم منها) تحصيلًا للحاصل، ويصير هذا قرينة على تعلّق النهي بجميع الأفراد على نهج العام الافرادي، نظير ما إذا نذر الإنسان أن يترك التدخين إلى آخر عمره، فإنّ لكلّ فرد من المنهي عنه فيه مفسدة على حدة، فإذا حصل الحنث بالنسبة إلى بعض الأفراد لا يسقط التكليف بالترك بالنسبة إلى سائر الأفراد.

وفي قسم آخر منها تكون المفسدة قائمة بصرف الوجود من المنهي نظير ما إذا

نذر أن يترك صرف الوجود من التدخين، فيحصل الحنث حينئذٍ بصرف الوجود منه ولا إلزام عليه بالإضافة إلى سائر الأفراد.

وفي قسم ثالث منها تكون المفسدة قائمة بالمجموع من حيث المجموع كالمادّة السمّية التي تحصل مفسدتها- وهي هلاك النفس- فيما إذا تناول مجموعها وهو نظير ما إذا نذر أن يترك التدخين على نهج العام المجموعي فيحصل الحنث حينئذٍ بتدخين المجموع فقط ولا مانع في تدخين بعضها.

إذا عرفت هذا فنقول: حيث إنّ الغالب في النواهي إنّما هو القسم الأوّل بل لا مصداق للقسمين الآخرين إلّاأحياناً وفي بعض الموارد، فلابدّ فيهما من نصب قرينة تصير منشأً لانصراف النواهي عن القسم الأوّل، وقرينة عامّة لعدم كفاية صرف العدم، على عكس ما في الأوامر فحيث إنّ إتيان جميع الأفراد فيها مستحيل عادةً صار ذلك قرينة على كفاية صرف الوجود، فتدبّر جيّداً.

ثمّ إنّه قد أورد على الوجه الأوّل (وهو أنّ المصلحة تترتّب غالباً على صرف الوجود

انوار الأصول، ج 1، ص: 507

فتكون تلك الغلبه كاشفاً عن تعلّق المصلحة بصرف الوجود المتحقّق بإيجاد فرد، كما أنّ المفسدة في النهي تترتّب على كلّ فرد فتكون قرينة عامّة على أنّ النهي متعلّق بإيجاد كلّ فرد باستقلاله) بأنّه إن أراد من تعلّق النهي بكلّ فرد أنّ المادّة أخذت مرآة للخصوصّيات والزجر تعلّق بكلّ فرد فقد عرفت امتناع مرآتيتها لها وضعف ما يتمسّك لإثباتها من سريان الطبيعة واتّحادها معها، وإن أراد أنّ النهي متعلّق بالطبيعة إلّاأنّ تلك الغلبة قرينة على أنّ جدّ المولى هو الزجر عن كلّ فرد.

ففيه: أنّ الزجر مفاد النهي الاستعمالي، فإذا استعملت الهيئة في نفس الطبيعة دون الأفراد فلا يرجع كون الزجر عن الأفراد جدّاً إلى محصّل إلّاأن يرجع إلى التشبّث بالاستعمال المجازي وهو كما

ترى «1».

أقول: قد مرّ أنّ الطبيعة تكون مرآة للافراد في جميع الحالات، وتوضيحه: إنّا حينما فتحنا أعيننا رأينا الأفراد وتصوّرناها قبل تصوّر الطبيعة، ثمّ نظرنا ولاحظنا أنّ الأفراد تختلف بالنسبة إلى الاغراض التي تتعلّق بها، فتارةً: يتعلّق الغرض بفرد خاصّ مع الخصوصيّة الفرديّة فوضعنا اللفظ بإزائه علماً شخصيّاً، واخرى: يتعلّق الغرض بجميع الأفراد لا بفرد خاصّ فلا دخل فيه للخصوصّيات الفرديّة فإنتزعنا من جميع المصاديق جامعاً عقليّاً ووضعنا اللفظ بإزائه وسمّيناه بالطبيعة، وحينئذٍ تكون الطبيعة متولّدة من مشاهدة الأفراد وملاحظتها، بل إنّ هذا هو الطريق الوحيد في إدراك المفاهيم أيضاً، ولا إشكال في أنّ لازم هذا أن تكون الطبيعة مرآة إلى الوجودات الفرديّة الخارجيّة وإن لم تكن مرآة لخصوصّياتها الشخصيّة.

الجهة الثانيّة: دلاله النهي على التحريم

أنّه لا إشكال في دلالة النهي على الحرمة (كما أنّ الأمر كان دالًا على الوجوب) إنّما الإشكال في أنّ هذه الدلالة هل هي مقتضى الوضع فتكون استعمال النهي في الكراهة مجازاً، أو أنّها مقتضى الإطلاق ومقدّمات الحكمة فيكون الاستعمال في الكراهة أيضاً استعمالًا حقيقياً؟

انوار الأصول، ج 1، ص: 508

الحقّ هو الثاني، أي يستفاد الوجوب من الإطلاق ومقدّمات الحكمة كما مرّ نظيره في مبحث الأمر، فإنّ الكلام هنا هو الكلام هناك، فكما أنّ دلالة الأمر على الوجوب كان من باب أنّ معناه هو الطلب مطلقاً (الذي يعبّر عنه بالفارسيّة ب «خواستن») ولا سبيل لعدم الطلب (الذي يعبّر أيضاً عنه بالفارسيّة «نخواستن») فيه، فيكون الوجوب مقتضى هذا الإطلاق، ولازمه أن لا يكون استعمال الأمر في الاستحباب مجازاً مع احتياجه إلى قيام قرينة على الاستحباب، كذلك دلالة النهي على الحرمة، فإنّ معناه الزجر والمنع عن الفعل مطلقاً من دون تطرّق عدم الزجر فيه، وهذا يقتضي الحرمة وأن لا يكون

استعماله في الكراهة بضمّ القرينة مجازاً، لأنّه ليس من قبيل استعمال اللفظ في غير ما وضع له.

الجهة الثالثة: دلالة النهي على التكرار وعدمه

هل النهي يدلّ على التكرار والاستمرار ووجوب إتيان جميع الأفراد الطوليّة (بعد ما مرّ سابقاً من دلالته على وجوب إتيان جميع أفراده العرضيّة) أو لا؟

لا إشكال في أنّ الأمر لا يدلّ على المرّة ولا على التكرار كما مرّ، ولكن حيث إنّ ملاك الحرمة في النواهي وهو المفسدة قائمة بتمام الأفراد كما عرفت كان مقتضى إطلاق النهي وعدم تقييده بحدّ زماني الاستمرار والتكرار، أي الإتيان بجميع الأفراد الطوليّة كالافراد العرضيّة، نعم إذا قيّد بقيد زماني كأن يقول المولى: «لا تشرب الخمر إلى الغروب» فلا إشكال في عدم دلالته على التكرار.

إن قلت: لازم هذا لزوم الفتوى بوجوب الاستمرار في باب النذر فيما إذا نذر مثلًا على نحو الإطلاق أن يترك الدخين وأن يبقى وجوب الوفاء على حاله حتّى بعد وقوع الحنث، مع أنّ الظاهر أنّه لا يقول به أحد.

قلنا: أوّلًا: لقائل أن يقول في خصوص باب النذر: بأنّ النهي ليس من قبيل الزجر عن الفعل بل أنّه من قبيل طلب الترك، لأنّ الناذر يقول: «للَّه عليّ ترك التدخين» وهذا بعد ضمّ دليل الوفاء، أي (اوفوا بالنذور) معناه «يجب عليك ترك التدخين» لا الزجر عن التدخين كما لا يخفى، ولا إشكال في أنّه إذا كان هذا هو متعلّق النذر لم يجب التكرار والاستمرار بل يحصل الوفاء بإتيان مصداق واحد.

انوار الأصول، ج 1، ص: 509

ثانياً: إنّ النذر تابع لقصد الناذر، ويمكن أن يكون الغالب في النذر كون المتعلّق أمراً وحدانياً وعامّاً مجموعياً بحيث لو وقع الحنث لم يجب الوفاء ثانياً، ولو شككنا فيه فمقتضى أصالة البراءة هو عدم وجوب الوفاء، وأمّا لو فرض

تعلّق النذر على نهج العامّ الافرادي فلا يبعد القول بوجوب الاستمرار كما لا يبعد وجود الفتوى كذلك، حيث إنّ الظاهر أنّ عدم فتوى الفقهاء بوجوب التكرار في باب النذر يكون من باب تلك الغلبة فهي منصرفة عن موارد العام الافرادي.

الجهة الرابعة: حكم النهي بعد المخالفة

هل يدلّ النهي على دوام وجوب الترك وعلى الحرمة ثانياً بعد ارتكاب المخالفة أوّلًا، أو لا؟ وإن قلنا بدلالته على الاستمرار مع قطع النظر عن العصيان.

قد ظهر الجواب ممّا مرّ، فإنّه إذا كان المتعلّق على نهج العام المجموعي فلا إشكال في عدم وجوب الترك ثانياً في صورة المخالفة، وأمّا إذا كان على نهج العام الافرادي فلا إشكال أيضاً في وجوب الترك ثانياً، هذا بالنسبة في مقام الثبوت.

وأمّا مقام الإثبات فيمكن أن يقال: إنّ ظاهر إطلاق النهي والمتبادر من إطلاق الهيئة والمادّة كون المتعلّق على نهج العام الافرادي، ومنشأ هذا التبادر إنّما هو الغلبة في الوجود حيث إنّ الغالب في النواهي صدورها على نحو العام الافرادي وقد ذكرنا في محلّه أنّ غلبة الوجود تكون سبباً لغلبة الاستعمال غالباً وهي سبب للانصراف، ونتيجة ذلك أنّه إذا أتى المكلّف مثلًا بأحد التروك في مناسك الحجّ يجب عليه الترك أيضاً فيما بعد.

الفصل الثاني في اجتماع الأمر والنهي

اشارة

وقبل الخوض في أصل المقصود لا بدّ من تقديم امور:

الأمر الأوّل: في عنوان المسألة وبيان موضع النزاع.

قد وردت تعابير مختلفة في مقام بيان عنوان المسألة ومحلّ النزاع فقال المحقّق الخراساني رحمه الله: «اختلفوا في جواز اجتماع الأمر والنهي في واحد وامتناعه»، وقال المحقّق النائيني رحمه الله: «الأولى تبديل العنوان بأن يقال: إذا اجتمع متعلّق الأمر والنهي من حيث الإيجاد والوجود فهل يلتزم من الاجتماع كذلك أن يتعلّق كلّ من الأمر والنهي بعين ما تعلّق به الآخر كما هو مقالة القائل بالامتناع أو لا يلزم ذلك كما هو مقالة القائل بالجواز» «1»؟

ولبعض الأعلام في المحاضرات كلام هو في الحقيقة توضيح لكلام استاذه وتعليل لاختياره العنوان المزبور وحاصله: «إنّ عنوان النزاع في هذه المسألة على ما حرّره الأصحاب قديماً وحديثاً يوهم كون النزاع فيها كبرويّاً، أي مردّ النزاع في المسألة إلى دعوى المضادّة بين الأحكام الشرعيّة بعضها مع بعض وعدم المضادّة، مع أنّه لا يعقل أن يكون كبرويّاً، بداهة استحالة اجتماع الأمر والنهي في شي ء واحد ووجود المضادّة بينهما مطلقاً حتّى عند من يجوّز التكليف بالمحال كالأشعري، وذلك لأنّ اجتماعهما في نفسه محال، لا أنّه من التكليف بالمحال ضرورة استحالة كون شي ء واحد محبوباً ومبغوضاً للمولى معاً على جميع المذاهب والآراء فما ظنّك بغيره، إذن لا نزاع في الكبرى بل النزاع في المسألة إنّما هو في الصغرى، أي في أنّ النهي انوار الأصول، ج 1، ص: 512

المتعلّق بطبيعة الغصب مثلًا هل يسري منها إلى ما تنطبق عليه طبيعة الصّلاة المأمور بها في الخارج أم لا؟ ومن الواضح جدّاً أنّ سراية النهي من متعلّقه إلى متعلّق الأمر ترتكز على نقطة واحدة، وهي اتّحاد المجمع وكونه موجوداً بوجود واحد، كما أنّ عدم السراية ترتكز على تعدّد

المجمع وكونه موجوداً بوجودين، فيكون مركز النزاع حينئذٍ أنّ المجمع لمتعلّقي الأمر والنهي في مورد التصادق والاجتماع هل هو وجود واحد حقيقة وبالذات وأن التركيب بينهما اتّحادي، أو هو متعدّد كذلك وأنّ التركيب بينهما انضمامي فالقائل بالامتناع يقول بالأوّل، والقائل بالجواز يقول بالثاني» «1».

وقال في تهذيب الاصول: «الأولى أن يقال: هل يجوز اجتماع الأمر والنهي على عنوانين متصادقين على واحد في الخارج أو لا؟» واستدلّ له بأنّ «ظاهر كلمة الواحد في عنوان المشهور أنّ الهوية الخارجيّة من المتعلّقين يكون محطّ عروض الوجوب والحرمة مع أنّه من البطلان بمكان لأنّ الخارج لا يكون ظرف ثبوت التكاليف، فاجتماع الأمر والنهي فيه ممّا لا معنى له» «2».

أقول: ما أفاده في المحاضرات في مقام تنقيح محلّ النزاع وتقرير مختار استاذه جيّد جدّاً، إلّا أنّ الأحسن والأولى في مقام بيان عنوان للمسألة هو التعبير الأخير لكن بعد ضمّ كلمة «أحياناً» في ذيله حيث إنّ العنوانين المتعلّقين للأمر والنهي يتصادقان على الواحد في الخارج أحياناً وفي بعض الموارد لا دائماً كما لا يخفى، وحينئذٍ يكون العنوان المختار في المسألة هكذا: هل يجوز اجتماع الأمر والنهي على عنوانين متصادقين على واحد أحياناً، أم لا؟

الأمر الثاني: في المراد من كلمة «الواحد» الوارد في عنوان المسألة

فهل المراد منها الواحد الشخصي، أو النوعي، أو الجنسي؟

لا إشكال في أنّ الحقّ- كما ذكروا- أنّ المراد من الواحد في ما نحن فيه إنّما هو الواحد الشخصي، لا بمعنى ما لا يصدق على كثيرين حتّى يقال: الصّلاة في الدار الغصبي أمر كلّي على كلّ حال، بل بمعنى أنّ الوحدة هنا هي الوحدة الخارجيّة المصداقيّة في مقابل الوحدة المفهوميّة

انوار الأصول، ج 1، ص: 513

(كوحدة السجدة للَّه مع السجدة للصنم فإنّهما متّحدتان في المفهوم فقط كما هو واضح، والوحدة الخارجيّة نظير اتّحاد

الصّلاة والغصب في الدار الغصبي حيث إنّهما إنطبقا في الخارج على حركة خاصّة وتصرّف خاصّ في العمل) حيث إنّ اجتماعهما في الواحد النوعي أو الجنسي جائز بلا إشكال بأن يكون نوع من أنواع الجنس مطلوباً ونوع آخر مبغوضاً، وكذا في أصناف نوع واحد.

الأمر الثالث: في بيان الفرق بين هذه المسألة ومسألة «النهي في العبادة»

فقد ذكر كلّ وجهاً لبيان الفرق بينهما، فقال بعض بأنّ الفرق بين المسألتين إنّما هو في الموضوع وهو قول صاحب الفصول رحمه الله، فإنّه قال بأنّ الموضوع في ما نحن فيه طبيعتان متغايرتان بحسب الحقيقة والذات وإن كانت النسبة بينهما العموم المطلق كعنوان الحركة وعنوان القرب في الصّلاة والغصب، وفي المسألة الآتية فالموضوع هو طبيعتان متّحدتان بحسب الذات والحقيقة ومختلفتان بحسب الإطلاق والتقييد بأنّ تعلّق الأمر بالمطلق، أي الصّلاة مطلقاً، وتعلّق النهي بالمقيّد، أي الصّلاة في الدار المغصوبة، وقال بعض آخر: أنّ الفرق بينهما إنّما هو في المحمول، فإنّ المحمول في هذه المسألة إنّما هو جواز الاجتماع جوازاً عقليّاً. وفي تلك المسألة هو جواز الاجتماع جوازاً شرعيّاً يستفاد من دليل لفظي.

وذهب ثالث- وهو المحقّق الخراساني رحمه الله- إلى أنّ الفرق بين المسألتين إنّما هو في الجهة، فإنّ الجهة المبحوث عنها في المقام هي رفع غائلة استحالة الاجتماع في الواحد بتعدّد العنوان وعدمه، وأنّه هل يسري كلّ من الأمر والنهي إلى متعلّق الآخر لاتّحاد متعلّقيهما وجوداً، أو لا يسري لتعدّدهما وجهاً؟ وهذا بخلاف الجهة المبحوث عنها في المسألة الآتية، فإنّ البحث فيها في أنّ النهي في العبادة أو المعاملة هل يوجب فسادها بعد الفراغ عن السراية والتوجّه إليها؟

وقال رابع بنفس القول الثالث ولكن ببيان آخر، وهو أنّ الجهة المبحوث عنها في ما نحن فيه جهة اُصوليّة، وهي الجواز وعدم الجواز عقلًا، وفي تلك

المسألة جهة لفظيّة بمعنى أنّ النهي المتعلّق بعبادة هل يدلّ بظاهره على فسادها، أو لا؟

وذهب في المحاضرات إلى أنّ النزاع هنا صغروي، لأنّه يبحث عن السراية وعدمها، بينما

انوار الأصول، ج 1، ص: 514

النزاع في تلك المسألة كبروي حيث إنّ المبحوث عنه فيها إنّما هو ثبوت الملازمة بين النهي عن عبادة وفسادها وعدم ثبوت هذه الملازمة بعد الفراغ عن ثبوت تلك الصغرى أي صغرى السراية وتعلّق النهي بالعبادة «1».

ولقائل أن يقول خامساً: إنّ التغاير بين المسألتين إنّما هو في الملاك، فإنّ الملاك في ما نحن فيه هو ملاك باب التزاحم، أي يوجد الملاك لكلّ من المأمور به والمنهي عنه المجتمعين في المجمع، فيبحث في أنّه هل يكون الحكمان من قبيل المتزاحمين حتّى نقول بالامتناع، أو لا يكون حتّى نقول بالجواز؟ بينما الملاك في مسألة النهي في العبادة إنّما هو ملاك باب التعارض، أي أنّ الملاك الموجود في المجمع واحد إمّا المفسدة وإمّا المصلحة، فلسان الأدلّة متعارضة.

أقول: الإنصاف أنّه لا ربط بين المسألتين حتّى يبعث عن وجه التمايز بينهما لأنّهما متغايرتان موضوعاً ومحمولًا، ملاكاً وجهة، ولا إشكال في أنّ التمايز بجميع هذه الامور ينتج تمايزاً جوهريّاً بين المسألتين، ولذلك لا يهمّنا البحث في كلّ واحد واحد من الوجوه المذكورة ونقدها.

أضف إلى ذلك أنّ البحث في المقام بحث عن حكمين تكليفيين وجواز اجتماعهما أو امتناعه، بينما البحث هناك بحث في الحكم الوضعي وهو الصحّة والفساد.

الأمر الرابع: هل المسألة اصوليّة أم لا؟

هل المسألة اصوليّة أو أنّها من المبادى ء التصديقية للمسائل الاصوليّة أو أنّها من مبادئها التصوّريّة أو من مبادئها الأحكاميّة أو تكون المسألة فقهيّة أو كلاميّة؟

ربّما يقال: إنّها مسألة اصوليّة لأنّ نتيجتها إثبات حكم شرعي فرعي وهو جواز الصّلاة وصحّتها في الدار المغصوبة مثلًا بناءً

على جواز الاجتماع، وبطلانها بناءً على الامتناع.

ولكنّه ظاهر الفساد، لأنّ نتيجة المسألة إنّما هي جواز الاجتماع أو امتناع، ولا إشكال في أنّهما ليسا حكمين فرعيين شرعيين بل إنّهما يقعان في طريق استنباط الحكم الفرعي الشرعي.

ويمكن أن يقال: أنّها مسألة كلاميّة من باب أنّ المسألة عقليّة ويكون البحث فيها عن استحالة اجتماع الأمر والنهي وإمكانه عقلًا، والبحث عن الاستحالة والإمكان يناسب المباحث الكلاميّة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 515

وكأنّ القائل بهذا الوجه توهّم أنّ كلّ ما يكون البحث فيه عقليّاً يكون كلامياً مع أنّه كما ترى، لأنّ البحث في علم الكلام يقع عن أحوال المبدأ والمعاد، والمسألة الكلاميّة تترتّب عليها معرفة المبدأ أو المعاد، وأين هذه من مسألة جواز الاجتماع وامتناعه.

إن قلت: يمكن إرجاع هذه المسألة إلى أحوال المبدأ والمعاد بتقريب أنّه في الحقيقة يبحث فيها عن أنّه هل يترتّب على الصّلاة في الدار الغصوبة مثلًا ثواب أو لا؟ ولا ريب في أنّ الثواب والعقاب من شؤون البحث عن المعاد.

قلنا: إنّ البحث عن الثواب والعقاب في علم الكلام بحث عن كلّي الثواب والعقاب كالبحث عن وجود الثواب والعقاب في عالم البرزخ وعدمه مثلًا لا عن مصاديقهما الجزئيّة وأنّه هل يترتّب على هذا المورد الخاصّ وهذا العمل الخاصّ ثواب أو لا؟

إن قلت: يمكن إرجاع هذه المسألة إلى المسألة الكلاميّة ببيان ثالث وهو أنّ البحث فيها بحث عن قبح صدور الأمر والنهي معاً من الباري تعالى بالنسبة إلى شي ء واحد، فيكون بحثاً عن أحوال المبدأ.

قلنا: البحث عن أحوال المبدأ في علم الكلام بحث كبروي حيث يبحث فيه عن جواز صدور أمر قبيح من اللَّه تعالى وعدمه بعد الفراغ عن كونه قبيحاً، بينما البحث هنا صغروي فيبحث في صغرى كون اجتماع

الأمر والنهي قبيحاً وعدمه.

وقد يقال: أنّها من المبادى ء الأحكاميّة حيث إنّ فيها يبحث عن أحوال الحكم وأوصاف الوجوب والحرمة وأنّهما هل يجتمعان في شي ء واحد أو لا؟

واجيب عنه: أيضاً بأنّا «لا نعقل المبادى ء الأحكاميّة في مقابل المبادى ء التصوّريّة والتصديقية، بداهة أنّه إن اريد منها تصوّر نفس الأحكام كالوجوب والحرمة ونحوهما فهو من المبادى ء التصوّريّة، إذ لا يعني من المبادى ء التصوّريّة إلّاتصوّر الموضوع والمحمول، وإن اريد منها ما يوجب التصديق بثبوت حكم أو نفيه (ومنه الحكم بسراية النهي إلى متعلّق الأمر في محلّ الكلام) فهي من المبادى ء التصديقية لعلم الفقه، كما هو الحال في سائر المسائل الاصوليّة» «1».

انوار الأصول، ج 1، ص: 516

أقول: يمكن الجواب عن هذا الوجه ببيان آخر، وهو أنّه كما يبحث في المبادى ء التصوّريّة عمّا يرجع إلى تصوّر الموضوع والمحمول كذلك يبحث فيها عمّا يرجع إلى تصوّر غاية ذلك العلم، ولا إشكال في أنّ غاية علم الاصول إنّما هي استنباط الحكم الشرعي، فيكون الحكم مأخوذاً في غايته، فالبحث عن أحوال الحكم وأوصافه (نظير البحث عن أنّ الحرمة والوجوب هل يجتمعان في شي ء واحد أو لا) داخل في المبادى ء التصوّريّة لعلم الاصول، فيرجع كون البحث في المقام من المبادى ء الأحكاميّة لعلم الاصول إلى أنّه من المبادى ء التصوّريّة لعلم الاصول.

نعم، إنّ هذا كلّه تامّ لو كان البحث في المقام بحثاً عن كبرى تضادّ الأمر والنهي (أي تضادّ الوجوب والحرمة) فيكون بحثاً عن أوصاف الوجوب والحرمة وأنّهما هل يكونان متضادّين، أو لا؟

مع أنّه ليس كذلك حيث إنّه بحث عن صغرى التضادّ وعن أنّ تعلّق الأمر والنهي بشي ء واحد ذي عنوانين هل يوجب اجتماع المتضادّين بعد الفراغ عن كبرى تضادّ الأحكام الخمسة، أو لا؟

فظهر أنّ البحث في ما

نحن فيه ليس من المبادى ء الأحكاميّة التي ترجع في الواقع إلى المبادى ء التصوّريّة.

وذهب المحقّق النائيني رحمه الله إلى أنّها من المبادى ء التصديقية لعلم الاصول وليست من مسائله، وحاصل بيانه أنّ هذه المسألة على كلا القولين فيها لا تقع في طريق استنباط الحكم الكلّي الشرعي بلا واسطة ضمّ كبرى اصوليّة، وقد تقدّم أنّ الضابط لكون المسألة اصوليّة هو وقوعها في طريق الاستنباط بلا واسطة، والمفروض أنّ هذه المسألة ليست، كذلك فإنّ فساد العبادة لا يترتّب عليه القول بالامتناع فحسب بل لا بدّ من ضمّ كبرى اصوليّة إليه، وهي قواعد مسألة التعارض، فإنّ هذه المسألة على هذا القول تدخل في كبرى تلك المسألة وتكون من إحدى صغرياتها، فيترتّب فساد العباد بعد إعمال قواعد التعارض وتطبيقها في المسألة لا مطلقاً، وهذا شأن كون المسألة من المبادى ء التصديقية لمسائل علم الاصول دون المسائل الاصوليّة نفسها، كما أنّها على القول بالجواز تدخل في كبرى مسألة التزاحم فتدخل في مبادى ء بحث التزاحم «1».

انوار الأصول، ج 1، ص: 517

ويرد عليه: أنّ الميزان في المسألة الاصوليّة وقوعها في طريق استنباط الحكم الشرعي سواءً كان بضمّ ضميمة أم لا؟ وإلّا يلزم خروج عدّة من المسائل الهامّة لعلم الاصول عن كونها اصوليّة كمسألة حجّية خبر الواحد التي يستنتج منها الحكم الشرعي بعد ضمّ مسألة حجّية الظواهر إليها، وكذلك قواعد جهة الصدور.

فالحقّ أنّ المسألة اصوليّة لوجود ضابطها فيها حتّى لو سلّمنا وجود سائر الجهات فيها أيضاً.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّه قد ظهر من تضاعيف المقدّمات المذكورة أنّ المسألة عقليّة حيث إنّه من الواضح أنّ قضيّة جواز اجتماع الأمر والنهي المتعلّقين على عنوانين متصادقين على عمل واحد وعدمه لا يدور مدار الألفاظ قطعاً، كما لا دلالة لذكرها ضمن مباحث

الألفاظ على أنّها لفظيّة، وكم لها من نظير كمسألة مقدّمة الواجب ومسألة دلالة النهي على الفساد ومسألة الإجزاء ومسألة الضدّ والترتّب ونظير البحث عن حقيقة الواجب الكفائي والواجب التخييري، فإنّ جميع هذه المسائل عقليّة، أو أن لأكثر المباحث فيها جهة عقليّة ومع ذلك ذكرت في مباحث الألفاظ، ولا إشكال في أنّ هذا بنفسه من مشكلات علم الاصول في يومنا هذا، ولا بدّ من ملاحظة طريق حلّ لها في المستقبل إن شاء اللَّه.

الأمر الخامس:

هل النزاع في ما نحن فيه مختصّ مرتبط بقسم خاصّ من الأمر والنهي، أو أنّه يعمّ جميع أقسامهما سواء كان الأمر أو النهي نفسيّاً أو غيريّاً، وسواء كان تعيينياً أو تخييريّاً، وعينياً أو كفائيّاً؟ ذهب المقحّق الخراساني رحمه الله إلى أنّ النزاع عامّ يشمل جميع الأقسام، وتبعه كثير من الأعلام، لكن قد ورد في بعض الكلمات إستثناء مورد واحد، وهو ما إذا كان الواجب والحرام كلاهما تخييريين.

والقائلون بعموم النزاع استدلّوا لذلك بثلاثة وجوه:

الوجه الأوّل: إطلاق عنوان البحث فإنّه شامل بإطلاقه لجميع الأقسام.

انوار الأصول، ج 1، ص: 518

الوجه الثاني: إطلاق الأدلّة التي يستدلّ بها على الجواز أو الامتناع كالاستدلال بتضادّ الأحكام الخمسة لسراية أحد الحكمين بمتعلّق الآخر، فإنّه مطلق يعمّ جميع الأفراد.

الوجه الثالث: عموم الملاك في البحث، وهو تعدّد العنوان من جانب ووحدة المعنون والمصداق من جانب آخر.

وأمّا الإستثناء المذكور، أي صورة ما إذا كان الحكمان تخييريين فقبل توضيحه وبيان مثال له وذكر أحكامه ينبغي تقديم مقدّمة، وهي البحث في أنّه هل يتصوّر الحرام التخييري والحرام الكفائي في الفقه كالواجب التخييري والواجب الكفائي أم لا؟

فنقول: أمّا الحرام التخييري فيمكن تصويره في حرمة نكاح الاختين حيث إنّ الحرام التخييري يرجع حقيقة إلى حرمة الجمع بين شيئين

كما أفاده المحقّق الإصفهاني رحمه الله في حاشيته على الكفاية، وهذا صادق في هذا المثال، وأمّا الحرام الكفائي فيمكن تصويره أيضاً في حرمة بيع السلاح للأعداء فيما إذا فرضنا تركيب السلاح من موادّ مختلفة منتشرة عند المكلّفين، فكلّ مادّة من تلك المواد وكلّ جزء من السلاح يوجد عند مكلّف خاصّ ويكفي في عدم تأثير السلاح بنفع الأعداء عدم بيع بعض المكلّفين المادّة الموجودة عنده، وحينئذٍ يحرم كفائيّاً بيع تلك الأجزاء للسلاح.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه استدلّ القائل بعدم جريان النزاع في التخييريين بأنّه لا تضادّ بين النهي التخييري والأمر التخييري، لأنّ متعلّق الأمر فيه عنوان أحد الشيئين، ومتعلّق النهي هو الجمع بينهما لا عنوان أحدهما كما إذا نذر أن يأتي بالصّلاة أو الصّيام، ونذر ثانياً أن لا يصلّي إمّا في الحمام أو في البادية لكراهة الصّلاة فيهما فهاهنا، تعلّق النذر الأوّل (وهو النذر الفعلي) بعنوان أحدهما، بينما النذر الثاني (أي النذر التركي) تعلّق بالجمع بين الصّلاة في الحمام والصّلاة في البادية، ولا إشكال في أنّه لا تضادّ بين المتعلّقين حتّى إذا قلنا بإمتناع الاجتماع في سائر الموارد.

الأمر السادس: في اعتبار قيد المندوحة ولزوم أخذه في محلّ النزاع

والمراد من المندوحة كون المكلّف في فسحة من إتيان المأمور به في غير مورد الاجتماع كأن وجد أرضاً مباحة لإتيان الصّلاة فيها في مثال الصّلاة في الدار المغصوبة في مقابل من لا يتمكّن انوار الأصول، ج 1، ص: 519

من الإتيان بها إلّافي الدار المغصوبة كالمحبوس فيها، وهذه الكلمة من «ندح» بمعنى الوسعة كما ورد في الحديث: «أنّ في المعاريض مندوحة من الكذب» (والمراد من المعاريض التورية) فوقع النزاع في أنّه هل يجري النزاع في خصوص موارد وجود المندوحة أو يجري في موارد عدم وجودها أيضاً؟

والأقوال في اعتبارها وعدمه ثلاثة:

القول

الأوّل: القول بعدم الاعتبار وعليه أكثر الأعلام منهم المحقّق الخراساني رحمه الله.

القول الثاني: القول باعتبارها وعليه المحقّق الحائري رحمه الله في درره وصاحب الفصول.

القول الثالث: القول بالتفصيل بين ما إذا حصل الاجتماع بسوء الاختيار كمن أوقع نفسه عملًا في الأرض المغصوبة في ضيق الوقت فلا يكون معتبراً، بل يجري النزاع مع عدم وجودها أيضاً، وما إذا لم يكن بسوء الاختيار فيكون معتبراً، أي يجري النزاع حينئذٍ في خصوص ما إذا كانت المندوحة موجودة، وقد ذهب إليه الميرزا القمّي رحمه الله.

والقائلون بعدم اعتبارها مطلقاً لهم بيانات مختلفة:

منها: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله، وهو أنّ المهمّ المبحوث عنه في المقام هو استحالة اجتماع الأمر والنهي من ناحية وحدة المتعلّق وتعدّده وأنّه هل يستلزم الاجتماع، التكليف المحال أو لا؟

(والمراد من «التكليف المحال» هو عدم تمشّي الإرادة للمولى بالإضافة إلى مورد الاجتماع) وهو غير «التكليف بالمحال» الذي معناه التكليف بما لا يطاق، واعتبار وجود المندوحة وعدمه مرتبط به (أي بالتكليف بالمحال) حيث إنّه إذا لم توجد المندوحة يلزم التكليف بما لا يطاق وإذا وجدت المندوحة فلا يلزم ذلك، فاعتبار هذا القيد غير لازم.

ولكن يرد عليه: أنّه لا دليل على اختصاص محلّ النزاع بلزوم التكليف المحال وعدمه ودورانه مداره، فإنّ عنوان البحث عامّ والتعبير ب «هل يجوز اجتماع ...» أي التعبير بالإمكان وعدم الإمكان يعمّ الإمكان من ناحية التكليف المحال، والإمكان من ناحية التكليف بالمحال.

ومنها: ما ذهب إليه في تهذيب الاصول من عدم اعتبار قيد المندوحة سواءً كان النزاع صغرويّاً، أي كان البحث في أنّ تعدّد العنوان هل يرفع غائلة اجتماع الضدّين أو لا؟ أو كان النزاع كبرويّاً وكان محطّ البحث جواز اجتماع الأمر والنهى على عنوانين متصادقين على

واحد، وحيث إنّ مختاره في المقام هو كبرويّة النزاع، فإليك نصّ كلامه بناءً على هذا الفرض:

انوار الأصول، ج 1، ص: 520

«أنّه إن اريد بقيد المندوحة حصول المندوحة لكلّ واحد من المكلّفين فهو غير لازم لأنّ البحث في جواز تعلّق الحكمين الفعليين على عنوانين ولا يتوقّف ذلك على المندوحة لكلّ واحد منهم لأنّ الأحكام المتعلّقة على العناوين لا تنحلّ إلى إنشاءات كثيرة حتّى يكون الشرط تمكّن كلّ فرد بالخصوص. وإن اريد بقيد المندوحة كون العنوانين ممّا ينفكّان بحسب المصداق في كثير من الأوقات وإن لم يكن كذلك بحسب حال بعض المكلّفين فاعتبار المندوحة وإن كان لازماً في هذه المسألة لكن لا يحتاج إلى تقييد البحث به فإنّ تعلّق الحكم الفعلي بعنوان ملازم لمنهي عنه فعلًا ممّا لا يمكن، للغويّة الجعل على العنوانين بل لا بدّ للجاعل من ترجيح أحد الحكمين على الآخر أو الحكم بالتخيير مع عدم الرجحان فتقييد العنوان بالمندوحة غير لازم على جميع التقادير» «1».

أقول: قد مرّ في الأبحاث السابقة الإشكال في ما اختاره من المبنى الذي بنى عليه كثيراً من المباحث، وهو أنّ المخاطب في الخطابات القانونيّة إنّما هو الأفراد الموجودة في الخارج لا العنوان، حيث إنّ العناوين إشارات إلى الخارج، والواضع وضعها والمقنّن المشرّع يستخدمها للإشارة إلى الخارج والعبور إليه، وعليه فلا إشكال في اعتبار قيد المندوحة كما يستفاد من مطاوي كلماته، نعم لو قبلنا مبناه المعروف في الخطابات القانونيّة فلا إشكال في ما تبنّاه عليه، وهو عدم اعتبار قيد المندوحة، ولكنّه مبنى غير صحيح.

ومنها: ما أفاده في المحاضرات من أنّ توهّم اعتبار قيد المندوحة في محلّ النزاع خاطى ء جدّاً وغير مطابق للواقع قطعاً، والوجه في ذلك ما تقدّم من أنّ النزاع في

المسألة إنّما هو في سراية النهي من متعلّقه إلى ما تعلّق به الأمر وبالعكس وعدم سرايته، وقد سبق أنّ القول بالامتناع يرتكز على أحد أمرين:

الأمر الأوّل: كون المجمع في مورد التصادق والاجتماع واحداً (أي يكون التركيب بين العنوانين اتّحاديّاً).

الأمر الثاني: الالتزام بسراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر (وإن كان التركيب بين العنوانين انضماميّاً) ومن الواضح جدّاً أنّه لا دخل لوجود المندوحة في ذلك أبداً

انوار الأصول، ج 1، ص: 521

(لأنّ اعتبار قيد المندوحة وعدمه أمر مربوط بمقام الامتثال والإثبات، وهذان الأمران.

وبتعبير آخر: وقوع التعارض بين دليلي الوجوب والحرمة في مورد الاجتماع وعدمه أمر مربوط بمقام الجعل والثبوت)، ثمّ قال في ذيل كلامه: نعم- بناءً على الجواز وعدم السراية- إذا لم تكن مندوحة فلا محالة تقع المزاحمة بينهما لعدم تمكّن المكلّف وقتئذٍ من امتثال كليهما معاً فيكون تكليف المكلّف بامتثال كلا التكليفين معاً من التكليف بالمحال، فإذن لا بدّ من الرجوع إلى مرجّحات باب المزاحمة، فيقدّم أحدهما على الآخر لمرجّح أن كان، وإلّا فهو مخيّر بين أن يصرف قدرته في امتثال هذا وإن يصرف قدرته في امتثال ذاك، فعدم المندوحة في البين يوجب وقوع التزاحم بين التكليفين على القول بالجواز في المسألة لا أنّه يوجب عدم صحّة النزاع فيها كما هو ظاهر» «1».

أقول: إنّ روح كلامه يرجع إلى مقالة المحقّق الخراساني رحمه الله في المقام من أنّ محلّ البحث هو التكليف المحال لا التكليف بالمحال، والنكتة المضافة في كلامه إنّما هو ما ذكره في الذيل من «أنّ عدم المندوحة يوجب دخول المسألة في باب التزاحم بناءً على الجواز لا أنّه يوجب عدم صحّة النزاع فيها» ولكن الإنصاف أنّ هذا بنفسه اعتراف من جانبه باعتبار قيد المندوحة

في محلّ النزاع لأنّه إذا لم تكن في البين مندوحة لا يمكن القول بجواز الاجتماع لأنّ من الواضحات وقوع التزاحم بين الحكمين ولزوم تقديم أحدهما على الآخر في فرض وجود مرجّح، والتخيير بينهما في فرض عدم وجود المرجّح، وهذا ما اعترف به المحقّق الخراساني رحمه الله أيضاً في ذيل كلامه بقوله: «نعم لا بدّ من اعتبارها في الحكم بالجواز فعلًا لمن يرى التكليف بالمحال محذوراً» حيث إنّ المعنون في عنوان المسألة إنّما هو جواز اجتماع الأمر والنهي الفعليين، ولا إشكال في عدم كون أحد الحكمين فعليّاً في صورة فقدان المندوحة ووقوع التزاحم، لأنّه تكليف بالمحال، فالحقّ اعتبار قيد المندوحة في محلّ النزاع.

وأمّا القول بالتفصيل بين ما إذا كان الاجتماع بسوء الاختيار وما إذا لم يكن بسوء الاختيار فسيأتي أنّه أيضاً خاطى ء، لأنّ المولى لا يكلّف بما لا يطاق سواء كان عدم الطاقة والقدرة بسوء اختيار المكلّف أو لم يكن.

الأمر السابع: في ابتناء النزاع في هذه المسألة على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع دون الأفراد وعدمه.

وفيه ثلاثة أقوال:

القول الأوّل: ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله من أنّه لا ربط بين المسألتين.

القول الثاني: القول بوجود الربط بينهما ببيانين:

أحدهما: أنّ النزاع في الجواز والامتناع مبني على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع، وأمّا على القول بتعلّقها بالافراد فلا محيص عن الامتناع، ضرورة لزوم تعلّق الحكمين بواحد شخصي حينئذٍ.

ثانيهما: أنّ الجواز مبني على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع لتعدّد متعلّق الأمر والنهي ذاتاً حينئذٍ وإن إتّحد وجوداً، والقول بالامتناع على القول بتعلّق الأحكام بالافراد لاتّحاد متعلّق الحكمين حينئذٍ شخصاً وخارجاً.

القول الثالث: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله وفي تهذيب الاصول من التفصيل بين التفاسير المتصوّرة في تلك المسألة وإنّ الابتناء موجود بناءً على بعض التفاسير وغير موجودة على بعضها الآخر وسيوافيك بيانه إن شاء اللَّه تعالى.

أمّا

القول الأوّل: فبيانه واضح، لأنّ القائل به يدّعي أنّ النزاع في المقام يرتكز على أنّ تعدّد العنوان هل يوجب تعدّد المعنون أو لا؟ من دون فرق بين أن يتعلّق الأحكام بالطبائع أو بالافراد، لأنّه إذا تعلّق الحكم بالفرد فالبرغم من كونه واحداً في بدو النظر ولكنّه إذا كان له عنوانان وقلنا بأنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون يصير المتعلّق متعدّداً فيقع النزاع في جواز الاجتماع وامتناعه.

وأمّا القول بالتفصيل فقال المحقّق النائيني رحمه الله ما حاصله: أنّ النزاع في تلك المسألة إن كان مبنيّاً على وجود الطبيعي وعدمه فلا تبتني على ذلك مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي بل إنّ للبحث عن المسألة مجالًا سواء قلنا بوجود الكلّي الطبيعي أو لم نقل، غايته أنّه بناءً على عدم وجود الطبيعي يكون المتعلّق للأحكام هو منشأ الانتزاع، ويجري فيه ما يجري على القول بوجود الطبيعي من كون الجهة تقييديّة أو تعليلية وأنّ التركيب اتّحادي أو انضمامي، لوضوح أنّ انتزاع الصّلاة لا بدّ أن يكون لجهة غير جهة انتزاع الغصب، ولكن يبعد أن يكون النزاع انوار الأصول، ج 1، ص: 523

هناك مبنيّاً على وجود الطبيعي وعدمه، إذ الظاهر أنّ من يقول بتعلّق الأحكام بالافراد لا ينكر وجود الطبيعي، بل الذي يمكن أن يكون محلّ النزاع على وجه يرجع إلى أمر معقول هو أن يكون النزاع في سراية الأمر بالطبيعة إلى الخصوصيّات ولو على النحو الكلّي، أي خصوصيّة ما بحيث تكون الخصوصيّة داخلة تحت الطلب تبعاً، فالقائل بتعلّق الأحكام بالافراد يدّعي السراية والتبعيّة والقائل بتعلّق الأحكام بالطبائع يدّعي عدم السراية، فلو كان النزاع هناك على هذا الوجه فألحق أنّ مسألة اجتماع الأمر والنهي تبتني على ذلك» «1».

هذا هو إجمال ما أفاده المحقّق

النائيني رحمه الله، وأمّا في تهذيب الاصول فقد ذكر لمسألة تعلّق الأحكام بالطبائع أو الأفراد تفاسير ستّة، وقال بعدم وجود الربط بين المسألتين بناءً على اثنين منها، ووجود الربط بينهما بناءً على الأربعة الاخرى «2». وتشابه مقالته مقالة المحقّق النائيني رحمه الله من بعض الجهات فلا بأس بتركها.

أقول: الصحيح هو التفصيل المزبور، لأنّه بناءً على التفسير الأوّل (وهو كون النزاع في تلك المسألة مبنيّاً على وجود الطبيعي وعدمه) وإن كانت الأحكام تتعلّق بالافراد (التي هي منشأ لانتزاع الكلّي الطبيعي) ولكنّها تتعلّق بها مجرّدة عن الخصوصيّات الفرديّة في الخارج، فيمكن حينئذٍ أن يكون الفرد معنوناً بعنوانين ويصحّ النزاع في جواز الاجتماع وعدمه، فلا تبتني مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي على مسألة تعلّق الأحكام بالطبائع أو الأفراد، لأنّه حتّى بناءً على تعلّقها بالافراد أيضاً يتصوّر جواز الاجتماع كما يتصوّر امتناعه، فيتصوّر جريان النزاع في الجواز وعدمه على كلا القولين.

وأمّا بناءً على التفسير الثاني (وهو كون النزاع في تلك المسألة في سراية الأمر بالطبيعة إلى الخصوصيّات بحيث تكون الخصوصيّة أيضاً داخلة تحت الطلب) فالربط بين المسألتين واضح، فيصحّ النزاع بناءً على تعلّقها بالطبائع ولا إشكال فيه، ولا يصحّ بناءً على تعلّقها بالافراد بل من الواضح حينئذٍ القول بالامتناع لأنّ المفروض حينئذٍ أنّ الأحكام تعلّقت بالخصوصّيات والتشخّصات الفرديّة أيضاً، وهي لا يمكن أن تصير مجمعاً لعنوانين.

إن قلت: بناءً على القول بتعلّق الأوامر بالافراد ولحاظ الخصوصيّات الفرديّة إنّما تلاحظ

انوار الأصول، ج 1، ص: 524

الخصوصيّات التكوينيّة الخارجيّة فحسب نظير خصوصيّة الكمّ والكيف والزمان والمكان لا الخصوصيّات الاعتباريّة التشريعيّة نظير خصوصيّة الإباحة والغصب، وحينئذٍ يمكن الجمع بين الأمر بالصّلاة في الدار المغصوبة والنهي عن الغصب لأنّ المفروض حينئذٍ أنّ خصوصيّة الغصب ليست داخلة

تحت الطلب.

قلنا: المهمّ في المقام أنّ الحركة الخارجيّة المقيّدة بهذا المكان وذاك الزمان (وهو أمر تكويني) صارت مطلوبة ومحبوبة بتعلّق الأمر الصلاتي بها، فكيف تصير نفس تلك الحركة مبغوضة بتعلّق النهي بها؟ وبعبارة اخرى: حركة خاصّة واحدة تكوينيّة صارت متعلّقة حينئذٍ للأمر والنهي معاً، وهو المراد من المستحيل في المقام.

إن قلت: لا إشكال في أنّ الخصوصيّات الفرديّة في جانب الأمر بناءً على تعلّق الأوامر بالافراد تكون مطلوبة على نحو التخيير، ولازمه أن تصير خصوصيّة الغصب المنهي عنها تعييناً مطلوبة للمولى في مورد اجتماع العنوانين تخييراً، ولا منافاة بين الأمر التخييري والنهي التعييني.

قلنا: قد مرّ أنّه لا فرق في امتناع الاجتماع بين أن يكون الأمر والنهي كلاهما تعيينيين أو تخييريين أو كان أحدهما تعيينياً والآخر تخييريّاً، أي أنّ الامتناع يتصوّر في التخييريين فضلًا عن ما إذا كان أحدهما تعيينياً والآخر تخييريّاً.

إن قلت: بناءً على تعلّق الأمر بالافراد تكون الخصوصيّات أيضاً مطلوبة ولكن تبعاً لا استقلالًا، لأنّ الأمر بالطبيعة- كما صرّح به المحقّق النائيني رحمه الله- يسري إلى الخصوصيّات ولو على النحو الكلّي أي خصوصيّة ما، بحيث تكون الخصوصيّة داخلة تحت الطلب تبعاً.

وبعبارة اخرى: إنّه يسري إلى الخصوصيّات من باب أنّ وجود المأمور به في الخارج لا يكون منفكّاً عنها، وهذا بخلاف النهي فإنّه يتعلّق بخصوصيّة الغصب أصالةً واستقلالًا، ولا منافاة بين الأمر التبعي والنهي الأصلي الاستقلالي.

قلنا: إنّ الأمر والنهي لا يجتمعان في خصوصيّة واحدة سواء كانا أصليين أو تبعيين أو مختلفين، لأنّه على أيّ حال تصير الخصوصيّة مطلوبة للمولى فعلًا، والمطلوبيّة الفعليّة لا تجتمع مع المبغوضيّة الفعليّة من أيّ منشأ نشأت المطلوبيّة.

ولكن والإنصاف أنّه مع ذلك كلّه يمكن أن يقال أنّه لا ربط بين المسألتين مطلقاً،

لأنّه بناءً

انوار الأصول، ج 1، ص: 525

على تعلّق الأوامر بالافراد وتعلّقها بالخصوصّيات الفرديّة كخصوصيّة الغصب يمكن للقائل بجواز الاجتماع أن يدّعي أنّ الحركة الخاصّة في الدار المغصوبة معنونة بعنوانين، وتعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون، وحينئذ يمكن جواز الاجتماع كما يمكن امتناعه، فيصحّ النزاع في الجواز والامتناع.

وإن شئت قلت: الموجود في الخارج هو الحركة الخاصّة الواقعة في دار الغير، وأمّا المبغوضيّة أو عدمها فهي من باب الأحكام، وكذلك عنوان الغصب فإنّه أمر انتزاعي ذهني أو اعتباري، ومن الواضح أنّ الحركة الخاصّة تكون محلّ الانطباق لعنوان الغصب والصّلاة، فتدبّر.

الأمر الثامن: في اعتبار وجود الملاكين في المجمع

يعتبر في باب الاجتماع أن يكون كلّ واحد من الأمر والنهي واجداً للملاك والمناط، فلو كان كلّ من المناطين موجوداً في المجمع فهو من باب اجتماع الأمر والنهي في شي ء واحد، وحينئذٍ يكون المجمع محكوماً بكلا الحكمين بناءً على مبنى الجواز، ويدخل في باب التزاحم بناءً على الامتناع، وأمّا إذا كان أحد المناطين فقط موجوداً فيه دون الآخر، أو لم يوجد شي ء من المناطين فهو محكوم بحكم آخر ولا يكون من باب الاجتماع.

والمراد من وجود الملاكين كما سيأتي أعمّ من وجود المصلحة أو كونه جامعاً لجميع شرائط الفعليّة مع قطع النظر عن المزاحمة.

هذا بحسب مقام الثبوت، وأمّا مقام الإثبات: فحاصل ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله فيه أنّه تارةً: يحرز أنّ المناط من قبيل الثاني، بمعنى أنّ أحد المناطين بلا تعيين موجود فيه دون الآخر، وفي هذه الصورة الدليلان الدالّان على الحكمين متعارضان بالنسبة إلى المجمع على كلّ من الجواز والامتناع، ولا بدّ من علاج المعارضة حينئذٍ بينهما بالترجيح أو التخيير، واخرى: يحرز أنّ المناط من قبيل الأوّل، بمعنى أنّ كلًا من المناطين موجود في المجمع، وفي هذه الصورة

يكون الدليلان متزاحمين بالنسبة إلى المجمع، فربّما كان الترجيح مع ما هو أضعف دليلًا لكونه أقوى مناطاً، ولكن التزاحم إنّما هو على الامتناع وإلّا فعلى الجواز لا تعارض ولا تزاحم أصلًا، لعدم التنافي بينهما باعتقاد المجوّز، فيعتبر في دخول المجمع في باب الاجتماع عنده وجود الملاكين فيه.

انوار الأصول، ج 1، ص: 526

ولكن قد أنكر عليه جماعة من أعاظم المتأخّرين فلم يعتبروا هذا الشرط ونحن ننقل هنا بعض كلماتهم في المقام:

قال في المحاضرات ما حاصله: إنّ النزاع في مسألتنا هذه لا يرتكز على وجهة نظر مذهب الاماميّة القائلين بتبعيّة الأحكام للملاكات الواقعيّة والجهات النفس الأمريّة، بل يعمّ وجهة نظر جميع المذاهب حتّى مذهب الأشعري المنكر للتبعيّة، هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى أنّ النزاع في المسألة في سراية النهي من متعلّقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به وعدم سرايته، والقول بالسراية يبتني على أحد الأمرين: الأوّل أن يكون المجمع واحداً وجوداً وماهيّة، الثاني أن لا يختلف اللازم عن الملزوم في الحكم، بمعنى أنّ الحكم الثابت له لا يسري إلى لازمه، وبانتفاء أحدهما ينتفي هذا القول، ولا إشكال أنّ هذه المسألة أجنبية عن مسألة تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد «1».

وقال في تهذيب الاصول بما يكون في الواقع كتكملة لبيان المحاضرات حيث قال:

«التحقيق عدم ابتناء النزاع في المقام على إحراز المناط في متعلّقي الإيجاب والتحريم، أمّا على القول بأنّ النزاع صغروي والبحث راجع إلى أنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون أو لا فواضح، لأنّ اشتمالهما على المناط وعدمه لا دخل له في أنّ تعدّد العنوان هل يوجب تعدّد المعنون أو لا، وأمّا على ما حرّرناه من أنّ النزاع كبروي وأنّ البحث في أنّ الأمر والنهي هل يجوز اجتماعهما في عنوانين

متصادقين على واحد أو لا، فالأمر أوضح لأنّ إحراز المناط ليس دخيلًا في الإمكان وعدمه بل لا بدّ من أخذ القيود التي لها دخل تامّ في إثبات الإمكان والامتناع» «2».

أقول: الحقّ هو اعتبار ما اعتبره المحقّق الخراساني رحمه الله من وجود الملاكين في المجمع، حيث إنّ مراده من وجود الملاك إنّما هو كون كلّ واحد من الدليلين تامّ الاقتضاء بالنسبة إلى المجمع، أي لم يكن لفعليته في المجمع أي نقصان، وبعبارة اخرى: يكون كلّ واحد من الحكمين- مع قطع النظر عن اجتماعهما فعلًا- واجداً لجميع شرائط الفعليّة، ولا إشكال في أنّ النزاع في باب الاجتماع إنّما هو في جواز اجتماع الحكمين الفعليين لا غير.

انوار الأصول، ج 1، ص: 527

إن قلت: من شرائط الفعليّة إباحة مكان المصلّي مثلًا في مثال الصّلاة في الدار المغصوبة، ومع وجود هذا الشرط لا معنى للاجتماع.

قلنا: المقصود من شرائط الفعليّة إنّما هي ما يكون شرطاً مع قطع النظر عن هذه المسألة ولا دليل على اشتراط إباحة مكان المصلّي كذلك (أي مع قطع النظر عن مسألة اجتماع الأمر والنهي) من آية أو رواية أو إجماع يكون حجّة.

الأمر التاسع: في بيان ما يحرز به المناطان في المجمع

لا إشكال في أنّه بحث صغروي بالنسبة إلى سابقه، فنقول: يمكن إحراز الملاك وكشف المناط من طرق ثلاثة:

الطريق الأول: الإجماع كما إذا قام الإجماع على عدم إستثناء مورد من موارد الغصب وأنّه حرام حتّى بالنسبة إلى مكان المصلّي، كما أنّه كذلك، حيث إنّه لا دليل لفظيّاً على اعتبار إباحة مكان المصلّي بل الإجماع قام على عدم الإستثناء في حرمة الغصب، وهذا لا ينافي ما مرّ في الأمر السابق من عدم وجود دليل على اشتراط إباحة مكان المصلّي من آية أو رواية أو إجماع، فإنّ الكلام هنا

في عموم دليل الغصب لا في اشتراط الصّلاة بعدمه.

الطريق الثاني: إطلاق الدليلين، وفيه تفصيل من المحقّق الخراساني رحمه الله وحاصله: أنّ الإطلاقين إن كانا لبيان الحكم الاقتضائي فهما محرزان للملاكين في المجمع، وإن كانا بصدد بيان الحكمين الفعليين فإن قلنا بجواز الاجتماع فهما أيضاً محرزان لهما لعدم التنافي بينهما، وإن قلنا بالامتناع فالإطلاقان متنافيان، أي متعارضان فيسقط كلاهما عن الفعليّة، فلا يثبت بهما المناطان جميعاً حيث إنّ عدم الفعليّة كما يحتمل أن يكون لوجود المانع مع وجود المقتضي يحتمل أيضاً أن يكون لعدم المقتضي فلا يحرز حينئذٍ المناط، لكنّه رجع عنه أخيراً بقوله «إلّا أنّ قضيّة التوفيق بينهما هو حمل كلّ منهما على الحكم الاقتضائي» فجعل عدم تلائمهما في مقام الفعليّة قرينة على أنّ كليهما في مقام بيان الحكم الاقتضائي فيثبت بهما المناطان في هذه الصورة أيضاً.

أقول: إنّ مقصوده من اقتضائيّة الحكم ما مرّ في الأمر السابق من حال الحكم مع قطع النظر عن حال الاجتماع في المجمع، أي يكشف الحكم عن المناط والملاك إذا جمع فيه جميع شرائط

انوار الأصول، ج 1، ص: 528

الفعليّة وكان اقتضائه تامّاً مع قطع النظر عن حال الاجتماع، وإلّا لو كان ناظراً إلى حال الاجتماع أيضاً لزم التفصيل بين القول بالامتناع والقول بالجواز واختصاص كشف المناطين بمبنى القائلين بالجواز فقط كما لا يخفى.

وبهذا يردّ ما أورد عليه المحقّق النائيني رحمه الله (وتبعه في المحاضرات) «بأنّ الحكم قبل وجود موضوعه خارجاً يكون إنشائيّاً ثابتاً لموضوعه المقدّر وجوده وبعد وجود موضوعه خارجاً يستحيل أن لا يكون فعلياً فكون الحكم في محلّ الاجتماع فعليّاً مرّة واقتضائيّاً مرّة اخرى غير معقول» «1».

فإنّ مقصود المحقّق الخراساني رحمه الله من الاقتضاء ليس هو مرحلة الإنشاء من الحكم

بل المراد كما مرّ كون كلّ واحد من الحكمين واجداً لجميع شرائط الفعليّة مع قطع النظر عن حال الاجتماع في المجمع وعدم كون أحدهما كذباً فاقداً للملاك.

وإن شئت قلت: إنّ مقصوده من كون الإطلاق في مقام بيان الحكم الاقتضائي كونه في مقام بيان حكم الطبيعة بما هي هي مع قطع النظر من طروّ الطوارى ء من المزاحمات وغيرها، كما أنّ مقصوده من كونه في مقام بيان الحكم الفعلي كونه بصدد بيان حكم الطبيعة مع طروّ الطوارى ء.

الطريق الثالث: الاصول العمليّة فيما إذا لم يكن إطلاق للدليلين حيث إنّ الأصل الجاري حينئذٍ إنّما هو البراءة عن اشتراط إباحة المكان في الصّلاة ولازمه عدم نقصان للدليل بالنسبة إلى المجمع من ناحية جامعيته للشرائط.

إن قلت: أكثر ما يثبت بأصالة البراءة هو كون المكلّف معذوراً ولا يكشف به الملاك والمصلحة.

قلنا: ليس المراد من المناط الذي إشترط وجوده في المجمع خصوص المصلحة بل هو أعمّ منها ومن كون كلّ واحد من الأمر والنهي جامعاً لشرائط التنجيز وتامّ الاقتضاء، وهذا يحصل بعد جريان البراءة، مضافاً إلى أنّ المصلحة أيضاً موجودة هنا بناءً على بعض المباني وهو مبنى القائلين بالمصلحة السلوكيّة أي وجود المصلحة في سلوك المكلّف على وفق أصالة البراءة.

الأمر العاشر: في ثمرة بحث الاجتماع

وقد ذكر لها المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية خمسة صور:

الصورة الاولى: ما إذا قلنا بالجواز، فلا إشكال حينئذٍ في أنّ الإتيان بالمجمع يوجب سقوط الأمر وحصول الامتثال سواء كان العمل تعبّديّاً أو توصّلياً وسواء كان الفاعل عالماً أو جاهلًا، نعم إتيان العالم عصيان للنهي.

الصورة الثانيّة: ما إذا قلنا بالامتناع مع ترجيح جانب الأمر، فلا إشكال أيضاً في وقوع الامتثال بالنسبة إلى الأمر والعصيان بالنسبة إلى النهي.

الصورة الثالثة: ما إذا قلنا بالامتناع مع

ترجيح جانب النهي وكان الواجب توصّلياً فيكون العمل حينئذٍ صحيحاً مع حصول العصيان كغسل ثوبه بالماء الغصبي للصّلاة.

الصورة الرابعة: ما إذا قلنا بالامتناع مع ترجيح جانب النهي وكان الواجب تعبّديّاً مع كون الفاعل جاهلًا معذوراً كالجاهل في الموضوعات مطلقاً لعدم وجود الفحص فيها وكالجاهل القاصر في الحكم، ففي هذه الصورة يقع العمل أيضاً صحيحاً لأنّه لا فعليّة للنهي بالنسبة إلى الجاهل المعذور.

إن قلت: لا فعلية للأمر أيضاً بالنسبة إلى الجاهل لأنّ المفروض هو الامتناع وترجيح جانب النهي.

قلنا: المفروض أيضاً وجود الملاك لكلّ من الأمر والنهي، ولا إشكال في أنّ قصد الملاك كقصد الأمر كافٍ في صحّة العمل، كما أنّه يكفي قصد الأمر المتعلّق بطبيعة المأمور به الموجودة ضمن سائر الأفراد غير المجمع.

الصورة الخامسة: ما إذا قلنا بالامتناع مع ترجيح جانب النهي وكان الفعل تعبّديّاً والفاعل مقصّراً، ففي هذه الصورة يقع العمل باطلًا لأنّه مع تقصيره لا يحصل التقرّب بالعمل، ومعه لا يكاد يحصل به الغرض المطلوب من العبادة. (انتهى).

أقول: يمكن أن يقال بفساد العمل في الصورة الاولى أيضاً لأنّه وإن كان العنوان متعدّداً، وبتعدّده تعدّد المعنون على مبنى الجواز ولكن لا حسن للعمل العبادي فعلًا ولا فاعلًا إذا انطبق عليه عنوان محرّم، ومعه لا يحصل التقرّب ولا يسقط الأمر.

أمّا عدم حسنه الفعلي فلأنّ المفروض أنّ العنوانين- وهما عنوان الصّلاة وعنوان الغصب-

انوار الأصول، ج 1، ص: 530

متلازمان في المجمع كمال الملازمة، فتسري مبغوضيّة أحدهما إلى الآخر عند العرف والعقلاء، فلا يمكن التقرّب به، بل هذا ثابت حتّى في بعض المقارنات الخارجيّة، وهذا ما ندركه بوجداننا العرفي العقلائي فيمن يعصي اللَّه بسمعه أو لسانه في مجلس الذكر أو مجلس إقامة العزاء لأبي عبداللَّه عليه السلام فنحكم بعدم كون

عمله مقرّباً إلى اللَّه وأنّه لا يمكن له أن يقول: «إنّي أتقرّب بهذا العمل إلى اللَّه» ولذلك قلنا في محلّه ببطلان الصّلاة إذا تقارنت مع المعاصي الكبيرة التي يحكم العرف بعدم كونها مقرّبة إلى اللَّه في ذلك الحال حتّى على مبنى جواز الاجتماع بحسب حكم العقل، فإنّ الدقّة العقليّة غير كافية في هذه المباحث، وسيأتي من المحقّق البروجردي رحمه الله ضمن بيان أدلّة المجوّزين أنّ المبعّد لا يكون مقرّباً فانتظر.

وللمحقّق النائيني رحمه الله في هذا المجال بيان لبطلان الصّلاة فيما إذا كان المكلّف عالماً بالحرمة على القول بالجواز (أي نفس الصورة الاولى في المسألة) وحاصله على حكاية تلميذه المحقّق في المحاضرات: إنّ منشأ اعتبار القدرة في التكليف إنّما هو اقتضاء نفس التكليف ذلك لا حكم العقل بقبح تكليف العاجز، والوجه في ذلك هو أنّ الغرض من التكليف حيث إنّه كان جعل الداعي للمكلّف نحو الفعل فمن الواضح أنّ هذا بنفسه يقتضي كون متعلّقه مقدوراً، ضرورة استحالة جعل الداعي نحو الممتنع عقلًا وشرعاً، ونتيجة ذلك هي أنّ متعلّقه حصّة خاصّة من الطبيعة- وهي الحصّة المقدورة عقلًا وشرعاً وهي الصّلاة في غير المكان المغصوب، وأمّا الصّلاة في المكان المغصوب فهي خارجة عن متعلّقه ولا تكون مصداقاً للمأمور به وفرداً له فإنّها وإن لم تكن متّحدة مع الحرام في الخارج إلّاأنّها ملازمة له خارجاً، فلأجل ذلك لا تكون مقدورة شرعاً وإن كانت مقدورة عقلًا، والمفروض أنّ الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي فلا يمكن الحكم بصحّة العبادة في مورد الاجتماع بناءً على القول بالجواز وتغاير متعلّق الأمر والنهي فضلًا عن غيره «1». (انتهى).

وهذا الكلام يرجع إلى ما ذكرنا من بعض الجهات.

الأمر الحادي عشر: في توقّف النزاع في باب الاجتماع على تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد وعدمه
اشارة

والحقّ في هذه المقدّمة ما ذهب إليه المحقّق النائيني

رحمه الله من عدم التوقّف، لأنّ النزاع في ما نحن فيه مرتكز على تضادّ الأحكام وعدمه أوّلًا، وعلى أنّ التركيب في مورد الاجتماع انضمامي أو اتّحادي ثانياً، فمن قال بتضادّ الأحكام أو كان يرى أنّ الحيثيتين في مورد الاجتماع تعليليتان وأنّ التركيب اتّحادي ذهب إلى امتناع الاجتماع وإن إلتزم بكون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد كالأشعري، كما أنّ من لم يقل بتضادّ الأحكام أو كان يرى أنّ الحيثيتين تقييديتان وأنّ التركيب انضمامي ذهب إلى جواز الاجتماع ولو كان ممّن يلتزم بتبعيتها لها «1».

الأقوال في المسألة

إلى هنا تمّ ما أردنا ذكره من المقدّمات.

إذا عرفت هذا فلنشرع في نقل الأقوال في المسألة فنقول: المهمّ فيها قولان: القول بالامتناع مطلقاً، والقول بالجواز مطلقاً، والأوّل منسوب إلى المشهور ولكن المحقّق البروجردي رحمه الله قد أنكر هذه النسبة بدعوى أنّها نشأت من قول المشهور بفساد الصّلاة في الدار الغصبي مع أنّه لا يكشف عن كونهم قائلين بالامتناع لأنّ القول بجواز اجتماع الأمر والنهي في مقام توجّه الخطاب لا يستلزم القول بالصحّة في مقام الامتثال حتّى يقال إنّ كلّ من قال بعدم الصحّة في مقام الامتثال قال بالامتناع في مقام الخطاب بل يمكن أن يقال ببطلان الصّلاة لأنّ المبعّد ليس مقرّباً (كما هو المختار) وإن كان المبنى في المسألة الاصوليّة هو الجواز نعم، مع الجهل أو النسيان يقع العمل صحيحاً لعدم ابتلائه في الحالين بما هو مبغوض وإن قلنا بالامتناع «2».

وكيف كان، فقد استدلّ المحقّق الخراساني رحمه الله على الامتناع بما يتشكّل من مقدّمات أربع:

المقدمة الاولى: أنّ الأحكام متضادّة في مقام الفعليّة وهي مقام البعث والزجر، وإن لم يكن بينها تضادّ في مقام الاقتضاء والإنشاء.

انوار الأصول، ج 1، ص: 532

المقدمة الثانية: أنّ متعلّق الأحكام

هو فعل المكلّف الخارجي لا ما هو اسمه وعنوانه لأنّ الأحكام إنّما تتعلّق بحقيقة الشي ء وواقعه وما يترتّب عليه الخواص والآثار، والاسم والعنوان إنّما يؤخذ في لسان الدليل لأجل الإشارة بهما إلى المسمّى والمعنون.

المقدمة الثالثة: أنّ تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون ولا تنثلم وحدة المعنون، بتعدّد العنوان والشاهد على ذلك صدق الصفات المتعدّدة على الواجب تبارك وتعالى مثل كونه حيّاً عالماً قادراً إلى غير ذلك من الصفات مع أنّه واحد أحد بسيط من جميع الجهات، فإذا كانت الصفات المتعدّدة تصدق على الواحد البسيط من جميع الجهات ولا ينافي ذلك وحدته وعدم تعدّده، فكذلك تصدق على غيره ممّا ليس كذلك بطريق أولى.

المقدمة الرابعة: أنّه لا يكاد يكون لوجود واحد إلّاماهية واحدة ويستحيل تغاير الوجود وماهيته في الوحدة والتعدّد، فالمجمع وإن تصادق عليه متعلّقاً الأمر والنهي إلّاأنّه كما يكون واحداً وجوداً يكون واحداً ماهية وذاتاً، فلا فرق في امتناع الاجتماع بين القول بأصالة الوجود والقول بأصالة الماهية، كما أنّ العنوانين المتصادقين على المجمع ليسا من قبيل الجنس والفصل كي يبتني الجواز والامتناع على تمايزهما وعدمه.

ثمّ استنتج من هذه المقدّمات امتناع الاجتماع وقال: إذا عرفت ما مهّدناه عرفت أنّ المجمع حيث كان واحداً وجوداً وذاتاً كان تعلّق الأمر والنهي به محالًا، ثمّ أشار إلى بعض أدلّة المجوّزين ثمّ أجاب عنه ونحن نذكره هنا تحت عنوان «إن قلت، قلت» بمزيد توضيح:

إن قلت: إنّ الأمر قد تعلّق بطبيعة الصّلاة والنهي بطبيعة الغصب، والطبيعة بما هي هي وإن لم تكن متعلّقة للطلب، ولكنّها بما هي مقيّدة بالوجود (بحيث كان القيد خارجاً والتقيّد داخلًا) تكون متعلّقة للطلب ولازمه أن لا يكون المتعلّق واحداً لا في مقام تعلّق البعث والزجر، وذلك لتعدّد

الطلبيتين بما هما متعلّقان لهما وإن إتّحدتا في ما هو خارج عن الطلب وهو الوجود، ولا في مقام الإطاعة والعصيان وذلك لسقوط أحدهما بالاطاعة والآخر بالعصيان، ولا إشكال في أنّ الإطاعة تحصل بطبيعة والعصيان يحصل بطبيعة اخرى، ومعه ففي أي مقام اجتماع الحكمان في واحدِ؟

قلنا: إنّ الطبيعتين المتعلّقتين للأمر والنهي كعنواني الصّلاة والغصب إنّما يؤخذان في لسان الدليل للإشارة بهما إلى المعنون، والمعنون هو أمر واحد لا يتعدّد بتعدّد العنوان.

انوار الأصول، ج 1، ص: 533

إن قلت: إنّ الأمر متعلّق بطبيعة الصّلاة، والنهي متعلّق بطبيعة الغصب، والمجمع فرد لهما، والفرد مقدّمة لوجود الطبيعي المأمور به أو المنهي عنه، فتكون الحرمة أو الوجوب المترشّح عليه من جانب الطبيعة وجوباً أو حرمة مقدّميّة غيريّة، ولا ضير في كون المقدّمة مضافاً إلى وجوبها الغيري حراماً غيريّاً في صورة عدم الانحصار بسوء الاختيار.

قلنا: إنّ الفرد هو عين الطبيعي في الخارج، وليس مقدّمة للطبيعي، وعليه فإذا تعلّق الأمر والنهي بالطبيعتين فقد تعلّقا بالمجمع. (انتهى).

أقول: لا حاجة إلى المقدّمة الرابعة مع وجود المقدّمة الثالثة، لأنّه مع كون المتعلّق هو المعنون الخارجي وكون المعنون هو الوجود لا الماهية فالمهمّ حينئذٍ في إثبات الامتناع إنّما هو كون الوجود في المجمع واحداً، ولا أثر فيه لوحدة ماهيته وتعدّدها، هذا أوّلًا.

وثانياً: إنّ البحث عن أصالة الماهية أو الوجود وعن وحدة الماهية وتعدّدها إنّما يتصوّر في الماهيات المتأصّلة الخارجيّة بينما العناوين المبحوث عنها في المقام ماهيات اعتباريّة انتزاعيّة.

وثالثاً: لا حاجة إلى المقدّمة الثالثة أيضاً لوضوحها بعد ملاحظة العناوين الانتزاعيّة لأنّ من الواضح أنّ تعدّد أمر انتزاعي ذهني لا يوجب تعدّد منشأ الانتزاع في الخارج.

فظهر أنّ العمدة في كلامه إنّما هي المقدّمتان الأوّليان، وقد أورد المحقّق البروجردي رحمه الله

في حاشيته على الكفاية على أوّليهما بأنّ «الأحكام ليست من مقولة الاعراض كما يلوح من كلام المصنّف بل إنّما تكون من مقولة الإضافات، والشاهد على ذلك أنّ الحكم يوجد قبل وجود متعلّقه، بل لا يمكن تعلّقه به بعد وجوده للزوم تحصيل الحاصل كما برهن في محلّه، لأنّ العرض لا يوجد قبل وجود معروضه بخلاف ما يكون من مقولة الإضافة فإنّه لا يحتاج إلى وجود طرفها حين انتزاعه، بل إنّما يحتاج تعلّقه إلى تعقّل طرفها كالعلم والقدرة، فإنّهما وإن كانا بالإضافة إلى العالم والقادر من مقولة العرض، ويحتاج وجود كلّ منهما إلى وجود معروضة إلّا أنّهما بالإضافة إلى المعلوم والمقدور كانا من مقولة الإضافة، وكذلك الحكم والطلب فإنّه وإن كان بالإضافة إلى الحاكم والطالب من مقولة العرض ويحتاج وجوده إلى وجوده لقيامه بالطالب قياماً صدوريّاً إلّاأنّه بالإضافة إلى المطلوب من مقولة الإضافة، ولا يحتاج تعلّقه به إلى وجوده، نعم إنّما يحتاج تعقّله إلى تعقّله ... وعليه ففي مورد تصاديق العنوانين يمكن تعلّق أحد الحكمين به بعد فرض تعلّق الآخر به، لأنّه حينئذٍ إنّما يتعلّق بالطبائع لا بما هو موجود في انوار الأصول، ج 1، ص: 534

الخارج وصادر عن المكلّف، فيصحّ أن يكون المجمع مأموراً به لا بما هو هو بل بما هو منطبق مع عنوان المأمور به، ومنهياً عنه أيضاً لا بما هو هو بل بما هو منطبق مع عنوان المنهي عنه.

ومن ذلك كلّه ظهر لك أيضاً منع المقدّمة الثانيّة فإنّ الالتزام بأنّ متعلّق الأحكام هو فعل المكلّف وما يصدر عنه في الخارج وموجوداً فيه إنّما يبتني على القول بأنّ الأحكام اعراض لا إضافات فإنّها على هذا المبنى تحتاج في تحقّقها إلى وجود المعروض وتحقّق الموضوع، وأمّا

على القول بأنّها إضافات فلا يحتاج إلى وجود الموضوع، وإذا عرفت أنّ متعلّق الحكم التحريمي غير ما يكون متعلّقاً للحكم الوجوبي حتّى في مورد التصادق والاجتماع فالقول بالجواز أقوى كما لا يخفى .... (إلى أن قال:) وإنّا إذا راجعنا إلى وجداننا في الأوامر التوصيلية والعرفيّة ونواهيها نرى الوجدان يحكم بجواز الاجتماع باعتبار إجماع ملاكهما في مورد واحد فيما إذا أمر المولى عبده بغسل ثوبه مثلًا ونهاه عن التصرّف في ملك الغير فغسله بسوء اختياره بماء مملوك للغير- يحكم الوجدان بأنّ العبد أتى بالمأمور به والمنهي عنه معاً، هذا مع أنّ النزاع في التوصّليات والتعبّديات سواء كما لا يخفى». (انتهى) «1».

أقول: الأولى في إثبات عدم وجود التضادّ بين الأحكام أن يقال: إنّ الأحكام امور اعتباريّة وهي ممّا لا تضادّ فيها لإمكان إنشاء امور مختلفة واعتبارها فإنّ الإنشاء خفيف المؤونة كما لا يخفى، نعم إنّه لا يتصوّر صدوره من الشارع الحكيم من باب اللغويّة، ولعلّ هذا هو مراد من قال بتضادّ الأحكام الخمسة، أي أنّه أيضاً يقول به من حيث المبادى ء والغايات وأنّ الإرادة والكراهة أعني الحبّ والبغض لا يجتمعان في نفس المولى بالإضافة إلى شي ء واحد- وإن اجتمعت في ذلك الشي ء جهات تقتضي الحبّ والإرادة وجهات اخرى تقتضي البغض والكراهة لأنّه بعد الكسر والانكسار وترجيح أحد الجانبين ينقدح أحدهما في نفس المولى فيوجب البعث أو الزجر.

هذا بحسب المبادى ء، وكذلك بحسب الغايات ومقام الامتثال فلا يمكن للمولى أن يقول للعبد: «تحرّك» وفي نفس الوقت يقول: «لا تتحرّك» فإنّ الامتثال حركة خاصّة خارجيّة من حيث الزمان والمكان والكمّ والكيف وسائر الخصوصيّات ولا يمكن امتثال تكليفين في آنٍ واحد.

انوار الأصول، ج 1، ص: 535

ونحن نظنّ أنّ هذا هو مراد القائلين

بتضادّ الأحكام الخمسة كما يشهد بذلك تعبيرهم بأنّ الأحكام متضادّة في مقام الفعليّة، والحاصل أنّها وإن لم تكن متضادّة بنفسها ولكن تترتّب عليها آثار التضادّ، ومن هنا يعلم وجه الإشكال في كلام سيّدنا الاستاذ المحقّق البروجردي رحمه الله، وسيأتي الإشكال في ما أورده على المقدّمة الثانيّة عند توضيح المذهب المختار.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني رحمه الله قال في ذيل كلام المحقّق الخراساني رحمه الله بعد إيراده على المقدّمة الثالثة ما نصّه: «القول بالامتناع يبتني على كون الجهتين اللتين لا بدّ منهما في صدق المفهومين على المجمع تعليليتين ليكون التركيب اتّحاديّاً فيستحيل الاجتماع، كما أنّ القول بالجواز يبتني على كون الجهتين تقييديتين والتركيب انضمامياً فإنّه على ذلك لا يلزم محذور اجتماع الضدّين في شي ء واحد ... (إلى أن أثبت) كون التركيب في المجمع انضمامياً لا اتّحاديّاً، وعليه فلا مانع من كون أحدهما مأموراً به والآخر منهياً عنه إذ المستحيل إنّما هو توارد الأمر والنهي على محلّ واحد، وبعد إثبات أنّ التركيب انضمامي يكون متعلّق أحدهما غير متعلّق الآخر لا محالة، فيكون أحدهما متّصفاً بالوجوب محضاً والآخر متّصفاً بالحرمة كذلك ... (إلى أن قال:) ولا يفرق فيما ذكرناه من كون التركيب انضمامياً بين القول بأنّ المطلوب في الصّلاة هي الهيئة الخاصّة من الركوع والسجود والقيام لتكون المقدّمات من الهوي والنهوض خارجة عن حيّز الطلب والقول بأنّ المطلوب هي الأفعال الخاصّة إمّا مطلقاً أو بعضها كالركوع والسجود ليكون الهوي إليهما مقدّماً للمأمور به، وذلك لأنّ المأمور به على كلا التقديرين من مقولة الوضع وأمّا الغصب فهو من مقولة الأين، ويستحيل اتّحاد المقولتين في الخارج، فلا مناص عن كون التركيب بينهما في محلّ الاجتماع انضمامياً» «1».

أقول: في كلامه أيضاً مواقع

للنظر.

الموقع الأوّل: أنّه خارج عن محلّ النزاع لأنّ النزاع في عنوانين صادقين على محلّ واحد، مع أنّ لازم كلامه إمّا عدم إمكان صدق العنوانين على موضوع واحد في الخارج، أو أنّ ما يتصوّر واحداً يكون في الواقع متعدّداً وبه لا تحلّ المسألة الاصوليّة بل إنّما يرتفع الإشكال في انوار الأصول، ج 1، ص: 536

مسألة فقهيّة وهي الصّلاة في الدار المغصوبة.

الموقع الثاني: ليس الركوع والسجود من مقولة الوضع بل من مقولة الفعل، لأنّ الركوع ليس عبارة عن مجرّد الانحناء بل التحقيق أنّ الهويّ من حالة القيام أيضاً جزء للركوع كما أنّ الوقوع على الأرض أيضاً جزء للسجود (ولذلك يجب على الساجد إذا سمع آية السجدة أن يرفع رأسه من الأرض ثمّ يضعه ثانياً بنيّة سجدة الآية، ولا يكفي مجرّد الاستمرار والإبقاء في السجدة الاولى) ولا إشكال في أنّ الهويّ أو الوقوع من مقولة الفعل.

مضافاً إلى أنّ التعبير الصحيح في المقام هو حرمة التصرّف في مال الغير بغير إذنه، وهو غير عنوان الغصب، لأنّه لا يعتبر في الغصب التصرّف الخارجي في المال المغصوب بل إنّه صادق حتّى فيما إذا أخذ مفتاح دار الغير مثلًا من دون التصرّف الخارجي كما أنّ الركوب على مركب الغير مع كون لجامه بيد الغير تصرّف في مال الغير ولا يكون غصباً، فالمهمّ في ما نحن فيه هو اجتماع الصّلاة مع التصرّف في مال الغير بغير إذنه وإن لم يصدق عليه عنوان الغصب، ولا يخفى أنّ عنوان التصرّف من مقولة الفعل لا الأين.

الموقع الثالث: أنّ المبحوث عنه في كلامه من تعدّد مقولة الصّلاة والغصب بحث موضوعي مصداقي في خصوص مصداق الصّلاة في الدار المغصوبة وليس مسألة اجتماع الأمر والنهي على نحو كلّي.

هذا كلّه بالنسبة

إلى القول بالامتناع.

وأمّا القول بالجواز فحاصل ما استدلّ به في تهذيب الاصول (الذي يرجع في الحقيقة إلى المقدّمة الثانيّة من المقدّمات الأربعة لصاحب الكفاية وطريق لانكارها): أنّ القول بالجواز يبتني على أربع مقدّمات:

أوّلها: أنّ الحكم يمتنع أن يتجاوز من متعلّقه إلى مقارناته الاتفاقيّة ولوازمه الوجوديّة، واستدلّ له بقياس الإرادة التشريعيّة بالإرادة التكوينيّة.

ثانيها: أنّ حقيقة الإطلاق هي حذف القيود ورفضها لا أخذها.

ثالثها: أنّ اتّحاد الماهية اللا بشرط مع الف شرط في الوجود الخارجي لا يلزم منه حكاية المعروض عن عارضه إذا كان خارجاً من ذاتها ولاحقاً بها لأنّ حكاية اللفظ دائرة مدار الوضع منوطة بالعلقة الاعتباريّة وهو منتف في المقام.

انوار الأصول، ج 1، ص: 537

رابعها: (وهو العمدة والحجر الأساس لإثبات الجواز) أنّ متعلّق الأحكام هو الطبيعة اللابشرط المنسلخة عن كافّة العوارض واللواحق، لا الوجود الخارجي أو الإيجاد بالحمل الشائع لأنّ تعلّق الحكم بالوجود لا يمكن إلّافي ظرف تحقّقه، والبعث إلى إيجاد الموجود بعث إلى تحصيل الحاصل، وقسّ عليه الزجر لأنّ الزجر عمّا تحقّق خارجاً أمر ممتنع، ولا الوجود الذهني الموجود في ذهن الآمر لأنّه بقيد كونه في الذهن لا ينطبق على الخارج، بل متعلّق الأحكام هو نفس الطبيعة غير المقيّدة بأحد الوجودين.

ثمّ قال: إذا عرفت ما رتّبناه من المقدّمات يظهر لك أنّ الحقّ هو جواز الاجتماع (انتهى ملخّصاً) «1».

أقول: وعمدة ما يرد عليه ما مرّ كراراً من أنّ البعث والطلب وهكذا الزجر والكراهة يتعلّق بالخارج من طريق العنوان، أي إن العنوان قنطرة للعبور بها إلى الخارج فإنّ متعلّق الكراهة وتنفّر المولى في قوله «لا تشرب الخمر» إنّما هو الخمر الخارجي لا الخمر الذهني ولا الطبيعة من حيث هي هي، فإنّ الوجود الخارجي مبدأ الآثار ومنشأ المصالح والمفاسد،

وقد عرفت أنّه بمعناه المصدري ليس تحصيلًا للحاصل، نعم أنّه كذلك بمعناه اسم المصدري.

والحاصل أنّ المفاهيم الذهنيّة لا أثر لها وكذا الطبيعة لا بشرط ما لم يلبس لباس الوجود، فلا تكون متعلّقة للحبّ والبغض والأمر والنهي إلّامن باب الإشارة إلى الخارج، وليس البحث بحثاً لفظيّاً وأنّ معنى الهيئة ماذا؟ والمتعلّق ماذا؟ كما يلوح من بعض كلماته.

وأمّا مسألة الجاهل المركّب فإنّها من قبيل الخطأ في التطبيق ولا ينافي كون متعلّق الحبّ أو البغض هو الخارج، وسيأتي توضيحه في بيان المختار في المسألة فانتظر.

هذا كلّه في أدلّة الطرفين.

المختار في المسألة:

أمّا الحقّ والمختار في المسألة فهو امتناع الاجتماع، وهو مبني على أمرين:

انوار الأصول، ج 1، ص: 538

أحدهما: أنّ الأحكام التكليفية متضادّة لكن لا بذواتها لأنّها اعتباريّة من هذه الجهة، والاعتبار كما مرّ خفيف المؤونة، بل من حيث المبادى ء، أي الكراهة والمحبّة في نفس المولى، ومن حيث الغايات ومقام الامتثال، أي مقام الإتيان والعصيان.

ثانيهما: أنّ متعلّق الأحكام هو الخارج لكن من طريق الصور والمفاهيم الذهنيّة، فإنّ وزانها وزان العلم الحصولي، فكما أنّ متعلّقه والمعلوم فيه إنّما هو الخارج لكن بواسطة الصور الذهنيّة لعدم إمكان حلول الخارج في الذهن، كذلك الأحكام في الإخباريات والإنشائيات، فإنّها من قبيل العلم الحصولي تتعلّق بالخارج ويكون موضوعها هو الخارج لكن بواسطة العناوين المتصوّرة في الذهن ومن طريق استخدام تلك العناوين، فالحكم بأنّ الشمس موجودة مثلًا تعلّق بالشمس المتصوّر في الذهن ابتداءً ولكن لينتقل منه إلى الخارج.

إن قلت: إنّ هذا ينتقض بالجاهل المركّب فيما إذا رأى سراباً مثلًا بتوهّم أنّه الماء، لأنّه لا إشكال في أنّ متعلّق حبّه وطلبه في قوله «ايتني الماء» حينئذٍ إنّما هو الصورة الذهنيّة من الماء لا الماء الخارجي لأنّه معدوم في الخارج

على الفرض.

قلنا: إنّ مطلوب الجاهل المركّب ومحبوبه أيضاً هو الماء الخارجي وإنّما الخطأ في التطبيق، نظير من حكم بإخراج إنسان من داره بتوهّم أنّه عدوّه وليس عدوّاً في الواقع، فلا إشكال في أنّ بغضه وكراهته متعلّق بالعدوّ الخارجي أو السارق الخارجي، ولكنّه خطأ في التطبيق، فإنّ في ما نحن فيه أيضاً قد تعلّق الحبّ والطلب حقيقة وفي الواقع بالماء الذي يكون منشأ للأثر ويوجب رفع العطش، وهذا أمر بديهي، فهو طالب للماء الخارجي ولكنه طلب الصورة الذهنيّة بتوهّم أنّه ماء خارجي وإلّا لا شكّ في أنّه لا يطلب السراب قطعاً.

إن قلت: المعروف في باب العلم الحصولي أنّ المعلوم بالذات إنّما هو الصور الذهنيّة، وأمّا الخارج فهو معلوم بالعرض وبتبع الصور الذهنيّة، فليكن المحبوب بالذات أيضاً في ما نحن فيه هو الصورة الذهنيّة.

قلنا: إنّ المراد من المعلوم بالذات هو ما حضر في الذهن، ولا شكّ أنّ الحاضر في الذهن هو الصور الذهنيّة، وأمّا الخارج فلا يحضر في الذهن بذاته، ولكن الآثار المختلفة إنّما تترتّب على الخارج لا على الصور الذهنيّة، فالعقرب أو السبع الذي يخاف منه الإنسان إنّما هو الخارجي منه فإنّه منشأ للضرر والخطر لا الصورة الذهنيّة منه، وفي موارد الجهل المركّب يكون الخوف انوار الأصول، ج 1، ص: 539

من باب الخطأ في التطبيق كما عرفت، وكذا الحبّ والبغض والإرادة والكراهة إنّما يتعلّقان بالوجودات الخارجيّة من طريق الصور الذهنيّة فهي مشيرة إليها وطريقة لها.

هذا كلّه هو البحث في الكبرى (أي كبرى جواز الاجتماع وامتناعه).

وهيهنا بحث صغروي في الصغريات المطروحة في الفقه من باب أنّها مصاديق لتلك الكبرى كالصلاه في الدار المغصوبة أو في ثوب مغصوب، وكالوضوء أو الغسل في الدار المغصوبة والتيمّم على تراب مغصوب، فهل

هي في الواقع صغريات لتلك الكبرى ومصاديق لذلك الكلّي، أو لا؟

الحقّ هو التفصيل بين الموارد، أمّا في مثل الوضوء والغسل بالماء المغصوب والتيمّم على التراب المغصوب فلا إشكال في أنّ الحركة العباديّة فيها متّحدة مع التصرّف في ملك الغير فينطبق على نفس ما ينطبق عليه الوضوء والغسل عنوان التصرّف في مال الغير بغير إذنه، وهكذا في التيمّم بناءً على كون ضرب اليد على الأرض أيضاً جزءً للتيمّم.

وأمّا في الصّلاة في الدار المغصوبة فلا إشكال في أنّ بعض أجزائها كالنيّة والأذكار والقراءات ليست متّحدة مع عنوان الغصب عرفاً وإن كان إيجاد الموج في الهواء بالذكر متّحداً مع نوع من التصرّف عقلًا، إنّما الكلام في بعض الأجزاء الاخر كالركوع والسجود، فإن قلنا بأنّ الهويّ إلى الركوع والسجود والنهوض عنهما جزء لهما كما أنّه كذلك وقد قرّر في محلّه أو قلنا باعتبار الاعتماد على الأرض في صدق السجدة فلا إشكال في أنّ الصّلاة متّحدة مع الغصب فتكون من صغريات تلك الكبرى، أمّا بالنسبة إلى الهويّ والنهوض فالأمر واضح لأنّهما جزء للركوع والسجود على الفرض، فتكون الصّلاة حينئذٍ متّحدة مع الغصب في الخارج ومصداقاً له، وأمّا بالنسبة إلى الاعتماد على الأرض فلأنّ الاعتماد على الأرض مأخوذ في مفهوم السجدة ولا يكفي في صدقها مجرّد مماسّة الجبهة على الأرض وحينئذٍ تتّحد الصّلاة أيضاً مع عنوان الغصب من دون فرق بين أن يكون ما يصحّ عليه السجود نفس أرض الغير أو شيئاً آخر، فتصير الصّلاة حينئذٍ أيضاً من صغريات تلك الكبرى.

نعم إلّاأن يأتي بها إيماءً كصلاة النافلة على المركب المغصوب وكالصّلاة على الميّت في الدار المغصوبة حيث إنّ في الاولى لا يكون جزءً من أجزاء الصّلاة متّحداً مع الغصب عرفاً لعدم

كون الايماء تصرّفاً وهو واضح، وكذلك في الثانيّة لأنّ الاعتماد على الأرض ليس معتبراً في انوار الأصول، ج 1، ص: 540

صدق القيام، ولذا لو أتى بالصّلاة على الميّت معلّقاً على الهواء يصدق القيام وتصّح الصّلاة.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ العبادات على ثلاثة أقسام: ففي قسم منها تكون الأجزاء بأسرها غير النيّة متّحدة مع عنوان الغصب كما في الوضوء والغسل مع الماء المغصوب، وفي قسم آخر لا تكون الأجزاء بتمامها متّحدة مع الغصب كالصّلاة إيماءً والصّلاة على الميّت، وفي قسم ثالث يكون بعض الأجزاء متّحداً كصلاة المختار، فالصحيح في المقام التفصيل بين الموارد كما قلنا.

بقي هنا شيئان:

أحدهما: ما مرّ من المحقّق النائيني رحمه الله من أنّ الصّلاة من مقولة الوضع وأنّ الغصب من مقولة الأين، فلا اتّحاد بينهما فلا تكون الصّلاة في الدار المغصوبة من صغريات تلك الكبرى مطلقاً، وقد مرّت المناقشة فيه أيضاً.

ثانيهما: ما أفاده في المحاضرات من أنّ الصّلاة ليست حقيقة مستقلّة ومقولة برأسها في قبال بقيّة المقولات بل هي مركّبة من مقولات عديدة: منها الكيف المسموع كالقراءة والأذكار، ومنها الكيف النفساني كالقصد والنيّة، ومنها الوضع كهيئة الراكع والساجد والقائم والقاعد، فإذن ليست للصّلاة وحدة حقيقية بل وحدتها بالاعتبار، وأمّا الغصب فهو ممكن الانطباق على المقولات المتعدّدة، ومن المعلوم أنّه لا يمكن أن يكون من الماهيات الحقيقية لما عرفت من استحالة اتّحاد المقولتين واندراجها تحت حقيقة واحدة ... إلى أن قال: ونتيجة ما ذكرناه هي أنّ الصّلاة لا تتّحد مع الغصب خارجاً لا من ناحية النيّة ولا من ناحية التكبيرة والقراءة وما شاكلهما ولا من ناحية الركوع والسجود والقيام والقعود ... إلى أن قال ما حاصله: وأمّا الهويّ إلى الركوع والسجود أو النهوض عنهما إلى القيام

والجلوس فهما من مقدّمات الصّلاة لا من أجزائها، بقي في المقام شي ء وهو الاعتماد على أرض الغير، فالظاهر عدم صدق السجدة الواجبة على مجرّد مماسّة الجبهة الأرض بل يعتبر في صدقها الاعتماد عليها، ومن المعلوم أنّ الاعتماد على أرض الغير نحو تصرّف فيها، فلا يجوز، وعليه فتتّحد الصّلاة المأمور بها مع انوار الأصول، ج 1، ص: 541

الغصب المنهي عنه في الخارج، فإذن لا مناصّ من القول بالامتناع (انتهى ملخّصاً) «1».

أقول: يرد عليه: أوّلًا: أنّ النيّة ليست من الكيف النفساني بل هي من أفعال النفس لأنّها ليست مجرّد شوق نفساني الذي يعبّر عنه بصيغة فعل الماضي «نَوى .

ثانياً: أنّ الأذكار والقراءات أيضاً تكون من قبيل الفعل والإيجاد لا الكيف المسموع، فهي حينئذٍ إمّا من مقولة الفعل لكونها حركة تدريجية، وإمّا ليست داخلة في مقولة من المقولات بناءً على عدم كون الحركة من المقولات من باب أنّ الحركة من خصوصّيات الوجود وليست من شؤون الماهية، وبالجملة أنّها ليست من مقولة الكيف المسموع، نعم إنّ الحالة الصوتيّة كالجهر والاخفات التي تعرض القراءة تكون من قبيل الكيف المسموع كما لا يخفى.

ثالثاً: الحقّ أنّ الهويّ جزء للركوع أو السجود لا من مقدّماتهما، فكأنّه لاحظ طائفة من الرّوايات الدالّة على أنّ الصّلاة ثلثها الركوع أو ثلثها السجود فإستظهر أنّ الركوع هو مجرّد الانحناء أو أنّ السجود هو مجرّد الانخفاض مع أنّ من جملة الأدلّة قوله تعالى: «ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ» مثلًا ولا ريب في أنّ ظاهرها أنّ الركوع هو الانحناء بضميمة الهويّ وهكذا في باب السجود، ولذلك يجب على من سمع حين السجود آية السجدة الواجبة رفع الرأس عنها ثمّ وضعه بنيّة امتثال آية السجدة، ولا يكفي مجرّد إبقائه على السجدة كما مرّ

سابقاً، وكذلك يجب على المكلّف في حال الانحناء إذا وجب عليه الركوع النهوض عنه ثمّ الانحناء بنيّة الركوع.

أضف إلى ذلك أنّه لو سلّمنا كون الهويّ من المقدّمات لا الأجزاء لكنّه من المقدّمات القريبة التي يسري القبح أو الحسن منها إلى ذي المقدّمة فتكون في حكم الأجزاء في ما نحن فيه كما مرّت الإشارة إليه سابقاً.

هذا كلّه في البحث عن صغريات المسألة، ولا إشكال في أنّها ليست منحصرة في مثال الصّلاة في الدار المغصوبة بل هناك موارد كثيرة في الفقه هي من مصاديق هذه المسألة وصغرياتها كالوقوف في عرفات أو منى تحت خيمة مغصوبة أو فوق حجر مغصوب ونظير الطواف مع دابة مغصوبة أو ثوب مغصوب، وكالصّلاة مع ثوب مغصوب أو السجدة على انوار الأصول، ج 1، ص: 542

التراب المغصوب وغير ذلك من الأمثلة التي محلّ البحث عنها هو الفقه، والتكلّم عنها في الاصول يستلزم تداخل الفقه في الاصول، فلا يغرنّك حصر المثال في كلماتهم في خصوص الصّلاة في الدار المغصوبة.

العبادات المكروهة
اشارة

ثمّ إنّه قد أُورد على القول بالامتناع بالنقض بامور:

منها: العبادات المكروهة ببيان أنّ أدلّ دليل على إمكان شي ء وقوعه، وقد وقع في الشرع المقدّس موارد اجتمع فيها حكمان من الأحكام الخمسة، نحو الصّلاة في مواضع التهمة، أو الصّلاة في الحمام، والصّلاة في الأماكن التي تكره الصّلاة فيها، والصّلاة أو الصّيام في الأزمنة التي تكره الصّلاة أو الصّيام فيها كما في النافلة المبتدئة حين طلوع الشمس أو عند غروبها، والصّيام في يوم عاشوراء، والصّيام في يوم عرفة لمن لا يقدر على الدعاء، ونحوها من الموارد التي اجتمع الكراهة فيها مع الاستحباب.

واجيب عنه بوجوه ثلاثة على نحو الإجمال، وبوجه آخر على نحو التفصيل.

أمّا الوجوه الثلاثة على نحو الإجمال:

الوجه

الأوّل: أنّ أدلّة العبادات المكروهة وإن كانت ظاهرة في جواز الاجتماع ولكن لا بدّ من توجيهها بعد أن أقمنا برهاناً عقليّاً قطعيّاً على الامتناع كما في سائر الموارد، فلابدّ مثلًا من توجيه قوله تعالى: «بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ» الظاهر في أنّ للباري جسماً وأعضاء تعالى اللَّه عن ذلك علوّاً كبيراً.

الوجه الثاني: أنّ هذا النقض يرد على القائلين بالجواز أيضاً، فلابدّ له أيضاً من التخلّص عنه حيث إنّ مدّعاه جواز الاجتماع فيما إذا كان في البين عنوانان وكانت النسبة بينهما العموم من وجه، مع أنّه لا إشكال في أنّ العنوان في مورد العبادات المكروهة واحد وقوله «صلّ» و «لا تصلّ في الحمّام» تعلّق بعنوان الصّلاة، ولو قلنا بأنّ العنوان في أحدهما مطلق الصّلاة، وفي الآخر الصّلاة في الحمّام كانت النسبة بينهما العموم المطلق لا العموم من وجه.

الوجه الثالث: قد مرّ اعتبار قيد المندوحة في محلّ النزاع بينما لا مندوحة في بعض هذه العبادات المكروهة كصيام يوم عاشوراء حيث إنّ صيام يوم الحادي عشر مثلًا موضوع آخر

انوار الأصول، ج 1، ص: 543

للاستحباب بل على القائل بالجواز أيضاً التفصّي عن هذا الإشكال لاعتبار أخذ قيد المندوحة عنده أيضاً في محلّ النزاع.

وأمّا الوجوه الثلاثة على نحو التفصيلي: أنّ العبادات المكروهة على ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: ما تعلّق النهي بعنوانه وذاته من دون أن يكون له بدل كصيام يوم عاشوراء والنوافل المبتدأة عند طلوع الشمس وغروبها.

القسم الثاني: ما تعلّق النهي به كذلك مع وجود البدل كما في النهي عن الصّلاة في الحمّام.

القسم الثالث: ما تعلّق النهي به لا بذاته وعنوانه بل تعلّق بعنوان آخر يجتمع معه وجوداً أو ملازم له خارجاً كما في الصّلاة في مواضع التّهمة فإنّ النهي تعلّق فيها بالصلاه لا

بما هي هي بل بما إنّها ملازمة لعنوان التّهمة أو متّحدة معه.

أمّا القسم الأوّل: فلابدّ قبل الجواب عنه من ملاحظة أمرين:

الأمر الأوّل: ترتّب الثوب على هذا القسم ووقوعه صحيحاً فيترتّب الثواب على صيام عاشوراء ويقع في الخارج صحيحاً.

الأمر الثاني: استقرار سيرة الأئمّة وأصحابهم على تركه.

فإنّ مقتضى الجمع بين هذين الأمرين أنّ النهي الذي تعلّق بهذا القسم ليس لأجل منقصة في نفس العمل كي يقال باجتماع المصلحة والمفسدة في عمل واحد بل النهي عنه إمّا لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة أهمّ على الترك كالبراءة عن بني اميّة مثلًا أو لأجل ملازمته له وإن لم ينطبق عليه خارجاً، وعليه لو أتينا به يقع صحيحاً لأنّه ذو مصلحة يتقرّب به إلى اللَّه تعالى فيترتّب الثواب عليه، ولو تركناه فكذلك يترتّب الثواب على تركه لأنّا حصلنا بالترك على المصلحة الموجودة في العنوان المنطبق على الترك أو الملازم للترك التي تكون أهمّ من مصلحة أصل العمل والتي صارت منشأً لجريان سيرة الأئمّة والأصحاب على الترك، فهيهنا في الواقع مصلحتان أو مستحبّان متزاحمان، أحدهما أرجح من الآخر، نظير تزاحم الوقوف في عرفات يوم عرفة في الحجّ المستحبّ وزيارة قبر الحسين عليه السلام في نفس ذلك اليوم، وبه يخرج مثل هذا المثال عن محلّ النزاع ويكون النهي الوارد فيه إرشاداً إلى وجود مصلحة أهمّ في عنوان ينطبق على الترك كعنوان البراءة عن بني اميّة.

وأمّا القسم الثاني: فيأتي فيه نفس الجواب عن القسم الأوّل، أي يكون النهي عن الصّلاة

انوار الأصول، ج 1، ص: 544

في الحمّام إرشاداً إلى أنّ مصلحة العنوان المنطبق على تركها (وهو إيجاد الفسحة للناس مثلًا) أهمّ من مصلحة إتيان الصّلاة في أوّل الوقت مثلًا.

هذا- مضافاً إلى أنّه يمكن أن يقال: سلّمنا

أنّ النهي فيه يكون لوجود منقصة في الفعل ولكنّها ليست بحيث تغلب على المصلحة الموجودة في العمل حتّى لا يكون صالحاً للتقرّب به إلى اللَّه تعالى بل إنّها منقصة مغلوبة، ومع ذلك نهى الشارع عن الفعل لكونه حينئذٍ أقلّ ثواباً من بدله الذي لا منقصة فيه (كالصّلاة في الدار مثلًا) ومن بدله الذي يترتّب عليه ثواباً أكثر من الثواب الذي يترتّب على نفس طبيعة الصّلاة كالصّلاة في المسجد، فالكراهة هنا بمعنى كون العمل أقلّ ثواباً من سائر الأفراد لا بمعناه المصطلح وهو كون المنقصة أكثر من المصلحة.

وبعبارة اخرى: مصطلح الكراهة والاستحباب في باب العبادات غير مصطلحهما في غير العبادات.

فظهر أنّ النهي عن العمل أو الأمر بالترك في القسم الثاني من العبادات المكروهة إنّما هو إرشاد إلى أنّ هذا الفرد من الطبيعة أقلّ ثواباً من الأفراد الاخر وليس نهياً أو أمراً مولويّاً، فيكون خارجاً عن محلّ البحث.

وأمّا القسم الثالث: (وهو ما إذا تعلّق النهي بالعبادة لكن لا بذاتها بل علم أنّه لأجل عنوان يتّحد معها وجوداً ويلازمها خارجاً) فالجواب عنه إمّا بناءً على الجواز وتعدّد متعلّقي الأمر والنهي فهو أنّه يمكن أن يكون النهي مولويّاً وكان إسناده إلى العبادة مجازيّاً، فإنّ المكروه هو ذاك العنوان المتّحد معها أو الملازم لها دون العبادة بنفسها، ويمكن أن يكون إرشاديّاً، أي خالياً عن الطلب النفساني فيكون إسناده إلى العبادة حقيقيّاً قد أُنشأ بداعي الإرشاد إلى سائر الأفراد ممّا لم يبتلِ بعنوان ذي منقصة متّحد معها أو ملازم لها، وأمّا على الامتناع فإن كان النهي لأجل عنوان يلازم العبادة خارجاً فالجواب هو عين جواب المجوّز حرفاً بحرف لتعدّد المتعلّق حينئذٍ، وأمّا إذا كان النهي لأجل عنوان يتّحد مع العبادة وجوداً

ورجّحنا جانب الأمر كما هو المفروض (إذ لو كان الراجح جانب النهي لكانت العبادة باطلة جدّاً لا مكروهة) فالجواب ما اجيب به في القسم الثاني أي الجواب الأخير فيه من كون النهي لمنقصة مغلوبة في الفعل وإنّما نهى الشارع عنه إرشاداً إلى سائر الأفراد ممّا لم يبتلِ بالمنقصة والحزازة أصلًا.

ولكن يرد على هذا الجواب بالنسبة إلى القسم الأوّل: أنّ باب التزاحم والمستحبّين انوار الأصول، ج 1، ص: 545

المتزاحمين يتصوّر فيما لا يكونان من قبيل ضدّين لا ثالث لهما مع أنّ صيام يوم عاشوراء من هذا القبيل لأنّه لا يكون لصوم يوم عاشوراء بدل كي يصحّ أن يقال: إنّ النهي عنه لمنقصة فيه وأنّه إرشاد إلى سائر الأفراد ممّا لا منقصة فيه وهو بدل عنه نتخيّر بينه وبين بدله عقلًا، إذ المفروض أنّ صوم كلّ يوم مستحبّ تعييني لا تخييري من باب التزاحم، وحينئذٍ تكون منقصة صوم عاشوراء دائماً أكثر من مصلحته، فلا يكون قابلًا للتقرّب ويكون من قبيل المكروه المصطلح، إذن لا بدّ فيه من جواب آخر وهو أن نقول: إنّ النهي عنه إرشاد إلى كون الصّيام في يوم عاشوراء أقلّ ثواباً من سائر الأيّام لا أنّ تركه يكون أكثر ثواباً.

إن قلت: فلماذا كان الأئمّة والأصحاب يتركونه دائماً؟

قلنا: لعلّه من باب أنّ الإنسان يترك صيام بعض أيّام السنة غالباً ولا يكون صائماً في تمام السنة، فالأولى حينئذٍ أن يترك صيام ما يكون أقلّ ثواباً من الأيّام الاخر. ولا يخفى أنّ الإيراد المزبور يأتي بالنسبة إلى القسم الثاني والثالث أيضاً وإن لم تكن الصّلاة في الحمّام مثلًا من قبيل ضدّين لا ثالث لهما، أي كان لها بدل لأنّ المفروض أنّ مصلحة تركها أكثر من مصلحة فعلها وحينئذٍ

لا يمكن التقرّب إلى المولى بالفعل نظير ما إذا كان الربح المترتّب على ترك معاملة أكثر من الربح الذي يترتّب على فعلها، فلا يمكن للعبد أن يتقرّب إلى مولاه بفعل تلك المعاملة.

هذا كلّه أوّلًا.

وثانياً: أنّ تبديل النهي عن الزجر عن الفعل إلى الأمر بالترك خروج عن معناه الحقيقي فإنّه قد مرّ أنّ النهي هو الزجر عن الفعل لمنقصة فيه إلّاأنّه بمعنى الأمر بالترك لمصلحة في الترك (والمحقّق الخراساني رحمه الله الذي ذهب إلى الجواب المزبور تكلّم هنا على مبناه في حقيقة النهي وقد مرّ عدم تماميّة مبناه) فإنّ النهي عن صوم عاشوراء ليس من باب أنّ في تركه مصلحة بل وهي وجود منقصة فيه من باب انطباق عنوان التشبّه ببني اميّة عليه.

ثالثاً: إنّ القسم الثالث (وهو ما إذا تعلّق النهي بعنوان آخر) خارج في الحقيقة عن العبادات المكروهة لأنّ العبادة المكروهة ما تعلّق النهي فيها بذات العبادة لا بعنوان آخر.

وبالجملة إنّ المختار في مقام الجواب عن النقض بالعبادات المكروهة أن يقال: إنّ النهي فيها مطلقاً يكون إرشاداً إلى كون العمل أقلّ ثواباً من سائر الأفراد ولكنّه ببيان آخر، وهو أنّه يوجد في العبادات المكروهة عنوانان انطبقا على محلّ واحد ولكن أحدهما يكون واجداً

انوار الأصول، ج 1، ص: 546

للمصلحة والآخر واجداً للمفسدة (لا أنّ في تركه مصلحة) والمصلحة الموجودة في الأوّل تكون أقوى من المفسدة الموجودة في الثاني ولا إشكال في أنّ ذا المصلحة يصير بعد الكسر والانكسار أقلّ ثواباً من سائر الأفراد، وقد مرّ الجواب آنفاً عن إشكال ترك الأئمّة صيام عاشوراء دائماً فلا نعيده وأمّا الجواب بأنّ أصل صحّة الصّيام في يوم عاشوراء محلّ ترديد وكلام فلا يعبأ به لأنّ ظاهر الأدلّة صحّته كما حكي

عن المشهور.

هذا كلّه بناءً على اعتبار ترتّب الثواب في معنى العبادة، وأمّا بناءً على ما مرّ في مبحث التعبّدي والتوصّلي من أنّ العبادة أمر اعتباري اعتبرت للخضوع والتذلّل في مقابل المولى وليس في ذاتها وحقيقتها أن تكون مقرّبة إلى المولى وأن يترتّب عليها الثواب بل إنّها أيضاً تنقسم إلى أقسام خمسة، فبعض أقسامها حرام كصيام يوم الاضحى، وبعض أقسامها واجب كصيام رمضان، وقسم ثالث منها مستحبّ كصيام شعبان ورجب، وقسم رابع منها مكروه وهو صيام يوم عاشوراء وهكذا- إذا قلنا بهذا انحلّ الإشكال من الأساس لأنّه لا يترتّب على صوم عاشوراء ثواب حتّى يقال بأنّه ينافي كراهته.

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: ما سلكه المحقّق النائيني رحمه الله بالنسبة إلى القسم الثالث فإنّه قال: «إنّ الإشكال في اتّصاف العبادة بالكراهة في القسم الثالث إنّما نشأ من تخيّل أنّ متعلّق الأمر والنهي هو شي ء واحد مع أنّه ليس، كذلك لوضوح أنّ متعلّق الأمر هو ذات العبادة، وأمّا النهي التنزيهي فهو لم يتعلّق بها لعدم مفسدة في فعلها ولا مصلحة في تركها بل تعلّق بالتعبّد بهذه العبادة لما فيه من المشابهة للأعداء، وبما أنّ النهي تنزيهي وهو متضمّن للترخيص في الإتيان بمتعلّقه جاز التعبّد بتلك العبادة بداعي امتثال الأمر المتعلّق بذاتها ... فارتفع إشكال اجتماع الضدّين في هذا القسم أيضاً» «1».

واستشكل عليه في تهذيب الاصول بامور: منها: «أنّ لازم تعلّق الأمر بذات العبادة كذات الصّوم أن يصير توصّلياً ولو بدليل آخر بل تعلّق الأمر به بقيد التعبّديّة» «2».

كما أنّ تلميذه المحقّق رحمه الله أورد عليه أيضاً في هامش أجود التقريرات بأنّ «الأمر

انوار الأصول، ج 1، ص: 547

الاستحبابي كما تعلّق بذات العبادة تعلّق بالتعبّد بها أيضاً كما عرفت ذلك في بحث

التعبّدي والتوصّلي» «1».

أقول: من البعيد جدّاً أن يكون مراد المحقّق النائيني رحمه الله من أنّ متعلّق الأمر هو ذات العبادة واستحباب ذات العمل من دون قصد التعبّد بها بل أظنّ أنّ مراده أن المستحبّ إنّما هو الصّوم مع قصد القربة، والمكروه هو الصّيام مع قصد التشبّه ببنيْ اميّة (حيث إنّ التشبّه ليس حراماً بجميع أقسامه ومراتبه فتأمّل).

نعم يمكن الجواب عنه بأنّه حيث إنّ هذين العنوانين متّحدان في الخارج فعلى الامتناع لازمه حصول الكسر والانكسار والعمل بأرجحهما، وحيث إنّ الأرجح هو الترك كما يشهد عليه ترك الأئمّة عليهم السلام يلزم بطلان الصّوم، والتالي فاسد حيث إنّه لا إشكال في صحّة الصّيام فلم تنحلّ مشكلة العبادات المكروهة بناءً على الامتناع، وبهذا تثبت صحّة استدلال القائلين بالجواز بالعبادات المكروهة.

وقال في تهذيب الاصول: «إنّ النهي وإن تعلّق بنفس الصّوم ظاهراً إلّاأنّه متعلّق في الواقع بنفس التشبّه ببني اميّة الحاصل بنفس الصّوم من دون أن يقصد التشبّه، فالمأمور به هو ذات الصّوم والمنهي عنه التشبّه بهم، ولما انطبق العنوان المنهي عنه عليه وكان ترك التشبّه أهمّ من الصّوم المستحبّ نهى عنه إرشاداً إلى ترك التشبّه» «2».

أقول: إنّ لازم كلامه حلّ مشكلة العبادات المكروهة على مذاق القائلين بالجواز فقط مع أنّ المقصود في المقام حلّها بناءً على الامتناع فإنّ المفروض صحّتها مع كراهتها.

هذا كلّه في النقض الأوّل على القائلين بالامتناع من جانب القائلين بالجواز وهو النقض بالعبادات المكروهة وقد كان دليلًا شرعيّاً على الجواز.

الأمر الثاني: وهيهنا نقض ثانٍ أو دليل ثانٍ عرفي على الجواز وهو: أنّ أهل العرف يعدّون من أتى بالمأمور به في ضمن الفرد المحرّم مطيعاً وعاصياً من وجهين، فإذا أمر المولى عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في

مكان خاصّ ثمّ خاطه في ذلك المكان فإنّا نقطع أنّه مطيع عاصٍ لجهتي الأمر بالخياطة والنهي عن الكون في ذلك المكان.

انوار الأصول، ج 1، ص: 548

وقد اورد عليه:

أوّلًا: بالمناقشة في المثال لأنّ المنهي عنه في المثال المذكور هو الكون في مكان خاصّ والمأمور به هو الخياطة، وهما لا يتّحدان وجوداً بحيث كان الشي ء الواحد خياطة وكوناً في مكان خاصّ، بل الخياطة في ذلك المكان مع الكون فيه متلازمان وجوداً لا متّحدان كما في الصّلاة في الدار المغصوبة.

وثانياً: إنّا نمنع في المثال المذكور أنّ من خاط الثوب في المكان الخاصّ عدّ مطيعاً وعاصياً من وجهين بل هو إمّا مطيع إذا كان مناط الأمر أقوى، أو عاصٍ إذا كان مناط النهي أقوى، نعم إذا كان الواجب توصّلياً كما في المثال المذكور يحصل غرض المولى ولكنّه غير حصول الإطاعة فإنّ الحاصل في هذه الموارد إنّما هو الغرض لا الإطاعة والامتثال، والأوّل لا يلازم الثاني، وبعبارة اخرى: في باب التوصّليات تكون دائرة الغرض أوسع من دائرة الأمر.

أقول: إنّ ما غرّ المستدلّ في المقام إنّما هو المثال المزبور، لأنّا إذا بدّلنا المثال بمثال آخر وهو ما إذا أمر المولى عبده بخياطة ثوب ونهاه عن خياطته بخيط خاصّ، أو أمره بتطهير ثوبه ونهاه عن تطهيره بماء خاصّ كما مثّل به المحقّق البروجردي رحمه الله فيما مرّ من كلامه فلا إشكال في أنّ أهل العرف لا يعدّونه في هذين المثالين مطيعاً وعاصياً معاً فيما إذا كان مناط النهي أقوى بل إنّه يعدّ عاصياً فقط، مع أنّهما أيضاً من باب التوصّليات، ولعلّه إشتبه الأمر من ناحية حصول الغرض دون حصول المأمور به.

هذا تمام الكلام في أدلّة القائلين بجواز اجتماع الأمر والنهي، وقد ظهر ممّا

ذكرنا كلّه أنّ الحقّ هو القول بالامتناع وأنّ المهمّ في الدليل عليه هو الجمع بين الأمرين: تضادّ الأحكام الخمسة وسراية الأوامر والنواهي من العناوين إلى الخارج وأنّ العنوان إنّما أخذ في لسان الدليل لمجرّد الإشارة به إلى المعنون كما عرفت شرحه فيما سبق.

وينبغي التنبيه على امور:

التنبيه الأوّل: في الاضطرار إلى المحرّم

إذا اضطرّ الإنسان إلى ارتكاب الحرام كأن يضطرّ إلى غصب دار الغير فتارةً يضطرّ إليه لا

انوار الأصول، ج 1، ص: 549

بسوء الاختيار كالمحبوس في دار مغصوبة، واخرى يضطرّ إليه بسوء الاختيار كمن دخل في الدار المغصوبة باختياره واضطرّ إلى الخروج للتخلّص من الحرام، فيقع الكلام في مقامين: ما إذا اضطرّ إلى الحرام لا بسوء الاختيار وما إذا اضطرّ إليه بسوء الاختيار.

أمّا المقام الأوّل: فذهب جماعة إلى صحّة صلاته ما لم تستلزم تصرّفاً زائداً في الغصب مثل أن يأتي بها إيماءً، بل قال بعضهم أنّه يجب عليه إتيان الصّلاة على نفس الكيفية التي كان عليها في أوّل الدخول، فلو كان قائماً فقائماً ولو كان جالساً فجالساً بل لا يجوز له الانتقال إلى حالة اخرى في غير الصّلاة أيضاً لما فيه من الحركة التي هي تصرّف في مال الغير بغير إذنه، ولكن لا يبعد كون ظاهر الفقهاء جواز صلاة المختار له كما استظهره صاحب الجواهر من كلماتهم، كما أنّه بعد نقل القول المزبور (أي وجوب إتيان الصّلاة على نفس الكيفية الأوّليّة) قال: «إنّه لم يتفطّن أنّه عامل هذا المظلوم المحبوس قهراً بأشدّ ما عامله الظالم بل حبسه حبساً ما حبسه أحد لأحد، اللهمّ إلّاأن يكون في يوم القيامة مثله ... إلى أن قال: «وقد صرّح بعض هؤلاء أنّه ليس له حركة أجفان عيونه زائداً على ما يحتاج إليه ولا حركة يده أو

بعض أعضائه كذلك بل ينبغي أن تخصّ الحاجة في التي تتوقّف عليها حياته ونحوها ممّا ترجح على حرمة التصرّف في مال الغير، وكلّ ذلك ناشٍ من عدم التأمّل في أوّل الأمر والأنفة عن الرجوع بعد ذلك، أعاذ اللَّه الفقه من هذه الخرافات» (انتهى) «1».

وعلى كلّ حال، يرد عليه:

أوّلًا: أنّه لا فرق بين حال القيام وحال القعود، أو حال السكون وحال الحركة مثلًا في مقدار ما يشغله من الحيّز والمكان فلا يتحيّز الإنسان حال القيام مكاناً أكثر من ما يتحيّزه حال القعود إلّامن ناحية الطول والعرض، و إن شئت قلت: إنّ الانتقال من حال إلى حال في المكان الغصبي لا يعدّ عرفاً تصرّفاً زائداً على أصل البقاء على الكون الأوّل.

ثانياً: أنّ لازم هذا القول سقوط الصّلاة عن الوجوب بناءً على عدم وجوب الصّلاة على فاقد الطهورين لأنّه لا إشكال في أنّ كلّ واحد من الوضوء والتيمّم يستلزم تصرّفاً زائداً بل تصرّفاً أزيد من ما يستلزمه الركوع أو السجود ولعلّه لم يقل به أحد من الفقهاء.

انوار الأصول، ج 1، ص: 550

ومن هنا يظهر لزوم التأمّل في صلاة المختار في المكان المغصوب وفتوى الفقهاء بالبطلان فيه مع أنّها أيضاً لا تستلزم تصرّفاً زائداً على أصل الكون، وبعبارة اخرى: إن لزمت الصّلاة تصرّفاً زائداً عند العرف وجب إتيانها إيماءً حتّى في صلاة المحبوس، وإن لم تلزم تصرّفاً زائداً فلابدّ من الفتوى بجواز إتيان الصّلاة اختياراً حتّى للمختار أيضاً بناءً على عدم كون الاستقرار على الأرض من شرائط الصّلاة أو أجزائها وكونه عبارة عن الأذكار والهيئات الخاصّة مع أنّهم أفتوا ببطلانها فتأمّل، وتمام الكلام في الفقه.

أمّا المقام الثاني: فالبحث فيه يقع في جهتين: الاولى: في حكم الخروج في نفسه، والثانيّة: في

حكم الصّلاة حين الخروج.

أمّا الجهة الاولى: ففيها خمسة أقوال:

القول الأوّل: أنّ الخروج واجب وحرام بأمر فعلي وبنهي فعلي، ذهب إليه أبو هاشم، واختاره المحقّق القمّي رحمه الله.

القول الثاني: أنّ الخروج واجب فعلًا وليس بحرام فعلًا ولكن يجري فيه حكم المعصية لأجل ما تعلّق به من النهي سابقاً الساقط فعلًا، وذهب إليه صاحب الفصول.

القول الثالث: أنّه ليس محكوماً شرعاً بحكم لا الوجوب ولا الحرمة ولكنّه واجب عقلًا (لكونه أقلّ المحذورين، حيث إنّ التوقّف في المكان المغصوب يستلزم تصرّفاً أكثر) ويجري عليه حكم المعصية من باب النهي السابق الساقط.

وقد أسند المحقّق النائيني رحمه الله هذا القول إلى المحقّق الخراساني رحمه الله مع أنّه يخالف ظاهر كلامه وإليك نصّه: «الحقّ إنّه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار ولا يكاد يكون مأموراً به» فإنّه صرّح بكون الخروج منهياً عنه، وهذا ظاهر بل صريح في كونه محكوماً بالحرمة شرعاً وفعلًا لكن لا بالنهي الفعلي بل بالنهي السابق، أي يمكن أن تعدّ مقالة المحقّق الخراساني رحمه الله وجهاً وقولًا سادساً في المسألة.

القول الرابع: أن يكون الخروج واجباً ولا يكون منهيّاً عنه، وهو مختار شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله.

القول الخامس: ما ذهب إليه في تهذيب الاصول من أنّ الخروج حرام بالنهي الفعلي وليس بواجب.

انوار الأصول، ج 1، ص: 551

أمّا القول الأوّل: فبطلانه واضح بناءً على الامنتاع، لأنّه تكليف بما لا يطاق، وأمّا بناءً على الجواز فكذلك لأنّ ما نحن فيه ليس من باب اجتماع الأمر والنهي لأنّ العنوان فيه واحد، وهو عنوان الغصب الذي تعلّق به الحرمة، وأمّا الخروج فإنّ وجوبه- لو سلّم- يكون من باب مقدّميته للكون في خارج المكان المغصوب، وقد مرّ في مبحث مقدّمة الواجب أنّ الواجب هو ذات

المقدّمة وهو التصرّف في أرض الغير بالخروج (في ما نحن فيه) لا عنوانها.

أضف إلى ذلك عدم وجود مندوحة في المقام، ومعه لا يمكن الزجر عن الغصب حين الخروج لأنّه تكليف بما لا يطاق أيضاً، ومجرّد كون الاضطرار بسوء الاختيار لا يوجب جواز هذا التكليف من جانب الشارع.

إن قلت: إنّ الاضطرار هنا مصداق للامتناع بالاختيار الذي لا ينافي الاختيار.

قلنا: أوّلًا: إنّ قاعدة «الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار» جارية في خصوص الأفعال الاختياريّة للإنسان في مبحث الجبر والاختيار في جواب القائلين بالجبر حيث قالوا: أنّ الإنسان مجبور في أفعاله لأنّها لا تخلو من أحد أمرين: فإمّا أن تكون علّتها التامّة في الخارج متحققة، أولًا: فإن تحقّقت يجب تحقّق الفعل المعلول ويصير الفعل واجب الوجود بالغير، فإنّ الشي ء ما لم يجب لم يوجد، وإذا وجب تحقّقه فلا معنى لكونه اختياريّاً لأنّ الاختيار هو حالة «إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل»، أي حالة الإمكان والتسوية بين الفعل والترك لا الوجوب والضرورة، وإن لم تتحقّق العلّة التامّة فلا يتحقّق الفعل وجوباً وضرورة أيضاً، لأنّ الشي ء ما لم تتحقّق علّته التامّة وما لم يصل إلى حدّ الوجوب لا يمكن تحقّقه في الخارج، فالانسان دائماً إمّا مجبور على الفعل أو مجبور على الترك.

فإنّ القاعدة المزبورة تجري في الجواب عن هذا الاستدلال ببيان أنّ حاجة المعلول في تحقّقه في الخارج إلى تحقّق علّته التامّة لا تنافي الاختيار، لأنّ الجزء الأخير لها إنّما هو إرادة الإنسان، فبإرادته واختياره الفعل أو الترك يجب الفعل أو الترك، فهذا الوجوب أو ذاك الامتناع يكون مقارناً للاختيار وبالاختيار، وهو لا ينافي الاختيار لإمكان تركه بترك إرادته بخلاف، ما نحن فيه لأنّ المفروض إنّه مضطرّ إليه فعلًا

ولا يمكن له تركه.

ثانياً: لو سلّمنا جريانها في غير المقام المزبور إلّاأنّه لا يجري في ما نحن فيه أيضاً، لأنّ النهي هنا لا يمكن صدوره من جانب الشارع لأجل زجر المكلّف بل إنّه يصدر لأجل العقاب فقط،

انوار الأصول، ج 1، ص: 552

لأنّ النهي لأجل الزجر مع وجود الأمر بالخروج عقلًا أو شرعاً يستلزم التكليف بما لا يطاق.

وإن شئت قلت: إنّ جريان القاعدة في ما نحن فيه لا يوجب جريان النهي تكليفاً وفعلًا بل يوجب ترتّب العقاب فقط، وكم له في الشرع من نظير، كما إذا أراق المكلّف الماء بعد دخول الوقت فصار فاقداً للماء بسوء اختياره فإنّ سوء الاختيار فيه يوجب تحقّق المعصيه وترتّب العقاب فقط ولا يوجب أن يكون أمر الشارع وبعثه إلى الوضوء فعليّاً بعد.

ولذا قال جماعة من الأكابر: إنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً لا خطاباً وتكليفاً.

وأمّا القول الثاني: وهو ما ذهب إليه صاحب الفصول من أنّ الخروج واجب فعلًا مع جريان حكم المعصية عليه للنهي السابق الساقط- فهو الحقّ المختار لو كان مراده من جريان حكم المعصية وجود ملاك النهي في المتعلّق فقط، وأمّا إذا كان المراد أن الخروج منهيّ عنه الآن بالنهي السابق، أي أنّه مشمول للنهي السابق ويكون زمان تعلّق النهي مقدّماً على زمان متعلّقه فمضافاً إلى عدم كونه معقولًا كما سيأتي في بيان القول الثالث، يرد عليه ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله من «أنّ تعلّق الحكمين بفعل واحد ممتنع ولو كان زمان الإيجاب مغايراً لزمان التحريم لأنّ الاعتبار في الاستحالة والإمكان إنّما هو باتّحاد زمان صدور الفعل وتعدّده لا باتّحاد زمان الإيجاب والتحريم وتعدّده من حيث أنفسهما» «1».

أمّا القول الثالث: وهو خلو الفعل من أيّ حكم شرعي

فعلي بل أنّه واجب عقلًا من باب أقلّ المحذورين مع جريان العقاب لأجل النهي السابق الساقط فيحتمل أن يكون المقصود من جريان حكم النهي السابق فيه مجرّد ترتّب العقاب فقط من دون كون الفعل منهيّاً عنه الآن بالنهي، السابق وهذا هو مختار بعض الأعلام في هامش أجود التقريرات وقد أسنده المحقّق النائيني رحمه الله إلى المحقّق الخراساني رحمه الله. ويحتمل أن يكون الفعل أيضاً منهيّاً عنه فعلًا لكن لا بالنهي الفعلي بل بالنهي السابق كما هو ظاهر ما مرّ من كلام المحقّق الخراساني رحمه الله، ولكن لا يخفى عدم كونه معقولًا لأنّه بعد سقوط النهي السابق عن الفعليّة لا يعقل كون متعلّقه منهيّاً عنه، فعلًا فالصحيح في هذا الوجه هو الاحتمال الأوّل.

انوار الأصول، ج 1، ص: 553

وعلى أيّ حال: إنّ مرجع هذا القول إلى دعاوٍ ثلاثه: نفي الحرمة فعلًا لسقوط النهي فعلًا بحدوث الاضطرار، ونفي الوجوب مقدّمة (أي أنّ توقّف التخلّص عن الحرام على الخروج وانحصاره فيه لا يجدي في وجوبه من باب المقدّميّة) لأنّه كان بسوء اختياره، وجريان حكم المعصية عليه لأنّه كان منهياً عنه في السابق وقد عصاه بسوء اختياره فإنّه قبل الدخول في الأرض المغصوبة كان مكلّفاً بترك الغصب بجميع أنحائه من الدخول والخروج والبقاء جميعاً، وقد عصى النهي بالنسبة إلى الخروج كما عصاه بالنسبة إلى الدخول فيستحقّ العقاب عليهما جميعاً.

ولكن يرد عليه: أنّ وجوبه الفعلي الشرعي ثابت بقاعدة الملازمة بين حكم العقل والشرع حيث لا إشكال في أنّ الخروج واجب عقلًا من باب أقلّ المحذورين ورعاية قانون الأهمّ والمهمّ، فليكن كذلك شرعاً، لأنّ كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع.

إن قلت: المستفاد من قوله تعالى: «فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ

...» عدم كون المضطرّ عاديّاً ولا باغياً، ولازمه اشتراط جواز الفعل المنهي عنه أو وجوبه بعدم كون الاضطرار بسوء الاختيار.

قلنا: غاية ما يستفاد من هذه الآية اشتراط ترتّب العقاب بكونه باغياً أو عاديّاً لا أكثر.

أمّا القول الرابع: وهو كون الخروج واجباً وعدم كونه حراماً فيمكن أن يستدلّ له بأنّ ما نحن فيه داخل في كبرى قاعدة وجود ردّ المال المغصوب إلى مالكه من دون اتّصافه بالحرمة.

وفيه: أوّلًا إنّه يمكن أن نلتزم بترتّب العقاب على ردّ المال المغصوب أيضاً وإن كان واجباً عقلًا وشرعاً، وذلك من باب كونه بسوء الاختيار فيكون نظير وجوب أكل الميتة للمضطرّ بسوء الاختيار حيث لا إشكال في أنّه يعاقب على أكلها مع وجوبه.

وثانياً: لقائل أن يقول: بعدم وجوب الخروج أيضاً (فيكون الجزء الأوّل من هذا القول- وهو وجوب الخروج- أيضاً غير تامّ) لأنّه متوقّف على كونه مقدّمة للكون في خارج الدار المغصوبة الذي يكون ضدّاً للكون في داخلها وعلى أن يكون ترك أحد الضدّين مقدّمة للضدّ الآخر، (بيان الملازمة أنّه إذا كان الكون في داخل الدار المغصوبة ضدّاً للكون في خارجها كان تركه مقدّمة له فيصير واجباً من باب المقدّميّة حيث إنّ المفروض أنّ الكون في خارج الدار المغصوبة واجب) مع أنّه قد قرّر في محلّه في مبحث الضدّ، أنّ الضدّين مثلًا متلازمان لا تقدّم لأحدهما على الآخر.

انوار الأصول، ج 1، ص: 554

ولكن الإيراد الثاني غير وارد لما مرّ في مبحث الضدّ أيضاً أنّه ربّما يعدّ ترك أحد الضدّين مقدّمة للضدّ الآخر عند العرف والعقلاء مع عدم كونه مقدّمة له بالدقّة العقليّة، وما نحن فيه من هذا القبيل، فيكون هذا القول بالنسبة إلى جزئه الأوّل- أي وجوب الخروج- تامّاً.

أمّا القول الخامس: وهو

كون الخروج حراماً من دون أن يكون واجباً فاستدلّ لعدم وجوبه: بأنّه لم يدلّ دليل على وجوب الخروج من الأرض المغصوبة أو على وجوب التخلّص عن الغصب أو وجوب ردّ المال إلى صاحبه أو ترك التصرّف في مال الغير بعناوينها بأن يكون كلّ واحد من هذه العناوين موضوعاً لحكم الوجوب، وما في بعض الرّوايات «المغصوب كلّه مردود» لا يدلّ على وجوب الردّ بعنوانه بل لمّا كان الغصب حراماً يردّ المغصوب تخلّصاً عن الحرام عقلًا، نعم لو قلنا أنّ النهي عن الشي ء مقتضٍ للأمر بضدّه العامّ وأنّ مقدّمة الواجب واجبة يمكن أن نقول بوجوب بعض العناوين المتقدّمة لأنّ التصرّف في مال الغير إذا كان حراماً يكون ترك التصرّف واجباً والخروج من الأرض المغصوبة مقدّمة لتركه لكنّه مبني على مقدّمتين ممنوعتين، وأمّا كونه محرّماً بالفعل فاستدلّ له بما حاصله: أنّه كفاك له من الأدلّة ما دلّ على حرمة التصرّف في مال الغير بغير إذنه والسرّ في ذلك ما مرّ من أنّ الخطابات الكلّية القانونيّة تفارق الخطابات الشخصيّة ملاكاً وخطاباً، لأنّ الخطاب القانوني لا ينحلّ بعدد المكلّفين حتّى يستهجن بالنسبة إلى الغافل والعاجز والمضطر والعاصي ونظائرهم بل انبعاث عدّة مختلفة من المكلّفين كافٍ في جعل الحكم الفعلي على عنوانه العام بلا إستثناء وإنّما العقل يحكم بأنّ لذي العذر عذره (انتهى) «1».

أقول: يرد عليه:

أوّلًا: ما مرّ في الأبحاث السابقة من انحلال الأحكام القانونيّة الكلّية إلى خطابات جزئيّة بعدد المكلّفين، وقد ذكرنا له شواهد مختلفة، منها صدور بعض الأحكام على نهج العام الاستقرائي، فإنّه يشهد على كون الخطاب حجّة على كلّ فرد فرد منهم، ولازمه انحلاله إلى خطابات عديدة بعدد المكلّفين، ولا فرق بين العموم الاستغراقي وغيره من هذه الناحية،

وهل يمكن القول بالانحلال في العموم الاستغراقي دون المطلق المستفاد منه العموم؟

انوار الأصول، ج 1، ص: 555

ثانياً: أنّ شمول الخطاب للمضطرّ مخالف لظاهر أدلّة إستثناء المضطرّ كقوله تعالى: «وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ» «1»

وما ورد في الخبر: «ما أمن شي ء حرّمه اللَّه إلّا وقد أحلّه لمن اضطرّ إليه» حيث إنّ ظاهرهما بل صريحهما أنّ المضطرّ استثنى من حكم التحريم، وأنّ الحرمة الفعليّة لم تجعل بالنسبة إليه لا أنّه معذور فقط.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ الصحيح هو القول الثاني وهو وجوب الخروج فعلًا مع عدم حرمته فعلًا ومع جريان حكم المعصية عليه بالنهي السابق الساقط.

هذا كلّه في المقام الأوّل.

وأمّا الجهة الثاني: وهو حال الصّلاة حين الخروج وبعبارة اخرى: ثمرة بحث الخروج عن الأرض المغصوبة فقد ذكر المحقّق الخراساني رحمه الله له صور أربعة:

الصورة الاولى: ما إذا قلنا بجواز الاجتماع، وعليه لا إشكال في صحّة الصّلاة سواء كان الاضطرار بسوء الاختيار أو لم يكن.

الصورة الثانيّة: ما إذا قلنا بالامتناع وكان الاضطرار بغير سوء الاختيار فلا إشكال أيضاً في صحّة الصّلاة.

الصورة الثالثة: ما إذا قلنا بالامتناع وكان الدخول بسوء الاختيار وقلنا بوجوب الخروج من دون أن يكون حراماً (كما أنّه هو مختار شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله) وعليه لا إشكال أيضاً في صحّة الصّلاة.

الصورة الرابعة: ما إذا قلنا بالامتناع وكان الدخول بسوء الاختيار وقلنا بأنّ الخروج منهي عنه كما يكون مأموراً به، ففي هذه الصورة لو قلنا بتقديم جانب النهي فلا إشكال في بطلان الصّلاة مطلقاً سواء كان في ضيق الوقت أو في سعته، وأمّا إذا قلنا بتقديم جانب الأمر فالصحيح حينئذٍ التفصيل بين ما إذا كان في ضيق الوقت فلا إشكال في

صحّة صلاته، وما إذا كان في سعة الوقت فلا إشكال أيضاً في صحّة صلاته مع عدم وجود المندوحة وأمّا مع وجود المندوحة وإمكان إتيان الصّلاة في مكان آخر، فصحّة الصّلاة وعدمها مبنيّتان على اقتضاء

انوار الأصول، ج 1، ص: 556

الأمر بالشي ء النهي عن ضدّه وعدمه حيث إنّ الأمر في هذه الصورة (أي صورة وجود المندوحة) متعلّق بالصّلاة في مكان آخر أي بسائر الأفراد منها لخلوّها عن المفسدة، ولا إشكال في أنّ الصّلاة في خارج الغصب من أضداد الصّلاة في داخل الغصب (لوجود المضادّة والمعاندة بينهما فإنّه مع وجود أحدهما لا مجال للآخر) وحينئذٍ إن قلنا بعدم اقتضاء الأمر بالشي ء النهي عن ضدّه تقع الصّلاة في الدار المغصوبة صحيحة وإن قلنا بالاقتضاء تقع الصّلاة باطلة لأنّها حينئذٍ تصير منهيّاً عنها وإن كان المفروض تقديم جانب الأمر حيث إنّ المفروض هو تقديم جانب الأمر على النهي الأصلي لا النهي التبعي المقدّمي.

أقول: ولكن مع ذلك كلّه يمكن المناقشة في هذه الثمرة من جهتين:

الجهة الاولى: أنّه إن كان المقصود من الصّلاة حين الخروج الصّلاة التامّة الأجزاء والشرائط من الركوع والسجود والاستقرار ونحوها فلا إشكال في عدم إمكان إتيانها مطلقاً، لأنّ المفروض إتيانها حين الخروج وفي ضيق الوقت لا في سعة الوقت (لأنّ مع سعة الوقت ومع إمكان إتيانها في خارج الدار المغصوبة تامّة للاجزاء والشرائط لا يجوز إتيان الصّلاة في داخل الدار).

وإن كان المقصود من الصّلاة حين الخروج الصّلاة إيماءً فلا إشكال أيضاً في أنّها حينئذٍ لا توجب تصرّفاً زائداً في الغصب، ولذا لم يتعلّق بها النهي فتقع الصّلاة صحيحة مطلقاً سواء قلنا بالامتناع أو قلنا بالجواز، وسواء كان الاضطرار بسوء الاختيار أو بغير سوء الاختيار، وحينئذٍ لا تختصّ صحّتها بحال

دون حال وبصورة دون صورة من الصور الأربعة المزبورة.

الجهة الثانيّة: أنّ الغاصب قد يكون تائباً عن فعله وحينئذٍ إن قلنا بأنّ التوبة تزيل حكم المعصية وتوجب رفع الحرمة كما هو الحقّ في مثل ما نحن فيه فتقع صلاته صحيحة مطلقاً أيضاً من دون اختصاص الصحّة بصورة دون صورة حيث إنّ الحكم حينئذٍ هو الأمر بالصّلاة ولا نهي عنها حتّى يدخل المقام في باب الاجتماع فيبحث عن الصحّة وعدمها على الامتناع والجواز.

التنبيه الثاني: في آثار باب التزاحم

قد ذكرنا سابقاً أنّ باب اجتماع الأمر والنهي داخل في باب التزاحم لا التعارض، أي يكون كلّ واحد من الأمر والنهي تامّاً من ناحية الملاك واجتماع جميع شرائط الفعليّة، وحينئذٍ لا بدّ من لحاظ أقوى الملاكين (ولا حاجة إلى ملاحظة المرجّحات السندية والدلاليّة المعنونة في باب التعارض) ويتفرّع على ذلك أمران:

أحدهما: أنّه إذا أحرز أقوى الملاكين يؤخذ به ويقدّم واجده على فاقده ويستكشف من هذا الطريق فعلية الحكم الذي يكون ملاكه أقوى، وأمّا إذا لم يحرز الغالب منهما وكان الخطابان كلاهما بصدد بيان الحكم الفعلي، أي كانا متعارضين في مقام الفعليّة وإن كانا متزاحمين من ناحية الملاك والاقتضاء فلا إشكال حينئذٍ في لزوم ملاحظة المرجّحات السنديّة والدلاليّة وتقديم الأقوى منهما دلالة أو سنداً على الآخر، ويستكشف حينئذٍ من طريق الانّ أنّ ملاكه أقوى.

نعم حيث إنّ محلّ البحث في المقام إنّما هو باب اجتماع الأمر والنهي الذي تكون النسبة بين الدليلين فيه عامين من وجه يلاحظ فيه خصوص المرجّحات الدلاليّة، وأمّا المرجّحات السنديّة فإنّها جارية في المتباينين فقط كما ذكر في محلّه.

ثانيهما: أنّ مقتضى كون المقام من باب التزاحم صحّة العمل للجاهل والناسي والمضطرّ حتّى إذا قلنا بتقديم جانب النهي، لثبوت الملاك والمقتضي في كلا

الحكمين، فإذا لم يؤثّر مقتضى حرمة الغصب مثلًا لاضطرار أو جهل أو نسيان يؤثّر مقتضى وجوب الصّلاة فتقع الصّلاة صحيحة.

وهذا بخلاف باب التعارض لأنّ لازم تقديم النهي فيه على الأمر ثبوت الملاك في خصوص النهي وكون الأمر كاذباً وعدم كونه واجداً للملاك ومعه لا وجه لصحّة المأمور به.

وإن شئت قلت: ربّما يستفاد شرط من شرائط الصّلاة من اجتماع الأمر والنهي وتزاحمهما وامتناع اجتماعهما كإباحة مكان المصلّي التي لا دليل على اعتبارها في الصّلاة إلّاتزاحم الأمر بالصّلاة والنهي عن الغصب وعدم إمكان اجتماعهما بناءً على الامتناع، فهي لا تستفاد لا من آية ولا من رواية، بل الكاشف عنها إنّما هو تزاحم الأمر والنهي وامتناع اجتماعهما (ولذلك لم يقل به أحد من فقهاء العامّة القائلين بجواز الاجتماع) فلا إشكال حينئذٍ في سقوط هذا الشرط

انوار الأصول، ج 1، ص: 558

عن الشرطيّة في صورة الجهل والنسيان والاضطرار لعدم كون النهي في هذه الحالات فعليّاً ومعه لا يجتمع الأمر مع النهي حتّى يستفاد منه شرطيّة الإباحة، واخرى يستفاد الشرط من دليل لفظي خاصّ فحينئذٍ مقتضى إطلاق الدليل شرطيه ذلك الشرط مطلقاً حتّى في حال الجهل والنسيان والاضطرار نظير شرطي القبلة والطهارة ونتيجته بطلان الصّلاة مع فقد أحدهما حتّى في تلك الحالات أيضاً.

التنبيه الثالث: في مرجّحات النهي على الأمر

قد مرّ سابقاً أنّ المتّبع في باب التزاحم إنّما هو الأهمّ من الملاكين، فبناءً على القول بالامتناع في باب الاجتماع وفقد المندوحة حيث إنّ المقام يدخل في باب التزاحم فلابدّ من ملاحظة المرجّحات وكشف الأهمّ من الحكمين بالرجوع إلى لسان الأدلّة وملاحظة مذاق الشارع المقدّس في مجموع الأحكام، فإن كان الترجيح مع الأمر كان الواجب العمل به وإتيان المأمور به، وإن كان الترجيح مع النهي كان اللازم أيضاً العمل

به وترك المنهي عنه، فمثلًا يستفاد من أدلّة وجوب الصّلاة أنّ الصّلاة لا تترك بحال وإنّه لا بدّ من إتيانها في جميع الحالات، ولازمه كونها أهمّ من الغصب، فيقدّم الأمر على النهي ويؤتى بالصّلاة في الدار المغصوبة بجميع أجزائها إلّا ما يكون له البدل كالركوع والسجود فيؤتى بهما إيماءً.

هذا ممّا لا إشكال فيه، إنّما الإشكال فيما إذا لم يمكن كشف الأهمّ من لسان الأدلّة الخاصّة فهل هناك ضابطة عامّة تدلّ على ترجيح الأمر أو النهي أو لا؟

قد يقال: إنّ الترجيح مع النهي مطلقاً إلّاما خرج بدليل خاصّ، ويستدلّ له بوجوه عديدة:

الوجه الأوّل: ما هو ناظر إلى عالم الإثبات، وهو أنّ أدلّة النهي على حرمة مورد الاجتماع شمولي ويكون بالعموم، ودلالة الأمر على وجوبه بدلي ويكون بالاطلاق، والعام الشمولي أقوى دلالة من العام البدلي، لأنّ الأوّل يستفاد من اللفظ والعموم، والثاني يستفاد من الإطلاق ومقدّمات الحكمة، ولا إشكال في تقديم العموم على الإطلاق ووروده عليه لأنّ من مقدّمات الحكمة عدم البيان، وعموم العام بيان.

انوار الأصول، ج 1، ص: 559

وقد أورد على صغرى هذا الوجه بأنّ عموم النهي أيضاً لا يكون إلّابواسطة مقدّمات الحكمة الجارية في المتعلّق كمادّة الغصب ونحوها، ولكنّه رحمه الله رجع عنه في ذيل كلامه بقوله «اللهمّ إلّاأن يقال إنّ لفظ الكلّ أو النهي أو النفي الداخل على الجنس بنفسه كافٍ في الدلالة على استيعاب تمام أفراد المدخول من دون حاجة إلى مقدّمات الحكمة في المتعلّق» «1».

أقول: الحقّ أنّ هذا الوجه لا يوجب ترجيحاً للنهي على الأمر، لأنّ المقصود من عدم البيان في مقدّمات الحكمة ليس هو عدم البيان إلى الأبد حتّى يكون كلّ بيان وارداً ومقدّماً عليه، بل المقصود هو عدم البيان في مقام

التخاطب وفي زمان البيان، فإذا لم يرد بيان في مقام البيان والتخاطب تمّت مقدّمات الحكمة وصار المطلق ظاهراً في العموم البدلي، ولا فرق بينه وبين العام من حيث قوّة الدلالة وضعفها.

الوجه الثاني: ما هو ناظر إلى عالم الثبوت وهو أولويّة دفع المفسدة من جلب المنفعة، ولا إشكال في أنّ ترك المنهي عنه دفع للمفسدة، والعمل بالمأمور به جلب للمنفعة.

وقد أورد عليه من جانب المحقّق القمّي رحمه الله صاحب القوانين بالمناقشة في الصغرى أيضاً بأنّ في ترك الواجب أيضاً مفسدة إذا كان تعيينياً.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه الله بأنّ ترك الواجب فوت للمصلحة دائماً، وهو غير درك المفسدة.

أقول: هذا الوجه أيضاً غير تامّ صغرى وكبرى:

أمّا الصغرى فلأنّ الموارد مختلفة، فتارةً يكون وجود الواجب مصداقاً لجلب المنفعة واخرى يكون تركه مصداقاً لذلك كالزّكاة فإنّ في تركها مفسدة جوع الفقراء وفقرهم الذي هو منشأ لمفاسد كثيرة فرديّة واجتماعيّة كما يرشدنا إليه ما ورد في لسان الحديث. «إنّ الناس ما جاعوا ولا افتقروا إلّابذنوب الأغنياء».

وأمّا الكبرى فلأنّها لا دليل عليها شرعاً ولا عقلًا ولا عقلائيّاً:

أمّا شرعاً فلأنّا نشاهد موارد كثيرة في لسان الشرع قدّم جلب المنفعة فيها على دفع المفسدة، منها الجهاد الابتدائي فإنّه واجب مع استلزامه مضاراً شديدة كثيرة من الجراحات انوار الأصول، ج 1، ص: 560

وقطع النسل والحرث لأنّ جلب المصالح الموجودة فيه من طريق إيجابه (وهي أن تكون كلمة اللَّه هي العليا وأن يظهر دينه تعالى على الدين كلّه) أهمّ من دفع تلك المفاسد، ونظير هذا المورد جميع الأحكام الشرعيّة التي يوجب إتيانها تحمّل رياضات شاقّة وأضرار بدنيّة وماليّة.

إن قلت: فما هو المقصود ممّا ورد في بعض الرّوايات من أنّ اجتناب السيّئات أولى من كسب الحسنات؟

قلنا: أنّ

مضمون هذا القبيل من الرّوايات نفس مضمون ما ورد فيها أيضاً من أنّه «لا قربة للنوافل إذا أضرّت بالفرائض» فيكون موردها ما إذا لم تصل الحسنات إلى حدّ اللزوم، ويشهد على هذا المعنى نفس هذه الموارد التي قدّم الشارع فيها جلب المنفعة على دفع المفسدة.

وأمّا عقلًا فلأنّ العقل ينظر إلى ميزان الأهمّية من دون فرق بين المصلحة والمفسدة، فإن رأى أنّ درجة أهمّية المفسدة أكثر يقدّمها على المصلحة وإن رأى أنّ درجة أهميّة المنفعة أكثر يقدّمها على المفسدة ولا خصوصيّة عنده للمفسدة من حيث هي مفسدة.

وأمّا عقلائيّاً فلأنّا نشاهدهم أنّهم تارةً يقدّمون المفسدة على المصلحة واخرى بالعكس فيما إذا استهدفوا مصلحة عظيمة فإنّهم مثلًا في الصناعات والتجارات يصرفون ثروة عظيمة بعنوان رأس المال ويستقبلون المضارّ الكثيرة لمنافع هامّة محتملة، ويمكن التمثيل لهذا أيضاً بعمليّة الجراحة في يومنا هذا الذي يوجب مضارّاً كثيرة ولكن فيه منافع أكثر منها.

وبالجملة أنّه ليس هناك قاعدة عامّة بعنوان أولويّة دفع المفسدة من جلب المنفعة.

وأظنّ أنّ هذا القبيل من القضايا التي ظهرت في الألسن بشكل ضابطة كلّية كانت صادقة في الخارج بصورة قضيّة جزئيّة أو غالبية ثمّ جرت على نحو قاعدة كلّية نظير ما اشتهر بينهم أيضاً «أنّ الأقرب يمنع الأبعد» مع أنّ القضيّة في كثير من الموارد تكون بالعكس، وهكذا في كثير من الأمثال المتداولة والجارية بين الخاصّ والعامّ.

ثمّ إنّه أورد على هذا الوجه أيضاً في المحاضرات: تارةً بأنّه على فرض تسليم كبريها ليس المقام من صغرياتها جزماً، بداهة أنّه على القول بالامتناع ووحدة المجتمع وجوداً وماهية فهو إمّا مشتمل على المصلحة دون المفسدة أو بالعكس، فإن قلنا بتقديم الوجوب فلا حرمة ولا مفسدة تقتضيها، وإن قلنا بتقديم الحرمة فلا

وجوب ولا مصلحة تقتضيه ... وموضوع هذه القاعدة ما إذا كان في فعل مفسدة ملزمة وفي فعل آخر مصلحة كذلك، ولا يتمكّن المكلّف من انوار الأصول، ج 1، ص: 561

رفع الاولى وجلب الثانيّة معاً فلا محالة تقع المزاحمة بينهما ... فهذه القاعدة لو تمّت فإنّما تتمّ في باب التزاحم» «1».

واخرى بأنّها على فرض تماميتها لا صلة لها بالأحكام الشرعيّة أصلًا واستدلّ له بوجهين نذكر هنا أوّلهما وهو: أنّ المصلحة ليست من سنخ المنفعة ولا المفسدة من سنخ المضرّة غالباً والظاهر أنّ هذه القاعدة إنّما تكون في دوران الأمر بين المنفعة والمضرّة لا بين المصلحة والمفسدة كما لا يخفى.

وبكلمة اخرى: أنّ الأحكام الشرعيّة ليست تابعة للمنافع والمضارّ وإنّما هي تابعة لجهات المصالح والمفاسد في متعلّقاتها، ومن المعلوم أنّ المصلحة ليست مساوقة للمنفعة والمفسدة مساوقة للمضرّة، ومن هنا تكون في كثير من الواجبات مضرّة ماليّة كالزّكاة والخمس والحجّ ونحوها، وبدنيّة كالجهاد وما شاكله، كما أنّ في عدّة من المحرّمات منفعة ماليّة أو بدنيّة، مع أنّ الأولى تابعة لمصالح كامنة فيها والثانيّة تابعة لمفاسد كذلك» «2».

أقول: يمكن المناقشة في كلا الوجهين:

أمّا الأوّل فبأنّ وحدة المجمع وجوداً وماهية في باب الاجتماع لا يلازم اشتماله على خصوص المصلحة أو خصوص المفسدة بل حيث إنّه ليس من البسيط من جميع الجهات ويتصوّر فيه جهتان مختلفتان يكون شاملًا للمصلحة والمفسدة معاً ومن باب التزاحم دائماً كما مرّ سابقاً، فهو نظير جميع الأدوية في باب الطب التي يشتمل كلّ واحد منها على مفسدة على رغم أنّه دواء وفيه شفاء، ونظير الخمر والميسر اللّذين فيهما إثم كبير ومنافع للناس كما نطق به الكتاب العزيز، ونظير جميع الواجبات والمحرّمات التي أشار إليها في خبر تحف العقول

المعروف بما حاصله: أنّ كلّ ما غلبت مصلحته على مفسدته فهو واجب وكلّ ما غلبت مفسدته على مصلحته فهو حرام.

وإن شئت قلت: أنّ الواحد في المقام ليس واحداً حقيقيّاً ولا واحداً صناعياً بل إنّه واحد اعتباري الذي يتصوّر فيه الجهات المختلفة وأبعاد متفاوتة التي تشتمل على مصالح ومفاسد، والمراد من التزاحم فيه هو التزاحم بين جهتي المصلحة والمفسدة. والعجب منه حيث ادّعى فيه البداهة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 562

أمّا الثاني: الذي اشير إليه أيضاً في بعض كلمات المحقّق الخراساني رحمه الله فلأنّه إن كان نظره إلى جانب المعنوي لمورد الاجتماع فقط أو إلى بعده الاجتماعي فقط أو إلى المضارّ والمنافع التي تترتّب عليه في طول الزمان، أي التي تترتّب عليه مع الواسطة أو الوسائط، ولم يكن النظر إلى الجهات المادّية والفرديّة وإلى المنافع والمضارّ التي تترتّب بدون الواسطة وفي زمان الحال، فما أفاده في محلّه، فتكون المصالح والمفاسد غير المضارّ والمنافع كما لا يخفى، وأمّا إن كان المقصود هو الأعمّ من المنافع أو المضارّ المعنويّة والمادّية والأعمّ ممّا يترتّب في الحال أو في طول الزمان ومن الاجتماعيّة والفرديّة وممّا يترتّب مع الواسطة ومن دون الواسطة، فلا فرق حينئذٍ بين المصالح والمنافع وبين المفاسد والمضارّ بل يمكن أن يتصوّر لواجب من الواجبات مصلحة أو منفعة معنويّة مع شموله لمفسدة أو مضرّة مادّية، نظير الزّكاة مثلًا فإنّها توجب ضرراً مادّياً مع أنّها موجبة لبركات أخلاقيّة ومعنويّة بل بركات مادّية أيضاً في طول الزمان كما أشار إليه في الحديث بقوله: «حصّنوا أموالكم بالزّكاة» حيث إنّ تحصين الأموال مصلحة دنيويّة مادّية، وفي حديث آخر: «إذا بخل الغني بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه» فإنّ حفظ الآخرة للفقير بالبذل والانفاق منفعة أو

مصلحة اخرويّة بل ودنيويّة كما لا يخفى، هذا كلّه من جانب، ومن جانب آخر تكون الزّكاة شاملة على الظاهر على مفاسد أو مضارّ فرديّة مع أنّها توجب في البعد الاجتماعي حفظ كيان النظام والدفاع عن ثغور المملكة، وهاتان مصلحتان أو منفعتان اجتماعيتان.

وما ذكرنا يشهد عليه عمل العقلاء في يومنا هذا، فإنّهم يعطون الضرائب التي وضعت عليهم من جانب دولهم وحكّامهم طوعاً ورغبة لما تشتمله من المنافع الاجتماعيّة.

هذا كلّه في الواجبات، وكذلك في المحرّمات، فيمكن أن يتصوّر لمعصية من المعاصي منافع مادّية كالتطفيف في باب المعاملات مع أنّها شاملة لمضرّات معنويّة بل مادّية من جانب آخر، والرّوايات ناطقة بذلك، فقد ورد في الحديث «الأمانة تجلب الغناء والخيانة تورث الفقر» كما يشهد على ذلك العرف والوجدان، فإنّا نشاهد بوجداننا أن التطفيف أو الخيانة مثلًا توجب ظهور الغشّ في المجتمع وزوال الأمن الاقتصادي وتفريغ البنوك الداخليّة من الثروات وإخراجها منها إلى البنوك الخارجيّة الأجنبيّة وذلك لوجود الغشّ والخيانة في الاولى مثلًا ووجود الدقّة والأمانة في الثانيّة، ألا ترى خروج الثروات العظيمة الضخمة في يومنا هذا من انوار الأصول، ج 1، ص: 563

بعض المجتمعات الإسلاميّة إلى بعض البنوك الأجنبيّة فإنّه ليس إلّالأنّ الأمانة تجلب الاعتماد وبالنتيجة تجلب الغناء والثروة والمنافع المادّية الهامّة كما أخبر بذلك المعصوم عليه السلام في الحديث.

الوجه الثالث: الاستقراء، بدعوى أنّا إذا تتبّعنا موارد دوران الحكم بين الوجوب والحرمة في لسان الشرع نجد أنّ الشارع قدّم فيها دفع المفسدة على جلب المنفعة فأخذ بجانب الحرمة، وقد ذكروا هنا موردين:

المورد الأوّل: حرمة الصّلاة في أيّام الاستظهار (وهي تطلق غالباً على الأيّام بعد العادة إلى العشرة كما هو التحقيق، وكذلك على الأيّام قبل العادة فلابدّ من ترك العبادة فيها

أيضاً بمجرّد رؤية الدم).

المورد الثاني: عدم جواز الوضوء أو الغسل من الإنائين المشتبهين، فإنّه قدّم جانب الحرمة في المثالين على الوجوب.

وقد أُورد عليه:

أوّلًا: بأنّ الاستقراء ممّا لا يتحقّق بهذا العدد (بموردين) حتّى الاستقراء الناقص الرائج في بعض العلوم والذي قد يفيد العلم ويدور عليه رحى العلوم التجربيّة فضلًا عن الاستقراء التامّ الذي هو قليل جدّاً.

وثانياً: أنّ هذين الموردين ليسا من قبيل المتزاحمين اللّذين يوجد فيهما ملاك الوجوب والحرمة معاً بل إنّهما من قبيل دوران الأمر بين احتمالين الموجود فيهما ملاك أحدهما وهو ملاك الحرمة على الفرض، وأمّا الاحتمال الآخر وهو الوجوب فلا ملاك له لأنّه ساقط برأسه على الفرض أيضاً، لأنّ المرأة (في المثال الأوّل مثلًا) في أيّام الاستظهار إمّا أن تكون حائضاً في الواقع، فالموجود هو ملاك الحرمة فقط، أو ليست بحائض فالموجود هو ملاك الوجوب فقط وحيث إنّ الشارع حكم بتقديم الحرمة نستكشف أنّ الموجود هو ملاك الحرمة لا الوجوب، وهكذا بالنسبة إلى المثال الثاني، وعلى أيّ حال: فليس الموردان من قبيل المتزاحمين، كما لا يمكن قياس باب المتزاحمين بهما لأنّه قياس ظنّي لا اعتبار به.

وثالثاً: أنّه أساساً ليس الموردان من قبيل دوران الأمر بين الوجوب والحرمة، لأنّ المراد من الحرمة في ما نحن فيه إنّما هو الحرمة الذاتيّة، ولا إشكال في أنّه لا حرمة لصلاة الحائض ذاتاً بل حرمتها تشريعيّة وبحكم التعبّد، ولذلك قال الفقهاء بأنّه يمكن لها إتيان الصّلاة والجمع بين انوار الأصول، ج 1، ص: 564

تروك الحائض وأعمال المستحاضة احتياطاً وبقصد الرجاء في كثير من الموارد، وإلّا لم يمكن لها هذا الاحتياط كما لا يخفى، وهكذا في الوضوء بالمائين المشتبهين فيمكن له الاحتياط بالتوضّؤ بالإناء الأوّل ثمّ تطهير أعضاء الوضوء بالإناء

الثاني والتوضّؤ به ثانياً.

نعم قد يقال: أنّه لا يمكن مع ذلك إتيان الصّلاة للابتلاء بنجاسة البدن ظاهراً بحكم استصحاب النجاسة حال ملاقاة الماء الثاني للبدن، فإنّه بمجرّد ملاقاته له ولو لأجل تطهير مواضع الملاقات بالأوّل قبل أن تنفصل الغسالة يقطع بنجاسة البدن، إمّا بسبب ملاقاته مع الأوّل أو مع الثاني، نعم إذا انفصلت الغسالة يزول العلم لجواز نجاسة الأوّل وطهارة الثاني مع بقاء الشكّ فيها لجواز العكس، أي طهارة الأوّل ونجاسة الثاني فتستصحب النجاسة.

ولكنّه ممنوع لأنّ المفروض العلم بصحّة إحدى الصلاتين المأتي بهما بعد كلّ وضوء ولكنّه يبتلي بنجاسة البدن ظاهراً بالنسبة إلى مستقبل أمره، ولعلّه لذلك لم يأمر الشارع بهذا الاحتياط.

وعلى أيّ حال: فإنّ عدم جواز الوضوء من الإنائين المشتبهين ليس من باب ترجيح النهي على الوجوب، بل إنّه إمّا من باب التعبّد الشرعي أو للابتلاء بنجاسة البدن ظاهراً بحكم الاستصحاب بالنسبة إلى المستقبل، كما أنّ حرمة الصّلاة في أيّام الاستظهار أيضاً ليس من باب ترجيح جانب الحرمة بل إنّها إمّا لأجل قاعدة الإمكان الجارية في الدم (أي كلّ دم أمكن أن يكون حيضاً بأن لم يكن قبل البلوغ أو بعد اليأس أو مع عدم فصل أقلّ الطهر فهو حيض) أو من باب قاعدة الاستصحاب القاضية بكون الدم في أيّام الاستظهار حيضاً، وحيث إنّ قاعدة الإمكان ليست تامّة عندنا فالمتعيّن كون الحرمة من باب الاستصحاب.

التنبيه الرابع: في أنّه هل يلحق تعدّد الإضافات بتعدّد العناوين أو لا؟

المراد من العناوين ما يقع متعلّقاً للأمر والنهي كالصّلاة والغصب وهو واضح، والمراد من الإضافات ما يضيف إليه متعلّقا الأمر والنهي كالعالم والفاسق في أكرم عالماً ولا تكرم الفاسق حيث اضيف إليهما وتعلّق بهما الإكرام الذي يكون متعلّقاً لكلّ من الأمر والنهي.

وكيف كان، فقد وقع النزاع أنّه كما أنّ

تعدّد العنوان (أي تعدّد متعلّق النهي والأمر كالصّلاة

انوار الأصول، ج 1، ص: 565

والغصب) يوجب تعدّد المعنون بناءً على الجواز ودخوله في باب التزاحم بناءً على الامتناع، فهل يوجب تعدّد الإضافة (أي تعدّد المضاف إليه) أيضاً تعدّد المضاف بناءً على الجواز وتدخل في باب التزاحم بناءً على الامتناع أو لا؟ فلو اختار المكلّف العالم الفاسق لامتثال أمر المولى بإكرام عالم كما في اختياره الدار المغصوبة لامتثال أمر الصّلاة، فهل هو مثله في كونه محلّ النزاع أو لا؟

لا إشكال في أنّه لا فرق بين الموردين، أي تعدّد الإضافات من قبيل تعدّد العناوين، فكما أنّ تعدّد العنوان بناءً على الجواز يوجب تعدّد متعلّق الأمر والنهي في مثل صلّ ولا تغصب كذلك تعدّد الإضافة أيضاً بناءً على الجواز يوجب تعدّد متعلّقهما في مثل أكرم عالماً ولا تكرم الفاسق وإن كان عنوان الإكرام فيهما واحداً، وذلك من باب أنّ متعلّق الأمر في أكرم عالماً ليس هو مطلق الإكرام بل إنّه هو إكرام عالم، كما أنّ متعلّق النهي في لا تكرم الفسّاق أيضاً ليس هو مطلق الإكرام بل هو إكرام الفاسق، ولا إشكال في أنّ أحدهما غير الآخر، فإذا اجتمعا في مورد واحد وفي شخص واحد باختيار المكلّف أي في إنسان يكون عالماً وفاسقاً كان المورد من باب اجتماع الأمر والنهي بشرط كونه من باب التزاحم لا التعارض، أي كان الملاك موجوداً في كليهما، فكان هذا العالم من مصاديق من يجب إكرامه واقعاً لعلمه وكان ممّن يحرم إكرامه واقعاً لفسقه.

وبالدقّة في ما ذكرنا من المثال للمسألة وما أوضحنا لك في شرحه تعرف عدم ورود شي ء من الإشكالات التي ذكرها في المحاضرات «1»، وعليه عدم كون هذا الكلام من الغرائب كما توهّم.

إلى هنا

تمّ الكلام في باب اجتماع الأمر والنهي والحمد للَّه ربّ العالمين.

انوار الأصول، ج 1، ص: 567

الفصل الثالث النهي في العبادات والمعاملات

اشارة

ولا بدّ فيه من رسم امور:

الأمر الأوّل: في عنوان المسألة

وقد وقع الخلاف فيه وعبّر عنه بتعابير مختلفة فقال في الكفاية: «النهي عن الشي ء هل يقتضي فساده أم لا» وقال المحقّق النائيني رحمه الله على ما في أجود التقريرات: «إنّ النهي هل يدلّ على الفساد أم لا؟» ولكن قد أصرّ في تهذيب الاصول على أنّ الصحيح أن يقال: «إنّ النهي هل يكشف عن الفساد أم لا» وناقش في الأوّل بأنّ الاقتضاء بالمعنى المتفاهم عرفاً غير موجود في المقام لأنّ النهي غير مؤثّر في الفساد ولا مقتضٍ له بل إمّا دالّ عليه أو كاشف عن مبغوضيّة المتعلّق التي تنافي الصحّة» وناقش في الثاني بأنّ «ظاهر لفظ الدلالة هي الدلالة اللّفظيّة ولو بنحو الالتزام ولكن مطلق الملازمة بين الأمرين لا يعدّ من الدلالات الالتزاميّة بل لا بدّ في الدلالة الالتزاميّة على تقدير كونها من اللّفظيّة من اللزوم الذهني فلا تشمل الملازمات العقليّة الخفيّة» «1».

أقول: الإنصاف صحّة التعبيرين أيضاً، أمّا الأوّل منهما فلأنّ إيجاب النهي الفساد يلازم نحواً من التأثّر والتأثير في عالم الاعتبار وهو يكفي في صدق مفهوم الاقتضاء، وأمّا الثاني فلأنّ مادّة الدلالة لم توضع لخصوص الدلالة اللّفظيّة بل إنّها وضعت لمطلقها الذي من مصاديقها الدلالة العقليّة فيستعمل فيها على نحو الحقيقه أيضاً.

الأمر الثاني: في الفرق بين هذه المسألة ومسألة اجتماع الأمر والنهي

قد مرّ في صدر المسألة السابقة مقالة المحقّق الخراساني رحمه الله في هذا المجال وهي أنّ الجهة المبحوثة عنها في تلك المسألة هي سراية كلّ من الأمر والنهي إلى متعلّق الآخر لاتّحاد متعلّقهما وجوداً، وعدم سرايته لتعدّدها كذلك، وأنّ الجهة المبحوثة- عنها في هذه المسألة هي أنّ النهي هل يوجب فساد العبادة أو المعاملة، أو لا؟ بعد الفراغ عن أصل السراية.

أقول: قد مرّ منّا أيضاً أنّ التمايز بين العلوم والمسائل ليس محدوداً في

تمايز الأغراض بل أنّه تارةً يكون بالموضوعات واخرى بالمحمولات وثالثة بالأغراض وذلك بتوضيح مرّ سابقاً، والذي لا بدّ من إضافته هنا أنّ الغالب في التمايز إنّما هو التمايز بالمحمولات، أي تتمايز العلوم غالباً بالعوارض والحالات الطارئة على الموضوعات. هذا أوّلًا.

وثانياً: قد مرّ في صدر تلك المسألة أيضاً أنّه لا ربط بين المسألتين أصلًا حتّى نبحث في وجه التمايز، بينهما لوجود الفرق بينهما من ناحية كلّ من الموضوع والمحمول والنتيجة كما يظهر بملاحظة عنوانيهما كما مرّ توضيحه في المسألة السابقة.

الأمر الثالث: هل المسألة اصوليّة أو لا؟ وهل هي عقليّة أو لفظيّة؟

لا إشكال في أنّها ليست مسألة فقهيّة لأنّ نتيجتها لا يمكن أن تقع بيد المكلّف وللعمل بها كما هو الحال في المسائل الفقهيّة.

الجهة الاولى: هل هي حينئذٍ مسألة اصوليّة؟ ذهب بعض الأعلام في المحاضرات إلى أنّها اصوليّة بدعوى أنّ المسألة الاصوليّة ترتكز على ركيزتين:

إحديهما: أن تقع في طريق استنباط الحكم الكلّي الإلهي.

وثانيهما: أن يكون ذلك بنفسها أي بلا ضمّ مسألة اصوليّة اخرى، وكلتا الركيزتين تتوفّران في مسألتنا هذه «1».

ولكن قد مرّت المناقشة في كلامه هذا بأنّه كثيراً مّا يتّفق انضمام مسألة من مسائل الاصول إلى مسألة اخرى حتّى تستنتج منها نتيجة فقهيّة كانضمام مسألة حجّية خبر الواحد إلى مسألة

انوار الأصول، ج 1، ص: 569

حجّية الظواهر أو مسألة التعادل والتراجيح (في الخبرين المتعارضين) ولعلّه ناظر في كلامه هذا إلى ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله في هذا المجال من أنّ المسألة الاصوليّة ما تقع نتيجتها كبرى للقياس بلا واسطة شي ء ومن دون أن تقع مقدّمة لمسألة اخرى وتكون من مبادئها، ولذا ليست مسألة «حقيقة المشتقّ فيما انقضى عنه التلبّس» مثلًا من المسائل الاصوليّة لأنّها لا تقع كبرى للقياس المنتج نتيجة فقهيّة بلا واسطة بل إنّها من مبادى ء مسألة حجّية

خبر الواحد مثلًا، ولا يخفى أنّ كلام المحقّق النائيني رحمه الله هذا شي ء وما ذكره في المحاضرات شي ء آخر، فالظاهر أنّه وقع الخلط بينهما.

والحقّ أنّ المسألة من القواعد الفقهيّة وإنّها ليست مسألة فقهيّة ولا اصوليّة، وذلك لأنّ ميزان القاعدة الفقهيّة- وهو كون النتيجة بنفسها حكماً شرعيّاً كلّياً (لا أن تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي الكلّي كما في المسألة الاصوليّة)- موجود فيها حيث إنّ نتيجتها فساد العبادة مثلًا وهو بنفسه حكم شرعي كلّي- هذا من جانب- ومن جانب آخر لا يمكن إيكال تطبيقه على موارده ومصاديقه في الفقه إلى المقلّد، ولازمهما أن لا تكون المسألة اصوليّة ولا فقهيّة بل هي قاعدة فقهيّة.

هذا كلّه بالنسبة إلى الجهة الاولى من هذا الأمر.

أمّا الجهة الثانيّة: وهي كون المسألة عقليّة أو لفظيّة فذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى إمكان عدّها لفظيّة لأجل أنّه في الأقوال قول بدلالة النهي على الفساد في المعاملات مع إنكار الملازمة بينه وبين الحرمة التي هي مفاده فيها، ولا ينافيه ثبوت الملازمة بين الفساد والحرمة فيما لا تكون الحرمة مستفادة من اللفظ والصيغة كالإجماع القائم على حرمة عبادة أو معاملة، لإمكان أن يكون النزاع مع ذلك في دلالة الصيغة بما تعمّ دلالتها بالالتزام.

ولكن ذهب كثير من الأعاظم إلى أنّها عقليّة وذهب في تهذيب الاصول إلى أنّ المسألة ليست عقليّة محضة ولا لفظيه كذلك. فالأولى تعميم عنوانه ليشتمل العقلي واللّفظي.

أقول أوّلًا: إنّ المسألة ليست لفظيّة قطعاً بل هي عقليّة لأنّ موضوع البحث فيها هو دلالة النهي التكليفي المولوي على الفساد لا الإرشادي، لأنّ النواهي الإرشاديّة في باب المعاملات (كقوله عليه السلام «نهى النبي عن بيع الغرر» أو قوله «نهى النبي عن بيع الخمر» أو قوله «لا

تبع ما ليس عندك») لا إشكال في دلالتها لفظاً على الفساد، وأمّا النهي المولوي كما إذا نذر بأن لا يأتي انوار الأصول، ج 1، ص: 570

بالبيع الفلاني فلا إشكال في عدم دلالته على الفساد كما لا يخفى، فالقول بأنّ النهي يدلّ على الفساد في باب المعاملات (كما أشار إليه المحقّق الخراساني رحمه الله) خلط بين النهي الإرشادي والنهي المولوي، فلا يمكن الاستدلال به على كون النزاع في ما نحن فيه لفظياً.

وثانياً: لا بدّ في عدّ الدلالة الالتزاميّة من الدلالات اللّفظيّة من كون اللزوم فيها بيّناً بالمعنى الأخصّ، ولا إشكال في عدم كونه كذلك في ما نحن فيه وإلّا لم تكن حاجة إلى البحث وإقامة البرهان العقلي عليه.

ثالثاً: ليس بدءاً أن لا تكون هذه المسألة مسألة لفظيّة مع كونها منسلكة في باب الألفاظ وكم لها من نظير كمسألة الإجزاء ومقدّمة الواجب وعدّة من الْامور المطروحة ضمن مبحث مقدّمة الواجب كالبحث عن الواجب المعلّق والواجب المشروط والواجب التعبّدي والتوصّلي حيث لا إشكال في أنّها مباحث عقليّة أُوردت في مباحث الألفاظ، وهكذا غيرها من نظائرها كمباحث الترتّب واجتماع الأمر والنهي وحقيقة الواجب الكفائي والواجب التخييري.

وجدير أن نشير هنا إلى أنّ ما بأيدينا اليوم من علم الاصول وإن انتهى في النموّ والتكامل إلى غايته بالنسبة إلى كثير من العلوم ولكنّه مضطرب النظام والترتيب والتبويب غاية الاضطراب، وإنّي قد لاحظت فيه هذه الجهة فبعد التأمّل في مسائله وإعمال الدقَّة فيها من هذه الناحية وجدت ما يقرب من أربعين إشكالًا ممّا يخلّ بالنظام المطلوب في العلوم، وللبحث التفصيلي عنه مجال آخر.

وممّا ذكرنا ظهر أن النزاع في هذه المسألة ناظر إلى مقام الثبوت وأنّ النهي في ذاته هل يلازم الفساد أو لا؟ سواء

استفدناه من اللفظ أو من غير اللفظ من عقل أو إجماع، وليس ناظراً إلى مقام الإثبات كما في بعض الكلمات.

الأمر الرابع: هل النهي في المقام يختصّ بالنهي التحريمي أو يعمّ التنزيهي أيضاً؟

وهل هو يختّص بالنهي النفسي أو يعمّ النهي الغيري المقدّمي أيضاً (والنهي المقدّمي مثل أن يقال: «لا تصلّ في سعة الوقت وأزل النجاسة عن المسجد»). ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى انوار الأصول، ج 1، ص: 571

عموم النزاع بالنسبة إلى التنزيهي والمقدّمي، أمّا بالنسبة إلى التنزيهي فلعموم الملاك (وهو عدم كون المنهي عنه مقرّباً إلى اللَّه تعالى)، وأمّا بالنسبة إلى الغيري فلأنّ الفرق بينه وبين النفسي إنّما هو في ترتّب العقوبة على الأوّل دون الثاني ولا دخل لاستحقاق العقوبة على المخالفة وعدمه في كون النهي سبباً للفساد وعدمه، حيث إنّ الملاك على القول به هو نفس الحرمة وهي موجودة بعينها في النهي الغيري سواءً كان أصليّاً كالنهي عن الصّلاة في أيّام الحيض، أو تبعيّاً كالنهي عن الصّلاة لأجل الإزالة، ويؤيّد ذلك (عموم ملاك البحث للنهي الغيري) جعل ثمرة النزاع في مبحث الضدّ- كما هو المعروف- فساد الضدّ إذا كان عبادة كالصّلاة ونحوها مع أنّ النهي هنا غيري مقدّمي (انتهى بتوضيح).

أقول: إنّ ما أفاده بالنسبة إلى النهي التنزيهي فهو في محلّه لنفس ما ذكره من عموم الملاك، وأمّا بالنسبة إلى النهي الغيري فهو غير تامّ لأنّ ما لا عقاب له لا يكون مبعّداً وجداناً، وأمّا استشهاده بمسألة الضدّ ففيه ما مرّ هناك من أنّ النهي عن الضدّ لا يوجب فساد العبادة لأجل كونه غيريّاً فهذا المثال أجنبي عن المطلوب وإن كان مشهوراً.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه ذهب المحقّق النائيني رحمه الله إلى اختصاص النزاع بالنهي التحريمي النفسي وأنّ النهي التنزيهي أو الغيري لا يدلّان على فساد العبادة

قطعاً (أمّا الأوّل) فلأنّ النهي التنزيهي عن فرد لا ينافي الرخصة الضمنية المستفادة من إطلاق الأمر فلا يكون بينهما معارضة ليقيّد به إطلاقه، نعم إذا كان شخص المأمور به منهيّاً عنه كما إذا كان إطلاق الأمر شموليّاً، فلا محالة يقع التعارض بين دليليهما، فإذا قدّم دليل النهي فلا موجب لتوهّم الصحّة مع وجود النهيْ، لكن هذا الفرض خارج عن محلّ الكلام، لأنّ محلّ الكلام إنّما هو فيما إذا كانت دلالة النهي على الفساد هو الموجب لوقوع المعارضة بين دليلي الأمر والنهي ولتقييد متعلّق الأمر بغير ما تعلّق به النهي، ومن الواضح أنّ التعارض في مفروض الكلام لا يتوقّف على دلالة النهي على الفساد أصلًا، (وأمّا الثاني) أعني به النهي الغيري فهو على قسمين:

الأوّل: ما كان نهياً شرعياً أصليّاً مسوقاً لبيان اعتبار قيد عدمي في المأمور به كالنهي عن الصّلاة في غير المأكول فلا إشكال في دلالته على الفساد بداهة أنّ المأمور به إذا اخذ فيه قيد عدمي فلا محالة يقع فاسداً بعدم اقترانه به وهذا خارج عن محلّ الكلام، إذ حال هذه النواهي حال الأوامر المتعلّقة بالاجزاء والشرائط المسوقة لبيان الجزئيّة والشرطيّة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 572

والثاني: ما كان نهياً تبعيّاً ناشئاً من توقّف واجب فعلي على ترك عبادة مضادّة له بناءً على توقّف وجود أحد الضدّين على عدم الآخر، فلا موجب لتوهّم دلالته على الفساد أصلًا وذلك لما عرفته في محلّه من أنّ غاية ما يترتّب على النهي الغيري هذا إنّما هو عدم الأمر به فعلًا مع أنّه يكفي في صحّة العبادة اشتمالها على ملاك الأمر وإن لم يتعلّق بها بالفعل أمر من المولى (انتهى مع تلخيص) «1».

أقول: يرد عليه أنّ ما أفاده في النهي

التنزيهي فيما إذا لم يكن إطلاق الأمر شمولياً صحيح في محلّه، ولكنّه مبني على عدم سراية الأوامر من الطبائع والعناوين إلى الأفراد الخارجيّة، وأمّا بناءً على ما مرّ سابقاً من سرايتها إلى الأفراد وأنّ المطلوب واقعاً إنّما هو الأفراد لا الطبائع فلا، وعليه يكون فرد الصّلاة في الحمّام أيضاً مطلوباً، ومطلوبيتها تنافي النهي عنها.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ محل الكلام في المقام كما عرفت إنّما هو النهي المولوي لا الإرشادي لأنّ النواهي الإرشاديّة سواء في باب المعاملات أو العبادات إنّما ترشدنا إلى الشرطيّة أو الجزئيّة.

وبعبارة اخرى: إرشاد إلى بطلان العبادة أو المعاملة إذا أتى بها بدون ذلك الشرط أو الجزء فمعنى «لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل» «لا تصلّ لأنّها تبطل»، ولا يخفى أنّ أكثر النواهي الواردة في باب المعاملات تكون كذلك، أي أنّها إرشاديّة، بل المثال الوحيد المعروف الذي يذكره القوم للنهي المولوي في باب المعاملات هو النهي عن الصّلاة وقت النداء، وأمّا سائر النواهي الواردة فيها إرشاديّة، كما أنّ غالب الأوامر والنواهي التي تعلّقت في كلام الشارع بجزء أو شرط تكون كذلك، وهذا أمر واضح ومن القضايا التي قياساتها معها.

الأمر الخامس: في المراد من العبادة والمعاملة في محلّ النزاع

فنقول: العبادة على قسمين: العبادة بالمعنى الأخصّ والعبادة بالمعنى الأعمّ، والعبادة بالمعنى الأخصّ ما يعتبر فيه قصد القربة بحيث تقع بدونه فاسدة، والعبادة بالمعنى الأعمّ ما يقصد فيه انوار الأصول، ج 1، ص: 573

القربة، ويترتّب عليه الثواب من دون أن يكون قصد القربة شرطاً فيه.

لا إشكال في أنّ المراد من العبادة في المقام إنّما هو العبادة بالمعنى الأخصّ لا الأعمّ كما لا يخفى.

كما لا إشكال في أنّ المراد من العبادة في ما نحن فيه ما يكون بنفسه عبادة موجبة بذاتها التقرّب إلى اللَّه تعالى

لولا حرمته شرعاً، أي المراد منها العبادة الشأنيّة وما يتعلّق الأمر به مع قطع النظر عن كونه متعلّقاً للنهي، وليس المراد بها ما يكون عبادة فعلًا ولو مع كونه متعلّقاً للنهي، فإنّه لا معنى لكون الشي ء عبادة فعلًا ومع ذلك تعلّق به النهي، لأنّ معنى كونه عبادة فعلًا أنّه محبوب فعلًا، ومعه لا يتعلّق به نهي ولا يكون محلًا للنزاع.

وأمّا المعاملة فلها أربعة معانٍ:

1- المعاملة بمعنى البيع، أي ما يكون مترادفاً مع كلمة البيع وهذا هو أخصّ المعاني.

2- ما يقع بين الاثنين وهو شامل لجميع العقود أعمّ من البيع وغيره ولا يعمّ الايقاعات، وهذا أعمّ من الأوّل.

3- ما يتوقّف على القصد والإنشاء فيعمّ جميع العقود والايقاعات، فيكون أعمّ من الثاني.

4- مطلق ما لا يعتبر فيه قصد القربة سواءً كان فيه الإنشاء أو لم يكن، فيعمّ مثل تطهير الثياب مثلًا، والذي يكون محلًا للنزاع في ما نحن فيه إنّما هو المعنى الثالث الذي يتصوّر فيه الصحّة والفساد ويتضمّن المعنى الأوّل والثاني أيضاً ويكون أخصّ بالنسبة إلى المعنى الرابع، لا المعنى الرابع الذي لا يتصوّر فيه الصحّة والفساد كما لا يخفى.

بقي هنا شي ء:

وهو حقيقة العبادة بالمعنى الأخصّ التي تكون محلّ النزاع في المسألة.

فقد ذكر لها أربعة معانٍ:

1- ما لا يسقط أمره إلّاإذا أتى على نحو قربي.

2- ما أمر به لأجل التعبّد به.

ولا يخفى أنّه تعريف دوري لأنّ مفهوم العبادة أخذ في تعريفها كما لا يخفى.

3- ما يتوقّف صحّته على النيّة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 574

ويرد عليه أيضاً أنّه إن كان المراد من النيّة نيّة التقرّب فهو يرجع إلى المعنى الأوّل، وإن كان المراد منها نيّة الفعل وقصد الفعل فهو خلط بين العناوين القصديّة (كأداء الدَين ونحوه) والعبادات حيث

إنّ العناوين القصديّة ما تتوقّف صحّته على قصد العمل أعمّ من أن يقصد القربة به إلى اللَّه أيضاً أو لم يقصد القربة فهي أعمّ من العبادة.

4- ما لا يعلم انحصار المصلحة فيها في شي ء (أي العبادة عبارة عمّا لا تكون مصلحته المنحصرة معلومة).

وفيه: أنّه ليس جامعاً ولا مانعاً لأنّه ربّ عبادة تكون مصالحها معلومة من طريق الآيات والأخبار، ومن جانب آخر ربّ عمل غير عبادي لا نعلم من المصلحة فيه شيئاً كلزوم تركيب كفن الميّت من ثلاث قطعات مثلًا.

فالمتعيّن من هذه المعاني حينئذٍ هو المعنى الأوّل، ولكن الإنصاف أنّه أيضاً لا يعبّر عن حقيقة العبادة بل إنّه من قبيل تعريف الشي ء بأثره حيث إنّ «عدم سقوط الأمر إلّاإذا أتى على نحو قربي» من آثار العبادة وليس عبارة عن حقيقتها، فالأولى أن يقال: أنّها نوع فعل يبرز به نهاية الخضوع ونهاية التجليل للمعبود.

وبعبارة اخرى: إنّ الخضوع له مراتب، والمتبادر من العبادة إنّما هو أعلى مراتب الخضوع كما يظهر بملاحظة معناها بالفارسيّة وهو «پرستش» حيث إنّ المتبادر من هذه الكلمة في اللّغة الفارسيّة إنّما هو نهاية الخضوع والتذلّل، ولذلك قد يقال في محاورات هذه اللّغة في مقام بيان نهاية خضوع شخص بالنسبة إلى شخص آخر: أنّه خضع عنده وتواضع له إلى حدّ «العبادة»، وبالجملة لا يسمّى كلّ نوع من الخضوع وكلّ مرتبة منه عند العرف بعبادة بل إنّها اسم لأعلى مراتبه كما لا يخفى.

نعم، إنّ الأعمال العباديّة على قسمين: ففي قسم منها يكون التعبير عن نهاية الخضوع ذاتياً له ولا يحتاج فيه إلى اعتبار معتبر كالركوع والسجود، وفي قسم آخر منها يكون التعبير عن نهاية الخضوع باعتبار معتبر ووضع واضع وهو في لسان الشرع نظير الوقوف في

المشعر أو السعي بين الصفا والمروة حيث إنّهما يدلّان على العبوديّة ونهاية التذلّل عند المعبود الحقيقي بجعل الشارع واعتباره، وفي لسان العرف نظير رفع القلنسوة عند قوم ووضعها عند قوم آخر لاظهار الخضوع فكما أنّ مطلق الخضوع قد يكون بالذات واخرى بالاعتبار فكذلك نهايته.

انوار الأصول، ج 1، ص: 575

بقي هنا شي ء:

وهو ما قد مرّ كراراً ممّا قد يقال: إنّ هذه التعاريف ليست تعاريف حقيقية بل إنّها تعاريف شرح الاسميّة فلا ينبغي الإيراد في طردها وعكسها.

وقد أجبنا عنه أيضاً بأنّ ظاهر كلمات القوم أنّهم بصدد بيان التعريف الحقيقي الجامع والمانع، والشاهد عليه تعابيرهم الواردة في ذيل التعاريف كقولهم بأنّا إنّما ذكرنا هذا القيد لكذا وكذا، وحذفنا ذاك القيد لكذا وكذا، وحينئذٍ ينبغي لنا أيضاً الإشكال فيها طرداً وعكساً.

الأمر السادس: حدود محلّ النزاع

أمّا حدود محلّ النزاع ويأتي فيه أيضاً بعض ما مرّ في مبحث «الصحيحي والأعمّي» وهو ثلاثة امور:

الأمر الأوّل: أنّ محلّ النزاع في المقام هو ما يكون أمراً مركّباً قابلًا للاتّصاف بالصحّة والفساد، أمّا ما ليس كذلك فهو خارج عن محلّ الكلام، وهو عبارة عن ما لا أثر له كما في بعض المباحات كالتكلّم بكلام مباح، فلا إشكال في أنّ النهي عنه يوجب حرمته من دون أن يدلّ على الفساد لأنّه لم يكن له أثر حتّى يقع فاسداً بعد تعلّق النهي، وهكذا ما يكون ذا أثر ولكنّه من البسائط التي أمرها دائر بين الوجود والعدم كإتلاف مال الغير، فإنّ له أثر وهو الضمان ولكنّه أمر بسيط لا يتصوّر فيه الأجزاء والشرائط حتّى يتصوّر فيه الفساد ويدلّ النهي عنه على الفساد، بل إنّه إمّا يوجد في الخارج فيترتّب عليه أثره وهو الضمان أو لا يوجد في الخارج فلا يترتّب عليه أثره.

الأمر

الثاني: في المراد من الصحّة والفساد.

فقد ذكر للصحّة (وبالتبع للفساد) معانٍ عديدة، فقال بعض أنّها بمعنى تماميّة الأجزاء الشرائط، وقال بعض آخر أنّها بمعنى ما تسقط به الإعادة والقضاء، وذهب ثالث إلى أنّها بمعنى الموافقة للأمر أو الموافقة للشريعة، والأوّلان منقولان من الفقهاء، والأخير نقل عن المتكلّمين.

ولكن قد مرّ في مبحث الصحيح والأعمّي أنّ المختار هو أنّ الصحيح ما ترتّب عليه الأثر المترقّب عنه، والشاهد عليه العرف والتبادر العرفي وتمام الكلام في مبحث الصحيحي والأعمّي.

انوار الأصول، ج 1، ص: 576

الأمر الثالث: أنّ للصحّة استعمالات ثلاثة: فتارةً: تستعمل في مقابل العيب، واخرى: في مقابل المرض، وثالثة: في مقابل الفساد، وقد وقع الخلط بينها في بعض الكلمات مع أنّ الصحّة في مقابل العيب تستعمل في أبواب الخيارات، وهي فيها بمعنى عدم النقصان عن الخلقة الأصلية، والصحّة في مقابل المرض تستعمل في مثل أبواب الصّيام والحجّ بالنسبة إلى المكلّف الحي، وهي فيها بمعنى سلامة المزاج وعدم انحرافه عن طبيعته الأوّليّة، والداخل في محلّ النزاع في ما نحن فيه إنّما هو الاستعمال الثالث، وهي فيه بمعنى ترتّب الآثار المترقّبة من شي ء عليه.

نعم هيهنا نكتة تنبغي الإشارة إليها، وهي أنّ الصحّة في مقابل الفساد (أي الصحّة بالمعنى الثالث) تكون عند العرف من الكيفيات والحالات فيقال «الفاكهة الصحيحة» إذا كانت على حالة معتدلة طبيعية في مقابل الفاكهة الفاسدة، بينما هي في لسان الشرع ومصطلح الفقهاء تستعمل في الأجزاء والشرائط أي الكيفية والكمّية فيقال: الصّلاة صحيحة إذا كانت جامعة للأجزاء والشرائط، ويقال الصّلاة الفاسدة إذا كانت فاقدة للطهارة أو الركوع مثلًا، ولكن هل هو إطلاق مجازي أو أنّه من قبيل الحقيقة الثانويةِ؟ الإنصاف هو الثاني، أي صارت كلمة «الصحيح» حقيقة شرعيّة في الواجد

للأجزاء والشرائط وكلمة «الفاسد» في الفاقد لبعض الأجزاء والشرائط.

الأمر السابع: إنّ الصحّة والفساد أمران إضافيان

يختلفان باختلاف الآثار والأنظار والاشخاص (خلافاً لمثل الزوجيّة للأربعة وشبهها التي هي من الامور الحقيقية الثابتة مطلقاً) فبالنسبة إلى اختلاف الآثار نظير المأمور به بالأوامر الظاهريّة، حيث إنّ المراد من الأثر المترقّب منه إن كان هو ترتّب الثواب عليه فيتّصف بالصحّة، وإن كان المراد من الأثر سقوط الأمر الواقعي في صورة كشف الخلاف فلا يتّصف بالصحّة، فالمأمور به حينئذٍ صحيح من جهة وفاسد من جهة اخرى، وهكذا بالنسبة إلى اختلاف الأنظار، فإن كان النظر في الأوامر الظاهريّة مثلًا الإجزاء عن الأوامر الواقعيّة في صورة كشف الخلاف كان العمل صحيحاً وإن كان النظر عدم الإجزاء لم يكن العمل صحيحاً، وكذلك بالنسبة إلى الأشخاص فإن صلاة القصر مثلًا تتّصف بالصحّة بالنسبة إلى المسافر وتتّصف بالفساد بالنسبة إلى الحاضر، وبهذا يظهر أّنه لا وجه لحصر إضافيّة الصحّة والفساد

انوار الأصول، ج 1، ص: 577

في الآثار والأنظار كما يظهر من بعض كلماتهم.

ثمّ إنّه هل الصحّة والفساد من الامور الواقعيّة، أو من الامور المجعولة بالأصالة أو بالتبع، أو أنّها من الامور الانتزاعيّة، أو لا بدّ من التفصيل بين العبادات والمعاملات وأنّهما من الامور المجعولة في العبادات دون المعاملات؟ فيحتمل كونهما من الامور الواقعيّة، كما يحتمل كونهما من الامور المجعولة بالأصالة كالملكية والزوجيّة ومنصب القضاء والولاية ونحوها من الامور التي تنالها يد الجعل مستقلًا وبالأصالة، كما ورد في الحديث: «فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً (أو حاكماً)» ويحتمل أيضاً كونهما من الامور المجعولة بالتبع كالجزئيّة والشرطيّة في أجزاء المأمور به وشرائطه حيث إنّهما تجعلان بتبع تعلّق الأمر بالجزء أو الشرط، فلم يقل الشارع: «أنّي جعلت الركوع مثلًا جزءً» بل استفدنا جزئيته من قوله «اركع»، ويحتمل

أيضاً كونهما من الامور الانتزاعيّة التي لا وجود لها في الخارج بل الموجود فيه إنّما هو منشأ الانتزاع كالفوقيّة والتحتية.

والحقّ في المقام بناءً على ما مرّ من تعريف الصحّة والفساد بترتّب الأثر المترقّب من الشي ء وعدمه أن يقال: إن كان المراد من الأثر الملحوظ في التعريف هو المصلحة والمفسدة فلا إشكال في أنّهما حينئذٍ أمران واقعيّان لا تنالهما يد الجعل لأنّ المصالح والمفاسد امور واقعية، وإن كان المراد من الأثر سقوط التكليف والمأمور به فبالنسبة إلى الأوامر الواقعيّة إنّهما أمران انتزاعيان ينتزعان من مطابقة المأتي به للمأمور به وعدم مطابقته له، وأمّا بالنسبة إلى الأوامر الظاهريّة فهما من الامور المجعولة الاعتباريّة حيث إنّ الصحّة حينئذٍ عبارة عن جعل الشارع الإجزاء للأوامر الظاهريّة، والفساد عبارة عن جعل الشارع عدم الإجزاء لها، هذا كلّه بالنسبة إلى العبادات.

وأمّا في المعاملات فإن كان المراد من الأثر المفسدة والمصلحة فلا إشكال أيضاً في كونهما فيما من الامور الواقعيّة، وإن كان المراد من الأثر ما يترتّب على العقود والايقاعات من الآثار كالملكية والزوجيّة فلا إشكال أيضاً في كونهما أمرين مجعولين، لأنّ الزوجيّة مثلًا تجعل من جانب الشارع أو العقلاء بعد إجراء العقد.

هذا كلّه بناءً على المختار في تعريف الصحّة والفساد.

وأمّا بناءً على مبنى القائلين بأنّهما عبارة عن المطابقية واللامطابقية فمن المعلوم أنّهما في انوار الأصول، ج 1، ص: 578

جميع الموارد وصفان ينتزعان من مطابقة المأتي به للمأمور به وعدمها فيكونان من الامور الانتزاعيّة، وقسّ عليه سائر المباني.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ مقتضى ما مرّ منّا من تعريف الصحّة والفساد بالأثر أنّهما وصفان حقيقيّان خارجيان يتّصف بهما الوجود الخارجي وليسا من الماهيات والعناوين الكلّية الذهنيّة فإنّ المتّصف بالصحّة في باب المعاملات مثلًا هو صيغة

العقد الخارجي المتحقّقة في الخارج لا عنوان كلّي العقد، لأنّ المنشأ للأثر إنّما هو الخارج والفرد الخارجي لا الماهية والعنوان، وقد مرّ كراراً أنّ أخذ العناوين الكلّية في موضوع الأدلّة إنّما هو للإشارة إلى أفرادها الواقعة في الخارج.

الأمر الثامن: في تأسيس الأصل في المسألة
اشارة

وقد مرّ سابقاً أنّ ثمرة مثل هذا البحث تعيين من عليه إقامة البرهان، وهو من يخالف رأيه الأصل في المسألة لا من يوافقه.

والأصل إمّا لفظي وهو الإطلاق أو العموم، أو عملي وهو تلك الاصول الأربعة المعروفة، ومحلّ جريان الأصل تارةً يكون هو المسألة الاصوليّة وهي في المقام دلالة النهي على الفساد، أو وجود الملازمة بين النهي والفساد، واخرى المسألة الفقهيّة وهي في المقام نظير النهي عن الصّلاة وقت النداء، فهيهنا مقامات أربع:

المقام الأوّل: في الأصل اللّفظي بالنسبة إلى المسألة الاصوليّة

فنقول: لا يوجد أصل لفظي يستفاد منه دلالة النهي على الفساد أو وجود الملازمة بين النهي والفساد، أو يستفاد منه عدم دلالته عليه أو عدم وجود الملازمة من إطلاق أو عموم، وهذا ممّا لا خلاف فيه.

المقام الثاني: في الأصل العملي في المسألة الاصوليّة

قد يقال: إنّ مقتضى استصحاب عدم الدلالة أو عدم وجود الملازمة إثبات المسألة

انوار الأصول، ج 1، ص: 579

الاصوليّة، أي إثبات عدم دلالة النهي على الفساد أو إثبات عدم وجود ملازمة بين النهي والفساد.

ولكن من الواضح عدم جريان هذا الاستحصاب، لأنّ عدم الدلالة أو عدم وجود الملازمة ليس من المتيقّن سابقاً إلّاأن يتمسّك بذيل العدم الأزلي، ولا إشكال في أنّ استصحاب العدم الأزلي لو سلّم حجّيته في محلّه ليس جارياً في المقام لعدم ترتّب أثر شرعي عليه بلا واسطة، حيث إنّ عدم الدلالة أو عدم وجود الملازمة من الآثار العقليّة فيكون الأصل حينئذٍ مثبتاً كما لا يخفى.

المقام الثالث: في الأصل اللّفظي بالنسبة إلى المسألة الفرعيّة

وفيه فرق بين باب العبادات وباب المعاملات، أمّا في العبادات فلا أصل لفظي من عموم أو إطلاق يدلّ على صحّة العبادة المنهي عنها أو فسادها عند الشكّ، وأمّا في المعاملات فيمكن أن يستدلّ للصحّة فيها بإطلاق «اوفوا بالعقود» أو «أحلّ اللَّه البيع» وغيرهما من الإطلاقات المذكورة في محلّه وهذا واضح لا إشكال فيه.

المقام الرابع: في الأصل العملي بالنسبة إلى المسألة الفرعيّة

أمّا بالنسبة إلى المعاملات فبعد فرض عدم عموم أو إطلاق يقتضي الصحّة فيها فمقتضى الأصل الفساد كما هو المشهور، لأنّه بعد أن تعلّق النهي بها وشكّ في دلالته على فسادها بعد تحقّقها في الخارج- لا محالة يقع الشكّ في حصول الأثر المترتّب عليها من ملكيّة أو زوجيّة ونحوهما فيستصحب عدم حصوله.

وأمّا بالنسبة إلى العبادات فكذلك مقتضى الأصل العملي هو الفساد وهو أصالة الاشتغال، فإنّه بعد تعلّق النهي بالعبادة بالخصوص كما في صوم العيدين نقطع بعدم كونها بخصوصها مأموراً بها، لأنّ المفروض أنّ النهي تعلّق بصيام العيدين بالخصوص، ولذلك لا يشمله أيضاً إطلاق الأمر المتعلّق بمطلق صيام كلّ يوم حتّى يحرز الملاك من هذا الطريق ويكون الصّيام صحيحاً من طريق قصد الملاك.

وبالجملة: إنّ تعلّق النهي بالعبادة بالخصوص يوجب انقطاع الأمر من أصله، ومعه لا أمر ولا محرز للملاك حتّى يمكن به تصحيحها.

انوار الأصول، ج 1، ص: 580

بقي هنا شي ء:

وهو ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله بالنسبة إلى المقام الرابع من التفصيل بين ما إذا كان الشكّ من قبيل الشبهة الموضوعيّة، وإليك نصّ كلامه: «إن كان الشكّ في صحّتها وفسادها من قبيل شبهة موضوعيّة فمقتضى قاعدة الاشتغال فيها هو الحكم بفساد المأتي به وعدم سقوط أمرها، وأمّا إذا كان لأجل شبهة حكميّة فالحكم بالصحّة والفساد عند الشكّ يبتني على الخلاف في جريان البراءة والاشتغال في

الجزئيّة أو الشرطيّة أو المانعية» «1».

وقد أورد عليه:

أوّلًا: بأنّ محلّ الكلام في المقام إنّما هو فيما إذا شكّ في صحّة عبادة بعد الفراغ عن كونها منهياً عنها، فتكون الشبهة دائماً حكميّة، فلا يعمّ محلّ النزاع ما إذا كان أصل تعلّق النهي أيضاً مشكوكاً فيه حتّى تدخل فيه موارد الشبهة الموضوعيّة أيضاً.

وثانياً: ليس الشكّ في صحّة العبادة وفسادها ناشئاً دائماً من الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة والمانعية حتّى يكون الحكم بالصحّة والفساد مبتنياً على الخلاف في جريان البراءة والاشتغال فيها، بل قد يكون ناشئاً من الشكّ في أصل مشروعيّة العبادة لأنّ النهي تعلّق بمجموعها.

الأمر التاسع: في أقسام تعلّق النهي بالعبادة وتعيين محلّ النزاع فيها
اشارة

إنّ متعلّق النهي تارةً: يكون نفس العبادة كالنهي عن الصّلاة في أيّام الحيض أو النهي عن الصّوم في يوم العيدين، واخرى: يكون متعلّق النهي جزء من أجزاء العبادة كما إذا نهى عن سور العزائم في الصّلاة الواجبة، وثالثة: يتعلّق النهي بشرط العبادة كالنهي المتعلّق بلبس الحرير إذا كان هو الساتر لعورة المصلّي، ورابعة: يتعلّق النهي بوصف من أوصاف العبادة الملازمة لها كما إذا نهى عن الجهر بالقراءة، وخامسة: يتعلّق بوصفها غير الملازم كالنهي عن الصّلاة في المكان المغصوب، فهيهنا خمس صور.

لا إشكال في أنّ القسم الأوّل داخل في محلّ النزاع، وهكذا القسم الثاني لأنّ جزء العبادة عبادة، نعم لا بدّ من البحث فيه عن أنّ الفساد هل يسري من الجزء إلى الكلّ أو لا؟ فقال المحقّق الخراساني رحمه الله بعدم السراية إلّافي صورتين:

انوار الأصول، ج 1، ص: 581

الصورة الاولى: ما إذا اكتفى بإتيان المنهي عنه ولم يأت بالجزء في ضمن فرد آخر كما إذا أتى بسورة من سور العزائم واكتفى بها.

الصورة الثانيّة: ما إذا لم يكتف بالمأتي به ولكن كان المبني بطلان الصّلاة بالزيادة

مطلقاً سواءً كانت من كلام الآدمي أو لم يكن.

ولكن قد أورد عليه المحقّق النائيني رحمه الله بأنّ «فساد الجزء يسري إلى الكلّ مطلقاً ببيان أنّ جزء العبادة إمّا أن يؤخذ فيه عدد خاصّ كالوحدة المعتبره في السورة بناءً على حرمة القرآن، وإمّا أن لا يؤخذ فيه ذلك، أمّا الأوّل فالنهي المتعلّق به يقتضي فساد العبادة لا محالة لأنّ الآتي به في ضمن العبادة إمّا أن يقتصر عليه فيها أو يأتي بعده بما هو غير منهي عنه، وعلى كلا التقديرين لا ينبغي الإشكال في بطلان العبادة المشتملة عليه، فإنّ الجزء المنهي عنه لا محالة يكون خارجاً عن إطلاق دليل الجزئيّة أو عمومه، فيكون وجوده كعدمه، فإن اقتصر المكلّف عليه في مقام الامتثال بطلت العبادة لفقدها جزئها، وإن لم يقتصر عليه بطلت من جهة الاخلال بالوحدة المعتبرة في الجزء كما هو الفرض، ومن هنا تبطل صلاة من قرأ إحدى العزائم في الفريضة سواء اقتصر عليها أم لم يقتصر، بل لو بنينا على جواز القرآن لفسدت الصّلاة في الفرض أيضاً، لأنّ دليل الحرمة قد خصّص الجواز بغير الفرد المنهي عنه، فيحرم القرآن بالإضافة إليه لا محالة، هذا مضافاً إلى أنّ تحريم الجزء يستلزم أخذ العبادة بالنسبة إليه بشرط لا.

ومن هنا (أي هذا الوجه الأخير) تبطل الصّلاة في الفرض الثاني أيضاً وهو ما إذا لم يؤخذ في الجزء عدد خاصّ، فإنّ تحريم الجزء يستلزم أخذ العبادة بالإضافة إليه بشرط لا، فإن لم يقتصر بالجزء الحرام يخلّ بهذا الشرط، وإن اقتصر به بطلت العبادة لفقدها جزئها» «1» (انتهى ملخّصاً).

أقول: يرد عليه:

أوّلًا: أنّ ظاهر أدلّة حرمة القرآن أنّ الحرمة مستندة إلى نفس القرآن لا إلى ذات السورة، ولازمه أن تكون قراءة

هذه السورة وحدها جائزة وتلك السورة أيضاً وحدها جائزة، والحرام إنّما هو إيجاد المقارنة بينهما.

انوار الأصول، ج 1، ص: 582

وبعبارة اخرى: إنّ تلك الأدلّة منصرفة عن ما إذا كانت إحدى السورتين محرّمة بذاتها.

ثانياً: إنّ تحريم جزء ليس معناه أخذ العبادة بشرط لا بالنسبة إلى ذلك الجزء بل لعلّ معناه عدم جواز الاكتفاء به ولزوم الإتيان بجزء آخر معه فيكون نظير رمي الجمرة في مناسك الحجّ بالحجر المغصوب الذي يكون المراد منه عدم جواز الاكتفاء به، فلو أتى بعده بما هو مباح كفاه.

فظهر أنّ ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله في القسم الثاني من التفصيل يكون في محلّه.

أمّا القسم الثالث: وهو ما إذا تعلّق النهي بالشرط- فحاصل كلام المحقّق الخراساني رحمه الله أنّ حرمة الشرط كما لا تستلزم فساده لا تستلزم فساد العبادة المشروطة به أيضاً إلّاإذا كان الشرط عبادة، فإنّه قد فصّل بين ما إذا كان الشرط توصّلياً كالستر وغيره فيكون خارجاً عن محلّ البحث أي لا يضرّ لبس الحرير المنهي عنه مثلًا بصحّة الصّلاة مع قطع النظر عن الأدلّة الخاصّة، وبين ما إذا كان الشرط تعبّديّاً فيوجب النهي عنه فساد نفسه ثمّ فساد العبادة المشروطة به.

وذهب المحقّق النائيني رحمه الله إلى خروج الشرط عن محلّ النزاع، أي عدم إيجاب النهي عنه بطلان المشروط به مطلقاً سواء كان تعبّديّاً أو توصّلياً، وذلك ببيان أنّ شرط العبادة الذي تعلّق به النهي إنّما هو المعنى المعبّر عنه باسم المصدر، فشرط الصّلاة إنّما هي الطهارة المراد بها معنى اسم المصدر المقارنة معها زماناً، وأمّا الأفعال الخاصّة من الوضوء والتيمّم والغسل فهي بنفسها ليست شرطاً للصّلاة وإنّما هي محصّلة لما هو شرطها، فما هو عبادة- أعني بها نفس الأفعال- ليس

شرطاً للصّلاة وما هو شرط لها- أعني به نفس الطهارة- فهو ليس بعبادة بل حاله حال بقيّة الشرائط في عدم اعتبار قصد القربة فيها، ولذلك يحكم بصحّة صلاة من صلّى غافلًا عن الطهارة فإنكشف كونها مقترنة بها، ولا إشكال في أنّ النهي إنّما تعلّق بالمعنى المصدري لا اسم المصدري، فلا يوجب بطلان المشروط إلّاإذا كان النهي عنه نهياً عن نفس الصّلاة المشروط به حيث لا إشكال حينئذٍ في فساد العبادة «1».

أقول: الصحيح هو قول ثالث، وهو دخول الشرط في محلّ البحث مطلقاً من دون فرق بين التعبّدي والتوصّلي، أمّا ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله. ففيه:

أوّلًا: إنّ الشرط وإن كانت ذاته خارجة عن المشروط لكن التقيّد به جزء له ويوجب انوار الأصول، ج 1، ص: 583

تكيّف العبادة وتلوّنها، به وحينئذٍ إذا كان الشرط مقارناً للعبادة كعدم التستّر بالحرير يوجب النهي عنه فساد العبادة المشروطة به لأنّه إذا تستّر بالحرير، أي لم يأت بالشرط، فقد أتى بفعل محرّم وصارت عبادته مقيّدة به، والتقيّد بالحرام يوجب فسادها، وهو نظير ما إذا أمر الطبيب بشرب الدواء في الغداء قبل الغذاء حيث إنّ تقيّد الشرب بهذا الزمان يوجب حدوث حالة وكيفية جديدة في الدواء التي يستلزم عدمها عدم تأثير الدواء في المعالجة.

وثانياً: أنّه قد مرّ سابقاً أنّه ربّما لا يكون شي ء جزءً للصّلاة ولكن يسري قبحه إلى الصّلاة عرفاً ويوجب عدم إمكان التقرّب بها، وقد مرّ أيضاً أنّ عباديّة شي ء ومقرّبيته أمر عقلائي عرفي وأنّه لا يمكن التقرّب بشي ء ما لم يكن مقرّباً عند العرف والعقلاء.

وأمّا ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله ففيه: أنّ كون الشرط في التعبّديات المعنى اسم المصدري لا المصدري لا أثر له في المقام، لأنّ المعنى

المصدري الذي يكون متعلّقاً للنهي وإن لم يكن شرطاً للعبادة بل يكون محصّلًا لشرط العبادة ولكن النهي الذي تعلّق به يوجب فساد نفسه، ثمّ عدم تأثيره في حصول الشرط، وهو المعنى اسم المصدري، وتصير العبادة بالنتيجة باطلة وإن كان موجب بطلانها عدم تحقّق شرطها رأساً لا بطلان شرطها.

بقي هنا شي ء:

وهو ما أفاده في المحاضرات من «أنّ الظاهر من الأدلّة من آية الوضوء والرّوايات هو أنّ الشرط للصّلاة نفس تلك الأفعال (المعنى المصدري) والطهارة اسم لها وليست أمراً آخر مسبّباً عنها (المعنى اسم المصدري) وإنّ ما ورد في الرّوايات من أنّ الوضوء على الوضوء نور على نور وإنّه طهور ونحو ذلك ظاهر في أنّ الطهور اسم لنفس تلك الأفعال دون ما يكون مسبّباً عنها» «1».

ولكنّه بعيد جدّاً ومخالف لظواهر عشرات الرّوايات الواردة في أبواب نواقض الوضوء حيث إنّه لا معنى للنقض بالنسبة إلى نفس الغسلتين والمسحتين فإنّ الشي ء لا ينقلب عمّا وقع عليه، بل الظاهر جدّاً من جملة «لا ينتقض الوضوء إلّابفلان» والتعبير ب «كنت على وضوء» أو التعبير ب «أنا على غير وضوء» أنّ الوضوء حالة معنويّة يمكن أن تستمرّ وتبقى ما لم يحدث انوار الأصول، ج 1، ص: 584

حدث للمتوضّي ء كما يمكن أن تنتقض بوقوع الحدث، ولا يخفى أنّ إرتكاز المتشرّعة أيضاً يساعد عليه.

أمّا القسم الرابع: كالنهي عن الجهر أو الاخفات في الصّلاة حيث إنّه وصف ملازم للقراءة ولا يمكن التفكيك بينهما، وإن كان تبديل أحد الوصفين بالآخر ممكناً فهو أيضاً داخل في محلّ النزاع، لأنّه من الممكن أن يسري النهي عرفاً من الوصف إلى الموصوف لعدم انفكاكهما خارجاً.

أمّا القسم الخامس: فالأولى التمثيل له بالنهي عن النظر إلى الأجنبيه حال الصّلاة فإنّه وصف غير ملازم

للصّلاة، والتمثيل بالنهي عن الصّلاة في الدار المغصوبة فهو صحيح بناءً على جواز الاجتماع لعدم اتّحاد الصّلاة مع الغصب حينئذٍ في الخارج، خلافاً على مبنى الامتناع لأنّ عليه تتّحد الصّلاة مع الغصب، ولذلك اعترف القوم بأنّ باب اجتماع الأمر والنهي تحصل به صغرى باب النهي في العبادات.

وفي مثل المقام لا يسري قبح أحدهما إلى الآخر إلّافي بعض الموارد وهو ما اكتنف الحرام بالعبادة جدّاً بحيث لا يراها العقلاء من أهل العرف مناسباً لشأن المولى مع هذه المقارنات، كما أنّ فعل أنواع المحرّمات بيده ورجله وسمعه وبصره مقارناً للصّلاة من أوّلها إلى آخرها.

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: هل تتصوّر هذه الأقسام في المعاملات أيضاً أو لا؟

إذا كان المراد من المعاملة هو السبب وهو صيغة العقد فلا إشكال في إمكان تصوير الأقسام المزبورة في المعاملات أيضاً، لأنّ للعقد جزءً وشرطاً ووصفاً كالعبادات، نعم يشكل الظفر بمثال للنهي عن الجزء أو الشرط أو الوصف فيها في مقام الإثبات بل ينحصر النهي في هذا المقام بما تعلّق بذات الفعل، وإن كان المراد منها المسبّب فالمتصوّر فيها حتّى في مقام الثبوت إنّما هو النهي المتعلّق بذاته لا غير، وذلك لأنّ المسبّب، أمر بسيط لا يتصوّر فيه الجزء أو الشرط أو الوصف بل أمره دائر دائماً بين الوجود والعدم.

الأمر الثاني: ربّما يتعلّق النهي بالكلّ لأجل الجزء، أي الجزء واسطة في الثبوت، كأن يقال:

لا تصلّ صلاة تشتمل على سورة من العزائم، وحينئذٍ لا يخفى أنّه داخل في القسم الأوّل، أي انوار الأصول، ج 1، ص: 585

النهي المتعلّق بذات العبادة لأنّها هي متعلّق النهي حقيقة وإن صار الجزء واسطة في تعلّقه بها- هذا كلّه ما أردناه من المقدّمات.

أدلّة الأقوال في المسألة

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الأقوال في

المسألة كثيرة جدّاً، والمهمّ منها أربعة:

1- الفساد مطلقاً سواء كان المنهي عنه عبادة أو معاملة.

2- الصحّة مطلقاً وهو ما نقل عن أبي حنيفة.

3- التفصيل في المعاملة بين النهي عن السبب والنهي عن المسبّب وأنّه يوجب الفساد في الأوّل دون الثاني، وهو ما ذهب إليه المشهور ومنهم المحقّق الخراساني رحمه الله.

4- التفصيل بين العبادة والمعاملة وأنّه يوجب الفساد في الاولى دون الثانيّة.

ثمّ اعلم أنّ محلّ النزاع في المسألة هو النهي المولوي لا الإرشادي كما مرّ، كما أنّه بحث في مقام الثبوت لا الإثبات، أي النزاع في أنّه لو فرض نهي وكان مولويّاً فهل يوجب الفساد أو لا؟ فلا يبحث عن مقام الإثبات وأنّه متى يكون النهي إرشاديّاً ومتى يكون مولويّاً، والعجب من بعض الأعاظم حيث وقع الخلط في كلماته بين المقامين.

وكيف كان فالحقّ أنّ النهي يوجب الفساد في العبادات وذلك لجهتين:

الاولى: أنّ العبادة مركّبة حقيقة وروحاً من أمرين: الحسن الفعلي والحسن الفاعلي، والمراد من الحسن الفعلي صلاحية ذات العمل للتقرّب به إلى اللَّه تعالى، ومن الحسن الفاعلي قصد الفاعل التقرّب به إلى اللَّه، والنهي ينافيها في كلتي المرحلتين لأنّه يكشف أوّلًا: عن كون الفعل مبغوضاً للمولى وأنّه لا حسن له عنده، وثانياً: عن عدم كون الفاعل متقرّباً به إلى اللَّه تعالى لأنّه كيف يمكن للفاعل قصد التقرّب بما لا يصلح للتقرّب به إلى اللَّه.

نعم إذا كان جاهلًا بتعلّق النهي أمكن حينئذٍ أن يصدر منه قصد التقرّب كما لا يخفى، ولكن هذا من ناحية حسنه الفاعلي، وأمّا الحسن الفعلي وعدمه فلا إشكال في أنّه لا ربط له بعلم المكلّف وجهله، فيوجب عدمه في حال الجهل أيضاً بطلان العمل.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمه الله أورد هيهنا إشكالًا وأجاب

عنه بوجوه عديدة، أمّا الإشكال فحاصله أنّ اقتضاء النهي الفساد في العبادات إنّما يتمّ فيما إذا كان النهي المتعلّق بها دالًا على انوار الأصول، ج 1، ص: 586

الحرمة الذاتيّة، ولا يعقل تحريمها ذاتاً لأنّ المكلّف إمّا أن يقصد القربة أو لم يقصدها، فإن لم يقصدها فلا عبادة كي تحرم بالنهي ذاتاً وتفسد، وإن قصدها فهذا غير مقدور له، إذ لا أمر في البين كي يقصده ويتحقّق به العبادة وتحرم ذاتاً وتفسد إلّاإذا قصد القربة تشريعاً، ومعه يتّصف الفعل بالحرمة التشريعيّة دون الذاتيّة لامتناع اجتماع المثلين.

وأمّا جوابه:

أوّلًا: ما مرّ في بعض المقدّمات من أنّ المراد من العبادة في المسألة إنّما هو العبادة الشأنيّة، أي ما لو تعلّق الأمر به كان أمره عباديّاً ولا يسقط إلّابقصد القربة، ومن المعلوم أنّ تحريم ذلك ذاتاً بمكان من الإمكان.

وثانياً: أنّه ينتقض بالعبادات الذاتيّة كالركوع والسجود حيث إنّهما- كما مرّ- لا تحتاج في عباديتها إلى تعلّق أمر بها، فيمكن تعلّق الحرمة بذاتها كحرمة السجود للصنم لأنّها ثابتة وإن لم يقصد بها القربة ولا يضرّ بعباديتها حرمتها شرعاً وإن أضرّت بمقربيتها.

وثالثاً: أنّه لا منافاة بين الحرمة الذاتيّة والحرمة التشريعيّة ولا يستلزم منهما اجتماع المثلين، لأنّ الحرمة التشريعيّة تتعلّق بفعل القلب وهو الاعتقاد بوجوب العمل، والحرمة الذاتيّة تتعلّق بذات الفعل الخارجي، فهما لا تجتمعان في محلّ واحد حتّى يلزم اجتماع المثلين.

ورابعاً: لو سلّمنا أنّ النهي في العبادات لا يكون دالًا على الحرمة الذاتيّة نظراً إلى الإشكال المزبور، إلّاأنّ النهي فيها ممّا يدلّ على الفساد من جهة الحرمة التشريعيّة فلا أقلّ من دلالتها على سقوط الأمر عن العبادة وأنّها ليست مأمور بها من أصلها، وهو يكفي في فسادها.

أقول: يرد عليه:

أوّلًا: إنّ قضيّة امتناع اجتماع المثلين

تتصوّر في الامور التكوينيّة لا الامور الاعتباريّة حيث لا مانع عقلًا من اجتماع المثلين في الاعتباريات كما لا مانع من اجتماع الضدّين فيها، فإنّ البحث فيها بحث عن الحسن والقبح واللغويّة وعدمها لا عن الإمكان والاستحالة كما مرّ بيانه كراراً.

وثانياً: إنّ اجتماع الملاكين من الحرمة في مورد يوجب اندكاك أحدهما في الآخر وتأكّده به، فتكون هناك حرمة واحدة مؤكّدة متعلّقة بفعل واحد وإن كان فيه ملاكان للحرمة، وهو نظير ما إذا تعلّق النذر بفعل واجب، حيث لا إشكال في انعقاده وتأكّد وجوب الواجب به.

انوار الأصول، ج 1، ص: 587

وبهذا يظهر أنّ الوجه الثالث من الوجوه الأربعة التي أجاب بها المحقّق الخراساني رحمه الله عن الإشكال في غير محلّه.

مضافاً إلى أنّ البدعة والتشريع ليس مجرّد عمل للقلب بل إنّه يتشكّل من عمل خارجي كالصيام في العيدين ومن عقد القلب بكونه مشروعاً.

وإن شئت قلت: إنّ الاعتقاد القلبي يكون سبباً لانطباق عنوان التشريع على العمل الخارجي، وعلى أيّ حال: يتّحد متعلّق الحرمة الذاتيّة مع متعلّق الحرمة التشريعيّة فيعود المحذور الذي في كلام المستشكل.

وهكذا الوجه الأوّل والثاني، أمّا الأوّل: فلأنّه مبني على تعلّق النهي في لسان الأدلّة على ذات الأفعال المنهي عنها مع أن الظاهر أنّه تعلّق بالصّلاة مع قصد القربة في مثل قوله عليه السلام:

«دعي الصّلاة أيّام أقرائك» فليست العبادة الواردة في لسان الأدلّة العبادة الشأنيّة بل إنّها ناظرة إلى مقام الفعل والقصد.

وأمّا الثّاني: (وهو النقض بالعبادات الذاتيّة) فلأنه التزام بنفس الإشكال وإقرار بأنّه لو لم تكن العبادة ذاتيّة كان الإشكال وارداً، فيكون الجواب أخصّ من الإشكال.

فالوجه الصحيح والتامّ من الوجوه الأربعة إنّما هو الوجه الرابع وهو كفاية الحرمة التشريعيّة لفساد العمل.

ثمّ إنّ للمحقّق الحائري قدس سره في المقام

تفصيلًا آخر، وهو التفصيل بين ما إذا تعلّق النهي بنفس المقيّد وهي الصّلاة المخصوصة مثلًا (كأن يقال مثلًا لا تصلّ في الحمّام) وما إذا تعلّق النهي بأمر آخر يتّحد مع الطبيعة المأمور بها (كأن يقال مثلًا «كون صلاتك في الحمّام حرام» أو «كون صيامك في العيدين حرام») ففي الصورة الاولى يوجب النهي الفساد من جهة عدم إمكان كون الطبيعة من دون تقييد ذات مصلحة توجب المطلوبيّة، والطبيعة المقيّدة بقيد خاصّ ذات مفسدة توجب المبغوضيّة، لأنّ الجهة الموجبة للمبغوضيّة ليست مباينة لأصل الطبيعة حتّى في عالم الذهن، فلا يمكن أن تكون مبغوضاً ويكون أصل الطبيعة محبوبة من دون تقييد.

وبعبارة اخرى: لو بقيت المحبوبيّة التي هي ملاك الصحّة في العبادة في المثال يلزم كون الشي ء الواحد خارجاً وجهةً محبوباً ومبغوضاً وهو مستحيل، وأمّا الصورة الثانيّة فالصحّة والفساد فيها يبتنيان على كفايّة تعدّد الجهة في تعدّد الأمر والنهي ولوازمها من القرب والبعد

انوار الأصول، ج 1، ص: 588

والإطاعة والعصيان والمثوبة والعقوبة وحيث اخترنا كفاية تعدّد الجهة في ذلك فالحقّ في المقام الصحّة» «1».

أقول: يرد عليه:

أوّلًا: أنّ باب الاجتماع يتصوّر في ما إذا كان في البين عنوانان مستقلّان وهو ليس صادقاً في المقام لأنّ كون الصّلاة في الحمّام هو من الخصوصيّات الفرديّة واللوازم الوجوديّة للصّلاة فلا يعدّ عنواناً مستقلًا عن عنوان الصّلاة.

وثانياً: لو سلّم صحّة هذا التفصيل ثبوتاً فلا يصحّ في مقام الإثبات حيث لا أظنّ في هذا المقام وجود مورد في لسان الشرع تعلّق النهي فيه بالخصوصيّة الخارجة عن الذات، أي بأمر آخر يتّحد مع الطبيعة المأمور بها بل الظاهر أنّ جميع النواهي الشرعيّة هي من موارد الصورة الاولى، أي تعلّق النهي فيها بنفس المقيّد كقوله «لا تصلّ في الحمّام»

وقوله «لا تصمّ في السفر» وغير ذلك.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ محلّ النزاع ما إذا كان النهي ظاهراً في المولويّة، وأمّا النواهي الظاهرة في الإرشاد فهي خارجة عن محلّ الكلام، ولا إشكال في دلالتها على الفساد كجميع الأوامر والنواهي التي تعلّقت بالأجزاء والشرائط حيث إنّها ظاهرة في الإرشاد بظهور ثانوي وإن كان ظاهرها بالطبع الأوّلي هو المولويّة من باب أنّ الناهي فيها إنّما هو مولى مفترض الطاعة، وبالجملة أنّ العبادات مخترعات شرعيّة لا بدّ من بيان أجزائها وشرائطها ضمن أوامر ونواهي، وهذا أوجب انقلاب ظهورها في المولويّة إلى الظهور في الإرشاد فقول الشارع المقدّس: «أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ» إرشاد إلى شرطيّة الوقت للصّلاة، وقوله تعالى:

«وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا» إرشاد إلى شرطيّة الطهارة كما أنّ قوله عليه السلام: «لا تصلّ في وبَر ما لا يؤكل لحمه» إرشاد إلى مانعية وبَر ما لا يؤكل لحمه للصّلاة.

هذا تمام الكلام في العبادات.

النهي في المعاملات:

وأمّا المعاملات فالنزاع فيها أيضاً يختصّ بالنهي المولوي، وأمّا الإرشادي منه فلا إشكال في دلالته على الفساد كما في العبادات، كما أنّ النزاع فيها إنّما هو في وجود الملازمة بين النهي والفساد عقلًا ولا دخل للغة والعرف فيها، فقول المحقّق الخراساني رحمه الله من «أنّ النهي الدالّ على حرمتها لا يقتضي الفساد لعدم الملازمة فيها لغة وعرفاً بين حرمتها وفسادها أصلًا» في غير محلّه، بل الصحيح أن يقال: أنّه لا يقتضي الفساد لعدم الملازمة بين حرمة المعاملة وفسادها عقلًا من باب عدم اعتبار قصد القربة فيها كما كان معتبراً في العبادات.

نعم لا بدّ من التفصيل بين أقسام النهي المتعلّق بالمعاملات فإنّه على أقسام أربع:

القسم الأوّل: النهي المتعلّق بالسبب كما في قوله تعالى: «إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ

مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ» وقوله عليه السلام «لا تبع وقت النداء» بناءً على ما هو الصحيح في محلّه من أنّ أسامي العقود وضعت للأسباب لا المسبّبات.

القسم الثاني: النهي المتعلّق بالمسبّب كأن يقال: «لا تملّك الكافر المصحف» أو يقال: «لا تملّك الكافر العبد المسلم» فإنّ المنهي عنه المبغوض للشارع فيهما إنّما هو سلطة الكافر المسبّب عن بيع المصحف أو بيع العبد المسلم، حيث إنّ اللَّه لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلًا.

القسم الثالث: النهي عن التسبّب، أي إيجاد المعاملة بسبب خاصّ وبآلة خاصّة كأن يقال:

«لا تتملّك شيئاً بالربا» فإنّ أصل التملّك ليس مبغوضاً للشارع بل المبغوض إنّما هو التملّك من طريق الأخذ بالربا.

القسم الرابع: النهي المتعلّق بالنتيجة كأن يقال: «لا تأكل ثمن الخمر» أو «ثمن العذرة سحت» فإنّ النهي تعلّق بالثمن الذي هو نتيجة للعقد.

أمّا القسم الأوّل: فلا إشكال في عدم دلالة النهي فيه على الفساد لنفس ما مرّ من عدم وجود ملازمة بين النهي عن شي ء وفساده عقلًا.

وأمّا القسم الثاني: فذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى عدم دلالته أيضاً على الفساد، ولكن المحقّق النائيني رحمه الله اختار دلالته على الفساد بدعوى أنّ النهي عن المسبّب تعجيز للعبد، فكأنّه يرى ظهوراً عرفياً للنهي عن المسبّب في التعجيز أو ملازمة عقليّة بينه وبين التعجيز، وقد أنكر عليه المحقّق العراقي رحمه الله، والمنسوب إلى شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله التفصيل بين ما إذا

انوار الأصول، ج 1، ص: 590

كانت الأسباب عقليّة كشف عنها الشارع فتصحّ المعاملة في مثل بيع المصحف أو المسلم من الكافر ثمّ يجبر الكافر بإخراج المسلم أو المصحف عن ملكه، وبين ما إذا كانت الأسباب شرعيّة فتبطل المعاملة لأنّ جعل السبب بعيد مع

مبغوضيّة متعلّقه ومسبّبه.

وقال في تهذيب الاصول توضيحاً لكلامه: «الظاهر أنّ مراده من كون الأسباب عقليّة هو كونها عقلائيّة إذ لا يتصوّر للسبب العقلي الاعتباري هنا معنى سوى ما ذكرنا» «1».

أقول: التعبير بالكشف لا الإمضاء في كلام الشّيخ الأعظم رحمه الله شاهد قطعي على أنّ مراده من كون الأسباب عقليّة ليس كونها عقلائيّة اعتباريّة كما لا يخفى، فمرجع كلامه حينئذٍ إلى أنّ في باب المعاملات يوجد نحو تأثّر وتأثير واقعيين بين الأسباب والمسبّبات كعقد النكاح والزوجيّة، نظير ما قد يدّعي في باب تداخل الأسباب والمسبّبات من أنّ الأسباب الشرعيّة أسباب واقعية عقليّة كشف عنها الشارع.

وكيف كان فالإنصاف في هذا القسم ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله من دلالة النهي على الفساد ببيان «أنّ صحّة المعاملة تتوقّف على ثلاثة امور:

الأوّل: كون كلّ من المتعاملين مالكاً للعين أو بحكمه ليكون أمر النقل بيده ولا يكون أجنبياً عنه.

الثاني: أن لا يكون محجوراً عن التصرّف فيها من جهة تعلّق حقّ الغير بها أو لغير ذلك من أسباب الحجر ليكون له السلطنة الفعليّة على التصرّف فيها.

الثالث: أن يكون إيجاد المعاملة بسبب خاصّ وآلة خاصّة، وعلى ذلك فإذا فرض تعلّق النهي بالمسبّب وبنفس الملكيّة المنشأة مثلًا كما في النهي عن بيع المصحف والعبد المسلم من الكافر كان النهي معجزاً مولويّاً للمكلّف عن الفعل ورافعاً لسلطنته عليه فيختلّ بذلك الشرط الثاني» «2».

أقول: أضف إلى ذلك أنّ فساد المعاملة في هذا القسم هو مقتضى الحكمة العقلائيّة في القوانين المجعولة عندهم حيث إنّ المقنّن الحكيم لا يمضي عقداً يكون مسبّبه مبغوضاً عنده والعقلاء يذمّون من أمضى عقداً ثمّ أجبر المشتري بالبيع ثانياً، وهذا بخلاف القسم الأوّل، أي انوار الأصول، ج 1، ص: 591

النهي عن السبب، فلا

دليل فيه على الفساد لعدم كون المسبّب فيه مبغوضاً عند الشارع على الفرض بل المبغوض فيه إنّما هو أمر آخر خارج عن المسبّب كوصف المزاحمة للصّلاة في قوله «لا تبع وقت النداء».

ثمّ إنّه أجاب في تهذيب الاصول عن مقالة الشّيخ الأعظم رحمه الله بأنّ «ما ذكره رحمه الله من- أنّ جعل السبب بعيد مع مبغوضيّة متعلّقه- غير مجد لأنّ الجعل لم يكن مقصوراً بهذا المورد الخاصّ حتّى يتمّ ما ذكره من الاستبعاد بل الجعل على نحو القانون الكلّي الشامل لهذا المورد وغيره، نعم اختصاص المورد بالجعل مع مبغوضيّة مسبّبه بعيد» «1».

ولكن قد مرّ كراراً أنّ الحقّ هو انحلال الأحكام القانونيّة الكلّية بعدد مصاديقها وأفرادها، فينحلّ إمضاء الشارع في قضيّة «أحل اللَّه البيع» مثلًا إلى إمضاءات متعدّدة بعدد أفراد البيع، فيشمل إمضائه مثل بيع المصحف من الكافر وحيث إنّه منافٍ للحكمة بالبيان المزبور فنستنتج عدم شمول إمضائه لمثل هذا المورد.

أمّا القسم الثالث: فأيضاً يدلّ النهي فيه على الفساد لنفس ما مرّ في القسم الثاني، فإنّ إمضاء الشارع الحكيم إيجاد معاملة بسبب خاصّ مع كون التسبّب به مبغوضاً عنده، ينافي حكمته.

أمّا القسم الرابع: فلا إشكال ولا خلاف في دلالة النهي على الفساد فيه أيضاً لأنّ مبغوضيّة الأثر وكونه سحتاً مثلًا عند المولى في مثل «ثمن العذرة سحت» يدلّ بالانّ على الفساد عرفاً فإنّ لازم حرمة الأثر والنتيجة عند العرف بقاء الثمن في ملك المشتري، وهذا من قضايا قياساتها معها، ولذلك نرى كثيراً ما تعبّر الشارع عن بطلان معاملة لا خلاف في بطلانها بلسان حرمة النتيجة.

بقي هنا شي ء:

وهو ما أفاده وإدّعاه في هامش أجود التقريرات من أنّ حرمة المعاملة لا تدلّ على فسادها مطلقاً وإنّه لا سببية في

باب إنشاء العقود والايقاعات أصلًا وأنّه لا معنى لأنّ يكون النهي انوار الأصول، ج 1، ص: 592

متعلّقاً بالمعنى المعبّر عنه بالمصدر تارةً، وبالمعنى المعبّر عنه باسم المصدر اخرى، ببيان أنّ هناك ثلاثة امور:

الأمر الأوّل: اعتبار الملكيّة مثلًا بمن بيده الاعتبار أعني به الشارع.

الأمر الثاني: اعتبار الملكيّة القائم بالمتبايعين مع قطع النظر عن إمضاء الشارع له وعدم إمضائه له.

الأمر الثالث: إظهار المتبايعين اعتبارهما النفساني بمظهر خارجي من لفظ أو غيره، أمّا الاعتبار القائم بالشارع فهو غير قابل لتعلّق النهي به ليقع الكلام في دلالته على الفساد وعدم دلالته عليه، ضرورة أنّ الاعتبار القائم بالشارع خارج عن تحت قدرة المكلّف واختياره فكيف يعقل تعلّق النهي به؟ فإذا فرض في مورد أنّ الاعتبار المزبور مبغوض له لم يصحّ نهي المكلّف عنه، بل الشارع بنفسه لا يوجد مبغوضه، وهذا ظاهر لا يكاد يخفى، وأمّا الاعتبار القائم بالمتبايعين مثلًا فهو وإن كان قابلًا لتعلّق النهي به إلّاأنّه لا يدلّ على عدم إمضاء الشارع له لأنّ سلب القدرة عن المكلّف في مقام التكليف لا يستلزم حجر المالك وعدم إمضاء اعتباره على تقدير تحقّقه في الخارج، لأنّ النهي إنّما يتكفّل بإظهار الزجر عن تحقّق متعلّقه في الخارج من دون تعرّض لإمضائه على تقدير تحقّقه وعدم إمضائه، فإذا كان لدليل الإمضاء إطلاق بالإضافة إلى الفرد المنهي عنه لم يكن مانع من الأخذ به أصلًا، وأمّا النهي المتعلّق بذات ما يكون به إظهار الاعتبار من المتبايعين كالنهي عن البيع المنشأ باللفظ أثناء الاشتغال بصلاة الفريضة أو النهي المتعلّق بمظهر الاعتبار المزبور بما هو مظهر، فعدم دلالتهما على عدم كون الاعتبار النفساني القائم بالمتبايعين ممضي عند الشارع ظاهر لا سترة عليه، فالصحيح أنّ حرمة المعاملة لا

تدلّ على فسادها مطلقاً نعم إذا كان النهي عن معاملة ما ظاهراً في كونه في مقام الردع عنها وعدم إمضائها كان دالًا على فسادها مطلقاً إلّاأنّ ذلك خارج عمّا هو محلّ الكلام بين الأعلام» «1» (انتهى).

أقول: يرد عليه:

أوّلًا: بالنسبة إلى مبناه في باب الإنشاء ما حقّقناه في محلّه من أنّ الإنشاء إيجاد، أي أنّه انوار الأصول، ج 1، ص: 593

عبارة عن إيجاد أمر عقلائي واعتباره بأسبابه الخاصّة، وليس من قبيل الإظهار.

وثانياً: ما مرّ آنفاً من وجود ملازمة عرفيّة عقلائيّة (لو لم تكن عقليّة) بين النهي عن الاعتبار القائم بالمتبايعين وبين عدم إمضائه وإن أمضاه المتعلّق مع كونه مبغوضاً يخالف الحكمة عند العقلاء.

إلى هنا تمّ البحث بحسب ما يقتضيه العقل وبناء العقلاء.

وأمّا بحسب الأدلّة النقليّة فإنّ هناك روايتين ربّما يستدلّ بهما على عدم دلالة النهي على الفساد، (وقد وردتا في باب عدم نفوذ نكاح العبد من دون إذن مولاه وإنّ صحّته موقوفة على إجازته) وذهب جماعة منهم المحقّق الخراساني رحمه الله إلى عدم دلالتهما لا على الفساد ولا على الصحّة، وادّعى بعض دلالتهما على الصحّة:

إحديهما: ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال سألته عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده فقال: «ذاك إلى سيّده إن شاء أجازه وإن شاء فرّق بينهما» قلت: أصلحك اللَّه إنّ الحكم بن عيينة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون: إنّ أصل النكاح فاسد ولا تحلّ إجازة السيّد له، فقال أبو جعفر عليه السلام: «إنّه لم يعص اللَّه وإنّما عصى سيّده فإذا أجازه فهو له جائز» «1»

. (وهي معتبرة سنداً).

ثانيتهما: ما رواه زرارة أيضاً عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن رجل تزوّج عبده امرأة بغير إذنه فدخل بها ثمّ إطّلع على ذلك

مولاه قال: «ذاك إلى مولاه إن شاء فرّق بينهما وإن شاء أجاز نكاحهما فإن فرّق بينهما فللمرأة ما أصدقها ... وإن أجاز نكاحه فهما على نكاحهما الأوّل» فقلت لأبي جعفر عليه السلام: فإنّ أصل النكاح كان عاصياً فقال أبو جعفر عليه السلام: «إنّما أتى شيئاً حلالًا وليس بعاص اللَّه، إنّما عصى سيّده ولم يعص اللَّه إنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم اللَّه عليه من نكاح في عدّة وأشباهه» «2»

. (وهي غير معتبرة من ناحية السند لمكان موسى بن بكر).

فاستدلّ بقوله عليه السلام «إنّما عصى سيّده ولم يعص اللَّه» لدلالة النهي على الفساد بدعوى أنّ مفهومه فساد النكاح لو كان عصى اللَّه ووجود الملازمة بين عصيان اللَّه في المنهي عنه وفساده،

انوار الأصول، ج 1، ص: 594

واستدلّ بهما أيضاً للصحّة ببيان أنّ عصيان السيّد ملازم لعصيان اللَّه تعالى، لأنّ طاعة السيّد واجب شرعاً، فإذا لم يوجب عصيان السيّد الفساد لم يوجبه عصيان اللَّه أيضاً.

أقول: الظاهر أنّ منشأ الخلاف في مدلول الرّوايتين إنّما هو أنّ العصيانين الواردين في الرّوايتين هل هما تكليفيان، أو أنّهما وضعيان، أو أحدهما وضعي والآخر تكليفي؟ فكأنّ القائل بدلالتهما على الفساد يرى أنّ كليهما تكليفيان، والقائل بالصحّة يرى عصيان السيّد تكليفيّاً فحسب وعصيان اللَّه المنفي في الرّواية وضعيّاً، ولازمه أن يكون مدلول الرّواية أنّ الذي يوجب بطلان النكاح وفساده إنّما هو العصيان الوضعي لا التكليفي، ومحلّ النزاع في المقام إنّما هو النواهي التكليفية وإنّها هل تدلّ على الفساد أو لا، لا الوضعيّة.

ومن هنا يرد عليه ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله من أنّ مقتضى وحدة السياق وحدة العصيانين في المعنى «1»، فلا يتمّ القول بدلالتهما على الصحّة، وأمّا القول الأوّل، وهو دلالتهما على الفساد.

فيرد عليه:

أنّ الإنصاف أنّ المراد من كلا العصيانين في الرّوايتين العصيان الوضعي، أمّا بالنسبة إلى عصيان اللَّه فلأنّ جميع المحرّمات في باب النكاح محرّمات وضعية كما يظهر بالتتبّع فيها، وأمّا ما ورد فيها من الوعيد بالعذاب والعقاب فهو أيضاً ناشٍ من الحرمة الوضعية وما يترتّب على بطلان النكاح، ويؤيّد ذلك ما ورد في ذيل الرّواية الثانيّة من قوله عليه السلام: «إنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم اللَّه عليه من النكاح في عدّة وأشباهه» حيث إنّ حرمة النكاح في العدّة وضعية بلا إشكال.

وأمّا بالنسبة إلى عصيان السيّد فلأنّه لا إشكال في أنّه ليس لازم اعتبار الاذن من السيّد حرمة مجرّد إجراء صيغة النكاح تكليفاً على العبد وإلّا يستلزم حرمة التكلّم وأشباهه أيضاً ممّا لا يعتبر فيه الاذن من السيّد قطعاً بل غاية ما يقتضيه كون عقد النكاح فضولياً وغير تامّ بحسب الوضع، فيصير صحيحاً بلحوق الاجازة، ولازم هذا الحرمة الوضعية فقط.

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: ما حكي عن أبي حنيفة والشيباني من دلالة النهي على الصحّة، وظاهره انوار الأصول، ج 1، ص: 595

دلالته عليها مطلقاً سواء في المعاملات والعبادات، وحكي عن فخر المحقّقين موافقته لهما بل وافقهما المحقّق الخراساني رحمه الله في بعض شقوق المعاملة وفي تهذيب الاصول في جميعها، ولكن خالفهما المشهور، والحقّ أنّ كلامهما هذا ساقط عن الاعتبار مطلقاً كما سيأتي بيانه.

وكيف كان فهيهنا ثلاثة أقوال: دلالة النهي على الصحّة مطلقاً، وعدم دلالته عليها مطلقاً، والقول بالتفصيل، أي دلالته عليها في الجملة.

أمّا القول الأوّل: فاستدلّ له بأنّ النهي لا يصحّ إلّاعمّا يتعلّق به القدرة، والمنهي عنه هو وقوع المعاملة مؤثّرة صحيحة، فلو كان الزجر عن معاملة مقتضيّاً للفساد للزم أن يكون سالباً لقدرة المكلّف، ومع عدم قدرته

يكون لغواً، فلو كان صوم يوم النحر والنكاح في العدّة مثلًا ممّا لا يتمكّن المكلّف من إتيانهما كان النهي عنهما لغواً لتعلّقه بأمر غير مقدور.

وإن شئت قلت: أنّ الانزجار عن الفعل المنهي عنه حاصل لعدم القدرة عليه، فالنهي عنه حينئذٍ تحصيل للحاصل.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه الله بالتفصيل بين ما إذا كان النهي في المعاملات عن المسبّب أو التسبّب، فيدلّ على الصحّة لاعتبار القدره في متعلّقه عقلًا كالأمر وإنّه لا يكاد يقدر على المسبّب أو التسبّب إلّافيما إذا كانت المعاملة مؤثّرة صحيحة، وبين ما إذا كان النهي فيها عن السبب فلا يدلّ على الصحّة لأنّ المكلّف قادر على السبب، أي على إجراء الصيغة على أيّ حال: سواء كان صحيحاً أو فاسداً.

هذا كلّه في المعاملات وأمّا العبادات فقد قسّمها إلى قسمين:

أوّلهما: ما كان منها عبادة ذاتيّة كالركوع والسجود ممّا لا تحتاج عباديتها إلى تعلّق أمر بها، فذهب إلى كونها مقدورة صحيحة ولو مع النهي عنها كما إذا كانت مأموراً بها لأنّ عباديتها لا تتوقّف على تعلّق الأمر به لكي لا يمكن تحقّقها إذا تعلّق النهي بها ولم تكن مأموراً بها.

ثانيهما: ما كان منها عبادة لتعلّق الأمر بها ولاعتبار قصد القربة في عباديتها فذهب في هذا القسم إلى عدم كونه مقدوراً مع النهي عنه لأنّ المبغوض لا يكون مقرّباً فيدلّ النهي فيه على الفساد.

وأورد عليه في تهذيب الاصول توجيهاً لقول أبي حنيفة والشيباني بأنّ مورد نظرهما ليس نفس السبب بما هو فعل مباشري إذ ليس السبب متعلّقاً للنهي في الشريعة حتّى يبحث عنه بل انوار الأصول، ج 1، ص: 596

مورد النظر هو المعاملات العقلائيّة المعتدّ بها لولا نهي الشارع عنها، أعني العقد المتوقّع منه ترتّب الأثر والمسبّب عليه

«1».

أقول: مقصوده أنّ النهي يتعلّق بالسبب بما هو سبب وبوصف السببيّة لا بذات السبب، فلا وجه للتفريق بين النهي عن السبب والنهي عن المسبّب أو التسبّب في كلام المحقّق الخراساني رحمه الله.

ولكن يرد عليه: أنّ لازم هذا رجوع النهي عن السبب إلى النهي عن المسبّب أو النهي عن التسبّب، وهو خلاف التقسيم المفروض في كلام المحقّق الخراساني رحمه الله.

وكيف كان، فالحقّ عدم دلالة النهي على الصحّة مطلقاً بل غاية ما يدلّ عليه إنّما هو صحّة العمل المنهي عنه لولا تعلّق النهي به، وهذا يكفي في الخروج عن محذور تحصيل الحاصل ومحذور تعلّق النهي بأمر غير مقدور، وذلك لأنّ الشارع يسلب القدرة عن المكلّف تعبّداً بنهيه عنه نظير ما يلاحظ في باب النذر فيما إذا تعلّق بترك عبادة مكروهة مثلًا، حيث إنّ الناذر يسلب القدرة عن نفسه تعبّداً وشرعاً لا تكويناً وخارجاً، وفي ما نحن فيه إذا نهى الشارع المقدّس عن بيع المصحف من الكافر فقد سلب عن المكلّف القدره الشرعيّة على البيع التي كانت له قبل النهي، والذي تقتضيه حكمة الشارع الحكيم إنّما هو صحّة المعاملة لولا تعلّق النهي وقبل تعلّقه، وأمّا بعد تعلّقه فالحكمة تقتضي عقلًا أو عقلائيّاً الفساد لوجود الملازمة بين المبغوضيّة المستفادة من النهي والفساد عند العرف والعقلاء كما مرّ.

وبعبارة اخرى: عدم دلالة النهي على الفساد مستلزم للغويّة لا أنّ عدم الفساد مستلزم لها، لاقتضاء الحكمة العقلائيّة أن يكون المبغوض فاسداً.

ثمّ إنّ المصرّح به في كلمات جماعة من المحقّقين ومنهم المحقّق الخراساني والمحقّق النائيني رحمهما الله أنّ متعلّق النهي في العبادات ليس هو العبادة الفعليّة أي العبادة الصحيحة من جميع الجهات بل إنّما يتعلّق النهي بشي ء لو تعلّق الأمر به لكان أمراً

عباديّاً، فإنّ الشرائط الآتية من قبل الأمر خارجة عن المدلول بل مطلق الشرائط على التحقيق كما صرّح به في تهذيب الاصول «2».

أقول: إنّ الظاهر من النواهي المتعلّقة بالعبادات كالنهي عن الصّلاة في أيّام العادة أنّها

انوار الأصول، ج 1، ص: 597

تتعلّق بالعبادة الجامعة لجميع الشرائط حتّى قصد القربة كما مرّ في بعض الأبحاث السابقة، فمعنى قوله عليه السلام «لا تصلّ في أيّام اقرائك» «لا تصلّ صلاة كنت تأتين بها قبل أيّام العادة» أي الصّلاة الجامعة لجميع شرائط الصحّة.

هذا- مضافاً إلى كونه مقتضى ما اخترناه في مبحث الصحيح والأعمّ من أنّ الألفاظ الشرعيّة وضعت للصحيح وما يكون مبدأً للآثار، حيث إنّه يقتضي كون متعلّق النهي تلك العبادة الجامعة لتمام شرائط الصحّة، نعم يستلزم النهي سلب القدرة عن إتيانها، وبعبارة اخرى: النهي يتعلّق بالعبادة الفعليّة قبل النهي لا بعده.

وبهذا يظهر أنّ دلالة النهي على الفساد- أي بطلان كلام أبي حنيفة والشيباني في باب العبادات- ليست متوقّفة على عدم كون المراد من الصحيح الصحيح من جميع الجهات وعلى عدم كون المراد من الصحّة هو الصحّة الفعليّة كما ذهب إليه جماعة من الأعلام بل النهي يدلّ على الفساد في باب العبادات ولو كان المراد من الصحّة الصحّة الفعليّة لأنّ المقصود منها الفعليّة قبل النهي لا بعده كما مرّ آنفاً.

الأمر الثاني: أنّه قد مرّ شمول النزاع في المسألة للأعمّ من النهي التحريمي والتنزيهي، ونتيجته دلالة النهي على الفساد مطلقاً حتّى إذا كان تنزيهياً لأنّه الوجه في دلالته على الفساد وجود الملازمة بين المبغوضيّة وعدم الإمضاء من جانب الشارع، ولا إشكال في أنّ النهي التنزيهي أيضاً يدلّ على مبغوضيّة متعلّقه ولو كانت بدرجة أقلّ من التحريمي.

وإن شئت قلت: لا بدّ لكون العبادة مقرّبة

من أن يكون العمل محبوباً، والنهي التنزيهي دالّ على عدم كون المتعلّق محبوباً على الأقلّ وإن لم يكن دالًا على كونه مبغوضاً.

إن قلت: فكيف الحكم بصحّة العبادات المكروهة؟

قلنا: قد مرّ البحث مستوفى عن العبادات المكروهة وأنّ الكراهة فيها ليست هي الكراهة المصطلحة فراجع.

هذا بالنسبة إلى العبادات، وأمّا المعاملات فلا دليل على دلالة النهي التنزيهي فيها على الفساد كالنهي عن بيع الأكفان والنهي عن تلقّي الركبان، حيث إنّ المفروض جواز العمل المكروه في الكراهة المصطلحة من ناحية الشارع، فكيف تلازم عدم الإمضاء من جانبه؟

وكيف تكون منافية للحكمة بعد ملاحظة عدم اعتبار قصد القربة في المعاملات؟ حيث لا

انوار الأصول، ج 1، ص: 598

يمكن أن يقال حينئذٍ: «أنّ النهي التنزيهي يدلّ على الأقلّ على عدم كون المتعلّق محبوباً فلا يكون مقرّباً» كما يقال به في باب العبادات التي تعلّق بها النهي التنزيهي.

إلى هنا تمّ الكلام في مباحث النواهي والحمد للَّه أوّلًا وآخراً.

الجزء الثانى

المقصد الثالث المفاهيم

3- المفاهيم

اشارة

وقبل الورود في أصل البحث لابدّ من تقديم امور:

الأمر الأوّل: في تعريف المفهوم

المفهوم في اللّغة عبارة عن «ما يفهم ويدرك»، فإذا اضيف إلى اللفظ كان معناه ما يفهم من اللفظ، وإذا اضيف إلى الجملة كان معناه ما يفهم من الجملة، فهو يعمّ حينئذٍ المعنى المصطلح للمفهوم أيّاً ما كان، حيث إنّه ممّا يفهم من اللفظ كذلك، فيكون مفهوماً له.

وأمّا في الاصطلاح فقد عرّف في كلمات القوم بتعاريف عديدة:

أحدها: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله وهو: «إنّ المفهوم حكم إنشائي أو إخباري تستتبعه خصوصيّة المعنى (الذي اريد من اللفظ) بتلك الخصوصيّة ولو بقرينة الحكمة، وكان يلزمه لذلك، وافقه في الإيجاب والسلب أو خالفه».

ولكنّه قد أتعب نفسه الزكيّة حيث لا حاجة إلى كثير من هذه القيود وهي كلمة «إنشائي أو إخباري» وقوله: «ولو بقرينة الحكمة إلى آخره».

بل لو قلنا: «إنّ المفهوم حكم غير مذكور في الكلام يدلّ عليه المذكور» كان شاملًا لتمام ما أراده من تلك القيود، حيث إنّ لفظ «الحكم» عام يعمّ الإنشائي والإخباري معاً، وجملة «غير مذكور في الكلام» شامل لمفهوم الموافقة وغيرها، وكلمة «المذكور» مخرجة لما يستفاد من مقدّمات الحكمة؛ لأنّها ممّا يستفاد من بعض المقدّمات العقليّة لا من دلالة وضعية، وهذا بنفسه تعريف ثانٍ للمفهوم.

ثالثها: ما نقله المحقّق الخراساني رحمه الله أيضاً ممّا يكون في جانب التفريط وهو أنّ «المفهوم حكم غير مذكور» حيث لا إشكال في أنّ كلّ حكم مذكور ليس مفهوماً.

انوار الأصول، ج 2، ص: 10

رابعها: ما ذكره في تهذيب الاصول وهو «إنّه عبارة عن قضيّة غير مذكورة مستفادة من القضيّة المذكورة عند فرض انتفاء أحد قيود الكلام».

ويرد عليه أيضاً: أنّه غير جامع لمفهوم الموافقة؛ لأنّها لا تستفاد من انتفاء أحد قيود الكلام كما لا

يخفى، مضافاً إلى أنّ الأولى هو التعبير بالحكم بدل كلمة «القضيّة» حيث إنّها تعبير منطقي أو فلسفي، والاصولي يطلب في المسائل الاصوليّة الحكم لا القضيّة.

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ ظاهر كلمات القوم أنّهم في مقام بيان تعريف حقيقي جامع ومانع، لا مجرّد شرح الاسم، ولذلك يتصدّون للنقض والإبرام وإثبات أنّ هذا القيد داخل وأنّ ذاك خارج كما مرّ كراراً، وحينئذٍ فقول المحقّق الخراساني رحمه الله في ما نحن فيه من «أنّه لا موقع لما قد وقع في تعريف المفهوم من النقض والإبرام بين الأعلام؛ لأنّه من قبيل شرح الاسم» في غير محلّه.

الأمر الثاني: هل البحث في باب المفاهيم عقلي أو لفظي؟

الحقّ أنّ البحث في المفاهيم من أوضح المباحث اللفظيّة؛ لأنّ المدلول الالتزامي من أقسام الدلالات اللفظيّة، ومن العجب ما ذكره في المحاضرات من «أنّ للمفاهيم حيثيتين واقعيتين فمن إحداهما تناسب أن تكون من المسائل الاصوليّة العقليّة، ومن الاخرى تناسب أن تكون من المسائل الاصوليّة اللفظيّة، وذلك لأنّه بالنظر إلى كون الحاكم بانتفاء المعلول عند انتفاء العلّة هو العقل فحسب فهي من المسائل الاصوليّة العقليّة، وبالنظر إلى كون الكاشف عن العلّة المنحصرة هو الكاشف عن لازمها أيضاً فهي من المسائل الاصوليّة اللفظيّة لفرض أنّ الكاشف عنها هو اللفظ كما عرفت، فإذن يكون المفهوم مدلولًا للفظ التزاماً» «1»، مع تصريحه بأنّ دلالة اللفظ على المفهوم إنّما يكون بالالتزام، والدلالة الالتزاميّة من أقسام الدلالة اللفظيّة.

وإن شئت قلت: كون المدلول الالتزامي بيّناً يوجب ظهوراً عرفيّاً للفظ في المدلول المفهومي الالتزامي، وحينئذٍ يستظهر المفهوم من اللفظ فهي من المسائل اللفظيّة فقط فتأمّل.

الأمر الثالث: هل المسألة من المسائل الاصوليّة أو لا؟

المستفاد من بعض الكلمات وجود التسالم على كونها اصوليّة، ولكن الحقّ أنّها من مبادى ء الاصول؛ لأنّها تبحث عن صغرى الظهور، وأنّه هل يكون لمنطوق القضيّة الشرطيّة- مثلًا- ظهور في المفهوم أو لا؟ والمسألة الاصوليّة في الحقيقة إنّما هي حجّية الظواهر؛، لأنّ موضوع علم الاصول هو «الحجّة» والبحث في مسائلها يدور مدار حجّية الدليل، وأنّه هل يكون هذا الظهور- مثلًا- حجّة أو لا؟

توضيح ذلك: أنّه لابدّ في فهم معنى خاصّ من لفظ خاصّ والاحتجاج به على المقصود من طيّ مقدّمات عديدة:

إحداها: البحث عن مفاد مادّة اللفظ لغةً كمادّة الوفاء في قوله تعالى «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» مثلًا، ونرجع فيها إلى كتب اللغة.

ثانيتها: البحث عن مفاد هيئة اللفظ المفرد وصيغته وهي صيغة «أوفوا» التي في المثال، وفيها نرجع إلى علم الصرف.

ثالثتها: البحث

عن مفاد هيئة الجملة، أي هيئة «أوفوا بالعقود» وأنّها ظاهرة في أي شي ء؟

ولابدّ فيها من الرجوع إلى علم النحو.

ثمّ بعد طيّ هذه المقدّمات يبحث رابعاً في أنّه هل يمكن أن يكون هذا الظهور دليلًا للحكم الشرعي وحجّة عليه أو لا؟

لا إشكال في أنّ البحث الأخير من المسائل الاصوليّة، ولابدّ فيه من الرجوع إلى علم الاصول، ولازم هذا أن يكون البحث عن المفاهيم وكذلك الأوامر والنواهي خارجاً عن مسائل علم الاصول ودخلًا في مباديه، وأمّا وقوعه في علم الاصول فهو ليس دليلًا على كونها من مسائله، بل لعلّه من باب عدم استيفاء البحث عنها في العلوم اللائقة بها.

الأمر الرابع: هل المفهوم من صفات الدلالة أو المدلول؟

ظهر ممّا ذكرناه من التعريف للمفهوم أنّه من صفات المعنى والمدلول لا الدلالة، فإنّه عرّف بأنّه «حكم غير مذكور»، كما أنّ المنطوق أيضاً من صفات المدلول حيث إنّه حكم مذكور كذلك.

انوار الأصول، ج 2، ص: 12

إن قلت: فكيف يقع صفةً للدلالة ويقال: الدلالة المفهوميّة، كما استشهد به في تهذيب الاصول على أنّ المفهوم قد يكون من صفات المدلول وقد يكون من صفات الدلالة؟

قلنا: المراد من الدلالة المفهوميّة الدلالة المنسوبة إلى المعنى الذي يكون مفهوماً للفظ كما لا يخفى، وحينئذٍ يكون المفهوم في هذا التعبير أيضاً وصفاً للمعنى والمدلول.

الأمر الخامس: هل النزاع في المفاهيم صغروي أو كبروي؟
اشارة

الظاهر من كلمات القوم هو الثاني، حيث إنّهم يعنونون البحث عن مفهوم الشرط مثلًا بهذا العنوان: «هل مفهوم القضيّة الشرطيّة حجّة أو لا؟» وظاهره أنّ البحث إنّما هو في الحجّية وعدمها، وهو بحث كبروي كما لا يخفى.

كما أنّ المنسوب إلى قدماء القوم أيضاً أنّه كبروي، لكن الصحيح أنّه صغروي عند القدماء والمتأخّرين جميعاً، أمّا المتأخّرون فلتصريحهم بأنّ النزاع صغروي، وأنّ الكلام إنّما هو في أصل وجود المفهوم خارجاً، بمعنى أنّ الجملة الشرطيّة أو ما شاكلها هل هي ظاهرة في المفهوم أو لا؟ وأمّا تعبيرهم في عنوان المسألة بأنّ مفهوم القضيّة الشرطيّة حجّة أو لا؟ فإنّما هو لنكتة خاصّة وهي أنّه لا إشكال ولا خلاف في أنّ لجميع الموضوعات التي وقع البحث في مفهومها دلالة ما أو إشعاراً ما على المفهوم، ولكن وقع النزاع في أنّ هذه الدلالة هل تقف عند حدّ الإشعار حتّى لا تكون حجّة، أو تصل إلى حدّ الظهور اللفظي العرفي فتكون حجّة؟

وأمّا القدماء من الأصحاب فالدقّة في كلماتهم أيضاً تقتضي هذا المعنى، أي أنّ مرادهم من حجّية مفهوم وعدمها أنّه هل تصل تلك الدلالة المفروغ

عنها إلى حدّ الظهور العرفي فتكون حجّة، أو لا؟

1- الكلام في مفهوم الشرط
اشارة

هل للجملة الشرطيّة مفهوم، أو لا؟

اختلف الأصحاب في دلالتها على المفهوم وعدمها، والتحقيق في حلّ المسألة ملاحظة ما ينشأ منه المفهوم، أي ملاحظة الخصوصيّات الموجودة في المنطوق التي يمكن أن يفهم منها المفهوم.

فنقول: من الخصوصيّات المذكورة في كلماتهم في هذه الجهة خصوصيّة أدوات الشرط، فقد يدّعى أنّ أداة الشرط وضعت للدلالة على علّية الشرط للجزاء عليه منحصرة، وهي تقتضي انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط، وهذا هو المفهوم.

ولكن الحقّ والإنصاف أنّ أداة الشرط وضعت لمطلق العلقة والملازمة بين الشرط والجزاء في الوجود سواء كانت من قبيل الملازمة الموجودة بين العلّة والمعلول، أو الملازمة الموجودة بين معلولي علّة واحدة، وسواء كانت العلّية منحصرة أو غير منحصرة.

توضيح ذلك: أنّه تارةً لا يكون بين الشرط والجزاء ملازمة، بل المقارنة بينهما اتّفاقية، كما ورد في قول الفرزدق في حقّ الإمام زين العابدين عليه السلام: ياهشام «إن كنت لا تعرفه فإنّي أعرفه» ونحو قولك: «إن لم تكن جائعاً فإنّي جائع»، واخرى توجد بينهما ملازمة لكنّها ليست من باب الملازمة بين العلّة والمعلول بل من باب الملازمة بين معلولي علّة واحدة، نحو «إن جاء النهار ذهب الليل» ونحو «إن طال الليل قصر النهار» حيث إن كلّ واحد من الشرط والجزاء في كلا المثالين يكون معلولًا لعلّة واحدة كما لا يخفى، أو يكون من باب الملازمة بين العلّة والمعلول لكن العلّة فيها هو الجزاء، والمعلول هو الشرط، نحو «إذا جاء النهار طلعت الشمس.

وثالثة: يكون الترتّب من باب ترتّب المعلول على العلّة، لكن العلّية ليست منحصرة في الشرط، نحو «إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي ء» فإنّ علّة عاصميّة الماء ليست منحصرة في انوار

الأصول، ج 2، ص: 14

الكرّيّة، ولا يخفى أنّ أمثلة هذا القسم كثيرة غاية الكثرة، ورابعة: يكون الترتّب من باب ترتّب المعلول على العلّة، والعلّية منحصرة في الشرط، نحو «إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجودة»، وفي باب الامور الشرعيّة كأن يقال: «إذا آمن الإنسان دخل الجنّة».

إذا عرفت هذا فنقول: لو ثبت كون القضيّة الشرطيّة حقيقة في القسم الرابع وتكون مجازاً في الثلاثة الاول تثبت دلالتها على المفهوم، ولكن أنّى لنا بإثبات ذلك؟

نعم، يمكن أن نقول بالمجاز في القسم الأوّل بل يمكن القول بوجود حذف فيه يقتضي كون المقارنة من باب العلّية لا الاتّفاق، كأن يقال بحذف «فلا يضرّ» أو «فلا إشكال» في قول الفرزدق، فقوله: «إن كنت لا تعرفه فإنّي أعرفه» يعني «إن كنت لا تعرفه فلا يضرّه لأنّي أعرفه»، وبالجملة لا يبعد دعوى المجاز في هذا القسم، أمّا القسم الثاني والثالث فإنّ الوجدان العرفي (أي عرف أهل اللسان) حاكم على عدم المجاز فيهما.

الخصوصيّة الثانية: هي إنصراف القضيّة الشرطيّة إلى العلّية المنحصرة، فقد يقال إنّها وإن وضعت أوّلًا وبالذات لمطلق العلقة، لكن عند الإطلاق تنصرف إلى العلقة الناشئة من العلّية المنحصرة لأنّها أكمل فرد لمطلق العلقة.

ولكن يرد عليها أيضاً أنّ ما يوجب الانصراف إنّما هو كثرة الاستعمال التي توجب انساً ذهنياً بالنسبة إلى المنصرف إليه، وهي تارةً تنشأ من كثرة الافراد، واخرى من غيرها، وأمّا مجرّد أكمليّة الفرد فلا توجب ذلك بل لعلّ الأمر بالعكس، أي أنّ الأكمليّة قد توجب الانصراف عن الفرد الأكمل لقلّته وندرته.

بقي هنا شي ء:

وهو ما أفاده في المحاضرات من «أنّ دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم ترتكز على ركائز، منها أن يرجع القيد في القضيّة إلى مفاد الهيئة دون المادّة، والسبب في ذلك ما

ذكرناه في بحث الواجب المشروط من أنّ القضايا الشرطيّة ظاهرة عرفاً في تعليق مفاد الجملة (وهي الجزاء) على مفاد الجملة الاخرى (وهي الشرط)، وإلّا لو بنينا على رجوع القيد إلى المادّة كما اختاره الشيخ الأنصاري قدس سره فحال القضيّة الشرطيّة عندئذٍ حال القضيّة الوصفيّة في الدلالة على المفهوم وعدمها لما سيأتي من أنّ المراد بالوصف ليس خصوص الوصف المصطلح في مقابل انوار الأصول، ج 2، ص: 15

سائر المتعلّقات بل المراد منه مطلق القيد» «1».

أقول: إنّ ما أفاده الشيخ الأعظم رحمه الله ليس هو كون القضيّة الشرطيّة ظاهرة في رجوع القيد إلى المادّة، بل مراده أنّ القيد راجع إلى المادّة لبّاً وإن كانت القضيّة ظاهرة في رجوعه إلى الهيئة لفظاً.

وبعبارة اخرى: إنّ مقصوده أنّ القيد وإن كان للهيئة في مقام الاستظهار والإثبات، ولكنّه لابدّ من رجوعه إلى المادّة في مقام الثبوت من باب أنّ الهيئة من المعاني الحرفيّة التي ليست قابلة للتقييد لجزئيتها، وعلى هذا فلا فرق بين مختار الشيخ قدس سره وغيره في القضيّة الشرطيّة من حيث الظهور العرفي الذي هو الملاك والملحوظ في باب المفاهيم.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ مراد شيخنا الأعظم قدس سره أنّ الظهور البدوي وإن كان هو رجوع القيد إلى الهيئة ولكن بالنظر إلى القرينة العقليّة وهي عدم قابلية الهيئة للتقييد لابدّ أن يرجع إلى المادّة بحسب الدلالة اللفظيّة.

الخصوصيّة الثالثة: والطريق الثالث لفهم العلّية المنحصرة هو التمسّك بإطلاق الشرط، ويمكن تفسيرها ببيانات ثلاثة:

البيان الأوّل: أنّ إطلاق الشرط يقتضي انحصار العلّة فيه نظير اقتضاء إطلاق الأمر كون الوجوب فيه نفسيّاً تعيينيّاً.

ولكن يرد عليه:

أوّلًا: أنّ قياس المقام بهيئة الأمر قياس مع الفارق فإنّ الإطلاق عبارة عن رفض القيود وعدم بيان ما يكون قيداً مع كون

المتكلّم في مقام البيان، وهو صادق في المقيس عليه لا في المقيس، لأنّ كون الوجوب غيريّاً مثلًا قيد للوجوب كما يستفاد من قوله تعالى: «إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ...» حيث إن المستفاد منه أنّ وجوب الوضوء مقيّد بقصد القيام إلى الصّلاة، والنفسيّة تساوق حسب الفرض عدم كون الوجوب غيريّاً، فإذا كان المولى الشارع في مقام البيان ولم يذكر قيد الغيريّة للوجوب بل صدر منه الحكم مطلقاً كان المستفاد منه الوجوب النفسي، وأمّا في ما نحن فيه فلا يفيد الإطلاق إلّاكون الشي ء تمام الموضوع انوار الأصول، ج 2، ص: 16

للحكم كما في قوله عليه السلام: «إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي ء» فإنّ مقتضى إطلاق الشرط أنّ الكرّيّة مؤثّرة في العاصميّة من دون أن يكون شي ء آخر دخيلًا فيه، وإلّا لكان عليه البيان، فالقيد هو دخل شي ء آخر في موضوع الكرّيّة، وعدم بيانه مع كونه في مقام البيان يفيد أنّ الكرّيّة تمام الموضوع للعاصميّة، وأمّا كون شي ء آخر موضوعاً للحكم أيضاً فلا يوجب تقييداً في هذا الموضوع بوجه لكي نستفيد من عدم بيانه انحصار الحكم في هذا الموضوع.

وبعبارة اخرى: كون الكرّ علّة منحصرة في العاصميّة وعدمه لا دخل له ولا تأثير له في العلقة الموجودة بين الكرّيّة والعاصميّة، فإنّ الكرّيّة تمام الموضوع للعاصميّة سواء كانت العاصميّة منحصرة فيها أم لا، فلا يكون عدم الانحصار قيداً لعاصميّتها، ولا يقتضي الإطلاق انحصار العلّة.

وثانياً: قد مرّ أنّ المستفاد من الجملة الشرطيّة إنّما هو مطلق التلازم بين الشرط والجزاء أعمّ من أن يكون من باب التلازم بين العلّة والمعلول أو من باب التلازم بين معلولي علّة واحدة، فلا يكون مفاده منحصراً في العلّية حتّى يتكلّم في انحصارها أو

عدم انحصارها.

البيان الثاني: أنّ عدم كون العلّة منحصره يقتضي قيداً في الكلام، لأنّ معناه حينئذٍ أنّ هذا الشرط (وهو الكرّيّة مثلًا) مؤثّر في الجزاء (وهو العاصميّة مثلًا) إذا لم تتحقّق قبلها علّة اخرى مثل كون الماء جارياً، وأمّا إذا كانت العلّة منحصرة فمعناه أنّ هذا الشرط يؤثّر في الجزاء مطلقاً سواء حصل قبله وصف الجريان أم لا، فلا حاجة حينئذٍ إلى تقييد شي ء، فإذا كان المتكلّم في مقام البيان ولم يأت بالقيد المزبور (أي عدم تحقّق علّة اخرى فيما قبل) كان المستفاد من إطلاق كلامه انحصار العلّة في الشرط.

ويرد عليه أيضاً:

أوّلًا: ما مرّ آنفاً من أنّ غاية ما يستفاد من القضيّة الشرطيّة إنّما هو مطلق التلازم بين الشرط والجزاء لا خصوص التلازم الموجود بين العلّة والمعلول.

وثانياً: سلّمنا كون المستفاد من الجملة الشرطيّة هو العلّة والتلازم الموجود بين العلّة والمعلول، لكنّها تكون على حدّ العلّية الاقتضائيّة لا الفعليّة، أي يستفاد من قوله عليه السلام «الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شي ء» إمكان أن تكون الكرّيّة علّة لعدم التنجّس والعاصميّة، لا أنّها علّة لها فعلًا حتّى ينافي حصول علّة اخرى من قبل.

انوار الأصول، ج 2، ص: 17

البيان الثالث: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله وهو: «إنّ القضيّة الشرطيّة وإن كانت بحسب الوضع لا تدلّ على تقييد الجزاء بوجود الشرط لصحّة استعمالها بلا عناية في موارد القضيّة المسوقة لبيان الحكم عند تحقّق موضوعه، إلّاأنّ ظاهرها في ما إذا كان التعليق على ما لا يتوقّف عليه متعلّق الحكم في الجزاء عقلًا هو ذلك، فإذا كان المتكلّم في مقام البيان فكما أنّ إطلاقه الشرط وعدم تقييده بشي ء بمثل العطف بالواو مثلًا يدلّ على عدم كون الشرط مركّباً من المذكور في

القضيّة وغيره كذلك إطلاقه وعدم تقييده بشي ء بمثل العطف بأو يدلّ على انحصار الشرط بما هو مذكور في القضيّة وهذا نظير استفادة الوجوب التعييني من إطلاق الصيغة، فكما أنّ إطلاقها يقتضي عدم سقوط الواجب بإتيان ما يحتمل كونه عدلًا له فيثبت به كون الوجوب تعيينياً كذلك مقتضى الإطلاق في المقام هو انحصار قيد الحكم بما هو مذكور في القضيّة فيثبت به أنّه لا بدل له في ترتّب الحكم عليه» «1».

ولكن يرد عليه: أنّه فرق بين ما إذا كان القيد جزء لموضوع الحكم المذكور في القضيّة وما إذا كان عدلًا له، ففي الأوّل تكون المسألة كما أفاد، فلا بدّ من ذكره إذا كان دخيلًا في موضوع الحكم فيقتضي عدم ذكره عدم دخله فيه، بخلافه في الثاني، لأنّ المتكلّم حينئذٍ إنّما يريد بيان وجود العلقة والملازمة بين الشرط والجزاء فحسب كما مرّ، ومعه لا ملزم لذكر ما يكون عدلًا للشرط كما لا يخفى، وأمّا القياس بالوجوب التعييني فهو قياس مع الفارق، لأنّ الوجوب التعييني نوع خاصّ من الوجوب يغاير الوجوب التخييري، والوجوب التخييري لابدّ فيه من ذكر قيد وخصوصيّة في الكلام، أعني وجوبه إذا لم يأت بغيره، كما في مثل قولنا «اعتق رقبة مؤمنة إذا لم تصم شهرين متتابعين أو لم تطعم ستّين مسكيناً» فإذا لم يذكره في الكلام كان مقتضى الإطلاق أنّ الوجوب تعييني، وهذا بخلاف المقام، حيث إن ترتّب المعلول على علّته المنحصرة ليس مغايراً لترتّبه على غير المنحصرة سنخاً، بل إنّهما من سنخ واحد من دون أن يحتاج الثاني إلى ذكر قيد.

انوار الأصول، ج 2، ص: 18

المختار في المسألة: التفصيل بين الحالات المختلفة للشرط، فنقول مقدّمة: لا شكّ في دلالة القضيّة الشرطيّة على الأقلّ على

انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط في الجملة بالتبادر والوجدان، وإلّا لو كان الحكم ثابتاً على أي تقدير لاستلزم كون تعليقه على الشرط لغواً كما لا يخفى.

إذا عرفت هذا فاعلم: إنّه لا شكّ في دلالة القضيّة الشرطيّة على المفهوم والعلّية المنحصرة فيما إذا كان الشرط من ضدّين لا ثالث لهما، نحو «المخبر إن كان فاسقاً فتبيّن» حيث إنّه لا يتصوّر بالنسبة إلى المخبر حالة اخرى غير الفسق والعدل فلا ثالث لهما فيه، فإنّ مقتضى دلالة القضيّة الشرطيّة على الانتفاء عند الانتفاء في الجملة دلالتها على المفهوم في هذه الصورة كما لا يخفى، ونظير المثال المزبور قولك: «الإنسان إن كان مسافرا فعليه القصر» أو «إن كان مستطيعاً فعليه الحجّ» حيث لا ثالث للمسافر والحاضر، ولا للمستطيع وغير المستطيع.

وأمّا إذا كان للشرط حالات عديدة كما في قوله عليه السلام «إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي ء» حيث يتصوّر للماء إذا لم يكن كرّاً أن يكون مطراً أو جارياً أو ماء بئر أو غيره، فهو بنفسه على صورتين فتارةً يوجد فيها قدر متيقّن كالماء القليل في المثال، فلا شكّ أيضاً في دلالة القضيّة الشرطيّة حينئذٍ على المفهوم بالنسبة إليه، وإلّا يلزم اللغويّة ورفع اليد عن دلالتها على الانتفاء عند الانتفاء في الجملة، واخرى لا يوجد فيها قدر متيقّن كأن يقول الشارع «إذا دخل شهر رمضان فصوموا» حيث نعلم أنّ لرمضان دخلًا في حكم الصّيام، وهو ينتفي عند انتفائه إجمالًا، وإلّا كان الصّيام واجباً في تمام أيّام السنة ولم يكن تعليقه بدخول شهر رمضان صحيحاً (كما لا يصحّ تعليق وجوب الصّلاة مثلًا بدخوله، فيقال: «إذا دخل شهر رمضان فصلّوا» لوجوب الصّلاة في جميع أيّام السنة)، ففي هذه الصورة لا

مفهوم صريحاً مشخّصاً للقضيّة لعدم تصوّر قدر متيقّن فيها بل لها مفهوم مبهم إجمالي لا يستفاد منه حكم متعيّن مخالف للمنطوق، فنعلم إجمالًا في المثال المزبور عدم وجوب الصّيام في بعض شهور السنة.

فظهر أنّ الحقّ في المسألة هو التفصيل بين الصورتين الأوّليين والصورة الثالثة وثبوت المفهوم في الأوليين وعدمه في الثالثة.

ويمكن تقرير هذا ببيان آخر مرّ تفصيله في البحث عن الواجب المشروط والبحث عن حقيقة مفهوم «إنْ» الشرطيّة (وباللغة الفارسيّة مفهوم «اگر») فقد قلنا هناك أنّ حقيقة هذه انوار الأصول، ج 2، ص: 19

الكلمة «تعليق حكم على فرض»، أي إذا رأينا عدم تحقّق حكم على نحو الإطلاق بل أنّه يتحقّق بعد تحقّق شي ء آخر حكيناه على نهج القضيّة الشرطيّة، وحينئذٍ نقول: إذا لم يكن للقضية الشرطيّة مفهوم لم يصحّ أن تكون ماهيّة «إنْ» الشرطيّة «حكم على فرض» فإذا كان هذا هو ماهيتها يتصوّر فيها الحالات الثلاثة التي مرّت في البيان السابق، ويكون الكلام هو الكلام والتفصيل هو التفصيل.

هذا كلّه هو المختار في المسألة.

أدلّة المنكرين:
اشارة

وهي وجوه:

منها: ما نسب إلى السيّد المرتضى رحمه الله وحاصله أنّه لا يمتنع أن يتخلّف شرط ويقوم مقامه شرط آخر فلا ينتفي الحكم بانتفائه.

واستشهد لذلك بقوله تعالى «... وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ» حيث إنّه يقوم مقام شهادة الرجلين شهادة رجل واحد وامرأتين أو شهادة أربع نسوة.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه الله بأنّ السيّد المرتضى رحمه الله إن كان بصدد إمكان نيابة بعض الشروط عن بعض ثبوتاً وعدم انتفاء الحكم بانتفاء الشرط لقيام شرط آخر مكانه فالخصم لا ينكر ذلك وإنّما يدّعي عدم وقوعه إثباتاً، بمعنى دلالة الجملة الشرطيّة في مقام الإثبات على خلافه، وإن كان بصدد بيان أنّ هذا الاحتمال الثبوتي يؤثّر في

ظهور الجملة فهو ممنوع جدّاً، لأنّ هذا لا يوجب الظهور ما لم يكن الاحتمال في مقام الإثبات راجحاً.

أقول: ويمكن أن نورد على السيّد رحمه الله أيضاً بوجهين آخرين:

الوجه الأول: خروج ما استشهد به في المقام عن محلّ النزاع حيث إن محل البحث هنا مدلول الجملة الشرطيّة لا ما يصدق عليه الشرط الفقهي، اللهمّ أن يقال بإمكان إرجاع قوله تعالى «وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ» إلى قضيّة شرطيّة لغويّة فافهم.

الوجه الثاني: بناءً على ما اخترناه من التفصيل لا يرد علينا هذا الإشكال حيث إن أكثر ما يمكن أن يدّعيه ويثبته إنّما هو عدم دلالة القضيّة الشرطيّة على المفهوم تفصيلًا في بعض انوار الأصول، ج 2، ص: 20

الموارد، وهو مقبول عندنا بل قد عرفت دلالته عليه إجمالًا فراجع.

ومنها: أنّه لو دلّ الشرط على المفهوم لدلّ بإحدى الدلالات الثلاث، والتالي باطل فالمقدّم مثله.

والجواب عنه منع بطلان التالي عندنا لأنّ الشرط يدلّ على المفهوم بالدلالة الالتزاميّة التي هي من الدلالات الثلاث.

ومنها: قوله تعالى: «وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ...» حيث إنّه لو دلّ الشرط على المفهوم لدلّ قوله تعالى هذا على جواز الإكراه على البغاء إن لم يردن التحصّن وهو باطل بالضرورة.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه الله بما حاصله: أنّ عدم دلالة الشرط على المفهوم أحياناً بسبب خارجي وقرينة خارجيّة كالإجماع ونحوه ممّا لا يكاد ينكر، وإنّما القائل بالمفهوم يدّعي دلالة الشرط عليه بالظهور اللفظي وهو لا ينافي قيام قرينة خارجيّة على خلافه. هذا أوّلًا:

ويمكن الجواب ثانياً: بأنّ الشرط في الآية ليس شرطاً للحكم من دون دخل له في تحقّق موضوعه، بحيث إذا انتفى الشرط كان الموضوع باقياً على حاله كما في قولك «إن جاءك زيد فأكرمه» بل

هو شرط للحكم مع دخله في تحقّق الموضوع بحيث إذا انتفى الشرط فلا حكم ولا موضوع للحكم أصلًا كما في قولك «إن رزقت ولداً فاختنه» فإنّ الفتيات إذا لم يردن التحصّن فلا إكراه هناك كي يبحث عن حرمته وعدمها.

ويمكن أن يكون التعبير بجملة «إن أردن تحصّناً» على نهج القضيّة الشرطيّة مع عدم انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط لنكتة أخلاقيّة تربويّة بالنسبة إلى أرباب الفتيات وهي أنّ بيان إرادة التحصّن والعفّة من جانب الفتيات مع عدم ترقّبه منهنّ لكونهنّ معدودات عند الناس من طبقة سافلة اجتماعيّة من حيث الثقافة والوعي يوجب تحضّ أربابهنّ وتحريك غيرتهم الإنسانيّة (لو كانت لهم غيرة) على العفّة وعدم الإكراه على البغاء.

إلى هنا تمّ الكلام عن أدلّة القائلين بمفهوم الشرط وأدلّة المنكرين له.

انوار الأصول، ج 2، ص: 21

بقي هنا امور

الأمر الأوّل: هل المفهوم هو انتفاء سنخ الحكم بانتفاء شرطه أو انتفاء شخص الحكم؟

ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى أنّ المراد من المفهوم في الجملة الشرطيّة هو انتفاء سنخ الحكم لا انتفاء شخصه وإلّا ففي اللقب أيضاً ينتفي شخص الحكم بانتفائه، فإنّ شخص الوجوب المنشأ بقولك «أكرم زيداً» منفي عن إكرام عمرو قطعاً مع أنّ المشهور هو أنّ القائلين بالمفهوم في الجملة الشرطيّة لا يقولون به في اللقب، بل المراد من المفهوم هو انتفاء سنخ الحكم ونوعه بانتفاء الشرط ففي مثل «إن جاءك زيد فأكرمه» كما أن شخص الحكم المنشأ على تقدير المجي ء، ينتفي بانتفاء المجي ء، فكذلك طبيعة الوجوب ونوعه ينتفي بانتفاء المجي ء بمعنى أنّه لا وجوب لإكرامه عند عدم المجي ء لا بهذا الإنشاء ولا بإنشاء آخر يماثله بحيث لو ثبت له وجوب بإنشاء آخر ولو معلّقاً على شرط آخر بأن قال مثلًا «وإن أحسن إليك فأكرمه» كان ذلك منافياً لمفهوم «إن جاءك زيد فأكرمه».

ثمّ قال

ما حاصله: ومن هنا إنقدح أنّ دلالة القضيّة على الانتفاء عند الانتفاء في موارد الوصايا والأوقاف ونحوهما ليس من باب المفهوم بل من باب انتفاء شخص الحكم الذي يعترف به كلّ أحد، ومن باب أنّ المفهوم عبارة عن نفي سنخ الحكم فيما أمكن ثبوته ولا يكاد يمكن ثبوت سنخ الحكم في هذه الموارد كي يمكن نفيه بالمفهوم، فإنّ الدار مثلًا بعد أن وقّفها الواقف على أشخاص معينين بألقابهم أو بوصف شي ء أو بشرط شي ء كالفقر ونحوه ممّا لا يقبل أن تصير وقفاً ولو بإنشاء آخر على غيرهم أو عليهم عند انتفاء الوصف أو زوال الشرط عنهم كي ينفي بالمفهوم، وهذا بخلاف الأمر في مثال «إذا جاءك زيد فأكرمه» فإنّه إذا أنشأ الوجوب لإكرام زيد على تقيّد مجيئه جاز ثبوت وجوب آخر ولو بإنشاء آخر لإكرامه عند عدم مجيئه ولو معلّقاً على شرط آخر بأن يقول مثلًا «وإن أحسن إليك فأكرمه» وهذا واضح.

إن قلت: إنّ الشرط المذكور إنّما وقع شرطاً بالنسبة إلى الحكم الحاصل بإنشائه وهو شخص الحكم، فأقصى ما تفيده الشرطيّة هو انتفاء ذلك الشخص، وأين ذلك من دلالته على انتفاء نوع الوجوب كما هو المدّعى؟

قلنا: أجاب عنه شيخنا الأعظم قدس سره بأنّ الكلام المشتمل على المفهوم إن كان خبريّاً كقولك انوار الأصول، ج 2، ص: 22

«يجب على زيد كذا إن كان كذا» فالوجوب فيه كلّي فيكون الحكم المعلّق على الشرط كليّاً ولا يكون شخصياً كي يتوجّه الإشكال، وإن كان إنشائيّاً كما في قولك «إن جاءك زيد فأكرمه» فالحكم المعلّق على الشرط وإن كان شخصياً ولكن نفي سنخ الحكم بانتفاء الشرط على القول بالمفهوم إنّما يكون من فوائد العلّية المنحصرة المستفادة من الجملة الشرطيّة فإنّ انتفاء

شخص الحكم غير مستند إلى ارتفاع العلّية المنحصرة فإنّه يرتفع ولو في اللقب والوصف كما لا يخفى.

أقول: إن كان هذا هو كلام شيخنا الأعظم رحمه الله كما جاء في التقريرات.

فيرد عليه: أنّ العلّة المنحصرة علّة للجزاء فإن كان الجزاء شخص الحكم يكون الشرط علّة منحصرة لذلك الشخص، وإن كان الجزاء سنخ الحكم يكون الشرط أيضاً علّة منحصرة لسنخ الحكم، فلا يستفاد من العلّية المنحصرة كون الجزاء سنخ الحكم.

نعم نقل في تهذيب الاصول كلام الشيخ قدس سره بعبارة اخرى لا بأس بها بل يدفع بها الإشكال، وهي: «أنّ ظاهر القضيّة وإن كان ترتّب بعث المولى على الشرط إلّاأنّه ما لم تكن مناسبة بين الشرط ومادّة الجزاء كان طلب إيجاد الجزاء عند وجود الشرط لغواً وجزافاً، فالبعث المترتّب يكشف عن كونهما بمنزلة المقتضي (بالكسر) والمقتضى (بالفتح) فيتوصّل في بيان ذلك الأمر بالأمر بإيجاده عند ثبوته ويجعل بعثه عنواناً مشيراً إلى ذلك، فحينئذٍ فالمترتّبان هما ذات الشرط ومطلق الجزاء الذي تعلّق به الحكم بلا خصوصيّة للحكم المنشأ.

وبعبارة أوضح: أنّ ظاهر القضايا بدءاً وإن كان تعليق الوجوب على الشرط لكن حكم العقل والعقلاء في مثل تلك القضايا أنّ لطبيعة مادّة الجزاء مناسبة للشرط تكون سبباً لتعلّق الهيئة بها.

وبعبارة اخرى: أنّ الهيئة وإن كانت دالّة على البعث الجزئي لكن التناسب بين الحكم والموضوع يوجب إلغاء الخصوصيّة عرفاً ويجعل الشرط علّة منحصرة لنفس الوجوب وطبيعته، فبانتفائه ينتفي طبيعي الوجوب وسنخه» «1».

وأجاب المحقّق الخراساني رحمه الله عن هذا الإشكال بما حاصله: أنّ الحكم المعلّق على الشرط هو طبيعة الوجوب لا شخص الوجوب، وذلك لما عرفت في صدر الكتاب من أنّ الاسم انوار الأصول، ج 2، ص: 23

والحرف كما أنّهما موضوعان لمعنى واحد وإنّ

كلًا من لحاظ الآليّة والاستقلاليّة خارج عن أصل المعنى والمستعمل فيه، فكذلك الخبر والإنشاء أيضاً فالخصوصّية الناشئة من قبل الإنشاء خارجة عن أصل المعنى والمستعمل فيه، فالمعنى الذي استعمل فيه صيغة الأمر في قولك «إن جاءك زيد فأكرمه» هي طبيعة الوجوب وهي المعلّقة على الشرط لا شخص الحكم كي ينتفي الشخص بانتفاء الشرط.

وقال المحقّق البروجردي رحمه الله في هذا المقام ما إليك نصّه في تقريراته: «القول بكون المراد في باب المفاهيم انتفاء السنخ وإن اشتهر بين المتأخّرين وأرسلوه إرسال المسلّمات، ولكن لا نجد له معنىً محصّلًا، لوضوح أنّ المعلّق في قولنا: «إن جاءك زيد فأكرمه» مثلًا هو الوجوب المحمول على إكرام زيد، والتعليق إنّما يدلّ على انتفاء نفس المعلّق عند انتفاء المعلّق عليه كما عرفت، وما تفرضه سنخاً إن كان متّحداً مع هذا المعلّق موضوعاً ومحمولًا فهو شخصه لا سنخه، إذ لا تكرّر في وجوب إكرام زيد بما هو هو، وإن كان مختلفاً معه موضوعاً أو محمولًا كوجوب إكرام عمرو مثلًا أو استحباب إكرام زيد فلا معنى للنزاع في أنّ قوله «إن جاءك زيد» يدلّ على انتفائه أو لا يدلّ» «1» (انتهى كلامه).

ويظهر من الشهيد قدس سره في تمهيد القواعد اختصاص النزاع بغير موارد الوصايا والأوقاف ونحوها، لأنّه لا إشكال في دلالة القضيّة الشرطيّة في مثل الوقف والوصايا والنذر والأيمان على المفهوم، فيستفاد من كلامه أنّ دلالة القضيّة على الانتفاء عند الانتفاء في هذه الموارد يكون من باب المفهوم.

أقول: أوّلًا: إنّ دلالة القضيّة الشرطيّة في موارد الوقف والوصايا ونحوها على المفهوم إنّما هي من باب نصب قرينة فيها عليه وهي كون الواقف أو الموصي مثلًا في مقام الإحتراز، فالقيود الواردة في كلامه حينئذٍ قيود إحترازيّة

التي لا إشكال في انتفاء الحكم عند انتفائها ولو كانت من قبيل اللقب، فالحقّ مع الشهيد قدس سره من أنّ الانتفاء عند الانتفاء في الموارد المذكورة إنّما هو من باب المفهوم، أي انتفاء سنخ الحكم لا من باب انتفاء شخص الحكم، وهذا لا يستلزم دلالة اللقب أو الوصف أو الشرط على المفهوم مطلقاً حتّى عند عدم نصب قرينة عليه كما لا يخفى.

انوار الأصول، ج 2، ص: 24

ثانياً: الحقّ في المسألة مع سيّدنا الاستاذ المحقّق البروجردي رحمه الله من أنّه ليس للنزاع هذا معنى محصّلًا كما مرّ بيانه، ونزديك وضوحاً: أنّه وقع الخلط في ما نحن فيه بين الوجوب السببي والوجوب المسبّبي، أي بين الإنشاء والمنشأ، وما يتصوّر فيه التشخّص والسنخيّة إنّما هو الإنشاء والسبب لا المنشأ والمسبّب، وبعبارة اخرى: وقع الخلط هنا بين الإنشاء والمنشأ، فإنّ الإنشاء قد وقع في زمان خاصّ وبألفاظ مخصوصة، فيتصوّر فيه الشخص، وأمّا تشخّص المنشأ وهو الوجوب إنّما يكون بتشخّص موضوعاته مثل الحجّ والصّلاة والصّيام لا غير، فلا يتصوّر هنا معنى لنوع الحكم بل الذي بأيدينا دائماً هو شخص الحكم المتعلّق بموضوعات خاصّة.

وإن قيل: «وجوب إكرام زيد على تقدير مجيئه يغاير وجوب إكرامه على تقدير عدم المجي ء بحسب التشخّص مع اتّحادهما موضوعاً ومحمولًا ولا نعني بالسنخ إلّاذلك، والمعلّق على الشرط ليس هو الإنشاء ولا المنشأ بقيد تعليقه على الشرط حتّى يقال بانتفائه بانتفاء الشرط عقلًا ولا يكون معه مجال للبحث عن المفهوم، بل المعلّق على الشرط هو ذات المنشأ وهو وجوب إكرام زيد، وهذا المعنى كما يمكن أن يتحقّق على تقدير تحقّق الشرط يمكن أن يتحقّق على تقدير عدمه بأن يوجد بإنشاء آخر، ففائدة المفهوم نفي تحقّقه على تقدير عدم الشرط

بإنشاء آخر» «1».

قلنا: هذا أيضاً خلط بين الجهات التعليليّة والتقييديّة، فوجوب الحجّ معلول للاستطاعة لا مقيّد بها.

الأمر الثاني: إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء

كما في قوله: «إذا خفى الأذان فقصّر» و «إذا خفيت الجدران فقصّر» فعلى القول بمفهوم الجملة الشرطيّة لابدّ من التصرّف فيهما بأحد وجوه ستّة:

الوجه الأوّل: التصرّف في منطوق كلّ منهما وعطف أحد الشرطين على الآخر بالواو،

انوار الأصول، ج 2، ص: 25

فنقول: إذا خفي الأذان والجدران معاً فقصّر، فلا يكون القصر واجباً بخفاء أحدهما.

الوجه الثاني: التصرّف في المنطوقين بتقييد إطلاق كلّ منهما بالآخر فيكون العطف بأو وتكون علّة الحكم كلّ من الشرطين مستقلًا، ونتيجته كفاية أحد الشرطين في وجوب القصر.

الوجه الثالث: أن يخصّص مفهوم كلّ منهما بمنطوق الآخر فتكون النتيجة في المثال: إذا لم يخف الأذان فلا تقصّر إلّاإذا خفيت الجدران، وهكذا في الطرف الآخر، أي إذا لم تخف الجدران فلا تقصّر إلّاإذا خفي الأذان، وهي نفس النتيجة في الوجه الثاني، أي كفاية أحد الشرطين في ترتّب الحكم كما لا يخفى.

الوجه الرابع: أن يكون الشرط هو القدر الجامع بين الشرطين نظراً إلى القاعدة المعروفة، وهي قاعدة «الواحد لا يصدر إلّامن الواحد» والقدر الجامع بين الشرطين في المثال هو مقدار مسافة يكشف عنها كلّ واحد من خفاء الأذان وخفاء الجدران، ويكون كلّ منهما علامة لها، والنتيجة في هذا الوجه أيضاً نفس النتيجة في الوجه الثاني.

الوجه الخامس: رفع اليد عن المفهوم فيهما رأساً، فلا دلالة لهما على عدم علّية ما سوى الشرطين أصلًا، وهذا بخلافهما على الوجوه السابقة فيدلّان فيها على نفي علّية أمر ثالث لكون المفهوم في كلّ من الشرطين في تلك الوجوه محفوظاً بالنسبة إلى ما سوى منطوق الآخر، وإن لم يبق محفوظاً بالنسبة إلى منطوق الآخر، والنتيجة في هذا

الوجه أيضاً علّية كلّ واحد من الشرطين للجزاء مستقلًا.

الوجه السادس: رفع اليد عن المفهوم في أحدهما رأساً والنتيجة كفاية أحدهما أيضاً كما لا يخفى.

إذا عرفت هذا فنقول: لا إشكال في فساد ثلاثة من هذه الوجوه الستّة:

أحدها: هو الوجه السادس لأنّه يستلزم الترجيح بلا مرجّح، إلّاأن يكون أحدهما في مفهومه أظهر من الآخر فيقدّم الأظهر على الظاهر كما صرّح به المحقّق الخراساني رحمه الله حيث قال: «وأمّا رفع اليد عن المفهوم في خصوص أحد الشرطين وبقاء الآخر على مفهومه فلا وجه لأن يصار إليه إلّابدليل آخر إلّاأن يكون ما أبقى على المفهوم أظهر».

هذا- مضافاً إلى أنّ الإشكال لا يرتفع برفع اليد عن مفهوم أحدهما لأنّ التعارض والتنافي يبقى بين منطوقه ومفهوم الآخر، إلّاأن يقال بسقوط كلّ من المفهوم والمنطوق وهو كما ترى.

انوار الأصول، ج 2، ص: 26

ثانيها: هو الوجه الخامس، ودليل فساده أنّه لا وجه لسقوط الدليلين (أي المفهومين في ما نحن فيه) وطرحهما مع إمكان الجمع بينهما عرفاً بتقييد كلّ واحد منهما بمنطوق الآخر.

ثالثها: هو الوجه الرابع الذي يبتني على قاعدة الواحد، ووجه فساده أنّ هذه القاعدة مختصّة بالواحد الشخصي البسيط من جميع الجهات كما مرّ في بعض الأبحاث السابقة، ولا يجري في الواحد النوعي كالحرارة مثلًا التي تعمّ الحرارة الصادرة من الشمس والصادرة من الكهرباء ومن النار، هذا أوّلًا.

وثانياً: أنّها تختصّ بالامور الحقيقيّة، وأمّا الأحكام الشرعيّة فهي من الامور الاعتباريّة التي يعتبرها الشارع.

وثالثاً: أنّها تجري في باب العلّة والمعلول ولا معنى للعلّية في ما نحن فيه بل في جميع الامور الاعتباريّة فليس خفاء الجدران مثلًا علّة لوجوب القصر بل إنّه يعدّ موضوعاً لوجوب القصر، وأمّا علّة الوجوب فإنّما هي إرادة الشارع وإلزامه.

وأمّا الثلاثة الاخر فلا

يبعد أن يكون الأوجه من بينها هو الوجه الثالث، أي تخصيص كلّ واحد من المفهومين بمنطوق الآخر لابتنائه على قاعدة الإطلاق والتقييد والجمع العرفي.

نعم أورد عليه المحقّق النائيني رحمه الله بأنّ المفهوم تابع للمنطوق ولا يمكن تقييده إلّابتقييد منطوقه «1».

ولكنّه مدفوع: بأنّ الثابت في ما نحن فيه إنّما هو لزوم التبعيّة في الدلالة لما مرّ من أنّ المفهوم مدلول التزامي للمنطوق وهو لا يستلزم لزومها بالنسبة إلى إرادة المولى، لأنّه يمكن أن يكون كلّ واحد من المنطوق والمفهوم متعلّقاً لإرادة المولى مستقلًا، بل يمكن أن تتعلّق إرادته على خصوص المفهوم، كما إذا سئل العبد مولاه عن إكرام زيد، فأجابه بقوله: «نعم إن جاءك» فإنّه لا إشكال في أنّ مقصوده إنّما هو عدم إكرام زيد في صورة عدم المجي ء فحسب لا أكثر.

ثمّ لو تنزّلنا عن الوجه الثالث ودار الأمر بين الوجه الأوّل والوجه الثاني، أي دار الأمر بين رفع اليد عن ظهور القضيّة الشرطيّة في كون الشرط تمام العلّة وظهورها في كونه منحصراً (والمفروض ظهورها في كلا الأمرين) فلعلّ الأولى حينئذٍ هو الوجه الثاني أي رفع اليد عن انوار الأصول، ج 2، ص: 27

ظهور القضيّة في الانحصار وتقديم ظهورها في تمام العلّة على ظهورها في الانحصار، وذلك لأنّ رفع اليد عن كلّ واحد من الظهورين يستلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة كما لا يخفى، ولكن تأخير البيان عن وقت الحاجة بالنسبة إلى خصوصيّة الانحصار أقلّ محذوراً منه بالنسبة إلى خصوصيّة تمام العلّة، فإذا قال المولى: إنّ خفاء الجدران علّة مستقلّة لوجوب القصر، وسكت عن كون خفاء الأذان علّة له مع أنّه أيضاً علّة مستقلّة للوجوب في واقع الأمر، كان المحذور أقلّ ممّا إذا لم يكن خفاء الجدران

علّة مستقلًا بل كان للعلّة جزء آخر ولم يبيّنه وهو في مقام البيان، وهذا ممّا يساعد عليه العرف والعقلاء، فإنّه إذا كان مثلًا لداء خاصّ دواءان، وكان كلّ منهما مؤثّراً في رفع الداء مستقلًا ولكن لم يبيّن الطبيب للمريض إلّاأحدهما، كان إشكاله أقلّ ممّا إذا كان للدواء جزء آخر ولم يبيّنه.

وإن شئت قلت: أنّ للقضيّة ظهورين: ظهور في الانحصار وظهور في كون العلّة تامّة، ولا إشكال في أنّ ظهورها في الأوّل أقوى من ظهورها في الثاني فيقدّم عليه.

هذا كلّه بناءً على مبنى القول من أنّ منشأ المفهوم إنّما هو ظهور الجملة الشرطيّة في العلّية المنحصرة، وأمّا بناءً على المختار من أنّ المنشأ هو ظهور القضيّة في مجرّد الانتفاء عند الانتفاء في الجملة والمفهوم التامّ يستفاد من قرينة خارجيّة، فلا إشكال في عدم لزوم رفع اليد عن الظهور في المقام لما مرّ من أنّ المفهوم إنّما يتمّ فيما إذا قامت قرينة من الخارج نظير كون الشرطين مثلًا من قبيل الضدّين لا ثالث لهما أو وجود قدر متيقّن في البين، وإلّا لا يثبت المفهوم مع بقاء مدلول الانتفاء عند الانتفاء في الجملة على حاله، وحينئذٍ نقول: حيث إن القرينة قائمة في ما نحن فيه على العكس لأنّ كلّ واحد من المنطوقين دليل على أنّ مفهوم الآخر لا يتجاوز عن حدّ الانتفاء عند الانتفاء في الجملة فلا مفهوم للقضيتين حتّى يبحث عن كيفية الجمع بينهما، ولا إشكال في أنّ النتيجة حينئذٍ هي الوجه الثاني، أي كون كلّ واحد من خفاء الجدران وخفاء الأذان علّة مستقلّة لوجوب القصر.

تنبيهان التنبيه الأوّل: اختار المحقّق النائيني رحمه الله في ما نحن فيه ترجيح العطف بالواو في الغاية وأنّ انوار الأصول، ج 2، ص:

28

مجموع الشرطين علّة للجزاء، ببيان «أنّ دلالة كلّ من الشرطيتين على ترتّب الجزاء على الشرط المذكور فيها باستقلاله من غير انضمام شي ء آخر إليه إنّما هي بالإطلاق المقابل للعطف بالواو، كما أنّ انحصار الشرط بما هو مذكور فيها مستفاد من الإطلاق المقابل للعطف ب «أو»، وبما أنّه لابدّ من رفع اليد عن أحد الإطلاقين، ولا مرجّح لأحدهما على الآخر يسقط كلاهما عن الحجّية، لكن ثبوت الجزاء كوجوب القصر في المثال يعلم بتحقّقه عند تحقّق مجموع الشرطين على كلّ تقدير، وأمّا في فرض إنفراد كلّ من الشرطين بالوجود فثبوت الجزاء فيه يكون مشكوكاً فيه، ولا أصل لفظي في المقام على الفرض لسقوط الإطلاقين بالتعارض فتصل النوبة إلى الأصل العملي فتكون النتيجة موافقة لتقييد الإطلاق المقابل بالعطف بالواو» «1».

ويرد عليه:

أوّلًا: إنّ وصول النوبة وانتهاء الأمر إلى الأصل العملي في المثال لا يقتضي التقييد بالعطف بالواو وعلّية مجموع الشرطين إلّافي ذهابه إلى السفر، وأمّا في الرجوع فإنّ مقتضى استصحاب بقاء وجوب القصر إنّما هو التقييد ب «أو»، وعلّية أحد الشرطين في النتيجة، وحينئذٍ فلا تكون النتيجة علّية مجموع الشرطين في جميع الموارد.

ثانياً: تعارض الإطلاقين وسقوطهما عن الحجّية متوقّف على عدم كون أحدهما أظهر من الآخر مع أنّ الإطلاق المقابل للعطف بالواو أي ظهور القضيّة في جهة الاستقلال أقوى من الإطلاق المقابل للعطف ب «أو» أي ظهور القضيّة في جهة الانحصار كما مرّ.

ثالثاً: ما أفاده في المحاضرات في مقام الجواب عن هذا البيان، وهو «أنّ مورد الكلام ليس من صغريات الرجوع إلى الأصل العملي، بل هو من صغريات الرجوع إلى الأصل اللفظي وهو إطلاق دليل «المسافر يقصّر» حيث إن القدر الثابت من تقييد هذا الإطلاق هو ما إذا لم

يخف الأذان والجدران معاً حيث إن الواجب عليه في هذا الفرض هو التمام وعدم جواز الإفطار، وأمّا إذا خفي أحدهما دون الآخر فلا نعلم بتقييده، ومعه لا مناصّ من الرجوع إليه لإثبات وجوب القصر وجواز الإفطار، لفرض عدم الدليل على التقييد في هذه الصورة بعد

انوار الأصول، ج 2، ص: 29

سقوط الإطلاقين من ناحية المعارضة، فتكون النتيجة هي نتيجة العطف ب «أو» على عكس ما أفاده شيخنا الاستاذ رحمه الله» «1».

أقول: إنّ ما أفاده من تقييد الإطلاق المزبور بما إذا لم يخف الأذان والجدران معاً مبنيّ على كون حدّ الترخّص حدّاً تعبّديّاً من جانب الشارع مع أنّه قد ثبت في محلّه أنّه أمر عرفي، وحيث إن العرف لا يحكم بصدق عنوان المسافر في هذه الصورة فلا يجب عليه القصر بل صدق عنوان المسافر في صورة خفاء أحد الأمرين أيضاً ليس محرزاً، وحينئذٍ لا يحرز تحقّق موضوع دليل «المسافر يقصّر» فتصل النوبة إلى الأصل العملي لا اللفظي، والمسألة بعدُ محتاجة إلى مزيد تأمّل (اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ هذا مناقشة في المثال).

التنبيه الثاني: أنّ الموجود في الجوامع الروائيّة بالنسبة إلى خفاء الجدران إنّما هو «إذا توارى المسافر من الجدران والبيوت يقصّر» وأمّا التعبير الشائع في كلمات الفقهاء بأنّه «إذا خفى الجدران فقصّر» فلم يرد في نصوص الباب، وحينئذٍ يكون موضوع قصر الصّلاة هو خفاء المسافر عن الجدران لا خفاء الجدران عن المسافر، ولعلّه المناسب أيضاً للاعتبار العرفي لأنّه يحكم بالسفر ويقال: «بأنّ فلاناً سافر» بعد أن بَعُد عن الأنظار وخفي عنها، فالذي يخفى إنّما هو شخص المسافر ومن يشاهده عند الجدران لا الجدران نفسها، ولا ملازمة بين خفاء شخص المسافر وخفاء الجدران كما توهّم، لأنّ خفاء المسافر يتحقّق غالباً

قبل خفاء الجدران كما لا يخفى، (ويمكن الإيراد عليه بأنّ هذا أيضاً مناقشة في مثال خاصّ).

الأمر الثالث: في تداخل الأسباب والمسبّبات
اشارة

وقد عنون في الكلمات بتعبير آخر أيضاً وهو: «إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء فهل يجب تكرار الجزاء أو لا؟ فإذا قال الشارع المقدّس: «إن مَسَسْتَ الميّت فاغتسل» و «إن أجنبت فاغتسل» فهل يجب الإتيان بالغسل مرّتين أو يكفي غسل واحد؟

ثمّ إنّ النزاع هذا ليس مبتنياً على القول بمفهوم الشرط كما هو الظاهر من كلمات المحقّق انوار الأصول، ج 2، ص: 30

الخراساني رحمه الله بل يجري بناءً على عدمه أيضاً، لأنّ البحث إنّما هو في تداخل منطوقي الشرطين أو منطوقي الجزائين سواءً كان لهما مفهوم أو لا، فلا ربط للبحث بباب المفاهيم كما لا يخفى.

بل لا اختصاص له بالقضايا الشرطيّة لأنّه جارٍ في جميع القضايا الشرعيّة بأي نحو صدرت، بنحو القضيّة الحمليّة أو الشرطيّة، فهو يجري في المثال المزبور ولو كانت القضيّتان بهذا النحو: «الجنب يغتسل» و «الحائض يغتسل»، نعم يمكن أن يرجع كلّ ما تركّب من حكم وموضوع إلى القضيّة الشرطيّة، كما يمكن العكس أيضاً.

وكيف كان، فقد وقع النزاع في مقامين: مقام التكليف ومقام الامتثال، فإن كان المقام مقام التكليف والإيجاب كان النزاع في تداخل الأسباب وعدمه وأنّه هل يؤثّر كلّ واحد من الشروط في البعث نحو الجزاء مستقلًا، أو ليس لكلّ منها تأثير مستقلّ بل تؤثّر مجموع الشروط في البعث؟ وإن كان المقام مقام الامتثال بعد قبول دلالة كلّ شرط على وجوب مستقلّ وتأثير كلّ واحد من الشروط مستقلًا في البعث نحو الجزاء لو لم يكن معه غيره كان البحث في تداخل المسبّبات وأنّه هل يكفي الإتيان بمصداق واحد ويكتفي بإتيان المتعلّق مرّة واحدة وتكون النتيجة إندكاك الوجوب الثاني

في الأوّل، وتأكّد الوجوب الأوّل بالثاني أو لا؟

ومن الواضح أنّ النزاع هذا يتصوّر فيما إذا كان الجزاء قابلًا للتكرار ولا يتصوّر في مثل القتل ونحوه ممّا لا يكون قابلًا له.

أمّا المقام الأوّل: وهو تداخل الأسباب

ففيه ثلاثة أقوال:

أوّلها: عدم التداخل إلّاما خرج بالدليل وهذا هو المشهور.

ثانيها: التداخل.

ثالثها: التفصيل بين ما إذا اختلف جنس الشرط وما إذا اتّحد، ففي الأوّل مقتضى القاعدة عدم التداخل، وفي الثاني التداخل.

واستدلّ للقول الأوّل بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّه لا إشكال في ظهور القضيّة الشرطيّة في حدوث الجزاء عند حدوث الشرط، ومقتضى ذلك تعدّد الجزاء بتعدّد الشرط وهو يستلزم اجتماع حكمين متماثلين أو أكثر

انوار الأصول، ج 2، ص: 31

في مورد واحد وهو محال كاجتماع الضدّين، وحينئذٍ لابدّ من التصرّف في الظهور بأحد الطرق الثلاثة: إمّا بالالتزام بعدم دلالة الجملة الشرطيّة في حال تعدّد الشرط على حدوث الجزاء عند حدوث الشرط، بل تدلّ على الثبوت عند الثبوت فحسب،

وإن شئت قلت: نرفع اليد من تأثير الشرط الثاني في حدوث الجزاء، وهذا في الحقيقة تصرف في أداة الشرط.

أو بالالتزام بتأثير الشرط الأوّل في الوجوب وتأثير الشرط الثاني في تأكّد الوجوب فقط، وهو تصرّف في هيئة الجزاء في الجملة الثانية.

أو بالالتزام بكون متعلّق الحكم في الجزاء حقائق متعدّدة تنطبق على فعل واحد، فماهيّة غسل الجنابة غير ماهيّة غسل مسّ الميّت كتفاوت ماهيّة صلاة الفريضة بالنسبة إلى ماهيّة صلاة النافلة، وهذا تصرّف في مادّة الجزاء.

ولا يخفى إنّ هذه الوجوه الثلاثة جميعها تصرّفات في الظهور الوضعي، وهيهنا وجه رابع يتصرّف فيه في إطلاق المادّة والفعل (أي الظهور الإطلاقي) وتقييدها بمرّة اخرى كي لا يتعلّق الحكم الثاني بعين ما تعلّق به الأوّل فيلزم اجتماع المثلين بل تعلّق الحكم الأوّل بمصداق وتعلّق الحكم الثاني بمصداق آخر.

ولا يخفى

أنّ مقتضى الوجه الأوّل والثاني هو تداخل الأسباب، ومقتضى الوجهين الأخيرين تداخل المسبّبات، فوقع البحث في أنّه ما هو الأولى من هذه الوجوه؟

فالقائلون بعدم التداخل ذهبوا إلى أنّ الأولى هو الوجه الأخير، واستدلّوا له بأنّ التصرّف في إطلاق المادّة أهون من الثلاثة الاول كلّها، من باب أنّ جميعها تصرّفات في الظهور ومخالفة لظاهر الكلام بخلاف التصرّف في إطلاق المادّة فإنّه ليس مخالفة لظهور الإطلاق حيث إنّ الإطلاق إنّما ينعقد بمقدّمات الحكمة التي منها عدم البيان، ولا إشكال في أنّ ظهور الجملة الشرطيّة في حدوث الجزاء عند حدوث الشرط يكون بياناً لكون المراد من المادّة في الجزاء الثاني فرداً آخر غير الفرد الذي وجب بالشرط الأوّل.

ولكن يرد عليه:

أوّلًا: أنّ هذا تامّ بناءً على ظهور القضيّة الشرطيّة في السببية الفعلية لا الاقتضائيّة حيث إن السببية الاقتضائيّة معناها أنّ الشرط مثلًا مقتضٍ للجزاء ويؤثّر فيه لولا المانع، وأمّا إذا

انوار الأصول، ج 2، ص: 32

تحقّق مانع عن تأثيره كأن يكون المحلّ مشغولًا بسبب آخر مثله فلا يؤثّر فيه.

وبعبارة اخرى: المستحيل إنّما هو توارد العلّتين التامّتين على معلول واحد لا توارد المقتضيين، أي العلّتين الناقصتين عليه، ومن المعلوم أنّه لا تدلّ القضيّة الشرطيّة في ما نحن فيه على أكثر من السببية بمعنى المقتضي.

ثانياً: أنّ لازم التقييد بمرّة اخرى أن يكون أحد الدليلين ناظراً إلى الدليل الآخر مع أنّه كما ترى حيث انّه لا يدّعي أحد كون أحد الدليلين حاكماً على الدليل الآخر وناظراً إليه.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّه ليس المدّعي التقييد بمرّة اخرى عند مراد المتكلّم وإنّ هذا القيد كان ملحوظاً للمتكلّم ولم يظهره، بل المدّعى كونه مدلولًا التزامياً لتكرار الجزاء عرفاً فهو من قبيل دلالة التنبيه والإشارة.

ثالثاً: أنّه مبنيّ على كون

اجتماع الوجوبين من قبيل اجتماع المثلين مع أنّه قد مرّ كراراً إنّ اجتماع المثلين المستحيل يتصوّر في الامور التكوينيّة لا الاعتباريّة، نعم إنّه قبيح على الشارع الحكيم في الاعتباريات من باب اللغويّة.

فظهر أنّ العمدة في الجواب عن هذا الدليل إنّما هو الوجه الأوّل حيث إنّا رفعنا اليد عن الوجه الثاني بقولنا «اللهمّ إلّاأن يقال ...» والوجه الثالث أيضاً تبدّل إلى الإشكال في كيفية الاستدلال فينحصر الجواب في الوجه الأوّل.

الوجه الثاني: أنّ متعلّق الجزاء نفس الماهيّة المهملة فهي بالنسبة إلى الوحدة والتعدّد بلا اقتضاء، بخلاف أداة الشرط فإنّها ظاهرة في السببية المطلقة، والتعدّد فيها يقتضي التعدّد في الجزاء، أي تعدّد السبب يوجب تعدّد المسبّب من باب أنّه لا تعارض بين الاقتضاء واللااقتضاء.

والجواب عنه أنّه في الواقع عبارة اخرى عن الوجه الأوّل، وإجمال لذلك التفصيل، حيث إنّه أيضاً ناشٍ من قبول ظهور القضيّة الشرطيّة في الحدوث عند الحدوث والسببية الفعلية، فيرد عليه نفس ما أوردناه على ذلك الوجه.

الوجه الثالث: ما أفاده المحقّق الهمداني رحمه الله في مصباحه كالوجه الرابع (على ما نقله عنه في انوار الأصول، ج 2، ص: 33

تهذيب الاصول) «1»، وحاصله: إنّ مقتضى القواعد اللفظية سببية كلّ شرط للجزاء مستقلًا، ومقتضاه تعدّد اشتغال الذمّة بفعل الجزاء، ولا يعقل تعدّد الاشتغال إلّامع تعدّد المشتغل به فإنّ السبب الأوّل سبب تامّ في اشتغال ذمّة المكلّف بإيجاد الجزاء، والسبب الثاني إن أثّر ثانياً وجب أن يكون أثره اشتغالًا آخر، لأنّ تأثير المتأخّر في المتقدّم غير معقول، وتعدّد الاشتغال مع وحدة الفعل المشتغل به ذاتاً ووجوداً غير معقول، وإن لم يؤثّر يجب أن يستند إمّا إلى فقد المقتضي أو وجود المانع، والكلّ منتفٍ لأنّ ظاهر القضيّة الشرطيّة سببية الشرط مطلقاً،

والمحلّ قابل للتأثير، والمكلّف قادر على الامتثال فأي مانع من التنجّز؟ (انتهى، وسيأتي الجواب عنه).

الوجه الرابع: أنّه ليس حال الأسباب الشرعيّة إلّاكالأسباب العقليّة، فكما أنّه يجب تحقّق الطبيعة في ضمن فردين على تقدير تكرّر علّة وجودها وقابليتها للتكرار، فكذا يتعدّد اشتغال الذمّة بتعدّد أسبابه.

أقول: إنّ هذين الوجهين أيضاً يرجعان عند التأمّل إلى قبول ظهور القضيّة الشرطيّة في الحدوث عند الحدوث فعلًا لا اقتضاءً، فالجواب هو الجواب، ولا حاجة إلى تكراره.

إلى هنا ثبت عدم تمام وجه من الوجوه الأربعة التي استدلّ بها على عدم التداخل.

وهيهنا وجهان آخران:

أحدهما: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله واستحسنه في المحاضرات «2» بقوله: «ولشيخنا الاستاذ قدس سره في المقام كلام وهو في غاية الصحّة والجودة»، وهو يتمّ ببيان أمرين حاصلهما: أنّ القضيّة الشرطيّة ظاهرة في الانحلال وتعدّد الطلب لأنّها ترجع إلى القضيّة الحقيقة، ولا إشكال في أنّ الحكم في القضيّة الحقيقة ينحلّ بانحلال موضوعه إلى أحكام متعدّدة، هذا أوّلًا.

وثانياً: أنّ مقتضى تعدّد القضيّة الشرطيّة في نفسها تعدّد الطلب أيضاً لأنّ تعلّق الطلب بشي ء لا يقتضي إلّاإيجاد ذلك الشي ء خارجاً ونقض عدمه المطلق، وإذا فرض تعلّق طلبين بماهيّة واحدة كان مقتضى كلّ منهما إيجاد تلك الماهيّة فيكون المطلوب في الحقيقة هو إيجادها

انوار الأصول، ج 2، ص: 34

ونقض عدمها مرّتين كما هو الحال في تعلّق إرادتين تكوينيتين بماهيّة واحدة، فإذا فرض ظهور القضيّة الشرطيّة في الانحلال وتعدّد الطلب، أو فرض تعدّد القضيّة الشرطيّة في نفسها كان ظهور القضيّة في تعدّد الحكم لكونه لفظيّاً مقدّماً على ظهور الجزاء في وحدة الطلب لو سلّمنا ظهوره فيها ويكون مقتضى القاعدة عدم التداخل «1».

أقول: يرد عليه أنّ روح كلامه هذا يرجع في الحقيقة إلى ما مرّ كراراً من

أنّ لموضوع الحكم نوع علّية للحكم، فيقع النزاع في أنّ هذه العلّية هل هي فعليّة أو اقتضائيّة، وقد اخترنا أنّها ظاهرة في الاقتضاء، ولا أقلّ من عدم ظهورها في الفعليّة أو الشكّ فيها فتصل النوبة إلى الأصل العملي، ولا يخفى أنّه بالنسبة إلى تداخل الأسباب (الذي هو مورد النزاع في المقام) هو البراءة عن الزائد على الواحد، ونتيجتها التداخل كما لا يخفى.

ثانيهما: ما نسب إلى العلّامة رحمه الله في المختلف، وحاصله إنّه إذا تعاقب السببان أو إقترنا فإمّا أن يقتضيا مسبّبين مستقلّين أو مسبّباً واحداً، أو لا يقتضيان شيئاً أو يقتضي أحدهما دون الآخر، والثلاثة الأخيرة باطلة فيتعيّن الأوّل، ومقتضاه عدم التداخل.

ويرد عليه: أنّ روح هذا الوجه أيضاً يعود إلى ما سبق من كون السبب سبباً فعليّاً فالجواب هو الجواب.

هذا- مضافاً إلى أنّ الصور رباعيّة فيما إذا تحقّق الشرطان في زمانين مختلفين، وإمّا إذا تحقّقا في آنٍ واحد ففيه احتمال خامس غير ما ذكر، وهو أن يكون المؤثّر والسبب الحقيقي هو القدر الجامع بين السببين، وهو صرف الوجود من الشرط الذي قد يتحقّق ضمن مصداق واحد، وقد يتحقّق ضمن المصاديق المتعدّدة التي تحقّقت في الخارج في آنٍ واحد، ولا يخفى أنّ لازمه أيضاً التداخل.

هذا كلّه في الوجوه التي استدلّ بها على عدم التداخل.

وقد ظهر ممّا ذكرنا إلى هنا ما يثبت به المختار (أي القول بالتداخل) وهو أنّه لا شكّ في ظهور القضيّة الشرطيّة في الحدوث عند الحدوث، فإن قلنا بكونه في حدّ الاقتضاء، أي القضيّة الشرطيّة ظاهرة في اقتضاء الشرط حدوث الجزاء إذا لم يكن هناك مانع، ولم يكن المحلّ مشغولًا بالمثل فهو المطلوب والمختار، وتكون النتيجة التداخل، وإن قلنا بأنّها ظاهرة في انوار الأصول،

ج 2، ص: 35

الفعليّة، أي في علّية الشرط لحدوث الجزاء فعلًا فنقول: إنّه يعارض ظهور الجزاء في الوحدة فيتساقطان، وتصل النوبة إلى الاصول العمليّة، والأصل الجاري في المقام إنّما هو البراءة عن الزائد على الواحد كما لا يخفى.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ ظهور الشرط في الحدوث عند الحدوث أقوى من ظهور الجزاء في الوحدة فيقدّم عليه، والنتيجة حينئذٍ بناءً على كون العلّية فعليّة عدم التداخل، ولكن الإنصاف أنّها ظاهرة في الاقتضاء.

تنبيهات التنبيه الأوّل: في المحكي عن فخر المحقّقين رحمه الله، فقد حكي عنه إنّه جعل المسألة مبتنية على أنّ الأسباب الشرعيّة هل هي معرفات وكواشف عمّا هو المؤثّر واقعاً أو هي بنفسها مؤثّرات وعلل، فعلى الأوّل يكون مقتضى القاعدة التداخل، وعلى الثاني عدم التداخل.

ويرد عليه:

أوّلًا: أنّا لا نوافقه على المبنى فإنّ علل الشرائع ليست مؤثّرات ولا معرفات بل إنّها مقتضيات كما مرّ.

ثانياً: ولا نوافقه على البناء أيضاً، فإنّ تعدّد الشرط لا يوجب تعدّد الجزاء ولو كانت العلل مؤثّرات.

وتوضيح الإيرادين: أنّه يتصوّر في الأحكام سواء كانت شرعيّة أو غيرها ثلاثة عناصر:

أحدها: سبب الحكم وعلّته، وهو إرادة الجاعل، لأنّ حقيقة الكم هي الاعتبار، والاعتبار بيد المعتبر، ويتحقّق بإرادته.

ثانيها: الداعي إلى الحكم، وهو المصلحة أو المفسدة التي تترتّب على متعلّق الحكم.

ثالثها: موضوع الحكم.

لا إشكال في أنّ علل الشرائع وما يجعل بعنوان الشرط في القضيّة إنّما يكون في الواقع وعند الدقّة بمنزلة قيود الموضوع لا من العلّة ولا من الداعي، فالجنابة مثلًا في قولك «إذا أجنبت فاغتسل» بمنزلة قيد لموضوع وجوب الغسل، وهكذا الاستطاعة في قولك «إن استطعت انوار الأصول، ج 2، ص: 36

فحجّ» فإنّها بمنزلة قيد لموضوع وجوب الحجّ كما لا يخفى.

وعلى هذا فليست القضايا الشرطيّة الواردة في لسان الأدلّة مؤثّرات

ولا معرفات، والظاهر أنّ فخر المحقّقين رحمه الله قاس العلل الشرعيّة بالعلل التكوينيّة، وهو قياس مع الفارق حيث إنّ علّة الحكم الاعتباري هو إرادة المعتبر لا غير.

وبما ذكرنا يظهر ضعف ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله من أنّ حال الأسباب الشرعيّة حال أسباب الأحكام العرفيّة في أنّها معرفات تارةً مؤثّرات اخرى فتدبّر.

نعم هيهنا نوع آخر من التعليل في لسان الشارع لا يؤتى به على نهج القضيّة الشرطيّة، بل إنّما يؤتى به بلام العلّة، نحو «لا تشرب الخمر لأنّه مسكر» فإنّ العلّة في هذا القسم مع رجوعه إلى قيود الموضوع أيضاً يمكن أن تكون إشارة إلى المصالح والمفاسد الترتّبة على متعلّق الحكم، ولكنّه أيضاً لا ربط له بقضيّة المؤثّرات أو المعرفات لما عرفت من أنّ المؤثّر هو إرادة المولى.

هذا كلّه بالنسبة إلى ما أوردناه على المبنى، وأمّا ما أوردناه على البناء فتوضيحه إنّا سلّمنا ظهور الأسباب والشرائط في كونها مؤثّرات وفي الحدوث عند الحدوث، ولكنّه- كما مرّ- يعارض ظهور الجزاء في الوحدة، فيجب ملاحظة أقوى الظهورين في صورة إقوائيّة أحدهما ثمّ الرجوع إلى الاصول العمليّة على فرض تساويهما وتساقطهما بعد التعارض فتأمّل.

التنبيه الثاني: ما أفاده في تهذيب الاصول فإنّه بعد نقل ما مرّ من كلام العلّامة رحمه الله في المختلف وذكر ما أفاده الشيخ الأعظم رحمه الله في ذيل كلام العلّامة رحمه الله من أنّ الاستدلال المذكور ينحلّ في مقدّمات ثلاث (إحداها دعوى تأثير السبب الثاني بمعنى كون كلّ واحد من الشرطين مؤثّراً في الجزاء، ثانيتها أنّ أثر كلّ شرط غير أثر الآخر، وثالثتها أنّ ظاهر التأثير هو تعدّد الوجود لا تأكّد المطلوب) وذكر ما ذكر في توجيه المقدّمة الاولى- قال ما إليك نصّ كلامه: «الإنصاف

أنّ أصحاب القول بعدم التداخل وإن كان مقالتهم حقّة إلّاأنّ ذلك لا يصحّ إثباته بالقواعد الصناعيّة، ولا بدّ من التمسّك بأمر آخر، وقد نبّه بذلك المحقّق الخراساني رحمه الله في هامش كفايته، وهو أنّ العرف لا يشكّ بعد الاطّلاع على تعدّد القضيّة الشرطيّة في إنّ ظهور كلّ قضيّة هو وجوب فرد غير ما وجب في الاخرى كما إذا اتّصلت القضايا، وكانت في كلام واحد، ولعلّ منشأ فهم العرف وعلّة استيناسه هو ملاحظة العلل الخارجيّة، إذ العلل الخارجيّة بمرأى ومسمع منه حيث يرى أنّ كلّ علّة إنّما تؤثّر في غير ما أثّر فيه الآخر، وهذه انوار الأصول، ج 2، ص: 37

المشاهدات الخارجيّة ربّما تورث له إرتكازاً وفطرة، فإذا خوطب بخطابين ظاهرهما كون الموضوع فيه من قبيل العلل والأسباب فلا محالة ينتقل منه إلى أنّ كلّ واحد يقتضي مسبّباً غير ما يقتضيه الآخر ... هذا كلّه راجع إلى المقدّمة الالوى أعني فرض استقلال كلّ شرط في التأثير، ولكنّها وحدها لا تفيد شيئاً بل لابدّ من إثبات المقدّمة الثانية، وهي أنّ أثر الثاني غير أثر الأوّل، ولقائل أن يمنع هذه المقدّمة لأنّ غاية ما تلزم من الاولى من استقلالهما في التأثير هي إنّ الوجوب الآتي من قبل النوم غير الآتي من قبل الآخر، وذلك لا يوجب إلّاتعدّد الوجوب لا تعدّد الواجب، بل يمكن أن يستكشف من وحدة المتعلّق كون ثانيهما تأكيداً للأوّل ولا يوجب التأكيد استعمال اللفظ في غير معناه لأنّ معناه وضع الأمر للوجوب هو وضعها لإيجاد بعث ناشٍ من الإرادة الحتمية، والأوامر التأكيديّة مستعملة كذلك ... نعم حمل الأمر على التأكيد يوجب ارتفاع التأسيس، وهو خلاف ظاهر الأمر، لكنّه ظهور لا يعارض إطلاق المادّة والشرطيّة، فإذا دار

الأمر بين رفع اليد عن أحد الإطلاقين ورفع اليد عن التأسيس لا ريب في أولويّة الثاني ...» «1».

أقول: العمدة في كلامه الفقرة الا خيرة منه حيث ينبغي أن نلاحظها ونبحث فيها- وهي «إنّ ظهور إطلاق المادّة مقدّم على ظهور الهيئة في التأسيس» وهي محالا يمكن المساعدة عليه، لأنّ الظهور اللفظي يمنع من انعقاد الإطلاق فإنّ من مقدّماته عدم البيان، والظهور اللفظي يعدّ بياناً، وحينئذٍ يقدّم الظهور في التأسيس على إطلاق المادّة، وعليه تثبت المقدّمة الثانية أيضاً فيثبت المطلوب، وهو عدم التداخل.

هذا- مضافاً إلى أنّ كلامه أيضاً مبني على ظهور القضيّة الشرطيّة في التأثير الفعلي وقد مرّ كراراً المناقشة فيه، كما مرّ أيضاً إنّه لو فرضنا ظهورها في التأثير الفعلي فهو يعارض مع ظهور الجزاء في الوحدة فيتساقطان، والنتيجة حينئذٍ إجمال القضيتين معاً فتصل النوبة حينئذٍ إلى الأصل العملي، وهو في المقام يقتضي نتيجة التداخل كما مرّ فتأمّل.

التنبيه الثالث: قد يفصّل في المسألة بين ما إذا كان الشرطان مختلفين بحسب الجنس وما إذا كانا من جنس واحد، ويقال بالتداخل في الثاني دون الأوّل.

انوار الأصول، ج 2، ص: 38

ولكن الجواب عنه واضح فالنكتة الأصلية في التداخل وعدمه هي أنّ الجملة الشرطيّة ظاهرة في الحدوث عند الحدوث أو في الثبوت عند الثبوت، ولا إشكال في أنّه لا فرق في هذه الجهة بين ما إذا اختلف الشرطان في الجنس أو إتّحدا.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه الله بأنّ الأجناس المختلفة لابدّ من رجوعها إلى واحد، فيما جعلت شروطاً وأسباباً لواحد، لما مرّت إليه الإشارة من أنّ الأشياء المختلفة بما هي مختلفة لا تكون أسباباً لواحد (من باب قاعدة الواحد).

أقول: قد مرّت الإشارة أيضاً إلى أنّه لا مجال لقاعدة الواحد في الامور

الاعتباريّة غير البسيطة.

هذا كلّه في تداخل الأسباب.

المقام الثاني: في تداخل المسبّبات

والمراد من تداخل المسبّبات أنّه لو فرضنا دلالة كلّ واحد من القضيتين الشرطيتين على وجوب مستقلّ ولم نوافق على تداخل الأسباب فهل يكتفي بامتثال واحد عن كلا التكليفين أو لا؟

كما أنّ معنى تداخل الأسباب هو أنّ الشرط الثاني هل يؤثّر في الوجوب مستقلًا كالشرط الأوّل أو لا؟ فالفرق بين المقامين واضح، وقد وقع الخلط بينهما في كلمات المحقّق الخراساني رحمه الله.

وكيف كان ذهب المحقّق النائيني رحمه الله إلى أنّ القاعدة في المقام الثاني (تداخل المسبّبات) تقتضي عدم التداخل ما لم يدلّ دليل على التداخل ثمّ قال: «نعم يستثنى من ذلك مورد واحد وهو ما إذا كانت النسبة بين الواجبين عموماً من وجه كما في قضيّة «أكرم عالماً» و «أكرم هاشميّاً» فإنّ إكرام العالم الهاشمي الذي هو مورد الاجتماع لهما يكون مسقطاً لكلا الخطابين لانطباق متعلّق كلّ منهما عليه ولا يعتبر عقلًا في تحقّق الامتثال إلّاالإتيان بما ينطبق عليه متعلّق الأمر في الخارج» «1».

انوار الأصول، ج 2، ص: 39

أقول: نحن نوافقه فيما أفاده لو كان مرجعه إلى إطلاق الخطابين حيث إنّه إذا كان كلّ واحد من الخطابين مطلقاً بالنسبة إلى الآخر فكان مردّ قوله «أكرم عالماً» مثلًا إلى قوله «أكرم عالماً سواء كان هاشمياً أو غير هاشمي» وكذلك كان مرجع قوله «أكرم هاشمياً» إلى قوله «أكرم هاشمياً سواء كان عالماً أو غير عالم» فلا إشكال في كفاية إتيان متعلّق العنوانين مرّة واحدة عن امتثال كلا الخطابين، ولا يبعد أن يكون ذلك هو مراد المحقّق النائيني رحمه الله أيضاً.

والتحقيق في المسألة أن يقال: إنّ النسبة بين متعلّقي دليلين تتصوّر على أربعة وجوه: فتارةً تكون النسبة هي التباين، وحينئذٍ لا موقع للتداخل

كما لا يخفى.

واخرى تكون النسبة بين العنوانين هي التساوي، فلا معنى أيضاً للبحث عن تداخلهما لأنّهما متداخلان دائماً، ولا يمكن الانفكاك بينهما، بل لا يمكن أن يكلّف المولى بماهيّة مرتين إلّا أن يرجع خطابه في كلّ مرّة إلى فرد خاصّ من الماهيّة فيتعلّق كلّ واحد من الخطابين بأحدهما، وحينئذٍ ترجع النسبة لا محالة إلى التباين أيضاً كما في القسم الأوّل لأنّ كلّ واحد منهما بتشخّصاته الفرديّة مباين للآخر.

وثالثة: نسبة العموم من وجه.

ورابعة: العموم المطلق.

ومحلّ البحث في المقام إنّما هو هذان الوجهان الأخيران، ولا إشكال في أنّ العناوين فيهما تارةً تكون من العناوين القصديّة كعنوان الصّلاة والصّوم ونحوهما من العناوين الموجودة في أبواب العبادات، واخرى من العناوين غير القصديّة، فتصير الصور حينئذٍ أربعة.

والصحيح أنّ مقتضى القاعدة هو التداخل مطلقاً في جميع الصور الأربعة لو كنّا نحن والأدلّة الشرعيّة وإطلاقها ما لم تنصب قرينة على التداخل أو عدمه، فإنّ مقتضى إطلاق الخطابين- كما مرّ- هو كفاية الإتيان بمجمع العنوان في العامين من وجه، وكفاية الإتيان بالخاصّ في العموم والخصوص المطلق.

ولا يتوهّم أنّ الإتيان بخصوص ذلك يخالف تعدّد التكليف، لأنّ المفروض أنّ مجمع العنوانين واجد لكلتا المصلحتين، نظير ما إذا أمر الطبيب المريض بأكل مطلق الفاكهة مثلًا لرفع دائه، وأمره أيضاً بأكل فاكهة خاصّة لرفع داء آخر، فلا إشكال في جواز الاكتفاء بأكل تلك الفاكهة الخاصّة وحصول كلتا المصلحتين بها.

انوار الأصول، ج 2، ص: 40

نعم ربّما تقوم القرينة على عدم التداخل مثل تناسب الحكم والموضوع، فإنّه يقتضي عدم تداخل المسبّبات في كثير من الموارد كما في باب الكفّارات، فإنّ تناسب الحكم (وهو وجوب الكفّارة) والموضوع (وهو المفطر) فيها يقتضي تعدّد الكفّارة حيث إنّ المقصود من إيجاب الكفّارة إنّما هو

تأديب المفطر العامد العاصي، وهو قد لا يحصل بإتيان العمل مرّة واحدة كما لا يخفى، كما أنّه كذلك في أبواب الحدود والديّات وأبواب الضمانات والنذور، ومن هذا القبيل ما ذكره في تهذيب الاصول من المثال، وهو تضاعف مقدار النزح من البئر إذا وقعت الهرّة فيها بعد وقوع الفأرة مثلًا، فإنّ لوقوع كلّ منهما أثراً خاصّاً في قذارة الماء واقتضاءً مستقلًا يوجب تعدّد وجوب نزح المقدار أو استحبابه.

كما أنّه ربّما تقوم القرينة على العكس، أي على التداخل، كما في باب الوضوء والغسل إذا تعدّد الحدث الأصغر في الوضوء والأكبر في الغسل.

نعم، المهمّ في البابين (بابي الوضوء والغسل) تعيين مفاد الدليل وإنّه في الخطاب الثاني هل هو عدم قابلية المحلّ للتعدّد، وعدم كون ماهيّة المسبّب فيه مختلفة عن ماهيّة المسبّب في الخطاب الأوّل كما هو الظاهر في باب الوضوء فتكون النتيجة حينئذٍ تداخل الأسباب وكفاية نيّة أحد الأسباب، أو يكون مفاده قابلية المحلّ للتعدّد وأنّ ماهيّة المتعلّق في أحدهما غير الماهيّة في الآخر كما ربّما يستظهر في باب الغسل، حيث يستظهر أنّ الأغسال ماهيات مختلفة وأنّ لكلّ سبب ماهيّة خاصّة؟ فتكون النتيجة حينئذٍ عدم تداخل المسبّبات ولزوم قصد جميع الماهيات إذا اجتمعت وتحقّقت في زمان واحد (لأنّها عناوين قصديّة) ولا يخفى أنّ تمام الكلام في المسألة في الفقه.

إلى هنا تمّ الكلام عن مفهوم الشرط

2- الكلام في مفهوم الوصف

ولابدّ فيه من تنقيح محلّ النزاع قبل الخوض في أصل المسألة.

فنقول: قال المحقّق النائيني رحمه الله: «إنّ محلّ الكلام في المقام هو الوصف المعتمد على موصوفه، وامّا غير المعتمد عليه فلا إشكال في عدم دلالته على المفهوم، فهو حينئذٍ خارج عن محلّ النزاع، إذ لو كان الوصف على إطلاقه ولو كان غير معتمد

على الموصوف محلًا للنزاع لدخلت الجوامد في محلّ النزاع أيضاً ... إلى أن قال:

بل يمكن أن يقال: إنّ كون المبدأ الجوهري مناطاً للحكم بحيث يرتفع الحكم عند عدمه أولى من كون المبدأ العرضي مناطاً له، فهو أولى بالدلالة على المفهوم من الوصف غير المعتمد» «1».

فحاصل كلامه أنّ الوصف غير المعتمد خارج عن محلّ النزاع لأنّه كاللقب، بل اللقب أولى منه من هذه الجهة لأنّه حاكٍ عن الذات، بينما الوصف غير المعتمد يحكي عن الصفة، وكون الذات مناطاً للحكم بحيث ينتفي بانتفائها أولى من كون الوصف (الذي يكون مبدأً عرضياً للحكم) مناطاً له.

ولكن الإنصاف أنّ محلّ النزاع أعمّ كما صرّح به في تهذيب الاصول «2»، والشاهد على ذلك أنّ المثبت للمفهوم قد يتمسّك بأمثلة تكون من مصاديق الوصف غير المعتمد من دون أن يعترض عليه النافي للمفهوم بأنّها خارجة عن محلّ الكلام، نظير التمسّك بفهم أبي عبيدة في قوله صلى الله عليه و آله «مطل الغني ظلم» «3» وقوله صلى الله عليه و آله: «ليّ الواجد بالدين يحلّ عقوبته وعرضه» «4» ونظير

انوار الأصول، ج 2، ص: 42

التمسّك بقوله تعالى: «إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا»» هذا- مضافاً إلى أنّه لا يجري بناءً على مبنى القائلين باشتمال المشتقّ على الذات حيث إنّه حينئذٍ لا فرق بين القسمين في الاعتماد على الذات.

وكيف كان- فقد استدلّ القائل بعدم المفهوم (مع أنّه على المنكر إقامة الدليل) بوجهين:

الوجه الأوّل: إنّ دلالة الوصف على المفهوم امّا بالوضع أو بالقرينة العامّة، وكلاهما ممنوعان، إمّا الوضع فلأنّه لو كان الوصف دالًا على المفهوم بالوضع لكان استعماله في غيره مجازاً، وهو ممنوع.

وأمّا القرينة العامّة فلأنّها لا تخلو من أن تكون واحدة من الثلاثة: لزوم اللغويّة، كون الوصف

مطلقاً مع أنّ المتكلّم في مقام البيان، وكونه مشعراً بالعلّية المنحصرة.

أمّا لزوم اللغويّة فالجواب عنه إنّ اللغويّة إنّما تلزم فيما إذا انحصرت فائدة الوصف في المفهوم مع أنّه قد يترتّب عليه فوائد كثيرة اخرى فقد يؤتى به لإبراز شدّة الإهتمام بمورد الوصف، مثل قوله: «إيّاك وظلم اليتيم»، أو «إيّاك وغيبة العلماء» أو لدفع توهّم عدم شمول الحكم لمورد الوصف كما في قوله تعالى: «وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ» (هذا شبيه الوصف) أو لعدم حاجة السامع إلى ما سوى مورد الوصف كقولك لمن لا يجد غير ماء البئر:

ماء البئر طاهر مطهّر، أو لغير ذلك من امور اخر كعلم المخاطب بحكم غير مورد الوصف أو توضيح ما اريد بالموصوف والكشف عنه أو غير ذلك.

وأمّا الإطلاق (والمقصود منه إنّه لو كان للوصف عديل أو جزء آخر لذكره المتكلّم لكونه في مقام البيان فإطلاقه دالّ على أنّه لا عديل له، كما أنّه دالّ على كونه تمام الموضوع للحكم).

فيرد عليه: أنّ هذا الإطلاق- الذي يكون إطلاقاً مقاميّاً على فرض وجوده، أي على فرض كون المتكلّم بصدد بيان العلّة المنحصرة أو الموضوع المنحصر للحكم- لا يختصّ في دلالته على المفهوم بباب الوصف بل إنّه يجري في اللقب أيضاً، وحينئذٍ تكون الدلالة على المفهوم مستندة إلى وجود القرينة لا إلى الوصف وإلّا لكانت الدلالة مختصّة بالوصف فحسب.

وأمّا إشعار الوصف بالعلّية المنحصرة فالجواب عنه: إنّ إشعار الوصف بها وإن كان انوار الأصول، ج 2، ص: 43

مسلّماً، إلّاأنّه لا يفيد في الدلالة على المفهوم ما لم يصل إلى حدّ الظهور.

هذا كلّه هو الوجه الأوّل لمنكري مفهوم الوصف، وهو وجه تامّ إلّامن ناحية حصرهم القرائن العامّة في الثلاثة المزبورة فانّه ممّا لا دليل عليه عقلًا.

الوج الثاني:

ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله (ووافقه على ذلك في هامش أجود التقريرات وصرّح بأنّه متين) وحاصله: إنّ القيود الواردة في الكلام تارةً ترجع إلى المفهوم الإفرادي (الموضوع أو المتعلّق) واخرى إلى الجملة التركيبية بحيث يكون القيد قيداً للمادّة المنتسبة (الحكم)، وملاك الدلالة على المفهوم هو أن يكون القيد راجعاً إلى الحكم، أي إلى المادّة المنتسبة ليترتّب عليه ارتفاع الحكم عند ارتفاع قيده، إذ لو كان الحكم ثابتاً عند عدم القيد أيضاً لما كان الحكم مقيّداً به بالضرورة، ففرض تقييد الحكم بشي ء يستلزم فرض انتفائه بانتفائه، وأمّا إذا كان القيد راجعاً إلى المفهومي الإفرادي والموضوع، فغاية ما يترتّب على التقييد هو ثبوت الحكم على المقيّد، ومن الضروري أنّ ثبوت شي ء لشي ء لا يستلزم نفيه عن غيره، وإلّا لكان كلّ قضيّة مشتملة على ثبوت حكم على شي ء دالة على المفهوم وذلك واضح البطلان، وبما أنّ الظاهر في الأوصاف أن تكون قيوداً للمفاهيم الإفراديّة يكون الأصل فيها عدم الدلالة على المفهوم كما هو الحال في اللقب عيناً «1».

أقول: الإنصاف أنّ ما أفاده إنّما هو أحد طرق إثبات المفهوم، فإنّه ربّما يستفاد من ناحية إحترازيّة القيود مع رجوعها إلى الموضوع والمفهوم الإفرادي على تعبيره، بل قد لا يكون للكلام مفهوم وان رجع القيد إلى الحكم والمفهوم التركيبي إذا كان المقصود من أخذه في الكلام أمراً آخر غير الانتفاء عند الانتفاء كأن يؤتى به لكون مورده محلًا لابتلاء المخاطب مثلًا.

فظهر إلى هنا عدم تمام كلا الوجهين لإثبات عدم المفهوم فالأولى لمنكره الاكتفاء بما هو مقتضى القاعدة وطلب البرهان من مدّعيه.

فنقول: استدلّ المثبتون بوجوه اشير إلى بعضها ضمن بيان أدلّة المنكرين (منها اللغويّة لولا المفهوم، والإطلاق وإشعاره بالعلّية) وبقى غيرها:

فمنها:

أنّ الأصل في القيود أن تكون إحترازيّة وذلك ببيانين:

انوار الأصول، ج 2، ص: 44

أحدهما: أنّ معنى كون شي ء قيداً لموضوع حكم هو أنّ ذات الموضوع غير قابلة لتعلّق الحكم بها إلّابعد تقيّده بهذا القيد واتّصافه بهذا الوصف، فيكون القيد أو الوصف حينئذٍ متمّماً لقابلية القابل، وهو في الحقيقة عبارة اخرى عن معنى الاشتراط، فترجع القضيّة إلى القضيّة الشرطيّة لبّاً، وبما الظاهر دخل هذا القيد بخصوصه وبعنوانه الخاصّ (إذ لازم دخل قيد آخر أن تكون العلّة والشرط هو الجامع بين الشرطين لأنّ الواحد لا يصدر إلّامن الواحد، وهو خلاف الظاهر) فلا محالة ينتفي سنخ الحكم بانتفائه وهو معنى المفهوم.

ولكن يرد عليه:

أوّلًا إنّه مبني على قبول قاعدة الواحد، وقد مرّ عدم جريانها في الامور الاعتباريّة أصلًا وعكساً.

وثانياً: إنّ علّة الأحكام إنّما هي إرادة المولى لا غير كما مرّ مراراً.

ثانيهما: أنّ للإنسان في بيان مقاصده وما ليس مقصوداً له طريقين: فإنّه تارةً يصرّح باسم المقصود ويجعله بعنوان موضوعاً لحكمه، وهذا يتصوّر فيما إذا كان للمقصود اسم خاصّ، واخرى لا يكون له اسم خاصّ فيتمسّك بذيل القيود والأوصاف فيذكر مقصوده أوّلًا بنحو كلّي ثمّ يقيّده بقيد بعد قيد حتّى يبيّن مراده بتمامه ويخرج ما ليس بمقصوده، ففلسفة القيود حينئذٍ هو بيان المقصود وإخراج ما ليس بمقصود، وهذا معنى إحترازيّة القيود، ولازمها الانتفاء عند الانتفاء وهو المراد من المفهوم.

ولكن يمكن الجواب عنه أيضاً بأنّ غاية ما يقتضيه هذا البيان وما سبقه هو ظهور القيد في أنّه دخيل في موضوع الحكم ومقصوده، وأنّ الحكم غير ثابت ومقصوده غير حاصل إلّامقيّداً بهذا القيد لا مطلقاً، ولا يقتضي نفي الحكم عن حصّة اخرى من ذات الموضوع ولو بملاك آخر وبقيد آخر، وبعبارة اخرى: مجرّد

أخذ القيد في العنوان لا يكون دليلًا على كونه إحترازيّاً، نعم لو علمنا من القرائن الحاليّة أو الكلاميّة كون المتكلّم بصدد الإحتراز كان للقيود مفهوم حتّى للألقاب.

ومنها: فهم أهل اللسان- ولعلّه أحسنها- فإنّ أهل اللسان يفهمون من الوصف المفهوم في موارد مختلفة كما فهم أبو عبيدة فيما رواه عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «ليّ الواجد بالدين يحلّ عرضه انوار الأصول، ج 2، ص: 45

وعقوبته» «1» أنّ ليّ الفقير لا يحلّ عرضه وعقوبته، نعم الإشكال في سنده لمكان هارون بن عمرو والمجاشعيّ في طريق الشيخ رحمه الله على ما نقله صاحب الوسائل عن مجالسه.

ومن هذه الموارد قوله تعالى: «وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ» «2»

فالكثير من الاصوليين والمفسّرين يعتذرون عن أخذ المفهوم فيها بأنّ قيد «في حجوركم» من القيود الغالبيّة، ولذا لا مفهوم له، فإنّ اعتذارهم هذا دالّ على كون المفهوم في مثل هذه الموارد أمراً وجدانياً وإرتكازيّاً لهم، إنّما المانع هو كون القيد غالبيّاً، كما أنّ وصف «دخلتم بهنّ» الوارد في صدر الآية يدلّ على المفهوم وهو قوله تعالى: «فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ» الوارد في ذيلها، فإنّ ترتّب هذا الذيل على ذلك الصدر بفاء التفريع يشهد على أنّه لو لم يصرّح به لكنّا نفهمه من نفس الوصف الوارد في الصدر.

ومن هذه الموارد قوله تعالى: «وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَايَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ» «3»

فإنّ وصفي «لا يرجون نكاحاً» و «غير متبرّجات» يدلّان على أنّ القواعد اللاتي يرجون نكاحاً أو يتبرّجنّ بزينة فعليهنّ جناح أن يضعن ثيابهنّ كما أفتى به الفقهاء فحكموا بحرمة

وضعهنّ ثيابهنّ.

وكيف كان، فقد فهم أهل اللسان من هذه الموارد ونظائرها المفهوم، وهو يدلّ على دلالة الوصف على المفهوم.

نعم يمكن أن يقال: إنّ فهم المفهوم في هذه الموارد إنّما هو لوجود قرينة مقاميّة، وهي كون المتكلّم في مقام الإحتراز عمّا ليس داخلًا في الحكم، ومحلّ النزاع هو صورة فقد القرينة، فتأمّل.

ومنها: «إنّ القضيّة الوصفية لو لم تدلّ على المفهوم وانحصار التكليف بما فيه الوصف لم يكن موجب لحمل المطلق على المقيّد، حيث إنّ النكتة في هذا الحمل هي دلالة المقيّد على انحصار التكليف به وعدم ثبوته لغيره» «4».

انوار الأصول، ج 2، ص: 46

ولكن يمكن الجواب عنه:

أوّلًا: بأنّ هذا إنّما يتصوّر في ما إذا كان المطلق والمقيّد مثبتين وعلمنا بوحدة المطلوب كما في قولك: «إن ظاهرت فاعتق رقبة» و «إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة»، وأمّا إذا كان أحدهما مثبتاً والآخر نافياً كما في قوله تعالى: «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» وقوله عليه السلام: «نهى النبي عن بيع الغرر» فالمقيّد حينئذٍ هو نفس المنطوق وهو في المثال منطوق قوله عليه السلام «نهى النبي عن بيع الغرر» لا مفهومه كما لا يخفى.

وثانياً: نقول في المثبتين أيضاً: إنّ المفهوم فيهما إنّما هو لأجل قرينية وحدة الحكم التي تستكشف من وحدة الشرط (وهو «إن ظاهرت» في المثال) وإلّا لو لم يكن الشرط واحداً ولم تعلم وحدة الحكم كما في قولك: «أكرم العلماء» و «أكرم العلماء العدول» فلا مفهوم للجملة الثانية، ولذلك لا تقيّد الاولى بالثانية بل إنّهما من قبيل تعدّد المطلوب كما صرّح به القوم في محلّه، بل تصريحهم هذا دليل على عدم المفهوم في باب المطلق والمقيّد، وعلى أنّ فهم المفهوم في مثال «إن ظاهرت» إنّما هو من باب وجود القرينة.

فظهر ممّا

ذكرنا كلّه عدم تماميّة وجه من الوجوه التي استدلّوا بها على المفهوم، ولكن مع ذلك كلّه يستفاد من الوجه الثاني دلالة الوصف على المفهوم غالباً لكون القيد إحترازيّاً في الغالب، فلا بدّ حينئذٍ من ملاحظة المقامات والمناسبات، وأنّ خصوصيّة المقام هل تكون قرينة على كون القيد إحترازيّاً أو لا؟

بقي هنا امور

الأمر الأوّل: فيما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله في المقام من أنّ دلالة القضيّة على المفهوم ترتكز على أن يكون القيد فيها راجعاً إلى الحكم دون الموضوع فإن رجع إلى الحكم فلها مفهوم وإلّا فلا، وقد مرّ تفصيل بيانه في الوجه الثاني من الوجهين اللذين استدلّ بهما منكروا المفهوم في المقام، وأجبنا عنه هناك، ونقول هنا أيضاً:

الإنصاف أنّ القيود بأسرها قيود للحكم وراجعة إلى الحكم إمّا بلا واسطة أو مع الواسطة، حتّى في مثل قولنا: «في الغنم السائمة زكاة» يكون وصف «السائمة» قيداً للموضوع (وهو الغنم)

انوار الأصول، ج 2، ص: 47

بلحاظ الحكم لأنّ الموضوع المفرد من دون تعلّق حكم عليه لا معنى لتقييده بقيد، هذا أوّلًا.

وثانياً: ليس رجوع القيد إلى الحكم تمام الملاك للدلالة على المفهوم (كما مرّ بيانه) لأنّ لتقييده دواعياً مختلفة لا تنحصر في نفي الحكم عن الغير كأن يكون مورد الوصف محلًا لابتلاء المتكلّم فعلًا ونحوه.

الأمر الثاني: أنّ الأوصاف الغالبيّة ليس لها مفهوم حتّى بناءً على القول بمفهوم الوصف، نظير وصف «في حجوركم» في قوله تعالى: «وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ» فإنّه قيد غالبي ورد في الآية (بلحاظ أنّ الغالب في النساء اللاتي يردن النكاح أن تكون ربائبهنّ في حجورهنّ ومصاحبة معهنّ، لصغر سنّهن ولم يأت وقت نكاحهنّ حتّى يحصل الفراق بينهنّ وبين امّهاتهنّ، ولو كنّ مستعدّات للنكاح كانت امّهاتهنّ خارجات عن هذا الاستعداد)

والقيود الغالبيّة قيود توضيحية تصدر من المتكلّم من باب التوضيح والتفسير، فلا تلزم لغويّة الوصف إن قلنا بعدم دلالتها على المفهوم، ولا تجري فيها قاعدة إحترازيّة القيود.

نعم القيد الوارد في الآية- مضافاً إلى صدوره لأجل التوضيح- توجد فيه نكتة اخرى، وهي الإشارة إلى أنّ حكمة حرمة نكاح الربائب تربيتهنّ ونشوئهنّ في حجوركم، فلا ينبغي أن يتزوّج الرجل بمن عاشت وكبرت في حجره وكانت بمنزلة بناته في الواقع.

ولكن مع ذلك فهذه النكتة جارية في غالب موارد جعل الحكم بحرمة النكاح بنحو العموم، فيعمّ الربائب اللاتي لَسْنَ في حجورهم فتكون من قبيل الحكمة لا العلّة.

الأمر الثالث: إنّ الوصف تارةً يكون مساوياً لموصوفه كقولنا: «أكرم إنساناً ضاحكاً» واخرى يكون أعمّ منه مطلقاً كقولنا: «أكرم إنساناً ماشياً» وثالثة يكون أخصّ منه كذلك، كقولنا: «أضف إنساناً عالماً» ورابعة يكون أعمّ منه من وجه كقوله عليه السلام: «في الغنم السائمة زكاة».

ولا إشكال في خروج الأوّل والثاني عن محلّ البحث لأنّ الوصف فيهما لا يوجب تقييداً للموصوف حتّى يكون له دلالة على المفهوم كما لا يخفى.

وأمّا الثالث فلا إشكال في دخوله في محلّ الكلام لأنّ انتفائه لا يوجب انتفاء الموصوف بل الموصوف باقٍ على حاله فيبحث حينئذٍ في انتفاء الحكم عنه بانتفاء وصفه وعدمه.

وأمّا الرابع فهو أيضاً داخل في محلّ النزاع، إلّاأنّه يدلّ على المفهوم (على القول به) بالنسبة

انوار الأصول، ج 2، ص: 48

إلى خصوص ذات الموضوع المذكور في القضيّة، ففي المثال المزبور يدلّ على أنّه لا زكاة في الغنم المعلومة، أمّا بالنسبة إلى غير هذا الموضوع فلا يدلّ على انتفاء الحكم عنه، فلا يدلّ على انتفاء الزّكاة في البقر المعلوفة مثلًا كما نسب إلى بعض الشافعيّة، إلّاأن يقال: إنّ المستفاد من الحديث

إنّ السوم علّة منحصرة للزكاة بالنسبة إلى جميع الحيوانات، وذكر الغنم إنّما يكون بعنوان المثال، لكن أنّى لنا بإثبات ذلك.

ثمّ إنّه تنبغي الإشارة هنا إلى نكتة فقهيّة، وهي أنّ الملاك في زكاة الغنم ليس هو خصوص كونها سائمة كما هو المعروف، بل المستفاد من الأخبار أنّ المعيار عدم كونها من العوامل، وأمّا ذكر وصف السائمة في بعض الرّوايات فإنّه للملازمة الخارجيّة العرفيّة بينها وبين عدم كونها من العوامل في عرف ذلك الزمان، فكونها سائمة من اللوازم القهريّة لعدم كونها عوامل، لعدم الداعي حينئذٍ عادةً على إبقائها في بيوتها بل إنّها تسرح في مرجها وتسام إذا ساعدت الظروف، وقد ذكرنا في تعليقتنا على العروة مؤيّدات عديدة لذلك فراجع «1».

الأمر الرابع: إنّ المراد من الوصف في ما نحن فيه أعمّ من الوصف الاصولي والوصف النحوي، فهو عبارة عن كلّ ما صار قيداً للحكم في الكلام، فيعمّ الحال إذا صار قيداً للحكم كقولك: «من جاءك ذاكراً فأكرمه» كما يعمّ ما يكون ظرفاً للحكم كقولك: «أكرم زيداً يوم الجمعة» فتأمّل.

إلى هنا تمّ الكلام في مفهوم الوصف، وقد ظهر منه عدم إمكان المساعدة على دلالة الوصف على المفهوم في جميع الموارد، وإن كان لا يمكن إنكاره أيضاً مطلقاً، فإنّ القيود والأوصاف كثيراً مّا ترد في مقام الإحتراز، والقرائن الحاليّة والمقاميّة تدلّ عليه.

بل قد يقال: إنّ الأصل في كلّ قيد هو كونه إحترازيّاً، وإمّا الإتيان بالقيود لمقاصد اخرى مثل كونه محلًا للابتلاء أو قيداً غالبياً أو شبه ذلك فإنّها خلاف الأصل، وحينئذٍ يستفاد المفهوم من هذه القيود حتّى في غير الأوصاف من القيود الزمانيّة والمكانيّة وغيرهما (بناءً على عدم شمول الوصف بمعناه الأعمّ لهذه القيود) من دون فرق بين أن يكون

الوصف معتمداً على الموصوف أو لا يكون، فإنّه أيضاً يرجع إلى التقييد ويكون الأصل فيه الإحتراز، فلا فرق بين انوار الأصول، ج 2، ص: 49

أن يقول المولى: «إن ظاهرت أكرم رجلًا عالماً» أو «أكرم عالماً».

وإن أبيت عن ذلك فلا أقلّ من التأمّل في كلّ مقام، وملاحظة ما يقتضيه، وإيّاك أن ترفض مفهوم الوصف والقيود كلّها فإنّه خطأ محض، واللَّه العالم بحقائق الامور.

3- الكلام في مفهوم الغاية

والأولى أن نعبّر عن العنوان بمفهوم أداة الغاية، لأنّ المفهوم على فرض ثبوته يكون مدلول أداة الغاية لا نفسها.

وكيف كان، فإنّ للبحث هنا جهتين:

جهة مفهوميّة، وهي البحث في أنّ الغاية سواء كانت داخلة في المغيّى أم خارجة عنه هل تدلّ مفهوماً على ارتفاع الحكم عمّا بعد الغاية (بناءً على دخولها في المغيّى) أو عن نفس الغاية وبعدها (بناءً على خروجها عن المغيّى) أو لا؟

وجهة منطوقية، وهي البحث في نفس الغاية وأنّها هل هي داخلة في المغيّى بحسب الحكم أو خارجة عنه؟

أمّا الجهة الاولى فالمشهور دلالة الأداة على المفهوم، ولعلّه أشهر من مفهوم الشرط، ولكن ذهب السيّد المرتضى رحمه الله ومن تبعه إلى عدمه مطلقاً، وهنا قول ثالث ذكره الأعلام ببيانات مختلفة:

الأوّل: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله، وحاصله التفصيل بين أن تكون الغاية قيداً للحكم وبين أن تكون قيداً للموضوع فعلى الأوّل تدلّ على الارتفاع عند حصولها لانسباق ذلك منها- أوّلًا- وإنّه مقتضى تقييده بها بحيث لو لم تدلّ على الارتفاع لما كان ما جعل غاية له بغاية- ثانياً- مثل قوله عليه السلام «كلّ شي ء حلال حتّى تعرف إنّه حرام» فإنّه ظاهر في أنّ الحلّية محدودة بالعلم بالحرمة بحيث إذا حصل العلم بالحرمة لا يبقى موقع للحكم بالحلّية فإنّه تناقض بحت، بخلاف ما إذا

كانت قيداً للموضوع مثل «سر من البصرة إلى الكوفة» فإنّه لا يدلّ على أزيد من أنّ تحديده بذلك إنّما يكون بملاحظة تضييق دائرة موضوع الحكم الشخصي المذكور في القضيّة، والدلالة على أزيد من ذلك تحتاج إلى إقامة دليل من ثبوت الوضع لذلك أو ثبوت انوار الأصول، ج 2، ص: 52

قرينة ملازمة لذلك، لا يقال: على هذا فما هي الفائدة في هذا التحديد؟ لأنّا نقول: الفائدة غير منحصرة في الدلالة على الارتفاع كما مرّ في الوصف. (انتهى).

الثاني: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله، فإنّه بعد أن وافق تفصيل المحقّق الخراساني رحمه الله المزبور ثبوتاً قال بالنسبة إلى مقام الإثبات: «الأدوات الموضوعة للدلالة على كون مدخولها غاية بما إنّها لم توضع لخصوص تقييد المفاهيم الإفراديّة كالوصف، ولا لخصوص تقييد الجمل التركيبية كأدوات الشرط تكون بحسب الوضع أمراً متوسّطاً بين الوصف وأدوات الشرط في الدلالة على المفهوم وعدمها، فهي بحسب الوضع لا تكون ظاهرة في المفهوم في جميع الموارد، ولا غير ظاهرة فيه في جميعها، لكنّها بحسب التراكيب الكلاميّة لابدّ أن تتعلّق بشي ء، والمتعلّق لها هو الفعل المذكور في الكلام لا محالة، فتكون حينئذٍ ظاهرة في كونها من قيود الجملة لا من قيود المفهوم الإفرادي فتلحق بأدوات الشرط من هذه الجهة فتكون ظاهرة في المفهوم، نعم فيما إذا قامت قرينة على دخول الغاية في حكم المغيّى كما في «سر من البصرة إلى الكوفة» كان ظهور القيد في نفسه في رجوعه إلى الجملة معارضاً بظهور كونه قيداً للمعنى الإفرادي من جهة مناسبة ذلك لدخول الغاية في حكم المغيّى، فيكون الظهوران متصادمين، فإن كان أحدهما أظهر من الآخر قدّم ذلك، وإلّا لم ينعقد للكلام ظهور أصلًا» «1».

الثالث: ما أفاده بعض الأعلام

في محاضراته وحاصله: إنّ الغاية إذا كانت قيداً للمتعلّق (كقوله تعالى: «أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ») أو الموضوع (كما في مثل قوله تعالى: «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ») فحالها حال الوصف فلا تدلّ على المفهوم، وإذا كانت قيداً للحكم (كقوله عليه السلام: كلّ شي ء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام) فحالها في مقام الثبوت حال القضيّة الشرطيّة، بل لا يبعد كونها أقوى دلالة منها على المفهوم، ضرورة أنّه لو لم يدلّ على المفهوم لزم من فرض وجود الغاية عدمه، يعني ما فرض غاية له ليس بغاية وهذا خلف، فظهر أنّ دلالة الغاية على المفهوم ترتكز على ظهور القضيّة في رجوعها إلى الحكم «2».

الرابع: ما أفاده المحقّق العراقي رحمه الله وحاصله: أنّ الذي يسهّل الخطب هو ظهور القضايا الغائيّة كلّية في نفسها في رجوع الغاية فيها إلى النسبة الحكميّة، وأنّ وجوب إكرام زيد في قوله:

انوار الأصول، ج 2، ص: 53

«أكرم زيداً إلى أن يقدم الحاج» هو المغيّى بالغاية التي هي قدوم الحاج، وعليه فلا جرم تكون القضيّة دالّة على انتفاء سنخ وجوب الإكرام عن زيد عند الغاية، من جهة أنّ احتمال ثبوت شخص وجوب آخر له فيما بعد الغاية ممّا يدفعه قضية الإطلاق المثبت لانحصاره في ذلك الفرد من الطلب الشخصي، نعم لو كانت الغاية في القضيّة راجعة إلى خصوص الموضوع أو المحمول (لا إلى النسبة الحكميّة) لكان للمنع عن الدلالة على ارتفاع سنخ الحكم عمّا بعد الغاية كمال مجال «1».

أقول: لا يخفى أنّ مرجع أكثر هذه البيانات إلى أنّ القيد إن كان قيداً للحكم يدلّ على المفهوم، وإن لم يكن قيداً للحكم لا يدلّ على المفهوم، مع أنّه قد مرّ أنّ القيد في جميع الموارد يرجع إلى

الحكم إلّاأنّه تارةً يرجع إليه بلا واسطة، واخرى يرجع إليه مع الواسطة (وهي الموضوع أو المتعلّق).

هذا- مضافاً إلى أنّ أداة الغاية إنّما هي من أداة الجرّ، ولا إشكال في أنّ الجار والمجرور متعلّق بالفعل دائماً كما قرّر في محلّه، وبهذا اللحاظ تكون الغاية قيداً للحكم بلا واسطة في جميع الموارد ولو قلنا بأنّ الوصف قد يكون قيداً للموضوع.

وأمّا ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله من أنّ قيد «إلى الكوفة» في قولك «سر من البصرة إلى الكوفة» قيد للموضوع (أي المفهوم الافرادي على تعبيره) وهو السير، من باب أنّ الغاية وهي الكوفة في هذا المثال داخلة في المغيّى- فهو في غير محلّه، لأنّ مرجع جميع القيود هو الفعل وإن كانت راجعة ابتداءً إلى الموضوع.

هذا- مضافاً إلى عدم الدليل على دخول الغاية (وهو الكوفة) في المثال المزبور في المغيّى ولا شاهد له.

ومنه يظهر الحال فيما أفاده في المحاضرات.

وأمّا كلام المحقّق العراقي رحمه الله فيرد عليه: أنّ رجوع القيد إلى النسبة الحكميّة لا ينفكّ في الحقيقة عن الرجوع إلى الحكم، وأيّ فرق بين تقييد وجوب إكرام زيد بمجيئه، أو تقييد نسبة الوجوب إلى الإكرام بذلك؟

انوار الأصول، ج 2، ص: 54

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ الغاية تدلّ على المفهوم لأنّ الظاهر رجوع القيد إلى الحكم في جميع الموارد، وبالنتيجة يكون دالًا على المفهوم ما لم تقم قرينة على خلافه.

هذا كلّه في الجهة الاولى.

وأمّا الجهة الثانية- وهي دخول الغاية في المغيّى بحسب الحكم وعدمه:

ففيها خمسة وجوه أو خمسة أقوال:

الأوّل: الدخول مطلقاً.

الثاني: الخروج مطلقاً وقد ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله وفي تهذيب الاصول.

الثالث: التفصيل بين ما إذا كانت الغاية من جنس المغيّى كقوله تعالى: «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ» (حيث

إنّ المرافق من جنس الأيدي) فهي داخلة فيه، وبين ما إذا لم تكن الغاية من جنس المغيّى كقوله تعالى «أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ» فهي خارجة عنه.

الرابع: التفصيل في أدات الغاية بين كلمة «إلى» وكلمة «حتّى»، فإن كانت الغاية مدخولة لكلمة «إلى» كانت خارجة عن المغيّى، وإن كانت مدخولة لكلمة «حتّى» كانت داخلة فيه، وقد ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله.

الخامس: عدم كونها داخلة في المغيّى أو خارجة عنه على نحو العموم بل المقامات مختلفة بحسب اختلاف المقامات والقرائن الموجودة فيها، مع فقد القرينة يكون المرجع هو الأصل العملي.

ولا إشكال في أنّ محلّ البحث في المقام ما إذا كانت الغاية ذات أجزاء كالكوفة في مثال «سر من البصرة إلى الكوفة» ومثل سورة الإسراء في قولك: «اقرأ القرآن إلى سورة الإسراء» وأمّا إذا لم يتصوّر لها أجزاء مثل قولك: «اقرأ القرآن من أوّله إلى آخره» أو «اقرأ القرآن إلى آخر الجزء العاشر» فهو خارج عن محلّ الكلام كما لا يخفى.

وكيف كان، فقد استدلّ المحقّق الخراساني رحمه الله للقول الثاني: (أي خروج الغاية عن المغيّى مطلقاً) بأنّ الغاية من حدود المغيّى فلا تكون محكومة بحكمه لأنّ حدّ الشي ء خارج عن الشي ء.

انوار الأصول، ج 2، ص: 55

وفيه: إنّ المسألة لفظية لا مدخل للعقل فيها بل لابدّ فيها من الرجوع إلى الاستظهارات العرفيّة من اللفظ.

واستدلّ في تهذيب الاصول بأنّ الكوفة لو كانت اسماً لذلك الموضع المحصور بسورها وجدرانها وفرضنا أنّ المكلّف سار من البصرة منتهياً سيره إلى جدرانها من دون أن يدخل جزء من الكوفة يصدق أنّه أتى بالمأمور به وامتثل، ويشهد على ما ذكرنا صدق قول القائل:

«قرأت القرآن إلى سورة الإسراء» إذا انتهى به القراءة إلى الإسراء، ولم يقرأ شيئاً

من تلك السورة، وقس عليه نظائره وأشباهه «1».

أقول: لا يرد عليه ما أوردناه على المحقّق الخراساني رحمه الله، فإنّه قد ورد في المسألة من بابها، أي من طريق العرف والاستظهارات العرفيّة.

ولكن يرد عليه أيضاً: إنّا لا نحرز كون حكم العرف بذلك من باب ظهور اللفظ، بل لعلّه لأجل جريان أصل البراءة عن الأكثر، أي عن وجوب السير في الكوفة، وذلك من باب عدم قيام دليل على وجوبه وقصور اللفظ عنه، فتصل النوبة إلى أصالة البراءة، وتظهر الثمرة بينهما فيما عارضه دليل لفظي آخر، فعلى الأوّل يكون من قبيل المتعارضين، وعلى الثاني ترفع اليد عن الأصل العملي بسبب الأمارة.

أمّا القول الثالث: وهو التفصيل بين ما إذا كانت الغاية متّحدة في الجنس مع المغيّى وما إذا كانت مختلفة معه- فلم نتحقّق له وجهاً، والإنصاف أنّه وإن كان من الممكن أن يصير الاتّحاد في الجنس قرينة على الدخول إلّاأنّ دعواه على نحو كلّي شامل لجميع الموارد مشكلة جدّاً.

وأمّا القول الرابع: وهو التفصيل بين كلمة «حتّى» و «إلى»- فاستدلّ له المحقّق النائيني رحمه الله بأنّ «كلمة حتّى تستعمل غالباً في ادخال الفرد الخفي في موضع الحكم فتكون الغاية حينئذٍ داخلة في المغيّى لا محالة» «2» ولكنّه إنّما نشأ من الخلط بين حتّى العاطفة والخافضة (كما أشار إليه بعض الأعلام في هامش أجود التقريرات) فهي في جميع الموارد التي استعملت لادخال الفرد الخفي كما في قولنا: «مات الناس كلّهم حتّى الأنبياء» (فإنّ الأنبياء في هذا المثال يعدّ فرداً خفياً بالنسبة إلى حكم الموت) لا تدلّ على كون ما بعدها غاية لما قبلها بل هي من أداة العطف حينئذٍ كما لا يخفى.

انوار الأصول، ج 2، ص: 56

وقد ظهر بما ذكرنا ضعف القول الأوّل

أيضاً (وهو الدخول مطلقاً) كما ظهر أنّ الحقّ هو القول الخامس، وهو أنّه لا ظهور لأداة الغاية لا في دخول الغاية في المغيّى ولا في خروجها عنه، فلا بدّ من تعيين ما تقتضيه القرينة، وهي مختلفة بحسب اختلاف المقامات والمناسبات، ومع عدم وجود قرينة يصير الكلام مجملًا، وقد يؤيّد ذلك ما نشاهده في المحاورات العرفيّة من السؤال عن أنّ الغاية داخلة في المغيّى أو خارجة عنه؟ ففي ما إذا قيل مثلًا: «اقرأ القرآن إلى الجزء العاشر» ولا توجد في البين قرينة قإنهّ يتساءل: هل تجب قراءة الجزء العاشر أيضاً أو لا؟

ثمّ إنّ الظاهر أنّ الأصل العملي في صورة الشكّ والإجمال وفقد القرينة هو البراءة لا الاستصحاب، لأنّ من أركان الاستصحاب وحدة الموضوع، ولا إشكال في أنّ ما بعد الغاية موضوع آخر غير ما قبلها، ولا أقلّ في أنّه كذلك في أكثر الموارد.

بقي هنا شي ء

وهو كلام شيخنا المحقّق الحائري رحمه الله في الدرر: فإنّه قال: «التحقيق في المقام أنّ الغاية التي جعلت محلًا للكلام في هذا النزاع لو كان المراد منها هو الغاية عقلًا أعني انتهاء الشي ء فهذا مبني على بطلان الجزء غير القابل للتقسيم وصحّته، فإن قلنا بالثاني فالغاية داخلة في المغيّى يقيناً فإنّ انتهاء الشي ء على هذا عبارة عن جزئه الأخير، فكما أنّ باقي الأجزاء داخلة في الشي ء كذلك الجزء الأخير، وإن قلنا بالأوّل فالغاية غير داخلة لأنّها حينئذٍ عبارة عن النقطة الموهومة التي لا وجود لها في الخارج ...» ثمّ ذكر احتمالًا ثانياً وهو أن يكون محلّ النزاع مدخول حتّى وإلى، وأن لا يكون غاية عقلًا، وفصّل بين ما إذا كانت الغاية قيداً للفعل (للموضوع) وما إذا كانت قيداً للحكم «1». (انتهى محلّ

الحاجة).

أقول: الإنصاف أنّ المسألة لفظيّة لا تناسبها ولا ترتبط بها مسألة عقليّة، فلا مجال لما ذكره في الشقّ الأوّل من كلامه.

4- الكلام في مفهوم الحصر
اشارة

إنّ للحصر أدوات:

منها: كلمة «إلّا» الاستثنائيّة (إذا وردت بعد النفي) فقام الإجماع ووقع الاتّفاق فيها (غير ما نسب إلى أبي جنيفة) على انتفاء الحكم الثابت للمستثنى منه عن المستثنى، والدليل عليه هو التبادر، ففي قولك «ما جاء القوم إلّازيداً» لا إشكال في أنّ المتبادر منه إخراج زيد عن حكم المجي ء الثابت للقوم، وهذا جارٍ في كلّ ما يعادل كلمة «إلّا» في سائر اللغات.

ونسب الخلاف إلى أبي حنيفة، وحكي إنّه احتجّ لمذهبه بقوله صلى الله عليه و آله، «لا صلاة إلّابطهور» وقوله صلى الله عليه و آله، «لا صلاة إلّابفاتحة الكتاب» إذ لو كان الاستثناء من النفي إثباتاً لزم كفاية الطهور أو الفاتحة في صدق الصّلاة، وإن كانت فاقدة لباقي الشرائط والأجزاء، وهو كما ترى.

واجيب عنه: بوجوه أحسنها أنّه غفل عن كلمة «الباء» في المثالين، حيث إنّها فيهما بمعنى «مع» ومفادهما حينئذٍ: إنّ من شرائط صحّة الصّلاة فاتحة الكتاب والطهور، نعم لو قيل: «لا صلاة إلّافاتحة الكتاب» أو «لا صلاة إلّاالطهور» من دون الباء كان لكلامه وجه.

سلّمنا، ولكن الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز، ومجرّد الاستعمال لا يكون دليلًا على الحقيقة أو المجاز، بل الميزان في تشخيص أحدهما عن الآخر هو التبادر ونحوه من الإطّراد وغيره، ولا إشكال في أنّ التبادر في ما نحن فيه يقضي على دلالة كلمة «إلّا» على الاستثناء.

وللمحقّق النائيني رحمه الله هنا تفصيل مرّ منه في بعض الأبحاث السابقة أيضاً، فإنّ المعيار الكلّي عنده في باب المفاهيم رجوع القيد إلى الحكم أو إلى الموضوع.

وبعبارة اخرى: رجوع القيد إلى الجملة أو إلى المفرد،

فإن رجع إلى الجملة فله المفهوم، وإن رجع إلى المفرد فليس له المفهوم، وهنا صرّح بأنّ كلمة «إلّا» كلّما رجع إلى المفهوم الإفرادي فهي وصفية لا تدلّ على المفهوم، وكلّما رجعت إلى المفهوم التركيبي فهي استثنائيّة تدلّ على انوار الأصول، ج 2، ص: 58

المفهوم، ثمّ ذكر فروعاً نقلًا عن المحقّق رحمه الله في الشرائع والعلّامة رحمه الله في القواعد، وفرّعها على هذا البحث، منها: «ما لو قال المقرّ: عليّ لزيد عشرة إلّادرهماً» فإنّه يثبت حينئذٍ في ذمّته تسعة دراهم لأنّ كلمة «إلّا» في هذا الكلام لا تكون إلّااستثنائيّة إذ لو كانت وصفيّة لوجب أن يتّبع ما بعدها ما قبلها في الاعراب، وبما أنّ ما بعدها في المثال منصوب مع كون ما قبلها مرفوعاً لا تكون هي وصفية فانحصر الأمر في كونها استثنائيّة، خلافاً لما إذا قال: «عليّ لزيد عشرة إلّا درهم» بالرفع فإنّه يثبت في ذمّته تمام العشرة لتمحّض كلمة «إلّا» حينئذٍ في الوصفيّة ولا يصحّ كونها استثنائيّة وإلّا لزم أن يكون ما بعدها منصوباً على الاستثناء، لأنّ الكلام موجب، فتمام العشرة المتّصفة بأنّها غير درهم واحد تثبت في ذمّة المقرّ» «1».

أقول: هنا نكات ينبغي الإلتفات إليها:

الاولى: أنّه ليست كلمة «إلّا» الاستثنائيّة منحصرة فيما ترجع إلى الجملة والمفهوم التركيبي بل ربّما ترجع إلى المفرد أيضاً كما في قوله تعالى: «فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً» فلا إشكال في رجوع «إلّا خمسين عاماً» إلى كلمة «الف سنة» لا إلى «لبث» وكذلك في كلّ مورد يكون الغرض فيه بيان مقدار العدد وتفخيمه وتعظيمه.

الثانية: أنّ كلامه في باب الإقرار إنّما يتمّ فيما إذا كان المتكلّم المقرّ أمثال سيبويه والكسائي العارف بقواعد اللغة العربيّة الفصحى، وأمّا إذا كان المتكلّم

من عامّة الناس فلا بدّ من حمل كلمة «إلّا» على كونها استثنائيّة لأنّهم ليسوا مقيّدين بأن يستعملوا الألفاظ صحيحاً، مضافاً إلى أنّ كون كلمة إلّااستثنائيّة هو مقتضى الأصل الأوّلي، فحملها على الوصفية يحتاج إلى القرينة.

بقي هنا أمران الأمر الأوّل: إنّ ما مرّ حول كلمة إلّاالاستثنائيّة من دلالتها على المفهوم هل هو من باب المفهوم أو المنطوق؟

فيه أقوال:

انوار الأصول، ج 2، ص: 59

أحدها: إنّه من المفهوم.

ثانيها: إنّه من المنطوق.

ثالثها: التفصيل بين ما إذا قلنا بأنّ كلمة إلّابمعنى «استثنى» فيكون داخلًا في المنطوق، وبين ما إذا قلنا بأنّها حرف من الحروف الربطيّة التي ليس لها معنى مستقلّ، فيكون مدلولها من قبيل المداليل الالتزاميّة، ويكون داخلًا في المفهوم.

أقول: إنّ مدلول كلمة إلّاالاستثنائيّة على أي حال- سواء كانت بمعنى الفعل أو كانت من الحروف- يكون من المنطوق، أمّا إذا كانت بمعنى الفعل فواضح، وأمّا إذا كانت حرفاً من الحروف فلأنّها حينئذٍ تكون من الحروف الإيجاديّة يوجد بها معنى الاستثناء كحروف النداء وحروف التمنّي والترجّي التي يوجد بها مفهوم النداء والتمنّي والترجّي، وتصير حينئذٍ بمنزلة كلمة «استثنى» ويصير مدلولها من قبيل المنطوق كما لا يخفى.

الأمر الثاني: قد يستدلّ لدلالة كلمة إلّاالاستثنائيّة على الحصر بقبول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إسلام من يشهد بأن «لا إله إلّااللَّه» حيث إنّه لولا دلالته على حصر الالوهيّة للَّه تعالى لما كان مفيداً لذلك.

واستشكل على ذلك بأنّ الاستعمال ليس دليلًا على الحقيقة ولا على المجاز، ودلالة كلمة التوحيد على الحصر المزبور لعلّها من باب قيام قرينة حاليّة أو مقاميّة عليه لا من باب وضع كلمة إلّاللحصر.

أقول: الإنصاف أنّه خلاف الوجدان، فإنّه شاهد على أنّ الحصر في هذه الجملة مفهوم من نفس كلمة إلّاومن حاقّها لا

من القرينة فيكون الاستدلال بكلمة التوحيد على الحصر من قبيل الاستدلال بالتبادر كما لا يخفى.

نعم هيهنا إشكال آخر، وهو المهمّ في المقام، وحاصله: إنّه لابدّ لكلمة «لا» في تلك الجملة من خبر مقدّر، وهو امّا لفظ «موجود» أو «ممكن»، وعلى كلّ واحد منهما لا تدلّ الجملة على التوحيد الكامل، لأنّها تدلّ على التقدير الأوّل على مجرّد حصر الإله في الباري تعالى، ولا تدلّ على نفي إمكان الغير، وعلى التقدير الثاني وإن كانت دالّة على نفي إمكان الشريك له تعالى حينئذٍ ولكنّها لا تدلّ على وجوده تعالى في الخارج.

وقد وقع الإعلام في حلّ هذا الإشكال في حيص وبيص وأجابوا عنه بوجوه:

انوار الأصول، ج 2، ص: 60

الوجه الأوّل: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله وحاصله: إنّ المقدّر لخبر «لا» هو لفظ «موجود» أي لا إله موجود إلّااللَّه، ولكن المراد من الإله هو واجب الوجود، وحينئذٍ نفي وجود غيره في الخارج وإثبات فرد من الواجب في الخارج ممّا يدلّ على إمتناع غيره، إذ لو لم يكن الغير ممتنعاً لوجد في الخارج، لأنّ المفروض إنّه واجب لا ممكن.

الوجه الثاني: ما أفاده المحقّق الإصفهاني رحمه الله وحاصله: سواء كان المقدّر لفظ «موجود» أو لفظ «ممكن» كان وجود الغير وإمكانه معاً منتفيان، إمّا بناءً على الأوّل فبنفس ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله، وأمّا بناءً على الثاني فلأنّه يكون المراد من الإله في هذا الحال أيضاً هو واجب الوجود، أي لا واجب ممكن إلّااللَّه، فينفي إمكان الغير بالمدلول المطابقي ووجود الغير بالمدلول الالتزامي (على عكس الصورة الاولى) لأنّ ما ليس بممكن لا يكون موجوداً بالملازمة كما لا يخفى، كما أنّه يثبت إمكان وجود الباري تعالى بالمطابقة ووجوده في الخارج بالملازمة لأنّه إذا

كان واجب الوجود ممكناً كان موجوداً لا محالة لوجوبه «1».

الوجه الثالث: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله فإنّه قال: «يمكن أن يقال: إنّ كلمة لا الواقعة في كلمة التوحيد مستغنية عن الخبر كما هو الحال في كلمة لولا الامتناعيّة وفي كلمة ليس التامّة، وأمّا ما ذكره النحويون من كون الخبر محذوفاً في هذه الموارد فلا يبعد أن يكون مرادهم به عدم الحاجة إلى الخبر فيها لا أنّه محذوف حقيقة، فكلمة «لا» تدلّ على عدم تقرّر مدخولها في الوعاء المناسب له، ففي الرّواية المعروفة (لولا علي لهلك عمر) يكون المراد ترتّب الهلاك على عدم تقرّر علي عليه السلام في الخارج، لأنّ هذا هو الوعاء المناسب لتقرّره عليه السلام، وإمّا في كلمة التوحيد فالمراد من التقرّر المنفي هو التقرّر مطلقاً ولو في مرحلة الإمكان، فتدلّ الكلمة المباركة على نفي الوجود والإمكان عن غير اللَّه وإثبات كليهما له تبارك وتعالى» «2».

أقول: الإنصاف أنّ ما أفاده العلمان الأوّلان (المحقّق الخراساني والمحقّق الإصفهاني رحمهما الله) كلاهما لا يكفيان لدفع الإشكال لأنّهما مبنيان على دقّة عقليّة فلسفيّة لا يفهمها إلّاالفيلسوف، مع أنّ المفروض أنّ هذه الكلمة من أي شخص صدرت تدلّ على إسلامه، وأمّا ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله فإنّه أيضاً غير تامّ لجهة اخرى وهي أنّه لم يثبت استعمال كلمة «لا» تامّة نظير ليس انوار الأصول، ج 2، ص: 61

التامّة في كلمات العرب، إذن لابدّ من دفع الإشكال بطرق اخر فنقول: هيهنا وجوه ثلاثة يمكن دفع الإشكال بها:

الأوّل: إنّ كلمة التوحيد ليست ناظرة إلى توحيد الذات وإثبات أصل وجود واجب الوجود، بل إنّها سيقت للتوحيد الأفعالي ولنفي ما يعتقده عبدة الأوثان، ويشهد لذلك أنّ المنكرين الموجودين في صدر الإسلام لم

يكونوا مشركين في ذات الواجب تعالى بل كانوا معتقدين بوحدة ذاته وخاطئين في توحيد عبادته فكانوا يعبدون الأصنام ليقربوهم إلى اللَّه زلفى (بزعمهم)، فكلمة الإخلاص حينئذٍ وردت لردّهم ولنفي استحقاق العبوديّة عن غيره تعالى فيكون معناها: «لا مستحقّ للعبوديّة إلّااللَّه».

الثاني: إنّه لا إشكال في إمكان تقدير كلمة «موجود» و «ممكن» معاً، فكما يجوز إتيان الخبر في الظاهر متعدّداً، كذلك يجوز تقديره متعدّداً فيما إذا قامت القرينة عليه، والمقام كذلك.

الثالث: إنّ المعتبر في الشهادة على التوحيد عند الفقهاء هو نفي وجود الغير فقط وأمّا الإمكان فهو من المفاهيم التي لا يمكن تصوّرها لعامّة الناس، مع أنّ كلّ فقيه يفتي بإسلام كلّ من أقرّ بالتوحيد بهذه الكلمة، فلا يجب في دلالتها على التوحيد دلالتها على امتناع غيره تعالى، بل يكفي فيها دلالتها على عدم وجود إله غيره سبحانه، فيمكن أن يكون المقدّر حينئذٍ خصوص كلمة «موجود» لا كلمة «ممكن» فتأمّل.

هذا تمام الكلام في مفهوم كلمة «إلّا».

من أداة الحصر كلمة «إنّما»

وهي تدلّ على المفهوم عند كثير من الاصوليين، واستدلّ له بوجهين:

الأوّل: إجماع النحات وتنصيص أهل اللغة به.

الثاني: التبادر.

واستشكل في التبادر بأنّه لا سبيل لنا إليه لأنّا لا نعرف المرادف لها في عرفنا حتّى نستكشف منه ما هو المتبادر منها بخلاف ما هو بأيدينا من الألفاظ المترادفة لبعض الكلمات العربيّة كما في أداة الشرط مثلًا نظير كلمة «إنّ» حيث يوجد لها في اللغة الفارسيّة ما يرادفها وهو لفظة «اگر».

انوار الأصول، ج 2، ص: 62

ولكن يرد عليه:

أوّلًا: أنّ ملاك التبادر ليس هو انسباق المعنى إلى أذهاننا فحسب، بل انسباق المعنى إلى أذهان أهل اللسان أيضاً حيث يعتبر سبيلًا إلى العلم بالوضع، وهو موجود في المقام.

وثانياً: أنّ العرب مثلًا ليسوا منحصرين بمن تولّد على ذلك

اللسان وعاش عليه، بل يعمّ أيضاً كلّ عجمي يمارس اللغة العربيّة، وقد ألّف كثير من الأعاجم الكتب النافعة في العلوم العربيّة من اللغة وغيرها.

ثمّ إنّ الفخر الرازي أنكر دلالة كلمة «إنّما» على الحصر، وقد صرّح بذلك في ذيل قوله تعالى: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ» «1»

وقال: «قالت الشيعة: هذه الآية دالّة على أنّ الإمام بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هو علي بن أبي طالب، وتقريره أن نقول: هذه الآية دالّة على أنّ المراد بهذه الآية إمام (لأنّ الولي في هذه الآية لا يجوز أن يكون بمعنى الناصر فوجب أن يكون بمعنى المتصرّف لأنّ الولاية المذكورة في هذه الآية غير عامّة لكلّ المؤمنين بدليل إنّه تعالى ذكر بكلمة «إنّما»، وكلمة «إنّما» للحصر، والولاية بمعنى النصرة عامّة)، ومتى كان الأمر كذلك وجب أن يكون ذلك الإمام هو علي بن أبي طالب (لأنّ كلّ من أثبت بهذه الآية إمامة شخص قال: إنّ ذلك الشخص هو علي، مضافاً إلى أنّ الرّوايات تظاهرت على أنّ هذه الآية نزلت في حقّ علي) ...- إلى أن قال- «لا نسلّم أنّ الولاية المذكورة في الآية غير عامّة ولا نسلّم أنّ كلمة إنّما للحصر، والدليل عليه قوله «إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ» ولا شكّ أنّ اللعب واللهو قد يحصل في غيرها» «2».

والجواب عنه:

أوّلًا: أنّ مجرّد الاستعمال ليس دليلًا على الحقيقة ولا على المجاز كما مرّ كراراً.

ثانياً: أنّ الحصر في الآية إضافي، والمقصود منه زوال الدنيا وعدم ثباتها، أي أنّ الحياة الدنيا بالإضافة إلى أمر الثبات وعدم الثبات منحصرة في عدم الثبات، فمثلها في هذه الجهة مثل: «كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ

فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَاراً

انوار الأصول، ج 2، ص: 63

فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ» «1».

هذا- مضافاً إلى أنّ كلامه ينتقض بما ورد في الحياة الدنيا في آيات الكتاب بكلمة «إلّا» نظير قوله تعالى «وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ» «2»

وقوله سبحانه: «وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ» «3»

حيث لا شبهة في إفادة كلمة «إلّا» الحصر ولا ينكرها أحد فيما نعلم إلّاأبو حنيفة.

بقي هنا شي ء

وهو أنّ دلالة كلمة «إنّما» على الحصر أيضاً ليست بالمفهوم بل هي بالمنطوق حيث إنّها بمنزلة كلمة «فقط» أو كلمة «منحصراً» فكما إنّه لا إشكال في أنّ دلالتهما على الحصر يكون من باب المنطوق كذلك ما تقوم مقامهما.

ومن أداة الحصر كلمة «بل»

وقد ذكر لها ثلاثة معان:

أحدها: الإضراب عن الخطأ، أي الدلالة على أنّ المضروب عنه وقع عن غفلة أو غلطاً، نحو «جاءني زيد بل عمرو»، ولا دلالة لها حينئذٍ على الحصر، وهو واضح.

ثانيها: الإضراب عن الفرد الضعيف إلى الفرد القوي أو للدلالة على تأكيد المضروب عنه وتقريره، كقولك: «أنت لا تقدر على ذلك بل ولا أبوك» وقولك: «زيد لا يقدر على الجواب عن هذا بل ولا أعلم منه» وهذا أيضاً كالسابق.

ثالثها: الدلالة على الردع وإبطال ما ثبت أوّلًا كما في قوله تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ» «4»

وقوله سبحانه: «وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ» «5»

،

انوار الأصول، ج 2، ص: 64

فقال بعض بدلالة هذا القسم على الحصر بل المحقّق الخراساني رحمه الله ادّعى وضوح دلالته عليه.

لكن الإنصاف أنّها لا تدلّ عليه أيضاً بنفسها بل دلالتها عليه إنّما تكون بمساعدة قرينة المقام.

هذا- مضافاً

إلى أنّ الحصر المستفاد منها في هذه الموارد إضافي غالباً.

ومنها تعريف المسند إليه باللام

نظير قولك: «الضارب زيد» أو «الضارب عمرو»، والحصر فيه إمّا يستفاد من مجرّد حمل الخبر على المبتدأ أو من اللام، أمّا اللام فلا إشكال في أنّها لم توضع للحصر بل تدلّ عليه فيما إذا كانت للاستغراق، وبما أنّها تارةً تكون للجنس، واخرى للعهد، وثالثة للاستغراق فلا تدلّ على الحصر إلّاإذا قامت قرينة على أنّها للاستغراق، فيستفاد منه حينئذٍ حصر جميع الافراد في المحمول.

وأمّا الحمل فيدلّ على الحصر فيما إذا كان ذاتياً (وملاك الحمل الذاتي هو الوحدة في المفهوم) فيدلّ حينئذٍ على أنّ الموضوع منحصر في المحمول ولا يكون أخصّ وأضيق منه، وأمّا إذا كان الحمل شائعاً صناعياً فلا يدلّ عليه، لأنّ ملاك الحمل الشائع هو مجرّد الاتّحاد الخارجي ولو كان الموضوع أخصّ وأضيق من المحمول، ولا إشكال في أنّ مجرّد حمل شي ء على جنس أو ماهيّة بالحمل الشائع لا يقتضي حصر ذلك الجنس به، وذلك لجواز إرادة قسم خاصّ أو فرد خاصّ منه، وحيث إنّ الحمل تارةً يكون ذاتياً واخرى صناعياً (بل الغالب كذلك) فلا يدلّ على الحصر إلّاإذا قامت قرينة على أنّه ذاتي.

فظهر ممّا ذكر أنّ مجرّد تعريف المسند إليه باللام لا يدلّ على الحصر، بل إنّما يدلّ عليه فيما إذا قامت القرينة إمّا على كون اللام للاستغراق أو على كون الحمل ذاتياً ونتيجته عدم ثبوت المفهوم في هذا القسم من الأداة.

5- الكلام في مفهوم اللقب

والمقصود منه في المقام ليس هو اللقب المصطلح عند النحّاة بل كلّ اسم (سواء كان مشتقّاً أو جامداً، وسواء كان نكرة أو معرفة) وقع موضوعاً للحكم من دون أن يكون توصيفاً لشي ء، ولا مفهوم له عند الكلّ لأنّه إنّما يثبت شيئاً لشي ء، وإثبات الشي ء لا يكون نفياً لما عداه.

نعم، ربّما يتوهّم ثبوت

المفهوم له ببيان إنّه إذا قال المولى مثلًا: «أكرم زيداً» يستفاد منه عرفاً عدم كفاية إكرام عمرو.

ولكنّه مندفع بأنّ عدم كفاية عمرو في المثال ليس من باب المفهوم بل إنّما هو من باب عدم الإتيان بالمأمور به، لأنّ التكليف تعلّق بإكرام زيد لا عمرو، كما أنّه كذلك في أبواب الأوقاف والوصايا والنذور، فإنّ عدم شمول الحكم فيها لغير المتعلّق ليس من باب المفهوم كما مرّ سابقاً بل لأنّ الوصيّة مثلًا تحتاج إلى الإنشاء، والإنشاء تعلّق بمورد خاصّ لا غير.

هذا- مضافاً إلى ما مرّ في بعض الأبحاث السابقة بالنسبة إلى هذه الامور، وهو أنّ الواقف أو الموصي أو الناذر إنّما يكون في مقام التحديد والإحتراز، ومقتضى قاعدة إحترازيّة القيود عدم شمول الحكم للغير.

كما قد مرّ أيضاً أنّ المسألة ليست مبنية على أنّ ما ينتفي هل هو شخص الحكم أو سنخه حتّى يقال: إنّ ما ينتفي في مثل هذه الموارد إنّما هو شخص الحكم، وانتفاء الشخص ليس من باب المفهوم- لأنّ هذا من قبيل الخلط بين الإنشاء والمنشأ كما مرّ.

6- الكلام في مفهوم العدد

المشهور على أنّه لا مفهوم للعدد، والصحيح هو التفصيل بين أنواع العدد فإنّه على ثلاثة أنواع:

أحدها: ما يكون للتكثير كما في قوله تعالى: «إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ» «1»

وقوله سبحانه: «وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ» «2»

وفي هذا القسم لا مفهوم له بلا إشكال.

ثانيها: ما يكون للتعداد دون تحديد، ولا إشكال أيضاً في عدم دلالته على المفهوم، نعم استعمال العدد في هذا النوع قليل، نظير ما إذا قيل مثلًا بدل قوله تعالى: «وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ»: «وليشهد عذابهما عشر نفرات» فإنّه لا مفهوم له من جانب الأكثر وهو عدم جواز شهادة الأكثر

من عشر نفرات، وإن كان له المفهوم من جانب الأقلّ (إلّا أن يكون ذكره من باب المثال).

ثالثها: ما يكون في مقام التحديد، وهذا بنفسه على ثلاثة أقسام:

فتارةً يكون للتحديد بالإضافة إلى جانب الأقلّ، فيدلّ حينئذٍ مفهوماً على عدم جواز الاقتصار على الأقلّ، وإن جاز التعدّي إلى الأكثر، نحو قوله عليه السلام: «الكرّ ثلاثة أشبار ونصف في ثلاثة أشبار ونصف في ثلاثة أشبار ونصف».

واخرى يكون للتحديد بالإضافة إلى جانب الأكثر، فيدلّ حينئذٍ مفهوماً على عدم جواز التعدّي عن ذلك العدد، وإن جاز الاقتصار على الأقلّ، نظير ما يدلّ على جواز الفصل بين المصلّيْين بمقدار خطوة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 68

وثالثة يكون للتحديد بالإضافة إلى جانب الأقلّ والأكثر معاً، وهو نظير الأعداد الواردة في باب ركعات الصّلاة وأشواط الطواف، فيدلّ حينئذٍ بالمفهوم على عدم جواز الإقتصار على الأقلّ وعدم جواز التعدّي إلى الأكثر.

ثمّ إنّ دلالة العدد على المفهوم وكونه في مقام التحديد في هذه الأقسام وإن كانت بقرينة الحال أو المقام أو بمناسبات الحكم والموضوع ولكن أنّ جلّ الأعداد الواردة في لسان الشرع (لولا الكلّ) تكون في مقام التحديد- لابدّ من ذكرها هنا والبحث عنها، لأنّ القرائن المزبورة حينئذٍ تكون من قبيل القرائن العامّة، فينبغي للُاصولي أن يتكلّم فيها كما يتكلّم في سائر مباحث الألفاظ، وإليك نبذة من الأمثلة التي نحتاج فيها إلى هذا المبحث في المسائل الفقهيّة:

1- تعداد أشبار الكبرّ.

2- تعداد الغسلات للتطهير عن النجاسات: مرّتان في البول وثلاث مرّات في الكلب وسبع مرّات في الخنزير.

3- عدد منزوحات البئر سواء كان النزح واجباً أو مستحبّاً.

4- عدد أيّام العادة الأقلّ منها أو الأكثر.

5- عدد أغسال الميّت.

6- عدد قطعات الكفن.

7- عدد الركعات والسجدات والركوعات والقنوت والتسبيحات في الصّلاة.

8- عدد

فصول الأذان والإقامة.

9- عدد النصاب في الزّكاة والخمس.

10- عدد مقدار الزّكاة والخمس، أي نفس العشر أو نصف العشر الخمس.

11- عدد من تقوم بهم الجمعة والجماعة.

12- عدد أيّام الإقامة في السفر (عشرة أيّام مع القصد وثلاثون يوماً متردّداً).

13- عدد أيّام الصّيام.

14- عدد الكفّارات.

15- عدد الجلد في أبواب الحدود والتعزيرات.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ للعدد مفهوماً إذا كان في مقام التحديد كما أنّه كذلك في أغلب الموارد في انوار الأصول، ج 2، ص: 69

القوانين الشرعيّة، بل في القوانين العرفيّة أيضاً.

إلى هنا تمّ الكلام عن مبحث المفاهيم، والحمد للَّه ربّ العالمين.

انوار الأصول، ج 2، ص: 71

المقصد الرابع العام والخاص

4- العام والخاص

اشارة

وقبل الورود في أصل البحث لابدّ من الإشارة إلى عدّة امور:

الأمر الأوّل: في تعريف العام والخاص

فقد ذكر للعام تعاريف عديدة فقال في المحاضرات: إنّ العام معناه الشمول لغةً وعرفاً، وأمّا اصطلاحاً فالظاهر إنه مستعمل في معناه اللغوي والعرفي، ومن هنا فسّروه بما دلّ على شمول الحكم لجميع أفراد مدخوله، وسيأتي عدم تماميّة هذا التعريف لأنّ المطلق أيضاً يشتمل جميع أفراده إلّاأنّه بسبب جريان مقدّمات الحكمة فلا بدّ من تقييد الشمول في المقام بقيد يوجب إخراج المطلق، ولذلك نقول: «العام ما كان شاملًا بمفهوم اللفظ لكلّ فرد يصلح أن ينطبق عليه» «1».

أقول: ويمكن أن يعرّف العام أيضاً بأنّه ما يكون مستوعباً لجميع الأفراد التي يصدق عليها بمفهوم اللفظ.

لكن المحقّق الخراساني رحمه الله ذكر هنا أيضاً ما مرّ منه كراراً من أنّ التعاريف المذكورة تعاريف لفظيّة من قبيل شرح الاسم ثمّ بسط الكلام بما حاصله: إنّ كلمة «ما» التي تقع في جواب السؤال عن الأشياء على قسمين: ما الشارحة وما الحقيقيّة، والمستعمل في هذه التعاريف هي الاولى، فتكون التعاريف الواقعة في جواب السؤال عن العام شارحة لفظية لا حقيقية ماهويّة، ثمّ استدلّ له بوجهين:

الوجه الأوّل: اعتبار كون المعرّف في التعريف الحقيقي أجلى من المعرّف، ومن أنّ المعرّف انوار الأصول، ج 2، ص: 74

وهو المعنى المركوز في الأذهان من العام أوضح وأجلى ممّا عرف به ولذلك يجعل المقياس في النقض على التعريف عكساً أو طرداً صدق ذلك المعنى المركوز وعدم صدقه، فإن صدق المركوز على مورد ولم يشمله التعريف فيشكل عليه بعدم العكس، وإن لم يصدق هو على مورد وقد شمله التعريف فيشكل عليه بعدم الطرد.

الوجه الثاني عدم كون العام بمفهومه العام الشامل لجميع أفراده ومصاديقه محلًا لحكم من الأحكام كي يجب تعيين

مفهومه وتحديد معناه فيترتّب عليه حكمه الخاصّ، بل الأحكام إنّما هو لمصاديق العام وأفراده، والمصاديق كلّها معلومة واضحة.

أقول: أوّلًا: قد مرّ كراراً أنّ مقصود القوم في تعاريفهم للألفاظ هو بيان حقيقة الشي ء أو ما يكون كالماهيّة في الامور الاعتباريّة فيكون التعريف حقيقيّاً، كما يدلّ عليه تصريحهم بأنّهم بصدد تعريف الحقيقة والماهيّة، وأنّ القيد الفلاني هو لإخراج كذا أو لادخال كذا تحفّظاً على عكس التعريف وطرده، وهكذا جميع التعاريف التي تذكر في العلوم لموضوعاتها وموضوعات مسائلها.

ثانياً: المقصود من هذه التعاريف هو المبتدى ء في هذه العلوم حتّى يعرف موضوعات المسائل التي يبحث عنها في العلم لا العلماء البارعون في هذه الفنون حتّى يقال: إنّهم أعرف بمفاهيم هذه الألفاظ، هذا بالنسة إلى الوجه الأوّل ممّا ذكره في كلامه.

أمّا الوجه الثاني: ففيه: إن كان المراد منه عدم أخذ عنوان العام في لسان الآيات والرّوايات فهو كذلك، إلّاأنّه لا يستلزم عدم الحاجة إلى تعريف العام تعريفاً حقيقياً، لأنّ الداعي إلى تعريف الألفاظ الموجودة في علم الاصول ليس لأنّها مأخوذة في لسان الأدلّة، بل الداعي إنّما هو ترتّب سلسلة من الأحكام العقلائيّة أو العقليّة عليها في نفس هذا العلم (علم الاصول) كالأحكام التي تترتّب مثلًا على تعريف عنوان الاجزاء أو عنوان المشتقّ أو الحقيقة الشرعيّة والحقيقة اللغويّة، وكذلك سائر العناوين المطروحة في هذا العلم، وإن كان المراد إنكار انطباق أحكام على خصوص عنوان العام في نفس علم الاصول فهو ممنوع لأنّ بعض الأحكام يترتّب على نفس هذا العنوان كالبحث عن أنّه هل للعام صيغة تخصّه؟ أو أنّ العام حجّة قبل الفحص أم لا؟ وغيرهما من المباحث المنطبقة على عنوان العام.

الأمر الثاني: في أقسام العام

قد ذكروا للعام أقساماً ثلاثة: العام الافرادي (الاستغراقي) والعام المجموعي، والعام

البدلي، أمّا الافرادي فهو ما يلاحظ فيه كلّ فرد موضوعاً مستقلًا للحكم كقوله: «أكرم كلّ عالم» فقد لوحظ فيه كلّ فرد من العالم موضوعاً مستقلًا لوجوب الإكرام، بحيث لا يرتبط فرد من أفراده في تعلّق الحكم به بفرد آخر، فإذا أكرم بعض العلماء دون بعض فقد أطاع وعصى، لأنّ لكلّ فرد حكماً مستقلًا.

وأمّا المجموعي فهو ما يلاحظ فيه مجموع الأفراد موضوعاً واحداً لحكم واحد بحيث يكون كلّ واحد من الافراد جزءاً من الموضوع، ويحصل الامتثال بالإتيان بجميع الأفراد، فلو أتى بها إلّاواحداً مثلًا لم يتحقّق الامتثال، وبعبارة اخرى: يكون المجموع من حيث هو المجموع مشمولًا للحكم، فيكون له إطاعة واحدة وعصيان واحد، والإطاعة تحصل بالإتيان بالجميع والعصيان يحصل بترك أي فرد من الافراد.

أمّا العام البدلي فهو ما يلاحظ فيه واحد من الأفراد على البدل موضوعاً للحكم كما لو قال: «أكرم عالماً» فإنّه يحصل الامتثال فيه بإكرام واحد من العلماء وبعبارة اخرى: يكون له إطاعة واحدة وعصيان واحد لكن الإطاعة تحصل بإتيان أي فرد من الأفراد.

ولا يخفى عليك الثمرة التي تترتّب على الفرق الموجود بين هذه الأقسام خصوصاً في حنث النذر إذا تعلّق على عنوان عام، فإنّه لو نذر أحد مثلًا على أن يترك التدخين فإن كان الملحوظ فيه كلّ فرد من أفراد التدخين مستقلًا (أي على نحو العام الافرادي) يتحقّق الحنث بتعداد كلّ من الأفراد التي تحقّق في الخارج، ولا يوجب حنثه بالنسبة إلى فرد حنث سائر الأفراد، وإن كان الملحوظ المجموع من حيث المجموع (أي على نحو العام المجموعي) فله حنث واحد يحصل بالتدخين ضمن أي فرد من الافراد ويسقط سائر الافراد عن الوجوب، وإن كان الملحوظ ترك التدخين على نحو العام البدلي يحصل

الوفاء بترك فرد من الأفراد ويتحقّق الحنث إذا أتى بجميع الأفراد.

بقي هنا امور

الأمر الأوّل: في أنّ تفاوت هذه الأقسام الثلاثة هل هو باعتبار الحكم أو باعتبار ذات انوار الأصول، ج 2، ص: 76

العام؟ ذهب المحقّق النائيني رحمه الله إلى أنّ التفاوت يكون باعتبار الحكم لا بحسب الذات، والنتيجة عدم إمكان تصوّر هذه الأقسام قبل تصوّر الحكم، وذهب بعض إلى أنّ التفاوت بحسب الذات وإنّ لنا ثلاث تصوّرات مختلفة قبل ورود الحكم.

أقول: الصحيح هو الأوّل، لأنّ العام في جميع هذه الأقسام بمعنى واحد وهو الشمول، وهذا المعنى موجود في الثلاثة على وزن واحد، والتفاوت يحصل بتصوّر الحكم المتعلّق به ولو إجمالًا، حتّى أنّ من يتوهّم أنّه يتصوّر كلّ واحد منها مستقلًا يتصوّر ابتداءً (وبنحو الإجمال) حكماً ثمّ بملاك التفاوت في أقسام ذلك الحكم يقسّم العام إلى أقسامه الثلاثة كما يظهر عند التأمّل، والشاهد على ذلك أنّا نقوّم التفاوت بين العام الاستغراقي والعام المجموعي بوحدة الطاعة والعصيان في أحدهما وتعدّدهما في الآخر، وتعدّد الطاعة والعصيان ووحدتهما تترتّبان على استغراقيّة الحكم ومجموعيته.

إن قلت: كيف؟ ولكلّ واحد منها لفظ غير ما للآخر، مثل كلمة «أي» للعموم البدلي وكلمة «كلّ» للعموم الاستغراقي.

قلت: نعم ولكنّه أيضاً بملاحظة اختلاف كيفية تعلّق الأحكام لأنّه لا يمكن تطرّق هذه الأقسام إلّابهذه الملاحظة، كما يكون كذلك في باب الحروف، فإنّ الواضع فيه وضع الألفاظ لمعانيها بملاحظة الأحكام المختلفة التي تتعلّق بها كما لا يخفى.

الأمر الثاني: قال المحقّق النائيني رحمه الله: «لا يخفى أنّ في عدّ القسم الثالث (العموم البدلي) من أقسام العموم مسامحة واضحة، بداهة أنّ البدليّة تنافي العموم فإنّ متعلّق الحكم في العموم البدلي ليس إلّافرداً واحداً، أعني به الفرد المنتشر وهو ليس بعام، نعم

البدليّة عامّة، فالعموم إنّما هو في البدليّة لا في الحكم المتعلّق بالفرد على البدل» «1».

أقول: لا يصحّ التفكيك بين البدليّة ومتعلّق الحكم، لأنّ المتعلّق في العموم البدلي هو نفس البدليّة لا شي ء آخر، وبالنتيجة يكون لمتعلّق الحكم هنا أيضاً شمول، لكن شمول كلّ شي ء بحسبه، وهو في هذا العموم كفايّة إتيان المأمور به ضمن أيّ فرد من الأفراد، ولا وجه لأن نتوقّع تلوّنه في جميع الأشياء بلون واحد.

انوار الأصول، ج 2، ص: 77

إن قلت: إذاً لا فرق بين العام البدلي والمطلق.

قلنا: الفرق بينهما إنّ الشمول والبدليّة في الأوّل يستفاد من اللفظ وهو لفظ «أيّ» مثلًا، وأمّا في المطلق فالشمول فيه إنّما يستند إلى مقدّمات الحكمة كما لا يخفى.

الأمر الثالث: إذا شكّ في أنّ المراد من العموم هل هو استغراقي أو مجموعي كما إذا نذر على أن يترك التدخين مثلًا ثمّ شكّ في أنّه نذر على نهج العموم الاستغراقي أو المجموعي قال المحقّق النائيني رحمه الله: إنّ الأصل يقتضي كونه استغراقياً لأنّ العموم المجموعي يحتاج إلى اعتبار الامور الكثيرة أمراً واحداً، ليحكم عليها بحكم واحد وهذه عناية زائدة تحتاج إفادتها إلى مؤونة زائدة.

والجواب عنه يتمّ بذكر أمرين:

الأوّل: إنّ المؤونة الزائدة في خصوص أحدهما دون الآخر تتصوّر فيما إذا كان أحد العامّين لا بشرط والآخر بشرط لا كما أنّه كذلك في المطلق والمقيّد. وأمّا إذا كان أحدهما بشرط شي ء والآخر بشرط لا فالعناية الزائدة موجودة في كليهما كما لا يخفى، وفي ما نحن فيه نحتاج في العموم الاستغراقي أيضاً إلى لحاظ كلّ فرد من الأفراد مستقلًا عن غيره، أي لحاظ كلّ فرد من الأفراد في العموم الاستغراقي مشروط بعدم لحاظ الغير معه فيكون بشرط لا.

وإن شئت قلت: إنّه

مشروط بشرط الاستقلال، فيكون هو أيضاً بشرط شي ء، فلا فرق بين الاستغراقي والمجموعي في هذه الحيثيّة، والنتيجة حينئذٍ إجمال الدليل وعدم إمكان التمسّك بالاصول اللفظيّة، نعم يتصوّر الشكّ هذا بالنسبة إلى لفظ «كلّ» في اللغة العربيّة حيث إنّه فيها مشترك بين المجموعي والاستغراقي بخلافه في اللغة الفارسيّة حيث وضع فيها بإزاء كلّ واحد من المعنيين لفظ خاصّ، فوضع لفظ «همه» للعام المجموعي ولفظ «هو» للعام الاستغراقي، نعم قد يستعمل لفظ «همه» للافرادي أيضاً.

مضافاً إلى أنّ كلمة «كل» في لغة العرب في الاستغراقي أكثر من استعمالها في المجموعي، ولعلّ كثرة الاستعمال هذه توجب ظهوراً لها في العموم الاستغراقي، والشاهد على الكثرة ملاحظة استعمالات هذا اللفظ في القرآن الكريم وهي بالغة إلى ثلاثمائة وخمس وعشرين (325) مرّة فإنّه استعمل في جميع الموارد إلّانادراً في العموم الاستغراقي كما لا يخفى على المتتبّع فيها، وبهذا يظهر إمكان التمسّك بأصل لفظي في المقام لكن لا كما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله انوار الأصول، ج 2، ص: 78

بل بأن نقول: إنّ لفظ «كلّ» صار حقيقة في العام الاستغراقي ولابدّ لاستعماله في المجموعي إلى نصب قرينة، وحين الشكّ فيها نرجع إلى معناه الحقيقي وهو العموم الاستغراقي.

الثاني: أنّ ما أفاده قدس سره يتصوّر فيما إذا كان الدالّ على العموم لفظاً من ألفاظ العموم، أمّا إذا استفدنا العموم من دليل لبّي فلا يمكن التمسّك بأصل لفظي وحينئذٍ إذا شككنا في أنّ العموم استغراقي أو مجموعي يكون المرجع هو الأصل العملي، وقد توهّم بعض أنّه هو أصل البراءة لأنّ الشكّ في المقام يرجع إلى الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة (فهو في الواقع شكّ في اشتراط الجميع بالجميع) والأصل فيهما هو البراءة كما قرّر في محلّه.

لكن الإنصاف

أنّ الأصل في مثل هذه الموارد قاعدة الاشتغال لأنّ البراءة تجري فيما إذا كان في البين قدر متيقّن وشككنا في وجوب الزائد عنه، وأمّا في المقام فيكون أصل تعلّق الوجوب بجميع الأفراد يقينياً وإنّما الشكّ في كيفية التعلّق، كما إذا شككنا في شهر رمضان مثلًا في أنّ كلّ يوم من أيّامه يكون الصّيام فيه واجباً مستقلًا أو يكون مشروطاً بإتيان الباقي فيكون المجموع واجباً واحداً؟ مع كون أصل تعلّق الوجوب بكلّ فرد يقينياً، فحينئذٍ الأصل هو قاعدة الاشتغال لا البراءة كما لا يخفى.

هذا إذا كان العبد قادراً على إتيان الجميع، أمّا إذا كان قادراً على بعض دون بعض من بداية الأمر كما إذا قال المولى أكرم العلماء وكان الإكرام واجباً موسّعاً والعبد لا يقدر على إكرام الجميع من أوّل الأمر فالأصل هو البراءة، لأنّه إن كان الوجوب على نهج العام المجموعي يكون التكليف ساقطاً، وإن كان استغراقياً يكون وجوب البعض المقدور عليه ثابتاً، فيصير الشكّ بالنسبة إلى وجوب البعض الآخر بدويّاً، والأصل عندئذ هو البراءة، وأمّا إذا كان قادراً على الجميع من البداية فطرأ العجز بعد ثبوت التكليف فالأصل هو الاستصحاب إذا لم يصل البعض غير المقدور إلى حدّ يوجب خروج موضوع المستصحب عن الوحدة العرفيّة وكانت وحدة الموضوع محفوظةً.

الأمر الثالث: في الفرق بين العام والمطلق

ما هو الفرق بين العام والمطلق مع أنّ المطلق أيضاً ينقسم إلى قسمين: إطلاق شمولي استغراقي وإطلاق شمولي بدلي، والأوّل نحو قوله تعالى: «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» والثاني كقولك «أكرم عالماً»؟

المشهور بين الأعلام كما عرفت أنّ التفاوت بينهما أنّ العام يستفاد الشمول فيه من اللفظ، وأمّا في المطلق فيستفاد الشمول من مقدّمات الحكمة، نعم قد خالف في ذلك في التهذيب بعد أن نقل هذا الفرق من

بعض الأعاظم ومنع عن ذلك أشدّ المنع، وحاصل كلامه: إنّ العام والمطلق يفترقان حقيقة ولهما مفهومان متفاوتان لأنّ العام يشمل جميع الأفراد، وأمّا المطلق فليس له شمول بل هو عبارة عن أنّ تمام موضوع الحكم هو الطبيعة لا بشرط ولا ينظر فيه إلى الفرد أصلًا، ففي قولك «أعتق رقبة» يكون النظر كلّه إلى طبيعة الرقبة فقط من دون ملاحظة أفرادها، نعم يلاحظ الفرد ويتوجّه إليه لانطباق الطبيعة عليه.

أقول: هيهنا نكتتان يجب الالتفات إليهما:

إحداهما: إنّ الطبيعة الملحوظة في كلامه هل هي الطبيعة الموجودة في الذهن أو الطبيعة الموجودة في الخارج؟ فإن كان المقصود الطبيعة الموجودة في الذهن فهي ليست مطلوبة للمولى بلا إشكال، وإن كان المراد الموجودة في الخارج فيلاحظ الفرد حينئذٍ وينظر إليه لا محالة كما لا يخفى.

ثانيهما: إنّا لا نفهم معنى الانطباق في كلامه، فإمّا أن يكون الفرد الذي تنطبق عليه الطبيعة مأموراً به أو لا يكون، والأوّل يستلزم الحكم بأنّ الطبيعة إنّما لوحظت بما هي مرآة إلى الخارج لا بما هي هي، والثاني يستلزم كون الطبيعة بما هي هي مقصودة، وهو كماترى، لأنّ الطبيعة بما هي هي مع قطع النظر عن وجودها في الخارج لا تكون منشأً للأثر ولا تترتّب عليها المصالح والمفاسد حتّى يريدها المولى أو يكرهها ويأمر بها أو ينهي عنها.

الأمر الرابع: في أنّ للعموم صيغة تخصّه
اشارة

ويستدلّ له بالتبادر فإنّه لا إشكال في أنّ المتبادر من ألفاظ من قبيل لفظ «كلّ» العموم.

انوار الأصول، ج 2، ص: 80

ويمكن أن يستدلّ له أيضاً بحكمة الوضع فبما أنّ الحكمة في وضع الألفاظ رفع الحاجات اليوميّة للناس فلا بدّ من وضع لفظ أو ألفاظ تدلّ على العموم لأنّ من جملة تلك الحاجات الحاجة إلى لفظ يدلّ على مقصود عام.

أضف إلى ذلك:

أنّ الخصوص ليس له حدّ خاص ومرتبة معيّنة كي يمكن الالتزام بوضع هذه الألفاظ لذلك الحدّ، بل إنّه يؤدّى ويستفاد من طريق تخصيص العام فلا يمكن بيان الخاصّ بدون بيان العام، إذن فلا بدّ من وضع ألفاظ للعام لكي يخصّص ويصير طريقاً إلى بيان الخاصّ.

واستدلّ للخصم أي لوضع هذه الألفاظ للخاصّ بوجهين عقليين.

الأوّل: أنّ إرادة الخصوص ولو في ضمن العموم معلومة بخلاف العموم لاحتمال أن يكون المراد به الخصوص فقط، وجعل اللفظ حقيقة في المعنى المتيقّن أولى من جعله حقيقة في المعنى المحتمل.

الثاني: إنّه قد اشتهر التخصيص وشاع حتّى قيل «ما من عام إلّاوقد خصّ» الحاقاً للقليل بالعدم مبالغة، والظاهر يقتضي كون اللفظ حقيقة في الأشهر الأغلب تقليلًا للمجاز.

أقول: كلا الدليلين لا يخلو من لا الضعف جدّاً.

أمّا الأوّل: فلأنّ كون إرادة الخصوص متيقّناً لا يوجب اختصاص الوضع به بل لابدّ في وضع اللفظ من ملاحظة وجود الحاجة وعدمه، والإنصاف أنّ هذا الاستدلال بهذا البيان في غاية الضعف.

أمّا الدليل الثاني: فلأنّه يتفرّع ويتوقّف على إيجاب التخصيص التجوّز وكون العام مجازاً في الباقي وسيأتي خلافه، مضافاً إلى أنّه لو سلّمنا كونه مجازاً فلا محذور في كثره المجاز إذا كان المجاز بالقرينة وكان التخصيص مورداً للحاجة.

إلى هنا تمّت الامور التي كان ينبغي ذكرها مقدّمة وأمّا البحث عن مسائل العام والخاصّ فيقع ضمن فصول:

انوار الأصول، ج 2، ص: 81

الفصل الأول ألفاظ العموم
اشارة

وتنبغي الإشارة مقدّمة إلى أنّ البحث فيها لغوي لا اصولي لكن يذكر في علم الاصول لعدم استيفاء البحث عنه في محلّه.

وكيف كان قد وقع النزاع في ألفاظ العموم بين القوم بالنسبة إلى أربعة ألفاظ:

1- النكرة في سياق النفي أو النهي.

2- لفظة كلّ وما شابهه مثل جميع وكافّة وقاطبة.

3- الجمع المحلّى باللام

نحو «العلماء» و «الملائكة» و «المؤمنون».

4- المفرد المحلّى باللام مثل البيع والإنسان.

أمّا الأوّل: أمّا النكرة في سياق النفي أو النهي

فقد يقال بأنّها تدلّ على العموم ولعلّه هو المشهور، كقول المولى «لا تعتق رقبة» وكقولك «ما جاءني أحد»، واستدلّ له بأنّ مدلول النكرة هو طبيعة الأفراد، ولا تنعدم الطبيعة إلّا بانعدام جميع أفرادها، وذكر المحقّق الخراساني رحمه الله في بعض كلماته أنّ دلالتها على العموم موقوفة على أخذها مرسلة لا مبهمة، أي إذا أحرز إرسالها بمقدّمات الحكمة، فلا بدّ في استفادة العموم منها من إجراء مقدّمات الحكمة، واستشهد بأنّه لو لم تكن الطبيعة مطلقة بل كانت مقيّدة لم يقتض دخول النفي عليها عموم النفي لأفراد الطبيعة المطلقة، بل عموم أفراد ذلك المقدار المقيّد فقط، كما إذا قال «لا تكرم الفاسق الاموي» فإنّه لا يقتضي نفي وجوب الإكرام عن جميع أفراد طبيعة الفاسق بل عن أفراد الفاسق الأموي فقط، وكذلك لو كانت الطبيعة مهملة فلا يقتضي دخول النفي عليها إلّااستيعاب السلب للأفراد المتيقّنة لا مطلق الأفراد، مع انوار الأصول، ج 2، ص: 82

أنّه لو قلنا بعدم اشتراط دلالتها على العموم بالإرسال والإطلاق واستفادة العموم من النكرة من دون إجراء مقدّمات الحكمة لدلّت على العموم في صورة التقييد أو الإهمال أيضاً.

وقال في التهذيب ما حاصله: إنّ الطبيعة تنتفي بانتفاء الفرد كما توجد بوجوده ولا يحتاج انتفائها إلى انتفاء جميع الأفراد، لأنّ الفاظ النفي والنهي وضعت لنفي مدخولها أو الزجر عنه، والمدخول في ما نحن فيه هو اسم الجنس، وهو موضوع لنفس الطبيعة بلا شرط، فلا دلالة فيها على نفي الافراد التي هي المناط في صدق العموم، ولا وضع على حدة للمركّب، وقولنا:

اعتق رقبة. وقولنا: لا تعتق رقبة سيّان في أنّ الماهيّة متعلّقة للحكم وفي عدم الدلالة

على الأفراد وفي أنّ كلّاً منهما محتاج إلى مقدّمات الحكمة حتّى يثبت أنّ ما يليه تمام الموضوع، نعم هذا ممّا يقتضيه البرهان، وأمّا العرف فيفرّق بين الموردين ويحكم بأنّ المهملة توجد بوجود فرد مّا وتنعدم بعدم جميع الأفراد «1».

أقول: الأولى في كلّ بحث سلوك الطريق اللائقة به، ففي مباحث الألفاظ لابدّ من الرجوع إلى التبادر والمتفاهم العرفي لا إلى وجوه فلسفيّة وتدقيقات عقليّة، وكذلك لابدّ من ملاحظة تراكيبها كما تلاحظ مفرداتها، وفي المقام يجب الفات النظر إلى تركيب قول العربي بعد أن سرق ماله مثلًا: «لم يبق منه شي ء» أو قوله تعالى حكاية قول بلقيس: «ما كنت قاطعة أمراً حتّى تشهدون) أو كلمة «لا إله إلّااللَّه» وهكذا قوله «ولا تضاروهنّ ...» فهل يتبادر منها العموم أو لا؟ الإنصاف أنّ تركيب النكرة في سياق النفي أو النهي في أمثال هذه التراكيب يتبادر منه العموم من دون حاجة إلى مقدّمات الحكمة، كما يشهد له الوجدان أيضاً.

أمّا الثاني: لفظة كلّ وما شابهها

فقد يقال فيها أيضاً أنّ دلالتها على العموم واستيعاب المدخول يتمّ بمعونة مقدّمات الحكمة المحرزة بها سعة المدخول وإرساله، واستشهد لذلك بعدم دلالتها في صورة تقييد مدخولها على أزيد من المقدار المقيّد فقولك: «أكرم كلّ رجل عالم» يدلّ على إكرام الرجال العدول فقط لا مطلق الرجال.

انوار الأصول، ج 2، ص: 83

وقد يقال بأنّها ظاهرة في العموم من دون حاجة إلى مقدّمات الحكمة وهو الصحيح كما قال به في المحاضرات- ولنعم ما قال-: «إنّ لفظة «كلّ» أو ما شاكلها تدلّ بنفسها على إطلاق مدخولها وعدم أخذ خصوصيّة فيه ولا يتوقّف ذلك على إجراء المقدّمات، ففي مثل قولنا «أكرم كلّ رجل» تدلّ لفظة «كلّ» على سراية الحكم إلى جميع من ينطبق عليه الرجل من

دون فرق بين الغني والفقير والعالم والجاهل وما شاكل ذلك، فتكون هذه اللفظة بيان على عدم أخذ خصوصيّة وقيد في مدخولها» «1».

أمّا الثالث: الجمع المحلّى باللام

فاستدلّ لدلالته على العموم بالتبادر أوّلًا، وبوجه عقلي ثانياً، وهو أنّ الجمع له عرض عريض ومصاديق كثيرة، واللام للتعريف، ولا إشكال في أنّ المتعيّن من مصاديق الجمع ومراتبه إنّما هو أقصى المراتب، وغيره لا تعيّن له حتّى أدنى المراتب، ونتيجة ذلك أن لا يستفاد العموم لا من اللام ولا من نفس الجمع بل يستفاد من تعريف الجمع بأقصى مراتبه.

إن قلت: إنّ أدنى المراتب وهو الثلاث أيضاً متعيّن.

قلنا: بل إنّه نكرة بالنسبة إلى ما ينطبق عليه من الأفراد، ولذلك يعقل السؤال في قولنا:

«جاءني ثلاث نفرات» بقولك: «أي ثلاث نفرات؟» حيث يمكن صدقه على كلّ ثلاثة ثلاثة من الأفراد خلافاً لأقصى المراتب، فالمتعيّن في الخارج بحيث لا يكون مردّداً بين شيئين أو أشياء إنّما هو مجموع الأفراد دون غيره من مراتب الجمع.

أقول: أمّا الوجه العقلي فيمكن النقاش فيه بما مرّ من عدم تطرّق الوجوه العقليّة والتحليل العقلي في مباحث الألفاظ كما ذكرنا آنفاً أيضاً بل لابدّ فيها من ملاحظة ما يتبادر منها عرفاً.

هذا أوّلًا.

وثانياً: أنّ المرتبة العليا من مراتب الجمع لا بشرط بالنسبة إلى التعريف والتنكير، فلا يصدق عليها إنّها معرفة أو نكرة لأنّ المقسم للمعرفة والنكرة هو اسم الجنس المفرد كما لا يخفى، فلا يقال مثلًا أنّ «كلّ عالم» أو «جميع العلماء» معرفة أو نكرة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 84

أمّا التبادر فهو تامّ مقبول فلا يبعد تبادر العموم من الجمع المحلّى باللام كما لا إشكال في إرادة الجنس منه بمؤونة القرينة في كثير من الموارد، كقولنا: «سَلِ العلماء ما شئت» أو «اختر المؤمنين للُاخوّة» أو

«شارك الأخيار» حيث إنّ تناسب الحكم والموضوع فيها يقتضي أن لا يكون السؤال عن جميع العلماء واختيار جميع المؤمنين للُاخوّة ومشاركة جميع الأخيار. كما لا يخفى.

وعلى أي حال المتبادر من الجمع المحلّى باللام في صورة فقد القرينة هو العموم ولا حاجة فيه إلى إجراء مقدّمات الحكمة.

أمّا الرابع: المفرد المحلّى باللام

فقال بعض بدلالته على العموم، ويستدلّ لها أوّلًا: باتّصافه أحياناً بالجمع كقوله: «أهلك الناس الدرهم البيض والدينار الصفر».

وثانياً: بوقوعه مستثنى منه كقوله تعالى: «إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ...».

وثالثاً: ما مرّ في الجمع المحلّى باللام من أنّ اللام للتعريف، والمعرفة هي أقصى المراتب.

واجيب عنه: بأنّ التوصيف بالجمع في موارد معدودة محدودة لا ينافي عدم كونه حقيقة في الجمع لأنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز، وهكذا وقوعه مستثنى منه في بعض الموارد، وأمّا الوجه الثالث: فقد عرفت بطلانه في الجمع المحلّى باللام فكيف بالمفرد، والإنصاف أنّه لا يستفاد من المفرد المحلّى باللام- لولا وجود القرينة- عموم.

الفصل الثاني حجّية العام المخصّص في الباقي

وهي مسألة يكثر الابتلاء بها، لأنّ العمومات غالباً مخصّصة مع أنّ رحى الاجتهاد تدور على العمل بها فيشكل الأمر لو لم يكن العام المخصّص حجّة في الباقي.

وفيها ثلاثة أقوال:

الأوّل: ما ذهب إليه المشهور من الإماميّة كما أنّ الظاهر ذهاب المشهور العامّة إليه وهو كون العام حجّة في الباقي مطلقاً سواء كان المخصّص متّصلًا أم منفصلًا.

الثاني: عدم الحجّية مطلقاً كما نسب إلى بعض العامّة.

الثالث: التفصيل بين المتّصل والمنفصل فيكون حجّة في الأوّل دون الثاني.

ثمّ إنّ هذه المسألة مبنيّة على مسألة اخرى لابدّ من تقديمها عليها، وهي «هل العام حقيقة في الباقي فيكون حجّة فيه بلا إشكال أو لا؟» فنقول: قد نقل فيها صاحب الفصول ثمانية أقوال، ولا يهمّنا ذكرها بتمامها إلّاثلاثة منها، وهي القول بالحقيقة مطلقاً، والقول بالمجاز مطلقاً، والقول بالتفصيل بين المتّصل والمنفصل وكونه حقيقة في الأوّل ومجازاً في الثاني.

والأوّل هو ما ذهب إليه كثير من المتأخّرين، واستدلّ له بأنّ التخصيص يكون في الإرادة الجدّية لا الإرادة الاستعماليّة ولا إشكال في أنّ المدار في الحقيقة والمجاز هي الإرادة

الاستعماليّة.

توضيح ذلك: ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله وجماعة اخرى ممّن تبعه إلى أنّ للمتكلّم في كلّ كلام إرادتين إرادة جدّية وإرادة استعماليّة، وهما تارةً تتوافقان واخرى تتخالفان (وإن كان قد يتوهّم في بدو النظر أنّ للمتكلّم إرادة واحدة) ويستكشف هذا من الكنايات في الجمل الإخباريّة، ومن الأوامر الإمتحانيّة في الجمل الإنشائيّة حيث إنّ في كلّ واحد منهما توجد

انوار الأصول، ج 2، ص: 86

إرادتان إرادة استعماليّة وإرادة جدّيّة، ففي الكنايات إذا قيل مثلًا «زيد كثير الرماد» نرى بوضوح وجود إرادتين لأنّ كلّ واحد من لفظي «زيد» و «كثير الرماد» استعمل في معناه الحقيقي بلا شكّ، لكنّه لم يردّه المتكلّم جدّاً كما هو المفروض، بل المراد الجدّي منهما هو سخاوة زيد، فالإرادة الاستعماليّة تعلّقت بما وضع له اللفظ واستعمل فيه، والإرادة الجدّية تعلّقت بشي ء آخر خارج عن دائرة الوضع والاستعمال، وهو سخاوة زيد، فتخالف الإرادتان وإفترقتا، وكذلك في الأوامر الإمتحانيّة، لأنّ الطلب الظاهري فيها تعلّق بذبح إسماعيل مثلًا في قصّة إبراهيم عليه السلام، لكن المراد الجدّي فيها هو إمتحان إبراهيم عليه السلام كما لا يخفى.

وبالجملة، إنّ هيهنا ثلاث نكات لابدّ من الالتفات إليها والتوجّه بها:

الاولى: إنّ الأصل الأوّلي العقلائي اللفظي في باب الألفاظ هو تطابق الإرادتين وقد سمّي هذا بأصالة الجدّ، ولا إشكال فيه.

الثانية: إنّه لا تختلف الإرادتان إلّالنكتة وداعٍ يدعو إليه.

الثالثة: إنّ المدار في الحقيقة والمجاز هو الإرادة الاستعماليّة لا الجدّية، ولذلك يعدّ الاستعمال في الكنايات استعمالًا حقيقياً، لأنّ الإرادة الاستعماليّة فيها تتعلّق بالمعنى الموضوع له كما مرّ، والتصرّف إنّما وقع في الإرادة الجدّية، وهذا هو الفرق بينها وبين المجازات بناءً على مذاق المشهور من أنّ المجاز إنّما هو في الكلمة لا في الأمر العقلي الذي هو

المختار.

إذا عرفت هذا فاعلم: قد ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى كون العام حقيقة في الباقي مطلقاً سواء كان المخصّص متّصلًا أم منفصلًا، أمّا في المتّصل فاستدلّ بأنّه إذا كان المخصّص متّصلًا بالعام تستعمل أداة العموم حينئذٍ فيما هو معناها الحقيقي من استغراق تمام أفراد المدخول، غاية الأمر إنّ دائرة المدخول مضيّقة من جهة التقييد، فلا يتحقّق إخراج بالنسبة إلى أداة العام لكي نبحث في أنّه هل هو حقيقة في الباقي أو لا؟

وأمّا في المنفصل فاستدلّ بأنّه وإن تحقّق فيه الإخراج بالنسبة إلى أداة العام إلّاأنّ ظهورها في العموم يكون دليلًا على استعمالها في العموم لا في الخصوص، أي تعلّقت الإرادة الاستعماليّة بالعموم، ويكون الخاصّ قرينة على إرادة الخصوص لبّاً وجدّاً، وما تعلّقت بالخصوص إنّما هو الإرادة الجدّية فقط، والمدار في الحقيقة والمجاز هو الإرادة الاستعماليّة لا الجدّية (انتهى).

وأورد عليه المحقّق النائيني رحمه الله: بأنّ «الإرادة الاستعماليّة إن اريد بها إرادة إيجاد المعنى انوار الأصول، ج 2، ص: 87

البسيط العقلاني باللفظ بحيث كان اللفظ والإرادة مغفولين عنهما حين الاستعمال، فهذه بعينها هي الإرادة الجدّية التي بها يتقوّم استعمال اللفظ في معنى مّا، وإن اريد بها الإرادة الهزليّة المقابلة للإرادة الجدّية والداعية إلى إرادة إيجاد المعنى باللفظ فهي وإن كانت لا تنافي استعمال اللفظ في معناه الموضوع له لوضوح أنّ الاستعمال الحقيقي لا يدور مدار كون الداعي إلى الاستعمال هو خصوص الإرادة الجدّية إلّاأنّه لا يعقل الالتزام بكون الداعي إلى استعمال العمومات الواردة في الكتاب والسنّة في معانيها هي الإرادة الهزليّة» «1».

ثمّ إنّه تصدّى لحلّ المسألة بطريق آخر يرجع بالمآل إلى ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله من تعدّد الدالّ والمدلول، فقال: «إنّ أداة العموم لا تستعمل

إلّافي ما وضعت له كما أنّ مدخولها لم يستعمل إلّافيما وضع له، أمّا عدم استعمال المدخول إلّافي نفس ما وضع له فلأنّه لم يوضع إلّا لنفس الطبيعة المهملة الجامعة بين المطلقة والمقيّدة، ومن الواضح أنّه لم يستعمل إلّافيها وإفادة التقييد بدالّ آخر لا تنافي استعمال اللفظ في نفس الطبيعة المهملة كما هو ظاهر، وأمّا عدم استعمال الأداة إلّافيما وضعت له فلأنّها لا يستعمل أبداً إلّافي تعميم الحكم لجميع أفراد ما اريد من مدخولها، غاية الأمر أنّ المراد من مدخولها ربّما يكون أمراً وسيعاً واخرى يكون أمراً ضيّقاً، وهذا لا يوجب فرقاً في ناحية الأداة أصلًا» «2».

أقول: يرد عليه:

أوّلًا: إنّ كلا المعنيين اللذين ذكرهما في تفسير المراد من الإرادة الاستعماليّة غير مقصود في المقام، بل المراد منها هنا أنّ اللفظ تارةً يستعمل في معناه الموضوع له ويريد به المتكلّم تفهيم المخاطب لتمام معناه من دون أن تكون إرادته ناشئة عن كون الحكم المجعول على عنوان ذلك اللفظ ثابتاً له واقعاً بل هي ناشئة من غرض آخر، واخرى يكون الغرض تفهيمه، وهذا مقدّمة له.

ثانياً: ما مرّ في باب دلالات الألفاظ من الإشكال المبنائي، وهو أنّ دلالة اللفظ ترجع إلى الحكاية والعلّامة لا إلى الإيجاد والإنشاء إلّافي بعض الألفاظ مثل أداة التمنّي والترجّي كما مرّ بيانه هناك. (وفي كلامه إشكال آخر ستأتي الإشارة إليه).

انوار الأصول، ج 2، ص: 88

وأمّا ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله (من الفرق بين المتّصل والمنفصل وأنّ العام في المخصّص المتّصل باقٍ على عمومه واستعمل في استغراق تمام الأفراد وإنّما تحقّق التقييد والإخراج بالنسبة إلى خصوص المدخول، وإنّ في المنفصل وإن حصل الإخراج بالنسبة إلى العام إلّاأنّه تعلّق بالإرادة الاستعماليّة لا الجدّية).

فيرد عليه:

أوّلًا: أنّه

حصر لتخصيص المتّصل في الوصف وما يشبهه من القيود الراجعة إلى الموضوع، مع أنّ التخصيص بكلمة «إلّا» أيضاً تخصيص متّصل وهو قيد للحكم لا للموضوع.

نعم، إنّها ترجع إلى الموضوع في خصوص الأعداد كما مرّ، ففي قوله تعالى: «فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً» يرجع قيد «إلّا خمسين» إلى كلمة «الف سنة» لا إلى «لبث» وأمّا في غير الأعداد فلا إشكال في رجوعه إلى الحكم، والشاهد على ذلك تصريحهم بأنّ كلمة «إلّا» بمعنى «استثنى» لا بمعنى كلمة «غير» حتّى يكون وصفاً.

إن قلت: لو كان الأمر كذلك فما هو الحكم في العام المخصّص بكلمة إلّا؟

قلنا: لا فرق بينه وبين التخصيص بالمنفصل، فكما أنّ التخصيص بالمنفصل إخراج عن خصوص الإرادة الجدّية، والعام فيه باقٍ على عمومه بالنسبة إلى الإرادة الاستعماليّة فكذلك في التخصيص المتّصل بكلمة «إلّا».

إن قلت: لو كان القيد راجعاً إلى خصوص الإرادة الجدّية، والعام استعمل في عمومه واستغراقه فلماذا لم يبيّن المولى مراده الجدّي ابتداءً؟ وما هو الداعي في استعماله العام فيما لم يردّه جدّاً؟

قلنا: يتصوّر لذلك فوائد كثيرة:

الاولى: كونه في مقام ضرب قاعدة للتمسّك بها في الموارد المشكوكة.

الثانية: عدم إمكان بيان الباقي بدون الاستثناء لعدم عنوان أو اسم له، كأن لا يكون للقوم غير زيد عنوان يختصّ بهم كي يرد الحكم عليه، فلا بدّ حينئذٍ من استثناء القوم بكلمة «إلّا زيد».

الثالثة: التأكيد وبيان الشأن الذي تقتضيه البلاغة والفصاحة أحياناً كما في قوله تعالى:

«فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً» فالفرق بين هذا التأكيد الذي يوجد في التعبير

انوار الأصول، ج 2، ص: 89

ب «الف سنة» وبين قولنا «فلبث فيهم تسعمائة وخمسين سنة» واضح.

وثانياً: الحقّ عدم تعارف التخصيص بالمنفصل بين العرف والعقلاء، بل إنّهم يحملونه على التناقض،

فإذا قال أحد: «بعت جميع كتبي»، ثمّ قال بعد مدّة: «لم أبع كتابي هذا وذاك» أو قال:

«أدّيت جميع ديوني» ثمّ قال بعد مدّة: «بقى عليّ كذا وكذا من الديون» يحكم العرف بأنّه نقض كلامه وكذب فيه.

ويشهد لما ذكرنا بعض الرّوايات التي عومل فيها العام والخاص المنفصل معاملة التناقض والتعارض، وهو مكاتبة محمّد بن عبداللَّه بن جعفر الحميري إلى صاحب الزمان عليه السلام- حيث ورد فيها أنّه قال عليه السلام: «في الجواب عن ذلك حديثان أمّا أحدهما فإذا انتقل من حاجة إلى اخرى فعليه التكبير، وأمّا الآخر فإنّه روى أنّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر ثمّ جلس ثمّ قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير، وكذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى، وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صواباً» «1».

فإنّ ذيل هذا الخبر وهو جملة «وبأيّهما أخذت ...» يدلّ على أنّ الإمام عليه السلام عامل الحديثين معاملة المتعارضين مع أنّهما من قبيل العام والخاصّ.

إن قلت: كيف اكتفى الإمام عليه السلام في مقام الجواب بنقل روايتين متعارضتين مع أنّه منبع الأحكام وهو عالم بواقعها؟

قلت: كان عليه السلام في مقام إعطاء قاعدة كلّية يمكن تطبيقها في سائر موارد التعارض بين الخبرين عند عدم إمكان الوصول إليه في غيبته.

هذا- لكن لا يخفى أنّ للشارع المقنّن المشرّع كسائر العقلاء في مقام التقنين عرفاً خاصّاً لا يعامل العام والخاصّ معاملة التعارض، لأنّ تدريجيّة بيان الأحكام والقوانين تقتضي أن يبيّنها أوّلًا بشكل العام أو المطلق ثمّ يأتي بعد ذلك بالمخصّص أو المقيّد في ظرفه الخاصّ، ولا يحكم العرف والعقلاء عند ملاحظة هذه السيرة وهذا المقام بالتناقض والتنافي كما لا يخفى.

إن قلت: فكيف حكم به الإمام عليه السلام في مكاتبة الحميري؟

قلنا:

لخصوصيّة في المستحبّات، وهي أنّ العمومات والخصوصات فيها تحمل على بيان انوار الأصول، ج 2، ص: 90

مراتب الاستحباب وتعدّد المطلوب.

هذا كلّه في البحث عن أنّ العام هل هو مجاز في الباقي أو حقيقة حيث ذكرناه بعنوان المقدّمة لمسألة اخرى، وهي أنّ العام هل هو حجّة في الباقي أو لا؟

فنرجع إلى البحث فيها ونقول- ومن اللَّه نستمدّ التوفيق والهداية-: أمّا بناءً على مبنى المحقّق الخراساني رحمه الله من رجوع التخصيص في المتّصل إلى تقييد المدخول ومن تعلّقه بخصوص الإرادة الاستعماليّة في المنفصل فالأمر واضح، لأنّه لا إشكال حينئذٍ في تطابق الإرادتين بالنسبة إلى غير أفراد المخصّص فيكون العام حجّة فيها، وأمّا بناءً على مبنى المحقّق النائيني رحمه الله من تقييد المدخول في المتّصل والمنفصل كليهما فالأمر أوضح كما لا يخفى، وكذلك بناءً على ما اخترناه من بقاء الإرادة الجدّية على حالها في كلا القسمين وتخصيص خصوص الإرادة الاستعماليّة، حيث إنّ العام على هذه المباني ليس مجازاً في الباقي، فلا إشكال حينئذٍ في كونه حجّة فيه.

أمّا إذا قلنا بكونه مجازاً فيه فقال بعض أيضاً بأن العام حجّة في الباقي، ولإثباته طريقان:

الأوّل: طريق المشهور وهو أنّ الباقي أقرب المجازات، فيحمل اللفظ عليه إذا علم أنّه لم يستعمل في معناه الحقيقي.

الثاني: طريق شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله وهو أنّ دلالة العام على كلّ فرد من أفراده غير منوطة بدلالته على فرد آخر من أفراده، فإذا لم يدلّ على فرد لخروجه عنه بدليل خاصّ لم يستلزم عدم دلالته على بقيّة الأفراد ولو كانت دلالته على الباقي مجازاً، فإنّ كونه مجازاً ليس من ناحية دخول فرد أجنبي بل بسبب خروج فرد من أفراده، فالمقتضي لحمل العام على الباقي موجود والمانع مفقود أيضاً،

لأنّ المانع ليس إلّاالمخصّص، ولا مخصّص إلّابالنسبة إلى ما علم خروجه بدليل خاصّ، ولو فرض الشكّ في وجود مانع آخر غير المخصّص المعلوم فهو مرفوع بالأصل، فإذا كان المقتضي وهو دلالة العام موجوداً والمانع عنه وهو المخصّص الآخر مفقوداً ولو بالأصل- وجب الحمل على الباقي.

أقول: حاصل كلامه قدس سره بالنسبة إلى وجود المقتضي هو أنّ هنا دلالات متعدّدة، كما عبّر عنه المحقّق العراقي رحمه الله بأنّ الحكايات متعدّدة بتعدّد المحكي وإن كان الحاكي واحداً.

واستشكل عليه بأنّ تعدّد المحكي والمدلول لا يوجب تعدّد الحكاية والدلالة بعد كون انوار الأصول، ج 2، ص: 91

الحاكي والدالّ واحداً، فلفظ العام بعنوان واحد وحكاية واحدة يحكي عن الكثير، فإذا علم أنّ اللفظ لم يستعمل في معناه بدليل منفصل (كما هو المفروض) لم تبق حكاية بالنسبة إلى غيره «1».

وأمّا طريق المشهور فاجيب عنه بأنّ مجرّد الأقربيّة إلى المعنى الحقيقي لا يوجب تعيّناً للمجاز الأقرب.

لكن يمكن الدفاع عنه بأنّ المراد من الأقربيّة الأقربيّة لأجل كثرة استعمال لفظ العام وغلبته في الباقي بحيث يوجب ظهور العام وتعيّنه في خصوص الباقي من بين المجازات والخصوصات.

انوار الأصول، ج 2، ص: 93

الفصل الثالث التمسّك بالعام في الشبهات المفهوميّة للمخصّص

ربّما يكون المخصّص مجملًا مفهوماً وهو على أربعة أقسام، فتارةً يكون متّصلًا بالعام، واخرى يكون منفصلًا عنه، وكلّ منها تارةً يكون إجماله لأجل الدوران بين الأقل والأكثر بأن علم في مثل «أكرم العلماء إلّاالفسّاق» أو «لا تكرم فسّاقهم» إنّ مرتكب الكبيرة فاسق قطعاً، ولم يعلم أنّ المصرّ على الصغيرة أيضاً فاسق أو لا؟ واخرى يكون إجماله لأجل الدوران بين المتباينين بأن لم يعلم في مثل «أكرم العلماء إلّازيداً» أو «لا تكرم زيداً» إنّ زيداً هل هو زيد بن خالد أو زيد بن بكر؟

والمحقّق الخراساني رحمه الله

قد فصّل بين هذه الأربعة وتبعه في تهذيب الاصول وقال بعدم جواز التمسّك بالعام في ثلاثة منها، وهي صورتا المتّصل وصورة المتباينين في المنفصل، وبجوازه في خصوص المخصّص المنفصل إذا دار أمره بين الأقل والأكثر.

ولا يخفى أنّ المراد من جواز التمسّك وعدمه أو سراية الإجمال إلى العام وعدمها هو سرايته بالنسبة إلى خصوص الفرد المشكوك وفي دائرة الشكّ لا بالنسبة إلى غيرها كما هو واضح.

واستدلّ المحقّق الخراساني رحمه الله لما ذهب إليه من التفصيل بوجهين: أحدهما: بالنسبة إلى المخصّص المتّصل، والثاني: بالنسبة إلى المنفصل.

أمّا في المتّصل سواء كان إجماله لأجل الدوران بين الأقل والأكثر أو بين المتباينين فاستدلّ لعدم الجواز بأنّ العام حينئذٍ ممّا لا ظهور له في الفرد المشكوك أصلًا فضلًا عن أن يكون حجّة فيه إذا كان المجمل المتّصل بالعام ممّا يمنع عن انعقاد الظهور للعام إلّافيما علم خروجه عن المخصّص على كلّ حال.

وأمّا في المنفصل إذا كان إجماله لأجل الدوران بين المتباينين فاستدلّ له بأنّ العام وإن كان انوار الأصول، ج 2، ص: 94

ظاهراً في كليهما لانفصال المخصّص عنه وانعقاد الظهور له في الجميع ولكن لا يكون حجّة في شي ء منهما لأنّهما من أطراف العلم الإجمالي، وأصالة التطابق بين الإرادتين بالنسبة إلى أحدهما تعارض أصالة التطابق الجاريّة في الآخر، كما أنّه لا يكون الخاصّ أيضاً حجّة في شي ء منهما، فاللازم حينئذٍ هو الرجوع إلى الأصل العملي ومقتضاه مختلف باختلاف المقامات.

أمّا إذا كان إجماله لأجل الدوران بين الأقل والأكثر فدليله على جواز الرجوع إلى العام فيه أنّ العام ظاهر في القدر الزائد وحجّة فيه، أمّا ظهوره فيه فواضح لجهة انفصاله عن الخاصّ، وأمّا حجّيته فيه فلأنّ الثابت من مزاحمة الخاصّ لحجّية ظهور العام إنّما

هو في المتيقّن منه لا في غيره، فيكون العام حجّة فيما لا يكون الخاصّ حجّة فيه، وتكون أصالة التطابق جارية فيما لم يثبت خروجه عن الإرادة الجدّية.

وهنا بيان آخر ذكره في التهذيب لعدم جواز التمسّك بالعام في المخصّص المتّصل بكلا قسميه، وهو «أنّ الحكم في العام الذي استثنى منه أو اتّصف بصفة مجملة، متعلّق بموضوع وحداني عرفاً، فكما أنّ الموضوع في قولنا «أكرم العالم العادل» هو الموصوف بما هو كذلك فهكذا قولنا: «أكرم العلماء إلّاالفسّاق منهم» وحينئذٍ كما لا يجوز التمسّك بالعام كقولنا: «لا تكرم الفسّاق» إذا كان مجمل الصدق بالنسبة إلى مورد، كذلك لا يجوز في العام المتّصف أو المستثنى منه بشي ء مجمل بلا فرق بينهما» «1».

فملخّص كلامه: أنّ عنوان العام في المتّصل يتبدّل إلى عنوان آخر، فعنوان العام في مثل «أكرم العلماء إلّاالفسّاق» يتبدّل إلى عنوان «العالم غير الفاسق» ولا إشكال في عدم جواز التمسّك بالعام في الشبهة المفهوميّة لنفس العام.

أقول: وفي كلامه مواقع للنظر:

الأوّل: ما عرفت سابقاً من أنّ الاستثناء بإلّا يرجع إلى تقييد الحكم لا إلى تقييد الموضوع.

الثاني: أنّه قد مرّ أيضاً مختارنا في الاستثناء بكلمة «إلّا» وقلنا إنّ التصرّف فيها أيضاً تصرّف في الإرادة الجدّية فقط، فالتخصيص بها وبالمخصّص المنفصل سيّان في الحكم وفي عدم تبدّل عنوان العام إلى عنوان مضيّق.

الثالث: ما أفاده شيخنا الحائري رحمه الله في الدرر من «أنّه يمكن أن يقال: إنّه بعد ما صارت انوار الأصول، ج 2، ص: 95

عادة المتكلّم جارية على ذكر التخصيص منفصلًا عن كلامه فحال المنفصل في كلامه حال المتّصل في كلام غيره، فكما أنّه يحتاج في التمسّك بعموم كلام سائر المتكلّمين إلى إحراز عدم المخصّص المتّصل إمّا بالقطع وإمّا بالأصل، كذلك يحتاج

في التمسّك بعموم كلام المتكلّم المفروض إلى إحراز عدم المخصّص المنفصل، فإذا احتاج العمل بالعام إلى إحراز عدم التخصيص بالمنفصل فاللازم الإجمال فيما نحن فيه لعدم إحراز عدمه لا بالقطع ولا بالأصل، أمّا الأوّل فواضح، وأمّا الثاني فلما مضى من أنّ جريانه مخصوص بمورد لم يوجد ما يصلح لأن يكون مخصّصاً» «1».

نعم أنّه عدل عنه في هامشه «بأنّ الإنصاف خلاف ما ذكرنا، ووجهه أنّه لو صحّ ما ذكر لما جاز تمسّك أصحاب الأئمّة بكلام إمام زمانهم لأنّه كالتمسّك بصدر كلام متكلّم قبل مجي ء ذيله فحيث جرى ديدنهم على التمسّك، دلّ ذلك على استقرار ظهور الكلام وعدم كونه مع كلام الإمام اللاحق كصدر الكلام الواحد في المجلس الواحد مع ذيله».

أقول: الحقّ هو ما ذكره أوّلًا لنفس ما أفاده، وأمّا الإشكال المذكور في الذيل فيمكن دفعه بأنّ المراد من عدم جواز التمسّك بالعام عدمه بالنسبة إلى أهل الزمان المتأخّر عن صدور الخاصّ، أي يوجب صدور الخاصّ سقوط العام عن الحجّية بالإضافة إلى ذلك الزمان، وأمّا بالنسبة إلى أهل الزمان السابق على الخاصّ فيمكن أن يستكشف من ديدن الأصحاب على التمسّك إذن الشارع وحكمه بجواز التمسّك موقتاً إلى أن يرد الخاصّ.

وبعبارة اخرى: استقرار سيرة أصحاب الأئمّة وديدنهم على التمسّك بالعام قبل صدور الخاصّ لا يدلّ على عدم سراية إجمال الخاصّ إلى العام وجواز التمسّك به مطلقاً، بل يمكن أن يكون لجهة إذن الشارع بالعمل به موقتاً لمصلحة تدريجيّة بيان الأحكام.

وإن أبيت عن هذا وقلت بعدم سراية الإجمال في المخصّص المنفصل الدائر أمره بين الأقلّ والأكثر فلا أقلّ من قبول سراية الإجمال في المخصّص المتّصل بكلمة «إلّا»، لما مرّ من عدم تبدّل عنوان العام فيه وانعقاد ظهوره في العموم

وأنّ التخصيص يرجع إلى خصوص الإرادة الجدّية فقط.

انوار الأصول، ج 2، ص: 97

الفصل الرابع التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصّص
اشارة

وله ثمرات فقهيّة مهمّة تظهر في الأبواب المختلفة من الفقه نشير إلى بعضها:

منها: ما يظهر في أبواب الضمانات إذا دار الأمر بين كون اليد عادية وكونها غير عادية، فهل يمكن التمسّك لإثبات الضمان بعموم «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه» الذي خرج منه اليد الأماني أو لا؟

ومنها: ما هو معنون في أبواب النكاح من أنّه إذا شكّ في أنّ الشبه المرئي من بعيد رجل أو امرأة أو من المحارم أو غيرهم فهل يجوز الرجوع إلى عموم قوله تعالى «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ» «1»

الذي استثنى منه الجنس الموافق والمحارم أو لا؟

ومنها: ما ذكروه في أبواب الطهارة من أنّه إذا دار الأمر بين كون الماء كرّاً فلا يتنجّس بملاقاته للنجس وكونه قليلًا فيتنجّس، فهل يمكن التمسّك بعموم «الماء إذا لاقى النجس يتنجّس» الذي يصطاد من مجموع الأدلّة الواردة في ذلك الباب وخرج منه الماء الكرّ أو لا؟

ثمّ إنّه يأتي هنا أيضاً الصور الأربعة المذكورة في الشبهة المفهوميّة وأمثلتها واضحة، وقد نسب إلى المشهور جواز التمسّك بالعام في هذا الفرض، ولعلّ مقصودهم خصوص صورة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر فيما إذا كان المخصّص منفصلًا، وذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى عدم الجواز مطلقاً.

والظاهر أنّه لا كلام فيما إذا كان المخصّص متّصلًا سواء كان أمره دائراً بين الأقلّ والأكثر أو المتباينين، وكذلك إذا كان منفصلًا وأمره دائراً بين المتباينين فإنّه لا فرق بين ما نحن فيه انوار الأصول، ج 2، ص: 98

والشبهة المفهوميّة للمخصّص في عدم جواز التمسّك بالعام.

إنّما الكلام في الصورة الرابعة وهي ما إذا كان الخاصّ منفصلًا وكان أمره دائراً بين الأقلّ والأكثر، فاستدلّ لعدم

جواز التمسّك حينئذٍ بوجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله وحاصله: أنّ الخاصّ المنفصل إنّما يزاحم حجّية العام في خصوص الأفراد المعلومة دخولها في الخاصّ كمن علم فسقه، ولا يزاحمه في الأفراد المشكوكة الفسق فيكون العام حجّة فيما لا يكون الخاصّ حجّة فيه، ثمّ أجاب عنه: بأنّ الخاصّ كما لا يكون حجّة في المصاديق المشكوكة فكذلك العام لا يكون حجّة فيها فلا بدّ فيها من الرجوع إلى الأصل العملي وذلك لأنّ الخاصّ المنفصل وإن لم يصادم أصل ظهور العام بل ظهوره باقٍ على حاله حتّى في الأفراد المعلومة الفسق فضلًا عن المشكوكة، لكنّه يتعنون بعنوان عدمي فيتبدّل عنوان العالم مثلًا إلى عنوان العالم غير الفاسق، وهذا يوجب لا محالة قصر حجّيته بما سوى الفاسق، عليه فالفرد المشتبه كما لا يعلم إندراجه تحت الخاصّ ولا يمكن التمسّك به لإجراء حكمه عليه وهو حرمة الإكرام فكذلك لا يعلم إندراجه تحت العام كي يمكن التمسّك به لإجراء حكم العام عليه وهو وجوب الإكرام.

إن قلت: هذا ينافي مختاركم سابقاً من أن تعنون العام يجري في خصوص المخصوص المتّصل، وأمّا المنفصل فيوجب التصرّف في الإرادة الجدّية فحسب.

قلنا: إنّه كذلك، لكنّ المقصود من عدم تعنون العام في المنفصل عدم تعنونه بما هو هو لا بما هو حجّة، فالمصداق المشتبه وإن كان مصداقاً للعام بما هو هو إلّاأنّه لم يعلم أنّه من مصاديقه بما هو حجّة لاختصاص حجّيته بغير الفاسق أو لا؟

الوجه الثاني: أنّ العام بعمومه الأفرادي يدلّ على وجوب إكرام كلّ واحد من العلماء في مثال «أكرم العلماء» ويدلّ بعمومه الأحوالي على سراية الحكم إلى كلّ حالة من حالات الموضوع، ومن جملة حالاته كونه مشكوك الفسق والعدالة، وقد علم

من قوله: «لا تكرم الفسّاق من العلماء» خروج معلوم الفسق منهم، فمقتضى أصالة العموم بقاء المشكوك على حاله.

والجواب عنه واضح، لأنّ العام يشمل أفراده الواقعيّة كما أنّ الخاصّ أيضاً يشمل أفراده الواقعيّة، كما أنّه كذلك في جميع الألفاظ فإنّها ناظرة إلى عناوينها الواقعيّة، فالموضوع للعام في انوار الأصول، ج 2، ص: 99

المثال إنّما هو العالم الواقعي خرج منه الفاسق الواقعي، وحينئذٍ لا يصحّ أن يحكم بوجوب إكرام المصداق المشتبه مع احتمال كونه فاسقاً في الواقع.

ولو قيل: إنّ العام لوحظ فيه الواقع والظاهر معاً، أي أنّه شامل للعناوين الواقعيّة والظاهرية (كعنوان معلوم الفسق ومشكوك الفسق) كليهما.

قلنا: إنّه يستلزم الجمع بين اللحاظين، وهما لحاظ ظرف الواقع للحكم الواقعي ولحاظ ظرف الشكّ للحكم الظاهري، وهو ممنوع، لا لأنّه محال لما مرّ منّا في البحث عن جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى من أنّ الجميع بين اللحاظين ممكن بل واقع وذكرنا له شواهد، بل لأنّه إنّما يجري فيما إذا قامت القرينة عليه، وإلّا فالظاهر استعمال اللفظ في معنى واحد وكون اللحاظ واحداً، والألفاظ وضعت للعناوين الواقعيّة مع قطع النظر عن حالة العلم والجهل والشكّ.

الوجه الثالث: التمسّك بقاعدة المقتضي والمانع، وبيانه: أنّ العام مقتضٍ للحكم والخاصّ مانع عنه، ففي موارد الاشتباه يؤول الأمر إلى الشكّ في وجود المانع بعد إحراز المقتضي والأصل عدمه فلا بدّ من الحكم بوجود المقتضي (بالفتح).

وقد يستشمّ التمسّك بهذا من كلمات المحقّق اليزدي رحمه الله في العروة الوثقى في كتاب النكاح فيما إذا دار الأمر بين كون الشبه المرئي من البعيد رجلًا أو امرأة ومن المحارم أو غيرهم فراجع.

ويمكن الجواب عنه:

أوّلًا: بأنّه لا دليل على كبرى القاعدة عقلًا ونقلًا كما سوف يأتي في مبحث الاستصحاب إن

شاء اللَّه.

وثانياً: بمنع الصغرى، لأنّا لا نسلّم كون العام والخاصّ من قبيل المقتضي والمانع، بل ربّما يكونان من قبيل الاقتضاء واللّاقتضاء أو من قبيل المقتضيين لحكمين متخالفين.

أقول: وقد تلخّص من جميع ما ذكرنا إلى هنا أنّه لم نجد دليلًا تامّ الدلالة على جواز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة للمخصّص، هذا من جانب، ومن جانب آخر نشاهد موارد عديدة في الفقه ظاهرها التمسّك بالعام في هذه الموارد التي أشرنا إلى بعضها في أوّل هذا الفصل، نعم هيهنا وجه رابع ووجه خامس على جواز التمسّك.

أمّا الوجه الرابع فحاصله أنّ الحجّة من قبل المولى لا تتمّ إلّابعد ثبوت الكبرى والصغرى معاً، والموجود فيما نحن فيه كبريان معلومتان: إحديهما قوله «أكرم كلّ عالم» والثانية قوله: «لا

انوار الأصول، ج 2، ص: 100

تكرم الفسّاق من العلماء» والظهور وإن إنعقد لكلّ من العامين، ولكن فرديّة زيد مثلًا للأوّل معلومة وللثاني مشكوك فيها، فينضمّ هذه الصغرى المعلومة إلى الكبرى الاولى فينتج وجوب إكرام زيد، وليس في البين حجّة تزاحمها، إذ الفرض أنّ فرديّة زيد لموضوع الكبرى الثانية مشكوك فيها، ومجرّد الكبرى لا تكون حجّة ما لم ينضمّ إليها صغرى معلومة.

فالعام حجّة في الفرد المشكوك فيه لا يزاحمه حجّة اخرى.

وأجاب عنه بحقّ في المحاضرات بما حاصله: «أنّ الحجّة قد فسّرت بتفسيرين: أحدهما: أن يراد بها ما يحتجّ به المولى على عبده وبالعكس، وهو معناها اللغوي والعرفي. وثانيهما: أن يراد بها الكاشفية والطريقية، يعني أنّ المولى جعله كاشفاً وطريقاً إلى مراده الواقعي الجدّي، فيحتجّ على عبده بجعله كاشفاً ومبرزاً عنه، هذا من ناحية ومن ناحية اخرى أنّ الحجّة بالتفسير الأوّل تتوقّف على إحراز الصغرى والكبرى معاً، وإلّا فلا أثر لها أصلًا، وأمّا الحجّة بالتفسير الثاني فلا

تتوقّف على إحراز الصغرى، ضرورة أنّها كاشفة عن مراد المولى واقعاً وطريق إليه سواء أكان لها موضوع في الخاج أم لم يكن.

وإن شئت قلت: إنّ الحجّة بهذا التفسير تتوقّف على إحراز الكبرى فحسب، لأنّ التمسّك بالعام إنّما هو من ناحية أنّه حجّة وكاشف عن المراد الجدّي لا من ناحية أنّه مستعمل في العموم إذ لا أثر له ما لم يكن المعنى المستعمل فيه مراداً جدّاً وواقعاً، والمفروض أنّ المراد الجدّي هنا غير المراد الاستعمالي حيث إن المراد الجدّي مقيّد بعدم الفسق في المثال دون المراد الاستعمالي، وعليه فإذا شكّ في عالم أنّه فاسق أو لا فبطبيعة الحال شكّ في انطباق موضوع العام عليه وعدم انطباقه كما هو الحال بالإضافة إلى الخاصّ، يعني أنّ نسبة هذا الفرد المشكوك بالإضافة إلى كلّ من العام بما هو حجّة والخاصّ نسبة واحدة فكما لا يمكن التمسّك بالخاصّ بالإضافة إلى هذا الفرد فكذلك لا يمكن التمسّك بالعام بالإضافة إليه «1».

أمّا الوجه الخامس فهو يختصّ بما إذا كان لسان العام لسان المنع وكشفنا من العام أنّ طبيعة الحكم على المنع حيث إنّه حينئذٍ استقرّ بناء العقلاء على الحكم بالمنع في المصاديق المشكوكة كما يستفاد من العمومات الواردة في باب الوقف أنّ طبيعة الوقف على المنع عن بيع الموقوفة

انوار الأصول، ج 2، ص: 101

وخرج منه صورتان فحسب: صورة الضرورة، وصورة ما إذا سقطت الموقوفة عن حيّز الانتفاع فلا بدّ من الحكم بالمنع في مصاديقه المشكوكة.

وهذا بيان تامّ يظهر منه وجه ما ذكره المحقّق اليزدي رحمه الله في كتاب العروة، المسألة 0 5- من كتاب النكاح حيث قال: «فإن شكّ في كونه مماثلًا أو لا، أو شكّ في كونه من المحارم النسبية أو لا

فالظاهر وجوب الاجتناب لأنّ الظاهر من آية وجوب الغضّ أنّ جواز النظر مشروط بأمر وجودي وهو كونه مماثلًا أو من المحارم، فمع الشكّ يعمل بمقتضى العموم لا من باب التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية ... فليس التخصيص في المقام من قبيل التنويع حتّى يكون من موارد أصل البراءة بل من قبيل المقتضي والمانع» فقد صرّح بأنّ الحكم بالحرمة في صورة الشكّ ليس من باب التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة بل إنّه من باب قاعدة المقتضي والمانع، مع أنّها ليست بحجّة ولا دليل عليها كما مرّ، لكن يظهر بالبيان المذكور إمكان المساعدة معه في الشقّ الثاني من كلامه، أي صورة الشكّ في كونه من المحارم، لأنّا نستفيد من الأدلّة أنّ الطبيعة الأوّليّة في المرأة حرمة النظر خلافاً للصورة الاولى، أي صورة الشكّ في كونه مماثلًا أو غير مماثل لأنّ طبيعة الإنسان ليست على المنع عن النظر إليه، والنتيجة حينئذٍ أنّ الظاهر وجوب الاجتناب في الصورة الثانية لا الاولى بل المرجع في الصورة الاولى الأصل العملي وهو فيها البراءة.

ومن هنا يظهر أيضاً أنّ نسبة التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة للمخصّص إلى المشهور في مثل هذه الموارد لعلّها نسبة غير صحيحة لأنّها تكون من قبيل ما يكون طبيعته على المنع، نظير أبواب الضمانات ونظير ما وقع مورداً للبحث والنزاع في يومنا هذا من السمكة المسمّاة ب «اوزون برون» فلو فرض عدم إحراز الفلس لها وشككنا في كونها ذا فلس أم لا قلنا: يستفاد من الأدلّة أنّ طبيعة حيوان البحر على المنع من أكله وخرج منه السمك إذا كان له فلس، أي إذا أحرز له الفلس، وأمّا الصورة المشكوكة فالقاعدة تقتضي حرمة الأكل فيها.

فثبت ممّا ذكر أنّ الحقّ هو

ما ذهب إليه أكثر المحقّقين المتأخّرين من عدم جواز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة للمخصّص إلّافي الموارد التي تكون طبيعة الحكم فيها على المنع.

ثمّ إنّ شيخنا العلّامة الأنصاري رحمه الله قد فصّل في المقام بين ما إذا كان المخصّص لفظيّاً وما إذا كان لبّياً، فعلى الأوّل لا يجوز التمسّك بالعام في الشبهات المصداقيّة دون الثاني، مثلًا إذا قال انوار الأصول، ج 2، ص: 102

المولى: «أكرم جيراني» وقطع العبد بأنّه لا يريد إكرام من كان عدوّاً له منهم كانت أصالة العموم باقيّة على الحجّية بالنسبة إلى المصاديق المشكوكة.

وتبعه في ذلك المحقّق صاحب الكفاية قدس سره في خصوص ما إذا كان منفصلًا وقال ما ملخّصه:

أنّ المخصّص اللبّي إن كان كالمخصّص اللفظي المتصّل فلا يجوز التمسّك بالعام في المصداق المشكوك، لأنّ المخصّص حينئذٍ يكون مانعاً عن انعقاد ظهور العام في العموم، وإن كان كالمنفصل اللفظي فلا يكون مانعاً عن انعقاد ظهوره في العموم ولكنّه يفترق عنه في نقطة، وهي أنّ المخصّص المنفصل إذا كان لفظياً فهو مانع عن التمسّك بالعام في الفرد المشتبه، وأمّا إذا كان لبّياً فهو غير مانع عنه، والنكتة في ذلك هي أنّ الأوّل يوجب تقيّد موضوع العام بعدم عنوان المخصّص من باب تحكيم الخاصّ على العام، وأمّا المخصّص اللبّي فإنّه لا يوجب تقييد موضوع العام إلّابما قطع المكلّف بخروجه عن تحته، فإنّ ظهور العام في العموم حجّة، والمفروض عدم قيام حجّة اخرى على خلافه إلّافيما قطع المكلّف بخروجه، وأمّا فيما لا قطع بالخروج عن تحته من الموارد المشكوكة فلا مانع من التمسّك بعمومه فيها.

أقول: لا إشكال في تصوّر الصور الأربعة المذكورة للشبهة المصداقيّة للمخصّص في ما نحن فيه أيضاً، وأمّا الشبهة المفهوميّة للمخصّص فلا تتصوّر

هنا لأنّ المفروض أنّ المخصّص لبّي ولا يكون لفظاً حتّى يمكن أن يكون فيه إجمال، والحقّ فيه عدم جواز التمسّك بالعام في جميع الأقسام الأربعة ولا فرق بين المتّصل والمنفصل، أمّا في المتّصل فلعدم انعقاد ظهور للعام حينئذٍ، وأمّا في المنفصل فلأنّه لا فرق في التنويع وتعنون العام بعنوان عدمي بين إن كان المخصّص لفظياً أو لبّياً فإذا قال المولى مثلًا: أكرم العلماء، فلا فرق بين أن يصرّح بنفسه بعداً أنّه: لا تكرم فسّاقهم، أو علم من الخارج أنّه لا يجب إكرام فسّاق العلماء، فعلى كلا التقديرين يتعنون العام لبّاً وواقعاً بعنوان عدمي، أي أكرم العلماء غير الفسّاق، فلا وجه لتفريق المحقّق صاحب الكفاية بين المخصّص اللبّي واللفظي وقوله بعدم جواز التمسّك في اللفظي مطلقاً في جميع الصور الأربعة وبجواز التمسّك في المنفصل من اللبّي.

نعم، يمكن استثناء مورد، وهو ما إذا كان المتكلّم في مقام تطبيق الكبرى على الصغرى ولاحظ الموضوع بتمام أفراده وأحرز صدق عنوان العام على جميع الأفراد، ففي مثل هذه الموارد نرجع إلى العام في مورد الشكّ، إلّاأنّ الظاهر أنّه لا مصداق له في الأحكام الشرعيّة،

انوار الأصول، ج 2، ص: 103

نعم قد مثّلوا له بقوله عليه السلام: «لعن اللَّه بني اميّة قاطبةً» وقد علمنا من الخارج أنّه لا يجوز لعن المؤمن شرعاً فيعلم من العموم وعدم التخصيص في لسان الدليل أنّ الإمام عليه السلام كان في مقام التطبيق وأنّه ليس في بني اميّة مؤمن لا يجوز لعنه، وبه يعرف أيضاً أنّ المصداق المشتبه للخاصّ المردّد بين الإيمان وعدمه ليس بمؤمن، ولكن الكلام في أنّ هذه الجملة هل هي من قبيل التطبيق والقضايا الخارجيّة أو ليس كذلك؟ مضافاً إلى أنّها ليس من الأحكام الشرعيّة

الكلّية.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّه لو قلنا بجواز التمسّك بالعام في المخصّص اللبّي فهل يثبت الحكم فقط في المصداق المشكوك أو يثبت الحكم والموضوع معاً حتّى يترتّب على الموضوع سائر آثاره، كعدم جواز الدفن في مقبرة المسلمين في مثال «لعن اللَّه بني اميّة قاطبةً» (فإذا ثبت للفرد المشكوك مضافاً إلى جواز لعنه كونه كافراً فلا يجوز دفنه في مقبرة المسلمين)؟

قال بعض بثبوت الموضوع أيضاً لكونه مقتضى الصغرى والكبرى الموجودتين في المقام، أمّا الصغرى فهي: «هذا الفرد ممّن يجوز لعنه» وأمّا الكبرى فهي: «كلّ من يجوز لعنه لا يكون مؤمناً» فيستنتج أنّ هذا لا يكون مؤمناً فيترتّب عليه أحكامه.

لكن الإنصاف أنّه مشكل، لأنّ المراد من جواز اللعن مثلًا ليس جوازه في متن الواقع حتّى يحكم بكونه كافراً واقعاً بل الجواز حكم ظاهري فلا يثبت به الأمر الواقعي.

إن قلت: إنّ لوازم الأمارات ومثبتاتها حجّة.

قلنا: المختار في باب الأمارات أنّ مثبتاتها ليست بحجّة مطلقاً بل في خصوص ما إذا كان المولى بصدد بيان تلك اللوازم.

فظهر أنّ الثابت في المقام خصوص الحكم لا الموضوع والحكم معاً، إلّاإذا كان المولى في مقام التطبيق لأنّا نستكشف حينئذٍ أنّ المولى في قوله: «لعن اللَّه بني اميّة قاطبةً» مثلًا يرى عدم إيمان جميعهم حتّى عمر بن عبدالعزيز مثلًا.

تمّ الكلام في جواز التمسّك بالعام في الشبهات للمخصّص.

انوار الأصول، ج 2، ص: 104

تنبيهات التنبيه الأوّل: في إثبات أصل موضوعي يعيّن به حال الفرد المشتبه في المقام (فقد كان الكلام إلى هنا مفروضاً فيما إذا لم يكن هناك أصل موضوعي (كالاستصحاب) يعيّن به حال الفرد المشتبه حتّى يندرج تحت الخاصّ أو العام).

إذا كان للفرد المشتبه حالة سابقة كالعدالة أو الفسق في مثال «أكرم العلماء» يجري استصحابها فيثبت به

كونه عادلًا أو فاسقاً فيحكم بوجوب إكرامه أو حرمته بلا إشكال، وأمّا إذا لم يكن له حالة سابقة فتمسّك بعض حينئذٍ باستصحاب عدم النسبة من الأزل، وهو يسمّى باستصحاب العدم الأزلي كاستصحاب عدم القرشيّة، فهناك عام دلّ على أنّ المرأة تحيض إلى خمسين، وخاصّ دلّ على أنّ القرشيّة تحيض إلى ستّين، فإذا شكّ في امرأة أنّها قرشيّة أو غير قرشيّة فباستصحاب عدم النسبة بينها وبين قريش من الأزل تخرج المرأة من عنوان القرشيّة وتبقى تحت العام فيكون حيضها إلى خمسين.

إن قلت: أنّه معارض باستصحاب عدم النسبة بينها وبين غير قريش.

قلنا: إنّ النسبة بينها وبين غير قريش ممّا لا أثر له شرعاً كي يجري استصحاب عدمها، فيكون أحد الاستصحابين حجّة والآخر غير حجّة.

وقال المحقّق صاحب الكفاية بإمكان إحراز حال الفرد المشتبه بهذا الأصل في جميع الموارد إلّا ما شذّ، وهو ما إذا تبادل الحالتان ولم يعلم السابق من اللاحق فحينئذٍ لا يمكن استصحاب عدم النسبة بينه وبين الفسق من الأزل مثلًا بعد العلم الإجمالي بانتقاض عدم النسبة وتبدّله إلى الوجود قطعاً.

عدم حجّية استصحاب العدم الأزلي

أقول: الحقّ عدم حجّية استصحاب العدم الأزلي لورود إشكالات عديدة عليه:

الأوّل: (ولعلّه أهمّها) كون القضيّة السالبة بانتفاء الموضوع الصادقة هنا غير عرفيّة، فلا يصحّ عند العرف أن يقال مثلًا: «ليس لولدي ثوب» ثمّ يقال عند السؤال عن وجهه: «لأنّه ليس لي ولد» بل يحمل العرف هذا الكلام على الاضحوكة والمزاح، وبالجملة أنّ أدلّة

انوار الأصول، ج 2، ص: 105

الاستصحاب منصرفة عن مثل هذا عرفاً.

الثاني: ما سيأتي في مبحث الاستصحاب من اعتبار الوحدة بين القضيّة المتيقّنة والقضيّة المشكوكة موضوعاً ومحمولًا ونسبةً لعدم صدق مفهوم النقض (لا تنقض اليقين بالشكّ) بدونها، والقضيّتان في ما نحن فيه ليستا متّحدتين في

النسبة لأنّها في إحديهما سالبة بانتفاء الموضوع وفي الاخرى سالبة بانتفاء المحمول.

الثالث: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله وعصارة كلامه ما ذكره في أوّل بيانه: أنّ الباقي تحت العام بعد التخصيص إذا كان هي المرأة التي لا يكون الانتساب إلى قريش موجوداً معها على نحو مفاد ليس التامّة، فالتمسّك بالأصل المذكور لإدراج الفرد المشتبه في الافراد الباقية وإن كان صحيحاً إلّاأنّ الواقع ليس كذلك، لأنّ الباقي تحت العام حسب ظهور دليله إنّما هي المرأة التي لا تكون قريشيّة على نحو مفاد ليس الناقصة، وعليه فالتمسّك بأصالة العدم لإثبات حكم العام للفرد المشكوك فيه غير صحيح، وذلك لأنّ العدم النعتي الذي هو موضوع الحكم لا حالة سابقة له على الفرض ليجري فيه الأصل، وأمّا العدم المحمولي الأزلي فهو وإن كان مجرى الأصل في نفسه إلّاأنّه لا يثبت به العدم النعتي الذي هو المأخوذ في الموضوع إلّابالأصل المثبت «1».

وأورد عليه بعض تلامذته في هامش أجود التقريرات بوقوع الخلط في كلام المحقّق بين مفاد ليس الناقصة والسالبة المحصّلة وأنّ الاستصحاب وإن لم يكن جارياً في الأوّل لعدم حالة سابقة له إلّاأنّه لا مانع من جريانه في القسم الثاني لوجود الحالة السابقة فيه، والثابت في ما نحن فيه هو السالبة المحصّلة لا ليس الناقصة، وحاصل ما أفاده لإثباته: أنّ الحكم الثابت للموضوع المقيّد بما هو مفاد كان الناقصة إنّما يكون ارتفاعه بعدم اتّصاف الذات بذلك القيد على نحو مفاد السالبة المحصّلة من دون أن يتوقّف ذلك على اتّصاف الذات بعدم ذلك القيد على نحو مفاد ليس الناقصة، فمفاد قضية «المرأة تحيض إلى خمسين إلّاالقرشيّة» وإن كان هو اعتبار وصف القرشيّة على وجه النعتية، في موضوع الحكم بتحيّض المرأة بعد

الخمسين إلّاأنّه لا يستدعي أخذ عدم القرشيّة في موضوع عدم الحكم بتحيّض المرأة بعد الخمسين على وجه انوار الأصول، ج 2، ص: 106

النعتية أعني به مفاد ليس الناقصة، وإنّما يستدعي أخذ عدم القرشيّة في ذلك الموضوع على نحو السالبة المحصّلة، فكلّ امرأة لا تكون متّصفة بالقرشيّة باقية تحت العام، وإنّما الخارج خصوص المتّصفة بالقرشيّة لا أنّ الباقي بعد التخصيص هي المرأة المتّصفة بعدم القرشيّة، فإذا شكّ في كون امرأة قرشيّة لم يكن مانع من التمسّك باستصحاب عدم القرشيّة الثابت لها قبل تولّد تلك المرأة في الخارج «1».

ولكن يرد عليه أيضاً أنّ التمسّك باستصحاب العدم النعتي في القسم الأوّل من كلامه لا محذور فيه من ناحية الإثبات، لأنّ اللازم العقلي الثابت هنا يكون من اللوازم العقليّة للشرائط التي لا إشكال في شمول أدلّة الاستصحاب لها بل مورد أخبار الاستصحاب من هذا القبيل، لأنّ اللازم في باب الطهارة تقيّد الصّلاة بها، وليس هو المستصحب بل المستصحب هو نفس الوضوء وتقيّد الصّلاة بها من اللوازم العقليّة له، وما نحن فيه من هذا القبيل، لأنّ تحيّض المرأة إلى خمسين مقيّد بعدم كونها من قريش، وتقيّدها بعدم القرشيّة يكون لازماً عقليّاً لعدم القرشيّة فإذا أثبتنا باستصحاب العدم الأزلي عدم القرشيّة يثبت تقيّد الموضوع- وهو المرأة- به قهراً بلا إشكال.

ثمّ إنّ الشيخ الحائري رحمه الله في حاشية الدرر حاول إثبات استصحاب العدم الأزلي ببيان آخر وهو: أنّه قد يستظهر من مناسبة الحكم والموضوع في بعض المقامات أنّ التأثير والفاعليّة ثابت للموضوع المفروغ عن وجوده عند اتّصافه بوصف كما في قضيّة «إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي ء» ولهذا لا يجري استصحاب عدم الكرّيّة من الأزل، وقد يستظهر من المناسبة المذكورة أنّ

التأثير ثابت لنفس الوصف، والموضوع المفروض وجوده إنّما اعتبر لتقوّم الوصف به كما في قوله عليه السلام: «المرأة ترى الدم إلى خمسين إلّاأن يكون قرشيّة» حيث كون الدم حيضاً إلى ستّين إنّما هي من ناحية التولّد من قريش لا أنّ المرأة لها هذه الخاصّية بشرط التولّد، فانتفاء هذا الوصف موجب لنقيض الحكم ولو كان بعدم الموضوع ولهذا يكون استصحاب العدم الأزلي نافعاً (انتهى) «2».

أقول: نحن لا نرى فرقاً بين المثالين، لأنّ في مثال القرشيّة أيضاً يكون وجود المرأة جزءاً

انوار الأصول، ج 2، ص: 107

للموضوع، فيكون الموضوع في الواقع «المرأة الموجودة غير القرشيّة» كما أنّه كذلك في جميع الموارد التي ثبت فيها شي ء لشي ء، أي في جميع أقسام القضيّة الموجبة، فلا فرق بين أن يكون الثابت وجوديّاً كما في الموجبة المحصّلة أو أمراً عدميّاً كما في الموجبة المعدولة نحو «زيد لا قائم» والموجبة السالبة المحمول نحو «زيد هو الذي ليس بقائم» حيث إن الصحيح- كما صرّح به المحقّق النائيني رحمه الله وصرّح به أيضاً في التهذيب- أنّ في جميع الموارد التي تعلّق فيها حكم على عدم شي ء، يكون العدم فيها هو العدم النعتي، أي لا يزال يرجع الاستثناء والتخصيص بعدم شي ء إلى الموجبة المعدولة المحمول لا السالبة التامّة ولا السالبة الناقصة، وإذاً لا يمكن لنا إجراء استصحاب العدم الأزلي في أيّ مورد من موارد التخصيص، فإنّ هذا بنفسه يعدّ إشكال آخر على استصحاب العدم الأزلي.

فتخلّص من جميع ما ذكرنا إلى هنا إنّه يرد على استصحاب العدم الأزلي امور ثلاثة سليمة عن الإشكال.

الأوّل: عدم تصوّر القضيّة السالبة بانتفاء الموضوع عند العرف، مع أنّ الأحكام الشرعيّة منزّلة على متفاهم العرف.

الثاني: عدم وجود الوحدة المعتبرة بين القضيّة المتيقّنة والمشكوكة.

الثالث: أنّ

التخصيص بعدم شي ء يرجع إلى القضيّة الموجبة المعدولة المحمول التي ثبوت شي ء فيها لشي ء يكون فرع ثبوت المثبت له.

بل يمكن أن يورد عليه إشكال آخر أيضاً، وهو أن نرفع اليد من ما ذكرنا سابقاً بعنوان الجواب عن إشكال معارضة استصحاب عدم القرشيّة مع استصحاب عدم كون المرأة غير قرشيّة، بأن نقول: يترتّب على كون المرأة غير قرشيّة أيضاً أثر شرعي وهو كون دمها دم الاستحاضة، فيجري استصحاب عدم كونها غير قرشيّة ويثبت عدم كون الدم دم استحاضة، فإنّ الاستصحاب كما يجري لإثبات حكم شرعي كذلك يجري لنفيه بلا إشكال، وبهذا تثبت المعارضة في استصحاب العدم الأزلي في جميع الموارد فلا يكون حجّة أصلًا.

هذا كلّه في البحث عن استصحاب العدم الأزلي وعدم تماميته.

التنبيه الثاني: في التمسّك بالاصول العمليّة، بعد فرض عدم إمكان التمسّك بالعام في الفرد المشتبه وبعد ما إذا لم يكن هناك أصل موضوعي يُدْرج الفرد المشتبه تحت الخاص أو العام انوار الأصول، ج 2، ص: 108

حيث إن الأصل العملي يجري في الحكم، والأصل الموضوعي يجري في الموضوع، فالثاني مقدّم على الأوّل لتقدّم الموضوع على الحكم.

وكيف كان، يختلف جريان الأصل العملي في الفرض المذكور باختلاف المقامات. فتارةً يكون الأصل هو البراءة عن الحكم التكليفي كما إذا شككنا في الوجوب وعدمه أو الحرمة وعدمها، أو البراءة عن الحكم الوضعي كما إذا شككنا في صحّة بيع العين الموقوفة وفساده أو شككنا في الضمان وعدمه، واخرى يكون الأصل هو التخيير كما إذا دار الأمر بين وجوب الفرد المشتبه وحرمته، وثالثة يكون الأصل هو الاستصحاب كما إذا شكّ المسافر في أنّه هل أقام في المحلّ ثلاثين يوماً من دون قصد الإقامة فيكون الواجب هو الإتمام، أو لا، فيكون الواجب القصر؟

وفرضنا عدم إمكان إجراء استصحاب الموضوع، فيجري حينئذٍ الاستصحاب الحكمي، وهو استصحاب وجوب القصر إلّاإذا لم تحرز وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة، لأنّه قد تتغيّر الموضوع عند العرف فيكون الأصل حينئذٍ هو الاحتياط، كما إذا شكّت المرأة التي مضى عليها خمسون سنة هل أنّها قرشيّة أو لا؟ وقلنا بعدم حجّية استصحاب العدم الأزلي، فربّما يقال حينئذٍ أنّها لا يمكن لها استصحاب أحكام التحيّض لأنّ موضوع القضيّة المتيقّنة وهو المرأة قبل الخمسين غير موضوع القضيّة المشكوكة، وهو المرأة بعد الخمسين عند العرف، فيجب عليها الاحتياط بالجمع بين تروك الحائض وأحكام الاستحاضة.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا إمكان جريان الاصول العمليّة كلّها بحسب المقامات المختلفة.

التنبيه الثالث: في جواز التمسّك بعموم وجوب الوفاء بالنذر وكلّ حكم آخر ثابت بعنوان ثانوي مثل وجوب إطاعة الوالد أو استحباب اجابة الأخ المؤمن ونحو ذلك في الشبهة المصداقية عند احتمال خروج مصداق عن العام تخصيصاً كما إذا قال مثلًا: أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق، وشككنا في عدالة زيد العالم، أو تخصّصاً كما إذا علمنا لزوم التوضّي بالماء فيكون الماء المضاف خارجاً تخصّصاً ثمّ شككنا في أنّ هذا الماء مطلق أو مضاف، فالنزاع لا يختصّ بصورة احتمال التخصّص كما يظهر من عبارة المحقّق الخراساني رحمه الله بل يجري عند احتمال التخصيص أو التخصّص.

وكيف كان، فقد يتوهّم إمكان التمسّك بعموم الوفاء بالنذر مثلًا إذا تعلّق بالتوضّي بذلك الماء أو تعلّق بإكرام زيد، فيستكشف بوجوب الإتيان به صحّة المتعلّق ورجحانه فيدخل الماء

انوار الأصول، ج 2، ص: 109

المشكوك في حكم الماء المطلق ويدخل مشكوك العدالة في حكم معلوم العدالة، وربّما يؤيّد ذلك بما ورد من صحّة الإحرام قبل الميقات والصّيام في السفر إذا تعلّق بهما النذر، لأنّه إذا صحّ

الإحرام قبل الميقات والصّوم في السفر بالنذر مع القطع ببطلانهما بدون النذر فصحّة الوضوء بالمائع المشكوك بالنذر مع الشكّ في بطلانه بدون النذر بطريق أولى.

وأجاب المحقّق الخراساني رحمه الله وغيره من الأعلام عن هذا بما حاصله: إنّ الحكم الثابت بالعناوين الثانويّة هل يكون مطلقاً أو يكون مقيّداً؟ فإن كان مقيّداً كما إذا كان وجوب الوفاء بالنذر مقيّداً برجحان متعلّقه، أي كان أحد الأحكام المتعلّقة بالأفعال بعناوينها الأوّليّة مأخوذاً في موضوع الحكم الثابت بالعناوين الثانويّة فلا يجوز التمسّك بعموم وجوب الوفاء بالنذر مثلًا لأنّ الحكم لا يثبت موضوع نفسه، بل لابدّ من إحراز الموضوع قبل تعلّقه، وإن كان الحكم مطلقاً، أي كان الوفاء بالنذر مثلًا واجباً مطلقاً سواء كان متعلّقه راجحاً أو كان حراماً، فحينئذٍ يقع التزاحم بين أدلّة المحرّمات وأدلّة الوفاء بالنذر، وتصل النوبة إلى الرجوع إلى المرجّحات، وعند عدمها يكون الحكم التخيير، وبعبارة اخرى: إنّ التمسّك بعموم «اوفوا» مثلًا فرع إحراز رجحان المتعلّق، فلو أحرز رجحانه وصحّته بعموم «أُوفوا» لزم الدور وهذا واضح.

أقول: هيهنا نكات ينبغي الالتفات إليها:

الاولى: أنّه كان ينبغي أن يستشكل في الصورة الاولى من المسألة، أي صورة التقييد، بأنّ التمسّك بعموم اوفوا بالنذر وكذلك التمسّك بعموم أدلّة سائر العناوين الثانويّة يكون من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة للمخصّص في العناوين الأوّليّة، فابتلى المتوهّم هنا بذلك الإشكال الذي مرّ بيانه فهو كرّ على ما فرّ منه.

الثانية: أنّه في الصورة الثانية وهي صورة عدم التقييد لا أقلّ من الانصراف، أي انصراف أدلّة الوفاء بالنذر إلى صورة الرجحان، ومع الغضّ عن الانصراف لا أقلّ من عدم الإطلاق والإجمال.

الثالثة: أنّ ما جاء به في كلامه من المؤيّدين في بابي الإحرام والصّيام يقع البحث فيهما

من جهات:

الجهة الاولى: من جهة عدم رجحان للمتعلّق فيهما.

انوار الأصول، ج 2، ص: 110

الجهة الثانية: من ناحية اعتبار قصد القربة.

الجهة الثالثة: من ناحية إرتباطهما بما نحن فيه.

أمّا الجهة الاولى: فقد اجيب عن الإشكال الوارد من ناحيتها بجوابين أشار إليهما في الجواهر والكفاية.

الجواب الأوّل: أن يكون ما دلّ على صحّتهما بالنذر مخصّصاً لما دلّ على اعتبار الرجحان في متعلّق النذر فيعتبر في متعلّقه الرجحان إلّافي هذين الموردين.

لكنّه غير تامّ لأنّه يوجب سقوط النذر عن ماهيّته لأنّه أمر عبادي عندنا يعتبر فيه التقرّب إلى اللَّه، ولا يعقل التقرّب بما ليس راجحاً، والحكم العقلي لا يقبل التخصيص والاستثناء كما أنّ عمومات أدلّة اعتبار الرجحان تؤيّد ذلك.

الجواب الثاني: أن يكون ما دلّ على صحّتهما بالنذر كاشفاً عن صيرورتهما راجحين بالنذر بعد ما لم يكونا راجحين ذاتاً.

إن قلت: المعتبر في باب النذر رجحان العمل قبل تعلّق النذر.

قلت: كلّا بل اللازم هو الرجحان حين العمل.

وأمّا الجهة الثانية: وهي الإشكال من ناحية قصد القربة فالجواب عنها متوقّف على الوجهين المذكورين آنفاً عند الجواب عن الإشكال في الجهة الاولى، فإن اخترنا الجواب الأوّل الذي ذهب إليه صاحب الجواهر من أنّ عمومات أدلّة اعتبار الرجحان خصّصت بهذين الموردين فلا يندفع الإشكال في ما نحن فيه ولا يتحقّق قصد القربة، ولا يكفي الأمر الناشى ء من قِبَل النذر لأنّه توصّلي.

وإن اخترنا الجواب الثاني، وهو تحقّق الرجحان مقارناً لتعلّق النذر، فالإشكال يرتفع لصيرورة المتعلّق بعد تعلّق النذر راجحاً محبوباً، وهو يكفي في التقرّب ولا حاجة إلى قصد الأمر.

أمّا الجهة الثالثة: فالإنصاف أنّه لا دخل للموردين في ما نحن فيه لأنّهما ليسا من قبيل التمسّك بعمومات العناوين الثانويّة لإثبات الموضوع وكشف حال الفرد وإنّما ثبتا لقيام دليل خاصّ يدلّ

عليهما، ولا يحصل بهما استقراء عقلي.

التنبيه الرابع: فيما إذا دار الأمر بين التخصيص والتخصّص، وبتعبير آخر: فيما إذا دار الأمر

انوار الأصول، ج 2، ص: 111

بين الخروج عن الموضوع والخروج عن الحكم، كما إذا علمنا بعدم وجوب إكرام زيد ولكن لا نعلم أنّه عالم فيكون خروجه من عموم «أكرم العلماء» تخصيصاً أو ليس بعالم فيكون خروجه من باب التخصّص، فإن كان خروجه من باب التخصيص، كان عنوان العالم منطبقاً عليه فيترتّب عليه سائر الأحكام والآثار المترتّبة على عنوان العالم، وإن كان من باب التخصّص فلا يترتّب عليه تلك الآثار، ومثال ذلك في الفقه كما ذكره في المحاضرات مسألة الملاقي لماء الاستنجاء حيث إنّه غير محكوم بالنجاسة إذا توفّرت فيه الشرائط التي ذكرت في محلّه، فحينئذٍ لا محالة يدور الأمر بين أن يكون خروجه عن هذا الحكم بالتخصّص أو بالتخصيص، يعني أنّ ما دلّ على طهارة الملاقي هل يكون مخصّصاً لعموم ما دلّ على انفعال الملاقي للماء النجس فيكون ماء الاستنجاء نجساً ويترتّب عليه سائر أحكام الشي ء النجس، أو يكون خروجه منه بالتخصّص، فيكون ماء الاستنجاء طاهراً ويترتّب عليه آثار الطهارة غير الوضوء والغسل؟

فيه خلاف بين الأصحاب، وقد اخترنا في التعليقة على العروة الوثقى للمحقّق اليزدي رحمه الله القول بالتخصيص وقلنا هناك: لعل العسر والحرج هما العلّة في هذا الحكم ولذا نقتصر من أحكام الطهارة على ما يندفع به العسر والحرج فقط.

وكيف كان، نحتاج لإثبات التخصّص في المقام إلى قبول أمرين:

أحدهما: جواز التمسّك بأصالة العموم (أصالة عدم التخصيص) لإثبات الموضوع أيضاً كما يجوز التمسّك بها لإثبات الحكم، مع أنّه ممنوع عندنا، فإنّا نقول: إنّها تجري لإثبات أصل الحكم فقط، وأمّا إذا كان الحكم واضحاً وشككنا في موضوعه، أي

شككنا في كيفية الحكم فلا يجري فيه دليل جواز التمسّك بالعام.

ثانيهما: أن تكون مثبتات الاصول والأمارات (وهي في المقام أصالة عدم التخصيص) حجّة، مع أنّ المختار فيها عدم حجّيتها إلّافيما إذا كان المولى ناظراً إلى بيان مثبتاتها ولوازمها، فتكون اللوازم العقليّة والعاديّة حينئذٍ حجّة كما في اللوازم الشرعيّة بالنسبة إلى خصوص ذلك المورد.

الفصل الخامس الكلام في مسألة وجوب الفحص وأنّه هل يجوز التمسّك بالعام قبل الفحص عن المخصّص أو لا؟
اشارة

والبحث فيه يقع في مقامين: المخصّص المتّصل والمخصّص المنفصل، حيث إن المخصّص المتّصل أيضاً داخل في البحث عندنا خلافاً لما ذكر في الكفاية والتهذيب.

المقام الأوّل: في المخصّص المنفصل

المشهور على عدم جواز الرجوع إلى العام قبل الفحص عنه وادّعى عليه الإجماع، وعليه عمل الفقهاء كلّهم (رضوان اللَّه عليهم) في أبواب الفقه، نظير عموم قوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» الذي يحتمل فيه ورود مخصّصات، فلا يستدلّ فقيه به في الموارد المشكوكة قبل الفحص عن تلك المخصّصات، وكذلك قوله تعالى: «وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ» «1»

إذا شككنا مثلًا في خروج من يكون السفر عمله أو من يكون عاصياً في سفره أو يكون مقيماً للعشرة، فلا يتمسّك بذلك العموم قبل الفحص، إلى غير ذلك من أشباهها.

فأصل وجوب الفحص ممّا لا إشكال فيه، إنّما الكلام في دليله كيما تتحدّد به دائرة الفحص وتتعيّن به مقداره.

فنقول: قد ذكر هنا وجوه أبعة:

الوجه الأوّل: ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية وتبعه كثير من الأعلام، وحاصله:

انوار الأصول، ج 2، ص: 114

إنّ مدرك حجّية أصالة العموم هو بناء العقلاء على العمل بها، ولم يثبت بنائهم عليه فيما إذا كانت العمومات في معرض التخصيص، فلو علموا أنّ أحداً من مواليهم العرفيّة يتّكل كثيراً ما في تخصيص عمومات كلامه على مخصّصات منفصلة لم يعملوا بها بمجرّد الظفر على عام من العمومات الصادرة منه ما لم يتفحّصوا بقدر وسعهم عن المخصّص.

أقول: لابدّ من توضيح مقصوده وتأويل كلامه بأن نقول: بما أنّ سيرة الشارع وسنّته استقرّت على بيان الأحكام تدريجاً فيعتمد في تخصيص عمومات كلامه على مخصّصات منفصلة بحيث تكون عمومات كلامه في معرض التخصيص فإنّ العقلاء في مثل هذا المورد لا يستقرّ بنائهم على العمل

بالعمومات قبل الفحص عن المخصّص، وقد عرفت سابقاً عدم وجود المخصّص المنفصل في المحاورات العرفيّة وأنّ العرف يحملونه على التناقض والتكاذب.

وذكر في التهذيب أنّ جميع القوانين العقلائيّة كذلك، لكنّه محلّ تأمّل إذ إنّه بعد تسجيل قانون في مجلس التقنين في ثلاثين مادّة وتبصرة مثلًا لا يرى الموظّفون بإجراء القوانين أنفسهم مسؤلين عن الفحص عن المخصّص أو المعارض فتأمّل.

فتلخّص ممّا ذكر أنّ قوانين الشرع لكونها في معرض التخصيص كما عليه سنّة الشارع وسيرته لابدّ فيها من الفحص عن المخصّص.

الوجه الثاني: أنّ العلم الإجمالي بورود مخصّصات كثيرة حاصل لمن لاحظ الكتب الفقهيّة ولا يمكن إجراء الاصول في أطراف العلم الإجمالي.

لكن هذا أخصّ من المدّعى فالمعلوم بالإجمال هو مقدار معيّن فينحلّ بعد الظفر على المخصّصات بذلك المقدار، فإذا إنحلّ فمقتضى هذا الوجه أنّ العمل بالعام بعد هذا ممّا لا يحتاج إلى الفحص، وهو كماترى، لأنّ سيرة الفقهاء جارية على الفحص حتّى في هذه الموارد.

الوجه الثالث: ما ثبت من اعتبار الظنّ الشخصي في حجّية أصالة العموم وهو لا يحصل مع عدم الفحص.

والجواب عنه أنّ المختار عدم اعتبار الظنّ الشخصي في حجّية الظواهر.

الوجه الرابع: (وهو الدليل الثاني للمحقّق النائيني رحمه الله في المقام): ما حاصله: إنّ حجّية العمومات متقوّمة بجريان مقدّمات الحكمة الكاشفة عن عدم دخل قيد آخر في مراد المتكلّم، فإذا علمنا بعد الرجوع إلى الأدلّة الشرعيّة أنّ طريقة الشارع قد استقرّت على إبراز مقاصده انوار الأصول، ج 2، ص: 115

بالقرائن المنفصلة ينهدم أساس جريان مقدّمات الحكمة ولم تكن تلك العمومات حجّة قبل الفحص عن مخصّصاتها، وبالجملة أنّ من المقدّمات عدم البيان في مقام البيان، ومقام البيان للشارع ليس منحصراً في زمان التكلّم عن العام «1».

وجوابه واضح بعد ما مرّ

من أنّ ألفاظ العموم تكفينا في إفادة العموم من دون حاجة إلى جريان مقدّمات الحكمة.

تنبيهان التنبيه الأوّل: في المقدار اللازم من الفحص، ولا ريب في أنّه يختلف باختلاف الوجوه التي اقيمت لأصل لزوم الفحص.

فعلى الوجه الأوّل يجب الفحص في المسألة بمقدار يخرج العام عرفاً عن كونه معرضاً للمخصّصات وعن مظانّ التخصيص.

وعلى الوجه الثاني (وهو العلم الإجمالي بورود مخصّصات كثيرة) يجب الفحص بمقدار يخرج العام عن أطراف العلم الإجمالي.

وعلى الوجه الثالث (وهو اعتبار الظنّ الشخصي بالمراد) يجب الفحص إلى أن يحصل الظنّ الشخصي بعدم المخصّص.

وعلى الوجه الرابع (وهو ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله) يجب الفحص إلى أن يصدق عدم البيان في مقام البيان، وهذا طبعاً يحتاج إلى حصول العلم بعدم ورود المخصّص كما لا يخفى.

التنبيه الثاني: في أنّه هل الفحص عن المخصّص فحص عن المعارض والمانع أو عمّا يتمّ به اقتضاء المقتضي؟ وبعبارة اخرى: أيكون العموم ناقصاً في الاقتضاء بدون الفحص أو الاقتضاء تامّ، والكلام في عدم المانع؟ ففيه أيضاً تفصيل بلحاظ اختلاف الوجوه التي استدلّ بها.

فعند القائلين باعتبار الظنّ الشخصي- المقتضي ناقص قبل الفحص لأنّ الظنّ ليس حاصلًا قبل الفحص.

انوار الأصول، ج 2، ص: 116

وعند القائلين بوجود العلم الإجمالي فالمسألة متوقّفة على جريان الاصول العمليّة في أطراف العلم الإجمالي وسقوطها بالتعارض أو عدم جريانها حتّى في بدو الأمر، فإن قلنا بأنّها تجري فتتعارض فالفحص يكون في وجود المانع وهو الأصل المعارض الجاري في طرف آخر، وإن قلنا بعدم جريانها ابتداءً فالنقص في المقتضي.

وأمّا بناءً على مبنى المحقّق النائيني رحمه الله فالفحص يكون عن المقتضي، لأنّ مع عدم جريان مقدّمات الحكمة لا ينعقد للعام ظهور واقتضاء.

وأمّا بناءً على دليل المعرّضيّة فالفحص هو عن وجود المانع والمعارض،

لأنّه لا إشكال حينئذٍ في ظهور العام في العموم ودلالته الاستعماليّة.

المقام الثاني: في المخصّص المتّصل
اشارة

قال المحقّق الخراساني رحمه الله: إنّ الظاهر عدم لزوم الفحص عن المخصّص المتّصل باحتمال أنّه كان ولم يصل، بل حاله حال احتمال قرينة المجاز، وقد اتّفقت كلماتهم على عدم الاعتناء به ولو قبل الفحص.

وقال بعض المحشّين بلزوم الفحص في المتّصل أيضاً إذا كان العام في معرض التخصيص بالمتّصل.

أقول: إنّ ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله في المقام لا يخلو من إبهام، والحقّ أن يقال: إنّ المخصّص المتّصل يتصوّر على أنحاء:

أحدها: أن نحتمل وجود مخصّص متّصل في الزمن السابق لكن لم ينقله الراوي نسياناً أو عمداً كما إذا كان في الكلام استثناء متّصل (مثل أن قال الإمام عليه السلام: «يشترط في لباس المصلّي أن يكون طاهراً إلّافيما لا تتمّ فيه الصّلاة) ولم ينقله الراوي.

ثانيها: أن نحتمل عدم نقل بعض المؤلّفين لجوامع الحديث كصاحب الوسائل الذي كان من دأبه تقطيع الرّوايات فنحتمل وجود قرينة متّصلة في بعض فقرات الرّواية التي لم يذكرها في الباب.

ثالثها: أن نحتمل وجوده في ما يسقط عن الرّواية لبعض العوارض الطبيعية كما إذا فقد

انوار الأصول، ج 2، ص: 117

بعض أوراق كتاب الحديث ويحتمل وجود مخصّص في تلك الورقة المفقودة.

أمّا القسم الأوّل: فلا يعتنى به بلا إشكال، لأنّه إمّا أن نحتمل عدم نقل الراوي لذلك المخصّص تعمّداً، فهو لا يجتمع مع وثاقة الراوي، وإمّا أن نحتمل عدم نقله نسياناً فأصالة عدم النسيان المعتبرة عند العقلاء كافيّة في نفيه، وأمّا الحذف عن تقيّة فهو أيضاً خلاف أصل عقلائي لأنّ الأصل في كلّ كلام حمله على الجدّ.

أمّا القسم الثاني: فهو أيضاً لا يعتنى به لأنّه ينافي وثاقة المؤلّف، واحتمال أنّ عدم نقله نشأ من استنباطه الشخصي

بكون الذيل منفصلًا ولذلك لم ينقله- لا يعتنى به أيضاً لأنّ غايته أن يكون من قبيل النقل بالمعنى الذي ينشأ من الاجتهاد والاستنباط الشخصي.

أمّا القسم الثالث: فلا إشكال في أنّ الفحص لازم فيه، كما إذا فقدت ورقة من كتاب وصيّة أو وقف ويحتمل وجود المخصّص في تلك الورقة المفقودة، فلا يعتمد على ذلك الكتاب بدون الفحص عن الباقي، لأنّ للمتكلّم أن يلحق بكلامه ما شاء ما دام متكلّماً فلا يمكن الاعتماد على كلامه قبل إتمامه.

فظهر ممّا ذكر أنّ المقامات في المخصّص المتّصل مختلفة، ولابدّ فيه من ملاحظة منشأ الشكّ.

تذييل: في لزوم الفحص في موارد الاصول العمليّة

لا إشكال ولا كلام في لزوم الفحص عن الدليل الاجتهادي في الاصول العمليّة إذا كانت الشبهة حكميّة، إنّما الكلام في الفرق بين الموردين، أي بين الفحص عن المخصّص في العمل بالعام وبين الفحص عن الدليل الاجتهادي في جريان الاصول العمليّة.

فقال المحقّق الخراساني رحمه الله ما حاصله: الفحص في الأوّل فحص عمّا يزاحم الحجّية، وأمّا في الثاني فبدون الفحص لا حجّة أصلًا لأنّ الموضوع في البراءة العقليّة مثلًا هو اللّابيان، وهو لا يحرز بدون الفحص كي يكون الحكم المترتّب عليه حجّة.

لكن الإنصاف في المسألة هو التفصيل بين أصالة الاحتياط وغيرها من الاصول، والفرق المذكور إنّما يتمّ في غير الاحتياط، أمّا في البراءة العقليّة منه فلأنّ موضوعها اللّابيان، وهو لا يحرز بدون الفحص كما مرّ، وأمّا البراءة الشرعيّة فلأنّ دليلها وهو حديث الرفع مقيّد بما بعد

انوار الأصول، ج 2، ص: 118

الفحص إجماعاً كما صرّح به المحقّق الخراساني رحمه الله، وأمّا الاستصحاب عند من يقول بحجّيته في الشبهات الحكميّة فلأنّ دليلها إمّا مقيّد بالإجماع كما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله أيضاً، أو منصرف إلى ما بعد الفحص كما هو

المختار، وكذلك أصالة التخيير لأنّ موضوعها هو دوران الأمر بين المحذورين، وهو لا يصدق عقلًا إلّابعد الفحص.

هذا كلّه في غير أصالة الاحتياط، وأمّا فيها فالفحص ليس فحصاً عن الحجّة والمقتضي، لأنّ المقتضي فيها هو العلم الإجمالي، وهو تامّ موجود قبل الفحص، وحينئذٍ يكون الفحص عن المانع وعمّا يزاحم الحجّية.

وإن شئت قلت: لا حاجة فيها إلى الفحص لجواز الاحتياط وعدم وجوب الاجتهاد أو التقليد قبل الفحص في جميع الشبهات كما عليه الفتوى.

وبالجملة الفحص فيها ليس واجباً وإنّما يجب للخروج عن الاحتياط بالظفر على الدليل الرافع لموضوعه.

هذا كلّه في الاصول العمليّة، وكذلك في الاصول اللفظيّة، فلا بدّ فيها أيضاً من التفصيل على المباني والوجوه الأربعة المذكورة للزوم الفحص، فعلى بعض تلك الوجوه يكون الفحص فحصاً عن المقتضي، وعلى بعضها الآخر يكون فحصاً عن المانع كما مرّ تفصيله في التنبيه الثاني.

الفصل السادس الكلام في الخطابات الشفاهيّة
اشارة

لا شكّ في أنّ هناك عمومات وردت في الكتاب والسنّة على نهج الخطابات الشفاهيّة كقوله تعالى: «ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» «1»

وقوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» «2»

، كما لا إشكال أيضاً في أنّها تشمل جميع صيغ التخاطب حتّى صيغ التخاطب من الأوامر والنواهي.

إنّما الإشكال والنزاع يقع فيها في ثلاث مقامات:

المقام الأوّل: في أنّ التكليف الوارد في الخطابات الشفاهيّة هل يصحّ تعلّقه بالمعدومين أو لا؟

المقام الثاني: في توجيه الخطاب إلى المعدومين هل يصحّ حقيقة أو لا؟

المقام الثالث: في أنّ أدوات التخاطب لماذا وضعت؟

يستفاد من كلمات المحقّق الخراساني رحمه الله جريان النزاع في جميع الثلاثة، وصرّح في هامش أجود التقريرات بأنّه جارٍ في خصوص المقام الثالث، والحقّ هو الأوّل، فالنزاع جارٍ في جميع المقامات بل لا معنى للبحث عن المقام

الثالث بدون البحث عن المقام الأوّل والثاني.

أمّا المقام الأوّل: ففصّل المحقّق الخراساني رحمه الله فيه بين ما إذا كان التكليف فعلياً فلا يمكن حينئذٍ تكليف المعدوم عقلًا، وبين ما إذا كان التكليف إنشائيّاً فيجوز، لأنّ الإنشاء خفيف المؤونة نظير إنشاء الوقف على البطون المتعدّدة، فإنّ المعدوم منهم يصير مالكاً للعين الموقوفة بعد وجوده، بإنشاء الواقف حين ما وقف، لا بانتقال العين إليه من البطن السابق.

انوار الأصول، ج 2، ص: 120

لكن الإنصاف أنّه غير تامّ، لأنّه إن كان المراد من المعدوم المعدوم بما هو هو فلا معنى للتكليف لا فعلياً ولا إنشائيّاً، وإن كان المراد المعدوم بما سوف يوجد، أي على فرض وجوده وعلى نهج القضيّة الحقيقيّة فالتكليف ممكن، إلّاأنّه لا فرق حينئذٍ بين الفعلي والإنشائي، وإن شئت قلت: التكليف حينئذٍ فعلي ولكن في فرض وجود موضوعه كما في القضايا الشرطيّة.

أمّا المقام الثاني: وهو جواز مخاطبة المعدومين وعدمه فذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى عدمه وقال ما حاصله: أنّه لا ريب في عدم صحّة خطاب الغائب عن مجلس الخطاب بل الحاضر غير الملتفت فضلًا عن الغائب والمعدوم على وجه الحقيقة، فإنّ الخطاب الحقيقي عبارة عن توجيه الكلام نحو الغير للإفهام، ومن المعلوم أنّ ذلك ممّا لا يتحقّق إلّاإذا كان توجيه الكلام إلى الحاضر الملتفت.

لكن الإنصاف أنّ ما قلنا في المقام الأوّل جارٍ هنا أيضاً حيث نقول: إن كان المراد مخاطبة المعدوم بلحاظ حال العدم فلا يجوز قطعاً، وأمّا إذا كان بلحاظ الوجود فلا إشكال فيه، لأنّ حقيقة الخطاب توجيهه نحو الغير مع الايصال إليه بأيّ وسيلة كانت سواء كان الغير حاضراً أو غائباً، وليست حقيقته المشافهة حتّى يختصّ جوازه بالحاضر في المجلس، ولذلك تكتب الرسائل ويخاطب فيها

الغائب أو تكتب الوصيّة للجيل اللاحق وهم مخاطبون فيها، كما ورد في وصيّة أمير المؤمنين علي عليه السلام: «اوصيكما وجميع ولدي ومن بلغه كتابي هذا بتقوى اللَّه ونظم أمركم» «1»، إلى غير ذلك من أشباهها ونظائرها.

فتلخّص أنّ حقيقة التخاطب هو توجيه الخطاب نحو الغير لا التشافه والحضور، وهذا يصدق بالنسبة إلى المعدوم بلحاظ زمن وجوده أيضاً.

أمّا المقام الثالث: فالنزاع فيه عند المحقّق الخراساني رحمه الله مسبّب عن أنّ أدوات الخطاب هل هي موضوعة للخطاب مع المخاطب الحقيقي كي نقول باختصاصها بالحاضرين وعدم شمولها للمعدومين لئلّا يلزم استعمال الأداة في غير ما وضعت له، أو موضوعة لإنشاء مطلق التخاطب ولايقاع مجرّد المخاطبة سواء كان مع المخاطب الحقيقي أو التنزيلي فتكون شاملة للمعدومين أيضاً وقد مرّ نظيره في مبحث الأوامر بالنسبة إلى صيغة الأمر وهل هي موضوعة

انوار الأصول، ج 2، ص: 121

للطلب الحقيقي أو لإنشاء مطلق الطلب ولو لم يكن بداعي الطلب الحقيقي كما إذا صدر بداعي التعجيز أو التهديد؟

واستدلّ لوضعها لإنشاء مطلق التخاطب بوجهين:

أحدهما: أنّه كذلك في أشباهها ونظائرها كأداة النداء وضمائر التخاطب فإنّها موضوعة لإنشاء مطلق التخاطب ولايقاع مجرّد المخاطبة سواء كان مع المخاطب الحقيقي أو التنزيلي.

الثاني: أنّ الوجدان حاكم على أنّ في مثل «ياكوكباً ما كان أقصر عمره» الذي ليس المخاطب فيه حقيقيّاً لعدم كونه حاضراً ملتفتاً- ليس هناك تجوّز في أداة الخطاب أصلًا بل هي مستعملة في معناها الحقيقي من إنشاء النداء والخطاب، فليس فيها عناية ولا مجاز بالنسبة إلى أداة الخطاب، ثمّ قال ما حاصله: أنّ هذا كلّه فيما إذا لم تكن قرينة في البين توجب الانصراف إلى الخطاب الحقيقي كما هو الحال في حروف الإستفهام والترجّي والتمنّي وغيرها، وفي نهاية الأمر قال

ما حاصله: أنّ هذا الظهور الانصرافي ناشٍ عن عدم قرينة تمنع عن الانصراف المزبور، وإلّا إذا كان هناك ما يمنع عن الانصراف إلى المعاني الحقيقيّة كما يمكن دعوى وجوده غالباً في كلام الشارع فلا تختصّ هذه الأداة بالخطاب الحقيقي.

أقول: يرد عليه:

أوّلًا: أنّه قال: إن كان الموضوع له هو الخطاب الحقيقي فلا يشمل المعدومين، بينما لا إشكال في الشمول على فرض الوجود كما مرّ.

ثانياً: أنّه قال: إن كان الموضوع له هو الخطاب الإنشائي فيشمل المعدومين، بينما لا إشكال أيضاً في عدم الشمول على فرض العدم.

ثالثاً: لو فرضنا عدم شمول الخطاب للمعدومين فلا ضير فيه، لأنّه لا ريب في شمول التكليف لهم لوجود أدلّة الاشتراك في التكليف، ولا حاجة في ثبوت التكليف إلى توجيه الخطاب إليهم ولا ملازمة بين الأمرين.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني رحمه الله قال: إنّ القضايا الخارجيّة مختصّة بالمشافهين ولا تشمل الغائبين والمعدومين، وأمّا القضايا الحقيقيّة فالظاهر أنّ الخطابات فيها عامّة.

واستدلّ له بأنّ توجيه الخطاب إلى الغائب لا يحتاج إلى أكثر من تنزيله منزلة الحاضر، وكذلك بالنسبة إلى المعدوم فينزّل منزلة الموجود، ثمّ قال: هذا المعنى هو مقتضى طبيعة القضيّة الحقيقيّة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 122

وأورد عليه في حاشية الأجود بأنّ مجرّد الوجود لا يكفي في الخطابات المشافهة بل تحتاج إلى فرض الحضور أيضاً والقضايا الحقيقيّة تفرض لنا الوجود فقط.

ثمّ حاول لحلّ الإشكال، فذهب إلى ما بنى عليه المحقّق الخراساني رحمه الله من أنّ الأدوات وضعت للخطاب الإنشائي، ثمّ قال في آخر كلامه ما حاصله: هذا إذا قلنا أنّ الخطابات القرآنية خطابات من اللَّه بلسان النبي صلى الله عليه و آله، أمّا إذا قلنا أنّها نزلت عليه قبل قرائته يكون هذا النزاع باطلًا من أصله لعدم

وجود مخاطب غير النبي صلى الله عليه و آله في ذلك الزمان «1».

أقول: الظاهر أنّ إشكاله على المحقّق المذكور غير وارد لما سيأتي، مضافاً إلى أنّ الكلام هو في المنهج الذي سلكه لحلّ الإشكال، لأنّ قوله: إنّ الأدوات وضعت للخطاب الإنشائي تبعاً للمحقّق الخراساني رحمه الله يستلزم عدم كون الخطابات القرآنيّة بداعي الخطاب الحقيقي، وهو خلاف الوجدان وخلاف بعض الرّوايات الواردة لبيان آداب التلاوة نظير ما ورد لاستحباب ذكر «لبّيك» بعد تلاوة خطاب «ياأيّها الذين آمنوا»، هذا أوّلًا.

ثانياً: بالنسبة إلى قوله: «إن قلنا أنّ الخطابات القرآنية نزلت على النبي قبل قرائته» (إلى آخره): أنّه لا ريب في أنّها نزلت عليه قبل قرائته، فلا ينبغي التعليق والترديد فيه بقوله «إن قلنا»، لكن هذا لا يلازم بطلان النزاع من رأسه، لأنّها وإن نزلت قبل قرائته صلى الله عليه و آله لكنّه صلى الله عليه و آله خليفة اللَّه في مخاطبة الناس فيخاطبهم بلسان الباري تعالى.

والإشكال الأساسي في كلمات هؤلاء الأعلام أنّهم تسالموا على وجود الملازمة بين خطاب المشافهة والحضور وأنّ الحضور لازم فيها، بينما قلنا أنّ حقيقة الخطاب هي توجيه الكلام نحو الغير مع الإيصال إليه بأيّ وسيلة.

ثمّ إنّه قد حاول في تهذيب الاصول تحليل القضيّة الحقيقيّة والخارجيّة، وقال: «إنّ هذا التقسيم للقضايا الكلّية، وأمّا الشخصيّة مثل «زيد قائم» ممّا لا تعتبر في العلوم فخارجة عن المقسم، فقد يكون الحكم في القضايا الكلّية على الأفراد الموجودة للعنوان بحيث لا ينطبق إلّا عليها مثل «كلّ عالم موجود في حال كذا» أو «كلّ من في هذا العسكر كذا» وأمّا القضيّة الحقيقيّة فهي ما يكون الحكم فيها على أفراد الطبيعة القابلة للصدق على الموجود في الحال انوار الأصول، ج 2، ص:

123

وغيره مثل «كلّ نار حارّة» فلفظ «نار» تدلّ على نفس الطبيعة وهي قابلة للصدق على كلّ فرد لا بمعنى وضعها للأفراد ولا بمعنى كونها حاكيّة عنها أو كون الطبيعة حاكيّة عنها بل بمعنى دلالتها على الطبيعة القابلة للصدق على الافراد الموجودة وما سيوجد في ظرف الوجود، (إلى أن قال): فكلّ نار حارّة إخبار عن مصاديق النار دلالة تصديقية، والمعدوم ليس مصداقاً للنار ولا لشي ء آخر، كما أنّ الموجود الذهني ليس ناراً بالحمل الشائع، فينحصر الصدق على الأفراد الموجودة في ظرف وجودها من غير أن يكون الوجود قيداً، أو أن يفرض للمعدوم وجود أو ينزل منزلة الوجود ومن غير أن تكون القضيّة متضمّنة للشرط كما تمور بها الألسن موراً» «1».

أقول: ويمكن المناقشة فيه:

أوّلًا: بأنّا لا نفهم معناً محصّلًا لقوله «فينحصر الصدق على الأفراد الموجودة في ظرف وجودها من غير أن يكون الوجود قيداً» لأنّ هذا أيضاً يساوق كون الوجود قيداً، فإن الحارّة مثلًا في مثال «النار حارّة» إنّما هي النار الموجودة في الخارج لا النار بدون الوجود ولا النار الموجودة في الذهن، نعم إنّ ما أفاده جارٍ في مثل «الأربعة زوج».

ثانياً: لو لم يكن الوجود قيداً فنسأل: هل تكون القضيّة شاملة للمعدومين أو لا؟ فإن لم تكن شاملة لهم فالقضيّة خارجيّة لا حقيقيّة، وإن كانت شاملة فيعلم أنّه فرض للمعدوم وجود، وقد مرّ أنّ حقيقة القضيّة الشرطيّة هو فرض الوجود، وعلى كلّ حال: القضيّة الحقيقيّة هي ما يكون الوجود قيداً فيها، غاية الأمر أنّه أعمّ من الوجود التقديري والوجود الفعلي.

ثمّ إنّه في ما سبق أنكر الانحلال في القضايا الكلّية القانونيّة وقد أوردنا عليه بالنقض بالعموم الافرادي، لكن في المقام له كلام صرّح فيه بالانحلال وإليك نصّه:

«وليعلم أنّ الحكم في الحقيقة على الأفراد بالوجه الإجمالي وهو عنوان كلّ فرد أو جميع الأفراد، فالحكم في المحصورة على أفراد الطبيعة بنحو الإجمال على نفس الطبيعة ولكن على الأفراد تفصيلًا» «2».

فقد صرّح في هذا الكلام بأنّ الحكم في المحصورة يتعلّق بالمصاديق والأفراد، بينما قد مرّ منه سابقاً أنّ الحكم في القضايا القانونيّة يتعلّق بالطبيعة فقط.

انوار الأصول، ج 2، ص: 124

فظهر ممّا ذكرنا عدم تماميّة تفصيل المحقّق النائيني رحمه الله في الخطابات الشفاهيّة بين القضايا الحقيقيّة والخارجيّة بأنّ الاولى تشمل الغائب والمعدوم والثانية لا تشملهما، لأنّ حقيقة الخطاب وهي توجيه الكلام إلى الغير موجودة في كلتا القضيتين، وقد ردّ تفصيله في تهذيب الاصول بعد ذكر مقدّمات فكلامه تامّ من هذه الجهة.

هذا كلّه في التفصيل بين القضايا الخارجيّة والحقيقيّة.

وهنا تفصيل آخر وهو بين الخطابات الإلهية وغير الإلهية، ببيان أنّ الاولى شاملة للغائبين والمعدومين، لأنّ اللَّه محيط بكلّ شي ء وكلّ شي ء حاضر عنده بخلاف الثانية.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه الله بأنّه يعتبر في الخطاب ثلاثة أشياء: المخاطب (بالكسر) والمخاطب (بالفتح) وأداة الخطاب، وفي الخطابات الإلهية وإن لم يكن نقص بالنسبة إلى الأمر الأوّل، أي المخاطب (بالكسر) ولكنّه موجود بالنسبة إلى الأمر الثاني والثالث.

وللمحقّق الإصفهاني رحمه الله هنا تفصيل في هذا التفصيل، وهو أنّ الخطابات الإلهيّة تشمل الغائبين دون المعدومين، وأمّا الخطابات البشريّة فلا تشمل المعدومين والغائبين معاً، والدليل هو إحاطته تعالى بالغائبين، وأمّا عدم حضورهم وعدم فهمهم لخطابه فلا ضير فيه بل اللازم هو نوع اجتماع بين المخاطِب والمخاطَب إمّا في مكان واحد أو بحكمه أو الإحاطة الإلهية «1».

أقول: هنا مطلبان:

الأوّل: أنّه لابدّ في صحّة الخطاب وكونه حقيقياً الإفهام والإنفهام ولو في ظرف وصوله (وإلّا يكون إنشائيّاً) من

دون الفرق بين الخطابات الإلهية وغيرها، والحاكم بهذا هو العرف والوجدان.

الثاني: في المقصود من إحاطة اللَّه بالمعدومين: فقد قرّر في محلّه أنّ عدم علمه بالمعدومين يوجب النقص في ذاته تبارك وتعالى عن ذلك ولكن قد يستشكل بأنّ علمه بهم إمّا أن يكون حصولياً وارتسامياً أو يكون حضوريّاً، والأوّل محال لاستلزامه الارتسام في ذاته، مضافاً إلى أنّه لا إشكال في أنّ علمه بالأشياء يكون بذاتها لا بصورتها، وإن كان حضوريّاً فلا يشمل المعدومين لأنّهم ليسوا موجودين حتّى يكونوا حاضرين عنده تعالى.

انوار الأصول، ج 2، ص: 125

وللجواب عنه كما بيّناه في محلّه طريقان:

الأوّل: ما ذهب إليه بعض الحكماء من أنّ اللَّه تعالى عالم بالعلّة، والعلم بالعلّة علم إجمالي بالنسبة إلى المعلول وهو كشف تفصيلي في نفس الوقت.

توضيح ذلك: أنّ الحوادث التي تتحقّق في المستقبل ليست منفكّة عن حوادث الحال والماضي فإنّها سلسلة متّصلة بعضها ببعض، فلو علمنا بحوادث الحال كما هو حقّها وبجميع جزئياتها فقد علمنا حوادث الماضي والمستقبل أيضاً في نفس الوقت، وبما أن علمه تعالى بالأشياء يكون هكذا فهو عالم بالموجودين في الحال والمعدومين في الماضي والمستقبل جميعاً.

الثاني: (وقد يصعب تصوّره على بعض) أن نقول: أنّ تقسيم الزمان إلى الحال والماضي والمستقبل إنّما هو بالنسبة إلى الممكنات، وأمّا بالنسبة إلى ذاته تعالى الذي لا حدّ ولا نهاية له فجميع الموجودات في الماضي والمستقبل والحال سواء عنده، حاضرة لديه بأعيانها لكن كلّ في ظرفه الخاصّ، فموسى عليه السلام مثلًا حاضر عنده في ظرفه وزمانه الخاصّ كما أنّ عيسى عليه السلام أيضاً حاضر عنده في ظرفه الخاصّ، وأهل الجنّة والجحيم حاضرون عنده في ظرفهما، فلا شي ء من هذه معدوم عنده تعالى بل المعدوم معدوم بالنسبة إلى زمان الحال.

وبعبارة

اخرى: أنّ الزمان بمنزلة شريط يتحرّك الإنسان عليه فعلى أي جزء منه كان فهو حال بالنسبة إليه والجزء السابق عليه ماضٍ والجزء اللاحق مستقبل، وأمّا الذي يكون محيطاً بجميع الشريط من أوّله إلى آخره فالحال والماضي والمستقبل عنده سواء.

وقد يذكر لهذا مثال آخر وهو أنّ من يتصوّر للزمان حالًا وماضياً ومستقبلًا مثله مثل من ينظر من منفذ بيت إلى قطار من الإبل خارج البيت، فحيث إنّه يرى في كلّ لحظة من الزمان بعض هذه الجمال يتصوّر له القبل والبعد، وأمّا من يكون فوق البيت مثلًا ويرى جميع القطار في لحظة واحدة فلا معنى لهذا التقسيم بالنسبة إليه.

فبأحد هذين الطريقين يثبت حضور المعدومين عند اللَّه تعالى، ولكن مع ذلك لا يثبت بهذه المحاولات إمكان تفيهم المعدومين من طرق الخطابات المشافهة المتعارفة، وبهذا يظهر أنّه لا وجه للتفصيل بين الخطابات الإلهية وغيرها.

تنبيه في ثمرة المسألة:

وقد ذكر لها ثمرتان، وينبغي قبل بيانهما الإشارة إلى أنّ الثمرة في هذه المسألة لا تظهر بالإضافة إلى التكاليف التي صدرت من الشارع بغير أداة الخطاب لكفاية أدلّة اشتراك التكليف فيها بعد عدم اختصاصها بالموجودين في عصر النبي صلى الله عليه و آله.

الثمرة الاولى: حجّية ظهور الخطابات المشافهة للغائبين والمعدومين كالمشافهين على القول بالتعميم، وإلّا فلا يكون ذلك حجّة بالنسبة إليهم، وهي مبنيّة على صغرى وكبرى، أمّا الكبرى فهي اختصاص حجّية الظواهر بمن قصد إفهامه، وأمّا الصغرى فهي أنّ غير المشافهين ليسوا مقصودين بالإفهام.

والأكثر استشكلوا على الكبرى فقط، ولكن يمكن الإشكال أيضاً على الصغرى.

أمّا الإشكال على الكبرى فهو أنّه مبني على اختصاص حجّية الظواهر بالمقصودين بالإفهام وقد حقّق في محلّه عدم الاختصاص بهم، وسيأتي بيانه في محلّه إن شاء اللَّه تعالى.

وأمّا الإشكال على الصغرى فهو

أنّ الملازمة بين التخاطب والمقصوديّة بالإفهام ممنوع بل الظاهر أنّ الناس كلّهم إلى يوم القيامة مقصودون بالإفهام وإن لم يعمّهم الخطاب.

أقول: وهذا أشبه شي ء بالنداءات التي تطبع في الصحف التي يكون المخاطب فيها شخص أو أشخاص معيّنين مع أنّ المقصود بالإفهام فيها جميع الناس، بل قد يتّفق عدم كون المخاطب مقصوداً ويكون المقصود غير المخاطب من باب «إيّاك أعني واسمعي ياجارة». فتلخّص من جميع ذلك عدم تماميّة هذه الثمرة.

لكن يمكن توجيه هذه الثمرة من حيث الصغرى والكبرى، أمّا الكبرى فلأنّ وظيفة المتكلّم إنّما هي إقامة القرائن للمقصودين بالإفهام فقط وليس من وظيفته إقامتها لمن لم يقصد إفهامه، وحينئذٍ لو احتملنا (احتمالًا عقلائياً) وجود قرينة في البين قد ذكرها المتكلّم للمقصودين بالإفهام ولم تصل إلى غيرهم كما إذا قال المتكلّم مثلًا: «اشتر لي جنساً من الأجناس الموجودة في السوق الفلاني» واحتملنا وجود قرينة في البين قد فقدت وكانت دالّة على أنّ مراد المتكلّم جنس خاصّ من تلك الأجناس، فحينئذٍ يشكل القول بحجّية كلامه وجواز التمسّك بإطلاقه لغير المقصودين بالإفهام مشكل جدّاً.

نعم، لو لم يكن هناك قرينة في البين أخذ بظهوره كلّ من وصل إليه كما يحكى ذلك في قضية

انوار الأصول، ج 2، ص: 127

كتاب كتبه عثمان لعامله في مصر وأشار إلى قتل الذين أتوا بالكتاب، فإنّ المخاطب وإن كان هو العامل فقط ولكنّهم لمّا فتحوا الكتاب وشاهدوا ما كتبه رجعوا إليه ووقع ما وقع، ولم يقل أحد منهم أنّ ظهور الكتاب ليس حجّة بالنسبة إليهم للعلم بعدم وجود قرينة هناك.

أمّا الصغرى فلأنّا وإن وافقنا على وجود خطابات كثيرة (بل أكثر الخطابات الشرعيّة) يكون غير المخاطبين فيها أيضاً مقصودين بالإفهام لكن إثباته في جميع موارد الأدلّة الشرعيّة مشكل

(وإن كان جميع الخطابات القرآنيّة هكذا بلا إشكال) فإنّ في الرّوايات الواردة من ناحية النبي صلى الله عليه و آله والأئمّة المعصومين عليهم السلام توجد موارد كثيرة التي يحتمل فيها كون المقصود بالإفهام خصوص المخاطبين كالروايات وردت بصيغة «ياأصحابي» مثلًا.

فظهر ممّا ذكرنا ثبوت الملازمة بين الخطاب قصد الإفهام بنحو الموجبة الجزئيّة، فلو قلنا بعدم شمول الخطابات الشرعيّة لغير المشافهين يشكل إثبات كون غير المشافهين مقصودين بالإفهام في جميع الموارد، ويستلزم عدم حجّية بعض الخطابات بالنسبة إليهم.

الثمرة الثانية: صحّة التمسّك بإطلاقات الخطابات القرآنيّة وشبهها بناءً على التعميم، وعدمها بناءً على عدمه.

توضيح ذلك: إن قلنا بشمول الخطابات للمعدومين جاز لهم التمسّك بإطلاقات الكتاب نحو إطلاق قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» مثلًا مطلقاً وإن كان غير المشافهين مخالفين في الصنف مع المشافهين، كما أنّ التمسّك بها كذلك جائز للموجودين، وإن قلنا بعدم شمولها لهم فلا يجوز لهم التمسّك بها أصلًا، فإنّ التمسّك بالإطلاق فرع توجّه الخطاب، فإذا لم يتمسّك بالإطلاق فلا يبقى في البين سوى دليل الاشتراك، ولا دليل على الاشتراك إلّا الإجماع وهو دليل لبّي لا إطلاق له، فلا يثبت به الحكم إلّاالقدر المتيقّن منه، وهو موارد اتّحاد الصنف، وحيث لا اتّحاد في الصنف للمعدومين في فرض الكلام فلا دليل على الحكم أصلًا، كما إذا احتملنا دخالة حضور الإمام المبسوط اليد في وجوب صلاة الجمعة، فلا يمكن التمسّك بإطلاق قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ» لإثبات وجوبها في زمن الغيبة لعدم اتّحادهم مع المشافهين في الصنف.

وأجاب عن هذه الثمرة المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية بما حاصله: أنّ مع عدم عموم الخطاب للمعدومين وإن

لم يصحّ لهم التمسّك بإطلاقه لرفع دخالة ما شكّ في دخله ممّا كان انوار الأصول، ج 2، ص: 128

المعدومون فاقدين له وكان المشافهون واجدين له، ولكن صحّ التمسّك بإطلاقه لرفع دخالته في حقّ المشافهين قطعاً بأن يقال: إنّ صلاة الجمعة مثلًا واجبة عليهم مطلقاً سواء كانوا حاضرين في زمان الإمام المبسوط اليد وواجدين لشرط الحضور والاتّحاد في الصنف أم صاروا فاقدين له بالخروج عن حوزة الحكومة الإسلاميّة كالذين هاجروا إلى الحبشة مثلًا أو بفوت الإمام المبسوط اليد والانتقال إلى الفترة الفاقدة لحكومة العدل بعد النبي صلى الله عليه و آله، وحينئذٍ إذا ثبت عدم دخل القيد في حقّهم بالإطلاق ثبت في حقّ المعدومين بدليل الاشتراك، فالفرق بين عموم الخطاب للمعدومين وعدمه إنّما هو في الحاجة إلى ضمّ دليل الاشتراك وعدمها، فإن كان الخطاب يعمّ المعدومين فلا حاجة إلى ضمّ دليل الاشتراك بل يتمسّكون بالإطلاق ابتداءً، وإن لم يكن الخطاب عاماً لهم لابدّ من ضمّ دليل الاشتراك حيث إن التمسّك بالإطلاق يكون حينئذٍ في حقّ المشافهين فقط، فيسري إلى غيرهم بدليل الاشتراك وهو الإجماع.

ويمكن الإيراد على كلامه بأنّ هذا يتمّ في الأوصاف المفارقة، وأمّا الأوصاف الملازمة (كصفة العربيّة إذا احتملت دخالتها) فلا يتصوّر التمسّك بالإطلاق بالنسبة إليها للمشافهين لكي يثبت اتّحاد المعدومين معهم، وحينئذٍ يرتفع الإشكال عن الثمرة بحذافيرها.

ولكن يمكن الجواب عنه بأنّ وجود صفة ملازمة تحتمل دخالتها في الحكم ممنوع.

أقول: نعم يرد عليه مع ذلك:

أوّلًا: أنّ التمسّك بالإطلاق للمشافهين يكون فرع حجّية الظواهر لمن لم يقصد إفهامه كما هو مبنى المحقّق الخراساني رحمه الله، أمّا بناءً على ما اخترناه من اختصاصها بمن قصد إفهامه فلا يجوز التمسّك بالإطلاق للمشافهين أيضاً لأنّه يمكن إثبات التكليف لهم من

طريق قرائن موجودة في البين، فالخطاب من البداية ليس مطلقاً لكي يجوز التمسّك بإطلاقه، وليس من وظيفة المتكلّم إقامة القرينة لمن لم يقصد إفهامه لكي تنتقل إلينا فنثبت من ناحيتها ثبوت الحكم لنا، وعليه فلا يكون الإطلاق كاشفاً عن عدم دخل القيد المشكوك دخله في الحكم، لمكان احتمال الدخل فيه وأنّ الإطلاق يكون من جهة الإتّكال على حصوله للمقصودين.

وثانياً: أنّه يمكن وجود احتمال دخل صفة ملازمة في الحكم كالعربيّة، بأن يقال مثلًا: كون المشافهين من العرب لعلّه كان سبباً لعدم جواز القنوت بغير العربيّة لهم، وحينئذٍ لا يمكن التمسّك بالإطلاق لإثبات الحكم بالنسبة لنا أيضاً بدليل الاشتراك، للزوم هذا الوصف وعدم انفكاكه عنهم.

انوار الأصول، ج 2، ص: 129

بقي هنا شي ء:

وهو ما أفاده في التهذيب وإليك نصّ كلامه: «يمكن أن يقال بظهور الثمرة في التمسّك بالآية لإثبات وجوب صلاة الجمعة علينا، فلو احتملنا أنّ وجود الإمام وحضوره شرط لوجوبها أو جوازها يدفعه أصالة الإطلاق في الآية على القول بالتعميم، ولو كان شرطاً كان عليه البيان، وأمّا لو قلنا باختصاصه بالمشافهين أو الحاضرين في زمن الخطاب لما كان يضرّ الإطلاق بالمقصود وعدم ذكر شرطيّة الإمام أصلًا، لتحقّق الشرط وهو حضوره عليه السلام إلى آخر أعمار الحاضرين ضرورة عدم بقائهم إلى غيبة ولي العصر (عج) فتذكّر «1».

أقول: لكن قد ظهر ممّا ذكرنا:

أوّلًا: أنّ المراد من قيد الحضور في صلاة الجمعة إنّما هو حضور الإمام المبسوط اليد فلم يتحقّق الشرط في الخارج إلّالعشر سنوات من عصر النبي صلى الله عليه و آله وخمس سنوات من عصر الوصي عليه السلام.

ثانياً: بالنسبة إلى زمان الرسول أيضاً يتصوّر مفارقة هذه الصفة بالنسبة إلى بعض المشافهين، وهم الذين خرجوا من حوزة الحكومة الإسلاميّة وعاشوا

في غير بلاد الإسلام كالذين هاجروا إلى الحبشة مثلًا.

الفصل السابع الكلام فيما إذا تعقّب العام ضمير يرجع إلى البعض

إذا تعقّب العام ضمير يرجع إلى بعضه، فهل يوجب ذلك تخصيصه أو لا؟

وقد اشتهر التمثيل لذلك بقوله تعالى في سورة البقرة (228) «وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ» (الآية) فالضمير في بعولتهنّ راجع إلى خصوص الرجعيات من المطلّقات لا إلى المطلّقات مطلقاً، فهل عود الضمير إلى بعض أفراد المطلّقات ممّا يوجب تخصيصها به ويكون المراد منها هو خصوص الرجعيّات فيختصّ التربّص بهنّ فقط، أو لا يوجب ذلك بل المراد منها مطلق المطلّقات، وبعبارة اخرى: هل نأخذ بأصالة العموم فلا يوجب إرجاع الضمير إلى البعض تخصيص المطلّقات، أو نأخذ بأصالة عدم الاستخدام فيكون إرجاعه إلى البعض موجباً للتخصيص؟ ففيه: أقوال وذكر المحقّق النائيني رحمه الله في المقام ثلاثة أقوال، وللمحقّق الخراساني رحمه الله هنا قول بالتفصيل لو أخذناه قولًا آخر تكون الأقوال في المسألة أربعة.

أوّلها: تقديم أصالة العموم والالتزام بالاستخدام.

ثانيها: تقديم أصالة عدم الاستخدام والالتزام بالتخصيص.

ثالثها: عدم جريان كليهما، أمّا أصالة عدم الاستخدام فلاختصاص مورد جريانها بما إذا كان الشكّ في المراد، فلا تجري فيما إذا شكّ في كيفية الإرادة مع القطع بنفس المراد كما هو الحال في جميع الاصول اللفظيّة، وأمّا عدم جريان أصالة العموم فلاكتناف الكلام بما يصلح للقرينة، فيسقط كلا الأصلين عن درجة الاعتبار.

ورابعها: ما يظهر عن المحقّق الخراساني رحمه الله حيث قال: وليكن محلّ الخلاف ما إذا وقع العام والضمير العائد إلى بعض أفراده في كلامين أو في كلام واحد مع استقلال العام بحكم يختصّ به انوار الأصول، ج 2، ص: 132

كما في الآية

الشريفة، وأمّا إذا كانا في كلام واحد وكانا محكومين بحكم واحد كما لو قيل:

«والمطلّقات أزواجهنّ أحقّ بردهنّ» فلا ينبغي الريب في تخصيص العام به.

أقول: الظاهر أنّ هذا من قبيل توضيح الواضح وإخراج ما لا يتصوّر النزاع فيه عن محلّ النزاع، لأنّ محلّ الخلاف ما إذا كان في البين حكمان: أحدهما عام والآخر خاصّ، وأمّا إذا كان الحكم واحداً كما في المثال الذي ذكره (والمطلّقات أزواجهنّ أحقّ بردهنّ) فلا يعقل النزاع حينئذٍ كما لا يخفى، هذا أوّلًا.

وثانياً: لا يتصوّر النزاع أيضاً فيما إذا وقع العام والضمير في كلامين بل لابدّ من كونهما في كلام واحد، لأنّه إذا جي ء بالعام في كلام واريد أن يؤتى بالخاص بعد ساعة مثلًا في كلام مستقلّ فلا وجه بل لا معنى لإتيانه بالضمير، بل يؤتى على القاعدة بالاسم الظاهر كما لا يخفى، ولو استعمل الضمير حينئذٍ كان المرجع فيه ما ثبت في الذهن لا الكلام المنفصل عنه.

ثمّ إنّ مختار المحقّق الخراساني رحمه الله تقديم أصالة العموم على أصالة عدم الاستخدام، وبعبارة اخرى: ترجيح أصالة الظهور في طرف العام على أصالة الظهور في طرف الضمير، والسرّ فيه ما اشير إليه من أنّ المتيقّن من بناء العقلاء الذي هو مدرك أصالة الظهور هو اتّباعها في تعيين المراد لا في تعيين كيفية الإرادة والاستعمال بعد ظهور المراد، والمراد في طرف العام غير معلوم، إذ لم يعلم أنّه اريد منه العموم أو اريد منه الخصوص فتكون أصالة الظهور حجّة فيه، بخلاف المراد في جانب الضمير فإنّه معلوم على كلّ حال، لأنّ أحقّية الزوج بردهنّ هي للرجعيّات لا محالة، ولكن كيفية الاستعمال مشكوكة، إذ لم يعلم أنّ العام قد اريد منه الخصوص ليكون استعمال الضمير على

نحو الحقيقة أو اريد منه العموم وأنّ الضمير قد رجع إلى بعض ما اريد من المرجع بنحو الاستخدام؟ مختار للمحقّق الخراساني رحمه الله في المقام هو تقديم أصالة العموم، وقد فصّل بين ما إذا عقد للكلام ظهور في العموم كما إذا كان العام والضمير في كلامين مستقلّين، وبين ما إذا كان الكلام محفوفاً بما يصلح للقرينيّة فلا ينعقد للعام ظهور في العموم أصلًا كما إذا كان العام والضمير في كلام واحد، فإنّ أصالة العموم تجري في القسم الأوّل ولا تجري في القسم الثاني بل يصير الكلام فيه مجملًا يرجع في مورد الشكّ إلى الاصول العمليّة، فظهر أنّ المحقّق الخراساني رحمه الله يفصّل بين ما إذا كان العام والضمير في كلامين وما إذا كانا في كلام واحد.

أقول: بناءً على ما مرّ من أنّ محلّ النزاع هو ما إذا كان العام والضمير في كلام واحد يرجع انوار الأصول، ج 2، ص: 133

قول المحقّق في الحقيقة إلى القول الثالث في المسألة، وهو سقوط كلا الأصلين عن الاعتبار، هذا أوّلًا.

وثانياً: أنّ الآية المباركة وأمثالها خارجة عن محلّ النزاع كما أفاد في تعليقات الأجود «1» لأنّ ما هو المعلوم من الخارج إنّما هو اختصاص الحكم المذكور في الآية المباركة بقسم خاصّ من المطلّقات، وأمّا استعمال الضمير الراجع إلى العام في خصوص ذلك القسم فهو غير معلوم، فلا موجب لرفع اليد عن أصالة العموم أو عن أصالة عدم الاستخدام أصلًا.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني رحمه الله ذهب أيضاً كالمحقّق الخراساني رحمه الله إلى تقديم أصالة العموم، واستدلّ له بثلاثة وجوه:

الوجه الأوّل: أنّ لزوم الاستخدام في ناحية الضمير إنّما يبتني على أن يكون العام المخصّص مجازاً، لأنّه على ذلك يكون للعام معنيان: أحدهما معنى

حقيقي، وهو جميع ما يصلح أن ينطبق عليه مدخول أداة العموم، وثانيهما معنى مجازي وهو الباقي من أفراده بعد تخصيصه، فإذا اريد بالعام معناه الحقيقي وبالضمير الراجع إليه معناه المجازي لزم الاستخدام، وأمّا إذا قلنا بأنّ تخصيص العام لا يستلزم كونه مجازاً كما هو الصحيح فلا يكون للعام إلّامعنى واحد حقيقي، وليس له معنى آخر حقيقي أو مجازي ليراد بالضمير الراجع إليه معنى مغاير لما اريد من نفسه ليلزم الاستخدام في الكلام.

الوجه الثاني: أنّ الاصول العقلائيّة إنّما تجري عند الشكّ في المراد، وفي المقام لا شكّ في المراد من الضمير وأنّ المراد منه المطلّقات الرجعيّات، وبعد العلم بما اريد من الضمير لا تجري أصالة عدم الإستخدام حتّى يلزم التخصيص في ناحية العام.

إن قلت: أنّ أصالة عدم الإستخدام وإن لم تجر بالإضافة إلى نفي الإستخدام في نفسه لعدم ترتّب الأثر عليها بعد معلوميّة المراد كما ذكر إلّاأنّها تجري بالإضافة إلى إثبات لازم عدم الاستخدام، أعني به إرادة الخاصّ من العموم، ونظير المقام ما إذا لاقى البدن ثوباً مثلًا مع الرطوبة ثمّ خرج الثوب عن محلّ الابتلاء وعلم بنجاسة ذلك الثوب قبل تحقّق الملاقاة مع الشكّ في عروض المطهّر له إلى حال الملاقاة فإنّه لا ريب في أنّه يحكم بالفعل بنجاسة البدن انوار الأصول، ج 2، ص: 134

الملاقي لذلك الثوب وإن كان نفس الثوب خارجاً عن محلّ الابتلاء أو معدوماً في الخارج فاستصحاب نجاسة الثوب وإن كان لا يجري لأجل التعبّد بنجاسة نفس الثوب لأنّ ما هو خارج عن محلّ الابتلاء أو معدوم في الخارج غير قابل لأن يتعبّد بنجاسته في نفسه، إلّاأنّه يجري باعتبار الأثر اللازم لمجراه أعني به نجاسة البدن في المثال، فكما أنّ الأصل العملي

يجري لإثبات ما هو لازم مجراه وإن لم يكن المجري في نفسه قابلًا للتعبّد، كذلك الأصل اللفظي يجري لإثبات لوازم مجراه وإن لم يكن المجري في نفسه مورداً للتعبّد، وعليه فلا مانع من جريان أصالة عدم الاستخدام لإثبات لازم مجريها، أعني به إرادة الخاصّ ممّا يرجع إلى الضمير في محلّ الكلام.

قلت: قياس الأصل اللفظي بالأصل العملي في ما ذكر قياس مع الفارق لأنّ الأصل العملي إنّما يجري لإثبات الآثار الشرعيّة ولو بألف واسطة، بخلاف المقام فإنّ إرادة الخاصّ من العام ليست من آثار عدم الاستخدام شرعاً بل هي من لوازمه عقلًا، والأصل المثبت وإن كان حجّة في باب الاصول اللفظيّة، إلّاأنّه من الواضح أنّ إثبات لازم عقلي بأصل فرع إثبات ملزومه، فالأصل اللفظي إذا لم يمكن إثبات الملزوم به لم يمكن إثبات لازمه به أيضاً لأنّه فرعه وبتبعه.

الوجه الثالث: أنّ استفادة الرجعيّات في قوله تعالى: «وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ» ليس من نفس الضمير، بل يستفاد ذلك من عقد الحمل وهو قوله تعالى: «أحقّ بردهنّ» حيث إنّه معلوم من الخارج أنّ ما هو الأحقّ بالردّ هو خصوص الرجعيّات، فالضمير لم يرجع إلى الرجعيّات بل رجع إلى نفس المطلّقات وكأنّ استفادة الرجعيّات من عقد الحمل، فيكون من باب تعدّد الدالّ والمدلول، فأين الاستخدام المتوهّم «1»؟ (انتهى).

أقول: وفي كلامه مواقع للنظر:

الأوّل: (في جوابه عن قياس الاصول اللفظيّة بالاصول العمليّة في ذيل الوجه الثاني) أنّه لا دخل لكون الأصل في المقام مثبتاً أو غير مثبت ولا حاجة إليه في الجواب، بل العمدة أنّ الاصول اللفظيّة (لكون مجريها هو الشكّ في المراد) لا تجري في أمثال المقام سواء كان لها لازم أو لم يكن، وسواء قلنا بحجّية مثبتات الأمارات أو لم

نقل.

انوار الأصول، ج 2، ص: 135

الثاني: (بالنسبة إلى قوله في الوجه الأوّل) أنّه ليس الكلام في كون العام المخصّص مجازاً أو ليس بمجاز، إنّما الكلام في أنّ مقتضى أصالة عدم الاستخدام كون العام مستعملًا في الباقي بحسب الإرادة الاستعماليّة، وبالجملة أصالة الحقيقة في العام وأصالة الحقيقة في الضمير تتعارضان فأيّتهما تقدّم على الاخرى؟

الثالث: (في قوله في الوجه الثالث) أنّه يتمّ ويحلّ الإشكال بالنسبة إلى الضمير الأوّل، وهو الضمير في بعولتهن، وأمّا بالنسبة إلى الضمير الثاني- وهو الضمير في «بردهنّ» فيبقى الإشكال على حاله حيث إن مرجعه أيضاً هو المطلّقات، وإذا كانت الأحقّية مختصّة بالرجعيّات يرجع الضمير بعدها لا محالة إلى خصوص الرجعيّات كما لا يخفى.

ثمّ إنّه لقد أجاد في التهذيب حيث قال: «كلّ من الضمير في قوله تعالى: وبعولتهنّ أحقّ بردهنّ وكذلك المرجع قد استعملا في معانيهما، بمعنى أنّه أطلق المطلّقات واريد منها جميعها وأطلق لفظة «بردهنّ» واريد منها تمام أفراد المرجع، ثمّ دلّ الدليل على أنّ الإرادة الاستعماليّة في ناحية الضمير لا توافق الإرادة الجدّية، فخصّص بالبائنات وبقيت الرجعيّات بحسب الجدّ، وحينئذٍ لا معنى لرفع اليد عن ظهور المرجع لكون المخصّص لا يزاحم سوى الضمير دون مرجعه، فرفع اليد عنه رفع عن الحجّة بلا حجّة» «1».

الفصل الثامن الكلام في تخصيص العام بالمفهوم

ينبغي قبل الورود في أصل البحث ذكر تقسيمات وردت في المفهوم، فنقول: إنّه على قسمين:

مفهوم الموافقة، وهو ما كان بينه وبين المنطوق توافق في السلب والإيجاب، ومفهوم المخالفة، وهو ما كان بينه وبين المنطوق تخالف في السلب والإيجاب، وأضاف بعض تقسيمين آخرين.

أحدهما: أنّ الموافق تارةً يكون بالأولويّة، ومثاله معروف وهو قوله تعالى: «فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ» الذي مفهومه النهي عن الضرب بطريق أولى، واخرى يكون بالمساواة نحو «لا تشرب

الخمر لأنّه مسكر» الذي يشمل بالمفهوم سائر أفراد المسكر بالمساواة.

ثانيهما: أنّ كلًا من المساواة والأولويّة أيضاً على قسمين، فالمساواة تارةً تكون من قبيل منصوص العلّة، واخرى تكون من قبيل مستنبط العلّة، والأولويّة تارةً عقليّة فتدخل في المفهوم، واخرى تكون عرفيّة فتدخل في المنطوق، فالمثال المعروف (فلا تقل لهما افّ) حيث إن الأولويّة فيه عرفيّة داخلة في المنطوق لا المفهوم.

لكن يمكن النقاش هنا بوجوه:

الوجه الأوّل: تقسيم مفهوم الموافقة إلى الأولويّة والمساواة لا يكون تامّاً لأنّ منصوص العلّة في المساواة لا ينطبق عليه تعريف المفهوم، لأنّ المفهوم هو حكم غير مذكور، مع أنّ ذكر العلّة في منصوص العلّة نحو «لا تشرب الخمر لأنّه مسكر» يكون بمنزلة الحكم بأنّ كلّ مسكر حرام، ولكنّه حذف وقدّر لوضوحه، فلا يعدّ حكماً غير مذكور. وبعبارة اخرى: الحكم هنا مركّب من صغرى وكبرى، والصغرى وهو قوله: «لأنّه مسكر» مذكور في الكلام، وأمّا الكبرى وهو قوله: «كلّ مسكر حرام» فحذفت لوضوحها، فهي مقدّره في الكلام، والمقدّر كالمذكور، ولذلك سمّي هذا القسم بمنصوص العلّة، يعني الحكم الذي نصّ بعلّته، وأمّا في مثال انوار الأصول، ج 2، ص: 138

«فلا تقل لهما افّ» أو «إنّ جاءك زيد فأكرمه» فلم يقل أحد بحذف قضيّة «لا تضرب» أو قضية «إن لم يجئك زيد فلا يجب إكرامه» أو تقديرهما، بل يقال بأنّ القضيتين المنطوقتين تدلّان عليهما بالمفهوم.

الوجه الثاني: أنّ تقسيم المساواة إلى منصوص العلّة ومستنبط العلّة أيضاً تامّ فيما إذا قلنا بحجّية مستنبط العلّة، مع أنّه ليس بحجّة عند الإماميّة، لعدم إمكان استنباط ملاكات الأحكام وعللها، وما أبعد عقول الرجال عن دين اللَّه كما ورد في الحديث.

إن قلت: فما معنى تنقيح المناط وإلغاء الخصوصيّة في المسائل الفقهيّة كما إذا قيل

مثلًا: إن سافرت بين مكّة والمدينة ثمانية فراسخ فقصّر، ونحن نعلم بأنّه لا خصوصيّة لمكّة والمدينة، ونلغي خصوصيتهما ونحكم بوجوب القصر في سائر الأمكنة إذا تحقّق مقدار ثمانية فراسخ، فما الفرق بين هذا وقياس مستنبط العلّة؟

قلت: يكون النظر في القياس المستنبط العلّة إلى علّة الحكم، بينما هو في تنقيح المناط يكون إلى موضوع الحكم، والفرق بين الموضوع والعلّة واضح حيث إنّ الموضوع هو عنوان مشتمل على جميع ما له دخل في تنجّز التكليف وفعليّته كعنوان المستطيع في وجوب الحجّ، وأمّا العلّة فإنّها داخلة في سلسلة المبادى ء والأغراض، مضافاً إلى أنّ إلغاء الخصوصيّة وتنقيح المناط طريق إلى تعيين دائرة المنطوق وتوسعتها ولا ربط له بالمفهوم، فإذا تعدّينا من مورد دليل إلى مورد آخر بالالغاء أو التنقيح وأثبتنا الحكم الثابت في مورد ذلك الدليل لمورد آخر- تعدّ دلالة الدليل حينئذٍ من قبيل المنطوق لا المفهوم كما لا يخفى.

الوجه الثالث: إنّ ما ذكره من الفرق بين الأولويّة القطعيّة والعرفيّة أيضاً غير تامّ، لأنّ الأولويّة سواء كانت عقليّة أو عرفيّة داخلة في المفهوم، وفهم العرف لا ينافي ذلك، لوجود ملاك المفهوم في كلتيهما، حيث إن الملاك هو كون الحكم غير مذكور وهو موجود في مثل قوله تعالى: «فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ» بالنسبة إلى قضية «لا تضرب» مثلًا كما لا يخفى، نعم إلّاإذا كان المنطوق مجرّد طريق وإشارة إلى المفهوم، فلا يكون القول بالافّ في الآية مثلًا حراماً بنفسه بل يكون نحو كناية عن مثل الضرب، ففي مثل هذه الموارد تدخل الأولويّة العرفيّة في المنطوق بلا إشكال.

انوار الأصول، ج 2، ص: 139

إذا عرفت هذا فلنرجع إلى أصل البحث فنقول: هل يجوز تخصيص العام بالمفهوم أو لا؟ لا إشكال ولا خلاف في

جواز تخصيص العام بالمفهوم إذا كان موافقاً كما إذا قال: «لا تكرم الفسّاق» ثمّ قال: «أكرم الضيف ولو كان كافراً» فمفهومه وجوب إكرام الضيف إذا كان مسلماً فاسقاً بطريق أولى، وهذا المفهوم موافق للمنطوق في الإيجاب ويكون خاصّاً بالنسبة إلى عموم «لا تكرم الفسّاق».

وأمّا إذا كان المفهوم مخالفاً ففيه خمسة أقوال:

الأوّل: عدم جواز التخصيص مطلقاً.

الثاني: جوازه مطلقاً.

الثالث: التفصيل بين موارد المفهوم فيختلف باختلاف الموارد والمقامات، فإن كان الدالّ على المفهوم مثل كلمة «إنّما» فيقدّم على العام ويخصّص العام به وإلّا فالعام يقدّم.

الرابع: تفصيل المحقّق الخراساني رحمه الله وهو التفصيل بين الكلام الواحد وبين الكلامين المنفصلين، والتفصيل بين ما إذا فهمنا العموم من الوضع وما إذا فهمناه من مقدّمات الحكمة، فتارةً يكون العام والمفهوم في كلام واحد واستفدنا العموم والمفهوم كليهما من مقدّمات الحكمة أو استفدنا كليهما من الوضع، فلا عموم حينئذٍ ولا مفهوم لعدم تماميّة المقدّمات بالنسبة إلى شي ء منهما في الأوّل، ولمزاحمة ظهور كلّ منهما مع الآخر في الثاني، فلا بدّ حينئذٍ من الرجوع إلى الاصول العمليّة في مورد الشكّ، واخرى يكونان في كلامين بينهما فصل طويل وكان كلّ منهما بمقدّمات الحكمة أو بالوضع، فالظهور لا محالة وإن كان ينعقد لكلّ منهما ولكن لابدّ حينئذٍ من أن يعامل معهما معاملة المجمل لتكافؤهما في الظهور إن لم يكن أحدهما أظهر، وإلّا فيكون هو القرينة على التصرّف في الآخر.

الخامس: تفصيل المحقّق النائيني رحمه الله، فإنّه فصّل في المفهوم المخالف بين ما إذا كانت النسبة بين العام والمفهوم- العموم والخصوص مطلقاً، وبين ما إذا كانت من العام يقدّم على العام سواء كان بين المنطوق والعام العموم المطلق أو العموم من وجه، ومهما كان بين المفهوم والعام- العموم

من وجه يعامل معهما معاملة العموم من وجه فربّما يقدّم العام وربّما يقدّم المفهوم في مورد التعارض من غير فرق في ذلك أيضاً بين أن يكون بين المنطوق والعام- العموم المطلق أو العموم من وجه» «1» (انتهى).

انوار الأصول، ج 2، ص: 140

أقول: الإنصاف أنّ البحث إنحرف عن مسيره الأصلي في كلمات المتأخّرين كالمحقّق الخراساني والنائيني رحمهما الله وبعض آخر (قدّس اللَّه أسرارهم) فقد تكلّموا عن امور أربع لا ربط لها بمحلّ النزاع.

أحدها: أنّه هل يستفاد العموم أو المفهوم من مقدّمات الحكمة أو من الوضع؟

ثانيها: هل الكلام يكون من قبيل المحفوف بالقرينة أو لا؟

ثالثها: هل العام لسانه آبٍ عن التخصيص أو لا؟

رابعها: هل النسبة بين العام والخاصّ العموم والخصوص مطلقاً أو من وجه؟

مع أنّ الحقّ في المقام أن يتكلّم عن التفاوت بين المفهوم والمنطوق فقط وأنّه إذا كان العام قابلًا للتخصيص بالمنطوق فهل يخصّص بالمفهوم أيضاً أو لا؟

وبعبارة اخرى: هل يكون للمفهوم من حيث هو مفهوم نقص في التخصيص بالقياس إلى المنطوق؟ وذلك لأنّه لا فرق في هذه النكات الأربع بين المنطوق والمفهوم، فإنّ المنطوق أيضاً لا يقدّر لتخصيص العام الآبي عن التخصيص، ولا يخصّصه أيضاً إذا كان هو بمقدّمات الحكمة وكان العام دالًا على العموم بالوضع، وكذلك إذا كانت النسبة بينه وبين العام العموم من وجه أو كان العام لإقوائيته وأظهريته قرينة على التصرّف في الخاصّ.

إذن فلا بدّ من ارجاع البحث إلى محوره الأصلي، وهو أن نفرض الكلام أوّلًا في مورد كان العام فيه يخصّص بالخاصّ على تقدير كونه منطوقاً، ثمّ نبحث في أنّه هل يخصّص بالمفهوم أيضاً في هذا الفرض أو لا؟ وأنّ المفهوميّة هل توجب ضعفاً للخاصّ أو لا؟ وحينئذٍ نقول: ربّما يتوهّم أنّ

الدلالة المفهوميّة أضعف من الدلالة المنطوقيّة فلا يكون الخاصّ إذا كان مفهوماً مخصّصاً للعام، لكن الإنصاف أنّ مجرّد كون الخاصّ مفهوماً لا يوجب ضعفاً، بل ربّما يكون المفهوم أقوى من المنطوق، بل ربّما يكون المقصود الأصلي للمتكلّم هو المفهوم فقط.

وبالجملة لا المنطوق بما هو منطوق يوجب قوّة للخاص ولا المفهوم بما هو مفهوم يوجب ضعفاً له، فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّه يجوز تخصيص العام بالمفهوم كما يجوز تخصيصه بالمنطوق، نعم كما أشرنا آنفاً قد يكون العام أقوى من الخاص فلا يخصّص العام به كما إذا كا العام آبياً عن التخصيص، لكنّه لا يختصّ بالمفهوم بل المنطوق أيضاً لا يخصّص العام إذا كان العام كذلك، نحو قوله عليه السلام: «ما خالف كتاب اللَّه فهو زخرف» فإنّ هذا عام لا يمكن تخصيصه انوار الأصول، ج 2، ص: 141

بشي ء، أو كان المورد من المستحبّات، فيحمل الخاصّ حينئذٍ على تعدّد المطلوب كما إذا دلّ دليل على أنّ صلاة الليل مستحبّ من نصف الليل إلى آخره، ونهى دليل آخر عن إتيانها فيما بعد النصف بلا فصل، أو أمر دليل آخر بإتيانها في آخر الليل، فبهذين الدليلين لا يخصّص عموم الدليل الأوّل بل كلّ منهما دالّ على مرتبة من المطلوبيّة.

بقي هنا شي ء:

وهو التفصيل بين مفهوم كلمة إنّما وغيرها، فقال بعض: إذا كان الدالّ على المفهوم كلمة إنّما وشبهها فيقدّم على العام وإلّا فلا، لكنّه غير تامّ ولا يعدّ تفصيلًا لمحلّ النزاع لأنّ مدلول كلمة إنّما منطوق لا مفهوم كما لا يخفى.

انوار الأصول، ج 2، ص: 143

الفصل التاسع الكلام في الاستثناء المتعقّب للجمل المتعدّدة

فهل هو ظاهر في الرجوع إلى الجميع، أو إلى خصوص الأخيرة، أو لا ظهور له أصلًا بل يصير الكلام مجملًا ولابدّ في التعيين من قرينة، مثل

قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الُمحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا» «1»

فهل الاستثناء بقوله «إلّا الذين تابوا» يرجع إلى جميع الأحكام الثلاثة، أي الجلد بثمانين جلدة، وعدم قبول الشهادة أبداً، والفسق، فتكون النتيجة حينئذٍ رفع جميعها بالتوبة، أو يرجع إلى خصوص الأخير فيرفع به خصوص الفسق، أو الكلام مجمل؟

أقوال، فقيل بظهوره في الرجوع إلى الكلّ، وقيل بظهوره في الرجوع إلى خصوص الأخيرة، وقيل بالإجمال مع كون القدر المتيقّن هو الأخير، وقيل بما يأتي من التفصيل.

ولنقدّم قبل الورود في بيان الأقوال أمرين:

الأمر الأوّل: قال بعضهم بإستحالة الرجوع إلى الجميع ثبوتاً فلا تصل النوبة إلى البحث عن الوقوع في مقام الإثبات واستدلّ له بوجهين:

أحدهما: أنّ كلمة «إلّا» من الحروف، وقد قرّر في محلّه أنّ الموضوع فيها جزئي حقيقي، وهو يلزم دلالة كلمة «إلّا» على إخراج واحد لا إخراجات عديدة، ولازمه الرجوع إلى الأخيرة.

ثانيهما: سلّمنا عدم كون الموضوع له في الحروف جزئياً حقيقياً لكنّه لا إشكال في أنّ المعنى الحرفي آليّ وفانٍ في غيره، فلا يلحظ مستقلًا بل لابدّ من لحاظه فانياً في غيره، وحينئذٍ يتعيّن رجوع كلمة الاستثناء إلى الأخيرة لأنّه لا يتصوّر فناء شي ء واحد في شيئين.

انوار الأصول، ج 2، ص: 144

وكلا الأمرين غير تامّ، أمّا الأوّل فلما مرّ من أنّ الموضوع له في الحروف كلّي دائماً أو غالباً، ولو سلّمنا كونه جزئياً لكن الإخراج في ما نحن فيه ليس متعدّداً بل هو واحد وإنّما المخرج متعدّد، وهذا نظير إنشاء المعاني المتعدّدة بصيغة واحدة نحو «بعت هذا الدار بالف تومان وذاك بالفين وذاك بآلاف».

وأمّا الثاني: فلأنّه أوّلًا: يمكن لحاظ معانٍ متعدّدة بصورة وحدانية وتصوّرها

بنحو جمعي ثمّ إفناء معنى الحرف في جميعها، كما إذا قيل: «سِرْ من البصرة أو الكوفة وإلى بغداد وإلى عبّادان» فيلحظ معنى الابتدائيّة لكلمة «من» فانياً في جميع الأمكنة المذكورة في المثال بلحاظ واحد.

ثانياً: يمكن كون اللحاظات متعدّدة واستعمال اللفظ في أكثر من معنى، لما مرّ كراراً من عدم اعتبار آنٍ حقيقي في اللحاظ، ولا دليل على أنّ اللحاظات آنات حقيقيّة، بل يمكن احضار معانٍ متعدّدة كسبعين معنى للفظ «عين» مثلًا في الذهن متواليّة واحداً بعد واحد ثمّ استعمال لفظ العين في الجميع، ولذلك ذهبنا إلى جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى، هذا كلّه في الأمر الأوّل.

الأمر الثاني: أنّه لو قلنا بالإجمال وأنّ الاستثناء المتعقّب لجمل متعدّدة لا يكون ظاهراً في الرجوع إلى الجميع ولا في الرجوع إلى خصوص الأخيرة بعد صلوحه لكلّ منهما وإن كان الرجوع إلى الأخيرة متيقّناً معلوماً فهل يسقط العمومات غير الأخيرة عن الحجّية أو لا؟

قال المحقّق الخراساني رحمه الله: إنّها ساقطة عن الحجّية، فلا يكون ما سوى الأخيرة ظاهراً في العموم لاكتنافه بما يصلح للرجوع إليه، فلا بدّ في محلّ الشكّ من الرجوع إلى الأصل العملي.

ففي مثال «أكرم العلماء إلّاالفسّاق والمخالفين منهم» نرجع في مشكوك الفسق والمخالفة إلى أصل البراءة.

وقال المحقّق النائيني رحمه الله: بعدم سقوطها عن الحجّيه بل «يحتاج تخصيص الجمل السابقة على الجملة الأخيرة إلى دليل آخر مفقود على الفرض، وأمّا توهّم كون المقام من قبيل اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية فهو غير صحيح، لأنّ المولى لو أراد تخصيص الجميع ومع ذلك اكتفى في مقام البيان بذكر استثناء واحد مع تكرار عقد الوضع في الجملة الأخيرة لكان مخلًا ببيانه» «1».

انوار الأصول، ج 2، ص: 145

أقول: الظاهر أنّ الحقّ

مع المحقّق الخراساني رحمه الله، لأنّ عدم صحّة اكتفاء المولى في بيان مقصوده بالاستثناء المجمل لكونه مخلًا ببيانه يختصّ بما إذا لم يكن نفس الإجمال مقصوداً، وإلّا فلا إشكال في الصحّة، وهذا نظير الاستثناء بكلمة «بعض»، فإذا قال: «أكرم العلماء إلّا بعضهم» مع عدم كون الإجمال مقصوداً فقد أخلّ بمقصوده وأمّا إذا كان المقصود هو نفس بيان الحكم مجملًا فلا إشكال حينئذٍ في صحّة الاكتفاء بكلمة «بعض»، ولا يخفى أنّ للشارع المقدّس أحكاماً يكون المقام فيها مقام الإجمال والإبهام، وذلك لمصالح تقتضيه، منها عدم انسداد أبواب بيوت أهل البيت عليهم السلام كما صرّح به المحقّق القمي رحمه الله في كتابه جامع الشتات في جواب من سأل عن وجه ورود المتشابه في القرآن الكريم.

إذا عرفت هذا فلنشرع في أصل البحث والأقوال الواردة فيه ...

فنقول: أمّا التفصيل الذي وعدنا نقله فهو ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله وإليك نصّ كلامه: «والتحقيق في ذلك هو التفصيل بأن يقال إنّ من الواضح أنّه لابدّ من رجوع الاستثناء إلى عقد الوضع لا محالة، وعليه فإمّا أن يكون عقد الوضع مكرّراً في الجملة الأخيرة كما في مثل الآية المباركة، أو لا يكون كذلك، بل يختصّ ذكر عقد الوضع بصدر الكلام كما إذا قيل أكرم العلماء وأضفهم وأطعمهم إلّافسّاقهم، أمّا القسم الثاني أعني به ما لا يكون عقد الوضع مذكوراً فيه إلّافي صدر الكلام فلا مناصّ فيه عن الالتزام برجوعه إلى الجميع، لأنّ المفروض أنّ عقد الوضع فيه لم يذكر إلّافي صدر الكلام، وقد عرفت أنّه لابدّ من رجوع الاستثناء إلى عقد الوضع فلا بدّ من رجوعه إلى الجميع، وأمّا كون العطف في قوّة التكرار فهو وإن كان صحيحاً إلّاأنّه لا

يوجب وجود عقد وضع آخر في الكلام ليكون صالحاً لرجوع الاستثناء إليه، وأمّا القسم الأوّل أعني به ما يكون عقد الوضع فيه مكرّراً فالظاهر فيه هو رجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة الأخيرة لأنّ تكرار عقد الوضع في الجملة الأخيرة مستقلًا يوجب أخذ الاستثناء محلّه من الكلام فيحتاج تخصيص الجمل السابقة على الجملة الأخيرة إلى دليل آخر مفقود على الفرض» «1».

وقال في حاشية الأجود: «الصحيح في تقريب التفصيل في المقام أن يقال: إنّ تعدّد الجمل انوار الأصول، ج 2، ص: 146

المتعقّبة بالاستثناء إمّا أن يكون بتعدّد خصوص موضوعاتها أو بتعدّد خصوص محمولاتها أو بتعدّد كليهما، وعلى الأوّلين فإمّا أن يتكرّر ما بتعدّده تعدّد القضيّة في الكلام أو لا يتكرّر فيه ذلك، فالأقسام خمسة، أمّا القسم الأوّل، أعني به ما تعدّدت فيه القضيّة بتعدّد موضوعاتها ولم يتكرّر فيه عقد الحمل كما إذا قيل: «أكرم العلماء والأشراف والشيوخ إلّاالفسّاق منهم» فالظاهر فيه رجوع الاستثناء إلى الجميع، لأنّ القضيّة في مثل ذلك وإن كانت متعدّدة صورة إلّا أنّها في حكم قضية واحدة قد حكم فيها بوجوب إكرام كلّ فرد من الطوائف الثلاث إلّا الفسّاق منهم، فكأنّه قيل: أكرم كلّ واحد من هذه الطوائف إلّامن كان منهم فاسقاً، وأمّا القسم الثاني، أعني به ما تعدّدت فيه القضيّة بتعدّد موضوعاتها مع تكرّر عقد الحمل فيه كما إذا قيل:

«أكرم العلماء والأشراف وأكرم الشيوخ إلّاالفسّاق منهم» فالظاهر فيه رجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة المتكرّر فيها عقد الحمل وما بعدها من الجمل لو كانت لأنّ تكرار عقد الحمل في الكلام قرينة على قطع الكلام عمّا قبله، وبذلك يأخذ الاستثناء محلّه من الكلام، فيحتاج تخصيص الجمل السابقة على الجملة المتكرّر فيه عقد الحمل إلى دليل آخر

مفقود على الفرض، وأمّا القسم الثالث والرابع، أعني بهما ما تعدّدت فيه القضيّة بخصوص تعدّد محمولاتها مع تكرّر عقد الوضع في أحدهما وعدم تكرّره في الآخر فيظهر الحال فيهما ممّا افيد في المتن، وأمّا القسم الخامس، أعني به ما تعدّدت القضيّة فيه بكلّ من الموضوع والمحمول كما إذا قيل: «أكرم العلماء وجالس الأشراف إلّاالفسّاق منهم» فالظاهر فيه رجوع الاستثناء إلى خصوص الأخيرة ويظهر الوجه فيه ممّا تقدّم» «1».

أقول: يرد عليه:

أوّلًا: أنّ المتّبع في باب الألفاظ هو الظهور العرفي، وهو يختلف باختلاف المقامات ولا يقبل الاستدلال المنطقي، وحينئذٍ لو قامت قرينة أوجبت ظهور الكلام في الرجوع إلى الجميع أو إلى الأخيرة فهو (سواء تكرّر عقد الحمل أو لم يتكرّر) وإلّا فيصير الكلام مجملًا مبهماً يؤخذ بالقدر المتيقّن وهو الرجوع إلى الأخيرة.

وثانياً: أنّ المحقّق النائيني رحمه الله وتلميذه المحقّق المقرّر له كلاهما اتّفقا على ظهور العمومات انوار الأصول، ج 2، ص: 147

غير الأخيرة في عمومها فيما إذا رجع الاستثناء إلى الأخيرة وأنّها ليست مكتنفة بما يصلح للقرينية حتّى تصير مجملة، وذلك لتوهّم أنّ الإجمال يستلزم الإخلال بالمقصود، مع أنّه (كما مرّ) قد يكون المقصود نفس الإجمال والإهمال، وكلمة الاستثناء في الأمثلة المذكورة إن لم تكن كافيّة لبيان تمام المقصود تكفي للإجمال.

وقد يقال: إنّ هذا (التفصيل المزبور) خلط حقيقة بين أداة الاستثناء التوصيفي وأداة الاستثناء غير التوصيفي ففي القسم الأوّل فحيث أنّه لا يجوز التوصيف للضمير المتّصل يرجع الوصف في مثل «أكرم العلماء وأضفهم إلّاالفسّاق منهم» أي الشقّ الثاني من التفصيل إلى الجملة الاولى، أي يصير الوصف وصفاً للعلماء في المثال، فيخصّص به حكم الإكرام وبتبعه يخصّص أيضاً ما بعده وهو حكم الضيافة في المثال، وأمّا في القسم الثاني

أي الاستثناء غير التوصيفي فيمكن رجوعه إلى الأخيرة كما يمكن رجوعه إلى الجميع ونسبته بالنسبة إلى كلّ واحد منهما سواء وليس ظاهراً في خصوص أحدهما حتّى يصير الكلام مجملًا، هذا كلّه في الشقّ الثاني من التفصيل، وأمّا الشقّ الأوّل، أي ما إذا تكرّر عقد الوضع فادّعاء الظهور في الرجوع إلى الأخيرة مصادرة ودعوى بلا دليل.

أقول: كلامه في كلا شقّي التفصيل صحيح ومقبول، ولكن الإشكال إنّما هو في أنّ الأمثلة المذكورة في ما نحن فيه ظاهر جميعها الاستثناء غير التوصيفي لأنّ ظاهرها الاستثناء عن الحكم لا الموضوع، فلا معنى لكونه وصفاً حينئذٍ، بل الاستثناء التوصيفي لا يأتي إلّافي موارد خاصّة كباب الأعداد نحو «فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً» «1»

، وبالجملة المتبادر من الاستثناء (إلّا في بعض الموارد) هو الاستثناء عن الحكم، وظاهره حينئذٍ عدم الوصف نحو «أكرم العلماء إلّاالفسّاق» فليس الظاهر منه «أكرم العلماء المتّصفين بأنّهم غير الفسّاق».

ثمّ إنّه ينبغي هنا أن نشير إلى نكتة وهي أنّ محلّ النزاع في ما نحن فيه ما إذا لم- توجد في البين قرينة مع أنّ المثال المعروف وهو آية القذف المذكورة في صدر المسألة ليس خالياً عنها، وهي أنّ المشهور على قبول شهادة القاذف إذا تاب بل لعلّه إجماعي كما ذكره الفاضل المقداد حيث قال: «وإن تاب قبلت شهادته عندنا وعند الشافعي، وهو قول أكثر التابعين، وقال أبو

انوار الأصول، ج 2، ص: 148

حنيفة لا يقبل شهادته أبداً» «1» ويدلّ عليه أيضاً روايات: منها ما جاء في خبر قاسم بن سليمان عن أبي عبداللَّه عليه السلام «... وبئس ما قالوا كان أبي يقول إذا تاب ولم يعلم منه إلّاخير جازت شهادته» «2». فهذه قرينة خارجيّة تقتضي رجوع الاستثناء إلى

الجميع، وفي الآية قرينة اخرى داخلية تقتضي الرجوع إلى الجميع أيضاً حيث إن مقتضى الرجوع إلى الأخيرة عدالة القاذف إذا تاب ومقتضى المناسبة بين الحكم والموضوع والفهم العرفي قبول شهادته حينئذٍ.

إن قلت: إنّه ينافي ذيل الآية، أي قوله: «ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً».

قلت: إنّ كلمة «أبداً» بمنزلة عام يكون ظاهراً في الدوام وليس نصّاً فيه، ولذا لا إشكال في تخصيصه كما ورد في آيات من القرآن الكريم نحو قوله تعالى: «خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ» «3».

الفصل العاشر هل يجوز تخصيص عمومات الكتاب بخبر الواحد؟

لا إشكال في جواز تخصيصها بخبر المتواتر، إنّما الكلام في تخصيصها بخبر الواحد.

المستفاد من كلمات صاحب الفصول أنّ المسألة ذات أقوال، خلافاً لما إدّعاه المحقّق النائيني رحمه الله من الإجماع على الجواز، فحكي عن جماعة إنكار الجواز مطلقاً ونقل أنّه مذهب السيّد المرتضى رحمه الله.

إن قلت: أنّه أنكر حجّية خبر الواحد من أصله. قلت: إنّ إنكاره هنا مبنيّ على تسليمه لحجّية خبر الواحد فكأنّه يقول: لو سلّم حجّية خبر الواحد فلا يجوز تخصيص الكتاب به.

وهنا قول آخر بالجواز مطلقاً، وهو منقول عن عامّة المتأخّرين، ومنهم من فصّل بين ما إذا كان العام مخصّصاً سابقاً بدليل قطعي وما إذا لم يكن كذلك فذهب إلى الجواز في الأوّل دون الثاني، وهنا من توقّف في المسألة، فظهر إلى هنا أنّ المسألة ليست إجماعيّة، نعم المتأخّرون منهم أجمعوا على الجواز.

ويستدلّ للجواز بوجهين ذكرهما في الكفاية:

الوجه الأوّل: السيرة المستمرّة من زمن النبي والأئمّة عليهم السلام بل وذلك ممّا يقطع به في زمن الصحابة والتابعين فإنّهم كثيراً ما يتمسّكون بالأخبار في قبال عمومات الكتاب ولم ينكر ذلك عليهم.

الوجه الثاني: أنّه لولاه لزم إلغاء الخبر بالمرّة، إذ ما من خبر إلّاوهو

مخالف لعموم من الكتاب.

أقول: كلّ واحد من الوجهين قابل للجواب، أمّا السيرة فيمكن المناقشة فيها بأنّ القدر المتيقّن منها ما إذا كانت أخبار الآحاد محفوفة بالقرينة خصوصاً مع النظر إلى كثرة وجود

انوار الأصول، ج 2، ص: 150

القرائن في عصر الحضور، ولو لم نقطع به فلا أقلّ من احتماله.

وأمّا الوجه الثاني: ففيه أنّ في الكتاب عمومات كثيرة لم تخصّص أصلًا حيث إن غالب عمومات الكتاب ليس الشارع فيها في مقام البيان من قبيل قوله تعالى: «أَقِيمُوا الصَّلَاةَ» وهكذا قوله: «خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» حيث إنّ معناه أنّ جميع ما خلق في الأرض يكون بنفعكم، وليس مفاده منحصراً في خصوص منفعة الأكل حتّى يخصّص بما ورد من أدلّة حرمة الأكل بالنسبة إلى بعض الأشياء، وهكذا قوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً» فإنّه ليس في مقام البيان حتّى ينافيه ويخصّصه ما يدلّ على أنّ الزّكاة في تسعة أشياء.

والأولى في المقام أن يستدلّ بعمومات أدلّة حجّية خبر الواحد كبناء العقلاء ومفهوم آية النبأ، فإنّها دليل على العمل به ولو في مقابل عمومات الكتاب والسنّة المتواترة.

وأمّا المانعون فاحتجّوا للمنع بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ الكتاب قطعي وخبر الواحد ظنّي، والظنّي لا يعارض القطعي لعدم مقاومته له فيلغى بالمرّة.

واجيب عنه: بأنّ الدوران والتعارض يقع في الحقيقة بين أصالة العموم في العام الكتابي وبين دليل حجّية الخبر، لا دلالته، وحيث إن الخاصّ أقوى دلالة من العام، فلا شبهة في تقديمه عليه بعد أن ثبتت حجّيته بدليل قطعي، وببيان آخر: أنّ الخبر بدلالته وسنده صالح عرفاً للقرينية على التصرّف في أصالة العموم بخلاف أصالة العموم فإنّها لا تصلح لرفع اليد عن دليل اعتبار الخبر لأنّ اعتبار أصالة العموم منوط بعدم قرينة على خلافها، والمفروض

أنّ الخبر الخاصّ بدلالته وسنده يصلح لذلك، فلا مجال لأصالة العموم مع القرينة على خلافها.

هذا هو جواب المشهور عن هذا الوجه، لكن الأحسن في مقام الجواب أن نرجع إلى ما بيّناه سابقاً في مبحث العام والخاصّ من أنّ العمومات الواردة في الكتاب والسنّة يجوز تخصيصها لحكمة تدريجيّة بيان الأحكام في الشريعة المقدّسة التي جرت عليها عادة الشارع وسيرته، وفي خصوص الكتاب جرت أيضاً على بيان امّهات الأحكام غالباً وفوّض شرحها وبيان جزئيّاتها إلى سنّة النبي صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام، فالقرآن حينئذٍ بمنزلة القانون الأساسي (في يومنا هذا) الذي بيّنت فيه امّهات المسائل فقط.

الوجه الثاني: أنّ دليل حجّية الخبر وهو الإجماع لبّي، والمتيقّن منه هو الخبر غير المخالف للكتاب فلا يشمل المخالف.

انوار الأصول، ج 2، ص: 151

وجوابه واضح، وهو أنّ دليل حجّية خبر الواحد ليس منحصراً بالإجماع بل لها أدلّة اخرى منها: السيرة المستمرّة لأصحاب الأئمّة عليهم السلام على العمل بخبر الواحد المخالف للعام الكتابي ومنها: بناء العقلاء على العمل بها مطلقاً سواء كان في مقابله دليل قطعي الصدور أم لا.

الوجه الثالث: أنّه لو جاز التخصيص به لجاز النسخ أيضاً، والتالي باطل اتّفاقاً فالمقدّم مثله، بيان الملازمة، أنّ النسخ نوع من التخصيص فإنّه تخصيص في الأزمان والتخصيص المطلق أعمّ منه، فلو جاز التخصيص بخبر الواحد لكانت العلّة أولويّة تخصيص العام على إلغاء الخاصّ وهو قائم في النسخ.

واجيب عنه بوجهين:

الأوّ: أنّ الفارق بين النسخ والتخصيص هو الإجماع لاختصاص الإجماع على المنع بالنسخ.

الثاني: أنّ العقل يحكم بتفاوت النسخ عن التخصيص فالنسخ ممّا يتوفّر الداعي بضبطه، ولذا قلّ الخلاف في موارده ويكون الخبر الدالّ عليه متواتراً غالباً، فلا نحتاج في تعيين موارده إلى العمل بخبر الواحد،

بخلاف التخصيص كما يشهد لذلك الإرتكاز العقلائي فإنّه إذا قام خبر الواحد تارةً على مجي ء أحد الأصدقاء مثلًا واخرى على مجي ء شخص عظيم معروف خلف باب المدينة أو على وقوع الزلزلة وانهدام الحرم ومنارته بها فإنّهم يقبلون خبر الواحد في الأوّل ويرتّبون الآثار عليه دون الثاني لمكان الأهميّة، فيستكشف من هذا أنّ طبيعة بعض الأخبار تتوفّر فيها الدواعي على نقلها وأنّها لو كانت لبانت، ولعلّ هذا هو أساس اختصاص الإجماع على المنع بالنسخ.

ولنا جواب ثالث عن هذا الوجه، وهو أنّا ننكر وجود الملازمة بين النسخ والتخصيص، فإنّ النسخ ليس تخصيصاً في الأزمان للزوم تخصيص الأكثر حينئذٍ، فلو كان مقتضى إطلاق أدلّة وجوب صلاة الجمعة مثلًا بقاؤه إلى يوم القيامة ولكن طرأ عليه دليل النسخ بعد زمان قصير فبناءً على كون النسخ تخصيصاً أزمانياً يوجب إخراج أكثر الزمان منذ ورود النسخ إلى يوم القيامة، هذا- مضافاً إلى ما سيأتي من أنّه ليس للأحكام عموم أزماني، فليس معنى قوله «يجب الصّلاة» مثلًا «يجب الصّلاة إلى يوم القيامة» بل الدوام مقتضى طبيعة القانون الشرعي حيث إن من طبعه أن يبقى ببقاء الشرع نظير القوانين العرفيّة العقلائيّة، فليس معنى قولك:

انوار الأصول، ج 2، ص: 152

«بعتك هذه الدار» مثلًا «ملّكتك إيّاها إلى الأبد» بل البقاء هو مقتضى طبيعة قانون الملكيّة، نعم يستثنى من ذلك بعض القوانين كقانون الإجارة، فليس مقتضى طبيعة الإجارة الدوام والاستمرار بل هو تابع لقصد المؤجر والمستأجر كما لا يخفى.

فالحقّ أنّ النسخ كالفسخ، فكما أنّ التمليك يوجد الملكية من دون تقيّد بزمان والفسخ يرفعها بدونه أيضاً فكذلك النسخ، وسيأتي شرح هذا الكلام عند البحث عن حقيقة النسخ.

الوجه الرابع: (وهو العمدة) الأخبار الدالّة على أنّ الأخبار المخالفة للقرآن باطلة

أو يجب طرحها أو غيرهما من المضامين المشابهة، وهي على طائفتين:

الاولى: طائفة واردة في مورد الخبرين المتعارضين وتجعل موافقة الكتاب من مرجّحات تقدّم أحد الخبرين على الآخر في مقام المعارضة وهي خارجة عن محلّ النزاع لأنّها- كما صرّح به بعضهم- يستفاد منها أنّ حجّية الخبر المخالف في نفسه كان مفروغاً عنها وإنّما منع من العمل به وجود الخبر الموافق للكتاب المعارض.

والثانية: طائفة تدلّ على أنّ ما خالف كتاب اللَّه فهو باطل مطلقاً من دون أن يكون في مقام المعارضة وهي كثيرة وصريحة الدلالة على طرح المخالف كما أشار إليه في الكفاية، ومن حيث اللحن واللسان مختلفة يمكن تقسيمها إلى ثلاث طوائف:

الاولى: ما تدلّ على اشتراط موافقة الخبر للكتاب مثل ما رواه عبداللَّه بن أبي يعفور قال:

«سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن اختلاف الحديث يرويه من نطق به، قال: إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب اللَّه أو من قول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وإلّا فالذي جاءكم به أولى به» «1» وما رواه عبداللَّه بن بكير عن رجل عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: إذا جاءكم عنّا حديث وجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من كتاب اللَّه فخذوا به، وإلّا فقفوا عنده ثمّ ردّوه إلينا حتّى يستبين لكم» «2».

الثانية: ما تدلّ على أنّ ما خالف الكتاب زخرف، نحو ما رواه أيّوب بن راشد عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف» «3» وما رواه أيّوب بن الحرّ قال:

انوار الأصول، ج 2، ص: 153

سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: «كلّ شي ء مردود إلى الكتاب والسنّة وكلّ حديث لا يوافق كتاب اللَّه فهو زخرف» «1».

الثالثة: ما تدلّ

على اشتراطهما جميعاً وهي أربعة نشير هنا إلى بعضها وهو ما رواه جميل بن درّاج عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «الوقوف عند الشبهة خير من الإقتحام في الهلكة، أنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً فما وافق كتاب اللَّه فخذوه، وما خالف كتاب اللَّه فدعوه» «2». وفي معناه ما رواه «3» جابر عن أبي جعفر عليه السلام وهشام بن الحكم عن أبي عبداللَّه عن النبي صلى الله عليه و آله «4» والسكوني عن أبي عبداللَّه عليه السلام «5».

والظاهر أنّ مقتضى الجمع بين هذه الأخبار كلّها وجوب طرح ما خالف كتاب اللَّه ولا أقلّ من أنّه هو القدر المتيقّن منه، وهو يكفينا في المقام فلا حاجة إلى البحث عن مدلولها واحدة بعد واحدة.

وكيف كان، فإنّ هنا صغرى وكبرى، أمّا الصغرى فهي أنّ خبر الواحد المخصّص لعموم الكتاب مخالف لكتاب اللَّه تعالى، وأمّا الكبرى فهي «كلّ ما خالف كتاب اللَّه فهو باطل» فتكون النتيجة أنّ خبر الواحد المخالف للكتاب باطل لا يجوز تخصيصه به.

واجيب عن هذا الوجه بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ مخالفة الخاصّ مع العام ليست بمخالفة عرفاً بل يعدّ الخاصّ حينئذٍ بياناً للعام وشرحاً له.

وهذا الجواب حسن بعد ملاحظة ما مرّ منّا سابقاً من أنّ سيرة الشارع وعادته العمليّة إستقرّت على البيان التدريجي للأحكام وإلّا فمع قطع النظر عن هذه النكتة فقد عرفت أنّ ورود الخاصّ المنفصل بعد العام يعدّ عرفاً معارضاً للعام.

الوجه الثاني: سلّمنا صدق المخالفة عرفاً هنا، إلّاأنّ المراد من المخالفة في الأخبار الآمرة بردّ

انوار الأصول، ج 2، ص: 154

المخالف للكتاب هو غير مخالفة العموم والخصوص مطلقاً قطعاً، وذلك للعلم بصدور أخبار كثيرة مخالفة للكتاب بالعموم والخصوص إجمالًا وجريان السيرة القطعيّة وقيام الإجماع

على العمل بها في مقابل عمومات الكتاب، ولا يكون ذلك إلّالتخصيص المخالفة التي هي موضوع الأخبار الآمرة بطرح الخبر المخالف للكتاب بالمخالفة على نحو التباين وإخراج المخالفة بالعموم والخصوص مطلقاً عن المخالفة، إذن فالأخبار الآمرة بردّ المخالف محمولة على المخالفة على نحو التباين وإلّا فهي آبية عن التخصيص.

أقول: هذا الجواب أيضاً حسن إلّاأنّه يرد عليه إشكال أورده شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله وأجاب عنه وسيأتي بيانه.

الوجه الثالث: أنّ المراد من هذه الأخبار أنّهم لا يقولون خلاف القرآن ثبوتاً وواقعاً وأمّا خلافه إثباتاً وظاهراً ولو بنحو التباين الكلّي فضلًا عن العموم والخصوص مطلقاً أو من وجه شرحاً لمرامه تعالى وبياناً لمراده فكثيراً ما يقولون به.

ولكنّه غير تامّ، لأنّ ظاهر الأخبار أنّ موافقة الكتاب جعلت معياراً لصدق الخبر في مقام الظاهر، أي بعد عرضه على ظاهر الكتاب، إذ العرض على واقعه غير ممكن لنا. ولعلّ المحقّق الخراساني رحمه الله أشار إليه بعد بيان هذا الوجه بقوله «فافهم».

ولكن هيهنا إشكالان:

أحدهما: أنّ إخراج المخالفة بالعموم والخصوص المطلق من الأخبار الآمرة بطرح المخالف للكتاب واختصاصها بالمخالفة على نحو التباين يستلزم بقاءها بلا مورد، لأنّا لم نظفر على خبر مخالف على هذا الوجه.

وأجاب الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله عن هذه المشكلة في رسائله بما حاصله: أنّ عدم الظفر على المخالف بالتباين الآن، أي بعد تنقيح الأخبار وتصفيتها مرّات عديدة بأيدي أكابر أصحاب الحديث وضبطها في الاصول الأربعمائة ثمّ في الاصول الأربعة لا يلازم عدم وجوده فيما قبل.

أقول: بل يوجد الآن أيضاً بين الأخبار روايات في بعض جوامع الحديث كالبحار للعلّامة

انوار الأصول، ج 2، ص: 155

المجلسي رحمه الله تخالف الكتاب على نحو التباين أو تخالف بعض المسلّمات والضروريات كالتي تخبر عن وقوع النزاع

والمعارضة بين علي عليه السلام وفاطمة عليها السلام وما ورد من أنّ السادات العاصين لا يدخلون في نار جهنّم كيفما كانت المعصية وعلى أي مقدار، مع أنّ الأوّل ينافي عصمة الأئمّة عليهم السلام وفاطمة عليها السلام والثاني يستلزم زيادة الفرع على الأصل حيث إنّه ورد في القرآن الكريم مخاطباً للرسول صلى الله عليه و آله: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» «1»

، أو قوله تعالى: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالَيمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ» «2»

وهكذا ما ورد من أنّ عدد الأئمّة عليهم السلام ثلاثة عشر فإنّها أخبار شاذّة نقطع ببطلانها إذا حملت على ظواهرها.

ثانيهما: أنّ هذا كلّه يتصوّر بالنسبة إلى الطائفة الثانية من روايات طرح الخبر المخالف للكتاب، أمّا الطائفة الاولى وهي الأخبار الدالّة على وجوب الأخذ بالخبر الموافق وطرح الخبر المخالف التي وردت في خصوص باب الخبرين المتعارضين فالمشكلة الموجودة فيها أنّه إذا كانت النسبة بين الخبرين التباين الكلّي فهذه الأخبار إنّما هي في مقام تمييز الحجّة عن اللّاحجّة لا في مقام ترجيح إحدى الحجّتين على الاخرى بموافقتها للكتاب، لأنّ المخالف للكتاب في هذه الصورة ليست بحجّة حتّى تصل النوبة إلى التعارض بينه وبين الموافق، وإذن يتعيّن أن يكون مورد هذه الأخبار ما إذا كانت النسبة بين الخبر وكتاب اللَّه العموم والخصوص مطلقاً، وهذا يستلزم التفكيك في معنى الاختلاف في الطائفتين من الرّوايات مع أنّ الظاهر وحدة المفهوم فيهما.

واجيب عن هذه المشكلة بجوابين:

أحدهما: ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله في باب التعادل والتراجيح من أنّ الموافقة للكتاب في أخبار التعارض أيضاً لتمييز الحجّة عن اللّاحجّة.

ولكنّه في الواقع في تسليم للإشكال.

ثانيهما: أنّ التفكيك بين الطائفتين غير قادح إذا قامت القرينة ودلّ الدليل عليه كما

في المقام.

انوار الأصول، ج 2، ص: 156

بقي هنا امور:

الأوّل: أنّه يمكن أن يقال: إنّ هذه الأخبار أيضاً بنفسها مخالفة لكتاب اللَّه تعالى لأنّها تخالف مفهوم آية النبأ حيث إن مفهومها حجّية خبر الواحد مطلقاً سواء كان مخصّصاً لعمومات الكتاب أو لا يكون، فيلزم من وجود هذه الأخبار وحجّيتها عدمها لأنّ حجّيتها تقتضي تقييد الكتاب في هذه الآية، فيصير من قبيل تقييد الكتاب بخبر الواحد وهو ممنوع على الفرض، اللهمّ إلّاأن يقال: إنّها بالغة إلى حدّ التواتر وليست من أخبار الآحاد فلا إشكال حينئذٍ في جواز تخصيص عموم الكتاب بها.

الثاني: ربّما يقال بأنّ هذا البحث قليل الجدوى لأنّ عمومات الكتاب ليست في مقام البيان فلا يقع تعارض وتخالف بينها وبين أخبار الآحاد.

لكن يردّ هذا: بأنّه وإن كان كثير من العمومات الواردة في الكتاب، كذلك ولكن نشاهد بينها عدداً كثيراً من العمومات التي تكون في مقام البيان، نحو عموم قوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» وقوله: «وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ» وقوله: «وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ» وقوله: «وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ» وقوله:

«وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ» وقوله في آية الأنفال: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ» وقوله: «وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» بناءً على كونه في سياق النفي وقوله: «وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ».

الثالث: أنّ أكثر النكات المذكورة بالنسبة إلى عمومات الكتاب تأتي بالنسبة إلى إطلاقاته أيضاً، فالمطلقات من كتاب اللَّه أيضاً تقيّد بخبر الواحد، وحينئذٍ يأتي فيه أيضاً أدلّة المثبتين، وكذلك أدلّة النافين والجواب عنها لأنّ المطلقات بعد تمام مقدّمات الحكمة بحكم العموم.

انوار الأصول، ج 2، ص: 157

الفصل الحادي عشر الكلام في حالات العام والخاص

إذا ورد عام وخاصّ فتارةً يكون تاريخ كليهما معلوماً، واخرى يكون تاريخ أحدهما أو كليهما

مجهولًا، أمّا الأوّل فله صور خمسة:

الصورة الاولى: أن يكون الخاصّ مقارناً للعام، فإنّه حينئذٍ مخصّص له بلا إشكال نحو، أكرم العلماء إلّازيداً.

الصورة الثانية: أن يكون الخاصّ غير مقارن للعام لكن ورد قبل حضور وقت العمل بالعام، كما إذا قال المولى في أوّل الاسبوع: «أكرم العلماء يوم الجمعة» ثمّ قال في وسطه: «لا تكرم زيداً العالم يوم الجمعة» فحكمها التخصيص ولا يجوز فيها النسخ، لأنّ جواز النسخ من ناحية المولى الحكيم مشروط بحضور وقت العمل بالمنسوخ.

الصورة الثالثة: أن يكون الخاصّ غير مقارن للعام وورد بعد حضور وقت العمل به، كما إذا قال في الاسبوع الأوّل: «أكرم العلماء يوم الجمعة» ثمّ قال في الاسبوع الثاني: «لا تكرم زيداً العالم»، فذهب القوم إلى كونه ناسخاً لا مخصّصاً لئلّا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، لكنّا نقول: هذا إذا أحرز أنّ العام قد ورد لبيان الحكم الواقعي، أمّا إذا متكفّلًا لبيان الحكم الظاهري كما هو الغالب بل هكذا سنّة الشارع وسيرته العمليّة في بيان الأحكام الشرعيّة حيث إنّه من دأبه أن يبيّن الأحكام تدريجاً، فحينئذٍ يكون الخاصّ مخصّصاً لا ناسخاً لأنّ النسخ في هذه الصورة وإن كان ممكناً ثبوتاً ولكن ندرته وشيوع التخصيص يوجب تقوية ظهور العام في العموم الأزماني وتضعيف ظهوره في العموم الأفرادي، فيقدّم الظهور في الأوّل على الثاني.

الصورة الرابعة: عكس الثانية، وهي أن يرد العام بعد الخاصّ غير مقارن له وقبل حضور وقت العمل بالخاصّ، فحكمها حكم الصورة الثانية لنفس الدليل المذكور فيها، وهو كون انوار الأصول، ج 2، ص: 158

النسخ قبل العمل قبيحاً للمولى الحكيم، والمثال واضح.

الصورة الخامسة: أن يكون العام بعد الخاصّ وغيرمقارن له وورد بعد حضور وقت العمل بالخاصّ، فيدور الأمر فيها بين النسخ

والتخصيص لجواز كلّ منهما عند الكلّ، أمّا التخصيص فلعدم استلزامه تأخير البيان عن وقت الخطاب أو الحاجة، وأمّا جواز النسخ فلكونه بعد حضور وقت العمل بالخاصّ، والمشهور على ترجيح التخصيص على النسخ، فيقدّم عليه وذلك لندرة النسخ وشيوع التخصيص كما مرّ، وبعبارة اخرى: ظهور الخاصّ في الدوام الأزماني أقوى من ظهور العام في العموم الافرادي.

هذه صور خمسة لما إذا كان تاريخ كلّ من العام والخاصّ معلوماً، وهناك صورة سادسة وهي ما إذا كان التاريخ مجهولًا من دون أن يكون فرق بين ما إذا كان تاريخ كليهما مجهولًا وما إذا كان تاريخ أحدهما مجهولًا، ولا يخفى أنّ هذه الصورة تأتي فيها جميع الاحتمالات الخمسة المذكورة، وبما إن الحكم كان في بعضها النسخ وهو الصورة الثالثة على مبنى القوم، فيتردّد الأمر في هذاالقسم بين النسخ والتخصيص على مبنى القوم، ويصير الحكم مبهماً من ناحية الاصول اللفظيّة وحينئذٍ، تصل النوبة إلى الاصول العمليّة.

هذا كلّه بناءً على ما مشى عليه الأعلام فإنّهم تسالموا على ثلاثة اصول في المقام ليست مقبولة عندنا: أحدها: عدم جواز النسخ قبل العمل. ثانيها: عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة. ثالثها: إنّ دوام الأحكام هو مقتضى العموم الأزماني.

أمّا جواز النسخ قبل العمل فنقول: لا إشكال في جواز النسخ قبل العمل في الأوامر الامتحانية كما وقع في قضيّة ذبح إبراهيم عليه السلام ولده إسماعيل عليه السلام حيث كان الأمر فيه إمتحانيّاً يحصل بنفس التهيّؤ للعمل فإذا وقع التهيّؤ وحضر وقته يحصل المقصود من الإمتحان، وحينئذٍ يمكن النسخ، ولا إشكال في جوازه، وهو نظير ما إذا كلّف المولى عبدهبالسفر وقد تهيّأ له قبل حضور وقته فحينئذٍ بما أن نفس التهيّؤ يكفي لتحقّق الإمتحان والقبول فيه وبالإمكان

أن يتحقّق قبل زمان الفعل يجوز للمولى أن ينسخ حكمه بلا إشكال.

أمّا إذا كانت الأوامر غير إمتحانيّة فإنّ المحقّق النائيني رحمه الله قسّمها على ثلاثة أقسام: الأوامر

انوار الأصول، ج 2، ص: 159

الصادرة على نهج القضايا الحقيقيّة غيرالموقتة، والأوامر الصادرة على نهج القضايا الحقيقيّة الموقتة، والأوامر الصادرة على نهج القضايا الخارجيّة، وحكم باختصاص جواز النسخ بالقضايا الحقيقيّة غير الموقتة والقضايا الخارجيّة أو القضايا الحقيقيّة الموقتة بعد حضور وقت العمل بها، وأمّا القضايا الخارجيّة أو الحقيقيّة الموقتة قبل حضور وقت العمل بها فيستحيل تعلّق النسخ بالحكم المجعول فيها من الحكيم الملتفت وقال: في توضيحه: «إنّ ما ذكروه في المقام إنّما نشأ من عدم تمييز أحكام القضايا الخارجيّة من أحكام القضايا الحقيقيّة وذلك لأنّ الحكم المجعول لو كان من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الخارجيّة لصحّ ما ذكروه، وأمّا إذا كان من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الحقيقيّة الثابتة للموضوعات المقدّر وجودها كما هو الواقع في أحكام الشريعة المقدّسة فلا مانع من نسخها بعد جعلها، ولو كان ذلك بعد زمان قليل كيوم واحد أو أقلّ، لأنّه لا يشترط في صحّة جعله وجود الموضوع له في العام أصلًا إذ المفروض أنّه حكم على موضوع مقدّر الوجود، نعم إذا كان الحكم المجعول في القضيّة الحقيقيّة من قبيل الموقّتات كوجوب الصّوم في شهر رمضان المجعول على نحو القضيّة الحقيقيّة كان نسخه قبل حضور وقت العمل به كنسخ الحكم المجعول في القضايا الخارجيّة قبل وقت العمل به فلا محالة يكون النسخ كاشفاً عن عدم كون الحكم المنشأ أوّلًا حكماً مولويّاً مجعولًا بداعي البعث أو الزجر» «1».

أقول: الإنصاف أنّه لا فرق بين الأقسام الثلاثة، فإذا كان الطلب في القضايا الحقيقيّة غير الموقّتة حقيقياً وكان

الغرض فيها حصول نفس العمل في الخارج لا الامتحان فرفع الطلب ونسخ الحكم حينئذٍ يوجب كون الحكم لغواً لأنّه وإن لا يشترط في صحّة الجعل فيها وجود الموضوع فعلًا إلّاأنّه إذا كان الموضوع منتفياً إلى الأبد كما إذا لا يتحقّق مصداق لعنوان المستطيع (في مثال الحجّ) أبداً فلا محالة يكون جعل الحكم من المولى الحكيم العالم بذلك لغواً واضحاً.

ثمّ إنّه قلّما يوجد في الأحكام الشرعيّة أوامر امتحانيّة، نعم قد تكون المصلحة في نفس الإنشاء وذلك لوجود مصلحة في البين كتثبيت المتكلّم موقعيّة نفسه في الموالي العرفيّة

انوار الأصول، ج 2، ص: 160

وكالتقيّة لحفظ النفس أو المال أو غيرهما في الأوامر الشرعيّة، وحينئذٍ يجوز النسخ قبل العمل بلا ريب كما لا يخفى.

هذا كلّه في المسألة الاولى من المسائل الثلاثة، وهي جواز النسخ قبل العمل وعدمه.

المسألة الثانية: وهي تأخير البيان عن وقت الحاجة فالوجه في عدم جوازه يمكن أن يكون واحداً من الثلاثة:

أحدها: الإلقاء في المفسدة كما إذا قال: أكرم العلماء، ولم يستثن زيداً العالم مع أنّه كان خارجاً عن حكم الإكرام عنده وكان إكرامه ذا مفسدة في الواقع، فإنّه حينئذٍ يوجب إلقاء العبد في تلك المفسدة.

ثانيها: تفويت المصلحة كما إذا قال: لا تكرم الفسّاق، وكان إكرام الضيف مثلًا ذا مصلحة في الواقع ولم يستثنه فإنّه يوجب تفويت تلك المصلحة.

ثالثها: الإلقاء في الكلفة كما إذا قال: أكرم جميع العلماء، ولم يكن إكرام جماعة منهم واجباً مع أنّ إكرامهم يستلزم تحمّل المشقّة الزائدة للعبد.

فبناءً على أحد هذه الامور لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، نعم قد يجوز التأخير فيما إذا كانت هناك مصلحة أقوى كالمصلحة الموجودة في تدريجية الأحكام الشرعيّة فلا إشكال حينئذٍ في أنّ العقل حاكم على جواز

تأخير البيان عن وقت الحاجة كما لا يخفى.

المسألة الثالثة: وهي أنّ الدوام والاستمرار الزماني في الأحكام هل يستفاد من العموم الأزماني للأدلّة، أو يستفاد من مقدّمات الحكمة، أو يكون مقتضى أصل عملي وهو الاستصحاب؟ فقال بعض بأنّه لا دليل عليه إلّاأنّه مقتضى استصحاب بقاء الأحكام، وحيث إنّه أصل عملي وعموم العام أصلي لفظي فلا يقع تعارض بينهما بل يقدّم العموم على الاستصحاب دائماً، وعليه إذا ورد العام بعد الخاصّ وبعد حضور وقت العمل بالخاصّ يقدّم العام على الخاصّ وتكون النتيجة تقديم النسخ على التخصيص.

لكنّ الإنصاف أنّ الاستمرار الزماني يستفاد من طرق اخرى لفظيّة فلا تصل النوبة إلى الاستصحاب:

أحدها: مقدّمات الحكمة فيما إذا قال مثلًا: «للَّه على الناس حجّ البيت» ولم يقيّده بزمان خاصّ فنستفيد من إطلاقه الدوام والاستمرار.

انوار الأصول، ج 2، ص: 161

إن قلت: وجود العام ووروده بعد الخاصّ يمنع من جريان مقدّمات الحكمة لكونه بياناً للحكم.

قلنا: أنّ المراد من عدم البيان في مقدّمات الحكمة هو عدم البيان في مقام البيان لا عدم البيان إلى الأبد، وحيث إن المولى أطلق كلامه حين البيان ولم يقيّده بزمان خاصّ تجري مقدّمات الحكمة وتقتضي الدوام والأبديّة.

ثانيها: العمومات التي وردت في الشرع ومفادها «أنّ حلال محمّد صلى الله عليه و آله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة» أو الأدلّة التي تدلّ على خاتميّة دين النبي صلى الله عليه و آله فإنّ هذه الأدلّة بعمومها أو إطلاقها دليل على أبديّة الأحكام الشرعيّة كلّها.

ثالثها: ما سيأتي إن شاء اللَّه في باب النسخ أنّ طبيعة الحكم الإلهي والقانون الشرعي تطلب الأبديّة وتدلّ على الدوام والاستمرار إلى أن يرد ناسخ فإنّها نظير طبيعة الأحكام الوضعيّة المجعولة عند العرف والعقلاء كالملكيّة والزوجيّة،

حيث إنّها تقتضي الدوام بطبعها وذاتها إلى أن يرد عليه مزيل كما لا يخفى، وسيأتي لذلك مزيد توضيح عن قريب فانتظر.

الفصل الثاني عشر: الكلام في النسخ والبداء
اشارة

والوجه في التعرّض لهذه المسألة في ما نحن فيه أمران:

أحدهما: ربط مسائل العام والخاصّ بالنسخ كما ظهر ممّا سبق.

ثانيهما: كونها من المبادى ء الأحكاميّة التي تبحث عنها في علم الاصول كالبحث عن تضادّ الأمر والنهي، هذا بالنسبة إلى النسخ، وأمّا البداء فلأنّ له صلة قريبة وعلاقة شديدة بالنسخ كما سيتّضح لك إن شاء اللَّه.

وكيف كان: لابدّ أوّلًا: أن نبحث في المعنى اللغوي للنسخ، قال الراغب في مفرداته: «النسخ إزالة الشي ء بشي ء يتعقّبه كنسخ الشمس الظلّ والظلّ الشمس والشيب الشباب، فتارةً يفهم منه الإزالة وتارةً يفهم منه الإثبات وتارةً الأمران» (أي الإزالة والإثبات كلاهما) ثمّ قال بعد فصل: «ونسخ الكتاب نقل صورته المجرّدة إلى كتاب آخر وذلك لا يقتضي إزالة الصورة الاولى بل يقتضي إثبات مثلها في مادّة اخرى كالمناسخة في الميراث» فيستفاد من هذه العبارة إنّه أشرب في ماهيّة النسخ أمران: الإزالة والإثبات، ولذلك قد يستعمل النسخ في خصوص معنى الإزالة وقد يستعمل في خصوص معنى الإثبات، ومن هنا أخذ معنى التناسخ في القول بتناسخ الأرواح لأنّ القائل به يقول: أنّ الروح يزول عن بدن ويثبت في بدن آخر. هذا في معنى النسخ لغةً.

وأمّا في الاصطلاح فذكر له معانٍ مختلفة، فقال المحقّق الخراساني رحمه الله: «إنّ النسخ دفع الحكم الثابت إثباتاً إلّاأنّه في الحقيقة دفع الحكم ثبوتاً».

وقال المحقّق النائيني رحمه الله: «النسخ انتهاء أمد الحكم المجعول لانتهاء الحكمة الداعية إلى جعله» وقال في المحاضرات: «النسخ رفع أمر ثابت في الشريعة المقدّسة بارتفاع أمده وزمانه».

انوار الأصول، ج 2، ص: 164

أقول: لو حاولنا النقاش في هذه التعاريف فيمكن

المناقشة في كلّ منها، فمثلًا بالنسبة إلى التعريف الأخير (وهو للمحاضرات) يمكن أن يقال: إنّ الصحيح هو التعبير برفع الحكم لا رفع الأمر، وأيضاً لا وجه لتخصيصه النسخ بالشريعة المقدّسة بل إنّه ثابت بين العرف والعقلاء أيضاً في أحكامهم، كما أنّ هذا الإشكال يرد على تعريف المحقّق الخراساني رحمه الله أيضاً لأنّ تعبيره بالدفع يتصوّر في دائرة الشرع، وأمّا في دائرة الموالي العرفيّة وعبيدهم فإنّ النسخ هو الرفع لا الدفع كما لا يخفى وهكذا بالنسبة إلى كلام المحقّق النائيني رحمه الله حيث إنّه أيضاً خصّص النسخ في تعريفه بدائرة الشرع، والأحسن أن يقال: النسخ، رفع حكم تكليفي أو وضعي مع بقاء موضوعه (ثبوتاً أو إثباتاً).

ثمّ إنّه هل يجوز النسخ في حكم اللَّه تعالى أو لا؟ المشهور أو المجمع عليه بين المسلمين جوازه ونسب إلى اليهود والنصارى أنّه مستحيل، واستدلّ لذلك بأنّه إمّا إن كان الحكم المنسوخ ذا مصلحة فلا بدّ من دوامه وبقائه ولا وجه لنسخه وإزالته، وأمّا إن لم يكن ذا مصلحة فاللازم عدم جعله ابتداءً إلّاإذا كان الجاعل جاهلًا بحقائق الامور، تعالى اللَّه عن ذلك علوّاً كبيراً، كما أنّ النسخ في الأحكام العرفيّة أيضاً يرجع إلى أحد الأمرين: إمّا إلى جهل الجاهل من أوّل الأمر بعدم وجود المصلحة في الحكم، وإمّا إلى جهله بعدم دوام المصلحة وعدم كونه عالماً بالمستقبل، وبما أن اللَّه تعالى لا يتصوّر فيه الجهل بالمستقبل حدوثاً وبقاءً يستحيل النسخ بالنسبة إليه كما لا يخفى.

والجواب عن هذا معروف، وهو أنّه لا إشكال في أن يكون لشي ء مصلحة في زمان دون زمان آخر كالدواء الذي نافع للمريض يوماً وضارّ يوماً آخر، كما أنّ الرجوع إلى التاريخ وشأن نزول الآيات في

قصّة القبلة يرشدنا إلى هذه النكتة، وحينئذٍ يكون النسخ بمعنى انتهاء أمد الحكم وزوال المصلحة، ومن هنا ذهب المشهور إلى أنّ النسخ دفع الحكم لا رفعه، كما أنّ المعروف كون النسخ تخصيصاً للعموم الأزماني لأحكام الشرع ظاهراً، ولكنّ الإنصاف أنّ بقاء الأحكام مستفاد من طبيعتها وأنّ النسخ في الحقيقة رفع لا دفع.

توضيح ذلك: أنّ الأحكام الإنشائيّة على أقسام فتارةً يكون من الأحكام التكليفيّة كالوجوب والحرمة، واخرى من قبيل الأحكام الوضعيّة كالملكيّة والزوجيّة، وثالثة من قبيل المناصب المجعولة كمنصب القضاوة والوزارة، وكلّ واحد من هذه الثلاثة قد يكون موقتاً

انوار الأصول، ج 2، ص: 165

كالواجبات الموقّتة مثل الصّوم والحجّ في القسم الأوّل، وكالإجارة في القسم الثاني وكبعض مناصب الحكومة في عصرنا هذا في القسم الثالث، وقد يكون مطلقاً كوجوب تطهير المسجد من النجاسة وأداء الدَين في القسم الأوّل وكالملكيّة الحاصلة من البيع في القسم الثاني حيث إن البيع ينعقد مطلقاً وإن كان البائع أو المشتري عازماً على الفسخ، ولذا لا يصحّ أن يقول:

«ملكتك إلى شهر» ولا أن يقول: «ملكتك إلى الأبد» بل الملكيّة إذا حصلت بقيت بذاتها، وكالقضاوة والوزارة في القسم الثالث لأنّه ما لم يعزل القاضي أو الوزير عن منصب القضاوة والوزارة يكون باقياً على منصبه بمقتضى طبيعة ذاتهما.

إذا عرفت هذا فنقول: لا إشكال في أنّ الحكم الذي انشأ على نحو الإطلاق وكان من القسم الثاني والثالث يدوم ويستمرّ بمقتضى طبعه وذاته ولذلك يعبّر فيهما بالفسخ والعزل، فإنّ الفسخ أو العزل هو رفع ما يكون ثابتاً باقياً حتّى في مقام الثبوت، ثمّ نقول: كذلك في القسم الأوّل، أي الأحكام التكليفيّة التي تصدر وتنشأ من جانب الشارع مطلقاً ويكون مقتضى طبعها وذاتها الدوام والاستمرار بلا فرق بينها وبين

الأحكام الوضعيّة والمناصب المجعولة، وبلا فرق بين مقام الثبوت ومقام الإثبات فيكون وزان النسخ فيها وزان الفسخ والعزل فيهما، أي أنّ النسخ أيضاً رفع الحكم الثابت لا الدفع، فكما أنّ الأحكام الوضعيّة المطلقة والمناصب المجعولة المطلقة كان مقتضى طبعها وذاتها الدوام والبقاء فتكون باقية ما لم يفسخ وما لم يعزل كذلك الأحكام التكليفيّة المطلقة يكون مقتضى طبعها الدوام والبقاء وتكون باقيّة ما لم ينسخ، فوزانها وزانهما كما أنّ وزان النسخ وزان الفسخ والعزل، ولذلك نقول: كذلك في الشرائع السابقة فإنّ مقتضى طبعها أيضاً الدوام ما لم تأت شريعة اخرى، فمثلًا شريعة عيسى عليه السلام لم تكن مقيّدة بمقدار خمسمائة سنة بل إنّها بأحكامها كانت مطلقة في مقام الثبوت والإنشاء، مقتضية للبقاء والاستمرار، وهكذا مسألة القبلة في شريعتنا كانت بذاتها مقتضية للدوام والاستمرار ما لم تنسخ من ناحية الشارع.

إن قلت: فما الفرق بين الشارع وغيره في النسخ؟

قلنا: لا فرق بينهما بالنسبة إلى ماهيّة النسخ وحقيقته، فإنّه رفع الحكم ثبوتاً وإثباتاً في كلا الموردين، إنّما الفرق من جهتين:

الاولى: جهل العقلاء بعدم المصلحة حدوثاً ومن أوّل الأمر فيما إذا كانت المصلحة مفقودة

انوار الأصول، ج 2، ص: 166

منذ البداية، فقد يستكشف لهم بعد جعل الحكم فقدان المصلحة من بدو الأمر.

الثانية: جهلهم بانتهاء مصلحة الحكم وعدم دوامها فيما إذا انتهت المصلحة بعد فترة، فيستكشف لهم عدم دوامها، ولا إشكال في أنّه لا يتصوّر شي ء من الأمرين بالنسبة إلى الشارع العليم الحكيم كما لا يخفى، لكن هذا لا ينافي أن يكون جعل الشارع وإنشائه بحسب الظاهر والواقع مطلقاً كما مرّ بيانه.

وممّا يؤيّد ما ذكرنا أنّه لو كان النسخ تخصيصاً أزمانياً ودفعاً في مقام الثبوت فكان الزمان مأخوذاً في الحكم يستلزم تخصيص الأكثر

المستهجن لأنّ في نسخ حكم واحد يستثنى أكثر الزمان، هذا أوّلًا.

وثانياً: لا خلاف ولا إشكال في تقديم التخصيص على النسخ عند دوران الأمر بينهما، وهذا ممّا يشهد بأنّ النسخ عندهم هو نزع الحكم من الأصل والأساس، ولذلك يحتاج إلى مؤونة زائدة على التخصيص الذي يكون أساس الحكم فيه باقياً على حاله، وإلّا لو لم يكن النسخ هكذا بل كان في الواقع من مصاديق التخصيص فلا وجه لتقيم التخصيص عليه.

ثالثاً: أنّ عدم جواز النسخ بخبر الواحد وجواز التخصيص به أيضاً شاهد لما ذكرنا حيث إنّه أيضاً يدلّ على زيادة المؤونة في النسخ وأنّه رفع الحكم من الأساس.

بقي هنا شي ء:

وهو كيف يتصور النسخ في القرآن الكريم؟

لا إشكال في جواز النسخ في القرآن سواء كان الناسخ والمنسوخ كلاهما في القرآن كما في آية النجوى، أو كان خصوص الناسخ فيه كما في حكم القبلة.

لا يقال: أنّه في القسم الأوّل مشمول لقوله تعالى: «وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» «1»

لأنّ جوابه واضح، وهو وجود القرينة في هذه الموارد إمّا على أنّ الآية المنسوخة ستنسخ أو على ناسخيّة الآية الناسخة فتكون إحدى الآيتين ناظرة إلى الاخرى، ولا إشكال حينئذٍ في عدم صدق الاختلاف، فالأوّل مثل قوله تعالى: «وَاللَّاتِي يَأْتِينَ انوار الأصول، ج 2، ص: 167

الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» «1»

قرينة على إمكان النسخ فيها، كما ورد من طرق الفريقين أنّ المراد من السبيل هو حدّ زناء المحصنة، فنسخ حكم الإمساك في البيوت للزانيات، وتبدّل إلى الحدّ المذكور في الرّوايات وهو الرجم، نعم ليس الناسخ لهذه الآية من القرآن، فهو خارج عن محلّ الكلام

لأنّ محلّ البحث ما إذا كان كلا الدليلين من القرآن بينما الناسخ هنا روايات وردت من طريق الفريقين.

وأمّا قوله تعالى في سورة النور: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ» فهو وارد في غير المحصنات كما ثبت في محلّه، نعم يمكن الاستشهاد بهذه الآية لإثبات أصل وجود القرينة في الآية المنسوخة.

إن قلت: كيف يكون الرجم بالنسبة إلى المحصنات الزانيات سبيلًا مع كونه أسوأ حالًا من الإمساك؟

قلنا: أنّه كذلك إذا كان الحكم في الدليل الناسخ شاملًا أيضاً لمن إرتكب الزنا قبل صدور الناسخ مع أنّ الثابت في الشرع أنّ حكم الرجم مخصوص لمن يزني بعد صدور هذا الحكم، وأمّا المرتكب للزنا قبله فهو معفوّ بلا إشكال. وحينئذٍ السبيل في الآية هو العفو بالنسبة إلى من زنى سابقاً، كما أنّه كذلك في القوانين العقلائيّة العرفيّة، فإنّها لا تشمل ما سبق، وحينئذٍ يمكن أن يقال: إنّ الاعتبار العقلائي هذه بنفسها قرينة لبّية على انصراف القانون الجديد في الشرع إلى زمان الحال والاستقبال.

نعم، إذا قلنا: أنّ الآية ناظرة إلى غير المحصنات مع القول بأنّ آية الجلد شاملة لمن سبق منه الزنا أيضاً فالمراد من السبيل حينئذٍ هو تبدّل السجن إلى الجلد.

هذا كلّه فيما إذا كانت القرينة موجودة في الدليل المنسوخ، أمّا الثاني وهو ما إذا كانت القرينة موجودة في الدليل الناسخ فهو نظير قوله تعالى في آية النجوى: «أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ» «2»

فإنّ التعبير ب «أأشفقتم» و «فإذا لم تفعلوا وتاب اللَّه عليكم» قرينة على نسخ حكم الصدقة

انوار الأصول، ج 2، ص: 168

الوارد في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ

نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ...» «1»

كما لا يخفى.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّه لا إشكال في جواز النسخ في القرآن سواء كان الوارد في القرآن خصوص الدليل الناسخ أو خصوص الدليل المنسوخ أو كليهما، نعم يشترط في الأخير وجود القرينة على النسخ أمّا في الدليل الناسخ أو في الدليل المنسوخ حتّى لا يكون من قبيل الاختلاف.

هذا تمام الكلام في النسخ.

مسألة البداء

ذكرنا مسألة البداء بعد مسألة النسخ لما بينهما من الإرتباط، ولذلك تذكران معاً في كلمات القوم غالباً، والمحقّق العلّامة المجلسي رحمه الله عنون لهما باباً واحداً في المجلّد الرابع من بحار الأنوار بقوله «فصل في البداء والنسخ» وجمع فيه زهاء سبعين رواية في البداء والنسخ.

ووجه الإرتباط بين المسألتين أنّ النسبة بينهما العموم مطلقاً لأنّ البداء يعمّ التكوينيات والتشريعيات معاً لكن النسخ يختصّ بالتشريعيات، نعم خصّص بعض العلماء أحدها بالتكوينيات والآخر بالتشريعيات، وقال في مقام تشبيه أحدهما بالآخر: «البداء في التكوينيات كالنسخ في التشريعيات» وجاء في كلام المحقق الداماد «أنّ البداء النسخ في التكوينيات والنسخ بداء في التشريعيات».

توضيح المسألة: قال الراغب في مفرداته: البداء ظهور الشي ء ظهوراً بيّناً (ولذلك تسمّى البادية بادية لأنّ كلّ شي ء ظاهر هناك، أو لأنّه يظهر فيها حوادث مختلفة لا تظهر في المدن) وقال بعض: المراد من البداء في اللغة ظهور الشي ء بعد الخفاء وحصول العلم به بعد الجهل، نحو قوله تعالى: «ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ» «2»

أو قوله: «وَبَدَا لَهُمْ انوار الأصول، ج 2، ص: 169

سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا» «1»

هذا بالنسبة إلى معناه اللغوي، وأمّا بالنسبة إلى الباري تعالى فقد وردت روايات كثيرة تدلّ على أنّ البداء في أمر اللَّه من الامور المسلّمة التي يترادف الاعتقاد به الاعتقاد بالتوحيد، ونحن نشير

هنا إلى عدد منها:

1- ما رواه زرارة عن أحدهما عليهما السلام قال: «ما عبداللَّه عزّوجلّ شي ء مثل البداء» «2».

2- ما رواه هشام بن سالم عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «ما عظّم اللَّه عزّوجلّ بمثل البداء» «3».

3- ما رواه مرازم بن حكم قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: «ما تنبّأ نبي قطّ حتّى يقرّ للَّه تعالى بخمس: بالبداء والمشيئة والسجود والعبوديّة والطاعة» «4».

4- ما رواه زرارة ومحمّد بن مسم عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «ما بعث اللَّه نبيّاً قطّ حتّى يأخذ عليه ثلاثاً: الإقرار للَّه بالعبوديّة وخلع الأنداد وأنّ اللَّه يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء» «5» إلى غير ذلك.

وبالجملة لا إشكال في أصل ثبوت البداء، إنّما الكلام في تفسيره، وقد يفترى على الشيعة الإماميّة بأنّهم يعتقدون بأنّ البداء في اللَّه هو أن يظهر له ما كان مجهولًا له، أي أنّ البداء ظهور الشي ء بعد الخفاء وحصول العلم به بعد الجهل، أو أنّه بمعنى الندامة، مع أنّ هذا إفك عظيم وتهمة واضحة وشطط من الكلام لا يقول به من فهم من الإسلام شيئاً، ولذا أنكر علماؤنا ذلك من الصدر الأوّل إلى اليوم خصوصاً الأكابر منهم كالشيخ الصدوق والشيخ المفيد رحمهما الله، ورواياتنا أيضاً تدلّ على امتناع هذا المعنى على اللَّه، مثل ما رواه أبو بصير وسماعة عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «من زعم أنّ اللَّه عزّوجلّ يبدو له في شي ء لم يعلمه أمس فابرؤوا منه» «6».

فما هو التفسير الصحيح للبداء؟

إنّ معنى البداء الذي نحن نعتقده مبنيّ على آيتين من سورة الرعد، وهما قوله تعالى: «لِكُلِ انوار الأصول، ج 2، ص: 170

أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» «1»

، وهو يشبه النسخ

بناءً على مذهب المشهور من أنّ حقيقته هو الدفع لا الرفع، أي أنّ النسخ بمعنى انتهاء أمد الحكم وأنّ اللَّه يظهر فيه ما كان مجهولًا للناس وهو يتصوّر بعد حضور وقت العمل بالحكم المنسوخ إلّافي الأوامر الإمتحانيّة فيتصوّر فيها قبل حضور وقت العمل أيضاً كما مرّ.

فالبداء أيضاً كذلك، فيتصوّر في الأوامر الإمتحانية قبل العمل كما إذا فرضنا مثلًا أنّ أمر إبراهيم بذبح إبنه صدر على نهج القضيّة الخيريّة، فكأنّه حينئذٍ صدر بعنوان الإخبار عن أمر تكويني سوف يتحقّق في المستقبل ثمّ بدا له بقوله تعالى: «قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا»، وفي غير الإمتحان مثل ما وقع في قضية يونس عليه السلام من وعده تعالى بالعذاب على قومه ثمّ كشفه عنهم بعد أن آمنوا، فهو في كلا القسمين ليس بمعنى ظهور ما خفى عليه بل بمعنى إبداء شرط أو مانع أخفاه في بدو الأمر، فهو تعالى يخبر عن وقوع أمر معلّق على شرط أو عدم مانع من دون التصريح بالمعلّق عليه حين الإخبار، فلا يحصل المعلّق لعدم حصول المعلّق عليه وذلك لحكمة تقتضي ذلك، ثمّ يبدي ما لم يذكره أوّلًا، فالبداء بتعبير عقلي يرجع إلى العلل المركّبة التي تتصوّر فيها علّة تامّة وعلّة ناقصة، فيرجع إمّا إلى عدم حصول المقتضي أو وجود المانع، وفي لسان الشرع يرجع إلى مسألة المحو أو الإثبات، فقد ثبت أنّ للَّه تعالى كتابين: أحدهما: امّ الكتاب الذي ثبت فيه جميع الامور من دون محو وإثبات، والآخر: كتاب المحو والإثبات.

وبالجملة، البداء ليس بمعنى ظهور ما خفى عليه تعالى كما يدلّ عليه قوله: «وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ» «2»

حيث جاء في التفسير أنّ اليهود قالوا

قد فزع اللَّه من الأمر لا يحدث اللَّه غير ما قدّره في التقدير الأوّل (وأنّه قد جفّ القلم بما هو كائن) فردّ اللَّه عليهم بقوله: بل يداه مبسوطتان، ومن الآيات الدالّة على أصل وجود البداء وصحّته قوله تعالى: «وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ» «3».

وهذا المعنى تدلّ عليه أيضاً روايات الأئمّة المعصومين عليهم السلام وهي كما قلنا كثيرة كما مرّت انوار الأصول، ج 2، ص: 171

جملة منها في صدر البحث، ولا بأس بالإشارة إلى بعضها الآخر التي تشير أيضاً إلى بعض مصاديق البداء الواقعة في الامم الماضية.

1- ما رواه حسن بن محمّد النوفلي قال: قال الرضا لسليمان المروزيّ: ما أنكرت من البداء ياسليمان واللَّه عزّوجلّ يقول: «أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْئاً» ويقول عزّوجلّ: «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ» ويقول: «بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ» ويقول عزّوجلّ: «يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ» ويقول: «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِنْ طِينٍ» ويقول عزّوجلّ: «وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِامْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ» ويقول: «وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ» قال سليمان: هل رويت فيه عن آبائك شيئاً؟

قال: نعم رويت عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّه قال: إنّ للَّه عزّوجلّ علمين: علماً مخزوناً مكنوناً لا يعلمه إلّاهو من ذلك يكون البداء، وعلماً علّمه ملائكته ورسله، فالعلماء من أهل بيت نبيّك يعلمونه، قال سليمان: أحبّ أن تنزعه لي من كتاب اللَّه عزّوجلّ، قال: قول اللَّه عزّوجلّ لنبيّه:

«فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ» أراد هلاكهم ثمّ بدا فقال: «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ» قال سليمان: زدني جعلت فداك، قال الرضا عليه السلام: لقد أخبرني أبي عن آبائه أنّ رسول اللَّه صلى

الله عليه و آله قال: إنّ اللَّه عزّوجلّ أوحى إلى نبي من أنبيائه أن أخبر فلان الملك أنّي متوفّيه إلى كذا وكذا فأتاه ذلك النبي ... إلى آخر الحديث» «1».

2- ما رواه أبو بصير (وهو المعروف بقصّة العروس) قال: سمعت أبا عبداللَّه الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام يقول: إنّ عيسى روح اللَّه مرّ بقوم مجلبين فقال: ما لهؤلاء؟ قيل: ياروح اللَّه، إنّ فلانة بنت فلان تهدى إلى فلان بن فلان في ليلتها هذه. قال: يجلبون اليوم ويبكون غداً. فقال قائل منهم: ولِمَ يارسول اللَّه؟ قال: لأنّ صاحبتهم ميّتة في ليلتها هذه، فقال القائلون بمقالته:

صدق اللَّه وصدق رسوله، وقال أهل النفاق ما أقرب غداً. فلمّا أصبحوا جاؤوا فوجدوها على حالها لم يحدث بها شي ء فقالوا: ياروح اللَّه إنّ التي أخبرتنا أمس أنّها ميتة لم تمت. فقال: عيسى على نبيّنا وآله وعليه السلام: يفعل اللَّه ما يشاء فاذهبوا بنا إليها، فذهبوا يتسابقون حتّى قرعوا الباب، فخرج زوجها فقال له عيسى عليه السلام: استأذن لي على صاحبتك قال: فدخل عليها

انوار الأصول، ج 2، ص: 172

فأخبرها أنّ روح اللَّه وكلمته بالباب مع عدّة قال: فتخدّرت فدخل عليها فقال لها: ما صنعت ليلتك هذه؟ قالت لم أصنع شيئاً إلّاوقد كنت أصنعه فيما مضى أنّه كان يعترينا سائل في كلّ ليلة جمعة فننيله ما يقوته إلى مثلها وأنّه جاءني في ليلتي هذه وأنا مشغولة بأمري وأهلي في مشاغل فهتف فلم يجبه أحد ثمّ هتف فلم يجب حتّى هتف مراراً فلمّا سمعت مقالته قمت متنكّرة حتّى نلته كما كنّا ننيله فقال لها: تنحّي عن مجلسك فإذا تحت ثيابها افعى مثل جذعة عاضّ على ذنبه فقال عليه السلام: بما صنعت صرف عنك هذا»

«1».

تنبيهان الأوّل: إنّ فلسفة البداء وحكمته عدم القعود عن السعي والجهاد وأن لا نيأس من رحمة اللَّه وإرائته للطريق وهدايته السبل، ومن جانب آخر أن لا نأمّن أنفسنا من سخطه وعذابه، ولا نقول: قد جفّ القلم وأنّه لا يحدث اللَّه غير ما قدّره في التقدير الأوّل بل نقول أنّه يمحو ما يشاء ويثبت، فلا يخفى أنّ هذه العقيدة وهذه الحالة تورثنا وتكّمل لنا حالة الخوف والرجاء بحيث لو صدر عنّا ذنب رجونا العفو والمغفرة، كما أنّه لو صدرت عنّا خيرات بالغة وحسنات كثيرة خفنا من سوء العاقبة، وبالجملة أنّ حكمة البداء وفلسفته هي إيقاع العبد بين حالة الخوف والرجاء، ونتيجته دوام السعي والحركة والعمل مع احتمال الخطأ والمخالفة والوقوع في المهلكة.

الثاني: أنّ إنكار البداء يستلزم إنكار عدّة من المسائل المسلّمة والاعتقادات الضروريّة في الإسلام أو ما أشبه ذلك كمسألة التوبة، ومسألة الحبط في الأعمال وأنّ الحسنات يذهبن السيّئات، ومسألة الشفاعة، وتأثير الدعاء، وتأثير صلة الرحم وقطعها في إزدياد العمر ونقصانه، ودفع البلاء بالصدقة (وقد ورد في الحديث أنّ الصدقة ترفع البلاء المبرم وهو البلاء الذي كتب بالقلم في امّ الكتاب).

إلى هنا تمّ الكلام عن المقصد الرابع من مباحث الاصول.

انوار الأصول، ج 2، ص: 173

المقصد الخامس المطلق والمقيّد

5- المطلق والمقيّد

اشارة

وقبل الورود في أصل البحث لابدّ من بيان مقدّمات:

المقدمة الاولى: في تعريف المطلق والمقيّد

نسب إلى المشهور «أنّ المطلق ما دلّ على شائع في جنسه» وحيث إن كلمة «ما» الموصولة في هذا التعريف كناية عن اللفظ يكون المطلق والمقيّد حينئذٍ من صفات اللفظ.

وإستشكل عليه جماعة تارةً بأنّ الإطلاق والتقييد من صفات المعنى لا اللفظ، واخرى بعدم شموله للألفاظ الدالّة على نفس الماهيّة من دون شيوع كأسماء الأجناس مع أنّهم عدّوا أسامي الأجناس من المطلق، وثالثة بعدم منعه، لشموله كلمة «من وما وأيّ» الاستفهاميّة من باب دلالتها أيضاً على العموم البدلي وضعاً مع أنّها ليست من أفراد المطلق.

والمحقّق الخراساني رحمه الله ذهب في المقام أيضاً (من دون أن يتعرّض لبيان هذه الإشكالات) إلى ما نبّه عليه في مقامات عديدة وهو أنّ مثل هذا التعريف من تعاريف شرح الاسم لا التعريف الحقيقي حتّى يكون في مجال النقض والإبرام.

ونحن أيضاً ننبّه هنا على ما بيّناه غير مرّة من الجواب وأنّ المراد من التعريف الحقيقي في أمثال المقام ليس التعريف بالجنس والفصل بل المراد منه ما يكون جامعاً ومانعاً، ولا يخفى إمكان هذا النحو من التعريف وضرورته للمبتدي في العلم لأن يتّضح له الطريق الذي يسلكه ويحيط بأفراد ذلك الموضوع وأغياره، وقلنا أنّ نفس الإشكالات في جانبي الطرد والعكس في كلمات القوم أقوى شاهد بأنّهم في صدد بيان التعريف الحقيقي بالمعنى الذي ذكرنا.

وبالجملة يجاب عن الإيراد على تعريف المشهور بالنسبة إلى:

الإشكال الثاني: بأنّ الشيوع له معنيان: أحدهما: الشيوع بمعنى العموم، وحينئذٍ يرد عليه انوار الأصول، ج 2، ص: 176

هذا الإشكال، وهو عدم شمول التعريف لأنّ الجنس لأنّه ليس للجنس شيوع بل وكذا النكرة، ثانيهما: السريان والعموم بعد ضمّ مقدّمات الحكمة ولا إشكال في وجود هذا

المعنى في اسم الجنس والنكرة.

وأمّا الإشكال الثالث: فيردّ بأنّ كلمة «من وما وأي» الاستفهاميّة ليست من الأغيار بل نحن نلتزم بأنّها أيضاً من أفراد المطلق.

وأمّا الإشكال الأوّل: فيندفع بأنّه كما أنّ المعنى يتّصف بصفة الإطلاق والتقييد، كذلك اللفظ أيضاً يتّصف بهما بلحاظ كونه مرآة للمعنى وكاشفاً عنه.

لكن مع ذلك كلّه يمكن لنا إرائة تعريف أوضح وأسهل من تعريف المشهور، بأن ننظر إلى المعنى اللغوي للمطلق ونقول: المطلق ما لا قيد فيه من المعاني أو الألفاظ، والمقيّد ما فيه قيد، وبعبارة اخرى: أنّ المطلق في مصطلح الاصوليين نفس ما ذكر في اللغة وهو ما يكون مرسلًا وسارياً بلا قيد.

ومن هنا يظهر أنّ الإطلاق والتقييد أمران إضافيان، لأنّه ربّما يكون معنى مقيّداً بالنسبة إلى معنى آخر وفي نفس الوقت يعدّ مطلقاً بالنسبة إلى معنى ثالث، كالرقبة المؤمنة، فإنّها مقيّدة بالنسبة إلى مطلق الرقبة بينما هي مطلقة بالنسبة إلى الرقبة المؤمنة العادلة.

المقدمة الثانية: في شموليّة الإطلاق

إنّ المطلق- كما سيأتي- يفيد العموم والشمول ببركة مقدّمات الحكمة وهذا الشمول على ثلاثة أقسام، لأنّه قد يكون بدليّاً وقد يكون استغراقياً وقد يكون مجموعياً، فلا يصحّ ما ربّما يتوهّم من أنّ المطلق إنّما يدلّ على الشمول البدلي دائماً، لأنّ كلمة البيع أو الماء مثلًا في قوله تعالى: «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» وقوله عليه السلام: «الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شي ء» مطلق مع أنّه يفيد العموم الاستغراقي، وكلمة العالم في قضيّة «أكرم العالم» أيضاً مطلق مع أنّه قد يكون الشمول فيه مجموعياً، نعم أنّه يتوقّف على قيام قرينة على أنّ المقصود فيه مجموع العلماء من حيث المجموع.

المقدمة الثالثة: الإطلاق والتقييد ليسا الامور الذهنيّة

أنّ الإطلاق والتقييد كما اشير إليه آنفاً ليسا أمرين وجوديّين في الخارج بل هما من الامور

انوار الأصول، ج 2، ص: 177

الذهنيّة، والتقابل بينهما تقابل العدم والملكة فالمطلق ما من شأنه أن يكون مقيّداً وبالعكس.

المقدّمة الرابعة: في مصبّ الإطلاق
اشارة

ما أفاده في تهذيب الاصول من أنّ مصبّ الإطلاق أعمّ من الطبائع والأعلام الشخصية وتجد الثاني في أبواب الحجّ كثيراً، في الطواف على البيت واستلام الحجر والوقوف بمنى والمشعر «1».

أقول: كأنّه وقع الخلط بين نفس الكعبة ومنى والمشعر الحرام وبين الأفعال القائمة بها فهذه المواقف العظيمة وإن كانت اموراً جزئيّة شخصية ولكنّ الأفعال القائمة بها كالطواف والوقوف امور كلّية تصدق على كثيرين ويأتي فيها الإطلاق والتقييد، فليس الإطلاق والتقييد وصفين لها بل هما وصفان لتلك الأفعال الكلّية.

إذا عرفت هذا فلنشرع في أصل مباحث المطلق والمقيّد فهيهنا مقامات:

المقام الأوّل: في الألفاظ التي يرد عليها الإطلاق
أحدها: «اسم الجنس»

وليس المراد منه معناه المنطقي بل المراد منه في المقام ما يقابل العلم الشخصي، فيشمل الجواهر والأعراض والامور الاعتباريّة كلّها.

والمشهور أنّ الموضوع له فيه هو الماهيّة، والماهيّة على أربعة أقسام: الماهيّة بشرط لا، والماهيّة بشرط شي ء، (وليس اسم الجنس واحداً منهما قطعاً)، والماهيّة اللابشرط القسمي، والماهيّة اللّابشرط المقسمي، والفرق بينهما واضح لأنّ الأوّل ما كان اللحاظ فيه جزء الموضوع له، والثاني عبارة عن ما ليس مشروطاً بشي ء حتّى لحاظ أنّها لا بشرط.

ولا ينبغي الشكّ في أنّ المراد من المطلق هو اللّابشرط المقسمي لأنّ اللّابشرط القسمي انوار الأصول، ج 2، ص: 178

موطنه دائماً هو الذهن هوعاء الاشتراط باللّابشرطيّة إنّما هو الذهن، وهو يستلزم عدم صحّة حمل المطلق مثل الإنسان على الخارج حقيقة، فيكون مثل «زيد إنسان» حينئذٍ مجازاً، ويستلزم أيضاً عدم صحّة الأخبار عن الخارج نحو جاءني إنسان، وكذلك عدم صحّة الأمر نحو «جئني بإنسان» فيتعيّن أن يكون الموضوع له اللّابشرط المقسمي أي القدر الجامع بين الأقسام الثلاثة، الذي يكون مرآة للخارج.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ ما اشتهر في كلماتهم (بل لعلّه كالمتسالم عليه) من أنّ الموضوع له في أسماء الأجناس

هو الماهيّة من حيث هي هي لا موجودة ولا معدومة، فإنّه ممّا لا يمكن المساعدة عليه عند الدقّة بل الموضوع له هو الموجود الخارجي، لأنّه المتبادر من إطلاق مثل الإنسان والشجر وغيرهما، فيتبادر عند إطلاق الإنسان والشجر إنسان خارجي وشجر خارجي، غاية الأمر إنسان لا بعينه وشجر لا بعينه، ومن أنكر هذا أنكره بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، بل يدلّ عليه حكمة الوضع كما مرّ بيانه غير مرّة فإن قد مرّ من أنّ الناس في حياتهم الاعتياديّة لا حاجة لهم إلى الماهيات المطلقة حتّى يضعون الألفاظ بإزائها بل حاجاتهم تمسّ الوجودات الخارجيّة، فبموازات حاجاتهم إلى المعاني الخارجيّة يضعون الألفاظ.

هذا، مضافاً إلى وجود صحّة السلب في المقام، فيصحّ أن يقال: «الإنسان الذهني ليس بإنسان» أو «أنّ النار الذهنية ليست ناراً حقيقة بل النار ذلك الوجود الخارجي الذي يحرق الأشياء» والماء هو «الموجود الخارجي الذي يروي العطشان».

إن قلت: فما تقول في قضية «الإنسان موجود» أو «الإنسان معدوم» أو «لم يكن الحجر موجوداً ثمّ صار موجوداً»؟ حيث إنّه لو كان المراد من الحجر مثلًا الحجر الموجود يصير معنى الجملة هكذا: كان الحجر الموجود معدوماً ثمّ صار موجوداً فيلزم التناقض أو يلزم حمل الشي ء على نفسه في مثل الإنسان موجود لأنّ المعنى فيه يصير هكذا: الإنسان الموجود موجود.

قلنا: يعمل في مثل هذه الموارد عمل التجريد بلا ريب وإلّا فما تقول في الأعلام الشخصية التي لا إشكال في أنّها وضعت للموجودات الخارجيّة، فإنّ كلمة زيد مثلًا وضع لزيد الموجود

انوار الأصول، ج 2، ص: 179

المتولّد في تاريخ كذا وكذا بلا خلاف، فما تقول فيها إذا اطلقت واريد منها الماهيّة كما إذا قيل «زيد كان معدوماً ثمّ تولّد».

إن قلت: الوجود مساوق للتشخّص والجزئيّة وهو

ينافي كلّية اسم الجنس.

قلنا: المراد من الوجود هنا هو الوجود السعي وهو لا ينافي الكلّية لأنّه قدر جامع بين الوجودات الجزئيّة الخارجيّة ويكون وعائه الذهن لكن بما أنّه مرآة ومشير إلى تلك الوجودات، وإن أبيت عن ذلك فاختبر نفسك عند طلب الماء مثلًا أو انظر إلى ظمآن بقيعة يطلب الماء، فلا ريب في أنّه يطلب الماء الخارجي لا ماهيّته مع أنّه ليس في طلب ماء مشخّص معيّن بل يطلب مطلق الماء الخارجي أو جنس الماء الخارجي بوجوده السعي، وليس المراد من الوجود السعي إلّاهذا.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ الموضوع له في أسماء الأجناس هو الماهيات الموجودة في الخارج بوجودها السعي واتّضح أيضاً أنّ اسم الجنس قابل لأنّ يكون مصبّ الإطلاق والتقييد.

ثانيها: «علم الجنس»

وفيه مذهبان:

المذهب الأوّل: ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله من أنّ حال علم الجنس كحال اسم الجنس عيناً فإنّ علم الجنس أيضاً موضوع عنده لنفس المعنى بما هو هو من دون لحاظ تعيّنه وتميّزه في الذهن من بين سائر المعاني حتّى يكون معرفة بسببه، بل تعريفه لفظي، أي يعامل معه معاملة المعرفة وهو نظير التأنيث اللفظي.

وأورد عليه كثير من الأعلام بأنّ الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس ماهوي فإن اسم الجنس وضع لنفس الطبيعة بما هي هي، وعلم الجنس موضوع للطبيعة بما هي متعيّنة متميّزة في الذهن من بين سائر الأجناس.

ولكن يرد على إيرادهم أنّه إن كان المراد من التميّز في الذهن فهذا يستلزم كون جميع أسامي الأجناس من أعلام الجنس لأنّ التميّز الذهني حاصل في جميعها، مضافاً إلى أنّه ممّا لا محصّل له انوار الأصول، ج 2، ص: 180

لأنّ التميّز حاصل على كلّ حال، وإن كان المراد من التميّز اللحاظ الذهني، أي

أنّ الاسامة مثلًا وضعت لذلك الحيوان المفترس بلحاظ أنّه ليس الشجر أو الحجر وغيرهما، أي أنّه مقيّد بهذا اللحاظ.

ففيه:

أوّلًا أنّه يستلزم عدم انطباق علم الجنس على الخارج إلّابالتجريد أو قبول المجازية وكلاهما منفيّان بحكم الوجدان.

وثانياً: ما حكمة الواضع حينئذٍ في وضعه وأي مشكلة أراد حلّها به؟ خصوصاً إذا كان الواضع عامّة الناس فما هو داعي الأفراد العاديين من الناس في وضعهم مثل لفظ الاسامة على هذا النحو.

المذهب الثاني: ما ذهب إليه في تهذيب الاصول فإنّه قال: «اسم الجنس موضوع لنفس الماهيّة وعلم الجنس للطبيعة بما هي متميّزة من عند نفسها بين المفاهيم وليس هذا التميّز والتعيّن متقوّماً باللحاظ بل بعض المعاني بحسب الواقع معروف معيّن وبعضها منكور غير معيّن» «1».

أقول: إن كان مراده من التعبير بالواقع هو الذهن وعام اللحاظ فيرد عليه نفس ما مرّ آنفاً من الإشكالات، مع أنّه بنفسه أيضاً صرّح بعدمه، وإن كان المراد منه هو الخارج فلا نعرف لما ذكره من الفرق مفهوماً محصّلًا ولعلّ القصور منّا.

وقال المحقّق الإصفهاني رحمه الله في التعليقة: أنّ في الفصول تبعاً للسيّد الشريف إرادة التعيّن الجنسي، بيانه: «إنّ كلّ معنى طبيعي فهو بنفسه متعيّن وممتاز عن غيره وهذا وصف ذاتي له، فاللفظ ربّما يوضع لذات المتعيّن والممتاز كالأسد واخرى للمتعيّن الممتاز بما هو كذلك كالاسامة» «2».

أقول: إنّ ما أفاده قدس سره لا يبعد صحّته ولا أقلّ من الاحتمال، وحينئذٍ الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس نظير الفرق بين زيد والرجل من بعض الجهات، فكما أنّه لا نظر في وضع الرجل لافراد الإنسان إلى التشخّصات الفرديّة والتعيّنات الخارجيّة وأنّ الفرد الفلان تولّد في أيّ انوار الأصول، ج 2، ص: 181

تاريخ ومن أيّ شخص مثلًا بل وضع اللفظ

لذوات الأفراد فقط، وأمّا كلمة زيد فهي وضعت للفرد بما هو فرد وللشخص بما هو متشخّص ومتعيّن عن سائر الافراد، كذلك في ما نحن فيه، فإنّ الأسد وضع لذلك الحيوان المتعيّن خارجاً من دون أن يكون لتعيّنه دخل في الموضوع له، وأمّا الاسامة فإنّها وضعت لذلك المتعيّن بما هو متعيّن وممتار عن سائر الأجناس.

إن قلت: ما هو حكمة الوضع حينئذٍ، قلنا: لا يبعد أن تكون الحكمة في ذلك أنّه كما أنّا قد نحتاج في الاستعمال أن ننظر إلى ذلك الحيوان المفترس (مثلًا) ونلاحظه من دون لحاظ تميّزه عن سائر الحيوانات بل يكون النظر إلى مجرّد الماهيّة، فلا بدّ من وضع لفظ يدلّ على نفس الماهيّة فقط، كذلك قد نحتاج إلى النظر إليه بوصف تميّزه عن سائر الأجناس، فنحتاج حينئذٍ إلى وضع لفظ للماهيّة بوصف تميّزها وتعيّنها، فتأمّل.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ علم الجنس أيضاً يقع مصبّاً للإطلاق والتقييد كاسم الجنس من دون إشكال.

ثالثها: «المفرد المحلّى باللام»

وقد عرفت في مبحث العام والخاصّ أنّ الألف واللام تارةً تكون لتعريف الجنس، واخرى للاستغراق وثالثة للعهد، ولا يخفى أنّه يأتي في القسم الأوّل ما مرّ من السؤال والجواب المذكور في علم الجنس، ولذلك ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى أنّها للتزيين لا للتعريف، ولكن بناءً على ما بيّناه في علم الجنس يظهر لك الحكم هيهنا أيضاً لأنّه حينئذٍ يكون الفرق بين «إنسان» و «الإنسان» مثلًا أنّ الأوّل يدلّ على مجرّد ماهيّة الإنسان من دون أن يلاحظ تميّزه عن سائر الأجناس والموجودات، وأمّا الثاني فإنّه يشار به إلى تلك الماهيّة بوصف كونه متميّزة ومتشخّصة عن غيرها.

وأمّا القسم الأخير وهو لام العهد فلا إشكال في كونها للتعريف، وهي في مثال الإنسان إمّا أن تكون

إشارة إلى الإنسان المذكور في الكلام، أو الإنسان المعهود في الذهن، أو الإنسان الحاضر، وهكذا القسم الثاني أي لام الاستغراق فهي أيضاً للتعريف، ويدلّ على أقصى مراتب الجمع كما مرّ بيانه في الجمع المحلّى باللام في باب العام والخاصّ لأنّه هو المتعيّن خارجاً بخلاف سائر المراتب كما بيّناه سابقاً.

انوار الأصول، ج 2، ص: 182

ولا يخفى أنّ ما يكون مصبّاً للإطلاق والتقييد هو القسم الأوّل فقط أي ما هو لتعريف الجنس.

رابعها: النكرة

وهي نفس اسم الجنس إذا دخل عليه تنوين النكرة نحو إنسانٌ ورجلٌ، فوقع الكلام في تبيين حقيقتها وبيان الفرق بينها وبين اسم الجنس فذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى التفصيل بين موارد استعمالها بما حاصله: أنّ الاستعمالات مختلفة فتارةً يكون مثل «جاءني رجلٌ» فيكون مفهوم النكرة حينئذٍ هو الفرد المعيّن في الواقع المجهول في الظاهر، واخرى يكون مثل «جئني برجل» فيكون مفهومها الطبيعة المقيّدة بالوحدة لا تعيّن لها لا في الواقع ولا في الظاهر لأنّها حينئذٍ صادقة على كثيرين، ثمّ أضاف وقال: «وليس مفاده الفرد المردّد بين الأفراد وذلك لبداهة كون لفظ «رجل» في «جئني برجل» نكرة مع أنّه يصدق على كلّ من جي ء به من الأفراد ولا يكاد يكون واحد منها هذا أو غيره كما هو قضية الفرد المردّد لو كان هو المراد منها ضرورة أنّ كلّ واحد هو هو لا هو أو غيره».

وقال شيخنا المحقّق الحائري رحمه الله في درره: «أنّ النكرة مستعملة في كلا الموردين بمعنى واحد وأنّه في كليهما جزئي حقيقي، بيانه: أنّه لا إشكال في أنّ الجزئيّة والكلّية من صفات المعقول في الذهن وهو إن امتنع فرض صدقه على كثيرين فجزئي وإلّا فكلّي وجزئيّة المعنى في الذهن لا تتوقّف على تصوّره

بتمام تشخّصاته الواقعيّة، ولذا لو رأى الإنسان شبحاً من البعيد وتردّد في أنّه زيد أو عمرو بل إنسان أو غيره لا يخرجه هذا التردّد عن الجزئيّة» «1».

أقول: الإنصاف في المقام هو وجه ثالث، وهو أن يكون الموضوع له كلّياً في جميع الموارد لكن مع قيد الوحدة ففي «جاءني رجل من أقصى المدينة» أيضاً يكون الموضوع له كلّياً لكنّه ينطبق على فرد خاصّ وتستفاد الجزئيّة من تطبيق الكلّي على الفرد كما في «زيد إنسان» ويكون من باب تعدّد الدالّ والمدلول، أي استفيدت الوحدة والجزئيّة من التنوين، واستفيدت الطبيعة من اسم الجنس الداخل عليه التنوين لا أن تكون الجزئيّة جزءً للموضوع له وإلّإ

انوار الأصول، ج 2، ص: 183

يستلزم تغيير الموضوع له في الاستعمالات المختلفة والجمل المستعمل فيها النكرة وهو بعيد جدّاً.

وأمّا ما أورده المحقّق الخراساني رحمه الله على كون النكرة بمعنى الفرد المردّد فغير وارد، لأنّا نسأل ما هو مقصود المولى في مثال «جئني بهذا أو هذا»؟ فأمّا أن يكون المقصود الجزئي الحقيقي المعلوم في علم اللَّه تعالى وما أظنّ أحداً يقول به، أو يكون المقصود هو مفهوم أحدهما وهو خلاف الظاهر لأنّه يستلزم تبديل «هذا أو هذا» إلى كلّي جامع بينهما، فيتعيّن أن يكون المقصود في هذا المثال الفرد المردّد، فليكن كذلك ما هو بمنزلته وهو مثل «جئني برجل» فإنّه بمنزلة أن يقال: جئني بهذا الرجل أو ذاك أو ذاك إلى آخر الأفراد.

إن قلت (كما قال به المحقّق الخراساني رحمه الله): أنّ لفظ «رجل» يصدق على كلّ من جي ء به من الأفراد بخلاف الفرد المردّد (وهو مفهوم هذا أو غيره) لأنّه لا يكاد يكون واحد من الأفراد هذا أو غيره ضرورة أنّ كلّ واحد هو هو لا

هو أو غيره.

قلنا: يكفي في صدق مفهوم الفرد المردّد (هذا أو غيره) صدق أحد جانبيه، لأنّ العطف فيه يكون بكلمة «أو» لا الواو، ولا إشكال في أنّ مقتضى طبيعة مفهوم «هذا أو غيره» (لمكان كلمة «أو») الصدق على كلّ واحد من الطرفين كما لا يخفى.

نعم، يرد على الفرد المردّد إشكال آخر، وهو أنّ المتكلّم إنّما يقصده فيما إذا كانت الأفراد قابلة للاحصاء وإلّا فلا يمكن أن يكون مقصوداً بل لابدّ حينئذٍ من تصوّر كلّي جامع يكون عنواناً ومرآةً للأفراد إجمالًا، وهذا الكلّي لا يمكن أن يكون الفرد المردّد لأنّه بمنزلة «هذا أو هذا» فيحتاج فيه إلى تصوّر جميع الافراد تفصيلًا لمكان كلمة «أو» وهو لا يمكن في مثل «جئني برجل» الذي لا يحصى عدد الأفراد فيه. فإنّ هذا هو النكتة الأصليّة في الأشكال على الفرد المردّد لا ما ذهب إليه صاحب الكفاية من عدم انطباقه على الخارج.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ الموضوع له في النكرة مطلقاً هو الكلّي المقيّد بقيد الوحدة، وأمّا هل هو قابل لأن يكون مصبّاً للإطلاق والتقييد أو لا؟ فالظاهر أنّه لا ينبغي الإشكال في كونه كذلك، فإذا إجتمعت فيها مقدّمات الحكمة دلّ على الشياع والسريان كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى.

المقام الثاني: في أنّ استعمال المطلق في المقيّد حقيقة أو مجاز؟

والأقوال فيه ثلاثة:

الأوّل: ما حكي عن سلطان العلماء ومن تبعه من أنّ استعمال المطلق في المقيّد حقيقة مطلقاً.

الثاني: هو المجاز مطلقاً.

والثالث: التفصيل بين التقييد بالمتّصل والتقييد بالمنفصل، فحقيقة في الأوّل دون الثاني.

والتحقيق في المقام يستدعي ذكر مقدّمة وهي: أنّ للمطلق معنيين:

أحدهما: المطلق قبل إجراء مقدّمات الحكمة الذي نعبّر عنه بمصبّ الإطلاق والتقييد وهو المفهوم اللّابشرط.

ثانيهما: المطلق بعد إجراء مقدّمات الحكمة وهو الشائع في جنسه والساري في أفراده، ولا ريب أنّ محلّ

البحث في المقام هو المعنى الأوّل لا الثاني، لأنّ في المعنى الثاني فرض عدم القيد الذي هو إحدى مقدّمات الحكمة فلا معنى حينئذٍ لأن نبحث في أنّ استعماله في المقيّد هل هو حقيقة أو مجاز؟

ومن هنا يعلم أنّ من أخذ معنى الشيوع والسريان في مفهوم المطلق يحتاج إمّا إلى إجراء مقدّمات الحكمة أو إلى الالتزام بأخذ السريان في مفهوم المطلق بحسب الوضع كما نسب إلى القدماء من الاصوليين، وإلّا فقبل جريان المقدّمات ومن دون أخذ السريان في ذات المطلق ووضعه له لا يدلّ على الشيوع والسريان بل أنّه حينئذٍ كما يمكن أن يكون مصبّاً للإطلاق، فيدلّ على الشيوع، كذلك يمكن أن يكون مصبّاً للتقييد فلا يدلّ على الشيوع.

وكيف كان، هل استعمال المطلق في المقيّد حقيقة أو مجاز؟ الحقّ التفصيل بين ثلاث حالات وكونه حقيقة في حالتين منها ومجازاً في حالة اخرى.

الاولى: ما إذا كان استعماله في المقيّد بنحو تعدّد الدالّ والمدلول بأن يراد أصل الطبيعة من المطلق ويراد القيد من قرينة حاليّة أو مقاليّة، كقوله: «اعتق رقبة مؤمنة» فإنّ الذوق السليم يقضي بأنّ لفظ المطلق وهو «رقبة» في المثال يدلّ على نفس الطبيعة وهو الماهيّة اللّابشرط، ولفظ «مؤمنة» يدلّ على القيد لا أنّ الرقبة استعملت في المقيّد وكانت المؤمنة قرينة على ذلك، وعليه يكون الاستعمال حقيقة.

الثانية: أن يكون من قبيل التطبيق نحو «جاءني رجلٌ» فإنّ المراد فيه رجل خاصّ وفرد

انوار الأصول، ج 2، ص: 185

معيّن منه، وفي هذه الصورة أيضاً يكون الاستعمال حقيقة لأنّ الرجل استعمل في معناه الحقيقي وهو الماهيّة اللّابشرط، لكنّه إنطبق على فرد واحد ومصداق واحد وهو لا يوجب المجازيّة بلا إشكال.

الثالثة: استعمال المطلق في المقيّد بأن اريد القيد من نفس المطلق لا

من دالّ آخر كما إذا اريد «الرقبة المؤمنة» من لفظ الرقبة فلا إشكال في كونه مجازاً في هذه الصورة من غير فرق في ذلك بين المختار وهو وضع المطلق للماهيّة اللّابشرط وبين مسلك مشهور القدماء كما لا يخفى.

ومن هنا ظهر أنّ القول المنسوب إلى القدماء يستلزم المجازيّة مطلقاً (إلّا في الصورة الثانية) لأنّ استعمال المطلق في المقيّد حينئذٍ يكون نظير استعمال العام وإرادة الخاصّ، حيث إن الرقبة مثلًا بناءً على هذا المسلك يكون بمنزلة «أي رقبة» فاستعمالها في خصوص المؤمنة بمنزلة استعمال العلماء مثلًا في خصوص زيد.

المقام الثالث: في دلالة المطلق على الشمول والسريان وبيان مقدّمات الحكمة
اشارة

نسب إلى مشهور القدماء أنّ دلالته عليه بمقتضى الوضع، فوضع لفظ الإنسان مثلًا للشمول والسريان في أفراده، لكن ذهب سلطان العلماء رحمه الله إلى أنّه ناشٍ من مقدّمات الحكمة وتبعه مشهور المتأخّرين.

وحاصل ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله في المقام عدم صحّة النسبة المذكورة إلى المشهور بل أنّهم أيضاً كانوا يستفيدون الشياع من مقدّمات الحكمة، ولعلّ وجه هذه النسبة ملاحظة تمسّكهم بالإطلاقات مع قطع النظر عن إحراز كون المتكلّم في مقام البيان بينما الوجه في تمسّكهم هذا أنّ الأصل عندهم فيما إذا شكّ في أنّ المتكلّم في مقام بيان تمام المراد أو لا- كونه بصدد بيان تمام المراد، فإنّهم لم يعتبروا هذه المقدّمة اعتماداً على هذا الأصل.

أقول: ويشهد لصحّة هذه النسبة أمران: أحدهما: ما جاء في تعريفهم للمطلق بأنّه ما دلّ على الشياع بنفسه، فالظاهر من كلمة «ما دلّ» أنّ الدالّ على الشياع هو اللفظ كما لا يخفى.

ثانيهما: ما نسب إليهم من أنّ المطلق مجاز فيما إذا استعمل في المقيّد.

انوار الأصول، ج 2، ص: 186

وكيف كان، فالإنصاف في المسألة بطلان ما نسب إليهم وأنّ الصحيح كون الشياع مستفاداً من

مقدّمات الحكمة وذلك لوجهين:

أحدهما: التبادر فإنّ المتبادر من إطلاق اسم الجنس مثل لفظ الإنسان مثلًا صرف الطبيعة مجرّدة عن سريانها في أفرادها، وكذلك في النكرة كقولك «رأيت إنساناً».

ثانيهما: أنّ الوضع يستلزم المجاز فيما إذا استعمل المطلق في المقيّد نحو «جئني برجل عالم» مع أنّه خلاف الوجدان.

وأمّا «مقدّمات الحكمة فما هي؟» فاختلفت كلمات الأصحاب في تعدادها فقيل أنّها أربعة:

أحدها: كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد ثانيها: عدم بيان القيد، ثالثها: عدم الانصراف، رابعها: عدم وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب.

والمحقّق الخراساني رحمه الله جعلها ثلاث مقدّمات بادغام المقدّمة الثالثة في الثانية. بقوله:

«ثانيها انتفاء ما يوجب التعيين» فإنّ الانصراف أيضاً ممّا يوجب التعيين كالقيد كما لا يخفى.

وحذف المحقّق النائيني رحمه الله المقدّمة الأخيرة (وهي عدم وجود القدر المتيقّن) فالمقبول من المقدّمات الأربعة عنده اثنتان: إحديهما: كون المتكلّم في مقام البيان، ثانيهما: انتفاء ما يوجب التعيين، لكنّه أضاف إليهما مقدّمة اخرى وهي أن يكون متعلّق الحكم أو موضوعه قابلًا للتقييد، وهو ناظر فيها إلى التقسيمات اللاحقة عن الأمر كانقسام الواجب إلى ما يقصد به امتثال أمره وما يقصد فيه ذلك وإنقسام المكلّف إلى العالم والجاهل بالحكم، فحيث إنّه لا يمكن مثلًا تقييد متعلّق الأمر بقصد الأمر على رأيه لما هو معروف من إشكال الدور لا يمكن الأخذ بإطلاقه أيضاً.

وهنا مذهب آخر يستفاد من كلمات شيخنا الحائري في الدرر وهو حذف المقدّمة الاولى أيضاً، فاللازم البحث عن كلّ واحد من هذه المقدّمات الخمسة حتّى يعلم ما يصحّ اعتباره وما لا يصحّ.

فنقول: أمّا المقدّمة الاولى: فهي لازمة بالوجدان حيث إن الوجدان أقوى شاهد على عدم صحّة الأخذ بإطلاق كلام المولى إذا لم يكن في مقام بيان تمام المراد، فإذا

قال مثلًا، «اشتر لي ثوباً» أو «اشتر أثاثاً للبيت» فلا يصحّ للعبد أن يشتري من السوق لباساً أو أثاثاً أيّاماً كان ويتمسّك عند الاحتجاج بإطلاق كلامه، نعم إذا شكّ في أنّ المتكلّم هل كان في مقام بيان تمام انوار الأصول، ج 2، ص: 187

المراد أو لا؟ فإنّ الأصل هو كونه بصدد بيان تمام المراد كما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله وغيره، فيكون كونه في مقام الإجمال والإهمال أمراً استثنائياً خلاف الأصل.

لكن شيخنا الحائري رحمه الله خالف في ذلك في درره (بعد قبوله في صدر كلامه) وإليك نصّ بيانه: «أنّ المهملة مردّدة بين المطلق والمقيّد ولا ثالث، ولا إشكال أنّه لو كان المراد المقيّد يكون الإرادة متعلّقة به بالأصالة وإنّما ينسب إلى الطبيعة بالتبع لمكان الاتّحاد، فنقول: لو قال القائل «جئني بالرجل» أو «برجل» يكون ظاهراً في أنّ الإرادة أوّلًا وبالذات متعلّقة بالطبيعة لا أنّ المراد هو المقيّد ثمّ أضاف إرادته إلى الطبيعة لمكان الاتّحاد، وبعد تسليم هذا الظهور تسري الإرادة إلى تمام الأفراد وهذا معنى الإطلاق» «1».

أقول: توضيح كلامه: أنّ الطبيعة المهملة لا تخلو في الواقع من حالتين، فإمّا هي مطلقة، أو مقيّدة لعدم الإهمال في مقام الثبوت، فإن كان المراد في الواقع مطلقاً فهو المطلوب، وإن كان مقيّداً فيستلزم كون تعلّق الحكم والإردة بالمطلق تبعيّاً مع أنّ المولى إذا قال: «اعتق رقبة» ولم يقيّده بقيد المؤمنة فإنّ ظاهره أنّ الإرادة تعلّقت بطبيعة الرقبة استقلالًا، وهذا الظهور يسري إلى تمام الأفراد، وهذا هو معنى الإطلاق.

لكن يرد عليه أمران:

الأوّل: (وهو العمدة)، أنّ حديث الأصالة والتبعيّة في الإرادة يتصوّر في لوازم الماهيّة كالزوجيّة بالنسبة إلى الأربعة فإنّه إذا تعلّقت الإرادة بالأربعة تتعلّق بالزوجيّة تبعاً، ولا يتصوّر في ما

نحن فيه حيث إن طبيعة الرقبة المهملة في المقام متّحدة مع الرقبة المقيّدة بقيد المؤمنة في الخارج فليست إحديهما لازمة للُاخرى كما لا يخفى.

الثاني: ما مرّ من أنّه خلاف الوجدان، فلا يأخذ عبد بإطلاق كلام مولاه إذا لم يكن في مقام البيان.

أمّا المقدّمة الثانية: (وهي عدم بيان القيد) فإنّ لزومها من الواضحات حيث إن المفروض في جواز التمسّك بالإطلاق وعدمه عدم وجود قيد بالنسبة إلى الجهة التي نحاول التمسّك بإطلاق الكلام فيها، ولذلك لم يتكلّم حولها في عباراتهم ولم ينكر اعتبارها أحد.

انوار الأصول، ج 2، ص: 188

أمّا المقدّمة الثالثة: (وهي وجود القابلية للإطلاق والتقييد التي أفادها المحقّق النائيني رحمه الله) فيرد عليها أوّلًا: أنّها ترجع إلى المقدّمة الاولى لأنّ من لم يقدر على التقييد لم يكن في مقام البيان، ولا فرق في عدم جواز التمسّك بالإطلاق بين أن يكون عدم كون المتكلّم في مقام البيان ناشئاً من عدم حضور وقت البيان أو من استلزامه أمراً محالًا كالدور.

ثانياً: قد مرّ في البحث عن التوصّلي والتعبّدي من أنّ التقسيمات اللاحقة تكون كالتقسيمات السابقة لأنّها وإن كان وجودها لاحقاً عن وجود المتعلّق إلّاأنّه يمكن تصوّرها سابقاً وأخذها في المتعلّق فنقول: «صلّ مع قصد أمرها» وتمام الكلام في محلّه.

فظهر أنّ المقدّمة الثالثة على حدّها ليست مقدّمة بل إنّها ترجع حقيقة إلى المقدّمة الاولى، نعم ينبغي التنبيه بها والتوجّه إليها على فرض وجود مصداق لها.

أمّا المقدّمة الرابعة: (وهي عدم الانصراف) فنقول في توضيحها: أنّ الانصراف هو أن توجد من ناحية كثرة الاستعمال بين لفظ ومعنى علاقة في الأذهان بحيث توجب انسباق ذلك المعنى من اللفظ حين إطلاقه، وليس المراد منه صيرورة اللفظ حقيقة ثانويّة في ذلك المعنى، وهو نظير انصراف كلمة

«أهل العلم» في يومنها هذا إلى العالم الديني مع أنّ غيره أيضاً من أهل العلم.

وهو على خمسة أنواع: أحدها: الانصراف البدوي وهو يزول بالتأمّل، مثل أن يقال: «من المفطّرات الأكل والشرب» الذي ينصرف إلى الأغذيّة والمشروبات المتعارفة، لكنّه بدوي لا اعتبار به، ولذا أفتى الأصحاب بحصول الإفطار بالمأكولات غير المتعارفة كأوراق الأشجار.

ثانيها: الانصراف الذي منشأه كثرة الاستعمال وهو لا يزول بالتأمّل كالمثال المتقدّم وهو أهل العلم الذي ينصرف إلى العالم الديني لكثرة استعماله فيه.

ثالثها: الانصراف إلى الفرد الأكمل من أفراد الماهيّة المشكّكة نحو ما مرّ في البحث عن مفهوم الشرط من انصراف العلّية المستفادة من أداة الشرط إلى العلّية المنحصرة لكونها أكمل أفراد العلّية، ولكن هذا الانصراف غير ثابت بل حيث إن الفرد الأكمل يكون نادراً لا ينصرف إليه اللفظ قطعاً.

رابعها: الانصراف إلى القدر المتيقّن وهذا أيضاً غير ثابت.

خامسها: الانصراف الحاصل من كثرة الاستعمال حيث يكون المعنى السابق مهجوراً

انوار الأصول، ج 2، ص: 189

وصار اللفظ حقيقة في المنصرف إليه.

هذا- والإنصاف أنّ الانصراف ينقسم في الواقع إلى قسمين بدوي وثابت مستمرّ، والانصراف البدوي هو ما يزول بالتأمّل، والثابت ما لا يزول به وأمّا هذه الأقسام الخمسة فالخامس منها خارج عن ما نحن فيه لصيرورة اللفظ فيه حقيقة في المعنى الجديد، وأمّا الباقي ففي الحقيقة بيان لمنشأ الانصراف.

إذا عرفت هذا فنقول: والذي عدّ من مقدّمات الحكمة هو عدم الانصراف بالمعنى الثاني، أي عدم الانصراف الثابت، لكنّ الحقّ أنّ هذه المقدّمة أيضاً ترجع حقيقة إلى المقدّمة الثانية، وهي انتفاء ما يوجب التعيين حيث إن الانصراف هو ممّا يوجب تعيين المعنى كما لا يخفى.

أمّا المقدّمة الخامسة: (وهي انتفاء القد المتيقّن في مقام التخاطب) فحاصل بيان المحقّق الخراساني رحمه الله فيها:

أنّه إذا كان المتيقّن تمام مراد المولى وهو لم يذكر القيد اعتماداً على ذلك المتيقّن لم يخلُ بغرضه.

والتحقيق في المسألة: أنّ القدر المتيقّن على قسمين: تارةً يكون المتيقّن متيقّناً بحسب مقام التخاطب، واخرى بحسب الخارج، فالقسم الأوّل مثل أن يسأل العبد من مولاه: «هل أكرم النحويين؟» وأجاب المولى بقوله: «أكرم العالم» فلا ريب في أنّ النحويين بقرينة ذلك السؤال هو القدر المتيقّن في مقام التخاطب، بينما القدر المتيقّن بحسب الخارج هو الفقهاء والمجتهدين مثلًا للقطع بوجود الملاك فيهم، فالميزان في القدر المتيقّن بحسب مقام التخاطب هو وجود سؤال أو قرينة يكون بمنزلة شأن نزول كلام المولى، والميزان في القدر المتيقّن بحسب الخارج القطع بوجود الملاك.

وكيف كان، فإنّ المختار في المقام هو عدم اعتبار هذه المقدّمة كما صرّح به جماعة من الأعلام أيضاً.

ويدلّ عليه وجوه ثلاثة: أحدها: استلزامها عدم إمكان التمسّك بكثير من الإطلاقات الواردة في الكتاب والسنّة مع أنّ السيرة العمليّة للفقهاء والمتشرّعين قامت على خلافه فإنّهم لا يعتنون بشأن نزول الآيات ومورد السؤال في الرّوايات إذا كان الجواب مطلقاً.

ثانيها: أنّ وجود القدر المتيقّن ليس من قبيل القيود الإحترازيّة التي يأخذها المتكلّم في كلامه ويكون لها لسان إثبات ولسان نفي، إثبات الحكم لنفسها ونفي الحكم عن غيرها، بل انوار الأصول، ج 2، ص: 190

غاية ما يستفاد من وجوده ثبوت الحكم بالنسبة إلى نفسه، وأمّا عدم ثبوته بالنسبة إلى غيره فهو ساكت عنه وغير مفيد له، وحينئذٍ لا مانع من التمسّك بالإطلاق وإسراء الحكم إلى ذلك الغير، وإلّا يلزم إهمال المولى بالنسبة إلى غير القدر المتيقّن وسكوته عن بيان حكمه، مع أنّ المفروض أنّه في مقام بيان تمام المراد.

ثالثها: أنّه لو كان المتيقّن مزاحماً للأخذ بالإطلاق فما

هو الفرق بين المتيقّن بحسب التخاطب والمتيقّن بحسب الخارج؟ مع أنّ ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله في مقام إثبات اعتبار هذه المقدّمة (وهو أنّ المولى لم يخلّ بغرضه إذا لم يبيّن القيد اعتماداً على القدر المتيقّن) جارٍ في القسم الثاني أيضاً وهو يستلزم عدم جواز التمسّك بالإطلاق في ما إذا وجد في البين قدر متيقّن بحسب الخارج أيضاً مع أنّ هذا ممّا لا يلتزم به الخصم.

إلى هنا ثبت أنّ المعتبر في الأخذ بالإطلاق بين المقدّمات الخمسة مقدّمتان: إحديهما: كون المتكلّم في مقام البيان، وثانيهما: انتفاء ما يوجب التعيين.

تنبيهات

الأوّل: في نتيجة مقدّمات الحكمة؟

ذهب المشهور إلى أنّ نتيجتها السريان والشمول فكأنّ المولى أطلق كلامه بعد أن لاحظ القيود إجمالًا، ويسمّى هذا الإطلاق بالإطلاق اللحاظي، وسيأتي الفرق بينه وبين العموم إن شاء اللَّه تعالى.

لكن خالف في ذلك بعض الأعاظم وقال: «لا يستفاد السريان من المطلق ولو بعد جريان مقدّمات الحكمة، بل الإطلاق ليس إلّاالإرسال عن القيد وعدم دخالة القيد وهو غير السريان والشيوع» وقال في موضع آخر من كلماته: «هذا كلّه على المختار في باب الإطلاق من عدم كون الطبيعة مرآة للأفراد ولا وسيلة إلى لحاظ الخصوصيّات وحالاتها وعوارضها» «1»، وقد اعتمد على هذا المبنى وبنى عليه في مسائل عديدة، منها مبحث الترتّب المتقدّم ذكره.

انوار الأصول، ج 2، ص: 191

أقول: إنّا نسأل: هل المولى الذي يكون في مقام البيان ويجعل مفهوم المطلق متعلّق حكمه، يلاحظ ويتصوّر الحالات والعوارض الفرديّة وينظر إليها أو لا؟ فإن قلتم أنّه لم يلاحظها ولو إجمالًا، قلنا: بأنّ هذا خلاف معنى الإطلاق وهو عدم دخالة القيد ومخالف لكون المولى في مقام البيان حيث إن عدم جعل القيد دخيلًا مع كونه في مقام البيان معناه أنّه نظر إلى

القيود ولو إجمالًا فلم يرها دخيلة في مقصوده وقال «اعتق الرقبة» مثلًا، وإن قلتم أنّه نظر إليها ولاحظها ثمّ حكم بعدم دخالتها فليس هذا إلّاالسريان وأنّ المطلق شامل لجميع الأفراد بعد إجراء مقدّمات الحكمة.

والحاصل أنّ كون المطلق تمام المطلوب لا يمكن إلّابعد لحاظ سائر القيود ولو إجمالًا ونفى دخالتها فإنّ هذا هو المفهوم من لفظ تمام المراد فإنّ مفهومه أنّ المطلوب هو هذا لا غير، وهذا أمر ظاهر.

الثاني: ما الفرق بين العام والمطلق؟

(لا سيّما على المختار من أنّ المطلق أيضاً يدلّ على الشمول بدليّاً كان أو استغراقياً).

إنّ الشمول في المطلق يستفاد من مقدّمات الحكمة بينما في العام يستفاد من وضع اللفظ، ولا يخفى أنّ هذا الفرق مبنيّ على المختار وهو دلالة المطلق أيضاً على الشمول، وإلّا فإن قلنا بدلالته على الطبيعة المرسلة فقط فالفرق أوضح، حيث إن العام يدلّ على الشمول وهو لا يدلّ عليه.

نعم، يبقى الكلام في ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله وجماعة من أنّ استفادة العموم من العام أيضاً يتوقّف على إجراء مقدّمات الحكمة في مدخوله فحينئذٍ يشكل الفرق بينهما.

الثالث: فيما إذا شكّ في أنّ المولى هل هو في مقام البيان أو لا؟

فما هو مقتضى الأصل والقاعدة الأوّليّة؟

نقول: إنّ مقتضى الأصل اللفظي العقلائي كونه في مقام البيان ويؤيّده السيرة المستمرّة للفقهاء والمجتهدين في التمسّك بالإطلاقات والعمومات مطلقاً إلّافيما إذا أحرز كونه في مقام الإجمال والإهمال فإنّهم مع فقد هذا الإحراز يأخذون بالإطلاق كما تشهد به سيرتهم العمليّة في أبواب الفقه.

انوار الأصول، ج 2، ص: 192

ثمّ ليعلم أنّه قد يكون المولى في مقام البيان من جهة ولا يكون في مقام البيان من جهة اخرى، كما إذا سئل السائل مثلًا عن الإمام عليه السلام ب «أنّ لي أربعين شاة هل فيها زكاة؟» فأجاب:

«في أربعين شاة زكاة» فإنّه عليه السلام في هذا البيان إنّما يكون في مقام بيان أصل النصاب فقط وليس في مقام بيان مقدار الزّكاة كما لا يخفى، فلا يمكن الأخذ بإطلاقه من هذه الجهة، ومن هنا يظهر أنّ الإطلاق والتقييد أمران إضافيان.

الرابع: في أنّ المراد من عدم البيان في ما نحن فيه هو عدم البيان في زمان التخاطب لا عدم البيان إلى الأبد

فإذا كتب المولى مثلًا في رسالة إلى العبد: «اشتر لي قرآناً وأرسله إليّ» وأطلقها ولم يبيّن خصوصيّة للقرآن، فلا ينتظر العبد إرسال رسالة اخرى يبيّن فيها دخالة قيد خاصّ أو عدمها، بل يأخذ بإطلاقها، وكذلك إذا صدرت منه هذه الجملة في مجلس من دون أن يبيّن في ذلك المجلس وذلك المقام- وهو مقام التخاطب- قيداً خاصّاً.

إن قلت: لو ظفرنا بعد ذلك بالقيد كما إذا صدر المطلق من جانب الرسول صلى الله عليه و آله (مثلًا) والقيد من أحد الأئمّة عليهم السلام فهل يستكشف منه عدم كونه صلى الله عليه و آله، في مقام البيان وإنّا قد أخطأنا، أو نلتزم بأنّه صلى الله عليه و آله أخّر البيان عن وقت الحاجة، أو لا هذا ولا ذاك بل نقول إنّما كان في مقام بيان الحكم الظاهري، وبيّن الإمام

عليه السلام القيد بعنوان الحكم الواقعي والتصرّف في الإرادة الجدّية فقط؟

قلنا: الصحيح هو الوجه الثالث لما مرّ في مبحث العام والخاصّ من أنّ مقتضى مصلحة تدريجية الأحكام كون العمومات من قبيل ضرب القانون ووضع القاعدة، ليعمل بها حتّى يرد المخصّص.

الخامس: في اختلاف نتيجة مقدّمات الحكمة

قد تكون نتيجتها الشمول البدلي، فمفادها حينئذٍ مفاد كلمة أي، نحو «جئني برجل» فإنّ معناه «جئني بأي رجل» وقد تكون الشمول الاستغراقي نحو «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» وهو الغالب في الأحكام الوضعيّة نظير «الماء إذا بلغ قدر كرّ فلم ينجّسه شي ء» و «الأرض يطهّر بعضها بعضاً». وأمّا العموم المجموعي، فالظاهر أنّه لا يمكن استفادته إلّاإذا قامت قرينة على إرادة المجموع من حيث المجموع.

انوار الأصول، ج 2، ص: 193

ثمّ إنّه ربّما يتوهّم أنّه قد يكون المستفاد من مقدّمات الحكمة الفرد بدلًا عن الشمول والسريان، وهذا مثل ما مرّ في أبواب الأوامر من أنّ مقتضى إطلاق الأمر الوجوب النفسي التعييني العيني.

أقول: لكن الحقّ أنّ كلّ واحد منها مدلول التزامي للأمثلة المذكورة، أي أنّ مقتضى مقدّمات الحكمة والمدلول المطابقي لها حقيقة في مثال «صلّ صلاة الظهر يوم الجمعة» مثلًا شمول الوجوب لحالتي إتيان صلاة الجمعة وعدمه، ولازمه الوجوب التعييني كما يظهر بالتأمّل، وهكذا بالنسبة إلى الوجوب النفسي والوجوب العيني، ففي كلّ منهما يكون الإطلاق كسائر المقامات، وإنّما تكون النفسية والعينية من لوازمه لا أنّهما مدلولان مطابقيان للإطلاق.

المقام الرابع: فيما إذا ورد مطلق ومقيّد
اشارة

وفيه ثلاث حالات: الاولى: أن يكون الدليلان مختلفين في النفي والإثبات، نحو «اعتق رقبة» و «لا تعتق رقبة كافرة» فلا شكّ في لزوم التقييد فيها لأنّ المطلق ليس ظهوره في الإطلاق أقوى من ظهورالعام في العموم، فكما أنّ العام يخصّص الدليل الخاصّ بلا إشكال، كذلك المطلق يقيّد بالدليل المقيّد، بل التقييد هنا أولى من التخصيص هناك لأنّ ظهور المطلق في الإطلاق مستفاد من مقدّمات الحكمة، وأمّا الظهور في العام فهو مستفاد من الوضع، ولا إشكال في أنّ رفع اليد عن الظهور الإطلاقي أخفّ وأسهل من رفع اليد عن الظهور الوضعي.

أضف إلى ذلك ما

مرّ في العام والخاصّ من أنّ ورود الخاصّ بعد العام يعدّ نحو تناقض عند العرف بخلاف المقيّد، فإنّ العرف لا يرى تناقضاً بين «اعتق رقبة» مثلًا و «لا تعتق الرقبة الكافرة» كما لا يخفى.

الثانية: أن يكونا مثبتين أو منفيين مع عدم إحراز وحدة الحكم فيهما فيكون الظاهر حينئذٍ التعدّد إمّا لأجل تعدّد الشرط مثلًا نحو «إن ظاهرت فاعتق رقبة» و «إن أفطرت فاعتق رقبة مؤمنة» أو لعدم المنافاة بين الحكمين نحو «أكرم العالم» و «أكرم العالم الهاشمي»، وفي هذه الصورة أيضاً لا إشكال في عدم التقييد.

الثالثة: نفس الحالة الثانية مع إحراز وحدة الحكم نحو «إن ظاهرت فاعتق رقبة» و «إن انوار الأصول، ج 2، ص: 194

ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة» أو «صلّ صلاة الظهر» و «صلّ صلاة الظهر إخفاتاً»، والمشهور في هذه الحالة التقييد كما عليه سيرة الفقهاء في الفقه، واستدلّ له بثلاثة وجوه:

الأوّل: أنّ الجمع مهما أمكن أولى من الطرح، وهو في المقام يحصل بالتقييد.

لكن يرد عليه: أنّه لا دليل لنا على ثبوت هذه القاعدة في جميع الموارد فليس الجمع أولى من الطرح حتّى فيما إذا كان الجمع جمعاً تبرئياً غير عرفي، بل الأولويّة ثابتة في باب تزاحم الملاكات، فإذا ثبت هناك ملاكان لحكمين فمهما أمكن الجمع بين هاتين المصلحتين كان أولى.

الثاني: أنّ الدليل المقيّد وارد على الدليل المطلق ورافع لموضوعه، وذلك لأنّ إحدى مقدّمات الحكمة في المطلق هي عدم البيان، والمقيّد يكون بياناً.

لكنّه أيضاً ممنوع لمامرّ سابقاً من أنّ المراد من عدم البيان في مقدّمات الحكمة هو عدم البيان في مقام التخاطب لا عدم البيان إلى الأبد، وإلّا يلزم الخروج عن فرض المسألة حيث إن المفروض في المقام ما إذا ورد مطلق ومقيّد، أي بعد

أن تمّ الإطلاق في دليل المطلق، وهذا يتمّ بعد تمام مقدّمات الحكمة التي منها عدم بيان القيد في مقام التخاطب.

الثالث: (وهو الصحيح في المقام) أن نقول: بأنّ الجمع هنا جمع دلالي عرفي، وبيانه: أنّ هنا ظهورات ثلاثة متعارضة ظهورين في جانب المطلق وظهوراً في جانب المقيّد، أمّا الظهوران في جانب المطلق فأحدهما: ظهوره في كون المولى في مقام البيان، والثاني: ظهوره في تطابق الإرادة الجدّية مع الإرادة الاستعماليّة، وأمّا الظهور في جانب المقيّد فهو ظهوره في كون المطلوب مقيّداً، فيدور الأمر حينئذٍ بين التصرّف في أحد الظهورين في جانب المطلق وبين التصرّف في ظهور المقيّد وحمله على الاستحباب مثلًا، والإنصاف أنّ ظهور المقيّد أقوى منهما، فلا بدّ أن نرفع اليد من الظهور الأوّل في المطلق ونحكم بأنّ المولى لم يكن في مقام البيان، وحينئذٍ لا تصل النوبة إلى الظهور الثاني كما لا يخفى، أو نرفع اليد من الظهور الثاني ونحكم بعدم جدّية الإرادة في غير المقيّد.

نعم، هذا إذا كان المورد من الواجبات، وأمّا إذا كان من المستحبّات فسيأتي حكمه إن شاء اللَّه تعالى من أنّها محمولة على مراتب الفضل.

هذا تمام الكلام في الصور المتصوّرة بعد ورود المطلق والمقيّد.

انوار الأصول، ج 2، ص: 195

تنبيهات التنبيه الأوّل: أنّه من أين ثبت صغرى الكبرى المذكورة في الصورة الثانية؟ والثالثة أي من أين يحرز وحدة الحكم وتعدّده؟ فنقول: يمكن استفادة الوحدة من عدّة قرائن:

منها: أن تكون الحكمين معلّقين على شرط واحد، نحو «إن ظاهرت فاعتق رقبة» و «إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة».

ومنها: الإجماع كما أنّه ثابت في مثال صلاة الظهر المتقدّم.

ومنها: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله وهو مبني على امور ثلاثة نذكرها ملخّصاً:

الأوّل: أن يكون الحكم في كلّ من

المطلق والمقيّد مرسلًا أو معلّقاً على شي ء واحد.

الثاني: أن يكون كلّ من التكليفين إلزامياً وإلّا لم يكن موجب لرفع اليد عن إطلاق المطلق بحمله على المقيّد منهما، والوجه في ذلك هو أنّه إذا كان الحكم المتعلّق بالمقيّد غير إلزامي جاز مخالفته فلا يكون منافاة حينئذٍ بينه وبين إطلاق متعلّق الحكم الآخر.

الثالث: أن يكون متعلّق كلّ من الخطابين صرف الوجود الذي ينطبق قهراً على أوّل وجود ناقض للعدم «1».

وحاصل الكلام في الأمر الثالث أنّه إذا كان مطلوب المولى صرف الوجود للرقبة مثلًا أي رقبة كانت، ثمّ كان مطلوبه أيضاً الرقبة المؤمنة، فلا مناصّ حينئذٍ من التقييد كما هو ظاهر.

التنبيه الثاني: (وهو كثير الابتلاء في الفقه) في أنّ المشهور أنّ المطلق الوارد في المستحبّات لا يحمل على المقيّد بل الدليل المقيّد يحمل على سلسلة مراتب المحبوبيّة وتعدّد المطلوب، نحو ما إذا ورد مثلًا دليل على استحباب قراءة القرآن مطلقاً، وورد دليل آخر على استحباب قراءته مع الطهارة، ودليل ثالث على استحباب قراءته بالترتيل أو مستقبل القبلة، أو ورد في باب صلاة الليل روايات تدلّ على استحبابها ووردت أيضاً رواية تأمر بإتيانها في الثلث الآخر من الليل، ورواية اخرى تأمر بالقنوت في صلاة الوتر أوّلًا وبالدعاء لأربعين مؤمناً ثانياً وبالاستغفار سبعين مرّة وطلب العفو ثلاثمائة مرّة ثالثاً، ونحوه أيضاً أنّه وردت روايات تدلّ على استحباب زيارة الحسين عليه السلام ثمّ وردت روايات تدلّ على إستحبابها في خصوص ليلة

انوار الأصول، ج 2، ص: 196

الجمعة أو يوم عرفة، إلى غير ذلك من المطلقات والمقيّدات التي وردت في أبواب المستحبّات فإنّ المشهور كما مرّ حملها على تعدّد المطلوب وبيان سلسلة مراتب المطلوبيّة والفضل، إلّاإذا قام دليل خاصّ على التقييد، فالقاعدة الأوّليّة والأصل

الأوّلي عندهم في المستحبّات عدم التقييد.

واستدلّ عليه أوّلًا: بما أشار إليه في الكفاية بقوله: «أو أنّه كان بملاحظة التسامح في أدلّة المستحبّات وكان عدم رفع اليد من دليل استحباب المطلق بعد مجي ء دليل المقيّد وحمله على تأكّد استحبابه من التسامح فيها».

إلّا أنّ الإنصاف أنّه غير تامّ، لأنّ التسامح في أدلّة السنن ليس إلّاعبارة عن العمل بأخبار من بلغ في المستحبّات ولا إشكال في أنّها ناظرة إلى ضعف السند على القول به لا الدلالة (كما يأتي في محلّه) والمقام في ما نحن فيه مقام الدلالة كما لا يخفى.

وثانياً: (وهو الحقّ الصحيح) ما أشار إليه المحقّق الخراساني رحمه الله أيضاً، وحاصله مع توضيح منّا: أنّ الغالب في باب المستحبّات أن يكون القيد لأجل التأكيد ومزيد المحبوبيّة لا لأجل الإحتراز والدخول في أصل المطلوبيّة كي يحمل المطلق على المقيّد، وهذه الغلبة توجب ظهور الأوامر فيها في تعدّد المطلوب وتفاوت الافراد بحسب مراتب المحبوبيّة والفضل.

وأورد عليه في المحاضرات بأنّ «مجرّد الغلبة لا يوجب ذلك بعد ما افترض أنّ دليل المقيّد قرينة عرفيّة على تعيين المراد من المطلق، ضرورة أنّ الغلبة ليست على نحو تمنع عن ظهور دليل المقيّد في ذلك» «1».

لكنّه يردّ: بأنّ الغلبة على قسمين: تارةً يكون المقصود منها ما يقابل الشاذّ والنادر، واخرى ما يقابل الأغلب فإن كانت من قبيل الثاني (كما هي كذلك في باب صيغة الأمر) فلا تمنع عن الظهور فإنّ غلبة استعمال صيغة الأمر في الندب مثلًا لا تمنع عن ظهورها في الوجوب، وإن كانت من قبيل الأوّل كما في المقام (حيث إن ورود القيد لأجل الإحتراز والتقييد في باب المستحبّات يكون شاذّاً بالنسبة إلى تعدّد المطلوب) فلا إشكال في منعها حينئذٍ عن ظهور

دليل القيد في التقييد، وبالجملة أنّ غلبة استعمال المطلق والمقيّد في باب المستحبّات في تعدّد

انوار الأصول، ج 2، ص: 197

المطلوب توجب ظهور الأوامر فيها في تعدّد المطلوب، هذا أوّلًا.

وثانياً: سلّمنا ظهورها في وحدة المطلوب لكنّها في التعدّد أقوى وأظهر.

ثمّ إنّ هنا تفصيلًا ذهب إليه في المحاضرات و «هو أنّ الدليل الدالّ على التقييد يتصوّر على وجوه أربعة لا خامس لها:

الأوّل: أن يكون ذات مفهوم بمعنى أن يكون لسانه لسان القضيّة الشرطيّة كما إذا إفترض أنّه ورد في دليل أنّ صلاة الليل مستحبّة وورد في دليل آخر أنّ استحبابها فيما إذا كان المكلّف آتياً بها بعد نصف الليل، ففي مثل ذلك لا مناصّ من حمل المطلق على المقيّد عرفاً، نظراً إلى أنّ دليل المقيّد ينفي الاستحباب في غير هذا الوقت من جهة دلالته على المفهوم.

الثاني: أن يكون دليل المقيّد مخالفاً لدليل المطلق في الحكم، فإذا دلّ دليل على استحباب الإقامة مثلًا في الصّلاة، ثمّ ورد في دليل آخر النهي عنها في مواضع كالإقامة في حال الحدث أو حال الجلوس أو ما شاكل ذلك، ففي مثل ذلك لا مناصّ من حمل المطلق على المقيّد، والوجه فيه ما ذكرناه غير مرّة من أنّ النواهي الواردة في باب العبادات والمعاملات ظاهرة في الإرشاد إلى المانعية.

الثالث: أن يكون الأمر في دليل المقيّد متعلّقاً بنفس التقييد لا بالقيد كما إذا إفترض أنّه ورد في دليل أنّ الإقامة في الصّلاة مستحبّة وورد في دليل آخر: فلتكن في حال القيام أو في حال الطهارة، فالكلام فيه هو الكلام في القسم الثاني، حيث إن الأمر في قوله: «فلتكن» ظاهر في الإرشاد إلى شرطيّة الطهارة أو القيام لها، ولا فرق من هذه الناحية بين كون الإقامة

مستحبّة أو واجبة.

فما هو المشهور من أنّه لا يحمل المطلق على المقيّد في باب المستحبّات لا أصل له في الأقسام الثلاثة.

الرابع: أن يتعلّق الأمر في دليل المقيّد بالقيد بما هو كما هو الغالب في باب المستحبّات، مثلًا ورد في استحباب زيارة الحسين عليه السلام مطلقات وورد في دليل آخر استحباب زيارته عليه السلام في أوقات خاصّة كليالي الجمعة وأوّل ونصف رجب ونصف شعبان وليالي القدر وهكذا، ففي مثل ذلك الظاهر أنّه لا يحمل عليه لعدم التنافي بينهما بعد فرض عدم إلزام المكلّف بالإتيان بالمقيّد بل لابدّ من حمله على تأكيد الاستحباب وكونه الأفضل، بخلاف باب الواجبات انوار الأصول، ج 2، ص: 198

لوجود التنافي فيها بين دليل المطلق والمقيّد حيث إن مقتضى إطلاق المطلق ترخيص المكليف في تطبيقه على أي فرد من أفراده شاء في مقام الامتثال وهو لا يجتمع مع كونه ملزماً بالإتيان بالمقيّد» «1».

أقول: لكن الإنصاف أنّ نطاق مقال المشهور أوسع من القسم الأخير في كلامه فإنّه يشمل سائر الأقسام ما عدى القسم الأوّل الذي هو خارج عن محلّ الكلام للتصريح بعدم الصحّة فيه، وأمّا ظهور الأوامر في الإرشاد إلى الشرطيّة والنواهي في المانعية إنّما هو مسلّم في الواجبات وأمّا في أبواب المستحبّات فهو ممنوع كما عرفت من غلبة كون القيود فيها ناظرة إلى تعدّد مراتب الفضل فلا وجه للتفصيل في المقام.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّه إذا ورد المطلق والمقيّد في دليل واحد نحو «اقرأ القرآن مع الطهارة» فهل يحملان أيضاً على تعدّد المطلوب بأن نجعلهما نظير ما إذا ورد كلّ من المطلق والمقيّد في دليل مستقلّ أو لا؟ وهذا ممّا لم يتعرّض له في كلماتهم، ولكن الظاهر عدم الحمل على مراتب الفضل لأنّ ما بيّناه

سابقاً من ظهور القيد في تعدّد المطلوب جارٍ فيما إذا كان هناك مقيّد ومطلق ظاهر في إطلاقه مع أنّ في هذا الفرض لا يحصل للمطلق ظهور في إطلاقه من جهة إتّصال القيد به بل هو ظاهر في وحدة المطلوب، ولا أقلّ من إجماله، ونتيجته الأخذ بالمقيّد لأنّه هو القدر المتيقّن.

التنبيه الثالث: أنّ ما ذكرنا من حمل المطلق على المقيّد في باب الواجبات أو المحرّمات إنّما هو فيما إذا لم يكن من باب مفهوم الوصف وإلّا فلا كلام ولا إشكال في لزوم حمل المطلق على المقيّد حينئذٍ لأنّه يرجع حقيقة إلى الصورة الاولى في المسألة، أي ما إذا كان المطلق والمقيّد متخالفين الذي قد مرّ حكمه وهو لزوم التقييد بلا إشكال.

التنبيه الرابع: أنّ ما مرّ كان مختصّاً بما إذا كان المطلق والمقيّد من الأحكام التكليفية، فما هو الحكم في الأحكام الوضعية كما إذا ورد دليل يقول «أحلّ اللَّه البيع» وورد دليل آخر يقول:

«نهى النبي عن بيع الغرر»؟

انوار الأصول، ج 2، ص: 199

الحقّ أنّ في المسألة صوراً:

الصورة الاولى: ما إذا كان المطلق والمقيّد متخالفين في الإثبات والنفي نظير ما مرّ من المثال آنفاً، فحكمها واضح، ولا إشكال في لزوم الجمع بينهما بالتقييد كما مرّ في الأحكام التكليفية.

الصورة الثانية: ما إذا كانا مثبتين أو منفيين وهي بنفسها على صورتين:

تارةً يكون القيد في المقيّد إحترازيّاً، وبتعبير آخر: يكون للتقيّد مفهوم مثل قوله تعالى:

«وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ» في قبال قوله تعالى:

«أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» حيث إن القيد في الأوّل في مقام الإحتراز، فلا إشكال أيضاً في التقييد كما مرّ في التنبيه السابق أنّهما يرجعان إلى المتخالفين.

واخرى لا يكون القيد في مقام الإحتراز ولا يكون له

مفهوم كما إذا ورد دليل يقول: «أحلّ اللَّه البيع بالصيغة العربيّة» وفرضنا عدم كون المقام فيه مقام الإحتراز، في قبال دليل حلّية بيع المعاطاة، ففي هذه الصورة قال المحقّق الخراساني رحمه الله: «إذا علم أنّ مراده إمّا البيع على إطلاقه أو البيع الخاصّ فلا بدّ من التقييد لو كان ظهور دليله في دخل القيد أقوى من ظهور دليل الإطلاق فيه كما هو ليس ببعيد، ضرورة تعارف ذكر المطلق وإرادة المقيّد (بخلاف العكس) بالغاء القيد وحمله على أنّه غالبي أو على وجه آخر» (مثل إن كان القيد مورداً لابتلاء المكلّف).

أقول: إنّ مقصوده من قوله: «أمّا البيع على إطلاقه أو البيع الخاصّ» وحدة المطلوب (كما أشار إليه بعض المحشّين على الكفاية) أي إذا أحرز وحدة المطلوب فلا بدّ من التقييد، وهو ممّا لا إشكال فيه ثبوتاً، لكن المهمّ هنا مقام الإثبات وأنّه من أي طريق يمكن إحراز وحدة الحكم كما كنّا نفهمها في الأحكام التكليفية من تعلّق الطلب بصرف الوجود، بل يمكن أن يكون النظر فيها إلى جميع الأفراد، نحو قوله عليه السلام: «الدم نجس» وقوله تعالى: «حَرَّمَ الرِّبَا» و «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» وقوله عليه السلام: «إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي ء» فإنّ الحكم فيها (كما لا يخفى) تعلّق بأي دم وأي قسم من الربا وأي نوع من الماء أو البيع، أي أنّ الشمول فيها استغراقي لا بدلي كما أنّ الطريقين الآخرين المذكورين في الأحكام التكليفيّة (وهما إحراز الوحدة من طريق الإماع ووحدة الشرط) أيضاً لا يوجد لهما مصداق في مثل هذه الموارد أصلًا، فحينئذٍ ينحصر الدليل على إحراز وحدة الحكم بكون القيد ظاهراً في الإحتراز، أو قيام دليل آخر على كون القيد ممّا

انوار الأصول،

ج 2، ص: 200

يكون له مفهوم، وإلّا فإنّ مجرّد حلّية البيع على إطلاقه مثلًا وحلّية بيع المعاطاة لا منافاة بينهما.

الكلام في المجمل والمبيّن

ولابدّ فيه من ذكر مقدّمات قبل الورود في أصل الكلام:

المقدّمة الاولى: في أنّه ما هو المراد بالمجمل والمبيّن؟ وما تعريفهما؟

الظاهر أنّ المجمل (وفي مقابله المبيّن) على معناه اللغوي وأنّه ليس له اصطلاح خاصّ في الاصول، وله في اللغة أصلان لكلّ واحد معنى على حدة:

أحدهما: جَمَلَ يجمل (كنصر ينصر) جملًا الشي ء إذا جمعه، وهو في الكلام إذا جمعه من غير تفصيل، ومنه الجملة وجمعه الجُمَل بمعنى الجماعة.

الثاني: جَمُلَ يَجمل (كشرف يشرف) جمالًا، بمعنى الحسن، وصرّح بعض النحويين أنّه أعمّ من الحسن الظاهري والحسن الباطني.

هذا- ويحتمل رجوع المعنيين إلى معنى واحد، لأنّ الجمال أيضاً يطلق على الإنسان إذا إجتمعت فيه أسباب الحسن.

المقدّمة الثانية: أنّهما (كالإطلاق والتقييد) أمران إضافيان نحو هيئة الأمر، فإنّها مبيّنة من حيث دلالتها على الوجوب، وهي في نفس الوقت يمكن أن تكون مجملة من حيث الفور والتراخي، لكنّ المحقّق الخراساني رحمه الله قال في المقام: «ثمّ لا يخفى أنّهما وصفان إضافيان ربّما يكون مجملًا عند واحد لعدم معرفته بالوضع أو لتصادم ظهوره بما حفّ به لديه، ومبيّناً لدى الآخر لمعرفته وعدم التصادم بنظره».

أقول: إنّ هذا خلط بين مقام الثبوت والإثبات، والبحث في ما نحن فيه بحث في مقام الثبوت والواقع من دون النظر إلى علم الأشخاص وجهلهم وإلّا يستلزم أن تكون جميع الألفاظ للغة خاصّة مجملة بالإضافة إلى الجاهل بتلك اللغة، مع أنّ المقصود من الإجمال هو الإجمال بعد فرض التعلّم والرجوع إلى اللغة.

وإن شئت قلت: أنّهما إضافيّان في الواقع ونفس الأمر لا عندنا نظير قولك: «أكرم العلماء إلّا زيداً» إذا كان لفظ زيد مشتركاً

بين زيد بن عمرو وزيد بن بكر فإنّ هذا الكلام مجمل انوار الأصول، ج 2، ص: 201

بالنسبة إلى المستثنى (وهو زيد) إذا لم ينصب فيه قرينة، كما هو المفروض ولو عند العالم بوضعه المشترك، ومبيّن بالنسبة إلى المستثنى منه وهو العلماء، وهذا بعينه نظير الصغير والكبير الذين هما أمران إضافيان مع صرف النظر عن جهل الأشخاص وعلمهم، فإنّ من له عشرون سنة مثلًا صغير بالنسبة إلى من له ثلاثون سنة، وكبير بالنسبة إلى من له عشر سنوات، وبالجملة أنّ المعيار في المقام ليس هو جهل الأشخاص وعلمهم بل الميزان ذات اللفظ وطبعه الأوّلي من دون أن ينصب له قرينة.

المقدّمة الثالثة: أنّ الإجمال تارةً يكون في الهيئة واخرى في المادّة، والأوّل كإجمال فعل المضارع بالإضافة إلى زمان الحال والاستقبال مع فقد القرينة، والثاني كإجمال لفظ القرء، حيث إن المعروف فيه إجماله بين الطهر والحيض.

ثمّ إنّ منشأ الإجمال تارةً يكون الاشتراك اللفظي واخرى كون الكلام محفوفاً بما يصلح للقرينية أو متّصلًا بلفظ مجمل يسري إجماله إليه نحو «أكرم العلماء إلّابعضهم».

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه لا إشكال في حجّية المبيّن لأنّه إمّا نصّ أو ظاهر وكلاهما حجّتان، كما لا إشكال في عدم حجّية المجمل إلّاإذا نصبت قرينة عقليّة أو حاليّة أو مقاليّة توجب خروجه من الإجمال وهذا واضح.

إنّما الكلام في موارد من الآيات والرّوايات التي وقع البحث عنها في كلمات القوم في أنّها هل هي مجملة أو مبيّنة؟ وترك البحث عنه المحقّق الخراساني رحمه الله ومن تبعه ولكن ذكر صاحب الفصول رحمه الله عدّة موارد منها وأطال البحث عنها، والحقّ بالنسبة إلى بعضها مع المحقّق الخراساني رحمه الله وتابعيه، حيث إن البحث عنه ليس من شأن الاصولي كالبحث عن

معنى القطع الوارد في قوله تعالى: «السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا» في أنّه هل المقصود منه مطلق القطع أو القطع مع إنفصال العضو؟ فإنّ هذا ونظيره من بعض الموارد الاخرى التي ليس البحث فيها سارياً في الأبواب المختلفة من الفقه- ليس من شأن الاصولي قطعاً، بل للبحث عنه محلّ آخر وهو تفسير آيات الأحكام كما لا يخفى، لكن يوجد بينها موردان ساريان في الأبواب المختلفة من الفقه.

أحدهما: الرّوايات التي وردت بصيغة لا النافيّة للجنس نحو «لا صيام لمن لا يبيّت الصّيام من الليل» و «لا صلاة إلّابطهور» و «لا صلاة إلّابفاتحة الكتاب» و «لا نكاح إلّابولي» وغير

انوار الأصول، ج 2، ص: 202

ذلك ممّا تعلّق النفي فيه بنفس الفعل.

ثانيهما: آيات التحريم نحو «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ» و «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ» و «حُرِّمَتْ عَلَيكُم الخَمرِ» و «حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ» ونظائرها من التحريم المضاف إلى الأعيان.

فلا يخفى أنّ البحث عن هذين الموردين من شأن الاصولي لأنّ في كلّ منهما يمكن أن توجد قاعدة كلّية تقع كبرى لاستنباط الحكم الشرعي.

فنقول: أمّا الجمل المشتملة على «لا» النافيّة للجنس فاختلف في أنّها هل هي من المبيّن أو المجمل؟ فعدّها بعض من المجمل، مستدلًا بأنّ العرف في مثلها يفهم نفي الصحّة تارةً ونفي الكمال، اخرى وذلك يوجب التردّد الموجب للإجمال، والأكثر على أنّها مبيّنة فيحمل النفي على نفي الماهيّة إن قلنا بمذهب الصحيحي، وإن قلنا بمذهب الأعمّي فيحمل على نفي أقرب المجازات بالنسبة إلى الحقيقة المتعذّرة وهو الصحّة، وإلّا فإن تعذّر الحمل على نفي الصحّة أيضاً لقيام قرينة عليه مثلًا، يحمل على نفي الكمال، كما أنّه من هذا الباب قوله عليه السلام «لا صلاة لجار المسجد إلّافي المسجد».

أقول: إنّا نوافقهم عليه في أصل

المدّعى، أي كون المورد المذكور من المبيّن لكن لا بالطريق الذي مشى عليه المشهور من كون المستعمل فيه في كلّ مرتبة من المراتب الثلاثة المذكورة في كلامهم غيره في الآخرين، بل نقول: أنّ المستعمل فيه في جميع المراتب إنّما هو نفي وجود الماهيّة، إلّاأنّه في المرتبة الثانية والثالثة يكون بعد تحقّق إدّعاء، وهو ادّعاء أنّ عدم الصحّة أو عدم الكمال بمنزلة عدم وجود الماهيّة.

وبهذا يظهر الجواب عمّا اورد على مذهب المشهور وذكره في الفصول من أنّ اللغة لا تثبت بالتراجيح العقليّة لأنّا لم نتجاوز عن المعنى اللغوي لكلمة «لا» (أي نفي وجود الماهيّة والجنس) بل حملناها عليه في جميع المراتب، وعليه فلا تصل النوبة إلى ما ذكره صاحب الفصول في مقام الجواب، هذا كلّه في المورد الأوّل.

أمّا المورد الثاني: وهو التحريم المضاف إلى الأعيان فعدّه بعضهم من المجمل نظراً إلى أنّ إضافة التحريم إلى العين غير معقولة فلا بدّ من إضمار فعل يصلح أن يكون متعلّقاً له، وحيث إن الأفعال كثيرة ففي مثل صيد البر يحتمل أن يكون المحرّم اصطياده أو أكله فيصير الكلام مجملًا.

انوار الأصول، ج 2، ص: 203

وأجاب عنه المشهور (الذين يعدّونه من المبيّن) بأنّ مثله حيثما يطلق يتبادر منه عرفاً نفي الفعل المقصود منه المناس له كالأكل في المأكول والشرب في المشروب واللبس في الملبوس والنكاح في المنكوح إلى غير ذلك، وهو كافٍ في ترجيح البعض على بعض آخر، نعم هذا إنّما يصحّ فيما كان الفعل المناسب له واحداً، وأمّا إذا كان المناسب متعدّداً كما مرّ في مثال صيد البرّ حيث إنّه يقصد فيه كلّ واحد من الاصطياد والأكل فالقول بالإجمال متّجه.

ثمّ إنّ المشهور أرسلوا تقدير الفعل في المقام إرسال المسلّم بزعم أنّ

إضافة التحريم إلى العين غير معقولة مع أنّ الحقّ جواز عدم التقدير بلا إشكال، بل هو المتعيّن لأنّ التحريم بمعنى الممنوعيّة، ولا ريب في تعلّق جواز المنع على العين فيقال: إنّ العين (نفسها) ممنوعة (والأصل عدم التقدير) نعم ينصرف هو إلى الأثر الظاهر والمناسب لكن الانصراف غير التقدير.

إلى هنا تمّ الكلام عن المقصد الخامس من مباحث الاصول، وبه تمّ الكلام عن الاصول اللفظية ومباحث الألفاظ، وانتهينا إلى مباحث القطع والأمارات ومباحث الاصول العمليّة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 205

المقصد السادس الأمارات المعتبرة

6- الأمارات المعتبرة

اشارة

ويقع البحث فيها في المقامات التالية:

المقام الأوّل: في مباحث القطع
اشارة

ويجري البحث ابتداء في القطع عادةً بعنوان المقدّمة، كما يبحث فيه عن أمرين قبل الورود في مسائل القطع:

الأمر الأوّل: في أنّ البحث عن أحكام القطع اصولي أو لا؟

قال المحقّق الخراساني رحمه الله أنّها أشبه بمسائل الكلام، ولعلّه يستفاد من كلمات الشيخ أيضاً، وصرّح في تهذيب الاصول بأنّه بحث اصولي، وسكت عنه بعض آخر.

وظاهر كلام المحقّق الخراساني رحمه الله أنّها خارجة من مسائل الاصول لأنّ الميزان في كون المسألة اصوليّة وقوعها في طريق استنباط الحكم الشرعي وحدّاً وسطاً في القياس، وما للقطع من الأحكام ليس من هذا القبيل قطعاً، فلا يقال مثلًا «هذا مقطوع الخمريّة، وكلّ مقطوع الخمريّة حرام، فهذا حرام» أو «هذا مقطوع الوجوب. وكلّ مقطوع الوجوب واجب شرعاً، فهذا واجب شرعاً، فإنّ الوجوب أو الحرمة ثابت لنفس الأشياء بما هي هي لا لمقطوع الوجوب أو مقطوع الحرمة.

وأمّا وجه كونها أشبه بمسائل الكلام أنّ البحث في الكلام بحث عن المبدأ والمعاد وعن الثواب والعقاب، ومباحث القطع أيضاً يرجع في الواقع إلى البحث عن صحّة مؤاخذة المولى وعدم صحّتها، فالبحث عن القطع المخطى ء مثلًا يرجع إلى أنّه إذا وافقه القاطع فهل على المولى أن يثيبه على الانقياد؟ أو إذا خالفه القاطع فهل للمولى أن يعاقبه على التجرّي؟ فالبحث فيه انوار الأصول، ج 2، ص: 208

بحث عن الثواب والعقاب الذين هما الميزان في كون المسألة كلاميّة.

وقال في تهذيب الاصول: «أنّ الملاك في كون الشي ء مسألة اصوليّة هو كونها موجبة لإثبات الحكم الشرعي الفرعي بحيث يصير حجّة عليه ولا يلزم أن يقع وسطاً للإثبات بعنوانه بل يكفي كونه موجباً لاستنباط الحكم كسائر الأمارات العقلائيّة والشرعيّة» «1».

أقول: كيف يمكن كون الشي ء حجّة وبرهاناً من دون وجود صغرى أو كبرى في البين، ومن دون وقوعه وسطاً لإثبات الكبرى للصغرى، فإنّ

هذا لا يخلو من نحو تهافت وتناقض كما لا يخفى.

والصحيح أن يقال: ليس القطع من المسائل الاصوليّة لعدم كونه دليلًا وحجّة على الأحكام التي يقطع بها بل إنّه نتيجة الدليل، والدليل هو ما يوجب القطع كالخبر المتواتر الذي نتيجته القطع بالحكم المؤدّي له.

وبعبارة اخرى: أنّ القطع هو نفس المقصد ونفس النتيجة لا ما يوصل إليها كما سيأتي بيانه تفصيلًا في البحث عن حجّية القطع إن شاء اللَّه.

نعم يمكن إدخاله في المسائل الاصوليّة لواحد من هذه الوجوه:

الوجه الأوّل: أن لا يكون المقصود من القطع في ما نحن فيه القطع العقلي بل المقصود منه هو القطع العرفي المعبّر عنه بالاطمئنان، وهو الظنّ القوي المتاخم بالعلم، والذي لا ينافي وجود احتمال الخلاف، وهو الموجود في أكثر الآراء العلميّة والنظريات الفلسفيّة (إلّا البديهيات أو شبهها) كما سنشير إليه أيضاً، حيث إن حجيّة القطع حينئذٍ تحتاج إلى جعل جاعل واعتبار معتبر فيقع وسطاً للإثبات.

الوجه الثاني: أن نلاحظه بالنسبة إلى بعض مسائله الداخلة في المسائل الاصوليّة قطعاً، وهو خمسة من السبعة التي ذكرها المحقّق الخراساني رحمه الله في مباحث القطع وهي عبارة عن: 1- البحث عن القطع الموضوعي، 2- البحث عن أخذ القطع في موضوع نفسه 3- البحث عن الموافقة الالتزاميّة 4- قطع القطاع 5- العلم الإجمالي.

وأمّا المسألتان الاخريان (وهما مسألة حجّية القطع ومسألة التجرّي) فأوّليهما خارجة

انوار الأصول، ج 2، ص: 209

عن الاصول قطعاً، والثانية لعلّها من المسائل الفقهيّة كما سيأتي إن شاء اللَّه.

الوجه الثالث: أن نلاحظه بالنسبة إلى بعد زواله حيث إنّه وإن لا يقع وسطاً بملاحظة حين وجوده لكنّه بعد زواله يمكن البحث في أنّ القطع السابق مجزٍ أو لا؟ أو أنّه حجّة أو لا؟

الأمر الثاني: تقسيم الشيخ الأعظم رحمه الله
اشارة

وقد قسّم الشيخ الأعظم رحمه

الله المكلّف الملتفت إلى أقسام وقال: «المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعي فيحصل له إمّا الشكّ فيه أو القطع أو الظنّ، فإن حصل له الشكّ فالمرجع فيه هي القواعد الشرعيّة الثابتة للشاكّ في مقام العمل وتسمّى بالاصول العمليّة ... إلى أن قال:

فالكلام يقع في مقاصد ثلاثة: الأوّل: في القطع والثاني: في الظنّ والثالث: في الاصول العمليّة التي هي المرجع عند الشكّ».

وأوردت عليه إشكالات صارت منشأً لعدول المحقّق الخراساني رحمه الله عن هذا التقسيم:

أحدها: أنّ جعل عنوان المكلّف مقسماً يستلزم عدم شمول التقسيم للقطع ببعض الأحكام الظاهريّة أي البراءة، مع أنّ القطع بالحكم الواقعي يشترك في جميع الأحكام.

وجه الملازمة أنّ البراءة وضعت لمجرّد رفع التحيّر في مقام العمل وليس تكليفاً من التكاليف الشرعيّة، ولا يصدق فيه عنوان المكلّف الذي هو المقسّم في هذا التقسيم.

ثانيها: أنّ ظاهر قوله «إنّ المكلّف إذا التفت إلى الحكم الشرعي» كونه شاملًا لخصوص ما يرجع إلى نفس المكلّف من الأحكام مع أنّ الأحكام المتعلّقة بالحيض والنفاس والاستحاضة وأشباه ذلك ممّا هو خارج عن ابتلاء المجتهد نفسه لا ترجع إلى نفس المكلّف الملتفت، فلا بدّ من أخذ المقسّم بحيث يعمّ ما يتعلّق بالمكلّف ومقلّديه معاً.

ثالثها: أنّ المقصود من الظنّ في كلامه إمّا الظنّ المعتبر أو غير المعتبر، فإن كان المراد منه المعتبر فهو ممّا يوجب القطع بالحكم الظاهري الشرعي المجعول على طبقه فليدخل حينئذٍ في القسم الأوّل أي القطع، وإن كان المراد الظنّ غير المعتبر فيكون مجرى الاصول العمليّة الشرعيّة ويرجع إلى القسم الثالث أي الشكّ، فالتثليث في كلامه حينئذٍ لا واقع له بل يرجع حقيقة إلى التثنية.

ولهذه الوجوه من الإشكال عدل المحقّق الخراساني رحمه الله عمّا مرّ من تقسيم الشيخ وقال «إنّ

انوار الأصول، ج 2، ص: 210

البالغ الذي وضع عليه القلم إذا التفت إلى حكم فعلي واقعي أو ظاهري متعلّق به أو بمقلّديه فأمّا أن يحصل له القطع به أو لا، وعلى الثاني لا بدّ من انتهائه إلى ما استقلّ به العقل من أتباع الظنّ لو حصل له، وقد تمّت مقدّمات الانسداد على تقدير الحكومة، وإلّا فالرجوع إلى الاصول العقليّة من البراءة والاشتغال والتخيير على تفصيل يأتي في محلّه إن شاء اللَّه تعالى ...

إلى أن قال: وكذلك عدلنا عمّا في رسالة شيخنا العلّامة أعلى اللَّه مقامه من تثليث الأقسام».

أقول: الإنصاف أنّ البحث انحرف عن مسيره الأصلي فالمقصود في هذا التقسيم بيان ممثّل لمباحث الكتاب وتنظيم جدول لأبوابه، وبما أن مباحثه على ثلاثة أبواب حتّى عند المحقّق الخراساني رحمه الله في مقام العمل حيث جعلها على ثلاثة مقاصد أيضاً: مقصد القطع ومقصد الظنّ ومقصد الشكّ، فالأولى ما ذهب إليه الشيخ الأعظم رحمه الله لأنّه ينطبق على مقاصد الكتاب ويتناسب مع الترتيب الملحوظ فيها.

أضف إلى ذلك أنّ المهمّ في المقام هو الحالات الواقعيّة للمكلّف الطارئة عليه في الخارج، وأن يتداخل بعضها مع بعض آخر في الحكم، ولا يخفى أنّ الحالات العارضة على المكلّف ثلاثة: القطع والظنّ والشكّ، فليكن المتّبع حينئذٍ هو التثليث، كما أنّ المحقّق الخراساني رحمه الله اكتفى بالتثنية في خصوص مقام التقسيم، وأمّا في مقام البيان فعدل إلى ما عدل عنه وكرّ إلى ما فرّ عنه، ومشى على أساس الحالات الثلاثة لا أحكامها، وعليه فالإشكال الثالث على تقسيم شيخنا العلّامة رحمه الله وهو إشكال التثليث غير وارد. هذا أوّلًا.

وثانياً: أنّ الحكم الظاهري يكون في طول الحكم الواقعي، فإن الموضوع فيه هو الجهل بالحكم الواقعي والشكّ فيه، وحينئذٍ

لا يصحّ جعلهما في عرض واحد، وعلى هذا يندفع إشكاله الأوّل وهو خروج الأحكام الظاهريّة عن قسم القطع.

ثالثاً: أنّ المقصود من المكلّف في كلام الشيخ الأعظم هو من وضع عليه قلم التكليف لا خصوص من تنجّز عليه التكليف كي لا يصحّ جعله مقسّماً، وبعبارة اخرى: المراد من المكلّف هو المكلّف الشأني أي الذي من شأنه التكليف لا المكلّف الفعلي الذي تنجّز عليه التكليف كي نحتاج إلى تقييده بقيد الفعلي كما فعله المحقّق الخراساني رحمه الله.

وأمّا الإشكال الثاني فهو مدفوع بإطلاق قوله «المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعي» حيث إن إطلاقه يعمّ ما يتعلّق بالمكلّف نفسه وما يتعلّق بمقلّديه.

انوار الأصول، ج 2، ص: 211

ثمّ إنّ هذا كلّه بالنسبة إلى العلم التفصيلي، وأمّا العلم الإجمالي (الذي أشار إليه في مقام التقسيم في تهذيب الاصول حيث قال: «والأولى أن يقال: إذا التفت المكلّف إلى حكم كلّي فأمّا أن يحصل له القطع به ولو إجمالًا أو لا ...») فله جهتان فمن جهة انطباق عنوان القطع عليه وكونه نوعاً من القطع لابدّ من طرحه في مبحث القطع، ومن جهة امتزاجه بنوع من الشكّ لابدّ من طرحه في مبحث الشكّ كما فعله هكذا كلّ من العلمين: شيخنا العلّامة والمحقّق الخراساني رحمهما الله فتكلّما عنه تارةً في مبحث الشكّ.

إذا عرفت هاتين المقدّمتين فاعلم أنّ هيهنا مسائل:

المسألة الاولى: في حجّية القطع

وفيها أيضاً جهتان من البحث: الجهة الاولى: في الدليل على حجّية القطع، والثانية* في أنّ الحجّية ذاتيّة للقطع.

أمّا الجهة الاولى: فأدلّ الدليل على حجّيته الوجدان بحيث لا حاجة إلى مزيد بيان وإقامة برهان، والحجّة- كما لا يخفى- معناها ما يمكن به أن يحتجّ العبد على مولاه وبالعكس، وبعبارة اخرى: ما يكون قاطعاً للعذر، كما قد يكون مسبّب

العذر، فيكون قاطعاً للعذر عند إصابة الواقع، وعذراً للعبد إذا خالف الواقع، وهذا ما يسمّى بالمنجزيّة والمعذّريّة.

أمّا الجهة الثانية: فإنّ المعروف أنّ الحجّية من ذاتيات القطع بالوجدان، والذاتي ليس قابلًا للجعل، وبتعبير آخر: أنّها من قبيل لوازم الماهيّة التي لا يمكن جعلها بالجعل البسيط، بل يتّبع جعلها جعل نفس الماهيّة كالإحراق الذي يجعل بتبع جعل النار بسيطاً، أي إذا وجدت النار وتحقّقت تحقّق الإحراق بتبعها، كما لا جعل تركيبيّاً بين الشي ء ولوازمه الذاتيّة، وحاصل ما ذكر: أنّه لا يمكن جعل الحجّية للقطع لأنّها من ذاتياته. هذا أوّلًا.

وثانياً: أنّ جعلها يستلزم التسلسل لأنّ نفس هذا الجعل أيضاً يثبت بالقطع فننقل الكلام إليه فإن كان حجّيته ذاتيّة فبها، وإن احتاجت هي أيضاً إلى جعل آخر فهو أيضاً يثبت من طريق القطع، ثمّ ننقل الكلام إلى هذا القطع وهكذا فإن انتهى في النهاية إلى ما تكون الحجّية

انوار الأصول، ج 2، ص: 212

ذاتيّة له فبها وإلّا يتسلسل، وهذا هو المقصود من القول المعروف: «إنّ كلّ ما بالعرض لابدّ أن ينتهي إلى ما بالذات» ويتمسّك به في مثل وجود الممكن وعلمه وقدرته ويقال: أنّه يرجع إلى وجود ذاتي وعلم وقدرة ذاتيين.

وثالثاً: أنّ إمكان الجعل يلازم إمكان المنع عن تأثيره مع أنّه يلزم منه اجتماع الضدّين اعتقاداً في صورتي الخطأ والإصابة، وحقيقة في صورة الإصابة فقط.

بيان ذلك: أنّه إذا قطع المكلّف بوجوب شي ء ونهى الشارع عن العمل بقطعه فإن كان قطعه مصيباً لزم اجتماع الضدّين حقيقة فإنّه على حسب قطعه المصيب واجب، وعلى حسب نهي الشارع عن العمل بقطعه حرام، وهو اجتماع الضدّين حقيقة، وإن كان قطعه مخطئاً لزم اجتماع الضدّين في نظر المكلّف فإنّه على حسب قطعه واجب ولو في اعتقاده،

وعلى حسب نهي الشارع عنه حرام غير جائز، ومن المعلوم أنّ اجتماع الضدّين ولو اعتقاداً محال كاجتماع الضدّين حقيقة فإنّ المحال كما يستحيل وقوعه خارجاً يستحيل أيضاً الاعتقاد بوقوعه خارجاً.

هذه وجوه ثلاثة لإثبات الحجّية الذاتيّة للقطع.

وأورد على هذه الوجوه:

أوّلًا: بأنّه إن كان المراد من الحجّية الطريقيّة والكاشفيّة فهي ليست لا من لوازم الماهيّة ولا من لوازم الوجود لأنّها إذا كانت من إحديهما لا تنفكّ عن ملزومها ولا تفترق عنه، والقطع قد يصيب وقد لا يصيب، ومعه كيف يمكن عدّ الكاشفيّة من ذاتياته أو من لوازم وجوده، وإن كان المراد منها صحّة الاحتجاج بالقطع فإنّ صحّة الاحتجاج من الأحكام العقلائيّة لا من الواقعيات الثابتة للشي ء، فليست الحجّية حينئذٍ أيضاً من لوازم ماهيّة القطع أو من لوازم وجوده «1».

ثانياً: أنّ الردع عن العمل بالقطع كسلب الحجّية غير ممكن، لكنّه لا للزوم اجتماع الضدّين لما قرّر في محلّه من عدم التضادّ بين الأحكام لأنّها امور اعتباريّة لا حقائق خارجيّة، بل للزوم اجتماع الإرادتين المختلفتين على مراد واحد، لأنّ الإرادة الحتميّة الإيجابيّة بالنسبة إلى صلاة

انوار الأصول، ج 2، ص: 213

الجمعة مثلًا لا تجتمع مع الإرادة التحريمية بالنسبة إليها «1».

أقول: قد انحرف البحث هنا أيضاً عن مجراه الواقعي الأصلي لأنّ إثبات الحجّية للقطع من الطرق المذكورة غير صحيح، والنكتة الأصلية في المقام أنّ القطع حقيقته الوصول إلى الواقع (ولا أقلّ أنّه كذلك في نظر القاطع) والأحكام المترتّبة عليه ليست في الواقع من أحكام نفس القطع بل إنّها من أحكام الواقع والخارج المتعلّق للقطع.

وبعبارة اخرى: أنّ القاطع لا يرى قطعه، وأنّ القطع ليس طريقاً ومرآة للوصول إلى الواقع بل القطع بنفسه مشاهدة للواقع ووصول إليه فهو حينئذٍ نظير النظر إلى الشمس، حيث

لا يقال حين النظر إليها: إنّي قطعت بالشمس، بل القطع فيه هو نفس إنعكاس الشمس في الذهن، فكذلك في ما نحن فيه، فليست الآثار المترتّبة على القطع آثاراً لنفس تلك الحالة النفسانية بل هي آثار للواقع وتترتّب على الواقع، ولذلك لا يقع القطع وسطاً لإثبات الحكم ولا يقال: «هذا مقطوع الخمريّة وكلّ مقطوع الخمريّة حرام فهذا حرام» بل يقال: «هذا خمر كلّ خمر حرام» نظير قولك: «هذه نار وكلّ نار حارّة» وأيضاً لا يقال في مقام الاحتجاج على العبد فيما إذا سمح بدخول الدار لعدوّ مولاه مثلًا مع قطعه بكونه عدوّاً له: «إنّك قطعت بأنّه عدوّ ولم تعمل بقطعك» بل يقال: «لِمَ سمحت بدخول العدوّ ولم تمنعه».

فظهر إلى هنا إنّه لا حاجة إلى إثبات حجّية القطع إلى التمسّك بالوجدان أو التسلسل أو غيرهما بل القاطع يعمل بقطعه ويرتّب آثاره من باب وصوله إلى الواقع لا من باب حجّية القطع.

نعم هذا كلّه بالنسبة إلى شخص القاطع حين قطعه، وأمّا بالنسبة لما بعد زوال القطع وكذلك بالنسبة إلى غير القاطع (أي الذهن فوق الذهن) فلما ذكر من النقض والإبرام في مقام الاستدلال لحجّية القطع شأن.

وحينئذٍ نقول: المقبول عندنا من بين الأدلّة التي اقيمت لحجّية القطع وجهان:

أحدهما: التسلسل، والبيان الأصحّ والأدقّ فيه أن يقال: إنّ جميع الأدلّة الشرعيّة ترجع دليليتها وحجّيتها إلى القطع، فلو كان مآل حجّية القطع أيضاً شيئاً غير ذاته يلزم الدور أو التسلسل كما لا يخفى.

انوار الأصول، ج 2، ص: 214

ثانيهما: ما مرّ من اجتماع الضدّين، وإن شئت فعبّر عنه بالتناقض.

إن قلت: اجتماع الضدّين ليس مستحيلًا في الامور الاعتباريّة.

قلت: إنّه كذلك، ولكنّه قبيح عن الحكيم، وبعبارة اخرى: علم العبد بعدم صدور القبيح من المولى يوجب إيجاد

التناقض في ذهنه، وحينئذٍ لا حاجة لتتميم الإشكال إلى ارجاعه بالنسبة إلى ذهن المولى وإرادته كما فعل في تهذيب الاصول بل بهذا البيان يتصوّر هو أيضاً بالنسبة إلى ذهن العبد.

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: أنّ هذا كلّه في القطع الحقيقي، أمّا القطع العادي العرفي وهو المسمّى بالاطمئنان والوارد في الآراء العلميّة والنظرات الفلسفية (غير البديهيات أو شبهها) فلا يجري فيه هذا الكلام، فإن كلّ إنسان يحتمل خطأه في بعض آرائه العلميّة النظريّة مع كثرتها، ولا يوجد إنسان لا يحتمل الخطأ في شي ء من آرائه النظريّة أبداً، وحينئذٍ نقول: كيف يجتمع العلم في كلّ واحد من هذه الآراء مع احتمال الخطأ في بعضها، وهل تجتمع الموجبة الكلّية مع السالبة الجزئيّة، وهذا دليل على أنّ ما نسمّيه قطعاً في المسائل العلميّة في الحقيقة من قبيل الاطمئنان لا القطع الحقيقي الذي لا تجتمع مع احتمال الخطأ أبداً، فلو تأمّلت في ما ذكرنا تعرف أنّ العلم الحاصل لنا في هذه المسائل من قبيل العلم العرفي لا العلم الحقيقي، فتدبّر جيّداً.

وفي مثل هذا النوع من القطع يمكن أن تكون حجّيته قابلة للجعل لاستقرار بناء العقلاء على حجّيته، والشارع أيضاً أمضى ذلك إلّابالنسبة إلى بعض الموارد ولعلّ من هذا البعض باب الطهارة والنجاسة حيث إن الظاهر أنّه اعتبر فيه حصول القطع الحقيقي الحسّي أو كالحسّي ولم يمض الشارع بناءهم هنا، وإلّا يشكل الأمر على كثير من الناس في هذا الباب كما لا يخفى على الخبير.

الأمر الثاني: أنّ ما تقدّم من كون القطع منجزاً للتكليف أو معذّراً له إنّما هو فيما إذا كان التكليف المتعلّق به القطع فعليّاً لا إنشائيّاً محضاً، ولذلك ينبغي الإشارة هنا إلى مراتب الحكم فنقول: قد ذكروا للحكم مراتب

أربع:

الاولى: مرتبة الاقتضاء وهي مرتبة الملاك والمصلحة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 215

الثانية: مرتبة الإنشاء وهي مرتبة جعل القانون وضرب القاعدة من دون أن يكون فيه انفاذ للحكم ولا إعلام به، وهذا نظير القوانين العرفيّة قبل ابلاغها إلى المأمورين للإجراء.

الثالثة: مرتبة الفعلية وهي مرتبة الانفاذ والابلاغ للمكلّفين والبعث والزجر.

الرابعة: مرتبة التنجّز وهي مرتبة انقطاع عذر المكلّف ببلوغ الحكم إليه وقدرته عليه فإذا علم به وهو متمكّن من امتثاله فقد تنجّز عليه التكليف عقلًا والعقل حاكم باستحقاق العقاب عليه إذا خالفه بلا عذر، فالحكم قبل أن يبلغ إلى مرتبة التنجّز وقبل حصول شرطيّه وهما العلم والقدرة لا يوجب ترك امتثاله عقاباً للعبد، والحاكم به العقل، وإذن ليست هذه المرتبة حقيقة من مراتب الحكم، كما أنّ عدّ المرتبة الاولى (وهي مرتبة المصلحة والمفسدة) من مراتب الحكم أيضاً لا يخلو من مسامحة.

هذا في دائرة القوانين أعمّ من الشرعيّة والعرفيّة، وأمّا في الأوامر العرفيّة العادية الجارية بين الموالي والعبيد فلا إشكال في أنّ له مرتبة واحدة من هاتين المرتبتين، وهي مرتبة البعث أو الزجر كما إذا قال: «اسقني ماءً» لعدم تصوّر الإنشاء فيها منفصلًا عن مرحلة البعث والزجر عادةً كما لا يخفى.

المسألة الثانية: في أحكام التجرّي
اشارة

إذا قطع الإنسان بحرمة شي ء وإرتكبه ثمّ إنكشف الخلاف وعدم مطابقة قطعه للواقع، كما إذا قطع بأنّ هذا المايع خمر فشربه، ثمّ تبيّن أنّه ليس بخمر، أو قطع بأنّ هذا غصب فتصرف فيه، ثمّ تبيّن أنّه ماله فهل فعل حينئذٍ حراماً أو لا؟ وقع البحث فيه بين الأعلام.

ولكن ينبغي ذكر مقدّمتين قبل الورود في أصل المسألة والأقوال الموجودة فيها:

المقدمة الاولى: أنّه تتصوّر في إرتكاب شي ء مراحل أربع:

أحدها: النيّة بمراحلها (سيأتي أنّ للنيّة مراحل عديدة).

ثانيها: إرتكاب مقدّمات الفعل.

ثالثها: إرتكاب ذي

المقدّمة.

رابعها: مرحلة الإصابة للواقع وعدمها، ولا شكّ في أنّ التجرّي صادق بالنسبة إلى كلّ انوار الأصول، ج 2، ص: 216

مرحلة من هذه المراحل، فمن نوى ولم يأت بالعمل أو أتى بالمقدّمة ولم يأت بذي المقدّمة أو أتى بذي المقدّمة أيضاً ولكن لم يصب قطعه الواقع أو أصاب قطعه بالواقع أيضاً، ففي جميع هذه المراحل قد تجرّى على مولاه، نعم في مصطلح الاصوليين يطلق التجرّي على خصوص المرحلة الثالثة فقط، أي ما إذا نوى وأتى بالمقدّمة وذي المقدّمة ولم يصب الواقع، ولا يخفى أنّ نفس هذا الكلام وهذه المراحل بأسرها تجري في الإنقياد أيضاً.

المقدمة الثانية: هل هذه المسألة مسألة اصوليّة أو فقهيّة أو كلاميّة؟

ذهب المحقّق الحائري رحمه الله في درره إلى أنّها قابلة لكلّ منها وقال: «أنّ النزاع يمكن أن يقع في استحقاق العقوبة وعدمه فيكون راجعاً إلى النزاع في المسألة الكلاميّة، ويمكن أن يقع النزاع في أنّ إرتكاب الشي ء المقطوع حرمته هل هو قبيح أم لا؟ فيكون المسألة من المسائل الاصوليّة التي يستدلّ بها على الحكم الشرعي، ويمكن أن يكون النزاع في كون هذا الفعل أعني إرتكاب ما قطع بحرمته مثلًا حراماً شرعاً أو لا؟ فتكون من المسائل الفقهيّة» «1».

أقول: الإنصاف أنّ المسألة فقهيّة ولا غير، أمّا كونها فقهيّة فلأنّ نتيجتها وهي حرمة التجرّي حكم كلّي فرعي قابل للانطباق على مصاديقه الجزئيّة وحيث يمكن للفقيه أن يكتب في الرسالة العمليّة: أنّ من نوى حراماً وفعل مقدّماته ولم يطابق الواقع فقد فعل حراماً أو لم يفعل حراماً.

وبعبارة اخرى: أنّ نتيجتها لا تقع كبرى لقياس الاستنباط حتّى تستنتج منها حكماً كلّياً فرعياً بل هي نفسها حكم كلّي فرعيى، ولو تنزّلنا عن ذلك فلا أقلّ من كونها من القواعد

الفقهيّة.

وأمّا عدم كونها كلاميّة فلأنّ البحث فيها بحث عن صغرى موضوع علم الكلام، حيث إن موضوعه هو كبرى: أنّ المعصية هل توجب العقاب أو لا؟ بينما البحث في المقام بحث في صغرى المعصية، أي في أنّ فعل المتجرّي معصية أو لا؟

وإلّا فإن كانت هذه مسألة كلاميّة يلزم أن يكون كلّ فرع فقهي من مسائل الكلام، والإنصاف أنّ عدّها من علم الكلام من ناحية هذا المحقّق بعيد من مقامه.

انوار الأصول، ج 2، ص: 217

وأمّا عدم كونها اصوليّة فلما أشرنا إليه من أنّ المسألة الاصوليّة ما تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الكلّي الفرعي وليست هي بنفسها حكماً كلّياً فرعياً.

وأمّا ما ذكره في توجيه كونها اصوليّة من أنّ البحث فيها بحث عن الحسن والقبح ووجود الملازمة بين حكم العقل والشرع.

ففيه: أنّه أيضاً من الخلط بين الصغرى والكبرى، حيث إن الاصولي في مسألة الحسن والقبح يبحث في كبرى «كلّما حكم به العقل حكم به الشرع» بينما في ما نحن فيه يبحث في أنّ التجرّي هل يحكم العقل بقبحه حتّى يكون صغرى لتلك الكبرى وتكون النتيجة حرمته عند الشرع أيضاً أو لا؟ وهذا واضح.

وهيهنا كلام للمحقّق النائيني رحمه الله: وهو «أنّ الإنصاف أنّ إحراز الشي ء لا يكون مغيّراً لما عليه ذلك الشي ء من المصلحة والمفسدة، وليس من قبيل الضرر والنفع العارض على الصدق والكذب المغيّر لجهة حسنه وقبحه لوضوح أنّ العلم بخمريّة ماء وتعلّق الإحراز به لا يوجب انقلاب الماء عمّا هو عليه وصيرورته قبيحاً، فدعوى أنّ الفعل المتجرّي به يكون قبيحاً ويستتبعه الحكم الشرعي بقاعدة الملازمة واضحة الفساد» «1».

أقول: جوابه واضح، لأنّ القائل بالحرمة لا يقول: أنّ شرب الماء بعنوانه حرام بل لم يقل بحرمته بعنوانه أحد، بل يقول:

إنّ الشارب للماء بنيّة شرب الخمر قد تجرّأ على المولى، وأوقع نفسه في مقام الهتك عليه فينطبق على شربه عنوان الهتك والجرأة على المولى، ولذلك أي لأجل هذا الانطباق صار شرب الماء حراماً، وبعبارة اخرى: أنّ عنوان التجرّي عنوان من العناوين الثانويّة، وفي كلامه وقع الخلط بينها وبين العناوين الأوّليّة.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الأقوال في المسألة ثلاثة:

أوّلها: الحرمة، وذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله ومن تبعه.

الثاني: عدم الحرمة، ومال إليه شيخنا الأعظم في الرسائل.

الثالث: التفصيل بين الحالات المختلفة المتصوّرة في المقام، وهذا هو الذي اختاره صاحب الفصول رحمه الله وسيأتي أنّه ليس بتفصيل، بل يرجع في الواقع إلى القول بالحرمة مطلقاً.

انوار الأصول، ج 2، ص: 218

واستدلّ القائلون بالحرمة بوجوه خمسة:

الوجه الأوّل: الإجماع المستفاد من موارد من الفقه:

منها: باب السفر الحرام، فإنّ الإجماع قام على حرمة سفر من يخاف على نفسه من الضرر أو الخطر المحتمل وجوده في الطريق وإن انكشف خلافه بعد.

ومنها: باب أوقات الصّلاة، فالإجماع قام على عدم جواز تأخير الصّلاة لمن يظنّ ضيق الوقت، فلو تأخّرها عصى وإن تبيّن بعد عدم ضيق الوقت.

وفيه: أوّلًا: أنّ الإجماع في مثل هذه المسألة التي لها مدارك مختلفة ليست بحجّة وكاشفاً عن قول المعصوم عليه السلام.

ثانياً: الإجماع في الفرع الثاني ليس بثابت، لذهاب بعض الفقهاء إلى عدم المعصية إذا انكشفت سعة الوقت، وأمّا الفرع الأوّل فيمكن أن يقال: إنّ موضوع الحرمة فيه هو نفس خوف الضرر والخطر لا الضرر الواقعي، وحينئذٍ لا يتصوّر كشف الخلاف، فإن الخوف موجود واقعاً على كلّ حال.

الوجه الثاني: بناء العقلاء على عقاب المتجرّي على المولى.

وجوابه واضح، لأنّه أوّل الكلام ولا دليل عليه، نعم أصل المذمّة والحكم بالقبح من ناحيتهم ممّا لا إشكال

فيه لكن حكمهم بالعقاب ليس ثابت.

إن قلت: حكم العقلاء من حيث هم عقلاء بالقبح يلازم العقاب الشرعي بقاعدة الملازمة.

قلنا: لا ملازمة بين العقاب الشرعي والقبح العقلي في جميع مراتبه لأنّ للقبح درجات: منها درجة تشبه الكراهة التي لا عقاب على إرتكابها بلا خلاف، بل الملازمة ثابتة بين العقاب الشرعي والقبح العقلي الذي يحكم العقل بلزوم تركه أيضاً، كما أنّ الحسن العقلي أيضاً لا يلازم الوجوب الشرعي في جميع مراتبه، حيث إن للمستحبّات العقليّة أيضاً درجة من الحسن لا تبلغ حدّ الإلزام.

الوجه الثالث: دليل العقل وبيانه: أنّه إذا نوى شخصان شرب الخمر وإرتكبا مقدّماته وشرب كلّ منهما ما قطع بخمريته فأصاب قطع أحدهما بالواقع دون الآخر فالحكم في المسألة حينئذٍ لا يخلو من أحد احتمالات أربعة: فأمّا أن نحكم باستحقاق كليهما للعقاب وهو المطلوب، أو نقول بعدم استحقاق كليهما له وهو كما ترى، والاحتمال الثالث استحقاق المخطى ء له وعدم انوار الأصول، ج 2، ص: 219

استحقاق المصيب، وهذا ممّا لا يتفوّه به أحد، والرابع عكس الثالث وهو يستلزم الترجيح بالإصابة التي هي خارجة عن الاختيار، وهو محال، فيتعيّن الاحتمال الأوّل، وهو استحقاق كلا الفردين للعقاب، فيثبت حينئذٍ حرمة التجرّي.

وجواب هذا الوجه أيضاً معلوم، وهو إنّا نختار الاحتمال الرابع ونلتزم بالتفاوت والترجيح المذكور، فإنّه لا إشكال في أنّ عدم العقاب لأمر غير اختياري ممّا لا استحالة فيه، نظير عدم العقاب الناشى ء من تعطيل مراكز الفساد الخارج عن اختيار المكلّفين، بل الإشكال ثابت في العقاب لأمر غير اختياري.

الوجه الرابع: روايات سيأتي ذكرها وتدلّ على أنّ نيّة المعصية معصية كما يأتي أيضاً الجواب عنها.

الوجه الخامس: (ولعلّه العمدة) الوجدان، حيث إن الوجدان قاضٍ بأنّ من تجرّى على مولاه فقد هتك حرمة مولاه

وخرج عن رسم العبوديّة وهو يوجب الاستحقاق للعذاب.

وجوابه: أنّ التجرّي على قسمين: تارةً يكون المتجرّي في مقام الهتك على المولى، ولسان حاله أنّي افعل هذا عناداً وهتكاً ومعارضة للمولى، وهذا قد يكون سبباً للكفر فضلًا عن الفسق.

واخرى ليست نيّته الهتك والمعارضة بل يقول: غلبني هواي ويقرّ ويعترف على تقصيره كما ورد في دعاء أبي حمزة الثمالي عن علي بن الحسين عليه السلام: «إلهي ما عصيتك حين عصيتك وأنا لربوبيتك جاهل ولا لأمرك مستخفّ بل خطيئة عرضت لي وسوّلت لي نفسي وغلبني لي هواي» فإنّ هذا ليس هتكاً قطعاً، حيث إن الهتك من العناوين القصديّة، والعاصي في هذه الصورة ليس قاصداً للجرأة على مولاه.

ومن هنا يعلم أنّ من قصد قتل مولاه ولم يقتله كمن صبّ السمّ مثلًا في طعامه ولكن لم يأكله اتّفاقاً فإنّه إنّما يعاقب من باب الهتك والجرأة والمعارضة وانطباق عناوين قصديّة محرّمة على فعله لا من باب التجرّي في مصطلح الاصوليين، وبعبارة اخرى: موضع النزاع في ما نحن فيه هو المتجرّي في مصطلح الاصوليين أي مطلق من نوى حراماً وأتى بمقدّماته ولم يصبّ الواقع، لا المتجرّي في اللغة الذي يلازم الجرأة والهتك، بل أنّه خارج عن محلّ البحث، وكأنّه وقع الخلط بين المعنيين في كلام المحقّق الخراساني رحمه الله.

انوار الأصول، ج 2، ص: 220

الوجه السادس: ما نقله المحقّق النائيني رحمه الله عن السيّد الشيرازي الكبير سيّد أساتذتنا، وهو مركّب من أربع مقدّمات:

الاولى: أنّ وظيفة المولى إرسال الرسل وإنزال الكتب، ووظيفة العبد وجوب الإطاعة بحكم العقل.

الثانية: أنّه فرق بين حسن الطاعة وقبح المعصية، وبين حسن الإحسان وقبح الظلم، لأنّ الأوّلين يرتبطان بسلسلة معاليل الأحكام والأخيرين يرتبطان بسلسلة علّلها.

الثالثة: أنّ المناط في حكم العقل باستحقاق العقاب

هو إرتكاب ما يعلم مخالفته للتكليف لا ما يكون مخالفاً واقعاً، فالمهمّ إذن هو العلم بالتكليف لا إصابة ذلك العلم للواقع وإلّا لتعطّلت الأحكام حيث لا يمكن إحراز الإصابة في مورد، وعليه فالمتجرّي والعاصي على حدّ واحد من حيث وجود مناط استحقاق العقوبة فيهما.

الرابعة: أنّ الميزان في استحقاق العقوبة إمّا القبح الفعلي أو الفاعلي، والأوّل واضح البطلان إذ يلزم استحقاق العقاب على شرب الخمر واقعاً باعتقاد أنّه خلّ، فيتعيّن الثاني، وهو في المتجرّي والعاصي على حدّ سواء.

أقول: أوّلًا: لا دخل للمقدّمة الاولى والثانية في المقام مع صحّتهما في أنفسهما كما لا يخفى.

وثانياً: يصلح كلّ من المقدّمة الثالثة والرابعة أن يكون برهاناً مستقلًا على استحقاق المتجرّي للعقاب.

وثالثاً: (بالنسبة إلى قوله في المقدّمة الثالثة) المناط في حكم العقل باستحقاق العقاب ليس هو العلم بالتكليف فقط بل إنّنا نختار أنّ الإصابة للواقع أيضاً شرط، ولكنّها حاصلة لدى المتجرّي في نظره لأنّ القاطع يرى قطعه مطابقاً للواقع، فهو دائماً يحرز التكليف ويرى نفسه مستحقّاً للعقاب على تقدير المخالفة فلا يلزم تعطيل الأحكام.

ورابعاً: قوله في المقدّمة الرابعة مبني على انقسام القبح إلى خصوص الفعلي والفاعلي مع إنّا نختار وجهاً ثالثاً، وهو كون الميزان مجموع القبحين، فتكون التفرقة بين العاصي والمتجرّي صحيحة بلا لزوم إشكال.

فظهر إلى هنا عدم وجود دليل على حرمة المتجرّي واستحقاق العقاب عليه.

انوار الأصول، ج 2، ص: 221

تنبيهات

التنبيه الأوّل: في مقتضى هذه الأدلة

ما هو مقتضى هذه الأدلّة؟ هل هو حرمة الفعل المتجرّي به، أو حرمة النيّة؟

الإنصاف أنّ مقتضاها مختلف، فلا إشكال في أنّ الدليل الأوّل يقتضي حرمة الفعل، وكذلك الثاني والثالث من دون حاجة إلى توضيح، وأمّا الدليل الرابع، أي الرّوايات التي سيأتي ذكرها فحيث إنّها تصرّح بأنّ نيّة المعصية معصية، فهي تقتضي

حرمة النيّة، وكذلك الدليل الخامس كما صرّح به المحقّق الخراساني رحمه الله، وإن كان يرد عليه: أنّه إن كانت النيّة حراماً عنده فكيف يتكلّم لإثبات الحرمة عن عنوان الهتك وانطباقه على التجرّي مع أنّ الهتك عمل في الخارج وإن كان من العناوين القصديّة التي لابدّ فيها من النيّة أيضاً؟ وهكذا الدليل السادس، لأنّ الميزان في حرمة التجرّي لدى الميرزا الشيرازي رحمه الله القبح الفاعلي لا الفعلي.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمه الله ذكر لعدم إمكان أن يكون الفعل الخارجي في ما نحن فيه حراماً وجهين:

أحدهما: ضرورة الوجدان، وتوضيحها: أنّ الفعل المتجرّي به أو المنقاد به لا يحدث فيه بسبب القطع بالخلاف حسن أو قبح ولا وجوب أو حرمة واقعاً كي يترتب عليه الثواب أو العقاب، بل هو باقٍ على ما هو عليه من الحسن أو القبح والوجوب أو الحرمة فقتل ابن المولى بسبب القطع بأنّه عدوّ له لا يحدث فيه حسناً ولا وجوباً بل هو باقٍ على قبحه وحرمته كما أنّ قتل عدوّ المولى مع القطع بأنّه ابن المولى لا يحدث فيه قبحاً ولا حرمة بل هو باقٍ أيضاً على حسنه، ووجوبه فإنّ القطع بالحسن والقبح ليس من الوجوه والاعتبارات التي بها يتحقّق الحسن والقبح والوجوب والحرمة كالعناوين الثانويّة الطارئة للأفعال.

ثانيهما: أنّ الفعل المتجرّي به أو المنقاد به بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب لا يكون اختياريّاً لأنّ هذا العنوان غير ملتفت إليه غالباً فإنّ من يشرب الماء باعتقاد أنّه خمر يقصده ويشربه بعنوانه الأوّلي الاستقلالي، أي بعنوان أنّه خمر، لا بعنوانه الطارى ء الآلي، أي بعنوان أنّه مقطوع الخمريّة فإذا لم يكن هذا العنوان اختياريّاً ملتفتاً إليه فلا يعقل أنّه يكون هو من جهات الحسن أو

القبح عقلًا، ومن مناطات الوجوب أو الحرمة شرعاً.

لكن كلا الوجهين غير تامّ:

انوار الأصول، ج 2، ص: 222

أمّا الوجه الأوّل: فلأنّ القطع بخلاف الواقع وإن لم يحدث واقعاً بسببه حسن أو قبح ولا وجوب أو حرمة كانت للفعل بعنوانه الأوّلي ولكن يحدث بسببه الحسن أو القبح الذي هو للفعل بعنوانه الثانوي، وهو عنوان الإنقياد أو التجرّي الطارى ء له، وقد ذكر المحقّق الخراساني رحمه الله في ما مرّ من كلامه أنّه معنون بعنوان الهتك للمولى والخروج عن رسم عبوديته وهذا العنوان كافٍ في حرمته.

وأمّا الوجه الثاني: فلأنّ العنوان المحرّم في المقام وهو عنوان الجرأة على المولى والخروج عن رسم العبوديّة عنوان أعمّ يتحقّق في ضمن فردين: المعصية والتجرّي، والمتجرّي حيث إن مقصوده هو هذا العنوان الأعمّ فهو على أيّ حال يقصد العنوان المحرّم وإن لم يتحقّق ضمن مصداق المعصية، نظير من كان قصده شرب الخمر الزبيبي وإنكشف أنّه كان خمراً عنبياً.

التنبيه الثاني: الآيات والرّوايات

أمّا الآيات والرّوايات التي استدلّ بها على حرمة التجرّي.

أمّا الآيات فهي كثيرة:

1- قوله تعالى: «لَايُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ» «1».

2- قوله تعالى: «وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ» «2».

3- قوله تعالى: «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا» «3».

ووجه الاستدلال بالأخيرة أنّ القلب مسؤول عمّا نوى.

4- قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» «4».

انوار الأصول، ج 2، ص: 223

والجواب عن الاستدلال بهذه الآيات أنّه وقع الخلط بين معصية القلب وبين نيّة المعصية والعزم عليها، فهناك أفعال تصدر من القلب وتترتّب عليها العقاب نحو كتمان الحقّ وحبّ إشاعة الفحشاء والرضا بالمعاصي

(كما ورد في زيارة وإرث: ولعن اللَّه امّة سمعت بذلك فرضيت به) والاعتقاد بالأوثان والأصنام، كما أنّ هناك أفعالًا اخرى تصدر من القلب وتترتّب عليه الثواب كالاعتقاد باللَّه ورسوله، لكن هذا لا يستلزم منه ترتّب العقاب على جميع أفعال القلب حتّى مثل نيّة المعصية والعزم عليها، وبعبارة اخرى: أنّ هذه الآيات تدلّ على حرمة خصوص بعض المصاديق من الأفعال الجوانحيّة المذكورة فيها، وأين ذلك من حرمة كلّ فعل قلبي؟

أمّا الرّوايات فهي على طائفتين: طائفة تدلّ على أنّ نيّة المعصية معصية، و طائفة اخرى تدلّ على عدمها أو العفو عنها.

أمّا الطائفة الاولى: فهي روايات عديدة لابدّ من البحث عن كلّ واحدة منها والنظر إليها مستقلًا حتّى يتّضح مقدار دلالتها على المدّعى ثمّ ملاحظتها من حيث المجموع.

منها: ما ورد في الجواب عن إشكال الخلود في النار أو في الجنّة مع كون العمل في الدنيا محدوداً بمقدار معيّن نحو خبر أبي هاشم، قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «إنّما خلّد أهل النار في النار لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا اللَّه أبداً، وإنّما خلّد أهل الجنّة في الجنّة لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا اللَّه أبداً، فبالنيّات خلّد هؤلاء وهؤلاء، ثمّ تلا قوله تعالى: «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ» قال: على نيّته» «1».

ولكن يناقش فيها بأنّها ممّا لا يمكن الالتزام بظاهرها لشمول إطلاقه من كان كافراً وليست نيّته في الدنيا أن لو خلّد فيها أن يعصى اللَّه أبداً بل ربّما تكون نيّته أن يتوب بعد مدّة، لكن مات على كفره قبل أن يتوب، وشموله أيضاً مؤمناً ليست نيّته أن لو بقى في الدنيا أن يطيع اللَّه أبداً، لكن

اتّفق موته على الطاعة، ومن المسلّم أنّ الأوّل مخلّد في النار لأنّ الكافر خالد في النار مطلقاً بلا إشكال، كما أنّه لا خلاف في أنّ الثاني لا يخلّد في النار، وحينئذٍ فتحمل هذه الأخبار على أنّ الإمام عليه السلام تكلّم فيها على قدر عقل المخاطب، وأجاب بما يقتضيه استعداده وطاقته الفكريّة فيكون الجوا اقناعياً أو يردّ علمها إلى أهلها.

انوار الأصول، ج 2، ص: 224

وأمّا إشكال الخلود فلنا جواب آخر ذكرناه مفصّلًا في كتاب المعاد، وملخّصه: أنّ الخلود في الواقع يرجع إلى تجسّم الأعمال وظهور خاصّية العمل وأثره، فإنّ أثر كفر الكافر أن يخلّد في النار أبداً نظير إرشاد الطبيب مريضه بأنّك إن شربت الخمر أو السمّ تبتلِ بقرحة المعدة إلى آخر العمر.

ومنها: ما رواه فضيل بن يسار عن أبي جعفر عن آبائه عليهم السلام أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «نيّة المؤمن أبلغ من عمله وكذلك نيّة الفاجر» «1».

لكن في الباب روايتان شارحتان لهذه الرّواية، وتدلّان على أنّه لا ربط لها بالمقام:

إحداهما: ما رواه زيد الشحّام قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: «أنّي سمعتك تقول: نيّة المؤمن خير من عمله، فكيف تكون النيّة خيراً من العمل؟ قال: لأنّ العمل ربّما كان رياءً للمخلوقين، والنيّة خالصة لربّ العالمين، فيعطي عزّوجلّ على النيّة ما لا يعطي على العمل» «2».

ثانيهما: ما رواه حسن بن الحسين الأنصاري عن بعض رجاله عن أبي جعفر عليه السلام أنّه كان يقول: «نيّة المؤمن أفضل من عمله، وذلك لأنّه ينوي من الخير ما لا يدركه، ونيّة الكافر شرّ من عمله وذلك لأنّ الكافر ينوي الشرّ ويأمل من الشرّ ما لا يدركه» «3».

مضافاً إلى أنّ العمل بظاهرها مشكل جدّاً بل هو ممّا

لا يتفوّه به فقيه، حيث إن مقتضاه أن يكون مثلًا معصية من نوى شرب الخمر ولم يشرب- أشدّ ممّا إذا نوى وشربه، وأمّا إذا شربه سهواً أو نسياناً بغير نيّة فلا عقاب له قطعاً فلا تكون الرّواية ناظرة إليه.

ومنها: ما رواه السكوني عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «نيّة المؤمن خير من عمله ونيّة الكافر شرّ من عمله، وكلّ عامل يعمل على نيّته» «4».

والجواب عن هذه هو الجواب عن الرّواية الثانية لاشتراكهما في المضمون كما لا يخفى.

ومنها: ما رواه جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال لي: ياجابر: يكتب للمؤمن في سقمه من العمل الصالح ما كان يكتب في صحّته، ويكتب للكافر في سقمه من العمل السيّى ء ما كان انوار الأصول، ج 2، ص: 225

يكتب في صحّته، ثمّ قال، قال: «ياجابر: ما أشدّ هذا من حديث» «1».

وهذه الرّواية لا إشكال في دلالتها على المدّعى في الجملة حيث إن ظاهرها أنّ نيّة المريض كان مؤثّراً في دوام العمل الصالح أو العمل السيّى ء له.

ومنها: ما رواه عبداللَّه بن موسى بن جعفر عن أبيه عليه السلام قال: «سألته عن الملكين هل يعلمان بالذنب إذا أراد العبد أن يفعله أو الحسنة؟ فقال: ريح الكنيف والطيب سواء؟ قلت: لا، قال: أنّ العبد إذا همّ بالحسنة خرج نفسه طيّب الريح، فقال: صاحب اليمين لصاحب الشمال: قم فإنّه قد همّ بالحسنة، فإذا فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده فأثبتها له، وإذا همّ بالسيّئة خرج نفسه منتن الريح فيقول: صاحب الشمال لصاحب اليمين قف فإنّه قد همّ بالسيّئة فإذا هو فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده فأثبتها عليه» «2».

فيمكن أن يستدلّ على المدّعى بقوله «وإذا

همّ بالسيّئة خرج نفسه منتن الريح» حيث إن ظاهره أنّ انتان الريح نشأ من ناحية كون النيّة معصية.

لكن الإنصاف أنّ ذيله دالّ على خلافه حيث إن فيه توقّف ثبوت المعصية على تحقّق الفعل، ولو تنزّلنا عن ذلك فلا أكثر من أنّه مشعر إلى المدّعى وليس على حدّ الدلالة.

ومنها: ما رواه أبو عروة السلمي عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إنّ اللَّه يحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة» «3».

لكنّها تفسّر برواية اخرى وهي رواية إسماعيل بن محمّد بن إسحاق بن محمّد قال: حدّثني علي بن جعفر بن محمّد وعلي بن موسى بن جعفر هذا عن أخيه وهذا عن أبيه موسى بن جعفر عليه السلام عن آبائه عليهم السلام عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (في حديث) قال: «إنّما الأعمال بالنيّات ولكلّ امرى ء ما نوى فمن غزى ابتغاء ما عند اللَّه فقد وقع أجره على اللَّه عزّوجلّ، ومن غزى يريد عرض الدنيا أو نوى عقالًا لم يكن له إلّاما نوى» «4».

فإنّها تدلّ على اعتبار قصد القربة في المثوبة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 226

ومنها: ما ورد في باب حرمة شرب الخمر وهو ما رواه حسين بن زيد عن الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام (في حديث المناهي): أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله نهى أن يشتري الخمر، وأن يسقى الخمر، وقال: «لعن اللَّه الخمر وغارسها وعاصرها وشاربها وساقيها وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها وحاملها والمحمولة إليه» «1».

وجوابها واضح، لأنّها داخلة تحت عنوان الاعانة على الإثم الذي هو بنفسه من العناوين المحرّمة فهي أجنبية عمّا نحن بصدده.

ومنها: روايات الرضا وإنّ من رضى بفعل قوم كان منهم، ومن جملتها ما ورد في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين

عليه السلام: «أيّها الناس إنّما يجمع الناس الرضا والسخط وإنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم اللَّه بالعذاب لمّا عمّوه بالرضا فقال سبحانه: «فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ» «2»» «3»

. وأيضاً ما ورد في زيارة الحسين عليه السلام: «ولعن اللَّه امّة سمعت بذلك فرضيت به» «4».

لكن المستفاد من هذه الرّوايات أنّ الرضا غير النيّة وأنّه عنوان مستقلّ محرّم، أي من رضى بعصيان شخص آخر فقد عصى، وإن لم يكن من قصده فعل تلك المعصية بنفسها بل ربّما ينتهي إلى الكفر كمن رضى بقتل الحسين عليه السلام فإنّه يوجب انطباق عنوان الناصب، والناصب كافر.

ومنها: ما ورد «5» في السنّة الحسنة والسنّة السيّئة، ومضمون جميعها يرجع إلى أنّ من سنّ سنّة حسنة كان له أجر من عمل بها ومن سنّ سنّة سيّئة كان عليه وزر من عمل بها.

والجواب: أنّها أيضاً ترجع إلى عنوان الاعانة على البرّ والتقوى أو عنوان الاعانة على الإثم والعدوان كما لا يخفى.

ومنها: ما روي أنّه «إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار، قلت هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: لأنّه أراد قتل صاحبه».

انوار الأصول، ج 2، ص: 227

وهي أيضاً خارجة عن محلّ النزاع، لأنّ الموجب للدخول في النار فيها ليس مجرّد نيّة القتل وإرادته بل الإلتقاء بالسيف، وسلّ السيف على المسلم بنفسه من المحرّمات، بل قد يدخل تحت عنوان المحارب الذي له حدّ شديد كما ورد في القرآن.

وإن شئت قلت: النيّة منضمّة إلى مقدّمة من مقدّمات القتل وهي الإلتقاء بالسيف، والإلتقاء بالسيف حرام لانطباق عنوان الهتك أو اخافة المؤمن عليه.

فظهر إلى هنا أنّ التامّ من حيث الدلالة من بين هذه الرّوايات الكثيرة رواية واحدة وهي رواية جابر، لكنّها من ناحية السند ضعيفة لمكان عمرو بن

شمر.

هذا، مضافاً إلى أنّ في قبال هذه الأخبار روايات «1» كثيرة تدلّ بالصراحة على عدم كون نيّة المعصية معصية نشير هنا إلى روايتين منها:

إحداهما: ما رواه زرارة عن أحدهما عليهما السلام: قال: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى جعل لآدم في ذرّيته أنّ من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ومن همّ بحسنة وعملها كتبت له عشر، ومن همّ بسيّئة لم تكتب عليه، ومن همّ بها وعملها كتبت عليه سيّئة» «2».

ثانيهما: ما رواه أبو بصير عن أبي عبداللَّه عليه السلام: قال: «إنّ المؤمن ليهمّ بالحسنة ولا يعمل بها فتكتب له حسنة، وإن هو عملها كتبت له عشر حسنات، وإنّ المؤمن ليهمّ بالسيّئة أن يعملها فلا يعملها فلا تكتب عليه» «3». إلى غير ذلك ممّا هو في معناهما.

وذكر شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله للجمع بين هاتين الطائفتين وجهين كلّ واحد منهما جمع تبرّعي لا شاهد له.

أحدهما: أن تحمل الطائفة الاولى على من ارتدع عن قصده بنفسه، والثانية على من بقى على قصده حتّى عجز عن الفعل لا باختياره.

الثاني: أن تحمل الاولى على من اكتفى بمجرّد القصد، والثانية على من إشتغل بعد القصد ببعض المقدّمات.

ولكن الأمر سهل بعد ما عرفت من عدم تمام الطائفة الاولى، سلّمنا ولكنّ الطائفة الثانية

انوار الأصول، ج 2، ص: 228

أصرح دلالة وأكثر عدداً، مضافاً إلى ما مرّ من المناقشة في كلّ واحد من روايات الطائفة الاولى دلالة أو سنداً، ويتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّه لا دليل على حرمة التجرّي من العقل والنقل.

التنبيه الثالث: الكلام في تفصيل صاحب الفصول

في ما ذهب إليه صاحب الفصول من التفصيل، وإليك نصّ كلامه: «أنّ قبح التجرّي ليس عندنا ذاتياً بل يختلف بالوجوه والاعتبار فمن إشتبه عليه مؤمن ورع عالم بكافر واجب القتل، فحسب إنّه

ذلك الكافر فتجرّى ولم يقدم على قتله فإنّه لا يستحقّ الذمّ على هذا التجرّي عقلًا عند من انكشف له الواقع، وإن كان معذوراً لو فعل، وأظهر من ذلك ما لو جزم بوجوب قتل نبي أو وصي نبي فتجرّى ولم يفعل، ألا ترى أنّ المولى الحكيم إذا أمر عبده بقتل عدوّ له فصادف العبد إبنه وقطع بأنّه ذلك العدو فتجرّى ولم يقتله فاذا اطّلع المولى على حاله لا يذمّه بهذا التجرّي بل يرضى به وإن كان معذوراً لو فعل ... إلى أن قال: ومن هنا يظهر أنّ التجرّي على الحرام في المكروهات الواقعيّة أشدّ منه في مباحاتها، وهو فيها أشدّ في مندوباتها، ويختلف باختلافها ضعفاً وشدّة كالمكروهات ويمكن أن يراعى في الواجبات الواقعيّة ما هو الأقوى من جهاتها وجهات التجرّي» «1». (انتهى).

أقول: الظاهر من كلامه هذا أنّ حكم التجرّي لديه يختلف بعدد الأحكام الخمسة، ولعلّ وجهه عنده هو نفس ما ادّعاه المحقّق الخراساني رحمه الله على مذهبه (وهو حرمة التجرّي مطلقاً) من حكومة الوجدان، فكأنّ صاحب الفصول يقول: كما أنّ الوجدان يحكم بقبح التجرّي في بعض الموارد يحكم أيضاً بعدمه في موارد اخرى.

ولكن يجاب عنه أوّلًا: بأنّه ليس تفصيلًا في المسألة بل هو يساوق حقيقةً القول بحرمة التجرّي مطلقاً لكنّها حرمة اقتضائيّة تتغيّر بطروّ عناوين ثانوية كما هو كذلك في غالب العناوين المحرّمة، فإنّ الكذب مثلًا حرام باعتبار وجود مفسدة فيه، وتتغيّر حرمته إذا طرأ عليه مصلحة أقوى.

انوار الأصول، ج 2، ص: 229

وثانياً: إنّا ننكر أصل حرمة التجرّي، لما مرّ من عدم صلوح الوجوه المذكورة لإثبات الحرمة، فلا تصل النوبة إلى ملاحظة الكسر والانكسار بين قبحه وحسن ما طرأ عليه.

وثالثاً: أنّ قبح المتجرّي نشأ من القطع بالحرمة

فلا يعقل أن يرتفع ما دامت صفه القطع موجودة قائمة بالقاطع بجهة من الجهات المجهولة المغفولة له، وبعبارة اخرى: أنّ الحسن والقبح تابعان لما علم من الجهات، لا لأقوى الجهات الواقعيّة التي يكون مغفول عنه للمتجرّي.

إن قلت: فبما تحكم في قضية ترك قتل ابن المولى مع علمه بأنّه عدوّ للمولى فهل يرضى أحد فيه باستحقاق العبد للمؤاخذة؟

قلت: إنّ المولى الحكيم العادل يحكم بالقبح والعقاب في هذا المورد أيضاً لأنّه يعاقب عبده على جرأته وخروجه عن رسم العبوديّة، وهذا باقٍ ولم يتبدّل إلى غيره حتّى بعد انكشاف الواقع، نعم قد لا يعاقبه ويعفو عنه شكراً لسلامة إبنه وخروجه عن خطر القتل لا من باب عدم صدق عنوان المتجرّي عليه كما يشاهد كثيراً مّا نظيره بين العرف والعقلاء في المعاصي الواقعيّة أيضاً فيتركون عقاب العبيد شكراً للنعم المقارنة للمعصية.

التنبيه الرابع: في الإنقياد

قد يقال: يترتّب الثواب على الانقياد لنفس ما استدلّ به على ترتّب العقاب على التجرّي، وهو شهادة الوجدان ودلالة بعض الأخبار، ثمّ يستنتج ويقال: حسن الانقياد يلازم قبح التجرّي ولا يجوز التفكيك بينهما.

لكن يناقش فيه بأنّ حسن الانقياد وترتّب الثواب عليه معلول لانطباق عنوان تعظيم المولى عليه لأنّ مفهوم الانقياد إنّما يصدق فيما إذا أتى بالعمل بقصد أمر المولى والتقرّب إليه وإتيان الفعل، فهذا القصد لا ينفكّ عن انطباق عنوان التعظيم في جميع الموارد فيترتّب الثواب أيضاً في جميع الموارد، وهذا بخلاف عنوان التجرّي، فإنّه ليس معناه الإتيان بما يراه معصية بقصد مخالفة المولى والعناد له، فإنّ هذا لا يعتبر في حقيقة التجرّي بل هو عنوان ثانوي ربّما يوجب الكفر فضلًا عن الفسق، بل المتجرّي إنّما يأتي بما يأتي من فعله لشهواته ومقاصده الحيوانية كما ورد في دعائه

عليه السلام: «ولكن خطيئة عرضت لي وسوّلت لي نفسي وغلبني هواي» إلى آخر ما مرّ ذكره.

انوار الأصول، ج 2، ص: 230

فإذاً الفرق بين مسألتي التجرّي والانقياد من هذه الناحية ظاهرة لا سترة عليه فلا يمكن قياس أحدهما بالآخر.

التنبيه الخامس: في سريان حرمة التجرّي بين الأحكام جميعا

لا فرق في حرمة التجرّي بين مخالفة الأحكام الواقعيّة والظاهريّة ولا بين مخالفة العلم والظنّ المعتبر لأنّ حقيقة الجرأة على المولى موجودة في الجميع، والأدلّة التي استدلّوا بها على حرمته تجري في الأحكام الظاهريّة والظنون المعتبرة أيضاً ولكن قد عرفت عدم صحّة شي ء منها.

هذا تمام الكلام في أحكام التجرّي وأدلّتها واللَّه العالم.

المسألة الثالثة: في أقسام القطع
اشارة

كان البحث إلى هنا عن القطع الطريقي، وهيهنا قسم من القطع يسمّى بالقطع الموضوعي يؤخذ في موضوع الحكم بحيث لا يتحقّق الموضوع بدونه، نحو «إذا قطعت بنجاسة ثوبك فلا تصحّ الصّلاة فيه» فالموضوع لبطلان الصّلاة في هذا المثال هو القطع بنجاسة الثوب مع كون الثوب نجساً في الواقع، حيث إن القطع حينئذٍ جزء للموضوع، كما هو المشهور في محلّه وقد أفتى المشهور بعدم مانعية النجاسة الخبثيّة الواقعيّة عن صحّة الصّلاة، خلافاً للنجاسة الحدثيّة.

وهيهنا أبحاث ثلاثة:

البحث الأوّل: أنّه يستحيل أخذ القطع بعنوان الموضوع

ويقع البحث فيه في ثلاث مواضع:

أحدها: أن يؤخذ في موضوع نفس الحكم.

ثانيها: أن يؤخذ في موضوع ضدّ الحكم.

ثالثها: أن يؤخذ في موضوع مثل الحكم.

انوار الأصول، ج 2، ص: 231

والدليل على الاستحالة في كلّ واحد منها واضح، أمّا الأوّل فلاستلزامه الدور المحال مثل ما إذا قيل: «إذا قطعت بنجاسة هذا الثوب فهو ينجّس بنفس هذه النجاسة» أو قيل: «إذا قطعت بوجوب هذا العمل فهو يجب بنفس هذا الوجوب».

أمّا الثاني: فلاستلزامه اجتماع المثلين كما إذا قيل: «إذا قطعت بوجوب هذا العمل فهو يجب بوجوب آخر مثله».

وأمّا الثالث: فلاستلزامه اجتماع الضدّين مثل أن يقال: «إذا قطعت بوجوب شي ء فهو يحرم».

وهذا كلّه واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان، ولكنّه بالنسبة إلى أصل المدّعى، إنّما الإشكال في كيفية الاستدلال على عدم الصحّة بالنسبة إلى القسمين الأخيرين، حيث إنّه لا استحالة لاجتماع الضدّين أو المثلين في الامور الاعتباريّة كما مرّ مراراً، بل الإشكال فيه من جهة قبحه ولغويته، فإنّ اجتماع المثلين لغو واجتماع الضدّين يستلزم التكليف بما لا يطاق، وصدور كلّ واحد منهما من جانب المولى الحكيم قبيح بلا ريب.

البحث الثاني: أخذ القطع موضوعا

أنّ القطع المأخوذ موضوعاً على أربعة أقسام: لأنّه تارةً يكون تمام الموضوع لحكم كما قيل به في مسألة الخوف بالضرر فإنّه تمام الموضوع لبعض الأحكام الشرعيّة فيترتّب عليه تلك الأحكام وإن لم يكن ضرر في الواقع، كما أنّه كذلك في الامور التكوينيّة أحياناً فيوجب علم الإنسان بضرر خاصّ تغيّر اللون أو ارتعاش البدن مثلًا، سواء كان الضرر موجوداً واقعاً أو لم يكن.

واخرى يكون جزء الموضوع، والجزء الآخر هو الواقع الذي تعلّق به القطع كما في القطع بنجاسة الثوب الذي أخذ جزءً في موضوع بطلان الصّلاة، فإذا قطعت بنجاسة الثوب وكان نجساً في

الواقع تبطل الصّلاة، وأمّا إذا قطعت بها وصلّيت مع تمشّي قصد القربة وانكشف الخلاف وعدم نجاسة الثوب فالحقّ صحّة الصّلاة حينئذٍ، كما أنّه كذلك فيما إذا كان الثوب نجساً في الواقع ولكن لم يكن قاطعاً بها.

وعلى كلّ حال إنّ كلًا من القطع المأخوذ تمام الموضوع والمأخوذ جزء الموضوع تارةً يكون انوار الأصول، ج 2، ص: 232

مأخوذاً بما هو طريق وكاشف عن الواقع، واخرى بما هو صفة خاصّة وحالة مخصوصة للقاطع أو المقطوع به، والفرق بينهما أنّ القطع من الصفات ذات الإضافة التي تحتاج إلى طرف آخر كالقدرة المحتاجة إلى المقدور (في قبال الصفات الحقيقة التي لا تحتاج إلى ذلك كالحياة ونحو ذلك من الصفات القائمة بالنفس من دون حاجة إلى طرف آخر)، فإنّ القطع من جهةٍ نور لنفسه ويكون كمالًا للنفس، ومن جهة اخرى نور لغيره وكاشف عن غيره، أي الأمر المقطوع به، وحينئذٍ تارةً يمكن أن يلاحظ بما هو صفة قائمة بالنفس، واخرى بما أنّه طريق وكاشف عن الغير، وبهذا تصير أقسام القطع الموضوعي أربعة، وبانضمام القطع الطريقي إليه تصير خمسة.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني رحمه الله أنكر هنا القطع المأخوذ تمام الموضوع على نحو الكاشفيّة، وجعل الأقسام ثلاثة قائلًا بأنّه غير معقول لأنّ معنى الأخذ على نحو الكاشفيّة أنّ للواقع دخلًا في الموضوع وهو لا يجتمع مع أخذه تمام الموضوع، وفي قباله المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية والشيخ الحائري رحمه الله في الدرر أثبتا هذا القسم وجعلا الأقسام أربعة.

أقول: الحقّ أنّه وقع هنا بين المحقّق النائيني رحمه الله من جانب وبين العلمين المذكورين من جانب آخر مناقشة لفظيّة لأنّ لكلّ من الطرفين بل لكلّ واحد من الأعلام الثلاثة تفسيراً خاصّاً للقطع المأخوذ على نحو

الكاشفيّة يناسب مع ما ذهب إليه من الإنكار أو الإثبات.

أمّا المحقّق النائيني رحمه الله فيفسّر المأخوذ على نحو الكاشفيّة بأنّ معناه أنّ للواقع دخلًا في الموضوع، فبناءً على هذا التفسير يكون إنكاره في محلّه كما لا يخفى.

وأمّا المحقّق الخراساني رحمه الله فيقول: أنّ القطع لمّا كان من الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة، ولذا كان العلم نوراً لنفسه ونوراً لغيره صحّ أن يؤخذ فيه بما هو صفة خاصّه وحالة مخصوصة بإلغاء جهة كشفه أو اعتبار خصوصيّة اخرى فيه معها كما صحّ أن يؤخذ بما هو كاشف عن متعلّقه وحاكٍ عنه، فمراده من الكاشفيّة مجرّد النظر إلى الغير وصرف التعلّق بالغير سواء كان الغير موجوداً في الخارج أو لم يكن، لا أن يكون للواقع دخل.

كما أنّ المحقّق الحائري رحمه الله قال في الدرر: «والمراد من كونه ملحوظاً على أنّه صفة خاصّة ملاحظته من حيث إنّه كشف تامّ، ومن كونه ملحوظاً على أنّه طريق ملاحظته من حيث إنّه أحد مصاديق الطرق المعتبرة، وبعبارة اخرى: ملاحظة الجامع بين القطع وسائر الطرق انوار الأصول، ج 2، ص: 233

المعتبرة» «1». فمقصوده من المأخوذ على نحو الكاشفيّة في هذه العبارة أيضاً ليس كون الواقع دخيلًا في الموضوع، بل المقصود مجرّد ملاحظة أنّه أحد مصاديق الطرق المعتبرة في قبال ملاحظة حالة المائة في المائه في المأخوذ على نحو الصفتية.

ولا يخفى أنّه بناءً على كلّ واحد من هذين التفسيرين يمكن تصوّر قسم رابع وهو كون القطع المأخوذ على نحو الكاشفيّة تمام الموضوع، وبهذا يرتفع النزاع حقيقه بين الطرفين.

البحث الثالث: في أحكام القطع الموضوعي والطريقي وأنّه هل تقوم الطرق والأمارات مقامهما أو لا؟

لا ريب في قيام الأمارات بنفس دليل حجّيتها (كآية النبأ) مقام القطع الطريقي المحض، كما لا ريب في عدم قيامها مقام القطع الموضوعي على وجه الصفتيّة فلا شكّ

في أنّه إذا أشار المولى إلى الشمس مثلًا وقال: «بمثل هذا فاشهد» فأخذ القطع بما أنّه صفة خاصّة ودرجة خاصّة من العلم والكشف في موضوع الشهادة، فلا تجوز الشهادة على مالكية زيد مثلًا بمجرّد قيام البيّنة على أنّ هذا ملك له، أو ثبتت مالكيته بالقرعة.

إنّما الكلام في قيامها مقام القطع الموضوعي على نحو الكاشفيّة.

قال الشيخ قدس سره في الرسائل: «ثمّ من خواص القطع الذي طريق إلى الواقع قيام الأمارات الشرعيّة والاصول العمليّة مقامه في العمل بخلاف المأخوذ في الحكم على وجه الموضوعيّة فإنّه تابع لدليل الحكم فإن ظهر منه أو من دليل خارج اعتباره على وجه الطريقية للموضوع قامت الأمارات والاصول مقامه، وإن ظهر منه اعتبار صفة القطع في الموضوع من حيث كونها صفة خاصّة قائمة بالشخص لم يقم مقامه غيره» «2».

فظاهر كلامه هذا أنّ الطرق والأمارات تقوم مقام القطع الموضوعي على وجه الكاشفيّة مطلقاً سواء كان جزءً للموضوع أو تمام الموضوع.

لكن المحقّق الخراساني رحمه الله ذهب في الكفاية إلى عدمه، حيث قال: «إنّ القطع المأخوذ بهذا

انوار الأصول، ج 2، ص: 234

النحو (على نحو الكاشفية) في الموضوع شرعاً كسائر ما لها دخل في الموضوعات أيضاً (أي كسائر الصفات التي لها دخل في موضوعات الأحكام) فلا يقوم مقامه شي ء بمجرّد حجّيته أو قيام دليل اعتباره ما لم يقم دليل على تنزيله ودخله في الموضوع كدخله».

أقول: لم يقم أحد من العلمين دليلًا على مدّعاه، وكأنّ كلّ واحد منهما أرسلها إرسال قضايا قياساتها معها، والإنصاف أنّ المشكلة هنا أيضاً تنحلّ بما مرّ آنفاً من لزوم ملاحظة التفاسير الثلاثة التي ذكرت لأخذ القطع موضوعاً على وجه الكاشفيّة فيثبت بذلك أنّ النزاع في هذا المقام أيضاً لفظي.

بيان ذلك: أنّ ظاهر كلام

الشيخ رحمه الله كون مراده من المأخوذ على وجه الكاشفيّة أنّ ما أخذ في الموضوع هو جامع الكاشف وجنس الكاشف الذي يكون القطع مصداقاً من مصاديقه كما صرّح بهذا التفسير المحقّق الحائري رحمه الله في الدرر (وقد مرّ بيانه) ولا ريب أنّه بناءً على هذا التفسير يقوم مقام القطع سائر مصاديق الكاشف بلا إشكال.

وأمّا المحقّق الخراساني رحمه الله فقد مرّ أنّ مقصوده من المأخوذ على نحو الكاشفيّة أنّ تلك الحالة، أي حالة المائة في المائة أخذت في الموضوع من جهة أنّها منوّرة لغيره لا من جهة أنّها تؤثّر في نفسه، ولا إشكال (حتّى عند الشيخ قدس سره) في عدم قيام الأمارات مقام هذه الدرجة من العلم، فالمناقشة بين العلمين لفظيّة نشأت من اختلاف التفسير للقطع الموضوعي على وجه الطريقيّة.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمه الله بعد هذا أورد على نفسه ما حاصله: أنّه يكفينا لإثبات قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي المأخوذ على نحو الكاشفيّة إطلاق دليل تنزيلها منزلة القطع الشامل ذلك الإطلاق لجميع آثار القطع من الطريقيّة والموضوعيّة، فإنّ إطلاق دليل اعتبار الأمارة ينزّل الأمارة منزلة القطع في جميع آثاره ولوازمه المترتّبة عليه من كونه طريقاً محضاً وموضوعاً حتّى على نحو الصفتية.

وأجاب عن هذا بأنّ هذا الإطلاق ممتنع في المقام لاستلزامه اجتماع اللحاظين المتضادّين لأنّ تنزيل الأمارة منزلة القطع الموضوعي موقوف على لحاظ القطع استقلالًا لأنّ مقتضى موضوعيّة شي ء هو استقلاله في اللحاظ من دون كونه تبعاً للغير، وتنزيلها منزلة القطع الطريقي موقوف على لحاظه آلة للغير وهو الواقع المنكشف به فيستلزم منه لحاظ المنزّل عليه وهو القطع بلحاظين متضادّين في إنشاء واحد وهو محال.

انوار الأصول، ج 2، ص: 235

أقول: ويرد عليه: إنّ جوابه هذا مبنيّ على

ما ذهب إليه في البحث عن حقيقة الاستعمال من أنّ استعمال اللفظ في المعنى فناؤه فيه حقيقة، وقد مرّ الجواب عنه، فقد قلنا أنّ حقيقة الاستعمال هو جعل اللفظ علامة للمعنى والبناء على إرادته عنده، ولذلك لا مانع من استعمال لفظ واحد في أكثر من معنى ومن احضار معاني متعدّدة في الذهن ثمّ استعمال لفظ واحد في جميعها.

هذا ولكن نحن أيضاً نمنع عن إطلاق أدلّة حجّية الأمارات لكن لا من باب اجتماع اللحاظين المتضادّين بل من باب انصراف أدلّة حجّية الأمارات عن القطع الموضوعي فإنّها ناظرة بظهورها إلى القطع الطريقي المحض فقط.

وللمحقّق النائيني رحمه الله في المقام بيان آخر لجواز قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي على نحو الكاشفيّة، والنكتة الأساسيّة الرئيسة في كلامه (بعد أن جعل عمدة ما يتصوّر أن يكون مانعاً عن القيام ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله من الجمع بين اللحاظين) تفسير ذكره لحجّية الطرق والأمارات، وهو أنّ دليل الحجّية إنّما ناظر إلى إعطاء صفة الطريقيّة والكاشفيّة للأمارة وجعل ما ليس بمحرز حقيقة محرزاً تشريعاً وإليك نصّ كلامه: «أنّه ليس معنى حجّية الطريق مثلًا تنزيل مؤدّاه منزلة الواقع ولا تنزيله منزلة القطع حتّى يكون المؤدّى واقعاً تعبّداً أو يكون الأمارة علماً تعبّداً، بداهة أنّ دليل الحجّية لا نظر له إلى هذين التنزيلين أصلًا وإنّما نظره إلى إعطاء صفة الطريقيّة والكاشفيّة للأمارة وجعل ما ليس بمحرز حقيقة محرزاً تشريعاً، نعم لابدّ وأن يكون المورد قابلًا لذلك بأن يكون له كاشفيّة عن الواقع في الجملة ولو نوعاً إذ ليس كلّ موضوع قابلًا لإعطاء صفة الطريقيّة والمحرزيّة له فما يجري على الألسنة بأنّ ما قامت البيّنة على خمريته مثلًا خمر تعبّداً أو أنّ نفس البيّنة

علم تعبّداً فممّا لا محصّل له وليس له معنى معقول إذ الخمريّة أو العلم من الامور التكوينيّة الواقعيّة التي تنالها يد الجعل تشريعاً، مضافاً إلى أنّ لم يرد في آية ولا رواية أنّ ما قامت البيّنة على خمريته خمر وإنّ الأمارة علم حتّى يصحّ دعوى كون المجعول هو الخمريّة أو كون البيّنة علماً ولو بنحو المسامحة من باب الضيق في التعبير، وبالجملة ما يكون قابلًا لتعلّق الجعل التشريعي به كيفية المجعولات التشريعية هو نفس صفة الكاشفيّة والطريقيّة لما ليس كذلك بحسب ذاته من دون تنزيل للمؤدّى منزلة الواقع ولا لتنزيل نفسه منزلة العلم. وبعبارة اخرى له في موضع آخر: أنّ مفاد حجّية

انوار الأصول، ج 2، ص: 236

الأمارات هو تتميم الكشف أي يكمّل الشارع بأدلّة الحجّية الكشف الظنّي الموجود في الأمارة).

ثمّ أشار إلى ما مرّ من إشكال الجمع بين اللحاظين بأنّ بناء هذا الإشكال على تخيّل أنّ دليل الاعتبار إنّما يتكفّل لإثبات أحكام الواقع للمؤدّى أو أحكام القطع للأمارة فيكون تعميماً في الموضوعات الواقعيّة أو في العلم المأخوذ في الموضوع واقعاً، وأمّا إذا بنينا على عدم تكفّل دليل الحجّية والاعتبار للتنزيل أصلًا بل غاية شأنه هو إعطاء الطريقيّة والكاشفيّة للأمارة وجعل ما ليس بمحرز للواقع حقيقة محرزاً له تشريعاً فليس هناك تنزيل حتّى يترتّب عليه الجمع بين اللحاظين المتنافيين» «1».

أقول يرد عليه:

أوّلًا: ما المراد بإعطاء صفة الكاشفيّة لما ليس كاشفاً؟ أليست الكاشفيّة أيضاً من الامور التكوينيّة غير القابلة للجعل؟ فما ليس بعلم تكويناً وواقعاً كيف يمكن جعله علماً؟ أليس هذا إلّا كرّ على ما فرّ منه؟

إن قلت: فما هو معنى الحجّية في رأيكم؟

قلت: يمكن أن يبيّن لها معنيان:

الأوّل: تنزيل المؤدّى منزلة الواقع بحسب الأحكام والآثار الشرعيّة، فمعنى

«صدّق العادل» مثلًا «نزّل ما أخبر العادل بخمريته مثلًا منزلة الخمر الواقعي في أحكامه».

الثاني: جعل حكم طريقي مماثل للحكم الواقعي، أي ينشأ دليل حجّية خبر العادل فيما إذا أخبر عادل عن خمريّة شي ء حرمةً لذلك الشي ء مثل حرمة الخمر الواقعي.

ولا يخفى أنّ المعنى الأوّل هو ظاهر لسان الأدلّة، حيث إن الخبر الذي يقول مثلًا: «ما رواه عنّي فعنّي يروي» يعني «رتّب على ما رواه الآثار والأحكام الشرعيّة»، والعمدة أنّ الذي يقبل التشريع هو الامور الاعتباريّة مثل الأحكام الشرعيّة لا غيرها.

ثانياً: سلّمنا إمكان إعطاء الكاشفيّة، لكن ليس هو لسان أحد من أدلّة الاعتبار فليس معنى مفهوم آية النبأ (وهو: إذا جاءكم عادل فلا تبيّنوا) اعطيت خبر العادل صفة الكاشفية كما لا يخفى.

انوار الأصول، ج 2، ص: 237

ثالثاً: سلّمنا ذلك، ولكن نتيجته أنّ لدينا قسمين من القطع: قطعاً تكوينياً وقطعاً تشريعياً، وظاهر أدلّة أخذها في الموضوع هو القطع التكويني فقط، فالقطع التشريعي الحاصل بتتميم الكشف وإعطاء صفة الطريقية خارج عن منصرفها.

وبالجملة فالمختار في المقام أنّه إن كان المراد من الأخذ على نحو الكاشفيّة أخذ جامع الكاشف فلا إشكال في قيام الأمارة مقامه، وإن كان المراد منه أخذ القطع بما أنّه كاشف تامّ فلا إشكال أيضاً في عدم قيام الأمارة مقامه لأنّ كشف الأمارة كشف ناقص.

هذا تمام الكلام في قيام الأمارات مقام القطع.

أمّا قيام الاصول مقامه فلنبدأ فيه ببيان أقسامها فنقول: قد قسّمها بعض الأكابر إلى الاصول المحرزة وغير المحرزة، والحقّ أنّ محرزيّة شي ء بالنسبة إلى الواقع تنافي كونه من الاصول العمليّة التي أخذ في موضوعها الشكّ بالواقع، وعليه فلا محصّل لهذا التقسيم.

اللهمّ إلّاأن يقال: أنّه مجرّد اصطلاح لكلّ أصل عملي له نظر إلى الواقع وإن لم يكن كاشفاً

ظنّياً، أو كان كذلك ولكن لم يكن الكشف الظنّي ملاك حجّيته شرعاً.

وكيف كان، قال المحقّق الخراساني رحمه الله: «أمّا الاصول فلا معنى لقيامها مقامه بأدلّتها أيضاً غير الاستصحاب لوضوح أنّ المراد من قيام المقام ترتيب ما له من الآثار والأحكام من تنجّز التكليف وغيره كما مرّت إليه الإشارة وهي ليست إلّاوظائف مقرّرة للجاهل في مقام العمل شرعاً أو عقلًا، إلى أن قال: ثمّ لا يخفى أنّ دليل الاستصحاب أيضاً لا يفي بقيامه مقام القطع المأخوذ في الموضوع مطلقاً».

وحاصل كلامه: أنّ غير الاستصحاب من الاصول العمليّة لا يقوم مقام القطع لأنّ لسانها ليس لسان التنزيل وترتيب الآثار بل هي ليست إلّامجرّد وظائف عملية للجاهل، وأمّا الاستصحاب فهو وإن كان لسان أدلّته لسان التنزيل ولها نظر إلى الواقع إلّاأنّ دليل الاستصحاب مثل قوله عليه السلام «لا تنقض اليقين أبداً بالشكّ» لابدّ أن يكون ناظراً إمّا إلى تنزيل الشكّ في البقاء منزلة القطع به، أو إلى تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن، ولا يعقل أن يكون ناظراً إلى كلا التنزيلين لاستلزامه اجتماع اللحاظين على ما تقدّم منه قدس سره في قيام الأمارات.

أقول يرد عليه:

أوّلًا: ما مرّ من أنّ الإشكال في المقام ليس هو الجمع بين اللحاظين، بل الإشكال أنّ الأدلّة

انوار الأصول، ج 2، ص: 238

منصرفة عن القطع الموضوعي، فمثل قوله «لا تنقض اليقين» المعنى المستظهر منه هو ترتّب آثار الواقع المتيقّن أي الوضوء مثلًا في مورد هذا الخبر، لا ترتيب آثار القطع.

ثانياً: ظاهر كلامه هذا أنّ الاصول لا توجب تنجّز التكليف لأنّها ليست إلّاوظائف مقرّرة للجاهل في مقام العمل مع أنّه لا منافاة بينهما بل إنّها تنجّز التكليف الواقعي في صورة الإصابة وإن لم يكن لسانها لسان التنزيل منزلة الواقع.

فظهر ممّا

ذكرنا: أنّ الاصول لا تقوم مقام القطع الموضوعي مطلقاً حتّى إذا فسّر القطع الموضوعي المأخوذ على نحو الكاشفيّة بأخذ جامع الكاشف لأنّه ليس لأصل عملي كاشفيّة وإن كان لسانه لسان التنزيل، وعليه فلا وجه لما ذهب إليه في تهذيب الاصول من جواز قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي.

بقي هنا شي ء:

وهو ما يستفاد من بعض كلمات المحقّق النائيني رحمه الله من إنكاره القطع الموضوعي المأخوذ على نحو الصفتية في لسان الأدلّة الشرعيّة، وأنّه لم نجد في الأحكام الفقهيّة حكماً أخذ في موضوعه القطع على نحو الصفتية.

فنقول في جوابه: إن كان المراد من القطع المأخوذ على نحو الصفتية تلك الدرجة العالية من العلم أي حالة المائة في المائة فيمكن أن يحمل عليها ما ورد في باب الشهادات عن علي بن غياث عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: لا تشهدنّ بشهادة حتّى تعرفها كما تعرف كفّك» «1». وما ورد أيضاً عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقد سئل عن الشهادة قال: هل ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد أو دع» «2».

وإن كان المراد منه القطع بما أنّه صفة كماليّة للنفس فيمكن أيضاً أن يحمل عليه ما ورد في بعض الرّوايات من استحباب إكرام العالم أو استحباب النظر إلى وجه العالم حيث إن العلم في هذين الحكمين لم يؤخذ بما أنّه كاشف لغيره بل بما أنّه نور في نفسه وصفة كماليّة للنفس كما لا يخفى.

المسألة الرابعة: هل يتصوّر ما ذكر من الأقسام للقطع في الظنّ أيضاً أو لا؟

قد ذكرنا سابقاً أنّ للقطع الموضوعي أربعة أقسام:

1- القطع المأخوذ في موضوع حكم نفسه.

2- القطع المأخوذ في موضوع حكم مثله.

3- القطع المأخوذ في موضوع حكم ضدّه.

4- القطع المأخوذ في موضوع حكم غيره، ومرّ أيضاً بطلان الثلاثة الاولى وإنّ الجائز منها هو القسم الأخير نحو

«إذا قطعت بنجاسة الثوب تبطل الصّلاة فيه».

أمّا الظنّ فلا إشكال في بطلان القسم الأوّل بالنسبة إليه نحو «إذا ظننت بوجوب صلاة الجمعة فهي تجب بهذا الوجوب»، وذلك للزوم نفس الإشكال وهو الدور المحال هنا أيضاً، كما لا إشكال في جواز القسم الأخير فيه، أمّا القسم الثاني والثالث فربّما يقال بأنّهما قد يصحّان بالنسبة إلى الظنّ نحو «إذا ظننت بوجوب صلاة الجمعة فهي تجب» و «إذا ظننت بنجاسة الثوب فهو طاهر»، ونكتة الجواز والسرّ فيه أنّ الحكمين فيهما حكمان في مرحلتين: مرحلة الإنشاء ومرحلة الفعليّة، فالمظنون بسبب الجهل به وعدم رفع الستار عنه كما ينبغي- يكون إنشائيّاً غير فعلي، وأمّا الحكم الذي قد أخذ الظنّ موضوعاً له فيكون فعلياً، وعليه فلا يلزم اجتماع الحكمين المتماثلين أو المتضادّين في مرتبة واحدة.

إن قلت: لو كان هذا هو السرّ في الجواز فيمكن أن يقال به في القطع أيضاً، أي يمكن أن يأخذ القطع بحكم في مرحلة الإنشاء موضوعاً للقطع به في مرحلة الفعلية فيقال مثلًا: إذا قطعت بوجوب شي ء وجوباً إنشائيّاً يجب ذلك الشي ء بوجوب فعلي أو يحرم فعلًا، فما هو الفارق بين المقامين؟

قلت: الفرق هو أنّ القطع بحكم إنشائي يلازم القطع بالفعليّة (إذا كان المانع عن الفعليّة هو الجهل فقط) لأنّ القطع حجّيته ذاتيّة ولا يمكن سلب الحجّية عنه، بخلاف الظنّ فيمكن فيه للشارع جعل الحجّية له أو سلبها عنه لعدم كونها ذاتيّة له.

إن قلت: ما هي الثمرة لهذا البحث؟

قلنا: سيأتي إن شاء اللَّه تعالى فائدتها العظيمة في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري في انوار الأصول، ج 2، ص: 240

جواب شبهة ابن قبّة التي هي من المشكلات في مبحث الأحكام الظاهريّة.

المسألة الخامسة: في وجوب الموافقة الالتزاميّة في الأحكام الفرعيّة وعدمه

إذا علمنا بوجوب شي ء أو حرمته أو استحبابه

مثلًا فهل يجب الالتزام القلبي بذلك الوجوب أو الحرمة أو الاستحباب أو لا؟ وبعبارة اخرى: الواجب في الأحكام الفرعيّة شيئان أو شي ء واحد؟

وفيه أبحاث ثلاثة:

الأوّل: في المراد من الالتزام القلبي والمعنى المقصود منه.

الثاني: في وجوبه في الأحكام الفرعيّة وعدمه بعد إمكان تصوّره في مرحلة الثبوت.

الثالث: في ثمرة البحث، فيقع الكلام في ثلاث مقامات:

أمّا المقام الأوّل: فحلّ المشكل فيه يتوقّف على إثبات جواز انفكاك الاعتقاد عن العلم وأنّه هل يكون العلم عين الاعتقاد أو لا؟ فذهب جمع إلى عدم إمكان التكفيك بينهما.

قال في تهذيب الاصول: «إنّ التسليم القلبي والانقياد الجناني والاعتقاد الجزمي لأمر من الامور لا تحصل بالإرادة والاختيار، من دون حصول مقدّماتها ومبادئها، ولو فرضنا حصول عللها وأسبابها، يمتنع تخلّف الالتزام والانقياد القلبي عند حصول مبادئها، ويمتنع الاعتقاد بأضدادها فتخلّفها عن المبادى ء ممتنع كما أنّ حصولها بدونها أيضاً ممتنع ... إلى أن قال: فمن قام عنده البرهان الواضح بوجود المبدأ المتعال ووحدته لا يمكن له عقد القلب عن صميمه بعدم وجوده وعدم وحدته، ومن قام عنده البرهان الرياضي على أنّ زوايا المثلّث مساوية لقائمتيه، يمتنع مع وجود هذه المبادى ء، عقد القلب على عدم التساوي، فكما لا يمكن الالتزام على ضدّ أمر تكويني مقطوع به فكذلك لا يمكن عقد القلب على ضدّ أمر تشريعي ثبت بالدليل القطعي. نعم لا مانع من إنكاره ظاهراً وجحده لساناً لا جناناً واعتقاداً، وإليه يشير قوله عزّوجلّ: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً». وما يقال من أنّ الكفر الجحودي يرجع إلى الالتزام القلبي على خلاف اليقين الحاصل في نفسه فاسد جدّاً. هذا هو الحقّ القراح في هذا المطلب من غير فرق بين الاصول الاعتقاديّة ... إلى أن قال: فلو قام الحجّة

انوار

الأصول، ج 2، ص: 241

عند المكلّف على نجاسة الغسالة وحرمة استعمالها، يمتنع عليه أن يعقد القلب على خلافها أو يلتزم جدّاً على طهارته، إلّاأن يرجع إلى تخطئة الشارع (والعياذ باللَّه) وهو خارج عن المقام.

وبذلك يظهر أنّ وجوب الموافقة الالتزاميّة وحرمة التشريع لا يرجع إلى محصّل إن كان المراد من التشريع هو البناء والالتزام القلبي على كون حكم من الشارع مع العلم بأنّه لم يكن من الشرع، أو لم يعلم كونه منه، ومثله وجوب الموافقة وهو عقد القلب اختياراً على الاصول والعقائد والفروع الثابتة بأدلّتها القطعيّة الواقعيّة.

والحاصل أنّ التشريع بهذا المعنى أمر غير معقول بل لا يتحقّق من القاطع حتّى يتعلّق به النهي، كما أنّ الاعتقاد بكلّ ما ثبت بالأدلّة أمر قهري تتبع مبادئها ويوجد غبّ عللها بلا إرادة واختيار ولا يمكن التخلّف عنها ولا للحاصل له مخالفتها، فلا يصحّ تعلّق التكليف لأمر يستحيل وجوده، أو يجب وجوده بلا إرادة واختيار» «1».

أقول: لا يخفى أنّ لازم ما أفاده في المقام عدم وجود موضوع للبحث هنا فينتفي بانتفاء موضوعه لأنّه أنكر إمكان تعلّق الوجوب بالالتزام القلبي ثبوتاً فلا تصل النوبة إلى مقام الإثبات والبحث في أنّه هل يكون الالتزام القلبي واجباً شرعاً أو لا؟

لكن الإنصاف هو إمكان التفكيك بين العلم والالتزام القلبي ثبوتاً وأنّه يوجد وراء العلم شيئاً آخر اختياريّاً يسمّى بالتسليم والالتزام القلبي، وإن شئت فعبّر عنه بالإيمان مقابل الإسلام، وقد بيّنه المحقّق الإصفهاني رحمه الله في كلامه «2».

وتوضيحه: أنّه إذا تيقّن الإنسان بشي ء يجد بوجدانه في قبال يقينه وعلمه أمرين مختلفين:

أحدهما: التسليم الجوارحي، والثاني: التسليم الجوانحي فربّما يحصل له التسليم الجوارحي ولا يحصل له التسليم القلبي والانقياد الجناحي وبالعكس فيعلم كثيراً ما مثلًا بأهلية شخص للرئاسة

والمرجعية لكنّه لا ينقاد له قلباً ولا يقرّبه باطناً لخباثة نفسه أو لعدم كونه من قومه وقبيلته أو لجهة اخرى، وإن كان في مقام العمل يتحرّك بحركته خوفاً من سوطه وسطوته، ونحن نعتقد أنّه من هذا القبيل الكفر الجحودي فكثير من الكفّار الذين نطق القرآن بكفرهم كانوا عالمين بحقّانيّة القرآن ونبوّة نبيّنا صلى الله عليه و آله، ومع ذلك لم يكونوا منقادين، ولو كان ملاك الإيمان انوار الأصول، ج 2، ص: 242

الحقيقي نفس العلم لزم أن يكونوا مؤمنين به وأن يكون الشيطان أو فرعون مثلًا أظهر مصاديق المؤمن من أنّ كفرهم ممّا لا ينكره أحد، ومن هنا يكون المراد من الجحود في قوله تعالى: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ» الجحد القلبي لا أنّهم جحدوا لفظاً وعملًا.

والعجب من تهذيب الاصول حيث إنّه مع ما ذهب إليه من عدم كون الالتزام القلبي اختياريّاً صرّح في ذيل كلامه بانفكاك العلم عن الإيمان وقال: «إنّ الإيمان ليس مطلق العلم الذي يناله العقل ويعدّ حظّاً فريداً له» ولم يبيّن أنّه كيف لا يلزم من عدم كون العلم عين الإيمان كون الالتزام والانقياد اختياريّاً بل قال: «وبما أنّ المقام لا يسع طرح تلك الأبحاث فليراجع من أراد التفصيل إلى محالّه» «1».

وكيف كان، فإنّ عدم كون الإيمان والالتزام القلبي اختياريّاً ينافي ظاهر كثير من الرّوايات والآيات كالتي تأمر بالإيمان وتعلّق الأمر فيها بالتسليم القلبي كقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» ولو لم يكن الإيمان والتسليم أمراً اختياريّاً يكون هذا القبيل من الأوامر تكليفاً بما لا يطاق، والقول بأنّها محمولة على تحصيل مبادئه وأسبابه تكلّف لا وجه له.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ محلّ البحث أنّه إذا علمنا بوجود شي ء فهل يتصوّر فعل قلبي

وراء العلم أو لا؟ فإن قبلنا وجود ذلك الفعل فيعقل ويتصوّر البحث عن وجوب الالتزام القلبي وعدمه وإلّا فلا، وقلنا أنّ الوجدان حاكم على وجود أمر آخر قلبي يسمّى بالالتزام والتسليم القلبي وهو المستفاد من ظاهر الآيات والرّوايات، ومن هنا يعلم أنّ حقيقة التشريع هي الالتزام القلبي على كون حكم من الشارع مع العلم بأنّه لم يكن من الشرع أو مع عدم العلم بكونه منه.

هذا كلّه في إمكان تعلّق الوجوب على الالتزام وعدمه.

المقام الثاني: في أنّه بعد قبول إمكان تعلّق الوجوب ثبوتاً فهل يكون واجباً إثباتاً أو لا؟

فنقول: لا دليل لنا على وجوب الالتزام في الأحكام الشرعيّة الفرعيّة تفصيلًا لا عقلًا ولا نقلًا وإن كان واجباً في الاصول الاعتقاديّة.

أمّا عقلًا فلأنّ العقل والعقلاء لا يحكمون باستحقاق العبد للعقوبة على ترك الالتزام القلبي انوار الأصول، ج 2، ص: 243

في الأحكام الفرعيّة، ولا يحكمون فيما إذا أتى العبد بالعمل ولم يلتزم قلباً لا بوجوبه ولا بحرمته بأنّه هاتك للمولى.

وأمّا نقلًا فلعدم وجود رواية تدلّ على وجوب الموافقة الالتزاميّة، ومع عدمه والشكّ في الوجوب تصل النوبة إلى البراءة، نعم مقتضى أدلّة الإيمان بالنبوّة هو الإيمان بالأحكام الفرعيّة التي جاء بها النبي إجمالًا، وهذا غير وجوب الالتزام القلبي بها تفصيلًا، وخارج عن محلّ الكلام، وممّا يؤيّد هذا المعنى غفلة عامّة الناس عن هذا الالتزام التفصيلي، ولو كان واجباً لكان على الشارع البيان.

المقام الثالث في ثمرة المسألة: وليعلم أنّ المسألة ليست لها ثمرة في الاصول، وإن كان قد يمنع ذلك من إجراء الاصول في أطراف العلم الإجمالي على بعض الاحتمالات، بل تظهر ثمرتها في الفقه بلا واسطة، فإنّ تعلّق العلم بحكم تفصيلًا كالعلم بوجوب الصّلاة وجب الالتزام به قلباً إن قلنا

بوجوب الموافقة الالتزاميّة ولا يجب إن قلنا بعدمه، وإن تعلّق العلم بحكم إجمالًا وجب الالتزام القلبي به كذلك إن قلنا بوجوبه كالعلم الإجمالي بوجوب صلاة الجمعة أو صلاة الظهر، وذلك لعدم القدرة حينئذٍ على الالتزام التفصيلي، وهكذا لو تعلّق العلم بما يدور بين المحذورين، كما إذا علمنا بأنّ صلاة الجمعة إمّا حرام أو واجب، فيكون الالتزام القلبي حينئذٍ مثله.

هذا كلّه بالنسبة إلى الحكم الواقعي، وكذلك إذا كان الحكم ظاهريّاً كوجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي كمثال الواجب يوم الجمعة إذا دار أمر الوجوب بين صلاة الجمعة وصلاة الظهر، وكالحكم بالتخيير فيما إذا دار الحكم بين الوجوب والحرمة، وبما أنّ العلم بهذا الحكم الظاهري يكون تفصيلياً يجب الالتزام به تفصيلًا، فيكون الالتزام الواجب في مثل هذه الموارد قسمان: أحدهما: تفصيلي، وهو الالتزام بالحكم الظاهري المعلوم تفصيلًا، والآخر: إجمالي وهو الالتزام بالحكم الواقعي المعلوم إجمالًا.

ولا منافاة بينهما لعدم المنافاة بين الحكم الواقعي والظاهري كما سيأتي في محلّه إن شاء اللَّه.

وبهذا يظهر ضعف ما قيل: بأنّ ثمرة المسألة تظهر في المسألة الاصوليّة، وهي جريان الاصول في موارد التخيير، فإذا قلنا بعدم وجوب الالتزام القلبي بالحكم الواقعي فلا مانع من جريان البراءة عن الوجوب والبراءة عن الحرمة في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة مثلًا، لأنّ جريانها إنّما يستلزم المخالفة العلميّة الالتزاميّة فقط، والمفروض عدم وجوبها، وأمّا إن قلنا

انوار الأصول، ج 2، ص: 244

بوجوب الالتزام القلبي فلا يمكن جريان الاصول من ناحية لزوم الالتزام والموافقة العلميّة بالحكم الواقعي.

ووجه الضعف: إنّ لنا في المقام التزاماً قلبياً إجمالياً بالحكم الواقعي، وهو باقٍ على قوّته، والتزاماً قلبياً تفصيلياً بالحكم الظاهري، وهو البراءة، وهو أيضاً باقٍ على حاله، ولا منافاة بينهما كما سيأتي إن شاء

اللَّه.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ الالتزام القلبي ممّا لابدّ منه في الأحكام التعبّديّة التي يعتبر فيها قصد القربة، سواء قلنا بوجوبه أو لم نقل، وذلك لوجود الملازمة بين قصد القربة والالتزام القلبي وعدم انفكاك الأوّل عن الثاني، فلا معنى لوجوبه ذاتاً ومستقلًا، وحينئذٍ لا يجري البحث عن وجوبه وعدمه.

نعم، هذا بالنسبة إلى حين العمل والامتثال، وأمّا بالنسبة إلى خارج وقت العمل فلا إشكال في جريان البحث أيضاً فإذا علمنا بوجوب الصّلاة سواء حضر وقتها أم لا فهل يجب الالتزام بوجوبها قلباً أو لا؟

وكذلك يجري البحث على مستوى العمل من ناحية ترتّب عقاب واحد على ترك قصد القربة أو عقابين، فإن كان الالتزام واجباً مستقلًا فيترتّب على الترك عقابان، وإن لم يكن الالتزام واجباً ذاتاً فيترتّب على الترك عقاب واحد.

المسألة السادسة: في قطع القطاع

ينقسم الناس من حيث قطعهم بالأشياء إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل: من يكون قطعه متعارفاً، فيقطع بالشي ء فيما إذا حصلت مبادئه العقليّة وأسبابه العادية.

الثاني: القطّاع وهو من يقطع بدون تحقّق أسبابه المتعارفة.

الثالث: الوسواس وهو لا يقطع حين تحقّق تلك الأسباب.

انوار الأصول، ج 2، ص: 245

أمّا القطاع، فتارةً يبحث فيه عن عدم حجّية قطعه بالنسبة إلى القطع الطريقي، واخرى بالنسبة إلى القطع الموضوعي، أمّا عدم حجّية قطعه بالنسبة إلى القطع الموضوعي فاللازم فيه ملاحظة ظواهر الأدلّة التي أخذ القطع فيها في الموضوع وإنّها هل تشمل قطع القطّاع أيضاً أو لا؟

فنقول: الظاهر إنصرافها عن قطع القطاع وإنّ القطع المأخوذ في موضوعها هو القطع الحاصل من الأسباب المتعارفة لا الحاصل من أي سبب كان.

أمّا القطع الطريقي، فلا إشكال في حجّيته في قطع القطاع بالنسبة إلى حين القطع لأنّها كما مرّ سابقاً ذاتي للقطع لا يمكن أن يتخلّف عنه سواء كان قطع القطاع أو

غيره، ومن أي سبب حصل، ولأيّ شخص كان، فالقطاع في حالة قطعه لا يمكن نهيه وسلب الحجّية عن قطعه، وأمّا بالنسبة إلى ما بعد زوال قطعه أو زوال حالة القطاعيّة فلا إشكال أيضاً في إمكان نهيه عن ترتيب الآثار على قطعه وأمره بقضاء ما لم يأت به، لقطعه بعدم وجوبه أو عدم حصول شرائط الوجوب مثلًا.

هذا بالنسبة إلى مقام الثبوت، وأمّا مقام الإثبات فإذا انكشف الخلاف فقد مرّ في مبحث الإجزاء عدم إجزاء الأحكام الظاهريّة العقليّة ووجوب القضاء عليه، وإذا لم ينكشف وشكّ في صحّة عمله فهل يمكن إجراء قاعدة الفراغ أو لا؟ الحقّ عدم شمولها للمقام لانصرافها إلى غيره، ولما ورد فيها من التعليل بأنّه «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» المعلوم عدم شموله للمقام.

هذا كلّه بالنسبة إلى القطع الحقيقيى، أمّا القطع العرفي المسمّى بالاطمئنان الذي قد مرّ أنّه الغالب في العلوم والآراء العلميّة فحيث أنّه يجتمع مع احتمال الخلاف يمكن النهي عنه في القطّاع أو غيره وسلب الحجّية عنه حين القطع.

فتلخّص من جميع ما ذكر إمكان المنع عن العمل بقطع القطاع في ثلاثة موارد:

1- القطع الموضوعي.

2- القطع الطريقي العرفي.

3- القطع الطريقي الحقيقي بالنسبة إلى حال زوال القطع أو حال زوال هذه الصفة أي كونه قطاعاً، ولا يمكن سلبها عنه في مورد واحد، وهو القطع الطريقي الحقيقي حين القطع، هذا كلّه في القطاع.

انوار الأصول، ج 2، ص: 246

أمّا الوسواس فأحكامه تشبه أحكام القطّاع لأنّ كلّ واحد منهما خارج عن حدّ الاعتدال، إنّما الفرق بينهما أنّ أحدهما داخل في جانب الافراط والآخر في جانب التفريط، فكما أنّ الأدلّة التي كان القطع فيها مأخوذاً في الموضوع كانت منصرفة عن قطع القطاع كذلك منصرفة عن قطع الوسواس،

فإذا كان مفاد دليل: «إذا قطعت بنجاسة ثوبك يجب تحصيل القطع بطهارته» فهو منصرف إلى القطع المتعارف وغير شامل للوسواس، فلا يجب عليه تحصيل القطع بطهارة ثوبه، وهكذا بالنسبة إلى القطع الطريقي فلا يمكن منعه وسلب الحجّية عن قطعه في حال قطعه، كما إذا قطع بنجاسة جميع المياه الموجودة في بلده، فصار بناءً على قطعه هذا فاقداً للماء، فتيمّم لصلاته، فلا يمكن منعه في حال قطعه، وأمّا بالنسبة إلى ما بعد زوال قطعه أو زوال حالة الوسوسة فلا إشكال أيضاً في إمكان سلب الحجّية عن قطعه السابق وأمره بالقضاء ثبوتاً، وبالنسبة إلى مقام الإثبات أيضاً يجري هنا جميع ما مرّ في قطع القطاع من عدم الاجزاء وعدم جريان قاعدة الفراغ.

المسألة السابعة: هل القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة، هو حجّة؟
اشارة

قد مرّ في ما تقدّم أنّ القطع الطريقي حجّة، والحجّية ذاتيّة له، وقلنا إنّه بحسب الحقيقة ليس طريقاً للوصول إلى الواقع بل هو نفس الوصول إلى الواقع والمشاهدة له سواء كان قطع القطاع أو غيره، ومن أي سبب حصل، ولأي شخص كان وفي أي مورد من موارد الفقه.

لكن نسب إلى الأخباريين إنكار حجّية القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة وعدم عدّ العقل من الأدلّة الشرعيّة، والذي يظهر من كلماتهم امور: أحدها: إنكار الملازمة بين حكم العقل والشرع، والثاني: عدم حصول القطع من المقدّمات العقليّة، والثالث: منع الشارع عن الرجوع إليها وإن حصل منها القطع، هذا من أهمّ وجوه الاختلاف بين المسلكين (المسلك الأخباري ومسلك الاصولي) ولازمها سقوط دليل العقل من بين الأدلّة الأربعة الشرعيّة، فصارت الأدلّة عندهم ثلاثة بل صارت دليلًا واحداً لعدم أخذهم بالكتاب بغير طريق السنّة وعدم اعتمادهم على الإجماع إذا لم يكن في المجمعين معصوم.

انوار الأصول، ج 2، ص: 247

أمّا المقام الأوّل: أي إنكار

الملازمة بين حكم العقل والشرع فيتصوّر فيه احتمالات أربع، لتعيين مرادهم:

الأوّل: أن يكون المقصود إنكار الحسن والقبح العقليين.

الثاني: إنكار كبرى الملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي في سلسلة التشريع.

الثالث: إنكاره قدرة العقل على إدراك المصالح والمفاسد.

الرابع: عدم قدرته على إدراك الموانع والمعارضات.

أمّا الاحتمال الأوّل، وهو عزل العقل بالمرّة عن إدراك الحسن والقبح كما ذهب إليه الأشاعرة فيردّه بداهة العقل، ومراجعة الوجدان أدلّ دليل على إدراك العقل للحسن والقبح، حيث لا إشكال في أنّ العقل يحكم بحسن بعض الأفعال كالإحسان وإعانة المظلوم وإغاثة الملهوف، وقبح بعضها الآخر كالظلم وقتل النفوس الأبرياء والتجاوز على الحقوق والأموال المحترمة.

أمّا الاحتمال الثاني (وهو إنكار حكم العقل بالملازمة بين ما استقلّ العقل بحسنه ووجود المصلحة الملزمة فيه وبين حكم الشارع بوجوبه، وهكذا بين ما إستقلّ بقبحه ووجود المفسدة وبين حكم الشارع بحرمته) فقد نقل المحقّق النائيني رحمه الله عن صاحب الفصول وجوهاً لعدم الملازمة:

أحدها: وجود الأوامر الإمتحانية في الشرع مع عدم وجود الملاك في متعلّقاتها، فيمكن وجود الحكم الشرعي مع عدم وجود الحكم العقلي لعدم الملاك والمصلحة في مورده.

وجوابه: أنّ مورد البحث في المقام هو الأوامر الجدّية غير الإمتحانية.

ثانيها: موارد التقيّة إذا كانت في نفس الحكم دون المتعلّق كما إذا أمر الإمام عليه السلام بشي ء لحفظ دم نفسه سلام اللَّه عليه بنفس الأمر من دون أن يكون هناك مصلحة في المأمور به فقد تخلّف الحكم عن الملاك.

وفيه: ما مرّ من الجواب عن الوجه الأوّل من أنّ مورد البحث ما إذا كان الأمر بداعي الجدّ، وإن شئت قلت: أنّ المصلحة إذا كانت في نفس الإنشاء بأن تكون التقيّة في نفس الأمر لا أن تكون التقيّة في المأمور بها، فهو لا يكون بأمر

حقيقة بل هو مجرّد تكلّم بلفظ، والمصلحة في نفس التكلّم، وأين ذلك من تخلّف الحكم عن الملاك؟

انوار الأصول، ج 2، ص: 248

ثالثها: أنّه لا ريب في أنّ الملاك ربّما يكون في بعض الأفراد دون بعض، ومع ذلك يجعل الحكم على كلّي يشملهما، وهذا كما في باب العدّة، فإنّ مصلحة حفظ الأنساب وعدم اختلاط المياه اقتضت تشريع حكم العدّة مطلقاً حتّى فيما لا يلزم فيه من عدم العدّة اختلاط المياه فقد تخلّف الحكم في تلك الموارد عن الملاك.

وجوابه: أنّ المصلحة على قسمين: مصلحة نفس الحكم التي يمكن أن يكون نوعيّة غالبية ولا تكون موجودة في جميع الأفراد والمصاديق، ومصلحة كلّية الحكم، فيمكن أن لا يوجد في فرد مصلحة نفس الحكم، وفي نفس الحال لا يستثنى ولا يخصّص ذلك الفرد لوجود المصلحة الثانية، أي مصلحة كلّية الحكم فيه، وذلك مثل حرمة الخمر الجارية في جميع مصاديقها مع أنّ مفسدتها وهي السكر لا يوجد في قطرة واحدة منها مثلًا، ومع ذلك يكون شربها حراماً حفظاً لكلّية الحكم، وأين ذلك من الالتزام بعدم تبعية الحكم للملاك كما هو المدّعى؟

رابعها: أنّه لا ريب في أنّ الملاك والمصلحة في العبادات إنّما يترتّب على إتيانها بقصد قربى لا على مجرّد وجوداتها في الخارج، ومن المعلوم أنّ الأوامر فيها لا تتعلّق إلّابأنفسها لما ذكر في محلّه من عدم جواز قصد القربة في متعلّق الأمر، فما فيه الملاك يستحيل تعلّق الأمر به، وما تعلّق به الأمر لا يكون واجداً للملاك على الفرض.

وجوابه: أنّه قد مرّ في محلّه إمكان أخذ قصد القربة في المأمور به بلا إشكال فراجع.

خامسها: أنّه ثبت لنا في الشريعة موارد لم يحكم الشارع فيها على طبق الملاكات الموجودة فيها كما هو مقتضى

قوله صلى الله عليه و آله «لولا أن أشقّ على امّتي لأمرتهم بالسواك» بل أمرنا بالسكوت فيما سكت اللَّه عنه في قوله صلى الله عليه و آله «اسكتوا عمّا سكت اللَّه عنه فإنّ اللَّه لم يسكت عنها نسياناً الخ» فإذا أمكن تخلّف الحكم الشرعي عن الملاك ولو في مورد واحد فبمجرّد إدراك العقل لحسن شي ء أو قبحه لا يمكن استكشاف الحكم الشرعي في ذلك المورد بل لابدّ من السكوت فيه.

وجوابه واضح: لأنّ المقصود في هاتين الروايتين أنّ عدم الحكم الشرعي مع وجود الملاك يكون لوجود مصلحة أهمّ التي تمنع عن الحكم، وإن شئت قلت: إنّ مصلحة الحكم هنا معارضة مع مفسدة العسر والحرج وأشباهه، وبعبارة اخرى: أنّ محلّ الكلام إنّما هو في مورد لا يتطرّق فيه احتمال المزاحم مثل المشقّة ونحوها، إذ معه لا يمكن استقلال العقل حتّى يستكشف منه الحكم الشرعي.

انوار الأصول، ج 2، ص: 249

إذا عرفت عدم صحّة الوجوه التي استدلّ بها لعدم وجود الملازمة فنقول: دليلنا على الملازمة وعلى أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح والمفاسد أمران:

الأوّل: أنّ العقل يحكم بأنّه قبيح على الحكيم أن يأمر بغير مصلحة وينهى بغير مفسدة.

الثاني: الآيات والرّوايات التي علّلت الأحكام وإشارات إلى مصالحها أو مفاسدها: فمن الآيات قوله تعالى في الصّيام: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» «1»

وقوله في الحجّ: «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ» «2»

وقوله في الزّكاة: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا» «3»

وقوله في الصّلاة: «إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ» «4»

وقوله في القصاص: «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» «5»

وقوله في الجهاد: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» «6».

ومن الرّوايات ما

ورد في رواية تحف العقل وحاصله: أنّ كلّ ما هو مأمور به على العباد وقوام لهم في امورهم من وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره ممّا يأكلون ويشربون ويلبسون وينكحون ويملكون ويستعملون فهذا كلّه حلال بيعه وشراؤه وهبته وعاريته، وكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا قد نهى عنه من جهة أكله وشربه ولبسه ... فحرام، هذا هو المستفاد من مجموع ما ورد في تلك الرّواية الطويلة، فإنّ هذه الرّواية تنادي بأعلى صوتها بأنّ الحلال تابع للمصلحة والحرام تابع للمفسدة وكذلك غيرها من الرّوايات الكثيرة المذكورة في كتاب علل الشرائع وغيره.

أمّا الاحتمال الثالث (وهو أن يكون المراد إنكار قدرة العقل على إدراك المصالح والمفاسد) والاحتمال الرابع (وهو أن يكون مرادهم عدم إدراك العقل لموانعها ومعارضاتها) فجوابهما واضح لأنّه لا إشكال في أنّ العقل ولو بنحو الموجبة الجزئيّة يمكن أن يدرك المصالح الملزمة

انوار الأصول، ج 2، ص: 250

وحسن الأشياء أو المفاسد وقبحها لما مرّ من حكمه بحسن الإحسان وإعانة المظلومين وقبح الظلم وقتل النفس المحترمة، والمنكر ينكره باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان.

هذا كلّه هو المقام الأوّل، وهو إنكارهم الملازمة بين حكم العقل والشرع.

أمّا المقام الثاني: وهو عدم حصول القطع من المقدّمات العقليّة النظريّة فنسب إلى بعض الأخباريين أنّه لا يحصل القطع من المقدّمات العقليّة لكثرة وقوع الخطأ فيها.

والجواب عنه:

أوّلًا: أنّ ما ذهبوا إليه بنفسه دليل وبرهان عقلي اقيم على نفي العقل.

ثانياً: أنّه ينتقض بوقوع الخطأ والاختلاف الكثير بين الذين لا يعتمدون إلّاعلى الأدلّة النقليّة، وحيث إن بعضهم تفطّن لذلك- أجاب عنه بأنّه إنّما نشأ ذلك من ضمّ مقدّمة عقليّة باطلة بالمقدّمة النقليّة الظنّية أو القطعيّة، ولكنّه خلاف الإنصاف لانتقاضه بوقوع الاختلاف بين الأخباريين المنكرين لحجّية العقل أيضاً فإنّهم كثيراً

ما يختلفون في ظهورات الأدلّة النقليّة واستظهاراتهم منها.

ثالثاً: أنّ هذا أيضاً خروج عن المفروض في محلّ النزاع لأنّ البحث هنا في حجّية القطع على فرض حصوله من المقدّمات العقليّة.

رابعاً: أنّ عزل العقل عن الإدراك والحجّية بالمرّة يوجب سدّ باب إثبات الصانع وسائر الاصول الاعتقاديّة، وإثباتها بالأدلّة النقليّة دور واضح.

ثمّ إنّ للمحدّث الاسترابادي رحمه الله في المقام كلاماً لإثبات عدم حصول القطع من المقدّمات العقليّة، ونقله شيخنا الأعظم رحمه الله في رسائله، وحاصله ببيان منّا: أنّ العلوم مطلقاً على ثلاثة أقسام:

الأوّل: ما ينتهي إلى الحسّ كالعلوم التجربيّة.

الثاني: ما ينتهي إلى مادّة هي قريبة من الإحساس، ومن هذا القسم علم الهندسة والحساب وأكثر أبواب المنطق.

الثالث: ما ينتهي إلى مادّة بعيدة عن الإحساس ومن هذا القسم الحكمة الإلهية والطبيعية وعلم الكلام وعلم اصول الفقه والمسائل النظريّة الفقهيّة وبعض القواعد المذكورة في كتب المنطق.

انوار الأصول، ج 2، ص: 251

ومن المعلوم عدم وقوع الخلاف بين العلماء أو الخطأ في نتائج الأفكار في القسمين الأوّلين، بخلاف القسم الثالث حيث وقعت الاختلافات والمشاجرات الكثيرة الشديدة بين الفلاسفة في الحكمة الإلهية والطبيعية وبين علماء الإسلام في اصول الفقه ومسائل الفقه وعلم الكلام وغير ذلك، والسبب في ذلك بُعد هذه العلوم عن الإحساس فلا بدّ في إثباتها من المنطق، والقواعد الفقهيّة عاصمة من الخطأ من جهة الصورة لا من جهة المادّة.

ويمكن أن نضيف إلى ما ذكره: أنّ العلم الإجمالي بوقوع الخطأ في هذا القسم مانع عن حصول القطع في مسائله، لأنّ الموجبة الكلّية لا تجتمع مع السالبة الجزئيّة كما مرّ، وهذا يقتضي أن يتبدّل علمنا التفصيلي بكلّ واحد من تلك المسائل إلى الظنّ ويرجع هذا إلى عدم حجّية إدراكات العقل في غير المحسوسات وما تكون

مبادئه قريبة من الإحساس.

والمحقّق الخراساني رحمه الله تجاوز هذا الوجه إتّكالًا على أنّ النزاع مع هذا المحدّث نزاع صغروي، لكننا نعتقد بأهميّته لأنّه على أي حال سواء كان النزاع في الصغرى أم في الكبرى يوجب عزل العقل بالمرّة عن الإدراك والحجّية، فلا بدّ من حلّه والجواب عنه.

فنقول يرد عليه:

أوّلًا: إنّ ما ذهب إليه من عدم وقوع الخطأ في الحسيّات وما ينتهي إلى مادّة قريبة من الإحساس ممنوع بالوجدان لوقوع الخطأ الكثير في المبصرات والمسموعات وغيرها الحواس، فيقطع الإنسان مثلًا بوصول الماء إلى البشرة في الوضوء ثمّ ينكشف خلافه تفصيلًا أو إجمالًا، وهكذا في الرياضيات فينكشف الخلاف مثلًا في جمعه وتفريقه وإن لم يظهر الخطأفي قواعده.

ثانيا: أنّ كلامه يوجب بطلان نفسه، لأنّ استدلاله ليس من الحسّيات ولا من الرياضيات بل داخل في القسم الثالث الذي لا يحصل القطع فيه عنده.

ثالثاً: ما مرّ سابقاً من أنّ القطع الحقيقي وإن لم يكن في بعض العلوم النظريّة إلّاأنّه لا إشكال في حصول القطع العادي العرفي الذي استقرّت سيرة العقلاء على حجّيته وقد أمضاها الشارع أيضاً.

هذا كلّه في المقام الثاني.

أمّا المقام الثالث: فهو في روايات استدلّوا بها على عدم حجّية العقل، وهي المهمّ في المقام انوار الأصول، ج 2، ص: 252

بل هو الأساس في إنكارهم حجّية العقل وهي على طوائف:

الطائفة الاولى: ما تنهى عن العمل بالرأي، وفسّر الرأي عندهم بحكم العقل.

الطائفة الثانية: ما تدلّ على غاية بعد العقول عن دين اللَّه.

الطائفة الثالثة: ما تدلّ على أنّ المدرك الوحيد للأحكام هو روايات أهل البيت عليهم السلام.

أمّا الطائفة الاولى: النهي عن العمل بالرأي

فمنها: ما روي عن أبي جعفر عليه السلام: «من أفتى الناس برأيه فقد دان اللَّه بما لا يعلم ومن دان اللَّه بما لا يعلم فقد ضادّ

اللَّه حيث أحلّ وحرّم فيما لا يعلم» «1».

ومنها: ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في كلام له: إنّ المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه ولكن أتاه من ربّه فأخذ به «2».

ومنها: ما رواه غياث بن إبراهيم عن الصادق عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال في كلام له: «الإسلام هو التسليم- إلى أن قال- أنّ المؤمن أخذ دينه عن ربّه ولم يأخذه عن رأيه» «3».

ومنها: ما رواه في الاحتجاج عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّه قال لأبي حنيفة في احتجاجه عليه في إبطال القياس: «أيّما أعظم عنداللَّه؟ القتل؟ أو الزنا؟ قال بل القتل فقال عليه السلام: فكيف رضى في القتل بشاهدين ولم يرض في الزنا إلّابأربعة؟ ثمّ قال له: الصّلاة أفضل أم الصّيام؟ قال: بل الصّلاة أفضل قال عليه السلام فيجب على قياس قولك على الحائض قضاء ما فاتها من الصّلاة في حال حيضها دون الصّيام وقد أوجب اللَّه عليها قضاء الصّوم دون الصّلاة، ثمّ قال له: البول أقذر أم المني؟ فقال البول أقذر فقال: يجب على قياسك أن يجب الغسل من البول دون المني، وقد أوجب اللَّه تعالى الغسل من المني دون البول- إلى أن قال عليه السلام: تزعم أنّك تفتي بكتاب اللَّه ولست ممّن ورثه وتزعم أنّك صاحب قياس، وأوّل من قاس إبليس ولم يُبْنَ دين اللَّه على القياس وزعمت أنّك صاحب رأي وكان الرأي من الرسول صلى الله عليه و آله صواباً ومن غيره خطأً لأنّ انوار الأصول، ج 2، ص: 253

اللَّه تعالى قال: «فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ» ولم يقل ذلك لغيره» «1». الحديث.

ومنها: ما رواه يحيى البكّاء عن علي عليه السلام قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه

و آله: «ستفترق امّتي على ثلاث وسبعين فرقة منها ناجية والباقون هالكون والناجون الذين يتمسّكون بولايتكم، ويقتبسون من علمكم ولا يعملون برأيهم فاولئك ما عليهم من سبيل» «2». الحديث.

ومنها: ما رواه معاوية بن ميسرة بن شريح قال: شهدت أبا عبداللَّه عليه السلام في مسجد الحنيف وهو في حلقة فيها نحو من مائتي رجل وفيهم عبداللَّه بن شبرمة فقال له: يا أبا عبداللَّه إنّا نقضي بالعراق فنقضي بالكتاب والسنّة ثمّ ترد علينا المسألة فنجتهد فيها بالرأي- إلى أن قال-: فقال أبو عبداللَّه عليه السلام: فأيّ رجل كان علي بن أبي طالب عليه السلام؟ فأطراه ابن شبرمة وقال فيه قولًا عظيماً. فقال له أبو عبداللَّه عليه السلام: «فإنّ علياً أبى أن يدخل في دين اللَّه الرأي وأن يقول في شي ء من دين اللَّه بالرأي والمقاييس- إلى أن قال-: لو علم ابن شبرمة من أين هلك الناس ما دان بالمقاييس ولا عمل بها» «3».

ومنها: ما رواه طلحة بن زيد عن أبي عبداللَّه عن أبيه عليه السلام قال، قال: أمير المؤمنين عليه السلام: «لا رأي في الدين» «4».

ومنها: ما رواه أبو بصير قال قلت لأبي جعفر عليه السلام ترد علينا أشياء لا نجدها في الكتاب والسنّة فنقول فيها برأينا فقال: «أما إنّك إن أصبت لم تؤجر وإن أخطأت كذبت على اللَّه» «5».

ومنها: ما رواه زيد في حديث أنّه لمّا نزل قوله تعالى: «إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ» السورة قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «إنّ اللَّه قضى الجهاد على المؤمنين في الفتنة بعدي- إلى أن قال-: يجاهدون على الأحداث في الدين إذا عملوا بالرأي في الدين ولا رأي في الدين إنّما الدين من الربّ أمره ونهيه» «6».

انوار

الأصول، ج 2، ص: 254

ومنها: ما رواه حبيب قال: قال لنا أبو عبداللَّه عليه السلام: «ما أحد أحبّ إليّ منكم إنّ الناس سلكوا سبلًا شتّى منهم من أخذ بهواه ومنهم من أخذ برأيه وإنّكم أخذتم بأمر له أصل» «1».

ومنها: ما روي عن أبي محمّد الحسن بن علي عليه السلام أنّه سئل عن كتب بني فضّال، فقال:

«خذوا بما رووا وذروا ما رأوا» «2».

والجواب عنها: أنّها خارجة عن محلّ النزاع أي القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة بل هي ناظرة إمّا إلى الآراء والقياسات الظنّية كما تشهد عليه ما مرّ من رواية مسعدة بن صدقة عن أبي جعفر عليه السلام حيث ورد فيها: «ومن دان اللَّه بما لا يعلم فقد ضادّ اللَّه ففسّر الرأي فيها بما لا يعلم».

أضف إلى ذلك أنّ من لاحظ تاريخ فقه العامّة يرى أنّهم كانوا يعتقدون في الفقه بخلأ فقهي (خلافاً لما ذهب إليه علمائنا أجمع، فيتوهّمون أنّ هناك مسائل لم يبيّن حكمها في الكتاب والسنّة ولم يرد فيه نصّ ويعبّرون عنها بما لا نصّ فيه) ولعدم جريان البراءة فيها عندهم يتمسّكون أوّلًا بذيل القياس إن وجدوا لها شبيهاً ونظيراً في الفقه وإلّا يلتجأون إلى الاستحسان والاجتهاد بمعنى جعل القوانين وفقاً لآرائهم، وهذا هو المقصود من الرأي الوارد في هذه الطائفة من الرّوايات فهي ناظرة إلى هذا المعنى بحسب الحقيقة، وفي ضوء هذه النكتة التاريخيّة يتّضح المراد من هذه الأخبار.

وإن شئت قلت: هذا الإرتكاز الذهني المتداول بينهم يكون بمنزلة قرينة لبّية لتعيين المراد من الرأي الوارد في هذه الطائفة.

ويشهد عليه أيضاً ترادف الآراء بالمقاييس في لسان الرّوايات، فمن المسلّم أنّ المقصود من القياس ليس هو قياس الأولويّة الذي يكون قطعيّاً بل المراد منه القياس الظنّي،

فليكن مترادفها أيضاً كذلك.

ومن هنا يظهر أيضاً أنّ المراد من التعبير بالاجتهاد الوارد في الرّوايات هو نفس العمل بالرأي والظنّ، لا تطبيق الاصول على الفروع.

وأمّا أن تكون ناظرة إلى مقابلتهم الأئمّة والاستغناء عن مسألتهم، وله أيضاً شواهد: منها

انوار الأصول، ج 2، ص: 255

ما رواه يونس بن عبدالرحمن قال: قلت لأبي الحسن الأوّل عليه السلام: بما أُوحّد اللَّه؟ فقال:

«يايونس لا تكوننّ مبتدعاً، من نظر برأيه هلك، ومن ترك أهل بيت نبيّه ضلّ، ومن ترك كتاب اللَّه وقول نبيّه كفر» «1».

ومنها: ما مرّ من رواية حبيب ورد فيها: «منهم من أخذ برأيه وإنّكم أخذتم بأمر له أصل».

أمّا الطائفة الثانية: ما تدّل على غاية بعد العقول عن دين اللَّه

فمنها: ما رواه عبدالرحمن بن الحجّاج قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: «ليس شي ء أبعد من عقول الرجال عن القرآن» «2».

ومنها: ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «ليس شي ء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، أنّ الآية ينزل أوّلها في شي ء، وأوسطها في شي ء وآخرها في شي ء» «3».

ومنها: ما رواه جابر قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «ياجابر أنّ للقرآن بطناً وللبطن ظهراً، ولى شي ء أبعد من عقول الرجال منه، أنّ الآية لينزل أوّلها في شي ء وأوسطها في شي ء، وآخرها في شي ء، وهو كلام متصرّف على وجوه» «4».

والجواب عنها هو الجواب عن الطائفة الاولى من أنّها ناظرة إلى الآراء الظنّية أو ناظرة إلى ترك أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله كما يشهد له ما رواه ابن عبّاس عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: قال: «من قال في القرآن بغير علم فيتبوّء مقعده من النار» «5».

وما جاء في ما رواه إسماعيل بن جابر عن الصادق عليه السلام: «وإنّما هلك الناس في المتشابه لأنّهم

لم يقفوا في معناه ولم يعرفوا حقيقته فوضعوا له تأويلًا من عند أنفسهم بآرائهم واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء ونبذوا قول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وراء ظهورهم» «6».

أمّا الطائفة الثالثة: التي تدلّ على انحصار الحجّة الشرعيّة بالنقل
اشارة

فمنها: ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: «من أخذ دينه من أفواه الرجال أزالته الرجال، ومن أخذ دينه من الكتاب والسنّة زالت الجبال ولم يزل» «1».

ومنها: ما روي عن حريز: «أنّ أبا حنيفة قال له: أنت لا تقول شيئاً إلّابرواية قال: أجل» فهو يدلّ على أنّ مثل حريز الذي كان من كبار أصحاب الصادق عليه السلام وخواصّهم لا يقول شيئاً إلّا برواية ولا حجّة عنده إلّاالرّواية «2».

والجواب عنها أيضاً هو الجواب عن الطائفتين السابقتين، فلا بدّ من ملاحظة خصوصيّات تلك الأعصار حتّى يثبت لنا أنّ مراد أبي حنيفة في قوله «أنت لا تقول شيئاً إلّابرواية» عدم اعتناء حريز بالقياس والاستحسان، حيث إنّه لا ريب في أنّ الحريز أيضاً كان يعمل بحكم العقل في تقديم الأهمّ على المهمّ مثلًا والتمسّك بالكذب لنجاة مؤمن لو ابتلى به، وإن لم يصدر فيه من جانب الإمام عليه السلام رواية، كما أنّ المراد من أخذ الدين من أفواه الرجال أيضاً ليس إلّاأخذه من القياسات الظنّية والاستحسانات غير القطعيّة.

أضف إلى ذلك ما رواه ابن أبي ليلى عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّه قال لأبي حنيفة: «فدع الرأي والقياس وما قال قوم في دين اللَّه ليس له برهان» «3» فإنّها تشهد على أنّ مقصود هذه الطائفة من الأخذ بالرواية هو الاجتناب عن الآراء الظنّية، حيث إنّها تعبّر عن الرأي القياس ب «ما ليس له برهان».

هذا كلّه في الوجوه التي استدلّ بها الأخباريون لمرامهم.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني رحمه الله أضاف إليها

وجهاً رابعاً، وحاصله: أنّا نحتمل كون حجّية دليل العقل من جانب الشارع مشروطاً بوساطة من جانب الأئمّة المعصومين صلوات اللَّه عليهم، وبعبارة اخرى: أنّ دليل العقل يدلّ على الحكم الشأني لا الفعلي ويصل إلى مرحلة الفعليّة إذا ايّد بالكتاب أو السنّة، ومجرّد وجود هذا الاحتمال يوجب بطلان الاستدلال بالأدلّة العقليّة.

وأجاب عنه بالقول: «أنّ العقل بعد ما أدرك المصلحة الملزمة في شي ء كالكذب المنجي انوار الأصول، ج 2، ص: 257

للنبي أو لجماعة من المؤمنين مثلًا، وأدرك عدم مزاحمة شي ء آخر لها، وأدرك أنّ الأحكام الشرعيّة ليست جزافيّة وإنّما هي لأجل ايصال العباد إلى المصالح وتبعيدهم عن المفاسد، كيف يعقل أن يتوقّف في استكشاف الحكم الشرعي بوجوبه ويحتمل مدخلية وساطتهم صلوات اللَّه وسلامه عليهم بل لا محالة يستقلّ بحسن هذا الكذب ويحكم بمحبوبيته، والحاصل أنّ المدّعى هو تبعيّة الحكم الشرعي لما استقلّ به العقل من الحسن والقبح، وبعد الاستقلال لا يبقى مجال لهذا الاحتمال أصلًا» «1».

أقول: ولذلك نعتقد بأنّ من لم يصل إليه بلاغ من رسول فلا أقلّ من استحقاقه للعقاب على ترك ما يستقلّ به العقل، فلو قتل إنساناً عالماً عامداً كان مستحقّاً للعذاب عند اللَّه تعالى بلا إشكال، ولا يمكن أن يقال: إنّ هذا الحكم ما لم يصل إلى هذا القاتل من ناحية الشرع كان معذوراً في هذا الفعل.

ثمّ إنّ الاصوليين استدلّوا لحجّية العقل في قبال الأخباريين بوجوه:

الأوّل: الأخبار الواردة في هذا المجال:

منها: ما رواه محمّد بن عبدالجبّار عن بعض أصحابنا رفعه إلى أبي عبداللَّه عليه السلام قال قلت له:

ما العقل؟ قال: «ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان»، قال: قلت فالذي كان في معاوية؟

فقال: «تلك النكراء، تلك الشيطنة وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل» «2».

ومنها: ما

رواه هشام عن أبي عبداللَّه عليه السلام في حديث طويل: «ياهشام أنّ للَّه على الناس حجّتين حجّة ظاهرة وحجّة باطنة فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة عليهم السلام وأمّا الباطنة فالعقول» «3».

ومنها: ما رواه إسماعيل بن مهران عن بعض رجاله عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «العقل دليل المؤمن» «4».

ومنها: ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: «لمّا خلق اللَّه العقل استنطقه ثمّ قال انوار الأصول، ج 2، ص: 258

له: أقبل فأقبل، ثمّ قال له أدبر فأدبر، ثمّ قال: وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحبّ إليّ منك ولا أكملتك إلّافيمن أُحبّ، اما أنّي إيّاك آمر وإيّاك أنهى وإيّاك اعاقب وإيّاك اثيب» «1».

أضف إلى ذلك لحن خطابات القرآن، حيث إنّها متوجّهة إلى اولي الألباب وقوم يعقلون ويتفكّرون، وهذا ينافي عدم حجّية العقل كما لا يخفى، ولا أقلّ فيها من التأييد للمراد.

الثاني: الأخبار التي استدلّ فيها الأئمّة عليهم السلام بوجوه عقليّة كما يظهر لمن تتبّع فيها.

الثالث: اتّفاق الاصوليين والأخباريين على العمل بالأدلّة العقليّة في كلماتهم فمن راجع كلمات الأخباريين كصاحب الحدائق يجد صدق ما ذكرناه.

الرابع: عدم الخلاف في حجّيته في اصول الدين وهو يستلزم الحجّية في الفروع بالأولوية القطعيّة.

هذا تمام الكلام في العلم التفصيلي.

الكلام في العلم الإجمالي
اشارة

كان البحث إلى هنا في العلم التفصيلي، ونبحث الآن في العلم الإجمالي وأنّه ما هو حكمه؟

فهل يترتّب عليه جميع آثار العلم التفصيلي أو لا؟ وبعبارة اخرى: كان العلم التفصيلي حجّة في مقامين، مقام التنجّز ومقام الامتثال، فيقع البحث في العلم الإجمالي أيضاً في مقامين:

الأوّل: في إثبات التكليف وتنجّزه به، فهل يجب موافقته ويحرم مخالفته قطعاً أو احتمالًا، أو لا؟

والثاني: في أنّه هل يجوز الاكتفاء به في مقام الامتثال وإسقاط التكليف كما

إذا صلّى الإنسان إلى أربع جهات مع كونه قادراً على تعيين القبلة تفصيلًا؟

ولا بدّ قبل الورود في البحث من الإشارة إلى نكتة، وهي أنّه لماذا يبحث عن العلم الإجمالي في موضعين من الاصول: مباحث القطع، ومبحث الاشتغال؟

ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله في مقام بيان الفارق بين المقامين إلى أنّ البحث هنا بحث عن انوار الأصول، ج 2، ص: 259

المقتضى، أي هل العلم الإجمالي مقتض لإثبات الحكم أو لإسقاط التكليف كالعلم التفصيلي أو لا؟ وهناك يبحث عن المانع، أي: هل يمنع مانع عن حجّية العلم الإجمالي في مقامين، أو لا؟

وأمّا شيخنا الأعظم رحمه الله فقد فرّق بين البابين بوجه آخر، وهو أنّ البحث هنا بحث في حرمة المخالفة القطعيّة، وهناك بحث في وجوب الموافقة القطعيّة.

ونحن نقول: لا يمكن القناعة بهذا المقدار من الفرق والتفاوت مع أنّ أدلّة المسألتين مرتبطتان، فلا وجه لتقطيع البحث والتكلّم هنا عن المقتضى وهناك عن وجود المانع، أو يبحث هنا عن حرمة المخالفة وهناك عن وجوب الموافقة.

بل الحقّ أنّ العلم الإجمالي يناسب كلا البابين، لأنّ ماهيّته علم مختلط بالشكّ، فهو من جهة شكّ يمكن أن يترتّب عليه آثار الشكّ، ومن جهة اخرى علم يمكن أن يترتّب عليه آثار العلم، فيناسب أن يبحث عنه في مباحث القطع لجهة كونه علماً وفي مباحث الشكّ لاختلاطه بالشكّ، نعم حيث إنّه لا وجه للبحث التفصيلي عنه في كلا الموضعين يبحث عنه هنا إجمالًا وهناك تفصيلًا.

إذا عرفت هذا فلنشرع في البحث عن المقامين:

أمّا المقام الأوّل: في تنجّز العلم الإجمالي وعدمه

وهو البحث عن تنجّز العلم الإجمالي ففيه أقوال أربعة:

الأوّل: ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله في المقام (مباحث القطع) من أنّ العلم الإجمالي خلافاً للعلم التفصيلي مقتضٍ للتنجّز بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعيّة ووجوب

الموافقة القطعيّة معاً وليس علّة تامّة لواحد منهما.

الثاني: ما ذهب إليه أيضاً المحقّق الخراساني رحمه الله لكن في مبحث الاشتغال وهو أنّه علّةتامّة لكلّ واحد من حرمة المخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة، ولكن ألّا يؤدّي هذا إلى التناقض في كلامه قدس سره أو لا؟ فسيأتي إن شاء اللَّه في مبحث الاشتغال بيانه وتوجيه كلامه.

الثالث: ما اختاره الشيخ الأعظم رحمه الله من كونه علّة تامّة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعيّة ومقتضياً بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعيّة.

الرابع: ما نسب إلى المحقّق الميرزا القمّي رحمه الله من أنّه مقتضي بالنسبة إلى حرمة المخالفة

انوار الأصول، ج 2، ص: 260

القطعيّة، وأمّا بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعيّة، فليس بعلّة تامّة ولا مقتضياً.

أمّا القول الأوّل: فاستدلّ له بأنّه فرق بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي حيث إنّ الأوّل كشف تامّ بالنسبة إلى متعلّقه، ولذا لا مجال فيه لصدور حكم ظاهري بالترخيص ولا يمكن مخالفته، بخلاف العلم الإجمالي لأنّه مخلوط بالشكّ، فيمكن للشارع الترخيص في المخالفة الاحتماليّة بل في المخالفة القطعيّة أيضاً لمكان الشكّ.

إن قلت: العلم على كلّ حال لا يجتمع مع الترخيص ومانع عنه.

وقد أجاب عنه بجوابين: أحدهما: بالنقض بجواز الترخيص في أطراف الشبهة غير المحصورة كما قام عليه الإجماع، وهكذا في الشبهات البدويّة، لأنّ احتمال التناقض واجتماع النقيضين محال كاليقين به.

والثاني: بالحلّ وأنّ هنا حكمين: أحدهما: في مرحلة الإنشاء، والآخر: في مرحلة الفعليّة، ولا تنافي بين المرحلتين، وبعبارة اخرى: الترخيص حكم ظاهري والمعلوم بالإجمال حكم واقعي، ولا منافاة بين الحكم الواقعي والظاهري كما سوف يأتي في محلّه إن شاء اللَّه.

أقول: يمكن توجيه ما اختاره الشيخ رحمه الله وتقويته (أي تقوية أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعيّة لكنّه مقتضٍ بالنسبة

إلى الموافقة القطعيّة) بأنّ الحكم الظاهري وإن كان موضوعه الشكّ ولذا لا منافاة بينه وبين الحكم الواقعي لكن متعلّق الشكّ في العلم الإجمالي إنّما هو خصوص أحد الطرفين لا كليهما.

وبعبارة اخرى: أنّ قوله «كلّ شي ء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام» وإن كان يشمل كلًا من الطرفين لكن مجموع الطرفين من حيث المجموع داخل في الغاية، أي قوله: «حتّى تعلم أنّه حرام» وإن شئت قلت: ظهور الذيل مانع عن انعقاد الإطلاق في صدره وشموله لموارد العلم الإجمالي.

إن قلت: فكيف تحكم بالجواز في الشبهة غير المحصورة؟ قلت: جواز إرتكاب الجميع فيها أيضاً أوّل الكلام، فلا يجوز فيها إرتكاب جميع الأطراف والمخالفة القطعيّة، ولذا عدّ بعضهم من ضوابطها أن لا تكون جميع الأطراف قابلة للإرتكاب، هذا أوّلًا.

ثانياً: أنّه يمكن أن يقال: إنّ احتمال انطباق العمل بالحرام الواقعي في الشبهة المحصورة ضعيف جدّاً بحيث يعدّ عند العرف كالعدم، وحينئذٍ لا تنجّز للعلم الإجمالي الموجود فيها،

انوار الأصول، ج 2، ص: 261

فقياس المقام بها مع الفارق، فتأمّل.

فظهر ممّا ذكرنا أنّه لا يجوز الترخيص في المخالفة القطعيّة ويكون العلم الإجمالي علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعيّة وإن لم تكن الموافقة القطعيّة واجبة وجازت المخالفة الاحتماليّة.

نعم، يستثنى منها موردان يجوز للشارع الترخيص فيهما:

الأول: ما إذا كان القطع الإجمالي موضوعياً فيمكن للشارع أن يقيّد القطع الذي يأخذه في موضوع الحكم بقيد التفصيلي بلا إشكال، لكنّه خارج عن محلّ البحث لأنّ البحث هنا في القطع الطريقي المحض.

الثاني: إذا صادف الحكم أحد موانع الفعلية كالعسر والحرج، ويؤدّي الاحتياط وتنجيز العلم الإجمالي للحفاظ على الحكم الواقعي إلى العسر والحرج، لكنّه لا يختصّ بموارد العلم الإجمالي بل أنّه جارٍ في موارد العلم التفصيلي أيضاً.

لكن لتهذيب الاصول في المقام كلام،

وهو أنّ البحث في المقام عن القطع الوجداني بالتكليف الفعلي الذي لا يحتمل الخلاف ويعلم بعدم رضا المولى بتركه لكن اشتبه متعلّق التكليف بحسب المصداق أو غيره، كما أنّ البحث في باب الاشتغال إنّما هو عن العلم بالحجّة المحتمل صدقها وكذبها كإطلاق دليل حرمة الخمر الشامل لصورتي العلم بالتفصيل والإجمال، وعلى ذلك فلا شكّ أنّ العلم والقطع الوجداني بالتكليف علّة تامّة لحرمة المخالفة ووجوب الموافقة القعطيّين ولا يجوز الترخيص في بعض أطرافه فضلًا عن جميعه إذ الترخيص كلًا أو بعضاً ينافي بالضرورة مع ذاك العلم الوجداني، فإنّ الترخيص في تمام الأطراف يوجب التناقض بين الإرادتين في نفس المولى، كما أنّ الترخيص في بعضها يناقض ذاك العلم في صورة المصادفة ... (إلى أن قال): وممّا ذكر يظهر حال الأقوال المذكورة في الباب، فإنّ كلّ ذلك ناشٍ عن خلط ما هو مصبّ البحث مع ما هو مصبّه في باب الاشتغال» «1».

أقول يرد عليه:

أوّلًا: أنّه كيف يكون مصبّ البحث هنا هو العلم الوجداني بالتكليف الواقعي وهناك العلم بالحجّة والحكم الظاهري مع أنّا لم نجد أحداً يلتزم بهذا الفرق؟ والأمثلة في المسألتين واحدة

انوار الأصول، ج 2، ص: 262

كأدلّتهما، إلّاأن يقال: يدلّ على كون مصبّ البحث هنا العلم الوجداني قياسه بالعلم التفصيلي، فلا شكّ في أنّ المقصود منه هو العلم التفصيلي الوجداني، ولذلك يقال بأنّه حجّة ذاتاً ولا تناله يد الجعل.

اللهمّ أن يقال: إنّ هذا لا يمنع عن كون البحث عاماً في مبحث الاشتغال كما هو ظاهر كلماتهم، وحينئذٍ يكون بين المسألتين عموم مطلق فلا يبقى وجه أيضاً للتكرار.

ثانياً: لو كان المعلوم بالإجمال هو الحكم الفعلي من جميع الجهات الذي لا يرضى المولى بتركه، فكيف وقع البحث عن كونه علّة تامّة

للحكم وعدمه وعن أنّه هل يكون الحكم فعلياً أو لا؟ وإن هو إلّاكالقضايا الضروريّة بشرط محمولاتها.

ثالثاً: كيف يحصل العلم الوجداني بالحكم مع أنّ الطرق الموجودة عندنا إطلاقات وعمومات التي هي طرق ظنّية توجب العلم بالحجّة لا العلم الوجداني.

وإن شئت قلت: جعل مصبّ البحث هنا العلم الوجداني يستلزم أن يكون البحث هنا بحثاً عن شي ء تكون مصاديقه نادرة.

هذا كلّه في أنّ العلم الإجمالي هل هو علّة تامّة لتنجّز التكليف أو يكون مقتضياً له؟ وقد اخترنا كونه علّة تامّة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعيّة ومقتضياً بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعيّة كما اختاره الشيخ الأعظم رحمه الله.

ثمّ إنّه بعد كونه مقتضياً لحرمة المخالفة الاحتماليّة أو وجوب الموافقة القطعيّة، فهل يوجد مانع عنه من قبيل عموم قوله عليه السلام «كلّ شي ء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام» أو من قبيل أدلّة خاصّة تدلّ على وجود المانع، أو لا؟ فسيأتي البحث عنه في باب الاشتغال إن شاء اللَّه تعالى.

هذا كلّه في المقام الأوّل.

أمّا المقام الثاني: في كفاية العلم الإجمالي في مقام الامتثال وعدمه

وهو البحث عن كفاية العلم الإجمالي في مقام الامتثال وعدمه فهو ما تعرّضوا له في مباحث الاجتهاد والتقليد وأنّ الناس على ثلاثة أصناف: مجتهد ومقلّد ومحتاط، فهل يمكن العمل بالاحتياط مع إمكان الاجتهاد أو التقليد أو لا؟ وهو تارةً يتصوّر في الشبهة الموضوعيّة كالإتيان بأربع صلوات إلى الجهات الأربعة، واخرى في الشبهة الحكميّة كما إذا علم إجمالًا بأنّ انوار الأصول، ج 2، ص: 263

الواجب عليه يوم الجمعة أمّا صلاة الظهر أو صلاة الجمعة، ومحلّ الكلام ما إذا قدر على تحصيل العلم التفصيلي، وإلّا فلا ريب في تعيّن الاحتياط وكفاية الامتثال الإجمالي.

ويتصوّر للمسألة أيضاً أربع صور (والمهمّ منها هو الصورة الرابعة)، لأنّ المعلوم بالإجما تارةً يكون من التوصّليات، واخرى

من التعبّديات، وفي كلّ منهما تارةً يكون الامتثال الإجمالي مستلزماً للتكرار، واخرى لا يكون.

أمّا التوصّليات فلا إشكال ولا كلام في كفاية العلم الإجمالي فيها في مقام الامتثال، سواء استلزم التكرار أو لم يستلزم، وهكذا في التعبّديات إذا لم يستلزم التكرار كما إذا شككنا في جزئيّة السورة.

إنّما البحث والإشكال في العبادات إذا استلزم الامتثال الإجمالي فيها التكرار كمثال الصّلاة في أربع جهات، فأجازه قوم ومنعه آخرون، واستدلّ المانعون بوجوه متفرّقة في كتبهم يمكن جمعها وتلخيصها في ثمانية:

الوجه الأوّل: الإجماع بإحدى الصور التالية:

الاولى: الإجماع قولًا على المنع في خصوص ما إذا استلزم التكرار في العبادات، أي في خصوص محلّ النزاع.

الثانية: الإجماع قولًا على المنع مطلقاً، استلزم التكرار أو لم يستلزم.

الثالثة: الإجماع عملًا في خصوص العبادات، والمقصود منه أنّ سيرة علماء السلف استقرّت على عدم تكرار العبادة.

الوجه الثاني: أصالة الاشتغال، فإنّه إذا شككنا في حصول الامتثال وبراءة الذمّة مع ترك العلم التفصيلي فالاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة.

الوجه الثالث: أنّه يوجب اللعب بأمر المولى خصوصاً فيما إذا تداخل علمان إجماليّان أو أكثر في مورد واحد، كما إذا أراد أن يصلّي كلّ واحد من صلاة الظهر وصلاة الجمعة في أربع جهات للحصول على القبلة وفي أثواب متعدّدة، للعلم إجمالًا بطهارة واحد منها بحيث يوجب الإتيان بصلوات كثيرة بدل صلاة واحدة.

الوجه الرابع: لزوم الاخلال بقصد الوجه.

الوجه الخامس: لزوم الاخلال بقصد التمييز فلا يمكن أن يأتي بصلاة الظهر بقصد أنّها هي انوار الأصول، ج 2، ص: 264

المأمور بها متميّزة عن غيرها.

الوجه السادس: أدلّة وجوب تحصيل العلم كقوله تعالى «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ» وقوله صلى الله عليه و آله: طلب العلم فريضة على كلّ مسلم» فإنّها ظاهرة في الوجوب التعييني فلا يجوز العمل بالاحتياط.

الوجه السابع:

ظاهر أدلّة حجّية الأمارات والطرق فإنّ ظاهرها هو الوجوب التعييني أيضاً لا التخيير بين العمل بمفادها وبين الاحتياط.

الوجه الثامن: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله في المقام ملخّصه: أنّ الإطاعة هي الانبعاث عن بعث المولى والتحرّك عن تحريكه خارجاً وهو لا يتحقّق مع الامتثال الإجمالي، بداهة أنّ المحرّك لخصوص صلاة الظهر أو الجمعة يستحيل أن يكون هو إرادة المولى وبعثه، فإنّ المفروض الشكّ في تعلّقها بكلّ منها بل المحرّك هو احتمال تعلّق الإرادة بكلّ منهما، ومع التمكّن من التحرّك عن نفس الإرادة يستقلّ العقل بعدم حسن التحرّك عن احتمالها، فإنّ مرتبة الأثر متأخّرة عن مرتبة العين (المقصود من العين هو نفس الإرادة ومن الأثر احتمالها) فكلّ ما أمكن التحرّك عن نفس الإرادة في مقام الإطاعة فلا حسن في التحرّك عن احتمالها» «1».

فملخّص كلامه استقلال العقل بعدم حسن التحرّك عن احتمال الإرادة الموجود في الامتثال الإجمالي في المقام.

هذا- والحقّ هو جواز العمل بالاحتياط وإن استلزم التكرار كما عليه أكثر المتأخّرين والمعاصرين، ولا يتمّ أحد هذه الوجوه.

أمّا الإجماع فجوابه واضح، لأنّ استناد المجمعين إلى الأدلّة السابقة محتمل أو معلوم فلا يكشف عن قول المعصوم.

وأمّا أصالة الاشتغال فلأنّ الأصل الجاري في المقام هو البراءة لا الاشتغال لأنّ الشكّ هنا يرجع إلى الشكّ في الشرطيّة أو الجزئيّة حيث يشكّ في اعتبار قيد عدم تكرار العمل، وهو قيد أو شرط زائداً على الشروط والأجزاء المتيقّنة تفصيلًا، فينحلّ العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي بسائر الأجزاء والشرائط والشكّ البدوي في القيد المذكور، ولا ريب في أنّه مجرى انوار الأصول، ج 2، ص: 265

لأصالة البراءة لا الاشتغال، والاشتغال مصبّه غير ذلك، وهو ما إذا كان أصل المأمور به معلوماً وشكّ في وجوده خارجاً.

قال المحقّق

النائيني رحمه الله هنا ما حاصله: أنّ أدلّة أصل البراءة كحديث الرفع جارٍ فيما كان وضعه ورفعه بيد الشارع ويكون قاصراً عن الشمول لما يتحمّل اعتباره في الطاعة عقلًا كما في المقام، حيث إن الشكّ فيه راجع إلى اعتبار أمر في الطاعة العقليّة، ضرورة أنّ حسن الاحتياط من الأحكام التي يستقلّ العقل بها، فمع الشكّ في تحقّقه لا يمكن التمسّك بحديث الرفع «1».

أقول: إن كان حسن الاحتياط في المقام من المستقلّات العقليّة فلا معنى للشكّ فيه، لأنّ لاعقل لا يشكّ في حكم نفسه، فإمّا أن يحكم بكفاية الامتثال الإجمالي أو يحكم بعدمها، ولا تردّد له فيه، وحينئذٍ فلو كان هناك شكّ كان شكّاً في حكم الشرع، أي شكّاً في الجزئيّة أو الشرطيّة الشرعيّة فيرجع إلى الأقلّ والأكثر الإرتباطيين الذي يكون مجرى لأصل البراءة.

وأمّا الدليل الثالث وهو لزوم اللعب بأمر المولى فاجيب عنه بجوابين:

أحدهما: أنّ التكرار لا يعدّ لعباً بأمر المولى إذا نشأ من دواعٍ عقلائيّة.

ثانيهما: سلّمنا ذلك، ولكنّه لعب في كيفية الإطاعة لا في أصلها، واللعب في كيفية العمل لا يوجب بطلان أصله.

لكن الإنصاف أنّ هذا الجواب غير تامّ، لأنّ كيفية العمل ليست منفكّة عن أصل العمل بل هي متّحدة معه عرفاً.

وللمحقّق الإصفهاني رحمه الله هنا كلام وإليك نصّه: «إنّ المانع إمّا عدم صدور العمل عن داعٍ إلهي بل من غيره، أو التشريك في الداعي بحيث لا يكون الأمر مستقلًا في الدعوة، أو تعنون الفعل بنفسه بعنوان اللعب، أو تعنون الفعل المأتي بداعي الأمر بعنوان اللعب، والكلّ مفقود، أمّا الأوّل فلأنّ المفروض أنّ المحرّك لفعل كلّ من المحتملات هو الأمر المحتمل تعلّقه به، وأمّا الثاني فلأنّ المفروض عدم محرّك إلى ذات كلّ واحد من المحتملات

سوى الأمر المحتمل فلا تشريك في الداعي، وإلّا فلو فرض التشريك لم يكن فرق بين الداعي العقلائي وغيره في المفسدية وعدم صدور العمل عن داعٍ إلهي مستقلّ في الدعوة، وأمّا الثالث فلأنّ المفروض أنّ انوار الأصول، ج 2، ص: 266

ذات العمل صلاة واتّصافها باللعب والعبث باعتبار صدورها عن داعٍ نفساني شهواني ومع فرض صدورها عن داع الأمر المستقلّ في الدعوة لا معنى لتعنون ذات الصّلاة باللعب والعبث، وأمّا الرابع فبأنّ اتّصاف المأتي به بداع الأمر بوصف اللعب والعبث بأن يكون الداعي إلى جعل الأمر داعياً غرضاً نفسانياً غير عقلائي والمفروض أنّ داعيه إلى امتثال أمر المولى ما هو الداعي في غيره من توقّع الثواب أو تحصيل مرضات المولى أو غيرها» «1».

أقول: الحقّ عدم الحاجة إلى هذا التفصيل بل روح الكلام والعمدة في المقام هو ما ذكرنا من أنّ التكرار لا يكون لعباً إذا نشأ من دواع عقلائيّة.

أمّا الدليل الرابع: وهو اعتبار قصد الوجه ففيه: أوّلًا: أنّه قد ثبت في محلّه عدم اعتباره في صحّة العبادة.

وثانياً: لو سلّمنا اعتباره فإنّه حاصل في المقام لأنّه على قسمين: قصد الوجه الغائي وقصد الوجه الوصفي، والغائي حاصل في المقام لأنّ صلاته إنّما هي لغاية وجوب تلك الصّلاة الواجبة إجمالًا، وكذلك الوصفي لأنّه بصدد الإتيان بالصلاة المتّصفة بالوجوب المتردّد بين الأربعة.

وأمّا قصد التمييز فهو ممّا لا دليل على اعتباره إلّافي مورد واحد، وهو ما إذا توقّف عليه حصول عنوان من العناوين القصديّة، حيث إن العنوان القصدي لا يحصل إلّابتمييزه عن سائر العناوين كما إذا اشتغل مثلًا ذمّة المكلّف بصيام يوم للكفّارة وبصيام يوم آخر للنذر وبصيام يوم ثالث للقضاء، وكلّ واحد من هذه الثلاثة عنوان من العناوين القصديّة يحتاج تحقّقه في

الخارج إمّا إلى تمييز تفصيلي له بالنسبة إلى سائر العناوين كما إذا قال مثلًا: أصوم للكفّارة، أو تمييز إجمالي كما إذا نوى ما اشتغلت به ذمّته أوّلًا، وأمّا في غير هذه الصورة فلا يجب التمييز لا إجمالًا ولا تفصيلًا بل يكفي قصد ما في الذمّة، وما نحن فيه من هذا القبيل كما لا يخفى.

ثالثاً: أنّه لم يأت بدليل على مقالته إلّاما إفاده من أنّ التحرّك عن الأثر متأخّر عن التحرّك عن العين، وهذا ما لا محصّل له لأنّه إن كان المراد منه التأخّر في عالم الخارج فهذا مسلّم لكنّه لا يثبت المدّعى، وإن كان المراد التأخّر في الداعويّة والبعث فهو أوّل الكلام لأنّه ربّما يتحرّك الإنسان عن الأثر من دون أن يتحرّك عن العين كما إذا أمر الطبيب بالحمية فنهى عن أكل انوار الأصول، ج 2، ص: 267

بعض الأغذية وشرب بعض آخر لرفع المرض والحصول على السلامة، والمريض يتركها لكن لا لجهة مرضه وتحصيل السلامة عنه بل لما يترتّب عليها من العواقب والآلام.

بقي هنا امور:

الأوّل: إنّه هنا كان البحث في جواز الامتثال الإجمالي مع القدرة على تحصيل العلم التفصيلي واخترنا فيه الجواز، أمّا إذا لم يقدر على تحصيل العلم التفصيلي بل كان قادراً على الظنّ التفصيلي الذي هو الغالب في الفقه كما مرّ وعليه يدور رحى الاجتهاد والتقليد فالكلام فيه أظهر، بل يجوز الامتثال الإجمالي فيه بطريق أولى كما أشرنا إليه سابقاً.

الثاني: أنّ ما يقال من «أنّ الاحتياط في ترك الاحتياط» فهو صحيح على الإطلاق في بعض الموارد، وهو ما إذا كان قادراً على العمل التفصيلي، والوجه فيه هو الخروج عن القول بالخلاف، أمّا إذا لم يقدر على العلم بل كان قادراً على الظنّ التفصيلي المعتبر،

فحينئذٍ لعلّ الاحتياط من بعض الجهات كان في العمل بالاحتياط لا في تركه، وذلك لأنّ الاحتياط حينئذٍ يوصل الإنسان إلى الواقع قطعاً، والظنّ المعتبر يوصله إليه ظنّاً (مع قطع النظر عن ما يستلزم التكرار من مخالفة الاحتياط).

الثالث: لا يخفى أنّ ما اخترناه من جواز الاحتياط لا يجري في نفس المسألة وهي «هل يجوز العمل بالعلم الإجمالي والاحتياط مع إمكان الاجتهاد أو التقليد؟» بل لابدّ فيها من الاجتهاد أو التقليد وهو واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.

الرابع: كثيراً ما لا يمكن العمل بالإحتياط لكونه من موارد الدوران بين المحذورين، ويرشدنا إلى هذه الموارد الرجوع إلى أبواب الحدود والتعزيرات والقصاص وكذلك باب الإرث وكثير من أبواب المعاملات، وحينئذٍ لابدّ من الاجتهاد أو التقليد وعلى هذا العمل بالاحتياط مطلقاً غير ممكن.

الخامس: أنّ العمل بالاحتياط قد يوجب العسر والحرج لشخص الإنسان وقد يوجب اختلال النظام أو الاضرار بالغير كما إذا استلزم من احتياط إنسان الاضرار بعياله أو صديقه مثلًا، فعلى الأوّل لا إشكال في جوازه وعدم حرمته لأنّه ليس ناشئاً من جانب الشارع بل هو نشأ من ناحية شخصه واختياره، ولا كلام في أنّ المرفوع في أدلّة العسر والحرج هو الإلزام انوار الأصول، ج 2، ص: 268

الحاصل من حكم الشرع لا الجواز، وعلى الثاني فلا إشكال أيضاً في حرمة الاحتياط حينئذٍ ووجوب العمل بالاجتهاد أو التقليد. واللَّه العالم.

تمّ الكلام إلى هنا عن مباحث القطع.

انوار الأصول، ج 2، ص: 269

المقام الثاني في مباحث الظنّ (حجّية الأمارات الظنّية)
اشارة

وقبل الدخول في هذا البحث لابدّ من رسم امور ثلاثة:

الأمر الأول: أنّ الظنّ وبتعبير آخر: أنّ الأمارات الظنّية ليست بحجّة ذاتاً، أي ليست الحجّية من لوازمها الذاتيّة كما في القطع (مع قطع النظر عمّا مرّ منّا في مبحث القطع من أنّه لا

معنى لحجّية القطع بمعنى كونه طريقاً إلى الواقع بل هو نفس النظر إلى الواقع ومشاهدته والإحاطة به).

الأمر الثاني: أنّه يمكن التعبّد بها وجعلها حجّة.

الأمر الثالث: في تأسيس الأصل في المسألة، فهل الأصل فيها أنّ جميع الأمارات الظنّية حجّة إلّاما خرج بالدليل أو العكس، أي ليس شي ء منها بحجّة إلّاما ثبت خروجه بالدليل؟

وبعبارة اخرى: هل يكون إثبات الحجّية وإقامة الدليل عليها على عهدة المنكر للحجّية أو على عهدة المثبت المدّعى لها؟ فإن كان الأصل هو الأوّل فلا بدّ للمنكر إقامة الدليل وهو مدّعٍ في الواقع، وإن كان هو الثاني فعلى المثبت.

ولا يخفى أنّ البحث في الأمرين الأوّلين بحث في مقام الثبوت، وفي الأخير بحث في مقام الإثبات.

أمّا الأمر الأوّل: أنّ الأمارات الظّنية ليست بحجّة ذاتا

فاستدلّ له:

أوّلًا: بإجماع العقلاء واتّفاقهم على أنّ الظنّ ليس بحجّة ذاتاً بل لابدّ من جعلها بيد جاعل كجعل الحجّية لخبر الواحد، أو من حصول مقدّمات توجب الحجّية له إمّا عقلًا بناءً على تماميّة

انوار الأصول، ج 2، ص: 270

مقدّمات الانسداد على تقرير الحكومة، وأمّا شرعاً بناءً على تماميتها بنحو الكشف.

وثانياً: بحكومة الوجدان، فإنّ الوجدان شاهد على عدم حجّية الظنّ ذاتاً إذ لا كشف تامّاً لها عن الواقع كما في القطع فلا بدّ لجبران نقصها في الكشف إلى جعل جاعل من ناحية الغير، نظير ما يقال في الوجود الممكن من أنّه ليس ذاتياً له ولذلك لابدّ من حصوله له بسبب أمر خارج خلافاً للوجود الواجب.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية ذكر لتصوّر الحجّية المجعولة للظنّ طريقين: جعل الجاعل وحصول مقدّمات الانسداد، ولكن هنا طريق ثالث وهو إخبار الشارع بعدم العقاب لمن عمل بالظنّ من دون أن يكون في مقام الجعل، فإنّ إخباره بذلك كافٍ في حصول الأمن عن

العذاب الذي هو نتيجة الحجّية.

وأمّا الأمر الثاني: في إمكان التعبّد بالظّن
اشارة

وهو إثبات قابلية الظنّ لأن يصير حجّة وإمكان جعل الحجّية له. فنقول: المراد من الإمكان هنا هو الإمكان الوقوعي، بمعنى أنّه لا يلزم من وقوعه محذور عقلي من أمر ممتنع ذاتي كاجتماع الضدّين أو أمر ممتنع عرضي كالقبيح الذي يستحيل صدوره من الحكيم.

توضيح ذلك: المعروف من معاني الإمكان أربعة:

أحدها: الإمكان الذاتي وفي مقابله الامتناع الذاتي كاجتماع النقيضين.

ثانيها: الإمكان الوقوعي وفي مقابله الامتناع الوقوعي وهو ما يلزم من وقوعه محال كامتناع اجتماع الآلهة في العالم وهو مفاد قوله تعالى: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا».

ثالثها: الإمكان العادي بمعنى عدم الامتناع بحسب العادة في مقابل الامتناع العادي كامتناع بلوغ عمر الإنسان إلى آلاف سنين عادةً.

رابعها: الإمكان الاحتمالي وهو ما أشا إليه الشيخ الرئيس بقوله: كلّ ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يضدّك عنه قاطع البرهان.

أمّا القسم الأخير فلا شكّ في عدم كونه مقصوداً في المقام لأنّه إنّما يكون في النظر البدوي،

انوار الأصول، ج 2، ص: 271

وسيزول بالتأمّل ويرجع إلى أحد الأقسام الاخر، ولذلك عبّر الشيخ ب «كلّما قرأ سمعك».

وكذلك الإمكان العادي لأنّ العادة لا يمكن أن تقع موضوعاً للأدلّة العقليّة، وأيضاً الإمكان الذاتي لأنّه لا شكّ لأحد في أنّه لا مانع في إمكان التعبّد بالظنّ ذاتاً وأنّ حجّية الظنّ ليست كاجتماع النقيضين، فيتعيّن حينئذٍ الإمكان الوقوعي، فالمراد بالإمكان في المقام هو الوقوعي في مقابل من يدّعي الامتناع الوقوعي كابن قبّة «1» من قدماء الأصحاب.

ومن العجب أنّ المحقّق النائيني رحمه الله ذهب إلى «أنّ المراد من الإمكان المبحوث عنه في المقام هو الإمكان التشريعي، بمعنى أنّ من التعبّد بالأمارات هل يلزم محذور في عالم التشريع من تفويت المصلحة

والإلقاء في المفسدة، واستلزامه الحكم بلا ملاك، واجتماع الحكمين المتنافيين وغير ذلك من التوالي الفاسدة المتوهّمة في المقام، أو أنّه لا يلزم شي ء من ذلك؟ ثمّ قال: وليس المراد من الإمكان هو الإمكان التكويني بحيث يلزم من التعبّد بالظنّ أو الأصل محذور في عالم التكوين، فإنّ الإمكان التكويني لا يتوهّم البحث عنه في المقام وذلك واضح» «2».

ولكن لا يخفى ما فيه من أنّ كون موضوع الإمكان والاستحالة أمراً تشريعياً لا يقتضي خروج إمكانه عن التكوين إذا كان المحذور على كلّ لزوم اجتماع الضدّين في عالم التكوين أو صدور القبيح من الحكيم الذي يستحيل صدوره منه تكويناً أيضاً.

وبعبارة اخرى: المحذورات الخمسة التي سيأتي في بحث اجتماع الحكم الظاهري والواقعي وكذلك شبهة ابن قبّة، كلّها ترجع إلى محذورات تكوينية ناشئة عن تشريع العمل بالظنّ فراجع وتدبّر.

والإنصاف أنّه لا معنى للإمكان التشريعي في مقابل الامتناع التشريعي إلّاحكم الشارع بالإباحة في مقابل الحرمة، وأين هذا ممّا نحن بصدده.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ ابن قبّة خالف إمكان حجّية خبر الواحد واستدلّ له بدليلين:

أحدهما مختصّ بخبر الواحد، والآخر عام يشمل جميع الأمارات الظنّية.

أمّا الأوّل: فهو أنّه لو جاز التعبّد بخبر الواحد في الإخبار عن النبي صلى الله عليه و آله لجاز التعبّد به في انوار الأصول، ج 2، ص: 272

الإخبار عن اللَّه تعالى، والتالي باطل إجماعاً، ووجه الملازمة أنّ حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد.

والصحيح في الجواب عنه (كما سيأتي في مبحث خبر الواحد) أنّه قياس مع الفارق، لأنّ التعبّد بخبر الواحد في الإخبار عن اللَّه تعالى ملازم لدعوى النبوّة، وهي من اصول الدين، التي تحتاج إلى دليل قطعي.

وأمّا الثاني: فهو أنّ جواز التعبّد بالظنّ موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال

إذ لا يؤمن أن يكون ما أخبر مثلًا بحلّيته حراماً وبالعكس.

أقول: كلامه هذا مبهم يحتاج إلى مزيد توضيح فنقول: إنّ تحليل الحرام أو تحريم الحلال اللازم من جواز التعبّد بالظنّ يستبطن بنفسه محاذير خمسة عقليّة:

أحدها: اجتماع النقيضين في صورة عدم إصابة الظنّ بالواقع، واجتماع المثلين في صورة الإصابة، وهذا بالنسبة إلى نفس الحكم.

ثانيها: اجتماع الضدّين في نفس المولى في صورة الخطأ وهو اجتماع الإرادة والكراهة لأنّ الأمر ينشأ من الإرادة والنهي ينشأ من الكراهة وهذا يكون بالنسبة إلى مبادى ء الحكم.

ثالثها: اجتماع الضدّين من المصلحة والمفسدة في صورة الخطأ، ويكون بالنسبة إلى متعلّق الحكم.

رابعها: التكليف بما لا يطاق، لأنّ الحكم الواقعي يكلّف الإنسان بالفعل في مفروض الكلام، والظاهري يكلّفه بالترك مثلًا، والأمر بهما يستحيل على الحكيم الخبير.

خامسها: الإلقاء في المفسدة وتفويت المصلحة في صورة الخطأ.

ولا يخفى أنّ جميع هذه المحاذير مبني على بقاء الحكم الواقعي في مورد الأمارة على قوّته كما هو الصحيح لأنّ ارتفاع الحكم الواقعي يستلزم التصويب الباطل عندنا.

ولقد حاول جميع العلماء بعد ابن قبّة رفع هذه المحاذير، وكلّ سلك في حلّها طريقاً خاصاً، وهذا هو الذي يسمّى عندهم بمسألة الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي.

ومن الطرق طريق المحقّق الخراساني رحمه الله، ومنها ثلاث طرق ذكرها في درر الفوائد التي حكى اثنين منها من استاذه السيّد السند المحقّق الفشاركي رحمه الله، ومنها طريق المحقّق النائيني رحمه الله وطريق سادس ذكره في تهذيب الاصول، وهيهنا طريق سابع يستفاد من كلمات شيخنا الأنصاري رحمه الله وهو المختار.

انوار الأصول، ج 2، ص: 273

ونحن نذكرها واحداً بعد واحد ثمّ نبيّن المختار في المقام (وهو نفس ما يستفاد من كلمات شيخنا الأعظم):

1- قال المحقّق الخراساني رحمه الله ما حاصله: أنّ أغلب

هذه المحاذير نشأ من توهّم أنّ التعبّد بالأمارة واعتبار الأمارة شرعاً معناه أنّ للشارع أحكاماً ظاهريّة على طبق مؤدّياتها، فإذا قامت الأمارة على وجوب شي ء فيحكم الشارع ظاهراً بوجوب ذلك الشي ء، وإذا قامت على حرمة شي ء فيحكم ظاهراً بحرمة ذلك الشي ء وهكذا، وبعبارة اخرى: أنّ هذه المحاذير نشأت من القول بجعل أحكام ظاهريّة على وفق مؤدّى الأمارة مع أنّنا لا نلتزم بإنشاء الأحكام الظاهريّة في مورد الأمارات بل المجعول فيها هو نفس المنجزيّة والمعذّريّة عند الإصابة والخطأ، وهذا لا يستتبع إنشاء أحكام تكليفية ظاهريّة على طبق مؤدّيات الطرق في قبال الأحكام الواقعيّة كي يلزم منها اجتماع المثلين عند إصابة الأمارات ومطابقتها للواقع، واجتماع الضدّين من إيجاب وتحريم وإرادة وكراهة ومصلحة ومفسدة بلا كسر وإنكسار في البين عند خطأ الأمارات ومخالفتها للواقع، بل إنّما يلزم منها تنجّز التكليف الواقعي بقيام الأمارة المعتبرة عند اصابتها وصحّة الاعتذار بها عند خطأها.

نعم، يبقى في البين إشكال واحد وهو تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة عند خطأ الأمارة، وهذا ممّا لا محذور فيه إذا كان في التعبّد بالظنّ الذي إعتبره الشارع مصلحة غالبة على مفسدة التفويت أو الإلقاء كما لا يخفى.

أقول: الظاهر أنّ مراده من المصلحة الغالبة هو الوصول إلى الواقعيات غالباً مع تسهيل الأمر للمكلّفين ورفع التضييق عنهم، فحيث إنّها كانت أهمّ بنظر الشارع من تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة عند خطأ الأمارة أحياناً قدّمها عليه.

ثمّ قال: هذا كلّه إذا كانت الحجّية بمعنى المنجّزيّة والمعذّريّة ولو فرضنا كونها بمعنى جعل الحكم المماثل فلا يلزم محذور أيضاً، لأنّ هذه الأحكام المجعولة على طبق مؤدّيات الأمارات أحكام طريقيّة مقدّمة للوصول إلى الواقعيات لا توجب إلّاتنجّز التكليف إذا أصابت الواقع، وصحّة الاعتذار إذا

أخطأت، من دون أن تكون ناشئة عن مصلحة أو مفسدة.

ثمّ إنّه قدس سره نظر إلى أنّ هذا البيان كلّه يصحّ بالنسبة إلى الأمارات ولكن الإشكال باقٍ بعدُ في بعض الاصول الشرعيّة مثل الإباحة الشرعيّة التي توجب جعل حكم ظاهري بلا ريب انوار الأصول، ج 2، ص: 274

وليست طريقاً إلى الواقع، لأنّ المفروض عدم كونها أمارة، فقال ما نصّه: «فلا محيص في مثله (بعض الاصول العمليّة كأصالة الإباحة الشرعيّة) إلّاعن الالتزام بعدم إنقداح الإرادة أو الكراهة في بعض المبادى ء العالية أيضاً كما في المبدأ الأعلى لكنّه لا يوجب الالتزام بعدم كون التكليف الواقعي بفعلي، بمعنى كونه على صفة ونحوٍ لو علم به المكلّف لتنجّز عليه كسائر التكاليف الفعليّة التي تنجّز بسبب القطع بها، وكونه فعلياً إنّما يوجب البعث والزجر في النفس النبويّة أو الأولويّة فيما إذا لم ينقدح فيها الإذن لأجل مصلحة».

وحاصل ما أفاده: أنّ الحكم الواقعي في مورد هذه الاصول ليس فعليّاً تامّاً لأنّ الفعليّة موقوفة على حصول الإرادة وهو موقوف على عدم صدور إذن من جانب الشارع على الخلاف، وإلّا لو صدر إذن من ناحيته كما في الاصول العمليّة فالحكم فعلي تقديري، بمعنى أنّه لو تعلّق به العلم أو قامت أمارة عليه لتنجّز، بخلاف الإنشائي الذي لا تنجّز وإن تعلّق به العلم خارجاً، وبهذا ترتفع المنافاة بين الحكم الواقعي والظاهري، لأنّ الحكم الواقعي فعلي تقديري، والحكم الظاهري فعلي تحقيقي ولا منافاة بينهما.

فظهر إلى هنا أنّ المحقّق الخراساني رحمه الله اختار لحلّ إشكال الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ثلاثة طرق:

الأوّل: إنكار أن يكون مؤدّى الأمارة حكماً بل هو مجرّد المنجّزيّة والمعذّريّة.

الثاني: كونه حكماً طريقيّاً.

الثالث: أنّ الواقعي فعلي تقديري أي فعلي لولا الترخيص والإذن، والظاهري فعلي مطلقاً.

ولا

يخفى أنّ هذا الكلام منه مبني على ما ذهب إليه من أن للأحكام مراتب أربعاً كما مرّت الإشارة إليه منّا في باب اجتماع الأمر والنهي، وكما أشار إليه في تعليقته على رسائل شيخنا الأعظم رحمه الله:

أحدها: الاقتضائيّة والشأنية، وهي عبارة عن كون الشي ء ذا ملاك يقتضي الحكم الفلان على طبق ذلك الملاك.

ثانيها: الحكم الإنشائي وهو عبارة عن إنشاء الحكم على طبق المصالح والمفاسد الكامنة في الأشياء ضرباً للقاعدة والقانون، من دون أن يكون في البين إرادة أو كراهيّة فعلية.

ثالثها: الحكم الفعلي، وهو عبارة عن تعلّق الإرادة الفعلية أو الكراهة الفعلية بشي ء أي البعث والزجر.

انوار الأصول، ج 2، ص: 275

رابعها: مرتبة التنجّز وهي عبارة عن حكم العقل باستحقاق العقاب على مخالفة حكم المولى وعصيانه بعد وصوله إليه بعلم أو علمي.

هذا- وقد عرفت أنّه بعد تقسيمه الفعلي إلى الفعلي التامّ وغير التامّ، أو الفعلي التقديري والفعلي المطلق صارت الأقسام خمسة.

ولكنك قد عرفت سابقاً أنّ مرتبة الاقتضاء (التي يسمّيها بالحكم الاقتضائي أو الحكم الشأني) ومرتبة التنجّز لا ينبغي أن يعدّا من الأحكام الشرعيّة ومجعولات الشارع، لأنّ الحكم الاقتضائي والشأني ليس إلّامجرّد اقتضاء الحكم وشأنيته له وليس هذا أمراً مجعولًا، والتنجّز حكم عقلي لا حكم شرعي، فإطلاق الحكم الشرعي عليهما لا يخلو من مسامحة، فلم يبق للحكم إلّامرتبتين: مرتبة الإنشاء ومرتبة الفعليّة.

نقد كلام المحقّق الخراساني رحمه الله:

وفي كلامه مواقع للنظر:

1- إنّ ما ذكر من تفسير الحجّية بالمعذّريّة والمنجّزيّة خلاف ظاهر أدلّة حجّية الأمارات، فإن المستظهر منها هو جعل الأحكام على وفق مؤدّيات الأمارات، ويشهد لذلك فهم الفقهاء بأجمعهم وتعبيرهم في كتبهم الفقهيّة ورسائلهم العمليّة عن مفاد الأمارات بالوجوب والحرمة وغيرهما من الأحكام.

أضف إلى ذلك أنّ لحن بعض أدلّة الأمارات وتعبير الإمام عليه السلام فيها

بحكم من الأحكام الخمسة بدلًا عن التعبير بالحجّية من أقوى الأدلّة على ذلك:

منها: ما ورد في باب حجّية أمارة السوق من ما رواه فضيل وزرارة ومحمّد بن مسلم أنّهم سألوا أبا جعفر عليه السلام عن شراء اللحوم من الأسواق ولا يدري ما صنع القصّابون فقال: «كُلْ إذا كان ذلك في سوق المسلمين ولا تسأل عنه» «1».

وأيضاً ما رواه أبو نصر قال سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فراء لا يدري أذكيّة هي أم غير ذكيّة أيصلّي فيها؟ فقال: «نعم ليس عليكم المسألة ...» «2».

انوار الأصول، ج 2، ص: 276

ومنها: ما ورد في باب حجّية خبر الواحد ممّا رواه حفص بن البختري عن أبي عبداللَّه عليه السلام في الرجل يشتري الأمة عن رجل فيقول: إنّي لم أطأها، فقال: «إن وثق به فلا بأس أن يأتيها» «1».

فهذه الرّوايات تعبّر عن مفاد الأمارات بالحكم (بقوله «كُل» و «يصلّي» و «يأتيها») مع أنّه بناءً على مبنى المحقّق الخراساني رحمه الله كان ينبغي أن يجيب الإمام عليه السلام في مقام الجواب بتعبير آخر من قبيل: «إذا كان حراماً فأنت معذور» مثلًا.

ولو سلّمنا عدمه بالدلالة المطابقية فلا أقل من أنّها تدلّ على حكم الترخيص بالالتزام كما هو مفاد الاصول الشرعيّة بلا ريب.

2- ما الفرق بين الفعلي التقديري والإنشائي؟ فإنّ الفعلي التقديري ليس هو إلّاالحكم الإنشائي، لأنّ في مورد الأمارة إذا لم ينقدح إرادة أو كراهة وبعث أو زجر بالنسبة إلى الحكم الواقعي فلا يتجاوز عن مرتبة الإنشاء، وهذا ما سيأتي من ما ذهب إليه شيخنا الأنصاري رحمه الله في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري الذي لم يقبله هو (أي المحقّق الخراساني رحمه الله).

3- (وهو العمدة في الإشكال عليه) أنّ ما أجاب

به عن إشكال تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة من وجود مصلحة غالبة- ينافي ما ذهب إليه من بقاء الحكم الواقعي على الفعليّة لأنّ فعلية الحكم تابعة للمصلحة الغالبة الأقوى فإذا كان مؤدّى الأمارة ذا مصلحة أقوى يكون مفادها هو الحكم الفعلي، ويسقط الحكم الواقعي عن الفعلية نظير سقوط حرمة الدخول في الدار المغصوبة لإنقاذ الغريق، لأنّ المصلحة الأقوى توجد في إنقاذ الغريق، وهو رجوع إلى ما فرّ منه.

4- أنّه ليس لطريقية الحكم معنى محصّل، لأنّ الطريق إنّما هو الظنّ أو القطع لا الحكم، فالحكم الطريقي الذي أشار إليه في كلامه لا معنى له.

هذا كلّه في بيان ما اختاره المحقّق الخراساني رحمه الله في الجواب عن إشكال ابن قبّة ونقده.

2- ما نسبه في الدرر إلى استاذه المحقّق السيّد محمّد الفشاركي قدّس سرّه الشريف وحاصله: أنّ الموضوع في الحكم الظاهري غير الموضوع في الحكم الواقعي، أي أنّهما حكمان انوار الأصول، ج 2، ص: 277

على موضوعين مختلفين لا على موضوع واحد لكي يستلزم مثلًا اجتماع الضدّين أو المثلين.

توضيح ذلك: أنّه لا إشكال في أنّ الأحكام لا تتعلّق ابتداءً بالموضوعات الخارجيّة بل إنّما تتعلّق بالمفاهيم المتصوّرة في الذهن لكن لا من حيث كونها موجودة في الذهن بل من حيث إنّها حاكية عن الخارج، فالشي ء ما لم تتصوّر في الذهن لا تتّصف بالمحبوبيّة والمبغوضيّة، وهذا واضح، ثمّ إنّ المفهوم تارةً يكون مطلوباً على نحو الإطلاق واخرى على نحو التقييد، والإطلاق والتقييد عنوانان لا يجتمعان في الذهن في آنٍ واحد، فإذا فرضنا كون صلاة الجمعة حراماً بمقتضى دلالة أمارة مع أنّها واجب في الواقع فموضوع الوجوب هو صلاة الجمعة المتصوّرة على نحو الإطلاق، وأمّا موضوع الحرمة فهو صلاة الجمعة المتصوّرة على نحو

التقييد، أي صلاة الجمعة المشكوك حكمها الواقعي فهما في رتبتين متفاوتتين: رتبة التقسيمات الأوّليّة السابقة، ورتبة التقسيمات الثانويّة اللاحقة، والأوصاف المتأخّرة عن الحكم لا يمكن ادراجها في موضوعه، وحينئذٍ إذا فرضنا بعد ملاحظة اتّصاف الموضوع بكونه مشكوك الحكم تحقّق جهة المبغوضيّة فيه، فيصير مبغوضاً بهذه الملاحظة لا محالة ولا يزاحمها جهة المطلوبيّة الملحوظة في ذاته لأنّ الموضوع بتلك الملاحظة لا يكون متعقّلًا فعلًا، لأنّ تلك الملاحظة ملاحظة لذات الموضوع مع قطع النظر عن الحكم، وهذه ملاحظة مع الحكم.

فإن قلت: العنوان المتأخّر وإن لم يكن متعقّلًا في مرتبة تعلّق الذات ولكن الذات ملحوظة في مرتبة تعقّل العنوان المتأخّر، فعند ملاحظة العنوان المتأخّر يجتمع العنوانان في اللحاظ، فلا يعقل المبغوضيّة في الرتبة الثانية مع محبوبيّة الذات.

قلت: إن تصوّر ما يكون موضوعاً للحكم الواقعي الأوّلي مبني على قطع النظر عن الحكم (أي بنحو الماهيّة بشرط لا) وتصوّره بعنوان كونه مشكوك الحكم لابدّ وإن يكون بلحاظ الحكم (أي بنحو الماهيّة بشرط شي ء) ولا يمكن الجمع بين لحاظ التجرّد عن الحكم ولحاظ ثبوته «1».

أقول: وكلامه أيضاً قابل للمناقشة من جهات:

أوّلًا: من ناحية اعترافه بأنّ المفاهيم المتصوّرة في الذهن تتعلّق بها الأحكام من حيث إنّها حاكية عن الخارج- فيرد عليه أنّه لا اعتبار بما في الذهن حينئذٍ بل الاعتبار كلّه بما هو في انوار الأصول، ج 2، ص: 278

الخارج وهو المتعلّق للحبّ والبغض والإرادة والكراهة وفيه المصلحة والمفسدة لا في الذهن، وهو (أي ما في الخارج) يكون واحداً لا اثنين، وحينئذٍ يستلزم اجتماع الإرادة والكراهة في محلّ واحد، كما أنّ المفسدة والمصلحة أيضاً متعلّقهما هو الخارج، وهما لا يجتمعان في شي ء واحد خارجي، وقد مرّ نظير هذا الكلام في مبحث اجتماع الأمر

والنهي، وأجبنا عنه بهذا الجواب.

وثانياً: من ناحية قوله: «أنّ صلاة الجمعة بشرط لا بالنسبة إلى الانقسامات السابقة وبشرط شي ء بالنسبة إلى الانقسامات اللاحقة».

فيرد عليه: أنّ متعلّق الأحكام الواقعيّة كما أنّها لا تتقيّد بوجود الانقسامات اللاحقة فلا تكون بالنسبة إليها بشرط شي ء، كذلك لا تقبل التقييد بالنسبة إلى عدمها، فلا تكون بشرط لا بالنسبة إليها أيضاً، بل أنّها من قبيل اللّابشرط المقسمي، فيمكن أن يكون ذات الموضوع (وهو عنوان الصّلاة مثلًا) ملحوظة في مرتبة تعقّل العنوان المتأخّر (وإن لم يمكن ملاحظة العنوان المتأخّر في مرتبة تعقّل ذاته) فيجتمع العنوانان في اللحاظ فلا تعقل المبغوضيّة في الرتبة الثانية مع محبوبيّة الذات.

فبهذا يظهر أنّ ما ذكره أيضاً لا يكفي في حلّ مشكلة التضادّ لا في الخارج ولا في الذهن.

3- ما نسبه أيضاً في الدرر إلى المحقّق الفشاركي رحمه الله وهو «أنّ الأوامر الظاهريّة ليست بأوامر حقيقية بل هي إرشاد إلى ما هو أقرب إلى الواقعيات، وتوضيح ذلك:- على نحو يصحّ في صورة انفتاح باب العلم ولا يستلزم تفويت الواقع من دون جهة- أن نقول: إنّ انسداد باب العلم كما أنّه قد يكون عقليّاً كذلك قد يكون شرعياً، بمعنى أنّه وإن أمكن للمكلّف تحصيل الواقعيات على وجه التفصيل لكن يرى الشارع العالم بالواقعيات أنّ في التزامه بتحصيل اليقين مفسدة، فيجب بمقتضى الحكمة دفع هذا الالتزام عنه، ثمّ بعد دفعه عنه لو أحاله إلى نفسه يعمل بكلّ ظنّ فعلي من أي سبب حصل، فلو رأى الشارع بعد أن صار مالك أمر المكلّف إلى العمل بالظنّ أنّ سلوك بعض الطرق أقرب إلى الواقع من بعض آخر فلا محذور في إرشاده إليه، فحينئذٍ نقول: إمّا اجتماع الضدّين فغير لازم لأنّه مبني على

كون الأوامر الطرقيّة حكماً مولويّاً، وأمّا الإلقاء في المفسدة وتفويت المصلحة فليس بمحذور بعد ما دار أمر المكلّف بينه وبين الوقوع في مفسدة أعظم» «1».

انوار الأصول، ج 2، ص: 279

وعمدة الإشكال في هذا الطريق إنّا لا نقبل كون المجعول في الأمارات حكماً إرشاديّاً إلى ما هو أقرب إلى الواقعيات لأنّه خلاف ظاهر أدلّة حجّية الأمارات كما مرّ آنفاً. مضافاً إلى ما مرّ من فهم الفقهاء وتعبيرهم عن مفاد الأمارات بحكم مولوي من وجوب وحرمة وغيرهما.

4- ما أفاده المحقّق الحائري رحمه الله بنفسه في الدّرر، بقوله: «إنّ بطلان ذلك مبني على عدم جواز اجتماع الأمر والنهي لأنّ المورد من مصاديق ذلك العنوان فإنّ الأمر تعلّق بعنوان العمل بقول العادل مثلًا، والنهي تعلّق بعنوان آخر مثل شرب الخمر، وحيث جوّزنا الاجتماع وبيّناه في محلّه فلا إشكال هنا أيضاً، لا يقال: جواز اجتماع الأمر والنهي على تقدير القول به إنّما يكون فيما تكون هناك مندوحة للمكلّف كالأمر بالصلاة والنهي عن الغصب لا فيما ليس له مندوحة، وما نحن فيه من قبيل الثاني، لأنّ العمل بمضمون خبر العادل مثلًا يجب عليه معيّناً حتّى في مورد يكون مؤدّى الخبر وجوب شي ء مع كونه حراماً في الواقع بخلاف الصّلاة لعدم وجوب تمام أفرادها معيّناً بل الواجب صرف الوجود الذي يصدق على الفرد المحرم وعلى غيره، لأنّا نقول: اعتبار المندوحة في تلك المسألة إنّما كان من جهة عدم لزوم التكليف بما لا يطاق، وفيما نحن فيه لا يلزم التكليف بما لا يطاق من جهة عدم تنجّز الواقع، فلم يبق في البين إلّاقضية اجتماع الضدّين والمثلين وهو مدفوع بكفاية تعدّد الجهة» «1».

ثمّ إستشكل على هذا الطريق بما حاصله: إنّ ما نحن فيه ليس من

باب تعدّد الجهة والعنوان حتّى يكون من باب اجتماع الأمر والنهي لأنّ جعل الخبر طريقاً إلى الواقع معناه أن يكون الملحوظ في عمل المكلّف نفس العناوين الأوّليّة، مثلًا لو قام الخبر على وجوب صلاة الجمعة في الواقع فمعنى العمل على طبقه أن يأتي بها على أنّها واجبة واقعاً، فيرجع إيجاب العمل به إلى إيجاب الصّلاة على أنّها واجبة واقعاً، فلو فرضنا كونها محرّمة في الواقع يلزم كون الشي ء الواحد من جهة واحدة محرّماً وواجباً، فليس من جزئيات مسألة اجتماع الأمر والنهي التي قلنا بكفاية تعدّد الجهة فيه.

أقول: ما أورده على هذا الطريق وارد جدّاً، إلّاأنّ هنا إشكالًا آخر يرد على ردّه، وهو الذي نقله في ضمن كلامه (أي ما ذكره في حكم المندوحة) وهو أنّه إن كان المراد من عدم تنجّز

انوار الأصول، ج 2، ص: 280

الواقع في جوابه كونه في مرتبة الإنشاء فقط فلا حاجة حينئذٍ إلى التمسّك بذيل باب اجتماع الأمر والنهي وتعدّد الجهتين لعدم المنافاة بين الحكم الإنشائي والحكم الفعلي، وإن كان المراد كون الواقع فعلياً أيضاً فلا وجه لعدم كونه منجزاً لأنّ عدم التنجّز إنّما يكون لمانع عن الفعليّة كالعجز والجهل، والمفروض عدمهما.

5- هو ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله وحاصله: أنّ الأحكام الظاهريّة على ثلاثة أقسام:

الأمارات والاصول التنزيلية نحو الاستصحاب، والاصول غير التنزيلية، أمّا في الأمارات: فيرتفع الإشكال بأنّ الشارع لم يجعل فيها غير صفة المحرزيّة والوسطية في الإثبات شيئاً فلم يجعل فيها حكماً حتّى ينافي الحكم الواقعي وذلك لأنّ الأمارات إمضائيّة وليست عند العقلاء أحكام تكليفية ولازمه أن لا يكون بعد إمضاء الشرع للأمارات تكليفة ظاهريّة في مواردها.

فحال الأمارات حال العلم الوجداني في أنّه ليس في موردها أحكام تكليفية.

وأمّا الاصول التنزيلية:

فالمجعول فيها هو الوسطية في الإثبات من حيث الجري العملي مع أخذ الشكّ في موضوعها خلافاً للأمارات.

وأمّا الاصول غير التنزيلية: فليست ناظرة إلى الواقع أصلًا فلا يمكن أن يكون المجعول الوسطية في الإثبات بل لابدّ فيها من الالتزام بجعل الأحكام التكليفية فيها فلتوهّم لزوم اجتماع الضدّين حينئذٍ مجال، وطريق دفعه أنّ الأحكام التكليفية فيها متأخّرة رتبة من التكاليف الواقعيّة فهي متفرّعة عليها وليس بينهما منافاة أصلًا فلا يكون بينهما تضادّ، وهذا مراد سيّد أساتيذنا العلّامة الشيرازي قدس سره من عدم كون الحكم الظاهري منافياً للواقع لترتّبه عليه «1».

نقد كلام المحقّق النائيني رحمه الله:

أقول: إنّ كلامه قابل للمناقشة بجميع أقسامه:

أمّا القسم الأوّل: فلأنّ القطع أمر تكويني غير قابل للجعل كالبرودة والحرارة وليس من قبيل الملكيّة والزوجيّة وغيرهما من المجعولات الاعتباريّة، فلا يمكن للشارع أن يجعل ما

انوار الأصول، ج 2، ص: 281

ليس بعلم علماً، فإن كان المراد من جعل صفة المحرزيّة إلغاء احتمال الخلاف وجعل صفة العلم تكويناً فهو محال، وإن كان المراد الجري العملي على طبق مؤدّيات الأمارات كما يظهر من بعض كلماته في المقام فهذا معناه إيجاب الجري العملي على وفق الأمارة، وليس هذا إلّاجعل وجوب العمل على مؤدّى الأمارة، وهذا حكم تكليفي ظاهري.

وأمّا ما أفاده من أنّ حجّية الأمارات ليست بشي ء إلّاإمضاء لطريق العقلاء، والعقلاء ليس لهم حكم على طبق مؤدّى الأمارة بل يعدّونها فقط طريقاً إلى الواقع.

ففيه: أنّ العقلاء أيضاً إذا علموا مثلًا بأنّ هذا ليس لزيد من طريق أخبار خبر الثقة مثلًا يحكمون بأنّه لزيد، ويكون مؤدّى الأمارة عندهم حكماً من الأحكام وقانوناً من القوانين، فكيف لم يكن عندهم أحكام ظاهريّة قانونيّة؟ وعدم وجود التكاليف المولويّة بينهم ليس دليلًا على عدم وجود التكاليف القانونية.

وأمّا القسم الثاني: فلأنّ

الاصول موضوعها الشكّ في الحكم الواقعي، ولا معنى لكون الشكّ طريقاً إلى الواقع، وحينئذٍ كيف يمكن جعل الشارع الوسطيّة في الإثبات والطريقيّة إلى الواقع لما ليس طريقاً أبداً؟ ولو قلنا أنّ الاستصحاب لا يخلو من طريقيّة إلى الواقع فلازمه عدّ الاستصحاب من الأمارات لا من الاصول، وهو خلاف المفروض.

وأمّا القسم الثالث: ففيه: أنّ تأخّر الموضوع والتفرّع لا يحلّ المشكلة في المقام، لأنّه وإن كان الموضوع متعدّداً في الذهن إلّاأنّ الخارج واحد، والمفروض أنّ الصورة الذهنيّة مأخوذة في الموضوع بما هي حاكية عن الخارج، فيلزم حينئذٍ اجتماع حكمين فعليين على محلّ واحد، ويعود الإشكال.

6- ما أفاده في تهذيب الاصول وحاصله بالنسبة إلى شبهة التضادّ «أنّهم عرفوا الضدّين بأنّهما الأمران الوجوديان غير المتضائفين المتعاقبان على موضوع واحد، لا يتصوّر اجتماعهما فيه، بينهما غاية الخلاف، وعليه فما لا وجود له لا ضدّية بينه وبين شي ء آخر كما لا ضدّية بين أشياء لا وجود لها كالاعتباريات التي ليس لها وجود إلّافي وعاء الاعتبار ... والإنشائيات وبالتبع الأحكام التكليفيّة كلّها من الامور الاعتباريّة لا تحقّق لها إلّافي وعاء الاعتبار» «1».

انوار الأصول، ج 2، ص: 282

أقول: لو كان المراد من عدم وجود التضادّ في الأحكام التكليفيّة عدم التضادّ في مرحلة الإنشاء فلا بأس به، ولكن المدّعى ليس هو اجتماع الضدّين في تلك المرتبة بل أنّه بالنسبة إلى مرتبة الفعليّة، وفي هذه المرتبة وإن كان الإنشاء أو الحكم أمراً اعتباريّاً ولكن له مبادٍ ولوازم حقيقية، حيث إن الحكم الفعلي لابدّ فيه من وجود مصلحة أو مفسدة في متعلّقه كما يحتاج إلى إنقداح إرادة أو كراهة في نفس المولى وبعث أو زجر، ولا يخفى أنّ المصلحة أو المفسدة والإرادة أو الكراهة أمران حقيقيان لهما

وجودان في عالم التكوين كما مرّت الإشارة إليه حينما تعرّضنا لمعنى الإمكان في هذا المبحث في جواب ما اختاره المحقّق النائيني رحمه الله من الإمكان التشريعي.

بيان المختار في المقام:

المختار في حلّ المشكلة هو الطريق السابع: وهو ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله في رسائله، ويرجع إليه كلام كثير من الأعلام، وإليك نصّ عبارته: «أنّه (ابن قبّة) إن أراد إمتناع التعبّد بالخبر في المسألة التي انسدّ فيها باب العلم بالواقع فلا يعقل المنع عن العمل به فضلًا عن امتناعه، وإن أراد الإمتناع مع انفتاح باب العلم والتمكّن منه في مورد العمل بالخبر فنقول: إنّ التعبّد بالخبر حينئذٍ بل بكلّ أمارة غير علميّة يتصوّر على وجهين:

الوجه الأوّل: أن يكون ذلك من باب مجرّد الكشف عن الواقع فلا يلاحظ في التعبّد بها إلّا الايصال إلى الواقع، فلا مصحلة في سلوك هذا الطريق وراء مصلحة الواقع، والأمر بالعمل في هذا القسم ليس إلّاللإرشاد، وهذا الوجه غير صحيح مع علم الشارع العالم بالغيب بعدم دوام موافقة هذه الأمارة للواقع.

الوجه الثاني: أن يكون ذلك لمدخلية سلوك الأمارة في مصلحة العمل بها وإن خالف الواقع فإنّ العمل على طبق تلك الأمارة يشتمل على مصلحة فأوجبه الشارع، وتلك المصلحة لابدّ أن تكون ممّا يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع وإلّا كان تفويتاً لمصلحة الواقع وهو قبيح، والمراد بالحكم الواقعي الذي يلزم بقائه هو الحكم المتعيّن المتعلّق بالعباد الذي يحكي عنه الأمارة ويتعلّق به العلم أو الظنّ وإن لم يلزم امتثاله فعلًا في حقّ من قامت عنده أمارة على خلافه، ويكفي في كونه الحكم الواقعي أنّه لا يعذر فيه إذا كان عالماً به أو جاهلًا مقصّراً.

والحاصل: أنّ المراد بالحكم الواقعي هي مدلولات الخطابات الواقعيّة

غير المقيّدة بعلم انوار الأصول، ج 2، ص: 283

المكلّفين ولا بعدم قيام الأمارة على خلافها، ولها آثار عقليّة وشرعيّة يترتّب عليها عند لاعلم بها أو قيام أمارة حكم الشارع بوجوب البناء على كون مؤدّاها هو الواقع، نعم هذه ليست أحكاماً فعلية بمجرّد وجودها الواقعي» (انتهى ملخّصاً).

فالمستفاد من كلامه هذا بل عصارة بيانه في المقام أمران:

أحدهما: وجود مصلحة في سلوك الأمارة يتدارك بها فقدان المصلحة الواقعيّة في صورة الخطأ.

ثانيهما: أنّ الحكم الواقعي الفعلي ينقلب إنشائيّاً إذا قامت أمارة معتبرة على خلافه ما- دام لم ينكشف خلافها.

أقول: يمكن أن يكون المراد من المصلحة السلوكيّة في كلامه هو مصلحة التسهيل وعدم لزوم الحرج الشديد واختلال النظام من اعتبار حصول القطع في صورة الإنفتاح واعتبار الاحتياط التامّ في صورة الانسداد بل عدم لزوم رغبة الناس عن الدين الحنيف وخروجهم من الدين أفواجاً، وإن شئت فاختبر ذلك بالعمل بالقطع يوماً وليلة واحدة، لا تأكل إلّا الحلال القطعي ولا تلبس ولا تشرب ولا تسكن إلّاذلك، ولا تصلّي إلّافي الحلال والطاهر الواقعيين، ولا تعتمد على سوق مسلم ولا على يده ولا غير ذلك من الأمارات الظنّية.

ولا يخفى أنّه ترتفع بهاتين النكتتين جميع المحاذير المتوهّمة في الأحكام الظاهريّة:

أمّا المحذور الأوّل (وهو لزوم اجتماع الضدّين أو المثلين) فلأنّه لا منافاة بين الحكم الفعلي والإنشائي، والمراد من الإنشائي ما يكون فيه مصلحة أو مفسدة لكن يمنع عن فعليته وعن صدور البعث أو الزجر مانع أو مصلحة أقوى.

وأمّا المحذور الثاني (أي لزوم اجتماع المصلحة والمفسدة في متعلّق واحد) فلأنّه لا مصلحة في متعلّق الأمارة حتّى يلزم اجتماع المصلحة والمفسدة في محلّ واحد.

وأمّا المحذور الثالث (أي لزوم اجتماع الإرادة والكراهة في متعلّق واحد) فأوّلًا: إنّ المتعلّق للإرادة والكراهة

متعدّد، فإحديهما متعلّقة بالفعل والاخرى متعلّقة بنفس السلوك لا بمتعلّق الأمارة، وثانياً: لو سلّمنا كون المتعلّق واحداً إلّاأنّ إحديهما تقع تحت شعاع الاخرى فتسقط عن الفعليّة وترجع إلى مقام الإنشاء لأنّ المفروض أنّ مصلحته أعمّ.

وأمّا الرابع (أي لزوم التكليف بما لا يطاق) فلأنّه إنّما يلزم فيما إذا كان الحكم الواقعي أيضاً

انوار الأصول، ج 2، ص: 284

فعلياً مع أنّ المفروض كونه إنشائيّاً.

وأمّا المحذور الخامس (أي تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة) فلأنّ مصلحة السلوك أهمّ فتجبر بها ما فاتت من المصلحة الواقعيّة.

إن قلت: «إنّ ما هو المجعول واقعاً طبقاً للمصالح والمفاسد ويكون مشتركاً بين العالم والجاهل وتدلّ الأدلّة على اشتراكه بينهما وإنحفاظه في مرتبة الجهل به- هو الحكم الفعلي الذي لو وصل إلى المكلّف كان داعياً له نحو الفعل أو الترك، وإنكار مثل هذا الحكم في ظرف الجهل بالحكم الواقعي والقول بأنّ الموجود في هذا الظرف مجرّد الإنشاء فقط تصويب لا تقول به الإماميّة» «1».

قلت: الباطل من التصويب على قسمين: أحدهما: محال عقلي، والآخر: محال شرعي، أمّا المحال العقلي فهو أن يقال: إنّ اللَّه تعالى يجعل الحكم بعد اجتهاد المجتهد مع خلوّ الواقع عن الحكم قبله فإنّ هذا محال عقلًا لأنّ معناه أنّ المجتهد يجتهد ويتفحّص عن شي ء لا وجود له في الواقع والخارج، ولا إشكال في أنّ لازمه الدور المحال، وأمّا المحال الشرعي فهو أن يقال: إنّ اللَّه يجعل بعدد آراء المجتهدين أحكاماً شرعيّة، وهذا باطل إجماعاً عند أصحابنا رضوان اللَّه عليهم، وأمّا لو قلنا بوجود حكم إنشائي مشترك بين جميع المكلّفين ولكنّه بالنسبة إلى بعضهم بلغ حدّ الفعلية وبالنسبة إلى الباقين بقى على حاله فلا دليل على كونه من التصويب المحال بل الدليل على خلافه.

إن قلت:

ما الفائدة في جعل حكم وإنشائه من دون أن يكون فعليّاً على المكلّفين؟

قلنا: فائدة هذا الحكم هي فائدة المقتضي في جميع المقامات، فإذا اجتمعت فيه شرائط الفعلية وانتفت الموانع صار فعليّاً، ولذلك لا يكون الجاهل المقصّر في الفحص اجتهاداً أو تقليداً معذوراً، ومن هنا أيضاً يجب على المكلّف الإعادة بعد كشف الخلاف (بناءً على القول بعدم الإجزاء).

ثمّ إنّه في تهذيب الاصول أورد على المصلحة السلوكيّة إشكالات أربع:

أحدها: «أنّ حجّية أمارة في الشرع ليس إلّاإمضاء ما كان في يد العقلاء في معاشهم انوار الأصول، ج 2، ص: 285

ومعادهم، من غير أن يزيد عليه شيئاً أو ينقص منه شيئاً، ومن المعلوم أنّ اعتبار الأمارات لأجل كونها طريقاً إلى الواقع فقط من دون أن يترتّب على العمل بها مصلحة وراء إيصالها إلى الواقع، فليس قيام الأمارة عند العقلاء محدثاً للمصلحة لا في المؤدّى ولا في العمل بها وسلوكها، وعليه فالمصلحة السلوكيّة لا أساس لها».

وفيه: أنّ للعقلاء أيضاً في تشريعاتهم وتقنيناتهم مصلحة تتعلّق بسلوك الأمارات بلا إشكال لأنّ عدم حجّية الظنّ في ما بينهم أيضاً يوجب الحرج الشديد واختلال نظامهم ومعاشهم الدنيويّة ولا نعني بالمصلحة السلوكيّة إلّاهذا، فالإنسان إذا لم يعتمد على اليد كالدليل على الملكية وعلى قول المشهور، وكذا ظواهر الألفاظ وخبر الثقة وغير ذلك من الأمارات العقلائيّة لا يقدر على أن يعيش ولو شهراً إلّافي حرج شديد وضيق أكيد.

ثانيهما: ما حاصله: أنّه لا يتصوّر لسلوك الأمارة وتطرّق الطريق معنى وراء العمل على طبق مؤدّاها، فلا يتصوّر له مصلحة وراء المصلحة الموجودة في الإتيان بالمؤدّى.

وإن شئت قلت: الإتيان بالمؤدّى والسلوك على طبق الأمارة من المفاهيم المصدريّة النسبية لا يعقل أن تصير متّصفة بالمصلحة أو المفسدة، بل المصلحة والمفسدة قائمتان

بنفس الخمر والصّلاة مثلًا.

وفيه أيضاً: إنّ المصلحة السلوكيّة ليس معناها أنّ صلاة الجمعة مثلًا (التي يدلّ خبر الواحد على وجوبها) تصير ذا مصلحتين بالسلوك بل المقصود أنّ جعل الحجّة للأمارة وجعلها طريقاً إلى الواقع يوجب التسهيل وعدم رغبة الناس عن الدين وشبه ذلك.

ثالثها: «إنّ ظاهر عبارة الشيخ وشارح مراده أنّ المصلحة قائمة بالتطرّق والسلوك بلا دخالة للواقع في حدوث تلك المصلحة، وعليه فلو أخبر العادل عن الامور العادية لزم العمل على قوله في هذه الموارد أيضاً لأنّه ذا مصلحة سلوكيّة، وهو كما ترى».

أقول: ظاهر هذه العبارة أنّ وجود المصلحة السلوكيّة في الامور الشرعيّة يستلزم وجودها في الامور العادية أيضاً (لأنّ المفروض أنّ حجّية الأمارات إمضاء لطريق العقلاء، والمصلحة قائمة بنفس السلوك بلا دخالة للواقع في حدوث تلك المصلحة) مع أنّه كما ترى، أي لا معنى لحدوث المصلحة في سلوك الأمارة في الامور العادية.

والجواب عنه واضح، لأنّ المراد من طريقة العرف والعقلاء الممضاة عند الشارع هي انوار الأصول، ج 2، ص: 286

طريقيتهم في دائرة القوانين العرفيّة العقلائيّة، ولا شكّ في وجود المصلحة السلوكيّة فيها أيضاً كما مرّ آنفاً، لأنّ اعتبار حصول القطع عندهم أيضاً يوجب لزوم الاختلال في نظامهم الاجتماعي ومعاشهم.

رابعها: «أنّ لازم تدارك المصلحة الواقعيّة بالمصلحة السلوكيّة هو الاجزاء وعدم لزوم الإعادة والقضاء إذ لو لم يتدارك مصلحة الواقع لزم قبح الأمر بالتطرّق، ولو تدارك سقط الأمر، والمفروض أنّ المصلحة القائمة بتطرّق الطريق ليست مقيّدة بعدم كشف الخلاف، فما يظهر من التفصيل من الشيخ الأعظم رحمه الله وبعض أعاظم العصر ليس في محلّه» «1».

وفيه أيضاً: إنّ ما يتصوّر من المصلحة في الأمارات على نوعين: تارةً هي مصلحة تقوم مقام المصلحة الواقعيّة فإشكاله حينئذٍ وارد، فلا بدّ

من القول بالإجزاء مطلقاً سواء انكشف الخلاف أو لم ينكشف، واخرى ليست هي مصلحة تقوم مقامها ولكن في نفس الحال تكون أهمّ منها نظير العثور على الكنز لمن يحفر البئر للوصول إلى الماء، مع أنّها لا تقوم مقامها أصلًا ولا يرتفع بها الظمأ، ومن هذا القبيل مصلحة التسهيل وعدم خروج الناس عن الدين في المقام، وحينئذٍ لو انكشف الخلاف وظهرت المصلحة الواقعيّة لابدّ من إحرازها والحصول عليها بالإعادة أو القضاء على القول بعدم الاجزاء.

والعجب من قوله أخيراً: «والمفروض أنّ المصلحة القائمة بتطرّق الطريق ليست مقيّدة بعدم كشف الخلاف» لأنّه ليس في البين إطلاق حتّى يتمسّك به ويستفاد منه وجود المصلحة في السلوك في كلتا الصورتين بل الدليل في المقام هو حكم العقل والقدر المتيقّن منه صورة عدم انكشاف الخلاف.

بقى هنا شي ء: وهو أنّه قد ظهر ممّا ذكرنا أنّه لا فرق في إمكان الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ورفع المحاذير المتوهّمة بين الأمارات والاصول فنقول في موارد الاصول العمليّة أيضاً: أنّ الحكم الواقعي إنشائي والظاهري (أي مفاد الأصل) فعلي مع وجود المصلحة في سلوكها ومن دون فرق بين التنزيلية منها وغير التنزيليّة.

هذا تمام الكلام في الأمر الثاني (أي في إمكان التعبّد بالظنّ).

الأمر الثالث: في تأسيس الأصل في المسألة
اشارة

إنّ الأمارة الظنّية قد يعلم حجّيتها وقد يعلم عدم حجّتها، وقد يقع الشكّ فيها فإذا وقع الشكّ، فهل الأصل حجّيتها إلّاما خرج بالدليل أو العكس، أي أنّ الأصل عدم حجّيتها إلّاما خرج؟

لا خلاف في أنّ الأصل هو الثاني، أي عدم الحجّية، إنّما الخلاف في طريق الاستدلال عليه، فذكر شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله له طريقاً، وللمحقّق الخراساني رحمه الله طريق آخر، فاستدلّ الشيخ رحمه الله بأنّ أصالة حجّية الظنّ معناها جواز الاستناد إلى الظنّ

والالتزام بكون مؤدّاه حكم اللَّه في حقّه، مع أنّ هذا الاستناد عند الشكّ حرام بالأدلّة الأربعة ما لم يدلّ دليل على جوازه.

وقال المحقّق الخراساني رحمه الله تضعيفاً لذلك ما ملخّصه: أنّ صحّة الالتزام بما أدّى إليه الظنّ من الأحكام وصحّة نسبته إليه تعالى لا دخل لهما بمسألة الحجّية كي إذا لم تصّح الالتزام والنسبة كشف ذلك آناً عن عدم الحجّية، وذلك كما في الظنّ على الانسداد والحكومة فإنّه حجّة عقلًا كالعلم في حال الانفتاح مع عدم صحّة الالتزام بما أدّى إليه وعدم صحّة نسبته إليه تعالى، إذ المفروض عدم القول بالكشف وأنّ الظنّ طريق منصوب من الشرع، بل هو حجّة عقلًا يجب العمل على طبقه والحركة على وفقه، أي يقبح عقاب العبد على أزيد من ذلك، ولو فرض صحّة الالتزام والنسبة فيما شكّ في اعتباره لم يُجد في إثبات حجّيته ما لم يترتّب عليه آثار الحجّية من المنجّزيّة والمعذّريّة، ومع فرض ترتّب آثار الحجّية لم يضرّ عدم صحّتهما كما عرفت في الظنّ على الانسداد والحكومة فالمدار في الحجّية وعدمها على ترتّب آثارها وعدم ترتّبها لا على صحّة الالتزام والنسبة وعدمهما.

أقول: إنّه إشكال وارد في بدء النظر، بل يمكن تأييده بأنّ مسألة صحّة الإسناد والالتزام من الأحكام الفرعيّة الفقهيّة، ومسألة الحجّية مسألة اصوليّة لا ربط بينهما، ولكن عند الدقّة والتأمّل يمكن الجواب عنه والدفاع عن مقالة الشيخ قدس سره بأنّ مراده من صحّة الإسناد والالتزام وعدمها هو مدلولها الالتزامي أي الحجّية، حيث إن الحجّية الشرعيّة تلازم جواز الإسناد والالتزام، والبحث في الحجّية الشرعيّة لا الحجّية العقليّة، وطرح المسألة بهذا النحو وإن كان يجعلها من المسائل الفقهيّة لكن تثبت به الحجّية آناً.

وإن شئت قلت: أنّ صحّة الالتزام

والنسبة وإن لم يكونا من آثار الحجّية لما عرفت من انوار الأصول، ج 2، ص: 288

جواز انفكاك الحجّة عنهما كما في الظنّ الانسدادي على الحكومة ولكن لا يكاد يجوز تحقّقهما في غير الحجّة، فليس كلّ حجّة ممّا صحّ الالتزام بكون مؤدّاه حكم اللَّه وصحّ نسبته إليه تعالى، ولكن كلّما صحّ الالتزام بكون مؤدّاه حكم اللَّه وصحّ نسبته إليه تعالى كان حجّة قطعاً.

أضف إلى ذلك أنّه لا حاجة بناءً على مبنى المحقّق الخراساني رحمه الله في تفسير الحجّية إلى التمثيل بالظنّ الانسدادي على الحكومة، لأنّه بناءً على ذلك المبنى في تمام الحجج الشرعيّة لا يجوز الإسناد والالتزام لأنّ الحجّية عنده بمعنى المنجّزيّة والمعذّريّة، وهما في الواقع قضيتان شرطيتان، أي لو وافق مؤدّى الأمارة الواقع كان منجزاً ولو خالفه كان عذراً، وليستا حاكيتين عن حكم واقعي أو ظاهري حتّى يصحّ الإسناد، فظهر أنّ مآل الطريقين إلى أمر واحد.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمه الله استدلّ للمسألة بالضرورة فقال: «ضرورة أنّه بدونه لا يصحّ المؤاخذة على مخالفة التكليف بمجرّد إصابته ولا يكون عذراً لدى مخالفته مع عدمها ولا يكون مخالفته تجرّيّاً ولا يكون مخالفته بما هي موافقة انقياداً».

ومقصوده من الضرورة هنا هو الضرورة العقليّة والبداهة الوجدانيّة، وهو كذلك، لأنّ الوجدان حاكم على عدم ترتّب آثار الحجّية على أمارة ما لم تتّصف بالحجية الفعليّة في مقام الإثبات.

وأمّا شيخنا الأنصاري رحمه الله فاستدلّ لحرمة الإسناد والإلزام التي يستفاد منها عدم الحجّية بالدلالة الالتزاميّة كما مرّ بالأدلّة الأربعة وقال: «التعبّد بالظنّ الذي لم يدلّ على التعبّد به دليل، محرّم بالأدلّة الأربعة ويكفي من الكتاب قوله تعالى: «قُلْ أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ» دلّ على أنّ ما ليس بإذن من اللَّه من

إسناد الحكم إلى الشارع فهو افتراء، ومن السنّة قوله صلى الله عليه و آله في عداد القضاة من أهل النار «رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم» «1»، ومن الإجماع ما ادّعاه الفريد البهبهاني في بعض رسائله من كون عدم الجواز بديهيّاً عند العوام فضلًا عن العلماء، ومن العقل تقبيح العقلاء من يتكلّف من قبل مولاه بما لا يعلم بوروده من المولى ولو كان جاهلًا مع التقصير».

انوار الأصول، ج 2، ص: 289

أقول: أمّا الإجماع فلا يخفى أنّه في مثل المقام مدركي يرجع إلى سائر الأدلّة فلا اعتبار به مستقلًا، وأمّا السنّة فقد نوقش فيها بأنّ مقام القضاء مقام خاصّ، وللشارع اهتمام خاصّ به، فيكون الدليل أخصّ من المدّعى، كما ناقش فيها في تهذيب الاصول بأنّ مقام القضاء مقام إنشاء الحكم لا إسناده إلى اللَّه تعالى، أي أنّ القاضي إنّما يقول: «حكمت وقضيت بكذا وكذا» ولا يقول: «اللَّه يقول كذا وكذا» «1».

لكن يرد عليه (على مناقشة تهذيب الاصول): أنّ القضاء إنشاء يلازم الإخبار عن الشارع، لأنّ القاضي قام على منصب القضاء الشرعي، وكأنّه يقول: أنّي أحكم بكذا وكذا لأنّي من قضاة الشرع ومنصوباً من قبل الشارع، فإنشاؤه حينئذٍ لا ينفكّ عن الإخبار.

ولكن الأنسب والأولى للشيخ قدس سره أن يستدلّ بما ورد في نفس الباب (أي الباب 4 من أبواب صفات القاضي) من دون أن يكون مختصّاً بباب القضاء، وهي ثلاث روايات:

أوّلها: ما رواه زياد بن أبي رجاء عن أبي جعفر عليه السلام قال: «ما علمتم فقولوا: وما لم تعلموا فقولوا: اللَّه أعلم، أنّ الرجل ينتزع الآية يخرّ فيها أبعد ما بين السماء» «2».

ثانيها: ما رواه مفضّل بن فريد (يزيد) قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «أنهاك عن خصلتين

فيهما هلك الرجال: أنهاك أن تدين اللَّه بالباطل وتفتي الناس بما لا تعلم» «3».

ثالثها: ما رواه عبدالرحمن بن الحجّاج قال: قال لي أبو عبداللَّه عليه السلام: «إيّاك وخصلتين ففيهما هلك من هلك: إيّاك أن تفتي الناس برأيك أو تدين بما لا تعلم» «4».

وأمّا دليل العقل فهو شبيه بما استدلّ به المحقّق الخراساني رحمه الله، يعني ضرورة العقل والوجدان، وعلى أي حال فقد ظهر ممّا ذكر أنّ الأصل هو عدم حجّية الظنّ إلّاما خرج بالدليل.

انوار الأصول، ج 2، ص: 290

كلام في التشريع:

ثمّ إنّه لمّا انتهى الكلام إلى هنا ينبغي البحث عن حقيقة التشريع وأنّه هل هو عبارة عن الالتزام القلبي أو مجرّد الإسناد إلى اللَّه تعالى مطلقاً؟ فنقول هنا امور ثلاثة لابدّ من البحث فيها:

الأوّل: في حقيقة التشريع.

الثاني: في الدليل على حرمته ..

الثالث: في أنّ المحرّم هل هو خصوص التديّن والتعبّد، أو يسري القبح إلى الفعل المتشرّع به أيضاً فيصير الفعل الخارجي قبيحاً عقلًا وحراماً شرعاً؟

أمّا الأمر الأوّل: فنقول: إنّ حقيقة التشريع ومعناه ادخال ما ليس من الدين في الدين بحسب الاعتقاد القلبي وهو غير الإسناد إلى اللَّه تعالى، والنسبة بينهما هي العموم المطلق، فالمعروف بين العلماء أنّ حقيقة التشريع تصدّق في الوحدة أيضاً بمجرّد بناء القلب من دون الإظهار والإسناد، كما إذا صام يوم عيد الفطر بنيّة استحبابه من قبل اللَّه تعالى من دون أن يسندها في محضر غيره إلى اللَّه فيتحقّق حينئذٍ التشريع من دون تحقّق الإسناد الذي هو نوع من الإخبار.

ثّم إنّه هل التشريع يصدق في صورة الشكّ أيضاً؟ فإذا شككنا مثلًا في وجوب سجدتي السهو، فهل يصدق التشريع إذا أتى بهما بنيّة الوجوب أو لا يصدق، بل الصادق حينئذٍ مجرّد التجرّي؟

الصحيح عندنا هو الثاني،

لأنّ المسلّم من حرمة التشريع هو إدخال ما ليس من الدين في الدين اعتقاداً، وإن كان المعروف عند العلماء أنّ التديّن والاعتقاد بالمشكوك فيه أيضاً تشريع محرّم.

وكيف كان، فالمعروف أنّ التشريع عبارة عن الالتزام القلبي كالالتزام قلباً بأنّ هذا واجب أو حرام ولذا يقال: لا يجوز إتيان الذكر الفلان بقصد الورود، أو يقال: يجوز إتيان الذكر الفلان بقصد الرجاء.

لكن قد أورد بعض الأعاظم على هذا إشكالًا حاصله: «أنّ الالتزام الجزمي بما شكّ كونه من المولى أمر ممتنع، وكيف يمكن التعبّد الحقيقي بما لا يعلم أنّه عبادي، فإنّ الالتزامات انوار الأصول، ج 2، ص: 291

النفسانيّة ليست واقعة تحت اختيار النفس حتّى توجدها في أي وقت شاء» «1».

أقول: الحقّ أن التعبّد الحقيقي بما لا يعلم أنّه عبادي أمر ممكن كما هو المعروف في الألسنة والكتب الفقهيّة لأنّه من قبيل قوله تعالى «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ» فلا إشكال في أنّ فرعون مثلًا كان كافراً باللَّه تعالى مع علمه به، وليس هذا إلّاأنّه بنى في قلبه والتزم قلباً بأنّه ليس في العالم إله يسمّى ب «اللَّه»، هذا في الاصول الاعتقاديّة، وكذلك في الفروع فيمكن الالتزام القلبي بأنّ الشي ء الفلان حرام مع العلم بحلّيته.

وإن شئت قلت: ليس التشريع هو العلم بل هو اعتقاد وعقد في القلب، والاعتقاد غير العلم لأنّ العلم، هو مجرّد الإدراك، وأمّا الاعتقاد فإنّه من عقد القلب والبناء القلبي، وكم من شي ء يعلمه الإنسان (أي يدركه) ولكن لا يقبله ولا يلتزم به في قلبه وبالعكس.

وبعبارة اخرى: عقد القلب هو التسليم الباطني تجاه شي ء، علم به أو لم يعلم، كما يدلّ عليه ما مرّ سابقاً، وهو ما رواه إبراهيم بن أبي محمود عن الرضا عليه السلام في حديث طويل

قال: أخبرني أبي عن آبائه عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «من أصغى إلى ناطق فقد عبده، ... إلى أن قال: فإنّ أدنى ما يخرج به الرجل عن الإيمان أن يقول للحصاة، هذه نواة ثمّ يدين بذلك ويبرأ ممّن خالفه، ياابن أبي محمود احفظ ما حدّثتك به فقد جمعت لك فيه خير الدنيا والآخرة» «2».

هذا كلّه في الأمر الأوّل.

أمّا الأمر الثاني: وهو الدليل على حرمة التشريع، فيدلّ عليها أوّلًا: جميع ما يدلّ على حرمة البدعة من الإجماع والآيات والأخبار الواردة في باب البدعة وتحريمها لأنّ التشريع مصداق من مصاديقها.

وثانياً: حكم العقل بقبح التشريع، لأنّ من المستقلّات العقليّة أنّ التشريع نوع تلاعب بأحكام المولى ومخالف لحقّ الطاعة ورسم العبوديّة.

أمّا الأمر الثالث: وهو أنّ المحرّم هل هو خصوص التديّن والالتزم القلبي أو يسري قبح التشريع إلى الفعل المتشرّع به بحيث يصير الفعل قبيحاً عقلًا وحراماً شرعاً؟ فذهب المحقّق النائيني رحمه الله إلى الثاني وقال: «إنّه من الممكن أن يكون القصد والداعي من الجهات والعناوين انوار الأصول، ج 2، ص: 292

المغيّرة لجهة حسن العمل وقبحه فيكون الالتزام والتعبّد والتديّن بعمل لا يعلم التعبّد به من الشارع موجباً لانقلاب العمل عمّا هو عليه وتطرأ عليه بذلك جهة مفسدة تقتضي قبحه عقلًا وحرمته شرعاً، وظاهر قوله: «رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم» حرمة القضاء واستحقاق العقوبة عليه، فيدلّ على حرمة نفس العمل» «1».

أقول: كلامه في محلّه لأنّ أدلّة حرمة التشريع لا تعمّ مجرّد الالتزام القلبي من دون تحقّق عمل في الخارج، وبعبارة اخرى: ليس التشريع من قبيل اصول الدين التي تتقوّم بنفس الاعتقاد في القلب بل القدر المتيقّن من الأدلّة هو الفعل الخارجي الناشي ء من الالتزام القلبي، وإن

شئت فعبّر «الفعل الخارجي مع هذه النيّة».

انوار الأصول، ج 2، ص: 293

حجّية الأمارات الظنّية
1- حجّية الظواهر

بعد أن ثبت إمكان التعبّد بالظنّ وبعد ثبوت أنّ الأصل هو عدم حجّية الظنّ إلّاما خرج، تصل النوبة إلى البحث عمّا وقع التعبّد به خارجاً، أي ما خرج من الظنون عن هذا الأصل، فنقول: من جملة الظنون التي خرجت عن تحت أصالة حرمة العمل بالظنّ ودلّ الدليل على حجّيتها ظواهر الألفاظ مطلقاً من دون اختصاصها بالألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة كما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله، فلا إشكال في حجّية ظواهر الألفاظ التي وردت في كتب الوصايا والأوقاف ورسائل العقود والعهود وإسناد المعاملات، فلا زال البحث عنها بين الناس ثمّ يرسلونها إلى الفقهاء ويستفتون عن حكمها، وكان عليه سيرة المسلمين في الماضي والحال، مع أنّها من الموضوعات لا الأحكام (خلافاً لأغلب الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة) لكن لا بأس به لما مرّ سابقاً من أنّ تشخيص الموضوعات المعقّدة المشكلة على عهدة الفقيه، ولا يقول فقيه: أنّه خارج عن شؤون الفقاهة ولست مكلّفاً بالجواب عنه حيث إنّ الأعظم من الفقهاء كانوا بل لا زال كانوا يستقبلون عن الأسئلة المربوطة بالموضوعات ويجيبون عنها كما يظهر لمن راجع فروعات كتاب العروة الوثقى فإنّ كثيراً من فروعاتها من هذا القبيل.

وكيف كان، لا إشكال في حجّية ظواهر الألفاظ إجمالًا، (إنّما الإشكال والكلام في بعض خصوصيّاته وجزئياته) واستدلّوا لها ببناء العقلاء الذي لم يردع الشارع عنه، ويمكن أيضاً الاستدلال بلزوم نقض الغرض لو لم نقل بالحجّية، وذلك لأنّ الغرض الأصلي في وضع الألفاظ التفهيم والتفهّم، فلو اكتفى بالألفاظ الصريحة والقطعيّة الدلالة مع ملاحظة تلك المجازات والاستعارات الكثيرة، والتصرّفات الحاصلة في الألفاظ التي توجب طبعاً تضييق دائرة الألفاظ الصريحة يلزم

نقض غرض الواضع بلا ريب.

انوار الأصول، ج 2، ص: 294

لكن للمحقّق الحائري رحمه الله هنا بياناً يليق بالذكر وحاصله: أنّه إذا ثبت عندنا أمران نقطع بأنّ مراد المتكلّم هو ما يستفاد من ظاهر اللفظ:

أحدهما: أن نعلم بأنّ المتكلّم يكون في مقام البيان وتفهيم المراد.

ثانيهما: أن نعلم أنّه لم ينصب قرينة توجب إنصراف اللفظ عن ظاهره.

واستدلّ له بأنّه لولا ذلك لزم نقض الغرض، أي لزم الالتزام بأنّه تصدّي لنقض غرضه عمداً وهذا مستحيل، ولذلك لا يختصّ ذلك بمورد يكون المتكلّم حكيماً لأنّ العاقل لا يعمل عملًا يكون فيه نقض غرضه سواء كان حكيماً أم لا، وهذا واضح.

هذا كلّه إذا أحرزنا المقدّمتين كلتيهما، أمّا إذا شككنا في أنّ المتكلّم أراد من اللفظ معناه الظاهر أو غيره، فإمّا أن يكون الشكّ من جهة الشكّ في كونه في مقام التفهيم، وإمّا من جهة الشكّ في وجود القرينة، وإمّا من جهة كليهما، فيقول بالنسبة إلى الصورة الاولى: أنّ الأصل المعوّل عليه عند العقلاء كونه في مقام تفهيم مراده، وهذا الأصل لا شبهة لأحد منهم فيه، وبالنسبة إلى الصورة الثانية يقول: هل الأصل المعوّل عليه فيها هو أصالة عدم القرينة أو أصالة الحقيقة (أصالة الظهور)؟ وتظهر الثمرة بينهما فيما لو إقترن بالكلام ما يصلح لكونه قرينة، فعلى الأوّل يوجب إجمال اللفظ لعدم جريان أصالة عدم القرينة مع وجود ما يصلح للقرينيّة، وعلى الثاني يؤخذ بمقتضى المستفاد من الوضع والمستظهر من اللفظ حتّى يعلم خلافه.

ثمّ قال: «فاعلم أنّ اعتبار الظهور الثابت للكلام وإن شكّ في احتفافه بالقرينة ممّا لا إشكال فيه في الجملة، وأمّا كون ذلك من جهة الاعتماد على أصالة الحقيقة كي لا يرفع اليد عنها في صورة وجود ما يصلح للقرينيّة

فغير معلوم، وإن كان قد يدّعي أنّ بناء العقلاء على الجري على ما يقتضيه طبع الأشياء ما داموا شاكّين في الصحّة والفساد لأنّ مقتضى طبع كلّ شي ء إن يوجد صحيحاً، والفساد يجي ء من قبل أمر خارج عنه، ولعلّه من هذا القبيل القاعدة المسلّمة عندهم «كلّ دم يمكن أن يكون حيضاً فهو حيض» فإنّ مقتضى طبع المرأة أن يكون الدم الخارج منها دم حيض وغيره خارج عن مقتضى الطبع».

ثمّ قال: «وعلى هذا نقول: أنّ مقتضى طبع اللفظ الموضوع أن يستعمل في معناه الموضوع له لأنّ الحكمة في الوضع تمكّن الناس من أداء مراداتهم بتوسّط الألفاظ فاستعماله في غيره إنّما جاء من قبل الأمر الخارج عن مقتضى الطبع ... إلى أن قال: وكيف كان فالمتيقّن من الحجّية هو

انوار الأصول، ج 2، ص: 295

الظهور المنعقد للكلام خالياً عمّا يصلح لأن يكون صارفاً» (انتهى) «1».

هذا كلّه في حجّية الظواهر إجمالًا.

وأمّا بالنسبة إلى خصوصيّاتها وجزئياتها فوقع النزاع في امور ثلاثة:

1- هل الحجّية هنا مقيّدة بحصول الظنّ الشخصي على الوفاق؟

2- هل هي مقصورة على من قصد إفهامه؟

3- هل تكون ظواهر الكتاب حجّة مستقلًا أو بعد تفسير الأئمّة المعصومين عليهم السلام كما ذهب إليه الأخباريون؟

أمّا الأمر الأوّل: فاختلفوا فيه على أربعة أقوال:

1- قول من يقول بتقييدها بالظنّ بالوفاق.

2- قول من يقول بتقييدها بعدم الظنّ بالخلاف.

3- قول من لا يعتبر الظنّ الشخصي مطلقاً.

4- تفصيل المحقّق النائيني رحمه الله بين الألفاظ التي تتردّد بين العبيد والموالي وفي مقام الاحتجاج، والألفاظ التي لا تصدر في هذا المقام كالمتردّدة بين صديقين مثلًا فاعتبر حصول الظنّ (بل حصول أعلى مراتبه وهو الاطمئنان) بالوفاق في الثاني دون الأوّل.

واستدلّ القائلون بالقول الثالث، أي عدم اعتبار الظنّ الشخصي مطلقاً، بإطلاق بناء

العقلاء (الذي كان هو المدرك في أصل حجّية الظواهر) القائم على الأخذ بالظواهر واتّباعها إلى أن يعلم بالخلاف، والدليل على هذا الإطلاق هو عدم صحّة الاعتذار عن مخالفتها بعدم إفادتها الظنّ بالوفاق ولا بوجود الظنّ بالخلاف.

أقول: الحقّ صحّة هذا الإطلاق وإنّ استدلالهم به في محلّه ولا بأس به.

وأمّا تفصيل المحقّق النائيني رحمه الله وهو عدم اعتبار حصول الظنّ بالوفاق في موارد الاحتجاج واعتباره في غيره فهو دعوى بلا دليل وإن كان بناء كثير من الناس في غير الموالي والعبيد على الاحتياط في هذه الموارد، لا سيّما إذا كان في الامور المهمّة والأموال الضخمة.

نعم، يستثنى منه بعض ما ثبتت أهميّته في نظر الشارع المقدّس كباب الحدود والديّات من انوار الأصول، ج 2، ص: 296

باب أنّ الحدود تدرؤا بالشبهات.

نعم، هيهنا تفصيل آخر (وهو المختار) بين ما إذا كان الظنّ الشخصي مخالفاً لقرينة توجب الظنّ على الخلاف، لمن اطّلع عليها غالباً بحيث تكون قابلة للإرائة والاستناد بها على الخلاف، وما إذا لم يكن كذلك، فيمكن أن يقال: إنّ العقلاء لا يعتمدون على الكلام في الصورة الاولى وإن كان ظاهراً في المراد عرفاً.

هذا كلّه في الأمر الأوّل.

وأمّا الأمر الثاني: وهو تفصيل المحقّق القمّي رحمه الله بين من قصد إفهامه بالكلام وغيره وأنّ ظواهر الكتاب حجّة بالنسبة إلى الأوّل دون الثاني، فتظهر ثمرته في الخطابات الشفاهيّة في القرآن الكريم حيث إنّه بناءً على هذا التفصيل يختصّ هذا القبيل من الخطابات بالمشافهين دون الغائبين والمعدومين لعدم كونهم مقصودين بالإفهام، كما تظهر الثمرة أيضاً في الرّوايات التي كان شخص الراوي لها مقصوداً بالإفهام كما إذا سئل زرارة مثلًا مسألة شخصية خاصّة بنفسه فليست ظواهر هذا القبيل من الرّوايات حجّة بالنسبة إلينا بناءً على

التفصيل المذكور بل تنحصر الحجّة منها في الرّوايات التي يكون المخاطب فيها أعمّ من المشافهين كالتي ورد فيها قوله عليه السلام: «فليبلّغ الشاهد الغائب» وهي من قبيل خطبة النبي صلى الله عليه و آله في مسجد الخيف وخطبته في منى.

وعلى كلّ حال استدلّ الميرزا القمّي رحمه الله بما حاصله (على ما ذكر المحقّق الإصفهاني رحمه الله لكلامه من التوجيه) أنّ دليل حجّية ظواهر الكتاب إنّما هو عدم تحقّق نقض الغرض (لأنّ عدم حجّية الظاهر مع كون المتكلّم في مقام البيان ومع أنّه لم ينصب قرينة على الخلاف يوجب نقض الغرض) وهو خاصّ بالمقصودين بالإفهام فقط لأنّه يكفي نصب القرائن الحاليّة أو المقاليّة لمن قصد إفهامه فحسب وأمّا اختفائها ممّن لم يقصد إفهامه فلا يوجب نقض غرضه من الكلام، وبعده لا يبقى دليل لحجّية ظاهر كلامه بالنسبة إلى غيرهم «1».

أقول: الإنصاف كما ذهب إليه المحقّقون هو عدم الفرق بين من قصد إفهامه وغيره، وذلك لعدم انحصار دليل حجّية الظواهر في لزوم نقض الغرض، بل العمدة فيها إنّما هي بناء العقلاء،

انوار الأصول، ج 2، ص: 297

ولا فرق عندهم بين الصورتين كما تشهد عليه شواهد كثيرة:

منها: أنّ القضاة لا يزالون يستندون إلى الشرائط التي حصلوا عليها من ناحية شخص أقرّ صديقه بشي ء عنده مع أنّه هو المقصود بالإفهام.

ومنها: اعتمادهم بسجلّات الأوقاف حتّى في ما إذا كان المخاطب فيها شخص المتولّي أو خصوص إنسان آخر.

ومنها: اعتمادهم بالمكالمات التلفونية أو المكاتبات السرّية التي يكون غير المخاطب فيها مقصوداً بالإخفاء فضلًا عن عدم كونه مقصوداً بالإفهام واستدلالهم بها. هذا أوّلًا.

وثانياً: سلّمنا باختصاص حجّية الظواهر بمن قصد إفهامه إلّاأنّه لا تترتّب عليه ثمرة بالنسبة إلى خطابات القرآن والرّوايات.

أمّا الاولى: فلأنّ القرآن خاتم الكتب

السماويّة ولا إشكال في أنّ المقصود بالإفهام من خطاباتهم جميع الناس إلى الأبد، ولذلك ورد الأمر بالترتيل عند قرائتها واجابة خطاباتها بقول القاري «لبّيك ربّنا».

وأمّا الثانية: فلأنّها على قسمين: قسم يكون من قبيل تأليف المؤلّفين للكتب التي ليس المقصود بالإفهام فيها شخصاً خاصّاً أو أشخاصاً معينين، ولا إشكال فيها للمحقّق القمّي رحمه الله نفسه أيضاً، وقسم آخر لا يكون كذلك إلّاأنّ عدالة الراوي أو وثاقته وأمانته في النقل تقتضي نقل القرائن التي دخيلة في الفهم من الرّواية أيضاً بحيث يعدّ عدم نقله إيّاها من الخيانة في النقل.

فتلخّص أنّ كلامه مضافاً إلى عدم تناسبه مع الدليل المعتبر في حجّية الظواهر لا تترتّب عليه ثمرة في ما بأيدينا من آيات الكتاب وأخبار السنّة.

هذا كلّه في الأمر الثاني.

أمّا الأمر الثالث: وهو حجّية ظواهر كتاب اللَّه مستقلًا فالمعروف والمشهور بين أصحابنا الإماميّة هو الحجّية، وأنكرها جماعة من الأخباريين، وقالوا بعدم حجّيتها قبل ورود تفسير الأئمّة المعصومين، وهذا التفريط الذي يقصر الحجّة في الرّواية إنعكاس في الواقع لإفراط من قال: «حسبنا كتاب اللَّه»، وكلّ واحد منهما جائر عن سواء السبيل.

وكيف كان، قبل بيان أدلّة الأخباريين لابدّ من ذكر الأدلّة التي تدلّ على حجّية ظواهر

انوار الأصول، ج 2، ص: 298

الكتاب، فنقول: دليلنا على ذلك امور:

الأوّل: أنّها مقتضى القاعدة الأوّليّة لأنّ بناء العقلاء استقرّ على حجّية الظواهر مطلقاً، ومنها ظواهر القرآن الكريم، واستثنائها منها بغير دليل معتبر ممّا لا وجه له.

وإن شئت قلت: المقصود في الآيات تفهيم معانيها للناس من طريق ظواهرها فعدم حجّية ظواهرها يستلزم نقض الغرض كما لا يخفى.

الثاني: آيات من القرآن نفسه: منها قوله تعالى: «قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ

وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» «1».

ومنها: قوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُبِينٍ» «2».

إن قلت: إثبات حجّية ظواهر الكتاب بالكتاب يستلزم الدور المحال.

قلنا: أنّه كذلك إذا كان الاستدلال بظواهر الآيات مع أنّه في المقام استدلال بنصوصها التي لا ينكرها الأخباريون أيضاً.

الثالث: (وهو العمدة) دلالة طوائف من الأخبار على حجّيتها:

الطائفة الاولى: حديث الثقلين «3»، فإنّ ظاهره أنّ كلًا من الكتاب والعترة حجّة مستقلًا، وإنّ الكتاب هو الثقل الأكبر، والعترة الطاهرة عليهم السلام هو الثقل الأصغر، وإن كان كلّ واحد منهما يؤيّد الآخر ويوافقه، نظير حكم العقل وحكم الشرع في قاعدة الملازمة فليست حجّية حكم العقل مقيّدة بدلالة الشرع وبالعكس، وإن كان يؤيّد أحدهما بالآخر، فكذلك في ما نحن فيه، وإلّا لو كانت حجّية دلالة الكتاب مقيّدة بدلالة الرّوايات لكانت دلالة الرّوايات أيضاً مقيّدة بدلالة الكتاب مع أنّه لم يقل به أحد.

الثانية: ما يدلّ على أنّ القرآن هو الملجأ عند المشاكل والحوادث، والمرجع عند التباس انوار الأصول، ج 2، ص: 299

الامور، نظير ما نقله الطبرسي رحمه الله في مقدّمة تفسيره عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «إذا التبس عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فمن جعله أمامه قاده إلى الجنّة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار».

وغير ذلك ممّا ورد في نهج البلاغة نحو قوله عليه السلام: «فاستشفوه من أدوائكم فإنّ فيه شفاء من أكبر الداء»، إلى غير ذلك ممّا هو كثير، وكثرتها تغني عن ملاحظة أسنادها.

الثالثة: ما يدلّ على وجوب عرض الرّوايات على كتاب اللَّه، التي جمعها في الوسائل الباب 9 من أبواب صفات القاضي:

منها: ما رواه السكوني عن

أبي عبداللَّه عليه السلام قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «إنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً فما وافق كتاب اللَّه فخذوه وما خالف كتاب اللَّه فدعوه» «1».

فكيف يمكن أن يكون القرآن معياراً لتعيين الحجّة عن اللّاحجّة، ولا يكون بنفسه حجّة.

الرابعة: ما ورد عند تعارض الخبرين الآمرة بأخذ ما وافق كتاب اللَّه «2».

الخامسة: ما يدلّ على أنّه يجب الوفاء بكلّ شرط إلّاما خالف كتاب اللَّه، وهو ما ورد في ج 12- من الوسائل باب 12- من أبواب الخيار، التي ظاهرها حجّية ظواهر الكتاب لكونها ملاكاً لتشخيص الشروط الحقّة عن الشروط الباطلة» «3».

السادسة: ما ورد في باب صلاة القصر في ذيل آية التقصير عن زرارة ومحمّد بن مسلم قالا: قلنا لأبي جعفر عليه السلام: رجل صلّى في السفر أربعاً أيعيد أم لا؟ قال: «إن كان قرأت عليه آية التقصير وفسّرت له فصلّى أربعاً أعاد، وإن لم يكن قرأت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه» «4».

إن قلت: ما المراد من قوله عليه السلام: «فسّرت»؟ أليس هذا مشيراً إلى مقالة الأخباريين؟

قلنا: كلّا، بل المراد- على الظاهر- تفسير قوله تعالى: «لا جناح» بما يقتضي الوجوب.

وأيضاً ما ورد في أبواب حدّ شرب الخمر وأنّ الشارب إذا لم يسمع آية التحريم لكونه انوار الأصول، ج 2، ص: 300

حديث العهد بالإسلام يدرأ عنه الحدّ «1».

السابعة: ما ورد في الرّوايات من إرجاع الناس في فهم أحكام اللَّه إلى القرآن، نظير ما ورد في باب الوضوء عن عبدالأعلى مولى آل سام قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟ قال: «يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللَّه عزّوجلّ، قال اللَّه تعالى: «مَا جَعَلَ

عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»، امسح عليه» «2».

الثامنة: ما يدلّ على لزوم إرجاع المتشابهات من الأخبار والقرآن إلى محكماتها، نظير ما رواه أبو حيون مولى الرضا عن الرضا عليه السلام قال: «من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه فقد هدي إلى صراط مستقيم، ثمّ قال عليه السلام: إنّ في أخبارنا محكماً كمحكم القرآن ومتشابهاً كمتشابه القرآن، فردّوا متشابهها إلى محكمها ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا» «3».

إن قلت: لعلّ المراد من المحكم هو خصوص النصوص من الكتاب والرّوايات.

قلنا: إنّ المحكم ما يقابل المتشابه، والمتشابه بمعنى المبهم والمجمل فكلّ ما لا يكون مبهماً محكم، فيعمّ المحكم النصّ والظاهر معاً لأنّ الظاهر أيضاً لا يعدّ عند العرف والعقلاء من المبهم، ويشهد لذلك ذيل الخبر لأنّه يدلّ على أنّ الأخبار أيضاً تنقسم إلى المحكم والمتشابه، ولم يقل أحد حتّى من الأخباريين بأنّ ظواهر الأخبار داخلة في المتشابه.

التاسعة: ما يعبّر من الرّوايات بقوله عليه السلام: «أما سمعت قول اللَّه ...» «4».

فإن ظاهرها أيضاً أنّ ظاهر الكتاب حجّة كما لا يخفى.

العاشرة: ما دلّ على «أنّ اللَّه لا يخاطب الخلق بما لا يعلمون» «5»، فإنّه ظاهر في أنّ خلق اللَّه تعالى يدركون ما أنزله ويكون ظاهره حجّة عليهم.

هذه هي الطوائف العشرة يدلّ كلّ واحدة منها على المقصود مستقلًا، ولو سلّمنا عدم دلالته كذلك فلا أقلّ من أنّ في المجموع بما هو المجموع غنىً وكفاية.

انوار الأصول، ج 2، ص: 301

ثمّ إنّه اعتذر بعض الأخباريين عن بعض ما ذكرنا بما فيه تكلّف ظاهر، مثل ما ذكره صاحب الوسائل في ذيل الطائفة العاشرة من أنّ المراد من الخلق فيها هم الأئمّة عليهم السلام أو جميع المكلّفين (باعتبار دخول الأئمّة عليهم السلام فيهم وأنّه إذا علم بعضهم

معنى القرآن فهو كافٍ في صدق قوله عليه السلام «لا يخاطب الخلق بما لا يعلمون») «1».

ولكن لا يخفى ما فيه من إرتكاب خلاف الظاهر والتعسّف والتكلّف، كما أنّ توجيهه روايات العرض على القرآن بأنّ المراد منها العمل بالكتاب والسنّة معاً- أيضاً واضح البطلان لأنّ ظاهرها أنّ تمام المعيار في معرفة الحقّ والباطل في الرّوايات هو الكتاب الكريم لا أنّ الخمسين في المائة مثلًا منه للقرآن، والخمسين في المائة الاخر للروايات، بل ظاهر هذه الطائفة أنّ للقرآن ما هو أعظم وأهمّ من الحجّية وهو أنّه نور في نفسه ومنوّر لغيره.

وأجاب عن روايات الطائفة التاسعة بأنّ «وجهها أنّ من سمع آية ظاهرها دالّ على حكم نظري لم يجز له الجزم بخلافها، لاحتمال إرادة ظاهرها، فالإنكار هناك لأجل هذا، وإن كان لا يجوز الجزم بإرادة الظاهر أيضاً، لاحتمال النسخ والتخصيص والتأويل وغير ذلك».

وهذا الكلام أيضاً مخالف لظاهر ما مرّ من الرّواية كما لا يخفى على الناظر فيها.

وأمّا الوجوه التي استدلّوا بها على عدم حجّية ظواهر الكتاب فهي ستّة بعضها ينفي كبرى الحجّية بعد قبول صغرى الظهور، وبعضها الآخر ينفي الصغرى أعني ظهور الآيات في معانيها.

أمّا الوجه الأوّل: (ولعلّه العمدة) فهي الرّوايات الناهيّة عن التفسير بالرأي بتقريب أنّ العمل بالظواهر من مصاديق التفسير بالرأي.

منها: ما رواه الريّان بن الصلت عن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال: قال اللَّه عزّوجلّ: «ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي» «2».

ومنها: ما رواه عبدالرحمن بن سمرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «لعن اللَّه المجادلين في دين اللَّه على لسان سبعين نبيّاً، ومن جادل في آيات اللَّه كفر، قال اللَّه: «مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا»، ومن فسّر

القرآن برأيه فقد افترى على اللَّه الكذب ...» «3».

انوار الأصول، ج 2، ص: 302

ومنها: ما رواه أبو بصير عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «من فسّر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر، وإن أخطأ خرّ أبعد من السماء» «1».

وغير ذلك من بعض روايات الباب الثالث عشر من أبواب صفات القاضي «2».

والجواب عن هذا الوجه مبني على بيان معنى التفسير والرأي الواردين في هذه الرّوايات وأنّهما هل يشملان العمل بالظواهر أو لا؟

أمّا كلمة التفسير ففي القاموس: «الفسر والتفسير الإبانة وكشف المغطّى، والتفسير هو نظر الطبيب إلى الماء فإنّ الطبيب بنظره إلى الماء وهو البول يكشف عن نوع المرض».

وفي مفردات الراغب «الفسر إظهار المعنى المعقول، والتفسير قد يقال في ما يختصّ بمفردات الألفاظ وغريبها وما يختصّ بالتأويل ولذا يقال تفسير الرؤيا وتأويلها».

وفي لسان العرب: «الفسر كشف المغطّى والتفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل، قيل التفسيرة (على وزن التذكرة) البول الذي يستدلّ به على المرض».

فبناءً على هذا المعنى ينحصر تفسير القرآن ببطونه وبمتشابهاته، ولا يشمل الأخذ بظواهر الآيات نظير قوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» و «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» وقوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ» كما لا يخفى.

وأمّا معنى الرأي فالظاهر منه هو الآراء الباطلة التي لا أساس لها.

ففي مفردات الراغب: «الرأي اعتقاد النفس أحد النقيضين عن غلبة الظنّ» وليس المراد من الظّن إلّاالآراء والظنون الباطلة كما يشهد به الرّوايات:

منها: ما روي عن الحسن بن علي العسكري عليه السلام في تفسيره بعد كلام طويل في فضل القرآن قال: «أتدرون من المتمسّك به الذي له بتمسّكه هذا الشرف العظيم؟ هو الذي أخذ القرآن وتأويله عنّا أهل البيت عن وسائطنا السفراء عنّا إلى شيعتنا لا عن آراء المجادلين وقياس

الفاسقين» «3».

ومنها: ما رواه عمّار بن موسى عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سئل عن الحكومة فقال: «من انوار الأصول، ج 2، ص: 303

حكم برأيه بين اثنين فقد كفر، ومن فسّر آية من كتاب اللَّه فقد كفر» «1».

فالمراد من الرأي على ضوء مثل هاتين الروايتين هو قول العامّة: بأنّ هذا ممّا لا نصّ فيه فليتمسّك بذيل القياس أو الاستحسان.

الوجه الثاني: الرّوايات الناهيّة عن العمل بالمتشابهات بتقريب أنّ الظواهر من المتشابهات لأنّ المحكمات منحصرة في النصوص.

منها: ذيل ما رواه علي بن الحسين المرتضى في رسالة المحكم والمتشابه نقلًا عن التفسير النعماني عن إسماعيل بن جابر عن الصادق عليه السلام: «وإنّما هلك الناس في المتشابه لأنّه لم يقفوا على معناه ولم يعرفوا حقيقته فوضعوا له تأويلًا من عند أنفسهم بآرائهم واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء ونبذوا قول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وراء ظهورهم» «2».

ومنها: ما رواه أبو بصير عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: «نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله» «3».

ومنها: ما رواه عبدالرحمن بن كثير عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «الراسخون في العلم أمير المؤمنين عليه السلام والأئمّة من ولده» «4».

والجواب عن هذا الوجه واضح لأنّ المتشابه (كما مرّت الإشارة إليه في ذيل الطائفة الثامنة من الرّوايات الدالّة على حجّية ظواهر الكتاب) هو ما يتشابه بعضه بعضاً، أي ما يشابه فيه أحد احتمالين احتمالًا آخر وبالعكس، ولذلك يوجب الحيرة للإنسان فيصير مجملًا ومبهماً، وإلّا ما لم يكن فيه تشابه بين الاحتمالين بل كان أحدهما ظاهراً والآخر مخالفاً للظاهر فلا يكون متشابهاً حتّى يكون داخلًا في هذه الرّوايات.

والشاهد على ذلك ما مرّ من ذيل رواية إسماعيل بن جابر: «لأنّهم لم يقفوا على

معناه ولم يعرفوا حقيقته فوضعوا له تأويلًا من أنفسهم بآرائهم» وهو يعني أنّ المتشابه ما لا يفهم الإنسان معناه، ولذلك يرى نفسه مضطراً إلى أن يأوّله من عند نفسه، وهذا لا يكون صادقاً في انوار الأصول، ج 2، ص: 304

العمل بالظواهر والمطلقات والعمومات لأنّ المعنى فيها مفهوم واضح.

هذا مضافاً إلى ما ورد في ذيل آية المحكم والمتشابه وهو قوله تعالى: «فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ» حيث لا يخفى أنّ العمل بالظواهر لا يكون فيه ابتغاء الفتنة، بل الفتنة تنشأ من ناحية اتّباع الذين في قلوبهم المرض أحد الاحتمالين، وهو يصدق في ما ليس له ظهور أو ما يخالف الظهور.

الوجه الثالث: روايات تدلّ على أنّ للقرآن مفاهيم عالية لا تصل إليها الأيدي العادية والأفهام القاصرة للناس، ولذلك لا ظهور لها بالنسبة إليهم.

منها: ما رواه عبدالعزيز العبدي عن أبي عبداللَّه عليه السلام في قول اللَّه عزّوجلّ: «بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» قال: «هم الأئّمة عليهم السلام» «1».

ومنها: ما رواه أبو بصير قال: قرأ أبو جعفر عليه السلام هذه الآية: «بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» ثمّ قال: «أما واللَّه ياأبا محمّد ما قال ما بين دفّتي المصحف» قلت:

من هم جعلت فداك؟ قال: «من عسى أن يكونوا غيرنا» «2».

ومنها: ما رواه أبو بصير أيضاً قال سمعت أبا جعفر يقول في هذه الآية: « «بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» فأوى بيده إلى صدره» «3».

ومنها: ما رواه سدير عن أبي عبداللَّه عليه السلام في حديث قال: «علم الكتاب كلّه واللَّه عندنا علم الكتاب كلّه واللَّه عندنا» «4».

ومنها: ما رواه الطبرسي في التفسير الصغير عن

الصادق عليه السلام في قوله تعالى: «وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ» قال: «إيّانا عنى وعلي أوّلنا» «5».

والجواب عن هذا الوجه أنّ المقصود من هذه الرّوايات أنّ للقرآن بطوناً في مقابل الظواهر، والمختصّ بالأئمّة هي تلك البطون خاصّة لا الظواهر، ولنا على هذا شواهد من نفس الرّوايات:

انوار الأصول، ج 2، ص: 305

منها: ما رواه جابر قال قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «ياجابر أنّ للقرآن بطناً وللبطن ظهراً وليس شي ء أبعد من عقول الرجال منه، أنّ الآية لينزل أوّلها في شي ء وآخرها في شي ء وهو كلام متصرّف على وجوه» «1».

فإنّ الضمير في قوله «منه» يرجع إلى القرآن فيكون المقصود أنّ القرآن بجميع شؤونه من الظاهر والباطن لا يفهمه غير الأئمّة، ولا أقلّ من أنّ هذا طريق الجمع بينها وبين ما دلّ على إرجاع آحاد الناس إلى الكتاب العزيز، وقد عرفت أنّها متواترة.

ومنها: ما رواه فضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر عن هذه الرّواية: ما من القرآن آية إلّا ولها ظهر وبطن، قال: «ظهره وبطنه تأويله، ومنه ما قد مضى ومنه ما لم يكن، يجري كما تجري الشمس والقمر كلّما جاء تأويل شي ء يكون على الأموات كما يكون على الأحياء، قال اللَّه:

«وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ»» «2»

. ومعنى قوله «ظهره وبطنه تأويله» أنّ ظهره واضح وأمّا بطنه فهو تأويله.

ومنها: ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «تفسير القرآن على سبعة أوجه، منه ما كان ومنه ما لم يكن بعد، تعرفه الأئمّة عليهم السلام» «3»، وظاهر الرّواية أنّ التفسير (وهو الكشف عن المغطّى) عندهم عليهم السلام.

ومنها: ما روي عن الباقر عليه السلام في قوله تعالى: «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ

يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» قال: «هم الأئمّة المعصومون عليهم السلام» «4».

فإنّ آية «ولو ردّوه إلى الرسول ... الخ» نزلت في ما لا يكون له ظهور، ولذلك وقع الاختلاف فيه فتدلّ هذه الرّواية على أنّ هذا السنخ من الآيات علمها عند الأئمّة المعصومين عليهم السلام فقط.

ومنها: ما رواه إسماعيل بن جابر عن الصادق عليه السلام قال: «إنّ اللَّه بعث محمّداً فختم به الأنبياء فلا نبي بعده، وأنزل عليه كتاباً فختم به الكتب فلا كتاب بعده- إلى أن قال-: فجعله النبي صلى الله عليه و آله انوار الأصول، ج 2، ص: 306

علماً باقياً في أوصيائه فتركهم الناس وهم الشهداء على أهل كلّ زمان حتّى عائدوا من أظهر ولاية ولاة الأمر وطلب علومهم، وذلك أنّهم ضربوا القرآن بعضه ببعض ... ولهذه العلّة وأشباهها لا يبلغ أحد كنه معنى حقيقة تفسير كتاب اللَّه تعالى ولا نبيّه وأوصياؤه» «1» ودلالتها أيضا على المطلوب ظاهرة.

الوجه الرابع: روايات تدلّ على أنّ مخاطب القرآن إنّما هو الرسول صلى الله عليه و آله والأئمّة الهادين، وهذه صغرى إذا انضمّت إلى كبرى اختصاص حجّية الظواهر بمن خوطب به يستنتج منها أنّ ظواهر الكتاب ليست حجّة لغير الأئمّة عليهم السلام:

منها: ما رواه زيد الشحّام قال: دخل قتادة بن دعامة على أبي جعفر عليه السلام فقال: «ياقتادة أنت فقيه أهل البصرة؟» فقال: هكذا يزعمون فقال أبو جعفر عليه السلام: «بلغني أنّك تفسّر القرآن- إلى أن قال أبو جعفر عليه السلام- ويحك ياقتادة إن كنت إنّما فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت قد فسّرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت، ويحك ياقتادة إنّما يعرف القرآن من خوطب به» «2».

وفيه إشكال صغرى وكبرى: أمّا الصغرى فلأنّ اختصاص مخاطبي القرآن

بالرسول صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام كلام غير معقول، لما ورد من أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان يحتجّ مع المشركين بهذه الآيات، وكان المشركون والكافرون يخاطبون بها بمثل قوله تعالى: «ياأهل الكتاب» و «ياأيها الكافرون» و «ياأيّها الناس» ولا يكاد ينتظرون تفسير النبي صلى الله عليه و آله الذي لم يؤمنوا به.

وأمّا رواية قتادة فهي تفسّر بما رواه شبيب بن أنس عن بعض أصحاب أبي عبداللَّه عليه السلام في حديث أنّ أبا عبداللَّه قال لأبي حنيفة: «أنت فقيه العراق؟» قال: نعم قال «فبم تفتيهم؟» قال:

بكتاب اللَّه وسنّة نبيّه صلى الله عليه و آله قال: «ياأبا حنيفة: تعرف كتاب اللَّه حقّ معرفته؟ وتعرف الناسخ والمنسوخ؟» قال: نعم، قال: «ياأبا حنيفة لقد ادّعيت علماً ويلك ما جعل اللَّه ذلك إلّاعند أهل الكتاب الذي انزل عليهم، ويلك ولا هو إلّاعند الخاصّ من ذرّية نبيّنا محمّد صلى الله عليه و آله، وما ورّثك اللَّه من كتابه حرفاً» «3».

انوار الأصول، ج 2، ص: 307

وهي تدلّ على أنّ خصوصيّات الناسخ والمنسوخ وشبهها عند الأئمّة عليهم السلام فقط، وهذا ردّ على الذين استغنوا بآرائهم عن مسألتهم، ولا يشمل من يعمل بظواهر الكتاب ويأخذ المشكلات من أهله، ولا أقلّ من أنّ هذا طريق الجمع بينها وبين ما دلّ على ارجاع الناس عموماً إلى القرآن الكريم.

فالمراد من قوله في رواية قتادة: «إنّما يعرف القرآن من خوطب به» هو معرفة تفسير البطون والأسرار والمتشابهات، كما يشهد عليه صدرها: «بلغني أنّك تفسّر القرآن» وقد عرفت أنّ التفسير عبارة عن كشف المغطّى، وكما يشهد عليه أيضاً ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في احتجاجه على زنديق سأله عن آيات متشابهة من

القرآن فأجابه- إلى أن قال-: «ثمّ إنّ اللَّه قسّم كلامه ثلاثة أقسام فجعل قسماً منه يعرفه العالم والجاهل، وقسماً لا يعرفه إلّامن صفا ذهنه ولطف حسّه وصحّ تمييزه ممّن شرح اللَّه صدره للإسلام، وقسماً لا يعلمه إلّااللَّه وملائكته والراسخون في العلم، وإنّما فعل ذلك لئلّا يدّعي أهل الباطل المستولين على ميراث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من علم الكتاب ما لم يجعله اللَّه لهم، وليقودهم الاضطرار إلى الايتمام بمن ولّي أمرهم فاستكبروا عن طاعته» «1».

هذا كلّه في الصغرى.

وأمّا الكبرى فلما مرّ في جواب كلام المحقّق القمّي رحمه الله من عدم اختصاص حجّية الظواهر بالمقصودين بالإفهام وأنّ بناء العقلاء استقرّ على الأعمّ منهم.

الوجه الخامس: أنّ ظاهر الكتاب وإن لم يكن ذاتاً مندرجاً في المتشابه لكنّه مندرج فيه بالعرض، فسقط عن الظهور، وذلك لأجل العلم الإجمالي بطروّ التخصيص والتقييد والتجوّز في الكتاب.

واجيب عن هذا الوجه بجوابين: أحدهما: بالنقض، والآخر بالحلّ، أمّا الأوّل فبالنقض بالإخبار فلا بدّ من القول بعدم حجّية ظواهرها أيضاً.

وأمّا الثاني فبأنّ سببية العلم الإجمالي (بإرادة خلاف الظاهر في جملة من الآيات) للإجمال مشروطة بعدم انحلاله بالظفر في الرّوايات بالمخصّصات وغيرها من موارد إرادة خلاف انوار الأصول، ج 2، ص: 308

الظاهر بمقدار المعلوم بالإجمال، ومع الانحلال لا إجمال.

وإن شئت قلت: إنّ دائرة المعلوم بالإجمال ليست مطلق الأمارات حتّى يقال ببقاء احتمال التخصيص ونحوه حتّى بعد الظفر بمخصّصات ونحوها فيما بأيدينا من الرّوايات وغيرها، بل خصوص ما لو تفحّصنا عنه لظفرنا به، وهذا العلم الإجمالي يمنع عن التمسّك بالظواهر قبل الفحص لا بعده، فبعد الفحص إذا لم يظفر بما يخالف ظاهر الكتاب من تخصيص أو تقييد أو قرينة مجاز يكون ذلك الظاهر ممّا علم خروجه

تفصيلًا عن أطراف الشبهة، فلا مانع حينئذٍ من إجراء أصالة الظهور فيه.

الوجه السادس: ما يبتني على مزعمة تحريف القرآن، وهو أن يقال: إنّا نعلم إجمالًا بوقوع التحريف في الكتاب، وكلّ ما وقع فيه التحريف يسقط ظهوره عن الحجّية، فظواهر كلام اللَّه تسقط عن الحجّية.

وهو باطل صغرى وكبرى، ونقدّم البحث عن الكبرى لاختصاره، فنقول: سلّمنا وقوع صغرى التحريف في الكتاب لكنّه لا يوجب المنع عن حجّية ظواهر القرآن الكريم، وذلك لُامور:

الأوّل: أنّ التحريف على فرض وقوعه لا يوجب التغيير في المعنى دائماً كالتحريف بإسقاط آية أو سورة لا إرتباط لها بما قبلها وما بعدها.

الثاني: أنّ محلّ الكلام هو آيات الأحكام، ودواعي التحريف فيها ضعيفة، وإنّما الدواعي في ما له ربط بسياسياتهم أعني مسألة الولاية والحكومة، فتأمّل.

الثالث: أنّه لو فرضنا وجود العلم الإجمالي بالتحريف في مجموع الآيات من الأحكام وغيرها لكنّه غير ضائر بحجّيتها لكونه من موارد الشبهة غير المحصورة أي من قبيل العلم الإجمالي بالقليل في الكثير وهو لا يوجب الإحتياط على ما قرّر في محلّه.

الرابع: سلّمنا كون الشبهة محصورة، وأنّ العلم الإجمالي في المقام من قبيل العلم بالكثير في الكثير إلّاأنّه لا يوجب أيضاً عدم حجّية الظواهر لأنّه من موارد عدم ترتّب أثر شرعي على بعض أطراف العلم الإجمالي لو كان المعلوم بالإجمال محقّقاً فيه، فإنّ الخلل المعلوم بالإجمال إن كان في ظواهر غير آيات الأحكام من القصص والحكايات والاعتقادات والأخلاقيات لم يؤثّر شيئاً لعدم تكليف شرعي عملي فيها وليست هي أحكاماً تعبّديّة بل إنّها إرشادات إلى عدّة من الأحكام العقليّة، وإن كان في ظواهر آيات الأحكام فهو شكّ بدوي فتكون أصالة

انوار الأصول، ج 2، ص: 309

الظهور في الأحكام باقية على حجّيتها.

وقد اجيب عن هذا الوجه

في كلمات بعض الأعاظم بأنّ جميع آيات القرآن داخلة في محلّ الابتلاء في العمل بناءً على ما هو المشهور من لزوم قراءة سورة كاملة في الركعتين الأوّليين من كلّ صلاة، ولو وقع التحريف في سورة لا يصحّ قراءتها في الصّلاة لعدم كونها كاملة سواء كان المحتوى فيها من الأحكام أم غيرها، وإذن يصير كلّ سورة من سور القرآن محلًا للابتلاء في العمل فيؤثّر العلم الإجمالي أثره من عدم الحجّية.

كما يمكن إثبات دخول جميع القرآن في موضع الابتلاء من طرق اخرى أيضاً كاعتبار الطهارة في مسّها سواء كانت من الأحكام أم غيرها.

أقول: الإنصاف هو عدم الاعتماد بشي ء من هذه الوجوه، وذلك لأنّ أصالة حجّية الظواهر ليست من الاصول التعبّديّة بل هي كأصالة الحقيقة من الاصول العقلائيّة الطريقيّة التي استقرّ عليها بناء العقلاء من باب أنّها طريق لكشف الواقع لا من باب مجرّد التعبّد، وحينئذٍ لابدّ من ملاحظة بناء العقلاء في المقام وأنّه هل هو ثابت على حجّية ظواهر كتاب حتّى بعد وقوع التحريف فيها أو لا؟ الإنصاف أنّ بناءهم لم يستقرّ عليها في هذه الصورة من دون فرق بين كونها داخلة في محلّ الابتلاء وعدمه، ومن دون فرق بين أن يترتّب عليها أثر شرعي أو لا يترتّب.

والحقّ في الجواب أن نقول: أنّ الطوائف العشرة الدالّة على لزوم الأخذ بظواهر كتاب اللَّه التي مرّت سابقاً لا تدعونا إلّاإلى العمل بهذا القرآن الموجود في أيدي المسلمين، وتلاوة آيات هذا القرآن الذي وصل إلينا من عهد أمير المؤمنين عليه السلام والصادقين عليهما السلام سواء قلنا بتحريفه بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في مدّة قصيرة قبل جمعه في عهد عثمان أو لم نقل به كما هو الحقّ،

وسيأتي تفصيله إن شاء اللَّه، لأنّه لا يقول أحد بوقوع التحريف بعد جمع عثمان إلى زماننا هذا.

وبالجملة لو فرضنا وقوع التحريف فيه وعدم بناء العقلاء على حجّية كتاب محرّف فلا كلام ولا إشكال في حجّية القرآن الموجود بأيدينا شرعاً وإنّا مأمورين بالعمل به بمقتضى تلك الرّوايات الكثيرة.

هذا كلّه في كبرى الوجه السادس من الوجوه التي استدلّ بها لعدم حجّية ظواهر القرآن الكريم، أمّا الصغرى (وهي صغرى وقوع التحريف) فلا بدّ من البحث فيه بحثاً لا يكون فيه اقتصار مخلّ ولا تطويل مملّ فنقول ومن اللَّه التوفيق والهداية:

انوار الأصول، ج 2، ص: 311

الكلام في عدم تحريف الكتاب العزيز
اشارة

ولابدّ فيه من رسم مقدّمات:

المقدمة الاولى: في أشكال التحريف

إنّ التحريف على قسمين: لفظي ومعنوي، فاللفظي ينقسم إلى ثلاثة أقسام: أحدها: التحريف بالزيادة، والثاني: التحريف بالنقصان، والثالث: التحريف بالتبديل والتغيير.

والمعنوي ينقسم أيضاً إلى قسمين: فتارةً يكون بتغيير المعنى كما إذا قيل: إنّ الوليّ في قوله تعالى: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ والمؤمنون ...» بمعنى الصديق والحبيب لا بمعنى المولى الحاكم والولي في التصرّف، واخرى بتطبيقه على غير مورده نظير ما يحكى عن معاوية في قصّة سمرة بن جندب في قوله تعالى: «وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ» فطلب منه أن يعلن أنّ هذه الآية نزلت في عبدالرحمن بن ملجم أشقى الآخرين وقاتل علي عليه السلام بالسيف وإنّ قوله تعالى: «وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ» نزل- العياذ باللَّه- في علي عليه السلام وقد فعله سمرة بعد أن أخذ منه مائة الف من الدراهم من بيت مال المسلمين «1».

والتحريف اللفظي بالزيادة أيضاً على أقسام: التحريف بزيادة حرف، والتحريف بزيادة كلمة، أو زيادة جملة، أو آية أو سورة، وهكذا التحريف بالنقيصة، كما أنّ التحريف بالتغيير على أنواع: التحريف بتغيير حركة (اعراب) والتحريف بتغيير حرف أو حروف (كما يحكى في قصّة أهل انطاكية في عهد أحد الخلفاء حيث قدموا إليه وطلبوا منه أن يبدّل قوله تعالى في سورة الكهف: «فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا» بقولهم «فأتوا أن يضيّفوهما» حتّى يرتفع النقص انوار الأصول، ج 2، ص: 312

والازراء عن أهل بلدهم) والتحريف بتقديم كلمة أو آية أوتأخيرهما.

هذه هي الأقسام الخمسة الأصلية من التحريف.

ولا إشكال في وقوع التحريف المعنوي بكلا قسميه في مرّ التاريخ بأيدي الأعداء والطواغيت، وفي يومنا هذا ببعض الطوائف الضالّين المضلّين المنحرفين.

أمّا التحريف اللفظي فالتحريف بالزيادة مجمع على بطلانه

ولم يقل به أحد، والظاهر أنّ سببه كون القرآن في حدّ من النظم والاعجاز بحيث لو اضيف إليه شي ء يعرف عادةً، وأمّا التحريف بالتغيير فهو ممنوع أيضاً بالنسبة إلى التغيير بالحركة والاعراب إن قلنا بتواتر القراءات السبعة وأنّ جميعها نزل بها الروح الأمين وأنّ سلسلة إسنادها تصل إلى النبي صلى الله عليه و آله، وأمّا إن قلنا بأنّ القرآن نزل على قراءة واحدة فلا يمكن نفس هذا النوع لأنّه كان على قراءة واحدة في السابق وصار الآن على قراءات سبعة، ومنشأ هذا أنّه كان يكتب بلا إعراب ثمّ اعربت ألفاظها في الأزمنة اللاحقة فوقع فيه هذا الاختلاف قهراً.

بقى التحريف بالنقصان أو بتغيير كلمة أو حرف، وهو المشهور في محلّ النزاع ومحوراً للبحث في الكلمات فقد يقال بوقوعه في القرآن إمّا بنقصان كلمة ككلمة «ياأيّها الرسول» أو بنقصان آية أو سورة أو سورتين، أو نقصان ثلث الكتاب أو أكثر من ذلك بما يأتي فيه من الأقوال والاستدلالات.

المقدمة الثانية: في الأقوال في المسألة

المشهور والمعروف بين الفريقين عدم وقوع التحريف مطلقاً في القرآن، ومنهم قالوا بوقوعه، ولذلك نقول في جواب من نسب التحريف من أهل العامّة إلى الشيعة: إن كان المراد الشاذّ منهم فلا فرق بين الشيعة والسنّة لأنّ شاذّاً من السنّة أيضاً قالوا بالتحريف، وإن كان المقصود جمهور المحقّقين من الشيعة فهو كذب ومخالف لتصريحات أكابر علمائهم من المتأخّرين والقدماء كالشيخ الصدوق والمفيد والسيّد المرتضى والشيخ الطوسي والطبرسي قدّس اللَّه أرواحهم.

فقال الشيخ المفيد رحمه الله رئيس المذهب في أوائل المقالات: «أنّه قال جماعة من أهل الإمامة أنّ القرآن لم ينقص من كلمة ولا من آية ولا من سورة، ولكن حذف ما كان مثبتاً في مصحف انوار الأصول، ج 2، ص: 313

أمير المؤمنين

عليه السلام من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله من مقال من ادّعى نقصان الكلمة من نفس القرآن دون تأويله» «1».

وقال الصدوق رحمه الله في اعتقاداته: «اعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزل اللَّه على نبيّه هو ما بين الدفّتين وليس بأكثر من ذلك ومن نسب إلينا بأنّا نقول أنّه أكثر من ذلك فهو كاذب» «2».

وقال السيّد المرتضى رحمه الله: «أنّه لم ينقص من القرآن، وأنّ من خالف في ذلك من الإماميّة والحشوية (الأخباريين من أهل العامّة) لا يعتدّ بخلافهم فإنّ الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخباراً ضعيفة ظنّوا صحّتها» «3».

وقال الشيخ الطوسي رحمه الله في التبيان: «وأمّا الكلام في زيادته ونقصانه فمما لا يليق به أيضاً لأنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانها، والنقصان منه فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا» «4».

وقال الطبرسي رحمه الله في مجمع البيان: «ومن ذلك الكلام في زيادة القرآن ونقصانه فإنّه لا يليق بالتفسير، فأمّا الزيادة فيه فمجمع على بطلانها، وأمّا النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامّة أنّ في القرآن تغييراً ونقصاناً، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه وهو الذي نصره المرتضى قدّس اللَّه روحه واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات، وذكر في مواضع أنّ العلم بصحّة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام والكتب المشهورة وأشعار العرب المسطورة، فإنّ العنايّة اشتدّت والدواعي توفّرت على نقله وحراسته وبلغت إلى حدّ لم يبلغه فيما ذكرناه لأنّ القرآن معجزة النبوّة ومأخذ العلوم الشرعيّة والأحكام الدينيّة، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية حتّى عرفوا كلّ شي ء اختلف فيه من اعرابه وقراءته وحروفه وآياته فكيف يجوز

أن يكون مغيّراً أو منقوصاً مع العناية الصادقة والضبط الشديد» «5».

انوار الأصول، ج 2، ص: 314

وقال كاشف الغطاء رحمه الله في كشف الغطاء: «لا ريب أنّه (أي القرآن) محفوظ في النقصان بحفظ الملك الديّان كما دلّ عليه صريح القرآن وإجماع العلماء في كلّ زمان ولا عبرة بنادر، وما ورد من أخبار النقص تمنع البديهة من العمل بظواهرها فلا بدّ من تأويلها» «1».

وقال الرافعي في إعجاز القرآن: «ذهب جماعة من أهل الكلام ممّن لا صناعة لهم إلّاالظنّ والتأويل واستخراج الأساليب الجدليّة من كلّ حكم وكلّ قول إلى جواز أن يكون قد سقط من القرآن شي ء حملًا على ما وصفوا من كيفية جمعه» «2».

هذا- وقد عرفت أنّه لا اعتبار بقول الشاذّ من أصحابنا ومن أهل السنّة بعد شهادة هؤلاء الأكابر بنفي التحريف مطلقاً، كما أنّك قد عرفت أنّ قول الشاذّ لا ينحصر بالشيعة بل في بعض الكتب المعروفة من السنّة ما يبدو منه أنّ هذا القول الشاذّ نشأ من قبلهم، فقد ورد في صحيح البخاري: روى ابن عبّاس: أنّ عمر قال فيما قال وهو على المنبر: «أنّ اللَّه بعث محمّداً صلى الله عليه و آله بالحقّ وأنزل عليه الكتاب فكان ممّا أنزل اللَّه آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها فلذا رجم رسول اللَّه ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: واللَّه ما نجد آية الرجم في كتاب اللَّه فيضلّوا بترك فريضة أنزلها اللَّه، والرجم في كتاب اللَّه حقّ على من زنى إذا أحصن من الرجال ... ثمّ إنّا كنّا نقرأ فيما نقرأ من كتاب اللَّه: أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفرٌ بكم أن ترغبوا عن آبائكم أو: أنّ كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم ...»

«3».

وآية الرجم التي ادّعى عمر أنّها من القرآن ولم يقبل منه أبو بكر لعدم دليل عليه: «إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالًا من اللَّه واللَّه عزيز حكيم».

وروى عروة بن الزبير عن عائشة قالت: «كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي صلى الله عليه و آله مأتي آية، فلمّا كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلّاما هو الآن» «4».

انوار الأصول، ج 2، ص: 315

إلى غير ذلك من الرّوايات الشاذّة التي لا يقام لها وزن عندنا وعندهم، وأمّا العذر بأنّ ذلك من قبيل نسخ التلاوة فسيأتي عدم صحّته فانتظر.

المقدمة الثالثة: متى جمع القرآن؟
اشارة

فقال بعض بأنّه جمع على عهد أبي بكر، وقال بعض آخر أنّه جمع على عهد عمر، وجماعة كثيرة يقولون بأنّه جمع في زمن عثمان.

وهيهنا قول رابع وهو أنّ القرآن جمع على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولم يقبض رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلّا بعد أن جمع تمامه، وأمّا عثمان فهو إنّما نظّم القراءات المختلفة وجمع المسلمين على قراءة واحدة وهي القراءة التي كانت مشهورة بين المسلمين التي تلقّوها عن النبي صلى الله عليه و آله وأنّه منع عن القراءات الاخرى المبتنية على أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف، وأمّا نسبة بعضهم الجمع إلى أبي بكر وبعضهم الآخر إلى عمر وبعضهم الثالث إلى عثمان فلعلّ ذلك من حرص بعض الناس على تكثير مناقبهم وإلّا فلا دليل يعتدّ به عليه.

وينبغي هنا ذكر ما نقله الطبرسي رحمه الله في مقدّمة المجمع عن السيّد المرتضى رحمه الله في هذا المجال:

«إنّ القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان حتّى عيّن على جماعة من الصحابة في حفظهم له وإن كان يعرض على النبي صلى الله عليه و

آله ويتلى عليه، وإنّ جماعة من الصحابة مثل عبداللَّه بن مسعود وابيّ بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي صلى الله عليه و آله عدّة ختمات وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعاً مرتّباً غير مبتور ولا مبثوث» «1».

ويدلّ على صدق هذه الدعوى شواهد كثيرة:

منها: قضيّة كتّاب الوحي وشدّة إهتمام النبي صلى الله عليه و آله بكتابة القرآن، وقد نقل أنّه كان عنده لهذه المهمّة كتّاب كثيرون، والرّوايات في عددهم مختلفة من أربعة عشر كاتباً إلى ثلاثة وأربعين، قال في تاريخ القرآن «2»: «كان للنبي صلى الله عليه و آله كتّاب يكتبون الوحي وهم ثلاثة وأربعون أشهرهم الخلفاء الأربعة وكان ألزمهم للنبي زيد بن ثابت وعلي بن أبي طالب» وهذا يوجب عادةً أن يكون القرآن مجموعاً على عهده صلى الله عليه و آله.

انوار الأصول، ج 2، ص: 316

ومنها: ما يشبه الدليل العقلي، وهو عبارة عن عظمة القرآن في نفسه وأنّه بمنزلة القانون الأساسي لجميع أبعاد حياة الإنسان والمجتمع البشري وتمام رأس مال المسلمين، وهذا يقتضي اهتمام النبي صلى الله عليه و آله بحفظه وقراءته واهتمام المسلمين بما يهتمّ به النبي صلى الله عليه و آله.

وإن شئت قلت: إذا قلنا بأنّ النبي صلى الله عليه و آله كان لازماً عليه تعيين الإمام بعده لكونه حافظاً للشرع فبطريق أولى كان واجباً عليه أن يجمع القرآن الذي هو متن الشرع وقانون الشريعة ومعارف الإسلام ومصابيحه.

وينبغي هنا نقل ما ذكره في هذا المجال في كتاب البيان من «أنّ في القرآن جهات عديدة كلّ واحد منها تكفي لأن يكون القرآن موضعاً لعناية المسلمين وسبباً لاشتهاره حتّى بين الأطفال والنساء منهم فضلًا عن الرجال وهذه الجهات هي:

1- بلاغة القرآن: فقد

كانت العرب تهتمّ بحفظ الكلام البليغ ولذلك يحفظون أشعار الجاهلية وخطبها فكيف بالقرآن الذي تحدّى ببلاغته كلّ بليغ وأخرس بفصاحته كلّ خطيب لسن؟ وقد كانت العرب بأجمعهم متوجّهين إليه سواء في ذلك مؤمنهم وكافرهم، فالمؤمن يحفظه لإيمانه، والكافر يتحفّظ به لأنّه يتمنّى معارضته وإبطال حجّته.

2- إظهار النبي صلى الله عليه و آله رغبته بحفظ القرآن والاحتفاظ به، وكانت السيطرة والسلطة له خاصّة، والعادة تقضي بأنّ الزعيم إذا أظهر رغبته بحفظ كتاب أو بقراءته فإنّ ذلك الكتاب يكون رائجاً بين جميع الرعيّة الذين يطلبون رضاه لدين أو دنيا.

3- أنّ حفظ القرآن سبب لارتفاع شأن الحافظ بين الناس وتعظيمه عندهم فقد علم كلّ مطّلع على التاريخ ما للقرّاء والحفّاظ من المنزلة الكبيرة، والمقام الرفيع بين الناس، وهذا أقوى سبب لاهتمام الناس بحفظ القرآن جملة أو بحفظ القدر الميسور منه.

4- الأجر والثواب الي يستحقّه القارى ء والحافظ بقراءة القرآن وحفظه.

هذه أهمّ العوامل التي تبعث على حفظ القرآن والاحتفاظ به، وقد كان المسلمون يهتّمون بشأن القرآن ويحتفظون به أكثر من اهتمامهم بأنفسهم وبما يهمّهم من مال وأولاد، وقد ورد أنّ بعض النساء جمعت جميع القرآن ... وإذا كان هذا حال النساء في جميع القرآن فكيف يكون حال الرجال؟ وقد عدّ من حفّاظ القرآن على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله جمّ غفير، قال القرطبي:

«قد قتل يوم اليمامة سبعون من القرّاء وقتل في عهد النبي صلى الله عليه و آله ببئر معونة مثل هذا العدد، وقد

انوار الأصول، ج 2، ص: 317

تقدّم في الرّواية العاشرة أنّه قتل من القرّاء يوم اليمامة أربعمائة رجل» «1».

ومنها: أنّ من الأسامي المشهورة لسورة الحمد هو فاتحة الكتاب، والرّوايات التي لعلّها بالغة إلى حدّ التواتر تدلّ

على أنّ الرسول صلى الله عليه و آله نفسه سمّاها بهذا الاسم، وقد جمعت هذه الرّوايات في تفسير البرهان ونور الثقلين وغيرهما سيّما في درّ المنثور نذكر هنا من الأخير أربعة منها:

أحدها: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «كلّ صلاة لا تقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي حداج (يعنى ناقص).

ثانيها: قال رسول اللَّه: «لو أنّ فاتحة الكتاب جعلت على كفّة الميزان وجعل القرآن في كفّته الاخرى لفضلت فاتحة الكتاب».

ثالثها: أنّ رسول اللَّه قال: «فاتحة الكتاب شفاء من كلّ داء».

رابعها: قال رسول اللَّه: «إذا وضعت جنبك على الفراش وقرأت فاتحة الكتاب وقل هو اللَّه أحد فقد آمنت من كلّ شي ء إلّاالموت» «2».

هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى أنّ سورة الحمد لم تكن أوّل سورة نزلت من القرآن، بل قال بعض: أنّها من السور المدنية لا المكّية فلو لم يكن القرآن قد جمع في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لم يكن وجه لتسميتها بفاتحة الكتاب، وبالجملة أنّ ظاهر هذه التسمية من قبل النبي صلى الله عليه و آله جمع القرآن على عهده صلى الله عليه و آله.

ويؤيّده أنّ ظاهر حديث الثقلين (لو خلّينا وهذا الحديث) يؤكد أنّ القرآن كان مكتوباً مجموعاً منظّماً في زمن صدور هذا الحديث لأنّه لا يصحّ إطلاق الكتاب عليه وهو في الصدور.

ومنها: إطلاق لفظ الكتاب على القرآن في كثير من آياته الكريمة فإنّها دالّة على أنّ سور القرآن كانت متميّزة في الخارج بعضها عن بعض ومنتشرة بين الناس حتّى المشركين وأهل الكتاب، ولذلك قد تحدّاهم على الإتيان بمثله أو بعشر سور مثله مفتريات أو بسورة من مثله.

ومنها: روايات صرّح فيها بأنّ القرآن قد جمع على عهد رسول اللَّه

صلى الله عليه و آله ومن جملتها ما

انوار الأصول، ج 2، ص: 318

رواه البخاري «1» في صحيحه عن قتادة: سألت أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه و آله؟ قال: «أربعة كلّهم من الأنصار، ابي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زبيد».

ومن هذه الرّوايات ما رواه النسائي بسند صحيح عن عبداللَّه بن عمر قال: «جمعت القرآن فقرأت به كلّ ليلة فبلغ النبي صلى الله عليه و آله فقال اقرأه في شهر ...».

ومنها: ما رواه منتخب كنز العمال «2» عن الطبراني وابن عساكر عن الشعبي قال: «جمع القرآن على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ستّة من الأنصار: ابي بن كعب وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء وسعد بن عبيد وأبو زيد، وكان مجمع بن جارية قد أخذه إلّاسورتين أو ثلاث».

هذه هي الوجوه والقرائن التي تدلّ على أنّ القرآن قد جمع على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ولو أُورد على بعض هذه القرائن فلا أقلّ من أنّ في مجموعها بما هو المجموع غنىً وكفاية في الدلالة على المقصود.

بقي هنا أمران:

أحدهما: جمع القرآن من قِبل أمير المؤمنين عليه السلام.

والثاني: جمع القرآن من قِبل عثمان.

أمّا الأمر الأول: فقد ورد في الرّوايات أنّ أمير المؤمنين علي عليه السلام لزم بيته بعد وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولم يخرج من بيته حتّى جمع القرآن مع تنزيله وتأويله والناسخ منه والمنسوخ، وهو بحسب الواقع جمع لتفسير القرآن الكريم، ويشهد لذلك عدّة من الرّوايات:

منها: ما رواه في البحار عن كتاب سليم بن قيس: أنّ أمير المؤمنين لمّا رأى غدر الصحابة وقلّة وفائهم لزم بيته، وأقبل على

القرآن يؤلّفه ويجمعه فلم يخرج من بيته حتّى جمعه، وكان في المصحف والشظاظ والأسيار والرقاع فلمّا جمعه كلّه وكتبه بيده تنزيله وتأويله والناسخ منه والمنسوخ بعث إليه أبو بكر أن اخرج فبايع فبعث إليه أنّي مشغول فقد آليت على نفسي يميناً

انوار الأصول، ج 2، ص: 319

ألّا أرتدي برداء إلّاللصلاة حتّى اؤلّف القرآن وأجمعه «1».

وهذه الرّواية بقرينة قوله «تنزيله وتأويله والناسخ منه والمنسوخ» الذي هو بدل عن الضمير في قوله «جمعه وكتبه» وكذلك سائر الرّوايات الواردة في الباب تدلّ على أنّ القرآن الذي جمعه أمير المؤمنين كان تفسيراً للقرآن وشرحاً لمعاني آياته ومواقع بيّناته لا أنّه كان فيه زيادة على هذه الآيات الموجودة أو تغيير.

وأمّا الأمر الأوّل فقد وردت روايات صريحة طائفة منها أنّ القرآن جمع على عهد أبي بكر، وصريحة طائفة اخرى منها أنّ الجمع كان على عهد عمر، وظاهر طائفة ثالثة منها أنّه كان في زمن عثمان فهي متناقضة في أنفسها فلا يمكن الاعتماد على شي ء منها، ولعلّ صدورها من باب تكثير المناقب كما مرّت الإشارة إليه سابقاً.

هذا- مضافاً إلى أنّ المستفاد من بعض الرّوايات أنّ عثمان إنّما أمر بجمع القرآن لحمل الناس على القراءة بوجه واحد، وهي القراءة المشهورة بين الناس (كما أشرنا إليه سابقاً)، والمنع عن القراءات الاخرى، لا أنّه جمع الآيات والسور في مصحف، ففعل ما لم يفعل في زمن النبي صلى الله عليه و آله، واختلاف القراءات لم يكن مقصوراً على مجرّد اختلاف الاعراب والحركات بل يعمّ التغيير لبعض الكلمات أيضاً كما روي أنّ عمر كان يقرأ في سورة الجمعة: «فامضوا» بدلًا عن قوله تعالى: «واسعوا».

ففي بحار الأنوار عن البخاري والترمذي عن الزهري عن أنس بن مالك: «أنّ حذيفة بن اليمان

قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح ارمينية وآذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القرآن فقال حذيفة لعثمان: إدرك هذه الامّة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف، ننسخها في المصاحف، ثمّ نردّها إليك فأرسلت بها إليه فأمر زيد بن ثابت وعبداللَّه بن الزبير وسعيد بن العاص وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيّين: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شي ء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش انوار الأصول، ج 2، ص: 320

فإنّما نزل بلسانهم ففعلوا حتّى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، ردّ عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كلّ افق بمصحف ممّا نسخوا، وأمر بما سوى ذلك من القرآن في كلّ صحيفة أو مصحف أن يحرق» «1».

فإنّ هذه الرّواية صريحة في أنّ جمع عثمان كان لأجل رفع الاختلافات الواردة في القراءات لا جمع الآيات والسور في مصحف.

هذا كلّه في المقدّمات الثلاث التي كان يجب ذكرها قبل الخوض في أصل البحث عن التحريف وأدلّة الطرفين.

أدلّة القائلين بعدم تحريف كتاب اللَّه:

إذا عرفت ذلك فنقول: أمّا القائلون بعدم تحريف القرآن فاستدلّوا بوجوه عمدتها ثلاثة:

الوجه الأوّل: ما يشبه الدليل عقلي وهو مجموعة «2» من القرائن التي توجب اليقين الباتّ بعدم التحريف، وهي ما مرّ سابقاً في مقام إثبات وقوع جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه و آله ضمن الشواهد الدالّة على جمعه في ذلك العهد من اهتمام النبي صلى الله عليه و آله بحفظه وقراءته واهتمام المسلمين بما يهتمّ به النبي صلى الله عليه و آله وغيرهما من الجهات العديدة المذكورة هناك فراجع.

ونؤكّد هنا على ذلك أيضاً بما ورد في القرآن نفسه من

قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ» «3»

. فهذه تدلّ على شدّة اهتمام النبي والمسلمين بقراءة القرآن من الصدر الأوّل حتّى إنّهم كانوا يقومون كثيراً من الليل لم يكن لهم همّ إلّاتلاوة القرآن.

وبما ورد في الأخبار ممّا يدلّ أيضاً على إهتمام المسلمين بتلاوته فإذا مرّ عليهم أحد يسمع انوار الأصول، ج 2، ص: 321

لهم دويّاً كدويّ النحل، واهتمامهم بالتبرّك به حتّى صاروا يجعلون تعليمه مهراً لأزواجهم.

فمع ملاحظة هذه الجهات والقرائن يحكم العقل بعدم إمكان أن تنال أيدي التحريف إليه.

الوجه الثاني: آيات من نفس الكتاب العزيز كالصريحة في الدلالة على عدم التحريف، ولا يخفى أنّ الاستدلال بها ليس دوريّاً لأنّ المدّعى يدّعي التحريف بالنقيصة لا الزيادة والقرآن الموجود في يومنا هذا بما فيه من الآيات مقبول عند الجميع:

منها قوله تعالى: «وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» «1»

ولتقريب دلالة هذه الآية على المقصود لابدّ من تفسير كلمتين: «الذكر» والحفظ» فما المراد من الذكر؟ وما المراد من الحفظ؟

فنقول: أمّا معنى كلمة الذكر فواضح لأنّ قوله تعالى: «وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ» شاهد قطعي على أنّ المراد من الذكر في قوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ» هو القرآن بل هذه الآية تدلّ على شهرة هذا الاسم للقرآن بحيث يستعمله الكفّار المنكرون للوحي أيضاً.

أضف إلى ذلك وجود آيات كثيرة تطلق هذا الاسم على القرآن: منها قوله تعالى:

«وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» «2»

، ومنها قوله تعالى: «وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ» «3»

، والأوضح منها قوله تعالى: «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ» «4»

، وقوله تعالى: «أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي» «5»

، وقوله تعالى: «وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ» «6»

وقوله تعالى: «وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ» «7».

انوار الأصول، ج 2، ص: 322

وما قد يقال: من أنّ المراد منه هو النبي صلى الله عليه و آله وقوله تعالى: «نَزَّلْنَا» بمعنى «أرسلنا» وذلك بقرينة قوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ» «1»

حيث إن كلمة «رسولًا» وقعت في هذه الآية بدلًا عن كلمة «ذكراً» فيكون الذكر بمعنى الرسول.

فجوابه أوّلًا: لو سلّم استعمال الذكر في خصوص هذه الآية في الرسول مجازاً فهو لا يوجب استعماله فيه مجازاً أيضاً في سائر الآيات من دون نصب قرينة عليه مع صراحته في تلك الآيات في القرآن.

ثانياً: إنّ استعماله في الرسول في هذه الآية أيضاً محلّ كلام، لأنّه لا مناصّ في الآية من إرتكاب أحد خلافي الظاهر: أحدهما إطلاق الذكر على الرسول مع عدم كونه في اللغة بمعنى الرسول كما هو واضح، وثانيهما كون الرسول مفعولًا به لفعل محذوف أعني «أرسل»، وكثير من المفسّرين رجّحوا الثاني على الأوّل وهو المختار في كتابنا في التفسير.

ثالثاً: لو سلّمنا أنّ الذكر في الآية المبحوث عنها في محلّ النزاع بمعنى الرسول لكن لا بأس أيضاً بالاستدلال بها على المطلوب ببيان إنّه إذا دلّت الآية على محافظته تعالى عن الرسول فتدلّ على حفظه للقرآن الكريم بطريق أولى.

وأمّا

كلمة الحفظ: فيحتمل فيها وجوه عديدة:

أحدها: أن يكون المراد منها الحفظ المنطقي والاستدلالي، ويكون المقصود حينئذٍ أنّه لا يصير مغلوباً لأي منطق واستدلال.

الثاني: أن يكون بمعنى العلم، أي «وإنّا له لعالمون».

الثالث: أن يكون المراد منه الحفظ من جميع الجهات من الزيادة والنقصان ومن المقابلة بالمثل والغلبة بالمنطق وغيرها، وهذا هو الظاهر، ولا دليل على التحديد والتقييد.

إن قلت: إن كان المراد من الحفظ الحفظ العامّ ومن جميع الجهات فهو متيقّن العدم لما وقع في التاريخ بالنسبة إلى مصاحفه من الإندراس والصبّ في البحر وإحراقها من جانب عثمان وغيره أحياناً بأي غرض كان، وإن كان المراد منه حفظ مّا، فهو حاصل ولو بالقرآن المحفوظ عند

انوار الأصول، ج 2، ص: 323

الحجّة عليه السلام وحينئذٍ لا تدلّ الآية على المدّعى.

قلنا: إنّ للحفظ معناً عرفياً لا يصدق على شي ء من المعنيين (الحفظ الكلّي والحفظ الجزئي) وهو كون الكتاب في أيدي الناس ووجوده بينهم، فالمراد من قوله تعالى «لحافظون» لحافظونه عند الناس وبينهم لا بمعنى حفظ جميع المصاديق أو مصداق من مصاديقه، كما أنّه إذا قيل «إنّ ديوان الشاعر الفلان موجود ومحفوظ إلى اليوم» لا يكون المقصود منه أنّ جميع مصاديقه بقيت محفوظة أو مصداق من مصاديقه محفوظ في متحف من المتاحف بل المراد منه بقاؤه بين الناس وبين أيديهم كما لا يخفى.

إن قلت: إنّ هذه الآية مكّية تشمل الآيات النازلة إلى زمان نزولها لا غيرها.

قلنا: لا خصوصيّة للآيات المكّية قطعاً لأنّ القرآن كتاب هداية يحتاج إليه الناس في هدايتهم، ولا فرق في هذه الجهة بين آية وآية، وحفظ بعضها دون بعض من جانب الحكيم لغو وترجيح بلا مرجّح.

وبالجملة هذا الإشكال من أضعف الإشكالات وأرديها.

ومنها: قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ

وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَايَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» «1».

وقبل تقريب الاستدلال بها لابدّ من تعيين خبر «إنّ» في قوله تعالى: «إنّ الذين كفروا ...» فنقول: فيه ثلاث وجوه:

الأوّل: (وهو أحسنها الذي ذهب إليه الطبرسي رحمه الله في مجمع البيان) أن يكون الخبر في التقدير، أعني «سوف يجازيهم اللَّه» أو «سيجازيهم اللَّه».

الثاني: أن يكون الخبر قوله تعالى في بعض الآيات اللاحقة «اولئك ينادون من مكان بعيد»، لكن هذا المقدار من الفصل بين المبتدأ والخبر بعيد في الكلام الفصيح.

الثالث: أن يكون الخبر قوله تعالى: «وإنّه لكتاب عزيز» بأن يكون المقصود منه أنّه لا يقدر أحد على أن يغلب كتاب اللَّه لكونه عزيزاً، فوقع علّة الخبر موقعه.

وكيف كان فتقريب الاستدلال بهذه الآية على عدم التحريف يتوقّف على بيان معنى انوار الأصول، ج 2، ص: 324

الباطل في قوله تعالى: «لَايَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ» فقد ذكر فيه وجوه عديدة:

أحدها: كونه بمعنى المقابلة بالمثل فيكون المعنى حينئذٍ «لا يأتيه مثل له حتّى يبطله».

ثانيها: أن يكون بمعنى الشيطان، فيكون المراد أنّ الشيطان لا يمكنه أن يحرّفه أو يمحوه من القلوب.

ثالثها: كونه بمعنى النسخ، أي لا تضادّه الكتب السماويّة من قبل ولا ينسخه كتاب سماوي من بعد.

رابعها: أن يكون بمعنى الكذب في الأخبار كما نقل الطبرسي رحمه الله عن الإمام الباقر عليه السلام:

«ليس في أخباره عمّا مضى باطل ولا عمّا يكون في المستقبل باطل» «1».

خامسها: كونه بمعنى مطلق البطلان، فيكون المقصود: لا يأتيه أي باطل من أي جهة من الجهات كما ورد في مجمع البيان: «لا تناقض في ألفاظه ولا كذب في أخباره ولا يعارض ولا يزداد ولا يغيّر» «2».

وهذا هو المختار لأنّه

لا وجه للتقييد ما دام لم توجد قرينة عليه، وقوله تعالى في الذيل:

«تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» بمنزلة التعليل للصدر، أي كما أنّ المنزل منه يكون عالماً حكيماً ومنعماً حميداً إلى الأبد لابدّ أن يكون المنزل الذي هو حكمة من جانب ونعمة من جانب آخر باقياً بين الناس أيضاً.

وأمّا تفسير الباطل بالكذب في الرّواية فهو من باب ذكر أحد المصاديق الواضحة وما كان محلًا لحاجة الناس.

إن قلت: إن كان المراد من عدم إتيان الباطل عدمه على نهج القضيّة الكلّية فهو قطعي البطلان (كما مرّ نظيره في الآية السابقة) وإن كان المراد عدم الإتيان على نهج القضيّة الجزئيّة فهو يصدق بالنسبة إلى المصحف الموجود عند الإمام الحجّة عليه السلام فلا يثبت عدم إتيانه الباطل بالإضافة إلى غيره من المصاحف.

قلنا: الجواب هو الجواب، وهو أنّ الحفظ أو عدم إتيان الباطل مفهوم عرفي والقرآن كتاب انوار الأصول، ج 2، ص: 325

للهداية فلا يصدق هذا العنوان إذا لم يكن القرآن محفوظاً بين الناس لهدايتهم وإن كان محفوظاً عند الإمام الحجّة عليه السلام.

وأمّا الإشكال الآخر الذي أورد على الآية السابقة المبنى على كون الآية مكّية فلا يرد هنا لأنّ ذيل الآية: «من بين يديه ومن خلفه» يعمّ عدم الإيتان في المستقبل أيضاً.

الوجه الثالث: روايات لا إشكال في دلالتها على عدم التحريف قطعاً:

منها: حديث الثقلين المتواتر من طرق العامّة والخاصّة «1» حيث إنّه ورد في ذيلها: «ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا» وفي بعض الطرق «لن تضلّوا أبداً».

فاستدلّ بها بملاحظة هذا الذيل بأحد وجهين:

الأوّل: أنّ مقتضى الذيل بقاء ما يمكن أن يتمسّك به بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى الأبد مع أن التحريف بحذف بعض الآيات يوجب سلب الاعتماد عن

سائر الآيات بمقتضى ما روي أنّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً، فتسقط بقيّة الآيات عن الحجّية.

الثاني: (وهو العمدة) أنّ مقتضاه عدم ضلالة الامّة إذا تمسّكوا بهذا الكتاب العزيز، والقول بالتحريف بالنقيصة من شأنه سلب المصداقيّة الاهتداء بالقرآن فلا يأمن من الضلالة، لأنّ الآيات المحذوفة لابدّ وأن تكون ممّا يرتبط بباب الولايات والسياسيات كما مرّ، والقرآن المجرّد عنها لا يمكن أن يمنع عن الضلالة.

إن قلت: لا فرق في هذه الجهة بين الثقل الأكبر والأصغر، فكما أنّ الحرمان عن هداية الثقل الأصغر بغيبة الإمام عليه السلام لا ينافي هذه الرّواية كذلك الحرمان عن هداية الثقل الأكبر.

قلنا: الفرق بينهما واضح، وذلك لأنّ غيبة الإمام عليه السلام لا تنافي بقاء اهتداء الناس به لأنّهم عليهم السلام أراؤوا طرق الهداية في أكثر من مأتي سنة ضمن رواياتهم، وقد أودعوا هداياتهم في طيّات أخبارهم فهم متمثّلون ضمن هذه الأخبار، وكأنّهم إحياء بحياتها وبقائها، بينما تحريف القرآن يقتضي الحرمان عن هدايته بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله من دون فصل، لأنّ القائل بالتحريف يقول بوقوعه بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى زمن جمع عثمان له من دون أن يقوم مقامه شي ء، نعم هذا القياس يتمّ لو وقعت الغيبة أيضاً بمجرّد وفاة النبي صلى الله عليه و آله.

انوار الأصول، ج 2، ص: 326

ومنها: روايات ظاهرها أنّ القرآن معيار لتشخيص الحقّ والباطل في الرّوايات مطلقاً، وتأمرنا بعرض الرّوايات جميعها عليه، وهي تنافي تحريف القرآن لأنّ تحريفه يلازم حذف ما كان معياراً للعديد من الرّوايات، ولازمه كون القرآن معياراً نسبياً لا مطلقاً بحيث يعمّ جميع الرّوايات.

ومنها: روايات تأمرنا وتشوّقنا باتّباع القرآن، وهي ظاهرة في أنّه وسيلة جامعة كاملة للهداية، منها ما ورد

في نهج البلاغة في ذمّ الأخذ بالأقيسة والاستحسانات والآراء الظنّية:

«أم أنزل اللَّه سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه أم كانوا شركاء له، فلهم أن يقولوا، وعليه أن يرضى؟ أم أنزل اللَّه سبحانه ديناً تامّاً فقصّر الرسول صلى الله عليه و آله عن تبليغه وأدائه، واللَّه سبحانه يقول: ما فرّطنا في الكتاب من شي ء وفيه تبيان لكلّ شي ء» «1».

وكذلك قوله عليه السلام فيه أيضاً: «وأنزل عليكم الكتاب تبياناً لكلّ شي ء وعمّر فيكم نبيّه أزماناً حتّى أكمل له ولكم فيما انزل من كتابه دينه الذي رضى لنفسه» «2».

وقوله فيه أيضاً: «وكتاب اللَّه بين أظهركم ناطق لا يعيا لسانه وبيت لا تهدم أركانه وعزّ لا تهزم أعوانه» «3».

وكذلك قوله فيه أيضاً: «كأنّهم أئمّة الكتاب وليس الكتاب إمامهم» «4».

وهكذا قوله عليه السلام: «وعليكم بكتاب اللَّه فإنّه الحبل المتين والنور المبين والشفاء النافع والري الناقع والعصمة للتمسّك والنجاة للمتعلّق لا يعوّج فيقام ولا يزيغ فيستعتب ولا تخلقه كثرة الردّ ولوج السمع، من قال به صدق ومن عمل به سبق» «5».

وقوله عليه السلام: «ثمّ أُنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه وسراجاً لا يخبو توقّده وبحراً لا يدرك قعره، ومنهاجاً لا يضلّ نهجه وشعاعاً لا يظلم ضوءه وفرقاناً لا يخمد برهانه وتبياناً لا تهدم أركانه ...» «6».

انوار الأصول، ج 2، ص: 327

فإنّ المستفاد من جميع ذلك أنّ كتاب اللَّه بجميع ما أُنزل على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله موجود بين الناس يستضاء بنور هدايته ويهتدي بهداه، ولو كان الكتاب محرّفاً أو ناقصاً في شي ء من آياته لما كان له هذه المنزلة وتلك الآثار.

أضف إلى ذلك: أنّ قوله: «كتاب اللَّه بين أظهركم» بلفظه شاهد لوجود جميع الكتاب بين أظهر الناس.

فتلخّص

من جميع ذلك أنّ الأدلّة العقليّة والنقليّة متظافرة على بطلان مزعمة التحريف وأنّ كتاب اللَّه محفوظ بين الامّة كما نزل على رسول اللَّه مضافاً إلى الشهرة القطعيّة بين علماء الفريقين ومحقّقيهم.

أدلّة القائلين بالتحريف ونقدها
اشارة

وأمّا أدلّة القائلين بالتحريف فالمهمّ منها روايات كثيرة جمعها المحدّث النوري في كتابه الموسوم بفصل الخطاب، وهي على طوائف:

الطائفة الاولى: روايات لا شكّ في كونها مجعولة غير معقولة
اشارة

منها: ما روي عن الاحتجاج «1» عن أمير المؤمنين عليه السلام في جواب زنديق الذي سأله عن عدم التناسب بين الشرط والجزاء في قوله تعالى في صورة النساء: «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ» «2»

: «وأمّا ظهورك على تناكر قوله: فإن خفتم ألّا تقسطوا في اليتامى وليس يشبه القسط في اليتامى بنكاح النساء ولا كلّ النساء أيتاماً فهو ممّا قدّمت ذكره من اسقاط المنافقين من القرآن وبين القول في اليتامى وبين نكاح النساء من الخطاب والقصص أكثر من ثلث القرآن» «3».

انوار الأصول، ج 2، ص: 328

فإنّ هيهنا نكات لا بدّ من ملاحظتها:

أوّلًا: كيف يمكن أن يحذف من القرآن الذي كان يقرأ ليلًا ونهاراً وكان له أربعة عشر أو أكثر من أربعين كاتباً ومئات من القرّاء والحفّاظ، الآلاف من آياته فإنّ هذا أمر مستحيل عادةً لا يتفوّه به عاقل.

ثانياً: ما هو الوجه والداعي لحذف هذه الآيات في خصوص ذلك المورد وهو ما بين شرط وجزاء، فلا يتصوّر له وجه ولا يوجد له داع.

ثالثاً: يوجد هنا ربط واضح بين الشرط والجزاء يتّضح لنا بملاحظة شأن نزول هذه الآية فقد ذكر له وجوه ستّة «1» عمدتها أربعة:

الوجه الأوّل: أنّهم كانوا في الجاهلية يأخذون إليهم الأيتام الصغيرة من النساء، وذلك لقلّة صداقهنّ أو عدم صداق لهنّ أوّلًا، ولأنّ لهم أموالًا كثيرة ثانياً فيتزوّجون بهنّ ويأكلون أموالهنّ إلى أموالهم ثمّ لا يقسطون فيهنّ وربّما أخرجوهنّ بعد أكل مالهنّ فيصرن عاطلات ذوات مسكنة لا مال لهم يرتزقن منه ولا راغب فيهنّ فيتزوجنّ، وقد شدّد القرآن الكريم النكير

على هذا الدأب الخبيث والظلم الفاحش وأكّد النهي عن ظلم اليتامى وأكل أموالهم ضمن آيات عديدة فأعقب ذلك أنّ المسلمين أشفقوا على أنفسهم وخافوا خوفاً شديداً حتّى أخرجوا اليتامى من ديارهم خوفاً من الابتلاء بأموالهم والتفريط في حقّهم، فنزلت هذه الآية وهي واقعة موقع التأكيد بالنسبة إلى النهي الواقع في تلك الآيات، والمعنى: «اتّقوا أمر اليتامى ولا تتبدّلوا خبيث أموالكم بطيّب أموالهم ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم حتّى أنّكم إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتيمات منهم ولم تطب نفوسكم أن تنكحوهنّ وتتزوّجوا بهنّ فدعوهنّ وانكحوا نساءً غيرهنّ ما طاب لكم مثنى وثلاث ورباع، فقول «فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ» في معنى قولنا «إن لم تطب لكم اليتامى للخوف من عدم القسط فلا تنكحوهنّ وانكحوا نساءً غيرهنّ».

الوجه الثاني: أنّهم كانوا يشدّدون في أمر اليتامى ولا يشدّدون في أمر النساء فيتزوجون منهنّ عدداً كثيراً ولا يعدلون بينهنّ فقال تعالى: إن كنتم تخافون أمر اليتامى فخافوا في النساء

انوار الأصول، ج 2، ص: 329

أيضاً فانكحوا منهنّ واحدة إلى أربع.

الوجه الثالث: أنّه كان الرجل منهم يتزوّج بالأربع والخمس وأكثر، ويقول: ما يمنعني أن أتزوّج كما تزوّج فلان فإذا فنى مال نفسه مال إلى مال اليتيم الذي في حجره فنهاهم اللَّه عن أن يتجاوز والأربع لئلّا يحتاجوا إلى أخذ مال اليتيم ظلماً.

الوجه الرابع: أنّ المعنى «إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتيمة المربّاة في حجوركم فانكحوا ما طاب لكم من النساء ممّا أُحلّ لكم من يتامى قرباتكم مثنى وثلاث ورباع».

فعلى هذا يكون ربط الشرط والجزاء هنا ظاهر لمن تدبّر الآيات السابقة واللاحقة عليها وما ورد في شأن نزولها، فلا يبقى موضع لتقدير واحدة من الآيات فضلًا عن القول باسقاط ثلث

القرآن بينها والعياذ باللَّه.

ومنها: ثلاث روايات تدلّ على حذف إثنى عشر ألف آية، وقد نقل بعضها حتّى في مثل كتاب الكافي للكليني رحمه الله وذكرها المحدّث النوري في فصل الخطاب ضمن الدليل الحادي عشر على التحريف:

أحدها: ما رواه هشام بن سالم عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إنّ القرآن الذي جاء به جبرئيل إلى محمّد صلى الله عليه و آله سبعة عشر ألف آية» «1».

ثانيها: ما رواه المولى محمّد صالح المازندراني في شرح الكافي عن كتاب سليم بن قيس الهلالي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام بعد وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لزم بيته وأقبل على القرآن يجمعه ويؤلّفه فلم يخرج به من بيته حتّى جمعه كلّه وكتب على تنزيله الناسخ والمنسوخ منه والمحكم والمتشابه والوعد والوعيد وكان ثمانية عشر ألف آية «2».

ثالثها: ما رواه أحمد بن محمّد السياري في كتاب القراءات عن علي بن الحكم عن هشام بن سالم قال قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «القرآن الذي جاء به جبرئيل عليه السلام إلى محمّد صلى الله عليه و آله عشرة ألف آية».

قال المحدّث النوري رحمه الله بعد نقل هذه الرّواية في فصل الخطاب: «كذا في نسختي وهي سقيمة والظاهر سقوط كلمة سبعة لاتّحاده متناً وسنداً لما في الكافي بل لا يبعد كون ما فيه انوار الأصول، ج 2، ص: 330

مأخوذاً منه فإنّ محمّد بن يحيى يروي عن السياري، أو ثمانية لمطابقته للموجود في كتاب سليم» «1».

منها: ما رواه زرّ قال: قال ابي بن كعب يازرّ: كأيّن تقرأ سورة الأحزاب؟ قلت: ثلاث وسبعين آية وقال: «إن كانت، لتضاهى سورة البقرة أو هي أطول من سورة البقرة ...» «2». فسقطت منها 213 آية وهي تعادل

34 مجموع هذه السورة.

ومنها: سورة نقلها المحدّث النوري رحمه الله في فصل الخطاب عن كتاب يسمّى بدبستان المذاهب وحكاها الميرزا الآشتياني رحمه الله في حاشيته على الرسائل (بحر الفوائد) أيضاً.

ففي فصل الخطاب: «صاحب كتاب دبستان المذاهب بعد ذكر اصول عقائد الشيعة ما معناه: وبعضهم يقولون أنّ عثمان أحرق المصاحف وأتلف السور التي كانت في فضل علي وأهل بيته عليهم السلام منها هذه السورة (ثمّ ذكر ما سمّاه بعضهم بسورة الولاية التي تلوح منه آثار الجعل والتزوير كما يأتي الكلام فيه)، ثمّ ذكر بعد ذلك ما نصّه: قلت ظاهر كلامه أنّه أخذها من كتب الشيعة ولم أجد لها أثراً فيها غير أنّ الشيخ محمّد بن علي بن شهر آشوب المازندراني ذكر في كتاب المثالب على ما حكي عنه أنّهم أسقطوا من القرآن تمام سورة الولاية ولعلّها هذه السورة واللَّه العالم» «3».

أقول: لم تنقل هذه السورة (كما صرّح به المحدّث نفسه) في كتاب آخر غير كتاب دبستان المذاهب، وصاحب هذا الكتاب مجهول مجهول، وقيل: لعلّه مجوسيّ لأنّ أكثر مطالب كتابه ناظرة إلى مقالات المجوس، وكأنّه أراد بذلك الازراء على المسلمين وإيراد النقص على الكتاب العزيز الذي هو أساس الإسلام والدعوة المحمّديّة.

ويؤيّد ذلك ما حكى مؤلّف كتاب «برهان روشن» «4» عن بعض الأعاظم من العلماء أنّ مؤلّف هذا الكتاب (دبستان المذاهب) من الملاحدة، وكان مقصوده من تأليفه هذا- إيجاد الاختلاف بين المسلمين.

انوار الأصول، ج 2، ص: 331

كما أنّ من تأمّل في محتوى هذه السورة وكان له أنس مع سياق آيات القرآن الكريم يرى تعبية ما يقرب من ثلاثين آية من آيات الكتاب الكريم ضمنها بدون تناسب ولا تلائم بينها وبين بقية آيات السورة ممّا يشير إلى أنّه أضافها إليها.

ومنها:

ما رواه سعد بن عبداللَّه القمّي رحمه الله قال: «وقرأ أحد سورة الحمد على أبي عبداللَّه فردّ عليه وقال: اقرأ: صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالّين» «1».

منها: ما رواه سعد بن عبداللَّه القمّي قال: وقوله تعالى في سورة عمّ يتساءلون: «وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً» إنّما هو: «ياليتني كنت ترابيّاً» وذلك أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كنّى أمير المؤمنين عليه السلام بأبي تراب «2».

هذه هي الطائفة الاولى من الرّوايات التي استدلّ بها على التحريف، وهي روايات لا تعقل صحّتها ولا شكّ في كونها مجعولة مدسوسة.

أمّا رواية الاحتجاج وما نقلناه من كتاب دبستان المذاهب فقد مرّ الجواب عنهما، وأمّا رواية ما قبل الأخيرة فلأنّ سورة الحمد لا تزال تقرأ بين المسلمين من أي فرقة كانوا ليلًا ونهاراً وفي كلّ زمان ومكان، ولا أقلّ من قراءتها في كلّ يوم عشر مرّات في صلواتهم، فكيف يتصوّر تحريفها بما ذكر في هذه الرّواية؟ وكذلك رواية ابي بن كعب بالنسبة إلى سورة الأحزاب، لأنّه لا يعقل حذف هذا المقدار الكثير من سورة واحدة مع شدّة اهتمام المسلمين بها وحفظهم لها.

وأمّا رواية سعد بن عبداللَّه القمّي بالنسبة إلى قوله: «ياليتني كنت تراباً» فلأنّ بيان هذا المعنى بتلك العبارة ركيك جدّاً لا يلائم فصاحة القرآن وبلاغته.

تبقى الرّوايات الدالّة على حذف آلاف من الآيات فالجواب عنها:

أوّلًا: ما مرّ من أنّه لا يعقل إسقاط عشرة آلاف بل أكثر من الآيات مع اهتمام كثير بحفظها وجمعها وتلاوتها ليلًا ونهاراً، ولا يتفوّه بذلك عاقل.

وثانياً: ما يتمّ بيانه في ترجمة راوي بعض هذه الرّوايات وموقف كتاب فصل الخطاب:

أمّا الراوي فهو أحمد بن محمّد السياري الذي نقل كثيراً من الرّوايات الواردة

في كتاب انوار الأصول، ج 2، ص: 332

فصل الخطاب (وهي 188) رواية بناءً على إحصاء مؤلّف كتاب «برهان روشن») بحيث ينبغي أن يلقّب ببطل التحريف، وقد عبّر المحدّث النوري رحمه الله عن هذه الرّوايات بالروايات المعتبرة مع أنّ أحمد بن محمّد السياري كما صرّح به علماء الرجال: ضعيف فاسد المذهب مجهول الرّواية كثير المراسيل «1»، فمع كونه بهذه الدرجة من فساد العقيدة وكذب الأقوال كيف يكون أميناً على التنزيل ويقبل قوله بعنوان كلمات المعصومين.

قيمة كتاب فصل الخطاب!!

وأمّا كتاب «فصل الخطاب» فقال المحدّث النوري رحمه الله في مقدّمته: «وبعد فيقول العبد المذنب المسي ء حسين بن محمّد تقي النوري الطبرسي جعله اللَّه تعالى من الواقفين ببابه المتمسّكين بكتابه: هذا كتاب لطيف وسفر شريف عملته في إثبات تحريف القرآن وفضائح أهل الجور والعدوان وسمّيته فصل الخطاب في تحريف كتاب ربّ الأرباب» ثمّ ذكر مباحثه ضمن ثلاث مقدّمات وبابين، وذكر في الباب الأوّل إثنى عشر دليلًا بزعمه على وقوع التحريف في كتاب اللَّه العزيز، وفي الباب الثاني أجاب عن أدلّة القائلين بعدم تطرّق التغيير فيه بأجوبة واهيّة لا تسمن ولا تغني.

وقام تلميذه المحدّث الطهراني رحمه الله في مقام الدفاع عن الاستاذ في موضعين: مقدّمة المستدرك والذريعة «2»، وإليك عبارته في مقدّمة المستدرك ملخّصاً: «إنّ شيخنا النوري كان يقول (حسبما شافهناه به وسمعناه من لسانه في أواخر أيّامه) أخطأت في تسمية الكتاب وكان الأجدر أن يسمّى بفصل الخطاب في عدم تحريف الكتاب وذلك لأنّي أثبتّ فيه أنّ كتاب الإسلام الموجود بين الدفتين المنتشر في أقطار العالم وحي إلهي بجميع سوره وآياته وجمله لم يطرأ عليه تغيير أو تبديل ولا زيادة ولا نقصان من لدن جمعه حتّى اليوم وقد وصل إلينا المجموع الأولي بالتواتر

القطعي، ولا شكّ لأحد من الإماميّة فيه، فبعد ذا من الإنصاف أن يقاس الموصوف بهذه الأوصاف بالعهدين أو الأناجيل المعلومة أحوالها لدى كلّ خبير. هذا

انوار الأصول، ج 2، ص: 333

ما سمعناه من قول شيخنا نفسه وأمّا عمله فقد رأيناه وهو لا يقيم لما ورد في مضامين الأخبار وزناً بل يراها أخبار آحاد لا تثبت بها القرآنيّة بل يضرب بخصوصيّاتها عرض الجدار سيرة السلف الصالح من أكابر الإماميّة كالسيّد المرتضى والشيخ الطوسي وأمين الإسلام الطبرسي قدس سرهم وغيرهم، ولم يكن العياذ باللَّه- يلصق شيئاً منها بكرامة القرآن وإن ألصق ذلك بكرامة شيخنا من لم يطّلع على مرامه وقد كان باعتراف جميع معاصريه رجاليّ عصره والوحيد في فنّه ولم يكن جاهلًا بأحوال تلك الأحاديث- كما ادّعاه بعض المعاصرين- حتّى يعترض عليه بأنّ كثيراً من رواة هذه الأحاديث ممّن لا يعمل بروايته، فإنّ شيخنا لم يورد هذه الأخبار للعمل بمضامينها بل للقصد الذي أشرنا إليه».

فاعتذر هو في هذه العبارة بأمرين:

أوّلًا: بأنّ استاذه أثبت عدم وقوع التحريف بالزيادة أو النقصان أو التغيير والتبديل من لدن جمع عثمان حتّى اليوم.

وثانياً: بأنّ استاذه لم يرد هذه الأخبار للأخذ بها والعمل بمضامينها.

ثالثاً: يستفاد اعتذاره من بعض كلماته في الذريعة بأنّ استاذه أثبت أنّ ما وقع من التحريف في الكتاب العزيز قبل جمع عثمان إنّما هو خصوص التحريف بالنقيصة لا الزيادة أو التغيير والتبديل، والنقيصة لا تسمّى تحريفاً ولا يوجب سقوط الكتاب عن الاعتبار بل الموجب له إنّما هو الزيادة أو التغيير والتبديل.

أقول:- بالرغم من فائق الاحترام لكلّ من الاستاذ والتلميذ-: لا قيمة لشي ء من هذه الاعتبارات الثلاث أصلًا:

أمّا الاعتذار الثالث فلأنّ سقوط عدد كثير من الآيات عن الكتاب العزيز على فرض المحال مع

ملاحظة ما أشرنا إليه سابقاً من أنّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً- من أتمّ مصاديق التحريف حقيقة ولو فرض عدم تسميته به في العرف أو اللغة، ولا فرق بينه وبين التحريف بالزيادة أو التغيير، وليس النزاع في صدق لفظ التحريف وعدمه، فإنّ الحكم هنا لا يدور مدار الألفاظ.

وأمّا الاعتذار الثاني فلأنّ من لاحظ كتاب فصل الخطاب يعلم أنّه لا يوافق ما يدّعي من أنّ استاذه كان بصدد نفي التحريف أصلًا.

انوار الأصول، ج 2، ص: 334

وأمّا الأوّل فالحقّ إنّه أسوأ حالًا من الثاني والثالث لأنّه لا خصوصيّة لمصحف عثمان بل محلّ البحث عن وقوع التحريف وعدمه إنّما هو القرآن النازل على النبي صلى الله عليه و آله والمفروض في كلامه أنّ استاذه ادّعى التحريف فيه.

وبالجملة: إنّ هذا من الموارد التي يكون الاعتذار فيها الخطأ، ولقد أجاد بعض الأعاظم في أمثال هذا المقال حيث قال: الاعتراف بالخطأ في كثير من الموارد أهون من الاعتذار، فإنّ الخطأ والنسيان كالطبيعة الثانية للإنسان.

الطائفة الثانية: وقع الخلط بين الرّوايات والحديث القدسي ...

قد تكون الرّوايات تامّة من ناحية السند إلّاأنّه وقع الخلط فيها بين الحديث القدسي أو الدعاء المأثور من جانب النبي صلى الله عليه و آله أو الأئمّة وبين آيات القرآن العظيم.

والفرق بين الحديث القدسي والقرآن يظهر بما ذكره المحقّق القمّي رحمه الله في القوانين وإليك نصّه: «المنزل من اللَّه على قسمين: قسم أنزل على سبيل الاعجاز وهو القرآن، وقسم أنزل لا على سبيل الاعجاز، وهو الحديث القدسي (وهذه الأحاديث نُزّل بعضها على موسى عليه السلام وبعضها على عيسى عليه السلام وبعضها على رسول اللَّه في ليلة المعراج وغيرها».

ومن هذه الرّوايات ما رواه أبو حرب بن أبي الأسود عن أبيه قال: بعث أبو موسى الأشعري إلى قرّاء أهل البصرة فدخل

عليه ثلاثمائة رجل، قد قرأوا القرآن، فقال أنتم خيار أهل البصرة وقرّاؤهم، فاتلوه ولا يطولنّ عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم، وإنّا كنّا نشبّهها في الطول والشدّة ببراءة فأنسيتها غير أنّي قد حفظت منها: «لو كان لابن آدم واديان من مال لأبتغى وادياً ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلّاالتراب» وكنّا نقرأ سورة كنّا نشبّهها بإحدى المسبّحات فأنسيتها، غير أنّي حفظت منها: «ياأيّها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقهم فتسألون عنها يوم القيامة» «1».

فإنّ هذه العبارات تنادي بأعلى صوتها بأنّها من الأحاديث القدسيّة لو ثبتت صحّة إسنادها.

انوار الأصول، ج 2، ص: 335

ومنها: ما رواه عبداللَّه بن رزين الغافقي قال: قال لي عبدالملك بن مروان: لقد علمت ما حملك على حبّ أبي تراب إلّاأنّك أعرابي جافّ؟ فقلت: واللَّه لقد جمعت القرآن من قبل أن يجتمع أبواك ولقد علّمني منه علي بن أبي طالب عليه السلام سورتين علّمهما إيّاه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ما عُلِّمتهما أنت ولا أبوك: «اللهمّ إنّا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفّرك ونخلع ونترك من يفجرك، اللهمّ إيّاك نعبد ولك نصلّي ونسجد وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك الجدّ إنّ عذابك بالكفّار ملحق» «1».

وهذا أيضاً تنادي بأعلى صوتها بأنّها من الأدعية المأثورة كما لا يخفى.

ومنها: ما أخرجه البيهقي من طريق سفيان الثوري عن ابن جريح عن عطا عن عبيد بن عمير: أنّ عمر بن الخطّاب قنت بعد الركوع فقال: بسم اللَّه الرحمن الرحيم اللهمّ إنّا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفّرك ونخلع ونترك من يفجرك، بسم اللَّه الرحمن الرحيم اللهمّ إيّاك نعبد ولك نصلّي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى

نقمتك إنّ عذابك بالكافرين ملحق، قال ابن جريح: حكمة البسملة إنّهما سورتان في مصحف بعض الصحابة» «2».

وقد سمّيت هاتين السورتين بسورة الحفر وسورة الخلع لورود هاتين الكلمتين فيهما.

فهذه العبارة واضحة الدلالة على ما ذكرنا، كما يشهد عليه قول ابن جريح في ذيلهما حيث إنّه يرشدنا إلى علّة الخلط والاشتباه في هذا المورد، وهي وجود البسملة في صدر الدعائين.

مضافاً إلى أنّ قرآنيّتهما لا بدّ فيها من ذكر قائل لها لأنّهما صدرتا بلسان عبد من عباد اللَّه، ودأب القرآن في مثل هذه الموارد أن يذكر القائل إلّاسورة الحمد خاصّة، التي تواترت الأخبار بها.

الطائفة الثالثة: وقع الخلط بين روايات الفريقين

وردت روايات كثيرة من طرق الفريقين ووقع الخلط فيها بين القرآن نفسه وتفسيره وشأن نزوله:

انوار الأصول، ج 2، ص: 336

منها: ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي يونس مولى عائشة أنّه قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذنّي «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى» قال: فلمّا بلغتها آذنتها فأملت عليّ «حافظوا على الصلوات والصّلاة الوسطى وصلاة العصر قوموا للَّه قانتين» قالت: عائشة سمعتها من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «1».

أقول: لا أقلّ من احتمال صدق هذا الخبر وصدور العبارة المذكورة من جانب النبي صلى الله عليه و آله إلّا أنّه على فرض صحّة الصدور تكون هذه البعارة بمثابة تفسير للصلاة الوسطى بصلاة العصر من جانبه صلى الله عليه و آله لا من باب أنّها جزء للآية.

ومنها: ما رواه البخاري في كتاب البيوع من صحيحه عن عمرو عن أبن عبّاس قال: كانت عكاظ ومخبة وذو المجاز أسواق الجاهلية فتأثّموا أن يتّجروا في المواسم فنزلت: «ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلًا من ربّكم في مواسم الحجّ» «2».

فقوله «في مواسم الحجّ» ورد

لتفسير الآية ظاهراً لا أنّه جزء للآية.

ومنها: ما رواه الثعلبي عن تفسيره كما نقله الطبرسي وغيره بإسناده عن أبي نصرة قال:

سألت ابن عبّاس عن المتعة فقال: أما تقرأ سورة النساء؟ فقلت: بلى، قال: فما تقرأ «فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى» قلت: لا أقرأها هكذا. قال: ابن عبّاس: «اللَّه هكذا أنزلها اللَّه ثلاث مرّات» «3».

والظاهر أنّ هذا أيضاً من وهم ابن عبّاس ولذا لم يذكره غيره.

ومنها: ما رواه السيوطي في الإتقان عن ابن عبّاس «مثل نوره كمشكاة» (في سورة النور) قال هي خطأ من الكاتب، هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة إنّما هي: «مثل نور المؤمن كمشكاة» «4».

وليس هذا إلّااجتهاد منه في معنى الآية كما هو واضح.

ومنها: ما رواه البخاري في كتاب التفسير من صحيحه عن ابن عبّاس في حديث طويل انوار الأصول، ج 2، ص: 337

أنّه كان يقرأ: «وكان أمامهم ملك يأخذ كلّ سفينة صالحة غصباً» وكان يقرأ: «وأمّا الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين» «1».

والكلام فيه كما في سابقه.

ومنها: ما رواه علي بن عيسى الإربلي في كشف الغمّة عن طريق العامّة عن زرّ بن عبداللَّه قال: كنّا نقرأ على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «ياأيّها الرسول بلّغ ما انزل إليك من ربّك أنّ عليّاً مولى المؤمنين فإن لم تفعل فما بلّغت رسالته واللَّه يعصمك من الناس» «2».

ومنها: ما رواه البيهقي في سننه عن ابن عمر أنّه طلّق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فتغيّظ فيه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ثمّ قال: «ليراجعها ثمّ يمسكها حتّى تطهر ثمّ تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلّقها فيطلّقها طاهرة قبل

أن يمسّها فتلك العدّة التي أمر اللَّه تعالى أن يطلّق بها النساء وقرأ صلى الله عليه و آله: ياأيّها النبي إذا طلّقتم النساء فطلّقوهنّ في قبل عدتهنّ» «3».

فعوّضت كلمة اللام في قوله تعالى «لعدتهنّ» بكلمة «في قبل» تفسيراً لها.

ومنها: ما رواه الراغب الإصفهاني في المحاضرات من أنّه قرأ بعضهم: «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجهم امّهاتهم وهو أب لهم» «4».

فقوله: «وهو أب لهم» تفسير لقوله تعالى: «وأزواجه امهاتهم» لأنّ لازم كون الأزواج امّهات كون الزوج أباً.

ومنها: ما رواه الشيخ أبو الحسن الشريف في تفسيره عن عبدالرحمن السلمي قال: قال عمر بن الخطّاب: لا تغالوا في مهور النساء، فقالت: امرأة ليس ذلك لك ياعمر، إنّ اللَّه يقول:

وآتيتم إحداهنّ قنطاراً من ذهب، فقال عمر: «إنّ امرأة خاصمت عمراً فخصمته» «5».

إلى غير ذلك ممّا يعلم أو يحتمل فيه وقوع الخلط بين متون الآيات والتفاسير الواردة فيها عن النبي صلى الله عليه و آله أو الأئمّة الهادين أو غيرهم، فلا يصحّ الاستدلال بشي ء منها على وقوع انوار الأصول، ج 2، ص: 338

التحريف حتّى إذا فرضنا صحّة إسنادها واللَّه العالم بحقائق الامور.

الطائفة الرابعة: في روايات تدل على مطلق التحريف ...

هذه الطائفة من الرّوايات تدلّ على مطلق التحريف، ولكن حملها المحدّث النوري رحمه الله على التحريف اللفظي مع أنّ المعنوي منه أيضاً معنى شائع له- كما مرّ- مضافاً إلى وجود شواهد في نفس هذه الرّوايات تشهد على أنّ المراد من التحريف فيها هو التحريف المعنوي.

فمنها: ما رواه الصدوق في الخصال بإسناده عن جابر عن النبي صلى الله عليه و آله: «يجي ء يوم القيامة ثلاثة يشكون: المصحف والمسجد والعترة، يقول المصحف: «ياربّ حرّفوني ومزّقوني» ويقول المسجد: «عطّلوني وضيّعوني» وتقول العترة: «ياربّ قتلونا وشرّدونا» «1».

فقوله: «مزّقوني» قرينة على أنّ المراد من

التحريف هو التحريف المعنوي لأنّ تمزيق أوراق الكتاب لم يكن أمراً شائعاً في مرّ التاريخ بل لم يرد وقوعه من أحد إلّاالقليل مثل الوليد، فيكون التمزيق حينئذٍ كناية عن التحريف في المعنى.

ومنها: ما رواه علي بن إبراهيم القمّي بإسناده عن أبا ذرّ قال: لمّا نزلت هذه الآية: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ» قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «ترد عليّ امّتي يوم القيامه على خمس رايات، فراية مع عجل هذه الامّة فأسألهم: ما فعلتم بالثقلين من بعدي فيقولون: أمّا الأكبر فحرّفنا ونبذناه وراء ظهورنا، وأمّا الأصغر فعاديناه وأبغضناه ...» «2».

فقوله «ونبذناه وراء ظهورنا» أيضاً قرينة على أنّ المراد هو التحريف المعنوي لأنّ نبذ القرآن وراء الظهور كناية عن عدم العمل به.

ومنها: ما رواه ابن شهر آشوب في المناقب- كما في البحار- عن أبي عبداللَّه الحسين عليه السلام في خطبته يوم عاشوراء وفيها: «فإنّما أنتم من طواغيت الامّة وشذّاذ الأحزاب ونبذة الكتاب ونفثة الشيطان وعصبة الآثام ومحرّفوا الكتاب ... الخطبة» «3».

انوار الأصول، ج 2، ص: 339

فإنّ المخاطب في هذا الكلام هم أهل الكوفة الذين جاؤوا لقتل الحسين عليه السلام يوم عاشوراء، ولا إشكال في أنّه لو فرض وقوع التحريف اللفظي فقد كان من آبائهم، وأمّا تحريف هؤلاء الحاضرين في كربلاء فكان معنويّاً قطعاً.

ومن العجب ما قاله المحدّث النوري رحمه الله هنا من أنّه لابدّ لنا من حمل التحريف في هذه الأخبار على التحريف اللفظي لا المعنوي، واستدلّ له بقرائن كثيرة. منها: «إنّا لم نعثر على التحريف المعنوي الذي فعله الخلفاء الذين نسب إليهم التحريف في تلك الأخبار في آية أو أكثر وتفسيرهم لها بغير ما أراد اللَّه تعالى منها، ولو وجد ذلك لكان في غاية

القلّة» إلى غير ذلك ممّا ذكره في هذا المجال، مع إنّا نعلم أنّهم كانوا يحرّفون الكتاب ليلًا ونهاراً تحريفاً معنويّاً كتطبيقهم كلمة وليّ الأمر أو المؤمنين الواردة في آيات من الكتاب على أنفسهم، وقوله تعالى:

«وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ» على من خالفهم.

الطائفة الخامسة: في روايات تدلّ على حذف آيات الفضائل:

منها: ما رواه في الكافي عن الأصبغ بن نباتة قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول: «نزل القرآن ثلاثاً: ثلث فينا وفي عدوّنا، وثلث سنن وأمثال، وثلث فرائض الأحكام» «1».

ومنها: ما رواه في الكافي أيضاً عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إنّ القرآن نزل على أربعة أرباع:

ربع حلال، وربع حرام، وربع سنن وأحكام، وربع خبر ما كان قبلكم ونبأ ما لم يكن إلّابعدكم وفصل ما بينكم» «2».

ومنها: ما رواه العيّاشي في تفسيره عن أبي الجارود قال سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: «نزل القرآن على أربعة أرباع: ربع فينا، وربع في عدوّنا، وربع في فرائض وأحكام، وربع سنن وأمثال ولنا كرائم القرآن» «3».

ووجه الاستدلال هو عدم وجود مثل هذه الأثلاث أو الأرباع في الكتاب الموجود بين أيدينا.

انوار الأصول، ج 2، ص: 340

والجواب عن هذه الطائفة واضح، لأنّ المراد من قوله عليه السلام «فينا» الانطباق عليهم على نحو انطباق الكلّي على مصداقه الأتمّ الأكمل، كما ورد في بعض الرّوايات بالإضافة إلى كلّ آية ورد فيها «الذين آمنوا»: أنّ عليّاً عليه السلام على رأسها وأميرها، أي إنّه أتمّ المصاديق كما أنّ أعدائهم أتمّ مصاديق الآيات التي وردت فيها «الذين كفروا»، وحيث إن ثلث القرآن ورد في بيان حالات المؤمنين والكافرين فباعتبار انطباقها على الأئمّة عليهم السلام وعلى عدوّهم انطباق العنوان الجامع على أتمّ مصاديقه يصحّ أن يقال مثلًا: «نزل القرآن أثلاثاً ثلث فينا وفي عدوّنا» لا أنّ

أساميهم كانت مذكورة في الكتاب العزيز.

الطائفة السادسة: في اختلاف القراءات

وردت في اختلاف القراءات ومن هذا القبيل كثير من الرّوايات التي أوردها المحدّث النوري رحمه الله في الدليل الثاني عشر:

منها: ما رواه السياري عن البرقي عن النصر عن يحيى بن هارون قال: صلّيت خلف أبي عبداللَّه عليه السلام بالقادسيّة فقرأ: من يعمل مثقال ذرّة خيراً يره (بضم الياء) ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يُره (بضمّ الياء أيضاً).

وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى في البحث عن اختلاف القراءات عدم كونه من التحريف مطلقاً فانتظر.

الطائفة السابعة: في روايات ليست داخلة في الطوائف الستة ...
اشارة

وهنا وردت روايات ليست داخلة في إحدى الطوائف الستّة السابقة ولا يرد عليه أحد من الإشكالات الواردة عليها ولكنّها مردودة من جهتين:

الاولى: أنّها مخالفة لكتاب اللَّه العزيز، وقد ورد في أحاديث أهل البيت «إنّ ما خالف كتاب اللَّه فذروه».

الثانية: اعراض الأصحاب عنها حتّى بالنسبة للمحدّث النوري رحمه الله نفسه كما يدلّ عليه ما

انوار الأصول، ج 2، ص: 341

مرّ سابقاً من عبارة تلميذه المحدّث الطهراني في مقدّمة المستدرك: «وأمّا عمله فقد رأيناه وهو لا يقم لما ورد في مضامين (هذه) الأخبار وزناً بل يراها أخبار آحاد لا تثبت بها القرآنيّة بل يضرب بخصوصيّاتها عرض الجدار سيرة السلف الصالح من أكابر الإماميّة كالسيّد المرتضى والشيخ الطوسي وأمين الإسلام الطبرسي رحمهم الله».

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: الرّوايات الواردة في كتاب فصل الخطاب

إنّ كثيراً من الرّوايات الواردة في كتاب فصل الخطاب سيّما في الدليل الثاني عشر مروية من طريق السياري وهي تبلغ 188 رواية بناءً على احصاء مؤلّف كتاب «برهان روشن»، وبالتالي نذكر نماذج من هذه الرّوايات التي يتجلّى فيها وقوع الخطأ:

فمنها: ما روي عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: وإذا المودّة (بدل الموؤدة) سئلت (في سورة الشمس) قال: «من قتل في مودّتنا».

ومنها: ما روي عن أبي عبداللَّه عليه السلام: « «ياأيّتها النفس المطمئنة» (في سورة الفجر) إلى محمّد وأهل بيته ارجعي إلى ربّك راضيّة مرضيّة فادخلي في عبادي وادخلي جنّتي غير ممنوعة».

ومنها: ما روي عن أبي عبداللَّه قال: قرأ رجل بين يدي أبي عبداللَّه عليه السلام: فإنّ مع العسر يسراً إنّ مع العسر يسراً (الإنشراح) فقال عليه السلام: إنّ مع العسر يسرين هكذا نزلت».

ومنها: ما روي أبو بصير عن أبي عبداللَّه عليه السلام في قوله تعالى: تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربّهم (سورة القدر)

من عند ربّهم على محمّد وآل محمّد بكلّ أمر سلام».

ومنها: ما روي عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «إنّا أعطيناك يامحمّد الكوثر فصلّ لربّك وانحر إنّ شانئك هو عمرو بن العاص هو الأبتر».

ومنها: ما روي عن عابر بن خداعة قال قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: علّمني قل هو اللَّه أحد، قال: أكتبها لك قال: لا، احبّ أن أتعلّمها إلّامن فيك. قال اقرأ: «قل هو اللَّه أحد اللَّه الصمد ثلاثاً آخرها كذلك اللَّه ربّنا».

انوار الأصول، ج 2، ص: 342

وهذه هي نماذج من الرّوايات التي في سندها أحمد بن محمّد السياري الذي مرّ الكلام عنه إجمالًا وقد وقع الخلط فيها بين التفسير والتنزيل، هذا على فرض صدورها، ولكن قد عرفت كون الرجل من أضعف الضعاف، ولكن بما أنّ المحدّث النوري رحمه الله سلك في آخر المستدرك مسلك الدفاع عنه لابدّ لنا من سرد كلمات الرجاليين فيه تفصيلًا، وإليك رأي عدّة كثيرة من كبار علماء الرجال فيه:

1- قال الشيخ الطوسي رحمه الله في الفهرست: «أحمد بن محمّد بن سيّار، أبو عبداللَّه الكاتب بصري من كتّاب أبي طاهر في زمن أبي محمّد عليه السلام ويعرف ب «السياري» ضعيف الحديث فاسد المذهب، مجفوّ الرّواية، كثير المراسيل» «1».

2- قال العلّامة في الخلاصة: «هو فاسد المذهب، كثير المراسيل، ضعيف الحديث، مجفوّ الرّواية حكى محمّد بن محبوب عنه» «2».

3- قال النجاشي في رجاله نظير ما سمعته من الطوسي في الفهرست «3».

4- قال الكشّي في رجاله عن إبراهيم بن محمّد بن حاجب قال: «قرأت في رقعة مع الجواد عليه السلام يعلم من سأل عن السياري أنّه ليس في المكان الذي ادّعاه لنفسه وأن لا يدفعوا (إليه) شيئاً» «4».

5- قال العلّامة المامقاني الذي من دأبه تصحيح الرجل

وإحياء ذكره مهما أمكن: «ضعف الرجل من المسلّمات» «5».

6- قال ابن شهر آشوب: «أنّه مجفوّ الرّواية» «6».

7- قال ابن داود في رجاله نظير ما سمعته من الخلاصة «7».

انوار الأصول، ج 2، ص: 343

8- وضعّفه المجلسي رحمه الله في الوجيزة «1».

والمستفاد من هذه الكلمات أنّ ضعف السياري من المسلّمات، لكن المحدّث النوري رحمه الله دافع عن الرجل في خاتمة المستدرك بوجهين:

أحدهما: نقل رواياته في الكافي.

والثاني: أنّ منشأ هذه التضعيفات إنّما هو ابن الغضائري الذي أمر فيه بأخذ توثيقاته وردّ تضعيفاته لأنّه كان شديد الأخذ في الرجال يضعّف الرجل بأدنى شي ء.

ويردّ على الأوّل: بأنّا نعلم بورود روايات ضعيفة في الكافي لم يعمل أحد من العلماء بها.

وأمّا الوجه الثاني فيرد عليه: أنّه دعوى بلا دليل لأنّه لم يعتمد أحد من هؤلاء في كلماته على ابن الغضائري، نعم يشبه كلامه كلام النجاشي في قوله: «إنّه قال بالتناسخ» أي توجد نسبة الرجل إلى القول بالتناسخ في كلّ من رجال النجاشي ورجال ابن الغضائري، ولكنّه لا دليل على اعتماد النجاشي عليه، وإن كان هو (ابن الغضائري) من مشايخه، ولو سلّم اعتماده عليه لكنّه لا يحتمل ذلك بالنسبة إلى الشيخ الطوسي الذي لم يكن هو (ابن الغضائري) من مشايخه قطعاً، وبالنسبة إلى الكشّي أيضاً الذي يروي الرّواية عن الجواد عليه السلام في حقّه.

ولقد أجاد المحقّق المامقاني رحمه الله بعد نقل كلمات علماء الرجال في الرجل حيث قال ما نصّه:

«وبالجملة فضعف الرجل من المسلّمات والعجب كلّ العجب من الشيخ الماهر المحدّث النوري رحمه الله حيث إنّه رام في خاتمة المستدرك إثبات وثاقة الرجل والاعتماد على كتابه بإكثار الكليني رحمه الله والثقة الجليل محمّد بن العبّاس بن ماهيا الرّواية عنه ... إلى أن قال: ووجه

التعجّب من هذا النحرير أنّه رفع اليد عن تصريحات من سمعت بنقل هؤلاء رواياته الذي هو فعل مجمل وجعل الإصغاء إلى التنصيصات المذكورة ممّا لا ينبغي، وهو كما ترى، إذ كيف يقابل القول الصريح بعدم الاعتماد عليه بالفعل الظاهر سيّما مع تأيّد أقوالهم بما سمعته من مولانا الجواد عليه السلام الظاهر في دعواه النيابة عنه من غير أصل؟» «2».

الأمر الثاني: في نسخ التلاوة

وهو أن تنسخ تلاوة آية من الآيات سواء نسخ حكمها أيضاً أو لم ينسخ فقد يكون الحكم باقياً من دون بقاء الآية الدالّة عليه، وفي مقابله نسخ الحكم، وهو أن ينسخ الحكم من دون أن تنسخ الآية الدالّة عليه، أمّا نسخ الحكم مع بقاء التلاوة فهو أمر ظاهر مفهوماً ومصداقاً، وأمّا نسخ التلاوة بعد نزولها قرآناً فهو أمر لا معنى محصّل له، ولكن مع ذلك ذهب جماعة من العامّة إليه في موارد كثيرة، والظاهر أنّهم أرادوا به توجيه بعض ما ورد في رواياتهم من التحريف في الكتاب العزيز:

منها: ما مرّ من رواية الليث بن سعد قال: «أوّل من جمع القرآن أبو بكر وكتبه زيد ... وإنّ عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها لأنّه كان وحدة» «1».

ومنها: ما مرّ أيضاً من عائشة قالت: «كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي صلى الله عليه و آله مأتي آية، فلمّا كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلّاما هو الآن» «2».

ومنها: ما مرّ أيضاً من سورتي الخلع والحفد في ما حكوا عن مصحف ابن عبّاس وابي بن كعب: «اللهمّ إنّا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفّرك ونخلع ونترك من يفجرك اللهمّ إيّاك نعبد ولك نصلّي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك إنّ عذابك بالكافرين ملحق» «3».

إلى غير ذلك

ممّا روي من طرقهم، فقد أرادوا بهذا إنكار نسبة القول بالتحريف إلى أنفسهم بتوجيه أنّ هذه الرّوايات من قبيل نسخ التلاوة لا من موارد التحريف.

ولابدّ في الجواب عنه من تعيين معنى نسخ التلاوة والمراد منه فنقول: إن كان المقصود منه أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله نهى عن تلاوة هذا القبيل من الآيات وأن نسخ التلاوة قد وقع من رسول اللَّه فهذا أمر غير معقول، وإن كان المراد وقوعه ممّن تصدّى للزعامة من بعد النبي صلى الله عليه و آله فهو عين القول بالتحريف بالنقصان واقعاً وإن لم يسمّ بالتحريف لفظاً، وعليه فيمكن أن يدّعي أنّ القول بالتحريف هو مذهب كثير من علماء أهل السنّة لأنّهم يقولون بجواز نسخ التلاوة، بل انوار الأصول، ج 2، ص: 345

يمكن أن يدّعي أنّ أوّل من قال عندهم بالتحريف هو عائشة، والثاني عمر، والثالث ابن عبّاس، وقد عرفت أنّ المحقّقين منّا ومنهم رفضوا القول بالتحريف مطلقاً.

الأمر الثالث: في اختلاف القراءات

ويبحث فيه أنّ الاختلاف في القراءة هل يوجب سقوط حجّية القرآن في الآية المختلف في قرائتها، أو لا؟

فنقول: الاختلاف في القراءة على وجهين: تارةً لا يوجب تغييراً في المعنى كالاختلاف في قوله: «خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ» «1»

بالنسبة إلى كلمة «ضعف» التي قرأت بالفتح في قراءة عاصم برواية الحفص، وبالضمّ في بعض القراءات الاخرى وقراءة عاصم برواية غير الحفص.

واخرى يكون مغيّراً للمعنى كالاختلاف في قوله تعالى: «فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الَمحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ» «2»

بالنسبة إلى قوله «يطهرن» ففي قراءة الحفص وجماعة ورد بالتخفيف، وفي قراءة جماعة اخرى بالتشديد، وهو على الأوّل ظاهر في النقاء عن الدمّ، ونتيجته جواز الوقاع قبل الغسل وبعد انقطاع الدم، وعلى الثاني ظاهر في الاغتسال (وإن كان عندنا محلّ

كلام) ونتيجته عدم جواز الوقاع قبل الغسل وبعد النقاء.

وكيف كان، فإنّ هنا ثلاث مسائل:

المسألة الاولى: في تواتر القراءات وعدمه، وفيه ثلاث احتمالات:

الأوّل: تواتر القراءات.

الثاني: عدم التواتر مع حجّية جميعها.

الثالث: عدم التواتر مع حجّية واحد منها فقط وإن كانت القراءة في الباقي جائزة.

فنقول: لا دليل على تواتر القراءات وكونها موجودة في زمن النبي صلى الله عليه و آله نزل بها جبرئيل عليه السلام، لأنّ تواترها يتوقّف على تحقّق التواتر في ثلاث مراحل: التواتر بيننا وبين القرّاء، والتواتر بين القرّاء أنفسهم، والتواتر بين القرّاء وبين النبي صلى الله عليه و آله بينما المعروف أنّ لكلّ واحد من القرّاء السبعة راويين فقط، فلا يتحقّق التواتر في المرحلة الاولى، مضافاً إلى أنّ هذين الراويين انوار الأصول، ج 2، ص: 346

ينقلان عن قارئهما مع واسطة إلّاراوي عاصم.

وهكذا بالنسبة إلى المرحلة الثانية لأنّه في عصر عاصم مثلًا لا يعيش من القرّاء المعروفين أحد إلّاشخص عاصم، وكذلك بالنسبة إلى المرحلة الثالثة لأنّ هؤلاء القرّاء تولّدوا بعد مدّة طويلة بعد النبي صلى الله عليه و آله ولا دليل على وجود التواتر بينه وبينهم.

نعم نعلم إجمالًا بكون كثير من هذه القراءات مشهورة بين الناس، ولكن هذا المقدار من الشهرة غير كافٍ في إثبات المقصود.

وعلى هذا فدعوى تواتر القراءات دعوى عجيبة بلا دليل، بل الدليل موجود على خلافه، وهو ما مرّ سابقاً أنّ عثمان جمع المسلمين على قراءة واحدة، لأنّ الاختلاف في القراءة من شأنه أن يؤدّي إلى الاختلاف بين المسلمين وتمزيق صفوفهم ولذلك لم يعترض أحد من الصحابة عليه مع أنّه لو كانت القراءات متواترة لم يكن وجه لسكوتهم.

هذا مضافاً إلى أنّ نزول القرآن على النبي صلى الله عليه و آله على سبعة أحرف في

نفسه أمر غير ثابت بل غير معقول كما لا يخفى.

ثمّ إنّه لا معنى للاحتمال الثالث وهو جواز القراءة مع عدم الحجّية في العمل لأنّه إذا استفدنا من الرّوايات المتظافرة (التي تقول: اقرأوا كما قرأ الناس) جواز القراءة شرعاً نستفيد منها الحجّية بالملازمة العرفيّة، أي الحجّية حينئذٍ مدلول التزامي لتلك الرّوايات، فلا وجه لإنكار الملازمة من ناحية المحقّق الخراساني رحمه الله وصاحب البيان واستدلالهم بأنّ الرّواية تقول:

«اقرأوا» ولا تقول: «اعملوا».

المسألة الثانية: في مقتضى كلّ واحد من هذه الاحتمالات: فنقول: إذا قلنا بتواتر القراءات فلازمه حجّية جميعها والقطع بصدور الجميع، وحينئذٍ لا تعارض بينها من ناحية السند بل التعارض ثابت في دلالاتها، فلو كان واحد منها أظهر من الباقي يؤخذ به وإلّا تتعارض ثمّ تتساقط الجميع عن الحجّية.

وإن قلنا بالاحتمال الثاني فتكون المسألة من باب الخبرين المتعارضين اللذين كلاهما حجّة، وحينئذٍ بما أن أدلّة إعمال المرجّحات خاصّة بالسنّة الظنّية تكون النتيجة تساقط الخبرين عن الحجّية، وإن كان لأحدهما ترجيح على الآخر فتصل النوبة إلى الاصول العمليّة، وسيأتي ما تقتضيه هذه الاصول إن شاء اللَّه.

انوار الأصول، ج 2، ص: 347

وإن قلنا بالاحتمال الثالث فتكون المسألة من قبيل اشتباه الحجّة بلا حجّة، فتصير حينئذٍ حجّية كلّ منهما ظنّية، وقد ثبت في محلّه أنّ احتمال العدم في باب الحجّية يساوق عدم الحجّية.

وإن شئت قلت: قد ثبت في محلّه أنّ الأصل في الظنون عدم الحجّية.

المسألة الثالثة: في مقتضى القاعدة الأوّليّة بعد التساقط فنقول: مقتضى القواعد العامّة الفقهيّة بعد الشكّ في حكم خاصّ وإجمال الدليل هو الرجوع إلى العمومات والأدلّة الاجتهادية أوّلًا فإن ظفرنا بها فهو، وإلّا تصل النوبة إلى الاصول العمليّة، ففي المثال المعنون في محلّ البحث مثلًا لو فرض إجمال قوله

تعالى: «فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الَمحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ» لابدّ من الرجوع أوّلًا إلى العمومات الواردة في المسألة، وقيل أنّ العام فيها قوله:

«فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ» لأنّ عموم «أنّى شئتم» يشمل جميع الأزمنة (لأنّه بمعنى «متى شئتم» أو «أي زمان شئتم») وخرج عنه خصوص زمان وجود الدم فقط، فبمجرّد النقاء يأتي جواز الوقاع لذلك العموم ولا تصل النوبة إلى استصحاب الحرمة.

هذا إذا قلنا أنّ كلمة «أنّى» بمعنى «متى» فحسب، وأنّ معناها واضح لا إجمال فيه، وأمّا إذا قلنا بإجماله كما أنّه كذلك لأنّه ذكر لها في اللغة ثلاث معانٍ ففي المجمع البحرين «أنّى» بمعنى «متى» و «أنّى» بمعنى «كيف» و «أنّى» بمعنى «أين» (كقوله تعالى: أنّى لك هذا) بل بعض اللغويين لم يذكروا المعنى الأوّل، وهو الراغب في المفردات (الذي هو من أئمّة اللغة وكتابه مختصّ بلغات القرآن ومحلّ البحث في المقام من جملتها) فيثبت حينئذٍ عدم تماميّة الدليل اللفظي الاجتهادي وتصل النوبة إلى الرجوع إلى الاصول العمليّة، والأصل العملي في المثال هو استصحاب وجوب الاعتزال لأنّ موضوعه هو خصوص النساء وليس سيلان الدم من مقوّماته حتّى يوجب تغيير الموضوع بعد الانقطاع بل هي من حالاته كاستصحاب النجاسة في الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره، ولو فرض كونه مقوّماً كما إذا قلنا بأنّ معنى قوله تعالى «اعتزلوا النساء» قولك «اعتزلوا الحائض» يجري الاستصحاب أيضاً لوحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك عند العرف في المقام لما عرفت من أنّ الحيض عند العرف ليس من مقدّمات الموضوع بل إنّه من حالاته بخلاف ما إذا صار المجتهد ناسياً لعلومه فلا يجوز تقليده بعد عروض النسيان تمسّكاً باستصحاب جواز التقليد لأنّ الاجتهاد عند العرف من مقوّمات الموضوع بالنسبة إلى هذا الحكم فيلزم

تبدّل الموضوع بعد عروض النسيان.

انوار الأصول، ج 2، ص: 348

نعم، هذا كلّه فيما إذا قلنا بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة، وسيأتي في مبحث الاستصحاب إن شاء اللَّه أنّ المختار خلافاً للمشهور عدمه، وحينئذٍ تصل النوبة إلى أصالة الإباحة (كلّ شي ء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام) ولا إشكال في جريانها في الشبهات الحكمية، أو إلى البراءة العقليّة.

ولكن هذا كلّه فيما إذا كانت الآية من أمثلة النزاع في ما نحن فيه، أي كان اختلاف القراءة فيها موجباً لاختلاف المعنى والحكم، مع أنّه أوّل الكلام، لأنّه لقائل أن يقول: أنّ قوله تعالى:

«يطهرن» على كلا الوجهين يكون بمعنى النقاء عن الدم لأنّ كون «يطهرن» على الوجه الثاني (أي كونها من باب التفعّل) مبني على اعتبار كون الفعل اختياريّاً في باب التفعّل والمطاوعة لأنّه بناءً على هذا الاعتبار لا يمكن أن يكون يطهّرن (بالتشديد) بمعنى النقاء لعدم كونه من الأفعال الاختياريّة بخلاف معنى الاغتسال.

لكن لا دليل على هذا الاعتبار، بل كثيراً مّا يدخل في باب التفعّل ما لا يكون اختياريّاً كما في قوله تعالى: «وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ» وقوله تعالى: «تَقَطَّعَتْ بِهِمْ الْأَسْبَابُ». مضافاً إلى وجود قرينتين في الآية على كون «يطهرن» بمعنى النقاء: إحديهما: كلمة المحيض وأنّها موجبة لوجوب الاعتزال لأنّ الحيض بمعنى سيلان الدم، والتطهّر من الحيض يساوق عدم السيلان وانقطاع الدم. الثانية وحدة السياق فإنّها تقتضي كون الغاية في الجملة الاولى (ولا تقربوهنّ حتّى يطهرن) والشرط في الجملة الثانية (فإذا تطهّرن فأتوهنّ) بمعنى واحد، وحيث إن «تطهّرن» في الجملة الثانية بمعنى النقاء بلا إشكال فلتكن «يطهرن» في ما نحن فيه أيضاً بهذا المعنى.

ثمّ ليعلم أنّ لهذه المسألة في الفقه روايات خاصّة عديدة، بعضها تدلّ

على جواز الوقاع قبل الغسل وبعضها تدلّ على عدم الجواز ومقتضى الجمع بينهما هو الجواز مع الكراهة، والكراهة الشديدة إذا لم تغسل الموضع.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّه كيف يجمع بين القول باختلاف القراءات مع سرايته إلى المعنى أحياناً وبين وعده تعالى بحفظ القرآن في آية الحفظ؟

انوار الأصول، ج 2، ص: 349

والجواب عنه: أنّ الاختلاف ينافي آية الحفظ فيما إذا ثبت عدم القراءة المشهورة المتداولة بين المسلمين.

وإن شئت قلت: يستفاد من الآية بالدلالة الالتزاميّة أنّ القراءة التي تنزل بها جبرئيل هي هذه القراءة ولا دليل على شهرة القراءات الاخرى ولو بالنسبة إلى فترة من الزمان.

هذه مضافاً إلى أنّ كون الاختلاف في القراءة التي بين أيدينا سبباً لتفاوت الأحكام أوّل الكلام كما عرفت في المثال المعروف في آية الحيض.

إلى هنا تمّ الكلام في مباحث حجّية ظواهر الألفاظ واللَّه العالم بحقائق الامور.

انوار الأصول، ج 2، ص: 351

إثبات صغرى الظهور (حجّية قول اللغوي)

إلى هنا قد فرغنا عن البحث عن كبرى حجّية ظواهر الألفاظ، وتصل النوبة إلى بحث صغروي، وهو إثبات صغرى الظهور وأنّ هذا اللفظ ظاهر في هذا المعنى أو لا؟ فبأيّ شي ء يثبت الظهور؟ وما هو المرجع عند الشكّ فيه؟

فنقول: للمسألة خمس صور لا بدّ من التميير بينها والبحث عن كل منها مستقلًا:

الاولى: إذا كان الشكّ في مادّة اللغة كمادّة الكنز أو الغنيمة.

الثانية: إذا كان الشكّ في هيئة المفرد، كما إذا شككنا في معنى الطهور، فهل هي بمعنى الطاهر في نفسه والمطهّر لغيره، أو بمعنى شديد الطهارة في نفسه بمقتضى صيغة المبالغة.

الثالثة: إذا كان الشكّ في هيئة الجملة كالشكّ في الجملة الشرطيّة وأنّها هل تدلّ على العلّية المنحصرة حتّى يكون لها المفهوم أو لا؟

الرابعة: إذا كان الشكّ في وجود قرينة توجب الاختلاف في الظهور.

الخامسة: إذا

كان الشكّ في قرينيّة الموجود كقرينيّة الاستثناء بألّا للجمل السابقة فيما إذا تعقّبت الجمل المتعدّدة باستثناء واحد.

ونبدأ في الجواب بالأخيرتين ونقول:

أمّا الصورة الرابعة: فلا إشكال ولا كلام في أنّ الأصل فيها عدم وجود القرينة، إنّما الكلام في أنّ أصالة عدم القرينة هل هي أصل تعبّدي وحجّة تعبّداً، أو أنّها ترجع إلى أصالة الظهور فتكون حجّيتها من باب حجّية أصالة الظهور؟ فعلى الأوّل يكون الأصل عدم وجود قرينة في البين فيؤخذ بالمعنى الظاهر العرفي، وأمّا على الثاني فلا بدّ من ملاحظة ظهور الكلام وأنّه هل يوجب احتمال وجود القرينة إجمال اللفظ أو الظهور باقٍ على حاله؟ فالملاك كلّه حينئذٍ هو

انوار الأصول، ج 2، ص: 352

الظهور اللفظي وعدمه، ولكن لا فرق بين المبنيين بالنسبة إلى هذه الصورة فإنّ النتيجة واحدة.

أمّا الصورة الخامسة: وهي ما إذا شكّ في قرينية الموجود كالإستثناء المتعقّب للعمومات المتعدّدة فهي مبنيّة على ما مرّ من النزاع آنفاً، فبناءً على كون أصالة عدم القرينة حجّة تعبّداً فلا إشكال في الأخذ بالعمومات السابقة على العام الأخير، وبناءً على أصالة الظهور يصبح الكلام مجملًا وتسقط العمومات السابقة عن الحجّية لاحتفافها بما يحتمل القرينية، وبما أن بناء العقلاء استقرّ على حجّية الظواهر فقط فلا بدّ لإثبات حجّية أصالة عدم القرينة تعبّداً من دليل يدلّ عليها وإلّا لزم الرجوع إلى أصالة الظهور لا محالة.

أمّا الصورة الثالثة: وهي الشكّ في هيئة الجملة فالمرجع فيها هو علم النحو والمعاني والبيان، ولكن بما أن عدداً كثيراً من هيئات الجمل لم يبحث عنها في هذه العلوم بحثاً كافياً لابدّ من البحث عنها في مبادى ء علم الاصول، والمتداول اليوم التكلّم عنها في مباحث الألفاظ.

وأمّا الصورة الثانية: وهي الشكّ في هيئة المفردات فالمرجع فيها هو

علم الصرف كالبحث عن الفرق بين اسم الفاعل واسم المفعول، أو بين اسم الفاعل والصفة المشبهة، أو الفرق بين أبواب الثلاثي المزيد.

نعم يبحث عن عدّة منها في علم الاصول كالبحث عن المشتقّ.

بقيت الصورة الاولى وهي الشكّ في مادّة اللغة، فالمعروف والمشهور أنّ المرجع فيها هو قول اللغوي وأنّه حجّة فيها بل ادّعى فيه إجماع العلماء، لكن خالف فيه المحقّق الخراساني رحمه الله وقال بعدم حجّية قول اللغوي، وسيأتي أنّ شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله مال إلى الحجّية مع تأمّله فيها أخيراً، فعلينا أن نلاحظ الأدلّة وأنّه ما هو مقتضى الدليل؟

استدلّ للحجّية بوجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: إجماع العلماء (بل جميع العقلاء) على ذلك، فانّهم قديماً وحديثاً يرجعون في استعلام اللغات إلى كتب أهل اللغة، ولذلك ينقلون في الفقه أقوال اللغويين بالنسبة إلى موضوع من موضوعات الأحكام كالغنيمة والكنز حتّى من أنكر حجّية قولهم كالمحقّق الخراساني رحمه الله، كما يرجعون إليهم في فهم الحديث وتفسير الكتاب الكريم.

لكن يرد عليه: أنّ الإجماع هذا لا يكون كاشفاً عن قول المعصوم عليه السلام بما أنّه دليل تعبّدي انوار الأصول، ج 2، ص: 353

خاصّ قبال الأدلّة الاخرى التي استدلّوا بها في المقام لإمكان نشوئه منها فلا بدّ من الرجوع إليها.

الوجه الثاني: بناء العقلاء وسيرتهم قديماً وحديثاً وفي كلّ عصر وزمان ومكان على الرجوع إلى أهل الخبرة، وهذا أهمّ الوجوه في المقام.

لكن أُورد عليه إشكالات عديدة:

الأول: أنّ اللغوي ليس من أهل الخبرة، أي أهل الرأي والاجتهاد بالنسبة إلى تشخيص المعاني الحقيقيّة عن المعاني المجازيّة، وإن شئت قلت: ليس شأن اللغوي إلّابيان موارد الاستعمال لا تعيين المعنى الحقيقي من بين المعاني التي يستعمل اللفظ فيها.

ويمكن الجواب عنه: بأنّ المهم في تعيين مراد المتكلّم هو تشخيص

ظهور اللفظ كما مرّ، ولا ريب في أنّ اللغوي يبيّن المعنى الظاهر للفظ سواء كان حقيقة أو مجازاً مشهوراً.

الثاني: ما اشير إليه في بعض كلمات المحقّق النائيني رحمه الله من أنّه يمكن أن يكون رجوع العقلاء إلى كتب اللغويين من جهة حصول الوثوق والاطمئنان من قولهم في بعض الأحيان لا من جهة حصول الظن فقط وحجّية قولهم مطلقاً، ولا إشكال في أنّ الاطمئنان منزّل منزلة العلم أو أنّه علم عرفي فيكون حجّة «1».

قلنا: الإنصاف أنّ رجوعهم إلى أهل الخبرة ليس متوقّفاً على حصول الاطمئنان كما في الرجوع إلى قول المجتهد فإنّ المقلّد مع الإلتفات إلى اختلاف آراء الفقهاء في كثير من الموارد التي لا يحصل الإطمئنان والوثوق فيها عادةً بقول المجتهد- مع ذلك لا يتوقّف عن الرجوع كما أنّه كذلك في باب القضاء ورجوع القضاة إلى المتخصّصين والعارفين بالموضوعات التي هي محلّ الدعوى كالغبن والتدليس وغيرهما، مع أنّه لا يحصل لهم الاطمئنان بتشخيصهم في كثير من الأحيان.

الثالث: أنّ قول اللغوي من مصاديق خبر الواحد، وحجّيته في الموضوعات منوطة بحصول شرائط الشهادة.

أقول: إنّ اللغوي من أهل الخبرة، وحجّية أهل الخبرة لا تتوقّف على شرائط الشهادة كما في مرجع التقليد.

انوار الأصول، ج 2، ص: 354

وإن شئت قلت: الحسّ على نوعين: حسّ دقيق، وحسّ غير دقيق، ولا ريب في أنّ الشهادة والإخبار عن حسّ دقيق تحتاج إلى التخصّص والخبرويّة نظير إخبار الطبيب وشهادته على أنّ هذا المريض كذا وكذا، وما نحن فيه من هذا القبيل لأنّ تشخيص الظهور وتعيين المتفاهم عرفاً بين المعاني والاستعمالات المتعدّدة أمر مشكل دقيق يحتاج إلى دقّة وخبرويّة، وحينئذٍ يرجع قول اللغوي إلى قول أهل الخبرة لا إلى الشهادة عن حسّ.

هذا- مضافاً إلى ما أثبتناه

في القواعد الفقهيّة «1» من أنّه لا يعتبر التعدّد في الإخبار عن الموضوعات بل في غير باب القضاء يكفي خبر الواحد الثقة.

رابعها: ما ورد في تهذيب الاصول من «أنّ مجرّد بناء العقلاء على الرجوع في هذه القرون لا يكشف عن وجوده في زمن المعصومين حتّى يستكشف من سكوته رضاهم، مثل العمل بخبر الواحد وأصالة الصحّة ... (إلى أن قال): والحاصل: أنّ موارد التمسّك ببناء العقلاء إنّما هو فيما إذا احرز كون بناء العقلاء بمرأى ومسمع من المعصومين عليهم السلام ولم يحرز رجوع الناس إلى صناعة اللغة في زمن الأئمّة بحيث كان الرجوع إليهم كالرجوع إلى الطبيب» «2».

قلنا: لا حاجة في حجّية خصوص قول اللغوي الذي هو من مصاديق كبرى بناء العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة إلى وجود خصوص هذا المصداق في زمن المعصومين عليهم السلام بل مجرّد وجود الكبرى في ذلك الزمان كافٍ، وإلّا يلزم من ذلك عدم جواز الرجوع إلى أهل الخبرة بالنسبة إلى المصاديق المستحدثة. هذا أوّلًا.

وثانياً: أنّه لا ريب في رجوع غير أهل اللسان في زمن المعصومين إلى أهل اللسان في حاجاتهم اليوميّة التي كانت مربوطة بتعيين معاني اللغات والألفاظ المتداولة في ذلك اللسان كرجوع أعجمي إلى أهل لسان العرب في تشخيص رسائل الوصايا والأوقاف وأسناد المعاملات والمراسلات العادية التي كانت مكتوبة باللغة العربيّة، وعلى الأقلّ في فهم ما يتعلّق بالقرآن والحديث في توضيحهما وتفسيرهما وتبيين مفرداتهما فلا تتوقّف إثبات إتّصال سيرة العقلاء إلى زمن المعصومين عليهم السلام على تدوين كتب في اللغة في ذلك الزمان ورجوع الناس إليها كذلك.

انوار الأصول، ج 2، ص: 355

الوجه الثالث: من الأدلّة هو التمسّك بالانسداد الصغير، وهو انسداد باب العلم والعلمي في بعض الموضوعات مقابل الانسداد

الكبير الذي هو عبارة عن انسداد باب العلم والعلمي بالنسب إلى معظم الأحكام، ولذا يعتمد على قول المرأة في الطهر والحيض وشبههما ممّا لا يعلم إلّا من قبلها، كما أنّ قول من يكون وكيلًا لعدّة من الأشخاص حجّة في تعيين نيّته وأنّه باع هذا المتاع مثلًا من جانب أي موكّل من موكّيله لأنّ النيّة أيضاً ممّا لا يعلم إلّامن قبله، كذلك في ما نحن فيه حيث إن الحاجة بقول اللغوي في المسائل الفقهيّة كثيرة جدّاً لأنّه (كما أفاد شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله في رسائله) «يمكن الوصول الإجمالي إلى معاني اللغات بطريق العرف والتبادر والقواعد العربيّة المستفادة من الاستقراء القطعي واتّفاق أهل العربيّة بضميمة أصالة عدم القرينة إلّاأنّه لا مناصّ من الرجوع إلى أهل اللغة في فهم تفاصيل المعاني وجزئياتها» كما في لفظ الكنز مثلًا فنعلم إجمالًا أنّه اسم لأمر مستند مخفي، ولكن هل يعتبر فيه أن يكون مستتراً تحت الأرض، أو يعمّ مثلًا المخفيّ في جوف الجدار أيضاً؟

وحينئذٍ يأتي الإشكال الذي بيّن في الانسداد الكبير، وهو محذور جريان الاحتياط مطلقاً أو جريان البراءة مطلقاً، فالأوّل يوجب العسر والحرج واختلال النظام، والثاني يوجب تفويت المصالح الكثيرة الواقعيّة التي نعلم أنّ الشارع لا يرضى بتفويتها.

أقول: وإشكاله واضح ما لم يرجع إلى الانسداد الكبير، لأنّ الاحتياط في موارد الشكّ هنا ممكن أن لا يوجب اختلال النظام ولا العسر والحرج.

فالأولى أن يقال: إنّ المهمّ والأساس في المقام هو الدليل الثاني، أي بناء العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة، فأنّ فلسفة كثير من بناءات العقلاء في كثير من الموارد ومنها بناؤهم في الرجوع إلى الخبرة هو هذا الانسداد الصغير، ففي باب الأمارات مثلًا منشأ بنائهم على حجّية قول ذي

اليد وأماريتها على الملك، أو حمل فعل الناس على الصحّة كحمل فعل الوكيل في المعاملة على صحّة العقد هو الانسداد الصغير كما لا يخفى.

فمنشأ بناء العقلاء في المقام هو هذا النوع من الانسداد كما أنّ منشأ اتّفاق العلماء على الرجوع إلى أهل الخبرة أيضاً لعلّه يكون هذا المعنى، وعلى هذا الأساس يرجع الدليل الأوّل والثالث إلى الدليل الثاني.

وكان ينبغي للشيخ الأنصاري رحمه الله أن يتمسّك بهذا الوجه الثاني لا الوجه الأوّل والثالث انوار الأصول، ج 2، ص: 356

حتّى ينفي أوّلًا حجّية قول اللغوي ويجيب عن استلزامه الانسداد الصغير، ثمّ يرجع أخيراً ويقبل الحجّية بنحو قوله «لعلّ» ثمّ يأمر بالتأمّل في النهاية، وإليك نصّ كلامه: «هذا ولكن الإنصاف أنّ موارد الحاجة إلى قول اللغويين أكثر من أن يحصى في تفاصيل المعاني بحيث يفهم دخول الافراد المشكوكة أو خروجها وإن كان المعنى في الجملة معلوماً من دون مراجعة قول اللغوي كما في مثل الفاظ الوطن والمفازاة والتمر والفاكهة والكنز والمعدن والغوص وغير ذلك من متعلّقات الأحكام ممّا لا يحصى وإن لم تكن الكثرة بحيث يوجب التوقّف فيها محذوراً، ولعلّ هذا المقدار مع الاتّفاقات المستفيضة كافٍ في المطلب فتأمّل» «1».

هذا كلّه في تعيين الظهور وتشخيصه.

انوار الأصول، ج 2، ص: 357

2- حجّية الإجماع المنقول وفيه بحث حول الإجماع المحصّل أيضا
اشارة

وممّا قيل بحجّيته وخروجه عن تحت أصالة حرمة العمل بالظّن الإجماع المنقول بخبر الواحد.

قال المحقّق الخراساني رحمه الله: «أنّه حجّة عند كثير ممّن قال باعتبار الخبر بالخصوص من جهة أنّه من أفراده».

وفي الحقيقة يستدلّ على هذا بدليل مركّب من صغرى وكبرى، أمّا الصغرى فهو: أنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد مصداق من مصاديق خبر الواحد، وأمّا الكبرى فهو: كلّ خبر الواحد الثقة حجّة، فيستنتج أنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد حجّة.

وبهذا يظهر

أنّ الأنسب والأولى تأخير هذا البحث عن بحث خبر الواحد لأنّه فرع من فروعه، ولكن نقتفي أثر القوم ونبحث فيه بناءً على حجّية خبر الواحد.

فنقول: تحقيق القول في المسألة يستدعي التكلّم في امور:

الأمر الأوّل: في الإجماع المحصّل.
اشارة

ووجه البحث عن الإجماع المحصّل أنّه يمكن أن يكون الإجماع المنقول مشمولًا لأدلّة حجّية خبر الواحد على بعض المباني في الإجماع المحصّل دون بعض، فلا بدّ من البحث أوّلًا عن وجوه حجّية الإجماع المحصّل عندهم والمسالك التي سلكوها في ذلك، فنقول: يوجد في الإجماع المحصّل مبنيان معروفان: مبنى أهل السنّة، ومبنى الشيعة، فالمعروف والمشهور عند السنّة أنّ الإجماع في نفسه حجّة، أي للُامّة بما هي امّة عصمة تعصمها عن الخطأ، ولذلك عبّر شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله عن إجماعهم بالإجماع الذي هو الأصل لهم وهم الأصل له، وأمّا

انوار الأصول، ج 2، ص: 358

الشيعة فالإجماع عندهم حجّة بالعرض، أي بما هو كاشف عن قول المعصوم أو مشتمل عليه، فهو بحسب الحقيقة يرجع إلى السنّة وليس دليلًا على حدة، فالأدلّة عندنا في الواقع ثلاثة لا أربعة.

وتنبغي الإشارة أيضاً إلى معنى الإجماع لغة واصطلاحاً فنقول: أمّا لغة فهو بمعنى الاتّفاق، وأمّا في مصطلح الاصوليين فهو اتّفاق مخصوص.

وقد اختلف العامّة في تحديد الإجماع وتعريفه على أقوال: فقال بعضهم أنّه اتّفاق امّة محمّد صلى الله عليه و آله على أمر من الامور الدينيّة، وقال بعض آخر أنّه اتّفاق أهل الحلّ والعقد من امّة محمّد صلى الله عليه و آله وثالث: أنّه اتّفاق المجتهدين من امّة محمّد صلى الله عليه و آله في عصر على أمر، ورابع: أنّه اتّفاق أهل المدينة، وخامس: أنّه اتّفاق أهل الحرمين، بل يظهر من بعضهم أنّه اتّفاق الشيخين أو الخلفاء الأربعة.

وأمّا الشيعة فهو عندهم

على أربعة أنواع: الدخولي (التضمّني) والحدسي والتشرّفي واللطفي، ولكلّ تعريف يخصّه سيأتي عند البحث عن كلّ واحد منها.

1- دليل حجّية الإجكاع عند العامة

وقد استدلّ العامّة على حجّية الإجماع بالأدلّة الثلاثة: الكتاب والسنّة والعقل.

أمّا الكتاب فاستدلّوا منه بآيات عديدة: الأهمّ منها قوله تعالى: «وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً» «1»

(الشقاق بمعنى العداوة).

تقريب دلالتها: أنّ اللَّه تعالى جمع بين مشاقّة الرسول صلى الله عليه و آله واتّباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد، فيلزم أن يكون اتّباع غير سبيل المؤمنين محرّماً مثل مشاقّة الرسول، وإذا حرم اتّباع غير سبيل المؤمنين وجبّ اتّباع سبيلهم إذ لا ثالث لهما، ويلزم من اتّباع سبيلهم أن يكون الإجماع حجّة لأنّ سبيل الإنسان هو ما يختاره من القول أو الفعل أو الاعتقاد.

ولكن الإنصاف أنّ هذه الآية لا ربط لها بمسألة الإجماع في الأحكام الفرعيّة، بل إنّها تنهى انوار الأصول، ج 2، ص: 359

عن معصية الرسول وشقّ عصا المجتمع الإسلامي، وتتكلّم عن مخالفة الرسول والكفر بعد الإيمان وما يترتّب عليه من العذاب الاخروي، فالمقصود من اتّباع غير سبيل المؤمنين في قوله تعالى: «وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ» هو مخالفة الرسول واتّباع الكفر بعد الإيمان، فإنّ سبيل المؤمنين بما هم مجتمعون على الإيمان هو الاجتماع على طاعة الرسول الذي طاعته طاعة اللَّه تعالى.

والشاهد على ذلك امور:

1- ما ورد في شأن نزولها من أنّ قوماً من الأنصار من بني ابيرق اخوة ثلاثة كانوا منافقين: بشير وبشر ومبشّر، فنقبوا على عمّ قتادة بن النعمان، وأخرجوا طعاماً كان أعدّه لعياله وسيفاً ودرعاً، فشكا قتادة ذلك إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وفضح بنو ابيرق، فكفر بشر وارتدّ، ولحق

بالمشركين بدل أن يستغفر اللَّه ويتوب إليه من ذنبه فأنزل اللَّه «ومن يشاقق ..» حيث إن اتّباع بشر غير سبيل المؤمنين إنّما هو ارتداده ولحوقه بالمشركين لا مخالفته لإجماع المسلمين في حكم فرعي.

2- إنّ سبيل المؤمنين في قوله تعالى: «وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ» سبيلهم بما هم مجتمعون على الإيمان، فيكون المعنى، سبيل الإيمان، لأنّ تعليق حكم بوصف مشعر بعلّيته. فالمراد من الآية الخروج من الإيمان إلى الكفر لا المخالفة في المسائل الفرعيّة.

3- أنّ قوله تعالى: «ويتّبع ...» شرط في الجملة، وجزاؤه قوله تعالى: «نولّه ما تولّى» ولا إشكال في أنّ المقصود من الجزاء انّا نأخذه على ما جرى عليه من ولاية الطاغوت فوزانه وزان قوله تعالى في ذيل آية الكرسي: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ» وقوله تعالى: «يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ» «1»

فليكن المقصود من الشرط (اتّباع غير سبيل المؤمنين) أيضاً قبول ولاية الطاغوت.

4- لو لم يكن قوله تعالى: «وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ» عطفاً تفسيريّاً لمشاقّة الرسول، وكان المراد منه مخالفة الإجماع في المسائل الفرعيّة، أي أمراً آخر وراء مشاقّة الرسول صلى الله عليه و آله فلتكن هي وحدها موجبة للدخول في جهنّم كما أنّ مشاقّة الرسول وحدها موجبة له، ولازمه انوار الأصول، ج 2، ص: 360

حينئذٍ العطف ب «أو» مع أنّه عطف بالواو، وهو ظاهر في مطلق الجمع، ولازمه التفسير والتوضيح.

5- قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى» دليل آخر على المقصود، حيث إنّه يدلّ على أنّ الكلام في الضلالة بعد الهداية، فيوجب ظهور قوله: «ويتّبع ...» في كونه تفسيراً لاتّباع الضلالة بعد تبيّن الهداية.

فظهر من مجموع هذه القرائن والشواهد أنّ الآية لا دخل لها بالإجماع في الأحكام الفرعيّة، بل

ناظرة إلى المسائل الاصوليّة (اصول الدين).

وهيهنا آيات اخر استدلّوا بها على حجّية الإجماع أيضاً، منها قوله تعالى: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» «1»

بتقريب أنّ الوسط هو العدل والخير، والعدل أو الخير لا يصدر عنه إلّاالحقّ، والإجماع صادر عن هذه الامّة العدول الخيار فليكن حقّاً.

والجواب عنها واضح، لأنّ المراد من الوسط هو الاعتدال والسلامة من طرفي الإفراط والتفريط، ولا إشكال في أنّ هذه الامّة بالنسبة إلى أهل الكتاب والمشركين على هذا الوصف فإنّ بعضهم وهم المشركون والوثنيّون مالوا إلى تقوية جانب الجسم محضاً لا يريدون إلّا الحياة الدنيا، وبعضهم كالنصارى اهتمّوا بتقوية جانب الروح لا يدعون إلّاالرهبانيّة، لكن اللَّه سبحانه جعل هذه الامّة وسطاً وجعل لهم ديناً يهدي إلى وسط الطرفين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، كما يهدي إلى أنّه لا تعطيل ولا تشبيه ولا جبر ولا تفويض.

ومعنى «شهداء على الناس» أنّ هذه الامّة لكونها وسطاً يمكن لها أن تكون شهيدة على سائر الامم الواقعة في طرفي الإفراط والتفريط، واسوة ومثالًا لهم يقاس ويوزن بها كلّ من الطرفين، كما أنّ النبي صلى الله عليه و آله هو الاسوة والمثال الأكمل لهذا الامّة وميزان يوزن به حال الآحاد من الامّة.

فإذا كان هذا هو معنى الآية فلا ربط لها بمسألة الإجماع في الأحكام الفرعيّة كما هو ظاهر، مضافاً إلى أنّ الامّة عام إفرادي يشمل آحاد الامّة فيكون كلّ واحد من الامّة شاهداً

انوار الأصول، ج 2، ص: 361

وشهيداً، ولازم هذا الاستدلال حينئذٍ أن يكون كلّ فرد من أفراد الامّة معصوماً عن الخطأ، وهو كما ترى.

ولو سلّم كونها عاماً مجموعياً، أي كان النظر إلى الامّة من حيث إنّها امّة فغاية ما تقتضيه الآية

هي إثبات العدالة لها لا العصمة، والذي ينفع في المقام إنّما هو إثبات العصمة لا العدالة لتتمّ كاشفيتها عن الواقع.

ومنها قوله تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ» «1».

بتقريب أنّ اللَّه تعالى وصف الامّة في هذه الآية بأنّها خير الامّة وأنّها تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر، فلا يجوز أن يقع منها الخطأ، لأنّ ذلك يخرجها عن كونها خياراً ويخرجها عن كونها آمرة بالمعروف وناهيّة عن المنكر.

وفيه: أنّه لا ملازمة بين عدم جواز وقوع الخطأ وبين كونهم خياراً، لأنّ الخيار قد يقع منهم الخطأ وإن كانوا معذورين، كما هو الشأن في غير المعصومين من العدول فإنّه يقال: إنّ الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله مثلًا من الخيار أو أنّ أبا ذر رضى الله عنه كان من خيار الامّة مع عدم كونهما معصومين.

ومنها قوله تعالى: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا» «2»

بتقريب أنّ الإجماع حبل اللَّه فيجب الاعتصام به ولا يجوز التفرّق عنه.

وفيه أوّلًا: أنّ الآية تأمر بإيجاد الاتّحاد بين المسلمين، والاتّحاد شي ء وقبول كلّ رأي وعقيدة تعبّداً شي ء آخر، ولا ملازمة بينهما.

ثانياً: دلالة الآية على المدّعى موقوفة على أن يكون الإجماع مصداقاً لمفهوم حبل اللَّه، مع أنّ من الواضح أنّ الحكم لا يثبت موضوعه، بل تدلّ على لزوم الاعتصام بحبل ثبت كونه حبل اللَّه تعالى بدليل آخر.

هذا كلّه من ناحية استدلالهم بالكتاب وقد عرفت أنّها تكلّفات بعيدة وتشبّثات واهيّة.

وأمّا السنّة: فاستدلّوا منها بحديث نبوي نقل بطرق مختلفة على مضامين متفاوتة، فنقل انوار الأصول، ج 2، ص: 362

من طريق عمر وابن مسعود وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك وابن عمر وأبي هريرة

وحذيفة بن اليمان وغيرهم «1».

ففي سنن ابن ماجة «2»: حدّثني أبو خلف الأعمى قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: «إنّ امّتي لا تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم» وفي نقل آخر: «لم يكن اللَّه ليجمع امّتي على الضلالة» وفي ثالث: «سألت اللَّه أن لا يجمع امّتي على الضلالة فأعطانيها» وفي رابع: «لا تزال طائفة من امّتي على الحقّ ظاهرين لا يضرّهم من خالفهم» (وفي تعبير آخر: لا يضرّهم خلاف من خالفهم).

وقد نوقش فيه: تارةً من ناحية السند، واخرى من ناحية الدلالة، أمّا السند فقد ناقش فيه أهل السنّة أنفسهم، منهم بعض شرّاح سنن ابن ماجة فإنّه قال في ذيل هذا الحديث: «وفي إسناده ابو خلف الاعمى واسمه حازم ابن عطاء وهو ضعيف، وقد جاء الحديث بطرق في كلّها نظر».

أمّا الدلالة فلو كان في التعبير الوارد في الحديث كلمة «خطأ» كما هو المعروف في الألسنة أي كان الحديث هكذا: لا تجتمع امّتي على خطأ، فلا إشكال في دلالته لكن لم يرد الحديث بهذا التعبير في الجوامع الموجودة، بل التعبيرات منحصرة فيما نقلناه «3»، وحينئذٍ لقائل أن يقول: إنّ التعبير بالضلالة الموجود فيها ظاهرة في الضلالة في اصول الدين لأنّ هذا هو المتبادر من الضلالة، فلا يثبت بها حجّية الإجماع في الأحكام الفرعيّة، هذا أوّلًا.

وثانياً: سلّمنا الإطلاق وصحّة السند إلّاأنّ متعلّق الضلالة فيها هو لفظ الامّة، فيكون المفاد حينئذٍ أنّ جميع المسلمين لا يجتمعون على باطل (لأنّ الظاهر من الامّة هو تمام الامّة) وهذا لا يفيد إلّامن يقول بأنّ إجماع الامّة حجّة، أمّا سائر الأقوال كإجماع العلماء أو إجماع انوار الأصول، ج 2، ص: 363

أهل الحرمين

أو الصحابة أو أهل المدينة وغيرها من الأقوال، فإنّ هذا الحديث لا يصلح لإثباتها، فالذي يثبت به إنّما هو حجّية إجماع الامّة وهذا ممّا لا بأس بالالتزام به عند الإماميّة أيضاً لاعتقادهم بوجود المعصوم عليه السلام في الامّة في كلّ زمان، فلعلّ جعل الحجّية من ناحية النبي صلى الله عليه و آله لاشتمالها على المعصوم عليه السلام لا من حيث هي هي، ولا يخفى أنّ هذا الجواب يجري حتّى لو كان في متن الحديث كلمة «الخطأ» لا الضلالة.

وعلى كلّ، هذه الرّواية لا تصدق فيما إذا خالفت طائفة من الامّة فتنحصر طبعاً في خصوص الضروريات، وإذن يكون مفادها مقبولًا معقولًا بل يمكن تأييدها بدليل العقل لأنّ الخطأ في ما ثبتت ضرورته من الدين محال عادة.

وأما قوله صلى الله عليه و آله في ذيل النقل الأوّل: «فعليكم بالسواد الأعظم» فقد ورد مثل هذا التعبير في نهج البلاغة في كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال: «والزموا السواد الأعظم فإنّ يد اللَّه مع الجماعة وإيّاكم والفُرقة فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان كما أنّ الشاذّ من الغنم للذئب» «1».

والإنصاف أنّه لا ربط له بمسألة الإجماع في الفروع بل هذا الذيل بقرينة صدره وهو: «لا تجتمع على ضلالة» منصرف إلى الاصول كما مرّ.

كما أنّ ذيل ما نقلناه من كلام أمير المؤمنين عليه السلام وهو: «إيّاكم والفُرقة فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان» شاهد على أنّ المقصود من صدره أيضاً المسائل الاعتقاديّة ولا ربط له بالفروع لأنّه لا إشكال ولا خلاف في أنّه لو خالف بعض الفقهاء بعضاً في بعض الفروع الدينيّة لم يكن فيه محذور وليست هذه الفرقة مذمومة ناشئة من الشيطان، وكم له من نظير في المباحث الفقهيّة.

هذا كلّه

بالنسبة إلى دليل السنّة.

2- دليل حجّية الإجماع عند الأصحاب
اشارة

أمّا الخاصّة فلهم في حجّية الإجماع المحصّل مسالك أربعة:

المسلك الأوّل: الإجماع الدخولي

وهو دخول الإمام عليه السلام في المجمعين والمتّفقين بشخصه، وإن كان لا يعرفه المحصّل للإجماع، فيخبر بالحكم عنه بصورة الإجماع، فملاك حجّيته دخول المعصوم بنفسه في المجمعين، ولذلك قال المحقّق رحمه الله في المعتبر: «فلو خلا المائة من فقهائنا من قوله لما كان حجّة ولو حصل في اثنين كان قولهما حجّة» «1».

ولا إشكال في هذا النوع من الإجماع من ناحية الكبرى، إنّما الكلام في الصغرى لأنّ الإجماعات المنقولة الموجودة في الكتب الفقهيّة ليست من هذا القبيل قطعاً، فإنّ الناقل لم يسمع الحكم من جماعة بحيث يعلم بأنّ الإمام عليه السلام أحدهم قطعاً، نعم هذا المعنى كان ممكناً في عصر حضور الإمام عليه السلام ولكن نقلة الإجماع وأرباب الكتب الفقهيّة متأخّرون عن ذلك العصر يقيناً.

المسلك الثاني: الإجماع اللطفي

وصاحب هذا المسلك هو شيخ الطائفة رحمه الله فإنّه قال فيما حكي عنه: اجتماع الأصحاب على الباطل وعلى خلاف حكم اللَّه الواقعي خلاف اللطف، فيجب لطفاً القاء الخلاف بينهم بإظهار الحقّ ولو لبعضهم، فلو حصل إجماع واتّفاق من الكلّ نستكشف بقاعدة اللطف إنّه حقّ وهو حكم اللَّه الواقعي.

أقول: تنبغي الإشارة إجمالًا إلى قاعدة اللطف التي تفيدنا هنا وفي أبواب العقائد أيضاً فنقول: قال العلّامة رحمه الله في شرح التجريد: «اللطف هو ما يكون المكلّف معه أقرب إلى فعل الطاعة وأبعد من فعل المعصية ولم يكن له حظّ في التمكين (أي القدرة) ولم يبلغ حدّ الإلجاء (أي الإجبار)» «2»، وحاصله أنّ اللطف عبارة عمّا يقرّب العبد نحو الطاعة ويبعّده عن المعصية ما دام لم يسلم العبد لقدرته فقط ولم يجبره أيضاً على الطاعة أو ترك المعصية بل كان هناك مضافاً إلى قدرة العبد على الفعل أو الترك معاونة على الطاعة وترك المعصية،

مع عدم وصولها إلى حدّ الإلجاء والإجبار.

انوار الأصول، ج 2، ص: 365

وقال بعض المحقّقين ممّن قارب عصرنا: أنّ مراد المتكلّمين من قاعدة اللطف هو ما يسمّى عند علماء الحقوق في يومنا هذا بضمانة الإجراء، فإنّهم بعد وضع القوانين يضعون لإجرائها ضامناً من الحبس والجريمة وغيرها ممّا يوجب الحركة نحو امتثال الواجبات والإجتناب عن المحرّمات، فهي بحسب الحقيقة لطف بالنسبة إلى من يكون مكلّفاً بهذه القونين، فكذلك في ما نحن فيه.

ولكن الإنصاف أنّ المراد من اللطف في كلماتهم معنى أوسع من ذلك، لأنّه يشمل أيضاً ما يوجب إيجاد ظروف ثقافيّة وفكريّة لتكميل النفوس القابلة والإرشاد إلى مناهج الصلاح من بعث الرسل وإنزال الكتب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإنذار والتبشير، ولذلك يعدّ من أهمّ أدلّة لزوم بعث الرسل قاعدة اللطف، ولا إشكال في أن الغرض من إنزال الكتب السماويّة وإرسال الرسل الإلهية ليس منحصراً في الإنذار والوعد والوعيد بل يعمّ إيجاد تلك الظروف التربويّة أيضاً.

وكيف كان، لا بدّ من البحث أوّلًا: في كبرى القاعدة وثانياً: في تطبيقها على المقام.

أمّا الكبرى فاستدلّ لها بلزوم نقض الغرض، لأنّ المولى أو المقنّن المشرّع عليه أن يوجد شرائط ومقدّمات إجراء أحكامه وقوانينه، ولو كان الغرض من الجعل إنفاذها في الخارج فهو، وإلّا لنقض غرضه، وهذا كمن يدعو رجلًا إلى داره ويريد إكرامه ومع ذلك لا يهيى ء مقدّماته من إرسال رسالة إليه مثلًا وغيرها من سائر المقدّمات التي يعلم أنّه لولاها لما استجاب دعوته فيعدّ عند العقلاء ناقضاً للغرض، كذلك في المقام فإنّ اللَّه سبحانه وتعالى خلق الإنسان ليوصله إلى الكمال بطاعته وترك معصيته، وهذا يحتاج إلى بعث الرسل وإنزال الكتب والإرشادات المستمرّة وجعل تكاليف كالصلاة والصّوم والحجّ، وإلّا فقد نقض غرضه.

قلنا:

أنّ هذا مقبول تامّ ولكنه بالنسبة إلى الشرائط والمقدّمات التي يوجب عدمها نقض الغرض لا غير.

وبعبارة اخرى: المقدّمات على ثلاثة أقسام: قسم منها يعدّ من شرائط القدرة، ولا إشكال في لزوم حصول هذا القسم.

وقسم آخر منها يوجب حصولها الإجبار في العمل أو الترك، ولا إشكال في منافاته للتكليف لأنّ المفروض كون العبد مختاراً.

انوار الأصول، ج 2، ص: 366

وقسم ثالث ليس لا من هذا ولا من ذاك، وهو بنفسه على قسمين: قسم يرجع إلى العبد، وقسم يرجع إلى المولى، فالأوّل كالتعلّم إمّا اجتهاداً أو تقليداً، ولا ريب في أنّ تحصيل هذا يكون على عهدة العبد، فلو لم يحصّله يعدّ عند العقلاء مقصّراً، وأمّا الثاني فهو أيضاً يكون على قسمين: قسم منه يجب إيجاده من جانب المولى بحيث لو لم يفعله يعدّ مقصّراً وناقضاً لغرضه، وقسم آخر ليس إلى هذا الحدّ فلا يصدق عليه نقض الغرض.

وإن شئت فمثّل لهذين القسمين بالقوانين المجعولة للسياقة وحركة المرور حيث إنّه لا إشكال في أنّها يمكن أن تكون على نوعين: منها ما يكون نظير بسط الشوارع ورسم الخطوط وأخذ الغرامة ونصب العلامات فإنّها من المقدّمات التي لو لم يحقّقها المسؤولون وحصل من هذه الناحية الهرج والمرج كانوا مقصّرين في أداء وظائفهم، ومنها ما ليس على هذا المستوى كنصب مراقب على كلّ سيارة فلا ريب في عدم لزومه عليهم.

كذلك في ما نحن فيه، فإنّ إرسال الرسل وإنزال الكتب وتعيين الثواب والعقاب والحدود والتعزيرات وإيجاد ظروف التعليم والتعلّم يكون من القسم الأوّل، وهي مقتضى قاعدة اللطف، فإنّ اللطف يقتضي إيجاد المقدار اللازم من المقدّمات، وأمّا الأكثر من ذلك فلا يستفاد لزومه من هذه القاعدة.

فتحصّل من جميع ذلك أنّ اللطف الواجب هو ما يعدّ تركه

من المولى الحكيم نقضاً للغرض.

هذا كلّه بالنسبة إلى الكبرى.

أمّا الصغرى وتطبيق القاعدة على المقام فلم يقبلها أكثر الفقهاء لعدم وضوح المصلحة التي اقتضت اختفاء الإمام عليه السلام، فلعلّها هي إمتحان الناس بالغيبة كما امتحن قوم بني إسرائيل بغيبة موسى عليه السلام وذهابه إلى جبل طور في فترة من الزمان، أو أنّها حفظ نفس الإمام عليه السلام كما ورد في بعض الرّوايات، واقتضت الحكمة الإلهيّة حصر عددهم في اثني عشر، أو عدم قابلية الناس وعصيانهم، فلو صلحوا وأطاعوا أوامرهم لظهر الإمام عليه السلام.

وعلى كلّ حال نفس المصلحة التي تقتضي خفاءه وغيبته قد تكون موجودة في اختفاء بعض الأحكام فتقتضي عدم إظهارها على كلّ حال.

وبعبارة اخرى: نفس السبب الذي أوجب غيبة الإمام عليه السلام يشمل بعض الأحكام الفرعيّة التي أجمع العلماء على الخطأ فيها في عصر واحد.

انوار الأصول، ج 2، ص: 367

ولقد أجاد المحقّق الطوسي رحمه الله حيث قال: «وجوده لطف وتصرّفه لطف آخر وعدمه منّاً» «1» يعني أنّ لوجود الإمام عليه السلام ألطافاً عديدة:

أحدها: أصل وجوده الشريف وقوام نظام الكون به، وهذا باقٍ في عصر الغيبة أيضاً فإنّه خزينة أسرار الشرع في كلّ عصر وزمان، والعلّة الغائيّة لخلقة العالم لأنّه من أتمّ مصاديق الإنسان الكامل الذي خلق الكون لأجله، ونور اللَّه الذي يهتدي به المهتدون بولايته على القلوب.

ثانيها: ظهوره وتصرّفه فإنّ حكومته وقيادته لطف آخر، ولكن عدم هذا اللطف وانقطاعه منّا، «فقوله: عدمه منّا» أي عدم تصرّفه لا عدم وجوده، ولا يلازم قطع هذا القسم من اللطف قطع القسم الأوّل منه.

وإن شئت قلت: من شؤون تصرّف الإمام وظهوره أن يمنع العباد عن الخطأ وإذا لم يكن عدم أصل الظهور والتصرّف مخالفاً للّطف على المفروض فليكن عدم ما

هو من شؤونه أيضاً كذلك. هذا أوّلًا.

وثانياً: سلّمنا أنّ مقتضى القاعدة، القاء الخلاف إلّاأنّه لا تحلّ المشكلة ما لم يمنع الأكثر عن الوقوع في الخطأ (على الأقل) لأنّ مجرّد إلقاء الخلاف لبعض شاذّ لا يهدي إلى سبيل، وهذا يستلزم حجّية الشهرة أيضاً مع أنّ المستدلّ لا يلتزم به على الظاهر.

المسلك الثالث: الإجماع التشرّفي

وهو تشرّف الأوحدي من العلماء بمحضر الإمام عليه السلام في زمان الغيبة واستفساره عن بعض المسائل المشكلة، ثمّ إعلانه رأي الإمام عليه السلام بشكل الإجماع لأنّه يعلم أنّ مدّعي الرؤية لا يقبل قوله بل لابدّ من تكذيبه كما في الحديث، فيعلن حكم الإمام بصورة الإجماع ويقول مثلًا: هذا ثابت بالإجماع.

إن قلت: كيف يمكن الجمع بين ما حكي متظافراً أو متواتراً من تحقّق رؤيته عليه السلام لبعض عدول الثقات، وبين ما ورد في بعض الرّوايات من الأمر بتكذيب مدّعى الرؤية.

انوار الأصول، ج 2، ص: 368

قلنا: لا يبعد أن تكون الرّوايات الآمرة بالتكذيب ناظرة إلى من يدّعي نيابة أو رسالة أو حكماً، وأمّا مجرّد دعوى الرؤية بدون ذلك فلا دليل على تكذيبه.

ولكن غاية ما يقتضيه هذا البيان هو إمكان الإجماع التشرّفي ثبوتاً، وأمّا في مقام الإثبات فلم نجد مصداقاً له في ما بأيدينا من الإجماعات المنقولة.

المسلك الرابع: الإجماع الحدسي

وهو كما قال في الفصول: «أن يستكشف عن قول المعصوم عليه السلام أو عن دليل معتبر باتّفاق علمائنا الأعلام الذين كان ديدنهم الانقطاع إلى الأئمّة عليهم السلام في الأحكام، وطريقتهم التحرّز عن القول بالرأي ومستحسنات الأوهام فإنّ اتّفاقهم على قول وتسالمهم عليه مع ما يرى من اختلاف أنظارهم وتباين أفكارهم ممّا يؤدّي بمقتضى العقل والعادة عند أُولي الحدس الصائب والنظر الثاقب إلى العلم بأنّ ذلك قول أئمّتهم ومذهب رؤسائهم وأنّهم إنّما أخذوه منهم إمّا بتنصيص أو بتقرير» «1».

وقال شيخنا العلّامة الحائري رحمه الله في الدرر: «ولا اختصاص لهذه الطريقة باستكشاف قول المعصوم عليه السلام بل قد يستكشف بها عن رأي سائر الرؤساء المتبوعين، مثلًا إذا رأيت تمام خدمة السلطان (الذين لا يُصدرون إلّاعن رأيه) اتّفقوا على إكرام شخص خاصّ يستكشف منه إنّ

هذا إنّما هو من توصيته» «2».

أقول: يمكن تقريب هذا المسلك بثلاثة وجوه:

الوجه الأوّل: ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله في فوائد الاصول وهو أن نقول بوجود الملازمة العادية بين اتّفاق المرؤوسين على أمر ورضا الرئيس إن كان نشأ الاتّفاق عن تواطئهم على ذلك «3» فكما يكشف قول الشافعي من العلماء الشافعيين وقول أبي حنيفة من تلامذته وكذا غيرهم، كذلك يكشف من إجماع علماء الشيعة قول الإمام المعصوم عليه السلام.

ويرد عليه: إنّ هذا ثابت في زمان الحضور ولا يفيدنا اليوم لأنّ كشف قول الرئيس أو

انوار الأصول، ج 2، ص: 369

الإمام أو الاستاذ من أقوال المرؤوسين أو المأمونين أو التلامذة مبني على وجود صلة بين الطرفين، وهي حاصلة في خصوص عصر الحضور.

لكن الحقّ هو وجود هذه الملازمة في زمن الغيبة أيضاً، لأنّ الصلة مع الواسطة حاصلة، ويكفي في ذلك الفترة التي كان ديدنهم في الفتوى على التعبّد بمتون الرّوايات وعلى أساس الكتب المتلقّاة من كلمات المعصومين من دون تفريع واستنباط.

الوجه الثاني: ما حكي عن السيّد محمّد المجاهد صاحب مفاتيح الاصول وهو: أنّ تراكم الظنون من الفتاوى تنتهي بالأخرة إلى القطع، فمن فتوى كلّ واحد منهم يحصل ظنّ ما بحكم اللَّه الواقعي، فإذا كثرت فمن تراكم تلك الظنون يحصل القطع بالحكم الواقعي الصادر عن الإمام عليه السلام كما هو الوجه في حصول القطع من الخبر المتواتر.

أقول: إنّ هذا ممكن في نفسه ولكن لا يندرج تحت ضابط كلّي، إذ يختلف ذلك باختلاف مراتب الظنون والموارد والأشخاص، فقد يحصل القطع من تراكم الظنون لشخص ولا يحصل لآخر، إذن فيمكن قبول الصغرى والكبرى في الجملة لا بالجملة.

الوجه الثالث: ما مرّ بيانه من صاحب الفصول، ونقول توضيحاً لذلك: أنّ اتّفاق العلماء كاشف

على وجود دليل معتبر عندهم، لكن هذا إذا لم يكن في مورد الإجماع أصل أو قاعدة أو دليل على وفق ما اتّفقوا عليه، فإنّه مع وجود ذلك يحتمل أن يكون مستند الإجماع أحد هذه الامور، فلا يكشف اتّفاقهم عن وجود دليل آخر وراء ذلك.

كما إذا اتّفقوا على أنّ حدّ الكرّ في باب المياه ثلاثة أشبار ونصف في ثلاثة أشبار، والمفروض في هذا الفرع عدم وجود أصل أو قاعدة عقليّة أو دليل معتبر نقلي يدلّ على ذلك، فإنّ هذا الاتّفاق يكشف عن وجود دليل آخر معتبر عند الكلّ، سيّما إذا لاحظنا ديدن قدماء أصحابنا فإنّه كان على التعبّد بالرجوع إلى الإخبار والإفتاء على وفق متون الرّوايات حتّى كانوا معرضين عن النقل بالمعنى إلّابمقدار ثبت جوازه في نقل الرّواية.

ويشهد على هذا ما ورد في مقدّمة كتاب المبسوط «1» لشيخ الطائفة رحمه الله الذي كانت لسيّدنا الاستاذ البروجردي رحمه الله عناية خاصّة بها وكان يقول: إنّ هذه المقدّمة تمثّل لنا الجوّ الفكري انوار الأصول، ج 2، ص: 370

والاجتماعي الموجود في عصر الشيخ الطوسي رحمه الله، وإليك نصّها: «أمّا بعد فإنّي لا أزال أسمع معاشر مخالفينا من المتفقّهة والمنتسبين إلى علم الفروع يستحقرون فقه أصحابنا الإماميّة ويستنزرونه وينسبونهم إلى قلّة الفروع وقلّة المسائل، ويقولون: إنّهم حشو ومناقضة، وإنّ من ينفي القياس والاجتهاد لا طريق له إلى كثرة المسائل ولا التفريع على الاصول، لأنّ جلّ ذلك وجمهوره مأخوذ من هذين الطريقين، وهذا جهل منهم بمذاهبنا وقلّة تأمّل لُاصولنا، ولو نظروا في أخبارنا لعلموا أنّ جلّ ما ذكروه من المسائل موجود في أخبارنا ومنصوص عليه تلويحاً من أئمّتنا ... (إلى أن قال): وكنت على قديم الوقت وحديثه مشوق النفس إلى عمل كتاب

يشتمل على ذلك (التفريعات) تتشوّق نفسي إليه فيقطعني عن ذلك القواطع وتشغلني الشواغل وتضعف نيّتي أيضاً فيه قلّة رغبة هذه الطائفة فيه وترك عنايتهم به لأنّهم ألفوا الأخبار وما رووه من صريح الألفاظ حتّى أنّ مسألة لو غيّر لفظها وعبّر عن معناها بغير اللفظ المعتاد لهم لعجبوا منها وقصر فهمهم عنها، وكنت عملت على قديم الوقت كتاب النهاية وذكرت جميع ما رواه أصحابنا في مصنّفاتهم واصولها من المسائل وفرّقوه في كتبهم، ورتّبته ترتيب الفقه وجمعت من النظائر، ورتّبت فيه الكتب على ما رتّبت للعلّة التي بيّناها هناك ولم أتعرّض للتفريع على المسائل ولا لتعقيد الأبواب وترتيب المسائل وتعليقها والجمع بين نظائرها بل أوردت جميع ذلك أو أكثره بالألفاظ المنقولة حتّى لا يستوحشوا من ذلك» «1» (انتهى).

فالمستفاد من هذه العبارات وصريحها أنّ المقبول من التأليفات في ذلك العصر وما تقدّمه إنّما هو ما كان مأخوذاً من متون الرّوايات وصريح ألفاظها، فإذا اتّفق علماء ذلك الزمان على مسألة فالإنصاف أنّه يمكن الحدس القطعي من ذلك عن وجود دليل معتبر سنداً ودلالة (أمّا من ناحية السند فلو فرض ضعفه لجبر بعملهم، وأمّا من ناحية الدلالة فلأنّه لو كان له من هذه الناحية خفاء لخالف بعضهم على الأقل) أو يكشف ذلك عن أخذ هذا الحكم عن المعصوم عليه السلام جيلًا بعد جيل وإن لم يذكر في رواياتهم.

فقد ظهر ممّا ذكرناه أوّلًا: أنّ ثلاثة من الأقسام الأربعة للإجماع تامّة كبرى، وهي الإجماع انوار الأصول، ج 2، ص: 371

الدخولي والحدسي والتشرفي، وأمّا الإجماع اللطفي فلا يتمّ من ناحية الكبرى فضلًا عن الصغرى، وأنّ قسمين من هذه الثلاثة وهما: الدخولي والتشرّفي ليس لهما صغرى معروفة، فالذي يكون تاماً صغرى وكبرى هو الإجماع الحدسي،

وهو المقصود من الإجماعات المنقولة في الكتب الفقهيّة بين المتأخّرين.

ثانياً: لابدّ في كشف مراد ناقل الإجماع من ملاحظة التعبير الذي ذكره، فلو قال مثلًا:

«مخالفة فلان لا تضرّ بالإجماع لأنّه معلوم النسب» فنعلم أنّ مبناه على الإجماع الدخولي، وإذا قال مثلًا: «مخالفة الفلان لا تضرّ لانقراض عصره حين الإجماع» أو قال: «إنعقد الإجماع قبله وبعده» فنعلم أنّ مبناه على الإجماع اللطفي لاعتبارهم اتّفاق أهل عصر واحد على حكم، وإن قال: «لا أصل ولا قاعدة في هذه المسألة» «1» فنستكشف كون المبنى على الحدس، نعم لا يوجد تعبير يناسب الإجماع التشرّفي في الكلمات.

ثالثاً: أنّه لا يعدّ الإجماع دليلًا مستقلًا في مقابل الأدلّة الثلاثة الاخرى بناءً على مذاق الإماميّة.

هذا تمام الكلام في الأمر الأوّل من الامور التي نذكرها بعنوان المقدّمة للبحث عن الإجماع المنقول.

الأمر الثاني: حجّية الخبر المنقول ...

إنّ حجّية الإجماع المنقول مبنية على دخوله تحت مصاديق خبر الواحد فلا بدّ من توفّر شرائط حجّية خبر الواحد فيه، وهي ثلاثة:

أحدها: أن يكون الخبر عن حسّ فلا تشتمل أدلّة حجّية خبر الواحد الخبر الصادر عن الحدس (كما إذا قال مثلًا: يستنبط من قرائن عقليّة أنّ الإمام عليه السلام قال كذا وكذا) إمّا لأنّ سيرة العقلاء التي هي عمدة دليل الحجّية لم تقم إلّاعلى قبول خبر الثقة فيما إذا كان إخباره عن حسّ وسائر الأدلّة تقرير وإمضاء لتلك السيرة، وإمّا من جهة أنّ أدلّة حجّية خبر العادل والثقة تنفي انوار الأصول، ج 2، ص: 372

احتمال تعمّد الكذب، فبضميمة أصالة عدم الخطأ والغفلة في المحسوسات أو ما يكون قريباً من الحسّ (لقلّة الخطأ والغفلة فيها) يتمّ المطلوب، أي حجّيته ووجوب تصديقه ولزوم العمل على طبق قوله، وأمّا في الحدسيات فلكثرة الخطأ والغفلة فيها، فلا تجري أصالة

عدم الخطأ والغفلة عند العقلاء، فلا تشملها أدلّة حجّية خبر الواحد، ولا شكّ أنّ ناقل الإجماع لا ينقل الحكم عن الإمام عليه السلام عن حسّ خصوصاً في زمن الغيبة.

الثاني: كون الإخبار عن المعصوم عليه السلام في الأحكام الشرعيّة لا في الموضوعات الخارجيّة، بل يعتبر في الموضوعات التعدّد والعدالة (ولا يكفي الوحدة والوثاقة) وهذا هو المشهور، ولكن المختار عدم اعتبار هذا الشرط كما سيأتي.

الثالث: أن لا يكون الخبر من الامور الغريبة والمستبعدة، فلو كان أمراً غريباً فقد لا يكفي فيه خبر الواحد بل لابدّ من استفاضته.

وهنا شرط رابع، وهو أن لا يكون الخبر عن مسائل مهمّة كاصول الفقه، لأنّ سيرة العقلاء لم تثبت في المسائل المهمّة التي تترتّب عليها آلاف المسائل، ولذلك قد يقال: إنّ خبر الواحد ليس بحجّة في الاصول، والمراد من الاصول هنا هو اصول الفقه لا اصول الدين كما زعمه بعض.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّه إذا شككنا في نقل المسبّب أو السبب هل هو مستند إلى الحسّ حتّى تشمله أدلّة حجّية خبر الواحد، أو إلى الحدس حتّى لا تشمله الأدلّة، فما هو مقتضى القاعدة؟

قال المحقّق الخراساني رحمه الله: لا يبعد أن يقال بشمول أدلّة حجّية الواحد لهذه الصورة أيضاً، لأنّ عمدة أدلّة الحجّية هو بناء العقلاء، وهم كما يعملون بخبر الثقة إذا علم أنّه عن حسّ يعملون به أيضاً فيما يحتمل كونه عن حدس، فليس بناؤهم فيما إذا أخبر بشي ء التوقّف والتفتيش في أنّه هل يكون عن حدس أو عن حسّ بل يعملون على طبقه بدون ذلك.

أقول: كلامه هذا صحيح بالنسبة إلى الموارد التي كانت طبيعة الإخبار عنها مبنية على الحسّ، وأمّا الموارد التي يخبر فيها كثيراً عن حدس فقد يقال بعدم ثبوت بنائهم

على الحجّية في مورد الشكّ.

انوار الأصول، ج 2، ص: 373

ولهذا قال المحقّق الخراساني رحمه الله بعد هذا الكلام: «لكن الإجماعات المنقولة في ألسنة الأصحاب غالباً مبنية على حدس الناقل أو على اعتقاد الملازمة عقلًا لقاعدة اللطف فلا اعتبار لها ما لم ينكشف أنّ نقل السبب كان مستنداً إلى الحسّ».

الأمر الثالث: في تقويم الإجماعات المنقولة من جانب كيفية النقل والإخبار
اشارة

المنقول في حكاية الإجماع تارةً يكون هو المسبّب وهو قول الإمام عليه السلام كما إذا قال: «أجمع المسلمون عامّة» أو «المؤمنون كافّة» أو «امّة محمّد» أو نحو ذلك إذا كان ظاهره إرادة الإمام عليه السلام معهم، ويسمّى حينئذٍ بنقل المسبّب أو بنقل السبب والمسبّب معاً، واخرى السبب، أي قول من سوى الإمام الكاشف عن قوله كما إذا قال: أجمع علمائنا أو أصحابنا أو فقهائنا أو نحو ذلك ممّا ظاهره من سوى الإمام عليه السلام ويسمّى بنقل السبب فقط.

ويستفاد كون المنقول سبباً أو مسبّباً من طريقين:

أحدهما: المسلك الذي اختاره الناقل والمدرك الذي اعتمد عليه، فإن كان مسلكه الإجماع الدخولي أو التشرّفي وكان مدرك نقله هو الحسّ والسماع من الإمام بنفسه ولو ضمن اشخاص يعلم إجمالًا أنّ الإمام عليه السلام أحدهم ولا يعرفه بشخصه كان المنقول حينئذٍ المسبّب أو السبب والمسبّب جميعاً، وإن كان مبناه الإجماع الحدسي أو اللطفي، أي كان مدرك نقله هو الحدس المقابل للحسّ كان المنقول هو السبب لا محالة.

ثانيهما: اختلاف ألفاظ النقل من حيث الصراحة والظهور والإجمال في أنّه نقل للسبب، أي نقل قول من عدى الإمام عليه السلام، أو أنّه نقل للسبب والمسبّب جميعاً.

إذا عرفت هذا فلنرجع إلى أصل المسألة، وهو حجّية الإجماع المنقول، فأي قسم من أقسام نقل الإجماع حجّة شرعاً بأدلّة حجّية خبر الواحد نظراً إلى كونه من أفراده ومصاديقه وأي قسم

منها لا يكون حجّة شرعاً لعدم كونه كذلك؟

فنقول: إذا كان المنقول السبب والمسبّب جميعاً عن حسّ كما إذا حصّل السبب وهو قول من عدى الإمام عليه السلام، وهكذا المسبّب وهو قول الإمام عليه السلام بالسمع من المنقول عنه شخصاً كأن يقول: أجمع المسلمون أو المؤمنون أو أهل الحقّ قاطبة- إن قلنا أنّ ظاهره إرادة الإمام عليه السلام انوار الأصول، ج 2، ص: 374

معهم- فهذا القسم حجّة قطعاً نظراً إلى كونه من أفراد خبر الواحد ومن مصاديقه، إذ لا فرق في الأخبار عن قول الإمام عليه السلام بين أن يكون إخباراً عنه بالمطابقة أو التضمّن، غايته أنّه في الأوّل سمع من شخص الإمام عليه السلام وهو يعرفه فيقول: سمعته يقول كذا وكذا، وفي الثاني سمع عن جماعة يعلم إجمالًا أنّ الإمام أحدهم.

ولكن اعتبار هذا القسم بالنسبة إلى زمان الغيبة موهون جدّاً، فلا نجد له مصداقاً، لأنّ الإجماع المنقول عن حسّ في هذا الزمان إنّما هو الإجماع التشرّفي أو الدخولي، وهما غير تامّين من ناحية الصغرى كما مرّ، فالحجّة غير الموجود، والموجود غير الحجّة.

وإذا كان المنقول السبب والمسبّب جميعاً ولكن المسبّب وهو قول الإمام عليه السلام ليس عن حسّ بل بملازمة ثابتة عند الناقل والمنقول إليه جميعاً كما إذا حصّل مثلًا أقوال العلماء من الأوّل إلى الآخر عن حسّ وقطع برأي الإمام عليه السلام للملازمة العادية بينهما فقال: أجمع المسلمون أو المؤمنون أو نحو ذلك ممّا ظاهره إرادة الإمام عليه السلام معهم وكان المنقول إليه يعتقد بهذه الملازمة، فهذا القسم أيضاً حجّة لأنّ الإخبار عن الشي ء (ولو لم يكن عن حسّ) إذا كان مستنداً إلى أمر محسوس لو أحسّه المنقول إليه لحصل له القطع أيضاً بالمخبر به، فهو

حجّة بلا كلام كالإخبار عن حسّ عيناً.

وهكذا إذا كان المنقول هو المسبّب فقط وكان نقله عن حسّ، والسبب تامّ في نظر الناقل والمنقول إليه جميعاً كما إذا نقل اتّفاق جميع الفقهاء عن حسّ، والمنقول إليه أيضاً يرى أنّ لازمه العادي هو قول الإمام عليه السلام، فيكون هذا القسم أيضاً حجّة لأنّ المخبر في هذا القسم وإن لم يخبر إلّا عن السبب فقط ولكن السبب حيث كان بنظر المنقول إليه تامّاً ملازماً لقول الإمام عليه السلام عادةً فهو مخبر عن قوله بالالتزام، ومن المعلوم أنّه لا فرق في نقل قول الإمام عليه السلام بين أن يكون بالمطابقة كما في الرّوايات المصطلحة، أو بالتضمّن كما في القسمين السابقين، أو بالالتزام كما في المقام، فالكلّ إخبار عن قوله وحكاية لرأيه فتشمله أدلّة حجّية الخبر.

نعم، إذا كان المنقول السبب والمسبّب جميعاً ولم يكن المسبّب وهو قول الإمام عليه السلام عن حسّ، بل بملازمة ثابتة عند الناقل دون المنقول إليه، فليس هذا بحجّة، لأنّ المتيقّن من بناء العقلاء هو الرجوع إلى خبر الثقة في المحسوسات أو الحدسيّات القريبة بالحسّ، أي الحدسيّات المستندة إلى امور لو أحسّوها بأنفسهم لقطعوا بالمخبر به مثل قطع الناقل.

انوار الأصول، ج 2، ص: 375

وكذلك إذا كان المنقول السبب فقط وكان عن حسّ ولكن السبب لا يكون تامّاً بنظر المنقول إليه، كما إذا نقل أقوال علماء عصر واحد عن حسّ ولكن المنقول إليه لا يراه سبباً لكشف قول المعصوم لعدم تماميّة قاعدة اللطف عنده، أو كان المنقول السبب فقط لكن كان نقله عن حدس، كما إذا تتبّع أقوال جمع من مشاهير الأصحاب فحصل له الحدس باتّفاق الكلّ وادّعى الإجماع في المسألة، فليس الإجماع في هاتين الصورتين بحجّة بل

على المنقول إليه في الصورة الاولى أن يضيف إلى المنقول ما يتمّ به السبب في نظره بأن يحصّل أقوال سائر الفقهاء لبقيّة الأعصار ويرتّب على المجمع لازمه العادي، وهو قول الإمام عليه السلام، وفي الصورة الثانية أن يأخذ بالمتيقّن من ذلك الحدس، وهو اتّفاق المشاهير مثلًا ويضيف إليه أقوال سائر العلماء ليتمّ به السبب ويحكم بثبوت اللازم وهو قول الإمام عليه السلام.

إن قلت: إنّ نقل السبب والقول بأنّ الشيخ الطوسي رحمه الله مثلًا قال كذا وكذا يكون من الموضوعات لا من الأحكام، فلا بدّ من توفّر شروط الشهادة فيه من التعدّد والعدالة.

قلنا: ليس هذا من الموضوعات المجرّدة، بل من الموضوعات التي يستفاد منها الحكم الإلهي، لأنّها تجعل مقدّمة لفهم قول المعصوم عليه السلام ولا تقبل بما هي هي أي لا يقبل كلام الشيخ الطوسي رحمه الله بما أنّه كلامه بل بما أنّه جزء السبب لاستفادة رأي الإمام عليه السلام، ومن هنا يكون الخبر حجّة في تعيين حال السائل من أنّه ثقة أو ممدوح أو ضعيف، وفي خصوصيّة القضيّة التي وقعت مسؤولة عنها ونحو ذلك ممّا له دخل في ثبوت كلام الإمام عليه السلام أو في تعيين مرامه بعد ثبوت أصل كلامه، وبعبارة اخرى: لا فرق في اعتبار الخبر بين ما إذا كان المخبر به تمام السبب أو ما له دخل في السبب.

بقي هنا امور ثلاثة:

الأمر الأول: الإجماع القاعدة

وهو مهمّ في المقام وإن لم يتكلّم المحقّق الخراساني رحمه الله عنه بشي ء، ولكن شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله بحثه وأدّى حقّه.

إنّ ممّا يوجب قلّة الاعتماد بالنسبة إلى الإجماعات المنقولة عن قدماء الأصحاب سواء من ناحية السبب أو المسبّب اكتفاؤهم في دعوى الإجماع في مسألة خاصّة بوجود الإجماع على انوار

الأصول، ج 2، ص: 376

قاعدة أو أصل أو عموم أو إطلاق أو غير ذلك ممّا يؤدّي إلى هذا الحكم في نظرهم.

ومن ذلك الإجماعات المتعارضة من شخص واحد أو من معاصرين أو متقاربي العصر، ومن ذلك أيضاً رجوع المدّعى للإجماع عن الفتوى التي ادّعى الإجماع فيها، وكذلك دعوى الإجماع في مسائل غير معنونة في كلام من تقدّم على المدّعى، أو في مسائل قد اشتهر خلافها بعد المدّعي بل في زمانه بل قبله، فكلّ ذلك مبني على هذا الوجه من الاستناد في نسبة القول إلى العلماء.

وقد ذكر الشيخ الأنصاري رحمه الله لهذا القسم من الإجماعات موارد كثيرة نذكر ثلاثة منها أوضح من غيرها:

أحدها: ما وجّه به المحقّق رحمه الله دعوى السيّد المرتضى رحمه الله: «إنّ مذهبنا جواز إزالة النجاسة بغير الماء من المايعات» (أي المايعات المضافة) فقال: إنّه إنّما أضاف ذلك إلى مذهبنا لأنّ من أصلنا العمل بالأصل ما لم يثبت الناقل وليس في الشرع ما يمنع الإزالة بغير الماء من المايعات، ثمّ قال: وأمّا المفيد رحمه الله فإنّه ادّعى في مسائل الخلاف إنّ ذلك مروي عن الأئمّة (إشارة إلى قوله عليه السلام: كلّ شي ء مطلق حتّى يرد فيه نهي).

فظهر أنّ نسبة السيّد قدس سره الحكم المذكور إلى مذهبنا من جهة الاتّفاق على الأصل مع أنّ تطبيقه على هذا المورد خطأ لأنّه أوّلًا: أنّ المورد من موارد استصحاب النجاسة لا الرجوع إلى البراءة، وثانياً: أنّه من الموارد التي يوجد فيها الدليل الاجتهادي، وهو في المقام ظاهر قوله عليه السلام «اغسل» في روايات كثيرة، فإنّ ظاهره وجوب الغسل بالماء المطلق فلا تصل النوبة إلى الأصل العملي.

ثانيهما: ما عن المفيد رحمه الله في فصوله حيث إنّه سئل عن الدليل على

أنّ المطلّقة ثلاثاً في مجلس واحد يقع منها واحدة، فأجاب بموافقته لقوله تعالى: «الطلاق مرّتان» «1»

، ثمّ استدلّ بالإجماع نظراً إلى أنّهم مطبقون على أنّ ما خالف الكتاب فهو باطل، فحصل الإجماع على إبطاله.

فقد ادّعى ثبوت إجماع الامّة على المسألة لأنّ الكبرى المنطبقة عليها مجمع عليها الامّة.

ثالثها: ما ادّعاه ابن إدريس الحلّي رحمه الله من الإجماع على وجوب فطرة الزوجة ولو كانت انوار الأصول، ج 2، ص: 377

ناشزة على الزوج، وردّه المحقّق رحمه الله بأنّ أحداً من علماء الإسلام لم يذهب إلى ذلك، فإنّ الظاهر أنّ الحلّي إنّما اعتمد في استكشاف أقوال العلماء على تدوينهم للروايات الدالّة بإطلاقها على وجوب فطرة الزوجة على الزوج متخيّلًا أنّ الحكم معلّق على الزوجة من حيث هي زوجة، ولم يتفطّن لكون الحكم من حيث العيلولة أو وجوب الإنفاق.

فنستنتج ممّا ذكرناه عدم إمكان الاعتماد على الإجماعات المنقولة في كلمات القدماء وسقوطها عن الحجّية، وبعكس الإجماعات المنقولة في كلمات المتأخّرين كصاحب الجواهر وصاحب الحدائق وصاحب مفتاح الكرامة فإنّها ليست من قبيل الإجماع على القاعدة بل ناظرة إلى حكاية أقوال العلماء في خصوص المسألة المبحوث عنها.

الأمر الثاني: في لزوم ملاحظة الفاظ الإجماعات

لابدّ في الإجماعات المنقولة من ملاحظة مقدار دلالة ألفاظها، فإنّ دلالة ألفاظ الإجماع تختلف في القوّة والضعف، فقد يقال: «أجمع الأصحاب» وقد يقال: «لا خلاف بينهم» وقد يقال «لم نعرف مخالفاً» وهكذا.

ولابدّ أيضاً من ملاحظة حال الناقل فإنّه قد يكون في أعلى درجة التتبّع، وقد يكون دون ذلك، وقد يكون ضعيفاً في تتبّعه، وكذلك لابدّ من ملاحظة حال المسألة التي نقل فيها الإجماع فإنّها قد تكون مشهورة معروفة عند الأصحاب مدوّنة في كتبهم تصل إليها الأيدي غالباً، وقد تكون دون ذلك، وقد تكون في غاية الخفاء ليس

لها مكان مضبوط وإنّما عنونها الأصحاب في مواضع مختلفة لا تصل إليها إلّايد الأوحدي من الأعلام، فإذا استفيد من مجموع ذلك أنّ السبب المنقول هو سبب تامّ فهو، وإلّا فلا بدّ من الأخذ بالمتيقّن وضمّ سائر الأقوال إليه ليكون سبباً تامّاً تترتّب عليه الثمرة والنتيجة.

الأمر الثالث: في التواتر المنقول بخبر الواحد
اشارة

إذا قيل: تواترت الأخبار على كذا، فهل يمكن التمسّك بأدلّة حجّية خبر الواحد لإثبات انوار الأصول، ج 2، ص: 378

حجّية مثل هذا التواتر؟ وهل يجري فيه القياس المتقدّم في الإجماع المنقول المتشكّل من صغرى وكبرى؟

لابدّ لتحقيق المسألة من الرجوع إلى ماهيّة الخبر المتواتر وأنّه ما هو؟ وقد ذكر له تعريفان:

أحدهما: «أنّه خبر جماعة يفيد بنفسه العلم»

وإستشكل عليه بأنّه لا يوجد خبر يفيد بنفسه العلم بل يدخل في حصول العلم امور أربعة: نوع الخبر (المخبر به)، حال المخبرين، حالة المخبر له وكيفية الإخبار (مثل كون الخبر مكتوباً في كتاب مطبوع أو مخطوط معتبر وعدمه) وإلّا لابدّ من اعتبار عدد خاصّ في التواتر مع أنّه ممّا لم يقل به أحد.

ولذلك ذكر بعض من ذهب إلى هذا التعريف هذا القيد فيه: «إلّا القرائن الملازمة للخبر» ومراده منها هذه الامور الأربعة، فيكون المراد من القرائن الخارجيّة حينئذٍ شيئاً غيرها، كاعتضاد مضمون الخبر بخبر ظنّي آخر أو دليل عقلي كذلك.

ثانيهما: «أنّه خبر جماعة يؤمن تواطؤهم على الكذب عادةً»

وقد اورد على هذا التعريف أيضاً أوّلًا: بأنّه لا ينفي احتمال الخطأ فلا بدّ تقييد ذيله بهذا القيد: «ويحصل من قولهم العلم».

وثانياً: بأنّه ما المراد من التواطؤ؟ فإن كان المقصود منه التوافق على أمر فلا وجه لاعتباره لإمكان كذب كلّ واحد من المخبرين على حدة ومستقلًا بدواع شتّى أو كانوا بداعٍ واحدٍ على نشر اكذوبة خاصّة من غير التواطؤ.

فالصحيح في التعريف أن يقال: «إنّه خبر جماعة كثيرة يؤمن اجتماعهم على الكذب والخطأ عادةً» والتقييد بقيد «كثيرة» لازم لأنّه لو حصل القطع مثلًا من اجتماع ثلاثة أفراد على خبر لا يقال أنّه متواتر في مصطلحهم بل إنّه خبر واحد محفوف بقرائن قطعية أو مستفيض.

وإذا كان هذا هو معنى الخبر المتواتر فإنّه يختلف بحسب الأشخاص، فيمكن أن يكون خبر متواتراً عند شخص وغير متواتر عند شخص آخر.

وعليه بمتا أنّ التواتر المنقول من حيث المسبّب لا يكون مشمولًا لأدلّة حجّية خبر الواحد

انوار الأصول، ج 2، ص: 379

لأنّ المسبّب وهو قول الإمام عليه السلام لا يكون عن حسّ ولا شبيهاً بالحسّ فلا بدّ وأن يكون نقل التواتر إخباراً نقطع منه

بقول الإمام.

وأمّا من ناحية السبب فإنّه وإن كان عن حسّ، أي أنّ الشيخ الطوسي رحمه الله مثلًا إذا قال:

«تواترت عليه الأخبار» يحصل العلم بمشاهدته عدداً من الأخبار، لكن حيث إنّه مردّد عند المنقول إليه بين الأقل والأكثر يأخذ بالقدر المتيقّن، ويلاحظ ما أشرنا إليه سابقاً من الامور التي لها دخل في حصول التواتر وعدمه من ألفاظ النقل من حيث القوّة والضعف وحال الناقل من حيث الضبط والدقّة أو المسامحة والمبالغة، وحال الأمر المتواتر (أي المخبر به) من حيث شيوع الأخبار به لسهولة الإطّلاع عليه أو ندرة الإخبار به لصعوبة الإطّلاع عليه أو لغير ذلك من الخصوصيّات والجهات، فإن كان مجموع ذلك كافياً عند المنقول إليه في إثبات التواتر فهو نقل للسبب التامّ ويثبت به المسبّب، وإلّا فلا بدّ من إلحاق مقدار آخر من إخبار المخبرين ليكمل به السبب ويثبت به المسبّب، لأنّه ليس حينئذٍ على حدّ خبر واحد مسند أيضاً، لعدم وجود الإسناد فيه، فليس داخلًا لا في باب الخبر المتواتر ولا في باب خبر الواحد، بل يعدّ حينئذٍ بحكم الخبر المتظافر.

انوار الأصول، ج 2، ص: 381

3- حجّية الشهرة الظنّية
اشارة

والمراد منها الشهرة الفتوائيّة، فإنّ الشهرة الروائيّة والعمليّة أجنبيتان عن مقامنا، لأنّ الاولى عبارة عن اشتهار الرّواية بين أرباب الحديث ونقلها في كتبهم وهي من المرجّحات عند تعارض الخبرين، والثانية عبارة عن عمل المشهور بالرواية، أي فتواهم مستنداً إلى تلك الرّواية، فتكون جابرة لضعفها إذا كانت عند القدماء، كما أنّ اعراضهم عن العمل بها يكون كاسراً لقوّتها كما سوف يأتي في محلّه.

وأمّا الشهرة الفتوائيّة فهي عبارة عن فتوى المشهور بحكم بحيث يعدّ قول المخالف شاذّاً سواء وجدت في البين رواية أو لم توجد، وسواء كانوا متّفقين في المدرك أو

مختلفين.

والنسبة بينها وبين الإجماع الحدسي هي العموم من وجه، موضع اشتراكهما ما إذا حدس بالشهرة قول المعصوم عليه السلام فإنّه يصدق حينئذٍ الإجماع الحدسي أيضاً لوجود ملاكه، وهو الحدس من كلام جمع من الفقهاء بقول الإمام عليه السلام، وموضع افتراق الإجماع الحدسي عن الشهرة ما إذا وصل الإجماع إلى اتّفاق الكلّ، وعكسه الشهرة التي حصل منها مجرّد الظنّ.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه اختلف في حجّية الشهرة الفتوائيّة على أقوال: فقال بعض بحجّيتها مطلقاً سواء كانت شهرة القدماء أو المتأخّرين، وقال بعض بعدمها مطلقاً، وفصّل ثالث بين الموردين، وقال بحجّية شهرة القدماء فقط.

واستدلّ القائلون بالحجّية مطلقاً بامور:

الأمر الأول: أنّ الظنّ الحاصل من الشهرة الفتوائيّة بالحكم أقوى من الظنّ الحاصل من خبر الواحد فتكون حجّة بطريق أولى.

ويجاب عنه:

أوّلًا: بأنّه قياس مع الفارق، لأنّ الظنّ الحاصل من خبر الواحد ينشأ عن الحسّ وفي الشهرة عن الحدس.

انوار الأصول، ج 2، ص: 382

ثانياً: أنّ هذا يتمّ لو كان مناط حجّية خبر الواحد هو حصول الظنّ منه بالحكم الشرعي، وحينئذٍ لا خصوصيّة للظنّ الحاصل من الشهرة بل إنّه يدلّ على حجّية كلّ ظنّ كان في مرتبة ذلك أو أقوى منه، وأمّا لو كان مناط حجّيته مجهولًا فلا يتمّ ذلك.

إن قلت: هذا إذا كان دليل حجّية خبر الواحد من الأدلّة النقلية فحينئذٍ وإن علمنا إجمالًا أنّ الشارع جعل حجّية الظنّ لكاشفيته وإماريته على الواقع لكن لا نعلم كونها تمام الملاك، فلا يقاس بخبر الواحد غيره، وأمّا إذا قلنا أنّ دليل الحجّية هو بناء العقلاء فلا ريب أنّ الملاك كلّ الملاك عندهم هو الكشف الظنّي عن الواقع والمفروض أنّ هذا الكشف موجود في الشهرة بدرجة أقوى.

قلنا: أوّلًا: يمكن أن يكون شي ء حجّة عند العقلاء

بملاك ولكن الشارع أمضى بنائهم بملاك آخر، كما أنّ الكعبة مثلًا كانت في عصر الجاهلية محترمة عند الناس لأنّها مكان أصنامهم، والشارع أيضاً عدّها محترمة بملاك آخر قطعاً، وكذلك الصفا والمروة فإنّهما كانا محترمين عندهم لأنّهما مكان نصب صنمين معروفين من أصنامهم: أساف ونائلة، ولكن الإسلام جعلهما من شعائر اللَّه بملاك آخر قطعاً، ولعلّ ما نحن فيه كذلك، فكان خبر الواحد حجّة عند العقلاء بملاك وعند الشارع بملاك آخر، كما يشهد له حكم الشارع في الخبرين المتعارضين المتساويين بالتخيير مع أنّهما يتساقطان في الحجّية والاعتبار عندهم، وعلى كلّ حال لا ملازمة بين إمضاء النتيجة وإمضاء الملاك.

ثانياً: نحن لا نقبل كون ملاك الحجّية عند العقلاء أيضاً حصول مطلق الظنّ من خبر الواحد، بل الحجّية عندهم ظنّ خاصّ حاصل من منشأ خاصّ، ولذلك لا يُعتنى عندهم بظنّ القاضي ولو كان أقوى من الظنّ الحاصل من شهادة الشهود.

الأمر الثاني: ما ورد في مقبولة ومشهورة:

أمّا الاولى: ما ورد في مقبولة: فهي ما رواه عمر بن حنظلة قال سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما ... (إلى أن قال): فإن كان كلّ واحد اختار رجلًا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما واختلف فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم (حديثنا) فقال: «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر»، قال فقلت: فإنّهما عدلان مرضيّان عند

انوار الأصول، ج 2، ص: 383

أصحابنا لا يفضل (ليس بتفاضل) واحد منهما على صاحبه، قال: فقال: «ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ

الذي ليس بمشهور عند أصحابك فانّ المجمع عليه لا ريب فيه» «1».

وتقريب الاستدلال بها: أنّ المجمع عليه في الموضعين منها هو المشهور بقرينة إطلاق المشهور عليه في قوله عليه السلام بعد ذلك: «ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور» بل وفي قول الراوي أيضاً: «فإن كان الخبران عنكم مشهورين» وعليه فالتعليل بقوله: «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» يكون دليلًا على أنّ المشهور مطلقاً سواء كان رواية أو فتوى هو ممّا لا ريب فيه ويجب العمل به، وإن كان مورد التعليل خصوص الشهرة في الرّواية.

وأمّا ضعف سندها فإنّه يجبر بعمل الأصحاب بها ولذلك يعبّر عنها بالمقبولة.

وأمّا الثانية: ما ورد في المشهورة: فهي مرفوعة العلّامة رحمه الله المنقولة في غوالي اللئالي (ومن العجب أنّها غير موجودة في كتب العلّامة رحمه الله كما قيل) قال: روى العلّامة رحمه الله مرفوعة عن زرارة قال سألت الباقر عليه السلام قلت جعلت فداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان بأيّهما نعمل؟ قال عليه السلام: «خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر» «2».

فاستدلّ بقوله عليه السلام «خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر» لأنّ الموصول فيها عام يشمل الشهرة بأقسامها.

لكن يرد عليه امور لا يتمّ الاستدلال به من دون الجواب عنها:

الأوّل: أنّ هذا الاستدلال دوري لأنّ حجّية هاتين الروايتين أيضاً متوقّفة على عمل المشهور بهما.

ويمكن الجواب عنه بأنّ الموقوف هنا غير الموقوف عليه، لأنّ ما يكون حجّيته متوقّفة على هاتين الروايتين هي الشهرة الفتوائيّة بما أنّها دليل مستقلّ يكشف عن قول المعصوم عليه السلام بينما المتوقّف عليه حجّية الروايتين هو الشهرة الفتوائيّة بما أنّها جابرة لضعف السند فإنّه سيأتي في البحث عن حجّية خبر الواحد أنّ المهمّ فيها حصول الوثاقة بالرواية وإن

لم تكن الرواة موثوقاً بهم، ومن الامور التي توجب الوثوق بالرواية (أي كون الرّواية موثوقاً بها) شهرة الفتوى على وفقها.

انوار الأصول، ج 2، ص: 384

الثاني: ما أورده المحقّق الخراساني رحمه الله عليهما من أنّ المراد من الموصول (كلمة «ما» في المشهورة والألف واللام الموصولة في المقبولة) فيهما هو الرّواية لا ما يعمّ الفتوى «1».

ويمكن أيضاً الجواب عن هذا بأنّه تامّ بالنسبة إلى المشهورة لا المقبولة لأنّ الكبرى فيها عام وإن كانت الصغرى خاصّة ولا سيّما أنّه كدليل عقلي.

الثالث: ما أورده في درر الفوائد: من أنّ غاية ما تدلّ عليه هاتان الروايتان كون الشهرة مرجّحة من المرجّحات مع أنّ النزاع في كونها حجّة مستقلّة في قبال سائر الحجج ولا ملازمة بين المرجّحية والحجّية مستقلّة «2».

هذا أيضاً يمكن الجواب عنه بأنّ التعليل عام.

الرابع: ما ذكره المحقّق النائيني رحمه الله وهو أنّ التعليل الوارد في المقبولة ليس من العلّة المنصوصة ليكون من الكبرى الكلّية التي يتعدّى عن موردها فإنّ المراد من قوله «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» إن كان هو الإجماع المصطلح فلا يعمّ الشهرة الفتوائيّة وإن كان المراد منه المشهور فلا يصحّ حمل قوله عليه السلام «ممّا لا ريب فيه» عليه بقول مطلق، بل لابدّ من أن يكون المراد منه عدم الريب بالإضافة إلى ما يقابله، وهذا يوجب خروج التعليل عن كونه كبرى كلّية لأنّه يعتبر في الكبرى الكلّية صحّة التكليف بها ابتداءً بلا ضمّ المورد إليها كما في قوله:

«الخمر حرام لأنّه مسكر» فإنّه يصحّ أن يقال: لا تشرب المسكر بلا ضمّ الخمر إليه، والتعليل الوارد في المقبولة لا ينطبق على ذلك لأنّه لا يصحّ أن يقال: «يجب الأخذ بكلّ ما لا ريب فيه بالإضافة إلى ما

يقابله» وإلّا لزم الأخذ بكلّ راجح بالنسبة إلى غيره وبأقوى الشهرتين وبالظنّ المطلق وغير ذلك من التوالي الفاسدة التي لا يمكن الالتزام بها فالتعليل أجنبيّ عن أن انوار الأصول، ج 2، ص: 385

يكون من الكبرى الكلّية التي يصحّ التعدّي عن مورده» «1».

وحاصل كلامه: أنّ نفي الريب هيهنا ليس المراد به نفي الريب بقول مطلق لوجود الريب قطعاً وإلّا لم يكن مورداً للسؤال، بل المراد به نفي الريب بالنسبة إلى ما يقابله من الخبر الشاذّ النادر، ومثل هذا المعنى ليس قابلًا لأن يكون علّة سارية لوجوب الأخذ في جميع الموارد، للقطع بعدم حجّية بعض ما يكون الريب فيه أقلّ بالنسبة إلى ما يقابله (كاختلاف مراتب الكذّاب في الكذب).

وأجاب عنه بعض الأعاظم: «أنّ الكبرى ليست مجرّد كون الشي ء مسلوباً عند الريب بالإضافة إلى غيره حتّى يتوهّم سعة نطاق الكبرى بل الكبرى كون الشي ء ممّا لا ريب فيه بقول مطلق عرفاً بحيث يعدّ الطرف الآخر شاذّاً نادراً لا يعبأ به عند العقلاء وهذا غير موجود في الموارد التي أشار إليها قدس سره، فإنّ ما ذكره من الموارد ليس ممّا لا ريب فيه عند العرف» «2» وهو جيّد.

الخامس: (وهو العمدة) أنّ المراد من الشهرة فيها هو الشهرة بمعنى الوضوح، أي الشهرة اللغويّة لا الشهرة المصطلحة (وفي الواقع وقع الخلط بينهما، ونظيره كثير في طيّات كتب الفقه والاصول) ففي مقاييس اللغة: «الشهرة وضوح الأمر، وشهر سيفه إذا انتضاه» وفي النهاية:

«الشهر الهلال سمّي به لشهرته وظهوره» وفي لسان العرب: «الشهرة ظهور الشي ء في شنعة حتّى يشهره الناس».

وفي مفردات الراغب: «شهر فلان واشتهر يقال في الخير والشرّ» وفي الصحاح (نقلًا من لسان العرب): «الشهرة وضوح الأمر».

وفي مجمع البحرين: «الشهرة ظهور الشي ء في شَنعة

حتّى شهره الناس».

إذن فيكون معنى قول الإمام في الروايتين: «خذ بما صار واضحاً عند أصحابك» ولا إشكال في أنّ هذا المعنى من الشهرة أو أنّ هذه الدرجة من الشهرة تصل إلى مرتبة القطع العرفي العادي، فليس المراد من عدم الريب عدم الريب بالنسبة إلى ما يقابله، بل عدم الريب مطلقاً،

انوار الأصول، ج 2، ص: 386

وإذن لا يصحّ الاستدلال بهما في محلّ البحث، لأنّ المفروض أنّ محلّ النزاع هو الشهرة في الاصطلاح، أي الشهرة الفتوائيّة التي توجب الظنّ بقول المعصوم عليه السلام.

هذا كلّه بالنسبة إلى الأمر الثاني لحجّية الشهرة.

الأمر الثالث: فهو ما نقله المحقّق النائيني رحمه الله وهو الاستدلال بذيل آية النبأ من التعليل بقوله تعالى: «أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ» بتقريب أنّ المراد من الجهالة السفاهة والاعتماد على ما لا ينبغي الاعتماد عليه، ومعلوم أنّ العمل بالشهرة والاعتماد عليها ليس من السفاهة وفعل ما لا ينبغي «1».

وفيه: أنّ غاية ما يقتضيه هذا التعليل هو عدم حجّية كلّ ما فيه جهالة وسفاهة، وهذا لا يقتضي حجّية كلّ ما ليس فيه جهالة وسفاهة إذ ليس له مفهوم حتّى يتمسّك به، ألا ترى أنّ قوله «لا تأكل الرمّان لأنّه حامض» لا يدلّ على جواز أكل كلّ ما ليس بحامض.

والإنصاف أنّ هذا الدليل لشدّة وهنه لا يليق بالذكر.

هذا كلّه بالنسبة إلى القول بحجّية الشهرة مطلقاً، وأمّا القول بالتفصيل بين الشهرة عند القدماء والشهرة عند المتأخّرين فيستدلّ القائلون به بتعبّد القدماء بالعمل بالأخبار ومتون الرّوايات وعدم الاعتناء بالأدلّة العقليّة والاستحسانات (كما مرّ ضمن بيان مقدّمة كتاب المبسوط) ويتّضح لنا ذلك ببيان التطوّرات الفقهيّة التي مرّ بها تاريخ الفقه الشيعي فنقول: كان فقه الشيعة ينتقل من الأئمّة المعصومين

عليهم السلام إلى شيعتهم يداً بيد وجيلًا بعد جيل من دون وجود حلقة مفقودة، لكن بطيّ مراحل مختلفة، ففي أوائل عصر الأئمّة عليهم السلام كانت الشيعة تأخذ الرّوايات من أئمّتهم من دون أن يكون لهم تدوين وتأليف، ثمّ في مرحلة اخرى جمعوها في كتب ورسائل عديدة انتهت إلى أربعمائة كتاب، وسمّيت بالاصول الأربعمائة، لكن كلّ هذا من دون تنظيم وترتيب وتبويب مطلوب، ثمّ في مرحلة ثالثة تصدّوا لتنظيمها وتبويبها مع ذكر إسنادها وكانوا يكتفون بها للفتوى، ثمّ وصلت النوبة إلى مرحلة رابعة وهي مرحلة الفتوى، فكانوا يفتون في المسألة في بدء هذه المرحلة بألفاظ الأحاديث ومتونها، وذلك بحذف الإسناد وتخصيص العمومات بمخصّصاتها وتقييد المطلقات بمقيّداتها وحمل التعارضات والجمع أو الترجيح بين المتعارضات نظير ما صنع به علي بن بابويه والد الصدوق رحمه الله، ولذلك كان انوار الأصول، ج 2، ص: 387

الأصحاب يرجعون إليها عند اعوزاز النصوص، ثمّ انتهى الأمر في المرحلة الخامسة إلى التفريعات وتطبيق الاصول والقواعد على الفروع والموضوعات الجديدة والمصاديق المستحدثة.

وحينئذٍ لو تحقّقت شهرة الأصحاب قبل المرحلة الخامسة على مسألة فحيث إنّهم كانوا متعبّدون بالعمل بمتون الأخبار، ولم يكن لهم تفريع واستنباط من عند أنفسهم يحصل الوثوق والاطمئنان بقول المعصوم عليه السلام أو وجود دليل معتبر، وتكون هذه الشهرة بنفسها كاشفة عن الحكم، بخلاف الشهرة عند المتأخّرين لكونها مبنية على آرائهم الشخصية من دون أن يكون معقدها متلّقاة من كلمات المعصومين وألفاظ الرّوايات، فتكون الشهرة عند القدماء حينئذٍ كالإجماع الحدسي وكاشفة عن قول الإمام عليه السلام أو مدرك معتبر كشفاً قطعيّاً، بل هي ترجع في الواقع إلى الإجماع الحدسي وتكون من مصاديقه لعدم اشتراط إجماع الكلّ فيه، وعندئذٍ يخرج عن محلّ النزاع لأنّ البحث

كان في الشهرة الفتوائيّة الظنّية.

هل الشهرة جابرة لضعف السند؟

بقي هنا شي ء:

قد مرّ في أوّل البحث أنّ الشهرة على ثلاثة أقسام: الشهرة الفتوائيّة والشهرة الروائيّة والشهرة العمليّة، ومرّ أيضاً تعريف كلّ واحدة منها، ولكن وقع البحث بين الأعلام في أنّ وقوع الشهرة العمليّة على وفق رواية ضعيفة هل يوجب جبر ضعفها أو لا؟ فذهب الأكثر إلى كونها جابرة، وخالف بعض الأعلام وإستشكل في المسألة كبرى وصغرى، وحاصل كلامه في مصباح الاصول: «أنّ الخبر الضعيف لا يكون حجّة في نفسه كما هو المفروض وكذلك فتوى المشهور غير حجّة على الفرض أيضاً، وانضمام غير الحجّة إلى غير الحجّة لا يوجب الحجّية فإنّ انضمام العدم إلى العدم لا ينتج إلّاالعدم، ودعوى: أنّ عمل المشهور بخبر ضعيف توثيق عملي للمخبر به فيثبت به كونه ثقة، فيدخل في موضوع الحجّية، مدفوعة: بأنّ العمل مجمل لا يعلم وجهه فيحتمل أن يكون عملهم به لما ظهر لهم من صدق الخبر ومطابقته للواقع بحسب نظرهم واجتهادهم، لا لكون المخبر ثقة عندهم، فالعمل بخبر ضعيف لا يدلّ على توثيق المخبر به، ولا سيّما أنّهم لم يعملوا بخبر آخر لنفس هذا المخبر، وأمّا آية النبأ فالاستدلال بها أيضاً غير

انوار الأصول، ج 2، ص: 388

تامّ، إذ التبيّن عبارة عن الاستيضاح واستكشاف صدق الخبر، وهو تارةً يكون بالوجدان، واخرى بالتعبّد، وإن فتوى المشهور لا تكون حجّة فليس هناك تبيّن وجداني ولا تبيّن تعبّدي يوجب حجّية خبر الفاسق.

هذا كلّه بالنسبة إلى الكبرى (وهي: أنّ عمل المشهور موجب لانجبار ضعف الخبر أو لا؟).

وأمّا الصغرى (وهي استناد المشهور إلى الخبر الضعيف في مقام العمل والفتوى) فإثباتها أشكل، لأنّ القدماء لم يتعرّضوا للاستدلال في كتبهم ليعلم استنادهم إلى الخبر الضعيف، وإنّما المذكور فيها مجرّد الفتوى، فمن

أين نستكشف عمل قدماء الأصحاب بخبر ضعيف واستنادهم إليه، فإنّ مجرّد مطابقة الفتوى لخبر ضعيف لا يدلّ على أنّهم إستندوا في هذه الفتوى إلى هذا الخبر إذ يحتمل كون الدليل عندهم غيره» «1». (انتهى).

أقول: الإنصاف تماميّة الكبرى والصغرى معاً، أمّا تماميّة الكبرى فليست لأجل آية النبأ بل لوجود ملاك حجّية خبر الواحد هنا، وهو حصول الوثوق بصدور الرّواية عن المعصوم عليه السلام وإن لم تكن رواتها موثوقين فإنّ عمل مشهور القدماء برواية واستنادهم إليها يوجب الاطمئنان والوثوق بصدورها.

وأمّا قوله: «أنّه ضمّ للعدم إلى العدم».

ففيه: أنّه ليس كذلك، لأنّ ضمّ احتمال إلى احتمال آخر يوجب شدّة الاحتمال، وتراكم الاحتمالات توجب قوّة الظنّ، حتّى أنّه قد ينتهي إلى حصول اليقين، وإلّا يلزم من ذلك عدم حجّية الخبر المتواتر أيضاً لأنّه أيضاً ضمّ لا حجّة إلى لا حجّة، هذا بالنسبة إلى الكبرى.

وكذلك الصغرى، لأنّه وإن لم يستند الأصحاب في فتواهم إلى الرّواية مباشرة ولكن إذا ذكرت الرّواية في كتب مشهورة معتبرة، وكانت بمرأى ومنظر الأصحاب وكان عملهم موافقاً لمضمونها، فإنّ ظاهر الحال يقتضي استناد فتواهم إليها.

وإن شئت قلت: يحصل الوثوق والاطمئنان إجمالًا بأنّ فتواهم إمّا مستندة إلى هذه الرّواية أو ما في معناها، وعلى أي حال يحصل الوثوق إجمالًا بصدور هذا المعنى من الإمام عليه السلام فنأخذ به ويكون حجّة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 389

4- حجّية خبر الواحد
اشارة

وهذه المسألة من أهمّ المسائل الاصوليّة لاستناد أكثر المسائل الفقهيّة إلى خبر الواحد بحيث لولاها ولولا مسألة التعادل والتراجيح التي تعدّ تكملة لها لتعطّل عمل الاستنباط والاجتهاد، فلا بدّ من الإهتمام بها.

وقبل الورود في أصل البحث لابدّ من بيان مقدّمة: وهي أنّه مع وجود هذه الأهميّة الشديدة- مع ذلك- وقع البحث والنزاع بين الأعلام

في أنّ هذه المسألة كيف يمكن أن تكون من مسائل الاصول، ومنشأ الإشكال أنّ موضوع علم الاصول هو الأدلّة الأربعة، ومن جانب آخر أن موضوع كلّ علم هو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة، مع أنّ البحث في هذه المسألة ليس من العوارض الذاتيّة للسنّة التي تكون من الأدلّة الأربعة، لأنّ البحث فيها يكون بحثاً عن حجّية خبر الواحد ودليلية الدليل، وهي بحث عن ذات الموضوع لا عن عوارضه، لأنّ الموضوع هو الأدلّة الأربعة بوصف أنّها أدلّة لا الأدلّة الأربعة بذواتها وبما هي هي.

ولحلّ هذه المشكلة ذكروا طرقاً عديدة نذكر هنا عدّة منها.

الأوّل: التسليم للإشكال والقول بكون البحث عنها استطراديّاً في الاصول كما ذهب إليه صاحب القوانين.

ولكنّه كما ترى لا يناسب كون المسألة من أهمّ مسائل الاصول.

الثاني: ما ارتكبه صاحب الفصول من التكلّف والقول بأنّ الموضوع في علم الاصول هو ذوات الأدلّة فيكون البحث عن وصف الدليلية حينئذٍ من العوارض.

وهذا التكلّف أيضاً خلاف ظاهر تعبيرهم بالأدلّة لأنّ ظاهره الأدلّة بما هي أدلّة.

الثالث: طريق الشيخ الأنصاري رحمه الله في الرسائل، وحاصله: أنّ الموضوع هو السنّة الواقعيّة، أي ما صدر واقعاً من ناحية المعصوم عليه السلام والبحث في خبر الواحد هو أنّ قول المعصوم عليه السلام أو فعله أو تقريره هل يثبت بخبر الواحد أو لا؟

انوار الأصول، ج 2، ص: 390

إن قلت: إنّ الثبوت هنا هو بمعنى الوجود، فيكون البحث عن وجود الموضوع، والبحث عن وجود الموضوع ليس بحثاً عن عوارضه لأنّ المراد من العوارض ما يعرض الشي ء بعد وجوده.

قلت: إنّ الوجود الذي لا يكون من المسائل والعوارض بل يكون من المبادى ء هو الوجود الحقيقي لا التعبّدي، أمّا الثبوت التعبّدي فهو من العوارض وهو المقصود في المقام، لأنّ

البحث في ما نحن فيه بحسب الواقع في أنّه هل تثبت السنّة الواقعيّة بخبر الواحد تعبّداً أو لا؟ (انتهى).

وإستشكل عليه المحقّق الخراساني رحمه الله بما حاصله: أنّ الثبوت التعبّدي ليس هو المبحوث عنه في المسألة بل لازم لما هو المبحوث عنه، وهو حجّية الخبر، فإنّ الخبر إن كان حجّة شرعاً لزمه ثبوت السنّة به تعبّداً وإلّا فلا، والملاك في كون المسألة من المباحث أم من غيرها هو نفس عنوانها المبحوث عنه لا ما هو لازمه.

أقول: الإنصاف أنّ طريق الشيخ الأنصاري رحمه الله أيضاً خلاف تعبيرات القوم، فإنّا لم نجد أحداً منهم يعبّر عن عنوان المسألة بهذا التعبير، بل كلامهم يدور مدار عنوان حجّية خبر الواحد.

الرابع: ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله وهو ما مرّ منه في بداية الاصول من عدم اختصاص موضوع علم الاصول بالأدلّة الأربعة كي تكون المسألة الاصوليّة باحثة عن أحوالها وعوارضها بل إنّه الكلّي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتّتة، والملاك في كون المسألة اصوليّة أن تقع نتيجتها في طريق الاستنباط، وحينئذٍ مسألة حجّية خبر الواحد بحسب هذا الملاك تكون من المسائل الاصوليّة.

ويظهر الإشكال فيه ممّا مرّ في محلّه من ضعف المبنى.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني رحمه الله حاول إحياء طريق الشيخ الأنصاري رحمه الله ببيان حاصله: أنّ البحث في حجّية خبر الواحد يرجع إلى البحث عن أنّه هل تنطبق السنّة على مودّى الخبر أو لا «1»؟

واستشكل عليه المحقّق العراقي رحمه الله في الهامش بما حاصله: أنّ انطباق الماهيّة على مصداقها

انوار الأصول، ج 2، ص: 391

هو عين البحث عن وجود الماهيّة، ومثل هذا البحث وإن كان من عوارض الماهيّة تصوّراً ولكنّه عين البحث عن وجودها خارجاً والبحث عن الوجود يكون من المبادى ء.

أقول: يرد على

المحقّق النائيني رحمه الله إشكال آخر، وهو أنّ هذا البيان أيضاً لا ينطبق على ما عنونه القوم لأنّ عنوانهم هو أنّ خبر الواحد حجّة أو لا؟

والحقّ في المقام أن يقال: إنّه لا دليل على أنّ موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة حتّى لا يكون البحث عن وجود موضوعات المسائل من مسائل ذلك العلم، بل البحث عن الوجود أيضاً من مسائل العلوم كما نشاهد ذلك في كثير من العلوم كالنجوم والجغرافيا وغيرهما.

هذا مضافاً إلى أنّ موضوع علم الاصول ليس الأدلّة الأربعة بل الموضوع هو الحجّة في الفقه مطلقاً وإلّا خرج كثير من المسائل (كمسائل الاصول العمليّة كالبراءة والاستصحاب وغيرهما) عن مسائل علم الاصول.

إذا عرفت هذا فلنرجع إلى بيان الأقوال في المسألة فإنّ المسألة ذات قولين: الأوّل (وهو المشهور بين المتأخّرين) الحجّية، والثاني (وهو المشهور بين جمع من القدماء، منهم السيّد المرتضى والشيخ المفيد وابن زهرة وابن برّاج وابن إدريس رحمهم الله) عدم الحجّية، وسيأتي أنّه ليس بين الطائفتين فرق في العمل لأنّ ما يكون حجّة عند المشهور من أخبار الآحاد يكون عند القدماء محفوفاً بقرائن قطعية.

أدلّة القائلين بعدم الحجّية:
اشارة

واستدلّ لعدم حجّية خبر الواحد بالأدلّة الأربعة: الكتاب والسنّة والإجماع والعقل.

الدليل الأول: الكتاب

أمّا الكتاب فاستدلّ منه بالآيات الناهيّة عن العمل بالظنّ، وهي قوله تعالى: «إِنَّ الظَّنَّ لَإ

انوار الأصول، ج 2، ص: 392

يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً» «1»

وقوله تعالى: «وَإِنَّ الظَّنَّ لَايُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً» «2»

وقوله تعالى: «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» «3».

واجيب عنه بوجوه عديدة:

الوجه الأوّل: أنّ مدلول هذه الآيات عام، وما من عام إلّاوقد خصّ، فتخصّص بأدلّة حجّية خبر الواحد.

ولكن هذا الجواب غير تامّ لأنّ لسان الآيات آبية عن التخصيص فإنّ قوله تعالى: «إِنَّ الظَّنَّ لَايُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً» مثلًا بمنزلة قولك: «إنّ زيداً ممّن لا اعتبار له ولا يمكن الوثوق به أصلًا» الذي لا يناسب تخصيصك إيّاه بقولك مثلًا: «إلّا بالنسبة إلى هذه المسألة وهذه المسألة، فيمكن الاعتماد عليه فيها» كما لا يخفى.

الوجه الثاني: أنّ مورد هذه الآيات هو اصول الدين ولا ربط لها بالفروع.

وفيه: أنّه تامّ بالإضافة إلى بعضها كقوله تعالى: «وَإِنَّ الظَّنَّ لَايُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً» فإنّه لا إشكال في أنّه بقرينة الآية السابقه وردت في مسألة الشرك وهي من الاصول، لكن بالنسبة إلى بعضها الآخر ليس بتامّ كقوله تعالى: «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا» فلا ريب في أنّه مطلق يشمل الفروع أيضاً لأنّ السمع والبصر مربوطتان بفروع الدين كما يستفاد هذا من استشهاد المعصوم عليه السلام بهذه الآية في جواب من سأل عن حكم الغناء الذي يسمعه من دار جاره.

الوجه الثالث: ما أجاب به المحقّق النائيني رحمه الله عن هذه الآيات وفقاً لمبناه في باب الأمارات فإنّه قال: «نسبة تلك الأدلّة إلى الآيات ليست نسبة التخصيص بل نسبة الحكومة فإنّ

تلك الأدلّة تقتضي إلغاء احتمال الخلاف وجعل الخبر محرزاً للواقع فيكون حاله حال العلم في عالم التشريع» «4».

أقول: قد مرّ عدم تماميّة هذا مبنى وبناءً، أمّا المبنى فلأنّ صفة العلم من الصفات التكوينيّة

انوار الأصول، ج 2، ص: 393

التي ليست قابلة للجعل فلا يمكن أن يقال: جعلت هذا حجراً أو شجراً، وأمّا البناء فلأنّه لو سلّمنا إمكان ذلك فإنّه لا يتمّ بالنسبة إلى أدلّة حجّية خبر الواحد، لأنّ لسانها ليس لسان جعل صفة العلم كما لا يخفى على من تأمّل فيها.

الوجه الرابع: ما نقله الطبرسي رحمه الله في مجمع البيان عن الجصّاص وحاصله: أنّ لسان أدلّة حجّية خبر الواحد لسان الدليل الوارد فيرفع بها موضوع النهي الوارد في الآيات الناهيّة (وهو الظنّ) حقيقة.

والجواب عن هذا الوجه واضح، لأنّ قطعيّة أدلّة حجّية الخبر شي ء وقطعيّة نفس الخبر شي ء آخر، والثابت هو الأوّل لا الثاني، فكأنّه وقع الخلط بين الأمرين.

فظهر إلى هنا أنّه لا تحلّ المشكلة بهذه الوجوه الأربعة.

والإنصاف في حلّها أن نلاحظ الآيات السابقة على هذه الآيات واللاحقة لها فإنّها تدلّ على أنّ الظنّ المستعمل في هذه الآيات ليس بمعناه المصطلح عند الفقهاء والاصوليين، وهو الاعتقاد الراجح بل المراد منه معناه اللغوي الذي يعمّ الوهم والاحتمال الضعيف أيضاً.

ففي مقاييس اللغة: «الظنّ يدلّ على معنيين مختلفين: يقين وشكّ» واستشهد لمعنى اليقين بقوله تعالى: «الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ» حيث إن معنى «يظنّون» فيه «يوقنون» وقال بالنسبة إلى معنى الشكّ ما إليك نصّه: «والأصل الآخر: الشكّ، يقال ظننت الشي ء إذا لم تتيقّنه».

وفي مفردات اللغة: «الظنّ اسم لما يحصل عن أمارة ومتى قويت أدّت إلى العلم ومتى ضعفت جدّاً لم يتجاوز حدّ التوهّم».

وبالجملة أنّ الظنّ الوارد في هذه الآيات إنّما هو

بمعنى الوهم الذي لا أساس له ولا اعتبار به عند العقلاء.

أمّا الآية الاولى: فلأنّ الوارد قبلها هو: «إنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة يسمّون الملائكة تسمية الانثى» فالتعبير ب «تسمية الانثى» إشارة إلى ما جاء في بعض الآيات السابقة: «إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا

انوار الأصول، ج 2، ص: 394

تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى» «1»

من أنّ هذه الأسماء أسماء لا مسمّى لها، ولا تتعدّى عن حدّ التسمية ولا واقعة لها وهي ممّا لا يتفوّه بها من له علم وعقل بل هو أمر ناشٍ عن الوهم والخرافة وما تهوى الأنفس.

فالمراد بالظنّ في الآية هو هذا المعنى الذي ليس له مبنى ولا أساس كسائر الخرافات الموجودة بين الجهّال، وحينئذٍ تكون أجنبيّة عمّا نحن فيه وهو الظنّ الذي يكون أمراً معقولًا وموجّهاً ومطابقاً للواقع غالباً والذي يكون مبنى حركة العقلاء في أعمالهم اليوميّة كباب شهادة الشهود في باب القضاء وباب أهل الخبرة وباب ظواهر الألفاظ ونحوها ممّا يوجب إسقاط العمل به من حياة الإنسان ولزوم العمل باليقين القطعي فقط اختلال النظام والهرج والمرج.

وأمّا الآية الثانية: فالآيات السابقة عليها: «قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ...» تشهد بأنّ الظنّ الوارد فيها إشارة إلى الذين يعدّونهم بأوهامهم شركاء للَّه تعالى كما يشهد بهذا قوله تعالى في نفس السورة: «أَلَا إِنَّ للَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» «2»

، فقد جعل الظنّ في هذه الآية في عداد الخرص في أمر الشركاء، فالممنوع الظنّ الذي يعادل ما تهوى الأنفس والخرص.

هذا كلّه بالإضافة إلى

ما استعمل فيه كلمة الظنّ.

أمّا قوله تعالى: «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» الذي نهى فيه عن اتّباع غير العلم، فإنّه وإن لم يأت فيه ما بيّناه بالنسبة إلى الآيتين السابقتين لكن يأتي فيه ما ذكر في الجواب الأوّل، وهو القول بالتخصيص، لأنّ لسان هذه الآية ليس آبياً عن التخصيص كما لا يخفى على المتأمّل فيها.

الدليل الثاني: السنّة

وأمّا السنّة فلا بدّ من تواترها في المقام وألّا يكون الاستدلال دوريّاً كما لا يخفى، ولابدّ أيضاً من كون موردها في غير باب التعارض لأنّ البحث ليس في الخبرين المتعارضين.

والأخبار الواردة في هذا المجال عمدتها نقلت في الباب 9 من أبواب صفات القاضي من الوسائل، ونذكر هنا أحد عشر رواية منها، وهي بنفسها على طوائف خمسة لكلّ واحدة منها لسان يختلف عن لسان غيرها:

الطائفة الاولى: ما يدلّ على حجّية ما علم أنّه قولهم عليهم السلام وهي ما رواه نضر الخثعمي قال:

سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: «من عرف إنّا لا نقول إلّاحقّاً فليكتف بما يعلم منّا، فإن سمع منّا خلاف ما يعلم فليعلم إنّ ذلك دفاع منّا عنه» «1».

الطائفة الثانية: ما تدلّ على حجّية ما وافق الكتاب وهي عديدة:

منها: ما رواه عبداللَّه بن أبي يعفور قال: وحدّثني الحسين بن أبي العلا أنّه حضر ابن أبي يعفور في هذا المجلس قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن اختلاف الحديث يرويه من نثقّ به، ومنهم من لا نثقّ به، قال: «إذا أورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب اللَّه أو من قول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وإلّا فالذي جاءكم به أولى به» «2»، فإنّها وإن وقع السؤال فيها عن اختلاف الخبرين إلّاأنّ الجواب عام.

ومنها: ما رواه

عبداللَّه بن بكير عن رجل عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: «إذا جاءكم عنّا حديث فوجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من كتاب اللَّه فخذوا به وإلّا فقفوا عنده ثمّ ردّوه إلينا حتّى يستبين لكم» «3».

ومنها: ما رواه العياشي في تفسيره عن سدير قال: قال أبو جعفر عليه السلام وأبو عبداللَّه عليه السلام: «لا تصدّق علينا إلّاما وافق كتاب اللَّه وسنّة نبيّنا صلى الله عليه و آله» «4».

الطائفة الثالثة: ما تدلّ على عدم حجّية ما لا يوافق كتاب اللَّه وهي ما رواه أيّوب بن راشد

انوار الأصول، ج 2، ص: 396

عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف» «1».

وما رواه أيّوب بن الحرّ قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: «كلّ شي ء مردود إلى الكتاب والسنّة، وكلّ حديث لا يوافق كتاب اللَّه فهو زخرف» «2».

ويمكن إدغام هذه الطائفة في الطائفة الثانية لأنها بمفهومها موافقة لها.

الطائفة الرابعة: ما تدلّ على عدم حجّية ما خالف كتاب اللَّه، وهي ما رواه ابن أبي عمير عن بعض أصحابه قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: «من خالف كتاب اللَّه وسنّة محمّد صلى الله عليه و آله فقد كفر» «3».

الطائفة الخامسة: ما جمع فيها بين لسانين: طرح ما خالف الكتاب وأخذ ما وافقه، وهي ما رواه السكوني عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إنّ على كلّ حقّ حقيقة، وعلى كلّ صواب نوراً فما وافق كتاب اللَّه فخذوه، وما خالف كتاب اللَّه فدعوه» «4».

وما رواه هشام بن الحكم وغيره عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: خطب النبي صلى الله عليه و آله بمنى فقال:

«أيّها الناس ما جاءكم عنّي

يوافق كتاب اللَّه فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب اللَّه فلم أقله» «5».

واجيب عن هذه الرّوايات بوجوه عديدة:

الوجه الأول: أنّه لابدّ في دلالتها على المدّعى من كونها متواترة، لأنّها لو كانت أخبار آحاد يكون الاستدلال بها دوريّاً (كما مرّ) وحينئذٍ لا يكون متواترة «6» لفظاً ولا معنى بل إنّها

انوار الأصول، ج 2، ص: 397

متواترة إجمالًا يقتضي حصول العلم الإجمالي بصدور واحد من الأخبار على الأقلّ، فلا بدّ من الأخذ بالقدر المتيقّن منها، وهو أخصّها مضموناً، ومن المعلوم أنّ أخصّها مضموناً هو المخالف للكتاب والسنّة (سنّة محمّد صلى الله عليه و آله) معاً فيختصّ عدم الحجّية بذلك بنحو قضيّة السالبة الجزئيّة، وهذا لا يضرّ بمدّعى المثبتين، أي اعتبار خبر الواحد في الجملة لأنّ السالبة الجزئيّة لا تنافي الموجبة الجزئيّة.

ثمّ إنّ المراد من المخالفة هل هي المخالفة على نحو التباين، أو العموم من وجه؟

الصحيح هو الأوّل، لأنّه لا إشكال في صدور مخصّصات خصّصت بها عمومات الكتاب ويستلزم من طرحها رفع اليد عن كثير من الأحكام الشرعيّة، نظير ما ورد في قبال عموم قوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» ويدلّ على شرطيّة عدم الجهل في المبيع وغير ذلك من الشرائط الشرعيّة المجعولة في العقود، وهي كثيرة جدّاً، ونظير ما ورد في قبال إطلاق قوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ» ممّا يدلّ على النصاب والمقدار والحول وغيرها.

إن قلت: المخالفة على نحو التباين الكلّي لا يوجد لها مصداق في جوامع الحديث التي بأيدينا اليوم، وهذا لا يناسب كثرة الرّوايات الدالّة على طرح الخبر المخالف للكتاب وشدّة إهتمام الأئمّة عليهم السلام به.

قلنا: الأخبار الموجودة في كتب الحديث في يومنا هذا قد خرجت من مصافٍ عديدة تحت أيدي مؤلّفي هذه الكتب كالشيخ الطوسي رحمه

الله والشيخ الصدوق والكليني رحمه الله فمن المسلّم صدور روايات متباينة مع الكتاب والسنّة قبل تأليف هذه الجوامع.

هذا مضافاً إلى وجود روايات متباينة بين الرّوايات الموجودة حاليّاً أيضاً مثل ما نسب إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه قال: أنّي خالق السموات والأرض ... الخ»، لأنّ هذا مخالف لصريح آيات الكتاب ممّا ينسب الخلق إلى اللَّه تعالى فقط، ومثل رواية تدلّ على «أنّ الميّت يعذّب ببكاء أهله» «1»، وهو مخالف لصريح قوله تعالى: «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى» إلّاأن انوار الأصول، ج 2، ص: 398

يقال: إنّ المراد هو العذاب التكويني الحاصل من بكاء الأهل لروح الميّت لا التشريعي الحاصل بفعل اللَّه تعالى.

الوجه الثاني: حملها على أنّها ناظرة إلى زمان الحضور، ولا إشكال في عدم حجّية خبر الواحد في ذلك الزمان كما يشهد عليه قول الإمام عليه السلام في بعضها: «وما لم تعلموا فردّوه إلينا» وقوله عليه السلام «وردّوه إلينا حتّى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا».

لكن الإنصاف أنّه غير تامّ ومخالف للسان أكثر الرّوايات مثل ما ورد في بعضها: «أنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً» وما ورد في بعضها الاخرى: «ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا وسنّة نبيّنا صلى الله عليه و آله» فإن هذا اللحن وهذا النحو من السياق عامّ يشمل زمن الحضور والغيبة كما لا يخفى. هذا أوّلًا.

وثانياً: أنّ الصحيح هو حجّية خبر الواحد في زمن الحضور أيضاً كما يدلّ عليه ما سيأتي من الرّوايات المتواترة التي ورد أكثرها في مورد عصر الحضور.

الوجه الثالث: حملها على الخبرين المتعارضين بقرينة سائر الرّوايات التي تجعل الموافقة مع الكتاب من المرجّحات.

والإنصاف أنّ هذا الجواب أيضاً لا يناسب لحن كثير من الرّوايات مثل

ما ورد فيها: «وكلّ حديث لا يوافق كتاب اللَّه فهو زخرف»، وما رواه أيّوب بن راشد عن أبي عبداللَّه عليه السلام: قال:

«ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف»، وكذلك ما ورد فيها: «أنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً» فإنّ هذا القبيل من الرّوايات وردت في مقام تمييز الحجّة عن اللّاحجّة، لا ترجيح إحدى الحجّتين على الاخرى، نعم إنّ هذا الجواب تامّ بالنسبة إلى بعض الرّوايات.

الوجه الرابع: أنّه لو فرض شمول هذه الرّوايات لخبر الواحد فإنّها معارضة لما هو أكثر وأظهر وسيأتي ذكرها عند ذكر أدلّة المثبتين.

فظهر أنّ الجواب الأوّل والرابع تامّ لا إشكال فيه.

هذا كلّه هو الاستدلال بالسنّة على عدم حجّية خبر الواحد.

الدليل الثالث: الإجماع

وأمّا الإجماع فقال الشيخ الأعظم رحمه الله في الرسائل: ادّعاه السيّد المرتضى رحمه الله وهو ظاهر المحكي عن الطبرسي في مجمع البيان، والسيّد المرتضى جعل بطلان حجّية خبر الواحد بمنزلة القياس في كون ترك العمل به معروفاً من مذهب الشيعة.

واجيب عن هذا بأنّ حجّية خبر الواحد هو قول أكثر الأصحاب وعليها سيرة أصحاب الأئمّة كما يشهد عليها ما سيأتي من الرّوايات الحاكية عن أحوالهم خصوصاً ما ورد فيها التعليل بأنّه ثقة، الذي يدلّ على أنّ الملاك في الحجّية هو كون الراوي ثقة.

نعم لابدّ هنا من توجيه وتأويل لكلام السيّد المرتضى رحمه الله (لأنّه ربّما يستشكل في السيره بأنّها لو كانت فكيف لم يلتفت إليها السيّد المرتضى رحمه الله مع قرب عهده إلى زمن المعصومين) كما أوّله شيخ الطائفة رحمه الله بأنّ معقد هذا الإجماع ليس هو الأخبار التي محفوفة بقرائن تشهد على صدقها وإن لم تصل إلى حدّ حصول العلم بالصدور، كما إذا نقلت في الكتب المعتبرة والاصول

المتلقّاة من كلمات المعصومين عليهم السلام بل المراد من معقد الإجماع الأخبار التي يرويها المخالفون.

الدليل الرابع: العقل

وأمّا العقل فهو- كما أشار إليه المحقّق النائيني رحمه الله- ما ذكره ابن قبّة من أنّ العمل بخبر الواحد موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال، والعقل يستقلّ بقبحه.

وقد مرّ الجواب عن هذا في أوّل مباحث الظنّ في مقام الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري مستوفاً فراجع.

هذا كلّه في أدلّة القائلين بعدم حجّية خبر الواحد.

أدلّة القائلين بحجّية خبر الواحد
اشارة

وبعد ذلك نذكر أدلّة القائلين بالحجّية، وهم أيضاً استدلّوا بالأدلّة الأربعة:

الدليل الأول: الكتاب:

فاستدلّوا منه بآيات:

1- آية النبأ

قال اللَّه تعالى: «إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ» «1».

قال الطبرسي رحمه الله في مجمع البيان: «قوله «إن جاءكم فاسق» نزل في الوليد بن عقبة بن أبي معيط بعثه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في صدقات بني المصطلق فخرجوا يتلقّونه فرحاً به وكانت بينهم عداوه في الجاهلية فظنّ أنّهم همّوا بقتله فرجع إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقال إنّهم منعوا صدقاتهم، وكان الأمر بخلافه، فغضب النبي صلى الله عليه و آله وهمّ أن يغزوهم فنزلت الآية» «2».

ثمّ قال: «عن ابن عبّاس ومجاهد وقتادة» ثمّ ذكر قولًا آخر في شأن نزول الآية وهو لا يناسب مضمون الآية وكلمة القوم المذكورة فيها.

وقد إستشكل بعض العامّة في شأن النزول المذكور بأنّ الوليد آمن يوم فتح مكّة وكان صبيّاً.

ومن المحتمل جدّاً كون الخبر مجعولًا لتنزيه الوليد وتبرئته من ناحية بعض من له صلة بالخلفاء لكونه أخاً لعثمان من جانب الامّ.

إن قلت: فكيف أرسله الرسول صلى الله عليه و آله لأخذ الزكوات مع أنّه كان فاسقاً؟

قلنا: لعلّ الوليد كان ظاهر الصلاح وكان فسقه أمراً مخفيّاً مستتراً وكان الرسول صلى الله عليه و آله أيضاً يعمل بحسب الظاهر ولم يكن بنائه على العمل بالغيب.

هذا مضافاً إلى أنّه يمكن أن يقال: إنّ معنى علمه صلى الله عليه و آله وعلم الأئمّة عليهم السلام بالغيب إنّهم «إذا شاؤوا أن يعلموا علموا» كما ورد في الحديث المشهور.

وأمّا الاستدلال بالآية فله ثلاثة وجوه: أحدها: الاستدلال بمفهوم الشرط، والثاني: بمفهوم الوصف، والثالث: بمناسبة الحكم والموضوع.

وقبل ذكر هذه الوجوه

ونقدها نقول: لو اعطيت هذه الآية بيد العرف يفهم منها حجّية

انوار الأصول، ج 2، ص: 401

خبر العادل وأنّه لا ندامة في العمل به ولو لم يعلم منشأ هذه الدلالة.

ثمّ نقول: أمّا مفهوم الوصف: فإن قلنا بكبرى مفهوم الوصف فلا إشكال في مفهوم كلمة الفاسق في الآية، فتدلّ على عدم لزوم التبيّن في خبر العادل وحجّيته، لكن المشهور عدم حجّية مفهوم الوصف خصوصاً في الوصف غير المعتمد على الموصوف كما في المقام فإنّه حينئذٍ أشبه بمفهوم اللقب عندهم.

لا يقال: فما هو الفائدة في ذكر هذا الوصف، ولماذا لم يرد في الآية هكذا: «إذا جاءك إنسان بنبأ ... الخ»؟ لأنّه يقال: إنّه ورد للتنبيه على فسق الوليد.

لكن الإنصاف أنّ للوصف مفهوماً كما مرّ في مبحث المفاهيم خصوصاً في مثل ما نحن فيه حيث يكون في مقام إعطاء ضابطة كلّية بملاحظة صدرالآية (وهو قوله تعالى: «يا أيّها الذين آمنوا ...».

والقول بكونه تنبيهاً على فسق الوليد كلام غير وجيه لأنّ الآيات لا تكون مختصّة بعصر دون عصر وبشخص دون شخص بل إنّها هدى للناس في جميع الأعصار، ولعلّ هذا هو منشأ الفهم العرفي المذكور آنفاً.

وأمّا مفهوم الشرط: فللقائلين به بيانات مختلفة:

الأوّل: أنّه تعالى علّق وجوب التبيّن على مجي ء الفاسق بالنبأ، فإذا انتفى ذلك سواء انتفى بانتفاء الموضوع أي «إذا لم يجي ء أحد بخبر» أو انتفى بانتفاء المحمول أي «إذا جاء شخص بخبر وكان عادلًا» ينتفي وجوب التبيّن فيستدلّ بإطلاق المفهوم لعدم وجوب التبيّن في خبر العادل وأنّه حجّة.

لكن يرد عليه: أنّ القضيّة الشرطيّة هيهنا ليس لها مفهوم لأنّها سيقت لبيان تحقّق الموضوع مثل قولك: «إن رزقت ولداً فسمّه محمّداً» بمعنى أنّ الجزاء موقوف على الشرط عقلًا لا شرعاً وبجعل الشارع

من دون توقّف عقلي في البين، فعند انتفاء الشرط حينئذٍ انتفاء الجزاء عقلي من قبيل قضيّة السالبة بانتفاء الموضوع لا السالبة بانتفاء المحمول مع وجود موضوعه (وانتفاء المحمول والحكم يكون بواسطة انتفاء ما علّق عليه من شرط أو وصف).

الثاني: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله وحاصله: أنّ الحكم بوجوب التبيّن عن النبأ الذي جي ء به معلّق على كون الجائي به فاسقاً (لا على نفس مجي ء الفاسق بالنبأ) بحيث يكون انوار الأصول، ج 2، ص: 402

المفهوم هكذا: «إن لم يكن الجائي بالنبأ فاسقاً بل كان عادلًا فلا يجب التبيّن عنه».

ويمكن الجواب عنه: بأنّه كذلك لو كانت الآية هكذا: «النبأ إن جاء به الفاسق فتبيّنوا» بأن يكون الموضوع القدر المطلق المشترك بين نبأ الفاسق والعادل لأنّ القضيّة حينئذٍ ليست مسوّقة لبيان تحقّق الموضوع، لكن الإشكال في أنّ مفاد الآية ليس كذلك كما هو ظاهر فالإشكال بعدم المفهوم وارد.

الثالث: ما أشار إليه المحقّق الخراساني رحمه الله أيضاً بقوله: «مع أنّه يمكن أن يقال: إنّ القضيّة ولو كانت مسوقة لذلك إلّاأنّها ظاهرة في انحصار موضوع وجوب التبيّن في النبأ الذي جاء به الفاسق ...».

وحاصله: أنّ القضيّة الشرطيّة في الآية وإن كانت مسوقة لبيان تحقّق الموضوع ولكنّها ظاهرة في انحصار موضوع وجوب التبيّن بنبأ الفاسق فقط، ومقتضاه أنّه إذا انتفى نبأ الفاسق وتحقّق موضوع آخر مكانه كنبأ العادل لم يجب التبيّن عنه.

وهذا البيان والبيان السابق في مخالفتهما لظاهر الآية سيّان.

وأمّا مناسبة الحكم والموضوع: فقد اشير إليها في كلمات الشيخ الأعظم رحمه الله وغيره وتوضيحها: أنّ ظاهر الآية كون الفسق موجباً لعدم الاعتماد والاعتبار، أي أنّ التبيّن يناسب عدم الاعتبار، وهذه المناسبة تقتضي عرفاً عدم وجوب التبيّن في خبر العادل المعتبر المعتمد.

هذا

كلّه هو طرق الاستدلال بآية النبأ، وقد ظهر أنّ الطريق الأوّل والثالث تامّ خلافاً للطريق الثاني.

لكن قد أورد على الآيه إشكالات كثيرة ربّما تبلغ إلى نيف وعشرين كما قال به الشيخ الأعظم رحمه الله وقال أيضاً: «إلّا أنّ كثيراً منها قابلة للدفع»، واختار المحقّق الخراساني رحمه الله أربعة منها وذكرها في تعليقته على الرسائل وقد أضاف إليها بعض المعاصرين عدّة اخرى، ونحن نذكر هنا أهمّها وهي خمسة:

الإشكال الأوّل: ما يرتبط بالتعليل الوارد في ذيل الآية، وهو أنّ مقتضى عموم التعليل وجوب التبيّن في كلّ خبر ظنّي لا يؤمن الوقوع في الندم من العمل به وإنّ كان المخبر عادلًا فيعارض المفهوم، والترجيح مع ظهور التعليل.

بيانه: لو قلنا أنّ الآية الشريفة تدلّ مفهوماً على أنّ خبر العادل حجّة مطلقاً ولو لم يفد

انوار الأصول، ج 2، ص: 403

العلم لكن التعليل بقوله تعالى: «أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ» دليل على أنّ الخبر الذي لا يؤمن الوقوع في الندم من العمل به ليس بحجّة، ولو كان المخبر عادلًا (لأنّ العلّة قد تعمّم كما أنّها قد تخصّص) وحينئذٍ الترجيح مع ظهوره التعليل لكونه أقوى وآبياً عن التخصيص مضافاً إلى كونه منطوقاً لا مفهوماً.

واجيب عنه بوجوه:

الوجه الأول: أنّ مقتضى التعليل ليس هو عدم جواز الاقدام على ما هو مخالف للواقع مطلقاً، لأنّ المراد بالجهالة هنا السفاهة وفعل ما لا يجوز فعله، لا ما يقابل العلم، ولا شبهة في أنّه لا سفاهة في الركون إلى خبر العدل والاعتماد عليه.

إن قلت: يستلزم هذا كون اعتماد الصحابة على خبر الوليد الفاسق سفيهاً، وهو كما ترى.

قلنا: قد أجاب عن هذا المحقّق النائيني رحمه الله بأنّه ربّما يركن الشخص إلى ما لا ينبغي الركون

إليه غفلةً أو لاعتقاده عدالة المخبر، والآية هنا نزلت للتنبيه على غفلة الصحابة أو لسلب اعتقادهم عن عدالة الوليد، أي ركون الصحابة إلى خبر الوليد لم يكن من باب الإقدام على أمر سفهي بل من جهة عدم علمهم بفسق الوليد.

أقول: الجهالة في لغة العرب وإن كان قد تأتي بمعنى السفاهة ولكن الأصل في معناها هو ضدّ العلم كما نطقت به كتب اللغة، فحينئذٍ حمل الآية على المعنى الأوّل مشكل جدّاً، ويؤيّد ما ذكرنا ملاحظة موارد استعمال هذه الكلمة في القرآن الكريم.

الوجه الثاني: «أنّه على فرض أن يكون معنى الجهالة عدم العلم بمطابقة الخبر للواقع لا يعارض عموم التعليل للمفهوم، بل المفهوم يكون حاكماً على العموم لأنّه يقتضي إلغاء احتمال مخالفة خبر العادل للواقع وجعله محرزاً له وكاشفاً عنه، وكأنّه يقول: «نزّل خبر العادل بمنزلة العلم» فلا يشمله عموم التعليل لا لأجل تخصيصه بالمفهوم لكي يقال: إنّه يأبى عن التخصيص بل لحكومة المفهوم عليه» «1».

ويرد عليه: إنّ لسان الآية ليس لسان الدليل الحاكم ولا يساوق مفهومها قولك: «الغ احتمال الخلاف» بل تدلّ على أنّه إذا جاءكم عادل بنبأ فلا يجب التبيّن بل يجب القبول.

انوار الأصول، ج 2، ص: 404

نعم هذا صادق بالنسبة إلى جملة من سائر الأدلّة لحجّية خبر الواحد كقوله عليه السلام: «ما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان».

الوجه الثالث: ما أجاب به شيخنا العلّامة رحمه الله في الدرر وهو: «أنّ التعليل لا يدلّ على عدم جواز الاقدام بغير العلم مطلقاً بل يدلّ على عدم الجواز فيما إذا كان الاقدام في معرض حصول الندامة، واحتماله منحصر فيما لم يكن الاقدام عن حجّة فلو دلّت الآية بمفهومها على حجّية خبر العادل فلا يحتمل أن يكون الإقدام على العمل به

مؤدّياً إلى الندم فلا منافاة بين التعليل ومفهوم الآية أصلًا» «1».

ويمكن أن يقال في توضيح ما أفاده بأنّ الموجب للندم هو ما كان معرضاً للندامة غالباً وخبر العادل ليس كذلك، ووقوع الخطأ فيه أحياناً كوقوع الخطأ في العلم لا يوجب الندم ولا ترك العمل به.

الوجه الرابع: أنّه فرق بين الجهل والعلم في مصطلح المنطق وفي العرف واللغة فالعلم المصطلح في المنطق هو درجة المائة في المائة من اليقين، وفي مقابله الجهل المصطلح، وأمّا العلم العرفي الاصولي فليس بتلك الدرجة بل يعدّ العمل بالظواهر وما أشبهها من العمل بالعلم عند العرف وإن لم يكن علماً قطعيّاً.

هذا كلّه بالنسبة إلى الإشكال الأوّل الوارد على الاستدلال بالآية.

الإشكال الثاني: أنّه على تقدير دلالة الآية على المفهوم يلزم خروج المورد عن مفهوم الآية لأنّ موردها وهو الإخبار عن ارتداد جماعة (وهم بنو المصطلق) من الموضوعات فلا يثبت بخبر العدل الواحد، وخروج المورد أمر مستهجن عند العرف فيكشف عن عدم المفهوم للآية المباركة.

وفيه: أوّلًا: نحن في فسحة عن هذا الإشكال، لأنّ المختار حجّية خبر الواحد حتّى في الموضوعات، (إلّا في باب القضاء لما ورد فيه من دليل خاصّ بل لابدّ فيه في بعض الموارد من قيام أكثر من اثنين من الشهود).

ثانياً: أنّ هذا ينافي إطلاق المفهوم لا أصله حيث إنّه يدلّ على حجّية خبر العادل مطلقاً،

انوار الأصول، ج 2، ص: 405

وقد قيّد هذا الإطلاق في موارد الموضوعات بضمّ عدل آخر وعدم الاكتفاء بعدل واحد، وهذا لا ينافي حجّية أصل المفهوم، فلو دلّت عليها الآية الشريفة لم يكن تقييد إطلاقه بالنسبة إلى مورده مانعاً عن تحقّقه، والذي لا يجوز في الكلام إنّما هو خروج المورد برأسه لا ما إذا كان داخلًا مع قيد

أو شرط.

الإشكال الثالث: أنّه لو دلّت الآية على حجّية خبر الواحد لكان الإجماع الذي إدّعاه السيّد رحمه الله على عدم حجّية خبر الواحد أيضاً حجّة لأنّه من مصاديق خبر الواحد، فيلزم من حجّية خبر الواحد عدم حجّيته، وهو من قبيل ما يلزم من وجوده عدمه وهو محال.

والجواب عن هذا واضح صغرى وكبرى، أمّا الكبرى: فلما مرّ من أنّ خبر الواحد لا يعمّ هذا القبيل من الإجماعات لأنّها من أقسام الإجماع الحدسي لا الحسّي.

وأمّا الصغرى: فلأنّا نعلم بأنّ ما إدّعاه السيّد المرتضى رحمه الله من الإجماعات مبنيّة على أصل أو قاعدة، وليست بمعنى الإجماع على مسألة خاصّة.

الإشكال الرابع: تعارض هذه الآية مع الآيات الناهيّة عن العمل بغير علم، والنسبة بينهما العموم من وجه فتتعارضان في مورد الاجتماع وهو خبر العادل الذي يوجب الظنّ بالحكم فتقدّم الآيات الناهيّة على هذه الآية لكونها أقوى ظهوراً.

والجواب عن هذا ظهر ممّا سبق في مقام التعرّض للآيات الناهيّة، فقد قلنا هناك أنّ المقصود من الظنّ الوارد في تلك الآيات هو الأوهام والخرافات التي لا أساس لها وعليه لا تعارض بينهما.

الإشكال الخامس: (وهو المهمّ) ما لا يختصّ بآية النبأ بل يرد على جميع أدلّة حجّية خبر الواحد، وهو عدم شمول أدلّة الحجّية للأخبار مع الواسطة مع أنّ المقصود من حجّية خبر الواحد هو إثبات السنّة بالأخبار التي وصلت إلينا مع الواسطة عن الحجج المعصومين عليهم السلام.

ويمكن بيانه بوجوه:

الوجه الأوّل: دعوى انصراف الأدلّة عن الإخبار مع الواسطة.

الوجه الثاني: اتّحاد الحكم والموضوع ببيان: أنّ حجّية الخبر التي يعبّر عنها بوجوب تصديق العادل إنّما هي بلحاظ الأثر الشرعي الذي يترتّب على المخبر به، إذ لو لم يكن له أثر شرعي كانت الحجّية لغواً ولا يصحّ

التعبّد به، ومن المعلوم لزوم تغاير كلّ حكم مع موضوعه انوار الأصول، ج 2، ص: 406

فإذا لم يكن في مورد أثر شرعي للخبر إلّانفس وجوب التصديق الثابت بدليل حجّية الخبر لم يمكن ترتيب هذا الأثر، لما سبق من وحدة الحكم والموضوع وهو محال والمقام من هذا القبيل لأنّه إذا أخبرنا الصدوق رحمه الله مثلًا بقوله: «قال الصفّار قال: «الإمام العسكري عليه السلام ...» لم يترتّب على إخبار الصدوق سوى وجوب تصديق قول الصفّار لأنّ الأثر العملي إنّما يترتّب على قول المعصوم فقط لا غير. وحينئذٍ فوجوب تصديق الصدوق بمقتضى آية النبأ حكم وموضوعه (أي الأثر المترتّب على خبر الصدوق) أيضاً وجوب تصديق الصفّار، فيلزم اتّحاد الحكم والموضوع، وهو محال.

وإن شئت قلت: يلزم اتّحاد الحكم والموضوع أو كون الحكم ناظراً إلى نفسه.

توضيحه: إذا قلنا بدلالة الآية على حجّية خبر الواحد يلزم أن يكون الأثر الذي بلحاظه وجب تصديق العادل (أي الأثر الذي يكون موضوعاً لحكم وجوب التصديق) نفس تصديقه من دون أن يكون في البين أثر آخر كان وجوب التصديق بلحاظه، مع أنّ وجوب التعبّد بالشي ء لابدّ وأن يكون بلحاظ ما يترتّب على الشي ء من الآثار الشرعيّة، وإلّا فلو فرضنا خلوّ الشي ء عن الأثر الشرعي لما صحّ إيجاب التعبّد الشرعي به، وعليه فلو كان الراوي حاكياً قول الإمام فوجوب التصديق بلحاظ ما يترتّب على قول الإمام عليه السلام من الآثار، كحرمة الشي ء ووجوبه، ولو كان المحكي قول غيره كحكاية الصدوق رحمه الله قول الصفّار فالأثر المترتّب على قول الصفّار ليس إلّاوجوب تصديقه، فيلزم اتّحاد الحكم (وجوب التصديق) والموضوع (الأثر الشرعي) وكون الحكم ناظراً إلى نفسه.

الوجه الثالث: لزوم إيجاد الحكم لموضوعه مع أنّه لابدّ من وجود الموضوع في

الرتبة السابقة على الحكم، فإنّ الشيخ إذا أخبر عن المفيد رحمه الله وهو عن الصدوق رحمه الله فالمصداق الوجداني لنا هو قول الشيخ، فيجب تصديقه، وأمّا قول المفيد رحمه الله إلى أن ينتهي إلى الإمام فإنّما يصير مصداقاً لموضوع قولنا: «صدق العادل» بعد تصديق الشيخ قدس سره فيلزم إثبات الموضوع بالحكم، وهو محال.

وقد اجيب عن هذا الإشكال: تارةً بأنّ لزوم وجود الموضوع في الرتبة السابقة على الحكم إنّما هو في القضايا الخارجيّة مع أنّ أدلّة الحجّية من القضايا الحقيقيّة الشاملة للموضوعات المحقّقة والمقدّرة، ولا مانع فيها من تحقّق الموضوع بها وشمولها لنفسها.

انوار الأصول، ج 2، ص: 407

واخرى بأنّه سلّمنا كون منصرف الآية الإخبار بلا واسطة إلّاأنّ العرف يلغي الخصوصيّة.

وثالثة: بأنّ الإجماع المركّب قام على أنّ خبر الواحد إمّا حجّة مطلقاً (سواء كان مع الواسطة أو بلا واسطة) أو ليس بحجّة كذلك.

وفيه: بما أن هذه المسألة معلومة المدرك فلا فائدة في الإجماع البسيط فيها فضلًا عن الإجماع المركّب.

ورابعة: بأنّ المحال إنّما هو إثبات الحكم موضوع شخص الحكم لا إثباته موضوع فرد آخر من الحكم، فإنّ خبر الشيخ المحرز بالوجدان يجب تصديقه وبتصديقه يحصل لنا موضوع آخر، وهو خبر المفيد رحمه الله، وله وجوب تصديق آخر وهكذا.

وخامسة: بأنّه يكفي في صحّة التعبّد كون المتعبّد به ممّا له دخل في موضوع الحكم ولا دليل على لزوم ترتّب تمام الأثر عليه، ففي ما نحن فيه حيث تنتهي سلسلة الأخبار إلى قوله عليه السلام فلكلّ واحد منها دخل في إثبات قوله الذي له الأثر الشرعي، وهذا المقدار كافٍ في صحّة التعبّد به، فليس هنا أحكام متعدّدة حتّى يستشكل باتّحاد الحكم والموضوع وغير ذلك بل هنا حكم واحد، وكلّ ما في سلسلة

السند من الرجال جزء لموضوعه.

2- آية النفر:

قوله تعالى «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» «1»

وقد وقع البحث عنها في ثلاث مقامات: الأوّل: في تفسير الآية، الثاني: في كيفية الاستدلال بها، الثالث: في الإشكالات الواردة عليها والجواب عنها.

أمّا المقام الأوّل: فقد ذكر في تفسيرها وجوه خمسة:

الوجه الأوّل: أن يكون المراد من النفر فيها الخروج إلى الجهاد غاية الأمر إنّها تنهى انوار الأصول، ج 2، ص: 408

المؤمنين أن ينفروا إلى الجهاد كافّة وتأمرهم بالانقسام إلى طائفتين: فطائفة منهم تنفر إلى الجهاد، وطائفة اخرى تبقى عند الرسول للتفقّه في الدين.

والقائلون بهذا الوجه استشهدوا له بصدر الآية وهو قوله تعالى: «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً» فإنّه يدلّ على أنّهم كانوا ينفرون كافّة إلى الجهاد وذلك لكي لا تشملهم الآيات النازلة في المنافقين القاعدين، فتنهيهم الآية عن هذا النحو من الخروج وتقول: الجهاد مع الجهل واجب كالجهاد مع العدوّ.

وهذا الوجه مخالف لظاهر الآية من بعض الجهات: أوّلًا: أنّه يحتاج إلى تقدير جملة «وتبقى طائفة» وثانياً: لابدّ من رجوع الضمير في قوله «ليتفقّهوا» إلى الطائفة الباقية مع أنّ الظاهر رجوعه إلى الفرقة النافرة المذكورة في الآية، وثالثاً: من ناحية رجوع الضمير في «ولينذروا» إلى الطائفة الباقية أيضاً مع أنّ ظاهره أيضاً الرجوع إلى النافرة.

الوجه الثاني: أن يكون المراد من النفر النفر إلى الجهاد أيضاً مع عدم التقدير المذكور في الوجه الأوّل، فيرجع الضميران إلى الطائفة النافرة، أي التفقّه والإنذار يرجعان إليهم، واللَّه تعالى حثّهم على التفقه في ميدان الحرب لترجع إلى الفرقة المتخلّفة فتحذّرها.

إن قلت: كيف يمكن التفقّه في ميدان الجهاد.

قلت: يحصل التفقّه هناك بالتبصّر

والتيقّن بما يريهم اللَّه من الظهور على المشركين ونصرة الدين وظهور صدق قوله تعالى: «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ» «1»

وكذلك قوله تعالى: «إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ» «2».

وهذا الوجه أيضاً مخالف للظاهر من وجهين:

الوجه الأوّل أنّه خلاف ظاهر التفقّه في الدين وخلاف قوله: «ليتفقّهوا» بصيغة المضارع، فإنّه ظاهر في الاستمرار لا في التفقّه في مقطع خاصّ وزمان معيّن (هو زمان الجهاد) كما أنّ كلمة الدين أيضاً ظاهرة في جمّ غفير من المسائل والمعارف الدينيّة لا في خصوص صفة من صفات الباري تعالى كقدرته ونصرته.

الوجه الثاني: أنّه يبقى السؤال في الآية بعدُ من أنّه لماذا منع من نفر الجميع للتفقّه في الدين؟

انوار الأصول، ج 2، ص: 409

لأنّ المفروض عدم وجود تقدير في الآية، فالواجب على الجميع النفر للتفقّه هناك.

الوجه الثالث: أن يكون المراد من النفر النفر إلى محضر الرسول صلى الله عليه و آله لتحصيل الدين، ومعنى الآية: لا يجوز لمؤمني البلاد أن يخرجوا كافّة من أوطانهم إلى المدينة للتفقّه للزوم اختلال النظام.

وهذا الوجه وإن يوجب التخلّص من إشكال التقدير ولكن يرد عليه:

أوّلًا: أنّ النهي عن شي ء إنّما يصحّ فيما إذا كان الشخص في معرض إرتكاب ذلك الشي ء، وهو ممنوع في مورد الآية، لأنّا لا نرى من نفر جميع المسلمين إلى محضر الرسول للتفقّه أثراً في الأخبار والتاريخ.

ثانياً: أنّه خلاف اتّحاد سياق هذه الآية مع الآية السابقة واللاحقة لأنّ موردها هو الجهاد.

الوجه الرابع: أن تكون الآية ناظرة إلى جماعة من الصحابة كانوا يتوجّهون من المدينة إلى القبائل لتبليغ الأحكام والناس يهدون إليهم هدايا وعطايا، وصار هذا الأمر سبباً لإتّهامهم بعدم الخلوص في نيّاتهم فتركوا هذه الرسالة، فنزلت الآية.

ويرد على هذا الوجه

أيضاً أنّه لا يساعد صدر الآية الظاهر في أنّ جميع المؤمنون كانوا يخرجون من المدينة، بينما المفروض في هذا الوجه خروج جماعة منهم، هذا أوّلًا.

وثانياً: لازم هذا الوجه أن يكون النفر للتعليم لا للتفقّه.

الوجه الخامس: أن نلتزم بالتفكيك بين النفر الأوّل وبين النفر الثاني، فيكون الأوّل بمعنى النفر إلى الجهاد، والثاني بمعنى النفر إلى التفقّه، فمعنى الآية: أيّها المؤمنون لا يخرج جميعكم إلى الجهاد بل تخرج طائفة إليه وطائفة إلى التعلّم والتفقّه.

وفيه: أنّه خلاف وحدة السياق فإنّها تقتضي أن يكون النفر في الآية بمعنى واحد.

فقد ظهر من جميع ما ذكرنا أنّه يلزم إرتكاب خلاف الظاهر على كلّ حال.

لكن الإنصاف أنّ أخفّها مؤونة وأقلّها محذوراً هو التفسير الأوّل كما يؤيّده ما ورد في ذيل الآية من شأن النزول فإنّها وردت بعد نزول آيات الجهاد وذمّ المنافقين لأجل تركهم الجهاد، فكان المؤمنون يخرجون إلى الجهاد جميعاً لئلا يعمّهم ذمّ الآيات، فنزلت الآية ونهت عن خروج الجميع، هذا أوّلًا.

ويؤيّده ثانياً: ما رواه الشيخ الطبرسي رحمه الله في مجمع البيان (وأسنده إلى الإمام الباقر عليه السلام انوار الأصول، ج 2، ص: 410

مباشرةً وبقوله: «قال الباقر عليه السلام» مع أنّه ممّن لا يقول بحجّية خبر الواحد) قال: قال الباقر عليه السلام:

«كان هذا حين كثر الناس فأمرهم اللَّه سبحانه أن تنفر منهم طائفة وتقيم طائفة للتفقّه وأن يكون الغزو نوباً» «1».

فقد صرّحت هذه الرّواية بما قدّرت في الآية بناءً على هذا التفسير، أي قوله عليه السلام: «وتقيم طائفة» وقد اختار هذا التفسير كثير من المفسّرين.

هذا كلّه بالنسبة إلى نفس الآية مع قطع النظر عن الرّوايات الواردة في ذيلها.

وهنا إشكال مهمّ ينشأ من روايات كثيرة تبلغ اثنتا عشرة رواية تشهد بأنّ النفر في

الآية بمعنى النفر إلى التفقّه لا الجهاد، وأكثرها واردة في مورد قوم أخبروا بموت إمامهم المعصوم فيسأل الراوي عن أنّهم كيف يصنعون؟ فيتلو الإمام في الجواب هذه الآية لبيان أنّ الوظيفة حينئذٍ هي الخروج في الطلب والنفر إلى التفقّه في معرفة الإمام اللاحق.

منها: ما رواه يعقوب بن شعيب عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: قلت: ليسوا إذا هلك الإمام فبلغ قوماً له بحضرته؟ قال: «يخرجون في الطلب فإنّهم لا يزالون في عذر ما داموا في الطلب، قلت:

يخرجون كلّهم أو يكفيهم أن يخرجوا بعضهم؟ قال إنّ اللَّه عزّوجلّ يقول: «فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» قال هؤلاء المقيمون في السعة حتّى يرجع إليهم أصحابهم» «2».

ومنها: ما رواه عبدالأعلى قال: قلت: لأبي عبداللَّه عليه السلام بلغنا وفاة الإمام؟ وقال: «عليكم النفر. قلت: جميعاً؟ قال: إنّ اللَّه يقول: «فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ» الآية. قلت: نفرنا فمات بعضنا في الطريق؟ قال فقال: «وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ- إلى قوله- أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» قلت: فقدمنا المدينة فوجدنا صاحب هذا الأمر ... الخ» «3».

إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا المعنى.

ويمكن الجواب عنه بأنّ استدلال الإمام عليه السلام في هذه الرّوايات ربّما يكون بما يستنتج من انوار الأصول، ج 2، ص: 411

الآية وبملاك يستفاد منها، وهو أنّ تحصيل العلم والتفقّه في الدين واجب كفائي (كما أنّ الجهاد واجب كفائي والنفر مقدّمة له) فالرواية تقول حينئذٍ: إذا كان التعلّم واجباً ووجب امتثال هذا الوجوب فلا فرق بين الإقامة والخروج لأجل تحقّق الامتثال، ولا يخفى أنّ هذا لا ينافي التفسير الأوّل وكون النفر بمعنى

النفر إلى الجهاد، هذا أوّلًا.

وثانياً: غاية ما تقتضيه هذه الرّوايات كونها قرينة على أنّ النفر في الآية استعمل في النفر إلى الجهاد والنفر إلى التفقّه معاً، أي أنّه استعمل في أكثر من معنى، وهو جائز على المختار عند وجود القرينة أو استعمل في معنى جامع بينهما.

هذا كلّه في تفسير الآية، أي المقام الأوّل من البحث، وستعرف إن شاء اللَّه أنّ الاختلاف في هذا المقام ليس له أثر كثير في ما نحن بصدده.

أمّا المقام الثاني: فهو في كيفية الاستدلال بهذه الآية لحجّية خبر الواحد ...

فنقول: الاستدلال بها يكون منّا يقوم على أساس دلالة قوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» على وجوب الحذر عند إنذار المتفقّه في الدين مطلقاً سواء حصل منه العلم أو لا، وهو معنى حجّية خبر الواحد تعبّداً.

وأمّا كيفية دلالة كلمة «لعلّ» على الوجوب فهي من وجوه شتّى:

الوجه الأول: أن يقال: إنّ كلمة «لعلّ» وإن كانت مستعملة في معناها الحقيقي، وهو إنشاء الترجّي حتّى فيما إذا وقعت في كلامه تعالى، ولكن بما أن الداعي إلى الترجّي يستحيل في حقّه تعالى لأنّ منشأه عبارة عن الجهل والعجز فلا محالة تكون مستعملة بداعي طلب الحذر، وإذا ثبت كون الحذر مطلوباً ثبت وجوبه لأنّه لا معنى لحسن الحذر ورجحانه بدون وجوبه، فإنّ المقتضي للحذر إن كان موجوداً فقد وجب الحذر وإلّا فلا يحسن من أصله.

أقول: إنّ هذا الوجه تامّ إلّامن ناحية ما ذكر في مقدّمته من استحالة الترجّي في حقّه تعالى لأنّ المأخوذ في مادّة الترجّي هو الحاجة إلى شرائط غير حاصلة، وعدم حصول الشرائط تارةً يكون من جانب المتكلّم وهو اللَّه تعالى في الآية، واخرى من ناحية المخاطب وهو الناس فيها، ففي ما نحن فيه وإن كانت الشرائط

حاصلة من جانبه تعالى إلّاأنّها غير حاصلة من جانب الناس، فاستعملت «لعلّ» في معناها الحقيقي.

وعلى كلّ حال يستفاد من كلمة «لعلّ» في الآية مطلوبيّة الحذر (وهي مساوقة مع انوار الأصول، ج 2، ص: 412

الوجوب) سواء كانت مستعملة في معناها الحقيقي أو في معناها المجازي.

الوجه الثاني: أنّ الحذر جعل غاية للإنذار الواجب (لظهور الأمر بالإنذار في قوله تعالى «وَلِيُنذِرُوا» في الوجوب) وغاية الواجب إذا كانت من الأفعال الاختياريّة واجبة كما أنّ مقدّمة الواجب واجبة لوجوب الملازمة بينهما.

الوجه الثالث: أنّ وجوب الإنذار والتفقّه مع عدم وجوب الحذر يستلزم اللغو.

الوجه الرابع: الإجماع المركّب، فإنّ الامّة بين من لا يقول بحجّية خبر الواحد أصلًا، وبين من يقول بوجوب العمل به، فالقول برجحان العمل به دون وجوبه قول بالفصل.

أقول: لا إشكال في بطلان بعض هذه الوجوه أو كونها قابلة للمناقشة، وهو الوجه الثالث والرابع، أمّا الرابع فلعدم حجّية الإجماع البسيط في مثل المقام الذي يكون- على الأقل- محتمل المدرك فضلًا عن الإجماع المركّب.

وأمّا الوجه الثالث: فلعدم لزوم اللغويّة لإمكان أن يكون وجوب الإنذار لغاية حصول العلم، ويكفي، في نفي اللغوية ترتّب الأثر في الجملة فيبقى الوجه الأوّل والثاني، ولا بأس بهما.

لكن يرد على الاستدلال بهذه الآية إشكالات عديدة لا يتمّ الاستدلال بها من دون دفعها:

الأوّل: أنّ الآية وردت في مقام بيان وظيفة المتفقّهين النافرين لا وظيفة قومهم بعد الرجوع إليهم.

ويمكن الذبّ عنه مضافاً إلى عدم وروده على الوجه الثاني من الوجوه المذكورة في تفسيرها (لأنّ غاية الواجب واجبة على الباقين) بأنّ ظاهر الآية أنّها في مقام بيان وظيفة كلتا الطائفتين طائفة المنذرين بالكسر وطائفة المنذرين بالفتح، فتطلب من الاولى الإنذار لظهور الأمر (ولينذروا) في الوجوب ومن الثانية القبول لما مرّفي الوجه

الأوّل من دلالة كلمة «لعلّ» على معنى الطلب.

الثاني: أنّ الظاهر من الآية هو حجّية قول المجتهد بالنسبة إلى مقلّديه، لأنّ التفقّه والإنذار بما تفقّه من وظيفة المجتهد لا الناقل للرواية، لأنّ وظيفة الناقل النقل والإخبار لا تعيين تكليف المخبر به، فلا ربط للآية بحجّية خبر الواحد الذي هو محلّ الكلام.

إن قلت: كيف، مع أنّه لم يكن للفقه والاجتهاد بالمعنى المصطلح في عصر الأئمّة عين ولا أثر؟

انوار الأصول، ج 2، ص: 413

قلنا: لا إشكال في وجود هذا المعنى في ذلك الزمان على حدّه البسيط وفي دائرة تخصيص العام وتقييد المطلق وتقديم النصّ على الظاهر وشبه ذلك، والإنصاف أنّ مفاد الآية ليس على حدّ الاجتهاد المصطلح ولا على حدّ البيان الساذج للخبر، بل المستفاد منها عرفاً كون الناقلين للأخبار من قبيل ناقلي فتاوي المجتهدين والمنصوبين من قبلهم لنقل المسائل العمليّة وتوضيحها لمقلّديهم في يومنا هذا، ولا إشكال في قابليتهم للإنذار ولا إشكال أيضاً في تحقّق الإنذار بتوسّطهم أي يتحقّق الإنذار بمجرّد نقل الرواة عن الأئمّة عليهم السلام ولا يشترط فيه التفقّه بالمعنى المصطلح كما لا يشترط في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا ريب.

الثالث: أنّ المأخوذ في التفقّه والإنذار في الآية عنوان الطائفة، وهي عبارة عن الجماعة وإخبار الجماعة يوجب العلم، فتكون الآية خارجة عن محلّ البحث.

والجواب عنه واضح، لأنّ المقصود من الطائفة هو معناها الحقيقي نظير المراد في قوله تعالى: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ» وفي قولك: «سل العلماء ما جهلت» وقولك: «راجع الأطباء في مرضك» وقوله تعالى: «وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ» وقوله تعالى: «وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» ونظيرها ممّا لا شكّ في أنّ المخاطب فيه كلّ واحد من الأفراد والمصاديق مستقلًا لا الجماعة بما هي جماعة.

الرابع:

أنّ الآية ناظرة إلى اصول الدين وتحصيل المعارف الدينيّة بقرينة الرّوايات التي وردت في ذيلها الدالّة على وظيفة المؤمنين في تعيين الإمام اللاحق بعد وفاة الإمام السابق، وقد مرّ بعضها في البحث عن المقام الأوّل، ولا إشكال في اعتبار حصول العلم في الاصول، فتكون الآية خارجة عن محلّ البحث.

والجواب عنه: أنّ الآية عامّة تعمّ الفروع أيضاً لأنّه لا وجه لتخصيصها بالاصول، أمّا الرّوايات فإنّها غاية ما تثبته أنّ اصول الدين مشمولة للآية ولا تدلّ على انحصارها بها.

3- آية الكتمان وهي قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ انوار الأصول، ج 2، ص: 414

لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللَّاعِنُونَ» «1»

، وقوله: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ...» «2».

وتقريب الاستدلال بهما: أنّ حرمة الكتمان ووجوب الإظهار يلازم وجوب القبول وألّا يكون لغواً.

نعم إنّه تامّ بالنسبة إلى الآية الاولى، لأنّ الموضوع فيها هو مجرّد الكتمان، وأمّا الآية الثانية فيمكن الإشكال فيها بأنّ مجرّد الكتمان فيها ليس موضوعاً للحرمة بل أخذ في الموضوع أنّهم يشترون بكتمان الحقّ ثمناً قليلًا، فالصالح للاستدلال هو الآية الاولى فقط.

وإستشكل فيها أوّلًا: بأنّها واردة في اصول العقائد كما يشهد به شأن نزولهما.

واجيب عنه: بأنّها مطلقة تعمّ الفروع والاصول معاً لأنّ الآية تشمل ما إذا كتم فقيه حرمة الربا مثلًا بالوجدان، ولا دخل لخصوصيّة المورد لأنّ المورد ليس مخصّصاً.

وثانياً: أنّه من الممكن أن تكون فائدة حرمة الكتمان ووجوب الإظهار هو حصول العلم من قولهم لأجل تعدّدهم لا العمل بقولهم وإن لم يحصل العلم من إخبارهم.

وإن شئت قلت: إنّا فهمنا وجوب القبول من برهان

اللغويّة لا من اللفظ حتّى يدّعي الإطلاق بالنسبة إلى مورد عدم حصول العلم.

4- آية أهل الذكر

وهي قوله تعالى: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ» وقد وردت في موضعين من الكتاب الكريم: أحدهما: سورة النحل: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ» «3»

، والثاني: سورة الأنبياء: «وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ» «4»

، (والفرق بين الآيتين منحصر

انوار الأصول، ج 2، ص: 415

في كلمة «من» فإنّها وردت في الاولى لا الثانية).

وهاتان الآيتان بشهادة صدرهما نزلتا في من كانوا يعترضون على النبي صلى الله عليه و آله بأنّه لِمَ خلق بشراً أو لا يكون معه ملك، فأجابتا عن هذا الإشكال بأنّ هذا ليس أمراً جديداً بل كان الأمر كذلك في الأنبياء السلف، وإن أردتم شاهداً على هذا فاسألوا أهل الذكر، فمورد الآية مسألة من مسائل أصل النبوّة (الذي هو من جملة اصول الدين) وهي أنّه هل يمكن أن يكون النبي صلى الله عليه و آله بشراً أو لا؟

والاستدلال بهذه الآية لحجّية خبر الواحد يرجع أيضاً إلى برهان اللغويّة، وتقريبه: أنّ ظاهر الأمر بالسؤال هو وجوبه، ووجوبه ملازم لوجوب القبول، وإلّا يكون وجوب السؤال لغواً، وإطلاقه يشمل السؤال الذي يحصل من جوابه العلم وما يحصل من جوابه الظنّ، أي يجب القبول سواء حصل العلم أم لا؟

ولكن يرد عليه:

أوّلًا: ما أورده كثير من الأعلام وهو أنّه يمكن أن تكون فائدة وجوب السؤال هي حصول العلم بالسؤال فيخرج عن اللغويّة.

ويمكن دفع هذا الإشكال بإطلاق وجوب السؤال، لأنّ لازمه إطلاق وجوب القبول.

وثانياً: أنّ مفادها أخصّ من المدّعى، لأنّها تدلّ على وجوب القبول في خصوص مورد السؤال، بينما محلّ النزاع

مطلق أخبار الثقة سواء كان في قبال سؤال أم لم يكن.

والجواب عنه واضح وهو أنّ الفهم العرفي يوجب إلغاء الخصوصيّة عن مورد السؤال.

وثالثاً: أنّ قوله تعالى «أهل الذكر» ظاهر في أهل الخبرة، فيدلّ على حجّية قول أهل الخبرة لوجود تفاسير مختلفة لأهل الذكر في كلمات المفسّرين فبعضهم فسّره بالقرآن لأنّ من أسامي القرآن الذكر كما ورد في قوله تعالى: «وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ» «1»

وبعضهم فسّره بأهل الكتاب من علماء اليهود والنصارى، والمقصود من السؤال منهم حينئذٍ هو السؤال عن علائم النبوّة الموجودة في التوراة والإنجيل، وثالث فسّره بأهل العلم بأخبار الماضين، ورابع فسّره بالأئمّة صلوات اللَّه عليهم لأنّ من أسامي الرسول أيضاً الذكر كما ورد في قوله تعالى:

انوار الأصول، ج 2، ص: 416

«قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولًا» «1»

وقد أُيّد هذا التفسير بروايات وردت في هذا المعنى.

لكن الصحيح أنّ المراد منه أهل العلم عامّة وأنّ كلّ واحد من هذه الاحتمالات بيان لمصداق من المصاديق وتفسير للآية بالمصداق كما هو المتداول في كثير من كتب التفسير وكذا الرّوايات، وذلك باعتبار أنّ الذكر في اللغة بمعنى العلم مطلقاً ومن دون تقيّد وخصوصيّة، ويشهد عليه ملاحظة موارد استعمال هذه المادّة ومشتقّاتها في القرآن الكريم كقوله تعالى:

«لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» فيكون المراد من كلمة «الأهل» كلّ من كان عالماً وخبيراً في موضوع من الموضوعات ومسألة من المسائل، ولا وجه لتخصيصه بمصداق دون مصداق.

وعليه يكون الاستدلال بهذه الآية في باب التقليد أولى ممّا نحن فيه.

لكن المحقّق الخراساني رحمه الله حاول الجواب عن هذا الإشكال بأنّ مثل زرارة ومحمّد بن مسلم وغيرهما من أجلّاء الرواة كانوا من أهل العلم، فيجب قبول روايتهم، وإذا وجب قبول روايتهم وجب قبول رواية من ليس من أهل العلم

بالإجماع المركّب.

والإنصاف أنّه غير تامّ، لأنّ المستفاد من الآية وجوب السؤال عن مثل زرارة وقبول روايته من حيث إنّه من أهل العلم والخبروية لا بما أنّه راوٍ وناقل للرواية حتّى يتعدّى عنه إلى سائر الرواة.

وإن شئت قلت: هو دليل على جواز رجوع الجاهل إلى العالم وإمضاء لبناء العقلاء في هذا الأمر، وأمّا الإجماع المركّب فلا إشكال في عدم حجّيته في مثل هذه المسألة.

ورابعاً: أنّ الآية وردت في اصول العقائد ولا كلام في عدم حجّية خبر الواحد فيها.

ويمكن الجواب عن هذا أيضاً بأنّ الآية مطلقة تشمل الاصول والفروع، غاية الأمر لابدّ في الاصول من إضافة قيد من الخارج وهو اعتبار حصول العلم.

فقد ظهر أنّ جميع ما اورد على الاستدلال بهذه الآية مدفوعة إلّاالإشكال الثالث، وهو أنّها واردة في حجّية قول أهل الخبرة، ولهذا استدلّ كثير من العلماء بها في باب الاجتهاد والتقليد بل هي من أهمّ أدلّة ذلك الباب.

هذا كلّه في الإستلال لحجّية خبر الواحد بالكتاب، وهو الدليل الأوّل.

الدليل الثاني: السنّة

ويتضمّن الاستدلال بروايات متواترة وردت أكثرها في الباب التاسع والباب الحادي عشر من أبواب صفات القاضي في الوسائل، إلّاأنّ مضامينها مختلفة، وهي طوائف:

الطائفة الاولى: الأخبار الآمرة بالرجوع إلى أشخاص معينين من الرواة والأصحاب أو إلى كتبهم:

منها: ما رواه شعيب العقرقوفي قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: ربّما إحتجنا أن نسأل عن الشي ء فمن نسأل؟ قال: «عليك بالأسدي يعني أبا بصير» «1».

ومنها: ما رواه يونس بن عمّار عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال له في حديث: «أمّا ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السلام فلا يجوز لك أن تردّه» «2».

ومنها: ما رواه المفضّل بن عمر أنّ أبا عبداللَّه عليه السلام قال للفيض بن المختار في حديث: «فإذا

أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس، وأومى إلى رجل من أصحابه فسألت أصحابنا عنه.

فقالوا: زرارة بن أعين» «3».

وتقريب الاستدلال بهذه الطائفة أنّها وإن لم تصرّح بحجّية خبر الثقة بنحو الكبرى الكلّية ولكن يستفاد ذلك من مجموعها بل من كلّ فرد منها لضرورة عدم خصوصيّة لأشخاصهم فلم توجب حجّية كلامهم إلّاوثاقتهم وأمانتهم على الدين والدنيا، فمن كان من غير هؤلاء وكان بصفاتهم كان خبره حجّة ومعتبراً.

الطائفة الثانية: الأخبار التي تدلّ على حجّية خبر الثقات بنحو الكبرى الكلّية من دون اختصاص بأشخاص معينين:

منها: ما جاء في مقبولة عمر بن حنظلة من قوله عليه السلام: «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر» «4».

فيستفاد من تعبيره ب «أصدقهما» أنّ الصدق يوجب الحجّية ولذلك يكون مرجّحاً عند التعارض.

انوار الأصول، ج 2، ص: 418

ومنها: ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: قلت له: ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لا يتّهمون بالكذب فيجي ء منكم خلافه؟ قال: «إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن» «1».

ومنها: ما رواه الحسن بن الجهم عن الرضا عليه السلام قال: قلت له: تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة، فقال: «ما جاءك عنّا فقس على كتاب اللَّه عزّوجلّ وأحاديثنا، فإن كان يشبههما فهو منّا وإن لم يكن يشبههما فليس منّا»، قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيّهما الحقّ، قال: «فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت» «2».

فلا يخفى أنّ الحكم في هذه الرّوايات تعلّق بعناوين كلّية وهي: «الصادق في الخبر» في الرّواية الاولى، و «غير المتّهم بالكذب» في الرّواية الثانية، و «الثقة» في الرّواية الثالثة، فصدر الحكم

على نهج القضيّة الحقيقيّة.

ومنها: ما رواه عبدالعزيز بن المهتدي والحسن بن علي بن يقطين جميعاً عن الرضا عليه السلام:

قال: قلت: لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلّ ما أحتاج إليه من معالم ديني، أفيونس بن عبدالرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: «نعم» «3».

فقد أمضى الإمام في هذه الرّواية ما كان مرتكزاً في ذهن الراوي من حجّية قول الثقة لأنّ الراوي سأل عن وثاقة يونس بن عبدالرحمن وعن أخذ معالم دينه منه لكونه ثقة، والإمام عليه السلام أجاب عن كلا السؤالين بقوله «نعم»، فكأنّه أمضى الصغرى والكبرى جميعاً.

ومنها: ما ورد في التوقيع الشريف الوارد على القاسم بن العلاء: «فإنّه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فما يرويه عنّا ثقاتنا، قد عرفوا بأنّا نفاوضهم سرّنا ونحملهم إيّاه إليهم» «4».

فإنّ الحكم فيها بعدم جواز التشكيك أيضاً تعلّق بموضوع الثقة.

ومنها: ما رواه أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن عليه السلام سألته وقلت: من اعامل؟ وعمّن آخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال: «العمري ثقتي فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي وما قال لك عنّي انوار الأصول، ج 2، ص: 419

فعنّي يقول، فاسمع له وأطع فإنّه الثقة المأمون» قال: وسألت أبا محمّد عليه السلام عن مثل ذلك فقال:

«العمري وابنه ثقتان فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما فإنّهما الثقتان المأمونان» «1».

الإنصاف أنّ قوله عليه السلام: «فإنّه الثقة المأمون» أو قوله عليه السلام في ذيل الحديث: «فإنّهما الثقتان المأمونان» بمنزلة تعليق حرمة الخمر بقولك: «لأنّه مسكر» فيدلّ على أنّ الميزان في حجّية خبر الواحد كون المخبر ثقة.

الطائفة الثالثة: روايات اخرى ذات تعابير مختلفة تدلّ على كلّ حال على حجّية خبر الثقة:

منها:

ما رواه إسحاق بن يعقوب قال: سألت محمّد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ، فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان عليه السلام: «أمّا ما سألت عنه أرشدك اللَّه وثبّتك- إلى أن قال-: وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللَّه وأمّا محمّد بن عثمان العمري فرضى اللَّه عنه وعن أبيه من قبل، فإنّه ثقتي وكتابه كتابي» «2».

فهذه الرّواية وإن استدلّ بها في باب التقليد وباب ولاية الفقيه لكن يمكن أن يستدلّ بها أيضاً في باب الحديث والأخبار بالأحاديث خصوصاً مع ملاحظة التعبير الوارد فيها ب «رواة أحاديثنا»، فإنّها في الجملة تدلّ على حجّية خبر الواحد وإن اعتبرنا فيها شرائط وخصوصيّات، ولا يخفى أنّ محلّ النزاع حجّية خبر الواحد في الجملة، كما يمكن إدراج هذه الرّواية في الطائفة الثانية لما ورد في ذيلها: «فإنّه ثقتي وكتابه كتابي».

ومنها: ما رواه أبو العبّاس الفضل بن عبدالملك قال سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: «أحبّ الناس إليّ أحياءً وأمواتاً أربعة: يزيد بن معاوية الجبلي، وزرارة، ومحمّد بن مسلم، والأحول وهم أحبّ الناس إليّ أحياءً وأمواتاً» «3».

فإنّها تدلّ على حجّية خبر الثقة في الجملة بالدلالة الالتزاميّة كما لا يخفى.

انوار الأصول، ج 2، ص: 420

ومنها: ما رواه علي بن مهزيار قال: قرأت في كتاب لعبداللَّه بن محمّد إلى أبي الحسن عليه السلام اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبداللَّه عليه السلام في ركعتي الفجر في السفر فروى بعضهم صلّها في المحمل وروى بعضهم لا تصلّها إلّاعلى الأرض، فوقّع عليه السلام: «موسّع عليك بأيّة عملت» «1».

هذه هي الطوائف الثلاثة من الأخبار الدالّة على حجّية خبر الواحد.

وإستشكل فيها أوّلًا: بإمكان

المنع عن كونها متواترة لأنها مع كثرتها منقولة عن عدّة كتب خاصّة لا تبلغ حدّ التواتر مع أنّ الشرط في تحقّق التواتر كونها متواترة في جميع الطبقات، والتواتر في جميعها ممنوع مع ما عرفت.

وثانياً: بأنّه لو سلّمنا كونها متواترة إلّاأنّه لا يوجد بين الأخبار خبر يكون جامعاً لعامّة الشرائط، أي دالًا على حجّية قول مطلق الثقة، لأنّ القدر المتيقّن من تلك الأخبار هو الخبر الحاكي من الإمام بلا واسطة مع كون الراوي من الفقهاء نظراء زرارة ومحمّد بن مسلم وأبي بصير، ومعلوم أنّه ليس بينها خبر واجد لجميع الشرائط حتّى شرط عدم الواسطة.

ولكن يمكن الجواب عن كلا الإشكالين: أمّا عن الأوّل: فبأنّه لو لم تكن الأخبار متواترة فلا أقلّ من وجود خبر بينها محفوف بالقرائن القطعيّة أو الاطمئنانيّة يدلّ على حجّية خبر مطلق الثقة، وهذا المقدار لا يضرّنا ولا بأس به لأنّ المهمّ هو القطع بالصدور.

وأمّا عن الثاني: فبأنّه أوّلًا: كلّ واحدة من الطوائف الثلاثة للأخبار قطعية الصدور وإن لم يكن بينها مصداق للخبر المتواتر في المصطلح، ولا إشكال في دلالة بعض هذه الطوائف على حجّية خبر الثقة مطلقاً.

ثانياً: أنّ جميع الرّوايات (باستثناء روايتين أو ثلاث روايات ممّا ورد فيها نظير مضمون:

«ما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان») ظاهرة في الأعمّ من الأخبار مع الواسطة ويكون القدر المتيقّن حينئذٍ ما كانت سلسلة الرواة فيها من الفقهاء نظراء زرارة من دون فرق بين كونها مع الواسطة أو بلا واسطة، فلو ظفرنا على رواية جامعة لهذه الشرائط ويكون مفادها حجّية خبر الثقة مطلقاً يثبت المطلوب سواء كانت مع الواسطة أو بدون الواسطة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 421

ويمكن أن تكون من هذا القبيل رواية أحمد بن إسحاق المذكورة آنفاً، لأنّ رجال

السند فيها كلّهم من أجلّاء الأصحاب الذين يعتنى بشأنهم، ولا إشكال أيضاً أنّ قوله عليه السلام: «فإنّه الثقة المأمون» وما ورد في ذيل هذا الحديث من قوله عليه السلام: «فإنّهما الثقتان المأمونان» بمنزلة الكبرى الكلّية يدلّ على حجّية خبر الثقة مطلقاً.

فقد ثبت من جميع ما ذكرنا أنّ الاستدلال على حجّية خبر الثقة بالسنّة في محلّه.

الدليل الثالث: الإجماع

وتارةً يراد به الإجماع القولي من العلماء، واخرى الإجماع العملي منهم بل من كافّة المسلمين ويمكن التعبير عنه بسيرة المسلمين أيضاً، وثالثة السيرة العقلائيّة.

أمّا الإجماع بالمعنى الأوّل فهو ممنوع لكون المسألة خلافيّة، وكذا الإجماع بالمعنى الثاني، ولو سلّمنا تحقّق صغرى الإجماع لكنّه ليس بحجّة لأنّ مدارك المسألة معلومة، فطائفة منهم تمسّكوا بالدليل العقلي، واخرى بالأدلّة النقليّة من الآيات والرّوايات.

أمّا الإجماع بمعنى السيرة العقلائيّة: فهو استقرار طريقة العقلاء طرّاً على الرجوع إلى خبر الثقة مطلقاً، وهو حجّة ما لم يردع عنه الشارع.

إن قلت: يكفي في الردع الآيات الناهيّة عن اتّباع غير العلم.

قلنا: قد مرّ جوابنا عن هذه الآيات بأنّ المقصود من الظنّ الوارد فيها الوهم والخرافة.

إن قلت: إنّ استقرار سيرة العقلاء على العمل بخبر الثقة إنّما هو من جهة حصول الوثوق والاطمئنان منه نوعاً وإلّا فلا خصوصيّة لخبر الثقة ولا لغيره أصلًا فعملهم بخبر الثقة خصوصاً في الامور المهمّة إنّما يكون فيما إذا أفاد الوثوق والاطمئنان لا بما هو هو، فلا يثبت بها حجّية الظنّ مطلقاً ولو لم يحصل إلى حدّ الوثوق، ولو سلّمنا شمولها لمطلق الظنّ إلّاأنّ دائرتها تختصّ بالأخبار بلا واسطة، ولو فرضنا شمولها للأخبار مع الواسطة أيضاً في زماننا هذا، إلّاأنّ رجوعها إلى عصر الأئمّة المعصومين عليهم السلام غير ثابت.

قلنا: لو راجعنا سيرة العقلاء في امورهم العامّة غير

الشخصية كتقسيم ضريبة ماليّة وتوزيعها بين الفقراء ونحو ذلك ممّا يصنع به في دائرة واسعة لعلمنا أنّهم يكتفون في تعيين انوار الأصول، ج 2، ص: 422

الفقراء وتشخيص الموضوعات والمصاديق بأخبار الثقات مطلقاً ولو لم يحصل الاطمئنان المقارب للعلم، بل ولو كان الخبر مع الواسطة فيكتفي مثلًا بوثيقة لتعيين الفقير الفلاني التي ارسلت من جانب شخص موثّق، كما أنّه المتعارف في الحوالات البنكيّة فإنّها تقبل من حامليها بمجرّد كونهم موثّقين مع أنّ احتمال مجعوليتها موجود، بل على هذا يدور رحى الحياة الاعتياديّة اليوميّة، وعليه أيضاً مدار المراجعات إلى التاريخ والأخبار الماضية فيكتفي فيها بتأليفات الموثّقين والكتب المعتبرة الموجودة من دون الإتّكاء على حصول يقين أو اطمئنان وإلّا لا طريق لنا للوصول إلى أخبار الماضين والاعتبار منها أصلًا.

وإن شئت فاختبر نفسك فيما إذا أردت تقسيم غلّة الأوقاف أو سهم الإمام وشبهها في مصارفها لا سيّما إذا كانت كثيرة فإنّك سوف تعرف أنّه لا مناصّ لك من قبول خبر الثقات في هذه الامور ولو لم يحصل العلم أو الاطمئنان.

وأمّا وجود هذه السيرة في عصر الأئمّة عليهم السلام فيشهد له ملاحظة الأسئلة الواردة من الرواة وتقريرات الأئمّة لهم التي مرّت جملة منها ضمن نقل الأخبار الدالّة على حجّية خبر الثقة.

ثمّ إنّ مخالفة أمثال السيّد المرتضى رحمه الله لا تضرّنا في المقام، أي ليست مضرّة بالإجماع المصطلح وذلك لجهتين:

الاولى: لعلّ مخالفتهم كانت من ناحية الضغط الوارد من جانب المخالفين واعتراضهم بأنّه لو كان خبر الواحد حجّة عندكم فكيف لا تعملون بأخبار الآحاد الواردة من طرقنا مع عدم إمكان جرح رواتهم من جانب هؤلاء؟

الثانية: أنّه يمكن حمل مخالفتهم بالنسبة للأخبار غير نقيّة السند المرويّة من غير الثقات من أصحاب الأئمّة أو في

الكتب غير المعتمدة، لأنّه لا شكّ في أنّهم كانوا يعملون بالأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة للشيعة ويستندون إليها في فتاويهم، نعم كان وجه عملهم بها اعتقادهم بأنّها محفوفة بقرائن قطعية أو اطمئنانيّة وهي ممنوعة عندنا فهم مشتركون معنا في أصل حجّية أخبار الثقات الموجودة في الكتب المعتبرة المعتمدة عليها للشيعة (التي هي محلّ الكلام في ما نحن فيه) إنّما الاختلاف في وجه الحجّية فمخالفتهم ليست مضرّة بثبوت الإجماع على العمل بها.

ثمّ إنّ المهمّ في الجواب عن الآيات الناهيّة التي قد يتوهّم رادعيتها للسيرة العقلائيّة هو ما

انوار الأصول، ج 2، ص: 423

مرّ من أنّ المراد من الظنّ الوارد فيها هو الوهم والخرافة التي ليست مبنية على أساس برهاني متين.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه الله بوجوه كلّها غير تامّة:

أحدها: أنّها واردة إرشاداً إلى عدم كفاية الظنّ في اصول الدين.

وقد مرّ سابقاً أنّ هذا الجواب صحيح بالنسبة إلى بعض الآيات لا جميعها.

ثانيها: أنّها منصرفة عن الظنّ الذي قام الدليل على حجّيته.

وفيه: أنّه مجرّد دعوى بلا شاهد.

ثالثها: أنّ رادعيّة الآيات عن سيرة العقلاء دوريّة لأنّ رادعيّة الآيات بعمومها متوقّفة على حجّية هذا العموم، وحجّيته موقوفة على عدم كون السيرة مخصّصة له إذ لو كانت مخصّصة له لم يبق لها عموم حتّى تكون بعمومها حجّة رادعة عن السيرة، وعدم كون السيرة مخصّصة لعموم الآيات أيضاً موقوف على عموميتها فكون الآيات رادعة عن السيرة متوقّف على عدم كون السيرة مخصّصة، بينما عدم كون السيرة مخصّصة لها أيضاً متوقّف على كون الآيات رادعة عنها، وهو دور محال.

أقول: العجب من هذا البيان لأنّ القضيّة على العكس فإنّ المقتضى لحجّية العمومات والإطلاقات خصوصاً في المخصّص المنفصل موجود والمانع عنها يحتاج إلى دليل بخلاف السيرة لأنّها

ليست حجّة في حدّ ذاتها بل يتحقّق المقتضي لحجّيتها بإمضاء الشارع وعدم ردعها.

وإن شئت قلت: السيرة العقلائيّة في حدّ ذاتها ناقصة من حيث الحجّية لا تتمّ إلّابإمضاء الشارع ولكن ظهور العام حجّة تامّة إلّاأن يمنع عنه مانع، فما دام لم يثبت المانع نأخذ بهذا الظهور، وأمّا السيرة فليست كذلك، فإنّها إذا لم يثبت إمضاء الشارع بقيت غير حجّة، فحجّية العمومات ليست متوقّفة على إثبات عدم كون السيرة مخصّصة، ولكن حجّية السيرة تتوقّف على إثبات إمضاء الشارع وعدم كون الآيات رادعة.

الدليل الرابع: العقل
اشارة

وتقريره من وجوه:

الوجه الأوّل: العلم الإجمالي بصدور جملة كثيرة من الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة المشتملة على الأحكام الإلزاميّة الوافية بمعظم الفقه بحيث لو علم تفصيلًا ذاك المقدار لأنحلّ علمنا الإجمالي بثبوت التكاليف بين الرّوايات وسائر الأمارات إلى العلم التفصيلي بالتكاليف في مضامين الأخبار الصادرة المعتبرة والشكّ البدوي في ثبوت التكليف في مورد سائر الأمارات غير المعتبرة، ولازم ذلك وجوب العمل على وفق جميع الأخبار المثبتة وجواز العمل على طبق النافيّة منها فيما إذا لم يكن في المسألة أصل مثبت للتكليف من قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب.

ويرد على هذا الوجه:

أوّلًا: أنّ مقتضى هذا الوجه هو الأخذ بالأخبار احتياطاً لا حجّيتها بالخصوص وأنّ العلم الإجمالي يقتضي هذا المقدار من العمل، ومن المعلوم أنّ الأخذ من باب الاحتياط يختلف عن الأخذ بها من باب الحجّية فإنّ الحجّة تخصّص وتقيّد وتقدّم على معارضها مع الرجحان وتوجب جواز إسناد الحكم إلى الشارع وجواز قصد الورود، بخلاف الأخذ بها احتياطاً فإنّه لا يترتّب عليه هذه الآثار.

وثانياً: أنّه يقتضي حجّية أخبار الثقات وغير الثقات جميعاً مع أنّ المدّعى هو حجّية خبر الثقة فقط.

ولكن يمكن الجواب عن هذا الإشكال بأنّ هنا دائرتين من

العلم الإجمالي الكبير والصغير، وإذا ظفرنا بالمقدار المعلوم بالإجمال في الدائرة الصغيرة لأنحلّ العلم الإجمالي من دائرته الكبيرة إلى الدائرة الصغيرة، نظير ما إذا علمنا إجمالًا بوجود شاة محرّمة في خصوص السود من الغنم، وعلمنا أيضاً بوجود شاة محرّمة في مجموع القطيع من السود والبيض جميعاً، فإذا عزلنا الشاة المحرّمة من السود تنحلّ دائرة العلم الإجمالي من مجموع القطيع إلى مقدار السود منها.

وقد يتوهّم انحلال هذا العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير، أي بالظفر على القدر المتيقّن والمعلوم بالإجمال في أخبار الثقات.

انوار الأصول، ج 2، ص: 425

وأجاب عنه شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله بدعوى أنّه لو عزلنا بمقدار المعلوم بالإجمال من أطراف الصغير، أي الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة، وضممنا الباقي إلى باقي الأطراف من العلم الإجمالي الكبير (أي سائر الأمارات الظنّية) لكان العلم الإجمالي باقياً، وهذا دليل على عدم انحلاله.

ولكن شيخنا العلّامة الحائري رحمه الله في الدرر قال: بعدم صحّة هذه الدعوى (دعوى الشيخ رحمه الله) واعتبر لعدم الانحلال المذكور وجود علم إجمالي آخر بالنسبة إلى سائر الأمارات وإليك نصّ كلامه: «ومن المعلوم عدم صحّة هذه الدعوى إلّابعد العلم بالتكاليف زائدة على المقدار المعلوم في الأخبار الصادرة إذ لولا ذلك لما حصل العلم بعد عزل طائفة من الأخبار لإمكان كون المعلوم بتمامه في تلك الطائفة التي عزلناها ... إلى أن قال: نعم يمكن منع العلم زائداً على ما حصل لنا من الأخبار الصادرة» «1».

أقول: الإنصاف صحّة دعوى الشيخ رحمه الله في بيان ما هو المعيار في تشخيص ما هو من أطراف العلم الإجمالي والمعرفة بعدم انحلاله، إذ لا حاجة إلى ملاحظة سائر الأمارات مستقلًا وعلى حدّها بل يمكن أن لا يحصل العلم الإجمالي بملاحظتها مستقلًا

ولكنّه يحصل بعد الضمّ من باب تراكم الظنون وعدم كونه من قبيل ضمّ العدم إلى العدم.

ويؤيّد هذا ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله في المقام وحاصله: إنّ هيهنا علوم إجماليّة ثلاثه:

العلم الإجمالي الأكبر، والعلم الإجمالي الكبير، والعلم الإجمالي الصغير، والمراد بالعلم الإجمالي الأكبر ما كان دائرة احتمال انطباق المعلوم بالإجمال مطلق مظنون التكليف الإلزامي ومشكوكه وموهومه سواء كان منشأ هذه الاحتمالات هي الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة أو سائر الأمارات الظنّية أو شي ء آخر، والمراد بالعلم الإجمالي الكبير هو ما كان أطرافه خصوص الأمارات الظنّية، والمراد بالعلم الإجمالي الصغير هو خصوص ما كان أطرافه موجودة في الكتب المعتبرة، والصحيح هو أنّ الإجمالي الأكبر ينحلّ بالكبير لأنّه لو عزلنا بمقدار المعلوم بالإجمال عن أطراف العلم الإجمالي الكبير وضممنا الباقي إلى باقي أطراف العلم الإجمالي الأكبر الذي أطرافه عبارة عن جميع ما هو مظنون الحرمة والوجوب انوار الأصول، ج 2، ص: 426

ومشكوكهما وموهومهما سواء كان من الأخبار أو من سائر الأمارات الظنّية أو من أي سبب آخر لا يبقى علم إجمالي آخر في البين وينعدم، وهذا علامة انحلال العلم الإجمالي الأكبر بالكبير، وأمّا الكبير فلا ينحلّ بالصغير، لأنّه لو عزلنا بمقدار المعلوم بالإجمال من أطراف العلم الإجمالي الصغير- أي الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة- وضممنا الباقي إلى باقي الأطراف من العلم الإجمالي الكبير، أي سائر الأمارات الظنّية، لكان العلم الإجمالي باقياً، وهذا علامة عدم انحلاله «1».

الوجه الثاني: وهو ما حكي عن صاحب الوافية من أنّه لا شكّ في تكليفنا بالأحكام الشرعيّة وخصوصاً الواجبات الضروريّة مثل الصّلاة والصّوم والحجّ والزّكاة وغير ذلك من الضروريات، ولا شكّ أيضاً في بقاء التكليف بهذه الامور إلى قيام يوم القيامة، ومن المعلوم أنّ

أجزاء هذه الامور وشرائطها وموانعها لا تثبت إلّابالخبر الواحد الموجود في الكتب، ولو لم يكن حجّة وجاز ترك العمل به لخرجت هذه الامور عن حقائقها وما كنّا نعرف أنّ هذه الامور ما هي؟ وهذا ينافي كونها ضروريّة وبقاء التكليف بها إلى يوم القيامة.

أقول: إنّ كلامه هذا مشتمل على مقدّمتين: الاولى: كون سلسلة من العبادات واجبة بضرورة من الدين إلى يوم القيامة، الثانية: أنّ لها أجزاء وشرائط مبثوثة في كتب الأخبار.

ويرد عليه:

أوّلًا: أنّه لا فرق بينه وبين الوجه السابق إلّاأنّ دائرته أضيق منه مع أنّه لا دليل على هذا التضييق لأنّا نعلم بدخول غير العبادات أيضاً في أطراف العلم الإجمالي.

وإن شئت قلت: لازم كلامه انحصار حجّية خبر الواحد بالعبادات وعدم حجّيته في مثل المعاملات والحدود والديّات، وهو كما ترى.

وثانياً: ما مرّ في الجواب عن الوجه الأوّل من أنّ هذا الدليل لا يثبت إلّالزوم الأخذ بخبر الواحد من باب الإحتياط لا الحجّية بالمعنى الذي يكون مخصّصاً للعمومات ومقيّداً للمطلقات والذي لأجله يكون الإسناد إلى اللَّه تعالى جائزاً.

وثالثاً: عدم شمولها للأخبار النافيّة واختصاصها بالمثبتة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 427

ورابعاً: حجّية أخبار غير الثقات وعدم اعتبار الوثاقة مع أنّ كلّ من قال بحجّية خبر الواحد اعتبر، قيوداً مثل قيد الوثاقة أو كون الخبر في الكتب المعتبرة، اللهمّ إلّاأن يقال بانحلال العلم الإجمالي بخصوص أخبار الثقات أو ما في الكتب المعتبرة.

وخامساً: ما مرّ أيضاً في الوجه الأوّل من أنّ دائرة العلم الإجمالي أوسع من هذا المقدار لكون جميع الأمارات الظنّية من الشهرات والإجماعات المنقولة داخلة فيها.

الوجه الثالث: ما ذكره المحقّق النحرير صاحب الحاشية (الشيخ محمّد تقي رحمه الله أخو صاحب الفصول) في حاشيته على المعالم وهو أنّ وجوب العمل بالكتاب والسنّة

ثابت بالإجماع والضرورة والأخبار المتواترة، ولا شكّ في بقاء هذا التكليف بالنسبة إلينا أيضاً بنفس الأدلّة المذكورة، وحينئذٍ فإن أمكن الرجوع إليهما على نحو يحصل منهما العلم بالحكم أو الظنّ الخاصّ به فهو، وإلّا فالمتّبع هو الرجوع إليهما على وجه يحصل الظنّ بالطريق أو بالحكم، وإذاً يجب العمل بالروايات التي يظنّ بصدورها للظنّ بوجود السنّة فيها «1».

والفرق بين هذا الوجه والوجهين السابقين أنّ متعلّق العلم الإجمالي في هذا الوجه هو ما ورد في الكتاب والسنّة، وفي الوجهين السابقين هو الأحكام الواقعيّة.

والصحيح في الجواب عنه أن يقال: إن كان المراد من السنّة هذه الأخبار الحاكيّة لقول المعصوم عليه السلام أو فعله أو تقريره الموجودة في كتب الحديث بما هي هي، أي أنّ لهذه الأخبار موضوعيّة فوجوب الرجوع إليها بهذا الوجه أوّل الكلام، وإن كان المراد أنّها بما هي طريق إلى أحكام اللَّه الواقعيّة وبما أنّا نعلم بصدور كثير منها فإن أمكن الاحتياط والإتيان بجميع الأخبار فيرجع إلى الوجه الأوّل ويكون الجواب هو الجواب، وإن لم يمكن الاحتياط فيرجع إلى دليل الانسداد الآتي.

نتيجة البحث في حجّية خبر الواحد:

قد تلخّص من جميع ما ذكرنا من أدلّة حجّية خبر الواحد أنّ الأدلّة التامّة الدلالة أو المقبولة عندنا أربعة:

انوار الأصول، ج 2، ص: 428

أحدها: آية النبأ حيث تدلّ على حجّية خبر العادل من باب مفهوم الوصف بل تدلّ على حجّية خبر الثقة بقرينة التعليل الوارد فيها.

ثانيها: آية النفر، وهي منصرفة إلى حجّة خبر الثقة.

ثالثها: الأخبار التي إن لم نقل بتواترها فلا أقلّ من كونها محفوفة بالقرائن القطعيّة، وهي تدلّ على حجّية مطلق خبر الثقة أيضاً.

رابعها: (وهو العمدة) بناء العقلاء، فإنّه قائم على حجّية الأخبار الموثوق بها وإن لم يكن المخبر ثقة، أي الملاك عندهم هو

الوثوق بالمخبر به لا المخبر، وهذا الوثوق يثبت تارةً من طريق وثاقة المخبر، واخرى من طريق وثاقة الكتب، وثالثة يحصل من عمل المشهور (الشهرة الفتوائيّة أو الروائيّة)، ورابعة من طريق علوّ المضامين كما في الصحيفة السجّاديّة ونهج البلاغة، وخامسة من طريق أنّ الخبر يكون من الأخبار التي لا داعي فيها على الكذب.

ثمّ إنّه هل الملاك عندهم هو الوثوق الشخصي أو النوعي؟

لا إشكال في أنّ الميزان في الاحتجاجات والمسائل الاجتماعيّة هو الوثوق النوعي، وأمّا المسائل الشخصية فيكون الملاك فيها هو الوثوق الشخصي.

5- حجّية مطلق الظن
اشارة

واستدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: وجوب دفع الضرر المظنون عقلا

ما يتشكّل من صغرى وكبرى، أمّا الصغرى فهي أنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبي أو التحريمي مظنّة للضرر، وأمّا الكبرى فهي أنّ دفع الضرر المظنون لازم عقلًا.

والدليل على الصغرى أنّ الظنّ بالوجوب ظنّ باستحقاق العقاب الاخروي على الترك كما أنّ ظنّ الحرمة ظنّ باستحقاق العقاب الاخروي على الفعل، أو لأنّ الظنّ بالوجوب أو الحرمة ظنّ بوجود المفسدة (الضرر الدنيوي) في الترك أو الفعل بناءً على قول العدليّة بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.

وأمّا الدليل على الكبرى فليس من باب الحسن أو القبح العقلي بل باب أنّ طبيعة الإنسان أن اجتناب الضرر وجلب إلى المنفعة.

والإشكالات متوجّهة غالباً إلى كبرى هذا الوجه، والظاهر قبولهم للصغرى مع أنّ كلّ واحد منهما غير تامّ.

أمّا الصغرى فبالنسبة إلى الضرر الاخروي نقول: نحن نعلم بعدمه لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، لأنّ العقاب الاخروي يتوقّف على البيان، والقول بأنّ البيان هو نفس قاعدة دفع الضرر يستلزم الدور المحال لأنّ هذه القاعدة متوقّفة على وجود ضرر في البيان ووجود الضرر متفرّع على البيان، فالعقاب يتوقّف على جريان قاعدة دفع الضرر، وهي متوقّفة على وجود البيان في الرتبة السابقة بينما وجود البيان أيضاً متوقّف على جريان القاعدة.

وبالنسبة إلى الضرر الدنيوي فاجيب عنها بوجهين غير تامّين:

أحدهما: نفي الملازمة بين المصلحة والمفسدة الدنيويتين وبين النفع والضرر الدنيويين، فليس كلّ مصلحة ملازمة مع المنفعة وكلّ مفسدة ملازمة مع الضرر بل كم من شي ء ذي انوار الأصول، ج 2، ص: 430

المفسدة كأكل الربا ليس فيه ضرر دنيوي بل هو ذو منفعة، وكم من شي ء ذو المصلحة كالصدقة ليس فيها نفع دنيوي.

ثانيهما: أنّه قد تكون المصلحة أو المفسدة في نفس إنشاء الأمر أو النهي لا في

متعلّقهما، والملازمة بين الظنّ بالحكم أو الظنّ بالمفسدة أو فوات المصلحة مبنية على حصر المصالح والمفاسد في متعلّقات التكاليف لأنه إذا كانتا في نفس الجعل فهما حاصلتان بنفس الجعل ولا ربط لهما بمخالفة العبد وموافقته للحكم المظنون.

أقول: كلا الوجهين غير تامّ، أمّا الوجه الأوّل: فلأنّه لا إشكال في وجود الملازمة العاديّة بين المصلحة والمفسدة وبين النفع والضرر أمّا عاجلًا أو آجلًا وفي طول الزمان، ومن تأمّل في آثار الربا كيف يمكن أن يشكّ في الأضرار والخسارات الناشئة منها في المجتمع، كما أنّ من تأمّل في تأثير الإنفاق في حفظ المجتمع عن البغضاء والفساد والعدوان على الأموال والأنفس لا يشكّ في ترتّب هذه الامور على ترك الإنفاق وشبهها، وقد قال اللَّه تبارك وتعالى: «وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» «1»

وكذلك في سائر الواجبات والمحرّمات، ومن الواضح أنّ منافع الفرد لا تنفكّ عن منافع المجتمع، وإن شئت مزيد توضيح لذلك فراجع ما كتبنا في تنبيهات قاعدة لا ضرر من القواعد الفقهيّة.

وأمّا الوجه الثاني: فلأنّه وإن كان ممكناً عقلًا وفي مقام الثبوت ولكن قد لا يمكن الحصول على مصداق واحد ممّا تكون المصلحة أو المفسدة في نفس جعله إثباتاً في أحكام الشرع، وعليه يبقى الظنّ بوجود المفسدة أو تفويت المصلحة في متعلّق الحكم على حاله.

فظهر أنّه بالنسبة إلى الضرر الدنيوي تكون الصغرى تامّة فلا بدّ من البحث في الكبرى فنقول:

يمكن إنكار الكبرى في الضرر الدنيوي في الجملة في صورة العلم بالضرر فضلًا عن صورة الظنّ والاحتمال، فلا يحكم العقل بالقبح في مورد الضرر الدنيوي مطلقاً بل إنّما يحكم به فيما إذا كان الضرر كثيراً هامّاً كالإنتحار وقطع عضو من الأعضاء، وأمّا في المضارّ الجزئيّة كالضرر

الموجود في التدخين وفي الإكثار من الأكل فليس حكم العقل بالقبح ثابتاً فيها، نعم بالنسبة

انوار الأصول، ج 2، ص: 431

إلى الضرر الاخروي يحكم العقل به فيما إذا كان محتملًا فضلًا عمّا إذا كان مظنوناً أو مقطوعاً، ولذلك يجب الاحتياط في الشبهات الحكمية قبل الفحص مع أنّ الضرر وهو العقاب الاخروي يكون فيها محتملًا.

فظهر ممّا ذكرنا أنّه بالنسبة إلى الضرر الاخروي فالكبرى تامّة دون الصغرى، وأمّا الضرر الدنيوي فتكون القضيّة فيه بالعكس، أي الصغرى تامّة دون الكبرى.

هذا كلّه في الدليل الأوّل لحجّية الظنّ.

الوجه الثاني: لزوم ترجيح المرجوح على الراحج

إنّه لو لم يؤخذ بالظنّ لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح.

واجيب عنه: بأنّ هذه الملازمة تتحقّق فيما إذا لم يمكن العمل بطريق ثالث غير الظنّ وأخويه مع أنّه يتصوّر هنا طريق ثالث وهو العمل بالاصول العمليّة أو الإحتياط.

وإن شئت قلت: أنّ هذا مقدّمة من مقدّمات الانسداد ولا يوجب لزوم العمل بالظنّ إلّا بعد تماميّة مقدّمات الانسداد، ومعها لا يكون هذا الوجه دليلًا مستقلًا.

هذا- والمحقّق الحائري رحمه الله إستشكل أيضاً في كبرى استحالة ترجيح المرجوح على الراجح في درر الفوائد ببيان: «أنّه إن أراد من الراجح ما هو راجح بملاحظة أغراض الفاعل ويقابله المرجوح كذلك فترجيح المرجوح بهذا المعنى غير ممكن (لا أنّه قبيح) لأنّه راجع إلى نقض الغرض، ومجرّد الأخذ بالطرف الموهوم ليس ترجيحاً بهذا المعنى (حتّى يقال بإمكان وقوعه تكويناً) إذ ما لم يترجّح بملاحظة اغراضه لم يمل إليه في خلاف جهة غرضه، وإن لم يرد من الراجح ما هو راجح بملاحظة أغراض الفاعل بل أراد من الراجح الظنّ (أي الراجح بملاحظة أغراض الشارع) فترجيح الموهوم عليه وإن كان قبيحاً لكن قبحه موقوف على تماميّة سائر مقدّمات الانسداد ومعها ليس هذا الوجه

وجهاً مستقلًا» «1».

أقول: الصحيح هو عدم استحالة ترجيح المرجوح على الراجح وكذلك الترجيح بلا

انوار الأصول، ج 2، ص: 432

مرجّح في الفاعل المختار (كما هو محلّ البحث في المقام) لأنّ الاستحالة تنافي الاختيار وتوجب سلب الإرادة، وإرادة الإنسان ليست بمنزلة كفّتي الميزان حتّى يحتاج تقديم أحدهما على الآخر إلى سبب ومرجّح من الخارج، فالجائع الذي وضع بين يديه إنائين من الطعام لا يكون لأحدهما ترجيح على الآخر يتوقف عن الأكل حتّى يموت بل يختار أحدهما ويأكل منه، وكذلك في الإنسان الذي يفرّ من سبع حتّى يصل إلى منشعب طريقين لا ترجيح لأحدهما على الآخر فهل يحكم وجدانك بأنّه يقف ولا يختار أحد الطريقين حتّى يأكله السبع؟ كلّا.

نعم لا إشكال في قبح الترجيح بلا مرجّح في غير موارد الضرورة كالأمثلة المذكورة آنفاً.

الوجه الثالث: رأي السيد المجاهد رحمه الله

ما حكي عن السيّد المجاهد رحمه الله من أنّنا نعلم بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة بين المشتبهات، ومقتضى ذلك وجوب الإحتياط بالإتيان بكلّ ما يحتمل الوجوب ولو موهوماً وترك كلّ ما يحتمل الحرمة كذلك، لكن لمّا كان هذا الاحتياط موجباً للعسر والحرج فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط والحرج هو العمل بالاحتياط في المظنونات وطرحه في المشكوكات والموهومات، لأنّ الجمع على غير هذا الوجه بإخراج بعض المظنونات وإدخال بعض المشكوكات والموهومات باطل إجماعاً «1».

وأجاب عنه كلّ من تعرّض لهذا الوجه بأنّ هذا متضمّن لبعض مقدّمات الانسداد، وهي المقدّمة الاولى (العلم الإجمالي بوجود واجبات ومحرّمات في الشريعة) والمقدّمة الرابعة (عدم وجوب الاحتياط التامّ) والمقدّمة الخامسة (وهي لزوم ترجيح المظنونات على المشكوكات والموهومات في مقام رفع العسر) فيحتاج في تماميته إلى سائر المقدّمات وليس وجهاً آخر في قبال دليل الانسداد.

الوجه الرابع: دليل الانسداد
اشارة

الدليل الرابع: الانسداد، وهو مركّب من مقدّمات:

الاولى: العلم الإجمالي بوجود تكاليف كثيرة فعليه في الشريعة في دائرة المشتبهات ومحتملات التكاليف الإلزاميّة.

الثانية: انسداد باب العلم والعلمي إلى معظم الأحكام.

الثالثة: عدم جواز إهمال التكاليف والرجوع إلى أصالة البراءة.

الرابعة: عدم جواز الرجوع إلى الوظائف المقرّرة للجاهل، وهي الرجوع في كلّ مسألة إلى الأصل الجاري فيها من البراءة والاستصحاب والتخيير والاحتياط، أو التقليد عن المجتهد القائل بالانفتاح أو الرجوع إلى الاحتياط في جميع الوقائع المشتبهة.

الخامسة: أنّ ترجيح المرجوح على الراجح، قبيح وهو أن يأخذ بالمشكوكات والموهومات ويترك المظنونات.

فإذا تمّت هذه المقدّمات وجب العمل على مطلق الظنّ بالحكم الإلزامي ولزوم الأخذ به وترك العمل بالمشكوك والموهوم وهو المطلوب في المقام.

لكن قد شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله ترك المقدّمة الاولى واعتذر له المحقّق النائيني رحمه الله بأنّ عدّ هذه المقدّمة من جملة مدارك المقدّمة الثالثة

(أعني عدم جواز إهمال الوقائع والرجوع إلى أصالة العدم) أولى من عدّها مقدّمة مستقلّة وفي عرض سائر المقدّمات «1».

أقول: الصحيح هو إدغام المقدّمات الثلاثة الأوّل في مقدّمة واحدة، لأنّ المقدّمة الاولى- أي وجود العلم الإجمالي بتكاليف كثيرة- متوقّفة على عدم انحلال هذا العلم الإجمالي، وعدم الانحلال يحتاج إلى انسداد باب العلم والعلمي، وهو المقدّمة الثانية، وهكذا بالنسبة إلى المقدّمة الثالثة، لأنّ (كما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله) وجود العلم الإجمالي في المقدّمة الاولى يتوقّف على عدم جواز الإهمال في المقدّمة الثالثة، فالأولى إدغام هذه الثلاثة في مقدّمة واحدة بأن يقال: إنّ المقدّمة الاولى عبارة عن وجود علم إجمالي بتكاليف كثيرة لا ينحلّ إلى العلم والعلمي التفصيليين ولا يجوز إهماله.

انوار الأصول، ج 2، ص: 434

إذا عرفت هذا فلا بدّ من البحث عن صحّة كلّ واحدة من المقدّمات وعدمها فنقول: أمّا المقدّمة الاولى: فأورد عليها المحقّق الخراساني رحمه الله بحقّ بأنّ أصل العلم الإجمالي بوجود تكاليف كثيرة وإن كان بديهياً إلّاأنّه ينحلّ إلى دائرة صغيرة وهي الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة لأنّ المقدار المعلوم في العلم الإجمالي الكبير موجود فيها، ومعه لا موجب للاحتياط إلّا في نفس الرّوايات.

وأمّا المقدّمة الثانية: أي انسداد باب العلم والعلمي إلى معظم الأحكام فاجيب عنه بأنّه وإن كان معلوماً بالنسبة إلى انسداد باب العلم إلّاأنّه بالنسبة إلى انسداد باب العلمي إلى معظم الأحكام غير ثابت لما تقدّم من نهوض الأدلّة على حجّية خبر يوثق بصدوره ولو لم يكن الراوي عدلًا بل ثقة، ومثل هذا الخبر كثير وافٍ بحمد اللَّه بمعظم الفقه.

وأمّا المقدّمة الثالثة: أي عدم جواز الإهمال فقد ذكر لإثباتها ثلاثة وجوه:

أحدها: الإجماع على عدم جواز الإهمال، إن قلت: الإجماع هو اتّفاق الكلّ

مع أنّ أكثر العلماء يقولون بانفتاح باب العلم أو العلمي.

قلنا: المراد من الإجماع هو الإجماع التقديري لا التحقيقي، والمراد بالإجماع التقديري هو أنّه لو فرضنا انسداد باب العلم والعلمي عند الأكثر لما خالف أحد منهم في عدم جواز الإهمال.

ثانيهما: حكم العقل بتنجّز العلم الإجمالي ووجوب الاحتياط في مورده.

ثالثها: لزوم الخروج عن الدين لأنّ إهمال معظم الأحكام مستلزم له ومن المعلوم أنّ الشارع راغب عنه.

أقول: التامّ من هذه الوجوه الثلاثة هو الأخيران، أي تنجّز العلم الإجمالي واستلزام الخروج عن الدين، وأمّا الوجه الأوّل أي الإجماع فضعفه واضح لأنّ الإجماع هنا مدركي.

إن قلت: (بالنسبة إلى الوجه الثاني وهو تنجّز العلم الإجمالي)، سيأتي في محلّه أنّ العلم الإجمالي ينحلّ بحصول الاضطرار بالنسبة إلى بعض أطرافه، وبما أن الاحتياط في جميع الوقائع المشتبهة مخلّ بالنظام أو سبب للمشقّة المجوّزة للاقتحام في بعض الأطراف، فيكون المقام من موارد الاضطرار إلى بعض الأطراف فلا يكون العلم الإجمالي منجزاً فيه.

قلنا: الصحيح في الجواب أنّ الاضطرار إنّما يوجب الانحلال فيما إذا كان المضطرّ إليه بمقدار

انوار الأصول، ج 2، ص: 435

المعلوم بالإجمال، والمقام ليس من هذا القبيل قطعاً.

ومعه لا تصل النوبة إلى ما أجاب به المحقّق الخراساني رحمه الله وحاصله: أنّ العلم الإجمالي في خصوص المقام لا ينحلّ بالاضطرار إلى بعض أطرافه لوجود الدليل الخاصّ على وجوب الاحتياط، وتنجّز العلم الإجمالي أي الاحتياط هنا شرعي، وقد عرفت آنفاً أنّ إهمال معظم الأحكام يوجب الخروج عن الدين، وهو دليل عقلي لا شرعي.

أمّا المقدّمة الرابعة: وهي عدم جواز الرجوع إلى الوظائف المقرّرة للجاهل (وهي ثلاثة:

الرجوع إلى الاحتياط التامّ والرجوع إلى الاصول العمليّة الأربعة والتقليد عن المجتهد الانفتاحي):

امّا الطرق الأول: الرجوع إلى الاحتياط التام

فاستدلّ لها بالنسبة إلى عدم وجوب الاحتياط التامّ بوجهين: أحدهما:

لزوم اختلال النظام، ثانيهما: قاعدة نفي الحرج فإنّ أدلّة نفي العسر والحرج حاكمة على قاعدة الاحتياط.

امّا الوجه الأول: لكن لزوم اختلال النظام عندنا غير ثابت وإن تلقّوه بالقبول، والظاهر أنّه وقع الخلط بين الشبهات الموضوعيّة والشبهات الحكميّة، وما يوجب الاختلال في النظام إنّما هو الاحتياط التامّ في الشبهات الموضوعيّة، وأمّا الشبهات الحكميّة (التي هي محلّ البحث في المقام) فحيث إنّ مواردها محدودة معدودة بالنسبة إلى الشبهات الموضوعيّة فلا يوجب الاحتياط التامّ فيها اختلال النظام، ويشهد عليه وعلى إمكان الاحتياط عملًا في الخارج تصريح كثير منهم في مباحث الاجتهاد والتقليد على جواز الاحتياط التامّ للمكلّف من دون تقليد أو اجتهاد.

وأمّا الوجه الثاني: أي قاعدة نفي الحرج، فيرد عليه: أنّ المرفوع في أدلّتها هو العسر الناشى ء من نفس جعل الشارع وحكمه، أي المنفي هو نفس الحكم الذي ينشأ منه الحرج مع أنّ العسر في ما نحن فيه ناشٍ من الاشتباه الخارجي وحكم العقل.

وقد وقعوا في الجواب عن هذا في حيص وبيص، والأولى في مقام الدفع أن يقال: إنّ الحرج في المقام ينشأ على كلّ حال من ناحية التكليف الشرعي إذ لولاه لما حكم العقل بوجوب الاحتياط والجمع بين المحتملات، كي يلزم منه العسر والحرج.

هذا- مضافاً إلى ما مرّت الإشارة إليه من أنّ الضرورات تتقدّر بقدرها فالعسر يوجب انوار الأصول، ج 2، ص: 436

عدم الاحتياط بقدره لا مطلقاً.

فتلخّص أنّ الدليل على نفي وجوب الاحتياط هو قاعدة نفي الحرج ولكنّها لا تقتضي ترك الاحتياط إلّافي الجملة.

وأمّا الطريق الثاني: الرجوع إلى الاصول العمليّة الأربعة

فقد ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى أنّ العلم الإجمالي بالتكليف ربّما ينحلّ ببركة جريان الاصول المثبتة بضميمة ما نهض عليه علم أو علمي، فلا موجب حينئذٍ للاحتياط عقلًا ولا شرعاً أصلًا كما لا

يخفى، وأنّه لو لم ينحلّ بذلك فاللازم هو الاحتياط في خصوص مجاري الاصول النافيّة مطلقاً ولو من موهومات التكليف (إلّا بمقدار رفع اختلال النظام أو رفع العسر) لا الاحتياط في محتملات التكليف مطلقاً، ولو كانت في موارد الاصول المثبتة فإنّ العمل بالتكليف فيها يكون من باب قيام الحجّة عليها، وهي الاصول العمليّة لا من باب الاحتياط كما لا يخفى.

أقول: الإنصاف هو انسداد هذا الطريق أيضاً لقلّة موارد الاصول المثبتة وعدم كونها بمقدار المعلوم بالإجمال، ولو انضمّ إليها ما علم حكمه تفصيلًا أو نهض عليه الظنّ الخاصّ المعتبر كما لا يخفى على الخبير بموارد هذه الاصول في الفقه.

وأمّا الطريق الثالث: الرجوع إلى العالم القائل بالانفتاح
اشارة

فلا إشكال في عدم جوازه قطعاً، لأنّ الانسدادي يعتقد بخطأ الانفتاحي وأنّ مستنده غير صالح للاعتماد عليه، فالانفتاحي جاهل في نظره فليس رجوعه إليه من باب رجوع الجاهل إلى العالم حتّى يشمله دليله.

أمّا المقدّمة الخامسة: وهي استحالة ترجيح المرجوح على الراجح فقد مرّ البحث عنها وقلنا بأنّه قبيح وإن لم يكن مستحيلًا.

فقد ظهر من جميع ما ذكرنا أنّ المقبول من المقدّمات عندنا إنّما هو المقدّمة الثالثة والخامسة بتمامهما، والطريق الثاني من المقدّمة الرابعة والثالث منها في الجملة، ونتيجته عدم تماميّة مقدّمات الانسداد لإثبات وجوب الاحتياط لأنّه يكفي في عدم إنتاجها بطلان واحدة منها.

انوار الأصول، ج 2، ص: 437

تنبيهات:

التنبيه الأوّل: ما هي نتيجة مقدمات الحكمة؟

إنّ نتيجة مقدّمات الانسداد (بناءً على تماميتها) هل هي حجّية الظنّ في خصوص الفروع من الفقه كالظنّ بالوجوب أو الحرمة، أو خصوص الاصول من الفقه، أو كليهما؟ الأقوال فيه ثلاثة:

القول الأوّل: حجّية الظنّ في خصوص الفروع لاختصاص المقدّمات بالفروع فلتكن نتيجتها أيضاً مختصّة بها.

الثاني: حجّية الظنّ في الاصول فقط لأنّا نعلم بأنّ الشارع لم يجعل أحكام الشرع بدون طريق يوصل إليها، فعلى المكلّف أن يرجع إلى الطرق المعيّنة للأحكام ويحصل الظنّ بحجّيتها وطريقتها سواء حصل الظنّ بنفس الأحكام أو لم يحصل.

الثالث: حجّيته في كليهما، فيكفي حصول الظنّ بكلّ واحد منهما، أي يكفي الظنّ بالحكم ولو لم يكن الطريق المنتهي إليه ظنّياً، كما يكفي الظنّ بالطريق ولو لم يكن الحكم الحاصل منه مظنوناً.

والأقوى هو القول الثالث: ووجهه واضح لأنّ اللازم هو أداء التكليف وتحصيل الأمن من العذاب وهو يحصل بأحد وجهين: أحدهما هو الحصول على نفس الواقع، والثاني الإتيان ببدله، وهو مفاد الأمارات والطرق التي تكون عذراً، فكما أنّ القطع بالطريق كافٍ في حال الانفتاح سواء كانت الشبهة موضوعيّة

كالقطع بقيام البيّنة على إزالة النجاسة عن المسجد بدلًا عن القطع بنفس الإزالة أو كانت الشبهة حكميّة كالقطع بكفاية العمل بالاحتياط في يوم الجمعة بالجمع بين صلاة الجمعة والظهر بدلًا عن القطع التفصيلي بأحدهما، كذلك في حال الانسداد فيكفي الظنّ بالطريق بدلًا عن الظنّ بالواقع.

وإن شئت قلت: كما أنّ الأحكام ليست مقيّدة بالطرق فيكفي القطع بالواقع أو الظنّ به سواء كان مدلول أمارة أم لا كذلك الأمارات ليست مقيّدة بمطابقة مدلولها للواقع فيكفي العمل بمفاد أمارة كانت حجّة بدليل قطعي (في حال الانفتاح) أو بمقدّمات الانسداد سواء كان مطابقاً للواقع أم لم يكن.

التنبيه الثاني: في الكشف والحكومة

والمراد من الكشف أن نستكشف من مقدّمات الانسداد على تقدير القول بسلامة جميعها أنّ الشارع جعل الظنّ حجّة في هذا الحال، فيمكن حينئذٍ إسناد الحكم المكشوف إلى الشارع وترتّب سائر الآثار المترتّبة على شرعيّة الحكم من إمكان قصد الورود وتخصيص العمومات وتقييد المطلقات به.

والمراد من الحكومة هو أنّه وإن لم نكشف من هذه المقدّمات حكم الشارع فلا تترتّب الآثار المذكورة لكن لا إشكال في أنّ العقل يحكم عند حصولها بكفاية العمل بالظنّ بحيث يكون مأموناً معه، نظير ما يقال به في مقام بيان الفرق بين الإباحة الشرعيّة (كلّ شي ء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام) والإباحة العقليّة (قبح العقاب بلا بيان) من أنّها إذا كانت شرعيّة يترتّب عليها آثارها من الأمن من العقاب من دون أن يثبت بها حكم شرعي.

وكيف كان، ذهب القوم إلى أنّ غاية ما تقتضيه مقدّمات الانسداد هو حكومة العقل بحجّية الظنّ، والأكثر من هذا المقدار وإثبات كشف حكم الشرع وراءه يحتاج إلى دليل.

إن قلت: إنّ هذا يستلزم التفكيك بين حكمي العقل والشرع وإنكار الملازمة بينهما.

قلنا: أنّ الملازمة بينهما

إنّما هي في مورد يكون قابلًا لحكم الشرع، والمورد في المقام غير قابل له، لأنّ حجّية الظنّ معناها وجوب الإطاعة الظنّية في حال الانسداد، فترجع إلى كيفية الإطاعة، وكما أنّ نفس الإطاعة ممّا يمتنع تعلّق الحكم الشرعي بها إلّاإرشاداً لما بيّن في محلّه من محذور التسلسل، كذلك كيفية الإطاعة.

لكن لقائل أن يقول: إنّا نستكشف من دأب الشارع وديدنه أنّه لا يترك الناس بلا تكليف ولا يسرحهم بلا إراءة طريق في كلّ ما يحتاجون إليه حتّى يستلزم منه خلأ قانوني في عالم التشريع كما تدلّ عليه روايات كثيرة وردت في هذا المجال، وقد عقد في الوافي باب في أنّه ليس شي ء ممّا يحتاج إليه الناس إلّاوقد جاء فيه كتاب أو سنّة، وفي الوسائل باب في «إماطة الأذى عن طريق المسلمين» ويستفاد منه أنّ في الشريعة المقدّسة وضع لكلّ شي ء قانون حتّى لقشر البطيخ المطروح في الطريق، فهل يعقل من حكمة الباري الحكيم إهمال الامّة الإسلاميّة في زمن الغيبة وعدم تعيين طريق لهم للوصول إلى أحكام الشريعة والقوانين المجعولة من ناحيته المقدّسة مع علمه تعالى بقصر مدّة الحضور وطول عصر الغيبة وانسداد باب العلم (على انوار الأصول، ج 2، ص: 439

الفرض)؟ ومجرّد وجود أحكام واقعيّة لا تصل إليها أيدي الناس غير كافٍ، بل لا بدّ من جعل قوانين ظاهريّة لهم وعدم تركهم حائرين.

فيتلخّص من جميع ذلك أنّ طريق الكشف هو الأوفق بسيرة الشارع في الأحكام الفرعيّة.

التنبيه الثالث: نتيجة مقدّمات الانسداد هل هي مهملة، أو مطلقة

(فيكون الظنّ حجّة بالجملة) أو مقيّدة (فيكون الظنّ حجّة في الجملة)؟

ثمّ الإهمال وعدم الإهمال تارةً يعتبران بالنسبة إلى الأسباب (من الأمارات وغيرها)، واخرى بالنسبة إلى مراتب الظنّ (من حيث الشدّة والضعف) وثالثة بالنسبة إلى الموارد (من العبادات والمعاملات وحقّ اللَّه وحقّ الناس).

وكيف

كان فحاصل الكلام في المقام أنّ مقدّمات الانسداد على القول بصحّة جميعها هل تقتضي حجّية الظنّ بنحو القضيّة المهملة من حيث السبب والمورد والمرتبة حتّى تحتاج النتيجة إلى معمّم يعمّمها إلى جميع الأسباب والأمارات وإلى جميع الموارد والمسائل الفرعيّة وإلى جميع مراتب الظنّ من الضعيف والقوي والأقوى، أو إلى مخصّص يخصّصها ببعض الأسباب وبعض الموارد والمراتب، أو تقتضي حجّية الظنّ بنحو القضيّة الكلّية أو بنحو القضيّة الجزئيّة المختصّة ببعض الأسباب أو بعض المراتب أو بعض الموارد دون بعض آخر؟

والتحقيق أن نقول أنّ المسألة مبتنية على المسألة السابقة، فبناءً على تقرير المقدّمات على نحو الحكومة لا إهمال في النتيجة أصلًا لا سبباً ولا مورداً ولا مرتبة إذ لا يعقل تطرّق الإهمال في حكم العقل بحيث يشتبه عليه سعة حكمه وضيقه.

فبالنسبة إلى الأسباب تكون النتيجة كلّية إذ لا تفاوت في نظر العقل بين سبب وسبب.

وأمّا بالنسبة إلى الموارد فتكون النتيجة جزئيّة معيّنة حيث يستقلّ العقل بحجّية الظنّ وكفاية الإطاعة الظنّية إلّافيما يكون للشارع فيه مزيد اهتمام كما في الفروج والدماء، بل وسائر حقوق الناس من الأموال وغيرها ممّا لا يلزم من الاحتياط فيها العسر، فيستقلّ العقل بوجوب الاحتياط فيها.

وأمّا بالنسبة إلى المراتب فجزئيّة معيّنة أيضاً حيث يستقلّ العقل بأنّ الحجّة في خصوص انوار الأصول، ج 2، ص: 440

الظنّ بنفي التكليف هو الاطمئناني منه، فيرفع اليد عنده عن الإحتياط إلّاعلى تقدير عدم كفايته في دفع محذور العسر (فيرفع اليد حينئذٍ عن الإحتياط في سائر الظنون أيضاً بمقدار يدفع به محذور العسر).

هذا بناءً على تقرير الحكومة.

وأمّا بناءً على تقدير الكشف فتكون النتيجة مهملة مطلقاً سبباً ومورداً ومرتبة، ولا محيص حينئذٍ في وصولنا إلى ذلك الطريق من الاحتياط التامّ في أطراف

الطرق فنأخذ بكلّ ما احتمل طريقيته سواء كان مظنون الطريقية أو مشكوكها أو موهومها، هذا إذا لم يكن بينها متيقّن الاعتبار بمقدار وافٍ ولم يلزم من الاحتياط فيها محذور العسر أو اختلال النظام وإلّا فإن كان بينها متيقّن الاعتبار بمقدار وافٍ فالأخذ به متعيّن.

نعم، لا إشكال في أنّه لا فرق بين الحكومة والكشف في النتيجة بناءً على ما سلكناه في المراد من الكشف حيث قلنا بأنّا نستكشف من ديدن الشارع في عدم إهماله في كلّ ما يحتاج إليه الناس من دون فرق بين عصر وعصر، ومصر ومصر أنّه نصب طريقاً للوصول إلى أحكامه في فرض الانسداد وهو ما يحكم به العقل لا محالة، فالمرجع حينئذٍ في جميع الشؤون والفروع ما حكم به العقل، فيأتي حينئذٍ ما ذكرنا آنفاً (بناءً على تقرير الحكومة) بعينه من التفصيل بين الأسباب والمراتب والموارد في الكلّية والجزئيّة وعدم الإهمال مطلقاً.

التنبيه الرابع: القياس و عموم مقدّمات الانسداد

إنّ القياس هل هو خارج عن عموم نتيجة مقدّمات الانسداد أو لا؟

وإن شئت فعبّر: هل الظنّ الناشى ء من القياس في فرض الانسداد حجّة أو ليس بحجّة؟

قد يقال: إنّ القياس ممنوع مطلقاً حتّى في فرض الانسداد لإطلاق الأدلّة الناهيّة عن القياس.

لكن لا إشكال فيه بناءً على تقرير الكشف بكلا المسلكين، مسلك القوم والمسلك المختار، لأنّ زمام الأمر حينئذٍ بيد الشارع وهو منع عن الظنّ القياسي مع جعل سائر الظنون حجّة.

وأمّا بناءً على تقرير الحكومة وأنّ العقل ممّا يستقلّ في الحكم بحجّية الظنّ في حال انوار الأصول، ج 2، ص: 441

الانسداد كحكمه بحجّية العلم في حال الإنفتاح فيقع الإشكال حينئذٍ من ناحية خروج القياس عن تحت عموم حكم العقل بحجّية الظنّ وأنّه كيف يخرج عن تحت عمومه مع أنّ حكم العقل ممّا لا

يخصّص، ولا يمكن رفع حكمه عن موضوعه، إلّاإذا انتفى الموضوع فينتفي الحكم بانتفائه، أو خرج الفرد عن تحت الحكم موضوعاً فيسمّى بالتخصّص، وأمّا تخصيص حكم العقل فلا يجوز، وذلك باعتبار لزوم التناقض فإنّ العقل إذا حكم حكماً عاماً بنحو يشمل هذا الفرد بعينه ثمّ خصّصنا حكمه ورفعناه عن هذا الفرد لزم التناقض بين حكمه وبين التخصيص، نظير ما إذا خصّصنا نوعاً من القطع عن عموم حجّية القطع في حال الإنفتاح، وهذا بخلاف التخصيص في العمومات اللفظية فإنّ التناقض فيها صوري لا جدّي.

وقد اجيب عن هذا الإشكال بوجوه عديدة، وقد ذكر الشيخ الأعظم وجوهاً سبعة في دفعه (بعضها منه وبعضها من غيره) وذكر المحقّق الخراساني رحمه الله وجوهاً خمسة في هذا المقام لكن عمدتها ثلاثة:

الوجه الأوّل: أنّ الرّوايات الناهيّة عن القياس منصرفة عن حال الانسداد.

أقول: لقائل أن يقول بهذا الوجه كما سيأتي في البحث التفصيلي عن القياس لكن الإنصاف أنّ هذه الدعوى مشكلة لقوّة إطلاقات الأدلّة.

الوجه الثاني: إنكار موضوع الظنّ القياسي وأنّه لا يوجب القياس الظنّ بالحكم في شي ء من الموارد خصوصاً بعد ملاحظة أنّ الشارع جمع في الحكم بين ما يترائى مخالفه، وفرّق بين ما يتخيّل متؤالفه، وكفاك في هذا عموم ما ورد «أنّ دين اللَّه لا يصاب بالعقول» و «إنّ السنّة إذا قيست محق الدين» و «إنّه لا شي ء أبعد من عقول الرجال من دين اللَّه» وغيرها ممّا دلّ على غلبة مخالفة الواقع في العمل بالقياس وخصوص رواية أبان بن تغلب المشهورة الواردة في ديّة أصابع الرجل والمرأة.

ويمكن الجواب عن هذا الوجه بشهادة الوجدان بحصول الظنّ من القياس في بعض الأحيان وإن كان ضعيفاً من حيث المرتبة وتقدّم عليه الظنّ الحاصل من غيره عند

التعارض.

الوجه الثالث: (وهو الأساس في الجواب) أنّ مقدّمات الانسداد ليست علّة تامّة لحجّية الظنّ مطلقاً حتّى لا يمكن تخصيصها بمثل مورد القياس بل إنّها مقتضية لها، أي يحكم العقل بحجّية الظنّ مطلقاً عند الانسداد لولا المانع، أي لولا منع الشارع، ومع ورود النهي عنه لا أثر للمقتضي.

انوار الأصول، ج 2، ص: 442

ومنه يعلم أنّ تشبيه الظنّ حال الانسداد بالعلم حال الانفتاح أشبه بالمغالطة لأنّ العلم علّة تامّة للحجّية.

وإن شئت قلت: أنّ دليل الانسداد إنّما يثبت حجّية الظنّ حال الانسداد وعدم إنفتاح باب العلم والعلمي، وفي مورد القياس ومثله يكون باب العلم مفتوحاً، للعلم بأنّ الشارع أرجعنا في هذه الموارد إلى الاصول اللفظية أو العمليّة، فخروج القياس حينئذٍ يكون على وجه التخصّص وخروج الموضوع، لا التخصيص.

التنبيه الخامس: في الظنّ المانع والممنوع

إذا قامت دليل ظنّي كالشهرة على عدم حجّية ظنّ آخر كالظنّ الحاصل من الاستحسان، كما إذا قام الاستحسان على وجوب الزّكاة في النقود الورقيّة في يومنا هذا تشبيهاً لها بالدرهم والدينار، فحصل الظنّ بوجوب الزّكاة من ناحيته في حال الانسداد (وهذا هو الظنّ الممنوع) والظنّ الحاصل من جانب قيام الشهرة على عدم حجّية الاستحسان بناءً على عدم العلم بعدم حجّية الاستحسان، كما قد يقال به في فرض الانسداد (وهذا هو الظنّ المانع) فهل مقتضى مقدّمات الانسداد هو الأخذ بالظنّ الممنوع والحكم بوجوب الزّكاة في النقود الورقيّة في المثال، أو إنّها تقتضي تقديم الظنّ المانع فتصير النتيجة وجوب الأخذ بالظنّ الحاصل من الشهرة والحكم بعدم وجوب الزّكاة؟ وجوه:

الأوّل: تقديم الظنّ المانع.

والثاني: تقديم الظنّ الممنوع.

والثالث: تساقط الظنّين والرجوع إلى الاصول العمليّة.

والرابع: أنّ المسألة مبنية على كون نتيجة مقدّمات الانسداد حجّية الظنّ في الفروع أو الاصول، فإن قلنا أنّ نتيجتها هي الحجّية في الفروع

فالمقدّم هو الظنّ الممنوع، وإن قلنا أنّ النتيجة هي الحجّية في الاصول فالمقدّم هو الظنّ المانع، وإن قلنا بحجّية كليهما فيتساقطان.

نعم، لا يتصوّر هذا الوجه فيما إذا كان كلا الظنّين اصولياً كما إذا حصل الظنّ بعدم حجّية قول اللغوي، وحصل الظنّ أيضاً بعدم حجّية هذا الظنّ، فعلى القول بأنّ نتيجة مقدّمات انوار الأصول، ج 2، ص: 443

الانسداد هي حجّية الظنّ في خصوص الاصول لابدّ حينئذٍ من الرجوع إلى سائر الوجوه.

الخامس: الأخذ بأقوى الظنّين لا سيّما إذا قلنا بأنّ نتيجة مقدّمات الانسداد جزئيّة من ناحية المراتب.

أقول: الحقّ في المسألة هو تقدّم الظنّ المانع وذلك باعتبار ما مرّ من عدم كون مقدّمات الانسداد علّة تامّة لحجّية الظنّ حتّى لا يمكن منع الشارع في مورد خاصّ بل إنّها مقتضية لها، وحينئذٍ صحّ أن يقال: أنّه لا استقلال للعقل بحجّية ظنّ قد احتمل المنع عنه بالخصوص شرعاً فضلًا عمّا إذا ظنّ المنع عنه كذلك، وذلك لعدم إحراز فقد المانع في هاتين الصورتين، فلا بدّ حينئذٍ من الاقتصار على ظنّ نقطع بعدم المنع عنه بالخصوص، فإن كفى بمعظم الفقه فهو، وإلّا فيضمّ إليه ما احتمل المنع عنه لا مظنون المنع.

نعم، يمكن تقديم الظنّ الممنوع أيضاً فيما إذا كان موافقاً للاحتياط فيكون حينئذٍ مخيّراً بين الأخذ بكلّ واحد منهما.

التنبيه السادس: عدم الفرق بين حصول الظنّ من الأمارة بلا واسطة أو مع واسطة

لا فرق في نتيجة دليل الانسداد بين حصول الظنّ بالحكم الشرعي من أمارة عليه بلا واسطة كما إذا قامت الشهرة على وجوب شي ء أو حرمته، وبين حصول الظنّ بالحكم الشرعي من أمارة عليه مع الواسطة كالظنّ الحاصل من أمارة قامت على تفسير لفظ من ألفاظ الكتاب أو السنّة (كما إذا قال اللغوي أنّ الصعيد هو مطلق وجه الأرض فأورث الظنّ في قوله تعالى:

«فَتَيَمَّمُوا

صَعِيداً طَيِّباً» بجواز التيمّم بالحجر مثلًا مع وجود التراب الخالص) أو على وثاقة راوٍ ينقل الحكم عن الإمام المعصوم عليه السلام فأورث الظنّ بذلك الحكم.

والوجه في عدم الفرق هو إطلاق حكم العقل بحجّية الظنّ حال الانسداد، فلا فرق عنده بين ظنّ يوصلنا إلى الحكم الواقعي بلا واسطة أو مع الواسطة فلا حاجة إلى إعمال انسداد آخر صغير في مثل هذه الموارد (أي موارد الرجوع إلى قول اللغوي وعلماء الرجال) بل يكفي جريان مقدّمات الانسداد الكبير في معظم أحكام الفقه.

انوار الأصول، ج 2، ص: 444

ثمّ إنّ الظنّ الحاصل من قول اللغوي حجّة إذا كان متعلّقاً بحكم شرعي وليس بحجّة في تشخيص موضوعات الأحكام كالألفاظ الواردة في رسائل الوصيّة أو الوقف لأنّ المفروض هو انسداد باب العلم والعلمي في الأحكام فتكون مقدّمات الانسداد تامّة في خصوص الأحكام لا الموضوعات.

اللّهم إلّاأن يتمسّك بالإنسداد الصغير في بعض الموارد، وهو انسداد باب العلم والعلمي في معرفة بعض الموضوعات.

التنبيه السابع: في عدم حجّية الظنّ في مقام الامتثال والتطبيق
اشارة

إنّ الثابت بمقدّمات الانسداد إنّما هو حجّية الظنّ في تشخيص الأحكام الشرعيّة وتعيينها، لاختصاص انسداد باب العلم والعلمي به، لا حجّيته في الإتيان بها وتطبيق المأتي به عليها، لإمكان تحصيل القطع بتطبيق الحكم المظنون على الخارج فلا تجري فيه تلك المقدّمات، فإذا شككنا في وجوب صلاة الجمعة أو الظهر جاز لنا تعيين الواجب الواقعي بالظنّ على فرض الانسداد، وأمّا امتثال هذا الحكم خارجاً فلا بدّ أن يكون بالعلم ولا يكفي فيه الظنّ.

إن قلت: بعد العمل بالظنّ في تعيين الحكم الشرعي يصير الامتثال في النهاية ظنّياً فلا يجدي تحصيل العلم بالتطبيق.

قلنا: الظاهر إنّه وقع الخلط بين الظنّ بالحكم الواقعي والظنّ بأداء الوظيفة، فإنّه وإن كان الإتيان بالواقع ظنّياً ولكن اليقين حاصل بأداء الوظيفة لا

أنّ أدائها ظنّي، فإذا صلّى صلاة بعنوان الجمعة مثلًا (المظنون وجوبها) قاطعاً فقد أدّى ما عليه من الوظيفة قطعاً بخلاف ما إذا أتى بها مظنوناً.

نعم، ربّما يجري الانسداد الصغير في مقام التطبيق والامتثال بالنسبة إلى بعض الموضوعات فيكون الظنّ حجّة في مقام الامتثال أيضاً، وهذا كما في موضوع الضرر الذي انيط به أحكام كثيرة من جواز الإفطار والتيمّم وجواز ترك الحجّ وغيرها، فيقال: أنّ باب العلم بالضرر منسدّ غالباً، إذ لا يعلم به في الأغلب إلّابعد تحقّقه ووقوعه فيستلزم من اعتبار العلم به الوقوع في المخالفة الكثيرة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 445

وإن شئت قلت: إجراء أصل العدم في تلك الموارد يوجب المحذور، وهو الوقوع في الضرر كثيراً مع العلم بعدم رضا الشارع بذلك لشدّة اهتمامه بالضرر، ومن جانب آخر: الاحتياط بترك كلّ ما احتمل كونه ضرريّاً يوجب العسر والحرج بل في بعض الموارد غير ممكن عقلًا كما إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة كصيام شهر رمضان فإن كان ضرريّاً فقد حرم، وإن لم يكن ضرريّاً فقد وجب، إذاً فلا محيص من حجّية الظنّ واللزوم اتّباعه في تعيين موارد الضرر، فكلّ شي ء ظنّ كونه ضرريّاً وجب تركه، وكلّ ما شكّ كونه ضرريّاً جاز فعله، بل المدار في هذه الموارد هو خوف الضرر وإن لم يكن مظنوناً كما ذكر في محلّه.

خاتمة يبحث فيها عن امور

الأمر الأوّل: في الظنّ بالامور الاعتقاديّة

(المطلوب فيها أوّلًا عمل الجوانح من الاعتقاد والانقياد خلافاً للفروع العمليّة، المطلوب فيها أوّلًا عمل الجوارح) فهل تجري مقدّمات الانسداد في اصول الدين على فرض انسداد باب العلم فيها فيكون الظنّ بها حجّة أو لا تجري فلا يكفي الاعتقاد الظنّي؟

قد أنكر الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني رحمهما الله جريان مقدّمات الانسداد في اصول الدين،

وعصارة بيانهما (ببيان منّا): أنّ الامور الاعتقاديّة على أقسام ثلاثة:

القسم الأول: بعدم وجوب تحصيل العلم واليقين به على المكلّف لا عقلًا ولا شرعاً إلّاإذا حصل له العلم به أحياناً، (فيجب بحكم العقل والشرع الاعتقاد به وعقد القلب له ولا يجوز له الإنكار والجحود، أو الوقف والتأمّل فيه) كما هو الحال في تفاصيل البرزخ والمعاد من سؤال القبر والصراط والحساب والكتاب والميزان والجنّة والنار وغيرها، وكذلك في تفاصيل صفات الباري تعالى وصفات الإمام عليه السلام كعلم الباري وعلم النبي صلى الله عليه و آله والإمام عليه السلام بعالم الغيب وإنّهم عالمون بجميع ما كان وما يكون إلى يوم القيامة فعلًا (أو «إذا أرادوا علموا» أو «إذا أرادوا يعلّمهم اللَّه تعالى» أو غير ذلك من الاحتمالات) ففي هذا القسم من الامور لا تجري مقدّمات الانسداد ولا يكون الظنّ فيها حجّة، لأنّه إذا انسدّ باب العلم فيها بتفاصيلها يمكن العلم بمطابقة عمل الجوانح مع الواقع بالاعتقاد الإجمالي بما هو واقعها وعقد القلب عليها من انوار الأصول، ج 2، ص: 446

دون عسر ولا شي ء آخر، ولا تقاس بالفروع العمليّة المطلوب فيها مطابقة عمل الجوارح مع الواقع لأنّ الفروع العمليّة إذا انسدّ باب العلم فيها لا يمكن العلم بمطابقة عمل الجوارح مع الواقع إلّابالاحتياط التامّ في الشبهات، وهذا ما يوجب العسر، فلا يجب شرعاً، أو يوجب الإخلال بالنظام فيحرم عقلًا، وحينئذٍ لا شي ء أقرب إلى الواقع من العمل على وفق الظنّ.

القسم الثاني: ما يعلم بوجوب تحصيل العلم به تفصيلًا على المكلّف بحكم العقل ثمّ الاعتقاد به وعقد القلب عليه وهو كما في التوحيد والنبوّة والإمامة والمعاد.

ففي هذا القسم لا ينبغي التأمّل في عدم جواز الاكتفاء بالظنّ، لأنّ الواجب عقلًا وشرعاً إنّما

هو المعرفة، والظنّ ليس بمعرفة قطعاً، فلا بدّ من تحصيل العلم لو أمكن، ومع العجز عنه يصير معذوراً، ولا دليل حينئذٍ على جريان مقدّمات الانسداد، أي لا استقلال للعقل بوجوب تحصيل الظنّ مع اليأس عن تحصيل العلم في المقام، لو لم نقل باستقلاله بعدم وجوبه بل بعدم جوازه.

القسم الثالث: ما يشكّ في وجوب المعرفة التفصيلية به وعدمه، فأصالة البراءة من وجوبها محكّمة (ولا تختصّ أصالة البراءة بالفروع العمليّة لعموم أدلّتها)، وحينئذٍ لا معنى لجريان مقدّمات الانسداد.

إن قلت: المرجع عند الشكّ هو عموم وجوب المعرفة المستفاد من قوله تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِي» «1»

الذي فسّرت العبادة فيه بالمعرفة، وقوله صلى الله عليه و آله: «ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصّلاة» «2» وعمومات وجوب التفقّه وطلب العلم من الآيات والرّوايات.

قلنا: لا دلالة لشي ء ممّا ذكر من الآيات والرّوايات بالعموم على وجوب المعرفة في جميع المسائل الاعتقاديّة تفصيلًا.

أمّا قوله تعالى: «وما خلقت» فلأنّ المستفاد منه هو خصوص معرفة اللَّه لا معرفة من سواه، وأمّا النبوي المذكور فلأنّه في مقام بيان فضيلة الصّلاة وأهميّتها ولا يستفاد منه إطلاق ولا عموم لوجوب المعرفة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 447

وأمّا آية النفر فلأنّها في مقام بيان كيفية النفر للتفقّه لا في مقام بيان ما يجب فقهه ومعرفته كما لا يخفى.

وأمّا ما دلّ على وجوب طلب العلم فلأنّه في صدد الحثّ على طلب العلم لا في مقام بيان ما يجب علمه.

فظهر ممّا ذكر جميعاً عدم جريان مقدّمات الانسداد في الامور الاعتقاديّة بجميع أقسامها وصورها.

هذا ملخّص كلامهم ومحصّل استدلالهم.

أقول: لا كلام لنا في هذه المقالة إلّابالنسبة إلى القسم الثاني منها، حيث إنّهما أنكرا فيه استقلال العقل بحسن تحصيل الظنّ والاعتقاد

بالمظنون في الامور الاعتقاديّة في فرض الانسداد، وبالنتيجة رجّحا عدم الاعتقاد مطلقاً بالمذهب المظنون مع أنّه من المستبعد جدّاً حكم العقل به بل العقل يحكم بعدم التوقّف والسكون واختيار أحد الطرق غير العلمي (وهو الظنّ لا محالة) لما يرى في التوقّف الاعتقادي من الضلالة والهلاكة القطعيّة.

ويشهد بذلك شهادة صاحب كلّ مسلك من المسالك وشارع كلّ شريعة من الشرائع بعدم جواز التوقّف مضافاً إلى حكمه بوجوب طيّ طريقه الخاصّ به، فهم متّفقون على الهلكة على فرض التوقّف.

وهذا نظير السالك الذي قدم إلى مفترق الطرق، على رأس كلّ منها إنسان يدعو إلى سلوك طريقه وينهى عن سلوك الطرق الاخر مع اتّفاق الجميع على وجوب استمرار المشي ووجود الهلكة والضرر في التوقّف فلا إشكال حينئذٍ في حكم العقل بإدامة الحركة والسلوك في الطريق الذي يظنّ انتهائه إلى المقصود ونيل النجاح.

الأمر الثاني: عدم جواز الاكتفاء بالظنّ في حال الانفتاح

لا إشكال في عدم جواز الاكتفاء بالظنّ فيما يجب معرفته عقلًا أو شرعاً في حال الإنفتاح، حيث إن الظنّ ليس بمعرفة قطعاً كما مرّ آنفاً في بيان الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني رحمه الله، فلا بدّ من تحصيل العلم فيما إذا كان المكلّف قادراً عليه ومع العجز يكون معذوراً إن كان عن قصور

انوار الأصول، ج 2، ص: 448

لغفلة أو لغموضة المطلب مع قلّة الإستعداد، بخلاف ما إذا كان عن تقصير في الاجتهاد والفحص فليس معذوراً بلا ريب.

لكن ربّما يتوهّم أنّه لا يتصوّر هنا العجز عن قصور، وذلك لقوله تعالى: «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا» «1»

لدلالته على انفتاح الطريق في جميع الحالات، والطريق هو الجهاد في سبيل الوصول إلى الحقّ، فقد وعد اللَّه تعالى في هذه الآية أنّ كلّ من جاهد في الحقّ وتفحّص عنه يهتدي إلى سبيل الهداية ويصل إلى

مطلوبه وهو الحقّ، وأكّد على ذلك بتأكيدات عديدة من اللام والنون الواردين في قوله تعالى «لنهدينّهم» وفعل المضارع الدالّ على الاستمرار.

وأجاب بعضهم عن هذا بأنّه ليس المراد من المجاهدة الواردة في الآية النظر والاجتهاد في تحصيل العلم والمعرفة بل هو المجاهدة مع النفس التي هي أكبر من الجهاد مع الكفّار فالآية أجنبية عن المقام.

أقول: قد ذكر في كتب التفاسير في معنى الجهاد الوارد في الآية احتمالات ثلاثة:

أحدها: أنّ المراد منه هو الجهاد مع الكفّار فيكون المعنى «والذين جاهدوا مع عدوّنا لنهدينّهم سبل الفتح والظفر».

والثاني: أنّ المراد هو الجهاد مع النفس أي العدوّ النفساني كما مرّ.

الثالث: الجهاد في سبيل المعرفة، أي الجهاد العلمي في قبال الجهاد الأخلاقي والعسكري، (وقد وقع الخلط في بعض الكلمات حيث أورد فيها في مقام تفسير الآية بحث فلسفي معروف، وهو ما قال به بعض الفلاسفة من أنّه ليس التفكّر وسيلة للعلم بل أنّه يوجب استعداد النفس لإفاضة الصور العلمية عليها وقبولها من جانب الفيّاض المطلق).

قلت: الإنصاف أنّه لا دليل ولا قرينة على تقييد الآية وتحديد مفاد كلمة الجهاد فيها بمعنى خاصّ من المعاني الثلاثة بل مقتضى إطلاقها شمولها لجميع الثلاثة، فيبقى الإشكال على حاله خصوصاً مع الالتفات إلى ما نشاهده بوجداننا في كثير من الناس من القصور وعدم التقصير في سبيل معرفة اللَّه بين النصارى واليهود وسائر المذاهب وفي سبيل معرفة الإمام بين غير العارفين.

انوار الأصول، ج 2، ص: 449

والذي يخطر بالبال في الجواب عن الإشكال (على العجالة إلى أن يتأمّل فيه) أحد وجهين:

الوجه الأوّل: أن يخصّص قوله «فينا» بخصوص معرفة اللَّه ونلتزم بعدم تصوّر القصور فيها لشهادة الوجدان وحكم الفطرة في هذا الباب.

الوجه الثاني: أن نقول: أنّ المراد بالجهاد هنا هو

نهاية السعي والاجهاد لا مجرّد المقدار الواجب على الإنسان في هذه الامور بل أقصى جهده وآخر ما يمكن منه فيكون معنى الآية كلّ من بذل نهاية مجهوده وأقصى جهده يهتدي إلى سبيل الحقّ ويصل إلى المقصود وليس جميع القاصرين يجهدون هذا المبلغ من الجهاد.

الأمر الثالث: في تأثير الظّنون غير الحجّة في الأدلة الظنيّة

ويتصوّر على خمسة وجوه:

الأوّل: جبران ضعف السند بدليل ظنّي كما إذا قامت الشهرة على العمل برواية ضعيفة.

الثاني: عكس الأوّل، أي وهن سند معتبر بدليل ظنّي قام على خلافه كإعراض المشهور عن العمل برواية معتبرة بحسب السند.

الثالث: تأثير الظنّ في تقوية الدلالة، كما إذا قامت الشهرة على أخذ أحد الاحتمالات في مدلول الرّواية.

الرابع: عكس الثالث، أي وهن الدلالة بإعراض المشهور مثلًا.

الخامس: ترجيح إحدى الروايتين على الاخرى بدليل ظنّي كالشهرة.

هذه موارد مبتلى بها في الفقه ويبحث عن الصورة الأخيرة في أبواب التعادل والتراجيح (فانتظر)، وقد أشرنا إلى باقي الوجوه إجمالًا في تضاعيف ما مرّت من الأبحاث السابقة، وينبغي أن يبحث عنها في فصل مستقل وينفتح لها عنوان على حدة، ولذلك نقول:

أمّا الوجه الأوّل: فالإنصاف أنّه لا إشكال في جبر ضعف الرّواية الضعيفة بعمل مشهور قدماء الأصحاب، وذلك لما مرّ في مبحث حجّية خبر الواحد من أنّ السيرة العقلائيّة قامت على حجّية الخبر الموثوق به (ولو لم تكن رواته ثقات) وأنّ الملاك في الحجّية هو الوثوق بنفس الخبر وصدوره عن المعصوم لا الوثوق بالمخبر، والإنصاف أنّ الشهرة القدمائيّة توجب انوار الأصول، ج 2، ص: 450

الوثوق بالصدور فتوجب جبر الضعف الناشى ء من ناحية السند.

كما أنّها في الوجه الثاني توجب الوهن في السند إذا قامت على خلاف رواية معتبرة كانت بمرأى من الأصحاب، وهو المقصود من قولهم: «كلّما إزداد صحّة إزداد وهناً» كما أنّ في صورة العكس

«كلّما إزداد وهناً إزداد صحّة» وقد مرّ بيانها، وبين الجواب عمّا ذهب إليه بعض أعاظم العصر من أنّه من قبيل ضمّ العدم إلى العدم فراجع.

أمّا الوجه الثالث: فالصحيح فيه ما هو المشهور من أنّ الشهرة الفتوائيّة لا توجب قوّة في الدلالة لأنّ الملاك في باب الدلالات عبارة عن الظهور العرفي، ولا إشكال في أنّ عمل المشهور على طبق رواية لا يوجب لها ظهوراً في نظر العرف، إلّاأن يكشف هذا عن وجود قرينة وصلت إليهم ولم تصل إلينا.

وأمّا الوجه الرابع: (وهو عكس الثالث) فلا بدّ أن تلحظ ما تبنّاه في باب حجّية الظواهر، فإن قلنا هناك أنّ الظنّ الشخصي على خلاف ظهور دليل يوجب سقوطه عن الحجّية ففي المقام توجب الشهرة الوهن في الدلالة وعدم كون الظاهر حجّة، لكن الصحيح في باب حجّية الظواهر كفاية الظنّ النوعي وبقاؤها على الحجّية وكونها قابلة للاحتجاج عند العرف والعقلاء وإن حصل الظنّ الشخصي على خلافها.

نعم، لو كان في البين قرائن تقتضي الظنّ النوعي على الخلاف، أي الإلتفات إليها موجب للظنّ على الخلاف غالباً بحيث يكون الظنّ على خلاف الظاهر معتمداً على قرينة، ففي هذه الحالة لا إشكال في عدم قابلية مثل هذا الظهور اللفظي للاحتجاج فيسقط الظهور عن الحجّية.

هذا تمام الكلام في البحث عن حجّية مطلق الظنّ.

انوار الأصول، ج 2، ص: 451

6- حجّية الدليل العقلي الظنّي
اشارة

ويبحث فيه بالمناسبة أيضاً عن الأدلّة العقليّة القطعيّة، فيقع البحث في مقامين:

المقام الأوّل- الأدلّة العقليّة القطعيّة
اشارة

وهو من المباحث التي سقطت عن الاصول في الفترة الأخيرة فحذفت من مثل رسائل الشيخ الأعظم وكفاية الاصول للمحقّق الخراساني رحمهما الله مع أنّهم عدّوا من الأدلّة دليل العقل وجعلوه أحد الأدلّة الأربعة للأحكام الشرعيّة، (كما أنّهم لم يبحثوا بصورة عامّة عن سائرالأدلّة بل اكتفوا في دليل الكتاب بالبحث عن حجّية ظواهره في قبال الأخباريين القائلين بعدم حجّيتها، وفي دليل السنّة بالبحث عن حجّية خبر الواحد فقط، وفي الإجماع بالبحث عن الإجماع المنقول فقط).

ولعلّ الوجه في ذلك كون حجّية العقل مفروغ عنها في نظرهم، مع أنّه ليس كذلك كما سيتّضح لك عندما ننقل مقالة الأشاعرة والأخباريين والأدلّة التي استدلّوا بها على نفي حجّية العقل.

وكيف كان: الحقّ أنّ من الأدلّة الفقهيّة في أحكام الشرع دليل العقل وأنّ الملازمة ثابتة بين حكم العقل والشرع، وفي مقابل هذا القول أقوال اخر:

منها: قول الأشاعرة، والظاهر أنّهم أنكروا الملازمة في تمام مراحلها الثلاثة التي ستأتي الإشارة إليها عن قريب.

ومنها: قول الأخباريين، الذين أنكروا إدراك العقل للحسن والقبح بعد قبولهم حسن الأفعال وقبحها ذاتاً.

ومنها: قول الاصوليين، الذين فصّلوا في هذه المسألة بما سيأتي البحث عنه.

ثمّ إنّ لدلالة العقل على الأحكام الشرعيّة مراتب ثلاثة:

انوار الأصول، ج 2، ص: 452

إحديها: مرتبة علل الأحكام ومباديها.

الثانية: مرتبة معلولاتها.

الثالثة: مرتبة نفس الحكم.

توضيح ذلك: أنّه تارةً يحكم العقل بحسن العدل والاحسان وقبح الظلم، أي يدرك مصلحة العدل والاحسان ومفسدة الظلم، ولا يخفى أنّ المصالح والمفاسد بمنزلة علل الأحكام، فنستكشف من ناحيتها الوجوب الشرعي أو الحرمة الشرعيّة.

واخرى يحكم العقل أوّلًا بقبح العقاب بلا بيان ثمّ يستكشف من ناحية عدم «العقاب» الذي هو من معلولات الأحكام عدم الوجوب

والحرمة الفعليين ويسمّى هذا بالبراءة العقليّة الدالّة على نفي حكم إلزامي شرعي، أو يحكم في موارد العلم الإجمالي في الشبهات المحصورة أولًا بتنجّزه وكونه منجّزاً للعقاب الاخروي ثمّ يستكشف منه فعلية الحكم الشرعي في أطراف الشبهة.

وثالثة: يكشف العقل عن حكم شرعي مجهول من ناحية حكم شرعي آخر معلوم بوجود الملازمة بينهما عند العقل كالملازمة بين الأمر بشي ء والنهي عن ضدّه أو الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذي المقدّمة.

والظاهر أنّ الأشاعرة والأخباريين خالفوا الاصوليين في جميع هذه المراتب ولكن بعض الاصوليين فصّلوا في المسألة بالنسبة إلى المرتبة الاولى كما اشير إليه آنفاً.

الكلام في مسألة الحسن والقبح

إذا عرفت هذا فلنشرع في أصل المسألة فنقول:

أمّا المرحلة الاولى: فيقع الكلام فيها في ثلاث مقامات:

الأوّل: في أنّه هل للأشياء حسن أو قبح ذاتاً قبل ورود الشرع أو لا؟

الثاني: في إمكان إدراك العقل لهما بعد أن ثبتت ذاتيّتهما للأشياء.

الثالث: في أنّه كلّما حكم به العقل حكم به الشرع.

فلا يخفى أنّ المقامين الأوّلين بمنزلة الصغرى، والمقام الثالث بمنزلة الكبرى لإثبات الحكم الشرعي.

المقام الأوّل: هل للأشياء حسن وقبح ذاتاً؟
اشارة

فلا بدّ فيه أوّلًا من تعريف الحسن والقبح إجمالًا، فنقول: المراد من حسن الفعل وقبحه ما يستحقّ المدح أو الذمّ على إتيانه، فالنزاع عنهما مقصور في عالم الأفعال ولا يشمل عالم التكوين، فإنّه لا إشكال في أنّ هناك أشياء حسنة كحسن جمال يوسف وحسن صوت العندليب وحسن كواكب السماء وغيرها، كما أنّ هناك أشياء قبيحة من قبيل قبح صوت الحمير وغيره، فالبحث في المقام مرتبط بحسن الأفعال وقبحها لا حسن الأشياء التكوينيّة وقبحها.

نعم، لا إشكال في أنّ حسن الفعل أو قبحه ناشٍ من شي ء تكويني حسن أو شي ء تكويني قبيح لا محالة، فالاحسان حسن لأنّه موجب لكمال الفرد والمجتمع خارجاً، والظلم قبيح لأنّه موجب لنقصانهما كذلك، وهذا هو الذي يعبّر عنه في أيّامنا هذه بأنّ لزوم الأفعال ولزوم تركها يرتبطان بالوجودات والاعدام الخارجيّة التكوينيّة، وينشآن منهما (ويعبّر عنه أيضاً بإرتباط معرفة الكون والايدئولوجي) فقتل النفس قبيح لأنّه يوجب حرمان إنسان من الوجود، وإشباع العطشان بالماء حسن لإيجابه إحياء النفس، والأوّل نقص والثاني كمال في عالم التكوين.

نعم، قد يختلف الكمال والنقص بحسب الآراء والأنظار، فالإنسان الإلهي يرى الكمال في القرب إلى اللَّه تعالى والنقص في البعد عنه حينما يريهما الإنسان المادّي في رفاه العيش وعدمه، وهناك امور مشتركة بين جميع المذاهب البشريّة مثل حسن العدل

والإحسان وقبح الظلم والعدوان.

إذا عرفت ما ذكرنا من معنى الحسن والقبح نقول: لا إشكال في حسن الأفعال وقبحها ذاتاً ويدلّ عليه امور:

الأوّل: الوجدان، فإنّ وجدان كلّ إنسان يحكم بأنّ هناك أفعالًا حسنة ذاتاً وأفعالًا اخرى قبيحة كذلك، والمنكر ينكره باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان، نظير ما يقال في باب الجبر والاختيار في علم الكلام في قبال الجبريّة، وفي باب أصل وجود أشياء في عالم الخارج في الفلسفة من أنّ الوجدان أصدق شاهد على اختيار الإنسان ووجود الواقع الخارجي، وبالجملة إنّا ندرك حسن العدل والإحسان وقبح الظلم والعدوان ولو لم تكن هناك شريعة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 454

وإن شئت فاختبر نفسك فيما إذا كنت عابر سبيل ومسافراً لمقصد بعيد فنفد زادك وضللت عن الطريق مضطرباً حيران فإذا رجلان قد مرّا بك ولكن أحدهما استمر في سيرةه ولم يَعتَنِ بك مع قدرته على نجاتك من هذه المهلكة بما عنده من الزاد والمركب، وتوقّف الآخر وآثر بنفسه بقدر استطاعته وأنجاك من المهلكة ودلّك على الطريق وأوصلك إلى مقصدك، فهل هما حينئذٍ عندك سيّان؟ أفلا يحكم وجدانك بقبح عمل الأوّل وحسن فعل الثاني؟ وهكذا في رجلين أحدهما أنقذ غريقاً من البحر والآخر ألقى رضيعاً في البحر، فهل تجد في نفسك إنّهما يستويان من حيث القدر والقيمة؟ كلّا، بل يحكم وجدانك بحسن عمل الأوّل وقبح عمل الثاني بلا ريب، ولا ترتاب ولو للحظة واحدة في هذا الحكم.

الثاني: أنّ إنكار الحسن والقبح يستلزم إنكار الشريعة وعدم إمكان إثباتها لأنّه متوقّف على إظهار المعجزة على يد النبي الصادق صلى الله عليه و آله وهو لا يدلّ على صحّة النبوّة إلّاإذا قلنا بقبح إظهارها على يد الكاذب، وكذلك يستلزم عدم إمكان قبول الوعد والوعيد الواردين

في كتاب اللَّه لأنّه يتوقّف على قبح الكذب وعدم الوفاء بالوعد.

الثالث: إنّه يستلزم عدم وجوب النظر في معجزة المدّعى مع أنّه لا إشكال في وجوبه اتّفاقاً بحكم العقل لاحتمال كونه صادقاً، وهو يوجب احتمال وجود الضرر الاخروي الذي يقبح قبوله، ولذلك يوجب حكم العقل بالاحتياط ووجوب النظر وهكذا يستلزم عدم وجوب التحقيق في أصل التوحيد لأنّه متوقّف على قبح عدم دفع الضرر المحتمل وحسن شكر المنعم.

الرابع: أنّه يستلزم عدم إمكان إثبات وجوب الطاعة بعد ثبوت أصل وجود الباري تعالى وثبوت نبيّه والذي جاء به من الاصول والفروع لأنّه متفرّع على ثبوت حسن لها في الرتبة السابقة فيحكم العقل بوجوبها، وأمّا إثباته بالشرع وبقوله تعالى: «أطيعوا» يوجب التسلسل المحال كما مرّ غير مرّة لأنّ وجوب الإطاعة عن نفس هذا الأمر (أطيعوا) أيضاً يحتاج إلى أمر آخر بالإطاعة إلى أن يتسلسل.

الخامس: ما يدلّ من الآيات على حسن بعض الأفعال وقبح بعض آخر قبل ورود الشرع من قبيل قوله تعالى: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الْأُمِّىَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ انوار الأصول، ج 2، ص: 455

الْخَبَائِثَ» «1»

وقوله تعالى: «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ» «2».

وقوله عزّ شأنه: «هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ» «3»

وقوله جلّ جلاله «قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ» «4»

وقوله عظم قدره: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ» «5»

ففي هذه الآيات وأشباهها دلالة واضحة على ثبوت الحسن والقبح بحكم العقل، وقبل ورود الشرع، ولذا يحتجّ بها على إثبات الحقائق الواردة في الكتاب الكريم.

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: قد يقال:

إنّ الحسن والقبح وإن كانا عقليين لكنّهما يختلفان بالوجوه والاعتبار، فإنّ الضرب مثلًا حسن إن كان للتأديب، وقبيح إن كان للتعذيب، وكذلك القتل فإنّه حسن باعتبار القصاص، وقبيح باعتبار الجناية، وقد نسب هذا إلى قوم من العامّة وهم الجبائيون.

ولكن يرد عليه: أنّه من قبيل الأخذ لما بالعرض مكان ما بالذات، ففي مثال الضرب ليس عنوان الضرب حسناً أو قبيحاً ذاتاً بل حسنه في صورة التأديب يكون بالعرض ومن باب أنّه مصداق للاحسان، كما أنّ قبحه في صورة التعذيب عرضي من باب أنّه مصداق للظلم، فالحسن والقبيح الذاتيان إنّما هما عنوانا الاحسان والظلم لا عنوان الضرب.

وإن شئت قلت: الأفعال على ثلاثة أقسام:

قسم منها يكون بحسب الذات علّة تامّة للحسن أو القبح كالظلم والاحسان.

انوار الأصول، ج 2، ص: 456

وقسم منها يكون مقتضياً وعلّة ناقصة لأحدهما في حدّ ذاته كالصدق الذي يقتضي الحسن ذاتاً ما لم يمنع مانع كما إذا أوجب القاء النفس في التهلكة.

وقسم ثالث منها ليس علة تامّة للحسن أو القبح في حدّ ذاته ولا علّة ناقصة لأحدهما كذلك كالمباحات العقليّة، فما يكون حسناً أو قبيحاً بالوجوه والاعتبار إنّما هو القسم الثاني والثالث لا الأوّل.

ومن هنا يظهر الجواب عن كثير من الإشكالات الواردة في المقام التي لا طائل تحتها ولا حاجة إلى ذكرها.

الأمر الثاني: لا إشكال في أنّ حكم العقل بالحسن أو القبح مقبول على حدّ الموجبة الجزئيّة لا الكلّية، ولا يقول أحد بأنّ العقل يدرك جميع المصالح والمفاسد وما يتبعهما من الحسن والقبح، ولذلك فإنّ دلالته على الأحكام الشرعيّة تكون في الجملة لا بالجملة.

وإن شئت قلت: أنّ القضايا على ثلاثة أنواع:

نوع منها يدرك العقل الحسن أو القبيح فيها بالضرورة والبداهة كقضيتي «العدل حسن» و «الظلم قبيح».

ونوع

آخر يكون درك العقل للحسن أو القبح فيها بالاستدلال والبرهان كقضية «الصدق حسن» ولو أضرّ بمنفعة الشخص، فيدرك حسن الصدق الضارّ بالتأمّل والنظر.

ونوع ثالث منها لا يدرك العقل الحسن أو القبح فيها لا بالضرورة ولا بالتأمّل وذلك كما في جزئيات الأحكام الشرعيّة في أبواب العبادات وغيرها، وبعبارة اخرى: يحتاج العقل في إدراكه للحسن أو القبح فيها إلى توسّط من الشرع لأنّه يتوقّف على درك المصلحة أو المفسدة وعللها، وهي امور خارجيّة لا طريق للعقل إلى الحصول عليها إلّامن طريق الشرع، وهذا نظير إدراك العوام لمضارّ الأدوية ومنافعها فإنّ إدراكهم لها جزئي صادق في جملة من الأدوية، وأمّا في غيرها فيحتاجون إلى نظر الطبيب.

ومن هنا يظهر الجواب عن استدلال الأخباريين ببعض الرّوايات الدالّة على قصور العقل في إدراكه لمصالح الأحكام ومفاسدها كقوله عليه السلام «إنّ دين اللَّه لا يصاب بالعقول» أو قوله عليه السلام «وما أبعد عقول الرجال عن دين اللَّه» فإنّ الظاهر أنّ هذه الرّوايات ناظرة إلى الغالب والقسم الثالث من القضايا، ولا تدلّ على نفي الإدراك مطلقاً، كيف والشارع بنفسه يستدلّ بالعقل في انوار الأصول، ج 2، ص: 457

كثير من الموارد ويخاطب الناس بقوله: «أفلا تتفكّرون» أو «أفلا تعقلون» وبقوله: (يااولي الألباب» و (هاتوا برهانكم» ولذلك اعترف كثير من الأخباريين بإدراك العقل للضروريات العقليّة واضطرّوا إلى استثنائها من مقالتهم، وقد مرّ تفصيل الجواب عنهم في مباحث القطع وحجّية القطع الحاصل من طريق العقل فراجع.

الأمر الثالث: إذا اجتمع عنوانان أو عناوين عديدة بعضها حسن وبعضها قبيح على شي ء واحد كالدخول في الأرض المغصوبة «1» لإنقاذ الغريق فإنّه قبيح من جهة انطباق عنوان الغصب عليه، وحسن من جهة انطباق عنوان الإنقاذ عليه، فلا إشكال حينئذٍ في أنّ

الفعل تابع لأقوى الجهات بعد كسر وانكسار أو يصير خالياً عن الحسن والقبح إذا كانت الجهات متساوية فلا يكون من باب اجتماع النقيضين (كما توهّمه بعض واستكشف من طريق استحالته عدم حسن الأفعال وقبحها ذاتاً.

أدلّة المنكرين للحسن والقبح:

ثمّ إنّه استدلّ لعدم حسن الأفعال وعدم قبحها ذاتاً بوجوه واهية:

منها: أنّه لو كان الحسن والقبح عقليين لزم الجبر في أفعال اللَّه تعالى (سواء في ذلك أفعاله التكوينيّة أو التشريعية) أي لزم أن يكون الشارع الحكيم مقيّداً في تشريعه للأحكام بهذه الأوصاف، وهذا ينافي اختياره تعالى في أفعاله على الإطلاق.

والجواب عنه واضح، لأنّ الجبر في فعل شي ء، ووجود الصارف الاختياري عن ذلك الفعل شي ء آخر، فإنّ السلوك على وفق الحكمة وعدم التخطّي عمّا تقتضيه لا ينافي الاختيار، لأنّ العاقل السويّ لا يقدم على شرب السمّ مثلًا وهو مختار مع أنّه قادر عليه، فعدم وقوع الشرب منه لصارف لا ينافي قدرته واختياره بل هو بنفسه إختار عدم الشرب، كما أنّ صدور فعل منه لداعٍ لا ينافي الاختيار، وكذلك الحكيم تعالى.

انوار الأصول، ج 2، ص: 458

ومنها: أنّ أفعال العباد غير صادرة عنهم باختيارهم فلا تتّصف بالحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه، وهو استحقاق المدح أو الذمّ على إتيانها، لأنّ الاستحقاق موقوف على وجود الاختيار.

والجواب عنه حلّاً: أنّه مبني على مبنى فاسد وهو القول بالجبر.

ونقضاً: أنّ هذا الوجه بعينه جارٍ بعد ورود حكم الشرع بالحسن والقبح مع أنّهم ملتزمون بهما بعد ورودهما في الشرع.

ومنها: أنّ القول بحسن الأفعال وقبحها يستلزم قيام المعنى بالمعنى، والظاهر أنّ مرادهم العرض بالعرض، وهو محال، وجه الملازمة: أنّ الأفعال من مقولة الفعل كما أنّ الحسن والقبح أيضاً من مقولة الكيف.

والجواب عنه أوّلًا: بالنقض بأنّ هذا يرد على الحسن والقبح الشرعيين

أيضاً وثانياً: بالحلّ فإنّه لا دليل على استحالة قيام العرض بالعرض، فكم من عرض قائم بعرض آخر.

أضف إلى ذلك (وهو العمدة) أنّ الحسن والقبح ليسا من الصفات التكوينيّة الوجوديّة المتحقّقة في موضوعها بل إنّهما من الامور الاعتباريّة المنتزعة التي لها منشأ للانتزاع في الخارج، فينتزع الحسن في قولك: «العدل حسن» ممّا يوجبه العدل في الخارج من المنافع، وينتزع القبح في قولك: «الظلم قبيح» ممّا يوجبه من الفساد والمضارّ.

ويشبه هذا الوجه بالشبهة السوفسطائيّة التي نشأت من وقوع الخطأ في الحواس، فأوجبت إنكار السوفسطائي لعالم الوجود مع أنّه أمر وجداني لا يمكن إنكاره، والصحيح في مثل هذه الامور الفطريّة الوجدانيّة النهوض على جواب لحلّ بعض الشبهات الواردة لا إنكار أصل الموضوع الثابت بالوجدان قطعاً.

إلى هنا ظهر الحال في المقام الأوّل وهو ثبوت الحسن والقبح للأشياء ذاتاً.

المقام الثاني: في إمكان إدراك الحسن والقبح الذاتيين بالجملة

وهو إمكان إدراك الحسن والقبح الذاتيين بالعقل في الجملة فالكلام فيه يظهر ممّا مرّ في المقام الأوّل ولا نطيل البحث بتكراره.

المقام الثالث: ثبوت الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع
اشارة

وهي «أنّه كلّما حكم به العقل حكم به الشرع» فقبل الورود في البحث عنها لابدّ من تفسير كلمة الحكم الوارد في الجملتين فنقول: إنّه فرق بين الحكم في قولنا: «حكم به العقل» والحكم في قولنا: «حكم به الشرع» حيث إن الحكم الأوّل معناه إدراك العقل لا إنشائه وجعله لأنّ إنشاء التكليف من شأن المولى (نعم للعقلاء بناءات واعتبارات وقوانين إنشائيّة في دائرة أحكامهم العقلائيّة وهي في الحقيقة من سنخ إنشاءات الموالي بالنسبة إلى العبيد).

وأمّا الحكم الثاني، فليس هو بمعنى الإدراك بل هو بمعنى التشريع والتقنين لكون الشارع مولى الموالي والناس جميعهم عباده، هذه نكتة.

والنكتة الثانية: أنّ قضيّة الأصل في هذا العنوان (أي قضية كلّما حكم به العقل، حكم به الشرع) مخالف للعكس (وهي كلّما حكم به الشرع حكم به العقل) فإنّ الأولى قضية مطلقة والثانية مشروطة، لأنّها مشروطة بأن يدرك العقل من جانب الشارع فلسفة الحكم من المصلحة والمفسدة ثمّ يحكم بحسنه أو قبحه فتكون قضية العكس هكذا: «كلّما حكم به الشرع، حكم به العقل لو اطلع على حكمة حكم الشرع».

الأقوال في المسألة:

في المسألة أقوال أربعة:

أحدها: أنّ الملازمة ثابتة من جانب الأصل والعكس معاً.

ثانيها: قول الأشاعرة وهو إنكار الملازمة مطلقاً.

ثالثها: قول صاحب الفصول من أنّ الملازمة ثابتة بين حسن التكليف بفعل أو قبحه وبين حكم الشارع، لا بين حسن الفعل (المكلّف به) أو قبحه وبين حكم الشرع.

رابعها: التفصيل بين ما إذا تطابقت آراء العقلاء على حسن فعل أو قبحه وبين ما إذا لم تتطابق آراؤهم عليه، والملازمة ثابتة في الصورة الاولى لا الثانية (ويستفاد هذا من تضاعيف ما ذكره في اصول الفقه) «1».

انوار الأصول، ج 2، ص: 460

والمختار هو القول الأوّل، لكن المراد من حكم الشارع هو

الأعمّ من الإلزامي وغيره، والدليل على ذلك حكمة الباري تعالى، فإذا كان الفعل واجداً لمصلحة تامّة أو مفسدة كذلك فكيف يمكن أن لا يكون للشارع فيه حكم مع أنّه قد ثبت عند الإماميّة عدم خلوّ شي ء من الأشياء من حكم من الأحكام، فبعد حكم العقل بالحسن أو القبح يثبت أوّلًا إنقداح إرادة أو كراهة في بعض المبادى ء العالية ثمّ بانضمام الكبرى الثابتة في محلّه من عدم خلوّ الأشياء عن الحكم يثبت حكم الشارع، فالطريق الصحيح عندنا هو حكمة الباري، ومقتضاها ثبوت الملازمة مطلقاً، وكيف يعقل ترك التكليف من المولى الحكيم إذا كان في الفعل مصلحة تامّة قطعية أو مفسدة كذلك؟ ومن المعلوم أنّ ترك الأمر والنهي في هذه المقامات منافٍ للحكمة، فإذا أدرك العقل المصلحة التامّة في أمر (أي مصلحة لا معارض لها) وأدرك علّية ذلك للحكم بتبعية الأحكام الشرعيّة للمصالح والمفاسد يكشف أيضاً حكم الشارع به، كحكمه بقبح اختلال النظام الذي يكون علّة لحكم الشارع بحرمته بلا ريب.

وإن شئت فاختبر نفسك أنّه قبل نزول قوله تعالى: «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا» فهل تحتمل أن لا يكون قتل المؤمن متعمّداً مبغوضاً عند اللَّه وحراماً في حكمه؟ وهل تحتمل أن تتنزّل الآية هكذا: «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ الجنّة خَالِداً فِيهَا» كلّا، لا يقول به إلّاالمكابر، وكذا في أشباهه من الامور التي يدرك العقل حسنها وقبحها ومصالحها ومفاسدها بنحو العلّة التامّة.

واستدلّ المنكرون لعدم الملازمة مطلقاً بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّها مخالفة لقوله تعالى: «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» «1»

فإنّها تدلّ على أنّه لا عقاب من دون إرسال المرسل وقبل صدور الأدلّة السمعيّة.

واجيب عنه بوجوه:

الأوّل: أنّ الظاهر من نفي العذاب في هذه الآية إنّما هو

نفي الفعليّة لا نفي الاستحقاق، ومحلّ النزاع في المقام هو الملازمة بين حكم العقل وبين استحقاق العقاب.

ويرد عليه: إنّ هذا لا يفيد الفقيه والاصولي شيئاً، فإنّ نتيجته على كلّ حال نفي العقاب،

انوار الأصول، ج 2، ص: 461

وهو العمدة في المقام، فلا تنجّز للأحكام العقليّة ولا يجب امتثالها في النتيجة، مع أنّ القائل بالملازمة يريد أن يجعل دليل العقل من الأدلّة الأربعة التي تنكشف بها القوانين الشرعيّة الإلزاميّة.

الثاني: أنّ العقل أيضاً داخل في زمرة الرسل، فإنّه رسول وحجّة باطنة كما أنّ النبي صلى الله عليه و آله حجّة ظاهرة، وقد ورد في رواية هشام: «أنّ للَّه على الناس حجّتين: حجّة ظاهرة وحجّة باطنة فأمّا الظاهر فالرسل والأنبياء والأئمّة عليهم السلام، وأمّا الباطنة فالعقول» «1» وفي رواية عبداللَّه بن سنان عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «حجّة اللَّه على العباد النبي، والحجّة فيما بين العباد وبين اللَّه العقل» «2».

وفيه: أنّ الرسول في الآية بقرينة كلمة البعث ظاهر في الرسول الظاهري ومنصرف إلى الحجج الظاهرة.

الثالث: (وهو الحقّ) أنّ المراد من العذاب في الآية ليس مطلق العذاب، بل المراد منه عذاب الإستئصال الذي يوجب الهدم والهلاك في الدنيا كالطوفان لقوم نوح عليه السلام والغرق لقوم فرعون والصيحة السماويّة لأقوام اخر، فالآية إشارة إلى هذا النوع من العذاب، ولذلك عبّرت عنه بصيغة الماضي بقوله تعالى: «ما كنّا» ويشهد لذلك أيضاً ما وردت بعدها من قوله تعالى: «وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً» «3»

. ولا أقلّ من أنّه ليس للآية إطلاق يشمل غير عذاب الإستئصال فإنّها محفوفة بما يصلح للقرينة.

الرابع: أنّ الآية

كناية عن إتمام الحجّة ويكون ذكر بعث الرسل فيها من باب الغلبة لأنّ جلّ الأحكام وصلت إلينا من طريق الأدلّة السمعيّة، فيكون مفاد الآية «إنّا لا نعذّب العباد حتّى نتمّ الحجّة عليهم» ويشهد على هذا قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى» «4».

وهذا الجواب أيضاً لا بأس به.

انوار الأصول، ج 2، ص: 462

الخامس: سلّمنا ولكن إطلاق الآية قابل للتقييد بالمستقلّات العقليّة، فإنّ هذا الظهور دليل ظنّي وذاك دليل قطعي.

فتلخّص من جميع ما ذكر أنّ الاستدلال بالآية لنفي الملازمة غير تامّ بالوجوه الثلاثة الأخيرة.

الوجه الثاني: لعدم الملازمة: ما يدلّ من الرّوايات على خلوّ كلّ شي ء عن الحكم قبل ورود الشرع وأنّ كلّ شي ء مطلق حتّى يرد فيه نهي «1».

والجواب عن هذا الاستدلال هو الوجهان الأخيران من الوجوه الخمسة المذكورة في الجواب عن الدليل الأوّل:

أحدهما: انصراف إطلاقها إلى الغالب، والثاني: أنّ الإطلاق على فرض ثبوته قابل للتقييد.

الوجه الثالث: ما ذكر في علم الكلام من استناد لزوم بعث الرسل إلى قاعدة اللطف لأنّ تمام اللطف وكماله متوقّف على تأكيد أحكام العقل بأدلّة سمعية وإمضائها من ناحية بعث الرسل.

والجواب عن هذا واضح، وهو ما مرّ في البحث عن الإجماع اللطفي، فقد ذكرنا هناك أنّ الواجب من اللطف عبارة عن إيجاد الحدّ الأقل من تهيئة أسباب الرشد والكمال بحيث لو لم يعدّها المولى لكان مقصّراً في أداء وظيفته وناقضاً لغرضه.

الوجه الرابع: ثبوت الأحكام العقليّة في حقّ الصبي المراهق إذا كان كامل العقل لطيف القريحة مع عدم كونه مكلّفاً بوجوب ولا تحريم باتّفاق جميع الفقهاء لحديث رفع القلم.

وفيه: أنّه يمكن أن يقال أنّ حديث رفع القلم ناظر إلى

غالب الأحكام ويكون منصرفاً عن المستقلّات العقليّة، فهل يمكن أن يفتي أحد من الفقهاء بجواز قتل النفس المحترمة والظلم على الناس وغير ذلك من القبائح لمثل هذا الصبي ويحكم بعدم عقابه في الآخرة؟ كلّا- ولا زال فكري مشغولًا بهذا وكنت أستبعده منذ الزمن القديم، والإنصاف هو الحكم بتحريم مثل هذه الامور على الصبي المذكور.

فإن قلت: فلماذا لا يجري عليه أحكام القصاص بل يكتفي فيه بأخذ الديّة وصرّح الفقهاء بأنّ عمد الصبي خطأ.

انوار الأصول، ج 2، ص: 463

قلنا: البحث في القصاص والديّات خارج عن محلّ النزاع، لأنّ النزاع في العقاب وعدمه، ونفي القصاص عنه في الدنيا لمصلحة خاصّة أو مفسدة خاصّة لا يلازم نفي العقاب في الآخرة، مضافاً إلى أنّ أحكام الحدود والديّات والقصاص لا تصاب بالعقول كما يشهد عليه قصّة أبان، فإنّ الحدّ مثلًا ثابت بالنسبة إلى معصية وغير ثابت بالنسبة إلى معصية اخرى أشدّ منها ظاهراً.

هذه هي أدلّة منكري الملازمة مع الجواب عن كلّ منها على حدة، ويمكن الجواب عن جميعها بالنقض بوجوب النظر في معجزة من يدّعي النبوّة ويقول: «انظروا في معجزتي لتعلموا صدقي» فلا إشكال في وجوب النظر عقلًا، ولو أنكرنا الملازمة وقلنا بلزوم الاكتفاء بالشرع لزم عدم وجوب هذا النظر وسدّ باب دعوة الأنبياء.

هذا كلّه في القول الثاني وهو إنكار الملازمة مطلقاً.

وأمّا القول الثالث: وهو ما ذهب إليه صاحب الفصول (من التفصيل بين حكم العقل بحسن التكليف وحكمه بحسن الفعل وأنّ الملازمة ثابتة في الأوّل دون الثاني) فقد ذكر لذلك وجوهاً:

أحدها: حسن التكليف الابتلائي فإنّ الضرورة قاضية بحسن أمر المولى عبده بما لا يستحقّ فاعله (من حيث إنّه فاعله) المدح في نظره استخباراً لأمر العبد أو إظهاراً لحاله عند غيره، ولو كان

حسن التكليف مقصوراً على حسن الفعل لما حسن ذلك.

وحاصله: أنّ الأوامر الإمتحانيّة ممّا لا يمكن إنكارها مع عدم وجود الحسن في نفس الفعل بل في التكليف.

والجواب عن هذا الوجه يتمّ بذكر أمرين:

الأمر الأول: أنّه فرق بين الإمتحانات الإلهية والإمتحانات الواقعة من جانب الموالي العرفيّة، لأنّ الاولى ليست للاستخبار ولا معنى له فيها لأنّ اللَّه تبارك وتعالى عالم السرّ والخفيّات، بل إنّها أسباب تربوية لتكامل العباد ورشدهم وبمنزلة تمرينات يعمل بها قبل الورود في ميدان المسابقات، التي تعدّ نوعاً من التقوية والتهيّؤ الروحاني نظير التهيّؤ الجسماني، فتكون المصلحة في نفس الفعل والمقدّمات التي تتحقّق في الخارج، فإنّ جميعها تحوي على المصلحة، والمصلحة هي ما ذكر من التعليم والتربيّة والتقوية الروحانيّة كما حصلت لإبراهيم انوار الأصول، ج 2، ص: 464

في قصّة ذبحه لإسماعيل أشار إليه تبارك وتعالى بقوله: «وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً» «1»

، فإنّ المصلحة فيها موجودة في الفعل، أي في جميع المقدّمات قبل حصول ذي المقدّمة والوصول إليها، فإذا وصلت إلى ذي المقدّمة منع عن تحقّقه مانع من جانب اللَّه تعالى.

الأمر الثاني: وإن أبيت عن ما ذكر (من وجود المصلحة في الفعل) فنقول: الأوامر الإمتحانية خارجة عن محلّ النزاع، لأنّ النزاع في الأوامر الجدّية التي تنشأ عن جدٍّ، والأوامر الإمتحانية إنشاءات صادرة بالإرادة الاستعماليّة بداعي الإمتحان لا بداعي الجدّ.

ثانيها: التكاليف التي ترد مورد التقيّة إذا لم يكن في نفس العمل تقيّة فإنّ إمكانها بل وقوعها في الأخبار المأثورة عن الأئمّة الأطهار عليهم السلام ممّا لا يكاد يعتريه شوب الإنكار، وإن منعنا وقوعه في حقّه تعالى بل وفي حقّ النبي صلى الله عليه و آله أيضاً فإنّ تلك التكاليف متّصفة بالحسن

والرجحان لما فيها من صون المكلّف أو المكلَّف عن مكائد الأعادي وشرورهم وإن تجرّد ما كلّف به عن الحسن الابتدائي.

والجواب عنه هو الجواب عن الوجه الأوّل، فإنّ هذا القسم من الأوامر أيضاً خارجة عن محلّ النزاع لخلوّها عن الإرادة الجدّية.

ثالثها: أنّ كثيراً من الأحكام المقرّرة في الشريعة معلّلة في الحقيقة ولو بحسب الظنّ أو الاحتمال بحكم غير مطرد في جميع مواردها، ومع ذلك فقد حافظ الشارع على عمومها وكلّيتها حذراً من الأداء إلى الاخلال بموارد الحكم كتشريع العدّة لحفظ الأنساب من الاختلاط حيث أثبتها الشارع بشرائطها على سبيل الكلّية حتّى مع القطع بعدم النسب أو بعدم الاختلاط كما في المطلّقة المدخول بها دبراً أو مجرّداً عن الإنزال والغائب عنها زوجها أو المتروك وطيها مدّة الحمل وغير ذلك.

وفيه: أنّه يظهر بالتأمّل والدقّة في هذه الموارد أنّ الفعل أيضاً حسن وذو مصلحة لأنّ العدّة في موارد القطع بعدم الاختلاط مثلًا يوجب الممارسة والتربيّة لإحراز القانون وحفظها في موارد الاختلاط والالتباس، فله حسن مقدّمي غيري نظير رعاية مقرّرات السياقة في جوف انوار الأصول، ج 2، ص: 465

الليل وحين خلوة الشارع فإنّ فيها مصلحة حفظ هذه المقرّرات في غير ذلك الزمان.

رابعها: «الأخبار الدالّة على عدم تعلّق بعض التكاليف بهذه الامّة دفعاً للكلفة والمشقّة عنهم كقوله صلى الله عليه و آله «لولا أن أشقّ على امّتي لأمرتهم بالسواك» فإنّ وجود المشقّة في الفعل قد يقدح في حسن الإلزام به وإن لم يقدح في حسن الفعل، إلّاأن يكون في الفعل مزيد حسن بحيث يرجّح الإلزام به مع المشقّة كما في الجهاد، فإنّ الفعل الشاقّ قد يكون حسناً بل واجباً عقليّاً لكن لا يحسن الإلزام به لما فيه من التضييق على المكلّف مع

قضاء الحكمة بعدمه».

ويرد عليه: أنّ الإنصاف في مثال السواك أنّ المشقّة موجودة في الفعل بوصف الدوام وهو لا يناسب الشريعة السمحة السهلة فلا توجد فيه مصلحة حينئذٍ، أي عمل السواك الدائمي ليس ذا مصلحة بل المصلحة موجودة فيه في الجملة، وبعبارة اخرى: أنّ الرّواية وإن دلّت بظاهرها على وجود المشقّة في الوجوب والإلزام لكن بعد التأمّل يظهر لنا أنّ مشقّة الإلزام تنشأ من مشقّة دوام الفعل لأنّه لو كان الواجب السواك في بعض الأحيان مثلًا لم يكن في الفعل مشقّة، فالمشقّة ناشئة من الفعل بوصف الدوام، فلا ينشأ عدم الإلزام من عدم حسن التكليف بل ينشأ في الواقع من عدم حسن الفعل المكلّف به.

خامسها: «أنّ الصبي المراهق إذا كان كامل العقل لطيف القريحة تثبت الأحكام العقليّة في حقّه كغيره من الكاملين ومع ذلك لم يكلّفه الشارع بوجوب ولا تحريم لمصالح داعية إلى ترك تكليفه بهما من التوسعة عليه وحفظ القوانين الشرعيّة عن التشويش وعدم الانضباط».

والجواب عنه قد مرّ سابقاً من منع عدم العقاب الاخروي في المستقلّات العقليّة في مثل هذا الصبي، وأمّا حديث رفع القلم فالظاهر أنّه ناظر إلى غالب الأحكام الشرعيّة.

سادسها: «أنّ جملة من الأوامر الشرعيّة المتعلّقة بجملة من الأفعال مشروطة بقصد القربه والامتثال حتّى أنّها لو تجرّدت عنه لتجرّدت عن وصف الوجوب كالصوم والصّلاة والحجّ والزّكاة، فإنّ وقوعها موصوف بالوجوب الشرعي أو رجحانه مشروط بنيّة القربة حتّى أنّها لو وقعت بدونها لم تتّصف به، مع أنّ تلك الأفعال بحسب الواقع لا تخلو إمّا أن تكون واجبات عقليّة مطلقاً، أو بشرط الأمر بها ووقوعها بقصد الامتثال، وعلى التقديرين يثبت المقصود، أمّا على الحكم الأوّل فلحكم العقل بوجوبها عند عدم قصد الامتثال وحكم الشارع بعدم

وجوبه، وأمّا على الثاني فلانتفاء الحسن قبل التكليف وحصوله بعده فلم يتفرّع حسن التكليف على حسن الفعل».

انوار الأصول، ج 2، ص: 466

ويرد عليه:

أوّلًا: ما مرّ في مبحث الأوامر من عدم اعتبار قصد الأمر في تحقّق قصد القربة بل يكفي قصد كونه للَّه تعالى وقصد حسنه الذاتي.

وثانياً: أنّ المدّعى في المقام هو حسن الفعل في ظرف الامتثال لا حسنه في ظرف التكليف، وأمر الشارع وإلزامه متوقّف على الأوّل لا الثاني، ولا إشكال في أنّ حسن الفعل حاصل في ظرف الامتثال، هذا- مضافاً إلى أنّه بالتأمّل يظهر أنّ أكثر هذه الإشكالات مربوطة بعكس القضيه، وهي «كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل»، وقد مرّ أنّ المدّعى والمختار هو الأصل والعكس معاً.

هذا كلّه في القول الثالث.

وأمّا القول الرابع: وهو ما ذهب إليه بعض فضلاء العصر من التفصيل بين ما إذا تطابقت آراء العقلاء على مصلحة أو مفسدة وبين ما إذا لم تتطابق آرائهم على ذلك، فقال في مقام توجيهه والاستدلال عليه بما نصّه: «الحقّ أنّ الملازمة ثابتة عقلًا فإنّ العقل إذا حكم بحسن شي ء أو قبحه (أي إنّه إذا تطابقت آراء العقلاء جميعاً بما هم عقلاء على حسن شي ء لما فيه من حفظ النظام وبقاء النوع أو على قبحه لما فيه من الاخلال بذلك) فإنّ الحكم هذا يكون بادى ء رأي الجميع فلا بدّ أن يحكم الشارع بحكمهم لأنّه منهم بل رئيسهم فهو بما هو عاقل (بل خالق العقل) كسائر العقلاء لابدّ أن يحكم بما يحكمون ولو فرضنا أنّه لم يشاركهم في حكمهم لما كان ذلك الحكم بادى ء رأي الجميع (حاصل رأي الجميع) وهذا خلاف الفرض» «1» بل في مثل هذه الحالة صرّح في موضع آخر من كلامه بأنّ «حكم

العقل حينئذٍ عين حكم الشارع لا أنّه كاشف عنه» وقال في محلّ آخر ما نصّه: «وعلى هذا فلا سبيل للعقل بما هو عقل إلى إدراك جميع ملاكات الأحكام الشرعيّة فإذا أدرك العقل المصلحة في شي ء أو المفسدة في آخر ولم يكن إدراكه مستنداً إلى إدراك المصلحة أو المفسدة العامتين اللتين يتساوى في إدراكهما جميع العقلاء فإنّه (أعني العقل) لا سبيل له إلى الحكم بأنّ هذا المدرك يجب أن يحكم به الشارع على طبق حكم العقل، إذ يحتمل أنّ هناك ما هو مناط لحكم الشارع غير ما أدركه العقل، أو أنّ انوار الأصول، ج 2، ص: 467

هناك مانعاً يمنع من حكم الشارع على طبق ما أدركه العقل وإن كان ما أدركه مقتضياً لحكم الشارع» «1».

فملخّص كلامه هذا ثبوت الملازمة في صورة التطابق وعدم ثبوتها في صورة عدم التطابق وأنّ الوجه في الأوّل كون الشارع من العقلاء، فلو لم يكن له حكم يستلزم الخلف، وفي الثاني احتمال كون المناط في نظر الشارع غير ما هو المناط في نظر العقل، أو وجود المانع في فرض اتّحاد المناط، وقال أيضاً في موضع آخر: «والقضايا المشهورة ليس لها واقع وراء تطابق الآراء، أي أنّ واقعها ذلك فمعنى حسن العدل أو العلم عندهم أنّ فاعله ممدوح لدى العقلاء، ومعنى قبح الظلم والجهل أنّ فاعله مذموم لديهم» «2».

ثمّ إنّه قال في محلّ آخر من كلامه (بعد تقسيمه الأمر إلى المولوي والإرشادي وتفسيره الأمر المولوي بالتأسيسي والإرشادي بالتأكيدي) ما نصّه: «والحقّ أنّه للإرشاد حيث يفرض أنّ حكم العقل هذا كافٍ لدعوة المكلّف إلى الفعل الحسن وإندفاع إرادته للقيام به فلا حاجة إلى جعل الداعي من قبل المولى ثانياً بل يكون عبثاً ولغواً بل هو

مستحيل لأنّه يكون من باب تحصيل الحاصل» «3».

ونتيجة هذا الكلام أنّ حكم الشارع في مثل قوله تعالى: «كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ» وقوله:

«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ» بالقسط والعدل والاحسان إرشادي لأنّ العقل أيضاً يحكم بكلّ واحد منها.

أقول: كلّ هذا من عجائب الكلام لأنّه أوّلًا: أنّه لا دخل لتطابق آراء العقلاء في المباحث العقليّة، بل الميزان فيها هو القطع الحاصل ببداهة العقل أو النظر والاستدلال وكلّ إنسان من هذه الناحية تابع لعقله ويقينه، فلو قطع أحد بوجوب المقدّمة في مبحث وجود الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذي المقدّمة يكون قطعه هذا حجّة عليه ولو خالفه غيره.

وبعبارة اخرى: القطع في المقام نظير القطع في الامور الحسّية فكما أنّه حجّة للقاطع في الامور الحسّية ولا يضرّ بها مخالفة السائرين، فكذلك في الامور العقليّة البرهانية، وقد مرّ فيما

انوار الأصول، ج 2، ص: 468

سبق أنّ النزاع في المقام ليس منحصراً في الضروريات فقط فلا دور لإجماع العقلاء وتطابقهم في حجّية القطع الحاصل من الدليل العقلي، نعم أنّها مفيدة على حدّ التأييد وإيجاد اطمئنان القلب.

وثانياً: أنّ استدلاله لعدم الملازمة في صورة عدم تطابق آراء العقلاء باحتمال أن يكون هناك مناط لحكم الشارع غير ما أدركه العقل أو مانع يمنع عنه- مخالف لما هو المفروض في محلّ الكلام، لأنّ المفروض في هذه الصورة أيضاً حصول اليقين بالحسن أو القبح (كاليقين بحسن العدل أو قبح الظلم في صورة تطابق الآراء) جامعاً للشرائط وفاقداً للموانع، واليقين حجّة بذاته من دون حاجة إلى تطابق الآراء.

وثالثاً: أنّ قوله باعتبار تطابق آراء العقلاء واتّفاقهم في حكم العقل بالملازمة أشبه بالتمسّك بدليل الاستقراء الذي يرجع إلى استنباط حكم عام من مشاهدة الجزئيات والمصاديق، مع أنّ الدليل العقلي في المقام قياس

يتشكّل من صغرى وكبرى، وعبارة عن الحركة من الكلّي إلى الجزئي.

وإن شئت قلت: إن كان الاستقراء هنا استقراءً ناقصاً لا يوجب القطع بالمصلحة أو المفسدة فلا فائدة فيه ولا يستكشف منه الحكم الشرعي، وإن كان استقراء تامّاً يشمل حكم الشارع أيضاً، فحينئذٍ يكون الملاك ما استكشفناه من حكم الشرع، ولا دخل أيضاً لتطابق الآراء.

ورابعاً: أنّ الملاك في مولويّة الحكم إنّما هو صدوره من المولى بما أنّه مولى ومفترض الطاعة، أي صدوره من ناحية مولويته، وإذاً يمكن الجمع بين التأكيد والمولويّة، أي يمكن تأكيد أمر مولوي بأمر مولوي آخر، فلا يكون الأمر المولوي منحصراً في التأسيس، كما أنّ الملاك في إرشاديّة الحكم صدوره من ناحية المولى بما أنّه ناصح مرشد (لا بما أنّه مولى) وحينئذٍ يكون إرشاديّاً ولو كان أوّل ما صدر من المولى، فليس منحصراً في التأكيد فالأمر في مثل قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ» أو قوله: «كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ» مولوي قطعاً، وإن حكم العقل أيضاً بالعدل والاحسان والقسط، لصدوره منه تعالى بما أنّه مولى مفترض الطاعة لا بما أنّه ناصح ومرشد إلى حكم العقل.

وخامساً: أنّ قوله باستحالة حكم الشارع في مورد حكم العقل أيضاً كلام عجيب لأنّه انوار الأصول، ج 2، ص: 469

كيف يمكن أن يكون التأكيد تحصيلًا للحاصل، وقد قرّر في علم الكلام أنّ من غايات بعث الأنبياء تأكيد الأحكام العقليّة بواسطة التشريع، ولم يقل أحد هناك بأنّه تحصيل للحاصل، وقد اشتهر بينهم أنّ الواجبات الشرعيّة ألطاف في الواجبات العقليّة.

وسادساً: ما اشتهر بينهم من أنّ الحسن والقبح من المشهورات المبنية على التدريب والتربيّة (والظاهر أنّهم أخذوه ممّا ذكره ابن سينا في منطق الإشارات) «1» الظاهر أنّه من المشهورات التي لا أصل لها

وكذا ما ورد في كلمات بعضهم من أنّ الحسن والقبح من الامور الإنشائيّة المجعولة من جانب العقلاء، بل الحقّ أنّه في كثير من مصاديقها من الامور الواقعيّة البديهيّة أو ما يقرب من البداهة ولا دخل للتربية ولا للإنشاء فيهما.

توضيح ذلك: أنّ العدالة والظلم (المذكورين في المثال) لهما آثار في المجتمع الإنساني بل في الافراد من الصلاح والفساد لا يقدر أحد على إنكارها، لا أقول: إنّه من قبيل «الواحد نصف الإثنين» بل أقول: إنّها تدرك بأدنى تأمّل وتفكّر، فمن ذا الذي لا يدرك المفاسد الحاصلة من الظلم، والمصالح والعمران والتكامل الحاصلة من العدل، ولو كان هناك اختلاف فإنّما هو في موضوعاته ومصاديقه لا في أصله.

وإن شئت قلت: هناك امور ثلاثة: المصالح والمفاسد الحاصلة من العدل والظلم ونفس هذين الوصفين (العدل والظلم) ثمّ مدح العقلاء وذمّهم على فعلهما.

فالمصالح والمفاسد امور واقعيّة تكوينيّة (مثل إراقة الدماء ومصادرة الأموال والاضطرابات الحاصلة منها وخراب البلاد والعدوان على العباد أو الهدوء والراحة وعمارة البلاد ورفاه العباد، كلّ هذه وأشباهها امور تكوينيّة) وعلى أثر ذلك يستحسن عقل الإنسان العدالة ويستقبح الظلم من غير حاجة إلى من يعلّمه ويدرّبه أو يقوم بالجعل والإنشاء.

ثمّ بعد ذلك يمدح العادل ويذمّ الظالم، والإنشاء إنّما هو في هذه المرحلة فقط (أعني مرحلة المدح والذمّ) وأمّا الاستحسان والتقبيح العقلييان فهما ينشئآن عن المبادى ء الحاصلة من المصالح والمفاسد الخارجيّة وكأنّ الخلط بين هذه الامور الثلاثة كان سبباً للمباني الفاسدة التي أشرنا إليها آنفاً.

انوار الأصول، ج 2، ص: 470

وفي الواقع أنّ الحسن والقبح من المعقولات الثانويّة التي يكون محلّ عروضها هو الذهن ومنشأها في الخارج، لا من المعقولات الأوّليّة أو الامور المجعولة المحضة.

إلى هنا تمّ البحث عن المرحلة الاولى من المراحل

الثلاثة المبحوث عنها في الأدلّة العقليّة، وهو أن يكشف العقل عن حكم الشرع ويحصل القطع به من ناحية علل الأحكام التامّة، أي المصالح والمفاسد المقتضية لحكم الشرع مع العلم بفقدان موانعها واجتماع شرائطها.

ومن هنا يظهر الكلام في المرحلة الثانية، وهي كشف العقل حكم الشرع من ناحية معلولات الأحكام، أي من ناحية ثبوت العقاب وعدمه، نظير حكم العقل في الاصول العمليّة العقليّة، وهي ثلاثة: البراءة العقليّة، الاحتياط العقلي والتخيير العقلي.

أمّا البراءة العقليّة: فهي مبنية على كون قاعدة قبح العقاب بلا بيان قاعدة عقليّة لا عقلائيّة، فيستكشف من حكم العقل بقبح العقاب حكم الشارع بعدم فعلية الوجوب والحرمة الواقعيين لو كانا في البين.

وأمّا الاحتياط العقلي: فهو حكم العقل بصحّة العقاب في صورة وجود العلم الإجمالي في الشبهات المحصورة، وكذلك في الشبهات البدويّة قبل الفحص، فيحكم العقل بفعلية الحكم الواقعي في أطراف الشبهة في الشبهات المحصورة، ويحكم في الشبهات قبل الفحص بأنّه لو كان هناك حكم واقعي كان فعليّاً يؤخذ العبد به.

وكذلك التخيير العقلي: فإذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة يحكم العقل بقبح العقاب لمن إرتكب الفعل أو تركه، ويكشف من هذا الطريق عدم فعلية الحكم الواقعي الشرعي، ففي تمام موارد جريان الاصول العقليّة يكشف العقل عن حكم الشرع من طريق نتيجة الحكم، وهي ثبوت العقاب وعدمه، والموضع الأصلي للبحث التفصيلي عن هذه الاصول هذا المقام، ولكن حيث إن عادة المتأخّرين من الاصوليين جرت على أن يبحثوا عنها تفصيلًا في مبحث مستقلّ تحت عنوان الاصول العمليّة فينبغي أن نتركه هنا ونحذو حذوهم.

أمّا المرحلة الثالثة: أو القسم الثالث من الأحكام العقليّة (وهي العلاقات والملازمات العقليّة بأن يحكم العقل بالتلازم ويحصل القطع به) فالمبحوث عنها في الاصول هي سبعة أبواب:

1-

باب وجوب مقدّمة الواجب، فيدرك العقل في هذا الباب التلازم بين وجوب المقدّمة وذي المقدّمة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 471

2- باب اقتضاء الأمر بالشي ء النهي عن ضدّه، وهو فيما إذا قلنا بأنّ المسألة عقليّة لا لفظيّة (كما قال به بعض).

3- باب اجتماع الأمر والنهي فإنّ القائلين بعدم الجواز يعتقدون بأنّ الأمر يلازم عدم النهي دائماً، وكذا العكس فلا يجتمعان في شي ء واحد ولو بعنوانين.

4- باب الأهمّ والمهمّ، فيحكم العقل بوجود الملازمة بين أهمّية شي ء وفعلية حكمه وتقديمه على المهمّ.

5- باب قياس الأولويّة، فيحكم العقل بوجود الملازمة بين حرمة مرتبة نازلة من الشي ء أو الفرد الأدنى منه مثلًا وبين حرمة المرتبة العالية أو الفرد الأعلى منه.

6- باب الأدلّة النهي على الفساد بناءً على كون الدليل عليه عقليّاً كما هو المعروف فيدلّ العقل على وجوب الملازمة بين النهي عن عبادة وفسادها.

7- باب الإجزاء فيبحث فيه عن وجود الملازمة بين الأمر بشي ء وإجزائه.

ثمّ إنّ غالب هذه المسائل يبحث عنها في مباحث الألفاظ مع أنّ جميعها من الملازمات العقليّة ولذلك نقول: أنّ اصولنا وإن تكاملت في مفرداتها إلّاأنّه ليس لها نظم سليم منطقي.

وحيث إنّه مرّ البحث في هذه المسائل السبعة في أبواب الألفاظ فلا وجه لتكرارها هنا.

ثمّ إنّه سيأتي إن شاء اللَّه قياس المنصوص العلّة ليست من الأدلّة العقليّة بل هو دليل لفظي، لأنّ كبراه مقدّرة في اللفظ، ففي مثل «الخمر حرام لأنّه مسكر» يكون المقدّر «وكلّ مسكر حرام» والقرينة قائمة عليه.

إلى هنا تمّ الكلام في الأدلّة العقليّة القطعيّة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 473

المقام الثاني- الأدلّة العقليّة الظنّية
اشارة

وهي على أقسام عديدة:

الأوّل: القياس:
اشارة

والحديث عنه يقع في مراحل أربعة:

1- تعريف القياس

أمّا تعريفه، ففي اللغة كما في المقاييس: «القياس هو تقدير الشي ء بشي ء (قست الثوب بالذرع) والمقدار مقياس، تقول: قايست الأمرين مقايسة وقياساً» «1».

وفي الاصطلاح فقد عرّفوه بتعاريف مختلفة ننقل هنا بعضها، ففي الاصول العامّة للفقه المقارن: «أنّه مساواة فرع لأصله في علّة حكمه الشرعي» «2» وفي الفصول: «إلحاق فرع بأصله في الحكم لقيام علّته به عند المجتهد» «3».

والظاهر أنّ ما ذكره في الفصول أدقّ وإن كان مآل كليهما إلى شي ء واحد.

ثمّ إنّ للقياس معنيين آخرين أحدهما: في مصطلح المنطق، وهو أنّه قضايا مستلزمة لذاتها قضية اخرى، والآخر: في مصطلح الفقه وهو التماس العلل الواقعيّة للأحكام الشرعيّة من طريق العقل، أي وجدان دليل عقلي للأحكام الشرعيّة كما يقال أنّ وجوب الخمر موافق للقياس لما يجده العقل فيه من الإسكار.

ثمّ إنّه يظهر من تعريف القياس أنّ له أركاناً أربعة: 1- الأصل (الخمر مثلًا)، 2- الفرع انوار الأصول، ج 2، ص: 474

(الفقّاع مثلًا)، 3- الحكم (الحرمة)، 4- العلّة (الإسكار).

2- أقسام القياس.

أمّا أقسام فأربعة: 1- قياس المنصوص العلّة، 2- قياس الأولويّة، 3- تنقيح المناط، 4- قياس المستنبط العلّة.

أمّا المنصوص العلّة فهو ما نصّ فيه بالعلّة كما إذا قيل: «لا تشرب الخمر لأنّه مسكر» ولا يخفى أنّ هذا القسم خارج عن التعريف لعدم تصوّر أصل وفرع فيه، بل كلّ من الخمر والنبيذ مثلًا أصل، لأنّ الحكم تعلّق في الحقيقة بعنوان المسكر بدلالة مطابقية، ويستفاد الحكم في كلّ منهما من اللفظ ومن نصّ الشارع لا من العقل.

وأمّا قياس الأولويّة فهو أن يلحق شي ء بحكم الأصل بالأولويّة القطعيّة، وهو أيضاً خارج عن محلّ البحث، وداخل في مباحث القطع، مضافاً إلى أنّه فيه أيضاً لا يتصوّر أصل ولا فرع لأنّ الدالّ في كلا الفردين هو

اللفظ غاية الأمر أنّه في أحدهما بالأدلّة المطابقيّة وفي الآخر بالدلالة الالتزاميّة.

وأمّا تنقيح المناط، فمورده ما إذا إقترن بالموضوع أوصاف وخصوصيّات لا مدخل لها في الحكم عند العرف فهو يحذفها عن الاعتبار، ويوسّع الحكم إلى ما يكون فاقداً لها، كما إذا سئل عن رجل شكّ في المسجد بين الثلاث والأربع في صلاة الظهر فاجيب بوجوب البناء على الأكثر، ويعلم من القرائن أنّه لا خصوصيّة للرجوليّة ووقوع الصّلاة في المسجد ولكون الصّلاة ظهراً، بل المناط والموضوع للحكم هو الشكّ بين الثلاث والأربع.

فتنقيح المناط هو الأخذ بأصل الحكم وما انيط به، وحذف خصوصيّاته التي لا دخل لها في الحكم، وهذا أيضاً خارج عن القياس المصطلح لعدم تصوّر الأصل والفرع فيه، كما لا يوجد فيه الركن الرابع من القياس وهو العلّة بل الكلام فيه في كشف تمام الموضوع عن لسان الدليل.

فيتعيّن القسم الرابع وهو قياس المستنبط العلّة وهو أن تثبت العلّة باستنباط ظنّي فيتصوّر فيه تمام أركان القياس، وينطبق عليه التعريف وهو محلّ النزاع في المقام.

3- الأقوال والآراء فيه.

وهي كثيرة تعود جميعها إلى ثلاثة أقوال رئيسة:

1- الاحالة العقليّة، وقد نسبها الغزالي في المستصفى إلى الشيعة وبعض المعتزلة «1» وإن لم يثبت هذا المعنى بالنسبة إلى الشيعة، كما نسبه بعض آخر إلى أحمد بن حنبل.

2- الوجوب العقلي ونسبه الغزالي أيضاً إلى قوم من العامّة.

3- الإمكان العقلي.

أمّا القول الأوّل والثاني فلا اعتبار لهما ولا طائل لنقل ما استدلّ به لإثباتهما كالاستدلال بما تمسّك به ابن قبّة لاستحالة الأحكام الظاهريّة (ومنها ما يثبت بالقياس) للقول الأوّل والاستدلال بمقدّمات الانسداد للقول الثاني لكونهما واضح البطلان، وقد مرّ الجواب عن هذين الوجهين في مبحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ومباحث الانسداد.

أمّا القول بالإمكان فذهب إليه

أهل الظاهر من العامّة وابن حزم في كتاب «إبطال القياس» وقاطبة الشيعة مع القول بعدم جوازه الشرعي، وذهب قوم إلى وجوبه الشرعي، وأكثر العامّة إلى جوازه الشرعي، نعم يمكن أن يقال أنّ الجواز الشرعي في باب الحجّية مساوق مع الوجوب ولا معنى لأنّ يكون شي ء حجّة مع الجواز، وسيأتي البحث عنه في مباحث الحجّة إن شاء اللَّه.

4- أدلّة الأقوال.
أدلّة النافين:

وقبل الورود في البحث عنها ينبغي أن نذكر هنا علّة اهتمام العامّة بالقياس وبحثهم عنه في نطاق واسع.

فنقول: المنشأ الأساسي فيه أنّهم وجدوا أنفسهم في قبال موارد كثيرة ممّا لا نصّ فيه لاكتفائهم بخصوص ما روي عن الرسول صلى الله عليه و آله فقط وعدم اعتنائهم بروايات أهل بيت العصمة عليهم السلام اعراضاً عن حديث الثقلين.

انوار الأصول، ج 2، ص: 476

والأحاديث الصحيحة السند المرويّة عنه صلى الله عليه و آله قليلة في غاية القلّة، وقد نقل عن أبي حنيفة أنّ الرّوايات الموجودة عنده المنقولة عن النبي صلى الله عليه و آله لم تبلغ إلى ثلاثين حديثاً، ومن الواضح عدم إمكان تدوين الفقه في مختلف أبوابه واصوله وفروعه بهذا المقدار من الرّوايات، وإن انضمّ إليها آيات الكتاب الحكيم في هذا الباب.

نعم، ضمّ بعضهم أقوال الصحابة إلى الأحاديث النبويّة لكنّها مع عدم ثبوت حجّيتها حتّى عند كثير منهم وردت أكثرها في التاريخ والتفسير.

فمن أجل هذا الخلأ الكبير مع ملاحظة المسائل المستحدثة التي توجد في عمود الزمان وفي كلّ عصر وعصر بل كلّ يوم ويوم التمسوا منابع جديدة أوّلها القياس (وسيأتي وجه أولويته) وغيره من الامور التي نشير إليه في المباحث الآتية إن شاء اللَّه تعالى.

وأمّا الإماميّة فحيث أنّهم تمسّكوا بأهل بيت الوحي وقالوا بحجّية سنّتهم بمقتضى حديث الثقلين وغيره التي جعلت

العترة فيها مقارناً مع الكتاب غير منفكٍ عنه بل ورد في روايات عديدة أنّ قولهم قول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأنّهم عليهم السلام رواة الأحاديث «1» فلأجل هذه الوجوه لا يوجد لديهم خلأ في الفقه أصلًا، وذلك لكثرة النصوص الواردة عنهم عليهم السلام ولإرجاعهم شيعتهم إلى الاصول العمليّة في موارد فقدان النصّ.

إذا عرفت هذا فنقول: يدلّ على بطلان القياس أوّلًا: ما مرّ من أدلّة عدم حجّية الظنّ ولا حاجة إلى تكرارها.

وثانياً: الرّوايات الكثيرة البالغة حدّ التواتر الواردة في الباب السادس من أبواب صفات القاضي وغيرها (مضافاً إلى ما سيأتي ممّا وردت من طرق العامّة) وهي أكثر من عشرين حديثاً (ح 2، 4، 10، 11، 15، 18، 20، 22، 23، 24، 25، 26، 27، 28، 33، 36، 37، 39، 40، 43، 45).

وهذه الرّوايات تنقسم إلى طوائف مختلفة بمقتضى ألسنتها المتفاوتة، ففي طائفة منها: «أنّ أوّل من قاس إبليس» فيبيّن الإمام عليه السلام فيها علّة قياس إبليس، وقد ورد في مرفوعة عيسى بن عبداللَّه القرشي قال: دخل أبو حنيفة على أبي عبداللَّه عليه السلام فقال له: ياأبا حنيفة بلغني أنّك انوار الأصول، ج 2، ص: 477

تقيس؟ قال: نعم أنا أقيس، قال: لا تقس فإنّ أوّل من قاس إبليس حين قال: «خلقتني من نار وخلقته من طين» «1».

فقد اعترض إبليس على اللَّه تعالى بأنّ ملاك وجوب السجدة على آدم موجود فيه بطريق أولى فقد توهّم باستنباطه الفاسد وقياسه الكاسد أنّ أصله وهو النار أشرف من أصل آدم وهو الطين بل الحمأ المسنون ولم يتوجّه إلى الروح الإلهي الذي نفخه اللَّه في آدم.

وفي طائفة اخرى منها: تذكر مصاديق من أحكام اللَّه التي تنفي القياس وتبطله ومن جملتها

ما رواه ابن شبرمة قال: دخلت أنا وأبو حنيفة على جعفر بن محمّد عليه السلام فقال لأبي حنيفة: اتّق اللَّه ولا تقس في الدين برأيك فإنّ أوّل من قاس إبليس (إلى أن قال): «ويحك أيّهما أعظم قتل النفس أو الزنا قال: قتل النفس قال: فإنّ اللَّه عزّوجلّ قد قبل في قتل النفس شاهدين ولم يقبل في الزنا إلّاأربعة، ثمّ أيّهما أعظم الصّلاة أم الصّوم؟ قال: الصّلاة، قال: فما بال الحائض تقضي الصّيام ولا تقضي الصّلاة؟ فكيف يقوم لك القياس؟ فاتّق اللَّه ولا تقس»»

.وفي طائفة ثالثة منها: «أنّ أمر اللَّه لا يقاس» فمنها: ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «في كتاب آداب أمير المؤمنين عليه السلام لا تقيس الدين فإنّ أمر اللَّه لا يقاس وسيأتي قوم يقيسون وهم أعداء الدين» «3».

إلى غيرها من الرّوايات التي قد يمكن جمع بعضها تحت عنوان واحد آخر غير ما ذكر «4».

إن قلت: أنّ العمل بهذه الرّوايات يستلزم حرمة العمل بالقياس بأقسامه الأربعة والتالي باطل إجماعاً.

قلنا: أوّلًا: إنّ العمل في الأقسام الثلاثة الاخر لا يكون حقيقة إلّاعملًا بنفس السنّة ومفاد النصّ واللفظ فهي لا تتجاوز عن حدّ التسمية بالقياس، وأمّا حقيقة فليس شي ء منها من القياس.

وثانياً: يتعيّن بنفس الرّوايات معنى القياس الوارد فيها، لأنّ قياسات أبي حنيفة التي انوار الأصول، ج 2، ص: 478

وردت في عدّة منها كانت قياسات ظنّية مبتنية على آرائه الشخصية، كما أنّ قياس إبليس أيضاً كان قياساً ظنّياً مبنيّاً على حدسه ورأيه وعدم اعتنائه إلى قوله تعالى في حقّ آدم:

«وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي».

أضف إلى جميع ذلك ضرورة المذهب فإنّه لم ينقل جواز القياس من أحد من الإماميّة إلّا من ابن الجنيد في أوائل

إستبصاره وذلك لأجل ما بقى له من الرسوبات الذهنية من قبل الاستبصار.

ثمّ إنّه قد يستدلّ برواية أبان المعروفة لعدم حجّية القطع الحاصل من القياس أيضاً لأنّه كان قاطعاً كما يشهد عليه استعجابه وقوله في جواب الإمام عليه السلام: «سبحان اللَّه يقطع ثلاث ...» «1» إلى آخر قوله.

ولكن فيه أوّلًا: أنّه لا دلالة فيها على كونه قاطعاً بالحكم، نعم يظهر منها أنّه كان مطمئناً به.

وثانياً: سلّمنا كونه قاطعاً لكن لا تدلّ الرّواية على المنع عن العمل بالقطع بل أن الإمام أزال قطعه ببيان الفرق بين ديّة المرأة بالنسبة إلى الثلث وما بعده.

وأمّا النقاش فيها من حيث السند فليس تامّاً لأنّها وردت من طريقين لو أمكن الإشكال في أحدهما لإبراهيم بن هاشم فلا يمكن الإشكال في الآخر لأنّ رجاله كلّهم ثقات، مضافاً إلى أنّ إبراهيم بن هاشم أيضاً من الثقات بلا إشكال.

وقال بعض الأعلام: «أنّ ظهورها في المنع عن الغور في المقدّمات العقليّة لاستنباط الأحكام الشرعيّة غير قابل للإنكار بل لا يبعد أن يقال: إنّه إذا حصل منها القطع وخالف الواقع ربّما يعاقب على ذلك في بعض الوجوه» «2».

وفيه: أنّا نمنع عن ذلك، لأنّ كلام الإمام عليه السلام يرجع إلى أمرين: أحدهما: أنّه حصل له القطع بلا وجه، ولو تأمّل في المسألة لما كاد أن يحصل له، ثانيهما: أنّ الإمام عليه السلام أزال قطعه حيث قال:

«مهلًا ياأبان: هذا حكم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّ المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الديّة فإذا بلغت الثلث رجعت المرأة إلى النصف، يا أبان إنّك أخذتني بالقياس، والسنّة إذا قيست محق الدين».

انوار الأصول، ج 2، ص: 479

فإنّ هذه العبارة منصرفة إلى القياس الظنّي، ولو شمل القياس القطعي بإطلاقه يقيّد بما

مرّ في مباحث القطع من أنّه حجّة ذاتاً لا يمكن الردع عنه.

ثمّ إنّ صاحب الفصول نقل عن العامّة في ردّ القياس روايتين: إحديهما: قوله صلى الله عليه و آله: «تعمل هذه الامّة برهة بالكتاب وبرهة بالسنّة وبرهة بالقياس، فإذا فعلوا ذلك فقد ضلّوا» «1».

ثانيهما: قوله صلى الله عليه و آله «ستفرّق امّتي على بضع وسبعين فرقة أعظمهم فتنة قوم يقيسون الامور برأيهم فيحرّمون الحلال ويحلّلون الحرام» «2».

كما في سنن الدارمي «3» المتوفّى سنة 255 ه أيضاً رويت روايات عديدة في هذا المجال:

منها: ما روي عن عبداللَّه: «لا يأتي عليكم عام إلّاوهو شرّ من الذي كان قبله أما أنّي لست أعني عاماً ولا أميراً أخيراً من أمير ولكن علماءكم وخياركم وفقهاءكم يذهبون ثمّ لا تجدون منهم خلفاً وتجي ء قوم يقيسون الأمر برأيهم».

منها: ما روي عن ابن سيرين: «أوّل من قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلّا بالمقاييس».

ومنها: ما روي عن الحسن (البصري) «أنّه تلا هذه الآية خلقتني من نار وخلقته من طين قال قاس إبليس وهو أوّل من قاس».

ومنها: ما روي عن مسروق «أنّه قال أنّي أخاف وأخشى أن أقيس فتزلّ قدمي».

ومنها: ما روي عن الشعبي قال: «واللَّه لئن أخذتم بالمقاييس لتحرّمنّ الحلال ولتحلّن الحرام».

ومنها: ما روي عن عامر: «أنّه كان يقول ما أبغض إليّ أرأيت أرأيت يسأل الرجل صاحب فيقول: أرأيت، وكان لا يقايس».

وهذه الرّوايات أيضاً دالّة على ما نحن بصدده من بطلان العمل بالقياس.

أدلّة القائلين بحجّية القياس

وأمّا القائلون بجواز القياس فاستدلّوا بالأدلّة الأربعة والمهمّ منها الذي يليق ذكره إنّما هو السنّة وأمّا الآيات فضعفها في الدلالة على مدّعاهم لا يحتاج إلى البيان، بل يشكل فهم أصل ربطها بهذه المسألة فضلًا عن صحّة الاستدلال بها، وهذا يدلّ

على وقوعهم في ضيق شديد في مقام إقامة الدليل على ما دبّروها من قبل من صحّة القياس.

أمّا الآيات المستدلّ بها قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ...» «1»

ببيان أنّ القياس أيضاً نوع إرجاع للأمر إلى سنّة الرسول حيث إن القائس يرجع في استنباط حكم الفرع إلى الأصل الذي ثبت حكمه بالسنّة، أو يستنبطه من العلّة التي اكتشفها من السنّة.

ويرد عليه أوّلًا: إنّ وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنّة لا يحتاج إلى الاستدلال بهذه الآية بل هو أمر واضح مستفاد من أدلّة حجّية الظهور.

وثانياً: إنّ الإشكال إنّما هو صغرى الردّ إلى اللَّه وكشف العلّة، وإنّ القياس الظنّي واستنباط الحكم من العلّة الظنّية ليسا من الردّ إلى اللَّه والرسول، لأنّ هذا هو موضع النزاع، وإلّا لو كانت العلّة قطعية وتامّة فلا كلام في أنّ مقتضى حكمة الحكيم عدم التفريق بين الأصل والفرع وهو خارج عن محلّ الكلام.

ومنها: قوله تعالى: «فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ» «بتقريب أنّ الاعتبار في الآية مأخوذ من العبور والمجاوزة وأنّ القياس عبور من حكم الأصل ومجاوزة عنه إلى حكم الفرع فإذا كنا مأمورين بالاعتبار فقد أمرنا بالعمل بالقياس وهو معنى حجّيته.

وهذا الاستدلال ركيك جدّاً يظهر بأدنى تأمّل.

ومنها: قوله تعالى: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ» ببيان أنّ اللَّه عزّوجلّ استدلّ بالقياس على ما أنكره منكرو البعث، فقاس عزّوجلّ إعادة المخلوقات بعد فنائها على إنشائها أوّل مرّة، وهذا الاستدلال بالقياس إقرار لحجّية القياس وصحّة الاستدلال به.

وفيه: أوّلًا: أنّها لا تدلّ على حجّية القياس إلّابضرب من القياس، وهو قياس عمل انوار الأصول، ج 2، ص: 481

الإنسان بعمل اللَّه تعالى فيلزم الدور المحال.

وثانياً: أنّ

مورد الآية خارج عن محلّ النزاع لأنّ حكم العقل بأنّ من قدر على بدأ خلق الشي ء قادر على أن يعيده حكم قطعي لا ظنّي فإنّ حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد.

ومنها: قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ» بتقريب أنّ العدل هو التسوية والقياس هو التسوية بين مثلين في الحكم فيتناوله عموم الآية.

وهذا أيضاً واضح الفساد فإنّ العدل هو القيام بالقسط وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه كما يظهر من العرف واللغة ولا ربط له بالقياس الظنّي.

هذا كلّه في الآيات التي استدلّ بها لجواز القياس.

أمّا الرّوايات، فقد حكيت روايات من طرقهم في هذا المجال أهمّها:

مرسلة معاذ بن جبل أنّه قال لمّا بعثه النبي صلى الله عليه و آله إلى اليمن قال: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب اللَّه قال: فإن لم تجد في كتاب اللَّه. قال: فبسنّة رسول اللَّه قال: فإن لم تجد في سنّة رسول اللَّه ولا في كتاب اللَّه. قال: أجتهد رأيي ولا آلو، قال فضرب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله صدره وقال: الحمد للَّه الذي وفّق رسول اللَّه لما يرضاه رسول اللَّه» «1».

قوله: «لا آلو» أصله «لا أَأْلو» بمعنى لا أترك.

وفيه: أنّه قابل للمناقشة سنداً ودلالة، أمّا السند فلأنّها مرسلة مضافاً إلى ضعفها من ناحية الحارث بن عمر.

وأمّا الدلالة فتقريب دلالتها: أنّ الظاهر كون الاجتهاد فيها بمعنى تقنين الفقيه وتشريعه من دون الإتّكاء على كتاب اللَّه وسنّة نبيّه صلى الله عليه و آله لأنّ المفروض أنّ الاجتهاد بالرأي فيها يكون بعد عدم ورود الكتاب والسنّة وهو شامل للقياس بإطلاقه.

لكن يرد عليه: أنّ شمول الاجتهاد لمطلق القياس أوّل الكلام.

وما روي عن النبي صلى الله عليه و آله «من

أنّه قال لمعاذ وأبي موسى الأشعري: بم تقضيان؟ فقالا: إن لم انوار الأصول، ج 2، ص: 482

نجد الحكم في الكتاب ولا السنّة قسنا الأمر بالأمر فما كان أقرب إلى الحقّ عملنا به» «1».

ووجه دلالتها أنّهما صرّحا بالأخذ بالقياس عند فقدان النصّ، والنبي صلى الله عليه و آله أقرّهما عليه فكان حجّة.

وفيه: أنّه ضعيف سنداً أيضاً فلا يمكن الاعتماد عليه وإن تمّت دلالتها.

وحديث الجارية الخثعمية أنّها قالت: «يارسول اللَّه إنّ أبي أدركته فريضة الحجّ شيخاً زمناً لا يستطيع أن يحجّ إن حججت عنه أينفعه ذلك؟ فقال لها: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه ذلك؟ قالت: نعم. قال: فدين اللَّه أحقّ بالقضاء».

وتقريب دلالته أنّه الحق دين اللَّه بدين الآدمي في وجوب القضاء ونفعه، وهو عين القياس «2».

وفيه أوّلًا: أنّ الاستدلال لحجّية قياساتنا بقياس النبي صلى الله عليه و آله نوع من القياس، واعتباره أوّل الكلام.

ثانياً: أنّ ظاهر الحديث تمسّكه صلى الله عليه و آله بالقياس الأولويّة وهو خارج عن محلّ الكلام.

ثمّ أضف إلى ذلك كلّه أنّ هذه الرّوايات لو تمّت سنداً ودلالة لكنّها معارضة بما هو أقوى وأظهر، أي الرّوايات السابقة الدالّة على بطلان القياس التي نقلنا بعضها عن طرقهم.

هذا كلّه في الاستدلال بالسنّة على حجّية القياس.

أمّا الإجماع، فقد ادّعى اتّفاق الصحابة على حجّية القياس حيث إن طائفة منهم كانوا عاملين بالقياس وطائفة اخرى سكتوا عنه فلم ينكروا عليهم.

وفيه أوّلًا: أنّ الصغرى ليست بثابتة لأنّ الكثير من الصحابة لم يكونوا في المدينة في ذاك العصر بل كانوا في مختلف بلاد الإسلام.

وثانياً: لا دليل على كون جميع الصحابة داخلين في إحدى هاتين الطائفتين وليس لنا مدرك جمع فيه أقوال كلّ الصحابة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 483

ثالثاً: لعلّ

منشأ السكوت هو الخوف عن السوط والسيف أو عدم العلم بذلك.

ورابعاً: أنّ هذا الإجماع على فرض ثبوته معلوم المدرك لا يكشف عن قول المعصوم.

أمّا الاستدلال بالعقل، فاللائق للطرح من الوجوه العقليّة التي ذكروها في هذا الباب وجهان:

الأوّل: أنّ الأحكام الشرعيّة مستندة إلى مصالح، وهي الغايات المقصودة من تشريع الأحكام، فإذا ساوت الواقعة المسكوت عنها الواقعة المنصوص عليها في علّة الحكم التي هي مظنّة للمصلحة قضت الحكمة والعدالة بتساويهما في الحكم تحقيقاً للمصلحة التي هي مقصود الشارع من التشريع.

وجوابه اتّضح ممّا ذكر، وهو أنّه إن كان استنباط العلّة استنباطاً ظنّياً فحجّيته أوّل الكلام، والأصل عدمها، وإن كان قطعيّاً فلا إشكال في حجّيته لأنّه حينئذٍ إمّا أن يكون من قبيل إلغاء الخصوصيّة وتنقيح المناط أو من قبيل المفهوم الموافق أو المستقلّات العقليّة، ولكنّها بأسرها خارجة عن محلّ النزاع.

الثاني: ما يرجع في الحقيقة إلى مقدّمات الانسداد المذكورة سابقاً وقد عبّروا عنها ببيانات مختلفة.

منها: أنّ الحوادث والوقائع في العبادات والتصرّفات ممّا لا يقبل الحصر والعدّ، ونعلم قطعاً أنّه لم يرد في كلّ حادثة نص، ولا يتصوّر ذلك أيضاً، فإذا كانت النصوص متناهيّة، وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى، علم قطعاً أنّ الاجتهاد والقياس معتبر حتّى يكون لكلّ حادثة اجتهاد.

والجواب عنه ما مرّ سابقاً من أنّه لو فرضنا كون باب العلم منسدّاً إلّاأنّ باب العلمي مفتوح عندنا لأجل الرّوايات الواردة من ناحية أهل بيت الوحي عليهم السلام عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، هذا أوّلًا.

وثانياً: لو سلّمنا انسداد باب العلمي أيضاً لكن لا كلام في بطلان خصوص القياس للروايات الخاصّة الناهيّة عنه.

انوار الأصول، ج 2، ص: 484

وقد تلخّص من جميع ما ذكرنا امور:

الأوّل: أنّ القياس الظنّي لا دليل

على حجّيته بل قام الدليل على عدم الحجيّة، وهو الذي وقع النزاع فيه بين العامّة والخاصّة بل بين العامّة أنفسهم.

الثاني: أنّ القياس القطعي حجّة سواءً سمّي قياساً أو لم يسمّ، وهو إمّا راجع إلى قياس الأولويّة، أو قياس المنصوص العلّة، أو تنقيح المناط، أو المستقلّات العقليّة وشبهها.

الثالث: أنّ العلّة المنصوصة في الرّوايات الواردة في علل الشرائع قد يراد بها العلّة التامّة، وقد يراد بها العلّة الناقصة، وتسمّى حكمة، ويتوقّف تعيين أحدهما على ملاحظة لحن الرّوايات وتعبيراتها المختلفة والقرائن الموجودة الحاليّة والمقاليّة.

الثاني: الاستحسان

وهو في اللغة: «عدّ الشي ء حسناً» لكنّه ليس المقصود في المقام.

وأمّا في الاصطلاح فقد نقل له عن العامّة معان مختلفة كثيرة:

منها: «إنّ الاستحسان ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس»، ويستفاد من هذا التعريف أنّهم حاولوا أن يعدّوا الاستحسان كاستثناء من القياس فخرجوا عن القياس فيما إذا كان تركه أوفق بحال الناس، ولذلك كثيراً ما يقال في كلماتهم «أنّ القياس حجّة إلّافي مورد الاستحسان» وحينئذٍ لا يعدّ دليلًا مستقلًا في القياس كما يشهد عليه عدم ذكر بعضهم إيّاه في الاصول.

ومنها: «أنّه هو الالتفات إلى المصلحة والعدل» وبناءً على هذا التعريف يعدّ الاستحسان أساساً مستقلًا للتشريع التقنين، وسيأتي الفرق بينه وبين المصالح المرسلة.

ومنها: ما يشبه التعريف السابق، وهو «أنّه ما يستحسنه المجتهد بعقله» وغير ذلك من التعاريف التي سيأتي ذكر بعضها في آخر البحث.

ثمّ إنّهم اختلفوا في حجّية الاستحسان وعدمها، فحكي عن الشافعي والمالك جملتان:

انوار الأصول، ج 2، ص: 485

إحديهما: ما حكي عن الشافعي في مذمّة الاستحسان وهو: «من استحسن فقد شرّع» «1» لكن اختلف في المراد من هذه الجملة فحكي عن الفتوحات أنّ المراد منها أنّ للاستحسان مقاماً عالياً كمقام الأنبياء وتشريعاتهم، لكن الإنصاف أنّ

الواضح كونها في مقام المذمّة، ولذا عدّوا الشافعي من نفاة الاستحسان.

ثانيها: ما نقل عن المالك في مدح الاستحسان وهو «أنّه تسعة أعشار العلم» «2».

ونسب إلى الظاهريين منهم إنكاره، والمعروف من مذهب أصحابنا نفيه مطلقاً.

هذه هي الأقوال في المسألة.

ثمّ إنّ الاستحسان على قسمين: قطعي وظنّي.

فالقطعي منه لا كلام في حجّيته بناءً على الحسن والقبح العقليين وقاعدة الملازمة.

والظنّي هو موضع البحث والنزاع. فالقائلون بحجّيته تمسّكوا بالكتاب والسنّة والإجماع.

أمّا الكتاب: فاستدلّوا أوّلًا: بقوله تعالى: «فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ» «3»

. وثانياً: بقوله تعالى: «وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ» «4»

بتقريب أنّ مدح العباد على اتّباع أحسن القول في الآية الاولى وإلزامهم باتّباع أحسن ما انزل إليهم من ربّهم في الآية الثانية أمارة على جعل الحجّية له بالنسبة إلى الأقوال، ومع إلغاء الخصوصيّة للأقوال تثبت الحجّية للاستحسان في الأفعال أيضاً.

لكن الإنصاف أنّه لا ربط للآيتين بالاستحسان، فإنّهما مربوطتان بالأحسن الواقعي، والطريق إلى الواقع إنّما هو القطع أو الظنّ الثابت حجّيته لأنّ الألفاظ وضعت للمعاني الواقعيّة ولم يؤخذ فيها العلم والجهل، فوضع لفظي «الدم» و «الخمر» مثلًا للدم والخمر الواقعيين، فإن قطعنا بالواقع فهو حجّة لكون القطع نفس مشاهدة الواقع فيكون حجّة ذاتاً، وإن ظننا فلا دليل على حجّيته وليست الحجّية ذاتيّة للظنّ، هذا أوّلًا.

انوار الأصول، ج 2، ص: 486

ثانياً: المحتمل في المراد من «القول» في قوله تعالى: «ويستمعون القول» وجهان:

أحدهما: أنّ المراد منه هو قول الناس، الثاني: أنّ المراد هو آيات القرآن الكريم، فقد إحتمل المعنى الثاني بعض المفسّرين ببيان أنّ القرآن مشتمل على مستحبّات وواجبات ومكروهات ومباحات، والواجبات والمستحبّات أحسن من المكروهات والمباحات، وعباد اللَّه تعالى يتّبعون الواجبات والمستحبّات، وهذا هو المراد باتّباع الأحسن، فإن كان هذا هو

المراد من الآية فلا دخل لها بما نحن بصدده وهي أجنبية عنه.

وأمّا المعنى الأوّل فلازمه أنّ عباد اللَّه يتّبعون أحسن أقوال الناس، فإنّها تنقسم إلى الحقّ والباطل، ومن الناس من يدعوا إلى الجود والسخاء مثلًا، ومنهم من يدعوا إلى البخل والإقتار.

وعباد اللَّه يتّبعون الأحسن منهما وهو الجود والإيثار، وحينئذٍ إن قلنا بأنّ المراد من الأحسن هو الأحسن في نظر الشارع فلا ربط للآية أيضاً بمحلّ البحث، وإن كان المراد منه الأحسن في نظر العقل فهو داخل في المستقلّات العقليّة ولا يشمل موارد الظنّ.

هذا كلّه بالنسبة إلى الآية الاولى.

أمّا الآية الثانية فلها أيضاً تفسيران: أحدهما: أنّ المراد من الأحسن هو أحسن الآيات التي أُنزل إليكم، وحينئذٍ لا ربط أيضاً لها بالمقام.

ثانيهما: أنّ المراد منه القرآن وإنّه أحسن من التوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب السماويّة وهذا أيضاً لا دخل له بما هو محلّ النزاع كما هو واضح.

هذا كلّه هو الاستدلال بالآيات.

أمّا السنّة: فقد روي عن ابن مسعود أنّه قال: «إنّ اللَّه نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمّد صلى الله عليه و آله خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فبعثه برسالته ثمّ نظر في قلوب العباد بعد قلب محمّد صلى الله عليه و آله فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء لنبيّه يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند اللَّه حسن، وما رأوا سيّئاً فهو عند اللَّه سيي ء» «1».

وهذه الرّواية غير تامّة سنداً ودلالة أمّا السند: فهي موقوفة (أي موقوفة على ابن مسعود ولم يروها أحد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله) فليست بحجّة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 487

وأمّا الدلالة فأوّلًا: أنّها إنّما ترتبط بمحلّ الكلام إذا كان المراد من الرؤية في قوله «ما

رأوا» الرؤية الظنّية، والإنصاف أنّ نفس كلمة الرؤية ظاهرة في العلم والقطع ولا فرق في هذه الجهة بين الرؤية القلبيّة والرؤية بالبصر.

وثانياً: قد يرى التهافت بين صدر الحديث وذيله، لأنّ الذيل ظاهر في أنّ المسلمين إذا رأوا حسناً فهو عند اللَّه حسن مع أنّ صدره يختصّ بخصوص الصحابة.

أمّا الإجماع: فقد ادّعوا أنّه توجد مسائل لا دليل عليها غير الإجماع على الاستحسان ولا تدخل تحت عنوان من العناوين الفقهيّة من العقود والإيقاعات كإجماع الامّة على استحسانهم دخول الحمام وشرب الماء من أيدي السائقين من غير تقدير لزمان المكث وتقدير الماء بالاجرة فلا يدخل شي ء منهما تحت العناوين المعروفة من العقود الشرعيّة، وفي فوائد الرحموت مثّل له بمسألة الاصطناع، فيطلب من النجّار أو الكفّاش مثلًا اصطناع باب أو نعلين من دون تقدير للوزن أو القيمة، كما يمكن التمثيل لها في عصرنا هذا بركوب السيارة من دون تقدير للُاجرة.

لكن يرد على الإجماع هذا أوّلًا: أنّه قائم على هذه الأحكام بالخصوص لا على استحسانها، وهو في الواقع ليس إجماعاً في المصطلح بل سيرة مستمرّة إلى زمن النبي صلى الله عليه و آله (لو ثبتت السيرة) قامت على هذه الأحكام.

وثانياً: أنّه يمكن إدخال هذه الأحكام تحت عناوين معروفة في فقهنا الثابتة بالأدلّة المعتبرة، فيدخل المثال الأوّل والثاني في عنوان الإباحة مع الضمان الذي له مصاديق كثيرة في الفقه وكذلك مثال ركوب السيارة.

يبقى مثال الاصطناع، وهو أيضاً يدخل في عنوان البيع، كما إذا اشترى الأبواب على نحو الكلّي في الذمّة، نعم أنّه ليس داخلًا في عقد من العقود إذا ذكر للنجّار خصوصيّات للباب ووعده أن يشتري منه فيما بعد، لكن قد يدخل هذا أيضاً في قاعدة لا ضرر إذا لم يوجد

من يشتري ذلك الباب مع تلك الخصوصيّات فيجب على الواعد جبران الخسارة.

هذا في الأدلّة التي استدلّوا بها أنفسهم على حجّية الاستحسان، ويمكن أيضاً أن يستدلّ لهم بدليل عقلي، وهو الانسداد حيث إنّه في صورة الانسداد لا يكون الظنّ القياسي كافياً لهم بل لابدّ من التعدّي إلى الظنّ الاستحساني.

انوار الأصول، ج 2، ص: 488

والجواب عنه واضح، وهو ما مرّ من كفاية الكتاب والسنّة (مع ملاحظة الرّوايات المروية من طرق أهل البيت عليهم السلام).

فقد ظهر إلى هنا أنّه إذا كان الاستحسان قطعيّاً فلا إشكال في حجّيته من باب كونها ذاتيّة للقطع، وإذا كان ظنّياً يكون مشمولًا لأدلّة عدم حجّية الظنّ، وكلّ واحد من الأدلّة الأربعة التي استدلّ بها لإثبات الحجّية له غير تامّ.

وأمّا دليل النافين فهي أدلّة عدم حجّية مطلق الظنّ كما أشرنا إليه آنفاً، لكن حكي عن الشافعي دليلًا لنفيه وهو أنّه لو قال المفتي فيما لا نصّ فيه ولا قياس: «استحسن» فلا بدّ أن يزعم جواز استحسان خلافه لغيره، فيفتي كلّ حاكم في بلد ومفت بما يستحسن، فيقال في الشي ء الواحد بضروب من الحكم والفتيا فإن كان هذا جائزاً فقد أهملوا أنفسهم فحكموا حيث شاؤوا، وإن كان ضيّقاً فلا يجوز أن يدخلوا فيه.

وقد يقال في الردّ عليه: أنّ مثل هذا الكلام غريب على الفنّ لانتهائه- لو تمّ- إلى حصر الاجتهاد مطلقاً مهما كانت مصادره، لأنّ الاختلاف واقع في الاستنباط منها إلّانادراً ولا خصوصيّة للاستحسان في ذلك «1».

لكن الإنصاف أنّه فرق بين الاستحسان وغيره لأنّه في غيره يوجد ضوابط معيّنة من شأنها أن تقلّل وقوع الاختلاف، بخلاف الاستحسان الذي لا ضابطة محدّدة فيه.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ للاستحسان في كلماتهم معانٍ اخرى غير ما ذكر وقد ذكرها في

شرح فواتح الرحموت:

منها: أنّ القياس إمّا جلي أو خفي، والثاني هو الاستحسان كقياس بعضهم سؤر الطيور

انوار الأصول، ج 2، ص: 489

المعلّمة بسؤر الحيوان المفترس (الذي لا إشكال في نجاسته عندهم) وحكمه بنجاسته فهو قياس جلي، وقياس بعض آخر إيّاه بسؤر الإنسان والحكم بطهارته فهو قياس خفي، وقد ذكروا هنا وجوهاً لرفع التعارض بين القياسين لا طائل تحتها، وهذا المعنى من الاستحسان مبني على قبول حجّية القياس الظنّي وقد مرّ نفيه.

منها: أنّ الاستحسان بمعنى النصّ كما حكوا عن بعض أئمّتهم أنّه قال: إنّا أثبتنا الرجم بالاستحسان لكونه منصوصاً من طرق الفريقين فاطلق الاستحسان على النصّ.

منها: أنّ الاستحسان هو الأخذ بأقوى الدليلين وهو على أربعة أقسام:

1- الأخذ بأقوى الظهورين مثل تقديم الخاصّ على العام، أو النصّ على الظاهر، وهذا داخل في باب حجّية الظواهر ولا كلام فيه.

2- الأخذ بالمرجّحات المنصوصة كالأخذ بما وافق الكتاب.

3- الأخذ بالأهمّ القطعي في مقابل المهمّ في باب التزاحم، وهذا داخل في الدليل العقلي ولا إشكال فيه أيضاً.

4- الأخذ بالأقوى والأهمّ الظنّي، وهو ليس حجّة عندنا مطلقاً إلّاما خرج بالدليل.

هذا كلّه في الاستحسان.

الثالث: المصالح المرسلة

وقد ذكر لها معانٍ مختلفة بل لعلّها متضادّة لكن ما يستفاد من أكثر الأدلّة التي ذكرت لها هو أنّ المراد من المصالح هي مصالح العباد ومضارّهم على مذاقّ الشرع، والمراد من المرسلة هي المصالح التي لم يرد فيها نصّ خاصّ ولا عامّ، أي أنّها ارسلت واطلقت ولم يرد عليها شرع لا في العمومات ولا في الخصوصات، ومثّل لها في كلمات الغزالي بتترس الكفّار بجماعة من أسارى المسلمين فلو كففنا عنهم لصدمونا وغلبوا على دار الإسلام وقتلوا كافّة المسلمين، ثمّ يقتلون الاسارى أيضاً، ولو رمينا الترس لقتلنا مسلماً معصوماً لم يذنب ذنباً،

وهذا لا عهد به في الشرع، فيجوز لقائل أن يقول: هذا الأسير مقتول على كلّ حال فحفظ جميع المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع، فيحكم العقل هنا بوجوب رمي الترس من باب تقديم الأهمّ على المهمّ.

انوار الأصول، ج 2، ص: 490

فمن هذا المثال أيضاً يستفاد أنّ المراد من المصالح المرسلة هي المصالح على مذاقّ الشرع، لأنّ المستفاد من مجموع الأحكام الشرعيّة أنّ حفظ كيان الإسلام أهمّ عند الشارع من حفظ النفوس المحترمة.

هذا- ولابدّ هنا من إضافة نكتتين غفل عنهما في كلماتهم:

إحديهما: في الفرق بين الاستحسان والمصالح المرسلة، فالظاهر أنّ في استحسان شي ء يكفي مجرّد أن يستحسنه الطبع والفطرة من دون أن يلحظ أنّ فيه مصلحة أو مفسدة، لأنّ الحسن والقبح في الأفعال كالحسن والقبح في الطبيعة (كحسن صوت العندليب وقبح صوت الحمار) له مبدأ فطري لا حاجة فيهما إلى درك المصلحة أو المفسدة، بينما في المصالح المرسلة الحاكم هو العقل والبرهان لا الطبع والفطرة وإن استعملا (الاستحسان والمصالح المرسلة) في بعض الكلمات في معنى واحد.

الثانية: أنّ ما ذكرنا في الاستحسان من تقسيمه إلى القطعي والظنّي يجري هنا أيضاً، فالمصالح المرسلة أيضاً تارةً يكون حكم العقل بها قطعيّاً (أي القطع بوجود المقتضي وفقد المانع) فيكون حجّة بلا ريب، واخرى يكون ظنّياً فلا دليل على حجّيته.

أمّا الأقوال في المسألة، فاختلف العامّة في حجّيتها، وعمدة الأقوال فيها ثلاثة:

الأوّل: قول الشافعي بإنكارها حيث حكى عنه عبارتان معروفتان:

إحديهما: «أنّه من استصلح فقد شرع كمن استحسن».

ثانيهما: «إنّ الاستصلاح كالاستحسان متابعة الهوى» «1».

الثاني: قول مالك بإثباتها وحكي عنه أيضاً عبارة وهي «أنّ الاستصلاح طريق شرعي للاستنباط فيما لا نصّ فيه ولا إجماع» «2».

الثالث: ما حكي عن الغزالي من التفصيل بين الضروريات وبين الحاجيات والتحسينيات،

والمراد من الضروريات ما لا يمكن حياة الإنسان إلّابه، والمراد من الحاجيات أنواع المعاملات التي توجب رفع بعض الحاجات وإن كانت حياة الإنسان ممكنة بدونها، والمراد من التحسينيات غير الضروريات والحاجيات من أنواع اللذائذ المشروعة التي انوار الأصول، ج 2، ص: 491

توجب الراحة والاشتغالات اللهويّة، ثمّ قال: الاستصلاح حجّة في القسم الأوّل «1» وذكر هنا مثال التترس الذي حكينا عنه آنفاً.

أمّا الأدلّة في المسألة، فالقائلون بالحجّية استدلّوا بوجوه عمدتها الإجماع والوجوه العقليّة.

فمنها: ما يرجع في الواقع إلى دليل الانسداد وإن لم يعبّروا به في كلماتهم، وهو أنّ الحوادث الكثيرة متجدّدة والنصوص قليلة، ولو اكتفينا بالنصوص ضاقت الشريعة الإسلاميّة مع أنّ الإسلام خاتم الأديان.

والجواب عنه ظهر ممّا مرّ كراراً من أنّه إن كان المراد من الاستصلاح- الاستصلاح في موارد القطع فلا ننكره كما سيأتي في الجواب عن الوجه الثاني، وإن كان المراد منه الاستصلاح في موارد الظنّ (كما أنّه كذلك) فلا دليل على حجّيته لما مرّ من عدم تماميّة مقدّمات الانسداد عندنا، ومنشأ الانسداد على مذهبهم ناشٍ من قلّة نصوصهم مع أنّ سنّة الأئمّة المعصومين عندنا كسنّة النبي صلى الله عليه و آله وهي تشتمل على الاصول الكلّية والأحكام الجزئيّة معاً، وتكون كافية في رفع الانسداد.

ومنها: أنّ الأحكام الشرعيّة إنّما شرّعت لتحقيق مصالح العباد وإنّ هذه المصالح التي بنيت عليها الأحكام الشرعيّة معقولة، أي ممّا يدرك العقل حسنها كما أنّه يدرك قبح ما نهى عنه فإذا حدثت واقعة لا نصّ فيها وبنى المجتهد حكمه فيها على ما أدركه عقله من نفع أو ضرر، كان حكمه على أساس صحيح معتبر من الشارع.

وفي الجواب نقول: أنّ هذا منبي على الحسن والقبح العقليين وقاعدة الملازمة، وهي مقبولة عندنا في موارد

القطع بالمصلحة والمفسدة التي ليست بنادرة، لأنّ امّهات الأحكام الشرعيّة قابلة لأن تدرك بالعقل وإن لم يدرك تفاصيلها، ولذلك نرى أنّه في علل الشرائع ذكرت لأحكام الشرع علل يدركه العقل تفاصيلها، ولذلك نرى أنّه في علل الشرائع ذكرت لأحكام الشرع علل يدركه العقل، فلا وجه لما ذكر في مثل الاصول العامّة من أنّ ما كان من قبيل الحسن والقبح الذاتيين فهو نادر جدّاً وأمثلته قد لا تتجاوز العدل والظلم وقليلًا من نظائرهما» «2».

انوار الأصول، ج 2، ص: 492

ومن هنا يظهر أنّ الاستحسان إذا بلغ حدّ المستقلّات العقليّة وشبهها كان حجّة، ولكن الاستحسانات الظنّية التي تدور عليها كلماتهم لا دليل على حجّيتها أصلًا، مضافاً إلى أنّ العدل والظلم لهما مصاديق كثيرة ربّما تشمل شيئاً من أحكام الشرع كالزنا والسرقة والخيانة والكذب والغيبة والسبّ والجناية على الأنفس والأعضاء والغشّ في المعاملة وغير ذلك من أشباههما، فإنّها تدخل في هذا المعنى.

ومنها: الاستدلال بسيرة الصحابة من زمن النبي صلى الله عليه و آله القائمة على تشريعهم ما رأوا إنّ فيه تحقيق المصلحة بعد أن طرأت بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله حوادث وجدت لهم طوارى ء، فأبو بكر جمع القرآن في مجموعة واحدة، وحارب مانعي الزّكاة، ودرأ القصاص عن خالد بن الوليد، وعمر أوقع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة ووقف تنفيذ حدّ السرقة في عام المجاعة، وقتل الجماعة في الواحد، وعثمان جدّد أذاناً ثانياً لصلاة الجمعة.

وفيه أوّلًا: أنّ هذه السيرة لا تصل إلى زمن النبي صلى الله عليه و آله.

وثانياً: لا تتكوّن السيرة من مجرّد نقل موارد شخصية من أشخاص معدودين.

وثالثاً: أنّ الموارد المذكورة غالباً تكون من باب الاجتهاد في مقابل النصّ مثل إيقاع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة مع أنّ

المفروض كون الاستحسان إستصلاحاً في ما لا نصّ فيه.

هذا في أدلّة المثبتين.

واستدلّ النافون منهم بوجوه عديدة أهمّها ثلاثة أوجه:

الوجه الأوّل: (وهو أحسن الوجوه) ما ذكره العضدي والحاجبي (ابن الحاجب) في مختصر الاصول «1» وهو «أنّ المصالح المرسلة تقدّمت لنا لا دليل فوجب الردّ» (أي حيث إنّه لا دليل على حجّية المصالح المرسلة، فيجب ردّها وليست بحجّة) ثمّ نقل ما مرّ من الدليل على الحجّية مع الردّ عليه فقال: «قالوا لو لم تعتبر لأدّى إلى خلوّ الوقائع، قلنا: بعد تسليم أنّها لا تخلو العمومات والأقيسة تأخذها» وقال العضدي في شرح هذا الكلام أوّلًا: إنّا لا نقبل خلوّ

انوار الأصول، ج 2، ص: 493

الواقع عن الحكم لأنّ العمومات والأقيسة تكون بمقدار يوجب عدم خلوّ الوقائع، وثانياً: لو أدّى إلى خلوّ الوقائع عن الحكم فلا بأس به.

وحقّ الجواب عن هذا أنّه لو كان المراد من المصالح المرسلة المصالح القطعيّة التي ترجع بالمآل إلى المستقلّات العقليّة وشبهها وقاعدة الملازمة فلا إشكال فيه، وإن كان المراد منها مجرّد العلم بالمقتضي في الجملة من دون إحراز عدم المانع ووجود الشرائط الذي يوجب الظنّ بالحكم فقط فلا دليل على حجّيته كما مرّ كراراً.

الوجه الثاني: ما نقله عنهم في الاصول العامّة وهو «أنّه لو كانت مصالح الناس تحتاج إلى أكثر ممّا شرّعه وممّا أرشد إلى الإهتداء به لبيّنه ولم يتركه لأنّه سبحانه قال على سبيل الاستنكار: «أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً» «1».

ويمكن الجواب عنه بناءً على عدم المنافاة بين بيان الأحكام لجميع الوقائع وعدم خلوّها منها وبين أن لا تصل جميعها إلينا فلا بدّ من كشفها والاستدلال عليها بالعقل بالطرق الثلاثة المذكورة سابقاً (طريق علل الأحكام وطريق معلولاتها وطريق الملازمات) وهذا يرجع في الواقع إلى

خلوّ بعض الأحكام من دليل الكتاب والسنّة فيما وصلت إلينا وهو أمر معقول.

الوجه الثالث: ما يستفاد من كلام الغزالي وحاصله: أنّ المصلحة هي المحافظة على مقاصد الشرع، ومقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسنّة والإجماع، فلا بدّ في اعتبار المصلحة من كونها موجودة في الكتاب والسنّة والإجماع وإلّا نستكشف عدم كونها مصلحة عند الشارع فتكون باطلة مطروحة.

والجواب عنه: أنّا نقبل المقدّمة الاولى في كلامه، وهي ما يعبّر عنها اليوم بأنّا نأخذ القيم من الشرع، ولكن المقدّمة الثانية في كلامه وهي انحصار طريق استكشافها في الكتاب والسنّة والإجماع فممنوعة لأنّه قد يكون الطريق هو العقل القطعي.

نعم لا اعتبار بالعقل الظنّي ما لم يدلّ عليه دليل شرعي من الكتاب أو السنّة أو الإجماع.

فقد ظهر من جميع ما ذكرنا أنّ المصالح على قسمين: ما يستكشفه العقل القطعي ويحصل العلم بكونه جامعاً للشرائط وفاقداً للموانع فيكون حجّة، وما يستكشفه العقل الظنّي ولا يحصل القطع به فليس بحجّة.

انوار الأصول، ج 2، ص: 494

إن قلت: إذا أمكن أن تدرك المصالح والمفاسد بالعقل فلا حاجة إلى الشرع.

قلنا: إنّ العقل إنّما يدرك المصالح والمفاسد القطعيّة في دائرة مضيّقة محدودة خاصّة من الامور، وما يبقى خارجاً من هذه الدائرة هو الأكثر فليس للعقل سبيل إلى المصالح والمفاسد في أحكام الإرث وكثير من مسائل النكاح والنساء والمحرّمات وكثير من المعاملات وما يحلّ وما يحرم من اللحوم والأطعمة والأشربة وغيرها من أشباهها، والشاهد على ذلك ما نشاهده من التغييرات في القوانين البشريّة في هذه الامور كلّ يوم، وبالجملة أنّ العقل هو بمنزلة مصباح مضي ء في صحراء مظلمة يضي ء دائرة محدودة منها فقط، وأمّا الشرع فهو كالشمس في السماء يضي ء كلّ شي ء.

الرابع: سدّ الذرائع

«الذريعة» في اللغة تطلق على مطلق الآلة والوسيلة

ولكن في الاصطلاح تطلق على وسيلة خاصّة، فتكون بمعنى التوصّل بما هو مصلحة إلى مفسدة، وسدّ الذرائع هو المنع عمّا يتوصّل به إلى الحرام، أي المنع عن مقدّمة الحرام، فحقيقة الذريعة هي نفس ما يبحث عنه في علم الاصول بعنوان مقدّمة الحرام لكنّها عند بعض بمعنى مطلق المقدّمة، فتكون الذريعة حينئذٍ مطلق ما كان وسيلة وطريقاً إلى شي ء، ولذلك تجري فيه جميع الأحكام الخمسة، ولأجله قال بعضهم، «سدّ الذرائع وفتحها» و «الذريعة كما يجب سدّها، يجب فتحها وتكره وتندب وتباح».

والشاهد للتفسير الأوّل عبارة «موافقات الشاطبي» نقلًا عن بعضهم: «الذريعة ربع الدين» «1» حيث إن الدين إمّا أن يكون أمراً أو نهياً ولكلّ منهما مقدّمات تخصّه، فينقسم الدين حينئذٍ إلى أربعة أقسام: الواجبات ومقدّماتها، والمحرّمات ومقدّماتها أيضاً، فيصحّ أن يقال: إنّ الذريعة ربع الدين.

ثمّ إنّ الموافقات نقل عن بعضهم معنىً ثالثاً للذريعة وهو «الحيلة» فسدّ الذرائع بمعنى سدّ

انوار الأصول، ج 2، ص: 495

الحيل وحرمة التوصّل بها، ومثّل له بما إذا باع شيئاً نسيئة بمبلغ ثمّ اشتراه منه بثمن أقلّ منه فأعطاه الأقل لكي يأخذ منه الأكثر عند الأجل، وهذا من الحيل للخروج عن الربا «1».

واستدلّوا لحجّية سدّ الذرائع بروايات وآيات كثيرة حتّى جمع بعضهم تسع وتسعين آية تدلّ على حرمة مقدّمة الحرام:

منها: قوله تعالى: «وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ» «2».

ومنها: قوله تعالى: «وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ» «3».

ومنها: قوله تعالى: «وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ» «4».

وهذا معناه إنّهم أرادوا أن يثبتوا حرمة مقدّمة الحرام بالاستقراء، وهو تامّ فيما إذا حصل منه العلم.

هذا كلّه هو حاصل كلماتهم.

ثمّ إنّه لابدّ لتكميل هذا البحث من ذكر نكات:

الاولى: أنّ الإنصاف أنّ

اصول العامّة تكون من جهة العمق والمحتوى في مراحل أوّليّة بالنسبة إلى اصول الشيعة، ويشهد لذلك خلطهم في المقام بين ثلاث عناوين: عنوان «مقدّمة الحرام» الذي يبحث عنه مستقلًا، وعنوان «حرمة الإعانة» الذي لا ربط له بمقدّمة الحرام بل هو عنوان مستقلّ محرّم بنفسه كما مرّ في بعض الأبحاث السابقة، وعنوان «الحيلة» لا ربط له أيضاً بمقدّمة الحرام ولا معنى للمقدّمة وذي المقدّمة فيه بل إذا وقع البيعان المزبوران مثلًا جامعين لأركان البيع شرعاً ولو كان بداعي الفرار عن الربا فلا إشكال في صحّتهما، وإذا وقعا فاسدين خاليين عن القصد الجدّي للبيع والشراء فلا إشكال أيضاً في حرمتهما وبطلانهما سواء كانت مقدّمة الحرام حراماً أم لم تكن.

الثانية: أنّ عمدة الأدلّة وأحسنها في مبحث مقدّمة الحرام والواجب هو ما مرّ هناك من أنّ الطلب الإنشائي كالطلب التكويني، والزجر الإنشائي كالزجر التكويني، وبعبارة

انوار الأصول، ج 2، ص: 496

اخرى: الطلب الإنشائي أو الزجر الإنشائي نسخة مشابهة للتكويني منه، فكما أنّه إذا أردنا شيئاً وطلبناه تكويناً طلبنا مقدّماتها أيضاً، كذلك إذا طلبنا شيئاً تشريعاً نطلب مقدّماتها عن المكلّف، وهكذا في جانب النهي، فالعمدة هو دليل الملازمة بين الأمرين أو النهيين.

الثالثة: أنّ العمدة في باب الحيل هو عدم القصد الجدّي إلى الإنشاء غالباً بل ليس قول من يبيع علبة الكبريت بألف تومان مثلًا إلّالعباً بالألفاظ ولقلقة باللسان من دون قصد جدّي إلى هذه المعاملة وإلّا لو تحقّق الإنشاء حقيقة وتمشّى واقعاً لا إشكال في الصحّة.

إلى هنا تمّ الكلام عن المقصد السادس من مباحث الاصول وآخر دعوانا أن الحمد للَّه ربّ العالمين.

الجزء الثالث

المقصد السابع في مباحث الشك والاصول العلمية

7- في مباحث الشكّ والاصول العمليّة

اشارة

بعد الكلام عن أحكام القطع والظنّ تصل النوبة إلى البحث في أحكام الشكّ، وبتعبير القوم أنّه إذا لم يكن هناك دليل

اجتهادي كان المرجع هو الاصول العمليّة، وحينئذٍ لا بدّ من البحث في امور:

1- في تعريف الاصول العمليّة.

2- في أنّها داخلة في مسائل علم الاصول أو لا؟

3- في انحصارها في الأربعة.

4- في حكومة الأمارات والأدلّة الاجتهاديّة عليها.

5- في عدم اختصاص الأمارة بموارد الظنّ.

أمّا الأمر الأوّل: وهو تعريف الاصول العمليّة فالصحيح منه ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية من أنّها «هى التي ينتهي إليها المجتهد بعد الفحص واليأس عن الظفر بالدليل» نعم لابدّ من إضافة قيد «على الحكم الواقعي» في ذيله لإخراج الدليل على الحكم الظاهري فإنّ الذي ينتهي المجتهد إلى الاصول العمليّة بعد اليأس عنه إنّما هو الدليل على الحكم الواقعي لا مطلقاً.

ثمّ إنّه ينبغي الالتفات إلى أنّ تمامية هذا التعريف مبنى على مذهب أصحابنا الإماميّة من عدم الخلأ القانوني في الشريعة وعدم خلوّ موضوع من الموضوعات الخارجيّة عن الحكم الواقعي، وإن لم تصل أيدينا إليها أحياناً، وأمّا بناءً على مذهب طائفة من العامّة من عدم وجود حكم واقعي لبعض الوقائع وأنّ ما لا نصّ فيه لا حكم فيه فلا معنى للشكّ في الحكم الواقعي الذي أخذ الشكّ فيه في موضوع الاصول العمليّة في التعريف المزبور.

وأمّا الأمر الثاني: وهو كون مسائل الاصول العمليّة جزءً من علم الاصول فقد يبدو في النظر الأوّل أنّها من القواعد الفقهيّة، لأنّ مسائل علم الاصول ما تقع في طريق استنباط

انوار الأصول، ج 3، ص: 10

الحكم، والقاعدة الفقهيّة ما تكون بنفسها حكماً كلّياً فرعياً، والمسألة الفقهيّة عبارة عن الأحكام الفرعيّة الجزئيّة، أي ما يتعلّق به عمل المكلّف (وإن كان كلّياً في نفسه)، والاصول العمليّة إنّما هى من القسم الثاني لأنّها بنفسها أحكام كلّية فرعيّة.

ولكن عند الدقّة والتأمّل يظهر أنّها من القسم

الأوّل، وذلك لعدم اشتمالها على حكم من الأحكام الخمسة، أمّا البراءة فلأنّها في الشبهات الوجوبيّة عبارة عن عدم الوجوب، وفي الشبهات التحريميّة عبارة عن عدم الحرمة، فليست هى بنفسها حكماً معيّناً من الأحكام الخمسة (لا وجوداً ولا عدماً).

وأمّا الاستصحاب فلأنّه عبارة عن العمل بالحالة السابقة المتيقّنة، ولا يخفى أنّ المعلوم سابقاً تارةً يكون وجوباً واخرى تحريماً، وثالثة حكماً وضعيّاً، كما أنّه قد يكون موضوعاً خارجياً، فلا يندرج في تعريف القواعد الفقهيّة.

وهكذا الاحتياط لأنّه في الشبهات الوجوبيّة عبارة عن الوجوب، وفي الشبهات التحريميّة عبارة عن الحرمة، فليس في جميع الموارد حكماً من الأحكام الخمسة، بل إنّه يدلّ على مطلق الإلزام، وليس الإلزام نوعاً من الأحكام الخمسة.

وهكذا التخيير لأنّه سيأتي أنّ المراد منه في مباحث الاصول العمليّة إنّما هو التخيير العقلي، وعبارة عن نفي البأس والعقاب باختيار المكلّف أحد الأطراف، فليس حكماً شرعيّاً من الأحكام الخمسة.

أمّا الأمر الثالث: وهو انحصار الاصول العمليّة في الأربعة فيستفاد من كلمات المحقّق الخراساني رحمه الله نفي انحصارها العقلي في الأربعة مع اعترافه بأنّ المهمّ منها أربعة، وأنّ مثل قاعدة الطهارة وإن كان ممّا ينتهي إليها فيما لا حجّة على طهارته، ولا على نجاسته، إلّاأنّ البحث عنها ليس بمهمّ لأنّها ثابتة بلا كلام من دون حاجة إلى نقض وإبرام بخلاف الأربعة فإنّها محلّ الخلاف بين الأصحاب، ويحتاج تنقيح مجاريها وتوضيح ما هو حكم العقل أو مقتضى عموم النقل فيها إلى مزيد بحث وبيان، ومؤونة حجّة وبرهان، هذا مع جريانها في كلّ الأبواب واختصاص تلك القاعدة ببعضها.

وصرّح شيخنا الأعظم رحمه الله في موضعين من رسائله (أوائل مباحث القطع وأوّل البحث عن البراءة) بحصر مجاريها في الأربعة عقلًا.

انوار الأصول، ج 3، ص: 11

وهذا هو المختار،

لأنّ مثل قاعدة الطهارة ليست أساساً من الاصول العمليّة حتّى تصل النوبة إلى البحث عن وضوحها وعدم وضوحها، بل هى من القواعد الفقهيّة لكونها حكماً كلّياً وضعيّاً يستفاد منها الأحكام الجزئيّة الفقهيّة بتطبيقها على موارد الشكّ في الطهارة، مضافاً إلى أنّ اعتذار المحقّق الخراساني رحمه الله بأنّها واضحة لا تحتاج إلى نقض وإبرام في غير محلّه، لأنّها أيضاً تحتاج إلى البحث والدراسة كما يظهر لمن راجعها، فالوجه في عدم ذكرها في الاصول العمليّة هو دخولها في القواعد الفقهيّة وعدم وجود المناسبة بينها وبين المسائل الاصوليّة.

ثمّ إنّ أحسن ما قيل في بيان حصر مجاري الاصول العمليّة في الأربعة هو ما أفاده شيخنا الأعظم رحمه الله، وحاصله إنّ المشكوك إمّا له حالة سابقة ملحوظة «1» أو لا، والأوّل مورد الاستصحاب، والثاني (وهو ما إذا لم تكن له حالة سابقة أو كانت ولم تكن ملحوظة) إمّا أن يكون الاحتياط فيه ممكناً أو لا، والأوّل «2» إمّا قام دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول أو لا، والأوّل مورد الاحتياط، والثاني مورد البراءة.

أقول: إنّ كلامه أدقّ ما افيد في هذا المجال، ولكنّه في نفس الحال ليس سليماً عن الإشكال، وعمدة الإشكال أنّ ظاهره أنّ مجرى قاعدة التخيير هو عدم إمكان الاحتياط مطلقاً، أي كلّ ما كان الاحتياط فيه غير ممكن يكون المجرى لقاعدة التخيير مع أنّه ليس كذلك بالنسبة إلى بعض الموارد، كما إذا دار الأمر مثلًا (كما في صلاة العيد في زمن الغيبة) بين الوجوب والحرمة والاستحباب، فإنّ المجرى فيه هو البراءة مع عدم إمكان الاحتياط فيه.

ثمّ إنّ للمحقّق النائيني رحمه الله في فوائد الاصول بياناً في هذا المقام، وإليك نصّه: «إمّا أن يلاحظ الحالة

السابقة للشكّ أو لا، وعلى الثاني إمّا أن يكون التكليف معلوماً بفصله «3» أو نوعه»

أو جنسه «5» أو لا، وعلى الأوّل إمّا أن يمكن فيه الاحتياط أو لا، فالأوّل مجرى انوار الأصول، ج 3، ص: 12

الاستصحاب، والثاني مجرى الاحتياط، والثالث مجرى التخيير، والرابع مجرى البراءة» «1».

والفرق بين هذا البيان وبيان الشيخ الأعظم رحمه الله هو تقديمه للشكّ في التكليف والمكلّف به على إمكان الاحتياط وعدمه على عكس ما ذكره الشيخ الأعظم رحمه الله.

والظاهر أنّ بيانه أيضاً غير تامّ من ناحيتين:

الاولى: إنّ ملاك جريان البراءة في بيانه إنّما هو عدم العلم بالتكليف، وهو ينتقض بالشبهات قبل الفحص فإنّ التكليف فيها ليس معلوماً مع كونه مجرى الاحتياط لا البراءة.

ولا يخفى أنّ هذا الإشكال لا يرد على الشيخ رحمه الله لأنّ ملاك جريان البراءة في كلامه هو عدم قيام دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب، والمفروض إنّه غير صادق في الشبهات قبل الفحص فقد قام الدليل فيها على وجوب الاحتياط.

الثانية: إنّ ملاك قاعدة الاحتياط في كلامه عبارة عن العلم بالتكليف، وهو ينتقض بالشبهات غير المحصورة لأنّ التكليف فيها معلوم مع أنّها مجرى قاعدة البراءة.

ولا يخفى أنّ كلام الشيخ الأعظم في فسحة من هذه الناحية أيضاً لأنّ ملاك قاعدة الاحتياط فيه قيام دليل على العقاب وهو غير صادق في الشبهات غير المحصورة.

والأحسن أن يقال: مورد الشكّ إمّا أن يكون اليقين السابق فيه ملحوظاً أو لا، والأوّل مورد الاستصحاب، والثاني إمّا أن يكون الشكّ فيه في التكليف ولم يقم دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب في مورده أو لا (سواء كان الشكّ في المكلّف به أو كان الشكّ في التكليف، وقام دليل كذلك) والأوّل مورد البراءة «2»، والثاني إمّا

أن يمكن الاحتياط فيه أو لا، والأوّل مورد الاحتياط والثاني مورد التخيير.

وهذا الحصر عقلي، والعجب من المحقّق النائيني رحمه الله حيث قال: «عمدتها أربعة» مع اعترافه بأنّ الحصر عقلي.

أمّا الرابع: فلا إشكال في تقدّم الأمارات والأدلّة الاجتهاديّة على الاصول العمليّة لأنّ أدلّتها حاكمة عليها.

ولتوضيح معنى الحكومة يناسب هنا بيان الحالات الأربعة لتقديم دليل على دليل، وإن كان محلّه المقرّر له مبحث التعادل والتراجيح.

انوار الأصول، ج 3، ص: 13

فنقول- ومن اللَّه التوفيق والهداية-: يتصوّر للدليل المقدّم على دليل آخر حالات أربعة:

أحدها: التخصّص، وهو خروج مورد عن موضوع دليل خروجاً ذاتيّاً بلا حاجة إلى دليل مخرج، كخروج زيد الجاهل عن دليل وجوب إكرام العلماء.

ثانيها: التخصيص، وهو إخراج مورد عن موضوع دليل إخراجاً حكميّاً بواسطة تعبّدٍ ودليل، كاخراج العالم الفاسق بقول المولى: «لا تكرم الفسّاق من العلماء» عن قوله: «أكرم العلماء».

ثالثها: الورود، وهو عبارة عن الخروج الموضوعي كالتخصّص لكنّه خروج بواسطة ورود دليل يوجب إنعدام موضوع الدليل السابق حقيقة، نظير ورود أدلّة الأمارات على الاصول العمليّة العقليّة فيكون دليل حجّية خبر الواحد مثلًا وارداً على قاعدة قبح العقاب بلا بيان لأنّ موضوعها هو عدم البيان، ودليل حجّية خبر الواحد يجعل مفاد خبر الواحد بياناً.

رابعها: الحكومة، وهى كون أحد الدليلين مفسّراً لدليل آخر، وناظراً إليه نظر تفسيرٍ بالمطابقة أو التضمّن أو الالتزام، بالتصرّف في موضوعه أو حكمه أو متعلّقه، بالتوسعة أو التضييق، فهى على ستّة أقسام:

1- أن يكون التصرّف في الموضوع بالتضييق كما إذا قال المولى (بعد قوله أكرم العلماء):

«العالم الفاسق ليس بعالم».

2- أن يكون التصرّف في الموضوع بالتوسعة، كما إذا قال: «العامي العادل عالم».

3- أن يكون التصرّف في المتعلّق بالتضييق، كما إذا قال: «الإطعام ليس بإكرام» (مع كونه إكراماً

عرفاً).

4- أن يكون التصرّف في المتعلّق بالتوسعة كما إذا قال: «مجرّد السلام إكرام» (مع أنّه ليس بإكرام عرفاً على الفرض).

5- أن يكون التصرّف في الحكم بالتضييق، كما إذا ورد في دليل: «إذا شككت في الصّلاة فابنِ على الأكثر» وورد في دليل آخر: «إنّما عنيت بذلك خصوص الشكّ بين الثلاث والأربع».

6- عكس الخامس، كما إذا قال: «إذا شككت بين الثلاث والأربع فابنِ على الأكثر» ثمّ ورد في دليل آخر: «إنّ المراد منه مطلق الشكّ وأنّ ذكر الثلاث والأربع من باب المثال».

انوار الأصول، ج 3، ص: 14

هذا- وقد ظهر ممّا ذكر الفرق بين التخصيص والحكومة، حيث إنّ لسان التخصيص لسان التعارض، ولسان الحكومة هو التفسير والتوضيح مطابقة أو التزاماً، والمراد من التفسير أنّ الدليل الثاني لا يكون له معنى قابلًا للفهم بدون الدليل الأوّل، بخلاف التعارض، فإنّ لكلّ من الدليلين المتعارضين معناً مستقلًا ولا يتوقّف فهم أحدهما على الآخر، ومن هنا يشترط في التخصيص إقوائيّة الدليل المخصّص خلافاً للحكومة.

ثمّ إنّه لا يعتبر في الحكومة كما أشرنا إليه كون الدليل الحاكم بصيغة تدلّ بالمطابقة على التفسير كقولك: «إنّما عنيت» أو «افسّر» بل تكفي الدلالة عليه بالالتزام كما في كثير من الأمثلة السابقة.

إذا عرفت هذا نقول: إنّ أدلّة الأمارات حاكمة على الاصول العمليّة لأنّ موضوع الاصول قد أخذ فيه الشكّ، ودليل الأمارة كآية النبأ يلغى احتمال الخلاف، وينفى الحكم بلسان نفي الموضوع وكأنّه يقول: شكّك ليس بشكّ.

نعم تكون النسبة بينها وبين الاصول العقليّة نسبة الورود، فإنّ الموضوع في البراءة العقليّة (قاعدة قبح العقاب بلا بيان) إنّما هو عدم الحجّية، ودليل حجّية خبر الواحد مثلًا يقول: إنّ مفاد خبر الواحد حجّة فيوجب انعدام موضوع اللّاحجّة بالحجّة، وهكذا بالنسبة إلى الاحتياط العقلي

فإنّ موضوعه عدم الأمن من العقاب ودليل حجّية خبر الواحد يبدّل عدم الأمن إلى الأمن، وكذلك في التخيير العقلي فإنّ الموضوع فيه عدم وجود الرجحان لأحد الدليلين، وخبر الواحد يكون مرجّحاً.

أمّا الخامس:- وهو عدم اختصاص الأمارة بموارد الظنّ- فالمعروف في ألسنّة الاصوليين أنّه لا يوجد في مورد الشكّ أمارة لأنّ الشكّ ظلمة محضة لا يكون له كشف عن الواقع فلا يمكن جعله أمارة.

لكنّه ينتقض بمثل القرعة فقد وردت فيها روايات خاصّة تدلّ على أماريتها على الواقع، وأنّها توجب الوصول إلى الواقع إذا فوّض الأمر فيه إلى اللَّه تعالى (مع أنّه لا شكّ في أنّها ظلمة وشكّ محض).

ومن هذه الروايات ما رواه الشيخ عن جميل قال: قال الطيار لزرارة: «ما تقول في المساهمة أليس حقّاً؟ فقال زرارة: بل هى حقّ، فقال الطيار: أليس قد ورد أنّه يخرج سهم انوار الأصول، ج 3، ص: 15

المحقّ؟ قال: بلى، قال: فتعال حتّى أدّعي أنا وأنت شيئاً ثمّ نساهم عليه وننظر هكذا هو؟ فقال له زرارة: إنّما جاء الحديث بأنّه ليس من قوم فوّضوا أمرهم إلى اللَّه ثمّ اقترعوا إلّاخرج سهم المحقّ، فأمّا على التجارب، فلم يوضع على التجارب، فقال الطيار: أرأيت إن كانا جميعاً مدّعيين إدّعيا ما ليس لهما من أين يخرج سهم أحدهما؟ فقال زرارة: إذا كان كذلك جعل معه بينهم مبيح فإن كان إدّعيا ما ليس لهما خرج سهم المبيح» «1».

فإنّها واضحة الدلالة على كون القرعة أمارة على الواقع.

أضف إلى ذلك ما ورد في الكتاب الكريم في قصّة يونس: «وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ» «2».

فإنّ هذه الآية أيضاً تدلّ على أنّه يمكن جعل أحد طرفي الشكّ الذي وافقته الأمارة أمارة

على الواقع.

بل يدلّ عليه ما ورد في باب الاستخارات حيث إنّها في الواقع نوع من القرعة وأمارة على الواقع، ولم توضع لمجرّد رفع التحيّر في مقام العمل فحسب.

فظهر أنّ كون الشكّ بمنزلة الظلمات إنّما هو بالنسبة إلى أنظارنا، وأمّا عند الشارع العالم بالشهادة والغيب فقد يكون لأحد الطرفين (وهو الطرف الذي توافقه القرعة) نور وضياء، فيجعله أمارة وطريقاً إلى الواقع.

هذا كلّه هى الامور الخمسة التي ينبغي ذكرها قبل الورود في أصل البحث عن مسائل الاصول الأربعة، ونشرع الآن بحول اللَّه تعالى في أصالة البراءة في الشبهات التحريميّة الحكميّة (كالشكّ في حرمة العصير العنبي إذا غلى، أو الشكّ في حرمة بعض أجزاء الذبيحة أو حرمة التدخين). ونستمدّ منه التوفيق والهداية.

انوار الأصول، ج 3، ص: 17

1- أصالة البراءة

أدلّة الاصوليين على البراءة:

1- الآيات:

«وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا»

«لَايُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا»

«وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً ...»

2- الروايات:

حديث الرفع حديث الحجب حديث الحلّ حديث السعة

حديث الاطلاق 3- العقل 4- الإجماع - أدلّة الأخباريين على وجوب الاحتياط:

1- الآيات 2- الروايات 3- العقل:

- هل الأصل في الأشياء الحظر أو الإباحة؟

- تنبيهات أصالة البراءة:

1- اشتراط عدم وجود أصل موضوعي في جريان البراءة:

أصالة عدم التذكية

2- حسن الاحتياط، ترتّب الثواب عليه، إمكانه في العبادات:

التسامح في أدلّة السنن (أخبار من بلغ)

3- جريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة

4- حسن الاحتياط مطلقاً حتّى مع قيام الحجّة على العدم انوار الأصول، ج 3، ص: 19

1- أصالة البراءة
اشارة

إذا شكّ في حرمة شي ء لإجمال نصّ أو عدمه أو تعارض النصّين، فالمعروف بين الاصوليين هو البراءة، وعند الأخباريين الاحتياط، وهو عمدة الفرق بين الطائفتين، والحقّ مع الطائفة الاولى، أي الاصوليين، واستدلّ لذلك بالأدلّة الأربعة:

أدلّة الاصوليين على أصالة البراءة:
الأوّل: الآيات
اشارة

منها: قوله تعالى: «مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» «1».

حيث إنّه وردت فيها ثلاث فقرات:

أحدها: أنّ نتيجة عمل كلّ إنسان تعود إلى نفسه: «من اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فإنّما يضلّ عليها».

ثانيها: ما يكون بمنزلة المفهوم للحكم الأوّل، أي: «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى»، وكلّ واحد من هذين الحكمين إرشاد إلى ما يحكم به العقل.

ثالثها: البراءة في موارد عدم البيان والبعث: «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» وهى تؤكّد بالآية التالية لها، أي قوله تعالى: «وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً» حيث إنّه بيّنت فيها كيفية العذاب المذكور في تلك الآية وأنّه يقع بعد الأمر ووقوع الفسق، كما أنّ المراد من بعث الرسل في تلك الآية إنّما

انوار الأصول، ج 3، ص: 20

هو إتمام الحجّة على الناس، فهو كناية عن بيان التكليف، فلا موضوعيّة للبعث كما يشهد عليه أنّه لا يعقل العذاب في صورة البعث مع عدم البيان.

ثمّ إنّ هيهنا آيتين اخريين توافقان الآية المذكورة في الدلالة على البراءة في ما نحن فيه، وقد غفل عنهما في كلماتهم:

الاولى قوله تعالى: «وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ» «1»

حيث لا يخفى إنّ دلالة هذه الآية أظهر ممّا ذكره القوم، لما ورد فيها من التعبير ب

«يتلوا عليهم آياتنا» الذي يدلّ صريحاً على بيان التكليف وإنّه لا عقاب إلّابعد البيان، فلا حاجة فيها إلى التوجيه المذكور في تلك الآية من أنّ البعث كناية عن البيان.

الثانية: قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى» «2»

حيث إنّ المراد من كلمة «قبله» هو قبل بعث الرسل، فتدلّ على البراءة بناءً على أنّ نقل كلام الكفّار مشعر بالقبول.

وبالجملة، إنّ لهذه الآيات الثلاثة مدلولًا واحداً مشتركاً، وهو البراءة في الشبهات الحكميّة مطلقاً.

المناقشة:

ولكنّه قد يناقش في دلالتها بامور عديدة، وما قيل أو يمكن أن يقال فيها امور خمسة:

الأمر الأوّل: ما أورده المحقّق الخراساني رحمه الله، وحاصله: إنّ الآية تدلّ على نفي فعلية العذاب لا نفي استحقاقه، ونفي الفعليّة ليس لازماً مساوياً لنفي الاستحقاق حتّى يدلّ نفيها على نفيه، بل هو أعمّ من كونه من باب عدم الاستحقاق أو من باب تفضّله تبارك وتعالى على عباده مع استحقاقهم للعذاب، فلا يصحّ الاستدلال بالآية على البراءة.

ثمّ أورد على نفسه بأنّ المخالفين يعترفون بالملازمة بين نفي الفعليّة ونفي الاستحقاق.

وأجاب عنه أوّلًا: بأنّ قبول الخصم لا يوجب صحّة الاستدلال بها إلّاجدلًا مع أنّنا

انوار الأصول، ج 3، ص: 21

نطلب الحجّة بيننا وبين اللَّه تعالى سواء قبل الخصم أو لم يقبل.

وثانياً: بأنّ عدم وجود الملازمة بين الأمرين أمر واضح، ضرورة أنّ ما شكّ في وجوبه أو حرمته ليس عند الخصم بأعظم ممّا علم بحكمه، فإذا لم تكن ملازمة بينهما في المخالفة القطعيّة فعدمها في المخالفة الاحتماليّة بطريق أولى.

أقول: يمكن الجواب عنه بأنّ ما يهمّنا في الفقه إنّما هو الأمن من العذاب، وهو حاصل بنفي الفعليّة سواء لزمه نفي الاستحقاق أم

لا.

الأمر الثاني والثالث: ما أفادهما الشيخ الأعظم رحمه الله من أنّ ظاهر الآية الإخبار بوقوع العذاب سابقاً بعد البعث فيختصّ بالعذاب الدنيوي الواقع في الامم السابقة، فمحصّل كلامه:

أوّلًا: أنّ الآية مختصّة بالامم السابقة، وثانياً: أنّ اللَّه تعالى قد أخبر بنفي خصوص العذاب الدنيوي، وليس في الآية دلالة على أنّه تعالى لم يعذّبهم لعدم استحقاقهم له كي يكون دليلًا على نفي العقاب قبل البيان مطلقاً، أي الدنيوي والاخروي جميعاً بل لعلّه لم يفعل ذلك منّة منه تعالى في خصوص الدنيا.

والجواب عنهما واضح، أمّا بالنسبة إلى الأوّل منهما فلأنّ لحن الآية الشريفة إنّما هو لحن قوله تعالى: «وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً» «1»

، فيدلّ على أنّه لا يكون العذاب من دون بعث الرسول لائقاً بشأنه تعالى، ولا معنى لاختصاص هذا المفهوم بالامم السابقة كما تشهد عليه الفقرتان السابقتان على هذه الفقرة (أي قوله تعالى «مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا» وقوله تعالى: «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى») حيث إنّه لا إشكال في عدم اختصاصهما بالامم السابقة.

وأمّا بالنسبة إلى الثاني منهما فلأنّه إذا لم يعذّبهم في الدنيا فعدم تعذيبه في الآخرة بطريق أولى، وهو عذاب يدوم بقاؤه ولا يخفّف عن أهله، والشاهد عليه الآية اللاحقة وهى قوله تعالى: «وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً».

الأمر الرابع: «إنّ أقصى ما تدلّ عليه الآية المباركة هو أنّ المؤاخذة والعقوبة لا تحسن إلّإ

انوار الأصول، ج 3، ص: 22

بعد بعث الرسل وإنزال الكتب وتبليغ الأحكام والتكاليف إلى العباد، وهذا لا ربط له بما نحن فيه من الشكّ في التكليف بعد البعث والإنزال والتبليغ وعروض اختفاء التكليف لبعض الموجبات التي لا دخل للشارع فيها»

«2».

والجواب عنه: أنّ بعث الرسل في الآية كناية عن إتمام الحجّة كما مرّ، فتدلّ على نفي العذاب ما لم تتمّ الحجّة بعد البعث، والشاهد عليه قوله تعالى في الآية اللاحقة: «وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ ...» فهى تدلّ على أنّ الميزان في العذاب هو صدور الأمر ووقوع الفسق بعده، كما يشهد عليه أيضاً ما مرّ من قوله تعالى في سورة القصص: «وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ...» لأنّها تصرّح بأنّ الملاك هو تلاوة الآيات لا مجرّد البعث.

الخامس: النقض بالمستقلّات العقليّة، فإنّه لا إشكال (كما مرّ في بعض الأبحاث السابقة) في تعذيبه تعالى على ترك المستقلّات العقليّة، كقبح قتل النفس المحترمة والسرقة والخيانة وغيرها من المعاصي التي يحكم بقبحها العقل مستقلًا، ولو وقعت قبل بعث الرسل.

والجواب عنه: أنّ الآية منصرفة إلى أحكام تحتاج إلى البيان، ولا حاجة إلى البيان في المستقلّات العقليّة التي لا يصحّ فيها الإعتذار بقولهم: «لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى»، ولذلك يقال في مباحث العقائد أنّ من فوائد وجود النبي صلى الله عليه و آله تأكيده المستقلّات العقليّة والتأسيس بالنسبة إلى غيرها.

فتلخّص ممّا ذكر أنّ جميع الإشكالات الواردة مندفعة، وإنّ الآية صالحة للاستدلال على أصالة البراءة في الشبهات الحكميّة التحريميّة.

نعم إنّ النسبة بين هذه الآية والأخبار التي استدلّ بها الأخباريون على الاحتياط هى نسبة الورود، فهى مورودة بتلك الأخبار لأنّ لسانها لسان قاعدة قبح العقاب بلا بيان أو بلا حجّة، وتلك الأخبار على فرض دلالتها بيان وحجّة، لكن تظهر ثمرتها في تأسيس الأصل الأولي في المسألة وأنّ الأصل هو البراءة، فيرجع إليها

إذا ناقشنا في دلالة تلك الأخبار على الاحتياط.

انوار الأصول، ج 3، ص: 23

ومنها: قوله تعالى: «لَايُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا» «1»

، وتقريب الاستدلال بها أنّ «ما آتاها» بمعنى «ما أعلمها» أي لا يكلّف اللَّه نفساً إلّاما آتاها من العلم، فدلالتها على البراءة واضحة.

وقد يناقش في الاستدلال بها بأنّ المراد من الموصول فيها إنّما هو المال بقرينة ما ورد في صدرها من قوله تعالى: «فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَايُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا» فيكون المعنى حينئذٍ: لا يكلّف اللَّه نفساً إلّامالًا آتاها، أي أعطاها، وهو أجنبي عن البراءة كما هو واضح.

ولكن في اصول الكافي عن عبدالأعلى قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: أصلحك اللَّه هل جعل في الناس أداة ينالون بها المعرفة؟ قال: فقال «لا»، قلت: فهل كلّفوا المعرفة؟ قال «لا، على اللَّه البيان، لا يكلّف اللَّه نفساً إلّاوسعها، ولا يكلّف اللَّه نفساً إلّاما آتاها»، قال: وسألته عن قوله: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ»، قال: «حتّى يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه» «2».

فهذه الرواية تؤكّد أنّ الآية ناظرة إلى العلم والمعرفة، ولا يخفى أنّ المراد من المعرفة فيها ليست معرفة أصل وجود اللَّه تبارك وتعالى، لأنّه لا ريب في أنّ أحسن الأدلّة على وجوده تعالى وأوّلها هو العقل من دون اعتماد عى البيان، فليكن المراد معرفة الصفات التي لا تصاب بالعقول، ولذا اشتهر بين العلماء أنّ أسماء اللَّه تعالى وصفاته توقيفية.

فلابدّ حينئذٍ من الجمع بين مورد الآية وهذه الرواية، فنقول: يحتمل في المراد من الموصول في الآية

ثلاثة وجوه:

أحدها: أن يكون المراد المال.

ثانيها: أن يكون المراد المعارف والتكاليف.

ثالثها: الجامع بين المعنيين، فاستعمل الموصول في مطلق الاعطاء أعمّ من الاعطاء المالي واعطاء الحجّة والعلم.

انوار الأصول، ج 3، ص: 24

فقد يقال: إنّ الموصول استعمل في المعنى الثالث، فيكون كلّ واحد من الموردين (مورد الآية ومورد الرواية) من مصاديق هذا المعنى الجامع فتكون دلالته على المراد تامّة.

لكن أورد عليه أوّلًا: بأنّ «إرادة الأعمّ منه (من الإعلام بالحكم والتكليف) ومن المورد (مورد الآية) يستلزم استعمال الموصول في معنيين، إذ لا جامع بين تعلّق التكليف بنفس الحكم وبالفعل المحكوم عليه» «1».

وإن شئت قلت: «المفعول المطلق هو المصدر أو ما في معناه المأخوذ من نفس الفعل، والمفعول به ما يقع عليه الفعل المباين معه ولا جامع بين الأمرين حتّى يصحّ الإسناد» «2».

والجواب عنه: أنّ الموصول في الآية يكون مفعولًا به في كلتا الصورتين، أي سواء اريد منه نفس التكليف أو اريد منه الأمر الخارجي الذي يقع عليه التكليف، لأنّ المراد من التكليف في الصورة الاولى معناه اسم المصدري، أي ما كلّف به (لا المعنى المصدري)، فيكون المعنى: «لا يكلّف اللَّه نفساً بتكليف كمعرفة صفات اللَّه أو الإمام أو الأحكام كما ورد في سؤال الراوي في الرواية: «هل كلّف الناس بالمعرفة».

فعلى أي تقدير يكون الموصول مفعولًا به ويصير المعنى: «لا يكلّف اللَّه نفساً إلّاتكليفاً أو مالًا آتاها» فاستعمل الموصول في القدر الجامع بينهما، وهو مطلق المعطى أعمّ من الامور المادّية كالمال أو المعنوية كالمعرفة، ويكون هذا الجامع هو المفعول به، كما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله بما نصّه: «لكن الإنصاف أنّه يمكن أن يراد من الموصول الأعمّ من التكليف وموضوعه، وإيتاء كلّ شي ء إنّما يكون بحسبه، فإنّ إيتاء التكليف إنّما

يكون بالوصول والإعلام، وإيتاء المال إنّما يكون بإعطاء اللَّه تعالى وتمليكه، وإيتاء الشي ء فعلًا أو تركاً إنّما يكون بإقدار اللَّه تعالى عليه فإنّ للإيتاء معنىً ينطبق على الاعطاء وعلى الاقدار، ولا يلزم أن يكون المراد من الموصول الأعمّ من المفعول به والمفعول المطلق، بل يراد منه خصوص المفعول به» «3».

وثانياً: بما مرّ في آية البعث من المحقّق النائيني رحمه الله أيضاً من أنّ أقصى ما تدلّ عليه الآية هو

انوار الأصول، ج 3، ص: 25

أنّ المؤاخذة والعقوبة لا تحسن إلّابعد تبليغ الأحكام والتكاليف إلى العباد، وهذا لا ربط له بما نحن فيه من الشكّ في التكليف بعد التبليغ وعروض اختفاء التكليف ببعض الموجبات التي لا دخل للشارع فيها.

والجواب عنه: هو الجواب من أنّ المراد من الإيتاء هو إتمام الحجّة، فتدلّ الآية على نفي العذاب ما لم تتمّ الحجّة بعد التبليغ، وهو المطلوب.

وثالثاً: بأنّ المقصود في الآية وكذلك في الرواية التكليف بما لا يطاق، فإنّ معرفة صفاته تعالى مثلًا خارجة عن طاقة البشر، ولا يمكن حصولها له إلّامن ناحية البيان، فالآية تنفي التكليف بما لا يطاق لا التكليف بالاحتياط في مثل التدخين الذي يكون ممكناً للإنسان، وليس خارجاً عن طاقته، والشاهد على ذلك أنّ الإمام عليه السلام ذكر هذه الآية في جنب قوله تعالى: «لَايُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا» التي لا إشكال في أنّ المقصود منها التكليف بما لا يطاق، فالآية حينئذٍ أجنبية عمّا نحن فيه.

ورابعاً: بأنّ سند الرواية ضعيف من ناحية عبدالأعلى المجهول في كتب الرجال، اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّه وقع بعد حمّاد وهو من أصحاب الإجماع، ولكن المختار عندنا عدم تماميّة هذه القاعدة.

وبهذا يظهر أنّ الآية غير صالحة للاستدلال بها في المقام.

ومنها: قوله تعالى: «وَمَا

كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ» «1»

، ودلالتها على المدّعى تتمّ إذا كانت «يضلّ» بمعنى «يعذّب» لأنّ مفادها حينئذٍ عدم العقاب بلا بيان، فالمهمّ في المقام تعيين معنى «يضلّ» بعد عدم تصوّر معناها اللغوي المعروف بالنسبة إلى الباري تعالى، فنقول: يحتمل فيها أربعة وجوه:

1- أن يكون بمعنى التعذيب كما مرّ آنفاً.

2- أن يكون بمعنى الحكم بالضلال.

3- أن يكون بمعنى الخذلان أي ترك العون والإمداد وسلب التوفيق.

4- أن يكون بمعناه الحقيقي مع حقيقة الإسناد بالنسبة إليه تعالى من باب إنّه مسبّب انوار الأصول، ج 3، ص: 26

الأسباب وسبب في تأثير عمل العبد في ضلالته، فهو الذي جعل العمل السيّي ء والذنوب الكبار سبباً للضلالة عن طريق الحقّ، فيصحّ إسناده إليه تعالى حقيقة كما يصحّ إسناده كذلك إلى الفاعل بلا واسطة، وهذا نظير من قتل نفسه بشرب السمّ حيث يصحّ إسناد القتل إليه حقيقة لأنّه شرب السمّ باختياره، وإلى الباري تعالى كذلك لأنّه خلق السمّ بحيث يوجب القتل.

ولا يخفى أنّ الإسناد في الوجوه الثلاثة الاول مجازاً، فلا وجه للذهاب إليها مع إمكان حفظ الكلمة على معناه الحقيقي بالوجه الأخير، كما أنّه كذلك في الآيات المشابهة التي استند الاضلال فيها إلى اللَّه تعالى.

منها: قوله تعالى: «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ» «1».

ومنها: قوله تعالى: «كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ» «2»

فاستناد الاضلال إليه تعالى أمر مأنوس في القرآن الكريم، ولا ريب في عدم مجازيته، لأنّ كلّ فعل يصدر من العباد يصحّ إسناده إليه تعالى حقيقة «لأنّه المالك لما ملّكك والقادر على ما عليه أقدرك» كما ورد في حديث الإحتجاج «3».

وبالجملة

الآية تدلّ على عدم اضلال اللَّه تعالى للعباد حتّى يبيّن لهم الحلال والحرام لقوله تعالى فيها: «حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ» وبما أنّ الاضلال منشأ للعذاب بل هو نوع من العذاب الإلهي فدلالة الآية على عدم العذاب من دون البيان تكون بالأولوية أو بإلغاء الخصوصيّة.

وممّا ذكرنا يظهر الجواب عمّا أورده بعض على دلالة الآية من أنّها تدلّ على نفي العذاب الدنيوي لا الاخروي، وذلك لأنّ دلالتها على نفي العذاب الاخروي- وهو عذاب تطول مدّته ويدوم بقاؤه- بطريق أولى كما مرّ ذلك بالنسبة إلى آية البعث.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ جميع هذه الآيات إنّما تأسّس لنا الأصل الأوّلي وتدلّ على عدم العذاب بلا بيان،

انوار الأصول، ج 3، ص: 27

وحينئذٍ تكون أدلّة الأخباري على فرض تماميتها واردة عليها، لأنّها حينئذٍ تكون بمنزلة البيان، لكن سيأتي عدم تماميتها فالمرجع هو ما يستفاد من هذه الآيات.

هذا كلّه في الآيات التي استدلّ بها على البراءة.

الثاني: الروايات
اشارة

وهى عديدة:

1- حديث الرفع
اشارة

وهو أهمّها، والبحث فيه يقع في مقامين:

1- إسناد الحديث.

2- كيفية دلالته على المطلوب.

المقام الأوّل: في إسناد الحديث

أمّا المقام الأوّل فقد روي هذا الحديث من طريقين:

أحدهما: ما ورد في توحيد الصدوق وخصاله بسند معتبر عن حريز بن عبداللَّه عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: رفع عن امّتي تسعة أشياء: الخطأ والنسيان وما اكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطرّوا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكّر في الوسوسة في الخلق، وما لم ينطقوا بشفة» «1».

وقد تؤيّد هذه الرواية بمرفوعة محمّد بن أحمد النهدي عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: وضع عن امّتي تسع خصال: الخطأ، والنسيان، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطرّوا إليه، وما استكرهوا عليه، والطيّرة، والوسوسة في التفكّر في الخلق، والحسد ما لم يظهر بلسان أو يد» «2».

وبين الروايتين فرق بالنسبة إلى ما جاء في ذيلهما، فورد في الرواية الاولى «والتفكّر في انوار الأصول، ج 3، ص: 28

الوسوسة في الخلق» وفي الثانية «والوسوسة في التفكّر في الخلق» وبما أنّ من المستبعد جدّاً كونهما روايتين مستقلّتين نستكشف وقوع خطأ من جانب الراوي في إحديهما، ولكن الذي يسهل الخطب عدم كون الذيل مورداً للاستناد في المقام.

ثانيهما: معتبرة إسماعيل الجعفي عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «سمعته يقول: وضع عن هذه الامّة ستّ خصال: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطرّوا إليه» «1».

فقد وردت فيها ستّ خصال بدلًا عن التسع الوارد في الرواية الاولى، ولكن لا ضير فيه ولا منافاة بينهما بعد كونهما من قبيل المثبتين.

فتحصّل من ما ذكرنا أنّ السند في الجملة معتبر يجوز الإسناد إليه.

المقام الثاني: في كيفية دلالة الحديث على المطلوب

ويقع الكلام فيه في عدّة امور:

الأمر الأوّل: في المراد من الموصول في قوله

صلى الله عليه و آله: «ما لا يعلمون» فهل يشمل الشبهات الحكميّة أيضاً، وهل تكون الرواية صالحة للاستدلال بها في ما نحن فيه أو لا؟

استدلّ الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله في بعض كلماته لاختصاص الموصول بالشبهة الموضوعيّة بوحدة السياق، إذ إنّ المراد بالموصول في غير فقرة «ما لا يعلمون» هو الفعل الإكراهي والاضطراري ونحوهما، إذ لا معنى لتعلّق الإكراه والاضطرار بنفس الحكم، فليكن المراد بالموصول في «ما لا يعلمون» أيضاً هو الفعل المجهول لا الحكم.

وقال المحقّق الخراساني رحمه الله: إنّ المراد منها مطلق الإلزام المجهول سواء كان في الشبهة الحكميّة كحرمة شرب التتن أو الموضوعيّة كحرمة المايع الخارجي المشكوك كونه خمراً.

والأعلام المتأخّرون عن هذين العلمين كلٌّ أخذ جانباً، فبعض تبع الشيخ الأعظم رحمه الله وبعض آخر ذهب إلى مقالة المحقّق الخراساني رحمه الله، والتحقيق في المقام يستدعي تحليل المراد من المرفوع في «ما لا يعلمون» فهل هو الفعل المتعلّق به الحكم كشرب الخمر مثلًا في مثال المايع انوار الأصول، ج 3، ص: 29

المشكوك، أو المرفوع هو الموضوع الخارجي، أي نفس الخمر في المثال، أو الحكم، أي الحرمة؟

ولابدّ للجواب عن هذا السؤال من ملاحظة التعبيرات الواردة في الآيات والروايات بالنسبة إلى صيغة الوضع، حيث إنّها تقابل الرفع وتضادّه، والأشياء تعرف بأضدادها، فإذا عرفنا ما هو الموضوع في التكاليف الشرعيّة في الكتاب والسنّة عرفنا المرفوع فيها بالتبع.

وبعبارة اخرى: ما هو الثقل والكلفة التي يشتقّ منها كلمة التكليف، ومن أين يجي ء ويوضع على عهدة المكلّف حتّى يكون هو المرفوع؟

فنقول في الجواب: إنّ الموضوع والمحمول على المكلّف في لسان الآيات إنّما هو الفعل كالرزق (بمعناه المصدري) والكسوة الموضوعين على عهدة الأب في قوله تعالى: «وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ»

«1»

، فالموضوع في هذه الآية فعل الرزق وفعل الكسوة كما هو واضح، وكالفدية في قوله تعالى: «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ» «2»

، والصيام في قوله تعالى «كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» وحجّ البيت في قوله تعالى: «وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ».

وهكذا في الروايات كقوله عليه السلام: «عليك القضاء» أو «عليك الإعادة» أو «عليك الحجّ من قابل» فالموضوع على عهدة المكلّف إنّما هو القضاء أو فعل الإعادة أو الحجّ، فكأنّ للأفعال ثقلًا في عالم التشريع يضعه الشارع على عاتق المكلّفين، نعم إنّه كناية عن الإيجاب، وهى غير تقرير الوجوب، ولا يلزم فيها مجاز، بل يستعمل كلّ لفظ في معناه الموضوع له، ففي قولك:

«زيد كثير الرماد» استعمل كلّ واحد من «زيد» و «كثير الرماد» في معناه الموضوع له وإن لم يكن المستعمل فيه مراداً جدّياً للمتكلّم، فوضع فعل كالصيام والحجّ والإعادة والقضاء على عاتق المكلّف كناية عن وجوبه.

فإذا كان متعلّق الوضع هو الفعل فليكن متعلّق الرفع أيضاً كذلك، ففي قوله صلى الله عليه و آله: «رفع ما لا يعلمون» إنّما رفع الفعل المجهول كما أنّ المرفوع في «ما اضطرّوا إليه» و «ما استكرهوا عليه» هو الفعل الاضطراري أو الإكراهي الذي كان يثقل على عاتق المكلّف لولا حديث الرفع، لا أن يكون المرفوع هو الحكم حتّى نحتاج إلى تقدير.

انوار الأصول، ج 3، ص: 30

وإذن يختصّ الحديث بالشبهات الموضوعيّة لأنّ شموله للشبهات الحكميّة يحتاج إلى تقدير الحكم، أي رفع ما لا يعلمون حكمه، والأصل عدم التقدير.

فظهر أنّ طريق إثبات اختصاص الرواية بالشبهات الموضوعيّة لا ينحصر في ما ذهب إليه الشيخ الأعظم رحمه الله من قضية وحدة السياق، بل يمكن إثباتها من طريق تحليل معنى الرفع

وملاحظة موارد استعمال ما يقابله من كلمة الوضع.

ثمّ إنّ هذا (أي اختصاص حديث الرفع بالشبهة الموضوعيّة) قد يؤيّد بالرجوع إلى عصر صدور هذا الحديث من النبي صلى الله عليه و آله حيث لم تكن الشبهة الحكميّة محلًا للابتلاء في ذلك العصر إلّاقليلًا لأنّهم كانوا مستغنين بأرباب الشريعة، يأخذون منهم الأحكام مشافهة، ويعرفون ما يريدون بالسؤال عن نفس المعصوم بلا واسطة، فالحديث منصرف إلى ما كان محلًا للابتلاء.

الأمر الثاني: قد ظهر ممّا ذكرنا عدم تقدير شي ء في الحديث لا الحكم ولا المؤاخذة، ولا الأثر المناسب ولا جميع الآثار، بل المرفوع هو نفس الفعل في عالم الاعتبار، وهو كناية عن عدم حرمته، وإذا ارتفعت الحرمة ارتفعت جميع آثارها، وحينئذٍ لا تصل النوبة إلى ما ذكره الأعلام واختلفت فيه الآراء من أنّ المقدّر في الحديث ماذا؟

كما ظهر أيضاً أنّ الرفع إخبار عن الواقع (كما أنّ الوضع في مثل قوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ» إخبار عن الوضع في الواقع) لا إنشاء من جانب الرسول صلى الله عليه و آله فلا تصل النوبة إلى البحث عن إمكان التشريع للرسول صلى الله عليه و آله وعدمه، ولو فرض كونه إنشاء من جانبه صلى الله عليه و آله فلا إشكال فيه أيضاً لما أثبتناه في البحث عن ولاية الفقيه في الفقه من صدور تشريعات جزئية من ناحية الرسول صلى الله عليه و آله وإمضائه من جانب الباري تعالى، فما ذهب إليه في تهذيب الاصول من عدم وجود هذا الحقّ للرسول صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام مطلقاً في غير محلّه.

الأمر الثالث: في شمول حديث الرفع للأحكام الوضعيّة وعدمه، فإذا تحقّق بيع عن إكراه مثلًا فهل يكون نافذاً شرعاً أو لا؟

فقد يقال بعدم نفوذه لأجل هذا الحديث بل هو ممّا استدلّ به على اعتبار الاختيار في باب المعاملات، وكيف كان فقد ذكر للعموم والشمول وجوه:

الأوّل: اطلاق الرفع، إمّا بناءً على وجود تقدير في الحديث، فلأنّ المقدّر هو جميع الآثار، وإمّا بناءً على ما إخترناه من كون الرفع كناية فلأنّه كناية عن رفع الحكم الجزئي، وهو في مثل انوار الأصول، ج 3، ص: 31

المقام عبارة عن نفوذ البيع.

الثاني: معتبرة صفوان بن يحيى وأحمد بن محمّد بن أبي نصر جميعاً عن أبي الحسن عليه السلام في الرجل يستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك؟ فقال: «لا، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: وضع عن امّتي ما اكرهوا عليه وما لم يطيقوا وما أخطأوا» «1».

فلا إشكال في أنّ هذه الرواية تشير إلى حديث الرفع، وحينئذٍ إذا كانت إحدى فقراته شاملة للأحكام الوضعيّة تكون سائر الفقرات أيضاً شاملة لها بمقتضى وحدة السياق.

إن قلت: إنّ التمسّك بهذا الحديث لإثبات كون المرفوع بحديث الرفع جميع الآثار حتّى الوضعيّة ضعيف لأنّ الحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك باطل عندنا من الأساس حتّى مع الاختيار فكيف مع الإكراه؟، فمقتضى القاعدة أن يبيّن الإمام عليه السلام بطلانه مطلقاً ولم يفعل، فيكون الجواب حينئذٍ مبنيّاً على التقيّة، فكأنّ الإمام عليه السلام لم يتمكّن من إظهار الحقّ وهو بطلان الحلف بتلك الامور مطلقاً ولو مع الاختيار، فاقتصر على بيان بطلانه في مورد السؤال فقط، وهو الإكراه من باب التقيّة لا من باب أنّ الإكراه رافع للأثر الوضعي واقعاً.

قلت: إنّه كذلك أي الإمام كان في مقام التقيّة، لكنّه غاية ما يقتضيه كون تطبيق الكبرى (أعني عموم حديث الرفع) على مورد السؤال (أي

الحلف بالطلاق والعتاق) تقيّة لكون المورد باطلًا من الأساس وإن لم يكن عن إكراه، ولا دليل على كون أصل الكبرى من باب التقيّة، إذن فالحديث تامّ سنداً ودلالة.

الثالث: ما ذكره الشيخ الأعظم رحمه الله من أنّ مقتضى كون الحديث في مقام الإمتنان على امّة النبي صلى الله عليه و آله شموله للأحكام الوضعيّة، لأنّ الأحكام التكليفيّة كانت مرفوعة في الامم السابقة أيضاً.

ولكن يرد عليه: أنّ المستفاد من بعض الأخبار اختصاص رفع المؤاخذة في الأحكام التكليفيّة أيضاً بامّة النبي صلى الله عليه و آله، منها ما رواه عمرو بن مروان عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: رفع عن امّتي أربع خصال: خطؤها ونسيانها وما اكرهوا عليه وما لم يطيقوا، وذلك قول اللَّه عزّوجلّ: «رَبَّنَا لَاتُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً

انوار الأصول، ج 3، ص: 32

كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَاطَاقَةَ لَنَا بِهِ» وقوله: «إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ»» «1».

فالظاهر من هذا الحديث والآيات التي استشهد بها فيه اختصاص رفع المؤاخذة أيضاً بهذه الامّة.

إن قلت: العقل حاكم بقبح المؤاخذة على الخطأ والإكراه والاضطرار والنسيان وغيرها ممّا هو خارج عن طاقة الإنسان من دون فرق بين الامم.

قلنا: المعروف في الجواب عن هذا الإشكال أنّ الخطأ والنسيان مثلًا على قسمين: قسم لا يكون الإنسان قادراً على الإجتناب عنه بوجه من الوجوه، فهذا القسم مرفوع عن جميع الامم، وقسم آخر يمكن التحفّظ عنه بالمراقبة وإن كان ذات مشقّة، فهذا القسم لا تكون المؤاخذة عليه قبيحاً، ورفع المؤاخذة عنه إمتناناً مختصّ بهذه الامّة، وهو المراد في حديث الرفع كما يدلّ عليه نفس طلب النبي

صلى الله عليه و آله إيّاه في ليلة المعراج، وإلّا كان طلبه صلى الله عليه و آله تحصيلًا للحاصل.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّه هل يشمل حديث الرفع الأجزاء والشرائط والموانع أو لا؟ فإذا طرأ النسيان على السورة مثلًا فلم يأت بها فهل تكون الصّلاة صحيحة بمقتضى حديث الرفع أو لا؟

التحقيق في الجواب أن يقال: إنّ الشبهة تارةً تكون بنحو الشبهة الموضوعيّة كما إذا نسى السورة مع علمه بوجوبها، واخرى تكون بنحو الشبهة الحكميّة كما إذا كان المكلّف حديث العهد بالإسلام فنسى أصل وجوب السورة، فإن كانت الشبهة موضوعيّة فشمول الحديث لها مبنى على جريانه في الأحكام الوضعيّة إذ إنّ الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة من الأحكام الوضعيّة، وقد مرّ جريانه فيها، وإن كانت حكميّة فشمول الحديث لها مبنى على جريانه في الشبهات الحكميّة، وقد مرّ عدمه بناءً على ما اخترناه من أنّ المراد من الموصول في «ما لا يعلمون» الفعل المجهول، فلابدّ في شموله للشبهة الحكميّة من تقدير الحكم (أي ما لا يعلمون حكمه) وهو خلاف الظاهر.

انوار الأصول، ج 3، ص: 33

نعم لا ينبغي الإشكال في شموله لها بناءً على مذاق المشهور من أنّ المراد من الموصول هو الحكم حيث لا حاجة حينئذٍ إلى تقديره.

إن قلت: إنّ الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة من الأحكام الوضعيّة الإنتزاعيّة التي ينتزعها العقل من الأمر المتعلّق بالكلّ أو المتعلّق بنفس الجزء أو الشرط، أو النهي المتعلّق بالمانع، وليست من الأحكام الوضعيّة المجعولة الاعتباريّة التي تعتبر من جانب الشارع أو العقلاء، كالضمان والملكية فإذا لم تكن قابلة للوضع والاعتبار لم تكن قابلة للرفع أيضاً.

قلنا: يمكن للشارع رفعها باعتبار أنّ جعل منشأ انتزاعها (أي الأمر بالأجزاء والشرائط والنهي عن الموانع) بيد الشارع.

نعم هنا إشكال آخر بالنسبة إلى

الشبهات الموضوعيّة، وهو أنّه لا يمكن التمسّك فيها بحديث الرفع لتصحيح الصّلاة، مثلًا لأنّ الإعادة ليست من آثار النسيان حتّى ترفع برفعه، بل هى من آثار الأمر بالكلّ، وهو لم يمتثل، فتجب الإعادة لأن يحصل الإمتثال.

هذا كلّه بالنسبة إلى الأجزاء والشرائط، وأمّا الموانع فيمكن أن يقال برفع أثرها وهو البطلان بمقتضى حديث الرفع، والقول بأنّ المانع يرجع إلى شرطيّة عدمه كما ترى.

الأمر الرابع: أنّ حديث الرفع حيث ورد في مقام الإمتنان فلا يجري فيما لم يكن في رفعه منّة على المكلّف كما إذا اضطرّ إنسان إلى بيع داره لإنجاء ولده المريض، فعدم صحّة بيعه هذا- لأنّه ممّا اضطرّ إليه- لا يكون منّة عليه بل هو خلاف الإمتنان وهذا واضح، وإنّما الكلام في منشأ هذا الاستظهار، فمن أيّ شي ء يستفاد أنّ الحديث في مقام الإمتنان؟

قد يقال: أنّه يستفاد من التعبير ب «عن امّتي» الوارد في الحديث، حيث لا إشكال في ظهوره في الإمتنان عرفاً، لكن يمكن أن يستفاد ذلك أيضاً من نفس التعبير بالرفع فإنّ الرفع يستعمل في الموارد التي رفع فيها ثقل وكلفة عن المكلّف لا ما إذا وضع ثقل على عاتقه، ولا يخفى أنّ بطلان المعاملة في المثال المذكور ممّا يوجب وضع ثقل على أثقاله لا رفعه.

الأمر الخامس: ربّما يستشكل في رفع المؤاخذة بحديث الرفع بأنّ المؤاخذة من الأحكام العقليّة لا من القوانين والأحكام المجعولة من ناحية الشرع حتّى يمكن رفعها بيد الشارع.

ويجاب عنه: بأنّها وإن كانت من الأحكام العقليّة، ولكن بما أنّ حكم العقل هذا ينشأ من وجوب الاحتياط هو ناشٍ من الحكم الواقعي المجعول من ناحية الشارع فيمكن له رفعها

انوار الأصول، ج 3، ص: 34

برفع منشأها، وهو الوجوب الواقعي.

ويمكن أن يقال أيضاً: أنّ

حكم العقل في المقام إنّما هو استحقاق المؤاخذة لا فعليتها إذ إنّ الفعليّة من شؤون الشارع والمقنّن، ولذا نرى صدور أحكام العفو من الولاة والحكّام ومن بيده رحى التشريع والتقنين في كثير من الأحايين والشارع المقدّس أولى منهم بذلك.

الأمر السادس: الآثار المترتّبة على الخطأ والنسيان وسائر العناوين الواردة في الحديث الشريف على قسمين: منها ما يترتّب عليها بما هى هى، أي يترتّب على العناوين الثانوية كعنوان الخطأ والنسيان، ومنها ما يترتّب على متعلّقاتها الخارجيّة أي على العناوين الأوّلية، فإنّ الآثار المترتّبة على نسيان السورة مثلًا على قسمين: قسم يترتّب على نفس السورة كبطلان الصّلاة بتركها، وقسم يترتّب عليه بما أنّها متعلّقة للنسيان كسجدتي السهو، والمقصود من الآثار المرفوعة بحديث الرفع إنّما هو القسم الأوّل لا الثاني، وإلّا يلزم التناقض في كلام الشارع المقدّس، لأنّ المفروض كون السهو كالسبب لتشريع سجدتي السهو فكيف يكون رافعاً لهما؟

الأمر السابع: في شمول الحديث للُامور العدميّة وعدمه، كما إذا نذر أن يشرب من ماء الفرات فاضطرّ إلى تركه أو اكره عليه فلو قلنا بالشمول لم تتحقّق مخالفة النذر فلا حنث ولا كفّارة.

وقد وقع البحث فيه بين الأعلام، والظاهر من كلمات المحقّق النائيني رحمه الله اختصاصه بالامور الوجوديّة، واستدلّ لذلك «بأنّ شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم، لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود، لأنّ تنزيل المعدوم منزلة الموجود إنّما يكون وضعاً لا رفعاً» «1».

وأجاب عنه في تهذيب الاصول: «بأنّ ترك الشرب بعد ما تعلّق به النذر وصار ذات أثر يكون له ثبوت في عالم الاعتبار، إذ ما لا ثبوت له ولو بهذا النحو من الثبوت لا يقع تحت دائرة الحكم ولا يصير موضوعاً للوفاء والحنث ... وبعد الثبوت الاعتباري لا مانع من

تعلّق الرفع عليه بما له من الآثار» «2».

أقول: وإن شئت قلت في الجواب: قد وقع الخلط في كلام المحقّق النائيني رحمه الله بين عالم انوار الأصول، ج 3، ص: 35

التكوين وعالم التشريع، وكون ترك الشرب أمراً عدميّاً إنّما هو بلحاظ عالم التكوين، وأمّا في عالم التشريع فلا إشكال في أنّ لترك الشرب أثراً وثقلًا وكلفة لولا حديث الرفع بلحاظ ترتّب الكفّارة عليه، فيمكن للشارع رفعه بهذا الحديث.

الأمر الثامن: قد ورد في ذيل الحديث ثلاثة عناوين ينبغي فهمها وتوضيحها وإن كانت خارجة عن موضوع البراءة، وهى: الحسد، والطيرة، والوسوسة في التفكّر في الخلق (بناءً على ما ورد في مرفوعة محمّد بن أحمد الهندي المذكورة سابقاً) أو التفكّر في الوسوسة في الخلق (بناءً على ما ورد في معتبرة حريز بن عبداللَّه المذكورة سابقاً أيضاً).

أمّا الحسد فلا إشكال في أنّ المراد منه في الحديث تلك الحالة النفسانية التي توجب عدم تحمّل الإنسان نعمة أعطاها اللَّه تعالى أخاه المؤمن قبل إظهارها عملًا، وأمّا إذا أقدم على عمل لإزالتها فلا إشكال أيضاً في كونه معصية ولا يكون حينئذٍ مشمولًا للحديث الشريف.

إن قلت: هذه الحالة النفسانيّة قبل إبرازها في مقام العمل أمر غير اختياري فلا معنى لحرمتها لولا الحديث حتّى ترفع إمتناناً.

قلنا: يمكن عادةً رفع هذه الحالة بالمجاهدات والرياضات النفسانيّة والتفكّر في أنّها ملكة رذيلة توجب خسّة النفس ودنائتها فيكون رفعها تحت اختيار الحاسد، ويمكن للشارع عدم رفعها بوجوب تهذيب النفس فيكون رفعه للوجوب منّة على العباد.

أمّا الطيرة فهى من مادّة الطير، بمعنى التشأّم وقراءة الطالع بالطيّور، ثمّ توسّع في ذلك حتّى عمّت سائر طرق التشأّم، فإنّ العرب في الجاهلية كانت تلتزم وتعتني بما يتشأّم بالطيور وغيرها، وكانت الطيور تسدّهم عن مقاصدهم،

فللشارع المقدّس أن يمضي تلك الالتزامات، ولكنّه ردع عنها إمتناناً حتّى لا يتعطّل حياتهم لُامور لا واقع لها.

وأمّا الوسوسة في التفكّر في الخلق (أو التفكّر في الوسوسة في الخلق) فالمراد من الخلق في هذه الجملة يمكن أن يكون على أحد معنيين:

الأوّل: أن يكون بمعنى الخالق، أي خالق اللَّه عزوجل، فيتفكّر في أنّه مَن خَلَقَ الباري تعالى؟

وهو سؤال يشكل جوابه على العوام (وإن كان واضحاً عند المحقّقين لأنّ الحاجة إلى الخالق تتصوّر بالنسبة إلى كلّ حادث أو ممكن الوجود، واللَّه تبارك وتعالى لا يكون حادثاً أو

انوار الأصول، ج 3، ص: 36

ممكناً) ومع ذلك كان أمراً شايعاً في عصر صدور الحديث وكانوا يتوهّمون حصول الكفر به فرفع الشارع أثره المتوهّم إمتناناً.

الثاني: أن يكون في مقابل الخالق، والمراد منه حينئذٍ الوسوسة في التفكّر في البلايا والشرور، وتكرار القول ب «لِمَ» بالنسبة إليها، أي القول بأنّ اللَّه تعالى لِمَ خلق الشي ء الفلاني، ولِمَ خلق العالم كذا وكذا، فرفع الشارع حرمة هذه الوساوس إمتناناً.

وإن قيل: بعض هذه الامور مرفوع من جميع الامم.

قلنا: نعم ولكن الإمتنان إنّما هو بالمجموع من حيث هو المجموع.

الأمر التاسع: لا يخفى أنّ النسبة بين هذا الحديث وأدلّة الأخباريين نسبة التعارض لا الحكومة لأنّ تلك الأدلّة مثل قوله عليه السلام: «أخوك دينك فاحتط لدينك» تدلّ بزعم الأخباري على وجوب الاحتياط وعدم إرتفاع الإلزام المجهول المحتمل، بينما حديث الرفع يدلّ على رفعه وعدم وجوب الاحتياط، فهو حينئذٍ يعارض تلك الأدلّة حتّى بعد فرض تماميتها، فتصل النوبة إلى محاولة المرجّحات وأنّه أي الدليلين أقوى؟ خلافاً لما مرّ من الآيات إذ إنّ أدلّة الأخباري كانت واردة عليها كما ذكرنا.

2- حديث الحجب:

وهو ما رواه أبو الحسن زكريا بن يحيى عن أبي عبداللَّه عليه

السلام قال: «ما حجب اللَّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» «1».

وهو من حيث السند تامّ حيث إنّ رجاله معروفون، والظاهر أنّ المراد من ابن فضّال فيه هو علي بن فضّال الثقة الذي ينقل عن داود بن فرقد وكان معاصراً له، وداود ثقة بتوثيق علماء الرجال، وهكذا زكريا بن يحيى.

وأمّا الدلالة فتقريب الاستدلال به أنّ الإلزام المجهول ممّا حجب اللَّه علمه عن العباد فيكون موضوعاً عنهم.

انوار الأصول، ج 3، ص: 37

لكن إستشكل عليه الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني والمحقّق النائيني رحمهما الله بامور عديدة نلخّصها في أمرين:

أحدهما: أنّ الحديث أسند الحجب إلى اللَّه تعالى، وهو حينئذٍ ظاهر فيما سكت اللَّه عنه ولم يأمر نبيّه بالإبلاغ، لا ما بيّنه واختفى عنهم بعروض الحوادث الذي هو المبحوث عنه في المقام.

ثانيهما: أنّ كلمة «العباد» ظاهرة في العموم المجموعي، أي جميع المكلّفين والحجب عن العباد صادق في الموارد التي يكون الحكم محجوباً عن مجموع المكلّفين لا عن بعضهم دون بعض، ومحلّ النزاع في ما نحن فيه من النوع الثاني كما لا يخفى.

لكن في تهذيب الاصول يصرّ على تمامية الدلالة، والمعتمد في كلامه كلمة «موضوع عنهم» فيقول: «إنّ الظاهر المتبادر من قوله «موضوع عنهم» هو رفع ما هو المجهول، لا رفع ما لم يبيّن من رأس ولم يبلغ، بل لم يأمر الرسل بإظهاره فإنّ ما كان كذلك غير موضوع بالضرورة، ولا يحتاج إلى البيان مع أنّه مخالف لظاهر «موضوع عنهم» «1».

وقال في مقام الجواب عن الإشكال الأوّل: «إنّ الظاهر من الحجب هو الحجب الخارج عن اختيار المكلّف لا الحجب المستند إلى تقصيره وعدم فحصه ... وعندئذٍ يكون إسناد الحجب إليه على سبيل المجاز، ومثله كثير في الكتاب والسنّة، فإنّ مطلق تلك الأفعال

يسند إليه تعالى بكثير من دون أن يكون خلاف الظاهر في نظر العرف».

وفي مقام الجواب عن الإشكال الثاني قال: «إنّ المطابق للذوق السليم هو أن يكون المراد: كلّ من حجب اللَّه على شي ء عنه فهو مرفوع عنه سواء كان معلوماً لغيره أو لا (لا أن يكون المراد ما حجب اللَّه علمه عن مجموع المكلّفين ولا أن يكون المراد ما حجب اللَّه علمه عن كلّ فرد فرد من أفراد المكلّفين) كما هو المراد من قوله صلى الله عليه و آله في حديث الرفع: «رفع عن امّتي ما لا يعلمون» على أنّ مناسبة الحكم والموضوع يقتضي ذلك، فإنّ الظاهر أنّ المناط للرفع هو الحجب عن المكلّف، وحجبه عن الغير وعدمه لا دخل له لذلك كما لا يخفى»»

.لكن الحقّ أنّ ظهور كلمة العباد في العموم الاستغراقي وظهور الحجب في الإسناد الحقيقي مقدّم على ظهور كلمة «موضوع عنهم» في رفع ما هو المجعول (لا رفع ما لم يبيّن من رأس ولم انوار الأصول، ج 3، ص: 38

يبلغ) لأنّ استعمال كلمة الوضع في ما لم يكن مجعولًا من رأس كثير، كما أنّ كلمة الرفع استعمل في حديث الرفع في معنى الرفع وعدم الجعل من أصله (لا ما وضع أوّلًا ثمّ رفع ثانياً) وهذا نظير ما إذا قيل: هذا البلاء وضع عن هذه الامّة، فإنه استعمل حينئذٍ في بلاء لم ينزل من رأس لا ما نزل ثمّ رفع.

أضف إلى ذلك أنّ الوضع إذا تعدّى ب «عن» (خلافاً لما إذا تعدّى ب «على») يكون بمعنى الرفع، فيأتي حينئذٍ في هذا الحديث كلّ ما قلناه في حديث الرفع، وكيف كان: الأمر دائر مدار إرتكاب أحد الأمرين: رفع اليد من ظهورين (ظهور العباد في العموم

المجموعي وظهور الحجب في الإسناد الحقيقي) ورفع اليد من ظهور واحد (ظهور كلمة «موضوع عنهم» في رفع ما هو المجعول) ولا يخفى أنّ الثاني أهون من الأوّل.

مضافاً إلى أنّ الأوّل يستلزم كون الإسناد إلى العباد مجازاً لأنّ العباد حينئذٍ يستعمل في بعض العباد كما هو واضح.

3- حديث الحلّ:

وهو ما رواه عبداللَّه بن سنان بسند معتبر عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «كلّ شي ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» «1».

ونظيره ما رواه مسعدة بن صدقة عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال سمعته يقول: «كلّ شي ء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، والمملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهراً أو امرأة تحتك وهى اختك أو رضيعتك والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البيّنة» «2» وكذلك ما رواه عبداللَّه بن سنان قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الجبن فقال لي: «لقد سألتني عن طعام يعجبني ثمّ أعطى الغلام درهماً فقال ياغلام ابتغ لنا جبناً، ثمّ دعا بالغداء فتغدّينا معه فأتى بالجبن فأكل وأكلنا فلمّا فرغنا من الغداء قلت: ما تقول في الجبن؟ قال: أو لم ترني آكله؟

انوار الأصول، ج 3، ص: 39

قلت: بلى ولكنّي أُحبّ أن أسمعه منك فقال: ساخبرك عن الجبن وغيره، كلّ ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه فتدعه» «1».

والبحث في هذه الروايات تارةً يقع في السند واخرى في الدلالة:

أمّا السند فلا إشكال في اعتبار رواية عبداللَّه بن سنان كما أشرنا إليه آنفاً، وأمّا رواية عبداللَّه بن سليمان فالمراد

من عبداللَّه بن سليمان هو عبداللَّه بن سليمان النخعي بقرينة نقله عن عبداللَّه بن سنان، وهو مجهول في كتب الرجال، وأمّا رواية مسعدة بن صدقة فهى أيضاً ضعيفة من ناحية السند لأنّ مسعدة مجهول، فإن وجدت فيها خصوصية لم توجد في الأوليين لا تكون حجّة، والعجب من المحقّق الخراساني رحمه الله حيث استند إلى هذه الرواية لما فيها من بعض الخصوصيات من دون اعتنائه بسندها كما هو دأبه في كتابه الكفاية.

فالمعتبر من هذه الروايات الثلاثة إنّما هو الرواية الاولى، وهى رواية عبداللَّه بن سنان.

أمّا الدلالة: فلا إشكال في أنّ رواية عبداللَّه بن سنان ظاهرة في خصوص الشبهات الموضوعيّة لمكان فقرة «فيه حلال وحرام» حيث إنّها تتصوّر في الموضوعات كالمايع الذي بعض افراده خمر وبعضها الآخر غير خمر فاشتبه الخمر فيه بغير الخمر، لا في الأحكام، فلا معنى لأن يقال مثلًا: «في شرب التتن حلال وحرام» بل لابدّ فيها حينئذٍ من تقدير كلمة الاحتمال، أي فيه احتمال الحرمة واحتمال الحلّية، وهو تكلّف وخلاف للظاهر.

وبعبارة اخرى: المقصود من كلمة «الشي ء» في قوله عليه السلام: «كلّ شي ء فيه حلال وحرام» هو الشي ء الخارجي والموضوع الخارجي المشكوك، أي متعلّق الشي ء إنّما هو الموضوع الخارجي لا الحكم، بينما متعلّق الشكّ في مثل شرب التتن إنّما هو حكم الشرب لا نفس الشرب الخارجي.

وأمّا رواية مسعدة فالتعبير الوارد فيها «كلّ شي ء هو لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه» فليس فيها التعبير ب «فيه حلال وحرام» حتّى تكون من هذه الجهة ظاهرة في الشبهات الموضوعيّة، نعم كلمة «بعينه» الواردة في ذيلها ظاهرة في الشبهة الموضوعيّة لأنّها بمعنى التشخّص والتعيّن الخارجي، لكن يمكن التوجيه بأنّها تأكيد لقوله عليه السلام: «تعرف» أي حتّى تعلم

انوار الأصول، ج 3، ص: 40

علماً قطعيّاً، وسيأتي بيان الخصوصية الموجودة في «تعرف» بدل «تعلم» في هذه الرواية.

وبهذا تكون الرواية تامّة من حيث الدلالة، ولكنّها ضعيفة من ناحية السند كما مرّ، مضافاً إلى أنّ الظاهر سوق الروايات الثلاثة على مساق واحد، أي بيان الحلّية في الشبهة الموضوعيّة، وذلك لوجود قرائن عديدة فيها:

منها: الأمثلة الواردة في رواية مسعدة فإنّ جميعها من الشبهة الموضوعيّة كما هو واضح.

ومنها: كون مورد بعضها وهى رواية عبداللَّه بن سنان الجبن المشكوك حلّيته من ناحية الأنفحة التي تعقد اللبن جبناً حيث إنّ وجه ترديد الراوي وتأمّله في أكل الجبن في هذه الرواية هو احتمال وجود الميتة فيه لأنّ الأنفحة التي تعقد اللبن جبناً ربّما كانت تؤخذ في ذلك العصر من الميتة.

منها: التعبير ب «تعرف» بدل «تعلم» فإنّه يستعمل غالباً في الشبهات الموضوعيّة لأنّ التعريف بمعنى تشخيص المصداق وتعيينه، بخلاف «تعلم» التي تستعمل في كلا الموردين.

ومنها: كلمة «بعينه» الواردة في رواية عبداللَّه بن سليمان أيضاً فإنّها أيضاً ظاهرة في الشبهة الموضوعيّة كما مرّ.

ومنها: كلمة «منه» الواردة في رواية عبداللَّه بن سنان فهى على وزان كلمة «بعينه» كما لا يخفى.

ولو تنزّلنا عن هذه القرائن فإنّ المهمّ في المقام أنّ ما يكون من هذه الروايات تامّة دلالة- ليست صالحة من ناحية السند، وما تكون تامّة من حيث السند لا تكون صالحة من ناحية الدلالة.

4- حديث السعة:

والمعروف منه في كتب الأعلام «الناس في سعة ما لا يعلمون» ولكنّا لم نظفر به بهذا التعبير في الجوامع الروائيّة بل الوارد فيها تعبيران آخران:

أحدهما: ما ينتهي سنده إلى النوفلي والسكوني عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «إنّ أمير المؤمنين عليه السلام سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنها

وبيضها وفيها سكّين انوار الأصول، ج 3، ص: 41

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: يقوّم ما فيها ثمّ يؤكل، لأنّه يفسد، وليس له بقاء، فإذا جاء طالبها غرموا له الثمن، قيل له: ياأمير المؤمنين لا يدري سفرة مسلم أو سفرة مجوسيّ؟ فقال: هم في سعة حتّى يعلموا» «1».

ولكن من الواضح أنّه لا دلالة لها على المطلوب لأنّها قضية خارجية، والحكم فيها أيضاً خاصّ بمورده وأمثاله، مضافاً إلى ما فيها من الإشكال السندي من جهة النوفلي والسكوني.

وإن شئت قلت: الوارد في هذا الحديث قضيّة شخصيّة خارجيّة وردت في سفرة مطروحة في الطريق، والمشكوك فيها للسائل إنّما هو طهارة السفرة أو حلّية لحمها فلا يمكن التعدّي عنها إلى سائر الشبهات الموضوعيّة فضلًا عن الشبهات الحكميّة، والتعبير الوارد فيها هو: «هم في سعة حتّى يعلموا» لا «الناس في سعة حتّى يعلموا» لكي يكون على نهج كبرى كلّية فيقال: إنّ المورد ليس مخصّصاً.

ثانيهما: (وهو العمدة) ما ورد في أعيان الشيعة «2» نقلًا عن تحف العقول وعن الشهاب للمحدّث البحراني، وفي المستدرك «3» وعوالي اللئالي «4» عن النبي صلى الله عليه و آله: «الناس في سعة ما لم يعلموا».

وهو من ناحية السند مرسل، وأمّا الدلالة فيحتمل في كلمة «ما» وجهان:

الأوّل: أن تكون موصولة قد اضيفت إليها كلمة «سعة» أي «الناس في سعة شي ء لم يعلموا» فتكون بظاهرها عامّة تعمّ الشبهات الموضوعيّة والحكميّة معاً.

الثاني: أن تكون مصدرية ظرفية متعلّقة بالسعة، أي «الناس في سعة ما داموا لم يعلموا».

وعلى كلا الوجهين يتمّ المطلوب لظهورها في كون الجهل (بعد الفحص) عذراً.

وإستشكل السيّد الحكيم رحمه الله في الوجه الثاني بأنّ ما المصدرية تختصّ بالفعل الماضي، ولكنّه يرد بناءً على ما هو المعروف من التعبير ب «لا

يعلمون» ولا يرد على ما ظفرنا به من انوار الأصول، ج 3، ص: 42

التعبير ب «لم يعلموا» لأنّه في معنى الماضي.

وبالجملة الرواية تامّة من ناحية الدلالة، ولكنّها لا تصلح للاستدلال من ناحية السند.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ الإنصاف أنّ النسبة بين هذه الرواية وأدلّة الأخباريين نسبة التعارض والتضادّ لا الورود لأنّها تدلّ على كون الجهل عذراً وتلك الأدلّة تدلّ (بزعم الأخباري) على عدمه.

وبعبارة اخرى: أنّ هذا الحديث يثبت السعة ما لم يعلم الواقع المجهول من الوجوب أو الحرمة، ودليل الاحتياط يثبت الضيق مع كون الواقع مجهولًا فيتعارضان.

نعم لو كان وجوب الاحتياط نفسيّاً لم يكن بينهما تعارض، بل ينتفي حينئذٍ بوجوب الاحتياط موضوع هذا الحديث لأنّ موضوعه شي ء قد علم به المكلّف بوجوب الاحتياط، فليس في سعة منه، لكن الصحيح أنّ وجوب الاحتياط طريقي لأجل حفظ الأحكام الواقعية.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ التعبير ب «لم يعلموا» ظاهر من عدم تمامية الحجّة، أي الناس في سعة ما لم تتمّ الحجّة، ودليل الاحتياط حجّة فيكون وارداً عليه.

لكنّه خلاف الظاهر، لأنّ «ما لم يعلموا» ظاهر في عدم العلم بالحكم الواقعي، والحكم الظاهري إنّما يوجب رفع التحيّر في مقام العمل فحسب لا العلم بالواقع.

5- حديث الاطلاق:

وهو ما رواه محمّد بن علي بن الحسين قال: قال الصادق عليه السلام: «كلّ شي ء مطلق حتّى يرد فيه نهي» «1».

والحديث مرسل، لكنّه من المرسلات التي يسندها الصدوق رحمه الله إلى المعصوم عليه السلام بتعبيره «قال» لا «روى»، وظاهره كون الصدور أمراً مقطوعاً عنده.

ولكن هذا ليس كافياً في إثبات الحجّية عندنا، لأنّه استنباط لشخص الصدوق رحمه الله فلعلّه لو ذكر رجال السند لناقشنا في وثاقة بعضهم.

انوار الأصول، ج 3، ص: 43

اللهمّ إلّاأن يقال: بحصول الوثوق من توثيقه، ولكنّه مشكل، وحينئذٍ

لا يخلو السند عن شي ء.

وأمّا الدلالة فقال الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله أنّه أظهر من الكلّ في الدلالة على البراءة.

وإستشكل فيها المحقّق الخراساني رحمه الله بأنّ دلالته تتوقّف على عدم صدق الورود إلّابعد العلم والوصول مع أنّه يصدق على الصدور المقابل للسكوت أيضاً، فمعنى الحديث حينئذٍ: أنّ ما لم يصدر فيه نهي واقعاً (بمعنى سكوت اللَّه تعالى عنه) فهو حلال، ولا كلفة على العباد من جهته، في مقابل ما إذا صدر النهي عنه واقعاً فليس حلالًا وإن لم يعلم به المكلّف، فوزان هذا الحديث حينئذٍ وزان حديث السكوت.

إن قلت: نعم يصدق الورود على صدور النهي عن الشارع وإن اختفى علينا لبعض الأسباب والدواعي، ولكن الأصل عدم صدوره، فإنّه مسبوق بالعدم فيستصحب عدمه فيتمّ الاستدلال بضميمة هذا الأصل.

قلنا: إنّ الاستدلال حينئذٍ وإن كان يتمّ بضميمة الأصل المزبور، ويحكم بإباحة ما شكّ في حرمته، لكن لا بعنوان أنّه مشكوك الحرمة ومحتمل النهي بل بعنوان إنّه ما لم يرد فيه نهي.

إن قلت: إنّ عنوان «ما لم يرد فيه نهي» الثابت بالاستصحاب وإن كان مغايراً لعنوان مجهول الحرمة لكن لا تفاوت بينها في الغرض وهو إثبات إباحة مجهول الحرمة كشرب التتن، فهذا الفعل مباح ظاهراً سواء كان بعنوان عدم ورود النهي عنه واقعاً ولو تعبّداً (كما هو مقتضى استصحاب عدم ورود النهي عنه) أو بعنوان كونه مجهول الحكم.

قلنا: إنّ الثمرة بين الصورتين تظهر في توارد الحالتين لأنّه لو كان الحكم بإباحة مجهول الحرمة بعنوان إنّه ممّا لم يرد فيه نهي لأختصّ ذلك بما إذا لم يعلم ورود النهي فيه في زمان، وبورود الإباحة فيه في زمان آخر، واشتبه السابق باللاحق فلا يكاد يتمّ الاستدلال حينئذٍ، إذ لا مجال للإستصحاب

حينئذٍ، وهذا بخلاف ما إذا كان الحكم بإباحته بعنوان إنّه مجهول الحرمة، فيجري الأصل حينئذٍ حتّى في مثل الفرض لأنّه مجهول الحرمة ولو مع العلم الإجمالي المذكور، فيحكم بحلّيته ظاهراً إلى أن يعلم الخلاف، (انتهى ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله بتوضيح منّا).

أقول: يرد على هذا الجواب أوّلًا: أنّه ممّا يهمّ الفقيه في الفقه إذ لا يوجد له مورد في الفقه انوار الأصول، ج 3، ص: 44

ورد فيه أمر ونهي، وإشتبه تاريخهما.

ثانياً: ولو سلم فإنّه من قبيل النسخ الذي يتوفّر الدواعي على نقله فلا يصير من قبيل مجهولي التاريخ.

فالحاصل أنّ الحديث صالح للإستدلال به ولو بضميمة الاستصحاب، فإنّ المقصود إثبات جواز إرتكاب مشكوك الحرمة بأي دليل كان فإنّه الذي يفيد الفقيه في أبواب الفقه.

والعجب من صاحب الوسائل حيث إستشكل بعد نقل الحديث في دلالته على المراد بثمانية امور لا يرد أحد منها:

منها: الحمل على التقيّة، فإنّ العامّة يقولون بحجّية الأصل فيضعف عن مقاومة أدلّة الأخباريين.

وجوابه واضح، فإنّه لا تصل النوبة إلى أعمال هذا المرجّح لأن الترجيح بموافقة الكتاب أولى وأقدم.

ومنها: حمله على الشبهات الوجوبيّة التي يكون الأصل فيها الإباحة حتّى عند الأخباري.

وفيه: أنّ صريح الرواية الشبهة التحريميّة فكيف تحمل على الوجوبيّة؟

ومنها: حمله على الشبهات الموضوعيّة التي يكون الأصل فيها الإباحة أيضاً حتّى عند الأخباري.

وجوابه أيضاً ظاهر، لأنّ صريح الرواية هو الشبهة الحكميّة.

إلى غير ذلك ممّا ذكره في المقام فراجع «1».

هذا كلّه في الاستدلال بالنسبة للبراءة في الشبهات التحريميّة الحكميّة.

الثالث: دليل العقل

قاعدة قبح العقاب بلا بيان:

المعروف بين الاصوليين أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان من انوار الأصول، ج 3، ص: 45

المستقلّات العقليّة بعد الفحص واليأس عن الدليل (وسيأتي مقدار الفحص الواجب)، بل قال شيخنا العلّامة الحائري

رحمه الله في درره: إنّ هذه قاعدة مسلّمة عند العدليّة لا شبهة لأحد فيها (إلّا أن يكون هناك رافع يعني البيان) «1».

لكن يمكن التشكيك في هذه القاعدة بوصف أنّها قاعدة عقليّة محضة بعد ذكر مقدّمة في ملاك وجوب إطاعة اللَّه وقبح معصيته، فنقول: الملاك في وجوب الإطاعة إمّا أن يكون وجوب شكر المنعم فتجب طاعته تبارك وتعالى بالإطلاق من باب أنّها من مصاديق شكر المنعم الحقيقي المطلق كما تجب طاعة الوالدين في الجملة على الولد من باب أنّهما منعمان له في الجملة، أو يكون الملاك الحكمة فإنّ حكمة الباري تعالى تقتضي وجود مصلحة في أوامره ومفسدة في نواهيه، فيحكم العقل بوجوب الإطاعة عن أوامره ونواهيه للحصول على مصالحها ومفاسدها، أو يكون الملاك المالكية والمولويّة فالعقل يحكم بأنّ ترك الطاعة بالنسبة إلى الموالي العرفيّة فضلًا عن المولى الحقيقي ظلم قبيح.

ثمّ نقول: أمّا الملاك الأوّل: فيمكن النقاش فيه بأنّ مردّه إلى قولنا: هل جزاء الإحسان إلّا الإحسان، أي وجوب الإحسان في مقابل الإحسان، وهو لا يتصوّر بالنسبة إلى الباري تعالى لأنّه يتوقّف على وجوب الفقر والحاجة، تعالى اللَّه عنها علوّاً كبيراً.

ولذلك أرجع علماء علم الكلام هذه القاعدة إلى قاعدة وجوب دفع الضرر ببيان أنّ عدم شكر المنعم قد يكون لسلب النعمة وحصول الضرر على المنعَم (بالفتح) وحينئذٍ لا تكون هذه القاعدة من المستقلّات العقليّة ومن مصاديق قاعدة حسن العدل وقبح الظلم.

وأمّا الملاك الثاني: (وهو الحكمة)، فيناقش فيه أيضاً بأنّ لازمه إرشادية جميع الأوامر والنواهي الشرعيّة كأوامر الطبيب ونواهيه، فيتوجّه إلى المكلّف العاصي نفس المفسدة الموجودة في متعلّق النهي فحسب أو سلب المصلحة اللازمة في الأوامر منه مع إنّا نقول بالمولويّة واستحقاق ثواب وعقاب اخرويّين يترتّبان على الفعل

والترك.

وأمّا الملاك الثالث: فهو الأصل والصحيح في وجوب الإطاعة وقبح المعصية لأنّ رجوعه إلى قبح الظلم بمعناه الواسع وهو وضع الشي ء في غير موضعه.

انوار الأصول، ج 3، ص: 46

فظهر أنّ ملاك وجوب طاعة اللَّه وقبح معصيته إنّما هو مولويته ومالكيته فللّه تعالى حقّ الطاعة على العبد لأنّه مولى حقيقي ومالك لجميع شؤونه.

إذا عرفت هذا يقع البحث في حدود هذا الحقّ ودائرته.

فنقول: العقل حاكم على أنّ قيمة أغراض المولى ليست أقلّ من قيمة أغراض العبد فكما أنّه يهتمّ بأغراضه حتّى في المحتملات والمشكوكات فيسلك فيها سبيل الاحتياط كذلك يجب عليه الاحتياط في طريق النيل إلى أغراض المولى المحتملة والمشكوكة، ففي صورة الشك وعدم البيان الذي هو محلّ النزاع في المقام يحكم العقل بوجوب الاحتياط وقبح المعصية وحسن العقاب عكس ما ذهب إليه المشهور من قبح العقاب بلا بيان.

نعم إلى هنا ظهر عدم كون القاعدة قاعدة عقليّة، ولكن الحقّ إنّها قاعدة عقلائيّة جرت عليها سيرتهم وأمضاها الشارع بعدم ردعه منها كما نرى بين العبيد والموالي والملوك وأتباعهم والرؤساء ومن يكون تحت رياستهم، فإنّ بناءهم على عدم عقاب العبد ما لم يبيّن المولى مقاصده وأغراضه، وعلى عدم عقاب المرؤسين والرعايا ما لم يبلغ إليهم أغراضهم، وعليه تكون القاعدة قاعدة عقلائيّة لا عقليّة.

وإن شئت قلت: لولا بناء العقلاء على عدم العقاب بلا بيان وإمضاء الشارع لهذا البناء لم يقبح في حكم العقل العقاب بدونه، فوقع الخلط هنا بين الأحكام العقليّة المبنية على مسألة الحسن والقبح والأحكام العقلائيّة الناشئة عن تشريعاتهم وقوانينهم، والفرق بينهما ظاهر كما أنّ آثارهما مختلفة وستأتي الإشارة إليها عن قريب إن شاء اللَّه.

لكن للمحقّق النائيني رحمه الله هنا بيان حاصله: إنّ الأحكام بوجودها الاحتمالي ليست لها محرّكية

وباعثيّة، فيكون المكلّف حينئذٍ كالعاجز والمضطرّ، وتكليفه تكليفاً بما لا يطاق، وإليك نصّ كلامه: «لا يكفي في صحّة المؤاخذة واستحقاق العقوبة مجرّد البيان الواقعي مع عدم وصوله إلى المكلّف فإنّ وجود البيان الواقعي كعدمه غير قابل لأن يكون باعثاً ومحرّكاً لإرادة العبد ما لم يصل إليه ويكون له وجود علمي ...» «1».

أقول: الإنصاف أنّ هذه مصادرة على المطلوب، لأنّا نعلم أنّ للأحكام بوجودها

انوار الأصول، ج 3، ص: 47

الاحتماليّة باعثيّة ومحرّكية كما في سائر الأغراض والمصالح والمفاسد والمضارّ والمنافع وإلّا يلزم تعطيل الزراعات والتجارات والصناعات وغيرها حيث إنّ الحصول على المنفعة فيها أمر احتمالي في الغالب فكما يتحرّك العبد في منافعه الشخصيّة بالاحتمال والظنّ كذلك يمكن أن يتحرّك وينبعث في المنافع الاحتماليّة لمولاه.

وللمحقّق الأصفهاني رحمه الله هنا بيانان: أحدهما: مبنيّ على ما تبنّاه في حقيقة الحكم فقال:

«إنّ الحكم الحقيقي متقوّم بنحو من أنحاء الوصول لعدم معقوليّة الإنشاء الواقعي في إنقداح الداعي، وحينئذٍ فلا تكليف حقيقي مع عدم الوصول فلا مخالف للتكليف الحقيقي فلا عقاب» «1».

الثاني: ما حاصله إنّ الواجب على العبد إنّما هو عدم الخروج عن رسم العبودية، ومخالفة ما قامت عليه الحجّة خروج عن رسم العبوديّة «2».

أقول: أمّا البيان الأوّل فمبناه غير مقبول، لأنّ للحكم مراحل، وكلامه بالنسبة إلى بعض مراحله ليس تامّاً فإنّه إذا تيقّن العبد بغرض المولى فهو مسؤول في قباله بحكم العقل وإن لم يبيّن المولى غرضه ولم يصدق عليه عنوان الحكم، وبتعبير آخر: سلّمنا أنّ الحكم متقوّم بالبيان ولكن الأغراض ليست متقوّمة به (على الأقل الأغراض اليقينية) وما ذهب إليه صحيح إذا دار وجوب الإطاعة مدار الأحكام فقط لا الأحكام والأغراض كليهما مع أنّ الصحيح هو الثاني لا الأوّل.

وأمّا البيان الثاني فإنّه

أيضاً مصادرة على المطلوب لأنّا نعتقد بأنّ لاخروج عن رسم العبوديّة كما يصدق بمخالفة ما قامت عليه الحجّة كذلك يصدق في المحتملات والمشكوكات.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ العقل لا يحكم بقاعدة قبح العقاب بلا بيان بل يحكم بخلافه، نعم إنّها قاعدة عقلائيّة استقرّ عليها بناء العقلاء، والفرق بين الصورتين إنّه إذا كانت القاعدة قاعدة عقليّة فلا معنى لتحديدها والاستثناء منها بالنسبة إلى مورد دون مورد لأنّ القاعدة العقليّة لا استثناء فيها ولا تخصيص ما دام الموضوع باقياً بخلاف القاعدة العقلائيّة فإنّه لابدّ من تعيين حدودها وقيودها، وهى في المقام أربعة على الأقل:

انوار الأصول، ج 3، ص: 48

أحدها: أن يكون المولى قادراً على البيان وإلّا لو كان المولى محبوساً مثلًا غير قادر على بيان غرضه والعبد يعلم به أو يحتمله فلا يكون عند العقلاء مرخّصاً بالإعتذار بعدم البيان.

ثانيها: أن لا يكون المورد من المسائل الهامّة الأساسية كما إذا دخل في دار المولى من يحتمل أن يكون هلاك المولى بيده، فعلى العبد منعه بكلّ ما يقدر عليه وإن لم يصدر من المولى بيان فيه.

ثالثها: أن يكون المورد من الموارد التي ممنوعها أقلّ من مجازها، وواجبها أقلّ من مباحها، وإلّا لو كان مشكوك الحرمة من الحيوانات البحرية مثلًا التي أكثرها حرام، فلعلّ بناء العقلاء لم يستقرّ على البراءة في أمثالها، فإنّ الظاهر أنّ بناء العقلاء نشأ من كون الواجبات والمحرّمات في مقابل المباحات قليلًا جدّاً فالمحتاج إلى البيان إنّما هو الواجبات والمحرّمات، ولو إنعكس الأمر في مورد وكانت محرّماته أكثر من مباحاته لم يكن لهم بناءً على البيان فيه، ولا أقلّ من الشكّ وعدم ثبوت بناءٍ في أمثال المقام، ومعه لا يصحّ الاستدلال به.

رابعها: أن يكون من المسائل

المبتلى بها، فلو كان الإبتلاء نادراً في مورد لكان الحكم باستقرار بنائهم عليه مشكل فيه جدّاً.

ثمّ إنّ هيهنا إشكالًا معروفاً، وهو أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان مورودة لقاعدة وجوب دفع الضرر، فيكفي في البيان حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل، فإنّ الشكّ في التكليف يلازم الشكّ في الضرر، والعقل يستقلّ بلزوم دفع الضرر المحتمل فهو بيان عقلي فيرتفع موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.

واجيب عنه بوجوه:

منها: أنّ المراد بالضرر (الذي هو موضوع القاعدة) أمّا الضرر الدنيوي وأمّا الضرر الاخروي، والمقصود بالضرر الاخروي أمّا العقاب الموعود من جانب الشارع جزاءً للأعمال، وأمّا الآثار الوضعيّة القهريّة للعمل التي يعبّر عنه بتجسّم الأعمال، فإن كان المراد العقاب الاخروي بالمعنى الأوّل فلا موضوع لهذه القاعدة في المقام لأنّ احتمال التكليف لا يلازم احتمال العقاب بل الملازمة إنّما هى ثابتة بين التكليف الواصل واستحقاق العقوبة على مخالفته لالانّه مع عدم وصول التكليف والبيان يستقلّ العقل بقبح العقاب، وبه لا يثبت موضوع قاعدة دفع انوار الأصول، ج 3، ص: 49

الضرر المحتمل، فتكون قاعدة قبح العقاب بلا بيان واردة على قاعدة دفع الضرر عكس ما توهّمه المستشكل.

هذا- وهنا جواب آخر في كلمات المحقّق النائيني رحمه الله وهو «أنّ حكم العقل بلزوم دفع المقطوع والمظنون والمحتمل من الضرر يكون للإرشاد لا يستتبع حكماً مولوياً شرعياً على طبقه لأنّ حكم العقل في باب العقاب الاخروي واقع في سلسلة معلولات الأحكام، وكلّ حكم عقلي وقع في هذه السلسلة لا يستتبع الحكم المولوي الشرعي وليس مورد القاعدة الملازمة وإلّا يلزم التسلسل، فحكم العقل بلزوم دفع الضرر المظنون بل المحتمل يكون إرشادياً وطريقياً لا يترتّب على مخالفته سوى ما يترتّب على المرشد إليه» «1».

وإن كان المراد

من الضرر العقاب الاخروي بالمعنى الثاني فاجيب عنه بأنّ هذه الآثار ليست مترتّبة على نفس الأعمال بل إنّها تترتّب على الإطاعة والعصيان لا غير، والأفعال الطبيعيّة التي لم توجب إطاعة أو معصية وبعداً أو قرباً لا أثر لها من هذه الجهة.

وإن اريد بالضرر الضرر الدنيوي فاجيب عنه أيضاً بأنّ الكبرى والصغرى كلتيهما ممنوعتان:

أمّا الكبرى: فلأنّه ليس كلّ ضرر ممّا يحكم العقل بلزوم دفعه بل هناك أضرار طفيفة يتحمّلها العقلاء لأجل أغراض دنيوية غير ضرورية وإن كان الضرر من المقطوع فضلًا عن المحتمل.

وأمّا الصغرى: فلأنّه ليس مناطات الأحكام دائماً هى الضرر بل المصالح والمفاسد (التي تكون مناطات الأحكام غالباً) لا تكون من سنخ الضرر، والذي يلازم احتمال الحرمة إنّما هو احتمال المفسدة لا احتمال الضرر، ولا ملازمة بين الضرر والمفسدة، بل ربّ مفسدة توجب المنفعة فضلًا عن الضرر كما في أكل الربا، وربّ مصلحة توجب الضرر فضلًا عن المنفعة كما في الإنفاق في سبيل اللَّه تعالى.

لكن الإنصاف أنّ الكبرى والصغرى كلتيهما تامّتان في الجملة لا بالجملة:

أمّا الكبرى: فلأنّ الأضرار الدنيويّة على قسمين: مهمّة وغير مهمّة، والعقل يحكم فيما إذا

انوار الأصول، ج 3، ص: 50

كان الضرر المحتمل مهمّاً بلزوم الدفع كضرر النفس أو العرض أو المال الكثير فلا محالة يستكشف منه حكم شرعي مولوي بلزوم الإجتناب عنه بقاعدة الملازمة، ويصير هذا بنفسه بياناً يرفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان وتكون قاعدة دفع الضرر المحتمل في مثل هذا المورد واردة على هذه القاعدة، ولكن لا تجري هذه القاعدة بالنسبة إلى الأضرار غير المهمّة، فلا يثبت بها مراد المستشكل، هذا بناءً على مبنى القول من كونها قاعدة عقليّة، وأمّا بناءً على ما اخترناه من كونها قاعدة عقلائيّة فالأمر أوضح

لأنّ بناء العقلاء جارٍ على عدم الاعتناء باحتمال الضرر إلّاأن يكون ضرراً هامّاً كما مرّ نظيره في حكم العقل بناءً على مبنى القوم.

وأمّا الصغرى: فلوجود الملازمة بين المفسدة والضرر وبين المصلحة والمنفعة في جميع الموارد، والعجب من مثل شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله حيث قال بعدمها في البحث عن قاعدة لا ضرر، لأنّ مثل الإنفاق في سبيل اللَّه يوجب رفع العداوة والبغضاء ودفع الفوضى في المجتمع الإنساني، وعدم الإنفاق وبالنتيجة وجود الفقر يوجب إختلال النظام وهلاك جميع الأفراد حتّى الممتنع من الإنفاق وضياع جميع الأموال حتّى أموال الممتنع.

ولذلك قد ورد في الحديث: «حصّنوا أموالكم بالزكاة» وفي حديث آخر «إذا بخل الغني بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه» (ومن المعلوم أنّه إذا باع آخرته بدنياه لا يمتنع عن أي جرم من السرقة وقتل النفوس وإضاعة الأموال وغيرها).

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ بعض الأعاظم أجاب عن الإشكال بالنقض «باتّفاق العلماء من الاصوليين والأخباريين بل العقلاء أجمع على عدم لزوم الإجتناب عمّا يحتمل وجود المفسدة فيه في الشبهة الموضوعيّة وأنّه لو كان العقل مستقلًا بوجوب دفع المفسدة المحتملة كان الاحتياط واجباً فيها أيضاً إذ لا فرق بين الشبهة الحكميّة والموضوعيّة من هذه الجهة» «1».

وقال في تهذيب الاصول: «أضف إلى ذلك: أنّ الشبهة الموضوعيّة والوجوبيّة مشتركتان مع الشبهة التحريميّة في هذه التوالي المدّعاة، فلو كانت للأفعال لوازم قهرية مؤذية لصاحبها

انوار الأصول، ج 3، ص: 51

لكان على الشارع الرؤوف الرحيم إيجاب الاحتياط حتّى يصون صاحبها عن هذه اللوازم القهرية، فالترخيص فيها إجماعاً بل ضرورة دليل على بطلان تلك المزعمة وإنّه ليس هيهنا ضرر اخروي أو دنيوي واجب الدفع كما لا يخفى» «1».

ولكن يمكن الجواب عنه بأنّ ترخيص الشارع في الشبهة الموضوعيّة والوجوبيّة إنّما

يكون من باب تعارض المفسدة المحتملة فيها مع مصلحة أهمّ مثل رفع العسر والحرج وإيجاد التسهيل للعباد لا من باب التخصيص في قاعدة عقليّة حتّى يقال بأنّ القواعد العقليّة لا يمكن تخصيصها حيث إنّ العقل- أساساً- يحكم بوجوب دفع الضرر المحتمل ما لم يعارض ضرراً أقوى.

هذا كلّه في دليل العقل.

الرابع: الإجماع

ويمكن تقريره بوجوه ثلاثة:

الأوّل: الإجماع القولي من العلماء كلّهم على البراءة في ما لم يرد فيه دليل عام أو خاصّ على تحريمه.

وهذا المعنى تامّ ولكن لا ينفع في مقابل دعوى الأخباريين في الحكم بالاحتياط بدليل عام لو تمّ دليلهم.

الثاني: الإجماع القولي على البراءة ما لم يرد دليل خاصّ على التحريم.

وهذا الوجه غير تامّ لأنّ المحدّثين يدّعون وجود دليل عامّ على التحريم.

الثالث: الإجماع العملي على البراءة حيث إنّ العلماء في مقام العمل يطالبون بدليل من مدّعي الحرمة، وهذا دليل على أنّ المركوز في أذهانهم أنّ الأصل هو البراءة ما لم يرد ما يدلّ على الحرمة.

وفيه أيضاً: أنّ هذا صحيح إذا كان المراد عدم ورود الدليل الخاصّ والعام معاً وإلّا لو

انوار الأصول، ج 3، ص: 52

كان المقصود عدم ورود الدليل الخاصّ فقط فيرد عليه ما اورد على الوجه الثاني.

لكن المهمّ في الإشكال أنّ الإجمال في مثل المقام ليس بحجّة لقوّة استناد المجمعين إلى بعض الوجوه العقليّة أو النقليّة المستدلّ بها على البراءة فلا كاشفية له عن قول المعصوم عليه السلام.

وهيهنا دليل خامس ذكره الشيخ الأعظم رحمه الله في الرسائل وهو التمسّك باستصحاب حال الصغر (أو استصحاب ما قبل الشرع) وقد أورد عليه الشيخ رحمه الله وغيره بإيرادات عديدة:

منها: أنّ المستصحب أحد امور ثلاثة: إمّا براءة الذمّة، أو عدم المنع من الفعل، أو عدم استحقاق العقاب عليه، والمطلوب في

الآن اللاحق هو القطع بعدم ترتّب العقاب على الفعل أو القطع بالجواز المستلزم للقطع بعدم العقاب، ومن المعلوم أنّ هذا المطلوب لا يترتّب على المستصحبات المذكورة، أمّا عدم ترتّب العقاب على الفعل فلأنّه ليس من اللوازم المجعولة الشرعيّة لتلك المستصحبات حتّى يحكم به الشرع في الظاهر (بأخبار لا تنقض) بل هو من اللوازم العقليّة يحكم به العقل، وأمّا الجواز المستلزم لعدم العقاب فهو وإن كان أمراً قابلًا للجعل (لأنّه أحد الأحكام الخمسة) ويستلزم انتفاء العقاب واقعاً إلّاأنّه ليس لازماً شرعياً للمستصحبات المذكرة بل هو من المقارنات لها إذ إنّ عدم المنع مثلًا لا ينفكّ عن كون الفعل جائزاً بعد العلم بعدم خلوّ فعل المكلّف عن أحد الأحكام الخمسة نظير إثبات وجود أحد الضدّين بنفي الآخر، فيكون الأصل حينئذٍ مثبتاً.

ولكن يجاب عن هذا بأنّ عدم المنع كافٍ للفقيه في الفقه ولا حاجة إلى عنوان الإباحة كما هو ظاهر.

ومنها: عدم بقاء الموضوع للاستصحاب، لأنّ موضوع البراءة في السابق إنّما هو الصغير غير القابل للتكليف، وقد تبدّل بالكبير (وكذلك الكلام بالنسبة إلى ما قبل الشرع وبعده).

أقول: هذا إشكال متين، فإنّ العرف يرى الصغر (وكذلك ما قبل الشرع) من قيود الموضوع، فليس من الحالات المتبادلة بحيث إذا زال لم يزل الحكم.

ومنها: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله من «إنّ العدم حال الصغر يكون من جهة عدم قابلية الصغير للتكليف فكونه مرخى العنان- من فعل أو ترك- ليس من قبل ترخيص الشارع ورفع الإلزام منه بل اللاحرجيّة (العقليّة) للصغير من جهة أنّه كالبهائم والمجانين، ما وضع عليه قلم التكليف قبل البلوغ لعدم قابلية المحل لا أنّه رفع عنهم الإلزام امتناناً عليهم، وهذا العدم انوار الأصول، ج 3، ص: 53

الذي من جهة

عدم قابلية المحل واللاحرجيّة القهريّة يرتفع قهراً بواسطة البلوغ، إذ معنى هذا العدم عدم وضع قلم التكليف عليه وبعد التكليف والبلوغ تبدّل هذا العدم قطعاً ووضع عليه قلم التكليف فلا مورد للاستصحاب» «1».

أقول: إنّ ما ذكره بالنسبة إلى عدم التكليف في غير المميّز صحيح لا غبار عليه إلّاأنّ المستصحب ليس هو هذا العدم بل إنّه العدم المتّصل بزمان البلوغ المتقدّم عليه بزمان يسير.

وإن شئت قلت: إنّه عبارة عن العدم حال كون الصغير مميّزاً ومراهقاً، حيث إنّه لا شكّ في أنّ حال الصبي في هذا الزمان لا يختلف عن حاله أوّل البلوغ من حيث القابلية وعدمها، ولذلك نقول بشرعية عبادات الصبي كما اختاره المحقّقون وإنّه مشمول للخطابات الاستحبابيّة، فإنّه المراد من رفع القلم عند رفع الإلزام عنه، أي رفع الواجبات والمحرّمات، كما أنّه مقتضى التعبير بالرفع المقابل للوضع حيث يناسب وجود أمر ثقيل يثقل على عاتق المكلّف كما مرّ بيانه في حديث الرفع.

ومنها: أنّ استصحاب عدم الحرمة معارض مع استصحاب عدم الإباحة، لأنّ المرفوع قبل البلوغ جميع الأحكام الخمسة حتّى الإباحة.

وقد ظهر جوابه ممّا مرّ آنفاً من أنّ المرفوع في حديث رفع القلم إنّما هو خصوص الإلزامات، مضافاً إلى أنّ التعارض يتصوّر فيما إذا كانت الإباحة من الامور الوجودية القابلة للجعل لا ما إذا كانت من الامور العدمية وعبارة عن مجرّد عدم الحرمة والوجوب كما قيل.

ومنها: ما سيأتي من المختار في مبحث الاستصحاب من عدم حجّية الاستصحاب في الشبهات الحكميّة خلافاً لما ذهب إليه مشهور الاصوليين بعد الشيخ رحمه الله.

هذا كلّه هو أدلّة الاصوليين للبراءة في الشبهات الحكميّة التحريميّة، وحاصل أكثرها عدم العقاب بلا بيان، ولذا لا موضوع لها في صورة تمامية أدلّة الأخباريين، والتعبير بالأكثر

يكون في مقابل بعض تلك الأدلّة من قبيل رواية «كلّ شي ء مطلق حتّى يرد فيه نهي» بناءً على أنّ المراد من مرجع الضمير في كلمة «فيه» النهي الخاصّ. إذ إنّه لا حكومة لأدلّة أخباريين على هذا الدليل وأمثاله كما هو واضح.

انوار الأصول، ج 3، ص: 54

فالمهمّ حينئذٍ التعرّض لأدلّة الأخباريين والبحث حولها.

أدلّة الأخباريين على وجوب الاحتياط:
اشارة

وقد استدلّ لهم بالأدلّة الثلاثة: الآيات والروايات والعقل.

الأوّل: الآيات

أمّا الآيات: فهى على طوائف:

الطائفة الاولى: ما أمر فيها بالتقوى وهى كثيرة (تسعة وستّون آية منها وردت بصيغة «اتّقوا»، وخمس آيات بصيغة «اتّقون» وأربع آيات بصيغة «اتّقوه»).

والأصرح منها قوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وتقريب الاستدلال بهذه الطائفة أنّ الاحتياط في الشبهات مصداق من مصاديق التقوى والتقوى، واجب بظاهر هذه الآيات لأنّ الأمر ظاهر في الوجوب.

وقبل الجواب عن هذه الطائفة ينبغي بيان معنى التقوى في اللغة فنقول: إنّها اسم مصدر من مادّة الوقاية على وزن فَعْلى، أصلها وَقْى فأُبدلت الواو بالتاء والتاء بالواو «1»، وهى كما في قاموس اللغة بمعنى الاجتناب والحذر عن كلّ ما يحذر منه، وهذا لا بأس به إذا كان مفعولها غير الباري تعالى، كقوله تعالى: «فاتّقوا يوماً» أو «فاتّقوا النار التي ...» أو «اتّقوا فتنة لا تصيبنّ ...» وأمّا إذا كان المفعول وجود الباري كقوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ»، فلابدّ من تقدير فيها كما ذكره المفسّرون لعدم كونه تعالى ممّن يحذر منه كما لا يخفى، وهذا بنفسه قرينة على تقدير شي ء نحو عصيان اللَّه (فاتّقوا عصيان اللَّه) أو عذاب اللَّه أو حساب اللَّه، كما ورد في قوله تعالى: «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ...».

هذا كلّه في معنى الكلمة.

ثمّ نقول: يرد على الاستدلال بالطائفة المزبورة على الاحتياط أنّه يمكن النقاش في انوار الأصول، ج 3، ص: 55

صغرى كون الاحتياط في الشبهات من مصاديق التقوى الواجبة، فإنّها عبارة عن الإتيان بالواجبات والاجتناب عن المحرّمات، وأمّا ترك الشبهات فهو مرتبة عالية من التقوى ولا دليل على وجوبها بجميع مراتبها كما أنّ الاجتناب عن المكروهات أيضاً من مراتبه وهو غير واجب.

الطائفة الثانية: ما دلّ على النهي عن

القول بغير علم:

منها قوله تعالى: «إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَاتَعْلَمُونَ» «1».

ومنها قوله تعالى: «قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ... وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ» «2».

وتقريب الاستدلال بها أنّ الحكم بترخيص الشارع لمحتمل الحرمة إفتراء وقول عليه بغير علم حيث إنّه لم يأذن فيه.

والجواب عنها: أنّ الترخيص في محتمل الحرمة حكم ظاهري ثابت بأدلّة قطعيّة، فليس هو قو بغير علم بل إنّه صادق في الحكم بوجوب الاحتياط لعدم دليل عليه.

الطائفة الثالثة: ما دلّ على النهي عن الإلقاء في التهلكة، وهى قوله تعالى: «وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» «3»

بتقريب أنّ الإقدام في الشبهات مصداق من مصاديق الإلقاء في التهلكة.

ويرد عليه: أنّ الاستدلال بها غير تامّ صغرى وكبرى، أمّا الصغرى، فلأنّ كون إرتكاب المشتبهات من مصاديق الإلقاء في التهلكة أوّل الدعوى ومصادرة بالمطلوب لعدم دليل عليه، وأمّا الكبرى، فلأنّ النهي الوارد في هذه الآية يكون من قبيل النواهي الواردة في باب الإطاعة لأنّ التهلكة عبارة عن العقاب الاخروي الناشي ء من العصيان، وقد مرّ في مبحث الأوامر والنواهي أنّ الواردة منها في باب الإطاعة إرشاديّة وإلّا يلزم التسلسل المحال، فلا دلالة لهذه الآية على الحرمة، هذا إذا كان المراد من التهلكة ما ذكرنا من العقاب الاخروي، وأمّا إذا كان بمعنى الهلاكة الدنيويّة فلا ربط لها بالمقام كما لا يخفى.

انوار الأصول، ج 3، ص: 56

ثمّ لا يخفى عليك الربط بين صدر الآية «وأنفقوا في سبيل اللَّه» وذيلها «ولا تلقوا ...» فالمقصود منها ما أشرنا إليه في بعض الأبحاث السابقة من أنّ عدم الإنفاق وبالنتيجة إيجاد الفقر في المجتمع يوجب الفوضى واختلال النظام وهلاك جميع الأفراد حتّى الممتنع من الإنفاق، فعدم الإنفاق

في سبيل اللَّه يوجب إلقاء أنفسكم في الهلكة ضمن إلقاء المجتمع فيها.

هذا كلّه في استدلال الأخباريين على الاحتياط بالآيات.

الثاني: الروايات

أمّا الروايات فهى كثيرة جمع عمدتها صاحب الوسائل في كتاب القضاء في الباب الثاني عشر من أبواب صفات القاضي، وهى في الواقع على ثمانية طوائف.

الطائفة الاولى: ما ورد في الشبهات قبل الفحص مثل صحيحة عبدالرحمن بن الحجّاج قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجلين أصابا صيداً وهما محرمان، الجزاء بينها، أو على كلّ واحد منهما؟ قال: «لا بل عليهما أن يجزي كلّ واحد منهما الصيد». قلت: إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه فقال: «إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا عنه فتعلموا» «1» وفي هذا المعنى روايات اخرى في نفس الباب كالرواية 3 و 23 و 29 و 31 و 43.

الطائفة الثانية: ما تتضمّن أنّ إجتناب الشبهات يوجب القدرة على ترك المحرّمات، وقد علّل فيها ذلك بأنّ المعاصي حمى اللَّه فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها.

منها: ما رواه الصدوق قال: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام خطب الناس فقال في كلام ذكره:

«حلال بيّن وحرام بيّن، وشبهات بين ذلك، فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له اترك، والمعاصي حمى اللَّه فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها».

وفي هذا المعنى أيضاً روايات في نفس الباب كالرواية 22 و 39 و 47 و 61.

والجواب عنها: أنّه لا إشكال في أنّها أوامر استحبابيّة إرشاديّة كما لا يخفى.

الطائفة الثالثة: ما أمر فيها بالورع:

انوار الأصول، ج 3، ص: 57

منها: ما ورد في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام: «لا ورع كالوقوف عند الشبهة» «1».

وفي هذا المعنى أيضاً روايات عديدة كالرواية 24 و

25 و 33 و 41 و 57.

والجواب عنها: أنّ التعبير بالورع بنفسه قرينة على الاستحباب لأنّ الورع ليس واجباً كما مرّ آنفاً.

الطائفة الرابعة: ما ورد في الشبهات الموضوعيّة التي لا إشكال في البراءة فيها حتّى عند الأخباري:

منها: ما رواه السيّد الرضي رحمه الله في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام في كتابه إلى عثمان بن حنيف عامله على البصرة: «أمّا بعد يابن حنيف فقد بلغني أنّ رجلًا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها، تستطاب لك الألوان وتنقل عليك (إليك) الجفان وما ظننت إنّك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوّ وغنيّهم مدعوّ، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم فما اشتبه عليك علمه فالفظه وما أيقنت بطيب وجوهه فَنَل منه» «2».

وفي هذا المعنى رواية اخرى وهى الرواية 18 من نفس الباب.

ويرد عليها: مضافاً إلى أنّها ناظرة إلى الشبهات الموضوعيّة «3» إنّها أخصّ من المدّعى لورودها في حقّ الحكّام والقضاة، ولا يخفى الفرق بينهم وبين غيرهم.

الطائفة الخامسة: ما يكون النظر فيها إلى اصول الدين.

منها: ما رواه زرارة عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «لو أنّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا» «4».

وهناك روايات اخرى في نفس الباب تدلّ على هذا المعنى كالرواية 53.

والجواب عنها: أنّها أيضاً خارجة عن محلّ الكلام لأنّ الكلام في الأحكام الفرعيّة لا الاصوليّة التي يجب فيها العلم واليقين.

انوار الأصول، ج 3، ص: 58

الطائفة السادسة: ما يكون ناظراً إلى حرمة الأخذ بالاستحسان والقياس والاجتهادات الظنّية في مقام الفتوى:

منها: ما رواه السيّد الرضي رحمه الله عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة أنّه قال في خطبة له:

«فياعجباً وما لي لا أعجب عن خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في

دينها لا يقتفون أثر نبي ولا تقتدون بعمل وصي، يعملون في الشبهات ويسيرون في الشهوات، المعروف فيهم ما عرفوا والمنكر عندهم ما أنكروا، مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم، وتعويلهم في المبهمات على آرائهم، كأنّ كلّ امرى ء منهم إمام نفسه، قد أخذ منها فيما يرى بعرى وثيقات وأسباب محكمات» «1».

وفي معناها رواية اخرى وهى الرواية 54 من الباب.

وهذه الطائفة أيضاً خارجة عن محل البحث، فإنّ حرمة العمل بالقياس والأخذ بالآراء الظنّية والاستحسانات ثابتة بأدلّة قطعيّة لا كلام فيها.

الطائفة السابعة: ما يدلّ على لزوم السكوت والكفّ عمّا لا يعلم.

منها: ما رواه هشام بن سالم قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام ما حقّ اللَّه على خلقه؟ قال: «أن يقولوا ما يعلمون ويكفّوا عمّا لا يعلمون فإذا فعلوا ذلك فقد أدّوا إلى اللَّه حقّه» «2».

وفي هذا المعنى الرواية 32 من نفس الباب.

والجواب عنها: أنّها ناظرة إلى الأحكام الواقعيّة ولا معنى لعدم العلم بالنسبة إلى الحكم الظاهري.

الطائفة الثامنة: ما يكون خارجاً عن جميع الطوائف السابقة ويدلّ على مدّعى الأخباريين في بدء النظر.

منها: ما رواه أبو شيبة عن أحدهما عليهما السلام قال في حديث: «الوقوف عند الشبهة خير من الإقتحام في الهلكة» «3».

وبهذا المعنى أيضاً الرواية 15 و 37 و 41 و 56.

واجيب عنها: بأجوبة بعضها تامّ وبعضها غير تامّ:

انوار الأصول، ج 3، ص: 59

الأوّل: أنّ وجوب الاحتياط إمّا أن يكون مقدّمياً، أي وجب الاحتياط لأجل التحرّز عن العقاب على الحكم الواقعي المجهول، أو يكون نفسياً لوجود ملاك في نفس الإحتراز عن الشبهة مع الغضّ عن الحكم الواقعي المجهول، والأوّل مستلزم لترتّب العقاب على التكليف المجهول، وهو مخالف لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، والثاني يستلزم ترتّب العقاب على مخالفة نفس وجوب الاحتياط

لا مخالفة الواقع مع أنّ صريح الأخبار إرادة الهلكة الموجودة على تقدير الحرمة الواقعيّة كما يعترف به الأخباري أيضاً.

وأجاب المحقّق الخراساني رحمه الله عن هذا الوجه بأنّ إيجاب الاحتياط لا نفسي ولا مقدّمي بل يكون طريقيّاً من قبيل الأمر بالطرق والأمارات وبعض الاصول كالاستصحاب، ومعه لا يحكم العقل بقبح العقاب، أي وجوب الاحتياط يكون حينئذٍ وارداً على قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

أقول: بناءً على ما اخترناه من كون القاعدة عقلائيّة (لا عقليّة) يكون الجواب أوضح، لأنّها حينئذٍ إنّما تكون حجّة فيما إذا لم يردع الشارع عنها، وأدلّة الاحتياط على فرض دلالتها ردع عنها.

الثاني: أنّ المراد من الهلكة إمّا أن يكون العقوبة الاخرويّة فهى مندفعة بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، أو يكون المراد منها الهلكة الدنيوية فلا يستفاد منها الوجوب.

ويمكن الجواب عن هذا الوجه أيضاً بنفس ما اجيب به عن الوجه السابق، وهو أنّ المراد منها الهلكة الاخروية، ولا تجري حينئذٍ قاعدة قبح العقاب بلا بيان لأنّ أدلّة الاحتياط بنفسها بيان على فرض دلالتها.

الثالث: ما ذكره المحقّق الأصفهاني رحمه الله وحاصله: أنّ روايات التوقّف عند الشبهة وردت في موردين خارجين عن موضع استدلال الأخباري:

أحدهما ما ورد في باب المرجّحات عند تعارض الخبرين، وهو مقبولة عمر بن حنظلة فورد فيها: فقلت جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعاً؟ قال: «ينظر إلى ما هم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر»، قلت: فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعاً؟ قال:

«إذا كان ذلك فارجئه حتّى تلقى إمامك فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الإقتحام في الهلكات» «1».

انوار الأصول، ج 3، ص: 60

فقد وردت هذه الرواية في باب القضاء عند تعارض الأخبار ولا بأس بالالتزام به ولكن البحث في المقام مربوط بباب الفتوى لا

القضاء.

أقول: ياليت أنّه صرف نظره في مقام الجواب عن هذه الرواية إلى قوله عليه السلام «فارجئه حتّى تلقى إمامك» فقط حيث إنّه ناظر إلى الشبهات قبل الفحص وما إذا أمكن لقاء الإمام عليه السلام وهو ليس داخلًا في محلّ النزاع.

ثانيهما: ما رواه مسعدة بن زياد عن جعفر عن آبائه عليه السلام أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال: «لا تجامعوا في النكاح على الشبهة وقفوا عند الشبهة، يقول: إذا بلغك إنّك قد رضعت من لبنها وإنّها لك محرم وما أشبه ذلك فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الإقتحام في الهلكة» «1».

ولا يخفى أنّ موردها هو المفاسد الدنيوية فهى أيضاً خارجة عن محلّ النزاع»

.أقول: وهيهنا رواية ثالثة وهى ما مرّ ذكره من رواية داود بن فرقد، وهى رواية مطلقة لا يمكن الجواب عنها بما ذكره المحقّق الأصفهاني رحمه الله.

الرابع: أنّ أخبار الاحتياط تخصّص بأخبار البراءة لأنّها عامّة في ثلاث جهات من ناحية كون الشبهة موضوعيّة أو حكميّة، ومن ناحية كونها قبل الفحص أو بعده، ومن ناحية كونها من أطراف العلم الإجمالي وعدمه، كما أنّ أدلّة البراءة خاصّة في نفس تلك الجهات.

الخامس: أنّه لو كان الأمر بالاحتياط في هذه الأخبار مولوية فلابدّ من إرتكاب التخصيص فيها بأن يقال: لا خير في الإقتحام في الهلكة بإرتكاب الشبهات إلّاإذا كانت الشبهة موضوعيّة مطلقاً أو حكميّة وجوبيّة، مع أنّ سياقها آبٍ عن التخصيص كما لا يخفى، فلابدّ حينئذٍ من حملها على الإرشاد، والإرشاد في كلّ مورد يكون بحسبه، فيكون في بعض الموارد إرشاداً إلى الاستحباب وفي بعض آخر إرشاداً إلى الوجوب.

نعم يبقى في البين روايتان: إحديهما: ما رواه عبداللَّه بن وضّاح حيث ورد فيها: «أرى لك أن تنتظر حتّى

تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك» «3» ولكن يمكن الجواب عنها بوجوب حملها على الاستحباب بناءً على القول بكفاية استتار القرص في وقت المغرب كما هو الأقوى انوار الأصول، ج 3، ص: 61

ومع قطع النظر عن هذا يكون المورد من موارد العلم بالاشتغال الذي يقتضي البراءة اليقينيّة فإنّ الاشتغال بالصلاة في الوقت مقطوع ولا تحصل البراءة إلّابالقطع بالإمتثال.

وثانيهما: ما رواه الشهيد رحمه الله في الذكرى قال: قال النبي صلى الله عليه و آله: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» «1»، ولكّنها مرسلة لا يمكن الاعتماد عليها.

هذا تمام الكلام في أدلّة الأخباريين من ناحية السنّة.

الثالث: العقل
اشارة

وممّا استدلّ به الاخباريون وجوب الاحتياط في الشبهات التحريميّة سواءً من إعترف منهم بحجّية العقل في الجملة، أو من مال منهم إلى العقل، وتقريبه من وجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: العلم الإجمالي بوجود محرّمات كثيرة فعليّة في جملة المشتبهات فتتنجّز تلك المحرّمات بواسطة العلم الإجمالي، والمعلوم بالإجمال هنا من قبيل الكثير، في الكثير، فيجب الاحتياط في جميع المشتبهات حتّى يحصل العلم بالفراغ.

وأجاب عنه: جميع المحقّقين بأنّ العلم الإجمالي هذا ينحلّ بواسطة قيام الأمارات على المحرّمات الكثيرة في أطراف المعلوم بالإجمال بعد الفحص عن الأدلّة.

وإستشكل على هذا الجواب أوّلًا: بأنّه يعتبر في إنحلال العلم الإجمالي الاتّحاد زماناً بين حصول العلم الإجمالي وحصول العلم التفصيلي بالمقدار المعلوم كما سيأتي وجهه في مبحث الاشتغال، وهذا ليس حاصلًا في المقام لأنّ العلم التفصيلي يوجد بعد الفحص عن الأدلّة.

ولكن يرد عليه: أنّ التقارن والاتّحاد الزماني حاصل في المقام لأنّنا في نفس زمان العلم الإجمالي بوجود محرّمات كثيرة في المشتبهات نعلم بوجود إجماعات وروايات وآيات توجب العلم التفصيلي بتلك المحرّمات وانحلال ذلك العلم الإجمالي.

وثانياً: بأنّ العلم الإجمالي ينحلّ بالعلم التفصيلي

لا الظنّ التفصيلي، بينما الحاصل بظواهر الكتاب وخبر الواحد إنّما هو الظنّ.

ويندفع هذا الإشكال أيضاً بأنّ الموجب للانحلال إنّما هو قيام حجّة تفصيلية سواء

انوار الأصول، ج 3، ص: 62

كانت من قبيل البيّنة والظنّ المعتبر أو القطع واليقين كما سيأتي تفصيله في محلّه إن شاء اللَّه تعالى.

هل الأصل في الأشياء الحظر أو الإباحة؟
اشارة

الوجه الثاني: أنّ الأصل في الأشياء في غير الضروريات الحظر، فإن ورد من الشرع دليل على جوازه فهو، وإلّا فيبقى على ممنوعيته.

توضيح ذلك: أنّ مسألة الحظر أو الإباحة في الأشياء مسألة تلاحظ بلحاظ ما قبل الشرع المقدّس أو مع قطع النظر عنه خلافاً لأصالة البراءة والاحتياط اللتين تلاحظان بلحاظ بعد الشرع، وحينئذ نقول: إذا راجعنا إلى العقل وأحكامه بالنسبة إلى قبل الشرع نجد أنّ الأفعال على ثلاثة أقسام فبعضها من المستقلّات العقليّة يرجع حكمها إلى الحسن والقبح العقليين، وبعضها الآخر يكون من الضروريات كالتنفّس وسدّ الرمق، وقسم ثالث لا يكون من القسم الأوّل ولا من الثاني من قبيل شمّ الرياحين وأكل الفواكه وغيرهما من الرفاهيات ما لم تصبح أمراً ضرورياً، ففي هذا القسم هل يحكم العقل بالإباحة أو يحكم بالحظر. فيه أربعة أقوال:

1- القول بالإباحة وهو المشهور بين القدماء.

2- الحظر.

3- عدم الحكم، أي يحكم العقل بخلوّها عن الحكم مطلقاً، وقد نقل هذا عن الحاجبي.

4- التوقّف عن الحكم، قال به الأشعري.

ثمّ إنّ الفرق بين أصالة الحظر وأصالة الاحتياط، أو الفرق بين أصالة الإباحة والبراءة يتلخّص في امور:

الأوّل: ما أشرنا إليه آنفاً من أنّ الحظر أو الإباحة تلحظ بما قبل الشرع أو مع قطع النظر عن الشرع والاحتياط أو البراءة تلحظ بالنسبة إلى ما بعد الشرع.

الثاني: أنّ الحكم في الأوّل واقعي، فمفاد أصالة الحظر أو الإباحة أنّ الشي ء الفلاني ممنوع أو مباح

واقعاً، بينما الحكم في الثاني ظاهري، فيترتّب العقاب على ترك الاحتياط مثلًا في صورة الإصابة إلى الواقع لا مطلقاً.

انوار الأصول، ج 3، ص: 63

الثالث: أنّ التحريم أو الترخيص بناءً على أصالة الحظر أو الإباحة تحريم أو ترخيص مالكي يحكم به الشارع بما أنّه مالك، بينما التحريم أو الترخيص بناءً على أصالة الاحتياط أو الإباحة تحريم أو ترخيص مولوي يحكم به الشارع بما أنّه مقنّن ومشرّع وبما أنّه مولى.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ عمدة ما استدلّ به القائلون بالحظر مالكية الباري تعالى وأنّ العالم كلّه ملك له والتصرّف في ملك الغير بدون إذنه قبيح عقلًا لا سيّما في المالك الحقيقي، ونتيجته أنّ الأصل في الأشياء الحظر إلّاما أذن اللَّه تعالى به.

ولا يخفى أنّ هذا مبنى على ثبوت الحسن والقبح العقليين والقول بالمستقلّات العقليّة.

وقد اورد على هذا الوجه من ناحية الكبرى والصغرى معاً.

أمّا الكبرى: وهى كون التصرّف في الأشياء تصرّفاً في ملك الغير بدون إذنه.

فيرد عليها أوّلًا: أنّ الإذن حاصل في المقام بدليل الحكم فإنّ الحكمة تقتضي أن يكون خلق الأشياء للانتفاع والتمتّع بها فلا معنى مثلًا لخلق الرياحين والفواكه مع المنع عن أيّ تصرّف فيها للإنسان الذي هو جوهر العالم السفلي.

ثانياً: أنّ اعتبار الإذن يتصوّر فيما إذا صدق التصرّف عرفاً فلا معنى لاعتباره في استماع الخطابة من الخطيب أو شمّ الرياحين مثلًا، لعدم صدق التصرّف عليه عند العرف، كذلك في المقام، فربّما لا يصدق التصرّف العرفي فيه حتّى يقال بأنّه تصرّف في ملك الغير ولا يجوز بدون إذنه كما في النظر إلى الأجنبية، وهذا نظير ما يقال: إنّه يجوز الإستضاءة بنار الغير ونوره والإستظلال بجداره لعدم كونها تصرّفاً عرفاً، وحينئذٍ يصبح الدليل أخصّ من المدّعى.

وثالثاً: أنّه يمكن

أن يستدلّ ببعض الآيات على وجود الإذن من اللَّه بالنسبة إلى تصرّفات عبيده كقوله تعالى: «خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» وقوله تعالى: «وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ».

ورابعاً: الاستدلال بأدلّة البراءة الشرعيّة حيث تدلّ بالالتزام على وجود الإباحة المالكيّة وإن كان مدلولها المطابقي الإباحة الظاهريّة المولويّة.

وأمّا الصغرى: وهى كون العالم ملكاً اعتبارياً للَّه تعالى.

فأورد عليها في تهذيب الاصول بما حاصله: أنّ المفيد بحال الأخباري في المقام إنّما هو المالكية القانونية الاعتباريّة، ولا وجه لاعتبار ملكيّة اعتباريّة للَّه عزّوجلّ، فإنّ اعتبارها

انوار الأصول، ج 3، ص: 64

لابدّ وأن يكون لأغراض حتّى تقوم بها المعيشة الاجتماعيّة، وهو سبحانه أعزّ وأعلى منه، وأمّا المالكيّة التكوينيّة بمعنى أنّ الموجودات والكائنات قائمة بإرادته، مخلوقة بمشيّته، واقعة تحت قبضته تكويناً فلا يمكن للعبد أن يتصرّف في شي ء إلّابإذنه التكويني وإرادته فهى غير مربوطة بالمقام «1».

أقول: أنّ المالكيّة التكوينيّة ليست في عرض المالكيّة القانونيّة بل إنّها أمر فوقها وحينئذٍ تتصوّر المالكيّة الاعتباريّة بالنسبة إلى الباري تعالى بطريق أولى، أي المالكية التكوينية تتضمّن المالكيّة القانونيّة وتكون منشأً لها كما يشهد به استدلال القائلين بالمالكيّة الشخصيّة للإنسان في محصول عمله في مقابل منكريها بأنّ الإنسان مالك تكويناً لنفسه وأعضائه وقواه، فيكون مالكاً لعلمه، وبالنتيجة يكون مالكاً لأمواله، حيث إنّه تجسّد للعمل وتبلور له.

أضف إلى ذلك أنّه يمكن الاستدلال لمالكيّته التشريعيّة مع قطع النظر عن مالكيته التكوينيّة بآية الخمس إذ إنّ مالكيته بالنسبة إلى الخمس في قوله تعالى «للَّهِ خُمُسَهُ» تشريعية بلا ريب لأنّها جعلت في عرض مالكية الأصناف الخمسة الاخرى، فمقتضى وحدة السياق أن تكون مالكيته تعالى من سنخ مالكية سائر الأصناف.

مضافاً إلى أنّه لو كان المراد المالكيّة التكوينيّة فلا معنى لأن يكون خصوص سهم من الخمس ملكاً تكوينياً له

حيث إنّ العالم كلّه ملك له تعالى وكذا الكلام بالنسبة إلى الإنفال وشبهها.

وإن شئت قلت: إذا كان التصرّف في الملك الاعتباري غير جائز عقلًا فعدم جواز التصرّف في الملك التكويني بطريق أولى.

ثمّ إنّه قد يستدلّ على القول بالإباحة في مقابل الحظر بقاعدة قبح العقاب بلا بيان لكن الحقّ أنّه في غير محلّه لأنّ هذه القاعدة تتصوّر بعد أن قام الشارع للبيان ولم يبيّن، بينما المفروض في المقام إنّما هو ما قبل البيان، مضافاً إلى أنّه يمكن أن يكون حكم العقل بعدم جواز التصرّف في ملك الغير بنفسه بياناً.

وهنا كلام للمحقّق الأصفهاني رحمه الله لإثبات أنّ الأصل هو الإباحة لا الحظر، حيث يقول:

انوار الأصول، ج 3، ص: 65

«إنّ المنع تارةً ينشأ عن مفسدة في الفعل تبعث الشارع بما هو مراعٍ لمصالح عباده وحفظهم عن الوقوع في المفاسد على الزجر والردع عمّا فيه المفسدة، وهذا هو المنع الشرعي، لصدوره من الشارع بما هو شارع، وفي قبالة الإباحة الشرعيّة الناشئة عن لا اقتضائيّة الموضوع وخلوّه عن المفسدة والمصلحة، فإنّ سنّة اللَّه ورحمته مقتضية للترخيص في مثله لئلّا يكون العبد في ضيق منه. واخرى لا ينشأ عن مفسدة إمّا لفرض خلوّه عنها، أو لفرض عدم تأثيرها فعلًا في الزجر كما في ما قبل تشريع الشرائع والأحكام في بدو الإسلام بل من حيث إنّه مالك للعبد وناصيته بيده يمنعه عن كلّ فعل إلى أن يقع موقع حكم من الأحكام حتّى يكون صدوره ووروده عن رأي مولاه، فهذا منع مالكي لا شرعي، وفي قباله الإباحة المالكيّة وهو الترخيص من قبل المالك لئلّا يكون في ضيق منه إلى أن يقع الفعل موقع حكم من الأحكام، فنقول: حيث إنّ الشارع كلّ تكاليفه منبعث عن

المصالح والمفاسد لانحصار أغراضه المولويّة فيها فليس له إلّازجر تشريعي أو ترخيص كذلك، فمنعه وترخيصه لا ينبعثان إلّاعمّا ذكر، ولا محالة إذا فرض خلوّ الفعل عن الحكم بقول مطلق، أعني الحكم الذي قام بصدد تبليغه وإن كان لا يخلو موضوع من الموضوعات من حكم واقعي وحياً أو إلهاماً فليس الفعل منافياً لغرض المولى بما هو شارع فليس فعله خروجاً عن زيّ الرقّية، ومنه يتبيّن أنّ الأصل فيه هو الإباحة لا الحظر، فإنّ عدم الإذن المفروض في الموضوع لا يؤثّر عقلًا في المنع العقلي إلّا باعتبار كون الفعل معه خروجاً عن زي الرقّية، وحيث إنّه فرض فيه عدم المنع شرعاً فلا يكون خروجاً عن زيّ الرقّية إذ فعل ما لا ينافي غرض المولى بوجهٍ من الوجوه بل كان وجوده وعدمه على حدّ سواء لا يكون خروجاً عن زي الرقّية» «1».

فملخّص كلامه أنّه بما أنّ كلّ تكاليف الشارع صادرة عن المصالح والمفاسد فإذا فرض خلوّ الواقع عن الحكم كما في ما قبل الشرع فلا يكون فعل العبد حينئذٍ خروجاً عن زي الرقّية فيكون الأصل في هذه الحالة الإباحة، فيكون لازم كلامه أنّ مالكيّة اللَّه تعالى مندكّة في مولويته، أي كلّ ما هو وظيفة للعباد يكون من طريق مولويته لا مالكيته لأنّ أغراضه منحصرة في المصالح والمفاسد التشريعيّة، وحيث إنّ المفروض عدم وصول حكم من ناحية

انوار الأصول، ج 3، ص: 66

مولويته إلى العبد في ما قبل الشرع فلا يكون فعل العبد خروجاً عن زيّ العبوديّة فيكون الأصل هو الإباحة.

أقول: هذا الكلام أيضاً غير تامّ لأنّ المولويّة والمالكيّة وصفان مختلفان، فالعبد الذي يخرج إلى السفر بدون إذن المولى تارةً يركب مثلًا على مركب المولى ويخرج إلى السفر، واخرى يركب على

مركب غيره، ففي كلتا الحالتين خرج عن زي عبوديّة المولى، لكنّه في الحالة الاولى فعل معصية اخرى، وهو الخروج عن مالكيّة المولى ونقض مالكيته أيضاً.

وبعبارة اخرى: أنّ للمولى مالكيّة على العبد ولازمها حرمة الخروج إلى السفر بدون إذنه، ومالكيّة على الفرس ولازمها حرمة الركوب على فرسه بدون إذنه، فكذلك في ما نحن فيه، فكما أنّ العبد مملوك للَّه تعالى كذلك الرياحين والفواكه أيضاً مملوكة له ويكون التصرّف فيها تصرّفاً في ملك الغير بدون إذن، فلكلّ واحد من هذين حكمه ولا يندكّ أحدهما في الآخر. وبعبارة اخرى: أنّ اللَّه تعالى مالك للعباد وتنشأ من هذه المالكيّة وظائف الرقّية والعبوديّة، فهو مولى وهذا عبد، ومالك لما سوى العباد تنشأ منه حرمة التصرّف فيها بغير إذنه ولا ربط لأحدهما بالآخر.

الوجه الثالث:- من الوجوه العقليّة- حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل، وقد تقدّم تفصيل الكلام فيه.

والجواب عنه: بأنّه لو كان المراد من الضرر الضرر الاخروي فلا صغرى لهذه القاعدة لورود قاعدة قبح العقاب بلا بيان عليها، وإن كان المراد الضرر الدنيوي ففي كثير الموارد لا يكون الضرر الدنيوي ملاك الحكم، فاحتمال الضرر لا يكون موجباً للزوم دفعه، هذا أوّلًا.

وثانياً: أنّ هذه القاعدة إرشاد من ناحية العقل كأوامر الطبيب فلا ينشأ منها حكم مولوي.

تنبيهات أصالة البراءة:

وينبغي التنبيه على امور:

التنبيه الأوّل: اشتراط عدم وجود أصل موضوعي (وهو من أهمّها)
اشارة

إنّ أصالة البراءة كسائر الاصول الحكميّة يشترط في جريانها عدم وجود أصل انوار الأصول، ج 3، ص: 67

موضوعي ينقّح حال الموضوع، وإلّا فلو كان في المقام أصل جارٍ من ناحية الموضوع لكان حاكماً على الأصل الحكمي سواء في الشبهة الموضوعيّة أم الحكميّة، فالأولى نظير استصحاب عدم ذهاب ثلثي العصير العنبي فيما إذا شككنا في ذهاب الثلثين وعدمه، فهو حاكم على أصالة الإباحة ومانع

عن جريانها، لأنّه بمنزلة الأصل السببي وأصالة الإباحة أصل مسبّبي، وسيأتي البحث عنهما ولزوم تقديم الأوّل على الثاني، والثانية نظير استصحاب جلل الحيوان فيما إذا شككنا في أنّ إستبراء الجّلال يتحقّق عند الشارع بسبعة أيّام أو بعشرة أيّام، فهو حاكم على أصالة الحلّية لنفس العلّة، وهى أنّ الشكّ في الحلّية مسبّب عن الشكّ في بقاء الجلل وعدمه.

فاستصحاب بقاء الجلل أصل سببي وأصالة الحلّية أصل مسبّبي.

ومن هنا يظهر أنّ المراد من الموضوع في قولك: «الأصل الموضوعي» في المقام ما هو في مقابل الحكم سواء كان موضوعاً جزئيّاً كما في المثال الأوّل في الشبهة الموضوعيّة، أو موضوعاً كلّياً كما في المثال الثاني في الشبهة الحكميّة، فليس المراد منه الموضوع الخارجي حتّى يكون جزئياً في جميع الموارد وتكون الشبهة موضوعيّة دائماً.

كما يظهر ضعف ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله في المقام حيث قال: إنّ المراد من الأصل الموضوعي في ما نحن فيه ليس خصوص الأصل الجاري في الموضوع مقابل الحكم الشرعي، بل كلّ أصل محرز متكفّل للتنزيل يكون حاكماً على أصالتي البراءة والاشتغال، وقال في صدر كلامه: «ونعني ب (الأصل المتكفّل للتنزيل) أن يكون مفاد الأصل إثبات المؤدّى بتنزيله منزلة الواقع بحسب الجري العملي سواء كان المؤدّى موضوعاً خارجياً أو حكماً شرعيّاً» «1».

أقول: الظاهر إنحصار هذا الأصل (المتكفّل للتنزيل على مبناه) في الاستصحاب، وأمّا وجه ضعف كلامه هذا أنّه ينتقض بجميع الموارد التي يقدم فيه الاستصحاب على البراءة مع عدم كونه أصلًا موضوعياً بالنسبة إليها ومن قبيل السبب بالنسبة إلى مسبّبه، بل الوجه في تقدّمه عليها إنّما هو أخصّية أدلّة الاستصحاب بالنسبة إلى أدلّة البراءة (كما سيأتي في محلّه) نظير ما إذا شككنا في حلّية شي ء مع العلم

بأنّ حالته السابقة هى الحرمة فاستصحاب الحرمة

انوار الأصول، ج 3، ص: 68

فيه مقدّم على أصالة الحلّية لا من باب أنّه من قبيل الأصل الموضوعي وما إذا كان الشكّ في حكم الحلّية ناشئاً من الشكّ في موضوعه، بل لما ذكرنا من أخصّية أدلّة الاستصحاب.

والظاهر أنّه وقع الخلط في كلام هذا المحقّق رحمه الله بين مسألة تقدّم الاستصحاب على البراءة ومسألة تقدّم الاصول الموضوعيّة على الحكميّة.

وممّا يؤيّد ما ذكرنا أنّ الاصول الموضوعيّة مقدّمة على الحكميّة من دون فرق بين الاستصحاب وسائر الاصول الجارية في الموضوعات كأصالة الحلّية الجارية في الحيوان، فيجوز كون أجزاؤه في بدن المصلّى وهو مقدّم على أصالة الاشتغال بالصلاة.

الكلام في أصالة عدم التذكية

ثمّ إنّه قد وقع بحث طويل بين الأعلام بمناسبة تمثيلهم للأصل الموضوعي بأصالة عدم التذكية في جريان أصالة عدم التذكية في حيوان شكّ في قابليته للتذكية، أو في وقوع التذكية الشرعيّة عليه للشكّ في اختلال بعض الامور الدخيلة في تحقّقها.

ولابدّ لتوضيح البحث من بيان حقيقة التذكية فنقول: يحتمل فيها ثلاث احتمالات:

1- أن تكون أمراً بسيطاً مسبّباً عن شيئين: أحدهما: الذبح الشرعي، والثاني: قابلية الحيوان للتذكية، فتكون التذكية حينئذٍ أمراً مسببيّاً، وهو الطهارة الحاصلة في الحيوان تبيح أكله.

2- أن تكون أمراً مركّباً من الجزئين المذكورين، فتكون حقيقتها نفس هذا السبب المركّب من جزئين.

3- أن تكون عبارة عن نفس الذبح الشرعي فقط، وأمّا القابلية فهى شرط من شرائطها لا أن تكون جزء لماهيتها.

فعلى المعنى الأوّل: لا إشكال في جريان أصالة عدم التذكية في صورة الشكّ، لأنّ الشكّ في التذكية وعدمها يرجع إلى الشكّ في حصول ذلك الأمر البسيط وعدمه.

وعلى الثاني: لا إشكال في عدم جريانها إلّامن باب أصل العدم الأزلي، لأنّ الجزء الأوّل وهو الذبح الشرعي حاصل بالوجدان،

والجزء الثاني وهو القابلية ليس عدمه متيقّناً في انوار الأصول، ج 3، ص: 69

السابق إلّامن باب العدم الأزلي فتجري حينئذٍ أصالة الطهارة بلا مانع بناءً على ما هو المختار من عدم حجّية أصل العدم الأزلي.

وعلى الثالث: فلا إشكال أيضاً في عدم جريانها لأنّ التذكية وهى خصوص الذبح الشرعي حاصلة بالوجدان والشكّ إنّما هو في حصول بعض شرائطها.

والمحقّق النائيني رحمه الله اختار المعنى الثالث لقوله تعالى: «إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ» إذ إنّ نسبة التذكية إلى الفاعلين تدلّ على أنّها من فعلهم «1».

ولكن يرد عليه: أنّ إسناد الفعل إلى الجزء الأخير من العلّة إسناد شائع، وهذا يناسب المعنى الثاني أيضاً، نعم إنّ أصل مدّعاه تامّ لعدم وجود حقيقة شرعيّة في معنى التذكية، فتحمل على معناها العرفي، ولا إشكال في أنّ مدلولها العرفي إنّما هو المعنى الثالث لأنّ أصلها الذكاء (بالذال) لا الزكاء (بالزاء) كما وقع الخلط بينهما في كلمات بعض الأعاظم، ففي مفردات الراغب:

التذكية (بالذال) في الأصل بمعنى الإضاءة وذكّيت الشاة ذبحتها، وحقيقة التذكية إخراج الحرارة الغريزيّة، بينما التزكية (بالزاء) بمعنى النموّ والبركة والتطهير.

وبالجملة المرجع في المقام هو المعنى العرفي لعدم حقيقة شرعية لها (وما جاء في الشريعة من بعض الشروط فهو خارج عن حقيقتها) والمعنى العرفي إنّما هو المعنى الثالث، وعليه لا تجري أصالة عدم التذكية لأنّها حاصلة بالوجدان.

بقي هنا أمران:

الأوّل: أنّه قد ذكر في كلمات بعضهم أصل آخر يتوهّم حكومته على أصالة الحلّية، وهو استصحاب الحرمة في حال الحياة.

ولكن يمكن الجواب عنه بأمرين:

أحدهما: عدم اتّحاد القضيّة المتيقّنة مع القضية المشكوكة في المقام، لأنّ الموضوع في الاولى هو الحيوان الحيّ، وفي الثانية الحيوان الميّت، ولعلّ الحياة مقوّمة لحرمة الأكل.

ثانيهما: حرمة الأكل في حال الحياة أوّل الكلام لأنّ أكل

الحيوان حيّاً غير ممكن إلّافيما هو صغير جدّاً كالسمكة الصغيرة التي يمكن بلعها لدفع بعض الأمراض على ما هو المعروف انوار الأصول، ج 3، ص: 70

بين الناس، فلا موضوع للحلّية والحرمة حينئذٍ.

الثاني: في جريان أصالة عدم التذكية من ناحية الشبهة الموضوعيّة.

كان البحث إلى هنا في جريان أصالة عدم التذكية من ناحية الشبهة الحكميّة، وأمّا جريانها من ناحية الشبهة الموضوعيّة فيتصوّر له ثلاث صور:

الاولى: في القطعة المطروحة في الطريق التي شكّ في أنّها من الحيوان المذكّى أو غير المذكّى، فلا إشكال في أنّها محكومة بالحرمة لجريان أصالة عدم التذكية فيها بمعانيها الثلاثة كما لا يخفى، وأمّا الرواية «1» الواردة في السفرة المطروحة في الطريق من أنّه يجوز أكل لحمها فالظاهر أنّه لمكان كون البلد بلداً مسلماً، وهو أمارة على الحلّية، ومقدّمة على أصالة عدم التذكية.

الثانية: في القطعة المبانة التي يدور أمرها بين حيوانين، أحدهما مذكّى، والثاني غير مذكّى، ففيها أيضاً تجري أصالة عدم التذكية، نعم أنّها لا تجري بالنسبة إلى نفس القطعة لأنّ التذكية صفة تعرض على كلّ الحيوان لا على بعضه بل لابدّ أن يكون المستصحب عنوان «ما أخذ منه اللحم» فيقال الحيوان الذي يكون منه هذا اللحم كان غير مذكّى، فيستصحب عدم تذكيته الذي من آثاره عدم حلّية هذه القطعة أيضاً.

الثالثة: ما إذا كانت هناك قطعات مختلفة مذكّاة وغير مذكّاة اختلط بعضها ببعض، فهل يجب الاجتناب عنها أو لا؟ فيتصوّر فيها صورتان: تارةً يكون كلا الحيوانين داخلين في محلّ الابتلاء، فلا إشكال في وجوب الإجتناب عن كلّ واحد من تلك القطعات لمكان العلم الإجمالي، واخرى يكون أحدهما خارجاً عن محلّ الابتلاء ففيها وإن لم يكن العلم الإجمالي منجّزاً لكن تجري أصالة عدم التذكية بالنسبة إلى

«ما أخذ منه هذا اللحم» ويحكم بحرمة كلّ قطعة بلا ريب.

فتحصّل من ذلك جريان أصالة عدم التذكية في الشبهة الموضوعيّة بجميع صورها.

ثمّ إنّ هيهنا إشكالًا أورده بعض الأعلام على جريان أصالة عدم التذكية مطلقاً وفي جميع انوار الأصول، ج 3، ص: 71

صورها، وهو «أنّ حقيقة التذكية التي هى فعل المذكّى عبارة عن إزهاق الروح بكيفية خاصّه وشرائط مقرّرة، وهى فري الأوداج الأربعة مع كون الذابح مسلماً، وكون الذبح عن تسمية وإلى القبلة مع آلة خاصّة، وكون المذبوح قابلًا للتذكية، وعدم هذه الحقيقة بعدم الإزهاق بالكيفية الخاصّة والشرائط المقرّرة، ولا إشكال في أنّ هذا الأمر العدمي على نحو «ليس» التامّة ليس موضوعاً للحكم الشرعي، فإنّ هذا المعنى العدمي متحقّق قبل تحقّق الحيوان وفي زمان حياته، ولم يكون موضوعاً للحكم، وما هو الموضوع عبارة عن الميتة، وهى الحيوان الذي زهق روحه بغير الكيفية الخاصّة بنحو الإيجاب العدولي، أو زهوقاً لم يكن بكيفية خاصّة على نحو «ليس» الناقصة أو الموجبة السالبة المحمول وهما غير مسبوقين بالعدم فإنّ زهوق الروح لم يكن في زمان محقّقاً بلا كيفية خاصّة، أو مسلوباً عنه الكيفية الخاصّة فما هو موضوع غير مسبوق بالعدم، وما هو مسبوق به ليس موضوعاً له، واستصحاب النفي التامّ لا يثبت زهوق الروح بالكيفية الخاصّة إلّاعلى الأصل المثبت» «1».

ويرد عليه: أنّ الواسطة في ما نحن فيه خفيّة وأنّ العرف يحكم باتّحاد مفاد ليس التامّة ومفاد ليس الناقصة، وإلّا يلزم نفس الإشكال حتّى بالنسبة إلى مورد أخبار الاستصحاب و هو الوضوء، إذ إنّ الوضوء في حدّ ذاته لا يترتّب عليه أثر ولا يكون موضوعاً للحكم الشرعي، بل الموضوع عبارة عن الصّلاة المقيّدة بالطهارة، فيلزم أن تثبت الصّلاة مع الطهارة باستصحاب الطهارة

بما هى هى، فيكون مثبتاً مع أنّه لا يلتزم به أحد.

وإن شئت قلت: موضوع الحكم هنا (مورد أخبار الاستصحاب) هو مفاد كان الناقصة أي كون الصّلاة متّصفة بالطهارة، مع أنّ الاستصحاب فيه هو مفاد كان التامّة أي بقاء الطهارة، فكما أنّ الاستصحاب بعنوان مفاد كان التامّة يكفي عمّا هو مفاد كان الناقصة، فكذلك الكلام بالنسبة إلى مفاد ليس التامّة وليس الناقصة.

التنبيه الثاني: في حسن الاحتياط، وترتّب الثواب عليه، وإمكان الاحتياط في العبادات
اشارة

فيقع البحث في ثلاث مقامات، وهو في الأوّلين كبروي وفي الثالث صغروي.

أمّا الأوّل: (وهو حسن الاحتياط) فلا إشكال ولا ريب في حسنه عقلًا وشرعاً في الجملة ولم يخالف فيه أحد.

وأمّا الثاني: فالمسلّم عند المحقّق الخراساني رحمه الله وجماعة من الأعاظم ترتّب الثواب على الاحتياط، ولكنّه عندنا محلّ إشكال لأنّ الثواب يتصوّر في الأوامر المولويّة، وأمّا الأوامر الإرشادية التي منها الأمر بالاحتياط فما يترتّب عليها إنّما هو المصلحة المرشد إليها لا غير.

وبعبارة اخرى: أنّ الاحتياط في الواقع نحو من الإنقياد الذي يقابل التجرّي، ولا إشكال في أنّ الإنقياد والتجرّي متساويان في ترتّب الثواب والعقاب وعدمه، فكما أنّ التجرّي لا يترتّب عليه العقاب بناءً على المختار في محلّه، كذلك الإنقياد فلا يترتّب عليه الثواب وإلّا يلزم في صورة الإصابة ترتّب ثوابين وهو مقطوع العدم كما في باب التجرّي بالنسبة إلى ترتّب عقابين.

اللهمّ إلّاأن يقال: إذا احتاط العبد احتراماً للمولى وتعظيماً لأوامره المحتملة فإنّه يستحقّ الثواب بعنوان آخر من باب التعظيم والاحترام كما أنّه في باب التجرّي لو قصد العبد بفعله هتك حرمة المولى ترتّب عليه العقاب بلا إشكال، ولكنّه أمر آخر غير ترتّب الثواب على الإنقياد بما هو الإنقياد وترتّب العقاب على التجرّي بما هو التجرّي الذي هو محلّ البحث.

وهنا كلام للمحقّق العراقي رحمه الله يدّعي

فيه ظهور طائفة من الأخبار الواردة في المقام في المولويّة وترتّب الثواب على الاحتياط من هذه الناحية، نعم يعترف في الغاية بعدم استفادة الاستحباب المولوي النفسي منها نظراً إلى بعد الاستحباب النفسي عن مساق تلك الأخبار، بل المستفاد منها إنّما هو الاستحباب المولوي الطريقي، وإليك نصّ كلامه: «إنّ الأخبار الواردة في المقام على طوائف:

منها: ما يشتمل على عنوان الاحتياط كقوله عليه السلام: أخوك دينك فاحتط لدينك، وقوله عليه السلام: إذا أصبتم بمثل هذا فعليكم بالاحتياط.

ومنها: ما يشتمل على عنوان المشتبه، وهذه الطائفة على صنفين: أحدهما: ما يكون انوار الأصول، ج 3، ص: 73

مذيّلًا بالتعليل بأنّه خير من الإقتحام في الهلكة، وثانيهما: ما لا يكون له هذا الذيل، كقوله عليه السلام:

«من ترك الشبهات كان لما استبان له أترك». أمّا الطائفة الاولى: فلابدّ من حملها على الإرشاد كأوامر الإطاعة والإنقياد، وأمّا الطائفة الثانية: فهى أيضا بمقتضى التعليل الواقع في ذيلها ظاهرة في الإرشاد لكن لا إلى حكم العقل بحسن الإطاعة، بل إلى عدم الوقوع في مخالفة التكاليف الواقعيّة والمفاسد النفس الآمرية نظير أوامر الطبيب ونواهيه، وأمّا الطائفة الثالثة: فهى وإن كانت قابلة للإرشاد وللمولويّة إلّاأنّ ظهورها في المولويّة ينفي الإرشادية، نعم يدور أمرها بين الاستحباب النفسي، أو الطريقي كسائر الأحكام الطريقيّة المجعولة لحفظ الواقعيات المجهولة كما في أوامر الطرق والأمارات على ما بيّناه، وحينئذٍ فظاهر تعلّق الأمر بعنوان المشتبه وإن كان يقتضي كونه مستحبّاً نفسيّاً حكمته إعتياد المكلّف على الترك بنحو يهون عليه الاجتناب عن المحرّمات المعلومة ولكن لا يبعد ترجيح الطريقيّة نظراً إلى بعد الاستحباب النفسي عن مساق تلك الأخبار ... إلى أن قال: فعلى هذا صحّ لنا دعوى عدم استفادة الاستحباب المولوي النفسي من الأخبار الواردة

في المقام حتّى المشتمل منها على عنوان المشتبه» «1».

أقول: إنّ الطائفة الثالثة من الأخبار أيضاً ظاهرة في الإرشاد لا المولويّة، لأنّها ترشدنا إلى أنّ ترك المشتبهات يقوّينا على ترك المحرّمات المعلومة، فهى إرشاد إلى ما يوجب الإجتناب عن المحرّمات، وهو حصول القوّة والعادة على ترك القطعيّة منها.

وأمّا المقام الثالث: (وهو إمكان الاحتياط في العبادات) فاستشكل فيه بما يمكن أن يقرّر بثلاث تقريرات:

الأوّل: أنّه يعتبر في العبادة قصد القربة، وهو يحتاج إلى أمر قطعي، وهو مفقود في المقام.

الثاني: أنّ العبادة فرع الإطاعة، والإطاعة متفرّعة على وجود الأمر. (لكنّه يرجع إلى الأوّل وإن جاء في بعض الكلمات بعنوان بيان مستقلّ).

الثالث: لابدّ في العبادة من الجزم بكون العمل مأموراً به ولا جزم في موارد الاحتياط.

واجيب عنها بامور:

انوار الأصول، ج 3، ص: 74

الأمر الأوّل: من طريق إثبات وجود أمر قطعي في الاحتياط، وذلك بثلاثة طرق:

1- أن يقصد إمتثال أوامر الاحتياط.

وفيه: أنّه قد عرفت أنّ تلك الأوامر إرشاديّة، ولا يصحّ قصد التقرّب بالأوامر الإرشاديّة لعدم حسن ذاتي لمتعلّقاتها بل الحسن والمحبوبيّة إنّما هى في المرشد إليه على فرض وجوده.

2- أن يقال: يترتّب على الاحتياط الثواب وهو يلازم المحبوبيّة الذاتية.

وفيه: منع ترتّب الثواب كما مرّ آنفاً.

هذا مضافاً إلى لزوم الدور، لأنّ لازم ذلك توقّف إمكان الاحتياط على ترتّب الثواب عليه، بينما ترتّب الثواب يتوقّف على إمكان الاحتياط.

3- أن يقصد إطاعة إخبار «من بلغ ...».

ولكن سيأتي أنّ إخبار من بلغ لا تدلّ على المحبوبيّة الذاتيّة وأنّ الثواب الوارد فيها هو من باب التفضّل من اللَّه تعالى لا من باب حصول الاستحقاق، والثواب التفضّلي ليس كاشفاً عن الأمر كما هو وضاح.

الأمر الثاني: ما هو أسوأ حالًا من سابقه، وهو أن يقال: إنّ المراد بالاحتياط

في العبادات هو نفس إتيان ظاهر العمل ولو بدون قصد القربة.

وإشكاله واضح، لأنّه لا محبوبيّة ولا حسن لما أتى به من دون قصد القربة، والإتيان بظاهر العبادة بدون القربة كالجسد بلا روح.

الأمر الثالث: (وهو العمدة) أن يقال بكفاية الاحتمال بل الرجاء في تحقّق قصد القربة، ولا حاجة إلى الأمر القطعي.

توضيح ذلك: قد مرّ في مبحث التعبّدي والتوصّلي أنّ أعمال الإنسان على قسمين: قسم منها من الامور التكوينيّة الحقيقيّة غير الاعتباريّة كالصناعات والتجارات والزراعات وغيرها من الأعمال الاعتياديّة للبشر التي لا دخل فيها ليد الجعل والاعتبار، وقسم آخر يكون من الامور الاعتباريّة المجعولة من قبل العقلاء كجعل رفع القلنسوة أو وضع العمامة مثلًا للاحترام والتعظيم على اختلاف الآداب والعادات، ومن هذا القسم ما يدلّ على نوع خاصّ من الخضوع والتواضع الذي يسمّى بالعبادة وفي اللغة الفارسيّة ب «پرستش»، نظير التواجد

انوار الأصول، ج 3، ص: 75

في عرفات أو الهرولة في مناسك الحجّ أو غسل الوجه واليدين في الوضوء أو الإمساك عن الأكل والشرب في الصيام، ومن هذا النوع ما تكون العبادة ذاتيّة له كالسجود الذي يكفي فيه مجرّد قصد العمل بعنوان السجدة بخلاف غيره من العبادات التي تتميّز عن سائر الأفعال بقصد القربة، ومن دونه لا تتحقّق بعنوان العبادة، كما أنّ عباديتها تحتاج إلى كون العمل حسناً ومحبوباً ذاتاً.

وبالجملة لابدّ في عبادية العمل من تحقّق أمرين: أحدهما: كون العمل محبوباً للَّه تعالى، والثاني: كون الباعث إليه التقرّب إليه سبحانه، فتكون العبادة مركّبة منهما، ولا إشكال في حصول هذين في العبادات الاحتياطيّة، معه لا حاجة إلى أمر وراء ذلك.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمه الله أفاد في المقام بأنّه إذا احتاط المكلّف وأتى بالعمل بقصد الرجاء فإن أصاب الواقع فيقع العمل

عبادة، وإن خالف الواقع فيترتّب عليه الثواب لأنّه إنقياد وإطاعة حكميّة.

وذكر المحقّق الأصفهاني رحمه الله في ذيل كلامه إشكالًا، وهو أنّ المعلول الفعلي يتوقّف على علّة فعلية، ولا يكفيه العلّة التقديرية، فالحركة نحو الفعل لا يعقل استنادها إلى الأمر على تقدير ثبوته بل لابدّ من استنادها إلى شي ء محقّق، وليس في البين إلّااحتمال الأمر، فإنّه شي ء فعلي، فلو صار الفعل قربيّاً فإنّما يصير به لا بالأمر على تقدير ثبوته، وهل هو إلّاالإنقياد لا أنّه إطاعة تارةً وإنقياد اخرى.

وأجاب عنه بنفسه بأنّ: «الأمر بوجوده الواقعي لا يكون محرّكاً أبداً ضرورة إنّ مبدأ الحركة الاختياريّة هو الشوق النفساني، فلابدّ له من علّة واقعة في النفس، فلابدّ من كون الأمر بوجوده الحاضر للنفس داعياً ومحرّكاً دائماً، وكما أنّ الأمر الحاضر للنفس المقترن بالتصديق الجزمي قابل للتأثير في حدوث الشوق، كذلك الأمر الحاضر المقترن بالتصديق الظنّي أو الاحتمالي، فإذا كان التصديق القطعي موافقاً للواقع كانت الصورة الحاضرة من الأمر صورة شخصية، فينسب الدعوة بالذات إلى الصورة وبالعرض إلى مطابقها الخارجي، وإذا لم يكن التصديق القطعي موافقاً للواقع كانت الصورة الحاضرة صورة مثله المفروض، فلا شي ء في الخارج حتّى تنسب إليه الدعوة بالعرض، فيكون إنقياداً محضاً لا إمتثالًا وإطاعة للأمر وانبعاثاً عنه، فكذا الأمر المظنون أو المحتمل، فالأمر المظنون أو المحتمل هو الداعي، وهذه انوار الأصول، ج 3، ص: 76

الصفة فعلية في هذه المرتبة فإن وافق الواقع نسب إليه الدعوة وكان إنبعاثاً عنه وإمتثالًا له بالعرض وإلّا فلا، بل كان محض الإنقياد كما في صورة القطع طابق النعل بالنعل» «1».

أقول: وما قد يقال في الفرق بين صورتي القطع والاحتمال من «أنّ القطع يكون طريقاً للواقع فإذا طابق الواقع كان الانبعاث من

الواقع في الحقيقة ولكن الاحتمال لا طريقيّة له» «2» قابل للدفع، فإنّ الاحتمال وإن لم يكن طريقاً إلى الواقع بالمعنى المعروف في الاصول في باب الطرق، ولكنّه ناظر إلى الواقع، فلو طابق الواقع كان الباعث في الحقيقة هو الواقع، وهذا أمر ظاهر بالوجدان، فمن احتمل قدوم بعض أخويه من السفر فاستقبله فأصاب احتماله الواقع كان المحرّك له إلى الإستقبال في الحقيقة قدوم أخيه لا غير، فكأنّه وقع الخلط بين الطريقيّة بمعنى الحجّية، والطريقيّة بمعنى النظر إلى الخارج.

الكلام في أخبار من بلغ (التسامح في أدلّة السنن)
اشارة

لمّا كان الكلام في تصحيح العبادة الاحتياطيّه وتقدم أن أحد الطرق لذلك أخبار من بلغ، كان المناسب بسط الكلام في مفاد هذه الأخبار ومغزاها وما يترتّب عليها من الأحكام.

فنقول ومنه جلّ ثنائه التوفيق والهداية: يقع الكلام فيه في مقامين:

المقام الأوّل: في أنّ المسألة اصوليّة أو لا؟

يمكن عنوان المسألة بصورتين:

الاولى: عنوانها كمسألة اصوليّة، بأن يقال: هل الأخبار الضعاف في المستحبّات في حكم الأخبار الصحاح في الواجبات أو لا؟ وهذا ما يعبّر عنه بالتسامح في أدلّة السنن، ولا يخفى أنّها حينئذٍ مسألة اصوليّة لأنّه يبحث فيها عن الحجّية وعدمها.

والثانية: عنوانها كقاعدة فقهيّة بأن يقال: هل الخبر الدالّ على ترتّب ثواب على عمل يدلّ بالاژلتزام على استحباب ذلك العمل شرعاً أو لا؟ وهذا بحث فقهي حيث يبحث عن انوار الأصول، ج 3، ص: 77

أحد الأحكام الخمسة، وهو الاستحباب، وقاعدة فقهيّة من باب أنّه كلّي ليست عهدتها على المقلّد.

ربّما يقال: بإمكان كون هذه المسألة مسألة كلاميّة لأنّها تبحث عن ترتّب الثواب على العبادات الاحتياطيّة وعدمه، والبحث عن الثواب والعقاب إنّما هو من شأن علم الكلام.

لكن قد مرّ في بعض الأبحاث السابقة أنّه لو كان الأمر كذلك للزم أن يكون قسم عظيم من الكتب الفقهيّة داخلًا في علم الكلام، وهو كما ترى، بل معيار المسألة الكلاميّة إنّما هو البحث عن وجود أصل الثواب والعقاب في يوم القيامة على نحو الكلّي لا البحث عن مصاديقهما.

المقام الثاني: في أدلّة المسألة

واستدلّ لها بأمرين:

الأوّل: دعوى الإجماع من ناحية الشهيد رحمه الله في الذكرى حيث قال: «أخبار الفضائل يتسامح فيها بما لا يتسامح في غيرها عند أهل العلم» والظاهر أنّه ذكر المسألة بعنوان مسألة اصوليّة، كما أنّ ظاهر قوله: «عند أهل العلم» العامّة والخاصّة معاً.

الثاني: طائفة من الأخبار التي فيها صحيح السند (كروايتي هشام بن سالم الآتيتين) وفيها ضعاف أو مراسيل.

1- ما رواه هشام بن سالم عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «من بلغه عن النبي صلى الله عليه و آله شي ء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول اللَّه صلى

الله عليه و آله لم يقله» «1».

2- ما رواه هشام بن سالم أيضاً عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «من سمع شيئاً من الثواب على شي ء فصنعه كان له، وإن لم يكن على ما بلغه» «2».

والظاهر عند النظر البدوي كونهما روايتين مستقلّتين ولكن عند الدقّة يحتمل قويّاً إتّحادهما كما لا يخفى.

3- ما رواه محمّد بن مروان عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «من بلغه عن النبي صلى الله عليه و آله شي ء من انوار الأصول، ج 3، ص: 78

الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي صلى الله عليه و آله كان له ذلك الثواب وإن كان النبي صلى الله عليه و آله لم يقله» «1».

4- ما رواه محمّد بن مروان أيضاً قال سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: «من بلغه ثواب من اللَّه على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب اوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه» «2».

5- ما رواه صفوان عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «من بلغه شي ء من الثواب على شي ء من الخير فعمل (فعمله) به كان له أجر ذلك، وإن كان (وإن لم يكن على ما بلغه) رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لم يقله» «3».

6- ما رواه علي بن موسى بن جعفر بن طاووس في كتاب الإقبال عن الصادق عليه السلام قال:

«من بلغه شي ء من الخير فعمل به كان له ذلك وإن لم يكن الأمر كما بلغه» «4».

7- ما رواه الصدوق عن محمّد بن يعقوب بطرقه إلى الأئمّة عليهم السلام إنّ: «من بلغه شي ء من الخير فعمل به كان له من الثواب ما بلغه وإن لم يكن الأمر كما نقل إليه» «5».

والظاهر رجوع هذا الحديث إلى سابقه ولعلّه إلى الرواية

الثانية التي نقلها الكليني أيضاً عن هشام بن سالم، كما أنّ المحتمل قويّاً كون رواية ابن طاووس أيضاً راجعة إلى إحدى الروايات السابقة فالروايات السبعة ترجع في الواقع إلى أربعة.

8- ما ورد في كتاب عدّة الداعي من طريق العامّة: عن عبدالرحمن الحلواني مرفوعاً إلى جابر بن عبداللَّه الأنصاري قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من بلغه من اللَّه فضيلة فأخذ بها وعمل بما فيها إيماناً ورجاء ثوابه أعطاه اللَّه تعالى ذلك وإن لم يكن كذلك».

ثمّ قال مؤلّف الكتاب (عدّة الداعي): فصار هذا المعنى مجمعاً عليه عند الفريقين «6».

أقول: أمّا الدليل الأوّل وهو الإجماع فيمكن النقاش فيه من جهتين:

فأوّلًا: من ناحية وجود المخالف مثل صاحب المدارك والعلّامة والصدوق وشيخه محمّد بن حسن بن الوليد.

انوار الأصول، ج 3، ص: 79

فقد قال صاحب المدارك في كتابه في مبحث الوضوءات المستحبّة: وما يقال من أنّ أدلّة السنن يتسامح فيها بما لا يتسامح في غيرها فمنظور فيه لأنّ الاستحباب حكم شرعي يتوقّف على دليل شرعي.

وقال الصدوق رحمه الله في باب صلاة غدير خمّ: إنّ شيخنا لم يصحّح أخبار هذه الصّلاة فلا اعتبار بها (بصلاة غدير خمّ) عندنا.

فإنّه لو كان الإجماع قائماً على التسامح في أدلّة السنن لم يقل بهذا.

وثانياً: من ناحية إنّه محتمل المدرك والظاهر أنّ مدركه هو أخبار من بلغ.

فالعمدة في المقام إنّما هى الأخبار، واستدلّ بها بأنّ ظاهرها ترتّب الثواب على العمل لا من باب التفضّل فقط بل من باب إنّ العمل يوجب الإستحقاق، ففي حديث صفوان: «كان له أجر ذلك» (المشار إليه هو العمل)، وكذلك في حديث هشام (الذي مرّ إنّه من أهمّها): «كان أجر ذلك له» فقد اضيف الأجر في هذين الحديثين إلى العمل،

وهو ظاهر في كون العمل مأموراً به ولازمه الاستحباب النفسي.

وبعبارة اخرى: لا إشكال في أنّ هذه الأخبار تحرّضنا إلى العمل والتحريض إلى العمل دليل على كونه محبوباً، والمحبوبية تدلّ على وجود الأمر.

هذا غاية البيان للاستدلال بهذه الأخبار على الاستحباب.

لكن أورد عليه بوجوه عديدة بعضها قابل للدفع:

1- إنّ هذه الأخبار أخبار آحاد، وقد ثبت في محلّه عدم حجّيتها بالنسبة إلى الاصول.

ويمكن الجواب عنه بأمرين: أحدهما: إنّ المسألة فقهيّة لا اصوليّة. ثانيهما: إنّه قد وقع الخلط بين اصول الفقه واصول الدين وما ذكر من عدم حجّية أخبار الآحاد إنّما هو بالنسبة إلى الثاني لا الأوّل.

لكنّ فيه: إنّ اصول الفقه أيضاً على المبنى المختار لا تثبت بخبر الواحد لأنّ عمدة الدليل على حجّيته إنّما هو بناء العقلاء، وهم لا يقنعون به في المسائل الأساسية الاصوليّة فلا يكتفون به مثلًا في ما يسمّى اليوم بالدُستور، وباللغة الفارسيّة «قانون أساسي» ولا ريب في اتّحاد القاعدة الفقهيّة مع القاعدة الاصوليّة في هذه الجهة (أي الأهميّة والخطورة).

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ خبر الواحد في ما نحن فيه معتضد بعمل الأصحاب قديماً وحديثاً،

انوار الأصول، ج 3، ص: 80

مضافاً إلى تظافر الأخبار في المقام، وهو كافٍ في إثبات المطلوب.

2- إنّه لا يستفاد من هذه الأخبار أكثر من الثواب الإنقيادي كما أنّه مقتضى صراحة بعض التعابير الواردة فيها كقوله عليه السلام: «ففعل ذلك طلب قول النبي صلى الله عليه و آله» أو «التماس ذلك الثواب» وكما أنّه مقتضى التفريع بالفاء في بعض آخر (فعمله) حيث إنّ مثل هذه التعابير ظاهرة أو صريحة في أنّ الباعث على العمل إنّما هو الإنقياد والتماس الثواب، وحينئذٍ بناءً على ترتّب الثواب على الإنقياد أيضاً لا تكون هذه الأخبار دليلًا على الاستحباب

بل غاية ما يستفاد منها الإرشاد إلى حكم العقل بحسن الإنقياد.

وإن شئت قلت: لا أقلّ من صيرورتها مجملة بالنسبة إلى دلالتها على الاستحباب.

أقول: هذا عمدة الإيراد على الاستدلال بهذه الأخبار على الاستحباب النفسي، وذلك وقع الأعلام في حيص وبيص في مقام الجواب عنه.

فأجابوا عنه أوّلًا: بأنّ لازم هذا (كون المدلول الثواب الإنقيادي فقط) ترتّب الثواب الإنقيادي كلّما حصل الاحتمال بكون هذا العمل صادراً من ناحية الرسول صلى الله عليه و آله ولو من طريق فتوى فقيه فلماذا عبّر فيها بخصوص الخبر؟

ولكنّه قابل للدفع بأنّ الغالب في نشوء الاحتمال إنّما هو الخبر الضعيف، فالروايات ناظرة إلى الفرد الغالب، أضف إلى ذلك وجود احتمال خصوصيّة في الثواب الإنقيادي الحاصل من الخبر وهى احترام قول النبي صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام.

وثانياً: بأنّ الثواب الإنقيادي أمر لازم لنيّة العبد لنفس العمل كما لا يخفى، بينما الظاهر من هذه الروايات ترتّب الثواب على نفس العمل.

ولكنّه أيضاً قابل للدفع بأنّ الثواب الإنقيادي أيضاً مربوط بالعمل لا النيّة، غاية الأمر أنّه يترتّب على العمل المستند إلى النيّة كما يحكم به الوجدان في باب التجرّي أيضاً.

3- (وهو من أهمّها) إنّ لحن هذه الأخبار لحن التفضّل لا الاستحقاق كما يشهد عليه أنّ ظاهرها ترتّب نفس الثواب الذي بلغه، مع أنّه لو كان من باب الاستحقاق، كان الثواب الاستحقاقي تابعاً في درجته مقدار ما يقتضيه العمل واقعاً سواء كان أقلّ ممّا بلغه أو أكثر.

نعم لا يوجد هذا اللحن في الصحاح منها (وهى روايتي هشام) لكنّه موجود في عدّة متضافرة، منها والتضافر موجب لجبر الضعف وحصول الوثوق بالصدور.

انوار الأصول، ج 3، ص: 81

4- ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله من «أنّ هذه الأخبار مسوقة

لبيان أنّ البلوغ يحدث مصلحة في العمل بها فيكون البلوغ كسائر العناوين الطارئة على الأفعال الموجبة لحسنها وقبحها والمقتضية لتغيير أحكامها، كالضرر والعسر والنذر والإكراه وغير ذلك من العناوين الثانوية، فيصير حاصل معنى قوله عليه السلام «إذا بلغه بعد حمل الجملة الخبرية على الإنشائيّة هو أنّه يستحبّ العمل عند بلوغ الثواب عليه كما يجب العمل عند نذره، فيكون مفاد الأخبار حجّيه قول المبلّغ وأنّ ما أخبر به هو الواقع، فيترتّب عليه كلّ ما يترتّب على الخبر الواجد للشرائط» «1».

أقول: إنّ معنى هذا الكلام قبول دلالة الأخبار على الاستحباب لعدم الفرق بين أن نستفيد منها الحجّية الاصوليّة أو الاستحباب في مسألة فقهيّة ولا تترتّب عليه ثمره غير ما سيأتي ذكره في التنبيهات، فليس هذا إشكالًا على دلالة أخبار من بلغ.

5- ما ذهب إليه في تهذيب الاصول وهو: «أنّ الظاهر من هذه الأخبار أنّ وزانها وزان الجعالة، بمعنى وضع الحكم على العنوان العام ليتعقّبه كلّ من أراد، فكما أنّ تلك، جعل معلّق على ردّ الضالّة، فهذا أيضاً جعل متعلّق على الإتيان بالعمل بعد البلوغ برجاء الثواب.

توضيحه: أنّ غرض الشارع لما تعلّق على التحفّظ بعامّة السنن والمستحبّات ويرى أنّ الاكتفاء في طريق تحصيلها بالطرق المألوفة ربّما يوجب تفويت بعضها، فلأجل ذلك توصّل إلى مراده بالحثّ والترغيب إلى إتيان كلّ ما سمع عن الغير الذي يحتمل كونه ممّا أمر به رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأردف حثّه باستحقاق الثواب وترتّب المثوبة على نفس العمل حتّى يحدث في نفس المكلّف شوقاً إلى الإتيان، لعلمه بأنّه يثاب بعمله طابق الواقع أو خالف ... وممّا ذكرنا يظهر إنّ استفادة الاستحباب الشرعي منها مشكل غايته، للفرق الواضح بين ترتّب الثواب على

عمل له خصوصيّة ورجحان ذاتي فيه كما في المستحبّات وبين ترتّب الثواب على الشي ء لأجل إدراك المكلّف ما هو الواقع المجهول كما في المقام، كما أنّ جعل الثواب على المقدّمات العلمية لأجل إدراك الواقع لا يلازم كونها اموراً استحبابيّة وكما أنّ جعل الثواب على المشي في طريق الوفود إلى اللَّه أو إلى زيارة الإمام الطاهر الحسين بن علي عليهما السلام لأجل الحثّ إلى زيارة بيت اللَّه انوار الأصول، ج 3، ص: 82

أو الإمام لا يلازم كون المشي مستحبّاً نفسيّاً» «1».

أقول: لا يترتّب على نفس ما يكون مجرّد طريق أو مقدّمة إلى شي ء ثواب كما ذكر في محلّه في مبحث مقدّمة الواجب سواء كانت مقدّمة العلم أو مقدّمة الوجود مع أنّ الظاهر من هذه الأخبار ترتّب الثواب على نفس العمل، وهذا يقتضي كونه مستحبّاً ولو بعنوان ثانوي غير كونه مقدّمة.

6- إنّه يمكن أن يكون مورد الروايات ما إذا كان المبلّغ ثقة كما هو الظاهر في بدو النظر من قوله عليه السلام: «بلغه» لأنّ البلوغ ظاهر في البلوغ الصحيح، ولا أقلّ من عدم كونه في مقام البيان من هذه الجهة (كون المبلغ ثقة أو غير ثقة) فلا يمكن التمسّك بإطلاقه بل إنّه في مقام بيان أنّ الثواب يترتّب على العمل حتّى في صورة التخلّف عن الواقع.

لكن يمكن أن يقال: إنّ اطلاق حديث من بلغ يقتضي عدم الفرق بين البلوغ من الطرق المعتبرة أو غيرها لصدق البلوغ على كليهما، ويؤيّده فهم الفقهاء، حيث إنّهم في باب التسامح في أدلّة السنن تمسّكوا بهذه الأخبار.

وإن شئت قلت: بلوغ الخبر أعمّ من أن يكون الخبر مطابقاً للواقع أو غير مطابق، فالبلوغ صحيح على كلّ حال وإن لم يكن الخبر مطابقاً للواقع.

7- إنّها

تتعارض مع منطوق آية النبأ لأنّها تدلّ بإطلاقها على وجوب التبيّن حتّى في المستحبّات.

واجيب عنه: بأنّ عموم الآية أو إطلاقها يخصّص أو يقيّد بهذه الروايات.

8- إنّ مدلولها أخصّ من المدّعى من ناحية وأعمّ منها من ناحية اخرى، فهو أخصّ من باب أنّ موردها ما إذا وعد بالثواب، فلا يعمّ غيره كما إذا ورد خبر ضعيف بصيغة الأمر كقوله «اغتسل» من دون الوعد بالثواب، وأعمّ من جهة إنّها تشمل ما إذا كان الخبر الضعيف دالًا على الوجوب أيضاً.

ويمكن الجواب عن هذا بأنّها شاملة لموارد عدم الوعد بالثواب بمدلولها الالتزامي كما لا يخفى، لإلغاء الخصوصيّة من هذه الناحية عرفاً. وأمّا عمومها بالنسبة إلى الخبر الدالّ على انوار الأصول، ج 3، ص: 83

الوجوب فلا بأس به لأنّ المعتبر دلالته على رجحان الفعل وترتّب الثواب فيصير بضميمة أخبار من بلغ دليلًا على الاستحباب.

هذا كلّه هو ما اورد على أخبار من بلغ من الإيرادات حيث كان الأوّل منها إيراداً من ناحية السند والباقي من ناحية الدلالة، وكان أهمّها الذي لا يمكن الجواب عنه، هو الإشكال الثاني وحينئذٍ لا يمكن التمسّك بهذه الأخبار لإثبات استحباب ما أمرت به الأخبار الضعاف، فلا يجوز الفتوى بالاستحباب بل لابدّ أن يقيّد بلزوم إتيان العمل بقصد الرجاء، وبهذا يسقط كثير من المستحبّات الواردة في كتب الفتوى والرسائل العمليّة، فاللازم الإتيان بها بقصد الرجاء لا الورود، إلّاإذا كان دليلها الأخبار المعتبرة لا الضعاف.

ثمّ إنّه لو سلّمنا دلالتها على الاستحباب فليس مفادها حجّية الخبر الضعيف بعنوان مسألة اصوليّة بحيث يكون مثل قوله عليه السلام: «ما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان» بل إنّ مفادها مجرّد إعطاء قاعدة كلّية فقهيّة وهى استحباب العمل بعنوان ثانوي وهو عنوان البلوغ.

والفرق بين الأمرين يظهر

في بعض الفروع نظير ما مثّل به الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله في رسائله من غسل المسترسل من اللحية في الوضوء، فالحكم باستحبابه من باب دلالة خبر ضعيف عليه لا يوجب جواز المسح ببلله لأنّ المسح لابدّ من أن يكون من بلل الوضوء، ولا يصحّ ببلل ما ليس منه ولو كان مستحبّاً فيه إلّاإذا ثبت كونه جزءاً مستحبّاً من الوضوء بدليل معتبر، فلا إشكال حينئذٍ في جواز المسح به.

أضف إلى ذلك كلّه خروج هذه الأخبار عن محلّ النزاع (وهو تصحيح العبادة الاحتياطيّة) لأنّه إمّا أن تكون أخبار من بلغ كافية لإثبات الاستحباب الشرعي أو لا، وفي كلا الحالين يكون البحث عنها خارجاً عن محلّ النزاع، أمّا على الأوّل فلأنّ محلّ البحث في المقام ما إذا لم يكن في البين حجّة على الوجوب أو الاستحباب واريد الاحتياط، فلو كانت هذه الأخبار كافية لإثبات الحجّية للخبر الضعيف فلا معنى لإتيان العمل بقصد الاحتياط كما لا يخفى.

وأمّا على الثاني فلأنّ المفروض في محلّ الكلام عدم كفاية قصد الرجاء مع أنّ مقتضى التعبير الوارد في هذه الأخبار لزوم قصد الرجاء في هذه الموارد، فلا فائدة في الاستناد إلى أخبار من بلغ لما هو محلّ البحث.

انوار الأصول، ج 3، ص: 84

بقي هنا امور

الأمر الأوّل: إنّ إحراز موضوع البلوغ من وظيفة المجتهد لا المقلّد سواء كانت المسألة اصوليّة أو كانت قاعدة فقهيّة أو مسألة فقهيّة، أمّا بناءً على كونها اصوليّه فلأنّ الحجّية أو عدمها أمر تشخيصها من شأن المجتهد، وأمّا بناءً على كونها قاعدة فقهيّة أو مسألة فقهيّة فلأنّ تشخيص البلوغ أو عدمه يتوقّف على إعمال مقدّمات فنيّة لا يكون في استطاعة المقلّد غالباً.

الأمر الثاني: أنّه لا فرق في المقام بين أن

يكون الخبر الضعيف مفاده استحباب الشي ء أو وجوبه لاتّحاد المناط فيهما وهو بلوغ الثواب، فالخبر الدالّ على الوجوب حيث إنّ من مدلوله ترتّب الثواب والأجر يتحقّق به موضوع البلوغ، فيكون مشمولًا لأخبار من بلغ، ويصير مفاده مستحبّاً بالعنوان الثانوي وإن لم يثبت به الوجوب بالعنوان الأوّلي، نعم هذا كلّه بناءً على عدم كون المسألة اصوليّة، وأمّا إذا كانت المسألة اصوليّة فحيث إنّه يثبت بهذه الأخبار حجّية الخبر الضعيف يكون الخبر معتبراً من ناحية السند فيدلّ على الوجوب بلا إشكال.

اللهمّ إلّاأن يقال: بإمكان بالتبعيض في الحجّية، وذلك بأن لا يكون مفاد هذه الأخبار بناءً على هذا المبنى أيضاً أكثر من الحجّية من ناحية دلالة الخبر على الرجحان لا الحجّية مطلقاً، فيثبت به مجرّد رجحان العمل واستحبابه فحسب.

الأمر الثالث: أنّه لا فرق بين أن يكون الخبر منسوباً إلى النبي صلى الله عليه و آله أو إلى الأئمّة المعصومين عليهم السلام، لأنّ روايات الباب من هذه الجهة على ثلاث طوائف فطائفة: منها يكون الموضوع فيها مطلق بلوغ الثواب كالرواية 6 و 8 و 9 من الباب، وفي طائفة اخرى مقيّد بالبلوغ عن النبي صلى الله عليه و آله كالرواية 5 و 4 و 3 و 1، وفي طائفة ثالثة مقيّد بالبلوغ عن اللَّه تبارك وتعالى كالرواية 7.

أمّا الطائفة الاولى: فلا إشكال في شمولها للخبر المنسوب إلى الأئمّة عليهم السلام كما لا إشكال في عدم تقييدها بالطائفتين الاخريين لأنّهما من قبيل المثبتين.

وأمّا الطائفة الثانية والثالثة: فيمكن أيضاً الاستدلال بهما لجهتين:

الاولى: إلغاء الخصوصيّة من النبي صلى الله عليه و آله وإنّ الأئمّة وارثون له وحاملون لعلومه.

الثانية: الأخبار الخاصّة التي تدلّ على أنّ ما عند الأئمّة عليهم السلام من علم الحلال

والحرام والشرائع والأحكام نزل به جبرئيل عليه السلام وأخذوه من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقد ورد في بعضها عن انوار الأصول، ج 3، ص: 85

أبي عبداللَّه عليه السلام يقول: «حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدّي وحديث جدّي حديث الحسين عليه السلام وحديث الحسين عليه السلام حديث الحسن عليه السلام وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين عليه السلام وحديث أمير المؤمنين حديث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وحديث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قول اللَّه عزّوجلّ» «1».

وفي بعضها الآخر عن الصادق عليه السلام: «ما سمعته منّي فاروه عن أبي وما سمعته منّي فاروه عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله» «2».

فبضمّ هذه الروايات إلى الخبر الضعيف المروي عن الأئمّة عليهم السلام يثبت موضوع البلوغ عن النبي صلى الله عليه و آله أو اللَّه سبحانه بلا إشكال.

الأمر الرابع: أنّ هذه الأخبار لا تشمل ما إذا احتمل الاستحباب من غير ناحية الخبر الضعيف من فتوى فقيه بل من شهرة أو إجماع منقول أو من غير ذلك ممّا ليس بحجّة شرعاً (في صورة عدم حصول اليقين أو الاطمئنان بسببها بوجود خبر لم يصل إلينا) وإن كانت بعضها مطلقةً كما مرّ آنفاً لانصرافها إلى البلوغ عن المعصوم بالخبر المروي عنه.

وإن شئت قلت: لا يصدق عنوان البلوغ عن المعصوم في فتوى الفقيه باستحباب شي ء أو وجوبه لأنّ الفقيه يخبر عن رأيه بالوجوب أو الاستحباب ولا يكون واسطة في النقل.

الأمر الخامس: أنّه يكفي في المقام مجرّد ورود أمر من ناحية المعصوم عليه السلام من دون أن يعد بالثواب صريحاً، كما إذا ورد في رواية ضعيفة: «اغتسل للزيارة» لما مرّ سابقاً من أنّه لا فرق فيما

نحن فيه بين أن يكون الوعد بالثواب مدلولًا مطابقياً للخبر أو مدلولًا التزامياً له، ولا إشكال في أنّ الأمر بعمل يدلّ بالالتزام على ترتّب أجر وثواب عليه.

الأمر السادس: أنّ الظاهر عدم شمول الأخبار لما يدلّ على كراهة عمل أو حرمته، فلا يجري التسامح في أدلّة المكروهات لأنّ موضوعها بلوغ الثواب، وهو يصدق فيما إذا كان الفعل ذو مصلحة وترتّب عليه ثواب، والمكروه أو الحرام لا يكون في تركه مصلحة فلا يترتّب عليه ثواب بل إنّه مجرّد اجتناب عن مفسدة يوجب النجاة من العقاب.

لكن الإنصاف أنّ ظاهر جملة من الآيات والروايات ترتّب الثواب على ترك المعصية إذا

انوار الأصول، ج 3، ص: 86

كان بعنوان الإطاعة للَّه كقوله تعالى: «وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ...» «1»

وقوله تعالى: «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى» «2»

وقوله تعالى: «وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ...» «3»

، إذن فتأتي فيها أخبار من بلغ، ويكون الكلام في الخبر الدالّ على الحرمة نظير الكلام في الخبر الدالّ على الوجوب.

الأمر السابع: في شمول أخبار من بلغ الأحاديث المأثورة عن النبي صلى الله عليه و آله بطرق العامّة وعدمه.

فنقول: لو كنّا نحن وأخبار من بلغ فلا إشكال في دخولها تحت اطلاق هذه الأخبار، إلّا أنّه يمكن أن يقال بأنّ مقتضى بعض الروايات الخاصّة عدم جواز الأخذ برواياتهم كقوله عليه السلام في مقبولة عمر بن حنظلة: «ما خالف العامّة ففيه الرشاد» «4» وقوله عليه السلام: «لا تأخذنّ معالم دينك من غير شيعتنا فإنّك إن تعدّيتهم أخذت دينك عن الخائنين الذين خانوا اللَّه ورسوله وخانوا أماناتهم ...» «5».

لكن الصحيح عدم طروّ منع من ناحية

هذه الروايات لأنّها خارجة عن محلّ الكلام، فمثلًا الرواية الاولى مختصّة بالمرجّحات في باب تعارض الخبرين، والثانية ظاهرة في اصول الدين بمقتضى تعبيرها بمعالم الدين حيث إنّه ظاهر في الاصول وشبهها.

الأمر الثامن: أنّه لا إشكال في عدم شمول أخبار من بلغ للرواية الضعيفة من ناحية الدلالة والغير ظاهرة في الاستحباب أو الوجوب لعدم صدق موضوع البلوغ حينئذٍ كما لا يخفى.

الأمر التاسع: أنّه لا تبعد دعوى شمول أخبار من بلغ للإخبار عن بعض الموضوعات الخارجية التي يلازم الأخبار عن ترتّب الثواب عرفاً كما إذا قام خبر ضعيف على كون مكان انوار الأصول، ج 3، ص: 87

معيّن مدفن معصوم كمدفن هود وصالح في المكان المعروف الآن في وادي السلام في أرض الغري أو مقام إمام عليه السلام، فإنّ الإخبار بهذه الموضوعات يدلّ التزاماً على ترتّب الثواب على زيارة المعصوم في المكان الذي قام الخبر على كونه مدفنه، ولا إشكال في أنّ البلوغ يصدق على كلّ من الدلالة المطابقيّة والالتزاميّة لأنّ العرف يلغي الخصوصيّة عن المدلول المطابقي، فيصير مثل هذا الخبر مشمولًا لأخبار من بلغ.

الأمر العاشر: إذا وردت رواية ضعيفة باستحباب فعل، وورد دليل معتبر ظنّي بعدم استحبابه فهل تشملهما أخبار من بلغ أو لا؟ قال الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله في رسالته الخاصّة في مسألة التسامح: «فيه وجهان بل قولان صرّح بعض مشايخنا بالثاني لأنّ الدليل المعتبر بمنزلة القطعي فلابدّ من التزام عدم استحبابه وترتيب آثار عدم الاستحباب عليه كما لو قطع بعدم الاستحباب» ثمّ إستشكل فيه بما يرجع حاصله إلى وجهين:

الأوّل: إنّ أخبار من بلغ تعارض أدلّة حجّية الدليل المعتبر، ومقتضى القاعدة وإن كان هو التساقط إلّاأنّ الأمر لمّا دار بين الاستحباب وغيره وصدق بلوغ الثواب حكم

بالاستحباب تسامحاً.

فإن قلت: أخبار بلوغ الثواب لا تعمّ نفسها.

قلنا: نعم هو غير معقول إلّاأنّ المناط منقّح فلا يقدح عدم العموم اللفظي لعدم تعقّله فافهم فالقول بالتسامح قوي جدّاً.

الثاني: أنّه لا تعارض في البيان لأنّ الشارع نزّل المظنون بالأدلّة المعتبرة منزلة الواقع المقطوع لا أنّه نزّل صفة الظنّ منزلة صفة القطع، ونزّل نفس الاحتمال المرجوح منزلة القطع بالعدم، وحينئذٍ يكون الاحتمال باقياً على حاله، وهو موضوع أخبار عن بلغ، ولذا لا ينكر حسن الاحتياط مع قيام الأدلّة المعتبرة.

أقول: أوّلًا: لا تعارض بين أدلّة حجّية خبر الواحد وأخبار من بلغ، بل الثانية حاكمة على الاولى كحكومة أدلّة الوفاء بالنذر على أدلّة استحباب صلاة الليل مثلًا فيما إذا نذر أن يأتي بها، فإنّ موضوع هذه الأخبار عنوان ثانوي وهو عنوان العمل بالخبر الضعيف امتثالًا لقول النبي صلى الله عليه و آله (وتعظيماً واهتماماً بكلامه) وهو متحقّق حتّى بعد قيام دليل معتبر على عدم الاستحباب.

انوار الأصول، ج 3، ص: 88

وثانياً: لا يبعد دعوى انصراف هذه الأخبار عن مثل هذا المورد، وقد أشار إليه الشيخ رحمه الله نفسه في ذيل كلامه إلّاأنّه لم يقبله بقوله «ولا شاهد عليه»، ونحن نقول: الشاهد عليه هو الوجدان.

الأمر الحادي عشر: لو وردت رواية ضعيفة بالاستحباب ورواية ضعيفة اخرى بعدمه فلا إشكال في شمول أخبار من بلغ، لعدم جريان ما مرّ في التنبيه السابق من الانصراف هنا كما لا يخفى، ومنه يظهر الحال فيما إذا وردت رواية ضعيفة اخرى بالكراهة فلا مانع من الشمول أيضاً لتحقّق موضوع الأخبار وهو بلوغ الثواب وعدم إحراز الإنصراف.

لكن شيخنا الأنصاري رحمه الله إستشكل فيه بأنّ لازمه استحباب كلّ من الفعل والترك لأنّ ترك العمل المكروه أيضاً مستحبّ، وهو غير ممكن

لأنّ طلب الفعل والترك قبيح لعدم القدرة على الإمتثال، وصرف الأخبار إلى استحباب أحدهما على وجه التخيير موجب لاستعمال الكلام في الاستحباب العيني والتخييري (أي استعمال اللفظ في أكثر من معنى) مع أنّ التخيير بين الفعل والترك في الاستحباب لا محصّل له (لأنّ المكلّف إمّا فاعل أو تارك على أيّ حال فيكون الطلب التخييري من قبيل تحصيل الحاصل).

أقول: أوّلًا: لا إشكال في جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى على المبنى المذكور في محلّه.

ثانياً: ليس التخيير بين الفعل والترك في ما نحن فيه من قبيل تحصيل الحاصل لأنّه إنّما يتصوّر فيما إذا لم يكن شقّ ثالث في المقام بينما الصور المتصوّرة هنا أربعة، فتارةً يأتي بالعمل احتراماً للنبي صلى الله عليه و آله ورجاءً للثواب، واخرى يتركه كذلك، وثالثة يأتي به لا لطلب الثواب وقول النبي صلى الله عليه و آله بل لداع من الدواعي الاخرى، ورابعة يتركه كذلك، وحينئذٍ يمكن البعث والتحريك لأن يأتي المكلّف بالفعل أو يتركه بقصد القربة وطلباً لما بلغ عن النبي صلى الله عليه و آله من الثواب.

فلا إشكال حينئذٍ في شمول الأخبار لما نحن فيه، نعم لا يبعد القول بالانصراف في هذه الصورة أيضاً كما أشار إليه الشيخ الأنصاري رحمه الله في ذيل كلامه بقوله: «مضافاً إلى انصرافها

انوار الأصول، ج 3، ص: 89

بشهادة العرف إلى غير هذه الصورة» «1».

الأمر الثاني عشر: حكى عن الشهيد رحمه الله في الدراية أنّه قال: «جوّز الأكثر العمل بالخبر الضعيف في نحو القصص والمواعظ وفضائل الأعمال لا في صفات اللَّه تعالى وأحكام الحلال والحرام وهو حسن حيث لم يبلغ الضعيف حدّ الوضع والاختلاف (الاختلاق)».

وقال شيخنا الأعظم رحمه الله بعد نقل كلامه هذا: «المراد بالخبر الضعيف

في القصص والمواعظ هو نقلها واستماعها وضبطها في القلب وترتيب الآثار عليها عدا ما يتعلّق بالواجب والحرام ... ويدخل حكاية فضائل أهل البيت عليهم السلام ومصائبهم من دون نسبة إلى الحكاية ...

كأن يقول: كان أمير المؤمنين يقول كذا ويفعل كذا ويبكي كذا، ونزل على مولانا سيّد الشهداء عليه السلام كذا وكذا» «2».

ثمّ استدلّ على الجواز بطريق العقل والنقل وقال: إنّ الدليل على جواز ما ذكرنا من طريق العقل حسن العمل بهذه مع أمن المضرّة فيها على تقدير الكذب، وأمّا من طريق النقل فرواية ابن طاووس رحمه الله (من بلغه شي ء من الخير فعمل به كان له ذلك «3» والنبوي»

(وهو رواية عدّة الداعي المذكورة سابقاً).

أقول: يرد عليهما (الشهيد والشيخ الأعظم رحمهما الله) أوّلًا: أنّ المقام داخل في ما استثنياه من كلامهما وهو ما يتعلّق بالحرام والحلال لأنّ المقام مشمول لقوله تعالى: «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» والقول بغير علم حرام بمقتضى هذه الآية وأدلّة اخرى كثيرة إلّاإذا قلنا بأنّ المستفاد من أخبار من بلغ حجّية الخبر الضعيف فيكون حاكماً على هذه الآية.

ثانياً: الظاهر من قوله عليه السلام «فعمل به» العمل الخارجي الجارحي، ونقل القصص وذكر الفضائل ليس عملًا بالقصص والفضائل ولا أقلّ من الإنصراف.

ثالثاً: لا يأمن من المضرّة في المقام لأنّ هذا يفتح باب الأكاذيب والخرافات في الشرع المقدّس وادخال ما يوجب الوهن للأنبياء والأوصياء ولمعالمهم ومعارفهم، وأيّ مضرّة أشدّ

انوار الأصول، ج 3، ص: 90

منه؟!

ومن العجب استدلال بعضهم للجواز بما دلّ على رجحان الإعانة على البرّ والتقوى ورجحان الإبكاء على سيّد الشهداء عليه السلام ما دامت الغبرى والسماء، وأنّ من أبكى وجبت له الجنّة من باب أنّ ذكر المصائب مقدّمة للبكاء المستحبّ ومقدّمة المستحبّ مستحبّة.

وفيه:

أنّ الإعانة والإبكاء- كما أفاد الشيخ الأعظم رحمه الله- قد قيّد رجحانهما بالسبب المباح والمقدّمة المباحة، لعدم جواز التوصّل بالمحرّم لإتيان المستحبّ، فلابدّ حينئذٍ من ثبوت إباحة المقدّمة من الخارج، ولا يمكن إثبات إباحة شي ء وعدم تحريمه بأنّه يصير ممّا يعان به على البرّ لو كان كذلك لكان لأدلّة الإعانة والإبكاء قوّة المعارضة لما دلّ على تحريم بعض الأشياء كالغناء في المراثي والعمل بالملاهي لإجابة المؤمن ونحو ذلك.

الأمر الثالث عشر: هل يترتّب على متعلّق أخبار من بلغ سائر آثار العمل المستحبّ غير تّرتّب الثواب؟ فإذا ورد خبر ضعيف على استحباب غسل خاصّ فهل يمكن إتيان الصّلاة به بناءً على كفاية الأغسال المستحبّة عن الوضوء؟

قد يقال بالفرق بين ما إذا كان المبنى ثبوت المسألة الاصوليّة فيترتّب سائر الآثار، وما إذا كان المبنى ثبوت المسألة الفقهيّة فلا يترتّب، ولكن الإنصاف عدم الفرق بين المبنيين لأنّه إذا كان المستفاد من الأخبار مجرّد ترتّب الثواب على ذلك الفعل لا المحبوبيّة الذاتيّة فعلى القول بدلالتها على حجّية الخبر أيضاً يمكن أن يقال بأنّها تدلّ على الحجّية من هذه الجهة لا من جميع الجهات وإن شئت قلت: كفاية الأغسال المستحبّة عن الوضوء ناظرة إلى ما كان مستحبّاً ذاتيّاً لا ما كان بعنوان الإنقياد وطلب قول النبي صلى الله عليه و آله من العناوين الطارئة.

الأمر الرابع عشر: لا إشكال في أنّ النسبة بين هذه الأخبار وأدلّة حرمة التشريع ليست التعارض لأنّ الأخبار حاكمة عليها توجب رفع موضوع التشريع تعبّداً كما لا يخفى.

وإن شئت قلت: أخبار من بلغ لسانها لسان أدلّة العناوين الثانوية كأدلّة أمر الوالد وشبهها الجارية على موضوعات ثانوية، ومن المعلوم أنّها حاكمة على أدلّة العناوين الأوّلية بل قد يكون واردة

عليها إذا كانت قطعيّة.

الأمر الخامس عشر: أنّ ظاهر الأصحاب عدم التفصيل في مسألة التسامح بين أن يكون الفعل من ماهيّات العبادات المركّبة المخترعة كما إذا ورد خبر ضعيف على أنّ صلاة الأعرابي انوار الأصول، ج 3، ص: 91

أربع ركعات وبين أن يكون من غيرها.

قال الشيخ الأعظم رحمه الله: «إلّا أنّ الاستاذ الشريف قدس سره فصّل ومنع التسامح في الاولى، والذي بالبال ما ذكره لساناً في وجه التفصيل هو أنّ «1» ... (إلى هنا جفّ قلمه الشريف).

أقول: لعلّ وجه التفصيل في نظر شريف العلماء رحمه الله أنّ المستفاد من مذاق الشرع والذوق الفقهي المتشرّعي أنّ ماهيات العبادات لكونها من المخترعات الشرعيّة التوقيفيّة لا تثبت إلّا بدليل معتبر، وهذا غاية ما يمكن أن يقال به في توجيه هذا التفصيل، وهو في محلّه، وإن أبيت عن هذا فإنّ الأخبار عامّة تعمّ كلتا الصورتين كما لا يخفى.

إلى هنا تمّ البحث عن أخبار من بلغ وقد تحصّل منه امور أهمّها ثلاثة:

الأوّل: إنّه لا يستفاد من هذه الأخبار لا حجّية الأخبار الضعيفة ولا الاستحباب الفقهي، وما ذكرنا من التنبيهات كان مبنيّاً على أحد المبنيين لا على ما اخترناه من أنّ المستفاد منها مجرّد ترتّب الثواب تفضّلًا، وقد جرت عادة القوم على هذا النحو من البحث فكثيراً ما يبحثون عن مسائل لا موضوع لها إلّاعلى بعض المباني.

الثاني: إنّ المستفاد من هذه الأخبار لزوم إتيان العمل بقصد رجاء ترتّب الثواب وإن قلنا بدلالتها على الاستحباب لأنّه صريح مثل قوله عليه السلام «فعمل به رجاء ذلك الثواب».

الثالث: إنّ هذه الأخبار لا تحلّ المشكلة التي طرحنا هذا البحث لأجلها، وهى مشكلة العبادات المشكوكة بناءً على اعتبار قصد الأمر القطعي فيها، وذلك باعتبار أنّ المستفاد منها إتيان

العمل بقصد الرجاء كما مرّ آنفاً، والمفروض عدم كفايته في عبادية العبادة. هذا أوّلًا.

وثانياً: لو سلّمنا الكفاية كان الدليل أخصّ من المدّعى حيث إنّ هذه الأخبار تشمل خصوص العبادات المشكوكة التي يكون منشأ الشكّ فيها رواية ضعيفة، فلا تعمّ ما كان المنشأ فيه أمر آخر من قبيل شهرة أو إجماع منقول.

نعم هذا كلّه بناءً على اعتبار قصد الأمر الجزمي القطعي في العبادة، وأمّا على القول بكفاية مطلق المحبوبية وقصد الرجاء (كما هو المختار) فلا حاجة إلى أخبار من بلغ من الأساس كما لا يخفى، وقد عرفت غير مرّة أنّ المعتبر في العبادة الحسن الفعلي والفاعلي، والمراد من انوار الأصول، ج 3، ص: 92

الحسن الفعلي كونه أمراً قربيّاً، ومن الحسن الفاعلي كون الداعي والباعث على الإتيان بالعمل هو اللَّه تعالى بأيّ صورة كانت.

التنبيه الثالث: في جريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة

وفيه ثلاثة وجوه:

الأوّل: ما هو المشهور وهو البراءة مطلقاً.

الثاني: الاحتياط مطلقاً.

الثالث: التفصيل بين ما إذا كان المطلوب في الحرام مجموع التروك من حيث المجموع بحيث لو أتى به في زمان أو مكان دفعةً واحدة لم يمتثل أصلًا فلا تجري البراءة، وبين ما إذا كان المطلوب فيه تروكاً متعدّدة بحيث يكون كلّ ترك مطلوباً مستقلًا (كالنهي عن الخمر أو الكذب) فيقتصر في الترك على الأفراد المعلومة، وأمّا المشكوكة فتجري البراءة عن حرمتها.

واستدلّ للقول الأوّل: تارةً بالبراءة العقليّة، واخرى بالبراءة الشرعيّة.

أمّا البراءة العقليّة: فالمعروف جريانها في الشبهات الموضوعيّة أيضاً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

لكن الإنصاف أنّه مشكل لأنّ وظيفة الشارع بما هو شارع ليس إلّابيان الكبريات، وقد بيّنها ووصلت إلى المكلّف حسب الفرض، وإنّما الشكّ في الصغرى وهى كون هذا المائع الخارجي مثلًا ممّا ينطبق عليه متعلّق الحرمة وهو الخمر أم لا، ومن المعلوم أنّ المرجع

في إزالة هذه الشبهة ليس هو الشارع فلا يتحقّق حينئذٍ موضوع القاعدة وهو عدم البيان، فلا تجري القاعدة بل على المكلّف إزالة هذا النوع من التردّد والاشتباه.

قد يقال: إنّ المراد من البيان في هذه القاعدة هو العلم، وعدم العلم صادق في المقام، ولكنّه مجرّد دعوى عهدتها على مدّعيها لأنّه لا دليل على كون قبح العقاب بلا علم مطلقاً وفي جميع الموارد من المستقلّات العقليّة.

وقال المحقّق النائيني رحمه الله بما حاصله: إنّ مردّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان إنّما هو قبح العقاب بلا علم لأنّ العقل حاكم على أنّ المجهول لا يمكن أن يكون باعثاً ومحرّكاً للمكلّف ولا

انوار الأصول، ج 3، ص: 93

فرق فيه بين الجهل بالصغرى والكبرى «1».

وقد مرّ أنّه لا إشكال في محرّكية المجهول بل الإنسان ونوع البشر يتحرّك في الصناعات والتجارات والزراعات في أكثر الموارد بالاحتمال بل قد يكون الإنبعاث بمجرّد الوهم (أي الاحتمال المرجوح) كما إذا كان في طلب ضالّته.

هذا كلّه بناءً على مبنى القوم من أنّ القاعدة عقلية، وأمّا بناءً على ما اخترناه من أنّها عقلائيّة فلا يبعد عدم بناء العقلاء على البراءة في الشبهات الموضوعيّة خصوصاً في الموضوعات الهامّة، فإذا قال المولى لعبده «إحذر من أعدائي» مثلًا، فمن البعيد جدّاً بناء العقلاء على قبح عقاب العبد فيما إذا لم يحذر من مشكوك العداوة، والظاهر أنّه لا فرق في ذلك بين الدماء والفروج وغيرها.

أمّا البراءة النقلية: فلا إشكال في جريانها في الشبهات الموضوعيّة لأنّه القدر المتيقّن من أكثر أدلّتها، وأمّا تفصيل المحقّق الخراساني رحمه الله بين ما كان من قبيل العام الإفرادي والمجموعي، فقد أورد عليه بأنّ مقتضى القاعدة جريان البراءة في كلا القسمين من كلامه، لما سيأتي من عدم وجوب الاحتياط

حتّى في الأقلّ والأكثر الإرتباطيين، ولا إشكال في رجوع القسم الثاني إلى الأقل والأكثر الإرتباطيين، والحقّ فيه الانحلال.

إن قلت: إنّ الإشكال مبنائي لأنّ مبنى المحقّق الخراساني رحمه الله في الأقلّ والأكثر الإرتباطيين هو الاحتياط.

قلنا: سيأتي إنّه قائل بجريان البراءة الشرعيّة وإن كان حكم العقل عنده الاحتياط، فالنتيجة النهائيّة عنده في مقام العمل هى البراءة، وهى تخالف ما اختاره في المقام.

نعم هيهنا صورة ثالثة تقتضي القاعدة الاحتياط فيها ولعلّها كانت مورد نظر المحقّق الخراساني رحمه الله وهى ما إذا كان المأمور به أمراً بسيطاً يتحقّق بإتيان مجموع التروك مقدّمة، فيرجع الشكّ في المصداق المشكوك إلى الشكّ في المحصّل الذي لا إشكال في أنّ مقتضى الاشتغال اليقيني فيه البراءة اليقينية، وحينئذٍ الأصل الجاري إنّما هو الاحتياط وقاعدة الاشتغال لا البراءة (وإن كانت عبارته قاصرة عن أداء هذا المعنى).

التنبيه الرابع: في حسن الاحتياط مطلقاً حتّى مع قيام الحجّة على العدم

لا إشكال في اختلاف موارد الاحتياط من جهات ثلاثة: من ناحية قوّة درجة الاحتمال وضعفها، ومن ناحية قوّة المحتمل وضعفها، ومن ناحية قيام الأمارة على الجواز وعدمه.

ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى حسن الاحتياط مطلقاً في مطلق الشبهات سواء كانت وجوبيّة أو تحريميّة وسواء كانت حكميّة أو موضوعيّة وسواء قامت الحجّة على العدم أم لم تقم وسواء كان الاحتمال أو المحتمل قويّاً أو ضعيفاً، نعم إنّه قال: إنّ حسن الاحتياط مطلقاً منوط بعدم إخلاله بالنظام وإلّا يكون الاحتياط قبيحاً فلابدّ حينئذٍ من ترجيح بعض الاحتياطات على بعض، أمّا بملاك إقوائية الاحتمال أو إقوائيّة المحتمل أو بملاك عدم قيام الأمارة على العدم.

أقول: هنا نكتتان ينبغي ذكرهما في المقام:

إحديهما: إنّ اختلال النظام من العناوين الثانوية للأحكام ولا خصوصيّة له في المقام بل كلّ عنوان ثانوي يزاحم حسن الاحتياط لابدّ من تقديمه

عليه، كما إذا لزم من الاحتياط ترك المراودة والمعاشرة مع المؤمنين أو ترك صلة الأرحام أو إيذاء المؤمن أو هتكه أو لزم منه تشويه وجه المذهب في الأنظار أو ترك أمر أهمّ كتحصيل العلم لطلّاب العلوم الدينية (وكلّ هذه العناوين ممّا يبتلى بها كثيراً في الاحتياط التامّ) فلا حسن في مثل هذه الموارد للاحتياط وإن لم يلزم منها اختلال النظام.

الثانية: يمكن أن يقال: إنّه لا دليل أصلًا على حسن الاحتياط التام في الشبهات الموضوعيّة في جميع الموارد، بل الدليل على خلافه فيما إذا قامت الأمارة على الخلاف، والشاهد على ذلك لحن الروايات الواردة عن المعصومين بالنسبة إلى سوق المسلمين في الجبن وغيره نظير ما رواه أبو الجارود قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الجبن فقلت له: أخبرني من رأى إنّه يجعل فيه الميتة، فقال: أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرّم في جميع الأرضين؟ إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل، واللَّه إنّي لأعترض السوق فأشتري بها اللحم والسمن والجبن، واللَّه ما أظنّ كلّهم يسمّون هذه البربر وهذه السودان» «1».

فإنّ مقتضى السياق العرفي لهذه الرواية وأمثالها مرجوحية الاحتياط وإنّه مرغوب عنه انوار الأصول، ج 3، ص: 95

في موارد قيام الحجّة على الجواز.

إن قلت: يمكن أن يقال: بأنّ مثل هذه الروايات تكون في مقام دفع الحظر فلا يستفاد منها إلّا مطلق عدم الحرمة.

قلنا: الإنصاف أنّ سياقها هو النهي بمعناه الحقيقي عن مثل هذا الاحتياط، وسيرة المعصومين رحمه الله وأهل الشرع من أقوى الشواهد عليه في موارد قيام الحجّة على الجواز.

إلى هنا تمّ الكلام في أصالة البراءة وما يلحق بها من المباحث والحمد للَّه ربّ العالمين.

انوار الأصول، ج 3، ص: 97

2- أصالة التخيير

تطبيقات

أصالة التخيير في الفقه التخيير في الواقعة المتكرّرة

التخيير في التعبّديّات دوران الأمر بين التعيين والتخيير

انوار الأصول، ج 3، ص: 99

2- أصالة التخيير
اشارة

إذا دار الأمر بين وجوب شي ء وحرمته سواء كان بنحو الشبهة الحكميّة (كما إذا دار الأمر في زمن الغيبة بين وجوب صلاة الجمعة وبين حرمتها مع قطع النظر عن اعتبار القربة في الصّلاة أم كان بنحو الشبهة الموضوعيّة (كما إذا شككنا في أنّ متعلّق النذر شرب هذا المائع في زمن خاصّ أو تركه) ففيه وجوه:

1- الحكم بالبراءة شرعاً وعقلًا نظير الشبهات البدوية بعينها.

2- وجوب الأخذ بأحدهما تخييراً شرعاً وعقلًا.

3- التخيير بين الفعل والترك عقلًا والحكم بالبراءة شرعاً.

4- التخيير بين الفعل والترك عقلًا مع التوقّف عن الحكم بشي ء شرعاً.

5- التوقّف عن الحكم عقلًا وشرعاً.

واختار المحقّق الخراساني رحمه الله القول الثالث الذي يتركّب من جزئين: التخيير بين الفعل والترك عقلًا، والحكم بالإباحة شرعاً، واستدلّ للجزء الأوّل بحكم العقل بعدم الترجيح بين الفعل والترك، وللجزء الثاني بشمول مثل: «كلّ شي ء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام» له.

إن قلت: جريان البراءة في كلّ واحد من الطرفين معارض لجريانها في الطرف الآخر.

قلنا: التعارض فرع لزوم المخالفة القطعيّة العمليّة وهو مفقود في المقام.

إن قلت: إنّ العقل كما يستقلّ بوجوب الإطاعة عملًا كذلك يحكم بوجوبها التزاماً وقلباً، والتمسّك بالأصل في الطرفين ينفي هذا المعنى.

قلنا: بناءً على تسليم وجوب الموافقة الالتزاميّة لا منافاة بينه وبين جريان أصالة الحلّ، لإمكان الإنقياد القلبي الإجمالي بأن يلتزم إجمالًا بالحكم الواقعي على ما هو عليه وإن لم يعلم بشخصه تفصيلًا وفي مقام الفعل، ولا دليل على وجوب الأزيد منه على فرض القول بوجوبه.

انوار الأصول، ج 3، ص: 100

إن قلت: إنّ ما نحن فيه مشمول لأدلّة تعارض الخبرين المتعارضين التي

تقتضي التخيير شرعاً.

قلنا: إنّه قياس مع الفارق، لأنّ مورد تلك الأدلّة هو الأخبار، والأخبار إمّا أن تكون حجّة من باب السببيّة أو من باب الطريقيّة، فعلى الأوّل يكون التخيير بين الخبرين المتعارضين على القاعدة، لفرض حدوث مصلحة ملزمة في المؤدّى بسبب قيام خبر على الوجوب، وحدوث مفسدة ملزمة فيه بقيام خبر آخر على حرمة نفس ذلك المتعلّق، فيقع التزاحم بين تكليفين تتعذّر موافقتهما ويستقلّ العقل بالتخيير حينئذٍ إذا لم يكن ترجيح بين الملاكين.

وعلى الثاني (وهو حجّية الأخبار على الطريقيّة) فالقياس مع الفارق أيضاً، ضرورة أنّ مقتضى القاعدة الأوّلية في تعارض الطرق وإن كان هو التساقط لا التخيير، إلّاأنّه لمّا كان منهما واجداً لشرائط الحجّية ولما هو مناط الطريقيّة من احتمال الإصابة ولم يمكن الجمع بينهما في الحجّية الفعلية لمكان التعارض فقد جعل الشارع أحدهما حجّة تخييراً مع التكافؤ، وتعييناً مع المزيّة لمصلحة لاحظها في ذلك، وهذا بخلاف المقام إذ ليس في شي ء من الاحتمالين اقتضاء الحجّية. (انتهى كلام المحقّق الخراساني رحمه الله بتحرير منّا).

أقول: الإنصاف أنّ الصحيح هو القول الأوّل، أي الحكم بالإباحة ظاهراً عقلًا وشرعاً وذلك باعتبار أنّه بعد فرض عدم إمكان الاحتياط ولغوية وجوب أحدهما تخييراً في مقام الظاهر لكونه تحصيلًا للحاصل تصل النوبة إلى احتمال وجوب أحدهما معيّناً لأنّه نحتمل تكليف الشارع بالنسبة إلى خصوص الفعل أو خصوص الترك، وحينئذٍ لا إشكال في جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان لتحقّق موضوعها وهو عدم البيان إذ لا بيان على خصوص الوجوب أو الحرمة كما لا إشكال في عموم أدلّة الإباحة الشرعيّة لعدم اختصاصها بما إذا كان أحد طرفي الشكّ في حرمة شي ء هو الإباحة كشرب التتن حتّى يختصّ بالشبهة البدوية، بل يعمّ ما

إذا علم جنس الإلزام ولم يعلم النوع الخاصّ منه، فوجوب أحدهما تعييناً مرفوع كرفع الحرمة المحتملة في سائر الموارد.

أمّا القول الثاني: وهو التخيير شرعاً وعقلًا قياساً لما نحن فيه بتعارض الخبرين المتعارضين الجامعين لشرائط الحجّية فقد مرّ الجواب عنه ضمن بيان كلام المحقّق انوار الأصول، ج 3، ص: 101

الخراساني رحمه الله مضافاً إلى أنّه تحصيل للحاصل.

وأمّا القول الثالث: وهو ما مرّ من مختار المحقّق الخراساني رحمه الله، فإن كان مراده من التخيير التخيير الظاهري فقد عرفت أنّه تحصيل للحاصل لأنّ المقصود من كلّ إلزام هو البعث والتحريك لانبعاث حاصل في المقام، وإن كان المراد التخيير الواقعي، فجوابه إنّ مورده باب تزاحم الملاكات وما إذا كان لكلّ من الطرفين ملاكاً مستقلًا مزاحماً لملاك الطرف الآخر، بينما الملاك في ما نحن فيه موجود في أحد الطرفين فقط.

وأمّا القول الرابع: وهو التخيير عقلًا مع التوقّف شرعاً فقد مرّ الجواب آنفاً عن الجزء الأوّل منه، وهو التخيير عقلًا، أمّا الجزء الثاني ففيه: إنّه وإن لم يكن للشارع حكم بالتخيير لما مرّ من أنّه تحصيل للحاصل ولكن لا إشكال في شمول أدلّة الإباحة والبراءة بالنسبة إلى احتمال تعيين أحدهما.

وأمّا القول الخامس: فقد ظهر الجواب عنه ممّا مرّ فلا نعيد.

بقي هنا امور:

الامر الاول: تطبيقات اصالة التخيير في الفقه

إنّا لم نظفر على مثال في الفقه لدوران الأمر بين الفعل والترك بنحو الشبهة الحكميّة، لأنّ ما ذكرنا من مثال صلاة الجمعة خارج عن محلّ الكلام في الواقع (لمكان اعتبار قصد القربة فيها) كما سيأتي إن شاء اللَّه.

نعم يمكن التمثيل له بالشبهة الحكميّة في باب الحدود والتعزيرات كما إذا شككنا في أنّ المجرم الفلاني هل صار مستحقّاً للحدّ أو التعزير (سواء كان الشكّ في أصل الحدّ والتعزير أو مقدارهما) فيكون

واجباً أو ليس مستحقّاً لهما فيكون حراماً لأنّ أمر الحدود أو التعزيرات في جميع الموارد دائر بين الوجوب والحرمة.

لكنّه مجرّد فرض أيضاً لوجود أمارتين في هذا الباب تمنعان من عروض الشكّ: إحديهما: قاعدة «الحدود تدرأ بالشبهات» والثانية: «حرمة إيذاء المؤمن» وحيث إنّهما من الأدلّة الاجتهاديّة فمع جريانهما لا تصل النوبة إلى الاصول العمليّة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 102

ويمكن التمثيل أيضاً له بما ذكره بعض الأعلام «1» من أنّ مقطوع الذكر المتعذّر عليه الدخول إذا تزوّج وساحق زوجته ثمّ طلّقها فإن كانت المساحقة في حكم الدخول (كما حكي عن الشيخ في مبسوطه) فطلاقها رجعيّ، وحينئذٍ فلو طلب الزوج منها الاستمتاع في العدّة وجبت الإجابة عليها، وإن لم تكن بحكم الدخول كما هو ظاهر المشهور كان الطلاق بائناً وليس له الاستمتاع بها بالرجوع، بل بالعقد الجديد، فلو طلب منها الاستمتاع حرم عليها الإجابة، وعليه فيدور حكم إجابة الزوجة بين الحرمة والوجوب، وهذا هو الدوران بين المحذورين.

ولكنّه أيضاً ممنوع لحكومة ما دلّ على اعتبار الدخول المشكوك شموله للمقام على أصالة التخيير فإنّ العام إذا كان مردّداً مفهوماً بين الأقلّ والأكثر يؤخذ بالأقلّ فيبقى غيره تحت استصحاب نفي أحكام الدخول فإنّه قبل المساحقة لم يكن محكوماً بأحكام الدخول، والاستصحاب يقتضي عدمه بعدها.

الأمر الثاني: التخيير في الواقعة المتكرّرة

لا إشكال في أنّ ما ذكرنا من جريان البراءة عقلًا وشرعاً وعدم جريان التخيير كذلك إنّما هو في صورة وحدة الواقعة كما في مثال الحلف بشرب الماء وعدمه في زمن خاصّ، وأمّا إذا كانت الواقعة متعدّدة كما إذا لا يعلم أنّه حلف بأن يشرب من هذا المائع في كلّ جمعة أو يتركه كذلك، فلا إشكال في إمكان جريان التخيير عقلًا سواء قلنا بالتخيير البدوي بناءً على عدم جواز

المخالفة القطعيّة في الامور التدريجيّة، أو قلنا بالتخيير الاستمراري بناءً على حرمة مخالفتها كذلك لعدم كونه من قبيل تحصيل الحاصل، فيمكن للمكلّف إرتكاب أحد الطرفين في هذا الاسبوع مثلًا وإرتكاب الطرف الآخر في الاسبوع القابل.

الأمر الثالث: التخيير في التعبديّات

كلّ ما ذكر إنّما هو في التوصّليات، وأمّا إذا كان المورد أمراً تعبّدياً (سواء كان تعبّدياً بكلا طرفيه كما إذا شكّ في أنّ متعلّق نذره حين الإحرام كان هو غسل الجمعة مثلًا أو تركاً من تروك الإحرام بناءً على كونها عبادية، أم كان تعبّدياً بأحد طرفيه كما إذا شكّ في أنّ صلاة الجمعة واجبة أو حرام أو شكّ في كونه مسافراً حتّى يحرم عليه الصوم في شهر رمضان أو حاضراً

انوار الأصول، ج 3، ص: 103

حتّى يجب عليه الصوم) فحكمه يختلف عمّا سبق بل هو خارج عن مسألة الدوران، لأنّ الحكم بالتخيير حينئذٍ لا يكون من قبيل تحصيل الحاصل لتصوّر شقّ ثالث بل رابع هنا، فليس الأمر دائراً بين الفعل أو الترك دائماً بل يدور الأمر بين الفعل من دون قصد القربة أو الترك كذلك، وبين الفعل من دون قصد القربة أو الترك كذلك وبين الفعل مع قصد القربة أو الترك كذلك، فيمكن الحكم بالتخيير عقلًا لعدم كونه تحصيلًا للحاصل، ولإمكان الموافقة الاحتماليّة وإن كانت الموافقة القطعيّة متعذّرة.

نعم لا بأس أيضاً بجريان البراءة عن تعيين أحدهما بالخصوص.

ويمكن أن يقال: أنّ الصورة الثانية ممّا نحن فيه (أي ما إذا كان أحد الطرفين تعبّدياً) ترجع بالمآل إلى التوصّليين لأنّ المتصوّر من الشقوق فيها أيضاً شقّان حيث إنّه في مثال صلاة الجمعة مثلًا إمّا أن يأتي بصلاة الجمعة جامعاً للشرائط، أي مع قصد القربة، أو لا يأتي بها كذلك، سواء لم يأت بها أصلًا أو

يأت بها من دون جزء من أجزائها أو شرط من شرائطها كقصد القربة والوضوء، فهو حينئذٍ يأتي بأحد الشقّين على أي حال والبعث إلى أحدهما تخييراً تحصيل للحاصل.

الأمر الرابع: دوران الأمر بين التعيين و التخيير

إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير (سواء كانت الشبهة حكميّة كما إذا دار الأمر بين وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة تعييناً ووجوبها تخييراً بينها وبين صلاة الظهر، ومثل دوران الأمر بين صلاة القصر تعييناً وبين التخيير بينها وبين صلاة الإتمام في الأماكن الأربعة بالنسبة إلى الإضافات التي عرضت عليها، أو كانت الشبهة موضوعيّة كما إذا شككنا في أنّ متعلّق النذر كان هو إكرام زيد تعييناً أو إكرام زيد وعمرو تخييراً، وكما إذا شككنا في أنّ متعلّق الحلف كان هو الصيام في يوم الجمعة تعييناً أو إتيانها في الجمعة والخميس تخييراً) فهل المرجع فيه قاعدة الاشتغال أو البراءة؟ مذهبان:

استدلّ القائلون بالبراءة، بأنّ صفة التعيينية كلفة زائدة توجب الضيق على المكلّف، بداهة إنّه لو لم يكن الواجب تعيينيّاً لكان المكلّف بالخيار بين الإتيان به أو بعدله، فيشملها قوله صلى الله عليه و آله: «رفع ما لا يعلمون» وغير ذلك من أدلّة البراءة، ويلزمه جواز الإكتفاء بفعل ما يحتمل كونه عدلًا لما علم تعلّق التكليف به.

انوار الأصول، ج 3، ص: 104

واستدلّ القائلون بالاشتغال تارةً من طريق مقام الجعل والثبوت، واخرى من طريق مقام الإمتثال والإثبات:

أمّا الطريق الأوّل: فبأنّ مرجع الواجب التعييني «وجوب هذا ولا سواه»، أو «هذا ولا بدلًا له» فيتركّب من جزئين أحدهما: وجودي ثابت بالوجدان، والآخر: عدمي يثبت بأصل العدم من دون أن يرد عليه إشكال الأصل المثبت أو العدم الأزلي لأنّه من قبيل المركّب لا المقيّد (كصفة القرشية للمرأة) وأمّا الواجب التخييري فمردّه إلى وجوب «هذا أو

هذا» فيكون القيد الثاني وجوديّاً فيحتاج إثباته إلى دليل.

وأمّا الطريق الثاني: فبأنّ رجوع الشكّ فيهما إلى الشكّ في سقوط ما علم تعلّق التكليف به بفعل ما يحتمل كونه عدلًا له فيكون المرجع قاعدة الاشتغال.

ويرد على دليل البراءة بأنّها جارية في الامور الخارجيّة كالكلفة الحاصلة من صيام جديد أو صلاة كذلك أو أجزاء وشرائط جديدة كالسورة ولبس بعض الملابس، وأمّا في التحليلات التي لا انحياز لها في الخارج فلا، مثل ما نحن فيه فإنّ الأخذ بالقدر المشترك أي إلزام أحدهما (إلزام الجمعة أو صلاة الظهر) ونفي الزائد عنه أي الكلفة الحاصلة من خصوصيّة كونها ظهراً أو جمعه ليس من قبيل الامور الخارجيّة المنحازة بل هذا التحليل والتجزئة إنّما يحصل في العقل لا غير.

وشمول حديث الرفع وأشباهه لها غير ثابت كما أنّ إجراء البراءة العقليّة (لا سيّما بناءً على المختار من كونها من قبيل بناء العقلاء) مورد للإشكال فإذا لم تجر البراءة فيها لم يكن هناك مؤمّن في مقابل احتمال العقاب، فلابدّ من الأخذ بالتعيين.

وهذا هو العمدة في المقام، وإلّا فأدلّة القائلين بالاشتغال بكلا شقّيه لا يخلو من تأمّل.

أمّا الأوّل، فلأنّ الفرق بين الواجب التعييني والتخييري ليس من ناحية قيد زائد عدمي في الواجب التعييني بل الواجب التعييني نوع خاصّ من الوجوب يباين ماهيّة مع الواجب التخييري، فهما نوعان من الإيجاب، فمن طلب شيئاً تعييناً كان ذلك لخصوصيّة وجوديّة فيها تعلّقت إرادته بها، فالمولى إذا طلب التفّاح من عبده تعييناً إنّما يريدها لخصوصيّة فيها تقوم بدواء دائه مثلًا لا إنّه أمر عدمي.

وكذلك بالنسبة إلى الدليل الثاني، أعني مقام السقوط فإنّه فرع لمقام الثبوت، فإذا كانا

انوار الأصول، ج 3، ص: 105

نوعين مختلفين متباينين في مقام الثبوت فلا تصل النوبة

إلى ما ذكروه بالنسبة إلى مقام السقوط، فتأمّل.

فالحقّ القول بالتعيين لما عرفت من الإشكال في جريان عدم البراءة هنا وعدم الأمن عن العذاب.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّه قد يقال في مسألة دوران الأمر بين الوجوب والحرمة بترجيح جانب الحرمة، لتقديم العقل والعقلاء دفع المفسدة على جلب المنفعة عند دوران الأمر بينهما، ولا إشكال في أنّ الحرام مشتمل على المفسدة والواجب مشتمل على المصلحة والمنفعة.

ولكنّه غير تامّ صغرى وكبرى: أمّا الكبرى: فلانّ حكم العقل بتقديم المصلحة مجرّد دعوى بلا دليل، والملاك في تقديم أحد الجانبين على الآخر عند العقلاء إنّما هو كون الشي ء أهمّ فإنّهم بعد ملاحظة الملاكين ثمّ بعد الكسر والإنكسار يقدّمون الأهمّ على المهمّ سواء كان الأهمّ من قبيل المصلحة أو من قبيل المفسدة كما أنّ بناءهم على التساوي والتخيير عند تساوي الملاكين.

وأمّا الصغرى: فلأنّ الموجود في جانب الواجب ليس هو مجرّد المصلحة حتّى يترتّب على تركه خصوص فقدان المصلحة فحسب بل ترك المصلحة الملزمة يلازم المفسدة كما يحكم به الوجدان في مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمفاسد التي تترتّب على تركهما، إلى غير ذلك من أشباههما.

إلى هنا تمّ الكلام في أصالة التخيير، والحمد للَّه ربّ العالمين.

انوار الأصول، ج 3، ص: 107

3- أصالة الإشتغال المقام الأوّل: في دوران الأمر بين المتباينين الجهة الاولى: حرمة المخالفة القطعيّة

الجهة الثانية: حرمة المخالفة الاحتماليّة

تنبيهات:

1- الإضطرار إلى بعض الأطراف 2- خروج بعض الأطراف عن محلّ الإبتلاء

3- عدم الفرق بين الدفعيّات والتدريجيّات في تنجّز العلم الإجمالي 4- هل الاصول المرخّصة تجري أوّلًا في أطراف العلم الإجمالي أو لا؟

5- الفرق بين الشبهات المحصورة وغير المحصورة.

6- اعتبار إندراج طرفي العلم الإجمالي تحت عنوان واحد وعدمه 7- حكم ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة.

8- حكم الخنثى

المشكل المقام الثاني: في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الإرتباطيين:

الجهة الاولى: في الأجزاء

الجهة الثانية: في الشرائط

الجهة الثالثة: في القيود

تنبيهات:

1- الشك في جزئية شي ء أو شرطيته عند النسيان 2- في زيادة الاجزاء والشرائط

3- هل يسقط الوجوب عند تعذّر وجود جزء أو شرط أو عدم مانع قاعدة الميسور

المقام الثالث: في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليين انوار الأصول، ج 3، ص: 109

3- أصالة الاشتغال
اشارة

كان البحث إلى هنا في الشكّ في أصل التكليف، والآن نبحث في الشكّ في المكلّف به مع العلم بنوع التكليف، سواء كانت الشبهة حكميّة أو موضوعيّة وسواء كانت وجوبيّة أو تحريميّة، فالوجوبية الحكميّة نظير ما إذا علمنا بوجوب صلاة في يوم الجمعة ولم نعلم بأنّها صلاة الجمعة أو صلاة الظهر، والوجوبيّة الموضوعيّة نظير ما إذا كانت القبلة غير معلومة في الخارج مع العلم بوجوب الاستقبال إليها في الصّلاة، والتحريميّة الحكميّة مثل ما إذا علمنا بأنّ أربعة عشر جزءاً (أو خمسة عشر جزءاً) من أجزاء الذبيحة حرام ولم نعلم بأنّها ما هى؟

والتحريميّة الموضوعيّة نظير ما إذا تردّد الخمر (الثابتة حرمتها) بين إنائين.

ثمّ إنّ الشكّ في المكلّف به قد يكون لتردّده بين المتباينين ذاتاً كجميع ما ذكرنا من الأمثلة آنفاً وقد يكون لتردّده بين الأقل والأكثر، وهو على قسمين: فتارةً يكون من قبيل الأقلّ والأكثر الإرتباطيين كالشكّ في أجزاء الواجب أو الحرام، واخرى من قبيل الأقلّ والأكثر الإستقلاليين كما في دوران دَين بين تسعة دراهم وعشرة دراهم، أو دوران عدد الصلوات الواجب قضاءها بين التسعة والعشرة، فيقع الكلام في ثلاث مقامات:

المقام الأوّل: في دوران الأمر بين المتباينين
اشارة

والأقوال فيه ثلاثة:

1- حرمة المخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة (أي حرمة الموافقة الاحتماليّة مضافاً إلى حرمة المخالفة القطعيّة) وهذا هو المشهور بين الاصوليين رضوان اللَّه عليهم.

2- التفصيل بين المخالفة القطعيّة والموافقة القطعيّة بأنّ الاولى حرام وإنّ الثانية مباحة، وذهب إليه المحقّق القمّي رحمه الله.

انوار الأصول، ج 3، ص: 110

3- جواز المخالفة مطلقاً سواء كانت قطعيّة أو احتماليّة، وهو المحكي عن العلّامة المجلسي رحمه الله.

ومنشأ النزاع والاختلاف في المقام هو أنّ العلم الإجمالي هل هو علّة تامّة لحرمة المخالفة ووجوب الموافقة: أو يكون علّة ناقصة لهما؟ وفيه مذاهب

ثلاثة:

1- كونه علّة تامّة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعيّة والاحتماليّة معاً وأنّ العقل يحكم مستقلًا بها ولا يمكن ردعه من جانب الشارع المقدّس، وهو المنسوب إلى المحقّق الخراساني رحمه الله في المقام.

2- كونه مقتضياً في كلا المقامين، فيمكن إيجاد المانع من ناحية الشارع، وهو مقتضى القول المنسوب إلى العلّامة المجلسي رحمه الله ومختار المحقّق الخراساني رحمه الله في مبحث القطع.

3- التفصيل بين المخالفة القطعيّة والاحتماليّة بأن يكون العلم الإجمالي علّة تامّة في الاولى ومقتضياً في الثانية وهو مختار الشيخ الأعظم رحمه الله.

والظاهر أنّ ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله في المقام (مبحث الاشتغال) ليس عدولًا عمّا أفاده في مبحث القطع كما توهّمه بعض، حيث إنّه قال هناك: «إنّ التكليف حيث لم ينكشف به تمام الانكشاف وكانت مرتبة الحكم الظاهري معه محفوظة جاز الإذن من الشارع بمخالفة احتمالًا بل قطعاً ... نعم كان العلم الإجمالي كالتفصيلي في مجرّد الاقتضاء لا في العلّية التامّة فيوجب تنجّز التكليف أيضاً لو لم يمنع عنه مانع عقلًا» وقال: «إنّ التكليف المعلوم بينهما (المتباينين) ... إن كان فعليّاً من جميع الجهات بأن يكون واجداً لما هو العلّة التامّة للبعث أو الزجر الفعلي مع ما هو عليه من الإجمال والتردّد والاحتمال فلا محيص عن تنجّزه وصحّة العقوبة على مخالفته، وحينئذٍ لا محالة يكون ما دلّ بعمومه على الرفع أو الوضع أو السعة أو الإباحة ممّا يعمّ أطراف العلم مخصّصاً عقلًا لأجل مناقضتها معه، وإن لم يكن فعليّاً كذلك- ولو كان بحيث لو علم تفصيلًا لوجب إمتثاله وصحّ العقاب على مخالفته- لم يكن هناك مانع عقلًا ولا شرعاً عن شمول أدلّة البراءة الشرعيّة للأطراف» (انتهى).

ولا يخفى أنّ المقصود من كلامه الأوّل أنّه

إذا علم بالتكليف إجمالًا فحيث إنّه لم ينكشف تمام الانكشاف كانت رتبة الحكم الظاهري محفوظة، للشكّ في وجوب التكليف في كلّ واحد من الأطراف وبه يتحقّق موضوع النافي فيجري بلا مانع، بخلاف ما إذا علم به تفصيلًا فلا يبقى انوار الأصول، ج 3، ص: 111

مجال للإذن في مخالفته لعدم بقاء موضوع للحكم الظاهري (وهو الشكّ في الحكم الواقعي) لانكشافه تمام الانكشاف حسب الفرض، ولهذا يكون العلم التفصيلي علّة تامّة للتنجّز كما أنّ العلم الإجمالي يكون مقتضياً له كما صرّح به في تعليقته على الرسائل «1»، بينما المقصود من كلامه الثاني (وهو ما أفاده في مبحث الاشتغال) أنّه لو فرضنا إنّا كشفنا من دليل خارجي كالإجماع إنّ تكليفاً ما فعلي من جميع الجهات «2» وفعليته تامّة من ناحية إرادة المولى وكراهته بحيث لا يتوقّف العقوبة على مخالفته إلّاعلى مطلق وصوله إلى المكلّف بأي نحو كان من أنحاء الوصول فلا فرق حينئذٍ بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي في تنجّز التكليف وعدم وجوب الموضوع للُاصول المرخّصة، وأمّا إذا كشفنا من الخارج عدم كونه فعليّاً من جميع الجهات وأنّ فعليته لا تكون تامّة إلّابالعلم التفصيلي فليس للعلم الإجمالي حينئذٍ تأثير في التنجّز إلّابنحو الاقتضاء ويكون موضوع الأصل المرخّص موجوداً.

أقول: الإنصاف أنّه لا فرق بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي إذا تعلّقا بما هو فعلي من جميع الجهات بل وكذلك في الشبهة البدوية إذا كان المشكوك على فرض وجوده فعلياً من جميع الجهات كما في الشبهات قبل الفحص وشبهها، فحينئذٍ يكون الاحتمال منجّزاً لأنّ المفروض إنّ التكليف على فرض وجوده فعلي بتمام معنى الكلمة فلا مؤمّن من العقاب فلابدّ من إمتثاله بالاحتياط.

ثمّ إنّ ما مرّ من التفصيل ناظر إلى مقام الثبوت ويكون

على نهج القضية الشرطيّة المعلّقة وأشبه بالضرورة بشرط المحمول فيكون توضيحاً للواضح على وجه.

والمهمّ هو تعيين الحكم في مقام الإثبات وأنّ المستظهر من الأدلّة ما هو؟ فنقول: المستفاد

انوار الأصول، ج 3، ص: 112

من مجموع أدلّة الأحكام والإجماعات الحاصلة بين الفقهاء أنّ الحلّ القريب من الكلّ من التكاليف عدم كونها فعلية من جميع الجهات، ولذا نلاحظ استثنائها وتخصيصها بالعناوين الثانوية كالاضطرار والإكراه والتقيّة وغيرها، فما دام لم يعلم بالعلم التفصيلي أمكن إجراء الاصول المرخّصة أو الأدلّة الخاصّة الواردة فيها أو في مورد العلم التفصيلي تحت عنوان «العناوين الثانوية».

نعم يستثنى منها موارد الدماء وشبهها، فيمكن أن يقال بأنّها فعلية من جميع الجهات، أي إن كان المورد من قبيل الدماء وشبهها كان الحكم فعليّاً من جميع الجهات، فإذا علم إجمالًا مثلًا بوجود دم محقون مردّد بين شخصين: أحدهما: مؤمن متّقٍ، والآخر: كافر يكون العلم الإجمالي منجّزاً للتكليف.

بل وكذا الحال في الشبهات البدوية منها، فإنّ الاحتياط واجب فيها، ولذا لا تجري فيها أحكام العناوين الثانوية كالتقيّة ومثلها كما ورد في الحديث: «إنّما جعلت التقيّة ليحقن بها الدم فإذا بلغ الدم فلا تقيّة» «1»، بخلاف ما إذا كان المورد كالمايع النجس الدائر بين الإنائين فإنّه يمكن ورود الترخيص فيها إمّا بمقتضى أدلّة الاصول (على القول به) أو بعنوان «العناوين الثانويّة».

لكن مسألة الدماء أيضاً ليست فعلية من جميع الجهات لانتقاضها بمسألة التترّس في الجهاد كما لا يخفى، فإنّ المعروف حينئذٍ هو جواز القتل حتّى إذا كان الدم المحقون معلوماً تفصيلًا.

ثمّ إنّه تصدّى في تهذيب الاصول لتوجيه التكرار الحاصل في المقام في كلمات القوم حيث إنّهم تارةً يبحثون عن العلم الإجمالي في مبحث القطع واخرى في مبحث الاشتغال، فقال: «إذا علمنا حرمة شي ء

أو وجوبه لا بعلم وجداني بل بشمول اطلاق الدليل أو عمومه على المورد كما إذا قال: «لا تشرب الخمر» وشمل بالإطلاق على الخمر المردّد بين الإنائين فهل يمكن الترخيص بأدلّة الاصول بتقييد اطلاق الدليل أو لا؟ وهذا هو الذي ينبغي أن يبحث عنه في المقام (مبحث الاشتغال) ومثله إذا علم إجمالًا بقيام حجّة على هذا الموضوع أو ذاك، كما إذا علم بقيام أمارة معتبرة إمّا بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة» وقال في صدر كلامه: «إذا علم انوار الأصول، ج 3، ص: 113

علماً وجدانياً لا يحتمل الخلاف بالتكليف الفعلي الذي لا يرضى المولى بتركه ... وهذا هو الذي يصلح أن يبحث عنه في باب القطع» «1» فحاصل كلامه أنّ المراد من العلم الإجمالي المبحوث عنه في باب القطع هو العلم الحاصل بالوجدان والمراد منه في مبحث الاشتغال هو ما حصل بإطلاق دليل أو قيام حجّة.

ويرد عليه أوّلًا: أنّه خلاف تعابيرهم والأمثلة التي ذكروها في المقام كالتمثيل بالعلم الإجمالي بالخمر الدائر بين الإنائين حيث إنّه يشمل ما إذا علم به بالوجدان، وليس المراد منه خصوص ما إذا قامت البيّنة على خمرية أحد الإنائين قطعاً، وكذلك التمثيل بالصلاة المردّدة بين الجمعة والظهر حيث إنّها معلوم وجوبها في يوم الجمعة بضرورة من الدين وإجماع المسلمين.

ثانياً: إنّ الملاك تمام الملاك في ما نحن فيه كون التكليف فعليّاً من جميع الجهات وعدم كونه كذلك، من دون فرق بين العلم الوجداني والأمارات المعتبرة، فإن لم يكن فعليّاً من جميع الجهات يمكن جريان الاصول المرخّصة وإلّا يكون المورد مجرى قاعدة الاشتغال.

ثالثاً: إنّ الترخيص الصادر من الشارع ليس منحصراً في موارد أدلّة الاصول العمليّة، بل إنّها إحدى الطرق المرخّصة لما سيأتي من ترخيصه في الشبهات

غير المحصورة لملاكات اخر، والحقّ كما ذكرنا في محلّه أنّ مسألة القطع قائمة بتأثير العلم الإجمالي من حيث الاقتضاء، ومباحث العلم الإجمالي هنا ناظرة إلى عدم وجود الموانع لهذا المقتضى.

ثمّ إنّ البحث هيهنا يقع في جهتين: حرمة المخالفة القطعيّة، وحرمة المخالفة الاحتماليّة.

أمّا الجهة الاولى: فقال الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله: «لنا على ذلك وجود المقتضي للحرمة وعدم المانع عنها، إمّا ثبوت المقتضي فلعموم دليل تحريم ذلك العنوان المشتبه فإنّ قول الشارع «إجتنب عن الخمر» يشمل الخمر الموجود المعلوم المشتبه بين الإنائين أو أزيد ولا وجه لتخصيصه بالخمر المعلوم تفصيلًا مع أنّه لو إختصّ الدليل بالمعلوم تفصيلًا خرج الفرد المعلوم إجمالًا عن كونه حراماً واقعياً وكان حلالًا واقعياً ولا أظنّ أحداً يلتزم بذلك، وأمّا عدم المانع فلأنّ العقل لا يمنع من التكليف عموماً أو خصوصاً بالاجتناب عن عنوان الحرام انوار الأصول، ج 3، ص: 114

المشتبه في أمرين أو امور والعقاب على مخالفة هذا التكليف، وأمّا الشرع فلم يرد فيه ما يصلح للمنع عدا ما ورد من قولهم عليهم السلام «كلّ شي ء حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه» و «كلّ شي ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه» وغير ذلك. ولكن هذه الأخبار وأمثالها لا يصلح للمنع لأنّها كما تدلّ على حلّية كلّ واحد من المشتبهين كذلك تدلّ على حرمة ذلك المعلوم إجمالًا لأنّه أيضاً شي ء علم حرمته»، انتهى.

فحاصل استدلال الشيخ الأعظم رحمه الله لحرمة المخالفة القطعيّة أنّ المقتضي (وهو إطلاقات أدلّة الأحكام وعموماتها) موجود، والمانع (وهو البراءة العقليّة والنقليّة) مفقود، وقد تبعه سائر الأعلام فمشوا في استدلالاتهم على ما يقرب استدلال الشيخ رحمه الله ومنهم المحقّق النائيني رحمه الله، غاية الأمر أنّه قسّم

الاصول على ثلاثة أقسام: أصالة الحلّية، والاصول التنزيليّة، والاصول غير التنزيلية، وأنكر جريان جميعها للزوم التناقض بين حكم العقل بلزوم الاجتناب عن جميع الأطراف (مقدّمة للإجتناب عن الحرام المنجّز الموجود في البين) وبين الترخيص في جميع الأطراف «1».

وكذلك المحقّق العراقي رحمه الله فقال: «لا إشكال في أنّه لا قصور في منجّزية العلم الإجمالي لما تعلّق به من التكليف وإنّه بنظر العقل بالإضافة إلى ما تعلّق به كالعلم التفصيلي في حكمه بوجوب الإمتثال، إذ لا فرق بينهما إلّامن حيث إجمال المتعلّق وتفصيله وهو غير فارق في المقام بعد كون مناط التحميل بنظر العقل إحراز طبيعة أمر المولى بلا دخل خصوصيّة فيه ...

بل التحقيق إنّ حكمه بالاشتغال ووجوب الإمتثال يكون على نحو التنجيز بحيث يأبى عن الردع عنه بالترخيص على خلاف معلومه في تمام الأطراف كإبائه عنه في العلم التفصيلي لكون ذلك بنظره ترخيصاً من المولى في معصيته وترك طاعته ومثله لا يصدّقه وجدان العقل بعد تصديقه خلافه» «2».

وقال شيخنا العلّامة الحائري رحمه الله: «لنا إنّ المقتضي للامتثال وهو العلم بخطاب المولى موجود بالفرض والشكّ في تعيين المكلّف به ليس بمانع عند العقل وهل تجوز المخالفة القطعيّة للتكليف المقطوع مع تمكّن المكلّف من الامتثال بمجرّد الشكّ في التعيين حاشاه من ذلك فإنّ انوار الأصول، ج 3، ص: 115

الملاك المتحقّق في مخالفة العلم التفصيلي موجود هنا بعينه» «1».

أقول: لنا في قبال هذا الوجه أو هذه الوجوه نقض وحلّ:

أمّا النقض: فهو بالشبهات غير المحصورة، اللّهمّ إلّاأن يقال بعدم لزوم المخالفة القطعيّة فيها لعدم إمكان إرتكاب المكلّف جميع الأطراف عادةً ولو تدريجاً.

وكذلك النقض بالشبهات البدوية لأنّه وإن كان الموجود فيها احتمال الإصابة إلى الواقع لكن لا إشكال في استلزامه احتمال التناقض،

واحتمال اجتماع النقيضين محال كالعلم به، وهذا هو الشبهة المعروفة لابن قبّة التي تصدّى الأعلام للجواب عنها باسقاط أحد الحكمين عن الفعلية وإرجاعه إلى مرحلة الإنشاء، وبهذا ذهبوا إلى أنّ العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة والشبهات البدوية يكون مقتضياً للتنجّز، ونحن نقول: كما يمكن اسقاط أحد الحكمين في هذين الموردين عن الفعليّة والقول باقتضاء العلم الإجمالي للتنجّز، كذلك يمكن في المقام أيضاً اسقاط الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال عن الفعليّة وبذلك يرتفع إشكال التناقض، (وقد عرفت أنّ التناقض كما لا يجوز قطعاً لا يجوز احتمالًا).

وعلى هذا فلا يمكن إثبات حرمة المخالفة القطعيّة من ناحية لزوم التناقض كما صرّح به في كلمات المحقّق النائيني رحمه الله والقول بأنّ العلم الإجمالي علّة تامّة للتنجّز كما هو ظاهر بعض كلمات الأعلام الأربعة المزبورة أو صريحها، بل للعلم الإجمالي ليس أكثر من الاقتضاء، فعلينا الفحص عن وجود المانع في الأدلّة النقلية، فإن ظفرنا على رواية مرخّصة تمنع عن نفوذ المقتضي فهو، وإلّا تنجّز العلم الإجمالي لوجود المقتضي وفقدان المانع.

فنقول: هيهنا روايات عديدة يمكن أن يستدلّ بها على الترخيص في أطراف العلم الإجمالي:

أحدها: ما رواه عبداللَّه بن سليمان قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الجبن فقال لي: «...

ساخبرك عن الجبن وغيره، كلّ ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه فتدعه» «2».

فهى تدلّ على الترخيص في أطراف العلم الإجمالي بناءً على أنّ الظاهر من قوله «بعينه»

انوار الأصول، ج 3، ص: 116

العلم التفصيلي والمعرفة التفصيليّة، كما لا إشكال فيها من ناحية السند إلى عبداللَّه بن سنان، وأمّا عبداللَّه بن سليمان فهو مردّد بين خمسة أفراد: الصيرفي والعامري والعبسي والنخعي وعبداللَّه بن سليمان من دون لقب، وكلّهم مجاهيل

لكن يمكن تصحيح الرواية من ناحية السند من باب أنّ نفس المضمون الوارد فيها نقل عن عبداللَّه بن سنان «1» من دون وساطة عبداللَّه بن سليمان وقد نقلها بهذا النحو الصدوق وابن إدريس في السرائر والشيخ الطوسي رحمه الله، في التهذيب.

ثانيها: ما رواه عبداللَّه بن سليمان أيضاً عن أبي عبداللَّه عليه السلام في الجبن قال: «كلّ شي ء لك حلال حتّى يجيئك شاهدان يشهدان فيه ميتة» «2».

بناءً على ظهور كلمة «فيه» في العلم التفصيلي.

ثالثها: ما رواه أبو الجارود قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الجبن فقلت له: أخبرني من رأى إنّه يجعل فيه الميتة، فقال: «أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرّم في جميع الأرضين؟

إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل، واللَّه إنّي لأعترض السوق فأشتري بها اللحم والسمن والجبن، واللَّه ما أظنّ كلّهم يسمّون هذه البربر وهذه السودان» «3».

والإنصاف أنّ الضمير في كلمة «إنّه ميتة» أيضاً ظاهر في العلم التفصيلي.

رابعها: ما رواه معاوية بن عمّار عن رجل عن أصحابنا قال: «كنت عند أبي جعفر عليه السلام فسأله رجل عن الجبن فقال أبو جعفر عليه السلام: «إنّه طعام يعجبني وساخبرك عن الجبن وغيره، كلّ شي ء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام فتدعه بعينه» «4».

وهى أظهر من الروايات السابقة في العلم التفصيلي فإنّ قوله «بعينه» قيد للضمير في «تدعه» فلا يمكن حمله على تأكيد العلم كما قد يقال في الرواية الاولى.

خامسها: ما رواه الحلبي قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: «إذا اختلط الذكي بالميّت باعه انوار الأصول، ج 3، ص: 117

ممّن يستحلّ الميتة وأكل ثمنه» «1». ودلالته ظاهرة من جهة إجازة بيع كليهما.

سادسهما: ما رواه الحلبي أيضاً

عن أبي عبداللَّه عليه السلام: إنّه سئل عن رجل كان له غنم وبقر فكان يدرك الذكي منها فيعزله ويعزل الميتة ثمّ إنّ الميتة والذكي اختلطا كيف يصنع به؟ قال:

«يبيعه ممّن يستحلّ الميتة ويأكل ثمنه فإنّه لا بأس به» «2».

سابعها: ما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: سألته عن الدقيق يقع فيه خرؤ الفأر هل يصلح أكله إذا عجن مع الدقيق؟ قال: «إذا لم تعرفه فلا بأس وإن عرفته فلتطرحه» «3».

هذه روايات يمكن أن يستدلّ بها على الترخيص في أطراف العلم الإجمالي وعدم حرمة المخالفة القطعيّة.

لكن الإنصاف إمكان المناقشة في الجميع من ناحية الدلالة.

أمّا روايات الجبن فلا يبعد القول بأنها خارجة عن المقام لأنّ موردها الشبهة غير المحصورة أو الشبهة البدوية وفرض الشبهة المحصورة خارجة عنها كما لا يخفى.

وأمّا روايات اختلاط الميتة بالمذكّى فمدلولها (وهو جواز بيع الميتة المعلومة بالإجمال ممّن يستحلّها) بناءً على عدم كونه معرضاً عنه للأصحاب وإمكان الإفتاء على طبقه كما أفتى به بعض الأعاظم- أخصّ من المدّعى، وهى الترخيص في الشبهات المحصورة مطلقاً، فلا يمكن التعدّي عن موردها إلى سائر الموارد لاحتمال الخصوصيّة، فلا يصحّ قياس غيرها عليها بل يمكن أن يقال: هى على خلاف المطلوب أدلّ لأنّ تقييد الجواز بمن يستحلّ دليل على عدم الجواز في غيره.

نعم، إنّه ينافي مقالة القائلين كون العلم الإجمالي علّة تامّة وإنّ الترخيص يستلزم التناقض فإنّ الكفّار مكلّفون بالفروع كما أنّهم مكلّفون بالاصول.

وأمّا الرواية الأخيرة (وهى رواية خرؤ الفأر) فهى مخدوشة سنداً ودلالة: أمّا السند

انوار الأصول، ج 3، ص: 118

فلمكان قرب الإسناد، وأمّا الدلالة فلاحتمال خصوصية في موردها وهى استهلاك الخرؤ في الدقيق، مضافاً إلى أنّ الرواية معرض عنها ظاهراً.

هذا مضافاً

إلى تعارض هذه الروايات مع ما سيأتي في المقام الثاني من الروايات الدالّة على حرمة المخالفة الاحتماليّة فضلًا عن المخالفة القطعيّة.

هذا كلّه في المقام الأوّل.

أمّا الجهة الثانية: وهى حرمة المخالفة الاحتماليّة (وجوب الموافقة القطعيّة) فالحقّ فيها أيضاً ثبوت الحرمة، أي وجوب الاجتناب عن جميع أطراف الشبهة بنفس القاعدة العقليّة التي مرّ ذكرها في المقام الأوّل وهى كون المقتضي موجوداً والمانع مفقوداً، أمّا وجود المقتضي فلشمول أدلّة تحريم المحرّمات للمعلوم إجمالًا، وأمّا عدم المانع فلأنّ الموضوع في أدلّة البراءة من حديث الرفع وغيره الشكّ وعدم العلم، وهو مفقود في ما نحن فيه لأنّ العلم أعمّ من العلم التفصيلي والعلم الإجمالي، وكذلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان لأنّ موضوعها وهو عدم البيان مفقود هنا أيضاً لأنّ العلم الإجمالي بيان كالعلم التفصيلي، وإن أبيت إلّاعن شمول أدلّة البراءة والحلّية لكلّ واحد منها فلا أقلّ من تساقطهما بالتعارض.

هذا هو مقتضى القاعدة الأوّلية.

أمّا الروايات الخاصّة الواردة في المسألة فهى على طوائف:

الطائفة الاولى: ما تدلّ على وجوب الاحتياط في موارد العلم الإجمالي بشكل كلّي من غير تقييد بموضوع خاصّ.

منها: ما مرّ عند ذكر أدلّة الأخباري ممّا ورد في ذيل حديث التثليث المعروف: «فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الإقتحام في الهلكات» «1».

ومنها قوله صلى الله عليه و آله: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» «2».

ومنها: قوله «ما اجتمع الحرام والحلال إلّاغلب الحرام الحلال» «3».

انوار الأصول، ج 3، ص: 119

ومنها: قوله: «اتركوا ما لا بأس به حذراً عمّا به البأس» «1» ولا إشكال في أنّ موردها أو القدر المتيقّن منها أطراف العلم الإجمالي.

الطائفة الثانية ما وردت في موارد خاصّة:

منها: ما مرّ سابقاً روايات «2» القرعة في الغنم الموطوءة، حيث إنّ الأمر بالقرعة

مع عدم حرمة المخالفة الاحتماليّة ممّا لا وجه له.

إن قلت: فلماذا أجاز الشارع إرتكاب الجميع بعد إخراج ما أصابته القرعة؟

قلنا: الجواب عنه واضح، فإنّ القرعة بمنزلة الأمارة كما يستفاد من أدلّتها فإذا إمتاز الحرام في البين بالأمارة جاز إرتكاب الباقي.

منها: ما مرّ آنفاً من روايات اختلاط الميتة بالمذكّى، لتقييد جواز البيع فيها بمن يستحلّ كما ذكرنا.

لكن يرد على هذه الطائفة إنّها خارجة عن محلّ النزاع لأنّ محلّ النزاع صورة عدم جريان الاصول الناهية في أطراف العلم الإجمالي وإلّا لا إشكال في حرمة المخالفة الاحتماليّة حتّى عند القائلين بالجواز لمكان الأصل، ولا إشكال في جريان استصحاب عدم التذكية في مورد اختلاط الميتة بالمذكّى في جميع الأطراف، وكذلك في الغنم الموطوءة بناءً على حجّية الاستصحاب التعليقي (حيث إنّ استصحاب عدم التذكية معلّق على وقوع الذبح خارجاً)، لعدم لزوم المخالفة القطعيّة العلميّة حينئذٍ لأنّ غاية ما يترتّب على جريان الاستصحاب إنّما هو ترك جميع الأطراف وهو مخالفة قطعيّة ولا إشكال في عدم مانعيتها عن جريان الاصول.

الطائفة الثالثة: ما وردت في باب النجاسات وتدلّ على لزوم الاجتناب عن أطراف النجاسة المعلومة بالإجمال:

منها: ما رواه محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام ... وقال: «في المني يصيب الثوب، قال:

انوار الأصول، ج 3، ص: 120

«إن عرفت مكانه فاغسله وإن خفى عليك فاغسله كلّه» «1».

ومنها: ما رواه عنبسة بن مصعب قال: سألت أباعبداللَّه عليه السلام عن المني يصيب الثوب فلا يدري أين مكانه قال: «يغسله كلّه» «2».

ومنها: ما رواه زرارة قال: قلت أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شي ء من مني (إلى أن قلت): فإنّي قد عمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟ قال: «تغسل من ثوبك الناحية التي ترى

إنّه قد أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك» «3».

لكن يرد على هذه الطائفة أيضاً أنّ وجوب غسل الثوب إنّما هو لأجل الصّلاة، ومن المعلوم أنّ تمام الثوب موضوع واحد بالنسبة إليها، له حالة سابقة متيقّنة وهى النجاسة، ومعها لا تجوز الصّلاة فيه إلّاأن يعلم بطهارته.

الطائفة الرابعة: روايات إهراق الإنائين المعلومة نجاسة أحدهما:

منها: ما رواه سماعة عن أبي عبداللَّه عليه السلام في رجل معه إناءان، وقع في أحدهما قذر، ولا يرى أيّهما هو، وليس يقدر على ماء غيرهما، قال: «يهريقهما ويتيمّم» «4».

ومثله حديث عمّار الساباطي عن أبي عبداللَّه عليه السلام ولا إشكال في دلالة هذه الطائفة على المقصود لعدم جريان الاصول الناهية في موردها.

فظهر من جميع ما ذكر أنّ مقتضى القاعدة والروايات العامّة وكذلك مقتضى بعض الروايات الخاصّة حرمة المخالفة القطعيّة والاحتماليّة معاً، نعم إنّ موردها الشبهات التحريميّة، ولكن يستفاد منها حرمة المخالفة في الشبهات الوجوبيّة أيضاً بالغاء الخصوصيّة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 121

تنبيهات

التنبيه الأوّل: الاضطرار إلى بعض الأطراف

هل الاضطرار إلى أحد الأطراف يوجب انحلال العلم الإجمالي، أو لا؟

وللمسألة أربع صور:

الصورة الاولى: حصول الاضطرار إلى واحد معيّن، كما إذا علم بوقوع النجاسة في واحد من إنائين أحدهما عذب فرات، والثاني ملح اجاج واضطرّ إلى شرب الأوّل.

الصورة الثانية: حصول الاضطرار إلى واحد غير معيّن كما إذا كانا معاً من العذب الفرات.

وفي كلّ منهما إمّا يحصل الاضطرار بعد حصول العلم الإجمالي أو يحصل قبله (أو معه)، فتكون الصور أربعة.

والأقوال في المسألة أربعة أيضاً.

الأوّل: إنّ الاضطرار موجب لانحلال العلم الإجمالي مطلقاً، وهو مختار المحقّق الخراساني رحمه الله.

الثاني: التفصيل بين ما إذا حصل الاضطرار إلى واحد معيّن بعد طروء العلم الإجمالي، وبين ثلاث صور اخرى بوجوب الاحتياط في الأوّل دون الثاني، وقد استفيد هذا

من بعض كلمات المحقّق الخراساني رحمه الله في محضر درسه.

الثالث: التفصيل بين ما إذا حصل الاضطرار إلى واحد معيّن قبل العلم الإجمالي وبين ثلاث صور اخرى بوجوب الاحتياط في الثاني دون الأوّل، وهو مختار شيخنا الأعظم رحمه الله.

الرابع: التفصيل بين صورتي حصول الإضطرار بعد العلم الإجمالي وبين صورتي حصوله قبله (أو معه) بوجوب الاحتياط في الثاني دون الأوّل.

واستدلّ على القول الأوّل بما حاصله: إنّ الاضطرار إلى بعض الأطراف مانع عن فعلية الحكم المعلوم بالإجمال مطلقاً، لأنّ الاضطرار من قيود التكليف شرعاً فطروّه يوجب سقوط العلم الإجمالي عن الحجّية والأثر لأنّ حجّيته فرع تعلّقه بتكليف فعلي.

إن قلت: هذا صحيح في ما إذا كان الاضطرار قبل العلم الإجمالي لا ما إذا كان بعده لأنّ التكليف بوجوب الإجتناب قد تنجّز بالعلم الإجمالي قبل طروء الاضطرار، وبعده انتهى أمد

انوار الأصول، ج 3، ص: 122

تنجّز احتمال التكليف بالنسبة إلى المضطرّ إليه فقط بعروض الاضطرار وأمّا بالنسبة إلى الباقي فأصالة الاشتغال محكمة، وإلّا يلزم إمكان اسقاط العلم الإجمالي من جميع الموارد بإعدام أحد الأطراف وإتلافه، وهو ممّا لا يلتزم به أحد.

قلنا: إنّ الشكّ إن كان في مرحلة الفراغ وسقوط ما في الذمّة كان المرجع فيه قاعدة الاشتغال وإن كان في مرحلة ثبوت التكليف واشتغال الذمّة به كان المرجع فيه أصالة البراءة، وبما أنّ الحكم الواقعي مقيّد بعدم طروّء الاضطرار فمع طروّه لا علم بالتكليف حتّى يكون الشكّ في مرحلة الإمتثال والفراغ، وهذا بخلاف باب التلف فإنّ التكليف فيه مطلق غاية الأمر يرتفع بارتفاع موضوعه، فإذا كان التالف هو موضوع التكليف المعلوم بالإجمال فقهراً يرتفع الحكم وينعدم لا أنّه محدود من هذه الناحية.

وأورد عليه بوجهتين:

الأوّل: إنّ هذا الفرق بين باب الاضطرار وباب التلف

ليس بفارق لأنّه لا فرق في نظر العقل في تنجيز العلم لمتعلّقه المعلوم بالإجمال بين أن يكون تكليفاً مطلقاً على كلّ تقدير أو كان مطلقاً على تقدير إنطباقه على هذا الطرف مثلًا وبين أن يكون وتكليفاً محدوداً على تقدير إنطباقه على الطرف الآخر كما لو علم إجمالًا بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة مثلًا، فوجوب صلاة الظهر مطلق يجب أن يأتي بها طول العمر أمّا أداءً أو قضاءً، ووجوب صلاة الجمعة محدود إلى ساعة بعد الزوال فلا يصحّ بعد مضي ساعة من الظهر إجراء البراءة عن صلاة الظهر كما هو واضح.

وبعبارة اخرى: إنّ غاية ما يلزم في صورة طروء الاضطرار بعد العلم الإجمالي أن يصير المورد من قبيل التكليف المردّد بين فرد طويل العمر وفرد قصير العمر كما في المثال.

الثاني: أنّه كما أنّ عدم طروء الاضطرار قيد للحكم والحكم مشروط به، كذلك وجود الموضوع يكون قيداً للحكم، أي الحكم مشروط بوجود الموضوع، فلا فرق بين تقيد الحكم بالاضطرار أو تقييده بوجود موضوعه.

أقول: الصحيح هو الوجه الرابع، وهو التفصيل بين صورتي طروء الاضطرار بعد العلم الإجمالي وبين صورتي حصوله قبله، والدليل عليه أنّ العلم الإجمالي إذا تعلّق بحكم، فعلي على كلّ حال يكون مؤثّراً بلا شبهة، ففي ما إذا حصل الاضطرار قبل العلم الإجمالي فحيث إنّا

انوار الأصول، ج 3، ص: 123

نحتمل تعلّقه بالجنس الواقعي في مثال الإنائين المعلومة نجاسة أحدهما فلا إشكال في أنّ شكّنا في نجاسة غير المضطرّ إليه بدوي يكون المرجع فيه أصالة البراءة سواء كان الاضطرار إلى أحدهما المعيّن أو إلى أحدهما غير المعيّن.

إن قلت: «إنّ الإضطرار إلى أحدهما غير المعيّن يجتمع مع التكليف الواقعي ولا مزاحمة بينهما لإمكان رفع الاضطرار بغير متعلّق التكلّف مع

قطع النظر عن العلم والجهل الطارى ء، بل لولا الجهل بشخص متعلّق التكليف لكان يتعيّن رفع الإضطرار بغيره فالإضطرار إلى غير المعيّن قبل العلم بالتكليف كلّاً اضطراراً، لا يوجب التصرّف في الواقع ولا يصادم متعلّق التكليف ولا تقع المزاحمة بينهما» «1».

قلنا: إنّ رفع الاضطرار بالإناء الطاهر واقعاً يتوقّف على العلم بالنجس الواقعي بعينه وإمكان الجمع بين «إجتنب عن النجس» و «رفع ما اضطرّوا إليه»، وهذا خارج عن محلّ البحث لأنّ محلّ البحث هو ما إذا كان الواقع مجهولًا واحتمل إنطباق ما يختاره على النجس الواقعي، وحينئذٍ لا علم لنا بما يكون فعليّاً على كلّ تقدير، بل المعلوم هو ما يكون فعلياً على تقدير (وهو عدم تعلّق الاختيار بالنجس الواقعي) وغير فعلي على تقدير آخر (وهو تعلّق الاختيار بما هو طاهر واقعاً) وتكون النتيجة حينئذٍ عدم العلم بحكم فعلي على كلّ تقدير، فيصير المورد مجرى أصالة البراءة والحلّية.

هذا كلّه إذا طرأ الاضطرار قبل العلم الإجمالي، وأمّا إذا حصل بعده فيجب الاحتياط مطلقاً أيضاً بالنسبة إلى غير المضطرّ إليه لتساقط الاصول المرخّصة الجارية في الأطراف قبل حصول الاضطرار بالتعارض أو عدم جريانها للتناقض في مدلولها، فلا مجال لجريانها بعد حصوله لما ثبت في محلّه من عدم عموم أزماني لها فليس المراد من قوله صلى الله عليه و آله «رفع عن امّتي ما لا يعلمون» مثلًا هو الرفع في كلّ ساعة وكلّ يوم، وإلّا يلزم جواز إعدام أحد أطراف العلم الإجمالي في الغنم الموطوءة مثلًا وإجراء الاصول المؤمنة في سائر الأطراف بلا معارض، وكذلك كان الجائز أن يقول الإمام عليه السلام في حديث الإهراق «يهرق أحدهما ويتوضأ من الآخر» بدل «يهريقهما» ونهايةً يلزم جواز اسقاط كلّ علم إجمالي عن

الأثر وهو كما ترى، فإذا

انوار الأصول، ج 3، ص: 124

ثبت عدم جريان أصل مرخّص في غير المضطرّ إليه أي عدم مؤمن من العذاب كان الاحتياط واجباً عقلًا وإن كان العلم الإجمالي مرفوعاً بعد مجي ء الاضطرار.

وبما ذكرنا يظهر الضعف في القول الثاني والثالث فلا نحتاج إلى مزيد بحث.

التنبيه الثاني: خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء

المعروف بين المتأخّرين والمعاصرين أنّ العلم الإجمالي إنّما يؤثّر فيما إذا كانت جميع الأطراف محلًا للابتلاء وإلّا، فلا أثر له كما إذا علم المكلّف بإصابة قطرة دم أمّا بثوبه أو بثوب بعض المارّة الذي لا صلة بينه وبين المكلّف أبداً ولا يبتلى بثوبه عادة.

وهنا بحث صغروي وبحث كبروي:

أمّا الكبروي: فهو إنّ خروج طرف عن محلّ الابتلاء هل يوجب عدم وجوب الاجتناب عن سائر الأطراف أو لا؟

وأمّا البحث الصغروي: فهو في معيار الخروج عن محلّ الابتلاء وبيان الوظيفة عند الشكّ في الخروج وعدمه.

وحاصل كلمات الأعلام في الكبرى مع اختلافها وتلوّنها أنّ التكليف إنّما يجب امتثاله فيما إذا تحقّق شرائط أربعة:

1- العلم بحدوث تكليف جديد فيعتبر في تأثير العلم الإجمالي في التنجّز أن لا يكون أحد أطرافه على فرض إنطباق المعلوم بالإجمال عليه ممّا لا يترتّب عليه أثر شرعي ولا يحدث بسببه تكليف إلهي، كما إذا علم إجمالًا بوقوع قطرة من البول في أحد إنائين أحدهما بول أو متنجّس بالبول أو كثير لا ينفعل بالنجاسة أو أحد ثوبين أحدهما نجس بتمامه، لعدم العلم حينئذٍ بحدوث تكليف جديد بالاجتناب عن ملاقي هذه القطرة، إذ لو كان ملاقيها هو الإناء النجس لم يحدث بسببه تكليف بالاجتناب أصلًا، فالشكّ في التكليف بالاجتناب عن الآخر شكّ بدوي.

2- كون التكليف فعليّاً من جميع الجهات.

3- كون المكلّف به ممّا يكون العبد قادراً بإتيانه أو غير عاجز عن

الإتيان به، فلا يكون انوار الأصول، ج 3، ص: 125

من قبيل الطيران في الهواء.

4- احتمال إنقداح الإراة في العبد، فلو كان متعلّق التكليف ممّا لا يريده العبد أبداً ويكون متروكاً له بحيث لا ينقدح في نفسه داعٍ إليه كان النهي عنه مستهجناً عرفاً وتحصيلًا للحاصل.

وفي ما نحن فيه وإن كانت الشرائط الثلاثة الاولى حاصلة إلّاأنّ الشرط الأخير غير موجود لأنّه بعد فرض خروج أحد الأطراف عن ابتلاء المكلّف لا ينقدح في نفسه داعٍ إليه فلا حاجة إلى نهيه وزجره ولا يكون التكليف بالنسبة إليه فعليّاً فيكون الشكّ بالنسبة إلى الطرف الآخر بدويّاً.

وإن شئت قلت: يجري الأصل المؤمن في الطرف المبتلى به من دون معارض نظير الشبهات البدوية بعينها، ولا يخفى الفرق بين ما إذا خرج المورد عن الابتلاء قبل حصول العلم الإجمالي وما إذا خرج بعده، حيث إنّه في القسم الثاني قد جرى الأصل في كلّ من الطرفين قبل حصول العلم الإجمالي وتساقط الأصلان أو لم تجر الاصول فيها للتناقض في مدلولها (على اختلاف القولين في المسألة) ولا معنى لجريانه ثانياً بعد الخروج عن الابتلاء فيجب حينئذٍ الإجتناب عن الطرف المبتلى به.

ثمّ إنّه قد يتمسّك لعدم وجوب الاحتياط في المقام برواية علي بن جعفر الواردة في دم الرعاف وسيأتي عدم تماميتها.

وينبغي هنا ذكر ما ورد في تهذيب الاصول من مخالفته لجميع المتأخّرين في هذه المسألة والقول بعدم تأثير الخروج عن محلّ الابتلاء في عدم تنجّز العلم الإجمالي، وإن سبق ذكره في بعض الأبحاث السابقة بمناسبة اخرى.

وحاصل بيانه: إنّ الخطابات على قسمين: خطاب قانوني عام، وخطاب شخصي خاص، وقد وقع الخلط بين الخطابات الكلّية المتوجّهة إلى عامّة المكلّفين والخطابات الشخصيّة إلى آحادهم فإنّ الخطاب الشخصي إلى خصوص

العاجز وغير المتمكّن وغير المبتلى مثلًا مستهجن ولكن الخطاب الكلّي إلى المكلّفين المختلفين حسب الحالات والعوارض ممّا لا استهجان فيه لكفاية، انبعاث عدد معتدّ به من المكلّفين فيه.

إن قلت: أليست الخطابات منحلّة ومتعدّدة بتعدّد الشخاص؟

قلنا: ليس هنا الإرادة واحدة تشريعيّة متعلّقة بخطاب واحد وليس الموضوع إلّاأحد

انوار الأصول، ج 3، ص: 126

العناوين العامّة من دون أن يقيّد بقيد أصلًا، فلو اريد من الانحلال رجوع كلّ خطاب عام إلى خطابات بعدد المكلّفين حتّى يكون كلّ مكلّف مخصوصاً بخطاب خاصّ به وتكليف مستقلّ متوجّه إليه فهو ضروري البطلان فإنّ قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» خطاب واحد لعموم المؤمنين، أي الخطاب واحد والمخاطب كثير، كما أنّ الإخبار «بأنّ كلّ نار حارة» إخبار واحد والمخبر عنه كثير، فلو قال أحد: «كلّ نار بارد» فلم يكذب إلّاكذبة واحدة لا أكاذيب متعدّدة حسب أفراد النار، فلو قال: «ولا تقربوا الزنا» فهو خطاب واحد متوجّه إلى كلّ مكلّف، ويكون الزنا تمام الموضوع للحرمة، والمكلّف تمام الموضوع لتوجّه الخطاب إليه، وهذا الخطاب الوحداني يكون حجّة على كلّ مكلّف من غير إنشاء تكاليف مستقلّة أو توجّه خطابات عديدة، لست أقول: إنّ المنشأ تكليف واحد لمجموع المكلّفين فإنّه ضروري الفساد، بل أقول: إنّ الخطاب واحد والإنشاء واحد والمنشأ هو حرمة الزنا على كلّ مكلّف من غير توجّه خطاب خاصّ أو تكليف خاصّ مستقلّ إلى كلّ واحد، ولا إشكال في عدم استهجان الخطاب العمومي.

ثمّ رتّب على القول بالانحلال توالي فاسدة:

منها: عدم صحّة خطاب العصاة من المژسلمين لأنّ خطاب من لا ينبعث به قبيح أو غير ممكن.

ومنها: عدم صحّة تكليف الكفّار بالاصول والفروع بنفس الملاك.

ومنها: قبح تكليف صاحب المروّة بستر العورة مثلًا فإنّ الدواعي مصروفة عن

كشف العورة فلا يصحّ الخطاب.

ومنها: أنّه يلزم على الانحلال وكون الخطاب شخصياً عدم وجوب الاحتياط عند الشكّ في القدرة لكونه شكّاً في تحقّق ما هو جزء للموضوع، وهو خلاف السيرة الموجودة بين الفقهاء من لزوم الاحتياط عند الشّك في القدرة.

ومنها: لزوم الالتزام بأنّ الخطابات والأحكام الوضعيّة مختصّة بما هو محلّ الابتلاء لأنّ جعل الحكم الوضعي إن كان تبعاً للتكليف فواضح، ومع عدم التبعية والاستقلال بالجعل فالجعل إنّما هو بلحاظ الآثار، ومع الخروج عن محلّ الابتلاء لا يترتّب عليها آثار فلابدّ من الالتزام بأنّ النجاسة والحلّية وغيرهما من الوضعيّات من الامور النسبيّة بلحاظ المكلّفين،

انوار الأصول، ج 3، ص: 127

فيكون الخمر والبول نجسان بالنسبة إلى من كان مبتلى بهما دون غيرهما، ولا أظن التزامهم بذلك للزوم الإختلال في الفقه والدليل العقلي غير قابل للتخصيص فيكشف ذلك عن بطلان المبنى «1» (انتهى).

أقول: يرد عليه:

أوّلًا: إنّه إن اريد من قوله إنّ المخاطب هو عنوان «ياأيّها الذين آمنوا» أو عنوان «ياأيّها الناس» العنوان الذهني بما هو موجود في الذهن فهو واضح البطلان، وإن اريد منه العنوان الذهنبي بما هو مشير إلى أفراده الخارجيّة فليس المخاطب هو العنوان بما هو عنوان بل المخاطب حقيقه هو الأفراد الخارجيّة من زيد وعمرو وبكر وغيرهم.

وهذا عين القول بالانحلال لتعدّد التكاليف بتعدّد المكلّفين، أي الإنشاء واحد والتكليف المنشأ متعدّد، ولا مانع من إنشاء امور عديدة بلفظ واحد كما إذا قال: «أنكحت هذه المرأة لهذا الرجل وتلك المرأة لذلك الرجل» أو قال: «بعت هذا بهذا وذاك بذاك» فإنّ النكاح أو البيع متعدّد وإن كان الإنشاء واحداً، ولذلك يقال في باب البيع، إنّ البيع صحيح في ما يملك وباطل في ما لا يملك، وليس هذا إلّالأجل الإنحلال، وإنّ

الإنشاء الواحد فيه يكون في قوّة إنشاءات متعدّدة.

وثانياً: لازم كلامه عدم وجود فرق بين العام المجموعي والعام الإفرادي مع أنّه لا إشكال في أنّ التكليف في الأوّل واحد وفي الثاني متعدّد بتعدّد أفراد العام، ولذلك يكون العصيان في المجموعي واحداً يتحقّق بعدم إتيان فرد واحد، وأمّا في الإفرادي فتتعدّد الإطاعة أو العصيان بتعداد الأفراد، وليس هذا إلّالأجل الانحلال في الإفرادي دون المجموعي، وكأنّه وقع الخلط في المقام بين الإنشاء والمنشأ، بينما الواحد هو الإنشاء ولا تلازم وحدة الإنشاء وحدة المنشأ.

وثالثاً: في ما ذكره من التوالي الفاسدة:

فبالنسبة إلى عدم تعدّد الكذب في قوله «كلّ نار بارد» نقول: إنّ الصدق والكذب من مقولة اللفظ لا المعنى، أي إنّهما يعرضان للإخبار لا المخبر به، وحيث إنّ الإخبار واحد فليكن الكذب أيضاً واحداً.

انوار الأصول، ج 3، ص: 128

وبالنسبة إلى العصاة والكفّار نقول: إنّ التكليف تارةً يكون بداعي البعث، واخرى بداعي إتمام الحجّة كما يدلّ عليه مثل قوله تعالى: «وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً» «1»

، وتكليف العصاة والكفّار من قبيل الثاني لا الأوّل.

وأمّا النقض بوجوب الاحتياط في الشكّ في القدرة، فيردّ بأنّ وجوب الاحتياط في هذه الموارد ليس من باب فعلية التكليف الكلّي غير المنحلّ وعدم انحلاله بعدد المكلّفين، بل من باب وجود خصوصيّة في المقام، حيث إنّ القدرة على الامتثال وإن كان حالها حال سائر القيود المأخوذة في فعلية التكاليف ولكن مع ذلك لا تجري البراءة في موارد الشكّ فيها لوجود قاعدة عقلائيّة هنا لأنّ بناء العقلاء في دائرة الموالي والعبيد العرفيّة على لزوم الفحص عن وجود القدرة ولزوم التصدّي للامتثال وعدم صحّة الإعتذار بمجرّد احتمال عدم القدرة، وهذا الأمر الإرتكازي

العقلائي بعد عدم الردع عنه من قبل الشارع بمنزلة قرينة متّصلة تمنع عن انعقاد الاطلاق في أدلّة البراءة لموارد الشكّ في التكليف الناشي ء من الشكّ في القدرة، بل يمكن أن يقال: إنّه وارد عليها لانتفاء موضوع البراءة بعد ورود هذا البيان.

وعلى سبيل الفرض إذا قال المولى لعبده وخاطبه بخطاب شخصي بقوله: «اشتر الخبز من السوق» فشكّ العبد في وجود الخبز في السوق لكون اليوم يوم العطلة فلم يتفحّص عنه واعتذر عند المولى بهذا الشكّ، أترى العقلاء يقبلون هذا العذر من هذا العبد، أو يوجبون عليه الفحص بالمقدار المتعارف؟

وأمّا نقضه بالأحكام الوضعيّة فيمكن الجواب عنه بأنّ الأحكام الوضعيّة تنحلّ بعدد موضوعاتها لا بعدد المكلّفين، فينحلّ حكم الشارع بطهارة الماء مثلًا في قوله عليه السلام: «الماء كلّه طاهر» بعدد المياه الموجودة في سطح الأرض، ولا يخفى أنّه يكفي في عدم لزوم اللغويّة ابتلاء بعض المكلّفين بكلّ واحد منها، نعم لو فرض وجود بعض المياه في بعض الكرات من المنظومة الشمسيّة بحيث لا يبتلى بها أيّ مكلّف فعدم شمول الحكم الوضعي لها غير بعيد فلا تشملها أدلّة الطهارة ولا النجاسة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 129

نعم هذا بناءً على كون الأحكام الوضعيّة مجعولة بالأصالة كما هو المختار في محلّه، وأمّا لو قلنا بأنّها امور انتزاعيّة من الأحكام التكليفيّة وتكون مجعولة بتبع جعلها فيكون النقض وارداً لأنّه من المستغرب جدّاً أن يكون الخمر مثلًا نجساً بالنسبة إلى مكلّف وغير نجس بالنسبة إلى مكلّف آخر، بل لا معنى له مع فعليّة الحكم التكليفي بالنسبة إلى جميع المكلّفين وانحلاله بعددهم.

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: إنّ شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله استدلّ في المقام برواية دم الرعاف المعروفة وهى ما رواه علي بن جعفر عليه

السلام عن أخيه أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام قال: سألته عن رجل رعف فامتخط فصار بعض ذلك الدم قطعاً صغاراً فأصاب إناءه، هل يصلح له الوضوء منه؟ فقال: إن لم يكن شيئاً يستبين في الماء فلا بأس وإن كان شيئاً بيّناً فلا تتوضّأ منه».

وحيث إنّ مقتضى ظاهر هذه الرواية عدم تنجّس الماء بالدم القليل والمشهور بين الفقهاء عدم الفرق بين القليل والكثير وقعوا في مقام توجيه هذه الرواية في حيص وبيص (بعد أن التزم شيخ الطائفة رحمه الله بظاهرها فقال بعدم تنجيس ما لا يدركه الطرف لاستهلاكه في الماء) وذكروا لها وجوهاً:

منها: المناقشة في سندها لوجود بعض المجاهيل فيه.

واجيب عنه بالمنع في طريق الكافي، ويمكن الجواب عنه أيضاً بأنّ صاحب الوسائل رواها عن كتاب علي بن جعفر، والظاهر أنّ كتابه كان عنده.

ومنها: أنّ التفرقة بين الاستبانة وعدم الإستبانة فيها إشارة إلى صورة العلم وصورة الشكّ فلم تأت هذه الرواية بشي ء جديد.

وفيه: إنّه خلاف ظاهرها وخلاف التعبير ب «أصاب إناءه» حيث إنّ صريحه أنّ أصل الإصابة معلوم في كلتا الصورتين.

ومنها: إنّ المراد في صورة عدم الاستبانة هو الأجزاء الصغيرة من الدم التي لا ترى بغير المنظار كالأجزاء البولية الصغار الموجودة في البخار الحاصل منه.

انوار الأصول، ج 3، ص: 130

ولكنّه أيضاً خلاف الظاهر من الرواية وخلاف التعبير ب «أصاب إناءه».

ومنها: ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري رحمه الله نفسه وهو أنّ إصابة الإناء في هذه الرواية لا يستلزم إصابة الماء فالمراد أنّه مع عدم تبيّن شي ء في الماء يحكم بطهارته، ومعلوم إن ظهر الإناء وباطنه الحاوي للماء من الشبهة المحصورة».

وأورد عليه في التهذيب بقوله: «وهو بمكان من الغرابة إذ كيف يكون ظهر الإناء الذي بين يدي المكلّف

خارجاً عن الابتلاء».

أقول: لا غرابة لتوجيه الشيخ رحمه الله لأنّه لابدّ في كون شي ء ممّا يبتلى به المكلّف دخوله أمّا في مأكوله أو في ملبوسه أو في أحد تقلّباته الاخرى الواجبة عليه كالتوضّي والاغتسال والتطهير ونحوها، ومن الواضح أنّ خارج الإناء ليس داخلًا في واحد من هذه الامور، نعم قد يبتلى الإنسان بملاقيه، ولكن سيأتي أنّ ملاقي الشبهة المحصورة في أطراف العلم الإجمالي ليس من الأطراف، ومقصود الشيخ رحمه الله من خروج خارج الإناء عن محلّ الابتلاء إنّما هو خروج الإناء بنفسه لا بملاقيه.

لكن يرد عليه: إنّ هذا الوجه أيضاً خلاف ظاهر قوله عليه السلام: «أصاب إناءه» حيث إنّ إصابة الإناء في لسان الروايات كناية عن إصابة ماء الإناء كما أنّ إهراق الإناء في قوله «يهريقهما» في حديث آخر كناية عن إهراق الماء بلا ريب، والشاهد على ذلك التعبير بقوله:

«إن لم يكن شيئاً يستبين في الماء»- فكأنّ أصل الإصابة بالماء أمر مفروغ عنه والكلام في الإستبانة وعدمها.

فالإنصاف دوران الأمر بين شيئين: إمّا الالتزام بظاهر الرواية والقول بعدم تنجيس النجاسة القليلة كما فعله شيخ الطائفة رحمه الله أو الإكتفاء في رفع اليد عنها بإعراض الأصحاب حيث إنّ عدم وجود فرق بين الأجزاء الصغار وغير الصغار مشهور بشهرة عظيمة تشبه الإجماع، ولولاها لأمكن الفتوى بمثل فتوى شيخ الطائفة رحمه الله.

الأمر الثاني: في الشكّ في الخروج عن محلّ الابتلاء وعدمه.

ولابدّ قبل البحث عنه من تعيين ما هو المعيار في كون الشي ء محلًا للابتلاء فإنّه يختلف باختلاف الأدلّة وقد عرفت أنّ المختار هو أن يكون الخطاب الفعلي مستهجناً وتحصيلًا للحاصل، ثمّ نقول: قد وقع الخلاف بين الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني رحمه الله في الأصل العملي انوار الأصول، ج 3، ص:

131

الجاري عند الشكّ في الخروج عن محلّ الإبتلاء فاختار الشيخ أصالة الاحتياط وذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى البراءة.

واستدلّ الشيخ رحمه الله بأنّ الخطاب بالاجتناب عن المحرّمات مطلقة غير معلّقة، والمعلوم تقييدها بالابتلاء في موضع العلم بتقبيح العرف توجيهها، وما إذا شكّ في قبح التنجيز فيرجع فيه إلى الإطلاقات لأنّ مرجع المسألة إلى أنّ المطلق المقيّد بقيد مشكوك التحقّق في بعض الموارد لتعذّر ضبط مفهومه هل يجوز التمسّك به أو لا؟ والأقوى الجواز.

وذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى أنّ المرجع في صورة الشكّ في الابتلاء إنّما هو البراءة (لا اطلاق الخطاب) لعدم إحراز أصل الاشتغال في هذه الموارد، توضيح ما أفاده في توجيه ذلك:

إنّ التمسّك بالاطلاق منوط بإحراز صحّة اطلاق الخطاب ثبوتاً في مشكوك القيدية وكون الشكّ متمحّضاً في مطابقة الاطلاق للواقع، وأمّا إذا كان القيد ممّا لا يصحّ الخطاب بدونه كالقدرة العقليّة أو العاديّة التي منها الابتلاء، فلا معنى للتمسّك بالاطلاق في مرحلة الإثبات لعدم إمكان الاطلاق في مقام الثبوت بعد دخل القدرة في التكليف حتّى يستكشف بالاطلاق في مقام الإثبات.

وقد اختار المحقّق النائيني رحمه الله مذهب الشيخ رحمه الله ببيان آخر وذهب في تهذيب الاصول إلى المختار المحقّق الخراساني رحمه الله ولكن الحقّ مع الشيخ الأعظم رحمه الله لأنّ كثيراً من موارد الشكّ في الابتلاء ترجع إلى الشكّ في القدرة (كما اشير إليه في بيان المحقّق الخراساني رحمه الله) وقد مرّ سابقاً أنّ بناء العقلاء في موارد الشكّ في القدرة على الاحتياط.

هذا مضافاً إلى أنّه يمكن لنا كشف فعليّة الخطاب وشموله لمورد الشكّ في الابتلاء من نفس الاطلاق الظاهري للخطاب بضميمة حكمة المولى الحكيم فإنّ توجيه الخطاب إلى شخص (إمّا بخصوصه أو بعموم

أو اطلاق لفظي) دليل على عدم كونه تحصيلًا للحاصل لما علم من كون المتكلّم حكيماً، وليس هذا من التمسّك بعموم العام في الشبهات المصداقيّة للمخصّص الممنوع في محلّه.

واستدلّ المحقّق النائيني رحمه الله بأنّ القدر المسلّم من التقييد ما هو إذا كان الخمر خارجاً عن محلّ الابتلاء بحيث يلزم استهجان الخطاب في نظر العرف، فإذا شكّ في استهجانه وعدمه للشكّ في إمكان الابتلاء بموضوعه أو عدمه فالمرجع هو اطلاق الدليل، لأنّ المخصّص المجمل انوار الأصول، ج 3، ص: 132

بين الأقل والأكثر مفهوماً لا يمنع عن التمسّك بالعام فيما عدا القدر المتيقّن من التخصيص، وهو الأقلّ خصوصاً في المقيّدات اللبّية، فإنّه يجوز التمسّك بالعام فيها في الشبهات المصداقيّة فضلًا عن الشبهات المفهوميّة»

.وأورد عليه في التهذيب: بأنّ المخصّص اللبّي يسري إجماله إلى العام لأنّه بحكم المتّصل اللفظي يمنع عن انعقاد الظهور «2».

أقول: إنّ إجمال المخصّص يسري إلى العام إذا كانت الشبهة مفهوميّة ولكنّها في المقام مصداقيّة، ولذلك ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى عدم جواز التمسّك بالعام أو المطلق في المقام لعدم جواز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة للمخصّص. ولكنّا أثبتنا الجواز من طريق آخر وهو كشف الاطلاق من ظاهر كلام المولى بضميمة حكمته كما مرّ.

التنبيه الثالث: عدم الفرق بين الدفعيّات والتدريجيّات في تنجّز العلم الإجمالي

ذكر بعض الأعاظم كالمحقّق العراقي رحمه الله لما إذا كانت أطراف العلم الإجمالي تدريجي الوجود صوراً ثلاثة:

الاولى: ما يكون الزمان فيه مأخوذاً على نحو الظرفية المحضة بلا دخل له لا في التكليف ولا في موضوعه كما إذا علم التاجر بابتلائه في يومه أو شهره بالمعاملة الربويّة.

الثانية: ما يكون الزمان فيه مأخوذاً على نحو القيدية للمكلّف به، أي كان الزمان قيداً للواجب، كما إذا نذر أن يترك أكل غذاء مكروه خاصّ في ليلة خاصّة

واشتبهت بين ليلتين أو أزيد.

الثالثة: ما يكون الزمان فيه مأخوذاً على نحو القيديّة في نفس التكليف أي كان الزمان قيداً للوجوب، كما إذا علمت المرأة المضطربة بأنّها تحيض في الشهر ثلاثة أيّام فإنّ لأيّام الحيض دخلًا في ملاك الحكم وفي أصل التكليف بترك الوطى ء والعبادة ودخول المساجد وقراءة العزائم.

انوار الأصول، ج 3، ص: 133

أمّا الصورة الاولى: فقد قيل بوجوب الاحتياط بالاجتناب عن كلّ معاملة يحتمل كونها ربوية في تمام اليوم أو الشهر.

إن قلت: إنّ الحكم فرع وجود موضوعه ومع عدم تحقّق الموضوع لوجوب الاحتياط وهو العلم الإجمالي بوجود حرام فعلي في الحال، لا علم للمكلّف بتوجّه النهي إليه في الحال أيضاً فلا تنجّز له، لما مرّ من أنّ المنجّز إنّما هو العلم إجمالًا بوجود تكليف فعلي.

وقد اجيب عن هذا، بأنّ التكليف فعلي من باب أنّه من قبيل الواجب المعلّق الذي يكون الوجوب فيه فعليّاً والواجب استقبالي «1».

أقول: قد مرّ في البحث عن الواجب المطلق والمشروط عدم معقولية الواجب المعلّق وإنّه نحو تناقض وتلاعب بالألفاظ، نعم يمكن أن يقال: بأنّ العقل يحكم في هذه الموارد بوجوب الاجتناب وجوباً تهيّؤيّاً من باب المقدّمة، كما يصحّ أن يقال أيضاً: بأنّ العقل مستقلّ بقبح الإقدام على ما يؤدّي إلى تفويت غرض المولى كحكمه بقبح الإقدام في الأغراض الشخصيّة في إذا علم مثلًا بأنّ الغذاء في هذا المطعم مسموم ليوم من أيّام الاسبوع فكما يجب الاحتياط بالاجتناب عن جميع الأطراف في الأغراض الشخصيّة كذلك يجب الاحتياط بالنسبة إلى أغراض المولى.

أمّا الصورة الثانية: فالحال فيها ظهر بما ذكرنا في الصورة الاولى، فإن قلنا بإمكان الواجب المعلّق فهو، وإلّا يثبت وجوب الاحتياط من طريق حفظ غرض المولى، وكذلك الحال في الصورة الثالثة، وعلى

أي حال يجب الاحتياط في التدريجيات بالإجتناب عن جميع الأطراف من باب حكم العقل بلزوم حفظ غرض المولى.

وإن أبيت عن ذلك وأردت أن تثبت الوجوب من طريق فعليّة التكليف فنقول: لا إشكال في عدم وجوب الاحتياط في الصورة الثالثة لأنّ المفروض فيها كون الزمان قيداً للوجوب، فليس التكليف فعليّاً حتّى يوجب تنجّز العلم الإجمالي، كما لا إشكال في أنّ الوجوب في الصورة الاولى والثانية متوقّف على قبول إمكان الواجب المعلّق.

التنبيه الرابع: هل الاصول المرخّصة تجري أوّلًا في أطراف العلم الإجمالي أو لا؟

وبعبارة اخرى هل الإشكال في عدم المقتضي أي عدم جريان أدلّة الاصول المرخّصة في أطراف العلم الإجمالي، أو الإشكال في وجود المانع (وسيأتي بيان الفرق بين التقديرين) ففيه وجهان بل قولان:

واستدلّ القائلون بعدم جريانها رأساً بأنّ جريانها يستلزم منه التناقض بين صدر أدلّتها وذيلها، حيث إنّ مقتضى صدر دليل حجّية الاستصحاب مثلًا وهو «لا تنقض اليقين بالشكّ» شمولها لكلّ واحد من الطرفين ويلزم منه تناقض هذا مع ذيله وهو «بل إنقضه بيقين آخر» لأنّ العلم الإجمالي قسم من اليقين فيكون نقض اليقين السابق بيقين آخر لا بالشكّ، وهكذا دليل «كلّ شي ء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام» لأنّ صدره وهو كلّ شي ء لك حلال شامل لكلّ واحد من الطرفين فيلزم التناقض بينه وبين ذيله وهو «حتّى تعلم إنّه حرام» حيث إنّه العلم فيه أعمّ من العلم التفصيلي والعلم الإجمالي.

واستدلّ القائلون بتعارضها وتساقطها بعد جريانها:

أوّلًا: بعدّة من الروايات التي لا يكون لها هذا الذيل وتكون مطلقة كقوله عليه السلام: «لا تنقض اليقين بالشكّ» من دون التذييل بقوله: «بل إنقضه بيقين آخر» وكقوله صلى الله عليه و آله: «رفع عن امّتي ما لا يعلمون» في أدلّة البراءة وعدم شمول ما هو مذيل بهذا الذيل لا يمنع عن

شمول ما ليس فيه هذا الذيل.

وثانياً: بدعوى كون العلم المأخوذ في الذيل ظاهراً في العلم التفصيلي، وهو واضح فيما يكون مقيّداً بقيد «بعينه»، وفيما لا يوجد فيه هذا القيد يكون الضمير في مثل قوله: «إنّه حرام» ظاهراً في العلم التفصيلي، وحينئذٍ يكون المقتضي موجوداً وإنّما الكلام في وجود المانع وهو العلم بكذب أحدهما (نظير الخبرين المتعارضين) ولزوم المخالفة القطعيّة فتتساقط بعد جريانها.

أقول: الإنصاف أنّ الصحيح هو القول الثاني لأنّ الغاية لكلمة «حتّى» في هذه الروايات إنّما هو العلم التفصيلي إمّا لظاهر كلمة «بعينه» بل صريحها، أو لظاهر الضمير في قوله عليه السلام «إنّه حرام» كما مرّ آنفاً.

انوار الأصول، ج 3، ص: 135

نعم لقائل أن يقول: إنّ أدلّة الاصول المرخّصة منصرفة عن موارد العلم الإجمالي وناظرة إلى الشبهات البدوية أو الشبهات غير المحصورة كما عرفت في روايات الجبن.

وإستشكل المحقّق النائيني رحمه الله على الشيخ الأنصاري رحمه الله، بأنّ اللازم في المقام البحث عن إمكان جعل الحكم الظاهري في تمام الأطراف بحسب مقام الثبوت، لأنّه مع وجود المحذور في مقام الثبوت لا تصل النوبة إلى البحث في مقام الإثبات والاستظهار، ثمّ ذكر لشمول أدلّة الاصول لأطراف العلم الإجمالي ثبوتاً محذورين على سبيل منع الخلو:

أحدهما: مناقضة الحكم الظاهري الناظر إلى الواقع مع العلم الوجداني، وهى في موارد الاصول التنزيليّة كالإستصحاب حيث إنّ تنزيل الطهارة المشكوكة منزلة الطهارة الواقعيّة مثلًا بدليل الاستصحاب يناقض مع العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما الواقعيّة.

ثانيهما: إنّ جعل الحكم الظاهري في تمام الأطراف مستلزم للترخيص في المعصية ومخالفة التكليف الواصل، وهذا في موارد الاصول غير التنزيلية «1».

أقول: التكلّم في مقام الثبوت إنّما هو من باب المقدّمة للبحث عن مقام الإثبات، ولا شكّ في أنّ شمول اطلاقات أدلّة

الاصول لكلّ واحد من الأطراف مع قطع النظر عن سائر الأطراف لا محذور فيه ثبوتاً، إنّما المحذور ينشأ من شموله لها جميعاً، وهذا هو معنى التعارض كما في سائر المقامات، ألا ترى أنّ شمول أدلّة حجّية خبر الواحد لكلّ واحد من المتعارضين مستقلًا لا محذور فيه، ولكن شمولها لهما غير ممكن للمحذور الثبوتي، للعلم بكذب واحد منهما، وهذا هو العلّة في تعارضهما.

التنبيه الخامس: الفرق بين «الشبهات المحصورة» و «غير المحصورة»

وقد أشار المحقّق الخراساني إلى هذه المسألة بغير اهتمام يليق بها، وقال بعدم الفرق بين الشبهتين مع فعليّة التكليف المعلوم بالإجمال، فالمدار في تنجّز العلم الإجمالي إنّما هو فعلية التكليف لا قلّة أطرافها، نعم ربّما تكون كثرة الأطراف في مورد موجبة لعسر أو ضرر أو

انوار الأصول، ج 3، ص: 136

غيرهما ممّا لا يكون معه التكليف فعليّاً فلا يجب حينئذٍ الاحتياط، لكن يمكن طروء هذه الموانع في الشبهة المحصورة أيضاً فلا خصوصية لعدم انحصار أطراف الشبهة في عدم وجوب الاحتياط (انتهى).

لكن الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله قد بحثها مفصّلًا وذهب إلى عدم وجوب الاحتياط فيها من ناحية كثرة الأطراف، وتبعه غيره من الأعلام، فالمسألة حينئذٍ ذات قولين على الأقلّ.

ولابدّ أن يقال: ابتداءً أنّ التحليل الصحيح للمسألة يتوقّف على أن نبحث عن إيجاب الشبهة غير المحصورة للاحتياط بما هى هى مع قطع النظر عن العناوين والموانع الطارئة الموجبة لسقوط العلم الإجمالي عن التنجّز، فنقول يقع الكلام في مقامين:

الأوّل: في أدلّة وجوب الاجتناب.

والثاني: في معيار عدم الانحصار وحدوده قيوده.

أمّا المقام الأوّل: فاستدلّ الشيخ الأعظم رحمه الله بوجوه ستّة وأضاف إليها الآخرون وجوهاً اخر ربّما تبلغ عشرة أوجه.

الوجه الأوّل: الإجماعات المنقولة على حدّ الاستفاضة، فقد نقل الإجماع عن الروض وعن جامع المقاصد والمحقّق البهبهاني رحمه الله في فوائده

بل نقل عن البهبهاني نفي الريب فيه وأنّ مدار المسلمين في الأعصار والأمصار عليه، وادّعى الضرورة عليه في الجملة.

أقول: لا إشكال في إمكان حجّية الإجماع في اصول الفقه في مثل هذه المسألة لأنّ ملاك الحجّية وهو الكشف عن قول المعصوم عليه السلام جارٍ فيها أيضاً لكن الإشكال في المقام كون الإجماع محتمل المدرك لو لم يكن متيقّنه.

الوجه الثاني: لزوم العسر والحرج في أغلب موارد هذه الشبهة لأغلب أفراد المكلّفين وهو علّة لارتفاع الحكم عن جميعهم حتّى من لا حرج بالنسبة إليه.

ويرد عليه: أنّه قد قرّر في محلّه في البحث عن قاعدة لا حرج أنّ المدار فيها على العسر والحرج الشخصيين فلا يرتفع الحكم بالنسبة إلى من لا عسر عليه وإن كان واحداً من المائة، مضافاً إلى أنّ العسر من العناوين الثانوية الطارئة، وقد مرّ آنفاً خروجه عن محلّ النزاع.

الوجه الثالث: أنّ الغالب عدم ابتلاء المكلّف إلّاببعض معيّن من أطراف الشبهة غير

انوار الأصول، ج 3، ص: 137

المحصورة فيكون الباقي خارجاً عن محلّ ابتلائه، وقد تقدّم عدم وجوب الاجتناب في مثله.

وفيه أيضاً: أنّ محلّ النزاع هو عدم انحصار الشبهة بما هو هو مع قطع النظر عن العناوين الطارئة.

الوجه الرابع: الأخبار الدالّة على حلّية كلّ ما لم يعلم حرمته فإنّها بظاهرها وإن عمّت الشبهة المحصورة إلّاأنّ مقتضى الجميع بينها وبين ما دلّ على وجوب الاجتناب بقول مطلق هو حمل أخبار الرخصة على غير المحصور وحمل أخبار المنع على المحصور.

وفيه: إنّ هذا جمع تبرعي لا شاهد له، ولا يمكن أن نرفع به اليد عن اطلاق «اجتنب عن الخمر» الشامل قطعاً للخمر المعلوم بالإجمال مطلقاً سواء كان ضمن الأطراف المحصورة أو غير المحصورة.

الوجه الخامس: بعض الأخبار الدالّة على أنّ مجرّد العلم

بوجود الحرام بين المشتبهات لا يوجب الاجتناب عن جميع ما يحتمل كونه حراماً مثل ما مرّ من رواية أبي الجارود، قال:

سألت أبا جعفر عليه السلام عن الجبن فقلت: أخبرني من رأى إنّه يجعل فيه الميتة. فقال: «أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم جميع ما في الأرض فما علمت فيه ميتة فلا تأكله وما لم تعلم فاشتر وبع وكل واللَّه إنّي لأعترض السوق فأشتري اللحم والسمن والجبن، واللَّه ما أظنّ كلّهم يسمّون هذه البربر وهذه السودان» «1».

فاستدلّ تارةً بصدرها (وهو قوله عليه السلام: أمن أجل مكان واحد ...) واخرى بذيلها، وهو قوله عليه السلام: «واللَّه إنّي لأعترض السوق ...»، ولكن نوقش فيها من ناحية السند والدلالة معاً.

أمّا السند فلمكان أبي الجارود المؤسّس لمذهب الجارودية وهو ممّن لا يعتمد على روايته بل في بعض الروايات إنّه كذّاب كافر مضافاً إلى وجود محمّد بن سنان فإنّه محلّ الخلاف بين علماء الرجال خصوصاً في ما رواه عن أبي الجارود.

وأمّا الدلالة فقد ناقش فيها الشيخ رحمه الله بأنّ مورد هذه الرواية هو الشبهات البدويّة فهى تقول أنّ العلم تفصيلًا بجعل الميتة في الجبن في مكان واحد لا يوجب الاجتناب عن جبن غيره من الأمكان فكأنّها تقول: إنّ العلم التفصيلي بنجاسة الطعام في مطعم لا يوجب نجاسة طعام انوار الأصول، ج 3، ص: 138

الاجتناب عن غيره من المطاعم وإيجاد الوسوسة فيها ولا كلام في ذلك ولا ربط له بما نحن فيه، هذا أوّلًا.

وثانياً: إنّ هذه الرواية تشير إلى حجّية أمارة السوق وهى من العناوين الثانوية التي تكون خارجة عن محلّ الكلام.

أقول: يمكن الجواب عن كلا الوجهين، أمّا الوجه الأوّل فلأنّ مورد الرواية بحسب الظاهر هو الجبن التي صنع بعضها بأنفحة

الميتة ثمّ إنتشرت بين سائر الجبن الطاهرة في البلد من دون وجود علامة للنجس منها فهى لو لم تكن ظاهرة في خصوص الشبهة غير المحصورة فلا أقلّ من اطلاقها لها وللشبهات البدوية معاً.

وأمّا الوجه الثاني فيرد عليه: أنّ وجود أمارة مثل أمارة السوق في مورد العلم الإجمالي لا يمنع عن تنجّزه لتساقط الأمارات الجارية في الأطراف بالتعارض.

فالمهمّ في المقام هو الإشكال السندي وهو تامّ يوجب سقوطها عن الحجّية.

إن قلت: يمكن احياؤها سنداً بانجبار الضعف بعمل المشهور والإجماعات المنقولة.

قلنا: قد قرّر في محلّه أنّ الشهرة توجب الجبر فيما إذا كان استنادها إلى الرواية قطعيّة أو كانت الرواية في مرأى ومنظر من قدماء الأصحاب بحيث كان عملهم مستنداً إليها ولو بظهور من الحال، وهذا ممنوع في المقام لأنّ المسألة ذات مدارك عديدة.

ثمّ إنّه ربّما يستشكل في الرواية بأنّ المستفاد منها نجاسة أنفحة الميتة، بينما لا إشكال في أنّها من جملة مستثنياتها.

ولكن يمكن الجواب عنه:

أوّلًا: بأنّ طهارتها الذاتية لا تنافي عروض النجاسة عليها من ناحية ملاقاتها بسائر الأعضاء النجسة غالباً فلابدّ من تطهيرها (كما لابدّ منه بالنسبة إلى سائر مستثنياتها كالبيض) فتحمل الرواية على مورد عدم التطهير.

وثانياً: بالحمل على التقيّة فكأنّ الإمام عليه السلام يقول: سلّمنا كونها نجسة ولكن لا يجب الاجتناب لأنّ الشبهة غير محصورة.

وإن شئت قلت: إنّ صدور الصدر لأجل التقيّة لا ينافي حجّية الذيل الذي صدر على نهج الكبرى الكلّية.

انوار الأصول، ج 3، ص: 139

الوجه السادس: بناء العقلاء بضميمة عدم ردع الشارع المقدّس فلا إشكال في أنّه لو علم أنّه سيحدث ما يوجب قتل واحد من الأفراد في بلد كبير جدّاً، لا يمنع هذا العلم الإنسان عن الورود في هذه البلدة لاحتمال انطباقه عليه، وأمّا لو

كانت الحادثة ممّا يوجب أقلّ من القتل كان الأمر أوضح، ولذا نعلم دائماً بوقوع الحوادث في بعض الطرق من السيارات أو القطارات أو الطائرات في كلّ يوم ومع ذلك هذا العلم لا يمنع أحداً عن السفر لكثرة الاحتمالات وضعف احتمال انطباقه عليه.

الوجه السابع: ما استدلّ به في تهذيب الاصول من الروايات الواردة في باب الأموال المختلطة بالحرام أو الربا.

لكن الإنصاف أنّها ظاهرة في الشبهات غير المحصورة.

الوجه الثامن: ما استدلّ به في تهذيب الاصول أيضاً من روايات إباحة جوائز السلطان التي نعلم باختلاطها بالأموال المغصوبة.

لكن هذا أيضاً غير تامّ لأنّ جوائز السلطان من قبيل الكثير في الكثير حيث إنّ أكثر أموالهم كانت من الخراج وشبهها ممّا لم يجز لهم التصدّي لها، وحكم أموالهم حينئذٍ كأكثر أموال السارقين.

والظاهر كون الحكم بالإباحة في هذه الروايات من أجل إنّها جزء من بيت مال المسلمين، وأمرها بيد وليّ الأمر الحقيقي (وهو الإمام المعصوم عليه السلام) يضعها حيث يشاء.

مضافاً إلى أنّ كثيراً من أموالهم خارجة عن محلّ الإبتلاء فتخرج عن محلّ الكلام.

الوجه التاسع: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله وحاصله أنّ الضابط في كون الشبهة غير محصورة عدم إمكان الجمع بين أطرافها عادةً بحيث يكون عدم التمكّن من ذلك مستنداً إلى كثرة الأطراف لا إلى أمر آخر، وبهذا يظهر الحكم فيها وهو عدم حرمة المخالفة القطعيّة وعدم وجوب الموافقة القطعيّة، أمّا الأوّل فلعدم إمكانه على الفرض فيكون الحكم بحرمتها تحصيلًا للحاصل، وأمّا الثاني فلأنّ وجوب الموافقة القطعيّة فرع حرمة المخالفة القطعيّة لأنّها يتوقّف على تعارض الاصول في الأطراف، وتعارضها فيها يتوقّف على حرمة المخالفة القطعيّة ليلزم من جريانها في جميع الأطراف مخالفة عملية للتكليف المعلوم في البين، فإذا لم تحرم المخالفة

القطعيّة- كما هو المفروض- لم يقع التعارض بين الاصول، ومع عدم التعارض لا مانع من انوار الأصول، ج 3، ص: 140

إجراء الاصول النافية في جميع الأطراف فلا يجب الموافقة القطعيّة أيضاً.

ثمّ قال: «ما المراد من عدم إمكان إرتكاب الجميع؟ هل المراد منه عدم الإمكان في تمام العمر أو في مدّة معيّنة؟ وعلى الثاني ما هو مقدار هذه المدّة؟» فأجاب عنه «بأنّ الميزان عدم إمكان الإرتكاب بحسب العادة لا في تمام العمر ولا في مدّة معيّنة» «1».

أقول ويرد عليه:

أوّلًا: بأنّ ما ذكر من الضابطة لا يخلو من إبهام مع ملاحظة ما اختاره نفسه من عدم الفرق بين الإرتكاب التدريجي والدفعي في حرمة المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي، لأنّه حينئذٍ إن اريد من عدم التمكّن من الجمع بين الأطراف عدم التمكّن منها ولو تدريجاً فلا ريب في فساده إذ ما من شبهة غير محصورة إلّاويتمكّن المكلّف من الجمع بين الأطراف ولو تدريجاً طول حياته ولو باختلاط بعض الأطراف ببعض، وإن اريد بذلك عدم التمكّن في زمان معيّن فهو يحتاج إلى تحديده بزمان معيّن، ولا دليل على التعيّن.

ثانياً: يلزم منه أن يكون الكثير في الكثير من الشبهات غير المحصورة لجريان الضابطة المذكورة فيه لعدم إمكان إرتكاب الجميع عادةً مع أنّ الوجدان حاكم على عدم وجود الفرق بين الكثير في الكثير (كما إذا علمنا إجمالًا بحرمة الف شاة من عشرة آلاف شاة) والقليل في القليل (كما إذا علمنا بحرمة شاة واحدة في عشر شياة) لأنّ النسبة في المثالين واحدة وهى العشر.

الوجه العاشر: ما أفاده المحقّق العراقي رحمه الله وهو أنّ المناط في كون الشبهة غير محصورة هو أن تكون كثرة الأطراف بحدّ يوجب ضعف الاحتمال في كلّ واحد من الأطراف بحيث

يكون موهوماً بدرجة لا يعتني العقلاء بذلك الاحتمال، بل ربّما يحصل له الاطمئنان بالعدم، وتوهّم منافاة الاطمئنان بالعدم في كلّ واحد منها مع العلم الإجمالي بوجود الحرام في بعضها لضرورة مضادّة العلم بالموجبة الجزئيّة مع الظنّ بالعدم في كلّ طرف بنحو السلب الكلّي، مدفوع بأنّه كذلك في فرض اقتضاء ضعف الاحتمال في كلّ طرف الاطمئنان بعدم التكليف فيه تعييناً حتّى مع ملاحظة الأفراد الاخر مع أنّ المدّعى إنّما هو اقتضاء ضعف الاحتمال في كلّ طرف انوار الأصول، ج 3، ص: 141

الاطمئنان بعدم التكليف مع ملاحظة أنفراده عن البقيّة، وهذا لا يلزم منه إلّاالعلم بالموجبة الجزئيّة مع الظنّ بالسلب الجزئي في كلّ طرف (لا الظنّ بالسلب الكلّي) ولا تنافي بينهما كما هو ظاهر «1».

أقول: إنّا لا نفهم فرقاً بين كلامه هذا وما أفاده الشيخ الأعظم رحمه الله (وإن صرّح بوجود الفرق بينهما) لأنّ الشيخ رحمه الله جعل الضابطة عدم اعتناء العقلاء باحتمال الإصابة لكونه موهوماً، وهو يقول بأنّ الضابطة عدم اعتناء العقلاء بالاحتمال لحصول الاطمئنان بالعدم ومرجع الأمرين إلى شي ء واحد كما لا يخفى.

فتلخّص من جميع ذلك أنّ المهمّ من بين هذه الأدلّة هو بناء العقلاء لضعف الاحتمال بسبب كثرة الأطراف، مضافاً إلى رواية الجبن، ويؤيّده الإجماع المتظافر نقله.

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: في تعيين الضابط في الشبهة غير المحصورة وتحديدها.

لا إشكال في اختلافه باختلاف الأدلّة المذكورة لعدم وجوب الاحتياط فيها، فإن كان الدليل هو الإجماع وكان له معقد لفظي كما إذا كان المعقد التعبير ب «غير المحصور» فلابدّ في تعيين مفهومه من الرجوع إلى العرف، ولعلّ هذا هو مقصود من رأى أنّ الضابط هو صدق مفهوم غير المحصور عرفاً، وإن لم يكن له معقد فلابدّ من الأخذ

بالقدر المتيقّن من كلمات المجمعين.

وإن كان الدليل لزوم العسر والحرج فيكون الضابط كون كثرة الأطراف بحدّ توجب ذلك، كما إنّه إذا كان الدليل لزوم خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء كان الضابط كون الكثرة بحدّ توجب خروج بعض الأطراف عن ذلك، وهكذا إذا كان الدليل روايات الجبن كان الضابط شمول الأطراف لتمام البلد (نظراً إلى قوله عليه السلام: واللَّه إنّي لأعترض السوق ...) وأمّا إذا كان الدليل ما إخترناه من بناء العقلاء كان المناط هو أن تكون كثرة الأطراف بحدّ توجب ضعف الاحتمال في كلّ واحد منها بحيث يكون موهوماً بدرجة لا يعتني العقلاء بذلك الاحتمال، وهكذا ... إلى سائر الأدلّة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 142

فقد ظهر أنّ المنهج الصحيح للبحث في ما نحن فيه بيان الأدلّة أوّلًا ثمّ تعيين الضابط ثانياً، لأنّ الضابطة إنّما تؤخذ من متن الدليل لا غير، والعجب من غير واحد من الأعاظم حيث عكس الأمر في كلامه فقدّم بيان الضابط على الأدلّة.

وعلي أيّ حال فالمعيار الصحيح عندنا في عدم انحصار الشبهة يرجع في الواقع إلى ما ذكره الشيخ الأعظم والمحقّق العراقي 0 حيث إنّ الدليل المهمّ عندنا إنّما هو بناء العقلاء بما مرّ توضيحه.

ثمّ إنّه لو فرض تعدّد الدليل، أي كان الدليل على عدم وجوب الاجتناب عند شخص وجوهاً من الأدلّة المذكورة فلابدّ من الأخذ بالأوسع منها كما لا يخفى.

الأمر الثاني: إذا شكّ في كون الشبهة محصورة أو غير محصورة فهل مقتضى القاعدة هو وجوب الاحتياط مطلقاً أو البراءة مطلقاً أو يختلف باختلاف المباني؟

لا إشكال في اختلافه على اختلاف المباني، وبناءً على ما تبيّناه من تنجّز العلم الإجمالي مطلقاً عند العقل وأنّ القاعدة الأوّلية إنّما قاعدة الاحتياط واطلاق «اجتنب عن الخمر»

يكون المرجع في صورة الشكّ الاحتياط لأنّ المقتضي وهو اطلاق الأدلّة موجود والمانع وهو المخصّص مفقود لعدم ثبوته عند الشكّ، ومن الواضح أنّه لا ربط لهذا بقاعدة المقتضي والمانع حتّى يقال بعدم حجّيتها لأنّ المقصود من المقتضي هنا هو إطلاقات أدلّة الاجتناب عن المحرّمات لا غير.

وإن شئت قلت: إذا كانت الشبهة شبهة مفهومية للمخصّص فلا كلام في وجوب الرجوع إلى العام، وإذا كانت الشبهة مصداقية فأيضاً يكون المرجع عموم العام لكون المخصّص لبّياً.

الأمر الثالث: هل المخالفة القطعيّة في الشبهة غير المحصورة أيضاً جائزة أو لا؟

يختلف هذا أيضاً باختلاف المباني، فبناءً على كون الدليل هو الإجماع فمع فرض وجود معقد له لا إشكال في اطلاق المعقد وشموله للمخالفة القطعيّة والاحتماليّة معاً، نعم يمكن أن يقال: بانصرافه عن المخالفة القطعيّة كما قال به الشيخ الأعظم رحمه الله.

وبناءً على كون الدليل هو لزوم الحرج فترجع المسألة إلى ما مرّ من البحث في أنّ الاضطرار إلى أحد الأطراف هل يوجب سقوط العلم الإجمالي عن التنجّز مطلقاً أو بالنسبة إلى خصوص المضطرّ إليه فالكلام في ما نحن فيه هو الكلام هناك.

انوار الأصول، ج 3، ص: 143

وأمّا بناءً على المختار في المقام فلا يجوز المخالفة القطعيّة لأنّه لا يجوز من أوّل الأمر إلّا إرتكاب مقدار من الأطراف يكون الاحتمال فيه موهوماً، وأمّا الأزيد منه فلا، كما أنّه لا يجوز إرتكاب جميعها تدريجاً فعلى هذا لا يجوز إرتكاب نصف الجميع، بل ولا عشره لأنّه من قبيل الشبهة المحصورة.

وأمّا بناءً على رواية الجبن فحيث إنّ الغاية للحرمة فيها هى العلم التفصيلي بالحرام يجوز المخالفة القطعيّة لعدم حصول العلم التفصيلي (وهو المعرفة المتعيّنة المتشخّصة) إلى آخر الأطراف.

الأمر الرابع: فيما إذا كانت الشبهة غير المحصورة وجوبية

(كما إذا تردّد الثوب الطاهر للصلاة بين مائة ثوب فيتوقّف الاحتياط فيه على إتيان الصّلاة مائة مرّة، وكما إذا تردّد الدائن بين الف شخص وكان الدين الف تومان مثلًا فيتوقّف الاحتياط فيه على إعطاء الف الف تومان) فلا إشكال في عدم وجوب الموافقة القطعيّة أيضاً، ولكن حيث إنّ الضابط المختار وهو كون ضعف الاحتمال ووهمه بدرجة لا يعتنى به العقلاء، لا يأتي فيها (لعدم ضعف الاحتمال في مثل هذه الأمثلة بالدرجة المذكورة) بل الضابط الجاري فيها كون كثرة الأطراف بحدّ يلزم منه العسر والحرج، تجب الموافقة الاحتماليّة، أي تحرم المخالفة القطعيّة لأنّ هذا الضابط لا يقتضي عدم وجوب الموافقة مطلقاً حتّى فيما إذا لم يلزم منها العسر والحرج الشخصي، بل لابدّ من الاقتصار على الموارد التي يلزم منها ذلك.

الأمر الخامس: في أنّ شبهة الكثير في الكثير داخلة في الشبهات المحصورة كما مرّت الإشارة إليه لأنّ المعيار المختار المذكور وهو كون الاحتمال موهوماً لا يأتي فيها كما لا يخفى، نعم بناءً على مختار المحقّق النائيني رحمه الله من كون الضابط عدم القدرة على إرتكاب الجميع كان من الشبهة غير المحصورة فلا يجب الاحتياط فيها، وهذا من التوالي الفاسدة لهذا القول.

التنبيه السادس: اعتبار إندراج طرفي العلم الإجمالي تحت عنوان واحد وعدمه

هل يعتبر في تنجّز العلم الإجمالي تعلّقه بنجاسة هذا أو نجاسة ذاك مثلًا أو يتنجّز أيضاً فيما إذا تعلّق بنجاسة هذا أو غصبية ذاك مثلًا؟ وللمسألة أثر هامّ في الفقه.

انوار الأصول، ج 3، ص: 144

الإنصاف عدم اعتبار الإندراج تحت عنوان واحد، لأنّ منشأ تنجّز العلم الإجمالي وهو فعليّة التكليف الواقعي موجود في كلتا الصورتين، ولا فرق بين وحدة النجس وتعدّده في حكم العقل كما لا يخفى، ومن هنا يعلم أنّه إذا خرج من الإنسان بلل مردّد بين

البول والمني، أي حصل العلم الإجمالي بوجود موجب الوضوء أو الغسل فيجب أن يأتي بهما معاً كما عليه الفتوى، مع أنّ الحدثين لا يكونان من جنس واحد.

نعم لابدّ فيه من التفصيل بين ما إذا كان قبل خروج البلل على وضوء وبين ما إذا كان قبله محدثاً بحدث الوضوء فيجب في الصورة الاولى بإتيان كلا الطهورين، ويكتفي في الصورة الثانية على خصوص الوضوء، والوجه في ذلك أنّ العلم الإجمالي في الثانية ينحلّ إلى الشكّ البدوي بالنسبة إلى الحدث الأكبر لأنّ الحدث الحادث على فرض كونه بولًا ليس له أثر، ولا يحدث به تكليف جديد لأنّه حدث على حدث فتجري البراءة بالنسبة إلى وجوب الغسل فلا يجب عليه إلّاالوضوء، بخلافها في الصورة الاولى لأنّ الحدث المزبور يكون مؤثّراً وموجداً لتكليف جديد على كلا الفرضين فلابدّ لحصول البراءة اليقينيّة من إتيان كلا الطهورين.

كما يعلم من هنا الحكم في باب الخنثى المشكل، فلا يجوز له إجراء البراءة إذا كان هناك تكليف مختصّ بالرجال أو مختصّ بالنساء، فيحكم بعدم وجوب الستر الواجب على المرأة عليها، وكذا عدم وجوب الجهر بالقراءة عليها، كلّ ذلك للبراءة كما توهّمه بعض، وذلك لأنّ العلم الإجمالي حاصل بوجوب الستر أو الجهر بالقراءة عليها لأنّه في الواقع أمّا تكون امرأة رجلًا، ولا ضير في عدم إندراج الحكمين تحت جنس واحد، وكذا في سائر المقامات من أحكام الخنثى، وسيأتي البحث عنه مستقلًا في التنبيه الثامن.

بل يمكن أن يقال بتنجّز العلم الإجمالي إمّا بكلّ تكاليف الرجال أو كلّ تكاليف النساء، فالواجب عليها الاحتياط في جميع ذلك.

التنبيه السابع: حكم ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة

هل يحكم بتنجّس ملاقي بعض أطراف النجس المعلوم بالإجمال، أو يجب أيضاً ترتيب سائر الآثار الشرعيّة المتعلّقة بالحرام التفصيلي أو النجس التفصيلي

عليها؟

انوار الأصول، ج 3، ص: 145

في المسألة أقوال ثلاثة:

1- ما ذهب إليه المشهور من عدم تنجّس الملاقي مطلقاً.

2- ما حكي عن العلّامة في المنتهى وابن زهرة في الغنية من التنجّس ووجوب الاجتناب مطلقاً.

3- ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية من التفصيل بين صور ثلاث: ففي صورة قال بوجوب الاجتناب عن الملاقي والملاقى معاً، وفي صورة اخرى قال بوجوب الإجتناب عن خصوص الملاقى، وفي صورة ثالثة قال بوجوب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى.

وبما أنّ المسألة ليس لها دليل خاصّ فلابدّ من الرجوع إلى الأدلّة الأوّليّة الجارية في أطراف العلم الإجمالي وملاحظة أنّها هل تشمل ملاقيها أو لا؟

والصحيح عدم الشمول، لأنّ وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي كان مبنيّاً على وجهين: وجوب المقدّمة العلميّة، وتعارض الأدلّة المرخّصة، وكلاهما غير جاريين في المقام.

أمّا الأوّل: فلأنّ ما يكون مقدّمة للعلم بالفراغ عن خطاب «اجتنب عن النجس» مثلًا إنّما هو الاحتياط في نفس الأطراف التي يحتمل إنطباق المعلوم بالإجمال على بعضها، دون غيرها ممّا لا يحتمل انطباق المعلوم عليه وإن كان محكوماً عليه بحكم بعض الأطراف واقعاً، لكون ذلك البعض علّة لنجاسة ملاقيه، لكن الملاقي على هذا التقدير فرد آخر ليس إرتكابه مخالفة لخطاب «اجتنب عن النجس» المعلوم إجمالًا، بل مخالفة لخطاب آخر وهو «اجتنب عن ملاقي النجس» الذي هو مشكوك الوجود.

وأمّا الثاني: فلأنّ المفروض حصول الملاقاة بعد تساقط الاصول المرخّصة بأحد المنشأين المذكورين سابقاً (تعارضها أو التناقض بين صدر الأدلّة وذيلها) فالأصل المرخّص الجاري في الملاقي لا معارض له.

إن قلت: كيف يمكن التفكيك بين الملاقي والملاقى في الحكم مع العلم باتّحادهما في الواقع؟

قلنا: إنّ عدم الفرق في مقام الواقع والثبوت بين شيئين لا ينافي التفكيك بينهما في مقام

الإثبات والحكم الظاهري (كما ثبت في محلّه) نظير ما أفتى به المحقّقون من التفرقة بين الماء المشكوك الكرّية الذي لم يعلم حالتها السابقة، والثوب النجس الملاقي به، فأفتوا ببقاء الماء

انوار الأصول، ج 3، ص: 146

على طهارته لاستصحاب الطهارة، وبقاء الثوب على نجاسته لاستصحاب النجاسة مع القطع باتّحادهما واقعاً أمّا في الطهارة أو في النجاسة.

إن قلت: إنّ الملاقاة بمنزلة تقسيم ما في أحد المشتبهين وجعله في إنائين فتّتسع دائرة الملاقى، فالملاقي والملاقى معاً طرف واحد للعلم الإجمالي، والإناء الآخر طرف آخر له، فيجب الاجتناب عن مجموع الثلاثة.

قلنا: المفروض- كما قلنا- حصول الملاقاة بعد حصول العلم الإجمالي وتعارض الاصول في الأطراف، ومعه كيف يصير الملاقي جزءً لأحد الأطراف مع أنّه قد مرّ سابقاً أنّ الاصول تدخل في مجال التعارض مرّة واحدة فيبقى الأصل الجاري في الملاقي بلا معارض؟

إن قلت: إنّ مسألة الاجتناب عن الملاقي يعدّ عرفاً من شؤون الاجتناب عن الملاقى، وليس تكليفاً جديداً، وليس وجوب الاجتناب عن الملاقي لأجل تعبّد آخر وراء التعبّد بوجوب الاجتناب عن الملاقى، أي يدلّ نفس دليل وجوب الاجتناب عن النجس ( «والرجز فاهجر» أو «اجتنب عن النجس») على الاجتناب عنه وعن ملاقيه بوزان واحد فلو كان الملاقى هو النجس الواقعي توقّف العلم بهجره على الاجتناب عنه وعن ملاقيه، كما يتوقّف العلم بإمتثال خطاب «اجتنب عن النجس» على الاجتناب عن طرف الملاقي أيضاً، بداهة الفراغ اليقيني عن وجوب الاجتناب عن النجس المعلوم المردّد لا يحصل إلّابذلك.

قلنا: هذه دعوى بلا دليل لأنّ الملاقي (على فرض تنجّسه كما في النجس المعلوم تفصيلًا) موضوع جديد للجنس، وله حكم جديد، ولشربه معصية جديدة، فيعدّ شرب الملاقي والملاقى معاً معصيتين لا معصية واحدة، كما هو الظاهر من بعض

الروايات كما أفاد به في تهذيب الاصول، حيث قال: ويمكن الاستدلال على القول المشهور (إنّ وجوب الإجتناب عن الملاقي مجعول مستقلًا) بمفهوم قوله عليه السلام: «إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي ء»، فإنّ مفهومه إنّ الماء إذا لم يبلغ حدّ الكرّ ينجّسه بعض النجاسات، أي يجعله نجساً ومصداقاً مستقلًا منه، وظاهره أنّ الأعيان النجسة واسطة لثبوت النجاسة للماء فيصير الماء لأجل الملاقاة للنجس فرداً من النجس مختصّاً بالجعل «1».

انوار الأصول، ج 3، ص: 147

وأمّا تفصيل المحقّق الخراساني رحمه الله فحاصل كلامه أنّ الملاقي بالكسر له صور ثلاث: فتارةً يجب الاجتناب عن الملاقى بالفتح دون الملاقي بالكسر، واخرى يجب الاجتناب عن الملاقي بالكسر دون الملاقى بالفتح، وثالثة يجب الاجتناب عنهما جميعاً.

أمّا الصورة الاولى فهى كما إذا كانت الملاقاة من بعد العلم الإجمالي فحينئذٍ لا يجب الاجتناب عن الملاقي بالكسر، وظهر وجهه ممّا ذكرنا آنفاً.

وأمّا الصورة الثالثة: فهى كما إذا حصل العلم الإجمالي من بعد الملاقاة فحينئذٍ يجب الاجتناب عن كلّ من الملاقي والملاقى، ووجهه أيضاً واضح لما مرّ.

وأمّا الصورة الثانية: وهى ما يجب فيه الاجتناب عن الملاقي بالكسر دون الملاقى بالفتح فذكر لها مثالين: أحدهما:- الذي لا يمكن المساعدة عليه- ما إذا علمنا مثلًا عند الظهر بنجاسة الثوب أو الإناء الأوّل، ثمّ حصل لنا العلم عند العصر بنجاسة أحد الإنائين من قبل ملاقاة الثوب للإناء الثاني، فيجب الاجتناب عن الملاقي بالكسر- وهو الثوب- والإناء الأوّل إمتثالًا للعلم الإجمالي الأوّل الحادث بينهما عند الظهر، ولا يجب الاجتناب عن الملاقى بالفتح أعني الإناء الثاني، لأنّ وجوب الاجتناب عنه إن كان لأجل العلم الإجمالي الثاني الحادث عصراً بينه وبين الإناء الأوّل فهو غير منجّز بعد تنجّز العلم الإجمالي الأوّل

الحادث ظهراً وسقوط الاصول الجارية فيها، وإن كان لأجل ملاقاة الثوب له فهو غير مؤثّر، لأنّ الثوب على تقدير نجاسته فرد آخر تكون الشبهة فيه بدوية كما لا يخفى، فلا وجه لوجوب الاجتناب عن ملاقيه.

والوجه في عدم إمكان المساعدة عليه أنّ العلم الإجمالي الأوّل إن كان له منشأ آخر غير الملاقاة كما إذا علمنا بوقوع قطرة دم إمّا على الثوب أو في الإناء الأوّل فهذا خارج عن مفروض البحث، وإن كان المنشأ فيهما واحداً فلا معنى لحصول علم إجمالي آخر بعد العلم الإجمالي الأوّل لأنّ المفروض أنّ العلم الإجمالي الأوّل نشأ من ناحية الملاقاة بالنسبة إلى أحد الطرفين، وهذا متوقّف على ثبوت العلم الإجمالي في نفس الإنائين من قبل.

والمثال الثاني: الذي لا إشكال فيه هو ما إذا علمنا في فرض المثال السابق بنجاسة الثوب أو الإناء الثاني ثمّ بملاقاة الثوب للإناء الثاني في الساعة الاولى، وخرج الإناء الثاني الملاقى بالفتح عن محلّ الابتلاء ثم علمنا في الساعة الثانية بنجاسة الثوب الملاقي بالكسر أو الإناء الأوّل، ثمّ صار الإناء الثاني مبتلى به ثانياً فيجب الاجتناب عن الثوب الملاقي بالكسر والإناء

انوار الأصول، ج 3، ص: 148

الأوّل دون الإناء الثاني الملاقى بالفتح لعدم كونه طرفاً لعلم إجمالي منجّز، أمّا بالنسبة إلى العلم الإجمالي الأوّل الذي كان بينه وبين الثوب فلخروجه عن محلّ الابتلاء، وأمّا بالنسبة إلى العلم الإجمالي الثاني فلعدم كونه طرفاً له وأمّا بالنسبة إلى العلم الإجمالي الأوّل بعد صيرورته مبتلى به فلأنّ تنجّز العلم الإجمالي الثاني يكون مانعاً عن تنجّزه لأنّ المنجّز لا يتنجّز ثانياً.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله استدلّ لوجوب الإجتناب عن الملاقي في المقام برواية عمرو بن شمر عن جابر عن

أبي جعفر عليه السلام قال: «أتاه رجل فقال: وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت فما ترى في أكله؟ قال: فقال له أبو جعفر عليه السلام: لا تأكله. فقال له الرجل: الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها قال: فقال أبو جعفر عليه السلام: إنّك لم تستخفّ بالفأرة وإنّما استخففت بدينك، إنّ اللَّه حرّم الميتة من كلّ شي ء» «1» حيث إنّ قوله عليه السلام: «حرّم» بمعنى الحكم بالنجاسة فيكون مقتضى ذيل هذه الرواية نجاسة الميتة بتمام شؤوناتها التي منها الملاقي، فالاجتناب عن الملاقي يعدّ من شؤون الاجتناب عن الملاقى، ثمّ ناقش في سندها لمكان عمرو بن شمر الذي هو ضعيف جدّاً وقال العلّامة في حقّه: «لا أعتمد على شي ء من رواياته» وأيضاً هو متّهم بالدسّ في روايات جابر.

والصحيح أنّ دلالتها أيضاً قابلة للمناقشة، والوجه في ذلك أنّ أصل النجاسة والاستقذار أمر عرفي كانت موجودة قبل وجود الشرع، غاية الأمر أنّ الشارع أضاف إليها شيئاً أو نقص منها شيئاً نظير ما هو ثابت في باب المعاملات، فليست النجاسة من مخترعات الشارع، كما أنّ الملاقاة وسراية النجاسة إلى الملاقي أيضاً أمر عرفي، والعرف يحكم بها إذا تحقّقت قذارة جديدة وموضوع جديد للنجاسة بعد الملاقاة، ولا تعدّ نجاسة الملاقى والملاقي شيئاً واحداً، فليس الملاقي من شؤون الملاقى حتّى يستفاد من اطلاق دليل الملاقى نجاسة الملاقي، فليس معنى «الفأرة نجس» مثلًا «إجتنب عنها وعن ملاقيها».

هذا كلّه بالنسبة إلى ملاقي أحد الأطراف، وأمّا إذا حصلت الملاقاة بالنسبة إلى جميع انوار الأصول، ج 3، ص: 149

الأطراف كما إذا لاقت إحدى اليدين بأحد الإنائين المعلومة نجاسة أحدهما، ولاقت اليد الاخرى بالإناء الآخر فلا إشكال في نجاسة الملاقي لحصول علم إجمالي

جديد حينئذٍ بالنجاسة كما لا يخفى.

التنبيه الثامن: في حكم الخنثى المشكل

كان البحث إلى هنا في الشكّ في التكليف أو المكلّف به، وقد يقع الشكّ في المكلّف نفسه، وهو ما إذا كان المكلّف خنثى يدور أمرها بين أن تكون مذكّراً أو مؤنّثاً، نعم هذا العلم الإجمالي يوجب العلم الإجمالي بالخطاب والتكليف، فيعلم إجمالًا- مثلًا- بكونها مخاطبة أمّا بخطاب «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ» «1»

أو بخطاب «وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ...» «2».

وعلى أيّ حال لابدّ من الإشارة هنا إلى أنّ الخنثى هل تكون جنساً ثانياً في قبال الرجال والنساء، أو داخلة في أحدهما؟ فإن كانت جنساً ثالثاً فأمرها سهل لكونها بريئة من مختصّات كلّ من الجنسين بجريان أصالة البراءة في حقّها، فالتكاليف الشاملة لها إنّما هى خصوص المشتركات بينهما، وإن لم تكن جنساً ثالثاً بل كانت داخلة أمّا في الرجال أو في النساء فمقتضى أصالة الاشتغال هو الاحتياط.

المستفاد من ظواهر بعض الروايات والآيات هو الثاني، أمّا الروايات «3» فنظير ما ورد في أبواب الإرث ممّا يدلّ على لزوم الإختبار ابتداءً في الخنثى ليعلم تفصيلًا بأنّها مذكّر أو مؤنّث ولو أشكل أمرها تعطي نصف حقّ الرجل ونصف حقّ المرأة، جمعاً بين الحقّين وعملًا بقاعدة العدل والإنصاف وكذلك ما يدلّ على لزوم القرعة في بعض الصور، فهذه الروايات تدلّ على عدم وجود جنس ثالث في البين، وإلّا فلا معنى لقاعدة القرعة وقاعدة العدل والإنصاف كما لا يخفى.

انوار الأصول، ج 3، ص: 150

وأمّا الآيات فنظير قوله تعالى: «وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى» «1»

(بناءً على عدم كونه إشارة إلى آدم عليه السلام وحوّا) وقوله تعالى: «يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ» «2».

وحينئذٍ إذا فرضنا وجود تكاليف إلزامية خاصّة لكلّ من الطائفتين فلا إشكال

في أنّ مقتضى تنجّز العلم الإجمالي وجوب جميعها على الخنثى فيجب عليها مثلًا في اللباس اختيار ما لا يعدّ مخصوصاً بالرجال ولا مخصوصاً بالنساء بناءً على حرمة تشبّه الرجل بالمرأة وبالعكس كذلك، كما يجب عليه ترك التزوّج بالجنسين، نعم إذا كان الحكم إلزامياً بالنسبة إلى الرجل، وتخييرياً بالنسبة إلى المرأة كما في الصلوات الجهرية وصلاة الجمعة فيمكن أن يقال:

بإمكان إجراء البراءة عن التعيين، لكن قد مرّ سابقاً وجوب الاحتياط مطلقاً عليها، لدوران الأمر في الحقيقة بين كلّ تكاليف الرجال وكلّ تكاليف النساء فلا يلاحظ كلّ واحد من التكاليف مستقلًا عن غيره بل يلاحظ المجموع في مقابل المجموع فيقال: إمّا يجب عليها الجهر في الجهريّة وغضّ النظر عن عن النساء و ... أو يجب عليها غضّ النظر عن الرجال و ....

وإن شئت قلت: إمّا يجب عليه هذه الأربعة مثلًا أو تلك الخمسة، فهو من قبيل المتباينين، مثل ما إذا علمنا بأنّ هذه الإناءات الثلاثة نجسة أو تلك الخمسة مثلًا فالواجب الاحتياط في الجميع.

نعم في دوران الأمر بين المحذورين الذي لا يمكن الاحتياط فيه يكون الحكم التخيير، كما إذا فرضنا وجوب الجهاد على الرجل وحرمته على المرأة.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ الاحتياط بالجمع بين جميع تكاليف الرجال والنساء طول حياتها توجب المشقّة الشديدة، وهو لا يلائم ما نعلم من مذاق الشارع المقدّس، فيتعيّن حينئذٍ الرجوع إلى القرعة لتبيّن أمرها من الإلحاق بإحدى الطائفتين فيعمل بمقتضاها ما دام عمرها.

إلى هنا تمّ البحث عن المقام الأوّل من المقامات الثلاثة لمبحث الاشتغال، أي دوران الأمر بين المتباينين.

انوار الأصول، ج 3، ص: 151

الكلام في الأقل والأكثر الارتباطيين

المقام الثاني: في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين
اشارة

إذا شككنا في أنّ الواجب في الصّلاة مثلًا هل هو تسعة أجزاء (من دون وجوب السورة)

أو عشرة أجزاء، فهل يجب عليه الاحتياط، أو لا؟

وينبغي قبل الورود في أصل البحث بيان الفرق بين الأقلّ والأكثر الإرتباطيين، والأقلّ والأكثر الاستقلاليين، وأنّ الملاك فيه هل هو تعدّد الأغراض ووحدتها، أو تعدّد التكاليف ووحدتها؟

ذهب في تهذيب الاصول إلى الأوّل وقال: إنّ الأقل في الاستقلالي مغاير للأكثر غرضاً وملاكاً وأمراً وتكليفاً، كالفائتة المردّدة بين الواحد وما فوقها، والدين المردّد بين الدرهم والدرهمين، فهنا أغراض وموضوعات وأوامر وأحكام على تقدير وجوب الأكثر ... وأمّا الإرتباطي فالغرض قائم بالأجزاء الواقعيّة، فلو كان الواجب هو الأكثر فالأقل خالٍ عن الغرض والأثر المطلوب ... إلى أن قال: «ومن ذلك يظهر أنّ ملاك الاستقلاليّة والإرتباطيّة باعتبار الغرض القائم بالموضوع قبل تعلّق الأمر»، ثمّ استدلّ لضعف القول بأنّ الملاك إنّما هو وحدة التكليف وكثرته بقوله: «ضرورة أنّ وحدته وكثرته (وحدة التكليف وكثرته) بإعتبار الغرض الباعث على التكليف، فلا معنى لجعل المتأخّر عن الملاك الواقعي ملاكاً لتمييزهما» «1».

أقول: الصحيح هو الثاني، أي الميزان هو وحدة التكليف وتعدّده، وذلك لأنّه ليست الأغراض غالباً في متناول أيدينا، ولا يمكن لنا الظفر بها والعثور عليها، بل الواصل إلينا والموجود بأيدينا إنّما هو الأوامر والنواهي المتعلّقة بالمركّبات الشرعيّة، فالمركّب الإرتباطي ما يتألّف من أشياء تكون الأوامر المتعلّقة بها أمراً واحداً حقيقة منبسطاً عليها، فتكون بينها ملازمة ثبوتاً وسقوطاً، وأمّا المركّب الاستقلالي فهو ما يتألّف من أشياء تتعلّق بها أوامر تكون لكلّ منها إطاعة مستقلّة، فلا ملازمة بينها ثبوتاً وسقوطاً، هذا مضافاً إلى أنّ ما ذكره لا يصحّ بناءً على مقالة النافين للأغراض.

إذا عرفت هذا فلندخل في أصل البحث فنقول: يقع الكلام في الأقلّ والأكثر

انوار الأصول، ج 3، ص: 152

الإرتباطيين في جهات ثلاث:

1- الأجزاء (في ما إذا كان

الأقل والأكثر من قبيل الجزء والكلّ).

2- الشرائط (في ما إذا كان الأقل والأكثر من قبيل الشرط والمشروط، وكان منشأ انتزاع الشرطيّة أمراً خارجاً عن المشروط، مبايناً له في الوجود كالطهارة بالنسبة إلى الصّلاة).

3- القيود (في ما إذا كان الأقل والأكثر من قبيل الشرط والشروط أيضاً، ولكن كان منشأ انتزاع الشرطيّة أمراً داخلًا في المشروط متّحداً معه في الوجود، كوصف الإيمان بالنسبة إلى الرقبة).

الجهة الاولى: في الأجزاء

والأقوال فيها ثلاثة:

الأوّل: البراءة عن الأكثر، وهو المشهور بين العامّة والخاصّة.

والثاني: الاحتياط، وهو ما نقل عن الشيخ الطوسي والسيّد المرتضى رحمهما الله في بعض كلماته، والشهيد الأوّل والثاني رحمه الله وبعض آخر.

الثالث: ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية، وهو التفصيل بين البراءة العقليّة فلا تجري، والبراءة النقلية فتجري، فتكون النتيجة بالمآل وفي مقام الفتوى عنده هو البراءة، لحكومة أدلّة البراءة الشرعيّة.

واستدلّ الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله في الرسائل للقول الأوّل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وبأحاديث البراءة فهو يقول بانحلال العلم الإجمالي وصيرورة الشبهة بدوية بالنسبة إلى الأكثر.

والمحقّق الخراساني رحمه الله أنكر الانحلال، واستدلّ لوجوب الاحتياط عقلًا بدليلين:

الدليل الأوّل: لزوم المحذور العقلي من الانحلال، وهو عبارة عن محذور الخلف، ومحذور لزوم عدم الانحلال من الإنحلال (أي يلزم من وجود الانحلال عدمه، وهو التناقض المحال).

أمّا محذور الخلف فبيانه: أنّ دعوى انحلال العلم الإجمالي في المقام خلاف الفرض لأنّ المفروض توقّف الانحلال على تنجّز وجوب الأقل على كلّ تقدير، سواء كان الواجب الواقعي انوار الأصول، ج 3، ص: 153

هو الأقل أو الأكثر، مع أنّه ليس كذلك، فإنّ الواجب الواقعي لو كان هو الأكثر لم يكن وجوب الأقل منجّزاً، إذ وجوب الأقل حينئذٍ يكون مقدّمياً ومن باب تبعية وجوب المقدّمة لوجوب ذي المقدّمة

في التنجّز، والمفروض عدم تنجّز وجوب ذي المقدّمة وهو الأكثر لجريان البراءة فيه على الفرض، فليس وجوب الأقلّ ثابتاً على كلّ تقدير، مع أنّ المعتبر في الانحلال وجوب كذلك، وهذا خلف.

وأمّا محذور لزوم عدم الانحلال من الانحلال فتوضيحه: إنّ انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي والشكّ البدوي منوط بالعلم بوجوب الأقلّ تفصيلًا، وهذا العلم التفصيلي موقوف على تنجّز وجوب الأقلّ مطلقاً، نفسياً كان أو غيريّاً، وتنجّز وجوبه الغيري يقتضي تنجّز وجوب الأكثر نفسيّاً حتّى يترشّح منه الوجوب على الأقل، ويصير واجباً غيريّاً، ولا يخفى أنّ تنجّز وجوب الأكثر يقتضي عدم الانحلال، فلزم من الانحلال عدم الانحلال وهو محال.

أقول: لا يخفى رجوع الإشكال الثاني إلى الأوّل، لأنّ الخلف أيضاً يؤول إلى ما يلزم من وجوده عدمه.

وقد أخذ المحقّقون في الجواب عنهما، وكلّ اختار طريقاً لحلّ المشكلتين.

فقال المحقّق النائيني رحمه الله: يرد عليه أمران:

الأوّل: إنّ ذلك مبنى على أن يكون وجوب الأقل مقدّمياً على تقدير أن يكون متعلّق التكليف هو الأكثر، إلّاأنّ ما نحن فيه ليس من هذا القبيل، لما تقدّم من أنّ وجوب الأقلّ لا يكون إلّانفسيّاً على كلّ تقدير، لأنّ الأجزاء إنّما تجب بعين وجوب الكلّ، ولا يمكن أن يجتمع في الأجزاء كلّ من الوجوب النفسي والغيري.

الثاني: إنّ دعوى توقّف وجوب الأقل على تنجّز التكليف بالأكثر لا تستقيم، ولو فرض كون وجوبه مقدّمياً، وسواء اريد من وجوب الأقلّ تعلّق التكليف به أو تنجّزه، فإنّ وجوب الأقل على تقدير كونه مقدّمة لوجود الأكثر إنّما يتوقّف على تعلّق واقع الطلب بالأكثر، لا على تنجّز التكليف به، لأنّ وجوب المقدّمة يتبع وجوب ذي المقدّمة واقعاً وإن لم يبلغ مرتبة التنجّز، وكذا تنجّز التكليف بالأقل لا يتوقّف على تنجّز التكليف

بالأكثر بل يتوقّف على العلم بوجوب نفسه، فإنّ تنجّز كلّ تكليف إنّما يتوقّف على العلم بذلك التكليف، ولا دخل لتنجّز تكليف آخر في ذلك «1».

انوار الأصول، ج 3، ص: 154

أقول: لعلّ نظر المحقّق النائيني رحمه الله في هذا الإشكال (الإشكال الثاني) إلى وجوب حفظ ماء الوضوء مثلًا قبل الوقت، أو وجوب أخذ جواز السفر والخروج مع الرفقة قبل مجي ء أيّام الحجّ فيكون وجوب المقدّمة فيهما فعليّاً ومنجّزاً مع عدم تنجّز وجوب ذيها.

لكن يرد عليه: بالنسبة إلى إشكاله الأوّل بأنّه لو قبلنا وجوب الجزء العاشر مثلًا على كلّ تقدير وأنّه دخيل في قوام الكلّ فإذا سقط عن الفعلية والتنجّز سقط بالتبع وجوب سائر الأجزاء عن الفعليّة، سواء قلنا بمقدّميتها أو لم نقل.

وإذاً ينحصر الإشكال في الثاني، ويردّه أنّه يستحيل وجوب المقدّمة فعلًا مع عدم وجوب ذيها فعلًا لأنّ وجوب المقدّمة بناءً على المقدّميّة مترشّح من وجوب ذيها وفرع عليه، ولا يمكن زيادة الفرع على الأصل، وأمّا المثالان المذكوران فوجوب المقدّمة فيهما من أجل العلم بوجوب ذي المقدّمة في موطنهما، وحكم العقل بوجوب حفظ غرض المولى الذي يتوقّف على الإتيان بالمقدّمة كما ستأتي الإشارة إليه. ولا يخفى أنّ المقام ليس من هذا القبيل.

ثمّ إنّه اجيب عن مقالة المحقّق الخراساني رحمه الله بوجوه اخر، والمختار في الجواب:

أوّلًا: النقض بعكس كلامه، لأنّه يلزم من وجب الاحتياط أيضاً عدم وجوب الاحتياط فإنّه فرع تنجّز الواقع على كلّ حال، ولازمه العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ، ونتيجته انحلال العلم الإجمالي وجريان البراءة في الأكثر.

وثانياً: أنّ لزوم الخلف ولزوم عدم الانحلال من وجوده يتصوّر فيما إذا وجد الانحلال وعدم الانحلال في آنٍ واحد، لا ما إذا كان وعاؤهما زمانين مختلفين، وكان أحدهما في طول الآخر،

كما أنّه كذلك في الشبهة البدوية، فيجب الاحتياط قبل الفحص ولا يجب بعده، وبعبارة اخرى: يشترط في التناقض ولزوم الخلف ثمانية شرائط: منها الوحدة في الزمان، وهى مفقودة في المقام.

وثالثاً: أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان بناءً على المختار قاعدة عقلائيّة، والعقلاء ليس بناؤهم في دائرة الموالي والعبيد على إجراء الاحتياط في الاجزاء والشرائط المشكوكة في المركّبات فإذا أمر المولى عبده أو الرئيس مرؤوسه بأمر مركّب، ولم يذكر فيه إلّاتسعة أجزاء مثلًا، ثمّ شكّ العبد أو المرؤوس في لزوم جزء عاشر فلا يصحّ مؤاخذته بدون البيان، والعقاب بلا برهان.

انوار الأصول، ج 3، ص: 155

إن قلت: ليس الأمر خالياً من إحدى الحالتين فإمّا ينحلّ العلم الإجمالي أو لا ينحلّ.

فإن انحلّ فتكون الشبهة بالنسبة إلى الأكثر بدويّة، والحكم فيها هو البراءة كسائر مصاديق الشبهات البدويّة فلا خصوصيّة لما نحن فيه، وإن لم ينحلّ فكيف يكون بناء العقلاء على البراءة مع وجود العلم الإجمالي وتنجّزه عقلًا؟

قلنا: إنّ العلم الإجمالي وإن لم ينحلّ بل كان منجّزاً عند العقل، لكن مع ذلك جرى بناء العقلاء على البراءة، وأمضاه الشارع المقدّس كما مرّ تفصيله عند الكلام في البراءة العقليّة مستوفاً.

هذا كلّه هو الدليل الأوّل للمحقّق الخراساني رحمه الله على وجوب الاحتياط.

الدليل الثاني: ما يكون مبتنيّاً على مقالة العدليّة من أنّ الواجبات الشرعيّة الطاف في الواجبات العقليّة، وإنّ الأوامر والنواهي مبنيّة على مصالح ومفاسد واقعيّة لمتعلّقاتها، وهو إنّا نقطع بوجود ملاك ومصلحة ملزمة قائمة بالأقل أو الأكثر، وإذا لم يأت بالأكثر يشكّ في حصول الملاك وتلك المصلحة، فيحكم العقل بلزوم إتيان الأكثر حتّى يحصل العلم بحصول الملاك.

إن قلت: هذا لا يلائم مقالة الأشاعرة ومبنى من يقول بوجود المصلحة في خصوص الأمر نفسه لا

في متعلّقه.

قلنا: إنّا لسنا مسؤولين عن عقائد الأشاعرة بل علينا أن نبحث وفقاً لمبانينا.

إن قلت: لا يمكن في المقام تحصيل الغرض، لاحتمال اعتبار قصد الوجه (وهو إتيان الأجزاء بقصد الوجوب) فيه، وهو لا يمكن بالنسبة إلى الأكثر.

قلنا: قد مرّ كراراً عدم وجوب قصد الوجه، ولو سلّمنا بوجوبه فإنّه واجب بالإضافة إلى مجموع العمل لا كلّ جزء جزء.

أقول: هذا الدليل أيضاً غير تامّ لأنّه لا دليل على لزوم تحصيل الغرض إلّافي ثلاث حالات:

الاولى: فيما إذا لم يكن المولى قادراً على البيان كما إذا كان محبوساً.

الثانية: فيما إذا وقع الغرض بنفسه تحت أمر المولى كما إذا كان المأمور به في الوضوء مثلًا عنوان الطهارة المعنوية التي هى من الامور البسيطة، فيجب الاحتياط في الأجزاء حتّى يعلم بحصولها.

انوار الأصول، ج 3، ص: 156

الثالثة: فيما إذا حصل لنا العلم من ناحية دليل خارجي كالإجماع ونحوه بعدم حصول غرض المولى فيجب الاحتياط حتّى يعلم بحصوله.

وفي غير هذه الموارد لا يجب تحصيل الغرض، ولا دليل على وجوبه، وإنّما الواجب على المكلّف الإتيان بالتكاليف الواصلة وامتثال الأوامر والنواهي الثابتة، فإنّها هى حلقة الإتّصال بين المولى والعبد، ولا علم للعبد بأغراض المولى، لأنّ أغراضه تحت إختياره ومربوطة به، ولا ربط للعبد بها إلّافي ما ذكر، فيدور أمره في غيره مدار الإبلاغ والوصول. هذا أوّلًا.

وثانياً: قد وقع في هذا الوجه الخلط بين قصد الوجه وقصد الجزم، فإنّ قصد الوجه حاصل في المقام لأنّه يأتي بالأكثر بقصد الوجوب لكن لا جزماً بل احتمالًا، فالمفقود هو قصد الجزم (لا قصد الوجه)، ولا دليل على اعتباره، ولذلك اخترنا إمكان الاحتياط في العبادات، ولو سلّمنا باعتبار قصد الجزم فإنّه منحصر بصورة التمكّن عنه، والمقام ليس كذلك.

ثالثاً: في قول المستدلّ

من أنّ المصلحة قد تكون في نفس الإنشاء: إن كان المقصود إمكان تصوّر ذلك في مقام الثبوت فلا إشكال في إمكانه، وإلّا فإنّا لم نظفر به في الشرعيّات في مقام الإثبات حتّى في مورد واحد.

نعم قد يتوهّم بوجوده في ثلاثة موارد:

أحدها: الأوامر الامتحانيّة كما في قصّة ذبح إسماعيل عليه السلام.

والصحيح أنّ المصلحة فيها أيضاً في نفس العمل لا في خصوص الإنشاء: فإنّ في قصّته عليه السلام وإن لم تكن المصلحة في المأمور به المباشري وهو الذبح، لكنّها كانت موجودة في مقدّماته وفعل التهيّؤ للذبح والإقدام به، ولعلّ المأمور به الواقعي عند المولى كان هو الإتيان بمقدّمات الذبح الدالّة على كمال إيثار الخليل والذبيح وإخلاصهما، كما يشهد عليه قوله تعالى «قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا» كما لا يخفى.

ثانيها: الأوامر الجزائيّة كما في قصّة البقرة لنبي إسرائيل فقد ورد في الحديث: «ولكن شدّدوا فشدّ اللَّه عليهم» «1» فإنّ ظاهره عدم وجود المصلحة في لونها وسنّها، بل المصلحة كانت في مجازاتهم بالتضييق عليهم.

انوار الأصول، ج 3، ص: 157

لكن الإنصاف فيه أيضاً أنّ المصلحة في المنشأ لا في الإنشاء، فإنّ اللون الخاصّ مثلًا وإن لم يكن ذا مصلحة بعنوان الأوّلي (لعدم كونه قيداً في المأمور به في إبتداء الأمر) لكنّه صار ذا مصلحة بعنوان ثانوي وهو سدّ باب الأعذار الواهيّة واللجاج من المكلّفين في مقابل الأوامر الإلهيّة.

ثالثها: بعض الأوامر الواردة في مقام التقيّة، حيث إنّ الإمام عليه السلام ينشأ الوجوب في ذلك المقام، مع أنّه لا وجوب في الواقع ولا مصلحة في الفعل المتعلّق للأمر الذي صدر تقيّة، وإنّما المصلحة في نفس الإنشاء.

والصحيح خروج هذا القسم عن محلّ البحث أيضاً، لأنّ محلّه هو الأوامر الجدّية، أي البحث في المقام في أنّه هل

يوجد في الشريعة قانون جدّي كانت المصلحة فيه في نفس الإنشاء، أو لا؟ والأوامر الصادرة تقيّة ليست جدّية، ولذا يقال: إنّ أصالة الجدّ فيها ساقطة.

هذا كلّه في البراءة العقليّة.

وأمّا البراءة النقلية فالمحقّق الخراساني رحمه الله تبعاً للمشهور ذهب إلى جريانها، لأنّ عموم حديث الرفع قاضٍ برفع جزئية ما شكّ في جزئيّته، ويعيّن الواجب في الأقلّ.

ثمّ يستشكل على نفسه بما حاصله: أنّ البراءة تجري فيما تناله يد الوضع والرفع التشريعيين، وجزئيّة السورة المجهولة مثلًا ليست بمجعولة شرعاً، لأنّها ليست أثراً شرعيّاً (كحرمة شرب التتن أو وجوب الدعاء عند رؤية الهلال) وممّا يترتّب عليها أثر شرعي (كالشكّ في الالتزام النفساني المجرّد عن اللفظ في باب النذر الذي يكون سبباً لوجوب الوفاء شرعاً).

ويجيب عنه: بأنّ الجزئيّة وإن لم تكن مجعولة لكونها أمراً انتزاعياً، إلّاأنّ منشأ انتزاعها وهو الأمر مجعول شرعي، وهذا كافٍ في صحّة جريان البراءة فيها.

ثمّ إستشكل ثانياً: بأنّه بعد جريان البراءة في الأمر بالأكثر (الذي هو منشأ انتزاع الجزئيّة) لا يبقى أمر يتعلّق بالأقل لأنّ متعلّق الأمر هو الكلّ لا الجزء، وحينئذٍ لا وجه لجريان البراءة وتعيّن الواجب في الأقل.

وأجاب عنه أيضاً: بأنّ الأمر بالأقلّ يثبت بالجمع بين أدلّة الاجزاء وأدلّة البراءة الشرعيّة، حيث إنّ وجوب الأقل معلوم بنفس أدلّة الاجزاء، ووجوب الأكثر منفي بالبراءة

انوار الأصول، ج 3، ص: 158

الشرعيّة فيكون حديث الرفع بمنزلة الإستثناء لأدلّة الأجزاء، ويقيّد إطلاقها لحالتي العلم والجهل بجزئيّة الأجزاء فكأنّ الشارع قال: «يجب في الصّلاة التكبير والقراءة والركوع والسجود والتشهّد مطلقاً، علم بها المكلّف أم لا، وأمّا السورة فهى واجبة في خصوص ما إذا علم بجزئيّتها»، أو أنّه قال: «ايت بالكلّ إلّاالسورة لأنّك لا تعلم أنّه واجب».

أقول: لا حاجة في حلّ المشكلة

إلى طيّ هذا الطريق، لإمكان حلّها بالأوامر الضمنيّة فيقال: إنّ حديث الرفع ينفي خصوص الوجوب الضمني المتعلّق بما شكّ في جزئيته، ولا ينفي الوجوب عن الباقي.

بقي هنا أمران:

الأوّل: قد يقال أنّ المحقّق الخراساني قد عدل عن مقالته في بعض كلماته، وذهب إلى عدم جريان البراءة عقلًا وشرعاً فقال في تعليقته على كتابه (كفاية الاصول) ما لفظه «لكنّه لا يخفى أنّه لا مجال للنقل فيما هو مورد حكم العقل بالاحتياط، وهو ما إذا علم إجمالًا بالتكليف الفعلي، ضرورة أنّه ينافيه رفع الجزئيّة المجهولة، وإنّما يكون مورده ما إذا لم يعلم به، بل علم مجرّد ثبوته واقعاً (يعني ولو لم يكن فعليّاً) «1».

ولعلّه مبنيّ على ما اختاره سابقاً من أنّ العلم الإجمالي إذا علم كونه فعلياً من جميع الجهات يكون علّة تامّة للتنجّز فلا يمكن صدور الترخيص لأطرافه من ناحية الشارع.

ولكن بما أنّ الصحيح المختار في ذلك البحث عدم كون العلم الإجمالي علّة تامّة، وإنّه ليس إلّا مجرّد المقتضي للإحتياط (وذلك لأنّه لا يستفاد من أدلّة الواجبات والمحرّمات إلّاكونها مقتضية للفعليّة، غير منافية لما يعرض عليها من العناوين الثانوية وغيرها ممّا يمنعها عن الفعليّة، وإنّه لا طريق لنا إلى كشف الفعليّة من جميع الجهات من ظواهر الأدلّة نعم إذا ثبت المقتضي ولم يمنع منه مانع نحكم بفعليّته) فلا مانع حينئذٍ من جريان البراءة في ما نحن فيه.

الثاني: قد يتصوّر إمكان جريان أصالة الاشتغال في ما نحن فيه، وذلك من طريقين:

أحدهما: استصحاب اشتغال الذمّة بالتكليف.

انوار الأصول، ج 3، ص: 159

وفيه: أنّ البراءة مقدّمة على الإشتغال لأنّها في محلّ الكلام بمنزلة الأصل السببي، وأصالة الاشتغال أصل مسبّبي، لأنّ منشأ الشكّ في فراغ الذمّة إنّما هو الشكّ في جزئية السورة مثلًا،

وهو يرتفع بجريان البراءة فيرتفع موضوع أصالة الاشتغال.

ثانيهما: أنّ الشكّ في المقام يرجع إلى الشكّ في المحصّل، لأنّ المأمور به وهو عنوان الصّلاة مثلًا عنوان بسيط، ولا نعلم أنّه هل يحصل بإتيان تسعة أجزاء، أو لا؟ فلابدّ لإحرازه من إتيان الجزء العاشر أيضاً.

وفيه: أنّه ليست الصّلاة أمراً خارجاً وراء الاجزاء، حاصلًا منها ومسبّباً عنها حتّى يكون الشكّ شكّاً في المحصّل، بل إنّما هى عين الاجزاء، والأمر بها منبسط على الاجزاء.

هذا كلّه في الجهة الاولى، وهى ما إذا كان الأقل والأكثر من قبيل الجزء والكلّ.

الجهة الثانية: في الشرائط

(في ما إذا كان الأقل والأكثر من قبيل الشرط والمشروط، وكان منشأ انتزاع الشرطيّة أمراً خارجاً عن المشروط مبايناً له في الوجود كالطهارة بالنسبة إلى الصّلاة).

وقد ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله هنا أيضاً إلى التفصيل بين البراءة العقليّة والبراءة الشرعيّة كما ذهب إليه في المقام الثالث الآتي أيضاً (وهو الشكّ في القيود) فقال بجريان البراءة شرعاً وعدم جريانها عقلًا بناءً على مسلكه المتقدّم في المقام الأوّل (الشكّ في الأجزاء)، وادّعى أنّ عدم جريان البراءة العقليّة في الشرائط والقيود أظهر من عدم جريانها في الأجزاء بدعوى أنّ الإنحلال المتوهّم (هناك بتقريب كون الأقل ممّا علم وجوبه تفصيلًا إمّا نفسياً أو مقدّمياً) لا يكاد يتوهّم في المقام، فإنّ الجزء الخارجي ممّا يمكن فيه دعوى اتّصافه بالوجوب الغيري المقدّمي، إذ لكلّ جزء خارجي وجود آخر مستقلّ غير وجود الجزء الآخر وإن كان العرف يرى للمجموع وجوداً واحداً، بخلاف الجزء التحليلي المتصوّر في المقام كالتقيّد والاشتراط فلا وجود له خارجاً غير وجود المجموع الواجب بالوجوب النفسي الاستقلالي، فلا يتّصف بالوجوب حتّى الوجوب النفسي الضمني. هذا في البراءة العقليّة.

وأمّا البراءة النقليّة فقد فصّل فيها بين الشرائط

والقيود، وقال بجريانها في الشرائط

انوار الأصول، ج 3، ص: 160

وعدم جريانها في القيود لأنّ المشروط بالشرط المشكوك (وهو الصّلاة مع الطهارة) مع المطلق (وهو الصّلاة المطلق) يكون في نظر العرف من قبيل الأقل والأكثر، فيأتي فيه ما ذكره من التفصيل في الاجزاء، وأمّا المقيّد بالقيد المشكوك (كالرقبة المؤمنة) مع المطلق (وهو الرقبة المطلقة) يكون في نظر العرف من قبيل المتباينين الأجنبيين فلا تجري فيه البراءة النقليّة كالبراءة العقليّة.

أقول: الحقّ جريان البراءة مطلقاً في الشرائط أيضاً كالأجزاء (وأمّا القيود فسيوافيك البحث عنها في الجهة الثالثة تفصيلًا فانتظر) وذلك لشمول الأمر الضمني للشرائط كالأجزاء، والفرق بينهما أنّ الأمر الضمني في الأجزاء يتعلّق بالجزء نفسه، وأمّا في الشرائط فيتعلّق بوصف الاشتراط لا بنفس الشرط، وهذا المقدار من الفرق لا يمنع عن الانحلال في الشرائط.

وبالجملة إنّ مسألة الانحلال في المقام مبنية على تعلّق الأمر الضمني بالشرائط لا على تعلّق الأمر المقدّمي الغيري بها حتّى يتوهّم محذور الخلف أو محذور لزوم عدم الانحلال من الانحلال الذي مرّ بيانهما تفصيلًا في استدلال المحقّق الخراساني رحمه الله.

الجهة الثالثة: في القيود
اشارة

(أي في ما إذا كان الأقل والأكثر من قبيل الشرط والمشروط أيضاً ولكن كان منشأ إنتزاع الشرطيّة أمراً داخلًا في المشروط متّحداً معه في الوجود كوصف الإيمان بالنسبة إلى الرقبة) وفيها ثلاثة أقوال:

1- ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله من كونها من قبيل المتباينين فيجب فيها الاحتياط مطلقاً.

2- ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله من التفصيل بين القيود المقوّمة وغير المقوّمة ووجوب الاحتياط في الاولى دون الثانية.

3- ما ذهب إليه الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله في تهذيب الاصول وهو القول بالبراءة المطلقة.

واستدلّ المحقّق الخراساني رحمه الله للقول الأوّل بأنّ القيود من الاجزاء التحليليّة التي

لا

انوار الأصول، ج 3، ص: 161

يميّزها إلّاالعقل، فلا تميز لها في الخارج أصلًا، فيعدّ واجد الجزء التحليلي وفاقده من المتباينين، لا من الأقل والأكثر، فدعوى الانحلال فيها بتخيّل إنّ ذات المطلق كالرقبة والعام كالحيوان مطلوبان قطعاً بالطلب النفسي أو الغيري، ومطلوبية المقيّد والخاصّ مشكوكة، مدفوعة بأنّ ذاتي المطلق والعام ليستا مقدّمتين للمقيّد والخاص حتّى يكونا واجبتين على كلّ تقدير.

واستدلّ المحقّق النائيني رحمه الله بما حاصله: أنّ القيد والخصوصيّة الزائدة المشكوكة إذا كانت من مقوّمات المعنى المتخصّص بها عقلًا كالفصل بالنسبة إلى الجنس، بمعنى أنّ الأكثر كان مركّباً من الجنس والفصل كما إذا كان الواجب مردّداً بين ذبح الحيوان مطلقاً- بقرة كان أو شاة- وبين ذبح الشاة بالخصوص ففي هذه الصورة يجب الاحتياط بإتيان الأكثر (وهو الشاة التي ينحلّ بالتحليل العقلي إلى جنس وفصل) لأنّ الأكثر وإن كان مركّباً عند العقل إلّاأنّه بنظر العرف يكون مفهوماً بسيطاً مبايناً لمفهوم الأقل فالشاة والحيوان عند العرف من المتباينين.

وإن شئت قلت: إنّه من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير، ومقتضى القاعدة فيه هو التعيين لا البراءة عن الخصوصيّة، وهكذا إذا كانت الخصوصيّة الزائدة المشكوكة من مقوّمات المعنى المتخصّص بها بنظر العرف وإن لم يكن من مقوّماته عقلًا، كما إذا كان الواجب مردّداً بين شراء جارية رومية وبين جارية مطلقاً، حيث إنّ الروميّة ليست من مقوّمات الجارية عقلًا ولكن العرف يرونها نوعاً آخر مقابل الجارية الحبشية مثلًا، وأمّا إذا لم تكن الخصوصيّة الزائدة المشكوكة من مقوّمات المعنى لا عقلًا ولا عرفاً كما إذا كان الواجب مردّداً بين الرقبة المطلقة وبين الرقبة المؤمنة أو بين العبد المطلق وبين العبد الكاتب فيجوز إجراء البراءة بالنسبة إليها لأنّ اعتبار قيد الإيمان أو الكتابة مثلًا

يحتاج إلى مؤونة زائدة من البيان في عالم الثبوت والإثبات، ثمّ قال في ذيل كلامه: إنّ الضابط في المقوّمية كون التخلّف في المعاملة من قبيل التخلّف في العنوان فتكون المعاملة باطلة كما إذا قال بعتك شاة ولم تكن شاة بل كان فرساً مثلًا، والضابط في عدمها كون التخلّف من قبيل الأوصاف التي يوجب تخلّفها خيار تخلّف الوصف فقط كما إذا قال بعتك هذا العبد الكاتب ولم يكن كاتباً «1» (انتهى).

واستدلّ في تهذيب الاصول للقول الثالث: بما حاصله: أنّ متعلّق البعث والزجر إنّما هو

انوار الأصول، ج 3، ص: 162

الماهيات والعناوين دون المصاديق الخارجيّة، وعليه فالمدار في دوران الأمر بين الأقل والأكثر إنّما هو ملاحظة لسان الدليل الدالّ على الحكم حسب الدلالة اللفظيّة العرفيّة، لا المصاديق الخارجيّة، ومن المعلوم أنّ البعث إلى الطبيعه (كطبيعة الرقبة) غير البعث إلى الطبيعة المقيّدة (كطبيعة الرقبة المؤمنة)، والنسبة بين المتعلّقين هو القلّة والكثرة وإن كانت المصاديق على غير هذا النحو، وحينئذٍ نقول: إنّ البعث إلى طبيعة الرقبة معلوم، وتعلّقه إلى المؤمنة مشكوك فيه، فتجري البراءة عن المشكوك، وهكذا المركّبات التحليليّة كالجنس والفصل لأنّ الموضوع ينحلّ عند العقل إلى معلوم ومشكوك فيه، فالصلاة المشروطة بالطهارة عين ذات الصّلاة في الخارج، كما أنّ الرقبة المؤمنة عين مطلقها فيه، والإنسان عين الحيوان وهكذا، وإنّما الافتراق في التحليل العقلي، وهو في الجميع سواء، فكما تنحلّ الصّلاة المشروطة بالصلاة والاشتراط، كذا ينحلّ الإنسان إلى الحيوان والناطق، ففي جريان البراءة وقيام الحجّة على المتيقّن دون المشكوك سواء في الجميع» «1».

أقول: الأقوى هو القول الثاني وهو ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله، نعم بالنسبة إلى القيود غير المقوّمة، المختار هو البراءة العقلائيّة لا العقليّة بناءً على ما حقّقناه

في مبحث البراءة.

وعلى أي حال لا فرق بين الأجزاء والشرائط والقيود إلّافي القيود المقوّمة لأنّها في نظر العرف من قبيل المتباينين وإن لم يكن كذلك بالدقّة العقليّة، وإن شئت فاختبر نفسك فيما إذا أمر المولى بصناعة مصنوع خشبي يتردّد بين كونه سريراً أو نافذة، ففي هذه الحالة وإن كانت وصف السريرية وغيرها من الأعراض للخشب لكنّها تعدّ عند العرف من المقوّمات، والسرير والنافذة عندهم متباينان كالسيّارة والطائرة، وإن كانتا مصنوعتين من الخشب والحديد، ولذلك يوجب التخلّف فيهما بطلان المعاملة لا مجرّد خيار تخلّف الوصف.

وبالجملة إنّ المعيار في التباين والوحدة ليس الجنس والفصل المنطقيين بل المعيار الصدق العرفي وإن كان الاختلاف في الاعراض.

هذا- بخلاف ما إذا كانت القيود غير مقوّمة عند العرف كقيد الإيمان في الرقبة المؤمنة وقيد الكتابة في العبد الكاتب، فيكون الفاقد والواجد من قبيل الأقل والأكثر فتجري البراءة بالنسبة إلى الأكثر.

انوار الأصول، ج 3، ص: 163

ومن هنا يظهر الإشكال في كلمات الأعلام الثلاثة:

أمّا المحقّق الخراساني رحمه الله فيرد عليه أنّ المقيّد والفاقد للقيد إنّما يكونان من المتباينين فيما إذا كانا من قبيل الماهيّة بشرط شي ء والماهيّة بشرط لا، مع أنّ مطلق الرقبة والرقبة المؤمنة مثلًا يكونان من قبيل الماهيّة بشرط شي ء والماهيّة لا بشرط، وإلّا يلزم أن يكون الفاقد للجزء والواجد له أيضاً من المتباينين وأن تكون الصّلاة بشرط الجزء العاشر مباينة للصّلاة بشرط تسعة الاجزاء، وهذا مخالف لما ذهب إليه نفسه من كونهما من قبيل الأقل والأكثر.

هذا مضافاً إلى أنّ الميزان كما قلنا صدق التباين وعدمه عند العرف، وكون القيد من القيود المقوّمة وعدم كونه منها في نظر العرف، فربّ وصف لا يعدّ مقوّماً لموصوفه عرفاً كالقراءة والكتابة في العبد القاري والكاتب فيكون

التخلّف فيه من قبيل التخلّف في الوصف موجباً للخيار فقط، وربّ وصف يعدّ من مقوّمات موصوفه عند العرف كوصف السريريّة والنافذية فيما إذا اشترى شيئاً بعنوان إنّه سرير فتبيّن كونه نافذة. فيكون التخلّف فيه من قبيل التخلّف في العنوان، الموجب لبطلان المعاملة.

إن قلت: ما هو الضابط في التباين وعدمه وفي المقوّميّة وعدمها عند العرف؟

قلنا: إنّما يرى العرف التباين فيما إذا كانت الآثار المترتّبة متفاوتة مختلفة كالآثار المترتّبة على السرير والنافذة، وإذا كانت الآثار قريبة كالآثار المترتّبة على العبد الكاتب وغير الكاتب (حيث إنّهما مشتركان في خدمات كثيرة) فلا يحكم العرف بالتباين بل يرى التخلّف فيه مجرّد التخلّف في وصف من الأوصاف.

وأمّا ما ذهب إليه في تهذيب الاصول من أنّ متعلّق البعث والزجر إنّما هو الماهيّات والعناوين.

فيرد عليه: إنّه إمّا أن يكون المراد منه الفاظ الماهيّات كلفظ الغنم والشاة، أو يكون المراد الصور المتصوّرة في الذهن، والأوّل لا معنى له كما لا يخفى، والثاني يحتمل فيه وجهان:

أحدهما: أن يكون المقصود الصور الذهنيّة بما هى صور ذهنيّة، والثانية: الصور الذهنيّة بما هى مشيرة إلى الخارج، والأوّل أيضاً لا يمكن أن يكون متعلّقاً للأمر والنهي قطعاً، فيتعيّن أن يكون المتعلّق العناوين بما هى مشيرة إلى الخارج، وهذا يرجع في الحقيقة إلى كون المتعلّق هو الخارج لا الماهية والعنوان، وأمّا تعلّقهما ابتداءً بالعنوان فلأجل العبور إلى الخارج.

انوار الأصول، ج 3، ص: 164

وإن شئت قلت: الطلب التشريعي كالطلب التكويني، فكما أنّ المولى في طلبه التكويني للماء مثلًا يطلب الماء الموجود في الخارج لأنّه منبع كلّ أثر، كذلك في طلبه التشريعي كما إذا أمر عبده بإتيان الماء عوضاً عن تصدّي نفسه لإتيانه، فلا إشكال في أنّ متعلّق أمره وطلبه هذا أيضاً إتيان

الماء الموجود في الخارج، وقسّ عليه سائر الأوامر والنواهي الصادرة من سائر الموالي والشارعين.

وهاهنا امور ينبغي التنبيه عليها:

الأمر الأوّل: الشك في جزئيّة شي ء أو شرطيّته عند النسيان

فيما إذا شكّ في جزئيّة شي ء أو شرطيته في حال نسيانه، وإنّه هل يوجب النسيان ارتفاع الجزئيّة أو الشرطيّة أو لا؟ وبعبارة اخرى: هل الأصل في الأجزاء والشرائط ركنية كلّ واحد منها (حتّى يوجب النسيان بطلان العمل) أو لا؟

والبحث فيه يقع في ثلاث مقامات:

المقام الأوّل: في مقتضى الدليل الاجتهادي.

المقام الثاني: في مقتضى الأصل العملي.

المقام الثالث: في كيفية الخطاب بالنسبة إلى الناسي بناءً على عدم اطلاق دليل الجزء أو الشرط لحال النسيان.

أمّا المقام الأوّل: فيتصوّر له صور ثلاث:

الاولى: ما إذا دلّ الدليل على الجزئيّة أو الشرطيّة بلسان الحكم الوضعي كقوله عليه السلام: «لا صلاة إلّابفاتحة الكتاب» فلا إشكال في إطلاقه حينئذٍ لحال النسيان.

الثانية: ما إذا كان الدليل بلسان الأمر، وكان إرشاداً إلى الجزئيّة أو الشرطيّة فلا إشكال أيضاً في اطلاقه لحال النسيان.

الثالثة: ما إذا استفدنا الجزئيّة أو الشرطيّة من أمر مولوي تكليفي، ودلّ على الجزئيّة بمدلولها الالتزامي ففي هذه الصورة تختصّ الجزئيّة أو الشرطيّة بحال الذكر والإلتفات، لإمتناع توجّه الخطاب إلى الناسي، فيكون مقتضى القاعدة الأوّلية حينئذٍ اختصاص الجزء أو الشرط

انوار الأصول، ج 3، ص: 165

بالعالم الملتفت بخلاف الصورتين الأوّليين لعموم الدليل فيهما، اللهمّ إلّاأن يكون هناك قاعدة حاكمة عليه كقاعدة لا تعاد وحديث رفع النسيان وشبه ذلك.

أمّا المقام الثاني: أي الذي تصل النوبة إليه بعد فقدان الدليل الاجتهادي فيأتي فيه كلّ واحد من الأقوال الثلاثة المطروحة في الأقل والأكثر الارتباطيين (القول بالاشتغال مطلقاً والقول بالبراءة مطلقاً والقول بالتفصيل بين البراءة العقليّة والبراءة النقليّة) لأنّ المقام من صغريات ذلك البحث لأنّا نعلم إجمالًا بتعلّق التكليف بالجزء أو الشرط ونشكّ

في اطلاقه لحالتي الذكر والنسيان (وهو الأكثر) أو اختصاصه بحال الالتفات فقط (وهو الأقل) فالمختار حينئذٍ في ما نحن فيه هو البراءة عقلًا ونقلًا كما مرّ هناك، والمراد من البراءة النقليّة هنا إنّما هو مفاد فقرة «رفع ما لا يعلمون» من حديث الرفع، لا فقرة «رفع النسيان» لأنّها من الأدلّة الاجتهاديّة، وحاكمة على اطلاق أدلّة الجزئيّة والشرطيّة لو كان هناك اطلاق.

أمّا المقام الثالث: فقد وقع الأعلام (القائلون باختصاص أوامر الجزئيّة والشرطيّة بحال الذكر) في حلّ مشكلة تعدّد الخطابين في حيص وبيص، فذهب المحقّق النائيني رحمه الله إلى عدم إمكان توجّه الخطاب إلى الناسي، وتصحيح صلاته من طريق وجود الملاك (ملاك المحبوبيّة) وذهب جماعة إلى إمكان توجّه الخطاب إليه وذكروا لتصحيحه طرقاً ثلاثة:

الأوّل: ما ذكره الشيخ الأعظم رحمه الله وهو أنّه يكفي في تصحيح عبادة الناسي اعتقاده توجّه أمر الملتفت إليه فيأتي بالفاقد للجزء بداعي إطاعة الأمر بالصلاة، وإنّما الخطأ في التطبيق.

وأورد على هذا الوجه: بأنّ الخطأ في التطبيق متوقّف على تصوير خطاب للناسي في الرتبة السابقة، وهو محلّ الكلام والإشكال.

الثاني: أن يكلّف الملتفت بتمام المأمور به، والناسي بما عدا المنسي، لكن لا بعنوان الناسي حتّى يلزم الانقلاب إلى الذاكر بمجرّد توجّه الخطاب إليه بل بعنوان آخر عام، ملازم لجميع مصاديقه، كعنوان الصائم إذا فرض كونه ملازماً لمصاديق النسيان فيقال: «أيّها الصائم أقم الصّلاة بتسعة الأجزاء».

ويرد عليه: إنّ اختيار عنوان ملازم عام في جميع الموارد أمر مشكل جدّاً أو محال.

الثالث: أن يوجّه الخطاب بالنسبة إلى تسعة أجزاء مثلًا بعنوان أيّها المكلّفون، وبالنسبة إلى الجزء العاشر بعنوان أيّها الذاكر. وهذا وجه جيّد.

الأمر الثاني: في زيادة الأجزاء والشرائط

وتنقيح البحث فيه يحتاج إلى رسم امور:

الأوّل: في أنّ اعتبار أجزاء المركّب يتصوّر على ثلاث

صور: تارةً يعتبر بشرط لا، كما إذا دلّ الدليل على لزوم إتيان الركوع بشرط الوحدة، واخرى لا بشرط، كما في ذكر التسبيح الكبرى في الركوع، وهى بنفسها على قسمين: فتارةً تعتبر الزيادة جزء للصّلاة كما في مثال التسبيح في الركوع، واخرى لا تعتبر جزء للصلاة كما أنّها ليست مضرّة بصحّة العمل (كما في زيادة المسح في الوضوء) إلّامن ناحية التشريع المحرّم، وثالثة نشكّ في كيفيّة اعتبارها.

ومن ناحية اخرى: تارةً تكون الزيادة من سنخ المأمور به كما في الركوع الزائد، واخرى تكون من غير نسخه كما إذا أتى في الصّلاة بأذكار أو أفعال من غير نسخ أفعالها وأذكارها.

ثمّ إنّ كلّ ذلك إمّا يأتي به بقصد الجزئيّة فيكون نوعاً من التشريع، أو يأتي بها من غير قصد الجزئيّة، فلابدّ من البحث في أنّه ما هو مقتضى الأصل العملي حينئذٍ؟ فانتظر.

الثاني: قد يستشكل في أصل تصوير الزيادة في الأجزاء حقيقة فيقال: أساساً لا تتصوّر الزيادة في الاجزاء لأنّها إمّا أخذت في عنوان المأمور به بشرط لا فترجع الزيادة حينئذٍ إلى النقصان، لأنّ للمركّب حينئذٍ قيد عدمي (وهو عدم إتيان الزيادة) وهو ينعدم بإتيان الزيادة، أو أخذت لا بشرط فلا تصدق الزيادة حينئذٍ، أي لا يكون الزائد زائداً في المأمور به، لأنّ المأمور به حينئذٍ إنّما هو طبيعي الجزء من غير اعتبار وجود فرد آخر من الطبيعي معه، ولا اعتبار عدمه لأنّه على الفرض غير مقيّد بكونه وجوداً واحداً ولا بكونه متعدّداً، فلو وجد فردان من الطبيعي أو أكثر يصدق على الجميع أنّها من مصاديق المأمور به فلا تتصوّر الزيادة.

وقد اجيب عنه بوجوه أحسنها: أنّ الزيادة وإن ترجع إلى النقيصة بالدقّة العقليّة لكنّه لا إشكال في صدقها عند العرف،

والمقصود في المقام إنّما هو البحث في إيجاب الزيادة العرفيّة بطلان المأمور به وعدمه.

وإن شئت قلت: إنّ الحكم في ما نحن فيه لا يدور مدار التسمية وصدق عنوان الزيادة أو النقيصة، بل البحث في أنّ ما أتى به زائداً على الاجزاء هل يوجب الفساد أو لا، سواء صدق عليه اسم الزيادة أو لا.

ومن تلك الوجوه: أنّه يتصوّر في اعتبار المأمور به شقّ ثالث، وهو أن يعتبر المولى انوار الأصول، ج 3، ص: 167

صرف الوجود من الطبيعة، أي ما هو عادم العدم ونقيضه، فقهراً ينطبق المأمور به على أوّل وجود من تلك الطبيعة التي أخذت جزءً، ولا ينطبق على الوجود الثاني، بل يصدق عليه عنوان الزيادة حقيقة.

ولكن يرد عليه: أنّه لا يخلو الأمر في مقام الثبوت والواقع من إحدى الحالات الثلاثة فإمّا أخذت الماهيّة لا بشرط أو بشرط شي ء أو بشرط لا، والحصر عقلي لا يتصوّر فيه شقّ رابع بعنوان صرف الوجود، بل لا يكون صرف الوجود أيضاً خارجاً من هذه الثلاثة.

الثالث: في مقتضى الأصل العملي فيما إذا أتى بالزائد من دون قصد الجزئيّة والتشريع.

ربّما يقال: إنّ جميع المباني المذكورة في النقيصة تأتي هنا أيضاً، فيكون الأصل (بناءً على ما هو المختار هناك) هو البراءة لأنّه لو كانت الزيادة مضرّة وموجبة للبطلان لكان على الشارع البيان.

وإن شئت قلت: إنّ كون الزيادة موجبة للبطلان سواء كانت عمدية أو سهوية متوقّف على اعتبار الجزء بشرط لا، أي اعتباره مقيّداً بعدم الزيادة، والشكّ فيه يرجع إلى الأقل والأكثر في المركّبات التحليلية، وقد تقدّم أنّ المختار فيها جريان البراءة، فمقتضى الأصل عدم البطلان إلّاأن يدلّ دليل خاصّ على أنّ الزيادة مطلقاً موجبة للبطلان، كما ورد الدليل على البطلان في باب الصّلاة

والطواف عند الزيادة العمدية.

لكن يمكن أن يقال: بأنّ بناء العقلاء في المركّبات المخترعة مثل الأدوية والأغذية على عدم جواز إتيان الزيادة، فلو أمر المولى بمعجون من كذا وكذا لم يجز التعدّي من الأجزاء والحدود التي بيّنها، وهذا يمنع عن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، وعن جريان أصل البراءة الشرعيّة (قاعدة رفع ما لا يعلمون) لأنّ السيرة العقلائيّة- بعد امضاء الشارع ولو بعدم الردع- بمنزلة الأمارة وتوجب رفع موضوع البراءة (وهو الشكّ) وتكون واردة عليها، والنتيجة حينئذٍ قاعدة الاشتغال وبطلان العمل بالزيادة.

الرابع: بناءً على كون الأصل الأوّلي هو البراءة- هل يلزم البطلان من ناحية اعتبار قصد القربة في التعبّديات أو لا؟

وهذا يتصوّر له صورتان: تارةً يأتي بالزيادة بقصد الزيادة بحيث لولاها لا يأتي بالعمل برأسه فلا إشكال حينئذٍ في البطلان لعدم تحقّق قصد القربة وعدم تمشّيه، ولكن مثل هذا نادر

انوار الأصول، ج 3، ص: 168

جدّاً، واخرى يأتي بها من باب تطبيق المأمور به عليها من دون أن يكون محرّكه الإتيان بالزيادة بل المحرّك هو إطاعة المولى كيفما كان، فالحكم بالصحّة هو الأقوى على فرض جريان البراءة في المقام.

الأمر الثالث: هل يسقط الوجوب عند تعذر وجود الجزء أو الشرط ...؟
اشارة

إذا تعذّر وجود جزء أو شرط أو عدم مانع بواسطة الاضطرار أو أحد الأعذار الاخر، بمعنى أنّه اضطرّ إلى ترك جزء من أجزاء الواجب أو ترك شرط من شرائطه أو اضطرّ إلى وجود مانع أو اكره مثلًا إلى ترك ما لوجوده دخل في الواجب أو إلى فعل ما لعدمه دخل، فيه فهل مقتضى القواعد والأدلّة سقوط الوجوب عن الباقي، أو لا؟

وبعبارة اخرى: هل الجزئيّة والشرطيّة والمانعية مطلقة شاملة لحالتي الاختيار والعذر أو تختصّ بحال الاختيار ولازمه وجوب الإتيان بالباقي؟

لابدّ من إيراد البحث في أربع مقامات:

الأوّل: في مقتضى الأدلّة

الخاصّة في كلّ مورد.

الثاني: في مقتضى إطلاقات أدلّة الجزئيّة والشرطيّة.

الثالث: في مقتضى الاصول العمليّة.

الرابع: في مقتضى «قاعدة الميسور» ودائرة شمولها.

أمّا المقام الأوّل: فمحلّ البحث عنه هو الفقه لا الاصول كما لا يخفى.

وأمّا المقام الثاني: فالتحقيق فيه أن يقال: يتصوّر لأدلّة الجزئيّة والشرطيّة ثلاث حالات:

تارةً: تكون الأدلّة بلسان الحكم الوضعي كقوله عليه السلام: «لا صلاة إلّابطهور»، فلا إشكال في إطلاقها وشمولها لحالتي الإختيار والعذر.

واخرى: يكون لسانها لسان الحكم التكليفي مع كونها من قبيل الأوامر الإرشاديّة، أي تكون إرشادة إلى الجزئيّة أو الشرطيّة كقوله تعالى: «إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ انوار الأصول، ج 3، ص: 169

... وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ...» «1»

فلا إشكال أيضاً في الاطلاق.

وثالثة: تكون الأدلّة بلسان الحكم التكليفي مع كونها أوامر مولويّة، فالصحيح حينئذٍ اختصاصها بحال الاختيار لاستحالة تعلّق الأمر بفاقد القدرة، وامتناع التكليف بما لا يطاق.

وأمّا المقام الثالث: فلا إشكال في أنّ الأصل الجاري في المقام هو البراءة عن وجوب الباقي، أي وجوب الصّلاة بدون الطهارة على فاقد الطهورين مثلًا.

ولكن قد يقال، بجريان استصحاب الوجوب، ويقدّم على البراءة إمّا لكونه حاكماً عليها أو من باب أخصيّة أدلّته من أدلّة البراءة (كما هو المختار في محلّه).

يمكن الإيراد عليه:

أوّلًا: بعدم اتّحاد قضية المشكوكة والمتيقّنة من حيث الموضوع، لأنّ الموضوع في المتيقّنة هو مجموع القيد والمقيّد (الطهارة مع الصّلاة) وفي المشكوكة ذات المقيّد من دون القيد.

واجيب عنه بوجهين:

أحدهما: أنّ المستصحب هنا إنّما هو كلّي الصّلاة، أي القدر الجامع بين الصّلاة من دون الطهارة والصّلاة مع الطهارة، وهو واحد في القضيتين.

ثانيهما: وجود الوحدة عرفاً، لأنّ الجزء أو القيد المتعذّر كثيراً مّا لا يكون من مقوّمات الموضوع في نظر العرف بل يكون من حالاته.

والإنصاف عدم تماميّة كلا الوجهين:

أمّا

الوجه الأوّل: فلأنّ استصحاب الكلّي في المقام من مصاديق القسم الثالث منه (وهو ما إذا إنعدمت الطبيعة الموجودة ضمن فرد بإنعدام ذلك الفرد، وشككنا في وجودها ثانياً بقيام فرد جديد مقام الفرد الأوّل) والمعروف عند المحقّقين عدم حجّيته.

وأمّا الوجه الثاني: فلعدم وجود الاتّحاد عند العرف بين واجد الجزء وفاقده، كالحجّ مع الوقوف في عرفات والحجّ مع عدم الوقوف فيها، وأمّا التسامح العرفي فهو يأتي فيما إذا كان التفاوت جزئيّاً، كما إذا نقص من الماء الكثير رطلًا مثلًا وشككنا في بقائه على الكرّية.

انوار الأصول، ج 3، ص: 170

وثانياً: بأنّ استصحاب الوجوب يتصوّر بالنسبة إلى ما إذا فُقد الطهورين مثلًا بعد دخول الوقت، وأمّا إذا فقد قبله فلا تجب عليه الصّلاة حتّى يستصحب وجوبها، اللهمّ إلّاأن يقال بوجوبها قبل الوقت أيضاً على نحو الواجب المعلّق، لكن المختار عدم صحّته فلا وجه لجريان استصحاب الوجوب، بل الجاري إنّما هو استصحاب عدم الوجوب.

وقد يقال: إنّ هذا الاستصحاب من قبيل القسم الثاني للكلّي لا الثالث لأنّه من قبيل الشكّ في بقاء الحيوان من جهة تردّده بين طويل العمر وقصير العمر لأنّ الوجوب المتعلّق بالمركّب هنا مردّد بين تعلّقه به على أن يكون الجزء المتعذّر جزءاً له مطلقاً فيسقط الوجوب بتعذّره، أو يكون جزءاً له في حال الاختيار فقط فيبقى التكليف بالباقي على حاله.

واجيب عنه: بأنّه غير معقول لأنّه لازمه تعلّق طلب واحد بعشرة أجزاء تارةً، وبتسعة أجزاء اخرى، هذا محال، لأنّ الطلب الواحد لا يتعلّق بشيئين مختلفين، فلا يمكن اندراجه في القسم الثاني من استصحاب الكلّي.

ثمّ إنّه ذكر في المقام وجه آخر للاستصحاب، وهو أن يستصحب شخص الوجوب السابق المتعلّق بالمركّب لأنّه منبسط على أجزاء المركّب، وبعد تعذّر بعض أجزائه يكون

الوجوب في المركّب الناقص عين الوجوب الأوّل الذي كان منبسطاً على المركّب التامّ، غايته أنّ حدّه قد تبدّل بحدّ آخر، نظير البياض المنبسط على جسم طويل فيما إذا انفصل منه جزء وصار قصيراً، حيث إنّ البياض الباقي في الجسم القصير هو عين ذلك البياض الأوّل، غايته أنّه تبدّل حدّه بحدّ آخر.

والجواب عنه: إنّ المركّب الناقص الباقي كان واجباً ضمن المركّب التامّ لا مستقلًا مع أنّ المراد في هذا الوجه استصحاب وجوب الباقي بالاستقلال، فيتبدّل الموضوع من الوجوب الضمني إلى الوجوب الاستقلالي، ويلزم منه عدم وجود شرط الاتّحاد المعتبر في موضوع الاستصحاب، اللهمّ إلّاأن يكون الجزء المتعذّر أمراً غير هامّ بحيث يعدّ من الحالات المتواردة على الموضوع، لا المقوّمة له.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ الأصل الجاري في المقام هو البراءة لولا دليل خاصّ اجتهادي يدلّ على بقاء الوجوب، نظير ما ورد في باب الصّلاة من «أنّ الصّلاة لا تدرك بحال».

ثمّ إنّ المحقّق العراقي رحمه الله استدلّ في المقام لوجوب الباقي بعمومات الإضطرار كقوله عليه السلام في خبري زرارة ومحمّد بن مسلم: «التقية في كلّ شي ء، وكلّ شي ء اضطرّ إليه ابن آدم فقد أحلّه انوار الأصول، ج 3، ص: 171

اللَّه له» «1»، بناءً على كون المراد من الحلّية فيها معناها اللغوي الشامل للحلّية الوضعيّة أيضاً، وتقريب الاستدلال: إنّ حلّية الجزء والشرط والمانع المتعذّر عبارة عن سقوطه عن الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة في حال تعذّره، ومقتضى ذلك بعد حكومة هذه العمومات على الأدلّة المثبتة للأجزاء والشرائط، والموانع هو تخصيص الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة المستفادة منها بغير حال التعذّر، ولازمه وجوب الإتيان بالباقي لكونه تمام المركّب المأمور به في هذا المستلزم لفراغ الذمّة وعدم وجوب الإعادة عليه بعد ارتفاع الاضطرار، وربّما

يشهد لما ذكرناه ما في كثير من النصوص من استشهاد الإمام عليه السلام بمثل هذه العمومات لرفع جزئية المتعذّر أو شرطيّته وإيجاب الأمر بالبقيّة (انتهى ملخّصاً) «2».

أقول: من هذه الروايات ما رواه منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: الرجل يعتريه البول ولا يقدر على حبسه، قال فقال لي: «إذا لم يقدر على حبسه فاللَّه أولى بالعذر يجعل خريطة» «3».

ومنها: ما رواه سماعة قال: سألته عن الرجل يكون في عينيه الماء فينتزع الماء منها فيستلقي على ظهره الأيّام الكثيرة: أربعين يوماً أو أقلّ أو أكثر، فيمتنع من الصّلاة الأيّام إلّا إيماءً وهو على حاله، فقال: «لا بأس بذلك وليس شي ء ممّا حرّم اللَّه إلّاوقد أحلّه لمن اضطرّ إليه» «4».

ومنها: ما رواه أبو بصير قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن المريض هل تمسك له المرأة شيئاً فيسجد عليه؟ فقال: «لا إلّاأن يكون مضطرّاً ليس عنده غيرها، وليس شي ء ممّا حرّم اللَّه إلّا وقد أحلّه لمن اضطرّ إليه» «5».

ويمكن أن يقرّب الاستدلال بهذه الروايات لمطلق موارد الاضطرار بطريقين:

أحدهما: طريق القياس المنصوص العلّة فإنّها ظاهرة في أنّ علّة سقوط الجزء أو الشرط

انوار الأصول، ج 3، ص: 172

المضطرّ إليه عن الجزئيّة أو الشرطيّة ووجوب باقي الأجزاء إنّما هو الإضطرار به، وهو موجود في جميع موارد الاضطرار.

ولكن يمكن الجواب عنه: بأنّ غاية ما يستفاد من هذه الرّوايات مجرّد رفع الجزئيّة والشرطيّة عن المتعذّر وأنّها لا تقتضي إيجاب فعل الباقي، وأمّا وجوب الباقي المفروض في مورد هذه الروايات وهو الصّلاة فلعلّه كان مستفاداً من الخارج (لا من نفس الأمر الموجود في هذه النصوص) مثل قوله عليه السلام: «لا تترك الصّلاة بحال». فالمقدار المستفاد من هذه الروايات على نهج القياس

المنصوص العلّة إنّما هو سقوط الجزء أو الشرط عن الجزئيّة والشرطيّة في تمام موارد الاضطرار، وأمّا وجوب الباقي فلا يستفاد منها، بل لابدّ فيه من دليل خاصّ من الخارج كما في باب الصّلاة.

ثانيهما: طريق الاستقراء عن موارد الاضطرار في الأبواب المختلفة من الفقه فإنّه يقتضي حصول القطع بوجوب الباقي، نظير ما ورد في باب القيام من وجوب إتيان الصّلاة جالساً ثمّ مستلقياً ثمّ على جانب الأيمن والأيسر، واستدلال الإمام عليه السلام بقوله تعالى: «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ» وهكذا ما ورد في باب القبلة.

ويمكن الجواب عن هذا أيضاً: بأنّ موارد الاستقراء مختصّة بأبواب الصّلاة لا غير، فاحتمال إلغاء الخصوصيّة مشكل كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في المقام الثالث.

قاعدة الميسور

وأمّا المقام الرابع: (أي الاستدلال بقاعدة الميسور لوجوب غير المتعذّر من الأجزاء والشرائط في جميع أبواب الفقه) فلابدّ أوّلًا من ملاحظة أدلّة هذه القاعدة، ثمّ مقدار دلالتها، فنقول: يمكن إثباتها من طرق الروايات وبناء العقلاء:

أمّا الروايات فالعمدة فيها ثلاث روايات يشار إليها غالباً في كلمات المتأخّرين:

الرواية الاولى: نبويّة، وهى قوله صلى الله عليه و آله: «إذا أمرتكم بشي ء فأتوا منه ما استطعتم»، نقلت من طريق الخاصّة مرسلة في المستدرك، ج 2، كتاب الحجّ عن عوالي اللئالي وفي البحار كتاب انوار الأصول، ج 3، ص: 173

الصّلاة باب صلاة العراة «1» والموجود في هذا الطريق «فأتوا به ما استطعتم» بدل «فأتوا منه ما استطعتم».

ونقلت من طريق العامّة في سنن البيهقي «2» عن أحمد بن حنبل في سننه عن يزيد بن هارون عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «أيّها الناس قد فرض اللَّه عليكم الحجّ فحجّوا»، فقال رجل (وفي رواية: قال عكاشة)

أكلّ عام يارسول اللَّه؟ فسكت صلى الله عليه و آله حتّى قالها ثلاثاً فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «لو قلت نعم لوجب ولما استطعتم، ثمّ قال صلى الله عليه و آله: ذروني ما تركتكم، فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشي ء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شي ء فدعوه».

ونقلت في سنن النسائي «3» أيضاً، ولكن الموجود فيه «فأتوا به» بدل «فأتوا منه».

ولا شبهة في أنّ الرواية من طريق الخاصّة من المراسيل، ومن طرق العامّة وإن كانت مسندة ولكن في طريقها من لا يخفى حالهم، مضافاً إلى أنّها غير موجودة في كتب قدماء الأصحاب، وإنّما رواها المتأخّرون نقلًا عن عوالي اللئالي، وقد تصدّى للقدح عليه من ليس من عادته القدح في كتب الأخبار كصاحب الحدائق رحمه الله.

الرواية الثانية: هى المرسلة المحكيّة عن كتاب الغوالي أيضاً عن أمير المؤمنين عليه السلام إنّه قال: «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» «4».

الرواية الثالثة: هى المرسلة المنقولة عن كتاب الغوالي أيضاً عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «الميسور لا يسقط بالمعسور» «5».

وهاتان العلويتان أيضاً لا يخفى الإشكال فيهما من ناحية السند من جهة الارسال.

نعم لا يبعد أن يقال بإنجبار ضعفها (أي ضعف كلّ واحدة من الثلاثة) بعمل المشهور،

انوار الأصول، ج 3، ص: 174

ولكن إستشكل فيه في مصباح الاصول صغرى وكبرى:

أمّا الصغرى فبعدم ثبوت استناد الأصحاب عليها في مقام العمل، وأنّ مجرّد موافقة فتوى الأصحاب لخبر ضعيف لا يوجب الإنجبار ما لم يثبت استنادهم عليه.

وأمّا الكبرى فبأنّه لو سلّمنا صغرى الاستناد إلّاأنّه لا يوجب الجبر بعد كون الخبر في نفسه ضعيفاً غير داخل في موضوع الحجّية (لأنّه من قبيل ضمّ

اللّاحجّة إلى اللّاحجّة، أي ضمّ العدم إلى العدم كما مرّ في محلّه) «1».

ويرد عليه ما مرّ أيضاً في محلّه من أنّ الميزان في اعتبار السند الوثوق بالرواية لا الوثوق بالراوي، واستناد المشهور إلى رواية يوجب الوثوق بها، وتمام الكلام في محلّه، هذا بالنسبة إلى الكبرى.

وأمّا الصغرى فيردّها أنّه إذا أفتى المشهور بشي ء ولم تكن فيما بين أيديهم إلّارواية أو روايات معيّنة فإنّ ظاهر الحال استنادهم إليها في إثبات الحكم بعد ما علمنا بأنّ عادة قدماء الأصحاب رضوان اللَّه تعالى عليهم كانت على ذكر الفتاوي وحذف الأدلّة.

هذا كلّه بالنسبة إلى السند.

أمّا الدلالة فالمحتملات في الرواية الاولى أربعة بناءً على كون النسخة «فأتوا منه»:

الأوّل: أن تكون كلمة «من» تبعيضية بحسب الأجزاء، ويكون المعنى «إذا أمرتكم بشي ء فأتوا من أجزائه ما استطعتم» وهذا هو المطلوب في المقام.

الثاني: أن تكون كلمة «من» تبعيضية ولكن بحسب الأفراد، والمعنى حينئذٍ «فأتوا من افراده ما استطعتم» وهذا خارج عن البحث في ما نحن فيه ولا ينفعنا في المقصود، لأنّ الكلام في الميسور من الأجزاء لا الأفراد.

ويشهد لهذا الاحتمال رواية عكاشة»

حيث إنّ سؤاله فيها بقوله: «أكلّ عام يارسول اللَّه» إنّما يكون عن وجوب الحجّ في كلّ سنة فسؤاله عن الأفراد لا الاجزاء.

الثالث: أن تكون كلمة «من» للتعدية بمعنى الباء فيكون قوله صلى الله عليه و آله «فأتوا به» نظير قولك انوار الأصول، ج 3، ص: 175

«أتى به» أو «يأتون به» والمعنى حينئذٍ «فأتوا بالعمل ما استطعتم» والمقصود منه تكرار العمل بقدر الاستطاعة وتكون الرواية ناظرة حينئذٍ إلى الأفراد أيضاً.

الرابع: ما ذكره في مصباح الاصول من أن تكون كلمة «من» بيانية وكلمة «ما» موصولة فيكون حاصل المعنى: إنّه إذا أمرتكم بطبيعة فأتوا ما استطعتم من

أفرادها «1».

هذه هى الاحتمالات المتصوّرة في الرواية، ولا يخفى أنّ الاحتمال الأخير ممّا لا وجه له ولا معنى محصّل له، لأنّه لا معنى لأن يكون الضمير (في كلمة «منه») بياناً لكلمة «ما الموصولة» فإنّ الضمير لا يكون بياناً بل يحتاج إلى البيان.

وأمّا الاحتمالات الثلاثة الاخر فالمفيد بالمقصود (كما مرّ) إنّما هو الاحتمال الثاني، ولكنّه لا يناسب مورد الرواية كما قلنا.

نعم يمكن أن يقال: إنّ كلمة «شي ء» في الرواية مطلق يشمل كلّ ما يكون ذات أجزاء سواء كانت مستقلّة كما في صيام رمضان أو غير مستقلّة كما في أجزاء الصّلاة.

وإن شئت قلت: يتصوّر الجزء في الطبيعة ذات الأفراد كما يتصوّر في المركّب ذات الأجزاء، حيث إنّ الفرد بعض من الطبيعة وفي الحقيقة جزء منها، وحينئذٍ مقتضى هذا الاطلاق وجوب الإتيان بالباقي في كلا الموردين، ولا تضرّنا خصوصيّة المورد لأنّ المورد لا يخصّص.

هذا بالنظر إلى كلمة «من»، وأمّا بالنسبة إلى كلمة «ما» فحيث إنّه يتحمّل أن تكون موصولة ومفعولًا لقوله: «فأتوا»، أي فأتوا منه شيئاً استطعتم، ويحتمل أن تكون مصدريّة زمانيّة، والمعنى حينئذٍ: فأتوا به ما دمتم قادرين أو ما دمتم على الاستطاعة، فلا يمكن الاستدلال بالرواية على المطلوب لإجمالها حينئذٍ.

والوجه في ذلك أنّه يتعيّن الاحتمال الثاني بناءً على نسخة النسائي والبحار، أي نسخة «فأتوا به» (فيكون حاصل المعنى حينئذٍ خذوا به ما دمتم على الاستطاعة) لأنّ مفعول «فأتوا به» إنّما هو كلمة «به» ولا يمكن أن تكون كلمة «ما» مفعولًا آخر له حتّى تكون موصولة، كما يتعيّن الاحتمال الأوّل بناءً على النسخة الاخرى أي نسخة «فأتوا منه» لأنّ «ما» حينئذٍ يكون انوار الأصول، ج 3، ص: 176

مفعولًا لقوله «فأتوا» ولا يمكن أن تكون مصدريّة زمانيّة كما لا

يخفى، وحيث إنّ نسخ الحديث مختلفة فيصير مجملًا لا يمكن الاستدلال به.

هذا مضافاً إلى أنّ التمسّك بهذا الحديث لإثبات مطلوبيّة الباقي يستبطن الدور المحال، لأنّ كون الأجزاء الباقية مقدورة ومستطاعة للمكلّف شرعاً متوقّف على كونها واجدة للملاك، وهذا في المركّبات الشرعيّة لا يحرز إلّابتعلّق الأمر بالباقي وإحراز تعدّد المطلوب من قبل، ولا أمر في البين إلّانفس الأمر الوارد في هذا الحديث، فكون الباقي مقدوراً متوقّف على تعلّق أمر به، وتعلّق الأمر به أيضاً متوقّف على كونه مقدوراً من قبل، وهذا دور محال، ولا مناصّ عنه إلّابإحراز تعدّد المطلوب من قبل، وحينئذٍ يكون الحديث مؤكّداً لحكم العقل، وليس فيه تعبّد شرعي.

ثمّ إنّه لا إشكال في شمول هذا الحديث للتكاليف المستحبّة والواجبة معاً، فيكون الأمر الوارد فيه وهو قوله صلى الله عليه و آله: «فأتوا» مستعملًا في الجامع بين الوجوب والاستحباب، ففي مورد الوجوب يكون المأمور به الإتيان بقدر الاستطاعة وجوباً، وفي مورد الاستحباب يكون المأمور به الإتيان بقدر الاستطاعة إستحباباً، ولا ضير في كون مورد الحديث من المستحبّات لأنّ ذيله من قبيل الكبرى الكلّية التي لا تخصّصها خصوصية المورد، واستعمال الأمر في الجامع لا ينافي المطلوب لأنّ ظاهر الحديث إنّ حكم الميسور في كلّ من الواجب والمستحبّ حكم أصله.

هذا كلّه بالنسبة إلى دلالة الرواية الاولى.

وأمّا الرواية الثانية وهى قوله صلى الله عليه و آله: «الميسور لا يسقط بالمعسور» فتقريب الاستدلال بها واضح، لكن يرد عليه:

أوّلًا: بمثل ما اورد على الحديث الأوّل من أنّ كلمة «الميسور» مردّد بين الميسور من الأفراد والميسور من الأجزاء، فلا يمكن الاستدلال به، لكونه خارجاً عن محلّ الكلام على أحد الاحتمالين.

لكن يمكن الجواب عن هذا بما مرّ نظيره في الحديث الأوّل، وهو

اطلاق كلمة «الميسور»

انوار الأصول، ج 3، ص: 177

المحلّى بلام الجنس، مضافاً إلى أنّ إشكال خصوصيّة المورد (أفراد الحجّ) لا موضوع له في هذا الحديث.

وثانياً: بأنّ المجموع من الاجزاء واجبة بوجوب استقلالي، والباقي من الأجزاء واجب بوجوب ضمني، وليس الواجب بالوجوب الضمني ميسوراً للواجب بالوجوب الاستقلالي، فيتعيّن أن يكون هذا الحديث مختصّاً بالميسور من الأفراد ولا يشمل الميسور من الأجزاء.

والجواب عنه: إنّ هذا نوع مغالطة، لأنّ الميسور والمعسور ليسا من أوصاف الوجوب حتّى يتصوّر فيهما الضمنيّة والاستقلاليّة بل إنّهما من أوصاف الواجب، ولا إشكال في أنّ تسعة الأجزاء ميسورة للعشرة عرفاً.

وثالثاً: بأنّه لا إشكال في اطلاق الحديث وشموله للمستحبّات، فلم يستعمل النفي أو النهي الوارد فيه (وهو قوله صلى الله عليه و آله: «لا يسقط») إلّافي الجامع بين الوجوب والاستحباب، وحيث إنّه لا مرجّح لأحدهما على الآخر فلا يستفاد من الحديث إلّارجحان الإتيان بما هو الميسور لا وجوبه.

والجواب عنه: أنّ قوله صلى الله عليه و آله: «لا يسقط» وإن استعمل في القدر الجامع إلّاأنّه لا يقتضي مجرّد رجحان الإتيان بالميسور في جميع الموارد بل ظاهره أن تكون مطلوبيّة الإتيان في كلّ مورد بحسبه ففي مورد الوجوب بنحو الوجوب، وفي مورد الاستحباب بنحو الاستحباب، أي لا يسقط الميسور من الواجب وجوباً ولا يسقط الميسور من المستحبّ استحباباً كما مرّ آنفاً.

ورابعاً: بأنّ التمسّك بهذا الحديث لوجوب الميسور من الأجزاء يستبطن الدور المحال كما مرّ نظيره في الحديث الأوّل.

أقول: هذا الإشكال وارد على الاستدلال بهذا الحديث كما كان وارداً على سابقه، ولا مناصّ عنه إلّابإحراز تعدّد المطلوب في المركّبات الشرعيّة من قبل، وحينئذٍ يكون مؤكّداً لحكم العقل، فليس في الحديث تعبّد شرعي حينئذ كما مرّ.

وخامساً: بما ذكره في مصباح الاصول

من «أنّ السقوط فرع الثبوت وعليه فالرواية مختصّة بتعذّر بعض أفراد الطبيعة باعتبار أنّ غير المتعذّر منها كان وجوبه ثابتاً قبل طروّ التعذّر، فيصدق إنّه لا يسقط بتعذّر غيره، بخلاف بعض أجزاء المركّب، فإنّه كان واجباً بوجوب ضمني قد سقط بتعذّر المركّب من حيث المجموع فلو ثبت وجوبه بعد ذلك فهو

انوار الأصول، ج 3، ص: 178

وجوب استقلالي وهو حادث، فلا معنى للإخبار عن عدم سقوطه بتعذّر غيره، وكذلك الحال في المرتبة النازلة فإنّ وجوبها لو ثبت بعد تعذّر المرتبة العالية لكان وجوباً حادثاً جديداً لا يصحّ التعبير عنه بعدم السقوط، فإرادة معنى عام من الرواية شامل لموارد تعذّر بعض الأفراد، وموارد تعذّر بعض الأجزاء وموارد تعذّر المرتبة العالية تحتاج إلى عناية لا يصار إليها إلّا بالقرينة» «1».

أقول: ليس هذا إلّادقّة عقليّة في مسألة عرفيّة لا يعتني بها أهل العرف، حيث إنّ المرتبة النازلة تعدّ عند العرف ميسورة من المرتبة العالية، وتكون تسعة أجزاء مثلًا تابعة وبقية لعشرة أجزاء في نظره، لا أمراً حادثاً بعدها حتّى يكون وجوبها أيضاً وجوباً حادثاً جديداً فلا يصحّ التعبير عنه بعدم السقوط.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه أنّ الوارد من هذه الوجوه هو الوجه الرابع، وعليه لا يتمّ الاستدلال بهذا الحديث في المقام.

أمّا الرواية الثالثة: وهى قوله عليه السلام: «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» فيرد على الاستدلال بها في ما نحن فيه إثنان من الإشكالات الخمسة الواردة على الرواية السابقة:

أحدهما: إجمال كلمة «كلّ» ودورانه بين المجموع بحسب الأفراد والمجموع بحسب الأجزاء.

والجواب عنه هو الجواب، وهو اطلاق ما الموصولة الواردة في الحديث، مضافاً إلى أنّ ظهور كلمة «كلّه» في الأجزاء أشدّ من ظهوره في الأفراد كما لا يخفى.

الثاني: إجمال قوله عليه

السلام: «لا يترك» ودورانه بين إرادة الوجوب بالخصوص وإردة الأعمّ من الوجوب والندب، فلا يمكن الاستدلال بها لأنّه بناءً على الاحتمال الثاني لا يستفاد منها وجوب الإتيان بالباقي.

والجواب عنه أيضاً هو الجواب، وهو أنّ ظاهر الحديث كون حكم ما لا يترك في كلّ من انوار الأصول، ج 3، ص: 179

الواجب والمستحبّ حكم أصله.

نعم، يرد عليها ما أُورد على الروايتين السابقتين، وهو لزوم إحراز تعدّد المطلوب من قبل، ومعه تكون الرواية مؤكّدة لحكم العقل، وليس فيها تعبّد شرعي.

وإن شئت قلت: أنّ قاعدة الميسور قاعدة عقلائيّة يعمل به العقلاء في ما إذا علم تعدّد المطلوب (أي مطلوبيّة الباقي مضافاً إلى مطلوبية المجموع) من قبل فتكون جميع الروايات ناظرة إليها، وليس فيها تعبّد شرعي.

هذا كلّه في مدلول أحاديث الباب.

وأمّا بناء العقلاء فقد مرّ بيانه في تفسير الأحاديث، وحاصله أنّه إذا كان هناك مطلوب له درجات مختلفة يستقلّ بعضها عن بعض، أو كان هناك مطلوبات مختلفة تترتّب مجموعها على مجموع أجزاء المركّب وبعضها على بعض، فلا يشكّ أحد في وجوب الأجزاء التي يترتّب عليها بعض مراتب المطلوب أو بعض المطلوبات المختلفة، ولا يزال العقلاء من أهل العرف يعبّرون في هذه الموارد بتعبيرات قريبة ممّا ورد في روايات القاعدة، حتّى صار عملهم في بعضها من قبيل ضرب المثل بينهم، ممّا لا يخفى على المتتبّع.

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: قال في مصباح الاصول: «لم يعلم من الأصحاب العمل بقاعدة الميسور إلّا في الصّلاة، وفيها دليل خاصّ دلّ على عدم جواز تركها بحال فلم يعلم استنادهم إلى الرواية المذكورة» «1».

ولكنّه ليس بتامّ لتعرّضهم لها في سائر الأبواب أيضاً، فقد تعرّض لها صاحب الجواهر في باب الوضوء في أحكام الجبيرة (كما وردت أيضاً في الحديث

الوارد في باب الجبيرة، وهو ما

انوار الأصول، ج 3، ص: 180

رواه عبدالأعلى مولى آل سام قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: عثرت فانقطع ظفري فجعلت على اصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟ قال: «يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللَّه عزّوجلّ، قال اللَّه تعالى: ما جعل عليكم في الدين من حرج، امسح عليه» «1»، فإنّ مقتضى قاعدة نفي الحرج وجوب المسح على البشرة وأمّا وجوب المسح على المرارة فليس إلّابقاعدة الميسور كما لا يخفى) ولم يستشكل فيها بعدم عمل الأصحاب لها في غير باب الصّلاة، بل إستشكل فيها بأمر آخر يأتي ذكره في الأمر الثاني، والمتتبّع في كلامه وكلام غيره يجد موارد كثيرة في غير أبواب الصّلاة استندوا فيها إلى هذه القاعدة، وإليك شطر منها:

1- في الجواهر في أحكام الجبائر في ذيل كلام المحقّق (من كان على بعض أعضاء طهارته جبائر فإن أمكنه نزعها أو تكرار الماء عليها حتّى يصل البشرة وجب): «... نعم يمكن أن يقال:

يجتزي به (أي بتكرار الماء إذا حصل منه إصابة من غير تحقّق للجريان الذي بدونه لا يتحقّق الغسل) ويقدّم على المسح على الجبيرة عند تعذّر النزع والغسل، لكونه أقرب إلى المأمور به، أو لأنّ مباشرة الماء للجسد واجبة للأمر بالصبّ ونحوه، والغسل واجب آخر، وتعذّر الثاني لا يسقط الأوّل، إذ لا يترك الميسور بالمعسور، وما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» «2».

2- وفيه في أحكام الجبائر أيضاً عند نقل كلمات الاستاذ الأكبر في شرح المفاتيح: «ثمّ أيّده بقوله عليه السلام: لا يسقط الميسور بالمعسور» «3».

3- وفيه أيضاً في باب غسل الميّت في ذيل كلام المحقّق رحمه الله (إذا وجد بعض الميّت فإن كان فيه الصدر أو الصدر وحده غسل وكفن وصلّى عليه

ودفن): «فيدلّ على تلك الأحكام الاستصحاب ... وقاعدة عدم سقوط الميسور بالمعسور وما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» «4».

4- وفيه في باب غسل الميّت أيضاً: «وهل يلحق بالصدر بعضه كما هو قضيّة بعض الأدلّة السابقة من الاستصحاب وعدم سقوط الميسور بالمعسور ...» «5».

انوار الأصول، ج 3، ص: 181

5- وفيه في نفس الباب في مسألة الصّلاة على القطعة ذات العظم: «وكيف كان فيؤيّد ما ذهب إليه الاسكافي بعد الاستصحاب وقاعدة الميسور ...» «1».

6- وفيه في نفس الباب وفي نفس المسألة أيضاً: «فإن لم يكن له عظم إقتصر على لفّه في خرقة ودفنه، وقد يؤيّده ما سمعت من القاعدة السابقة (قاعدة الميسور) لعدم معارضة الإجماع بها هنا» «2».

7- وفيه في نفس الباب في مسألة عدم جواز الاقتصار على أقلّ من الغسلات المذكورة إلّا عند الضرورة: «... وكأنّه لقاعدة الميسور والاستصحاب على بعض الوجوه» «3».

8- وفيه في ذيل كلام المحقّق رحمه الله في كتاب الحجّ (إذا نذر الحجّ ماشياً وجب أن يقوم في مواضع العبور): «لخبر السكوني ... ولأنّ المشي يتضمّن القيام والحركة، ولا يسقط الميسور منهما بالمعسور» «4».

9- وفي كتاب الطهارة لشيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله في أحكام الجبائر حاكياً عن الذكرى: «لو التصق بالجرح خرقة أو قطنة أو نحوهما وأمكن النزع وإيصال الماء حال الطهارة وجب كما في الجبيرة، وإلّا مسح عليه، ولو استفاد بالنزع غسل البعض الصحيح، فالأقرب الوجوب لأنّ الميسور لا يسقط بالمعسور» «5».

10- وفي موضع آخر منه في نفس الباب: «ولو ألصق الحاجب عبثاً أو التصق به اتّفاقاً وتعذّر نزعه فصرّح في الذكرى بإلحاقه بالجبيرة، وهو حسن بناءً على أنّ حكم الجبيرة المتعذّر نزعها مطابق للقاعدة المستفادة من قولهم الميسور لا يسقط بالمعسور

...» «6».

لكن الشيخ رحمه الله إستشكل بعد ذلك في ثبوت القاعدة في مثل المقام لُامور تختصّ به (بالمقام).

انوار الأصول، ج 3، ص: 182

11- وفيه أيضاً: «ثمّ إنّك لتعرف ممّا ذكرنا من حكم الجروح والقروح الكائنة في محلّ الغسل حكم الكائن منها في محلّ المسح فيمسح على الجبيرة مراعياً لكيفية المسح على البشرة، وفي وجوب تكرار الماء حتّى يمسّ البشرة وجه استظهره جامع المقاصد تمسّكاً بقاعدة الميسور لا يسقط بالمعسور» «1».

12- وقال في باب غسل الميّت عند فقد الماء للغسلات الثلاثة: «... فيه إنّ المستفاد من أدلّة عدم سقوط الميسور بالمعسور وجوب إيجاد الجزء المقدور على النحو الذي وجب إيجاده حال إنضمام غير المقدور إليه» «2».

13- وقال في ذلك الباب عند فقد السدر والكافور في توجيه وجوب الغسل بماء القراح ثلاثاً: «... فالأولى التمسّك بأدلّة عدم سقوط الميسور بالمعسور حيث إنّها جارية في المقام عرفاً» «3».

ويتحصّل من جميع ذلك وأشباهه أنّ الاستناد إلى القاعدة في غير أبواب الصّلاة من ناحية أساطين الفنّ مثل صاحب الجواهر وشيخنا الأنصاري والمحقّق الثاني والشهيد رضوان اللَّه عليهم ليس بعزيز.

الأمر الثاني: فيما أورده صاحب الجواهر رحمه الله على القاعدة، وهو: «إنّ الاستدلال بقاعدة الميسور موقوف على الانجبار بفهم الأصحاب، وإلّا لو أخذ بظاهره في سائر التكاليف لأثبت فقهاً جديداً لا يقول به أحد من أصحابنا» «4».

ولعلّ مقصوده من سائر التكاليف مثل الصيام، فإنّه لا يجوز فيه التبعيض لا من ناحية الزمان بحيث يكتفى ببعض اليوم إذا لم يقدر على الصوم في تمامه، ولا من ناحية المفطرات بحيث لو قدر على ترك عشرة منها مثلًا ولكن لم يقدر على ترك اثنين منها وجب عليه أن يتركها (نعم قد يقال في جواز الشرب عند

شدّة العطش بلزوم الاكتفاء بقدر ما يمسك به الرمق، ولكنّه أيضاً غير مسلّم)، ومثل الصّلاة إذا لا يقدر المكلّف إلّاعلى بعض ركعاتها فلا يجوز له الاكتفاء

انوار الأصول، ج 3، ص: 183

به، ومثل الغسل إذا لم يجد الماء لتمام الغسل فلا يجوز أن يكتفي بغسل بعض الأعضاء، استناداً إلى هذه القاعدة، وهكذا الوضوء فيما إذا لم يجد الماء إلّالغسل بعض الأعضاء، وباب الحجّ إذا لم يقدر على بعض الوقوفات أو بعض الطواف، إلى غير ذلك من أشباهها، فلو إكتفينا بجميع ذلك للزم منها فقه جديد لا يلزم به أحد.

إن قلت: ما الوجه في كون المعيار في العمل بهذه القاعدة هو عمل الأصحاب مع أنّها عامّة؟

قلنا: الوجه في ذلك أنّ الأخذ بظاهر القاعدة وبعمومها يستلزم تخصيص الأكثر وهو مستهجن، فيستكشف منه أنّه كان للقاعدة معنى آخر لوجود قرائن خاصّة محفوفة بها لم تصل إلينا، وحينئذٍ لابدّ من الاكتفاء بتطبيقات أصحابنا الأقدمين رضوان اللَّه عليهم، وعليه يكون مصير قاعدة الميسور مصير قاعدة لا ضرر في قلّة فائدتها وسقوط عمومها عن الحجّية إلّافيما عمل به الأصحاب (للزوم هذا المحذور بعينه فيها أيضاً بناءً على العمل بعمومها، وذلك لخروج مثل باب الحجّ والزكاة والجهاد وأبواب الحدود وغيرها من الواجبات المشتملة على الضرر).

أقول: الإنصاف أنّه من المستبعد جدّاً وجود قرائن خاصّة محفوفة بخبر الميسور (وكذلك خبر لا ضرر) لم تصل إلينا، والذي أوجب اختيار مثل صاحب الجواهر رحمه الله هذه الفرضيّة أنّه لم يتمكّنوا من حلّ مشكلة التخصيص بالأكثر، ولكن الصحيح عدم لزوم هذه المشكلة لا في باب قاعدة لا ضرر ولا في المقام.

أمّا في الأوّل فلعدم كون ما يتوهّم شموله على الضرر ضررياً فإنّ مثل الزكاة والجهاد ممّا يتوقّف عليه حفظ

نظام المجتمع، ومصلحة العامّة من الأمن والأمان، وإيجاد الطرق وتهيئة رجال الأمن والجنود، والحجّ عزّ للإسلام يوجب شوكة المسلمين، وهكذا غيرها من الواجبات التي مصالحها ومنافعها أكثر من المصارف المالية والجهود البدنية، فيحكم العقل قطعاً بعد كسر وإنكسار بعدم كونها ضرريّة، ولذا قد نشاهد نظائرها بين العقلاء من أهل العرف، كأخذ الضرائب والمكوس لحفظ نظام المجتمع.

وأمّا قاعدة الميسور فلما مرّ من أنّها لا تدلّ على أكثر ممّا هو ثابت بين العقلاء، وناظرة إلى إمضاء القاعدة الموجودة عندهم فيما ثبت فيه تعدّد المطلوب والملاك، فإنّهم يتمسّكون بها فيما إذا ثبت من الخارج أنّ العمل الفلاني اشتمل على ملاكات مختلفة بين ناقص وتامّ، بعد تعذّر

انوار الأصول، ج 3، ص: 184

شي ء منها، والأمثلة المذكورة في توضيح كلام صاحب الجواهر ممّا لم يثبت فيه تعدّد المطلوب فليست مشمولة للقاعدة حتّى يلزم من إخراجها تخصيص الأكثر.

والشاهد على هذا ما ورد في كلام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة: «ولو أقام لأخذنا ميسوره» «1» حيث إنّ الخطبة وردت فيمن ابتاع سبي بني ناجية من عامل أمير المؤمنين عليه السلام وأعتقهم، فلمّا طالبه بالمال خان به وهرب إلى الشام، فيكون المورد من الامور المالية التي لا إشكال في كون الملاك فيها متعدّداً.

الأمر الثالث: قد يقال: إنّ جريان قاعدة الميسور يتوقّف على أن يصدق ميسور الطبيعة على الباقي عرفاً، ويستدلّ له بأنّه المستفاد من قوله (ع): «الميسور لا يسقط بالمعسور» بدعوى «أنّه يحتمل في بادي النظر وجوهاً أربعة: الأوّل: أنّ ميسور الطبيعة لا يسقط بمعسورها.

الثاني: أنّ الاجزاء الميسورة من الطبيعة لا يسقط بالمعسور من اجزائها. الثالث: أنّ الطبيعة الميسورة لا يسقط بالمعسور من أجزائها. الرابع: عكس الثالث، فعلى الأوّل والثالث يدلّ على المقصود

وأنّه لابدّ أن يكون المأتي به صادقاً عليه الطبيعة بوجه من الوجوه، ولا يبعد أظهريّة الاحتمال الأوّل، ويمكن أن يقال: المتيقّن من الحديث هو ميسور الطبيعة المأمور بها» «2».

أقول: إنّ وحدة السياق تقتضي كون المراد من المعسور نفس ما اريد من الميسور، فيسقط حينئذٍ الاحتمال الثالث والرابع، ويدور الأمر بين الاحتمالين الأوّلين، والأقرب منهما هو الأوّل كما مرّ، وهو يقتضي صدق عنوان ميسور الطبيعة عرفاً على الباقي، ولكن لا يبقى موضوع لهذه الدعوى مع ما مرّ من أنّ الملاك إحراز تعدّد المطلوب، وإنّ بناء العقلاء على الإتيان بالميسور فيما إذا أحرز تعدّد المطلوب، سواء صدق على الباقي أنّه ميسور الطبيعة أم أنّه بعضها.

إلى هنا تمّ الكلام في قاعدة الميسور.

انوار الأصول، ج 3، ص: 185

بقي هنا شي ء:

وهو ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله في ذيل البحث عن الأقل والأكثر الارتباطيين من أنّه إذا دار الأمر بين جزئيّة شي ء أو شرطيّته، وبين مانعيته أو قاطعيته لكان من قبيل المتباينين ولا يكاد يكون من الدوران بين المحذورين، فيكون الواجب الاحتياط (خلافاً لما ربّما يظهر من الشيخ الأنصاري رحمه الله من كونه من الدوران بين المحذورين، وأنّ الأقوى فيه هو التخيير).

أقول: الفرق بين المانع والقاطع أنّ الأوّل يمنع عن تأثير المقتضي فيقابل الشرط الذي يكمّل اقتضاء المقتضي، ويوجب إتمام تأثيره، وأمّا الثاني فهو ما يتخلّل بين الأجزاء ويقطع المقتضي، فهو يمنع عن وجود المقتضي، بينما الأوّل يمنع عن تأثيره بعد وجوده.

وكيف كان، الحقّ مع المحقّق الخراساني رحمه الله، أي يكون المقام من قبيل دوران الأمر بين المتباينين، لأنّ دوران الأمر بين المحذورين يتصوّر بالنسبة إلى العمل الواحد، وفي ما نحن فيه يمكن إتيان العمل مرّتين، أي تكرار العبادة بقصد الرجاء،

وفعلها تارةً مع ذلك الشي ء المشكوك، واخرى بدونه.

إلى هنا تمّ البحث عن المقام الثاني من المقامات الثلاثة لمبحث الاشتغال (وهو دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

المقام الثالث: في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليين

الظاهر قيام الإجماع على البراءة عن الأكثر فيه، ووجهه واضح، لرجوعه إلى الشبهة البدويّة بالنسبة إلى الأكثر، كما إذا دار الأمر في الصلوات الفائتة بين عشر صلوات وخمس عشرة، (هذا في الشبهة الموضوعيّة)، وكما إذا علمنا بفوات عدّة صلوات يوميّة وغيرها كصلاة الآيات، وشككنا في وجوب قضاء غير اليومية (وهذا في الشبهة الحكميّة) فتجري البراءة بالنسبة إلى خمس صلوات في المثال الأوّل وبالنسبة إلى غير اليومية في المثال الثاني.

نعم، إذا كان في البين أصل موضوعي يوجب ارتفاع موضوع البراءة فلا إشكال في تقدّمه عليها وعدم الحاجة إلى جريانها، كما إذا علمنا بفوات الصّلاة في يومين، وشككنا في فواتها في يوم ثالث، فتجري حينئذ أصالة عدم الإتيان (استصحاب عدم الإتيان) ويثبت انوار الأصول، ج 3، ص: 186

بذلك فوت الصّلاة الموضوع لوجوب القضاء، بناءً على أنّ القضاء بأمر جديد، وموضوعه عنوان الفوت، (وبناءً على كون الفوت أمراً عدميّاً يساوق عدم الإتيان، لا ما إذا كان من قبيل عدم الملكة فيكون الأصل مثبتاً، وتوضيح الكلام في محلّه).

ثمّ إنّ المحقّق النائيني رحمه الله قد تفطّن في المقام إلى جريان هذا القسم من الدوران في الشبهات التحريميّة أيضاً (ونعم ما تفطّن به) ومثّل له بتردّد الغناء بين أن يكون هو مطلق ترجيع الصوت أو بقيد كونه مطرباً، وقال: «الظاهر أن تكون الشبهات التحريميّة على عكس الشبهات الوجوبيّة، فإنّه في الشبهات الوجوبيّة يكون الأقل متيقّن الوجوب والأكثر مشكوكاً، وفي الشبهات التحريميّة الأكثر متيقّن الحرمة (وهو في المثال ترجيع الصوت المطرب) والأقل مشكوكاً (وهو في المثال الترجيع

بلا طرب) والأقوى جريان البراءة عن حرمة الأقلّ مطلقاً، الأقلّ سواء كانت الشبهة حكميّة (كما في المثال) أو موضوعيّة (كما إذا شككنا في كون الصوت الفلاني مطرباً أو غير مطرب؟) ... وسواء كان الأقلّ والأكثر من الارتباطيين أو غيره «1».

هذا تمام الكلام في أصالة الإشتغال، والحمد للَّه أوّلًا وآخراً.

انوار الأصول، ج 3، ص: 187

خاتمة في شرائط جريان الاصول المقام الأوّل: في شرائط جريان أصالة الاحتياط

المقام الثاني: في شرائط جريان سائر الاصول:

1- شرائط الإجراء بالنسبة إلى الشبهة الحكميّة

2- شرائط الإجراء بالنسبة إلى الشبهة الموضوعيّة

الكلام في الجاهل المقصّر

كلام الفاضل التوني في المقام الكلام في قاعدة لا ضرر

انوار الأصول، ج 3، ص: 189

خاتمة في شرائط جريان الاصول
مقدّمة:
اشارة

كان ينبغي ذكر هذا البحث بعد الفراغ من مبحث الاستصحاب لأنّه يعمّ شرائط جريان الاستصحاب أيضاً، والبحث عن شرائط جريانه قبل بيان أدلّته مخالف للترتيب المنطقي في البحث كما لا يخفى.

ثمّ إنّه جاء في بعض شروح الكفاية: أنّ شرائط جريان الاصول على قسمين: قسم منها شرط لأصل الجريان، وقسم آخر شرط للعمل بها، وتمثّل للأوّل بالفحص عن الأدلّة الاجتهاديّة في جريان البراءة العقليّة، حيث إنّه بدون الفحص عنها لا يتحقّق موضوع عدم البيان، وتمثّل للثاني بالفحص عن الدليل الاجتهادي أيضاً بالنسبة إلى جريان البراءة الشرعيّة، لأنّ موضوعها إنّما هو الشكّ، وهو صادق قبل الفحص أيضاً، فليس الفحص شرطاً لجريانها، بل إنّها تجري قبل الفحص ولكن العمل بها متوقّف على تحقّق الفحص.

أقول: ليس لهذا التفصيل وجه وجيه، لأنّ كلّ ما يكون شرطاً للعمل بالاصول شرط لجريانها أيضاً، وكذلك العكس، فإنّ البراءة الشرعيّة وإن كان الدليل فيها لفظيّاً فيمكن أن يقال بإطلاقه، لكن بما أنّ حجّية الأدلّة اللفظيّة متوقّفة على حجّية الظهور، والدليل على حجّية الظهور إنّما هو بناء العقلاء،

فلا إشكال في أنّ بناءهم لم يستقرّ إلّاعلى حجّيتها بعد الفحص بالنسبة إلى المولى الذي ديدنه بيان أحكامه تدريجاً.

وإن شئت قلت: اطلاق هذه الأدلّة منصرف إلى ما بعد الفحص.

إذا عرفت هذا فاعلم: أنّ البحث يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في شرائط جريان أصالة الاحتياط.

فحاصل كلام المحقّق الخراساني رحمه الله فيه: أنّه لا يعتبر في حسن الاحتياط شي ء أصلًا بل هو حسن على كلّ حال، إلّاإذا كان موجباً لاختلال النظام، ولا تفاوت فيه بين المعاملات والعبادات مطلقاً ولو كان موجباً للتكرار فيها.

إن قلت: التكرار عبث لا يترتّب عليه غرض عقلائي ولعب بأمر المولى، وهو ينافي قصد الامتثال المعتبر في العبادة.

قلنا: أمّا العبثية فلا تصلح لأن تكون مانعة عن حسن الاحتياط المستلزم لتكرار العبادة لكونها أخصّ من المدّعى، لإمكان نشوء التكرار عن غرض عقلائي، كما إذا كان في تحصيل العلم التفصيلي بالامتثال مشقّة وكلفة أو بذل مال وذلّ سؤال.

وأمّا كونه لعباً بأمر المولى ومنافياً مع قصد الامتثال، ففيه: إنّ مناط القربة المعتبرة في العبادة هو إتيان الفعل بداعي أمر المولى بحيث لا يكون له داعٍ سواه، فلو أتى بهذا الداعي فقد أدّى وظيفته وإن لم يكن التكرار ناشئاً من غرض عقلائي وكان لاعباً في كيفية الإمتثال، لأنّ المنافي إنّما هو اللعب في أصل الامتثال لا في كيفيته (انتهى).

أقول: أوّلًا: إنّ محلّ البحث في المقام إنّما هو الاحتياط الواجب لا المستحبّ، ومجرّد الحسن لا يكون دليلًا على وجوبه.

ثانياً: إنّ إشكال التكرار ليس منحصراً في اللغويّة، بل من الإشكالات دعوى الإجماع على حرمة التكرار، خصوصاً بعد ملاحظة عدم كونه مأنوساً في الشرع المقدّس باستثناء موارد شاذّة، مثل إذا اشتبهت القبلة بين الجهات الأربع، والمعروف فيها تكرار الصّلاة إلى الجهات الأربع، وإن كان المختار فيها أيضاً

عدم وجوب التكرار.

ومن الإشكالات عدم تحقّق قصد الوجه وقصد التميّز، وإن كان المختار عدم وجوبهما أيضاً.

وثالثاً: لا فرق بين اللعب في الكيفية واللعب في أصل العمل لاتّحادهما خارجاً كما لا يخفى، والاتّحاد يوجب سراية القبح من أحدهما إلى الآخر.

ورابعاً: أنّه لا دليل على حسن الاحتياط مطلقاً حتّى فيما إذا قامت أمارة على الترخيص انوار الأصول، ج 3، ص: 191

(كما مرّ)، بل لعلّ الدليل على الخلاف، حيث إنّ ديدن الأئمّة وسيرة أصحابهم على العمل بالأمارات الترخيصيّة وترك الاحتياط فيها ولو لم يلزم منه اختلال النظام، فكانوا عليهم السلام يستجيبون دعوة المؤمنين مع وجود احتمال الشبهة في بيوتهم وأموالهم وطعامهم، ويدخلون في أسواقهم ويشترون ويأخذون ما في أيديهم مع وجود الشبهة فيها أيضاً.

إن قلت: فما هو مورد الأخبار الدالّة على حسن الاحتياط؟

قلنا: لابدّ من حملها على غير موارد قيام الأمارات الترخيصيّة، أو عليها ولكن فيما إذا حصلت التهمة والظنّ القوي بالحرمة.

وبالجملة: تحقيق البحث في المقام يستدعي لزوم ملاحظة موارد وجوب الاحتياط ثمّ البحث عن شرائط الاحتياط في كلّ واحد منها، وقد ظهر ممّا مرّ سابقاً أنّها ثلاثة:

أحدها: الشبهات الحكميّة قبل الفحص.

الثاني: أطراف العلم الإجمالي.

الثالث: موارد اليقين بالاشتغال الذي يقتضي البراءة اليقينيّة.

أمّا المورد الأوّل: فلا إشكال في وجوب الاحتياط فيه من دون شرط، وسيأتي البحث عنه في بيان شرائط جريان أصالة البراءة.

وأمّا المورد الثاني: فهو مشروط بشرائط مرّ ذكرها: منها: أن تكون الشبهة محصورة، ومنها: كون تمام الأطراف محلًا للابتلاء، ومنها: عدم كون واحد من الأطراف مضطرّاً إليه.

وأمّا المورد الثالث: فلا إشكال أيضاً في وجوب الاحتياط فيه بلا شرط. إلّاإذا أوجب طروّ عنوان ثانوي من قبيل العسر والحرج.

ثمّ إنّه هل يجوز العمل بالاحتياط وترك الاجتهاد والتقليد؟

وهذا تارةً يبحث عنه

في مباحث العلم الإجمالي (أي الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي) واخرى في ما نحن فيه (أي مطلق الاحتياط).

والأقوال فيه ثلاثة:

1- ما ذهب إليه المشهور، وهو عدم الجواز مع إمكان الاجتهاد أو التقليد.

انوار الأصول، ج 3، ص: 192

2- ما ذهب إليه المتأخّرون، وهو الجواز مطلقاً.

3- التفصيل بين ما يستلزم التكرار فلا يجوز الاحتياط فيه من دون الاجتهاد أو التقليد، وبين ما لا يستلزم التكرار فيجوز.

واستدلّ القائلون بالجواز مطلقاً بامور:

منها: قوله تعالى في آية النفر أو آية السؤال الذي ظاهره وجوب تحصيل العلم أو وجوب السؤال.

وفيه: أنّ وجوب تحصيل العلم أو وجوب السؤال طريقي لا دليل على كونه نفسيّاً إلّافي باب اصول الدين، حيث لابدّ فيه من تحصيل العلم التفصيلي ولا يمكن فيه الجمع بين الأديان المختلفة، لأنّ الموضوع فيه هو العقد القلبي والاعتقاد، وهو لا يحصل إلّابالعلم التفصيلي.

ومنها: وجوب نيّة الوجه.

وفيه: ما مرّ سابقاً من أنّه لا دليل عليه، مضافاً إلى حصولها في المقام لأنّ قصد الوجه غير الجزم بالوجه.

ومنها: الإجماع الذي مرّ بيانه في مباحث القطع في سؤال السيّد الرضي عن أخيه السيّد المرتضى صلى الله عليه و سلم في مسألة القصر والإتمام بقوله: «الإجماع قائم على أنّ من صلّى صلاة لا يعلم أحكامها فصلاته باطلة» وأجاب السيّد المرتضى رحمه الله بأمر آخر غير المناقشة في تحقّق الإجماع، وظاهره تلقّيه بالقبول.

وفيه: أوّلًا: أنّ الإجماع هنا محتمل المدرك، ولعلّ مدركه نفس الآيتين (آية النفر وآية السؤال) وأشباههما.

وثانياً: لعلّ مورد السؤال والجواب وبالنتيجة معقد الإجماع ما إذا أوجب الجهل فساد العمل لأنّ الصّلاة الرباعية غير الصّلاة الثنائية، ومحلّ البحث في المقام ما إذا لم يأت بالمأمور به رأساً.

ومنها: الدليل العقلي ببيانين:

أحدهما: أنّه لابدّ في كيفية الإطاعة والعمل من

تبعية حكم العقل، والعقل لا يرى عمل المحتاط القادر على الاجتهاد أو التقليد إطاعة.

ثانيهما: إنّ للإطاعة مراتب أربعة: الإطاعة العمليّة التفصيليّة، الإطاعة الظنّية التفصيليّة

انوار الأصول، ج 3، ص: 193

عن طريق الاجتهاد أو التقليد، والإطاعة العلميّة الإجماليّة، والإطاعة الظنّية الإجماليّة، والعقل حاكم على لزوم رعاية هذه المراتب، فمع إمكان المرتبة العالية من الإطاعة لا يجوز التنزّل إلى المرتبة الدانية، وغير خفيّ أنّ العمل بالاحتياط مع القدرة على الاجتهاد أو التقليد تنزّل من الإطاعة التفصيليّة إلى الإطاعة الإجماليّة.

أقول: الإنصاف أنّ هذا ادّعاء محض، ودعوى بلا دليل، لأنّ المقصود من الإطاعة هو إتيان المأمور به جامعاً للشرائط، وهو حاصل بالاحتياط ولو بتكرار العمل أيضاً، ولما عرفت من عدم اعتبار قصد الوجه والجزم في النيّة، وعدم المنافاة بينه وبين قصد القربة.

نعم لا يخفى أنّ العمل بالاحتياط ليس شيئاً مقدوراً لكلّ أحد بل لابدّ فيه من تشخيص مواضعه وكيفيّة أدائه، فيجب أن يكون المحتاط إمّا من أهل العلم والإطّلاع، أو يسأل منهم، فالطريق الوحيد لغالب الناس هو العمل بالتقليد على فرض عدم الاجتهاد.

هذا كلّه في المقام الأوّل (أي شرائط العمل بأصالة الاحتياط).

المقام الثاني: في شرائط جريان سائر الاصول

فالكلام فيه يقع في موردين:

المورد الأوّل: في شرائط الإجراء بالنسبة إلى الشبهة الحكميّة.

المورد الثاني: في شرائط الإجراء بالنسبة إلى الشبهة الموضوعيّة.

أمّا المورد الأوّل: فبالنسبة إلى أصالة البراءة نقول:

يشترط في جريان البراءة العقليّة التفحّص عن مظانّ أحكام المولى ثمّ إجرائها بعد اليأس عن الضفر بها، لأنّها عبارة عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان، والمراد من البيان إنّما هو البيان في مظانّ أداء المقصود الذي به يتحقّق الوصول، حيث إنّه لا يشترط فيه الإبلاغ إلى كلّ أحد، فهو في مثل المعاهد والمنظّمات يتحقّق بنصب الأمر الإداري على لوحة الإعلانات أو إيراده

في جريدة رسميّة، ولا يجوز جريان البراءة إلّابعد الفحص عن تلك اللوحة وهذه الجريدة، وبعبارة اخرى: للمولى وظيفة وللعبد وظيفة اخرى، فوظيفة المولى إنّما هو بيان تكليفه وإبلاغه بنحو متعارف، ووظيفة العبد هو الفحص عن بيان المولى في مظانّه المعلومة.

هذا في البراءة العقليّة، وكذلك فيما إذا قلنا بالبراءة العقلائيّة (كما هو المختار) لأنّ العقلاء أيضاً لا يجرون البراءة ولا يحكمون ببراءة ذمّة العبد إلّابعد فحصه عن مظانّ البيان.

أمّا البراءة الشرعيّة: فحيث إنّ أدلّتها لفظيّة (كحديث الرفع) وهى بظاهرها مطلقة،

انوار الأصول، ج 3، ص: 194

فمقتضى اطلاقها جواز إجراء البراءة ولو قبل الفحص، فلابدّ في رفع اليد عن هذا الاطلاق وتقييده بما بعد الفحص من دليل مقيّد، ولذلك ذكر الأصحاب وجوهاً أربعة للتقييد:

1- الإجماع، لإتّفاق جميع العلماء من الشيعة والسنّة على عدم جواز إجراء البراءة قبل الفحص عن مظان البيان، بل عليه ضرورة الفقه.

فانّك لا تجد فقيهاً إذا سئل عن مسألة شرعيّة يفتي بالبراءة من دون الرجوع إلى الكتاب والسنّة.

وأورد على هذا الوجه بأنّ الإجماع هذا لا أقلّ من كونه محتمل المدرك، فلعلّ منشأه الوجوه الثلاثة الاخر، ولكن قد عرفت أنّ المسألة بلغت فوق حدّ الإجماع، وهو الضرورة، ومن المعلوم أنّه إذا صار الحكم ضرورياً فالواجب الأخذ به من أي طريق كان.

2- حصول العلم الإجمالي لكلّ أحد قبل الأخذ في استعلام المسائل بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة في الشريعة، ومعه لا يصحّ التمسّك بأصل البراءة لما تقدّم من أنّ مجراها الشكّ في أصل التكليف لا في المكلّف به مع العلم بالتكليف.

ويرد عليه: أنّ هذا أخصّ من المدّعى، فإنّ المدّعى عدم جواز التمسّك بأصل البراءة حتّى بعد الظفر بمقدار المعلوم بالإجمال في الشبهات البدويّة والمسائل المستحدثة.

3- الآيات والروايات الدالّة على

وجوب تحصيل العلم الذي لازمه وجوب الفحص.

أمّا الآيات فنظير آية السؤال أو النفر حيث تتضمّنان معنى الفحص.

وأمّا الروايات فهى على طائفتين:

الطائفة الاولى: ما تدلّ على وجوب تحصيل العلم وبالتالي على وجوب الفحص بشكل كلّي.

منها: ما رواه مسعدة بن زياد قال سمعت جعفر بن محمّد عليه السلام وقد سئل عن قوله تعالى:

«فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ» فقال: إنّ اللَّه تعالى يقول للعبد يوم القيامة عبدي كنت عالماً؟ فإن قال نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال: كنت جاهلًا، قال: أفلا تعلّمت حتّى تعمل، فيخصمه فتلك الحجّة البالغة» «1».

ومنها: جلّ الأحاديث الواردة في كتاب فضل العلم من اصول الكافي (في الباب الأوّل) كالحديث المعروف من أنّ «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم» الذي يدلّ على وجوب التعلّم انوار الأصول، ج 3، ص: 195

على جمع المكلّفين «1»، كما يدلّ ذيل آية النفر: «وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ» على وجوب التعليم كفائياً.

الطائفة الثانية: روايات خاصّة ووردت في موارد خاصّة تدلّ على وجوب تحصيل العلم ووجوب الفحص، وهى عدّة روايات:

إحديها: ما رواه عبدالرحمن بن الحجّاج قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجلين أصابا صيداً وهما محرمان، الجزاء بينهما؟ أو على كلّ واحد منهما جزاء إلى أن قال: «إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا عنه فتعلموا» «2».

ثانيها: ما رواه حمزة بن الطيّار أنّه عرض على أبي عبداللَّه عليه السلام بعض خطب أبيه حتّى إذا بلغ موضعاً منها قال له: كفّ واسكت، ثمّ قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «أنّه لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون إلّاالكفّ عنه والتثبّت والردّ إلى أئمّة الهدى حتّى يحملوكم فيه على القصد ويجلو عنكم فيه العمى، ويعرّفوكم فيه الحقّ قال اللَّه

تعالى: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ»» «3».

ثالثها: ما رواه أحمد بن الحسن الميثمي عن الرضا عليه السلام في حديث اختلاف الأحاديث قال: «وما لم تجدوه في شي ء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه، فنحن أولى بذلك، ولا تقولوا فيه بآرائكم، وعليكم بالكفّ والتثبّت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتّى يأتيكم البيان من عندنا» «4».

انوار الأصول، ج 3، ص: 196

رابعها: ما رواه جابر عن أبي جعفر عليه السلام في وصية له لأصحابه قال: «إذا اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده، وردّوه إلينا حتّى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا ...» «1».

خامسها: ما واه عبداللَّه بن جندب عن الرضا عليه السلام في حديث قال: «... بل كان الفرض عليهم والواجب لهم من ذلك الوقوف عند التحيّر وردّ ما جهلوه من ذلك إلى عالمه ومستنبطه لأنّ اللَّه يقول في كتابه: «ولو ردّوه إلى اللَّه وإلى الرسول وإلى اولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم»، يعني آل محمّد وهم الذين يستنبطون منهم القرآن، ويعرفون الحلال والحرام وهم الحجّة للَّه على خلقه» «2».

ويظهر من هذه الروايات وأشباهها إنّ وجوب الفحص عن الشبهات الحكميّة أمر مفرو عنه.

4- لقائل أن يقول: إنّ حديث الرفع وسائر أدلّة البراءة- أساساً- لا تعمّ ما قبل الفحص، لأنّ لازمه الإغراء على الجهل، وبعبارة اخرى: إنّها منصرفة عن موارد القدرة على الفحص وحينئذٍ لا يوجد دليل على البراءة قبل الفحص حتّى يقال بجريانها قبله، فلا نحتاج إلى محاولة إقامة الدليل على وجوبه لتخصيص إطلاقات أدلّة الأحكام بما بعد الفحص بل يكفي مجرّد عدم وجود دليل على البراءة قبله.

وهذا الوجه لا غبار عليه، فتلخّص إلى هنا أنّ دلالة الوجه الرابع والثالث على المقصود تامّة.

بقي هنا شي ء:

وهو مقدار الواجب من الفحص

لا إشكال في

أنّه يختلف باختلاف الأدلّة، فمن اعتمد في المسألة على العلم الإجمالي (وهو الوجه الثاني) وجب عليه الفحص حتّى ينحلّ العلم الإجمالي، ومن اعتمد على الضرورة والإجماع فيأخذ بالقدر المتيقّن لكون الدليل لبّياً حينئذٍ، وإن كان الدليل هو الآيات والروايات فالظاهر منها وجوب الفحص في كلّ شي ء عن مظانّ ذلك الشي ء.

انوار الأصول، ج 3، ص: 197

والذي يمكن أن يقال بعد ملاحظة مجموع الأدلّة أنّه يكفي الفحص عن المخصّصات وشبهها عن مظانّها (ولو انحلّ العلم الإجمالي) كما أشرنا إليه سابقاً، بل هذا هو المعمول بين العقلاء من أهل العرف بالنسبة إلى قوانينهم، وممّا يوجب سهولة الأمر في ذلك أنّ علماءنا المتقدّمين رضوان اللَّه عليهم بذلوا جهدهم في سبيل التحقيق عن الأحاديث الفقهيّة وتبويبها ووضع الجوامع لها، كما أنّ الفقهاء الذين جاؤوا بعد المحدّثين بذلوا الجهد في الفحص عن الأحاديث المرتبطة بكلّ مسألة فقهيّة، وأودعوها في كتبهم الاستدلاليّة، ولذا يمكن الفحص بالمقدار اللازم للفقيه في عصرنا هذا مع بذل جهد قليل، فشكر اللَّه سعيهم وأجزل ثوابهم، وجزاهم عنّا وعن الإسلام خير الجزاء.

هذا تمام الكلام في شرائط جريان أصالة البراءة.

ومنه يظهر الحال في شرائط جريان أصالة التخيير وأصالة الاستصحاب.

أمّا أصالة التخيير فيأتي فيها اعتبار وجوب الفحص الذي هو العمدة من الشرائط لأنّ جميع الوجوه الخمسة المذكورة في أصالة البراءة جارية هنا أيضاً، أمّا الإجماع وضرورة الفقه فلا شبهة في قيامهما على وجوب الفحص عن وجود دليل على الترجيح في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة، وكذلك آية السؤال والنفر، لشمولهما موارد الدوران بين المحذورين في الشبهات الحكميّة أيضاً، وهكذا الروايات (وقوله عليه السلام: هلّا تعلّمت وشبهه) والعلم الإجمالي بوجود واجبات ومحرّمات قبل الفحص، وكذلك حكم العقل لأنّ العقل يحكم بالتخيير للمكلّف

المتحيّر، والتحيّر المستقرّ إنّما يحصل بعد الفحص وعدم الظفر بالدليل.

وأمّا أصالة الاستصحاب فلأنّ قوله عليه السلام، لا تنقض اليقين بالشكّ (بناءً على شموله للشبهات الحكميّة أيضاً) منصرف إلى ما بعد الفحص كما لا يخفى.

إلى هنا تمّ البحث عن المورد الأوّل، أي اعتبار الفحص في الشبهات الحكميّة.

الفحص في الشبهات الموضوعيّة:
اشارة

أمّا المورد الثاني (أي شرائط إجراء سائر الاصول بالنسبة إلى الشبهة الموضوعيّة) فالمشهور في كلماتهم عدم الفحص مطلقاً سواء كانت الشبهة وجوبيّة أو تحريميّة، وسواء في البراءة العقليّة أو البراءة النقليّة، بل الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله صرّح بأنّه ممّا لا خلاف فيه انوار الأصول، ج 3، ص: 198

بالنسبة إلى الشبهات الموضوعيّة التحريميّة، نعم استدلّ المحقّق الخراساني رحمه الله في حاشية الرسائل لوجوب الفحص مطلقاً بالنسبة إلى البراءة العقليّة بأنّ العقل لا استقلال له بالبراءة قبل الفحص في الشبهات الموضوعيّة مطلقاً كما يظهر ذلك من استحقاق المبادر إليه قبله عند العقلاء للّوم والذمّ «1».

والشيخ الأعظم رحمه الله فصّل بين الشبهة الوجوبيّة والتحريميّة، وذهب إلى عدم وجوب الفحص في التحريميّة، واستدلّ له بإطلاق الأخبار مثل قوله عليه السلام: «كلّ شي ء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام» وقوله عليه السلام: «حتّى يستبين لك غير هذا أو تقوم به البيّنة» وقوله عليه السلام: «حتّى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه الميتة» وغير ذلك من الأحاديث السالمة عمّا يصلح لتقييدها.

وأمّا الشبهة الوجوبيّة فقال بالنسبة إليها: إنّ مقتضى أدلّة البراءة حتّى العقل كبعض كلمات العلماء عدم وجوب الفحص أيضاً وهو مقتضى حكم العقلاء في بعض الموارد مثل قول المولى لعبده: «أكرم العلماء أو المؤمنين» فإنّه لا يجب الفحص في المشكوك حاله في المثالين، إلّا أنّه قد يترائى أنّ بناء العقلاء في بعض الموارد على الفحص والاحتياط

كما إذا أمر المولى باحضار علماء البلد أو أطبّائها أو إضافتهم أو إعطاء كلّ واحد منهم ديناراً، فإنّه قد يدّعي أنّ بناءهم على الفحص عن اولئك وعدم الاقتصار على المعلوم ابتداءً مع وجود غيرهم في البلد.

ثمّ نقل من صاحب المعالم رحمه الله ما يظهر منه وجوب الفحص، ومن المحقّق القمّي في القوانين أنّه أيّد ذلك بأنّ الواجبات المشروطة بوجود شي ء إنّما يتوقّف وجوبها على وجود الشرط لا على العلم بوجوده، فبالنسبة إلى العلم مطلق لا مشروط، مثل أنّ من شكّ في كون ماله بمقدار استطاعة الحجّ لعدم علمه بمقدار المال لا يمكنه أن يقول: إنّي لا أعلم أنّي مستطيع ولا يجب عليّ شي ء» بل يجب عليه محاسبة ماله ليعلم أنّه واجد للاستطاعة أو فاقد لها، ونقل من العلّامة في التحرير في باب نصاب الغلات أنّه قال: ولو شكّ في البلوغ ولا مكيال هنا ولا ميزان ولم يوجد سقط الوجوب دون الاستحباب (انتهى) وقال: وظاهره جريان الأصل مع تعذّر الفحص وتحصيل العلم (فلا يجري مع عدم تعذّره).

ثمّ ساق الكلام إلى أن قال: ثمّ الذي يمكن أن يقال في وجوب الفحص أنّه إذا كان العلم انوار الأصول، ج 3، ص: 199

بالموضوع المنوط به التكليف يتوقّف غالباً على الفحص بحيث لو أهمل الفحص لزم الوقوع في مخالفة التكليف كثيراً تعيّن هنا بحكم العقلاء اعتبار الفحص ثمّ العمل بالبراءة كبعض الأمثلة المتقدّمة فإنّ إضافة جميع علماء البلد أو أطبّائهم لا يمكن للشخص الجاهل إلّابالفحص، فإذا حصل العلم ببعض واقتصر على ذلك نافياً لوجوب إضافة ما عداه بأصالة البراءة من غير تفحّص زائد على ما حصل به المعلومين عدّ مستحقّاً للعقاب والملامة عند إنكشاف ترك إضافة من يتمكّن من تحصيل العلم

به بفحص زائد (انتهى كلامه) «1».

أقول: الإنصاف في المسألة هو التفصيل بين موارد الشبهة، فتارةً تكون ممّا أحرز إهتمام الشارع به جدّاً كما في الفروج والدماء وإنقاذ نفوس المؤمنين ونحوها فلا تجري البراءة فيها حتّى بعد الفحص بحدّ اليأس إذا كانت الشبهة باقية على حالها، فإذا احتمل أنّ هذا سمّ قاتل بمجرّد شربه لم يجز شربه ولم تجر البراءة حتّى بعد الفحص إذا بقيت الشبهة على حالها، هذا بالنسبة إلى البراءة النقليّة، وكذلك البراءة العقليّة فإنّها لا تجري في مثل هذه الامور المهمّة بناءً على مبنى المشهور فضلًا عن المبنى المختار من عدم كون قاعدة قبح العقاب بلا بيان قاعدة عقليّة بل العقل يحكم بالاحتياط مطلقاً، وأمّا بناء العقلاء فكذلك، حيث لا إشكال في أنّ بنائهم على الاحتياط في الامور المهمّة، وحينئذٍ لا ريب في أنّه باستكشاف وجوب الاحتياط شرعاً في مثل هذه الامور المهمّة من شدّة اهتمام الشارع بها يقيّد إطلاقات أدلّة البراءة الشرعيّة لو سلّم إطلاقها وعدم إنصرافها عن مثل هذه الامور.

واخرى يكون المورد ممّا يحصل العلم فيه بأدنى فحص ونظر، وبتعبير المحقّق الحائري رحمه الله يكون العلم في كُمّه، فيحصل مثلًا بالمراجعة إلى دفتره الخاصّ ليرى أنّه مديون لزيد مثلًا أو لا فلا إشكال في أنّ بناء العقلاء على وجوب الفحص والمراجعة والتأمّل في مثل هذه الامور، ولا يجوز الأخذ ببراءة الذمّة عند الشكّ من دون مراجعة.

وثالثة يكون المورد المشكوك من الموارد التي تقتضي بماهيّته الفحص والاختبار، فيكون ممّا لا يعلم غالباً إلّابالفحص والمراجعة على نحو كأنّ الأمر به شرعاً مستلزم عرفاً لوجوب الفحص عنه، وإلّا لم يمتثل إلّانادراً، كما في الشكّ في بلوغ المال بحدّ الاستطاعة أو النصاب،

انوار الأصول، ج 3، ص:

200

وكذا في أرباح المكاسب وشبهها، فلا ينبغي الإشكال أيضاً في وجوب الفحص، وقد جرت سيرة العقلاء في أوامرهم ونواهيهم في أمثال هذه الموارد على الفحص أيضاً، ولم يمنع عنه الشارع فلا إشكال أيضاً في وجوب الفحص.

ورابعة يكون المورد من غير الأقسام الثلاثة كما إذا قال مثلًا: أكرم العلماء، أو أطعم الفقراء، فلا إشكال في أنّ إطلاقات أدلّة البراءة في الشبهات الموضوعيّة دالّة على عدم وجوب الفحص كالروايات الواردة في مسألة الجبن وغيرها.

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: في الجاهل المقصر

ثمّ إنّ هيهنا بحثاً لابدّ من طرحه في المقام وإن كان بحثاً فقهيّاً بحتاً، وهو في حكم من ترك الفحص مع كونه قادراً عليه، وهو يقع في مقامين:

الأوّل: في حكمه التكليفي وإستحقاق العقاب وعدمه.

الثاني: في حكمه الوضعي وصحّة العمل المأتي به وفساده.

أمّا المقام الأوّل: فالأقول فيه أربعة:

الأوّل: (وهو الأقوى والمشهور) أنّه يعاقب على ترك الواقع لا على ترك التعلّم.

الثاني: أنّه يعاقب على ترك التعلّم، وهو المحكي عن المحقق الاردبيلي رحمه الله وصاحب المدارك.

الثالث: أنّه يعاقب على ترك تحصيل العلم الموجب لترك الواقع، وهو المستفاد من كلمات المحقّق النائيني رحمه الله.

الرابع: القول بالتفصيل بين التكاليف المطلقة والتكاليف المشروطة أو الموقتة، ففي الاولى يعاقب على ترك الواقع، وفي الثانية على ترك التعلّم، وهذا يستفاد من بعض كلمات المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية وإن رجع عنه في بعض تعليقاته عليها.

أقول: لو خلّينا وظواهر الأدلّة فالحقّ مع المشهور، لأنّ ظاهرها طريقيّة وجوب التعلّم، ولا دليل على كونه واجباً نفسيّاً، فالظاهر من قوله تعالى: «لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ» مثلًا أو قوله تعالى: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ» وجوب التفقّه لأجل الإنذار ثمّ الحذر والعمل، ووجوب السؤال انوار الأصول، ج 3، ص: 201

لأجل التعلّم ثمّ العمل على وفقه أو عقد

القلب عليه إذا كان في اصول الدين.

نعم، هيهنا إشكالات أوجبت الذهاب إلى الأقوال الثلاث الاخر، وعمدتها أمران:

أحدهما: أنّ المفروض كون الجاهل عاجزاً عن العمل في مقام الامتثال فلا معنى لأن يعاقب على ترك ما لم يكن مقدوراً له، نعم أنّه كان قادراً على التعلّم فيعاقب على تركه.

ثانيهما: (بالنسبة إلى خصوص التكاليف المشروطة أو الموقتة) أنّ الواقع في التكاليف المشروطة والموقتة لم ينجز على المكلّف كي يعاقب عليه، إذ لا وجوب قبل تحقّق الشرط وقبل الوقت حتّى تكون المقدّمة (وهى التفحّص والتعلّم) واجبة، وكذلك لا وجوب بعد تحقّق الشرط وبعد دخول الوقت أحياناً لعدم القدرة عليه.

أمّا الجواب عن الأوّل: فهو إنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً ولو كان منافياً له تكليفاً، ففي ما نحن فيه فإن الواقع وإن كان مغفولًا عنه حين المخالفة، وكان خارجاً عن تحت الإختيار، ولكنّه بالنهاية ينتهي إلى الاختيار، وهو ترك التعلّم عمداً حينما التفت إلى تكاليف في الشريعة، كما هو الحال في كلّ مسبّب توليدي خارج عن تحت الاختيار إذا كان منتهياً إلى أمر اختياري، فإذا ألقى مثلًا بنفسه من شاهق فرغم خروجه عن الاختيار بعد ذلك، فيهلك قهراً بلا اختيار عند سقوطه على الأرض، ولكن حيث كان الهلاك نتيجة الإلقاء الذي هو أمر اختياري فيكون مصحّحاً للعقاب على ما ليس بالاختيار.

إن قلت: تكليف العبد العاجز حين العجز بما يكون عاجزاً عنه تكليف بما لا يطاق، وهو قبيح.

قلنا: ليس التكليف هذا تكليفاً بما لا يطاق لأنّه يكون مقدوراً له بالواسطة.

وإن شئت قلت: المعيار في العقاب وعدمه هو صحّة إسناد الترك إلى اختيار المكلّف وعدمها والإسناد (ولو مع الواسطة) صادق صحيح فيما إذا كان سقوط التكليف بسوء الاختيار.

وأمّا الإشكال الثاني فيمكن

الجواب عنه بوجهين:

الوجه الأوّل: ما مرّ في محلّه من إمكان وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها، ولا ينافي هذا كون وجوبها وجوباً ترشحياً لأنّ المراد منه الترشّح بحسب الداعوية في نفس المولى لا الترشّح تكويناً، والأوّل يحصل بمجرّد تصوّر المولى وجوب ذي المقدّمة في المستقبل أيضاً، فهو

انوار الأصول، ج 3، ص: 202

يتصوّر مثلًا وجوب الحجّ في موسم الحجّ ويلاحظ أنّ المكلّف لا يقدر على الإتيان به لو لم يأت بمقدّماته فتترشّح من إرادته بالنسبة إلى الحجّ إرادة اخرى بالنسبة إلى المقدّمات، وهذا أمر معقول ومتداول عند العقلاء فإذا تصوّر إنسان مجي صديقه غداً في داره فنفس هذا التصوّر يوجب حصول إرادته إيجاد مقدّمات الإستقبال من الآن.

الوجه الثاني: ما مرّ أيضاً كراراً من مسألة وجوب حفظ غرض المولى وأنّ العقل يحكم بأنّ أغراض المولى ليست بأقلّ من أغراض العبد في الأهميّة، فكما يلزم العبد نفسه بإتيان مقدّمات تحصيل أغراضه الشخصيّة لابدّ له أن يلزم نفسه بإتيان مقدّمات تحصيل أغراض مولاه ولو في المستقبل وإن لم تحصل الإرادة والوجوب فعلًا.

فمن هذين الطريقين وجبت في الشريعة جميع المقدّمات المفوّتة وإن لم يكن الأمر بذي المقدّمة فعليّاً.

نعم، هيهنا طريقان آخران يمكن المناقشة فيهما:

أحدهما: أنّ الواجب المشروط يرجع إلى الواجب المعلّق الذي يكون الوجوب فيه فعلياً والواجب استقبالياً.

وفيه أوّلًا: أنّه خلاف ظاهر أدلّة الواجبات المشروطة فإنّ ظاهرها أنّ الوجوب استقبالي.

وثانياً: ما ذهب إليه صاحب المدارك والمحقّق الأردبيلي رحمه الله من كون وجوب التعلّم وجوباً نفسيّاً.

وفيه أنّه خلاف الوجدان القطعي فإنّا نعلم علماً قطعيّاً بأنّ أمر المولى بالنسبة إلى التعلّم وإرادته له يكون من أجل ما يترتّب عليه من سائر التكاليف، فهو إرشادي محض لأنّ الحكم المولوي النفسي يحتاج إلى وجود مصلحة في

نفس الشي ء، ومعلوم أنّه لا مصلحة في نفس الفحص إلّاحفظ مصلحة الواقع أو عدم الوقوع في مفسدته بقدر الإمكان، ولا أقلّ من كونه مخالفاً لظواهر أدلّة وجوب تحصيل العلم.

إلى هنا ظهر الحال في القول الأوّل والثاني.

أمّا القول الثالث: (وهو ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله من استحقاقه العقاب على ترك التعلّم والفحص عند مخالفة الواقع لا مطلقاً) فحاصل كلامه: إنّ وجوب التعلّم والفحص انوار الأصول، ج 3، ص: 203

وجوب طريقي (خلافاً لما ذهب إليه المحقّق الأردبيلي وصاحب المدارك صلى الله عليه و سلم من كونه وجوباً نفسياً استقلالياً) وعليه تكون مخالفته موجبة لاستحقاق العقاب على ترك الفحص والتعلّم المؤدّي إلى مخالفة الواقع، وذلك لأنّ وجوبه لأجل حفظ الواقع وطريقيّة التعلّم والفحص إلى إدراك الواقع كوجوب الاحتياط شرعاً في بعض الشبهات البدويّة (كما في باب الفروج والدماء بل الأموال) فالمطلوب بالذات هو الواقع، ومطلوبيّة الاحتياط إنّما هى لأجل الوصول إلى الواقع وحصوله.

إن قلت: إذا كان الأمر كذلك فوجوبه يكون وجوباً غيرياً مقدّمياً ومن قبيل المقدّمات المفوتة على القول بالواجب المعلّق، أو وجوباً عقلياً على القول بعدم إمكانه، فلا يكون العقاب إلّا على مخالفة الواقع لا على ترك التعلّم عند مخالفة الواقع.

قلنا: إنّ مناط وجوب التعلّم غير مناط وجوب حفظ القدرة أو تحصيلها في المقدّمات المفوتة، ولا يقاس أحدهما بالآخر، فإنّ القدرة ممّا يتوقّف عليها فعل المأمور به خارجاً ومن المقدّمات الوجوديّة له، ولا يتمكّن المكلّف من فعل الواجب عند تفويت القدرة، فيتحقّق عصيان خطاب ذي المقدّمة بمجرّد ترك هذه المقدّمات الوجودية، ويستحقّ التارك العقاب على تفويت الواجب من زمان ترك المقدّمة، إذ بتركها يفوت الواجب لا محالة، ويمتنع عليه بالاختيار ويصدق أنّه فات منه الواجب، وهذا

بخلاف التعلّم والاحتياط، فإنّه لا يتوقّف فعل الواجبات وترك المحرّمات عليهما في الخارج، إذ ليس للعلم دخل في القدرة ليكون حاله حال المقدّمة المفوتة، وليس لهما دخل في الملاك أيضاً، فلا يكون لإيجاب التعلّم والاحتياط شائبة النفسيّة والاستقلاليّة، بل الغرض من إيجاب التعلّم مجرّد الوصول إلى الأحكام والعمل على طبقها، ومن إيجاب الاحتياط التحرّز عن مخالفة الواقع، من دون أن يكون للتعلّم والاحتياط جهة موجبة لحسنهما الذاتي المستتبع للخطاب المولوي النفسي، بل الخطاب المتعلّق بهما يكون لمحض الطريقيّة، ووجوبهما يكون للغير لا نفسياً ولا بالغير.

فإن قلت: الوجوب للغير لا ينافي الوجوب النفسي، فإنّ غالب الواجبات النفسيّة يكون وجوبها للغير بناءً على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.

قلت: الغير الذي يجب الشي ء لأجله يختلف، فتارةً يكون هو ملاكات الأحكام التي اقتضت وجوب الشي ء، واخرى، يكون هو الخطابات الواقعية، ففي الأوّل لا يدور وجوب انوار الأصول، ج 3، ص: 204

الشي ء مدار وجود الملاك، بل الملاك يكون حكمة لتشريع وجوب الشي ء كاختلاط المياه في وجوب العدّة على النساء، وفي الثاني يدور وجوب الشي ء مدار وجود الخطاب الواقعي، ويكون علّة للحكم لا حكمة للتشريع، كوجوب ذي المقدّمة بالنسبة إلى وجوب المقدّمة، والخطابات الواقعية بالنسبة إلى وجوب التعلّم والاحتياط تكون كوجوب ذي المقدّمة علّة للحكم لا حكمة للتشريع، فوجوب التعلّم والاحتياط يكون من هذه الجهة كوجوب المقدّمة، وإن كان يفترق من جهة اخرى وهى: أنّ وجوب المقدّمة يترشّح من وجوب ذيها بخلاف وجوب التعلّم والاحتياط، وبما ذكرنا يظهر ضعف ما ينسب إلى المدارك من كون العقاب على نفس ترك التعلّم، فإنّ المستتبع للعقاب إنّما هو ترك الواجب النفسي لا ترك الواجب الطريقي، ويتلو ذلك في الضعف ما ينسب إلى المشهور من كون العقاب

على ترك الواقع لا على ترك التعلّم، فإنّ العقاب على الواقع المجهول قبيح، وإيجاب التعلّم لا يخرجه عن الجهالة.

فالأقوى: أن يكون العقاب على ترك التعلّم المؤدّي إلى ترك الواقع لا على ترك التعلّم وإن لم يؤدّ إلى ذلك لينافي وجوبه الطريقي، ولا على ترك الواقع لينافي جهالته (انتهى) «1».

هذا- ولكن لا يخلو كلامه من إبهامات وإشكالات:

أوّلها: (بالنسبة إلى قوله: إنّ العلم لا دخل له في القدرة حتّى يكون حاله حال المقدّمات المفوتة) إنّ للعلم دخلًا في القدرة لأنّه لا إشكال في أنّه مع الجهل بمناسك الحجّ مثلًا لا يكون قادراً على إتيانها ولو من طريق الاحتياط لأنّ الاحتياط أيضاً لابدّ فيه من وجود علم إجمالي بالتكليف.

ثانيها: كون العلم طريقيّاً لا ينافي وجوبه النفسي لجواز أن تلاحظ الطريقيّة بعنوان الحكمة لا العلّة، نظير وجوب انتباه المأمورين لإطفاء الحريق لنوبتهم في تمام ساعات الليل والنهار، الذي لا إشكال في أنّه طريقي للإطفاء، ولكن حيث يكون طريقاً بنحو الحكمة فلا يسقط وجوب الانتباه والكون في محلّ الإنتظار بعنوان واجب نفسي.

ثالثها: (وهو العمدة) أنّ الوجوب إمّا غيري أو نفسي و لا ثالث لهما، لأنّ الطريقيّة إمّا أن تكون من قبيل العلّة للحكم فترجع إلى الواجب الغيري، أو تكون من قبيل الحكمة فترجع انوار الأصول، ج 3، ص: 205

إلى الواجب النفسي، وهناك تناقض يشاهد في كلامه، حيث يقول تارةً: «والخطابات الواقعية بالنسبة إلى وجوب التعلّم والاحتياط تكون كوجوب ذي المقدّمة علّة للحكم» واخرى يقول: «إنّ وجوب المقدّمة يترشّح من وجوب ذيّها بخلاف وجوب التعلّم والاحتياط» وليت شعري كيف لا يترشّح وجوب التعلّم من الخطابات الواقعية مع كونه معلولًا لها؟ والمعلول يترشّح دائماً من علّته.

فتحصّل أنّ الصحيح هو ما ذهب إليه المشهور

من كون العقاب على ترك الواقع لكونه مقدوراً بالواسطة وهى تحصيل العلم، والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

يبقى الإشكال بالنسبة إلى الواجبات المشروطة أو الموقتة، ولكنّه يرتفع بما مرّ من أنّ علّة الأحكام إنّما هى إرادة المولى التي تصدر منه بعد ملاحظة وجوب ذي المقدّمة في محلّه وملاحظة عدم إمكان تحقّقه بدون إتيان المقدّمة من الآن.

هذا كلّه في المقام الأوّل.

أمّا المقام الثاني: (وهو البحث في الحكم الوضعي وصحّة العمل المأتي به وفساده) فلا إشكال في صحّة العمل إذا أتى بالمأمور به على وجهه، أي واجداً لجميع الشرائط والاجزاء وفاقداً لجميع الموانع، ومن الشرائط قصد القربة في العبادات التي يمكن تمشيه فيها إمّا لأجل الغفلة (كما يتصوّر في العوام) أو رجاءً (كما في الخواص)، ومنها قصد الإنشاء في المعاملات فإنّه أيضاً يمكن تمشّيه من الجاهل بالحكم الشرعي لإمكان تعلّق القصد بإنشاء المسبّبات الممضاة عند العقلاء وإن لم تكن شرعية، ولذلك حكموا بصحّة بيع الغاصب لنفسه فضولة.

فالمدار كلّ المدار في صحّة العمل وفساده مطابقة المأتي به للمأمور به الواقعي لعدم موضوعيّة للاجتهاد أو التقليد بل إنّهما طريقان إلى الواقع محضاً.

ثمّ إنّه تارةً يحصل للمكلّف العلم بالمطابقة فلا إشكال حينئذٍ في صحّة العمل المأتي به.

واخرى يقع المأتي به مطابقاً لاجتهاده الفعلي أو تقليده الفعلي فلا إشكال أيضاً في الصحّة.

وثالثة لا يقع مطابقاً مع اجتهاده الفعلي أو تقليده الفعلي بل يقع موافقاً لمن يجب عليه انوار الأصول، ج 3، ص: 206

تقليده عند صدور العمل منه، ففي هذه الصورة يكون العمل باطلًا ويجب عليه الإعادة أو القضاء.

إن قلت: كيف تكون فتوى مرجعه الفعلي حجّة بالنسبة إليه ولا تكون فتوى المرجع السابق كذلك؟

قلنا: أوّلًا: أنّ فتوى المجتهد الفعلي تكون كاشفةً عن حكم اللَّه

الواقعي المطلق غير المقيّد بزمان خاصّ، ومجرّد مطابقته لفتوى المجتهد السابق غير كافٍ لصحّة عمله لأنّ المفروض عدم استناده إليه.

وإن شئت قلت: إنّ فتوى المجتهد السابق كانت حجّة بالنسبة إلى من أسند عمله إليها، وأمّا من لم يكن عمله مستنداً إليها فلا حجّة له حتّى يعتذر بها عند اللَّه لو خالف الواقع، لأنّه لم يسند عمله إلى فتوى المجتهد السابق حتّى تكون تلك حجّة له، ولم يقع مطابقاً مع فتوى المجتهد الفعلي حتّى تكون هذه حجّة له.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ المشهور بين الفقهاء صحّة عمل الجاهل المقصّر مع استحقاقه للعقوبة في موردين:

أحدهما: الإتمام في موضع القصر.

والثاني: كلّ من الجهر والإخفات في موضع الآخر.

حيث يرد عليه أوّلًا: أنّه كيف يمكن الحكم بصحّة العبادة بدون الأمر؟

وثانياً: كيف يحكم بإستحقاق العقوبة مع فرض صحّة العمل؟

وثالثاً: كيف يصحّ الحكم باستحقاق العقوبة مع أنّ المكلّف متمكّن من الإعادة إلّاأنّ الشارع سلب عنه القدرة عليها بسبب حكمه بالإجزاء والصحّة بناءً على عدم وجوب الإعادة حتّى في الوقت إذا علم به، ففوت المأمور به ناشٍ عن حكمه بالصحّة، لا عن تقصير المكلّف.

وقد ذكر لدفع هذه الإشكالات وجوه عديدة:

انوار الأصول، ج 3، ص: 207

الوجه الأوّل: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله وحاصله: أنّ الحكم بالصحّة هنا يكون من باب تعدّد المطلوب ففي مورد الجهر والإخفات يكون أصل الصّلاة وذاتها مطلوبة وإتيانها بالجهر أو الإخفات مطلوباً آخر، وفي مورد الإتمام في موضع القصر تكون الصّلاة التامّة مشتملة على مصلحة لازمة الاستيفاء بحيث لو لم تجب صلاة القصر كانت الصّلاة التامّة مأموراً بها، لكن لمّا كانت مصلحة صلاة القصر أهمّ صارت هى الواجبة فعلًا، وحينئذٍ تكون صحّة الصّلاة المأتي بها مستندة إلى المصلحة لا إلى الأمر

الفعلي حتّى يقال بأنّها ليست مأموراً بها، (وأمّا استحقاقه للعقوبة مع فرض الصحّة فلعصيانه الأمر بالأهمّ أو المطلوب الأعلى).

وأمّا عدم وجوب الإعادة فلأنّها لا فائدة فيها إذ لا مصلحة تقتضي الإعادة، حيث إنّ المصلحة التامّة الكامنة في صلاة القصر مثلًا قد فاتت بسبب الإتيان بالصلاة التامّة، لمكان التضادّ بين المصلحتين، وهذا نظير ما إذا أمر المولى عبده بإطعام الفقير بالخبز من الحنطة فأطعمه بالخبز من الشعير فإنّ مصلحة الإطعام بالخبز من الحنطة قد فاتت بإطعامه الخبز من الشعير، ويمتنع تداركها لعدم بقاء الموضوع.

لا يقال: فيلزم الحكم بصحّة صلاة التمام من العالم بوجوب القصر أيضاً مع استحقاقه العقوبة على مخالفة الواجب.

فإنّه يقال: إنّه لو كان الدليل اشتمال المأتي به على المصلحة اطلاق يشمل صورتي العلم بوجوب القصر والجهل به لقلنا بصحّة التمام وإجزائه عن القصر مطلقاً، لكن الأمر ليس كذلك، لأنّه لم يدلّ دليل على كون التمام ذا مصلحة في السفر إلّافي حال الجهل، ولا بُعد أصلًا في هذا الاختلاف، فإنّ لحالات المكلّف دخلًا في المصالح والمفاسد الداعية إلى تشريع الأحكام.

إن قلت: كيف يتمشّى من المكلّف قصد القربة مع عدم كون التمام مأموراً به؟

قلنا: لا حاجة في تحقّق قصد القربة إلى قصد الأمر بل يكفي قصد الملاك والمصلحة، وقد مرّ كون الصّلاة التامّة أيضاً محبوبة وذات مصلحة).

إن قلت: على هذا يكون كلّ من التمام والإخفات مثلًا سبباً لتفويت الواجب الفعلي، وما هو السبب لتفويت الواجب فعلًا حرام، وحرمة العبادة موجبة لفسادها بلا كلام.

قلت: إنّ التمام مثلًا ليس سبباً لترك الواجب الفعلي وهو القصر، بل التمام والقصر ضدّان، وهما في رتبة واحدة، فعدم كلّ منهما يكون أيضاً في رتبة وجود الآخر لا في طوله حتّى يصير

انوار الأصول،

ج 3، ص: 208

عدم أحدهما مقدّمة ومن اجزاء علّة وجود الآخر فلا علّية بينهما، بل عدم أحدهما ملازم لوجود الآخر لأنّ الضدّ وعدم ضدّه متلازمان ليس بينهما توقّف أصلًا. (انتهى).

وقد أورد عليه المحقّق النائيني رحمه الله بما لا يكون وارداً فأورد عليه:

أوّلًا: بما حاصله: أنّ الخصوصيّة الزائدة (كخصوصيّة القصر أو خصوصيّة الإخفات) إن كان لها دخل في حصول الغرض من الواجب فلا يعقل سقوطه بالفاقد لها، وإن لم يكن لها دخل فاللازم هو الحكم بالتخيير بين القصر والتمام مثلًا، غايته أن يكون القصر أفضل فردي التخيير لاشتماله على الخصوصيّة الزائدة ولا وجه لاستحقاق العقاب»

.وقد ظهرت المناقشة فيه والجواب عنه ممّا سبق من كون المطلوب متعدّداً وأنّ الصّلاة التامّة مشتملة على مقدار من المصلحة يوجب تفويت المقدار الزائد القائم بالقصر وخروجه عن قابلية الاستيفاء والتدارك، وهذا ليس بعزيز، ومجرّد القدرة على فعل الصّلاة قصراً في الخارج غير كافٍ بعد فرض فناء موضوع التدارك.

وثانياً: «بأنّ الظاهر من أدلّة الباب كون المأتي به في حال الجهل مأموراً به فراجع أدلّة الباب» «2».

ويرد عليه: أنّ الدليل على صحّة المأتي به في المقام إنّما هو الإجماع، وهو يدلّ على صحّة العمل إجمالًا، ولا يستفاد منه كونه مأموراً به.

هذا كلّه هو الوجه الأوّل من الوجوه المذكورة في كلمات القوم لدفع الإشكالات الثلاثة المزبورة.

الوجه الثاني: ما أجاب به الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله وهو عدم كون المأتي به مأموراً به بل أنّه يوجب سقوط الأمر بالواقع المتروك، فلا يجب عليه الإعادة أو القضاء لسقوط الأمر بالواقع حينئذٍ، وأمّا العقاب فلعدم إتيانه للمأمور به على الفرض.

أقول: الظاهر أنّ هذا الوجه في الحقيقة يرجع إلى الوجه الأوّل (بل الظاهر أنّ المحقّق الخراساني رحمه الله أخذه

منه) لأنّه لا وجه لسقوط الأمر بالواقع إلّامن ناحية تعدّد المطلوب.

الوجه الثالث: ما أجاب به كاشف الغطاء رحمه الله وهو الالتزام بأمرين على نحو الترتّب بمعنى انوار الأصول، ج 3، ص: 209

أنّ الأمر حال الجهل أوّلًا تعلّق بالصلاة الواجدة للخصوصيّة الزائدة، وعند عصيانه وفي طوله تعلّق بالفاقد لها، فقهراً إذا عصى الأمر الأوّل لجهله المستند إلى ترك التعلّم أو الفحص يعدّ عاصياً لمخالفة الأمر الأهمّ فيوجب استحقاق العقاب، ومطيعاً للأمر الثاني فيكون عمله صحيحاً، ولا تجب عليه الإعادة أو القضاء.

أقول: الصحيح تماميّة هذا الوجه أيضاً وإن أورد عليه إشكالات أربع من ناحية المحقّق الخراساني والشيخ الأعظم والمحقّق النائيني رضوان اللَّه عليهم:

أوّلها: ما أورده المحقّق الخراساني رحمه الله من ناحية المبنى، وهو إنكاره صحّة الترتّب، ولكن قد مرّ في محلّه أنّ الحقّ صحّته.

ثانيها: ما أورده الشيخ الأعظم رحمه الله من أنّه لا موضوع للترتّب في المقام لأنّ الترتّب عبارة عن اشتراط الأمر بالمهمّ بعصيان الأهمّ، ولا يمكن حصول هذا الشرط في الوقت لأنّه ما دام وقت الأهمّ باقٍ لا معنى لتحقّق عصيانه.

وفيه: أنّه لا يشترط في باب الترتّب كون العصيان مأخوذاً بعنوان الشرط المقارن بل يمكن أخذه بنحو الشرط المتأخّر، أي إذا كان بانياً على العصيان لأمر القصر إلى آخر وقت الصّلاة كان مأموراً بالتمام بل يمكن إرجاعه إلى الشرط المقارن لأنّ بناءه على العصيان إلى آخر الوقت فعليّ.

ثالثها: ما أورده المحقّق النائيني رحمه الله من «أنّه يعتبر في الخطاب الترتّبي أن يكون خطاب المهمّ مشروطاً بعصيان خطاب الأهمّ، وفي المقام لا يمكن ذلك، إذ لا يعقل أن يخاطب التارك للقصر بعنوان العاصي فإنّه لا يلتفت إلى هذا العنوان لجهله بالحكم» «1».

ويمكن الجواب عنه: بكفاية ثبوت الخطاب

في متن الواقع وعلم اللَّه تعالى، والمفروض أنّ المكلّف قصد الأمر الواقعي ولا حاجة إلى أزيد من ذلك في صحّة صلاته.

رابعها: ما ذكره المحقّق النائيني رحمه الله أيضاً وهو «أنّ المقام أجنبيّ عن الخطاب الترتّبي لأنّه يعتبر فيه أن يكون كلّ من متعلّق الخطابين واجداً لتمام ما هو الملاك ومناط الحكم بلا قصور لأحدهما في ذلك، ويكون المانع عن تعلّق الأمر بكلّ منهما هو عدم القدرة عن الجمع بين انوار الأصول، ج 3، ص: 210

المتعلّقين في الامتثال، لما بين المتعلّقين من التضادّ والمقام لا يكون من هذا القبيل» «1».

ويمكن الجواب عنه: بأنّه غير قادر على الجمع بينهما بحسب الواقع، لوجود التضادّ بينهما شرعاً، وإن كان قادراً بحسب الظاهر على الإتيان بكلّ منهما.

هذا كلّه هو الوجه الثالث من الوجوه المذكورة في كلمات القوم لدفع الإشكالات الثلاثة المزبورة.

الوجه الرابع: ما اختاره المحقّق النائيني رحمه الله لدفع الإشكالات، وهو: أنّ الإشكال إنّما كان مبنيّاً على تسليم مقدّمتين:

الاولى: أن يكون العمل المأتي به حال الجهل مأموراً به، كما يستكشف ذلك من أدلّة صحّة العمل والإجزاء ولو بعد زوال صفة الجهل وبقاء الوقت.

الثانية: استحقاق الجاهل العامل للعقاب وأنّ استحقاقه له لأجل تفويت ما كان واجباً عليه في حال الجهل، ومع المنع عن إحدى المقدّمتين يرتفع الإشكال، والمقدّمة الاولى مسلّمة لا سبيل للمنع عنها، إذ لا ينبغي الإشكال في استكشاف تعلّق الأمر بالعمل من أدلّة الصحّة، وأمّا المقدّمة الثانية فللمنع عنها مجال، إذ استحقاق العقاب وعدمه ليس من المسائل الفقهيّة الشرعيّة التي ينعقد عليه الإجماع (بل إنّه حكم العقل) وليس في أدلّة الباب ما يدلّ على العقاب مع أنّه لو سلّم انعقاد الإجماع على إستحقاق العقاب ففي اعتبار مثل هذا الإجماع (لعلّ

نظره إلى كونه مدركيّاً وأنّ مباني المجمعين مختلفة) إشكال.

ثمّ إنّه- مع إعترافه بتماميّة هذا الوجه حيث إنّ مبنى الإشكال كان على تسليم المقدّمتين- تخلّص عنه بعد فرض صحّتهما بوجه آخر ضمن ثلاث مسائل: الاولى: مسألة الجهر في موضع الإخفات وبالعكس، والثانية: مسألة القصر في موضع الإتمام، والثالثة مسألة الإتمام في موضع القصر، التي ينبغي حذفها في المقام لكونها شاذّة ولم يقل بها إلّاقليل فتبقى المسألتان الأوّليان.

أمّا المسألة الاولى فقال فيها: يمكن أن يكون الواجب على عامّة المكلّفين هو القدر المشترك بين الجهل والإخفات، سواء في ذلك العالم والجاهل، ويكون الجهر والإخفات في موارد وجوبهما واجبين مستقلّين نفسيين في الصّلاة، وتكون الصّلاة ظرفاً لامتثالهما، ولكن انوار الأصول، ج 3، ص: 211

وجوبهما الاستقلالي عند العلم به ينقلب إلى الوجوب الغيري ويصير قيداً للصلاة ولا مانع من أن تكون صفة العلم موجبة لتبدّل صفة الوجوب من النفسي إلى الغيري ومن الاستقلالي إلى القيدي، فيرتفع الإشكال بحذافيره لأنّ العقاب إنّما يكون على ترك الواجب النفسي (وهو الجهر أو الإخفات) في حال الجهل، مع كون المأتي به هو المأمور به في ذلك الحال لأنّ المفروض أنّ المأمور به هو القدر المشترك.

إن قلت: فيلزم منه صحّة العمل في حال العلم أيضاً. قلنا: لا يلزم ذلك لما عرفت أنّ بالعلم يتبدّل الاستقلالي النفسي إلى الغيري القيدي.

وأمّا المسألة الثانية: فتفصّى عن الإشكال فيها: بأنّ الواجب على المسافر الجاهل بالحكم خصوص الركعتين الأوّليين لكن لا بشرط عدم الزيادة، بل لا بشرط عن الزيادة، فلا تكون الأخيرتان مانعتين عن صحّة الصّلاة، إلّاأنّ العلم بالحكم يوجب الانقلاب ويصير الواجب على المسافر خصوص الركعتين الأوّليين بشرط عدم الزيادة فتصحّ الصّلاة التامّة عند الجهل وتفسد عند العلم.

وتفصّى عن إشكال

العقاب بأنّه يمكن أن يكون العقاب لأجل ترك السلام بعد التشهّد الثاني، بأن يكون أصل التسليم في الصّلاة جزءً لها، ولكن وقوعه عقيب التشهّد الثاني واجب نفسي، فيكون المتمّم في موضع القصر قد أخلّ بهذا الواجب النفسي، فيعاقب عليه مع صحّة صلاته.

ثمّ إعترف بأنّ هذا الوجه لا تساعد عليه كلمات الأصحاب، بل لا ينطبق عليه بعض الفروع المتسالم عليها بينهم، فإنّ الظاهر تسالمهم على أنّ الجاهل لو نوى التمام وأتمّ الصّلاة بهذا العنوان صحّت صلاته بعنوان ما نواها، وهذا لا يمكن إلّاأن يكون المأمور به في هذا الحال هو الإتمام، إذ لو كان المأمور به هو خصوص الركعتين الأوّليين (ولولا بشرط عن الزيادة) كان اللازم هو فساد صلاة من نوى التمام لعدم نيّة المأمور به «1» (انتهى ما أردناه من كلامه).

أقول: يرد عليه:

أوّلًا: أنّ طريقه هذا مملوّ بالتكلّفات الشديدة ولا يساعد عليه الوجدان الفقهي أصلًا.

انوار الأصول، ج 3، ص: 212

ثانياً: (بالنسبة إلى قوله لا يجوز الاستدلال بالإجماع في مثل هذه المسألة) أنّ لازم انعقاد الإجماع على العقاب هو الإجماع على وجود حكم شرعي في البين ترك امتثاله، أي أنّ الإجماع على العقاب مستلزم لوجود تكليف شرعي في البين أوجبت مخالفته العقاب.

ثالثاً: أنّ لازم كلامه تبدّل الواجب المعلوم بعد العلم به إلى واجب آخر حيث تبدّل، فيتبدّل وجوب الركعتين الأوّليين لا بشرط الزيادة بعد العلم به إلى وجوبهما بشرط عدم الزيادة، وهذا أمر محال لاستلزامه الدور فإنّ الوجوب فرع العلم به، والعلم به فرع تحقّق الوجوب.

الأمر الثاني: في كلام الفاضل التوني في المقام

قد ذكر الفاضل التوني رحمه الله لجريان أصالة البراءة شرطين آخرين:

أحدهما: أن لا يلزم من العمل بالبراءة إثبات حكم آخر، وإلّا لا تجري، كما في أطراف العلم الإجمالي فإنّ جريان الأصل

في بعضها يثبت وجوب الإجتناب عن الآخر.

ثانيهما: أن لا يلزم من جريانها ضرر على الغير، كما إذا فتح إنسان قفص طائر فطار، أو حبس شاة فمات ولدها، أو أمسك رجلًا فهربت دابته على المالك فلا يصحّ اجراؤها فيها لإثبات عدم الضمان.

أقول: أمّا الشرط الأوّل: فله ثلاث صور: تارةً يكون ما يترتّب على البراءة من الآثار الشرعيّة كجريان أصالة الحلّية في الحيوان المتولّد من مأكول اللحم ومحرمه، فيترتّب عليه إباحة جلده ووبره إذا كان المراد من حلّية أجزاء ما يؤكل لحمه الأعمّ من الحلّية الواقعية الظاهرية، ففي هذه الصورة لا إشكال في جريان البراءة.

واخرى: يكون الأثر من الآثار العقليّة كما في مثال العلم الإجمالي، فإنّ وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر لازم عقلي لجريان البراءة في الطرف الأوّل، فلا إشكال أيضاً في عدم ترتّب ذاك الأثر عليه لكونه من الأصل المثبت، ولكن هذا غير مانع عن جريانها في مورده.

وثالثة: يكون الأثر من الآثار الشرعيّة المترتّبة على عدم الحكم الواقعي، كما إذا فرضنا

انوار الأصول، ج 3، ص: 213

أنّ إباحة الجلد والوبر في مثال الحيوان المشكوك الحلّية هى من آثار عدم الحرمة في الواقع، ففي هذه الصورة أيضاً لا تجري أصالة الإباحة لأنّها تثبت الإباحة الظاهرية لا الواقعية.

فظهر أنّ كلام الفاضل التوني رحمه الله بالنسبة إلى هذا الشرط تام إذا كان مراده منه الصورتين الأخيرتين، نعم إنّه لا يختصّ بأصالة البراءة، بل هو جارٍ في سائر الاصول العمليّة حتّى الاستصحاب، فإنّها لا تجري في ما إذا كانت مثبتة، وفيما إذا كان الأثر الشرعي مترتّباً على الحكم الواقعي.

أمّا الشرط الثاني: فهو أيضاً لا اختصاص له بأصالة البراءة فكلّ أصل عملي لا يجري إذا أوجب الضرر، هذا مضافاً إلى أنّه لا يختصّ

بقاعدة لا ضرر بل يعمّ سائر الأدلّة الاجتهاديّة فإنّها مقدّمة على الاصول العمليّة.

وإن شئت قلت: لا ينبغي عدّ هذا الشرط من شرائط جريان الاصول، إذ مع وجود الأدلّة الاجتهاديّة ينتفي موضوع الاصول العمليّة وهو الشكّ، ولا مجال حينئذٍ للرجوع إلى الأصل.

وأمّا الأمثلة المذكورة في كلام الفاضل التوني رحمه الله فهى أجنبية عمّا نحن فيه، لأنّ المرجع فيها قاعدة الإتلاف والضمان، لإطلاق قوله عليه السلام: «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» فيشمل الإتلاف المباشري والتسبيبي، لصدق الإتلاف عليهما عرفاً، وما نحن فيه من قبيل الثاني.

الكلام في قاعدة لا ضرر
اشارة

قد عنون كثير من الأعاظم تبعاً للشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني صلى الله عليه و سلم بمناسبة كلام الفاضل التوني رحمه الله قاعدة لا ضرر، حيث عقدوها للبحث بعنوان أنّها قاعدة فقهيّة، كما أنّ جماعة منهم كتبوا لها رسائل مستقلّة، ونحن نتعرّض لها هنا أيضاً اقتفاءً لآثارهم.

ولكن قبل الورود في البحث عن أصل القاعدة تنبغي الإشارة إلى أمرين:

الأوّل: أنّ القواعد الفقهيّة مع كثرتها وأهميّتها لها مصير مؤسف، فقد تعنونت عدّة منها في الكتب الاصوليّة للمتأخّرين كقاعدة لا ضرر وقاعدة الفراغ والتجاوز، والقرعة، والميسور، وعدّة اخرى في الكتب الفقهيّة كقاعدة ما لا يضمن وقاعدة اللزوم في أبواب المعاملات، ولكن قسم عظيم منها لم يُبحث عنها لا في الفقه ولا في الاصول مع كثرة استدلالهم بها وشدّة

انوار الأصول، ج 3، ص: 214

حاجتهم إليها في طيّات كتب الفقه وشتّى أبواب العبادات والمعاملات «1»، فكان من حقّها أن تفرد من علمي الاصول والفقه، وتبحث بصورة مستقلّة وفي علم مستقلّ، كما صنّفناه في كتابنا الموسوم بالقواعد الفقهيّة، فبحثنا فيه عن مهمّاتها وهى ثلاثون قاعدة.

الثاني: في تعريف القاعدة الفقهيّة ووجه إفتراقها عن المسائل الاصوليّة والفقهيّة.

ولابدّ أوّلًا من الإشارة

الإجماليّة إلى تعريف المسائل الاصوليّة والفقهيّة، فنقول:

أمّا المسائل الاصوليّة فالمشهور إنّها «قواعد تقع في طريق استنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة» وفي كلمات بعضهم «هى القواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة» وفي كلمات بعض آخر: «هى قضايا تقع كبرى لقياس يستفاد منها حكم شرعي» والمختار عندنا (كما ذكرنا في محلّه) إنّها «القواعد التي لا تشتمل على حكم شرعي وتقع في طريق استنتاج الأحكام الكلّية الفرعيّة الإلهيّة أو الوظيفة العمليّة».

وأمّا المسائل الفقهيّة فهى: «ما يشتمل على حكم شرعي في موضوع خاصّ أمّا تكليفي أو وضعي».

وأمّا القواعد الفقهيّة فهى كالبرازخ بينهما وامور تكون بنفسها من الأحكام الشرعيّة الفرعيّة (إثباتاً أو نفياً) لا أنّها تقع في طريق استنباط الأحكام الشرعيّة حتّى تدخل في المسائل الاصوليّة، بل تكون أحكاماً فرعية كلّية لا تختصّ بباب دون باب، وتجري في أبواب مختلفة، وليست أحكاماً جزئيّة لموضوعات خاصّة حتّى تدخل في المسائل الفقهيّة وتكون معدّة للورود في الرسائل العمليّة والوصول إلى أيدي المقلّدين مباشرة.

وهى على أقسام عديدة: فقسم منها ما يكون جارياً في جميع أبواب الفقه كقاعدة لا ضرر ولا حرج، وقسم منها يختصّ بكتاب خاصّ كقاعدة لا تعاد التي تختصّ بكتاب الصّلاة مع سريانها في أبواب مختلفة منها، وقاعدة الطهارة المختصّة بكتاب الطهارة، وقسم ثالث منها

انوار الأصول، ج 3، ص: 215

مختصّ بجميع أبواب المعاملات كقاعدة ما يضمن، أو بجميع أبواب العبادات كقاعدة الفراغ.

وبهذا ظهر أنّ القاعدة الفقهيّة لا تكون من المسائل الاصوليّة ولا من المسائل الفقهيّة، وظهر أيضاً الخلط الواقع في كلام الشهيد رحمه الله في قواعده بين القواعد الفقهيّة والفروع الفقهيّة، وما وقع من الخلط في كلمات بعض المتأخّرين بين الامور الثلاثة.

إذا عرفت هذا فنقول: يقع الكلام

في قاعدة لا ضرر في مقامات ثلاثة:

المقام الأوّل: في مداركها.

المقام الثاني: في مضمونها ومحتواها.

المقام الثالث: في بعض خصوصيّاتها وجزئياتها وفي ايضاح نسبتها إلى الأدلّة المتكفّلة للأحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الأوّلية كأدلّة وجوب الصّلاة والصيام ونحوها، أو الثانوية كأدلّة نفي العسر والحرج ونحوها.

المقام الأوّل: في مدرك القاعدة
اشارة

يمكن الاستدلال للقاعدة بالأدلّة الأربعة في الجملة، وإن كانت العمدة هى السنّة.

1- الكتاب:

فقد وردت فيه آيات عديدة في موارد خاصّة كباب الطلاق والإرث والرضاع والشهادة والوصيّة نهى فيها عن الضرر بحيث يمكن اصطياد القاعدة من مجموعها، وبعد ضمّ بعضها إلى بعض، ولا أقل من كونها مؤيّدة لما يأتي من الأدلّة.

منها: قوله تعالى في باب الرضاع: «لَاتُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ» «1».

وقد ذكر له تفسيران:

أحدهما: أن تكون صيغة «لا تضارّ» مبنية على الفاعل، وتكون الباء زائدة و «ولدها»

انوار الأصول، ج 3، ص: 216

مفعولًا بدون الواسطة، فإنّ المضارّة تتعدّى بنفسها، والمعنى حينئذٍ هو النهي عن اضرار الامّ بولدها بترك ارضاعه غيظاً على أبيه لبعض الجهات، وتمسّكاً بعموم ما يدلّ على عدم وجوب الارضاع عليها، وعن اضرار الأب بولده بأن يأخذ للولد امرأة مرضعة ويمنع امّه عن ارضاعه (فيتضرّر منه الولد) تمسّكاً بعمومات ولايته على ابنه، وعلى هذا تكون الآية حاكمة على عموم عدم وجوب الارضاع وعموم الولاية.

ثانيهما: أن تكون «لا تضارّ» مبنية على المفعول والباء للسببيّة، والمعنى لا تضارّ الوالدة بسبب الولد بأن يترك مجامعتها خوفاً من الحمل، ولا يضارّ الوالد بامتناع الامّ عن الجماع خوفاً من الحمل، وبناءً على هذا المعنى تكون الآية بالإضافة إلى فقرتها الاولى مقدّمة على العموم ما يدلّ على جواز ترك الجماع مدّة أربعة أشهر، وأمّا بالنسبة إلى الفقرة الثانية فلا حكومة لها على عموم دليل، لأنّه لا عموم يدلّ على جواز امتناعها وعدم تمكينها، بل الدليل على العكس فيدلّ على وجوب التمكين وحرمة الامتناع، فتكون الآية حينئذٍ مؤيّدة لذاك الدليل لا حاكمة عليه.

ومنها: قوله تعالى في باب الطلاق: «وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا» «1»

. حيث ينهى عن الرجوع إلى المطلّقات الرجعيّة

وتكراره لا لرغبة فيهنّ بل لطلب الاضرار بهنّ تمسّكاً بعموم ما يدلّ على جواز الرجوع في الرجعيّات في مدّة العدّة، فتكون الآية حاكمة على هذا العموم.

ومنها: قوله تعالى في باب الطلاق أيضاً: «أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ» «2»

حيث ينهى عن الإضرار والتضييق على المطلّقات في السكنى والنفقة في أيّام عدّتهنّ، ويكون مفيداً لنا في المقام إذا كان المراد من التضييق الاكتفاء بالمقدار الأقلّ من الواجب بقصد الاضرار بها تمسّكاً بعموم ما يدلّ على جواز هذا الاكتفاء، فتحكم الآية حينئذٍ على ذلك العموم وتقيّده بغير صورة الاضرار.

وأمّا إذا كان المراد منه اعطاء الأقلّ من مقدار الواجب فتكون الآية أجنبيّة عمّا نحن فيه لأنّ الاعطاء هذا بنفسه حرام، ولا حاجة في إثبات حرمته إلى التمسّك بعنوان الاضرار.

انوار الأصول، ج 3، ص: 217

ومنها: قوله تعالى في باب الشهادة: «وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ» «1»

بناءً على كون «لا يضارّ» مبنيّاً على المفعول، حيث إنّه حينئذٍ ينهى عن الاضرار بالكتّاب والشهداء بالرجوع إليهم للكتابة أو الشهادة في أيّ وقت وساعة، تمسّكاً بعموم ما يدلّ على وجوبهما عليهم (وهو ما ورد في صدر الآية من قوله تعالى: «وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ» وقوله تعالى: «وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا» فيكون ذيل الآية حينئذٍ حاكماً على عموم صدرها، وأمّا بناءً على البناء على الفاعل فهى أجنبيّة عمّا نحن فيه، لأنّ المعنى حينئذٍ النهي عن اضرار كاتب الدَين والشاهد عليه بكتابة ما لم يمل والشهادة بما لم يستشهد عليه، أي بكتابة غير صحيحة وشهادة غير صادقة، وهو حرام من غير حاجة إلى عنوان الاضرار.

ومنها: قوله تعالى في باب الوصيّة: «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ» «2»

الذي

ينهي عن الاضرار بالورّاث بالاقرار بدَين ليس عليه، دفعاً للميراث عنهم، وتمسّكاً بعموم «الناس مسلّطون على أموالهم» فتحكم الآية على هذا العموم ويكون مفيداً لنا في المقصود.

هذه هى الآيات الخاصّة التي وردت في موارد مختلفة وتدلّ على حرمة الاضرار في خصوص تلك الموارد وبنحو الموجبة الجزئيّة، ولا يبعد- كما مرّ- أن يصطاد منها عرفاً قاعدة لا ضرر بنحو كلّي وموجبة كلّية بإلغاء الخصوصيّة عن مواردها، فإنّ العرف إذا ضمّ بعضها إلى بعض ونظر إلى مجموعها يمكن أن يستخرج منها قاعدة كلّية تحت عنوان «لا ضرر»، وإن أبيت عن هذا فلا أقلّ من كونها مؤيّدة لسائر الأدلّة.

2- الإجماع:

فلا إشكال في أنّ القاعدة مجمع عليها في الجملة، أي توجد موارد عديدة في الفقه تكون عمدة الدليل فيها هى قاعدة لا ضرر، نظير خيار الغبن، ولكن لم ينعقد الإجماع عليها بعرضها العريض بحيث يمكن التعدّي إلى سائر موارد وجود الضرر، مضافاً إلى أنّه مدركيّ فليس بحجّة.

3- العقل:

فأيضاً توجد موارد كثيرة يمكن إندراجها تحت قاعدة قبح الظلم العقلي، منها نفس مثال خيار الغبن وأشباهه إذا كان فاحشاً، حيث إنّ العقل يحكم بقبح مثل هذا النحو من الضرر، ومنها ما إذا جعل بيته فيما بين البيوت بيت حدّاد أو طبّاخ بحيث ينتهي إلى أذى الجيران. فلا إشكال في كونها من مصاديق الظلم القبيح، نعم إثباته بالنسبة إلى جميع مصاديق الضرر مشكل جدّاً، فيمكن أن نجد موارد يصدق فيها عنوان الضرر ولا يصدق عنوان الظلم عرفاً كالغبن في بعض مراتبه، فدعوى دلالة العقل على القاعدة بنطاقها الواسع غير خالٍ عن الإشكال.

4- السنّة:

(التي هى العمدة في المقام) فتنقسم إلى الروايات الواردة من طرق الخاصّة والواردة من طرق العامّة.

أمّا الواردة من طرق الخاصّة: فهى على طائفتين: طائفة تدلّ على هذه القاعدة بعمومها، وطائفة وردت في موارد خاصّة يمكن اصطياد العموم من ملاحظة مجموعها ولا أقل من كونها مؤيّدة للطائفة الاولى.

أمّا الطائفة الاولى فهى كثيرة:

منها: قضيّة سمرة بن جندب التي وردت بثلاثة طرق:

الأوّل: طريق ابن بكير عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إنّ سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار، وكان منزل الأنصاري بباب البستان فكان يمرّ به إلى نخلته ولا يستأذن، فكلّمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء، فأبى سمرة، فلمّا تأبّى جاء الأنصاري إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فشكا إليه وخبّره الخبر، فأرسل إليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وخبّره بقول الأنصاري وما شكى وقال: إذا أردت الدخول فاستأذن فأبى، فلمّا أبى ساومه حتّى بلغ به من الثمن ما شاء اللَّه فأبى أن يبيع فقال: لك بها عذق يمدّ لك في الجنّة فأبى أن يقبل،

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله انوار الأصول، ج 3، ص: 219

للأنصاري: إذهب فاقلعها وارم بها إليه فإنّه لا ضرر ولا ضرار» «1».

وهذه الرواية أحسن الرّوايات من جهة الدلالة على المطلوب، لعدم ذكر قيد «على مؤمن» فيها، وسيأتي دخله في المقصود من القاعدة.

الثاني: ما رواه ابن مسكان عن بعض أصحابنا عن زرارة (أيضاً) عن أبي جعفر عليه السلام نحوه إلّا أنّه قال: «فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إنّك رجل مضارّ ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن، قال: ثمّ أمر بها فقلعت ورمى بها إليه، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إنطلق فاغرسها حيث شئت» «2».

الثالث: ما رواه أبو عبيدة الحذاء قال: قال أبو جعفر عليه السلام: «كان لسمرة بن جندب نخلة في حائط بني فلان فكان إذا جاء إلى نخلته ينظر إلى شي ء من أهل الرجل يكرهه الرجل قال:

فذهب الرجل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فشكاه فقال: يارسول اللَّه إنّ سمرة يدخل عليّ بغير إذني فلو أرسلت إليه فأمرته أن يستأذن حتّى تأخذ أهلي حذرها منه، فأرسل إليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فدعاه فقال: ياسمرة ما شأن فلان يشكوك ويقول: يدخل بغير إذني فترى من أهله ما يكره ذلك، ياسمرة استأذن إذا أنت دخلت، ثمّ قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يسرّك أن يكون لك عذق في الجنّة بنخلتك؟ قال: لا، قال: لك ثلاثة؟ قال لا قال: ما أراك ياسمرة إلّامضارّاً، إذهب يافلان فاقطعها (فاقلعها) واضرب بها وجهه» «3».

هذه طرق ثلاثة وردت فيها قضية سمرة، ولا إشكال في عدم صدور أصل القضيّة من جانب الرسول صلى الله عليه و

آله ثلاث مرّات، وإن كان لا يبعد نقلها متعدّداً من أبي جعفر عليه السلام، وعمدة الفرق بينها أنّ في الطريق الأوّل ذكرت كبرى «لا ضرر ولا ضرار» فقط من دون قيد «على مؤمن»، ومن دون بيان صغرى «إنّك رجل مضارّ» الواردة في الطريق الثالث، بينما في الطريق الثاني مضافاً إلى بيان الكبرى ذكر كلا القيدين، وفي الطريق الثالث ذكرت الصغرى فحسب، ولا يخفى أنّ للحديث إذا كان شاملًا للكبرى قيمة اخرى.

ثمّ إنّ هاهنا نكات ينبغي الإشارة إليها، ولتكن هى على ذكر منك:

انوار الأصول، ج 3، ص: 220

الاولى: أنّ الظاهر من مجموع هذه الثلاثة أنّه كان لسمرة بن جندب حقّ العبور إلى نخلته من باب البستان الذي كان دار الأنصاري.

الثانية: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أراد الجمع بين حقّين: حقّ العبور وحقّ السكنى، وتحقّق هذا الجمع كان باستئذان سمرة.

الثالثة: أنّ شفاعة الرسول صلى الله عليه و آله للاستبدال بهذه النخلة ترشدنا إلى أنّه قد يلزم على القاضي أن يعطى من بيت المال ما يرفع الغائلة ويندفع به الخلاف، كما ورد في بعض الرّوايات اعطاء الإمام الصادق عليه السلام مفضّل بن عمر مقداراً من المال ليرفع بها المنازعات الواقعة بين أصحابه.

ثمّ إنّه هل كان استدلال الرسول صلى الله عليه و آله بكبرى لا ضرر ولا ضرار على قلع الشجرة أو للجمع بين الحقّين؟

وهذا ممّا لم يطرح في كلمات القوم فيما رأيناه، فيحتمل كونه للجمع بين الحقّين، أي لتبدّل حقّ العبور من الاطلاق إلى الاشتراط، ولقائل أن يقول بأنّ الجمع بين الحقّين لا يحتاج إلى الاستدلال بقاعدة لا ضرر لأنّه لازم قاعدة العدل والإنصاف (إلّا أن يكون من باب التأكيد) فيكون الاستدلال على قلع الشجرة، فأراد

الرسول صلى الله عليه و آله أن يدفع الضرر من طريق قلع الشجرة.

ومنها: ما رواه عقبة بن خالد عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «قضى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بين أهل المدينة في مشارب النخل أنّه لا يمنع نفع الشي ء، وقضى بين أهل البادية أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء، فقال: لا ضرر ولا ضرار» «1».

وقد ذكر لقوله صلى الله عليه و آله: «لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء» احتمالات أحسنها: أنّه ورد في الآبار التي كانت واقعة في أطراف المدينة، التي يرفع بها ملّاكهم حوائجهم مع زيادة لها، ولكن كانوا يمنعونها عن أهل البادية لسقي مواشيهم عند العطش الحاصل عادةً بعد الرعي في المراتع الواقعة حول الآبار، فلم يقدروا على الاستفادة من كلائها فكان منع فضل الماء يمنع عن فضل الكلاء.

ويحتمل أيضاً أن يكون مفاده المقابلة بالمثل، فإنّ المضايقة عن فضل الماء توجب انوار الأصول، ج 3، ص: 221

مضايقة ملّاك المراتع عن فضل الكلاء.

ويساعد هذا الاحتمال تكرار الضرر في هذه القاعدة فيكون «لا ضرر» ناظراً إلى الضرر الأوّل (أي المنع عن فضل الماء) و «لا ضرار» إلى الضرر الثاني، أي إلى مقابلة الثاني بالمثل، وذلك لمكان باب المفاعلة كما سيأتي.

ثمّ إنّه هل كان استدلال الرسول صلى الله عليه و آله على حكم مستحبّ، أو على حكم وجوبي، أي هل اعطاء فضل الماء وعدم المنع عنه واجب على صاحب البئر أو مستحبّ؟

المشهور هو الثاني، وذهب الشيخ الطوسي رحمه الله وجماعة إلى الأوّل، وتفصيل الكلام في محلّه، وإن كان قول الشيخ أوفق بظاهر الأدلّة.

ثمّ إنّه لو كانت كلمة «قال» الواردة في ذيل الحديث بالفاء (فقال) كان ذيل الحديث جزء من هذه

الرواية، وتصير رواية مستقلّة عمّا سبق، فيؤخذ بما يستفاد من موردها الخاصّ من نكات وخصوصيّات، وأمّا إذا كانت بالواو كما ادّعى العلّامة شيخ الشريعة رحمه الله وجوده في النسخة المصحّحة من الكافي عنده، فيحتمل أن تكون جزء منها، كما يحتمل أن تكون من باب الجمع في الرواية، فيشكل ترتيب آثار الإتّصال عليه.

ومنها: ما رواه عقبة بن خالد عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «قال قضى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن وقال: لا ضرر ولا ضرار، وقال: إذا ارّفت الأرف وحدّت الحدود فلا شفعة» «1».

فهذا الحديث أيضاً يمكن التمسّك به بعنوان رواية مستقلّة غير ما سبق، إذا كان بمجموعه رواية واحدة كما هو الظاهر من وقوع القاعدة بين فقرتين كلتاهما وردتا في باب الشفعة «2»، فتكون حينئذٍ من قبيل الحكمة لجعل الشفعة (لا العلّة لأنّ البيع بغير الشريك ضرريّ في بعض الموارد لا في تمامها).

ومنها: مرسلة الصدوق قال: وقال النبي صلى الله عليه و آله: «الإسلام يزيد ولا ينقص، (قال) وقال صلى الله عليه و آله: لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، فالإسلام يزيد المسلم خيراً ولا يزيد شرّاً، (قال)

انوار الأصول، ج 3، ص: 222

وقال صلى الله عليه و آله: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» «1».

وهو يدلّ على أنّ المسلم يرث من الكافر ولا يرث الكافر من المسلم لأنّ الإسلام يزيد ولا ينقص، فلا يكون الإسلام من موانع الإرث عن الكافر بل يكون الكفر مانعاً عن إرث المسلم، ولو كان الإسلام مانعاً لكان موجباً للضرر ولا ضرار في الإسلام.

ثمّ إنّه هل هذه الفقرات الثلاثة هى ثلاثة أحاديث، أو هى بمجموعها حديث واحد؟

الظاهر هو الأوّل، لكن كلّ واحد منها يدلّ على

أنّ المسلم يرث من الكافر ولا يرث الكافر من المسلم. (وأمّا عبارة «فالإسلام يزيد المسلم خيراً ولا يزيده شرّاً» الواردة في ذيل الحديث الثاني فلعلّها من استنباط الصدوق وتفسيره، وليس جزء للحديث).

والذي يؤيّده ذلك ما رواه أبو الأسود الدؤلي أنّ معاذ بن جبل كان باليمن فاجتمعوا إليه وقالوا: يهودي مات وترك أخاً مسلماً، فقال معاذ: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: الإسلام يزيد ولا ينقص، فورّث المسلم من أخيه اليهودي» «2». حيث إنّ معاذ استدلّ بالحديث الأوّل في قضائه من دون تذييله بالحديث الثاني (لا ضرر ولا ضرار).

كما يؤيّده أيضاً رواية الحاكم «3» إيّاه في المستدرك مجرّداً عن هذا الذيل (لا ضرر ولا ضرار).

ومنها: ما رواه هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبداللَّه عليه السلام في رجل شهد بعيراً مريضاً وهو يباع فاشتراه رجل بعشرة دراهم وأشرك فيه رجلًا بدرهمين بالرأس والجلد، فقضى أنّ البعير برى ء، فبلغ ثمنه (ثمانية) دنانير قال فقال: «لصاحب الدرهمين خمس ما بلغ فإن قال اريد الرأس والجلد فليس له ذلك، هذا الضرار، وقد أعطى حقّه إذا أعطى الخمس» «4».

وفي الحديث وإن ورد مجرّد الصغرى لكنّه بمنزلة قوله «لا تشرب الخمر لأنّه مسكر» حيث إنّ الكبرى فيه محذوفة وهى كلّ مسكر حرام، كذلك في هذا الحديث فكبرى «لا ضرار» محذوفة فيه، ولذلك تدخل في طائفة الرّوايات الدالّة على القاعدة بالعموم.

انوار الأصول، ج 3، ص: 223

نعم لو قلنا: بأنّ الفرق بين «ضرر» و «ضرار» أنّ الثاني مخصوص بالضرر العمدي، فيكون مفاد هذا الحديث أخصّ من مدلول غيرها ويكون ناهياً عن خصوص الضرر العمدي.

ومنها: ما رواه المحدّث الثوري في المستدرك عن دعائم الإسلام عن أبا عبداللَّه عليه السلام إنّه سئل عن

جدار الرجل وهو سترة بينه وبين جاره سقط فامتنع من بنيانه قال: «ليس يجبر على ذلك إلّاأن يكون وجب ذلك لصاحب الدار الاخرى بحقّ أو بشرط في أصل الملك، ولكن يقال لصاحب المنزل استر على نفسك في حقّك إن شئت، قيل له فإن كان الجدار لم يسقط ولكنّه هدمه أو أراد هدمه اضراراً بجاره لغير حاجة منه إلى هدمه قال: لا يترك، وذلك أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: لا ضرر ولا ضرار (اضرار) وإن هدمه كلّف أن يبنيه» «1».

وسيأتي أنّ ذيل هذا الحديث شاهد على أنّ القاعدة يمكن الاستدلال بها لإثبات الحكم أيضاً لا لخصوص نفي الأحكام.

ومنها: ما رواه المحدّث النوري في المستدرك أيضاً عن أمير المؤمنين عليه السلام: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «لا ضرر ولا ضرار».

ومنها: ما ورد في عوالي اللئالي عن أبي سعيد الخدري عنه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «لا ضرر ولا اضرار في الإسلام» «2».

وقال المصنّف بعد ذلك: وأسنده ابن ماجه والدارقطني وصحّحه الحاكم في المستدرك.

هذه هى الطائفة الاولى، أي الروايات العامّة الدالّة على القاعدة عموماً.

أمّا الطائفة الثانية: من الروايات الخاصّة، فمنها ما ورد في حريم البئر وهى اثنتان:

أحداها: ما رواه محمّد بن الحسن (الحسين) قال: «كتبت إلى أبي محمّد عليه السلام: رجل كانت له قناة في قرية فأراد رجل أن يحفر قناة اخرى إلى قرية له كم يكون بينهما في البعد حتّى لا تضرّ إحداهما بالاخرى في الأرض، إذا كانت صلبة أو رخوة؟ فوقّع عليه السلام: على حسب أن لا تضرّ

انوار الأصول، ج 3، ص: 224

إحداهما بالاخرى إن شاء اللَّه» «1».

الثانية: ما رواه محمّد بن حفص عن رجل عن أبي

عبداللَّه عليه السلام قال: «سألته عن قوم كانت لهم عيون في أرض قريبة بعضها من بعض، فأراد رجل أن يجعل عينه أسفل من موضعها الذي كانت عليه، وبعض العيون إذا فعل بها ذلك أضرّ بالبقية من العيون وبعضها لا يضرّ من شدّة الأرض، قال: فقال: ما كان في مكان شديد فلا يضرّ، وما كان في أرض رخوة بطحاء فإنّه يضرّ، وإن عرض رجل على جاره أن يضع عينه كما وضعها وهو على مقدار واحد قال: إن تراضيا فلا يضرّ، وقال: يكون بين العينين الف ذراع» «2».

والمستفاد من هاتين الروايتين عدم جواز الإضرار بالغير وإن كان منشأه تصرّف الإنسان في ملكه، نعم مقتضى خصوصية المورد اختصاص الحكم بباب حريم البئر وعدم جواز التعدّي إلى غيره، ولكن يمكن الغائها عرفاً واسراء الحكم إلى مطلق موارد الإضرار بالغير، ولا أقلّ من جوازه إلى غير البئر من سائر الجيران والأملاك المتقاربة، وحينئذٍ تكون الروايتان حاكمتين على عموم الناس مسلّطون على أموالهم.

وقد ورد في كتاب إحياء الموات في باب حريم البئر بحث عنونه الفقهاء في أنّ الميزان في حريم العيون والقنوات هل هو مطلق عدم الاضرار، أو مقدار الف ذراع في الأرض الرخوة وخمسمائة ذراع في الأرض الصلبة؟

مقتضى الاطلاق في الرواية الاولى بل صريحها هو الأوّل، وهو المحكي عن الأسكافي والمختلف والمسالك، ومدلول الرواية الثانية هو الثاني، وهو مذهب المشهور، ولقائل أن يقول بكفاية أحد الأمرين: البعد بالمقدار المذكور في الرواية الثانية، أو العلم بعدم تضرّر الجار، الذي يستفاد من الرواية الاولى.

ومنها: وما رواه عقبة بن خالد عن أبي عبداللَّه عليه السلام في رجل أتى جبلًا فشقّ فيه قناة فذهبت الآخر بماء قناة الأوّل. قال: فقال: «يتقاسمان (يتقايسان) بحقائب «3»

البئر ليلة ليلة

انوار الأصول، ج 3، ص: 225

فينظر أيّتهما أضرّت بصاحبتها، فإن رأيت الأخيرة أضرّت بالاولى فلتعور» «1».

«حقائب البئر» أو «عقائبه» اعجازها.

وهذه الرواية تحكم على عموم «من أحيى أرضاً فهى له» كما لا يخفى.

وأمّا عدم جريان هذا الحكم بالنسبة إلى الاولى لو أضرّت بالثانية فإنّما هو لقاعدة الإقدام.

ثمّ لا يخفى أنّ المستفاد من هذه الرواية هو الحكم الوضعي، وهو عدم استحقاق الثاني لبقاء ملكه على حاله.

وبهذا المضمون الرواية الثانية والثالثة الواردتان في نفس الباب، والظاهر أنّ جميعها رواية واحدة.

ومنها: ما رواه محمّد بن الحسين قال: كتبت إلى أبي محمّد عليه السلام: «رجل كانت له رحى على نهر قرية والقرية لرجل فأراد صاحب القرية أن يسوق إلى قريته الماء في غير هذا النهر ويعطّل هذه الرحى، أله ذلك أم لا؟ فوقّع عليه السلام: يتّقي اللَّه ويعمل في ذلك بالمعروف ولا يضرّ أخاه المؤمن» «2».

ويرد على الاستدلال بهذه الرواية على المطلوب بأنّ دلالتها عليه متوقّفة على أن يكون موردها ما إذا لم يكن لصاحب الرحى حقّ الانتفاع من النهر من قبل (فيقال حينئذٍ أنّ مقتضى عموم: «الناس مسلّطون على أموالهم» جواز سوق الماء إلى نهر آخر ولكنّه يمنع لقاعدة لا ضرر).

وأمّا مع وجود احتمال آخر في موردها وهو: أنّ صاحب الرحى كان له حقّ الانتفاع من قبل، تصير الرواية مجملة لا تصلح للاستدلال بها لأنّ مقتضى الاحتمال الثاني أن يكون سوق الماء في نهر آخر مزاحماً لحقّ صاحب الرحى، ومتعدّياً عليه، وأن يكون منع الإمام عليه السلام مستنداً إلى هذه الجهة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 226

هذا، ولكن يمكن الجواب عنه بأنّ الإمام عليه السلام (على أي حال) أسند منعه إلى عنوان الضرر لا إلى عنوان العدوان والتعدّي على حقّ

الغير، وهذا كافٍ في الاستدلال به على المقصود، ولا يبعد حينئذٍ الغاء الخصوصيّة عن موردها، والحكم بعدم جواز الاضرار مطلقاً.

ومنها: ما رواه الطبرسي رحمه الله في مجمع البيان في ذيل قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ...» قال: جاء في الحديث «أنّ الضرار في الوصيّة من الكبائر» «1».

والظاهر (بقرينة سائر الروايات الواردة في الباب) أنّ المراد من الضرار في الوصيّة هو الوصيّة بتمام المال أو بأكثر من الثلث، وهو بنفسه حرام، ولذلك لا يتمّ الاستدلال بهذه الرواية لما نحن فيه، اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ حكمة جعل هذا الحكم هو حرمة الاضرار، فيكون حاكماً على عموم قاعدة السلطنة، ولازمه حكومة قاعدة لا ضرر على تلك القاعدة أيضاً فتأمّل، ولا يخفى أنّها ناظرة إلى الحكم الوضعي.

ومنها: ما رواه طلحة بن زيد عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إنّ الجار كالنفس غير مضارّ ولا إثم» «2».

ومنها: ما رواه أبو بصير عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سمعته يقول: «المطلّقة الحبلى ينفق عليها حتّى تضع حملها وهى أحقّ بولدها أن ترضعه بما تقبله امرأة اخرى، يقول اللَّه عزّوجلّ:

«لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ» «لا يضارّ بالصبي ولا يضارّ بامّه في إرضاعه ...» «3».

ومنها: ما رواه الحلبي عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سألته عن الشي ء يوضع على الطريق فتمرّ الدابة فتنفر بصاحبها فتعقره فقال: كلّ شي ء يضرّ بطريق المسلمين فصاحبه ضامن لما يصيبه» «4».

فتدلّ على أنّ الاضرار بالغير ولو كان بالتصرّف في الشارع العام موجب للضمان وأنّه لا فرق بين أن يكون الاضرار بالمباشرة أو بالتسبيب.

انوار الأصول، ج 3، ص: 227

ومثله ما جاء في حديث أبي الصباح عن أبي عبداللَّه عليه

السلام: «كلّ ما أضرّ بشي ء من طريق المسلمين فهو له ضامن»»

.ومنها: ما رواه حسن بن زياد عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «لا ينبغي للرجل أن يطلّق امرأته ثمّ يراجعها وليس له فيها حاجة ثمّ يطلّقها فهذا الضرار الذي نهى اللَّه عزّوجلّ عنه إلّا أن يطلّق ثمّ يراجع وهو ينوي الإمساك» «2».

فيحتمل أن يكون المراد من قوله عليه السلام: «فهذا الضرار الذي نهى اللَّه عزّوجلّ عنه» ما مرّ من قوله تعالى: «وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا»، وعليه تكون الرواية من الطائفة الخاصّة، ويحتمل أيضاً أن لا يكون مشيراً إلى تلك الآية فيدلّ على حرمة الاضرار بشكل عام، فتدخل الرواية حينئذٍ في الروايات العامّة، والظاهر من الرواية (خصوصاً بقرينة الروايتين الاخريين الواردتين في نفس الباب اللتين صرّح فيهما بالآية) هو الأوّل.

ومنها: ما رواه في عقاب الأعمال بإسناده عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في حديث قال: «ومن أضرّ بامرأة حتّى تفتدي منه نفسها لم يرض اللَّه له بعقوبة دون النار ... إلى أن قال: ومن ضارّ مسلماً فليس منّا ولسنا منه في الدنيا والآخرة ... إلى أن قال: ألا وإنّ اللَّه ورسوله بريئان ممّن أضرّ بامرأته حتّى تختلع منه» «3».

ولا يخفى أنّ هذه الرواية تشمل جميع موارد الضرر الذي يقع بين الناس بعضهم ببعض، أي المسائل الحقوقية، ولا يمكن التعدّي عنها إلى غيرها من أبواب العبادات.

ومنها: ما رواه إسماعيل بن الفضل الهاشمي قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن رجل اكترى أرضاً من أرض أهل الذمّة من الخراج وأهلها كارهون وإنّما تقبلها من السلطان لعجز أهلها عنها أو غير عجز، فقال: «إذا عجز أربابها عنها فلك أن تأخذها إلّاأن يضارّوا ...» «4».

ومنها: ما رواه عبيد

بن زرارة قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: الجارية يريد أبوها أن يزوّجها من رجل ويريد جدّها أن يزوّجها من رجل آخر فقال: «الجدّ أولى بذلك ما لم يكن مضارّاً» «5».

انوار الأصول، ج 3، ص: 228

ومنها: ما رواه إسحاق بن عمّار قال قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: «الرجل يكون عليه اليمين (الدَين) فيحلفه غريمه بالأيمان المغلّظة أن لا يخرج من البلد إلّابعلمه. فقال: لا يخرج حتّى يعلمه، قلت: إن أعلمه لم يدعه قال: إن كان علمه ضرراً عليه وعلى عياله فليخرج ولا شي ء عليه» «1».

ومنها: ما رواه حمران في حديث طويل قال: قال أبو جعفر عليه السلام: «لا يكون ظهار في يمين ولا في إضرار ولا في غضب» «2».

هذه هى الروايات الواردة من طرق الخاصّة.

وأمّا ما ورد من طريق العامّة فمنها: ما رواه أحمد في مسنده عن عبادة بن صامت «3» مسنداً قال: «إنّ من قضاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّ المعدن جبّار، والبئر جبّار، والعجماء جرحها جبّار، والعجماء البهيمة من الأنعام، والجبّار هو الهدي الذي لا يعزم، وقضى في الركاز الخمس، وقضى أنّ النخل لمن أبرّها إلّاأن يشترط المبتاع، وقضى أنّ مال المملوك لمن باعه ... إلى أن قال: وقضى للجدّتين من الميراث بالسدس بينهما، وقضى أنّ من أعتق شركاء في المملوك فعليه جواز عتقه إن كان له مال، وقضى أن لا ضرر ولا ضرار، وقضى أنّه ليس لعرق ظالم حقّ، وقضى بين أهل المدينة في النخل لا يمنع نفع بئر، وقضى بين أهل البادية (المدينة) أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل الكلاء» «4».

ومن الواضح (بشهادة مضمون الرواية) عدم صدور هذه الأقضية في زمان واحد وفي رواية واحدة بل صدرت في

وقائع مختلفة جمعها عبادة بن صامت في هذا الحديث، وحينئذٍ لا يبعد عدم كون قوله صلى الله عليه و آله: «لا ضرر ولا ضرار» رواية مستقلّة غير ما ورد في قضيّة سمرة وشبهها التي مرّ ذكرها.

ومنها: ما رواه أحمد أيضاً في مسنده مسنداً عن ابن عبّاس قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: لا

انوار الأصول، ج 3، ص: 229

ضرر ولا ضرار، وللرجل أن يجعل خشبة في حائط جاره والطريق الميثاء سبعة أذرع» «1».

قوله صلى الله عليه و آله: الميثاء السهل، ولا يخفى إنصرافه عن الطرق في يومنا هذا.

ومنها: ما رواه مالك في موطّأه عن عمر بن يحيى المازني عن أبيه: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال:

«لا ضرر ولا ضرار» «2».

ومنها: ما رواه ابن ماجه في سننه عن عبادة بن صامت: «أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قضى أن لا ضرر ولا ضرار» «3».

وأيضاً عن ابن عبّاس «4» قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «لا ضرر ولا ضرار» وعن ابن حرمة «5» عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من ضارّ أضرّ اللَّه به».

ومنها: ما رواه في كنز العمّال عن ابن عبّاس عن عبادة: «لا ضرر ولا ضرار» «6».

وعن المازني: «لا ضرر ولا ضرار» وعن ابن عبّاس: «لا ضرر ولا ضرار» «7».

ومنها: ما رواه ابن الأثير في النهاية أنّه صلى الله عليه و آله قال: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» «8».

ومنها: ما رواه أبو داود في سننه عن الإمام الباقر عليه السلام عن سمرة بن جندب: «إنّه كان عضد (عضيد) من النخل في حائط رجل من الأنصار، قال: ومع الرجل أهله فكان سمرة يدخل إلى

نخله فيتأذّى به ويشقّ عليه فطلب إليه أن يبيعه فأبى، فطلب إليه أن يناقله فأبى، فأتى النبي صلى الله عليه و آله فذكر ذلك له فطلب إليه النبي صلى الله عليه و آله أن يبيعه فأبى فطلب إليه أن يناقله فأبى، قال: فهبه له ولك كذا وكذا أمراً رغّبه فيه فأبى، فقال: أنت مضارّ فقال صلى الله عليه و آله للأنصاري: إذهب فاقلع نخله» «9».

انوار الأصول، ج 3، ص: 230

ومنها: ما رواه أبو داود أيضاً في سننه عن أبي صرمة صاحب النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «من ضارّ أضرّ اللَّه به ومن شاقّ شاقّ اللَّه عليه» «1».

ونفس المضمون ورد في سنن الترمذي «2».

هذه ما ورد من طرق العامّة.

وقد ظهر من مجموع ما ورد من الطريقين أنّ الحديث (لا ضرر ولا ضرار) لو لم يكن متواتراً فلا أقلّ من كونه متظافراً، وقد قال العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول في شرح حديث سمرة: «هذا المضمون مروي من طرق العامّة والخاصّة بأسانيد كثيرة فصار أصلًا من الاصول، وبه يستدلّون في كثير من الأحكام» «3».

أضف إلى ذلك استدلال فقهائنا بهذا الحديث بعنوان أصل مسلّم، وهذا هو الشيخ الطوسي رحمه الله استدلّ به في الخلاف كتاب البيع في مسائل الغبن (المسألة 60) وكتاب الشفعة المسألة 14.

إلى هنا تمّ الكلام في المقام الأوّل.

المقام الثاني: في مفاد الحديث
اشارة

ولابدّ فيه من تقديم امور:

الأمر الأوّل: في قيد «في الإسلام» الذي سيأتي دخله وتأثيره في معنى الحديث والاستظهار منه.

وقد ورد هذا القيد في أحاديث عديدة من الطريقين، فورد (كما مرّ في المقام الأوّل) من طريق الخاصّة في مرسلة الصدوق الواردة في باب الإرث، وفي مجمع البحرين في مادّة «ضرر» في ذيل حديث الشفعة، وفي

عوالي اللئالي، ومن طرق العامّة في نهاية ابن الأثير.

لكن بما أنّ جميع هذه الطرق غير قابلة للإعتماد خصوصاً بعد ملاحظة مخالفة بعضها مع انوار الأصول، ج 3، ص: 231

ما جاء في سائر الطرق (فإنّ حديث الشفعة الذي جاء في مجمع البحرين مع القيد المذكور مذكور في جوامع أخبارنا بدون هذا القيد، مضافاً إلى أنّ الظاهر أخذه هذا الحديث من غيره (ولعلّه من نهاية ابن الأثير) ومضافاً إلى نقله في بعض الكتب الفتوائية أيضاً بكلتا الصورتين، فنقل في الخلاف في كتاب الشفعة (المسألة 14) مع هذا القيد، وفي كتاب البيع (المسألة 60) بدون هذا القيد، فتذييل هذا الحديث بهذا الذيل غير ثابت.

فالحاصل أنّ وجود هذا القيد في الأسانيد المعتبرة ليس بثابت هذا أوّلًا.

وثانياً: لو فرضنا وجوده فيها فهل هو بمعنى أنّ الحديث صدر من جانب الرسول صلى الله عليه و آله بصورتين أو لا؟

قد يقال: لا يبعد صدوره منه صلى الله عليه و آله كذلك فيما إذا وقعت الصورتان ذيل قضيتين (كقضية سمرة والشفعة) وأمّا إذا وقعتا ذيل قضيّة واحدة فنقلت في بعض الطرق مع ذلك القيد وفي بعض آخر بدونه فحينئذٍ يقدّم ما اشتمل على الزيادة على ما لم يشتمل عليها ويؤخذ به، نظراً إلى تقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة بناءً على أنّه أصل عقلائي، فظهر أنّه بناءً على اعتبار الطريقين وبناءً على ورودهما في ذيل قضية واحدة وبناءً على وجود السيرة العقلائيّة على تقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة تكون الحجّة في المقام هى ما اشتملت على قيد «في الإسلام».

لكن جميع المباني والقيود الثلاثة مشكوكة غير ثابتة، فلا طريق معتبر ورد فيه هذا القيد، وليست القضية واحدة، ولا أصل عقلائي

على عدم الزيادة، كما يشهد عليه ملاحظة رسائل العقود والعهود في يومنا، هذا فيما إذا وقعت زيادة في واحدة من إثنتين منها مثلًا فإنّهم يعتمدون حينئذٍ على قرائن لفظيّة أو حاليّة أو مقاميّة توجب الاطمئنان بثبوتها، وإلّا لا اعتبار لها عندهم، بل يحكمون بالتساقط بعد التعارض.

فصارت النتيجة في النهاية عدم ثبوت القيد المذكور.

الأمر الثاني: في قيد «على مؤمن» الذي سيأتي تأثيره أيضاً في الاستظهار من الحديث.

وقد ورد في أحد طريقي حديث زرارة، وهو طريق ابن مسكان عنه مع ورودهما في ذيل قضيّة واحدة وهى قضية سمرة كما مرّ، فلو قبلنا وجود أصالة عدم الزيادة عند العقلاء وكان السند معتبراً في كليهما يقدّم طريق ابن مسكان عن زرارة على طريق ابن بكير عن زرارة،

انوار الأصول، ج 3، ص: 232

وتصير النتيجة تذييل الحديث بقيد «على مؤمن».

ولكن أوّلًا: ليس الأصل المذكور ثابتاً كما مرّ آنفاً، وثانياً: ليس السند في طريق ابن مسكان معتبراً، لارساله.

الأمر الثالث: في تذييل حديث الشفعة وحديث منع فضل الماء بقوله صلى الله عليه و آله: «لا ضرر ولا ضرار» وعدمه.

وسيأتي دخله في كون كلمة «لا» في «لا ضرر ولا ضرار» ناهية أو نافية، الذي سيأتي البحث عنه وعن الثمرة التي تترتّب عليه.

والظاهر من الروايتين ورود قوله صلى الله عليه و آله: لا ضرر ولا ضرار في ذيل كلّ واحدة منهما كما أشرنا إليه حين نقلهما، ولكن أصرّ بعض الأعاظم أنّه من عمل عقبة بن خالد الراوي لهما من باب الجمع في الرواية، وهو العلّامة شيخ الشريعة الأصفهاني؛، وتبعه المحقّق النائيني رحمه الله وبعض الأعلام في مصباح الاصول.

واستشهد شيخ الشريعة رحمه الله بأنّ قضيّتي الشفعة ومنع فضل الماء رويتا من طرق العامة المنتهية إلى عبادة بن

صامت، بينما كانت طرق الخاصّة تنتهي إلى عقبة بن خالد، وهى خالية من هذا الذيل بلاريب، لأنّ روايته مصدّرة في كلّ فقرة من فقراتها بقوله «وقضى» وهو ينادي بأعلى صوته باستقلال كلّ فقرة عن غيرها (فراجع متن الرواية التي أوردناها في المقام الأوّل) كما أنّ رواية عقبة بناءً على النسخة المصحّحة تكون بالواو لا بالفاء وحينئذٍ يدور الأمر بين صراحة رواية عبادة في الانفصال وظهور رواية عقبة في الإتّصال، فتتقدّم الاولى لصراحتها على الثانية، خصوصاً بعد ملاحظة ما ورد في عبادة من أنّه كان شيعياً ضابطاً متقناً.

ويرد عليه: أنّه لا دليل على وثاقة كلّ واحد من الراويين، فإنّ عقبة مجهول في الكتب الرجالية للإماميّة ولم يرد فيه مدح إلّافي رواية راويها هو نفسه «1» مضافاً إلى أنّها تدلّ على كونه شيعياً لا على وثاقته، وأمّا عبادة فقد ورد في كتب الإمامية «أنّه كان شيعياً كان ابن أخي أبي ذرّ من السابقين الذين أرجعوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام» وهذا لا يدلّ على وثاقته أيضاً، نعم انوار الأصول، ج 3، ص: 233

قال شيخ الشريعة بالنسبة إليه: «كان ضابطاً متقناً في نقل الأحاديث ومن خيار الشيعة على ما قيل» لكن لم نر نقل هذه العبارة في كتبنا.

هذا كلّه ما ورد في عبادة، ولو فرضت وثاقته لا يلزم منه اعتبار الحديث لأنّ سائر رواته مجهول الحال، هذا أوّلًا.

وثانياً: لا يخفى على المتأمّل في رواية عبادة تقطيعه للأحاديث، خصوصاً بعد ملاحظة عدم نقله قضيّة سمرة واكتفائه بنقل ذيلها (لا ضرر ولا ضرار) مع أنّ الثابت من الطرق المعتبرة تصدير هذا بقضية سمرة.

وثالثاً: لا يختصّ الظهور في الإتّصال بفاء التفريع، لأنّ العطف بالواو أيضاً ظاهر فيه وإن كان ظهوره أضعف من

ظهور الفاء.

وأمّا ما استدلّ به المحقّق النائيني وتلميذه المحقّق في مصباح الاصول على مقالة شيخ الشريعة فهو وجوه:

الوجه الأوّل: «أنّ بين موارد ثبوت حقّ الشفعة وتضرّر الشريك بالبيع عموم من وجه، فربّما يتضرّر الشريك ولا يكون له حقّ الشفعة كما إذا كان الشركاء أكثر من إثنين، وقد يثبت حقّ الشفعة بلا ترتّب ضرر على أحد الشريكين ببيع الآخر، كما إذا كان الشريك البائع مؤذياً، وكان المشتري ورعاً بارّاً محسناً إلى شريكه، وربّما يجتمعان كما هو واضح، فإذاً لا يصحّ إدراج الحكم بثبوت حقّ الشفعة تحت كبرى قاعدة لا ضرر» «1».

إن قلت: يمكن كونها من قبيل الحكمة، (أي من قبيل علّة التشريع لا علّة الحكم) قلت:

حكمة الأحكام لو لم تكن دائمية فلا أقلّ من لزوم كونها غالبية مع أنّ الضرر في موارد الشفعة ومنع فضل الماء ليس غالبياً «2».

والجواب عنه: أنّ الوجدان حاكم على أنّ أغلب الافراد لا يرضون لتشريك شخص في أموالهم إلّابعد الدقّة والتأمّل في حقّ الشريك، فلو باع الشريك سهمه من دون إطّلاع صاحبه يحكم العرف بأنّه جعله في معرض الضرر والخسران، خصوصاً بعد ملاحظة أنّ كلّ إنسان لا يرضى بالشركة إلّامع أقلّ قليل من افراد المجتمع، لعدم ركونهم إلى كلّ أحد.

انوار الأصول، ج 3، ص: 234

وأمّا عدم وجود حقّ الشفعة فيما إذا كان الشركاء أكثر من اثنين فلأنّ وجود فرد ثالث في البين يوجب سهولة الأمر، وإن أبيت عن هذا فنلتزم باستثناء هذا المورد تعبّداً ولأجل مصلحة خفيت علينا.

الوجه الثاني: أنّ مفاد لا ضرر إنّما هو نفي الحكم الضرري أو نفي الموضوع الضرري، مع أنّ الضرر في مورد ثبوت حقّ الشفعة موجب لإثبات الحكم، وهو الخيار «1».

والجواب عنه: أنّ كون مفاد لا ضرر

خصوص نفي الحكم الضرري أوّل الكلام، بل يمكن أن تكون هذه الرواية (رواية الشفعة) بنفسها دليلًا على عموم مفاد القاعدة وبطلان المبنى المذكور، لا أن يكون المبنى دليلًا على اختصاصها بنفي الحكم.

هذا- مضافاً إلى أنّ قضيّة سمرة أيضاً تشهد على عمومها لأنّ وجوب الاستئذان وكذلك وجوب قلع الشجرة أو جوازه حكم إثباتي.

الوجه الثالث: «أنّ الضرر لا ينطبق على منع المالك فضل ماله عن الغير (بالنسبة إلى حديث منع فضل الماء) إذ من الواضح أنّ منع المالك غيره عن الانتفاع بماله لا يعدّ ضرراً على الغير، غايته عدم الانتفاع به، وعدم الانتفاع لا يعدّ ضرراً» «2».

الوجه الرابع: «أنّ النهي في مورد حديث منع فضل الماء تنزيهي قطعاً لعدم حرمة منع فضل الماء عن الغير بالضرورة فلا يندرج تحت كبرى قاعدة لا ضرر» «3».

والجواب عنهما: أنّ حكم الرسول صلى الله عليه و آله بعدم منع فضل الماء يكون مورده بقرينة مكان الصدور (وهو مناطق الحجاز التي كان تحصيل الماء فيها على الإنسان شاقّاً جدّاً) ما إذا كان الممنوع في حاجة شديدة ويشقّ عليه تحصيل ماء آخر بحيث يوجب من فضل الماء وقوعه في حرج شديد وضيق في المعيشة، وفي مثل هذا المورد ليس المنع من فضل الماء مجرّد عدم الانتفاع بل يصدق عليه الضرر قطعاً، كما أنّه لا يبعد فيه الحكم بحرمة المنع بمقتضى ظاهر الرواية كما أفتى به جماعة من الفقهاء كالشيخ الطوسي وابن جنيد وابن زهرة رحمه الله، وهذا نظير ما

انوار الأصول، ج 3، ص: 235

ورد من الحكم بحرمة الإحتكار وجواز البيع على المحتكر مع أنّ الناس مسلّطون على أموالهم.

الوجه الخامس: أنّ جملة «ولا ضرار» لا تناسب حديث الشفعة ولا حديث منع فضل الماء لأنّها في

اللغة مخصوصة بالضرر العمدي وهو أخصّ من مورد الحديثين «1».

وفيه: أنّه كم من قضية تكون مشتملة على فقرات عديدة وأجزاء مختلفة ولكنّها لاشتهارها بعبارة مخصوصة وجيزة تذكر جميعها في مقام الاستشهاد وإن كان مورد الإستشهاد خصوص بعض فقراتها.

من قبيل رواية البزنطي وصفوان المشتملة على ثلاث فقرات: «رفع ما اكرهوا عليه وما لم يطيقوه وما أخطأوا» مع أنّ موردها خصوص الإكراه. وليكن محلّ الكلام من هذا القبيل.

الأمر الرابع: في معنى الضرر والضرار
اشارة

ولنا في تعيين معاني اللغات وتشخيص حدودها ثلاثة طرق:

1- الرجوع إلى كتب اللغة، وقد مرّت حجّية قول اللغوي.

2- الرجوع إلى موارد الاستعمال إذا بلغ إلى حدّ الإطّراد.

3- الرجوع إلى المتبادر إلى الذهن، وهى تفيد بالإضافة إلى اللغات التي كثر استعمالها في معانيها بحيث تتبادر المعاني إلى ذهن كلّ من أنس باللسان ولو كان من غير أهله.

ولا يخفى أنّ كلمة «الضرر» من اللغات التي يمكن في تعيين معناها أعمال كلّ واحد من هذه الطرق.

أمّا الطريق الأوّل ففي مفردات الراغب: «الضرّ «2» سوء الحال إمّا في النفس لقلّة العمل والفضل وإمّا في البدن لعدم جارحة ونقص، وأمّا في الحال من قلّة مال وجاه».

ولا تخفى المسامحة الموجودة في هذا التعريف مع أنّه من أحسن التعاريف ومع دقّة نظر الراغب في مفرداته.

انوار الأصول، ج 3، ص: 236

والأولى أن يقال، إنّه فقد كلّ ما نجده وننتفع به من مواهب الحياة من نفس أو مال أو عرض أو غير ذلك فلا ينحصر الأمر في ما ذكره، إلّاأن يكون ما ذكره من قبيل ذكر المثال.

وفي لسان العرب: الضَرّ والضُرّ لغتان، كلّ ما كان من سوء حال أو فقر أو شدّة في بدن فهو ضُرّ وما كان ضدّاً للنفع فهو ضَرّ.

وفي كتاب العين (للخليل بن أحمد): الضَرّ والضُرّ

لغتان فإذا جمعت بين الضرّ والنفع فتحت الضاد، وإذا افردت الضرّ ضمّمت الضاد إذا لم تجعله مصدراً، هكذا يستعمله العرف، والضرر النقصان يدخل في الشي ء.

وفي مختار الصحاح: الضرّ ضدّ النفع والضُرّ بالضمّ الهزل وسوء الحال.

ونقل في المفردات عن الكلّيات: الضَرّ بالفتح شائع في كلّ ضرر وبالضمّ خاصّ بما في النفس كمرض وهزل.

وفي المقاييس: له ثلاثة اصول: الأوّل خلاف النفع، والثاني اجتماع الشي ء، والثالث القوّة، ثمّ قال: الضَرّة اسم مشتقّ من الضَرّ كأنّها تضرّ الاخرى كما تضرّها تلك، ثمّ مثّل المعنى الثاني بضرّة الإبهام وهو اللحم المجتمع تحتها، بضرّة الضرع: لحمته، قال أبو عبيدة: الضرّة التي لا تخلو من اللبن، وسمّيت بذلك لاجتماعها، ومثّل المعنى الثالث بالضرير، وهو قوّة النفس، يقال:

فلان ذو ضرير أي ذا صبر على الشي ء وذا مقاصاة.

أقول: يمكن إرجاع المعنى الثاني والثالث إلى المعنى الأوّل لأنّ استعمال الضرّة مثلًا في «الضرّتان» يكون بلحاظ اضرار كلّ واحدة منهما بالاخرى، ولازمه اجتماعهما على الاضرار، ولأنّ الصبر على الشدائد (في المعنى الثالث) أيضاً يلازم الضرر غالباً.

وفي القاموس: أنّه ضدّ النفع وأنّه سوء الحال.

وفي المصباح: «ضرّه يضرّه من باب قتل، إذا فعل به مكروهاً و ... قد اطلق على نقص يدخل الأعيان».

وفي النهاية: «لا ضرَرَ ولا ضرار في الإسلام ... أي لا يضرّ الرجل أخاه فينقصه شيئاً من حقّه».

والظاهر أنّ اختلاف أرباب اللغة في تعبيراتهم ليس لاختلافهم في معنى الكلمة بل من جهة وضوح المعنى، وإنّ كلّ واحد منهم أشار إليه من ناحية، بل يمكن أن يقال بعدم الحاجة

انوار الأصول، ج 3، ص: 237

إلى الرجوع إلى أقوال علماء اللغة في أمثال المقام بعد إمكان الرجوع إلى ما يتبادر منه إلى أذهاننا، لأنّ من يزاول هذه اللغة كمزاولتنا يعدّ

من أهل الخبرة بالنسبة إلى أمثال هذه اللغات المعروفة التي يكثر دورانها في الألسن كما لا يخفى.

والذي نجده من إرتكازنا الحاصل من تتبّع موارد استعمالات كلمة الضرر هو ما مرّ آنفاً من أنّه عبارة عن فقد كلّ ما نجده وننتفع به من مواهب الحياة في النفس أو المال أو العرض أو غير ذلك.

وبهذا يظهر ما يستفاد من الطريق الثالث (وهو الرجوع إلى التبادر) فالمتبادر من الضرر هو ما ذكره في المفردات مع تغيير أشرنا إليه، وأمّا الطريق الثاني (وهو الرجوع إلى موارد الاستعمال) فكذلك يستفاد منه ما يقابل النفع، والشاهد عليه وقوع عنوان الضرر في كثير من موارد الاستعمال في مقابل عنوان النفع، ويكفيك في هذا المجال ملاحظة الموارد التي وردت في كتاب اللَّه العزيز كقوله تعالى: «فَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ» وقوله: «يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَايَضُرُّهُ وَمَا لَايَنْفَعُهُ» وقوله: «لَايَمْلِكُونَ لِانفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً».

هذا كلّه في معنى كلمة «الضرر».

وأمّا «الضرار» فحيث إنّ استعماله ليس كثيراً مطّرداً فلا يمكن الرجوع فيه إلى الطريق الثالث وهو التبادر، لعدم حصول إرتكاز وانس ذهني بالنسبة إليه حتّى بالإضافة إلى أهل اللسان، فلابدّ حينئذٍ من الرجوع إلى الطريقين الآخرين:

أمّا الطريق الأوّل فكلمات اللغويين فيه مختلفة بل ربّما يختلف فيه كلمات لغوي واحد، فقال في لسان العرب: «وروي عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ولكلّ واحد من اللفظين معنى غير آخر فمعنى قوله لا ضرر ... إلى أن قال: وقوله «لا ضرار» أي لا يضارّ كلّ واحد منهما صاحبه، فالضرار منهما معاً والضرر فعل واحد- ومعنى قوله «ولا ضرار» أي لا يدخل الضرر على الذي ضرّه ولكن يعفو عنه.

والظاهر

أنّ ما ذكره معنيان مختلفان: الأوّل: اضرار كلّ واحد بالآخر، والثاني: المجازاة على الضرر.

انوار الأصول، ج 3، ص: 238

ثمّ قال: «قال ابن الأثير: قوله: لا ضرر، أي لا يضرّ الرجل أخاه، والضرار فِعال من الضرّ أي لا يجازيه على اضراره، والضرر فعل الواحد والضرار فعل الاثنين، والضرر ابتداء الفعل، والضرار الجزاء عليه، وقيل: الضرر ما تضرّ به صاحبك وتنتفع أنت به، والضرار أن تضرّه من غير أن تنتفع، وقيل هما بمعنى، وتكرارهما للتأكيد».

فقد ذكر إلى هنا أربعة معانٍ تكون هى الأساس والعمدة من المعاني التي ذكرناها في كتابنا القواعد الفقهيّة:

1- أن يكون الضرار بمعنى الضرر.

2- أنّه الاضرار بالغير بما لا ينتفع به بخلاف الضرر فإنّه الاضرار بما ينتفع.

3- أنّه فعل الاثنين والضرر فعل الواحد.

4- أنّه المجازاة على الضرر والمقابلة بالمثل.

وأمّا تفسيره بالتعمّد بالضرر فيرجع إلى المعنى الثاني، أي الاضرار بالغير بما لا ينتفع به.

هذا ما يستفاد من لسان العرب، وسائر كتب اللغة اختار كلّ واحد منها بعض هذه الأربعة، نعم ذكر في القاموس أنّه بمعنى الضيق، وسيأتي ما فيه في آخر البحث.

وبهذا يظهر أنّ تعيين معنى «الضرار» بالطريق الأوّل مشكل جدّاً.

وأمّا الطريق الثاني، وهو الإطراد وكثرة الإستعمال فالمستفاد منه عدم كونهما بمعنى واحد (أي المعنى الأوّل من المعاني الأربعة) مضافاً إلى أنّه بعيد في نفسه لأنّ أحدهما مصدر الثلاثي المجرّد والآخر مصدر المزيد، كما أنّ معنى المجازاة على الضرر (وهو المعنى الرابع) يكون من لوازم باب المفاعلة، وهكذا المعنى الثالث وهو كونه فعل الاثنين فليسا هما مستفادين من كثرة الاستعمال بل المستفاد من التتبّع في موارد إستعمال الكلمة في الكتاب والسنّة إنّما هو المعنى الثاني وهو- كما أشرنا- عبارة عن التعمّد على الضرر بما لا ينتفع

به فقوله تعالى: «وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً» معناه الإمساك ثمّ الطلاق بقصد الإيذاء لا بقصد الإمساك والانتفاع كما يشهد عليه قوله تعالى: «لِتَعْتَدُوا» الوارد في ذيل الآية وكذلك الروايات الواردة في ذيلها، وهكذا قوله تعالى: «لَاتُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ» بناءً على أحد التفسيرين المذكورين سابقاً وهو كونه نهياً عن اضرار الامّ بولدها بترك إرضاعه غيظاً على أبيه وعن اضرار الأب بولده بانتزاعه عن امّه طلباً للاضرار بها، وقوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى انوار الأصول، ج 3، ص: 239

بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ» الذي مرّ في تفسيره أنّه نهى عن الاضرار بالورثة بإقراره بدَين ليس عليه، دفعاً لهم عن ميراثهم، وقوله تعالى: «وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ» لأنّه نهي عن الاضرار بالمطلّقات والتضييق عليهنّ في النفقة والسكنى طلباً للاضرار بهنّ.

هذا كلّه في الآيات.

وهكذا الروايات، فإنّ معنى قوله صلى الله عليه و آله «أنت رجل مضارّ» في قضيّة سمرة الوارد في بعض الطرق، وقوله صلى الله عليه و آله: «ما أراك ياسمرة إلّامضارّاً» في طريق آخر، إنّما هو التعمّد على الضرر مع عدم منفعة عقلائيّة في عمله، وهكذا رواية ابن حمزة الغنوي لأنّ الوارد فيها: «إذا إزدادت القيمة بالبرء ومع ذلك طلب الرأس والجلد فليس إلّالقصد الاضرار بصاحبه».

فظهر أنّ المستفاد من موارد استعمالات هذه الصيغة في الكتاب والسنّة إنّما هو الاضرار العمدي بما لا ينتفع به.

وأمّا كونه بمعنى الضيق كما ذكره في القاموس فإن كان المراد منه هو ما ذكر، فبها، وإلّا فإن كان المراد منه الايقاع في الكلفة والحرج في مقابل الضرر الذي هو إيراد نقص في الأموال والأنفس فهو أيضاً ممّا لا يمكن المساعدة عليه لعدم كونه ملائماً موارد استعماله كما لا يخفى.

هذا تمام

الكلام في مفاد كلمتي «الضرر» و «الضرار».

الأقوال الواردة في معنى الحديث

إذا عرفت ذلك كلّه فلنرجع إلى معنى الحديث والأقوال الواردة فيه، فنقول ومن اللَّه سبحانه نستمدّ التوفيق والهداية: منشأ الخلاف فيها أنّ كلمة «لا» الواردة في الحديث هل هى ناهية أو نافية، فبناءً على كونها نافية يحتمل فيه ثلاثة وجوه لكلّ واحد منها قائل من الأصحاب، فأحدها ما قال به الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله، والثاني ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله، والثالث ما نقله الشيخ الأعظم رحمه الله، عن بعض الفحول ولم يسمّه، وبناءً على أنّها ناهية يوجد في معنى الحديث قولان: أحدهما قول العلّامة شيخ الشريعة رحمه الله، والثاني ما ذهب إليه في تهذيب الاصول فتصير الأقوال خمسة:

أمّا القول الأوّل، أي ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري رحمه الله فهو أن تكون «لا» نافية، ويراد

انوار الأصول، ج 3، ص: 240

به نفي الحكم الشرعي الذي هو ضرر على العباد، وأنّه ليس في الإسلام مجعول ضرري من دون فرق بين الأحكام الوضعيّة كلزوم البيع العنبي، والأحكام التكليفيّة كوجوب اعطاء ثمن كثير لشراء ماء قليل للوضوء، ولازمه حينئذٍ حكومة هذه القاعدة على جميع الأحكام الضررية الوضعيّة أو التكليفيّة وتقييدها لأدلتها.

لكن هنا كلام بين الأعلام في أنّ هذا التركيب (لا ضرر ولا ضرار) بناءً على هذا المعنى حقيقة أو مجاز؟ فأصرّ المحقّق النائيني رحمه الله على كونه حقيقة لا ادّعاء فيه ولا مجاز، ولعلّه يستفاد أيضاً من بعض كلمات المحقّق الحائري رحمه الله.

وذهب في تهذيب الاصول إلى كونه مجازاً إمّا من باب مجاز الحذف، أي «لا حكم ضرري» أو «لا حكم موجب للضرر» نظير قوله تعالى: «وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ» أي أهلها، أو من باب المجاز في الكلمة بعلاقة السبب والمسبّب فذكر المسبّب،

وهو الضرر، واريد منه السبب، وهو الحكم الضرري، أو من باب الحقيقة الإدّعائية (مجاز السكّاكي) بأن يدّعي أنّ الحكم الموجب للضرر بنفسه ضرر.

وسيأتي أنّ الحقّ عدم كونه مجازاً.

وأمّا القول الثاني، (وهو ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله) فهو أن تكون «لا» نافية ولكن تنفي موضوع الضرر الخارجي ابتداءً (لا الحكم) فينفي الحكم بلسان نفي الموضوع، ويكون نفي موضوع الضرر كناية عن نفي الأحكام الضرريّة في الشريعة، فهو داخل في باب الكناية لا المجاز.

والظاهر أنّ هذا القول غير قول الشيخ الأعظم رحمه الله وإن حاول في تهذيب الاصول أن يجعلهما قولًا واحداً، ولعلّه ناظر إلى النتيجة.

وأمّا القول الثالث، (وهو ما نقله الشيخ رحمه الله عن بعض الفحول) فهو أيضاً أن تكون «لا» نافية، ويكون المراد من نفي الضرر نفي صفة من صفاته، أعني «عدم التدارك» فقوله: لا ضرر أي لا ضرر غير متدارك في الشريعة، ولازم هذا القول عدم حكومة القاعدة على شي ء من أدلّة الأحكام بل إنّها تبيّن حكماً من الأحكام الفرعيّة نظير قاعدة «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» التي لا نظر لها إلى سائر الأحكام.

وأمّا القول الرابع، (وهو مختار شيخ الشريعة) فهو أن تكون «لا» ناهية ويراد من انوار الأصول، ج 3، ص: 241

الحديث النهي عن اضرار الناس بعضهم ببعض، نظير قوله تعالى: «فلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ» الذي ينهى عن الرفث والفسوق والجدال في الحجّ، وقول السامري: «لَامِسَاسَ» أي «لا تمسّني» ونتيجة هذا القول أيضاً سقوط القاعدة عن حكومتها على سائر الأحكام وتنزّلها إلى مجرّد نهي تكليفي عن اضرار الناس بعضهم ببعض، كما أنّ قوله تعالى: «وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» ينهى عن الغيبة فحسب، فيخرج حينئذٍ عن نطاق القواعد الفقهيّة

إلى حكم فرعي خاصّ.

وأمّا القول الخامس، (وهو ما ذهب إليه في تهذيب الاصول) فهو أن تكون «لا» ناهية أيضاً لكن بأن يكون النهي نهياً سلطانياً صدر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بما هو سائس الملّة وسلطانها، وقال في توضيح مرامه ما حاصله «1»: أنّ للنبي الأكرم مقامات ثلاثة: الأوّل: مقام الإفتاء وبيان الأحكام الشرعيّة، الثاني: منصب القضاء وفصل الخصومة، الثالث: مقام السلطنة الإلهيّة (وما يسمّى اليوم بولاية الفقيه، وهو مقام إجراء «2» الأحكام الإلهيّة التي ترتبط بالحكومة، والأحكام الحكوميّة السلطانيّة) وقاعدة لا ضرر داخلة في القسم الثالث فهى مجرّد حكم سلطاني صدر من الرسول صلى الله عليه و آله في قضيّة سمرة تحديداً لقاعدة السلطنة عن الأموال «3».

انوار الأصول، ج 3، ص: 242

ولا يخفى أنّ نتيجة هذا القول حكومة قاعدة لا ضرر على قاعدة السلطنة فقط كما صرّح به.

أقول: يستدعي التحقيق في المسألة وبيان المختار فيها ونقد الأقوال المزبورة البحث في أمرين آخرين:

أحدهما: في كون كلمة «لا» الواردة في الحديث ناهية أو نافية؟

ثانيهما: في فاعل الضرر وأنّه هل هو الناس أو اللَّه سبحانه؟

أمّا الأمر الأوّل فإستدلّ شيخ الشريعة رحمه الله لكون «لا» ناهية بامور:

الأوّل: الإطّراد وشيوع هذا المعنى في هذا التركيب، أعني تركيب «لا» (التي وضعت لنفي الجنس أصالة) في الاستعمالات العرفيّة.

الثاني: كلمات أئمّة اللغة ومهرة أهل اللسان فادّعى أنّهم متّفقون على إرادة النهي في قوله صلى الله عليه و آله «لا ضرر ولا ضرار» فنقل في هذا المجال عبارات جماعة منهم.

الثالث: موارد استعمال مثل هذا التركيب في الكتاب والسنّة، نظير قوله تعالى: «فلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ» وقوله تعالى: «فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَامِسَاسَ» أي لا يمسّ

بعض بعضاً فصار السامري يهيم في البرية مع الوحش والسباع، لا يمسّ أحداً ولا يمسّه أحد، عاقبه اللَّه تعالى بذلك، وكان إذا لقى أحداً يقول: لا مساس، أي لا تقربني ولا تمسّني، وفي السنّة نظير قوله صلى الله عليه و آله: «لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام» وقوله: «لا جلب ولا جنب ولا إعتراض» وقوله: «لا إخصاء في الإسلام» وقوله: «لا غشّ بين المسلمين» وقوله:

«لا هجر بين المسلمين فوق ثلاثة أيّام» ثمّ قال: «ولو ذهبنا لنستقصي ما وقع من نظائرها في الروايات واستعمالات الفصحاء نظماً ونثراً لطال المقال وأدّى الملال» ثمّ أيّد قوله بما جاء في قضيّة سمرة من قوله صلى الله عليه و آله: «إنّك رجل مضارّ» قبل قوله «لا ضرر ولا ضرار على مؤمن» حيث إنّهما بمنزلة صغرى وكبرى، ويصير معناه: إنّك رجل مضارّ والمضارّة حرام (أي منهية) وهو المناسب لتلك الصغرى، لكن لو اريد غيره ممّا يقولون صار معناه: إنّك رجل مضارّ والحكم الموجب للضرر منفي أو الحكم المجعول منفي في صورة الضرر، ولا أظنّ بالأذهان المستقيمة ارتضائه».

انوار الأصول، ج 3، ص: 243

ثمّ رفع يده عمّا يستظهر من كلامه إلى هنا (وهو كون «لا» ناهية) في ذيل كلامه، وقال:

«وليعلم أنّ المدّعي أنّ حديث الضرر يراد به إفادة النهي عنه سواء كان هذا باستعمال التركيب في النهي ابتداءً أو أنّه استعمل في معناه الحقيقي، وهو النفي ولكن لينتقل منه إلى إرادة النهي ...

وربّما كانت دعوى الاستعمال في معنى النفي مقدّمة للانتقال إلى طلب الترك أدخل في إثبات المدّعى، حيث لا يتّجه حينئذٍ ما يستشكل في المعنى الأوّل من أنّه تجوّز لا يصار إليه» (انتهى).

وقد ناقش في كلامه في تهذيب الاصول بأنّ «اطلاق

النفي وإرادة النهي وإن كان شائعاً كما استشهد من الشواهد إلّاأنّه ليس بمثابة يكون من المجازات الراجحة عند تعذّر الحقيقة لأنّ استعماله في غيره أشيع منه، وإليك ما يلي من الروايات والكلمات ممّا ورد على حذو هذا التركيب وقد اريد منه النفي بلا إشكال: لا طلاق إلّاعلى طهر، لا طلاق إلّابخمس: شهادة شاهدين ... الخ، لا طلاق فيما لا تملك، ولا عتق فيما لا تملك، ولا بيع فيما لا تملك ... (إلى آخر ما أورده من الروايات والكلمات)»»

.أقول: لقائل أن يقول: إنّ هذه الموارد على خلاف المطلوب أدلّ فإنّها أيضاً مستعملة في النفي إلّاأنّ النهي فيها إرشاد إلى أحكام وضعية كالبطلان، نعم أنّها ترد على المحقّق شيخ الشريعة رحمه الله لو كانت مدّعاه أنّ «لا» في قوله صلى الله عليه و آله: «لا ضرر ولا ضرار» ظاهرة في النهي التكليفي فقط، فينقض كلامه حينئذٍ بالموارد المذكورة، حيث إنّه لا إشكال في أنّ «لا» فيها استعملت في الحكم الوضعي.

ثمّ قال في التهذيب بعد ذكر هذه الموارد: «نعم لو دار الأمر بين ما ذكره القوم، فما اختاره أرجح، لخلوّه عن كثير ممّا ذكرناه من الإشكال» «2».

أقول: وفي كلام شيخ الشريعة رحمه الله أمران: أحدهما: تامّ والآخر: غير تامّ.

أمّا الأمر الذي ليس بتامّ فهو ما ادّعاه أوّلًا بأنّ «لا» في التراكيب المذكورة في كلامه اريد منها النهي لأنّ «لا» في جميعها حتّى في قوله تعالى: «فلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ» وقوله تعالى: «لا مساس» مستعملة في معنى النفي كما يشهد عليه التبادر العرفي، فليس معنى قوله: «لَارَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ» لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا في الحجّ، بل انوار الأصول، ج 3،

ص: 244

مفادها نفي وجود هذه الامور، ويشهد عليه أيضاً جواز تبديل «لا» في تمام هذه التراكيب ب «ليس» التي لا إشكال في أنّها لخصوص النفي، فيقال بدل قوله: «فلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ» «ليس في الحجّ رفث ولا فسوق ولا جدال».

هذا، مضافاً إلى أنّه لا يمكن إرادة النهي في بعض هذه التراكيب بوجه من الوجوه، فلا يصحّ أن يقال: (مثلًا) أنّ معنى قوله صلى الله عليه و آله: «لا اخصاء في الإسلام» «لا تخصوا في الإسلام» لعدم إمكان أن يكون الإسلام ظرفاً للاخصاء.

نعم لازمه النهي عنها، فيكون النفي في هذه التراكيب كناية عن النهي، وهذا هو الأمر الثاني الذي التفت إليه أخيراً، وإلى هذا يرجع ما استدلّ به من كلمات أرباب اللغة فإنّهم فسّروها بلازم المعنى كما هو دأبهم في سائر المقامات.

هذا كلّه هو الأمر الأوّل، وقد ظهر منه أنّ كلمة «لا» في الحديث نافية.

وأمّا الأمر الثاني: وهو أنّ فاعل الضرر في هذا الحديث هل هو الناس بعضهم ببعض، أو اللَّه سبحانه وتعالى؟ (بل العمدة في فهم معنى الحديث هو توضيح هذا المعنى لا كون «لا» نافية أو ناهية كما ستعرف إن شاء اللَّه) فنقول: إن كان الفاعل هو اللَّه سبحانه، فمعنى الحديث أنّ اللَّه تعالى لا يجعل حكماً ضررياً، وضعيّاً كان أو تكليفيّاً، وإن كان الفاعل هو الناس فمعناه أنّ اللَّه تبارك وتعالى لا يجيز الناس أن يضرّ بعضهم ببعض، ولنا شواهد عديدة على الثاني:

منها: أنّه لا إشكال في أنّ فاعل «ضرار» هو الناس بناءً على وجود الفرق بينه وبين معنى الضرر كما هو مقتضى ما مرّ من الشواهد الروائيّة والكتابيّة واللغويّة، وحينئذٍ وحدة السياق تقتضي أن يكون فاعل الضرر أيضاً

هو الناس.

ومنها: قوله صلى الله عليه و آله في قضيّة سمرة «ما أراك إلّامضارّاً» فإذا كان الفاعل في الصغرى هو المكلّف نفسه فليكن في الكبرى أيضاً كذلك.

ومنها: التراكيب المشابهة الواردة في الكتاب والسنّة، كقوله صلى الله عليه و آله: «لا غشّ بين المسلمين» وقوله: «لا هجر بين المسلمين» وقوله تعالى: «فلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ» وقوله صلى الله عليه و آله: «لا سبق إلّافي ثلاث» وقوله: «لا اخصاء في الإسلام، وقوله: «لا بيع إلّافي ملك» و «لا يمين في معصية اللَّه» و «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» و «لا طلاق إلّافي طوع» وغيرها من التراكيب التي لا إشكال في أنّ الفاعل فيها هو المكلّفون.

انوار الأصول، ج 3، ص: 245

ومنها: ما مرّ سابقاً من قوّة احتمال ورود هذه الفقرة ذيل رواية الشفعة التي لا تناسب النهي أصلًا لأنّها جعلت كبرى كلّية للحكم الوضعي المذكور في صدر الرواية فيكون ظاهرها كون الفاعل هو المكلّفين.

ومنها: ورود قيد «في الإسلام» في بعض الطرق بعد قوله: «لا ضرر ولا ضرار» لأنّها تصير حينئذٍ نظير قول الرجل لخادمه: «ليس في بيتي الكذب والخيانة» لِيُعلِمه بأبلغ البيان أنّ هذه الامور ممّا لا ينبغي له ارتكابه في بيته أبداً، ومن ارتكبها كان خارجاً عن أهل البيت، ولا يخفى أنّ الفاعل حينئذٍ هو الخادم، وفي ما نحن فيه هو المكلّف.

فظهر أنّ الفاعل للضرر هو الناس بعضهم ببعض لا اللَّه سبحانه.

المختار في معنى الحديث

لا إشكال في أنّه إذا ضممنا نتيجة الأمر الأوّل (وهى كون «لا» نافية) إلى نتيجة الأمر الثاني (وهى كون الفاعل هو الناس) صار معنى الحديث هكذا: ليس في الخارج (أو في الإسلام بناءً على بعض الطرق) اضرار المكلّفين بعضهم ببعض، أي

لا يمضيه اللَّه تبارك وتعالى ولا يجيزه، فيكون نهياً بلسان في النفي، أي النفي كناية عن النهي وعن عدم الإمضاء، وهذا ممّا نعرفه بالرجوع إلى إرتكازاتنا العرفيّة العقلائيّة وممّا نعهده بين التراكيب المتداولة في اللغة العربيّة وفي غيرها من الألسنة، نظير ما مرّ آنفاً من قول الرجل لخادمه: «ليس في بيتي الكذب والخيانة» كنايةً عن أنّ مثل هذه الامور ممّا لا ينبغي له ارتكابه في بيته أبداً، ونظير ما تداول في يومنا هذا من قولك: «ليس في مكتبنا أو في قاموسنا كذا وكذا».

والنتيجة حينئذٍ شمول هذه القاعدة أوّلًا للأحكام التكليفيّة والوضعيّة معاً، وثانياً حكومتها على سائر الأدلّة كما هو كذلك في بعض الأقوال الاخر، وإن كان الفرق بينه وبينها عدم شمول هذا القول للأحكام الضررية في العبادات كالوضوء الضرري والحجّ الضرري والصوم الضرري وفي التوصّليات كتطهير المسجد إذا كان التطهير منشأً للضرر، بالجملة عدم شموله لتمام الموارد التي ليس الضرر فيها من ناحية أحكام الشرع، وبهذا يظهر أنّه يمكن أن يعدّ هذا قولًا سادساً في معنى القاعدة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 246

إن قلت: فكيف أفتى الفقهاء بعدم صحّة العبادات الضرريّة مثل الصوم والوضوء الضرريّين؟

قلنا: إنّ قدماء الأصحاب بل وكثير من متأخّريهم إستندوا فيها بقاعدة لا حرج، ولم يستندوا إلى قاعدة لا ضرر، مع استدلالهم بها في أبواب المعاملات مثل خيار الغبن وغيره ممّا يرجع إلى اضرار الناس بعضهم ببعض، فهذا هو شيخ الطائفة في كتاب الطهارة من الخلاف «1»، والمحقّق رحمه الله في المعتبر «2» والعلّامة رحمه الله في التذكرة وصاحب المدارك في المدارك كلّهم استندوا في مسألة الوضوء الضرري بقوله تعالى: «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» ولم نر استنادهم إلى قاعدة لا ضرر

في هذه المسألة وفي غيرها من أبواب العبادات الضرريّة وغيرها من التكاليف التي تكون من حقوق اللَّه، ولا ترجع إلى معاملة الناس بعضهم ببعض، وكذلك غيرهم من الفقهاء الأعلام رضوان اللَّه عليهم فيما حضرنا من كلماتهم، (وأظن أنّ الاستناد بهذه القاعدة في هذه الأبواب نشأ بين المتأخّرين أو متأخّري المتأخّرين من الأصحاب) وهذا بنفسه من المؤيّدات على مقالتنا، وذلك لصرافة أذهانهم واستقامة أنظارهم في فهم المفاهيم العرفيّة من الكتاب والسنّة.

هذا ولو تنزّلنا وحكمنا بإجمال القاعدة من هذه الجهة فلابدّ أيضاً من الأخذ بالقدر المتيقّن وهو جريانها في أبواب المعاملات وفيما ترجع إلى اضرار الناس بعضهم ببعض فقط، فتبقى الإطلاقات الواردة في غيرها سليمة عن المعارض والحاكم.

هذا كلّه هو بيان المختار في معنى الحديث.

نقد سائر الأقوال:

أمّا الأوّل والثاني: وهما أنّ القاعدة نافية للأحكام الضرريّة إمّا مجازاً بلسان نفي الحكم انوار الأصول، ج 3، ص: 247

كما ذهب إليه الشيخ الأعظم رحمه الله أو كناية بلسان نفي الموضوع كما اختاره المحقّق الخراساني رحمه الله) فأورد عليهما:

أوّلًا: أنّ المجاز أو الكناية مخالف للظاهر.

وقد أجاب الشيخ رحمه الله عن هذا بأنّه لا مخلص من الالتزام به بعد تعذّر الحمل على الحقيقة (لعدم إمكان انكار وجود الضرر في الخارج، نظير النسيان في حديث الرفع) ولزوم الرجوع إلى أقرب المجازات، بل حاول المحقّق النائيني رحمه الله إثبات أنّ مقالة الشيخ لا يلزم منها المجاز لأنّ النفي في المقام وأشباهه من حديث الرفع وقوله عليه السلام: «لا صلاة إلّابطهور» وغيرهما محمول على معناه الحقيقي بالنظر إلى عالم التشريع.

وحاصل ما أفاده في توضيح ذلك: إنّ الأحكام التكليفيّة وكذا الوضعيّة أمرها بيد الشارع إن شاء رفعها وإن شاء وضعها، فالنفي إذا تعلّق بحكم شرعي كان نفياً حقيقيّاً

لارتفاعه واقعاً في عالم التشريع، هذا بالنسبة إلى النفي، وأمّا اطلاق الضرر على الأحكام المستلزمة له فهو أيضاً حقيقي، لأنّ اطلاق المسبّبات التوليديّة كالإحراق على إيجاد أسبابها شائع ذائع، فمن ألقى شيئاً في النار يقال: إنّه أحرقه، قولًا حقيقيّاً، وحينئذٍ نقول: كما أنّ الشارع إذا حكم بحكم شرعي وضعي أو تكليفي يوجب الضرر على المكلّفين يصدق أنّه أضرّ بهم وليس هذا اطلاقاً مجازياً، فكذا إذا نفاه يصدق عليه أنّه نفى الضرر عنه، نعم لو كانت الأحكام الشرعيّة من قبيل المعدّات للضرر لا من قبيل الأسباب، أو كان من قبيل الأسباب غير التوليديّة كان إسناد الضرر إلى من أوجدها إسناداً مجازياً، ولكن الأحكام الشرعيّة ليست كذلك بل حكم الشارع بالنسبة إلى محيط التشريع كالسبب التوليدي لا غير، أمّا في الأحكام الوضعيّة فواضح، وأمّا في الأحكام التكليفيّة فإسناد الاضرار فيها إلى الشارع إنّما هو بملاحظة داعي المكلّف وإرادته المنبعثة عن حكم الشارع، ففي الحقيقة الحكم التكليفي سبب لإنبعاث إرادة المكلّف وهى سبب للفعل، فهو أيضاً من سنخ الأسباب التوليدية «1». (انتهى).

وربّما يرد عليه: بأنّ الأحكام الإلهيّة ليست عللًا توليديّة لأفعال المكلّفين، وذلك لتخلّل إرادة المكلّف بينهما، والإرادة مستندة إلى الاختيار ومعلولة له، وأمّا الأحكام فهى من قبيل انوار الأصول، ج 3، ص: 248

المعدّدات والدواعي المؤكّدة لاختيار أحد الطرفين لا غير، ولذلك في باب القتل لو ألقى شخص إنساناً في البحر وأغرقه عدّ سبباً للقتل، وكذا إذا فتح باب القفس وطار الطائر منه، وأمّا لو أطمع إنساناً عاقلًا مختاراً وأغراه إلى قتل إنسان آخر فلا يستند القتل حينئذٍ إلى المغري وإن كان يجازى في الشرع المقدّس بأشدّ المجازات لتخلّل إرادة إنسان عاقل مختار فيه، وهذا هو المراد ممّا يبحث

في باب الحدود من أنّه إذا كان السبب أقوى يستند القتل إليه، وكلّما كان المباشر أقوى يستند القتل إلى المباشر، والمراد من إقوائيّة المباشر كونه مستقلًا في إرادته، والمراد من إقوائيّة السبب عدم تخلّل إرادة المباشر.

لكن يمكن دفع هذا بأنّ كون الإسناد حقيقيّاً لايتوقّف على توليديّة الأسباب بل ربّما يكون الإسناد حقيقيّاً ولو لم يكن السبب توليديّاً كما إذا الزم الحاكم بتعطيل السوق فعطّله التجار بإرادتهم فتضرّروا، فهنا وإن كانت الإرادة متخلّلة لكن حيث إنّها كانت منبعثة من تهديد الحاكم وقوّته القاهرة يستند الضرر حقيقة إلى الحاكم، وما نحن فيه من هذا القبيل لحكومة الباري القهّار في الأحكام الإلهيّة، إذاً فأصل ما ذهب إليه المحقّق النائيني من إنّ الإسناد حقيقي أمر صحيح.

لكن يرد عليه: بأنّه لا يختصّ بالأسباب التوليديّة.

وبهذا يندفع الإشكال الأوّل الوارد على الشيخ رحمه الله وإن قبله نفسه، حيث إعترف بأنّ «ما اختاره من المعنى ليس على طريق الحقيقة بل على نحو المجاز، لتعذّر حمله على الحقيقة، لوجودها في الخارج».

ثانياً: أنّه يلزم منه تخصيص الأكثر، وهو مستهجن عرفاً، فيعلم من هنا أنّ للقاعدة معنىً آخر غير ما يظهر لنا في بادى ء النظر فتصير مجملة، ولابدّ حينئذٍ من الاقتصار في مقام العمل بها على موارد عمل الأصحاب.

وهذا ما سيأتي تفصيل البحث عنه وعن جوابه في التنبيهات، ونشير إليه هنا إجمالًا فنقول:

قد وقع الأعلام لدفع هذا الإشكال في حيص وبيص، والشيخ رحمه الله أيضاً كان ملتفتاً إليه وأجاب عنه بأنّ الجميع خرج بعنوان واحد لا بعناوين متعدّدة، ولا استهجان فيه وإن كان ذلك العنوان معلوماً في علم اللَّه تبارك وتعالى ومجهولًا عندنا.

انوار الأصول، ج 3، ص: 249

واجيب عنه: بأنّ «قبح كثرة التخصيص لا يدور مدار كون

الخروج بعنوان واحد أو بعناوين إذا كان المخصّص منفصلًا بل لابدّ في دفعه من أن يكون إخراج الجميع بجامع عرفي يقف عليه المخاطب، وإلّا لو فرض وجوده الواقعي وفرض غفلة المخاطب عنه، بل كان التخصص عنده، بغير هذا الجامع فلا يخرج الكلام من الاستهجان» «1».

أقول: المراد من كثرة التخصيصات هنا هو «ما يتراءى في بادى ء النظر من وجود أحكام ضرريّة كثيرة في الشريعة كوجوب الأخماس والزكوات وأداء الديّات وتحمّل الخسارات عند الاتلاف والضمانات وغير ذلك ممّا تتضمّن ضررياً مالياً، وكوجوب الجهاد والحجّ وغيرهما ممّا تحتاج إلى بذل الأموال والأنفس، وكوجوب تحمّل الحدود الشرعيّة والقصاص وأشباهها ممّا تتضمّن ضرراً نفسيّاً أو عرضياً»، ولكن قد مرّ سابقاً عدم كون هذه الأحكام ضرريّة بأدنى تأمّل، والشاهد على ذلك وجودها وتداولها عند العرف والعقلاء فإنّهم لا يزالون يحكمون بلزوم بذل الخراج والعشور والخروج إلى الجهاد وأداء وظيفة النظام وغيرها فلا يرونها ضرراً عليهم بل يرونه نفعاً بمنزلة القاء البذر في الأرض، الذي يعدّ ضرراً في النظر البدوي السطحي، مع أنّه سوف يترتّب عليه نتائج وثمرات مضاعفة.

وبعبارة اخرى: إنّ صلاح المجتمع صلاح لكلّ فرد فرد ولا يصحّ التفكيك بينهما عند العرف والعقلاء، فبصلاح المجتمع يقوم صلاح الأفراد ويحفظ منافعهم.

فلا يلزم حينئذٍ تخصيص من هذه الناحية أصلًا، فضلًا عن لزوم تخصيص الأكثر، نعم هيهنا اطلاقات قليلة تتقيّد بهذه القاعدة، وهذا ليس بعزيز.

ثالثاً: (وهو بحسب الحقيقة تعبير آخر عن الإشكال الثاني) إنّ قاعدة لا ضرر قاعدة إمتنانيّة، والأحكام الإمتنانيّة آبية عن التخصيص وإن لم يلزم تخصيص الأكثر، مع أنّ من المعلوم ورود تخصيصات عليها.

وجوابه ظهر ممّا مرّ آنفاً من أنّه لا يلزم تخصيص أصلًا من ناحية هذه الأحكام التي يتراءى كونها ضرريّة،

والشاهد عليه كون أمثالها متداولة بين العقلاء، حيث إنّهم لا يجعلون قانوناً على أنفسهم.

انوار الأصول، ج 3، ص: 250

رابعاً: ما ظهر ممّا حقّقناه سابقاً من أنّ الفاعل في الضرر هم المكلّفون لا اللَّه سبحانه مع أنّ ظاهر كلام الشيخ بل صريحه كون الفاعل هو اللَّه، وقد عرفت أنّه لا يساعد عليه ظواهر الأدلّة أو صريحها.

أمّا القول الثالث: (وهو ما نقله الشيخ الأعظم رحمه الله من بعض الفحول، وهو أن يكون المراد من نفي الضرر نفي صفة عدم التدارك، وهو في نظر الشيخ رحمه الله أردأ الوجوه) فغاية ما يمكن أن يقال في توجيهه «أنّ الضرر إذا كان متداركاً لم يصدق عليه عنوان الضرر بنظر العرف وإن صحّ اطلاقه عليه بالدقّة العقليّة، فنفي الشارع للضرر على الاطلاق مع ما نرى من وجوده في الخارج دليل على أنّ جميع أنواع الضرر الحاصلة من ناحية المكلّفين متداركة بحكم الشرع، وأنّ فاعلها مأمور بتداركها وجبرانها، وإلّا لم يصحّ نفيها، فهذا القيد أعني «عدم التدارك» إنّما يستفاد من الخارج من باب دلالة الاقتضاء».

وقد اجيب عن هذا بوجوه عديدة، وعمدة الجواب عنه أن يقال: إذا كان الفاعل للضرر هو اللَّه سبحانه صار المعنى عبارة عن أنّ اللَّه تبارك وتعالى لا يجعل الأحكام الضرريّة، ولا حاجة إلى تقدير «غير متدارك» كما لا يخفى، وإن كان الفاعل هو المكلّفين فأيضاً لا نحتاج إلى ذلك التقدير لأنّ المعنى حينئذٍ عدم ترخيص إضرار أحد بغيره في مقام التكليف والوضع، غاية ما يلزم أن تكون «لا» نافية وكناية عن النهي، ولا إشكال في أنّه إذا دار الأمر بين هذه الكناية وتقدير «غير متدارك» الكناية هى الاولى، لعدم انس الأذهان بمثل هذا التقدير، وبالعكس لها بالنسبة إلى الكناية

المذكورة انس شديد، لما مرّت من الشواهد والتراكيب.

أمّا القول الرابع: (وهو مختار شيخ الشريعة من كون مفاد الحديث حكماً فرعيّاً خاصّاً من دون أن يكون ناظراً إلى سائر الأدلّة وحاكماً عليها) فقد ظهر جوابه ممّا عرفت في بيان المختار من حكومة القاعدة على جميع الأدلّة الواردة في حقوق الناس والمعاملات بالمعنى الأعمّ.

أما القول الخامس: (وهو ما نقلناه إجمالًا من تهذيب الاصول) فهو مبنى على أربع مقدّمات نلخّصها في اثنتين:

إحديهما: أنّ للنبي صلى الله عليه و آله مقامات ثلاثة:

الأوّل: مقام النبوّة والرسالة فهو صلى الله عليه و آله بما أنّه نبي ورسول ينبى ء عن اللَّه، ويبلّغ أحكامه انوار الأصول، ج 3، ص: 251

خطيرها وحقيرها حتّى أرش الخدش.

الثاني: مقام الحكومة والسلطنة، فهو صلى الله عليه و آله سلطان الامّة والحاكم بينهم وسائس العباد في البلاد، وهو من هذه الجهة يرسل سرية ويأمر بالجهاد ويعدّ القوّة، إلى غير ذلك من شؤون الحكومة الإلهيّة في الخلق.

والفرق بين المنصبين واضح فإنّه صلى الله عليه و آله بما أنّه نبي ورسول ليس له أمر ولا نهي، ولا بعث ولا زجر، بل كلّ ما يأمر به أو ينهى عنه فإرشاد إلى أمره تعالى ونهيه، وأمّا إذا أمر بما أنّه سائس الامّة فيجب إطاعته ويحرم مخالفته، فمن خالف فإنّما خالف أمر الرسول ونهيه، ومن أطاع فقد أطاعه، أي يكون المقام ذا دستور وأمر وزجر مستقلًا.

الثالث: مقام القضاء وفصل الخصومة عند التنازع.

ثانيتهما: أنّه كلّما ورد في الروايات من الرسول ووصيّه من أنّه «أمر بكذا» فهو ظاهر في الأمر المولوي السلطاني، وكلّما ورد من «أنّه قضى» فهو ظاهر في القضاء وفصل الخصومة، وأمّا قوله «حكم» فهو مردّد بينهما، وأمّا ما ورد في الآثار من التعبير بأنّه

صلى الله عليه و آله «قال» فدلالته على أنّه كان أمراً سلطانيّاً يحتاج إلى قرينة دالّة عليه، وأمّا إذا كان بصيغ الأمر فهى ظاهرة في حدّ نفسها في الأمر المولوي، فالعدول عنه يحتاج إلى دليل آخر.

ثمّ قال: إن قاعدة لا ضرر من الأحكام السلطانيّة، ويدلّ عليه:

أوّلًا: ما ورد من طرق العامّة من التعبير ب «وقضى أن لا ضرر ولا ضرار» في مساق سائر الأقضية، ولا ينافي هذا ما مرّ أنّ لفظة «قضى» ظاهرة في الحكم القضائي، فإنّ ذلك صحيح إذا لم تقم قرينة على كونه ليس بصدد فصل الخصومة والقضاء.

وثانياً: قضيّة سمرة، لأنّ التأمّل في صدرها وذيلها والإمعان في هدف الأنصاري حيث رفع الشكوة إلى النبي صلى الله عليه و آله ليدفع عنه الظلم، والتدبّر في أنّه لم يكن لواحد منهما شبهة حكميّة ولا موضوعيّة، يورث الاطمئنان ويشرف الفقيه بالقطع على أنّ الحكم حكم سلطاني.

إن قلت: إنّ الرسول صلى الله عليه و آله قد استند في أمره بالقطع والرمي بها على وجهه بقوله: «فإنّه لا ضرر ولا ضرار» وظاهر الاستناد والفاء المفيد للتعليل أنّه حكم إلهي وقاعدة كلّية من اللَّه تعالى، وهو صلى الله عليه و آله إتّكل على الحكم الإلهي، فأمر الأنصاري بقلعها ورميها، فعلّل عمل نفسه بالحكم الصادر من اللَّه، ولا يناسب أن يفسّر عمل نفسه ويعلّله بحكم نفسه.

انوار الأصول، ج 3، ص: 252

قلنا: إنّ الأنصاري لمّا رفع شكواه إلى النبي الأعظم واستدعى النبي سمرة وأمره بالاستئذان عند الدخول وقد كان رجلًا مضارّاً تخلّف عن حكمه، مسّت الحاجة إلى تأديبه، فأصدر حكمه السياسي لحفظ النظام وأمر بقلعها ورميها إلى وجهه، ثمّ علّل هذا الحكم التأديبي بالحكم السياسي الكلّي وأنّه لا ضرر ولا ضرار، وعلى

هذا تتوافق الجمل ويتّضح التناسب بين المعلول (قلع الشجرة) وتعليلها (لا ضرر ولا ضرار) بلا أدنى تكلّف، فإنّ كلًا من المعلول وعلّته حكم سياسي تأديبي.

ثمّ ذكر قدّس سرّه الشريف في بعض كلماته أنّ نتيجة هذا القول كون القاعدة حكماً صدر من ناحية الحاكم الشرعي لتحديد قاعدة السلطنة فحسب، فلا حكومة لها على سائر الأحكام الوضعيّة والتكليفية. (انتهى) «1».

أقول: يمكن المناقشة في كلامه رحمه الله من عدّة جهات:

الجهة الاولى: في الفرق بين الأحكام الإلهيّة والأحكام السلطانيّة، والحقّ فيه أنّ الأحكام السلطانيّة ليست في عرض الأحكام الإلهيّة بل إنّها في طولها لأنّ الأحكام الإلهيّة أحكام كلّية وردت على موضوعات كلّية، ولكن الأحكام السلطانيّة أحكام جزئيّة إجرائيّة لأنّ إجراء الأحكام الكلّية الإلهيّة وتحقيقها في الخارج لا يكون إلّابتأسيس الحكومة، فينفتح حينئذٍ باب الولاية، ويكون الوالي فيه شخص النبي صلى الله عليه و آله وغيره من الأوصياء، وفي زمن الغيبة الفقيه الجامع للشرائط، ووظيفة الوالي فيه تشخيص موارد الأحكام الكلّية الإلهيّة وتطبيقها على مصاديقها الجزئيّة الشخصية، فالأحكام السلطانيّة أحكام تصدر من جانبه في سبيل إجراء تلك الأحكام الإلهيّة الكلّية، وذلك كالأحكام التي تصدر منه لنصب الولاة وامراء الجيوش وعمّال الصدقات وتهيئة العُدّة والعِدّة لدفع الأعداء وغيرها ممّا تختلف بحسب الأزمنة والظروف، فالوالي يتوصّل بهذه الأحكام إلى إجراء أحكام اللَّه في أمر الجهاد والزكوات والقضاء وغيرها من الأحكام الكلّية الإلهيّة.

ومن الواضح أنّ إجراء حكم الجهاد مثلًا وتطبيقه في الخارج لا يتمّ بمجرّد الوعظ والإرشاد، بل يحتاج إلى ولاية وحكومة، وأمر ونهي، ونصب أمير وتهيئة عِدّة وعُدّة، وبرامج انوار الأصول، ج 3، ص: 253

عمليّة لكيفية الهجوم على العدوّ، كلّ هذه الامور موكولة إلى نظر السلطان وولي الأمر، وتكون من شؤون ولايته، فالوالي

بما أنّه والٍ لا يكون مأموراً إلّابما ذكر، ولذلك سمّينا الأحكام السلطانية بالأحكام الإجرائية الجزئيّة التي تختلف باختلاف الظروف المختلفة.

نعم، يمكن أن يكون حكم الحاكم كلّياً بالإضافة إلى مقطع خاصّ من الزمان، كتحريم شرب التتن التي صدرت من ناحية الميرزا الشيرازي رحمه الله، ولكنّها أيضاً كانت حكماً إجرائيّاً صدرت منه في سبيل إجراء حكم إلهي كلّي وهو المنع عن استيلاء الكفّار على المسلمين: «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» «1».

بل يمكن أن يقال: إنّها لم تكن من الأحكام السلطانيّة أصلًا بل هى من الأحكام الإلهيّة الثانويّة التي تجب بتحقّق عناوين ثانوية، فإنّ شرب التتن في ذلك الزمان حيث إنّه صار مقدّمة لإستيلاء الكفّار المحرّم ومصداقاً من مصاديق المحاربة مع صاحب الولاية عليه السلام صار حراماً من باب أنّه مقدّمة للحرام، ومقدّمة الحرام من العناوين الثانوية، نعم تطبيق العناوين الثانوية على موضوعاتها ومصاديقها أيضاً من شؤون ولاية الحاكم.

إذا عرفت هذا فنقول: لا إشكال في أنّ الضرر والضرار من الموضوعات الكلّية التي لها في الشرع حكم كلّي لا محالة، وتكون في حيطة التشريع الإلهي، وليست من سنخ تلك الامور الخاصّة التي تكون في حيطة سلطنة ولي أمر المسلمين.

وبعبارة اخرى: المعلوم من مذهبنا عدم خلوّ واقعة من حكم إلهي، وإنّه لا فراغ من ناحية القانون في الشريعة المقدّسة الإسلاميّة حتّى بالنسبة إلى أرش الخدش، وما يسمّى اليوم في الحكومة الإسلاميّة بمجلس التقنين فهو بمعنى تطبيق الكلّيات على موضوعاتها لا الجعل والتشريع كما لا يخفى على أحد.

إن قلت: إن لم يكن للنبي صلى الله عليه و آله مقام التشريع والتقنين فما هو المراد من فرض النبي صلى الله عليه و آله في بعض الروايات في مقابل فرض اللَّه

تعالى، كالرواية الواردة في باب الصّلاة، القائلة بأنّ الركعة الاولى والثانية فرض اللَّه، والركعة الثالثة والرابعة فرض النبي صلى الله عليه و آله، وأنّه فوّض إليه صلى الله عليه و آله هذا المنصب؟ فليكن ما نحن فيه أيضاً من هذا القبيل.

انوار الأصول، ج 3، ص: 254

قلنا: سلّمنا كون قاعدة لا ضرر من قبيل فرائض النبي صلى الله عليه و آله التي فوّض أمر تشريعها إليه، ولكنّها ليست من الأحكام السلطانيّة أيضاً، لأنّ المفروض حينئذٍ أنّ النبي صلى الله عليه و آله وضعها بما أنّه مفوّض إليه التشريع لا بما أنّه حاكم ومجرٍ للأحكام الإلهيّة الكلّية.

هذا مضافاً إلى أنّه قد قرّر في محلّه في مبحث ولاية الفقيه أنّ مقام التشريع الذي فوّض إلى الرسول صلى الله عليه و آله كان على نحو جزئي ومختصّاً بموارد خاصّة معدودة، كما تشهد عليه شواهد عديدة، منها قوله صلى الله عليه و آله في كثير من الموارد: «إنّي أنتظر الوحي» حيث إنّ انتظار الوحي وتعيين التكليف من ناحية الوحي ينافي التفويض الكلّي إليه كما لا يخفى.

وحينئذٍ لابدّ لتعيين فرائض النبي صلى الله عليه و آله وتمييزها عن غيرها إلى قرينة قطعيّة (نظير ما يقال في باب النسخ بأنّه بما أنّ موارد النسخ قليلة لابدّ لتعيينها وتشخيصها من قرينة خاصّة) وإلّا يكون الظاهر من أوامره ونواهيه أنّه في مقام الحكاية عن أوامر اللَّه تعالى ونواهيه.

مضافاً إلى اختصاص هذا المقام بالنبي صلى الله عليه و آله كما يدلّ عليه قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ». وقوله صلى الله عليه و آله في رواية حجّة الوداع: «ما من شي ء يقرّبكم إلى اللَّه إلّاوقد أمرتكم به وما من شي ء يبعّدكم عن اللَّه إلّاوقد نهيتكم عنه»

وغيرها ممّا ورد في الباب الذي عقده في الوافي في أنّه ليس شي ء ممّا يحتاج إليه الناس إلّاوقد جاء في كتاب أو سنّة «1»، التي تدلّ على عدم وجود فراغ قانوني كما مرّ آنفاً، حتّى أنّ الأئمّة المعصومين صلوات اللَّه عليهم إنّما كانوا وارثين للنبي صلى الله عليه و آله وحاملين لعلومه كما وردت روايات متواترة من ناحيتهم تدلّ على أنّ كلّ ما يقولونه ينقلونه عن الرسول صلى الله عليه و آله، ولذا لم يصدر تشريع حكم منهم عليهم السلام في طيلة حياتهم «2».

الجهة الثانية: في ما هو الظاهر من قضية سمرة ...

فنقول: الظاهر أنّ حكمه صلى الله عليه و آله في قضيّة سمرة كان بعنوان فصل الخصومة ورفع التنازع في الحقوق والأموال، وكان النزاع بينه وبين الأنصاري ناشئاً من الجهل بالحكم فإنّه يرى أنّ وجوب الاستئذان من الأنصاري تضييق في دائرة سلطنته، ولذا قال: أستأذن في طريقي إلى عذقي؟ بينما الأنصاري يرى أنّ له أن يلزم سمرة على الاستئذان، فشكاه إلى النبي صلى الله عليه و آله لفصل الخصومة والنزاع بما أنّه صلى الله عليه و آله قاضٍ منصوب من قبل اللَّه تعالى، نعم بعد قضاء الرسول صلى الله عليه و آله انوار الأصول، ج 3، ص: 255

وأمره سمرة بالاستئذان دخل سمرة باب اللجاج والتمرّد، وعلى القاضي إجراء حكمه، ولذلك أمر الأنصاري بعد ذلك بقلع النخلة حسماً لمادّة النزاع.

والحاصل: أنّ الرواية تنادي بأعلى صوتها بأنّها ناظرة إلى مسألة القضاء.

نعم لقائل أن يقول: إنّ صدرها وإن كان وارد في مقام القضاء، لكن ذيلها يدلّ على أنّ قلع النخلة من باب ولاية الحاكم والحكم السلطاني.

ولكنّا نقول: إنّ تعليله صلى الله عليه و آله بحكم كلّي إلهي في

هذه الواقعة الخاصّة من أوضح الدليل على أنّ قاعدة لا ضرر حكم كلّي إلهي، وإن كان تطبيقها على ذاك المورد من باب ولاية الحاكم الإسلامي، فأمره بقلع الشجرة أمر سلطاني صدر منه صلى الله عليه و آله لأجل إجراء قاعدة «لا ضرر ولا ضرار» الذي هو حكم كلّي إلهي.

الجهة الثالثة: أنّ لازم كونه حكماً سلطانياً إجرائياً إختصاصه بزمن النبي صلى الله عليه و آله وأنّه يجوز لغيره من الحكّام تغييره، ولا أظنّ التزامه قدّس سرّه الشريف به.

الجهة الرابعة: سلّمنا جميع ذلك، لكن لماذا تختصّ حكومة القاعدة بقاعدة السلطنة، ولا حكومة لها على سائر الأحكام الضررية، مع أنّها بحسب الظاهر كبرى كلّية، والمورد ليس مخصّصاً.

الجهة الخامسة: من العجب أنّه قدس سره إكتفى في المسألة بقضية سمرة وما تقتضيه ولم يشر إلى سائر المدارك الموجودة فيها، فإنّه قد مرّ في المقام الأوّل أنّ دليل القاعدة ليس منحصراً بقضيّة سمرة، بل هناك روايات عديدة من طرق الفريقين ظاهرة في خلاف هذا القول، وآيات مختلفة وردت في موارد خاصّة ضررية، ولا إشكال في أنّ ما يستفاد منها حكم إلهي أوحاه اللَّه تعالى إلى نبيّه صلى الله عليه و آله، والنبي إنّما هو مبيّنه ومبلّغه.

إلى هنا تمّ الكلام في تفسير القاعدة والأقوال الواردة فيها، وظهر أنّ المختار فيها:

1- أنّ «لا» نافية، ولكنّها كناية عن النهي.

2- أنّ الفاعل في الضرر هم المكلّفون لا اللَّه سبحانه.

3- أنّها تعمّ الأحكام التكليفيّة والوضعيّة.

4- أنّها تختصّ بحقوق الناس، ولا تشمل حقوق اللَّه تعالى مثل العبادات الضرريّة وغيرها.

انوار الأصول، ج 3، ص: 256

وبهذا تمّ الكلام في المقام الثاني.

المقام الثالث: في تنبيهات قاعدة لا ضرر
التنبه الأوّل: في نسبة القاعدة إلى سائر الأدلّة

إنّ نسبة القاعدة إلى سائر الأدلّة نظير «الناس مسلّطون على أموالهم» وقوله عليه السلام:

«الطلاق بيد من أخذ بالساق» تختلف

باختلاف المباني فيها، فعلى مبنى الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني رحمهما الله ومن تبعهما لا إشكال في حكومة القاعدة على سائر الأحكام، لأنّها حينئذٍ تنفي الحكم الضرري، فتكون ناظرة إلى غيرها من الأحكام، فإنّ معنى الحكومة أن يكون الدليل الحاكم ناظراً إلى المحكوم ومتصرّفاً أمّا في نفس الحكم (كما إذا قال المولى: يجب إكرام العلماء، ثمّ قال: إنّما عنيت وجوب إكرام غير الفسّاق) أو في متعلّقه (كما إذا قال: «السلام من الإكرام» أو «تقبيل اليد ليس إكراماً») أو في موضوعه (كما إذا قال: «العالم الفاسق ليس بعالم» أو «العامي العادل عالم») وما نحن فيه من القسم الأوّل كما لا يخفى.

وبناء على المختار (وهو أن تكون القاعدة ناظرة إلى النهي عن اضرار الناس بعضهم ببعض) فأيضاً لا إشكال في تقدّم القاعدة على سائر الأدلّة، لكن لا لأجل الحكومة لعدم جريان قسم من الأقسام الثلاثة من الحكومة في المقام، بل لأظهريتها التي هى الملاك في تقديم أحد الدليلين على الآخر فيما إذا كانت النسبة بينهما العموم من وجه، ولا يخفى أنّ نسبة القاعدة مع غيرها العموم من وجه، حيث إنّ دليل «الناس مسلّطون على أموالهم» مثلًا شامل لموارد الضرر وغير الضرر، وقاعدة «لا ضرر» أيضاً شاملة لموارد السلطة وغيرها.

ووجه الأظهرية: أوّلًا: أنّه في صورة عدم تقديم القاعدة لا يبقى لها مورد، لأنّه لا مورد إلّا والقاعدة تعارض فيه إطلاقاً أو عموماً.

وإن شئت قلت: إنّ نسبة القاعدة إلى مجموع سائر الأدلّة بمجموعها نسبة الخاصّ إلى العام، ولا إشكال في تقديم الخاص على العام، فتأمّل.

وثانياً: أنّها آبية عن التخصيص كما يظهر بملاحظة مناسبة الحكم والموضوع فيها وكونها في مقام الإمتنان فلا يصحّ أن يقال: إنّه لا يجوز اضرار الناس بعضهم

ببعض إلّافي هذا المورد.

انوار الأصول، ج 3، ص: 257

وثالثاً: نفس قضيّة سمرة، حيث إنّه أراد أن يستند في عمله إلى قاعدة السلطنة ولكن الرسول صلى الله عليه و آله منعه عن ذلك وحكم بقاعدة لا ضرر، وكذلك في حديث الشفعة وحديث منع فضل الماء، فقدّمت قاعدة لا ضرر فيهما أيضاً على قاعدة السلطنة، وهكذا في الموارد الخاصّة الواردة في الكتاب والسنّة، حيث إنّها أيضاً قدّمت على الإطلاقات الواردة في مواردها كإطلاق الدليل الدالّ على جواز الرجوع في العدّة أو اطلاق الدليل الدالّ على جواز الاكتفاء بمقدار الواجب في النفقة والسكنى وغير ذلك.

وأمّا بناءً على مبنى شيخ الشريعة رحمه الله أو بناءً على مبنى من قال بإرادة نفي صفة عدم التدارك فلا يبقى وجه لحكومة القاعدة، فإنّه بناءً على الأوّل يكون النهي الوارد في الحديث كسائر النواهي الشرعيّة الواردة في مواردها التي لا نظر لها إلى سائر الأحكام، وبناءً على الثاني يكون الحديث دليلًا على اشتغال ذمّة الأنصاري بغرامة ضرره، فيختصّ حينئذٍ بموارد الغرامات، ويقدّم على العمومات الدالّة على براءة الذمّة، لكن لا من باب الحكومة، بل إمّا من باب إبائه عن التخصيص، أو من باب عدم بقاء مورد له على فرض عدم التقديم.

التنبيه الثاني: هل القاعدة موهونة بكثرة التخصيصات أو لا؟

وهو ما وعدناه سابقاً حين البحث عن مقالة الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله.

فنقول: ربّما يقال بأنّها موهونة بكثرة تخصيصها بأحكام ضرريّة كثيرة في الشريعة المقدّسة كوجوب الأخماس والزكوات وأداء الديّات وتحمّل الخسارات عند الإتلاف والضمانات، ووجوب الجهاد والحجّ وتحمّل الحدود والقصاص، فلابدّ حينئذٍ الاقتصار على موارد عمل الأصحاب بها، واقتضاء آثارهم لا سيّما الأقدمين منهم فنعمل فيما عملوا بها، لأنّه يظهر حينئذٍ أنّ المراد من الحديث ليس ما هو الظاهر منه عندنا، بل

كان هو محفوفاً بقرينة لا يلزم منه التخصيص الكثير، وقد ظفر قدماء الأصحاب بها وخفيت علينا، فلا مناصّ لنا من الإهتداء بهم.

وقد سلك الأعلام في الجواب عن هذا مسالك عديدة:

منها: ما ذكره شيخنا الأنصاري رحمه الله من أنّه ليس تخصيصاً بالأكثر بل إنّه تخصيص انوار الأصول، ج 3، ص: 258

بالكثير وهو ليس بمستهجن.

ومنها: ما ذكره الشيخ رحمه الله أيضاً من كونه تخصيصاً بعنوان واحد لا بعناوين.

ومنها: ما اخترناه من أنّه تخصيص في بادى ء النظر فقط، لأنّا نعلم بعد الدقّة والتأمّل عدم كون تلك الأحكام ضرريّة عند العرف والعقلاء.

توضيح ذلك: أنّ للإنسان حياتين: حياة فردية وحياة اجتماعيّة، ولكلّ من الحياتين مصارف خاصّة، فبالنسبة إلى حياته الفردية يحتاج إلى أغذية وألبسة وماء وهواء وغير ذلك من أشباهها، وأمّا بالنسبة إلى حياته الاجتماعيّة فيحتاج إلى أمن السبل ونظام المجتمع ودفع الأعداء وفصل القضاء واحقاق الحقوق وأمثال ذلك، فكما أنّ ما يصرفه في طريق حياته الفردية من الأموال لا تعدّ ضرراً عند أحد ولا يتفوّه به واحد من العقلاء، فكذلك المصارف التي يتحمّلها لحفظ حياته الاجتماعيّة وصيانتها عن الحوادث، فالنفقات التي يصرف لتقوية الجيوش وأمن السبل وإجراء الحقوق وحفظ منصب القضاء والتعليم والتربية لأبناء المجتمع لا تعدّ ضررية قطعاً، كيف وتعود منافعها إليه وقتاً بعد وقت وتؤتي اكلها كلّ حين بإذن ربّها، وما عدّوه من الأحكام الضررية تعود في الغالب إلى أمثال هذه النفقات أو أشباهها من تدارك الخسارات وغيرها ممّا يعلم وجهها.

وليت شعري كيف تعدّ هذه الأحكام ضرريّة مع أنّ أمثالها موجودة بين العقلاء من أهل العرف، وتكون ضروريّة عندهم فيجعلونها من الواجبات على عاتقهم ويعدّونها ممّا لا تقوم معيشتهم إلّابها.

أضف إلى ذلك عدم ورود هذا الإشكال من الأساس

على مختارنا في معنى الحديث من أنّه بحسب الحقيقة نهى عن إضرار الناس بعضهم ببعض، ولا ينفي وجود أحكام ضررية في الشريعة حتّى يتوهّم تخصيصها بما يتراءى كونه ضررياً، كما لا يخفى.

التنبيه الثالث: في ما هو المعروف من الإشكال في خصوص قضية سمرة

وهو منافاة حكم النبي صلى الله عليه و آله بقلع الشجرة لسائر القواعد، لأنّ أقصى ما يستفاد من قاعدة «لا ضرر» هو لزوم استئذان سمرة من الأنصاري، وأمّا قلعها ورميها إليه فهو ينافي حقّ سمرة

انوار الأصول، ج 3، ص: 259

في بقاء شجرته في البستان.

وقد اجيب عن هذا أو يمكن الجواب عنه بوجوه عديدة:

1- سلّمنا ورود هذا الإشكال بهذه الفقرة من الحديث، لكنّه لا يمنع من الاستدلال بسائر الفقرات التي هى مورد للاستدلال بالحديث، لا تلك الفقرة.

ويرد عليه: ما مرّ كراراً من أنّ سقوط فقرة من الحديث عن الحجّية يوجب سريان الشكّ إلى غيرها عند العرف والعقلاء، وإن أبيت فاختبر نفسك في إسناد الأوقاف والوصايا وغيرهما إذا كان بعض فقراتها مخدوشاً وباطلًا، فإنّه يوجب جريان الشكّ إلى سائر الفقرات.

هذا- مضافاً إلى وجود خصوصيّة في المقام، وهى ورود قوله صلى الله عليه و آله: «فإنّه لا ضرر ولا ضرار» في ذيل قوله صلى الله عليه و آله: «إذهب فاقلعها وارم بها إليه» فهو بمنزلة الكبرى لذلك الذيل، وكيف يمكن التفكيك في الحجّية بين الصغرى والكبرى؟

2- إنّ إصرار سمرة في عدم الاستئذان ولجاجته أوجب اسقاط احترام ماله.

وفيه: إنّه لا دليل على أنّ مجرّد لجاج أحدٍ يوجب سقوط حرمة ماله من دون أن يدخل ذلك في عنوان من العناوين المعروفة عند الفقهاء.

3- إنّ هذا حكم سلطاني والرسول صلى الله عليه و آله أصدره بما أنّه حاكم وولي أمر المسلمين.

وفيه: إنّه قد مرّ أنّ الأحكام السلطانيّة أحكام إجرائيّة تصدر

من ناحية الحاكم الإسلامي وفقاً للأحكام الإلهيّة الكلّية، فما هو الحكم الإلهي الكلّي الذي لأجله صدر ذلك الحكم؟

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ الحكم بقلع الشجرة صدر لإجراء حكم «لا ضرر ولا ضرار»، حيث إنّ ضرر دخول سمرة على الأنصاري بلا إذن منه كان منفيّاً في الشريعة، وكان طريق دفعه منحصراً بقلع شجرته، فالرسول صلى الله عليه و آله لأجل العمل بقاعدة «لا ضرر» وإجرائها أصدر الحكم بقلع الشجرة، بما أنّه حاكم.

4- إنّ الرسول صلى الله عليه و آله أعمل في هذا الحكم ولايته على الأنفس والأموال: «النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» وقد حقّق في محلّه أنّها من مقاماته التي هى فوق مسألة الولاية على الحكومة.

وفيه: أنّه حسن في نفسه، ولكنّه لا يلائم استناده صلى الله عليه و آله في ذيل الحديث بقاعدة لا ضرر

انوار الأصول، ج 3، ص: 260

دون ولايته على الأنفس والأموال.

5- ما جاء في بعض كلمات المحقّق النائيني رحمه الله وحاصله: أنّ الضرر وإن كان ينشأ من دخول سمرة على الأنصاري بلا استئذان منه، ولكن كان منشأ جواز دخوله هو إستحقاقه لكون النخلة باقية في البستان، فالضرر وإن نشأ عن الدخول، إلّاأنّه كان معلولًا لإستحقاق إبقاء النخلة، فرفع هذا الحكم إنّما كان برفع منشأه وهو إستحقاق الإبقاء، كإرتفاع وجوب المقدّمة برفع وجوب ذيها، فالقاعدة رافعة لاستحقاق بقاء النخلة، ولازمه جواز قلعه، فيصحّ حينئذٍ تعليل الحكم المزبور بالقاعدة (انتهى ملخّصاً) «1».

أقول: هذا موافق لظاهر رواية عبداللَّه بن بكير التي علّل فيها بنفي الضرر (كما أشار إليه المحقّق نفسه) حيث ورد فيها: «إذهب فاقلعها وارم بها إليه فإنّه لا ضرر ولا ضرار» فهو تامّ في محلّه.

6- إنّه كان من باب النهي عن المنكر، نظير أمره صلى الله

عليه و آله بتخريب مسجد الضرار، ونظير ما رواه أبو بصير عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «مدّ الفرات عندكم على عهد علي عليه السلام فأقبل إليه الناس فقالوا ياأمير المؤمنين نحن نخاف الغرق، لأنّ في الفرات قد جاء من الماء ما لم ير مثله، وقد امتلأت جنبتاه فاللَّه فاللَّه، فركب أمير المؤمنين عليه السلام والناس معه وحوله يميناً وشمالًا، فمرّ بمسجد سقيف فغمزه بعض شبّانهم، فالتفت إليه مغضباً، ثمّ أمر بهدم المحلّ الذي كانت الشبّان يتّخذونه لأفعالهم الفاسدة، وهدم كلّ كوّة وميزاب وبالوعة إلى طريق المسلمين، وقال: إنّ هذا أذى للمسلمين «2» (انتهى ملخّصاً).

فهو عليه السلام في هذا الحديث أعمل ولايته وحكم بالتخريب نهياً عن المنكر، ولا يخفى أنّ النهي عن المنكر له مراتب بعضها مختصّ بمنصب الحكومة.

وهذا الجواب قريب من الوجه الثالث، ولكنّه أيضاً لا يلائم ظاهر الاستناد بقاعدة «لا ضرر» وعدم الاستناد بعنوان النهي عن المنكر.

التنبيه الرابع: هل يجوز التمسّك بالقاعدة لإثبات الأحكام كما يمكن التمسّك بها لنفيها أو لا؟

وبعبارة اخرى: هل تختصّ القاعدة بالامور الوجودية أو أنّها تشمل العدميّات أيضاً؟

كعدم الضمان فيما يفوت من عمل الحرّ بسبب حبسه، وكعدم جواز الطلاق للزوجة من ناحية الحاكم الشرعي إذا كان بقاؤها على الزوجية ضررياً كما إذا كان الزوج معتاداً على المخدرات ويحتمل قويّاً سراية إعتياده إلى الزوجة، أو صار محكوماً بحبس طويل المدّة بما يوجب الضرر على زوجته إمّا من ناحية نفقتها أو من باب إنّها شابّة في معرض المعصية، فهل يمكن التمسّك بالقاعدة لإثبات الضمان في الأوّل وإثبات جواز الطلاق في الأخيرين أو، لا؟

واستدلّ القائلون بعدم العموم أوّلًا: بكون «لا» نافية، وهى تنفي الأشياء ولا تثبتها.

وثانياً: بلزوم فقه جديد في صورة تعميم القاعدة للُامور العدميّة، فيلزم مثلًا كون أمر الطلاق بيد الزوجة أو الانفساخ بغير

طلاق في المثال المزبور، ويلزم إنعتاق العبيد إذا كانوا في الشدّة، ويلزم أيضاً الضمان في مثال الحرّ الكسوب (مع أنّه لم يقل به المشهور) كما يلزم وجوب تدارك كلّ ضرر يتوجّه إلى المسلم إمّا من بيت المال أو من مال غيره كما أشار إليه الشيخ الأعظم رحمه الله في رسالته.

لكن الإنصاف هو التعميم، وذلك لوجوه شتّى:

منها: كون مورد كثير من روايات الباب إثبات أحكام وجودية، ففي قضيّة سمرة حكم صلى الله عليه و آله بقلع الشجرة، وقد مرّ كونه من باب قاعدة لا ضرر بقرينة تعليله بالقاعدة في ذيل الحديث، ولا يخفى أنّ جواز قلع الشجرة حكم إثباتي.

وكذلك في حديث الشفعة، حيث إنّ الشفعة حكم إثباتي ناشٍ عن كون عدمه ضررياً، وفي حديث حفر البئر الذي حكم فيه بالاعتوار، وهو حكم إثباتي ناشٍ عن الضرر في تركه، وحديث جدار الجار الذي ورد فيه: «كلّف أن يبنيه» ووجوب البناء إثباتي.

ومنها: أنّ المنفي في القاعدة إنّما هو الضرر المستند إلى الشارع بناءً على مختار الشيخ، والضرر المستند إلى المكلّفين بناءً على المختار من دون حاجة إلى تقدير الحكم كما لا يخفى، وحينئذٍ مقتضى إطلاقه نفي الضرر الناشى ء من جعل حكم والناشى ء من عدم جعل حكم معاً، حيث إنّه إذا كان جعل حكم مقدوراً للشارع عدم جعله أيضاً مقدوراً له، لأنّ نسبة

انوار الأصول، ج 3، ص: 262

القدرة إلى الوجود والعدم سواء، فكما يستند الضرر الناشى ء من جعل شي ء إليه كذلك يستند إليه الضرر الناشى ء من عدم جعل شي ء (كعدم جعل الضمان في حبس الحرّ الكسوب).

هذا بناءً على مختار الشيخ رحمه الله، كذلك بناءً على المختار، فكما أنّ إقدام المكلّفين بعمل ضرري ينفى بالقاعدة، كذلك عدم إقدامهم وعدم تداركهم ربّما

يوجب الاضرار ويصحّح استناده إليهم فينفى بالقاعدة.

ومنها: لو سلّمنا كون موارد الأحاديث اموراً وجوديّة، لكن العرف يلغي الخصوصيّة عن الوجود، ويحكم بعدم الفرق بين ما إذا أوجب فعلك الضرر بالغير، وما إذا أوجب عدم فعلك وعدم إقدامك بفعلٍ، الضرر.

ومنها: وجود الملازمة بين العدم والوجود في كثير من الموارد، ففي مثال الطلاق لازم عدم حكم الشارع بجواز الطلاق هو دوام الزوجية، ولا يخفى أنّه أمر وجودي موجب للضرر، نعم هذا الوجه أخصّ من المدّعى.

ثمّ إنّه لا تخفى الثمرة العمليّة لهذا البحث خصوصاً في الحكومة الإسلاميّة ليومنا هذا، حيث إنّ القول بالتعميم يوجب بسط يد الحاكم في دائر العدميّات أيضاً إذا كانت منشأً للضرر ومصداقاً له، الأمر الذي تحلّ به جمّ غفير من المشاكل الحكومية خلافاً لما إذا قلنا بعدمه.

وأمّا ما أفاده الشيخ الأعظم رحمه الله من لزوم فقه جديد فهو ممنوع جدّاً، لأنّ الالتزام بوجوب الغرامة للحرّ الكسوب وجواز الطلاق في الأمثلة المذكورة ليس أمراً غريباً، وإن لم يرد في كلمات المشهور.

وأمّا ما ذكره من تدارك الضرر الذي ليس من ناحية أحكام الشرع ولا من ناحية المكلّفين بعضهم ببعض من بيت المال فالإنصاف أنّه لا دخل له بما نحن فيه، لأنّه إذا لم يكن الضرر مستنداً إلى الشارع ولا إلى المكلّفين بعضهم ببعض فلماذا يجبر من بيت المال أو من مال اناس آخرين؟ فإنّه من قبيل إقدام الإنسان على ضرر نفسه، ولا ربط له بقاعدة لا ضرر كما لا يخفى.

التنبيه الخامس: هل الحكم بنفي الضرر من باب الرخصة أو العزيمة؟

ويتصوّر بناءً على مختار القوم من أن القاعدة تدلّ على نفي الأحكام الضرريّة وتعمّ العبادات الضررية كالوضوء والصوم الضرريين، فيبحث في أنّه بعد ثبوت عدم وجوب الوضوء الضرري مثلًا هل يقع صحيحاً لو أتى به المكلّف

فيكون الحكم بنفيه من باب الرخصة، أو لا يقع كذلك فيكون الحكم بنفيه من باب العزيمة؟ وأمّا بناءً على المختار من عدم دلالة القاعدة على نفي التكاليف الضررية فلا موضوع لهذا البحث كما لا يخفى.

وكيف كان: استدلّ القائلون بالعزيمة بأنّ هذه الأحكام امور بسيطة لا تركّب فيها حتّى يبقى جوازها بعد رفع وجوبها.

وفي قبالهم ادّعى القائلون بالرخصة بأنّها امور مركّبة، مع أنّه أوّلًا: لا دليل على التركيب، وثانياً: لو سلّمنا التركيب يكون الجواز بمنزلة الجنس والوجوب بمنزلة الفصل، وحيث إنّ قوام الجنس بالفصل فلابدّ بعد رفع الوجوب من إتيان فصل آخر، ولا دليل عليه في المقام.

واستدلّوا أيضاً بأنّ دليل وجوب الوضوء مثلًا، له مدلول مطابقي وهو الوجوب، ومدلول التزامي وهو كون الوضوء ذا مصلحة، وبقاعدة «لا ضرر» ينفي المدلول المطابقي، فيبقى المدلول الالتزامي، وهو يقتضي الجواز.

ولكن يمكن الجواب عنه أيضاً بأنّه قد قرّر في محلّه بأنّ الدلالة الالتزاميّة تابعة للدلالة المطابقيّة في الحجّية وعدمها.

ويمكن أن يقال: ا نّ المسألة مبنيّة على مسألة حرمة الإضرار بالنفس مطلقاً وعدم حرمتها كذلك، فعلى القول بحرمته مطلقاً يكون الصوم الضرري أو الوضوء الضرري مثلًا حراماً، فلا يصحّ التقرّب بهما، لما ذكرنا في محلّه من سراية الحسن والقبح من المسبّبات إلى الأسباب التوليديّة.

لكن الإنصاف أنّ الضرر إن كان كلّياً كانت العبادة في هذا الحال باطلة، وإن كان جزئياً أمكن القول بصحّتها، وذلك لعدم الدليل على حرمة الإضرار بالنفس مطلقاً، بل المقطوع هو ما إذا كان الضرر كلّياً.

التنبيه السادس: هل المراد بالضرر هو الضرر الشخصي أو النوعي؟

فهل يجوز للمكلّف الوضوء مثلًا إذا كان ضررياً لغالب الأفراد ولا يكون ضررياً بالنسبة إلى نفسه؟

لا شكّ في أنّ الظاهر من الأدلّة إنّما هو الضرر الشخصي، لعدم صدق موضوع الضرر على المكلّف مع

كونه نوعيّاً، كما أنّه كذلك في سائر العناوين التي صارت موضوعات للأحكام الشرعيّة كعنوان العسر والحرج والخوف والخطر في سفر الحجّ مثلًا وكذلك عنوان الاستطاعة والفقر وغيرها.

نعم يمكن للشارع المقدّس في الأحكام التكليفيّة وللحاكم الشرعي في الأحكام الجزئيّة الإجرائيّة أن يجعل الملاك الضرر النوعي، فيكون حينئذٍ من قبيل الحكمة للحكم لا العلّة والعنوان كما لعلّه كذلك في باب الشفعة لعدم وجود الضرر في جميع مصاديقها كما مرّ.

هذا في القسم الأوّل، وفي القسم الثاني (الأحكام الإجرائيّة) نظير حرمة حمل السلاح في عصرنا هذا، الذي يكون منشأً للضرر في غالب الأفراد، ولكن الحاكم الشرعي يحكم بتحريم حمل السلاح على نحو العموم ولجميع الأفراد، حفظاً لهذا الغرض، وعلى هذا يمكن أن يكون الضرر النوعي ملاكاً بالنسبة إلى مقام الجعل لا المجعول، وبعبارة اخرى: يكون داعياً لوضع القانون الكلّي لا عنواناً له.

إن قلت: لو كان المعيار هو الضرر الشخصي فلماذا استدلّ الأصحاب بقاعدة «لا ضرر» على خيار الغبن، مع أنّ المعاملة الغبنية لا تكون ضررية دائماً بل قد تكون المصلحة في بيع المتاع ولو بأقلّ من ثمن المثل، كما إذا كان في معرض الخرق والسرق، أو كان المالك عاجزاً عن حفظه؟

قلنا: الملاك في كون المعاملة ضرريّة أو غير ضرريّة إنّما هو المعاملة من حيث هى معاملة، ومعرّاة عن الحيثيات والعناوين الطارئة، ولا يخفى أنّ عنوان الضرر والمعاملة الضررية صادق على المعاملة المذكورة من حيث هى معاملة، وإن لم تكن ضررية بعد ملاحظة جميع الحيثيات الداخليّة والخارجيّة وبعد الكسر والإنكسار.

نعم، الحكم بالفساد في خصوص هذه الواقعة لا يكون منّة على المكلّف، لكن الإنصاف أنّ الامتنان إنّما هو بلحاظ الحكم الكلّي في هذه المقامات، لا بملاحظة مصاديقه الشخصيّة،

انوار الأصول، ج 3، ص:

265

ودوران الضرر مدار الأشخاص أمر، ودوران الامتنان مدار النوع أمر آخر، ولا منافاة بينهما، فتدبّر جيّداً.

التنبيه السابع: هل المدار على الضرر الواقعي أو العلمي؟

قد يكون العمل ضررياً ولا يعلم به المكلّف، فهل يحكم بفساده حينئذٍ على مختار الشيخ ومن تبعه من شمول القاعدة للعبادات وغيرها، أو يكون العلم جزءً للموضوع فلا يبطل؟

فلو صام بتوهّم عدم كونه ضررياً، ثمّ انكشف ضرره، فعلى الأوّل (كون الملاك الضرر الواقعي) يبطل الصوم ويجب القضاء، وبالعكس لو كان عالماً بالضرر وصام غفلة ثمّ انكشف عدم كونه ضررياً فلا يكون باطلًا إذا حصل منه قصد القربة.

واستدلّ على الأوّل: بأنّ الألفاظ تحمل على مصاديقها الواقعيّة، أي أنّ الظاهر من العناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام إنّما هى المصاديق الخارجية، فالموضوع في قضيّة «الدم نجس» أو «الكرّ مطهّر» إنّما هو الدم الواقعي والكرّ الخارجي، فليكن كذلك عنوان الضرر في ما نحن فيه.

ولكن حاصل كلام بعض الأعلام في مصباح الاصول أنّ مقتضى تسالم الفقهاء على صحّة الطهارة المائيّة مع جهل المكلّف بكونها ضرريّة هو الثاني (كون العلم جزء الموضوع) كما يقتضيه تقييد الفقهاء خيار الغبن والعيب بما إذا جهل المغبون، وأمّا مع العلم بهما فلا يحكم بالخيار.

ودعوى أنّه مع العلم داخل في قاعدة الإقدام على نفسه، مدفوعة بأنّ إقدامه على الضرر غير مؤثّر في لزوم البيع بعد كون الحكم الضرري منفياً في الشريعة، وبعد كون اللزوم منفيّاً شرعاً لا أثر في إقدامه على الضرر.

ثمّ أجاب عن كلا النقيضين، أمّا عن الأوّل فبأنّ دليل لا ضرر ورد في مقام الامتنان على الامّة الإسلاميّة، فكلّ مورد يكون نفي الحكم فيه منافياً للامتنان لا يكون مشمولًا لدليل لا ضرر، ومن المعلوم أنّ الحكم ببطلان الطهارة المائيّة الضرريّة الصادرة حال الجهل، والأمر بالتيمّم وبإعادة العبادات الواقعيّة

معها مخالف للامتنان، ومجرّد كون الوضوء الضرري مثلًا

انوار الأصول، ج 3، ص: 266

الصادر حال الجهل غير مشمول لدليل لا ضرر، لا يكفي في الحكم بصحّته، بل إثبات صحّته يحتاج إلى دليل من عموم أو اطلاق يشمله.

(فوقع في تكلّف شديد لإثبات ذلك الدليل، وذكر له وجهين فراجع).

أمّا عن الثاني فبأنّ الدليل لثبوت خيار الغبن والعيب ليس قاعدة نفي الضرر، بل الدليل على ثبوت خيار الغبن تخلّف الشرط الإرتكازي، باعتبار أنّ بناء العقلاء على التحفّظ بالماليّة عند تبديل الصور الشخصيّة، فهذا شرط ضمني إرتكازي، وبتخلّفه يثبت خيار تخلّف الشرط، وعليه فيكون الإقدام من المغبون مع علمه بالغبن إسقاطاً للشرط المذكور فلا إشكال فيه، وأمّا خيار العيب فإن كان الدليل عليه هو تخلّف الشرط الضمني، بتقريب أنّ المعاملات العقلائيّة مبنية على أصالة السلامة في العوضين، فإذا ظهر العيب كان له خيار تخلّف الشرط فيجري فيه الكلام السابق في خيار الغبن، وإن كان الدليل عليه الأخبار الخاصّة كما أنّ الأمر كذلك فالأمر أوضح، لتقييد الخيار في الأخبار بصورة الجهل بالعيب «1».

أقول: لنا في المقام نكتتان:

الاولى: (بالنسبة إلى النقض الأوّل وهو العبادات الضرريّة): إنّ الحقّ (كما أفاده دام ظلّه) عدم شمول قاعدة لا ضرر مثل الطهارة المائيّة الضرريّة الصادرة حال الجهل لأنّها وردت في مقام الامتنان، ولكن يكفي لإثبات صحّة الوضوء الضرري إطلاقات أدلّة الوضوء بعد رفع المانع، والعجب منه أنّه كيف لم يتعرّض لهذا المعنى، ووقع لإثبات دليل على الصحّة في حيص وبيص، مع أنّه إذا رفع المانع أمام الإطلاقات فهى تؤثّر أثرها وهو إثبات صحّة العمل المأتي به بقصد إمتثالها.

الثانية: (بالنسبة إلى خيار الغبن): الصحيح أنّ الدليل لثبوت خيار الغبن إنّما هو قاعدة لا ضرر والإرتكاز المذكور في كلامه

بعيد جدّاً، خصوصاً بعد ملاحظة توسعة نطاقه عندهم بحيث يثبت حتّى إذا كان الغبن بمقدار خمس قيمة المثل، فإذا إشترى ما كان قيمته ثمانية دراهم بعشرة مثلًا حكم بكونه مغبوناً عندهم فيثبت له خيار الغبن، فمن البعيد جدّاً أخذ هذا المقدار بعنوان شرط ضمني (نعم وجود هذا الشرط الضمني واضح في خيار العيب، فإنّ الإنسان لا

انوار الأصول، ج 3، ص: 267

يشتري شيئاً إلّابشرط الصحّة) فالحقّ حينئذٍ مع من إدّعى أنّه مع العلم داخل في قاعدة الإقدام على نفسه، ومعه لا مجال لقاعدة لا ضرر لكونها قاعدة امتنانيّة، ولا منّة على المشتري إذا أقدم بنفسه على نفسه بقصد مصلحة البائع أو أي غرض آخر.

فظهر أنّه كلّما كانت قاعدة الإقدام جارية في مورد فلا مجال لقاعدة لا ضرر، لأنّ جريانها حينئذٍ خلاف الامتنان لأنّ المفروض أنّه أقدم على شي ء لغرض يطلبه، وحكم الشارع بمنعه عن وصوله إلى غرضه لا امتنان فيه.

التنبيه الثامن: في تعارض الضررين

وهو من أهمّ التنبيهات، وله في الفقه مصاديق كثيرة، والبحث عنه يقع في مقامين:

الأوّل: فيما إذا كان التعارض بالنسبة إلى شخص واحد نظير الوضوء الضرري (بناءً على شمول القاعدة للعباديات) إذا كان وجوده موجباً للاضرار بالبدن من أجل جراحة فيه، وعدمه موجباً لتشديد الحمّى مثلًا.

الثاني: فيما إذا كان التعارض بالنسبة إلى شخصين نظير ما إذا أراد الإنسان أن يجعل داره مطبخة بقصد التكسّب بها، فوجودها مضرّ بحال الآخرين، وعدمه مضرّ بحال نفسه، ونظير ما إذا دخلت دابّة في دار، ولا يمكن إخراجها منها إلّابهدم جدارها، أو إذا أدخلت الدابّة رأسها في قدر مالك آخر من دون تفريط من المالكين، ولم يمكن إخراج رأسه إلّابكسر أحدهما، ونظير ما هو المبتلى به في يومنا هذا من إحداث شرع جديد،

أو تغيير مسير بعض الطرق، أو إحداث قنطرة ممّا يوجب الضرر لمالكي الدور والدكاكين حولها، مع أنّ ترك الإحداث أيضاً يوجب الضرر لكثير من الناس، ونظير ما سيأتي من مسألة الإكراه فيما إذا اكره ظالم مأموره بأن يضرب أحداً فامتثال أمره يوجب الاضرار بالغير وعدمه يوجب الاضرار بنفسه.

أمّا المقام الأوّل فهو على قسمين:

قسم يكون الضرران فيه متساويين فلا إشكال في عدم جريان القاعدة فيه، أو أنّها تجري ثمّ تتساقط فتبقى عمومات الوضوء أو الغسل مثلًا بلا معارض، ويلحق بهذا القسم ما

انوار الأصول، ج 3، ص: 268

إذا كان التفاوت بين الضررين أقلّ قليل بحيث تكون القاعدة منصرفة عنه عند العرف.

وقسم يكون أحد الضررين أقوى من الآخر بحيث يحكم العرف بعدم شمول القاعدة للأضعف بعد الكسر والانكسار، فلا إشكال أيضاً في جريان القاعدة في خصوص الأقوى.

أمّا المقام الثاني فهو أيضاً على قسمين:

أولًا: يكون التعارض بين الضررين بالنسبة إلى مالكين، كما في مثال إدخال الدابّة رأسها في قدر مالك آخر، أو بالنسبة إلى غير المالك، كما إذا كان تغيير مسير نهر عام موجباً للاضرار بقرية، وعدم تغييره موجباً للاضرار بقرية اخرى، ففي هذه الصورة أيضاً إمّا أن تجري القاعدة في الطرفين ثمّ تتساقط، أو لا تجري رأساً من باب إنّ أدلّة القاعدة منصرفة عنها، لأنّها حكم امتناني ولا امتنان فيها، فلابدّ حينئذٍ من الرجوع إلى قاعدة عقلائية اخرى، وهى قاعدة العدل والإنصاف، أو قاعدة الجمع بين الحقّين، فيتعيّن أحد الضررين بالقرعة ثمّ تقسّم الخسارة بين الطرفين، نعم هذا إذا لم يكن أحدهما مقصّراً، وإلّا فعلى المقصّر تحمّل الخسارة كلّها.

هذا كلّه إذا كان الضرران متساويين، وأمّا إذا كان أحدهما أقوى من الآخر فليس المرجع حينئذٍ القرعة، بل لابدّ فيه من

الأخذ بالأضعف وتعيين مقدار الخسارة فيه، ثمّ تقسيمها بينهما، كما إذا كان إخراج الدابّة عن الدار متوقّفاً على قلع باب الدار فحسب إذا كانت قيمة الدابّة أكثر من خسارة قلع الباب ونصبه ثانياً.

هذه هى الصورة الاولى، والعجب كيف لم يتعرّض الفقهاء إلى لزوم تقسيم الخسارة فيها بين الطرفين.

ثانياً: يكون التعارض بين ضرر مالك وغير المالك، والأمثلة المذكورة لهذه الصورة أكثرها خارجة عمّا نحن فيه، كمثال جعل دار مطبخة أو مدبغة أو بيت حدّاد في سوق العطّارين، فإنّها ليست مشمولة لقاعدة السلطنة عند العقلاء حتّى نحتاج إلى تضييقها بقاعدة لا ضرر، لأنّ قاعدة السلطنة قاعدة عقلائيّة، لها حدود وقيود ونطاق معلوم، ومن تجاوز عنها عدّ متجاوزاً على حقوق الآخرين، فليست القاعدة عندهم مطلقة من جميع النواحي، ومن الواضح أنّ ما ورد في لسان الشرع بالنسبة إلى هذه القاعدة يكون إمضاء لما عند العقلاء بما لها من الحدود والقيود.

انوار الأصول، ج 3، ص: 269

وكيف كان: ففي هذه الصورة تارةً يوجب عدم تصرّف المالك ضرراً بنفسه أو فوت منفعة له، كما إذا كان محلّ نصب المدفأة مثلًا في جنب جدار الجار، ومتّصلًا بغرفة نومه، بحيث يوجب الاضرار بالجار من جانب، ولا يكون له مكان آخر للنصب من جانب آخر، أو أراد أن يبني بناءً ذات طبقات عديدة بحيث يوجب عدمه الاضرار بالمالك، لأنّ الاكتفاء بطبقة واحدة مع ارتفاع قيمة الأرض (على الفرض) يكون سبباً للضرر الكثير على مالكها، بينما البناء المرتفع المتعدّد الطبقات يكون سبباً لضرر الجيران، واخرى يكون تصرّف المالك تعمّداً للاضرار أو لغرض غير عقلائي.

ففي القسم الأوّل لا إشكال في عدم شمول القاعدة أو تساقطها، فيبقى حينئذٍ قاعدة السلطنة بلا معارض ما دام لم يوجب إجراء هذه

القاعدة التصرّف في ملك الغير، وإلّا فلا إشكال أيضاً في عدم جوازه، كما في الحمّام الذي يوجب سراية النداوة إلى دار الغير أو تسويد داره بدخّانه.

وأمّا في القسم الثاني فتجري القاعدة بلا إشكال، لأنّه هو مورد قضيّة سمرة وروايتي الجدار والبعير، فلا يجوز للمالك التصدّي لهذه الامور اعتماداً على قاعدة السلطنة.

هذا آخر ما أردناه في بيان القاعدة وفروعاتها وتنبيهاتها، وهناك تنبيهات اخرى ذكرناها في كتاب القواعد مستقلًا، ولكن هنا أدغمناها في التنبيهات الاخر، والحمد للَّه أوّلًا وآخراً وظاهراً وباطناً.

إلى هنا تمّ الكلام في شرائط جريان الاصول وما لحقت بها من قاعدة لا ضرر.

انوار الأصول، ج 3، ص: 271

4- أصالة الاستصحاب مقدّمة:

1- تعريف الاستصحاب 2- هل الاستصحاب من المسائل الاصوليّة؟

3- أركان الاستصحاب 4- ثمرة فعليّة اليقين والشكّ 5- هل الاستصحاب من الاصول أو الأمارات؟

6- جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستكشف من دليل العقل وعدمه 7- الفرق بين الاستصحاب وقاعدتي اليقين والمقتضي والمانع الأقوال في حجّية الاستصحاب وبيان أدلّتها:

الأول: أدلّة القول بالحجّية مطلقاً:

بناء العقلاء الإستقراء في الأبواب المختلفة من الفقه الإجماع الأخبار المستفيضة

الثاني: التفصيل بين الشبهات الحكميّة والموضوعيّة

الثالث: تفصيل الشيخ الأعظم بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع تنبيهات الاستصحاب:

1- الأحكام الوضعيّة وتفصيل الفاضل التوني رحمه الله 2- اعتبار فعلية اليقين والشكّ في الاستصحاب 3- جريان الاستصحاب فيما ثبت بالأمارة 4- أقسام استصحاب الكلّي:

الشبهة العبائية

5- استصحاب الامور التدريجية 6- الاستصحاب التعليقي 7- استصحاب أحكام الشرائع السابقة 8- الاصول المثبتة وعدم حجّيتها

9- بعض تطبيقات الاصول المثبتة

10- عدم كون الاستصحاب مثبتاً بالنسبة إلى اللازم المطلق للمستصحب 11- لزوم كون المستصحب حكماً شرعياً أو ذا حكم شرعي ولو بقاءً

12- استصحاب تأخّر الحادث 13- استصحاب الكتابي 14- استصحاب حكم المخصّص 15- عموم الشكّ

في الاستصحاب للظنّ والوهم 16- اعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب 17- تقدّم الأمارات على الاستصحاب 18- النسبة بين الاستصحاب وسائر الاصول 19- تعارض الاستصحابين 20- النسبة بين الاستصحاب والقواعد الجارية في الشبهات الموضوعيّة

انوار الأصول، ج 3، ص: 273

4- اصالة الاستصحاب
اشارة

ولابدّ قبل الورود في بيان حجّيته الأدلّة الدالّة عليها من تقديم امور:

الأمر الأوّل: تعريف الاستصحاب

وقد عرّف الاستصحاب في كلمات القوم بتعاريف عديدة:

ومنها: ما في زبدة الاصول للشيخ البهائي رحمه الله من أنّه: «إثبات الحكم في الزمان الثاني تأويلًا على ثبوته في الزمن الأوّل».

وهو تعريف جيّد إلّامن ناحية عدم الإشارة فيه إلى ركني الاستصحاب وهما: اليقين السابق والشكّ اللاحق، ولذا يصدق هذا التعريف فيما إذا حصل لنا اليقين في الزمن اللاحق أيضاً، مع أنّه خارج عن حقيقة الاستصحاب.

ومنها: ما اختاره الشيخ الأنصاري رحمه الله في رسائله بعنوان أنّه تعريف أسدّ وأخصر، وهو:

أنّ الاستصحاب إبقاء ما كان.

ويرد عليه أيضاً: عدم الإشارة فيه إلى ركني الاستصحاب، مضافاً إلى شموله الإبقاء التكويني لما كان، بينما متعلّق الإبقاء في الاستصحاب إنّما هو الحكم الشرعي التعبّدي، اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ طبيعة البحث قرينة على كونه ناظراً إلى التشريع.

ومنها: ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية، وهو «الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شكّ في بقائه».

وهذا ممّا لا بأس به إن اضيف إليه قيد آخر، وهو عدم كون الحكم بالبقاء مستنداً إلى دليل خاصّ، حيث إنّه لولاه لكان التعريف شاملًا لما إذا كان الإبقاء من جهة قيام دليل خاصّ عليه.

انوار الأصول، ج 3، ص: 274

ومنها: ما اختاره المحقّق النائيني رحمه الله وهو أنّ «الاستصحاب عبارة عن عدم إنتقاض يقين سابق المتعلّق بالحكم أو الموضوع من حيث الأثر، والجري العملي بالشكّ في بقاء متعلّق اليقين» «1».

وهذا التعريف مضافاً إلى كونه تطويلًا بلا دليل لا يناسب مقام التعريف، يرد عليه ما أوردناه على تعريف المحقّق الخراساني رحمه الله من شموله لما إذا كان عدم انتقاض اليقين السابق مستنداً إلى دليل خاصّ، مضافاً إلى

أنّ الصحيح أن يعبّر بعدم النقض لا عدم الانتقاض لأنّ الاستصحاب فعل من أفعال الفقيه.

فالحقّ والصحيح في تعريف الاستصحاب ما مرّ من تعريف المحقّق الخراساني رحمه الله بإضافة القيد المزبور، أي «الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شكّ في بقائه من دون قيام دليل خاصّ عليه».

الأمر الثاني: هل الاستصحاب من المسائل الاصوليّة أو غيرها؟

وقد حكم بعض بكونه من المسائل الاصوليّة بتّاً ويقيناً، وفصّل بعض آخر بين الاستصحاب في الشبهات الحكميّة والاستصحاب في الشبهات الموضوعيّة، فحكم بأنّه اصوليّة في الأوّل، وقاعدة فقهيّة في الثاني.

والصحيح أنّه يختلف باختلاف مجاريه الثلاثة: فتارةً يكون المستصحب من الموضوعات ككرّية الماء وعدالة زيد، فلا إشكال حينئذٍ في كونه من القواعد الفقهيّة لا من المسائل الاصوليّة، لعدم كون النتيجة فيهما حكماً كليّاً كما لا يخفى ولا من المسائل الفرعيّة الفقهيّة التي أمرها بيد المقلّد، لأنّ تشخيص موارد جريانها وموارد عدم جريانها لوجود معارض أو حاكم مثلًا إنّما هو بيد المجتهد.

إن قلت: الميزان في كون مسألة من القواعد الفقهيّة كونها حكماً كليّاً قابلًا للانطباق على مصاديق كثيرة، وهو لا يتصوّر في الموضوعات.

انوار الأصول، ج 3، ص: 275

قلنا: إنّ قاعدة الاستصحاب الجاري في الموضوعات بما هى هى من دون ملاحظة الموضوعات بخصوصياتها حكم كلّي ينطبق على افراد كثيرة، وهو عبارة عن الجري العملي على وفق الحالة السابقة.

واخرى: يكون المستصحب من الأحكام كاستصحاب طهارة العصير العنبي بعد الغليان، فلا إشكال في أنّه من المسائل الاصوليّة، لأنّه يقع كبرى لقياس يستنتج منه حكم فقهي كلّي.

وثالثة: يكون المستصحب من المسائل الاصوليّة كاستصحاب حجّية خبر الواحد فيما إذا شككنا في نسخها من جانب الشارع فهو حينئذٍ من مبادى ء علم الاصول التصديقيّة، وقد عرفنا سابقاً أنّه لابدّ من البحث عنها في علم الاصول إذا لم يبحث

عنه أو لم يستوف حقّها في سائر العلوم.

الأمر الثالث: أركان الاستصحاب

المعروف أنّ للاستصحاب ركنين: اليقين السابق والشكّ اللاحق المتعلّق بمتعلّق اليقين، ونفس هذا يدلّ على لزوم اتّحاد القضيّتين في الاستصحاب: القضية المتيقّنة والقضية المشكوكة موضوعاً ومحمولًا فتكون مثلًا قضية «إنّ هذا الماء كرّ» متعلّقة اليقين والشكّ معاً.

إن قلت: لو كان المعتبر في جريان الاستصحاب اتّحاد القضيتين كذلك، لزم عدم جريانه في الشبهات الحكميّة، حيث إنّه ما من شكّ متعلّق ببقاء حكم من الأحكام إلّاأوهو ناشي ء من تغيير في موضوع القضيّة المتيقّنة في الزمن اللاحق.

قلنا: أنّه كذلك لو كان المراد من الوحدة الوحدة العقليّة، بينما المقصود منها الوحدة العرفيّة كما سيأتي بيانه إن شاء اللَّه تعالى.

هذا- وللمحقّق النائيني رحمه الله في المقام كلام طويل «1» عدّ فيه للاستصحاب ثلاثة أركان:

1- اجتماع اليقين والشكّ.

انوار الأصول، ج 3، ص: 276

2- سبق زمان المتيقّن على المشكوك.

3- فعلية اليقين والشكّ.

وهو ممّا لا بأس به إذا أراد منه مجرّد التفسير والتوضيح، وإلّا لا إشكال في رجوعها إلى الركنين السابقين، أمّا الأوّل والثاني فواضح، وأمّا الثالث فلأنّه كلّما نتكلّم عن وصف نريد منه ما هو موجود بالفعل، فلو قلنا مثلًا إنّ المقلّد (بالفتح) لابدّ أن يكون مجتهداً فلا ريب في أنّ المراد منه المجتهد الفعلي، لا من سيصير مجتهداً، وهكذا سائر الأوصاف، فإنّها ظاهرة في الفعليّة حتّى في الجوامد، كالشجر والحجر فإنّ المراد منهما ما يكون شجراً أو حجراً بالفعل.

الأمر الرابع: ثمرة فعليّة اليقين والشك

قد ظهر ممّا سبق آنفاً أنّه لا يكفي في جريان الاستصحاب إلّااليقين والشكّ الفعليّان، فلو تيقّن الإنسان بالحدث ثمّ شكّ في حصول الطهارة ثمّ غفل عن شكّه وصلّى ثمّ التفت إلى أنّه كان شاكّاً قبل الشروع في الصّلاة فلا إشكال في حجّية استصحاب الحدث، وأنّه لا تصل النوبة إلى قاعدة الفراغ لأنّها خاصّة

بالشكّ الحادث بعد العمل، والمفروض أنّ الشكّ في الطهارة كان موجوداً قبل العمل، وأمّا إذا تيقّن بالحدث ثمّ غفل وصلّى ثمّ التفت واحتمل حصول الطهارة قبل الصّلاة ولكن يعلم بأنّه لو كان ملتفتاً قبل الشروع في الصّلاة لحصل له الشكّ في الطهارة فحصول الشكّ له معلّق على خصوص الالتفات ومقدّر على تقديره فبناءً على ما مرّ في المقدّمة السابقة لا يجري استصحاب الحدث بل الجاري هو قاعدة الفراغ كما لا يخفى، وهذا وأشباهه يكون ثمرة لمسألة فعلية اليقين والشكّ.

الأمر الخامس: هل الاستصحاب من الاصول أو الأمارات؟

وقد فصّل شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله فيه بين ما إذا كان الدليل عليه من الأخبار أو العقل، وقال: إنّ عدّ الاستصحاب من الأحكام الظاهرية الثابتة للشي ء بوصف كونه مشكوك الحكم نظير أصل البراءة وقاعدة الاشتغال مبنى على استفادته من الأخبار، وأمّا بناءً على انوار الأصول، ج 3، ص: 277

كونه من أحكام العقل يعني به ما استقرّ عليه بناء العقلاء فهو دليل ظنّي اجتهادي نظير القياس والاستقراء على القول بهما، وحيث إنّ المختار عندنا هو الأوّل ذكرناه في الاصول العمليّة المقرّرة للموضوعات بوصف كونها مشكوكة الحكم، لكن ظاهر كلمات الأكثر كالشيخ والسيّدين والفاضلين والشهيدين وصاحب المعالم كونه حكماً عقليّاً، ولذا لم يتمسّك أحد هؤلاء فيه بخبر الأخبار (انتهى).

فيظهر من صريح كلامه أنّ الاستصحاب عنده من الاصول إن كان الدليل عليه هو الأخبار، ومن الأمارات إن كان الدليل عليه هو العقل، وإنّ مختاره هو الأوّل، لكن لابدّ قبل تعيين ما هو الصحيح في المسألة من بيان الفرق بين الأمارة والأصل العملي.

فنقول: المعروف فيه أنّ الأصل ما أخذ في موضوعه الشكّ، وأنّ الأمارة ما يكون طريقاً إلى الواقع من دون أخذ الشكّ في موضوعه.

وذكر بعض أنّ الأصل ما يكون

الشكّ مأخوذاً في موضوعه، وأنّ الأمارة ما يكون الشكّ مأخوذاً في مورده.

والحقّ هو أنّ الشكّ مأخوذ في موضوع كلّ من الأصل والأمارة من دون فرق بين الموضوع والمورد، والشاهد عليه قوله تعالى: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ»، الوارد في حجّية الرجوع إلى أهل الخبرة، حيث إنّ «لا تعلمون» يساوق معنى الشكّ، ولا كلام في أنّ الرجوع إلى أهل الخبرة من الأمارات، بل لا معنى لنفي الشكّ عن موضوع الأمارات فإنّها على كلّ حال واردة في ظرف الشكّ ومقيّدة به، سواء ورد التصريح به في العبارة أو لم يرد، والفرق بين المورد والموضوع لا معنى محصّل له.

بل الصحيح في الفرق بينهما أنّ الأمارة ما تكشف عن الواقع في الجملة، ولأجل ذلك جعلت لها الحجّية عند الشرع أو العقلاء من أهل العرف فصار كشفها الناقص بمنزلة الكشف التامّ، وأمّا الأصل فليس له كشف عن الواقع بل هو حكم جعل لمجرّد رفع الحيرة والترديد في مقام العمل، سواء كان الدليل عليه العقل أو النقل.

وإن شئت قلت: إنّ هنا موضوعاً وحكماً وعلّة للحكم، فالموضوع في كلٍّ من الأمارات والاصول هو الشكّ بالمعنى الأعمّ من الظنّ، كما أنّ الحكم في كليهما هو الحجّية، ولكن العلّة في الأمارات هى الكاشفيّة عن الواقع في الجملة، بينما العلّة في الاصول هى مجرّد رفع الحيرة في انوار الأصول، ج 3، ص: 278

مقام العمل، فالفرق بينهما إنّما هو في مقام علّة الحجّية فحسب.

إذا عرفت هذا فنقول: الظاهر أنّ التفصيل المزبور من الشيخ الأعظم رحمه الله في غيره محلّه لأنّ للعقلاء أيضاً اصولًا وأمارات فإنّهم يجرّون البراءة مثلًا في الأحكام الجارية بين الموالي وعبيدهم وبين الحكّام ورعاياهم والرؤساء والمرؤوسين، وفي الموضوعات في الجرائم والمسائل الحقوقيّة، مع

أنّه لا نزاع في أنّ البراءة من الاصول العمليّة، فمجرّد كون الدليل بناء العقلاء لا يكون دليلًا على الأمارية بل يوافق كون المورد أصلًا أو أمارة، فلابدّ إذن من ملاحظة كيفية بناء العقلاء وخصوصيته حتّى يتبيّن أنّ نظرهم هل هو إلى جهة الكشف حتّى يكون المورد أمارة، أو إلى مجرّد رفع الحيرة حتّى يكون المورد من الاصول؟ وسيأتي بيان هذا بالنسبة إلى الاستصحاب فانتظر.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ المحقّق النائيني رحمه الله فرّق في الاصول العمليّة بين المحرزة منها وغير المحرزة وقال:

ليس معنى الأصل المحرز كونه طريقاً إلى المؤدّي، بل معناه هو البناء العملي على أحد طرفي الشكّ على أنّه هو الواقع وإلغاء الطرف الآخر، فالمجعول في الأصل المحرز هو الجهة الثالثة من العلم الطريقي، وهى الحركة والجري العملي نحو المعلوم، فالإحراز في باب الاصول المحرزة غير الإحراز في باب الأمارات، فإنّ الإحراز في باب الأمارات هى إحراز الواقع مع قطع النظر عن مقام العمل، وأمّا الإحراز في باب الاصول المحرزة فهو الإحراز العملي في مقام تطبيق العمل على المؤدّي، فالفرق بين الإحرازين ممّا لا يكاد يخفى. وأمّا الاصول غير المحرزة فالمجعول فيها مجرّد التطبيق العملي على أحد طرفي الشكّ من دون البناء على أنّه هو الواقع، فهو لا يقتضي أزيد من تنجيز الواقع عند المصادفة والمعذورية عند المخالفة، وهو الذي كان يقتضيه العلم من الجهة الرابعة. (انتهى) «1».

أقول: هذا التقسيم ممّا لا محصّل له، لأنّ حجّية الاستصحاب إمّا أن تكون ناشئة عن كشفه للواقع أو لا، فعلى الأوّل يكون أمارة لا أصلًا، وعلى الثاني يكون أصلًا لا أمارة، وليس انوار الأصول، ج 3، ص: 279

هنا شقّ ثالث، وما قد يقال من «أنّ الاستصحاب عرش الاصول وفرش

الأمارات» كلام شعري.

وأمّا ما أفاده رحمه الله من أنّ الإحراز في باب الاصول المحرزة غير الإحراز في باب الأمارات إلى آخر ما ذكره فهو أيضاً ممّا لا يرجع إلى محصّل، فإنّ الإحراز العملي تعبير يوهم التناقض فإنّ الإحراز لا يكون في مقام العمل، وإنّما الإحراز في مقام العلم والظنّ، والموجود في مقام العمل ليس إلّاالبناء على أحد الطرفين، فحينئذٍ لا فرق بين الاستصحاب وغيره من الاصول بناءً على عدم كشفه عن الواقع.

وأمّا قاعدة الفراغ والتجاوز فسيأتي إن شاء اللَّه تعالى من الأمارات وإن كانت متأخّرة عن أمارات اخر، كما أنّ البيّنة مقدّمة على اليد وإن كانت كلتاهما من الأمارات.

وما قد يقال من أنّ لازم ذلك كون مثبتات قاعدة الفراغ حجّة مع أنّ ظاهرهم عدم الالتزام به مدفوع بأنّ حجّية مثبتات الأمارات مقيّدة بقيود خاصّة ستأتي الإشارة إليها إن شاء اللَّه عن قريب.

الأمر السادس: جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستكشف من دليل العقل وعدمه

فلو كشفنا حرمة المخدّرات مثلًا من حكم العقل، أي بقانون الملازمة فهل يصحّ استصحابه فيما إذا شككنا في بقائها في الزمان اللاحق، أو لا؟

ذهب شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله إلى عدمه، من باب أنّ الأحكام العقليّة كلّها مبيّنة مفصّلة من حيث مناط الحكم، فلا يشكّ العقل حينئذٍ في حكم نفسه، فلابدّ وأن يرجع الشكّ في بقاء المستصحب وعدمه إلى الشكّ في موضوع الحكم، والموضوع لابدّ أن يكون محرزاً معلوم البقاء في الاستصحاب.

وبعبارة اخرى: أنّ الحكم العقلي موضوعه معلوم تفصيلًا للعقل الحاكم به فإن أدرك العقل بقاء الموضوع في الآن الثاني حكم به حكماً قطعيّاً كما حكم أوّلًا، وإن أدرك ارتفاعه قطع بارتفاع ذلك الحكم، فلا يعقل تطرّق الاهمال إلى موضوعه.

انوار الأصول، ج 3، ص: 280

وعليه فإذا تخلّف قيد من قيود الموضوع وحالة من حالاته

فإن كان دخيلًا في الموضوع بنظر العقل فالحكم العقلي غير باقٍ قطعاً، وهكذا الحكم الشرعي المستند إليه، وإن لم يكن دخيلًا فيه فالحكم العقلي باقٍ كذلك، فإذا حكم العقل مثلًا بحرمة السمّ المضرّ، وإنتفى الإضرار من السمّ فإن كان الاضرار دخيلًا بنظره في الموضوع فلا حرمة يقيناً، وإن لم يكن دخيلًا فالحرمة باقية يقيناً، وعليه فلا استصحاب على شي ء من التقديرين بلا شبهة، (انتهى ملخّص كلماته في هذا المقام) «1».

ولكن المحقّق الخراساني رحمه الله أورد عليه بأنّ تطرّق الإهمال إلى موضوع حكم العقل ممّا يعقل في الجملة، بمعنى أنّه يمكن أن يستقلّ العقل بحكم خاصّ على موضوع مخصوص مع وجود حالة مخصوصة فيه، لكن من غير أن يدرك دخلها في المناط على نحو إذا انتفت الحالة أدرك فقد المناط فيه بل يدرك فقط تحقّق المناط مع وجود الحالة فيستقلّ بالحكم، ولا يدرك تحقّق المناط مع انتفاء الحالة فلا يستقلّ بالحكم ولا بانتفائه، وعليه فلا مانع حينئذٍ عن استصحاب الحكم الشرعي المستكشف بحكم العقل بعد انتفاء الحالة المخصوصة، وذلك لليقين السابق كما هو المفروض، والشكّ اللاحق نظراً إلى احتمال عدم دخل الحالة في المناط أصلًا، ولبقاء الموضوع عرفاً إذا فرض عدم كون الحالة من مقوّمات الموضوع، بل من حالاته المتبادلة.

وبعبارة اخرى: أنّه لا مانع من عدم الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع بقاءً مع وجود الملازمة بينهما حدوثاً، وذلك لأنّه قد يكون الموضوع في الواقع وفي نظر الشارع أوسع من الموضوع في نظر العقل، أو يكون هناك ملاكان مختلفان للحكم زال أحدهما المعلوم عند العقل وبقي الآخر المجهول عنده، والمعلوم عند الشارع العالم بالخفيّات، فيحتمل بقاء الحكم بعد زوال حكم العقل، فيستصحب مع بقاء الموضوع في

نظر العرف (انتهى).

أقول: الإنصاف أنّ الحقّ في المسألة مع الشيخ الأعظم رحمه الله لأنّه وإن كان ركنا الاستصحاب (وهو اليقين السابق والشكّ اللاحق) موجودين في ما نحن فيه، لكن الكلام في وحدة الموضوع المعتبرة في الاستصحاب، وهى منتفية في المقام، وذلك لأنّ الأحكام المتعلّقة

انوار الأصول، ج 3، ص: 281

بالأشياء الخارجية من ناحية الشرع أو العقل لا تتعلّق بها بما هى هى، أي بذواتها، بل تتعلّق بها بعناوينها، فالمتعلّق للحكم دائماً هو الشي ء بعنوانه لا بما هو هو، فبعد أن تبدّل الخمر إلى الخلّ وإن كانت «الهذية» موجودة، لكنّها ليست موضوعاً للنجاسة، بل الموضوع لها هذا بما هو خمر، ولا إشكال في زواله وعدم وجوده بعد صيروريته خلًا.

نعم الموضوع في حكم آخر كالملكيّة أو حقّ الاختصاص ربّما لا يكون عنوان الخمر، ولا يكون هذا العنوان مقوّماً له بل يكون من حالاته المتبادلة.

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم رحمه الله قد رتّب على مختاره في هذا البحث ثمرتين:

أحدهما: عدم إمكان استصحاب عدم وجوب السورة للناسي لها الذي كان ثابتاً في حال النسيان بحكم العقل لأنّ الموضوع لعدم الوجوب كان هو هذا الناسي، وهو منتفٍ بعد زوال النسيان.

ثانيهما: عدم إمكان استصحاب البراءة العقليّة الثابتة في حال الصغر للصبي بعد بلوغه لأنّ الموضوع لها كان عنوان الصغير وهو ليس موجوداً بعد البلوغ وزوال الصغر.

إلى غير ذلك ممّا يتصوّر من الثمرات، وما ذكره جيّد.

الأمر السابع: الفرق بين قاعدة الاستصحاب وقاعدتى اليقين والمقتضي والمانع
اشارة

ما هو الفرق بين هذه الثلاثة مع اشتراك جميعها في ركني اليقين والشكّ؟

فنقول: لا إشكال في عدم اجتماع اليقين والشكّ لشخص واحد بالنسبة إلى شي ء واحد وفي زمان واحد، فإذا علمنا يوم الجمعة بعدالة زيد في يوم الخميس لا يمكن أن نشكّ يوم الجمعة أيضاً في عدالته في ذلك

اليوم بعينه بل لابدّ من تغاير اليقين والشكّ إمّا في نفس المتعلّق أو في زمان المتعلّق (بالفتح) أو في زمان المتعلّق (بالكسر).

فإذا كان اليقين والشكّ متّحدين في الزمان (أي لا يكون تغاير في زمان المتعلّق بالكسر) وكان متعلّقهما أيضاً واحداً في الزمان (أي لا يكون تغاير في زمان المتعلّق بالفتح) ولكن كان متعلّق اليقين وجود المقتضي، ومتعلّق الشكّ وجود المانع (أي كان التغاير في نفس المتعلّق انوار الأصول، ج 3، ص: 282

بالفتح) فهذا هو مورد قاعدة المقتضي والمانع.

وإذا كان المتعلّق (بالفتح) واحداً، وكان زمان المتعلَّق (بالفتح) أيضاً واحداً، ولكن كان زمان اليقين متغايراً مع زمان الشكّ فهذا مورد قاعدة اليقين، ويسمّى بالشكّ الساري لسريان الشكّ إلى نفس متعلّق اليقين، كما إذا علمنا يوم الخميس بعدالة زيد يوم الأربعاء، وشككنا يوم الجمعة في عدالته يوم الأربعاء بعينه.

وإذا كان زمان اليقين والشكّ متّحداً، وكان متعلّقهما أيضاً أمراً واحداً، ولكن كان التغاير في زمان المتعلّق بالفتح، فهذا هو مورد قاعدة الاستصحاب، ويسمّى الشكّ حينئذٍ بالشكّ الطارى ء (في مقابل الشكّ الساري) كما إذا علمنا يوم الخميس بعدالة زيد، ثمّ شككنا في عدالته يوم الجمعة.

فالميزان في الاستصحاب هو التمايز والتغاير في زمان متعلّق اليقين والشكّ، وفي قاعدة اليقين هو التمايز في زمان نفس اليقين والشكّ، وفي قاعدة المقتضي والمانع في نفس متعلّق اليقين والشكّ.

الأقوال في حجّيّته الاستصحاب وبيان أدلّتها:

إذا عرفت هذا كلّه فاعلم أنّ الأقوال في حجّية الاستصحاب كثيرة:

1- الحجّية مطلقاً.

2- عدم الحجّية مطلقاً.

3- التفصيل، وهو على وجوه عديدة.

والمهمّ- كما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله- ذكر أدلّة المختار منها، وهو الحجّية مطلقاً، على نحو يظهر بطلان سائر الأقوال، فنقول:

استدلّ للقول بالحجّية مطلقاً بوجوه:

الاول: بناء العقلاء:

بناء العقلاء، فإنّ بناءهم على استصحاب الحالة المتيقّنة السابقة في جميع

امورهم، وعليه أساس معاشهم، بل قال بعضهم: لولا ذلك لأختلّ نظام العالم وأساس عيش بني آدم، فلو احتمل أحدهم موت صاحبه في تجارة لكهولة سنّه أو مرضه أو غير ذلك من انوار الأصول، ج 3، ص: 283

الحوادث المختلفة فلا يعتني بهذا الاحتمال بل يداوم على عمله ويسير إلى مقصده من دون أن تمنعه هذه الاحتمالات، وفي المحاكم القضائيّة العقلائيّة يبني على بقاء مالكية الإنسان ما لم يثبت خلافه، وعلى بقاء الوكالة ما لم يثبت العزل، وعلى بقاء زوجية الزوج الغائب وإن احتمل موته أو طلاقه.

وقد قال بعض المحقّقين «إنّ ذلك يظهر بالعيان والوجدان لمن نظر في أعمالهم وحركاتهم وسكناتهم في معاملاتهم وتجاراتهم وزياراتهم لأصدقائهم وأقربائهم، وعياداتهم لمرضاهم وجميع امورهم، بل وإن تأمّل في أعمال نفسه وحركاته الإرتكازية يرى أنّه يجري على طبق الحالة السابقة مع الشكّ في ارتفاعها» «1».

بل قد يقال: إنّه ثابت حتّى في الحيوانات فإنّها تطلب عند الحاجة، المواضع التي عهدت فيها الماء والكلاء، كما أنّ الطيور تعود من الأماكن البعيدة إلى أوكارها، غاية الأمر أنّ بنائها على هذا يكون عن جبلّتها وغريزتها، وبناء العقلاء يكون عن شعورهم وعاقلتهم.

وقد أورد على هذا بإشكالات عديدة، ذكر اثنين منها في الكفاية:

أحدهما: إنّ بناء العقلاء هذا لا يفيدنا إلّاإذا كان ناشئاً من تعبّدهم على ذلك، وهو ممنوع لأنّه ينشأ من ملاكات عديدة، فقد يكون رجاءً واحتياطاً، وقد يكون من باب الاطمئنان بالبقاء، وقد يكون ظنّاً ولو نوعاً، وقد يكون من باب الغفلة كما هو الحال في الحيوانات دائماً وفي الإنسان أحياناً.

لكن الإنصاف أنّه غير تامّ، لأنّ من الاحتمالات المذكورة في كلامه كون البناء من باب الظنّ النوعي، ومنها كونه من باب الرجاء والاحتياط، وهذا كافٍ في إثبات

المطلوب، لأنّه إذا كان الظنّ أو الرجاء أو شبههما حجّة عند العقلاء بحيث يحتجّ به العبيد على مواليهم، والموالي على عبيدهم فهو كافٍ في إثبات المطلوب، لأنّا لا نقصد من الحجّية إلّاهذا.

ثانيهما: سلّمنا ذلك، لكن الآيات الناهية عن العمل بغير العلم رادعة عن هذه السيرة.

وأورد عليه المحقّق الأصفهاني رحمه الله بأنّ «كلماته في هذه المسألة في تعليقته المباركة، وفي مبحث خبر الواحد من الكتاب، وفي هامشه هناك، وفي هذا المبحث من الكتاب مختلفة، ففي تعليقته على الفرائد قدّم السيرة على العمومات نظراً إلى استحالة رادعية العمومات عن انوار الأصول، ج 3، ص: 284

السيرة، وفي مبحث خبر الواحد أيضاً قدّم السيرة مع الالتزام بالدور من الطرفين على وجه دون وجه، وفي هامش المبحث المزبور التزم بحجّية الخبر لاستصحاب حجّيته الثابتة قبل نزول الآيات بعد دوران الأمر بين الردع والتخصيص، وفي هذا الموضع قدّم الآيات الناهية، وادّعى كفايتها في الرادعيّة» «1».

أقول: قد مرّ سابقاً أنّ الآيات الناهية عن العمل بالظنّ لا يمكن أن تكون رادعة عن سيرة العقلاء على العمل، لأنّ المراد من الظنّ فيها ليس هو الظنّ المصطلح (وهو الاحتمال الراجح في مقابل العلم والشكّ والوهم) بل إنّه في هذا القبيل من الآيات إشارة إلى الظنون الواهيّة والتخيّل والخرص، كما تؤيّده القرائن الموجودة في نفس الآيات، مثل ما ورد في قوله تعالى: «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ» «2»

فعطف على الظنّ ما تهوى الأنفس، وما ورد في قوله تعالى: «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» «3»

ففسّر الظنّ بالخرص وهو التخمين والحدس بغير أساس ودليل. مضافاً إلى ورود هذه الآيات في المشركين وعبدة الأصنام الذين لم تكن عبادتهم للأصنام ناشئة من ظنّ عقلائي وأساس برهاني

بلا ريب، بل من توهّمات باطلة وخيالات كاسدة. هذا أوّلًا.

ويشهد له ثانياً: أنّه لو كان كذلك للزم تخصيص هذه الآيات في موارد العمل بالظواهر والبيّنة وخبر الواحد وقول ذي اليد وغيرها، مع أنّ لحنها آبٍ عن التخصيص كما لا يخفى.

وثالثاً: أنّ الظاهر ورودها في خصوص اصول الدين والمسائل الاعتقاديّة التي لا يقاس عليها الفروع والمسائل الفرعيّة.

ثمّ إنّ هنا كلاماً للمحقّق الأصفهاني رحمه الله، وهو أنّ «اللازم في حجّية السيرة العقلائيّة مجرّد عدم ثبوت الردع عنها من الشارع، ولا يجب إحراز الامضاء وإثبات عدم الردع، حتّى يجب البناء على عدم حجّيتها بمجرّد عدم العلم بالامضاء أو الجهل بعدم الردع لأنّ الشارع بما هو عاقل بل رئيسهم العقلاء متّحد المسلك معهم إلّاإذا أحرز اختلاف مسلكه معهم بما هو شارع» «4».

انوار الأصول، ج 3، ص: 285

ويرد عليه: أنّه لو ثبت لنا اتّحاد مسلك النبي صلى الله عليه و آله والأئمّة المعصومين مع سائر العقلاء ودخولهم فيهم من هذه الجهة بالروايات المعتبرة الدالّه على أفعالهم في هذه الموارد، فبها ونعم المطلوب، لكن لقائل أن يمنع عن ذلك ويقول: لم يرد بناءهم العملي في هذه الموارد بالروايات المأثورة عنهم، نعم يمكن أن يقال: إنّ عمل العقلاء كان في مسمع ومنظر منهم وكانوا ساكتين عنه، ولكنّه هو معنى الحاجة إلى امضائهم في إثبات الحجّية.

والإشكال الثالث: هو ما ذكره المحقّق النائيني رحمه الله من أنّ بناء العقلاء على إبقاء الحالة السابقة وإن كان غير قابل للإنكار في الجملة، إلّاأنّه لم يعلم أنّ ذلك من جهة التعبّد بالشكّ والأصل العملي، أو من جهة الأماريّة والكشف عن الواقع، إذ يبعّد الأوّل عدم تعقّل بناء من العقلاء على صرف التعبّد بالشكّ من دون أماريّة وكاشفية ...

كما أنّه يبعّد الثاني عدم وجود شي ء في المقام يكون كاشفاً عن الواقع في ظرف الشكّ، إذ اليقين السابق لا أماريّة له في ظرف الشكّ، ونفس الشكّ لا أماريّة له أيضاً كما هو ظاهر، إلّاأن يقال: إنّ التعبّد بالشكّ من العقلاء وإن لم يكن في نفسه معقولًا، إلّاأنّه يمكن أن يكون ذلك بإلهام «1» من اللَّه تعالى حتّى لا يختلّ امور معاشهم ومعادهم، فإنّ لزوم اختلال النظام مع التوقّف عن الجري في الحالة السابقة مع الشكّ واضح، فلأجله جعل اللَّه الجري على طبقها من المرتكزات في أنفسهم مع عدم وجود كاشف عن تحقّقها أصلًا «2».

أقول: وكلامه رحمه الله لا يخلو من نظر:

أمّا أوّلًا: فلأنّ ما أفاده من «أنّ بناءهم إلهام إلهي وإنّ فطرتهم جرت على ذلك» بنفسه دليل على وجود التعبّد لهم، فإنّهم يلاحظون بعض الامور كأصالة البراءة، وأنّه لا كاشفية لها بالنسبة إلى الواقع، ولكن يجعلون بناءهم على ذلك من باب أنّ عدمه يوجب اختلال النظام، ومن هذا القبيل باب الحقوق والجرائم، فما دام لم يثبت جرم أحد، أو كونه مديوناً، لا يحكم عليه بالجرم والدين، ويمكن أن يكون بناؤهم على الاستصحاب أيضاً من هذا القبيل، ولا أقلّ من إمكانه ثبوتاً، وبالجملة أنّ للعقلاء اصولًا وأمارات، بل يمكن أن يقال: إنّ لجميع الاصول انوار الأصول، ج 3، ص: 286

والأمارات الشرعيّة أساساً عقلائياً، وما قد يتوهّم من أنّه ليس لهم إلّاالأمارات كلام باطل، وليكن هذا على ذكر منك حتّى نتلو عليك منه ذكراً.

وثانياً: (بالنسبة إلى قوله بعدم وجود معيار للأماريّة في الاستصحاب، وأنّ مجرّد اليقين السابق غير كافٍ فيها) فلأنّه يمكن أن يقال: إنّ معيار الأماريّة في الاستصحاب إنّما هو الغلبة، فإنّ الغلبة في موت الأفراد

وحياتهم على الحياة، وفي السلامة والمرض على السلامة، وفي الطرق والأماكن ونظائرهما على البقاء على حالها.

نعم هذا كلّه في الموضوعات والشبهات الموضوعيّة، كما أنّ تمام ما ذكرنا من الأمثلة كحياة زيد ووكالة عمر والملكية والزوجيّة وغيرها كانت من الموضوعات الخارجية، وأمّا الشبهات الحكميّة والأحكام الكلّية فإن كان الشكّ في نسخها كان بناء العقلاء على عدم النسخ ما لم يثبت جعل قانون جديد، وأمّا بالنسبة إلى غير النسخ من مناشٍ اخر للشكّ في بقاء الحكم كما إذا قرّرت الحكومة وضع ضرائب على العنب وشكّ في بقائها بعد تبدّل العنب إلى الزبيب (بناءً على أنّه من الحالات لا من المقوّمات) فلا يستصحب أحد من العقلاء بقاء تلك الضرائب كما لا يخفى، وسيوافيك لذلك مزيد توضيح في محلّه إن شاء اللَّه.

الثاني: الاستقراء في الأبواب المختلفة من الفقه وقد قال الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله في هذا المجال: «إنّا تتبّعنا موارد الشكّ في بقاء الحكم السابق المشكوك من جهة الرافع فلم نجد من أوّل الفقه إلى آخره مورداً إلّاوحكم الشارع فيه بالبقاء، إلّامع أمارة توجب الظنّ بالخلاف كالحكم بنجاسة البلل الخارج قبل الاستبراء، فإنّ الحكم بها ليس لعدم اعتبار الحالة السابقة، وإلّا لوجب الحكم بالطهارة لقاعدة الطهارة، بل لغلبة بقاء جزء من البول أو المني في المخرج، فرجّح هذا الظاهر على الأصل (وهو أصالة الطهارة) كما في غسالة الحمّام عند بعض، والبناء على الصحّة المستند إلى ظهور فعل المسلم، والإنصاف أنّ هذا الاستقراء يكاد يفيد القطع» (انتهى).

أقول: ومن هذه الموارد حكم الشارع باستظهار الحائض بعد مضيّ أيّام العادة إلى عشرة أيّام فورد في الحديث: «تستظهر بيوم أو يومين أو ثلاثة» أي تستصحب.

انوار الأصول، ج 3، ص: 287

ومنها قوله عليه السلام:

«صم للرؤية وافطر للرؤية» الذي قد يقال بأنّ منشأه الاستصحاب.

لكن الإنصاف أنّ هذا الاستقراء ناقص جدّاً فكيف يحصل القطع في هذه المسألة المهمّة من ذكر أمثلة قليلة؟ مع ما فيها من الإشكال، فقد يرد على المثال الأوّل من أنّه كما يحتمل أن يكون البلل الخارج قبل الاستبراء بولًا، كذلك يحتمل أن يكون مذياً أو ودياً الذي لا إشكال في طهارته ولو قبل الإستبراء لأنّ الملاقاة في البواطن لا توجب النجاسة، فالمعلوم حينئذٍ خروج القطرات البولية السابقة ووجود قطرات اخرى مقامها يشكّ أنّها من مصاديق البول أو المذي، فلا يجري الاستصحاب فيها لأنّه حينئذٍ من قبيل استصحاب القسم الثالث من الكلّي، وهو ليس بحجّة.

الثالث: الإجماع نقله الشيخ الأعظم رحمه الله عن مبادى ء الوصول للعلّامة رحمه الله وعن نهايته كما نقله أيضاً المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية.

فقال في المبادى ء: «الاستصحاب حجّة لإجماع الفقهاء على أنّه متى حصل حكم ثمّ وقع الشكّ في أنّه طرأ ما يزيله أم لا، وجب الحكم ببقائه، ولولا القول بأنّ الاستصحاب حجّة لكان ترجيحاً لأحد طرفي الممكن من غير مرجّح» «1».

وظاهره العموم بالنسبة إلى فقهاء الفريقين، وبالنسبة إلى الشبهة في النسخ وسائر الشبهات الحكميّة والموضوعيّة.

وقال في النهاية: «أنّ الفقهاء بأسرهم على كثرة اختلافهم اتّفقوا على إنّا متى تيقّنا حصول شي ء، وشككنا في حدوث المزيل له أخذنا بالمتيقّن».

لكن لا كلام في عدم حجّية هذا النوع من الإجماع لكونه محتمل المدرك على الأقل، ولعلّ مدركه ما مرّ من سيرة العقلاء أو الاستقراء أو ما سيأتي ذيلًا من الأخبار.

انوار الأصول، ج 3، ص: 288

الرابع: الأخبار المستفيضة

وهى العمدة في المسألة، وأوّل من طرحها في الاصول على التفصيل هو شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله:

1- صحيحة زرارة، قال: «قلت

له: الرجل ينام وهو على وضوء، أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال عليه السلام: يازرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن فإذا نامت العين والاذن والقلب وجب الوضوء، قلت: فإن حرّك على جنبه شي ء ولا يعلم به؟ قال عليه السلام:

لا، حتّى يستيقن أنّه قد نام حتّى يجي ء من ذلك أمر بيّن، وإلّا فإنّه على يقين من وضوئه، ولا تنقض اليقين أبداً بالشكّ ولكنّه ينقضه بيقين آخر» «1».

ولا يخفى أنّ اضمار زرارة في الحديث لا يضرّ بصحّته، لأنّ مثله لا يسأل الحكم الشرعي إلّا عن الإمام عليه السلام، مضافاً إلى لحن الحديث والسؤال والجواب الواردان فيه حيث إنّ الإنسان يطمئنّ بأنّ مثله لا يصدر إلّامن الإمام المعصوم عليه السلام «2»، وعلى هذا فلا كلام في الرواية من ناحية السند، إنّما البحث في دلالتها وقد وقع في تعيين جزاء كلمة «إلّا» الواردة فيها، والتي هى مركّبة من «إنّ» و «لا»، أي «وإن لم يستيقن أنّه نام»، فما هو جزاؤها؟ فنقول: فيه أربعة وجوه:

الأوّل: أن يكون الجزاء محذوفاً، أي: «وإن لم يستيقن أنّه قد نام فلا يجب عليه الوضوء، أو فهو باقٍ على وضوئه» ويكون قوله عليه السلام: «فإنّه على يقين من وضوئه» تعليلًا لذلك الجزاء فيكون بمنزلة كبرى كلّية لا تختصّ بباب الوضوء.

الثاني: أن يكون قوله عليه السلام: «فإنّه على يقين من وضوئه» بنفسه جزاءً فيكون بمنزلة جملة إنشائيّة، بمعنى: «فليكن على وضوئه» فيختصّ بباب الوضوء لخروجه عن صيغة التعليل الذي يتعدّى عن المورد.

الثالث: أن يكون الجزاء قوله عليه السلام: «ولا ينقض اليقين بالشكّ أبداً»، ويكون قوله عليه السلام:

«فإنّه على يقين ...» توطئة له، فيختصّ أيضاً بباب الوضوء.

والإنصاف أنّ الترجيح مع التفسير الأوّل، وأنّ الأخيرين بعيدان

عن ظاهر الحديث.

أمّا الأوّل منهما (أي التفسير الثاني) فلأنّ كون قوله عليه السلام: «فإنّه على يقين» بمنزلة جملة

انوار الأصول، ج 3، ص: 289

إنشائيّة، وبمعنى «فليكن» بعيد في الغاية- كما قال به المحقّق الخراساني رحمه الله- لأنّ الإخبار بجملة اسميّة وإرادة الكناية عن الإنشاء لا يكون أمراً مأنوساً عند أهل اللسان، فلا يقال مثلًا: «أنت آكل» عوضاً عن قوله «كل»، أو «أنت قائم» كناية عن قوله «قم»، أو «أنت على يقين» كناية عن «كن على اليقين» (في ما نحن فيه) نعم أنّه شائع في الجملة الفعليّة بصيغة المضارع كقوله عليه السلام: «تعيد» بمعنى «أعد».

وأمّا الثاني منهما (وهو التفسير الثالث) فلأنّ لازمه أن يكون الجزاء معطوفاً على شرطه بالواو العاطفة، وهو واضح البطلان.

هذا- ولو سلّم كون أحدهما مراداً للإمام عليه السلام لكنّه يمكن أيضاً استفادة العموم من الحديث لعدّة قرائن:

الاولى: قوله عليه السلام: «فإنّه على يقين من وضوئه» حيث إنّه إشارة إلى نكتة إرتكازية عند العقلاء، وهى عدم صحّة نقض شي ء محكم وطرده (وهو اليقين) بأمر مرهون ضعيف (وهو الشكّ) وبعبارة اخرى: تناسب الحكم والموضوع يوجب إلغاء العرف الخصوصيّة عن باب الوضوء.

الثانية: كلمة «أبداً» فإنّها مناسبة لجريان الحكم وسريانه في سائر الأبواب.

الثالثة: ورود قوله عليه السلام: «لا ينقض اليقين بالشكّ» في سائر الأبواب أيضاً، مثل باب النجاسات والصّلاة والصوم فإنّه بمنزلة قرينة خارجية على عموم الحكم في المقام.

إن قلت: ذكر اليقين قبل هذه الجملة مرّتين وتعلّق في المرّة الاولى بالنوم وفي الثانية بالوضوء، وحينئذٍ تكون اللام الواردة في كلمة اليقين في هذه الجملة ظاهرة في العهد، ولازمه اختصاص الحكم بباب الوضوء.

قلنا: قد قرّر في محلّه أنّ الأصل في «اللام» أن تكون للجنس، ومجرّد وجود متعلّقها في القبل لا

غير، كافٍ لرفع اليد عن هذا الأصل، فإذا دار الأمر بين كونها للعهد أو الجنس فالترجيح مع الثاني، إلّاإذا حصل الظهور في العهدية ومجرّد سبق عنوان اليقين غير كافٍ في إثبات هذا الظهور. هذا أوّلًا.

وثانياً: سلّمنا أنّها تكون للعهد، ولكن العرف يلغي الخصوصية عن باب الوضوء بما مرّ من تناسب الحكم والموضوع ووجود كلمة «أبداً» وغيرهما من القرائن.

انوار الأصول، ج 3، ص: 290

ثمّ إنّه قد أجاب المحقّق الخراساني رحمه الله عن هذه الشبهة بجواب لا يخلو من التكلّف جدّاً، وهو أنّ كون اللام في قوله عليه السلام: «ولا ينقض اليقين أبداً بالشكّ» للعهد مبنى على كون لفظة «من وضوئه» متعلّقة بلفظة «يقين» بنفسها، فيكون اليقين حينئذٍ في الصغرى خاصّاً، فليكن في الكبرى أيضاً خاصّاً، وأمّا إذا كان متعلّقاً بالظرف أي بلفظة «على يقين» بحيث كان المعنى هكذا: «فإنّه من ناحية وضوئه على يقين ولا ينقض اليقين أبداً بالشكّ» فلا يكون اليقين حينئذٍ في الصغرى خاصّاً كي تكون اللام في يقين الكبرى للإشارة إليه، بل جنساً مطلقاً فيكون اليقين في الكبرى أيضاً كذلك. (انتهى).

ولا يخفى أنّ فيه تكلّفاً ظاهراً، وأنّه لا يشبه العبارات العربيّة المتداولة، فالإنصاف أنّ المرتكز لمن يكون عارفاً باللسان كون «عن وضوئه» متعلّقاً باليقين نفسه.

إن قلت: أنّ هذا الحديث من ناحية دلالته على الاستصحاب قد أعرض عنه الأصحاب، كما يظهر من تصريح الشيخ الأعظم رحمه الله بأنّ أوّل من تمسّك به هو والد الشيخ البهائي رحمه الله في الحبل المتين.

قلنا: لعلّ عدم تمسّك الأصحاب به كان من جهة أنّهم يرون أنفسهم مستغنين عنه بوجود سيرة العقلاء على الاستصحاب، مع كون السيرة دليلًا قطعيّاً وخبر الواحد دليلًا ظنّياً. هذا أوّلًا.

وثانياً: لعلّ إعراضهم كان من جهة

وجود الشبهة عندهم من ناحية الدلالة وعدم عموميتها واختصاصها بأبواب معيّنة، لا من ناحية السند، فلا يكون اعراضهم عن السند محرزاً عندنا.

ويؤيّد ذلك أنّ صاحب الوسائل وغيره من أكابر علماء الحديث جعلوا هذه الأخبار في أبواب خاصّة، ولم يجعلوا لها عنواناً مستقلًا كلّياً، وهذا دليل على أنّهم لم يفهموا منها العموم، وكم ترك الأوّل للآخر.

2- صحيحة ثانية لزرارة قال: «قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو شي ء من مني فعلّمت أثره إلى أن اصيب له الماء، فأصبت وحضرت الصّلاة ونسيت أنّ بثوبي شيئاً وصلّيت ثمّ إنّي انوار الأصول، ج 3، ص: 291

ذكرت بعد ذلك، قال: تعيد الصّلاة وتغسله، قلت: فإنّي لم أكن رأيت موضعه وعلّمت أنّه أصابه فطلبته فلم أقدر عليه، فلمّا صلّيت وجدته، قال: تغسله وتعيد، قال قلت: فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك فنظرت فلم أر فيه شيئاً ثمّ صلّيت فرأيت فيه، قال: تغسله ولا تعيد الصّلاة، قلت: لِمَ ذاك؟ قال: لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً، قلت: فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله، قال:

تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه أصابها، حتّى تكون على يقين من طهارتك، قلت: فهل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شي ء في ثوبي أن أنظر فيه؟ فقال: لا، ولكنّك إنّما تريد أن تذهب الشكّ الذي وقع في نفسك، قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصّلاة، قال: تنقض الصّلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً قطعت الصّلاة وغسلته ثمّ بنيت على الصّلاة لأنّك لا تدري لعلّه شي ء أوقع عليك فليس ينبغي لك أن

تنقض اليقين بالشكّ» «1».

هذه الرواية مشتملة على ستة أسئلة وأجوبة:

أوّلها: قول السائل: «أصاب ثوبي دم رعاف أو شي ء من مني فعلمت أثره إلى أن أُصيب له الماء، فأصبت وحضرت الصّلاة ونسيت أنّ بثوبي شيئاً وصلّيت ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك؟» جواب الإمام عليه السلام عنه بقوله: «تعيد الصّلاة وتغسله».

ثانيها: قول السائل: «فإنّي لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنّه أصابه فطلبته فلم أقدر عليه فلمّا صلّيت وجدته» وجوابه عليه السلام بقوله: «تغسله وتعيد».

وهذان السؤالان لا يخفى خروجهما عمّا نحن فيه وهو البحث عن الاستصحاب، حيث إنّ مورد الأوّل نسيان النجاسة والتذكّر بعد إتمام الصّلاة، ومورد الثاني الشروع في الصّلاة مع العلم الإجمالي بنجاسة موضع من الثوب.

ثالثها: قول السائل «فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك فنظرت فلم أر فيه شيئاً ثمّ صلّيت فرأيت فيه»؟ وجوابه عليه السلام بقوله: «تغسله ولا تعيد الصّلاة (قلت: لِمَ ذاك؟) قال عليه السلام:

لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً».

انوار الأصول، ج 3، ص: 292

وهذا السؤال والجواب ناظر إلى محلّ البحث صراحةً كما لا يخفى.

رابعها: قول السائل: «فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو؟ فأغسله؟» وجوابه عليه السلام: «تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك».

وهذا السؤال في بدء النظر غير مرتبط بالمقصود بل مرتبط بمسألة العلم الإجمالي ولكنّه عند التأمّل يمكن أن يكون تتميماً للسؤال الثالث، كما أنّ جواب الإمام عليه السلام أيضاً يمكن أن يكون تكميلًا للجواب عن السؤال الثالث، أو بياناً لمدلوله الالتزامي، وهو قوله «انقضه بيقين آخر» فالمحتمل دلالة هذه الفقرة أيضاً على حجّية الاستصحاب.

خامسها: قول السائل: «فهل عليّ إن

شككت في أنّه أصابه شي ء في ثوبي أن أنظر فيه؟» وجواب الإمام عليه السلام: «لا ولكنّك إنّما تريد أن تذهب الشكّ الذي وقع في نفسك».

وهذا الجواب ناظر إلى عدم لزوم الفحص في الشبهات الموضوعيّة وخارج عمّا نحن بصدده.

إن قلت: قد مرّ في مبحث عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعيّة استثناء موردين منها:

أحدهما: ما إذا كان العلم بالواقع سهل الوصول جدّاً.

وثانيهما: ما لا يحصل العلم به عادةً من دون فحص كمقدار النصاب وأرباح المكاسب والاستطاعة، وما نحن فيه من القسم الأوّل فلماذا لم يأمر فيه بوجوب الفحص؟

قلنا: يظهر من هذه الرواية وغيرها أنّ نظر الشارع التسهيل في أمر الطهارة والنجاسة وإستثناءهما من القاعدة المذكورة، ولعلّ الوجه فيه هو الوقوع في الوساوس المختلفة لو بنى على الفحص ولو بهذا المقدار.

سادسها: قول السائل: «إن رأيته في ثوبي وأنا في الصّلاة» وجواب الإمام عليه السلام: «تنقض الصّلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً قطعت الصّلاة وغسلته ثمّ بنيت على الصّلاة لأنّك لا تدري لعلّه شي ء أوقع عليك فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ».

وهذا السؤال والجواب أيضاً داخل في الاستصحاب كما هو واضح.

انوار الأصول، ج 3، ص: 293

فظهر أنّ الداخل من هذا الحديث في مبحث الاستصحاب هى الفقرة الثالثة والسادسة يقيناً، والفقرة الرابعة احتمالًا.

لكن اورد عليه إشكالات عديدة لابدّ من حلّها:

الأوّل: في تعبير الإمام عليه السلام ب «ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ»، حيث إنّه يستشمّ منه رائحة الاستحباب.

والجواب عنه واضح: لأنّه ورد في مقام الاستدلال على حكم إلزامي، وهو عدم جواز إعادة الصّلاة، لظاهر النهي بلسان النفي، فمقام الاستدلال قرينة على أنّ المراد به عدم الجواز، وموارد استعمال «لا ينبغي»

مختلفة كما يظهر بالرجوع إليها.

الثاني: أنّ الحديث لعلّه في مقام بيان قاعدة اليقين لا الاستصحاب، أي أنّه يناسب قاعدة اليقين كما يتناسب مع الاستصحاب، لأنّ لفظ اليقين في قوله عليه السلام: «لأنّك كنت على يقين من طهارتك» كما يحتمل أن يكون المراد منه اليقين بطهارة الثوب من قبل ظنّ الإصابة (فيكون المورد من الاستصحاب) كذلك يحتمل أن يكون المراد منه اليقين بالطهارة الذي حصل بالنظر في الثوب مع عدم رؤية شي ء، ثمّ زال برؤيه النجاسة بعد الصّلاة لاحتمال حدوثها بعد الصّلاة (فيكون المورد من قاعدة اليقين لأنّ الشكّ يتسرّى إلى اليقين السابق) فيصير الحديث مجملًا لا يصلح للاستدلال به على الاستصحاب.

وجوابه واضح أيضاً: فعند التأمّل في الرواية يظهر أنّها ناظرة إلى خصوص الاستصحاب، وأنّ المستشكل لم يعطها حقّ النظر والدقّة، فإنّ معيار الاستصحاب وفرقه عن قاعدة اليقين، (وهو تغاير زمان متعلّق اليقين والشكّ) موجود فيها، حيث عبّر الإمام عليه السلام فيها بقوله: «لأنّك كنت على يقين ثمّ شككت» وهو ناظر إلى سؤال الراوي الذي كان على يين من طهارته ثمّ شكّ في نجاستها في زمان بعده.

الثالث: أنّ مورد الحديث إنّما هو نقض اليقين بيقين آخر لا نقضه بالشكّ، فإنّ السائل يقول: «ثمّ صلّيت فرأيت فيه» وهو يعني اليقين بالنجاسة ووقوع الصّلاة بها فإعادة الصلاة من قبيل نقض اليقين باليقين لا نقض اليقين بالشكّ.

ويمكن الجواب عنه بامور:

أوّلها (وهو أحسنها) أنّ جواب الإمام عليه السلام ناظر إلى أنّ الشرط في صحّة الصّلاة هو الأعمّ انوار الأصول، ج 3، ص: 294

من الطهارة الواقعية والظاهرية، وأنّ الطهارة الظاهرية كانت حاصلة في أثناء الصلاه لمكان الاستصحاب، وإن حصل القطع بعد الصّلاة بعدم وجود الطهارة الواقعية، فعدم وجوب الإعادة إنّما هو لتحقّق

الشرط الواقعي، وهو الطهارة الظاهرية الحاصلة بمقتضى الاستصحاب.

ثانيها: أنّ هذه الفقرة ناظرة إلى مسألة الاجزاء في الأوامر الظاهرية فيقول الإمام عليه السلام أنّ الأمر الظاهري حاصل في المقام لمكان الاستصحاب (وإن قطعت بعد الصّلاة بعدم وجود الأمر الواقعي) وهو مجزٍ عن إتيان الواقع.

وبعبارة اخرى: أنّها ناظرة إلى صغرى قاعدة الإجزاء، وهى وجود أمر ظاهري ناشٍ من الاستصحاب، وإلى كبراها وهى أنّ الأوامر الظاهرية مجزية.

وهذا الجواب أيضاً تامّ على المختار من إجزاء الأوامر الظاهرية الشرعيّة وإن لم يتمّ على مختار المنكرين للاجزاء.

ولكن إستشكل فيه الشيخ الأعظم رحمه الله بما حاصله: أنّ لازمه اكتفاء الإمام في مقام التعليل ببيان الصغرى (وهى قوله عليه السلام: «لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت فليس ينبغي لك ... الخ» الذي هو كناية عن وجود أمر ظاهري) مع أنّ الشائع عرفاً إنّما هو بيان الكبرى (وهى في المقام أنّ الأوامر الظاهرية مجزية).

وفيه: أنّه يختلف باختلاف الموارد، فتارةً يكتفي ببيان الصغرى فقط لكون الكبرى أمراً إرتكازياً كقوله: «لا تشرب الخمر لأنّه مسكر»، واخرى يكتفي ببيان الكبرى لكون الصغرى إرتكازياً كقول المولى لعبده «لا تفعل هذا فإنّ العاقل لا يلقي نفسه إلى حيث الضرر» فصغرى «لأنّه مضرّ» حذفت لوضوحها، وثالثة تذكر الصغرى والكبرى معاً.

وما نحن فيه داخل في القسم الأوّل، فذكرت الصغرى فقط (وهو وجود الأمر الظاهري لأجل الاستصحاب) لعدم كونها مثل الكبرى (وهى إجزاء الأوامر الظاهريّة) في الوضوح.

ثالثها: أنّ مورد السؤال في الفقرة الثالثة إنّما هو ما إذا احتملنا وقوع النجاسة بعد الصّلاة، فيكون نهي الإمام عليه السلام بقوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» بالنسبة إلى أثناء الصّلاة.

لكنّه خلاف الظاهر لأنّ في الرواية: «قلت فإن ظننت أنّه قد أصابه ... ثمّ صلّيت

فرأيت فيه» وهو ظاهر في أنّ ما وجده بعد الصّلاة إنّما هو نفس ما كان متفحّصاً عنه في أثناء الصّلاة.

فهذا الجواب غير تامّ.

انوار الأصول، ج 3، ص: 295

الرابع: ما يكون مرتبطاً بالفقرة السادسة، وحاصله، أنّ مفاد هذه الفقرة لزوم غسل الثوب ثمّ البناء على الصّلاة فيما إذا احتمل وقوع النجاسة في نفس الوقت الذي رآها، ولزوم نقض الصّلاة ووجوب الإعادة إذا رآها وعلم بوجودها من أوّل الصّلاة، وهذا- أوّلًا- مخالف لفتوى المشهور، فإنّها قائمه على عدم الفرق بين الصورتين، فحكموا في الصورة الثانية أيضاً بوجوب الغسل ثمّ البناء.

وثانياً: مخالف لنفس الحديث في فقرته الثالثة إذ إنّ مدلولها صحّة الصّلاة فيما إذا وقعت بتمامها في النجاسة، وهو يقتضي بالفحوى صحّتها فيما إذا وقعت بعضها في النجاسة، فيقع التضادّ حينئذٍ بين الفقرتين الفقرة السادسة والفقرة الثالثة، ولازمه سقوط كلتيهما عن الحجّية.

واجيب عن هذا بوجهين:

أحدهما: الالتزام بالتفكيك في الحجّية بين فقرات حديث واحد، بإسقاط بعض الفقرة السادسة عن الحجّية والعمل بالفقرة الثالثة.

ولكن قد عرفت غير مرّة أنّ مثل هذا التفكيك مشكل لمخالفة بناء العقلاء.

ثانيهما (وهو أحسن الوجوه): أنّ الأولوية ممنوعة، لاحتمال الفرق بين صورة الجهل في تمام الصّلاة والجهل في بعضها، فإنّ لازم الثاني وجود النجاسة المعلومة ولو آناً مّا.

إن قلت: العلم بالنجاسة آنّاً مّا موجود فيما إذا احتمل وقوع النجاسة في نفس الوقت الذي رآها فكيف لم يحكم الإمام فيه بالبطلان؟

قلنا: لعلّ الشارع عفى عن ذلك، لوجود خصوصيّة فيها، وهى احتمال وقوعها في نفس زمان رؤيتها.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ الاستدلال بالصحيحة تامّ لا إشكال عليه.

3- صحيحة ثالثة لزرارة عن أحدهما عليهما السلام «قال: قلت له: من لم يدر في أربع هو أم في ثنتين وقد أحرز

الثنتين؟ قال: يركع بركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب، ويتشهّد، ولا شي ء عليه، قال: إذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث، قام فأضاف إليها اخرى ولا شي ء عليه، ولا ينقض اليقين بالشكّ، ولا يدخل الشكّ في اليقين، ولا

انوار الأصول، ج 3، ص: 296

يخلط أحدهما بالآخر، ولكنّه ينقض الشكّ باليقين ويتمّ على اليقين فيبني عليه، ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات» «1».

وتقريب الاستدلال بهذا الحديث لحجّية الاستصحاب واضح، ولكن يرد عليه أمران:

أحدهما: أنّه يحتمل في قوله عليه السلام: «قام فأضاف إليها اخرى» ثلاث احتمالات:

الأوّل: أن يكون المراد من القيام فيه القيام بعد التسليم إلى ركعة اخرى مفصولة ويكون المراد من اليقين فيها اليقين بالبراءة الحاصلة بالبناء على الأكثر والإتيان بركعة مستقلّة، وحينئذٍ تكون الصحيحة أجنبية عن الاستصحاب، وناظرة إلى قاعدة الإشتغال.

الثاني: أن يكون المراد من القيام فيه القيام للركعة الرابعة من دون التسليم في الركعة المردّدة بين الثالثة والرابعة، فيكون حاصل الجواب هو البناء على الأقل والمراد من اليقين هو اليقين بإتيانه ثلاث ركعات، وحينئذٍ تكون الصحيحة دالّة على الاستصحاب.

ولكنّها موافقة لقول العامّة ومخالفة للمذهب ولظاهر الفقرة الاولى من قوله: «يركع بركعتين ... بفاتحة الكتاب» فإنّ ظاهره بقرينة تعيين الفاتحة إرادة ركعتين منفصلتين، أعني صلاة الاحتياط.

فلابدّ حينئذٍ من الالتزام بالتفكيك في الحجّية بين ما ذكر في ذيل الحديث من كبرى كلّية دالّة على الاستصحاب وبين مورده، القول بالحجّية في الكبرى، وأنّ الصغرى محمولة على التقيّة، فيأتي فيه مشكل التفكيك في الحجّية بين فقرات الحديث، الذي هو في المقام آكد وأشنع، لأنّه تفكيك بين كبرى وصغراها، لا بين فقرتين اللتين يدلّ كلّ منهما على حكم مستقلّ.

الثالث: أن يكون المراد من القيام

القيام للركعة الرابعة مع التسليم، أي إتيانها منفصلة، كما هو مذهب أهل البيت في صلاة الاحتياط.

وعليه يكون المراد من قوله عليه السلام: «ولا يدخل الشكّ في اليقين» النهي عن إدخال صلاة الاحتياط المشكوكة في ما أتى به متيقّناً، أي يأتي بها مستقلًا ومفصولة.

ويكون المراد من قوله عليه السلام، ولكنّه ينقض الشكّ باليقين» تأكيداً لذلك، وقوله عليه السلام «ويتمّ انوار الأصول، ج 3، ص: 297

على اليقين» أيضاً إشارة إلى إتيان صلاة الاحتياط منفصلة.

وحينئذٍ تكون ثلاث فقرات من الفقرات الستّة الواردة في الذيل ناظرة إلى لزوم انفصال صلاة الاحتياط، وثلاث فقرات اخر مرتبطة بقاعدة الاستصحاب، فيندفع بذلك إشكال كثرة التأكيدات في حديث واحد، وكذلك إشكال الحمل على التقيّة والتفكيك بين الصغرى والكبرى.

ثمّ إنّ الترجيح يؤيد الحمل على الاستصحاب، أي أحد الاحتمالين الأخيرين، وذلك بقرينة الروايات الاخرى، وقرينة داخليّة وهى لحن الرواية والتعبير ب «لا تنقض اليقين بالشكّ» الوارد فيها، حيث إنّ التعبير المناسب مع قاعدة الاشتغال هو لزوم العلم بالفراغ بعد العلم بالاشتغال، وهذا المعنى غير موجود في الحديث، ولا سيّما إنّ أخبار الباب الناظرة إلى وجوب العمل بالاحتياط مصرّحة بلزوم البناء على اليقين فما ورد في هذا الحديث مناسب للاستصحاب لا غير، لأنّه عبّر بعدم نقض اليقين بالشكّ لا البناء على اليقين.

كما أنّ الترجيح في هذين الاحتمالين يتّفق مع الحمل على الاحتمال الأخير، لأنّ قوله عليه السلام:

«قام فأضاف إليه اخرى» وإن كان ظاهراً في الإتّصال مجرّداً عن صدره، ولكنّه بقرينة صدر الرواية (الذي ظاهر في الإنفصال بقرينة تعيين فاتحة الكتاب كما مرّ آنفاً) لابدّ من حمله على الانفصال، مضافاً إلى محذور التفكيك في الحجّية الموجود في الاحتمال الآخر، أي الاحتمال الثاني من الاحتمالات الثلاثة في الرواية.

وحينئذٍ يتعيّن

الاحتمال الثالث، وبذلك يتمّ دلالة الصحيحة على المقصود من دون أي محذور.

ثمّ إنّ المحقّق العراقي رحمه الله بعد أن التزم بهذا التفكيك، وجعله من قبيل ما ذكره المحقّق النائيني رحمه الله (وهو ما ورد في بعض الأخبار من قوله عليه السلام للخليفة العبّاسي بعد سؤال اللعين عن الإفطار في اليوم الذي شهد بعض بأنّه يوم العيد: «ذاك إلى إمام المسلمين إن صام صمنا معه، وإن أفطر أفطرنا معه» حيث إنّ الإمام عليه السلام إنّما قال ذلك تقيّة ومخافة على نفسه، كما بيّن عليه السلام ذلك بعد خروجه عن مجلس اللعين، ومع هذا يكون قوله عليه السلام «ذاك إلى إمام المسلمين» لبيان حكم اللَّه الواقعي كما أنّ الفقهاء استدلّوا به على اعتبار حكم الحاكم في الهلال، وليس ذلك إلّالأجل أنّ تطبيق القول على المورد للتقيّة لا ينافي صدور أصل القول لبيان حكم اللَّه الواقعي فلتكن انوار الأصول، ج 3، ص: 298

الصحيحة فيما نحن فيه من هذا القبيل) قال: ونظير ذلك أيضاً ما ورد من استشهاد الإمام عليه السلام بحديث الرفع المروي عن النبي صلى الله عليه و آله على بطلان الحلف بالطلاق والعتاق والصدقة بما يملك عند الإكراه.» «1».

أقول: مما استدلّ به غير واحد من الأصحاب على أنّ حديث الرفع يعمّ الأحكام الوضعيّة في مبحث البراءة صحيحة المحاسن التي استشهد فيها الإمام عليه السلام بحديث الرفع على بطلان الحلف بالطلاق والعتاق والصدقة بما يملك، مع أنّ الحلف بهذه الثلاثة باطل عند الإماميّة ذاتاً ولو لم تكن عن إكراه، فالإمام عليه السلام استند لبطلانه في صورة الإكراه بحديث الرفع، وهو أمر عرضي ولم يستند من جهة التقيّة ببطلانه الذاتي، فنلتزم بالتفكيك بين أصل الاستناد إلى حديث الرفع، أي

مدلوله المطابقي وهو جريان حديث الرفع في الأحكام الوضعيّة، وبين تطبيقه على المورد، أي مدلوله الالتزامي وهو صحّة الطلاق والعتاق والصدقة بما يملك لولا الإكراه، ونقول بأنّ الإمام عليه السلام كان في الأوّل في مقام بيان حكم اللَّه الواقعي، وفي الثاني كان في مقام التقيّة فليكن مقامنا أيضاً كذلك.

لكن الإنصاف أنّ هذا القياس مع الفارق، لأنّ كون استناد الأصحاب لشمول حديث الرفع للأحكام الوضعيّة هناك بتلك الرواية من قبيل التفكيك بين فقرتي حديث واحد، مبنى على دلالته على صحّة الطلاق وأخويه عند العرف بالدلالة الالتزاميّة البيّنة، مع أنّها ليست أكثر من حدّ الإشعار، بخلاف ما نحن فيه الذي يكون للكبرى فيه مدلول، ولصغراها مدلول آخر وهو الظهور في الإتّصال، فلا ينتقض مختارنا هنا (وهو كون التفكيك خلاف بناء العقلاء) بما ذهب إليه الأصحاب هناك.

وأمّا رواية الهلال فالاستناد إلى كبراها أيضاً قابل للتأمّل.

ثانيهما: أنّ المستفاد من الحديث قضيّة جزئية خاصّة بصورة الشكّ بين الثلاثة والأربع، لأنّ مرجع تمام الضمائر فيه إنّما هو المصلّى، وإن أبيت عن ذلك فلا أقلّ من الإجمال.

والجواب عنه: إنّا نفهم الشمول والعموم من ثلاث قرائن:

1- تناسب الحكم والموضوع.

انوار الأصول، ج 3، ص: 299

2- تعبير الإمام عليه السلام بقوله: «لا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات».

3- قرينة خارجية وهو إشتراك هذا الحديث مع غير واحد من روايات الاستصحاب في التعبير ب «لا تنقض ...».

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: فيما أورده المحقّق العراقي رحمه الله على ما يستفاد من كلام الشيخ الأعظم رحمه الله- من أنّ مقتضى الاستصحاب في الشكّ في الركعات إتيان صلاة الاحتياط متّصلة، فيكون موافقاً لمذاق العامّة (إلّا إذا قامت قرينة خارجية على خلافه) لأنّ مقتضى الاستصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة- ما حاصله:

أنّ وجوب التشهّد والتسليم على ما يستفاد من الأدلّة مترتّب على رابعية الركعة، وهذا لا يثبت باستصحاب عدم إتيانه إلّامن باب الأصل المثبت، لأنّ إتّصاف الركعة المأتية بكونها رابعة من اللوازم العقليّة لعدم الإتيان بها بمقتضى الاستصحاب «1».

ويجاب عنّه أوّلًا: بكون الواسطة خفيّة في نظر العرف قطعاً، ولولا ذلك يكون مورد روايات الباب أيضاً من الأصل المثبت، لأنّ المستصحب فيها هو الطهارة، بينما الأثر المطلوب ترتّبه عليها إنّما هو كون الصّلاة متّصفة بالطهارة أو مقيّدة بها، ولا يخفى أنّ تقيّد الصّلاة أو إتّصافها بها من اللوازم العقليّة لوجود الطهارة.

وثانياً: بأنّه لا دليل على ترتّب وجوب التشهّد والتسليم على رابعية الركعة، بل المستفاد من الأدلّة كون التسليم في آخر الصّلاة، كما ورد في رواية القداح عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: افتتاح الصّلاة الوضوء، وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم» «2».

فموضع التسليم هو آخر الصّلاة، وهذا أمر ثابت بالوجدان وهكذا ما ورد في أبواب التشهّد، وأنّه يأتي به في بعض الصلوات مرّه وفي بعضها الآخر مرّتين (فليس فيها أثر من تقييده بالرابعة).

انوار الأصول، ج 3، ص: 300

الأمر الثاني: قد مرّ أنّ المقصود من قوله عليه السلام «يبني على اليقين» هو العمل بالاحتياط بإتيانه ركعة مفصولة، ولكن لابدّ أن نشير هنا إلى أنّ هذا الاحتياط احتياط نسبي تعبّدي لأنّه بنفسه متضمّن لخلاف الاحتياط في امور أربع:

1- وجوب إتيان التشهّد بعد الركعة المردّدة، مع احتمال كونها هى الركعة الثالثة.

2- وجوب التسليم بعد الركعة المردّدة أيضاً، مع وجود نفس الاحتمال أيضاً.

3- وجوب التكبير لافتتاح صلاة الاحتياط مع احتمال كونه في أثناء الصّلاة.

4- تخييره في بعض الموارد بين إتيانها قائماً أو قاعداً مع أنّ الواجب

على المكلّف السالم أن يأتي بالصلاه قائماً بالتعيين.

فظهر أنّ هذا عمل بالاحتياط تعبّداً لابدّ في كيفية أدائه من بيان الشارع المقدّس.

نعم، يمكن أن يجاب عن الثلاثة الاولى منها بأنّ التشهّد ذكر اللَّه لا تضرّ زيادته بالصلاة، وأمّا السلام فهو وإن كان من كلام الآدمي، ولذلك لا يجوز الإبتداء به في أثناء الصّلاة (ووجوب الجواب عنه في أثنائها يكون من باب وجود دليل خاصّ) ولكنّه صادق في غير السلام المأثور في باب الصّلاة، وأمّا السلام المأثور فلا يصدق عليه أنّه من كلام الآدميين، لأنّ المراد منه الكلام الرائج بين عامّة الناس والسلام الخاصّ بباب الصّلاة ليس من هذا القبيل، فتأمّل.

وأمّا تكبيرة الإحرام فهى توجب بطلان الصّلاة فيما إذا كانت في أوّلها وافتتاحها، وأمّا إذا صدرت في الأثناء فتعدّ من ذكر اللَّه الحسن على كلّ حال.

فيتعيّن الإشكال في خصوص الأخير، وهو التخيير بين إتيان صلاة الاحتياط قائماً أو قاعداً في بعض موارد الشكّ في الركعات.

4- ما رواه الصدوق رحمه الله في الخصال بإسناده عن علي عليه السلام (في حديث الأربعمائة) قال:

«من كان على يقين ثمّ شكّ فليمض على يقينه، فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين»»

.انوار الأصول، ج 3، ص: 301

وهذا الحديث مع عمومه وسلامته عن إشكال خصوصية المورد وسائر الإشكالات الواردة على الروايات السابقة، أورد عليها أيضاً سنداً ودلالة:

أمّا السند فللقاسم بن يحيى الذي ضعّفه العلّامة في الخلاصة، وابن داود في رجاله.

نعم، يمكن أن يقال: الأصل في هذا القدح ابن الغضائري الذي لا اعتبار بتضعيفاته وإن كان توثيقاته معتبرة، ولكنّه مع ذلك لم يوثّق، ولابدّ في تصحيح السند من إثبات الوثاقة.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ الناقل عنه أحمد بن محمّد بن عيسى القمّي الذي أخرج أحمد بن محمّد بن خالد

البرقي عن قم لنقله عن الضعاف، ولكنّه أيضاً ليس أكثر من قرينة على الوثاقة لا دليلًا عليها.

وأمّا الدلالة فلأنّ المراد منها غير واضح، فهل هى تدلّ على قاعدة اليقين أو قاعدة الاستصحاب؟ فلابدّ أوّلًا من بيان الفرق بين القاعدتين، فنقول: قد مرّ كون زمان الشكّ واليقين في الاستصحاب واحداً، وزمان متعلّقهما متعدّداً، وأمّا قاعدة اليقين فيكون (بالعكس) زمان المتعلّقين فيها واحداً، وزمان نفس اليقين والشكّ متعدّداً.

وفي هذا الحديث هناك فقرة منه (وهى قوله عليه السلام: «من كان على يقين ثمّ شكّ») تناسب قاعدة اليقين، لأنّها ظاهرة في أنّ الشكّ حصل في زمان آخر غير زمان اليقين وتعلّق بنفس ما تعلّق به اليقين، وتناسب فقرة اخرى منه الاستصحاب، وهى قوله عليه السلام: «إنّ الشكّ لا ينقض اليقين» حيث إنّها ظاهرة في بقاء اليقين حين حصول الشكّ، ولذلك نهى عن نقضه به، فالتعليل الوارد في هذا الحديث ظاهر في قاعدة الاستصحاب، وصدره ظاهر في قاعدة اليقين، ولا إشكال في أنّ ظهور التعليل مقدّم، والذي يسهل الخطب هى قرينية سائر الروايات كما لا يخفى.

5- ما رواه علي بن محمّد القاساني قال: «كتبت إليه وأنا بالمدينة أسأله عن اليوم الذي يشكّ فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب: اليقين لا يدخل فيه الشكّ، صمّ للرؤية وافطر للرؤية» «1».

انوار الأصول، ج 3، ص: 302

وقد عدّه الشيخ الأعظم رحمه الله من أحسن روايات الباب، واختار المحقّق الخراساني والمحقّق النائيني رحمه الله عدم دلالته رأساً، وذهب جماعة إلى دلالته في الجملة.

فلابدّ حينئذٍ من البحث فيه سنداً ودلالة:

أمّا السند فاختلف في أحمد بن محمّد القاساني، قال بعض: أنّه متّحد مع أحمد بن محمّد الشيره وهو ثقة، وقال بعض آخر: أحمد بن محمّد الشيره

ثقة والقاساني ضعيف، فالسند مشترك لا يمكن الاعتماد عليه، مضافاً إلى إشكال الاضمار.

أمّا الدلالة فالعمدة من الاحتمالات الموجودة فيها إثنان:

أحدهما: ما ذكره الشيخ الأعظم رحمه الله، وهو أنّ الحديث ناظر إلى الاستصحاب، والمراد من اليين هو اليقين بشهر شعبان واليقين بشهر رمضان، والمراد من الشكّ هو الشكّ في شهر رمضان والشكّ في شهر شوّال، وقوله عليه السلام «لا يدخل» أي «لا ينقض»، وقوله عليه السلام: «صم للرؤية وافطر للرؤية» عبارة اخرى عن قوله عليه السلام: «انقضه بيقين آخر» في بعض الروايات الاخر.

ثانيهما: ما في أجود التقريرات تبعاً للمحقّق الخراساني رحمه الله: وحاصله أنّ الحديث أجنبي عن الاستصحاب لأنّه لم يعهد أن يكون «لا يدخل» بمعنى لا ينقض، بل المراد من الحديث قاعدة اليقين في خصوص باب رمضان، وهو أنّ الشارع إعتبر أن يكون صوم شهر رمضان وإفطاره يقينيين «1».

وقد اعتمد المحقّق الخراساني رحمه الله في هذا على روايات اخرى وردت في الباب وهى كثيرة:

منها: ما رواه الحلبي عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إنّه سئل عن الأهلّة فقال هى أهلّة الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم وإذا رأيته فأفطر» «2».

ومنها: ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، وليس بالرأي ولا بالتظنّي ولكن بالرؤية» «3».

ومنها: ما رواه عمرو بن عثمان والفضل وزيد الشحّام جميعاً عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «أنّه انوار الأصول، ج 3، ص: 303

سئل عن الأهلّة، فقال: هى أهلّة الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم وإذا رأيته فأفطر الحديث» «1». إلى غير ذلك.

وظاهرها اعتبار حصول القطع واليقين بمشاهدة الهلال، فليكن الرواية الثالثة عشر من هذا الباب (وهى رواية القاساني المذكورة) أيضاً كذلك.

وأمّا الاحتمالات الاخرى في الحديث

فهى ثلاثة:

1- أن يكون المراد من الحديث لزوم العمل على اليقين بدخول شهر رمضان فقط، وهو جزء من احتمال المحقّق الخراساني رحمه الله.

وأورد عليه بأنّه ينافي ذيل الحديث: «وأفطر للرؤية».

2- أن يكون المراد منه اعتبار اليقين في كلّ يوم من شهر رمضان لا خصوص الأوّل والآخر.

وفيه: أنّه يستلزم عدم وجوب الصيام في اليوم الآخر المشكوك كونه من رمضان أو من شوّال، ولا يقول به أحد.

3- أن يكون الحديث ناظراً إلى قاعدة الإشتغال أساساً (الإشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية).

ويرد عليه: أنّ لازمه وجوب الصيام في اليوم الأوّل المشكوك كونه من رمضان أو من شعبان، وهو أيضاً لا يقول به أحد.

ثمّ إنّه يستفاد من مجموع كلمات المحقّق الخراساني والمحقّق النائيني والمحقّق الأصفهاني رحمه الله مؤيّدات ليكون المراد من الحديث قاعدة اليقين في خصوص باب الصوم، أي اعتبار اليقين في الصيام والإفطار، وأنّه ليس ناظراً إلى الاستصحاب:

منها: التعبير ب «لا يدخل» عوضاً عن التعبير ب «لا ينقض».

ومنها: الأحاديث الواردة في الباب الثالث من أبواب أحكام شهر رمضان كرواية سماعة (رفاعة) قال: «صيام شهر رمضان بالرؤية وليس بالظنّ» «2».

ورواية إسحاق بن عمّار عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّه قال: «في كتاب علي عليه السلام صمّ لرؤيته انوار الأصول، ج 3، ص: 304

وافطر لرؤيته وإيّاك والشكّ والظنّ ...» «1».

ورواية إبراهيم بن عثمان الخزّاز عن أبي عبداللَّه عليه السلام في حديث قال: «إنّ شهر رمضان فريضة من فرائض اللَّه فلا تؤدّوا بالتظنّي» «2».

فلا يخفى أنّ الملحوظ في هذه الروايات كون صيام رمضان بالرؤية والمشاهدة وأنّ الظنّ لا يكفي فيه، ولا نظر لها إلى اليقين بشهر شعبان حتّى يتوهّم أنّها في مقام بيان الاستصحاب.

ويمكن الاستشهاد أيضاً بقوله تعالى: «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ»

بناءً على أن يكون المراد من الشهود مشاهدة الهلال.

ولكنّه يندفع بذيل الآية الواردة في حقّ المسافر وكذلك بالروايات الواردة في تفسيرها، فإنّها تدلّ على أنّ الشهود بمعنى الحضور في الوطن في مقابل السفر.

ومنها: تفريع الإمام عليه السلام قوله «اليقين لا يدخل فيه الشكّ» بقوله: «صم للرؤية وافطر للرؤية»، حيث إنّه لو كان المراد منه الاستصحاب لكان المناسب أن يقول: فلا تصم عند الشكّ في رمضان ولا تفطر عند الشكّ في شوّال» فإنّ تعبيره بالرؤية شاهد على أنّ المراد هو قاعدة اليقين المختصّة بباب الصيام.

ومنها: أنّه لو كان المراد الاستصحاب للزم أن يكون اليقين بمعنى المتيقّن، وهو خلاف الظاهر.

أقول: يمكن الجواب عن جميع هذا بما ملخّصه: أنّه لا تضادّ بين المعنيين بل إنّهما متلازمان، لأنّ لازم حجّية الاستصحاب اعتبار القطع واليقين في وجوب الصيام ووجوب الإفطار، فالعدول من أحد التعبيرين إلى الآخر ممّا لا إشكال فيه.

توضيح ذلك: أمّا المؤيّد الأوّل ففيه أنّ الدخول والنقض متلازمان لأنّ النقض بمعنى عقد البناء أو عقد الحبل، ولازم نقض البناء مثلًا دخول الماء ونفوذه فيه.

وأمّا المؤيّد الثاني فمقتضى الجمع بين هذه الروايات والروايات الواردة في الباب الثالث عشر حصول الاطمئنان أيضاً بأنّ هذه الروايات تكون في مقام بيان لازم الاستصحاب ونتيجته، وهكذا بالنسبة إلى المؤيّد الثالث.

انوار الأصول، ج 3، ص: 305

وأمّا المؤيّد الرابع فجوابه أنّ اليقين في الغالب طريق إلى المتيقّن، فيكون ناظراً غالباً إلى المتيقّن كما هو كذلك في الروايات الثلاثة لزرارة التي لا إشكال في دلالتها على الاستصحاب.

فظهر أنّ الأرجح في النظر بالنسبة إلى هذا الحديث إنّما هو كلام الشيخ رحمه الله وهو دلالته على الاستصحاب.

6- ما رواه عمّار عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «كلّ شي ء نظيف حتّى

تعلم أنّه قذر فإذا علمت فقد قذر وما لم تعلم فليس عليك» «1».

ونظيره ما رواه حمّاد بن عثمان عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر» «2».

وكذلك ما رواه معاوية بن عمّار عن رجل من أصحابنا قال: «كنت عند أبي جعفر عليه السلام فسأله رجل عن الجبن فقال أبو جعفر عليه السلام: أنّه طعام يعجبني وساخبرك عن الجبن وغيره، كلّ شي ء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام فتدعه بعينه» «3».

وغيره من روايات الباب (الباب 61، من أبواب الأطعمة المباحة) وعلى هذا فالروايات المتظافرة بهذا المضمون، وهو يغنينا عن البحث في إسنادها.

وأمّا الدلالة: فالأقوال فيها خمسة لابدّ لتوضيحها من بيان مقدّمة، وهى أنّ هنا نوعين من الطهارة أو الحلّية: أحدهما الطهارة أو الحلّية الواقعية، والثاني الطهارة أو الحلّية الظاهريّة، والظاهريّة بنفسها أيضاً على قسمين: الطهارة أو الحلّية المستفادة من قاعدة الطهارة أو قاعدة الحلّية التي لا تلاحظ فيها الحالة السابقة، والطهارة أو الحلّية المستفادة من قاعدة الاستصحاب الملحوظة فيها الحالة السابقة.

والبحث في ما نحن فيه في أنّه هل هذه الطهارة أو الحلّية واقعيّة أو ظاهريّة؟ وعلى فرض كونها ظاهريّة هل هى من باب تطبيق قاعدة الطهارة أو الحلّية، أو من باب تطبيق قاعدة الاستصحاب.

انوار الأصول، ج 3، ص: 306

ولا يخفى أنّ هذا القبيل من الروايات إنّما يفيدنا في المقام إذا كانت الحلّية أو الطهارة فيها ظاهرة أوّلًا، ومن باب قاعدة الاستصحاب ثانياً.

وكيف كان، فالأقوال في المسألة خمسة:

1- قول المحقّق الخراساني رحمه الله في حاشية الرسائل بأنّها ناظرة إلى الواقعيّة والظاهريّة بكلتا قسميها.

2- القول بأنّها ناظرة إلى الواقعيّة بصدرها، واستصحاب الطهارة أو الحلّية بذيلها، ولا نظر لها إلى قاعدة الحلّية

أو قاعدة الطهارة، وهذا هو ظاهر المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية.

3- أن يكون صدر الرواية ناظراً إلى قاعدة الحلّية أو قاعدة الطهارة، وذيلها إلى قاعدة الاستصحاب، وهذا هو قول صاحب الفصول، ولعلّه أوّل من استدلّ بها على الاستصحاب في المقام.

4- أن تكون ناظرة إلى قاعدة الطهارة أو الحلّية فحسب، وهذا منسوب إلى المشهور.

5- قول الشيخ الأعظم رحمه الله في الرسائل وهو التفصيل بين حديث «الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر» فيكون ناظراً إلى الحكم الواقعي والاستصحاب، وبين حديثين آخرين (حديث كلّ شي ء نظيف «1» ... وحديث كلّ شي ء لك حلال) فيكونان ناظرين إلى خصوص القاعدة.

واستدلّ القائلون بعدم دلالة هذا الحديث على الطهارة الواقعيّة:

أوّلًا بأنّ الطهارة والنجاسة أمران طبيعيان عرفيّان لا مجعولان شرعيّان.

أضف إلى ذلك أنّه لو كانتا مجعولين من ناحية الشرع المقدّس للزم إمكان خلوّ الواقع من كليهما، وهو خلاف إرتكاز المتشرّعة.

ويرد عليه: أنّ الطهارة والنجاسة أمران مجعولان من ناحية الشارع قطعاً وأنّ النسبة بين الطهارة والنجاسة الشرعيتين والطهارة والنجاسة العرفيتين عموم من وجه، فربّ شي ء نظيف بحسب الإرتكاز العرفي ولكنّه نجس وقذر شرعاً، كالكافر النظيف وعرق الجنب عن انوار الأصول، ج 3، ص: 307

الحرام الذي لا فرق بينه وبين عرق الجنب عن الحلال عند العرف (بناءً على ما ذكره المشهور من نجاسة الكافر، وما ذهب إليه جمع من الأصحاب من نجاسة عرق الجنب من الحرام)، وربّ شي ء طاهر شرعاً ولكنّه قذر عرفاً، كالمسلم غير النظيف وغسالة الإستنجاء.

وأمّا ما ذكر من اللازم فإنّا نلتزم به ولا ضير فيه، فلا إشكال في إمكان خلوّ الواقع عن كلّ واحد من الطهارة والنجاسة.

وأمّا إرتكاز المتشرّعة فهو مختصّ بالوقوع الخارجي ومقام الإثبات لا بالإمكان ومقام الثبوت.

واستدلّوا ثانياً: بأنّ

الحديث ناظر إلى الحكم الظاهري، وإنّ نظره إلى الحكم الواقعي يستلزم منه الجمع بين اللحاظين في آنٍ واحد.

توضيح ذلك: أنّ كلمة «شي ء» الواردة في الحديث لو كان المراد منه الشي ء الواقعي فيكون هو الشي ء بعنوانه الأوّلي، أي الشجر مثلًا بما هو شجر، والفاكهة بما هى فاكهة، ولو كان المراد منه الحكم الظاهري فيكون المراد منه الشي ء بما هو مشكوك، ولا يخفى أنّ الحكم الظاهري متأخّر عن الحكم الواقعي برتبتين، فإنّ الحكم الواقعي متأخّر عن موضوعه برتبة، والشكّ فيه موضوع للحكم الظاهري، فيكون الحكم الظاهري متأخّراً عن الحكم الواقعي برتبة اخرى، ومع هذا لا يمكن كون لفظ واحد فانياً في المعنيين في آنٍ واحد.

وهكذا بالنسبة إلى كلمة «نظيف» (أو طاهر) فلا يمكن أن يريد منه النظافة الواقعيّة والظاهريّة معاً بنفس البيان.

وكذلك بالنسبة إلى قوله عليه السلام: «حتّى تعلم» لأنّه إذا كان المراد من الطهارة الطهارة الواقعية كان العلم فيها مأخوذاً بعنوان الطريق إلى الواقع، لأنّه لا يمكن أن تكون الطهارة الواقعية مغيّاة بالعلم بالنجاسة، بل إنّها مغيّاة بالنجاسة الواقعيّة.

وإن كان المراد منها الطهارة الظاهرية كان العلم فيها مأخوذاً بعنوان الموضوع، لأنّ العلم يرتفع به موضوع الطهارة الظاهرية وهو الشكّ.

ولا إشكال في أنّ اللحاظ في العلم الطريقي آلي، وفي الموضوعي استقلالي، والجمع بينهما محال، وحينئذٍ نقول: لا كلام في كون الطهارة الظاهرية مرادة قطعاً، فيستحيل أن تكون الطهارة الواقعيّة أيضاً مرادة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 308

ولكن يمكن الجواب عنه: بأنّ كلّ هذه مبنى على مبنى فاسد في حقيقة الاستعمال، وهو أنّ حقيقة الاستعمال فناء اللفظ في المعنى كما هو مختار المحقّق الخراساني ومن تبعه، وأمّا إذا قلنا بأنّ الاستعمال نوع من التعهّد والالتزام، أي التعهّد بأنّ هذا اللفظ

علامة لهذا المعنى فلا إشكال في البين ولا استحالة.

إن قلت: فكيف يكون المتكلّم غافلًا عن اللفظ وملتفتاً إلى خصوص المعنى حين التلفّظ؟ وكيف يسري القبح أو الحسن من المعنى إلى اللفظ؟

قلنا: كلّ هذا لأجل كثرة الاستعمال، ولا ربط بالفناء ونحوها، وإن أبيت فانظر إلى من كان حديث العهد بلغة جديدة، فإنّه ينظر إلى اللفظ أيضاً حين الاستعمال، ولا يحسّ قبحاً أو حسناً بالنسبة إلى الألفاظ التي لها معانٍ قبيحة أو معانٍ حسنة، فإذا ضممنا هذا إلى ما اخترناه في محلّه من جواز استعمال لفظ واحد في أكثر من معنى بلا إشكال، وإنّ كثيراً من البدائع والظرائف الكلامية مبنية عليه (كما جاء في قول الشاعر:

المرتمى في الدجى والمبتلى بعمى والمبتغي ديناً والمشتكي ظمأً

يأتون سدّته من كلّ ناحية ويستفيدون من نعمائه عيناً

والنتيجة إندفاع إشكال الجمع بين اللحاظين، كما مرّ تفصيله في محلّه.

إلى هنا ثبت إمكان إرادة المعاني الثلاثة معاً (الحكم الواقعي والقاعدة والاستصحاب) من الحديث وأنّه لا استحالة فيه.

لكن الكلام بعدُ فيما هو الظاهر منه، فنقول: الصحيح أنّ الظاهر منه بصدره وذيله وبغايته ومغيّاه إنّما هو قاعدة الطهارة والحلّية، كما نسب إلى المشهور، فلا يستفاد منها الحكم الواقعي ولا الاستصحاب، وذلك لقرائن مختلفة:

أحدها: أنّ الغاية (وهى كلمة «حتّى تعلم») سواء كانت قيداً للموضوع (أي كلّ شي ء مقيّد بعدم العلم بنجاسته طاهر) أو كان قيداً للحكم (أي كلّ شي ء طاهر بالطهارة المقيّدة بعدم العلم بالنجاسة) أو كان قيداً للنسبة كما هو الموافق مع الوجدان العرفي والإرتكاز العقلائي (أي أنّ الطهارة ثابتة ما لم يعلم بالنجاسة) لا تناسب كون المراد الحكم الواقعي، لأنّ الأحكام الواقعيّة مغيّاة بقيود واقعيّة وعناوين حقيقية، وليست تابعة للعلم والجهل، فإنّ ماء الكرّ مثلًا طاهر

واقعاً إلى أن يتغيّر لونه أو طعمه أو ريحه بالنجاسة واقعاً، لا إلى أن يعلم بتغيّره.

الثانية: أنّ العرف إذا اعطيت بيده الغاية (حتّى تعلم) يؤخذ ضدّها (وهو الشكّ) في انوار الأصول، ج 3، ص: 309

موضوع المغيّى فيحكم بأنّ المغيّى في ما نحن فيه عبارة عن «كلّ شي ء مشكوك»، أي «كلّ شي ء مشكوك طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»، أو «كلّ شي ء طاهر ما دمت في شكّ حتّى تعلم أنّه قذر»، ولا يخفى أنّ المأخوذ في موضوعه الشكّ حكم ظاهري لا واقعي.

الثالثة: ظاهر التعبير ب «حتّى تعلم أنّه قذر» أنّه قد سبقه جعل حكم واقعي بالطهارة أو القذارة ثمّ شكّ فيه، فلا يكون المقام إلّامقام الحكم الظاهري.

هذه قرائن يندفع بها احتمال إرادة الحكم الواقعي، ويثبت أنّ الظاهر هو جعل حكم ظاهري، وحينئذ يبقى الكلام في أنّ الظاهر من الحديث هل هو قاعدة الطهارة أو الحلّية، أو الظاهر منه استصحاب أحدهما؟ فنقول: الصحيح هو الأوّل، لأنّ معنى الاستصحاب يحتاج إلى ما يدلّ على استمرار الحالة السابقة، وهو غير ظاهر في الحديث.

إن قلت: يدلّ عليه كلمة «حتّى»، لأنّها تدلّ على الاستمرار.

قلنا: هذا الاستمرار إنّما هو من جهة بقاء الحكم ببقاء موضوعه الثابت في جميع الموارد، لا الاستمرار الاستصحابي، فمعنى الحديث أنّ حكم الطهارة ثابت لمشكوك الطهارة ما دام مشكوكاً، وأين هذا من الاستصحاب؟

إن قلت: يمكن أن يكون صدر الحديث ناظراً إلى الحكم الواقعي وذيله إلى الاستصحاب (كما هو ظاهر المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية) فيكون المعنى في الواقع: «الأشياء بعناوينها الواقعية طاهرة، ويستمرّ هذا الحكم عند الشكّ حتّى تعلم أنّه نجس»، فيصير «حتّى تعلم» غاية للجملة المقدّرة (أي لجملة «يستمرّ هذا الحكم») لا للحكم الواقعي حتّى يستشكل بعدم إمكان

وقوع العلم غاية له.

قلنا: التقدير خلاف الظاهر ومحتاج إلى قرينة، وهى مفقودة في المقام.

إن قلت: أي مانع في أنّ يكون صدر الحديث ناظراً إلى القاعدة وذيله إلى الاستصحاب مع عدم ابتلائه بإشكال التقدير؟

قلنا: هذا غير ممكن فإنّه لولا التقدير لكان الذيل غاية لما ثبت في الصدر، فكما أنّ الذيل ناظر إلى الحكم الظاهري (أي الطهارة للمشكوك) لابدّ أن يكون صدره كذلك.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ ما نسب إليه المشهور هو الحقّ، وهو أنّ الحديث دالّ على خصوص القاعدة بصدره وذيله.

انوار الأصول، ج 3، ص: 310

بقي هنا شي ء:

وهو استشهاد المحقّق الخراساني رحمه الله لإثبات مقالته في الحديث (وهو أنّ صدر الحديث ناظر إلى حكم اللَّه الواقعي وذيله إلى الاستصحاب) بما ورد في ذيل الحديث، وهو «فإذا علمت فقد قذر وما لم تعلم فليس عليك»، حيث إنّ الفقرة الاولى وهى (فإذا علمت فقد قذر) بمنزلة قوله عليه السلام: «بل إنقضه بيقين آخر» والفقرة الثانية وهى قوله عليه السلام: «وما لم تعلم فليس عليك» بمنزلة قوله عليه السلام: «لا تنقض اليقين بالشكّ» فتكون الفقرتان متلائمتين ومرتبطتين معاً بالاستصحاب، بخلاف ما إذا قلنا بأنّ صدر الرواية ناظر إلى القاعدة وذيلها إلى الاستصحاب، حيث إنّه حينئذٍ لابدّ من أن تكون الفقرة الثانية ناظرة إلى قاعدة الطهارة، لأنّ معنى «ما لم تعلم» هو الشكّ الذي يكون موضوعاً لها، مع أنّ الفقرة الاولى ناظرة إلى الاستصحاب بلا ريب، وبهذا يلزم التفكيك بين الفقرتين، وهو خلاف الظاهر، حيث إنّ الظاهر كون الثانية من قبيل المفهوم للُاولى.

والجواب عنه: أنّه كذلك فيما إذا دار الأمر بين إرادة الحكم الواقعي والاستصحاب من الحديث، أو القاعدة والاستصحاب، وأمّا بناءً على المختار (من كون الحديث بصدره وذيله ناظراً

إلى القاعدة) فيكون المراد من الفقرة الاولى بيان أنّ الحكم يرتفع إذا تبدّل موضوع القاعدة وهو الشكّ إلى العلم، ومن الفقرة الثانية بيان أنّ هذا الحكم ثابت ما دام الموضوع باقياً، فهما ناظران إلى طرفي مفهوم واحد.

7- ومن الروايات ما رواه عبداللَّه بن سنان قال: «سأل أبي أبا عبداللَّه عليه السلام وأنا حاضر، أنّي اعير الذمّي ثوبي وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير فيردّه عليّ فأغسله قبل أن اصلّي فيه؟ فقال أبو عبداللَّه عليه السلام: صلّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ولم تستيقن أنّه نجّسه فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى تستيقن أنّه نجّسه» «1».

ولكن الإنصاف أنّها من الروايات الخاصّة التي لا يستفاد منها العموم، ولو سلّمنا ظهور

انوار الأصول، ج 3، ص: 311

التعليل الوارد فيها في العموم إلّاأنّه مختصّ أيضاً بباب الطهارة والنجاسة ويشكل التعدّي عنه إلى غيره، فالأولى جعلها مؤيّدة للمقصود.

8- ومنها ما رواه عبداللَّه بن بكير عن أبيه قال: قال لي أبو عبداللَّه عليه السلام: «إذا استيقنت إنّك قد أحدثت فتوضّأ، وإيّاك أن تحدث وضوء أبداً حتّى تستيقن أنّك قد أحدثت» «1».

وهذا أيضاً خاصّ بباب الوضوء وإن كان تعليق الحكم فيه على وصف اليقين مشعراً العلّية، فالأولى أيضاً جعلها مؤيّدة.

نتيجة البحث في أدلّة الاستصحاب:

قد ظهر أنّ الدالّ على الاستصحاب من بين الأدلّة إنّما هو بناء العقلاء وسيرتهم (مع دلالته على أنّ الاستصحاب أصل لا أمارة، وذلك لما قلنا سابقاً من أنّ للعقلاء اصولًا كما أنّ لهم أمارات) وخمس روايات من الروايات المذكورة، ثلاثة منها روايات زرارة، والرابعة رواية علي بن محمّد القاساني في صوم شهر رمضان، والخامسة رواية الخصال في من كان على يقين فشكّ ...

وأمّا الإجماع فقد مرّ

أنّه مدركي في المقام، وأمّا الإستقراء فقد عرفت أنّه إستقراء ناقص جدّاً.

لكن هيهنا سؤال وهو أنّه لو كانت دلالة هذه الأحاديث تامّة فلِمَ لم يستند إليها القدماء من الأصحاب، وإعترف الشيخ الأعظم رحمه الله بعدم استنادهم إليها إلى زمان والد الشيخ البهائي رحمه الله؟

والجواب عنه: أنّه يمكن أن يكون عدم إستنادهم إليها لجهات عديدة:

منها: أنّهم قد ظنّوا استغناءهم عنها بسيرة العقلاء وقد مرّ أنّ هذه الروايات إمضاء لها.

انوار الأصول، ج 3، ص: 312

ومنها: أنّهم ظنّوا أنّها روايات خاصّة وردت في أبواب معيّنة لا يمكن الاستدلال بها على العموم، وإنّ اللام في اليقين والشكّ إشارة إلى العهد لا الجنس، كما مرّ احتماله سابقاً، فمن هنا تركوا الاعتماد على هذه الروايات ورجعوا إلى بناء العقلاء، وقد ثبت في محلّه أنّ إعراض المشهور عن الدلالة غير ضائر في الحجّية.

التفصيل بين الشبهات الحكميّة والشبهات الموضوعيّة:

ثمّ إنّه هل المستفاد من هذه الأدلّة حجّية الاستصحاب في خصوص الشبهة الموضوعيّة، أو إنّها تعمّ الشبهات الحكميّة أيضاً؟

ذهب إلى الثاني جميع المتأخّرين، وذكر أنّ الأمين الاسترابادي في بعض كلماته أنّ أحداً من القدماء الماضين قدّس اللَّه أسرارهم لم يقل بهذا العموم، فلم يستندوا إلى الاستصحاب في بقاء حلّية العصر العنبي مثلًا بعد الغليان، وبقاء نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره بنفسه.

والصحيح هو الأوّل كما ذهب إليه بعض أعاظم العصر قدّس اللَّه سرّه، وإن كان دليله الذي أقامه على الانحصار غير تامّ (كما سيأتي بيانه وبيان المناقشة فيه).

دليلنا عليه أمران:

أحدهما: أنّه قد مرّ أنّ أساس الاستصحاب إنّما هو سيرة العقلاء، وهى جارية في خصوص الشبهات الموضوعيّة، وأمّا الشبهات الحكميّة فإن كان الشكّ فيها في نسخ قانون وعدمه فلا ريب في أنّهم يتمسّكون باستصحاب عدم النسخ أيضاً، وأمّا إذا لم يكن

منشأ الشبهة النسخ، بل شكّ في بقاء الحكم وعدمه، ولم يكن هناك عموم أو اطلاق، كما إذا جعلت زكاة على العنب وبعد تبدّله إلى الزبيب شكّ في بقائه مثلًا (مع فرض كون وصف الزبيبيّة من الأوصاف لا من المقوّمات) فإنّ العقلاء لا يعتمدون في مثل هذه الموارد على استصحاب بقاء ذلك الحكم.

ثانيهما: أنّ الوجدان حاكم على أنّه لو عشنا نحن في عصر صدور أخبار الاستصحاب مكان زرارة لم نشكّ في وجوب الفحص عن الحكم في الشبهات الحكميّة بالسؤال عن الإمام عليه السلام، ولم نحتمل جواز التمسّك بالاستصحاب بمجرّد الشكّ في بقاء حلّية العصر العنبي بعد

انوار الأصول، ج 3، ص: 313

الغليان مثلًا، أو بقاء نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره بنفسه.

وإن شئت قلت: حيث إنّ الفحص والسؤال عن المعصوم كان ممكناً في عصر الأخبار غالباً لا سيّما للرواة، ولم تمسّ الحاجة غالباً إلى جريان الاستصحاب فيمكن أن يقال حينئذٍ بإنصراف أخبار الاستصحاب عن الشبهات الحكميّة، ولذلك إعترف الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله في مبحث الاحتياط أنّ الأخبار الدالّة على وجوب الاحتياط ناظرة إلى زمن الحضور، كما أنّه قد ورد في بعضها التعبير ب «إذا أصبتم بمثل هذا فعليكم الاحتياط حتّى تسألوا وتعلموا».

وكيف كان، لا أقل من الشكّ في اطلاق أخبار الاستصحاب أو عمومها بالنسبة إلى الشبهات الحكميّة، وهذا كافٍ في عدم جواز الاستدلال بها على العموم.

ويؤيّد ذلك أنّ مورد جميع الروايات خاصّ بالشبهات الموضوعيّة، كالسؤال عن إصابة النجاسة بالثوب ووقوع النوم وعدمه في روايات زرارة، وعن يوم الشكّ في شهر رمضان في خبر علي بن محمّد القاساني، وهكذا في رواية الشكّ في الركعات.

استدلال بعض الأعاظم للتفصيل ونقده:

ثمّ إنّ بعض أعاظم العصر قدّس اللَّه سرّه استدلّ لعدم حجّية الاستصحاب في الشبهات

الحكميّة بما حاصله: إنّ الاستصحاب في الأحكام الكلّية معارض بمثله دائماً.

وإليك ملخّص ما أفاده في توضيح ذلك في كلام طويل له في المقام:

إنّ للأحكام مرحلتين: مرحلة الإنشاء والجعل، ومرحلة الفعلية والمجعول، مثلًا الشارع ينشأ وجوب الحجّ على المستطيع مع عدم وجود مكلّف أو مستطيع، فهنا إنشاء الحكم على موضوعه وإن كانت الشرائط غير موجودة والموانع غير مفقودة، فإذا وجد الموضوع واجتمعت الشرائط وفقدت الموانع صار فعليّاً.

والاستصحابات الحكميّة معارضة دائماً بالاستصحاب العدمي في مرحلة الجعل والإنشاء، فالمرأة إذا طهرت من الدم ولم تغتسل جرى في حقّها استصحاب بقاء حرمة الوطي، ولكنّه معارض بعدم جعل الحرمة من أوّل الأمر فيما زاد على زمان الدم، فيتعارض الاستصحابان ويسقطان من الجانبين.

انوار الأصول، ج 3، ص: 314

ثمّ أشكل على نفسه بامور:

1- إنّ استصحاب عدم جعل الحرمة (مثلًا) معارض باستصحاب عدم جعل الحلّية.

فأجاب عنه أوّلًا: بأنّه لا مجال لإستصحاب عدم جعل الحلّية لأنّ الرخصة كانت متحقّقة في صدر الإسلام لتشريع الأحكام تدريجاً.

وثانياً: بأنّ التعارض فرع لزوم المخالفة العمليّة القطعيّة، وهنا ليس كذلك كما لا يخفى.

وثالثاً: بأنّه لو تنزّلنا عن جميع ذلك فنقول: يقع التعارض بين هذه الاستصحابات الثلاث لأنّها في مرتبة واحدة.

2- إنّ استصحاب عدم جعل الحرمة حاكمة على استصحاب بقاء الحرمة السابقة لأنّ الأوّل سببي والآخر مسبّبي.

وأجاب عنه: بأنّه يعتبر في حكومة الأصل السببي على الأصل المسبّبي أن يكون التسبّب بينهما شرعيّاً، وهنا ليس كذلك، وبعبارة اخرى: الملاك كون المشكوك في أحدهما أثراً مجعولًا شرعيّاً للآخر، مع أنّ سببيّة الجعل للمجعول عقلي، وليست من الأحكام الشرعيّة.

3- إنّ استصحاب عدم الجعل مثبت في المقام لأنّ الحلّية من اللوازم العقليّة لعدم جعل الحرمة.

وأجاب عنه: بأنّ الأصل المثبت إنّما هو في امور لم يكن

أمر وضعه ورفعه بيد الشارع، أمّا لو كان وضعه ورفعه كذلك فالأصل المثبت لا إشكال فيه، لأنّه إذا رفعه الشارع واقعاً ترتّب عليه جميع آثاره العقليّة والشرعيّة (انتهى ما إستفدناه من أبحاثه ومحاضراته قدّس اللَّه سرّه الشريف).

4- ما ورد في بعض تقريراته عن استاذه المحقّق النائيني رحمه الله وهو: «إنّ استصحاب عدم الجعل غير جارٍ في نفسه لعدم ترتّب الأثر العملي عليه لأنّ الجعل عبارة عن إنشاء الحكم والإنشائية لا تترتّب عليها الآثار الشرعيّة، بل ولا الآثار العقليّة من وجوب الإطاعة وحرمة المعصية مع العلم بها، فصحّ عن التعبّد بها بالاستصحاب فإنّه إذا علمنا بأنّ الشارع جعل وجوب الزكاة على مالك النصاب لا يترتّب على هذا الجعل أثر ما لم تتحقّق ملكية في انوار الأصول، ج 3، ص: 315

الخارج، وعليه فلا يترتّب الأثر العملي على استصحاب عدم الجعل فلا مجال لجريانه» «1».

أقول: والجواب عنه ظاهر (والعجب كيف خفى هذا على مثل هذا المحقّق النحرير قدّس اللَّه سرّه) لأنّ ترتّب آثار الحكم كالبعث والزجر والطاعة والمعصية يتوقّف على كلّ من الجعل والمجعول، أي كلّ واحد من مقام الإنشاء ومقام الفعلية، وبعبارة اخرى: يتوقّف على الجعل وتحقّق الموضوع معاً، فيكفي في عدمها إنتفاء أحدهما، فلو استصحبنا عدم أحدهما وهو الجعل مثلًا (كما هو المفروض في المقام) كفى في إثبات عدم وجوب الطاعة، وكما أنّ استصحاب بقاء الجعل يجري (ولو قبل تحقّق الموضوع) لإثبات فعلية التكليف عند وجود الموضوع، كذلك استصحاب عدم الجعل يجري (ولو قبل تحقّق الموضوع) لإثبات عدم فعليته عند وجود الموضوع.

هذا بالنسبة إلى ما نقله عن استاذه المحقّق النائيني رحمه الله، وفي كلامه أيضاً مواقع للنظر:

1- (بالنسبة إلى ما ذكره من أنّ تعارض استصحاب عدم جعل

الحرمة مع استصحاب عدم جعل الحلّية لا يوجب سقوطهما عن الحجّية لعدم لزوم المخالفة القطعيّة العمليّة) أنّه قد تلزم المخالفة القطعيّة العمليّة، وهو في مثل استصحاب عدم جعل نجاسة الماء المتغيّر الذي زال عنه التغيّر بنفسه إذا كان الماء منحصراً فيه ولا يكون له ماء آخر، فإنّ استصحاب عدم جعل النجاسة فيه معارض مع استصحاب عدم جعل الطهارة، ويلزم من جريانهما المخالفة القطعيّة العمليّة، لأنّه لو كان طاهراً يجب التوضّي به، ولو كان نجساً يحرم شربه، فيلزم من إجراء الأصلين جواز الشرب وعدم وجوب التوضّي منه.

2- (بالنسبة إلى قوله أنّ الطهارة عبارة عن عدم النجاسة فتكون أمراً عدميّاً لا يقبل الجعل حتّى يمكن استصحاب عدمه) يرد عليه ما مرّ من أنّ الطهارة والنجاسة أمران وجوديّان، ولكلّ منهما أحكام وآثار شرعية، ولذلك يجب طهارة ماء الوضوء والماء الذي يريد المكلّف أن يتطهّر به عن الخبث، وإلّا لا يكون مطهّراً عن الحدث والخبث.

3- (بالنسبة إلى قوله: إنّ في صورة التعارض يسقط جميع الاستصحابات الثلاثة) أنّ انوار الأصول، ج 3، ص: 316

الاستصحاب الحكمي مقدّم على استصحاب عدم الجعل (عكس ما قد يقال من أنّ استصحاب عدم الجعل مقدّم لكونه سببيّاً) لأنّ الاستصحاب الحكمي بنفسه يكون جعلًا لحكم ظاهري، ولذلك يقال: إنّ استصحاب الحكم من قبيل جعل مماثل، فإنّ معنى استصحاب نجاسة الماء الذي زال عنه التغيّر أنّ الشارع جعل له نجاسة ظاهريّة في هذا الحال، ومع وجود هذا الحكم الظاهري لا يبقى شكّ في جعل الطهارة، فلا مجال لاستصحاب عدمه.

4- (هذا وما بعده من الإشكال الآتي هو العمدة في المقام) أنّ الاستصحاب الحكمي (استصحاب المجعول) لا يكون معارضاً لاستصحاب عدم الجعل في جميع الموارد والأمثلة، بل كثيراً ما يكون

موافقاً له، كاستصحاب طهارة المذي الخارج بعد الوضوء الذي لا يعارضه استصحاب عدم جعل ناقضية المذي (فإنّ استصحاب عدم الجعل فيه عبارة عن استصحاب عدم الناقضية كما لا يخفى) بل يعضده، وهكذا استصحاب بقاء الملكية في عقد المعاطاة بعد قول المالك الأوّل «فسخت» فإنّه ليس معارضاً لاستصحاب عدم جعل الفسخ رافعاً، وأمّا الملكيّة الحاصلة بالبيع فهى مستمرّة بالإجماع لولا الفسخ، فلا يمكن أن يقال: نحن نشكّ في جعل الملكية حتّى في ما بعد الفسخ، لأنّه عبارة اخرى عن جعل الفسخ نافذاً، والأصل عدم جعله نافذاً، فهو موافق لاستصحاب بقاء الملكية، وكذلك بالنسبة إلى كلّ مورد يكون الشكّ فيه في النقض أو الرفع أو الفسخ.

فلابدّ لمن قام دليله على عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة وتعارضه مع استصحاب عدم الجعل أن يفصّل ثانياً بين مواردها فيكون تفصيلًا في تفصيل.

5- إنّ الأساس في الاستصحاب كما مرّ كراراً إنّما هو بناء العقلاء وسيرتهم، وهى قائمة في خصوص الموارد التي تكون الغلبة فيها على البقاء، مثل الصحّة والمرض الذي تكون الغلبة فيه على السلامة، وفي الأملاك والمساكن التي تكون الغلبة فيها بقائها على حالها، وأمّا فيما إذا كانت الغلبة على العكس، كما إذا وقعت زلزلة في بلد من البلاد وخربت أكثر بيوته، ففي مثل هذا المورد لا يعتمد العقلاء على استصحاب بقاء دار زيد مثلًا، أو إذا شاع مرض مثلًا وأهلك غالب سكّان البلد فلا شكّ في أنّهم لا يعتمدون أيضاً على استصحاب حياة زيد مثلًا، ومن هذا القبيل ما نحن فيه، حيث إنّ ظهور الإسلام والشريعة المقدّسة أوجب تزلزلًا وتغييراً أساسيّاً بجعل أحكام جديدة في كثير من الموضوعات بحيث صارت الغلبة على وجود الجعل والمجعول، وفي مثله لا

تأتي تلك السيرة مع ذلك الملاك، فلا يجري استصحاب عدم الجعل فيه.

انوار الأصول، ج 3، ص: 317

فتلخّص من جميع ذلك أنّ أصل مدّعاه قدس سره (الموافق لما ذكره النراقي) أي التفصيل بين الشبهات الموضوعيّة والحكميّة صحيح وإن لم يتمّ دليله.

تفصيل الشيخ الأعظم الأنصاري؛ بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع
اشارة

ثمّ إنّ هيهنا تفصيلًا آخر من الشيخ الأعظم قدّس سرّه الشريف الذي نسبه إلى المحقّق رحمه الله في المعارج (وإن كان في النسبة نظر كما سيأتي) وهو التفصيل بين الشكّ في المقتضي فلا يكون الاستصحاب حجّة، وبين الشكّ في الرافع فيكون حجّة، وتحليل المسألة وإيضاح الحقّ فيها يحتاج إلى رسم امور:

1- بيان الموارد من المقتضي والمانع.

2- دليل الشيخ الأعظم رحمه الله على هذا التفصيل.

3- نقد كلامه الشريف.

أمّا الأمر الأوّل فنقول: قد أوضح الشيخ رحمه الله بنفسه مقصوده من المقتضي والمانع بأوفى البيان مع ذكر المثال، ولا ينقضي تعجّبي عن بعض الأعلام من أنّه كيف أتعب نفسه الزكيّة فذكر لتوضيح مراد الشيخ رحمه الله احتمالات عديدة هى أجنبية عن مرامه ومخالفة لما صرّح به نفسه؟

وإليك نصّ كلام الشيخ رحمه الله في مبحث تقسيم الاستصحاب باعتبار الشكّ المأخوذ فيه:

«الثالث من حيث إنّ الشكّ في بقاء المستصحب قد يكون من جهة المقتضي، والمراد به الشكّ من حيث إستعداده وقابليته في ذاته للبقاء، كالشكّ في بقاء الليل والنهار وخيار الغبن بعد الزمان الأوّل، وقد يكون من جهة طروّ الرافع مع القطع باستعداده للبقاء، وهذا على أقسام ...» «1».

ثمّ ذكر الأقوال في حجّية الاستصحاب وقال: «والأقوى هو القول التاسع وهو الذي اختاره المحقّق، فإنّ المحكيّ عنه في المعارج أنّه قال: إذا ثبت حكم في وقت ثمّ جاء وقت آخر

انوار الأصول، ج 3، ص: 318

ولم يقم دليل على انتفاء ذلك الحكم هل يحكم

ببقائه على ما كان، أم يفتقر الحكم في الوقت الثاني إلى دلالة؟ كما يفتقر نفيه إلى الدلالة، حكى عن المفيد رحمه الله أنّه يحكم ببقائه ما لم تقم دلالة على نفيه، وهو المختار، وقال المرتضى رحمه الله: لا يحكم. ثمّ مثل بالمتيمّم الواجد للماء في أثناء الصّلاة، ثمّ احتجّ للحجّية بوجوه: منها: أنّ المقتضي للحكم الأوّل موجود، ثمّ ذكر أدلّة المانعين وأجاب عنها، ثمّ قال: والذي نختاره أن ننظر في دليل ذلك الحكم فإن كان يقتضيه مطلقاً وجب الحكم باستمرار الحكم كعقد النكاح فإنّه يوجب حلّ الوطي مطلقاً. فإذا وقع الخلاف في الألفاظ التي يقع بها الطلاق، فالمستدلّ على أنّ الطلاق لا يقع بها لو قال: حلّ الوطي ثابت قبل النطق بهذه الألفاظ فكذا بعده، كان صحيحاً، لأنّ المقتضي للتحليل- وهو العقد- اقتضاه مطلقاً، ولا يعلم أنّ الألفاظ المذكورة رافعة لذلك الاقتضاء، فيثبت الحكم عملًا بالمقتضي «1».

فظهر أنّ كلام الشيخ رحمه الله واضح لا حاجة في توضيحه إلى بيان احتمالات عديدة، نعم الظاهر أنّ كلام المحقّق رحمه الله لا ربط له بالاستصحاب وبالشكّ في المقتضي أو المانع المبحوث عنه في مبحث الاستصحاب، بل الظاهر أنّ مراده من المقتضي إنّما هو العمومات التي يرجع إليها عند الشكّ في المخصّص، والشاهد عليه ما صرّح به في ذيل كلامه حيث قال: «وقوع العقد إقتضى حلّ الوطي لا مقيّداً بوقت» فإنّه ناظر إلى عموم «اوفوا بالعقود» و «أحلّ اللَّه النكاح» الذي لا نعلم تخصيصه بالألفاظ المشكوكة في أبواب الطلاق، فالتمسّك بالعموم عند الشكّ في المخصّص شي ء، والتمسّك بالاستصحاب شي ء آخر، وهذا نظير الاستدلال لأصالة اللزوم في أبواب المعاملات ب «اوفوا بالعقود» و «أحلّ اللَّه البيع» و «تجارة عن تراضٍ»

وغيرها، كما تمسّك الشيخ الأعظم نفسه بها في ابتداء مباحث البيع والخيارات. ثمّ أضاف إليها لاستصحاب بعنوان دليل آخر.

وأمّا الأمر الثاني: فاستدلّ الشيخ رحمه الله لهذا التفصيل بما حاصله: أنّ للنقض معنىً حقيقيّاً وهو عبارة عن رفع الهيئة الإتّصاليّة كما في نقض الحبل، ومعنى مجازياً أقرب وهو رفع الأمر الثابت، أي المستحكم الذي فيه إقتضاء الثبوت والاستمرار، ومعنىً مجازياً أبعد وهو مطلق رفع اليد عن الشي ء وترك العمل به ولو لعدم المقتضي له، فإذا تعذّر المعنى الحقيقي كما في المقام انوار الأصول، ج 3، ص: 319

ودار الأمر بين المعنيين المجازيين، فيتعيّن الأوّل منهما الأقرب، فيختصّ اليقين حينئذٍ بما كان متعلّقه أمراً ثابتاً مستحكماً فيه اقتضاء الاستمرار كالزوجيّة والملكيّة والعدالة ونحوها ممّا يحتاج رفعه إلى وجود رافع ومزيل دون ما ليس فيه اقتضاء الثبوت والاستمرار بل يرتفع بنفسه.

إن قلت: هذا يستلزم التصرّف في معنى اليقين وإرادة المتيقّن منه، وهو خلاف الظاهر.

قلنا: لابدّ من هذا التصرّف على أي حال، لأنّ اليقين بما هو يقين لا يتعلّق به النقض الاختياري، ولا يتصوّر بالنسبة إليه النقض أو عدم النقض، وبعبارة اخرى: التعبير بالنقض قرينة على أنّ المراد من اليقين إنّما هو المتيقّن.

وأمّا الأمر الثالث: فقد أورد (أو يرد) على كلامه إشكالات أربع:

الأوّل: (وهو العمدة) أنّه لا بأس بأن تكون صفة النقض بلحاظ وصف اليقين لا المتيقّن، أي يكون متعلّق النقض اليقين نفسه، وهذا لا ينافي كونه من الأفعال الاختياريّة التي تتعلّق بما يكون فعلًا اختيارياً، لأنّ النهي عن عدم نقض اليقين كناية عن العمل على طبقه والإجراء على وفقه عملًا، وحينئذٍ نقول: أنّ وصف اليقين أمر مبرم ومستحكم سواء كان متيقّنه أيضاً كذلك أو لم يكن.

إن قلت: لا معنى لنقض

اليقين بأي معنى كان في مورد الاستصحاب، لأنّ المفروض إنّ زمان اليقين قد مضى، والموجود الآن هو الشكّ.

قلنا: المفروض في مورد الاستصحاب أيضاً أنّ الشارع غضّ نظره عن زمان متعلّق اليقين والشكّ وعن تغاير المتعلّقين من ناحية الزمان، فلاحظهما معاً، ثمّ نهى عن نقض أحدهما بالآخر، فيكون النقض حاصلًا.

الثاني: أنّ تفصيله مبنى على شمول جميع روايات الاستصحاب على التعبير ب «لا تنقض» مع أنّه لم يرد في رواية الخصال، حيث إنّ الوارد في صدرها «فليمض على يقينه»، وهكذا حديث علي بن محمّد القاساني الذي عبّر ب «اليقين لا يدخل فيه الشكّ صم للرؤية وافطر للرؤية» ولا إشكال في أنّ تعبيري المضيّ والدخول عامان لا يختصّان بخصوص موارد الشكّ في الرافع.

نعم، يمكن أن يقال بالنسبة إلى الرواية الاولى (كما قال به الشيخ الأعظم رحمه الله نفسه) أنّ انوار الأصول، ج 3، ص: 320

ذيله وهو «فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين» قرينة على تقييد الصدر.

وأمّا الرواية الثانية فأجاب عنها الشيخ رحمه الله: بأنّها ناظرة إلى استصحاب الإشتغال لا الاستصحاب المصطلح، ولا يخفى أنّ استصحاب الإشتغال يكون دائماً من قبيل الشكّ في الرافع، لأنّ شغل الذمّة دائمي إلى أن يرفعه رافع.

لكن جوابه هذا غير تامّ صغرى وكبرى:

أمّا الصغرى: فلأنّ المفروض في هذه الرواية أنّ الشكّ متعلّق بعمر شهر رمضان وشهر شعبان، ولا إشكال في أنّ الشكّ في عمر الشهر من قبيل الشكّ في المقتضي.

مضافاً إلى أنّه لا إشتغال للذمّة بالنسبة إلى يوم الشكّ في إبتداء رمضان حتّى يكون الاستصحاب فيه من قبيل استصحاب الإشتغال.

وأمّا الكبرى: فلأنّه لو فرضنا كون المورد من قبيل الشكّ في الرافع إلّاأنّ الكبرى الواردة في صدر الرواية وهى قوله «لا يدخل ...» عامّ لا يخصّص بالمورد.

ومن

الروايات التي لم يرد فيها التعبير بالنقض رواية عبداللَّه بن سنان الواردة في باب العارية، ولكن الشيخ رحمه الله ذكرها مؤيّداً لسائر الروايات، لا دليلًا مستقلًا على الاستصحاب، فلا ينقض بها كلامه.

الثالث: أنّ من مصاديق الاستصحاب المجمع عليها استصحاب عدم النسخ حتّى عند الشيخ الأعظم رحمه الله نفسه، مع أنّ الشكّ في مورده يكون دائماً من قبيل الشكّ في المقتضي، لأنّه شكّ في عمر الحكم الشرعي، لما ذكر في محلّه من أنّ حقيقة النسخ دفع الحكم لا رفعه.

اللهمّ إلّاأن يقال: إ نّ استصحاب عدم النسخ ثابت بالإجماع، لا الروايات والظاهر أنّ الإجماع معتمد على العموم الأزماني الموجود في أدلّة الأحكام، أو على روايات نظير قوله عليه السلام:

«حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة ...» لا على روايات الاستصحاب.

الرابع: أنّه قد مرّ أنّ الأساس في باب الاستصحاب إنّما هو بناء العقلاء، وهم لا يفصّلون بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع، لأنّ القدر المسلّم من مصاديق الاستصحاب عندهم استصحاب الحياة، ومن المعلوم أنّ النفوس المختلفة متفاوتة في مقدار استعداد البقاء، وقد يكون إنسان مستعدّاً للبقاء إلى ثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة، وقد يكون أقلّ من ذلك أو أكثر، ولا ينبغي الشكّ في جريان الاستصحاب عند العقلاء في جميع هذه الموارد، بل لو قلنا أنّ انوار الأصول، ج 3، ص: 321

الحدّ الوسط في الاستعداد للبقاء مثلًا هو خمسون أو ستّون سنة فلا شكّ في جريان الاستصحاب بعده أيضاً، مع أنّه من قبيل الشكّ في المقتضي.

إلى هنا تمّ الكلام عن أدلّة الاستصحاب، والآن نشرع في بيان التنبيهات التي ذكرها الأصحاب في كلماتهم، فنقول ومنه جلّ شأنه التوفيق والهداية:

تنبيهات الاستصحاب:

وينبغي التنبيه على امور:

التنبيه الأوّل: الأحكام الوضعيّة
اشارة

وقد بحث عنها الأعلام ضمن بيان الأقوال

في الاستصحاب وبمناسبة نقل ما فصّله الفاضل التوني من جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية دون الوضعيّة، ولكن الصحيح المناسب أن يبحث أوّلًا عن ماهيّة تلك الأحكام حتّى يظهر حال استصحابها، وهذا هو موضوع البحث في هذا التنبيه.

وكيف كان لابدّ قبل الورود في أصل البحث من تقديم امور:

أحدها: أنّ الأحكام الشرعيّة على قسمين: تكليفيّة ووضعيّة، فالتكليفيّة ما يدور مدار الأحكام الخمسة، وقسّمها القدماء من الأصحاب على قسمين: اقتضائيّة وتخييريّة، والمراد من الاقتضائيّة ما يكون له اقتضاء للفعل أو الترك، فيشمل الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة، ومن التخييريّة ما ليس له اقتضاء ورجحان من حيث الفعل والترك، وهى المباحات.

وأمّا الوضعيّة، فهى كلّ مالا يكون من الأحكام الخمسة ولا تحدّد عمل المكلّف من حيث الاقتضاء والتخيير بل يمسّ أفعال المكلّفين بالواسطة (كالحكم بأنّ «الماء طاهر» أو «الدم نجس») أو بدون الواسطة (كالملكية والزوجية والضمان) ولهذا لا يصحّ حصرها في عدد خاصّ كما فعل بعضهم.

ثانيها: في أنّ حقيقة الأحكام التكليفيّة ماذا؟

انوار الأصول، ج 3، ص: 322

والمعروف الجاري على ألسنة المحقّقين أنّ حقيقتها إنشاء البعث أو الزجر أو الترخيص الناشى ء عن إرادة المولى أو كراهته أو ترخيصه في نفسه، وهذا ممّا يتّضح لنا بالرجوع إلى الوجدان.

ولكن ذهب بعض أعاظم العصر قدّس اللَّه نفسه إلى أنّ الحكم التكليفي اعتبار نفساني من المولى يبرز بالإنشاء، وقال: «هذا الاعتبار النفساني تارةً يكون بنحو الثبوت، أي المولى يثبت شيئاً في ذمّة العبد ويجعله دَيناً عليه، كما ورد في بعض الروايات أنّ دَين اللَّه أحقّ أن يقضى، فيعبّر عنه بالوجوب، لكون الوجوب بمعنى الثبوت، واخرى يكون بنحو الحرمان، وإنّ المولى يحرم العبد عن شي ء ويسدّ عليه سبيله، كما يقال في بعض المقامات: أنّ اللَّه تعالى يجعل لنا

سبيلًا إلى الشي ء الفلاني فيعبّر عنه بالحرمة، فإنّ الحرمة هو الحرمان عن الشي ء، كما ورد أنّ الجنّة محرّمة على آكل الربا مثلًا فإنّ المراد منه المحروميّة عن الجنّة، لا الحرمة التكليفيّة، وثالثة يكون بنحو الترخيص وهو الاباحة بالمعنى الأعمّ، فإنّه تارةً يكون الفعل راجحاً على الترك واخرى بالعكس، وثالثة لا رجحان لأحدهما على الآخر، وهذا الثالث هو الإباحة بالمعنى الأخصّ» «1».

أقول: يرد عليه أوّلًا: أنّه خلاف الوجدان، إذ إنّ الوجدان حاكم بأنّ البعث الإنشائي يكون كالبعث التكويني، فكما أنّ في الثاني لا يوضع على ذمّة الإنسان شي ء بعنوان الدين، كذلك في الأوّل، فلا يعتبر المولى بقوله «افعل» دَيناً على عهدة العبد، بل أنّه مجرّد إنشاء بعث في نفسه، يحاذي البعث التكويني الخارج بدفع المكلّف بيده نحو العمل.

ثانياً: أنّ كلامه لا يجري في الاستحباب لأنّه لا معنى للدين الإستحبابي، مع أنّ الاستحباب يكون على وزان الوجوب، والفرق بينهما من ناحية شدّة الطلب والبعث وضعفه.

ومن هنا يظهر أنّ ما ذكره من بعض الشواهد نظير ما ورد في بعض الروايات «إنّ دين اللَّه أحقّ أن يقضى» تعبيرات كنائية، ومن باب تشبيه الحكم بالدَين، والقرينة عليه ما مرّ من قضاء الوجدان بما ذكرناه.

انوار الأصول، ج 3، ص: 323

بقي هنا شي ء:

وهو أنّه قد يبدو أنّ الاباحة ليست حكماً من الأحكام، أي أنّها من قبيل «لا إقتضاء» و «لا حكم» فيكفي فيها عدم صدور بعث أو زجر من جانب المولى، وعليه تكون الأحكام أربعة فما اشتهر في الألسن من أنّ الأحكام خمسة، شهرة لا أصل لها.

ولكن عند الدقّة يمكن الفرق بين الأحكام الشخصيّة والقانونيّة، فإنّ المتداول بين العقلاء من أهل العرف جعل الترخيص في كثير من الموارد بعنوان قانون من القوانين، لأنّا

إذا راجعنا إلى مجالس التقنين العقلائي نلاحظ أنّهم في كثير من الموارد ينشئون الجواز والترخيص، كما ينشئون الوجوب أو الحرمة فينشئون مثلًا إنّ ورود البضاعة الفلانيّة مباح من هذا التاريخ، وليس ذلك مجرّد دفع المنع السابق، بل إنّه إنشاء جديد وحكم وجودي في مقابل حكم وجودي سابق، لا فسخه ونسخه فقط.

ثالثها: في أنّ الوجود على قسمين: وجود خارجي وهو واضح، ووجود ذهني، وهو على قسمين أيضاً: ما يكون له ما بحذاء خارجي، وما ليس له ما بحذاء خارجي، بل هو من مخترعات الذهن، والمخترعات الذهنيّة أيضاً على أقسام ثلاثة:

أحدها: الامور الانتزاعيّة، وهى ما يكون له منشأ إنتزاع في الخارج، كسببية النار للإحتراق، فإنّ الذهن ينتزعها من مقايسة النار بالإحراق في الخارج قهراً، من دون دخل لإرادة الإنسان واعتباره وجعله.

ثانيها: الاعتباريات، وة ما ليس له منشأ إنتزاع في الخارج، بل هو مجرّد اعتبار للعقلاء كالملكيّة التي لا يوجب اعتبارها أو عدم اعتبارها زيادة أو نقصاناً في الخارج، بل هى تابعة لاعتبار المعتبر وباقية ببقائه.

إن قلت: ما هى حقيقة الاعتبار؟

قلنا: أنّها عبارة عن سلسلة من الفروض والتشبيهات التي يترتّب عليها آثار عقلائيّة، لتوافقهم عليه، فهى فروض ذات آثار عقلائيّة، فإنّهم مثلًا يلاحظون الملكيّة التكوينيّة الخارجيّة التي أتمّها وأكملها مالكيّة ذات الباري تعالى لعالم الوجود (وهى نفس سلطته واحاطته على العالم) ومن مصاديقها مالكية الإنسان على أعضائه وصور ذهنه، ومالكيته على أفعاله بواسطة الأعضاء، فإنّ جميع ذلك سلطات تكوينية خارجيّة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 324

ثمّ إنّهم يفرضون في عالم الذهن أمراً يشبه ذلك ويرون لزيد مثلًا سلطة على الدار الكذائية، كسلطته على أعضائه، وهكذا في الزوجية فيلاحظون زوجية مصراعي الباب في الخارج مثلًا، ويعتبرون مثلها للزوج والزوجة إلى غير

ذلك من أشباهها، فهى بجميعها كعكوس ومرايا لما في الخارج، وصور ذهنية تشابهها.

ثالثها: الوهميّات، وهى عبارة عن أوهام الناس وتخيّلاتهم التي لا قيمة لها عند العقلاء، وليست مبدأً للآثار عندهم.

إذا عرفت هذه المقدّمات الثلاثة فاعلم أنّ الأقوال في حقيقة الأحكام الوضعيّة ثلاثة:

القول الأوّل: ما عبّر شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله عنه بما نصّه: «المشهور كما في شرح الزبدة بل الذي استقرّ عليه رأي المحقّقين كما في شرح الوافية للسيّد صدر الدين: إنّ الخطاب الوضعي مرجعه إلى الخطاب الشرعي، وأنّ كون الشي ء بسبباً لواجب هو الحكم بوجوب ذلك الواجب عند حصول ذلك الشي ء، فمعنى قولنا إتلاف الصبي سبب لضمانه أنّه يجب عليه غرامة المثل أو القيمة إذا اجتمع فيه شرائط التكليف من البلوغ والعقل واليسار وغيرها، فإذا خاطب الشارع البالغ العاقل الموسر بقوله: «أغرم ما أتلفته في حال صغرك» إنتزع من هذا الخطاب معنى يعبّر عنه بسببيّة الإتلاف للضمان».

وحاصله: أنّ الأحكام الوضعيّة كلّها امور انتزاعية من الأحكام التكليفية، ليست لها جعل مستقلّ.

القول الثاني: ما هو على ألسنة جماعة (بتعبير الشيخ الأعظم رحمه الله) وهو أنّ الأحكام الوضعيّة امور اعتباريّة قابلة للجعل مستقلًا، ففي قوله تعالى: «أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ» يكون للشارع جعلان: أحدهما وجوب الصّلاة، الثاني سببية الدلوك للوجوب.

القول الثالث: القول بالتفصيل بين الأحكام الوضعيّة، فقسم منها من الامور التكوينيّة، وليس قابلًا للجعل أصلًا لا تبعاً ولا مستقلًا، وقسم آخر من الامور الاعتباريّة وقابل للجعل مستقلًا، وقسم ثالث من الامور الإنتزاعية يتعلّق بها الجعل تبعاً.

وينبغي هنا قبل بيان أدلّة الأقوال أن نشير إلى أنّ الامور الانتزاعيّة على ثلاثة أقسام باعتبار منشأ انتزاعها، فقسم منها ينتزع من مقام الذات، كسببيّة النار للإحتراق، وقسم آخر ينتزع من مقام

الصفات، كتقدّم زيد على عمرو في المسير، فإنّ وصف التقدّم أو التأخّر ينتزع انوار الأصول، ج 3، ص: 325

من مقايسة محلّ كلّ واحد بمحلّ الآخر، ولذا يتغيّر الحال مع بقاء الذات، وقسم ثالث ينتزع من الامور الاعتباريّة كشرطيّة الاستطاعة لوجوب الحجّ التي ينتزعها الذهن من وجوب الحجّ عند الاستطاعة في قوله تعالى: «للَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا».

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه استدلّ الشيخ الأعظم رحمه الله للقول الأوّل بالحوالة على الوجدان وبرهان اللغويّة، فقال: «إذا قال المولى لعبده: «أكرم زيداً إن جاءك» فهل يجد المولى من نفسه أنّه أنشأ إنشائين وجعل أمرين: أحدهما إكرام زيد عند مجيئه، والآخر كون مجيئه سبباً لوجوب إكرامه أو أنّ الثاني مفهوم منتزع من الأوّل، لا يحتاج إلى جعل مغاير لجعله، ولا إلى بيان مخالف لبيانه؟ فإنّ الوجدان شاهد على أنّ السببية والمانعيّة في المثالين اعتباران منتزعان، كالمسببيّة والمشروطيّة والممنوعيّة».

ثمّ أتى ببيان ثالث وحاصله: أنّه قد يكون تعلّق الجعل الاستقلالي بالامور الوضعيّة محالًا، لأنّ جعل ما ليس بسبب سبباً محال، فإنّ دلوك الشمس إمّا أن يكون ذا مصلحة تدعو المولى إلى إيجاب الصّلاة عنده، وحينئذٍ لا حاجة إلى وضعه، أو لا يكون له مصلحة، وحينئذٍ لا يمكن جعله ذا مصلحة بالجعل التشريعي هذا بالنسبة إلى السببيّة والشرطيّة والمانعيّة.

ثمّ قال: وهكذا الصحّة والفساد، لأنّهما أمران تكوينيان، فإنّ الصحّة بمعنى المطابقة مع المأمور به، والفساد بمعنى عدم المطابقة، ولا إشكال في أنّهما أمران تكوينيان، هذا في العبادات، أمّا في المعاملات فهما أمران منتزعان من جواز التصرّف وعدم جواز التصرّف.

ثمّ قال: وأمّا الزوجيّة والملكيّة والطهارة فلا تخلو من أحد الوجهين، فإمّا أنّها امور واقعية كشف عنها الشارع أو امور انتزاعيّة

تنتزع من عدّة من الأحكام التكليفية. (انتهى ملخّص كلامه).

أقول: الحقّ في المسألة التفصيل بين الأحكام الوضعيّة وتفريق بعضها عن بعض، أي البحث عن كلّ نوع منها على حدّه، فنقول:

1- من الأحكام الوضعيّة: السببيّة والشرطيّة والمانعيّة، والصحيح أنّها على قسمين:

السببيّة أو الشرطيّة أو المانعيّة للتكليف كسببية الدلوك لوجوب الصّلاة، وشرطيّة

انوار الأصول، ج 3، ص: 326

الاستطاعة لوجوب الحجّ، ومانعية الحيض لوجوب الصّلاة، والقسم الثاني ما يكون سبباً أو شرطاً أو مانعاً بالإضافة إلى المكلّف به، كشرطيّة الوضوء للصلاة، ومانعيّة لبس ما لا يؤكل لحمه عن الصّلاة.

أمّا القسم الأوّل فقد يقال: إنّها من الامور التكوينيّة، ولا تقبل الجعل والاعتبار مطلقاً كما يستفاد من بعض كلمات الشيخ الأعظم (وقد عرفته آنفاً) والمحقّق الخراساني رحمه الله، وتبعهما جماعة آخرون، وقال بعض أنّها منتزعة من الحكم التكليفي، كما أنّ مقتضى اطلاق كلام جماعة كونها مستقلّة في الجعل.

ولكن الظاهر وقوع خلط بين التكوينية من هذه الامور والتشريعيّة منها، أي بين السببيّة التكوينيّة مثلًا والسببيّة التشريعيّة (وهذا أيضاً من موارد الخلط بين المسائل الفلسفية والمسائل الاصوليّة التي غلب عليها هذا الخلط في شتّى مسائلها، وأوجب الانحراف فيها) فإنّ لنا سببيّة أو شرطيّة في عالم التكوين، وهى ما يكون موجوداً في الدلوك مثلًا من المصلحة التكوينية التي تقتضي إيجاب الصّلاة تكويناً (بل هى لا تكون سبباً حقيقة، بل إنّها من قبيل الداعي للجعل)، وسببيّة أو شرطيّة شرعيّة ترجع في الواقع إلى قيود الموضوع كالإستطاعة التي تكون قيداً من قيود موضوع وجوب الحجّ (كما أنّ مانعية شي ء ترجع إلى أنّ عدمه قيد للموضوع كمانعيّة الحيض، فإنّ معناها أنّ عدم الحيض قيد لموضوع وجوب الصّلاة) سواء قلنا بأنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، أو لم نقل بذلك كالأشاعرة.

فالسببيّة

الشرعيّة وكذلك الشرطيّة والمانعيّة الشرعيتان امور منتزعة من جعل وجود شي ء أو عدمه قيداً لموضوع التكليف، ولا تناله يد الجعل مستقلًا، فإذا أخذ المولى قيداً في موضوع الحكم كفى في انتزاع شرطيّته له، ولا حاجة إلى أمر أكثر من ذلك، كما هو واضح.

هذا في السببيّة أو الشرطيّة أو المانعيّة للتكليف.

وكذلك بالنسبة إلى المكلّف به، فإنّها ترجع فيه أيضاً إلى قيود المأمور به، فإن كان وجود شي ء أو عدمه قيداً للمأمور به، كما في الوضوء بالنسبة إلى الصّلاة، تنتزع هذه الامور وإلّا فلا، من دون حاجة إلى أمر وراء ذلك.

هذا كلّه بالنسبة إلى السببيّة والشرطيّة والمانعيّة.

2- ومنها الصحّة والفساد في العبادات أو المعاملات، والأقوال فيهما أربعة:

انوار الأصول، ج 3، ص: 327

أوّلها: القول بأنّها ليست مجعولة مطلقاً لا تبعاً ولا مستقلًا.

ثانيها: أنّها مجعولة مستقلًا مطلقاً.

ثالثها: التفصيل بين العبادات والمعاملات وأنّهما مجعولان مستقلًا في العبادات دون المعاملات.

رابعها: الفرق بين الصحّة الواقعية فليست قابلة للجعل مستقلًا، والصحّة الظاهرية فهى مجعولة مستقلًا.

والمختار أنّ للصحّة والفساد معنيين، وإنّهما على كلا معنييهما أمران تكوينيان لا تنالهما يد الجعل مطلقاً:

أحدهما: ما مرّ في مبحث الصحيح والأعمّ من أنّ الصحيح من الأشياء ما يكون مبدأً للآثار المرغوبة منها، والفاسد ما ليس فيه تلك الآثار، ولا إشكال في أنّ كون شي ء ذا أثر وعدمه أمر تكويني.

ثانيهما: مطابقة الأمر (في العبادات) أو مطابقة الحكم (في المعاملات) وعدمها، ولا ريب أيضاً أنّ التطابق أو عدم التطابق أمر واقعي تكويني، فلو كان العمل جامعاً للاجزاء والشرائط فهو مطابق للمأمور به، ولو لم يكن جامعاً لها فهو مخالف للمأمور به، ولا يمكن أن يجعل ويعتبر ما ليس بمطابق خارجاً مطابقاً في الخارج، فإذا كان المأمور به ذا عشرة أجزاء، والمأتي

به ذا تسعة، فلا شكّ أنّه لا يكون مطابقاً، ولا معنى لجعل التسعة عشرة.

فهما ليسا من الامور الاعتباريّة المجعولة مستقلًا، كما أنّهما ليسا منتزعين من التطابق وعدم التطابق، لأنّ الصحّة عين التطابق، كما أنّ الفساد عين التخالف.

إن قلت: هذا ليس صادقاً في مثل المريض الذي لا يكون قادراً على إتيان جميع الأجزاء وليس عمله مطابقاً للواقع، مع أنّ الشارع حكم بصحّة عمله، وكذا الكلام في أمثاله من الأعذار.

قلنا: أنّ حكم الشارع بالصحّة في هذا الحال يرجع في الواقع إلى أنّه رفع يده عن وجوب بعض الاجزاء، فتكون الصّلاة مثلًا بالنسبة إلى المريض تسعة اجزاء لا عشرة (أو جعل لبعض الاجزاء أبدالًا كالإيماء بدل الركوع والسجود) فالصحّة حينئذٍ أيضاً بمعنى التطابق الواقعي، أي تطابق التسعة مع التسعة، لا تطابق التسعة مع العشرة بحكم الشارع.

انوار الأصول، ج 3، ص: 328

هذا- ولكن المحقّق النائيني رحمه الله في بعض تقريراته «1» قد فصّل بين الصحّة الواقعية والصحّة الظاهريّة، وقال بأنّ الصحّة الظاهرية قابلة للجعل بخلاف الصحّة الواقعية، نعم الموجود في تقريرات «2» الدورة الاولى من درسه أنّ الصحّة الظاهرية أيضاً ليست قابلة للجعل مستقلًا، بل إنّها تنتزع من حكم الشارع بالإجزاء.

ولكن الإنصاف أنّ الصحّة الظاهرية وكذا الإجزاء غير قابلة للجعل لا استقلالًا ولا تبعاً فإنّ المولى لو صرّح بأنّ المأمور به هو العشرة حتّى في حال العذر أو الشكّ فكيف يصحّ له الحكم بالصحّة والإجزاء (أي المطابقة للمأمور به وأدائه)؟ وهل هذا إلّاتناقض؟ ولو رفع يده عن بعض الاجزاء والشرائط في هذا الحال فالتطابق حاصل بلا حاجة إلى أمر آخر.

3- ومنها الطهارة والنجاسة، وقد مرّ من شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله أنّهما أمران تكوينيان، وقال بعض بأنّهما من الامور المجعولة

مستقلًا، وبعض آخر بأنّهما منتزعان من الحكم بجواز الصّلاة في الشي ء الطاهر وعدم جوازها في النجس.

والحقّ أنّ لهما أيضاً أقساماً مختلفة: فقسم منهما أمر تكويني كان موجوداً في العرف قبل الشرع كطهارة المطر وقذارة البول والغائط، وأمضاهما الشارع المقدّس، وقسم ثانٍ منهما أمر تكويني أيضاً، ولكن لم يكن معروفاً واضحاً عند العرف، بل كشف عند الشارع كنجاسة عرق الجنب من الحرام على القول بها أو نجاسة بول الجلالة وغائطها، فهذان القسمان أمران تكوينيان أمضاهما الشارع وليسا مجعولين مطلقاً، وقسم ثالث يكون ظاهرياً منشأه الطهارة أو النجاسة المعنوية كنجاسة الكافر التي منشأها كفر الكافر ونجاسته المعنوية، ولعلّ من هذا القسم نجاسة الخمر بل وعلى احتمالٍ نجاسة عرق الجنب من الحرام على القول بها. فهذا القسم أيضاً أمر تكويني معنوي.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ نجاسة الكافر تنتزع من حكم الشارع بالاجتناب عنه وعن سؤره، فتكون مجعولة بالتبع ومن الامور الانتزاعية، ولكنّه خلاف ظواهر الأدلّة.

4- ومنها الرخصة والعزيمة، وقد يتوهّم إنّها من الأحكام الوضعيّة، لكن الصحيح عدم كونهما لا من الأحكام الوضعيّة نفسها ولا منتزعة عنها بل إنّهما مجرّد إسمين وإصطلاحين لأحد

انوار الأصول، ج 3، ص: 329

الأحكام الخمسة في حالتين من الحالات، فإنّ العزيمة عنوان مصطلح عند الفقهاء لإباحة الترك مع حرمة الفعل كجواز ترك الصيام في السفر أو جواز ترك صلاة الجمعة في عصر الغيبة على بعض الأقوال، كما أنّ الرخصة أيضاً عنوان مصطلح عند الفقهاء لإباحة الترك مع إباحة الفعل، نظير جواز ترك الصيام في الحضر أو جواز ترك صلاة الجمعة في عصر الغيبة على قول بعض.

5- ومنها المناصب كالولاية على الوقف أو على الصغير أو على الأمة وكولاية القضاء والوصاية والوكالة والنيابة، ولا شكّ في أنّها من

الامور الوضعيّة التي يتعلّق بها الوضع والإنشاء، فالشارع يجعل الإنسان وليّاً أو قاضياً أو وكيلًا، فهى مجعولة مستقلًا وبالأصالة كما يحكم به الوجدان.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ الولاية على الصغير والقيمومة عليه مثلًا تنتزع من حكم الشارع بجواز تصرّفات الولي في أموال الصغير.

ثمّ إنّ اطلاق الحكم بما له من المعنى المعروف عند الفقهاء على الولاية وكذا غيرها من أنواع المناصب وكونها من الأحكام الشرعيّة مشكل جدّاً (وإن كانت من الامور الوضعيّة المجعولة) سيّما في ما إذا كانت جزئية شخصيّة كالولاية المجعولة لشخص خاصّ على منصب خاصّ، لأنّ الأحكام كلّية، والجزئيّة والتشخّص من خصوصيات المصاديق.

وإن شئت قلت: إنّ كون هذه المناصب في كثير من الموارد جزئية شاهد على عدم صحّة اطلاق الحكم عليها.

6- ومنها الملكيّة والزوجيّة والحرّية والرقّية ونحوها وكذلك الحقوق كحقّ الشفعة وحقّ التحجير، فهل هى مجعولة بالأصالة، أو أنّها منتزعة من مجموع من الأحكام التكليفية كجواز البيع والأكل وسائر التصرّفات بالإضافة إلى الملكيّة؟

الصحيح إمكان كلا الوجهين عقلًا، لكن الوجدان حاكم على الأوّل، أي إنّها مجعولة بالأصالة، لأنّ لازم الوجه الثاني أنّ البائع مثلًا في قوله «ملّكتك» يكون ناظراً إلى الأحكام الكثيرة المتنوّعة التكليفيّة المترتّبة على الملكيّة، وهذا بعيد عن الفهم العرفي جدّاً، ومخالف للوجدان عند إنشائها، والشاهد على ما ذكرنا ما مرّ من أنّ هذه الامور إنعكاسات من امور تكوينيّة يشبهها في عالم الخارج وأنّ الذهن يرسم أشكالًا فرضيّة لما في الخارج، فهى مجعولة

انوار الأصول، ج 3، ص: 330

بالأصالة، وموضوعة مستقلًا من ناحية الذهن بالمقايسة مع الخارج، ففي الملكيّة يجعل صورة فرضية للسلطنة على شي ء كسلطنة الإنسان على أعضائه وجوارحه.

7- ومنها الحجّية في باب الأمارات وغيرها من الحجج الشرعيّة والعقلائيّة، كحجّية خبر الواحد.

والتحقيق في هذا القسم

مبنى على ملاحظة المباني المختلفة في باب الحجّية، ولذلك نقول:

لو كان المبنى أنّ الحجّية عبارة عن جعل حكم مماثل فمعنى حجّية خبر الواحد الدالّ على وجوب صلاة الجمعة أنّ الشارع جعل وجوباً ظاهرياً طريقيّاً لصلاة الجمعة مماثلًا لما في الواقع، فلا إشكال في أنّها حينئذٍ حكم تكليفي إذا كان الخبر دالًا على الحكم التكليفي، وحكم وضعي إذا كان الخبر دالًا على الحكم الوضعي لأنّ الحجّية حينئذٍ عبارة عن نفس الحكم المماثل المجعول.

ولو قلنا بأنّها عبارة عن المنجزية والمعذرية، أي أنّ إصابة الأمارة الواقع كانت منجّزة وإن أخطأت كانت عذراً، فيمكن أن يقال: أنّها من الأحكام الوضعيّة المجعولة بالأصالة لأنّ كونها مجعولة حينئذٍ ممّا لا ريب فيه، كما أنّ عدم كونها من الأحكام الخمسة التكليفيّة أيضاً ظاهر، فينطبق عليها تعريف الحكم الوضعي.

ولو قلنا بأنّها بمعنى إلغاء احتمال الخلاف فإمّا أن يكون المراد منه حينئذٍ الغاء الاحتمال بحسب الاعتقاد، أي تبديل صفة الظنّ باليقين فهو أمر محال غير معقول لأنّه أمر تكويني ليس في اختيار المكلّف، ولا يحصل بسبب الإنشاء، وأمّا أن يكون المراد إلغاء الاحتمال بحسب العمل فهو يرجع إلى الحكم التكليفي بالعمل، لأنّ معنى «الغ احتمال الخلاف» حينئذٍ «افعل هذا العمل وامش في مقام العمل طبقاً لمؤدّي الأمارة» وهو في الواقع يرجع إلى المعنى السابق، وهو إنشاء الحكم المماثل.

وهيهنا مبنى رابع للمحقّق النائيني، وهو ما مرّ منه في مبحث الأمارات من أنّ الحجّية عبارة عن جعل صفة العلم للظنّ، فبناءً عليه تكون الحجّية أيضاً من الأحكام الوضعيّة المجعولة بالأصالة كما لا يخفى.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ ما فعله المحقّق الخراساني رحمه الله من جعله الملكية ونحوها في عرض المناسب (أوّلًا) وجعله الحجّية في عرض الملكيّة والمناصب

من دون أن يفصل بين المذاهب المختلفة في معنى الحجّية (ثانياً) في غير محلّه.

انوار الأصول، ج 3، ص: 331

بقي هنا شي ء:

وهو ما يترتّب على هذا البحث من الثمرة في باب الاستصحاب:

وهى عبارة عن جريان الاستصحاب في الأحكام الوضعيّة على بعض المباني وعدم جريانه على بعض آخر، فما منها من الامور التكوينيّة كالصحّة والفساد (فإنّ الصحّة عبارة عن المطابقة مع المأمور به، وهى أمر خارجي تكويني كما مرّ توضيحه) فلا يمكن استصحابه، كما لا يمكن استصحاب أثره وهو الاجزاء وإسقاط الإعادة والقضاء، لأنّه أمر عقلي، والاستصحاب يجري فيما إذا كان المستصحب أمراً شرعياً أو ذا أثر شرعي.

وما كان منتزعاً من الامور التكليفيّة كالجزئيّة والشرطيّة فلا إشكال في جريان الاستصحاب فيه باعتبار منشأ انتزاعه، فإذا شككنا في بعض الأحوال في جزئية السورة مثلًا نستصحب وجوب السورة ونثبت بقاء الأمر المتعلّق بها بلا ريب.

وينبغي هنا ذكر ما مرّ من الشيخ الأعظم رحمه الله من مثال ضمان الصبي فإنّه قال: «إنّ معنى قولنا «إتلاف الصبي سبب لضمانه» أنّه يجب عليه غرامة المثل أو القيمة إذا إجتمع فيه شرائط التكليف، فإذا خاطب الشارع البالغ العاقل المؤسر بقوله «أغرم ما أتلفته في حال صغرك» إنتزع من هذا الخطاب معنى يعبّر عنه بسببيّة الإتلاف للضمان» وحاصله أنّ ضمان الصبي حكم وضعي ينتزع من الحكم التكليفي التعليقي.

ولا يخفى ما يرد عليه من أنّه كيف ينتزع الحكم الوضعي الفعلي من حكم تكليفي تعليقي؟

(لأنّ الأحكام التكليفية تعليقية بالنسبة إلى الصبي) فإمّا أن يقول بعدم ضمان الصبي في حال صغره فهو مخالف لظاهر كلمات القوم والأدلّة، ولا نظنّ أن يلتزم به أحد، وإمّا يقول بكونه ضامناً فعلًا، وحينئذٍ لابدّ من انتزاعه عن حكم غير فعلي، وهو كما ترى.

وما كان منها من الامور المجعولة بالأصالة كالملكية والوكالة

وغيرهما فلا شكّ في جريان الاستصحاب فيه.

ثمّ إنّ للمحقّق الخراساني رحمه الله في ذيل هذا التنبيه إشكالًا وجواباً لا يخلو ذكرهما عن فائدة.

أمّا الإشكال فحاصله: أنّ الملكيّة كيف تكون من الأحكام الوضعيّة والاعتبارات الحاصلة بالجعل والإنشاء، التي هى من الخارج المحمول، أي ليس بحذائها شي ء في الخارج انوار الأصول، ج 3، ص: 332

سوى منشأ انتزاعها، مع أنّ الملك هو إحدى المقولات المحمولات بالضميمة، أي التي بحذائها شي ء في الخارج، فإنّ مقولة الملك هى نسبة الشي ء إلى ما يحويه، والحالة الحاصلة له من ذلك، كالتختّم والتعمّم والتقمّص؟

وأمّا الجواب فحاصله: إنّ الملك مشترك لفظي يطلق على المقولة التي يعبّر عنها بالجدة تارةً، ويطلق على الإضافة التي قد تحصل بالعقد وقد تحصل بغيره (من إرث ونحوه) اخرى، فالذي هو من الأحكام الوضعيّة والاعتبارات الحاصلة بالجعل والإنشاء ويكون من الخارج المحمول، هو الملك بالمعنى الثاني، والذي هو من الأعراض المتأصّلة ويكون من المحمولات بالضميمة (أي التي لا تحصل بالجعل والإنشاء) هو الملك بالمعنى الأوّل، ومنشأ الإشكال إشتراكه اللفظي.

أقول: قد حاول بعض الأعلام في مقابل المحقّق الخراساني رحمه الله إثبات كون الملك مشتركاً معنوياً فقال بأنّه وضع لمطلق إحاطة شي ء على شي ء، وأورد عليه من جانب بعض آخر أنّ الإحاطة الموجودة في مثل التختّم عبارة عن إحاطة الملك على المالك، بينما الإحاطة الموجودة في الملك القانوني الاعتباري عبارة عن إحاطة المالك على الملك، فهما نوعان من الإحاطة، ولا قدر جامع بينهما.

ولكن لقائل أن يقول: إنّ القدر الجامع هو عنوان الإحاطة الأعمّ من إحاطة المالك على الملك وإحاطة الملك على المالك.

بل الصحيح أن يقال: إنّه قد وقع الخلط بين المعنى اللغوي والمعنى المصطلح في الفلسفة، فإنّ الملك في اللغة ليس بمعنى الإحاطة،

بل أنّه عبارة عن سلطة مطلقة قانونيّة تحصل للمالك على ملكه بحيث يجوز له أنواع التصرّف، وهذا المعنى لا يوجد في مثل التختّم والتقمّص كما لا يخفى، وبالجملة لابدّ من أخذ المعنى اللغوي من كتب اللغة وأخذ المعنى المصطلح من أهل الاصطلاح، ولا يصحّ الخلط بينهما، والمشترك اللفظي ما يكون له معنيان مختلفان عند أهل اللغة، كما أنّ المشترك المعنوي ما يكون له قدر جامع عندهم أيضاً، لا بضمّ اللغة مع الاصطلاح، والعجب من المحقّق الخراساني رحمه الله حيث وقع في هذا الخلط، مع أنّه حاول أن يمنع من وقوع الخلط بين التشريع والتكوين.

ثمّ إنّه قد مرّ سابقاً أنّ الملكية في مالكية الباري تعالى لعالم الوجود وإن لم تكن من قبيل انوار الأصول، ج 3، ص: 333

السلطة القانونيّة الاعتباريّة (بل إنّها عبارة عن إحاطته تعالى على ما سواه، التي توجب أن يستفيض العالم منه فيض الوجود آناً فآناً) فيكون اطلاق المالك عليه مجازاً، إلّاأنّه ليس على حدّ سائر المجازات التي تكون قنطرة إلى الحقيقة، بل إنّه فوق الحقيقة، وتكون الحقيقة فيه قنطرة إلى مثل هذا المجاز، ومن هنا يظهر الإشكال في التقسيم الذي يدور على بعض الألسن من أنّ للملكيّة بالمعنى الثاني أنواعاً ثلاثة:

أحدها: الملكيّة الحاصلة من الإضافة الإشراقيّة (وهى إضافة الخالق إلى خلقه).

ثانيها: الملكيّة الحاصلة من الإضافة الحاصلة من ناحية التصرّف مثل ملكيّة الراكب للفرس.

ثالثها: الملكية الاعتباريّة القانونيّة الحاصلة من ناحية الاعتبار (انتهى).

هذا، مع ما فيه من الإشكال في اطلاق الملك على مجرّد التصرّف فإنّ هذا أيضاً مجاز قطعاً، فلا يقال لراكب الفرس أنّه مالك له إذا كان الفرس لغيره.

التنبيه الثاني: اعتبار فعلية اليقين والشكّ في الاستصحاب

فإذا تيقّن بالحدث فشكّ وجرى استصحاب الحدث وصار محكوماً بكونه محدثاً شرعاً ثمّ غفل وصلّى

بطلت صلاته، ولا تنفعه قاعدة الفراغ أصلًا، لأنّ مجراها الشكّ الحادث بعد الفراغ لا الموجود من قبل، وأمّا إذا تيقّن بالحدث ثمّ غفل وصلّى واحتمل أنّه قد تطهّر قبل الصّلاة بعد حدثه المتيقّن صحّت صلاته لقاعدة الفراغ ولأنّ الشكّ في الحدث من قبل الصّلاة لم يكن فعلياً حتّى يحكم بالحدث من قبل فتبطل صلاته، وإن كان بحيث لو التفت لشكّ.

وذلك لأنّ الشكّ واليقين في أدلّة الاستصحاب ظاهران في الشكّ واليقين الفعليين، بل إنّه كذلك في جميع العناوين المأخوذة في أدلّة الأحكام وغيرها فإنّها ظاهرة في مصاديقها الفعلية كعنوان المجتهد والعادل، بل يمكن أن يقال بصحّة سلبها عن مصاديقها التقديرية.

إن قلت: المعروف كون اليقين طريقاً إلى الواقع، وأنّه ليس لصفة اليقين موضوعيّة، وكذلك الشكّ، لأنّه ليس أكثر من عدم اليقين.

قلنا: أنّه كذلك، ولكن في باب الاستصحاب قامت القرينة على الموضوعيّة، نظير باب انوار الأصول، ج 3، ص: 334

الشهادات، لأنّ المستظهر من أدلّة الاستصحاب أنّ المعتبر هو الثبوت العلمي النفساني لا الثبوت الواقعي.

التنبيه الثالث: جريان الاستصحاب فيما ثبت بالأمارة

لا ريب في أنّه لا فرق في جريان الاستصحاب بين أن يكون المستصحب محرزاً باليقين الوجداني أو بمحرز تعبّدي كالأمارات، فلو قامت أمارة على الطهارة أو العدالة ثمّ شككنا في بقائها فلا إشكال في جريان استصحابها، مع أنّ الأمارة من الأدلّة الظنّية ولا توجب اليقين الوجداني.

هذا- مع أنّ الظاهر من أدلّة الاستصحاب إنّما هو اليقين الوجداني، نعم حجّية الأمارة يقينية بالوجدان ولكنّها لا توجب اليقين بالواقع، لأنّ معناها إنّه لو أصابت الأمارة الواقع كانت منجّزة، ولو أخطأت كانت عذراً، فلم يحصل اليقين بالواقع، مع أنّه أحد ركني الاستصحاب الظاهر من أدلّة الاستصحاب اليقين بالواقع لا اليقين بالحجّية فإنّه لا يراد استصحاب الحجّية لعدم الشكّ فيها.

إن

قلت: اليقين بالحكم الظاهري يكفي في الاستصحاب وهو حاصل في المقام.

قلنا: أنّه مبنى على القول بجعل الحكم المماثل الذي لا نقول به.

هذا كلّه هو بيان الإشكال، وقد ذكر لحلّه طرق عديدة:

1- ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله وحاصله: أنّ الاستصحاب ممّا يتكفّل بقاء الحكم الواقعي على تقدير ثبوته، فتكون الحجّة على ثبوته حجّة أيضاً على بقائه، لما ثبت من الملازمة بين الثبوت والبقاء بالاستصحاب، نظير ما إذا قام الدليل الشرعي على طلوع الشمس فيكون دليلًا على وجود النهار، أيضاً بعد ما ثبتت الملازمة بين طلوع الشمس ووجود النهار غايته أنّ الملازمة في المثال وجدانيّة وفي المقام تعبّديّة.

وأورد عليه أوّلًا: بأنّه معارض مع ما مرّ منه نفسه من اعتبار فعلية اليقين «فوقع التهافت بين ما اختاره في التنبيه الأوّل من اعتبار فعليّة الشكّ واليقين في الاستصحاب وبين ما اختاره في التنبيه الثاني من الإكتفاء في صحّة الاستصحاب بالشكّ في بقاء شي ء على تقدير

انوار الأصول، ج 3، ص: 335

ثبوته وإن لم يحرز ثبوته ... وذلك لأنّ لازم القول باعتبار فعلية اليقين والشكّ هو أخذهما في موضوعه، ولازم ما اختاره في التنبيه الثاني هو عدم أخذهما فيه أو لا أقلّ من عدم أخذ اليقين فيه» «1».

ولكن يرد عليه: أنّه وقع الخلط بين الموضوعيّة والطريقيّة وبين الفعليّة والتقديريّة، فإنّ البحث في المقام في أنّ اليقين المأخوذ في أدلّة الاستصحاب طريقي لا موضوعي بينما البحث في التنبيه السابق كان في أنّ هذا اليقين الطريقي يعتبر أن يكون فعليّاً، وبعبارة اخرى: يكون البحث في المقام في أنّ اليقين المعتبر فعليته هل أخذ في أدلّة الاستصحاب بعنوان الموضوع، أو أنّه طريق إلى الواقع؟ أي هل المعتبر هو الثبوت الواقعي أو المعتبر صفة اليقين،

فلا تناقض بين التنبيهين كما لا يخفى.

وثانياً: بما أفاده المحقّق الأصفهاني رحمه الله من أنّ ظاهر أدلّة الاستصحاب الثبوت العنواني المقوّم لصفة اليقين لا الثبوت الواقعي «2».

ولكن لنا أن نقول: أنّ ظاهر أدلّة الاستصحاب أخذ صفة اليقين والشكّ في موضوع الاستصحاب كركنين له.

2- ما ذكره المحقّق الأصفهاني رحمه الله أيضاً في مقام حلّ الإشكال وحاصله: أنّ المراد من اليقين في أدلّة الاستصحاب هو مطلق المنجّز، يعني «كلّ قاطع للعذر» وهذا له مصداقان:

القاطع للعذر عقلًا وهو اليقين الوجداني، والقاطع للعذر شرعاً وهو الأمارة، ومفاد أدلّة الاستصحاب هو إيجاد الملازمة بين المنجّز على الحدوث والمنجّز على البقاء «3».

3- ما أفاده المحقّق الأصفهاني رحمه الله أيضاً وهو «إرادة مطلق الحجّة- القاطعة للعذر- من اليقين، لكن جعل منجّز الثبوت منجّزاً للبقاء كما هو ظاهر الأخبار، لأنّ مفادها إبقاء اليقين- أي المنجّز- لا التمسّك باحتمال البقاء، ويتعيّن حينئذٍ كون الاستصحاب حكماً طريقياً» «4».

أقول: هيهنا نكات يتّضح بها الحقّ في المسألة:

انوار الأصول، ج 3، ص: 336

الاولى: أنّه لا ريب في جريان الاستصحاب في ما ثبت بالأمارات، وإنّما المهمّ حلّ ما اورد عليه من الإشكال صناعياً.

الثانية: أنّه لابدّ من حلّ المشكلة على المباني المختلفة في باب الأمارات، فنقول: أمّا بناءً على مبنى جعل الحكم المماثل لمؤدّى الأمارة فلا موضوع للإشكال، لأنّ قيام الأمارة حينئذٍ يوجب اليقين بالحكم الظاهري الطريقي وجداناً.

وكذلك بناءً على القول بأنّ مفاد الأمارة إلغاء احتمال الخلاف الذي قد مرّ أنّه يرجع إلى جعل الحكم المماثل.

وكذلك بناءً على مبنى المحقّق النائيني رحمه الله من جعل صفة العلم لأنّ اليقين حاصل حينئذٍ بتعبّد من الشارع.

فيختصّ الإشكال حينئذٍ بالقول بأنّ مفاد الأمارة هو جعل المنجّزيّة، والمعذّريّة وحيث إنّ المختار هو جعل الحكم المماثل

فنحن في فسحة من ناحية هذا الإشكال.

الثالثة: أنّ لليقين معنيين: اليقين المنطقي وهو ما لا يوجد فيه احتمال الخلاف، واليقين العرفي، ولا ريب في أنّ الثاني هو الموضوع في باب الاستصحاب وغيره ممّا أخذ في موضوعه اليقين كما مرّ بيانه تفصيلًا في محلّه (مبحث حجّية خبر الواحد) كما لا ريب في أنّ هذا النوع من اليقين حاصل في باب الأمارات، فتنحلّ المشكلة من الأساس في جريان الاستصحاب في باب الأمارات، كما تنحلّ المشكلة في كثير من أبواب الشهادات، وكذا في مسألة قيام الأمارات مقام العلم المأخوذ في الموضوع وأشباهها.

الرابعة: أنّه لو أغمضنا عن جميع ذلك فلا أقلّ ممّا أفاده المحقّق الأصفهاني رحمه الله من الطريقين المذكورين، والإنصاف أنّ كليهما في محلّه، نعم أنّه إستظهر من أدلّة الاستصحاب الطريق الثاني مع أنّ الظاهر منها هو الأوّل.

وحاصل الكلام أنّ اليقين المأخوذ في لسان أدلّة الاستصحاب هو بمعنى مطلق الحجّة، ومفاد الاستصحاب جعل الملازمة بين حجّية الاستصحاب وحجّية تلك الأمارة.

التنبيه الرابع: أقسام استصحاب الكلّي
اشارة

والمشهور عند من تأخّر عن الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله أنّه على ثلاثة أقسام، وذكر بعض من قارب عصرنا قسماً رابعاً فصارت الأقسام أربعة:

الأوّل: أن يكون الشكّ في بقاء الكلّي من جهة الشكّ في بقاء الفرد الذي كان الكلّي متحقّقاً في ضمنه كما إذا علم بوجود الإنسان في ضمن زيد، ثمّ شكّ في بقاء الإنسان من جهة الشكّ في بقاء زيد، فلا إشكال في جواز استصحاب الإنسان وترتيب أثره عليه كما جاز استصحاب شخص زيد وترتيب نفس الأثر عليه فإنّ أثر الكلّي أثر الفرد أيضاً ولا عكس، ولذا لو ترتّب على الفرد بخصوصه أثر جاز استصحاب الفرد دون الكلّي.

والمثال الشرعي لهذا القسم ما إذا أجنب زيد وتيقّن بالجنابة

وبتبعها بكلّي الحدث ثمّ شكّ في رفعها بالغسل فلا إشكال في جريان استصحاب كلّ من الجنابة والحدث، ومقتضى الثاني هو عدم صحّة صلاته وما هو مشروط بالطهارة، وهو بعينه مقتضى الأوّل أيضاً مضافاً إلى عدم جواز مكثه في المسجد مثلًا.

الثاني: أن يكون الشكّ في بقاء الكلّي من جهة تردّد الفرد الذي كان الكلّي متحقّقاً في ضمنه بين ما هو مرتفع قطعاً، وما هو باقٍ جزماً، كما إذا علم إجمالًا بوجود طائر في الدار، ولم يعلم أنّه العصفور أو الغراب، ثمّ مضى مقدار عمر العصفور دون الغراب، فإن كان الطائر عصفوراً فقد مات وإن كان غراباً فهو باقٍ فيستصحب كلّي الطائر الجامع بينهما.

والمثال الشرعي لهذا القسم ما إذا علم إجمالًا بنجاسة الثوب ولم يعلم أنّها من الدم أو البول؟ فإن كانت النجاسة من الدم فقد زالت بالغسل مرّة بالماء القليل وإن كانت النجاسة من البول فهى باقية لا تزول إلّابالمرّة الثانية، فيستصحب كلّي النجاسة المشترك بين البول والدم.

الثالث: أن يكون الشكّ في بقاء الكلّي من جهة الشكّ في وجود فرد آخر بعد القطع بارتفاع الفرد الأوّل الذي كان الكلّي متحقّقاً في ضمنه، وهذا على قسمين:

فتارةً يقع الشكّ في وجود فرد آخر مقارن لوجود الفرد الأوّل، واخرى يقع الشكّ في وجود فرد آخر مقارن لارتفاع الفرد الأوّل.

كما إذا علم بوجود الإنسان في الدار في ضمن وجود زيد، ثمّ حصل القطع بخروج زيد عنها وشكّ في وجود عمرو مقارناً لوجود زيد في الدار أو مقارناً لخروجه عنها.

انوار الأصول، ج 3، ص: 338

والمثال الشرعي له ما إذا علم بحدوث الحدث الأصغر ثمّ حصل اليقين بإرتفاعه بالوضوء وشكّ في حدوث الحدث الأكبر مقارناً لحدوث الأصغر أو مقارناً لارتفاعه.

الرابع: ما ذكره بعض

من قارب عصرنا، وحاصله ما إذا علمنا بوجود فرد بعنوان، خاصّ ثمّ علمنا بوجود مصداق معنون بعنوان آخر ولكن لا ندري أنّ العنوانين منطبقان على مصداق واحد أولهما مصداقان مختلفان؟

وهذا مثل ما إذا علمنا بوجود زيد في الدار، ثمّ سمعنا صوت القرآن من الدار لا ندري هو زيد أو عمرو؟ ثمّ خرج زيد من الدار، فإن كان القارى ء زيداً فقد خرج، وإن كان غيره فهو باقٍ، فهل يمكن استصحاب بقاء القارى ء للقرآن في الدار- أي بهذا العنوان لا بعنوان أنّه زيد أو عمرو- أم لا؟

ومثاله الشرعي ما إذا علم إنسان بأنّه قد إحتلم ثمّ إغتسل بعد ذلك، ثمّ رأى بعد ذلك اليوم آثار المني في ثوبه لا يدري أهو من الاحتلام السابق، أو من إحتلام جديد؟ فهل يمكن الإشارة إلى خصوص ذلك الأثر، فيقال: أنّ الجنابة كانت حاصلة مقارنة لخروج هذا، ولا ندري أنّه اغتسل بعد خروجه أم لا؟ فيستصحب الجنابة التي حصلت مقارنة له لا خصوص الجنابة الحاصلة في أمس، فإنّها قد ارتفعت قطعاً، ولا خصوص الجنابة الحاصلة في اليوم فإنّها مشكوك حدوثها.

والفرق بينه وبين الكلّي في القسم الثالث واضح فإنّ تعدّد الفردين هناك قطعي، فالحدوث بسبب واحد منهما والبقاء بسبب فرد آخر، ولكن التعدّد هنا غير ثابت لإحتمال إنطباق عنوان زيد وقارى ء القرآن على شخص واحد.

هذه هى الأقسام الأربعة من الاستصحاب الكلّي.

أمّا القسم الأوّل: فلا إشكال في جريان استصحاب الكلّي فيه (كما مرّت الإشارة إليه) كما يجري استصحاب الفرد أيضاً.

ولكن الكلام في أنّ استصحاب الفرد هل يغني عن استصحاب الكلّي مطلقاً، أو لا يكفي كذلك أو فيه تفصيل؟ والاحتمالات أربعة:

انوار الأصول، ج 3، ص: 339

1- كفاية استصحاب الفرد عن استصحاب الكلّي، واستدلّ لها باتّحاد

الكلّي مع فرده، فيكفي استصحاب الفرد لترتّب جميع آثار الكلّي، وهذا ما ذهب إليه أكثر المحقّقين، وهو المختار.

2- عدم الكفاية، من باب اختلاف الحيثيتين: حيثية الحدث مثلًا وحيثية خصوص الجنابة، فإنّهما عنوانان، لكلّ واحد منهما آثار غير آثار الآخر.

3- التفصيل بين الفرد الساري وصرف الوجود، والمراد من الفرد الساري هو الأفراد الداخلة تحت العموم الاستغراقي، فإنّ حكم الجنابة عام سارٍ في جميع أفرادها، فيغنينا استصحاب الفرد عن استصحاب الكلّي، بخلاف صرف الوجود، كما في الاستطاعة للحجّ والنصاب في الزكاة، فإنّ صرف وجود الاستطاعة يكفي لوجوب الحجّ، كما أنّ صرف وجود النصاب يكفي لوجوب الزكاة، فلا يغني حينئذٍ استصحاب الفرد عن استصحاب الكلّي.

4- التفصيل بين الاستصحاب في الشبهة الحكميّة والاستصحاب في الشبهة الموضوعيّة، فيغني استصحاب الفرد عن استصحاب الكلّي في الاولى دون الثانية، لأنّ الشارع في مورد الاولى يجعل حكماً مماثلًا للواقع، ففي مورد استصحاب وجوب صلاة الجمعة مثلًا يجعل وجوباً ظاهرياً مماثلًا لوجوبها الواقعي، بخلافه في الثانية، حيث إنّ المستصحب فيها هو الموضوع لا الحكم.

إذا عرفت هذا فنقول: الصحيح من هذه الوجوه إنّما هو القول الأوّل كما أشرنا، فلا ثمرة لإستصحاب الكلّي في هذا القسم لأنّ الكلّي لا يكون مفترقاً عن فرده، لما ثبت في محلّه أنّ الحقّ اتّحاد الكلّي الطبيعي مع افراده، وأنّ وجود الطبيعي عين وجود افراده، وحينئذٍ آثار الكلّي تترتّب أيضاً على فرده، فمن تيقّن بالجنابة ثمّ شكّ في الطهارة عنها يستصحب بقاء الجنابة ويرتّب عليها عدم المكث في المسجد، الذي هو من آثار فرد الجنابة وعدم صحّة صلاته الذي هو من آثار مطلق الحدث، ولا حاجة إلى استصحاب كلّي الحدث.

أمّا القول الثاني: (وهو عدم كفاية استصحاب الفرد عن استصحاب الكلّي) فاستدلّ

له المحقّق الأصفهاني رحمه الله في تعليقته بما حاصله: أنّ مقتضى الدقّة أنّ التعبّد بالشي ء لا معنى له إلّا التعبّد بأثره، ولا يعقل التعبّد بشي ء والتعبّد بأثر غيره «1».

انوار الأصول، ج 3، ص: 340

والجواب عنه أوّلًا: أنّ تعدّد الكلّي والفرد إنّما هو في الحيثية، ولا إشكال في أنّ التعدّد الحيثي أمر ذهني يحصل بالتحليل العقلي لا في الخارج لأنّ الحقّ أنّ وجود الطبيعي في الخارج عين وجود افراده كما مرّ.

وثانياً: سلّمنا كونهما متعدّداً في الخارج بالدقّة العقليّة ولكنّهما واحد بنظر العرف فإنّ العرف يرى وحدة بين حيثية الحدث وحيثية الجنابة، ولا إشكال في أنّ المعتبر في الاستصحاب إنّما هو الوحدة العرفيّة.

والعجب من المحقّق الخراساني رحمه الله حيث إنّه أفاد في تعليقته على الرسائل عكس ما أفاد هنا، حيث قال هناك: «إنّ الكلّي والفرد بالنظر العرفي إثنان، يكون بهذا النظر بينهما التوقّف والعلّية دون الاتّحاد والعينية، فلا يكون التعبّد بالفرد عرفاً تعبّداً بالكلّي بهذا النظر وهو المعتبر في هذا الباب» «1».

فإنّه قد مرّ أنّ المسألة على العكس، أي أنّ حيثية الكلّي وإن كانت غير حيثيّة الفرد بالدقّة العقليّة ولكنّهما عند العرف واحد.

وأمّا القول الثالث: (وهو التفصيل بين الوجود الساري وصرف الوجود) فاستدلّ له بأن المستصحب الكلّي إذا كان وجوده سارياً في افراده ككلّي الحدث في ما إذا قيل: إن كنت محدثاً فلا تصلّ (حيث إنّ الحكم بعدم جواز الصّلاة تعلّق بكلّي الحدث ومنه سرى إلى أفراده) فإنّه يكون حينئذٍ من قبيل القضيّة الحقيقيّة، وقد ثبت في محلّه «أنّ الحكم في المحصورة أيضاً جرى على الطبيعة بحيث قد سرى افرادها إذ لو على أفرادها لم يمكن إذ ليس إنتهت أعدادها» «2» ومعناه أنّ الكلّي متّحد مع فرده فاستصحاب

فرده مغنٍ عن استصحاب نفسه، وأمّا إذا كان من قبيل صرف الوجود كمقدار النصاب في الزكاة أي عشرين مثقالًا مثلًا (حيث إنّ الزكاة تجب بمجرّد تحقّق صرف الوجود من هذا المقدار) فلا يكون حينئذٍ ناظراً إلى خصوصيّات الأفراد، أي يكون لا بشرط بالنسبة إلى الأكثر من صرف الوجود، فلا يغني استصحاب الفرد عن استصحاب الكلّي.

والجواب عنه أيضاً: اتّضح ممّا مرّ من أنّ وجود الكلّي عين وجود فرده عقلًا وعرفاً،

انوار الأصول، ج 3، ص: 341

والتعدّد بينهما إنّما هو في الوجود الذهني والتحليل العقلي، سواء كان الكلّي من قبيل الوجود الساري أو صرف الوجود.

وأمّا القول الرابع: (وهو التفصيل بين الشبهة الحكميّة والشبهة الموضوعيّة) فاستدلّ له بأنّ المختار في الشبهة الحكميّة هو جعل الحكم الممثال، ولا إشكال في أنّ الحكم المجعول كالوجوب مصداق للفرد ولكلّي الطلب معاً، فيغني استصحاب الوجوب عن استصحاب كلّي الطلب، بخلاف الشبهة الموضوعيّة كالجنابة، حيث إنّ حيثية الجنابة غير حيثية الحدث.

والجواب أيضاً اتّضح ممّا مرّ من أنّ تعدّد الحيثيتين إنّما هو في الذهن لا في الخارج.

أمّا القسم الثاني: فقد مرّ مثاله الشرعي والعرفي، ومن أمثلته الشرعيّة ما إذا علم إجمالًا بحدوث البول أو المني ولم يعلم الحالة السابقة، ثمّ توضّأ ولم يغتسل، فإن كان الحدث من البول فقد زال، وإن كان من المني فهو باقٍ، فيستصحب كلّي الحدث المشترك بين البول والمني ويترتّب عليه الأثر المشترك كحرمة مسّ المصحف وعدم جواز الدخول في الصّلاة ونحوهما ممّا يشترط بالطهارة، فيجب عليه حينئذٍ الغسل مضافاً إلى الوضوء.

هذا إذا كان مسبوقاً بالطهارة، وأمّا لو كان مسبوقاً بالحدث الأصغر فلا يجب عليه أزيد من الوضوء لأنّه لا يعلم أنّ خروج البلل المشتبه هل أوجب له تكليفاً جديداً، أو لا؟

فيجوز له استصحاب عدم الجنابة، وأمّا استصحاب عدم الحدث الأصغر فهو غير جارٍ، لأنّ المفروض وجوده، فيجب عليه حينئذٍ الوضوء فقط.

وكيف كان فقد ذهب أكثر المحقّقين إلى حجّية هذا القسم لكن في خصوص ما إذا لم يكن أثر الكلّي مبايناً مع أثر الفرد والخصوصيّات الفردية، كما إذا علمنا إجمالًا بنجاسة الثوب ولم نعلم أنه دم أو بول، حيث إنّ أثر النجاسة بالدم وجوب الغسل مرّه وأثر النجاسة بالبول وجوب الغسل مرّتين فيجري استصحاب بقاء النجاسة بعد الغسل مرّة ويجب الغسل مرّة اخرى.

وأمّا إذا كان أثر الكلّي مبايناً مع أثر الفرد كما في المثال المشهور المذكور آنفاً (مثال البول والمني حيث إنّ أثر البول وجوب الوضوء وأثر المني وجوب الغسل وهما أثران متباينان) وكما

انوار الأصول، ج 3، ص: 342

إذا علمنا بشرب حيوان من الإناء، ودار أمره بين الكلب والخنزير، فإن كان كلباً وجب التعفير والغسل مرتين بالماء القليل، ولو كان خنزيراً وجب الغسل سبع مرّات من دون تعفير، ففي هذه الصورة لا تصل النوبة إلى استصحاب كلّي الحدث لإثبات وجوب الوضوء والغسل معاً في المثال الأوّل، ولإثبات وجوب رعاية ما إعتبر في التطهير من نجاسة الكلب والخنزير معاً في المثال الثاني، بل تجري قاعدة الاحتياط والاشتغال فقط لإثبات وجوب رعاية كلا الأثرين.

أقول: هذا- ولكن الصحيح أنّ هذا النوع من الاستصحاب ليس من مصاديق استصحاب الكلّي بل إنّه في الواقع من قبيل استصحاب الفرد المبهم، وإن شئت قلت: يجري استصحاب الفرد المبهم ويترتّب نفس ما يترتّب على استصحاب الكلّي، ففي مثال العصفور والغراب مثلًا نشير إلى ذلك الفرد من الطائر المبهم الذي دخل الدار في ساعة كذا ورآه بعينه من دون معرفة حاله، ويستصحب شخص ذلك الفرد المبهم،

ولعلّ مراد القائلين بالكلّي أيضاً ذلك.

ثمّ إنّه قد أورد على هذا القسم من استصحاب الكلّي بوجوه:

الوجه الأوّل: إختلال بعض أركان الاستصحاب فيه، لدورانه بين ما هو مقطوع الانتفاء وهو وجود الفرد القصير، وما هو مشكوك الحدوث من الأوّل، وهو الفرد الطويل المحكوم بالعدم بمقتضى الأصل.

واجيب عنه: بأنّ هذا كلّه ممّا يضرّ باستصحاب نفس الفرد الطويل أو القصير بعينه، أي استصحاب خصوصية الفرد، وأمّا استصحاب القدر المشترك بينهما فلا مانع منه وذلك لتحقّق أركانه من اليقين السابق والشكّ اللاحق وغيرهما من الامور المعتبرة في حجّية الاستصحاب.

الوجه الثاني: أنّ الشكّ في بقاء الكلّي مسبّب عن الشكّ في حدوث الفرد الطويل، فإذا إرتفع الشكّ عن حدوثه تعبّداً باستصحاب عدم حدوثه علم بعدم بقاء الكلّي تعبّداً، وذلك لحكومة الأصل السببي على الأصل المسبّبي.

وفيه أوّلًا: منع كون الشكّ في بقاء الكلّي مسبّباً عن الشكّ في حدوث الفرد الطويل لأنّ الكلّي عين الفرد خارجاً ولا تسبّب بينهما، والمعتبر في أحكام السبب والمسبّب أن تكون حادثة خارجية مسبّبة عن حادثة اخرى، ولازمه تعدّد الحادثتين.

انوار الأصول، ج 3، ص: 343

ثانياً: سلّمنا، ولكن يعتبر في حكومة الأصل السببي على المسبّبي أن يكون المسبّب من الآثار الشرعيّة للسبب، بينما تكون السببيّة والمسبّبية في المقام عقلياً على فرض قبولها.

وثالثاً: إنّا نمنع كون الشكّ في بقاء الكلّي وعدمه مسبّباً عن الشكّ في حدوث الفرد الطويل، بل أنّه مسبّب عن أنّ الحادث المعلوم حدوثه هل هو الفرد القصير المعدوم حتّى يكون الكلّي معلوم الارتفاع، أو هو الفرد الطويل حتّى يكون معلوم البقاء؟ أي الشكّ في بقاء الكلّي مسبّب عن دوران الفرد بين القصير والطويل.

وبعبارة اخرى: أنّ الكلّي ينعدم بانعدام جميع أفراده، فيكون عدم الكلّي مسبّباً عن عدم الفرد الطويل

والقصير معاً، لا مسبّباً عن خصوص عدم فرده الطويل.

وبعبارة اخرى: إنّ الكلّي ينعدم بانعدام جميع أفراده فيكون عدم الكلّي مسبّباً عن عدم فرد الطويل والقصير معاً، لا مسبّباً عن خصوص عدم فرده الطويل.

ولكنّه غير تامّ لأنّ المفروض أنّ زمان جريان استصحاب الكلّي ما إذا علمنا بإنعدام الفرد القصير، فالشكّ في بقائه ناشٍ من الشكّ في حدوث الفرد الطويل وعدمه، فإن كان الطويل حادثاً كان الكلّي باقياً، وإلّا فلا، من غير دخل لحدوث القصير وعدمه، فتدبّر جيّداً.

الوجه الثالث: أنّ من شرائط حجّية الاستصحاب وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة، أي تعلّق اليقين والشكّ بشي ء واحد، وهذا في المقام غير حاصل، لأنّ وجود الكلّي ضمن أحد أفراده غير وجوده ضمن فرد آخر، فإنّ نسبة الكلّي إلى افراده نسبة الآباء إلى الأبناء، لا نسبة أب واحد إلى أبناء متعدّدين، وحينئذٍ يصير الاستصحاب من قبيل استصحاب الفرد المردّد، وهو غير حجّة.

واجيب عنه أوّلًا: بأنّه «إنّما يرد ذلك بعد تسليم كون الطبيعي مع الأفراد كذلك عرفاً لو أردنا استصحاب الفرد المردّد دون ما إذا أردنا استصحاب الكلّي، فإنّ المعلوم هو حيوان خارجي متشخّص يكون الكلّي موجوداً بوجوده، وشكّ في بقاء ذاك الحيوان بعينه فلا إشكال في جريان الأصل فيه» «1».

ويمكن الجواب عنه ثانياً: بما مرّ من أنّ هذا القسم من الكلّي في الحقيقة إلى استصحاب انوار الأصول، ج 3، ص: 344

الفرد، أي استصحاب تلك الحصّه الخاصّة المتيقّنة وإن كان بعض خصوصيّاتها مبهمة، فنقول:

أنّ الطائر الذي دخل الدار في ساعة كذا بعينه موجود الآن وإن شككنا في أنّه كان غراباً أو عصفوراً لظلمة أو شبهها.

الوجه الرابع: أنّه يرد على هذا الاستصحاب ما يرد على جريان الاستصحاب في الشبهات المفهوميّة كاستصحاب بقاء النهار في ما

إذا شككنا في أنّ النهار هل هو ما ينتهي إلى سقوط قرص الشمس أو يبقى إلى زوال الحمرة (فإنّ الاستصحاب فيه غير جارٍ لعدم الشكّ في أمر خارجي فإنّ سقوط القرص معلوم وعدم زوال الحمرة أيضاً معلوم، فالأمر دائر بين المعلومين، وإنّما الشكّ في إنطباق مفهوم النهار على أحدهما) فإنّ الأمر في المقام أيضاً دائر بين المعلومين، لأنّ الحيوان الخارجي إذا كان غراباً فهو باقٍ قطعاً، وإذا كان عصفوراً فهو معدوم قطعاً، وإنّما الشكّ في إنطباق عنوان الغراب أو العصفور عليه.

والجواب عنه واضح: لأنّ قياس المقام على الشبهة المفهومية مع الفارق، فإنّ الشكّ في الشبهة المفهوميّة إنّما هو في المعنى اللغوي، أو العرفي ولا يسري إلى الخارج أصلًا، بخلاف ما نحن فيه فإنّ الشكّ فيه في بقاء عمر الطائر خارجاً، أي بقاء نفس ذلك الحيوان المتيقّن وجوده في الخارج سابقاً.

الشبهة العبائيّة

ثمّ إنّ هيهنا شبهة سمّيت بالشبهة العبائيّة، وهى في الواقع إشكال خامس على جريان الاستصحاب في القسم الثاني من استصحاب الكلّي، ومنسوبة إلى المحقّق السيّد إسماعيل الصدر رحمه الله وحاصلها: أنّه لو علمنا بإصابة النجاسة أحد طرفي العباءة من الأيمن والأيسر ثمّ طهّرنا الطرف الأيمن فطهارته تورث الشكّ في بقاء النجاسة في العباءة، لاحتمال أن تكون النجاسة المعلومة قد أصابت الطرف الأيسر فيجري فيه استصحاب بقاء النجاسة، فإذا لاقت اليد مثلًا الطرف الأيسر كانت محكومة بالطهارة (لأنّ ملاقي بعض الأطراف في الشبهة المحصورة طاهر) أمّا إذا لاقت بعد ذلك الطرف الأيمن وجب الحكم بنجاستها مع أنّ الأيمن طاهر على المفروض، وذلك لأنّ النجاسة في العباءة باقية بحكم الاستصحاب وليست خارجة

انوار الأصول، ج 3، ص: 345

عن الطرفين، وقد لاقت اليد كليهما، فلا محيص عن القول بنجاسة اليد

بعد إصابة الطرف الطاهر، وهذا من العجائب، فلابدّ من رفع اليد عن جواز استصحاب الطهارة هنا الذي هو من قبيل استصحاب القسم الثاني من الكلّي.

وقد وقع الأعلام في حيص وبيص في حلّ هذه المشكلة.

فأجاب المحقّق النائيني رحمه الله في الدورة الاولى من خارج الاصول بجواب، وفي الدورة الثانية بجواب آخر.

أمّا الجواب الأوّل: فهو «إنّ الاستصحاب الجاري في مثل العباءة ليس من استصحاب الكلّي في شي ء لأنّ استصحاب الكلّي إنّما هو فيما إذا كان الكلّي المتيقّن مردّداً بين فرد من الصنف الطويل وفرد من الصنف القصير، كالحيوان المردّد بين البق والفيل على ما هو المعروف، بخلاف المقام فإنّ الشكّ فيه في خصوصيّة محلّ النجس مع العلم بخصوصيّة الفرد، والشكّ في خصوصيّة المكان أو الزمان لا يوجب كلّية المتيقّن، فليس الشكّ حينئذٍ في بقاء الكلّي وارتفاعه حتّى يجري الاستصحاب فيه، كما إذا علمنا بوجود زيد في الدار فانهدم الطرف الشرقي منها، فلو كان زيد فيه فقد مات بانهدامه، ولو كان في الطرف الغربي فهو حي، فحياة زيد وإن كانت مشكوكاً فيها إلّاأنّه لا مجال معه لاستصحاب الكلّي» «1».

وأورد عليه مقرّره المحقّق: بأنّ الإشكال ليس في تسمية الاستصحاب الجاري في مسألة العباءة باستصحاب الكلّي، بل الإشكال إنّما هو في أنّ جريان استصحاب النجاسة لا يجتمع مع القول بطهارة الملاقي لأحد أطراف الشبهة، سواء كان الاستصحاب من قبيل استصحاب الكلّي أو الجزئي» «2».

ولكن يمكن الدفاع عن المحقّق النائيني رحمه الله بأنّ مقصود المحقّق إنّما هو إثبات سلامة استصحاب القسم الثاني من الكلّي من الإشكال وهو حاصل بجوابه.

نعم، يمكن الإيراد عليه بأنّ قياس ما نحن فيه بمثال وجود زيد في الدار مع الفارق، لأنّ البحث في ما نحن فيه ليس

في خصوصيّة المكان وأنّ النجاسة هل وقعت في الطرف الأيمن أو الطرف الأيسر؟ بل الكلام في تنجّس العباءة (فإنّها تتنجّس بالملاقاة) وإنّ نجاستها هل هى انوار الأصول، ج 3، ص: 346

باقية ضمن فردها الأيمن أو الأيسر أو لا؟ نظير ما إذا علمنا بنجاسة كلّي الإناء ولا نعلم بوجوده ضمن الإناء الأيمن أو الإناء الأيسر، فالاستصحاب من قبيل القسم الثاني من الكلّي على مبنى القوم، وبعبارة اخرى: العباءة ليست ظرفاً للنجاسة، بخلاف مثال زيد في طرفي الدار، بل العباءة تتنجّس بنفسها ثمّ نشكّ في ارتفاع نجاستها.

وأما الجواب الثاني: فهو «إنّ الاستصحاب المدّعى في المقام لا يمكن جريانه في مفاد كان الناقصة بأن يشار إلى طرف معيّن من العباءة ويقال: إنّ هذا الطرف كان نجساً وشكّ في بقائها فالإستصحاب يقتضي نجاسته، وذلك لأنّ أحد طرفي العباءة مقطوع الطهارة والطرف الآخر مشكوك النجاسة من أوّل الأمر، وليس لنا يقين بنجاسة طرف معيّن يشكّ في بقائها ليجري الاستصحاب فيها، نعم يمكن اجراؤه في مفاد كان التامّة بأن يقال: أنّ النجاسة في العباءة كانت موجودة وشكّ في إرتفاعها فالآن كما كانت، إلّاأنّه لا تترتّب نجاسة الملاقي على هذا الاستصحاب إلّاعلى القول بالأصل المثبت» «1».

وقد ذكر له بعض الأعاظم رحمه الله مثالًا آخر وهو «أنّه لو وجب عليه إكرام عالم وكان في البيت شخصان يعلم كون أحدهما عالماً فخرج أحدهما من البيت وبقي الآخر يجري استصحاب بقاء العالم في البيت ويترتّب عليه أثره لو كان له، لكن لا يثبت كون الشخص الموجود عالماً يكون إكرامه عملًا بالتكليف»»

.ولكن يرد عليه: أنّ هذا ليس من الأصل المثبت بل هو من قبيل ضمّ الوجدان إلى الأصل، لأنّ ملاقاة اليد مثلًا بالعباءة متيقّن بالوجدان، ونجاسة العباءة

معلومة بالتعبّد فتثبت نجاسة الملاقي، وهذا نظير ما إذا تنجّس خصوص أحد طرفي العباءة ولم نعلم بطهارته بعد ذلك ولاقاه شي ء فلا إشكال في نجاسة الملاقي حينئذٍ.

وإن شئت قلت: من الآثار الشرعيّة للشي ء النجس نجاسة ملاقيه وبعد إثبات نجاسة العباءة في ما نحن فيه بإستصحاب كلّي النجاسة تترتّب عليها نجاسة ملاقيه وهو اليد.

وأمّا قياسه بمثال العالم الموجود في الدار في كلمات بعض الأعاظم قياس مع الفارق فإن تنظير المقام به إنّما يتمّ فيما إذا قلنا بنجاسة اليد بمجرّد ملاقاتها بالطرف الأوّل، أي قلنا بنجاسة

انوار الأصول، ج 3، ص: 347

ملاقي بعض أطراف العلم الإجمالي، وليس كذلك.

الجواب الثالث: ما أفاده بعض الأعلام وحاصله: أنّ هذا يكون في الواقع التحقيق العبائي لا الشبهة العبائية، أي نحكم بنجاسة الملاقي لطرفي العباءة تعبّداً من باب جريان استصحاب كلّي النجاسة في العباءة، فإنّ من آثار هذا الاستصحاب هو الحكم بنجاسة الملاقي، ولا منافاة بين الحكم بطهارة الملاقي في سائر المقامات والحكم بنجاسته في مثل المقام، للأصل الحاكم على الأصل الجاري في الملاقي، فإنّ التفكيك في الاصول كثير جدّاً، ولا تناقض في عالم التعبّد والاعتبار «1».

ويرد عليه أنّه لا يجوز مثل هذا التعبّد لجهتين.

فأوّلًا: أنّ نجاسة الملاقي من شؤون نجاسة الملاقى، وهو في المقام ليس نجساً لأنّ المفروض أنّ الطرف الثاني طاهر، وملاقي الطاهر لا يتنجّس، كما أنّ المفروض أنّه لا يحكم بنجاسة الملاقي للطرف الأوّل.

وثانياً: سلّمنا أنّه لا تناقض في عالم التعبّد عقلًا ولكن الوجدان يحكم بأنّ مثل هذا التعبّد أمر عجيب جدّاً يوجب إنصراف أدلّة الاستصحاب عنه بلا ريب، وإن شئت قلت: مثل هذا التعبّد لا يمكن إثباته بمجرّد الاطلاق، بل يحتاج إلى دليل صريح الدلالة قوي السند جدّاً.

الجواب الرابع: ما

هو الصحيح، وهو أنّ مثل هذا الاستصحاب ليس من قبيل استصحاب القسم الثاني من الكلّي، لأنّ استصحاب القسم الثاني عبارة عن استصحاب فرد واحد مجهول الصفات، أي الفرد المبهم المتيقّن وجوده في الخارج، بينما الفرد في ما نحن فيه مردّد بين فردين خارجيين، فهو نظير ما إذا علمنا بنجاسة أحد الإنائين ثمّ علمنا بإنعدام أحدهما ولا نعلم هل المعدوم هو الإناء النجس أو الإناء الطاهر؟ فلا إشكال في عدم جواز استصحاب نجاسة كلّي أحدهما في مثل ذلك، لتبدّل الموضوع الناشى ء من انعدام أحدهما في الخارج.

فإنّ المفروض في ما نحن فيه أنّ أحد الطرفين صار طاهراً قطعاً، فتبدّل عنوان «هما» ب «هو» فليس المتيقّن نجاسة كلّي أحدهما بل المتيقّن نجاسة الفرد المردّد بين ما صار طاهراً يقيناً وبين ما هو مشكوك نجاسة، فهو من قبيل استصحاب الفرد المردّد الذي لا إشكال في عدم انوار الأصول، ج 3، ص: 348

جريانه في أمثال المقام لتبدّل الموضوع.

إن قلت: فليكن إتيان الصّلاة في مثل هذا العباءة جائزاً.

قلنا: كلّا، لأنّ أحد أطراف العلم الإجمالي باقٍ على حاله بعد تنجّزه، وقد ثبت في محلّه بقاء تنجّز العلم الإجمالي بالنسبة إلى الافراد الباقية ولو بعد إنعدام بعض الأطراف، فالحكم بعدم جواز الصّلاة حينئذٍ ليس من باب استصحاب النجاسة، بل هو ناشٍ عن وجوب الاحتياط الحاصل من العلم الإجمالي، والفرق بينهما ظاهر.

أمّا استصحاب القسم الثالث: ففي حجّيته وعدم حجّيته وجوه ثلاثة:

الأوّل: عدم الحجّية مطلقاً، وهو المعروف بين الأصحاب.

الثاني: الحجّية مطلقاً، ولا نعرف من يقول به بالاسم والعنوان.

الثالث: تفصيل شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله في فرائده بين ما إذا إحتمل وجود الفرد الآخر مقارناً لخروج الفرد الأوّل، وما إذا احتمل وجوده مقارناً لوجود الفرد الأوّل، فهو

حجّة في الثاني دون الأوّل.

والصحيح هو القول الأوّل، ودليله واضح، لإعتبار وحدة متعلّق اليقين والشكّ في الاستصحاب الذي يعبّر عنه بلزوم اتّحاد القضية المتيقّنة والقضية المشكوكة، وهى مفقودة في المقام لأنّ متعلّق اليقين فيه إنّما هو وجود الإنسان ضمن زيد، بينما المشكوك هو وجود الإنسان ضمن عمرو، وقد ثبت في محلّه أنّ وجود الكلّي الطبيعي في الخارج يكون متعدّداً بتعدّد أفراده وإن كان متّحداً معها في الذهن، ولا إشكال في أنّ المستصحب في ما نحن فيه إنّما هو وجود الكلّي في الخارج لا الموجود في الذهن.

واستدلّ الشيخ الأعظم رحمه الله لجريان الاستصحاب في القسم الأوّل من قسمي الثالث (وهو ما إذا وقع الشكّ في وجود فرد آخر مقارن لوجود الفرد الأوّل) بما إليك نصّه: «لإحتمال كون الثابت في الآن اللاحق هو عين الموجود سابقاً فيتردّد الكلّي المعلوم سابقاً بين أن يكون وجوده الخارجي على نحو لا يرتفع بإرتفاع الفرد المعلوم إرتفاعه وأن يكون على نحو يرتفع بإرتفاع ذلك الفرد، فالشكّ إنّما هو في مقدار استعداد ذلك الكلّي، واستصحاب عدم حدوث انوار الأصول، ج 3، ص: 349

الفرد المشكوك لا يثبت تعيين استعداد الكلّي».

فحاصل كلامه: أنّه في القسم الأوّل يحتمل أن يكون الثابت في الآن اللاحق هو عين الموجود سابقاً بخلاف القسم الثاني فلا يحتمل فيه ذلك، فيجري الاستصحاب في الأوّل دون الثاني.

ويمكن أن يجاب عنه: بأنّ المتيقّن إنّما هو وجود كلّي الإنسان ضمن وجود زيد، وأمّا المشكوك فهو وجود كلّي الإنسان ضمن عمرو، فالموضوع المستصحب على كلّ حال ليس واحداً لما مرّ كراراً من أنّ وجود الطبيعي في ضمن فرد غير وجوده في ضمن فرد آخر.

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: قد استثنى الأعاظم من القسم الثالث ما يتسامح

فيه العرف، فيعدّون الفرد اللاحق مع الفرد السابق كالمستمرّ الواحد، وهو ما إذا كان الفردان من قبيل المرتبة الشديدة والمرتبة الضعيفة من شي ء واحد، كما إذا علمنا بالسواد الشديد في محلّ، وشككنا في تبدّله بالبياض أو بسواد خفيف، ففي هذه الصورة لا إشكال في جريان الاستصحاب، لأنّ العبرة في جريان الاستصحاب كون الوجود اللاحق استمراراً للوجود السابق بنظر العرف ولو كان مغايراً معه بالدقّة العقليّة.

أقول: الحقّ في المسألة أنّ الفرد السابق متّحد مع الوجود اللاحق حتّى بالدقّة العقليّة وذلك لإتّصال مراتب الشديدة والضعيفة في شي ء واحد، وقد ثبت في محلّه أنّ الإتّصال دليل الوحدة الحقيقيّة الخارجيّة، ولذلك إستشكل القائلون بأصالة الوجود على القائلين بأصالة الماهيّة بأنّ لازم هذا القول هو القول بأفراد غير متناهية من الماهيات بين حاصرين في مراتب التشكيك، ولا يرد هذا الإشكال على القائلين بأصالة الوجود لأنّ الوجود المتّصل عندهم واحد فقط. فلو قلنا بتعدّد الوجود في ما نحن فيه من باب تعدّد المراتب لورد نفس الإشكال على القائلين بأصالة الوجود أيضاً.

الأمر الثاني: إذا صارت القضيّة عكس ما مرّ في الأمر الأوّل، فيرى العقل الفرد اللاحق مع الفرد السابق كالمستمر الواحد، لكن العرف يعدّونهما فردين، فهى عند العقل لا تكون من قبيل القسم الثالث من الكلّي، نظير ما إذا زال الوجوب (كوجوب صلاة العيد في عصر

انوار الأصول، ج 3، ص: 350

الحضور مثلًا بالنسبة إلى عصر الغيبة) ولا نعلم هل بقي مطلق الطلب ضمن الاستحباب، أو لا؟ فهل يمكن استصحاب مطلق الطلب الذي كان موجوداً ضمن فرده الواجب، أو لا؟

الصحيح هو عدم الجريان لأنّ الميزان في هذه الموارد إنّما هو نظر العرف، والمفروض أنّ ما نحن فيه يكون عنده من قبيل القسم الثالث من

الكلّي.

نعم يمكن المناقشة في المثال المزبور الذي ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله للمقام لأنّه يمكن أن يقال: بأنّ الاستحباب والوجوب مرتبتان من شي ء واحد (وهو الطلب): المرتبة الضعيفة والمرتبة الشديدة، فيرى العرف أيضاً أحدهما مع الآخر كالمستمرّ الواحد.

الأمر الثالث: ربّما يرد على تفصيل الشيخ الأعظم رحمه الله وجريان الاستصحاب في الصورة الاولى من القسم الثالث من استصحاب الكلّي (وهو ما إذا احتمل وجود الفرد الآخر مقارناً لوجود الفرد الأوّل) «أنّه إذا قام أحد من النوم واحتمل جنابته في حال النوم، لم يجز له الدخول في الصّلاة مع الوضوء وذلك لجريان استصحاب الحدث حينئذٍ بعد الوضوء، لاحتمال إقتران الحدث الأصغر مع الجنابة، وهى لا ترتفع بالوضوء، والظاهر أنّه لا يلتزم بهذا الحكم الشيخ الأعظم رحمه الله وغيره فإنّ كفاية الوضوء حينئذٍ من الواضحات وهذا يكشف عن عدم جريان الاستصحاب في القسم الثالث مطلقاً» «1».

أقول: بل يرد عليه: أنّ لازم كلامه جريان استصحاب بقاء المعلوم بالإجمال في كثير من موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين، ونتيجته وجوب الإتيان الأكثر بحكم الاستصحاب، فإذا دار الأمر في الدَين مثلًا بين كونه مائة درهم فقط أو مع إضافة مائة منّ من الحنطة، فإذا أدّى القدر المعلوم وهو الدراهم وبعد ذلك شكّ في بقاء كلّي الدَين المشترك بينهما وبين الحنطة يجوز له استصحاب كلّي الدَين، وحينئذٍ لا يحصل له البراءة إلّابأداء الحنطة أيضاً، وكذا أشباهه من الأمثلة التي لا نظّن التزام أحد من المحقّقين بها.

وقد قام جماعة من الأعلام منهم المحقّق النائيني رحمه الله في مقام الدفاع عن الشيخ رحمه الله. بما حاصله: أنّ المستفاد من قوله تعالى: «إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ...» وقوله تعالى: «وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً

فَاطَّهَّرُوا» أنّ الوضوء والغسل فردان متضادّان لا يجتمعان في آنٍ انوار الأصول، ج 3، ص: 351

واحد، أي وجوب الوضوء مختصّ بغير الجنب بمقتضى المقابلة لأنّ التقسيم قاطع للشركة، فالمكلّف بالوضوء هو كلّ محدث لا يكون جنباً، أي موضوع وجوب الوضوء مركّب من أمرين: كون المكلّف محدثاً وعدم كونه جنباً، وهذا حاصل في المثال، لأنّ هذا الذي قام من نومه ويحتمل كونه جنباً حين النوم تجري في حقّه أصالة عدم تحقّق الجنابة، فكونه محدثاً محرز بالوجدان، وكونه غير جنب محرز بالتعبّد الشرعي فيدخل تحت قوله تعالى: «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ...» فيكون الوضوء في حقّه رافعاً للحدث، ولا مجال حينئذٍ لوجوب الغسل لمكان التنافي والتضادّ، ولا مجال لجريان استصحاب بقاء كلّي الحدث لكونه محكوماً بالأصل الموضوعي وهو عدم كونه جنباً» «1».

ولكن يرد عليه:

أوّلًا: أنّ الاستصحاب ناظر إلى الحكم الظاهري مع أنّ المستفاد من الآية حكمان واقعيان، والتنافي بين الحكمين الواقعيين لا يستلزم التنافي بينهما في الحكم الظاهري.

ثانياً: أنّ هذا الجواب يختصّ بمسألة الوضوء والغسل، ولا يجري في غيره ممّا ذكرنا من الأمثلة.

هذا هو الوجه الأوّل في الدفاع عن الشيخ رحمه الله.

وهنا وجه آخر أفاده بعض الأعاظم، وحاصله: أنّ كلّي الحديث لا يترتّب عليه أثر شرعي بل الأثر إنّما يترتّب على خصوص الحدث الأصغر أو الحدث الأكبر، فلا يمكن نقض كلام الشيخ رحمه الله باستصحاب كلّي الحدث.

وفيه: أنّه لو سلّم عدم ترتّب الأثر الشرعي على كلّي الحدث فهذا الجواب يختصّ بهذا المثال، ولا يجري في غيره من الأمثلة كمثال الدَين، فالإشكال الذي أوردوه على شيخنا الأعظم من هذه الناحية وارد عليه.

هذا تمام الكلام في استصحاب القسم الثالث من الكلّي.

انوار الأصول، ج 3، ص: 352

أمّا القسم الرابع: ففي حجّية جريان الاستصحاب فيه

وعدمها أقوال ثلاثة:

1- أنّه يجري مطلقاً ولكنّه مبتلى بالمعارض غالباً، وهذا ما ذهب إليه بعض أعاظم العصر.

2- عدم الجريان مطلقاً، وهو المختار.

3- ما ذهب إليه المحقّق الهمداني رحمه الله في مصباح الفقيه من التفصيل الآتي ذكره.

أمّا القول الأوّل: فاستدلّ له بتمامية أركان الاستصحاب وتشييد نظامه في هذا القسم فإنّ أحد العنوانين وإن إرتفع يقيناً إلّاأنّ لنا يقيناً بوجود الكلّي في ضمن عنوان آخر، فنشكّ في ارتفاعه لاحتمال انطباقه على فرد آخر غير الفرد المرتفع يقيناً (فإذا علمنا بأنّ زيداً كان في الدار ثمّ سمعنا قراءة القرآن من الدار واحتملنا أنّ القارى ء هو زيد أو غيره ثمّ خرج زيد عن الدار فحينئذٍ نقول: العلم بوجود كلّي الإنسان كان حاصلًا والآن نشكّ في بقائه لاحتمال تعدّد الفردين: زيد وقارى ء القرآن) فبعد اليقين بوجود الكلّي المشار إليه والشكّ في ارتفاعه لا مانع من جريان الاستصحاب فيه.

نعم قد يبتلى هذا الاستصحاب بالمعارض، كما إذا علم بالجنابة ليلة الخميس مثلًا وقد إغتسل منها، ثمّ رأى منيّاً في ثوبه يوم الجمعة، فيعلم بأنّه كان جنباً حين خروج هذا المني ولكن يحتمل كون المنيّ من الجنابة التي قد إغتسل منها كما يحتمل كونه من غيرها، فإستصحاب كلّي الجنابة مع الغاء الخصوصيّة وإن كان جارياً في نفسه، إلّاأنّه معارض باستصحاب الطهارة الشخصيّة فإنّه على يقين بالطهارة حين ما إغتسل من الجنابة ولا يقين بارتفاعها لإحتمال كون ذلك الأثر من تلك الجنابة، فيقع التعارض بينه وبين استصحاب الجنابة، فيتساقطان ولابدّ من الرجوع إلى أصل آخر «1».

أقول: بعد سقوط الأصل من الجانبين يكون هذا الإنسان كخلق الساعة، وقد وقع الكلام فيه في محلّه من أنّ من خلق من ساعته كآدم مثلًا هل يجوز له الصّلاة

لأنّ الحدث مانع، أو لا يجوز لأنّ الوضوء شرط؟ فكلّ ما اخترنا هناك يجري هنا، لعدم جريان أصل من ناحية الطهارة والحدث، وسيأتي قريباً الجواب عن هذا القول عند ذكر دليل القول الثاني.

انوار الأصول، ج 3، ص: 353

أمّا القول الثاني: فحاصل ما استدلّ له أنّه يرجع إلى التمسّك بعموم لا تنقض في الشبهة المصداقيّة، لأنّه يحتمل أن يكون رفع اليد عن اليقين السابق من قبيل نقض اليقين باليقين فإنّ احتمال انطباق هذا الأثر على الجنابة المعلوم ارتفاعها مساوق لإحتمال تحقّق اليقين بارتفاع الجنابة الحادثة عند حدوث هذا الأثر.

إن قلت: أنّه لا معنى للشكّ في تحقّق اليقين وعدمه، لأنّ اليقين من الصفات النفسانية التي لا يمكن تطرّق الشكّ إليها فإمّا يعلم بوجوده في عالم النفس أو يعلم بعدمه.

قلت: إنّ متعلّق حكم الشارع بالإبقاء نفس الجنابة الخارجية الحاصلة عند وجود هذا الأثر، وإنّما أخذ هذا العنوان (الجنابة الحاصلة عند وجود الأثر) للاشارة إلى الموجود الخارجي، وإلّا فلا دخل لهذا العنوان في الحكم الشرعي بلا إشكال، فلو علم بارتفاع الجنابة الخارجية (بأي عنوان كان وبأيّة إشارة فرضت) فقد حصلت الغاية وهو اليقين بارتفاع الجنابة وكان رفع اليد عن المتيقّن السابق من قبيل نقض اليقين باليقين فإحتمال إنطباق عنوان المتيقّن في المقام على الجنابة المعلوم ارتفاعها يوجب احتمال كون رفع اليد عنه من قبيل نقض اليقين باليقين فلا يصحّ التمسّك بعموم «لا تنقض» لإثبات بقائها.

والحاصل: أنّ اليقين والشكّ وإن كانا من الامور النفسانيّة التي لا يمكن الشكّ في تحقّقها، ولكن الكلام هنا في متعلّق اليقين، فقد يكون العنوان الذي أخذ في متعلّقه منطبقاً على عنوان آخر في الخارج، ومجرّد هذا الاحتمال يوجب احتمال تحقّق اليقين بارتفاع الجنابة في المثال ولو

بعنوان آخر، فالشكّ إنّما هو في انطباق العنوانين اللذين تعلّق بهما الشكّ واليقين، فتأمّل فإنّه دقيق.

هذا كلّه بالنسبة إلى القول الثاني.

وأمّا القول الثالث: فهو تفصيل المحقّق الهمداني رحمه الله بين ما ذكرنا من المثال فيجري فيه الاستصحاب وبين ما إذا علم الإنسان باحتلامه ليلة السبت ولم يغتسل منها بل عوّض ثوبه فقط، ثمّ نام واغتسل بعد الإستيقاظ ثمّ نام في ليلة الأحد ورأى أثر الجنابة في ثوبه بعد الإستيقاظ، فهو يحتمل أن يكون هذا الأثر من الإحتلام الذي يحتمل وقوعه في النوم الثاني من ليلة السبت، أو من الإحتلام المحتمل وقوعه في ليلة، الأحد، فإن كان من الأوّل فلا أثر لهذا الإحتلام، لأنّه من قبيل وقوع الحدث بعد الحدث، وإن كان من الثاني فيجب الغسل عنها،

انوار الأصول، ج 3، ص: 354

وحيث إنّه لا يعلم أهو من هذا أو ذاك فلا يكون هذا العلم الإجمالي منجّزاً، لسقوط أحد طرفيه عن الأثر قبل تنجّزه.

وبالجملة فرق بين ما إذا علم بحدوث تكليف جديد عند تحقّق هذا الأثر، وبين ما إذا لم يعلم بتحقّقه فلا يجري الاستصحاب في الثاني ويجري في الأوّل.

ويمكن الجواب عنه بأنّ المستصحب إنّما هو وجود الجنابة عند وقوع هذا الأثر. (سواء كان لخروجه أثر في الجنابة أم لا) وهو متيقّن في السابق، ومشكوك بقائه في اللاحق في الصورتين فإن كان الاستصحاب جارياً في الصورة الاولى فهو جارٍ هنا أيضاً وإن لم يكن جارياً هناك فكذلك هنا.

التنبيه الخامس: استصحاب الامور التدريجيّة

قد يكون المستصحب من الامور الثابتة القارّة وقد يكون من الامور التدريجيّة غير القارّة كالحركة والزمان، فهل يختصّ الاستصحاب بالقسم الأوّل، أو يجري في القسم الثاني أيضاً؟

فلابدّ لتفصيل الكلام فيه من البحث في مقامات ثلاث:

الأوّل: في الاستصحاب في نفس الزمان

كاليوم والليل.

الثاني: في الاستصحاب في التدريجيّات المشابهة للزمان، أي ما تكون طبيعتها سيّالة كالحركة في المكان أو سيلان الدم والتكلّم وقراءة القرآن وسيلان الماء من العيون.

الثالث: في الاستصحاب في الامور الثابتة المقيّد بالزمان كزيد في يوم كذا فيما إذا صار زيد موضوعاً لحكم من الأحكام مقيّداً بالزمان.

أمّا المقام الأوّل: فإستشكل في جريان الاستصحاب فيه بامور ثلاثة:

أوّلها: أنّه يعتبر في الاستصحاب الشكّ في البقاء، والبقاء معناه وجود الشي ء في الزمان ثانياً، وهو لا يتصوّر لنفس الزمان، وإلّا يستلزم أن يكون للزمان زمان آخر، وهكذا ...

فيتسلسل.

ثانيها: الإشكال بتبدّل الموضوع، لأنّ الساعة المتيقّنة غير الساعة المشكوكة، مع أنّ انوار الأصول، ج 3، ص: 355

المعتبر في حجّية الاستصحاب بقاء الموضوع، أي وحدة القضية والمشكوكة.

ثالثها: رجوعه إلى الأصل المثبت غالباً، لأنّ المراد من استصحاب النهار مثلًا إمّا إثبات وقوع الإمساك في النهار، وهو لازم عقلي لبقاء النهار، أو إثبات أنّ الصّلاة وقعت أداءً، وهو أيضاً لازم عقلي له.

وقبل الورود في الجواب عن هذه الإشكالات لا بأس بالإشارة إجمالًا إلى حقيقة الزمان، فقد دارت حوله أبحاث كثيرة ضخمة، وصدرت من الأعلام في هذا المجال مطالب معقّدة، مع أنّه بإجماله من الضروريات البديهيات.

وكيف كان، فإنّ عمدة الآراء فيه ثلاثة:

1- أنّه بُعد موهوم يتوهّم الإنسان بوقوع الأشياء فيه.

2- أنّه ظرف خاصّ كالمكان، وله بعد حقيقي في الخارج، وهو مخلوق قبل الأشياء الزمانيّة.

3- ما هو مختار الفلاسفة المتأخّرين (وهو الحقّ) من أنّ الزمان ليس إلّامقدار الحركة في العرض أو الجوهر، فلولا الحركة لما كان هناك زمان، فهى في الحقيقة مخلوقة بعد خلق الأشياء المادّية لا قبلها، وهكذا المكان فإنّه أيضاً ينتزع بعد خلق الأشياء المادّية ونسبة بعضها إلى بعض كما ذكر في محلّه.

إذا عرفت هذا

فلنرد في الجواب عن الإشكالات الثلاثة المذكورة فنقول:

أمّا الإشكال الأوّل ففيه: أنّ المستفاد من أدلّة الاستصحاب إنّما هو اعتبار وجود يقين سابق وشكّ لاحق في شي ء واحد، ولا دليل على اعتبار عنوان البقاء فيه.

وأمّا الإشكال الثاني فالجواب عنه:

أوّلًا: أنّ المعتبر وجود الوحدة بنظر العرف لا بالدقّة العقليّة، والوحدة العرفيّة موجودة في الزمان بلا ريب.

وثانياً: أنّ الوحدة موجودة فيه حتّى بالدقّة العقليّة، ودليلها وجود الإتّصال الحقيقي بين أجزاء الزمان، وإلّا يلزم الاجزاء غير المتناهية في المتناهي (بين الحاضرين) بعد عدم صحّة الجزء الذي لا يتجزّى، فالموجود في الخارج في الامور المتّصلة ليس إلّاشيئاً واحداً، وإنّما التجزئة في الذهن.

انوار الأصول، ج 3، ص: 356

ثالثاً: أنّه يمكن أن يستصحب عدم حصول المنتهى، فيستصحب مثلًا عدم حصول آن الغروب أو آن الطلوع.

نعم أنّه يجري فيما إذا ترتّب في الشرع أثر على آن الغروب أو الطلوع، وإلّا يكون الأصل مثبتاً كما لا يخفى.

أمّا الإشكال الثالث: فاجيب عنه: بامور لا تخلو عن مناقشة، ونشير إلى بعضها:

1- أنّه يمكن استصحاب نفس الحكم وهو وجوب الصيام مثلًا، ومعه لا حاجة إلى استصحاب الموضوع حتّى يكون مثبتاً.

وفيه أوّلًا: أنّ هذا تسليم للإشكال.

وثانياً: أنّ الاستصحاب الحكمي هنا لا يفيد، لأنّ المطلوب في المثال إنّما هو إثبات وجوب صيام شهر رمضان مثلًا لا مطلق الصيام، وإثبات وجوب صيام شهر رمضان يحتاج إلى استصحاب الموضوع فيعود الإشكال.

2- ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله في بعض الأبحاث القادمة بقوله «الإمساك كان قبل هذا الآن في النهار، والآن كما كان».

ولا يخفى أنّ قوله هذا يرجع إلى استصحاب الموضوع لأنّ المستصحب فيه إتّصاف هذا الصيام بأنّه كان في رمضان قبل هذا الآن.

ويرد عليه أيضاً: أنّ هذا الجواب على فرض تماميته إنّما

يتمّ في الصيام فقط، لأنّه في مثل الصّلاة يكون استصحاباً تعليقياً بهذا النحو: لو كنت أُصلّي الظهر سابقاً كانت صلاتي واقعة في النهار والآن كما كان، والاستصحاب التعليقي في مثل هذه الموارد ليس بحجّة (لو سلّمت حجّيته في غيرها) لأنّ التعليق هنا تعليق عقلي، والتعليق الملحوظ في الاستصحاب التعليقي إنّما هو التعليق الشرعي كما في قولنا: «العصير إذا غلى ينجّس».

3- أنّه يمكن أن يجعل المستصحب ما لا يكون تدريجياً وهو آن الغروب، لأنّ المستفاد من قوله عليه السلام: «إذا زالت الشمس دخل وقت الصلاتين ثمّ أنت في وقت حتّى تغرب الشمس» إنّ الواجب مركّب من جزئين: وقوع الصّلاة الذي هو ثابت بالوجدان، وعدم الغروب الذي يثبت بالاستصحاب.

ويرد عليه أيضاً: أنّ هذا جمود على ظاهر الدليل، لأنّ المستظهر من مجموع أدلّة

انوار الأصول، ج 3، ص: 357

الأوقات أنّ للصلاة أو الصيام وقتاً محدّداً، وأنّ الواجب وقوعهما في وقت من الأوقات كالنهار وشهر رمضان، وهذا يعني أنّ الواجب وقوع الصّلاة في النهار أو وقوع الصيام في شهر رمضان لا مجرّد عدم الغرب أو عدم طلوع هلال الشوّال.

فقد ظهر أنّ كلّ واحد من هذه الأجوبة غير تامّ.

والحقّ في الجواب أن يقال: إنّ الواسطة في ما نحن فيه خفيّة فلا يكون الأصل مثبتاً وإلّا فليكن الاستصحاب مثبتاً حتّى في مورد أدلّة الاستصحاب لأنّ ما هو معتبر في الصّلاة إنّما هو تقيّد أفعالها بالوضوء، لمكان معنى الشرط، وهو من اللوازم العقليّة لإستصحاب بقاء الوضوء كما لا يخفى، مع أنّ جواز هذا الاستصحاب مصرّح به في نفس الصحيحة المعتبرة الدالّة على حجّية الاستصحاب.

أضف إلى ذلك أنّ من روايات الباب رواية علي بن محمّد القاساني المذكور سابقاً (صم للرؤية وافطر للرؤية) ولا إشكال في

أنّ المستصحب في موردها هو الزمان.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ الشكّ في الزمان قد يكون من قبيل الشبهة المصداقيّة كما إذا شككنا في أنّ غروب الشمس تحقّق أم لا؟ أو شككنا في تحقّق طلوع الفجر أو شهر رمضان، وقد يكون من قبيل الشبهة المفهوميّة كما إذا شككنا في مفهوم المغرب وأنّه هل وضع لإستتار القرص أو لذهاب الحمرة؟

لا إشكال في جريان الاستصحاب في الشبهة المصداقيّة لتماميّة أركانه فيها، وأمّا الشبهة المفهوميّة فالصحيح عدم جريانه فيها، لأنّ المستظهر من أدلّة الاستصحاب أنّ متعلّق الشكّ إنّما هو الوجود الخارجي للشي ء لا مفهمه، وبتعبير آخر، لابدّ أن يكون الشكّ في عمر المستصحب في الخارج والاستصحاب يزيد على عمره شرعاً وتعبّداً، بينما في الشبهات المفهوميّة لا شكّ في الوجود الخارجي، لأنّ الخارج معلوم عندنا فنعلم بأنّ قرص الشمس إستترت والحمرة لم تزل، إنّما الشكّ في المراد من لفظ المغرب الوارد في الأحاديث.

نعم، يمكن جريان الاستصحاب بالنسبة إلى وضع اللفظ، بأن يقال: إنّ الشارع أو العرف لم يضع لفظ المغرب سابقاً في إستتار القرص، والآن شككنا في وضعه، فيجري استصحاب عدم وضعه للإستتار.

انوار الأصول، ج 3، ص: 358

ولكن فيه أوّلًا: إنّه معارض باستصحاب عدم وضعه لذهاب الحمرة.

وثانياً: إنّه مثبت، لأنّ المقصود منه إثبات وضع اللفظ لذهاب الحمرة أوّلًا ثمّ إثبات ظهور اللفظ فيه عند فقدان القرينة لأصالة الحقيقة، ولا يخفى أنّ الواسطة فيه عقلية جلية توجب كون الاستصحاب مثبتاً.

هذا كلّه في المقام الأوّل أي الاستصحاب في نفس الزمان.

أمّا المقام الثاني- أي جريان الاستصحاب في غير الزمان من التدريجيات- فإنّ الامور التدريجية غير الزمان على أقسام:

منها: ما لا يدركه العرف بل لا يعرفه إلّاالعلماء والفلاسفة، وهو تدريجية تمام الموجودات لأنّ وجودها يترشّح من

المبدأ الفيّاض آناً فآن، سواء كانت له حركة جوهرية كما في الماديات، أو لم تكن كما في المجرّدات.

ومنها: ما يكون العرف غافلًا عنه ولكن يدركه عند الدقّة كالحركة الموجودة في السراج، سواء كان سراجاً كهربائياً أو دهنياً.

ومنها: ما يكون ظاهراً ومحسوساً عند العرف كجريان الماء وسيلان دم الحيض ونبع ماء العين وحركة الإنسان من مبدأ إلى منتهى.

ومنها: ما يكون في الواقع من الموضوعات المقطّعة، ولكن تكون لها وحدة اعتبارية كالقراءة والتكلّم.

فهذه أقسام أربعة للُامور التدريجية غير الزمان.

أمّا القسم الأوّل: فلا إشكال في جريان الاستصحاب فيه لو كان له أثر شرعي، وهكذا القسم الثاني والثالث، لأنّ شرطيّة وحدة الموضوع حاصلة في كلّ واحد منها، والدليل عليها وجود الإتّصال فيها.

إنّما الكلام في القسم الرابع فهل يجري فيه الاستصحاب مطلقاً (لأنّ الوحدة العرفيّة موجودة فيه أيضاً ولو كانت اعتبارية) كما ذهب إليه جمع كثير من المحقّقين، أو لا يجري مطلقاً، لأنّ وحدتها تكون بالتسامح العرفي ولا اعتبار بالمسامحات العرفيّة، أو فيه تفصيل بين ما إذا

انوار الأصول، ج 3، ص: 359

اتّحد الداعي فلا يجري، كما إذا كان زيد مريداً للذهاب من النجف إلى بغداد من أوّل الأمر، وما إذا تعدّدت الدواعي فيجري، كما إذا كان زيد مريداً للذهاب من النجف إلى كربلاء وشككنا في حصول داعٍ جديد له للذهاب من كربلاء إلى بغداد، وكما إذا لم نعلم أنّه هل كان مريداً من أوّل الأمر للذهاب من النجف إلى بغداد، أو كان مريداً من أوّل الأمر للذهاب إلى كربلاء ثمّ تجدّد الداعي له إلى بغداد، وهذا ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله فيما حكى عنه في تقريرات بعض الأكابر من تلامذته «1»، ففيه وجوه بل أقوال ثلاثة، الحقّ والصحيح منها

هو القول الأوّل.

أمّا القول الثاني فيرد عليه: أنّ الوحدة في القسم الرابع كالقراءة والتكلّم حاصلة حتّى عند العرف الدقّي، وليست الوحدة فيه من المسامحات العرفيّة.

وأمّا القول الثالث: فيرد عليه أيضاً: أنّ مجرّد تعدّد الداعي لا يكون موجباً للتعدّد في الفعل، لأنّ الحافظ للوحدة ليس هو الداعي بل هو الإتّصال.

هذا كلّه في المقام الثاني.

أمّا المقام الثالث:- أي الامور الثابتة المقيّدة بالزمان في لسان الدليل كالإمساك المقيّد بالنهار أو الجلوس المقيّد بيوم الجمعة وكالصلاة المقيّدة بإتيانها في داخل الوقت- فهل يجري استصحاب بقاء وجوب الصّلاة مثلًا بعد انقضاء الزمان المقيّد به فعل الصّلاة أو لا يجري؟ فيه وجهان بل قولان:

ذهب كثير من الأعاظم إلى عدم جريان الاستصحاب في هذا المقام، وذلك لتبدّل الموضوع، لأنّ المفروض أنّ الزمان كان مقوّماً له عرفاً، نعم إذا لم يكن الزمان مقوّماً للموضوع عند العرف كما في مثل خيار الغبن وخيار العيب كان الاستصحاب فيه جارياً، فإذا شككنا في أنّ خيار الغبن مثلًا كان فوريّاً فإنقضى زمانه أو لم يكن فورياً فلم ينقض زمانه كان استصحاب بقاء الخيار جارياً بلا إشكال (بناءً على جريانه في الشبهات الحكميّة) لكنّه ليس حينئذٍ من الامور الثابتة المقيّدة بالزمان لأنّ الزمان ليس قيداً فيه.

انوار الأصول، ج 3، ص: 360

وإن شئت قلت: إذا كان الزمان قيداً في الواجب فلا يجري الاستصحاب لتبدّل الموضوع، ولذلك يقال بأنّ القضاء يكون بأمر جديد، وإذا لم يكن الزمان قيداً في الواجب بل كان ظرفاً له كما في مثل الخيار فيكون الاستصحاب جارياً، ولكن المستصحب حينئذٍ ليس زمانياً فليس داخلًا في محلّ النزاع.

إن قلت: إنّ الزمان وإن أخذ في لسان الدليل ظرفاً للحكم ولكنّه ممّا له دخل في أصل المناط قطعاً، لأنّ المفروض

أنّ وجود الفعل زماني فالزمان مقوّم لوجوده فيكون مؤثّراً في المناط بالواسطة.

واجيب عنه بما حاصله: أنّ الزمان وإن كان لا محالة من قيود الموضوع ولكنّه ليس من القيود المقوّمة له بنظر العرف على وجه إذا تخلّف لم يصدق عرفاً بقاء الموضوع بل من الحالات المتبادلة له، والمعتبر في الاستصحاب هو بقاء الموضوع في نظر العرف لا في نظر العقل.

بقي هنا شي ء:

وهو كلام حكاه الشيخ الأعظم هنا عن المحقّق النراقي وتبعه غيره مع أنّه ليس مرتبطاً بالمقام، بل هو تفصيل في حجّية الاستصحاب بين الشبهات الموضوعيّة والشبهات الحكميّة فذهب المحقّق النراقي رحمه الله إلى جريان الاستصحاب في الاولى دون الثانية، لمعارضته دائماً باستصحاب عدم الجعل، وقد تكلّمنا عن هذا تفصيلًا فيما سبق، وأجبنا عن إشكال المعارضة بامور عديدة، ومنها: أنّ الاستصحابين ليسا في عرض واحد بل أحدهما وهو استصحاب وجود الحكم حاكم أو وارد على الآخر وهو استصحاب عدم الجعل، فإنّ استصحاب بقاء الحكم بنفسه حكم ظاهري يوجب زوال الشكّ الذي هو مأخوذ في موضوع استصحاب عدم الجعل.

والعجب من المحقّق الخراساني رحمه الله حيث ناقش في مثال خروج المذي بعد الوضوء الذي ذكره المحقّق النراقي رحمه الله مثالًا للمسألة، وقال: أنّ مقتضى الاستصحاب الوجودي هو بقاء الوضوء، وهو يعارض مع مقتضى الاستصحاب العدمي، وهو عدم جعل الشارع الوضوء رافعاً للحدث لما بعد خروج المذي، فناقش فيه المحقّق الخراساني رحمه الله بأنّ رافعية الوضوء للحدث ليست محدودة بحدّ زماني، بل هى كسائر الأحكام التي تجعل من جانب الشارع انوار الأصول، ج 3، ص: 361

كالملكية باقية إلى الأبد حتّى يثبت ما يكون ناقضاً، له كما أنّ الملكية دائمية حتّى يثبت الفسخ.

كما يمكن أن يناقش فيه أيضاً بأنّه قد يكون

الاستصحاب العدمي معاضداً وموافقاً للاستصحاب الوجودي كما في هذا المثال، فإنّ مقتضى عدم جعل المذي ناقضاً للوضوء أيضاً بقاء الطهارة بحالها.

ولكنهما مناقشتان في خصوص هذا المثال لا في الحكم على نحو العموم وللمحقّق النراقي رحمه الله تبديله بمثال آخر، وهو ما إذا شككنا بعد إنقطاع دم الحيض وقبل الغسل في حرمة الوطى ء فاستصحاب الحرمة قبل الإنقطاع معارض مع استصحاب عدم جعل الحرمة لما بعد الإنقطاع، ولا يجري فيه جواب المحقّق الخراساني ولا المناقشة التي ذكرناها، فالصحيح في الجواب ما ذكرناه من الأجوبة السابقة، ولا حاجة لتكرارها.

التنبيه السادس: الاستصحاب التعليقي

هل هو حجّة (بناءً على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة) كالاستصحاب التنجيزي أو لا؟.

وتوضيح ذلك: أنّ الأحكام الشرعيّة قد تصدر من جانب الشارع على نهج القضايا التنجيزية كأكثرها، وقد تصدر على نهج القضايا التعليقية، كحكمه في العصير العنبي بأنّه إذا غلى ينجّس (أو يحرم)، ثمّ وقع الكلام في الفقه في أنّه إذا تبدّل العنب بالزبيب فما هو حكم العصير الزبيبي إذا غلى؟ وممّا استدلّ به على الحرمة أو النجاسة هنا هو الاستصحاب التعليقي، ولعلّ أوّل من استدلّ به هو العلّامة السيّد الطباطبائي بحر العلوم رحمه الله، وقد ناقش فيه السيّد محمّد المجاهد بعده وذهب إلى عدم حجّية الاستصحاب التعليقي، وصرّح بأنّ والده (وهو صاحب الرياض) أيضاً كان يقول بعدم حجّيته، ولكن ذهب إلى مذهب السيّد بحر العلوم الشيخ الأعظم الأنصاري والمحقّق الخراساني 0، وتبعهما جماعة ممّن بعدهما، كما خالفهما جماعة اخرى.

أقول: لا بأس أن نتكلّم أوّلًا في خصوص المثال الذي ذكروه للمسألة، ونشير إلى حكمه الفقهي، ثمّ ندخل في البحث عن حجّية الاستصحاب التعليقي وعدمها على نحو كلّي.

انوار الأصول، ج 3، ص: 362

فنقول: أنّ الغليان على قسمين: غليان بنفسه وغليان

بالنار وشبهها، أمّا الغليان بنفسه فهو نشيش اسكاري يحصل بنفسه أو في مقابل الشمس ويكون من مقدّمات انقلاب العصير مسكراً، وقد ذكر أهله أنّ المواد الحلوة الموجودة في العصير العنبي أو الزبيبي أو التمري وغيره تنجذب بالمواد المخمّرية وهى خليّات حيّة، ثمّ يحصل منه المواد الكحولية وغاز الكربن، وهذا الغاز هو الذي يوجب النشيش، وهو المسمّى بغليان الخمر (جوشش مي)، وأمّا الغليان بالنار فهو نشيش فيزيكي يحصل للعصير بحرارة النار.

والفرق بين هذين النوعين من الغليان والنشيش ماهوي، والذي يوجب الاسكار وتجري عليه جميع أحكام الخمر ولا يطهّره ذهاب الثلثان هو النوع الأوّل من الغليان، أي الغليان بنفسه، وأمّا النوع الثاني فهو يوجب الحرمة فقط ولا دليل على نجاسته، ويطهر العصير فيه بذهاب الثلثان وقد ذكرنا في التعليقة «1» على العروة أنّ الحكمة من تحريمه لعلّها هى أنّ العصير المتّخذ للشرب مدّة مديدة إذا لم يذهب ثلثاه ينقلب خمراً تدريجاً فحرّمه الشرع مطلقاً حماية للحمى، وأمّا إذا ذهب ثلثاه فلا ينقلب مسكراً لأنّ من شرائط التخمير وجود كميّة وافرة من الماء.

ولعلّ أوّل من التفت إلى الفرق المذكور هو المحقّق شيخ الشريعة الأصفهاني رحمه الله في رسالته القيّمة في العصير العنبي.

فقد ظهر ممّا ذكر أنّه لا ربط بين الغليان بالنار والغليان بنفسه، وأنّه لا دليل على نجاسة العصير إذا غلى بالنار، بل الدليل قام على حرمته فقط. هذا أوّلًا.

وينبغي أن نشير ثانياً: إلى أنّ الثابت من هذه الحرمة إنّما هو في العصير العنبي، وأمّا الزبيبي والتمري ونحوها فالاجتناب عنهما هو الأحوط، وثالثاً أنّ هذا الحكم يجري فيما صدق عليه العصر عرفاً وأمّا ما يلقى من العنب أو الزبيب أو التمر في الغذاء فيغلى فلا دليل على حرمته

فتوىً أو احتياطاً لعدم صدق عنوان العصير عليه.

إذا عرفت هذا فلنرجع في أصل البحث فنقول:

استدلّ القائلون بحجّية الاستصحاب التعليقي بأنّ أركانه تامّة، من اليقين السابق والشكّ انوار الأصول، ج 3، ص: 363

اللاحق وبقاء الموضوع عرفاً، فإنّ الزبيبية من الحالات عرفاً لا من المقوّمات.

وإستشكل عليه القائلون بعدم الحجّة أوّلًا: بأنّ عنوان الزبيب غير عنوان العنب عرفاً فقد تبدّل الموضوع وتغيّر.

والجواب عنه واضح: لأنّ هذا مناقشة في المثال، مضافاً إلى أنّ الصحيح كون الزبيبيّة والعنبية من الحالات، كما يحكم به الوجدان العرفي في نظائره من سائر الفواكه إذا جفّت، بل في سائر الأغذية بعد الجفاف، كالخبز إذا جفّ، فهو نفس الخبز قبل الجفاف فإنّ الجفاف وعدمه ليس من مقوّمات الشي ء، نعم أنّه كذلك في مثل تبدّل الكلب إلى الملح وفي إنقلاب الخمر خلًا أو الماء بخاراً.

وثانياً: بأنّ هذا الاستصحاب معارض مع استصحاب آخر تنجيزي، وهو استصحاب الطهارة أو الحلّية الثابتة قبل الغليان.

والجواب عنه: أنّه محكوم للاستصحاب التعليقي لأنّ الشكّ في الطهارة أو الحلّية التنجيزية مسبّب عن الشكّ في بقاء الحرمة أو النجاسة المعلّقة على الغليان.

وإن شئت قلت: أنّ الحلّية أو الطهارة كانت مغيّاة بعدم الغليان في حال كونه عنباً فنستصحبها في حال كونه زبيباً، ومن المعلوم أنّ هذه الطهارة المغيّاة لا تنافي الحرمة المعلّقة على الغليان.

وثالثاً: (وهو العمدة) بأنّه يشترط في حجّية الاستصحاب ثبوت المستصحب خارجاً في زمان من الأزمنة قطعاً ثمّ يحصل الشكّ في ارتفاعه بسبب من الأسباب، ولا يكفي مجرّد قابلية المستصحب للثبوت باعتبار من الاعتبارات، أي بتقدير من التقادير، فإنّ التقدير أمر ذهني خيالي لا وجود له في الخارج.

واجيب عنه بوجوه:

1- ما أجاب به الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله، وهو أنّ الملازمة (وبعبارة اخرى سببية

الغليان لتحريم ماء العصير) متحقّقة بالفعل من دون تعليق، وبهذا يرجع جميع الاستصحابات التعليقيّة إلى التنجيزيّة.

وأورد عليه: بأنّه مخالف لما اختاره في ماهية الحكم الوضعي من عدم كونه مجعولًا من جانب الشارع بل أنّه مجرّد انتزاع ذهني من الحكم التكليفي، وليس من الأحكام الوضعيّة

انوار الأصول، ج 3، ص: 364

السببيّة، فهى لا تكون مجعولة بيد الشارع حتّى يمكن له الحكم باستصحابها.

2- ما أجاب به الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله أيضاً، وتبعه فيه المحقّق الخراساني رحمه الله، وهو أنّه لا مانع من استصحاب الحرمة على تقدير الغليان، لأنّ الحكم التقديري أيضاً له حظّ من الوجود، فيكون له نحو وجود متحقّق في نفسه في قبال العدم المحض.

وأجاب عنه المحقّق النائيني رحمه الله: بأنّ ثبوت الحرمة على تقدير الغليان للعنب ليس ثبوتاً شرعياً وحكماً على موضوعه، بل هو من جهة حكم العقل بأنّه متى وجد جزء الموضوع المركّب فلا محالة تكون فعلية الحكم متوقّفة على ثبوت الجزء الآخر.

توضيح ذلك: قد ذكرنا في بحث الواجب المشروط أنّ كلّ شرط يكون لا محالة مأخوذاً في موضوع الحكم كما أنّ كلّ موضوع يكون شرطاً في الحقيقة، فقولنا «يحرم العنب إذا غلى» عبارة اخرى عن قولنا: «العنب المغلّى حرام» وبالعكس، ولهذا الحكم ثبوتان حقيقيّان تشريعاً: أحدهما: ثبوته في مرحلة الجعل والإنشاء مع قطع النظر عن وجود عنب في الخارج أصلًا، والرافع للحكم في هذه المرحلة هو النسخ ليس إلّا، ثانيهما: ثبوته الخارجي بفعلية تمام موضوعه، أعني به وجود العنب وغليانه، إذ مع إنتفاء أحد قيود الموضوع يستحيل فعلية الحكم، وإلّا لزم الخلف وعدم دخل ذلك القيد في موضوعه، والمفروض في المقام عدم الشكّ في بقائه في مرحلة الإنشاء، وعدم فعلية موضوعه في الخارج، فأين

الحكم الشرعي المتيقّن حتّى يستصحب وجوده؟ نعم حيث إنّ الحكم الشرعي مترتّب على الموضوع المركّب فالعقل يحكم عند وجود جزء منه بكون الحكم متوقّفاً على ثبوت الجزء الآخر، وهذا الثبوت عقلي محض وغير قابل للاستصحاب أصلًا» «1».

أقول: يرد عليه: أنّ إرجاع شرائط الوجوب إلى قيود الموضوع مخالف للمتبادر من القضيّة الشرطيّة وظاهرها، فإنّ ظاهرها (كما هو واضح لمن راجع وجدانه) كون الشرط قيداً للوجوب لا للواجب ولا للموضوع، وإمكان إرجاع أحدهما إلى الآخر بتمحّل عقلي لا يفيد شيئاً في المقام بعد ظهور القضية في كون الشرط راجعاً إلى الوجوب، فهذا الوجه أيضاً لا يمكن المساعدة عليه، فإنّه كما لا يمكن المساعدة على مقالة الشيخ رحمه الله من إرجاع القيود إلى الواجب،

انوار الأصول، ج 3، ص: 365

كذلك لا يمكن المساعدة على ما ذكره المحقّق النائيني رحمه الله من إرجاع القيود إلى الموضوع (كالعصير المغلي وكالمستطيع في مسألة الحجّ).

فالصحيح في حلّ الإشكال تحليل ماهية الواجب المشروط، فنقول: قد مرّ في محلّه أنّ فيه مذهبين: مذهب الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله من أنّ القيود الموجودة في الواجب المشروط ترجع إلى الواجب لا الوجوب، أي أنّها ترجع إلى مفاد المادّة لا الهيئة، ولذلك ترجع عنده جميع الواجبات المشروطة إلى الواجبات المعلّقة في الواقع واللبّ، ومذهب المشهور وهو أنّ القيود قيود للوجوب (لا الواجب) كما هو ظاهر القضيّة الشرطيّة، ولكن المعضلة الكبرى في هذا القول الذي يجب حلّها هو أنّ إنشاء الوجوب نوع من الإيجاد، وهو شي ء أمره دائر بين النفي والإثبات، فكيف يتصوّر فيه التعليق؟ ولذا ذهبوا إلى بطلان التعليق في العقود.

وقد مرّ منّا في محلّه من الواجب المشروط طريق لحلّ هذا الإشكال ممّا ينحلّ به إشكال التعليق في الإنشاء

وإشكال الاستصحاب التعليقي في المقام أيضاً، وحاصله: أنّ الأحكام على قسمين: قسم منها تنجيزي كقولك لزيد: «إذهب إلى السوق»، وقسم منها تعليقي، وهو ما يصدر بعد فرض شي ء كقولك: «إن جاءك زيد فأكرمه»، فالقضيّة الشرطيّة عبارة عن إنشاء حكم بعد فرض خاصّ، وهو مفاد إنّ الشرطيّة أو كلمة «اگر» في اللغة الفارسية عند مراجعة الوجدان، فقولك: «إن جاءك زيد فأكرمه» عبارة اخرى عن قولك: «يجب عليك إكرام زيد على فرض مجيئه» فالقيد وهو مجي ء زيد راجع إلى مفاد الهيئة وهو وجوب الإكرام، لا مفاد المادّة وهو نفس الإكرام.

وإن شئت قلت: المتكلّم قد يرى أنّ زيداً قد قدم فيقول: «قم ياغلام وأكرمه» واخرى يعلم أنّ زيداً لم يجي ء بعد، ولكن يتصوّر ويفرض قدومه فيُظهر شوقه إلى إكرامه حينئذٍ، فينشى ء وجوب الإكرام في هذا الفرض الذي هو مفاد «ان» و «اگر»، فيقول: «إن جاءك زيد فأكرمه»، فليس هناك تعليق في إنشائه، كما أنّه ليس هناك إنشاء فعلي، بل هو إنشاء بعد فرض، فلذا لا أثر له إلّابعد تحقّق ذاك الفرض، فإنّ هذا هو المعنى المعقول في القضيّة الشرطيّة.

ولذلك قلنا في محلّه أنّ التعليق في العقود ليس بمحال عقلًا بل هو من قبيل القضيّة الشرطيّة فيمكن أن يقال: «بعتك إن جاءك زيد» فيكون هو تمليكاً على فرض، نعم المانع من صحّته الإجماع أو عدم كون مثل هذا العقد عقلائياً، وبهذا يظهر أنّ للحكم التعليقي (أي الحكم على فرض) أيضاً حظّ من الوجود فيمكن أن يستصحب.

انوار الأصول، ج 3، ص: 366

بقي هنا أمران:

الأوّل: أنّ النزاع في الاستصحاب التعليقي يتوقّف أوّلًا على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة كما مرّ، وثانياً على كون التعليق في لسان الشرع، لا بنظر لاعقل، لأنّه إذا

كان التعليق شرعياً كان هناك حكم صادر من ناحية الشرع، غاية الأمر أنّه حكم على فرض، فصدر على أي حال إنشاء وحكم من ناحية الشارع، فله حظّ من الوجود، وأمّا إذا كان التعليق عقلياً (بإرجاع قيود الموضوع إلى شرط الحكم) فليس لنا حكم صادر من جانب الشارع حتّى يستصحب، فإنّ التعليق العقلي إنّما هو في الواقع إنتزاع من ناحية العقل وإخبار عن تحقّق حكم عند تحقّق موضوعه.

الثاني: بناءً على جريان الاستصحاب التعليقي في الأحكام فهل يجري هو في الموضوعات أيضاً، أو لا؟ قد يستفاد من بعض التعبيرات جريانه في الموضوعات أيضاً، فاستدلّ به في مسألة اللباس المشكوك لصحّة الصّلاة بأنّ المصلّي قبل لبسه اللباس المشكوك لو كان يصلّي كانت صلاته صحيحة، وبعد لبسه إيّاه يستصحب ويقال: لو صلّى في هذا الحال فصلاته صحيحة أيضاً.

ولكن يرد عليه: أوّلًا: عدم بقاء الموضوع بعد لبسه إيّاه، كما هو واضح.

وثانياً: أنّ التعليق فيه ليس في لسان الشرع بل إنّه إنّما هو بتحليل عقلي، وليس له حظّ من الوجود.

التنبيه السابع: استصحاب أحكام الشرائع السابقة
اشارة

وهو غير استصحاب الكتابي الذي سيأتي بيانه، فهل يجوز أن يكون المستصحب حكماً من أحكام الشريعة السابقة كحجّية القرعة الثابت وجودها في الشرائع السابقة كما وردت في قصّة زكريا وقصّة يونس في كتاب اللَّه العزيز، أو يعتبر في المستصحب أن يكون حكماً ثابتاً في هذه الشريعة؟

قد يقال: إنّ أركان الاستصحاب فيها مختلّة من جهتين:

الاولى: من ناحية عدم اليقين بثبوتها في حقّ المكلّف الذي أراد أن يستصحب بالنسبة

انوار الأصول، ج 3، ص: 367

إلى نفسه وإن علم بثبوتها في حقّ آخرين، فإنّ الحكم الثابت في حقّ جماعة لا يمكن إثباته في حقّ جماعة اخرى لتغاير الموضوع، ولذا يتمسّك في تسرية الأحكام الثابتة للحاضرين أو

الموجودين إلى الغائبين أو المعدومين بالإجماع والأخبار الدالّة على إشتراك جميع الامّة في الحكم، لا بالإستصحاب.

واجيب عنها: بأنّ الحكم الثابت في الشريعة السابقة لم يكن ثابتاً لخصوص الافراد الموجودين في الخارج بنحو القضية الخارجية، بل الحكم كان ثابتاً لعامّة المكلّفين بنحو القضية الحقيقيّة، فإذا شكّ في بقائه لهم لإحتمال نسخه في هذه الشريعة استصحب.

الثانية: من ناحية الشكّ اللاحق، فإنّا نتيقّن بإرتفاعها بنسخ الشريعة السابقة بهذه الشريعة فلا شكّ في بقائها حينئذٍ حتّى يكون من قبيل نقض اليقين بالشكّ فيستصحب، بل إنّه من قبيل نقض اليقين باليقين.

واجيب عنها أيضاً: أوّلًا: بأنّ نسخ الشريعة السابقة ليس بمعنى نسخ جميع أحكامها فإنّ كثيراً من أحكام الشرائع السابقة باقية في هذه الشريعة أيضاً كحرمة الزنا والغيبة وغيرهما.

وإن شئت قلت: إن اريد من النسخ نسخ كلّ حكم إلهي من أحكام الشريعة السابقة فهو ممنوع، وإن اريد نسخ البعض فالمتيقّن من المنسوخ ما علم بالدليل، فيبقى غيره على ما كان عليه ولو بحكم الاستصحاب.

إن قلت: إذا علمنا بنسخ بعضها إجمالًا صار جميعها من أطراف العلم الإجمالي فلا يمكن الاستصحاب فيها.

قلنا: إنّ العلم الإجمالي هذا ينحلّ إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي، فإنّ مقدار المعلوم بالتفصيل ينطبق على مقدار المعلوم بالإجمال.

وثانياً: إنّا نفرض الشخص الواحد مُدركاً للشريعتين، فإذا إستصحب هو بالنسبة إلى نفسه تمّ الأمر في حقّ غيره من المعدومين بقيام الضرورة على إشتراك أهل الزمان الواحد في الشريعة الواحدة، وقد اجيب عن هذا الجواب بأنّ ذلك غير مجد في تسرية الحكم من المدرك للشريعتين إلى غيره من المعدومين، فإنّ قضيّة الإشتراك ليس إلّاأنّ الاستصحاب حكم كلّ من كان على يقين فشكّ، لا حكم الكلّ ولو من لم يكن كذلك.

انوار الأصول، ج 3، ص:

368

وإن شئت قلت: قاعدة الاشتراك تجري بالنسبة إلى موارد الوحدة في الموضوع لا ما إذا اختلف الموضوع، فإذا كانت أركان الاستصحاب الذي هو حكم ظاهري تامّة في حقّ أحد دون آخر يجري الاستصحاب في حقّه فقط دون غيره.

أقول: التحقيق في المسألة يستدعي تحليل ماهية نسخ الشريعة، فنقول: لا إشكال في أنّ نسخ الشريعة ليس بمعنى نسخ الاصول الإعتقادية فيها، كما لا إشكال في أنّه ليس عبارة عن تغيير جميع الأحكام بل يدور النسخ مدار معنيين:

أحدهما: رفع بعض الأحكام الفرعية وجزئيات الفروع ككيفية الزكاة والصّلاة، وثانيهما: إتمام أمد رسالة النبي السابق وانقضاء عمرها، ولازمه تشريع جميع الأحكام من جديد، وحينئذٍ ليس هو من قبيل تغيير الدولة في حكومة خاصّة وتبديلها إلى دولة اخرى، بل هو في الواقع من قبيل تبديل أصل الحكومة إلى حكومة جديدة ونظام آخر بحيث لابدّ فيه من تقنين قانون أساسي جديد، وبالجملة أنّه بمعنى تدوين جميع القوانين العمليّة والأحكام الفرعية من أصلها، وإن إشتركت الشريعتان في كثير من أحكامهما.

الصحيح في ما نحن فيه هو المعنى الثاني، فإنّ هذا هو حقيقة نسخ الشرائع والديانات وظهور شريعة اخرى جديدة، ويشهد على هذا المعنى أوّلًا: تكرار تشريع بعض الأحكام في الإسلام مع وجوده في الشريعة السابقة كحرمة شرب الخمر وحرمة الزنا ووجوب الصيام والصّلاة وكثير من المحرّمات والواجبات، كما يدلّ عليه بالصراحة التعبير بالكتابة في مثل قوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ».

وثانياً: جريان أصالة الإباحة بالنسبة إلى الشبهات الوجوبيّة عند الأخباري والاصولي معاً، وفي الشبهات التحريميّة عند الاصولي فقط، فإنّه أيضاً شاهد على نسخ جميع الأحكام السابقة ورجوع الأشياء إلى الإباحة، وعلى عدم وجود حكم إلزامي إلّابعد ثبوت تدوينه وكتابته

ثانياً.

والذي يستنتج من هذا المعنى للنسخ هو عدم جواز استصحاب الشرائع السابقة فإنّه فرع احتمال بقاء بعض أحكام الشريعة السابقة، مع أنّك قد عرفت إنّا نعلم بنسخ جميع أحكامها وتشريع أحكام جديدة، وافقها أو خالفها.

كما يظهر منه عدم تمامية ما اجيب به عن الإشكال الأوّل الذي أورد على استصحاب انوار الأصول، ج 3، ص: 369

الشرائع السابقة (وهو جعل الأحكام على نهج القضايا الحقيقيّة) فإنّا لا نقبل جعل أحكام شريعة موسى عليه السلام مثلًا على نحو تشمل الأفراد بعد انقضاء شريعته، بل إنّما شرّعت لُامّة موسى عليه السلام فقط.

وكذا الجواب الثاني عن الإشكال الثاني (وهو قضيّة المدرك للشريعتين) فهو أيضاً فاسد لأنّه بعد العلم بنسخ جميع أحكام الشريعة السابقة لا يبقى شكّ لمُدرك الشريعتين في عدم بقاء تلك الأحكام، حتّى تتمّ أركان الاستصحاب بالنسبة إليه فيستصحبها.

هذا تمام الكلام في أصل جريان استصحاب أحكام الشريعة السابقة، وقد ظهر من جميع ما ذكرنا عدم جريانه حتّى بناءً على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة فضلًا عن عدم جريانه فيها كما هو المختار.

ثمرة هذا البحث

ثمّ إنّه بناءً على جريان استصحاب الشرائع السابقة قد يقال: أنّ ثمرته تظهرفي موارد شتّى في الفقه:

1- مسألة القرعة، حيث يظهر من قصّة مريم في قوله تعالى: «وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ» «1»

ومن قصّة يونس في قوله تعالى: «فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ» «2»

حجّية القرعة في خصوص موارد التشاحّ والمخاصمة والتنازع في شريعة زكريّا وشريعة يونس، فيمكن إثباتها في هذه الشريعة بالإستصحاب.

نعم لا حاجة إلى هذا الاستصحاب لو فهمنا من مجرّد نقل القضيتين في كتاب اللَّه إمضاء الشارع لحجّية القرعة، ولكن أنّى لنا بإثبات ذلك؟

2- مسألة اعتبار قصد القربة في

الأوامر وعدمه، حيث يظهر من قوله تعالى: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» «3»

اعتبار قصد القربة في جميع أوامر الشرائع السابقة، فإنّ الضمير في «امروا» راجع إلى أهل الكتاب، فيستفاد منه أنّ الأصل في دوران الأمر بين انوار الأصول، ج 3، ص: 370

التعبّديّة والتوصّليّة هو التعبّديّة، فيجري هذا الحكم بمؤونة الاستصحاب في شريعتنا.

ولكن أورد عليه بإشكالات عديدة:

منها: أنّه متوقّف على كون المراد من كلمة «مخلصين» اعتبار قصد القربة، مع أنّ المراد منها التوحيد في مقابل الشرك.

واجيب عنه: بأنّ الشاهد على المقصود في الآية إنّما هو قوله تعالى: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ» فإنّه ظاهر في أنّ جميع أوامر الشرائع السابقة صدرت لعبادة اللَّه، فلا حاجة إلى ظهور كلمة «مخلصين» في قصد القربة.

ومنها: أنّه متوقّف على صدور أوامرها على نهج القضايا الحقيقيّة، مع أنّ نزول كلمة «امروا» بصيغة الماضي ظاهر في أنّها صدرت على نهج القضايا الخارجية فلا يمكن استصحابها.

ويمكن الجواب عنه: بأنّه لا دلالة في صيغة الماضي على خارجية القضايا، حيث إنّها ناظرة إلى القوانين التي شرّعت في الشرائع السابقة، ولا إشكال في أنّ القانون يكون غالباً على نحو القضية الحقيقيّة.

ومنها: أنّه لا حاجة إلى الاستصحاب في المقام، حيث إنّ قوله تعالى في ذيل الآية:

«وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» بنفسه ظاهر في الدوام والبقاء.

واجيب عنه: بأنّ مرجع اسم الإشارة «ذلك» لعلّه هو قوله «مخلصين»، أي التوحيد في مقابل الشرك لا ما قبله، خصوصاً بقرينة الأقربية.

ومنها: أنّه مبنيّ على كون الغاية في الآية وهى قوله تعالى «ليعبدوا» غاية لفعل الناس حتّى يكون المعنى: وما امروا إلّالأن يقصد الناس القربة ويكونوا عابدين للَّه تعالى، مع أنّه يحتمل كونها غاية لفعل اللَّه تعالى فتكون الآية حينئذٍ ناظرة إلى بيان حكمة

أوامره تعالى، والمعنى: أنّ فلسفة الأحكام الإلهيّة وحكمة الأوامر الشرعيّة الأعمّ من التعبّدي والتوصّلي إنّما هو تربية اللَّه عباده لأن يكونوا عابدين مخلصين، فتكون الآية حينئذٍ قريبة الافق من قوله تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»، ومن الواضح أنّها عندئذٍ لا ربط لها بالمقام، حيث إنّها صادقة حتّى بالنسبة إلى الأوامر التوصّلية.

ومنها: أنّ لازم هذا المعنى التخصيص بالأكثر، فإنّ من المعلوم أنّ أكثر الأوامر الواردة في انوار الأصول، ج 3، ص: 371

الشرائع السابقة كالتي وردت في جميع أبواب المعاملات، أوامر توصّلية، كما أنّه كذلك في شريعتنا، فإنّ العبادات معدودة محدودة في مقابل غيرها.

ومنها: أنّ الآية صدراً وذيلًا وردت في التوحيد مقابل الشرك، ولا ربط لهما بمسألة قصد القربة، والشاهد عليه ما ورد في ذيلها: «وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» وهكذا التعبير ب «حنفاء» (فإنّ الحنيف بمعنى المائل عن الشرك إلى التوحيد) وكذلك الآيات الواردة في ما قبلها وما بعدها فإنّها جميعاً وردت في أهل الكتاب والمشركين فراجع، فإنّ التأمّل في الآية نفسها وفي ما قبلها وما بعدها ممّا يوجب القطع بأنّها في مقام نفي الشرك وإثبات التوحيد من دون نظر لها إلى مسألة قصد القربة في الأوامر.

والعمدة في الإشكال على الاستدلال بالآية هو الإشكال الأخير.

3- ما يستفاد من قصّة يوسف عليه السلام من قوله تعالى: «قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ» «1»

حيث إنّ التعبير ب «حمل» يدلّ على عدم اعتبار معلوميّة المقدار في الجعالة (لأنّ مقدار حمل بعير أمر مجهول) وبالإستصحاب نثبته في شريعتنا، هذا أوّلًا.

وثانياً: أنّ قوله تعالى: «وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ» يدل على جواز ضمان ما لم يجب (ما لم يكن فعليّاً) حيث إنّه يثبت الضمان في الجعالة قبل أن

يتحقّق في الخارج عمل، ومقتضى استصحاب بقائه جواز ضمان ما لم يجب في شريعتنا أيضاً.

واجيب عنه: أوّلًا: بأنّه لا دليل على عدم كون حمل البعير معلوم المقدار، بل لعلّه كان معلوماً، كما أنّه كذلك اليوم في بعض البلاد، فيكون مقدار حمل الحمار (خروار) في بعض البلاد مائة منّ، وفي بعض آخر 75 منّاً، وفي بعض ثالث 45 منّاً.

وثانياً: لا دليل على أنّ ما وقع في تلك القضيّة كان بصيغة الجعالة، بل لعلّه كان مجرّد وعد بإعطاء حمل بعير بعنوان الجزاء والجائزة، كما نشاهده في يومنا هذا في بعض الإعلانات لكشف الضالّة.

وثالثاً: لا دليل على أنّ القصّة بتمامها كان بمحضر من يوسف حتّى يستفاد منها الامضاء والمشروعيّة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 372

ورابعاً: ظاهر قوله تعالى: «كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ» إنّ كلّ ذلك كان أمراً صورياً وتوطئة لإبقاء يوسف أخاه عنده، لا أمراً واقعياً حتّى يستفاد منه حكم فقهي.

وخامساً: أنّ قول المؤذّن: «وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ» ليس من قبيل ضمان ما لم يجب الذي ثبت عدم جوازه، فالمختار كما ذكرنا في محلّه أنّ الدين الذي لم يتحقّق بعد ولكن تحقّقت مقتضياته جائز ضمانه، وليس هو من باب ضمان ما لم يجب، وذلك نظير ما هو رائج في زماننا عند العقلاء من مطالبة الضامن للأجير أو الخادم لأجل الخسارات التي يحتمل تحقّقه في المستقبل، ونظير عقد التأمين لو أدخلناه في باب الضمان فإنّ الضمان في مثل هذه الموارد جائز وغير داخل تحت الإجماع القائم على عدم جواز ضمان ما لم يجب، لحصول مقتضى الضمان فيها، ولا إجماع على البطلان في مثله.

4- ما يستفاد من قصّة يحيى في قوله تعالى: «فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الِمحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً

بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنْ الصَّالِحِينَ» «1»

من جواز ترك النكاح واستحبابه، لأنّ الحصور في اللغة بمعنى تارك النكاح.

واجيب عنه أيضاً: أوّلًا: بأنّه من قبيل المدح على المنكشف لا الكاشف، كما إذا مدحنا من ردّ بعض الهدايا لكونه كاشفاً عن علوّ طبعه وغنى نفسه، مع أنّ الكاشف وهو ردّ الهدية مذموم، فمدح يحيى لكونه حصوراً وتاركاً للنكاح لعلّه كان من باب إنّه كاشف عن شدّة ورعه وكفّ نفسه عن الشهوات، كما احتمله بعض المفسّرين فتأمّل.

وثانياً: لا دليل على كون الحصور بمعنى تارك النكاح فإنّه في اللغة من مادّة الحصر بمعنى المنع عن المعصية وكفّ النفس عن الشهوات فيكون بمعنى المتّقي والوَرع.

وثالثاً: لعلّ هذا كان حكماً خاصّاً لشخص يحيى عليه السلام وكذلك عيسى عليه السلام، وذلك لما كان لهما من شرائط خاصّة فإنّ عيسى عليه السلام لا يزال كان مشتغلًا بالتبليغ عن مذهبه والتردّد من بلد إلى بلد وكذلك يحيى، حيث إنّه كان مبلّغاً لشريعة عيسى عليه السلام، ولا إشكال في جواز ترك النكاح لمصلحة أهمّ.

ورابعاً: من أركان الاستصحاب الشكّ اللاحق، ولا شكّ لنا في استحباب النكاح كما

انوار الأصول، ج 3، ص: 373

يدلّ عليه ما ورد في مذمّة ترك النكاح بل في استحباب الإنكاح.

5- ما يستفاد من قصّة أيّوب في قوله تعالى: «وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ» «1»

من عدم لزوم الحنث بالعدول عن الضرب بالسوط إلى الضرب بالضغث في باب النذور والأيمان.

ويمكن المناقشة فيه أيضاً: بأنّ العدول إلى الضغث لعلّه لم يكن من باب الوفاء باليمين أو النذر، بل من باب إنكشاف عدم استحقاق زوجة أيّوب للضرب بعد الرجوع، فانكشف أنّ تأخيرها كان عن عذر، فينكشف أنّ

اليمين أو النذر لم ينعقد لإعتبار الإباحة أو الرجحان فيهما.

إن قلت: فكيف أمر بالضرب بالضغث مع أنّ لازم ما ذكر سقوط الضرب من رأسه.

قلنا: لعلّه كان من باب رعاية حرمة إسمه تعالى، وحفظ ظاهر اليمين، كما يرى نظيره من حيث حفظ الظاهر والإحترام بالحدود الإلهية في الأخبار في أبواب الحدود والأيمان.

6- ما يستفاد من قوله تعالى: «وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ» «2»

من اعتبار أصل المساواة في باب القصاص، فيستصحب هو في شريعتنا.

إن قلت: إنّه لا حاجة في اعتبار المساواة إلى الاستصحاب لأنّ أصل القصاص من مسلّمات شريعة الإسلام، والمساواة من لوازم ماهية القصاص كما لا يخفى، مضافاً إلى أنّه يمكن إستفادتها من قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى» «3».

قلنا: يجوز الاستدلال بالآية الاولى في موارد الشكّ، كما في ذي العين الواحدة، حيث إنّ المحتملات فيه ثلاثة: جواز القصاص فقط، وعدم جواز القصاص بل وجوب الديّة فقط، وجواز القصاص مع نصف الديّة، فيستدلّ بإطلاق قوله تعالى «والعين بالعين» على جواز خصوص القصاص في شريعة موسى عليه السلام ثمّ يستصحب في شريعتنا.

انوار الأصول، ج 3، ص: 374

نعم أنّه فرع وجود الاطلاق للآية وكونها في مقام البيان من هذه الجهة، مضافاً إلى أنّه يمكن أن يقال بعدم الحاجة إلى هذا الاستصحاب أيضاً، لإمكان استفادة ذلك من نفس الآية الثانية بقرينة ما ورد فيما قبلها وهو قوله تعالى: «إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ...» «1»

فإن ظاهرها- على الأقل- هو الإمضاء لهذا الحكم الذي انزل في التوراة.

7- ما يستفاد من قصّة موسى وشعيب في قوله

تعالى: «قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ» «2»

أوّلًا من جواز الترديد في الزوجة حين إجراء عقد النكاح حيث قال: «إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَاتَيْنِ» وثانياً من جواز الترديد في المهر أيضاً لقوله تعالى: «فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ» وثاثاً من جواز إعطاء المهر بأب الزوجة لقوله تعالى «تَأْجُرَنِي» فكان المهر عبارة عن عمل موسى لشعيب، ورابعاً من جواز وقوع عمل الحرّ مهراً في النكاح.

ولكن يرد على الأوّل والثاني بأنّهما مبنيّان على صدور هذا القول من شعيب في مجلس إجراء الصيغة لا مجلس المقاولة للنكاح ومقدار المهر، وأنّى لنا بإثبات ذلك.

وعلى الثالث بأنّ الإنتفاع باستيجار موسى عليه السلام كان لجميع أهل البيت ولم يكن حياتهم إلّا على المشاركة القريبة جدّاً فكان استيجار أبيها كاستيجارها بنفسها.

وعلى الرابع بأنّه لا حاجة إلى هذا الاستصحاب بعد وضوح المسألة في شريعتنا، فإنّه لا شكّ في الجواز.

التنبيه الثامن: الاصول المثبتة وعدم حجّيتها
اشارة

وتحقيق حالها فيها يطلب البحث في مقامات أربع:

1- في المراد من الأصل المثبت.

2- في أنّه لماذا ليس بحجّة.

3- في ما استثنى من الأصل المثبت.

انوار الأصول، ج 3، ص: 375

4- في الفرق بين مثبتات الأمارات ومثبتات الاصول.

المقام الأوّل: المراد من الأصل المثبت

فالمقصود من الأصل المثبت ترتيب الآثار الشرعيّة للمستصحب مع الواسطة العقليّة أو العادية.

توضيح ذلك: إذا كان المستصحب حكماً شرعياً فلا كلام في جواز استصحابه وترتيب آثاره، وأمّا إذا كان المستصحب موضوعاً من الموضوعات كحياة زيد فلا إشكال أيضاً في جواز استصحابه وترتيب أثره الشرعي من دون الواسطة، كبقاء زوجية زوجته وملكية أمواله، الذي يترتّب على حياة زيد بلا واسطة، وأمّا آثاره الشرعيّة مع الواسطة العقليّة مثل أنّ له خمسين سنة (إذا ترتّب عليه أثر شرعي بنذر وشبهه) أو الواسطة العادية كبياض لحيته (إذا صار أيضاً متعلّقاً للنذر مثلًا) فلا تترتّب عليه، ويسمّى الاستصحاب حينئذٍ بالأصل المثبت.

المقام الثاني: لماذا ليس الأصل المثبت بحجّة

فلابدّ من البحث على المباني المختلفة في معنى الحجّية التي قد مرّت الإشارة إليها في باب الأمارات إجمالًا.

فنقول: من المباني أنّ حجّية الأصل مثل الاستصحاب بمعنى جعل الحكم المماثل وهو المختار، ومعناه جعل حكم ظاهري مماثل لنفس المستصحب إذا كان المستصحب هو الحكم، أو جعل حكم ظاهري مماثل لحكم المستصحب إذا كان المستصحب هو الموضوع، ولا يخفى أنّ من فسّر الحجّية بالجري العملي أو التطبيق في مقام العمل أو الإلتزام بالحكم السابق يعود كلامه إلى جعل المماثل أيضاً، لأنّه لا نعرف من وجوب الجري العملي أو تطبيق العمل على مؤدّى الأصل إلّاجعل حكم ظاهري مماثل لمؤدّاه، وهكذا الإلتزام، فإنّ الإلتزام القلبي هنا غير مراد، والإلتزام العملي ليس إلّاما ذكرناه، فالعبارات شتّى والمراد واحد.

والمبنى الثاني عبارة عن جعل المنجّزية والمعذّرية، فلا يجعل الحكم المماثل، بل المجعول إنّما هو قضيّة «إن أصاب خبر الواحد مثلًا الواقع كان منجّزاً وإن خالف الواقع كان عذراً» وقد

انوار الأصول، ج 3، ص: 376

مرّ عدم صحّة هذا المبنى، لأنّ المنجّزية والمعذّرية من حكم العقل، ولا تنالها يد

الجعل.

والمبنى الثالث عبارة عن جعل صفة اليقين أو صفة المحرزية بالنسبة إلى الاستصحاب، وقد مرّ أيضاً أنّه غير معقول، لأنّ صفة اليقين من الامور التكوينية التي لا تتعلّق بها الجعل والإنشاء، ولا يمكن أن يصير الشاكّ قاطعاً بالإنشاء.

نعم يمكن أن يخاطب الشاكّ قاطعاً بالإنشاء.

نعم يمكن أن يخاطب الشاكّ بقوله «رتّب أثر اليقين»، ولكنّه يعود أيضاً إلى جعل الحكم الظاهري الموافق لمؤدّى الاستصحاب، وهكذا صفة المحرزية، لأنّها أيضاً من الامور التكوينية.

إذا عرفت هذا فلنعد إلى أصل البحث وهو عدم حجّية الأصل المثبت، وقد ذكر له وجوه عديدة:

الأوّل: ما أفاده الشيخ الأعظم، وإليك نصّ كلامه: «إنّ تنزيل الشارع المشكوك منزلة المتيقّن كسائر التنزيلات إنّما يفيد ترتيب الأحكام والآثار الشرعيّة المحمولة على المتيقّن السابق، فلا دلالة فيها على جعل غيرها من الآثار العقليّة والعادية، لعدم قابليتها للجعل، ولا على جعل الآثار الشرعيّة المترتّبة على تلك الآثار، لأنّها ليست آثاراً لنفس المتيقّن، ولم يقع ذوها مورداً لتنزيل الشارع حتّى تترتّب هى عليه» (انتهى).

وحاصل كلامه رحمه الله: أنّ الآثار مع الواسطة لا يجري فيها الاستصحاب لعدم وجود أركانه فيها، لأنّ اليقين السابق كان في خصوص حياة زيد مثلًا، لا ما يشمل لوازمه العقليّة والعادية في حال الشكّ.

الثاني: ما ذهب إليه المحقّق الخراساني في الكفاية، وحاصله: أنّ مفاد الأخبار ليس أكثر من التعبّد بالمستصحب وحده بلحاظ ما لنفسه من الآثار الشرعيّة، ولا دلالة لها بوجه على تنزيل المستصحب بلوازمه العقليّة والعادية حتّى تترتّب عليه آثارها أيضاً، فإنّ المتيقّن إنّما هو لحاظ آثار نفسه، وأمّا آثار لوازمه فلا دلالة هناك على لحاظها.

أقول: الظاهر أنّ نظره إلى إنّ إطلاقات «لا تنقض» لا تشمل المقام لأنّ من شرائط الأخذ بالإطلاق عدم وجود القدر المتيقّن

(على مبناه) وهو مفقود في ما نحن فيه، لوجود القدر المتيقّن وهو الآثار الشرعيّة من دون الواسطة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 377

الثالث: ما أفاده المحقّق الحائري في الدرر، وحاصله: عدم شمول إطلاقات الأخبار لما نحن فيه، لوجود القدر المتيقّن، بل لإنصرافها إلى الآثار الشرعيّة بلا واسطة لأنّ الإبقاء العملي للشي ء ينصرف إلى إتيان ما يقتضيه ذلك الشي ء بلا واسطة» «1».

أقول: أمّا كلام المحقّق الخراساني فيرد عليه ما قرّر في محلّه من منع ما تبنّاه في مقدّمات الحكمة وإنّ منها عدم وجود القدر المتيقّن فإنّ لازمه سقوط أغلب المطلقات عن الاطلاق لأنّ القدر المتيقّن فيها موجود، ولا أقلّ من موارد سؤال الرواة، مع أنّ سيرة الفقهاء وديدنهم على أخذ الاطلاق فيها وإنّ المورد ليس بمخصّص.

وأمّا ما أفاده الشيخ الأعظم فيرد عليه أيضاً ما أورده المحقّق الخراساني عليه من أنّ أثر الأثر أثر، فلا مانع عقلًا من تنزيل المستصحب بلحاظ مطلق ما له من الأثر ولو بالواسطة «2».

والصحيح في المقام ما ذهب إليه المحقّق الحائري من أنّ الإطلاقات منصرفة إلى الآثار الشرعيّة بلا واسطة، ولتوضيحه لا بأس بإتيان أمثلة يكون الوجدان أقوى شاهد على إنصراف الأدلّة عنها:

منها: ما جاء في بعض الكلمات من أنّه إذا كان في الحوض كرّ من الماء، ثمّ وجدناه فارغاً من الماء وقد سقط فيه ثوب في البارحة وكان نجساً وكان ينغسل لو كان الماء باقياً. فإنّه لا إشكال في أنّ استصحاب بقاء الماء حين سقوط الثوب لا يثبت الإنغسال الذي يكون من الآثار العقليّة لبقاء الماء، حتّى يترتّب عليه أثره الشرعي وهو الطهارة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 378

ومنها: ما إذا كان زيد جالساً في حجرته وشككنا في خروجه منها وعدمه، فإذا فرض إحراق الحجرة

فلا يثبت إحتراق زيد بإستصحاب بقائه إلى حين الإحتراق حتّى يترتّب عليه أثر القصاص.

ومنها: ما إذا كان الإناء مملوّاً من اللبن وشككنا في إنتقاله منه إلى إناء آخر، ثمّ كسره إنسان في ظلمة الليل مثلًا بحيث لو كان اللبن باقياً فقد أتلفه، فلا يثبت إتلاف اللبن باستصحاب بقاء اللبن حين الإنكسار حتّى يترتّب عليه أثره الشرعي وهو الضمان.

المقام الثالث: فيما استثنى من الأصل المثبت

وقد استثنى من عدم حجّية الأصل المثبت وانصراف الأدلّة عنه موارد خاصّة معدودة:

أحدها: ما إذا كانت الواسطة خفيّة، كما إذا استصحب رطوبة النجس من المتلاقيين مع جفاف الآخر فيحكم بنجاسة الملاقي الجافّ، مع أنّ تنجّسه ليس من أحكام ملاقاته للنجس رطباً، بل من أحكام سراية رطوبة النجاسة إليه وتأثّره بها، والسراية من الآثار العقليّة للملاقاة بالنجس رطباً، ولكنّها لا اعتبار بها لخفائها.

وأظهر منه ما مرّ سابقاً ممّا ورد في نفس أدلّة الاستصحاب من استصحاب الطهارة للصلاة، مع أنّ صحّة الصّلاة أثر لتقيّدها بالوضوء لا نفس الوضوء، والتقيّد بالوضوء من الآثار العقليّة لبقاء الوضوء، وهكذا في سائر الشرائط، لأنّ الجزء فيها إنّما هو التقيّد، وأمّا القيد فهو خارج، ولكن الإمام عليه السلام حكم بحجّية الاستصحاب، وليس ذلك إلّالمكان خفاء الواسطة.

ونظيره أيضاً استصحاب بقاء شهر رمضان وترتيب أثر صحّة الصيام عليه، مع أنّ الصحّة من آثار وقوع الصيام في شهر رمضان، ولكنّه لا بأس به أيضاً لخفاء الواسطة.

ثانيها: ما إذا كانت الواسطة جليّة جدّاً بحيث يرى العرف ملازمة بين تنزيل المستصحب وتنزيلها، فإذا نزّل المستصحب منزلة المتيّقّن السابق نزّلت الواسطة تبعاً كذلك، فيجب ترتيب أثرها الشرعي قهراً.

وإن شئت قلت: إنّ شدّة وضوح الواسطة وجلائها توجب عدّ أثر الواسطة أثراً لذي انوار الأصول، ج 3، ص: 379

الواسطة، نظير أصالة عدم دخول

هلال شوّال أو بقاء شهر رمضان في يوم الشكّ المثبت لكون الغد يوم العيد فيترتّب عليه أحكام العيد من الصّلاة والغسل وزكاة الفطرة وغيرها، فإنّ إتّصاف الغد بصفة العيد بعد استصحاب بقاء رمضان في يوم الشكّ من اللوازم العقليّة قطعاً، لكنّ العرف لا يفهمون من وجوب ترتيب آثار عدم انقضاء رمضان وعدم دخول شوّال إلّا ترتيب أحكام آخرية ذلك اليوم لشهر، وأوّلية غده لشهر آخر، لأجل وضوح لزوم أحدهما للآخر وعدم انفكاكهما في جعل الأحكام.

ثالثها: ما إذا كانت الواسطة والمستصحب من قبيل المتضايفين كاستصحاب بقاء زيد زوجاً، الذي يلازم بقاء هند مثلًا على زوجيتها، ولا يفهم العرف من جعل أحدهما إلّاجعل الآخر، ولا يصحّ عندهم ترتيب آثار الزوجيّة على خصوص الزوج دون زوجته بل يرون هذا من قبيل التناقض في الجعل (وإن لم يكن كذلك حقيقةً).

هذا- ويمكن جعل هذا المورد من مصاديق جلاء الواسطة الذي مرّ بيانه آنفاً، والأمر في عدّهما أمرين مختلفين أو مصداقين لأمر واحد سهل.

هذا كلّه ما استثنى من الأصل المثبت.

ولكن قد اورد عليها من جانب الأعلام إشكالات:

الأوّل: ما أورده المحقّق النائيني على الشيخ الأعظم رحمهما الله في القسم الأوّل وهو ما إذا كانت الواسطة خفية، وتبعه بعض أعاظم تلامذته، وهو: «أنّه لا مسوّغ للأخذ بهذه المسامحة، فإنّ الرجوع إلى العرف إنّما هو لتعيين مفهوم اللفظ عند الشكّ فيه أو في ضيقه وسعته مع العلم بأصله في الجملة، لأنّ موضوع الحجّية هو الظهور العرفي، فالمرجع الوحيد في تعيين الظاهر هو العرف، سواء كان الظهور من جهة الوضع أو من جهة القرينة المقاليّة والحاليّة، ولا يجوز الرجوع إلى العرف والأخذ بمسامحاتهم بعد تعيين المفهوم وتشخيص الظهور اللفظي كما هو المسلّم في مسألة الكرّ

... وكذا في مسألة الزكاة» «1».

أقول: يرد عليه:

أوّلًا: أنّ المسامحات العرفيّة على قسمين: قسم منها ما يكون العرف فيه ملتفتاً إلى انوار الأصول، ج 3، ص: 380

تسامحه كما في باب الكرّ والنصاب، فإنّه يعلم أنّ 999 مثقالًا من الذهب أو الماء ليس الف مثقال، ولكن يسامح في اطلاق الألف عليه، ففي هذا القسم، الصحيح كما قال، أي عدم حجّية التسامح العرفي، وقسم منها ما لا يكون كذلك، أي يكون العرف غافلًا عنه ولا يلتفت إليه ولو عند الدقّة، كما في مثل الدم فهو يحكم بأنّ لونه ليس دماً، مع أنّه يمكن أن يقال: بأنّ انتقال العرض من شي ء إلى شي ء آخر بدون انتقال معروضه محال عقلًا، فبقاء اللون دليل على بقاء الأجزاء الصغار من الدم، وكذا في ما إذا لاقت يده الميتة وأصاب بها رائحتها، فهو يحكم بعد الاغتسال بعدم وجود أجزاء الميتة في اليد، ففي مثل هذه الموارد لا إشكال في الحجّية، وإلّا كان على الشارع اخراج العرف عن الغفلة، ولا إشكال في أنّ خفاء الواسطة قد يكون من هذا القسم.

ثانياً: أنّ موارد خفاء الواسطة داخلة في القسم الأوّل من كلامه، أي ما إذا كان الشكّ في تعيين المفهوم أو سعته وضيقه، فيكون المرجع فيها العرف، وبعبارة اخرى: كان الوجه في عدم حجّية المثبتات انصراف دليل «لا تنقض» عنها، وهو ليس جارياً في المقام، أي لا يكون ذلك الاطلاق منصرفاً عن موارد خفاء الواسطة عند العرف.

وإن شئت قلت: يستفاد من تعميم الشارع حجّية الاستصحاب لموارد خفاء الواسطة في مورد حديث زرارة ورواية علي بن محمّد القاساني أنّ أثر الأثر أثر عنده في هذه الموارد.

الثاني: ما أورده المحقّق الأصفهاني رحمه الله على صاحب الكفاية في المورد

الثاني والثالث (مورد جلاء الواسطة والمتلازمين) وحاصله: «أنّه لا حاجة إلى إثبات بقاء أحد المتضايفين باستصحاب الآخر، بل يجري الاستصحاب في كلّ واحد منهما.

هذا في المتلازمين، وهكذا في جلاء الواسطة (الذي مثّل له بباب العلّة والمعلول كاستصحاب حركة اليد وإثبات آثار حركة المفتاح) فيمكن إجراء استصحاب حركة المفتاح في عرض استصحاب حركة اليد، للعلم بوجود كلّ واحد منهما» «1».

ويرد عليه أيضاً: أنّ كلامه في مورد جلاء الواسطة صادق في مثل ما ذكره من مثال حركة اليد والمفتاح وما أشبهه من موارد العلّة والمعلول، لا في مثل ما ذكرناه من مثال انوار الأصول، ج 3، ص: 381

استصحاب بقاء رمضان في يوم الشكّ، لعدم جريان الاستصحاب بالنسبة إلى كون الغد عيداً، فلا يمكن إثباته إلّامن طريق استصحاب بقاء عدم دخول هلال شوّال في يوم الشكّ.

الثالث: وجود الأصل المعارض في موارد خفاء الواسطة دائماً، لأنّ استصحاب بقاء الرطوبة في الذباب لإثبات نجاسة الثوب مثلًا معارض مع استصحاب بقاء الطهارة في الثوب.

وفيه: أيضاً أنّ الاستصحاب الثاني محكوم للأوّل، لأنّه من قبيل الأصل المسبّبي في مقابل الأصل السببي، حيث إنّه بعد جريان استصحاب بقاء الرطوبة لا يبقى شكّ في نجاسة الثواب تعبّداً حتّى تصل النوبة إلى استصحاب طهارته.

فظهر أنّ الوارد من هذه الإشكالات إنّما هو إشكال المحقّق الأصفهاني رحمه الله في خصوص المتضايفين وأشباهه.

هذا كلّه في المقام الثالث.

المقام الرابع: الفرق بين مثبتات الاصول والأمارات

المشهور بين المتأخّرين من الاصوليين حجّية مثبتات الأمارات مطلقاً، فيثبت بالأمارة مؤدّيها وملزومها ولوازمها وملازماتها ولو بالف واسطة، وهذا بخلاف مثبتات الاصول.

والقول الثاني: ما ذهب إليه بعض أساتذتنا العظام وهو عدم الحجّية مطلقاً في كلتيهما.

والثالث: التفصيل بين الموارد المختلفة، وهو المختار وسيأتي بيانه وشرحه.

أمّا القول الأوّل فإستدلّ عليه ببيانات أربع:

البيان الأوّل: ما أفاده

المحقّق الخراساني رحمه الله وهو: «أنّ الأمارة كما تحكي عن المؤدّي ونشير إليه، كذلك تحكي عن أطرافها من ملزومها ولوازمها وملازماتها، لأنّ مقتضى اطلاق دليل اعتبارها لزوم تصديقها في حكايتها في جميع ذلك».

وتوضيحه: أنّ الأمارة تنحلّ إلى حكايات متعدّدة مطابقية والتزامية، فهى كما تحكي عن المؤدّي بالمطابقة فكذلك تحكي عن أطرافه بالالتزام (فتخرج في الواقع عن كونها مثبتة على تعبير بعض محشّي الكفاية).

انوار الأصول، ج 3، ص: 382

ويمكن أن يناقش فيه:

أوّلًا: بأنّ كلامه وإن كان صادقاً في مثل خبر الواحد، لأنّ له الحكاية، والحكاية عن الشي ء حكاية عن لوازمه (وكذا الإقرار والبيّنة) ولكنّه لا يصدق في مثل أصالة اليد، حيث إنّها لا تحكي ولا تخبر عن شي ء، وليس لها لسان حتّى تنحلّ إلى حكايات عديدة.

وثانياً: أنّه يقبل في نفس خبر الواحد أيضاً في الجملة لا بالجملة، لأنّ انحلاله إلى إخبارات عديدة مبنى على التفات المخبر باللوازم والملازمات، وأمّا اللوازم التي ليس المخبر عالماً بها ولا متوجّهاً إليها فلا يصحّ أن يكون الإخبار عن الملزوم إخباراً عن تلك اللوازم.

البيان الثاني: أنّ حجّية الأمارة هى من باب أنّها توجب حصول الظنّ نوعاً، والظنّ بشي ء ظنّ بلوازمه.

وفيه: أنّه المبني مخدوش، لأنّ مناط الحجّية ليس هو حصول الظنّ النوعي، وإلّا يلزم حجّية الظنّ مطلقاً، وهو- على الظاهر- ممّا لا يلتزم به المستدلّ نفسه.

البيان الثالث: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله من «أنّ الأمارة إنّما تكون محرزة للمؤدّي وكاشفة عنه كشفاً ناقصاً، والشارع بأدلّة اعتبارها قد أكمل جهة نقصها، فصارت الأمارة ببركة اعتبارها كاشفة ومحرزة كالعلم، وبعد إنكشاف المؤدّى يترتّب عليه جميع ما للمؤدّى من الخواصّ والآثار على قواعد سلسلة العلل والمعلولات واللوازم والملزومات» «1».

أقول: إنّ كلامه هذا أيضاً من آثار

مبناه المعروف من أنّ معنى الحجّية جعل صفة المحرزية والكاشفيّة واليقين، فكأنّ الشارع يقول: أنّ لمفهوم الحجّة قسمين من المصداق: قسم تكويني، وقسم اعتباري يحتاج إلى جعل واعتبار ممّن بيده الاعتبار، فبعد جعل الحجّية يصير مصداقاً واقعياً للعلم فيترتّب عليها لوازمها وملازماتها كالعلم التكويني.

ولكن قد مرّ كراراً أنّ صفة اليقين أمر تكويني لا يمكن جعلها في عالم الاعتبار، وينبغي أن نشير هنا إلى ما أفاد المحقّق العراقي رحمه الله في تعليقته على فوائد الاصول، فإنّه قال: «الطريقيّة بمعنى تتميم الكشف وتماميّة الانكشاف المساق لإلغاء الاحتمال بحقيقته يستحيل أن تناله يد الجعل تشريعاً» «2».

انوار الأصول، ج 3، ص: 383

البيان الرابع: ما أفاده بعض الأعاظم في رسائله حيث قال: «أمّا وجه حجّية مثبتات الأمارات فهو أنّ جميع الأمارات الشرعيّة إنّما هى أمارات عقلائيّة أمضاها الشارع، وليس فيها ما تكون حجّيتها بتأسيس من الشرع كظواهر الألفاظ وقول اللغوي على القول بحجّيته وخبر الثقة ... ومعلوم أنّ بناء العقلاء على العمل بها إنّما هو لأجل إثباتها الواقع لا للتعبّد بالعمل بها، فإذا ثبت الواقع بها تثبت لوازمه وملزوماته وملازماته بعين الملاك الذي لنفسه فكما أنّ العلم بالشي ء موجب للعلم بلوازمه وملزوماته وملازماته مطلقاً فكذلك الوثوق به موجب للوثوق بها ... ولو حاولنا إثبات حجّية الأمارات بالأدلّة النقليّة لما أمكن لنا إثبات حجّية مثبتاتها، بل ولا لوازمها الشرعيّة إذا كانت مع الواسطة الشرعيّة» «1».

وفيه: أوّلًا: أنّا نمنع الصغرى، وهى كون جميع الأمارات إمضائيّة، لأنّ بعض الأمارات كالقرعة لا إشكال في أنّها تأسيسيّة فيما إذا كان هناك واقع في البين ولم تكن القرعة لمجرّد حسم مادّة النزاع، كما هو كذلك غالباً، فإنّ المنساق من أدلّة حجّية القرعة في الشرع أنّها كاشفة عن

الواقع غالباً أو دائماً إذا اجتمع فيها شرائطها، فقد ورد في الحديث النبوي: «ليس من قوم تقارعوا ثمّ فوّضوا أمرهم إلى اللَّه إلّاخرج السهم الأصوب» وكذا ما ورد في الدعاء المأثور عند إجراء القرعة: «اللهمّ ربّ السموات السبع أيّهم كان الحقّ له فأدّه إليه» وفي رواية اخرى:

«اللهمّ أنت اللَّه لا إله إلّاأنت عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون فبيّن لنا أمر هذا المولود» وكذا ما ورد في قضيّة يونس وقضيّة عبدالمطّلب وغير ذلك من القرائن التي يغني تظافرها عن ملاحظة إسنادها، فمن جميع ذلك يعلم أنّ القرعة أمارة شرعيّة حيث لا أمارة، ويؤيّده ما ورد في أمر الاستخارة فإنّها نوع من القرعة يطلب منها الكشف عن المصالح الواقعيّة لا مجرّد رفع الحيرة «2».

إن قلت: إذا كانت القرعة من الأمارات فلابدّ من تقديمها على الاصول العمليّة مع أنّه لا يقول به أحد.

قلنا: المستفاد من ظواهر أدلّة القرعة أو صريحها أنّ كاشفيتها منحصرة بما إذا أشكل الأمر وسدّت أبواب الحلّ وطرق الفتح، وهذا لا يصدق إلّافيما إذا لم توجد في البين أمارة ولا

انوار الأصول، ج 3، ص: 384

أصل، فالقرعة أمارة تكشف عن الواقع حيث لا أمارة ولا أصل.

هذا كلّه في القرعة.

وهكذا سوق المسلمين، فهو أيضاً لا أثر له عند العقلاء، بل هو أمارة إخترعها الشارع المقدّس، وجعلها كاشفة عن طهارة ما يشتريه المكلّف من سوق المسلمين أو حلّيته من الذبائح وشبهها.

ثانياً: لو سلّمنا وجود جميع الأمارات بين العقلاء لكنّا لا نقبل إمضاء جميعها من جانب الشارع بل فيه تفصيل سيأتي توضيحه عند بيان المختار.

هذا كلّه في القول الأوّل.

أمّا القول الثاني: فهو ما ذهب إليه بعض الأعلام في مصباح الاصول من عدم الفرق بين

الأمارات والاستصحاب وعدم حجّية المثبتات في المقامين، لأنّ عمدة الدليل على الفرق في نظره إنّما هو ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله (من أنّ العلم الوجداني شي ء يقتضي ترتّب جميع الآثار حتّى ما كان منها بتوسّط اللوازم العقليّة أو العادية ولو بالف واسطة، فكذا العلم التعبّدي، بخلاف الاستصحاب، فإنّ المجعول فيه هو الجري العملي على طبق اليقين السابق، وحيث إنّ اللازم لم يكن متيقّناً فلا وجه للتعبّد به) ولكنّه أجاب عنه بأنّ «ما ذكره غير تامّ لأنّ العلم الوجداني إنّما يقتضي ذلك لأنّه من العلم بالملزوم يتولّد العلم باللازم بعد الالتفات إلى الملازمة، فترتّب آثار الملزوم ليس من جهة العلم بالملزوم، بل من جهة العلم بنفس اللازم المتولّد من العلم بالملزوم، ولذا يقولون: أنّ العلم بالنتيجة يتولّد من العلم بالصغرى والعلم بالكبرى ... بخلاف العلم التعبّدي بالمجعول، فإنّه لا يتولّد منه العلم الوجداني باللازم- وهو واضح- ولا العلم التعبّدي به لأنّ العلم التعبّدي تابع لدليل التعبّد، وهو مختصّ بالملزوم دون لازمه، لما عرفت من أنّ المخبر إنّما أخبر عنه لا عن لازمه».

ثمّ استثنى باب الأخبار وقال: «نعم تكون مثبتات الأمارة حجّه في باب الأخبار فقط لأجل قيام السيرة القطعيّة من العقلاء على ترتيب اللوازم على الأخبار بالملزوم ولو مع الوسائط الكثيرة، ففي مثل الإقرار والبيّنة وخبر العادل يترتّب جميع الآثار ولو كانت بوساطة

انوار الأصول، ج 3، ص: 385

اللوازم العقليّة أو العادية» «1».

ولكن يرد عليه أيضاً: أنّ كلامه مبنى على انحصار وجوه الفرق بين مثبتات الأمارات والاصول فيما ذكره المحقّق النائيني رحمه الله، وهو ممنوع لما مرّ من الوجوه المختلفة، وسيأتي عند بيان المختار مزيد توضيح للمقام.

أمّا القول الثالث: (وهو المختار) فهو التفصيل بين اللوازم الذاتية للأمارة

فتكون حجّية، وبين اللوازم الإتّفاقية فلا تكون حجّة، ولإثباته لابدّ من ذكر مقدّمة في بيان الفرق بين الأمارة والأصل فنقول.

المشهور بينهم أنّ الفرق بين الأمارة والأصل أنّ الجهل بالواقع والشكّ فيه مأخوذ في موضوع الأصل دون الأمارة فإنّ الشكّ إنّما هو موردها لا موضوعها.

ولكنّه ممّا لا وجه ولا أصل له، والصحيح أنّ الجهل بالواقع والشكّ فيه أخذ في كليهما، والوجه في ذلك ما جاء في بعض الكلمات من «أنّ الاهمال بحسب مقام الثبوت غير معقول فلا محالة تكون حجّية الأمارات إمّا مطلقة بالنسبة إلى العالم والجاهل، أو مقيّدة بالعالم والجاهل، أو مختصّة بالجاهل، ولا مجال للالتزام بالأوّل والثاني فإنّه لا يعقل كون العمل بالأمارة واجباً على العالم بالواقع فبقى الوجه الأخير، وهو كون الأمارة مختصّة بالجاهل وهو المطلوب (هذا بالنسبة إلى مقام الثبوت).

مضافاً إلى أنّه في مقام الإثبات أيضاً مقيّد به في لسان بعض الأدلّة كقوله تعالى:

«فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ»» «2»

(وقد استدلّ القوم بالآية في مباحث حجّية خبر الواحد تارةً في مباحث الاجتهاد والتقليد اخرى).

والصحيح في الفرق بينهما أنّ للأمارة كاشفية عن الواقع وإن كان كشفاً ظنّياً غير تامّ، بخلاف الأصل فليس فيه كشف عن الواقع أصلًا، ولا فرق في ذلك بين أن نأخذ الأمارة والاصول من الشارع المقدّس أو من بناء العقلاء، فإنّ لهم أيضاً أمارات واصول، بل الأمارات الموجودة في الشرع متّخذة منهم غالباً كما عرفت آنفاً، وكذا الاصول الأربعة فإنّ جميعها

انوار الأصول، ج 3، ص: 386

موجودة بين العقلاء من أهل العرف. ومنها الاستصحاب فإنّهم يجرون الاستصحاب في القوانين والمناصب كالوكالة ومقام القضاء والولاية وغيرها بعنوان الأصل لا الأمارة، فهم ما دام لم يصل بأيديهم حكم جديد يعملون بما سبق.

إذا عرفت هذا

فنقول: الحقّ في المسألة هو التفصيل بين اللوازم الذاتيّة واللوازم الاتّفاقية في باب الأمارات، وإنّ الأولى تثبت بالأمارة دون الثانية من دون فرق بين ما كانت مخترعة بيد الشارع وما كان عليه سيرة العقلاء، ومن دون فرق بين أن تكون الأمارة من الأخباريات أو لا، فإذا ثبت بالقرعة أنّ هذا المولود لزيد مثلًا فلا إشكال في ترتّب لوازمه الذاتيّة عليه من كون فلان خاله وكون فلان عمّه، مع أنّ القرعة ليست من الأخباريّات، بخلاف اللوازم العرضية الإتّفاقية، كما إذا أثبتنا بالبيّنة أو بمقتضى اليد أنّ هذه الدار لزيد وعلمنا من الخارج أنّ دار زيد كانت قبال القبلة، فلا يثبت بهما جهة القبلة، مع أنّ خبر الواحد من الأمارات الموجودة فيما بين العقلاء، ويكون من الأخباريات أيضاً، وهكذا إذا قامت أمارة كأذان العارف الثقة على دخول الوقت وعلمنا من الخارج وجود ملازمة اتّفاقية بين جهة القبلة وبين وقوع الشمس بين العينين حين دخول الوقت، في مكان خاصّ، فلا يمكن إثبات جهة القبلة من ناحية إثبات دخول الوقت، وكذا العكس، فإذا قامت أمارة على ثبوت القبلة (كقبور المؤمنين) فلا يمكن إثبات دخول الوقت من مواجهة القبلة في بعض الأمكنة لملازمة اتّفاقية بينهما.

التنبيه التاسع: بعض تطبيقات الأصل المثبت

وهو في الواقع تتمّة للتنبيه السابق وتكميل له، والبحث فيه يقع في ثلاثة امور:

1- في أنّه لا فرق في اللازم العادي أو العقلي بين كونه مبايناً مع المستصحب رأساً وبين كونه متّحداً معه وجوداً بحيث لا يتغايران إلّامفهوماً، فالأصل مثبت في كليهما.

ولتوضيح المقام والتحقيق في البحث لابدّ من الإشارة إلى الأقسام المختلفة للكلّي، فنقول:

تارةً يكون الكلّي منتزعاً من مرتبة ذات الشي ء كما في الحيوان والإنسان والناطق ونحو ذلك.

انوار الأصول، ج 3، ص: 387

واخرى ينتزع من الشي ء

بملاحظة إتّصافه بأمر ليس بحذائه شي ء في الخارج، ويكون من الخارج المحمول لا بضميمة شي ء كوصف الممكن للإنسان.

وثالثاً: ينتزع من الشي ء بملاحظة اتّصافه بعرض من الأعراض بحيث يكون من الامور الحقيقيّة المتأصّلة التي بحذائها شي ء في الخارج غير معروضها، وإن كان وجوده في ضمن وجود معروضه وكان من المحمول بالضميمة، كما في الأسود والأبيض والقاعد والقائم ونحو ذلك.

هذه أقسام ثلاثة للكلّي.

ثمّ نقول: قد يتوهّم أنّه لا يجوز استصحاب الفرد وإجراء أحكام الكلّي عليه في جميع الأقسام الثلاثة حتّى القسم الأوّل الذي يكون من الذاتيات، لأنّ حيثية زيدٍ المستصحب مثلًا غير حيثية كونه إنساناً، فيكون الجميع من الأصل المثبت.

وقد يقال: بأنّ الاستصحاب مثبت في الأخيرين لا في الأوّل، لاتّحاد الكلّي فيه مع المستصحب اتّحاداً ذاتياً، فأثر الكلّي أثر للمستصحب حقيقة.

ويمكن أن يقال بأنّه مثبت في خصوص الأخير، لأنّ الأثر في كلّ واحد من القسمين الأوّلين يكون لنفس المستصحب واقعاً، حيث لا يكون بحذاء ذلك العنوان الكلّي (المتّحد مع المستصحب وجوداً) شي ء آخر في الخارج غير المستصحب، بخلاف القسم الثالث لأنّ الأثر فيه ليس لنفس المستصحب واقعاً بل لما هو من اعراضه وهو السواد والبياض والقيام والقعود ونحو ذلك.

أقول: أوّلًا: أنّه لا فائدة في هذا النزاع لأنّه لا حاجة في إثبات آثار الكلّي في هذه الأقسام إلى استصحاب الفرد بعد ما كان نفس الكلّي أيضاً متيقّناً سابقاً، لأنّ استصحاب نفس الكلّي حينئذٍ يكون جارياً ومغنياً عن استصحاب الفرد.

ثانياً: لو أغمضنا عن ذلك فإنّ الصحيح هو القول الثاني، أي عدم كون الاستصحاب مثبتاً في الأوّل دون الأخيرين، لأنّ الكلّي في القسم الأوّل ليس في الواقع من اللوازم العقليّة للمستصحب، لكونه منتزعاً من مقام ذاته ويكون متّحداً معه ذاتاً،

بخلاف الأخيرين.

2- أنّه لا فرق في الأثر المستصحب أو المترتّب على المستصحب بين أن يكون حكماً تكليفياً أو حكماً وضعيّاً، وبتعبير آخر: بين أن يكون حكماً مجعولًا مستقلًا أو مجعولًا تبعاً كالشرطيّة والمانعيّة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 388

قد يقال: أنّ الأحكام الوضعيّة على ثلاثة أقسام:

قسم منها ما يقع تحت يد الجعل ذاتاً واستقلالًا نظير الزوجيّة والملكيّة.

وقسم منها ما يقع تحت يد الجعل بمنشأ انتزاعه كالجزئيّة والشرطيّة للمكلّف به، فإنّ شرطيّة الطهارة أو مانعية النجاسة مجعول تبعي وأمره بيد الشارع وضعاً ورفعاً، لكن من طريق وضع منشأ انتزاعه ورفعه.

وقسم ثالث ما لا يكون مجعولًا للشارع لا نفسه ولا منشأ انتزاعه، لكونه من الامور التكوينيّة كشرائط التكليف، مثل دلوك الشمس للصلاة وغيره ممّا يكون داعياً وباعثاً للمولى على الحكم (ولكن قد ذكرنا سابقاً أنّ شرائط التكليف أيضاً ترجع إلى قيود الموضوع فتكن مجعولةً).

أمّا القسم الأوّل فقال المحقّق الخراساني رحمه الله بعدم كون الاستصحاب فيه مثبتاً، وأمّا القسم الثاني فقد يتوهّم كون الاستصحاب فيه مثبتاً لكونه من الامور الانتزاعيّة العقليّة لا الآثار الشرعيّة، ولكن أجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه الله بأنّه أيضاً مجعول للشارع تبعاً بجعل منشأ انتزاعه فأمره أيضاً بيد الشارع وضعاً ورفعاً، فلا يكون الاستصحاب فيه مثبتاً، وأمّا القسم الثالث فمن الواضح أنّ الاستصحاب فيه مثبت.

أقول: أوّلًا: أنّ هذا النزاع أيضاً ممّا لا طائل تحته، لأنّه لا حاجة إلى استصحاب شرطيّة الطهارة مثلًا حتّى يقال بأنّه مثبت، بل يكفي استصحاب حكم تكليفي يوجد في جنب هذا الحكم الوضعي، وهو مفاد قوله تعالى «إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا ...» فيكفي استصحاب وجوب الوضوء عن استصحاب شرطيّة الوضوء للصلاة.

وثانياً: أنّ معنى الأصل المثبت في كلام المحقّق الخراساني رحمه الله

في المقام نطاقه أوسع ممّا مرّ، حيث إنّه في ما سبق كان عبارة عن ترتيب الآثار الشرعيّة بوساطة الآثار العقليّة أو العادية على المستصحب، وفي المقام يعمّ ما إذا كان نفس المستصحب أو الأثر المترتّب عليه بلا واسطة أمراً عقيّاً ولم يكن له أثر شرعي، وبهذا يندفع ما أورده المحقّق الأصفهاني رحمه الله عليه من هذه الناحية.

3- في أنّه لا فرق أيضاً في المستصحب أو المترتّب على المستصحب بين أن يكون هو ثبوت حكم ووجوده، أو نفيه وعدمه.

انوار الأصول، ج 3، ص: 389

فقد يقال: إذا كان المستصحب أو الأثر المترتّب عليه عدم الحكم كان الاستصحاب مثبتاً، لأنّ العدم ليس ممّا يقع تحت يد الجعل، إمّا بلحاظ نفسه فواضح، وإمّا بلحاظ آثاره من الثواب أو العقاب فلأنّها من الآثار العقليّة.

ولكن أجاب عنه (بحقٍّ) المحقّق الخراساني: أوّلًا: بأنّ نفي الأثر وعدمه أمره بيد الشارع كأمر ثبوته ووجوده، وثانياً: بأنّ عدم اطلاق الحكم على نفي الأثر غير ضائر، إذ ليس هناك ما دلّ على اعتباره بعد صدق نقض اليقين بالشكّ على رفع اليد عنه كصدقه على رفع اليد عن ثبوته ووجوده.

وعلى هذا فيكون استصحاب البراءة المتيقّنة حال الصغر أو الجنون جارياً، ولا يرد عليه ما أورده الشيخ الأعظم رحمه الله من أنّ عدم استحقاق العقاب في الآخرة ليس من اللوازم المجعولة الشرعيّة، لأنّ عدم استحقاق العقوبة وإن لم يكن من اللوازم المجعولة الشرعيّة لكن عدم المنع من الفعل (أو عدم التكليف) بنفسه أمر قابل للاستصحاب من دون حاجة إلى ترتّب أثر مجعول عليه، وذلك لما عرفت آنفاً من عدم التفاوت في المستصحب أو المترتّب على المستصحب بين أن يكون هو ثبوت الحكم ووجوده، أو عدمه ونفيه، فيترتّب عليه أثره

القهري وهو عدم ترتّب العقاب لأنّه وإن كان لازماً عقليّاً له، ولكنّه لازم مطلق لعدم المنع ولو في الظاهر، وسيأتي في التنبيه اللاحق أنّ اللازم العقلي أو العادي إنّما لا يثبت بالاستصحاب إذا كان لازماً للوجود الواقعي، وأمّا إذا كان لازماً للوجود الأعمّ من الظاهري والواقعي فهذا ممّا يثبت به بلا كلام.

التنبيه العاشر: اللازم المطلق

في أنّ ما تقدّم من عدم ترتّب اللازم العادي أو العقلي ولا الأثر الشرعي المترتّب عليه إنّما هو اللازم العادي أو العقلي للمستصحب واقعاً لا اللازم المطلق له ولو في الظاهر (أي سواء كان لوجوده الواقعي أو الظاهري) فليس الاستصحاب مثبتاً بالنسبة إليه، نظير ترتّب الإجزاء على الطهارة الاستصحابيّة، حيث إنّ شرط الصّلاة هو الأعمّ من الطهارة الواقعيّة والظاهريّة فيترتّب عليها الإجزاء وإن كان من آثارها العقليّة، ونظير ترتّب عدم العقاب على انوار الأصول، ج 3، ص: 390

استصحاب عدم التكليف الذي مرّ ذكره آنفاً، وهذا من القضايا التي قياساتها معها، فإنّ الأثر العقلي إذا كان أثراً للحكم الظاهري والواقعي معاً، والمفروض ثبوت موضوعه وهو الحكم الظاهري هنا، فيترتّب عليه بلا إشكال.

ثمّ إنّ هيهنا فروعاً فقهيّة تذكر عادةً في ذيل الأصل المثبت، ولكنّا تركنا البحث عنها إلى محلّها في الفقه.

التنبيه الحادي عشر: لزوم كون المستصحب حكماً شرعيّاً أو ذا حكم شرعي ولو بقاء

لا إشكال ولا كلام في أنّه لا بدّ أن يكون المستصحب حكماً شرعياً أو موضوعاً ذا حكم شرعي كما أشرنا إليه سابقاً، لأنّه إن لم يكن كذلك كان التعبّد به من الشارع لغواً فلا معنى للحكم باستصحاب بقاء تلك القطعة من الحجر مثلًا المطروحة في أرض كذا أو ذلك الحيوان الموجود في الأجمّة.

هذا- ولكنّه لا يخفى أنّه يكفي كون المستصحب كذلك ولو بقاءً ولا يعتبر كونه حكماً شرعياً أو ذا حكم شرعي عند الحدوث فلو كانت اليد نجسةً قبل الظهر مثلًا ولم يكن لهذه النجاسة أثر شرعي لعدم وجوب الصّلاة مثلًا في ذلك الوقت ولا شي ء آخر ممّا يعتبر فيه الطهارة ثمّ شككنا بعد الظهر في طهارتها كان استصحاب النجاسة جارياً بلا ريب لكونه موضوعاً ذا أثر شرعي في هذا الوقت وهو عدم جواز الصّلاة بها.

والوجه في

ذلك أنّ الاستصحاب تعبّد من جانب الشارع في الآن اللاحق، فيكفي وجود الأثر في هذا الآن، فيشمله اطلاق «لا تنقض»، لصدق نقض اليقين بالشكّ على رفع اليد عمّا تيقّن به مطلقاً ولو كان حكماً أو موضوعاً ذا حكم بقاء لا حدوثاً.

ولذلك نقول بحجّية استصحاب العدم الأزلي في الشبهات الحكميّة فيما إذا كان الشكّ في أصل جعل حكم من جانب الشارع وعدمه، مع أنّه لم يكن للمستصحب (وهو عدم الحكم الفلاني) أثراً في الأزل.

إن قلت: العدم الأزلي لا يتصور في الأحكام، لإمكان وجودها في علم اللَّه على نهج انوار الأصول، ج 3، ص: 391

القضايا الحقيقيّة، فلا يقين سابق بهذا العدم حتّى يمكن استصحابه.

قلنا: أوّلًا: إنشاء الأحكام كذلك في الأزل لغو لا يصدر من الشارع الحكيم.

ثانياً: وجود الأحكام على نهج القضايا الإنشائية الحقيقيّة في علم اللَّه من الأزل لا معنى محصّ له، لأنّ الإنشاء أمر حادث ووعاؤه الذهن، فلابدّ فيه من وجود ذهن نبوي أو ولوي، والذي كان اللَّه تبارك وتعالى عالماً به إنّما هو صدور الإنشاء من جانبه فيما بعد، لا أنّه صدر.

ثالثاً: يمكن دعوى الإجماع على عدم وجود هذه الأحكام حتّى بصورها الإنشائيّة في الأزل، بل قبل بعث النبي صلى الله عليه و آله، لأنّ الإجماع حاصل على نزول الأحكام تدريجياً، والقول بنزول القرآن عليه صلى الله عليه و آله مرّتين: مرّة دفعيّاً ومرّة تدريجيّاً أيضاً لا ينافي ما ذكرنا فإنّه على كلّ حال أمر حادث بعد البعثة.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّه قد لا يمكن جريان استصحاب العدم الأزلي، لا لعدم تصوّره، بل لإشكال آخر، وذلك في الشبهات الموضوعيّة فيما إذا كانت من قبيل العدم النعتي، أي فيما إذا كان الوصف قائماً بالغير بنحو كان الناقصة كقرشية

المرأة، فلا يمكن استصحاب عدم قرشيتها، وعلى نحو كلّي لا يمكن جريان الاستصحاب في مفاد ليس الناقصة (وإن كان المعروف بين جماعة من الأعلام جريانه) وذلك لما قد قرّر في محلّه من اعتبار وحدة القضيّة المتيقّنة والقضية المشكوكة، وهى ليست حاصلة في المقام، لأنّ القضية المتيقّنة فيه عبارة عن القضيّة السلبة بانتفاء الموضوع، والقضيّة المشكوكة سالبة بانتفاء المحمول، أي عدم قرشية هذه المرأة، ولا ريب في مغايرة إحدى القضيتين الاخرى في نظر العرف.

أضف إلى ذلك أنّ القضيّة السالبة بانتفاء الموضوع أمر غير معقول عند العرف، كما لا يخفى على الخبير، فلا يمكن عند العرف أن يقال: إنّ هذه المرأة لم تكن قرشية حين عدم وجودها فلتكن في الحال كذلك.

وهذا في الواقع يرجع إلى عدم وجود يقين سابق عرفاً، فأركان الاستصحاب حينئذٍ غير تامّة من جهتين.

التنبيه الثاني عشر: استصحاب تأخّر الحادث

لا إشكال في جريان الاستصحاب فيما إذا شكّ في أصل حدوث الحادث، حكماً كان أو موضوعاً، وأمّا إذا شكّ في تقدّمه وتأخّره بعد العلم بتحقّق أصله كما إذا علمنا بموت زيد ولا نعلم هل هو مات يوم الخميس أو يوم الجمعة؟ وفرضنا ترتّب أثر شرعي على موته في يوم الجمعة أو يوم الخميس بنذر وشبهه فهل يجري استصحاب عدم موته إلى يوم الجمعة، أي عدم تقدّمه على يوم الجمعة، أو عدم تأخّره عن يوم الخميس، أو لا؟

وقع الكلام في مقامين:

المقام الأوّل: فيما إذا لوحظ تقدّمه وتأخّره بالنسبة إلى أجزاء الزمان كما في المثال المذكور.

المقام الثاني: فيما إذا لوحظ تقدّمه وتأخّره بالنسبة إلى حادث آخر قد علم بحدوثه أيضاً، كما إذا علم بموت متوارثين على التعاقب ولم يعرف المتقدّم منهما على المتأخّر، أو علم بحصول ملاقاة اليد المتنجّسة بالماء وحصول الكرّية

على التعاقب ولم يعلم المتقدّم منهما، أو علم بموت الأب المسلم وإسلام الولد الكافر ولم يعرف المتقدّم منهما أيضاً.

أمّا المقام الأوّل: فلا شكّ في جريان استصحاب عدم تحقّق الحادث في الزمان الأوّل وترتيب آثار عدمه فقط، وأمّا آثار تأخّره عن الزمان الأوّل وآثار حدوثه في الزمان الثاني (يوم الجمعة في المثال) فلا، لكونه مثبتاً بالنسبة إلى عنوان التأخّر والحدوث، فلابدّ في التخلّص عنه إمّا دعوى خفاء الواسطة، أو دعوى أنّه من باب المتضايفين، أو دعوى أنّ الحدوث أمر مركّب من عدم الحادث في زمان ووجوده في زمان بعده، والقيد الثاني حاصل بالوجدان لأنّ المفروض حصول الموت في الحال (أي يوم الجمعة في المثال) والقيد الأوّل ثابت بالأصل، فحدوث الموت يوم الجمعة يثبت بضميمة أصل إلى وجدان.

ولكن الإنصاف أنّ كلًا من هذه الدعاوي في غير محلّه، أمّا الاولى فواضحة كالثانية، وأمّا الثالثة فلأنّ الحدوث أمر بسيط ينتزع من الوجود في زمان وعدم الوجود في زمان آخر، نظير الفوقية التي تنتزع من كون هذا في هذا المكان وذاك في ذاك المكان لا إنّه أمر مركّب حتّى يمكن إثبات أحد جزئيه بالوجدان والآخر بالأصل.

أمّا المقام الثاني: فالبحث فيه بنفسه يقع في موضعين:

الموضع الأوّل: ما إذا كان كلّ من الحادثين مجهول التاريخ.

انوار الأصول، ج 3، ص: 393

الموضع الثاني: ما إذا كان أحدهما معلوم التاريخ والآخر مجهول التاريخ.

أمّا الموضع الأوّل فله أربعة أقسام:

1- ما إذا كان الأثر الشرعي لتقدّم أحدهما أو لتأخّره أو لتقارنه بنحو مفاد كان التامّة.

2- ما إذا كان الأثر الشرعي للحادث المتّصف بالتقدّم أو التأخّر أو التقارن بنحو مفاد كان الناقصة.

3- ما إذا كان الأثر الشرعي لعدم تقدّم أحدهما على الآخر أو لتأخّره أو لتقارنه بنحو مفاد ليس

التامّة.

4- ما إذا كان الأثر الشرعي لعدم الحادث المتّصف بالتقدّم أو التأخّر أو التقارن بنحو مفاد ليس الناقصة، كما إذا قيل: لم يكن الإبن متّصفاً بالإسلام في زمن موت الأب.

وهيهنا قسم خامس ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله في بعض كلماته، وهو ما إذا كان الأثر للعدم النعتي، أي للحادث المتّصف بالعدم في زمان حدوث الآخر بنحو مفاد كان الناقصة، ولكن يعلم حاله بالدقّة في أبحاث الأربعة المزبورة.

أمّا القسم الأوّل: فلا إشكال في جريان استصحاب العدم (أي عدم التقدّم إذا كان الأثر لتقدّم أحدهما، وهكذا بالنسبة إلى التأخّر والتقارن) بلا معارض، لتمامية أركان الاستصحاب فيه، نعم إذا كان الأثر لتقدّم كلّ منهما أو لتقارن كلّ منهما أو لتأخّر كلّ منهما أو كان الأثر لأحد الحادثين بجميع أنحائه من التقدّم والتأخّر والتقارن كان الاستصحاب معارضاً كما لا يخفى.

أمّا القسم الثاني: فلا يجري فيه الاستصحاب لعدم يقين سابق بقضيّة «كان الإبن كافراً عند موت أبيه المسلم». مثلًا كما هو واضح.

وأمّا القسم الثالث فيظهر حكمه من القسم الأوّل، لأنّ الأثر مترتّب على عدم التقدّم والتأخّر والتقارن، كما أنّ العدم النعتي أيضاً يظهر حكمه من القسم الثاني، لكون الأثر فيه أيضاً مترتّباً بنحو مفاد كان الناقصة، فلا يقين سابق فيه فلا يجري الاستصحاب.

إنّما الإشكال والكلام في القسم الرابع، وهو مفاد ليس الناقصة، والمراد منه أن يكون الأثر مترتّباً مثلًا على عدم كون الماء كرّاً في زمن الملاقاة وعلى عدم كون النجس ملاقياً للماء حتّى صار كرّاً، فوقع الخلاف فيه بين الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني رحمه الله، فقال الشيخ الأعظم رحمه الله بأنّ الاستصحاب جارٍ فيه ولكنّه يتساقط للمعارضة فيما إذا كان الأثر موجوداً في انوار الأصول، ج 3، ص: 394

كلا الطرفين،

أمّا إذا كان الأثر مفروضاً في أحدهما فلا يتساقط، والمحقّق الخراساني ذهب إلى عدم جريانه رأساً لعدم إندراجه تحت أدلّة الاستصحاب ولو كان الأثر مفروضاً في طرف واحد دون الآخر، وذلك لعدم إحراز إتّصال زمان شكّه بزمان يقينه.

توضيح ذلك: إنّه لا ريب في أنّ المستفاد من قول الشارع «لا تنقض اليقين بالشكّ» لزوم إتّصال زمان اليقين بالشكّ، فلو إنفصل أحدهما عن الآخر لم يشمله هذا الاطلاق، وإذ قد عرفت ذلك فلنرجع إلى ما نحن بصدده فنقول: المفروض أنّ الماء لم يكن كرّاً يوم الجمعة ولم يلاق نجساً، ثمّ علمنا بحدوث أحدهما إجمالًا في يوم السبت والآخر في يوم الأحد وإجتمعا في نهاية ذاك اليوم، فلو قلنا أنّ الماء لم يكن كرّاً في زمن الملاقاة إحتمل في ذلك احتمالين: أحدهما أن يكون زمن الملاقاة في متن الواقع يوم السبت، والثاني، أن يكون يوم الأحد، فلو كان زمن الملاقاة في الواقع يوم السبت كان متّصلًا بيوم الجمعة فتمّ إتّصال زمان اليقين بالشكّ، وأمّا لو كان زمن الملاقاة في الواقع يوم الأحد كان منفصلًا عن زمن اليقين، لإنفصال يوم الأحد عن يوم الجمعة، وحيث لا نعلم أنّ الواقع أي واحد من الاحتمالين فتكون المسألة من الشبهات المصداقيّة لحديث «لا تنقض».

وقد إستشكل المحقّق الخراساني رحمه الله على نفسه بأنّه لا شبهة في إتّصال مجموع الزمانين وفي مثالنا يوم السبت والأحد بذلك الآن الذي هو قبل زمان اليقين بحدوث أحدهما، وأنّ مجموع الزمانين هو زمان الشكّ في حدوث الكرّية مثلًا فكيف يقال بعدم إحراز اتّصال زمان شكّه بزمان يقينه؟

وأجاب عنه بما حاصله: أنّ هذا صحيح إذا لوحظت الكرّية بالنسبة إلى أجزاء الزمان فيستصحب عدم الكرّية من زمان اليقين به وهو

يوم الجمعة إلى آخر الأحد بلا مانع عنه، وأمّا إذا لوحظ بالنسبة إلى الملاقاة وكان ظرف وجودها أحد الزمانين (السبت أو الأحد، لا كليهما) فلا شبهة في عدم إحراز إتّصال زمانه بزمان اليقين.

أقول: الحقّ مع ذلك كلّه مع الشيخ الأعظم رحمه الله كما إعترف به كثير من المحقّقين الذين جاؤوا بعد المحقّق الخراساني رحمه الله، وذلك لوقوع الخلط في كلامه بين عدم ترتّب الأثر في زمان وبين عدم الشكّ في ذلك الزمان، حيث لا ريب في المقام في أنّ كلًا من السبت والأحد يوم الشكّ، إلّاأنّ في أحدهما وهو يوم السبت لا يترتّب أثر شرعي على عدم الكرّية في فرض كون انوار الأصول، ج 3، ص: 395

الملاقاة يوم الأحد في الواقع، بل الأثر يترتّب على عدم الكرّية حين الملاقاة فقط.

وببيان آخر: أنّ زمان الملاقاة ظرف للمستصحب (عدم وقوع الكرّية حين الملاقاة) وليس قيداً له، كما أنّه مقتضى اعتبار وحدة القضيّة المشكوكة والقضيّة المتيقّنة، لأنّه لا ريب في أنّ الزمان في القضية المتيقّنة ظرف لا قيد، فلتكن في المشكوكة أيضاً كذلك.

وبعبارة اخرى: كما أنّا نقول: لم يكن الماء كرّاً قطعاً يوم الجمعة (ويوم الجمعة ظرف له) كذلك نقول: وقع الشكّ في أنّه هل صار كرّاً يوم السبت ويوم الأحد أو لا؟ غاية الأمر أنّ يوم الأحد في مفروض الكلام يوم الملاقاة فهو أيضاً ظرف فاتّحدت القضيتان واتّصلتا.

وأجاب المحقّق النائيني رحمه الله عن إشكال المحقّق الخراساني رحمه الله بوجه آخر وحاصله: أنّ الشكّ واليقين من الصفات النفسانيّة الوجدانيّة، لا يتطرّق إليها الشكّ، فإنّه لا معنى للشكّ في أنّ له يقين أم لا، أو في أنّ له شكّ أم لا، ونحن نجد بوجداننا أنّه لا انفصال بين الشكّ واليقين

في المقام لأنّ انفصال الشكّ عن اليقين لا يمكن إلّابتخلّل يقين يضادّه، وهو مفقود في المقام «1» (انتهى ملخّصاً).

ولكن يرد عليه: أنّ الظاهر أنّ مراد المحقّق الخراساني من الشكّ واليقين إنّما هو المشكوك والمتيقّن الخارجيين، ولا شبهة في تخلّل يوم السبت مثلًا بين الجمعة والأحد في المثال المذكور، ومن الواضح أنّه يمكن تصوّر الشبهة المصداقيّة في الامور الخارجيّة.

بقي هنا شي ء:

وهو ذكر المثال لما إذا انفصل زمان الشكّ عن زمان اليقين وكان المورد من قبيل الشبهة المصداقيّة للمخصّص، فنذكر هنا مثالين:

أحدهما: ما جاء في كلمات المحقّق النراقي رحمه الله وأشار إليه المحقّق النائيني رحمه الله في بعض كلماته في المقام، وهو ما إذا علمنا بعدم وجوب الجلوس قبل الظهر، ثمّ علمنا بوجوبه بعد الظهر، ثمّ شككنا في وجوبه عند غروب الشمس، فلا يمكن إجراء استصحاب عدم وجوب الجلوس الثابت قبل الظهر، لانفصال زمان الشكّ في الوجوب عن زومان اليقين بعدمه، بتخلّل زمان انوار الأصول، ج 3، ص: 396

اليقين بالوجوب، وقد ذكر هذا المثال المحقّق النراقي رحمه الله في كلامه عند الاستدلال لعدم جواز إجراء الاستصحاب في الشبهات الحكميّة.

ثانيهما: ما قد يكون في أطراف العلم الإجمالي بعد العلم التفصيلي، كما إذا كانت في البين ذبيحة وميتة، ثمّ اختلطا وإشتبه الأمر علينا فلا نعلم أيّتهما ذبيحة وأيّتهما ميتة؟ فلا يمكن إجراء استصحاب عدم التذكية في كلّ واحد منهما، لا لوجود العلم الإجمالي بأنّ أحدهما مذكّى، لأنّ العلم الإجمالي يمنع عن جريان الأصل في أطرافه إذا إستلزم مخالفة عمليّة، ولا يخفى أنّه لا يلزم من إجراء استصحاب عدم التذكية في كلا الطرفين مخالفة عملية، بل الإشكال في انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين، حيث إنّ زمان اليقين بعدم التذكية في

كليهما إنّما هو زمان حياتهما، وزمان الشكّ هو بعد الاختلاط وبعد فصل اليقين بصيرورة أحدهما مذكّى وصيرورة الآخر ميتة.

هذا كلّه في المقام الأوّل، وهو ما إذا كان كلّ من الحادثين مجهول التاريخ.

أمّا الموضع الثاني: (وهو ما إذا كان أحدهما مجهول التاريخ والآخر معلوم التاريخ، كما إذا علمنا في المثال السابق بوقوع الملاقاة في يوم الأحد، ولا نعلم أنّ الكرّية هل وقعت يوم السبت حتّى لا تؤثّر الملاقاة في نجاسة الماء أو وقعت بعد الأحد حتّى يكون الماء نجساً؟) فيجري فيه أيضاً الأقسام الخمسة المذكورة في المقام الأوّل، كما لا كلام في أربعة منها هنا أيضاً، بل إنّما الكلام والإشكال في مفاد ليس الناقصة (والمراد منه- كما أشرنا سابقاً- ما إذا كان الأثر مترتّباً مثلًا على عدم كون الماء كرّاً في زمن الملاقاة وعلى عدم كون النجس ملاقياً للماء إلى أن صار كرّاً). فقد حكم الشيخ الأعظم رحمه الله فيه بجريان استصحاب العدم في خصوص مجهول التاريخ دون معلوم التاريخ، ومقتضى ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله عدم جريانه فيهما لما عرفت من شبهة انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين فيه أيضاً، كما أشار إليه في بعض كلماته في المقام، لأنّ المفروض أنّ زمان الشكّ بالنسبة إلى مجهول التاريخ هو يوم الأحد (فإنّه يوم الملاقاة) وزمان اليقين بعدم الكرّية هو يوم الجمعة، ولكن الجواب هو الجواب فلا نعيد.

هذا بالنسبة إلى مجهول التاريخ.

وأمّا معلوم التاريخ فذهب الشيخ الأعظم رحمه الله إلى عدم جريان استصحاب العدم فيه كما مرّ، آنفاً وتبعه عليه جماعة آخرون.

انوار الأصول، ج 3، ص: 397

وقد يتوهّم أنّه يجري الاستصحاب فيه أيضاً، لأنّ الكرّية مثلًا وإن كان وجودها معلوماً لنا بالنسبة إلى اجزاء الزمان ولكنّه مجهول

بالنسبة إلى زمان الملاقاة، فالأصل عدم وجودها حين الملاقاة ومقتضاه النجاسة.

وقد اجيب عنه بوجوه:

أولها: (وهو العمدة) أنّ مفاد الاستصحاب هو الحكم ببقاء ما كان متيقّناً في عمود الزمان وجرّه إلى زمان الشكّ في الارتفاع، وفي المقام لا شكّ لنا في معلوم التاريخ باعتبار عمود الزمان حتّى نجرّه بالتعبّد الاستصحابي.

وبعبارة اخرى: لا شكّ لنا في معلوم التاريخ في زمان أصلًا، فإنّه قبل حدوثه (المعلوم لنا وقته تفصيلًا) لا شكّ في انتفائه، وبعد حدوثه لا شكّ في وجوده، بل الشكّ فيه إنّما هو بالقياس إلى الآخر.

ثانيها: سلّمنا بجريان استصحاب العدم فيه أيضاً، ولكنّه محكوم للاستصحاب الجاري في مجهول التاريخ، لأنّه مسببي والاستصحاب الجاري في مجهول التاريخ سببي، لأنّ الشكّ في أنّ الملاقاة هل وقعت قبل الكرّية أو بعدها (مع أنّ زمان الملاقاة معلوم) ينشأ في الحقيقة من الشكّ في زمان الكرّية، فحيث أنّا لا نعلم أنّ الكرّية هل وقعت يوم السبت بعد الأحد نشكّ في أنّ الملاقاة الواقعة يوم الأحد هل وقعت حين وجود الكرّية أو وقعت حين عدمها.

ولكن يرد عليه: أنّ السببيّة وإن كانت هنا معلومة ولكن التسبّب فيه ليس شرعيّاً، وقد ذكر في محلّه لزوم ذلك في حكومة الأصل السببي على المسبّبي.

ثالثها: ما عرفت من حديث إنفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين فإنّه صادق في معلوم التاريخ أيضاً.

ولكن قد عرفت الجواب عنه بما لا مزيد عليه.

وقد ظهر إلى هنا أنّ الحقّ عدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ تبعاً للشيخ الأعظم رحمه الله فيجري في مجهول التاريخ من دون معارض.

بقي هنا شي ء:

وهو توارد الحالتين المتعاقبتين (المتضادّتين كالوضوء والحدث) في محلّ واحد، والفرق انوار الأصول، ج 3، ص: 398

بينه وبين ما سبق (وهو توارد الحادثتين) أنّ الحالتين في

المقام لمكان تضادّهما لا يتصوّر فيهما التقارن، بخلاف الحادثتين كالملاقاة واحد كموت المتوارثين ونحوه، بينما الحالتان المتعاقبتان تعرضان لمحلّ واحد كما في مثل الوضوء والحدث، هذا مضافاً إلى أنّ الكلام فيما سبق وقع في استصحاب عدم أحدهما إلى حال حدوث الآخر، وهيهنا يقع في استصحاب وجود أحدهما أو عدمه إلى زمان خاصّ.

وكيف كان فالأقوال في المسألة أربعة:

1- ما يظهر من كلمات الشيخ الأعظم رحمه الله من التفصيل بين ما إذا كانا مجهولي التاريخ فيجري الاستصحاب في كليهما ويتعارضان فيتساقطان، وما إذا كان أحدهما معلوم التاريخ فيجري فيه دون مجهول التاريخ، على عكس ما سبق في الحادثتين.

2- ما قد يظهر من كلمات المحقّق الخراساني من عدم جريان الاستصحاب فيه مطلقاً.

3- جريان الاستصحاب في كلتا الصورتين، وهو ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله في أجود التقريرات.

4- الأخذ بضدّ الحالة السابقة على الحالتين إن كانت معلومة لنا، وهو منسوب إلى المحقّق الثاني رحمه الله وجماعة، بل وإلى المحقّق الأوّل رحمه الله أيضاً في المعتبر.

أمّا القول الأوّل: الذي هو المختار فيمكن أن يستدلّ له بأنّه إذا كانا مجهولي التاريخ فحيث إنّ أركان الاستصحاب في كليهما تامّة فيجري في كليهما ويتساقطان، كما أنّ الأركان تامّة في خصوص معلوم التاريخ فيما إذا كان أحدهما معلوم التاريخ، دون مجهول التاريخ، وذلك ببيانين:

أحدهما: أنّ مراده دائر بين ما هو معلوم الارتفاع وما هو مشكوك الحدوث، فإذا علم بأنّه توضّأ عند الزوال مثلًا وعلم أيضاً بحدوث الحدث، ولا يعلم أنّه وقع قبل الزوال أو بعده فلا يجري استصحاب بقاء الحدث، لأنّه بالنسبة إلى قبل الزوال معلوم ارتفاعه فلا شكّ فيه، وبالنسبة إلى بعد الزوال مشكوك حدوثه فلا يقين به.

ثانيهما: أنّه من أوضح مصاديق

احتمال انفصال زمان اليقين عن زمان الشكّ، أي أنه من مصاديق الشبهة المصداقيّة لدليل «لا تنقض» لأنّ الحدث إن وقع قبل الزوال حصل الإنفصال قطعاً ودخل في قوله: «انقضه بيقين آخر» فلا يكون الإتّصال محرزاً في عمود الزمان، مع أنّ انوار الأصول، ج 3، ص: 399

الاستصحاب استمرار لعمر المستصحب في عمود الزمان كما مرّ.

وأمّا القول الثاني: وهو مختار المحقّق الخراساني (عدم جريان الاستصحاب مطلقاً) فدليله نفس ما مرّ في البحث السابق من عدم إحراز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين حتّى في معلوم التاريخ، لأنّه وإن كان تاريخ حدوثه معلوماً لنا ولكن اتّصاله بزمان الشكّ الحاضر غير معلوم لنا، لاحتمال انفصاله عنه وتخلّل ما هو المجهول تاريخ والمعلوم تحقّقه إجمالًا، بينهما.

ولكن الجواب أيضاً هو الجواب فلا نعيده وهو الجواب الذي سبق في مسألة تعاقب الحادثتين أيضاً.

وأمّا القول الثالث: (مختار المحقّق النائيني رحمه الله) وهو الجريان مطلقاً فالوجه فيه بالنسبة إلى مجهولي التاريخ ما مرّ، وأمّا بالنسبة إلى مجهول التاريخ في مقابل معلوم التاريخ فيقول: «وأمّا بالنسبة إلى المجهول تاريخه وهو الحدث في المثال فربّما يقال بعدم جريان الاستصحاب فيه تارةً من جهة عدم إحراز إتّصال زمان اليقين بالشكّ فيه، واخرى من جهة أنّ أمره مردّد بين ما هو مقطوع الإرتفاع كما إذا كان قبل الطهارة، وما هو مشكوك الحدوث من جهة احتمال حدوثه بعدها المحكوم بالعدم بالأصل، ولذلك قد عرفت حديث شرطيّة إحراز إتّصال زمان اليقين بالشكّ وأنّ دوران أمر الحادث بين كونه مقطوع الارتفاع أو مشكوك الحدوث إنّما يضرّ باستصحاب الفرد دون الكلّي، فلا مانع من جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ أيضاً بنحو استصحاب الكلّي» «1».

ولكن يرد عليه:

أوّلًا: ما مرّ سابقاً بأنّ المستصحب في مثل هذا

المورد ليس كلّياً لأنّ المتيقّن إنّما هو ذلك الفرد المبهم الواقع في الخارج وما نشير إليه في الاستصحاب، فهو جزئي حقيقي، وتسميته كلّياً مجاز ناشٍ عن إبهام صفاته.

وثانياً: سلّمنا، ولكنّه يتمّ بالنسبة إلى خصوص البيان الأوّل، ويبقى البيان الثاني (أعني شبهة انفصال زمان اليقين عن زمان الشكّ) على تماميته، وقد عرفت أنّ ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله من عدم الانفصال (من جهة أنّ اليقين والشكّ من الصفات الوجدانيّة التي لا

انوار الأصول، ج 3، ص: 400

يتطرّق إليها الشكّ) وأنّ الإتّصال في أمثال المقام حاصل بالوجدان، مدفوع بما مرّ أيضاً من أنّ الاعتبار بوجود المتيقّن والمشكوك، وبملاحظة زمانهما تحصل شبهة الانفصال، فراجع ما مرّ منّا في تعاقب الحادثتين.

أمّا القول الرابع: وهو الأخذ بضدّ الحالة السابقة فالوجه فيه هو القطع بارتفاع الحالة السابقة بوجود ما هو ضدّها قطعاً، والشكّ في ارتفاعه لاحتمال وجوده بعد وجود الحادث الآخر الموافق للحالة السابقة، فيكون مجرى للاستصحاب.

ولكن يرد عليه: أنّه أشبه بالمغالطة، لأنّه كما أنّ ضدّ الحالة السابقة وجد قطعاً وهو مشكوك الارتفاع، كذلك الحادث الآخر الموافق للحالة السابقة، فإنّه أيضاً قطعي الوجود ومشكوك الارتفاع فيستصحب. ويقع التعارض ويتساقطان.

ثمّ إنّ بعض الأعاظم اختار هذا المذهب (أي الأخذ بضدّ الحالة السابقة) في جميع صور المسألة إلّافيما إذا لم يكن معلوم التاريخ ضدّ الحالة السابقة، حيث قال: «والتحقيق عندي هو قول المحقّق رحمه الله في مجهولي التاريخ والتفصيل في معلومه بأنّه إن كان معلوم التاريخ هو ضدّ الحالة السابقة فكالمحقّق رحمه الله «1»، وإلّا فكالمشهور، وإن ينطبق المسلكان نتيجة أحياناً.

أمّا في مجهولي التاريخ فلأنّ الحدث أمر واحد له أسباب كثيرة، وتكون سببيّة الأسباب الكثيرة للشي ء الواحد سببيّة اقتضائيّة، بمعنى أنّ كلّ سبب يتقدّم

في الوجود الخارجي صار سبباً فعليّاً مؤثّراً في حصول المسبّب، وإذا وجد سائر الأسباب بعده لم تتّصف بالسببية الفعلية ... فإذا كان المكلّف متيقّناً بكونه محدثاً في أوّل النهار فعلم بحدوث طهارة وحدث بين النهار، وشكّ في المتقدّم والمتأخّر، يكون استصحاب الطهارة المتيقّنة ممّا لا إشكال فيه، ولا يجري استصحاب الحدث، لعدم تيقّن الحالة السابقة لا تفصيلًا ولا إجمالًا، فإنّ الحدث المعلوم بالتفصيل الذي كان متحقّقاً أوّل النهار قد زال يقيناً، وليس له علم إجمالي بوجود الحدث إمّا قبل الوضوء أو بعده لأنّ الحدث قبل الوضوء معلوم تفصيلي، وبعده مشكوك بالشكّ البدوي ... هذا حال مجهولي التاريخ، وأمّا إذا جهل تاريخ الحدث وعلم تاريخ الطهارة مع كون الحالة السابقة هو الحدث فاستصحاب الحدث لا يجري، لعين ما ذكرنا في مجهولي التاريخ من عدم انوار الأصول، ج 3، ص: 401

العلم الإجمالي بالحدث فلا تكون حالة سابقة متيقّنة للحدث، ولكن استصحاب الطهارة لا مانع منه ... وإذا جهل تاريخ الطهارة مع العلم بالحدث سابقاً وعلم تاريخ الحدث فإستصحاب المعلوم التاريخ يعارض استصحاب الطهارة المعلومة بالإجمال ونحكم بلزوم التطهّر عقلًا لقاعدة الاشتغال» «1».

أقول: وكأنّ منشأ الإشتباه في هذا الكلام هو مسألة فعليّة تأثير سبب الحدث وشأنية سببيته، والحال أنّه لا أثر لها في المقام فإنّا نعلم علماً قطعيّاً أنّ المكلّف كان محدثاً مقارناً للحدث الثاني بأي سبب كان (الحدث السابق أو الحدث اللاحق) والكلام إنّما هو في أصل وجود المسبّب، وهو قطعي في تلك الحالة، ثمّ نشكّ في إرتفاع هذا الحدث، فأركان الاستصحاب فيه تامّة.

وإن شئت قلت: التردّد في سبب وجود الشي ء بعد القطع بوجوده لا يوجب تعدّد وجود الشي ء أو الشكّ في أصل وجود المسبّب.

بقي هنا امور:

الأوّل: في

مقتضى الأصل العملي بعد تعارض الاستصحابين وتساقطهما.

وهو مختلف باختلاف المقامات، فإذا كانت الحالتان الطهارة والحدث، فالمرجع هو أصالة الاشتغال لأنّ الواجب إتيان الصّلاة مع الطهارة، والمفروض عدم وجودها لا بالوجدان ولا بالأصل لسقوطه بالمعارضة، وإذا كانت الطهارة، عن الخبث والنجاسة فيكون المرجع أصالة الطهارة (قاعدة الطهارة المأخوذة من قوله عليه السلام كلّ شي ء طاهر ...) ولا يخفى أنّ أصالة الطهارة غير استصحابها، وإن كانتا الكرّية والقلّة فالمرجع بعد تعارض أصالة عدم الكرّية وأصالة عدم القلّة إنّما هو استصحاب الطهارة الثابتة قبل الملاقاة بالنسبة إلى الملاقى (بالفتح) واستصحاب النجاسة الثابتة قبل الملاقاة بالنسبة إلى الملاقي (بالكسر).

الثاني: أنّ ما ذكرنا من جريان الاستصحاب أو عدم جريانه في المقام كان مختصّاً بمفاد كان التامّة، أو ليس التامّة، أي أصل وجود الحدث أو الوضوء أو عدمهما، ولا يجري بالنسبة إلى مفاد كان الناقصة (كان النوم متقدّماً على الوضوء أو بالعكس مثلًا) أو مفاد ليس الناقصة

انوار الأصول، ج 3، ص: 402

(لم تكن الطهارة متقدّمة على الحدث أو بالعكس مثلًا) لأنّه ليس له حالة سابقة متيقّنة كما لا يخفى.

الثالث: في كلام للمحقّق النائيني رحمه الله حيث يرجع إلى مسألة فقهية في باب الطهارة، وهى ما إذا كان هناك ماءان مشتبهان قليلان وكان الماء منحصراً بهما، فجاء في الحديث: «ويهريقهما ويتيمّم» سواء كان للإهراق موضوعيّة أو لم تكن فوقع البحث في أنّه هل هو حكم على القاعدة، أو يكون من التعبّد المحض؟

فيمكن أن يقال: أنّه تعبّد محض لأنّ مقتضى القاعدة الاحتياط بالتوضّي بكلّ واحد منهما، ثمّ إتيان الصّلاة به نظير إتيان الصّلاة في أربع جهات في مشتبه القبلة.

وقال بعض أنّه حكم على القاعدة في الجملة لأنّه بمجرّد وقوع القطرة الاولى من الماء الثاني

موضع إصابة الماء الأوّل قبل انفصال الغسالة يحصل له العلم التفصيلي بنجاسة اليد ثمّ يشكّ في زوال النجاسة وحصول الطهارة بعد انفصالها (لأنّه إن كان النجس هو الماء الأوّل كانت الغسالة طاهرة وإن كان النجس هو الماء الثاني كانت الغسالة نجسة) فيستصحب بقاء النجاسة فتبقى يده نجسة لا يمكن معها إتيان كلّ ما يشترط فيه الطهارة، والشارع المقدّس حذراً من وقوع المكلّف في هذه المحاذير أمر بإهراقهما والتيمّم.

المحقّق النائيني رحمه الله تصدّى لدفع هذه المشكلة وإثبات عدم تنجّس اليد في صورة عدم الإهراق، وبالمآل إثبات أنّ هذا الحكم ليس على القاعدة بل هو تعبّد محض، وذلك بتطبيق ما تبنّاه في مسألة توارد الحالتين على هذه المسألة فقال: «ومن هنا يظهر الحال في المغسول بمائين مشتبهين بالنجاسة ولو كان الغسل ثانياً بماء قليل، فإنّ نجاسة المغسول عند ملاقاة الماء الثاني وإن كانت معلومة تفصيلًا إمّا من جهة تنجّسه بملاقاته أو من جهة بقاء نجاسته السابقة من جهة ملاقاة الماء الأوّل، ومشكوك الارتفاع بانفصال الغسالة عنه، إلّاأنّ غاية ذلك هو جريان الاستصحاب في طرف النجاسة شخصياً، وهذا لا ينافي جريان الاستصحاب في طرف الطهارة كلّياً، ضرورة أنّ وجود الطهارة مع قطع النظر عن خصوصية كونه بعد الغسل بالماء الثاني أو قبله معلوم تفصيلًا ومشكوك بقاؤه وجداناً، فغاية الأمر هو وقوع المعارضة بين استصحاب الكلّي والشخصي (فيتعارضان ويتساقطان والمرجع أصالة الطهارة فيكون الحكم انوار الأصول، ج 3، ص: 403

بالإهراق تعبّد من الشارع)» «1».

أقول: يرد عليه ما مرّ آنفاً من أنّ تسمية هذا باسم استصحاب الكلّي لا يدفع المحذور، أي شبهة انفصال زمان اليقين عن زمان الشكّ بسبب القطع بوجود آنٍ معيّن في عمود الزمان محكوم بالنجاسة قطعاً.

التنبيه الثالث عشر: استصحاب الكتابي

وهو

نزاع وقع بين السيّد محمّد باقر القزويني رحمه الله (حينما قدم إلى قرية ذي الكفل من القرى الواقعة بين النجف وكربلاء وفي مسير زيارته) والعالم اليهودي بعد أن ادّعى جريان استصحاب نبوّة موسى وأجاب عنه القزويني بجواب اقتبسه ممّا روي عن الإمام الرضا عليه السلام «2» في جواب جاثليق العالم المسيحي، وهو «أنا مقرّ بنبوّة كلّ موسى أخبر بنبوّة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله وكافر بنبوّة كلّ موسى لم يقرّ بنبوّة محمّد صلى الله عليه و آله وكتابه». ولم يرتضه اليهود نظراً إلى أنّ موسى جزئي حقيقي لا كلّي يكون له مصاديق مختلفة.

أقول: لابدّ قبل الورود في أصل البحث من بيان مقدّمة، وهى أنّ هذا النزاع متفرّع على كون الإيمان أمراً وراء العلم واليقين، أي يمكن التفكيك بينهما، وإلّا لو كان الإيمان عين اليقين ولا يمكن التفكيك بينهما فلا فائدة في هذا النزاع، لأنّه لا يترتّب حينئذٍ على هذا الاستصحاب أثر علمي، نعم لو كان الإيمان أمراً وراء اليقين وهو فعل القلب أمكن جريان الاستصحاب فيه من جهة هذا الأثر لأنّه لا فرق هنا بين فعل الجوانح والجوارح.

والحقّ أنّ النسبة بين الإيمان واليقين العموم من وجه، فقد يحصل اليقين بشي ء من دون حصول الإيمان به، كما صرّح به في قوله تعالى: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً» «3»

، وقد ورد في اصول الكافي في ذيل هذه الآية عن الصادق عليه السلام في تفسير كفر الجحود (بعد أن قسّم الكفر على خمسة وجوه) «هو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنّه حقّ قد استقرّ

انوار الأصول، ج 3، ص: 404

عنده» «1».

وكذا العكس، كما يشهد به قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ

وَالطَّاغُوتِ» «2»

وقوله تعالى: «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ» «3»

، وقد ورد عن ابن أبي محمود عن الرضا عليه السلام: «فإنّ أدنى ما يخرج به الرجل عن الإيمان أن يقول للحصاة: هذه نواة. ثمّ يدين بذلك ويبرأ ممّن خالفه» «4».

وبالجملة أنّ حقيقة الإيمان هى الإقرار في القلب والتسليم القلبي (عقد القلب) وهو ممّا يمكن إنفكاكه عن العلم واليقين، فقد يحصل التسليم بشي ء في القلب مع أنّه لا يقين له به، كما في قضية الإيمان بالجبت والطاغوت في الآية، بل قد يكون اليقين بضدّه، كما في قضية الحصاة الواردة في الرواية، وقد يكون بالعكس كما في قضية فرعون وقومه.

إذا عرفت هذا فنقول: أنّ استصحاب الكتابي نبوّة موسى عليه السلام أو عيسى عليه السلام مختلّ من جهات شتّى:

1- إنّ منشأ حجّية الاستصحاب إن كان هو الأخبار الواردة من ناحية أئمّتنا عليهم السلام التي ترجع بالمآل إلى نبيّنا صلى الله عليه و آله فحجّية الاستصحاب تكون متوقّفة على قبول رسالته صلى الله عليه و آله فكيف يمكن أن يكون الاستصحاب دليلًا على عدم نبوّته؟ فليس هذا إلّامن قبيل ما يلزم من وجوده عدمه، وهو محال، وإن كان هو بناء العقلاء فكذلك، لأنّ حجّية هذا النبأ متوقّف على امضائه من جانب الأئمّة عليهم السلام فيعود المحذور، أو من جانب موسى عليه السلام ولا دليل عليه، أي لا دليل على عدم ردع هذا البناء في شريعة موسى عليه السلام لأنّها ليست مضبوطة، بل دخلت أيادي التحريف فيها، فلا يمكن أن يقال: أنّه لو صدر من جانب موسى عليه السلام ردع بالنسبة إلى هذا البناء لبان ولوصل إلينا.

2- نّ جريان الاستصحاب فرع لوجود يقين سابق بنبوّة موسى عليه السلام ولا

يقين لنا بها إلّا من طريق أخبار أئمّتنا أو الآيات الواردة في القرآن الكريم، وكلتاهما تلازم ثبوت نبوّة نبيّنا ونسخ شريعة موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام.

إن قلت: إنّ شريعة موسى أو عيسى عليه السلام ثابتة بالتواتر من التاريخ الموجب لليقين.

انوار الأصول، ج 3، ص: 405

قلنا: كلّا، هذا غير ثابت، وإن كان مشهوراً في كثير من الأعصار لأنّ مجرّد الشهرة غير كافية، وإن هو إلّامثل ما ادّعي من نبوّة زردشت مع أنّها مشكوكة، ومعاملة المجوس معاملة أهل الكتاب (كما ورد في رواياتنا) لا يدلّ على كون زردشت نبيّاً لولا تلك الروايات، بل ومع تلك الروايات أيضاً لأنّ زردشت لم يثبت كونه نبي المجوس.

3- من شرائط جريان الاستصحاب في مثل المقام هو الفحص إلى حدّ اليأس لأنّه وإن كان من الشبهات الموضوعيّة ولكنّه من الامور الإعتقاديّة بل هو أساس الأحكام ومنشأها ومبناها، فإذا كان الاستصحاب في حكم واحد مشروطاً بالفحص فما ظنّك بأساس الأحكام الإلهيّة كلّها؟

وبعبارة اخرى: يعتبر الفحص أيضاً في الموضوعات الإعتقاديّة كالشبهات الحكميّة كما صرّح به المحقّق الأصفهاني رحمه الله في تعليقته، وحينئذٍ نقول: إنّا بعد الفحص عن نبوّة نبيّنا لم يبق لنا شكّ في ثبوتها ونسخ شريعة موسى وعيسى عليهما السلام فليس الاستصحاب جارياً بالنسبة إلينا.

وبعبارة اخرى: إن كان المراد من الشكّ في كلام الكتابي هو الشكّ قبل الفحص فلا اعتبار به، وإن كان المراد به الشكّ بعد الفحص فهو منتفٍ.

4- لابدّ في المسائل الإعتقاديّة واصول الدين (كما أشرنا إليه في طليعة البحث) من تحصيل الجزم واليقين، وهو لا يحصل من طريق الاستصحاب ولو سلّمنا حجّيته.

5- إنّ ما ورد في كلام الإمام الرضا عليه السلام جواب صحيح في محلّه، ولكنّه وقع في مناظرة اليهودي

مورداً للمناقشة، لإشكال وقع في نقل السيّد القزويني رحمه الله، حيث إنّ المتيقّن المستصحب في نقله هو نبوّة كلّ عيسى عليه السلام أو موسى عليه السلام الذي أخبر عن نبوّة محمّد صلى الله عليه و آله، فأجابه الكتابي بأنّ المتيقّن هو وجود موسى عليه السلام وهو جزئي حقيقي لا يصدق على غير واحد، وهو معلوم لكم ولنا، وجعله كلّياً خلاف التحقيق، مع أنّ الوارد في كلام الرضا عليه السلام: «أنا مقرّ بنبوّة عيسى وكتابه وما بشّر به امّته وأقرّت به الحواريون» «1» أي نبوّة شخص عيسى عليه السلام وكتابه وما بشّر به، لا نبوّة كلّ عيسى، فهو عليه السلام يقول: «إنّ المتيقّن لنا ليس هو خصوص نبوّة عيسى فحسب، بل هى وما بشّر به امّته، أي كما إنّا نعلم بنبوّة عيسى عليه السلام نعلم أيضاً بأنّه بشّر

انوار الأصول، ج 3، ص: 406

بنبوّة محمّد صلى الله عليه و آله، وحينئذٍ لا يبقى لنا شكّ بالنسبة إلى نبوّة نبيّنا إذا لاحظنا العلامات التي ذكرها عيسى عليه السلام لتشخيص نبوّة محمّد صلى الله عليه و آله، فلا يمكن التفكيك بين نبوّة عيسى عليه السلام ونبوّة محمّد صلى الله عليه و آله ودعوى اليقين بأحدهما دون الآخر.

نعم، قد ورد في ذيل الكلام المزبور: «وكافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوّة محمّد وكتابه» ولكنّه محمول على صدره ويفسّر به، فالمراد من هذه العبارة كون الاعتراف بنبوّة عيسى عليه السلام (وهو وجود شخصي) مقيّداً بإخباره عن نبوّة محمّد صلى الله عليه و آله ولا يمكن العكس بأن يجعل الذيل تفسيراً للصدر لما هو المعلوم من الخارج أنّ عيسى عليه السلام كان جزئياً حقيقياً.

بقي هنا شي ء:

وهو تحقيق في كلام المحقّق الخراساني رحمه الله

في المقام، الذي يتلخّص في ثلاث مقامات:

الأوّل: في أنّه لا فرق في جريان الاستصحاب وحجّيته بين أن يكون المستصحب من الأحكام الفرعيّة أو الموضوعات الخارجيّة أو اللغويّة (إذا كانت ذات أحكام شرعيّة) وبين أن يكون من الامور الإعتقاديّة التي كان المهمّ فيها شرعاً هو الانقياد والتسليم والإعتقاد (بمعنى عقد القلب عليها) أي من الأعمال القلبيّة الاختياريّة، لأنّ ذاك من أعمال الجوارح وهذا من أعمال الجوانح، فلا إشكال في جريان استصحاب في كليهما موضوعاً وحكماً فيما إذا كان هناك يقين سابق وشكّ لاحق.

إن قلت: إنّ الاستصحاب أصل عملي فيجب إجراءه في الفروع العمليّة ولا معنى لإجرائه في الامور الإعتقاديّة.

قلنا: أنّ معنى كونه أصلًا عملياً أنّه وظيفة للشاكّ تعبّداً في ظرف شكّه وتحيّره في قبال الأمارات الحاكيّة عن الواقع الرافعة للشكّ ولو تعبّداً لا أنّه يختصّ بالفروع العمليّة المطلوب فيها عمل الجوارح، بل يعمّ عمل الجوانح أيضاً إذا تمّ فيها أركانه.

نعم، في الامور الإعتقاديّة التي كان المهمّ فيها شرعاً وعقلًا هو القطع بها ومعرفتها (لا خصوص الانقياد والتسليم القلبي) فلا مجال للاستصحاب موضوعاً بل يجري حكماً، فلو كان متيقّناً بوجوب تحصيل القطع بشي ء (كتفاصيل القيامة) في زمان وشكّ في بقاء وجوبه، يستصحب بقاء الوجوب، وأمّا لو شكّ في حياة إمام زمانه مثلًا فلا يستصحب، لأنّ الواجب انوار الأصول، ج 3، ص: 407

فيه تحصيل القطع والمعرفة به، ومن المعلوم أنّ الاستصحاب ممّا لا يجدي في حصولها. وحينئذٍ لابدّ لجريانه في هذا القسم من ترتّب أثر شرعي عليه، فهذا القسم من الامور الإعتقاديّة كسائر الموضوعات لابدّ في جريانه فيها من أن يكون في المورد أثر شرعي.

الثاني: فيما ينقدح ممّا ذكر في المقام الأوّل، وهو أنّه لا مجال للاستصحاب في نفس

النبوّة إذا كانت ناشئة من كمال النفس بمثابة يوحى إليها، لعدم الشكّ في بقائها، لكونها ممّا لا تزول بعد اتّصاف النفس بها لعدم كونها مجعولة شرعاً بل إنّها من الصفات الخارجيّة التكوينيّة، ولو فرضنا إمكان زوالها وعروض الشكّ عليها فلا يترتّب عليها أثر شرعي مهمّ حتّى نستصحبها، نعم لو كانت من المناصب المجعولة كالوكالة كانت بنفسها مورداً للاستصحاب، ولكن يحتاج الاستصحاب حينئذٍ إلى دليل غير منوط بتلك النبوّة وغير مأخوذ من ذلك الشرع، وإلّا لزم الدور كما لا يخفى، وهكذا إذا كان المراد من استصحابها استصحاب بعض أحكام شريعة من اتّصف بالنبوّة السابقة فلا إشكال في جريانه أيضاً.

الثالث: فيما يترتّب على المقامين الأوّلين، وهو أنّه لا موقع لتشبّث الكتابي باستصحاب نبوّة موسى عليه السلام أو عيسى عليه السلام أصلًا، لا الزاماً للمسلم ولا إقناعاً به.

أمّا إلزاماً للمسلم فلعدم شكّه في بقاء نبوّة موسى عليه السلام أو عيسى عليه السلام بل هو متيقّن بنسخها وإلّا فليس بمسلم، وبعبارة اخرى: أنّ المسلم ما لم يعترف بأنّه كان على يقين سابق فشكّ لم يلزم به.

وأمّا إقناعاً فلوجهين: أحدهما: لزوم معرفة النبي عقلًا بالفحص والنظر في حالاته ومعجزاته، لما عرفت من أنّ النبوّة هى من الامور الإعتقاديّة التي يجب فيها بحكم العقل تحصيل القطع والمعرفه به يقيناً، ومن المعلوم أنّ استصحاب النبوّة هو ممّا لا يجدي في حصولها.

ثانيهما: أنّه لا دليل على التعبّد ببقائها عند الشكّ فيه لا عقلًا ولا شرعاً، أمّا عقلًا فواضح، إذ ليس الحكم بالبقاء عند اليقين بالحدوث من مستقلّات العقل، وأمّا شرعاً فلأنّ الدليل الشرعي إن كان هو من الشريعة السابقة فاستصحاب النبوّة السابقة بسببه ممّا يستلزم الدور، وإن كان من الشريعة اللاحقة فيستلزم الخلف

(انتهى كلامه بتوضيح منّا).

أقول: أوّلًا: كان ينبغي أن يشير المحقّق الخراساني رحمه الله إلى الوجه الصحيح من بين الوجوه الثلاثة التي ذكر في تفسير النبوّة، وحيث إنّه لم يذكر مختاره فيه فنقول: أمّا المعنى الأوّل (وهو

انوار الأصول، ج 3، ص: 408

أن تكون النبوّة ناشئة من كمال النفس) فلا ريب في عدم صحّته لما سيأتي في بيان وجه المختار، وهكذا الوجه الثالث (وهو أن يكون المراد من النبوّة أحكام شريعة من اتّصف بها واستصحابها هو استصحاب بعض أحكامها) لما سيأتي أيضاً بل الصحيح إنّما هو المعنى الثاني (وهو كون النبوّة من المناصب المجعولة) كما يشهد عليه قوله تعالى: «إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً» «1»

حيث إنّ النبوّة والإمامة فيما يهمّنا في المقام على وزان واحد، وقوله تعالى: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ» «2»

، وقوله تعالى: «وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى» «3»

فإنّ هذه الآيات ونظائرها صريحة أو كالصريحة في كون النبوّة منصباً من المناصب المجعولة من ناحية الشارع فإنّ التعبير بالجعل والاختيار كالصريح في هذا المعنى، نعم هذا مقام لا يعطيه الحكيم إلّالمن تمّت القابلية فيه.

ثانياً: هيهنا وجه رابع في المراد من النبوّة وهو أن يكون المراد منها مجموع الأحكام والتعاليم الموجودة في تلك الشريعة السابقة، وهذا هو الصحيح المختار لأنّ من المسلّم أنّ انقضاء شريعة موسى وعيسى عليهما السلام ليست بمعنى عزلهما عن ذلك المنصب الإلهي أو بمعنى تنزّلهما عن تلك المرتبة من كمال النفس، بل إنّها بمعنى إنقضاء أمد شريعتهما وخروجها عن كونها ديناً رسميّاً للعباد، ولا يخفى أنّ هذا المعنى أيضاً لا يمكن استصحاب بقائه عند الشكّ فيه، لما مرّ من عدم وجود الدليل على الاستصحاب من غير ناحية الشريعة الإسلاميّة ولغيّره ممّا مرّ ذكره، ولو فرضنا

وجود الدليل على الاستصحاب في نفس الشريعة السابقة فأيضاً لا يمكن التمسّك به لإثبات بقاء أحكام تلك الشريعة، لما أفاده بعض الأعلام من «أنّ حجّية الاستصحاب من جملة تلك الأحكام فيلزم التمسّك به لإثبات بقاء نفسه وهو دور ظاهر» «4».

ثالثاً: لو فرضنا كون النبوّة أمراً تكوينياً فلا يمكن الإيراد على جريان الاستصحاب فيه بعدم ترتّب أثر عملي شرعي عليه لأنّ وجوب الإعتقاد القلبي به وعقد القلب عليه أثر عملي جانحي شرعي، وإن كان الكاشف عنه هو العقل، نظير وجوب المقدّمة.

التنبيه الرابع عشر: استصحاب حكم المخصّص

إذا خصّص العام وخرج منه بعض الأفراد في بعض الأزمنة ولم يكن لدليل الخاصّ اطلاق أزماني إمّا لكونه لبّياً كالإجماع، أو لكونه لفظيّاً لا اطلاق له، وتردّد الزمان الخارج بين الأقل والأكثر، فهل يرجع عند الشكّ أي بعد انقضاء الزمان الأقل إلى عموم العام أو إلى استصحاب حكم المخصّص؟ فإذا قال مثلًا أكرم كلّ عالم وقام الإجماع على حرمة إكرام زيد العالم في يوم الجمعة، ووقع الشكّ في حرمة إكرامه يوم السبت فهل يرجع في يوم السبت إلى عموم العام من وجوب الإكرام، أو إلى استصحاب حكم الخاصّ من حرمة الإكرام؟

ومثاله الشرعي اوفوا بالعقود، فإنّه لا شكّ في أنّ له عموماً افرادياً لأنّ «العقود» جمع معرّف باللام، وهو من صيغ العموم، فإذا جاء دليل خيار الغبن وأخراج المعاملة الغبنية مثلًا عن تحت هذا العموم وعلمنا بخروجها عن تحت هذا العام في الآن الأوّل من الالتفات إلى الغبن والضرر، وشككنا في خروجها في الأزمنة المتأخّرة عن الآن الأوّل فهل المرجع هو عموم العام والحكم باللزوم في سائر الأزمنة حتّى يكون الخيار فورياً، أو استصحاب حكم المخصّص حتّى يكون الخيار على التراخي؟ (ولا يخفى أنّ هذا النزاع

جارٍ بناءً على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة).

وهو ممّا لم يعنون بوضوح في كلمات قدماء الأصحاب، ولعلّ أوّل من عنونه تفصيلًا هو الشيخ الأعظم في رسائله، فإنّه فصّل فيه بين ما إذا كان للعام عموم أزماني كعمومه الإفرادي فيرجع إلى عموم العام، وبين ما إذا لم يكن له عموم كذلك وإن كان الحكم فيه للاستمرار والدوام إمّا بالنصوصيّة أو بالإطلاق فيرجع إلى استصحاب حكم المخصّص.

قد يقال في مقام توضيح هذا التفصيل: أنّه إذا كان العام بحسب عمومه الأزماني أيضاً انحلالياً مثل عمومه الافرادي بمعنى كون كلّ قطعة من الزمان موضوعاً مستقلًا لحكم العام بحيث لا يكون إمتثال الحكم أو عصيانه في تلك القطعة مربوطاً بالإمتثال والعصيان في سائر القطعات، بل يكون لكلّ قطعة إمتثاله وعصيانه، ففي هذه الصورة خروج قطعة من الزمان عن تحت العموم الأزماني لا يضرّ بوجود أصالة العموم بالنسبة إلى القطعات الاخر، إذ حال أصالة العموم بناءً على هذا بالنسبة إلى الأزمان حال أصالة العموم بالنسبة إلى الافراد، وأمّا إذا لم يكن كذلك، أي لم تكن كلّ قطعة من الزمان موضوعاً مستقلًا بل كان مجموع القطعات انوار الأصول، ج 3، ص: 410

موضوعاً واحداً، فلا يبقى مجال للتمسّك بعموم العام، فإن شكّ في حكم هذا الفرد بقاءً بعد خروجه عن تحت العام فلا مفرّ عن الرجوع إلى الاستصحاب.

وأمّا المحقّق الخراساني رحمه الله فقد إفترض للمسألة أربع صور، وحكم في صورتين منها بأنّ المرجع عموم العام وهما ما إذا كان للعام عموم أزماني وكان الزمان في الخاصّ قيداً لموضوعه، أو كان الزمان في الخاصّ ظرفاً لثبوت حكمه.

وحكم في صورة ثالثة منها بأنّ المرجع استصحاب حكم الخاصّ، وهى ما إذا كان الزمان ظرفاً لثبوت الحكم في

كلّ واحد من العام والخاصّ.

ثمّ استدرك بأنّه لو كان الخاصّ غير قاطع لاستمرار حكم العام كما إذا كان الخاصّ مخصّصاً له من الأوّل لما ضرّ بالتمسّك بالعام حينئذٍ في غير مورد دلالة الخاصّ بل يكون أوّل زمان استمرار حكم العام بعد زمان دلالة الخاصّ، فإذا قال مثلًا اوفوا بالعقود وخصّص أوّله بخيار المجلس في الجملة على نحو تردّد الخيار بين أن يكن هو في المجلس الحقيقي عيناً أو فيه وما يقرب منه صحّ التمسّك بعموم اوفوا بالعقود لإثبات اللزوم في غير المجلس الحقيقي ولو كان ممّا يقرب منه، بخلاف ما إذا قال اوفوا بالعقود وخصّص وسطه بخيار الغبن أو العيب ونحوهما وتردّد الخيار بين الزمان الأقل والأكثر، فلا يصحّ التمسّك بعموم اوفوا بالعقود لإثبات اللزوم بعد انقضاء الزمان الأقل.

وحكم في صورة رابعة بأنّ المرجع سائر الاصول، وهى ما إذا كان الزمان ظرفاً لثبوت حكم العام وقيداً لموضوع الخاصّ، لأنّ المفروض عدم العموم الأزماني للعام حتّى يرجع إليه، وأنّ الزمان قيد لموضوع الخاصّ فلا يمكن الاستصحاب فيه لتبدّل الموضوع (انتهى كلامه).

أقول: هيهنا امور تجب الإشارة إليها:

الأوّل: أنّه لا يصحّ التفكيك بين العام والخاصّ بجعل الزمان في أحدهما قيداً وفي الآخر ظرفاً، لأنّ المفروض أنّ الخاصّ بعض افراد العام وداخل فيه ثمّ خرج، فإن لم يكن قيداً ودخيلًا في المصلحة أو المفسدة ففي كليهما، وإن كان قيداً ودخيلًا فيها ففي كليهما أيضاً، وحينئذٍ تصير الصور المتصوّرة في المسألة اثنتين لا أربعة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 411

الثاني: أنّه لا مانع من استصحاب حكم الخاصّ حتّى في الصورة الرابعة لأنّ الزمان فيها وإن كان قيداً ولكنّه ليس قيداً للموضوع حتّى يتبدّل الموضوع بمضيّه، بل إنّه قيد للحكم في أمثال المقام

غالباً، فلا إشكال في أنّ يوم الجمعة في مثال، لا تكرم زيداً يوم الجمعة لا يكون قيداً لا لزيد الذي يكون موضوعاً لوجوب الإكرام ولا للإكرام الذي يكون متعلّقاً للوجوب، بل إنّه قيد لنفس الوجوب، وحينئذٍ يكون الموضوع السابق باقٍ على حاله ويستصحب حكمه.

الثالث: إنّ ما ذكره من الاستدراك في القسم الثالث من إمكان الرجوع إلى العام فيما إذا كان التخصيص من الأوّل لا يمكن المساعدة عليه، لأنّ المفروض أنّ الحكم في العام واحد مستمرّ ولا ينحلّ ولا يفرّد بالزمان، وحينئذٍ إذا انقطع هذا الحكم بالتخصيص ولو كان من الأوّل يحتاج إثباته بعد الانقطاع إلى دليل.

ثمّ إنّ بعض الأعلام بعد أن فسّر تفصيل الشيخ الأعظم رحمه الله (بين ما إذا كان للعام عموم أزماني وما إذا لم يكن له عموم أزماني) بأنّ العموم الأزماني تارةً يكون على نحو العموم الاستغراقي واخرى يكون على نحو العموم المجموعي، إستشكل عليه بأنّه مخالف لما نقّحناه في بحث العام والخاصّ من عدم الفرق في جواز الرجوع إلى العام بين كونه استغراقياً أو مجموعياً، فكما لا فرق بينهما في الأفراد العرضيّة ويرجع إلى العموم في غير ما علم خروجه بمخصّص سواء كان بنحو العموم الاستغراقي (كما في مثال أكرم العلماء) أو كان بنحو العموم المجموعي (كما في مثال أكرم هذه العشرة، فيما إذا كان المراد إكرام مجموع العشرة من حيث المجموع ثمّ علمنا بخروج زيد منها) لأنّ التخصيص (تخصيص مجموع العشرة بزيد) لا يمنع شمول العام للاجزاء الاخر، كذلك لا فرق بين العموم الاستغراقي والعموم المجموعي بالنسبة إلى الأفراد الطوليّة في جواز الرجوع إلى العام مع الشكّ في التخصيص، غاية الأمر أنّه يثبت بالرجوع إلى العموم الاستغراقي حكم استقلالي، وبالعموم

المجموعي حكم ضمني للجزء المشكوك فيه «1».

انوار الأصول، ج 3، ص: 412

أقول: الحقّ هو وجود الفرق بين العام الاستغراقي والعام المجموعي في المقام، وما أرسله إرسال المسلّم في باب العام والخاصّ في غير محلّه، وذلك لأنّ العام في العموم الاستغراقي كلّي له أفراد كثيرة ويتعدّد الحكم فيه بتعدّد افراده فإذا خرج فرد واحد بقيت سائر الافراد على حالها.

بخلاف العموم المجموعي فإنّ العام فيه وجود واحد مستمرّ له أمر واحد، وتعلّق هذا الأمر بالمجموع بما هو مجموع، فإذا خرج جزء منه سقط الأمر المتعلّق بالمجموع، ولا أمر آخر يثبت الحكم به، ولذلك يكون مقتضى القاعدة في صيام شهر رمضان سقوط الصيام عن الوجوب إذا اضطرّ المكلّف بالأكل أو الشرب ولو في ساعة، إلّاأن يدلّ دليل خاصّ على بقاء الوجوب كما في ذي العطاش على قوله، وكما أنّه قد يقال بذلك في باب الصّلاة في فاقد الطهورين لأنّ المفروض أنّ الصّلاة والطهارة كأمر واحد لا يمكن التفكيك بينهما.

ولذلك لا يتمسّك الفقهاء لإثبات بقاء الوجوب بعموم العام في هذه الموارد بل يستدلّون بقاعدة الميسور.

نعم إذا كان الخاصّ في العام المجموعي متّصلًا كما إذا قال: «أكرم مجموع العشرة إلّازيداً» كان العموم بعد إخراج الفرد المخصّص باقياً على حاله، لأنّ العام ينعقد ظهوره في الباقي من الأوّل.

وخلاصة الكلام أنّ هيهنا أقساماً ثلاثة من العموم:

1- العموم الاستغراقي، كما إذا قال اوفوا بالعقود في كلّ يوم.

2- العموم المجموعي، كما إذا قال: اوفوا بالعقود في مجموع الأيّام.

3- العموم المستفاد من مقدّمات الحكمة ومن طريق الاطلاق، كما أنّه كذلك في قوله تعالى «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ».

وقد ظهر ممّا ذكر ما هو الصحيح في القسم الأوّل والثاني، وأمّا الثالث فلا يمكن الرجوع فيه إلى العام، وذلك لأنّ العموم

الأزماني هنا متفرّع على العموم الأفرادي فإذا دخل فرد من العقود تحت «اوفوا بالعقود» أمكن دعوى الاطلاق فيه من حيث الأزمان بمقدّمات الحكمة، وأمّا إذا خرج فرد منه ولو على بنحو الإبهام كما في خيار الغبن فلا يمكن دعوى الاطلاق فيه بعد ذلك، لأنّ دعوى الاطلاق فرع بقاء هذا العقد (العقد الغبني) تحت اوفوا بالعقود، فإذا خرج انوار الأصول، ج 3، ص: 413

منه بالتخصيص لا يبقى مجال للأخذ بالإطلاق، فتأمّل.

التنبيه الخامس عشر: في المراد من الشكّ في المقام

هل المراد من الشكّ الوارد في أخبار الاستصحاب خصوص تساوي الطرفين، أو المراد منه الأعمّ منه ومن الظنّ والوهم؟ فقد ذكر لإثبات المعنى الثاني وجوه:

منها: ما يستفاد من نفس أخبار الباب، ففيها إشارات كثيرة تدلّ على العموم، كما ذكره شيخنا العلّامة الأنصاري:

1- مقابلة الشكّ باليقين في جميع أخبار الباب فإنّ ظاهرها عدم وجود شقّ ثالث في البين.

2- قوله عليه السلام «ولكن ينقضه بيقين آخر» فإنّه ظاهر أنّ ناقض اليقين منحصر في اليقين فقط.

3- قوله عليه السلام في صحيحة زرارة الاولى: «فإن حرّك إلى جنبه شي ء وهو لا يعلم به ...» فإنّ ظاهره فرض السؤال فيما كان معه أمارة النوم.

4- قوله عليه السلام: «لا حتّى يستيقن أنّه قد نام» حيث جعل غاية وجوب الوضوء اليقين بالنوم ومجي ء أمر بيّن منه.

5- قوله عليه السلام في صحيحة زرارة الثانية: «فلعلّه شي ء أوقع عليك ...» لأنّ كلمة لعلّ ظاهرة في مجرّد الاحتمال، ولا أقلّ أنّها أعمّ من الشكّ والوهم الذي يلازم الظنّ بالخلاف.

6- قوله عليه السلام: «صم للرؤية وافطر للرؤية» حيث إنّه فرّع على قوله عليه السلام: «اليقين لا يدخله الشكّ» فهو ظاهر في حصر ناقض اليقين في الرؤية واليقين.

ومنها: شهادة كلمات اللغويين، فعن الصحاح أنّه خلاف اليقين، ولكن في

المفردات:

«الشكّ اعتدال النقيضين عند الإنسان وتساويهما».

وعليه يشكل الركون إلى ما نقل عن الصحاح.

نعم، يؤيّده موارد استعماله في كتاب اللَّه الكريم فإنّه ورد في خمسة عشر مورداً منه كلّها

انوار الأصول، ج 3، ص: 414

استعملت في المعنى الأعمّ كقوله تعالى: «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ» «1»

حيث إنّ المراد منه «إن كنت لا تعلم» كما لا يخفى، وقوله تعالى: «قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ» «2»

من الواضح أنّه أيضاً أعمّ.

ومنها: الإجماع: فإنّ جميع القائلين بحجّية الاستصحاب اتّفقوا على أنّ المراد من الشكّ في أخبار الاستصحاب إنّما هو المعنى الأعمّ.

لكن فيه أوّلًا: أنّه لا أقلّ من كونه محتمل المدرك، وثانياً: أنّه من قبيل الإجماع المركّب حيث إنّه في الواقع يرجع إلى أنّ الفقهاء بين قائل بعدم حجّية الاستصحاب وقائل بحجّيته في المعنى الأعم، ولا دليل على حجّية الإجماع المركّب.

ومنها: أنّ الظنّ غير المعتبر لا يخلو من وجهين: أمّا الظنّ القياسي الذي قام الدليل على عدم حجّيته وبطلانه فلا يعتنى به في جريان الاستحباب، أو الظّن غير القياسي الذي يكون مشكوك الحجّية فهو ينتهي إلى الشكّ فلا يمكن نقض اليقين به.

ولكنّه أيضاً غير تامّ بكلا شقّيه، أمّا بالنسبة إلى شقّه الأوّل (أي الظنّ القياسي) فلأنّ أدلّة بطلان القياس ليست ناظرة إلى أدلّة الاستصحاب أصلًا، بل إنّ مفادها أنّ الظنّ لا يكون كاشفاً عن الواقع، وأمّا بالنسبة إلى شقّه الثاني فكذلك، لأنّ المراد من عدم الحجّية عدم الكشف عن الواقع.

التنبيه السادس عشر: اعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب
اشارة

وهو ممّا ذكر في كلمات الأصحاب بعنوان الخاتمة، مع أنّه لا فرق بينه وبين سائر الامور التي ذكرت تحت عنوان التنبيهات، ولذا ألحقناه بها، وكذا ما يليه من الامور المذكورة في الخاتمة.

وكيف كان، فقد ذهب أكثر المحقّقين إلى

أنّ جريان الاستصحاب فرع لبقاء موضوع انوار الأصول، ج 3، ص: 415

المستصحب وإحرازه في الزمان اللاحق، ثمّ تكلّموا بعد ذلك عن أنّه هل اللازم كون ذلك بالنظر الدقيق العقلي أو يكفي بقاءه عند العرف أو لابدّ من ملاحظة ما أخذ موضوعاً في لسان الدليل؟

ولكن بعضهم كالمحقّق الخراساني رحمه الله عبّر عن هذا باتّحاد القضيتين المتيقّنة والمشكوكة، ولازمه وحدة كلّ من الموضوع والمحمول فيهما.

واستدلّ لذلك بأنّه ظاهر أدلّة الاستصحاب ولازم قوله عليه السلام: «لا تنقض اليقين بالشكّ» حيث إنّه لو لم يكن موضوع القضيتين متّحداً كاتّحادهما محمولًا لم يكن رفع اليد عن اليقين في محلّ الشكّ نقضاً لليقين بالشكّ، بل لا يكون نقضاً أصلًا، فإذا تيقّن مثلًا في السابق بعدالة زيد وشكّ فعلًا في عدالة عمرو لا يكون الشكّ حينئذٍ في بقاء ما كان، كما لا يكون رفع اليد عن اليقين بعدالة عمرو نقضاً لليقين بالشكّ، وكذا إذا علم بعدالة زيد ثمّ شكّ في وكالته مثلًا عن عمرو.

هذا مضافاً إلى أنّه لو لم يكن موضوع القضيتين متّحداً كاتّحادهما محمولًا لم يصدق الشكّ في البقاء كما لا يخفى.

أقول: الصحيح في المقام أن يقال: إنّ المراد من بقاء الموضوع في كلمات القوم إنّما هو وجود الموضوع في الزمان اللاحق، أي يعتبر في الاستصحاب أن يكون الموضوع موجوداً حينما يكون الحكم مشكوكاً، مضافاً إلى اعتبار وحدة القضيتين، ولا ريب في أنّ أحدهما غير الآخر.

والشاهد على اعتبار وجود الموضوع نفس أخبار الباب حيث إنّ المشكوك في موردها إنّما هو بقاء الحكم (كبقاء الوضوء في حديث زرارة) مع فرض بقاء الموضوع ووجوده حين الشكّ.

إن قلت: إنّه ينتقض باستصحاب وجود الأشياء عند الشكّ في بقائها، حيث إنّ الشكّ حينئذٍ إنّما هو في وجود

الموضوع في الزمان اللاحق على نحو مفاد كان التامّة، ومع إحراز وجود الموضوع في الزمان اللاحق لا معنى لهذا الشكّ.

قلنا: إنّ معنى وجود الموضوع هو تحقّق الموضوع في اللاحق على نحو تحقّقه في السابق، فإن كان تحقّقه في السابق تحقّقاً ماهوياً كما في مفاد كان التامّة، نحو «زيد كان موجوداً» بأن كان الموضوع (وهو زيد في المثال) بتقرّره الماهوي موضوعاً للاستصحاب كان المعتبر تحقّقه في انوار الأصول، ج 3، ص: 416

الزمان اللاحق كذلك، وإن كان تحقّقه في السابق خارجياً بأن كان بوجوده الخارجي موضوعاً للاستصحاب، كما في مثل قولك: «كان زيد عادلًا» وشككنا الآن في عدالته فيعتبر وجوده في اللاحق خارجاً، وإن كان تحقّقه في السابق في عالم الاعتبار كالملكيّة والزوجيّة فيعتبر وجوده في اللاحق في عالم الاعتبار أيضاً.

وكيف كان، يعتبر في حجّية الاستصحاب بقاء الموضوع بمعنى وجوده في الزمان اللاحق على نحو وجوده في الزمان السابق، والدليل عليه ظاهر أخبار الباب كما مرّ، فإنّ المشكوك فيها هو الحكم بعد إحراز وجود الموضوع.

ثمّ إنّ الشكّ قد يكون من قبيل الشبهات الموضوعيّة وقد يكون من قبيل الشبهات الحكميّة، والشبهات الموضوعيّة قد تكون على نحو مفاد كان التامّة، كما إذا كان الشكّ في وجود زيد، وقد تكون على نحو مفاد كان الناقصة، كما إذا كان الشكّ في بقاء كرّية الماء، والشبهات الحكميّة أيضاً على قسمين: تارةً يكون الشكّ في الحكم بوجوه الإنشائي، واخرى يكون الشكّ فيه بوجوده الفعلي.

هذه أقسام أربعة.

ولا إشكال في جريان الاستصحاب في القسم الأوّل، ولا يتصوّر فيه دعوى تبدّل الموضوع كما لا يخفى، بخلاف القسم الثاني، حيث يتصوّر فيه دعوى تبدّل الموضوع، فإذا أخذنا من الكرّ مقداراً من الماء وشككنا في بقاء كرّيته أمكن أن

يدّعي أنّ هذا الماء ليس هو الماء السابق بالدقّة العقليّة، فيجري فيه ما سيأتي من المدار في بقاء الموضوع هل هو العقل أو العرف أو غيرهما؟ فانتظر.

وأمّا الشبهات الحكميّة ففي القسم الأوّل منها، أي ما إذا كان الشكّ في بقاء الحكم الإنشائي وبالمآل في نسخه وعدمه فقد يقال: لا يتصوّر فيه أيضاً تبدّل الموضوع نظراً إلى رجوع إلى الشكّ في وجود الإنشاء وعدمه (ولكنّه غير خالٍ عن الإشكال كما سيأتي) كما في القسم الأوّل من الشبهات الموضوعيّة، بخلاف القسم الثاني منها، نظير ما إذا شككنا في بقاء نجاسة الماء المتغيّر الذي زال عنه التغيّر، فيجري فيه أيضاً- كالقسم الثاني من الشبهات انوار الأصول، ج 3، ص: 417

الموضوعيّة- ما سيأتي من النزاع في ميزان التبدّل كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم الأنصاري استدلّ لإعتبار وجود الموضوع بإستحالة إنتقال العرض من موضوع إلى موضوع آخر (للزوم الطفرة، وهى مستلزمة لكون العرض بلا معروض ولو آناً مّا في حال الانتقال والتحوّل) وذلك في المقام من باب إنّ الموضوع بمنزلة معروض للحكم فيلزم من انتقال الحكم من موضوع إلى موضوع آخر- كانتقال الحرمة من الماء المتغيّر إلى الماء الذي زال عنه التغيّر- انتقال العرض من معروض إلى معروض آخر.

ولكن يرد عليه: أوّلًا: أنّ هذا أيضاً من قبيل الخلط بين الحقائق والاعتباريات، فإنّ إستحالة انتقال العرض إنّما يتصوّر في الامور التكوينيّة لا الاعتباريّة كالوجوب والحرمة لأنّها ليست من الأعراض في الحقيقة.

وثانياً: أنّه لا دليل على هذه الإستحالة بل أنّه من قبيل الشبهة في البديهيات، حيث إنّا نجد بوجداننا إنتقال الأعراض من معروض إلى معروض آخر كانتقال الحرارة من الماء إلى الإناء، وكذلك انتقال البرودة من أحدهما إلى الآخر، مثلًا قد يكون مقدار

حرارة الماء عشرين درجة ثمّ يصبّ في إناء يكون درجته على حدّ الصغر فتنخفض درجة الماء إلى عشرة، حينما بلغت درجة حرارة الإناء أيضاً عشرة، فمن أين جاءت هذه العشرة؟ وإلى أين ذهبت تلك العشرة؟ وهل هى إلّابانتقالها من أحدهما إلى الآخر، بل المنظومة الشمسيّة لا تزال محلًا لهذا الانتقال في جميع آنات الليل والنهار، فكيف يكون إنتقال العرض محالًا؟

ثالثاً: سلّمنا، ولكنّه أخصّ من المدّعى لأنّ جميع موارد الاستصحاب ليست من قبيل العرض والمعروض، بل قد تكون من قبيل الوجود والماهيّة، كما في مفاد كان التامّة (كان زيد) ولا إشكال أنّ الوجود ليس من عوارض الماهيّة.

إلى هنا قد ظهر ممّا ذكرنا أنّه يعتبر بقاء الموضوع (إمّا بمعنى وجود الموضوع أو بمعنى اتّحاد القضيتين كما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله أو كليهما كما هو المختار) في جريان الاستصحاب.

المعيار في بقاء الموضوع:

ثمّ إنّه هل اللازم بقاء الموضوع العقلي الدقّي أو الموضوع المأخوذ في لسان الدليل، أو الموضع العرفي؟ ففيه وجوه ثلاثة.

إن قلت: لا معنى للتردّد بين هذه الامور الثلاثة فانّ من الواضح لزوم التبعية عن لسان الدليل، وإنّما العقل كاشف عن حكم الشرع وليس مشرّعاً، وكذلك العرف، فلا يصحّ جعلهما في عرض لسان الدليل.

قلنا: ليس المراد من هذا الترديد كون العقل والعرف في مقابل الشرع، بل المقصود منه إنّا إذا أردنا تطبيق ما ورد من جانب الشارع (أي قوله: لا تنقض ...) على مورد الاستصحاب كان المعتبر فيه هل الجمود على ظاهر الدليل، أو ملاحظة ما يراه العقل بالنظر الدقّي، أو ما يفهمه العرف؟

فإذا ورد من الشارع مثلًا «الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجّسه شي ء» وشككنا في أنّ هذا الماء كرّ أم لا (على نحو الشبهة الموضوعيّة) مع

أنّه كان في السابق كرّاً، فهل الميزان في بقاء موضوع الكرّية أي عنوان «هذا الماء» نظر العرف حتّى يصدق قوله عليه السلام «لا تنقض اليقين بالشكّ» لأنّ هذا الماء نفس ما كان سابقاً بنظر العرف ولا يضرّ أخذ مقدار من الماء بصدق عنوان «هذا»، فيكون الموضوع باقياً فيجري الاستصحاب، أو الميزان بقاء «هذا» بنظر العقل فلا ينطبق عليه قوله عليه السلام: «لا تنقض ...» لأنّ هذا الماء غير ما كان سابقاً بالنظر العقلي الدقّي فلا يكون الموضوع باقياً فلا يجري الاستصحاب؟

وهكذا فيما إذا كان الشبهة حكميّة كما إذا صار الماء نجساً بالتغيّر، والآن زال عنه التغيّر، فإن كان المعيار نظر العقل فلا يكون الموضوع باقياً، وإن كان هو نظر العرف يكون باقياً، وإن كان الميزان الجمود على ما ورد في لسان الدليل وفرضنا أنّ الوارد فيه «أنّ الماء المتغيّر نجس» فقد تبدّل الموضوع بزوال التغيّر، وإن فرضنا أنّ الوارد فيه «الماء نجس إذا تغيّر» فالموضوع باقٍ على حاله كما لا يخفى.

وإن شئت قلت: (كما قاله بعض الأعلام): أنّ المقصود من هذا الترديد أنّه هل المرجع في بقاء الموضوع هو الدليل الأوّل (الدالّ على المتيقّن سابقاً) أي ما يدلّ على نجاسة الماء حين التغيّر، حتّى يلاحظ ما ورد في لسانه من الموضوع وإنّه هل هو «الماء المتغيّر» أو «الماء» مطلقاً،

انوار الأصول، ج 3، ص: 419

بأن كان جريان الاستصحاب تابعاً لبقاء الموضوع المأخوذ في لسانه، أو المرجع هو الدليل الثاني الدالّ على الإبقاء في ظرف الشكّ أي قوله «لا تنقض اليقين بالشكّ» حتّى يكون جريان الاستصحاب تابعاً لصدق النقض والمضيّ في نظر العرف أو نظر العقل؟

نعم الترديد بين الثلاث إنّما هو في الشبهات الحكميّة، وأمّا في الشبهات الموضوعيّة

فالترديد ثنائي بين العقل والعرف لأنّ الموضوع الجزئي لا يؤخذ من لسان الدليل «1».

وقد ظهر ممّا ذكرنا ثمرة هذه المسألة حيث عرفنا أنّه إذا كان المعيار نظر العرف فكثيراً ما يكون الموضوع في مفاد كان الناقصة باقياً إلى زمان الشكّ فيجري الاستصحاب، وأمّا إذا كان الميزان نظر العقل فلا يجري الاستصحاب فيه أصلًا، لأنّ حصول الشكّ فرع حصول تغيير في الموضوع، ومعه لا يكون الموضوع باقياً في الآن اللاحق عقلًا، وإن كان الميزان هو الجمود على ظاهر الدليل الدالّ على ثبوت الحكم سابقاً فلابدّ من الرجوع إليه.

إذا عرفت هذا فنقول: لا ريب أنّ الميزان في بقاء الموضوع إنّما هو نظر العرف، أي صدق النقض وعدم النقض عرفاً، كما أنّه كذلك في جميع الموضوعات الواردة في لسان الأدلّة، وذلك لأنّ المفاهيم الموجودة في أدلّة الأحكام نازلة على المتفاهم العرفي.

وتوضيحه: أنّ القيود المأخوذة في الموضوع في لسان الأدلّة على قسمين:

قيود تكون في نظر العرف من المقوّمات كميعان الماء، فلا يجري استصحاب النجاسة إذا صار الماء بخاراً، وهذا إذا صار الكلب الواقع في المملحة ملحاً، أو صار الخشب النجس رماداً ودخاناً، وذلك لعدم صدق النقص على رفع اليد عن الحكم السابق.

وقيود تكون من الحالات كالتغيّر في الماء المتغيّر بالنجس، فإنّ الموضوع للنجاسة مطلق الماء فيجري استصحاب النجاسة لصدق نقض اليقين بالشكّ على رفع اليد عن حكم النجاسة، ولقد أجاد من نظّر هذا بما ثبت في الفقه في باب الخيارات بأنّه لو قال البائع: «بعتك هذا الفرس العربي» فبان كونه حماراً يكون البيع باطلًا، لكون الصورة النوعية مقوّمة المبيع، ولكن لو بان كونه فرساً غير عربي فالبيع صحيح مع خيار تخلّف الوصف، لعدم كون الوصف مقوّماً للمبيع بنظر العرف،

وهكذا وصف الصحّة المبنيّ عليها العقد فإنّ تخلّفها لا يوجب الخيار.

انوار الأصول، ج 3، ص: 420

وإن شئت قلت: بيع الموصوف مع الوصف في أمثال هذه المقامات من قبيل تعدّد المطلوب عرفاً (والمعيار كونه كذلك في نظر نوع الناس دون الأشخاص) فإذا تخلّف أحد المطلوبين لم يضرّ بالآخر وإن كان الخيار ثابتاً لتخلّف بعض المطلوب، نعم قد يكون الوصف أيضاً مقوّماً في نظر نوع الناس نظير وصف الصحّة في الشاة المبتاعة في منى في مناسك الحجّ، فإذا باع شاة وانكشف كونها معيوبة يحتمل كون البيع باطلًا (لا أنّه صحيح مع خيار العيب) فإنّه لا يتعلّق غرض غالباً بالمعيب هناك فتأمّل.

إن قلت: من أين نعلم أنّ هذا الوصف مقوّم أو من الحالات؟

قلنا: نفهمه من مناسبات الحكم والموضوع، ففي باب الطهارة والنجاسة يحكم العرف بأنّ موضوع النجاسة إنّما هو مطلق الماء من دون دخل للون والطعم أو لاريح فيها بل إنّهما من الحالات، وفي باب التقليد عن العالم يحكم بأنّ العلم من المقوّمات، فإذا عارضه النسيان لا يمكن استصحاب جواز تقليده لأنّ مناسبة الحكم والموضوع تقتضي أنّ موضوع جواز التقليد إنّما هو زيد بما أنّه عالم، ومن هنا قد يكون شي ء واحد من الحالات بالنسبة إلى حكم، ومن المقوّمات بالنسبة إلى حكم آخر. كوصف العلم فإنّه مقوّم في المثال المذكور وغير مقوّم بالنسبة إلى جواز الإقتداء به.

إن قلت: ما هو المرجع فيما إذا شككنا في كون وصف من المقوّمات أو من الحالات؟ كما إذا صار الخمر خلًاّ وشككنا في بقاء نجاسته مع قطع النظر عمّا ورد في باب الانقلاب فهل الخمرية من مقوّمات موضوع النجاسة أو أنّها من الحالات؟

قلنا: لا يجوز الاستصحاب حينئذٍ لأنّه لابدّ فيه من إحراز بقاء

الموضوع، وبعبارة اخرى: أنّه من موارد الشبهة المصداقيّة لدليل «لا تنقض» فلا يمكن الرجوع إلى عموم أدلّة الاستصحاب بل المرجع سائر الاصول.

إن قلت: أليس ما ذكرت من قبيل الرجوع إلى العرف في المسامحات العرفيّة التي لا تتّبع؟

قلنا: كلّا، لأنّ الرجوع إلى المسامحات العرفيّة ممنوع فيما إذا كان المفهوم واضحاً ومع ذلك يتسامح العرف في تطبيقه على مصداقه، فيطلق على «ثمانية فراسخ إلّاعشرة أذرع» مثلًا أنّه ثمانية فراسخ، أو على مقدار «كرّ من الماء إلّاغرفة» أنّه كرّ مع كون مقدار الكرّ معلوماً، كما أنّ انوار الأصول، ج 3، ص: 421

الماء الخارجي أيضاً معلوم وعدم إنطباق الأوّل على الثاني أيضاً واضح، وأمّا إذا لم يكن الموضوع المأخوذ في لسان الدليل واضحاً مفهوماً، فالمرجع في تشخيص المفهوم وحدوده إنّما هو العرف لأنّ المفاهيم الواردة في لسان الأدلّة والموضوعات المأخوذة فيها نازلة على المتفاهم العرفي كما مرّ آنفاً، وليس هذا من قبيل المسامحات.

بقي هنا شي ء:

وهو الثمرة التي تترتّب على هذا البحث.

(قد مرّت الإشارة إلى أنّه إن كان الميزان في تشخيص الموضوع ما يدركه العقل فلا يجري الاستصحاب في شبهة من الشبهات الحكميّة، لأنّ الشبهة فيها فرع لإحتمال تغيّر في الموضوع، ومع هذا الاحتمال لا يحرز بقاء الموضوع بالدقّة العقليّة، ومعه لا يجوز الاستصحاب لأنّه يعتبر في جريان الاستصحاب إحراز الموضوع بتمام قيوده وأجزائه.

وإن شئت قلت: إنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، وبقاء المصالح أو المفاسد فرع بقاء الموضوع، والشكّ في بقاء الحكم ينشأ من الشكّ في بقاء المصلحة أو المفسدة، وهو ناشٍ من احتمال تغيّر في الموضوع، وإلّا فلا وجه للشكّ.

هذا إذا كانت المصلحة أو المفسدة في نفس الفعل كما هو الغالب، وأمّا إذا كانت في نفس الإنشاء فاحتمال تغيّر المصلحة

أو المفسدة لا ينشأ من احتمال تغيّر في الموضوع، بل يمكن بقاء الموضوع على حاله مع تغيّر المصالح أو المفاسد فإذا كان الموضوع باقياً يجري الاستصحاب وإن احتملنا عدم وجود مصلحة في الإنشاء.

ولكن وجود المصلحة في الإنشاء أمر نادر لا نعرف له مصداقاً في القوانين الكلّية الشرعيّة، ومن هنا يظهر الحال بالنسبة إلى عدم جريان استصحاب عدم النسخ في الأحكام الكلّية أيضاً (لو قلنا بكون الموضوع مأخوذاً من العقل) لأنّه في مثل هذه الموارد أيضاً يحتمل تغيّر الموضوع لأنّ النسخ دفع للحكم لا رفع له، ويكون بمعنى انتهاء أمد المصلحة وهو لا يكون إلّابتغيّر في الموضوع.

ومن هنا يظهر الإشكال فيما ذكره الشيخ رحمه الله من أنّه لو أخذ الموضوع من العقل لكان انوار الأصول، ج 3، ص: 422

جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة مختصّاً بموارد الشكّ في الرافع، ومراده من الرافع (بناءً على توجيه المحقّق النائيني رحمه الله لكلامه) ما يمنع عن تأثير المقتضي في البقاء بعد تأثيره في الحدوث، فهو عبارة عمّا أخذ عدمه في بقاء شي ء بعد حدوثه كالطلاق بالنسبة إلى علاقة الزوجية، لا ما أخذ عدمه في حدوث شي ء، وحينئذٍ الرافع في المقام ما يكون خارجاً عن دائرة الموضوع ولا دخل لعدمه في حدوث الحكم.

والوجه في عدم تماميّته أنّ قياس الأحكام الشرعيّة بالامور التكوينيّة مع الفارق كما مرّ كراراً، لأنّ جميع الشرائط والموانع في الأحكام الشرعيّة ترجع بالأخرة إلى قيود في موضوع الحكم، فالشكّ في بقاء الحكم الشرعي بعد العلم بحدوثه ينشأ من الشكّ في طروّ تغيّر في موضوعه، ومعه لا مجال لجريان الاستصحاب بناءً على أخذ الموضوع بالدقّة العقليّة.

التنبيه السابع عشر: تقدّم الأمارات على الاستصحاب

اتّفقت كلمات الأصحاب على تقدّم الأمارة على الاستصحاب، وإنّما الكلام في وجهه، فهل هو

من باب الورود، أو الحكومة، أو التخصيص الذي هو توفيق عرفي بين دليل اعتبار الأمارة وخطاب الاستصحاب، فإن قلنا بالورود فمعناه عدم بقاء شكّ حقيقة بعد مجي ء الأمارة، وإن قلنا بالحكومة فمعناه عدم بقاء الشكّ تعبّداً وحكماً كذلك، وإن قلنا بالتخصيص فلازمه أنّ دليل الأمارة أخصّ من دليل الاستصحاب، (وسيأتي توضيح الفرق بين هذه الثلاثة في أبواب التعادل والترجيح إن شاء اللَّه).

ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى أنّه من باب الورود، وذهب الشيخ الأعظم رحمه الله إلى أنّه من باب الحكومة، واحتمل بعض كونه من باب التخصيص، ففي المسألة ثلاثة احتمالات أو ثلاثة أقوال.

واستدلّ المحقّق الخراساني رحمه الله لمختاره بقوله: «إنّ رفع اليد عن اليقين السابق بسبب أمارة معتبرة على خلافه ليس من نقض اليقين بالشكّ بل باليقين، وعدم رفع اليد عنه مع الأمارة

انوار الأصول، ج 3، ص: 423

على وفقه ليس لأجل أن لا يلزم نقضه به بل من جهة لزوم العمل بالحجّة» «1».

وأورد عليه المحقّق الأصفهاني رحمه الله في تعليقته على الكفاية بما حاصله: أنّ الأمارة «إمّا أن تكون حجّة من باب الموضوعيّة والسببيّة وإمّا أن تكون حجّة من باب الطريقيّة، فإن كانت حجّة من باب الموضوعيّة (أي توجب الأمارة حصول مصلحة في موردها وإن لم تكن لها مصلحة واقعاً) فحينئذٍ وإن كان الحكم الفعلي هو مؤدّى الأمارة ولكنّه لا ينافي انحفاظ الحكم الفعلي المطلق (الحكم الإنشائي) بقوّته، فاحتمال وجود حكم مخالفٍ لمؤدّى الأمارة في الواقع باقٍ على حاله، ومعه لا ورود، إذ كما يكون الاحتمال محفوظاً مع حكم نفسه كذلك مع الحكم المجعول بسبب الأمارة، وإن كانت حجّة من باب الطريقيّة، فأيضاً لا يرتفع احتمال الحكم الواقعي، سواء كانت الحجّية حينئذٍ بمعنى جعل الحكم

المماثل أو بمعنى منجّزية الأمارة للواقع، لأنّه على الأوّل يكون الحكم مقصوراً على صورة الموافقة للواقع، فلا يقين بالحكم ليرتفع احتمال الحكم الواقعي، وعلى الثاني لا حكم مماثل مجعول أصلًا ليكون اليقين به رافعاً لاحتمال الحكم» «2».

أقول: الصحيح ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله، وأنّ ما أورده عليه المحقّق الأصفهاني رحمه الله ممّا لا يمكن المساعدة عليه من جهتين:

الاولى: ما مرّ سابقاً من أنّ الأمارة أيضاً توجب حصول العلم واليقين العرفي، ولعلّ هذا هو مراد المحقّق الخراساني رحمه الله حيث عبّر عمّا يحصل بالأمارة باليقين، والشاهد عليه أنّ أكثر القضايا المتيقّنة السابقة نتيقّن بها من طريق الأمارات.

وإن شئت قلت: كما أنّه لا فرق في حصول اليقين السابق بين الحاصل من طريق الأمارة أو العلم القطعي الوجداني، كذلك لا فرق في نقضه بيقين آخر بين ما يحصل من الوجدان وما يحصل من الأمارة.

الثانية: أنّ مفاد الأمارة وإن كان ظنّياً ولكنّه ينتهي إلى اليقين، حيث إنّ دليل حجّيته قطعي، فنقض اليقين السابق ورفع اليد عنه بالأمارة يكون بالمآل من مصاديق نقض اليقين انوار الأصول، ج 3، ص: 424

باليقين لا نقض اليقين بالشكّ، فتأمّل.

ويمكن تبيين هذا المعنى من طريق آخر وهو أنّ المراد من الشكّ في أدلّة حجّية الاستصحاب هو الحيرة الحاصلة من عدم وجود طريق إلى الواقع، فإذا قامت عنده الأمارة التي هى من الطرق المعتبرة لم تبق له حيرة ولا يصدق عليه أنّه سالك بلا طريق، فكأنّ معنى الشكّ عند العرف في أمثال المقام أضيق من الشكّ الفلسفي، كما أنّ اليقين عندهم أوسع من اليقين الفلسفي، وحينئذٍ لا يصدق على رفع اليد عن اليقين بالأمارة أنّه نقض اليقين بالشكّ بل يصدق عليه عند العرف أنّه نقض

لليقين باليقين.

ويؤيّد ما ذكرنا ما مرّ من أنّ من أدلّة حجّية الاستصحاب هو بناء العقلاء، ولا إشكال في أنّهم يعتمدون على الاستصحاب في خصوص موارد التردّد والحيرة، وأمّا إذا قامت أمارة على تقنين قانون جديد مثلًا أو على عزل الوكيل عن وكالته فلا يجرون استصحاب بقاء القانون السابق أو استصحاب الوكالة كما لا يخفى.

فظهر أنّ الحقّ كون الأمارات واردة على الاستصحاب، ولو تنزّلنا عن ذلك فلا أقلّ من الحكومة (وهى أن يكون أحد الدليلين ناظراً إلى دليل آخر إمّا إلى موضوعه أو إلى متعلّقه أو إلى حكمه، توسعة أو تضييقاً بالدلالة المطابقيّة أو التضمّن أو الالتزام البيّن، وذلك لأنّ أدلّة حجّية خبر الواحد مثلًا عند الدقّة والتحليل ناظرة إلى أدلّة الاصول، فإنّ مقتضى مفهوم آية النبأ (أي عدم لزوم التبيّن في خبر العادل) مثلًا إنّ ما أخبر به العادل مبيّن (ولذلك لا يحتاج إلى التبيّن) ولا إشكال في أنّ معناه عدم ترتيب آثار الشكّ، وهكذا بالنسبة إلى قوله عليه السلام «ما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان» إذ إنّ معناه لزوم معاملة العلم مع ما أخبر عنه الثقة وعدم ترتيب آثار الشكّ، ولعلّ تسمية الشاهدين العدلين باسم البيّنة كانت من هذه الجهة، أي إذا شهدت البيّنة على شي ء فرتّب عليه آثار العلم تعبّداً ولا ترتّب آثار الشكّ، وليس هذا إلّامن باب أنّ أدلّة هذه الأمارات حاكمة على أدلّة الاصول وناظرة إليها ومضيّقة لدائرتها بغير موارد قيام الأمارة، فظهر ممّا ذكرنا أنّ إنكار المحقّق الخراساني للحكومة هنا في غير محلّه.

ولو تنزّلنا عن ذلك فيمكن أن يقال بالتخصيص في الجملة، أي التوفيق العرفي بين أدلّة الأمارات وأدلّة الاستصحاب بتخصيص عموم الاستصحاب بموارد قيام الأمارة، والإنصاف أنّه يتصوّر بالنسبة إلى

بعض الأمارات قطعاً، نظير موارد قيام قاعدة اليد، حيث إنّه لو لم تكن اليد مقدّمة على الاستصحاب ومخصّصة لأدلّته، لما بقي لقاعدة اليد مورد، وذلك لأنّها في جميع انوار الأصول، ج 3، ص: 425

مواردها مزاحمة لإستصحاب عدم التملّك، وهكذا في أصالة الصحّة وقاعدة الفراغ حيث أنّهما معارضتان مع استصحاب عدم إتيان العمل صحيحاً في جميع الموارد.

نعم، إنّ هذا لا يجري بالنسبة إلى بعض الأمارات كخبر الواحد، فإنّه قد يكون معارضاً مع الاستصحاب وقد لا يكون، كما لا يخفى.

هذا كلّه في الأمارات المخالفة مع الاستصحاب.

أمّا الأمارات الموافقة كما إذا قامت البيّنة على طهارة شي ء كان طاهراً سابقاً ففيها أيضاً يأتي ما مرّ من ورود أدلّة الأمارات على أدلّة الاستصحاب بنفس البيان السابق، وهو أنّ مورد الاستصحاب هو الشكّ في الحكم الواقعي بمعنى الحيرة والتردّد، والأمارة تزيلها.

وبعبارة اخرى: إنّ لليقين في أدلّة الاستصحاب معنىً يعمّ ما يحصل من الأمارة قطعاً، وحينئذٍ مع وجود الأمارة لا تصل النوبة إلى الاستصحاب، وأمّا استدلال الفقهاء بالاصول ومنها الاستصحاب في جنب سائر الأدلّة فهو بعد الفحص عن وجود الأمارة.

ولو تنزّلنا عن الورود فلا أقلّ من الحكومة أيضاً كالأمارات المخالفة، لأنّ أدلّة الأمارات مفادها في الواقع «نزّله منزلة اليقين ولا ترتّب آثار الشكّ»، اللهمّ إلّاأن يقال: إنّها منصرفة عن الاصول الموافقة.

نعم، لا سبيل إلى التخصيص هنا، لأنّه فرع مخالفة العام مع الخاصّ بلا إشكال، ولذا لا يخصّص قولك «أكرم العلماء» بقولك «أكرم زيداً العالم» عند العرف.

التنبيه الثامن عشر: النسبة بين الاستصحاب وسائر الاصول العمليّة

والكلام فيه أيضاً يكون في وجه تقديم الاستصحاب على سائر الاصول، وإلّا لا إشكال في أصل تقدّمه عليها بل ادّعى اتّفاق الأصحاب عليه.

وقد قرّر في محلّه أنّ الاصول العمليّة على قسمين: عقلية وشرعية، أمّا العقليّة فهى ثلاثة:

البراءة العقليّة (قبح العقاب بلا بيان) والاحتياط العقلي (في أطراف العلم الإجمالي وشبهه) والتخيير العقلي (في دوران الأمر بين الواجب والحرام) نعم قد مرّ في مبحث البراءة أنّ المختار أنّها عقلائيّة لا عقليّة، لأنّ العقل كما يحكم في موارد العلم الإجمالي بالاحتياط يحكم في انوار الأصول، ج 3، ص: 426

موارد الشبهات البدوية أيضاً به، لما مرّ هناك من أنّ مقاصد المولى لا تكون أقلّ أهمية من مقاصد العبد نفسه، فكما أنّ العقل يحكم بالاحتياط فيما إذا احتمل العبد كون هذا الطعام مثلًا مضرّاً ضرراً معتدّاً به حفظاً لمقاصده الشخصية، كذلك يحكم به فيما إذا احتمل كون هذا الشي ء مبغوضاً لمولاه.

وعلى هذا فالاصول العقليّة إثنان لا ثلاثة، نعم إنّ بناء العقلاء قام على البراءة، فلا يؤاخذون العبيد والمأمورين بشي ء قبل البيان الواصل إليهم، وقد أمضاه الشارع أيضاً.

ولكن لا يخفى أنّه ليس فارقاً فيما هو المهمّ في المقام، لأنّ موضوع البراءة سواء كانت عقليّة أو عقلانيّة هو عدم البيان، وبعد قيام الاستصحاب يتبدّل عدم البيان إلى البيان.

وكيف كان، لا إشكال في أنّ الاستصحاب وارد على الاصول العقليّة لأنّ موضوعها يرتفع به، أمّا البراءة العقليّة (أو العقلائيّة) فلما عرفت آنفاً، وأمّا الاحتياط العقلي فلأنّ موضعه عدم الأمن من العقوبة فيما إذا علم إجمالًا بخمريّة أحد الإنائين مثلًا، ومع استصحاب خليّة أحدهما ينحلّ العلم الإجمالي من أصله ويحصل الأمن من العقاب، وهكذا في التخيير العقلي، فإنّ موضوعه عدم الترجيح بين المحذورين والاستصحاب مرجّح.

هذا في الاصول العقليّة.

وأمّا الاصول الشرعيّة المنحصرة في البراءة الشرعيّة فقد وقع النزاع في وجه تقديم الاستصحاب عليها فذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى أنّ الاستصحاب وارد «1» على البراءة الشرعيّة بمعنى كونه رافعاً لموضوعها (أي الشكّ) بعد

قيامه.

وقال في توضيح مرامه ما حاصله: إن قلت: هذا لو أخذ بدليل الاستصحاب في مورد الاصول، ولكن لماذا لا يؤخذ بدليلها ويلزم الأخذ بدليله؟

قلنا: لأنّه لو أخذنا بدليل الاستصحاب لم يلزم منه شي ء سوى ارتفاع موضوع سائر الاصول بسببه، وهذا ليس بمحذور، وأمّا لو أخذنا بدليل البراءة الشرعيّة دون الاستصحاب فيلزم منه إمّا التخصيص بلا مخصّص إن رفعنا اليد عن الاستصحاب الجاري في مورد البراءة الشرعيّة بدون مخصّص لدليله، وإمّا التخصيص على وجه دائر إن رفعنا اليد عنه لأجل كون انوار الأصول، ج 3، ص: 427

البراءة الشرعيّة مخصّصة لدليله، فإنّ مخصّصيتها له ممّا يتوقّف على اعتبارها معه، واعتبارها معه ممّا يتوقّف على مخصّصيتها له، وهو دور محال (انتهى كلامه مع شرح وتوضيح).

ولكن يرد عليه: أنّ موضوع البراءة الشرعيّة إنّما هو الشكّ في الحكم الواقعي، وهو باقٍ على حاله واقعاً حتّى بعد قيام الاستصحاب، لأنّ المفروض أنّ الاستصحاب ليس أمارة حتّى يحصل به الاطمئنان بالواقع، أضف إلى ذلك أنّه يجري عين هذا البيان (لزوم التخصيص بلا مخصّص أو التخصيص على وجه دائر) في الطرف المقابل أيضاً، لأنّهما في عرض واحد ولسانهما واحد.

وذهب المحقّق النائيني رحمه الله إلى أنّه حاكم على البراءة الشرعيّة من باب «أنّها من الاصول غير التنزيلية (غير المحرزة) فيكون الاستصحاب المتكفّل للتنزيل رافعاً لموضوعها بثبوت التعبّد به شرعاً فيكون حاكماً عليها» «1».

ولكن يرد عليه أيضاً:

أوّلًا: ما مرّ سابقاً من أنّه لا فرق من هذه الجهة بين الأمارة والأصل، فإنّ الشكّ مأخوذ في موضوع كليهما، حيث إنّ الوارد في دليل حجّية الأمارة أيضاً «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» (أي عند الشكّ وعدم العلم)، نعم كأنّه قال: «اسألوا حتّى تعلموا» فالغاية هو العلم بالواقع

والوصول إلى الواقع، بخلاف الأصل فإنّه لمجرّد رفع الحيرة في مقام العمل، وبه لا يصل المكلّف إلى الواقع.

ثانياً: أنّ مفاد دليل الاستصحاب إنّما هو النهي عن نقض اليقين السابق حيث يقول: لا تنقض اليقين (أي اليقين السابق) بالشكّ، ولا يقول: لا تنقض لأنّك على يقين من الحكم المتيقّن سابقاً حتّى يكون مفاده تنزيل المؤدّى منزلة الواقع.

ثمّ إنّ للشيخ الأعظم رحمه الله بياناً آخر للحكومة أي حكومة الاستصحاب على البراءة الشرعيّة بالنسبة إلى بعض أدلّتها مثل قوله عليه السلام: «كلّ شي ء مطلق حتّى يرد فيه نهي» ونحوه، وإليك نصّ كلامه: «إنّ دليل الاستصحاب بمنزلة معمّم للنهي السابق بالنسبة إلى الزمان اللاحق فقوله عليه السلام: «لا تنقض اليقين بالشكّ» يدلّ على أنّ النهي الوارد لابدّ من إبقائه وفرض انوار الأصول، ج 3، ص: 428

عمومه، فمجموع الرواية المذكورة (كلّ شي ء مطلق ...) ودليل الاستصحاب بمنزلة أن يقول:

«كلّ شي ء مطلق حتّى يرد فيه النهي، وكلّ نهي ورد في شي ء فلابدّ من تعميمه لجميع أزمنة احتماله» فتكون الرخصة في الشي ء وإطلاقه (المستفاد من قوله كلّ شي ء مطلق) مغيّى بورود النهي المحكوم عليه بالدوام وعموم الأزمان (بدليل الاستصحاب) فكان مفاد الاستصحاب نفي ما يقتضيه الأصل الآخر (البراءة الشرعيّة) في مورد الشكّ لولا النهي، وهذا معنى المحكومة» (انتهى).

وحاصل كلامه أنّ دليل البراءة الشرعيّة يقول: كلّ شي ء مطلق ومرخّص حتّى يرد فيه نهي، ودليل الاستصحاب يقول: إنّ النهي السابق نهي في الزمان اللاحق أيضاً، فيرتفع به موضوع أصالة البراءة وهو عدم وجود النهي فيكون حاكماً عليه.

ولكن يرد عليه: أنّ المستفاد من دليل الاستصحاب إنّما هو عدم ترتّب آثار الشكّ في مقام العمل ولزوم ترتّب آثار اليقين السابق كذلك، لا أنّ النهي السابق موجود في

الآن اللاحق، لأنّه ليس حاكياً عن بقاء النهي بحسب الواقع، وإلّا يلزم كونه من الأمارات.

وبعبارة اخرى: إمّا أن تلتزموا بكون الاستصحاب من الأمارات كما التزم به بعض الأعلام «1» ونتيجته أنّه مقدّم على البراءة الشرعيّة بالورود أو الحكومة، أو تجعلونه من الاصول العمليّة فلا وجه حينئذٍ لكونه مقدّماً من جهة الورود أو الحكومة، بل إنّه يعارض البراءة الشرعيّة ولابدّ حينئذٍ من ملاحظة الترجيح بين أدلّتهما. فنقول: أنّ وجه التقديم كون أدلّة الاستصحاب بعد ملاحظة التأكيدات الكثيرة والعبارات المترادفة المتعدّدة فيها أقوى وأظهر دلالة من أدلّة البراءة كما لا يخفى، فالمرجّح إنّما هو الأظهريّة والأقوائيّة في الدلالة، ويؤيّده ما قد يقال: من أنّ ألسنة بعض رواياته كقوله عليه السلام: «فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ» في الصحيحة الثانية لزرارة وقوله عليه السلام: «فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين» في رواية محمّد بن مسلم آبٍ عن التخصيص لا سيّما بعد كون التعليل بأمر إرتكازي عقلي.

إلى هنا تمّ الكلام عن التنبيه الثامن عشر.

التنبيه التاسع عشر: تعارض الاستصحابين

وقد قسّمه المحقّق الخراساني رحمه الله إلى قسمين، فإنّها تارةً يكونان من قبيل المتزاحمين (وقد مرّ في مبحث اجتماع الأمر والنهي أنّ التزاحم عبارة عن كون كلا الدليلين ذا مصلحة واقعيّة ولكن المكلّف لا يقدر على إتيانهما معاً) كما في غريقين نحتمل حياة كلّ منهما، فمقتضى استصحاب حياتهما وجوب إنقاذ كليهما ولكن المكلّف لا يقدر إلّاعلى إنقاذ واحد منهما.

واخرى يكونان من قبيل المتعارضين كما إذا علمنا بطهارة أحد الإنائين اللذين كانا نجسين سابقاً فيجري استصحاب نجاسة كلّ واحد منهما مع العلم بمخالفة أحدهما للواقع، وكذلك العكس وهو ما إذا كان الإناءان طاهرين سابقاً ثمّ علمنا بنجاسة أحدهما من غير تعيّن، فإستصحاب طهارة كلّ واحد منهما يعارض

استصحاب طهارة الآخر للعلم بكذب أحدهما.

أمّا القسم الأوّل: فقد ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله في هامش الكفاية إلى أنّ حكمه التخيير إلّاأن يكون أحدهما أهمّ من الآخر فيقدّم، كما إذا دار الأمر بين إنقاذ النبي وغيره، أو دار الأمر بين انقاذ مسلم وذمّي (بقاءً على وجوب إنقاذ الذمّي أيضاً).

لكن الصحيح أنّه على أقسام أربعة:

فتارةً تكون النسبة بينهما التساوي ولا ترجيح لأحدهما على الآخر لا من ناحية المحتمل ولا من ناحية الاحتمال، فالحكم حينئذٍ التخيير بلا إشكال.

واخرى يكون أحدهما أكثر احتمالًا من الآخر مع تساويهما في جانب المحتمل، كما إذا كانت درجة احتمال نجاة أحدهما ثمانين في المائة ودرجة احتمال نجاة الآخر عشرين في المائة مع عدم ترجيح بينهما فيقدّم الأوّل على الثاني طبقاً لقاعدة الأهمّ والمهمّ.

وثالثة يكون أحدهما أهمّ في جانب المحتمل مع تساويهما في جانب الاحتمال، ومثاله يظهر ممّا ذكرنا فيقدّم الأهمّ أيضاً على المهمّ.

ورابعة يكون أحدهما أكثر احتمالًا والآخر أهمّ محتملًا، فلابدّ حينئذٍ من الكسر والانكسار وتشخيص ما يكون أهمّ في المجموع وتقديمه على الآخر.

وأمّا القسم الثاني: (وهو المتعارضان) فهو بنفسه على قسمين:

فتارةً يكون الاستصحابان طوليين بأن كان الشكّ في أحدهما مسبّباً عن الشكّ في الآخر

انوار الأصول، ج 3، ص: 430

على نحو لو ارتفع الشكّ في السبب ارتفع الشكّ في المسبّب، أي يكونان من قبيل أصلي السببي والمسبّبي، كما إذا شككنا في بقاء نجاسة الثوب المغسول بماء شكّ في بقاء طهارته.

واخرى يكونان عرضيين كالمثال المذكور آنفاً (استصحاب طهارة الإنائين مع العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما بملاقاته للنجس أو العكس).

أمّا القسم الأوّل فلابدّ من التكلّم فيه أوّلًا: في ميزان كون أحد الأصلين سببيّاً والآخر مسبّبياً، وثانياً: في وجه تقديم الأصل السببي على المسبّبي.

أمّا المقام الأوّل فالصحيح

ما اشير إليه آنفاً من أنّ المعيار كون الشكّ في أحدهما مسبّباً عن الشكّ في الآخر، وإن شئت قلت: كون أحدهما من الآثار الشرعيّة للآخر ففي المثال المزبور تكون طهارة الثوب المغسول من الآثار الشرعيّة لطهارة الماء بخلاف العكس، فليست نجاسة الماء من الآثار الشرعيّة لنجاسة الثوب المغسول بل إنّها من لوازمها العقليّة كما لا يخفى.

والمحقّق النائيني رحمه الله ذكر لحكومة كلّ أصل سببي على كلّ أصل مسبّبي شرطين: أحدهما: أن يكون الترتّب بينهما شرعياً لا عقلياً، بأن يكون أحدهما من الآثار الشرعيّة للآخر، فالشكّ في بقاء الكلّي لأجل الشكّ في حدوث الفرد الباقي خارج عن محلّ الكلام، لأنّ بقاء الكلّي ببقاء الفرد عقلي.

ثانيهما: أن يكون الأصل السببي رافعاً للشكّ المسبّبي، فالشكّ في جواز الصّلاة في الثوب لأجل الشكّ في اتّخاذه من الحيوان المحلّل خارج عن محلّ الكلام، فإنّ أصالة الحلّ في الحيوان وإن كانت تجري، إلّاأنّها لا تقتضي جواز الصّلاة في الثوب، لأنّ أصالة الحلّ لا تثبت كون الثوب متّخذاً من الأنواع المحلّلة «1» (فإنّ جواز الصّلاة مترتّب على كون الثوب متّخذاً من عناوين خاصّة كعنوان الغنم والشاة والإبل ونحوها من سائر الحيوانات المحلّلة).

أقول: إذا عرّفنا الأصل السببي والمسبّبي بكون الشكّ في أحدهما مسبّباً عن الشكّ في الآخر شرعاً فلا حاجة إلى ذكر هذين الشرطين مستقلًا لأنّهما مفهومان من نفس التعريف ولا زمان له، أمّا الشرط الأوّل فلأنّه يفهم من قيد «شرعاً» الوارد في ذيل التعريف، وأمّا الشرط الثاني فلأنّه أيضاً من لوازم التسبّب الشرعي التعبّدي الموجود في التعريف، لأنّه إذا

انوار الأصول، ج 3، ص: 431

إرتفع السبب الذي هو بمنزلة العلّة شرعاً ارتفع المسبّب الذي هو بمنزلة المعلول كذلك، وإلّا يلزم تخلّف المعلول عن علّته.

وأمّا

ما ذكره من المثال، ففيه: أنّ إرتفاع الشكّ في جواز الصّلاة مع ارتفاع الشكّ في الحلّية بجريان أصالة الحلّية فيه، ناشٍ عن عدم كونه مسبّباً عنه شرعاً، لأنّ الشكّ في جواز الصّلاة ليس مسبّباً عن الشكّ في الحلّية حتّى يرتفع بارتفاعه، بل مسبّب عن الشكّ في أنّه من العناوين الخاصّة المحلّلة أو لا؟ وهو لا يرتفع بإجراء أصالة الحلّية كما ذكره.

هذا كلّه في المقام الأوّل.

أمّا المقام الثاني: وهو الوجه في تقديم الأصل السببي على المسبّبي، فإستدلّ المحقّق الخراساني رحمه الله لتقديم السببي على المسبّبي بعين ما استدلّ به لتقديم الأمارة على الاستصحاب من الورود، فقال: إنّ رفع اليد عن اليقين السابق بنجاسة الثوب في المثال المذكور مع استصحاب طهارة الماء المغسول به ليس من نقض اليقين بالشكّ بل باليقين، وقال في مقام الجواب عن إشكال عدم وجود مرجّح لتقديم جانب السببي على المسبّبي: إنّ الأخذ بجانب السببي ممّا لا يلزم منه شي ء سوى نقض اليقين باليقين وهو ليس بمحذور بخلاف الأخذ بجانب المسبّبي فيلزم منه إمّا التخصيص بلا مخصّص أو التخصيص على وجه دائر.

أقول: يرد عليه عين ما أوردناه عليه هناك فلا نعيده، مضافاً إلى أنّه يمكن أن يقال بالحكومة هنا أيضاً من باب أنّ طهارة الثوب من اللوازم الشرعيّة لطهارة الماء، بخلاف العكس لأنّ نجاسة الماء ليس من اللوازم الشرعيّة لنجاسة الثوب بل إنّها من لوازمها العقليّة.

إن قلت: إنّ الحكومة تتوقّف على تعدّد الدليل ليكون أحد الدليلين ناظراً إلى الآخر ومفسّراً لمدلوله، فلا يعقل أن يكون دليل واحد بالنسبة إلى تطبيقه على فرد منه ناظراً إلى نفسه بالنسبة إلى تطبيقه على فرد آخر كما في ما نحن فيه.

قلنا: قد أجاب عن هذا المحقّق النائيني

رحمه الله بأنّه «نشأ من خلط الحكومة الواقعيّة بالظاهريّة، فإنّ الحكومة إذا كانت واقعيّة كحكومة أدلّة الغاء شكّ كثير الشكّ بالقياس إلى أدلّة المشكوك فلا مناصّ عن تعدّد الدليل حتّى يكون أحدهما مخصّصاً للآخر لبّاً بعنوان انوار الأصول، ج 3، ص: 432

الحكومة، وأين هذا من الحكومة الظاهريّة التي لا يعتبر فيها إلّاكون الحاكم رافعاً لموضوع الآخر في عالم التشريع؟ فإنّ الدليل الواحد إذا كان له افراد كثيرة بعضها في طول الآخر ومسبّب عنه فلا محالة يكون شمول هذا الدليل للسبب رافعاً لما هو في طوله تشريعاً. وهذه الحكومة هى المدعاة في المقام دون الحكومة الواقعيّة المعتبر فيها نظر أحد الدليلين بمدلوله اللفظي إلى الدليل الآخر» «1».

أقول: الإنصاف أنّه ليس هناك إلّاقسم واحد من الحكومة، وهو أن يكون أحد الدليلين ناظراً إلى الآخر ومفسّراً له إمّا بمدلوله المطابقي أو التضمّني أو الالتزامي، ولا إشكال في أنّ هذا المعنى قد يحصل في دليل واحد إذ انحلّ إلى أحكام متعدّدة، فإذا كان الماء المشكوك طهارته داخلًا في عموم لا تنقض كان معناه ترتيب آثار الماء الطاهر عليه، فإذا سئل من آثاره يمكن أن يقال: إنّ من آثاره رفع النجاسة عن الثوب المغسول به، وهذا معنى النظر إلتزاماً.

والحاصل: أنّه لا يعتبر في حكومة دليل على دليل آخر أن يكون الدليل الحاكم ناظراً إلى الدليل المحكوم بمدلوله المطابقي، بل يكفي فيها النظر بمدلوله الالتزامي، ولا إشكال في أنّ هذا المقدار من النظر لازم انحلال دليل واحد إلى أحكام متعدّدة، حيث إنّ المقصود من النظر (كما اعترف المحقّق النائيني رحمه الله نفسه) أن يكون أحدهما رافعاً لموضوع الآخر تعبّداً، وهذا حاصل بعد حصول الانحلال كما لا يخفى.

أمّا القسم الثاني: وهو ما إذا

كان أحدهما في عرض الآخر كاستصحاب طهارة الإنائين مع العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما، فله أيضاً صورتان:

الاولى: ما إذا كانا في أطراف علم إجمالي بتكليف فعلي، فيلزم منهما المخالفة القطعيّة.

الثانية: ما إذا لم يكونا في أطراف علم إجمالي بتكليف فعلي، بحيث إذا جرى الاستصحاب في كليهما لم يلزم مخالفة قطعيّة.

أمّا الصورة الثانية: فالأقوال فيها ثلاثة:

انوار الأصول، ج 3، ص: 433

1- ما ذهب إليه الشيخ الأعظم رحمه الله من عدم شمول أدلّة الاستصحاب لهما مطلقاً.

2- ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله من أنّها تشمل المقام، أي أنّ المقتضي تامّ والمانع مفقود، وهو المخالفة العمليّة القطعيّة (وما ذكراه يجري في أصالة الحلّية أيضاً).

3- تفصيل المحقّق النائيني رحمه الله بين الاستصحاب وسائر الاصول العمليّة، فذهب في الاستصحاب إلى نفس ما ذهب إليه الشيخ الأعظم رحمه الله وفي غيره إلى مقالة المحقّق الخراساني رحمه الله.

واستدلّ الشيخ الأعظم رحمه الله بأنّ جريان الاستصحاب في ما نحن فيه يلزم منه التناقض في دليل الاستصحاب بين صدره وذيله، لأنّ صدره يقول: «لا تنقض اليقين بالشكّ» وهذا يشمل كلا الطرفين، بينما الذيل يقول: «انقضه بيقين آخر» وهو شامل لأحدهما إجمالًا، لأنّ أحدهما معلوم ومتيقّن، كما يلزم هذا في أدلّة بعض الاصول الاخر كقاعدة الحلّية، فإنّ الصدر فيها يقول: «كلّ شي ء لك حلال» فهو شامل لكلا الطرفين من العلم الإجمالي، والذيل يقول: «حتّى تعلم أنّه حرام» وهو أيضاً شامل لأحدهما المعلوم بالإجمال.

ولكن قد اجيب عنه بجوابين:

أحدهما: أنّ المناقضة بين الصدر والذيل على فرض كونها مانعة عن اطلاق الخطاب وعن شموله لأطراف العلم الإجمالي فهى موجودة في بعض أخبار الباب ممّا فيه الذيل المذكور، وليست موجودة في جميع الأخبار، وعليه فإطلاق الخطاب وشموله لأطراف العلم الإجمالي

في سائر الأخبار محفوظ على حاله.

ويرد عليه: أنّ الوجدان العرفي يحكم بأنّ الروايات المطلقة تقيّد وتفسّر بالروايات المذيّلة بذلك الذيل، حيث إنّا نقطع بأنّ جميع هذه الروايات في مقام بيان حكم واحد على موضوع واحد لا حكمين مختلفين.

الثاني: ما أجاب به بعض الأعلام من «أنّ الظاهر كون المراد من اليقين في قوله عليه السلام:

«ولكن تنقضه بيقين آخر» هو خصوص اليقين التفصيلي لا الأعمّ منه ومن الإجمالي، إذ المراد نقضه بيقين آخر متعلّق بما تعلّق به اليقين الأوّل، وإلّا لا يكون ناقضاً له، فحاصل المراد هكذا:

كنت على يقين من طهارة ثوبك فلا تنقضه بالشكّ في نجاسة الثوب بل انقضه باليقين بنجاسته،

انوار الأصول، ج 3، ص: 434

فلا يشمل اليقين الإجمالي لعدم تعلّقه بما تعلّق به اليقين الأوّل، بل تعلّق بعنوان أحدهما» «1».

أقول: بل يمكن أن يقال: إنّ الذيل لا يراد منه إلّانفس ما اريد من الصدر، فهو توضيح وتفسير للصدر، حيث إنّه يفهم من نفس الصدر بقرينة المقابلة.

وإن شئت قلت: كما أنّ الشكّ هنا تفصيلي فالعلم المقابل له أيضاً تفصيلي فالعلم الإجمالي خارج عن نطاقه.

أضف إلى ذلك أنّه يمكن أن يقال: بإنصراف أدلّة الاستصحاب عن موارد العلم الإجمالي، فهى مختصّة بموارد الشكّ البدوي الخالص فإنّ الشكّ في أطراف العلم الإجمال ليس شكّاً خالصاً بل شكّاً مشوب بالعلم.

واستدلّ المحقّق النائيني للتفصيل بين الاصول المحرزة وغير المحرزة وجريان الثاني (الاصول غير المحرزة) في أطراف العلم الإجمالي دون الأوّل بأنّ المجعول في الاصول المحرزة (كالاستصحاب وقاعدة الفراغ والتجاوز وأصالة الصحّة) هو البناء العملي على ثبوت الواقع في أحد طرفي الشكّ وتنزيله عملًا منزلة الواقع، ولا يخفى أنّ التعبّد ببقاء الواقع في كلّ واحد من أطراف العلم الإجمالي ينافي العلم الوجداني بعدم

بقاء الواقع في أحدها، وكيف يعقل الحكم ببقاء النجاسة مثلًا في كلّ واحد من الإنائين مع العلم بطهارة أحدهما؟ ومجرّد أنّه لا يلزم من الاستصحابين مخالفة عملية لا يقتضي صحّة التعبّد ببقاء النجاسة في كلّ منهما فإنّ الجمع في التعبّد ببقاء مؤدّى الاستصحابين ينافي ويناقض العلم الوجداني بالخلاف، وهذا بخلاف الاصول غير المحرزة فإنّه لمّا كان المجعول فيها مجرّد تطبيق العمل على أحد طرفي الشكّ فلا مانع من التعبّد بها في أطراف العلم الإجمالي إذا لم يلزم منها مخالفة عملية «2».

ويرد عليه أوّلًا ما مرّ كراراً من أنّا لا نقبل تقسيم الاصول إلى المحرزة وغير المحرزة ولا نفهم له معنىً محصّلًا، فإنّ مفاد الدليل إذا كان هو التنزيل منزلة الواقع فهو أمارة (سواء أخذ الشكّ ظاهراً في موضوعه أم لم يؤخذ) وإن لم يكن مفاده كذلك فهو أصل عملي.

وثانياً: سلّمنا، ولكن المقتضي وهو إطلاقات أدلّة الاستصحاب تامّ في كلا القسمين إذ إنّ انوار الأصول، ج 3، ص: 435

المفروض عنده أنّ اليقين في الاستصحاب يقين تعبّدي لا حقيقي، واليقين التعبّدي بكلا طرفي الشكّ لا ينافي العلم الإجمالي الحقيقي بكذب أحدهما، فهو نظير البيّنتين المتعارضتين أو الخبرين المتعارضين اللذين يجريان كلاهما ثمّ يتساقطان بالتعارض بحسب القاعدة.

فظهر أنّ الصحيح ما ذهب إليه الشيخ الأعظم رحمه الله من عدم جريانهما رأساً، ولكن لا لتناقض صدر الحديث مع ذيله كما ذكره، بل من باب الإنصراف كما ذكرنا.

بقي هنا شي ء:

وهو بيان الثمرة في هذه المسألة:

إنّ ثمرة هذه المسألة تظهر في الملاقي لأحد الأطراف إذا كان كلّ واحد مسبوقاً بالنجاسة ثمّ علم بطهارة أحدهما إجمالًا، فإنّه حينئذ طاهر بناءً على عدم جريان الاستصحاب (وقد ثبت في محلّه أنّ ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة

طاهر وإن كان يجب الإجتناب عن نفس الأطراف لمكان العلم الإجمالي) ولكنّه نجس بناءً على جريان الاستصحاب، لأنّه حينئذٍ يكون كلّ طرف من الأطراف نجساً بالتعبّد الاستصحابي، والمفروض عدم سقوط الاستصحاب بعد الجريان لعدم لزوم المخالفة العمليّة، وإذا كان الطرف بنفسه نجساً بالتعبّد كان ملاقيه أيضاً نجساً كذلك.

وممّا ذكرنا ظهر الحال فيما إذا كان أحد الاستصحابين ذا أثر شرعي دون الآخر، كما إذا كان الماء في أحد الطرفين كرّاً وفي الآخر قليلًا، فيجري الاستصحاب في خصوص الماء القليل بلا معارض وتترتّب عليه آثاره حتّى عند من يقول بعدم جريان الاستصحاب في القسم الأوّل.

هذا كلّه في هو الصورة الثانية، أي ما إذا لم يلزم من جريانهما مخالفة عملية.

وأمّا الصورة الاولى: أي ما إذا لزم من جريان الاستصحابين المخالفة العمليّة، فالاستصحابان غير جاريين إمّا لعدم المقتضي كما أفاده الشيخ الأعظم رحمه الله أو للتعارض كما أفاده صاحب الكفاية.

التنبيه العشرون: النسبة بين الاستصحاب والقواعد الجارية في الشبهات الموضوعيّة
اشارة

وقد أشار المحقّق الخراساني رحمه الله إلى خمسة منها: قاعدة التجاوز، قاعدة الفراغ (بناءً على الفرق بينهما)، أصالة الصحّة، قاعدة اليد، قاعدة القرعة.

ولا إشكال في وجوب تقديم هذه القواعد على الاستصحاب، وإنّما الكلام في وجهه.

قال المحقّق الخراساني رحمه الله بأنّ الوجه أخصّية دليلها من دليل الاستصحاب، وكون النسبة بينه وبين بعضها عموماً من وجه لا يمنع عن تخصيصه بها، وذلك لوجهين:

أحدهما: الإجماع على عدم التفصيل في جريان هذه القواعد بين موارد جريان الاستصحاب وغيرها، فكما أنّه يعمل باليد مثلًا فيما إذا لا يكون في موردها استصحاب، فكذلك يعمل بها فيما إذا كان هناك استصحاب على خلافها.

ثانيهما: أنّ مورد افتراق اليد (مثلًا) عن الاستصحاب نادر قليل جدّاً، فلو خصّصنا اليد بالإستصحاب وجعلنا مورد الاجتماع تحت الاستصحاب لزم التخصيص المستهجن بلا

إشكال، بخلاف ما إذا خصّصنا الاستصحاب باليد وجعلنا مورد الاجتماع تحت قاعدة اليد.

أقول: الصحيح من هذين الوجهين هو الوجه الثاني لأنّ الإجماع في مثل هذه الموارد لا أقلّ من كونه محتمل المدرك.

إن قلت: إن كانت النسبة العموم من وجه، فما هو موضع إفتراق هذه القواعد عن الاستصحاب؟

قلنا: قد ذكر له موردان: أحدهما: موارد توارد الحالتين، فلا يجري الاستصحاب فيما إذا توارد الحدث والطهارة على مكلّف واحد مثلًا وشكّ في السابق منهما بعد إتيان الصّلاة، بل تجري قاعدة الفراغ بلا معارض.

ثانيهما: موارد الشكّ في طروّ المانع فيما إذا كان الاستصحاب موافقاً لأصالة الصحّة أو قاعدة الفراغ والتجاوز، كما إذا شككنا في إتيان ركوع زائد بعد التجاوز عن المحلّ أو بعد إتمام الصّلاة، فإنّ استصحاب عدم إتيانه بركوع زائد موافق لقاعدة الفراغ في إثبات صحّة الصّلاة، فتجري قاعدة الفراغ بلا جريان استصحاب معارض، بل الاستصحاب موافق له.

إن قلت: يجري استصحاب بقاء إشتغال الذمّة بالصلاة الصحيحة وهو يعارض أصالة الصحّة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 437

قلنا: أوّلًا: لا تصل النوبة إلى استصحاب الاشتغال مع جريان قاعدة الإشتغال (الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة) في جميع موارد الشكّ في براءة الذمّة، كما قرّر في محلّه، ولا يخفى الفرق بينهما، فإنّ قاعدة الاشتغال ليست محدودة بموارد سبق الحالة السابقة للاشتغال.

وثانياً: أنّ استصحاب عدم إتيان الركوع الزائد حاكم على استصحاب الاشتغال، لكونه سبباً واستصحاب الإشتغال مسبّبياً، فالشكّ في بقاء الاشتغال ينشأ من الشكّ في إتيانه بالركوع الزائد وعدمه، فإذا ارتفع هو باستصحاب عدمه ارتفع الشكّ في بقاء الاشتغال أيضاً.

فظهر ممّا ذكر أنّ الوجه في تقديم القواعد على الاستصحاب قلّة موارد الافتراق فتقدّم عليه من باب تقديم الخاصّ على العام.

أقول: والصحيح في منهج البحث في

المقام تعيين كون هذه القواعد من الأمارات أو الاصول أوّلًا، حيث إنّها إذا كانت من الأمارات كان وجه تقديمها على الاستصحاب نفس وجه تقديم سائر الأمارات عليه، وهو كون أدلّتها واردة على أدلّة الاستصحاب أو حاكمة عليها ببيان مرّ تفصيله، ولا إشكال في أمارية هذه القواعد فتكون واردة على الاستصحاب، ولا أقلّ من كونها حاكمة عليها كما هو مقتضى بعض أدلّتها كقوله عليه السلام في مورد قاعدة التجاوز:

«بلى قد ركعت» «1» أي أنّك على يقين من إتيان الركوع فلا تعتن بشكّك وامض.

هذا كلّه في بيان النسبة بين الاستصحاب والقواعد الخمسة غير القرعة.

وأمّا القرعة فحاصل ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله في وجه تقديم الاستصحاب عليها وبيان النسبة بينهما وجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: أنّ دليل الاستصحاب أخصّ من دليل القرعة لأنّ الاستصحاب ممّا يعتبر فيه سبق الحالة السابقة دون القرعة.

إن قلت: إنّ النسبة بين الاستصحاب والقرعة هى العموم من وجه لا العموم المطلق، فكما أنّ الاستصحاب أخصّ من القرعة لاعتبار سبق الحالة السابقة فيه فكذلك القرعة تكون أخصّ من الاستصحاب لاختصاصها بالشبهات الموضوعيّة بالإجماع بل بالضرورة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 438

قلنا: المدار في النسبة بين الدليلين هو نسبتهما بحسب أنفسهما قبل تخصيص أحدهما بشي ء، فتخصيص القرعة بالشبهات الموضوعيّة بالإجماع والضرورة لا يوجب خصوصية في جانبها بعد عموم دليلها بحسب اللفظ.

الوجه الثاني: أنّ عموم دليل القرعة موهون بكثرة تخصيصه حتّى صار العمل به في مورد محتاجاً إلى الجبر بعمل الأصحاب بخلاف الاستصحاب فيكون عمومه باقياً على قوّته فيقدّم على عمومها.

الوجه الثالث: أنّ الموضوع في جريان القرعة كون الشي ء مشكلًا بقول مطلق (واقعاً وظاهراً) لا في الجملة، وعليه يكون دليل الاستصحاب وارداً على دليل القرعة، رافعاً لموضوعه (أي الإشكال) ولو

تعبّداً وظاهراً، لا حقيقة وواقعاً.

أقول: الحقّ عدم تمامية الوجه الأوّل والثاني (وقد أخذهما صاحب الكفاية عن الشيخ الأعظم رحمه الله).

أمّا الوجه الأوّل فإنّ دليل القرعة ليس عاماً من أوّل الأمر، لأنّ الإرتكاز العقلائي والمتشرّعي الموجود على اختصاصها بالشبهات الموضوعيّة يوجب انصرافها إلى الشبهات الموضوعيّة كما لا يخفى، وحينئذٍ لا يلزم انقلاب النسبة، بل النسبة بين دليلها ودليل الاستصحاب عموم مطلق من الأوّل.

وأمّا الوجه الثاني، فيرد عليه: أيضاً أنّ القرعة لم تخصّص في مورد فضلًا عن كونها موهونة بكثرة التخصيصات، لأنّ موضوعها كلّ أمر مجهول، وهو لا يعني كلّ أمر مشكوك، بل إنّما هو بمعنى سدّ جميع الأبواب والطرق، كما هو كذلك في مثال ولد الشبهة أو الغنم الموطوءة وغيرهما ممّا ورد في أحاديث الباب، ففي مورد المثال الأوّل لا بيّنة تعيّن بها خصوص الموطوءة، ولا استصحاب لعدم سبق الحالة السابقة، ولا تجري أصالة الاحتياط للزوم الضرر العظيم، وفي مثال ولد الشبهة لا طريق لإحراز أمر الولد وتخيير القاضي مظنّة التشاحّ والتنازع، فلا يبقى طريق إلّاالقرعة.

والحاصل: أنّ القرعة إنّما تجري في موارد سدّ الأبواب جميعاً من الأمارات والاصول.

فالصحيح في المقام هو الوجه الثالث، وهو أنّ أدلّة الاستصحاب واردة على أدلّة القرعة لأنّ بها يرتفع المجهول موضوعاً، كما أنّها كذلك بالنسبة إلى أدلّة سائر الاصول وجميع الأمارات والقواعد.

انوار الأصول، ج 3، ص: 439

ثمّ إنّ شيخنا الأعظم رحمه الله قد فرّق بين الاصول الشرعيّة كالاستصحاب وبين الاصول العقليّة، فقال بورود الاصول الشرعيّة على القرعة خلافاً للُاصول العقليّة كالبراءة العقليّة فإنّ القرعة واردة عليها لأنّ موضوعها «لا بيان» والقرعة بيان.

وبما ذكرنا ظهر ضعف هذا الكلام لأنّ موضوع القرعة- كما قلنا- هو المجهول المطلق، وهو ليس حاصلًا حتّى في موارد البراءة

والاحتياط العقليين، ولذلك لا يتمسّك حتّى الشيخ رحمه الله نفسه بذيل القرعة في أطراف العلم الإجمالي، مع أنّ وجوب الاحتياط فيها من الاصول العقليّة.

وتمام الكلام في مسألة القرعة وتحقيق مثل هذه المباحث يحتاج إلى رسم امور (وإن كان استيفاء البحث فيها موكولًا إلى محلّ آخر) «1».

الأمر الأوّل: في أدلّة حجّية القرعة

وقد يدلّ عليها الأدلّة الأربعة من الكتاب والسنّة والإجماع وبناء العقلاء (لا دليل العقل):

أمّا الكتاب: فهو آيتان إحديهما: قوله تعالى في قصّة زكريا وولادة مريم: «وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ» «2»

فإنّه بعد ما وقع التشاّح بين الأحبار لتعيين من يكفل مريم حتى بلغ حدّ الخصومة ولم يجدوا طريقاً لرفعه إلّا القرعة تقارعوا بينهم، فوقعت القرعة على زكريّا.

ثانيهما: قوله تعالى: «وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ» «3»

وقصّة يونس (إباقه من قومه ثمّ وروده في سفينة ووقوع القرعة عليه ثلاث مرّات) معروفة.

إن قلت: إنّ الآيتين وردتا في الشرائع السابقة، وقد مرّ أنّ الأقوى عدم حجّية استصحابها للشريعة اللاحقة.

قلنا: إنّ تمسّكنا بهما في المقام ليس مبنيّاً على حجّية استصحاب الشرائع السابقة، بل مبنى انوار الأصول، ج 3، ص: 440

على أنّ نقل القرآن الكريم قد يكون ظاهراً في الامضاء.

وأمّا الروايات: فهى على طائفتين: طائفة عامّة تعمّ جميع موارد القرعة، وقد نقلنا منها إثنا عشرة رواية في كتابنا القواعد الفقهيّة «1»، وطائفة خاصّة تختصّ بقضايا خاصّة كالتي وردت في الغنم الموطوءة أو ولد الشبهة أو النذر، وقد نقلنا منها عشر طوائف في القواعد الفقهيّة أيضاً «2»، ولا إشكال في أنّها بمجموعها بلغت حدّ التواتر ولذلك نعدّها عمدة أدلّة القرعة.

وأمّا بناء العقلاء: فلا إشكال أيضاً في أنّ سيرة العقلاء جرت

على القرعة في الامور المشكلة عليهم التي تنجرّ إلى التنازع والتشاحّ، فراجع لتفصيل البيان والموارد المختلفة في تداول القرعة بينهم كتاب القواعد الفقهيّة أيضاً «3».

وأمّا الإجماع: فلا ريب أيضاً في أنّ إتّفاق الأصحاب قام على حجّية القرعة، نعم لا أقلّ من أنّه محتمل المدرك فلا يمكن الركون إليه خاصّة.

الأمر الثاني: في موارد القرعة

وهى عند العقلاء منحصرة بموارد مظنّة التنازع والتشاحّ، ولكن مواردها عند الشارع المقدّس أوسع منها (وهذا ممّا وسّع الشارع فيه ما بنى عليه العقلاء) فلا إشكال في جريان القرعة في الغنم الموطوءة مثلًا عند فقهاء الأصحاب، وقد وردت روايات عديدة تدلّ عليه.

ثمّ إنّ المستفاد من روايات الباب جريان القرعة في المجهول المطلق مطلقاً سواء كان له واقع محفوظ اشتبه علينا فتكون القرعة أمارة وكاشفة عنه كما في ولد الشبهة والغنم الموطوءة، أو لم يكن له واقع مجهول فتجري القرعة، لمجرّد رفع التنازع والتشاحّ كما في موارد تزاحم الحقوق أو المنازعات، ويمكن أن يقال: إنّ مورد قصّة زكريا وولادة مريم من هذا القبيل (كما أنّه لا ريب في أنّ مورد قصّة يونس عليه السلام من قبيل القسم الأوّل) حيث إنّ الرجوع إلى القرعة فيها كان لرفع تشاحّ أحبار بني إسرائيل في كفالة مريم، اللهمّ إلّاأن يقال: أنّ جريان القرعة فيها أيضاً كان لتعيين الواقع، أي تعيين من هو أفضل وأولى لكفالة مريم وتربيتها، ولذا وقعت انوار الأصول، ج 3، ص: 441

القرعة باسم زكريا الذي لا ريب في كونه أفضل من غيره في ذلك الزمان، نعم أنّه كان بملاك رفع التنازع بين الأحبار أيضاً، فاجتمع الملاكان فيه ولا منافاة بينهما.

الأمر الثالث: الروايات في الفرعة

إنّ روايات القرعة على طائفتين: طائفة يستفاد منها أنّ ملاك حجّية القرعة هو أماريتها وكاشفيتها عن الواقع وهى رواية أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام «1» ورواية زرارة «2» ورواية العياشي عن أبي جعفر في حديث يونس «3» ورواية عبّاس بن هلال عن أبي الحسن الرضا عليه السلام «4» ورواية سماعة «5»، وطائفة يستفاد منها بالصراحة إنّ ملاكها حفظ العدالة.

ويمكن الجمع بينهما بأنّ الطائفة الاولى ناظرة إلى

الموارد التي يكون الواقع فيها مجهولًا، والطائفة الثانية ناظرة إلى ما لا واقع لها، وحينئذٍ تكون القرعة أمارة في الموارد الاولى كما يشهد بها لسان ما وردت من الأدعية في الطائفة الاولى، نظير ما ورد في حديث سماعة: «اللهمّ ربّ السموات السبع وربّ الأرضين السبع وربّ العرش العظيم، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، أيّهما كان صاحب الدابّة وهو أولى بها فأسألك أن يقرع ويخرج سهمه» وما ورد في بعض الروايات: «اللهمّ أنت اللَّه لا إله إلّاأنت عالم الغيب والشهادة ... وبيّن لنا أمر هذا المولود» «6» وفي بعضها الآخر: «ما من قوم فوّضوا أمرهم إلى اللَّه عزّوجلّ وألقوا سهامهم إلّاخرج السهم الأصوب» «7».

الأمر الرابع: القرعة لكلّ أمر مشكل

إنّا لم نظفر بما إشتهر في ألسنة المعاصرين من التعبير ب «القرعة لكلّ أمر مشكل» في ما

انوار الأصول، ج 3، ص: 442

تتبّعناه من الروايات، بل الوارد في ما رواه الصدوق في الفقيه والشيخ في التهذيب عن محمّد بن حكيم عن أبي الحسن موسى عليه السلام: «كلّ مجهول ففيه القرعة» «1» ولذلك لابدّ من البحث في أنّ المراد من المجهول هل هو المجهول واقعاً: أو واقعاً وظاهراً؟ فإن كان المراد هو الثاني فلازمه أنّ القرعة أمارة حيث لا أمارة ولا أصل، وإن كان المراد هو الأوّل فيقع التعارض بينه وبين سائر الاصول والأمارات، وقد مرّ أنّ الصحيح هو الثاني فلا نعيد.

إن قلت: أنّ رواية محمّد بن حكيم (كلّ مجهول ففيه القرعة) غير وافٍ لإثبات هذه المسألة المهمّة.

قلنا: الدليل على كون القرعة للأمر المجهول المطلق ليس منحصراً في هذه الرواية بل قد عرفت أنّ بناء العقلاء الذي أمضاه الشارع (مع توسعة قد عرفتها) أيضاً على الرجوع إلى القرعة في خصوص هذه الموارد.

أضف إلى ذلك ما

يستفاد من الروايات الخاصّة الكثيرة الواردة في موارد مختلفة، فإنّ جميعها وردت فيما هو مجهول مطلقاً لا أمارة فيها ولا أصل، ويمكن اصطياد العموم منها فيكون دليلًا برأسه في هذه المسألة المهمّة.

الامر الخامس: ما المراد من المجهول

ممّا يترتّب على كون المراد من المجهول هو المجهول المطلق عدم لزوم تخصيص في أدلّة القرعة فضلًا عن كونها موهونة بكثرته كما أشرنا إليه سابقاً.

إلى هنا قد ظهر أوّلًا: وجه تقديم الاستصحاب على القرعة ووروده عليها، وثانياً: عدم تخصيصها بمورد فضلًا عن كونها موهونة بكثرة التخصيص، وثالثاً: إنّها أمارة حيث لا أمارة ولا أصل فيما كان له واقع مجهول.

تمّ الكلام عن مبحث الاستصحاب، وبه تمّ الكلام عن المقصد السابع من مباحث الاصول.

والحمد للَّه ربّ العالمين.

المقصد الثامن في تعارض الأدلّة والتعادل والتراجيح

اشارة

- مقدّمة:

1- عنوان المسألة

2- تعريف التعارض 3- التخصيص والتخصّص والحكومة والورود

4- عدم وجود التعارض بين العناوين الأوّلية والعناوين الثانوية

5- موارد الجمع العرفي ليست من التعارض:

ضوابط الجمع الدلالي العرفي 6- الفرق بين التعارض والتزاحم 7- موارد التعارض الفصل الأوّل: في مقتضى الأصل الأوّلي في المتعارضين الفصل الثاني: في مقتضى الأصل الثانوي في المتعارضين:

المقام الأوّل: في أخبار التعادل وحكم المتعارضين بعد التعادل المقام الثاني: في أخبار التراجيح ولزوم أعمال المرجّحات قبل التعادل:

الإقتصار على المرجّحات المنصوصة وعدمه ميزان التعدّي من المرجّحات المنصوصة بناءً على جوازه شمول التخيير أو الترجيح لموارد الجمع العرفي وعدمه الفصل الثالث: في إنقلاب النسبة

الفصل الرابع في ترتيب المرجّحات الفصل الخامس في المرجّحات الخارجيّة

أقسام الشهرة: الروائية والفتوائية والعمليّة

لماذا تكون مخالفة العامّة من المرجّحات التعارض بين العامين من وجه انوار الأصول، ج 3، ص: 445

8- في تعارض الأدلّة والتعادل والتراجيح

المقدمة:
اشارة

تعارض الأدلّة من أهمّ المسائل الاصوليّة، أمّا كونه مسألة اصوليّة فلأنّ موضوع علم الاصول إمّا أن يكون هو الأدلّة بذواتها فلا إشكال في أنّ التعادل أو التراجيح وصفان عارضان على ذوات الأدلّة لأنّ المراد من التعادل هو تعادل الدليلين وتساويهما، والمراد من الترجيح هو الترجيح بين الدليلين، وإمّا أن يكون الموضوع مطلق الحجّة في الفقه كما ذهب إليه بعض الأساتذة الأعلام، فكذلك لا إشكال في أنّ البحث عن تعادل الدليلين أو الترجيح بينهما بحث عن عوارض الحجّة، وهكذا لو قلنا أنّ الموضوع هو الأدلّة بوصف حجّيتها، فإنّ البحث عن التعادل والترجيح إنّما هو بعد ثبوت الحجّية لكلّ من الدليلين في نفسه ومع قطع النظر عن التعارض، وإلّا فلو لم يكن الدليل حجّة في ذاته لا تصل النوبة إلى مسألة التعارض، وعلى هذا يكون ما نحن فيه من المسائل الاصوليّة حتّى عند من

يرى البحث عن حجّية خبر الواحد من المبادى ء.

وأمّا كونه من أهمّ المسائل الاصوليّة فلجريانه وسريانه في جلّ الأبواب الفقهيّة، ولذلك اعترض بعض الأعلام في مصباح الاصول على جعله خاتمة لعلم الاصول بزعم أنّه مشعر بكونه خارجاً عنه كمبحث الاجتهاد والتقليد، ولكن الصحيح أنّه لا إشعار له بهذه الجهة، لأنّ المراد من عنوان الخاتمة أنّه يختم مسائل الاصول ويكون أخرها، كما أنّه كذلك في سائر موارد استعماله كخاتم الأنبياء وخاتم المجتهدين والفقهاء.

وكيف كان لابدّ في المقدّمة من رسم امور:

الأمر الأوّل: عنوان المسألة

وهو في كلمات بعضهم «التعادل والترجيح» (بصيغة المفرد) وفي كلمات بعض آخر

انوار الأصول، ج 3، ص: 446

«التعادل والتراجيح» (بصيغة الجمع) ولا يخفى أنّ وجه هذا التفاوت في خصوص الجزء الثاني أنّ التعادل يكون بمعنى التساوي وهو قسم واحد لا يتصوّر فيه التعدّد، وأمّا الترجيح فحيث أنّ له أنواعاً مختلفة وجهات عديدة (كالترجيح من ناحية السند والترجيح من ناحية الدلالة وهكذا الترجيح بالمرجّحات الخارجيّة) فتارةً يؤتى بلفظ المفرد ويراد منه جنس الترجيح حتّى يعمّ جميع أنواعه، واخرى بلفظ الجمع، والأمر سهل.

الأمر الثاني: تعريف التعارض

وهو في اللغة من التعرّض بمعنى البروز والظهور، تعارضاً أي تظاهراً وتبارزاً، ومنه المبارزة والتعبير ب «برز إليه»، حيث إنّ المبارزة والنزاع في ميدان الحرب يلازم بروز المقاتل وظهوره في مقابل عدوّه.

وأمّا في الاصطلاح فقد عرّفه المحقّق الخراساني رحمه الله ب «تنافي الدليلين أو الأدلّة بحسب الدلالة، وفي مقام الإثبات على وجه التناقض أو التضادّ حقيقة أو عرضاً بأن علم بكذب أحدهما إجمالًا مع عدم امتناع اجتماعهما أصلًا».

والتضادّ الحقيقي مثل ما إذا أمر أحد الدليلين بصلاة الجمعة ونهى الآخر عن إتيانها، والتضادّ العرضي مثل ما إذا أمر أحدهما بصلاة الجمعة والآخر بصلاة الظهر في يوم الجمعة فإنّ وجوب كلّ من الظهر والجمعة وإن لم يمتنع اجتماعهما ذاتاً ولكن حيث نعلم بالإجماع بل الضرورة بعدم وجوب أكثر من خمس صلوات في اليوم والليلة فيتنافيان بالعرض.

والمراد من التناقض أن يقول أحدهما بوجوب صلاة الجمعة، والآخر بعدم وجوبها، ومن التضادّ أن يقول أحدهما بوجوب صلاة الجمعة والآخر بحرمتها مثلًا.

والمراد من قوله «بحسب الدلالة ومقام الإثبات» نفس ما جاء في تعريف الشيخ الأعظم رحمه الله، وهو «تنافي الدليلين بحسب مدلولهما»، وليس هذا عدولًا عن تعريف الشيخ رحمه الله من هذه

الجهة كما ذهب إليه بعض الشرّاح للكفاية، حيث إنّه من الواضح أنّ التعارض عبارة عن تنافي مدلولي الدليلين (أي الوجوب والحرمة) وإنّه لا تعارض بين الدلالتين.

أقول: ومع ذلك كلّه يرد على تعريف المحقّق الخراساني رحمه الله أوّلًا: أنّ قيد «بحسب الدلالة ومقام الإثبات» إضافي ومن قبيل توضيح الواضح، لأنّ من الواضح أنّ التعبير بتعارض الأدلّة

انوار الأصول، ج 3، ص: 447

ناظر إلى الدليل بما هو دليل وفي مقام الإثبات، ولا ربط للتعارض بمقام الثبوت لأنّه لا يصحّ للمولى الحكيم إنشاء حكمين متضادّين أو متناقضين في الواقع.

ثانياً: التعبير بالتضادّ لا يناسب الامور الاعتباريّة فإنّه إنّما يتصوّر في الامور التكوينيّة لأنّ الاعتبار سهل المؤونة، فيمكن في عالم الاعتبار أن يعتبر وجوب شي ء مع اعتبار حرمته، نعم أنّه لا يصدر من المولى الحكيم لكونه لغواً وقبيحاً.

وبعبارة اخرى: التضادّ فيها مستحيل بالغير لا بالذات، ولذلك نعبّر عنه بشبه التضادّ.

وثالثاً: التضادّ بالعرض في مثل وجوب صلاة الجمعة بالنسبة إلى وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة يرجع إلى التضادّ الحقيقي لأنّ التضادّ فيه حقيقة يكون بين ثلاث أدلّة (لا دليلين) وإن كان إثنان منها في جانب (وهما الدليلان المذكوران في المثال) ودليل واحد في جانب آخر، وهو الإجماع أو الضرورة الدالّة على عدم جواز الجمع بينهما، فإنّ مدلولهما الالتزامي جواز الجمع، ومدلول الإجماع أو الضرورة عدم جواز الجمع، فيتضادّان.

فالأولى في تعريف التعارض أن يقال: التعارض هو تنافي الدليلين أو الأدلّة بحيث لا يمكن الجمع بينهما، فعلى هذا يخرج منه موارد التخصيص والتخصّص والورود والحكومة وجميع موارد الجمع العرفي.

الأمر الثالث: التخصيص والتخصّص والحكومة والورود وبيان الفرق بينها

إعلم أنّ التخصص عبارة عن خروج شي ء عن موضوع حكم آخر تكويناً كخروج زيد الجاهل عن قولك «أكرم العلماء» وكخروج العلم الوجداني عن أدلّة الاصول العمليّة.

والتخصيص

عبارة عن خروج شي ء عن حكم دليل آخر مع حفظ موضوعه كخروج زيد العالم عن قولك «أكرم العلماء».

وأمّا الورود فهو عبارة عن خروج شي ء عن موضوع حكم آخر حقيقة ولكن بعد ورود دليل شرعي، نظير خروج غسل الجمعة فيما إذا دلّ على وجوبه خبر الثقة، عن موضوع قبح العقاب بلا بيان، فإنّه خرج عن موضوع اللّابيان حقيقة ولكن بالتعبّد الشرعي.

والحكومة عبارة عن أن يكون دليل ناظراً إلى دليل آخر ومفسّراً له وموجباً للخروج انوار الأصول، ج 3، ص: 448

عن الموضوع (أو المتعلّق أو الحكم) ولكن تعبّداً لا حقيقة، كقولك: «زيد ليس بعالم» بالنسبة إلى قولك: «أكرم العلماء»، وكذلك دخول موضوع في أحدهما توسعة بالتعبّد.

فنلاحظ أنّ الورود شبيه التخصّص في كون كلّ منهما خروجاً عن الموضوع حقيقة، والفرق بينهما أنّ الخروج في أحدهما تكويني وفي الآخر بعد ورود الدليل الشرعي، كما أنّ الحكومة شبيه التخصيص في كون كلّ منهما إخراجاً للموضوع تعبّداً إلّاأنّ أحدهما (وهو التخصيص) إخراج للموضوع بلسان المعارضة، بينما الحكومة إخراج له بلسان التوضيح والتفسير، نعم هذا في ما إذا كان لسان الدليل الحاكم لسان تضييق لا توسعة، وإلّا فلا ربط بينهما.

ثمّ إنّ تعابير الأصحاب في تفسير الحكومة مختلفة فقال شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله أنّها عبارة عن أن يكون أحد الدليلين شارحاً ومفسّراً للدليل الآخر بمدلوله اللفظي.

وقال المحقّق الخراساني رحمه الله: هى أن يكون أحدهما ناظراً إلى بيان كميّة ما اريد من الآخر.

وقال المحقّق النائيني رحمه الله: هى أن يكون أحدهما بمدلوله المطابقي ناظراً إلى التصرّف في الآخر إمّا في عقد وضعه إثباتاً أو نفياً، أو عقد حمله.

أقول: أحسنها هو تعبير الشيخ الأعظم رحمه الله إذا إنضمّ إليه قيد، بأن نقول: الحكومة أن يكون

أحد الدليلين شارحاً ومفسّراً للدليل الآخر بالدلالة اللفظيّة المطابقيّة أو التضمّنيّة أو الالتزاميّة، وبهذا التعميم في الدلالة اللفظية لا يرد إشكال المحقّق النائيني رحمه الله عليه بأن لا يعتبر في الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي مفسّراً لمدلول الآخر وشارحاً له بحيث يكون مصدّراً بأحد أداة التفسير أو ما يلحق بذلك، فإنّ غالب موارد الحكومات لا ينطبق على هذا الضابط.

وممّا ذكرنا من التعميم يظهر عدم ورود هذا الإيراد، إذ إنّه وارد بناءً على انحصار الدلالة اللفظيّة في المطابقية كما لا يخفى.

وبما ذكرنا يتّضح أيضاً أنّ في تمام موارد الحكومة يوجد للدليل الحاكم نظر إلى الدليل المحكوم ويكون هو مفسّراً له ولو في حدّ الدلالة الالتزامية كما في أدلّة الأمارات كمفهوم آية البناء بالنسبة إلى أدلّة الاصول كما مرّ في بعض الأبحاث السابقة.

كما يتّضح وجه تقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم، حيث إنّه مفسّر للدليل المحكوم،

انوار الأصول، ج 3، ص: 449

ولا إشكال في أنّ المفسّر (بالكسر) يقدّم على المفسَّر (بالفتح).

وظهر بما ذكرنا أيضاً أنّ الحكومة على أقسام: فتارةً يكون الدليل الحاكم ناظراً إلى التصرّف في موضع الدليل المحكوم توسعة أو تضييقاً، ومثال الأوّل قول المولى: «العادل عالم»، ومثال الثاني قوله: «إنّ العالم الفاسق ليس عندي بعالم».

واخرى يكون ناظراً إلى التصرّف في متعلّق الدليل المحكوم نظير قول المولى في مثال «أكرم العلماء»: «إنّ الإطعام ليس بإكرام» وقوله: «السلام إكرام».

وثالثة يكون ناظراً إلى التصرّف في حكم الدليل المحكوم كما إذا قال: «إنّما عنيت من وجوب إكرام العلماء وجوب إكرام الفقهاء خاصّة».

ورابعة يكون ناظراً إلى التصرّف في النسبة كقوله «إكرام الفاسق ليس بإكرام العالم».

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ المحقّق النائيني رحمه الله قسّم الحكومة إلى قسمين: ظاهريّة وواقعيّة، وقال في

توضيحه ما حاصله: أنّ الدليل الحاكم قد يكون في مرتبة الدليل المحكوم فتكون الحكومة واقعيّة، كما في حكومة قوله عليه السلام: «لا شكّ لكثير الشكّ» على أدلّة الشكوك، حيث إنّه يوجب اختصاص الأحكام المجعولة للشاكّ بغير كثير الشكّ في الواقع، وقد لا يكون في مرتبته بل يكون موضوع الدليل الحاكم متأخّراً رتبةً عن موضوع الدليل المحكوم، فتكون الحكومة حينئذٍ ظاهريّة، كما في حكومة الأمارات على الأدلّة الواقعيّة، فإنّها لا توجب اختصاص الأحكام الواقعيّة بغير من قامت عنده الأمارة على خلافها، بل غايتها هو الاختصاص في مقام الظاهر.

ثمّ يستنتج في ذيل كلامه أنّه لا يعتبر في الحكومة تأخّر تشريع الدليل الحاكم عن تشريع الدليل المحكوم بحيث يلزم لغوية التعبّد بدليل الحاكم لولا سبق التعبّد بدليل المحكوم فإنّ من أوضح أفراد الحكومة حكومة الأمارات على الاصول، مع أنّه يصحّ التعبّد بالأمارات انوار الأصول، ج 3، ص: 450

ولو لم يسبق التعبّد بالاصول، بل ولو مع عدم التعبّد بها رأساً «1».

أقول: في كلامه مواقع للنظر:

أوّلًا: أنّ الحكومة لها قسم واحد من دون فرق بين مواردها فإنّها واقعيّة في جميع الموارد، وجميعها ترجع إلى التخصيص واقعاً وحقيقة، غاية الأمر الدليل المحكوم قد يكون من الأحكام الواقعيّة، وقد يكون من الأحكام الظاهريّة، وهذا غير كون الحكومة ظاهرياً في بعض الموارد وواقعياً في بعض الموارد الاخرى، وبعبارة اخرى: التخصيص واقعي وإن كان المخصّص أو المخصِّص ظاهرياً.

ثانياً: أنّ رتبة الدليل الحاكم والدليل المحكوم واحدة في جميع موارد الحكومة، وإلّا لم يكن توضيحاً وتفسيراً، وأمّا في مورد الأمارات بالنسبة إلى الأحكام الواقعيّة فالصحيح أنّه لا معنى لحكومة الأمارات على الأحكام الواقعيّة، بل إنّها طرق إلى الواقع، وكما أنّ العلم طريق إليه تكويناً تكون الأمارات طرقاً

إليه تشريعاً.

وثالثاً: أنّا نعترف بلغوية التعبّد بدليل الحاكم لولا سبق التعبّد بدليل المحكوم، لأنّ الدليل الحاكم ناظر إلى الدليل المحكوم ومفسّر له، ومن الواضح أنّه لا معنى للتفسير مع عدم سبق دليل بعنوان المفسّر (بالفتح)، وهذا صادق حتّى بالنسبة إلى حكومة الأمارات على الاصول، لما مرّ من أنّها ناظرة إليها ومفسّرة لها ولو في حدّ الدلالة الإلتزامية اللفظية.

ومن هنا يظهر حال الأمارات في مقابل الاصول وأنّ الصحيح كونها واردة عليها.

توضيح ذلك: يحتمل في وجه تقديم الأمارات على الاصول أربعة وجوه: حكومتها عليها، ورودها عليها، إمكان الجمع والتوفيق العرفي بينهما، وتخصيص الاصول بالأمارات.

ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله هنا إلى الوجه الثالث (التوفيق العرفي) مع أنّه صرّح في أواخر الاستصحاب بالورود، وأراد من التوفيق العرفي ما يقابل الحكومة.

ولكنّه في غير محلّه، لأنّ المراد من الجمع العرفي إمّا كون الأمارات خاصّة بالنسبة إلى الاصول مطلقاً فقد مرّ عدم كونها كذلك، أو أنّ أدلّتها أظهر من أدلّة الاصول، ولا دليل عليه.

انوار الأصول، ج 3، ص: 451

وبهذا ينتفي الوجه الثالث والرابع، ويدور الأمر بين الحكومة والورود، وقد مرّ أنّ الحقّ ورود الأمارات على الاصول لأنّ الأمارة طريق إلى الواقع فيوجب رفع الحيرة والتردّد الذي هو معنى الشكّ المأخوذ في موضوع الاصول، ولو تنزّلنا عن ذلك فلا أقلّ من الحكومة، لما مرّ أيضاً من أنّ أدلّة الأمارات ناظرة إلى أدلّة الاصول ولو بمدلولها الالتزامي.

الأمر الرابع: عدم وجود التعارض بين العناوين الأوّلية والعناوين الثانويّة

لا إشكال في تقديم العناوين الثانويّة على العناوين الأوّلية وأنّه لا تعارض بينهما كما أشار إليه الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني رحمه الله في كلماتهما، وهو متفرّع على التعريف المذكور للتعارض، إذ إنّه بمعنى التنافر والتضادّ، ولا ريب في أنّه لا تضادّ بين أدلّة العنوانين، إنّما الكلام في وجه

تقدّم الثاني على الأوّل.

فظاهر كلمات الشيخ الأعظم رحمه الله أنّه من باب الحكومة، بينما ظاهر كلمات المحقّق الخراساني رحمه الله أنّه من باب الجمع العرفي حيث قال: «أو كانا على نحو إذا عرضا على العرف وفّق بينهما بالتصرّف في خصوص أحدهما كما هو مطّرد في مثل الأدلّة المتكفّلة لبيان أحكام الموضوعات بعناوينها الأوّلية، مع مثل الأدلّة النافية للعسر والحرج والضرر والإكراه والاضطرار ممّا يتكفّل لأحكامها بعناوينها الثانوية».

وفصّل بعض المحشّين على الكفاية بين العناوين الثانويّة فقال في مثل الضرر والحرج بالحكومة، وفي مثل الشروط والنذور بالجمع العرفي، فالأقوال في المسألة ثلاثة.

ولابدّ قبل الورود في أصل البحث من تعريف الأحكام الأوّليّة والأحكام الثانويّة (وقد بحثناه تفصيلًا في كتاب المكاسب مبحث ولاية الفقيه)، فنقول: الأحكام الأوّليّة أحكام ترد على الموضوعات الخارجيّة مع قطع النظر عن الطوارى ء والعوارض الخارجة عن طبيعتها كحكم الحرمة العارضة على عنوان الدم أو الميتة في قوله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ».

والأحكام الثانوية ما يرد على الموضوعات الخارجيّة مع النظر إلى الطوارى ء الخارجة عن ذاتها كحكم الحلّية العارضة على الميتة بما أنّها مضطرّ إليها.

وعلى هذا ليست نجاسة الماء في صورة تغيّر أحد أوصافه الثلاثة من الأحكام الثانويّة

انوار الأصول، ج 3، ص: 452

لأنّ عنوان التغيّر يكون من الإنقسامات الأوّلية للماء، فالماء بما هو ماء على قسمين: ماء متغيّر وماء غير متغيّر، كما أنّه يقسّم بذاته إلى الماء المضاف والماء المطلق أو إلى الكثير والقليل، بخلاف الاضطرار فلا يقال أنّ الماء على قسمين: ماء مضطرّ إلى شربه وماء غير مضطرّ إلى شربه.

ولذلك فإنّ من علامات العناوين الثانوية وخصوصياتها جريانها في كثير من الأبواب الفقهيّة والموضوعات المختلفة، بخلاف العناوين الأوّلية التي تجري في موضوعات خاصّة كعنوان التغيّر بالنسبة إلى

الماء.

كما يظهر ممّا ذكرنا أنّ العناوين الثانوية ليست منحصرة بعنوان الضرورة والاضطرار بل لها مصاديق كثيرة نذكر هنا أحد عشر عنواناً:

1- العسر والحرج 2- الضرر

3- الإكراه 4- الاضطرار

5- التقيّة

6 و 7 و 8- النذر والعهد والقسم 9- أمر الوالد أو نهيه 10- المقدّمية للواجب أو الحرام 11- الأهم والمهمّ إذا عرفت هذا فنقول: الحقّ في وجه تقديم العناوين الثانويّة على الاوليّة ما ذهب إليه الشيخ الأعظم رحمه الله وهو الحكومة، كما يظهر هو من ما ذكرنا من التعريف، حيث قلنا: أنّ العناوين الثانويّة تكون طارئة وعارضة على العناوين الأوّليّة، ولازمه النظر والتفسير وأنّه لا معنى للعناوين الثانويّة بدون العناوين الأوّلية، كما لا معنى لقوله تعالى: «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» إذا لم يكن في الرتبة السابقة جعل وتشريع.

وأمّا تفصيل بعض المحشّين على الكفاية فيرد عليه: أنّ الشرط لا يكون من العناوين الثانويّة بتاتاً حتّى يقال بأنّها حاكمة أو واردة، لأنّ الشرط مثل البيع والإجارة نوع معاقدة

انوار الأصول، ج 3، ص: 453

ومعاهدة، فكما أنّ قوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» يشمل البيع بالعنوان الأوّلي يشمل أيضاً الشروط التي في ضمنه كذلك.

وأمّا ما ذكره صاحب الكفاية من أنّه من باب التوفيق العرفي فإن كان مراده أنّ الجمع بينهما على وزان الجمع بين العام والخاصّ والظاهر والأظهر، فهذا أمر لا يمكن المساعدة عليه، لما عرفت من كون أحدهما حاكماً على الآخر، وإن كان المراد ما يشمل الحكومة (وإن كان خلاف مصطلح القوم) فلا مانع منه، ولكنّه لا يوافق ظاهر كلامه.

الأمر الخامس: موارد الجمع العرفي ليست من التعارض
اشارة

إذا كان أحد الدليلين أظهر من الآخر أو كان أحدهما نصّاً والآخر ظاهراً فلا إشكال في أنّ العرف يوفّق بينهما بتقديم الأظهر على الظاهر (إذا كان الأظهر قرينة على

التصرّف في الظاهر) والنصّ على الظاهر، فهما ليسا متعارضين عندهم إلّافي النظر البدوي.

وهذا ممّا لا إشكال فيه كبروياً، إنّما الإشكال فيما مثّلوا له بالعام والخاصّ والمطلق والمقيّد، أمّا المطلق والمقيّد فلأنّه إذا فهمنا الاطلاق من مقدّمات الحكمة (لا من اللفظ) كما هو مذهب المحقّقين من المتأخّرين، فمن المقدّمات عدم البيان في مقام البيان، ولا ريب أنّه بعد ورود المقيّد يتبدّل إلى البيان فيكون وارداً على المطلق.

وأمّا العام والخاصّ فلما مرّ في مبحث العام والخاصّ (إذا كان منفصلًا كما هو موضوع البحث في المقام) من أنّهما من قبيل المتعارضين المتضادّين عند العرف سواء صدر العام على نهج الجملة الخبريّة أو الجملة الإنشائيّة، فإذا قال الولي لعبده: «بع جميع أفراد الغنم» ثمّ قال غداً: «لا تبع هذه وهذه» يحمله العرف على التناقض والتضادّ أو على الغفلة أو الندم والبداء، وكذلك إذا سأل المشتري من البائع «هل يوجد عندك شي ء من ذلك الثوب؟» وقال البائع:

«بعتها كلّها» ثمّ قال في ساعة اخرى: «بعتها إلّاهذا المقدار» فلا إشكال في تكذيب المشتري إيّاه، وهكذا في المراسلات وفي المحاكم عند سؤال القاضي عن المتّهم فلو أجاب بالعام في مجلس والخاصّ في مجلس الآخر أو في مجلس واحد مع عدم اتّصال الخاصّ بالعام، لعُدّ كلامه متناقضاً، كما لا يخفى على من راجع العرف وصرف النظر عمّا إنغرس في الأذهان من كلام الاصوليين.

انوار الأصول، ج 3، ص: 454

ويمكن أن يستشهد على ذلك بفهم القدماء من المفسّرين حيث إنّهم كانوا يعاملون الخاصّ الوارد في القرآن الكريم معاملة الناسخ فيعدّونه ناسخاً للعام.

كما يمكن الاستشهاد أيضاً بما رواه الطبرسي رحمه الله في كتاب الإحتجاج في جواب مكاتبة محمّد بن عبداللَّه بن جعفر الحميري إلى صاحب الزمان عليه السلام

يسألني: بعض الفقهاء عن المصلّي إذا قام من التشهّد الأوّل إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه أن يكبّر فإن بعض أصحابنا قال: لا يجب عليه التكبير ويجزيه أن يقول: بحول اللَّه وقوّته أقوم وأقعد، فكتب عليه السلام في الجواب: أنّ فيه حديثين: أمّا أحدهما فإنّه إذا إنتقل من حالة إلى حالة اخرى فعليه التكبير، وأمّا الآخر فإنّه روي إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر ثمّ جلس ثمّ قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير وكذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى، وبأيّهما أخذت من جهة التسليم كان صواباً» «1» حيث إنّه حكم بالتخيير بين الروايتين مع أنّ أحدهما خاصّ والآخر عام كما هو ظاهر، لكنه عاملهما معاملة المتعارضين.

ولكن الإنصاف أنّ ما ذكرنا مختصّ بالعرف العام، وأمّا العرف الخاصّ فقد يكون على خلاف ذلك إذا علمنا أنّ سيرة المقنّن والشارع فيه جرت على بيان أحكامه وقوانينه تدريجيّاً كما أنّه كذلك في الشريعة الإسلاميّة، فالعرف بعد ملاحظة هذه السيرة لا يحكم بالتعارض في موارد العام والخاصّ وإن كانا منفصلين، ولذلك يحمل ما مرّ من معاملة القدماء من المفسّرين على غفلتهم عن هذه السيرة وعدم التفاتهم إلى هذه النكتة.

نعم، إنّ هذا جارٍ بالنسبة إلى الواجبات أو المحرّمات، وأمّا في المستحبّات فللشارع سيرة اخرى، وهى بيان سلسلة مراتب الاستحباب ودرجات المطلوبيّة، فيحمل العام فيها على بيان درجة منها والخاصّ على بيان درجة اخرى، ونتيجته عدم كونهما فيها من باب التخصيص ولا من باب التعارض، حيث إنّهما يجريان في خصوص موارد إحراز وحدة المطلوب لا تعدّده كما قرّر في محلّه.

ومن هنا يظهر الجواب عن الشاهد الثاني، وهو حديث الإحتجاج فإنّ مورده من المستحبّات، فالتخيير الوارد فيها ليس من سنخ

التخيير بين المتعارضين بل من قبيل تعدّد

انوار الأصول، ج 3، ص: 455

المطلوب والتخيير بين مراتب الاستحباب فهى خارجة عمّا نحن بصدده.

الضوابط الكلّية للجمع الدلالي العرفي

لا إشكال في أنّ الاصول لا تبحث عن القرائن الخاصّة الجزئيّة للجمع الدلالي بين المتعارضين التي لا تدخل تحت ضابطة كلّية، بل إنّما تبحث عن القرائن الكلّية التي تشكّل قاعدة عامّة وقانوناً كلّياً للجمع الدلالي، وهذه الضوابط والقرائن كثيرة نذكر منها أهمّها وهى:

1- إذا تعارض عام ومطلق، أي دار الأمر بين تخصيص عام وتقييد مطلق كما إذا قال المولى: أكرم عالماً ثمّ قال: لا تكرم الفسّاق، ووقع التعارض في العالم الفاسق (فالعالم مطلق يشمل العادل والفاسق منه، والفسّاق جمع محلّى باللام يدلّ على عموم الحكم لجميع أفراد الفاسق، فالنسبة بينهما عموم من وجه فيتعارضان في مادّة الإجتماع وهى العالم الفاسق)، ومثاله الشرعي تعارض قوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» رواية «نهي النبي عن الغرر» (لو فرضنا كون الرواية بهذا النحو، حيث إنّ المعروف بل المأثور «نهي النبي عن بيع الغرر» «1») فإنّهما يتعارضان في العقود الغررية كما لا يخفى، فقد يقال بترجيح ظهور العموم على الاطلاق أي تقديم التقييد على التخصيص، واستدلّ له بوجهين:

الأوّل: أنّ ظهور الاطلاق تعليقي أي معلّق على عدم بيان التقييد بحيث كان عدم البيان جزءاً من مقتضى الاطلاق، بخلاف ظهور العام فإنّه تنجيزي مستند إلى الوضع، فيكون ظهور العام بياناً للتقييد وليس للمطلق ظهور في ذاته.

الثاني: أنّ التقييد أغلب من التخصيص.

أقول: أمّا الوجه الثاني فواضح الفساد فإنّ التخصيص أيضاً كثير، وكثرته بمثابة حتّى قيل: «ما من عام إلّاوقد خصّ».

وأمّا الوجه الأوّل فأورد عليه المحقّق الخراساني رحمه الله بأنّه مبنى على كون الاطلاق معلّقاً

انوار الأصول، ج 3، ص: 456

على عدم البيان إلى الأبد، بينما هو

معلّق على عدم البيان في مقام التخاطب كما تقدّم تحقيقه في مبحث المطلق والمقيّد، فإذا لم يأت من جانب المتكلّم بيان في مقام التخاطب كما هو المفروض إنعقد ظهور الاطلاق وتنجّز.

وذهب المحقّق النائيني رحمه الله في فوائد الاصول «1» إلى اشتراط عدم البيان إلى الأبد في انعقاد ظهور الاطلاق ثمّ نقل من المحقّق الخراساني رحمه الله في بعض فوائده الاصوليّة أنّه قال: «إنّ اللازم علينا جمع كلمات الأئمّة عليهم السلام المتفرّقة في الزمان، ونفرض أنّها وردت في زمان ومجلس واحد، ويؤخذ ما هو المتحصّل منها على فرض الاجتماع» وقال: إنّ هذا الكلام منه ينافي ما ذهب إليه من أنّ العبرة على عدم البيان في مقام التخاطب لا مطلقاً.

وعلّق عليه المحقّق العراقي رحمه الله بأنّ الحقّ مع استاذنا المحقّق الخراساني رحمه الله، وأنّ ما أفاده في بعض فوائده لا ربط له بما نحن فيه، بل مراده منه أنّ كلمات المعصومين يفسّر بعضه بعضاً، فلو جمعا في كلام واحد لكان أحدهما قرينة على التصرّف في الآخر، وهذا لا ينافي ما أفاده من أنّ قوام ظهور المطلق بعدم إقامة القرينة على مرامه متّصلًا بكلامه.

أقول: أنّ العلمين وإن لم يذكرا هنا دليلًا على مدّعاهما، ولكن الإنصاف أنّ أقوى الدليل على عدم صحّة مقالة المحقّق الخراساني رحمه الله (وهى أنّ الاطلاق معلّق على عدم البيان إلى الأبد) هو أنّ لازم ما ذهب إليه عدم انعقاد الظهور لمطلق من المطلقات إلى آخر أزمنة الأئمّة المعصومين صلوات اللَّه عليهم أجمعين، وهو كما ترى، فإنّه لا ريب في صدور مطلقات كثيرة من جانب الرسول صلى الله عليه و آله والأئمّة الهادين عليهم السلام عمل بظهورها أصحابهم.

وعلى هذا فلا إشكال في أنّ ظهور الاطلاق

أيضاً منجّز، ولكن ظهور العام أقوى منه في الجملة، فإذا إنضمّت إليه بعض القرائن الاخر قدّم عليه، فلابدّ حينئذٍ من ملاحظة المقامات المختلفة والخصوصيات والقرائن الموجودة في كلّ مقام، فإن أحرزنا من مجموع ذلك كون ظهور العموم أقوى من ظهور الاطلاق قدّمناه عليه، وإلّا يقع التعارض بينهما وتصل النوبة إلى المرجّحات الاخر.

انوار الأصول، ج 3، ص: 457

2- إذا تعارض الاطلاق الشمولي (الذي هو بمنزلة العطف بالواو) مع الاطلاق البدلي (الذي هو بمنزلة العطف ب «أو») كقوله «أكرم عالماً» و «لا تكرم الفاسق» (فإنّ النسبة بينهما عموم من وجه ومحلّ التلاقي هو العالم الفاسق) فقد يقال أنّ اطلاق الشمولي يقدّم على الاطلاق البدلي.

واستدلّ له المحقّق النائيني رحمه الله بأنّ «مقدّمات الحكمة في الاطلاق الشمولي تمنع عن جريان مقدّمات الحكمة في الاطلاق البدلي، لأنّ من مقدّمات الحكمة في الاطلاق البدلي كون الافراد متساوية الأقدام، ومقدّمات الحكمة في الاطلاق الشمولي يمنع عن ذلك، ولا يمكن العكس» «1».

ويمكن أن يستدلّ له أيضاً بأنّ تقديم الاطلاق الشمولي يجتمع مع امتثال الاطلاق البدلي وعدم طرده، بخلاف العكس، فإنّه يوجب نفي بعض مصاديق المطلق الشمولي وترك العمل به.

3- إذا دار الأمر بين النسخ والتخصيص، كما إذا قال المولى «لا تكرم زيداً» وفرضنا مجي ء وقت العمل به، ثمّ قال: «أكرم العلماء» فورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاصّ، فيدور الأمر بين أن يكون الخاصّ مخصّصاً أو يكون العام ناسخاً، وهكذا إذا ورد الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعام، فيدور الأمر بين أن يكون الخاصّ ناسخاً للعام أو مخصّصاً له.

ومثاله الشرعي ما إذا فرضنا صدور النهي عن بيع الغرر في إبتداء الهجرة ونزول «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» بعد سنين، أو العكس، ففي الصورة الاولى إن قلنا بالتخصيص

كانت النتيجة عدم وجوب الوفاء بالبيع الغرري، وإن قلنا بأنّ العام يكون ناسخاً للخاصّ كانت النتيجة وجوب الوفاء حتّى في البيع الغرري، وفي الصورة الثانية (وهى ما إذا كان نزول «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» قبل صدور النهي عن بيع الغرر) إن قلنا بالتخصيص لم يجب الوفاء بالبيع الغرري من الأوّل، وإن قلنا بالنسخ (أي نسخ الخاصّ للعامّ) لم يجب الوفاء به من حين ورود الخاصّ لا من الأوّل.

وكيف كان، فقد ذهب المشهور إلى تقديم التخصيص على النسخ مطلقاً، ولكن ذهب بعض إلى تقديم النسخ مطلقاً، ومال إليه المحقّق الخراساني رحمه الله (خلافاً لما ذهب إليه في مبحث العام والخاصّ).

انوار الأصول، ج 3، ص: 458

واستدلّ المشهور على مقالتهم بأنّ النسخ قليل والتخصيص كثير بمثابة حتّى يقال: «ما من عام إلّاوقد خصّ» فيوجب شيوع التخصيص وندرة النسخ أن يكون ظهور الخاصّ في الدوام أقوى من ظهور العام في العموم.

واستدلّ المحقّق الخراساني رحمه الله في مقابل المشهور بأنّ هذا البحث من صغريات البحث السابق، أي دوران الأمر بين التقييد والتخصيص، فإنّ النسخ هنا يرجع إلى تقييد الاطلاق الزماني للخاصّ، والتقييد مقدّم على التخصيص، لأنّ تقديم التخصيص أي تقديم الخاصّ متوقّف على ظهوره في الدوام والاستمرار الزماني، وهو يستفاد من الاطلاق ومقدّمات الحكمة، فيكون معلّقاً على عدم البيان، والعموم الإفرادي للعام تنجيزي مستند إلى الوضع فيكون بياناً له.

وأجاب عن الوجه المعروف في ترجيح التخصيص على النسخ من غلبة الأوّل وندرة الثاني، بأنّ هذا ممّا لا يوجب إقوائيّة ظهور الكلام في الاستمرار الأزماني من ظهور العام في العموم الإفرادي، إذ ليست غلبة التخصيص مرتكزة في أذهان أهل المحاورة بمثابة تعدّ من القرائن المكتنفة بالكلام وتوجب اقوائيّة الظهور.

أقول: التحقيق في المسألة يستدعي تحليل ماهية

النسخ أوّلًا، فنقول: الصحيح أنّ النسخ ابطال للإنشاء كالفسخ.

توضيح ذلك: أنّ للحكم مرحلتين: مرحلة الإنشاء ومرحلة الفعليّة، وبعبارة اخرى: مرحلة الإرادة الاستعماليّة ومرحلة الإرادة الجدّية، والتقييد بالمنفصل إنّما هو تصرّف في الإرادة الجدّية وهكذا التخصيص، وأمّا الإرادة الإستعماليّة فهى باقية بقوّتها بخلاف النسخ، فإنّه إبطال للإنشاء من حين وروده نظير الفسخ فإنّ الفاسخ في خيار الفسخ يبطل إنشاء البيع حين الفسخ، وهذا ممّا ندركه بوجداننا العرفي وإرتكازنا العقلائي في القوانين الجديدة العقلائيّة، فكما أنّ فيها تخصيصات وتقييدات يدرجونها تحت عنوان التبصرة، وهى تمسّ بإرادتهم الجدّية في القوانين السابقة، كذلك لهم نواسخ تتعلّق بإرادتهم الإستعمالية بالنسبة إلى القوانين الماضية، وبالجملة أنّ النسخ هو الفسخ يتعلّق بالإنشاء (إلّا أنّ النسخ في القانون والفسخ في المعاملات والعقود) فلا يكون من قبيل التقييد الذي يتعلّق بالإرادة الجدّية.

هذا مضافاً إلى أنّ الإنشاء في القوانين كالإيجاد، ويكون بذاته باقياً في عالم الاعتبار إلى انوار الأصول، ج 3، ص: 459

الأبد، فدوامه واستمراره لازم لذاته وماهيّته، لا أنّه يستفاد من الاطلاق اللفظي لأدلّته حتّى نتكلّم عن تقييده وعدمه، وأمّا ما ورد في الحديث الشريف «حلال محمّد صلى الله عليه و آله حلال إلى يوم القيامة وحرامه ...» فهو ناظر إلى خاتمية الشريعة المقدّسة لا إلى الاطلاق اللفظي لأدلّة قوانينها.

فقد ظهر إلى هنا عدم تمامية ما استدلّ به على تقديم النسخ، والحقّ ما ذهب إليه المشهور وهو تقديم التخصيص، لأنّ النسخ يحتاج إلى دليل قطعي بخلاف التخصيص الذي يثبت حتّى بخبر الواحد الثقة.

هذا- مضافاً إلى أنّ سيرة الفقهاء في الفقه على تقديم التخصيص كما يشهد عليها عدم السؤال والفحص عن تاريخ صدور العام والخاصّ، فإنّ النسخ لابدّ فيه من الفحص عن التاريخ حتّى يتبيّن المقدّم

منهما والمتأخّر فيكون المتأخّر ناسخاً والمتقدّم منسوخاً، فعدم فحصهم عن تواريخ صدور الأحاديث من أقوى الدليل على ترجيحهم التخصيص على النسخ.

بقي هنا شي ء:

وهو إنّا بعد ملاحظة العمومات والتخصيصات الواردة في الكتاب والسنّة والأحاديث الصادرة عن الأئمّة المعصومين صلوات اللَّه عليهم نرى أنّ هناك مخصّصات وردت بعد حضور العمل بالعمومات، فورد مثلًا عام في الكتاب أو السنّة النبوية مع أنّ خاصّه ورد في عصر الصادقين عليهما السلام، فإن قلنا بكونه مخصّصاً للعام يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، وإن قلنا بكونه ناسخاً يلزم كون الإمام عليه السلام مشرّعاً، مع أنّه حافظ للشريعة، ولو قبلنا إمكان تشريعه ونسخه بعد توجيهه بإرادة كشف ما بيّنه النبي صلى الله عليه و آله عن غاية الحكم الأوّل وابتداء الحكم الثاني لم يمكن قبوله هنا، لأنّ غلبة هذا النحو من التخصيصات تأبى عن هذا التوجيه، فما هو طريق حلّ هذه المشكلة؟

وقد ذكر لحلّها وجوه:

1- أن يكن الخاصّ ناسخاً، ولكنّه قد نزل في عصر النبي صلى الله عليه و آله ولم تكن هناك مصلحة في إبرازه فأودع النبي صلى الله عليه و آله أمر إبرازه بيد الإمام عليه السلام، وبعبارة اخرى: أنّ النبي صلى الله عليه و آله أودع عندهم علم أجل الحكم وانتهائه، فهم يبيّنون غاية الحكم وأمده بعد حلول أجله.

انوار الأصول، ج 3، ص: 460

2- أن يكون الخاصّ مخصّصاً (لا ناسخاً) ولكنّه كاشف عن صدوره في عصر النبي صلى الله عليه و آله ووقت الحاجة به، فخفي علينا بأسباب مختلفة فظهر بيد الإمام عليه السلام فلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، ويشهد على إمكان هذا ما ثبت في التاريخ من منع كتابة الحديث في عصر بعض الخلفاء زعماً منهم أنّه

يمسّ كرامة كتاب اللَّه والإكتفاء به، كما تشهد عليه روايات تدلّ على أنّ كلّ ما قال به الأئمّة الهادون من أهل البيت عليهم السلام فإنّها من النبي صلى الله عليه و آله، وهى كثيرة، وقد جمعها في مقدّمة جامع أحاديث الشيعة فراجع.

3- أن نلتزم بجواز تأخير البيان عن وقت الحاجة إذا كان لمصلحة أهمّ، وهى مصلحة تدريجية بيان الأحكام، فكان تكليف السابقين هو العمل بالعموم ظاهراً مع إرادة الخصوص واقعاً.

ولقد أجاد المحقّق الحائري رحمه الله في درره حيث قال (في مقام الجواب عن أنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة قبيح عقلًا): أنّ «تأخير البيان عن وقت العمل ليس علّة تامّة للقبح كالظلم حتّى لا يمكن تخلّفه عنه، وإذا لم يكن كذلك فقبحه فعلًا منوط بعدم جهة محسّنة تقتضي ذلك» «1».

أقول: يرد على الوجه الأوّل أنّ كثيراً من هذه التخصيصات من أخبار الآحاد، مع أنّ النسخ يحتاج إلى دليل قطعي كما قرّر في محلّه.

وعلى الوجه الثاني بأنّه من البعيد جدّاً صدور هذه المخصّصات الكثيرة غاية الكثرة من جانب الرسول صلى الله عليه و آله ولم يصل إلينا شي ء منها، وما دلّ على أنّ رواياتهم عليهم السلام كلّها عن النبي صلى الله عليه و آله يمكن أن يكون ناظراً إلى العلم الذي ورثوه عنه صلى الله عليه و آله لا أنّ جميع ذلك صدر عنه صلى الله عليه و آله بمرأى من الناس ومسمع منهم.

فيتعيّن الوجه الثالث وهو تأخيرها عن وقت الحاجة لمصلحة أهمّ.

نعم، هيهنا وجه رابع بالنسبة إلى كثير من هذه التخصيصات والتقييدات، يحتاج للدقّة، وهو أنّ كثيراً منها في الواقع تطبيقات لكبريات الكتاب والسنّة على مصاديقها (نظير التفريعات والمسائل العمليّة الواردة في الرسائل العمليّة التي

لم يرد كثير منها في آية ولا رواية، ولكنّها من قبيل تطبيق الكبرى على الصغرى من جانب المجتهد) أو بيانات لتوضيح انوار الأصول، ج 3، ص: 461

الكبريات وتعيين حدودها وخصوصياتها.

فمثلًا تخصيص الإمام عليه السلام وجوب تقصير الصّلاة في السفر بسفر المعصية يرجع في الواقع إلى بيان أنّ آية التقصير قد وردت في مقام الإمتنان فلا تنطبق على سفر المعصية، وكذلك تخصيصه بالنسبة إلى من قصد إقامة عشرة أيّام بيان في أنّ تلك الكبرى مختصّة بمن يصدق عليه المسافر عرفاً، ومثل هذا الإنسان ليس مسافراً، وهكذا تقييد حكم صلاة المسافر بحدّ الترخّص إنّما هو لعدم كونه مسافراً عرفاً قبل بلوغ هذا الحدّ، ومثله تخصيص آية الخمس في أرباح المكاسب بمؤونة السنة فإنّه في الواقع بيان لكون موضوع الخمس في الآية إنّما هو عنوان الغنيمة، وهى عبارة عن الفائدة المحضة فلا تشمل مؤونة السنة، لأنّ من يستفيد طول السنة عشرة آلاف درهماً مثلًا ولكن تكون مؤونته بهذا المقدار فهو في الواقع لم ينتفع بشي ء ولم يغتنم غنيمة، وكذلك إستثناء البيع الغرري عن كبرى أُوفوا بالعقود، فهو يرجع في الواقع إلى بيان أنّ هذه الآية إرشاد إلى حكم عقلائي وأنّ بناء العقلاء لا يقوم على وجوب الوفاء بالبيع الغرري، إلى غير ذلك من الأمثلة، ولعمري أنّ هذا جواب متين بالنسبة إلى كثير من هذه التقييدات والتخصيصات.

4- إذا دار الأمر بين التصرّف في منطوق أحد الخبرين ومفهوم الآخر كقوله عليه السلام: «إذا خفى الأذان فقصّر» وقوله عليه السلام: «إذا خفيت الجدران فقصّر» (لو فرض صدور خبرين بهذين المضمونين) فبعد قبول كبرى مفهوم الشرط يقع التعارض بينهما، لأنّ مفهوم كلّ منهما ينافي منطوق الآخر، وقد وقع الكلام في مبحث المفاهيم (مفهوم

الشرط) بينهم وذكروا لحلّ هذا التعارض طرقاً عديدة، والمرتبط منها بما نحن فيه طريقان:

1- تقييد اطلاق مفهوم كلّ منهما بمنطوق الآخر، ولازمه كفاية أحد الأمرين في حصول حدّ الترخّص.

2- تقييد اطلاق منطوق كلّ منهما بمنطوق الآخر، ولازمه اعتبار خفاء الأذان والجدران معاً في وجوب التقصير.

وكيف كان: إن قلنا بأنّ المنطوق أقوى ظهوراً من المفهوم فالمتعيّن هو الطريق الأوّل، وإلّإ

انوار الأصول، ج 3، ص: 462

لا ترجيح لأحدهما على الآخر، فقد يقال: إنّ المنطوق أقوى ظهوراً من المفهوم، لأنّ الكلام إنّما سيق لبيان المنطوق، والمفهوم أمر تبعي ولازم للمنطوق، ولكنّ الإنصاف أنّ هذا دعوى بلا دليل بل كثيراً ما يساق الكلام لبيان المفهوم. كقولك: «سافر إن كان الطريق آمناً» فيما إذا كان مرادك النهي عن السفر في صورة عدم الأمن.

فالصحيح أن يقال: إنّ المقامات مختلفة، والمتّبع هو الضوابط الخاصّة والقرائن المكتنفة بالكلام، فيسقط الطريق الأوّل عن كونه ضابطة كلّية للجمع الدلالي.

5- إذا دار الأمر بين التخصيص والمجاز، وبعبارة اخرى: دار الأمر بين التصرّف في أصالة العموم أو رفع اليد عن أصالة الحقيقة، كقوله: «لا تكرم الفسّاق» مع قوله: «لا بأس بإكرام زيد الفاسق» فكما يمكن رفع اليد عن العموم بالتخصيص، كذلك يمكن رفع اليد عن ظهور النهي في الحرمة وحملها على الكراهة حتّى تجتمع مع عدم البأس.

ولا يخفى أنّ نظيره في الفقه كثير، فإنّه يتصوّر أيضاً فيما إذا كان العام بصيغة الأمر، فيدور الأمر بين رفع اليد عن ظهور العام في العموم ورفع اليد عن ظهور هيئة الأمر في الوجوب وحملها على الاستحباب.

والصحيح في هذه الموارد تقديم التخصيص على المجاز لأنّه أمر شائع معروف، والأوامر التي تحمل على الاستحباب أو النواهي التي تحمل على الكراهة وإن كانت كثيرة

إلّاأنّ تخصيص العام أكثر وأظهر.

نعم، قد يقدّم المجاز في هذه الموارد على التخصيص لبعض القرائن الخاصّة والضوابط الجزئيّة كما لا يخفى على من له إلمام بالمسائل الفقهيّة المناسبة للمقام.

الأمر السادس: الفرق بين التعارض والتزاحم

لا إشكال في أنّ المراد من التزاحم هنا ليس هو التزاحم في الملاكات بالنسبة إلى فعل واحد، كما إذا كان في فعل واحد جهة مصلحة تقتضي إيجابه، وجهة مفسدة تقتضي تحريمه، فليس للمكلّف دخل في هذا التزاحم، بل أمره وملاحظة الجهات وما هو الأقوى من الملاكات انوار الأصول، ج 3، ص: 463

فيه بيد المولى، فهو خارج عن محلّ الكلام، وإنّما المراد من التزاحم في ما نحن فيه هو تزاحم الأحكام في مقام الامتثال بأن توجّه إلى المكلّف تكليفان لا يقدر على الجمع بينهما، كما إذا توقّف إنقاذ الغريق على التصرّف في الأرض المغصوبة، أو كان هناك غريقان لا يقدر المكلّف إلّا على إنقاذ أحدهما.

والفرق بين هذا النوع من التزاحم وبين التعارض يتلخّص في أمرين:

1- علم المكلّف بكذب أحد الدليلين في باب التعارض مع علمه بصدقهما في باب التزاحم.

2- التعارض إنّما هو بين الدليلين وفي مقام الإثبات، أي مقام الدلالة والكشف عن الواقع، وبتعبير آخر: التعارض إنّما هو بين محتواهما في مقام الإثبات، فيكون أحدهما صادقاً في كشفه والآخر كاذباً.

وأمّا التزاحم فيقع بين الحكمين المدلولين الواقعيين من ناحية الامتثال بعد الفراغ عن تمامية دليلهما وصدق كليهما، ولذلك يكون المرجّحات في التعارض بما يرجع إلى الدلالة والسند وشبههما، وفي التزاحم باقوائية الملاك وأهميّة أحد الحكمين بالنسبة إلى الحكم الآخر.

نعم، قد يكون التزاحم سبباً للتعارض، وهو فيما إذا كان كلّ واحد من المتزاحمين ظاهراً في الفعليّة، فيقع التعارض حينئذٍ بين مدلوليهما للعلم بكذب أحدهما كما لا يخفى.

وقد ظهر بما ذكرنا

أوّلًا: أنّ الترجيح أو التخيير في باب التزاحم عقلي، لأنّ العقل يحكم بترجيح أقوى الملاكين على الآخر، ويحكم بالتخيير في المتساويين من ناحية الملاك، بخلاف باب التعارض حيث إنّ العقل يقضي بالتساقط فيه، ويكون الحكم بالتخيير أو بترجيح ما وافق كتاب اللَّه وطرح ما خالفه مثلًا، شرعياً وتعبّدياً، نعم لو صارت المرجّحات موجبة لتمييز الحجّة عن اللّاحجّة فيحكم العقل حينئذٍ بترجيح الحجّة فيكون الترجيح عقلياً، ولكنّه خارج عن باب التعارض لأنّه عبارة عن التنافي بين الحجّتين.

وثانياً: أنّ الحكم الأوّلي ومقتضى الأصل والقاعدة الأوّليّة في باب التعارض هو التساقط إلّاأن يدلّ دليل شرعي تعبّدي على الترجيح أو التخيير.

انوار الأصول، ج 3، ص: 464

بقي هنا شي ء:

وهو كلام للمحقّق النائيني رحمه الله قابل للمناقشة ولا يخلو ذكره عن فائدة أو فوائد ...

قال: إنّ الترجيح في باب التزاحم يكون بامور خمسة مترتّبة أجنبية كلّها عن مرجّحات باب التعارض:

1- أن يكون أحد الواجبين موسعاً والآخر مضيّقاً، فإنّ المضيّق يتقدّم على الموسع لا محالة.

2- أن تكون القدرة المعتبرة في أحد الحكمين عقليّة وغير معتبرة في الملاك، وإنّما كان اعتبارها في الخطاب من جهة حكم العقل بقبح خطاب العاجز، وفي الآخر شرعيّة ودخيلة في الملاك فإنّ ما اعتبر القدرة فيه عقلًا يتقدّم على ما اعتبر فيه شرعاً، والوجه فيه ظاهر.

3- أن يكون أحد الواجبين ممّا له البدل دون الآخر، فيتقدّم ما ليس له البدل على ما له البدل، والسرّ فيه واضح أيضاً.

4- أن يكون أحد المتزاحمين من دون أن يكون هناك شي ء من المرجّحات السابقة أهمّ من الآخر فيقدّم الأهمّ على المهمّ.

5- أن يكون أحد الحكمين سابقاً في الزمان على الآخر، فإنّ السابق منهما يكون معجّزاً مولوياً عن الآخر، فإذا دار الأمر بين

القيام في الركعة الاولى أو الثانية بحيث لا يتمكّن المكلّف من الجمع بينهما فلا محالة يكون القيام في الركعة الاولى هو المتعيّن، وبذلك يكون المكلّف عاجزاً عن القيام في الثانية فيسقط (وكما إذا دار الأمر بين الصيام في النصف الأوّل من شهر رمضان والنصف الآخر منه بحيث لا يتمكّن المكلّف من الصيام في جميع الشهر) «1».

ولكن يرد عليه:

أوّلًا: أنّ تعبيره في صدر كلامه بالمترتّبة مشعر بوجود ترتّب منطقي بين هذه الامور الخمسة مع أنّه لا دليل على ذلك أصلًا.

وثانياً: أنّ جميع هذه الامور خارجة عن باب التزاحم إلّاالأمر الرابع (وهو أن يكون أحدهما أهمّ من الآخر) وقد أشرنا إليه سابقاً.

انوار الأصول، ج 3، ص: 465

أمّا الأمر الأوّل: فلأنّ المتزاحمين عبارة عن ما يمكن الجمع بينهما، ولا إشكال في إمكان الجمع بين الموسّع والمضيّق عرفاً.

وهكذا الأمر الثاني: لأنّ الواجب المطلق لا يكون متزاحماً مع الواجب المشروط، فإنّ الحجّ المشروط بالاستطاعة مثلًا إنّما يصير واجباً فيما إذا لم يكن هناك واجب آخر، وبعبارة اخرى: لا تتحقّق الاستطاعة (التي هى شرط فعليّة وجوب الحجّ) إذا أدّى إتيان الحجّ ترك واجب أو فعل حرام.

وأمّا الأمر الثالث: فلأنّه إمّا أن يكون البدل فيما له البدل في عرض المبدل فيكون التيمّم مثلًا في عرض الوضوء، أو أنّه في طول المبدل، فإن كانا في عرض واحد كان المبدل (وهو الوضوء في المثال) واجباً تخييرياً، ولا إشكال في أنّه لا تعارض بينه وبين الواجب التعييني وهو تطهير الثوب في المثال، وإن كانا طوليين فلا محالة كان الوضوء أقوى ملاكاً من التيمّم فإتيانه مع القدرة على إتيان الوضوء موجب لتفويت درجة من المصلحة، فيدور الأمر في الواقع بين رفع اليد عن هذه الدرجة من المصلحة

وبين مصلحة تطهير الثوب فتدخل المسألة في باب الأهمّ والمهمّ فلا يصحّ الحكم بتقديم ما ليس له البدل على ما له البدل دائماً، بل لعلّ تلك الدرجة من المصلحة كانت أقوى وأهمّ من مصلحة التطهير.

وأمّا الأمر الخامس: فكذلك أنّه خارج من باب التزاحم، لأنّه متفرّع على فعليّة وجوب كلا الحكمين في عرض واحد. مع أنّ وجوب الركعة الثانية أو وجوب الصيام في النصف الثاني من شهر رمضان لا يكون فعليّاً قطعاً.

الأمر السابع: موارد التعارض
اشارة

إنّ التعارض إنّما يتصوّر في ما إذا كان كلّ واحد من الدليلين ظنيّاً، إمّا من ناحية السند، أو الدلالة، أو جهة الصدور، وأمّا إذا كان أحدهما قطعيّاً من جميع الجهات والآخر ظنّياً من بعض الجهات فلا إشكال في تقديم الأوّل على الثاني، ولا معنى لتعارضهما، فالتعارض بين الآيات القرآنية إنّما يتصوّر فيما إذا كانت كلّ واحدة من الآيتين المتعارضتين ظاهرة في الحكم، أي كانت ظنّية الدلالة، وهكذا في الخبرين المتواترين والإجماعين المحصّلين، فيتصوّر التعارض فيهما فيما إذا كان الخبر المتواتر ظاهراً في الحكم وكان للإجماع المحصّل معقد لفظي ظاهر في الحكم.

انوار الأصول، ج 3، ص: 466

ومن ذلك يعلم أنّه لا يتصوّر التعارض فيما إذا كان كلّ من الدليلين قطعيّاً من جميع الجهات لأنّه ينافي العلم بكذب أحدهما، بل لا يمكن فرض وجود دليلين قطعيين متخالفين حتّى يتكلّم فيهما من هذه الجهة.

هذا كلّه في ما أردنا إيراده بعنوان المقدّمة.

إذا عرفت هذا فلنتكلّم في أصل البحث فنقول (ومنه سبحانه نستمدّ التوفيق): هيهنا فصول:

الفصل الأوّل: في مقتضى الأصل الأوّلي في المتعارضين

فهل الأصل في التعارض التساقط، أو التخيير، أو الجمع مهما أمكن؟

قد يقال: بلزوم الجمع بينهما استناداً إلى القاعدة المعروفة «الجمع مهما أمكن أولى من الطرح» ولعلّ أوّل من طرحها ابن أبي جمهور الأحسائي في غوالي اللئالي وإن تصدّى للعمل بها شيخ الطائفة رحمه الله في الاستبصار (ولا يخفى أنّ الأولوية في هذه القاعدة هى الأولويّة التعيينية، أي وجوب الجمع مهما أمكن لا استحبابه نظير ما ورد في قوله تعالى: «وَأُوْلُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ» «1»

).

ولكنا نقول: الجمع يتصوّر على أقسام:

أوّلها: الجمع التامّ بين الدليلين بالعمل بتمامهما من دون أي تصرّف فيهما فإن أمكن ذلك ولو بتدبير وبذل جهد فلا إشكال في وجوبه بل هو خارج

عن محلّ الكلام ومن التعارض.

ثانيهما: أن يكون المراد منه العمل ببعض كلّ منهما أو بعض أحدهما وتمام الآخر عملًا يوافقه العرف ويستحسنه، فلا إشكال أيضاً في تعيّنه وكونه أولى من الطرح كما في العام والخاصّ، ولكنّه أيضاً خارج عن محلّ الكلام لأنّه لو كان بينهما تعارض فإنّما هو في النظر البدوي.

ثالثها: أن يكون المراد منه الجمع بين الحقوق المتزاحمة في باب التزاحم، كالجمع بين انوار الأصول، ج 3، ص: 467

حقوق الغرماء في المفلّس فلا ريب أيضاً في لزوم هذا الجمع بمقدار الإمكان ولكنّه أيضاً خارج عن محلّ الكلام كما لا يخفى.

رابعها: أن يكون المراد منه مطلق الجمع ورفع اليد عن ظاهر كليهما أو أحدهما بتأويلهما أو تأويل أحدهما من دون أي شاهد عرفي، وهو ما يسمّى بالجمع التبرّعي كما قد يظهر الإصرار عليه من بعض كلمات شيخ الطائفة رحمه الله في كتاب الإستبصار، وهذا هو الذي يمكن أن يتكلّم فيه في محلّ الكلام.

ولكن مثل هذا الجمع يرد عليه:

أوّلًا: أنّه لا دليل على أولويته عند الطرح من العرف والعقلاء.

وثانياً: أنّه يوجب الهرج والمرج في الفقه لأنّه لا ضابطة للجمع التبرّعي فيمكن لكلّ فقيه أن يختار نوع جمع خاصّ لروايتين غير ما يختاره الآخر.

وثالثاً: أنّه يعارض جميع أخبار الترجيح عند وجود المرجّحات أو حملها على مورد النادر، أي المورد الذي لا يمكن الجمع فيه ولو بالتأويل وإرتكاب خلاف الظاهر، وهكذا يعارض أخبار التخيير.

فظهر أنّه لا يمكن في المقام الجمع بين المتعارضين، فيدور الأمر بين التخيير والتساقط، فهل القاعدة الأوّليّة تقتضي التساقط مطلقاً، أو التخيير مطلقاً، أو التفصيل بين المباني المختلفة في حجّية الأمارات من الطريقيّة وأنواع السببيّة؟ الصحيح هو الأخير.

توضيح ذلك: أنّ المراد من الطريقيّة أنّ الأمارة لا

توجد مصلحة في مؤدّاها بل إنّها مجرّد طريق إلى الواقع فإن أصابت إلى الواقع فمؤدّيها هو الواقع، وإلّا فلا يكون شيئاً، والمراد من السببيّة أنّ الأمارة توجب حصول مصلحة في المؤدّى وهى على أقسام أربعة:

1- السببيّة الكاملة التي قال بها جمع كثير من العامّة في ما لا نصّ فيه، وحاصلها: أنّ الفقيه يجتهد في ملاحظة المصالح والمفاسد ثمّ يختار حكماً بلحاظها، وفي الواقع له وضع القانون الإلهي فيما لم يرد به نصّ، وهذا المعنى ثابت لجميع المجتهدين وإن اختلفوا في وضع هذه الأحكام اختلافاً كثيراً، فكلّ واحد منها حكم إلهي يمضيه اللَّه، وهذا هو التصويب الأشعري المعروف عندهم الباطل عندنا، وهذا النوع من التصويب غير مذكور في كلمات أصحابنا غالباً.

وهو من أشنع ما التزموا به ممّا يلزم منه نقض التشريعات الإسلاميّة وحاجتها إلى انوار الأصول، ج 3، ص: 468

الإكمال من ناحية البشر، بل أضعف ممّا يتداول في العصر الحاضر من وضع القوانين من ناحية الوكلاء المنتخبين من الناس فإنّ نتيجته قانون واحد لبلد واحد لا قوانين كثيرة بعدد آحاد الفقهاء، ولنعم ما قال مولانا أمير المؤمنين فيما روي عنه عليه السلام في نهج البلاغة في ذمّ الفتيا حيث قال: «ترد على أحدهم القضيّة في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ثمّ ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله، ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم، فيصوّب آراءهم جميعاً وإلههم واحد ونبيّهم واحد وكتابهم واحد أفأمرهم اللَّه سبحانه بالاختلاف فأطاعوه، أم نهاهم عنه فعصوه» «1».

وهو مخالف أيضاً لحديث الثقلين المتواتر بين الفريقين المانع عن ضلالة الامّة بصريحه، وخطبة النبي صلى الله عليه و آله في حجّة الوداع: «أيّها الناس ما من شي ء يقرّبكم

إلى الجنّة ويباعدكم عن النار إلّاوقد أمرتكم به وما من شي ء يقرّبكم إلى النار ويباعدكم عن الجنّة إلّاوقد نهيتكم عنه» «2»، بل هو مخالف لقوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ...» فإنّ الدين الكامل لا يحتاج في تشريعاته إلى أبناء البشر واتّباع امّته، والإنصاف أنّهم لم يقعوا في هذه المشكلة إلّابترك الثقل الأصغر أعني أئمّة أهل البيت عليهم السلام فهذه جريمة مترشحة عن ذاك الجرم ونتيجة لذلك الإثم.

وعلى كلّ حال لا يخفى في أنّه بناءً على هذا المعنى للسببيّة تدخل الأمارات المتعارضة في باب التزاحم ويكون مقتضى القاعدة حينئذٍ التخيير (بناءً على كون المصلحة السلوكيّة فيما يكون أمارة اقتضائيّة، وأمّا إذا قلنا بأنّها ثابتة في الأمارة الفعليّة فتدخل في باب التعارض كما هو ظاهر).

2- ما قال به المعتزلي وهو أنّ لنا واقعاً محفوظاً قد تصيبه الأمارة وقد تخطى ء، ولكنّها في صورة الخطأ توجد مصلحة أقوى من مصلحة الواقع في مؤدّيها، فتوجب سقوط الواقع عن الفعلية وانقلاب الحكم الواقعي إلى مؤدّى الأمارة.

وهذا المعنى أيضاً أجمع الأصحاب على بطلانه، ويكون مقتضى القاعدة بناءً عليه هو التخيير (على تفصيل مرّ ذكره بين الحجّية الاقتضائيّة والفعليّة) لأنّ الأخبار المتعارضة تدخل انوار الأصول، ج 3، ص: 469

حينئذٍ في باب التزاحم أيضاً.

نعم قد فصّل المحقّق الخراساني رحمه الله هنا وقال: هذا إذا قلنا بالسببيّة مطلقاً ولو فيما علم كذبه، وأمّا إذا قلنا بسببية الأمارات في خصوص ما لم يعلم كذبه من الخبرين المتعارضين بأن لا يكون ما علم كذبه مسبّباً لحدوث مصلحة أو مفسدة في المتعلّق، فحالهما حينئذٍ من حيث مقتضى القاعدة الأوّليّة كحالهما بناءً على الطريقيّة عيناً (من التساقط كما سيأتي) وهذا هو المتيقّن من أدلّة اعتبار الأمارة من سيرة العقلاء

والآيات والأخبار، وما ذكره قريب من الصواب.

3- السببيّة الظاهريّة، والمراد منها أنّ أدلّة حجّية الأمارة تجعل حكماً ظاهرياً مماثلًا لمؤدّيها، وهذا ما ذهب إليه جماعة من الأعاظم، وهو المقصود ممّا حكاه صاحب المعالم عن العلّامة رحمه الله من أنّ ظنّية الطريق لا تنافي قطعيّة الحكم، فمراده من الحكم القطعي إنّما هو الحكم القطعي الظاهري بلا ريب.

والنتيجة بناءً على هذا المعنى هو التساقط بناءً على كون الحكم الظاهري المماثل مجرّد طريق إلى الواقع فحسب، من دون حصول أي مصلحة فيه (كما هو الظاهر)، وأمّا إذا قلنا إنّها توجب في مؤدّيها حصول مصلحة أقوى من مصلحة الواقع أو المساوي لها فهو يشبه حينئذٍ مبنى السببيّة المعتزلية، ونتيجته التزاحم بين الأمارة التي أصابت إلى الواقع والأمارة التي أخطأت ولكنّها أوجبت مصلحة في مؤدّيها، فيكون مقتضى الأصل حينئذٍ التخيير أيضاً.

4- السببيّة السلوكيّة أو المصلحة السلوكيّة، والمراد منها أنّ أدلّة حجّية الأمارة لا توجد مصلحة في مؤدّيها في صورة الخطأ بل إنّها توجب حصول مصلحة في نفس السلوك على طبقها ما يعادل مصلحة الواقع، ففي مثال الأمارة التي قامت على وجوب صلاة الجمعة في زمان الغيبة لا توجب أدلّة حجّيتها حصول مصلحة في نفس صلاة الجمعة بل توجد مصلحة في العمل بقول الثقة مثلًا وسلوك هذا الطريق.

فعلى هذا المبنى أيضاً يكون مقتضى القاعدة التخيير والدخول في باب التزاحم (على تفصيل مرّ ذكره) ولكن لا دليل على حصول هذه المصلحة في مقام الإثبات، سلّمنا- لكن يرد عليه ما مرّ من إشكال المحقّق الخراساني رحمه الله من أنّ المتيقّن من أدلّة اعتبار الأمارة هو سببيّة الأمارات في خصوص ما لم يعلم كذبه من الخبرين.

انوار الأصول، ج 3، ص: 470

هذا كلّه بناءً على القول

بالسببية.

وأمّا على مبنى الطريقيّة فذهب أكثرهم إلى التساقط، واستدلّوا لذلك بوجود العلم الإجمالي بكذب أحد الطريقين، حيث إنّه يوجب عدم إعتماد العرف بكليهما فيسقط كلّ واحد منهما عن الطريقيّة والحجّية.

وإن شئت قلت: إنّ أغلب الطرق الشرعيّة مأخوذة من الطرق العقلائيّة وامضاء لها، ولا إشكال في أنّ العرف والعقلاء في باب الشهادات والدعاوي ومقام القضاء وغيرها يحكمون ببطلان كلا الطريقين إذا شهد كلّ منهما على خلاف الآخر مثلًا.

وللمحقّق الأصفهاني رحمه الله كلام في هذا المجال لا تخلو الإشارة إليه من فائدة، وحاصله: أنّ الاحتمالات المتصوّرة في ما نحن فيه أربعة:

1- أن يكون أحدهما لا بعينه حجّة، فإنّه إذا علمنا بكذب أحدهما لا بعينه صارت الحجّة أيضاً أحدهما لا بعينه، ولا إشكال في بطلان هذا الاحتمال لأنّ عنوان أحدهما لا بعينه انتزاع ذهني لا وجود له في الخارج، فلا تتعلّق به وصف الحجّية، فإنّ الصفات سواء كانت حقيقية أو اعتبارية لا تعرض إلّاللوجود الخارجي.

2- أن تكون الحجّة ما يكون مطابقاً للواقع، وهذا أيضاً لا يمكن الالتزام به لعدم العلم بمطابقة واحد منهما للواقع وإن إحتمل ذلك، فإنّ المفروض ظنّية كلّ واحد من الخبرين.

3- أن يكون كلّ منهما حجّة (وكأنّ مراده حجّية كليهما في مدلولهما الإلتزامي وهو نفي الثالث) ولكنّه أيضاً لا يمكن الالتزام به لأنّه وإن كان المقتضي للحجّية في كليهما موجوداً والمانع مفقوداً ولكن سنخ المقتضي لا يقبل التعدّد، لأنّ تنجّز الواقع الواحد على تقدير الإصابة لا يعقل فعليته في كليهما، فالواقع غير قابل للفعلية إلّافي أحدهما.

4- عدم حجّية كليهما، وهذا هو المتعيّن «1».

أقول: وهنا احتمال خامس وهو التخيير، ولكنّه أيضاً منتفٍ لعدم الدليل عليه من العقل ولا النقل (إلّا في مورد خاصّ).

فتلخّص من جميع ذلك

أنّ الأصل في المتعارضين التساقط.

انوار الأصول، ج 3، ص: 471

ثمّ إنّ ما ذكرنا من أنّ قضية التعارض بين المتعارضين هو التساقط إنّما هو بملاحظة الأصل الأوّلي والقاعدة الأوّليّة فيعمل به ما لم ينتقض بدليل خاصّ تعبّدي كما انتقض في الخبرين المتعارضين، فإنّ الإجماع والأخبار العلاجية قائمان على عدم سقوطهما بل لابدّ من العمل بأحدهما إمّا تعييناً أو تخييراً، نعم إنّها باقية على حالها في غير الخبرين سواء في الشبهة الحكميّة كما في الإجماعين المحصّلين المتعارضين أو في الشبهة الموضوعيّة كما في البيّنتين المتعارضتين.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ الصحيح بين المبنيين (مبنى السببيّة ومبنى الطريقيّة) إنّما هو مبنى الطريقيّة، وذلك لأنّ أدلّة حجّية الأمارات في الواقع امضاءً لبناء العقلاء، ولا إشكال في أنّهم يعتمدون على مثل قول الطبيب وأهل الخبرة بلحاظ كونه طريقاً إلى الواقع لا لحصول مصلحة في قول الطبيب ورأيه ولو كان مخالفاً مع الواقع.

إن قلت: إنّ إجازه الشارع العمل بمؤدّى الأمارة مطلقاً حتّى فيما إذا كان موجباً لتفويت الواقع تكشف عن توليد مصلحة في السلوك على طبقها، أي المصلحة السلوكيّة (لا المصلحة في نفس المؤدّى حتّى يرد عليه لزوم التصويب المجمع على بطلانه).

قلنا: إنّ إذنه بالعمل بالأمارة مطلقاً يكون من باب إنقطاع يد المكلّف عن الوصول إلى العلم بالواقع غالباً، وهذا ما يشهد عليه الوجدان في باب ملكيّة الأشخاص بالنسبة إلى أموالهم وفي باب الدعاوي في القضاء، فإنّه لا يحصل للإنسان العلم بملكيّة زيد مثلًا بالنسبة إلى أمواله أو بحقّانية أحد طرفي الدعوى، كما أنّه قد يوجب اعتبار حصول العلم للعسر والحرج كما في باب الطهارة والنجاسة والأملاك وغيرهما فإنّ حصول العلم فيها وإن كان ممكناً للإنسان أحياناً ولكنّه يستلزم منه العسر والحرج غالباً كما

لا يخفى.

لا أقول أنّ حجّية الأمارات تكون من باب إنسداد العلم (الإنسداد الكبير) بل أقول: أنّ الحكمة في حجّية غالب الأمارات وجود انسداد صغير في مواردها.

انوار الأصول، ج 3، ص: 472

ثمّ إنّه بناءً على تساقط الخبرين المتعارضين هل تبقى دلالتهما الالتزاميّة على نفي الثالث على حالها، أو أنّها أيضاً تسقط؟ فإذا قامت بيّنة (في الشبهة الموضوعيّة) على أنّ هذه الدار لزيد مثلًا وبيّنة اخرى على أنّها لعمرو فهل يثبت بهما عدم كونها لبكر، أو لا؟ وهكذا في الشبهات الحكميّة، فإذا قام الخبر على كون نصاب المعدن عشرين ديناراً ودلّ خبر آخر على أنّه دينار واحد فهل يبقى مدلولهما الالتزامي (وهو أصل وجود نصاب لوجوب الخمس في المعدن الدائر أمره بين العشرين والدينار الواحد) على حاله فتكون النتيجة عدم وجوب التخميس في الأقلّ من دينار، أو أنّه أيضاً يسقط وتكون النتيجة وجوب الخمس مطلقاً حتّى في الأقلّ من دينار؟ فيه قولان:

أحدهما: ما ذهب إليه المشهور منهم صاحب الكفاية والمحقّق النائيني والمحقّق الأصفهاني والمحقّق الحائري رحمه الله في الدرر وجماعة اخرى من المتأخّرين، وهو عدم سقوط الدلالة بالنسبة إلى نفي الثالث.

ثانيهما: ما ذهب إليه بعض الأعلام كما في مصباح الاصول من سقوطها حتّى من هذه الجهة.

ولابدّ قبل الورود في باب أدلّة الطرفين أن نشير إلى أنّ هذا البحث إنّما يجري فيما إذا احتملنا كذب كلا الخبرين، أي كان كلّ من الدليلين ظنّياً، وأمّا إذا علمنا صدق أحدهما من دليل خارج كالإجماع (كما أنّه كذلك في الخبرين الدالّين على وجوب صلاة الجمعة ووجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة حيث إنّ الإجماع قام على صدق أحدهما وعدم تكليف ثالث في البين كوجوب كليهما أو عدم وجوب كليهما) فلا موضع لهذا

النزاع، لأننا نقطع حينئذٍ بنفي الثالث.

وعلى أي حال فقد استدلّ للقول الأوّل بوجهين:

الوجه الأوّل: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله فإنّه قال: «نعم يكون نفي الثالث بأحدهما لبقائه على الحجّية وصلاحيته على ما هو عليه (من عدم التعيّن) لذلك لا بهما» وحاصله ما مرّ منه من أنّ ما يسقط عن الحجّية إنّما هو أحد الخبرين لا بعينه، فيكون أحدهما الآخر لا بعينه باقٍ على حجّيته، فينفي به الثالث، فلا يجوز الخروج عن مؤدّى المجموع.

ولكن يرد عليه: إشكال بحسب مقام الثبوت، وإشكال بحسب مقام الإثبات، أمّا الأوّل:

انوار الأصول، ج 3، ص: 473

فهو ما مرّ في كلام المحقّق الأصفهاني رحمه الله من أنّ الصفات الحقيقيّة والاعتباريّة لا تعرض إلّا للوجود الخارجي، ولا وجود لعنوان أحدهما لا بعينه في الخارج فلا يتعلّق به وصف الحجّية بل هو أمر إنتزاعي ذهني.

وإن شئت قلت: الغرض من جعل شي ء حجّة إنّما هو بعث المكلّف إليه وانبعاثه عنه في مقام العمل، ولا إشكال في عدم إمكان البعث إلى عنوان أحدهما لا بعينه، لعدم إمكان انبعاث المكلّف عنه عملًا، نعم يمكن الانبعاث إلى كليهما تخييراً ولكن لا ربط له بما نحن فيه.

وأمّا الثاني: فهو أنّه لا دليل على حجّية أحدهما لا بعينه في مقام الانبعاث، إذ إنّ أدلّة حجّية الأمارات كمفهوم آية النبأ لا تعمّ أحد العدلين (مثلًا) لا بعينه. وبعبارة اخرى: ليس عنوان أحدهما لا بعينه مصداقاً من مصاديق خبر العادل في مفهوم الآية (إن جاءكم عادل فلا تبيّنوا).

الوجه الثاني: ما استدلّ به بعض الأعلام، وهو أنّ الخبرين المتعارضين يشتركان في نفي الثالث بالدلالة الالتزاميّة فيكونان معاً حجّة في عدم الثالث، وتوهّم أنّ الدلالة الالتزاميّة فرع الدلالة المطابقيّة وبعد سقوط المتعارضين في المدلول

المطابقي لا مجال لبقاء الدلالة الالتزاميّة لهما في نفي الثالث- فاسد فإنّ الدلالة الالتزاميّة إنّما تكون فرع الدلالة المطابقية في الوجود لا في الحجّية» «1».

ولكن يرد عليه:

أوّلًا: أنّ هذا صحيح في مقام الثبوت لا في مقام الإثبات لأنّ أدلّة الحجّية في مقام الإثبات إنّما تعمّ الدلالة الالتزاميّة بتبع الدلالة المطابقيّة ومن طريقها وفي طولها لا في عرضها، وبعد فرض عدم شمولها للمدلول المطابقي لا يبقى مجال لحجّية المدلول الالتزامي، وبعبارة اخرى: أدلّة حجّية الأمارات لا تشمل شيئاً من المتعارضين من أوّل الأمر للزوم التناقض، فلا يبقى مورد للدلالة الالتزاميّة كما لا يبقى مورد للدلالة المطابقيّة.

وثانياً: أنّه مخالف للسيرة العقلائيّة والإرتكازات العرفيّة، فإنّها قائمة على سقوط الدلالة الالتزاميّة بتبع الدلالة المطابقيّة، فإذا أخبر ثقة بقدوم زيد يوم الجمعة وأخبر ثقة آخر بقدومه انوار الأصول، ج 3، ص: 474

يوم السبت، فلا إشكال في سقوط كليهما عن الحجّية عند العرف حتّى في مدلولهما الالتزامي، وهو عدم قدوم زيد يوم الأحد، ولذا يبقى عندهم احتمال قدومه يوم الأحد، وهكذا إذا قامت بيّنة على أنّ هذه الدار لزيد وقامت بيّنة اخرى على كونها لعمرو، فبعد تساقطهما لا يبقى مجال لنفي احتمال كونها لشخص ثالث.

وثالثاً: أنّه مخالف لما يستفاد من مقبولة عمر بن حنظلة التي تدلّ على لزوم الأخذ بأحوط الاحتمالات فيما إذا تعارض الخبران لا بأحوطهما فإنّ لازمها عدم نفي الثالث، أي سقوط دلالتهما الالتزاميّة على نفي الثالث، ولكن سيأتي الحديث عنها والنقاش في دلالتها فانتظر.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ الصحيح في المسألة هو القول الثاني، وهو عدم نفي الثالث، كما قد ظهرت الثمرة المترتّبة على هذا البحث، حيث إنّه بناءً على نفي الثالث لا يمكن الرجوع إلى الإطلاقات والاصول العمليّة بعد

سقوط الخبرين، ففي مثال دوران الأمر بين العشرين والواحد في نصاب المعدن لابدّ من الجمع بين الخبرين والأخذ بأقلّ النصابين لانتفاء احتمال ثالث في البين (وهو عدم اعتبار النصاب رأساً ووجوب الخمس حتّى في الأقل من دينار) مع أنّه بناءً على القول الثاني وهو عدم نفي الثالث يمكن الرجوع إليها، وهى في المثال أصالة إطلاقات وجوب الخمس في المعدن، وهى تقتضي وجوب الخمس حتّى في الأقل من دينار، أي تقتضي عدم اعتبار النصاب رأساً.

هذا كلّه في الفصل الأوّل، وهو مقتضى الأصل الأوّلي في المتعارضين.

الفصل الثاني: في مقتضى الأصل الثانوي في المتعارضين
اشارة

لا شكّ في انتقاض الأصل الأوّلي (أصالة التساقط في الدليلين المتعارضين) في الأخبار المتعارضة، فقد قام الدليل فيها على عدم سقوط كليهما عن الحجّية، والكلام فيه يقع في مقامين:

1- في أخبار التعادل وحكم الخبرين المتعارضين بعد التعادل والتكافؤ.

2- في أخبار التراجيح ولزوم أعمال المرجّحات قبل أن تصل النوبة إلى التعادل والتكافؤ.

المقام الأوّل: في أخبار التعادل
اشارة

فالأخبار الواردة في هذا المجال على طوائف خمسة:

1- ما تدلّ على أنّ الحكم هو التخيير.

2- ما تدلّ على لزوم العمل بأحوط الخبرين.

3- ما تدلّ على لزوم العمل بالاحتياط مطلقاً، أي بأحوط الاحتمالات الجارية في المسألة لا بأحوط الخبرين.

4- ما تدلّ على لزوم الأخذ بالأحدث من الخبرين.

5- ما تدلّ على لزوم التوقّف والإرجاء إلى لقاء الحجّة عليه السلام.

أخبار التخيير

أمّا الطائفة الاولى: فهى روايات كثيرة:

1- ما رواه الحسن بن الجهم عن الرضا عليه السلام قال: قلت له: «تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة فقال: ما جاءك عنّا فقس على كتاب اللَّه عزّوجلّ ... قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيّهما الحقّ، قال: فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت» «1».

2- ما رواه الحارث بن المغيرة عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة فموسّع عليك حتّى ترى القائم عليه السلام فتردّ إليه» «2».

ودلالة هاتين الروايتين تامّة على المقصود وإن أُورد على سندهما بالارسال.

3- ما رواه علي بن مهزيار قال: «قرأت في كتاب لعبداللَّه بن محمّد إلى أبي الحسن عليه السلام اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبداللَّه عليه السلام في ركعتي الفجر في السفر، فروى بعضهم صلّها في المحمل، وروى بعضهم لا تصلّها إلّاعلى الأرض فوقّع عليه السلام: موسّع عليك بأيّةٍ عملت» «3».

ولكن يرد عليه: بأنّ مورده هو التخيير في نافلة الفجر المستحبّة فيحمل على التخيير

انوار الأصول، ج 3، ص: 476

بين مراتب الفضيلة فلا يمكن التعدّي عنه إلى الواجبات، لأنّ حكم المتعارضين في المستحبّات غير حكمهما في الواجبات كما مرّ.

4- ما رواه الطبرسي في الإحتجاج في جواب مكاتبة محمّد بن عبداللَّه بن جعفر الحميري إلى صاحب الزمان عليه السلام وهو «1» ما

مرّ ذكره سابقاً من رواية التكبير حين الانتقال من حالة إلى حالة اخرى، ولكن قد مرّ أنّ مورده أيضاً هو التخيير في المستحبّات.

5- مرسلة الكليني حيث قال: وفي رواية اخرى: «بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك» «2». ولكن لعلّها مأخوذة من الروايات السابقة.

6- معتبرة سماعة عن أبي عبداللَّه قال: «سألته عن رجل اختلف فيه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه: أحدهما يأمر بالأخر والآخر ينهاه، كيف يصنع؟ قال عليه السلام: يرجئه حتّى يلقى من يخبره، فهو في سعة حتّى يلقاه» «3».

وهى أيضاً قابلة للمناقشة حيث إنّ دلالتها على المطلوب مبنيّة على أن يكون المراد من «سعة» فيها هو التخيير مع أنّه يحتمل أن يكون المراد منها الرجوع إلى الأصل، أي البراءة.

لا يقال: إنّها مغيّاة بملاقاة الإمام فتكون الرواية مختصّة بعصر الحضور، لأنّا نقول: إنّ عصر الغيبة أولى بالسعة لعدم إمكان الوصول إلى قول المعصوم عليه السلام.

7- ما رواه أحمد بن الحسن الميثمي: «أنّه سأل الرضا عليه السلام يوماً ... إلى أن قال: وبأيّهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والإتّباع ...» «4».

ولكن موردها أيضاً المستحبّات حيث ورد قبل الفقرة المذكورة: «وما كان في السنّة نهي إعافة أو كراهة ثمّ كان الخبر الأخير خلافه فذلك رخصة فيما عافه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وكره ولم يحرّمه، فذلك الذي يسع الأخذ بها جميعاً وبأيّهما شئت ...».

8- ما رواه في عوالي اللئالي عن العلّامة بقوله: «وروى العلّامة مرفوعاً إلى زرارة بن أعين قال: سألت الباقر عليه السلام فقلت: جعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان انوار الأصول، ج 3، ص: 477

فبأيّهما آخذ؟ فقال: يازرارة ... فقلت أنّهما معاً موافقان للإحتياط أو مخالفان له فكيف

أصنع؟

فقال عليه السلام: إذن فتخيّر أحدهما وتأخذ به وتدع الآخر» «1».

وهذه الرواية صريحة الدلالة على المقصود.

فقد ظهر إلى هنا أنّ التامّ دلالة من هذه الثمانية إنّما هو الأوّل والثاني، والثامن فيبلغ ما دلّ على التخيير إلى حدّ التظافر وإن لم يبلغ إلى حدّ التواتر كما ادّعاه الشيخ الأعظم، مضافاً إلى تأييدها بمرسلة الكليني وغيرها خصوصاً بعد ملاحظة ما صرّح به في ديباجة الكافي حيث قال: «... ولا نجد شيئاً أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم عليه السلام وقبول ما وسّع من الأمر فيه بقوله عليه السلام بأيّما أخذتم من باب التسليم وسعكم» «2».

ومضافاً إلى ما إدّعاه شيخنا الأعظم رحمه الله في رسائله من «أنّ عليه المشهور وجمهور المجتهدين حيث قال: فهل يحكم بالتخيير أو العمل بما طابق منهما الاحتياط أو بالاحتياط وجوه، المشهور وهو الذي عليه جمهور المجتهدين الأوّل للأخبار المستفيضة بل المتواتر» (انتهى) وكفى بذلك جبراً لسندها حتّى ولو كانت رواية واحدة.

بل هذا هو ما نشاهده عملًا في الفقه وعليه سيرة الفقهاء، فمن العجب جدّاً ما قال به بعض الأعلام في مصباح الاصول: «إنّ التخيير بين الخبرين المتعارضين عند فقد المرجّح لأحدهما ممّا لا دليل عليه، بل عمل الأصحاب في الفقه على خلافه فإنّا لم نجد مورداً أفتى فيه بالتخيير واحد منهم» «3».

هذه كلّه في الطائفة الاولى من الأخبار.

أمّا الطائفة الثانية: (وهى ما تدلّ على لزوم الأخذ بأحوط الخبرين) فهى نفس مرفوعة زرارة المذكورة آنفاً حيث ورد فيها: «قلت: ربّما كانا معاً موافقين لهم أو مخالفين، فكيف أصنع؟

فقال: إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط».

ولكن غاية ما يستفاد من هذه الرواية كون موافقة أحد الخبرين للاحتياط من

المرجّحات لا أنّ مآل الأمر إلى الأخذ بالأحوط بل مآله هو التخيير كما وقع التصريح به في انوار الأصول، ج 3، ص: 478

ذيل الرواية، وحيث إنّ هذا المرجّح لا دليل عليه إلّاهذه الرواية وقد عرفت الإشكال في سندها، فلا يمكن المساعدة على جعل الأحوطية مرجّحة أيضاً.

وأمّا الطائفة الثالثة: (وهى ما تدلّ على لزوم العمل بأحوط الاحتمالات) فهى أيضاً رواية واحدة، وهى مقبولة عمر بن حنظلة حيث ورد فيها: «قلت: فإن وافق حكّامهم الخبرين جمعياً؟ قال: إذا كان ذلك فارجئه حتّى تلقى إمامك فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الإقتحام في الهلكات» «1».

ولكنّها أيضاً غير تامّة من جهتين:

الاولى: أنّ مفادها هو التساقط لا الأخذ بأحوط الاحتمالات، فإنّ المراد من الأرجاء هو التوقّف وهو خلاف الإجماع لأنّه قام على عدم التساقط كما مرّ.

الثانية: أنّ هذه الفقرة ناظرة إلى عصر الحضور ولا تعمّ زمان الغيبة إذ إنّ الحكم بالإرجاء فيها مغيّى بلقاء الإمام عليه السلام، وبعبارة اخرى: إنّها إنّما تدلّ على لزوم الاحتياط في الشبهات قبل الفحص أو حال الفحص.

وأمّا الطائفة الرابعة (وهى ما تدلّ على لزوم الأخذ بالأحدث منهما) فهى عديدة:

منها: ما رواه الحسين بن المختار عن بعض أصحابنا عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «أرأيتك لو حدّثتك بحديث «العام» ثمّ جئتني من قابل فحدّثتك بخلافه بأيّهما كنت تأخذ؟ قال: كنت آخذ بالأخير. فقال لي: رحمك اللَّه» «2».

ومنها: ما رواه معلّى بن خنيس، قال قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: «إذا جاء حديث عن أوّلكم وحديث عن آخركم بأيّهما نأخذ؟ فقال: خذوا به حتّى يبلغكم عن الحيّ فإن بلغكم عن الحي فخذوا بقوله، قال ثمّ قال أبو عبداللَّه عليه السلام: إنّا واللَّه لا ندخلكم إلّافيما يسعكم» «3».

ومنها: مرسلة الكليني

فإنّه قال: «وفي حديث آخر: خذوا بالأحدث» ولكنّه من المستبعد جدّاً كونها غير الروايات السابقة.

ومنها: ما رواه أبو عمرو الكناني قال: قال لي أبو عبداللَّه عليه السلام: «ياأبا عمرو أرأيت لو

انوار الأصول، ج 3، ص: 479

حدّثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ثمّ جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك بأيّهما كنت تأخذ؟ قلت: بأحدثهما وأدع الآخر. فقال: قد أصبت ياأبا عمرو أبى اللَّه إلّاأن يعبد سرّاً أما واللَّه لئن فعلتم ذلك إنّه لخير لي ولكم أبى اللَّه عزّوجلّ لنا في دينه إلّاالتقيّة» «1».

ولكن لا يخفى أنّ مورد هذه الرواية هو التقيّة، ولا إشكال في أنّ المعتبر في هذا المقام إنّما هو آخر ما يصدر من صاحب التقيّة فإنّها على قسمين: تقيّة القائل، وهى ما إذا كان الإمام عليه السلام في شرائط خاصّة تقتضي بيان الحكم على خلاف الواقع، وتقيّة السائل وهى ما إذا كان للمسائل ظروف وشرائط خاصّة كذلك فإنّ الإمام عليه السلام كالطبيب ينظر إلى حاجة المأمورين في الظروف المختلفة من لزوم التقيّة أو رفضها، ومن الواضح أنّ الميزان في تعيين الحكم والوظيفة العمليّة إنّما هو ما مرّ عليه في الحال من الشرائط الجديدة، ولازمه لزوم الأخذ بأحدث الخبرين.

بل يمكن أن يقال: إنّ هذه الرواية وكذلك ما ورد في ذيل الرواية السابقة (وهو قوله عليه السلام:

«واللَّه لا ندخلكم إلّافيما يسعكم») الظاهر في مقام التقيّة أيضاً يرفع النقاب عن وجه هذه الطائفة من الروايات بأجمعها، ويبيّن لنا جهة صدورها وأنّها غير قابلة الإعتماد من هذه الجهة وتكون خارجة عن محلّ النزاع.

وممّا يؤيّد هذا المعنى (أي خروجها عن محلّ النزاع) يقين السائل فيها بأصل الصدور وأصل مجي ء الحديث عن جانب الإمام

عليه السلام وإنّما الكلام في جهة الصدور بينما محلّ البحث هو ما إذا كان الصدور ظنّياً، هذا كلّه أوّلًا.

وثانياً: سلّمنا كون الأحدثية ميزاناً في الأخذ بأحد الخبرين، ولكن غايتها أنّها إحدى المرجّحات، فلا دلالة لهذه الروايات على صورة فقدان هذا المرجّح، فتكون أخصّ من المدّعى.

وثالثاً: أنّها محمولة على عصر الحضور بقرينة ما ورد في رواية معلّى بن خنيس «خذوا به حتّى يبلغكم عن الحي».

انوار الأصول، ج 3، ص: 480

ولكن قد يقال: لابدّ من ردّ علم هذه الروايات إلى أهلها لأنّه كما جاز أن يكون الأوّل للتقية والثاني لبيان حكم اللَّه الواقعي جاز بالعكس أيضاً، فلا يمكن العمل بالرواية على كلّ حال، ولذا لم يعمل بها أحد من الأصحاب.

ولكن الإنصاف أنّ معنى هذه الطائفة معلومة معقولة، فإنّ المراد منها هو الأخذ بالأحدث لمن كان معاصراً له فإنّ هذا هو حكمه الشرعي في ذلك الزمان سواء كان تقيّة أو ابطال تقية سابقة.

أمّا الطائفة الخامسة: فهى ذيل مقبولة ابن حنظلة حيث قال: إذا كان ذلك (أي كان الخبران متساويين في المرجّحات السابقة) فارجئه حتّى تلقى إمامك فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الإقتحام في الهلكات» «1». وذيل رواية الميثمي عن الرضا عليه السلام حيث قال: «وما لم تجدوه في شي ء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه» «2».

ومن الواضح أنّ هذه الطائفة مختصّة بزمن الحضور وإمكان الوصول إلى الحجّة عليه السلام.

فظهر من جميع ما ذكرنا أنّ الطريق الصحيح في المقام إنّما هو ما ذهب إليه المشهور وهو التخيير.

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: في أنّه هل الحكم بالتخيير في الخبرين المتعارضين تعبّد محض فيكون حكماً مخالفاً للقاعدة، أو أنّه كاشف بالدلالة الالتزاميّة عن أنّ الصحيح من بين المباني الخمسة السابقة هو مبنى

السببيّة السلوكيّة (التي ليست من قبيل التصويب الباطل) فيكون حكماً مطابقاً للقاعدة، أو أنّ المبنى الصحيح هو الطريقيّة، ولكنّه أيضاً مطابق للقاعدة لخصوصيّة في المقام؟ وجوه.

وجه الاحتمال الأوّل: ما مرّ سابقاً من أنّ القاعدة تقتضي التعارض فيكون الحكم بالتخيير تعبّداً محضاً وحكماً مخالفاً للقاعدة.

وجه الاحتمال الثاني: ما ورد في بعض الروايات من التعبير ب «أيّهما أخذت من باب انوار الأصول، ج 3، ص: 481

التسليم وسعك» حيث إنّه يستشمّ منه أنّ نفس التسليم في مقابل الأئمّة وسلوك الطريق الذي فتحوه أمامنا يكون ذا مصلحة.

ولكن هذا التعبير ورد في ثلاث روايات:

إحديها: مكاتبة محمّد بن عبداللَّه بن جعفر الحميري.

وثانيها: ما رواه أحمد بن الحسن الميثمي عن الرضا عليه السلام.

وثالثها: مرسلة الكليني، وقد مرّ أنّ الأوّليين واردتان في المستحبّات وهى خارجة عن محلّ الكلام، والثالثة مرسلة.

هذا- مضافاً إلى ما ورد في صدر بعضها (وهو رواية الميثمي) من لزوم أعمال المرجّحات أوّلًا: حيث إنّ أعمال المرجّح بين الخبرين إنّما يتصوّر فيما إذا كان خصوص أحدهما طريقاً إلى الواقع وأردنا تعيينه من بينهما بالمرجّح، وإلّا إذا كان لسلوك كلّ منها مصلحة فلا حاجة إلى ترجيح أحدهما على الآخر والأخذ بخصوصه، فإذا كان الصدر كذلك يحمل عليه الذيل أيضاً، بل الإنصاف أنّ قوله «من باب التسليم» ليس له ظهور في السببيّة وإن كان له دلالة عليها، فهى في حدّ الإشعار، فلا تكون دليلًا على شي ء.

ووجه الاحتمال الثالث: إنّا نعلم بصدور أحد الخبرين وصدقه، ولا إشكال في أنّ مقتضى القاعدة في موارد دوران الأمر بين المحذورين مع العلم بصدق أحدهما هو التخيير.

وفيه: أنّه مبنى على حصول العلم بصدور أحدهما، وأنّى لنا بإثباته؟

بل المفروض العلم بكذب أحدهما فقط، وأمّا الآخر فهو دليل ظنّي في نفسه

يحتمل الكذب أيضاً، وقد عرفت أنّ أدلّة الحجّية لا تشمل شيئاً منهما بعد فرض التعارض.

الأمر الثاني: في أنّ التخيير في المقام واقعي أو ظاهري؟

فإن كان واقعياً كان نظير التخيير بين خصال الكفّارات والتخيير بين الحمد والتسبيحات الأربعة في الركعتين الأخيرتين، وإن كان ظاهرياً كان نظير التخيير بين الوجوب والحرمة عند دوران الأمر بين المحذورين في الحكم الظاهري.

والصحيح في ما نحن فيه هو الثاني، لأنّ المختار فيه هو مبنى الطريقيّة والعلم بكذب أحد الخبرين لأنّ المصلحة حينئذٍ لو كانت فإنّما هى في واحد منهما، فلا يتصوّر حينئذٍ التخيير الواقعي لأنّه إنّما يتصوّر فيما إذا وجدت المصلحة في كلّ من الأطراف.

انوار الأصول، ج 3، ص: 482

الأمر الثالث: في أنّ التخيير في المقام هل يكون في المسألة الاصوليّة، أو في المسألة الفقهيّة؟ وبعبارة اخرى: هل التخيير يكون للمجتهد فقط في اختيار الأدلّة، أو له وللمقلّد في العمل؟

قال شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله: «المحكي عن جماعة بل قيل أنّه ممّا لا خلاف فيه أنّ التعادل إن وقع للمجتهد في عمل نفسه كان مخيّراً في عمل نفسه، وإن وقع للمفتي لأجل الإفتاء فحكمه أن يخيّر المستفتي فيتخيّر في العمل كالمفتي ... (إلى أن قال): ويحتمل أن يكون التخيير للمفتي فيفتي بما اختار ... (إلى أن قال) والمسألة بعد محتاجة إلى التأمّل وإن كان وجه المشهور أقوى» انتهى.

واستدلّ لقول المشهور أي القول الأوّل بوجهين:

الأوّل: أنّ خطابات الأمارات عامّة تشمل المجتهد والمقلّد، إلّاأنّ المقلّد عاجز عن القيام بشروط العمل بالأدلّة من حيث تشخيص مقتضاها ودفع موانعها، فإذا ثبت للمجتهد جواز العمل بكلّ من الخبرين المتكافئين المشترك بين المقلّد والمجتهد تخيّر المقلّد كالمجتهد.

الثاني: إنّ إيجاب مضمون أحد الخبرين على المقلّد تعييناً لا دليل عليه،

فهو تشريع محرّم.

واستدلّ للقول الثاني أوّلًا: بما ورد في مرفوعة زرارة قلت: «إنّهما معاً موافقان للاحتياط ومخالفان فكيف أصنع؟ فقال عليه السلام: إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر» حيث إنّه وارد بعد اعمال المرجّحات ولا إشكال في أنّه من عمل المجتهد لا المقلّد مضافاً إلى أنّ قوله: «فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر» كالصريح في اختيار أحد الحجّتين ورفض الآخر، وليس ذلك إلّا للمجتهد.

وبعبارة اخرى: لم يخيّره الإمام بين مضمون الخبرين بل أمره بالأخذ بأحد الدليلين تخييراً.

وثانياً: بأنّ التخيير حكم للمتحيّر والمتحيّر، إنّما هو المجتهد لا المقلّد.

أقول: الأولى في المقام ملاحظة روايات التخيير، ولا إشكال في أنّها ظاهرة فيما ذهب إليه المشهور فإنّ من جملتها ما رواه سماعة عن أبي عبداللَّه عليه السلام «قال: سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه، أحدهما يأمر بأخذه والآخر ينهاه عنه كيف انوار الأصول، ج 3، ص: 483

يصنع؟ قال: فهو في سعة حتّى يلقاه» «1».

ولا إشكال في أنّه ظاهر في التخيير بين مدلولي الخبرين في العمل.

ومنها: مرسلة الكليني المذكورة سابقاً (فإنّه قال: «وفي رواية اخرى بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك» «2»).

وهكذا رواية الحسن بن الجهم «3». ورواية الحارث بن المغيرة «4» المذكورتان في السابق أيضاً.

نعم المستفاد من مرفوعة زرارة كما عرفت هو التخيير في المسألة الاصوليّة، ولكن الكلام بعد في سندها.

وأمّا الاستدلال للقول بكون التخيير في المسألة الاصوليّة بأنّ التحيّر حاصل للمجتهد فقط، فيمكن الجواب عنه بأنّ الموضوع في روايات التخيير هو الخبران المتعارضان لا المتحيّر، فإنّه لم يرد هذا العنوان في شي ء من هذه الروايات، فإذن الأظهر هو ما ذهب إليه المشهور.

ثمّ إنّه لو شككنا في المسألة ولم نعلم أنّه هل

التخيير للمجتهد أو للمقلّد فمقتضى الأصل هو الأوّل ببيانين:

أحدهما: أنّه من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير، لأنّ لازم كون التخيير في المسألة الاصوليّة أن يفتي المجتهد بأحد الخبرين تعييناً، ولازم التخيير في المسألة الفقهيّة أن يفتي بالتخيير بينهما، فعلى القول بأنّ مقتضى القاعدة في دوران الأمر بينهما هو التعيين تكون النتيجة كون التخيير في المسألة الاصوليّة.

ثانيهما: إنّا نعلم بحجّية ما اختاره المجتهد منهما قطعاً ونشكّ في حجّية الآخر، وقد ثبت في محلّه أنّ مجرّد الشكّ في الحجّية كافٍ لإثبات عدمها.

انوار الأصول، ج 3، ص: 484

الأمر الرابع: هل التخيير بدوي أو استمراري؟ والمراد من التخيير البدوي أنّه لو اختار مثلًا وجوب صلاة الجمعة (عند تعارض الأخبار) لابدّ من العمل بها ما دام عمره، ومعنى التخيير الاستمراري أنّ له في المثال المذكور اختيار الجمعة في كلّ جمعة أراد، واختيار صلاة الظهر كذلك طول عمره.

والأقوال في المسألة ثلاثة:

1- ما حكي عن جماعة من المحقّقين من أنّ التخيير استمراري.

2- ما يظهر من بعض كلمات شيخنا الأعظم رحمه الله من أنّه بدوي.

3- بناء المسألة على المسألة السابقة، فإن قلنا بأنّ التخيير في المسألة الاصوليّة يكون التخيير هنا بدوياً، وإن قلنا بأنّ التخيير في المسألة الفقهيّة يكون التخيير هنا استمرارياً، وهذا ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله في فوائد الاصول.

واستدلّ للقول الأوّل بوجهين:

أحدهما: إطلاقات أخبار التخيير، فإنّ التعبير ب «فموسّع عليك» أو «إذن فتخيّر» ظاهر في السعة الاستمراري والتخيير الدائمي.

ثانيهما: استصحاب التخيير الثابت في بدو الأمر على فرض الشكّ.

واستدلّ للقول الثاني أيضاً بوجهين (وهما في الواقع جواب عن ما استدلّ به للقول الأوّل):

أحدهما: أنّ الموضوع في أخبار التخيير هو التحيّر، وهو يرتفع بعد إختيار أحد الخبرين فلا يكون بعده مشمولًا

لها، كما أنّه لا يجوز حينئذٍ استصحاب التخيير لتبدّل الموضوع.

ثانيهما: لزوم المخالفة القطعيّة التدريجية العمليّة من استمرار التخيير فإنّ المفروض كون التخيير ظاهرياً فيكون أحدهما مخالفاً للواقع قطعاً.

أقول: يمكن المناقشة في الوجه الأوّل بأنّ الموضوع في أخبار التخيير ليس هو عنوان المتحيّر بل الموضوع وجود خبرين متعارضين، ولا إشكال في أنّ التعارض دائمي.

وأمّا الوجه الثاني فهو تامّ في محلّه، وقد ذكرنا في محلّه أنّ المخالفة القطعيّة العمليّة للعلم الإجمالي حرام سواء كانت دفعيّة أو تدريجيّة، ولازم هذا الوجه كون التخيير بدوياً كما تشهد به مرفوعة زرارة لأنّها تأمر بالأخذ بأحد الخبرين وطرد الآخر حيث تقول «فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر» ولا إشكال في أنّ ظاهر طرد الآخر طرده مطلقاً، كما أنّ ظاهر الأخذ بأحدهما أخذه دائماً.

انوار الأصول، ج 3، ص: 485

وأمّا القول الثالث فاستدلّ المحقّق النائيني رحمه الله له بأنّ التخيير إذا كان في المسألة الفقهيّة كان كالتخيير بين القصر والإتمام في المواطن الأربعة، فللمكلّف أن يعمل بمضمون أحد المتعارضين تارةً، وبمضمون الآخر اخرى، إلّاأن يقوم دليل على خلاف ذلك، وأمّا إذا كان التخيير في المسألة الاصوليّة فإنّ معناه هو التخيير في جعل أحد المعارضين حجّة شرعية وأخذ أحدهما طريقاً محرزاً للواقع، ولازم ذلك وجوب الفتوى بما اختاره أوّلًا وجعل مؤدّاه هو الحكم الكلّي الواقعي المتعلّق بأفعال المكلّفين فلا معنى لإختيار الآخر بعد ذلك «1».

أقول: الحقّ أنّه لا ملازمة بين القول بالتخيير في المسألة الاصوليّة وكونه بدويّاً، لإمكان جعل المجتهد مخيّراً في هذه المسألة مستمرّاً، كما أنّ الأمر في المسألة الفرعية أيضاً كذلك، إنّما الكلام بحسب مقام الإثبات وظواهر أدلّة التخيير، فإن كانت هى إطلاقات السعة فهى ظاهرة في الاستمرار، وإن كانت هى مرفوعة زرارة

فهى ظاهرة في التخيير البدوي، ولو شكّ في ذلك فقاعدة الاحتياط حاكمة بالتخيير البدوي لعين ما مرّ في المسألة السابقة التي دار أمرها بين التعيين والتخيير، هذا كلّه مع قطع النظر عمّا عرفت من لزوم المخالفة القطعيّة العمليّة التدريجية من التخيير الاستمراري.

المقام الثاني: في أخبار التراجيح
اشارة

المشهور والمعروف وجوب أعمال المرجّحات قبل أن تصل النوبة إلى التخيير وذهب بعض كالمحقّق الخراساني رحمه الله إلى عدم وجوبه، والأقوى هو ما ذهب إليه المشهور، ويدلّ على ذلك امور:

الأوّل: الأخبار

فإنّها تأمر بالترجيح، والأمر ظاهر في الوجوب وهى على طوائف:

الطائفة الاولى: ما يدلّ على أنّ المرجّحات أكثر من مرجّحين وهى عديدة:

انوار الأصول، ج 3، ص: 486

منها: مقبولة عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحلّ ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتاً وإن كان حقّاً ثابتاً له، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت وما أمر اللَّه أن يكفر به، قال اللَّه تعالى: «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ»، قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما إستخفّ بحكم اللَّه وعلينا ردّ، والرادّ علينا رادّ على اللَّه وهو على حدّ الشرك باللَّه، فإن كان كلّ واحد اختار رجلًا من أصحابنا فرضيا أن يكون الناظرين في حقّهما واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم (حديثنا) فقال:

الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر. قال: فقلت: فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضّل (ليس يتفاضل) واحد منهما على صاحبه؟ قال: فقال: ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عيه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الذي

ليس بمشهور عند أصحابك فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه، وإنّما الامور ثلاثة أمر بيّن رشده فيتّبع وأمر بيّن غيّه فيجتنب وأمر مشكل يردّ علمه إلى اللَّه وإلى رسوله، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجى من المحرّمات ومن أخذ بالشبهات إرتكب المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم، قلت: فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال: ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة، قلت: جعلت فداك إن رأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة والآخر مخالفاً لهم بأي الخبرين يؤخذ؟ فقال: ما خالف العامّة ففيه الرشاد، فقلت: جعلت فداك فإن وافقها الخبران جميعاً؟ قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر، قلت: فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعاً قال: إذا كان ذلك فارجه حتّى تلقى إمامك فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الإقتحام في الهلكات» «1».

انوار الأصول، ج 3، ص: 487

فإنّ هذه الرواية تأمر بالترجيح بالشهرة وبموافقة الكتاب ومخالفة العامّة ومخالفة ميل الحكّام، ولكنّه إستشكل فيها سنداً ودلالة:

أمّا السند فلعمر بن حنظلة حيث إنّه لم يوثّق في كتب الرجال، نعم نقل المحقّق المامقاني رحمه الله لتوثيقه روايتين:

إحديهما: ما رواه يزيد بن خليفة قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام أنّ عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت فقال أبو عبداللَّه عليه السلام «إذاً لا يكذب علينا ... قال: صدق» «1».

ثانيهما: ما رواه عمر بن حنظلة نفسه عن أبي عبداللَّه عليه السلام في جواب السؤال عن القنوت يوم الجمعة قال عليه

السلام «أنت رسولي إليهم ...» «2»، حيث إنّ رسالته عن الصادق عليه السلام دليل على أنّ له شأناً من الشأن.

هذا- مضافاً إلى حكاية المجلسي رحمه الله في روضة المتّقين «3» عن الشهيد الثاني رحمه الله أنّه وثّقه في الدراية.

ولكن مع ذلك كلّه لا يتمّ السند بعد، لأنّ يزيد بن خليفة مجهول الحال في علم الرجال، والرواية الثانية راويها نفس عمر بن حنظلة فالاستدلال به دوري، وأمّا توثيق الشهيد الثاني رحمه الله فلعلّ مبناه هاتان الروايتان نفسهما، فمن البعيد أنّه وصل إليه ما لم يصل إلى غيره، مضافاً إلى أنّه نفسه صرّح في درايته، بوجود مجاهيل اخرى في الرواية منه محمّد بن عدي وداود بن حسين، والعجب منه أنه قال: عمر بن حنظلة لم ينصّ الأصحاب فيه بجرح ولا تعديل لكن أمره عندي سهل لأنّي حقّقت توثيقه من محلّ آخر وإن كانوا قد أهملوه» «4».

وياليته أشار إلى طريقه فإنّه لا يصحّ لنا الحكم بالمجهول.

إن قلت: «إنّ الصحيح بناءً على القاعدة المختارة في الرجال (من توثيق من ينقل عنه أحد الثلاثة) صحّة سندها، وذلك باعتبار أنّه يمكن توثيق يزيد بن خليفة بهذه القاعدة حيث قد

انوار الأصول، ج 3، ص: 488

روى عنه صفوان بن يحيى (وهو أحد الثلاثة) بسند معتبر في باب كفّارة الصوم من الكافي «1» فنثبت بذلك وثاقته، وبروايته نثبت وثاقة عمر بن حنظلة أيضاً فالمقبولة صحيحة سنداً» «2».

قلنا: هذه القاعدة غير ثابتة عندنا لأنّ أحد هؤلاء الثلاثة هو ابن أبي عمير، وقد روى عن علي بن حديد وقد ضعّفه الشيخ رحمه الله في مواضع من كتابه وبالغ في تضعيفه وقد روى هو أيضاً وصفوان (فرد آخر من الأعلام الثلاثة) عن يونس بن ظبيان وهو من أضعف

الضعاف إلى غير ذلك من الضعاف الذين روى هؤلاء عنهم «3» وكيف يصحّ مع ذلك الاعتماد على تلك القاعدة وأنّ الأعلام الثلاثة لا يروون إلّاعن الثقات؟

فظهر أنّه لا يمكن توثيق عمر بن حنظلة بهاتين الروايتين، نعم لا أقلّ من تأييدهما لوثاقته، كما يمكن التأييد بأنّه نقلها المشايخ الثلاثة في ثلاث من الكتب الأربعة، والمهمّ في المقام إنّما هو عمل الأصحاب بهذه الرواية فتلقّوه بالقبول حتّى سمّيت مقبولة.

وأمّا الدلالة فقد نوقش فيها من جهات شتّى:

1- من أنّ ظاهرها جواز كون القاضي إثنين مع أنّه ممنوع في فقهنا.

2- سلّمنا ولكن من البعيد جدّاً وقوع قضائهما في آنٍ واحد بل أحدهما يتقدّم على الآخر غالباً، وحينئذٍ لا إشكال في عدم جواز نقض المتأخّر قضاء المتقدّم وإن كان أعلم منه مع أنّ ظاهر هذه الرواية جوازه.

3- إنّ ظاهره أنّ أحدهما إعتمد في قضائه على الخبر الشاذّ وغفل عن المعارض المشهور، وهذا دليل على نقصان فحصه أو عدم فحصه عن الأدلّة رأساً، ومعه كيف يتمّ له القضاء؟

4- ظاهر قوله عليه السلام: ينظر إلى ما كان من روايتهما ... وكذلك قوله عليه السلام: «ينظر فما وافق ...» وقوله عليه السلام: «ينظر إلى ما هم إليه أميل ...» جواز نظر أرباب الدعوى ودخالتهم في القضاء وهو ممنوع بلا ريب.

5- إنّ ظاهرها تقدّم الترجيح بصفات القاضي على الترجيح بموافقة الكتاب مع أنّ انوار الأصول، ج 3، ص: 489

المشهور خلافه.

6- الظاهر جواز الترجيح في صفات القاضي بأحد الصفات المذكورة في هذه الرواية (وهى الأعدليّة والأفقهيّة والأصدقيّة والأورعيّة) مع أنّ ظاهرها بقرينة واو الجمع لزوم اجتماعها.

7- إنّ الاحتجاج بها على وجوب الترجيح في مقام الفتوى لا يخلو عن إشكال لقوّة احتمال الترجيح بها بمورد الحكومة لرفع

المنازعة وفصل الخصومة كما هو موردها ولا وجه معه للتعدّي منه إلى غيره.

توضيح ذلك: أنّ الإمام عليه السلام بعد ما ذكر مرجّحات القاضيين وإن كان قد ذكر مرجّحات الخبرين أيضاً ولكن الترجيح في الخبرين إنّما يكون لدفع خصومة المتخاصمين فلا يمكن الاحتجاج بها لوجوب الترجيح في مقام الفتوى أيضاً، وذلك لقوّة احتمال اختصاص الترجيح بتلك المزايا المنصوصة بمورد الحكومة والقضاء فقط، فإنّ قطع الخصومة عند اختلاف القاضيين لاختلاف ما استند إليه من الخبرين لا يكاد يمكن إلّابالترجيح، بخلاف مقام العمل والفتوى فيمكن الأخذ فيه بأيّهما شاء من باب التسليم.

8- إنّها مختصّة بزمان الحضور والتمكّن من لقاء الإمام عليه السلام بقرينة أمره في آخرها بالإرجاء حتّى تلقى إمامك.

9- إنّ صدرها معارض لذيلها لأنّ الصدر ظاهر في أنّ أرباب الدعوى كانوا مقلّدين والذيل ظاهر في اجتهادهم بقرينة قوله عليه السلام: «ينظر ...» فإنّ النظر والدقّة من عمل المجتهد لا المقلّد.

هذه هى جهات تسعة في المناقشة من ناحية الدلالة.

ولابدّ لحلّها والجواب عنها من البحث في أنّ هذه الرواية هل هى واردة في باب القضاء أو في باب الفتوى أو الحكومة والولاية، أو أنّ صدرها وارد في باب الحكومة وذيلها في باب الفتوى، أو أنّ صدرها وارد في باب القضاء وذيلها في باب الفتوى، أو أنّ صدرها وارد في باب القضاء ووسطها في باب الاجتهاد والتقليد وذيلها في باب تعارض الخبرين والافتاء؟

فالاحتمالات فيه ستّة، أظهرها هو الأخير.

والشاهد على أنّ صدرها مخصوص بباب القضاء أوّلًا: التعبير ب «المنازعة في دَين أو ميراث» فإنّ رفع المنازعة من شؤون القاضي وهو المرجع فيها، بل الرجوع إلى وليّ الأمر في انوار الأصول، ج 3، ص: 490

مثل ذلك إنّما يكون بما هو قاضٍ لا بما

هو حاكم.

وثانياً: الجمع بين تعبيري «إلى السلطان» و «إلى القضاة» بواو الجمع، حيث إنّ ظاهره كون التحاكم إلى السلطان من باب أنّه قاضٍ لا بما أنّه حاكم.

ثالثاً: التعبير بالحكم في قوله عليه السلام: «وما يحكم به ...»، فإنّ الحكم من شؤون القاضي لا الحاكم بما هو حاكم، حيث إنّ مقام الحكومة والولاية مقام الإجراء لا مقام إصدار الحكم.

رابعاً: الاستدلال بقوله تعالى: «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ» لأنّ هذه الآية إنّما وردت في مورد القضاء في قصّة يهودي ومسلم منافق رضي اليهودي بقضاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولم يرض المسلم المنافق به).

خامساً: التعبير بقوله عليه السلام: «كلاهما اختلفا في حديثكم» لما مرّ من أنّ وظيفة الحاكم الشرعي بما هو حاكم إجراء الأحكام لا ملاحظة أدلّة الأحكام والبحث عن تعارضها والاختلاف فيها.

سادساً: اعمال المرجّحات فيها لأنّه أيضاً ليس من شؤون الحاكم.

فظهر أنّ هذه الرواية قد وردت في الشبهة الموضوعيّة ومورد القضاء، غاية الأمر حيث إنّ الأمر فيها إنتهى إلى الشبهة الحكميّة والاختلاف في الأحاديث في الأثناء وصلت النوبة في الذيل إلى مسألة التعارض واعمال المرجّحات.

إذا عرفت هذا فلنرجع إلى الجواب عن الإشكالات التسعة فنقول ومن اللَّه التوفيق والهداية:

أمّا الإشكال الأوّل فجوابه: أنّ تعدّد القاضي ممنوع في المنصوب منه لا في التحكيم.

وأمّا الإشكال الثاني فجوابه أيضاً: أنّ عدم جواز نقض حكم القاضي لا يأتي في قاضي التحكيم فإنّ من لوازم جواز تعدّده نقض أحد القاضيين حكم الآخر، فتأمّل.

وأمّا الإشكال الثالث فجوابه: أنّه لا منافاة بين طرد رواية وكونها مشهورة لأنّ المراد من الشهرة إنّما هى الشهرة الروائية لا الفتوائية.

وظهر ممّا ذكرنا من المقدّمة الجواب عن الإشكال الرابع (وهو عدم جواز

دخالة أرباب الدعوى في القضاء) حيث إنّ المسألة تبدّلت من القضاء إلى الفتوى، ومنها إلى منبع الفتوى أي الخبرين، وفيه لابدّ من النظر إلى المرجّحات فرجوعهما إلى المرجّحات إنّما يكون لاستنباط

انوار الأصول، ج 3، ص: 491

الحكم من ناحيتهما لا بما أنّهم أرباب الدعوى.

وهكذا الجواب عن الإشكال الخامس (وهو عدم جواز تقديم الترجيح بالصفات على الترجيح بموافقة الكتاب)، لأنّ الرجوع إلى الصفات إنّما هو لتقديم حاكم على حاكم أو مفتٍ على مفتٍ لا تقديم إحدى الروايتين على الاخرى، ولذا قال: «الحكم ما حكم به أعدلهما ...» وقال بعده: «ينظر إلى ما كان من روايتهما ...» فالأوّل مزيّة للحاكم أو المفتي، والثاني مزيّة للرواية.

وأمّا الإشكال السادس: (وهو أنّ ظاهر المقبولة لزوم اجتماع الصفات الأربعة) فجوابه: أنّ الواو فيها بمعنى «أو»، والشاهد عليه ما ورد في الذيل من قول عليه السلام السائل: «لا يفضل واحد منهما على صاحبه» فإنّ ظاهره لزوم ترجيح من يفضّل بواحدة من هذه الصفات وأنّه هو المراد من ما قبله بقرينة المقابلة.

وظهر ممّا ذكرنا في المقدّمة أيضاً الجواب عن الإشكال السابع (وهو احتمال اختصاص الترجيح بها بمورد الحكومة لرفع المنازعة وفصل الخصومة) لأنّ الوارد في باب الحكومة وفصل الخصومة إنّما هو صدر الرواية لا ذيلها، فإنّه وارد في باب تعارض الخبرين في مقام الفتوى.

وأمّا الإشكال الثامن: (وهو اختصاص الرواية بزمن الحضور) فجوابه أوّلًا: إنّ مقتضى قاعدة الاشتراك في التكليف عدم الفرق بين الزمنين ما لم تقم قرينة على الخلاف، وثانياً: إذا كان الحكم في زمن الحضور مع إمكان لقاء الإمام عليه السلام هكذا، ففي زمن الغيبة وعدم التمكّن من الإمام يكون كذلك بطريق أولى.

وأمّا الإشكال التاسع: (وهو وجود تناقض بين الصدر والذيل، فإنّ الصدر ظاهر

في التقليد والذيل في الاجتهاد) فجوابه أنّه فرق بين الاجتهاد في عصر الحضور والاجتهاد في أعصارنا فإنّ قواعد الفقه والاصول وفروعاتهما في أعصارنا متشعّبة معقّدة على خلاف تلك الأعصار فإنّها كانت بسيطة جدّاً يمكن الوصول إليها لكثير من آحاد الناس، ولا مانع من صيرورة المقلّد بعد الحصول عليها إجمالًا مجتهداً ولو في بعض المسائل.

هذا كلّه في الرواية الاولى من الطائفة الاولى من أخبار الترجيح.

انوار الأصول، ج 3، ص: 492

ومنها: مرفوعة زرارة وقد رواها محمّد بن علي بن إبراهيم بن أبي جمهور الأحسائي في كتابه غوالي اللئالي عن العلّامة رحمه الله مرفوعاً إلى زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام فقلت: «جعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيّهما آخذ؟ فقال: يازرارة خذ بما إشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر. فقلت: ياسيّدي إنّهما معاً مشهوران مرويّان مأثوران عنكم.

فقال: خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك. فقلت: إنّهما معاً عدلان مرضيّان موثّقان.

فقال: انظر إلى ما وافق منهما مذهب العامّة فاتركه وخذ بما خالفهم فإنّ الحقّ فيما خالفهم، قلت:

ربّما كانا معاً موافقين لها أو مخالفين فكيف أصنع؟ فقال: إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط. فقلت: إنّهما معاً موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟ فقال: إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به ودع الآخر» «1».

وقد نقلها الشيخ الأعظم رحمه الله في رسائله ولكن بتفاوت مع ما ورد في غوالي اللئالي في مواضع كثيرة (عشرة مواضع) لكنّها غير مؤثّرة في المقصود.

والمهمّ إشكالها السندي أوّلًا: من ناحية عدم كون الإحسائي معاصراً للعلّامة رحمه الله فلابدّ أنّه نقله من كتابه مع أنّه قد يقال: إنّه لم يجدها المتتبّعون في كتب العلّامة رحمه الله، واحتمال أخذه من بعض تلاميذه

أيضاً لا يفيدنا لأنّه مجهول لنا.

وثانياً: من ناحية الارسال بين العلّامة رحمه الله وزرارة بسقوط وسائط كثيرة لفصل طويل بينهما.

قال صاحب الحدائق (فيما حكى عنه): أنّ الرواية لم نقف عليها في غير كتاب العوالي مع ما عليها من الارسال وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه إلى التساهل في نقل الأخبار والاهمال وخلط غثّها بسمينها وصحيحها بسقيمها كما لا يخفى على من لاحظ الكتاب المذكور (انتهى).

وقد ذكر شيخنا الأنصاري رضوان اللَّه عليه في بعض كلماته في مباحث الشهرة: (في مباحث الظنّ) «أنّه قد أشكل في سند هذا الخبر من ليس دأبه الإشكال ...» والظاهر أنّه ناظر إلى كلام الحدائق.

انوار الأصول، ج 3، ص: 493

نعم يستفاد من بعض الكلمات عمل المشهور بها، فقال الشيخ الأعظم رحمه الله في مباحث التعادل والترجيح: «فإنّه وإن كانت ضعيفة السند إلّاأنّها موافقة لسيرة العلماء في باب الترجيح فإنّ طريقتهم مستمرّة على تقديم المشهور على الشاذّ، والمقبولة وإن كانت مشهورة بين العلماء حتّى سمّيت مقبولة إلّاأنّ عملهم على طبق المرفوعة وإن كانت شاذّة من حيث الرواية حيث لم توجد مرويّة في شي ء من جوامع الأخبار المعروفة ولم يحكها إلّاابن أبي جمهور عن العلّامة مرفوعاً» (انتهى).

ثمّ أورد عليها بما حاصله: أنّ العمل بالمرفوعة يقتضي عدم العمل بها حيث إنّها معارضة مع المقبولة في تقديم الشهرة على الصفات وتأمر بالأخذ بالمشهور من الروايتين المتعارضتين لأنّ ولا إشكال في أنّ المشهور بينهما إنّما هى المقبولة.

أقول: ولكنّه متوقّف على وجود التعارض بينهما مع أنّه ليس كذلك، لأنّ صدر المقبولة وارد في باب الحكم والفتوى لا الخبرين المتعارضين كما مرّ، وإنّما المتعلّق منها بباب تعارض الخبرين قوله عليه السلام: «ينظر إلى ما كان من روايتهما المجمع عليه

...» ولا يخفى أنّ أوّل المرجّحات حينئذٍ الشهرة كما في المرفوعة.

نعم، يبقى إشكال ضعف السند على حاله لأنّ استناد عمل الأصحاب بها غير معلوم فلعلّ مدركهم هو المقبولة بناءً على ما ذكرنا.

فتحصّل أنّ المرجّحات الواردة في كلّ واحدة من هاتين الروايتين أربعة، أمّا ما ورد في المقبولة فهى: الشهرة، وموافقة الكتاب، ومخالفة العامّة، ومخالفة ما هو أميل إليه حكّامهم وقضاتهم، وما ورد في المرفوعة فهى: الشهرة، وصفات الراوي، ومخالفة العامّة، والموافقة مع الاحتياط.

ومنها: مرسلة الكليني فإنّه قال في أوّل الكافي: «إعلم ياأخي أنّه لا يسع أحد تمييز شي ء ممّا اختلفت الرواية فيه عن العلماء برأيه إلّاما أطلقه العالم عليه السلام بقوله: أعرضوهما على كتاب اللَّه عزّوجلّ فما وافق كتاب اللَّه عزّوجلّ فخذوه وما خالف كتاب اللَّه فردّوه، وقوله عليه السلام: دعوا ما وافق القوم فإنّ الرشد في خلافهم، وقوله عليه السلام: خذوا بالمجمع عليه فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» «1».

انوار الأصول، ج 3، ص: 494

فالمرجّحات الواردة فيها ثلاثة: موافقة كتاب اللَّه، ومخالفة العامّة، والشهرة، ولكن المظنون بالظنّ القوي أنّها ليست إلّاضمّ روايات بعضها ببعض فليست رواية مستقلّة غير ما مرّ عليك.

هذا كلّه في الطائفة الاولى وهى ما تدلّ على أنّ المرجّحات أكثر من إثنين.

الطائفة الثانية: فهى ما تدلّ على أنّ المرجّحات اثنان (وهما الموافقة مع كتاب اللَّه والمخالفة مع العامّة) وهى رواية واحدة رواها عبدالرحمن بن أبي عبداللَّه قال: قال الصادق عليه السلام: «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فأعرضوهما على كتاب اللَّه فما وافق كتاب اللَّه فخذوه، وما خالف كتاب اللَّه فردّوه، فإن لم تجدوهما في كتاب اللَّه فأعرضوهما على أخبار العامّة، فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه» «1».

الطائفة الثالثة: ما تدلّ على

مرجّح واحد (وهو الموافقة مع الكتاب والسنّة القطعيّة) وهى ثلاثة:

إحديها: ما رواه أحمد بن الحسن الميثمي أنّه سأل الرضا عليه السلام يوماً ... قلت: «فإنّه يرد عنكم الحديث في الشي ء عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ممّا ليس في الكتاب وهو في السنّة ثمّ يرد خلافه فقال: كذلك فقد نهى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن أشياء ... فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فأعرضوهما على كتاب اللَّه فما كان في كتاب اللَّه موجوداً حلالًا أو حراماً فاتّبعوا ما وافق الكتاب، وما لم يكن في الكتاب فأعرضوه على سنن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ...» «2». (ومن الواضح أنّ المراد من السنّة فيها هو السنّة القطعيّة).

ثانيها: ما رواه الحسن بن الجهم عن الرضا عليه السلام قال: قلت له: «تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة فقال: ما جاءك عنّا فقس على كتاب اللَّه عزّوجلّ وأحاديثنا فإن كان يشبهها فهو منّا

انوار الأصول، ج 3، ص: 495

وإن لم يكن يشبهها فليس منّا» «1» (فالأحاديث القطعيّة عنهم بمنزلة السنّة النبوية القطعيّة).

ثالثها: ما رواه الحسن بن الجهم عن العبد الصالح عليه السلام قال: «إذا جاءك الحديثان المختلفان فقسهما على كتاب اللَّه وأحاديثنا فإن أشبهها فهو حقّ وإن لم يشبهها فهو باطل» «2».

الطائفة الرابعة: ما تدلّ على مرجّح واحد، وهو مخالفة العامّة وهى أربعة:

1- ما رواه الحسين بن السرّي قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم» «3».

2- ما رواه الحسن بن الجهم قال: قلت للعبد الصالح عليه السلام: «هل يسعنا فيما ورد علينا منكم إلّا التسليم لكم؟ فقال: لا واللَّه لا يسعكم إلّاالتسليم لنا فقلت: فيروى عن أبي عبداللَّه عليه

السلام شي ء ويروى عنه خلافه فبأيّهما نأخذ؟ فقال: خذ بما خالف القوم، وما وافق القوم فاجتنبه» «4».

3- ما رواه محمّد بن عبداللَّه قال: قلت للرضا عليه السلام: «كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟

فقال: إذا ورد عليكم خبران مختلفان فانظروا إلى ما يخالف منهما العامّة فخذوه وانظروا إلى ما يوافق أخبارهم فدعوه» «5».

4- ما رواه سماعة بن مهران عن أبي عبداللَّه عليه السلام قلت: «يرد علينا حديثان: واحد يأمرنا بالأخذ به، والآخر ينهانا عنه قال: لا تعمل بواحد منهما حتّى تلقى صاحبك فتسأله، قلت:

لابدّ أن نعمل بواحد منهما، قال: خذ بما فيه خلاف العامّة» «6».

انوار الأصول، ج 3، ص: 496

الطائفة الخامسة: ما تدلّ على الترجيح بالموافقة مع الشهرة وهى رواية واحدة رواها في الإحتجاج مرسلًا، قال: وروي عنهم عليهم السلام أنّهم قالوا: إذا إختلف أحاديثنا عليكم فخذوا بما اجتمعت عليه شيعتنا فإنّه لا ريب فيه» «1».

ولكن لا يبعد أن تكون مأخوذة من مقبولة عمر بن حنظلة.

الطائفة السادسة: ما تدلّ على ترجيح الأحدث، وهى أربعة، مرّت ثلاثة «2» منها في المقام الأوّل، والرابعة ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: قلت له: «ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لا يتّهمون بالكذب فيجي ء منكم خلافه؟ قال: إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن».

ولا يخفى أنّه لا يمكن الأخذ بظاهر هذا الحديث (وهو أنّ الإمام عليه السلام يمكن له نسخ ما روى عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله) لأنّ الإمام حافظ للشريعة لا مشرّع، فليكن المراد منه إمّا أنّ الإمام عليه السلام يبرز ويبيّن ما كان منسوخاً في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولم تساعد

الظروف على تبيينه، وحينئذٍ يخرج الحديث عن محلّ البحث لأنّ البحث في ما نحن فيه عن الأخبار الظنّية، والناسخ يعتبر فيه أن يكون قطعيّاً.

أو المراد منه الأخذ بالأحدث، أي بما يكون ناسخاً للحكم الظاهري (لا للحكم الواقعي كما في الاحتمال الأوّل) فيكون الحديث دالًا على الترجيح بالأحدثيّة.

هذه هى الطوائف الستّة الواردة في المرجّحات.

ولكن الإنصاف أنّ الطائفة السادسة بجميع رواياتها خارجة عن محلّ الكلام لأنّها واردة في باب التقيّة كما لا يخفى، ومحلّ البحث ما إذا كان الخبران كلاهما في مقام بيان حكم اللَّه الواقعي.

انوار الأصول، ج 3، ص: 497

فتبقى خمس طوائف اخرى لابدّ من علاجها ورفع التعارض بينها.

والعجب من المحقّق الخراساني رحمه الله حيث إنّه رفضها من دون ذكرها جميعاً وتبيين معانيها ونسبها، مع أنّ اللازم في جميع هذه الأبواب ذكر جميع ما ورد عنهم عليهم السلام واحداً بعد واحد والدقّة في مضامينها، وقد جرت عادة شيخنا الأنصاري رحمه الله على هذه الطريقة، ولكن مع الأسف تغيّرت عادة كثير من المتأخّرين والمعاصرين من الاصوليين إلى غير هذا، حفظنا اللَّه تعالى من مزال الإقدام.

وعلى أي حال الاشكال الأول الذي يرد على هذه الروايات هو أنّها معارضة مع أخبار التخيير التي مرّ تفصيلها في المقام الأوّل.

ويجاب عنه: بحمل المطلق على المقيّد، حيث إنّ تلك الروايات مطلقة تعمّ موارد وجود المرجّحات وعدمها فتقيّد بهذه الروايات وتحمل على موارد تساوي الخبرين.

والإشكال الثاني: تعارض نفس هذه الطوائف بعضها مع بعض، فإنّ بعضها يدلّ على ثلاث مرجّحات أو أربعة، وبعضها على إثنين، وبعضها الآخر على أنّها واحدة، والتي تدلّ على مرجّح واحد أيضاً مختلفة كما مرّ آنفاً.

ولكن هذا الإشكال أيضاً يندفع بحمل المطلق على المقيّد، فإنّ ما تدلّ على مرجّح واحد مثلًا

تكون مطلقة بالنسبة إلى سائر المرجّحات كما يتّضح بالتأمّل فيها.

والإشكال الثالث: في المقام إشكال الترتيب الموجود بين المرجّحات، فإنّ الترتيب الموجود في المقبولة مثلًا يخالف الترتيب الموجود في المرفوعة.

وسيأتي الجواب عنه إن شاء اللَّه تعالى عند الجواب عن إشكالات المحقّق الخراساني رحمه الله على وجوب الترجيح فانتظر.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمه الله بعد أن اعتبر المقبولة والمرفوعة أجمع خبر للمزايا المنصوصة في الأخبار حاول أن يناقش في دلالتهما على وجوب الترجيح فأورد على الإحتجاج بهما بامور:

1- ما يختصّ بالمرفوعة فقط، وهو ضعف سندها، وقد مرّ الكلام فيه فلا نعيد.

2- ما يختصّ بالمقبولة فقط، وهو ما مرّ تفصيله من أنّها مختصّه بباب القضاء ورفع الخصومة فلا ربط لها للترجيح في مقام الفتوى، وقد مرّ توضيح إشكاله هذا والجواب عنه أيضاً.

انوار الأصول، ج 3، ص: 498

3- ما يختصّ بالمقبولة أيضاً وهو اختصاصها بزمان الحضور والتمكّن من لقاء الإمام عليه السلام بقرينة أمره في آخرها بالإرجاء حتّى تلقى إمامك، ووجوب الترجيح في زمان الحضور لا يلازم وجوبه في زمان الغيبة، وقد مرّ الجواب عن هذا الإشكال أيضاً فراجع.

4- أنّ تقييد جميع إطلاقات التخيير الواردة في مقام الجواب عن سؤال حكم المتعارضين بلا استفصال عن كونهما متعادلين أو متفاضلين بأخبار الترجيح من المقبولة والمرفوعة وغيرها وحمل الإطلاقات المذكورة جميعاً على موارد تساوي الخبرين مع ندرتها بعيد قطعاً.

ولكن الإنصاف أنّ هذا الاستبعاد يزول بعد ملاحظة أخبار التخيير وقلّة إطلاقاتها، فقد لاحظت في المقام الأوّل أنّ روايات التخيير التامّة دلالة هى رواية الحسن بن الجهم (وهى الرواية الاولى من ذلك المقام) ورواية الحارث بن المغيرة (وهى الرواية الثانية) ومرفوعة زرارة (وهى الرواية الثامنة) ومرسلة كليني.

أمّا مرفوعة زرارة فإنّ الأمر بالتخيير فيها ورد

بعد الأمر بالترجيح فلا تعدّ من المطلقات، وأمّا مرسلة الكليني فقد احتملنا كونها مأخوذة من سائر الروايات، فتبقى الرواية الاولى والثانية، ولا إشكال في أنّ حملهما على موارد التساوي ليس ببعيد.

5- وجود الاختلاف الكثير في نفس أخبار الترجيح، فإنّه شاهد على الحمل على مراتب الاستحباب والفضل (كما فعله الأصحاب بالنسبة إلى الروايات المختلفة الواردة في باب منزوحات البئر).

وهذا أيضاً يرتفع بعد التأمّل في الأخبار والنسبة الموجودة بينها، فإنّ المهمّ من الطائفة الاولى إنّما هى المقبولة (لعدم اعتبار المرفوعة سنداً كما مرّ) والمرجّحات الواردة فيها عبارة عن الشهرة وموافقة الكتاب ومخالفة العامّة (وأمّا المخالفة مع ميل حكّامهم فهى من مصاديق مخالفة العامّة فترجع إليها كما لا يخفى) ولا إشكال في أنّ الطائفة الثانية وهى ما تدلّ على إثنين من هذه الثلاثة (وهما الثاني والثالث منها) مطلقة بالنسبة إلى المرجّح الأوّل منها، وهكذا كلّ من الطائفة الثالثة والرابعة التي غ تدلّ على مرجّح واحد من الثلاثة مطلقة بالنسبة إلى مرجّحين آخرين فيجمع بينها بالتقييد.

6- ما يختصّ بالأخبار المشتملة على الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة فقط أو الترجيح انوار الأصول، ج 3، ص: 499

بمخالفة العامّة فقط، أو الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة معاً، وحاصله: أنّها ليست من أخبار الباب، أي ترجيح الحجّة على الحجّة، وإنّما هى في مقام تمييز الحجّة عن اللّاحجّة، أمّا بالنسبة إلى الخبر المخالف للكتاب والسنّة فلقوّة احتمال أن يكون مثله في نفسه غير حجّة ولو لم يكن له معارض أصلًا، وذلك بشهادة ما ورد في شأنه من أنّه زخرف أو باطل أو أنّه لم نَقُله، أو أمر بطرحه على الجدار، مضافاً إلى أنّ الصدور أو الظهور في مثله يكون موهوناً بحيث لا يعمّه أدلّة اعتبار السند أو

الظهور.

وأمّا بالنسبة إلى الخبر الموافق للقوم فلأنّه بملاحظة الخبر المخالف له مع الوثوق بصدوره (المخالف) لو لم ندع القطع بصدوره تقيّة فلا أقلّ من عدم جريان أصالة الجدّ فيه.

ولكن الإنصاف أنّ هذا أيضاً نشأ من عدم التأمّل في أخبار الباب، أمّا المشتملة على الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة فلأنّها على قسمين: قسم لا ربط له بما نحن فيه، أي بباب التعارض، بل إنّه وارد في مطلق ما يكون مخالفاً للكتاب، وقسم آخر ورد في خصوص باب التعارض، والتعبير ب «أنّه زخرف» أو «باطل» أو غيرهما ورد في خصوص القسم الأوّل لا الثاني.

فإنّ من القسم الأوّل: ما رواه السكوني عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

أنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب اللَّه فخذوه وما خالف كتاب اللَّه فدعوه» «1».

ومنها: ما رواه أيّوب بن راشد عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف» «2».

ومنها: ما رواه أيّوب بن الحرّ قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: كلّ شي ء مردود إلى الكتاب والسنّة، وكلّ حديث لا يوافق كتاب اللَّه فهو زخرف» «3».

ومنها: ما رواه هشام بن الحكم وغيره عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «خطب النبي صلى الله عليه و آله بمعنى وقال: أيّها الناس ما جاءكم عنّي يوافق كتاب اللَّه فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب اللَّه فلم أقله» «4».

انوار الأصول، ج 3، ص: 500

ومنها: ما ورد في تفسير العياشي عن سدير قال: «قال أبو جعفر وأبو عبداللَّه عليهما السلام: لا تصدّق علينا إلّاما وافق كتاب اللَّه وسنّة نبيّه صلى الله عليه و آله» «1».

فتلاحظ أنّ جميعها واردة في كلّ

خبر يكون مخالفاً للكتاب والسنّة ولا ربط لها بباب الخبرين المتعارضين، وحينئذٍ يكون المراد من المخالفة فيها هى المخالفة على نحو التباين لا العموم والخصوص أو الاطلاق والتقييد، فإنّا نقطع بورود مخصّصات أو مقيّدات كثيرة لعمومات الكتاب وإطلاقاتها في الأخبار الظنّية المعتبرة.

ومن القسم الثاني (الذي هو خالٍ عن تلك التعبيرات) المقبولة والمرفوعة. وما رواه عبدالرحمن بن أبي عبداللَّه عن الصادق عليه السلام (وقد مرّ ذكرها في الطائفة الثانية من أخبار المرجّحات).

وليس في شي ء منها واحد من تلك التعبيرات الظاهرة في عدم الحجّية، فيكون المراد من المخالفة فيها المخالفة لظهور الكتاب لا لنصّه وصريحه.

وممّا يشهد عليه وقوع الترجيح بموافقة الكتاب في المقبولة بعد الترجيح بالشهرة أنّ معنى تقديمه عليه هو الأخذ بالخبر المشهور المجمع عليه وإن كان مخالفاً للكتاب والسنّة، فلو كان المراد من المخالف للكتاب والسنّة هو المخالف لنصّهما وصريحهما لم يجز الأخذ به ولو فرض كونه مشهوراً مجمعاً عليه عند الأصحاب كما لا يخفى.

كما يشهد عليه أيضاً فرض الراوي في المقبولة موافقة كلا الخبرين للكتاب بقوله: «إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة» فإنّه إذا كان المراد من المخالفة المخالفة على نحو التباين فلا معنى لأن يكون كلّ من الخبرين المتعارضين المتباينين موافقاً لكتاب اللَّه.

ويشهد عليه ثالثاً وقوع الترتيب بين الترجيح بموافقة الكتاب والترجيح بمخالفة العامّة في المقبولة أيضاً، فإنّ اعتبار الترتيب لا يلائم عدم الحجّية كما لا يخفى. وبالجملة ليس المراد من المخالفة للكتاب في أخبار الترجيح هى المخالفة لنصّ الكتاب وصريحه، بل المراد منها بقرينة هذه الشواهد الثلاثة هى المخالفة لظهوره.

وبهذا يظهر الجواب عن الأمر الثاني في كلامه (وهو عدم شمول أدلّة اعتبار السند

انوار الأصول، ج 3، ص: 501

والظهور للخبر المخالف للكتاب

والسنّة) فإنّه إذا كان المراد من المخالفة هو المخالفة لظاهر الكتاب فالصدور أو الظهور في الخبر المخالف ممّا لا وجه له (لوهنه بعد القطع بصدور أخبار كثيرة مخالفة لظاهر الكتاب تخصيصاً كما مرّ بيانه).

هذا كلّه بالنسبة إلى الأخبار المشتملة على الترجيح بموافقة الكتاب.

وأمّا المشتملة على الترجيح بمخالفة العامّة (وإليه يرجع الترجيح بمخالفة ميل الحكّام كما مرّ) فكذلك ليست من قبيل تمييز الحجّة عن اللّاحجّة لأنّه لا ريب في أنّ المراد من الموافقة للعامّة أو المخالفة لهم إنّما هى موافقة بعضهم، أو مخالفة بعضهم لما ورد في ذيلها من فرض موافقة كلا الخبرين لهم، حيث لا معنى لأن يكون كلّ من الخبرين المتضادّين موافقاً لجميع العامّة، ولا إشكال في أنّ الخبر الذي يوافق بعضهم لا يحمل على التقيّة حتّى يكون من قبيل اللّاحجّة.

هذا مضافاً إلى أنّ عدم حجّيته لا يلائم الترتيب الواقع في المقبولة أيضاً.

7- ما يرجع من جهة إلى التأييد للوجه السابق، وهو أنّ ما ذكرنا (من كون أخبار الترجيح في مقام تمييز الحجّة عن اللّاحجّة لا في مقام ترجيح الحجّة عى الحجّة) ممّا يقتضيه التوفيق بين أخبار الترجيح وبين إطلاقات التخيير، فإنّ مقتضى الجمع بينهما إمّا حمل أخبار الترجيح على ما ذكرنا أو حملهما على الاستحباب، لأنّه لو لم نوفّق بينهما هكذا بل وفّقنا بينهما بتقييد إطلاقات التخيير بأخبار الترجيح (كما فعله المشهور) لزم التقييد في نفس أخبار الترجيح أيضاً (لما مرّ من اختلافها على طوائف) مع أنّها آبية عنه جدّاً، وكيف يمكن تقييد مثل «ما جاءكم يخالف كتاب اللَّه فلم أقله» أو «زخرف» أو «باطل» بما إذا لم يكن أحدهما أشهر روايةً بحيث لو كان أحدهما أشهر أخذنا به ولو خالف الكتاب.

وقد ظهر

ممّا ذكرنا في الجواب عن الوجه السابق الجواب عن هذا الوجه أيضاً، فإنّ هذه التعبيرات (من الزخرف والباطل ولم أقله) ليس منها في أخبار الترجيح عين ولا أثر، وإنّما هى في الأخبار الناهيّة عن الخبر المخالف للكتاب والسنّة ولو لم يكن له معارض، وأمّا رواية الحسن بن الجهم «1» المشتملة على بعض هذه التعبيرات فهى ضعيفة بالارسال.

انوار الأصول، ج 3، ص: 502

إلى هنا تمّ الكلام عن الدليل الأوّل على مقالة المشهور (وجوب اعمال المرجّحات) وهو في الواقع يرجع إلى ظهور الأمر بالترجيح الوارد في أخبار الترجيح في الوجوب.

الثاني: دعوى الإجماع على لزوم الأخذ بالخبر الراجح

وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه الله بأنّ «دعوى الإجماع مع مصير مثل الكليني رحمه الله إلى التخيير وهو في عهد الغيبة الصغرى ويخالط النوّاب والسفراء- قال في ديباجة الكافي ولا نجد شيئاً أوسع ولا أحوط من التخيير- مجازفة».

ولكن الإنصاف أنّ كلام الكليني رحمه الله في الديباجة يوافق الإجماع فإنّه قال فيها ما لفظه (على حكاية صاحب الوسائل): اعلم ياأخي أنّه لا يسع أحد تمييز شي ء ممّا اختلفت الرواية فيه عن العلماء برأيه إلّاما أطلقه العالم عليه السلام بقوله: «اعرضوهما على كتاب اللَّه عزّوجلّ فما وافق كتاب اللَّه عزّوجلّ فخذوه، وما خالف كتاب اللَّه فردّوه» وقوله عليه السلام: «دعوا ما وافق القوم فإنّ الرشد في خلافهم» وقوله عليه السلام: «خذوا بالمجمع عليه فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» ونحن لا نعرف من ذلك إلّاأقلّه، ولا نجد شيئاً أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم عليه السلام وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله عليه السلام: بأيّهما أخذتم من باب التسليم وسعكم» «1».

ومن المعلوم أنّه ليس مراده من قوله «ونحن لا نعرف من ذلك إلّاأقلّه» عدم وجوب

العمل بما ذكر من أخبار الترجيح ولزوم ردّها إلى أهلها حتّى في تلك الموارد القليلة على نحو السالبة الكلّية، بل الظاهر أنّ مراده عدم معرفة مصاديق هذه المرجّحات لا عدم وجوب العمل بها عند معرفة مصاديقها، هذا أوّلًا.

وثانياً: أنّ كلام الكليني هذا صدر منه في الواقع لشبهة حصلت له فإنّا لا نقبل قلّة موارد الترجيح بالمرجّحين المذكورين في كلامه.

فالصحيح في المناقشة أنّ مثل هذا الإجماع مدركيّ لا اعتبار به.

الثالث: حكم العقل بوجوب ترجيح ذي المزيّة
اشارة

وذلك بدعوى أنّه لو لم يجب ترجيح ذي المزيّة لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح عقلًا بل ممتنع قطعاً.

واجيب عنه أو يمكن أن يجاب عنه أوّلًا: بإشكال صغروي، وهو إنّا نقبل وجوب ترجيح ذي المزية كبرويّاً ولكن فيما إذا كانت المزية موجبة لتأكّد ملاك الحجّية بنظر الشارع لا مطلقاً، إذ من الممكن أن تكون المزية بالنسبة إلى ملاك الحجّية هى كالحجر في جنب الإنسان، ومعه لا يكاد يجب الترجيح، بل الترجيح بها ترجيح بلا مرجّح، وهو قبيح عقلًا كترجيح المرجوح على الراجح عيناً.

وثانياً: سلّمنا إيجاب المزيّة تأكّداً في ملاك الحجّية، ولكنّه فيما إذا أُوجبت التأكّد على حدّ الإلزام لا على حدّ الاستحباب، وبعبارة اخرى: إنّا لا نقبل قبح ترجيح المرجوح على الراجح مطلقاً، ولا يخفى أنّ هذا إشكال في كلّية الكبرى.

وثالثاً: بما أورده المحقّق الخراساني رحمه الله على إضراب المستدلّ من الحكم بالقبح إلى الامتناع، وحاصله: أنّ ترجيح المرجوح على الراجح في الأفعال الاختياريّة كاختيار أحد الكأسين لشرب الماء مثلًا مع كونه دون صاحبه في المزايا والجهات المحسنة بلا داع عقلائي هو أمر قبيح عقلًا وليس بممتنع أبداً، وذلك لجواز وقوعه من غير الحكيم خارجاً بلا إستحالة له أصلًا، فإنّ الممتنع هو تحقّق الشي ء بلا

علّة وسبب، وليس ترجيح المرجوح كذلك، إذ يكفي إرادة الفاعل المختار علّة له وسبباً، نعم يستحيل وقوع ذلك من الحكيم تعالى بالعرض بعد فرض كونه حكيماً لا يرتكب القبيح أبداً.

أقول: إنّ كلامه رحمه الله هنا أقوى شاهد على بطلان ما ينسب إليه في مبحث الطلب والإرادة ومبحث التجرّي من الميل إلى إعتقاد الجبر، فتدبّر.

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: الاقتصار على المرجحات المنصوصة وعدمه

(وهى الشهرة وموافقة الكتاب ومخالفة العامّة كما مرّ) أو يتعدّى منها إلى غيرها

انوار الأصول، ج 3، ص: 504

(كموافقة الأصل أو موافقة الإجماع المنقول)؟ فيه قولان:

1- جواز التعدّي وهو ما ذهب إليه الشيخ الأعظم رحمه الله ومن تبعه، بل إنّه قال: ادّعى بعضهم ظهور الإجماع وعدم ظهور الخلاف فيه بعد أن حكى الإجماع عليه عن جماعة.

2- عدم جواز التعدّي وهو ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية، وتبعه المحقّق النائيني وبعض الأعاظم في رسائله.

واستدلّ القائلون بالتعدّي بوجوه أربعة:

الوجه الأوّل: التعليل الوارد في ذيل المقبولة في مقام الترجيح بالشهرة بالأخذ بالمشهور وترك الشاذّ النادر بقوله عليه السلام «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه».

بأن يقال: إنّ تعليله بعدم الريب في المشهور يدلّ على مرجّحية كلّ شي ء يكون موجباً لأقلّية الريب فيما له المزية بالنسبة إلى مقابله سواء كان من المرجّحات المنصوصة أو لم يكن، وذلك من جهة أنّه لا يمكن أن يكون المراد نفي الريب بقول مطلق حتّى يكون مساوقاً للعلم بالصدور، فيكون خارجاً عن محلّ البحث وداخلًا في تمييز الحجّة عن اللّاحجّة، بل يكون خلاف مفروض السائل في ذيل الرواية من كون كليهما مشهورين، لأنّه لا معنى لأن يكون كلّ من الخبرين المتعارضين ممّا لا ريب فيه بقول مطلق أي قطعي الصدور، فالمراد بنفي الريب نفيه بالنسبة إلى الآخر بواسطة

شهرته بين المحدّثين والأصحاب ولا إشكال في أنّ هذا المعنى إذا كان هو التعليل للترجيح يمكن أن يوجد مثله في المزايا والمرجّحات غير المنصوصة فيجب التعدّي إليه.

واجيب عنه: بأنّ الظاهر من هذه الكلمة (بمقتضى ظهور لا النافية للجنس في نفي الجنس والطبيعة) هو نفي الريب بقول مطلق، أي الريب مطلقاً وبجميع مراتبه منفي، فإنّ الخبر إذا كان مشهوراً بين الرواة في الصدر الأوّل وكان مجمعاً عليه عندهم فهو ممّا يطمئن بصدوره على نحو صحّ أن يقال عرفاً أنّه ممّا لا ريب فيه، ولا بأس بالتعدّي عن مثل هذه المزيّة إلى كلّ مزيّة توجب ذلك عيناً ولا نأبى عن ذلك.

إن قلت: إنّ هذا موجب للخروج عن محلّ الكلام ومخالف لفرضهما مشهورين.

قلنا: غاية ما يستفاد من الشهرة هنا نفي الريب في صدور الرواية، ولا مانع من تعارضهما بعد كون الدلالة أو جهة الصدور فيهما ظنّياً، فمثل هاتين الروايتين غير خارجتين عن محلّ الكلام.

انوار الأصول، ج 3، ص: 505

الوجه الثاني: الترجيح بالأصدقية في المقبولة والأوثقية في المرفوعة فإنّ اعتبار هاتين الصفتين ليس إلّالترجيح الأقرب إلى مطابقة الواقع، أي مناط الترجيح بهما هو الأقربيّة إلى الصدور، ففي كلّ مورد تحقّق هذا المناط يكون موجباً للترجيح سواء كان من المرجّحات المنصوصة أو لم يكن.

واجيب عنه أوّلًا، بأنّ هذا ليس إلّاالظنّ بأنّ المناط هى الأقربيّة إلى الصدور (وتنقيح المناط ما لم يكن قطعيّاً لا اعتبار به) لأنّه من الممكن أن يكون الترجيح بهما لخصوصية فيهما لا لصرف كونهما أقرب إلى الصدور، وبعبارة اخرى: أنّ مجرّد جعل شي ء (فيه جهة الإراءة والكشف) حجّة كخبر الصادق أو الثقة أو جعله مرجّحاً كالأصدقيّة والأوثقيّة، لا دلالة فيه على أنّ الملاك فيه بتمامه جهة إراءته على

نحو نقطع بذلك ونتيقّن به حتّى يكون من باب تنقيح المناط القطعي ويجوز التعدّي عن مورد النصّ، وذلك لاحتمال دخل خصوصيّة ذلك الشي ء في حجّيته أو مرجّحيته لا جهة إراأته فقط.

وثانياً: بأنّه سلّمنا إحراز أنّ المناط هو الأقربيّة إلى الصدور، ولكنّه لا ريب في أنّ للأقربيّة مراتب مختلفة، ولعلّ جعل الأصدقيّة والأوثقيّة مرجّحاً للخبر كان لأجل أنّ لهما درجة خاصّة من الأقربيّة التي لا يمكن إحرازها في غيرهما.

وثالثاً: أنّ الترجيح بهاتين الصفتين لا يوجد إلّافي المقبولة والمرفوعة، وقد مرّ أنّ المرفوعة لا سند لها، وأمّا المقبولة فهذا المرجّح فيها ناظر إلى حال القضات لا الرواة لأنّها تقول: «الحكم ما حكم به ...» وهذا مختصّ بباب الحكومة والقضاء، ولا ربط له بباب تعارض الخبرين.

الوجه الثالث: التعليل الوارد في الأخذ بما يخالف العامّة بأنّ «الرشد في خلافهم» حيث إنّه يدلّ على وجوب ترجيح كلّ ما كان معه أمارة الحقّ والرشد، وترك ما فيه مظنّة خلاف الحقّ والصواب.

ويمكن أن يجاب عنه: بأنّه لم ترد هذه الفقرة بصورة التعليل في روايات الباب، فإنّ الوارد في المقبولة هو قوله «ما خالف العامّة ففيه الرشاد» ومن الواضح أنّ هذا ليس من قبيل انوار الأصول، ج 3، ص: 506

منصوص العلّة، نعم وروده بصورة التعليل إنّما هو في مرسلة الكليني «1» في ديباجة الكافي، والاعتماد عليها مشكل، لا سيّما بعد احتمال كونها مأخوذة عن المقبولة مع النقل بالمعنى.

هذا مضافاً إلى أنّ المراد من كون الرشد في خلافهم هو الاحتمال الغالب في الخبر الموافق من حيث التقيّة، ولكن حيث لا يعلم مقدار الغلبة هنا لا يمكن التعدّي إلى غيره ممّا لم يحرز فيه المقدار المذكور.

وذكر المحقّق الخراساني رحمه الله احتمالًا آخر في معنى هذا التعليل

لا يمكن المساعدة عليه، وهو أن يكون الرشد في نفس المخالفة لهم لحسنها ورجحانها موضوعياً.

ووجه عدم المساعدة أنّ هذا الاحتمال بعيد عن ظاهر الحديث غاية البعد، فإنّ معناه أن يكون لمجرّد المخالفة معهم موضوعيّة مع أنّ الرشد في اللغة ما يقابل الغيّ كما في الصحاح، فهو بمعنى الوصول إلى المقصد والإهتداء في الطريق كما يشهد عليه قولهم للمسافر «راشداً مهدياً» بل قوله تعالى: «وَهَيِ ءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً» «2»

في قصّة أصحاب الكهف.

وأجاب المحقّق النائيني رحمه الله عن الاستدلال بهذا الحديث لجواز التعدّي بأنّ «التعليل لا ينطبق على ضابط منصوص العلّة» ولا يصلح أن يكون كبرى كلّية، لأنّ ضابط منصوص العلّة هو أن تكون العلّة على وجه يصحّ ورودها والقائها إلى المكلّفين إبتداءً بلا ضمّ المورد إليها كما في قوله: «الخمر حرام لأنّه مسكر» فإنّه يصحّ أن يقال «كلّ مسكر حرام» بلا ذكر الخمر، وهذا بخلاف قوله عليه السلام «فإنّ الرشد في خلافهم» فإنّه لا يصحّ أن يقال: «خذ بكلّ ما خالف العامّة» لأنّ كثيراً من الأحكام الحقّة توافق قول العامّة» «3».

ولكن يرد عليه أيضاً أنّ الكبرى الكلّية المأخوذة من هذا الحديث ليس «خذ بكلّ ما خالف العامّة» حتّى يناقش فيه بما ذكر، بل المستفاد منه: «كلّ خبرين أحدهما موافق للعامّة والآخر مخالف لهم فخذ بالخبر المخالف» وهذه كبرى كلّية يمكن الالتزام بها بلا ريب.

وأجاب المحقّق الحائري رحمه الله عن الاستدلال بهذا الدليل بما حاصله: أنّ هذا التعليل لا

انوار الأصول، ج 3، ص: 507

يدلّ إلّاعلى أنّ الخبر الذي يكون معه هذا المرجّح يؤخذ به لكونه معه أقرب إلى الواقع في نظر الشارع لا في نظر الناظر، ومن المعلوم أنّه لا يصحّ لنا التعدّي إلى كلّ خبر يكون

معه شي ء يرجّح في نظرنا مطابقته للواقع «1».

ويمكن الجواب عنه أيضاً بأنّ المدّعى جواز التعدّي إلى كلّ مزية توجب لنا العلم بكون ذيّها أقرب إلى الواقع وهو علم طريقي لا يمكن للشارع مخالفته.

فالصحيح في المناقشة في الحديث ما ذكرنا من الإشكال السندي والدلالي.

الوجه الرابع: ما ذكره الشيخ الأعظم رحمه الله في رسائله ولم يأت به المحقّق الخراساني في الكفاية لضعفه عنده، وهو النبوي المعروف «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» ببيان أنّ من المعلوم كون المراد من عدم الريب هو عدم الريب بالإضافة إلى الآخر لا عدم الريب مطلقاً وإلّا كان مقابله ممّا لا ريب في بطلانه.

والجواب عنه: أنّ الظاهر من هذا الحديث أيضاً عدم الريب مطلقاً، وحينئذٍ يخرج عمّا نحن فيه ويدخل في الشبهة البدوية التحريميّة، ولذلك استدلّ به الأخباريون على وجوب الاحتياط في الشبهات التحريميّة، ويشهد على هذا المعنى ما ورد في ذيل الحديث على نقل الكراجكي في كنز العمّال (على ما حكي عنه) وهو قوله صلى الله عليه و آله: «فإنّك لن تجد فقد شي ء تركته للَّه عزّوجلّ» حيث إنّ المناسب لهذا التعليل أن يكون المراد من ما يريبك هو الشبهات البدوية، ومن ما لا يريبك هو الاحتياط في هذه الشبهة برجاء ثوابه تعالى.

هذا- مضافاً إلى إرساله.

إلى هنا ظهر عدم تمامية شي ء ممّا استدلّ به القائلون لجواز التعدّي.

وأمّا القائلون بعدم جواز التعدّي فاستدلّوا بأنّه هو مقتضى الأصل والقاعدة، وهى إطلاقات التخيير، حيث إنّها تقتضي التخيير في كلّ حال إلّاما خرج بالدليل، وما خرج بالدليل إنّما هو ذو المزيّة بالمزايا المنصوصة فقط.

ويمكن تأييده بما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله بعنوان الدليل، وهو أنّه لو وجب التعدّي عن المرجّحات المنصوصة إلى كلّ مزية

توجب أقربية ذيّها إلى الواقع لبيّن الإمام عليه السلام من الأوّل بنحو الضابطة الكلّية أنّه يجب الأخذ بالأقرب من الخبرين إلى الواقع من دون حاجة إلى ذكر

انوار الأصول، ج 3، ص: 508

تلك المرجّحات المخصوصة واحداً بعد واحد كي يحتاج السائل إلى إعادة السؤال مرّة بعد مرّة.

هذا- مضافاً إلى أنّه لو وجب التعدّي لم يأمر الإمام عليه السلام في آخر المقبولة بعد ما فرض السائل تساوي الطرفين في جميع ما ذكر من المرجّحات المنصوصة بالأرجاء حتّى تلقى إمامك، بل كان يأمره بالترجيح بسائر المرجّحات الموجبة لأقربية أحدهما إلى الواقع.

هذا كلّه في الأمر الأوّل.

الأمر الثاني: ميزان التعدى من المرجّحات المنصوصة وعدمه

بناءً على جواز التعدّي من المزايا المنصوصة هل يتعدّى إلى خصوص المزيّة الموجبة للأقربية إلى الواقع (أي الظنّ بالصدور) أو الموجبة لإقوائيّة المتن والمضمون (أي الظنّ بمطابقة المحتوى للواقع) أو يتعدّى إلى كلّ مزيّة للخبر ولو لم يوجب الإقربيّة أو الإقوائيّة؟

ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى الثاني استناداً إلى ما ادّعاه من أنّ المزايا المنصوصة على ثلاثة أقسام: قسم منها يوجب الأقربيّة إلى الواقع، وهو الأصدقية والأوثقية ومخالفة العامّة، وقسم منها يوجب الإقوائيّة في المضمون، وهو موافقة الكتاب، وقسم ثالث لا يوجب شيئاً منهما كالأورعيّة والأفقهيّة، فإذا كان في المزايا ما لا يوجب شيئاً من الإقوائيّة والأقربيّة فلا وجه للتعدّي إلى خصوص ما يوجب إحديهما بل نتعدّى إلى كلّ مزية ولو لم تكن موجبة لإحديهما أصلًا.

ولكن الصحيح رجوع جميع المزايا إلى الأقربيّة إلى الواقع، أمّا ما يوجب إقوائيّة المضمون فلأنّه إذا كان مضمون أحد الخبرين أقوى من الآخر- كما إذا كان مطابقاً لكلام اللَّه تعالى- لكان موجباً لإقوائيّة الظنّ بصدوره عن المعصوم أيضاً، ولذلك قد يجعل علوّ مضامين الأحاديث دليلًا على صحّة صدورها كما

ذكره شيخنا الأنصاري رحمه الله في بعض كلماته في حديث «وأمّا من كان من الفقهاء ...» فقال: «إنّه يلوح منه آثار الصدق» وكما أنّ بعض أساتيذنا العظام (وهو المحقّق البروجردي رحمه الله) أيضاً كان يستدلّ على أقربيّة صدور أدعية الصحيفة السجّادية الشريفة بقوّة محتواها وعلوّ مضامينها، وكما يقال ذلك في خطب نهج البلاغة ورسائله وأنّ علوّ مضامينها يدلّ على صدورها عن الإمام عليه السلام وإن كان كثيراً منها من المراسيل.

انوار الأصول، ج 3، ص: 509

وأمّا القسم الثالث فلأنّ الورع عبارة عن الكفّ عن محارم اللَّه، ومنها الكذب والإفتراء، والإنسان الأورع يكون احتياطه ومحافظته على التكلّم أكثر من غيره غالباً، فيكون أصدق من غيره كذلك، وهكذا الأفقهيّة فإنّ الأفقه يكون أخذه من الإمام عليه السلام أتقن وأحسن من غيره، هذا مضافاً إلى أنّ كلًا من الأورعيّة والأفقهيّة في المقبولة هى من مرجّحات الحاكم (كالأعدليّة والأصدقيّة) لا من مرجّحات الراوي.

وعلى ما ذكرنا إنّما يمكن التعدّي من المزايا المنصوصة (لو قلنا به) إلى كلّ مزيّة توجب قوّة ذيّها من حيث دليليته وطريقيّته إلى الواقع.

الأمر الثالث: شمول التخيير أو الترجيح لموارد الجمع العرفي وعدمه

وبعبارة اخرى هل يجوز إعمال المرجّحات في موارد العام والخاصّ، والمطلق والمقيّد أيضاً، أو لا؟ المشهور والمعروف أنّه يختصّ بغير موارد الجمع العرفي، بل قال الشيخ الأعظم رحمه الله: «وما ذكرناه كأنّه ممّا لا خلاف فيه كما استظهره بعض مشايخنا المعاصرين، ويشهد له ما يظهر من مذاهبهم في الاصول وطريقتهم في الفروع».

ولكن من العجب أنّه نسب إلى الشيخ الطوسي رحمه الله في بعض كلماته في الاستبصار والعدّة، وإلى المحقّق القمّي في مباحث العام والخاصّ من القوانين أنّ أعمال المرجّحات يقدّم على الجمع العرفي.

والصحيح ما ذهب إليه المشهور (بل يلزم من العمل بما نسب إلى

شيخ الطائفة رحمه الله فقه جديد كما سيأتي) وعمدة الدليل عليه أمران:

الأوّل: أنّه لا تعدّ موارد الجمع العرفي من قبيل المتعارضين، فلا يصدق عنوان التعارض والاختلاف عليها عند العرف، فلا يجري عليها أحكام التعارض.

الثاني: أنّ إعمال المرجّحات في موارد العام والخاصّ والمطلق والمقيّد يلزم منه ما لا يلتزم به فقيه، لمخالفته لضرورة الفقه، فإنّ من الضروري تخصيص العمومات الكثيرة وتقييد الإطلاقات العديدة في الكتاب والسنّة بالأخبار الخاصّة، مثلًا قوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» تخصّص بجميع أدلّة شرائط صحّة البيع والخيارات وشرائط المتبايعين والعوضين، وهكذا

انوار الأصول، ج 3، ص: 510

قوله تعالى: «وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ» فإنّه خصّص بأدلّه شرائط التقصير في السفر وهى كثيرة، وقوله تعالى: «وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ». بأدلّة خاصّة لشرائط نشر الحرمة بالرضاع، إلى غير ذلك من أشباهها، فلو جوّزنا اعمال المرجّحات بالنسبة إلى العام والخاصّ والمطلق والمقيّد وفرضنا كون العام في مثل هذه الموارد ذا المزيّة كان اللازم رفض جميع هذه المخصّصات، ولا ريب في استلزامه لفقه جديد غير ما نعرفه.

والإنصاف أنّه لم يقل به شيخ الطائفة أيضاً، حيث إنّ قوله في أوّل الاستبصار: «وإن كانا متساويين في العدالة والعدد وهما عاريان من جميع القرائن التي ذكرناها نُظر فإن كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالآخر على بعض الوجوه وضرب من التأويل كان العمل به أولى من العمل بالآخر الذي يحتاج العمل به إلى طرح الخبر الآخر لأنّه يكون العامل به عاملًا بالخبرين معاً» «1» (ونظير هذا عبارته في عدّة الاصول) «2» الظاهر في لزوم الجمع بين الخبرين متى أمكن، وإن وقع في عبارته بعد ذكر المرجّحات من حيث الترتيب، ولكنّه لا يدلّ على المقصود، لأنّ مراده

من الجمع في هذه العبارة إنّما هو الجمع التبرّعي الذي لا شاهد له من العرف، فهو في الواقع قدّم الجمع التبرّعي على التخيير بناءً على ما اختاره من المبنى، فكأنّه يقول: بعد إعمال المرجّحات تصل النوبة إلى الجمع التبرّعي ثمّ إلى التخيير خلافاً لمذهب المشهور حيث لا قيمة لمثل هذا الجمع عندهم فتصل النوبة إلى التخيير بعد عدم المرجّحات.

ويشهد على هذا كلامه في مبحث العام والخاصّ في عدّة الاصول: «قد يستشكل (في التخصيص) بأنّ الأخبار قد وردت في تقديم ما هو مخالف العامّة وموافق الكتاب، وهذا يقتضي تقديم العام لو كان هو الموافق للكتاب أو المخالف للعامّة.

وفيه: أنّ البحث منعقد لملاحظة العام والخاصّ من حيث العموم والخصوص لا بالنظر إلى المرجّحات الخارجيّة إذ قد يصير التجوّز في الخاصّ أولى من التخصيص في العام من جهة مرجّح خارجي» «3».

انوار الأصول، ج 3، ص: 511

فإنّ ذيل كلامه هذا شاهد على أنّ نظره في تقديم العام على الخاصّ مختصّ بموارد وجود قرينة خارجيّة على تجوّز الخاصّ كما إذا قامت قرينة خارجيّة على حمل الخاصّ على الاستحباب، ولا إشكال في وجوب تقديم العام وعدم جواز تخصيصه بالخاصّ حينئذٍ.

الفصل الثالث: في انقلاب النسبة

كلّ ما مرّ من أبحاث التعارض كانت فيما إذا كان التعارض بين دليلين، وأمّا إذا كان بين الزائد عليهما فهو على قسمين:

تارةً لا يوجب تقديم إحدى الخصوصيات إنقلاب النسبة بين العام والخاصّ الآخر، كما إذا قال: «أكرم العلماء» ثمّ قال: «لا تكرم النحويين» وقال أيضاً: «لا تكرم الصرفيين».

واخرى يوجب تقديم إحديها انقلاب النسبة، كما إذا قال: «لا تكرم الفسّاق منهم» وقال أيضاً: «لا تكرم النحويين» حيث إنّ تقديم التخصيص بالأوّل يوجب انقلاب النسبة بين «أكرم العلماء» و «لا تكرم النحويين» من العموم

المطلق إلى العموم من وجه، فإنّ النسبة بين العلماء العدول والنحويين هى العموم من وجه كما لا يخفى.

والبحث هيهنا في انقلاب النسبة السابقة على التخصيص بإحدى الخصوصيّات إلى النسبة اللاحقة به وعدمه، والمحكي عن المحقّق النراقي أنّه ذهب إلى الانقلاب وقال بلزوم ملاحظة النسبة اللاحقة.

والصحيح أنّ النزاع إنّما يتصوّر فيما إذا كان الخاصّان منفصلين، وأمّا إذا كان أحدهما متّصلًا فلا إشكال في انقلاب النسبة، أي لزوم ملاحظة النسبة بين العام المخصّص بالمتّصل والخاصّ الآخر المنفصل، والظاهر أنّ نظر المحقّق النراقي رحمه الله أيضاً إلى هذا القسم، إذ إنّ مفروض كلامه (على ما حكي عنه في كلمات الشيخ الأعظم رحمه الله) هو ما إذا كان أحد الخاصّين لبّياً كالإجماع ونحوه الذي هو بمنزلة المخصّص المتّصل.

وكيف كان، فهل تنقلب النسبة فيكون اللازم ملاحظة تاريخ الخاصّين وتخصيص العام أوّلًا بما هو الأقرب زماناً ثمّ بالأبعد، أو لا ينقلب فلا حاجة إلى ملاحظة تاريخهما؟ ولابدّ في الجواب من الإشارة إلى أمرين:

انوار الأصول، ج 3، ص: 512

أحدهما: هل التخصيص يتعلّق بالإرادة الجدّية، أو الإرادة الاستعماليّة؟ وتوضيحه: أنّ للفظ إرادتين: إرادة استعماليّة وهى ما يستعمل فيه اللفظ، وإرادة جدّية وهى ما يكون المقصود من الاستعمال، والسؤال هنا هو أنّ متعلّق التخصيص هل هو الإرادة الجدّية، أو الإرادة الاستعماليّة؟

المعروف والمشهور أنّه يتعلّق بالإرادة الجدّية، ولذلك لا يلزم منه مجاز، لأنّ باب المجاز والحقيقة باب اللفظ وما استعمل فيه اللفظ لا المعنى والمراد، وقد مرّ البحث عنه تفصيلًا في مباحث العام والخاصّ تحت عنوان «التخصيص بالمنفصل إنّما هو في الإرادة الجدّية لا الإرادة الاستعماليّة» وهو المختار هناك.

ثانيهما: هل المعيار في تعارض الدليلين هو الإرادة الاستعماليّة أو الإرادة الجدّية؟

لا إشكال في أنّ الميزان في التعارض

إنّما هو الإرادة الاستعماليّة، لأنّ الدليلين يتعارضان ويتضادّان في ظهورهما الاستعمالي واللفظي كما هو واضح.

ثمّ بعد ملاحظة هاتين النكتتين يظهر لنا أنّه لا وجه لانقلاب النسبة، لأنّ تخصيص العام بالخاصّ الأوّل إنّما هو في الإرادة الجدّية ولا ربط له بالإرادة الاستعماليّة، وحينئذٍ يبقى الظهور الاستعمالي للعام على حاله الذي كان هو المعيار في التعارض، ولابدّ بعد التخصيص بالخاصّ الأوّل من ملاحظة النسبة بين الخاصّ الثاني وهذا الظهور الاستعمالي للعام الباقي على قوّته.

والذي يؤيّد ذلك هو سيرة الفقهاء العمليّة في الفقه، فإنّهم لا يلاحظون تاريخ الخصوصيّات ولا يقدّمون التخصيص بأحد الخاصّين على التخصيص بالخاصّ الآخر بل يخصّصون العام بكليهما في عرض واحد.

نعم، قد يستثنى منه ما إذا كانت المخصّصات بمقدار من الكثرة يوجب الاستهجان عرفاً، فيكون النسبة بين الخصوصات والعام من قبيل المتباينين، فربّما يكون طريق الجمع فيه إسقاط العام عن ظهوره في الوجوب أو الحرمة وحمله على الاستحباب أو الكراهة.

ثمّ إنّ جماعة من الأعلام أشاروا إلى أمرين آخرين:

أحدهما: هو البحث عن مسألة الضمان في عارية الذهب والفضّة التي هى من موارد تعارض أكثر من دليلين ومن مصاديقه وتطبيقاته، ولكننا نتركه إلى محلّه في الفقه لأنّه بحث فقهي خاصّ لا يليق إلّابالفقه كما لا يخفى على الخبير.

انوار الأصول، ج 3، ص: 513

وثانيهما: ما ذكره بعض الأعلام مفصّلًا من الأنواع المختلفة لتعارض أكثر من الدليلين والصور العديدة لكلّ نوع منها، ولكنّه أيضاً لا طائل تحته بعد قبول عدم انقلاب النسبة مطلقاً كما هو الحقّ.

الفصل الرابع: في ترتيب المرجّحات

هل تعتبر مراعاة الترتيب بين المرجّحات أو لا؟ وعلى فرض لزومها أيّتها تتقدّم وأيّتها تتأخّر؟ فيه ثلاثة أقوال:

1- ما ذهب إليه صاحب الكفاية، وهو عدم اعتبارها بناءً على القول بالتعدّي من المزايا المنصوصة وإناطة

الترجيح بالظنّ أو بالأقربية إلى الواقع، فإن حصل أحدهما في جانب فهو المتقدّم، وإن حصل في كليهما فيتخيّر.

نعم، لو قيل بالاقتصار على المزايا المنصوصة فلها وجه.

2- ما ذهب إليه شيخنا الأعظم والمحقّق النائيني رحمه الله من لزوم مراعاة الترتيب. فإنّ المرجّحات على ثلاثة أقسام: المرجّحات السندية وهى ما ترجع إلى أصل الصدور كالشهرة وأعدليّة الراوي أو أوثقيته، والمرجّحات الجهتية وهى ما ترجع إلى جهة الصدور، أي التقيّة وعدمها، كمخالفة العامّة، والمرجّحات المضمونيّة، وهى ما ترجع إلى المضمون كموافقة الكتاب، فقال شيخنا الأعظم رحمه الله بتقديم الأوّل على الثاني والثالث، وقال المحقّق النائيني رحمه الله بتقديم الأوّل على الثاني، والثاني على الثالث «1».

3- ما ذهب إليه المحقّق الوحيد البهبهاني رحمه الله، وهو لزوم تقديم المرجّح الجهتي على الصدوري، فلو كان أحد المتعارضين مخالفاً للعامّة وكان الآخر موافقاً للشهرة قدّم ما يخالف العامّة.

أقول: لابدّ من البحث أوّلًا على ما يقتضيه القواعد الأوّلية، ثمّ على ما يستظهر من الروايات الخاصّة الواردة في باب المرجّحات، وكلمات القوم هنا مضطربة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 514

أمّا ما تقتضيه القواعد فحاصل كلام الشيخ الأعظم رحمه الله أنّ جهة الصدور متفرّعة على أصل الصدور، فإذا كان الخبران المتعارضان مقطوعي الصدور كما في المتواترين أو بحكم مقطوعي الصدور فتصل النوبة إلى المرجّح الجهتي، وأمّا إذا كانا متفاضلين من حيث الصدور فيجب التعبّد حينئذٍ بالراجح صدوراً، ولا تكاد تصل النوبة إلى المرجوع صدوراً كي يلاحظ رجحانه جهة.

وأورد عليه: بأنّه يستلزم اللغوية، لأنّ لازمه لزوم التعبّد بصدور الخبر المشهور الموافق للعامّة، ولا معنى للتعبّد بصدور الخبر مع وجوب حمله على التقيّة، إذ الحمل على التقيّة يساوق الطرح، ولا يعقل أن تكون نتيجة التعبّد بالصدور هى الطرح، فالحقّ

أنّه لا ترتيب بين المرجّحات وأنّ الترجيح بجميعها يرجع إلى الصدور.

ولكن يمكن الجواب عنه: بأنّ معنى حجّية الخبر ليس التعبّد والعمل به، بل معناه هو التعبّد به لولا المزاحم، وبعبارة اخرى: المراد من حجّية كلا الخبرين هو الحجّية الإقتضائية لا الحجّية الفعليّة، وهذا المعنى حاصل في المقام.

أقول: الحقّ هو ما اختاره المحقّق الخراساني رحمه الله من عدم الترتيب، وأنّ برهان الفرعيّة في كلام الشيخ الأعظم رحمه الله ليس بتامّ لأنّ المرجّحات الجهتيّة أو المضمونيّة وإن كانت متأخّرة عن المرجّحات الصدورية بحسب الوجود الخارجي (لأنّ جهة الصدور أو المضمون فرع لأصل الصدور وعارض عليه، ووجود المعروض سابق على وجود العارض) إلّاأنّه لا دخل له في ما هو المهم في المقام، فإنّ محلّ البحث في ما نحن فيه هو الحجّية بمعنى ترتيب الأثر العملي، ولا ريب في أنّ كلًا من الجهات الثلاثة شرط في الحجّية والعمل، ومن أجزاء العلّة التامّة له في عرض واحد، ولا تقدّم لأحدها على غيره من هذه الجهة، أي من ناحية العمل كما لا يخفى. هذا أوّلًا.

وثانياً: سلّمنا اعتبار الترتيب ولكنّه على مرحلتين لا ثلاث مراحل كما أشار إليه المحقّق النائيني رحمه الله وقد مرّ آنفاً، فإنّ المرجّح المضموني يرجع إلى المرجّح الصدوري لأنّ الوفاق مع الكتاب دليل على الصدور، والمخالفة معه دليل على عدم الصدور ولو ظنّاً.

وأمّا القول الثالث: (وهو ما ذهب إليه المحقّق الوحيد البهبهاني رحمه الله) فاستدلّ له المحقّق الرشتي رحمه الله بأنّ التعبّد بالدليل الموافق للعامّة مستحيل، لدوران أمره بين عدم صدوره من انوار الأصول، ج 3، ص: 515

أصله وبين صدوره تقيّة، وهو على كلا التقديرين ممّا لا يعقل التعبّد به، وحينئذٍ كيف يقدّم الأرجح صدوراً إذا كان موافقاً للعامّة

على غيره وإن كان مخالفاً للعامّة كما قال به الشيخ الأعظم رحمه الله؟ ثمّ قال: فاحتمال تقديم المرجّحات السندية على مخالفة العامّة مع نصّ الإمام عليه السلام على طرح موافقهم من العجائب والغرائب التي لم يعهد صدورها من ذي مسكة فضلًا عمّن هو تالي العصمة علماً وعملًا، ثمّ قال: وليت شعري أنّ هذه الغفلة الواضحة كيف صدرت منه مع أنّه في جودة النظر يأتي بما يقرب من شقّ القمر.

ويمكن الجواب عنه أوّلًا: بأنّ الخبر الموافق للعامّة ليس دائراً بين احتمالين بل الاحتمالات فيه ثلاثة: عدم صدوره من أصله، وصدوره تقيّة، وصدوره لبيان حكم اللَّه الواقعي، وإنّما يدور أمره بين الاحتمالين الأوّلين إذا كان المعارض المخالف للعامّة قطعيّاً من جهاته الثلاث، أي من جهة السند والدلالة والجهة جميعاً، وأمّا إذا كان ظنّياً ولو من بعض الجهات كما هو المفروض (حيث إنّ البحث في المرجّحات الظنّية لا في تمييز الحجّة عن اللّاحجّة) فلا علم لنا بصدق المخالف بل نحتمل كذبه أيضاً، كما لا علم لنا ببطلان الموافق وعدم حجّيته على أي حال.

وكأنّ المحقّق الرشتي رحمه الله غفل عن هذه النكتة، أي أنّ البحث هو في المرجّحات الظنّية.

وثانياً: أنّ ما ادّعاه صادق في العكس أيضاً، لأنّ الإمام عليه السلام قال في المرجّحات الصدورية: «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» ولازمه حصول العلم بعدم صدور غير المشهور.

ولقد أجاد المحقّق الخراساني رحمه الله حيث قال في ذيل كلامه هنا: أنّ الغفلة والنسيان كالطبيعة الثانويّة للإنسان.

فقد ظهر أنّ مقتضى القواعد الأوّلية عدم اعتبار الترتيب بين المرجّحات فلابدّ من الرجوع إلى أقوى الدليلين وأظهرهما، وهو مختلف بحسب اختلاف المقامات، ولو لم يكن أحدهما أقوى أو أظهر سقطت المرجّحات فتصل النوبة إلى التخيير.

هذا

كلّه بحسب القواعد.

وأمّا بحسب الأدلّة الخاصّة النقلية فالمهمّ فيها هو مقبولة عمر بن حنظلة المذكور فيها ثلاث مرجّحات: الشهرة، موافقة الكتاب والسنّة، ومخالفة العامّة (وأمّا مخالفة ميل الحكّام فقد مرّ أنّه يرجع إلى مخالفة العامّة، كما أنّ الترجيح بالأعدليّة والأفقهيّة والأوثقيّة الواردة في انوار الأصول، ج 3، ص: 516

صدرها من مرجّحات باب الحكومة والقضاء لا الرواية كما مرّ أيضاً) والإنصاف أنّ ظاهر هذا الحديث هو لزوم الترتيب بين المرجّحات الثلاثة.

ومن الروايات مرفوعة زرارة، ولكن الترتيب الوارد فيها مخالف للترتيب الوارد في المقبولة، فإنّ المرجّح الثاني فيها هو صفات الراوي، والثالث هو مخالفة العامّة، والرابع هو الأحوطيّة، وحينئذٍ يقع التعارض بينهما، مع أنّ المطلوب منها علاج التعارض.

ولكن الذي يسهل الخطب أنّ المرفوعة لا سند لها كما مرّ بيانه.

ومن الروايات ما مرّ من مصحّحة عبدالرحمن بن عبداللَّه «1»، ولا إشكال أيضاً في صراحته في لزوم الترتيب مع خصوصيّة ومزيّة له بالنسبة إلى المقبولة، حيث إنّ الترتيب فيه جاء في كلام الإمام عليه السلام نفسه، بينما الترتيب في المقبولة جاء في كلام السائل، إلّاأنّ سكوت الإمام ظاهر في التقرير والامضاء.

وقد يدّعى وجود قرينة على خلاف هذا الظهور، وهى أنّ في كثير من الروايات لم يذكر إلّا مرجّح واحد، ولزوم الترتيب واعتباره يستلزم تقييد اطلاق جميع هذه الروايات بالمقبولة بالنسبة إلى سائر المرجّحات، وهو مشكل جدّاً.

وبعبارة اخرى: قد مرّ أنّ روايات الترجيح على طوائف عديدة، والمرجّحات في بعضها أربعة وفي بعضها الآخر ثلاثة، وفي طائفة ثالثة إثنان، وفي طائفة رابعة واحد، والمرجّح الواحد في الطائفة الرابعة أيضاً كان هو مخالفة العامّة في بعض رواياتها وموافقة الكتاب في بعضها الآخر، فقد يقال: إنّ هذا الاختلاف قرينة على التصرّف في ظهور المقبولة

في الترتيب، وحملها على أنّ الإمام عليه السلام فيها كان في مقام بيان مجرّد أنّ هذا مرجّح وذاك مرجّح.

ولكن يمكن الجواب عنه: بأنّه لابدّ من رفع اليد عن الاطلاق المذكور على أيّ حال، سواء قلنا بالترتيب أو لا، فإنّ مقتضى اطلاق الطائفة التي جاء فيها مرجّح واحد مثلًا أنّ المعتبر في مقام الترجيح إنّما هو خصوص ذلك المرجّح فقط، وهذا الظهور لا يعتنى به حتّى القائلين بعدم اعتبار الترتيب.

هذا- مضافاً إلى أنّه يمكن أن يقال: إنّ ما تدلّ عليه المقبولة من اعتبار الترتيب على انوار الأصول، ج 3، ص: 517

النحو المذكور فيها موافق للاعتبار أيضاً، وأنّ الإمام عليه السلام كان في مقام بيان ما يوافق الاعتبار، والأخذ بالأقوى فالأقوى من المرجّحات، وتطبيق قانون تقديم الأقوى على الأضعف، إذ إنّ الموافق مع الشهرة أقوى ظهوراً من الخبر غير المشهور الموافق مع كتاب اللَّه، وهكذا المخالف للعامّة أقوى من الموافق لعموم الكتاب أو إطلاقه.

بقي هنا امور:

1- إنّ ما ادّعاه شيخنا الأعظم رحمه الله في رسائله من أنّ المرفوعة منجبرة بعمل الأصحاب حيث قال: «فهى وإن كانت ضعيفة السند إلّاأنّها موافقة لسيرة العلماء في الترجيح» مبنى على كون عمل الأصحاب مستنداً إلى خصوص المرفوعة، مع أنّ الظاهر أنّ مستندهم هو المقبولة، لأنّ فيها أيضاً قدّم الترجيح بالشهرة على الترجيح بسائر المرجّحات، والشيخ الأعظم رحمه الله حيث توهّم أنّ أوّل المرجّحات في المقبولة هو صفات الراوي وأنّ ما قدّم فيه الشهرة على سائر المرجّحات إنّما هو المرفوعة، كما أشار إليه في ذيل كلامه بقوله «فإنّ طريقتهم مستمرّة على تقديم المشهور على الشاذّ» ذهب إلى أنّ عمل الأصحاب مستند إلى المرفوعة فيجبر ضعف سندها، مع أنّه قد مرّ أنّ الترجيح بالصفات

الواردة فيها من مرجّحات باب الحكومة والقضاء لا الرواية.

2- قد أشرنا سابقاً إلى أنّ المرجّحات المضمونية ترجع في الواقع إلى المرجّحات السنديّة (الصدوريّة) لأنّ موافقة كتاب اللَّه تعالى توجب الظنّ بالصدور وأنّ علوّ المضامين يوجب القوّة في السند، كما لا يخفى، وحينئذٍ ترجع المرجّحات إلى قسمين: صدوريّة وجهتيّة، لا إلى ثلاثة أقسام.

3- ما أشرنا إليه أيضاً في الجواب عن المحقّق الرشتي رحمه الله من أنّه ليس كلّ ما كان موافقاً للعامّة صدر في مقام التقية، والشاهد على ذلك أنّ الأئمّة عليهم السلام كثيراً ما كانوا ينقضون التقيّة، ويبلّغون أحكام اللَّه الواقعيّة، سواء كانت موافقة مع آراء العامّة أو مخالفة لها.

توضيح ذلك: أنّ التقيّة على قسمين:

التقيّة في العمل وأكثر روايات التقيّة ناظرة إليها، وقد ذكرناها بالتفصيل في القواعد

انوار الأصول، ج 3، ص: 518

الفقهيّة، كقوله عليه السلام: التقيّة سنّة إبراهيم، أو سنّة آل فرعون، أو سنّة أصحاب الكهف، أو أنّها جنّة المؤمن، أو ترس المؤمن، وهكذا قوله تعالى: «إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً» «1»

الوارد في شأن عمّار بن ياسر وأبويه، فلا إشكال في أنّ جميعها ناظراً إلى التقية في مقام العمل كما لا يخفى.

وتقية في مقام الفتوى، وهى بنفسها على قسمين: أحدهما ما يصدر من الإمام عليه السلام حفظاً لنفسه الشريفة، وثانيهما ما يصدر منه حفظاً لدماء الشيعة، والمتتبّع في تاريخ الأئمّة وسيرتهم يلاحظ أنّ هذين القسمين من التقيّة لم تكن بتلك الدرجة من الكثرة لكي يتوهّم مثل المحقّق الرشتي رحمه الله أنّ كلّ خبر يوافق آراء العامّة فإمّا أن لا يكون صادراً عنهم عليهم السلام أو صدر تقية، سيّما بعد ملاحظة الروايات الناقضة للتقية كأكثر روايات باب الخمس وكثير من روايات أبواب الحجّ وما أشبهها فراجع.

4- قال

المحقّق الخراساني رحمه الله أنّ تقدّم الأرجح صدوراً على المخالف للعامّة (أي تقدّم المرجّح الصدوري على الجهتي) مبنيّ على كون المخالفة للعامّة من المرجّحات الجهتية، وأمّا بملاحظة كونها من المرجّحات الدلالية نظراً إلى ما في الموافق للعامّة من احتمال التورية الموجب لضعف ظهوره ودلالته فيكون المخالف للعامّة أقوى منه دلالة وظهوراً لعدم احتمال التورية فيه أصلًا، فالمرجّح الجهتي حينئذٍ مقدّم على جميع المرجّحات الصدورية لما عرفت من تقدّم المرجّحات الدلالية على ما سواها من المرجّحات.

ثمّ أشكل على نفسه وقال: اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ باب احتمال التورية وإن كان مفتوحاً فيما احتمل فيه التقيّة إلّاأنّه حيث كان بالتأمّل والنظر لم يوجب أن يكون معارضه أظهر، بحيث يكون قرينة على التصرّف عرفاً في الآخر من حيث الدلالة.

أقول: إن كان مقصوده ممّا رجع إليه في ذيل كلامه أنّ عمل التورية وأعمالها في محلّها أمر مشكل فهو صحيح لا غبار عليه، وأمّا إن كان المقصود أنّ تشخيص الأظهر والظاهر بعد فرض انفتاح باب التورية وتحقّقها في الخارج في الروايات الموافقة مشكل فهو ممنوع، فإنّ الإنصاف أنّ ما لا يحتمل فيه التورية أقوى ظهوراً عند العرف ممّا يحتمل فيه التوراة، فيقدّم عليه إذا كان أحدهما قرينة على التصرّف في الآخر، هذا أوّلًا.

انوار الأصول، ج 3، ص: 519

وثانياً: قد ذكرنا في محلّه في المكاسب الحرمة في باب الكذب: أنّ التورية لا تجري في كلّ كلام، بل تجري فيما إذا كان الكلام محتملًا لمعنيين ذاتاً، غاية الأمر أنّ ذهن السامع ينصرف إلى أحدهما مع أنّ المتكلّم أراد المعنى الآخر، كما إذا قال صاحب الدار (في جواب من سئل عنه بقوله «أزيد في الدار»): ليس هو هنا، وأراد منه وراء الباب لا مجموع الدار،

ونظير قول سعيد بن جبير في الجواب عن سؤال الحجّاج، «أنت عادل قاسط» حيث أراد من «عادل» من عدل عن التوحيد مشيراً إلى قوله تعالى: «ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» «1»

فإنّ له معنيين، ومن «قاسط» معنى الظلم لأنّه من الأضداد، وإن انصرف الذهن منهما إلى معنى العدالة، ونظير قول بعض العلماء (في الجواب عن سؤال: خير الورى بعد النبي من هو؟ في تلك القصّة المعروفة):

من بنته في بيته، فأراد من الضمير النبي صلى الله عليه و آله فينطبق على أمير المؤمنين علي عليه السلام، ولعلّه كان المنصرف إلى الذهن في ذلك الزمان رجوع الضمير الثاني إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فينطبق على الخليفة الأوّل.

ويتفرّع على ذلك عدم كون التوراة داخلة في أنواع الكذب، كما يتفرّع عليه أنّ التورية لا تجري في كلّ كلام وفي كلّ مقام، بل لها موارد خاصّة، وحينئذٍ لا يمكن القول باحتمال التورية في جميع موارد التقيّة.

هذا، وتمام الكلام في محلّه في المكاسب المحرّمة.

الفصل الخامس: في المرجّحات الخارجيّة
اشارة

جعل الشيخ الأعظم رحمه الله مجموع المرجّحات على قسمين: داخليّة وخارجيّة، فالداخلية عبارة عن كلّ مزية غير مستقلّة بنفسها، وهى على ثلاثة أقسام مرّ ذكرها تفصيلًا، والخارجيّة عبارة عن كلّ مزية مستقلّة بنفسها ولو لم يكن هناك خبر أصلًا، وهى على خمسة أقسام:

1- ما لا تكون معتبرة لتعلّق النهي بها، وهى الأمارات الظنّية غير المعتبرة المنهي عنها كالقياس.

انوار الأصول، ج 3، ص: 520

2- ما لا تكون معتبرة لعدم وجود دليل على اعتبارها لا للنهي عنها، وهى الأمارات الظنّية التي لا دليل على اعتبارها كالشهرة الفتوائية والإجماع المنقول ونحوها.

3- ما تكون معتبرة في نفسها، وهى الأمارات الظنّية المعتبرة كإطلاق الكتاب أو عمومه.

4- المرجّحات القطعيّة كالإجماع المحصّل ونصوص

الكتاب.

5- الاصول الأربعة العمليّة شرعيّة كانت أو عقليّة.

أمّا القسم الأوّل: وهو مثل القياس فلابدّ فيه من البحث أوّلًا: في شمول الأدلّة الناهيّة عن القياس للقياس في مقام الترجيح، وثانياً: في التعارض بين هذه الأدلّة على فرض شمولها والأدلّة الآمرة بالأخذ بأقوى الدليلين، أي التعارض بين اطلاق هذه واطلاق تلك.

أمّا المقام الأوّل: فالصحيح فيه هو الفرق بين الأقسام المختلفة من القياس، فإنّ له أقساماً ثلاثة: القياس في المسائل الاصوليّة (كما إذا قيست الشهرة الفتوائية بخبر الواحد في أنّها موجبة للظنّ أيضاً)، والقياس في المسائل الفرعية كقياس ديّة أصابع المرأة الوارد في حديث أبان، والقياس في الموضوعات كقياس حال الصائم من حيث السلامة والمرض في اليوم بما مضى عليه في الأمس.

لا إشكال في أنّ أدلّة النهي عن القياس لا تعمّ القسم الثالث، لأنّه لو فرضنا كون الموضوع لحرمة الإمساك مثلًا هو الظنّ بالضرر أو الخوف منه فلا فرق فيه بين أن يحصل الظنّ من القياس أو من أمر آخر، فإنّه ليس من القياس في الدين المنهي عنه، بل قياس في الموضوعات الخارجيّة.

وأمّا القياس في المسائل الفرعيّة فلا إشكال أيضاً في شمول تلك الأدلّة له، بل هى القدر المتيقّن منها.

وأمّا القياس في المسائل الاصوليّة فقد يقال أيضاً أنّ الأدلّة شاملة له لأنّ ظاهرها حرمة القياس في دين اللَّه مطلقاً كما ورد في الحديث «أنّ دين اللَّه لا يصاب بالعقول» ولا ريب في أنّ اصول الفقه جزء من الدين وداخلة في الشريعة، كما لا إشكال في أنّ القياس في ما نحن فيه أي في باب المرجّحات من هذا القسم فلا يجوز وإن أجزنا التعدّي عن المرجّحات المنصوصة إلى غيرها.

انوار الأصول، ج 3، ص: 521

قال المحقّق الأصفهاني رحمه الله في المقام

ما حاصله: أنّ القياس في المرجّحات لا يكون مشمولًا لأدلّة النهي عن القياس لعدم كونه طريقاً شرعياً وواسطة في إثبات حكم من الأحكام الشرعيّة فرعيّة كانت أو اصوليّة، لأنّ الحكم الفرعي من الوجوب والحرمة أو الاصولي كالحجّية يثبت بنفس الخبر الموافق لا بالظنّ القياسي، ومن جانب آخر: مرجّحية الظنّ القياسي ثبت بأدلّة الترجيح المتكفّلة أمر حجّة كلّ ما يوجب الأقربيّة إلى الواقع، وحينئذٍ يمكن الترجيح بالظنّ القياسي من دون أن يكون مشمولًا لقوله عليه السلام: إنّ دين اللَّه لا يصاب بالعقول.

ولكنّه عدل عنه في ذيل كلامه بقوله: كما أنّ الأدلّة المانعة عن العمل بالقياس توجب خروج الظنّ القياسي عن تحت الدليل الدالّ على حجّية كلّ ظنّ (لو كان هناك دليل) كذلك توجب خروجه عن تحت أدلّة الترجيح بكل ما يوجب الأقربيه إلى الواقع (لو قلنا به) فكما ليس له الحجّية، كذلك ليس له المرجّحية «1».

أقول: ما ذكره في آخر كلامه هو الحقّ لما ذكره بعينه.

وإن شئت قلت: إنّ جعل القياس من المرجّحات يصدق عليه أنّه من قبيل إستعماله في الدين.

ومن هنا يعلم (بالنسبة إلى المقام الثاني) أنّه لا تصل النوبة حينئذٍ إلى تعارض الأدلّة الدالّة على الأخذ بأقوى الدليلين والأدلّه الناهيّة عن القياس، فإنّ الأخير آبٍ عن التخصيص.

وأمّا القسم الثاني: فكونه من المرجّحات مبنى على جواز التعدّي من المرجّحات المنصوصة، وبما أنّ المختار كان هو عدم التعدّي فهذا القسم عندنا ليس من المرجّحات.

وأمّا القسم الثالث: وهو الأمارات الظنّية المعتبرة، فلا إشكال في لزوم الترجيح به إذا كان من المرجّحات المنصوصة كموافقة الكتاب.

وأمّا القسم الرابع: وهو ما يوجب القطع بالحكم الشرعي فكذلك لا ريب في لزوم الترجيح به، لأنّه من قبيل تمييز الحجّة عن اللّاحجّة كما

لا يخفى.

انوار الأصول، ج 3، ص: 522

وأمّا القسم الخامس: فهو نظير ما إذا دلّت رواية على حرمة المواقعة قبل الغسل وبعد انقطاع الدم، ودلّت رواية اخرى على جوازها، فهل تقدّم الاولى على الثانية لكونها موافقة مع استصحاب الحرمة، أو لا؟ فيه ثلاثة أقوال:

1- تقديم الموافق للأصل، وهذا ما نسب إلى المشهور، ويشهد عليه أنّهم في الفقه يعتبرون الموافقة مع الأصل من المرجّحات للأحكام.

2- تقديم المخالف للأصل، وهذا أيضاً منسوب إلى المشهور، ويشهد عليه ما كان يعنون سابقاً في الاصول من أنّه إذا دار الأمر بين الناقل والمقرّر كان الترجيح للناقل (المخالف للأصل) عند المشهور، بل قد يدّعي عليه الإجماع.

ويمكن دفع هذا التهافت (في النسبة إلى المشهور) بأنّ البحث عن الناقل والمقرّر مختصّ بالاصول العقليّة، ويبحث عنه عقيب البحث عن الحظر والإباحة الذي هو من شقوق مبحث البراءة العقليّة، بينما النسبة الاولى إلى المشهور مرتبطة بالبراءة الشرعيّة.

3- ما ذهب إليه جمع من الأعاظم منهم الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني والمحقّق النائيني رحمه الله، وهو عدم مرجّحية الأصل مطلقاً لا المخالف والا الموافق.

واستدلّ للقول الأوّل بوجهين:

أحدهما: أنّ مطابق الأصل مظنون، وكلّ ظنّ مرجّح، واجيب عنه:

أوّلًا: بأنّ الأصل العملي لا يوجب ظنّاً بالحكم، حيث إنّه وظيفة عملية للشاكّ فحسب.

وثانياً: سلّمنا، ولكنّه مبنيّ على التعدّي من المرجّحات المنصوصة، والمختار عدمه كما مرّ، فكلّ من الصغرى والكبرى لهذا الوجه ممنوعة.

ثانيهما: أنّ الأخذ بموافق الأصل يوجب تخصيص دليل واحد، وهو أدلّة حجّية خبر الواحد بالنسبة إلى الدليل المخالف، ولكن الأخذ بمخالف الأصل يوجب تخصيص دليلين:

وهما أدلّة حجّية خبر الواحد وأدلّة حجّية الأصل، ولا إشكال في أولوية الأوّل.

والجواب عنه واضح، وهو أنّ الاصول ليست في رتبة الأمارات حتّى يوجب الأخذ بالخبر المخالف (وهو أمارة

من الأمارات) تخصيص أدلّة حجّية الأصل، أعني أنّه مع الأخذ بالخبر المخالف لا تصل النوبة إلى الاصول حتّى يلزم تخصيص أدلّتها، بل إنّها خارجة حينئذٍ تخصّصاً أو من باب الورود أو الحكومة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 523

واستدلّ القائلون بترجيح المخالف (القول الثاني) بأنّ المحتاج إلى البيان من جانب الشارع إنّما هو في الغالب ما يكون مخالفاً للأصل، وهو الوجوب أو الحرمة، إذ إنّ المباح الموافق للبراءة أو أصالة الاباحة لا يحتاج إلى بيان غالباً، وهذا ما يوجب حصول الظنّ بأنّ ما صدر من جانب الشارع إنّما هو المخالف للأصل لا الموافق.

والجواب عنه: أنّه أيضاً مبنى على التعدّي من المرجّحات المنصوصة، وإلّا لا حجّية لمثل هذا الظنّ في مقام الترجيح.

فظهر أنّ الصحيح هو القول الثالث بعد عدم وجود الدليل على ترجيح الموافق أو المخالف.

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: في أنّ الشهرة على أقسام: الروائيّة والفتوائيّة والعمليّة

أمّا الشهرة الروائيّة فهى اشتهار الرواية بين الرواة والمحدّثين.

وأمّا الشهرة الفتوائيّة فهى عبارة عن فتوى المشهور بشي ء وإن كانت الرواية فيه شاذّة.

وأمّا الشهرة العمليّة فهى عبارة عن نفس السيرة العمليّة للمتشرّعة وأصحاب الأئمّة.

ولا إشكال في أنّ النسبة بين الأوّل والثاني هى العموم من وجه، فقد تتحقّق الشهرة الروائية بالنسبة إلى خبر وتكون فتوى الأصحاب أيضاً على طبقه، وقد تتحقّق الشهرة الروائيّة من دون الفتوى على طبقها، وقد تكون القضية بالعكس، أي تكون الفتوى مطابقة لرواية مع عدم شهرتها روائية.

كما لا إشكال في أنّ النسبة بين الأوّل والثالث أيضاً العموم من وجه، فقد تكون رواية مشهورة بين الرواة والمحدّثين، ومعمولًا بها عند الأصحاب والمتشرّعة، وقد تكون الرواية مشهورة من دون العمل على طبقها، وقد يكون عمل المتشرّعة مطابقاً لرواية من دون شهرتها بين المحدّثين.

نعم، النسبة بين الثاني والثالث هى العموم المطلق، فإنّ

فتوى الأصحاب بشي ء يلازم عملهم وعمل المتشرّعة على طبقه، بينما قد يكون عمل المتشرّعة على رواية من دون فتوى انوار الأصول، ج 3، ص: 524

الأصحاب بها في كتبهم الفتوائيّة.

إذا عرفت هذا فاعلم، أنّه لا إشكال في كون القسم الأوّل من الشهرة من المرجّحات لأنّ الظاهر من قوله عليه السلام في المقبولة: «خذ ما كان من روايتها ...» هو الشهرة الروائية، نعم أنّه مشروط بعدم إحراز العمل على خلافها، لأنّ المقبولة هى في مقام بيان قرائن صدق الرواية ومرجّحات صدورها، والمقام هذا بنفسه قرينة لبّية موجبة لعدم انعقاد اطلاق للمقبولة بالنسبة إلى ما إذا كان العمل مخالفاً للرواية وانصرافها إلى غيره.

وكذلك ظاهر المرفوعة، حيث ورد فيها: «ياسيّدي إنّهما معاً مشهوران مأثوران عنكم» ولا إشكال في ظهوره في الشهرة الروائيّة.

وأمّا الشهرة الفتوائيّة والعمليّة فلا إشكال في عدم شمول المقبولة والمرفوعة لهما باطلاقهما، ولكن لا يبعد إلغاء الخصوصيّة عن الشهرة الروائيّة بالنسبة إليهما أو تنقيح المناط خصوصاً بعد ملاحظة التعليل الوارد في المقبولة بأنّ «المجمع عليه لا ريب فيه» فإنّه تعليل بإعتبار عقلي يوجد في الفتوائية والعمليّة أيضاً كما لا يخفى.

نعم، هذا كلّه فيما إذا كانت الشهرة الفتوائيّة بين القدماء لا المتأخّرين حيث لا شكّ في أنّ الشهرة الفتوائيّة بين المتأخّرين لا تكون سبباً للترجيح سواء كانت فتواهم على طبق القاعدة أو لم تكن، وذلك لأنّ مباني فتاويهم موجودة بأيدينا فلا تزيدنا الشهرة شيئاً عليها، بخلاف الشهرة بين القدماء، فإنّهم كانوا حديث العهد بعصر الأئمّة المعصومين وقد وصلوا إلى ما لم نصل إليها.

هذا كلّه بالنسبة إلى الترجيح بالشهرة بأقسامها.

وأمّا بالنسبة إلى جبر ضعف سند الرواية أو وهن صحّته فالصحيح أنّه يمكن إنجبار الضعف وكذلك وهن الصحّة بالشهرة الفتوائيّة أو

العمليّة لأنّ الميزان في باب الحجّية إنّما هو الوثوق بالصدور كما مرّ غير مرّة، لا الوثوق بالراوي فقط، فكما يحصل الوثوق بالصدور بكون الراوي ثقة كذلك يحصل بمطابقة الشهرة لمضمون الخبر، كما لا يحصل الوثوق بالصدور إذا تحقّقت الشهرة على خلاف رواية وإن تحقّق الوثوق برواتها.

انوار الأصول، ج 3، ص: 525

نعم يشترط أوّلًا: كون الشهرة متحقّقة بين القدماء الذين كانوا قريبوا عهد بالمعصومين عليهم السلام.

وثانياً: إحراز استناد المشهور في فتاويهم أو عملهم إلى تلك الرواية.

ولكن الكلام في أنّه كيف يمكن إحراز استنادهم إليها مع خلوّ كتبهم الفقهيّة في الغالب عن الاستدلال وإكتفائهم بذكر الفتاوي فقط كما لا يخفى على من راجع كتبهم؟

قد يقال: إنّ الإستناد يحرز بالجمع بين الأمرين: أحدهما كون المسألة على خلاف القاعدة، والثاني كون الخبر في مرأى ومسمع منهم، وهو كذلك، فإنّ ظاهر الحال حينئذٍ استنادهم إليها.

إن قلت: كيف تكون الشهرة موجبة لحجّية الخبر مع عدم كونها حجّة مستقلًا، وليس هذه إلّامن قبيل ضمّ اللّاحجّة باللّاحجّة.

قلنا: أنّ الحجّة قد تحصل من تراكم الظنون، فإنّ المدار في حجّية خبر الواحد هو الوثوق بصدوره، وهذا قد يحصل من ضمّ ظنّ إلى ظنّ، كما قد يحصل العلم منه مثل الخبر المتواتر الذي يوجب العلم من طريق تراكم الظنون وضمّ بعضها إلى بعض.

الأمر الثاني: لماذا تكون مخالفة العامّة من المرجّحات؟

والاحتمالات فيه أربعة (قد أشرنا إلى بعضها في تفسير قوله عليه السلام «فإنّ الرشد في خلافهم» في البحث عن جواز التعدّي عن المرجّحات المنصوصة):

1- كون الترجيح بها لمجرّد التعبّد من الشرع لا لغيره.

2- أن يكون الرشد في نفس المخالفة لهم لحسنها ورجحانها فيكون للمخالفة موضوعيّة.

3- أن يكون لها طريقيّة إلى ما هو الأقرب إلى الواقع فالترجيح بالمخالفة لهم من باب أنّ الخبر المخالف أقرب

إلى الواقع لأنّ الرشد والحقّ غالباً يكون فيما خالفهم والغيّ والباطل في ما وافقهم.

4- أن يكون لها طريقيّة إلى احتمال وجود التقيّة (أي طريقيّة جهتية، خلافاً للاحتمال الثالث الذي كان للمخالفة فيه طريقيّة مضمونيّة) فيكون الترجيح بها لأجل إنفتاح باب انوار الأصول، ج 3، ص: 526

التقيّة فيما وافقهم وانسداده فيما خالفهم.

والبحث هنا في تحديد ما يستظهر من روايات الباب فنقول:

أمّا الوجه الأوّل: فلا إشكال في أنّه خلاف ظاهر التعليل الوارد فيها كما لا يخفى.

وأمّا الوجه الثاني: فهو أيضاً بعيد جدّاً لكونه مخالفاً لظاهر التعليل الوارد فيها أيضاً، فإنّ الرشد بمعنى الوصول إلى الحقّ وسلوك طريق الهداية.

مضافاً إلى أنّه خلاف ما ورد في روايات كثيرة من الأمر بالحضور في تشييع جنائزهم عيادة مرضاهم والحضور في جماعاتهم وغير ذلك.

وأمّا الوجه الثالث: فيمكن أن يستشهد له أوّلًا: بما رواه أبو إسحاق الأرجاني رفعه قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «أتدري لِمَ امرتم بالأخذ بخلاف ما تقول العامّة، فقلت: لا أدري، فقال: إنّ عليّاً عليه السلام لم يكن يدين اللَّه بدين إلّاخالف عليه الامّة إلى غيره إرادة لإبطال أمره، وكانوا يسألون أمير المؤمنين عليه السلام عن الشي ء الذي لا يعلمونه فإذا أفتاهم جعلوا له ضدّاً من عندهم يلتبسوا على الناس» «1».

فإنّ ظاهرها أنّ هناك تعمّد في مخالفة العامّة لآراء أهل البيت عليهم السلام ولازمه أنّ الغلبة في مخالفتهم للواقع فلابدّ في موارد الشكّ من الرجوع إلى ما هو موافق للواقع غالباً وهو المخالف لآراء العامّة.

ولكن يناقش فيها بضعف السند أوّلًا: لكونها مرفوعة، وثانياً: بأنّها مخالفة لما ثبت في كتبهم التاريخيّة والفقهيّة من استنادهم في فتاويهم إلى قول علي عليه السلام، وكلام عمر في حقّ أمير المؤمنين عليه السلام في مواقف

كثيرة «أنّه لولا علي لهلك عمر» معروف.

مضافاً إلى ما نشاهد بأعيننا من موافقة كثير من أحكام مذهب أهل البيت لأحكامهم في أبواب مختلفة من الفقه نظير باب الحجّ فإنّ كثيراً من مناسكه مشتركة بين الفريقين.

ويستشهد لهذا الوجه ثانياً: بما رواه أبو بصير عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «ما أنتم واللَّه على شي ء ممّا هم فيه ولا هم على شي ء ممّا أنتم فيه، فخالفوهم فما هم من الحنفية على شي ء» «2».

ولكنّها أيضاً قابلة للمناقشة من ناحية السند، لأنّ المقصود من ابن حمزة فيه إنّما هو ابن انوار الأصول، ج 3، ص: 527

حمزة البطائني الذي هو من الكذّابين وإن كان ممّن ينقل عنه ابن أبي عمير، لأنّ الثابت في محلّه أنّ ابن أبي عمير لا يرسل إلّاعن ثقة، لا أنّه لا يروي إلّاعن ثقة مطلقاً سواء في مراسيله أو مسانيده.

وهكذا من ناحية الدلالة، لأنّه إن كان المراد فيها أنّنا لا نوافقهم على شي ء في مسألة الولاية فهو صحيح، ولكن لا ربط له بما نحن فيه، وإن كان المراد عدم التوافق في غيرها فهو كما ترى.

فيبقى الوجه الرابع: ويشهد له ما رواه عبيد بن زرارة عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «ما سمعته منّي يشبه قول الناس فيه التقيّة، وما سمعت منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه» «1».

إن قلت: الظاهر من قوله عليه السلام في المقبولة «ما خالف العامّة ففيه الرشاد» إنّما هو الاحتمال الثالث لمكان التعبير بالرشاد الظاهر في الموافقة مع الواقع والحقّ.

قلنا: الإنصاف أنّ قوله عليه السلام هذا ظاهر في الطريقيّة إجمالًا الدائر أمرها بين الوجه الثالث والرابع، فلا يمكن الاستدلال به لشي ء منهما، بل الظاهر هو الوجه الرابع بتناسب الحكم والموضوع في المقام.

فقد

ظهر إلى هنا أنّ المتعيّن في المقام هو الوجه الرابع، ولازمه اختصاص مرجّحية مخالفة العامّة بموارد احتمال التقيّة، فلو كان الخبران المتعارضان واردين في عصر لا يحتمل فيه التقيّة كعصر الإمام الرضا عليه السلام يشكل ترجيح المخالف على الموافق، بل لابدّ من الرجوع إلى سائر المرجّحات.

الأمر الثالث: التعارض بين العامين من وجه

فهل يكون المرجع فيه الأخبار العلاجيّة فلابدّ عند وجود المرجّحات من الترجيح وعند فقدها من التخيير، أو لا، بل في مادّة الإفتراق يعمل بكلّ واحد منهما وفي مادّة الاجتماع يحكم بالتساقط ويكون المرجع هو الأصل الجاري في المسألة؟ (بعد أن كان المرجع في انوار الأصول، ج 3، ص: 528

المتباينين الأخبار العلاجيّة وفي العموم المطلق الجمع الدلالي).

وهو نظير ما إذا وردت مثلًا رواية تدلّ بإطلاقها على نجاسة عذرة كلّ ما لا يؤكل لحمه، ورواية اخرى تدلّ باطلاقها على طهارة عذرة كلّ طائر، فمادّة الإجتماع فيهما هو الطائر الذي لا يؤكل لحمه، فتتعارضان فيه وتدلّ إحديهما على نجاسته والاخرى على طهارته، فهل المرجع فيه الأخبار العلاجية فإمّا أن ترجّح إحديهما على الاخرى عند وجود المرجّح أو يخيّر بينهما عند فقده، أو يكون المرجع الأصل الجاري فيه بعد فقد العمومات أو الإطلاقات؟

لا إشكال في عدم جريان المرجّحات الصدوريّة فيه، لأنّ المفروض أنّه يعمل بكلّ واحد منهما في مادّتي الافتراق، ومعلوم أنّ الرجوع إلى المرجّحات الصدورية وترجيح أحدهما على الآخر مستلزم لإسقاط الدليل في مادّة الاجتماع، فيلزم التبعّض والتجزئة في الصدور والسند، وبطلانه واضح.

وأمّا المرجّحات الجهتيّة وهكذا المرجّحات المضمونيّة (بناءً على عدم إرجاعها إلى المرجّحات الصدوريّة) فلا مانع من جريانها، لأنّ في مادّة الاجتماع يمكن الأخذ بإحديهما وترجيحها على الاخرى لمكان التقية مثلًا، وفي مادّة الإفتراق يعمل بكلتيهما من دون أن يلزم محذور، لإمكان

أن يكون الإمام عليه السلام في مقام بيان حكم اللَّه الواقعي بالإضافة إلى أصل الدليل، وفي مقام التقيّة بالإضافة إلى اطلاقه.

هذا بالنسبة إلى الترجيح عند وجود المرجّح.

وأمّا التخيير عند فقد المرجّح فالمشهور على عدمه، فيتساقط الخبران حينئذٍ في مادّة الاجتماع عندهم، ويكون المرجع هو الأصل الجاري في المسألة، ونسب إلى المحقّق الطوسي رحمه الله التخيير، وذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله، واستدلّ له بإطلاقات أدلّة التخيير.

والإنصاف أنّ ما ذهب إليه المشهور هو الأقوى لانصراف أدلّة التخيير عن موارد العامين من وجه، فإنّ ظاهر قوله عليه السلام: «فتخيّر أحدهما ودع الآخر» قبول أحدهما بتمامه وترك الآخر بتمامه، لا قبول أحدهما وترك بعض الآخر، فهى مختصّة بالمتباينين.

إلى هنا تمّ الكلام عن التعادل والتراجيح، والحمد للَّه ربّ العالمين.

انوار الأصول، ج 3، ص: 529

خاتمة في الاجتهاد والتقليد

المقام الأوّل: في مباحث الاجتهاد

1- معنى الاجتهاد لغةً وإصطلاحاً

2- الاجتهاد بالمعنى العام والاجتهاد بالمعنى الخاصّ 3- موارد النزاع بين الأخباري والاصولي 4- المجتهد المطلق والمجتهد المتجزي الجهة الاولى: في أحكام المجتهد المطلق إمكان تحقّق الاجتهاد المطلق جواز العمل بالإجتهاد المطلق جواز القضاء للمجتهد المطلق من مناصب المجتهد المطلق الولاية والحكومة

الجهة الثانية: في أحكام المجتهد المتجزي جواز عمل المجتهد المتجزّي برأيه جواز رجوع الغير اليه قضاء المجتهد المتجزّي 5- مباني الاجتهاد

6- التخطئة والتصويب:

أسباب السقوط في هوّة التصويب المفاسد المترتّبة على القول بالتصويب 7- تبدّل رأي المجتهد

المقام الثاني: في مباحث التقليد:

1- جواز التقليد للعامي 2- تقليد الأعلم 3- تقليد الميّت انوار الأصول، ج 3، ص: 531

خاتمة في الاجتهاد والتقليد
المقدمة:

لابدّ قبل الورود في أصل البحث من بيان مقدّمة وهى هل أنّ هذه المسألة من مسائل الفقه أو الاصول؟ الصحيح أنّها من مسائل الفقه فورودها في علم الاصول استطرادي، ولذلك يبحث عنها

في الكتب الفقهيّة والرسائل العمليّة أيضاً في ابتدائها، والوجه في ذلك ما عرفت من أنّ المسألة الاصوليّة ما يقع في طريق استنباط الأحكام الشرعيّة، ولا إشكال في أنّ الاستنباط من شؤون الفقيه المجتهد لا المقلد، ونتيجة المسألة الاصوليّة حكم كلّي من شؤون المجتهد لا المقلِّد، بينما نتيجة هذه المسألة (أي حجّية قول المجتهد) ترجع إلى المقلد.

فلا يقال: إنّ من مسائل علم الاصول البحث عن حجّية الأمارات، وكلام المجتهد من الأمارات.

لأنّا نقول كلام المجتهد أمارة إجماليّة للمقلِّد لا المجتهد، والأمارة الاصوليّة هى ما يقع في طريق استنباط الأحكام التفصيليّة للمجتهد.

وبعبارة اخرى: البحث هنا بحث عن جواز التقليد عن المجتهد وعن أمارية قول المجتهد وحجّيته، ونتيجته وهى حجّية قول المجتهد تعود إلى المقلّد لا المجتهد.

إذا عرفت هذا فلنشرع في مسائله، فنقول البحث فيه يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في مباحث الاجتهاد
اشارة

وفيه امور:

الأمر الأوّل: معنى الاجتهاد لغةً واصطلاحا

أمّا في اللغة فهو مأخوذ من الجَهد (بالفتح) أو الجُهد (بالضمّ) وهل هما بمعنيين أو بمعنى انوار الأصول، ج 3، ص: 532

واحد؟ اختلف فيه بين أرباب اللغة، ففي مختصر الصحاح: الجَهد والجُهد الطاقة، وفي مقاييس اللغة: الجيم والهاء والدالّ أصلة المشقّة ... والجُهد الطاقة» «1» وفي مفردات الراغب: الجَهد والجُهد الطاقة والمشقّة، وقيل: الجَهد (بالفتح) المشقّة والجُهد الواسع ... (إلى أن قال):

والاجتهاد أخذ النفس ببذل الطاقة وتحمّل المشقّة «2».

أقول: الظاهر أنّ معناه الأصلي هو نهاية الطاقة والقدرة التي من لوازمها المشقّة، فإنّ من بذل نهاية طاقته يقع في المشقّة والكلفة، وعليه فالصحيح أنّه بمعنى بذل نهاية الطاقة كما ذهب إليه في «التحقيق في كلمات القرآن الكريم» «3» وإستعمل فيه في لسان الآيات أيضاً كقوله تعالى: «وَالَّذِينَ لَايَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ» «4»

أي نهاية طاقتهم في الإنفاق على أمر الجهاد وقوله تعالى: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ» «5»

أي أقسموا باللَّه نهاية طاقتهم في القسم.

وأمّا في الاصطلاح: فقد ذكر له في كلمات الاصوليين تعاريف كثيرة:

1- ما حكي عن قدماء الاصوليين من أهل السنّة والشيعة مثل الحاجبي والعلّامة، وهو:

«استفراغ الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم الشرعي».

ويرد عليه أوّلًا: أنّه لا وجه للتقييد فيه بالظنّ، لصدق الاجتهاد على استفراغ الوسع لتحصيل العلم أيضاً.

وثانياً: قد يكون نتيجة الاستنباط والاجتهاد حصول الظنّ بمطلق الحجّة من دون أن يصدق عليها الحكم، كما في البراءة العقليّة والظنّ الانسدادي على الحكومة والاحتياط العقلي، وحينئذٍ ليس التعريف جامعاً لتمام الافراد.

وثالثاً: أنّه يعمّ استفراغ وسع المقلّد في تحصيل فتوى مقلّده (بالفتح) أيضاً فلابدّ من ضمّ قيد «عن أدلّتها التفصيليّة» إليه حتّى يخرج جهد المقلّد.

انوار الأصول، ج 3، ص: 533

ورابعاً: لا حاجة إلى التعبير بالاستفراغ فإنّ لبذل الوسع في باب الفحص

مقداراً لازماً قد ذكر في محلّه، وهو قد لا يصل إلى حدّ الاستفراغ كما لا يخفى على من راجع كلماتهم هناك.

إن قلت: إنّ تعاريف القوم كلّها لفظية لشرح الاسم وحصول المعنى في الجملة، وليست هى حقيقيّة لبيان الكنه والماهيّة، لتكون بالحدّ أو الرسم، مضافاً إلى أنّه لا إحاطة لغير علّام الغيوب بكنه الأشياء كي يمكن تعريفها الحقيقي.

قلنا: أنّ التعاريف شرح الاسميّة إنّما هى من شؤون اللغوي الذي هو في مقام شرح اللفظ وبيان المفهوم الإجمالي، وأمّا علماء العلوم المختلفة فكلّ واحد منهم بصدد بيان التعريف الحقيقي لما هو موضوع علمه أو موضوع مسائله، ولذلك يقول اللغوي: «سعدانة نبت» ولا يقوله عالم النبات الذي يطلب في تعريفه لشي ء من النباتات ترتيب آثار حقيقيّة خارجيّة، فإنّ فلسفة التعاريف في سائر العلوم (غير علم اللغة) إعطاء معرفة جامعة مانعة للأشياء بيد الطالب، حتّى يمكن له ترتيب آثارها عليها خارجاً، ولا إشكال في توقّفه على إرائة تعريف جامع مانع.

وممّا يشهد على ما ذكره إيراد جميع علماء الاصول وغيره من العلوم وإستشكالهم بجامعيّة التعاريف ومانعيتها. هذا أوّلًا.

وثانياً: لا حاجة في تعريف كنه الأشياء إلى معرفة الجنس والفصل حتّى يقال بأنّ العالم بهما إنّما هو علّام الغيوب، لأنّ التعريف الجامع المانع لا يتوقّف عليهما، بل يحصل بالعرض الخاصّ أيضاً.

أضف إلى ذلك أنّ الكلام في ما نحن فيه إنّما هو في العلوم الاعتباريّة لا الحقيقيّة، ولا إشكال في أنّ كنه الامور الاعتباريّة وحقيقتها ليست أمراً وراء نفس الاعتبار، فيكون كلّ معتبر عالماً بكنه اعتباره، ولا يختصّ العلم به بعلّام الغيوب.

2- «استفراغ الوسع في تحصيل الحجّة على الحكم الشرعي».

وهذا- مع سلامته عن الإشكال الأوّل والثاني الواردين على التعريف السابق لمكان التعبير بالحجّة- يرد

عليه الإشكالان الأخيران كما لا يخفى.

3- «أنّه ملكة يقتدر بها على إستنباط الحكم الشرعي الفرعي من الأصل، فعلًا أو قوّة قريبة منه».

انوار الأصول، ج 3، ص: 534

ويرد عليه أوّلًا: أنّ الاجتهاد الذي يعدّ عدلًا للتقليد والاحتياط، والذي هو من أطراف الوجوب التخييري الثابت للاجتهاد والتقليد والاحتياط، ليس عبارة عن نفس الملكة، كما أنّ الطبابة والنجارة وغيرهما من سائر العلوم ليست ملكات نفسانية سواء بمعناها المصدري أو اسم المصدري، لأنّ الملكة قوّة نفسانية ينشأ منها ويتولّد منها الاجتهاد، وهكذا فعل الطبابة والنجارة، نعم قد يطلق عنوان المجتهد (لا الاجتهاد) في الإصطلاح على من له ملكة الاجتهاد والاستنباط ولو لم يكن متلبّساً بالفعل الخارجي حين ذلك الاطلاق، فعلى هذا فرق بين المعنى الوصفي والمصدري أو اسم المصدر.

ثانياً: ينبغي تبديل التعبير ب «الأصل» بقوله «من أدلّته التفصيليّة» حتّى يعم جميع الأمارات والاصول، ولا يكون فيه إجمال وإبهام.

ثالثاً: كثيراً مّا لا يكون مستنبط الفقيه حكماً من الأحكام، بل يكون من قبيل تحصيل الحجّة على البراءة أو الاشتغال، كما مرّ بالنسبة إلى التعريف الأوّل والثاني.

4- ما جاء في التنقيح من «أنّ الاجتهاد هو تحصيل الحجّة على الحكم الشرعي» «1».

وهو وإن كان أحسن من غيره من بعض الجهات، لكن يرد عليه أيضاً بعض الإشكالات لشموله عمل المقلّد أيضاً، فإنّه أيضاً يحصّل الحجّة على الحكم الشرعي، غاية الأمر من طريق دليل إجمالي وهو «إنّ كلّ ما حكم به المجتهد فهو الحجّة على المقلّد».

هذا- مضافاً إلى شموله للمسائل الاصوليّة لخلوّه عن قيد «الفرعيّة»، ومضافاً إلى ما أورد على التعاريف السابقة بالإضافة إلى التعبير بالحكم من أنّه ليس جامعاً لجميع المصاديق.

فالأولى في تعريف الاجتهاد أن يقال: الاجتهاد هو استخراج الحكم الشرعي الفرعي أو الحجّة عليه

من أدلّتها التفصيليّة.

بقي هنا شي ء:

وهو ما ذهب إليه بعض الأعلام في تنقيحه من أنّ ملكة الاجتهاد تحصل للإنسان وإن لم انوار الأصول، ج 3، ص: 535

يتصدّ الاستنباط ولو في حكم واحد، وقال في توضيحه: «أنّ ملكة الاجتهاد غير ملكة السخاوة والشجاعة ونحوهما من الملكات، إذ الملكة في مثلهما إنّما يتحقّق بالعمل والمزاولة كدخول المخاوف والتصدّي للمهالك، فإنّ بذلك يضعف الخوف متدرّجاً ويزول شيئاً فشيئاً حتّى لا يخاف صاحبه من الحروب العظيمة وغيرها من الامور المهام، فترى أنّه يدخل الأمر الخطير كما يدخل داره، وكذلك الحال في ملكة السخاوة فإنّ بالإعطاء متدرّجاً قد يصل الإنسان مرتبة يقدّم غيره على نفسه فيبقى جائعاً ويطعم ما بيده لغيره، والمتحصّل أنّ العمل في أمثال تلك الملكات متقدّم على الملكة، وهذا بخلاف ملكة الاجتهاد لأنّها إنّما يتوقّف على جملة من المبادى ء والعلوم كالنحو والصرف وغيرهما، والعمدة علم الاصول فبعد ما تعلّمها الإنسان تحصل له ملكة الاستنباط وإن لم يتصدّ للاستنباط ولو في حكم واحد» «1».

لكن الإنصاف أنّ هذا مجرّد فرض، فإنّ من المحالات جدّاً أن تحصل للإنسان ملكة الاستنباط بمجرّد تحصيل المبادى ء ولو لم يتصدّ للاستنباط في حكم واحد، بلا فرق بينها وبين سائر الملكات، وإن شئت فاختبر نفسك من لدن الشروع في تحصيل علم الفقه ومبانيها فإنّك ترى لزوم الممارسة في تطبيق القواعد الاصوليّة على مصاديقها وممارسة ردّ الفروع إلى الاصول في كثير من الكتب التي تدرس في الحوزات العلمية ككتاب مكاسب الشيخ وغيرها فإنّ طلّاب الفقه لا يقدرون على الاجتهاد حتّى في حدّ التجزّي بدون هذه الممارسات.

والحاصل أنّه لا فرق بين علم الطبّ وعلم الفقه وغيرهما من العلوم في لزوم الممارسة مدّة طويلة في تطبيق القواعد على مصاديقه وردّ

الفروع إلى اصولها في العمل حتّى تتمّ ملكة الاجتهاد فيها، بل من المحال عادةً حصول شي ء منها بغير الممارسة العمليّة، فالعالم بقواعد العلوم إذا لم يكن ممارساً لها عملًا لا يقدر على الاجتهاد فيها قطعاً، ولو فرض قدرته عليه في بعض المسائل الساذجة فلا شكّ في عدم قدرته على الاجتهاد في المسائل الخطيرة المشكلة.

الأمر الثاني: الاجتهاد بالمعني العام والاجتهاد بالمعنى الخاص

الاجتهاد بالمعنى العام، والاجتهاد بالمعنى الخاصّ (وقد مرّ البحث عنهما في مواضع مختلفة من الاصول، وهيهنا هو المحلّ الأصلي للكلام عنه فلا بأس بإعادته مع بسط وتوضيح).

أمّا الاجتهاد بالمعنى العام فهو ما مرّ تعريفه في الأمر الأوّل ويكون مقبولًا عند الشيعة والسنّة، وسيأتي أنّ الأخباري أيضاً يقبله في مقام العمل وإن كان ينكره باللسان.

وأمّا الاجتهاد بالمعنى الخاصّ فهو مختصّ بأهل السنّة، والمراد منه نوع تشريع وجعل قانون من ناحية الفقيه فيما لا نصّ فيه على أساس القياس بالأحكام المنصوصة أو الاستحسان أو الاستصلاح (المصالح المرسلة) أو غير ذلك من مبانيهم «1».

انوار الأصول، ج 3، ص: 537

ولتوضيح ذلك لابدّ من نقل بعض كلماتهم في هذا المجال:

ففي مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نصّ فيه (لمؤلّفه عبدالوهّاب الخلّاف): «الاجتهاد بذل الجهد للتوسّل إلى الحكم في واقعة لا نصّ فيها بالتفكّر واستخدام الوسائل التي هدى الشارع إليها (كالقياس والاستحسان) للاستنباط فيما لا نصّ فيه» «1».

وحكى عن مالك وأحمد: «إنّ الاستصلاح طريق شرعي لاستنباط الحكم فيما لا نصّ فيه ولا إجماع، وأنّ المصلحة التي لا يوجد من الشرع ما لا يدلّ على اعتبارها ولا على إلغائها

انوار الأصول، ج 3، ص: 538

مصلحة صالحة لأن يبنى عليها الاستنباط» «1».

بل قد يرى من بعضهم التعدّي عنه والقول به حتّى في مقابل النصّ، ولعلّ أوّل من أسّسه إنّما هو الخليفة الثاني في

قصّة المتعتين المعروفة، ثمّ إنحصر عند متأخّريهم في خصوص السياسيات والمعاملات، فذهب جماعة منهم إلى جواز الاجتهاد فيهما حتّى فيما فيه نصّ.

فذهب الطوفي من علماء الحنابلة إلى أنّ المصالح تتقدّم في السياسيات الدنيوية والمعاملات على ما يعارضها من النصوص عند تعذّر الجمع بينهما «2»، (ولكن لم يوافقه على هذا المعنى كثير منهم).

نعم خالفهم في هذا النوع من الاجتهاد الشافعي بالنسبة إلى الاستصلاح والاستحسان وقال: «إنّه لا استنباط بالاستصلاح، ومن استصلح فقد شرّع كمن إستحسن، والاستصلاح كالاستحسان متابعة للهوى» «3».

وبعضهم كالظاهريين خالفهم في القياس أيضاً وقالوا بأنّه بدعة» «4».

وقد مرّ أنّ هذا هو منشأ التصويب عند الإمامية لأنّ عليه يكون كل فقيه قد أعطى حقّ التشريع والتقنين بحيث يكون حكم كلّ واحد منهم حكم اللَّه الواقعي، ولا يخفى أنّه أشدّ قبحاً وأكثر فساداً من المجالس التقنينيّة في يومنا هذا، حيث إنّ أمر التشريع فيها إنّما هو بيد جماعة تسمّى بشورى التقنين الذين يمثّلون بلداً واحداً وقطراً عظيماً، لا كل فرد من علمائهم ومتخصّصيهم.

هذا مضافاً إلى ما يترتّب عليه من التوالي الفاسدة في مختلف أجواء العالم الإسلامي.

ولبعض المعاصرين رحمه الله كلام في هذا المقام نحبّ إيراده مع تلخيص منّا، وهو أنّ لهذا المذهب آثار سوء في مختلف مجالات الفكر يمكن أن تلخيصها في ثلاث مجالات:

الأوّل: في المجال الفقهي حيث صار منشأ لظهور المذهب الظاهري على يد داود بن علي انوار الأصول، ج 3، ص: 539

بن خلف الإصبهاني في أواسط القرن الثالث، إذ كان يدعو إلى العمل بظاهر الكتاب والسنّة والاقتصار على البيان الشرعي، ويشجب الرجوع إلى العقل.

الثاني: في المجال العقائدي والكلامي فصار سبباً لظهور الأشعري الذي عطّل العقل وزعم أنّه ساقط بالمرّة عن إصدار الحكم حتّى في المجال

العقائدي. فبينما كان المقرّر عادةً بين العلماء: أنّ وجوب المعرفة باللَّه والشريعة ليس حكماً شرعياً وإنّما هو حكم عقلي، لأنّ الحكم الشرعي ليس له قوّة دفع وتأثير في حياة الإنسان إلّابعد أن يعرف الإنسان ربّه وشريعته، فيجب أن تكون القوّة الدافعة إلى معرفة ذلك من نوع آخر غير نوع الحكم الشرعي (أي من نوع الحكم العقلي)- بينما كان هذا هو المقرّر عادةً بين المتكلّمين- خالف في ذلك الأشعري، إذ عزل العقل عن صلاحية إصدار أي حكم وأكّد أنّ وجوب المعرفة باللَّه حكم شرعي كوجوب الصوم والصّلاة.

الثالث: في علم الأخلاق (وكان وقتئذٍ يعيش في كنف علم الكلام) فأنكر الأشاعرة قدرة العقل على تمييز الحسن من الأفعال عن قبيحها حتّى في أوضح الأفعال حسناً أو قبحاً، فالظلم والعدل لا يمكن للعقل أن يميّز بينهما، إنّما صار الأوّل قبيحاً والثاني حسناً بالبيان الشرعي ولو جاء البيان الشرعي يستحسن الظلم ويستقبح العدل لم يكن للعقل أي حقّ للإعتراض على ذلك.

ولا إشكال في أنّ هذه النتائج الفاسدة الشنيعة مشتملة على خطر كبير والرجوع عن الإسلام إلى الجاهلية الذي قد لا يقلّ عن الخطر الذي كان يستبطنه مصدر تلك النتائج أي مذهب الرأي والاجتهاد لأنّها حاولت القضاء على العقل بشكل مطلق وتجريده عن كثير من صلاحياته وايقاف النحو العقلي في الذهنيّة الإسلاميّة بحجّة التعبّد بنصوص الشارع والحرص على الكتاب والسنّة، ولهذا كانت تختلف اختلافاً جوهرياً عن موقف مدرسة أهل البيت التي كانت تحارب مذهب القياس والاستحسان وتؤكّد في نفس الوقت أهميّة العقل وضرورة الإعتماد عليه في الحدود المشروعة واعتباره ضمن تلك الحدود بعنوان أداة رئيسية أصلية لإثبات الأحكام الشرعيّة حتّى جاء في نصوص أهل البيت عليهم السلام: «إنّ للَّه على الناس حجّتين

حجّة ظاهرة وحجّة باطنة فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة، وأمّا الباطنة

انوار الأصول، ج 3، ص: 540

فالعقول» «1»، وهكذا جمعت مدرسة أهل البيت عليهم السلام بين حماية الشريعة من فكرة النقص وحماية العقل من مصادرة الجامدين (انتهى) «2».

ومن هنا يتّضح أنّهم لماذا سدّوا باب الاجتهاد في النهاية فإنّ هذا التفريط من نتائج ذلك الإفراط ولوازمه القهرية كما لا يخفى.

وكيف كان، لابدّ من تحديد نظر علماء الإماميّة في هذا المجال وأنّهم لماذا ردّوا هذا النوع من الاجتهاد بل حملوا عليه حملة شديدة فنقول: إنّه يمكن الاستناد في بطلانه إلى وجوه شتّى:

الأوّل: ما يدلّ من آيات الكتاب العزيز على أنّه لا واقعة إلّاولها حكم وبيان في القرآن الكريم نظير قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي» «3»

وقوله تعالى: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «4»

(والمراد من «كلّ شي ء» كلّ ما له دخل في هداية نفوس الإنسان وتربيتها).

الثاني: الأخذ بحديث الثقلين فإنّ أحدهما هو عترة الرسول عليهم السلام، ومع وجودهم لا يحسّ فقدان نصّ، لأنّ ما كان يصدر منهم كان من جانب الرسول صلى الله عليه و آله لا من عند أنفسهم فكان البيان الشرعي لا يزال مستمرّاً باستمرار الأئمّة، وفقهاء العامّة حيث إنّهم كانوا يعتقدون بأنّ البيان الشرعي متمثّل في الكتاب والسنّة النبويّة المأثورة عن الرسول فقط، وهما لا يفيان إلّا بشي ء قليل من حاجات الإستنباط- بل حكي عن أبي حنيفة (الذي كان على رأس مذهب الاجتهاد بالمعنى الخاصّ أو من روّاده الأوّلين) أنّه لم يكن عنده من الأخبار الصحيحة المنقولة عن النبي صلى الله عليه و آله إلّاخمسة وعشرون حديثاً- التجأوا لرفع هذه الحاجات إلى هذا النوع من الاجتهاد لإحساسهم خلأً قانونياً في الشريعة ونقصاناً في

الأحكام الفرعية لابدّ في رفعه إلى التمسّك بذيل القياس ونحوه.

الثالث: روايات متواترة تدلّ على أنّه ما من شي ء تحتاج إليه الامّة إلى يوم القيامة إلّإ

انوار الأصول، ج 3، ص: 541

وقد ورد فيه حكم أو نصّ، وقد جمعت مقدّمة كتاب في جامع أحاديث الشيعة نقلًا عن الكافي للكليني وغيره.

الرابع: ما ثبت لنا عملًا وتاريخياً إلى حدّ الآن في طيلة الأعصار والقرون من الصدر الأوّل إلى عصرنا هذا من أنّ فقهاء الخاصّة وأصحابنا الإماميّة قدّس اللَّه أسرارهم لم يحسّوا حاجة لرفع الحاجات الفقهيّة إلى إعمال مثل القياس والاستحسان فإنّ لديهم نصوصاً خاصّة من ناحية أهل بيت العصمة واصولًا كلّية تنطبق على أكثر القضايا والمصاديق الفرعية، وقواعد واصولًا عملية يرجعون إليها في سائر القضايا الفقهيّة، وهذا هو معنى انفتاح باب العلم والاجتهاد عندهم خلافاً لفقهاء الجمهور فإنّهم بعد اعراضهم عن مكتب عترة الرسول وما وصّى به في حديث الثقلين وغيره من لزوم التمسّك بعترته في عرض التمسّك بالكتاب العزيز إعتقدوا عدم كفاية الكتاب والسنّة لرفع حاجات الاستنباط كما مرّ، وبالتالي ظنّوا عدم كفاية نصوص الكتاب والسنّة للدلالة على الحكم في كثير من القضايا، ولازمه عدم استيعاب الشريعة لمختلف شؤون الحياة، وبتبعه إستباحوا لأنفسهم أن يعملوا بالظنون والاستحسانات ويتصدّوا لتشريع الأحكام في هذه الأبواب.

الخامس: أنّ الاجتهاد بهذا المعنى معناه نقصان الشريعة، وأنّ اللَّه تعالى لم يشرّع في الإسلام إلّاأحكاماً معدودة، وهى الأحكام التي جاء بيانها في الكتاب والسنّة، وترك التشريع في سائر المجالات إلى الفقهاء من الناس ليشرّعوا الأحكام على أساس الظنّ والاستحسان، ولا يخفى أنّ لازمه الفوضى والهرج والمرج الشديد في الدين وما لا نجد نظيره حتّى في التقنينات العقلائيّة في اليوم لأنّ ما يجعل ويقنّن فيها هو قانون

واحد لا قوانين عديدة بعدد الفقهاء والعلماء كما مرّ آنفاً.

ولما ذكرنا كلّه خصوصاً لهذه النتيجة الفاسدة الشنيعة نهض أمير المؤمنين علي عليه السلام في مقام الذمّ لهذا النوع من الاجتهاد في عصره (فكيف بالأعصار اللاحقة) بما مرّ ذكره في بعض الأبحاث السابقة، ولا بأس بإعادته لأنّه كالمسك كلّما كرّرته يتضوّع، قال فيما روي عنه في نهج البلاغة: «ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ثمّ ترد تلك القضية

انوار الأصول، ج 3، ص: 542

بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ... أم أنزل اللَّه سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه، أم كانوا شركاء للَّه فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى، أم أنزل اللَّه سبحانه ديناً تامّاً فقصر الرسول صلى الله عليه و آله عن تبليغه وأدائه، واللَّه سبحانه يقول: «ما فرّطنا في الكتاب من شي ء ...».

ولا يخفى أنّ هذا البيان وكذلك غيره من الأخبار التي وردت في ذمّ هذا النوع من الاجتهاد من سائر الأئمّة المعصومين عليهم السلام- في الواقع دفاع عن كيان الدين وأساس الشريعة والتأكيد على كمالها وعدم النقص فيها.

فقد ظهر ممّا ذكرنا بطلان القسم الثاني من الاجتهاد، ولعلّ الخلط بين القسمين صار منشأً لمعارضة الأخباريين مع الاصوليين، وإلّا فإنّ الاجتهاد بالمعنى الأعمّ يعمل به الأخباري أيضاً في المجالات المختلفة من الفقه، وإن شئت فراجع إلى كتاب الحدائق حتّى تلاحظ كونه اجتهاد واستنباط من المحدّث البحراني من أوّله إلى آخره، وكذا غيره من أشباهه.

الأمر الثالث: موارد النزاع بين الأخباري والاصولي

ويرجع تاريخ هذا النزاع إلى أوائل القرن الحادي عشر على يد الميرزا محمّد أمين الاسترابادي رحمه الله صاحب كتاب الفوائد المدنية (وإن كانت بذوره موجودة من قبل في كلمات جمع من المحدّثين المتقدّمين) فابتدأ النزاع منه، ثمّ

إستمرّ إلى القرن الثاني عشر، وإستبان الحقّ فيه تدريجاً.

وعمدة محلّ الخلاف بين الطائفتين امور ثلاثة:

1- مسألة جواز الاجتهاد.

2- حجّية العقل.

3- تقليد العوام المجتهدين.

أمّا المورد الأوّل: فقد أشرنا سابقاً إلى أنّ الأخباري أيضاً يستنبط الحكم من أدلّته ويجتهد على نحو الاجتهاد بالمعنى العام في مقام العمل، كما أنّ الاصولي أيضاً يخالف الاجتهاد بالمعنى الخاصّ، فالنزاع بينهم في هذا المجال كأنّه نشأ من مناقشة لفظية واشتراك لفظي أو معنوي في كلمة الاجتهاد أو الرأي أو الظنّ، فإنّ للاجتهاد معنيين: المعنى العام والمعنى الخاصّ (وقد مرّ تعريفهما وبيان المقصود من كلّ واحد منهما) كما أنّ للعمل بالظنّ وهكذا العمل بالرأي أيضاً معنيين، فهما عند الاصوليين بمعنى العمل بالأمارات المعتبرة وظواهر الكتاب والسنّة،

انوار الأصول، ج 3، ص: 543

وعند العامّة بمعنى العمل بالقياس الظنّي أو الاستحسان الظنّي، فقد وقع الخلط بين المعنيين لأجل هذا الاشتراك.

والشاهد على لفظية النزاع أنّ بعض الأخباريين أيضاً بحثوا عن كثير من مباحث الاصول في ابتداء كتبهم الفقهيّة كالمحدّث البحراني، حيث خصّص قسماً كبيراً من المجلّد الأوّل من حدائقه بالبحث عن المسائل الاصوليّة أي قواعد الاجتهاد بالمعنى العام وإن عبّر عنه بمقدّمات الحدائق لا المسائل الاصوليّة، كما أنّ تتبّع كلمة الاجتهاد في تاريخ الفقه والحديث يدلّنا بوضوح أنّ هذه الكلمة كانت تستخدم للتعبير عن الاجتهاد بالمعنى الخاصّ منذ عصر الأئمّة عليهم السلام إلى عدّة قرون وكان هو المراد منها في الروايات المأثورة عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام التي تذمّ الاجتهاد وكذلك في كلمات الأصحاب وتصنيفاتهم التي ألّفوها في هذا المجال، ويكفيك مثل هذا التعبير في بعض كلماتهم: «أنّ الاجتهاد باطل، وأنّ الإماميّة لا يجوز عندهم العمل بالظنّ ولا الرأي ولا الاجتهاد»، فإنّه دليل ظاهر على أنّ مرادهم

من الاجتهاد هو ما يرادف الرأي والظنّ.

وبهذا نعرف أيضاً أنّ لكلمة الأخباري أيضاً معنيين: أحدهما ما يرادف مصطلح المحدّث الذي يطلق في الكلمات على مثل الصدوق والكليني رحمهما الله، والثاني ما يقابل مصطلح الاصولي، الذي ظهر أمره وانتشر انتشاراً كثيراً في القرن الحادي عشر على يد أمين الاسترابادي، والمتبادر منه هو الأخير كما أنّ المتبادر من المحدّث هو الأوّل.

هذا كلّه في المورد الأوّل من موارد الاختلاف بين الأخباري والاصولي.

أمّا المورد الثاني: وهو حجّية العقل فقد وقع النزاع فيه أيضاً بين الطائفتين، وقد أنكر الأخباريون اعتبار العقل إنكاراً تامّاً، وحيث أورد عليهم بأنّه لو عزلتم العقل عن حكمه مطلقاً فمن أين تثبت اصول الدين؟ وهل يمكن إثباته بالدليل النقلي مع استلزامه الدور الواضح؟ فلذا أخذ جماعة منهم في الاستثناء عن هذا العموم فقال بعضهم باعتبار العقل البديهي، وبعضهم باعتبار ما يقرب إلى الخمس من العقل النظري كالرياضيات إلى غير ذلك ممّا ذكروه في هذا المقام ممّا يدلّ على وقوعهم في هرج وتناقض من هذا الأمر وحيث قد مرّ الكلام في جميع ذلك مشروحاً في مباحث القطع فلا حاجة إلى إعادته فراجع وتأمّل.

وأمّا المورد الثالث: وهو تقليد العوام للعلماء- فقد ذهب الأخباريون إلى عدم جوازه،

انوار الأصول، ج 3، ص: 544

وقالوا أنّ اللازم على المجتهد إراءة النصوص الشرعيّة إلى العوام لكي يعملوا بها مباشرة وبدون واسطة، كما كان ذلك ديدن القدماء من الأصحاب إلى «نهاية» شيخ الطائفة رحمه الله، فقد كانت كتبهم الفتوائية متلقّاة من كلمات المعصومين ومتّخذة من نفس العبارات الواردة في الأخبار بعد تنقيحها وتهذيبها وعلاج التعارض بينها.

أقول: لا يخفى أنّ هذا النزاع أشبه بالمناقشة اللفظية أو مغالطة واضحة، حيث إنّ اعطاء النصوص والأخبار بأيدي العوام بعد

حلّ تعارضها وتهذيب إسنادها وتخصيص عمومها بخصوصها وتقييد مطلقها بمقيّدها وغير ذلك ممّا لابدّ منه في مقام استخراج الأحكام ليس أمراً وراء الاجتهاد من جانب الفقيه، والتقليد من جانب العوام، والقائلون بجواز التقليد لا يريدون شيئاً وراء هذا.

والكتب المشار إليها أيضاً من هذا القبيل، نعم هى خالية غالباً عن تفريع الفروع، وأين هذا من عدم اجتهادهم في بيان اصول الأحكام؟

الأمر الرابع: المجتهد المطلق والمتجزّي
اشارة

أمّا المجتهد المطلق فقد عرّف بأنّه من له ملكة يقتدر بها على إستنباط جميع الأحكام الشرعيّة الفرعيّة.

والتعريف بالملكة لا ينافي ما مرّ سابقاً من «أنّ الاجتهاد عبارة عن المعنى المصدري أو اسم المصدري للاستراج والاستنباط، فيكون أمراً فعلياً لا بالقوّة» لأنّ الكلام هنا في المتّصف بهذه الصفة والمشتقّ منها، أي عنوان «المجتهد» (لا «الاجتهاد») ولا يخفى أنّ المبدأ في مثل هذه العناوين والمشتقّات أخذ على نحو الملكة لا على نحو الفعلية بعنوان الملكة، فإنّ قيام المبدأ بالذات على أنحاء مختلفة كما قرّر في محلّه في بحث المشتقّ.

والمجتهد المتجزّي عبارة عن، من له ملكة يقدر بها استنباط بعض الأحكام الشرعيّة الفرعيّة فقط.

وحينئذٍ يقع البحث في جهتين:

الجهة الاولى: في أحكام المجتهد المطلق.

انوار الأصول، ج 3، ص: 545

الجهة الثانية: في أحكام المجتهد المتجزّي.

أمّا الجهة الاولى: في أحكام المجتهد المطلق
اشارة

فلتحقيق البحث فيها لابدّ من رسم مسائل:

المسألة الاولى: إمكان تحقّق الاجتهاد المطلق

ربّما يقال بعدم إمكان الاجتهاد المطلق، لأنّ الفقيه لو بلغ إلى أي مرتبة من العلم والفقاهة يبقى مع ذلك في بعض المسائل متردّداً، ولذا قد يتردّد الأعلام في بعض المسائل، ويقولون في كتبهم الاستدلاليّة: أنّ المسألة بعدُ محلّ إشكال أو محلّ تأمّل فيعبّرون في رسائلهم العمليّة بوجوب الاحتياط.

ويمكن الجواب عنه: بأنّ هذه الاحتياطات إنّما تدلّ على وجود تعقيد في المسألة فحسب، ولذلك يقتضي الورع الفقهي عدم إعلان فتواه العلمي ما لم يحسّ ضرورة في إعلانه، وإن شئت قلت: إنّما يحتاط الفقهاء الأعلام في بعض المسائل لأحد أمرين:

أحدهما: حاجة المسألة إلى تتبّع كثير لا يسع له الوقت أو لا يحضر منابعها ومداركها بالفعل.

ثانيهما: ما يكون الدليل فيه في أقلّ مراتب الحجّية فلا يجترى ء الفقيه للفتوى لشدّة ورعه، ولأن لا يبعّد المكلّفين مهما إمكن عن الأحكام الواقعيّة، ولكن لو مسّت الحاجة إلى تبيين الحكم كانوا قادرين عليه، لأنّ المسألة إمّا ورد في نصّ يبلغ مرتبة الحجّية أم لا، وعلى تقدير وروده إمّا يوجد معارض أم لا، وعلى تقدير عدم وروده إمّا يكون هناك اطلاق أو عموم، أو لا يوجد شي ء من ذلك ما عدى الاصول العمليّة التي تكون حاصرة لمواردها حصراً عقلياً، والوظيفة في جميع هذه الفروض معلومة مبيّنة، لا معنى لعجز الفقهاء الأكابر الأعلام عن تشخيصها.

نعم، لمّا كانت الاحتياطات موجبة لخروج الشريعة عن كونها سهلة سمحة فالجدير بالعلماء الأعلام أن لا يحوموا حولها إلّابشرطين:

أحدهما: أن يكون المورد من الموارد التي لا توجب للمقلّد الكلفة والمشقّة الشديدة في انوار الأصول، ج 3، ص: 546

مقام العمل، كما أنّه كذلك في الاحتياط بالجمع بين القصر والإتمام في الصّلاة والصيام.

ثانيهما: كون المورد من الموارد

التي لا يمكن فيها تحصيل الحدّ الأقل من الحجّة بسهولة، وإلّا ففي غير هذين الموردين يجب عليه ترك الاحتياط وإظهار الفتوى.

المسألة الثانية: جواز العمل بالاجتهاد المطلق

لا ريب في جواز عمل المجتهد برأيه في أعماله، لشمول الخطابات الشرعيّة وأدلّة الأمارات المعتبرة والاصول العمليّة له، فبعد ثبوتها عنده يجب العمل على طبقها، بل يكون تقليده لغيره حراماً، لأنّه على الفرض يرى المخالف له في فتواه جاهلًا ومخطئاً، أي قامت الحجّة عنده على أنّ ما يقوله المخالف ليس حكم اللَّه، فكيف يرجع إليه ويلتزم بفتواه في مقام العمل؟ نعم إذا كان قادراً على الاستنباط ولم يستنبط فالمعروف هنا أيضاً حرمة تقليده للغير، لكنّه لكن لا يخلو عن إشكال كما ذكرنا في محلّه.

وأمّا عمل الغير باجتهاده وفتاويه فقد ذهب الأخباريون من أصحابنا إلى عدم جوازه، وسيأتي في أحكام التقليد بيان بطلانه وضعفه، وعدم التزام الأخباري أيضاً به في العمل، والمشهور جوازه، بل ادّعى صاحب الفصول أنّه إجماعي بل ضروري، وهو غير بعيد كما سيأتي.

وفصّل المحقّق الخراساني رحمه الله بين ما إذا كان المجتهد إنفتاحياً فيجوز تقليده، وبين ما إذا كان انسدادياً فلا يجوز، واستدلّ على عدم الجواز في الانسدادي بما حاصله: أنّ رجوع الغير إليه ليس من رجوع الجاهل إلى العالم بل إلى الجاهل، أضف إلى ذلك أنّ أدلّة جواز التقليد إنّما دلّت على جواز رجوع غير العالم إلى العالم، وأمّا مقدّمات الانسداد الجارية عند الإنسدادي فمقتضيها حجّية الظنّ في حقّ نفسه دون غيره، إذ لا ينحصر المجتهد بالانسدادي فقط، هذا كلّه على تقدير الحكومة، وأمّا بناءً على الكشف فإنّه وإن ظفر المجتهد الانسدادي بناءً عليه بحكم اللَّه الظاهري من طريق كشف العقل عنه، ولكن يبقى الإشكال الثاني على قوّته، أي لا دليل

على جريان مقدّمات الانسداد بالنسبة إلى غيره مع وجود المجتهد الانفتاحي.

أقول: وللنظر في كلامه مجال من جهات شتّى:

انوار الأصول، ج 3، ص: 547

أوّلًا: ليس بناء العقلاء في رجوع الجاهل إلى العالم على رجوعه إلى العالم بالحكم فقط، بل إنّه استقرّ على رجوع الجاهل إلى العالم مطلقاً سواء كان عالماً بالحكم أو بمطلق الحجّة ومواقع العذر، وإن هو إلّانظير البراءة العقليّة والاحتياط العقلي على القول بالإنفتاح، بل نظير تمام الأمارات على مبنى القائلين بالمنجّزية والمعذّريّة، حيث إنّ مفاد أدلّة حجّية الأمارة حينئذٍ ليس حكماً شرعياً حتّى يكون العالم به عالماً بالحكم، بل إنّ مفاده حينئذٍ قضيتان شرطيّتان وهما: إن أصاب الواقع فهو منجّز وإن خالف الواقع كان معذّراً.

ثانياً: في قوله أنّ مقدّمات الانسداد لا تكاد تجري بالنسبة إلى غير المجتهد- أنّ الفقيه المجتهد يكون كالنائب عن جميع الناس يكشف مواقع الأدلّة في حقّهم، ولا يخفى وضوح هذا المعنى في كشفه عن أحكام لا ترتبط به نفسه، كالأحكام المختصّة بالنساء في الحيض والنفاس وغيرهما، فهو كالنائب عنهنّ في تشخيص موارد الأدلّة، وكذلك الكلام عن انسداد باب العلم.

فإنّه لو رأى انسداد باب العلم فكأنّه رأى انسداده لجميع الناس، فليكن رأيه حجّة لجميعهم.

ثالثاً: أنّ المجتهد الإنسدادي لو فرض كونه أعلم من غيره فكيف يعدّ جاهلًا بالحكم، وغيره الإنفتاحي عالماً بالحكم، مع أنّ المجتهد الإنفتاحي قد يكون من أقلّ تلامذته ويكون جاهلًا مركّباً في نظره؟

فظهر ممّا ذكرنا أنّه لا وجه للتفصيل بين الانسدادي والانفتاحي في حجّية قول المجتهد المطلق لغيره.

المسألة الثالثة: جواز القضاء للمجتهد المطلق

قد يقال: أنّ مقتضى مقبولة عمر بن حنظلة لمكان التعبير ب «حكم بحكمنا» و «عرف أحكامنا» اختصاص نفوذ قضاء المجتهد المطلق بما إذا كان انفتاحياً، حيث إنّ الانسدادي ليس عالماً بالحكم

وعارفاً بالأحكام.

ولكن الجواب هو الجواب، وهو أنّ المراد من الحكم إنّما هو مطلق الحجّة، فالعارف بالحجج أيضاً يعدّ عارفاً بالأحكام، كما أنّ الحاكم بالحجّة أيضاً يكون حاكماً بالحكم.

انوار الأصول، ج 3، ص: 548

بقي هنا شي ء:

وهو ما أفاده بعض الأعلام فيمن له ملكة الاجتهاد ولم يجتهد بالفعل، أو اجتهد شيئاً قليلًا، من عدم جواز الرجوع إليه في التقليد، وعدم نفوذ قضائه وتصدّيه للُامور الحسبيّة، من باب أنّ الأدلّة اللفظيّة المستدلّ بها على جواز التقليد من الآيات والروايات أخذت في موضوعها عنوان العالم والفقيه وغيرهما من العناوين غير المنطبقة على صاحب الملكة، وكذلك الحال في السيرة العقلائيّة، لأنّها إنّما جرت على رجوع الجاهل إلى العالم، وصاحب الملكة ليس بعالم فعلًا، فرجوع الجاهل إليه من قبيل رجوع الجاهل إلى مثله، هذا إذا لم يتصدّ للاستنباط بوجه، وأمّا لو استنبط من الأحكام شيئاً طفيفاً فمقتضى السيرة العقلائيّة جواز الرجوع إليه فيما استنبطه من أدلّته، فإنّ الرجوع إليه من رجوع الجاهل إلى العالم، فإنّ إستنباطه بقيّة الأحكام وعدمه أجنبيان عمّا استنبطه بالفعل، نعم قد يقال: إنّ الأدلّة اللفظيّة رادعة عن السيرة، إذ لا يصدق عليه عنوان الفقيه أو العالم بالأحكام، ولكن الإنصاف أنّ الأدلّة اللفظيّة لا مفهوم لها وإنّها غير رادعة.

هذا كلّه في جواز التقليد وعدمه، وأمّا نفوذ قضائه وعدمه فالصحيح عدم نفوذ قضائه وتصرّفاته في أموال القصر، وعدم جواز تصدّيه لما هو من مناصب الفقيه، وذلك لأنّ الأصل عدمه، لأنّه يقتضي أن لا يكون قول أحد أو فعله نافذاً في حقّ الآخرين إلّافيما قام عليه الدليل، وهو إنّما دلّ على نفوذ قضاء العالم أو الفقيه أو العارف بالأحكام أو غيرها من العناوين الواردة في الأخبار، ولا يصدق شي ء من ذلك

على صاحب الملكة «1». (انتهى)

أقول: في ما أفاده مواقع للنظر:

أوّلًا: قد مرّ أنّ حصول ملكة الاجتهاد من دون ممارسة عملية مجرّد فرض لا واقع له خارجاً.

ثانياً: سلّمنا، ولكن لا إشكال في أنّ سيرة العقلاء لم تستقرّ على الرجوع إلى مثله، ولا أقلّ من عدم إحرازها.

ثالثاً: أنّه لم يبيّن الفرق في كلامه بين جواز التقليد وجواز التصدّي للقضاء في جريان انوار الأصول، ج 3، ص: 549

سيرة العقلاء على الرجوع في الأوّل دون الثاني، فإنّه لو فرض استقرار سيرة العقلاء على رجوع الجاهل إلى صاحب الملكة في أمر التقليد، فكيف لم تستقرّ سيرتهم على رجوع المتداعيين إليه في أمر القضاء؟ مع أنّ لازم جواز الرجوع إليه في أمر التقليد كونه عالماً وخبرة عندهم بمجرّد الحصول على الملكة، وهذا صادق أيضاً بالنسبة إلى من له ملكة القضاء، وما ذكره من أنّ الأصل عدم نفوذ قضاء أحد في حقّ، أحد- حقّ، ولكن يمكن إحراز النفوذ في مثل المقام بإطلاقات أدلّة القضاء وإنصرافها إلى ما هو متعارف عند العقلاء (إلّا ما خرج بالدليل) فإنّ القضاء ليس أمراً تأسيسيّاً للشرع، بل هو إمضاء لما عند العقلاء.

المسألة الرابعة: من مناصب المجتهد المطلق الولاية والحكومة

إنّ من الواضحات والامور البديهية في الشريعة حاجة المجتمع الإنساني إلى الحكومة وعدم إمكان تفكيكه عنها، وذلك من باب أنّه بالحكومة يمكن تحقيق أهداف الشريعة المقدّسة التي لا يمكن الوصول إليها إلّامن طريق تشكيل الحكومة وتنفيذ الولاية.

ومن تلك الأهداف المهمّة حفظ نظام المجتمع، فلا إشكال في لزوم اختلال النظام بدون الحكومة وهو ممّا لا يرضى الشارع به، بل هو من أهمّ الامور عنده.

ومنها: تعليم النفوس الإنسانيّة وتربيتها.

ومنها: إقامة القسط والعدل، وإحقاق حقوق الناس، فإنّه أيضاً من أهداف الشريعة المقدّسة.

ومنها: إجراء بعض المراحل العالية للأمر بالمعروف والنهي

عن المنكر.

ومنها: تولّى القضاء، فإنّه أيضاً لا يمكن تحقّقه في الخارج من دون اعتضاده بالحكومة.

ومنها: إجراء الحدود والتعزيرات.

ومنها: حفظ حدود الممالك الإسلاميّة وثغورها، فإنّها أيضاً لا تتحقّق إلّابتشكيل الحكومة والعساكر.

فظهر أنّ أصل الحكومة أمر لازم ضروري.

ثمّ إنّ هذه الحكومة تأخذ مشروعيتها من ناحية الباري تعالى لا من جانب الناس انوار الأصول، ج 3، ص: 550

وآرائهم، وأمّا قانون الانتخاب في الحكومة الإسلاميّة فإنّه لمجرّد جلب مشاركة الناس في أمر الحكومة، التي هى من المقدّمات الواجبة لتحقيق الأهداف المزبورة، ولذلك نقول: لابدّ من تنفيذ أمر رئيس الجمهورية بعد توفيقه في أخذ أكثرية الآراء من جانب الولي الفقيه.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ هذا المنصب جعل من ناحية الإمام المعصوم عليه السلام للفقيه الواجد للشرائط المذكورة في محلّها، ويدلّ على هذا الجعل وجوه عديدة، كما أنّ لولايته مراحل وشؤوناً مختلفة، ليس هنا محلّ ذكرها، وقد بحثنا عن هذه الشؤون وتلك الوجوه تفصيلًا في كتاب أنوار الفقاهة، كتاب البيع، مبحث أولياء العقد، فراجع.

هذا كلّه في الجهة الاولى، وهى البحث في أحكام المجتهد المطلق.

الجهة الثانية: في أحكام المجتهد المتجزّي
اشارة

وقبل الورود فيها لابدّ من بحث موضوعي وهو إمكان التجزّي في الاجتهاد وعدمه، وقد وقع الخلاف فيه بين الأصحاب، فقال بعض بأنّه ممكن، وقال بعض آخر بأنّه محال، ولنا نظرة اخرى وهى أنّ الاجتهاد المطلق يستحيل عادةً تحقّقه في الخارج من دون العبور عن طريق الاجتهاد المتجزّي.

واستدلّ القائلون بالإستحالة بوجهين:

أحدهما: أنّ الملكة من الكيفيات النفسانية وهى بسيطة لا تقبل القسمة والتجزّي.

ثانيهما: ربط المسائل الفقهيّة بعضها ببعض وعدم إمكان التفكيك بينها.

ويرد على الوجه الأوّل: أنّ الملكة وإن لم تنقسم ولا تتجزّى، لكنّها ذات مراتب متفاوتة باعتبار تفاوت متعلّقاتها من حيث الصعوبة والسهولة والكمال والنقص، فهى حينئذٍ ملكات كثيرة بعدد

المسائل التي وقعت متعلّقة للملكة، وقد تحصل مرتبة ناقصة منها دون المرتبة الكاملة من دون تلازم بينهما في الوجود، ومن هذا القبيل ملكة الاجتهاد، فإنّها كسائر الملكات تدريجية الحصول لا تصل إلى مرتبة أعلى إلّابعد العبور عن المرتبة الأدنى، ولا تتحقّق ملكة الاجتهاد في المسائل المعقّدة المشكلة إلّابعد حصول القدرة على استنباط المسائل الساذجة، كما أنّه كذلك في مثل ملكة المشي والتكلّم للصبي التي تبتدأ من مراحل ساذجة إلى مراحل انوار الأصول، ج 3، ص: 551

معقّدة، وهكذا في القدرة على الطبابة، فإنّها تبتدأ من المعالجات البسيطة إلى مراحل معقّدة عميقة، بل قد يكون الاجتهاد المطلق في بعض العلوم الجديدة كالطب من المحالات، فإنّ كلّ طبيب يمكن له أن يجتهد ويستنبط في مجال خاصّ من الطبابة.

إن قلت: إنّ قياس ملكة الاجتهاد في المسائل الفقهيّة بسائر الملكات مع الفارق، لأنّ مدارك الاستنباط واصوله وقواعده في باب من الفقه متّحدة مع الاصول الجارية في أبواب اخر.

قلنا: أنّه كذلك، ولكن يمكن التفكيك في المسائل الاصوليّة أيضاً من حيث الصعوبة والسهولة، فيتطرّق التقسيم والتجزّي فيها، ولا إشكال حينئذٍ في ورود التجزّي إلى المسائل الفقهيّة التي تنطبق عليها، فمثلًا مسألة اجتماع الأمر والنهي من المسائل المشكلة في الاصول، ومن لا يقدر على حلّها والاجتهاد فيها لا يقدر على حلّ ما يرتبط بها من الفروعات الفقهيّة في باب الصّلاة والصوم والحجّ وغيرها. هذا أوّلًا.

وثانياً: قد مرّ أنّ الإحاطة بعلم الاصول وحده لا تكفي لحصول ملكة الاجتهاد، بل لابدّ من التمرين والممارسة، ولا ريب في أنّ للممارسة مراحل مختلفة ودرجات متفاوتة، وبحسبها يتجزّأ الاجتهاد في الفقه، وهذا هو ما ذكرنا من أنّ الاجتهاد المطلق يستحيل عادةً من دون العبور عن الاجتهاد المتجزّي.

وقد يقال: إنّ

الوصول إلى الاجتهاد المطلق من دون طيّ مرحلة التجزّي يلزم منه الطفرة التي قضى العقل ببطلانها.

ولكن يمكن الجواب عنه: أنّ المراد من الطفرة تقديم ما هو في رتبة متأخّرة أو بالعكس، كتقديم ذي المقدّمة على المقدّمة، والمعلول على العلّة، ومثل رفع الأقدام المتأخّرة قبل الاقدام المتقدّمة في العلل الأعدادية، فهى تتصوّر فيما إذا كان هناك ترتيب عقلًا، وهو مفقود في ما نحن فيه.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه يبحث في أحكام المجتهد المتجزّي عن امور ثلاثة:

أحدها: جواز عمل المتجتهد المتجزّى برأيه

والتحقيق فيه التفكيك بين صورتين:

انوار الأصول، ج 3، ص: 552

الاولى: ما إذا اجتهد واستقرّ رأيه على شي ء.

الثانية: ما إذا لم يجتهد، أو اجتهد ولكن لم يستقرّ رأيه بعد على شي ء.

أمّا الصورة الاولى:

فلا ريب في وجوب تقليده لنفسه والعمل برأيه، وحرمة تقليده لغيره، لأنّه لا إشكال في كونه مخاطباً لأدلّة الاصول العمليّة والأمارات الشرعيّة، مثل دليل «إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّوا»، ولازمه أنّه إذا اجتهد واستنبط مثلًا تنجّس الماء القليل تمّت الحجّة عليه في خصوص هذه المسألة من دون الحاجة إلى الإذن من مجتهد مطلق.

أمّا الصورة الثانية:

ففي جواز العمل برأيه فيها خلاف، ذهب صاحب المناهل إلى عدمه، ومقتضى اطلاق كلام الشيخ الأعظم رحمه الله في رسالته في الاجتهاد والتقليد هو الجواز، بل حرمة التقليد عن الغير، وتفصيل البحث في ذلك في محلّه.

ثانيها: جواز رجوع الغير إليه

والتحقيق فيه أن يقال: إنّه تارةً: يمكن له أن يجتهد في شي ء معتدّ به من الأحكام، بحيث يصدق عليه عنوان «من عرف حلالنا وحرامنا» أو «شيئاً من قضايانا» أو عنوان «أهل الذكر» و «من كان من الفقهاء»، كما إذا حصلت له ملكة الاجتهاد في أبواب المعاملات مثلًا، فلا ريب حينئذٍ في جواز تقليد الغير له، والشاهد عليه بناء العقلاء على العمل برأي الطبيب المتجزّي المتخصّص في فنّه، بل على ترجيحه على غيره، لكونه أعلم من غيره في هذه الناحية.

واخرى: يمكن له أن يجتهد مسائل طفيفة قليلة، ففي هذه الصورة لا تصدق عليه العناوين المزبورة، أي لا تشمله الأدلّة النقليّة الواردة في باب التقليد، نعم لا إشكال في جريان سيرة العقلاء وبنائهم على تقليده، كما لا إشكال في عدم ثبوت الردع عنه بتلك الأدلّة النقلية، لأنّها ساكتة عنه، ونتيجته جواز تقليده في هذه الصورة أيضاً إذا كان واجداً لسائر شرائط التقليد.

انوار الأصول، ج 3، ص: 553

والذي يسهل الخطب أنّ المتجزّي بهذا المعنى لا مصداق له خارجاً، لأنّه قد مرّ أنّ من شرائط حصول الملكة، الممارسة في الاستنباط، وهى تحتاج إلى استنباط مسائل كثيرة، كما أنّه كذلك في مثل ملكة الطبابة ونحوها.

ثالثها: قضاء المجتهد المتجزّي

وقد فصّل بعض فيه بين من كانت له ملكة الإستنباط على مقدار معتنى به من الأحكام ومن كان قادراً على استنباط أحكام قليلة، وقال بجواز القضاء للأوّل دون الثاني، وذلك لعدم شمول العناوين الواردة في مثل مقبولة عمر بن حنظلة ومشهورة أبي خديجة لمثله.

ولكن يمكن أن يستدلّ للجواز مطلقاً بوجوه عديدة:

منها: ما رواه أحمد عن أبيه رفعه عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «القضاة أربعة ثلاثة في النار وواحد في الجنّة: رجل قضى بجور وهو يعلم،

فهو في النار، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة» «1».

فإنّ قوله عليه السلام: «قضى بالحقّ وهو يعلم» صادق على المتجزّي مطلقاً بلا إشكال، نعم الإشكال في سندها لكونها مرفوعة.

ومنها: بناء العقلاء، فإنّه استقرّ على الرجوع بمن هو عالم بأحكام القضاء المتداولة بينهم سواء كان مجتهداً مطلقاً أو متجزّياً، وعلى الثاني سواء كان له ملكة الاجتهاد بالنسبة إلى مسائل معتدّ بها، أو كان له ملكة الاجتهاد بالنسبة إلى مسائل طفيفة قليلة، ولا إشكال في أنّ هذا البناء يخصّص ذلك الأصل الأوّلي، أي أصالة عدم نفوذ قضاء أحد على أحد، كما لا إشكال في عدم رادعية الروايات المذكورة له، لأنّها تثبت جواز القضاء لمن كانت العناوين الواردة فيها صادقة عليه، وليس لها مفهوم ينفي الجواز عمّن لم تكن تلك العناوين صادقة عليه، فتأمّل.

ومنها: نفس مقبولة عمر بن حنظلة ورواية أبي خديجة من باب أنّه لا موضوعيّة

انوار الأصول، ج 3، ص: 554

للعناوين الواردة فيهما، بل إنّها طريق إلى من يكون قادراً على القضاء، وعناوين مشيرة إلى اعتبار العلم بأحكام القضاء حتّى يكون قادراً عليه، فهما تعمّان المتجزّي أيضاً.

فظهر أنّه يجوز القضاء للمتجزّي حتّى لمن كان مجتهداً في مسائل قليلة، لكن الكلام في وجود هذا القسم من المتجزّي خارجاً كما مرّ سابقاً.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّه لا إشكال في عدم اعتبار الإذن من المجتهد المطلق في عمل المجتهد المتجزّي برأيه إذا كان مجتهداً في المباني الاصوليّة، وحصل له القطع بالحجّة بعد الإستنباط، نعم رجوع العامي إليه يحتاج إلى الإذن من المجتهد المطلق، أي لابدّ له من التقليد عن المجتهد المطلق في

خصوص هذه المسألة، أي مسألة جواز التقليد عن المجتهد المتجزّي، وإلّا دار، وهذا نظير ما يقال به في مسألة جواز تقليد غير الأعلم من أنّه لابدّ في خصوص هذه المسألة من تقليد الأعلم، فإن أجاز هو تقليد غير الأعلم فهو، وإلّا فلا يجوز تقليد غير الأعلم، وهكذا بالنسبة إلى مسألة تقليد الميّت. فلابدّ في خصوصها من تقليد الحي.

إلى هنا تمّ الكلام في الأمر الرابع بكلتا جهتيه (أحكام المجتهد المطلق والمتجزّي).

الأمر الخامس: مباني الاجتهاد

وقد ذكر بعضهم أنّ الاجتهاد في المسائل الشرعيّة يبتني على علوم كثيرة ربّما تربو على أربعة عشر علماً: علم اللغة، علم الصرف، علم النحو، علم التفسير، علم الرجال، علم الحديث، علم الدراية، علم الكلام، علم اصول الفقه، علم الفقه نفسه (ممارسة الفقه)، علم المنطق، الفلسفة، علم المعاني، علم البيان.

ولابدّ من البحث أوّلًا: في أصل وجوب تحصيل كلّ واحد من هذه العلوم واعتباره في الاجتهاد والإستنباط، وثانياً: في المقدار اللازم منه.

فنقول: أمّا علم اللغة، فلا ريب في لزومه أمّا اجتهاداً أو رجوعاً إلى أهل الخبرة، لأنّ عمدة الأدلّة هى الكتاب والسنّة، وهما صدرا بلسان عربي مبين، فلابدّ من معرفة مواد اللغة العربية.

انوار الأصول، ج 3، ص: 555

وهكذا علم الصرف، لوضوح دخالته في فهم الكتاب والسنّة، وعلم النحو، لأنّ كلمة واحدة تستعدّ لمعانٍ مختلفة على أساس إعرابات متفاوتة، فلابدّ من معرفته حتّى تتميّز المعاني بعضها عن بعض، نعم اللازم منه ما يكون له أثر في اختلاف المعاني فحسب لا أكثر.

وبالجملة لكلّ واحد من هذه الثلاثة دخل في فهم المعاني، فإنّ علم اللغة يبيّن المادّة، وعلم الصرف يبيّن هيئة الكلمة وعلم النحو يبيّن هيئة الجملة.

وأمّا علم التفسير، فالمراد منه ما يكون وراء الثلاثة السابقة وهو الإحاطة بالآيات القرآنيّة، وردّ

بعضها إلى بعض، ومعرفة المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، وغير ذلك من أشباهه فلا إشكال في دخله في إستنباط الأحكام.

وأمّا علم الرجال، فلا حاجة إليه عند من يقول بحجّية الأخبار المدوّنة في الكتب المشهورة المعروفة، من الكتب الأربعة وغيرها، وهكذا عند القائلين بحجّية الأخبار الواردة في خصوص الكتب الأربعة، وأمّا بناءً على مبنى القائلين باعتبار الوثوق برجال السند أو الوثوق بالرواية (الذي قد يحصل من طريق الوثوق بالراوي وقد يحصل من طريق الموافقة لعمل المشهور، وقد يحصل من طريق علوّ المضامين، أو من طريق تظافر الروايات) فلا إشكال في لزوم علم الرجال ودخله في الاستنباط والاجتهاد كما لا يخفى.

وأمّا علم الحديث فيكون بمنزلة علم التفسير، ومورداً للحاجة في طريق الاستنباط، لأنّ المراد منه معرفة لسان الرواية فإنّ لرواية الأئمّة المعصومين لسان خاصّ، ولحن مخصوص بها كالقرآن الكريم، يفترق عن لسان عبارات الفقهاء والعلماء ولحنها.

وأمّا علم الدراية، فلا إشكال في لزومه أيضاً، لأنّ المراد منه هو معرفة أقسام الرواية من حيث صفات الراوي من الصحيح والحسن والضعيف وغيرها، وبما أنّ الميزان في حجّية الرواية هو الوثوق بالرواية وأحد طرق حصوله هو الوثوق برجال الحديث كما مرّ آنفاً فلابدّ من معرفة أقسام الحديث على أساس رجال السند.

وأمّا علم الكلام، فكذلك لا إشكال في لزومه لأنّ إثبات حجّية كلام المعصوم وفعله وتقريره متوقّف على إثبات إمامته وعصمته في الرتبة السابقة، كما أنّ إثبات حجّية ظواهر الكتاب أيضاً مبنيّ على إثبات حقّانيّة أصل الكتاب وهكذا ...، ومحلّ البحث عن مثل هذه الامور إنّما هو علم الكلام كما لا يخفى.

انوار الأصول، ج 3، ص: 556

إن قلت: لازم هذا البيان عدم صدق الاجتهاد والاستنباط على اجتهاد زنديق يكون من فحول علماء علم الاصول

(فرضاً) وعالماً في سائر مباني الاستنباط، وهو كما ترى.

قلنا: يعتبر في صدق الاجتهاد تحصيل العلم بالحجّة، وهو لا يحصل لمثل هذا المفروض، وبما أنّه فرض غير واقعي لا ينبغي البحث فيه أكثر من هذا.

وأمّا علم اصول الفقه، فلزومه وشدّة الحاجة إليه في الاستنباط من القضايا قياساتها معها، كما يلوح به تعريف علم الاصول بأنّه هو العلم بقواعد تقع في طريق الاستنباط.

إن قلت: فما دعوى الأخباريين في مقابل الاصوليين وعدّ بعضهم إيّاه من البدعة في الدين؟

قلنا: لا إشكال في أنّ قسماً من النزاع بين الطائفتين لفظي، لأنّ المحدّث الاسترابادي نفسه مثلًا محتاج أيضاً في إثبات الأحكام الشرعيّة إلى حجّية خبر الواحد وحجّية ظواهر الألفاظ، وإلى ملاحظة إمكان الجمع الدلالي، ثمّ العلاج السندي عند تعارض الأدلّة، وإلى الرجوع إلى الاصول العمليّة عند فقدان النصّ (ولو كان الأصل عنده خصوص أصالة الاحتياط) ولا يخفى أنّ هذه المسائل من أهمّ مسائل علم الاصول.

ويشهد عليه ملاحظة ما بحث عنه صاحب الحدائق (وهو من المحدّثين المعروفين) في مقدّمات الحدائق، وهى إثنتا عشرة مقدّمة في 170 صفحة، ومن تلك المقدّمات حجّية خبر الواحد (وهو المقدّمة الثانية) ومنها مدارك الأحكام الشرعيّة، ومن جملتها حجّية ظواهر الكتاب والإجماع وأصالة العدم وأصالة البراءة في الشبهات الوجوبيّة ومقدّمة الواجب، ومسألة أنّ الأمر بالشي ء مستلزم للنهي عن ضدّه أم لا؟ وقياس الأولوية، وقياس منصوص العلّة (وهذه كلّها هى المقدّمة الثالثة) ومنها التعارض بين الأدلّة (وهو المقدّمة السادسة) ومنها مسألة أنّ مدلول الأمر والنهي هل هو الوجوب والتحريم أو لا؟ (وهو المقدّمة السابعة) ومنها ثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمه (المقدّمة الثامنة) ومنها معنى المشتقّ (المقدّمة التاسعة) ومنها حجّية دليل العقل وعدمها (المقدّمة العاشرة) وقد ذكر في المقدّمة الحادية عشرة

جملة من القواعد الفقهيّة فراجع.

فلا ريب في أنّ البحث والنزاع بين الطائفتين في هذا القسم من الاصولي لفظي.

انوار الأصول، ج 3، ص: 557

نعم هنا قسم من مباحث الاصول يقع النزاع فيه معنوياً، وقد حكى «1» صاحب الحدائق عن المحدّث الشيخ عبداللَّه البحراني صاحب كتاب منية الممارسين: أنّ موارد الاختلاف في هذا القسم تنتهى إلى ثلاثة وأربعين مسألة، ولكن الإنصاف أنّ هذا العدد ليس عدداً واقعياً، فإنّ كثيراً ممّا عدّه من موارد الاختلاف هى من شقوق دليل العقل، وتجمع تحت عنوان دليل العقل، والصحيح أنّ العمدة من موارد النزاع بينهم هى امور ثلاثة:

أحدها: في عدد الأدلّة، فإنّها عند الاصوليين أربعة: الكتاب والسنّة والإجماع ودليل العقل، بينما هى عند الأخباريين الأوّلان خاصّة، ولكن قد مرّ أنّ الإجماع الحجّة عند الاصوليين يرجع في الحقيقة إلى السنّة، فهو ليس دليلًا برأسه، وأمّا دليل العقل فالبديهيات العقليّة وهكذا العلوم العقليّة التي إستمدّت قضاياها من الحسّ، كالرياضيات فهى حجّة عند الجميع، فتبقى النظريات غير المعتمدة على الحسّ، فالأخباريون ذهبوا إلى عدم حجّيتها لما ظهر من الخطأ في تاريخ العلوم في هذا القسم من المدركات العقليّة (وهو نفس ما استدلّ به المذاهب الحسّية والتجربية في الفلسفة الأوربية) ولذلك قالوا بعدم حجّية ما يدركه العقل في مثل مسألة مقدّمة الواجب ومسألة الترتّب ومسألة أنّ الأمر بالشي ء يقتضي النهي عن ضدّه أو لا؟ ومسألة إجتماع الأمر والنهي وغيرها من أشباهها.

ثانيها: أصالة البراءة في الشبهات الحكميّة التحريميّة.

ثالثها: حجّية ظواهر كتاب اللَّه، فإنّ بعض الأخباريين ذهب إلى عدم حجّيتها إلّابعد ضمّ تفسير الأئمّة المعصومين عليهم السلام إليها.

فقد ظهر أنّ موارد الاختلاف بينهم قليلة، والإنصاف أنّ هذا المقدار من الخلاف أمر قهري طبيعي قد يكون بين الاصوليين أنفسهم

أيضاً، فلا يوجب تشنيعاً ولا تكفيراً من جانب الأخباريين بالنسبة إلى الاصوليين أو بالعكس كما نبّه عنه المحدّث البحراني في المقدّمة الثانية عشرة، فالجدير بالمقام نقل كلامه في هذا المجال، وإليك نصّه في الحدائق: «وقد كنت في أوّل الأمر ممّن ينتصر لمذهب الأخباريين، وقد أكثرت البحث فيه مع بعض المجتهدين من مشايخنا المعاصرين، وأودعت كتابي الموسوم بالمسائل الشيرازية مقالة مبسوطة مشتملة

انوار الأصول، ج 3، ص: 558

على جملة من الأبحاث الشافية والأخبار الكافية تدلّ على ذلك وتؤيّد ما هنالك، إلّاأنّ الذي ظهر لي- بعد إعطاء التأمّل حقّه في المقام وإمعان النظر في كلام علمائنا الأعلام- هو إغماض النظر عن هذا الباب، وإرخاء الستر دونه والحجاب، وإن كان قد فتحه أقوام وأوسعوا فيه دائرة النقض والإبرام:

أمّا أوّلًا: فلاستلزامه القدح في علماء الطرفين والإزراء بفضلاء الجانبين، كما قد طعن به كلّ من علماء الطرفين على الآخر، بل ربّما إنجرّ إلى القدح في الدين، سيّما من الخصوم المعاندين، كما شنّع به عليهم الشيعة من إنقسام مذهبهم إلى المذاهب الأربعة، بل شنّع به كلّ منهم على الآخر أيضاً.

وأمّا ثانياً: فلأنّ ما ذكروه في وجوه الفرق بينهما جلّة بل كلّه عند التأمّل لا يثمر فرقاً في المقام ...- إلى أن قال-.

وأمّا ثالثاً: فلأنّ العصر الأوّل كان مملوءاً من المحدّثين والمجتهدين، مع أنّه لم يرتفع بينهم صيت هذا الخلاف، ولم يطعن أحد منهم على الآخر بالإتّصاف بهذه الأوصاف، وإن ناقش بعضهم بعضاً في جزئيات المسائل، واختلفوا في تطبيق تلك الدلائل، وحينئذٍ فالأولى والأليق بذوي الإيمان، والأحرى والأنسب في هذا الشأن هو أن يقال: أنّ عمل علماء الفرقة المحقّة والشريعة الحقّة- أيّدهم اللَّه تعالى بالنصر والتمكين ورفع درجاتهم في أعلى علّيين سلفاً وخلفاً- إنّما

هو على مذهب أئمّتهم صلوات اللَّه عليهم وطريقهم الذي أوضحوه لديهم، فإنّ جلالة شأنهم وسطوع برهانهم ودرعهم وتقواهم المشهور بل المتواتر على مرّ الأيّام والدهور يمنعهم من الخروج عن تلك الجادّة القويمة والطريقة المستقيمة، ولكن ربّما حادّ بعضهم أخبارياً كان أو مجتهداً عن الطريق غفلة أو توهّماً أو لقصور إطّلاع أو قصور فهم أو نحو ذلك في بعض المسائل، فهو لا يوجب تشنيعاً ولا قدحاً، وجميع تلك المسائل- التي جعلوها مناط الفرق- من هذا القبيل، كما لا يخفى على من خاض بحار التحصيل، فإنّا نرى كلًا من المجتهدين والأخباريين يختلفون في آحاد المسائل، بل ربّما خالف أحدهم نفسه، مع أنّه لا يوجب تشنيعاً ولا قدحاً، وقد ذهب رئيس الأخباريين الصدوق (رحمه اللَّه تعالى) إلى مذاهب غريبة لم يوافقه عليها مجتهد ولا أخباري، مع أنّه لم يقدح ذلك في علمه وفضله، أو لم يرتفع صيت هذا الخلاف ولا وقوع هذا الإعتساف إلّامن زمن صاحب الفوائد المدنية سامحه اللَّه تعالى برحمته انوار الأصول، ج 3، ص: 559

المرضيّة، فإنّه قد جرّد لسان التشنيع على الأصحاب وأسهب في ذلك أي إسهاب، وأكثر من التعصّبات التي لا تليق بمثله من العلماء الأطياب، وهو وإن أصاب الصواب في جملة من المسائل التي ذكرها في ذلك الكتاب، إلّاأنّها لا تخرج عمّا ذكرنا من سائر الاختلافات ودخولها فيما ذكرنا من التوجيهات، وكان الأنسب بمثله حملهم على محامل السداد والرشاد، إن لم يجد ما يدفع به عن كلامهم الفساد، فإنّهم رضوان اللَّه عليهم لم يألوا جهداً في إقامة الدين وإحياء سنّة سيّد المرسلين صلى الله عليه و آله، ولا سيّما آية اللَّه العلّامة رحمه الله الذي قد أكثر من الطعن عليه والملامة، فإنّه بما ألزم

به علماء الخصوم والمخالفين من الحجج القاطعة والبراهين حتّى آمن بسببه الجمّ الغفير، ودخل في هذا الدين الكبير والصغير والشريف والحقير، وصنّف من الكتب المشتملة على غوامض التحقيقات ودقائق التدقيقات، حتّى أنّ من تأخّر عنه لم يلتقط إلّامن درر نثاره، ولم يغترف إلّامن زاخر بحاره، قد صار له من اليد العليا عليه وعلى غيره من علماء الفرقة الناجية ما يستحقّ به الثناء الجميل ومزيد التعظيم والتبجيل لا الذمّ والنسبة إلى تخريب الدين، كما اجترأ به قلمه عليه رحمه الله وعلى غيره من المجتهدين» «1» (انتهى).

وأمّا علم الفقه نفسه، أي ممارسة الفقه فقد يتوهّم أنّه لا معنى لكونه من مباني الاجتهاد من باب أنّه يكون غاية لغيره وذا المقدّمة بالنسبة إلى سائره، ولكن قد مرّ كراراً أنّ ملكة الاجتهاد لا تتحقّق إلّابالتمرين والممارسة في الفقه كما في غالب العلوم، وهى تحصل أوّلًا: بتطبيق الاصول على الفروع، وثانياً: بردّ الفروع إلى الاصول، فإذا سئل عنه مثلًا عن رجل صلّى الظهرين وهو يعلم إجمالًا بأنّه كان في أحدهما فاقداً للطهارة، فليعلم أنّه هل يجب عليه الاحتياط فيكون المورد من موارد تطبيق قاعدة الاحتياط، أو أنّه من موارد تطبيق قاعدة 6565 الفراغ؟ وأنّه هل يكون الترتيب بين الظهر والعصر ترتيباً واقعيّاً، أو لا؟ فيكفي إتيان صلاة رباعية بقصد ما في الذمّة، أو سئل عمن صار مستطيعاً وقد استُؤجر سابقاً لمناسك الحجّ فهل يبطل عقد الإجارة أو لا؟ من باب عدم كونه مستطيعاً شرعاً والممنوع شرعاً كالممنوع عقلًا، وهكذا ... إلى سائر الفروعات والمسائل.

وأمّا علم المنطق، فقد يقع الشكّ في الحاجة إليه، لأنّ المقدار اللازم منه أمر فطري لكلّ انوار الأصول، ج 3، ص: 560

إنسان فإنّ عمدة المنطق إنّما هى الأشكال

الأربعة، وجلّ استدلالات الناس (لولا كلّها) ترجع إلى الشكل الأوّل، وقد ذكروا أنّه بديهي الإنتاج، وأمّا السائر المسائل فقلّما يتّفق الحاجة إليها في الفقه، نعم الإحاطة ببعض المصطلحات فيها ربّما توجب سهولة الأمر في بيان الاستدلالات، كالإحاطة بالنسب الأربعة والكلّيات الخمس والوَحَدات المعتبرة في التناقض وغيرها.

وهكذا الفلسفة، فلا دخل لها بعلم الفقه لأنّها تبحث عن الامور الحقيقيّة، بينما الفقه يبحث عن الاعتباريات، نعم يمكن أن يقال: أنّ لها تأثيراً في الفقه من باب تأثيرها في علم الكلام فليس لها دخل مباشرة وبلا واسطة.

هذا- وقد أوجد الخلط بين مسائلها ومسائل اصول الفقه غوامض وتعقيدات كثيرة قد أشرنا إلى بعضها في بعض الأبحاث السابقة، ومن تلك المسائل الفلسفية التي أوردوها في الاصول قاعدة الواحد، مع أنّه قد قرّر في محلّه أنّها مختصّة بالواحد البسيط الحقيقي، ولا مساس لها بالاعتباريات، ومنها قاعدة عدم جواز الجمع بين النقيضين في باب إجتماع الأمر والنهي، مع أنّه أيضاً يتكلّم عن الحسن والقبح في الاعتباريات لا عن الإمكان والاستحالة في الحقائق، ولا استحالة في اعتبار النقيضين، ومنها تنزيلهم الحكم والموضوع بمنزلة العرض والمعروض وإسراء أحكامهما عليهما، ومنها أحكام العلّة والمعلول في باب الواجب المشروط وباب تداخل الأسباب الشرعيّة.

نعم، قد يلزم البحث عنها في عصرنا هذا للمنع عن هذا التداخل.

وأمّا علم المعاني والبيان فغاية ما قد يقال في تأثيره في الاستنباط والاجتهاد: أنّ من المرجّحات في الخبرين المتعارضين البلاغة والفصاحة، مع أنّ الصحيح أنّهما ليسا من المرجّحات، لأنّ كلمات الأئمّة المعصومين عليهم السلام مختلفة، قسم منها عبارة عن الخطب والمواعظ، وقد أعملوا فيها قواعد الفصاحة والبلاغة وبدائعها، نظير خطب نهج البلاغة وأدعية الصحيفة السجّادية وأشباهها.

وقسم آخر صدر لبيان الأحكام الفرعيّة والمسائل العمليّة، فلم

يصدر عنهم صلوات اللَّه عليهم ببدائع الفصاحة والبلاغة كما لا يخفى على الخبير، وفي الواقع القسم الأوّل نظير الآيات القرآنية، بينما يكون القسم الثاني شبيه الأحاديث القدسية الإلهيّة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 561

هذا مضافاً إلى ما قد مرّ سابقاً من وجوب الاقتصار على المرجّحات المنصوصة (وليس هذا منها).

نعم، هيهنا أبحاث من علم المعاني والبيان كمسألة تقديم ما حقّه التأخير، وأبواب المجاز والحقيقة والكنايات والاستعارات، يكون لها دخل في فهم الأحكام عن الأدلّة اللفظيّة، ولكنّها مسائل يبحث عنها في علم الاصول أيضاً، وأمّا غيرها من سائر مسائل هذا العلم فلا أثر لها في الاستنباط، نعم قد يقال: إنّ لها أثراً مع الواسطة من حيث دخلها في تبيين كون كتاب اللَّه معجزة خالدة.

بقي هنا أمران:

الأوّل: لا شكّ في أنّ القواعد الفقهيّة لها دور عظيم في استنباط الأحكام الفرعيّة، ولعلّ عدم ذكرها في العلوم التي يبتني عليها الاستنباط من باب عدّهم إيّاها من الفقه نفسه، ولكن قد ذكرنا في محلّه أنّها علم برأسه وليست من اصول الفقه، كما أنّها ليست من الفقه نفسه فراجع «1».

الثاني: لا ينبغي الشكّ في أنّ للزمان والمكان دخلًا في الاجتهاد.

وتوضيحه: أنّ لكلّ حكم موضوعاً، والمعروف في الألسنة أنّ تشخيص الموضوع ليس من شؤون الفقيه، ولكن الصحيح أنّه لا يمكن للفقيه تجريد الذهن وتفكيك الخاطر عنه، فإنّ لموضوعات الأحكام مصاديق معقّدة غامضة لا يقدر العوام على تشخيصها، بل لابدّ للفقيه تفسيرها وتبيين حدودها وخصوصياتها، كما يشهد على ذلك أنّ كثيراً من الفروعات المعنونة في الكتب الفقهيّة (كالمبسوط للشيخ، والقواعد للعلّامة، والعروة الوثقى للسيّد اليزدي رحمهم الله) هى من هذا القبيل.

وإن شئت قلت: إن كان المراد من الموضوع في المقام هو الموضوعات الجزئيّة، أي مصاديق الموضوعات

الكلّية للأحكام، كمصاديق الدم والخمر والماء المطلق والمضاف انوار الأصول، ج 3، ص: 562

وغيرها فإنّه كذلك، أي ليس تشخيصها من شؤون الفقيه، وأمّا إن قلنا بأنّ المراد منه هو نفس الموضوعات الكلّية الواردة في لسان الأخبار فلا إشكال في أنّ تشخيصها وتعيين حدودها من شؤون الفقيه.

وبعبارة أدقّ: أنّ هذا القسم من الموضوعات- في الواقع- يستنبطها الفقيه بإرتكازه العرفي، ويستخرجها ويأخذها من بين العرف بما أنّه من أهل العرف، ثمّ يرجعها إلى العرف ويجعلها بأيديهم بعد تفسير الخصوصيات وتبيين حدودها، وإن شئت فانظر إلى فتاوي الفقهاء مثلًا في ما يصحّ السجود عليه، فقد ورد في الدليل أنّه يجوز السجود على الأرض وما يخرج منها إلّاما أكل وما لبس، فهذا عنوان عرفي، وقد تكلّم فقهاؤنا رضوان اللَّه عليهم في مصاديقه وأنّه أي شي ء يعدّ من المأكول والملبوس وأي شي ء لا يعد منهما فقد يكون هناك مصاديق لا يقدر العرف على تشخيص أنّها منهما أو ليست منهما، ولذا أورد المحقّق اليزدي رحمه الله في هذا الباب من العروة الوثقى فروعاً كثيرة لتبيين هذه المصاديق المشتبهة كجواز السجود وعدمه على الامور التالية:

1- الأدوية والعقاقير كلسان الثور.

2- قشر الفواكه.

3- تفالة الشاي.

4- نخالة الحنطة.

5- نواة الفواكه.

6- ورق الكرم بعد اليبوسة وقلبها.

7- ما يؤكل في بعض الأوقات دون بعض.

8- ما هو مأكول في بعض البلاد دون بعض.

9- النبات الذي ينبت على وجه الماء (فهل هو داخل في عنوان «ما أنبته الأرض» الوارد في الرواية أو لا؟).

10- التنباك ... إلى غير ذلك من أشباهها.

إن قلت: كيف يكون رجوع العوام إلى الفقيه في هذا القسم من المصاديق من قبيل رجوع الجاهل إلى العالم؟ أي كيف تشملها أدلّة التقليد؟

انوار الأصول، ج 3، ص: 563

قلنا: إنّ أدلّة التقليد

تشملها ويكون الرجوع فيها من قبيل رجوع الجاهل إلى العالم من باب أنّه ليس لها متخصّص وخبير غير الفقيه، نعم لو كانت هناك موضوعات يكون لها في العرف خبراء معروفون يجب الرجوع إليهم دون الفقيه.

ومن الأمثلة التي يمكن أن تذكر في هذا المجال عنوان النظر المحرّم إلى الأجنبيّة فإنّه أيضاً من الموضوعات المشكلة من باب أنّ لها مصاديق معقّدة مبهمة، فهل يصدق على النظر إلى تصوير الأجنبي في المرآة مثلًا أو الماء الصافي أو في تلفزيون عنوان النظر إلى الأجنبية أو لا؟

هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى نعلم أنّ الأحكام تابعة لموضوعاتها متابعة الظلّ لذي الظلّ وقد يتبدّل الموضوع بتبدلّ الزمان أو المكان، فترى الماء في المفازة والصحاري مالية فيجوز بيعه فيها، بينما لا يكون له مالية على الشاطى ء، فيبطل بيعه (هذا من قبيل دخل المكان في الموضوع) وترى الشيخ رحمه الله يجوّز بيع الثلج في الصيف دون الشتاء لكونه مالًا في الأوّل دون الثاني (وهذا من قبيل دخل الزمان في الموضوع).

ومن أمثلتها الواضحة في يومنا هذا الدم الذي كان بيعه وشراؤه حراماً في الأزمنة السابقة باعتبار عدم وجود منفعة محلّلة معتدّ بها له. ولكن الآن لا إشكال في جواز بيعه وشرائه لما له من منافع محلّلة مقصودة، حيث لا تنحصر منافعه في الأكل المحرّم أو الصبغ الذي يعدّ من المنافع النادرة، فإنّ الدم في يومنا هذا عنصر حياتي يمكن به إنقاذ نفس إنسان من التهلكة، ولذا تكون له ماليّة عظيمة محلّلة معتدّ بها لنجاة المصدومين والجرحى وكثير من المرضى، لا سيّما في العمليات الجراحيّة فلِما لا يجوز بيعه في زماننا والحال هذا؟ وكذا بيع الكُلْية وشرائها لنجاة بعض المرضى الذين فسدت كِليَتهم، مع أنّها

بعد فصلها عن صاحبها تكون بحكم الميتة، ولا سيّما أنّها من غير المأكول، فلم يكن بيعها في الأزمنة السابقة جائزاً لعدم منفعة محلّلة لها، ولكن الآن جاز بيعها في زماننا هذا لتغيّر الموضوع وتبدّله، ولذا يشترونها بالأثمان الغالية جدّاً (نعم قد يقال: إنّها وإن جاز بيعها من هذه الناحية أي كونها ذات منفعة محلّلة مقصودة، ولكن لا يجوز بيعها من باب حرمة بيع الميتة من كلّ شي ء وإن كان لها منفعة مقصودة، للنصوص الخاصّة الواردة فيها، فالواجب حينئذٍ عدم جواز أخذ الثمن في مقابل نفسها بل في مقابل إجازه التصرّف في بدن صاحب الكِلوة فتأمّل جيّداً).

ومن أمثلتها في عصرنا ما قد يقال في مسألة تقليل المواليد وأنّها كانت مرجوحة في انوار الأصول، ج 3، ص: 564

الأعصار السابقة، بينما هى راجحة في زماننا، لا أقلّ في بعض البلاد التي تكون كثرة النفوس فيها موجبة للفقر الشديد والتأخّر والمفاسد الأخلاقيّة العظيمة.

فإنّ ما ورد في الترغيب على تكثير النسل والمواليد كالنبوي المعروف: «تناكحوا تكثروا فإنّي اباهى بكم الامم يوم القيامة ولو بالسقط» «1» ناظرة إلى الأعصار السابقة التي كانت كثرة النفوس فيها سبباً للقدرة والسلطة، فما كان من الجوامع الإنسانيّة أكثر نفراً كان أشدّ قدرة وأكثر قوّة كما يشهد عليه قوله تعالى: «كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَاداً» «2»

. وقوله تعالى: «وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَاداً» «3»

، وقوله تعالى: «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ» «4»

وقوله تعالى: «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ... وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ» «5»

فهذه الآيات تدلّ بظاهرها على أنّ كثرة الأولاد كانت موجبة للقدرة والشوكة كما كانت كثرة الأموال أيضاً كذلك، ومثل النبوي المعروف قد ورد في مثل هذا الظرف

من المجتمع الإنساني، فهذه الخصيصة الاجتماعية الموجودة في عصر صدوره تكون بمنزلة قرينة لبّية قد توجب انصرافه إلى خصوص ذلك الزمان، وهذه الدعوى وإن لم تكن ثابتة بالقطع واليقين، ولكنّها قابلة للدقّة والتأمّل.

فقد ظهر ممّا ذكر دخل الزمان والمكان في الاجتهاد والاستنباط لكن لا على نحو دخلهما في الحكم بلا واسطة بل من طريق دخلهما في الموضوع، فإنّ الأحكام ثابتة إلى الأبد، «وحلال محمّد صلى الله عليه و آله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة»، والمتغيّر على مرّ الدهور والأزمان، والمتبدّل في الأمكنة والأقطار إنّما هو الموضوعات، وبتبعها تتغيّر الأحكام قهراً.

الأمر السادس: التخطئة والتصويب
اشارة

والمراد من التخطئة أنّه عند اختلاف الآراء لا يكون الصواب إلّاواحد منها فيكون الباقي خطأً، وبعبارة اخرى: أنّ للَّه تعالى في كلّ واقعة حكماً يشترك فيه الكلّ، العالم والجاهل، فمن أصابه أصابه ومن أخطأه أخطأه.

والمراد من التصويب أنّه عند اختلاف الآراء كلّها أحكام اللَّه وكلّها صواب.

والتحقيق في المسألة يستدعي رسم امور:

الأمر الأوّل: لا إشكال ولا كلام في بطلان التصويب في الأحكام العقليّة الحقيقيّة والمحسوسة فيكون الرأي الصحيح فيها واحداً بالإجماع، كما إذا وقع الاختلاف بين المنجّمين في عدد سيّارات المنظومة الشمسية أو بين الأطباء في تشخيص كيفية مرض زيد مثلًا وتعيين الدواء له، والوجه في ذلك أنّ الواقع شي ء واحد فلا يمكن إنقلابه إلى مؤدّى آراء المجتهدين، ولا فرق بين أن يكون متعلّق الحكم من الجواهر والأعراض كالمثالين المذكورين أو من الامور نفس الآمرية كاستحالة الجمع بين الضدّين (حيث إنّه لا يكون لا من الاعتباريات ولا من الامور الخارجيّة التكوينيّة).

نعم نقل عن عبداللَّه بن حسن العنبري التصويب في العقليات أيضاً (على ما حكي عن كتاب اصول الأحكام للآمدي والمستصفى للغزالي) ولا توجيه

لكلامه إلّاأنّ الفقيه معذور، فلو حكم فقيه بكرّية هذا الماء وفقيه آخر بعدم كريّته، أو حكم أحدهما بطلوع الفجر والآخر بعدمه فلا إشكال في عدم كون كليهما صادقين بل كلّ منهما معذور في حكمه ولا عقاب عليه على فرض خطئه إذا لم يكن مقصّراً.

الأمر الثاني: ينقسم التصويب في الشرعيات إلى أربعة أقسام:

1- ما هو باطل عقلًا.

2- ما ليس بباطل عقلًا ولكن يكون مجمعاً على بطلانه.

3- ما ليس بباطل عقلًا ولا مجمعاً على بطلانه ولكن الأقوى بطلانه.

4- ما يكون خارجاً عن هذه الأقسام الثلاثة ولا إشكال في صحّته.

أمّا التصويب الباطل عقلًا (أي القسم الأوّل) فهو إنّ اللَّه ينشأ أحكاماً إلهيّة على وفق آراء المجتهدين بعد اجتهادهم، والوجه في بطلانه عند العقل أنّه لابدّ للطلب من مطلوب، فلو

انوار الأصول، ج 3، ص: 566

كان اللَّه تعالى يجعل الحكم بعد اجتهاد المجتهد، والمجتهد يطلب في استنباطه حكم اللَّه الواقعي فما هو مطلوبه؟

وبعبارة اخرى: يستلزم منه الدور المحال لأنّ اجتهاد المجتهد متفرّع على وجود حكم قبله، والمفروض أنّ الحكم أيضاً متوقّف على اجتهاده، وقد يسمّى هذا بتصويب الأشعري، وليس بذلك، كما سيأتي بيانه.

وأمّا القسم الثاني: (وهو ما يكون مجمعاً على بطلانه) فهو أنّ اللَّه تعالى ينشى ء أحكاماً عديدة بعدد آراء المجتهدين قبل اجتهادهم، فيكون كلّ مجتهد طالباً في استنباطه لحكمه الذي جعله اللَّه تعالى في حقّه، وهذا وإن لم يكن محالًا عقلًا ولكنّه مجمع على بطلانه عند الإمامية، حيث إنّهم يعتقدون أنّ لكلّ واقعة حكماً واقعياً واحداً للعالم والجاهل، أصابه المجتهد أو لم يصيبه، وقد يسمّى هذا بتصويب المعتزلي وليس بذلك، كما سيأتي بيانه أيضاً.

وأمّا القسم الثالث: فهو أن يكون حكم اللَّه تعالى في مقام الإنشاء واحداً ولكنّه متعدّد في مقام

الفعليّة لأنّ طرقه الشرعيّة متعدّدة ويكون كلّ طريق سبباً لإيجاد المصلحة في مؤدّاه فيكون منشأ التعدّد في الأحكام الفعلية هو القول بسببيّة الأمارات، وقد مرّ أنّ الصحيح المختار بطلان السببيّة، وأنّ المستفاد من أدلّة حجّية الأمارات إنّما هو الطريقيّة فحسب، فالأقوى بطلان هذا القسم وإن لم يكن باطلًا عقلًا ولا مجمعاً على بطلانه.

وأمّا القسم الرابع: فهو التصويب في الأحكام الظاهريّة الذي يوافق مبنى القائلين بأنّ أدلّة حجّية الأمارات وإن لم تكن سبباً لإيجاد المصلحة ولكنّها توجب جعل حكم ظاهري مماثل كما هو المختار، وهو الظاهر من كلمات المشهور وفتاواهم، وقد يكون في سلوك هذه الطرق مصالح أهمّ من المصالح الواقعيّة التي تفوت من المكلّف وهذا ما يعبّر عنه بالمصلحة السلوكيّة.

هذا هو المختار في معنى الطريقيّة، وهناك قول آخر بأنّ المراد من الطريقيّة هو جعل المنجّزية والمعذّرية مع القول بالمصلحة السلوكيّة، وعلى كلّ حال يكون القول بالطريقيّة خارجاً عن التصويب بأي معنى فرض كما سيأتي.

الأمر الثالث: في أنّ هذا التقسيم الرباعي ناشٍ من وقوع خلط في معنيي الاجتهاد، وهو الخلط بين الاجتهاد بالمعنى العام والاجتهاد بالمعنى الخاصّ، وإلّا يكون التقسيم ثلاثياً.

انوار الأصول، ج 3، ص: 567

توضيح ذلك: قد مرّ أنّ الاجتهاد بالمعنى العام هو استنباط الحكم عن أدلّته التفصيليّة وأنّ الاجتهاد بالمعنى الخاصّ هو تقنين المجتهد وتشريعه فيما لا نصّ فيه، ولا إشكال في عدم لزوم التصويب المحال بناءً على الاجتهاد بالمعنى الخاصّ لأنّه ليس فيما لا نصّ فيه حكم على زعمهم حتّى يقال بأنّه لابدّ للطلب من مطلوب، وقد نصّ على ذلك الغزالي في مستصفاه، وقال: «إنّه ليس في الواقعة التي لا نصّ فيها حكم معيّن يطلب بالظنّ، بل الحكم يتبع الظنّ، وحكم اللَّه تعالى على

كلّ مجتهد ما غلب على ظنّه، وهو المختار، وإليه ذهب القاضي، وذهب قوم من المصوّبة إلى أنّ فيه حكماً معيّناً يتوجّه إليه الطلب، إذ لابدّ للطلب من مطلوب، لكن لم يكلّف المجتهد إصابته، فلذلك كان مصيباً وإن أخطأ ذلك الحكم المعيّن الذي لم يؤمر بإصابته، بمعنى أنّه أدّى ما كلّف فأصاب ما عليه» «1».

وقد نسب مؤلّف الاصول العامّة القول الأوّل إلى محقّقي المصوّبة، وقال بعد ذلك: «وقد عرف القسم الأوّل من التصويب على ألسنة بعض الباحثين من الاصوليين بالتصويب الأشعري كما عرف القسم الثالث بالتصويب المعتزلي» «2».

فظهر أنّه بناءً على ما ذهب إليه مشاهير المصوّبة أنّه لا موضوع للقسم الأوّل من التصويب فيكون التقسيم ثلاثيّاً، نعم أنّه رباعي بناءً على قول غيرهم، كما ظهر أنّ التصويب الأشعري هو هذا المعنى المنسوب إلى مشاهير المصوبة، لا ما مرّ من القسم الأوّل، وأنّ التصويب المعتزلي هو نفس ما عليه المخطئة لا القسم الثاني من الأقسام الأربعة السابقة.

والحاصل أنّ الاشتباه في دعوى إستحالة القسم الأوّل من التصويب نشأ من توهّم كون المراد من الاجتهاد هو الاجتهاد بالمعنى المعروف، أي استفراغ الوسع في كشف الحكم الشرعي عن أدلّتها، بينما ليس مرادهم ذلك، بل الاجتهاد عندهم هو استفراغ الوسع في طلب المصالح والفاسد وتشريع الأحكام على وفقها من ناحية المجتهد فليس هناك حكم واقعي يطلبه المجتهد حتّى يلزم المحال.

ثمّ إنّ للغزالي هنا في توجيه نظره كلاماً حاصله ما يلي: الكلام الكاشف للغطاء رحمه الله عن هذا الكلام المبهم هو أنّا نقول: المسائل منقسمة إلى ما ورد فيها نصّ وما لم يرد، أمّا ما ورد فيه انوار الأصول، ج 3، ص: 568

نصّ، فالنصّ كأنّه مقطوع به من جهة الشرع، لكن لا يصير

حكماً في حقّ المجتهد إلّاإذا بلغ وعثر عليه، وأمّا إذا لم يبلغه ولم يعثر عليه فليس هو حكماً في حقّه إلّابالقوّة، لأنّ الحكم الفعلي عبارة عن النصّ البالغ المعثور عليه، وأمّا ما لم يرد فيه نصّ فيعلم أنّه لا حكم فيها لأنّ حكم اللَّه تعالى خطابه، وخطابه يعرف بأن يسمع من الرسول أو يدلّ عليه دليل قاطع من فعل النبي صلى الله عليه و آله أو سكوته، فإذا لم يكن خطاب لا مسموع ولا مدلول عليه فكيف يكون فيه حكم؟ «1».

أقول: إنّ هذا التقسم قد نشأ من الخلط بين مراتب الحكم الثلاثة:

مرتبة الجعل، وهى مرحلة الإنشاء، نظير ما يصوّب في مجالس التقنين في زماننا هذا قبل الإبلاغ إلى الدولة والموظفين للإجراء، فإنّه وإن كان مصوباً في هذه المجالس ولكن لا يكلّف المواطنون بالعمل به إلّابعد إبلاغه رسميّاً إلى الدولة.

ومرحلة الفعليّة وهى مرحلة الإبلاغ والبعث أو الزجر فيلزم العمل على طبقه.

ومرحلة التنجيز، وهى مرحلة استحقاق العقاب في صورة ترك العمل، وهى لا تشمل الجاهل القاصر أو العالم العاجز عن العمل به وأمثالهما.

في بطلان القسم الأوّل من التصويب (التصويب الأشعري)
اشارة

إذا عرفت هذه الامور الثلاثة فاعلم: أنّ الحقّ بطلان التصويب بالمعنى الذي اشتهر بين المصوّبة (أي التصويب الأشعري) لأنّ هذا المعنى من التصويب يبتني على أمرين:

1- وجود وقائع خالية عن الحكم.

2- أن يكون اختيار التقنين بيد الفقيه فيكون من شؤون الفقيه جعل الحكم وتقنين الأحكام فيما لا حكم فيه، ذلك الأمر الذي يعبّر عنه أخيراً بالتشريع الإسلامي، والذي يذكر له مصادر ومنابع.

وكلا الأمرين قابل للمناقشة والمنع:

انوار الأصول، ج 3، ص: 569

أمّا الأمر الأوّل: فلما مرّ في بيان بطلان الاجتهاد بمعنى التشريع والتقنين من ناحية المجتهد إجمالًا، وتفصيله: إنّا نقول: كلّ ما يحتاج إليه الامّة إلى

يوم القيامة فقد ورد فيه حكم، والدليل عليه:

أوّلًا: كتاب اللَّه الكريم أي قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي» «1»

، وقوله تعالى: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْ ءٍ» «2»

وقوله تعالى: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «3»

، فلو كانت بعض الوقائع خالية عن الحكم لما كان الدين كاملًا، والنعمة تامّة، ولم يكن الكتاب تبياناً لكلّ شي ء (لأنّه لو لم يكن تبياناً للمسائل الجزئيّة الخارجيّة كمسائل العلوم الفلكيّة والطبيعيّة ونحوهما فلا أقلّ من كونه تبياناً للمسائل الكلّية الشرعيّة)، بل كان الدين ناقصاً فاستعان سبحانه (العياذ باللَّه) من خلقه على إتمامه وإكماله، ولزم من ذلك مفاسد جمّة سنشير إليها.

وثانياً: الروايات الكثيرة الواردة من ناحية أئمّة أهل البيت عليهم السلام، وهى على طوائف أربعة:

الطائفة الاولى: حديث الثقلين الذي تواتر نقله بين الفريقين، فإنّه روى باسناد عديدة في الكتب المعروفة من الشيعة وأهل السنّة، وينبغي نقل واحدٍ منها من باب التيمّن والتبرّك، وهو ما ورد في صحيح الترمذي قال: «حدّثنا نصر بن عبدالرحمن الكوفي حدّثنا زيد بن الحسن وهو الأنماطي عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جابر بن عبداللَّه قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في حجّته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب فسمعته يقول: ياأيّها الناس إنّي قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي» «4».

ومن أراد الوقوف على مجموعها فليراجع إلى جامع أحاديث الشيعة، ج 1، الباب 4، ح 189 إلى ح 209.

ولا إشكال في أنّه نصّ على كفاية الرجوع إلى كتاب اللَّه والعترة ليؤمن عن الخطأ ولا

انوار الأصول، ج 3، ص: 570

يكون الضلال في شي ء، ولازمه عدم خلوّ الوقائع عن الأحكام الإلهيّة كما لا

يخفى.

الطائفة الثانية: ما تدلّ على أنّ للَّه في كلّ واقعة حكماً يشترك فيه جميع الامّة، وقد نقلها الكليني رحمه الله في المجلّد الأوّل من اصول الكافي في باب «الردّ إلى الكتاب والسنّة وأنّه ليس شي ء من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج إليه إلّاوقد جاء فيه كتاب أو سنّة»، والشيخ الحرّ العاملي رحمه الله في المجلّد الثاني عشر من كتاب الوسائل الباب 12 من أبواب صفات القاضي وهى روايات كثيرة:

منها: ما رواه عمر بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال سمعته يقول: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى لم يدع شيئاً يحتاج إليه الامّة إلّاأنزله في كتابه وبيّنه لرسوله صلى الله عليه و آله وجعل لكلّ شي ء حدّاً وجعل عليه دليلًا يدلّ عليه، وجعل على تعدّي ذلك الحدّ حدّاً» «1».

ومنها: ما رواه حمّاد بن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سمعته يقول: «ما من شي ء إلّاوفيه كتاب أو سنّة» «2».

ومنها: ما رواه المعلّى بن خنيس قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «ما من أمر يختلف فيه إثنان إلّا وله أصل في كتاب اللَّه عزّوجلّ، ولكن لا تبلغه عقول الرجال» «3» (أي لابدّ أن يسأل من الأئمّة المعصومين خلفاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله).

ومنها: ما رواه سماعة عن أبي الحسن الموسى عليه السلام قال: «قلت له: أكلّ شي ء في كتاب اللَّه وسنّة نبيّه صلى الله عليه و آله أو تقولون فيه؟ قال: بل كلّ شي ء في كتاب اللَّه وسنّة نبيّه صلى الله عليه و آله» «4».

ومنها: ما ورد في حديث حجّة الوداع: «ياأيّها الناس: واللَّه ما من شي ء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النار إلّاوقد أمرتكم به، وما من شي ء يقرّبكم من النار ويباعدكم من الجنّة إلّا وقد

نهيتكم عنه» «5».

ومنها: ما رواه مسعدة بن صدقة عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: أيّها

انوار الأصول، ج 3، ص: 571

الناس ... (إلى أن قال): ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق لكم، أخبركم عنه: أنّ فيه علم ما مضى وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة، وحكم ما بينكم وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون فلو سألتموني عنه لعلّمكتم» «1».

ومنها: ما رواه سليمان بن هارون قال: «سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: ما خلق اللَّه حلالًا ولا حراماً إلّاوله حدّ كحدّ الدار ... حتّى أرش الخدش فما سواه والجلدة ونصف الجلدة» «2».

ومنها: ما رواه مرازم عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كلّ شي ء حتّى واللَّه ما ترك اللَّه شيئاً يحتاج إليه العباد، حتّى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا أُنزل في القرآن إلّاوقد أنزله اللَّه فيه» «3».

إلى غير ذلك من أشباهها ونظائرها، وقد نقل جملة منها (ثماني روايات) المحدّث البحراني أيضاً في تفسير البرهان (المجلّد الأوّل ص 14) فراجع.

ولا يخفى أنّ المستفاد من هذه الطائفة أنّ للَّه في كلّ واقعة حكماً يشترك فيه العالم والجاهل، وعلى هذا المعنى، التواتر المعنوي من الروايات (لا اللفظي كما هو ظاهر بعض الكلمات).

الطائفة الثالثة: روايات متظافرة تدلّ على وجود كتاب عند الأئمّة المعصومين عليهم السلام كان بإملاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وخطّ علي عليه السلام فيه كلّ ما يحتاج إليه الامّة إلى يوم القيامة حتّى إرش الخدش، وكان يسمّى بالجامعة.

منها: ما رواه بكر بن كرب الصيرفي قال: «سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: إنّ عندنا ما لا نحتاج معه إلى الناس، وإنّ الناس ليحتاجون إلينا، وإنّ عندنا كتاباً

إملاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وخطّ علي عليه السلام، صحيفة فيها كلّ حلال وحرام» «4».

ومنها: ما رواه عبداللَّه بن ميمون عن جعفر عن أبيه قال: «في كتاب علي عليه السلام كلّ شي ء

انوار الأصول، ج 3، ص: 572

يحتاج إليه حتّى الخدش والأرش والهرش» «1».

وفي مجمع البحرين: «والأرض ما يأخذه المشتري من البائع إذا اطّلع على عيب في المبيع، والخدش تفرّق اتّصال في الجلد أو الظفر أو نحو ذلك وإن لم يخرج الدم خَدَشَه خدشاً إذا جرحه في ظاهر الجلد».

وفي مقاييس اللغة: «الهاء والراء والشين (هرش) هى مهارشة الكلاب، تحريش بعضها على بعض».

ومنها: ما رواه أبو بصير عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال سمعته يقول: «وذكر ابن شبرمة في فتياه، فقال: أين هو من الجامعة أملى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وخطّه علي عليه السلام بيده، فيها جميع الحلال والحرام حتّى ارش الخدش فيه» «2».

ومنها: ما رواه جعفر بن بشير عن رجل عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «ما ترك علي عليه السلام شيئاً إلّا كتبه حتّى ارش الخدش» «3».

ومنها: ما رواه علي بن سعيد قال سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: «أمّا قوله في الجفر إنّما هو جلد ثور مدبوغ كالجراب، فيه كتب وعلم ما يحتاج إليه إلى يوم القيامة من حلال وحرام، إملاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وخطّ علي عليه السلام» «4».

وفي مجمع البحرين: «الجراب بالكسر وعاء من إهاب شاة يوعى فيه الحبّ والدقيق ونحوها».

الطائفة الرابعة: روايات متظافرة أيضاً تحكم بالاحتياط والوقوف عند الشبهات حتّى في موارد الشكّ في الحكم، وتأمر بوجوب الفحص والسؤال عند عدم العلم بحكم اللَّه الواقعي، فإنّها تدلّ بالملازمة على وجود حكم واقعي في

كلّ واقعة كما لا يخفى.

منها: ما رواه عبدالرحمن بن الحجّاج قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجلين أصابا

انوار الأصول، ج 3، ص: 573

صيداً وهما محرّمان، الجزاء بينهما أو على كلّ واحد منهما جزاءً؟ قال: لا، بل عليهما أن يجزي كلّ واحد منهما الصيد، قلت: إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه، فقال: إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا عنه فتعلموا» «1».

ومنها: ما رواه جميل بن صالح عن الصادق عليه السلام (وهو معروف بحديث التثليث) عن آبائه عليهم السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في كلام طويل: الامور ثلاثة: أمر تبيّن رشده فاتّبعه، وأمر تبيّن لك غيّه فاجتنبه، وأمر اختلف فيه فردّه إلى اللَّه عزّوجلّ» «2».

ومنها: ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام ما حجّة اللَّه على العباد؟ قال: أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند ما لا يعلمون» «3».

وغير ذلك من أشباهها «4»، ومفاد جميعها عدم خلوّ الواقعة عن الحكم الشرعي ولذا لابدّ من الاحتياط حتّى يسأل عن الإمام المعصوم عليه السلام.

وممّا ينبغي جدّاً ذكره في هذا المقام ما مرّ كراراً من خطبة أمير المؤمنين عليه السلام في الذمّ على الرأي والاجتهاد، وهو قوله عليه السلام: «ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثمّ ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله، ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي إستقضاهم فيصوّب آراءهم جميعاً وإلههم واحد، ونبيّهم واحد، وكتابهم واحد، أفأمرهم اللَّه سبحانه بالإختلاف فأطاعوه، أم نهاهم عنه فعصوه؟ أم أنزل اللَّه سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه، أم كانوا شركاء له،

فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل اللَّه سبحانه ديناً تامّاً فقصّر الرسول صلى الله عليه و آله عن تبليغه وأدائه، واللَّه سبحانه يقول: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْ ءٍ» وفيه «تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ»» «5».

هذا كلّه ما ورد من طرق الخاصّة، وقد ورد من طرق العامّة أيضاً ما يوافق مذهب التخطئة وأنّ للَّه تعالى في كلّ واقعة حكم.

منها: ما رواه الترمذي عن أبو هريرة عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «إذا حكم الحاكم فاجتهد

انوار الأصول، ج 3، ص: 574

فأصاب فله أجران، وإذا حكم فأخطأ فله أجر واحد» «1».

ومنها: ما ورد في الدرّ المنثور قال: «سئل أبو بكر عن الكلالة فقال: إنّي سأقول فيها برأي فإن كان صواباً فمن اللَّه وحده، لا شريك له، وإن كان خطأً فمنّي ومن الشيطان واللَّه عنه بري ء» «2».

إلى غير ذلك من نظائرهما.

فقد ظهر ببركة هذه الآيات والروايات الكثيرة بطلان الأمر الأوّل، وهو أنّ ما لا نصّ فيه لا حكم فيه.

أمّا الأمر الثاني: وهو جواز إعطاء حقّ التقنين بيد الفقيه، ففيه: أنّه دعوى بلا دليل، بل اللازم في ما لا يوجد فيه نصّ خاصّ على حكم إلهي هو الرجوع إلى الأحكام الظاهريّة المتّخذة من الاصول العمليّة (البراءة والاحتياط والاستصحاب والتخيير، كلّ في مورده).

نعم، أنّه يوجب لأهل السنّة الذين أعرضوا عن الثقل الأصغر، الدخول في هرج شديد لخلوّ كثير من الوقايع عن الحكم عندهم، وهذه نتيجة الإعراض عن العمل بحديث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حديث الثقلين.

وينبغي هنا أوّلًا: الإشارة إلى ما دفعهم إلى القول بالتصويب، وثانياً: إلى المفاسد التي تترتّب على القول بالتصويب.

1- أسباب السقوط في هوّة التصويب

إنّ هناك اموراً دفعتهم إلى القول بالتصويب:

أحدها: قلّة الروايات التي يمكن الإستناد إليها في

استنباط الأحكام الشرعيّة عندهم، وذلك نشأ من عدم قبولهم الخلافة التي نصّ بها الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله طيلة رسالته الشريفة

انوار الأصول، ج 3، ص: 575

كراراً، حيث إنّه أوجب حصر الطريق إلى النبي صلى الله عليه و آله في الصحابة، والإعراض عن عترته الطاهرة، حتّى بمقدار كونهم طرقاً معتبرة إلى النبي صلى الله عليه و آله، فإذا إنضمّ هذا إلى ورود مجعولات كثيرة في الروايات المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه و آله الذي يطلب بالطبع الجرح والتعديل وطرح عدّة من الروايات، وهكذا إذا إنضمّ إلى المنع عن ضبط الأحاديث من زمن الخليفة الثاني إلى مقدار مائة عام- إستنتج منه تنزّل أخبار النبي صلى الله عليه و آله إلى أقلّ قليل، بحيث نقل أنّ الأحاديث الفقهيّة المعتبرة على زعمهم، الموجودة عند أبي حنيفة عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كانت محصورة في خمسة وعشرين حديثاً، ولذلك اضطرّوا أن يلوذوا بأقوال الصحابة من قبيل أبي هريرة وأنس، وبالقياسات والظنّيات ونحوهما والتصويب فيها.

ثانيها: إعتقادهم في مسألة الخلافة مع شدّة أهميتها بأنّ الرسول صلى الله عليه و آله فوّض أمرها إلى الامّة أي أهل الحلّ والعقد، فإنّه صلى الله عليه و آله إذا فوّض أمر الخلافة بتلك الأهميّة إلى الامّة ففي المسائل الفرعيّة بطريق أولى، ولازمه تصويب الامّة في آرائهم.

ثالثها: اعتقادهم بعدالة الصحابة وعدم خطئهم في الرأي، ولازمه صواب آراء جميعهم في صورة الاختلاف، وبالطبع تعدّد الحكم الواقعي بالإضافة إلى واقعة واحدة.

2- المفاسد المترتّبة على القول بالتصويب

لا خفاء في ما يترتّب على هذا القول من المفاسد العديدة في الفقه والمجتمع الإسلامي، وقد أشار إلى بعضها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته الشريفة التي مرّ ذكرها.

منها: الاعتراف بنقصان الدين

العياذ باللَّه، وهو نفس ما أشار إليه الإمام عليه السلام في خطبته.

ومنها: انسداد باب الاجتهاد، فإنّ قولهم بانسداد باب الاجتهاد وحصر جواز الفتوى عن الأئمّة الأربعة لهم إنّما نشأ من كثرة الفتاوي الحاصلة من الاجتهاد بالرأي، ووقوع الخلاف الشديد بين الناس باختيار بعض هذه الفتاوي، فقد ألجأهم ذلك إلى سدّ هذا الباب، لإزالة الخلاف، فصار مصداقاً للمثل المعروف: «كم أكلة منعت أكلات» (إذ كانت الأكلة الاولى سبباً للأمراض الموجبة للحرمان).

ومنها: وقوع الفوضى والهرج والمرج الفقهي والقضائي، لملازمته وجود آراء متضادّة ومتعدّدة بعدد المجتهدين في مسألة واحدة، بل إنّه أكثر فساداً وأسوأ حالًا من المجالس التقنينيّة

انوار الأصول، ج 3، ص: 576

في يومنا هذا، كما أشرنا إليه سابقاً في أوائل مبحث الاجتهاد والتقليد في الأمر الثاني (حيث إنّ أمر التشريع فيها إنّما هو بيد جماعة تسمّى بشورى التقنين لا فرد فرد من علمائهم ومتخصّصيهم، وهم يضعون لقطر من أقطار الأرض، والواضعون جماعة كثيرة من العقلاء، مندوبون عن الجماهير، بخلاف القول بالتصويب، لأنّهم قد يكون في بلد واحد، أو قرية من القرى مجتهدون متعدّدون، ويكون لكلّ واحد منهم رأي وتقنين على حسب ظنّه الشخصي).

وهذا هو الذي سبّب انسداد باب الاجتهاد في أواخر القرن الرابع من ناحية زعماء القوم بعد ما أحسّوا خطراً عظيماً، وهو اضمحلال الدين وهدم نظام الامّة، لاختلاف الآراء جدّاً، فحدّدوها في الأربعة المعروفة، وسدّوا باب الاجتهاد على السائرين.

وقد أشار إلى هذا المعنى في خلاصة التشريع الإسلامي فقال: إنّ سدّ باب الاجتهاد نشأ من أربعة عوامل:

الأوّل: توجّه العلماء إلى المسائل السياسيّة وانغمارهم فيها، وتخلّفهم عن المسائل العلميّة الفقهيّة، فاضطرّوا إلى القول بأنّ المجتهد والقادر على الاستنباط هم العلماء الأوّلون فحسب.

الثاني: تحزّب المجتهدين ودخول كلّ واحد منهم في

حزب وخطّ سياسي خاصّ فكان ينبغي على كلّ حزب الحصول على دليل من الروايات والآيات على حقّانية حزبه.

الثالث: تحاسد العلماء وظهور تصرفات سيّئة قبيحة في سلوكيات بعضهم حيث يتشبث بكلّ وسيلة دنيئة لتسقيط من انتهى إلى رأي جديد ونظر حديث في مسألة باجتهاده والعمل على تشويه سمعته وتزييف أراءه ولهذا لم يجترأ أحد على الاجتهاد والاستنباط لئلا يقع في معرض تحاسد الآخرين.

الرابع: معالجة الفوضى الفقهيّة بالجمود وسدّ باب الاجتهاد «1» (انتهى كلامه).

أقول: الأهمّ من هذه الوجوه هو الوجه الأخير، فإنّ القول بالتصويب أوجب الوقوع في فوضى عظيمة، وبالتالي أوجب سدّ باب الاجتهاد، وتسبب في فقر فقهي شديد في المسائل المستحدثة، ولذلك رجع بعضهم في الأزمنة الأخيرة، وإعتقد بفتح باب الاجتهاد.

هذا- بخلاف الإماميّة التابعين لمكتب أهل البيت عليهم السلام فلا يترتّب على قولهم بالإنفتاح انوار الأصول، ج 3، ص: 577

أيّة مفسدة، بل إنّه موجب لإزدهار علم الفقه والاصول، وتطوّره وتقدّمه باستمرار، وذلك أوّلًا: لاعتبارهم كون مرجع الفتوى للناس أعلم الفقهاء الأحياء، وثانياً: أنّ اجتهادهم- كما مرّ تعريفه- مبنيّ على أساس النصوص وضوابط خاصّة مستفادة من النصوص أيضاً، لا على القياس والاستحسانات الظنّية وأشباهها ممّا لا تندرج تحت ضابطة معيّنة.

وبالجملة، أنّ نتيجة القول بالتصويب- بما أنّه يستبطن سدّ باب الاجتهاد- هى ركود علم الفقه وعدم تكامله فإنّ القائل به لا يرى في الآراء الفقهيّة الصادرة خطأً حتّى يرى نفسه ملزماً بالتحقيق والتتبّع ويتعب نفسه للحصول على ما هو الواقع الحقّ بخلاف القول بالتخطئة، فإنّ القائل به يبذل جهده لتحصيل ذلك الحكم الواحد الواقعي، ولازمه التفكّر العميق والتدبّر الواسع وإعمال كمال الدقّة للظفر بالحقّ والعثور على الواقع.

هذا كلّه في القسم الأوّل من التصويب.

وأمّا القسم الثاني: وهو التصويب المعتزلي

(وهو أنّ للَّه في كلّ واقعة حكماً

ولكن لمن وصل إليه الخطاب، وأمّا من لم يصل إليه الخطاب فلا حكم في حقّه، بل تصل النوبة حينئذٍ إلى تقنين الفقيه) فهو أيضاً باطل بكلتا مقدّمتيه، لأنّ القول بأنّ الأحكام مخصوصة للعالمين فقط مخالف لظاهر جميع أدلّتها، فإنّ مثل قوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» وقوله تعالى: «إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً» عامّ للجاهل والعالم، وليس العلم مأخوذاً في موضوعه، بل العلم طريق إليه، ولو سلّمنا اختصاص الأحكام بالعالمين فلا دليل أيضاً على إعطاء حقّ التقنين بيد الفقيه كما مرّ في نظيره (التصويب الأشعري).

وأمّا القسم الثالث: وهو التصويب المبني على القول بسببيّة الأمارات.

ففيه أيضاً: أنّه لا دليل على سببيّة الأمارات فإنّ ظاهر أدلّتها هو الطريقيّة كما مرّ بيانه في محلّه، فإنّا قد قلنا هناك أنّ قوله تعالى: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ» مثلًا بمعنى «فأسألوا حتّى انوار الأصول، ج 3، ص: 578

تعلموا»، وممّا يؤكّد هذا المعنى ما مرّ كراراً من أنّ الأمارات الشرعيّة جلّها- لولا كلّها- امضاءات لبناءات العقلاء، ولا إشكال في أنّها طرق إلى الواقع عندهم فقط.

وأمّا القسم الرابع: وهو أنّ يكون المراد من التصويب جعل أحكام ظاهريّة مماثلة لمؤدّيات الطرق والأمارات فقد قلنا سابقاً أنّه هو الصحيح المختار، بل لا يسمّى هذا تصويباً.

والدليل عليه: أنّ أدلّة حجّية الأمارات ظاهرة في الجعل والإنشاء، وليس مفادها مجرّد المنجّزية أو المعذّرية، والشاهد عليه هو السيرة العمليّة للفقهاء وارتكازهم الفقهي والمتشرّعي، حيث إنّهم يعبّرون في رسائلهم العمليّة عن مؤدّيات الأمارات بالواجب والحرام، ويحكمون بأنّ هذا واجب وذاك حرام، لا أنّك معذور إن كان هذا حراماً ولست معذوراً إن كان هذا واجباً.

ولكن- كما عرفت- فإنّ تسمية هذا بالتصويب خلاف الاصطلاح، لأنّ مصطلح الفقهاء

فيه إنّما هو في الأحكام الواقعيّة.

ثمّ إنّه قد مرّ في أوائل البحث عن أقسام التصويب في ذيل هذا القسم، أنّه قد يكون في سلوك هذه الطرق مصالح أهمّ من المصالح الواقعيّة التي تفوت المكلّف، وهى التي يعبّر عنها بالمصالح السلوكيّة، وبهذا يندفع ما أورد على حجّية الأمارات من أنّ لازمه تفويت المصلحة أو القاء العبد في المفسدة كما لا يخفى.

نعم، قد إستشكل بعض الأعلام في المحاضرات في هذا القسم (وبتعبير آخر في هذا المعنى للسببية، وبتعبير ثالث في المصلحة السلوكيّة) من جهتين:

الاولى: «أنّه لا ملزم للالتزام بهذه المصلحة لتصحيح اعتبار الأمارات وحجّيتها (ودفع الإشكال المزبور) والسبب في ذلك أنّ اعتبار الأمارات من دون أن ترتّب عليه مصلحة وإن كان لغواً فلا يمكن صدوره من الشارع الحكيم، إلّاأنّه يكفي في ذلك ترتّب المصلحة التسهيلية عليه، حيث إنّ تحصيل العلم الوجداني بكلّ حكم شرعي لكلّ واحد من المكلّفين غير ممكن في زمان الحضور فضلًا عن زماننا هذا، ولو أمكن هذا فبطبيعة الحال كان حرجيّاً لعامّة المكلّفين في عصر الحضور فما ظنّك في هذا العصر، ومن الواضح أنّ هذا منافٍ لكون الشريعة

انوار الأصول، ج 3، ص: 579

الإسلاميّة شريعة سهلة وسمحة.

الثانية: أنّ مردّ هذه السببيّة إلى السببيّة المعتزلية في انقلاب الواقع وتبدّله لأنّنا إذا افترضنا قيام مصلحة في سلوك الأمارة التي توجب تدارك مصلحة الواقع فالإيجاب الواقعي عندئذٍ تعييناً غير معقول» «1».

أقول: أمّا الإشكال الأوّل فهو عجيب فإنّ مصلحة التسهيل هى نفس المصلحة السلوكيّة ومصداق بيّن منها، فلولا هذه المسألة لما أمر الشارع بسلوك هذه الطرق.

وأمّا الثاني فالجواب عنه ظاهر بعد ما عرفت من أنّ مصلحة التسهيل هى من المصالح السلوكيّة، فما يجاب عن هذه المصلحة هو الجواب في أشباهها.

وبعبارة أوضح: ليست المصلحة السلوكيّة في عرض مصلحة الواقع، فإنّ المصالح الواقعيّة إنّما هى مصالح في أفعال المكلّفين، وأمّا المصلحة السلوكيّة فإنّما هى مصلحة في سلوك هذا الطريق بقصد الوصول إلى الحكم الواقعي، فيكون أحدهما في طول الآخر، ولا معنى للتخيير حينئذٍ.

الأمر السابع: تبدّل رأي المجتهد

وفيه يبحث أيضاً عن مسألة العدول عن مجتهد إلى آخر، من حي إلى حي أو من ميّت إلى حي لاشتراك المسألتين في الأدلّة، وهو بحث مبتلى به كثيراً، ويطرح تارةً بالنسبة إلى المجتهد نفسه في العمل برأيه، واخرى بالنسبة إلى مقلّديه.

كما أنّ الكلام فيه تارةً يقع في العبادات واخرى في المعاملات بالمعنى الأخصّ، كما إذا اشترى داراً بالبيع الفضولي أو المعاطاة، ثمّ تبدّل رأيه إلى بطلانه، وثالثة في المعاملات بالمعنى الأعمّ، كما إذا تزوّج بالعقد الفارسي، ثمّ تبدّل رأيه وذهب إلى إشتراط العربية، أو كان قائلًا في باب الرضاع باعتبار أكثر من عشر رضعات في حصول المحرميّة فتزوّج بمن إرتضعت من امّه عشر رضعات، ثمّ تبدّل رأيه وذهب إلى كفايتها في حصول المحرميّة، أو كان قائلًا في باب النجاسات بعدم نجاسة عرق الجنب عن الحرام، وفي باب الطهارة بعدم اعتبار عصر الثوب في انوار الأصول، ج 3، ص: 580

التطهير، ثمّ تبدّل رأيه إلى نجاسة عرق الجنب عن الحرام أو اعتبار العصر.

ومن جانب آخر تارةً يكون الموضوع موجوداً، كما إذا كانت الذبيحة موجودة أو كان متلبّساً بثوب لم يعصره حين تطهيره، واخرى يكون معدوماً.

ثمّ ليعلم أنّ هذا كلّه إنّما هو في ما إذا كانت الفتوى السابقة موافقة للاحتياط، وأمّا إذا كانت مخالفة له كما إذا كان قائلًا باعتبار إتيان التسبيح ثلاث مرّات وتبدّل رأيه إلى كفاية مرّة واحدة فلا إشكال في أنّه خارج عن محلّ

النزاع.

وكيف كان، لابدّ هنا من تقديم امور:

الأوّل: في الأقوال في المسألة، وهى كثيرة:

قول بالإجزاء مطلقاً.

وقول بعدم الإجزاء مطلقاً.

وقول بالتفصيل، وهو بنفسه متعدّد:

تفصيل المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية بين ما إذا كان مدرك الاجتهاد الأوّل هو القطع بالحكم، أو كان هو الطريق المعتبر شرعاً، وكان المبنى اعتبار الأمارات من باب الطريقيّة، فيعامل حينئذٍ مع الأعمال السابقة معاملة البطلان، وبين ما إذا كان مدرك الاجتهاد السابق هو الطريق المعتبر شرعاً كان المبنى اعتبار الأمارات من باب السببيّة والموضوعيّة، أو كان ملاك الاجتهاد السابق هو الاستصحاب أو البراءة الشرعيّة فيعامل معها معاملة الصحّة.

وتفصيل صاحب الفصول رحمه الله بين ما إذا كان الاجتهاد الأوّل في نفس الحكم الشرعي فيتغيّر الحكم الشرعي بتغيّر الاجتهاد الأوّل ولا يبقى إلى الآخر، فلو بنى على حلّية حيوان فذكّاه، ثمّ رجع وبنى على تحريم المذكّى، وبين ما إذا كان الاجتهاد الأوّل في متعلّق الحكم الشرعي، وقد وقع المتعلّق في الخارج على طبق ذلك الاجتهاد الأوّل، ثمّ تغيّر الاجتهاد، فلا يتغيّر المتعلّق عمّا كان عليه من الصحّة، بل يبقى على آثاره حتّى بعد الرجوع، كما إذا بنى على عدم جزئيّة شي ء للعبادة أو عدم شرطيّته فأتى بها على الوجه الذي بنى عليه ثمّ رجع، فيبني على صحّة ما أتى به.

وتفصيل المحقّق اليزدي رحمه الله في العروة الوثقى (المسألة 53) بين ما إذا كان موضوع اجتهاده باقياً بنفسه فلا يكون مجزياً، كما إذا أفتى بجواز الذبح بغير الحديد مثلًا فذبح حيواناً كذلك انوار الأصول، ج 3، ص: 581

فمات المجتهد (أو تبدّل رأيه) وقلّد من يقول بحرمته وكان الحيوان المذبوح موجوداً فلا يجوز بيعه ولا أكله، وبين غيره من موارد العبادات والمعاملات ممّا قد مضى فيكون مجزياً،

فلو قلّد من يكتفي بالمرّة مثلًا في التسبيحات الأربع، أو أوقع عقداً أو إيقاعاً بتقليد مجتهد يحكم بالصحّة ثمّ مات، وقلّد من يقول بعدم كفاية المرّة وبالبطلان، يجوز له البناء على صحّة العبادة والعقد، ولا يجب عليه إعادة الأعمال السابقة.

الثاني: أنّ هذه المسألة جزئي من جزئيات مسألة الإجزاء ومصداق من مصاديقها، لأنّ من أقسامه هو الإجزاء في الأوامر الظاهريّة، والمقام من هذا القبيل، لأنّ حجّية فتوى المجتهد للمقلّد حكم ظاهري له.

نعم أنّها أعمّ منها من جهة اخرى، فإنّ مسألة الإجزاء مختصّة بباب الأوامر والأحكام التكليفيّة فحسب، ولا تعمّ الأحكام الوضعيّة، بينما البحث هنا أي مسألة التبدّل والعدول يعمّ الأحكام التكليفيّة والوضعيّة معاً، فكلّ من المسألتين أعمّ من الاخرى من جهة، وأخصّ منها من جهة اخرى.

الثالث: في مقتضى الأصل في المسألة، ولا يخفى لزوم تعيينه حتّى يطالب من يخالفه بالدليل فنقول: لا إشكال في أنّ مقتضى الأصل والقاعدة الأوّليّة في المقام هو الفساد فإنّ الأصل مثلًا هو عدم وقوع التذكية شرعاً أو عدم الإتيان بالصلاة الصحيحة (مع قطع النظر عن القواعد الخاصّة التي يمكن جريانها كقاعدة الفراغ ونحوها) فهو يوافق القول بعدم الإجزاء فلابدّ للقائلين بعدم الفساد من إقامة الدليل عليه.

إذا عرفت هذا فاعلم: أنّه إذا كان مدرك الاجتهاد السابق هو القطع ثمّ انكشف خلافه بالقطع أيضاً فلا وجه حينئذٍ للقول بالإجزاء، لأنّ المفروض أنّه لم يكن في الواقع أمر من جانب المولى، بل إنّه امتثل أمراً خيالياً منقوشاً في الذهن فقط، وذلك لأنّ القطع ليس من الأمارات الشرعيّة حتّى يقال: إنّه أمارة كسائر الأمارات يتولّد منها حكم ظاهري شرعي، بل هو من الأمارات العقليّة التي تكون مجرّد طرق إلى الواقع فحسب، ومنه يعلم الحال فيما

إذا زال القطع السابق وقامت أمارة شرعيّة على خلافه.

انوار الأصول، ج 3، ص: 582

لكن موارد تبدّل رأي المجتهد ليست من هذا القبيل غالباً لأنّ ما يتبدّل عند المجتهد في غالب الموارد إنّما هو الأمارات الظنّية المعتبرة، كما أنّ رجوع المقلّد إلى مجتهد آخر أيضاً ليس من هذا القبيل أصلًا، لأنّ الحجّة عنده إنّما هو قول المجتهد وهو أمارة ظنّية عقلائية أمضاها الشارع المقدّس.

والمهمّ في المقام هو ما إذا كانت فتوى المجتهد على أساس أمارة شرعية وكان المبنى في حجّية الأمارات، الطريقيّة (كما هو الحقّ)، وحينئذٍ يستدلّ للإجزاء بوجوه عديدة:

الوجه الأوّل: (وهو العمدة) إنّ إطلاقات أدلّة حجّية الأمارات لا تشمل الأعمال السابقة التي أتى بها المكلّف وفقاً لأمارات كانت حجّة عليه حين العمل، وبعبارة اخرى: إنّ أدلّة حجّية الأمارات وإن كانت مطلقة من حيث الزمان، ولكنّها منصرفة إلى زمان الحال والاستقبال، ولا تشمل ما عمل سابقاً على وفق أمارة اخرى، أي أنّ القدر المتيقّن منها إنّما هو الحال والمستقبل، كما أنّه كذلك في الأمارات العرفيّة، فمن أعطى دراهم بيد وكيله، وأمره بأن يتّجر بها أحسن التجارة وأنفعها، والوكيل لا يعلم ما هو أنفعها وأحسنها فيعتمد فيها على قول الخبرة، ويسأل زيد الخبرة عنها مثلًا، فيعمل على وفق رأيه، ثمّ بعد مضيّ زمان يسأل عن عمرو الخبرة نفس ذلك، فيجيبه بما يخالف رأي زيد، فحينئذٍ هل يكون معنى حجّية كلام عمرو إبطال جميع العقود السابقة لأنّه لم يكن وكيلًا في إبتياع غير الأنفع، فالعقود الواقعة عليها فضوليّة، أو أنّ القدر المتيقّن منها إنّما هو بالنسبة إلى الحال والاستقبال؟ لا إشكال في أنّ وجداننا العرفي يحكم بالثاني.

وعلى أي حال: لا اطلاق في الاجتهاد الثاني حتّى يعمّ الواقعة السابقة، ولا

أقلّ من الشكّ في ذلك، ولعلّ هذا هو مراد من قال (وهو صاحب الفصول وغيره): «الواقعة الواحدة لا تتحمّل اجتهادين»، ولعلّه هو العلّة للسيرة المدّعاة في كلمات بعضهم على عدم إعادة الأعمال السابقة (وكون الإعادة أمراً مستغرباً في أذهان أهل الشرع بأن يعمل بفتوى مجتهد عشرات سنة، ثمّ بعد تبدّله أو تقليد مجتهد آخر يعيد جميع أعماله التي عملها في هذه السنوات، وكذلك فيما بعده من تبدّلات الرأي، ولعلّه أيضاً المصدر الوحيد لما ادّعى من الإجماع في المسألة، ولا أقلّ في العبادات.

وإن شئت قلت: الإجماع المدّعى والسيرة المستمرّة التي وردت في كلمات بعضهم- ولا

انوار الأصول، ج 3، ص: 583

يبعد قبولها في الجملة- أيضاً مؤيّدتان لما ذكرنا من الدليل.

ثمّ إنّ هيهنا بيانين آخرين لا يمكن الالتزام بهما إلّاإذا رجعا إلى البيان المزبور:

أحدهما: أنّ الاجتهاد اللاحق كالإجتهاد السابق، ولا دليل على ترجيحه عليه حتّى يبطله. وهذا بحسب ظاهره باطل قطعاً، لأنّ المفروض أنّ المجتهد يرى الاجتهاد السابق في الآن باطلًا ولو ظنّاً، ويكون هذا الزمان زمان حكومة الاجتهاد الثاني، فكأنّه ظفر لمصدر الاجتهاد السابق معارضاً لم يظفر به سابقاً.

إلّا أن يرجع إلى أنّ دليل حجّية الاجتهاد اللاحق لا يعمّ الأعمال السابقة وهو نفس ما ذكرناه.

ثانيهما: ما ذكره في «التنقيح» من دون أن يقبله، وحاصله: أنّ الاجتهاد الأوّل كان حجّة في ظرفه، والاجتهاد الثاني حجّة من زمن تحقّقه، ولا يعمّ السابق، فكلّ حجّة في ظرفه الخاصّ به.

وبعبارة اخرى: المفروض في المقام هو ما إذا كان إنكشاف الخلاف بقيام حجّة معتبرة على الخلاف، فلا علم وجداني بكون الاجتهاد السابق على خلاف الواقع، وحينئذٍ كما يحتمل أن يكون الاجتهاد الثاني مطابقاً للواقع، يحتمل أيضاً أن يكون الاجتهاد الأوّل كذلك، فهما متساويان

من هذه الجهة لأنّ الاجتهاد اللاحق لا يكشف عن عدم حجّية الاجتهاد السابق في ظرفه، لأنّ انكشاف الخلاف في الحجّية أمر غير معقول، بمعنى أنّ السابق يسقط عن الحجّية في ظرف الاجتهاد الثاني مع بقائه على حجّيته في ظرفه «1».

وهذا أيضاً لا يمكن المساعدة عليه بظاهره، لأنّ الاجتهاد الثاني وإن كان زمان حجّيته حين وصوله، ولكنّه يمكن أن يكون عاماً من حيث المحتوى والمؤدّى فيشمل الأعمال السابقة أيضاً.

فمثلًا إذا ظفر المجتهد برواية تدلّ على وجوب صلاة الجمعة فإنّها وإن صارت حجّة من زمن وصولها ولكن مضمونها ومحتواها يدلّ على وجوب صلاة الجمعة من زمن الرسول صلى الله عليه و آله إلى يوم القيامة، لأنّ مقتضاها ثبوت مدلولها في الشريعة المقدّسة من الابتداء، لعدم اختصاصه انوار الأصول، ج 3، ص: 584

بعصر دون عصر، وحينئذٍ يكون العمل المأتي به على طبق الحجّة السابقة باطل بمقتضى الحجّة الثانية.

إلّا أنّ يقال: إنّ المقصود من هذا البيان أنّ المضمون المذكور منصرف من الأعمال السابقة التي عمل فيها بدليل معتبر في وقته، فيرجع إلى ما ذكرنا من البيان.

الوجه الثاني: أنّ عدم الإجزاء يؤدّي إلى العسر والحرج المنفيين عن الشريعة السمحة، لعدم وقوف المجتهد غالباً على رأي واحد، فيؤدّي إلى الاختلال فيما يبني فيه عليها من الأعمال.

وفيه: أنّه أخصّ من المدّعى من وجه، وأعمّ منه من وجه آخر، أمّا كونه أخصّ منه فلأنّ المعروف أنّ المعيار إنّما هو الحرج الشخصي لا النوعي فلا يعمّ الدليل جميع المكلّفين، وأمّا كونه أعمّ منه فلشموله موارد القطع واليقين مع أنّه لا كلام في عدم الإجزاء في موارد القطع.

الوجه الثالث: الإجماع على الإجزاء مطلقاً أو في خصوص العبادات على الأقلّ.

وفيه: أوّلًا: أنّه منقول لا دليل على حجّيته،

وثانياً: يكون محتمل المدرك لو لم يكن متيقّنه.

الوجه الرابع: السيرة المتشرّعة المستمرّة على عدم الإعادة والقضاء مع أنّ تبدّل الرأي أمر شائع بين المجتهدين.

وفيه: أنّ إرجاع هذه السيرة إلى زمن المعصوم عليه السلام أمر مشكل جدّاً، لأنّه وإن كان الاجتهاد موجوداً في ذلك الزمان أيضاً ولكن لم يكن على نحو تبدّل الآراء والعدول عنها بحيث كان في مرأى ومسمع من الأئمّة المعصومين عليهم السلام، ولعلّ منشأ هذه السيرة وكذا الإجماع هو الدليل الأوّل الذي اخترناه، كما أشرناه إليه آنفاً.

الوجه الخامس: أنّ عدم الإجزاء يوجب ارتفاع الوثوق في العمل بآراء المجتهدين، من حيث إنّ الرجوع في حقّهم محتمل، وهو منافٍ للحكمة الداعية إلى تشريع حكم الاجتهاد.

وفيه: أنّه مجرّد إستحسان ظنّي لا يركن إليه ما لم يلزم منه عسر حرج اختلاف النظام.

الوجه السادس: ما استدلّ به بعضهم من الاستصحاب على بقاء آثار السابقة للأعمال التي أتى بها.

وفيه: أوّلًا: ما ذكرناه غير مرّة من عدم حجّية الاستصحاب في الشبهات الحكميّة، وثانياً:- وهو العمدة-: أنّ المقوّم للأحكام السابقة كان رأي المجتهد، والمفروض انتفاؤه فعلًا

انوار الأصول، ج 3، ص: 585

وإنقلابه إلى غيره، فإذا عدم الرأي كيف يمكن استصحاب آثاره، وهو أشنع من الاستصحاب عند تبدّل الموضوع وتغيّره.

الوجه السابع: ما استدلّ به بعض الأعلام على الإجزاء وعدم انتقاض الآثار السابقة بعد تقسيمه الأحكام إلى التكليفيّة والوضعيّة، وحاصله:

أمّا أحكام الوضعيّة: بالمعنى الأعمّ فإنّها تتعلّق غالباً بالموضوعات الخارجيّة، ولا معنى لقيام المصلحة بها، بل المصلحة قائمة بالأمر الاعتباري، ففي عقد المعاطاة مثلًا المصلحة لا تقوم بالمال بل بالملكيّة الحاصلة من المعاطاة القائمة بالمال، فإذا أدّت الحجّة إلى أنّ المعاطاة مملّكة فقد وجدت المصلحة في جعل الملكيّة، فإذا قامت الحجّة الثانية على أنّ المعاطاة لا

تفيد الملكية لم تكشف إلّاعن أنّ المسألة من لدن قيامها إنّما هى في جعل الإباحة في المعاطاة لا في جعل الملكية، فقيام الحجّة الثانية من قبيل تبدّل الموضوع.

وأمّا الأحكام التكليفيّة: فهى وإن كانت تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها ويتصوّر فيها كشف الخلاف، إلّاأنّ الحجّة الثانية إنّما يتّصف بالحجّية بعد إنقطاع الحجّة السابقة، فالحجّة الثانية لم تكن حجّة في ظرف الحجّية السابقة، وإنّما حجّيتها تحدث بعد سلب الحجّية عن السابقة، وإذا كان الأمر كذلك استحال أن تكون الحجّية المتأخّرة موجبة لانقلاب الأعمال المتقدّمة عليها، (انتهى ملخّصاً) «1».

وفيه: أوّلًا: أنّه قدس سره هل يتكلّم على مبنى القائلين بالسببيّة في حجّية الأمارات أو الطريقيّة؟ من الواضح أنّه لا يقول بالأوّل، وأمّا على الثاني فالحجج الشرعيّة لا تكشف عن المصالح الواقعيّة لأنّها تتضمّن أحكاماً ظاهريّة فحسب، والمصلحة السلوكيّة لا توجب الاجزاء، فما ذكره من أنّ المصلحة حاصلة في عقد المعاطاة بعد قيام الحجّة أمر غريب على مبناه، وقوله: «إذا أدّت الحجّة إلى أنّ المعاطاة مملّكة فقد وجدت المصلحة في جعل الملكية في المعاطاة» نفس القول بالسببية من دون تفاوت.

وأمّا دعوى الاستحالة في كون الحجّية المتأخّرة موجبة لانقلاب الأعمال المتقدّمة في الأحكام التكليفيّة فهو أغرب منه، فإنّ الأعمال المتقدّمة لم تثبت صحّتها واقعاً وإنّما ثبتت انوار الأصول، ج 3، ص: 586

صحّتها ظاهراً (كما هو المفروض) والانقلاب إنّما هو بالنسبة إلى آثارها الموجودة الآن من القضاء والإعادة، وهذا ليس من المستحيل أبداً.

اللهمّ إلّاأن يعود كلامه إلى ما ذكرنا آنفاً من أنّ الحجّية الثانية لا تدلّ على ترتيب الآثار عليها إلّابالنسبة إلى أعماله في الحال وفي المستقبل، لانصرافها عمّا أتى به وفقاً للحجّة السابقة، والانصراف العرفي أمر، ودعوى الاستحالة العقليّة أمر آخر.

وثانياً: ما

أفاده من أنّه لا معنى لقيام المصلحة أو المفسدة بالجسم والموضوع الخارجي.

فيرد عليه: أنّ الطهارة والنجاسة من الأحكام الوضعيّة تتبّعان المصالح والمفاسد الموجودة في الموضوعات الخارجيّة، وهكذا أشباههما.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ ما ذكرناه هنا إنّما هو مقتضى القواعد الأوّلية في الأعمال السابقة المطابقة للإجتهاد الأوّل مع قطع النظر عن مقتضى القواعد الثانوية الخاصّة، فإنّ هيهنا قواعد خاصّة تقتضي صحّة الأعمال السابقة:

منها: ما يختصّ بباب الصّلاة، وهى قاعدة «لا تعاد الصّلاة إلّامن خمس» لشمول إطلاقها للجاهل القاصر، وما نحن فيه من مصاديقه لأنّ المجتهد إذا أخطأ في إجتّهاده كان من هذا القبيل، فإذا أدّى الاجتهاد الأوّل إلى عدم جزئيّة شي ء للصّلاة مثلًا والمكلّف أتى بالصلاة على طبقه، ثمّ تبدّل الرأي وانكشف الخلاف وظهرت جزئية ذلك الشي ء صحّت الصّلاة، ولا إشكال في عدم وجوب الإعادة والقضاء.

ومنها: ما يختصّ بباب الصيام فإنّ الأدلّة التي تدلّ على أنّ الإفطار يوجب البطلان مختصّة بالعالم العامد فقط ولا تشمل ما نحن فيه، ولازمه صحّة الصيام الذي أتى به المكلّف وفقاً للاجتهاد الأوّل.

منها: الإجماع على الإجزاء في بعضهم العبادات، وقد ادّعاه بعضهم وقال في مستمسكه «نسب إلى بعض دعوى صريح الإجماع بل الضرورة عليه» «1».

انوار الأصول، ج 3، ص: 587

ولكن فيه: أوّلًا: أنّه من قبيل الإجماع المنقول الذي لا دليل على حجّيته، فإنّ المحصّل منه في أمثال المقام لم يتعرّض أكثر الأصحاب للمسألة في كلماتهم أمر مشكل جدّاً.

وثانياً: أنّه محتمل المدرك لو لم يكن متيقّنة فإنّا نحتمل (على الأقل) استنادهم في ذلك إلى بعض الوجوه المستدلّ بها في المقام، وقد مرّ عليك ذكرها آنفاً.

وثالثاً: أنّ المحكيّ عن العلّامة والعميدي 0 دعوى الإجماع على خلافه (على ما في مستمسك الحكيم قدس سره).

هذا كلّه فيما

إذا كانت فتوى المجتهد على أساس أمارة من الأمارات الشرعيّة.

ومنه يظهر الكلام في الاصول العمليّة العقليّة أو الشرعيّة، فإنّ الحكم الحاصل منها حكم ظاهري، وقد عمل به المكلّف، ثمّ تبيّن بحسب الاجتهاد الثاني خلافه، فيأتي جميع ما ذكرنا في الأمارات والأدلّة الاجتهاديّة.

وملخّص الكلام في المقام: أنّ تبدّل الرأي على ثلاثة صور:

تارةً يكون العمل قد مضى ثمّ تبدّل الرأي، ففي هذه الصورة لا إشكال في الإجزاء إلّافيما إذا كان مدرك الاجتهاد السابق هو القطع.

واخرى: السبب قد مضى والمسبّب باقٍ على حاله كما في مثال الذبيحة فإنّ عمل التذكية فيه قد مضى وأمّا الحيوان المذكّى فهو موجود في الحال، ومثل عقد النكاح بالفارسية فالعقد قد مضى وأمّا مسبّبه ومنشأه وهو الزوجية باقٍ على حاله، ومثل ما إذا اشترى داراً بعقد المعاطاة فمسبّبه وهو ملكية الدار باقية على حالها، ففي هذه الصورة أيضاً إذا تبدّل رأي المجتهد، الصحيح هو الإجزاء من دون فرق بين مثال الذبيحة وإنشاء العقد باللغة الفارسيّة لأنّ كليهما من باب واحد، والمسبّب (أو الموضوع على تعبير المحقّق اليزدي رحمه الله في العروة الوثقى) باقٍ على حاله في كليهما، ولا وجه للفرق بينهما كما ذهب إليه السيّد اليزدي رحمه الله، ولذلك علّق على كلامه وإستشكل عليه أكثر المعلّقين.

وثالثة: يكون الموضوع باقياً على حاله، كما إذا اجتهد سابقاً ورأى كفاية سبعة وعشرين شبراً في تحقّق الكرّية، واجتهد في اللاحق على عدم كفايتها، وكان الماء المحكوم بالكرّية سابقاً باقياً على حاله، ورأي سابقاً عدم نجاسة ملاقي الشبهة المحصورة أو عدم نجاسة عرق انوار الأصول، ج 3، ص: 588

الجنب عن الحرام أو دم البيض، والآن يرى نجاستها وهى باقية على حالها، ففي هذه الصورة لا إشكال في عدم الإجزاء،

لأنّ الكلام فيه ليس في الأعمال الماضية، بل بالنسبة إلى الحال والمستقبل، بأن يعامل مع هذا الماء معاملة الكرّ في الحال والآتي فلا ريب في عدم الإجزاء.

فالحقّ في المسألة هو التفصيل بين الصورتين الأوّليين والصورة الأخيرة، والقول بالإجزاء في الأوليين دون الأخيرة، ومنه يظهر حال سائر التفاصيل المذكورة في المقام والجواب عنها.

ثمّ إنّ هنا تفصيلًا آخر اختاره سيّدنا الاستاذ الحكيم رحمه الله في مستمسكه، وحاصله: الفرق بين أعمال المجتهد نفسه وأعمال مقلّديه، وعدم الإجزاء في الاولى والاجزاء في الثانية، أمّا حكم المجتهد نفسه بالإضافة إلى الأعمال السابقة على العدول فالظاهر وجود التدارك عليه، لأنّ الدليل الأوّل في نظره على الفتوى اللاحقة لا فرق فيه بين الوقائع السابقة واللاحقة، وأمّا بالنسبة إلى المقلّد فيمكن الاستدلال على صحّة الأعمال السابقة بأنّ ما دلّ على جواز العدول أو وجوبه إنّما دلّ عليه بالإضافة إلى الوقائع اللاحقة سواء كان هو الإجماع أو غيره، مضافاً إلى استصحاب بقاء الحجّية للفتوى السابقة بالإضافة إلى الوقائع السابقة، نعم لو كان العدول لأجل أعلمية المعدول إليه فوجوب العدول إليه يقتضي تدارك الأعمال السابقة لإطلاق دليل حجّية فتوى الأعلم، (إنتهى كلامه ملخّصاً) «1».

وفيه: أنّ الإنصاف عدم الفرق بين المجتهد والمقلّد في هذا الباب، ولا بين أن يكون تبدّل الفتوى للعدول إلى الأعلم أو غير ذلك من أسباب العدول وتغيير الفتوى، فإنّ الفتوى الأخيرة التي استنبطها المجتهد عن الأدلّة غير مقيّدة بزمان ولا مكان، ولا حال دون حال، بل محتواها أنّ الحكم الشرعي من زمن النبي صلى الله عليه و آله إلى آخر الدنيا هو هذا كما كانت الاولى قبل كشف خلافها كذلك، فإذا ثبتت حجّية فتوى المجتهد، في زمان وجب ترتيب الآثار على كلامه

بالنسبة إلى جميع الأزمنة.

اللهمّ إلّاأن يقال: بانصراف حجّيتها إلى خصوص الوقائع اللاحقة، ولكن يجري مثل هذه الدعوى بالنسبة إلى المجتهد نفسه لأنّه وإن كان يعترف بالخطأ في الجملة ولكن المفروض انوار الأصول، ج 3، ص: 589

أنّه ليس معناه حصول القطع ببطلان الفتوى السابقة لأنّه خارج عن محلّ الكلام، بل يحتمل صحّتها أيضاً في متن الواقع، وإن كانت وظيفته فعلًا العمل بالثانية.

وحينئذٍ يمكن دعوى انصراف أدلّة حجّية الفتوى اللاحقة إلى الوقائع اللاحقة حتّى بالنسبة إلى المجتهد نفسه، هذا إذا كان الدليل لفظياً، وأمّا إذا كان دليل الحجّية لبّياً فالقدر المتيقّن منه ليس إلّاما ذكرناه، وهذا الكلام يجري بالنسبة إلى الأعلم أيضاً.

إلى هنا تمّ الكلام عن المقام الأوّل من مباحث الاجتهاد والتقليد (وهو البحث عن أحكام الاجتهاد).

المقام الثاني: فى مباحث التقليد
اشارة

وهو في اللغة جعل القلادة على العنق، قلّده تقليداً جعل القلادة على عنقه، ومنها تقليد الولاة الأعمال، وتقليد البدنة أن يعلّق في عنقها شي ء ليعلم أنّه هدى، وتقليد السيف تعليقه في العنق أو شدّه على وسطه، وأمّا الاقليد فهو معرّب «كليد»، وفي مجمع البحرين أنّه لغة يمانية بمعنى المفتاح، فلا ربط بينه وبين مادّة القلادة.

وأمّا التقليد في المقام، أي التقليد عن المجتهد فالمعروف أنّه قبول قول الغير من غير دليل، لأنّ المقلِّد يجعل عمله كالقلادة على عنق المجتهد، وقيل أنّ المقلِّد يجعل طوق التبعيّة على عنقه.

وأمّا في الاصطلاح فقد ذكر شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله له في رسالته الشريفة أربعة معانٍ:

1- العمل بقول الغير.

2- قبول قول الغير.

3- الأخذ بقول الغير.

4- متابعة قول الغير.

ويمكن أن يقال: إنّها جميعاً ترجع إلى معنى واحد ولكن يستخرج منها عند الدقّة ثلاثة مفاهيم مختلفة: أحدها: العمل بقول الغير، ثانيها: الأخذ بقول الغير بقصد العمل من دون

العمل به، ثالثها: الالتزام القلبي بالعمل به وإن لم يأخذه ولم يعمل به، ثمّ يقع البحث في أنّه أي شي ء من انوار الأصول، ج 3، ص: 590

هذه الامور الثلاثة يعبّر عن حقيقة التقليد، فهل هى الالتزام القلبي بفتوى المجتهد سواء أخذ بها أم لم يأخذ، وسواء عمل بها أم لم يعمل، أو أنّه الالتزام مع الأخذ بقصد العمل سواء عمل أم لم يعمل، أو أنّه الالتزام مع الأخذ والعمل؟

وللمحقّق الخراساني رحمه الله تعريف خامس، وهو: الأخذ بقول الغير بغير دليل، فأضاف إليه قيد «بغير دليل»، ولا ريب في أنّ مراده من الدليل إنّما هو الدليل التفصيلي، وإلّا يكون للمقلّد دليل في تقليده إجمالًا بلا إشكال.

وفي العروة الوثقى للمحقّق اليزدي؛ تعريف سادس وهو: الالتزام بالعمل بقول مجتهد معيّن، فإنّه قال في المسألة 8: «التقليد هو الإلتزام بالعمل بقول مجتهد معيّن وإن لم يعمل بعد، بل ولو لم يأخذ فتواه فإذا أخذ رسالته والتزم بما فيها كفى في تحقّق التقليد».

وقد وافقه جماعة من المحشّين، وخالفه جماعة اخرى منهم وقالوا: «التقليد هو الأخذ بفتوى المجتهد للعمل».

والتعريف السابع ما هو المختار، وهو: الاستناد إلى رأي المجتهد في مقام العمل. فإنّ الإنصاف أنّ التقليد إنّما هو العمل استناداً إلى قول المجتهد أو أنّه الاستناد في مقام العمل، والدليل عليه:

أوّلًا: أنّه هو المناسب للمعنى اللغوي حيث إنّه عبارة عن جعل القلادة في العنق، ولا ريب في أنّ قلادة التقليد تعلّق على عنق المجتهد بعد أن عمل المقلّد بفتاويه استناداً إليها.

ثانياً: ما سيأتي في مسألة جواز التقليد وعدمه ممّا إستند إليه لعدم الجواز من الآيات الناهية عن العمل بغير علم، حيث إنّ لازمه كون التقليد هو العمل بغير العلم، ولم يردّ عليه (لا

من جانب المستدلّين بها لعدم جواز التقلّد ولا من جانب المجيبين عنهم) بأنّ هذه الآيات لا ربط لها بمسألة التقليد لأنّه ليس من مقولة العمل، فكأنّ الطرفين توافقا على كونه من قبيل العمل.

وثالثاً: أنّ المقصود من التقليد والأثر الشرعي المترتّب عليه إنّما هو صحّة العمل وهى لا تحصل بدون العمل.

وبعبارة اخرى: كما أنّ الآثار الشرعيّة التي تترتّب على التقليد عبارة عن الآثار في مقام العمل فليكن معناه أيضاً كذلك، أي لابدّ من إدخال العمل في معناه.

انوار الأصول، ج 3، ص: 591

ثمّ إنّ القائلين بأنّ التقليد عبارة عن الإلتزام القلبي أو الأخذ بالفتوى فعمدة الدليل عليه عندهم: أوّلًا: ما جاء في كلمات المحقّق الخراساني رحمه الله وغيره من إشكال الدور، ببيان: أنّه لابدّ أن يكون العمل عن تقليد، فيكون التقليد في رتبة سابقة على العمل، فلو كان التقليد عبارة عن العمل فيكون في رتبة متأخّرة عنه، فيلزم منه الدور وتقديم ما حقّه التأخير.

وإن شئت قلت: أنّ وقوع العبادة في الخارج هو ممّا يتوقّف على قصد القربة، وقصد القربة على ثبوت كونها عبادة، وثبوت ذلك للعامي ممّا يتوقّف على التقليد، فلو كانت التقليد هو العمل، أي وقوع العبادة في الخارج، لتوقّف وقوعها في الخارج على وقوعها في الخارج، وهو دور واضح.

ثانياً: أنّ التقليد سابق على العمل، فلو كان التقليد هو نفس العمل لكان العمل الأوّل بلا تقليد.

ثالثاً: أنّ التقليد في اللغة جعل القلادة على عنق المقلِّد، ولا إشكال في أنّه يتحقّق بالالتزام وإن لم يعمل بعد.

والجواب عن الأوّل: أنّه لم يرد في آية ولا رواية من أنّه لابدّ أن يكون العمل عن تقليد ومسبوقاً بالتقليد وناشئاً عنه كي يجب أن يكون التقليد سابقاً على العمل، بل الذي يجب

على المقلّد إنّما هو العمل بقول المجتهد والأخذ بكلامه، فلو عمل بقوله فقد صدق أنّه قلّده وإن لم يصدق أنّه عمل عن تقليد.

وبعبارة اخرى: أنّه قد وقع الخلط بين التقليد والحجّة، فإنّ ما يجب على المقلّد إنّما هو إتيان العمل عن حجّة، والتقليد عبارة عن العمل عن حجّة، لأنّا نقول: لابدّ أن يكون المكلّف في أعماله وعباداته إمّا مجتهداً أو محتاطاً أو مقلّداً، ولا نقول: لابدّ أن يكون عمله عن تقليد، وحينئذٍ يكون علمه الأوّل أيضاً مع التقليد وينطبق عليه عنوانه، لأنّه أيضاً يكون عن حجّة ودليل، وبهذا يظهر الجواب عن الدليل الثاني.

وأمّا الدليل الثالث ففيه: ما مرّ من معنى التقليد في اللغة، فإنّه ليس عبارة عن جعل القلادة على عنق المقلّد، بل هو عبارة عن جعل قلادة المسؤولية على عنق المجتهد ولا يحصل ذلك إلّابعد العمل.

والعمدة في المقام والذي يسهّل الخطب أنّ التكلّم في مفهوم التقليد لا يترتّب عليه ثمرة

انوار الأصول، ج 3، ص: 592

فقهيّة، وذلك لأنّه أمر حادث في مصطلح الفقهاء لم يرد في آية ولا رواية ولا معقد إجماع إلّافي مرسلة الإحتجاج عن أبي محمّد العسكري عليه السلام: «فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه» «1».

لكنّها مضافاً إلى ضعفها من ناحية السند مؤيّدة لما ذكرنا لأنّ الذمّ الوارد فيها إنّما هو على عملهم بفتاوي من لا يوثق به من علماء أهل الكتاب.

نعم، عن محمّد بن عبيدة قال: قال لي أبو الحسن عليه السلام: «يامحمّد أنتم أشدّ تقليداً أم المرجئة؟ قال: قلت: قلّدنا وقلّدوا، فقال: لم أسألك عن هذا، فلم يكن عندي جواب أكثر من الجواب الأوّل، فقال أبو الحسن عليه السلام: أنّ المرجئة

نصبت رجلًا لم تفرض طاعته وقلّدوه، وأنّكم نصبتم رجلًا وفرضتم طاعته ثمّ لم تقلّدوه، فهم أشدّ منكم تقليداً» «2».

ولكنّها- مع قطع النظر عن وجود سهل بن زياد في سندها- أيضاً خارجة عن محلّ البحث وهو التقليد عن غير المعصوم، مضافاً إلى أنّه ظاهر أيضاً في كون التقليد هو العمل لأنّ شكوى الإمام عليه السلام إنّما هو على ترك العمل بأقواله وهداياته.

وهكذا ما جاء في بعض معاقد الإجماعات من أنّه «لا يجوز تقليد الميّت إجماعاً» لأنّه سيأتي أنّ الإجماع في باب التقليد لا أقلّ من كونه محتمل المدرك، فالظاهر أنّ منشأه هو بناء العقلاء، مضافاً إلى كونه من إجماع المتأخّرين الذي لا يكشف عن قول المعصوم عليه السلام تعبّداً.

وربّما يقال: إنّ ثمرة البحث عن مفهوم التقليد تظهر في مسألتي البقاء على تقليد الميّت، والعدول من حي إلى غيره، فإنّا إذا فسّرناه بالإلتزام وفرضنا أنّ المكلّف التزم بالعمل بفتوى مجتهد ثمّ مات ذلك المجتهد فله أن يعمل على فتاواه لأنّه من قبيل البقاء على تقليد الميّت، وليس تقليداً ابتدائياً له، وهذا بخلاف ما إذا فسّرناه بالاستناد إلى فتوى المجتهد في مقام العمل لأنّه حينئذٍ من قبيل تقليد الميّت ابتداءً لعدم استناد المكلّف إلى شي ء من فتاوي المجتهد الميّت حال حياته في مقام العمل.

وهكذا في مسألة العدول من حي إلى غيره، لأنّه إذا التزم بالعمل بفتيا مجتهد، وفسّرنا التقليد بالالتزام حرّم عليه العدول عن تقليده لأنّه قد قلّده تقليداً صحيحاً ولا مرخّص له انوار الأصول، ج 3، ص: 593

للعدول، وهذا بخلاف ما إذا قلنا أنّ التقليد هو الاستناد إلى فتوى المجتهد في مقام العمل، لأنّه حينئذٍ لم يتحقّق منه تقليد المجتهد ليحرم عليه العدول بل لا يكون رجوعه لغيره

عدولًا من مجتهد إلى مجتهد آخر «1».

ولكن يرد عليه: أنّ هذا إنّما يتمّ لو كان دليل الجواز على البقاء على تقليد الميّت أو العدول من حي إلى آخر هو معاقد الإجماعات المشتملة على لفظ التقليد، ولكن قد عرفت في السابق وسيأتي مشروحاً إن شاء اللَّه أنّه ليس كذلك، فهذه الثمرة أيضاً ساقطة.

مسائل التقليد
اشارة

ويقع البحث فيه في ثلاث مقامات:

1- جواز التقليد للعامي

لا إشكال في أنّه لابدّ من أن يكون العامي مجتهداً في خصوص هذه المسألة التي لا مؤونة لاستنباطها واجتهادها، فإنّ لزوم رجوع الجاهل إلى العالم أمر إرتكازي لجميع العقلاء، وسيأتي أنّ المهمّ والعمدة في باب التقليد إنّما هو بناء العقلاء، وما يشاهد من أنّهم يكتبون في إبتداء رسائلهم العمليّة من أنّه لابدّ للعامي أن يجتهد في خصوص هذه المسألة فهو لمجرّد تقريب الذهن وإرشاد العامي.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه استدلّ لجواز التقليد بامور أربع:

الأمر الأوّل: (وهو العمدة في المسألة) سيرة العقلاء في جميع أعصار وأنحاء العالم وجميع الصنائع والتجارات والزراعات والعلوم المختلفة البشريّة كعلم الطب وشعبه المتفاوتة (طبّ الإنسان وطبّ الحيوان وطبّ النبات) وغيره من سائر العلوم، بل جميع المجتهدين والمتخصّصين للعلوم البشريّة يكون تخصّصهم واجتهادهم في فنون طفيفة معدودة، وأمّا بالإضافة إلى سائر الفنون والحرف فيكونون مقلّدين، فالمجتهد في علم الفقه مثلًا يقلِّد الأطباء

انوار الأصول، ج 3، ص: 594

في علم الطبّ والمعمار في بناء داره مثلًا، وهكذا في غيرها ممّا يحتاج إليه في امور معاشه، بل وفي موضوعات أحكام معاده، وكثيراً مّا يتّفق أنّ عدّة من طلّاب العلوم مثلًا يتعلّم كلّ واحد منهم علماً خاصّاً ويصير متخصّصاً في ذلك وفي نفس الوقت يقلّد كلّ واحد من أصحابه في علمه الخاصّ به، فيكون كلّ منهم متخصّصاً في علم واحد ومقلّداً في سائر العلوم.

ولذلك نقول: إنّ ما يدور في الألسنة في يومنا هذا من وجوب التحقيق في المسائل الشرعيّة الفرعيّة على كلّ أحد ولا معنى للتقليد فيها بعد إمكان التحقيق، كلام شعري أو هتاف سياسي، بل الأخباري المنكر للتقليد أيضاً إمّا أن ينكره باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان، أو يكون إنكاره من

باب الخلط بين الاجتهاد بالمعنى العامّ والاجتهاد بالمعنى الخاصّ كما مرّ بيانه آنفاً.

ثمّ إنّه لا بأس أن نشير هنا إلى أنّ هذا البناء للعقلاء يكون في الواقع ناشئاً من انسداد صغير فإنّهم يلاحظون في الأموال مثلًا أنّهم لو اعتمدوا فيه على العلم فقط وأنكروا حجّية اليد على الملكيّة لأنسدّ باب العلم في هذا المقام وإن كان مفتوحاً في الأبواب والموارد الاخرى، ولذلك يعتبرون حجّية كثير من الاصول والقواعد كقاعدة اليد وغيرها، وهذه هى النكتة التي أشار إليها المحقّق الخراساني رحمه الله بقوله: «وإلّا لأنسدّ باب العلم على العامي».

الأمر الثاني: الاستدلال بالكتاب العزيز بجملة من الآيات:

منها: آية النفر، وقد مرّ الكلام فيه تفصيلًا في مبحث حجّية خبر الواحد، وينبغي هنا أن نشير إلى نكتة منها فقط، وهى أنّ هذه الآية ناظرة إلى باب الاجتهاد والتقليد لا باب الرواية، فإنّ التفقّه الوارد فيها بمعنى الاجتهاد والاستنباط عن نظر وبصيرة، وإلّا ربّ حامل رواية وفقه إلى من هو أفقه منه، كما أنّ الإنذار أيضاً من وظائف وشؤون المجتهد لا الراوي، أي إنّما يقدر على الإنذار من كان بصيراً بالحكم الإلهي، وعالماً متيقّناً به، وقادراً على تمييز الواجب عن المستحبّ، وناظراً في الحلال والحرام، وقد مرّ أيضاً أنّ كلمة «لعلّ» فيها كناية عن الوجوب، وإلّا فمادّة الحذر وماهيته لا تقبل الاستحباب كما لا يخفى.

نعم، هيهنا إشكالان لو أمكن دفعهما كان الاستدلال بالآية في المقام تامّاً وإلّا فلا:

أحدهما: أنّ الآية لا اطلاق لها حتّى تشمل صورة العلم وعدمه فلعلّ المقصود من قوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» خصوص ما إذا حصل من الإنذار العلم واليقين بحكم اللَّه فلا يعمّ انوار الأصول، ج 3، ص: 595

صورة حصول الظنّ كما هو محلّ النزاع في المقام،

وبعبارة اخرى: أنّ للآية قدر متيقّن في مقام التخاطب فإطلاقها ليس بحجّة لعدم حصول جميع مقدّمات الحكمة.

والجواب عنه: أنّ الآية مطلقة، ومجرّد وجود قدر متيقّن في مقام التخاطب لا ينافي الاطلاق كما ذكرناه في محلّه، وإلّا لأختلّ غالب النصوص المطلقة لنزولها أو ورودها في مقامات خاصّة.

ثانيهما: أنّها في مقام بيان وظيفة المجتهد لا المقلّد، فلا اطلاق لها من هذه الجهة.

وفيه: أنّه مجرّد دعوى لا شاهد عليها، بل الظاهر كون الآية في مقام البيان من الجانبين.

منها: آية السؤال، وهى قوله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ» «1»

وقوله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ» «2»

(والفرق بينهما هو إضافة كلمة «من» في الثانية).

هذه الآية من جهة أقوى دلالة من آية النفر لأنّها في مقام بيان وظيفة المقلّد وتلك كانت في مقام بيان وظيفة الفقيه والمجتهد على قول.

وتقريب الاستدلال بها واضح، فإنّ المراد من أهل الذكر أهل العلم والقرآن من العلماء كما نصّ عليه جماعة.

ولكن أورد عليه أوّلًا: بأنّ موردها وشأن نزولها إنّما هو أهل الكتاب في باب اصول الدين التي يعتبر فيها تحصيل العلم، فيكون الأمر بالسؤال من أهل الذكر لتحصيل العلم من أقوالهم فيعمل بالعلم لا بأقوالهم تعبّداً ليثبت المطلوب.

وثانياً: بأنّ ذيلها وهو قوله تعالى: «إِنْ كُنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ» أقوى شاهد على أنّ الغرض من السؤال هو العلم فالآية تقول: «إن كنت لا تعلم فاسأل حتّى تعلم».

لكن الإنصاف إمكان دفع كليهما ...

أمّا الإيراد الأوّل: فلأنّ المورد ليس مخصّصاً والآية مطلقة تعمّ السؤال عن اصول الدين وغيرها، وتقييد بعض المصاديق (وهو اصول الدين) بالعلم بدليل من الخارج لا يوجب تقييد سائر المصاديق

به واعتباره فيها، فكما أنّه يمكن تقييد جميع المصاديق بدليل منفصل كقوله: «لا

انوار الأصول، ج 3، ص: 596

تكرم الفسّاق منهم» بالنسبة إلى دليل «أكرم العلماء» كذلك يمكن تقييد بعض المصاديق كما إذا قيل: «لا تكرم الفسّاق من النحويين».

وأمّا الإيراد الثاني: فلأنّ قوله تعالى: «إِنْ كُنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ» هو في مقام بيان الموضوع، أي تقول الآية: «اسأل عند عدم العلم حتّى تكون لك الحجّة» كما إذا قيل: «إن كنت لا تعلم دواء داءك فارجع إلى الطبيب» فليس معناه أنّ قول الطبيب يوجب العلم دائماً.

وبعبارة اخرى: قوله تعالى: «إِنْ كُنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ» ليس من قبيل بيان الغاية حتّى يورد عليها بما ذكر.

وبعبارة ثالثة: تارةً يكون العلم موضوعاً واخرى يكون غايةً، وما نحن فيه من قبيل الأوّل، فهى تقول: إنّ الموضوع للرجوع إلى البيّنة أو القسم أو الموضوع للرجوع إلى الخبرة إنّما هو الجهل، وهذا لا يعني حصول العلم بعد الرجوع.

سلّمنا كونه غاية، لكن ليس المراد من العلم في المقام اليقين الفلسفي كما مرّ كراراً بل المراد منه هو العلم العرفي الذي يحصل من ناحية إقامة أيّة حجّة، فإنّ العرف والعقلاء يعبّرون بالعلم في كلّ مورد قامت فيه الحجّة.

هذا- ولكن الآيات الواردة في المسألة كبعض الروايات الواردة فيها التي سنشير إليها إمضاءً لما عند العقلاء من رجوع الجاهل إلى العالم، نعم لا ضير فيها من هذه الجهة.

الأمر الثالث: الروايات الواردة في خصوص المقام، وهى كثيرة إلى حدّ تغنينا عن البحث حول إسنادها.

منها: ما رواه أبو عبيدة قال: قال أبو جعفر عليه السلام: «من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من اللَّه لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه» «1».

فهو يدلّ بمفهومه على جواز الإفتاء بعلم، ولا ريب في

أنّ المقصود من العلم فيه إنّما هو الحجّة.

منها: ما رواه عنوان البصري عن أبي عبداللَّه جعفر بن محمّد عليهما السلام في حديث طويل يقول فيه: «سل العلماء ما جهلت وإيّاك أن تسألهم تعنّتاً وتجربة» «2».

انوار الأصول، ج 3، ص: 597

ومنها: ما رواه إسماعيل بن الفضل الهاشمي قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن المتعة فقال:

«ألق عبدالملك بن جريح فسله عنها فإنّ عنده منها علماً» «1».

ومنها: ما رواه في تحف العقول من كلام الحسين بن علي عليه السلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويروى عن أمير المؤمنين عليه السلام: «اعتبروا أيّها الناس ... بأنّ مجاري الامور والأحكام على أيدي العلماء باللَّه الامناء على حاله وحرامه ...» «2».

ومنها: ما رواه في المستدرك عن علي عليه السلام: أنّه قال في حديث: «فإذا كان كذلك إتّخذ الناس رؤساء جهّالًا يفتون بالرأي ويتركون الآثار فيضلّون ويضلّون فعند ذلك هلك هذه الامّة» «3».

ومنها: ما رواه في المستدرك أيضاً عن تفسير الإمام العسكري عليه السلام: عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«أنّ اللَّه لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن يقبضه بقبض العلماء، فإذا لم ينزل عالم إلى عالم يصرف عنه طلّاب حكّام الدنيا وحرامها، ويمنعون الحقّ أهله ويجعلونه لغير أهله، واتّخذ الناس رؤساء جهّالًا، فسألوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا» «4».

ومنها: ما رواه مفضّل بن يزيد قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «أنهاك عن خصلتين فيهما هلك الرجال، أنهاك أن تدين اللَّه بالباطل، وتفتي الناس بما لا تعلم» «5».

ومنها: ما رواه عبدالرحمن بن الحجّاج قال: قال لي أبو عبداللَّه عليه السلام: «إيّاك وخصلتين ففيهما هلك من هلك إيّاك أن تفتي الناس برأيك أو تدين بما لا تعلم» «6».

ومنها: ما

رواه عبدالرحمن بن الحجّاج أيضاً قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن مجالسة أصحاب الرأي فقال: جالسهم وإيّاك عن خصلتين تهلك فيهما الرجال، أن تدين بشي ء من رأيك أو تفتي الناس بغير علم» «7».

انوار الأصول، ج 3، ص: 598

ومنها: ما رواه موسى بن بكر قال: قال أبو الحسن عليه السلام: «من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة الأرض وملائكة السماء» «1».

ومنها: ما رواه إسماعيل بن زياد عن أبي عبداللَّه عن أبيه عليهما السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض» «2».

ومنها: ما رواه الطبرسي في الإحتجاج عن أبي محمّد العسكري عليه السلام في حديث طويل:

«فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه» «3».

ودلالته على المطلوب واضحة.

ومنها: ما رواه حذيفة قال: سألته عن قول اللَّه عزّوجلّ: «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» قال: «أما إنّهم لم يتّخذوهم آلهة إلّاأنّهم أحلّوا لهم حلالًا فأخذوا به وحرّموا حراماً فأخذوا به، فكانوا أربابهم من دون اللَّه» «4».

وقد ورد الذمّ فيهما على عمل اليهود حيث أخذوا أحكامهم عن العلماء المحرّفين لأحكام اللَّه بما يظهر منه أنّه لو كان هؤلاء علماء صالحين لم يكن هناك ذمّ في الرجوع إليهم.

ومنها: ما رواه عمر بن حنظلة عن أبي عبداللَّه عليه السلام في حديث طويل: «قال ينظر أنّ من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما إستخفّ بحكم اللَّه وعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ على اللَّه وهو على حدّ الشرك باللَّه» «5».

ومنها: ما رواه

أبو خديجة عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «... اجعلوا بينكم رجلًا قد عرف حلالنا وحرامنا، فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً ...» «6».

انوار الأصول، ج 3، ص: 599

وهما وإن وردا في باب القضاء ولكن ظاهرهما أو صريحهما كون النزاع في الشبهات الحكميّة فلو جاز الرجوع إلى القضاة فيها مع النزاع جاز الرجوع إليهم فيها بدونه أيضاً فتأمّل.

ومنها ما رواه إسحاق بن يعقوب عن الإمام الحجّة عليه السلام: «... وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللَّه ...» «1».

ومنها: عدّة من الأحاديث الواردة في نفس الباب مثل الحديث 11 و 15 من الباب الحادي عشر من المستدرك، ومثل الحديث 15 و 21 و 34 و 35 و 36 من الباب الحادي عشر من الوسائل (وإن كان بعضها لا يخلو عن كلام) ممّا يدلّ على إرجاع الناس إلى أعاظم أصحابهم نظير زرارة وأبي بصير ومحمّد بن مسلم وزكريّا بن آدم وبريد بن معاوية وأشباههم، ولا شكّ أنّهم كانوا ممّن يعالجون تعارض الأخبار ويجمعون بين المطلق والمقيّد والعام والخاصّ وما يشبه ذلك، ولا شكّ في أنّ هذه نوع من الاجتهاد فالأخذ منهم كان من باب أخذ المقلّد من المجتهد.

إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا المعنى وهى متفرّقة في أبواب مختلفة من الوسائل والمستدرك في أبواب صفات القاضي.

الأمر الرابع: إجماع المسلمين، وقد يعبّر عنه بسيرة المتشرّعة لأنّه إجماع عملي والظاهر أنّه أيضاً ينشأ من بناء العقلاء على رجوع الجاهل إلى العالم، ولا أقلّ من احتماله، أي احتمال أنّ المتشرّعين والمتديّنين بنوا على الرجوع إلى العالم بالمسائل الشرعيّة لا بما هم متشرّعون بهذا الشرع المقدّس بل بما هم عقلاء أو بما أنّه من الامور الفطريّة

الارتكازيّة (كما إعترف به المحقّق الخراساني) ثمّ أمضاه الشارع المقدّس وإذاً ليس الإجماع أو السيرة دليلًا مستقلًا برأسه.

هذا كلّه ما يمكن أن يستدلّ به لجواز التقليد، ولكن مع ذلك كلّه نقل صاحب المعالم وصاحب الفصول عدم جوازه عن جماعة، فقال صاحب المعالم قدس سره، أنّه عزى في الذكرى إلى بعض علماء الأصحاب وفقهاء حلب منهم القول بوجوب الاستدلال على العوام، وقال انوار الأصول، ج 3، ص: 600

صاحب الفصول قدس سره: «ذهب شرذمة إلى عدم جواز التقليد» والمشهور أيضاً أنّ الأخباريين منكرون لجواز التقليد.

ويمكن أن يستدلّ لهم أنّ العامي إمّا أن يكون عربياً يفهم الكتاب والسنّة، ويدرك مفاهيم الألفاظ واللغات، فلا حاجة له حينئذٍ إلى الرجوع إلى المجتهد، بل هو بنفسه يلاحظ أدلّة الأحكام ويعمل بها، وأمّا أن يكون عجمياً فهو وإن لا يدرك معاني الألفاظ واللغات ولكن لا حاجة له إلى التقليد أيضاً لأنّه يكفيه دلالة المجتهد إلى موارد الأدلّة ووضعها بين يديه حتّى يصير قادرا على إستخراج الأحكام واستنباطها منها، فالمجتهد حينئذٍ يكون من قبيل المترجم فحسب، لا مرجعاً ومقلّداً.

ولكنّه واضح البطلان، أمّا في عصرنا هذا فلما نشاهده من سعة دائرة الفقه وأدلّة الأحكام والقواعد، والبعد الحاصل بيننا وبين عصر الأئمّة المعصومين عليهم السلام، الذي يوجب بطبعه غموضاً شديداً في فهم أدلّة الأحكام ومقاصد الإمام عليه السلام فإنّ تعليمها بجميع المقلّدين وعرضها لهم يستلزم نفر جميعهم إلى الحوزات العلميّة، وهذا ممّا يلزم منه إختلال النظام والمعاش.

وأمّا بالنسبة إلى أعصار الأئمّة المعصومين عليهم السلام التي كان تحصيل المسائل فيها خفيف المؤونة، وإسناد الروايات فيها واضحة، أو لم يكن حاجة إليها لإمكان الوصول إلى الأئمّة عليهم السلام مباشرةً وبدون الواسطة، وبالجملة كان الاجتهاد والاستنباط في ذلك الزمان

بسيطاً جدّاً بالنسبة إلى زماننا هذا، فبالنسبة إلى تلك الأعصار نقول أيضاً: لم يكن تحصيل ملكة الاجتهاد ممكناً لجميع الناس خصوصاً لغير العرب، سيّما إذا لاحظنا أنّ كثيراً من الناس فاقدون للإستعداد اللازم لفهم المسائل الشرعيّة الدقيقة، بل وفي مستواها البسيط، وهذا ممّا ندركه بوجداننا بالإضافة إلى عوام عصرنا فتدبّر.

والحاصل: أنّ فرض إمكان الاجتهاد لجميع آحاد الناس في جميع الأحكام الشرعيّة من دون فرق بين الرجال والنساء، ومن كان قريب العهد بالبلوغ من البدوي والقروي وغيرهما أمر يشبه بالخيال والرؤيا، ومن يدّعيه إنّما يدّعيه باللسان ويخالفه عند العمل، كما هو ظاهر، كما أنّ الأمر كذلك في سائر العلوم.

هذا- وعمدة أدلّتهم لعدم جواز التقليد هى الآيات الناهية بظاهرها عن التقليد، وهى على طائفتين:

انوار الأصول، ج 3، ص: 601

الطائفة الاولى: ما تنهي عن العمل بالظنّ على نحو العموم، فإنّ من الظنون ما يحصل من قول المجتهد للمقلّد.

والطائفة الثانية: آيات وردت في خصوص باب التقليد وهى كثيرة (تبلغ إلى عشر آيات):

منها: قوله تعالى: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَايَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ» «1»

وقوله تعالى: «بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ» «2»

. وقوله تعالى: «وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ» «3»

. إلى غير ذلك ممّا يدلّ على هذا المعنى.

والجواب عنهما: أمّا عن الطائفة الاولى فقد اجيب عنها بأنّها عام تخصّص بأدلّة حجّية الظنون المعتبرة.

ولكن قد مرّ سابقاً أنّ لسان هذه الآيات آبية عن التخصيص.

واجيب عنها أيضاً: بأنّها واردة في اصول الدين لأنّها ناظرة إلى تقليدهم في الشرك وعبادة

الأوثان، ومحلّ النزاع في المقام هو الفروع، والمنع عن العمل بالظنّ خاصّ بالاصول.

ولكن قد مرّ أيضاً أنّ هذا الجواب لا يساعد مع لحن بعضها كقوله تعالى: «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا» فإنّه وإن فرض كون الفؤاد خاصّاً بالاصول ولكنّه لا ريب في أنّ السمع والبصر لا أقلّ من كونهما عامين يشملان الفروع والاصول لو لم يكونا خاصّين بالفروع.

هذا مضافاً إلى أنّ المورد لا يكون مخصّصاً في أي مقام.

والجواب الثالث (وهو الصحيح): أنّ الظنّ الوارد في هذه الطائفة لا يراد منه الاحتمال الراجح في الذهن، بل هو عبارة عن الحدس والتخمين بلا أساس ودليل، فلا يعمّ الظنّ المعتبر المعتمد على الحجّة لأنّ ذلك يعدّ من مصاديق العلم عند العقلاء، والشاهد على ذلك نفس انوار الأصول، ج 3، ص: 602

التعبيرات الواردة في هذه الآيات ففي قوله تعالى: «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ» «1»

حيث جعل الظنّ قريناً لهوى الأنفس، كما أنّ في قوله تعالى: «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» «2»

حيث جعل قريناً للخرص والتخمين بلا دليل.

ويشهد على ذلك أيضاً أنّ من ظنونهم ما جاء في قوله تعالى (قبل الآية الاولى من الآيتين المزبورتين) «أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ» فقد نفت هذه المزعمة: أنّ لهم الذكر وللباري تعالى الانثى، لأنّه وهم غير معقول ولا يعتمد على الحجّة والدليل، بل الدليل العقلي القطعي على خلافه.

ويؤيّد ذلك كلّه ما ذكرنا آنفاً من أنّ الظنون المعتبرة العقلائيّة تعدّ علماً عند العرف كما يساعد عليه وجداننا العرفي وإرتكازنا العقلائي.

وأمّا عن الطائفة الثانية:

فهو واضح جدّاً، لأنّ التقليد على خمسة أقسام: تقليد الجاهل عن الجاهل، وتقليد العالم عن الجاهل، وتقليد العالم عن العالم، وتقليد الجاهل عن العالم الفاسق، وتقليد الجاهل عن العالم العادل، ولا إشكال في أنّ الأربعة الاول ممنوعة مذمومة عقلًا وشرعاً، والجائز الممدوح منها هو القسم الأخير، كما لا إشكال في أنّ التقليد في مورد آيات هذه الطائفة إنّما هو تقليد الجاهل عن الجاهل، كما يشهد عليه قوله تعالى: «أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَايَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ» الوارد في الآية الاولى منها.

وبهذا يظهر الجواب عن الروايات الناهية عن التقليد، فإنّها أيضاً أمّا وردت بالنسبة إلى تقليد الجاهل عن الجاهل، أو تقليد الجاهل عن العالم الفاسق، وكلاهما ممنوعان عند العقل والشرع.

هذا كلّه في المقام الأوّل من البحث في أحكام التقليد.

2- تقليد الأعلم
اشارة

إذا اختلفت العلماء في العلم والفضيلة فهل يجب على العامي إختيار الأعلم، أو لا؟

المعروف بين الأصحاب وجوب تقليد الأعلم، بل حكي عن المحقّق الثاني رحمه الله دعوى الإجماع عليه، بل عن السيّد المرتضى رحمه الله أنّه من المسلّمات عند الشيعة، ومع ذلك كلّه حكي عن جماعة من المتأخّرين عدم وجوبه.

وهنا قول ثالث وهو مختارنا ومختار جماعة اخرى، وهو التفصيل بين ما علم إجمالًا أو تفصيلًا بوجود الخلاف فيه مع كونه محلًا للابتلاء فيكون تقليد الأعلم واجباً، وبين غيره من سائر الموارد فلا يكون واجباً، ولعلّ مقصود من يدّعي الإجماع في وجوب تقليد الأعلم إنّما هو الصورة الاولى فقط.

وكيف كان: لا إشكال في أنّ الأصل في المسألة هو عدم حجّية قول غير الأعلم لما مرّ في أوّل مبحث الظنّ من أنّ الأصل في موارد الشكّ في حجّية الظنون هو عدم الحجّية.

وإن شئت قلت: إنّا نعلم إجمالًا باشتغال الذمّة بعدّة

من التكاليف الشرعيّة والاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة، وهى لا تحصل إلّابالعمل بآراء الأعلم.

ومن هنا يظهر بطلان كلام من توهم أنّ الأصل في المسألة هو الجواز من باب أنّ الأمر فيها يدور بين التعيين والتخيير، والأصل فيه التخيير، فإنّ في التعيين كلفة زائدة تنفي بأصالة البراءة.

وذلك لأنّ أصالة التخيير عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير إنّما هى في باب التكاليف أي فيما إذا كان الشكّ في أصل التكليف لا في ما إذا كان الشكّ في الحجّية، فإنّ أصالة التخيير في الواقع عبارة عن أصالة البراءة عن تلك الكلفة الزائدة الموجودة في التعيين، ولا إشكال في أنّ مجرى أصالة البراءة إنّما هى التكاليف.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه استدلّ على جواز تقليد غير الأعلم بامور:

الأمر الأوّل: أنّ المسألة من باب دوران الأمر بين التعيين والتخيير، وقد مرّ بيانه والجواب عنه آنفاً.

الأمر الثاني: قاعدة العسر والحرج ببيان أنّ معرفة مفهوم الأعلم (وهل هو عبارة عن الأعلم بالاصول، أو الأعلم بالفروع والتفريعات، أو من هو أعلم في تشخيص المذاق العرفي انوار الأصول، ج 3، ص: 604

والظواهر عند العرف، أو من هو أعلم في علم الرجال، أو من هو أدقّ نظراً من غيره، أو جميع هذه؟) أولًا، ومعرفة مصاديقه ثانياً، مشكل جدّاً لتلامذه الأعلام المجتهدين فضلًا عن العوام المقلّدين، ولذلك يجاب غالباً عند السؤال عن الأعلم» ب «أنّي لا أعرف مصداق الأعلم ولكن فلان يجوز تقليده» أو «كلّ واحد من فلان وفلان يجوز تقليده».

والجواب عنه: أوّلًا المنع عن الكبرى فإنّه لا عسر ولا حرج في تعيين مفهوم الأعلم لأنّ المراد منه «من يكون أعرف بالقواعد والمدارك للمسألة، وأكثر إطّلاعاً لنظائرها وأشباهها، وأجود فهماً للأخبار الواردة فيها، والحاصل أن يكون أجود إستنباطاً»

وقد ذكر هذا التعريف المحقّق اليزدي في العروة الوثقى في المسألة 17، ولم يعلّق عليه أحد من المحشّين فيما رأينا.

توضيح ذلك: أنّ الأعلم في علم الطبّ مثلًا من هو أحسن معالجة للأمراض وأدقّها في دواء الداء، والأعلم في البناء من هو يقدر على بناء أحسن الأبنية من دون فرق بين أن يكون تلميذاً أو استاذاً، فربّ تلميذ يكون أعلم من استاذه، كما لا فرق بين أن يكون شاباً أو كهلًا، فربّ مجتهد شابّ يكون أعلم من الشيخ الهرم وإن كان الشيخ أكثر حنكاً وتجربة وأكثر تسلّطاً على إعمال المصطلحات واستخدام القواعد، فإنّ المعيار هو شدّة القوّة والقدرة على إستخراج الأحكام الشرعيّة من أدلّتها.

نعم، إنّ تشخيص مصداق هذا المعنى مشكل جدّاً، ولكنّه فيما إذا كان البُعد والمسافة بين الأفراد قصيرة، أمّا إذا كانت التفاوت العلمي بينهم كثير فلا عسر ولا حرج في تشخيص الأعلم وتعيينه، كما أنّه كذلك في باب الطبابة وغيرها.

وثانياً: سلّمنا وجود العسر والحرج فيه، ولكن قد ذكرنا في محلّه أنّ الحرج في بابه شخصي لا نوعي، فوظيفة تعيين الأعلم تسقط عن كلّ من يقع في العسر والحرج لا عن الجميع.

كما أنّه كذلك في باب الوضوء والصيام ونحوهما، فإذا لم يكن التوضّي بالماء لشخص زيد حرجاً، لم يسقط عنه وإن كان لغيره حرجاً ومشقّة.

وثالثاً: إنّ أكثر ما يلزم من العسر والحرج إنّما هو التخيير بين عدّة من المجتهدين الذين هم في مظنّة الأعلميّة، لا أن يسقط اعتبارها برأسها، فيجوز تقليد غيرهم من آحاد المجتهدين وإن كانوا بمكان بعيد من الأعلميّة.

انوار الأصول، ج 3، ص: 605

الأمر الثالث: (وهو العمدة) الرجوع إلى إطلاقات آية النفر أو آية السؤال أو اطلاق الروايات التي استدلّ بها للمقام (كقوله عليه

السلام «فللعوام أن يقلّدوا») فإنّ آية النفر لا تقول:

«ولينذر أعلمهم» وليس في آية السؤال «فاسألوا أعلمهم» وفي الرواية: «فللعوام أن يقلّدوا أعلمهم» وفي رواية اخرى: «فارجعوا إلى أعلم رواة أحاديثنا» وهكذا الروايات التي ترجع المكلّفين إلى أصحابهم عليهم السلام.

ويرد عليه: أوّلًا: أنّ هذه الإطلاقات منزّلة على بناء العقلاء وإمضاء له فإنّه قد مرّ أنّ الأساس في باب التقليد إنّما هو بناء العقلاء، وهو قائم على تقليد الأعلم في موارد العلم بالمخالفة على الأقل، والظاهر أنّ الإطلاقات المذكورة ناظرة إلى دائرة هذا البناء لا أن تكون رادعة عنها وموسعة لها.

ثانياً: قد مرّ أيضاً أنّ إطلاقات أدلّة الحجّية لا تعمّ الحجّتين المتعارضتين كما في ما نحن فيه، وحينئذٍ لابدّ أن يقال إمّا بتعارضهما ثمّ تساقطهما، أو يقال بأنّ القدر المتيقّن منهما هو الأعلم، ولا ريب في أنّ المتعيّن هو الثاني.

هذا كلّه في أدلّة المنكرين لإعتبار الأعلميّة.

وأمّا أدلّة وجوب تقليد الأعلم فأوّلها: الإجماع، بل نقل عن السيّد المرتضى رحمه الله أنّه من مسلّمات الشيعة.

ولكن لا إشكال في أنّه مدركي.

والثاني: سيرة العقلاء، وهى العمدة، فإنّه كما أشرنا آنفاً لا أقلّ من بنائهم على تقليد الأعلم في موارد العلم بالمخالفة كما إذا وقع الإختلال بين الأطباء أو بين خبراء أي فنّ من الفنون الاخرى.

نعم لازم هذا الدليل ما سيأتي من التفصيل فانتظر.

الثالث: الروايات:

منها: مقبولة عمر بن حنظلة المعروفة.

واجيب عنها أوّلًا: أنّها مخصوصة بباب القضاء، ولا ريب في أنّ فصل الخصومة فيه لا

انوار الأصول، ج 3، ص: 606

يمكن إلّابالرجوع إلى الأعلم عند اختلاف القضاة.

ثانياً: أنّ المراد من الأعلميّة في مورد الرواية هى الأعلميّة بالنسبة إلى مورد المخاصمة لا مطلق الموارد كما هو محلّ النزاع في المقام، فتأمّل.

وقد إستشكل فيها أيضاً من ناحية

السند، ولكنّه قد مرّ أنّ الأصحاب تلقّوه بالقبول حتّى سمّيت مقبولة.

ومنها: ما جاء في عهده عليه السلام إلى مالك الأشتر النخعي: «فاختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك» «1».

ولكنّه أيضاً خاصّ بباب القضاء وفصل الخصومة الذي لا إشكال في اعتبار اختيار أعلم القضاة فيه عند اختلافهم، هذا أوّلًا.

وثانياً: إنّ عهده عليه السلام إلى مالك الأشتر مشتمل على مستحبّات كثيرة وأوصاف غير لازمة للحاكم أو القاضي التي هى كمال لهما (لا سيّما في هذا المورد، فقد ذكر فيه إثنا عشر صفة- كثير منها صفات كمال)، فلا يمكن استفادة اللزوم من فقرة من فقراته بمجرّد التعبير بصيغة الأمر.

ومنها: ما رواه في البحار عن كتاب الاختصاص قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «وإنّ الرئاسة لا تصلح إلّالأهلها ومن دعى الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه لم ينظر اللَّه إليه يوم القيامة» «2».

وفيه: أنّ التعبير بالرئاسة قرينة على أنّ الحديث ورد في مقام بيان شرائط الولاية والحكومة لا المرجعيّة للتقليد، ولا ملازمة بين الأمرين كما لا يخفى، مضافاً إلى ضعف سنده.

ومنها: ما رواه في البحار أيضاً عن الإمام الجواد عليه السلام- أنّه قال مخاطباً عمّه- «ياعمّ أنّه عظيم عند اللَّه أن تقف غداً بين يديه فيقول لك لِمَ تفتي عبادي بما لم تعلم وفي الامّة من هو أعلم منك» «3».

وفيه: أنّه ضعيف من ناحية السند، مضافاً إلى ضعف الدلالة لأنّه في مقام النهي عن إفتاء

انوار الأصول، ج 3، ص: 607

الجاهل وغير العالم في مقابل العالم لا العالم في مقابل الأعلم، وذلك لمكان التعبير ب «ما لم تعلم» الظاهر في الجاهل لا في العالم بالنسبة إلى الأعلم منه.

فتلخّص أنّ جميع الروايات التي استدلّ بها في المقام غير

تامّة دلالة أو سنداً، وهكذا الإجماع، بل التامّ إنّما هو بناء العقلاء وهو أيضاً لا يقتضي وجوب تقليد الأعلم مطلقاً بل مقتضاه هو التفصيل الآتي ذكره.

المختار في المسألة

المختار في المسألة هو التفصيل بين صور أربعة:

الصورة الاولى: ما إذا علم تفصيلًا بالخلاف كما إذا ذهب أحدهما إلى وجوب صلاة الجمعة والآخر إلى حرمتها أو عدم وجوبها.

ففي هذه الصورة لا ريب في وجوب تقليد الأعلم، ومن البعيد جدّاً شمول كلمات القائلين بجواز تقليد غير الأعلم لهذه الصورة.

الصورة الثانية: صورة العلم بموافقتهما تفصيلًا.

والظاهر عدم وجود محذور عن تقليد غير الأعلم في هذه الصورة لأنّ المفروض أنّ عمل المقلّد حينئذٍ مطابق للحجّة على أيّ حال، إنّما الكلام في لزوم إستناده إلى خصوص قول الأعلم، ولا إشكال في عدم لزومه بعد العلم بموافقتهما معاً، مضافاً إلى أنّ بناء العقلاء أيضاً على عدم ترجيح رأي الأعلم في هذه الصورة لعدم فائدة فيه، كما هو واضح.

الصورة الثالثة: ما إذا علمنا إجمالًا بوجود الخلاف بينهما في ما يتبلي به من المسائل.

وفيها أيضاً لا إشكال في وجوب تقليد الأعلم لأنّ العلم الإجمالي المزبور يوجب عدم شمول إطلاقات الحجّية لمثل هذه الموارد وإنصرافها عنها، ولا أقلّ من إجمالها، والقدر المتيقّن حينئذٍ هو الرجوع إلى الأعلم، كما أنّ سيرة العقلاء أيضاً ترجيح الأعلم في هذه الموارد على الظاهر.

الصورة الرابعة: ما إذا شككنا في وجود الخلاف وعدمه.

والإنصاف جواز تقليد غير الأعلم في هذه الصورة، والدليل عليه جريان سيرة العقلاء عليه كما نشاهده بالوجدان، وإلّا لانسدّت أبواب الأطبّاء غير الأعلم وغيرهم من خبراء

انوار الأصول، ج 3، ص: 608

سائر الفنون والحرف لأنّه لا ريب في أنّ الشكّ في الخلاف موجود على الأقل في غالب الموارد.

هذا مضافاً إلى أنّه لا مانع لشمول

إطلاقات الحجّية لغير الأعلم في هذه الموارد لأنّه لا موجب لإنصرافها.

إن قلت: التمسّك بالإطلاقات والعمومات في ما نحن فيه يكون من قبيل التمسّك بالعام في الشبهات المصداقيّة للمخصّص لأنّا نعلم بتخصيص هذه العمومات بموارد العلم بالمخالفة.

قلنا: إنّ دائرة الدليل المخصّص في المقام تكون في موارد العلم بالاختلاف لا موارد الاختلاف في الواقع، فإنّ الدليل على التخصيص هو سيرة العقلاء، وهى مختصّة بموارد العلم بالخلاف لا موارد الخلاف واقعاً سواء علمنا بها أو لم نعلم، ولا إشكال في أنّ عدم جواز التمسّك بالعام في الشبهات المصداقيّة للمخصّص خاصّ بما إذا كان المستثنى من عموم العام بدليل المخصّص هو العنوان الواقعي لا العنوان المقيّد بالعلم.

إن قلت: الشبهة في المقام حكميّة ولا يجوز التمسّك بالعمومات في الشبهات الحكميّة إلّا بعد الفحص.

قلنا: إنّ الشبهة في ما نحن فيه موضوعيّة لا حكميّة، لأنّه لا شكّ لنا في حكم اللَّه الكلّي فإنّا نعلم على نحو كلّي بأنّه يجوز التقليد إلّافي موارد العلم بالخلاف، وإنّما الشكّ في تحقّق موضوع الخلاف وعدمه خارجاً.

بقي هنا شي ء:

مدار الأعلميّة على ماذا؟

قد مرّ أنّ المعيار فيه هو شدّة القوّة والقدرة على إستخراج الأحكام الشرعيّة من أدلّتها إجمالًا، ولا إشكال في أنّ معرفة هذا ليس مشكلًا لأهل الخبرة ولو كانوا في المراتب التالية بالنسبة إلى المجتهد محتمل الأعلميّة، وهذا ما ندركه بوجداننا العرفي، فمن كان له معرفة بقواعد الشعر وموازينه مثلًا يقدر على أن يعيّن بعض الشعراء المعروفين ممن هو أقوى من هذه الناحية، أو شاعر متوسّط له حظّ من هذه الملكة وكذلك نرى أبنية كثيرة في غاية الاستحكام والجودة، ونرى فرقاً كثيراً بينها وبين أبنية اخرى لا يرى فيها هذه المزيّة، ونعلم قطعاً أنّ المعمارين في القسم الأوّل كانوا

أقوى وأعلم وأكثر خبرة وأحسن ذوقاً من المعمارين في القسم انوار الأصول، ج 3، ص: 609

الثاني، وربّما لا نقدر مع ذلك أن نبني بناءً بأنفسنا، وهكذا في فنّ الخطابة وغيرها من سائر الفنون.

وكيف كان يمكن تلخيص موازين الأعلميّة في عدّة امور:

1- أن يكون أعلم في معرفة مباني الفقه (اصول الفقه) وكيفية الورود في المسألة والخروج عنها، (أي يكون أعلم بالمباني).

2- أن يكون أعلم بمنابع الأحكام من الآيات والروايات ورجال الحديث وسائر الأدلّة الأربعة (أي يكون أعلم بالمبادى ء).

3- أن يكون أدقّ وأعمق نظراً.

4- أن يكون أقوى حفظاً وأشدّ تسلّطاً على الفروع فإنّ مسائل الفقه مع إفتراق بعضها عن بعض وانبثاثها وانتشارها في أبواب مختلفة تكون ذا إرتباط ونسج خاصّ في كثير منها، كما لا يخفى على الخبير.

5- أن يكون أعرف في تشخيص الموضوعات العرفيّة ومذاق أهل العرف، فإنّ لمعرفة الموضوعات دخل تامّ في معرفة الأحكام هذا أولًا.

وثانياً: أنّ كثيراً من مسائل الشرع امضاء لما عند العقلاء فلابدّ للعلم بها من معرفة مذاق العقلاء والعرف والإرتكازات العقلائيّة والمناسبات العرفيّة.

6- أن يكون أكثر ممارسة في المسائل الشرعيّة لكثرة الرجوع إليه في أبواب مختلفة من الفقه، ولهذا فاحتمال أعلميّة من تربّى في الحوزات العلميّة الكبرى يكون أكثر من احتمال أعلميّة غيره ممّن ترعرع في غيرها، كما أنّه كذلك في سائر الفنون كالطبابة مثلًا فإنّ من داوى الجرحى وعالج كثيراً من المجروحين في أيّام الحرب يصير أقوى ملكة في الطبابة وعملية الجراحة من غيره.

7- أن يكون له حسن سليقة واعتدالها وذهن مستقيم في اختيار الرأي، لا طبع سقيم واعوجاج في السليقة.

ولا يخفى أنّ كثيراً من أعاظم الفقه مثل الفقيه الماهر صاحب الجواهر أو الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله كانوا واجدين لجميع

هذه الخصوصيات كما هو ظاهر لمن تتبّع آثارهم.

3- تقليد الميّت

والأقوال فيه ثلاثة:

1- عدم الجواز، وهو المشهور بيننا، ولعلّه مجمع عليه، ونسب الجواز إلى الكليني في مقدّمة الكافي والصدوق في مقدّمة من لا يحضر الفقيه والعلّامة والمحقّق القمّي رحمه الله في جامع الشتات (وسيأتي عدم صحّة هذه النسبة بأجمعها إلّاما نسب إلى المحقّق القمّي رحمه الله) ونقل أيضاً عن جماعة من الأخباريين، ولكن سيأتي أيضاً أنّ مخالفتهم للُاصوليين في هذه المسألة من قبيل الخلاف في الموضوع لا الحكم.

2- الجواز، وهو المشهور بين العامّة.

3- التفصيل بين التقليد الابتدائي فلا يجوز، والتقليد الاستمراري (أي البقاء على التقليد بعد الموت) فيجوز، وهو المختار.

واستدلّ القائلون بعدم الجواز بوجوه عمدتها ثلاثة:

الوجه لأوّل: (وهو العمدة أيضاً بين الثلاثة) الإجماع، فقد نقل شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله في رسالته (رسالة الاجتهاد والتقليد) عن صاحب المسالك أنّه قال: صرّح الأصحاب باشتراط الحياة، وعن الوحيد البهبهاني رحمه الله أنّه قال: أجمع الفقهاء على اشتراط الحياة.

وعن صاحب المعالم رحمه الله أنّه قال: العمل بفتاوي الموتى مخالف لما يظهر من اتّفاق أصحابنا على المنع من الرجوع إلى فتوى الميّت.

ثمّ قال الشيخ رحمه الله: يكون هذا الاتّفاق بدرجة من القبول حتّى شاع عند العوام أنّ قول الميّت كالميّت.

ولا يخفى أنّ هذا الإجماع ليس مدركيّاً بل إنّه ضدّ المدرك، لما سيأتي من أنّ القائلين بجواز تقليد الميّت يستدلّون عليه ببناء العقلاء لأنّهم يعتبرون لجميع الكتب العلمية بعد الموت ما يعتبرونه في زمن الحياة (كما أنّه الحقّ) فإنّ الفقهاء خالفوا هذا البناء بإجماعهم على عدم الجواز، وهذا من الموارد التي يكون الإجماع فيها مخالفاً للقواعد، فضلًا عن أن يكون مستنداً إليها، ولم ينقل خلاف لهذا الإجماع إلّاما نقل عن العلّامة والمحدّثين

المعروفين (الكليني والصدوق) والمحقّق القمّي قدّس اللَّه أسرارهم.

انوار الأصول، ج 3، ص: 611

لكن العلّامة لم يثبت مخالفته من كتبه، وأمّا المحدّثان فعند الرجوع إلى كتاب الكافي ومن لا يحضره الفقيه نجد أنّ ترخيصهما في تقليد الميّت مبنى على مسلكهم من إنكار مشروعية التقليد برأسه، وأنّ رجوع العامي إلى المجتهد من باب الرجوع إلى رواة الحديث، فالمفتي ينقل الرواية لا أنّه يفتي حقيقة حسب رأيه ونظره، ولا إشكال في أنّ حجّية الرواية وجواز العمل بها لا يتوقّفان على حياة الراوي بوجه، (وإن كان أصل هذا المبنى لشبهة حصلت لهما فإنّه فرق بين الفتوى ونقل الرواية لأنّ الأوّل يكون من باب الحدس والثاني من باب الحسّ).

وكذلك لا ضير في كلام المحقّق القمّي فإنّه أيضاً مبنى على ما ذهب إليه من إنسداد باب العلم وحجّية مطلق الظنون، فيقول: أنّ المتعيّن على المكلّف هو العمل بالظنّ سواء حصل من فتوى الميّت أو فتوى الحي.

الوجه الثاني: أنّ أدلّة وجوب التقليد على العامي قاصرة عن شمولها لتقليد الميّت، حيث إنّ المجتهد الميّت لا يتّصف بالفعل بعنوان المنذر مثلًا في آية النفر أو عنوان أهل الذكر في آيه السؤال، وإنّما كان منذراً أو كان من أهل الذكر.

ولكن إشكاله واضح لأنّ السؤال إنّما هو طريق للحصول على رأي أهل الذكر وهو يحصل بالرجوع إلى الكتاب أيضاً، كما أنّ المقصود من الإنذار هو تحذير المكلّف، وهو يتحقّق بالرجوع إلى الكتاب أيضاً، وهكذا قوله عليه السلام: «فارجعوا إلى رواة الأحاديث» فإنّه يصدق بالرجوع إلى كتبهم المؤلّفة في حال حياتهم فإنّ الرجوع إلى الكتاب رجوع إلى مؤلّفه بلا ريب، كما أنّ الرجوع إلى آراء الفلاسفة والأطباء وأهل الخبره يحصل بالرجوع إلى كتبهم المؤلّفة ولو منذ آلاف سنة.

الوجه

الثالث: أصالة عدم الحجّية في موارد الشكّ.

ولكنّه لا تصل النوبة إليها مع وجود الدليل الاجتهادي على الجواز كبناء العقلاء.

هذا كلّه هو أدلّة المنكرين للجواز وقد ظهر أنّ المعتمد منها إنّما هو الوجه الأوّل.

واستدلّ القائلون بالجواز أيضاً بوجوه ثلاثة:

1- السيرة المستمرّة للعقلاء على أنّ آراء الأموات المكتوبة في كتبهم كآراء الأحياء في جميع الفنون كاللغة والطبابة والرجال ونحوها، وأمّا مهجورية بعض الآراء فلا ربط لها بالممات انوار الأصول، ج 3، ص: 612

أو الحياة فإنّه كثيراً ما يترك بعض آراء الحي أيضاً في زمان حياته لظهور رأي أقوى منه.

2- الاستصحاب، وهو استصحاب بقاء الرأي أو بقاء الحكم.

أمّا استصحاب بقاء الرأي فإستشكل في بأنّ الميّت لا رأي له.

إن قلت: إنّ هذا ينافي القول ببقاء النفس الناطقة، بل قد يقال: إنّ الإنسان يكون بعد مماته أعلم وأفقه «فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ».

قلنا: إنّ مسألة بقاء النفس الناطقة ونحوها من التدقيقات العقليّة لا يفهمها العرف فإنّه يحكم ببطلان الرأي بعد الموت وبأنّ الميّت لا رأي له، ولا ريب في أنّ المعتبر في باب الاستصحاب إنّما هو بقاء الحالة السابقة عند العرف فتأمّل.

وأمّا استصحاب الحكم (بأن يقال: كانت صلاة الجمعة واجبة على المقلّد فالآن أيضاً واجبة عليه) فإستشكل فيه المحقّق الخراساني بأنّ الأمارات الشرعيّة لا يتولّد منها الحكم، بل مفادها إنّما هو المنجّزية والمعذورية فحسب.

ولكن قد مرّ الإشكال في أصل المبنى كراراً.

والصحيح في المقام أن يقال: أمّا استصحاب بقاء الرأي فالحقّ أنّه لا حاجة إليه لأنّ آراء الفقيه ليست عبارة عن الصورة الذهنيّة له حتّى تضمحلّ بموته، بل إنّ آراءه هى نفس ما كتبه في كتبه الفقهيّة، وهو ممّا لا شكّ فيه حتّى يستصحب بقاؤه، والمحتاج إلى الاستصحاب إنّما هو بقاء

حجّية هذه الآراء المكتوبة وهو نفس استصحاب بقاء الحكم، وقد ذكرنا في محلّه أنّ إجراء الاستصحاب في الشبهات الحكميّة مشكل جدّاً.

إن قلت: لو جاز تقليد الميّت بحكم الاستصحاب لجاز تقليد الحي إذا عرضه النسيان أيضاً لبقاء آرائه في كتبه مع أنّه غير جائز.

قلنا: لا نسلّم عدم الجواز بالنسبة إلى آرائه السابقة، نعم لا يجوز الإعتماد على آرائه في الحال.

الثالث: إطلاقات أدلّة التقليد، لصدق عنوان أهل الذكر مثلًا على الميّت أيضاً بلحاظ زمان صدور الرأي فإنّ المشتقّ حقيقة فيمن تلبّس بالمبدأ حال النسبة لا حال النطق.

وإن شئت قلت: لابدّ أن يكون من يرجع إليه العامي من أهل الذكر والعلم عند صدور الرأي منه، ولا شكّ أنّه كان كذلك حال صدور هذه الآراء.

انوار الأصول، ج 3، ص: 613

ولكن يرد عليه: أنّ الإطلاقات منزّلة على بناء العقلاء ولا تعدّ دليلًا مستقلًا برأسها.

فظهر أنّ الدليل السالم عن المناقشة للطائفة الثانية (القائلين بالجواز) إنّما هو بناء العقلاء، كما أنّ الدليل السالم عن المناقشة للطائفة الاولى إنّما هو الإجماع.

وقد إستشكل في الإجماع أوّلًا: بأنّه مدركي، ومدركه أمّا أصالة عدم الحجّية أو إنصراف الإطلاقات إلى الأحياء. ولكن قد مرّ الجواب عنه آنفاً.

وثانياً: بأنّه لا يكون كاشفاً عن رأي المعصوم عليه السلام لعدم اتّصال المجمعين بزمانه، من باب أنّ التقليد المبحوث عنه أو الاجتهاد المصطلح اليوم أمر حادث في زماننا ولم يكن رائجاً في ذلك الزمان.

ولكن يرد عليه أيضاً: أنّ التقليد بهذا المعنى الحديث ولو في مستواه البسيط كان موجوداً في ذلك الزمان أيضاً، وأنّ الأئمّة عليهم السلام كانوا يرجعون الناس إلى أصحابهم الموجودين في البلاد الإسلاميّة، خصوصاً إذا لاحظنا أنّ مسلمي سائر البلاد لم يكن بإمكانهم الرجوع إلى الإمام عليه السلام في مسائلهم

الشرعيّة وحاجاتهم الدينيّة، بل كانوا يرجعون فيها إلى علماء البلاد قطعاً، والعلماء أيضاً يستنبطونها من الأدلّة الموجودة بأيديهم بعد علاج تعارضها وحمل المطلق على المقيّد والعام على الخاصّ والأخذ بأنواع المرجّحات، إلى غير ذلك ممّا كان من وظيفة المجتهد حتّى في تلك الأعصار.

أضف إلى ذلك أنّ تقليد الحي إنّما هو رمز بقاء المذهب وتحرّكه في جميع شؤونه وتجدّده عصراً بعد عصر وجيلًا بعد جيل، بل هو رمز لإزدهار علم الفقه وتقدّمه على مرّ الدهور والليالي والأيّام، بل الإنصاف أنّ الثورات الإصلاحيّة بيد العلماء والفقهاء في تاريخ التشيّع أثر من آثار هذا الأمر، كما شاهدناها في ثورة عصرنا، وذلك أنّ الناس لو كانوا مقلّدين لشيخ الطائفة مثلًا فسوف لا يهتمّون بالأحكام الصادرة من جانب الفقهاء الموجودين لا سيّما قائد الثورة.

وبالجملة: أنّ القول بكفاية تقليد الميّت كلمة توجب المسرّة لأعدائنا لأنّها مانعة عن حركة الأحياء وقيادتهم، وهو الفارق الأساسي بين علماء الشيعة وعلماء السنّة، وسرّ نشاط الطائفة الاولى وركود الطائفة الثانية.

انوار الأصول، ج 3، ص: 614

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ هذا الإجماع دليل لبّي لابدّ من الاكتفاء فيه بالقدر المتيقّن، والقدر المتيقّن منه إنّما هو التقليد الابتدائي فحسب، فهو رادع عن بناء العقلاء بالنسبة إلى خصوص الابتدائي، وأمّا الاستمراري فحجّية بناء العقلاء فيه بلا مزاحم، وحينئذٍ يكون المختار في المسألة التفصيل بين الابتدائي والاستمراري.

انوار الأصول، ج 3، ص: 615

إلى هنا إنتهت محاضرات شيخنا الاستاذ آية اللَّه العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي دام ظلّه في المسائل الاصوليّة من أوّل مباحث الألفاظ إلى آخر مباحث الاجتهاد والتقليد

في دورة كاملة جامعة لجميع مسائلها، ولا يشذّ منها شاذّ، وقد أشرف دام ظلّه على جميع هذه الأوراق بدقّة وإمعان، وبذلت الجهد على أن لا يفوت منّي

شي ء منها كما بذلت جهدي في تقريرها وتنقيحها وأداء حقّها كي يبقى أثراً خالداً لطلّاب العلم وآخر دعوانا أنّ الحمد للَّه ربّ العالمين.

اللهمّ تقبّله منّا واجعله عملًا خالصاً يرجى به الرشد والرضوان ونافعاً ليوم المعاد يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّامن أتى اللَّه بقلب سليم.

وقد وقع الفراغ من تصحيحه وتنقيحه يوم السبت 22 بهمن من 1373 ه ش 11 رمضان المبارك من 1415 ه ق من الهجرة النبوية على هاجرها وآله آلاف التحيّة والسلام

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.