الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: السبحاني التبريزي جعفر، - 1308

عنوان المؤلف واسمه: الانصاف في مسائل دام فيها الخلاف

تاليف جعفر السبحاني

تفاصيل النشر: قم موسسة الامام الصادق ع ، 1423ق = 1381.

شابك : 964-357-047-9 (ج 1)

لسان : العربية

ملحوظة : ج 3 (1424ق = )1382

ملحوظة : فهرس

موضوع : فقه تطبيقي

معرف المضافة: موسسة الامام الصادق ع

تصنيف الكونجرس: BP169/7 /س2‮الف 8 1381

تصنيف ديوي: 297/324

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 81-19943

محرر الرقمي: میثم الحیدري

ص : 1

المجلد 1

اشاره

ص : 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص : 3

ص : 4

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على أفضل خلقه وخاتم رسله محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين الذين هم عيبة علمه وحفظة سننه.

أمّا بعد ، فانّ الإسلام عقيدة وشريعة ، فالعقيدة هي الإيمان باللّه ورسله واليوم الآخر ، والشريعة هي الأحكام الإلهية التي تكفل للبشرية الحياة الفضلى وتحقّق لها السعادة الدنيوية والأُخروية.

وقد امتازت الشريعة الإسلامية بالشمول ، ووضع الحلول لكافّة المشاكل التي تعتري الإنسان في جميع جوانب الحياة قال سبحانه : ( الْيَوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلام دِيناً ). (1)

غير أنّ هناك مسائل فرعية اختلف فيها الفقهاء لاختلافهم فيما أثر عن مبلّغ الرسالة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، الأمر الذي أدّى إلى اختلاف كلمتهم فيها ، وبما أنّ الحقيقة بنت البحث فقد حاولنا في هذه الدراسات المتسلسلة أن نطرحها على طاولة البحث ، عسى أن تكون وسيلة لتوحيد الكلمة وتقريب الخطى في هذا الحقل ، فالخلاف فيها ليس خلافاً في جوهر الدين وأُصوله حتّى يستوجب العداء

ص : 5


1- المائدة : 3.

والبغضاء ، وإنّما هو خلاف فيما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم (1) ، وهو أمر يسير في مقابل المسائل الكثيرة المتّفق عليها بين المذاهب الإسلامية.

ورائدنا في هذا السبيل قوله سبحانه : ( وَاعْتَصمُوا بِحَبْلِ اللّه جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْكُنْتُمْ أَعداءً فَألّفَ بين قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتهِ إِخْواناً ... ). (2)

والكتاب يقع في جزءين ، أهديه ، لكلّ فقيه حرّ التفكير ، يُرجِّح استنطاق الكتاب والسنّة على تقليد أئمّة المذاهب ، وتكون ضالّته الحقّ أينما وجده.

جعفر السبحاني

قم _ مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص : 6


1- إشارة إلى حوار دار بين الإمام علي عليه السلام وبعض اليهود بعد رحيل النبي وظهور الاختلاف في أمر الخلافة. فقال له بعض اليهود : ما دفنتم نبيّكم حتّى اختلفتم فيه فقال الإمام عليه السلام : «إنّما اختلفنا عنه لا فيه ، ولكنّكم ما جفّت أرجلكم من البحر حتّى قُلتم لنبيّكم : اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة فقال إنّكم قوم تجهلون» (نهج البلاغة ، قسم الحكم ، تحت رقم 317).
2- آل عمران : 103.

1. الوضوء علی ضوء الكتاب والسنة

اشارة

ص : 7

ص : 8

1. آية الوضوء آية محكمة

اتّفق المسلمون تبعا للذكر الحكيم على أنّ الصلاة لا تصحّ إلاّ بطهور ، والطهور هو الوضوء والغسل والتيمّم وقد بيّن سبحانه سرّ التكليف بتحصيل الطهور قبل الصلاة بقوله ( ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ). (1)

وقد حظا الوضوء في التشريع الإسلامي بأهمية بالغة كما نطق بها الكتاب والسنّة فقال صلى الله عليه وآله وسلم : « لا صلاة إلاّ بطهور ». (2) وفي كلام آخر له : « الوضوء شطر الإيمان ». (3)

فإذا كانت هذه مكانة الوضوء فمن واجب المسلم التعرّف على أجزائه وشرائطه ونواقضه ومبطلاته ، وقد تكفّلت الكتب الفقهية بيان هذه المهمة.

والذي نركز عليه في المقام هو تبيين ما اختلفت فيه كلمة الفقهاء ، أعني : حكم الأرجل من حيث المسح والغسل ، فنقول :

قال سبحانه في كتابه العزيز مبيّنا وجوب الوضوء وكيفيته بقوله :

ص : 9


1- المائدة : 6.
2- . الوسائل : 1 ، الباب 1 من أبواب الوضوء.
3- . الوسائل : 1 ، الباب 1 من أبواب الوضوء.

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ). (1)

الآية تشكّل إحدى آيات الأحكام التي تستنبط منها الأحكام الشرعية العملية الراجعة إلى تنظيم أفعال المكلّفين فيما يرتبط بشئون حياتهم الدينية والدنيوية.

وهذا القسم من الآيات يتمتع بوضوح التعبير ، ونصوع الدلالة ، فإنّ المخاطب فيها هو الجماهير المؤمنة التي ترغب في تطبيق سلوكها العملي عليها ، وبذلك تفترق عن الآيات المتعلّقة بدقائق التوحيد ورقائق المعارف العقلية التي تشدّ إليها أنظار المفكّرين المتضلّعين ، خاصة فيما يرتبط بمسائل المبدأ والمعاد.

والإنسان إذا تأمّل في هذه الآيات ونظائرها من الآيات التي تتكفّل بيان وظيفة المسلم ، كالقيام إلى الصلاة في أوقات خمسة ، يجدها محكمة التعبير ، ناصعة البيان ، واضحة الدلالة ، تخاطب المؤمنين كافّة لترسم لهم وظيفتهم عند القيام إلى الصلاة.

والخطاب _ كما عرفت _ يجب أن يكون بعيدا عن الغموض والتعقيد ، وعن التقديم والتأخير ، وعن تقدير جملة أو كلمة حتّى يقف على مضمونها عامة المسلمين على اختلاف مستوياتهم من غير فرق بين عالم بدقائق القواعد العربية

ص : 10


1- المائدة : 6.

وغير عالم بها.

فمن حاول تفسير الآية على غير هذا النمط فقد غفل عن مكانة الآية ومنزلتها ، كما أنّ من حاول تفسيرها على ضوء الفتاوى الفقهية لأئمّة الفقه فقد دخل من غير بابها.

نزل الروح الأمين بهذه الآية على قلب سيّد المرسلين ، فتلاها على المؤمنين وفهموا واجبهم تجاهها بوضوح ، دون تردد ، ودون أن يشوبها أيّ إبهام أو غموض ، وإنّما دبّ الغموض فيها في عصر تضارب الآراء وظهور الاجتهادات.

فمن قرأ الآية المباركة بإمعان يقول في قلبه ولسانه :

سبحانك اللهم ما أبلغ كلامك وأفصح بيانك ، وقد أوضحت الفريضة وبيّنت الوظيفة فيما يجب على المسلم فعله قبل الصلاة ، فقلت :

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ).

ثمّ قلت مبيّنا لكيفية الوظيفة وانّها أمران :

أ. ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ).

ب. ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ).

سبحانك ما أبقيت إجمالا في كلامك ، ولا إبهاما في بيانك ، فأوصدت باب الخلاف ، وسددت باب الاعتساف بتوضيح الفريضة وبيانها.

سبحانك اللهم إن كان كتابك العزيز هو المهيمن على الكتب السماوية كما قلت ( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) (1) فهو مهيمن _ بالقطع واليقين _ على المأثورات المرويّة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي

ص : 11


1- المائدة : 48.

بين آمرة بغسل الأرجل وآمرة بمسحها.

فما ذا نفعل مع هذه المأثورات المتناقضة المروية عمّن لا ينطق إلاّ عن الوحي ، ولا يناقض نفسه في كلامه؟

سبحانك لا محيص لنا إلاّ الأخذ بما نادى به كتابك العزيز وقرآنك المجيد وقد بيّنه في جملتين تعربان عن واقع الفريضة وأنّها تتألّف من غسلتين ، ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ).

كما تتألّف من مسحتين ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ).

( أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً ) (1).

ص : 12


1- الأنعام : 114.

2. بداية الاختلاف

كان المسلمون قبل عهد الخليفة الثالث على وفاق في أمر الوضوء ، فلم يكن آنذاك أيّ خلاف بارز في مسح الرجلين أو غسلهما ، وإنّما بدأ الخلاف في عهد الخليفة الثالث كما يظهر من كثير من الروايات البيانيّة المروية عن عثمان ، وقد ذكر مسلم طائفة منها في صحيحه.

1. أخرج مسلم عن حمران مولى عثمان قال : أتيت عثمان بن عفان بوضوء فتوضأ ، ثمّ قال : إنّ ناسا يتحدّثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث لا أدري ما هي؟ ألا إنّي رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضّأ مثل وضوئي هذا ، ثمّ قال : من توضّأ هكذا ، غفر له ما تقدّم من ذنبه وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة. (1)

2. أخرج مسلم عن أبي أنس انّ عثمان توضّأ بالمقاسمة فقال : ألا أريكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم توضّأ ثلاثا ثلاثا. وزاد قتيبة في روايته ، قال سفيان : قال أبو النضر عن أبي أنس قال : وعنده رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (2)

ص : 13


1- صحيح مسلم بشرح النووي : 3 / 115 ، برقم 229.
2- صحيح مسلم بشرح النووي : 3 / 115 ، برقم 230.

وهناك روايات بيانية أخرى على لسان عثمان لم يذكرها مسلم وإنّما ذكرها غيره يشير الجميع إلى أنّ ظهور الاختلاف في كيفية وضوء النبي كان في عصره ، وأمّا ما هو سبب الاختلاف فسيوافيك بيانه.

ص : 14

3. القرآن هو المهيمن

والمرجع الوحيد عند اختلاف الآثار

القرآن الكريم هو المهيمن على الكتب السماوية ، وهو ميزان الحقّ والباطل فما ورد فيها يؤخذ به إذا لم يخالف الكتاب العزيز وإلاّ فيضرب عرض الجدار.

فإذا كان هذا موقف القرآن الكريم بالنسبة إلى الكتب السماوية ، فأولى به أن يكون كذلك بالنسبة إلى السنن المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فالكتاب مهيمن عليها ، فيؤخذ بالسنّة _ إذا صحت الاسناد _ ما دامت غير مخالفة للكتاب.

ولا يعني ذلك الاكتفاء ، بالكتاب وحذف السنّة من الشريعة ، فإنّه من عقائد الزنادقة ، بل السنّة حجّة ثانية للمسلمين _ بعد الكتاب العزيز _ بشرط ان لا تضاد السنّة الحاكية السند القطعي عند المسلمين.

فإذا كان القرآن ناطقا بشيء من المسح أو الغسل فما قيمة الخبر الآمر بخلافه ، فلو أمكن الجمع بين القرآن والخبر ، بحمل الثاني على فترة من الزمن ثمّ نسخه القرآن فهو ، وإلاّ فيضرب عرض الجدار.

قال الرازي : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « إذا روي لكم حديث فأعرضوه على كتاب الله ، فإن وافقه فاقبلوه ، وإلاّ فردّوه ». (1)

ص : 15


1- مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير : 3 / 252 ، ط سنة 1308 بمصر.

4. سورة المائدة آخر سورة نزلت

إنّ سورة المائدة هي آخر سورة نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس فيها آية منسوخة.

أخرج أحمد ، وأبو عبيد في فضائله ، والنحاس في ناسخه ، والنسائي وابن المنذر ، والحاكم وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن جبير بن نفير.

قال : حججت فدخلت على عائشة فقالت لي : يا جبير تقرأ المائدة ، قلت :

نعم ، فقالت : أما إنّها آخر سورة نزلت ، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلّوه ، وما وجدتم فيها من حرام فحرّموه.

وأخرج أبو عبيد ، عن ضمرة بن حبيب ، وعطية بن قيس قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « المائدة من آخر القرآن تنزيلا ، فأحلّوا حلالها ، وحرّموا حرامها ».

وأخرج الفريابي وأبو عبيد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن أبي ميسرة ، قال : في المائدة ثماني عشرة فريضة ليس في سورة من القرآن غيرها وليس فيها منسوخ ، وعدّ منها ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ).

وأخرج أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل قال : لم ينسخ من المائدة شيء.

وأخرج عبد بن حميد قال : قلت للحسن : نسخ من المائدة؟ قال : لا. (1)

ص : 16


1- الدر المنثور : 3 / 3 _ 4.

كلّ ذلك يدلّ على أنّ سورة المائدة آخر سورة نزلت على النبي ، فلا محيص من العمل على وفقها وليس فيها أي نسخ.

وقد تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت على أنّ سورة المائدة آخر سورة نزلت وليس فيها آية منسوخة.

أخرج محمد بن مسعود العياشي السمرقندي بإسناده عن علي عليه السلام : « كان القرآن ينسخ بعضه بعضا ، وإنّما يؤخذ من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بآخره ، وكان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة نسخت ما قبلها ولم ينسخها شيء ». (1)

أخرج الشيخ الطوسي بإسناده عن الصادق والباقر عليهما السلام ، عن أمير المؤمنين علي عليه السلام ، إذ قال في حديث طويل : « وسبق الكتاب الخفّين ، إنّما نزلت السورة قبل أن يقبض بشهرين ». (2)

وعلى ضوء ذلك لو دلّ الكتاب على شيء من المسح والغسل ، فالآثار المخالفة له ، إمّا تؤوّل بكونها منسوخة بالقرآن أو تطرح.

ص : 17


1- . نور الثقلين : 1 / 483.
2- . نور الثقلين : 1 / 483.

5. مصدر الاختلاف

اشارة

فإذا كانت بداية الاختلاف في عهد الخليفة الثالث ، فهناك سؤال يطرح نفسه : ما هو سبب الاختلاف في أمر الوضوء بعد ما مضت قرابة عشرين سنة من رحيل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فنقول : هناك وجوه واحتمالات :

1. اختلاف القراءة

ربما يتصوّر انّ مصدر الخلاف في ذلك العصر هو اختلاف القراءة حيث إنّ القرّاء اختلفوا في إعراب ( وَأَرْجُلَكُمْ ) في قوله سبحانه ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) ، فمنهم من قرأ بالجرّ عطفا على الرءوس الذي يستلزم وجوب المسح على الأرجل ، ومنهم من قرأ بالفتح عطفا على ( وُجُوهَكُمْ ) في قوله ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ) الذي يستلزم الغسل.

إنّ هذا الوجه باطل جدا ، فإنّ العربي الصميم إذا قرأ الآية مجرّدا عن أي رأي مسبق لا يرضى بغير عطف الأرجل على الرءوس ، سواء أقرأ بالنصب أم بالجر ، وأمّا عطفه على وجوهكم فلا يخطر بباله حتّى يكون مصدرا للخلاف.

فعلى من يبتغي تفسير الآية وفهم مدلولها ، أن يجعل نفسه كأنّه الحاضر في

ص : 18

عصر نزول الآية ويسمع كلام الله من فم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو أصحابه ، فما يفهمه عند ذاك حجة بينه وبين ربه ، وليس له عند ذاك ، الركون إلى الاحتمالات والوجوه المختلفة التي ظهرت بعد ذلك الوقت.

فلو عرضنا الآية على عربي بعيد عن الأجواء الفقهية ، وعن اختلاف المسلمين في كيفية الوضوء وطلبنا منه تبيين ما فهمه لقال بوضوح :

إنّ الوضوء غسلتان ومسحتان دون أن يفكّر في أنّ الأرجل هل هي معطوفة على الرءوس أو معطوفة على وجوهكم؟ فهو يدرك بأنّها تتضمّن جملتين صرّح فيهما بحكمين :

بدئ في الجملة الأولى ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) بغسل الوجوه ثمّ عطفت الأيدي عليها ، فوجب لها من الحكم مثل حكم الوجوه لأجل العطف.

ثمّ بدئ في الجملة الثانية ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) بمسح الرءوس ثمّ عطفت الأرجل عليها ، فوجب أن يكون لها من الحكم مثل حكم الرءوس لأجل العطف ، والواو تدلّ على مشاركة ما بعدها لما قبلها في الحكم.

والتفكيك بين حكم الرءوس وحكم الأرجل لا يحتمله عربي صميم ، بل يراه مخالفا لظهور الآية.

2. التمسّك بروايات الغسل المنسوخة

يظهر من غير واحد من الروايات أنّ غسل الرجلين كان سنّة أمر بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فترة من عمره ، ولمّا نزلت سورة المائدة وفيها آية الوضوء والأمر بمسح

ص : 19

الأرجل مكان الغسل ، أخذ _ بعد فترة من الزمن _ من لا يعرف الناسخ والمنسوخ بالسنّة المنسوخة ، وآثار الخلاف غافلا عن أنّ الواجب عليه الأخذ بالقرآن الناسخ للسنّة وفيه سورة المائدة التي هي آخر سورة نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

أخرج ابن جرير عن أنس قال : نزل القرآن بالمسح ، والسنّة بالغسل. (1)

ويريد من السنّة عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل نزول القرآن ، ومن المعلوم أنّ القرآن حاكم وناسخ.

وقال ابن عباس : أبى الناس إلاّ الغسل ، ولا أجد في كتاب الله إلاّ المسح. (2)

وبهذا يمكن الجمع بين ما حكي من عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الغسل وبين ظهور الآية في المسح ، وانّ الغسل كان قبل نزول الآية.

ونرى نظير ذلك في المسح على الخفّين ، فقد روى حاتم بن إسماعيل ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي أنّه قال : « سبق الكتاب الخفّين ». (3)

وروى عكرمة عن ابن عباس قال : سبق الكتاب الخفّين. ومعنى ذلك انّه لو صدر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فترة من عمره ، المسح على الخفّين ، فقد جاء الكتاب على خلافه ناسخا له حيث قال ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) أي امسحوا على البشرة لا على النعل ولا على الخفّ ولا الجورب. (4)

3. إشاعة الغسل من قبل السلطة

كان الحكام مصرّين على غسل الأرجل مكان المسح ويلزمون الناس على

ص : 20


1- . الدر المنثور : 3 / 1 ، 4.
2- . الدر المنثور : 3 / 1 ، 4.
3- . مصنف ابن أبي شيبة : 1 / 213 ، باب من كان لا يرى المسح ، الباب 217.
4- . مصنف ابن أبي شيبة : 1 / 213 ، باب من كان لا يرى المسح ، الباب 217.

ذلك بدل المسح لخبث باطن القدمين ، وبما انّ قسما كثيرا منهم كانوا حفاة ، فراق في أنفسهم تبديل المسح بالغسل ، ويدلّ على ذلك بعض ما ورد في النصوص.

1. روى ابن جرير عن حميد ، قال : قال موسى ابن أنس ونحن عنده : يا أبا حمزة انّ الحجاج خطبنا بالأهواز ونحن معه وذكر الطهور ، فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأرجلكم ، وانّه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه ، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما.

فقال أنس : صدق الله وكذب الحجاج قال الله تعالى ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) قال : وكان أنس إذا مسح قدميه بلّهما. (1)

2. وممّا يعرب عن أنّ الدعاية الرسمية كانت تؤيد الغسل ، وتؤاخذ من يقول بالمسح ، حتّى أنّ القائلين به كانوا على حذر من إظهار عقيدتهم فلا يصرّحون بها إلاّ خفية ، ما رواه أحمد بن حنبل بسنده عن أبي مالك الأشعري انّه قال لقومه : اجتمعوا أصلّي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلمّا اجتمعوا ، قال : هل فيكم أحد غيركم؟ قالوا : لا ، إلاّ ابن أخت لنا ، قال : ابن أخت القوم منهم ، فدعا بجفنة فيها ماء ، فتوضّأ ومضمض واستنشق وغسل وجهه ثلاثا وذراعيه ثلاثا ومسح برأسه وظهر قدميه ، ثمّ صلّى. (2)

هذه وجوه ثلاثة يمكن أن يبرّر بها الغسل مكان المسح مع دلالة الكتاب العزيز على المسح ، والأقرب هو الثاني ثمّ الثالث.

ص : 21


1- تفسير القرآن لابن كثير : 2 / 25 ؛ تفسير القرآن للطبري : 6 / 82.
2- مسند أحمد : 5 / 342 ؛ المعجم الكبير : 3 / 280 برقم 12 34.

6. ما هو العامل في قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ )؟

أنّ آية الوضوء هي الدليل المبرم على وجوب الوضوء وكيفيته ، وهي آية واضحة نزلت لتبيين ما هو تكليف المصلّي قبل الصلاة ، وطبيعة الحال تقتضي أن تكون آية واضحة المعالم ، محكمة الدلالة ، دون أن يكتنفها إجمال أو إبهام ، قال سبحانه :

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ).

( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ).

( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ).

وتعيين أحد القولين من مسح الرجلين أو غسلهما رهن تشخيص العامل في لفظة ( وَأَرْجُلَكُمْ ).

توضيحه : إنّ في الآية المباركة عاملين وفعلين كل يصلح في بدء النظر لأن يكون عاملا في قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ ) إنّما الكلام في تعيين ما هو العامل حسب ما يستسيغه الذوق العربي؟

والعاملان هما :

فاغسلوا :

ص : 22

وامسحوا :

فلو قلنا : إنّ العامل هو الأوّل يجب غسلهما ، ولو قلنا بأنّ العامل هو الثاني يجب مسحهما ، فملاك إيجاب واحد منهما رهن تعيين العامل في « أرجلكم ».

لا شكّ انّ الإمعان في الآية ، مع قطع النظر عن كل رأي مسبق وفعل رائج بين المسلمين ، يثبت انّ الثاني ، أي ( فامسحوا ) هو العامل دون الأوّل البعيد.

وإن شئت قلت : إنّه معطوف على القريب ، أي الرءوس لا على البعيد ، أعني : الوجوه ، ونوضح ذلك بالمثال التالي :

لو سمعنا قائلاً يقول : أحب زيدا وعمرا ومررت بخالد وبكر من دون أن يعرب « بكر » بالنصب أو الجرّ ، نحكم بأنّ « بكر » معطوف على « خالد » والعامل فيه هو الفعل الثاني وليس معطوفا على « عمرو » حتّى يكون العامل فيه هو الفعل الأوّل.

وقد ذكر علماء العربية أنّ العطف من حقّه أن يكون على الأقرب دون الأبعد ، وهذا هو الأصل والعدول عنه يحتاج إلى قرينة موجودة في الكلام ، وإلاّ ربما يوجب اللّبس واشتباه المراد بغيره.

فلنفرض أنّ رئيسا قال لخادمه : أكرم زيدا وعمرا واضرب بكرا وخالدا ، فهو يميز بين الجملتين ، ويرى أنّ « عمرا » عطف على « زيدا » ، وأمّا « خالدا » فهو عطف على « بكرا » ، ولا يدور بخلده خلاف ذلك.

قال الرازي : يجوز أن يكون عامل النصب في قوله ( أَرْجُلَكُمْ ) هو قوله : ( وَامْسَحُوا ) ويجوز أن يكون هو قوله ( فَاغْسِلُوا ) لكن العاملين إذا اجتمعا على معمول واحد كان إعمال الأقرب أولى ، فوجب أن يكون عامل النصب في قوله : ( أَرْجُلَكُمْ ) هو قوله ( وَامْسَحُوا ).

ص : 23

فثبت انّ قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ ) بنصب اللام توجب المسح. (1)

فإذا كانت الحال كذلك ولا يجوز الخروج عن القواعد في الأمثلة العرفية ، فأولى أن يكون كلام ربّ العزة كذلك.

وليس المثال منحصرا بما ذكرنا ، بل بإمكانك الأدلاء بأمثلة مختلفة شريطة أن تكون مشابهة لما في الآية.

فلو إنّك عرضت الآية على أيّ عربيّ صميم يجرّد نفسه عن المذهب الذي يعتنقه ، وسألته عن دلالة الآية يجيبك :

إنّ هناك أعضاء يجب غسلها ، وهي الوجوه والأيدي.

وأعضاء يجب مسحها وهي الرءوس والأرجل.

ولو ألفت نظره إلى القواعد العربية تجده انّه لا يتردد انّ العامل في الرءوس والأرجل شيء واحد وهو قوله ( وَامْسَحُوا ) ولا يدور بخلده التفكيك بين الرءوس والأرجل بأن يكون العامل في الرءوس قوله ( فَامْسَحُوا ) والعامل في قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ ) هو قوله ( فَاغْسِلُوا ).

فإذا اتّضحت دلالة الآية على واحد من المسح والغسل فلا نحتاج إلى شيء آخر ، فالموافق منه يؤكّد مضمون الآية ، والمخالف يعالج بنحو من الطرق أفضلها انّها منسوخة بالكتاب.

ص : 24


1- التفسير الكبير : 11 / 161.

7. القراءتان والمسح على الأرجل

إنّ اختلاف القرّاء في لفظة ( وَأَرْجُلَكُمْ ) بالفتح والجر لا يؤثر في دلالة الآية على وجوب المسح ، فالقراءتان تنطبقان على ذلك القول بلا أي إشكال.

توضيح ذلك :

إنّه قرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ ) بالنصب ، وهذه هي القراءة المعروفة التي عليها المصاحف الرائجة في كلّ عصر وجيل.

وقرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر عنه بالجرّ.

ونحن نقول : إنّ القراءتين تنطبقان على القول بالمسح بلا تريّث وتردد.

أمّا الثاني أي قراءة الجر ، فهو أقوى شاهد على أنّه معطوف على قوله : ( بِرُؤُسِكُمْ ) إذ ليس لقراءة الجرّ وجه سوى كونه معطوفا على ما قبله. وعندئذ تكون الأرجل محكومة بالمسح بلا شك.

وأمّا قراءة النصب فالوجه فيه أنّه عطف على محل ( بِرُؤُسِكُمْ ) لأنّه منصوب محلاّ مفعول لقوله ( وَامْسَحُوا ) وعندئذ تكون الأرجل أيضا محكومة بالمسح فقط ، والعطف على المحل أمر شائع في اللغة العربية ، وقد ورد أيضا في

ص : 25

القرآن الكريم.

أمّا القرآن فقال سبحانه ( أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ) (1) فقراءة :

( وَرَسُولِهِ ) بالضم هي القراءة المعروفة الرائجة ولا وجه لرفعه إلاّ كونه معطوفا على محل اسم إنّ ، أعني : لفظ الجلالة في ( أَنَّ اللهَ ) لكونه مبتدأ.

وقد ملئت مسألة العطف على المحل كتب الأعاريب ، فقد عقد ابن هشام بابا خاصا للعطف على المحل وذكر شروطه. (2)

وأمّا في الأدب العربي فحدّث عنه ولا حرج ، قال القائل :

معاوي إنّنا بشر فاسجح

فلسنا بالجبال ولا الحديدا

فقول : « ولا الحديدا » بالنصب عطف على محل « بالجبال » لأنّها خبر ليس في قوله « فلسنا ».

فخرجنا بالنتيجة التالية :

إنّ اختلاف القراءتين لا يؤثّر في تعيّن القول بالمسح ، وسوف يوافيك دراسة القراءتين على القول بالغسل.

ثمّ إنّ لفيفا من أعلام السّنة صرحوا بدلالة الآية على المسح قائلين بأنّ قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ ) معطوف على الأقرب لا الأبعد ، وانّ العامل فيه هو ( وَامْسَحُوا ) ، ونذكر بعض تلك الكلمات :

1. قال ابن حزم : وأمّا قولنا في الرجلين ، فان القرآن نزل بالمسح ، قال تعالى ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) ، وسواء قرئ بخفض اللام أو فتحها ، فهي على كلّ حال عطف على الرءوس امّا على اللفظ وإمّا على الموضع ، ولا يجوز

ص : 26


1- التوبة : 3.
2- مغني اللبيب : الباب 4 ، مبحث العطف. قال : الثاني : العطف على المحل ثمّ ذكر شروطه.

غير ذلك. (1)

وقال الرازي : أمّا القراءة بالجر فهي تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرءوس ، فكما وجب المسح في الرأس فكذلك في الأرجل.

وأمّا القراءة بالنصب ، فقالوا _ أيضا _ انّها توجب المسح ، وذلك لأنّ قوله ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) في محل النصب ، ولكنّها مجرورة بالباء ، فإذا عطف الأرجل على الرءوس جاز في الأرجل النصب عطفا على محل الرءوس ، والجر عطفا على الظاهر ، وهذا مذهب مشهور النحاة. (2)

2. وقال الشيخ السندي الحنفي _ بعد ان جزم انّ ظاهر القرآن هو المسح _ ما هذا لفظه : وإنّما كان المسح هو ظاهر القرآن ، لأنّ قراءة الجر ظاهرة فيه ، وقراءة النصب محمول على جعل العطف على المحل. (3)

ولعلّ هذا المقدار من النقول يكفي في تبيين انّ كلتا القراءتين تدعمان المسح فقط وتنطبقان عليه بلا إشكال.

ص : 27


1- المحلى : 2 / 56.
2- التفسير الكبير : 11 / 161.
3- شرح سنن ابن ماجة : 1 / 88 ، قسم التعليقة.

8. القراءتان وغسل الأرجل

اشارة

قد عرفت أنّ اختلاف القراءة في قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ ) لا يؤثر في القول بمسح الرجلين ، سواء أقرأنا قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ ) بالنصب أم قرأناه بالجر ، فكلتا القراءتين تدعمان المسح وبالتالي العامل في قوله ( أَرْجُلَكُمْ ) هو قوله : ( وَامْسَحُوا ) ولفظة ( وَأَرْجُلَكُمْ ) معطوفة على ( بِرُؤُسِكُمْ ) إمّا لفظا أو محلا.

إنّما الكلام في إمكانية تطبيق القول بالغسل على القراءتين المعروفتين ومقدار انسجامه معهما والقواعد العربية. وسيتضح من خلاله انّ فرض الغسل على الآية خرق واضح للقواعد العربية ، وإليك البيان :

الغسل وقراءة النصب

فلو قلنا بدلالة الآية على غسل الأرجل ، فلا محيص من أن يكون العامل هو قوله في الجملة المتقدّمة ( فَاغْسِلُوا ) وأن يكون معطوفا على قوله ( وُجُوهَكُمْ ) وهذا يستلزم الفصل بين المعطوف ( وَأَرْجُلَكُمْ ) والمعطوف عليه ( وُجُوهَكُمْ ) بجملة أجنبية وهي ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) مع أنّه لا يفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بمفرد فضلا عن جملة أجنبية ، ولم يسمع في كلام العرب الفصيح قائل يقول : « ضربت زيدا » و « مررت ببكر وعمرا » بعطف « عمرا » على « زيدا ».

ص : 28

1. قال ابن حزم : لا يجوز عطف أرجلكم على وجوهكم ، لأنّه لا يجوز أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بقضية مبتدئة. (1)

2. وقال أبو حيان : ومن ذهب إلى أنّ قراءة النصب في ( وَأَرْجُلَكُمْ ) عطف على قوله ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ) وفصل بينهما بهذه الجملة التي هي قوله ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) فهو بعيد ، لأنّ فيه الفصل بين المتعاطفين بجملة إنشائية. (2)

3. وقال الشيخ الحلبي في تفسير الآية : نصب ( وَأَرْجُلَكُمْ ) على المحل وجرها على اللفظ ، ولا يجوز أن يكون النصب للعطف على وجوهكم ، لامتناع العطف على وجوهكم للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة أجنبية هي ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) والأصل أن لا يفصل بينهما بمفرد فضلا عن الجملة ، ولم يسمع في الفصيح نحو ضربت زيدا ومررت ببكر وعمرا بعطف عمرا على زيد. (3)

4. وقال الشيخ السندي : وحمل قراءة النصب بالعطف على المحل أقرب لاطّراد العطف على المحل ، وأيضا فيه خلوص عن الفصل بالأجنبي بين المعطوف والمعطوف عليه ، فصار ظاهر القرآن هو المسح. (4)

إلى غير ذلك من الكلمات التي تصرح بأنّ قراءة النصب واستفادة الغسل يتوقّف على خرق قاعدة نحوية ، وهي الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة أجنبية.

ص : 29


1- المحلى : 2 / 56.
2- تفسير النهر الماد : 1 / 558.
3- غنية المتملي في شرح منية المصلي المعروف بالحلبي الكبير : 16.
4- شرح سنن ابن ماجة : 1 / 88.
الغسل وقراءة الجر

إنّ القائلين بغسل الأرجل برّروا قراءة النصب بوجه قد عرفت ضعفه وعدم انسجامه مع القواعد العربية ، ولكنّهم لمّا وقفوا على قراءة الجرّ وانّها تدلّ على المسح دون الغسل حاروا في تبريرها وتوجيهها مع القول بالغسل ، فإنّ قراءة الجر صريحة في أنّ لفظة ( وَأَرْجُلَكُمْ ) معطوفة على ( بِرُؤُسِكُمْ ) فيكون حكمها حكم الرءوس ، وعند ذلك مالوا يمينا ويسارا حتّى يجدوا لقراءة الخفض مع القول بالغسل مبرّرا ، وليس هو إلاّ القول بالجرّ بالجوار.

وحاصله : انّ قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ ) محكوم حسب القواعد بالنصب لكونها معطوفة على قوله ( وُجُوهَكُمْ ) ، ولكنّه اكتسب أعراب الجرّ من قوله :

( بِرُؤُسِكُمْ ) لأجل وقوعه في جنب لفظ مجرور وهذا ما يقال له : « الجرّ بالجوار » وهو ترك اللفظ إعرابه الطبيعي واكتساب أعراب اللفظ المجاور معه ، وقد مثلوا له بقولهم « جحر ضبّ خرب » فان قوله « خرب » خبر لقوله : « جحر » ولكنّه قرأ بالجرّ لوقوعه في جنب كلمة ضبّ حيث إنّه مجرور باعتبار كونه مضاف إليه.

وبما أنّ الجرّ بالجوار إمّا غير واقع في فصيح اللغة ، وعلى فرض وقوعه فله شروط مفقودة في المقام ، نعقد لبيان الموضوع الفصل التالي.

ص : 30

9. الجر بالجوار صحة وشرطا

لما كان القائلون بغسل الأرجل يفسّرون قراءة الجرّ بالجوار ، نذكر كلمات أعلام الأدباء في المقام ليعلم مدى صحّة الجرّ بالجوار ، وعلى فرض صحّته ما هي شروطه؟

1. قال الزجاج : ربما يقال ( وَأَرْجُلَكُمْ ) مجرور لأجل الجوار ، أي لوقوعه في جنب الرءوس المجرورة ، نظير قول القائل : جحر ضب خرب ، فإن « خرب » خبر « الجحر » فيجب أن يكون مرفوعا ، لكنّه صار مجرورا لأجل الجوار.

هذا ، ثمّ ردّ عليه بقوله : وهو غير صحيح ، لاتّفاق أهل العربية على أنّ الأعراب بالمجاورة شاذ نادر ، وما هذا سبيله لا يجوز حمل القرآن عليه من غير ضرورة يلجأ إليها. (1)

2. قال علاء الدين البغدادي في تفسيره المسمى بالخازن : وأمّا من جعل كسر اللام في « الأرجل » على مجاورة اللفظ دون الحكم. واستدل بقولهم : « جحر ضب خرب » وقال : الخرب نعت للجحر لا الضب ، وإنّما أخذ إعراب الضب للمجاورة فليس بجيّد لوجهين :

ص : 31


1- معاني القرآن وإعرابه : 2 / 153.

أ. لأنّ الكسر على المجاورة إنّما يحمل لأجل الضرورة في الشعر ، أو يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس ، لأنّ الخرب لا يكون نعتا للضب بل للجحر.

ب. ولأنّ الكسر بالجوار إنّما يكون بدون واو العطف ، امّا مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب. (1)

3. أنكر السيرافي وابن جنّي الخفض على الجوار وتأوّلا قولهم « خرب » بالجر على أنّه صفة للضب ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى المغني. (2)

4. قال ابن هشام : ولا يكون الجر بالجوار في النسق ، لأنّ العاطف يمنع التجاور. (3)

ويتلخص من هذه الكلمات التي نقلناها بالإيجاز الأمور التالية :

أوّلا : انّ الخفض بالجواز لم يثبت في الكلام الفصيح.

ثانيا : انّ الخفض بالجوار على فرض ثبوته إمّا لضرورة الشعر أو لأجل استحسان الطبع المماثلة بين اللفظين المتجاورين ، وكلّ من الوجهين منتفيان في المورد ، فليس هنا ضرورة شعرية ولا استحسان الطبع في إخلاء لفظ ( وَأَرْجُلَكُمْ ) من إعرابه الواقعي واكتسابه إعراب جاره.

ثالثا : انّ العطف بالجوار إنّما يجوز فيما إذا يؤمن عن الاشتباه كما في المثل المعروف فان « خرب » وصف للجحر لا للضبّ وان جرّ ، بخلاف المقام فإنّ قراءة الجرّ تورث الاشتباه ، فلو كان الأرجل في الواقع محكومة بالغسل فالجرّ بالجوار

ص : 32


1- تفسير الخازن : 2 / 16.
2- . مغني اللبيب ، الباب الثامن ، القاعدة الثانية ، 359.
3- . مغني اللبيب ، الباب الثامن ، القاعدة الثانية ، 359.

يوهم كون الأرجل محكومة بالمسح وانّها معطوفة على الرءوس من دون أن يلتفت المخاطب إلى أنّ الجرّ للجوار فلا داعي لارتكاب هذا النوع من الخفض الذي يضاد بظاهره مراد القائل.

ورابعا : لم يثبت الجر بالجوار إلاّ في الوصف والبدل وأمثالهما لا في المعطوف كما في الآية.

وظهر من هذا البحث الضافي انّ القول بالمسح ينطبق على كلتا القراءتين بلا أدنى تأويل وحرج ، وهذا بخلاف القول بالغسل فإنّه لا ينسجم لا مع قراءة النصب ولا مع قراءة الجرّ.

ص : 33

10. الاجتهاد تجاه النص

اشارة

إنّ آفة الفقه هو التمسك بالاعتبارات والوجوه الاستحسانيّة أمام النصّ ، لأنّه يضاد مذهب التعبديّة ، فالمسلم يتعبد بالنص _ وإن بلغ ما بلغ _ ولا يقدّم رأيه على كتاب الله وسنّة رسوله الصحيحة ، وهو آية الاستسلام أمام الله وأمام رسوله وكتابه وسننه ، قال سبحانه ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ). (1)

أي لا تتقدّموا على الله ورسوله بافتراض رأيكم على الرسول والأمّة المسلمة.

إنّ تقديم الوجوه الاستحسانية على النصّ تقدّم على الله ورسوله ، ونعم ما قال الإمام الشافعي : « من استحسن فقد شرّع ».

وقد وقف غير واحد من أعلام السنّة على أنّ ظاهر الآية أو صريحها هو مسح الرجلين واعترفوا بذلك بوجدانهم أو بلسانهم وقلمهم ، ولكن التعبد بمذهب الأئمّة الأربعة وغيرهم عاقهم عن الأخذ بمضمون الآية ، فاتبعوا المذهب الموروث بدل الاتّباع للقرآن الكريم ، ولو لا انّهم نشئوا على هذه الفكرة منذ نعومة أظفارهم ، لما قدّموا اجتهاداتهم على كتاب الله العزيز الدالّ على المسح ، وحرّروا

ص : 34


1- الحجرات : 1.

تفكّرهم عن قيد التقليد ، وإليك شيئا من هذه الاجتهادات التي لا يرتضيها العقل ولا الوجدان الحرّ.

1. الغسل يشمل المسح

زعم الجصاص أنّ آية الوضوء مجملة فلا بدّ من العمل بالاحتياط ، وهو الغسل المشتمل على المسح أيضا ، بخلاف المسح فإنّه خال عن الغسل ، ثمّ رفع إبهام الآية بادّعاء اتّفاق الجميع على أنّه لو غسل فقد أدّى الفرض. (1)

يلاحظ عليه : أوّلا : بأنّه كيف يرمي الآية بالإجمال مع أنّها واضحة الدلالة ، لأنّها بصدد بيان ما هو الواجب على عامة المصلّين عند القيام إلى الصلاة ، ومثل هذا يجب أن يكون مبيّن المراد ، غير محتمل إلاّ لمعنى واحد ، وإنّما دعاه إلى القول بالإجمال الفرار عن ظاهر الآية الدالّ على أنّ فريضة الأرجل هو المسح لا الغسل.

وثانيا : أنّ ما يقوله إنّ الغسل يشمل المسح دون العكس فإنّه خال من الغسل ، غير صحيح ، لأنّ المراد من الغسل في المقام هو إسالة الماء على العضو ، كما أنّ المراد من المسح فيها هو إمرار اليد على العضو بالبلل المتبقّي في اليد ، وعندئذ يصبح الغسل والمسح فريضتين مختلفتين على نحو يغاير كلّ الآخر ، فلا الغسل يشتمل على المسح ولا المسح على الغسل.

وثالثا : أنّ ادّعاء رفع إبهام الآية بأنّه إذا غسل فقد أدّى فرضه باتّفاق الجميع مصادرة بالمطلوب ، إذ كيف يدّعي الاتفاق عليه مع أنّ القائلين بالمسح بين الصحابة والتابعين كما سيوافيك أسماؤهم ، ليسوا بأقلّ من القائلين بالغسل ، كما أنّ الإمامية وهم ربع المسلمين يرون بطلان الغسل ولزوم المسح فأين اتّفاق الجميع على الغسل؟!

ص : 35


1- أحكام القرآن : 2 / 346.
2. نسخ السنّة للكتاب

وهناك من يرى دلالة الآية على المسح بوضوح ويبطل القول بأنّ أرجلكم معطوف على قوله : « وجوهكم » ويقول : لا يجوز البتة أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بخبر غير الخبر عن المعطوف ، لأنّه إشكال وتلبيس وإضلال لا بيان. لا تقول : ضربت محمدا وزيدا ومررت بخالد وعمرا ، وأنت تريد أنّك ضربت عمرا أصلا ، فلما جاءت السنّة بغسل الرجلين صحّ انّ المسح منسوخ عنهما. (1)

يلاحظ عليه أوّلا : أنّه لا يصحّ نسخ الكتاب إلاّ بالسنّة القطعية ، لأنّ الكتاب دليل قطعي لا ينسخه إلاّ دليل قطعي مثله.

وأمّا المقام فالسنّة الدالة على الغسل متعارضة مع السنّة الدالة على المسح ، فكيف يمكن أن نقدّم أحد المتعارضين على القرآن الكريم بغير مرجح؟ وستوافيك الروايات المتضافرة الدالة على أنّ النبي وأصحابه كانوا يمسحون الأرجل مكان الغسل.

وثانيا : اتّفقت الأمّة على أنّ سورة المائدة آخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وانّها لم تنسخ آية منها ، وقد مرّ من الروايات وأقوال الصحابة ما يدلّ على ذلك.

وثالثا : كان اللازم على ابن حزم أن يجعل الآية دليلا على منسوخيّة السنّة ، ولو ثبت انّ النبي غسل رجليه في فترة من الزمن فالآية ناسخة لها لا أنّها ناسخة للقرآن.

ص : 36


1- الإحكام في أصول الأحكام : 1 / 510.
3. التنبيه على وجوب الاقتصاد في صب الماء

وقد وقف الزمخشري على أنّ قراءة الجر تلزم الإنسان بمسح الأرجل لا غسلهما ، فصار بصدد منع الدلالة ، وانّ الأرجل وإن كانت معطوفة على الرءوس ومع ذلك يفقد العطف الدلالة على الغسل ، قال :

قرأ جماعة ( وَأَرْجُلَكُمْ ) بالنصب فدلّ على أنّ الأرجل مغسولة.

فإن قلت : فما تصنع بقراءة الجر ودخلوها في حكم المسح؟

قلت : الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصب الماء عليها ، فكان مظنة للإسراف المذموم المنهيّ عنه ، فعطفت على الثالث الممسوح لا لتمسح ولكن لينبّه على وجوب الاقتصاد في صبّ الماء عليها وقيل إلى الكعبين. (1)

يلاحظ عليه أوّلا : أنّ ما ذكره من الوجه إنّما يصحّ إذا كانت النكتة ممّا تعيه عامة المخاطبين من المؤمنين ، وأين هؤلاء من هذه النكتة التي ابتدعها الزمخشري توجيها لمذهبه؟

وبعبارة أخرى : انّما يصحّ ما ذكره من النكتة إذا أمن من الالتباس لا في مثل المقام الذي لا يؤمن منه ، وبالتالي يحمل ظاهر اللفظ على وجوب المسح غفلة عن النكتة البديعة!! للشيخ الزمخشري.

وثانيا : أنّ الأيدي أيضا مظنة للإسراف مثل الأرجل ، فلما ذا لم ينبّه على وجوب الاقتصاد في صب الماء فيها أيضا؟!

كل ذلك يعرب عن أنّ هذا الوجه توجيه للمذهب الذي نشأ وترعرع صاحب الكشاف عليه ، ولو لا ذلك لم يرد بخلده هذا الوجه.

ص : 37


1- الكشاف : 1 / 326.
4. سهولة غسل الرجلين دون الشعر

لما وقف ابن قدامة على أنّ مقتضى عطف الأرجل على الرءوس هو المسح ، سواء أقرأت بالنصب أو بالجر ، أخذ يتفلسف ويجتهد أمام الدليل الصارم ويقول : إنّ هناك فرقا بين الرأس والرجل ، ولأجله لا يمكن أن يحكم عليهما بحكم واحد ، وهذه الوجوه عبارة عن :

1. انّ الممسوح في الرأس شعر يشقّ غسله ، والرجلان بخلاف ذلك فهما أشبه بالمغسولات.

2. انّهما محدودان بحد ينتهي إليه فأشبها باليدين.

3. انّهما معرّضتان للخبث لكونهما يوطّأ بهما على الأرض بخلاف الرأس. (1)

يلاحظ عليه : أنّه اجتهاد مقابل النص وتفلسف في الأحكام.

فأمّا الأوّل : فأيّ مشقّة في غسل الشعر إذا كان المغسول جزاء منه فإنّه الواجب في المسح ، فليكن كذلك عند الغسل.

وأمّا الثاني : فلانّ التمسك بالشّبه ضعيف جدا ، إذ كم من متشابهين يختلفان في الحكم.

وأفسد منه هو الوجه الثالث فإنّ كون الرّجلين معرّضتين للخبث لا يقتضي تعيّن الغسل ، فإنّ القائل بالمسح يقول بأنّه يجب أن تكون الرّجل طاهرة من الخبث ثمّ تمسح.

ولعمري إنّ هذا الوجه وما تقدّمه للزمخشري تلاعب بالآية لغاية دعم المذهب ، والجدير بالفقيه الواعي هو الأخذ بالآية ، سواء أوافقت مذهب إمامه أم لا. ولصاحب المنار كلمة قيّمة في حقّ هؤلاء الذين يقدّمون فتاوى الأئمّة على

ص : 38


1- المغني : 1 / 124.

الكتاب العزيز والسنّة الصحيحة يقول : إنّ العمل عندهم على أقوال كتبهم دون كتاب الله وسنّة رسوله. (1)

5. اتّباع السلف في الغسل

لمّا وقف ابن تيمية على أنّ قراءة الخفض تستلزم العطف على الرءوس فيلزم حينئذ مسح الرجلين لا غسلهما ، التجأ إلى تأويل النص ، وقال :

« ومن قرأ بالخفض فليس معناه وامسحوا أرجلكم كما يظنه بعض الناس ، لأوجه : أحدهما : انّ الذين قرءوا ذلك من السلف ، قالوا : عاد الأمر إلى الغسل ». (2)

يلاحظ عليه : أنّه لو صحّ ما ذكره لزم القول بأنّ السلف تركوا القرآن وراء ظهورهم وأخذوا بما لا يوافق القرآن ، ولو كان رجوعهم لأجل نسخ الكتاب فقد عرفت أنّ القرآن لا ينسخ بخبر الواحد. ولو سلّمنا جواز النسخ فسؤره المائدة لم ينسخ منها شيء.

ومن العجب أنّ ابن تيميّة ناقض نفسه فقد ذكر في الوجه السابع ما هذا نصه : « إنّ التيمّم جعل بدلا عن الوضوء عند الحاجة فحذف شطر أعضاء الوضوء وخفّ الشطر الثاني ، وذلك فإنّه حذف ما كان ممسوحا ومسح ما كان مغسولا ». (3)

فلو كان التيمّم على أساس حذف ما كان ممسوحا فقد حذف حكم الأرجل في التيمّم ، فلازم ذلك أن يكون حكمه هو المسح حتّى يصحّ حذفه ، فلو كان حكمه هو الغسل لم يحذف ، بل يبقى كالوجه واليد ويمسح.

ص : 39


1- تفسير المنار : 2 / 386.
2- التفسير الكبير : 4 / 48.
3- المصدر نفسه : 50.
6. التحديد آية الغسل

إنّ المفسر المعروف بالشيخ إسماعيل حقي البروسوي أيّد القول بالغسل بأنّ المسح لم يعهد محدودا وإنّما جاء التحديد في المغسولات. (1)

يريد بكلامه هذا انّ الأرجل حدّدت بالكعبين فأشبه غسل الكعبين بغسل الأيدي المحدّد بالمرافق ، فيحكم عليها بالغسل يحكم الاشتراك في التحديد.

يلاحظ عليه : أنّ كلاّ من المغسول والممسوح جاء في الآية محدّدا وغير محدّد ، فالوجوه في الآية تغسل ولم تحدد ، والأيدي تغسل وحدّدت بقوله ( إِلَى الْمَرافِقِ ) ، فيعلم من ذلك انّ الغسل تارة يكون محدّدا وأخرى غير محدد ، فلا التحديد دليل على وجوب الغَسل ولا عدم التحديد دليل على وجوب المسح ، وهكذا الحال في الممسوح فالأرجل _ على المختار _ تمسح ويكون محددا إلى الكعبين والرأس تمسح وهو غير محدد ، فجعل التحديد علامة للغسل أشبه بجعل الأعم دليلا على الأخص ، وما ذكره من أنّه لم يجيء في شيء من المسح تحديد ، أوّل الكلام ، وهو من قبيل أخذ المدّعى في الدليل.

ولو قلنا بهذه الاستحسانات ، فالذوق الأدبي يقتضي أن تكون الأرجل ممسوحة لا مغسولة.

قال المرتضى : إنّ الآية تضمّنت ذكر عضو مغسول غير محدود وهو الوجه وعطف عليه مغسول محدود وهما اليدان ، ثمّ استؤنف ذكر عضو ممسوح غير محدود وهو الرأس فيجب أن تكون الأرجل ممسوحة وهي محدودة ومعطوفة عليه دون غيره ، لتتقابل الجملتان في عطف مغسول محدود على مغسول غير محدود وفي عطف ممسوح محدود على ممسوح غير محدود. (2)

ص : 40


1- روح البيان : 2 / 351.
2- الانتصار : 24.
7. المرجع هو السنّة بعد تعارض القراءتين

ذهب الآلوسي إلى أنّ القراءتين المتواترتين المتعارضتين كأنّهما آيتان متعارضتان ، والأصل في مثله هو السقوط والرجوع إلى السنّة؟

قال : إنّ القراءتين متواترتان بإجماع الفريقين ، بل بإطباق أهل الإسلام كلّهم ، ومن القواعد الأصولية عند الطائفتين انّ القراءتين المتواترتين إذا تعارضتا في آية واحدة فلهما حكم آيتين ، فلا بدّ لنا أن نسعى ونجتهد في تطبيقهما أوّلا ، مهما أمكن ، لأنّ الأصل في الدلائل الأعمال دون الإهمال كما تقرر عند أهل الأصول ، ثمّ نطلب بعد ذلك الترجيح بينهما ، ثمّ إذا لم يتيسر لنا الترجيح فنتركهما ونتوجّه إلى الدلائل الأخر من السنّة. (1)

يلاحظ عليه : أنّ من الغرائب أن نجعل القراءتين متعارضتين ثمّ نسعى في رفع التعارض بالوجوه التي ذكرها القائل ، فإنّ فرض التعارض بين القراءتين رهن فرض المذهب على القرآن وتطبيقه عليه وإلاّ فالقراءتان ليس فيهما أي تعارض وتهافت وكلتاهما تهدفان إلى أمر واحد وهو مسح الرجلين ، لأنّ قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ ) على كلتا القراءتين معطوف على لفظ واحد وهو قوله ( بِرُؤُسِكُمْ ) ، لكن إمّا عطفا على المحل فتنصب أو عطفا على الظاهر فتجر.

8. الغسل إضافة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم

ذهب جمال الدين القاسمي إلى أنّ الآية صريحة في أنّ الفريضة هي المسح كما قاله ابن عباس وغيره ، ولكن إيثار غسلهما في المأثور عنه إنّما هو للتزيّد في الفرض والتوسّع فيه حسب عادته ، فإنّه سنّ في كلّ فرض سننا تدعمه وتقوّيه في

ص : 41


1- روح المعاني : 6 / 74.

الصلاة والزكاة والصوم والحجّ.

وممّا يدلّ على أنّ واجبهما المسح تشريع المسح على الخفّين والجوربين ولا سند له إلاّ هذه الآية ، فإنّ كلّ سنّة أصلها في كتاب الله منطوقا أو مفهوما ، فاعرف ذلك واحتفظ به والله الهادي. (1)

يلاحظ عليه : حاشا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يزيد أو ينقص في الفرائض ، بل هو يتّبع الوحي ، وكان شعاره صلى الله عليه وآله وسلم ( قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي ) (2) وقوله ( قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَ ) (3) ولو زاد في الصلوات فإنّما بأمر من الله سبحانه.

ثمّ لو زاد ما زاد فإنّما يزيد فيما ثبت أصله بالسنّة ، لا بالكتاب العزيز كإضافة ركعتين في الرباعية وركعة في الثلاثيّة.

أخرج مسلم عن ابن عباس قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيّكم صلى الله عليه وآله وسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين. (4)

فلو افترضنا أنّ الفريضة كانت هي المسح دون الغسل وانّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم زاد في الفرض بحكم الروايات الآمرة بالغسل ، لكن ما ذا نفعل عندئذ بالروايات الآمرة بالمسح ، وهي روايات صحاح هائلة كما سيوافيك ، فهل هنا ملجأ بعد التعارض إلاّ الذكر الحكيم؟!

وكلّ هذه الكلمات تعرب عن أنّ أصحابها اتّخذوا موقفا مسبقا حيال الآية

ص : 42


1- التأويل : 6 / 112.
2- الأعراف : 203.
3- يونس : 15.
4- صحيح مسلم : 2 / 143 ، باب صلاة المسافرين.

الصريحة الواضحة الدلالة ، وفرضوا مذهبهم عليها ، الأمر الذي أوقعهم في حيص بيص ومأزق ، وطرقوا كافة الأبواب للخروج منه وتشبّثوا بوجوه استحسانية لا تغني عن الحقّ شيئا.

9. التمسّك بالمصالح

لما استشعر صاحب المنار ، بأنّ الآية ظاهرة في مسح الرجلين باليد المبلّلة بالماء حاول صرف الآية عن ظاهرها بالتمسّك بالمصالح ، وقال :

لا يعقل لإيجاب مسح ظاهر القدم باليد المبلّلة بالماء حكمة ، بل هو خلاف حكمة الوضوء ، لأنّ طروء الرطوبة القليلة على العضو الذي عليه غبار أو وسخ يزيده وساخة ، وينال اليد الماسحة حظ من هذه الوساخة. (1)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره استحسان لا يعرّج عليه مع وجود النص ، فلا شك أنّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح الواقعية ولا يجب علينا أن نقف عليها ، فأي مصلحة في المسح على الرأس ولو بمقدار إصبع أو إصبعين حتى قال الشافعي : إذا مسح الرأس بإصبع واحدة أو بعض إصبع أو باطن كفه ، أو أمر من يمسح له أجزأه ذلك؟!

وهناك كلمة قيّمة للإمام شرف الدين الموسوي نأتي بنصها ، قال _ رحمه الله _ : نحن نؤمن بأنّ الشارع المقدّس لاحظ عباده في كل ما كلّفهم به من أحكامه الشرعية ، فلم يأمرهم إلاّ بما فيه مصلحتهم ، ولم ينههم إلاّ عمّا فيه مفسدة لهم ، لكنّه مع ذلك لم يجعل شيئا من مدارك تلك الأحكام منوطا من حيث المصالح والمفاسد بآراء العباد ، بل تعبّدهم بأدلّة قويّة عيّنها لهم ، فلم يجعل لهم مندوحة

ص : 43


1- تفسير المنار : 6 / 234.

عنها إلى ما سواها. وأوّل تلك الأدلّة الحكيمة كتاب الله عزّ وجلّ ، وقد حكم بمسح الرءوس والأرجل في الوضوء ، فلا مندوحة عن البخوع لحكمه ، أمّا نقاء الأرجل من الدنس فلا بدّ من إحرازه قبل المسح عليها عملا بأدلّة خاصّة دلّت على اشتراط الطهارة في أعضاء الوضوء قبل الشروع فيه (1). (2)

10. اعتراض جملة ( وَامْسَحُوا. ) لبيان الترتب

إنّ الفصل بين المتعاطفات بقول ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) لبيان تقدّم المسح على غسل الأرجل. (3)

يلاحظ عليه : بأنّ في وسع المتكلم أن يجمع بين ذكر الترتيب ووضوح البيان بتكرار الفعل بأن يقول : « فامسحوا برءوسكم واغسلوا أرجلكم » فيكون كلامه مبيّنا لمقصده وفي الوقت نفسه نزيها عن اللّبس.

ص : 44


1- ولذا ترى حفاة الشيعة والعمال منهم _ كأهل الحرث وأمثالهم وسائر من لا يبالون بطهارة أرجلهم في غير أوقات العبادة المشروطة بالطهارة _ إذا أرادوا الوضوء غسلوا أرجلهم ثمّ توضّئوا فمسحوا عليها نقيّة جافّة.
2- مسائل فقهية : 82.
3- مجلة الفيصل العدد 235 صفحة 48 ، مقالة أبي عبد الرحمن الظاهري.

11. المسح على الأرجل في الأحاديث الصحيحة

اشارة

قد تعرّفت _ من دلالة الآية _ على أنّ الفرض في مورد الأرجل هو المسح ، وبما انّ الآية نزلت في أخريات حياة النبي ولم تنسخ بعد فهي بنفسها كافية في الدلالة على المقصود.

غير إنّنا تعزيزا للمطلب نذكر ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من لزوم المسح على الأرجل ، ونقتصر في ذلك بالمتون مع تجريد الأسانيد ، لأنّ الكتاب لا يسع لذكرها.

ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حول مسح الأرجل

1. عن بسر بن سعيد قال : أتى عثمان المقاعد فدعا بوضوء فتمضمض واستنشق ثمّ غسل وجهه ثلاثا ويديه ثلاثا ثلاثا ومسح برأسه ورجليه ثلاثا ثلاثا ، ثمّ قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هكذا توضّأ ، يا هؤلاء أكذلك؟ قالوا : نعم ، لنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنده. (1)

ص : 45


1- مسند أحمد : 1 / 109 ، الحديث 489.

2. عن حمران قال : دعا عثمان بماء فتوضّأ ثمّ ضحك ، ثمّ قال : ألا تسألوني ممّ أضحك؟ قالوا : يا أمير المؤمنين ما أضحكك؟ قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضّأ كما توضّأت ، فتمضمض واستنشق وغسل وجهه ثلاثا ويديه ثلاثا ومسح برأسه وظهر قدميه. (1)

3. وفي مسند عبد الله بن زيد المازني انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم توضّأ فغسل وجهه ثلاثا ويديه مرتين ومسح رأسه ورجليه مرتين. (2)

4. عن أبي مطر قال : بينما نحن جلوس مع علي في المسجد ، جاء رجل إلى علي وقال : أرني وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدعا قنبر ، فقال : ائتني بكوز من ماء فغسل يديه ووجهه ثلاثا ، فأدخل بعض أصابعه في فيه واستنشق ثلاثا ، وغسل ذراعيه ثلاثا ومسح رأسه واحدة ورجليه إلى الكعبين ولحيته تهطل على صدره ثمّ حسا حسوة بعد الوضوء ثمّ قال : أين السائل عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كذا كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (3)

5. عن عباد بن تميم ، عن أبيه ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضّأ ومسح بالماء على لحيته ورجليه. (4)

6. عن علي بن أبي طالب عليه السلام ؛ قال : كنت أرى أنّ باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح ظاهرهما. (5)

ص : 46


1- كنز العمال : 9 / 436 ، الحديث 26863.
2- كنز العمال : 9 / 451 ، الحديث 26922.
3- كنز العمال : 9 / 448 برقم 26908.
4- كنز العمال : 9 / 429 برقم 26822.
5- مسند أحمد : 1 / 153 برقم 739 وص 183 برقم 91.

7. عن رفاعة بن رافع انّه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : « إنّه لا يجوز صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله عزّ وجلّ ، ثمّ يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ، ويمسح رأسه ورجليه إلى الكعبين ». (1)

8. ما روي عن عبد الله بن عمرو ، قال : تخلّف عنّا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفرة سافرناها ، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضّأ فجعلنا نمسح على أرجلنا ، فنادى بأعلى صوته : « ويل للأعقاب من النار » مرتين أو ثلاثا. (2)

9. عن أبي مالك الأشعري انّه قال لقومه : اجتمعوا أصلّي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلمّا اجتمعوا قال : هل فيكم أحد غيركم؟ قالوا : لا ، إلاّ ابن أخت لنا ، قال : ابن أخت القوم منهم ، فدعا بجفنة فيها ماء ، فتوضّأ ومضمض واستنشق ، وغسل وجهه ثلاثا وذراعيه ثلاثا ، ومسح برأسه وظهر قدميه ، ثمّ صلّى بهم فكبر بهم اثنتين وعشرين تكبيرة. (3)

10. عن عباد بن تميم المازني ، عن أبيه انّه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوضّأ ويمسح الماء على رجليه. (4)

11. عن أوس بن أبي أوس الثقفي أنّه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى كظامة قوم بالطائف ، فتوضّأ ومسح على قدميه. (5)

12. عن رفاعة بن رافع قال : كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ جاءه رجل فدخل المسجد ، فصلّى فلمّا قضى الصلاة جاء فسلم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى

ص : 47


1- سنن ابن ماجة : 1 / 156 ، حديث 460 ؛ سنن النسائي : 2 / 226.
2- صحيح البخاري : 1 / 23 ، باب من رفع صوته بالعلم من كتاب العلم ، الحديث 1.
3- مسند أحمد : 5 / 342.
4- سنن ابن ماجة : 1 ، الحديث 460.
5- تفسير الطبري : 6 / 86 ؛ المعجم الكبير : 1 / 221 برقم 603.

القوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « ارجع فصلّ فإنّك لم تصل » وجعل الرجل يصلّي ، وجعلنا نرمق صلاته لا ندري ما يعيب منها ، فلمّا جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى القوم قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « وعليك ارجع فصلّ فإنّك لم تصل ».

قال همام : فلا ندري أمره بذلك مرتين أو ثلاثا ، فقال له الرجل : ما أدري ما عبت من صلاتي؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنّه لا تتم صلاة أحدكم حتّى يسبغ الوضوء كما أمره الله ، فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ، ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين ، ثمّ يكبر الله تعالى ويثني عليه ، ثمّ يقرأ أمّ القرآن وما أذن له فيه ويسر ، ثمّ يكبر فيركع فيضع كفيه على ركبتيه حتّى تطمئن مفاصله ، ويسترخي ثمّ يقول :

سمع الله لمن حمده ، ويستوي قائماً حتّى يقيم صلبه ويأخذ كلّ عظم مأخذه ، ثمّ يكبر فيسجد فيمكن وجهه. قال همام : وربما قال جبهته من الأرض حتّى تطمئن مفاصله ويسترخي ، ثمّ يكبر فيستوي قاعدا على مقعده ويقيم صلبه ، فوصف الصلاة هكذا أربع ركعات حتّى فرغ ، ثمّ قال : لا يتم صلاة أحدكم حتّى يفعل ذلك. (1)

13. عن ابن عباس انّه قال : ذكر المسح على القدمين عند عمر وسعد وعبد الله بن عمر فقال عمر بن الخطاب : سعد أفقه منك ، فقال عمر : يا سعد انّا لا ننكر انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسح _ أي على القدمين _ ولكن هل مسح منذ أنزلت سورة المائدة فإنّها أحكمت كل شيء وكانت آخر سورة من القرآن إلا براءة. (2)

ص : 48


1- المستدرك للحاكم : 1 / 241.
2- الدر المنثور : 3 / 29.

14. عن عروة بن الزبير انّ جبرئيل عليه السلام لمّا نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أوّل البعثة فتح بالإعجاز عينا من ماء فتوضأ ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم ينظر إليه فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح برأسه ورجليه إلى الكعبين ، ففعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما رأى جبرئيل يفعل. (1)

15. روى عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن أبيه انّ أبا جبير قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع ابنته التي تزوجها رسول الله ، فدعا رسول الله بوضوء فغسل يديه فأنقاهما ، ثمّ مضمض فاه واستنشق بماء ، ثمّ غسل وجهه ويديه إلى المرفقين ثلاثا ، ثمّ مسح رأسه ورجليه. (2)

إلى هنا تمّ ما عثرنا عليه من الروايات عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم على وجه عابر ، وهي تدلّ على أنّ قول النبي وفعله كان على المسح لا الغسل.

ما حكي عن الصحابة والتابعين حول مسح الأرجل

16. حدث سفيان قال : رأيت عليا عليه السلام توضّأ فمسح ظهورهما. (3)

17. عن حمران انّه قال : رأيت عثمان دعا بماء غسل ، فغسل كفيه ثلاثا ومضمض واستنشق وغسل وجهه ثلاثا وذراعيه ثلاثا ومسح برأسه وظهر قدميه. (4)

18. عن عاصم الأحول ، عن أنس قال : نزل القرآن بالمسح والسنّة بالغسل. وهذا اسناد صحيح. (5)

ص : 49


1- الخصائص الكبرى : 1 / 94.
2- أسد الغابة : 5 / 156.
3- مسند أحمد : 1 / 200 ، الحديث 1018.
4- كنز العمال : 5 / 106.
5- الأحاديث 18 _ 26 ، كلّها منقولة من تفسير الطبري : 6 / 82.

19. عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الوضوء غسلتان ومسحتان.

20. عن عبد الله العتكي ، عن عكرمة قال : ليس على الرجلين غسل انّما نزل فيهما المسح.

21. عن جابر ، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : امسح على رأسك وقدميك.

22. عن ابن علية بن داود ، عن عامر الشعبي انّه قال : إنّما هو المسح على الرجلين ألا ترى أنّ ما كان عليه الغسل جعل عليه المسح وما كان عليه المسح أهمل ( في التيمّم ).

23. عن عامر الشعبي ، قال : أمر أن يمسح في التيمّم ما أمر أن يغسل في الوضوء ، وأبطل ما أمر أن يمسح في الوضوء : الرأس والرجلان.

24. عن عامر الشعبي قال : أمر أن يمسح بالصعيد في التيمّم ، ما أمر أن يغسل بالماء ، وأهمل ما أمر أن يمسح بالماء.

25. عن يونس قال : حدثني من صحب عكرمة إلى واسط قال : فما رأيته غسل رجليه ، إنّما يمسح عليهما حتّى خرج منها.

26. عن قتادة في تفسير قوله سبحانه ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) افترض الله غسلتين ومسحتين.

27. قال موسى بن أنس لأبي حمزة : إنّ الحجاج خطبنا بالأهواز ونحن معه ، فذكر الطهور فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأرجلكم ، وأنّه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه ، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما ، فقال أنس : صدق الله وكذب الحجاج ، قال الله تعالى :

ص : 50

( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ).

قال : وكان أنس إذا مسح قدميه بلّها.

قال ابن كثير : إسناده صحيح إليه. (1)

28. عن الشعبي قال : نزل جبرئيل بالمسح ، ثمّ قال الشعبي : ألا ترى أنّ التيمم أن يمسح ما كان غسل ويلغى ما كان مسحا. (2)

29. عن إسماعيل قلت لعامر الشعبي : إنّ أناسا يقولون إنّ جبرئيل نزل بغسل الرجلين؟ فقال : نزل جبرئيل بالمسح. (3)

30. عن النزال بن سبرة انّ عليا دعا بماء فتوضأ ثمّ مسح على نعليه وقدميه ، ثمّ دخل المسجد فخلع نعليه ثمّ صلّى. (4)

31. عن أبي ظبيان قال : رأيت عليا وعليه إزار أصفر وخميصة وفي يديه عنزة أتى حائط السجن ، ثم تنحى فتوضأ ومسح على نعليه وقدميه ثمّ دخل المسجد ، فخلع نعليه ثمّ صلّى. (5)

هذا غيض من فيض ، وقليل من كثير ، فمن تفحّص المسانيد والصحاح ومجامع الآثار يقف على أكثر ممّا وقفنا عليه على وجه عابر.

( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ). (6)

ص : 51


1- جامع البيان : 6 / 82 ؛ محاسن التأويل : 6 / 111 ؛ تفسير القرآن العظيم : 2 / 27.
2- تفسير القرآن العظيم : 2 / 27.
3- تفسير القرآن العظيم : 2 / 25.
4- كنز العمال : 9 / 435 برقم 26856.
5- كنز العمال : 5 / 126.
6- الأنعام : 90.

12. التجاهل لروايات المسح

قد تجاهل ابن كثير ومن تبعه روايات المسح وقال :

قد خالف الروافض في ذلك ( غسل الرجلين ) بلا مستند ، بل بجهل وضلالة ، فالآية الكريمة دالّة على وجوب غسل الرجلين مع ما ثبت بالتواتر من فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على وفق ما دلّت عليه الآية الكريمة ، وهم مخالفون لذلك كلّه وليس لهم دليل صحيح في نفس الأمر. (1)

وكأنّه لم يمعن النظر في الآية الكريمة ونصوص دلالتها على لزوم المسح ، وكأنّه لم يقف على تلك الأحاديث الكثيرة حينما ادّعى التواتر على الغَسل ، أو وقف عليها ولم يتأمّل فيها.

وقد تبعه الشيخ إسماعيل البروسوي قائلاً : ذهبت الروافض إلى أنّ الواجب في الرجلين المسح ، ورووا في المسح خبرا ضعيفا شاذّا. (2)

وكذلك ادّعى الآلوسي تشبّث الشيعة برواية واحدة حيث قال :

ولا حجّة لهم في دعوى المسح إلاّ بما روي عن علي _ كرم الله تعالى وجهه _

ص : 52


1- تفسير القرآن العظيم : 2 / 518.
2- تفسير روح البيان : 2 / 351.

( انّه مسح (1) وجهه ويديه ، ومسح رأسه ورجليه ، وشرب فضل طهوره قائماً ). (2)

ولو كان البروسوي والآلوسي معذورين في هذا العزو ، وأنّه ليس لوجوب المسح أيّ دليل سوى رواية شاذّة ، فليس هناك عذر لمن وقف على هذه الروايات الكثيرة التي تتجاوز الثلاثين ، فلو لم نقل بأنّ المسح نقل بالتواتر فلا بدّ أن نقول إنّه مستفيض.

أضف إلى ذلك أنّ الكتاب يدعمه ، فلا سبيل لنا إلاّ الأخذ بما يوافق الكتاب ، وتأويل المخالف أي ما دلّ على الغسل بوجه بأن يقال : كان يغسل في فترة بعد البعثة لكن نسخته الآية المباركة أو غير ذلك من المحامل.

( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ). (3)

ص : 53


1- كذا في المصدر ، والصحيح : غسل.
2- روح المعاني : 6 / 87.
3- الإسراء : 36.

13. أسماء أعلام الصحابة والتابعين القائلين بالمسح

قد تعرّفت على الروايات الدّالة على لزوم المسح في الوضوء ، وقد رواها أعلام الصحابة والتابعين ونقلها أصحاب الصحاح والمسانيد.

ولأجل إيقاف القارئ على أسمائهم وشيء من مكانتهم في النقل نذكر أسماءهم مع الإيعاز إلى ترجمتهم على وجه الإيجاز مرفقة برقم حديثهم. ليقف القارئ على أنّ القائلين به هم جبهة الصحابة والتابعين وسنام الثقات :

1. الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وأنّه عليه السلام قال : لو كان الدين بالرأي لكان باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما ، لكن رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسح ظاهرهما. ( أنظر الحديث 6 ).

2. الإمام الباقر عليه السلام محمد بن علي بن الحسين الإمام الثبت الهاشمي العلوي المدني أحد الأعلام ، روى عن أبيه ، وكان سيد بني هاشم في زمانه ، اشتهر بالباقر من قولهم : بقر العلم ، يعني : شقّه ، فعلم أصله وخفيه (1) ( أنظر

ص : 54


1- تذكرة الحفاظ : 1 / 124 ؛ تهذيب التهذيب : 9 / 350 ؛ حلية الأولياء : 3 / 180 ؛ شذرات الذهب : 1 / 149 ؛ الطبقات الكبرى : 5 / 324.

الحديث 21 ).

3. بسر بن سعيد ، الإمام القدوة المدني ، مولى بني الحضرمي ، حدّث عن عثمان بن عفان ، وثّقه : يحيى بن معين والنسائي ، قال : محمد بن سعد : كان من العباد المنقطعين والزهاد ، كثير الحديث. (1) ( أنظر الحديث 21 ).

4. حمران بن أبان مولى عثمان بن عفان : يروي عنه ( أنظر الحديث 2 ) وكان من أهل الوجاهة ، ذكره ابن حبان في الثقات. (2)

5. عثمان بن عفان ، وقد تقدم في الحديث ( 1 و 2 ) انّه كان يتوضأ ويمسح على رجليه ويقول : هذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

6. أبو مطر ذكره ابن حبان في الثقات ، روى عنه الحجاج بن أرطاة. (3) ( أنظر الحديث 4 ).

7. عبد الله بن زيد المازني صاحب حديث الوضوء عن فضلاء الصحابة يعرف بابن أم عمارة (4). ذكره ابن حبان في الثقات (5). ( أنظر الحديث 3 ).

8. النزال بن سبرة الهلالي الكوفي ، روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام ( أنظر الحديث 30 ) وعثمان وأبي بكر وابن مسعود ، وقال العجلي : كوفي تابعي ، ثقة من كبار التابعين ، وذكره ابن حبان في الثقات. (6)

9. عبد خير بن يزيد ، قال العجلي : كوفي تابعي ثقة ، وذكره ابن حبان في الثقات التابعين وجزم بصحبته عبد الصمد بن سعيد الحمصي في كتاب

ص : 55


1- سير أعلام النبلاء : 4 / 594.
2- الثقات : 4 / 179.
3- الثقات : 7 / 664.
4- سير أعلام النبلاء : 2 / 377.
5- الثقات : 3 / 223.
6- تهذيب التهذيب : 10 / 423 ؛ التأريخ الكبير : 8 / 117.

الصحابة. (1) ( أنظر الحديث 6 ).

10. عباد بن تميم بن غزية الأنصاري الخزرجي المازني : روى عن أبيه وعن عمه عبد الله بن زيد وعن عويمر بن سعد ، وثّقه : العجلي والنسائي وغيرهما ، وحديثه في الصحيحين ( البخاري ومسلم ) (2) وذكره ابن حبان في الثقات (3). ( أنظر الحديث 5 ، 10 ).

11. عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، وكان يسمّى البحر لسعة علمه ، ويسمّى حبر الأمّة. وقال عبد الله بن عتبة : كان ابن عباس قد فاق الناس بخصال : بعلم ما سبقه ، وفقه فيما احتيج إليه من رأيه ، وقال : ما رأيت أحدا كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منه ، ولا أفقه في رأي عنه ، ولا أعلم بتفسير القرآن منه (4). ( أنظر الحديث 13 ، 19 ).

12. أوس بن أبي أوس الثقفي : روى له أصحاب السنن الأربعة ، أحاديث صحيحة من رواية الشاميين عنه (5). ( أنظر الحديث 11 ).

13. الشعبي : عامر بن شراحيل بن عبد ، هو الإمام الحافظ الفقيه المتقي أستاذ أبي حنيفة وشيخه. قال أحمد بن حنبل ، والعجلي : مرسل الشعبي صحيح ، لأنّه لا يكاد يرسل إلاّ صحيحا. وقال ابن عيينة : العلماء ثلاثة : ابن عباس في زمانه ، والشعبي في زمانه ، والثوري في زمانه (6). ( أنظر الحديث 22 ، 23 ، 24 ، 28 ).

ص : 56


1- تهذيب التهذيب : 6 / 124.
2- الإصابة : 4 / 23.
3- الثقات : 5 / 141.
4- أسد الغابة : 3 / 192 _ 195.
5- الإصابة : 1 / 92.
6- تذكرة الحفاظ : 1 / 79 ؛ تهذيب التهذيب : 5 / 65 ؛ حلية الأولياء : 4 / 310 ؛ شذرات الذهب : 1 / 126 ؛ طبقات الحفاظ : 43.

14. عكرمة : أبو عبد الله المدني مولى ابن عباس ، ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال : كان من علماء زمانه بالفقه والقرآن ، وكان جابر بن زيد يقول : عكرمة من أعلم الناس ، روى له أصحاب السنن الأربعة أحاديث صحيحة. (1) ( أنظر الحديث 25 ، 20 ).

15. رفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان أبو معاذ الزرقي ، شهد بدرا. وروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مات في أوّل خلافة معاوية. (2) ذكره ابن حبان في الثقات. (3) ( أنظر الحديث 7 ، 12 ).

16. عروة بن الزبير بن العوام القرشي أخو عبد الله بن الزبير ، فقيه عالم ، وكان من أفاضل أهل المدينة وعلمائهم ، ذكره ابن حبان في الثقات. (4) ( أنظر الحديث 14 ).

17. قتادة بن عزيز الحافظ العلامة أبو الخطاب السدوسي البصري الضرير الأكمه المفسر. قال أحمد بن حنبل : قتادة عالم بالتفسير وباختلاف العلماء ، ووصفه بالحفظ. وأطنب في ذكره. وكان أحفظ أهل البصرة ، مات بواسط في الطاعون سنة 118 ه . (5) وذكره ابن حبان في الثقات (6). ( أنظر الحديث 26 ).

18. أنس بن مالك بن النضر خادم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

ص : 57


1- تهذيب التهذيب : 7 / 293 ، تذكرة الحفاظ : 1 / 95 ؛ تهذيب الأسماء : 1 / 340.
2- تهذيب التهذيب : 3 / 281.
3- الثقات : 4 / 240.
4- الثقات : 5 / 194 _ 195 ؛ تذكرة الحفاظ : 1 / 92 ؛ تهذيب التهذيب : 7 / 180.
5- تذكرة الحفاظ : 1 / 122 _ 124.
6- الثقات : 5 / 321 ؛ البداية والنهاية : 9 / 313 ؛ تهذيب الأسماء : 2 / 57 ؛ تهذيب التهذيب : 8 / 337.

المدينة وهو ابن عشر سنين ، وتوفي صلى الله عليه وآله وسلم وهو ابن عشرين سنة ، انتقل إلى البصرة وتوفي بها عام 91 ه . (1) ( أنظر الحديث 18 ).

19. موسى بن أنس بن مالك قاضي البصرة ، يروي عن أبيه ، روى عنه مكحول وحميد الطويل. (2) ( أنظر الحديث 27 ).

20. حصين بن جندب الكوفي الجنبي ( أبو ظبيان الكوفي ) يروي عن علي بن أبي طالب وسلمان ، روى عنه : إبراهيم والأعمش ، مات سنة 56 ه ، ذكره ابن حبان في الثقات. (3) ( أنظر الحديث 31 ).

21. جبير بن نفير بن مالك بن عامر الحضرمي ، يروي عن : أبي ذر وأبي الدرداء ، روى عنه أهل الشام ، كنيته أبو عبد الرحمن ، مات سنة 80 ه بالشام ، ذكره ابن حبان في الثقات. (4) ( أنظر الحديث 15 ).

22. إسماعيل بن أبي خالد البجلي الأحمسي أبو عبد الله الكوفي ، قال العجلي : وكان رجلا صالحا ثقة ثبتا وكان طحانا. وقال مروان بن معاوية : كان إسماعيل يسمّى الميزان. مات سنة 146 ه . (5) ( أنظر الحديث 29 ).

23. تميم بن زيد المازني ، أبو عباد الأنصاري من بني النجّار ، له صحبة ، وحديثه عند ولده. (6) ( أنظر الحديث 5 ، 10 ).

ص : 58


1- الثقات : 2 / 4 ، أسد الغابة : 1 / 84 ، تذكرة الحفاظ : 1 / 44 ، شذرات الذهب : 1 / 100.
2- الثقات : 5 / 401.
3- المصدر السابق : 4 / 156.
4- الثقات 4 / 111 ، تذكرة الحفاظ : 1 / 52 ، تهذيب التهذيب : 2 / 64 ، شذرات الذهب : 1 / 88.
5- تذكرة الحفاظ : 1 / 153 ، تهذيب التهذيب : 1 / 291 ، العبر : 1 / 203.
6- الثقات : 3 / 41.

24. عطاء القداحي ، يروي عن عبد الله بن عمر ، وروى عنه : عروة بن قيس ، والد يعلى بن عطاء ، ذكره ابن حبان في الثقات. (1) ( أنظر الحديث 11 ).

25. أبو مالك الأشعري : الحارث بن الحارث الأشعري الشامي الصحابي ، روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وعنه أبو سلام الأسود. يكنى أبا مالك ، طعن أبو مالك الأشعري وأبو عبيدة بن الجراح في يوم واحد ، وتوفي في خلافة عمر. (2) ( أنظر الحديث 9 ).

وإن تعجب فعجب قول الشوكاني ، حيث يقول : لم يثبت من أحد من الصحابة خلاف ذلك ( أي الغسل ) إلاّ علي وابن عباس وأنس. (3)

غير انّ اعتقاده بالغسل عاقه عن الفحص والتتبّع في السنن والمسانيد.

ص : 59


1- الثقات : 5 / 202.
2- تهذيب التهذيب : 2 / 136 و 12 / 218.
3- نيل الأوطار : 1 / 163.

14. تأمّلات واهية في أخبار المسح

اشارة

إنّ لأهل النظر والبحث من أهل السنّة القائلين بالغسل في الوضوء _ أمام تلك الروايات المخالفة لمذهبهم _ تأمّلات مختلفة نذكر المهمّ منها :

التأمّل الأوّل : أنّ روايات المسح ضعيفة ، ونقل عن البخاري والشافعي أنّهما ضعّفاها باعتبار أنّ مخالفها أكثر وأثبت منها (1).

يلاحظ عليه : أنّه ، كيف نضعّف تلك الروايات المستفيضة؟! وإنّما الذي يخضع للنقاش والجرح هو الخبر الواحد ، لا المستفيض ولا المتواتر.

مضافا إلى أنّ في الروايات من يرويها البخاري ، فما ظنّك برواية يرويها الإمام البخاري؟! ( لاحظ الرواية رقم 8 ).

التأمّل الثاني : إنّ هذا كان في أوّل الإسلام ، ثم نسخ بأحاديث الغسل.

يلاحظ عليه : أنّ كثيرا من هذه الروايات رويت للاحتجاج على القائلين بالغسل ، فهل يمكن غفلة الراوي عن هذا الأمر؟! وبتعبير أوضح : أنّ الصحابة والتابعين يروونها لغاية إثبات أنّ الفريضة في

ص : 60


1- ابن القيم : في هامش مختصر سنن أبي داود : 1 / 96.

الوضوء هي المسح لا الغسل ، فلو كانت الروايات ناظرة إلى العصر الأوّل من البعثة ، فهل يمكن أن يغفل عنها الصحابة الأجلاّء والتابعون لهم بإحسان؟ وقد شارك في الروايات ثلّة من الصحابة والتابعين.

التأمّل الثالث : إنّ أحاديث المسح ، انّما هي وضوء من لم يحدث ، وقد اعتمد عليه ابن كثير في تفسيره. (1) وسار على ضوئه المتأخرون ، كالآلوسي في « روح المعاني ». (2) وأخيرا الشيخ أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري (3).

يلاحظ عليه : النقاط التالية :

1. أنّ لفيفا من الروايات الدالّة على المسح وردت في وضوء المحدث ، لا في الوضوء بعد الوضوء ، فكيف يمكن حملها على وضوء من لم يحدث؟ كرواية النزال ابن سبرة ، حيث يحكي وضوء عليّ بعد البول.

2. أنّ أكثر هذه الروايات الدالّة على المسح ، تحكي وضوء رسول الله ، والمتبادر منه هو وضوؤه بعد الحدث ، لا قبله. فحمل هذه الروايات الكثيرة ، على الوضوء بعد الوضوء ، تفسير بالرأي ، حفظا للمذهب وانتصارا له.

3. لو سلّمنا أنّ ما ورد من الروايات في المسح على الرجلين ، بأنّه وضوء من لم يحدث ، لكنّها لا تشير إلى أنّ المسح على الرجلين فقط وضوء من لم يحدث ، وإنّما تشير إلى أنّ الاكتفاء بكفّ من الماء في غسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين ، وضوء من لم يحدث.

ص : 61


1- تفسير القرآن العظيم : 2 / 27.
2- روح المعاني : 6 / 77.
3- مجلة الفيصل ، العدد : 235 ص 48.

فكم فرق بين أن يرجع اسم الإشارة إلى أنّ المسح على الرجلين هو وضوء من لم يحدث ، وبين أن ترجع إلى مجموع ما ورد في الرواية من الغسل والمسح بكفّ من الماء؟! وإن كنت في شكّ من ذلك فنتلو عليك نصوص تلك الروايات :

1. ما رواه الحافظ البيهقي حيث قال : أخبرنا أبو علي الروذباري ، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محويه العسكري ، حدثنا جعفر بن محمد القلانسي ، حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، حدثنا عبد الملك بن ميسرة ، سمعت النزال بن سبرة يحدث عن علي بن أبي طالب أنّه صلّى الظهر ، ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر ، ثم أتي بكوز من ماء ، فأخذ منه حفنة واحدة ، فمسح بها وجهه ويديه ورأسه ورجليه ، ثم قام فشرب فضله وهو قائم ، ثم قال : إنّ ناسا يكرهون الشرب قائماً ، وإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صنع كما صنعت ، وقال : هذا وضوء من لم يحدث. رواه البخاري في الصحيح عن آدم بن أبي إياس ببعض معناه (1).

2. عن إبراهيم قال : كان علي إذا حضرت الصلاة دعا بماء ، فأخذ كفّا من ماء ، فتمضمض منه واستنشق منه ، ومسح بفضلة وجهه وذراعيه رأسه ورجليه ، ثم قال : هذا وضوء من لم يحدث (2).

ترى أنّ الإمام اكتفى في الوضوء بكف ماء وحفنة منه مع أنّه غير كاف في الوضوء الواجب باتفاق الأمّة ، ولأجل ذلك نبّه المخاطب بأنّه وضوء من لم يحدث ، وإلا فعلى المحدث أن يسبغ ماء الوضوء بأكف وحفنات ، فمحور المذاكرة بين

ص : 62


1- سنن البيهقي : 1 / 75 ، دار الفكر ، بيروت. ولاحظ كنز العمال : 9 / 474 ، الحديث 27030 ، مسند أحمد بن حنبل : 1 / 164 ، الحديث 799.
2- كنز العمال : 9 / 456 ، الحديث 26949.

الإمام ومخاطبة هو الاكتفاء بماء قليل لا المسح على الرجلين.

3. أخرج أحمد بسنده عن عبد الله ، قال : حدثني أبو خيثمة ، حدثنا إسحاق ابن إسماعيل ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن عبد الملك ، عن النزال بن سبرة قال : صلّينا مع علي ( رض ) الظهر ، فانطلق إلى مجلس له يجلسه في الرحبة ، فقعد وقعدنا حوله ، ثم حضرت العصر ، فأتى بإناء فأخذ منه كفا ، فتمضمض واستنشق ومسح بوجهه وذراعيه ومسح برأسه ورجليه ، ثم قال : إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعل كما فعلت (1).

وعلى ذلك تحمل الرواية التالية :

4. عن عبد خير قال : رأيت عليا ( رض ) دعا بماء ليتوضّأ ، فتمسح بها تمسحا ومسح على ظهر قدميه ، ثم قال : هذا وضوء من لم يحدث ، ثم قال : لو لا إني رأيت رسول الله مسح على ظهر قدميه رأيت أنّ بطونهما أحقّ ، ثم شرب فضلة وضوئه وهو قائم (2).

فإنّ الظاهر أنّ الإمام قام بمجموع العمل بكف ماء واحد ، ويحتمل اتحاد الحديث مع الحديث الأوّل ، فاسم الإشارة في قوله : « هذا » ليس إشارة إلى مسح القدمين ، بل إلى مجموع ما أتى به من الأعمال من مسح الوجه والأيدي وغيرهما بالماء ، فإنّ الواجب فيهما الغسل ، والاكتفاء بالمسح لخلوه من الحدث.

عثرة لا تقال :

قد عرفت أنّ مجموعة كبيرة من الروايات الدالّة على المسح رواها ابن جرير

ص : 63


1- مسند أحمد بن حنبل : 1 / 256 ، الحديث 1370.
2- مسند أحمد بن حنبل : 1 / 187 ، الحديث 946.

الطبري صاحب التفسير والتأريخ ، الغني عن الإطراء والبيان ، ولما كان ذلك الأمر ثقيلا على من يرى الغسل في الوضوء عاد يتحمل لتكذيب تلك الروايات بأنّه لم ينقلها ابن جرير الطبري السنّي وانّما رواها ابن جرير الشيعي ، وهي من غرائب الأمور كما سيوافيك ، وممّن التجأ إلى هذا العذر ابن القيم قائلاً :

إنّ حكاية المسح عن ابن جرير غلط بيّن ، فهذه كتبه وتفسيره كلّها تكذّب هذا النقل عنه ، وإنّما دخلت الشبهة ، لأنّ ابن جرير القائل بهذه المقالة رجل آخر من الشيعة يوافقه في اسمه واسم أبيه ، وقد رأيت له مؤلفات في أصول مذهب الشيعة وفروعهم (1).

وقد تبعه في هذه العثرة الآلوسي في تفسيره ، قال : وقد نشر رواة الشيعة هذه الأكاذيب المختلقة ، ورواها بعض أهل السنّة ممن لم يميّز الصحيح والسقيم من الأخبار بلا تحقّق ولا سند ، واتسع الخرق على الراقع ، ولعل محمد بن جرير القائل بالتخيير هو محمد بن جرير بن رستم الشيعي صاحب « الإيضاح للمسترشد في الإمامة » ، لا أبو جعفر محمد بن جرير بن غالب الطبري الشافعي الذي هو من أعلام أهل السنّة ، والمذكور في تفسير هذا هو الغسل فقط لا المسح ، ولا الجمع ، ولا التخيير الذي نسبه الشيعة إليه (2).

وممن تنبّه إلى عثرة ابن قيم والآلوسي ، صاحب المنار حيث إنّه بعد ما نقل عبارة الآلوسي أعقبه بقوله : « إنّ في كلامه _ عفا الله عنه _ تحاملا على الشيعة وتكذيبا لهم في نقل وجد مثله في كتب أهل السنّة. والظاهر أنّه لم يطّلع على تفسير ابن جرير الطبري » (3).

ص : 64


1- ابن القيم : في هامش سنن أبي داود : 1 / 97 _ 98.
2- روح المعاني : 6 / 77.
3- تفسير المنار : 6 / 233.

أقول : قد نقل أيضا غير واحد أنّ ابن جرير قال بالتخيير بين المسح والغسل ، ولكن اللاّئح من عبارته هو الجمع بينهما ، فمن أمعن النظر في تفسير ابن جرير يقف على أمور ثلاثة :

الأوّل : أنّه رجّح قراءة الجرّ على النصب وقال : وأعجب القراءتين إليّ أن أقرأها قراءة من قرأ ذلك خفضا ، لما وصفت من جمع المسح المعنيين اللّذين وصفت ، ولأنّه بعد قوله ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) فالعطف على الرءوس مع قربه منه أولى من العطف به على الأيدي ، وقد حيل بينه وبينها بقوله ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) (1).

الثاني : أنّه يروي روايات المسح بصدر رحب ولا يتضايق كما نقل روايات الغسل.

الثالث : أنّه قائل بالجمع بين المسح والغسل ، ومراده منه ليس هو التوضّؤ مرتين تارة بالغسل وأخرى بالمسح بالنداوة المتبقّية على اليد ، بل بغسلهما باليد ومسح الرجل بها ، وإليك نص عبارته قال :

« والصواب من القول عندنا في ذلك أنّ الله أمر بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء ، كما أمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمّم ، فإذا فعل ذلك بهما المتوضّي كان مستحقّا اسم ماسح غاسل ، لأنّ غسلهما ، إمرار الماء عليهما أو إصابتهما بالماء ، ومسحهما إمرار اليد أو ما قام مقام اليد عليه ، فإذا فعل ذلك بهما فاعل فهو غاسل ماسح » (2).

والعجب عن عدّة من الباحثين حيث نسبوا إلى الطبري القول بالتخيير ،

ص : 65


1- . تفسير الطبري : 6 / 83.
2- . تفسير الطبري : 6 / 83.

منهم : نظام الدين النيسابوري في تفسيره غرائب القرآن (1) والقرطبي (2) والشوكاني (3) والشعراني (4).

والعجب أيضا انّ الآلوسي نسب إلى ابن جرير القول بالغسل فقط لا المسح ولا الجمع ولا التخيير (5).

( وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً

لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ ). (6)

ص : 66


1- تفسير غرائب القرآن بهامش تفسير الطبري : 6 / 74 ونسبه إلى الحسن البصري أيضا.
2- الجامع لأحكام القرآن : 6 / 92.
3- نيل الأوطار : 1 / 168.
4- ميزان الشعراني : 1 / 19 ، ط عام 1318 ه .
5- روح المعاني : 6 / 78.
6- النحل : 89.

15. وضوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن لسان أئمّة أهل البيت عليهم السلام

إنّ أئمّة أهل البيت هم المرجع الثاني للمسلمين بعد كتاب الله فيما اختلفوا فيه ، فإنّهم حفظة سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعيبة علمه ، فقد نصّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك في حديث الثقلين الذي اتّفق المسلمون على نقله وصحته وقال :

« إنّي تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي ». (1)

ص : 67


1- حديث متّفق عليه رواه أصحاب الصحاح والمسانيد. _ أخرجه الترمذي عن زيد بن أرقم وهو الحديث 873 من أحاديث كنز العمال : 1 / 173. _ أخرجه الإمام أحمد من حديث زيد بن ثابت في الجزء الخامس من مسنده : 492. _ أخرجه الطبراني في الكبير عن زيد بن ثابت أيضا وهو الحديث 873 من أحاديث الكنز : 1 / 173. _ أخرجه الحاكم في الجزء الثالث من المستدرك : 148 ، ثم قال : هذا حديث صحيح الاسناد على شرط الشيخين. _ أخرجه الذهبي في تلخيص المستدرك : 3 / 148. معترفا بصحته على شرط الشيخين. _ أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري في الجزء الثالث من مسنده : 394 ، الحديث 10747. _ أخرجه ابن أبي شيبة وأبو يعلى وابن سعد عن أبي سعيد وهو الحديث 945 من أحاديث الكنز :1 / 186. _ أخرجه ابن حجر في أواخر الفصل 2 من الباب 9 من الصواعق المحرقة : 75.

فإذا كانت هذه مكانة أهل البيت ، فلنرجع إليهم في كيفيّة وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنّهم ارتشفوا من عذب معين ، وحفظوا سنّة الرسول بنقل كابر عن كابر ، وإليك ما رووه :

1. عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد وأبي داود جميعا ، عن الحسين بن سعيد ، عن فضالة ، عن داود بن فرقد ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : إنّ أبي كان يقول : إنّ للوضوء حدّا من تعدّاه لم يؤجر ، وكان أبي يقول : إنّما يتلدّد ، فقال له رجل : وما حدّه؟ قال : تغسل وجهك ويديك ، وتمسح رأسك ورجليك. (1)

2. علي ، عن أبيه ، ومحمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان جميعا ، عن حماد بن عيسى ، عن حريز ، عن زرارة قال : قال أبو جعفر عليه السلام : « ألا أحكي لكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ » فقلنا : بلى ، فدعا بقعب فيه شيء من ماء ، ثم وضعه بين يديه ، ثم حسر عن ذراعيه ، ثم غمس فيه كفّه اليمنى ، ثم قال : هكذا إذا كانت الكفّ طاهرة ، ثم غرف فملأها ماء فوضعها على جبينه ، ثم قال : « بسم الله » وسدله على أطراف لحيته ، ثم أمرّ يده على وجهه وظاهر جبينه مرة واحدة ، ثم غمس يده اليسرى فغرف بها ملأها ، ثم وضعه على مرفقه اليمنى وأمرّ كفّه على ساعده حتى جرى الماء على أطراف أصابعه ، ثم غرف بيمينه ملأها ، فوضعه على مرفقه اليسرى ، وأمرّ كفّه على ساعده حتى جرى الماء على أطراف أصابعه ، ومسح مقدم رأسه وظهر قدميه ببلّة يساره وبقية بلّة يمناه.

ص : 68


1- الكافي : ج 3 / 21 ، كتاب الطهارة ، باب مقدار الماء الذي يجزي للوضوء والغسل ومن تعدّى في الوضوء ، الحديث 3.

قال : وقال أبو جعفر عليه السلام : « إنّ الله وتر يحب الوتر ، فقد يجزئك من الوضوء ثلاث غرفات : واحدة للوجه واثنتان للذراعين ، وتمسح ببلة يمناك ناصيتك وما بقي من بلّة يمينك ظهر قدمك اليمنى ، وتمسح ببلّة يسارك ظهر قدمك اليسرى » ، قال زرارة : قال أبو جعفر عليه السلام : « سأل رجل أمير المؤمنين عليه السلام عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحكى له مثل ذلك ». (1)

3. علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عمر بن أذينة ، عن زرارة وبكير أنّهما سألا أبا جعفر عليه السلام عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فدعا بطست أو تور فيه ماء ، فغمس يده اليمنى فغرف بها غرفة فصبّها على وجهه فغسل بها وجهه ، ثم غمس كفّه اليسرى فغرف بها غرفة فأفرغ على ذراعه اليمنى فغسل بها ذراعه من المرفق إلى الكفّ لا يردها إلى المرفق ، ثم غمس كفّه اليمنى فأفرغ بها على ذراعه اليسرى من المرفق وصنع بها مثل ما صنع باليمنى ، ثم مسح رأسه وقدميه ببلل كفه ، لم يحدث لهما ماء جديدا ، ثم قال : ولا يدخل أصابعه تحت الشراك ، قال : ثم قال : إنّ الله عزّ وجلّ يقول :

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ). (2)

فليس له أن يدع شيئا من يديه إلى المرفقين إلاّ غسله ، لأنّ الله يقول : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) ثم قال ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) فإذا مسح بشيء من رأسه أو بشيء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزأه.

قال : فقلنا : أين الكعبان؟ قال : هاهنا ، يعني : المفصل دون عظم الساق ،

ص : 69


1- الكافي : ج 3 / 25 ، كتاب الطهارة ، باب صفة الوضوء ، الحديث 4.
2- المائدة : 6.

فقلنا : هذا ما هو؟

فقال : هذا من عظم الساق ، والكعب أسفل من ذلك.

فقلنا : أصلحك الله فالغرفة الواحدة تجزي للوجه وغرفة للذراع؟ قال : نعم إذا بالغت فيها والثنتان تأتيان على ذلك كلّه (1).

4. عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن داود بن النعمان ، عن أبي أيوب ، عن بكير ابن أعين ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : ألا أحكي لكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأخذ بكفّه اليمنى كفّا من ماء فغسل به وجهه ، ثم أخذ بيده اليسرى كفّا من ماء فغسل به يده اليمنى ، ثم أخذ بيده اليمنى كفّا من ماء فغسل به يده اليسرى ، ثم مسح بفضل يديه رأسه ورجليه. (2)

( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ). (3)

ص : 70


1- الكافي : 3 / 25 ، كتاب الطهارة ، باب صفة الوضوء ، الحديث 5.
2- المصدر نفسه : الحديث 2.
3- الأحزاب : 33.

16. نظرة عامّة في أخبار الغسل

اشارة

قد تعرّفت على قضايا الكتاب ، والسنّة النبويّة الصحيحة ، في حكم الأرجل ، وأنّهما قد أطبقا على المسح ، من غير مرية ولا شكّ ، لكن بقي الكلام في المأثورات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي تعرب عن كون حكمها هو الغسل ، فلا محيص عن دراستها وتحليلها. فنقول : إنّها على قسمين :

أ _ ما روي بسند صحيح ، رواه الشيخان البخاري ومسلم.

ب _ ما روي بسند ضعيف.

1. أخرج مسلم ، عن أبي الطاهر أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن سرح ، وحرملة بن يحيى التجيبي ، قالا : أخبرنا ابن وهب ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، أنّ عطاء بن يزيد الليثي أخبره ، أنّ حمران مولى عثمان أخبره ، أنّ عثمان بن عفان دعا بوضوء فتوضأ فغسل كفيه ثلاث مرات ، ثم مضمض واستنثر ، ثم غسل وجهه ثلاث مرات ، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات ، ثم غسل يده اليسرى مثل ذلك ، ثم مسح رأسه ، ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات ، ثم غسل اليسرى مثل ذلك ، ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضّأ نحو

ص : 71

وضوئي هذا ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من توضّأ نحو وضوئي هذا ، ثم قام فركع ركعتين لا يحدث فيها نفسه غفر له ما تقدّم من ذنبه. (1)

2. أخرج البخاري ، عن موسى قال : حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن يوسف بن ماهك ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : تخلّف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنّا في سفرة سافرناها ، فأدركنا وقد أرهقنا العصر ، فجعلنا نتوضّأ ونمسح على أرجلنا ، فنادى بأعلى صوته : ويل للأعقاب من النار ، مرتين أو ثلاثا (2).

3. أخرج مسلم ، عن زهير بن حرب ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا أبي ، عن ابن شهاب ، عن عطاء بن يزيد الليثي ، عن حمران مولى عثمان : أنّه رأى عثمان ، دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرّات فغسلهما ، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق ، ثم غسل وجهه ثلاث مرات ، ويديه إلى المرفقين ثلاث مرات ، ثم مسح برأسه ، ثم غسل رجليه ثلاث مرات ، ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من توضّأ نحو وضوئي هذا ، ثم صلّى ركعتين ، لا يحدث فيها نفسه غفر له ما تقدّم من ذنبه (3).

4. عن بشر بن المفضل ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن الربيع بنت معوذ بن عفراء ، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأتينا ، فحدثتنا أنّه ، قال : اسكبي لي وضوءا _ فذكرت وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم _ قالت فيه : فغسل كفّيه ثلاثا ، ووضأ وجهه

ص : 72


1- صحيح مسلم : 3 / 107 ، كتاب الطهارة ، الحديث برقم 226 ؛ أخرجه البخاري أيضا بسنده : 1 / 51 ، باب الوضوء ثلاثا ثلاثا ؛ سنن النسائي : 1 / 80 ، كتاب الطهارة ، باب حدّ الغسل ؛ جامع الأصول : 7 / 154 ؛ سنن الترمذي برقم 48 ، 49 في الطهارة ؛ مجمع الزوائد : 1 / 229.
2- صحيح البخاري : 1 / 52 ، باب غسل الرجلين.
3- صحيح مسلم : 3 / 111 ، الحديث برقم 4 ، باب صفة الوضوء وكماله.

ثلاثا ، ومضمض واستنشق مرة ، ووضأ يديه ثلاثا ثلاثا ، ومسح برأسه مرّتين ، بدأ بمؤخّر رأسه ، ثم بمقدمه ، وبأذنيه كلتيهما ظهورهما وبطونهما ، ووضأ رجليه ثلاثا ثلاثا (1).

5. حدثنا موسى قال : حدثنا وهيب ، عن عمرو ، عن أبيه قال : شهدت عمرو بن أبي حسن ، سأل عبد الله بن زيد عن وضوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فدعا بتور من ماء ، فتوضّأ لهم وضوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم : فأكفأ على يده من التور فغسل يديه ثلاثا ، ثم أدخل يده في التور فمضمض واستنشق واستنثر ثلاث غرفات ، ثم أدخل يده فغسل وجهه ثلاثا ، ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين ، ثم أدخل يده فمسح رأسه فأقبل به وأدبر مرة واحدة ، ثم غسل رجليه إلى الكعبين (2).

إنّ هذه الروايات وان نقلت بسند صحيح ، لكنّ الاختلاف والتهافت في المضمون مريب جدا ومسقط لها عن الحجّية ، وكلّها تحكي وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ الاختلاف والتهافت فيها من جوانب أربعة :

1. الاختلاف في عدد غسل اليدين.

2. الاختلاف في مقدار المسح.

3. الاختلاف في كيفيّة المسح من جهة التقديم والتأخير.

4. الاختلاف في عدد مسح الرأس.

وإليك البيان :

أمّا الأوّل : ففي رواية حمران مولى عثمان أنّه غسل يده اليمنى إلى المرفقين

ص : 73


1- جامع الأصول : 7 / 164 برقم 5149 ، سنن الترمذي : 1 / 48 برقم 33 في الطهارة.
2- صحيح البخاري : 1 / 81 برقم 186.

ثلاث مرات ، ثم غسل يده اليسرى مثل ذلك. ( أنظر الحديث 1 ).

وفي رواية عبد الله بن زيد : ثم غسل يده مرتين إلى المرفقين. ( أنظر الحديث 5 ).

وأمّا الثاني : ففي رواية الصحابية الربيع بنت معوذ بن عفراء : بأذنيه كلتيهما ظهورهما وبطونهما. ( أنظر الحديث 4 ) مع أنّ المذكور في غير هذه الرواية أنّه مسح رأسه دون أذنيه ظهورهما وبطونهما. ( أنظر الحديث 5 ).

وأمّا الثالث : ففي رواية الصحابيّة أنّه بدأ بمؤخّر رأسه ثم بمقدّمه ، ولكن في رواية عبد الله بن زيد : فمسح رأسه فأقبل بها وأدبر مرة واحدة. ( أنظر الحديث 5 ).

وأمّا الرابع : ففي رواية الصحابيّة أنّه مسح برأسه مرتين. ( أنظر الحديث 4 ) مع أنّ المذكور في غيرها أنّه مسح رأسه. الظاهر في كونه مرّة واحدة إذ لو كان متعددا لم يغفل الراوي عن نقله.

فوجوه الاختلاف هذه تعرب عن اضطراب الحديث وعدم إمكان الأخذ به ، وتصوّر أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم توضأ بكيفيّات مختلفة ، وإنّ كلّ واحد يروي ما رآه من الكيفيّة بعيد جدا خاصّة وأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنّما يتوضّأ بأفضل الكيفيّات ما لم تكن هناك ضرورة على ترك الأفضل.

وأمّا رواية عبد الله بن عمر فهي على الخلاف أدلّ ، لأنّها تعرب أنّ عبد الله ابن عمر ورهطه كانوا يمسحون الأرجل طيلة أعوام ، ومن البعيد أن يكون مثله غافلا عما هو الواجب.

فليس في الرواية أذن أي دلالة على غسل الأرجل ، وإنّما توهم من توهم

ص : 74

ذلك ، لأنّ البخاري ذكرها تحت عنوان باب غسل الرجلين ، ومن المعلوم أنّ تبويب المحدّث وذكر الحديث تحت عنوان لا يثبت ظهورا له فيه ، فعلى المجتهد بذل الجهد في فهم الرواية.

بقي الكلام في أنّه صلى الله عليه وآله وسلم لما ذا دعا بالويل للأعقاب من النار؟ فيه وجوه واحتمالات أرجحها أنّه كان قوم من طغام العرب يمشون حفاة ولا يبالون من تلبيس الأرجل بأي نجاسة ، وكانوا يتوضّئون ويمسحون أرجلهم دون غسلها قبل الوضوء من آثار النجاسة ، فتوعّدهم النبي بما قال.

على أنّ النبي من أفصح العرب وأفضل من نطق بالضاد ، فلو أراد بكلمته هذه التنبيه على وجوب غسل الأرجل لأتى بكلمة واضحة الدلالة ، ترشد المكلّف إلى وظيفته لا أن يتوصل بكلمة غامضة لإفادة مراده ، أعني قوله : « ويل للأعقاب من النار ».

وهذه هي حال الصحاح من الروايات ، وإليك ما نقل في ذلك المجال من ضعافها ، وحسبك ما نذكره فيما يلي :

1. عن ابن أبي مليكة قال : رأيت عثمان بن عفان يسأل عن الوضوء؟ فدعا بماء فأتى بميضاة ، فأصغى على يده اليمنى ، ثم أدخلها في الماء فتمضمض ثلاثا واستنثر ثلاثا وغسل وجهه ثلاثا ، ثم غسل يده اليمنى ثلاثا وغسل يده اليسرى ثلاثا أدخل يده فأخذ ماء فمسح برأسه وأذنيه فغسل بطونهما وظهورهما مرّة واحدة ، ثم غسل رجليه ، ثم قال : أين السائلون عن الوضوء؟ هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوضّأ (1).

ص : 75


1- جامع الأصول : 7 / 155.

وفي سنده ابن أبي مليكة ، قال عنه البخاري وأحمد : منكر الحديث. (1) وقال ابن سعد : له أحاديث (2) ، وقال ابن معين : ضعيف ، وقال النسائي : متروك (3).

2. أخرج ابن ماجة بسنده عن هشام بن عمار ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن حريز بن عثمان ، عن عبد الرحمن بن ميسرة ، عن المقدام بن معديكرب أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضّأ فغسل رجليه ثلاثا ثلاثا (4).

وفي سنده عبد الرحمن بن ميسرة الحضرمي ، قال عنه ابن المديني : مجهول لم يرو عنه غير حريز بن عثمان (5).

3. أخبرنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد قال : حدثنا شعبة ، قال : أخبرني أبو جعفر المدني ، قال : سمعت ابن عثمان بن حنيف _ يعني : عمارة _ قال : حدثنا القيس ، قال : إنّه كان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فأتى بماء فقال على يديه من الإناء فغسلهما مرة ، وغسل وجهه وذراعيه مرة مرة وغسل رجليه بيمينه كلتيهما (6).

وفي سنده عمارة بن عثمان بن حنيف وهو مجهول ، فعن خزيمة بن ثابت أنّه لا يعرف (7).

4. عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه : أنّ رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم

ص : 76


1- التأريخ الكبير : 5 / 260.
2- الطبقات الكبرى : 5 / 364.
3- الميزان : 2 / 550.
4- سنن ابن ماجة : 1 / 156 ، الحديث 457.
5- ميزان الاعتدال : 2 / 594 ، برقم 4986 ؛ الطبقات الكبرى : 7 / 457 ، الجرح والتعديل : 5 ، الترجمة 1362.
6- جامع الأصول : 7 / 165 برقم 5150 ؛ : سنن النسائي : 1 / 79 في الطهارة.
7- تهذيب الكمال : 21 / 254 برقم 4191 ؛ ميزان الاعتدال : 3 ، الترجمة 6032.

فقال : يا رسول الله ، كيف الطهور؟ ، فدعا بماء في إناء ، فغسل كفيه ثلاثا ، ثم غسل وجهه ثلاثا ، ثم غسل ذراعيه ثلاثا ، ثم مسح برأسه ، فأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه ، وبالسباحتين باطن أذنيه ، ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا ، ثم قال : هكذا الوضوء ، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم (1).

وفي سنده عمرو بن شعيب ، قال عنه أحمد بن حنبل : له أشياء مناكير وإنّما نكتب حديثه نعتبر به فأمّا أن يكون حجة ، فلا (2).

5. أخرج النسائي ، أخبرنا محمّد بن آدم ، عن ابن أبي زائدة ، قال : حدثني أبي وغيره ، عن أبي إسحاق ، عن أبي حية الوادعي ، قال : رأيت عليا توضأ فغسل كفّيه حتى أنقاهما ، ثم تمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا وغسل وجهه ثلاثا وغسل ذراعيه ثلاثا ، ثم مسح برأسه ، ثم غسل قدميه إلى الكعبين ، ثم قام ، فأخذ فضل طهوره فشرب وهو قائم ثم قال : أحببت أن أريكم كيف كان طهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم (3).

وهذا الحديث ساقط بسقوط سنده من عدة جهات :

الأولى : أنّ إباحيّة راوي هذا الحديث نكرة من أبهم النكرات ، وقد أورده الذهبي في الكنى من ميزانه ، فنصّ على أنّه لا يعرف ، ثم نقل عن ابن المديني وأبي الوليد الفرضي النصّ على أنّه مجهول ، وقال أبو زرعة : لا يسمّى (4).

الثانية : أنّ هذا الحديث تفرّد به أبو إسحاق وقد شاخ ونسي واختلط ، فتركه

ص : 77


1- جامع الأصول : 7 / 161 برقم 5147 ؛ سنن أبي داود : برقم 122 في الطهارة.
2- سير أعلام النبلاء : 5 / 165 ؛ ميزان الاعتدال : 3 / 263 ؛ لسان الميزان : 7 / 325.
3- جامع الأصول : 7 / 153 ؛ سنن النسائي : 1 / 79 ، سنن الترمذي : 1 / 67 برقم 48 ؛ سنن ابن ماجة : 1 / 155 الحديث 456 ؛ مسند أحمد بن حنبل : 1 / 259 ، الحديث 1383.
4- ميزان الاعتدال : 4 / 519 برقم 10138 ؛ تهذيب الكمال : 33 / 269 برقم 7334.

الناس ولم يروه عنه إلاّ أبو الأحوص وزهير بن معاوية الجعفي ، فعابهم الناس بذلك ، قال أبو زرعة : إنّه سمع من أبي إسحاق بعد الاختلاط (1).

الثالثة : أنّ هذا الحديث يعارض الأحاديث الثابتة عن أمير المؤمنين وعن أبنائه الميامين ، أهل بيت النبوة ، وموضع الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومهبط الوحي والتنزيل ، ويخالف كتاب الله ، فليضرب به عرض الجدار.

6. عن عبد الرحمن بن عباد بن يحيى بن خلاد الزرقي ، قال : دخلنا على عبد الله بن أنيس ، فقال : ألا أريكم كيف توضّأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكيف صلّى؟ قلنا : بلى.

فغسل يديه ثلاثا ثلاثا ومسح برأسه مقبلا ومدبرا وأمس أذنيه وغسل رجليه ثلاثا ثلاثا ، ثم أخذ ثوبا فاشتمل به وصلّى ، ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوضّأ ويصلّي. رواه الطبراني في الأوسط (2).

وفي سنده عبد الرحمن بن عباد بن يحيى بن خلاد الزرقي ، وهو مجهول لم أجد من ترجم له (3).

7. عن خالد بن معدان ، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا يصلّي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء ، فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يعيد الوضوء والصلاة (4).

وفي سنده بقية بن الوليد ، وهو كثير التدليس عن الضعفاء ، وقال عبد الحق : بقية لا يحتج به (5).

ص : 78


1- ميزان الاعتدال : 2 / 86 ، ترجمة زهير بن معاوية برقم 2921.
2- مجمع الزوائد : 1 / 233.
3- مجمع الزوائد : 1 / 233.
4- جامع الأصول : 7 / 168 ؛ سنن أبي داود ، الحديث 175.
5- ميزان الاعتدال : 1 / 231 برقم 1250.

8. عن ابن عباس قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتطهّر وبين يديه إناء قدر المدّ وإن زاد فقلّ ما زاد ، وإن نقص فقلّ ما نقص ، فغسل يديه وتمضمض واستنشق ثلاثا ثلاثا ، وغسل وجهه ثلاثا وخلّل لحيته ، وغسل ذراعيه ثلاثا ، ومسح برأسه وأذنيه مرتين مرتين ، وغسل رجليه حتى أنقاهما ، فقلت : يا رسول الله هكذا التطهّر؟ قال : هكذا أمرني ربي عزّ وجلّ (1).

وفي سنده نافع أبو هرمز ، ضعّفه أحمد وجماعة ، وكذّبه ابن معين ، وقال أبو حاتم : متروك ذاهب الحديث ، وقال النسائي : ليس بثقة (2).

9. عن أبي النضر : أنّ عثمان دعا بالوضوء وعنده الزبير وطلحة وعلي وسعد ، فتوضّأ وهم ينظرون ، فغسل وجهه ثلاث مرات ، ثم أفرغ على يمينه ثلاث مرات وعلى شماله ثلاث مرات ، ومسح برأسه ورشّ على رجله اليمنى ثلاث مرات ثمّ غسلها ، ثم رشّ على رجله اليسرى ثم غسلها ثلاث مرات ، ثم قال للّذين حضروا : أناشدكم الله عزّ وجلّ أتعلمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يتوضّأ كما توضّأت الآن؟ قالوا : نعم وذلك لشيء بلغه (3).

وفي سنده غسان ابن الربيع ، ضعّفه الدارقطني ، وقال عنه الذهبي : ليس بحجّة في الحديث (4).

10. عن وائل بن حجر قال : حضرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد أتى بإناء فيه ماء ، فأكفأ على يمينه ثلاثا ، غمس يمينه في الإناء فأفاض بها على اليسرى ثلاثا ، ثم

ص : 79


1- مجمع الزوائد : 1 / 232.
2- ميزان الاعتدال : 4 / 243 برقم 9000.
3- مجمع الزوائد : 1 / 229.
4- ميزان الاعتدال : 3 / 334 برقم 6659.

غمس اليمنى فحفن حفنة من ماء فتمضمض بها واستنشق واستنثر ثلاثا ، ثم أدخل كفّيه في الإناء فحمل بهما ماء فغسل وجهه ثلاثا ، ثم خلّل لحيته ومسح باطن أذنيه وأدخل خنصره في داخل أذنه ليبلغ الماء ، ثم مسح رقبته وباطن لحيته من فضل ماء الوجه وغسل ذراعه اليمنى ثلاثا حتى جاوز المرفق وغسل اليسرى مثل ذلك باليمنى حتى جاوز المرفق ، ثم مسح على رأسه ثلاثا ومسح ظاهر أذنيه ومسح رقبته وباطن لحيته بفضل ماء الرأس ، ثم غسل قدمه اليمنى ثلاثا وخلّل أصابعها وجاوز بالماء الكعب ورفع في الساق الماء ، ثم فعل في اليسرى مثل ذلك ، ثم أخذ حفنة من الماء بيده اليمنى فوضعه على رأسه حتى انحدر من جوانب رأسه ، وقال : هذا تمام الوضوء ، فدخل محرابه ، وصفّ الناس خلفه. رواه الطبراني في الكبير (1).

وفي سنده سعيد بن عبد الجبار ، قال عنه محمد بن مخلد الرعيني : لا يعرف (2).

وفي سنده أيضا محمد بن حجر ، قال عنه الزهري : مجهول (3).

11. عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا توضّأ أحدكم فليمضمض ثلاثا فإنّ الخطايا تخرج من وجهه ، ويغسل يديه ثلاثا ، ويمسح برأسه ثلاثا ، ثم يدخل يديه في أذنيه ، ثم يفرغ على رجليه ثلاثا. رواه الطبراني في الأوسط (4).

وفي سنده أبو موسى الحناط ، وهو متروك (5).

ص : 80


1- مجمع الزوائد : 1 / 232.
2- ميزان الاعتدال : 2 / 147 برقم 3224 ، تهذيب الكمال : 10 / 523 برقم 2307.
3- ميزان الاعتدال : 3 / 511 برقم 7360.
4- مجمع الزوائد : 1 / 233.
5- المصدر السابق.

12. محمّد بن جابر ، عن عبد الله بن بدر قال : نزل القرآن بالمسح ، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالغسل فغسلنا. رواه الطبراني في الكبير (1).

وفي سنده محمد بن جابر وهو ضعيف ، كان أعمى واختلط عليه حديثه ، وقال عنه عمرو بن علي : كثير الوهم ، متروك الحديث ، وقال البخاري : ليس بالقوي ، يتكلّمون فيه ، روى مناكير (2).

13. وعن ابن عباس : أنّ أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله كيف الوضوء؟ فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بوضوء فغسل يده اليمنى ثلاثا ، ثم أدخل يده اليمنى في الإناء ، ثم مضمض واستنشق ثلاثا ، وغسل وجهه ويديه ثلاثا ، ومسح برأسه وظاهر أذنيه مع رأسه ، ثم غسل رجليه ثلاثا ، ثم قال : هكذا الوضوء ، فمن زاد فقد تعدّى وظلم. رواه الطبراني في الكبير (3).

وفي سنده سويد بن عبد العزيز ، قال عنه البخاري : في بعض حديثه نظر ، وقال أحمد : ضعيف ، متروك ، وقال النسائي : ليس بثقة (4).

قد عرفت مكانة هذه الروايات من حيث ضعف رواتها وعدم وثاقتهم ، ومع ذلك كلّه فلنا حول هذه الروايات صحيحها وضعيفها تأمّلات :

1. يكفي في عدم صحّة الاحتجاج أنّها مخالفة لكتاب الله سبحانه ، ولا قيمة لرواية مهما صحّ سندها إذا كانت معارضة للكتاب ، ولا يمكن أن يقال أنّها ناسخة له ، لما عرفت أنّ الكتاب لا ينسخ بالرواية خصوصا الآحاد منها ، مضافا

ص : 81


1- مجمع الزوائد : 1 / 234.
2- تهذيب الكمال : 24 / 564 برقم 5110.
3- مجمع الزوائد : 1 / 231 ؛ المعجم الكبير : 11 / 62 ، الحديث 11091 ونقله الأخير بسنده الكامل.
4- ميزان الاعتدال : 2 / 251 برقم 3623.

إلى أنّ سورة المائدة هي السورة الأخيرة التي اتّفقت الأمّة على عدم نسخ شيء منها ، فهل يمكن أن ينزل الوحي في أواخر عمر النبي بالمسح ثم ينسخه بالغسل؟!

على أنّ حبر الأمّة وعيبة الكتاب والسنّة : عبد الله بن عباس كان يحتجّ بالكتاب على المسح ، ويقول : افترض الله غسلتين ومسحتين ، ألا ترى أنّه ذكر التيمم وجعل مكان الغسلتين مسحتين وترك المسحتين؟!

وكان يقول : الوضوء غسلتان ومسحتان ، ولمّا بلغه أنّ الربيع بنت معوذ بن عفراء الأنصارية تزعم أنّ النبي توضّأ عندها فغسل رجليه ، أتاها يسألها عن ذلك ، وحين حدّثته به قال _ غير مصدّق بل منكرا ومحتجا _ إنّ الناس أبو إلاّ الغسل ، ولا أجد في كتاب الله إلاّ المسح.

2. أنّها لو كانت حقّا لا ربت على التواتر ، لأنّ الحاجة إلى معرفة طهارة الأرجل في الوضوء حاجة عامّة لرجال الأمّة ونسائها ، أحرارها ومماليكها ، وهي حاجة ماسّة لهم في كلّ يوم وليلة ، فلو كان هناك حكم غير المسح بين الحدّين حيث دلّ عليه الكتاب ، لَعَلِمَهُ المكلّفون في عهد النبوة وبعده ، وكان مسلّما بينهم ، ولتواترت أخباره عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل عصر ومصر ، فلا يبقى مجال لإنكاره ولا الريب فيه ، ولمّا لم يكن الأمر كذلك ظهر لنا الوهن المسقط لتلك الأخبار عن درجة الاعتبار.

معالجة روايات الغسل

قد عرفت دلالة القرآن الكريم على المسح وتضافر السنّة عليه ، فيبقى السؤال عن كيفيّة معالجة الروايات الدالة على الغسل ، فنقول هناك علاجان :

ص : 82

أ. نسخها بالقرآن

إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في فترة من عمره الشريف يغسل رجليه بأمر من الله سبحانه ، ولعلّ الحديث المعروف : « ويل للأعقاب من النار » ورد في تلك الفترة ، ولكن لمّا نزل القرآن الكريم بالمسح نُسِخَت السنّة بالقرآن الكريم.

وقد عرفت أنّ سورة المائدة آخر سورة نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينسخ منها شيء.

ب. إشاعة الغسل بعد نزول القرآن من قبل السلطة

لا شكّ أنّ القرآن دعا للمسح ، ولكن المصلحة لدى الخلفاء والحكام اقتضت إلزام الناس على غسل الأرجل بدل المسح لخبث باطن القدمين ، وبما أنّ قسما كبيرا منهم كانوا حفاة ، فراق في أنفسهم تبديل المسح بالغسل ، ويدلّ على ذلك بعض ما ورد في النصوص :

روى ابن جرير عن حميد ، قال : قال موسى بن أنس ونحن عنده : يا أبا حمزة أنّ الحجاج خطبنا بالأهواز ونحن معه وذكر الطهور ، فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأرجلكم ، وإنّه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه ، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما.

فقال أنس : صدق الله وكذب الحجّاج قال الله تعالى ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) قال : وكان أنس إذا مسح قدميه بلّها (1).

وممّا يعرب عن أنّ الدعاية الرسمية كانت تؤيد الغسل ، وتؤاخذ من يقول

ص : 83


1- تفسير ابن كثير : 2 / 27 ؛ تفسير الطبري : 6 / 82.

بالمسح ، حتّى إنّ القائلين به كانوا على حذر من إظهار عقيدتهم فلا يصرّحون بها إلاّ خفية ، ما رواه أحمد بن حنبل بسنده عن أبي مالك الأشعري أنّه قال لقومه : اجتمعوا أصلّي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلمّا اجتمعوا ، قال : هل فيكم أحد غيركم؟ قالوا : لا ، إلاّ ابن أخت لنا ، قال : ابن أخت القوم منهم ، فدعا بجفنة فيها ماء ، فتوضّأ ومضمض واستنشق ، وغسل وجهه ثلاثا وذراعيه ثلاثا ، ومسح برأسه وظهر قدميه ، ثم صلّى (1).

( الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ). (2)

ص : 84


1- مسند أحمد بن حنبل : 5 / 342 ، المعجم الكبير : 3 / 280 برقم 3412.
2- هود : 1.
خاتمة المطاف: الآن حصحص الحق

لقد بانت الحقيقة وظهرت بأجلى مظاهرها وذلك بالأمور التالية :

1. تصريح الكتاب بمسح الأرجل وأنّ غسلها لا يوافق القرآن الكريم.

2. إنّ لفيفا من أعلام الصحابة وسنامها _ الذين هم عيبة السنّة وحفظة الآثار _ كانوا يمسحون وينكرون الغسل أشدّ الإنكار ، وقد وقفت على رواياتهم الكثيرة البالغة حدّ التضافر.

3. إنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام ، وفيهم : الإمامان الباقر والصادق عليهما السلام بيّنوا وضوء رسول الله ، وانّه كان يمسح الأرجل بدل غسلها ، وقد مرت كلماتهم.

4. إنّ ما دلّ على غسل الأرجل ففيه الصحيح ، والضعيف ، بل الضعاف أكثر من الصحاح ، فعلى الفقيه معالجة تعارض الروايات الدالّة على الغسل ، بعرضها على الكتاب أوّلا وعلى السنّة الدالة على المسح ثانيا.

5. إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي أمر المسلمين قاطبة بالأخذ بأقوال العترة حيث قال : « إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي » فالتمسّك بأقوالهم وأحاديثهم امتثال لقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو لا يصدر إلاّ عن الحق ، فمن أخذ بالثقلين فقد تمسّك بما ينقذه من الضلالة ، ومن أخذ بواحد منهما فقد خالف الرسول.

ص : 85

مضافا إلى أنّ عليا _ باب علم النبيّ _ هو المعروف بالقول بالمسح ، ويقول الرازي في الاقتداء بعليّ : « ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى ، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهمّ أدر الحق مع علي حيث دار » (1).

6. إذا كان الاجتهاد بمعنى بذل الجهد في استنباط الأحكام عن أدلّتها الشرعيّة فلما ذا اختصّت هذه النعمة الكبرى بالأئمّة الأربعة دون سواهم ، وكيف صار السلف أولى بها من الخلف؟!

هذا ونظيره يقتضي لزوم فتح باب الاجتهاد في أعصارنا هذه والإمعان في عطاء الكتاب والسنّة في حكم هذه المسألة ونظائرها ممّا ستمرّ عليك في هذا الكتاب متجردا عن قول الأئمّة الأربعة ونظرائهم.

أنّ الاجتهاد رمز خلود الدين وصلاحيته للظروف والبيئات وليس من البدع المحدثة ، بل كان مفتوحا منذ زمن النبيّ وبعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم وقد أغلق لأمور سياسية عام 665 ه .

قال المقريزي في بدء انحصار المذاهب في أربعة : فاستمرت ولاية القضاة الأربعة من سنة 665 ه حتى لم يبق في مجموع أقطار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام غير هذه الأربعة وعودي من تمذهب بغيرها ، وأنكر عليه ولم يولّ قاضٍ ولا قبلت شهادة أحد ما لم يكن مقلّدا لأحد هذه المذاهب وأفتى فقهاؤهم في هذه الأمصار في طول هذه المدّة بوجوب اتّباع هذه المذاهب وتحريم عداها ، والعمل على هذا إلى اليوم. (2)

ص : 86


1- مفاتيح الغيب : 1 / 111.
2- راجع الخطط المقريزية : 2 / 333 _ 344.
إكمال: آية الوضوء وكيفية غسل الأيدي

أنّ آية الوضوء نزلت لتعليم الأمّة كيفية الوضوء والتيمّم ، والمخاطب بها جميع المسلمين عبر القرون إلى يوم القيامة ، ومثلها يجب أن تكون واضحة المعالم مبيّنة المراد ، حتّى ينتفع بها القريب والبعيد والصحابي وغيره.

فالآية جديرة بالبحث من جانبين :

الأوّل : مسألة كيفية غسل اليدين ، وأنّه هل يجب الغسل من أعلى إلى أسفل أو بالعكس؟

الثاني : حكم الأرجل من حيث المسح أو الغسل.

فلنشرع في البحث في الجانب الأوّل.

قال سبحانه ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ). (1)

اختلف الفقهاء في كيفية غسل اليدين ، فأئمّة أهل البيت وشيعتهم ، على أنّ الابتداء بالمرفقين إلى أطراف الأصابع وانّ هذه هي السنّة ، وحجتهم على ذلك هو ظاهر الآية المتبادر عند العرف ، فإنّ المتبادر في نظائر هذه التراكيب هو الابتداء من أعلى إلى أسفل ، فمثلا إذا قال الطبيب للمريض : اغسل رجلك بالماء الفاتر إلى الركبة ، يتبع المريض ما هو المتداول في غسل الرجل عند العرف ، وهو الغسل

ص : 87


1- المائدة : 6.

من أعلى إلى أسفل. أو إذا قال صاحب الدار للصبّاغ ، أصبغ جدران هذه الغرفة إلى السقف ، فيتبع الصبّاغ ما هو المألوف في صبغ الجدران من الأعلى إلى الأسفل ولا يدور بخلده ، أو بخلد المريض من أنّ مالك الدار أو الطبيب استخدم لفظة « إلى » لبيان انتهاء غاية الصبغ والغسل عند السقف والرجل بل لتحديد المقدار اللازم لهما.

وأمّا كيفية الغسل فمتروك إلى ما هو المتّبع والمتداول في العرف ، وهو _ بلا ريب _ يتبع الأسهل فالأسهل ، وهو الابتداء من فوق إلى تحت ، وما هذا إلاّ لأنّ المتكلّم بصدد تحديد العضو المغسول ، وهو اليد مع قطع النظر عن كيفية الغسل من حيث الابتداء والانتهاء ، فإذا كان هذا هو المفهوم ، فليكن الأمر كذلك في الآية المذكورة من دون أن نتكلّف بشيء من الوجوه التي يذكرها المفسّرون في تأييد أحد المذهبين.

نعم ، إنّ أساس الاختلاف في الابتداء بالمرفقين إلى أصول الأصابع أو بالعكس عندهم إنّما هو في تعيين متعلّق « إلى » في الآية الكريمة ، فهل هو قيد « للأيدي » أي المغسول ، أو قيد للفعل أعني : « واغسلوا »؟

فعلى الأوّل تكون الآية بمنزلة قولنا : « الأيدي إلى المرافق » يجب غسلها ، وإنّما جاء بالقيد لأنّ اليد مشترك تطلق على أصول الأصابع والزند والمرفق إلى المنكب ، ولما كان المغسول محددا إلى المرافق قيّدت اليد بقوله ( إِلَى الْمَرافِقِ ) ، ليفهم أنّ المغسول هو هذا المقدار المحدد من اليد ولو لا اشتراك اليد بين المراتب المختلفة وانّ المغسول بعض المراتب لما جاءت بلفظة « إلى » فالإتيان بها لأجل تحديد المقدار المغسول من اليد.

ص : 88

وعلى الثاني ، أي إذا قلنا بكونه قيدا للأمر بالاغتسال ، فربّما يوحي إلى ضرورة الابتداء من أصول الأصابع إلى المرفقين ، فكأنّه سبحانه قال : « الأيدي » اغسلوها إلى المرافق.

ولكن لا يخفى ما في هذا الإيحاء من غموض ، لما عرفت من أنّ المتّبع في نظائر هذه الأمثلة ما هو المتعارف وهو الابتداء من الأعلى إلى الأسفل.

أضف إلى ذلك : أنّه لو سلمنا أنّ حرف الجر قيد للفعل ، لا نسلم أنّه بمعنى « إلى » الذي هو لانتهاء الغاية ، بل يحتمل أن يكون بمعنى « مع » أي الأيدي اغسلوها مع المرافق ، وليس هذا بعزيز في القرآن والأدب العربي.

يقول سبحانه ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ ). (1)

وقال سبحانه _ حاكيا عن المسيح _ ( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ ) (2) ، أي مع الله.

وقوله سبحانه ( وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ ) (3) ، أي مع قوتكم.

ويقال في العرف : ولى فلان الكوفة إلى البصرة ، أي مع البصرة ، وليس في هذه الموارد من الغاية أثر.

وقال النابغة الذبياني :

ولا تتركني بالوعيد كأنّني إلى *** الناس مطليّ به القار أجرب

أراد مع الناس أو عند الناس.

وقال ذو الرمة :

بها كلّ خوار إلى كل صولة *** ورفض المذرعات الترائب

ص : 89


1- النساء : 2.
2- آل عمران : 52.
3- هود : 52.

وقال امرؤ القيس :

له كفل كالدعص لبّده الندى *** إلى حارك مثل الغبيط المذأب

أراد مع حارك. (1)

وعلى ضوء ذلك فليست « إلى » لبيان الغاية ، بل لبيان الجزء الواجب من المغسول سواء أكان الغسل من الأعلى أو من الأسفل.

هذا والدليل القاطع على لزوم الابتداء من الأغلى إلى الأسفل هو لزوم اتّباع ما هو المألوف في أمثال المورد كما سلف.

وقد نقل أئمّة أهل البيت عليهم السلام وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالنحو التالي :

أخرج الشيخ الطوسي بسنده عن بكير وزرارة بن أعين ، أنّهما سألا أبا جعفر عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدعا بطست أو بتَوْر (2) فيه ماء ، فغسل كفّيه ، ثمّ غمس كفّه اليمنى في التور فغسل وجهه بها ، واستعان بيده اليسرى بكفّه على غسل وجهه ، ثمّ غمس كفّه اليسرى في الماء فاغترف بها من الماء فغسل يده اليمنى من المرفق إلى الأصابع لا يردّ الماء إلى المرفقين ، ثمّ غمس كفّه اليمنى في الماء فاغترف بها من الماء فأفرغه على يده اليسرى من المرفق إلى الكفّ لا يردّ الماء إلى المرفق كما صنع باليمنى ، ثمّ مسح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفّيه ولم يجدد ماء. (3)

( ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ

وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ). (4)

ص : 90


1- رسائل الشريف المرتضى : الرسالة الموصلية الثالثة : 213 _ 214.
2- التوْر : إناء صغير.
3- تهذيب الأحكام : 1 / 59 برقم 158.
4- المائدة : 6.

2. المسح على الخفّين اختيارا في الحضر والسفر

اشارة

ص : 91

ص : 92

2. المسح على الخفّين اختيارا في الحضر والسفر

حكي عن كثير من الصحابة والتابعين جواز المسح على الخفّين ، في الحضر والسفر اختيارا من دون ضرورة تقتضيه ، وانّ المكلّف مخيّر بمباشرة الرجلين بالغَسْل ، والخفّين بالمسح ، مع اتّفاقهم على عدم جواز المسح على الرجلين مكان الغَسْل اختيارا واضطرارا.

غير انّ لفيفا من الصحابة وأئمّة أهل البيت قاطبة ، أنكروا جواز المسح على الخفّين ، أشدّ الإنكار كما ستوافيك كلماتهم وفي مقدّمتهم :

1. الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.

2. حبر الأمّة عبد الله بن عباس.

3. أمّ المؤمنين عائشة.

4. عبد الله بن عمر ، وإن حكي عنه العدول أيضا.

5. الإمام مالك على إحدى الروايتين ، فقد أنكر جواز المسح على الخفّين في آخر أيّامه.

ص : 93

قال الرازي : وأمّا مالك فإحدى الروايتين عنه انّه أنكر جواز المسح على الخفّين ، ولا نزاع انّه كان في علم الحديث كالشمس الطالعة فلو لا انّه عرف فيه ضعفا وإلاّ لما قال ذلك ، والرواية الثانية عن مالك انّه ما أباح المسح على الخفّين للمقيم وأباحه للمسافر مهما شاء من غير تقدير فيه. (1)

وروى النووي في « المجموع » عن مالك ست روايات ، إحداها : لا يجوز المسح ، الثانية : يجوز ولكنّه يكره ، الثالثة : يجوز أبدا وهي الأشهر عنه والأرجح عند أصحابه ، الرابعة : يجوز مؤقتا ، الخامسة : يجوز للمسافر دون الحاضر ، السادسة : عكسه. (2)

6. أبو بكر محمد بن داود الظاهري ، وهو ابن داود الذي ينسب إليه المذهب الظاهري. (3)

هذا هو موقف الصحابة والتابعين وإمام الظاهريّة في المسألة ، والمهم هو دراسة الأدلّة ، فإنّ الإجماع غير محقّق في المسألة وقد عرفت وجود الاختلاف بينهم ، وقبل أن ندخل في صلب الموضوع نرى من الأجدر أن نشير إلى نكتة مهمة في المقام.

إنّ الاختلاف في الرأي إنّما يكون سائغا إذا كان نتيجة الاجتهاد في فهم الأدلّة ، كاختلاف المصلّين في غَسْل الأرجل ومَسْحِهما ، لأجل الاختلاف في عطف ( أَرْجُلَكُمْ ) في قوله سبحانه ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) _ حيث اختلفوا _ في أنّها هل هي معطوفة على ( بِرُؤُسِكُمْ ) فلا بد من مسحهما أو على « الوجوه والأيدي » المذكورتين في الجملة السابقة فلا بد من

ص : 94


1- التفسير الكبير : 11 / 163.
2- . المجموع : 1 / 500.
3- . المجموع : 1 / 500.

غسلهما؟ فبذلك صار المسلمون على طائفتين مختلفتين في حكم الأرجل.

وهذا النوع من الاختلاف إنّما يتصوّر فيما إذا كان في المسألة دليل من الكتاب والسنّة قابل للاجتهاد وبالتالي قابل للاختلاف في الاستظهار ، وأمّا إذا لم يكن فيها أيّ دليل لفظي ، غير ادّعاء رؤية عمل النبي وانّه كان يمسح على الخفّين فالاختلاف في مثلها عجيب جدّا ، لأنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يتوضّأ أمام الناس ، ليله ونهاره وكان الناس يتسابقون بالتبرّك بماء وضوئه ، ومع ذلك صارت الصحابة بعد رحيله على صنفين ، بين مثبت للمسح على الخفّين مطلقا ، وناف كذلك ، ومفصل بين الحضر والسفر ، مع أنّ الطائفة النافية كانوا هم الذين يلازمونه طيلة حياته ، في إقامته وظعنه كعلي وعائشة وكانوا يعدّون شعارا بالنسبة إليه صلى الله عليه وآله وسلم لا دثارا.

وعلى كلّ تقدير فالمتّبع هو الدليل ، وإليك دراسة أدلّة النافين ، فقد احتجّوا بالكتاب والسنّة واتّفاق أئمّة أهل البيت.

1. الاحتجاج بالكتاب العزيز

قال سبحانه ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ). (1)

فظاهر الآية فرض مباشرة الأرجل نفسها والمسح على الخفّين ليس مسحا على الأرجل ، والآية ، في سورة المائدة المشتملة على آية الوضوء ، وهي آخر سورة نزلت على النبي كما نصّت عليه أمّ المؤمنين عائشة.

روى الحاكم عن جبير بن نفير ، قال : حججت فدخلت على عائشة وقالت لي : يا جبير تقرأ المائدة؟ فقلت : نعم ، قالت : أما إنّها آخر سورة نزلت ، فما وجدتم

ص : 95


1- المائدة : 6.

فيها من حلال فاستحلّوه ، وما وجدتم من حرام فحرّموه.

ثمّ قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرّجاه.

ونقل أيضا عن عبد الله بن عمرو ، انّ آخر سورة نزلت ، سورة المائدة. وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وأقرّه الذهبي وصححه. (1)

وعلى هذا فليس لنا العدول عمّا في هذه السورة من الأحكام إلاّ بدليل قطعي يصحّ نسخ الكتاب به إذا قيل بجوازه في الحضر أو السفر اختيارا ولو مدة قصيرة.

قال الرازي : أجمع المفسرون على أنّ هذه السورة ( المائدة ) لا منسوخ فيها البتة إلاّ قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ) فإنّ بعضهم قال هذه الآية منسوخة ، وإذا كان كذلك امتنع القول بأنّ وجوب (2) غسل الرجلين منسوخ.

ثمّ إنّ خبر المسح على الخفّين بتقدير انّه كان متقدّما على نزول الآية ، كان خبر الواحد منسوخا بالقرآن ، ولو كان بالعكس كان خبر الواحد ناسخا للقرآن. (3) ولا ينسخ القرآن بخبر الواحد مهما بلغ من الصحة.

2. الاحتجاج بالسنّة

روى البيهقي عن ابن عمر قال : توضّأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرّة مرّة ثمّ قال : هذا وضوء من لا تقبل له صلاة إلاّ به ، ثمّ توضّأ مرّتين مرّتين ثمّ قال : هذا وضوء من

ص : 96


1- مستدرك الحاكم : 2 / 311.
2- يريد الوجوب التعيّني لمن له خفّ.
3- تفسير الرازي : 11 / 163.

يضاعف له الأجر مرتين ، ثمّ توضّأ ثلاثا ثلاثا ثمّ قال : هذا وضوئي ووضوء المرسلين من قبلي. (1)

ولا شكّ انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم باشر الفعل بالرجلين دون الخف ، لأنّه لو أوقع الفعل على الخفّين لم يحصل الإجزاء إلاّ به وذلك منفي اتفاقا ، وعلى ضوء ذلك فمن توضّأ ومسح على الخفّين لا تقبل صلاته حسب تصريح الرسول.

3. إجماع أئمة أهل البيت عليهم السلام

اشارة

اتّفق أئمّة أهل البيت عليهم السلام على المنع. وقد تضافرت الروايات عنهم ، نذكر منها ما يلي :

1. روى الشيخ الطوسي في « التهذيب » بسند صحيح عن زرارة بن أعين ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : قلت له : في مسح الخفّين تقية؟ فقال : « ثلاثة لا أتّقي فيهنّ أحدا : شرب المسكر ، ومسح الخفّين ، ومتعة الحجّ ». (2)

2. روى الشيخ الطوسي بسنده عن أبي الورد قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام : إنّ أبا ظبيان حدّثني أنّه _ رأى عليا عليه السلام _ أراق الماء ثمّ مسح على الخفّين فقال : « كذب أبو ظبيان ، أما بلغك قول علي عليه السلام فيكم سبق الكتاب الخفّين ». فقلت : فهل فيهما رخصة؟ فقال : « لا ، إلاّ من عدوّ تقية ، أو ثلج تخاف على رجليك ». (3)

3. روى الشيخ الطوسي عن زرارة ، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : سمعته

ص : 97


1- السنن الكبرى : 1 / 80 ، باب فضل التكرار في الوضوء ، ورواه ابن ماجة في سننه : 1 / 419. ولاحظ أحكام القرآن للجصاص : 3 / 351.
2- التهذيب : 1 / 362 ، الحديث 1093.
3- التهذيب : 1 / 362 ، الحديث 1092.

يقول : جمع عمر بن الخطاب أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيهم عليّ عليه السلام ، فقال : ما تقولون في المسح على الخفّين؟ فقام المغيرة بن شعبة فقال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح الخفّين. فقال علي عليه السلام : « قبل المائدة أو بعدها؟ » فقال : لا أدري. فقال علي عليه السلام : « سبق الكتاب الخفّين. إنّما أنزلت المائدة قبل أن يقبض بشهرين أو ثلاثة ». (1)

4. روى الصدوق بإسناده عن ثابت الثمالي ، عن حبابة الوالبية في حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام قالت سمعته يقول : « إنّا أهل بيت لا نمسح على الخفّين ، فمن كان من شيعتنا فليقتد بنا وليستنّ بسنتنا. (2)

وقال في مكان آخر : _ ولم يعرف للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم خفّ إلاّ خفّ أهداه له النجاشي وكان موضع ظهر القدمين منه مشقوقا ، فمسح النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رجليه وعليه خفّاه ، فقال الناس : إنّه مسح على خفّيه ». (3)

5. روى الصدوق بإسناده عن الأعمش ، عن جعفر بن محمد عليه السلام قال : « هذه شرائع الدين لمن أراد أن يتمسّك بها ، وأراد الله هداه : إسباغ الوضوء كما أمر الله في كتابه الناطق ، غسل الوجه واليدين إلى المرفقين ، ومسح الرأس والقدمين إلى الكعبين مرّة مرّة ومرّتان جائز ، ولا ينقض الوضوء إلاّ البول والريح والنوم والغائط والجنابة ، ومن مسح على الخفّين فقد خالف الله ورسوله وكتابه ، ووضوؤه لم يتمّ ، وصلاته غير مجزية. ». (4)

ص : 98


1- التهذيب : 1 / 361 ، الحديث 1091.
2- الفقيه : 4 / 298 ح 898.
3- الفقيه : 1 / 48 ، الحديث 10 من أحاديث حدّ الوضوء. ولاحظ سنن البيهقي : 1 / 282 ففيها ما يؤيد مضمون ذلك الحديث.
4- الوسائل : 1 / 279 ، الحديث 18 من الباب 15 من أبواب الوضوء.

6. ما تضافر عن علي عليه السلام أنّه كان يحتج على القائل بالجواز ، بأنّ الكتاب سبق المسح على الخفّين. (1)

ما يدعم القول بالمنع

إنّ هناك وجوها تدعم القول بالمنع نذكرها تباعا :

7. ما روي عن ابن عباس ( رض ) قال : سلوا هؤلاء الذين يروون المسح هل مسح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزول المائدة؟ والله ما مسح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزول المائدة ، ولئن أمْسَحُ على ظهر عنز في الصلاة أحب إليّ من أن أمسح على الخفّين. (2)

8. وما روي عن عائشة أنّها قالت : لئن تقطع قدماي أحبّ إليّ من أن أمسح على خفّين. (3)

نعم نقل غير واحد انّ عليا وعائشة رجعا عن القول بالمنع ، إلى القول بالجواز.

غير انّ قولهم بالمنع ثابت عند الجميع ورجوعهم عمّا قالا ، خبر واحد لا يصح الاعتماد عليه في المقام.

على أنّ الإمام عليّا وعائشة كانا مع النبي ليله ونهاره ، فكيف يمكن أن يقال : خفي عليهما كيفية وضوء النبي فأفتيا بالمنع ولمّا تبيّن الحق ، عدلا عن قولهما؟!

9. انّ الأخذ بالجواز لو كان متأخّرا عن نزول المائدة كان ناسخا للقرآن الكريم ، والقرآن لا ينسخ بخبر الواحد ، وقد اتّفق الأصوليون إلاّ من شذّ على ما

ص : 99


1- سنن البيهقي : 1 / 272 ، عمدة القارئ : 3 / 97 ، نيل الأوطار : 1 / 223.
2- المبسوط للسرخسي : 1 / 98 ، تفسير الرازي : 11 / 163 وفي لفظ الرازي : لأمسح على جلد حمار.
3- المبسوط : 1 / 98.

ذكرنا ، فلا محالة يكون الحديث معارضا للقرآن الكريم وقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « إذا روي لكم عني حديث فأعرضوه على كتاب الله ، فإن وافقه فاقبلوه وإلاّ فردّوه ». (1)

10. اتّفق فقهاء السنّة على أنّ مسح البشرة لا يغني عن الغسل ، فالقول بأنّ المسح على الخفّين يغني عن غَسْل الرجلين أمر عجيب يخالف العقل الصريح.

11. الاختلاف الشديد بين الفقهاء في الجواز وعدمه يوجب سقوط الروايات المجوزة والمانعة فلا محيص من الرجوع إلى ظاهر كتاب الله.

12. انّ المسح على الخفّين اختيارا مكان الغسل أو المسح لو كان أمرا مشروعا ، لعرفه الصحابة كلّهم ولم يقع بينهم نزاع ولبلغ مبلغ التواتر مع انّا نرى أنّ النزاع كان بينهم على قدم وساق.

كلّ ذلك يدلّ على عدم الجواز ، وعلى فرض ثبوت المسح على الخفّين من النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمكن الجمع بينه وبين الآية الكريمة بالوجهين التاليين :

أ. أن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مسح على الخفّين في فترة خاصة قبل نزول آية الوضوء في سورة المائدة ، والكتاب نسخ ما أثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وبهذا يمكن الجمع بين جواز المسح على الخفّين ، ولزوم مباشرة الرجلين ، وما روي عن علي عليه السلام متضافرا بأنّه سبق الكتاب الخفّين يشير إلى ذلك ، وأنّ المسح على الخفّين كان رخصة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فترة من الزمان ، غير أنّ الكتاب نسخ هذه الرخصة.

ب. انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسح على خفّ أهداه له النجاشي وكان موضع ظهر

ص : 100


1- التفسير الكبير : 11 / 163.

القدم منه مشقوقا غير مانع عن مسح البشرة ، فمسح النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رجليه وعليه خفّاه ، فقال الناس : إنّه صلى الله عليه وآله وسلم مسح على خفّيه ، من دون التفات إلى أنّه لم يمسح على نفس الخفّ بل على الرجلين تحت الخفّ. (1)

وبما ذكرنا من الوجهين يمكن الجمع بين ما نقل من النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أنّه مسح على الخفّين وما يستفاد من الكتاب من لزوم مباشرة الرجلين وما عليه أئمّة أهل البيت عليهم السلام ولفيف من الصحابة وعلى رأسهم الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام الذي عرفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله : « عليّ مع الحقّ والحقّ مع علي لا يفترقان حتّى يردا عليّ الحوض ». (2)

والذي قال الإمام الرازي في حقّه في مسألة الجهر بالبسملة _ حيث كان علي عليه السلام يرى لزوم الجهر بالبسملة في الصلاة الجهرية _ : ومن اتّخذ عليّا إماما لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه. (3)

إلى هنا تمت دراسة أدلّة القائلين بالمنع ، فهلمّ معي ندرس أدلّة القائلين بالجواز.

أدلّة القائلين بجواز المسح
اشارة

قد تعرفت على أدلّة القائلين بالمنع ، فهلمّ معي ندرس أدلّة القائلين بالجواز ، وهي عبارة عن عدّة روايات :

الأوّل : رواية جرير بن عبد الله البجلي

احتجّ القائلون بالجواز بما رواه مسلم في صحيحه عن جرير ( بن عبد الله

ص : 101


1- لاحظ ص 98 ، رقم 4.
2- تاريخ بغداد : 14 / 321 ؛ ومجمع الزوائد : 7 / 232.
3- التفسير الكبير : 1 / 207.

البجلي ) وروي عن إبراهيم الأدهم أنّه قال : ما سمعت في المسح على الخفّين أحسن من حديث جرير. (1)

فأخرج مسلم عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن همام قال : بال جرير ثمّ توضّأ ومسح على خفّيه ، فقيل : تفعل هذا قال : نعم ، رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بال ثمّ توضأ ومسح على خفّيه.

قال الأعمش ، قال إبراهيم : كان يعجبهم هذا الحديث ، لأنّ إسلام جرير كان بعد نزول المائدة.

وقد فسر النووي وجه إعجابهم بقوله : إنّ الله تعالى قال في سورة المائدة : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) فلو كان إسلام جرير متقدّما على نزول المائدة ، لاحتمل كون حديثه في مسح الخف منسوخا بآية المائدة ، فلمّا كان إسلامه متأخّرا علمنا أنّ حديثه يعمل به ، وهو مبين انّ المراد بآية المائدة غير صاحب الخف ، والسنّة مخصّصة للآية ، والله أعلم. (2)

يلاحظ عليه : أوّلا : بأنّه خبر واحد لا ينسخ الكتاب به ، فان للكتاب العزيز مكانة عظيمة لا يجاريه شيء سوى السنة المتواترة أو الخبر المحفوف بالقرائن المفيدة للعلم لا الخبر الواحد فضلا عن حديث يتعجّب راويه عن عمل جرير ، فلو كان شيئا شائعا بين المسلمين لما تعجّب منه.

وثانيا : أنّ الاحتجاج به فرع أن يكون إسلام جرير بعد نزول المائدة وهو غير ثابت ، بل الثابت خلافه حيث أسلم قبله.

ص : 102


1- شرح صحيح مسلم للنووي : 3 / 164 _ 165 ، الحديث 72.
2- المصدر السابق : 3 / 168.

قال ابن حجر العسقلاني : جزم ابن عبد البر « انّ جريرا أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأربعين يوما » ، وهو غلط ، ففي الصحيحين عنه انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له : استنصت الناس في حجة الوداع ، وجزم الواقدي بأنّه وفد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شهر رمضان سنة عشر وانّ بعثه إلى ذي الخلصة كان بعد ذلك وانّه وافى مع النبي حجّة الوداع من عامه _ إلى أن قال : _ إنّ الشعبي حدّث عن جرير انّه قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنّ أخاكم النجاشي قد مات ، أخرجه الطبراني فهذا يدلّ على أنّ إسلام جرير كان قبل سنة عشر ، لأنّ النجاشي مات قبل ذلك. (1)

أقول : إنّ النجاشي قد توفي في حياة النبي في شهر رجب سنة تسع من الهجرة.

قال الذهبي : قال النبي للناس : أنّ أخا لكم قد مات بأرض الحبشة ، فخرج بهم إلى الصحراء وصفّهم صفوفا ، ثمّ صلّى عليه ، فنقل بعض العلماء انّ ذلك كان في شهر رجب سنة تسع من الهجرة. (2)

ونقل في الموسوعة العربية العالمية أنّه توفّى في عام تسع من الهجرة يعادل 630 ميلادية. (3)

وعلى ضوء هذا فلا يصحّ الاحتجاج بخبر جرير ، لأنّه من المحتمل جدّا أن يكون عمل النبي قبل نزول المائدة بكثير ، فنسخته سورة المائدة كما قال علي عليه السلام : « سبق الكتاب الخفّين ».

ولو احتملنا أنّ إسلامه كان بعد سورة المائدة ، فهو خبر واحد لا ينسخ به

ص : 103


1- الإصابة : 1 / 234 ، ترجمة جرير ، برقم 1136.
2- سير أعلام النبلاء : 1 / 443 برقم 86.
3- الموسوعة العربية العالمية : 25 / 220.

الكتاب فان للكتاب ، منزلة عظيمة لا يعادلها شيء.

الثاني : رواية المغيرة بن شعبة

أخرج مسلم بسنده عن الأسود بن هلال ، عن المغيرة بن شعبة قال : بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة إذ نزل فقضى حاجته ، ثمّ جاء فصببت عليه من إداوَة كان معي ، فتوضّأ ومسح على خفّيه.

وقد أخرجه بطرق أخرى كلّها تنتهي إلى المغيرة بن شعبة. (1)

يلاحظ على الرواية : أوّلا : أنّ المغيرة بن شعبة لا يحتج بحديثه لسوابقه النكراء قبل إسلامه وبعده على الرغم من أنّ له في الصحيحين اثني عشر حديثا ، ويكفي في ذلك ما نتلوه عليك من جريمته المروّعة على قومه.

1. روى المؤرّخون : وَفَد المغيرة مع نفر من بني مالك على المقوقس فأهدى لهم ما أهدى ، فلمّا خرجوا من عنده أقبلت بنو مالك يشترون هدايا لأهلهم فخرجوا وحملوا معهم الخمر.

يقول المغيرة : كنّا نشرب الخمر فأجمعت على قتلهم فتمارضت ، وعصبت رأسي ، فوضعوا شرابهم ، فقلت : رأسي يُصدَّع ولكنّي أُسقيكم فلم ينكروا ، فجعلت أسرف لهم ، وأترع لهم جميعا الكأس ، فيشربون ولا يدرون حتى ناموا سكرا ، فوثبت وقتلتهم جميعا وأخذت ما معهم ، فقدمت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوجدته جالسا في المسجد مع أصحابه وعليّ ثياب سفر ، فسلّمت ، قال أبو بكر : أمن مصر أقبلتم؟ قلت : نعم ، قال : ما فعل المالكيون؟ قلت : قتلتهم ، وأخذت أسلابهم ، وجئت بها إلى رسول الله ليخمسها ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « أمّا إسلامك فنقبله ولا آخذ من أموالهم

ص : 104


1- شرح صحيح مسلم للنووي : 3 / 171 ، برقم 76 ولاحظ رقم 75 و 77 و 78 و 80.

شيئا ، لأنّ هذا غدر ولا خير في الغدر » فأخذني ما قرب وما بعد.

قلت : إنّما قتلتهم وأنا على دين قومي ، ثمّ أسلمت الساعة.

قال : « فإنّ الإسلام يجبّ ما كان قبله ».

وكان قتل منهم ثلاثة عشر. (1)

هذه جريمته النكراء في عهد الجاهلية وتكشف عن خبث باطنه وطينته حيث قتل ثلاثة عشر شخصا من أرحامه طمعا في أموالهم ، والإسلام وإن كان يجبّ ما قبله من حيث الحكم التكليفي ، إلاّ أنّه لا يغيّر خبث سريرة الإنسان الذي شبّ عليه إلاّ بالعكوف على باب التوبة والانقطاع إلى الأعمال الحسنة والتداوم عليها والتي تنمّ عن تبدّل حاله وإيقاظ ضميره.

هذه صحيفة حياته السوداء قبل الإسلام ، وأمّا بعده فلم تختلف كثيرا ، ويشهد على ذلك الأمور التالية :

2. أخرج الذهبي عن عبد الله بن ظالم قال : كان المغيرة ينال في خطبته من علي ، وأقام خطباء ينالون منه ، وذكر الحديث في العشرة المشهود لهم بالجنة لسعيد بن زيد. (2)

3. انّ معاوية وضع قوما من الصحابة وقوما من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي عليه السلام تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل على ذلك جعلا يرغب في مثله ، فاختلقوا ما أرضوه ، منهم المغيرة بن شعبة. (3)

4. أخرج أحمد في مسنده عن قطبة بن مالك قال : نال المغيرة بن شعبة من

ص : 105


1- سير أعلام النبلاء : 3 / 25 ، رقم الترجمة 7.
2- سير أعلام النبلاء : 3 / 31 ، رقم الترجمة 7.
3- شرح نهج البلاغة : 1 / 358.

علي ، فقال زيد بن أرقم : قد علمت أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان ينهى عن سبّ الموتى فلم تسبّ عليّا وقد مات. (1)

5. وقد أخرج أيضا في مسنده أحاديث نيله من أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته واعتراض سعيد بن زيد عليه. (2)

6. قال ابن الجوزي في كتاب « الأذكياء » : قال : قدمت الخطباء إلى المغيرة بن شعبة بالكوفة ، فقام صعصعة بن صوحان فتكلّم ، فقال المغيرة : أرجوه فأقيموه على المصطبة فليلعن عليا ، فقال : لعن الله من لعن الله ولعن علي بن أبي طالب ، فأخبره بذلك ، فقال : أقسم بالله لتقيّدنه ، فخرج ، فقال : انّ هذا يأبى إلاّ علي بن أبي طالب فالعنوه لعنه الله ، فقال المغيرة : أخرجوه أخرج الله نفسه. (3)

إنّ سوابقه تحكي على أنّه كان داهية يستغل دهاءه لنيل مآربه بأي قيمة كانت وإن انتهت على حساب الإسلام.

7. روى الذهبي أنّ معاوية دعا عمرو بن العاص بالكوفة ، فقال : أعنّي على الكوفة ، قال : كيف بمصر؟ قال : استعمل عليها ابنك عبد الله بن عمرو ، قال : فنعم ، فبينا هم على ذلك جاء المغيرة بن شعبة _ وكان معتزلا بالطائف _ فناجاه معاوية ، فقال المغيرة : تؤمّر عمرا على الكوفة ، وابنه على مصر وتكون كالقاعد بين لحيي الأسد ، قال : ما ترى؟ قال : أنا أكفيك الكوفة ، قال : فافعل. فقال معاوية لعمرو حين أصبح : إنّي قد رأيت كذا ، ففهم عمرو ، فقال : ألا أدلّك على أمير الكوفة؟ قال : بلى ، قال : المغيرة ، واستغن برأيه وقوته عن المكيدة ، واعزله عن

ص : 106


1- مسند أحمد : 4 / 369.
2- المسند : 1 / 188.
3- كتاب الأذكياء : 142 ، طبع دار الفكر.

المال ، قد كان قبلك عمر وعثمان فعلا ذلك ، قال : نِعْمَ ما رأيت ، فدخل عليه المغيرة ، فقال : إنّي كنت أمّرتك على الجند والأرض ، ثمّ ذكرت سنّة عمر وعثمان قبلي ، قال : قد قبلت. (1)

وكفت سنّة عمر وعثمان في حقّه في الدلالة على مدى ما كان يتمتّع به الرجل من الأمانة والورع في حقوق المسلمين وأموالهم!!

8. والذي يشهد على موبقات الرجل وانّه لم يتغير عمّا كان عليه في عصر الجاهلية انّه اتّهم بالزنا وهو أمير الكوفة في عصر الخليفة عمر بن الخطاب وشهد عليه شهود أربعة ، منهم : أبو بكرة ونافع وشبل فشهدوا على أنّهم رأوه يولجه ويخرجه ويلج ولوج المِرْوَد في المكحلة فلمّا حاول رابع الشهود وهو زياد بن أبيه حاول الخليفة أن يدرأ عنه الحد للشبهة فخاطبه بقوله : إنّي لأرى رجلا لم يخز الله على لسانه رجلا من المهاجرين ، فقال له الخليفة : أرأيته يدخله كالميل في المكحلة؟ فقال : لا ، ولكنّي رأيت مجلسا قبيحا وسمعت نَفَسا عاليا ورأيته متبطّنها (2). وبذلك درأ عنه الحدّ بالشبهة.

فهذه مكانة الرجل بين المسلمين ، أفيمكن أن يقبل حديث ذلك الرجل في أمر عبادي يمارسه المسلمون في نهارهم وليلهم؟!

وثانيا : نفترض انّه رجل يحتج بحديثه وانّ الإسلام جبّ ما قبله ، ولكنّه من أين ثبت انّ فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان بعد نزول المائدة؟ إذ من المحتمل أن يكون قبله بكثير ، وقد أسلم الرجل قبل صلح الحديبية الذي كان في العام السادس ، ويؤيد

ص : 107


1- سير أعلام النبلاء : 3 / 30 ، رقم الترجمة 7.
2- سير أعلام النبلاء : 3 / 28 ، رقم الترجمة 7 ؛ الأغاني : 14 / 146 ؛ تاريخ الطبري : 4 / 207 ؛ الكامل : 2 / 228 ، إلى غير ذلك من المصادر المتوفرة.

ذلك ما رواه الذهبي عن أبي إدريس قال : قدم المغيرة بن شعبة دمشق فسألته ، قال : وضّأت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك فمسح على خفّيه. (1)

الثالث : دراسة سائر الروايات

قد روى غير واحد من المحدّثين فعل النبي في السفر أو في السفر والحضر وأنّه مسح على الخفّين ، والغالب عليها هو نقل فعل النبي من دون أن يذكر فيها لفظه وأنّه أمر لفظا بالمسح على الخفّين ، وعلى فرض أنّه أمر بالمسح على الخفين لم تُعيّن ظروف العمل ، وقد جمع أبو بكر البيهقي عامّة الروايات في السنن ، فنذكر قسما كبيرا ممّا رواه :

1. عن سعد بن أبي وقّاص أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسح على الخفّين.

2. عن حذيفة قال : مشى رسول الله إلى سباطة قوم فبال قائماً ، ثمّ دعا بماء فجئته بماء فتوضّأ ومسح على خفّيه. وقال : رواه البخاري في الصحيح عن آدم بن أبي إياس ، ورواه مسلم من وجه آخر عن الأعمش.

وكفى في ضعف الرواية الثانية أنّه نسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما لا يليق بمنزلته ومكانته ولا يرتكبه إلاّ الأراذل من الناس.

كيف يمكن أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم انّه بال قائماً مع أنّ المروي عن ابن مسعود انّه قال : من الجفاء أن تبول وأنت قائم ، وكان سعد بن إبراهيم لا يجيز شهادة من بال قائماً.

قالت عائشة : من حدّثكم انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يبول قائماً فلا تصدّقوه ، ما كان يبول إلاّ قاعدا.

ص : 108


1- سير أعلام النبلاء : 3 / 22.

ثمّ إنّ ابن قدامة بعد ما نقل هذا حاول أن يصحّح الحديث بقوله : ولعلّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فَعَل ذلك ( البول قائماً ) لتبيين الجواز ولم يفعله إلاّ مرة واحدة ، ويحتمل انّه في موضع لا يتمكّن من الجلوس فيه. (1)

وما ذكر من الوجه الأوّل مردود بأنّ في إمكان الرسول أن يبيّن جواز المسح على الخفين بكلامه لا بفعله الذي يعد من صفات غير المبالين بأحكام الشريعة.

قد أخرج ابن ماجة في سننه عن عمر قال : رآني رسول الله أبول قائماً ، فقال : يا عمر لا تبل قائماً. (2)

مضافا إلى أنّ ظاهر الحديث أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتطهّر من البول فلا بدّ من القول بالحذف والتقدير في جمل الحديث ، وعلى فرض الصحّة فهو ينقل فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من دون أن يوقّت ظروفه فلا يكون حجّة في مقابل القرآن الكريم. ولعلّه كان قبل نزول آية الوضوء. وبه تظهر حال رواية سعد بن أبي وقاص حيث لم تعيّن ظرف العمل وانّه هل كان قبل نزول المائدة أو بعدها؟

3. عن جعفر بن أميّة بن الضمري ، عن أبيه : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسح على عمامته وخفّيه ، والكلام في هذا الحديث هو نفس الكلام في الحديثين السابقين.

4. عن كعب بن عجرة قال : حدّثني بلال قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضّأ ومسح على الخفّين والخمار.

5. عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضّأ مرّة مرّة ومسح على الخفّين ، وصلّى الصلوات كلّها بوضوء واحد. فقال له عمر : صنعت شيئا ما كنت تصنعه. فقال : عمدا فعلته يا عمر.

ص : 109


1- المغني : 1 / 156.
2- سنن ابن ماجة : 1 / 112 ، برقم 309.

أقول : قد قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بفعله هذا يوم الفتح قبل نزول سورة المائدة بشهادة رواية بريدة حيث قال : صلّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد ومسح على خفّيه. فقال له عمر : أنّي رأيتك صنعت شيئا لم تصنعه ، قال : عمدا صنعته.

6. روى المقدام بن شريح قال : سألت عائشة عن المسح على الخفّين؟ فقالت : ائت عليا فإنّه أعلم بذلك منّي ، فأتيت عليّا فسألته عن المسح ، فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمرنا أن يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثا.

ولا يصحّ الاحتجاج به وبنظيره ما لم يثبت ظرف العمل وانّ فعل النبي كان بعد نزول سورة المائدة. (1)

ص : 110


1- لاحظ في الوقوف على هذه المأثورات : السنن الكبرى للبيهقي : 1 / 270 _ 277.
تساؤلات حول مسألة المسح على الخفّين

ثمّ إنّ هناك تساؤلات حول هذه المسألة نطرحها على صعيد البحث والدراسة ، ولعلّ الفقيه المفتي بجواز المسح على الخفّين في عصرنا هذا يجد لها أجوبة :

1. لا شكّ أنّ الوضوء وإن كان عبادة وشرطا في صحّة الصلاة ولكنّه في الوقت نفسه تطهير للمتوضّئ يقول سبحانه في ذيل آية الوضوء ( وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ). (1)

فإذا كان الوضوء كالغسل والتيمّم سببا للتطهير فهو فرع مباشرة الرجلين لا الخفّين والنعلين ولا الجوربين ، فان المسح عليها لا يستتبع طهارة إن لم يؤثر في انفعال اليد بالأوساخ التي على الخفّين أو النعلين أو الجوربين. فتجويزه في الحضر والسفر اختيارا مؤقتا أو غير مؤقت على خلاف النظافة التي دعا إليها الإسلام في غير واحد من تعاليمه.

2. إنّ المسح على الخفّين مسألة فقهية فرعية اختلف فيها الصحابة والتابعون ، وقد اشتهر عن علي وابن عباس وعائشة وأئمة أهل البيت قاطبة وغيرهم المنع عنه ، وكان الإمام عليه السلام وتلميذه حبر الأمّة يستدلاّن بأنّ آية الوضوء نسخت هذا ، ومع هذا فلا يتجاوز الاختلاف فيه عن الاختلاف في الحكم

ص : 111


1- المائدة : 6.

الفرعي ، وما أكثر الخلاف في الأحكام الفرعية ؛ ومع ذلك نرى أنّ شهاب الدّين أحمد بن محمد القسطلاني ينقل في شرحه على صحيح البخاري عن الكرخي أنّه قال : أخاف الكفر على من لا يرى المسح على الخفّين ، وليس [ المسح ] بمنسوخ ، لحديث مغيرة في غزوة تبوك وهي آخر غزواته صلى الله عليه وآله وسلم والمائدة نزلت قبلها في غزوة المريسيع ، فأين النسخ للمسح. (1)

ولا يخفى ما في كلامه من الوهن.

أمّا أوّلا : فإنّ ما ذكره لا يخلو من المغالاة في القول ، إذ أي ملازمة بين عدم تجويز المسح على الخفّين والخروج عن حظيرة الإسلام ، وليس في المسألة إلاّ خبر واحد كخبر المغيرة ، غير المفيد علما ولا قطعا.

واتّهام المخالف بالكفر سيئة موبقة ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إذا كفّر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما ». (2)

وثانيا : أنّ المائدة نزلت قبل رحيله صلى الله عليه وآله وسلم بثلاثة أشهر أو أقلّ ، وأمّا غزوة المريسيع ، فقد كانت في شهر شعبان من العام السادس من الهجرة ، وقيل قبله. (3) نعم نزل فيها آية التيمّم وهي قوله سبحانه ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً ). (4)

ص : 112


1- في المصدر مكان أين : فأمن. راجع : إرشاد الساري : 1 / 278.
2- صحيح مسلم : 1 / 56 ، كتاب الإيمان ، باب من قال لأخيه يا كافر.
3- السيرة النبوية : 2 / 289.
4- النساء : 43.

3. وممّا يشهد على أنّ النزاع بين الصحابة والتابعين في مسألة المسح على الخفّين كان على قدم وساق انّ بعض من يروي المسح على الخفّين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعمل بخلافه. روى البيهقي عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن المسح على الخفّين فقال : للمسافر ثلاثة أيام ولياليهنّ وللمقيم يوم وليلة ، وكان أبي ( أبو بكرة ) ينزع خفّيه ويغسل رجليه. (1)

ولما كان ذيل الحديث يوجد وهنا فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث إنّ عمله كان على خلاف روايته ، حاول غير واحد من المحدّثين تصحيحه. (2)

4. إنّ الظاهر من غير واحد من الروايات التي نقلها البيهقي في سننه أنّه يجوز المسح على الخفّين في السفر والحضر جميعا ، وقد عقد بابا بهذا العنوان : « باب مسح النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الخفّين في السفر والحضر » ، وقد عرفت رواية حذيفة وأسامة انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسح على الخفّين وهو في المدينة ، ومعنى ذلك أنّه يجوز أن يختار المكلّف طيلة عمره المسح على الخفّين ، وأنّ غسل الرجلين مختصّ بمن لم يلبس الخفّين ، وهذا شيء لا ترتضيه روح الفقه ولا سيرة المتشرّعة ولا حكمة الوضوء.

وإن كنت في شكّ من ذلك ، فإليك فتاوى الفقهاء في هذا الصدد :

يرى جمهور الفقهاء الحنفيّة والشافعيّة والحنابلة ، توقيت مدّة المسح على الخفّين بيوم وليلة في الحضر وثلاثة أيّام للمسافر ، ولكن المالكية تجوّز المسح على الخفّين في الحضر والسفر من غير توقيت بزمان ، فلا ينزعهما إلاّ بموجب الغسل ويندب للمكلّف نزعهما في كلّ أسبوع مرّة يوم الجمعة ولو لم يرد الغسل لها ، ونزعهما

ص : 113


1- السنن الكبرى : 1 / 276.
2- الشرح الصغير : 1 / 152 ، 153 ، 158 ؛ جواهر الإكليل : 1 / 24 ، ولاحظ الموسوعة الفقهية الكويتية ، ج 37 ، مادة « مسح ».

مرّة في كلّ أسبوع في مثل اليوم الذي لبسهما فيه ، فإذا نزعهما لسبب أو لغيره وجب غسل الرجلين.

واستدلّوا بما رواه ابن أبي عمارة ، قال : قلت : يا رسول الله : أمسح على الخفّين؟ قال : نعم ، قلت : يوما؟ قال : ويومين ، قلت : وثلاثة؟ قال : نعم وما شئت. (1)

5. انّ الشيء الغريب حقّا هو انّ الفقهاء لم يجوّزوا المسح بماء الوضوء على الرجلين مباشرة لا في الحضر ولا في السفر ، ومع ذلك جوّزوا المسح على الخفّين على الرغم من أنّ الخفين لا صلة لها بالمتوضّي سوى انّهما وعاءان للرجْلين.

6. ثمّ هناك من يتصوّر انّ الحكمة في جواز المسح على الخفّين ، التيسير والتخفيف عن المكلّفين الذين يشق عليهم نزع الخف وغسل الرجلين في أوقات الشتاء والبرد الشديد ، وفي السفر وما يصاحبه من الاستعجال ومواصلة السفر. (2)

وما ذكر من الحكمة _ لو صحت _ يوجب اختصاص المسح على الخفّين بموارد الحرج والضرورة ، وأين هذا من الإفتاء به دون تقييد؟!

7. وأظنّ أنّ الإصرار على بقاء حكم المسح على الخفّين كان لأجل مخالفة الإمام علي عليه السلام ؛ حيث كان هو وبيته الرفيع يجاهرون بالمنع من المسح على الخفّين ، وقد أعطى المجوّزون المسألة أكثر ممّا تستحقّ ، قال أبو بكر بن المنذر : روينا عن الحسن البصري ، حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يمسح على الخفّين ، قال : وروينا عن ابن المبارك قال : ليس في المسح على الخفّين اختلاف. هو جائز قال جماعات من السلف نحو هذا. (3)

ص : 114


1- كتاب المجموع شرح المهذّب للنووي : 1 / 505.
2- الموسوعة الفقهية : 37 / 262.
3- المجموع : 1 / 501.

كما ذكر البيهقي أسماء حوالي عشرين صحابيا جوّزوا المسح على الخفّين منهم : عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وأبو أيوب الأنصاري وأبو موسى الأشعري وعمّار بن ياسر وجابر بن عبد الله وعمرو بن العاص وأنس بن مالك وسهل بن سعد وأبي مسعود الأنصاري والمغيرة بن شعبة والبراء بن عازب وأبي سعيد الخدري وجابر بن سمرة وأبو أمامة الباهلي وعبد الله بن الحارث بن جزر وأبو زيد الأنصاري. (1)

والعجب انّهم عطفوا عليّا عليه السلام ؛ وابن عباس على هؤلاء لمزيد كسب الثقة بالجواز.

فروع المسألة

ثمّ إنّ القائلين بجواز المسح على الخفّين اختلفوا فيما يرجع إليه من فروع اختلافا شديدا فاختلفوا في المواضع التالية :

1. تحديد المحل : فاختلفوا فيه فقال قوم : إنّ الواجب من ذلك مسح أعلى الخف وإنّ مسح الباطن _ أعني : أسفل الخف _ مستحب ، ومالك أحد من رأى هذا ، والشافعي ؛ ومنهم من أوجب مسح ظهورهما وبطونهما ، وهو مذهب ابن نافع من أصحاب مالك.

ومنهم من أوجب مسح الظهور فقط ولم يستحب مسح البطون ، وهو مذهب أبي حنيفة وداود وسفيان وجماعة ؛ وشذّ أشهب : فقال : إنّ الواجب مسح الباطن أو الأعلى ، أيّهما مسح ، وسبب اختلافهم تعارض الآثار الواردة في ذلك

ص : 115


1- سنن البيهقي : 1 / 272.

وتشبيه المسح بالغسل.

2. نوع محل المسح فإنّ القائلين به اتّفقوا على جواز المسح على الخفّين واختلفوا في المسح على الجوربين ، فأجاز ذلك قوم ومنعه قوم ، وممّن منع ذلك : مالك والشافعي وأبو حنيفة ، وممّن أجاز ذلك : أبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة وسفيان الثوري ، وسبب اختلافهم في صحّة الآثار الواردة عنه صلى الله عليه وآله وسلم ، انّه مسح على الجوربين والنعلين ، واختلافهم أيضا في هل يقاس على الخف غيره ، أم هي عبادة لا يقاس عليها ولا يتعدّى بها محلّها؟

3. صفة الخفّ فإنّهم اتّفقوا على جواز المسح على الخفّ الصحيح واختلفوا في المخْرَق ، فقال مالك وأصحابه : يمسح عليه إذا كان الخرق يسيرا ، وحدّد أبو حنيفة بما يكره الظاهر منه أقلّ من ثلاثة أصابع ، وقال قوم بجواز المسح على الخفّ المنخرق ما دام يسمّى خفّا ، وإن تفاحش خرقه ، وممّن روي عنه ذلك الثوري ، ومنع الشافعي أن يكون في مقدّم الخف خرق يظهر منه القدم ، ولو يسيرا في أحد القولين عنه. ثمّ ذكر سبب اختلافهم.

4. التوقيت فان الفقهاء اختلفوا فيه ، فرأى مالك انّ ذلك غير مؤقت وإنّ لا بس الخفّين يمسح عليها ما لم ينزعهما أو تصيبه جنابة ، وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنّ ذلك مؤقت. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك.

5. شرط المسح على الخفين هو أن تكون الرْجلان طاهرتين بطُهر الوضوء وذلك شيء مجمع عليه إلاّ خلافا شاذا. وقد روي عن ابن القاسم عن مالك ، ذكره ابن لبابة في المنتخب ، وإنّما قال به الأكثر لثبوته في حديث المغيرة وغيره إذا أراد أن ينزع الخف عنه فقال عليه السلام : دعهما فإنّي أدخلتهما وهما طاهرتان ، والمخالف حمل

ص : 116

هذه الطهارة على الطهارة اللغوية.

6. الاختلاف في نواقض هذه الطهارة فإنّهم أجمعوا على أنّها نواقض الوضوء بعينها واختلفوا هل نزع الخف ناقض لهذه الطهارة أم لا؟ فقال قوم : إن نَزَعه وغسل قدميه فطهارته باقية ، وإن لم يغسلهما وصلّى أعاد الصلاة بعد غسل قدميه ، وممّن قال بذلك مالك وأصحابه والشافعي وأبو حنيفة _ إلى أن قال _ وقال قوم : طهارته باقية حتى يحدث حدثا ينقض الوضوء وليس عليه غسل ، وممّن قال بهذا القول داود وابن أبي ليلى وقال الحسن بن حي : إذا نزع خفّيه فقد بطلت طهارته. (1)

وهذه الاختلافات في الفروع مبنية على القول بجواز المسح على اختيار ، فإذا بطل الأصل يكون الكلام في الفروع أمرا لغوا لا طائل تحته وإن أطنب القائلون بالجواز الكلام فيها.

ص : 117


1- بداية المجتهد : 1 / 18 _ 23 بتلخيص.

ص : 118

3. تشريع الأذان و التثويب في أذان الفجر

اشارة

1. قيل للإمام الصادق عليه السلام :

يقولون إنّ رجلا من الأنصار رأى الأذان في النوم ، فأجاب عليه السلام :

« كذبوا فان دين الله أعزّ من أن يُرى في النوم ».

2. قال محمد بن الحنفية :

عمدتم إلى ما هو الأصل في شرائع الإسلام ومعالم دينكم فزعمتم أنّه انّما كان من رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه تحتمل الصدق والكذب وقد تكون أضغاث أحلام.

ص : 119

ص : 120

تمهيد : الأذان لغة وشرعا ومكانة المؤذّن عند الله

الأذان لغة : الإعلام ، قال سبحانه ( وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ) (1) أي إعلام منهما إلى الناس.

وشرعا : الإعلام بدخول وقت الصلاة المفروضة بألفاظ معلومة مأثورة على صفة مخصوصة ، وهو من خير الأعمال التي يتقرّب بها إلى الله تعالى ، وفيه فضل كثير وأجر عظيم.

أخرج الشيخ الطوسي في « التهذيب » عن معاوية بن وهب ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أذّن في مصر من أمصار المسلمين سنة ، وجبت له الجنة ». (2)

وأخرج أيضا عن سعد الإسكاف ، قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : « من أذّن سبع سنين احتسابا جاء يوم القيامة ولا ذنب له ». (3)

ص : 121


1- التوبة : 3.
2- التهذيب : 2 / 283 ح 1126.
3- التهذيب : 2 / 283 ح 1128.

وأخرج الصدوق عن العرزمي ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : « أطول الناس أعناقا يوم القيامة ، المؤذّنون ». (1)

وأخرج أحمد بن محمد بن خالد البرقي في « المحاسن » عن جابر الجعفي ، عن محمد بن علي الباقر عليه السلام ، قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : المؤذّن المحتسب ، كالشاهر بسيفه في سبيل الله ، القاتل بين الصفّين ». (2)

إلى غير ذلك من الروايات الحاثّة على نشر الأذان وقيام قاطبة الطبقات به ، وكراهة حصر الأذان بضعفائهم.

وعقدنا هذا البحث لبيان أمرين :

الأوّل : انّ تشريع الأذان كان إلهيّا لا مدخلية للإنسان فيه.

الثاني : دراسة تاريخ التثويب في الفجر وانّه ليس جزءا من الأذان وإنّما دخل فيه بتصويب البعض.

فيقع الكلام في مقامين :

ص : 122


1- ثواب الأعمال : 52.
2- المحاسن : 48 برقم 68.

المقام الأوّل

1. منزلة الأذان في التشريع الإسلامي

لم يشارك في تشريعه أيّ إنسان

إنّ الأذان والإقامة من صميم الدين وشعائره ، أنزله الله سبحانه على قلب سيّد المرسلين ، وإنّ الله الذي فرض الصلاة ، هو الذي فرض الأذان ، وإنّ منشأ الجميع واحد ولم يُشارك في تشريعه أيّ إنسان لا في اليقظة ولا في المنام ، وهذا شأن كلّ عبادة يعبد بها الإنسان خالقَه وبارئه ، ولم نجد في التشريع الإسلامي عبادة مشروعة قام الإنسان بوضعها ، ثمّ نالت إمضاء الشارع وتصويبه إلاّ في مواضع خاصة ثبتت من النبيّ المعصوم.

والذي يعرب عن ذلك انّ لجميع فصوله من التكبير إلى التهليل ، مسحة إلهية وعذوبة ، وسموّ المعنى وفخامته ، تثير شعور الإنسان إلى مفاهيم أرقى وأعلى وأنبل ممّا في عقول الناس ، فلو كان للأذان والإقامة مصدر غير الوحي ربّما لا تتمتع بهذه العذوبة ولا المسحة الإلهيّة.

وعلى ضوء ذلك فليس لمسلم إلاّ قبول أمرين :

ص : 123

أ : انّ تشريع الأذان والإقامة يرجع إلى الله سبحانه وانّه أوحى إلى عبده الأذان والإقامة ولم يكن لبشر دور في تشريعهما.

ب : كما أنّ أصل الأذان وحي إلهي أنزله الله على قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهكذا كلّ فصل منه إيحاء إلى النبي فليس لأيّ إنسان أن ينقص منه فصلا أو يضيف إليه جزءاً.

ص : 124

2. تاريخ تشريع الأذان في أحاديث أهل البيت عليهم السلام

اتّفقت أئمة أهل البيت عليهم السلام على أنّ الأذان من الأمور العبادية ، له من الشأن ما لغيره من العبادات وأنّ المشرّع له هو الله سبحانه وقد هبط جبرئيل بأمر منه وعلّمه رسول الله ، كما علّمه رسول الله بلالا ، ولم يشارك في تشريعه بل ولا في تشريع الإقامة أحد ، فهذا من الأمور المسلّمة عند أئمّة أهل البيت ، وقد تضافرت عليه رواياتهم وكلماتهم نذكر في المقام نزرا يسيرا « ويكفيك من القلادة موضع عنقها ». (1)

1. روى ثقة الإسلام الكليني بسند صحيح عن زرارة والفضيل ، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : « لمّا أسري برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء فبلغ البيت المعمور ، وحضرت الصلاة ، فأذّن جبرئيل عليه السلام وأقام فتقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصفّ الملائكة والنبيّون خلف محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ».

2. أخرج أيضا بسند صحيح ، عن الإمام الصادق عليه السلام قال : « لمّا

ص : 125


1- مثل يضرب لبيان كفاية القليل عن الكثير.

هبط جبرئيل بالأذان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان رأسه في حجر علي عليه السلام ، فأذّن جبرئيل وأقام (1) ، فلمّا انتبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : يا علي سمعت؟ قال : نعم (2) قال : حفظت؟ قال : نعم. قال : ادع بلالا ، فدعا علي عليه السلام ؛ بلالا فعلّمه ». (3)

3. أخرج أيضا بسند صحيح عن عمر بن أذينة عن الصادق عليه السلام قال : ما تروي هذه ( الجماعة )؟ فقلت : جعلت فداك في ما ذا؟ فقال : في أذانهم. فقلت : إنّهم يقولون إنّ أبيّ بن كعب رآه في النوم. فقال : كذبوا فان دين الله أعزّ من أن يرى في النوم. قال : فقال له سدير الصيرفي : جعلت فداك فأحدث لنا من ذلك ذكرا. فقال أبو عبد الله ( الصادق ) عليه السلام : إنّ الله عزّ وجلّ لمّا عرج بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم إلى سماواته السبع إلى آخر الحديث الأوّل. (4)

4. وروى محمد بن مكي الشهيد في « الذكرى » عن فقيه الشيعة في أوائل القرن الرابع _ أعني : ابن أبي عقيل العماني _ أنّه روى عن الإمام الصادق عليه السلام : أنّه لعن قوما زعموا أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أخذ الأذان من عبد الله بن زيد (5) فقال : ينزل الوحي على نبيّكم فتزعمون أنّه أخذ الأذان من عبد الله بن زيد؟! » (6).

ص : 126


1- لا منافاة بين الروايتين ، وكم نزل أمين الوحي بآية واحدة مرّتين ، والغاية من التأذين في الأوّل غيرها في الثاني ، كما هو واضح لمن تدبّر.
2- كان علي عليه السلام محدّثا وهو يسمع كلام الملك. لاحظ صحيح البخاري : 4 / 200 ، وشرحه : إرشاد الساري : 6 / 99 وغيره ، باب رجال يُكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء. روى أبو هريرة عن النبيّ أنّه قال : « لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل. ».
3- الكافي : 3 / 302 ، باب بدء الأذان ، الحديث 1 و 2.
4- الكافي : 3 / 482 ح 1 ، باب النوادر. وسيأتي أنّه ادّعى رؤية الأذان في النوم ما يقرب من أربعة عشر رجلا.
5- سيوافيك نقله عن السنن.
6- وسائل الشيعة : الجزء 4 / 612 ، الباب الأوّل من أبواب الأذان والإقامة ، الحديث 3.

وليست الشيعة متفرّدة في هذا النقل عن أئمة أهل البيت ، فقد روى الحاكم وغيره نفس النقل عنهم ، وإليك بعض ما أثر في ذلك المجال عن طريق أهل السنّة.

5. روى الحاكم عن سفيان بن الليل قال : لمّا كان من أمر الحسن بن علي ومعاوية ما كان ، قدمت عليه المدينة وهو جالس. قال : فتذاكرنا عنده الأذان ، فقال بعضنا : إنّما كان بدء الأذان رؤيا عبد الله بن زيد ، فقال له الحسن بن علي : إنّ شأن الأذان أعظم من ذاك ، أذّن جبرئيل عليه السلام في السماء مثنى مثنى ، وعلّمه رسول الله وأقام مرة مرة (1) فعلّمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (2)

6. روى المتقي الهندي عن الشهيد زيد بن الإمام علي بن الحسين ، عن آبائه ، عن علي : أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عُلّم الأذان ليلة أسري به وفرضت عليه الصلاة. (3)

7. روى الحلبي عن أبي العلاء ، قال : قلت لمحمد ابن الحنفية : إنّا لنتحدّث أنّ بدء هذا الأذان كان من رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه ، قال : ففزع لذلك محمد ابن الحنفية فزعا شديدا وقال : عمدتم إلى ما هو الأصل في شرائع الإسلام ، ومعالم دينكم ، فزعمتم أنّه إنّما كان من رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه ، تحتمل الصدق والكذب وقد تكون أضغاث أحلام ، قال : فقلت له : هذا الحديث قد استفاض في الناس. قال : هذا والله الباطل. (4)

8. روى المتقي الهندي عن مسند رافع بن خديج : لمّا أسري برسول

ص : 127


1- المروي عنهم عليهم السلام أنّ الإقامة مثنى مثنى إلاّ الفصل الأخير وهو مرة.
2- مستدرك الحاكم : 3 / 171 ، كتاب معرفة الصحابة.
3- كنز العمال : 12 / 350 برقم 35354.
4- السيرة الحلبية : 2 / 300 _ 301.

الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء أوحى إليه بالأذان فنزل به فعلّمه جبرئيل. ( الطبراني في الأوسط عن ابن عمر ) (1).

9. ويظهر ممّا رواه عبد الرزاق بن همام الصنعاني ( 126 _ 211 ه ) عن ابن جريج عن عطاء ، انّ الأذان كان بوحي من الله سبحانه. (2)

10. قال الحلبي : ووردت أحاديث تدلّ على أنّ الأذان شرّع بمكة قبل الهجرة ، فمن تلك الأحاديث ما في الطبراني عن ابن عمر. ونقل الرواية الثامنة. (3)

هذا هو تاريخ الأذان وطريق تشريعه أخذته الشيعة من عين صافية ، من أناس هم بطانة سنّة الرسول ، يروي صادق عن صادق حتى ينتهي إلى الرسول ، وأيّدته آثار أخرى كما عرفت.

ص : 128


1- كنز العمال : 8 / 329 برقم 23138 ، فصل في الأذان.
2- المصنّف : 1 / 456 برقم 1775.
3- السيرة الحلبية : 2 / 296 ، باب بدء الأذان ومشروعيته.
3. كيفيّة تشريع الأذان عند أهل السنّة

قد ورد في روايات أهل السنّة حول كيفية تشريع الأذان أمور لا تصحّ نسبتها إلى الرسول الأعظم ، وحصيلة هذه الروايات _ كما ستمر عليك تفاصيلها _ ما يلي :

كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مهتما بأمر الصلاة جماعة ، ولكن كان متحيّرا في أنّه كيف يجمع الناس إلى الصلاة مع بُعْد الدار وتفرّق المهاجرين والأنصار في أزقّة المدينة ، فاستشار في ذلك في حل العقدة ، فأشاروا عليه بأمور :

1. أن يستعين بنصب الراية ، فإذا رأوها آذن بعضهم بعضا ، فلم يُعجبه.

2. أشاروا إليه باستعمال القبع ، أيّ بوق اليهود ، فكرهه النبي.

3. أن يستعين بالناقوس كما يستعين به النصارى ، كرهه أوّلا ثمّ أمر به فعمل من خشب ليضرب به للناس حتى يجتمعوا للصلاة.

4. كان النبي الأكرم على هذه الحالة ، إذ جاء عبد الله بن زيد وأخبر رسول

ص : 129

الله بأنّه كان بين النوم واليقظة إذ أتاه آت فأراه الأذان ، وكان عمر بن الخطاب قد رآه قبل ذلك بعشرين يوما فكتمه ثمّ أخبر به النبي ، فقال : ما منعك أن تخبرني؟ فقال : سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت ، فقال رسول الله : يا بلال قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فعلّمه ، فتعلّم بلال الأذان وأذّن.

هذا مجمل ما يرويه المحدّثون حول كيفيّة تشريع الأذان ، فتجب علينا دراسة متونه وإسناده وإليك البيان.

ص : 130

4. استعراض ما روي في كيفية تشريع الأذان في السنن

1. روى أبو داود ( 202 _ 275 ه ) قال : حدّثنا عباد بن موسى الختلي ، وزياد بن أيوب ، _ وحديث عباد أتمّ _ قالا : حدّثنا هشيم ، عن أبي بشر ، قال زياد : أخبرنا أبو بشر ، عن أبي عمير بن أنس ، عن عمومة له من الأنصار ، قال : اهتمّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها ؛ فقيل له : انصب راية عند حضور الصلاة ، فإذا رأوها آذن بعضهم بعضا ، فلم يعجبه ذلك ؛ قال : فذكر له القُنْع _ يعني الشبّور _ قال زياد : شبور اليهود ، فلم يعجبه ذلك ؛ وقال : « هو من أمر اليهود » قال : فذكر له الناقوس ، فقال : « هو من أمر النصارى ».

فانصرف عبد الله بن زيد ( بن عبد ربّه ) وهو مهتم لهمّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأُرى الأذان في منامه ، قال : فغدا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره فقال ( له ) : يا رسول الله ، إنّي لبين نائم ويقظان ، إذ أتاني آت فأراني الأذان ، قال : وكان عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه _ قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين

ص : 131

يوما (1) ، قال : ثمّ أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له : « ما منعك أن تخبرني؟ » فقال : سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « يا بلال ، قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله » قال : فأذّن بلال ، قال أبو بشر : فأخبرني أبو عمير أنّ الأنصار تزعم أنّ عبد الله بن زيد لو لا أنّه كان يومئذ مريضا ، لجعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مؤذنا.

2. حدّثنا محمد بن منصور الطوسي ، حدّثنا يعقوب ، حدّثنا أبي ، عن محمد بن إسحاق ، حدّثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربّه ، قال : حدّثني أبي : عبد الله بن زيد ، قال : لمّا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالناقوس يعمل ليضرب به للناس لجمع الصلاة طاف بي ، وأنا نائم ، رجل يحمل ناقوسا في يده فقلت : يا عبد الله ، أتبيع الناقوس؟ قال : وما تصنع به؟ فقلت : ندعو به إلى الصلاة قال : أفلا أدلّك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت ( له ) : بلى ، قال : فقال تقول :

الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلاّ الله ، أشهد أن لا إله إلاّ الله ، أشهد أنّ محمدا رسول الله ، أشهد أنّ محمدا رسول الله ، حيّ على الصلاة ، حيّ على الصلاة ، حيّ على الفلاح ، حيّ على الفلاح ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلاّ الله.

قال : ثمّ استأخر عنّي غير بعيد ، ثمّ قال : وتقول إذا أقمت الصلاة :

الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلاّ الله ، أشهد أنّ محمدا رسول الله ، حيّ

ص : 132


1- أفيصح في منطق العقل أن يكتم الإنسان تلك الرؤيا التي فيها إراحة للنبيّ وأصحابه عشرين يوما ، ثم يعلّل ذلك _ بعد سماعها من ابن زيد _ بأنّه استحيا؟! وأنا أجلّ الخليفة عن هذا المنطق ، مضافا إلى وجود التنافي بينه وبين الحديث الثاني.

على الصلاة ، حيّ على الفلاح ، قد قامت الصلاة ، قد قامت الصلاة ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلاّ الله.

فلمّا أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته بما رأيت فقال : « إنّها لرؤيا حق إن شاء الله ، فقم مع بلال فالق عليه ما رأيت فليؤذّن به ، فإنّه أندى صوتا منك ». فقمت مع بلال ، فجعلت ألقيه عليه ويؤذّن به ، قال : فسمع ذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجرّ رداءه ويقول : والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما رأى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « فلله الحمد ». (1)

ورواه ابن ماجة ( 207 _ 275 ه ) بالسندين التاليين :

3. حدّثنا أبو عبيد : محمد بن ميمون المدني ، حدّثنا محمد بن سلمة الحرّاني ، حدّثنا محمد بن إسحاق ، حدّثنا محمد بن إبراهيم التيمي ، عن محمد بن عبد الله بن زيد ، عن أبيه ، قال : كان رسول الله قد همّ بالبوق ، وأمر بالناقوس فنُحِتَ ، فأُرى عبد الله بن زيد في المنام. إلخ.

4. حدّثنا : محمد بن خالد بن عبد الله الواسطي : حدّثنا أبي ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه : أنّ النبي استشار الناس لما يهمّهم إلى الصلاة ، فذكروا البوق فكرهه من أجل اليهود ، ثمّ ذكروا الناقوس فكرهه من أجل النصارى ، فأرى النداء تلك الليلة رجل من الأنصار يقال له : عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب.

قال الزهري : وزاد بلال في نداء صلاة الغداة : الصلاة خير من النوم ، فأقرّها

ص : 133


1- سنن أبي داود : 1 / 134 _ 135 برقم 498 _ 499 تحقيق محمد محيي الدين. والحديث حاك عن اطّلاع عمر بعد أذان بلال ، خلافا للحديث السابق.

رسول الله. (1).

ورواه الترمذي بالسند التالي :

5. حدّثنا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي ، حدّثنا أبي ، حدّثنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن محمد بن عبد الله بن زيد ، عن أبيه قال : لمّا أصبحنا أتينا رسول الله فأخبرته بالرؤيا. إلخ.

6. وقال الترمذي : وقد روى هذا الحديث إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق أتمّ من هذا الحديث وأطول ، ثم أضاف الترمذي : وعبد الله بن زيد هو ابن عبد ربّه ، ولا نعرف له عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئا يصحّ إلاّ هذا الحديث الواحد في الأذان. (2)

هذا ما رواه أصحاب السنن المعدودة من الصحاح أو الكتب الستة ، ولها من الأهمية ما ليس لغيرها من السنن كسنن الدارمي أو الدارقطني أو ما يرويه ابن سعد في طبقاته ، والبيهقي في سننه ، ولأجل تلك المكانة الخاصّة فصلنا ما روي في السنن المعروفة ، عمّا روي في غيرها.

فلندرس هذه الروايات متنا وسندا حتّى تتّضح الحقيقة ثمّ نذكر بقية النصوص الواردة في غيرها فنقول :

ص : 134


1- سنن ابن ماجة : 1 / 232 _ 233 ، باب بدء الأذان ، برقم 706 _ 707.
2- سنن الترمذي : 1 / 358 _ 361 ، باب ما جاء في بدء الأذان برقم 189.
5. تحليل مضمون الروايات
اشارة

إنّ هذه الروايات غير صالحة للاحتجاج لجهات شتى :

الأولى : لا تتّفق مع مقام النبوّة

إنّه سبحانه بعث رسوله لإقامة الصلاة مع المؤمنين في أوقات مختلفة. وطبع القضية يقتضي أن يعلّمه سبحانه كيفية تحقيق هذه الأمنية. فلا معنى لتحيّر النبيّ أياما طويلة أو عشرين يوما على ما في الرواية الأولى التي رواها أبو داود ، وهو لا يدري كيف يحقّق المسئولية الملقاة على عاتقة ، فتارة يتوسّل بهذا ، وأخرى بذاك حتى يرشد إلى الأسباب والوسائل التي تؤمّن مقصوده ، مع أنّه سبحانه يقول في حقّه ( وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ) (1) والمقصود من الفضل هو العلم بقرينة ما قبله ( وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ).

إنّ الصلاة والصيام من الأمور العبادية وليسا كالحرب والقتال الذي ربّما كان النبي يتشاور فيه مع أصحابه ولم يكن تشاوره في كيفية القتال عن جهله بالأصلح ، وإنّما كان لأجل جلب قلوبهم كما يقول سبحانه :

ص : 135


1- النساء : 113.

( وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ). (1)

أليس من الوهن في أمر الدين أن تكون الرؤيا والأحلام والمنامات من أفراد عاديّين ، مصدرا لأمر عبادي في غاية الأهمية كالأذان والإقامة؟!.

إنّ هذا يدفعنا إلى القول بأنّ كون الرؤيا مصدرا للأذان أمر مكذوب على الشريعة. ومن القريب جدا أنّ عمومه عبد الله بن زيد هم الذين أشاعوا تلك الرؤيا وروّجوها ، لتكون فضيلة لبيوتاتهم وقبائلهم. ولذلك نرى في بعض المسانيد أنّ بني عمومته هم رواة هذا الحديث ، وأنّ من اعتمد عليهم انّما كان لحسن ظنّه بهم.

الثانية : أنّها متعارضة جوهرا

إنّ ما مضى من الروايات حول بدء الأذان وتشريعه متعارضة جوهرا من جهات :

1. إنّ مقتضى الرواية الأولى ( رواية أبي داود ) أنّ عمر بن الخطاب رأى الأذان قبل عبد الله بن زيد بعشرين يوما. ولكن مقتضى الرواية الرابعة ( رواية ابن ماجة ) أنّه رأى في نفس الليلة التي رأى فيها عبد الله بن زيد.

2. إنّ رؤيا عبد الله بن زيد هو المبدأ للتشريع ، وأنّ عمر بن الخطاب لمّا سمع الأذان جاء إلى رسول الله وقال : إنّه أيضا رأى نفس تلك الرؤيا ولم ينقلها إليه استحياء.

3. إنّ المبدأ لتشريع الأذان ، هو نفس عمر بن الخطاب ، لا رؤياه ، لأنّه هو

ص : 136


1- آل عمران : 159.

الذي اقترح النداء بالصلاة الذي هو عبارة أخرى عن الأذان.

روى الترمذي في سننه وقال : كان المسلمون حين قدموا المدينة. إلى أن قال : _ وقال بعضهم : اتّخذوا قرنا مثل قرن اليهود ، قال : فقال عمر بن الخطاب : أو لا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة؟ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا بلال قم فناد بالصلاة ، _ أي الأذان. (1)

ورواه النسائي (2) والبيهقي (3) في سننهما.

نعم فسّر ابن حجر النداء بالصلاة ب_ « الصلاة جامعة » (4) ولا دليل على هذا التفسير.

4. إنّ مبدأ التشريع هو نفس النبي الأكرم.

روى البيهقي :. فذكروا أن يضربوا ناقوسا أو ينوّروا نارا فأمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة. قال : ورواه البخاري عن محمد عن عبد الوهاب الثقفي ، ورواه مسلم عن إسحاق بن إبراهيم. (5)

ومع هذا التناقض في النقل كيف يمكن الاعتماد على هذه النقول؟

5. انّ عمر كان حاضرا عند نقل عبد الله بن زيد رؤياه للنبي _ حسب الحديث الأوّل _ ولكنّه كان غائبا حسب الحديث الثاني ، حيث خرج من بيته لمّا سمع أذان بلال بعد نقل عبد الله رؤياه.

ص : 137


1- . سنن الترمذي : 1 / 362 رقم 190 ؛ سنن النسائي : 2 / 3 ؛ سنن البيهقي 1 / 389 في باب بدء الأذان ، الحديث الأوّل.
2- . سنن الترمذي : 1 / 362 رقم 190 ؛ سنن النسائي : 2 / 3 ؛ سنن البيهقي 1 / 389 في باب بدء الأذان ، الحديث الأوّل.
3- . سنن الترمذي : 1 / 362 رقم 190 ؛ سنن النسائي : 2 / 3 ؛ سنن البيهقي 1 / 389 في باب بدء الأذان ، الحديث الأوّل.
4- السيرة الحلبية : 2 / 297.
5- سنن البيهقي : 1 / 390 ، الحديث 1.
الثالثة : انّ الرائي كان أربعة عشر شخصا لا واحدا

يظهر ممّا رواه الحلبي أنّ الرائي للأذان لم يكن منحصرا بابني زيد والخطاب ، بل ادّعى أبو بكر أنّه أيضا رأى نفس ما رأياه ، وقيل : سبعة من الأنصار ، وقيل : أربعة عشر (1) كلّهم ادّعوا أنّهم رأوا في الرؤيا الأذان ، وليست الشريعة شرعة لكل وارد ، فإذا كانت الشريعة والأحكام خاضعة لرؤيا كلّ وارد فعلى الإسلام السّلام.

الرابعة : التعارض بين نقل البخاري وغيره

إنّ صريح صحيح البخاري أنّ النبي أمر بلالا في مجلس التشاور بالنداء للصلاة وعمر حاضر حين صدور الأمر ، فقد روى عن ابن عمر : كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحيّنون الصلاة ، ليس ينادى لها ، فتكلّموا يوما في ذلك فقال بعضهم : اتّخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى ، وقال بعضهم : بل بوقا مثل قرن اليهود ، فقال عمر : أو لا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله : يا بلال قم فناد بالصلاة. (2)

وصريح أحاديث الرؤيا : أنّ النبي إنّما أمر بلالا بالنداء إذ قصّ عليه ابن زيد رؤياه ولم يكن عمر حاضرا وإنّما سمع الأذان وهو في بيته ، خرج وهو يجرّ ثوبه ويقول : والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما رأى. (3)

وليس لنا حمل ما رواه البخاري على النداء ب_ « الصلاة جامعة » وحمل

ص : 138


1- السيرة الحلبية : 2 / 300.
2- صحيح البخاري : 1 / 120 ، باب بدء الأذان.
3- لاحظ الحديث رقم 2.

أحاديث الرؤيا على التأذين بالأذان ، فإنّه جمع بلا شاهد أوّلا ، ولو أمر النبي بلالا برفع صوته ب_ « الصلاة جامعة » لحلّت العقدة ثانيا ، ورفعت الحيرة خصوصا إذا كررت الجملة « الصلاة جامعة » ولم يبق موضوع للحيرة ، وهذا دليل على أنّ أمره بالنداء ، كان بالتأذين بالأذان المشروع. (1)

ص : 139


1- النص والاجتهاد : 137.
6. مناقشة الأسانيد

ما ذكرنا من الوجوه الخمسة ترجع إلى دراسة مضمون الأحاديث وهي كافية في سلب الركون إليها. وإليك دراسة أسنادها واحدا بعد الآخر. وهي بين موقوف لا يتّصل سندها بالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، ومسند مشتمل على مجهول أو مجروح أو ضعيف متروك ، وإليك البيان حسب الترتيب السابق.

أمّا الرواية الأولى التي رواها أبو داود فهي ضعيفة :

1. تنتهي الرواية إلى مجهول أو مجاهيل ، لقوله : عن عمومة له من الأنصار.

2. يروي عن العمومة ، أبو عمير بن أنس ، فيذكره ابن حجر ويقول فيه :

روى عن عمومة له من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في رؤية الهلال وفي الأذان.

وقال ابن سعد : كان ثقة قليل الحديث.

وقال ابن عبد البر : مجهول لا يحتج به. (1)

وقال جمال الدين : وهذا _ ما حدّث به في الموضوعين : رؤية الهلال والأذان _ جميع ما له عندهم. (2)

ص : 140


1- تهذيب التهذيب : 12 / 188 برقم 867.
2- تهذيب الكمال : 34 / 142 برقم 7545.

أمّا الرواية الثانية : فقد جاء في سندها من لا يصح الاحتجاج به ، نظراء :

1. محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي : أبو عبد الله المتوفّى حدود عام 120 ه .

قال أبو جعفر العقيلي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل : سمعت أبي وذكر محمد بن إبراهيم التيمي المدني فقال : في حديثه شيء ، يروي أحاديث مناكير ، أو منكرة. (1)

2. محمد بن إسحاق بن يسار بن خيار ، فإنّ أهل السنّة لا يحتجون برواياته ، وإن كان هو الأساس ل_ « سيرة ابن هشام _ المطبوعة _ ».

قال أحمد بن أبي خيثمة :. وسئل يحيى بن معين عنه ، فقال : ليس بذاك ، ضعيف. قال : وسمعت يحيى بن معين مرة أخرى يقول : محمد بن إسحاق عندي سقيم ليس بالقوي.

وقال أبو الحسن الميموني : سمعت يحيى بن معين يقول : محمد بن إسحاق ضعيف. وقال النسائي : ليس بالقوي. (2)

3. عبد الله بن زيد ، راوية الحديث وكفى في حقّه أنّه قليل الحديث ، قال الترمذي : لا نعرف له عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئا يصح إلاّ هذا الحديث الواحد في الأذان ، قال الحاكم : الصحيح : أنّه قتل بأحد ، والروايات عنه كلّها منقطعة ، قال ابن عدي : لا نعرف له شيئا يصح عن النبيّ إلاّ حديث الأذان. (3)

وروى الترمذي عن البخاري : لا نعرف له إلاّ حديث الأذان. (4)

ص : 141


1- تهذيب الكمال : 24 / 304.
2- المصدر نفسه : 24 / 423 _ 424 ، ولاحظ تاريخ بغداد : 1 / 221 _ 224.
3- سنن الترمذي : 1 / 361 ؛ تهذيب التهذيب : 5 / 224.
4- تهذيب الكمال : 14 / 541.

وقال الحاكم : عبد الله بن زيد هو الذي أُرِيَ الأذان ، الذي تداوله فقهاء الإسلام بالقبول. ولم يخرج في الصحيحين لاختلاف الناقلين في أسانيده. (1)

وأمّا الرواية الثالثة : فقد اشتمل السند على محمد بن إسحاق بن يسار ، ومحمد بن إبراهيم التيمي ، وقد تعرّفت على حالهما كما تعرفت على أنّ عبد الله بن زيد كان قليل الرواية ، والروايات كلّها عنه منقطعة ، لأنّه قتل بأحد.

وأمّا الرواية الرابعة : فقد جاء في سندها :

1. عبد الرحمن بن إسحاق بن عبد الله المدني.

قال يحيى بن سعيد القطان : سألت عنه بالمدينة ، فلم أرهم يحمدونه. وكذلك قال علي بن المديني.

وقال علي أيضا : سمعت سفيان وسئل عن عبد الرحمن بن إسحاق ، قال : كان قدريا فنفاه أهل المدينة ، فجاءنا هاهنا مقتل الوليد ، فلم نجالسه.

وقال أبو طالب : سألت أحمد بن حنبل عنه ، فقال : روى عن أبي الزناد أحاديث منكرة.

وقال أحمد بن عبد الله العجلي : يكتب حديثه ، وليس بالقوي.

وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ، ولا يحتجّ به.

وقال البخاري : ليس ممّن يعتمد على حفظه. لا يعرف له بالمدينة تلميذ إلاّ موسى الزمعيّ ، روى عنه أشياء في عدّة منها اضطراب.

وقال الدارقطني : ضعيف يرمى بالقدر.

وقال أحمد بن عدي : في حديثه بعض ما ينكر ولا يتابع. (2)

ص : 142


1- مستدرك الحاكم : 3 / 336.
2- تهذيب الكمال : 16 / 519 برقم 3755.

2. محمد بن خالد بن عبد الله الواسطي ( 150 _ 240 ه ) فيعرّفه جمال الدين المزّي بقوله : قال ابن معين : لا شيء ، وأنكر روايته عن أبيه. وقال أبو حاتم : سألت يحيى بن معين عنه ، فقال : ذاك رجل سوء كذّاب. ، وأخرج أشياء منكرة.

وقال أبو عثمان سعيد بن عمرو البردعي : وسألته يعني _ أبا زرعة _ عن محمد بن خالد ، فقال : رجل سوء.

وذكره ابن حبان في كتاب الثقات وقال : يخطئ ويخالف. (1)

وقال الشوكاني بعد نقل الرواية : وفي إسناده ضعف جدّا. (2)

وأمّا الرواية الخامسة : فقد جاء في سندها :

1. محمد بن إسحاق بن يسار.

2. محمد بن الحارث التيمي.

3. عبد الله بن زيد.

وقد تعرّفت على جرح الأوّلين ، وانقطاع السند في كل ما يرويان عن الثالث ، وبذلك يتّضح حال السند السادس فلاحظ.

هذا ما ورد في السنن. أمّا ما ورد في غيرها فنذكر منه ما رواه الإمام أحمد ، والدارمي ، والدارقطني في مسانيدهم ، والإمام مالك في موطّئه ، وابن سعد في طبقاته ، والبيهقي في سننه ، وإليك البيان :

ص : 143


1- المصدر نفسه : 25 / 139 برقم 5178.
2- نيل الأوطار : 2 / 37 _ 38.
7. روايات الأذان في غير الكتب الستّة
اشارة

قد عرفت من الحاكم انّ الشيخين : البخاري ومسلما لم يخرّجا حديث عبد الله بن زيد لاختلاف الناقلين في أسانيدهما وإنّما أخرجه من أصحاب الكتب الستة ، أبو داود والترمذي وابن ماجة أصحاب السنن ، وقد عرفت وجود التناقض في مضامينها والضعف في أسانيدها ، فهلم معي ندرس ما رواه أصحاب المسانيد وغيرهم ممّن تعدّ كتبهم دون الكتب الستة في الإتقان والصحّة.

ألف : ما رواه الإمام أحمد في مسنده

روى الإمام أحمد رؤيا الأذان في مسنده عن عبد الله بن زيد بأسانيد ثلاثة (1) :

1. قد ورد في السند الأوّل زيد بن الحباب بن الريان التميمي ( المتوفّى 203 ه ).

وقد وصفوه بكثرة الخطأ وله أحاديث تستغرب عن سفيان الثوري من جهة إسنادها ، وقال ابن معين : أحاديثه عن الثوري مقلوبة. (2)

ص : 144


1- مسند أحمد : 4 / 42 _ 43.
2- ميزان الاعتدال : 2 / 100 برقم 2997.

كما اشتمل على عبد الله بن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربّه ، وليس له في الصحاح والمسانيد إلاّ رواية واحدة وهي هذه ، وفيها فضيلة لعائلته ، ولأجل ذلك يقلّ الاعتماد عليها.

كما اشتمل الثاني على محمد بن إسحاق بن يسار الذي تعرّفت عليه.

واشتمل الثالث على محمد بن إبراهيم الحارث التيمي ، مضافا إلى محمد بن إسحاق ، وينتهي إلى عبد الله بن زيد ، وهو قليل الحديث جدا.

وقد جاء في الرواية الثانية بعد ذكر الرؤيا وتعليم الأذان لبلال :

إنّ بلالا أتى رسول الله فوجده نائما ، فصرخ بأعلى صوته : الصلاة خير من النوم ، فأدخلت هذه الكلمة في التأذين إلى صلاة الفجر. وكفى في ضعف الرواية ما في ذيلها.

ب : ما رواه الدارمي في مسنده

روى رؤيا الأذان الدارمي في مسنده بأسانيد ، وكلها ضعاف ، وإليك الأسانيد وحدها :

1. أخبرنا محمد بن حميد ، حدّثنا سلمة ، حدّثني محمد بن إسحاق وقد كان رسول الله حين قدمها. إلخ.

2. نفس هذا السند وجاء بعد محمد بن إسحاق : حدّثني هذا الحديث ، محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربّه ، عن أبيه بهذا الحديث.

3. أخبرنا محمد بن يحيى ، حدّثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، حدّثنا أبي عن ابن إسحاق. والباقي نفس ما جاء في السند الثاني. (1)

ص : 145


1- سنن الدارمي : 1 / 268 _ 269 باب بدء الأذان.

والأوّل منقطع ، والثاني مشتمل على محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي وقد عرفت حاله ، والثالث مشتمل على ابن إسحاق وقد عرفت حاله.

ج : ما رواه الإمام مالك في الموطأ

روى الإمام مالك رؤيا الأذان في موطّئه : عن يحيى ، عن مالك ، عن يحيى بن سعيد أنّه قال : كان رسول الله قد أراد أن يتّخذ خشبتين يضرب بهما. (1)

والسند منقطع ، والمراد يحيى بن سعيد بن قيس المولود قبل عام 70 وتوفّى بالهاشمية سنة 143 ه . (2)

د : ما رواه ابن سعد في طبقاته

رواه محمد بن سعد في طبقاته بأسانيد (3) موقوفة لا يحتجّ بها :

الأوّل : ينتهي إلى نافع بن جبير الذي توفّى في عشر التسعين وقيل سنة 99 ه .

والثاني : ينتهي إلى عروة بن الزبير الذي تولّد عام 29 وتوفّى عام 93 ه .

والثالث : ينتهي إلى زيد بن أسلم الذي توفّى عام 136 ه .

والرابع : ينتهي إلى سعيد بن المسيب الذي توفّى عام 94 ، وإلى عبد الرحمن بن أبي ليلى الذي توفّى عام 82 ، أو 83 ه .

وقال الذهبي في ترجمة عبد الله بن زيد : حدّث عنه سعيد بن المسيب وعبد

ص : 146


1- الموطأ : 75 باب ما جاء في النداء للصلاة برقم 1.
2- سير أعلام النبلاء : 5 / 468 برقم 213.
3- الطبقات الكبرى : 1 / 246 _ 247.

الرحمن بن أبي ليلى ولم يلقه. (1)

وروى أيضا بالسند التالي :

أخبرنا أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي ، أخبرنا مسلم بن خالد ، حدّثني عبد الرحيم بن عمر ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن عبد الله بن عمر : أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يجعل شيئا يجمع به الناس. حتى أري رجل من الأنصار يقال له عبد الله بن زيد ، وأُريه عمر بن الخطاب تلك الليلة. إلى أن قال : _ فزاد بلال في الصبح « الصلاة خير من النوم » فأقرّها رسول الله.

فقد اشتمل السند على :

1. مسلم بن خالد بن قرقرة : ويقال : ابن جرحة.

ضعّفه يحيى بن معين.

وقال علي بن المديني : ليس بشيء.

وقال البخاري : منكر الحديث.

وقال النسائي : ليس بالقوي.

وقال أبو حاتم : ليس بذاك القوي ، منكر الحديث يكتب حديثه ولا يحتج به ، تعرف وتنكر. (2)

2. محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري المدني ( 51 _ 123 ه ).

قال أنس بن عياض ، عن عبيد الله بن عمر : كنت أرى الزهري يعطي

ص : 147


1- سير أعلام النبلاء : 2 / 376 برقم 79 ، وسيوافيك تفصيله في المقام الثاني.
2- تهذيب الكمال : 27 / 508 برقم 5925.

الكتاب فلا يقرأه ولا يقرأ عليه ، فيقال له : نروي هذا عنك ، فيقول : نعم.

وقال إبراهيم بن أبي سفيان القيسراني عن الفريابي : سمعت سفيان الثوري يقول : أتيت الزهري فتثاقل عليّ ، فقلت له : لو أنّك أتيت أشياخنا ، فصنعوا بك مثل هذا ؛ فقال : كما أنت ، ودخل فأخرج إليّ كتابا ، فقال : خذ هذا فاروه عنّي ، فما رويت عنه حرفا. (1)

ه_ : ما رواه البيهقي في سننه

روى البيهقي رؤيا الأذان بأسانيد لا يخلو الكل عن علّة أو علاّت ، وإليك الإشارة إلى الضعاف الواردين في أسانيدها :

الأوّل : يشتمل على أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار ، وقد تعرفت على أبي عمير بن أنس ، وأنّه قال فيه ابن عبد البر : وإنّه مجهول لا يحتجّ به (2) يروي عن مجاهيل (3) باسم العمومة ، ولا دليل على كون هؤلاء من الصحابة ، وإن افترضنا عدالة كل صحابي ، وعلى فرض التسليم أنّ العمومة كانوا منهم ، لكن موقوفات الصحابي ليست بحجّة ، إذ لا علم بأنّه روى عن النبي.

الثاني : يشتمل على أناس لا يحتج بهم :

1. محمد بن إسحاق بن يسار.

2. محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي.

3. عبد الله بن زيد.

وقد تعرّفت على الجميع.

ص : 148


1- المصدر نفسه : 26 / 439 _ 440.
2- سنن البيهقي : 1 / 390.
3- تهذيب التهذيب : 12 / 188 برقم 868.

الثالث : مشتمل على ابن شهاب الزهري ، يروي عن سعيد بن المسيب المتوفّى عام 94 ه عن عبد الله بن زيد. (1) وقد عرفت أنّهما لم يدركا عبد الله بن زيد.

و : ما رواه الدارقطني في سننه

روى الدارقطني رؤيا الأذان بأسانيد ، إليك بيانها :

1. حدّثنا محمد بن يحيى بن مرداس ، حدّثنا أبو داود ، حدّثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدّثنا حماد بن خالد ، حدّثنا محمد بن عمرو ، عن محمد بن عبد الله ، عن عمّه عبد الله ابن زيد.

2. حدّثنا محمد بن يحيى : حدّثنا أبو داود ، حدّثنا عبيد الله بن عمر ، حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدّثنا محمد بن عمرو ، قال : سمعت عبد الله بن محمد ، قال : كان جدي عبد الله بن زيد بهذا الخبر. (2)

وقد اشتمل السندان على محمد بن عمرو ، وهو مردّد بين الأنصاري ، الذي ليس له في الصحاح والمسانيد إلاّ هذه الرواية ، قال الذهبي : لا يكاد يعرف ، وبين محمد بن عمرو أبو سهل الأنصاري الذي ضعّفه يحيى القطان ، وابن معين وابن عدي. (3)

3. حدّثنا أبو محمد بن صاعد ، حدّثنا الحسن بن يونس ، حدّثنا الأسود بن عامر ، حدّثنا أبو بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الرحمن بن أبي

ص : 149


1- سنن البيهقي : 1 / 390.
2- سنن الدارقطني : 1 / 245 برقم 56 و 57.
3- ميزان الاعتدال : 3 / 674 برقم 8017 و 8018 ، تهذيب الكمال : 26 / 220 برقم 5516 ، تهذيب التهذيب : 9 / 378 برقم 620.

ليلى ، عن معاذ بن جبل ، قال : قام رجل من الأنصار ، عبد الله بن زيد ، _ يعني إلى النبي _ فقال : يا رسول الله إنّي رأيت في النوم. (1)

وهذا السند منقطع ، لأنّ معاذ بن جبل توفّى عام 20 أو 18 ه وتولّد عبد الرحمن بن أبي ليلى ، سنة 17 ه ، مضافا إلى أنّ الدارقطني ضعّف عبد الرحمن وقال : ضعيف الحديث سيّئ الحفظ ، وابن أبي ليلى لا يثبت سماعه من عبد الله بن زيد. (2)

إلى هنا تم الكلام في المقام الأوّل ، واتّضح أنّ الأذان إنّما شرع بوحي إلهي ، لا برؤيا عبد الله بن زيد ولا برؤيا عمر بن الخطاب ولا بأيّ ابن أنثى كائنا من كان ، وانّ هذه الأحاديث ، متعارضة جوهرا ، غير تامّة سندا ، لا يثبت بها شيء ، مضافا إلى ما ذكرنا في صدر البحث من الاستنكار العقلي ، فلاحظ.

وحان البحث عن كيفية دخول التثويب في أذان الفجر ، وهذا هو المقام الثاني الذي نتلوه عليك فنقول :

ص : 150


1- سنن الدارقطني : 1 / 242 برقم 31.
2- سنن الدارقطني : 1 / 241.

المقام الثاني :

1. دراسة تاريخ دخول التثويب
في أذان صلاة الفجر

التثويب من ثاب يثوب : إذا رجع فهو بمعنى الرجوع إلى الأمر بالمبادرة إلى الصلاة ، فإنّ المؤذّن إذا قال : « حيّ على الصلاة » فقد دعاهم إليها ، فإذا قال : « الصلاة خير من النوم » فقد رجع إلى كلام معناه : المبادرة إليها.

وفسّره صاحب القاموس : بمعان منها : الدعاء إلى الصلاة ، وتثنية الدعاء ، وأن يقول في أذان الفجر : « الصلاة خير من النوم _ مرتين _ ».

وقال في المغرب : التثويب : القديم ، هو قول المؤذن في أذان الصبح : « الصلاة خير من النوم _ مرتين _ » والمحدث « الصلاة الصلاة » أو « قامت قامت ». (1)

والظاهر أنّه غلب استعماله بين أئمّة الحديث في القول المذكور أثناء الأذان ، ربّما يطلق على مطلق الدعوة بعد الدعوة ، فيعمّ ما إذا نادى المؤذّن بعد تمام الأذان بالقول المذكور أيضا أو بغيره ممّا يفيد الدعوة إليها بأيّ لفظ شاء.

ص : 151


1- الحدائق : 7 / 419. ولاحظ النهاية في غريب الحديث : 1 / 226 ، لسان العرب مادة « ثوب » ، والقاموس مادة « ثوب ».

قال السندي في حاشيته على سنن النسائي : التثويب هو العود إلى الإعلام بعد الإعلام ، وقول المؤذّن « الصلاة خير من النوم » لا يخلو عن ذلك. فسمّي تثويبا. (1)

فالمقصود في المقام تبيين حكم قول المؤذّن أثناء الأذان لصلاة الفجر : « الصلاة خير من النوم » ، فهل هو مشروع ، أو بدعة حدثت بعد النبي لما استحسنه بعض الناس من إقراره في الأذان ، سواء أكان هو التثويب فقط أو عمّ مطلق الدعوة إلى الصلاة ولو بعد تمام الأذان ، بهذا اللفظ أو بغيره؟

فنقول : التثويب بهذا المعنى ورد تارة في خلال أحاديث رؤية الأذان ، وأخرى في غيرها ، أمّا الأوّل فقد ورد في ما يلي :

1. ما رواه ابن ماجة ( الرواية الرابعة ) وقد عرفت نصّ الشوكاني على ضعفها. (2)

2. ما رواه الإمام أحمد : وقد عرفت ما في سنده من الضعف حيث جاء فيه :

محمد بن إسحاق ، وعبد الله بن زيد بن عبد ربّه. (3)

3. ما رواه ابن سعد في طبقاته : وفي سنده : مسلم بن خالد بن قرقرة وقد عرفت ضعفه. (4)

وأمّا الثاني _ أي نقل التثويب في غير رؤية الأذان _ فقد نقله أصحاب السنن ، وإليك النصوص :

ص : 152


1- السنن : 2 / 14 قسم التعليقة.
2- لاحظ الرواية الرابعة ص 133 وكلمة الشوكاني ص 143 من هذا الكتاب.
3- لاحظ ما نقلناه عن الإمام أحمد ، بعد أحاديث السنن ص 144.
4- لاحظ ص 147 من هذا الكتاب.

4. ما رواه ابن ماجة : بالسند التالي : حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدّثنا محمد بن عبد الله الأسدي ، عن أبي إسرائيل ، عن الحكم ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن بلال ، قال : أمرني رسول الله أن أثوب في الفجر ونهاني أن أثوب في العشاء. (1)

وفي هذه الرواية دلالة على أنّ التثويب يستعمل في مطلق الدعوة إلى الصلاة ، وإن لم يكن بلفظ « الصلاة خير من النوم » بشهادة النهي عن التثويب في العشاء ، لأنّ التثويب فيه لا يتحقّق إلاّ بلفظ آخر ، مثل « الصلاة جامعة » ، أو « قد قامت الصلاة » وغيرهما.

5. حدثنا عمر بن رافع ، حدّثنا عبد الله بن المبارك ، عن معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب عن بلال : أنّه أتى النبيّ يؤذِنه بصلاة الفجر فقيل : هو نائم ، فقال : الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم ، فأقرّت في تأذين الفجر ، فثبت الأمر على ذلك. (2)

والسندان منقطعان أمّا الأوّل : فابن أبي ليلى ولد عام 17 ومات بلال عام 20 أو 21 بالشام وكان مرابطا بها قبل ذلك من أوائل فتوحها ، فهو شامي وابن أبي ليلى كوفي ، فكيف يسمع منه مع حداثة السن وتباعد الديار؟! (3)

ورواه الترمذي مع اختلاف في أوّل السند ، وقال : حديث بلال لا نعرفه إلاّ من حديث أبي إسرائيل الملاّئي ، وأبو إسرائيل لم يسمع هذا الحديث من الحكم ( ابن عتيبة ) قال : إنّما رواه عن الحسن بن عمارة عن الحكم.

ص : 153


1- سنن ابن ماجة : 1 / 237 برقم 715.
2- سنن ابن ماجة : 1 / 237 برقم 716.
3- نيل الأوطار : 2 / 38.

وأبو إسرائيل اسمه : إسماعيل بن أبي إسحاق ، وليس هو بذاك القوي عند أهل الحديث. (1)

أمّا الثاني فقد قال فيه ابن ماجة نقلا عن الزوائد : إسناده ثقات إلاّ أنّ فيه انقطاعا ( لأنّ ) سعيد بن المسيب لم يسمع من بلال. (2)

6. ما رواه النسائي : أخبرنا سويد بن نصر قال : أنبأنا عبد الله ، عن سفيان ، عن أبي جعفر ، عن أبي سلمان ، عن أبي محذورة ، قال : كنت أؤذّن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكنت أقول في أذان الفجر الأوّل : حيّ على الفلاح ، الصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلاّ الله. (3)

وفي سنن البيهقي (4) وسبل السّلام (5) مكان « أبي سلمان » : « أبي سليمان ».

قال البيهقي : وأبو سليمان اسمه « همام المؤذن » ولم نجد ترجمة لهمام المؤذّن فيما بأيدينا من كتب الرجال فلم يذكره الذهبي في « سير أعلام النبلاء » ، ولا المزّي في « تهذيب الكمال » ، والرجل غير معروف.

وأمّا أبو محذورة فهو من الصحابة لكنّه قليل الرواية ، لا يتجاوز ما رواه عن عشر روايات وقد أذّن لرسول الله في العام الثامن ، في غزوة حنين. (6)

7. ما رواه البيهقي في سننه بسند ينتهي إلى أبي قدامة ، عن محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة ، عن أبيه ، عن جده قال : قلت : يا رسول الله علّمني سنّة الأذان ، وذكر الحديث وقال فيه : حيّ على الفلاح ، حيّ على الفلاح ، فإن كان

ص : 154


1- سنن الترمذي : 1 / 378 ، برقم 198.
2- سنن ابن ماجة : 1 / 237 ، برقم 716. ولد سعيد بن المسيب عام 13 وتوفّى عام 94 ه .
3- سنن النسائي : 2 / 13 باب التثويب في الأذان.
4- سنن البيهقي : 1 / 422 ، سبل السّلام : 1 / 221.
5- سنن البيهقي : 1 / 422 ، سبل السّلام : 1 / 221.
6- أسماء الصحابة الرواة : 161 برقم 188.

صلاة الصبح قل : الصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم.

8. ما رواه أيضا بسند ينتهي إلى عثمان بن السائب : أخبرني أبي وأم عبد الملك بن أبي محذورة ، عن أبي محذورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحوه. (1)

ومحمد بن عبد الملك قد تعرّفت على حاله. وعثمان بن السائب ولدا ووالدا ، غير معروفين ليس لهما إلاّ رواية واحدة. (2)

9. ما رواه أبو داود بسند ينتهي إلى الحرث بن عبيد ، عن محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قلت : يا رسول الله علّمني سنّة الأذان _ إلى أن قال : _ فإن كان صلاة الصبح قلت : الصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم. (3).

والسند مشتمل على محمد بن عبد الملك ، قال ابن حجر : قال عبد الحق : لا يحتج بهذا الاسناد ، وقال ابن القطان : مجهول الحال ، لا نعلم روى عنه إلاّ الحارث. (4)

وقال الشوكاني في حقّ محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة : غير معروف الحال ، والحرث بن عبيد وفيه مقال. (5)

10. روى أيضا بسند ينتهي إلى عثمان بن سائب : أخبرني أبي وأمّ عبد الملك بن أبي محذورة ، عن أبي محذورة ، عن النبي نحو هذا الخبر. (6)

ص : 155


1- سنن البيهقي : 1 / 421 _ 422 باب التثويب في أذان الصبح.
2- ميزان الاعتدال : 2 / 114 ، برقم 3075 ( السائب ) ، تهذيب التهذيب : 7 / 117 برقم 252 ( عثمان بن السائب ).
3- سنن أبي داود : 1 / 136 ، برقم 500.
4- تهذيب التهذيب : 9 / 317.
5- نيل الأوطار : 2 / 38.
6- سنن أبي داود : 1 / 136 _ 137 ، باب كيفية الأذان برقم 501.

وقد عرفت ضعف السند.

11. روى أيضا بسند ينتهي إلى إبراهيم بن إسماعيل بن عبد الملك بن أبي محذورة قال : سمعت جدي عبد الملك بن أبي محذورة يذكر أنّه سمع أبا محذورة يقول : ألقى عليّ رسول الله الأذان حرفا حرفا _ إلى أن قال _ : وكان يقول في الفجر : الصلاة خير من النوم. (1)

وإبراهيم بن إسماعيل له رواية واحدة ، وهو بعد لم يوثّق (2) مضافا إلى احتمال الانقطاع في السند.

وما رواه الدارقطني فعلى أقسام :

12. ما يدلّ على أنّه سنّة في الأذان ، رواه عن أنس وعمر من دون أن ينسباه إلى النبي وهي ثلاثة أحاديث. (3)

13. ما يدلّ على أنّ النبي أمر بلالا بذلك لكن السند منقطع. رواه عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بلال (4) مع ضعف في سنده لمكان عبد الرحمن بن الحسن فيه المكنّى ب_ « أبي مسعود الزجاج » وقد عرّفه أبو حاتم : بأنّه لا يحتج به ، وإن ليّنه الآخرون. (5)

14. ما يدلّ على الإعلام قبل الأذان ، بأي شكل اتّفق ، وهو خارج عن المقصود ، وقد ضعّف بعض من جاء في سنده. (6)

ص : 156


1- سنن أبي داود : 1 / 136 _ 137 ، باب كيفية الأذان برقم 504.
2- تهذيب الكمال : 2 / 44 برقم 147.
3- سنن الدارقطني : 1 / 243 برقم 38 _ 39 _ 40.
4- سنن الدارقطني : 1 / 243 برقم 41.
5- انظر ميزان الاعتدال : 2 / 556 برقم 4851.
6- سنن الدارقطني : 1 / 244 _ 245 برقم 48 ، 51 ، 52 ، 53.
ما رواه الدارمي :

15. روى الدارمي بسند ينتهي إلى الزهري ، عن حفص بن عمر بن سعد المؤذن. قال حفص : حدّثني أهلي ، أنّ بلالا أتى رسول الله يؤذنه لصلاة الفجر فقالوا : إنّه نائم ، فنادى بلال بأعلى صوته : الصلاة خير من النوم. فأقرّت في أذان صلاة الفجر. (1)

والرواية لا يحتج بها لمكان الزهري أوّلا ، وحفص بن عمر الذي ليس له إلاّ رواية واحدة وهي هذه (2) مضافا إلى كون الأصل الناقل مجهولا.

16. ما رواه الإمام مالك : انّ المؤذّن جاء إلى عمر بن الخطاب يؤذنه لصلاة الصبح فوجده نائما ، فقال : الصلاة خير من النوم. فأمر عمر أن يجعلها في نداء الصبح. (3)

حصيلة الروايات :

إنّ روايات التثويب متعارضة جدا لا يمكن إرجاعها إلى معنى واحد ، وإليك أقسامها :

1. ما يدلّ على أنّ عبد الله بن زيد رآه في رؤياه وأنّه كان جزءا من الأذان من أوّل الأمر.

2. ما يدلّ على أنّ بلالا زاده فيه وقرّره النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن يجعله بلال جزءا من الأذان كما في رواية الدارمي.

ص : 157


1- سنن الدارمي 1 / 270 ، باب التثويب في أذان الفجر.
2- تهذيب الكمال : 7 / 30 برقم 1399 ، وقال الذهبي في ميزان الاعتدال : 1 / 560 برقم 2129 : تفرّد عن حفص ، الزهري.
3- الموطأ : 78 برقم 8.

3. ما يدلّ على أنّ عمر بن الخطاب أمر المؤذّن أن يجعلها في نداء الصبح كما رواه الإمام مالك.

4. ما يدلّ على أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علّمها أبا محذورة ، كما رواه البيهقي في سننه.

5. ما يظهر أنّ بلالا ينادي بالصبح فيقول : « حيّ على خير العمل » فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجعل مكانها : « الصلاة خير من النوم » وترك « حيّ على خير العمل » كما رواه المتقي الهندي في كنزه ( 8 / 345 برقم 23188 ).

ومع هذا التعارض الواضح ، لا يمكن الركون إليها ، وبما أنّ أمرها دائر بين السنّة والبدعة ، فتركها متعيّن لعدم العقاب على تركها ، بخلاف ما لو كانت بدعة.

ص : 158

2. كلمات الأعلام في التثويب

إنّ بين الصحابة والتابعين من يراه بدعة وأنّه لم يأمر به النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وإنّما حدث بعده صلى الله عليه وآله وسلم ، وإليك نصوصهم :

1. قال ابن جريج : أخبرني عمرو بن حفص أنّ سعدا ( المؤذّن ) أوّل من قال : الصلاة خير من النوم ، في خلافة عمر ، فقال عمر : بدعة ، ثمّ تركه ، وانّ بلالا لم يؤذّن لعمر.

2. وعنه أيضا : أخبرني حسن بن مسلم أنّ رجلا سأل طاوسا : متى قيل الصلاة خير من النوم؟ فقال : أما إنّها لم تقل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكنّ بلالا سمعها في زمان أبي بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقولها رجل غير مؤذن ، فأخذها منه. فأذّن بها فلم يمكث أبو بكر إلاّ قليلا حتى إذا كان عمر قال : لو نهينا بلالا عن هذا الذي أحدث ، وكأنّه نسيه وأذّن بها الناس حتى اليوم. (1)

3. روى عبد الرزاق الصنعاني عن ابن عيينة عن ليث عن مجاهد قال : كنت مع ابن عمر فسمع رجلا يثوب في المسجد ، فقال : اخرج بنا من ( عند )

ص : 159


1- كنز العمال : 8 / 357 برقم 23252 و 23251 ، ورواه عبد الرزاق في المصنف : 1 / 474 برقم 1827 و 1828 و 1829.

هذا المبتدع. (1)

نعم يظهر ممّا رواه أبو داود في سننه أنّ الرجل ثوب في الظهر والعصر لا في صلاة الفجر. (2)

4. ما روي عن أبي حنيفة كما في « جامع المسانيد » عنه ، عن حماد ، عن إبراهيم قال : سألته عن التثويب؟ فقال : هو ممّا أحدثه الناس ، وهو حسن ، ممّا أحدثوه. وذكر أنّ تثويبهم كان حين يفرغ المؤذّن من أذانه : إنّ الصلاة خير من النوم _ مرتين. قال : أخرجه الإمام محمد بن الحسن ( الشيباني ) في الآثار فرواه عن أبي حنيفة ثمّ قال محمد : وهو قول أبي حنيفة وبه نأخذ. (3)

وهذه الرواية تدلّ على أنّ التثويب في عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو في عصر الخلفاء كان بعد الفراغ عن الأذان ولم يكن جزءا منه وانّما كان يذكره المؤذّن من عند نفسه إيقاظا للناس من النوم. ثمّ إنّه أدرج في نفس الأذان.

5. قال الشوكاني نقلا عن البحر الزخار : أحدثه عمر فقال ابنه : هذه بدعة. وعن علي عليه السلام حين سمعه : لا تزيدوا في الأذان ما ليس منه. ثم قال بعد أن ذكر حديث أبي محذورة وبلال : قلنا لو كان لما أنكره علي وابن عمر وطاوس سلمنا فأمرنا به إشعارا في حال ، لا شرعا جمعا بين الآثار. (4)

6. وقال الأمير اليمني الصنعاني ( المتوفّى عام 182 ه ) : قلت : وعلى هذا ليس « الصلاة خير من النوم » من ألفاظ الأذان المشروع للدعاء إلى الصلاة

ص : 160


1- المصنف : 1 / 475 برقم 1832 ، ورواه أيضا المتقي الهندي في كنز العمال : 8 / 357 برقم 23250.
2- سنن أبي داود : 1 / 148 برقم 538.
3- جامع المسانيد : 1 / 296.
4- نيل الأوطار : 2 / 38.

والإخبار بدخول وقتها ، بل هو من الألفاظ التي شرعت لإيقاظ النائم ، فهو كألفاظ التسبيح الأخير الذي اعتاده الناس في هذه الأعصار المتأخرة عوضا عن الأذان الأوّل. ثم قال : وإذا عرفت هذا ، هان عليك ما اعتاده الفقهاء من الجدال في التثويب هل هو من ألفاظ الأذان أو لا ، وهل هو بدعة أو لا؟ (1)

7. نقل ابن قدامة عن إسحاق أنّه بعد ما نقل رواية أبي محذورة قال : هذا شيء أحدثه الناس ، وقال أبو عيسى : هذا التثويب الذي كرهه أهل العلم وهو الذي خرج منه ابن عمر من المسجد لما سمعه. (2)

8. ما استفاض من أئمّة أهل البيت من كونها بدعة : روى الشيخ الطوسي بسند صحيح عن معاوية بن وهب قال : سألت أبا عبد الله عن التثويب الذي يكون بين الأذان والإقامة؟ فقال : « ما نعرفه ». (3)

9. والذي تبيّن لي من دراسة ما ورد حول الأذان : أنّ عائلتين استغلّتا ما روي عن جدّهم عبد الله بن زيد وأبي محذورة فعَمِدتا بنشر ما نُسِبَ إلى جدهما لما فيه من فضيلة للعائلة ، ولو لا ذلك لم يكن لهذين الأمرين ( تشريع الأذان بالرؤيا والتثويب في أذان صلاة الفجر ) انتشار بهذا النحو الواسع ، ولأجل ذلك ربّما يرتاب الإنسان فيما نقل عن جدهما ، وقد عرفت وجود رواة في أسانيد الروايات يُنسَبون إلى هاتين العائلتين.

10. انّ الفصل الأوّل والفصل الثاني يشهد على أنّه سبحانه هو الإله في صفحة الوجود وأنّ ما سواه سراب ما أنزل الله به من سلطان.

وثالث الفصول ، يشهد على أنّ محمّدا صلى الله عليه وآله وسلم رسوله ، الذي بعثه لإبلاغ

ص : 161


1- سبل السّلام في شرح بلوغ المرام : 1 / 120.
2- المغني : 1 / 420.
3- الوسائل : 4 / 650 الباب 22 من أبواب الأذان والإقامة ، الحديث 1 ، ولاحظ أحاديث الباب.

رسالاته وإنجاز دعوته.

ففي نهاية ذلك الفصل يتبدّل نداوة وإعلانه من الشهادة ، إلى الدعوة إلى الصلاة التي فرضها والتي بها يتّصل الإنسان بعالم الغيب ، وفيها يمتزج خشوعه ، بعظمة الخالق ، ثمّ الدعوة إلى الفلاح والنجاح ، وخير العمل التي تنطوي عليها الصلاة.

وفي نهاية الدعوة إلى الفلاح وخير العمل ، يعود ويذكر الحقيقة الأبدية التي صرّح بها في أوّليات فصوله ويقول : الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلاّ الله ، لا إله إلاّ الله.

هذه هي حقيقة الأذان وصورته والجميع سبيكة واحدة أفرغتها يد التشريع السماوي في قالب جمل ، تحكي عن حقائق أبدية ، تصدّ الإنسان عن الانكباب في شواغل الدنيا وملاذّها.

هذا ما يحسّه كل إنسان واع منصت للأذان ، ومتدبّر في فصوله ومعانيه ، ولكن هنا حقيقة مرّة لا يمكن لي ولا لغيري إخفاؤها _ بشرط التجرّد عن كل رأي مسبق ، أو تعصّب لمذهب _ وهو أنّ المؤذّن إذا انحدر من الدعوة إلى الصلاة ، والفلاح وخير العمل _ في أذان صلاة الفجر _ إلى الإعلان بأنّ الصلاة خير من النوم ، فكأنّما ينحدر من قمة البلاغة إلى كلام عار عن الرفعة والبداعة ، يُعلِن شيئا يعرفه الصبيان ومن دونهم ، يصيح _ بجد وحماس _ على شيء لا يجهله إلاّ من يجهل البديهيات ، لأنّ إعلانه بأنّها خير من النوم ، أشبه بمن يُعلن في محتشد كبير بأنّ الاثنين نصف الأربعة.

هذا هو الذي أحسسته عند ما تشرفت بزيارة بيت الله الحرام عام 1375 ه وأنا أستمع للأذان في الحرمين الشريفين ، ولم تزل تجول في ذهني ومخيّلتي أنّ هذا الفصل ليس من كلام الوحي وانّما أُقحم لسبب من الأسباب ، بين فصول الأذان ، فهذا ما دعاني إلى البحث والتنقيب في هذا الموضوع.

ص : 162

خاتمة المطاف بدعة تلو بدعة
اشارة

إنّ تاريخ الأذان والإقامة حافل بالبدع ، وقد تصرفت فيه يد المبدعين لغايات استحسانية لا يعرّج إليها في التشريع ، وإليك بعض ما أحدث فيه بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

1. الأذان الثاني يوم الجمعة

جرت السيرة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والشيخين على إقامة الأذان حينما يصعد الإمام على المنبر لإلقاء الخطابة ، ولما كثر الناس في عهد الخليفة الثالث أمر بأذان ثان وهو الأذان عند دخول الوقت على المأذنة ، وهذا هو المعروف بالأذان الثاني للخليفة. وقد روي عن الشافعي من أنّه استحب أن يكون للجمعة أذان واحد عند المنبر. (1)

إذا كان الأذان من الأمور التوقيفية فليس ليد التشريع البشري التصرف فيه بزيادة أو نقيصة وكان في وسع الخليفة أن يقوم بعلاج الموقف من وجه آخر ، وهو إعلام الناس بالوسائل التي لا تمت إلى التشريع الإسلامي بصلة مكان أن يأمر المؤذن بأذان آخر لم يكن من ذي قبل.

ص : 163


1- المجموع : 3 / 132.

والعجب انّ الفقهاء أنفسهم اختلفوا فيما يتعلّق بأذاني الجمعة من أحكام وأيّهما المعتبر في تحريم البيع الوارد في قوله سبحانه ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ). (1)

2. وقد استحدث علماء الكوفة من الحنفية بعد عهد الصحابة تثويبا آخر ، وهو زيادة الحيعلتين _ أي عبارة « حي على الصلاة ، حي على الفلاح » _ مرّتين بين الأذان والإقامة في الفجر ، واستحسنه متقدّمو الحنفية في الفجر فقط ، وكره عندهم في غيره ، والمتأخّرون منهم استحسنوه في الصلوات كلّها _ إلاّ في المغرب لضيق الوقت _ وذلك لظهور التواني في الأمور الدينية ، وقالوا : إنّ التثويب بين الأذان والإقامة في الصلوات يكون بحسب ما يتعارفه أهل كلّ بلد بالتنحنح ، أو الصلاة الصلاة ، أو غير ذلك.

3. استحدث أبو يوسف جواز التثويب لتنبيه كل من يشتغل بأمور المسلمين ومصالحهم كالإمام والقاضي ونحوهما ، فيقول المؤذن بعد الأذان :

السلام عليك أيّها الأمير ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، الصلاة يرحمك الله. وشارك أبا يوسف في هذا الشافعية وبعض المالكية ، وكذلك الحنابلة إن لم يكن الإمام ونحوه قد سمع الأذان ، واستبعده محمد بن الحسن ، لأنّ الناس سواسية في أمر الجماعة وشاركه في ذلك بعض المالكية. (2)

ص : 164


1- الجمعة : 9.
2- الموسوعة الفقهية : 2 / 361 ، مادة أذان.
5. حذف الحيعلة من الأذان

قد تقدّم منّا أنّ البدعة في الأذان بإدخال التثويب ليس فريدا في بابه ، بل له نظير آخر ، وهو : حذف « حيّ على خير العمل » من فصول الأذان والإقامة ، وذلك لغاية أن لا يكون الإعلان به في الأذان سببا في تثبيط العامة عن الجهاد ، لأنّ الناس إذا عرفوا أنّ الصلاة خير العمل ، لاقتصروا عليها وأعرضوا عن الجهاد.

وهذا بعين الله إطاحة بالتشريع وتصرّف فيه ، بتفلسف تافه. فان المشرّع كان واقفا على هذا المحذور ، ومع ذلك أدخله في الأذان.

قال القوشجي _ وهو من متكلّمي الأشاعرة _ ناقلا عن الخليفة الثاني أنّه قال على المنبر :

ثلاث كنّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أنهى عنهنّ وأحرّمهنّ وأعاقب عليهنّ : وهي متعة النساء ، ومتعة الحج ، وحيّ على خير العمل. (1)

وقد أطبقت الشيعة على كونه جزءا من الأذان ، وعلى ذلك جروا ، من العهد النبوي إلى يومنا هذا ، وصار ذلك شعارا لهم. وإنّ كثيرا من المؤرّخين يكنّون عن

ص : 165


1- علاء الدين القوشجي ( المتوفّى عام 879 ه بالقسطنطينية ) : شرح التجريد : 484. اقرأ ترجمته في كتابنا « بحوث في الملل والنحل ج 2 _ ط. بيروت.

الشيعة بمن يحيعلون أي الذين يقولون : « حيّ على خير العمل ».

قال أبو الفرج الأصفهاني ( 284 _ 356 ه ) في « مقاتل الطالبيين » في مقتل الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن أمير المؤمنين عليه السلام : أنّه استولى على المدينة ، وصعد عبد الله بن الحسن الأفطس المنارة التي عند رأس النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عند موضع الجنائز ، فقال للمؤذّن : أذّن ب_ « حي على خير العمل ». (1).

وقال الحلبي : ونقل عن ابن عمر وعن الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السلام أنّهما كانا يقولان في أذانيهما بعد « حيّ على الفلاح » : « حيّ على خير العمل ». (2)

( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ). (3)

ص : 166


1- مقاتل الطالبيين : 297.
2- السيرة الحلبية : 2 / 305.
3- الأنعام : 90.

4. القبض بين البدعة والسنة

اشارة

ص : 167

ص : 168

حكم القبض في الصلاة

إنّ قبض اليد اليسرى باليمنى ممّا اشتهر ندبه بين فقهاء أهل السنّة.

فقالت الحنفية : إنّ التكتف مسنون وليس بواجب ، والأفضل للرجل أن يضع باطن كفّه اليمنى على ظاهر كفّه اليسرى تحت سرّته ، وللمرأة أن تضع يديها على صدرها.

وقالت الشافعية : يسنّ للرجل والمرأة ، والأفضل وضع باطن يمناه على ظهر يسراه تحت الصدر وفوق السرّة ممّا يلي الجانب الأيسر.

وقالت الحنابلة : إنّه سنّة ، والأفضل أن يضع باطن يمناه على ظاهر يسراه ، ويجعلها تحت السرة.

وشذّت عنهم المالكية فقالوا : يُندَب إسدال اليدين في الصلاة الفرض ، وقالت جماعة أيضا قبلهم ، منهم : عبد الله بن الزبير ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وابن جريج ، والنخعي ، والحسن البصري ، وابن سيرين ، وجماعة من الفقهاء. وهو مذهب الليث بن سعد إلاّ انّه قال : إلاّ أن يطيل القيام فيعيى أي يتعب فله القبض.

ص : 169

والمنقول عن الإمام الأوزاعي التخيير بين القبض والسدل. (1)

وذهب محمد عابد مفتي المالكية بالديار الحجازية إلى أنّ السدل والقبض سنّتان من رسول الله وانّ المؤمن إذا طال عليه القيام وهو مسدل ، قبض وقال بأنّ السدل أصل والقبض فرع. (2)

وأمّا الشيعة الإمامية ، فالمشهور أنّه حرام ومبطل ، وشذّ منهم من قال بأنّه مكروه ، كالحلبي في الكافي. (3)

ومع أنّ غير المالكية من المذاهب الأربعة قد تصعّدوا وتصوبوا في المسألة ، لكن ليس لهم دليل مقنع على جوازه في الصلاة ، فضلا عن كونه مندوبا ، بل يمكن أن يقال : إنّ الدليل على خلافهم ، والروايات البيانية عن الفريقين التي تبيّن صلاة الرسول خالية عن القبض ، ولا يمكن للنبي الأكرم أن يترك المندوب طيلة حياته أو أكثرها ، وإليك نموذجين من هذه الروايات : أحدهما عن طريق أهل السنّة ، والآخر عن طريق الشيعة الإمامية ، وكلاهما يبيّنان كيفية صلاة النبي وليست فيهما أيّة إشارة إلى القبض فضلا عن كيفيته.

القبض بدعة محدثة

اشارة

إنّ القبض بدعة محدثة ظهرت بعد رحيل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، وعمادنا في هذا السبيل حديثان صحيحان :

أحدهما مروي عن طرق أهل السنّة ، والآخر من طرق الإمامية ، والحديثان

ص : 170


1- الفقه على المذاهب الخمسة : 110.
2- لاحظ رسالة مختصرة في السدل للدكتور عبد الحميد بن مبارك : 5.
3- جواهر الكلام : 11 / 15 _ 16.

دليلان قاطعان على أنّ سيرة النبي وأهل بيته عليهم السلام جرت على السدل في الصلاة ، وانّ القبض ابتدع بعد رحيله صلى الله عليه وآله وسلم.

ألف : حديث أبي حميد الساعدي

روى حديث أبي حميد الساعدي غير واحد من المحدّثين ، ونحن نذكره بنص البيهقي ، قال : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ : فقال أبو حميد الساعدي : أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قالوا : لِمَ ، ما كنت أكثرنا له تبعا ، ولا أقدمنا له صحبة؟! قال : بلى ، قالوا : فأعرض علينا ، فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما مَنْكبيه ، ثم يكبّر حتّى يقرّ كل عضو منه في موضعه معتدلا ، ثم يقرأ ، ثم يكبّر ويرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ، ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه ، ثم يعتدل ولا ينصب رأسه ولا يقنع ، ثم يرفع رأسه ، فيقول : سمع الله لمن حمده ، ثم يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه حتى يعود كل عظم منه إلى موضعه معتدلا ، ثم يقول : الله أكبر ، ثم يهوي إلى الأرض فيجافي يديه عن جنبيه ، ثم يرفع رأسه فيثني رجله اليسرى فيقعد عليها ويفتح أصابع رجليه إذا سجد ، ثم يعود ، ثم يرفع فيقول : الله أكبر ، ثم يثني برجله فيقعد عليها معتدلا حتى يرجع أو يقرّ كل عظم موضعه معتدلا ، ثم يصنع في الركعة الأخرى مثل ذلك ، ثم إذا قام من الركعتين كبّر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه كما فعل أو كبّر عند افتتاح صلاته ، ثم يصنع مثل ذلك في بقية صلاته ، حتى إذا كان في السجدة التي فيها التسليم أخّر رجله اليسرى وقعد متورّكا على شقّه الأيسر ، فقالوا جميعا : صدق هكذا كان يصلّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (1)

ص : 171


1- سنن البيهقي : 2 / 72 ، 73 ، 101 ، 102 ؛ سنن أبي داود : 1 / 194 ، باب افتتاح الصلاة ، الحديث 730 _ 736 ؛ سنن الترمذي : 2 / 98 ، باب صفة الصلاة ؛ مسند أحمد : 5 / 424 ؛ وابن خزيمة في صحيحه ، باب الاعتدال في الركوع ، برقم 587.

والذي يوضح صحّة الاجتماع به الأمور التالية :

1. تصديق أكابر الصحابة (1) لأبي حميد يدلّ على قوة الحديث ، وترجيحه على غيره من الأدلّة.

2. أنّه وصف الفرائض والسنن والمندوبات ولم يذكر القبض ، ولم ينكروا عليه ، أو يذكروا خلافه ، وكانوا حريصين على ذلك ، لأنّهم لم يسلّموا له أوّل الأمر أنّه أعلمهم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، بل قالوا جميعا : صدقت هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي ، ومن البعيد جدا نسيانهم وهم عشرة ، وفي مجال المذاكرة.

3. الأصل في وضع اليدين هو الإرسال ، لأنّه الطبيعي فدلّ الحديث عليه.

4. هذا الحديث لا يقال عنه إنّه مطلق وأحاديث تقيّده ، لأنّه وصَفَ وعدّد جميع الفرائض والسنن والمندوبات وكامل هيئة الصلاة ، وهو في معرض التعليم والبيان ، والحذف فيه خيانة ، وهذا بعيد عنه وعنهم.

5. بعض من حضر من الصحابة ، ممّن روي عنه أحاديث القبض ، فلم يعترض ، فدلّ على أنّ القبض منسوخ ، أو على أقل أحواله بأنّه جائز للاعتماد لمن طوّل في صلاته ، وليس من سنن الصلاة ، ولا من مندوباتها ، كما هو مذهب الليث بن سعد ، والأوزاعي ، ومالك. (2)

قال ابن رشد : والسبب في اختلافهم انّه قد جاءت آثار ثابتة ، نقلت فيها صفة صلاته _ عليه الصلاة والسلام _ ولم ينقل انّه كان يضع يده اليمنى على اليسرى. (3)

ص : 172


1- منهم : أبو هريرة ، وسهل الساعدي ، وأبو أسيد الساعدي ، وأبو قتادة الحارث بن ربعي ، ومحمد بن مسلمة.
2- رسالة مختصرة في السدل : 11.
3- بداية المجتهد : 1 / 99.

بقي هنا سؤال وهو انّه قد اشتهر أنّ المالكية لا تقول بالقبض وانّ إمامهم مالكا كرهه ، وقال في المدونة : كره مالك وضع اليد اليمنى على اليسرى في الفريضة وقال : لا أعرفه في الفريضة ، مع أنّه روى في « الموطأ » حديث القبض حيث روى عن سهل بن سعد ، كما روى مرسل عبد الكريم ابن أبي المخارق البصري أنّه قال : من كلام النبوة : إذا لم تستح فافعل ما شئت ، ووضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة يضع اليمنى على اليسرى ، وتعجيل الفطر ، والاستيفاء بالسحور. (1)

قلت : إنّ كتاب الموطأ ، كتاب رواية ، والإمام ربما ينقل ولا يفتي على وفقه ، فلذلك ترى في « المدونة » فتاوى تخالف ما رواه في « الموطأ » ومن كان ملمّا بفقهه ، يرى أنّ بين ما دوّن من فتاواه وما رواه في « الموطأ » ، اختلافا في موارد كثيرة.

قد أشار الدكتور عبد الحميد في رسالة السدل إلى مواردها. (2)

وعلى كلّ تقدير فقوله : « لا أعرفه في الفريضة » دليل صريح في أنّ عمل أهل المدينة على خلافه ، إذ قوله : « لا أعرفه » ، معناه لا أعرفه من عمل الأئمة الذين هم التابعون الذين تلقّوا العلم عن الصحابة.

هذا هو الحديث الذي قام ببيان كيفية صلاة النبي وقد روي عن طريق أهل السنّة ، وقد عرفت وجه الدلالة ، وإليك ما رواه الشيعة الإمامية.

ب : حديث حمّاد بن عيسى

روى حمّاد بن عيسى ، عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال : « ما أقبح بالرجل أن يأتي عليه ستون سنة أو سبعون سنة فما يقيم صلاة واحدة بحدودها تامة » قال

ص : 173


1- الموطأ : 1 / 158 ، باب وضع اليدين إحداهما على الأُخرى في الصلاة ، الحديث 46 ، 47.
2- رسالة مختصرة في السدل : 6 _ 7.

حمّاد : فأصابني في نفسي الذل ، فقلت : جعلت فداك فعلّمني الصلاة ، فقام أبو عبد الله مستقبل القبلة منتصبا فأرسل يديه جميعا على فخذيه قد ضمّ أصابعه وقرّب بين قدميه حتى كان بينهما ثلاثة أصابع مفرجات ، واستقبل بأصابع رجليه ( جميعا ) لم يحرفهما عن القبلة بخشوع واستكانة ، فقال : الله أكبر ، ثم قرأ الحمد بترتيل ، وقل هو الله أحد ، ثم صبر هنيئة بقدر ما تنفس وهو قائم ، ثم قال : الله أكبر ، وهو قائم ثم ركع وملأ كفيه من ركبتيه مفرّجات ، وردّ ركبتيه إلى خلفه حتى استوى ظهره ، حتى لو صبت عليه قطرة ماء أو دهن لم تزل لاستواء ظهره وتردّد ركبتيه إلى خلفه ، ونصب عنقه ، وغمض عينيه ثم سبح ثلاثا بترتيل وقال : سبحان ربي العظيم وبحمده ، ثم استوى قائماً ، فلما استمكن من القيام قال : سمع الله لمن حمده ، ثم كبّر وهو قائم ، ورفع يديه حيال وجهه ، وسجد ، ووضع يديه إلى الأرض قبل ركبتيه وقال : سبحان ربي الأعلى وبحمده ، ثلاث مرات ، ولم يضع شيئا من بدنه على شيء منه ، وسجد على ثمانية أعظم : الجبهة ، والكفّين ، وعيني الركبتين ، وأنامل إبهامي الرجلين ، والأنف ، فهذه السبعة فرض ، ووضع الأنف على الأرض سنّة ، وهو الإرغام ، ثم رفع رأسه من السجود فلمّا استوى جالسا قال : الله أكبر ، ثم قعد على جانبه الأيسر ، ووضع ظاهر قدمه اليمنى على باطن قدمه اليسرى ، وقال : أستغفر الله ربي وأتوب إليه ، ثم كبّر وهو جالس وسجد الثانية ، وقال كما قال في الأولى ولم يستعن بشيء من بدنه على شيء منه في ركوع ولا سجود ، وكان مجنّحا ، ولم يضع ذراعيه على الأرض ، فصلّى ركعتين على هذا.

ثم قال : « يا حمّاد هكذا صل ، ولا تلتفت ، ولا تعبث بيديك وأصابعك ، ولا تبزق عن يمينك ولا ( عن ) يسارك ولا بين يديك ». (1)

ص : 174


1- الوسائل : 4 ، الباب 1 من أبواب أفعال الصلاة ، الحديث 1. ولاحظ الباب 17 ، الحديث 1 و 2.

ترى أنّ الروايتين بصدد بيان كيفية الصلاة المفروضة على الناس وليست فيهما أيّة إشارة إلى القبض بأقسامه المختلفة فلو كان سنّة لما تركه الإمام في بيانه ، وهو بعمله يجسّد لنا صلاة الرسول ، لأنّه أخذه عن أبيه الإمام الباقر ، وهو عن آبائه ، عن أمير المؤمنين ، عن الرسول الأعظم _ صلوات الله عليهم أجمعين _ فيكون القبض بدعة ، لأنّه إدخال شيء في الشريعة وهو ليس منه.

دليل القائلين بلزوم القبض

اشارة

ثم إنّ للقائل بالقبض أدلّة نأخذ بدراستها :

إنّ مجموع ما يصحّ الاستدلال به على أنّ القبض سنّة في الصلاة لا يعدو عن روايات ثلاث (1) 1. حديث سهل بن سعد. رواه البخاري.

2. حديث وائل بن حجر. رواه مسلم ونقله البيهقي بأسانيد ثلاثة.

3. حديث عبد الله بن مسعود. رواه البيهقي في سننه وغيره.

وإليك دراسة كل حديث :

1. حديث سهل بن سعد

روى البخاري عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، قال : « كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة » قال أبو حازم : لا

ص : 175


1- وللقبض أدلة أخرى غير صحيحة كما هو المفهوم من كلام الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم : 4 / 358 ، وسيوافيك الكلام فيها.

أعلمه إلاّ ينمي ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. (1)

قال إسماعيل (2) : ينمي ذلك ولم يقل ينمي.

والرواية متكفّلة لبيان كيفية القبض إلاّ أنّ الكلام في دلالته بعد تسليم سنده. ولا يدل عليه بوجهين :

أوّلا : لو كان النبي الأكرم هو الآمر بالقبض فما معنى قوله : « كان الناس يؤمرون »؟ أو ما كان الصحيح عندئذ أن يقول : كان النبي يأمر؟ أو ليس هذا دليلا على أنّ الحكم نجم بعد ارتحال النبي الأكرم حيث إنّ الخلفاء وأمراءهم كانوا يأمرون الناس بالقبض بتخيّل أنّه أقرب للخشوع؟ ولأجله عقد البخاري بعده بابا باسم باب الخشوع. قال ابن حجر : الحكمة في هذه الهيئة أنّه صفة السائل الذليل ، وهو أمنع عن العبث وأقرب إلى الخشوع ، كان البخاري قد لاحظ ذلك وعقّبه بباب الخشوع.

وبعبارة أخرى : انّ الأمر بالقبض دليل على أنّ الناس كانوا يصلّون على وجه السدل في عصر النبي وشيئا بعد عصره ، ثمّ حدثت الفكرة فأمروا الناس به.

وثانيا : أنّ في ذيل السند ما يؤيد أنّه كان من عمل الآمرين ، لا الرسول الأكرم نفسه حيث قال :

قال إسماعيل : « لا أعلمه إلاّ ينمي ذلك إلى النبي » بناء على قراءة الفعل

ص : 176


1- فتح الباري في شرح صحيح البخاري : 2 / 224 ، باب وضع اليمنى على اليسرى ، صحيح مسلم : 2 / 13 ، باب وضع يده اليمنى على اليسرى ، ورواه البيهقي في السنن الكبرى : 2 / 28 ، الحديث 3 ، باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة.
2- المراد : إسماعيل بن أبي أويس شيخ البخاري كما جزم به الحميدي. لاحظ فتح الباري : 5 / 325.

بصيغة المجهول.

ومعناه أنّه لا يعلم كونه أمرا مسنونا في الصلاة غير أنّه يعزى وينسب إلى النبي ، فيكون ما يرويه سهل به سعد مرفوعا.

قال ابن حجر : ومن اصطلاح أهل الحديث إذا قال الراوي : ينميه ، فمراده : يرفع ذلك إلى النبي. (1)

هذا كلّه إذا قرأناه بصيغة المجهول ، وأمّا إذا قرأناه بصيغة المعلوم ، فمعناه أنّ سهلا ينسب ذلك إلى النبي ، فعلى فرض صحّة القراءة وخروجه بذلك من الإرسال والرفع ، يكون قوله : « لا أعلمه إلاّ. » معربا عن ضعف العزو والنسبة ، وأنّه سمعه عن رجل آخر ولم يسمّ.

قال ابن حجر في « فتح الباري » : هذا حديث تكلّم في رفعه ، فقال الداني : هذا معلول لأنّه ظن من أبي حازم ، وقيل بأنّه لو كان مرفوعا لما احتاج إلى قوله : « لا أعلمه ». (2)

2. حديث وائل بن حجر
اشارة

وروي بصور :

الصورة الأولى للحديث :

روى مسلم ، عن وائل بن حجر : أنّه رأى النبي رفع يديه حين دخل في الصلاة كبّر ، ثم التحف بثوبه ، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى ، فلمّا أراد أن

ص : 177


1- المصدر نفسه : هامش رقم 1.
2- فتح الباري : 4 / 126.

يركع أخرج يديه من الثوب ، ثم رفعهما ، ثم كبّر فركع. (1)

والاحتجاج بالحديث احتجاج بالفعل ، ولا يحتج به إلاّ أن يعلم وجهه ، وهو بعد غير معلوم ، لأنّ ظاهر الحديث أنّ النبي جمع أطراف ثوبه فغطّى صدره به ، ووضع يده اليمنى على اليسرى ، وهل فعل ذلك لأجل كونه أمرا مسنونا في الصلاة ، أو فعله لئلاّ يسترخي الثوب بل يلصق الثوب بالبدن ويتّقي به _ نفسه _ عن البرد؟ والفعل أمر مجهول العنوان ، فلا يكون حجّة إلاّ إذا علم أنّه فعله بما انّه فعل مسنون في الصلاة.

وهناك احتمال آخر وهو انّ عمل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان للتحرز عن سدل الثوب في الصلاة.

اخرج الترمذي عن أبي هريرة قال : نهى رسول الله عن السدل في الصلاة. قال في اللسان : السدل هو إسبال الرجل ثوبه من غير أن يضم جانبيه بين يديه فإن ضمه فليس بسدل ، وقد رويت الكراهة فيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. (2)

إنّ النبيّ الأكرم صلّى مع المهاجرين والأنصار أزيد من عشر سنوات ، فلو كان ذلك ثابتا من النبي لكثر النقل وذاع ، ولما انحصر نقله بوائل بن حجر ، مع ما في نقله من الاحتمالين.

ص : 178


1- صحيح مسلم : 1 / 13 ، الباب 5 من كتاب الصلاة ، باب وضع يده اليمنى على اليسرى ، وفي سند الحديث « همام » ولو كان المقصود ، هو همام بن يحيى فقد قال ابن عمار فيه : كان يحيى القطّان لا يعبأ ب_ « همام » وقال عمر بن شيبة : حدثنا عفان قال : كان يحيى بن سعيد يعترض على همام في كثير من حديثه. وقال أبو حاتم : ثقة في حفظه. لاحظ هدى الساري : 1 / 449. وفيه أيضا : محمد بن جحادة ، وقد أشار النووي في شرحه على صحيح مسلم وقال فيه محمد بن جحادة وسكت.
2- سنن الترمذي : 2 / 217 ، الحديث 378.
الصورة الثانية للحديث :

أخرج النسائي والبيهقي في سننهما بسندين مختلفين عن وائل بن حجر ، قال : رأيت رسول الله إذا كان قائماً في الصلاة قبض بيمينه على شماله. (1)

وفي لفظ البيهقي : إذا قام إلى الصلاة قبض على شماله بيمينه ، ورأيت علقمة يفعله. (2)

والاستدلال بالحديث رهن صحّة السند وتمامية الدلالة.

أمّا السند فالشيخان وإن نقلاه بسندين مختلفين لكنّهما يشتركان في وجود عبد الله في كلا السندين ، وفي سنن النسائي : « أنبأنا عبد الله » ، وفي سنن البيهقي : « أنبأنا عبد الله بن جعفر » ، والمراد هو عبد الله بن جعفر بن نجيح السعدي ، وكفى في ضعفه ما نقله عبد الله ابن الإمام أحمد عن أبيه : كان وكيع إذا أتى على حديثه جزّ عليه ، وقال في موضع آخر ينقل عن أبيه عن مشايخه انّه قال : ما كنت أكتب من حديثه شيئا بعد أن تبيّن أمره.

وقال الدوري عن ابن معين : ليس بشيء.

وقال أبو حاتم : سأل يزيد بن هارون عنه ، فقال : لا تسألوا عن أشياء.

وقال عمرو بن علي : ضعيف.

وقال أبو حاتم : منكر الحديث جدا ، يحدث عن الثقات بالمناكير.

إلى أن قال :

وقال النسائي : متروك الحديث.

ص : 179


1- سنن النسائي : 2 / 97 ، باب وضع اليمين على الشمال في الصلاة.
2- سنن البيهقي : 1 / 28 ، باب وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة.

وقال مرة : ليس بثقة. (1)

وأمّا الدلالة : فلانّه من المحتمل انّ الحديث هو صورة أخرى من الحديث الأوّل ، والفرق هو انّ الحديث الأوّل اشتمل على زيادة دونه ، حيث جاء في الصورة الأولى التحف بثوبه ثمّ وضع يده اليمنى على اليسرى وقد مرّ انّ ظاهر الحديث انّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جمع أطراف ثوبه فغطى به صدره ووضع يده اليمنى على اليسرى لئلا يسترخي الثوب بل يلصق الثوب بالبدن ويقي به نفسه عن البرد أو يتحرّز عن إسبال الثوب ، وبما انّ الفعل مجهول العنوان لا يحتج به ما لم يعرف وجهه.

على أنّ في نفس الحديث شهادة على أنّ القبض لم يكن رائجا في الصدر الأوّل ، وذلك لأنّه جاء في الحديث : « رأيت علقمة يفعله » فلو كان القبض أمرا رائجا بين الصحابة والتابعين لما كان وجه لنسبة هذا الفعل الرائج إلى علقمة راوي الحديث عن وائل ، وهذا يدلّ على أنّه كان أمرا غير رائج ولذلك نقله علقمة.

الصورة الثالثة للحديث :

أخرج النسائي بسنده عن وائل بن حجر انّه قال : قلت : لا. إلى صلاة رسول الله كيف يصلّي ونظرت إليه ، فقام فكبر ورفع يديه حتّى حاذتا أذنيه ، ثمّ وضع يده اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد. (2)

وأخرجه أيضا البيهقي في سننه بنفس اللفظ. (3)

والاحتجاج بالرواية رهن صحّة السند والدلالة.

ص : 180


1- تهذيب التهذيب : 5 / 174 برقم 298.
2- سنن النسائي : 2 / 97 ، باب موضع اليمين من الشمال في الصلاة.
3- سنن البيهقي : 2 / 28 ، باب وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة.

أمّا سند النسائي فهو مشتمل على عاصم بن كليب الكوفي ، وقد ذكر ابن حجر انّه سئل ابن شهاب عن مذهب كليب وانّه كان مرجئا ، قال : لا أدري ، ولكن قال شريك بن عبد الله النخعي انّه كان مرجئا.

وقال ابن المديني : لا يحتج به إذا انفرد. (1)

وأمّا سند البيهقي فهو مشتمل على عبد الله بن رجاء ، فنقل ابن حجر عن ابن معين انّه قال : كان كثير التصحيف ، وليس به بأس.

وقال عمرو بن عدي ، صدوق كثير الغلط والتصحيف ليس بحجة ، وتوفّى عام 219 ه أو 220 ه ، وليس المراد منه عبد الله بن رجاء المكي الذي يروي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام وغيره.

ولو افترض انّ المراد هو عبد الله بن رجاء المكي فهو ليس أيضا سالما عن النقد ، نقل ابن حجر عن الساجي انّه قال عنده مناكير.

واختلف أحمد ويحيى فيه ، قال أحمد : زعموا انّ كتبه ذهبت فكان يكتب من حفظه فعنده مناكير وما سمعت منه إلا حديثين ، وحكى نحوه العقيلي عن أحمد. (2)

وأمّا الدلالة فلا شكّ انّه أوضح دلالة من الصورتين الأوليين ، ويحتمل فيه أيضا أن يكون نفس الرواية الأولى غير انّه نقل على

وجوه مختلفة وجاء الاختلاف من الرواة وحيث إنّه يحتمل أن يكون نفس الصورة الأولى ، فقد عرفت أنّ فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحتمل وجهين (3) ومعه لا يحتج به.

إلى هنا تمّت دراسة الحديثين :

ص : 181


1- تهذيب التهذيب : 5 / 56 ، برقم 89.
2- تهذيب التهذيب : 5 / 211 ، برقم 364.
3- الاتقاء عن البرد والتحرز عن إسبال الثوب.

الأوّل : حديث سهل الساعدي.

الثاني : حديث وائل بن حجر بصورة الثلاث.

وقد عرفت قصور دلالتهما مع وجود الضعف في أسناد حديث وائل بن حجر ، بقي حديث ثالث يستدلّ به على القبض.

3. حديث عبد الله بن مسعود

أخرج النسائي عن الحجاج بن أبي زينب قال : سمعت أبا عثمان يحدّث عن ابن مسعود قال : رآني النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد وضعت شمالي على يميني في الصلاة ، فأخذ بيميني فوضعها على شمالي. (1)

وأخرجه البيهقي بنفس اللفظ لكن بسند آخر.

والاستدلال بالحديث رهن صحّة السند والدلالة.

أمّا الأوّل فكلا السندين يشتملان على الحجاج بن أبي زينب السلمي الذي قال في حقّه أحمد بن حنبل : أخشى أن يكون ضعيف الحديث.

وقال ابن معين : ليس به بأس.

وقال الحسن بن شجاع البلخي عن علي بن المديني : شيخ من أهل واسط ضعيف.

وقال النسائي : ليس بالقوي.

وقال ابن علي : أرجو انّه لا بأس به فيما يرويه.

ثمّ قال : قال الدارقطني : ليس بالقوي ولا الحافظ. (2)

ص : 182


1- سنن النسائي : 2 / 97 ، باب في الإمام إذا رأى الرجل قد وضع شماله على يمينه.
2- تهذيب التهذيب : 2 / 201 ، برقم 372.

إلى غير ذلك من الكلمات.

وأمّا الدلالة فيلاحظ انّ عبد الله بن مسعود كان من السابقين إلى الإسلام وقد أسلم في أوائل البعثة ، وقد لاقى ما لاقى من قريش لأجل إيمانه بالنبي والإسلام ، فمثل هذا لا يمكن أن يجهل بكيفية القبض _ على فرض كونه سنّة _ فيضع شماله على يمينه.

4. أحاديث ضعاف لا يحتجّ بها
اشارة

ما ذكرناه من الأحاديث هو العمدة في الاستدلال على قبض اليمنى باليسرى ، وقد عرفت حالها وعدم قيامها بإثبات المطلوب.

وهناك أحاديث وآثار رويت في غضون الكتب جمعها البيهقي في سننه ، ولا يصحّ واحد منها لضعفها سندا ودلالة ، ونحن لأجل إكمال حلقة البحث نسرد تلك الأحاديث ونناقشها سندا ودلالة حتى يقف القارئ على مواطن الخلل.

1. حديث هُلْب
اشارة

أخرج الترمذي عن قتيبة عن أبي الأحوص ، عن سماك بن حرب ، عن قبيصة بن هُلْب ، عن أبيه : قال :

كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يؤمّنا فيأخذ شماله بيمينه. (1)

ورواه البيهقي بلفظ آخر وهو : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واضعا يمينه على شماله في الصلاة. (2)

ص : 183


1- سنن الترمذي : 2 / 32 ، برقم 252.
2- سنن البيهقي : 2 / 29.

يلاحظ عليه : أنّ السند ضعيف كالدلالة.

أمّا السند ، فإليك ترجمة راويين منه.

قبيصة بن هُلب

قال الذهبي : قال العجلي : ثقة ، وذكره ابن حبّان في الثقات.

وقال ابن المديني : مجهول. (1)

وقال ابن حجر : مجهول لم يرو عنه غير سماك.

وقال النسائي : مجهول. (2)

سماك بن حرب

قال الذهبي : صدوق ، صالح. روى ابن المبارك عن سفيان انّه ضعيف.

قال جرير الضبّي : أتيت سماكا فرأيته يبول قائماً فرجعت ولم أسأله ، فقلت :

خرف.

وروى أحمد بن أبي مريم عن يحيى : سماك ثقة ، كان شعبة يضعّفه.

وقال أحمد : سماك مضطرب الحديث.

وقال أبو حاتم : ثقة ، صدوق.

وقال صالح : جَزَرة : يضعف.

وقال النسائي : إذا انفرد بأصل لم يكن بحجة ، لأنّه كان يلقّن فيتلقن إلى غير ذلك من كلمات التضعيف. (3)

ص : 184


1- ميزان الاعتدال : 3 / 384 ، رقم 6863.
2- تهذيب التهذيب : 8 / 350 ، رقم 633.
3- ميزان الاعتدال : 2 / 233 برقم 3548.

وقال ابن حجر :

قال عنه أحمد : مضطرب الحديث.

قال ابن أبي خيثمة : قال سمعت ابن معين سئل عنه ما الذي عابه قال : أسند أحاديث لم يسندها غيره.

وقال ابن عمار : يقولون إنّه كان يخلّط ويختلفون في حديثه.

وكان الثوري يضعّفه بعض الضعف.

وقال يعقوب بن شيبة : قلت لابن المديني : رواية سماك عن عكرمة ، فقال : مضطربة.

وقال زكريا بن علي ، عن ابن المبارك : سماك ضعيف في الحديث.

قال يعقوب : وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة. (1)

وأمّا الدلالة فليست في الرواية تصريح في أنّه يضع يمينه على شماله في خصوص حال القراءة ، بل ظاهره انّه يضع يمينه على شماله في عامة حالات الصلاة وهو ممّا لم يلتزم به أحد.

2. حديث محمد بن أبان الأنصاري

أخرج البيهقي بسنده عن محمد بن أبان الأنصاري ، عن عائشة قالت : ثلاث من النبوّة : تعجيل الإفطار ، وتأخير السحور ، ووضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة. (2)

ص : 185


1- تهذيب التهذيب : 8 / 350 ، رقم 633.
2- سنن البيهقي : 2 / 29.

ويكفي في ضعف الحديث ما ذكره البخاري في تاريخه الكبير ، بعد نقل هذا الحديث وقال : ولا نعرف لمحمد سماعا من عائشة ، وفي نسخة ولا يعرف لمحمد سماع. (1)

وقد نقل محقّق كتاب « التأريخ الكبير » للبخاري في الهامش أقوال الرجاليين في حقّه ، فخرج بالنتيجة التالية :

إنّه أنصاري مدني ، ثمّ صار إلى اليمامة ، وانّه أرسل عن عائشة. (2)

3. حديث عقبة بن صهبان

روى البيهقي بسنده عن حماد بن سلمة ، عن عاصم الجحدري ، عن عقبة بن صهبان ، عن علي رضي الله عنه ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) قال : هو وضع يمينك على شمالك في الصلاة. (3)

يلاحظ على الاستدلال أوّلا : أنّ عاصم الجحدري لم يوثّق. قال الذهبي : عاصم بن العجّاج الجحدري البصري ، قرأ على يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم ، أخذ عنه سلام بن أبو المنذر وجماعة قراءة شاذة فيها ما ينكر. (4)

وذكره البخاري في تاريخه وقال : عاصم الجحدري يعدّ في البصريين ، عن عقبة بن ظبيان ولم يوثقه. (5)

ثمّ إنّ الحديث حسب نقل البيهقي ينتهي إلى عقبة بن صهبان.

ص : 186


1- التأريخ الكبير : 11 / 32 رقم 47 ؛ ميزان الاعتدال : 3 / 454 برقم 7129.
2- التأريخ الكبير : 11 / 34 ، قسم الهامش.
3- سنن البيهقي : 2 / 29.
4- ميزان الاعتدال : 2 / 354 ، رقم 4057.
5- التأريخ الكبير : 6 / 486 ، رقم 3061.

وقال البيهقي : ورواه البخاري في التأريخ في ترجمة عقبة بن ظبيان عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة : سمع عاصم الجحدري ، عن أبيه ، عن عقبة بن ظبيان عن علي ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) رفع يده اليمنى على وسط ساعده على صدره.

وما يرويه البخاري في تاريخه حسب ما نقله البيهقي يختلف عمّا نقله البيهقي بالمباشرة بوجهين :

الأوّل : انّ السند ينتهي عند البيهقي إلى عقبة بن صهبان ، وحسب نقل البخاري إلى عقبة بن ظبيان.

الثاني : انّ عاصم الجحدري حسب نقل البيهقي يروي عن عقبة بن صهبان ، وحسب ما نقله عن تاريخ البخاري ينقل عاصم عن أبيه عن عقبة بن ظبيان.

ومع الأسف الشديد انّ أباه ( عجاج ) لم يعنون في الرجال فمثل هذا الحديث لا يحتج به أبدا.

4. حديث غزوان بن جرير

روى البيهقي عن غزوان بن جرير ، عن أبيه ، قال : كان علي رضي الله عنه إذا قام إلى الصلاة فكبّر ، ضرب بيده اليمنى على رسغه الأيسر ، فلا يزال كذلك حتّى يركع ، إلاّ أن يحكّ جلدا أو يصلح ثوبه. (1)

وكفى في ضعف الرواية انّ جريرا والد غزوان مجهول.

قال الذهبي : جرير الضبي عن علي وعنه ابنه غزوان لا يعرف. (2)

ص : 187


1- سنن البيهقي : 2 / 29.
2- ميزان الاعتدال : 1 / 397 رقم 1474.
5. مرسلتا غضيف وشدّاد

روى البيهقي وقال : وروينا عن الحارث بن غضيف الكندي وشداد بن شرحبيل الأنصاري انّ كلّ واحد منهما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك « واضعا يمينه على شماله ». (1)

هذا ما نقله البيهقي وضبطه الترمذي بالنحو التالي : غطيف بن الحارث. (2)

فعلى نقل البيهقي الراوي هو الحارث بن غضيف الكندي بينما على نقل الترمذي الراوي هو غطيف بن الحارث ، فاشتبه الوالد بالولد ولم يعرفا.

ويظهر ممّا نقله ابن حجر أنّه أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو صبي ، قال ناقلا عنه : كنت صبيا أرمي نخل الأنصار فأتوا بي النبيّ ، فمسح رأسي وقال : كُلْ ممّا سقط ولا ترمي نخلهم.

بل يظهر من بعضهم انّه من التابعين لم يدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

قال : ذكره جماعة في التابعين. (3)

فتلخص ممّا ذكرنا انّ الحديث لا يحتجّ به ، وذلك للأسباب التالية :

أوّلا : انّه حديث مرسل ، وليس لأصحاب الحديث سند إليه.

وثانيا : انّه أدرك النبي وهو صبي ، ولأجل ذلك ترى انّهم يعرّفونه بقولهم : « له صحبة » أي صحبة قليلة.

وثالثا : لم يثبت أنّه صحابي ، وقد عدّه جماعة من التابعين.

وعلى كلّ حال فحديث هذا حاله _ اشتبه اسمه ضبطا أوّلا ، واشتبه الوالد

ص : 188


1- سنن البيهقي : 2 / 29.
2- سنن الترمذي : 2 / 32 ، الحديث 252.
3- الإصابة : 3 / 186 رقم 6912.

بالولد ثانيا ، وكانت صحبته قليلة في أيام الصبي ثالثا ، بل لم يثبت له صحبة وانّه من التابعين رابعا _ لا يحتجّ به.

6. حديث نافع عن ابن عمر

أخرج البيهقي بسنده عن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد ، عن أبيه ، عن نافع ، عن ابن عمر انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إنّا معاشر الأنبياء أمرنا بثلاث : تعجيل الفطر ، وتأخير السحور ، ووضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة.

هذا نفس الحديث الذي رواه محمد بن أبان الأنصاري عن عائشة ، لاحظ رقم 2.

وقال البيهقي : تفرّد به عبد المجيد ، وإنّما يعرف بطلحة بن عمرو وليس بالقويّ. (1)

وعرفه الذهبي بأنّه صدوق مرجئ كأبيه.

وثّقه ابن معين. وقال أبو داود : ثقة داعية إلى الإرجاء.

وقال ابن حبان : يستحق الترك ، منكر الحديث جدا ، يقلب الأخبار ، ويروي المناكير عن المشاهير.

قال أبو حاتم : ليس بالقوي ، يكتب حديثه.

وقال الدارقطني : لا يحتجّ به ويعتبر به.

وقال أحمد بن أبي مريم عن ابن معين : ثقة يروي عن قوم ضعفاء.

وقال البخاري : كان الحميدي يتكلّم فيه وقال أيضا في حديثه بعض

ص : 189


1- سنن البيهقي : 2 / 29.

الاختلاف ولا يعرف له خمسة أحاديث صحاح. (1)

7. حديث ابن جرير الضبي
اشارة

أخرج أبو داود عن ابن جرير الضبي ، عن أبيه ، قال : رأيت عليّا رضي الله عنه يمسك شماله بيمينه على الرسغ فوق السرة.

قال أبو داود : وروى عن سعيد بن جبير « فوق السرة » ، وقال أبو مجلز : « تحت السرة » وروى عن أبي هريرة وليس بالقوي. (2)

يلاحظ عليه : أنّ ابن جرير الضبّي هو نفس غزوان بن جرير وقد تقدّم الكلام في الوالد برقم 4 ، ولعلّه نفس الحديث السابق وليس حديثا آخر.

وأمّا ما روى عن طاوس قال : كان رسول الله يضع يده اليمنى على يده اليسرى ثمّ يشدّ بينهما على صدره وهو في الصلاة (3) ، فهو حديث مرسل لأنّ طاوس من التابعين.

وهناك آثار عزيت إلى ابن الزبير انّه قال : صف القدمين ووضع اليد على اليد من السنّة. (4)

كما قال أبو هريرة : أخذ الأكف على الكف في الصلاة تحت السرة. (5)

ومن المعلوم أنّ قول الصحابي ليس بحجة ما لم ينسبه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ص : 190


1- ميزان الاعتدال : 2 / 648 ، برقم 5183.
2- . سنن أبي داود : 1 / 201 ، باب وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة برقم 757 و 759.
3- . سنن أبي داود : 1 / 201 ، باب وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة برقم 757 و 759.
4- . سنن أبي داود : 1 / 200 _ 201 ، برقم 754 و 758.
5- . سنن أبي داود : 1 / 200 _ 201 ، برقم 754 و 758.
الآن حصحص الحق

قد تبيّن من هذا البحث الضافي أمور :

الأوّل : انّ أبا حُميد الساعدي ممّن نقل صلاة النبي بتفاصيلها ولم يذكر شيئا من القبض ، وقد نقل كيفية صلاة النبي في حضور عشرة من الصحابة ، وقد نال تصديق الحاضرين منهم.

وليس القبض أمرا طفيفا حتّى يغفل عنه الراوي أو الحضور من الصحابة ، فلو كانت صلاة النبي مرفّقة معه لاعترض أحد منهم عليه وآخذوه بترك ذكره.

الثاني : انّ ما استدلّ على كون القبض سنّة بين ضعيف الدلالة ، أو ضعيف السند ، أو كليهما.

الثالث : إذا كان القبض من سنن الصلاة لما خالفه أئمّة أهل البيت قاطبة حتى عدّوه من سنّة المجوس كما ستوافيك روايتهم.

الرابع : انّ الأمر دائر بين البدعة والسنّة ، ومقتضى الاحتياط هو ترك القبض ، لأنّ في الأخذ احتمال الحرمة وارتكاب البدعة ، بخلاف الترك فليس فيه إلاّ ترك أمر مسنون ، وهو ليس أمرا محظورا.

الخامس : العجب من فقهاء أهل السنّة انّهم طرقوا جميع الأبواب إلاّ باب أئمة أهل البيت عليه السلام!!

ص : 191

أحاديث أئمة أهل البيت عليهم السلام

إنّ أئمّة أهل البيت كانوا يتحرّزون عن القبض ويرونه من صُنع المجوس أمام الملك.

1. روى محمد بن مسلم ، عن الصادق أو الباقر عليه السلام قال : قلت له : الرجل يضع يده في الصلاة _ وحكي _ اليمنى على اليسرى؟ فقال : « ذلك التكفير ، لا يفعل ». (1)

2. وروى زرارة ، عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال : « وعليك بالإقبال على صلاتك ، ولا تكفّر ، فإنّما يصنع ذلك المجوس ». (2)

3. روى الصدوق بإسناده عن علي عليه السلام أنّه قال : « وعليك بالإقبال على صلاتك ، ولا تكفّر ، فإنّما يصنع ذلك المجوس ». (3)

4. روى الصدوق بإسناده عن علي عليه السلام أنّه قال : « لا يجمع المسلم يديه في صلاته وهو قائم بين يدي الله عزّ وجلّ يتشبّه بأهل الكفر _ يعني المجوس _ ». (4)

وفي الختام نلفت نظر القارئ إلى كلمة صدرت من الدكتور علي السالوس ، فهو بعد ما نقل آراء فقهاء الفريقين ، وصف القائلين بالتحريم والإبطال بقوله : « وأولئك الذين ذهبوا إلى التحريم والإبطال ، أو التحريم فقط ، يمثّلون التعصب المذهبي وحبّ الخلاف ، تفريقا بين المسلمين ». (5)

ما ذنب الشيعة إذا هداهم الاجتهاد والفحص في الكتاب والسنّة إلى أنّ

ص : 192


1- الوسائل : 4 ، الباب 15 من أبواب قواطع الصلاة ، الحديث 1.
2- . الوسائل : 4 الباب 15 من أبواب قواطع الصلاة ، الحديث 2 و 3 و 7.
3- . الوسائل : 4 الباب 15 من أبواب قواطع الصلاة ، الحديث 2 و 3 و 7.
4- . الوسائل : 4 الباب 15 من أبواب قواطع الصلاة ، الحديث 2 و 3 و 7.
5- فقه الشيعة الإمامية ومواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الأربعة : 183.

القبض أمر حدث بعد النبي الأكرم ، وكان الناس يؤمرون بذلك أيام الخلفاء ، فمن زعم أنّه جزء من الصلاة فرضا أو استحبابا ، فقد أحدث في الدين ما ليس منه ، أفهل جزاء من اجتهد ، أن يرمى بالتعصب المذهبي وحب الخلاف؟!

ولو صح ذلك ، فهل يمكن توصيف الإمام مالك به؟ لأنّه كان يكره القبض مطلقا ، أو في الفرض أفهل يصح رمي إمام دار الهجرة بأنّه كان يحب الخلاف؟!

أجل لما ذا لا يكون عدم الإرسال والقبض ممثلا للتعصب المذهبي وحبّ الخلاف بين المسلمين ، يا ترى؟!

( تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى ). (1)

ص : 193


1- النجم : 22.

ص : 194

5. البسملة جزئيّتها والجهر بها

اشارة

ص : 195

ص : 196

تمهيد

البسملة في اللغة والاصطلاح

اشارة

البسملة في اللغة والاصطلاح : قول بسم الله الرّحمن الرحيم ، يقال بَسْمَل بَسْمَلة : إذا قال أو كتب « بسم الله » ، يقال : أكثر من البسملة ، أي أكثر من قول بسم الله. (1)

البسملة هي سمة المسلمين حيث لا يستفتحون بشيء إلاّ بعد ذكر بسم الله الرحمن الرّحيم ، وهي آية التوحيد وسبب نفر المشركين ، يقول سبحانه ( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً ). (2)

وقد كان شعار المشركين في عصر الجاهلية قولهم : « باسمك اللهم » وكانوا يستفتحون بذلك كلامهم. وقد آل الأمر في صلح الحديبية إلى كتابة وثيقة صلح بين الطرفين ، أمر النبي عليّا عليه السلام أن يكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، فكتب علي وفق ما أمر ، فقال سهيل مندوب قريش : لا أعرف هذا ولكن اكتب باسمك اللهم. (3)

فالبسملة هي الحد الفاصل بين الإسلام والشرك ، وبها يميّز المؤمن عن

ص : 197


1- لسان العرب والمصباح المنير : مادة بسملة.
2- الفرقان : 60.
3- سيرة ابن هشام : 2 / 317.

الكافر ، ولا ينفك المسلم منها في حلّه وترحاله.

البسملة آية قرآنية تشهد عليها المصاحف عبر القرون ، وقد كتبت في مفتتح كلّ سورة خلا سورة التوبة ، كتبوها كما كتبوا غيرها من سائر الآيات بدون ميز مع اتّفاقهم على أن لا يكتبوا شيئا من غير القرآن فيه إلاّ بميزة بيّنة حرصا منهم على أن لا يختلط به شيء من غيره.

ولذلك تراهم ميّزوا عنه أسماء سوره ، وعدد آياته ، ورموز أجزائه ، وأرباعه ، وركوعه وسجوده ، كتبوها على نحو يعلم أنّها خارجة عن القرآن ، وفي الوقت نفسه اتّفقوا على كتابة البسملة مفتتح كلّ سورة كسائر الآيات دون فرق بين الخلف والسلف ، ولا تجد قرآنا مخطوطا من عهد الصحابة إلى يومنا هذا على غير هذا النمط ، وهذا اتّفاق عملي منهم على أنّ البسملة جزء من المصحف.

غير انّه طرأ الاختلاف بعد رحيل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، والأظهر انّ الاختلاف ظهر في خلافة معاوية بن أبي سفيان أو قبله بقليل ، وأمّا ما هي العلّة لطروء هذا الاختلاف ، فلعلّ بعض الدواعي له ، هو المخالفة لسيرة الإمام علي عليه السلام في البسملة حيث أطبق الجميع على أنّ علي بن أبي طالب كان يجهر بها.

قال الرازي : وأمّا انّ علي بن أبي طالب فقد كان يجهر بالتسمية وقد ثبت بالتواتر ، وكان يقول : يا مَنْ ذِكْره شَرف للذاكرين. (1)

وقد تضافرت الروايات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه ، على أنّ كون البسملة جزء من الفاتحة وانّها يجب الجهر بها في الصلوات الجهرية ، كما أنّها جزء من كلّ سورة.

وتظهر حقيقة الحال في ضمن فصول.

ص : 198


1- التفسير الكبير : 1 / 204.
1. فضل البسملة

قد ورد في فضل البسملة أحاديث كثيرة نقتبس منها القليل :

1. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « فُضِّلتُ ببسم الله الرحمن الرحيم » وقال : « لم تنزل على أحد غيري سوى ما حكاه الله سبحانه من كتاب سليمان ». (1)

2. قال الإمام الباقر عليه السلام : « أكرم آية في كتاب الله : بسم الله الرّحمن الرّحيم ». (2)

3. أخرج الشيخ الطوسي عن عبد الله بن يحيى الكاهلي ، عن الصادق ، عن أبيه عليهما السلام قال : « بسم الله الرّحمن الرّحيم أقرب إلى اسم الله الأعظم من ناظر العين إلى بياضها ». (3)

ص : 199


1- كنز العمال : 1 / 655 رقم 2492 ؛ تفسير ابن كثير : 1 / 17 ؛ بحار الأنوار : 89 / 227 رقم 4.
2- تفسير العياشي : 1 / 19 رقم 4.
3- التهذيب : 2 / 289 رقم 1159.
2. أقوال الفقهاء في جزئيّة البسملة

قد ذكر القرطبي أقوال أئمّة المذاهب الأربعة بوضوح ، فقال :

اختلفوا في قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في افتتاح القراءة في الصلاة.

1. فمنع ذلك مالك في الصلاة المكتوبة _ جهرا كانت أو سرا _ لا في استفتاح أمّ القرآن ولا في غيرها من السور ، وأجاز ذلك في النافلة.

2. وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد : يقرؤها مع أمّ القرآن في كلّ ركعة سرا.

3. وقال الشافعي : يقرؤها ولا بدّ في الجهر جهرا وفي السرّ سرّا ، وهي عنده آية من فاتحة الكتاب ، وبه ( كون البسملة آية من فاتحة الكتاب ) قال أحمد وأبو ثور وعبيد.

واختلف قول الشافعي هل هي آية من كلّ سورة أم إنّما هي آية من سورة النمل فقط ومن فاتحة الكتاب؟ فروي عنه القولان جميعا.

وسبب الاختلاف من هذا آئل إلى شيئين :

أحدهما : اختلاف الآثار في هذا الباب.

والثاني : اختلافهم هل « بسم الله الرحمن الرحيم » آية من فاتحة الكتاب أم لا؟ (1)

ص : 200


1- بداية المجتهد : 1 / 124.

وقال الشيخ الطوسي : بسم الله الرّحمن الرّحيم آية من كلّ سورة من جميع القرآن ، وهي آية من أوّل سورة الحمد.

وقال الشافعي : إنّها آية من أوّل الحمد بلا خلاف بينهم ، وفي كونها آية من كلّ سورة قولان :

أحدهما : انّها آية من أوّل كلّ سورة ، والآخر : انّها بعض آية من كلّ سورة وإنّما تتمّ مع ما بعدها فتصير آية.

وقال أحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيدة وعطاء والزهري وعبد الله بن المبارك : إنّها آية من أوّل كلّ سورة حتّى أنّه قال : من ترك بسم الله الرّحمن الرّحيم ترك مائة وثلاث عشرة آية.

وقال أبو حنيفة ومالك والأوزاعي وداود : ليست آية من فاتحة الكتاب ولا من سائر السور.

وقال مالك والأوزاعي وداود : يكره أن يقرأها في الصلاة بل يكبّر ، ويبتدي بالحمد إلاّ في شهر رمضان ، والمستحب أن يأتي بها بين كلّ سورتين تبركا للفصل ، ولا يأتي بها في أوّل الفاتحة. (1)

وحاصل الأقوال : إنّ مالكا لا يرى البسملة جزءا من السور مطلقا ، وأمّا الحنفية والحنابلة فيرونها جزءا من فاتحة الكتاب لكن يقرءونها سرا.

وأمّا الشافعية فيرونها جزءا من فاتحة الكتاب ، ويقرءونها في الجهر جهرا وفي السرّ سرّا ، وأمّا كونها جزءا من سائر السور ففيه عن الشافعي قولان.

وأمّا الشيعة الإمامية فليس عندهم إلاّ قول واحد ، وهو انّ البسملة جزء من

ص : 201


1- الخلاف : 1 / 328 ، المسألة 82 من كتاب الصلاة.

كلّ سورة ، ويجهر بها في الصلوات الجهرية وجوبا وفي الصلوات السرية استحبابا.

وأبعد الأقوال بالنسبة إليهم قول مالك حيث إنّ البسملة عنده ليست آية من القرآن إلاّ في سورة النمل فإنّها جزء من آية ويكره قراءتها بصلاة فرض للإمام وغيره قبل الفاتحة أو سورة بعدها.

وأين هذا القول من كلام الإمام الصادق عليه السلام حيث قال مندّدا لمن يترك البسملة في الصلاة ويرى الجهر بها بدعة ، فقال :

« ما لهم عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله عزّ وجلّ فزعموا أنّها بدعة إذا أظهروها ، وهي بسم الله الرّحمن الرّحيم ». (1)

وتحقيق المقام يقتضي البحث في الأمور التالية :

الأوّل : هل البسملة جزء من الفاتحة أم لا؟

الثانية : لو افترضنا انّها جزء فهل يجهر بها في الصلوات الجهرية؟

الثالثة : هل البسملة جزء من سائر السور أم لا؟

ونستعرض في كلّ مورد أدلّة الأقوال مع القضاء الحاسم بإذن الله سبحانه.

ص : 202


1- تفسير العياشي : 1 / 21 ، الحديث 16.
3. البسملة جزء من الفاتحة
اشارة

أنّ البسملة جزء من الفاتحة ، ويدلّ عليه أمور نذكرها تباعا :

الأوّل : ما رواه الشافعي بإسناده انّ معاوية قدم المدينة فصلّى بها ، ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، ولم يكبّر عند الخفض إلى الركوع والسجود ، فلما سلّم ناداه المهاجرون والأنصار : يا معاوية ، سرقت من الصلاة ، أين بسم الله الرحمن الرحيم؟! وأين التكبير عند الركوع والسجود؟! ثمّ إنّه أعاد الصلاة مع التسمية والتكبير.

قال الشافعي : إنّ معاوية كان سلطانا عظيم القوة ، شديد الشوكة ، فلو لا انّ الجهر بالتسمية كان كالأمر المتقرر عند كلّ الصحابة من المهاجرين والأنصار ، وإلاّ لما قد روا على إظهار الإنكار عليه بسبب ترك التسمية. (1)

ونحن نقول : ولو لا أنّ التسمية جزء من الفاتحة لما اعترض المهاجرون والأنصار على تركها مضافا إلى ترك الجهر بها. وهذا الأثر كما يدلّ على جزئيّة التسمية ، يدلّ على لزوم الجهر بها ، فيستدلّ به في كلا الموردين.

الثاني : روى الشافعي عن مسلم ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، عن أمّ سلمة انّها قالت : قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاتحة الكتاب فعدّ بسم الله الرحمن الرحيم

ص : 203


1- مسند الشافعي : 13 ، ونقله الرازي بتمامه في تفسيره الكبير : 1 / 204 والمستدرك : 1 / 233.

آية ، الحمد لله ربّ العالمين آية ، الرحمن الرحيم آية ، مالك يوم الدين آية ، إياك نعبد وإياك نستعين آية ، اهدنا الصراط المستقيم آية ، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آية. (1) وهذا نص صريح على الجزئيّة.

الثالث : أخرج الحاكم عن أمّ سلمة انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ في الصلاة بسم الله الرحمن الرّحيم فعدها آية ، الحمد لله ربّ العالمين آيتين ، الرّحمن الرّحيم ثلاث آيات ، مالك يوم الدين أربع آيات ، وقال : هكذا إيّاك نعبد وإيّاك نستعين ، وجمع خمس أصابعه. (2)

الرابع : أخرج الحاكم عن أمّ سلمة ، قالت : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ بسم الله الرّحمن الرّحيم ، الحمد لله ربّ العالمين يقطعها حرفا حرفا.

قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وأقرّه على صحّته الذهبي في تلخيصه. (3)

الخامس : أخرج الحاكم عن نعيم المجمر ، قال : كنت وراء أبي هريرة ، فقرأ بسم الله الرّحمن الرّحيم قرأ بأمّ القرآن حتّى بلغ ولا الضّالين ، قال : آمين. وقال الناس : آمين ، ويقول كلّما سجد : الله أكبر ، ويقول إذا سلّم : والذي نفسي بيده انّي لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقرره الذهبي في تلخيصه. (4)

السادس : أخرج الحاكم عن قتادة قال : سئل أنس بن مالك كيف كان

ص : 204


1- المستدرك : 1 / 232.
2- . المستدرك : 1 / 232.
3- . المستدرك : 1 / 232.
4- المستدرك : 1 / 232.

قراءة رسول الله؟ قال : كانت مدّا ، ثمّ قرأ : بسم الله الرّحمن الرّحيم ويمد الرحيم. (1)

وقرره على ذلك الذهبي في تلخيصه.

السابع : أخرج الحاكم عن ابن جريج ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله تعالى ( وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي ) قال : فاتحة الكتاب ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) ، وقرأ السورة. وقال ابن جريج : فقلت لأبي لقد أخبرك سعيد عن ابن عباس انّه قال : بسم الله الرحمن الرحيم ، آية ، قال : نعم.

قال الحاكم : هذا حديث صحيح ولم يخرجاه وتمام هذا الباب في كتاب الصلاة. (2)

الثامن : أخرج الثعلبي بإسناده إلى أبي هريرة قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد إذ دخل رجل يصلّي ، فافتتح الصلاة ، وتعوّذ ثمّ قال ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) فسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : « يا رجل قطعت على نفسك الصلاة ، أما علمت أنّ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) من الحمد؟ فمن تركها فقد ترك آية ، ومن ترك آية فقد أفسد عليه صلاته. (3)

التاسع : أخرج الثعلبي عن علي انّه كان إذا افتتح السورة في الصلاة يقرأ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) وكان يقول : من ترك قراءتها فقد نقص ، وكان يقول : هي تمام السبع المثاني. (4)

ص : 205


1- المستدرك : 2 / 233.
2- المستدرك : 1 / 551 ، تفسير سورة الفاتحة.
3- الدر المنثور : 1 / 21.
4- كنز العمال : 2 / 297 رقم 4049.

العاشر : أخرج الثعلبي عن طلحة بن عبيد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من ترك ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) فقد ترك آية من كتاب الله ، وقد نزل عليّ فيما عدّ من أمّ الكتاب ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ). (1)

الحادي عشر : أخرج الدارقطني _ وصحّحه _ والبيهقي في السنن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا قرأتم « الحمد » فاقرءوا ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) أنّها أمّ القرآن ، وأمّ الكتاب ، والسبع المثاني ، و ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) إحدى آياتها. (2)

الثاني عشر : أخرج الطبراني في الأوسط والدارقطني والبيهقي عن نافع ، انّ ابن عمر كان إذا افتتح الصلاة يقرأ ب_ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) في أمّ القرآن وفي السورة التي تليها ، ويذكر أنّه سمع ذلك من رسول الله. (3)

الثالث عشر : أخرج أبو داود والترمذي والدارقطني والبيهقي عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفتتح صلاته ب_ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ). (4)

الرابع عشر : أخرج الدارقطني والبيهقي عن أبي هريرة « انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قرأ _ وهو يؤم الناس _ افتتح ب_ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) قال أبو هريرة : هي آية من كتاب الله ، اقرءوا إن شئتم فاتحة القرآن ، فإنّها الآية السابعة. (5)

الخامس عشر : أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر انّه كان يقرأ في

ص : 206


1- كنز العمال : 1 / 556 برقم 2494.
2- الدر المنثور : 1 / 11 ، السنن الكبرى : 2 / 45.
3- المعجم الأوسط : 1 / 257 ، السنن الكبرى : 2 / 48 ، مجمع الزوائد : 2 / 109.
4- سنن الترمذي : 1 / 155 ، ح 245 ، سنن الدارقطني : 1 / 303 ، السنن الكبرى : 2 / 47.
5- السنن الكبرى : 2 / 47 ، سنن الدارقطني : 1 / 305.

الصلاة ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) فإذا ختم السورة قرأها يقول : ما كتبت في المصحف إلاّ لتقرأ. (1)

السبع المثاني هي فاتحة الكتاب

قد تضافرت الآثار عن علي وابن مسعود وغيرهما من الصحابة وكثير من التابعين على أنّ المراد من السبع المثاني في قوله سبحانه ( وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) (2) هذا من جانب ، ومن جانب آخر ، انّ آياتها لا تبلغ سبعا إلاّ إذا عُدّ البسملة آية منها ، فإليك الكلام في المقامين.

أمّا ما دلّ على المراد من السبع المثاني هو سورة الفاتحة ، فهو على قسمين :

ما يفسر السبع المثاني بفاتحة الكتاب من دون تصريح بأنّ البسملة جزء من فاتحة الكتاب.

ما يفسر السبع المثاني بفاتحة الكتاب مع التصريح بأنّ البسملة من آياتها.

أمّا القسم الأوّل فإليك بعض ما وقفنا عليه لا كلّه ، لأنّه يوجب الإطناب في الكلام.

1. أخرج الطبري عن عبد خير ، عن علي عليه السلام قال : « السبع المثاني فاتحة الكتاب ». (3)

2. أخرج الطبري عن ابن سيرين قال : سئل ابن مسعود عن سبع من المثاني ، قال : فاتحة الكتاب. (4)

3. أخرج الطبري عن الحسن في قوله ( وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي )

ص : 207


1- شعب الإيمان : 2 / 439 _ 440 ، ح 2336.
2- الحجر : 87.
3- تفسير الطبري : 14 / 37.
4- تفسير الطبري : 14 / 37.

قال : هي فاتحة الكتاب.

وأخرج أيضا عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : فاتحة الكتاب.

4. أخرج الطبري عن أبي فاختة في هذه الآية ( وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) قال : هي أمّ الكتاب. (1)

5. أخرج الطبري عن أبي العالية في قول الله ( وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي ) قال : فاتحة الكتاب سبع آيات ، قلت لربيع : إنّهم يقولون السبع الطول فقال : لقد أنزلت هذه وما أنزل من الطول شيء.

6. أخرج الطبري عن أبي العالية قال : فاتحة الكتاب ، قال : وإنّما سمّيت المثاني ، لأنّه يثنّى بها كلّما قرأ القرآن قرأها ، فقيل لأبي العالية : إنّ الضحاك بن مزاحم يقول : هي السبع الطول ، فقال : لقد نزلت هذه السورة سبعا من المثاني وما نزل شيء من الطول.

7. أخرج الطبري عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال : السبع من المثاني هي فاتحة الكتاب.

8. أخرج الطبري عن ابن جريج عن ابن مليكة قال ( وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي ) قال : فاتحة الكتاب ، وذكر فاتحة الكتاب لنبيّكم صلى الله عليه وآله وسلم لم تذكر لنبي قبله.

9. أخرج الطبري عن أبي هريرة ، عن أبيّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إلا أعلّمك سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها ، قلت : بلى.

قال : إنّي لأرجو أن لا تخرج من ذلك الباب حتّى تعلّمها ، فقام رسول الله

ص : 208


1- تفسير الطبري : 14 / 38.

صلى الله عليه وآله وسلم وقمت معه فجعل يحدثني ويده في يدي ، فجعلت أتباطأ كراهية أن يخرج قبل أن يخبرني بها ، فلمّا قرب من الباب قلت : يا رسول الله السورة التي وعدتني ، قال : كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟ قال : فقرأ فاتحة الكتاب ، قال : هي هي ، وهي السبع المثاني التي قال الله تعالى ( وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) الذي أعطيت. (1)

وأخرجه الحاكم في « المستدرك » وقال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. (2)

10. أخرج الطبري عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : هي أمّ القرآن وهي فاتحة الكتاب وهي السبع المثاني. (3)

11. أخرج الطبري عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فاتحة الكتاب ، قال : هي فاتحة الكتاب وهي السبع المثاني والقرآن العظيم. (4)

وأمّا القسم الثاني وهو ما يفسر السبع المثاني بفاتحة الكتاب ويجعل البسملة أوّل آية منها.

12. أخرج ابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والحاكم _ وصحّحه _ والبيهقي في سننه عن ابن عباس انّه سُئل عن السبع المثاني ، قال : فاتحة الكتاب استثناها الله لأمّة محمّد ، فرفعها في أمّ الكتاب ، فذخرها لهم حتى أخرجها ولم يعطها أحدا قبله ، قيل : فأين الآية السابعة؟ قال : بسم الله الرحمن الرحيم. (5)

13. أخرج الطبري عن سعيد بن جبير في قوله تعالى : ( وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً

ص : 209


1- تفسير الطبري : 14 / 40.
2- المستدرك : 2 / 258.
3- تفسير الطبري : 14 / 41.
4- تفسير الطبري : 14 / 41.
5- الدر المنثور : 5 / 94.

مِنَ الْمَثانِي ) قال : فاتحة الكتاب ، فقرأها على ست ، ثمّ قال : بسم الله الرحمن الرحيم ، الآية السابعة.

قال سعيد : وقرأها ابن عباس عليّ كما قرأها عليك ، ثمّ قال : الآية السابعة ، بسم الله الرحمن الرحيم. (1)

14. أخرج الطبري عن سعيد بن جبير ، قال : قال لي ابن عباس : فاستفتح ثمّ قرأ فاتحة الكتاب ثمّ قال : تدري ما هذا ( وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي ).

ولا شهادة في قوله : « فاستفتح ثمّ قرأ فاتحة الكتاب » على خروج البسملة من جوهرها ، وذلك لأنّ البسملة لما كانت موجودة في صدر عامة السور فأشار إلى البسملة بقوله : « فاستفتح » ثم أشار إلى سائر آياتها التي تتميز عن سائر السور بقوله : « ثمّ قرأ فاتحة الكتاب ».

وبما ذكرنا يفسر الحديث التالي :

15. أخرج الطبري عن أبي سعيد بن المعلى انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعاه وهو يصلّي فصلّى ثمّ أتاه فقال : ما منعك أن تجيبني ، قال : إنّي كنت أصلّي ، قال : ألم يقل الله ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ ) (2) ، قال : ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأعلمنك أعظم سورة في القرآن ، فكأنّه بيّنها أو نسي ، فقلت : يا رسول الله الذي قلت.

قال : الحمد لله ربّ العالمين ، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته. (3)

ص : 210


1- تفسير الطبري : 14 / 38.
2- الأنفال : 24.
3- تفسير الطبري : 14 / 41.

16. أخرج الدارقطني والبيهقي عن أبي هريرة « انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قرأ _ وهو يؤم الناس _ افتتح ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) قال أبو هريرة : آية من كتاب الله ، اقرءوا إن شئتم فاتحة الكتاب ، فإنّها الآية السابعة. (1)

17. أخرج الدارقطني والبيهقي في السنن بسند صحيح عن عبد خير ، قال : سئل علي رضي الله عنه عن السبع المثاني ، فقال ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) فقيل له : إنّما هي ست آيات! فقال ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) آية. (2)

18. أخرج ابن الأنباري في المصاحف عن أمّ سلمة قالت : قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) وقال : هي سبع يا أمّ سلمة. (3)

فاتحة الكتاب سبع آيات مع البسملة

إنّ فاتحة الكتاب آيات سبع إذا قلنا بكون التسمية جزءا منها ولذلك ترى أنّ المصاحف المعروفة تعد البسملة آية من سورة الفاتحة وإن كان يترك عدّها آية من سائر السور ، وعلى ذلك يكون عدد الآيات سبعا كالشكل التالي :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) ).

ص : 211


1- السنن الكبرى : 2 / 47 ؛ سنن الدارقطني : 1 / 305.
2- سنن الدارقطني : 1 / 311 ؛ السنن الكبرى : 2 / 45.
3- الدر المنثور : 1 / 12.

فترى أنّ كلّ آية جملة تامة ، وأمّا من لم يجعل التسمية من السبع فقد جعل ( صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) آية ، ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) آية أخرى ، ومعنى ذلك جعل المبدل منه آية والبدل آية أخرى ، وهذا ما لا يستسيغه الذوق السليم.

كما أنّ من حاول أن يجعل ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) آية ، ( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) آية أخرى فقد سلك مسلكا وعرا ، فإنّ الجملتين كسبيكة واحدة تنص على التوحيد في العبادة والاستعانة فما معنى الفصل بينهما.

هذا بعض ما وقفنا عليه من روايات أهل السنّة الدالة على أنّ البسملة جزء من الفاتحة ، ويدلّ عليه أيضا أمران آخران :

1. ما سيمرّ عليك من أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا يجهرون بالبسملة.

2. ما يدلّ على أنّ البسملة جزء من كلّ سورة.

غير انّه رعاية لنظام البحث فصلنا ما يدلّ على الجهر بالبسملة في قراءة الفاتحة عن ذكر البسملة ، كما فصلنا ما يدلّ على أنّ البسملة جزء من كلّ سورة.

روايات أئمّة أهل البيت عليهم السلام

أمّا ما روي عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام فحدّث عنه ولا حرج ، ولنذكر بعض ما روي عنهم عليهم السلام :

1. أخرج الشيخ في « التهذيب » عن محمد بن مسلم قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن السبع المثاني والقرآن العظيم ، أهي الفاتحة؟ قال : « نعم » ، قلت ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) من السبع؟ قال : نعم ، هي أفضلهن. (1)

ص : 212


1- التهذيب : 2 / 289 ، برقم 1157.

2. أخرج الشيخ في « التهذيب » عن عبد الله بن يحيى الكاهلي ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، عن أبيه قال : « ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) أقرب إلى اسم الله الأعظم من ناظر العين إلى بياضها ». (1)

3. أخرج الكليني عن معاوية بن عمّار ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : إذا قمت للصلاة أقرأ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) في فاتحة الكتاب؟ قال : « نعم ». (2)

4. أخرج الصدوق في « عيون الأخبار » عن الحسن بن علي العسكري عليه السلام ، قال : قيل لأمير المؤمنين عليه السلام أخبرنا عن ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ، أهي من فاتحة الكتاب؟ قال : « نعم ، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأها ويعدها آية ، ويقول : فاتحة الكتاب هي السبع المثاني ». (3)

إلى غير ذلك ممّا ورد عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام في جزئيّة البسملة من الفاتحة.

ويؤيّد ذلك أنّ المأثور المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله : « كلّ أمر ذي بال لا يبدأ ببسم الله أقطع ، وكلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر أو أجذم ». (4)

ومن المعلوم أنّ القرآن أفضل ما أوحاه الله تعالى إلى أنبيائه ورسله وانّ كلّ سورة منه ذات بال وعظمة تحدّى الله بها البشر فعجزوا عن أن يأتوا بمثلها ، فهل يمكن أن يكون القرآن أقطع؟ تعالى الله وتعالى فرقانه الحكيم وتعالت سوره عن ذلك علوّا كبيرا.

ص : 213


1- التهذيب : 2 / 289 ، برقم 1159.
2- الكافي : 3 / 312 ، الحديث 1.
3- عيون أخبار الرضا : 2 / 11.
4- التفسير الكبير : 1 / 198.

والصلاة هي الفلاح وهي خير العمل كما ينادى به في أعلى المنائر والمنابر ويعرفه البادي والحاضر ، لا يوازنها ولا يكايلها شيء بعد الإيمان بالله تعالى وكتبه ورسله واليوم الآخر ، فهل يجوز أن يشرعها الله تعالى بتراء جذماء؟! انّ هذا لا يجرأ على القول به برّ ولا فاجر ، لكن الأئمّة البررة مالكا والأوزاعي وأبا حنيفة رضي الله عنهم ذهلوا عن هذه اللوازم ، وكلّ مجتهد في الاستنباط من الأدلّة الشرعية معذور ومأجور إن أصاب وإن أخطأ. (1)

ص : 214


1- مسائل فقهية : 28 _ 29.
4. التسمية ولزوم الجهر بها
اشارة

قد أثبت البحث السالف الذكر انّ التسمية جزء من فاتحة الكتاب ومن صميمها ، فلا تتم السورة إلاّ بقراءتها ، وأمّا الجهر بها فحكمه كحكم سائر أجزاء السورة ، فلو كانت الصلاة من الصلوات الجهرية يجب الجهر بها ما لم يدلّ دليل على جواز المخافتة ، مضافا إلى أنّه قد تضافرت الروايات على لزوم الجهر بها ، ويستفاد ذلك من الروايات التالية :

1. أخرج الحاكم عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. (1)

2. أخرج الحاكم عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جهر ببسم الله الرحمن الرحيم. وقال : رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات ، وأقرّه على ذلك الذهبي في تلخيصه. (2)

3. أخرج الحاكم في مستدركه عن محمد بن أبي السري العسقلاني ، قال : صليت خلف المعتمر بن سليمان ما ، لا أحصي صلاة الصبح والمغرب فكان يجهر

ص : 215


1- المستدرك : 1 / 232.
2- المستدرك : 1 / 232.

ببسم الله الرحمن الرحيم قبل فاتحة الكتاب وبعدها ، وسمعت المعتمر يقول : ما آلو أن اقتدي بصلاة أبي ، وقال أبي : ما آلو أن اقتدي بصلاة أنس بن مالك ، وقال أنس بن مالك : ما آلو أن اقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات ، وأقرّه على ذلك الذهبي في تلخيصه. (1)

4. أخرج الحاكم عن حميد الطويل ، عن أنس ، قال : صلّيت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلف أبي بكر وخلف عمر وخلف عثمان وخلف علي كلّهم كانوا يجهرون بقراءة ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ، ثمّ قال :

وقد بقي في الباب عن أمير المؤمنين عثمان وعلي ، وطلحة بن عبيد الله ، وجابر بن عبد الله ، وعبد الله بن عمر ، والحكم بن عمير الثمالي ، والنعمان بن بشير ، وسمرة بن جندب ، وبريدة الأسلمي ، وعائشة بنت الصديق كلّها مخرجة عندي في الباب ، تركتها إيثارا للتخفيف واختصرت منها ما يليق بهذا الباب ، وكذلك ذكرت في الباب من جهر ببسم الله الرحمن الرحيم من الصحابة والتابعين وأتباعهم. (2)

وبما انّ الكلام الأخير الذي يدّعي إطباق الأئمة على الجهر بالتسمية في الصلوات يخالف مذهب إمام الذهبي ، فغاظ غيظه وادّعى انّ نسبة الجهر إلى هؤلاء كذب محض ، ثمّ حلف على صدق مدّعاه مع أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : « البينة على المدّعي واليمين على المنكر » فمن يدّعي الكذب فعليه البيّنة لا الحلف ، وإلاّ ففي وسع كلّ من يرى الحديث مخالفا لهواه وللمذهب الذي نشأ عليه ، أن يحلف على كذبه.

ص : 216


1- . المستدرك : 1 / 232.
2- . المستدرك : 1 / 232.

5. ما رواه الإمام الشافعي في مسنده انّ معاوية قدم المدينة فصلّى بها ولم يقرأ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ، فاعترض عليه المهاجرون والأنصار بقولهم : يا معاوية سرقت منّا الصلاة ، أين ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ )؟!

وعلّق عليه الشافعي بقوله : فلو لا أنّ الجهر بالتسمية كان كالأمر المتقرر عند كلّ الصحابة من المهاجرين والأنصار ، وإلاّ لما قدروا على إظهار الإنكار عليه بسبب ترك التسمية.

6. وأخرجه الحاكم بنحو آخر وقال : إنّ أنس بن مالك قال : صلّى معاوية بالمدينة صلاة فجهر فيها بالقراءة فقرأ فيها ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) لأمّ القرآن ولم يقرأ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) للسورة التي بعدها حتّى قضى تلك القراءة ، فلمّا سلّم ناداه من سمع ذلك من المهاجرين والأنصار من كلّ مكان : أسرقت الصلاة أم نسيت؟! فلمّا صلّى بعد ذلك قرأ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) للسورة التي بعد أمّ القرآن وكبّر حين يهوي ساجدا.

قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم فقد احتج بعبد المجيد بن عبد العزيز وسائر الرواة متفق على عدالتهم ، وأقرّه على ذلك الذهبي في تلخيصه.

7. قال الرازي في تفسيره : أنّ البيهقي روى الجهر ب_ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) في سننه عن عمر بن الخطاب وابن عباس وابن عمر وابن الزبير ، ثمّ قال الرازي ما هذا لفظه : وأمّا انّ علي بن أبي طالب كان يجهر بالتسمية فقد ثبت بالتواتر ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى ، قال : والدليل عليه قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم أدر الحقّ مع علي حيث دار. (1)

ص : 217


1- التفسير الكبير : 1 / 204.

8. أخرج البزار والدارقطني والبيهقي في « شعب الإيمان » من طريق أبي الطفيل قال سمعت علي بن أبي طالب وعمار يقولان : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يجهر في المكتوبات ب_ « بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ » في فاتحة الكتاب. (1)

9. أخرج الدارقطني عن عائشة انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يجهر ب_ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ). (2)

10. أخرج الدارقطني عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله : « أمّني جبرئيل عليه السلام عند الكعبة فجهر ب_ « بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ». (3)

11. أخرج الدارقطني عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجهر ب_ « بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ » في السورتين جميعا. (4)

12. أخرج الدارقطني والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجهر ب_ « بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ » في الصلاة وزاد البيهقي : « فترك الناس ذلك ». (5)

13. أخرج الدارقطني عن عبد الله بن عمر قال : « صلّيت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر فكانوا يجهرون ب_ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ). (6)

14. أخرج الثعلبي عن علي بن زيد بن جدعان انّ العبادلة كانوا

ص : 218


1- سنن الدارقطني : 1 / 302 ؛ شعب الإيمان : 2 / 436 ؛ الحديث 2322 ، باب تعظيم القرآن ، الدر المنثور : 1 / 21 ، 22.
2- الدر المنثور : 1 / 23.
3- سنن الدارقطني : 1 / 309 ؛ الدر المنثور : 1 / 22.
4- سنن الدارقطني : 1 / 302 ؛ الدر المنثور : 1 / 22.
5- مستدرك الحاكم : 1 / 208 ؛ السنن الكبرى : 2 / 47 ؛ سنن الدارقطني : 1 / 306.
6- سنن الدارقطني : 1 / 305 ؛ الدر المنثور : 1 / 22.

يستفتحون القراءة ب_ « بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ » يجهرون بها : عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير. (1)

15. أخرج البيهقي عن الزهري قال : من سنّة الصلاة أن تقرأ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ، وانّ أوّل من أسرّ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) عمرو بن سعيد بن العاص بالمدينة وكان رجلا حييّا. (2)

16. أخرج الدارقطني عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علّمني جبرئيل الصلاة ، فقام فكبّر لنا ثمّ قرأ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) فيما يجهر ، في كلّ ركعة. (3)

17. أخرج الدارقطني عن الحكم بن عمير _ وكان بدريا _ قال : صلّيت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجهر في الصلاة ب_ « بسم الله » وصلاة الليل ، وصلاة الفجر وصلاة الجمعة. (4)

وقد احتجّ الرازي على لزوم الجهر بالتسمية في الصلوات الجهرية بما أوعزنا إليه في صدر البحث من أنّ حكم جزء السورة كحكم كلّها ولا يصحّ التبعيض بين الكل والجزء إلاّ بدليل قاطع ، وقد ذكره الرازي باللفظ التالي :

قد دللنا على أنّ التسمية آية من الفاتحة ، وإذا ثبت هذا فنقول : الاستقراء دلّ على أنّ السورة الواحدة إمّا أن تكون بتمامها سرية أو جهرية ، فأمّا أن يكون بعضها سريا وبعضها جهريا فهذا مفقود في جميع السور ، وإذا ثبت هذا كان الجهر بالتسمية مشروعا في القراءة الجهرية. (5)

ص : 219


1- الدر المنثور : 1 / 21.
2- الدر المنثور : 1 / 21.
3- سنن الدارقطني : 1 / 305 ؛ الدر المنثور : 1 / 20 ، 21.
4- سنن الدارقطني : 1 / 308 ؛ الدر المنثور : 1 / 22 ، 23.
5- التفسير الكبير : 1 / 204.
أئمّة أهل البيت عليهم السلام والجهر بالبسملة

تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام على الجهر بالبسملة ، وكانت سيرة الإمام علي عليه السلام والأئمّة عليهم السلام بعده على الجهر بها ، نقتطف شيئا ممّا أثر عنهم :

18. أخرج الشيخ أبو الفتوح الرازي في تفسيره بإسناده إلى الرضا ، عن أبيه ، عن الصادق عليه السلام قال : « اجتمع آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم على الجهر ب_ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ». (1)

19. أخرج علي بن إبراهيم في تفسيره بإسناده عن ابن أذينة قال : قال أبو عبد الله عليه السلام ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) أحقّ ما جهر به وهي الآية التي قال الله عزّ وجلّ ( وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً ) (2). (3)

20. أخرج الصدوق بإسناده عن الأعمش عن جعفر بن محمد عليهما السلام انّه قال : « والإجهار ب_ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) في الصلاة واجب ». (4)

21. أخرج الصدوق بإسناده عن الفضل بن شاذان فيما كتبه الرضا للمأمون في بيان محض الإسلام جاء فيه : « والإجهار ب_ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) في جميع الصلوات سنّة ». (5)

22. وعن الرضا عليه السلام انّه كان يجهر ببسم الله الرّحمن الرحيم في جميع صلواته بالليل والنهار. (6)

ص : 220


1- روض الجنان : 1 / 50 ؛ مستدرك الوسائل : 4 / 189 رقم 4456.
2- الإسراء : 46.
3- تفسير القمّي : 1 / 28.
4- الخصال : 2 / 604 ، أبواب المائة فما فوقه ، رقم 9.
5- عيون أخبار الرضا : 2 / 122 ، الباب 35.
6- عيون أخبار الرضا : 2 / 181 ، الباب 44 رقم 5.

23. أخرج الكليني عن صفوان الجمّال قال : صلّيت خلف أبي عبد الله عليه السلام أيّاما ، فكان إذا كانت صلاة لا يجهر فيها ، جهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، وكان يجهر في السورتين. (1)

24. أخرج العياشي عن خالد المختار قال : سمعت جعفر بن محمد يقول : « ما لهم عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله فزعموا أنّها بدعة إذا أظهروها ، وهي ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ». (2)

25. أخرج الكليني عن يحيى بن أبي عمران الهمداني قال : كتبت إلى أبي جعفر [ الجواد ] عليه السلام : جعلت فداك ما تقول في رجل ابتدأ ببسم الله الرحمن الرحيم في صلاته وحده في أمّ الكتاب فلمّا صار إلى غير أمّ الكتاب من السورة تركها ، فقال العباسي : ليس بذلك بأس؟

فكتب بخطّه : « يعيدها _ مرّتين _ على رغم أنفه _ يعني العباسي _ ». (3)

ولعلّ فيما ذكر من الروايات غنى وكفاية ، لطالب الحقّ ورائد الحقيقة.

ص : 221


1- الكافي : 3 / 315 ، الحديث 20.
2- تفسير العياشي : 1 / 21 ، الحديث 16.
3- الكافي : 3 / 313 ، الحديث 2.
5. حجّة القائلين بعدم جزئية البسملة
وحكم الجهر بها

وقد تجلّت الحقيقة بأجلى مظاهرها وظهرت بأوضح الدلائل ، انّ البسملة جزء من الفاتحة وانّها يجهر بها في الصلوات الجهرية لزوما ، وهناك روايات غريبة بين ما يدلّ على أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إمّا تركها بتاتا أو لم يجهر بها ، لكن مضمون بعضها أوضح دليل على كذبها ووضعها نذكرها تباعا.

1. أخرج مسلم عن شعبة قال : سمعت قتادة يحدّث عن أنس قال : صلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ).

2. وأخرجه أيضا بسند آخر عن أنس بن مالك انّه قال : صلّيت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون ب_ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) لا يذكرون ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) في أوّل قراءة ولا في آخرها. (1)

يلاحظ عليه : بأنّه معارض بما أخرج الحاكم عن أنس بن مالك قال :

ص : 222


1- صحيح مسلم : 2 / 12 باب حجّة من قال لا يجهر بالبسملة.

سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جهر ب_ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ). (1)

فلأجل هذا التعارض لا يمكن الاعتماد عليه.

وقد كفانا الرازي في الإجابة عن الحديثين اللّذين هما العمدة في القول بالترك أو بالسرّ قال :

قال الشيخ أبو حامد الأسفرايني : روي عن أنس في هذا الباب ست روايات ، أمّا الحنفية فقد رووا عنه ثلاث روايات :

إحداها قوله : صلّيت خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وخلف أبي بكر وعمر وعثمان ، فكانوا يستفتحون الصلاة ب_ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ).

وثانيتها قوله : إنّهم ما كانوا يذكرون ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ).

وثالثتها قوله : لم أسمع أحدا منهم قال ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ، فهذه الروايات الثلاث تقوي قول الحنفية ، وثلاث أخرى تناقض قولهم :

إحداها : ما ذكرنا أنّ أنسا روى أنّ معاوية لمّا ترك ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) في الصلاة أنكر عليه المهاجرون والأنصار ، وقد بيّنا أنّ هذا يدلّ على أنّ الجهر بهذه الكلمات كالأمر المتواتر فيما بينهم.

وثانيتها : روى أبو قلابة عن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يجهرون ببسم الله الرّحمن الرحيم.

وثالثتها : أنّه سئل عن الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم والإسرار به فقال : لا أدري هذه المسألة.

فثبت أنّ الرواية عن أنس في هذه المسألة قد عظم فيها الخبط والاضطراب ، فبقيت متعارضة فوجب الرجوع إلى سائر الدلائل.

ص : 223


1- لاحظ ص 215 _ 216 ، الرواية 2 و 4.

قال الشافعي : لعلّ المراد من قول أنس كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستفتح الصلاة ب_ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) أنّه كان يقدّم هذه السورة في القراءة على غيرها من السور ، فقوله ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) المراد منه تمام هذه ، فجعل هذه اللفظة اسما لهذه السورة.

وأيضا ففيها نكتة أخرى ، وهي أنّ عليّا عليه السلام كان يبالغ في الجهر بالتسمية ، فلما وصلت الدولة إلى بني أميّة بالغوا في المنع من الجهر ، سعيا في إبطال آثار علي عليه السلام ، فلعلّ أنسا خاف منهم ، فلهذا السبب اضطربت أقواله فيه ، ونحن وإن شككنا في شيء فانّا لا نشكّ أنّه مهما وقع التعارض بين قول أنس وقول علي بن أبي طالب عليه السلام الذي بقي عليه طول عمرة ، فإنّ الأخذ بقول علي أولى ، فهذا جواب قاطع في المسألة.

3. أخرج ابن أبي شيبة والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي عن عبد الله بن مغفل قال : سمعني أبي وأنا أقرأ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) فقال : أي بني محدث؟ صلّيت خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر ، وعمر وعثمان ، فلم أسمع أحدا منهم جهر ببسم الله الرّحمن الرّحيم. (1)

وقد أجاب الرازي عن هذا الحديث بقوله : إنّ الجواب بوجوه :

الأوّل : أنّ راوي أخباركم أنس وابن المغفل ، وراوي قولنا علي بن أبي طالب عليه السلام وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة ، وهؤلاء كانوا أكثر علما وقربا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أنس وابن المغفل.

الثاني : أنّ من المعلوم بالضرورة أنّ النبي عليه السلام كان يقدّم الأكابر على

ص : 224


1- السنن للبيهقي : 2 / 522 ، الدر المنثور : 1 / 29.

الأصاغر ، والعلماء على غير العلماء ، والأشراف على الأعراب ، ولا شكّ أنّ عليا وابن عباس وابن عمر كانوا أعلى حالا في العلم والشرف وعلوّ الدرجة من أنس وابن المغفل ، والغاية على الظن أنّ عليا وابن عباس وابن عمر كانوا يقفون بالقرب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان أنس وابن المغفل يقفان بالبعد منه ، وأيضا أنّه عليه السلام ما كان يبالغ في الجهر امتثالا لقوله تعالى ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها ) (1) ، وأيضا فالإنسان أوّل ما يَشْرع في القراءة إنّما يَشْرع فيها بصوت ضعيف ثمّ لا يزال يقوى صوته ساعة فساعة ، فهذه أسباب ظاهرة في أن يكون علي وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة سمعوا الجهر بالتسمية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنّ أنسا وابن المغفل ما سمعاه.

الثالث : لعلّ المراد من عدم الجهر في حديث ابن المغفل عدم المبالغة في رفع الصوت ، كما قال تعالى ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها ).

الرابع : أنّ الدلائل العقلية موافقة لنا ، وعمل علي ابن أبي طالب عليه السلام معنا ، ومن اتّخذ عليا إماما لدينه ( فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى ) في دينه ونفسه.

4. ما روي عن أبي هريرة ، انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يقول الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فلما قال العبد ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) ، يقول الله تعالى : حمدني عبدي ، وإذا قال ( الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ، يقول الله تعالى : أثنى عليّ عبدي ، وإذا قال ( مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، يقول الله تعالى : مجّدني عبدي ، وإذا قال ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) يقول الله تعالى : هذا بيني وبين عبدي.

والاستدلال بهذا الخبر من وجهين :

الأوّل : انّه عليه الصلاة والسّلام لم يذكر التسمية ولو كانت آية من الفاتحة

ص : 225


1- الإسراء : 110.

لذكرها.

الثاني : انّه تعالى قال : جعلت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، والمراد من الصلاة ، الفاتحة ، وهذا التنصيف إنّما يحصل إذا قلنا بأنّ التسمية ليست آية من الفاتحة ، لأنّ الفاتحة سبع آيات ، فيجب أن يكون فيها لله ثلاث آيات ونصف ، وهي من قوله ( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) إلى قوله ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) وللعبد ثلاث آيات ونصف وهي من قوله ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) إلى آخر السورة.

أمّا إذا جعلنا ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) آية من الفاتحة حصل لله أربع آيات ونصف وللعبد آيتان (1) ونصف ، وذلك يبطل التنصيف المذكور. (2)

يلاحظ عليه أوّلا : بأنّه معارض بخبر ابن عباس مرفوعا وفيه : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي ، فإذا قال العبد ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ، قال الله تعالى :

دعاني عبدي إلى آخر الحديث ، وقد اشتملت الرواية على البسملة وليست في مرفوعة ابن عباس كلمة نصفين ، والتقسيم لا يستدعي المساواة من حيث العدد.

قال الرازي : إنّ لفظ النصف كما يحتمل النصف في عدد الآيات يحتمل النصف في المعنى ، قال عليه السلام : الفرائض نصف العلم ، وسمّاه بالنصف من حيث إنّه بحث عن أحوال الأموات والموت والحياة قسمان.

وثانيا : انّ أبا هريرة روى عن رسول الله الجهر ببسم الله الرّحمن الرّحيم وكان هو يجهر بها ويقول : إنّي لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد مرّ عليك حديثه في ذلك. (3)

ص : 226


1- كذا في المصدر والصحيح : ثلاث.
2- التفسير الكبير : 1 / 201.
3- انظر الحديث 12.

5. روت عائشة انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله ربّ العالمين ، وهذا يدلّ على أنّ التسمية ليست آية من الفاتحة.

يلاحظ عليه : أنّ عائشة جعلت الحمد لله ربّ العالمين اسما لهذه السورة ، كما يقال : قرأ فلان ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ ) والمراد انّه قرأ هذه السورة فكذا هاهنا.

أقول : ما أكثر التعبير عن مجموع السورة بالآية التي وردت في أوّلها فيقال : قرأ فلان سورة قل هو الله أحد أو قرأ سورة يسبح لله ما في السموات وما أشبه ذلك ، فيكون معنى الحديث انّه كان يفتتح الصلاة بالتكبير وبقراءة هذه السورة التي أوّلها ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ). إلخ. (1)

ما يزيّفه التأريخ الصحيح

6. أخرج الطبراني من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا قرأ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) هزأ منه المشركون وقالوا : محمد يذكر إله اليمامة ، وكان مسيلمة يتسمّى الرحمن ، فلمّا نزلت هذه الآية أمر رسول الله أن لا يجهر بها. (2)

وهو نفس ما أخرجه ابن داود عن سعيد بن جبير قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجهر ببسم الله الرّحمن الرّحيم ، وكان أهل مكة يسمّون مسيلمة « الرحمن » فقالوا : إنّ محمّدا يدعو إلى إله اليمامة ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإخفائها فما جهر بها حتّى مات. (3)

ص : 227


1- التفسير الكبير : 1 / 202.
2- المعجم الأوسط : 5 / 89 ؛ الدر المنثور : 1 / 29.
3- الدر المنثور : 1 / 29.

ولكن التأريخ يكذّب الرواية مهما صحّح سندها أو أرسلت إرسال المسلّم ، لأنّه ما علا أمر مسيلمة إلاّ في السنة العاشرة من الهجرة ، وأين هو من بدء الهجرة وصدر البعثة؟!

روى الطبري وغيره انّ مسيلمة وفد إلى النبي مع جماعة وأسلم ، ولمّا عاد إلى موطنه ادّعى النبوة ، والتفّ حوله عصابة من قومه تعصبا ، وقد نقل انّ واحدا من أتباعه سأل مسيلمة ذات مرة وقال : من يأتيك؟

قال مسيلمة : رحمان.

قال السائل : أفي نور أم في ظلمة؟

فأجاب : في ظلمة.

فقال السائل : أشهد أنّك كذّاب وانّ محمّدا صادق ، ولكنّ كذّاب ربيعة أحبّ إلينا من صادق مضر. (1)

قال شيخنا « معرفة » في موسوعته الروائيّة للتفسير : كانت العرب تعرف « الرحمن » وانّه ربّ العالمين ( وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ) (2) ، ( قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ ) (3) وقد خاطبهم الله سبحانه بهذا الوصف أزيد من خمسين موضعا ، فكيف يا تُرى أنكروا وصفه تعالى بهذا الوصف وزعم أنّه مستعار من وصف صاحب اليمامة؟!

وأمّا قوله سبحانه ( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً ) (4) ، فليس إنكارهم دليلا على عدم عرفانهم ، فان قولهم ( وَمَا الرَّحْمنُ ) مثل قول فرعون ( وَما رَبُّ الْعالَمِينَ ) استهزاء بموضع

ص : 228


1- تاريخ الطبري : 2 / 508.
2- الزخرف : 20.
3- يس : 15.
4- الفرقان : 60.

الكليم في دعوته إلى عبادة الله بما أنّه إله واحد لا شريك له.

7. أخرج ابن شيبة عن ابن عباس قال : الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قراءة الاعراب. (1)

بالله عليك هل كان الإمام علي عليه السلام الذي اشتهر بأنّه كان يجهر بها في صلواته عامة ، من الأعراب؟! وهل الإمام الشافعي ومن أخذ عنه أو أخذ منه ، الذين كانوا يجهرون بها في الصلوات الجهرية من الأعراب؟! ( فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ).

8. ونظيره ما أخرجه ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي قال : جهر الإمام ببسم الله الرحمن الرحيم بدعة. (2)

وقد كانت الأئمة الذين أخذ إبراهيم عنهم الفقه ، يجهرون بالتسمية فهل أخذ الفقه من المبدعة؟!

كلّ ذلك يشهد على أنّ عزو هذه الأقاويل إلى أئمّة الحديث والفقه ، كذب مفترى.

إلى هنا تمّ الكلام في الأمرين التاليين :

أ. انّ التسمية جزء من الفاتحة.

ب. انّ التسمية يجهر بها في الصلوات الجهرية.

ص : 229


1- مصنف ابن أبي شيبة : 1 / 441 ؛ الدر المنثور : 1 / 29.
2- المصنف : 1 / 448 ؛ الدر المنثور : 1 / 29 _ 30.
6. البسملة جزء من مفتتح كلّ سورة

قد أوقفك البحث السابق على أنّ التسمية جزء من الفاتحة ، وأنّه يجب الجهر بها في الصلوات الجهرية بلا ريب.

بقي الكلام في البحث الثالث وهو انّ التسمية جزء من مفتتح كلّ سورة إلاّ سورة التوبة ، ويدلّ على ذلك الأمور التالية :

الأوّل : انّ الصحابة كافة فالتابعين أجمعين فسائر تابعيهم وتابعي التابعين في كلّ خلف من هذه الأمّة منذ دوّن القرآن إلى يومنا هذا مجمعون إجماعا عمليا على كتابة البسملة في مفتتح كلّ سورة خلا براءة. كتبوها كما كتبوا غيرها من سائر الآيات بدون ميزة مع أنّهم كافة متصافقون على أن لا يكتبوا شيئا من غير القرآن إلاّ بميزة بيّنة حرصا منهم على أن لا يختلط فيه شيء من غيره ، ألا تراهم كيف ميّزوا عنه أسماء سورة ورموز أجزائه وأحزابه وأرباعه وأخماسه وأعشاره فوضعوها خارجة عن السور على وجه يعلم منه خروجها عن القرآن احتفاظا به واحتياطا عليه ، ولعلّك تعلم أنّ الأمّة قل ما اجتمعت بقضّها وقضيضها على أمر كاجتماعها على ذلك ، وهذا بمجرده دليل على أنّ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ آية

ص : 230

مستقلة في مفتتح كلّ سورة رسمها السلف والخلف في مفتتحها. (1)

الثاني : أخرج الحاكم عن ابن عباس انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا جاءه جبرئيل فقرأ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) علم أنّها سورة. هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه. (2)

الثالث : أخرج الحاكم عن ابن عباس ( رض ) قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم ختم السورة حتّى تنزل ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ). قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وأقرّه على صحّته الذهبي في تلخيص المستدرك. (3)

الرابع : أخرج الحاكم عن ابن عباس قال : كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة حتّى تنزل ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ، فإذا نزلت ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) علموا أنّ السورة قد انقضت. (4)

الخامس : روى ابن ضريس عن ابن عباس قال ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) آية. (5)

السادس : أخرج الواحدي عن عبد الله بن عمر قال : أنزلت ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) في كلّ سورة. (6)

ص : 231


1- مسائل فقهية : 28.
2- المستدرك : 1 / 231.
3- المستدرك : 1 / 231.
4- المستدرك : 1 / 232.
5- . الدر المنثور : 1 / 20.
6- . الدر المنثور : 1 / 20.

السابع : أخرج الطبراني في الأوسط والدارقطني والبيهقي عن نافع انّ ابن عمر كان إذا افتتح الصلاة يقرأ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) في أمّ القرآن وفي السورة التي تليها ويذكر انّه سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (1)

( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً

لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ). (2)

ص : 232


1- الدر المنثور : 1 / 22.
2- الأنعام : 115.

6. السجود على الأرض

اشارة

ص : 233

1. السجود على الأرض

مظهر ناصع من مظاهر العبودية

لعلّ من أوضح مظاهر العبودية والانقياد والتذلّل من قبل المخلوق لخالقه. هو السجود ، وبه يؤكّد المؤمن عبوديّته لله تعالى ، والبارئ عزّ اسمه يقدّر لعبده هذا التصاغر وهذه الطاعة فيضفي على الساجد فيض لطفه وعظيم إحسانه ، لذا روي في بعض المأثورات : « أقرب ما يكون العبد إلى ربّه حال سجوده ».

ولمّا كانت الصلاة من بين العبادات معراجا يتميّز بها المؤمن عن الكافر ، وكان السجود ركنا من أركانها ، لم يكن هناك أوضح في إعلان التذلّل لله تعالى من السجود على التراب والرمل والحجر والحصى ، لما فيه من تذلّل أوضح وأبين من السجود على الحصر والبواري ، فضلا عن السجود على الألبسة الفاخرة والفرش الوثيرة والذهب والفضّة ، وإن كان الكلّ سجودا ، إلاّ أنّ العبودية تتجلّى في الأوّل بما لا تتجلّى في غيره.

والإمامية ملتزمة بالسجدة على الأرض في حضرهم وسفرهم ، ولا يعدلون

ص : 234

عنها إلاّ إلى ما أنبت منها بشرط أن لا يؤكل ولا يلبس ، ولا يرون السجود على غير الأرض وما أنبت منها صحيحا في حال الصلاة أخذا بالسنّة المتواترة عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وصحبه. وسيظهر _ في ثنايا البحث _ أنّ الالتزام بالسجود على الأرض أو ما أنبتت ، كانت هي السنّة بين الصحابة ، وأنّ العدول عنها حدث في الأزمنة المتأخرة.

ص : 235

2. اختلاف الفقهاء في شرائط المسجود عليه

اتّفق المسلمون على وجوب السجود في الصلاة في كلّ ركعة مرّتين ، ولم يختلفوا في المسجود له ، فإنّه هو الله سبحانه الذي ( لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً ) (1) وشعار كلّ مسلم قوله سبحانه ( لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ ) (2) وإنّما اختلفوا في شروط المسجود عليه _ أعني : ما يضع الساجد جبهته عليه _ فالشيعة الإمامية تشترط كون المسجود عليه أرضا أو ما ينبت منها غير مأكول ولا ملبوس كالحصر والبواري ، وما أشبه ذلك. وخالفهم في ذلك غيرهم من المذاهب ، وإليك نقل الآراء :

قال الشيخ الطوسي (3) _ وهو يبيّن آراء الفقهاء _ : لا يجوز السجود إلاّ على الأرض أو ما أنبتته الأرض ممّا لا يؤكل ولا يلبس من قطن أو كتان مع الاختيار.

ص : 236


1- إشارة إلى قوله سبحانه ( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ) _ الرعد / 15.
2- فصلت : 37.
3- من أعلام الشيعة في القرن الخامس صاحب التصانيف والمؤلّفات ولد عام 385 ه وتوفّى عام 460 ه ، من تلاميذ الشيخ المفيد ( 336 _ 413 ه ) ، والسيّد الشريف المرتضى ( 355 _ 436 ه ) _ رضي الله عنهم.

وخالف فقهاء السنّة في ذلك حيث أجازوا السجود على القطن والكتان والشعر والصوف وغير ذلك _ إلى أن قال _ : لا يجوز السجود على شيء هو حامل له ككور العمامة ، وطرف الرداء ، وكمّ القميص ، وبه قال الشافعي ، وروي ذلك عن علي عليه السلام وابن عمر ، وعبادة بن الصامت ، ومالك ، وأحمد بن حنبل.

وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا سجد على ما هو حامل له كالثياب التي عليه ، أجزأه.

وإن سجد على ما لا ينفصل منه مثل أن يفترش يده ويسجد عليها أجزأه لكنّه مكروه ، وروي ذلك عن الحسن البصري (1).

وقال العلاّمة الحلّي (2) _ وهو يبيّن آراء الفقهاء فيما يسجد عليه _ : لا يجوز السجود على ما ليس بأرض ولا من نباتها كالجلود والصوف عند علمائنا أجمع ، وأطبق جمهور السنّة على الجواز. (3)

وقد اقتفت الشيعة في ذلك أثر أئمتهم الذين هم أعدال الكتاب وقرناؤه في حديث الثقلين ، ونحن نكتفي هنا بإيراد شيء ممّا روي عنهم في هذا الجانب :

روى الصدوق بإسناده عن هشام بن الحكم أنّه قال لأبي عبد الله عليه السلام : أخبرني عمّا يجوز السجود عليه ، وعمّا لا يجوز؟ قال : « السجود لا يجوز إلاّ على الأرض ، أو على ما أنبتت الأرض إلاّ ما أكل أو لبس ». فقال له : جعلت فداك ما العلّة في ذلك؟

قال : « لأنّ السجود خضوع لله عزّ وجلّ فلا ينبغي أن يكون على ما يؤكل

ص : 237


1- الخلاف : 1 / 357 _ 358 ، المسألة 112 _ 113 ، كتاب الصلاة.
2- الحسن بن يوسف بن المطهر الحلّي ( 648 _ 726 ه ) وهو زعيم الشيعة في أواخر القرن السابع والثامن ، لا يسمح الدهر بمثله إلاّ في فترات خاصة.
3- التذكرة : 2 / 434 ، المسألة 100.

ويلبس ، لأنّ أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون ، والساجد في سجوده ، في عبادة الله عزّ وجلّ ، فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغترّوا بغرورها ». (1)

وقال الصادق عليه السلام : « وكلّ شيء يكون غذاء الإنسان في مطعمه أو مشربه ، أو ملبسه ، فلا تجوز الصلاة عليه ، ولا السجود إلاّ ما كان من نبات الأرض من غير ثمر ، قبل أن يصير مغزولا ، فإذا صار غزلا فلا تجوز الصلاة عليه إلاّ في حال ضرورة ». (2)

فلا عتب على الشيعة إذا التزموا بالسجود على الأرض أو ما أنبتته إذا لم يكن مأكولا ولا ملبوسا اقتداء بأئمّتهم.

على أنّ ما رواه أهل السنّة في المقام ، يدعم نظريّة الشيعة ، وسيظهر لك فيما سيأتي من سرد الأحاديث من طرقهم ، ويتّضح أنّ السنّة كانت هي السجود على الأرض ، ثمّ جاءت الرخصة في الحصر والبواري فقط ، ولم يثبت الترخيص الثالث ، بل ثبت المنع عنه كما سيوافيك.

روى المحدث النوري في « المستدرك » عن « دعائم الإسلام » : عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن علي عليه السلام ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : « إنّ الأرض بكم برّة ، تتيمّمون منها ، وتصلّون عليها في الحياة ( الدنيا ) وهي لكم كفاة في الممات ، وذلك من نعمة الله ، له الحمد ، فأفضل ما يسجد عليه المصلّي الأرض النقيّة ». (3)

ص : 238


1- الوسائل : ج 3 ، الباب 1 من أبواب ما يسجد عليه ، الحديث 1 ، وهناك روايات بمضمونه. والكلّ يتضمّن أنّ الغاية من السجود التي هي التذلّل لا تحصل بالسجود على غير الأرض وما ينبت غير المأكول والملبوس فلاحظ.
2- الوسائل : 3 ، الباب 1 من أبواب ما يسجد عليه ، الحديث 11.
3- مستدرك الوسائل : 4 / 14 ، الباب 10 من أبواب ما يسجد عليه ، الحديث 1.

وروى أيضا عن جعفر بن محمد عليهما السلام أنّه قال : « ينبغي للمصلّي أن يباشر بجبهته الأرض ، ويعفّر وجهه في التراب ، لأنّه من التذلّل لله ». (1)

وقال عبد الوهاب بن أحمد بن علي الأنصاري المصري المعروف بالشعراني ( من أعيان القرن العاشر الهجري ) _ ما هذا نصّه _ : المقصود إظهار الخضوع بالرأس حتى يمسّ الأرض بوجهه الذي هو أشرف أعضائه ، سواء كان ذلك بالجبهة أو الأنف ، بل ربّما كان الأنف عند بعضهم أولى بالوضع من حيث إنّه مأخوذ من الأنفة والكبرياء ، فإذا وضعه على الأرض ، فكأنّه خرج عن الكبرياء التي عنده بين يدي الله تعالى ، إذ الحضرة الإلهية محرّم دخولها على من فيه أدنى ذرة من كبر فإنّها هي الجنة الكبرى حقيقة ، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : « لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ». (2)

نقل الإمام محمد بن محمد بن سليمان المغربي المالكي الروداني ( المتوفّى 1049 ه ) : عن ابن عباس رفعه : من لم يلزق أنفه مع جبهته بالأرض إذا سجد لم تجز صلاته. (3)

كما أنّ أصل العمل العبادي أمر توقيفي فكذلك شرائطه وأحكامه هي الأخرى التي يجب أن توضح وتبيّن من جانب مبيّن الشريعة ومبلّغها ونعني به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنّه صلى الله عليه وآله وسلم هو الاسوة بنصّ القرآن الكريم والمبين للكتاب العزيز وعلى المسلمين جميعا أن يتعلموا منه أحكام دينهم وتفاصيل شريعتهم وقد قال سبحانه :

ص : 239


1- مستدرك الوسائل : 4 / 14 ، الباب 10 من أبواب ما يسجد عليه ، الحديث 2.
2- اليواقيت والجواهر في عقائد الأكابر : 1 / 164. الطبعة الأولى.
3- جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد : 1 / 214 برقم 1515.

( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً ). (1)

( وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ). (2)

إنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مبيّن للشريعة بنصّ من القرآن الكريم ، وأئمّة أهل البيت _ حسب تنصيص النبي _ أعدال الكتاب وقرناؤه ، حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّي تارك فيكم ما ان تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما. (3)

فلا محيص عن الاهتداء بهديهم ، والاقتداء بهم وسوف يوافيك أنّهم كانوا ملتزمين بالسجود على الأرض أو ما أتيت منها.

ص : 240


1- الأحزاب : 21.
2- الحشر : 2.
3- سنن الترمذي : 5 / 328 ، رقم 874 ط دار الفكر وغيرها من المصادر المتوفرة.

3. الفرق بين المسجود له والمسجود عليه

كثيرا ما يتصوّر أنّ الالتزام بالسجود على الأرض أو ما أنبتت منها بدعة وتتخيّل التربة المسجود عليها وثنا ، وهؤلاء ، هم الذين لا يفرّقون بين المسجود له ، والمسجود عليه ، ويزعمون أنّ الحجر أو التربة الموضوعة أمام المصلّي وثن يعبده المصلّي بوضع الجبهة عليه. ولكن لا عتب على الشيعة إذا قصر فهم المخالف ، ولم يفرّق بين الأمرين ، وزعم المسجود عليه مسجودا له ، وقاس أمر الموحّد بأمر المشرك بحجّة المشاركة في الظاهر ، فأخذ بالصور والظواهر ، مع أنّ الملاك هو الأخذ بالبواطن والضمائر ، فالوثن عند الوثني معبود ومسجود له ، يضعه أمامه ويركع ويسجد له ، ولكن الموحّد الذي يريد إظهار العبودية إلى نهاية مراتبها ، يخضع لله سبحانه ويسجد له ، ويضع جبهته ووجهه على التراب والحجر والرمال والحصى ، مظهرا بذلك مساواته معها عند التقييم قائلاً : أين التراب وربّ الأرباب؟

نعم : الساجد على التربة غير عابد لها ، بل يتذلّل إلى ربّه بالسجود عليها ، ومن توهّم عكس ذلك فهو من البلاهة بمكان ، وسيؤدي إلى إرباك كلّ المصلين

ص : 241

والحكم بشركهم ، فمن يسجد على الفرش والقماش وغيره لا بدّ أن يكون عابدا لها على هذا المنوال فيا للعجب العجاب!!

روى الآمدي عن علي أمير المؤمنين عليه السلام انّه قال : السجود الجسماني : وضع عتائق الوجوه على التراب. (1)

روى الصدوق عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام قولهم : « الصلاة إقرار بالربوبية لله عزّ وجلّ ،. ووضع الوجه على الأرض كلّ يوم إعظام لله جلّ جلاله ».

كما أنّ وضع الذقن على الأرض تذلّل لله سبحانه قال تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً ) (2). (3)

ص : 242


1- غرر الحكم ودرر الكلم : 1 / 107 برقم 2234.
2- الإسراء : 107.
3- الفقيه : 1 / 215 ، الحديث 645.

4. السجدة في اللغة

اشارة

لا شكّ انّ السجود من فرائض الصلاة ، وقد روى الفريقان عن ابن عباس ( رض ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أمرت أن أسجد على سبعة أعظم : على الجبهة واليدين والركبتين وأطراف القدمين. (1)

ومع ذلك فإنّ حقيقة السجدة وواقعها ومقومها هو وضع الجبهة على الأرض ، وأمّا الباقون فأشبه بالشرائط ويدلّ على ذلك قول أصحاب المعاجم حيث لا يذكرون في تعريف السجدة إلاّ وضع الجبهة على الأرض فكأنّ غيرها من شرائط السجدة التي فرضها الشارع وأضافها إلى حقيقتها اللغوية والعرفية.

قال ابن منظور ناقلا عن ابن سيده : سجد يسجد سجودا : وضع جبهته بالأرض ، وقوم سجد وسجود. (2)

وقال ابن الأثير : سجود الصلاة ، وهو وضع الجبهة على الأرض ، ولا خضوع أعظم منه. (3)

ص : 243


1- أخرجه الشيخان البخاري في صحيحه : 1 / 206 ومسلم في صحيحه : 1 / 354.
2- لسان العرب : 6 ، مادة سجد.
3- النهاية : 2 ، مادة سجد.

وفي « تاج العروس من جواهر القاموس » : سجد : خضع ، ومنه سجود الصلاة وهو وضع الجبهة على الأرض ، ولا خضوع أعظم منه ، والاسم ، السجدة ( بالكسر ). (1)

وهذه الكلمات من أصحاب المعاجم ونظائرها المبثوثة في كتب اللغة ، تعرب عن أنّ حقيقة السجدة وواقعها ومقومها هو وضع الجبهة على الأرض ، ولو لا انّ النبي فرض السجود على سبعة أعظم لكفى وضع الجبهة على الأرض ، ولكنّه صلى الله عليه وآله وسلم أضاف إلى الوضع أمورا أخرى ، فصار الواجب السجود على سبعة أعظم.

فإذا كان كذلك فلا غرو في أن يختص وضع الجبهة بشرط خاص دون سائر الأعضاء ، ( هو اشتراط كون المسجود عليه هو الأرض أو ما ينبت منها ) ولا يجوز السجود على غيرها دون سائر الأعضاء.

سرّ كشف الجبهة في السجدة

والذي يعرب عن ذلك انّ معظم فقهاء السنّة ذهبوا إلى لزوم كشف الجبهة دون سائر الأعضاء ، فلو كان لسائر الأعضاء دور في حقيقة السجدة كالجبهة ، لكان حكمها حكم الجبهة مع أنّ الواقع خلافه.

1. ففي مختصر أبي القاسم الخرقي وشرحه : « ولا تجب عليه مباشرة المصلّي بشيء منها إلاّ الجبهة على إحدى الروايتين » ، وفي رواية أخرى انّه يجب عليه مباشرة المصلّي بالجبهة ذكرها أبو الخطاب وروى الأثرم قال : سألت أبا عبد الله عن السجود على كور العمامة فقال : لا يسجد على كورها ولكن يحسر (2) العمامة. وهو

ص : 244


1- تاج العروس : 8 ، مادة سجد.
2- في المصدر : يحصر ( بالصاد ).

مذهب الشافعي.

لما روى خباب قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرّ الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا _ إلى أن قال : _ وعن علي ( رض ) قال : إذا كان أحدكم يصلي فليحسر العمامة عن جبهته ، رواه البيهقي. (1)

2. وفي « الوجيز » : يجب كشف الجبهة في السجود لما روي عن خباب ، قال :

شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرّ الرمضاء في جباهنا وأكفّنا فلم يشكنا ، أي لم يزل شكوانا.

وقال في شرحه : ولا يجب كشف الجميع من ( الجبهة ) بل يكفي ما يقع عليه الاسم كما في الوضع ، ويجب أن يكون المكشوف من الموضوع على الأرض ، فلو كشف شيئا ووضع غيره لم يجز ، وإنّما يحصل الكشف إذا لم يكن بينه وبين موضع السجود حائل متصل به يرتفع بارتفاعه ، فلو سجد على طرفه أو كور عمامته لم يجز ، لأنّه لم يباشر بجبهته موضع السجود.

لنا حديث خباب ، وأيضا روي أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال : الزق جبهتك بالأرض. (2)

3. وقال ابن رشد : اختلفوا أيضا هل من شرط السجود أن تكون يد الساجد بارزة ( مكشوفة ) وموضوعة على الذي يوضع عليه الوجه ، أم ليس ذلك من شرطه؟

وقال مالك : ذلك من شرط السجود أحسبه شرط تمامه. (3)

وقال جماعة : ليس ذلك من شرط السجود.

ومن هذا الباب : اختلافهم في السجود على طاقات العمامة وللناس فيه

ص : 245


1- الشرح الكبير على متن الخرقي : 1 / 557 _ 558 على هامش المغني.
2- العزيز ، شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير : 1 / 521.
3- ومعنى ذلك انّه ليس شرطا للصحة بل شرط للكمال.

ثلاثة مذاهب :

قول بالمنع ، وقول بالجواز ، وقول بالفرق بين أن يسجد على طاقات يسيرة من العمامة أو كثيرة ، وقول بالفرق بين أن يمس من جبهته الأرض شيء أو لا يمس منها. (1)

4. وقال القفال : فإن كان على جبهته عصابة لعلة بها فسجد عليها أجزأ ولا إعادة عليه ، ومن أصحابنا خرّج فيه قولا آخر في وجوب الإعادة من المسح على الجبيرة. (2)

5. وفي « الفقه على المذاهب الأربعة » : الشافعية _ قالوا : يضر السجود على كور العمامة ونحوها كالعصابة إذا ستر كلّ الجبهة ، فلو لم يسجد على جبهته المكشوفة بطلت صلاته إن كان عامدا عالما إلاّ لعذر كأن كان به جراحة وخاف من نزع العصابة حصول مشقة شديدة ، فإنّ سجوده عليها في هذه الحالة صحيح. (3)

الظاهر انّ سرّ لزوم كشف الجبهة لأجل إلصاق الجبهة المكشوفة بالصعيد حتّى يبلغ المصلّي منتهى الخضوع والعبودية.

غير انّ هؤلاء خصّوا كشف الجبهة بعدم وجود حاجز عليها يمنعها من السجود ككور العمامة وطاقاتها والعصابة وبالرغم من ذلك فقد سوغوا السجدة على السجاد والفرش.

وبذلك أبطلوا سرّ لزوم كشف الجبهة وفائدته.

ص : 246


1- بداية المجتهد : 1 / 139.
2- حلية العلماء في معرفة مذهب الفقهاء : 122.
3- الفقه على المذاهب الأربعة : 1 / 233.

فعندئذ يتوجه إليهم السؤال التالي :

إذا كانت السجدة على الفرش والسجاد جائزة ، فأي فرق بين السجود عليها والسجود على العصابة وكور العمامة؟! فإنّ التفريق بين الأمرين أمر غريب ، فإنّ العصابة أو العمامة منسوج كالفرش والسجاد ، وكون العمامة وأجزائها ممّا يحمله المصلّي دون الفرش والسجاد لا يوجب الفرق بعد اشتراكهما في تحقّق السجدة على زعمهم. وهذا بخلاف ما إذا قلنا بأنّ سرّ الكشف هو لصوق الجبهة بالصعيد ، فعندئذ لا يكون أي فرق بين العصابة والسجاد.

وإلى ذلك ذهب علماؤنا أجمع ، قال العلاّمة : يجب إبراز الجبهة للسجود ، على ما يصحّ عليه السجود. (1)

ص : 247


1- منتهى المطلب : 5 / 154.

5. السجود

في عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبعده

إنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وصحبه كانوا ملتزمين بالسجود على الأرض مدّة لا يستهان بها ، متحمّلين شدّة الرمضاء ، وغبار التراب ، ورطوبة الطين ، طيلة أعوام. ولم يسجد أحد يوم ذاك على الثوب وكور العمامة بل ولا على الحصر والبواري والخمر ، ولا على الفرش والسجاد ، وأقصى ما كان عندهم لرفع الأذى عن الجبهة ، هو تبريد الحصى بأكفّهم ثمّ السجود عليها ، وقد شكا بعضهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من شدّة الحرّ ، فلم يجبه ، إذ لم يكن له صلى الله عليه وآله وسلم أن يبدّل الأمر الإلهي من تلقاء نفسه ، إلى أن وردت الرخصة بالسجود على الخمر والحصر ، فوسّع الأمر للمسلمين لكن في إطار محدود ، وعلى ضوء هذا فقد مرّت في ذلك الوقت على المسلمين مراحل ثلاث لا غير :

1. ما كان الواجب فيها على المسلمين السجود على الأرض بأنواعها المختلفة من التراب والرمل والحصى والطين ، ولم تكن هناك أيّة رخصة لغيرها.

2. المرحلة التي ورد فيها الرخصة بالسجود على نبات الأرض من الحصر

ص : 248

والبواري والخمر ، تسهيلا للأمر ، ورفعا للحرج والمشقّة.

3. المرحلة التي رخّص فيها السجود على الثياب اضطرارا وفي حال الضرورة.

وإليك البيان :

المرحلة الأولى: السجود على الأرض
اشارة

1. روى الفريقان عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ». (1)

والمتبادر من الحديث أنّ كلّ جزء من الأرض مسجد وطهور يسجد عليه ويقصد للتيمّم ، وعلى ذلك فالأرض تقصد للجهتين : للسجود تارة ، وللتيمّم أخرى.

إنّ هذا الحديث يثبت بجلاء انّ وجه الأرض ، ترابا كان أو صخرا أو حصى هو الأصل في السجود وهو الذي يجب أن يتخذ موضعا للسجود ولا يجوز التعدي عن ذلك إلاّ بدليل آخر.

وأمّا تفسير الرواية بأنّ العبادة والسجود لله سبحانه لا يختص بمكان دون مكان ، بل الأرض كلّها مسجد للمسلمين بخلاف غيرهم حيث خصّوا العبادة بالبيع والكنائس ، فليس هذا المعنى مغايرا لما ذكرناه ، فإنّه إذا كانت الأرض على وجه الإطلاق مسجدا للمصلّي فيكون لازمه كون الأرض كلّها صالحة للعبادة ، فما

ص : 249


1- صحيح البخاري : 1 / 91 كتاب التيمّم الحديث 2 ، سنن البيهقي : 2 / 433 ، باب : أينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد ، ورواه غيرهما من أصحاب الصحاح والسنن.

ذكر معنى التزامي لما ذكرناه ، ويعرب عن كونه المراد ذكر « طهورا » بعد « مسجدا » وجعلهما مفعولين ل_ « جعلت » والنتيجة هي توصيف الأرض بوصفين : كونها مسجدا وكونها طهورا ، وهذا هو الذي فهمه الجصاص وقال : إنّ ما جعله من الأرض مسجدا ، هو الذي جعله طهورا. (1)

ومثله غيره من شرّاح الحديث.

فإذا كانت التربة والحصى طهورا فهي أيضا مسجود عليه للمصلّي.

فالحصر حجّة إلى أن يدلّ دليل على الخروج عنه.

تبريد الحصى للسجود عليها

2. عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : كنت أصلّي مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الظهر ، فآخذ قبضة من الحصى ، فأجعلها في كفّي ثمّ أحوّلها إلى الكف الأخرى حتى تبرد ثمّ أضعها لجبيني ، حتّى أسجد عليها من شدّة الحرّ. (2)

وعلّق عليه البيهقي بقوله : قال الشيخ : ولو جاز السجود على ثوب متّصل به لكان ذلك أسهل من تبريد الحصى بالكف ووضعها للسجود. (3)

ونحن نقول : ولو كان السجود على مطلق الثياب سواء كان متصلا أم منفصلا جائزا ، لكان أسهل من تبريد الحصى ، ولأمكن حمل منديل أو سجّادة أو ما شابه للسجود عليه.

ص : 250


1- أحكام القرآن : 2 / 389 ، نشر بيروت.
2- مسند أحمد : 3 / 327 من حديث جابر ، سنن البيهقي : 1 / 439 باب ما روي في التعجيل بها في شدّة الحرّ.
3- سنن البيهقي : 2 / 105.

3. روى أنس قال : كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شدّة الحرّ ، فيأخذ أحدنا الحصباء في يده فإذا برد وضعه وسجد عليه (1).

4. عن خباب بن الأرت قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شدّة الرمضاء في جباهنا وأكفّنا فلم يشكنا. (2)

قال ابن الأثير في معنى الحديث : إنّهم لمّا شكوا إليه ما يجدون من ذلك ، لم يفسح لهم أن يسجدوا على طرف ثيابهم. (3)

هذه المأثورات تعرب عن أنّ السنّة في الصلاة كانت جارية على السجود على الأرض فقط ، حتّى أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يفسح للمسلمين العدول عنها إلى الثياب المتّصلة أو المنسوجات المنفصلة ، وهو صلى الله عليه وآله وسلم مع كونه بالمؤمنين رءوفا رحيما أوجب عليهم مسّ جباههم الأرض ، وإن آذتهم شدّة الحرّ.

والذي يعرب عن التزام المسلمين بالسجود على الأرض ، وعن إصرار النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بوضع الجبهة عليها لا على الثياب المتّصلة ككور العمامة أو المنفصلة كالمناديل والسجاجيد ، ما روي من حديث الأمر بالتتريب في غير واحدة من الروايات ، وإليك البيان.

الأمر بالتتريب

5. عن خالد الجهني : قال : رأى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صهيبا يسجد كأنّه يتّقي التراب فقال له : « ترّب وجهك يا صهيب ». (4)

ص : 251


1- السنن الكبرى : 2 / 106.
2- سنن البيهقي : 2 / 105 ، باب الكشف عن الجبهة.
3- النهاية : 2 / 497 ، مادة « شكا ».
4- كنز العمال : 7 / 465 برقم 19810.

والظاهر أنّ صهيبا كان يتّقي عن التتريب ، بالسجود على الثوب المتّصل والمنفصل ، ولا أقل بالسجود على الحصر والبواري والأحجار الصافية ، وعلى كلّ تقدير ، فالحديث شاهد على أفضليّة السجود على التراب في مقابل السجود على الحصى لما مرّ من جواز السجدة على الحصى في مقابل السجود على غير الأرض.

6. روت أمّ سلمة : رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم غلاما لنا يقال له « أفلح » ينفخ إذا سجد ، فقال : « يا أفلح ترّب ». (1)

7. وفي رواية : « يا رباح ترّب وجهك ». (2)

8. روى أبو صالح قال : دخلت على أمّ سلمة ، فدخل عليها ابن أخ لها فصلّى في بيتها ركعتين ، فلمّا سجد نفخ التراب ، فقالت أمّ سلمة : ابن أخي لا تنفخ ، فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لغلام له يقال له يسار _ ونفخ _ : « ترّب وجهك لله ». (3)

الأمر بحسر العمامة عن الجبهة

9. روي : أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا سجد رفع العمامة عن جبهته. (4)

10. روي عن علي أمير المؤمنين أنّه قال : « إذا كان أحدكم يصلّي فليحسر العمامة عن وجهه » ، يعني حتّى لا يسجد على كور العمامة. (5)

ص : 252


1- المصدر نفسه : 7 / 459 برقم 19776.
2- المصدر نفسه : 7 / 459 برقم 19777.
3- المصدر نفسه : 7 / 465 ، برقم 19810 ، مسند أحمد : 6 / 301.
4- الطبقات الكبرى : 1 / 151 ، كما في السجود على الأرض : 41.
5- منتخب كنز العمال المطبوع في هامش المسند : 3 / 194.

11. روى صالح بن حيوان السبائي : أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا يسجد بجنبه وقد اعتمّ على جبهته فحسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن جبهته. (1)

12. عن عياض بن عبد الله القرشي : رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلا يسجد على كور عمامته فأومأ بيده : « ارفع عمامتك » وأومأ إلى جبهته. (2)

هذه الروايات تكشف عن أنّه لم يكن للمسلمين يوم ذاك تكليف إلاّ السجود على الأرض ، ولم يكن هناك أي رخصة سوى تبريد الحصى ، ولو كان هناك ترخيص لما فعلوا ذلك ، ولما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتتريب ، ولما حسر العمامة عن الجبهة.

سيرة النبي في السجود

يظهر من غير واحد من الروايات انّ النبي كان يهتم بالسجود على الأرض وإليك نماذج من هذا :

1. يقول وائل بن حجر : « رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا سجد وضع جبهته وأنفه على الأرض ». (3)

2. يقول ابن عباس : انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم سجد على الحجر. (4)

3. روي عن عائشة : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متقيا وجهه بشيء ». (5)

قال ابن حجر : وفي الحديث إشارة إلى أنّ مباشرة الأرض عند السجود هو

ص : 253


1- السنن الكبرى : 2 / 105.
2- المصدر نفسه.
3- أحكام القرآن : 3 / 36 ؛ مسند أحمد : 315 ، 317.
4- السنن للبيهقي : 2 / 102.
5- المصنف : 1 / 397 وكنز العمال : 4 / 212.

الأصل ، لأنّه علق بعدم الاستطاعة. (1)

وهذا الحديث يعرب عن جواز السجود على الثياب عند الضرورة وعدم جوازه في حال الاختيار ، وهذا هو المروي عن أئمّة أهل البيت.

فعن عيينة بباع القصب قال : قلت لأبي عبد الله أدخل في المسجد في اليوم الشديد الحرّ فأكره أنّ أصلي على الحصى فأبسط ثوبي فأسجد عليه ، قال : نعم ليس به بأس. (2)

وعن القاسم بن الفضيل قال : قلت للرضا عليه السلام : جعلت فداك الرجل يسجد على كمه من أذى الحرّ والبرد ، قال : لا بأس به. (3)

* * *

إنّ هناك أحاديث وروايات تعرب عن أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يسجد على الطين والأرض في البرد القارص ، وكان يصلي في كساء يتقي به برد الأرض بيده ورجله دون جبهته ، وإليك ما يدلّ على ذلك.

1. عن وائل بن حجر رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي في كساء أبيض في غداة باردة يتقي بالكساء برد الأرض بيده ورجله. (4)

2. عن ثابت بن صامت انّ رسول الله صلّى في بني عبد الأشهل وعليه كساء متلفف به يضع يديه عليه يقي برد الحصى. (5)

ص : 254


1- فتح الباري : 1 / 414.
2- الوسائل : 3 ، الباب 4 من أبواب ما يسجد عليه ، الحديث 1.
3- الوسائل : 3 ، الباب 4 من أبواب ما يسجد عليه ، الحديث 2.
4- السنن الكبرى : 2 / 106.
5- سنن ابن ماجة : 1 / 329.

3. عن أبي هريرة قال : سجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم مطير حتّى أنّي لأنظر إلى أثر ذلك في جبهته وأرنبته. (1)

هذه الروايات ونظائرها تعرب عن عمل النبي في سجدته في يوم مطير والبرد وانّه كان يسجد تارة على الطين ولم يقي وجهه بشيء ، وأخرى وقى يديه من دون تعرض للوجه مع أنّ تدقيق الرواة في بيان عمل النبي في اتقاء يديه بالكساء عن البرد والطين وتركهم ذكر الجبهة يكشف عن أنّه لم يبق وجهه بشيء وإلاّ لذكره الرواة ولم يغفلوا عنه.

* * *

سيرة الصحابة والتابعين في السجود

يظهر من غير واحد من الروايات انّ سيرة لفيف من الصحابة كانت جارية على السجود على الأرض.

1. عن أبي أميّة أنّ أبا بكر كان يسجد أو يصلّي على الأرض مفضيا إليها. (2)

2. عن أبي عبيدة انّ ابن مسعود لا يسجد _ أو قال لا يصلّي _ إلاّ على الأرض. (3)

3. كان مسروق بن الأجدع من أصحاب ابن مسعود لا يرخص في السجود على غير الأرض حتّى في السفينة ، وكان يحمل في السفينة شيئا يسجد عليه. (4)

ص : 255


1- مجمع الزوائد : 2 / 126.
2- المصنف لعبد الرزاق : 1 / 397.
3- المصنف : 1 / 397.
4- الطبقات الكبرى : 6 / 53 ، المصنف لعبد الرزاق : 2 / 583.

4. كان إبراهيم النخعي الفقيه الكوفي التابعي يقوم على البردي ويسجد على الأرض.

قال الراوي : قلنا ما البردي ، قال : الحصير. (1) وفي لفظ انّه كان يصلّي على الحصر ويسجد على الأرض.

5. كان عمر بن عبد العزيز لا يكتفي بالخمرة بل يضع عليها التراب ويسجد عليه. (2)

6. كان عروة بن الزبير يكره الصلاة على شيء دون الأرض. (3)

7. كتب علي بن عبد الله بن عباس إلى « زرين » ان ابعث إليّ بلوح من أحجار المروة عليه أسجد. (4)

* * *

والحاصل انّ التذلل والخضوع في مقابل عظمة الله سبحانه يتحقّق بأفضل مجاليه بوضع الجبهة والأنف على التراب والطين ، قائلاً : أين التراب ورب الأرباب وأنّه والتراب سواسية ولا تجد ذلك في السجود على المصنوعات وللعلاّمة الأميني كلمة قيمة وإليك نصّها :

والأنسب بالسجدة التي إن هي إلاّ التصاغر والتذلّل تجاه عظمة المولى سبحانه وو جاه كبريائه ، أن تتخذ الأرض لديها مسجدا يعفّر المصلّي بها خدّه ويرغم أنفه لتذكّر السّاجد لله طينته الوضيعة الخسيسة التي خلق منها وإليها

ص : 256


1- المصنف لعبد الرزاق : 1 / 397.
2- فتح الباري : 1 / 410.
3- فتح الباري : 1 / 410.
4- أخبار مكة للأزرقي.

يعود ومنها يعاد تارة أخرى حتّى يتّعظ بها ويكون على ذكر من وضاعة أصله ليتأتى له خضوع روحي وذلّ في الباطن وانحطاط في النفس واندفاع في الجوارح إلى العبودية وتقاعس عن الترفّع والأنانية ، ويكون على بصيرة من أنّ المخلوق من التراب حقيق وخليق بالذلّ والمسكنة ليس إلاّ.

ولا توجد هذه الأسرار قطّ وقطّ في المنسوج من الصوف والديباج والحرير وأمثاله من وسائل الدّعة والراحة ممّا يري للإنسان عظمة في نفسه ، وحرمة وكرامة ومقاما لديه ويكون له ترفّعا وتجبرا واستعلاء وينسلخ عند ذلك من الخضوع والخشوع. (1)

ص : 257


1- سيرتنا وسنّتنا : 125 _ 126.
المرحلة الثانية : الترخيص في السجود على الخُمُر والحُصر

ما مرّ من الأحاديث والمأثورات المبثوثة في الصحاح والمسانيد وسائر كتب الحديث تعرب عن التزام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالسجود على الأرض بأنواعها ، وأنّهم كانوا لا يعدلون عنها ، وإن صعب الأمر واشتدّ الحرّ ، لكنّ هناك نصوصا تعرب عن ترخيص النبي صلى الله عليه وآله وسلم _ بإيحاء من الله سبحانه إليه _ السجود على ما أنبتت الأرض ، فسهُل لهم بذلك أمر السجود ، ورفع عنهم الإصر والمشقّة في الحرّ والبرد ، وفيما إذا كانت الأرض مبتلّة ، وإليك تلك النصوص :

1. عن أنس بن مالك قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي على الخمرة. (1)

2. عن ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي على الخمرة ، وفي لفظ : وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي على الخمرة. (2)

3. عن عائشة : كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي على الخمرة. (3)

4. عن أمّ سلمة : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي على الخمرة. (4)

ص : 258


1- أخبار أصبهان : 2 / 141.
2- مسند أحمد : 1 / 269 ، 303 ، 309 و 358.
3- المصدر نفسه : 6 / 179 وفيه أيضا قال للجارية وهو في المسجد : ناوليني الخمرة.
4- المصدر نفسه : 302.

5. عن ميمونة : ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي على الخمرة فيسجد. (1)

6. عن أمّ سليم قالت : كان [ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ] يصلّي على الخمرة. (2)

7. عن عبد الله بن عمر : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي على الخمر. (3)

وقد اعترض عليّ بعض المرشدين في المسجد الحرام لمّا رأى التزامي بالسجود على الحصير ، وسألني عن وجهه فقلت له : إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلّي على الحصير ، فقال : إنّ صلاة النبي على الحصر والبواري لا يلازم السجود عليهما إذ يمكن أن يصلّي على الحصير ويسجد على شيء آخر.

فقلت له : إنّ التفريق بين الأمرين لا يقبله الذوق السليم فان قوله : يصلّي على الحصير بمعنى انّه يصلّي عليه في عامة حالات الصلاة من القيام والركوع والسجود لا انّه يضع قدميه على الحصير أو ركبتيه ويديه عليه ويضع جبهته على شيء آخر.

على أنّ في لفيف من الروايات تصريحا بسجوده على الحصير.

1. روى أبو سعيد الخدري أنّه دخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : فرأيته يصلّي على حصير يسجد عليه. (4)

2. وعن أنس بن مالك قال :

« كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي على الخمرة ويسجد عليها ». (5)

وفي ضوء الأحاديث المذكورة يتبين جواز السجود على الأرض والتراب وبعض ما ينبت من الأرض مثل الحصير المصنوع من خوص جريد النخل.

ص : 259


1- مسند أحمد : 6 / 331 و 335.
2- المصدر نفسه : 377.
3- المصدر نفسه : 2 / 92 و 98.
4- صحيح مسلم : 2 / 62 ، دار الفكر ، بيروت.
5- صحيح ابن خزيمة : 2 / 105 ، المكتب الإسلامي ، ط 2 _ 1412 ه ، المعجم الأوسط : 8 / 348 ، المعجم الكبير : 12 / 292.
المرحلة الثالثة: السجود على الثياب لعذر
اشارة

قد عرفت المرحلتين الماضيتين ، ولو كانت هناك مرحلة ثالثة فإنّما هي مرحلة جواز السجود على غير الأرض وما ينبت منها لعذر وضرورة. ويبدو أنّ هذا الترخيص جاء متأخّرا عن المرحلتين لما عرفت أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يُجب شكوى الأصحاب من شدّة الحرّ والرمضاء ، وراح هو وأصحابه يسجدون على الأرض متحمّلين الحرّ والأذى ، ولكنّ الباري عزّ اسمه رخّص لرفع حرج السجود على الثياب لعذر وضرورة ، وإليك ما ورد في هذا المقام :

1. عن أنس بن مالك : كنّا إذا صلّينا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يستطع أحدنا أن يمكّن جبهته من الأرض ، طرح ثوبه ثم سجد عليه.

2. وفي لفظ آخر : كنّا نصلّي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيضع أحدنا طرف الثوب من شدّة الحرّ. فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكّن جبهته من الأرض ، بسط ثوبه.

3. وفي لفظ ثالث : كنّا إذا صلّينا مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيضع أحدنا طرف الثوب من شدّة الحرّ مكان السجود. (1)

وهذه الرواية التي نقلها أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد تكشف عن حقيقة بعض ما روي في ذلك المجال الظاهر في جواز السجود على الثياب في

ص : 260


1- صحيح البخاري : 1 / 101 ؛ صحيح مسلم : 2 / 109 ؛ مسند أحمد : 1 / 100 ؛ السنن الكبرى : 2 / 106.

حالة الاختيار أيضا. وذلك لأنّ رواية أنس نصّ في اختصاص الجواز بحالة الضرورة ، فتكون قرينة على المراد من هذه المطلقات ، وإليك بعض ما روي في هذا المجال :

1. عبد الله بن محرز عن أبي هريرة : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي على كور عمامته. (1)

إنّ هذه الرواية مع أنّها معارضة لما مرّ من نهي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن السجود عليه (2) ، محمولة على العذر والضرورة ، وقد صرّح بذلك الشيخ البيهقي في سننه ، حيث قال : قال الشيخ : وأمّا ما روي في ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من السجود على كور العمامة فلا يثبت شيء من ذلك ، وأصحّ ما روي في ذلك قول الحسن البصري حكاية عن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. (3)

وقد روي عن ابن راشد قال : رأيت مكحولا يسجد على عمامته فقلت : لم تسجد عليها؟ قال أتّقي البرد على أسناني. (4)

2. ما روي عن أنس : كنّا نصلّي مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيسجد أحدنا على ثوبه. (5)

والرواية محمولة على صورة العذر بقرينة ما رويناه عنه ، وبما رواه عنه البخاري : كنّا نصلّي مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في شدّة الحرّ ، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكّن وجهه من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه (6).

ويؤيّده ما رواه النسائي أيضا : كنّا إذا صلّينا خلف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالظهائر

ص : 261


1- كنز العمال : 8 / 130 برقم 22238.
2- لاحظ ص 252.
3- السنن الكبرى : 2 / 106.
4- المصنف لعبد الرزاق : 1 / 400 ، كما في سيرتنا وسنّتنا ، والسجدة على التربة : 93.
5- السنن الكبرى : 2 / 106 ، باب من بسط ثوبا فسجد عليه.
6- صحيح البخاري : 2 / 64 ، كتاب الصلاة ، باب بسط الثوب في الصلاة للسجود.

سجدنا على ثيابنا اتّقاء الحرّ (1).

وهناك روايات قاصرة الدلالة حيث لا تدلّ إلاّ على أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صلّى على الفرو. وأمّا أنّه سجد عليه فلا دلالة لها عليه.

3. عن المغيرة بن شعبة : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي على الحصير والفرو المدبوغة (2).

والرواية مع كونها ضعيفة بيونس بن الحرث ، ليست ظاهرة في السجود عليه. ولا ملازمة بين الصلاة على الفرو والسجدة عليه ، لأنّه شيء كالجبّة يبطّن من جلود بعض الحيوانات كالأرانب والسمّور فلا يسع بدن المصلّي لصغره فيحتمل انّه صلى الله عليه وآله وسلم وضع جبهته على الأرض أو ما ينبت منها. وعلى فرض الملازمة لا تقاوم هي وما في معناها ما سردناه من الروايات في المرحلتين الماضيتين.

حصيلة البحث

إنّ المتأمّل في الروايات يجد بوضوح أنّ قضيّة السجود في الصلاة مرت بمرحلتين أو ثلاث مراحل ، ففي المرحلة الأولى كان الفرض السجود على الأرض ولم يرخّص للمسلمين السجود على غيرها ، وفي الثانية جاء الترخيص فيما تنبته الأرض ، وليست وراء هاتين المرحلتين مرحلة أخرى إلا مرحلة جواز السجود على الثياب لعذر وضرورة ، فما يظهر من بعض الروايات من جواز السجود على الفرو وأمثاله مطلقا فمحمولة على الضرورة ، أو لا دلالة لها على السجود عليه لصغره ، بل غايتها الصلاة عليه.

ص : 262


1- جامع الأصول : 5 / 468 برقم 3660.
2- سنن أبي داود : باب ما جاء في الصلاة على الخمرة برقم 331.

ومن هنا يظهر بوضوح أنّ ما التزمت به الشيعة من السجود على الأرض أو ما أنبتته الأرض هو عين ما جاءت به السنّة النبويّة ، ولم تنحرف عنه قيد أنملة ، ونحن ندعو إلى قليل من التأمّل لإحقاق الحقّ وتجاوز البدع.

فالسجدة على الفراش والسجاد والبُسُط المنسوجة من الصوف والوبر والحرير وأمثالها والثوب المتّصل فلا دليل يسوّغها قطّ ، ولم يرد في السنّة أيّ مستند لجوازها وهذه الصحاح الستّ وهي تتكفّل بيان أحكام الدين ولا سيّما الصلاة الّتي هي عماده لم يوجد فيها ولا حديث واحد ، ولا كلمة إيماء وإيعاز إلى جواز ذلك.

فالقول بجواز السجود على الفرش والسجاد والالتزام بذلك ، وافتراش المساجد بها للسجود عليها كما تداول عند الناس بدعة محضة ، وأمر محدث غير مشروع ، يخالف سنّة الله وسنّة رسوله ، ولن تجد لسنّة الله تحويلا. (1)

ص : 263


1- سيرتنا وسنّتنا : 133 _ 134.

6. ما هو السرّ في اتّخاذ تربة طاهرة؟

اشارة

بقي هنا سؤال يطرحه كثيرا إخواننا أهل السنّة حول سبب اتّخاذ الشيعة تربة طاهرة في السفر والحضر والسجود عليها دون غيرها. وربّما يتخيّل البسطاء _ كما ذكرنا سابقا _ أنّ الشيعة يسجدون لها لا عليها ، ويعبدون الحجر والتربة ، وذلك لأنّ هؤلاء المساكين لا يفرّقون بين السجود على التربة ، والسجود لها.

وعلى أيّ تقدير فالإجابة عنها واضحة ، فإنّ المستحسن عند الشيعة هو اتّخاذ تربة طاهرة طيّبة ليتيقن من طهارتها ، من أيّ أرض أخذت ، ومن أيّ صقع من أرجاء العالم كانت ، وهي كلّها في ذلك سواء.

وليس هذا الالتزام إلاّ مثل التزام المصلّي بطهارة جسده وملبسه ومصلاّه ، وأمّا سرّ الالتزام في اتّخاذ التربة هو أنّ الثقة بطهارة كلّ أرض يحلّ بها ، ويتّخذها مسجدا ، لا تتأتّى له في كلّ موضع من المواضع التي يرتادها المسلم في حلّه وترحاله ، بل وأنّى له ذلك وهذه الأماكن ترتادها أصناف مختلفة من البشر ، مسلمين كانوا أم غيرهم ، ملتزمين بأصول الطهارة أم غير ذلك ، وفي ذلك محنة كبيرة تواجه المسلم في صلاته فلا يجد مناصا من أن يتخذ لنفسه تربة طاهرة يطمئنّ بها وبطهارتها ، يسجد عليها لدى صلاته حذرا من السجدة على الرجاسة

ص : 264

والنجاسة ، والأوساخ التي لا يتقرّب بها إلى الله قط ولا تجوّز السنّة السجود عليها ولا يقبله العقل السليم ، خصوصا بعد ورود التأكيد التام البالغ في طهارة أعضاء المصلّي ولباسه والنهي عن الصلاة في مواطن منها :

المزبلة ، والمجزرة ، وقارعة الطريق ، والحمام ، ومواطن الإبل ، بل والأمر بتطهير المساجد وتطييبها. (1)

وهذه القاعدة كانت ثابتة عند السلف الصالح وإن غفل التأريخ عن نقلها ، فقد روي : أنّ التابعي الفقيه مسروق بن الأجدع ( المتوفّى عام 62 ه ) كان يصحب في أسفاره لبنة من المدينة يسجد عليها. كما أخرجه ابن أبي شيبة في كتابه المصنف ، باب من كان حمل في السفينة شيئا يسجد عليها. فأخرج بإسنادين أنّ مسروقا كان إذا سافر حمل معه في السفينة لبنة يسجد عليها. (2)

إلى هنا تبيّن أنّ التزام الشيعة باتّخاذ التربة مسجدا ليس إلاّ لتسهيل الأمر للمصلّي في سفره وحضره خوفا من أن لا يجد أرضا طاهرة أو حصيرا طاهرا فيصعب الأمر عليه ، وهذا كادّخار المسلم تربة طاهرة لغاية التيمّم عليها.

وأمّا السرّ في التزام الشيعة استحبابا بالسجود على التربة الحسينية ، فإنّ من الأغراض العالية والمقاصد السامية منها ، أن يتذكّر المصلّي _ حين يضع جبهته على تلك التربة _ تضحية ذلك الإمام عليه السلام بنفسه وأهل بيته والصفوة من أصحابه في سبيل العقيدة والمبدأ ومقارعة الجور والفساد.

ولمّا كان السجود أعظم أركان الصلاة ، وفي الحديث : « أقرب ما يكون العبد إلى ربّه حال سجوده » فيناسب أن يتذكّر بوضع جبهته على تلك التربة الزاكية ، أولئك الذين جعلوا أجسامهم ضحايا للحقّ ، وارتفعت أرواحهم إلى الملإ الأعلى ،

ص : 265


1- سيرتنا وسنّتنا : 158 _ 159.
2- مصنف ابن أبي شيبة : 2 / 172 ، دار الفكر _ 1409 ه .

ليخشع ويخضع ويتلازم الوضع والرفع ، وتحتقر هذه الدنيا الزائفة ، وزخارفها الزائلة ، ولعلّ هذا هو المقصود من أنّ السجود عليها يخرق الحجب السبع كما في الخبر ، فيكون حينئذ في السجود سر الصعود والعروج من التراب إلى ربّ الأرباب. (1)

وقال العلاّمة الأميني : نحن نتّخذ من تربة كربلاء قِطَعا لمعا ، وأقراصا نسجد عليها كما كان فقيه السلف مسروق بن الأجدع ، يحمل معه لبنة من تربة المدينة المنوّرة يسجد عليها ، والرجل تلميذ الخلافة الراشدة ، فقيه المدينة ، ومعلّم السنّة بها ، وحاشاه من البدعة. فليس في ذلك أيّ حزازة وتعسّف أو شيء يضاد نداء القرآن الكريم أو يخالف سنّة الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أو خروج من حكم العقل والاعتبار.

وليس اتّخاذ تربة كربلاء مسجدا لدى الشيعة من الفرض المحتّم ، ولا من واجب الشرع والدين ، ولا ممّا ألزمه المذهب ، ولا يفرّق أيّ أحد منهم منذ أوّل يومها بينها وبين غيرها من تراب جميع الأرض في جواز السجود عليها خلاف ما يزعمه الجاهل بهم وبآرائهم ، وإن هو عندهم إلاّ استحسان عقلي ليس إلاّ ، واختيار لما هو الأولى بالسجود لدى العقل والمنطق والاعتبار فحسب كما سمعت ، وكثير من رجال المذهب يتّخذون معهم في أسفارهم غير تربة كربلاء ممّا يصحّ السجود عليه كحصير طاهر نظيف يوثق بطهارته أو خمرة مثله ويسجدون عليه في صلواتهم (2).

هذا إلمام إجمالي بهذه المسألة الفقهية والتفصيل موكول إلى محلّه ، وقد أغنانا

ص : 266


1- الأرض والتربة الحسينية : 24.
2- سيرتنا وسنّتنا : 142.

عن ذلك ما سطّره أعلام العصر وأكابره ، وأخص بالذكر منهم :

1. المصلح الكبير الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء ( 1295 _ 1373 ه ) في كتابه « الأرض والتربة الحسينية ».

2. العلاّمة الكبير الشيخ عبد الحسين الأميني مؤلّف الغدير ( 1320 _ 1390 ه ) فقد دوّن رسالة في هذا الموضوع طبعت في آخر كتابه « سيرتنا وسنّتنا ».

3. « السجود على الأرض » للعلاّمة الشيخ علي الأحمدي قدس سره فقد أجاد في التتبّع والتحقيق.

فما ذكرنا في هذه المسألة اقتباس من أنوار علومهم. رحم الله الماضين من علمائنا وحفظ الله الباقين منهم.

هذا ما وقفنا عليه من الروايات والتي أوردناها في هذا المختصر.

ص : 267

خاتمة المطاف
اشارة

نذكر فيها أمرين :

1. فرض العقيدة والفقه على الزائر

إنّ من غرائب الدهر و « ما عشت أراك الدهر عجبا » أن تصادر الحريات في الحرمين الشريفين فتفرض على الزائر ، العقيدة والفقه الخاص ، مع أنّ السيرة عبر القرون كانت جارية على حرية الزائر في الحرمين الشريفين في عقيدته وعمله.

إنّ التوسل والتبرّك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام كانت سنّة رائجة في القرون الغابرة ، ولم يكن هناك أي منع وقد وردت فيه صحاح الروايات ومسانيدها ، وكان الحرمان الشريفان أمنا للزائر كما شاء سبحانه أن يكونا كذلك ، قال تعالى ( فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ) (1) وقال تعالى حاكيا دعاء إبراهيم ( وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ) (2) ولكن أصبح اليوم من تلك الناحية على خلاف ما دعا إليه إبراهيم ، فالزائر الشيعي المقتدي بفقه أئمة أهل البيت لا يسمح له أن يمارس طقوسه بحرية تامة ، ولا أن يتكلم بشيء ممّا يعتقد به ، ومن مظاهر ذلك فرض السجود على الفرش المنسوجة والمنع

ص : 268


1- آل عمران : 97.
2- البقرة : 126.

من السجدة على الصعيد والتربة.

ونحن بدورنا نقترح على الحكومة الراشدة في أراضي الوحي أن يمنحوا حريات مشروعة لعامّة الحجاج كي يمارسوا طقوسهم بحرية ، فإنّ ذلك يعزّز أواصر الوحدة والتعاون بين المسلمين على اختلاف طوائفهم.

2. صيرورة السنّة بدعة

قد وقفت على أنّ السجود على الأرض أو على الحصر والبواري وأشباهها هو السنّة ، وأنّ السجود على الفرش والسجاجيد وأشباهها هو البدعة ، وأنّه ما أنزل الله به من سلطان ، ولكن يا للأسف صارت السنّة بدعة والبدعة سنّة. فلو عمل الرجل بالسنّة في المساجد والمشاهد ، وسجد على التراب والأحجار يوصف عمله بالبدعة ، والرجل بالمبدع. ولكن ليس هذا فريدا في بابه فقد نرى في فقه المذاهب الأربعة نظائر. نذكر الموارد التالية :

1. قال الشيخ محمد بن عبد الرحمن الدمشقي :

السنّة في القبر ، التسطيح. وهو أولى على الراجح من مذهب الشافعي.

وقال أبو حنيفة ومالك : التسنيم أولى ، لأنّ التسطيح صار شعارا للشيعة. (1)

وقال الرافعي : إنّ النبي سطّح قبر ابنه إبراهيم ، وعن القاسم بن محمد قال : رأيت قبر النبي وأبي بكر وعمر مسطّحة.

وقال ابن أبي هريرة : إنّ الأفضل الآن العدول من التسطيح إلى التسنيم ، لأنّ التسطيح صار شعارا للروافض ، فالأولى مخالفتهم ، وصيانة الميت وأهله عن

ص : 269


1- رحمة الأمّة في اختلاف الأئمّة : 1 / 88 ؛ ونقله أيضا العلاّمة الأميني في الغدير : 10 / 209.

الاتّهام بالبدعة ، ومثله ما حكي عنه : أنّ الجهر بالتسمية إذا صار في موضع شعارا لهم فالمستحب الإسرار بها مخالفة لهم ، واحتج له بما روي انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « كان يقوم إذا بدت جنازة ، فأخبر انّ اليهود تفعل ذلك ، فترك القيام بعد ذلك مخالفة لهم ».

وهذا الوجه هو الذي أجاب به في الكتاب ومال إليه الشيخ أبو محمد وتابعة القاضي الروياني لكن الجمهور على أنّ المذهب الأوّل.

قالوا : ولو تركنا ما ثبت في السنّة لإطباق بعض المبتدعة عليه لجرّنا ذلك إلى ترك سنن كثيرة ، وإذا اطّرد جرينا على الشيء خرج عن أن يعد شعارا للمبتدعة. (1)

2. قال الإمام الرازي : روى البيهقي عن أبي هريرة قال : كان رسول الله يجهر في الصلاة ب_ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) وكان عليّ _ رضي الله عنه _ يجهر بالتسمية وقد ثبت بالتواتر ، وكان علي بن أبي طالب يقول : يا من ذكره شرف للذاكرين ، ومثل هذا كيف يليق بالعاقل أن يسعى في إخفائه.

وقالت الشيعة : السنّة ، هي الجهر بالتسمية ، سواء أكانت في الصلاة الجهرية أو السرية ، وجمهور الفقهاء يخالفونهم _ إلى أن قال _ : إنّ عليّا كان يبالغ في الجهر بالتسمية ، فلمّا وصلت الدولة إلى بني أميّة بالغوا في المنع من الجهر ، سعيا في إبطال آثار عليّ _ رضي الله عنه _ (2).

3. قال الزمخشري في تفسير قوله سبحانه ( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ ).

فإن قلت : فما تقول في الصلاة على غيره؟

قلت : القياس جواز الصلاة على كلّ مؤمن لقوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي

ص : 270


1- العزيز شرح الوجيز : 2 / 453.
2- مفاتيح الغيب : 1 / 205 _ 206.

عَلَيْكُمْ ) وقوله تعالى ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) وقوله : اللهم صَلِّ على آل أبي أوفى ، ولكن للعلماء تفصيلا في ذلك وهو أنّها إن كانت على سبيل التبع كقولك : صلى الله على النبي وآله فلا كلام فيها ، وأمّا إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد هو فمكروه ، لأنّ ذلك صار شعارا لذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولأنّه يؤدي إلى الاتّهام بالرفض. (1)

4. وفي « فتح الباري » : اختلف في السّلام على غير الأنبياء بعد الاتّفاق على مشروعيته في الحيّ ، فقيل يشرع مطلقا ، وقيل بل تبعا ولا يفرّد لواحد لكونه صار شعارا للروافضة ، ونقله النووي عن الشيخ أبي محمد الجويني. (2)

ومعنى ذلك انّه لم يجد مبرّرا لترك ما شرّعه الإسلام ، إلاّ عمل الرافضة بسنّة الإسلام ، ولو صحّ ذلك ، كان على القائل أن يترك عامة الفرائض والسنن التي يعمل بها الروافض.

( قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا

فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ

وَمَنِ اهْتَدى ). (3)

ص : 271


1- الكشاف : 2 / 549.
2- فتح الباري : 11 / 14.
3- طه : 135.

ص : 272

7. الجمع بين الصلاتين

اشارة

ص : 273

ص : 274

أقسام الجمع بين الصلاتين

اشارة

اعلم أنّ للجمع بين الصلاتين صورا مختلفة :

1. الجمع بين الصلاتين في المزدلفة وعرفة.

2. الجمع بين الصلاتين في السفر.

3. الجمع بين الصلاتين في الحضر لأجل الأعذار كالمطر والوحل.

4. الجمع بين الصلاتين في الحضر اختيارا بلا عذر.

وقد اتّفقت كلمة الفقهاء على الجمع في المزدلفة وعرفة واختلفت في غيرهما ، فها نحن نأخذ كلّ واحدة بالبحث مع ذكر الأقوال والمصادر بوجه موجز.

ص : 275

1. الجمع بين الصلاتين في عرفة والمزدلفة

اتّفقت كلمة الفقهاء على رجحان الجمع بين الصلاتين في المزدلفة وعرفة من غير خلاف بينهم ، قال القرطبي : أجمعوا على أنّ الجمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر بعرفة وبين المغرب والعشاء بالمزدلفة أيضا في وقت العشاء سنّة أيضا ، وإنّما اختلفوا في الجمع في غير هذين المكانين. (1)

وقال ابن قدامة : قال الحسن وابن سيرين وأصحاب الرأي لا يجوز الجمع إلاّ في يوم عرفة بعرفة ، وليلة المزدلفة بها. (2)

أخرج مسلم عن جابر بن عبد الله انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكث تسع سنين لم يحج ثمّ أذن في الناس في العاشرة انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حاجّ ، فقدم المدينة بشر كثير كلّهم يلتمس أن يأتمّ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويعمل مثل عمله _ إلى أن قال : _ حتّى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة ، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي وخطب الناس _ إلى أن قال : _ ثمّ أذّن ثمّ أقام فصلّى الظهر ، ثمّ أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا _ إلى أن قال : _ حتّى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا. (3)

وبما انّ المسألة مورد اتّفاق بين الفقهاء نقتصر على هذا المقدار.

ص : 276


1- بداية المجتهد : 1 / 170 ، تحت عنوان الفصل الثاني في الجمع.
2- المغني : 2 / 112.
3- صحيح مسلم : 4 / 39 _ 42 ، باب حجّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
2. الجمع بين الصلاتين في السفر

ذهب معظم الفقهاء غير الحسن والنخعي وأبي حنيفة وصاحبيه إلى جواز الجمع بين الصلاتين في السفر ، فيجوز عند الجمهور غير هؤلاء ، الجمع بين الظهر والعصر تقديما في وقت الأولى وتأخيرا في وقت الثانية ، وبين المغرب والعشاء تقديما وتأخيرا أيضا ، فالصلوات التي تجمع هي : الظهر والعصر ، المغرب والعشاء في وقت إحداهما ، ويسمّى الجمع في وقت الصلوات الأولى جمع التقديم ، والجمع في وقت الصلوات الثانية جمع التأخير. وقد ذكر الشوكاني الأقوال بالنحو التالي :

1. ذهب إلى جواز الجمع في السفر مطلقا تقديما وتأخيرا ، كثير من الصحابة والتابعين ، ومن الفقهاء : الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق والشعبي.

2. وقال قوم : لا يجوز الجمع مطلقا إلا بعرفة ومزدلفة. وهو قول الحسن والنخعي وأبي حنيفة وصاحبيه.

3. وقال الليث : وهو المشهور عن مالك انّ الجمع يختص بمن جدّ به السير.

4. وقال ابن حبيب : يختص بالسائر.

5. وقال الأوزاعي : إنّ الجمع في السفر يختصّ بمن له عذر.

6. وقال أحمد : واختاره ابن حزم ، وهو مروي عن مالك انّه يجوز جمع التأخير دون التقديم.

ص : 277

هذه هي الأقوال الستة :

فإذا كانت المسألة على وجه الإجمال مورد اتّفاق الجمهور إلاّ من عرفت ، فلا بدّ من البحث في مقامين :

1. هل الجمع مختصّ بمن جدّ به السير؟ أي من أسرع في سيره.

2. هل الجواز يختصّ بجمع التأخير ولا يعمّ التقديم؟

أمّا المقام الأوّل فنقول :

إنّ الأخبار الحاكية لفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على صنفين :

صنف يصرح بأنّه صلى الله عليه وآله وسلم يجمع إذا جدّ به السير أو أعجله السير في السفر.

1. أخرج مسلم عن نافع ، عن ابن عمر انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا جدّ به السير جمع بين المغرب والعشاء. (1)

2. أخرج مسلم عن سالم ، عن أبيه : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جدّ به السير. (2)

3. أخرج مسلم عن سالم بن عبد الله انّ أباه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أعجله السير في السفر يؤخّر صلاة المغرب حتّى يجمع بينها وبين صلاة العشاء. (3)

4. أخرج مسلم عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا عجّل عليه السفر يؤخّر الظهر إلى أوّل وقت العصر فيجمع بينهما ، ويؤخّر المغرب حتّى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق. (4)

وصنف آخر يحكي فعل رسول الله بلا قيد « إذا جدّ به السير ».

ص : 278


1- . صحيح مسلم : 2 / 150 باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر من كتاب الصلاة.
2- . صحيح مسلم : 2 / 150 باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر من كتاب الصلاة.
3- . صحيح مسلم : 2 / 150 باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر من كتاب الصلاة.
4- صحيح مسلم : 2 / 151 ، باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر من كتاب الصلاة.

1. اخرج مسلم عن أنس بن مالك قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخّر الظهر إلى وقت العصر ثمّ نزل فجمع بينهما ، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلّى الظهر ثمّ ركب. (1)

2. أخرج مسلم عن أنس قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخّر الظهر حتّى يدخل أوّل وقت العصر ثمّ يجمع بينهما. (2)

3. أخرج أبو داود والترمذي عن معاذ بن جبل : انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخّر الظهر حتّى يجمعها إلى العصر يصلّيهما جميعا ، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلّى الظهر والعصر جميعا ثمّ سار ، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخّر المغرب حتّى يصلّيها مع العشاء ، وكان إذا ارتحل بعد المغرب عجّل العشاء فصلاّها مع المغرب. (3)

4. أخرج أحمد في مسنده عن ابن عباس ( رض ) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في السفر إذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب ، فإذا لم تزغ له في منزله ، سار حتّى إذا حانت العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر ، وإذا حانت له المغرب في منزله جمع بينها وبين العشاء ، وإذا لم تحن في منزله ركب حتى إذا كانت العشاء نزل فجمع بينهما. (4)

وقال الشوكاني بعد نقله الرواية عن مسند أحمد : ورواه الشافعي في مسنده بنحوه وقال فيه : وإذا سار قبل أن تزول الشمس أخّر الظهر حتّى يجمع بينها وبين

ص : 279


1- صحيح مسلم : 2 / 151 ، باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر من كتاب الصلاة.
2- صحيح مسلم : 2 / 151 ، باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر من كتاب الصلاة.
3- سنن أبي داود : 2 / 8 كتاب الصلاة ، باب الجمع بين الصلاتين ، الحديث 1220.
4- مسند أحمد بن حنبل : 5 / 241 ؛ سنن أبي داود : 2 / 7 ، كتاب الصلاة ، باب الجمع بين الصلاتين ، الحديث 1220.

العصر في وقت العصر. (1)

أقول : إنّ أنس بن مالك نقل فعل النبي تارة على وجه الإطلاق ، وأخرى على وجه التقييد (2) ومقتضى القاعدة هو حمل المطلق على المقيد وتقييد الروايات المطلقة بما في المقيدة.

أضف إلى ذلك : أنّ الروايات الحاكية لفعل الرسول على وجه الإطلاق دليل لبّي لا لسان له ، وما كان هذا شأنه لا ينعقد فيه الإطلاق ، لأنّ الإطلاق شأن اللفظ ، وليس هناك للرسول صلى الله عليه وآله وسلم لفظ بل صدر منه عمل ، نقله الراوي ولعلّ عمله كان مقارنا لما جدّ به السير ولم يذكره الراوي لعدم احتمال دخله في الحكم.

وعلى ضوء هذا لا يجمع إلاّ إذا جدّ به السير. ولعلّه إلى هذا يشير ابن رشد : والجمع إنّما نقل فعلا فقط. (3)

ولكن الظاهر انّ القيد ( الجدّ في السير والعجلة فيه ) من قبيل الدواعي إلى الجمع ، وتخلّف الداعي في مورد لا يكون سببا لانتفاء الحكم ، فإنّ الإنسان لا يترك الأفضل ( التفريق ) إلاّ إذا كان هناك داع إليه ، فلأجله اختار الجمع وترك التفريق ، وقد قرر في محلّه انّ انتفاء الدواعي والحكم لا تعد من قيود الحكم بل يكون ثابتا مع انتفائهما.

وأمّا المقام الثاني أي عدم اختصاصه بجمع التأخير وعمومه بجمع التقدّم فيكفي في ذلك ما أخرجه أبو داود والترمذي عن معاذ بن جبل وما أخرجه أحمد عن ابن عباس فلاحظ الرقم الثالث والرابع من الأحاديث الماضية.

ص : 280


1- نيل الأوطار : 3 / 213.
2- . بداية المجتهد : 1 / 173 ، وفي طبعه أخرى محقّقة : 2 / 374.
3- . بداية المجتهد : 1 / 173 ، وفي طبعه أخرى محقّقة : 2 / 374.
3. الجمع بين الصلاتين في الحضر لأجل العذر

المشهور هو جواز الجمع بين المغرب والعشاء لعذر خلافا للحنفية حيث لم يجوّزوا الجمع مطلقا إلاّ في الحج بعرفة والمزدلفة.

وأمّا القائلون بالجمع فقد اختلفوا من وجوه :

الأوّل : هل يختص الجواز بالمطر ، أو يعمّه وغيره؟

الثاني : هل يختص الجواز بالمغرب والعشاء ، أو يعمّ الظهر والعصر؟

الثالث : هل يختص الجواز بجمع التقديم أو يعمّ جمع التأخير؟ (1)

وإليك نقل كلماتهم في الوجوه الثلاثة.

أمّا الأوّل ، فالظاهر من الشافعية هو اختصاص الجواز بالمطر.

قال الشيرازي : يجوز الجمع بين الصلاتين في المطر ، وأمّا الوحل والريح والظلمة والمرض فلا يجوز الجمع لأجلها. (2)

وقال ابن رشد : أمّا الجمع في الحضر لعذر المطر فأجازه الشافعي _ إلى أن قال : _ وأمّا الجمع في الحضر للمريض ، فأمّا مالكا أباحه له إذا خاف أن يغمى

ص : 281


1- ما ذكرناه هو رءوس الاختلاف ، وأمّا فروعها فكثيرة لا حاجة للتعرّض إليها.
2- المجمع : 4 / 258 ، قسم المتن.

عليه أو كان به بطن ، ومنع ذلك الشافعي. (1)

وقال في الشرح الكبير : وهل يجوز ذلك _ وراء المطر _ لأجل الوحل والريح الشديدة الباردة ، أو لمن يصلّي في بيته أو في مسجد طريقه تحت ساباط على وجهين. (2)

وأمّا الثاني ، أي هل يختص الجواز بالمغرب والعشاء أو يعمّ الظهرين؟

فقال ابن رشد : وأمّا الجمع في الحضر لعذر المطر فأجازه الشافعي ليلا كان أو نهارا ، ومنعه مالك في النهار وأجازه في الليل. (3)

وقال النووي : قال الشافعي والأصحاب يجوز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في المطر ، وحكى إمام الحرمين قولا إنّه يجوز بين المغرب والعشاء في وقت المغرب ولا يجوز بين الظهر والعصر ، وهو مذهب مالك ، وقال المزني : لا يجوز مطلقا. والمذهب الأوّل هو المعروف من نصوص الشافعي قديما وجديدا. (4)

وأمّا الثالث ، أي اختصاص الجواز بجمع التقديم دون جمع التأخير.

فقال الشيرازي : يجوز الجمع بين الصلاتين في المطر في وقت الأولة منهما ، وهل يجوز أن يجمعهما في وقت الثانية؟ فيه قولان :

قال [ الشافعي ] في « الإملاء » : يجوز ، لأنّه عذر يجوز الجمع به في وقت الأولى فجاز الجمع في وقت الثانية كالجمع في السفر.

ص : 282


1- بداية المجتهد : 1 / 173 _ 174 ، في موضعين.
2- المغني : 2 / 118 ، قسم الذيل.
3- بداية المجتهد : 1 / 173.
4- المجموع : 4 / 260.

وقال في « الأمّ » : لا يجوز ، لأنّه إذا أخّر ربما انقطع المطر فجمع من غير عذر. (1)

هذا إجمال الأقوال في النقاط الثلاث ، ولهم اختلافات في مواضع أخر لا حاجة لذكرها.

إذا عرفت ذلك ، فالمهمّ هو وجود الدليل على جواز الجمع في الحضر لعذر.

وقد استدلّوا بحديثين :

1. ما دلّ على جواز الجمع في الحضر على وجه الإطلاق حيث حملوه على صورة المطر أو صورة العذر المطلق.

أخرج البخاري عن ابن عباس ( رض ) انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلّى بالمدينة سبعا وثمانيا الظهر والعصر ، المغرب والعشاء. (2)

قال ابن رشد : وأمّا الجمع في الحضر لغير عذر ، فان مالكا وأكثر الفقهاء لا يجيزونه وأجاز ذلك جماعة من أهل الظاهر وأشهب من أصحاب مالك ، وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم حديث ابن عباس ، فمنهم من تأوّله على أنّه كان في مطر كما قال مالك ، ومنهم من أخذ بعمومه مطلقا.

2. ما رواه ابن عباس ( رض ) انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا سفر ولا مطر ، قيل لابن عباس : ما أراد بذلك ، قال : أراد أن لا يحرج أمّته. (3)

فظاهر الحديث يعطي انّ الجمع في المطر كان أمرا مسلما ، ولذلك حاول

ص : 283


1- المجموع : 4 / 258.
2- ستوافيك مصادر هذه الروايات في الصورة الرابعة من صور الجمع.
3- ستوافيك مصادر هذه الروايات في الصورة الرابعة من صور الجمع.

ابن عباس أن يبيّن بأنّ هذا الجمع لم يكن لغاية المطر أو سائر الأعذار ، بل عفوا لغاية عدم إحراج أمّته.

فلو جاز الجمع في الحضر لأجل العذر يكون الجمع في السفر اختيارا من غير عذر من أحكام السفر ، لأنّ المسافر يجمع فيه بين الصلاتين بلا عذر وأمّا الحاضر فإنّما يجمع لعذر أو غيره. وأمّا إذا قلنا بالجواز في الحضر اختيارا كما سيوافيك فلا يكون الجمع بين الصلاتين من أحكام السفر.

إلى هنا تم الكلام في الصورة الثالثة ، بقي الكلام في الصورة الرابعة وهي الجمع بين الصلاتين في الحضر ، فلو ثبت جواز الجمع بينهما في الحضر اختيارا ، ثبت جواز الجمع في السفر لعذر أو لغير عذر ، بطريق أولى ، ولذلك أولينا أهمية خاصة للصورة الرابعة لأنّ ثبوت الجواز فيها مفتاح ثبوت الجواز في سائر الصور ، فلاحظ.

ص : 284

4. الجمع بين الصلاتين في الحضر اختيارا

اتّفقت الإمامية على أنّه يجوز الجمع بين الصلاتين في الحضر اختيارا وإن كان التفريق أفضل.

يقول الشيخ الطوسي : يجوز الجمع بين الصلاتين ، بين الظهر والعصر وبين المغرب وعشاء الآخرة ، في السفر والحضر وعلى كلّ حال ، ولا فرق بين أن يجمع بينهما في وقت الأولة منهما أو وقت الثانية ، لأنّ الوقت مشترك بعد الزوال وبعد المغرب على ما بيّناه. (1)

إنّ الجمع بين الصلاتين على مذهب الإمامية ليس بمعنى إتيان الصلاة في غير وقتها الشرعي ، بل المراد الإتيان في غير وقت الفضيلة ، وإليك تفصيل المذهب.

قالت الإمامية _ تبعا للنصوص الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام _ إنّه إذا زالت الشمس دخل الوقتان _ أي وقت الظهر والعصر _ إلاّ أنّ صلاة الظهر يؤتى بها قبل العصر ، وعلى ذلك فالوقت بين الظهر والغروب وقت مشترك بين الصلاتين ، غير انّه يختص مقدار أربع ركعات من الزوال بالظهر ومقدار أربع

ص : 285


1- الخلاف : 1 / 588 ، المسألة 351 وسيوافيك ما بينه في أوقات الصلوات.

ركعات من الآخر للعصر وما بينهما وقت مشترك ، فلو صلّى الظهر والعصر في أي جزء من بين الزوال والغروب فقد أتى بهما في وقتهما ، وذلك لأنّ الوقت مشترك بينهما ، غير انّه يختص بالظهر مقدار أربع ركعات من أوّل الوقت ولا يصحّ فيه العصر ويختص بالعصر بمقدار أربع ركعات من آخر الوقت ولا يصحّ إتيان الظهر فيه.

هذا هو واقع المذهب ، ولأجل ذلك فالجامع بين الصلاتين في غير الوقت المختص به آت بالفريضة في وقتها فصلاته أداء لا قضاء.

ومع ذلك فلكلّ من الصلاتين _ وراء وقت الاجزاء _ وقت فضيلة.

فوقت فضيلة الظهر من الزوال إلى بلوغ ظل الشاخص الحادث بعد الانعدام أو بعد الانتهاء مثله ، ووقت فضيلة العصر من المثل إلى المثلين عند المشهور.

وبذلك يعلم وقت المغرب والعشاء ، فإذا غربت الشمس دخل الوقتان إلى نصف الليل ، ويختص المغرب بأوّله بمقدار أدائه والعشاء بآخره كذلك وما بينهما وقت مشترك ، ومع ذلك انّ لكلّ من الصلاتين وقت فضيلة ، فوقت فضيلة صلاة المغرب من المغرب إلى ذهاب الشفق وهي الحمرة المغربية ، ووقت فضيلة العشاء من ذهاب الشفق إلى ثلث الليل. (1)

وأكثر من يستغرب جمع الشيعة الإمامية بين الصلاتين لأجل انّه يتصور انّ الجامع يصلّي إحدى الصلاتين في غير وقتها ، ولكنّه غرب عن بآلة أنّه يأتي بالصلاة في غير وقت الفضيلة ولكنّه يأتي بها في وقت الإجزاء ، ولا غرو أن يكون

ص : 286


1- لاحظ العروة الوثقى : 171 ، فصل في أوقات اليومية.

للصلاة أوقاتا ثلاثة.

أ. وقت الاختصاص كما في أربع ركعات من أوّل الوقت وآخره ، أو ثلاث ركعات بعد المغرب وأربع ركعات قبل نصف الليل.

ب. وقت الفضيلة ، وقد عرفت تفصيله في الظهرين والعشاءين.

ج. وقت الإجزاء ، وهو مطلق ما بين الحدّين إلاّ ما يختصّ بإحدى الصلاتين ، فيكون وقت الإجزاء أعمّ من وقت الفضيلة وخارجه.

وقد تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت انّه إذا زالت الشمس دخل الوقتان إلاّ أنّ هذه قبل هذه.

روى الصدوق بإسناده عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : « إذا زالت الشمس دخل الوقتان : الظهر والعصر ، وإذا غابت الشمس دخل الوقتان : المغرب والعشاء الآخرة ». (1)

روى الشيخ الطوسي بإسناده عن عبيد بن زرارة قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن وقت الظهر والعصر؟ فقال : « إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر والعصر ، إلاّ انّ هذه قبل هذه ثمّ أنت في وقت منهما جميعا حتى تغيب الشمس ». (2)

والروايات بهذا المضمون متوفرة اقتصرنا على هذا المقدار.

فإذا كانت الصلوات تتمتع بأوقات ثلاثة كما بيّناه يتبيّن انّ الجمع ليس بأمر مشكل وإنّما يفوت به فضيلة الوقت لا أصل الوقت ، ولأجل ذلك ورد عن أئمّة أهل البيت أنّ التفريق أفضل من الجمع ، فنذكر في المقام بعض ما يصرح بجواز

ص : 287


1- الفقيه : 1 / 140 ، وأورده أيضا في الحديث 1 من الباب 17 من هذه الأبواب.
2- التهذيب : 2 / 26.

الجمع تيمّنا وتبرّكا ، وإلاّ فالمسألة من ضروريات الفقه الإمامي.

1. روى الصدوق بإسناده عن عبد الله بن سنان ، عن الصادق عليه السلام انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع بين الظهر والعصر بأذان وإقامتين ، وجمع بين المغرب والعشاء في الحضر من غير علّة بأذان واحد وإقامتين ». (1)

2. وروى أيضا بإسناده عن إسحاق بن عمّار ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : « إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلّى الظهر والعصر في مكان واحد من غير علة ولا سبب ، فقال له عمر _ وكان أجرأ القوم عليه _ : أحدث في الصلاة شيء؟ قال : لا ولكن أردت أن أوسّع على أمّتي ». (2)

3. أخرج الكليني بإسناده عن زرارة ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : « صلّى رسول الله بالناس الظهر والعصر حين زالت الشمس في جماعة من غير علّة ، وصلّى بهم المغرب والعشاء الآخرة قبل سقوط الشفق من غير علّة في جماعة ، وإنّما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليتسع الوقت على أمّته ». (3)

إلى غير ذلك من الروايات المتوفرة التي جمعها الشيخ الحر العاملي في وسائل الشيعة. (4)

إلى هنا تبيّنت نظرية الشيعة في الجمع بين الصلاتين.

* * *

ص : 288


1- الفقيه : 1 / 186 برقم 886.
2- علل الشرائع : 321 ، الباب 11.
3- الكافي : 3 / 286 ، الحديث 1.
4- الوسائل : 4 / 220 _ 223 ، الباب 32 من أبواب المواقيت.

التنويع في الوقت في فقه السنّة

وربما يتصوّر من لا خبرة له أنّ هذا التنويع في الوقت من خصائص الفقه الإمامي ، فان تنويع الوقت إلى أوقات ثلاثة يوجد في كلا الفقهين وإن كان بينهما اختلاف في الكمية.

قال النووي في شرح المهذب : فرع : للظهر ثلاثة أوقات : وقت فضيلة ، ووقت اختيار ، ووقت عذر. فوقت الفضيلة أوّله ، ووقت الاختيار ما بعد وقت الفضيلة ، إلى آخر الوقت ، ووقت العذر وقت العصر في حقّ من يجمع بسفر أو مطر.

ثمّ قال : وقال القاضي حسين : لها أربعة أوقات : وقت فضيلة ، ووقت اختيار ، ووقت جواز ، ووقت عذر. فوقت الفضيلة إذا صار ظل الشيء مثل ربعه ، والاختيار إذا صار مثل نصفه ، والجواز إذا صار ظله مثله وهو آخر الوقت ، والعذر وقت العصر لمن جمع بسفر أو مطر. (1)

من يوافق الإمامية بعض الموافقة

كما أنّ هناك من يقول ببعض ما ذهبت إليه الإمامية ، نقله النووي وقال : قال عطاء وطاوس : إذا صار ظل الشيء مثله دخل وقت العصر وما بعده وقت للظهر والعصر على سبيل الاشتراك حتى تغرب الشمس.

فهذا القول يخصّ صيرورة ظل الشيء مثله للظهر ، ثمّ يجعل الباقي مشتركا بينهما حتى تغرب الشمس ، وهو قريب ممّا ذهب إليه الإمامية.

ص : 289


1- المجموع : 3 / 27.

وقال مالك : إذا صار ظله مثله فهو آخر وقت الظهر وأوّل وقت العصر بالاشتراك ، فإذا زاد على المثل زيادة بيّنة خرج وقت الظهر. (1)

وهذا القول يجعل قسما من الوقت _ أعني : بعد صيرورة الظل مثله _ إلى زيادة الظل عنه زيادة بيّنة ، وقتا مشتركا بين الظهر والعصر.

ثمّ نقل عنه أيضا انّ وقت الظهر يمتد إلى غروب الشمس. (2) إلى غير ذلك من الأقوال التي فيها نوع موافقة للفقه الإمامي.

من يوافق الإمامية تمام الموافقة من السنّة

والجمع بين الصلاتين اختيارا وإن كان من ضروريات الفقه الإمامي ، لكن ليست الإماميّة متفردة فيه بل وافقهم لفيف من فقهاء السنّة.

قال ابن رشد : وأمّا الجمع في الحضر لغير عذر فإن مالكا وأكثر الفقهاء لا يجيزونه ، وأجاز ذلك جماعة من أهل الظاهر ، وأشهب من أصحاب مالك.

وسبب اختلافهم ، اختلافهم في مفهوم حديث ابن عباس ، فمنهم من تأوّله على أنّه كان من سفر.

ومنهم من أخذ بعمومه مطلقا ، وقد خرّج مسلم زيادة في حديثه وهو قوله : من غير خوف ولا سفر ولا مطر ، وبهذا تمسّك أهل الظاهر. (3)

قال النووي : فرع في مذاهبهم من الجمع بلا خوف ولا سفر ، ولا مطر ولا مرض ، مذهبنا ( الشافعي ) ومذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد والجمهور انّه لا يجوز ،

ص : 290


1- المجموع : 3 / 24.
2- المجموع : 3 / 27.
3- بداية المجتهد : 2 / 374 ، الطبعة المحققة.

وحكى ابن المنذر عن طائفة جوازه بلا سبب ، قال : وجوّزه ابن سيرين لحاجة أو ما لم يتّخذه عادة. (1)

وعلى كل تقدير فالمهم هو الدليل لا الأقوال ، فإن وافقت الدليل فهو ، وإلاّ فالمرجع هو الدليل.

الكتاب والجمع بين الصلاتين

قال سبحانه ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ). (2)

إنّ الآية متكفّلة لبيان أوقات الصلوات الخمسة ، فلو قلنا بأنّ المراد من غسق الليل هو انتصافه ، فيكون ما بين الدلوك وغسق الليل أوقاتا للصلوات الأربع ، غير أنّ الدليل دلّ على خروج وقت الظهرين بغروب الشمس ، فيكون ما بين الدلوك والغروب وقتا مشتركا للظهرين كما يكون ما بين الغروب وغسق الليل وقتا مشتركا للمغرب والعشاء.

وربما يفسر الغسق بغروب الشمس ، فعندئذ تتكفل الآية لبيان وقت الظهرين وصلاة الفجر دون المغرب والعشاء ، والمعروف هو التفسير الأوّل.

قال الطبرسي : وفي الآية دلالة على أنّ وقت صلاة الظهر موسّع إلى آخر النهار ، لأنّ الله سبحانه جعل من دلوك الشمس الذي هو الزوال إلى غسق الليل وقتا للصلوات الأربع إلاّ انّ الظهر والعصر اشتركا في الوقت من الزوال إلى

ص : 291


1- المجموع : 4 / 264.
2- الإسراء : 78.

الغروب ، والمغرب والعشاء الآخرة اشتركا في الوقت من الغروب إلى الغسق وأفرد صلاة الفجر بالذكر في قوله ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) ففي الآية بيان وجوب الصلوات الخمس وبيان أوقاتها. (1)

وما ذكرناه هو الذي نصّ عليه الإمام الباقر عليه السلام حيث قال : « قال الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) ، أربع صلوات سمّاهن الله وبيّنهن ووقّتهن ، وغسق الليل هو انتصافه ، ثمّ قال تبارك وتعالى ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ) فهذه الخامسة ». (2)

وقال الصادق عليه السلام : « منها صلاتان أوّل وقتهما من زوال الشمس إلاّ أنّ هذه قبل هذه ، ومنها صلاتان أوّل وقتهما من غروب الشمس إلى انتصاف الليل إلاّ أنّ هذه قبل هذه ». (3)

وقال القرطبي : وقد ذهب قوم إلى أنّ صلاة الظهر يتمادى وقتها من الزوال إلى الغروب ، لأنّ الله سبحانه علّق وجوبها على الدلوك وهذا دلوك كلّه ؛ قاله الأوزاعي وأبو حنيفة في تفصيل ، وأشار إليه مالك والشافعي في حالة الضرورة. (4)

وقال الرازي : إن فسرنا الغسق بظهور أوّل الظلمة _ وحكاه عن ابن عبّاس وعطاء والنضر بن شمّيل _ كان الغسق عبارة عن أوّل المغرب ، وعلى هذا التقدير يكون المذكور في الآية ثلاثة أوقات : وقت الزوال ، ووقت أوّل المغرب ، ووقت الفجر.

ص : 292


1- مجمع البيان : 3 / 434.
2- نور الثقلين : 3 / 200 ، الحديث 370.
3- نور الثقلين : 3 / 202 ، الحديث 377.
4- الجامع لأحكام القرآن : 1 / 304.

قال : وهذا يقتضي أن يكون الزوال وقتا للظهر والعصر فيكون هذا الوقت مشتركا بين هاتين الصلاتين ، وأن يكون أوّل المغرب وقتا للمغرب والعشاء فيكون هذا الوقت مشتركا أيضا بين هاتين الصلاتين ، فهذا يقتضي جواز الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء مطلقا ، إلاّ أنّه دلّ الدليل على أنّ الجمع في الحضر من غير عذر لا يجوز ، فوجب أن يكون الجمع جائزا لعذر السفر وعند المطر وغيره. (1)

وما حقّقه الرازي في المقام ، حقّ ليس وراءه شيء ، لكن عدوله عنه ، بحجّة « انّ الجمع في السفر من غير عذر لا يجوز لوجود الدليل » رجم بالغيب ، إذ أيّ دليل قام على عدم الجواز بلا عذر ، فهل الدليل هو الكتاب؟ والكتاب حسب تحقيقه يدلّ على الجواز ، أو السنّة وسيوافيك تضافر النصوص على الجواز ، أو الإجماع فليس عدم الجواز موضع إجماع وقد عرفت القول بالجواز أيضا من أهل السنّة ، مضافا إلى إطباق أئمّة أهل البيت عليهم السلام على الجواز ؛ وليس وراء الكتاب والسنّة والإجماع حجّة ، كما ليس وراء عبادان قرية. (2)

السنّة والجمع بين الصلاتين في الحضر اختيارا

قد تضافرت الروايات عن الصادق بالحق على جواز الجمع بين الصلاتين

ص : 293


1- التفسير الكبير : 21 / 27.
2- وكم للإمام الرازي من مواقف مشرقة في تحقيق ما هو الحقّ ، الذي هو الأحقّ بالاتّباع لكنّه عدل عنه لوجوه واهية. لاحظ ما حقّقه حول مسح الرجلين في تفسير قوله سبحانه ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) ، وما ذكره حول المراد من قوله ( وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) في تفسير قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) وغيرهما.

في الحضر اختيارا رواها أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد ، فلنقدم ما رواه مسلم بالسند والمتن ثمّ نذكر ما نقله غيره.

1. حدّثنا يحيى بن يحيى قال : قرأت على مالك ، عن الزبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : صلّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا في غير خوف ولا سفر.

2. وحدّثنا أحمد بن يونس وعون بن سلام جميعا عن زهير ، قال ابن يونس : حدّثنا زهير ، حدّثنا أبو الزبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : صلّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر والعصر جميعا بالمدينة في غير خوف ولا سفر. قال أبو الزبير : فسألت سعيدا : لم فعل ذلك؟ فقال : سألت ابن عباس كما سألتني فقال : أراد أن لا يحرج أحدا من أمّته.

3. وحدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا : حدّثنا أبو معاوية ؛ وحدّثنا أبو كريب وأبو سعيد الأشج _ واللفظ لأبي كريب _ قالا : حدّثنا وكيع كلاهما عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر « في حديث وكيع » قال : قلت لابن عباس : لم فعل ذلك؟ قال : كي لا يحرج أمّته. وفي حديث أبي معاوية قيل لابن عباس : ما أراد إلى ذلك؟ قال : أراد أن لا يحرج أمّته.

4. وحدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدّثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس قال : صلّيت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثمانيا جميعا وسبعا جميعا ، قلت : يا أبا الشعثاء أظنه أخّر الظهر وعجّل العصر وأخّر المغرب وعجّل

ص : 294

العشاء ، قال : وأنا أظن ذاك. (1)

ما ظنه _ لو رجع إلى الجمع الصوري كما سيوافيك _ لا يغني من الحقّ شيئا ، وسيوافيك الكلام فيه.

5. حدّثنا أبو الربيع الزهراني ، حدّثنا حماد بن زيد ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عبّاس أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلّى بالمدينة سبعا وثمانيا (2) الظهر والعصر والمغرب والعشاء.

6. وحدّثني أبو الربيع الزهراني ، حدّثنا حماد ، عن الزبير بن الخريت ، عن عبد الله بن شقيق قال : خطبنا ابن عباس يوما بعد العصر حتّى غربت الشمس وبدت النجوم ، وجعل الناس يقولون : الصلاة الصلاة قال : فجاءه رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني : الصلاة الصلاة ، فقال ابن عباس : أتعلّمني بالسنّة لا أمّ لك ، ثمّ قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء. قال عبد الله بن شقيق : فحاك في صدري من ذلك شيء فأتيت أبا هريرة فسألته ، فصدّق مقالته.

7. وحدّثنا ابن أبي عمر ، حدّثنا وكيع ، حدّثنا عمران بن حدير ، عن عبد الله بن شقيق العقيلي قال : قال رجل لابن عباس : الصلاة ، فسكت ؛ ثمّ قال : الصلاة ، فسكت ؛ ثمّ قال : الصلاة ، فسكت ، ثمّ قال : لا أمّ لك أتعلّمنا بالصلاة وكنّا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (3)

ص : 295


1- فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة بقرينة الحديث الخامس.
2- لف ونشر غير مرتب ، والمرتب منه : ثمانيا وسبعا.
3- شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 213 _ 218 ، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر ومع أنّ العنوان خاص بالحضر نقل فيه ثلاث روايات جاء فيها الجمع بين الصلاتين في السفر تركنا نقلها. ولعلّه نقلها في هذا الباب إيعازا بأنّ كيفية الجمع في الحضر مثلها في السفر كما سيوافيك بيانه.

هذا ما نقله مسلم في صحيحه ، وإليك ما نقله غيره.

8. أخرج البخاري عن ابن عباس : انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلّى بالمدينة سبعا وثمانيا : الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء ، فقال أيوب : لعلّه في ليلة مطيرة؟ قال : عسى. (1)

9. أخرج البخاري عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس قال : صلّى النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبعا جميعا وثمانيا جميعا. (2)

10. أخرج البخاري بإرسال عن ابن عمر وأبي أيّوب وابن عباس ، صلّى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المغرب والعشاء. (3)

11. أخرج الترمذي عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر ، قال : فقيل لابن عباس : ما أراد بذلك؟ قال : أراد أن لا يحرج أمّته.

قال الترمذي بعد نقل الحديث : حديث ابن عباس قد روي عنه من غير وجه ، رواه جابر بن زيد وسعيد بن جبير وعبد الله بن شقيق العقيلي. (4)

12. أخرج الإمام أحمد عن قتادة قال : سمعت جابر بن زيد ، عن ابن عباس قال : جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء بالمدينة في

ص : 296


1- صحيح البخاري : 1 / 110 ، باب تأخير الظهر إلى العصر من كتاب الصلاة.
2- صحيح البخاري : 1 / 113 ، باب وقت المغرب من كتاب الصلاة.
3- صحيح البخاري : 1 / 113 ، باب ذكر العشاء والعتمة.
4- سنن الترمذي : 1 / 354 ، رقم الحديث 187 ، باب ما جاء في الجمع في الحضر. ثمّ إنّ محقّق الكتاب أشار في الهامش إلى الوجوه التي روي بها هذا الحديث عن ابن عباس فلاحظ. كما أنّ للترمذي تفسيرا مرفوضا بالنسبة إلى هذا الحديث سيوافيك في محلّه.

غير خوف ولا مطر ، قيل لابن عباس : وما أراد لغير ذلك؟ قال : أراد إلاّ يحرج أمّته. (1)

13. أخرج الإمام أحمد عن سفيان ، قال عمر : وأخبرني جابر بن زيد انّه سمع ابن عباس يقول : صلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمانيا جميعا وسبعا جميعا ، قلت له : يا أبا الشعثاء أظنّه أخّر الظهر وعجل العصر ، وأخّر المغرب وعجّل العشاء ، قال : وأظن ذلك. (2)

14. أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن شقيق ، قال : خطبنا ابن عباس يوما بعد العصر حتّى غربت الشمس وبدت النجوم وعلق الناس ينادونه الصلاة وفي القوم رجل من بني تميم فجعل يقول : الصلاة الصلاة ، فغضب ، قال : أتعلّمني بالسنّة شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، قال عبد الله : فوجدت في نفسي من ذلك شيئا فلقيت أبا هريرة فسألته فوافقه. (3)

15. أخرج مالك عن سعيد بن جبير ، عن عبد الله بن عباس انّه قال : صلّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا في غير خوف ولا سفر. (4)

16. أخرج أبو داود عن سعيد بن جبير ، عن عبد الله بن عباس ، قال : صلّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر والعصر جميعا ، والمغرب والعشاء جميعا في غير خوف ولا سفر.

ص : 297


1- مسند أحمد : 1 / 223.
2- مسند أحمد : 1 / 221 ، وما ظنه ان أراد به الجمع الصوري كما سيوافيك فهو ليس بحجّة حتى للظان ، والظن لا يغني عن الحقّ شيئا.
3- مسند أحمد : 1 / 251.
4- موطإ مالك : 1 / 144 ، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر والسفر ، الحديث 4.

قال مالك : أرى ذلك كان في مطر. (1)

17. أخرج أبو داود عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس ، قال : صلّى بنا رسول الله بالمدينة ثمانيا وسبعا الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء.

قال أبو داود : ورواه صالح مولى التوأمة ، عن ابن عباس قال : في غير مطر. (2)

18. أخرج النسائي عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : صلّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا من غير خوف ولا سفر. (3)

19. أخرج النسائي عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلّي بالمدينة يجمع بين الصلاتين بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر ، قيل له : لم؟ قال : لئلاّ يكون على أمّته حرج. (4)

20. أخرج النسائي عن أبي الشعثاء ، عن ابن عباس قال : صلّيت وراء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمانيا جميعا وسبعا جميعا. (5)

21. أخرج النسائي عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس انّه صلّى بالبصرة الأولى والعصر ليس بينهما شيء ، والمغرب والعشاء ليس بينهما شيء فعل ذلك من شغل ، وزعم ابن عباس انّه صلّى مع رسول الله بالمدينة ، الأولى والعصر ثمان

ص : 298


1- سنن أبي داود : 2 / 6 ، الحديث 1210 ، باب الجمع بين الصلاتين. وسيوافيك الكلام في تفسير مالك للحديث.
2- المصدر السابق ، الحديث 1214.
3- سنن النسائي : 1 / 290 ، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر.
4- سنن النسائي : 1 / 290 ، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر.
5- سنن النسائي : 1 / 290 ، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر.

سجدات ليس بينهما شيء. (1)

22. أخرج الحافظ عبد الرزاق عن داود بن قيس ، عن صالح مولى التوأمة انّه سمع ابن عباس يقول : جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء بالمدينة في غير سفر ولا مطر ، قال قلت لابن عباس : لم تراه فعل ذلك؟ قال : أراه للتوسعة على أمّته. (2)

23. أخرج عبد الرزاق عن ابن عباس قال : جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الظهر والعصر ، بالمدينة في غير سفر ولا خوف ، قال : قلت لابن عباس : ولِمَ تراه فعل ذلك؟ قال : أراد أن لا يحرج أحدا من أمّته. (3)

24. أخرج عبد الرزاق عن عمرو بن دينار انّ أبا الشعثاء أخبره انّ ابن عباس أخبره ، قال : صلّيت وراء رسول الله ثمانيا جميعا وسبعا جميعا بالمدينة ، قال ابن جريح ، فقلت لأبي الشعثاء : أنّي لأظن النبي أخّر من الظهر قليلا وقدّم من العصر قليلا ، قال أبو الشعثاء : وأنا أظن ذلك. (4)

قلت : ما ظنّه ابن جريح وصدّقه أبو الشعثاء ظن لا يغني من الحقّ شيئا ، وحاصله : انّ الجمع كان صوريا لا حقيقيا. وسيوافيك ضعف هذا الحمل وانّ الجمع الصوري يوجب الإحراج أكثر من التفريق فإنّ معرفة أواخر الوقت من الصلاة الأولى وأوائله من الصلاة الثانية أشكل من الجمع.

25. أخرج عبد الرزاق عن عمرو بن شعيب ، عن عبد الله بن عمر قال : جمع لنا رسول الله مقيما غير مسافر بين الظهر والعصر فقال رجل لابن عمر : لِمَ

ص : 299


1- سنن النسائي : 1 / 286 ، باب الوقت الذي يجمع فيه المقيم والمراد من ثمان سجدات ثمان ركعات.
2- . مصنف عبد الرزاق : 2 / 555 _ 556 ، الحديث 4434 ، 4435.
3- . مصنف عبد الرزاق : 2 / 555 _ 556 ، الحديث 4434 ، 4435.
4- مصنف عبد الرزاق : 2 / 556 ، الحديث 4436.

ترى النبي فعل ذلك؟ قال : لأن لا يحرج أمّته إن جمع رجل. (1)

26. أخرج الطحاوي في « معاني الآثار » بسنده عن جابر بن عبد الله قال : جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في المدينة للرخص من غير خوف ولا علّة. (2)

27. أخرج الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني ( المتوفّى عام 430 ه ) عن جابر بن زيد انّ ابن عباس جمع بين الظهر والعصر ، وزعم انّه صلّى مع رسول الله بالمدينة الظهر والعصر. (3)

28. أخرج أبو نعيم عن عمرو بن دينار قال : سمعت أبا الشعثاء يقول : قال ابن عباس ( رض ) : صلّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثماني ركعات جميعا وسبع ركعات جميعا من غير مرض ولا علّة. (4)

29. أخرج البزار في مسنده عن أبي هريرة قال : جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الصلاتين في المدينة من غير خوف. (5)

30. أخرج الطبراني في الأوسط والكبير بسنده عن عبد الله بن مسعود قال : جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم _ يعني بالمدينة _ بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، فقيل له في ذلك ، فقال : صنعت ذلك لئلاّ تحرج أمّتي. (6)

هذه ثلاثون حديثا جمعناها من الصحاح والسنن والمسانيد ، وبسطنا الكلام في النقل ، ليقف القارئ على أنّها أحاديث اعتنى بنقلها حفّاظ المحدّثين وأكابرهم

ص : 300


1- مصنّف عبد الرزاق : 2 / 556 ، الحديث 4437.
2- معاني الآثار : 1 / 161.
3- حلية الأولياء : 3 / 90 باب جابر بن زيد.
4- حلية الأولياء : 3 / 90 باب جابر بن زيد.
5- مسند البزار : 1 / 283 ، الحديث رقم 421.
6- المعجم الكبير : 10 / 269 ، الحديث 10525.

ولا يمكن لأحد أن يتناكرها أو يرفضها ، وهناك روايات مبثوثة في كتب الحديث أعرضنا عن ذكرها لأجل الاختصار. (1)

وهذه الأسانيد المتوفرة تنتهي إلى الأشخاص التالية أسماؤهم :

1. عبد الله بن عباس حبر الأمّة.

2. عبد الله بن عمر.

3. أبو أيّوب الأنصاري مضيّف النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

4. أبو هريرة الدوسي.

5. جابر بن عبد الله الأنصاري.

6. عبد الله بن مسعود.

والروايات صريحة في أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم جمع بالمدينة بين الصلاتين من غير خوف ولا مطر ولا علّة ، جمع لبيان جواز الجمع ومشروعيته لئلاّ يتوهّم متوهّم بأنّ التفريق فريضة لما كان صلى الله عليه وآله وسلم يستمر على التوقيت والإتيان في وقت الفضيلة ، ولكنّه بعمله أثبت انّ الجمع جائز وإن كان التوقيت أفضل.

تبريرات لرفض الجمع بين الصلاتين

اشارة

ولما كان مضمون الروايات مخالفا للمذاهب الفقهية الرائجة حاول غير واحد من المحدّثين وأهل الفتيا إخضاع الروايات على فتوى الأئمّة مكان أخذها مقياسا لتمييز الحقّ عن الباطل ، فترك كثير منهم العمل بهذه الروايات ، غير انّ

ص : 301


1- لاحظ المعجم الأوسط : 2 / 94 وكنز العمال : 8 / 246 _ 251 ، برقم (22764). و 22771 ، 22774 ، 22777 ، 22778 . 2276. و 22771 ، 22774 ، 22777 ، 22778.

لفيفا منهم عملوا بها وأفتوا على ضوئها ، ذكر أسماءهم ابن رشد في « بداية المجتهد » والنووي في « المجموع » على ما مرّ ، وإليك الأعذار التي التجأ إليها المخالف وهي أوهن من بيت العنكبوت.

1. ترك الجمهور العمل بها

إنّ ممّا يؤخذ على هذه الروايات ترك الجمهور للعمل بها ، وهو يوجب سقوط الاستدلال بها.

يقول الترمذي بعد ذكر أحاديث الجمع : والعمل على هذا عند أهل العلم :

أن لا يجمع بين الصلاتين إلاّ في السفر أو بعرفة. (1)

وقد ردّ عليه غير واحد من المحقّقين.

أ. يقول النووي : هذه الروايات الثابتة في مسلم كما تراها وللعلماء فيها تأويلات ومذاهب ، وقد قال الترمذي في آخر كتابه : ليس في كتابي حديث أجمعت الأمّة على ترك العمل به إلاّ حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر ، وحديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة. (2)

وهذا الذي قاله الترمذي في حديث شارب الخمر هو كما قاله فهو حديث منسوخ دلّ الإجماع على نسخه ، وأمّا حديث ابن عباس فلم يجمعوا على ترك العمل به بل لهم أقوال ، ثمّ ذكر بعض التأويلات التي نشير إليها. (3)

ب. وقال الشوكاني ردا على الترمذي : ولا يخفاك انّ الحديث صحيح ، وترك الجمهور للعمل به لا يقدح في صحته ولا يوجب سقوط الاستدلال به ، وقد أخذ

ص : 302


1- سنن الترمذي : 1 / 354.
2- لاحظ العلل : 2 / 331 و 4 / 384.
3- شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 224.

به بعض أهل العلم كما سلف وإن كان ظاهر كلام الترمذي انّه لم يأخذ به ولكن قد أثبت ذلك غيره ، والمثبت مقدّم. (1)

ج. وقال الآلوسي : مذهب جماعة من الأئمة جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذ عادة ، وهو قول ابن سيرين ، وأشهب من أصحاب مالك ، وحكاه الخطابي عن القفال الشاشي الكبير من أصحاب الإمام الشافعي ، وعن أبي إسحاق المروزي وعن جماعة من أصحاب الحديث ، واختاره ابن المنذر ، ويؤيده ظاهر ما صحّ عن ابن عباس ، ورواه مسلم أيضا ، انّه لما قال : جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر : قيل له : لِمَ فعل ذلك؟ فقال : أراد أن لا يحرج أحدا من أمّته.

وهو من الحرج بمعنى المشقة فلم يعلّله بمرض ولا غيره.

ويعلم ممّا ذكرنا أنّ قول الترمذي في آخر كتابه : ليس في كتابي حديث أجمعت الأمّة على ترك العمل به إلاّ حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر وحديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة ، ناشئ من عدم التتبع ، نعم ما قاله في الحديث الثاني صحيح فقد صرحوا بأنّه حديث منسوخ دلّ الإجماع على نسخه. (2)

د. وبهذه النقود ظهر انّه ليس هناك إعراض عن العمل بهذه الأحاديث ، ولعلّ عدم إفتاء الجمهور بمضمون هذه الأحاديث هو كون التوقيت والتفريق أحوط.

لكن هذا الاحتياط يخالف مع احتياط آخر ، وهو انّ التفريق في أعصارنا هذا

ص : 303


1- نيل الأوطار : 3 / 218 تحت باب جمع المقيم في مطر أو غيره.
2- روح المعاني : 15 / 133 _ 134 في تفسير الآية ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ).

أدى بكثير من أهل الأشغال إلى ترك الصلاة _ كما شاهدناه عيانا _ بخلاف الجمع فإنّه أقرب إلى المحافظة على أدائها ، وبهذا ينقلب الاحتياط إلى ضده ، ويكون الأحوط للفقهاء أن يفتوا العامة بالجمع وأن ييسّروا ولا يعسّروا _ ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (1) ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (2) والدليل على جواز الجمع مطلقا موجود والحمد لله سنة صحيحة صريحة كما سمعت بل كتابا محكما مبيّنا. (3)

2. الحديث لا ينص على جمع التقديم والتأخير

قال القاضي شرف الدين الحسين بن محمد المغربي في كتابه « البدر التمام في شرح بلوغ المرام » : إنّ حديث ابن عباس لا يصح الاحتجاج به ، لأنّه غير معيّن لجمع التقديم والتأخير كما هو ظاهر رواية مسلم وتعيين واحد منها تحكم ، فوجب العدول إلى ما هو واجب من البقاء على العموم في حديث الأوقات للمعذور وغيره وتخصيص المسافر بثبوت المخصص. (4)

يلاحظ عليه : أنّ ابن عباس لم ينقل كيفية الجمع لوضوحها فان الجمع في الحضر كالجمع في السفر ، فكما أنّه يجوز في السفر بكلتا الصورتين جمع التقديم وجمع التأخير كما مرّ التنصيص به فيما سبق. (5) فكذلك في الحضر ، وسكوت ابن عباس وعدم سؤال الرواة عن الكيفية يعرب عن أنّهم فهموا من كلامه عدم

ص : 304


1- البقرة : 185.
2- الحج : 78.
3- مسائل فقهية : 9.
4- حكاه السيد محمد بن إسماعيل الصنعاني المعروف بالأمير في كتابه سبل السّلام : 2 / 43.
5- لاحظ الرواية 3 و 4 في فصل الجمع بين الصلاتين في السفر من الصنف الثاني ، ص 279.

الخصوصية لواحدة من الصورتين وإلاّ كان عليهم السؤال ثانيا من أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع على نحو جمع التقديم أو جمع التأخير.

ويؤيد ذلك وحدة التعليل في كلام ابن عباس في الموردين.

أخرج مسلم عن ابن عباس انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع بين الصلاة في سفرة سافرها في غزوة تبوك فجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، قال سعيد : فقلت لابن عباس : ما حمله على ذلك؟ قال : أراد أن لا يحرج أمّته. (1)

ويؤيد الإطلاق وعدم الفرق بين الصورتين هو عموم العلة وهو عدم الإحراج على الأمّة ورفع الحرج منه ، فالإحراج في الالتزام بالتفريق بين الصلاتين ورفعه يحصل بكلّ واحدة من الصورتين ، سواء أكانت جمع تقديم أم جمع تفريق.

أضف إلى ذلك انّ ابن عباس عمل بالحديث بصورة جمع التأخير ، فقد مرّ انّ ابن عباس خطب يوما بعد العصر حتّى غربت الشمس وبدت النجوم وجعل الناس يقولون : الصلاة الصلاة ، فجاء رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني ويقول : الصلاة الصلاة ، فقال ابن عباس : أتعلّمني بالسنّة لا أمّ لك إلى آخر ما مرّ من الحديث.

ولعمر القاري انّ المخالف لمّا وقف أمام هذه الروايات الهائلة الدالة على تجويز الجمع مقابل التفريق ورأى أنّ فقه الجمهور على الخلاف ، عمد إلى التشكيك بها ، ولذلك أتى بهذه الشبهة وهي أشبه بسؤال بني إسرائيل موسى بن عمران عن سن البقرة ولونها. (2)

ص : 305


1- شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 224 ، باب الجمع بين الصلاتين ، ح 51.
2- سورة البقرة : 67 _ 71.
3. كان الجمع بين الصلاتين جمعا صوريا
اشارة

إنّ غير واحد ممّن تعرض لحلّ هذه الأحاديث التجأ إلى أنّ الجمع لم يكن جمعا حقيقيا كما في الجمع في السفر ، بل كان جمعا صوريا ، بمعنى انّه صلى الله عليه وآله وسلم أخّر الظهر إلى حد بقي من وقتها مقدار أربع ركعات فصلّى الظهر ، وبإتمامها دخل وقت العصر وصلّى العصر فكان جمعا بين الصلاتين مع أنّ كلّ واحدة من الصلاتين أتي بها في وقتها. وهذا هو الظاهر في غير واحد من شراح الحديث ، وإليك كلماتهم :

1. قال النووي : ومنهم من تأوّله على تأخير الأولى إلى آخر وقتها فصلاّها فيه فلمّا فرغ منها دخلت الثانية فصلاّها فصارت صلاته صورة جمع.

ثمّ رده وقال : وهذا أيضا ضعيف أو باطل ، لأنّه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل ، وفعل ابن عباس الذي ذكرناه حين خطب ، واستدلاله بالحديث لتصويب فعله وتصديق أبي هريرة له وعدم إنكاره ، صريح في ردّ هذا التأويل. (1)

وكان على النووي أن يرد عليه بما ذكرناه ، وهو انّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم جمع بين الصلاتين بغية رفع الحرج عن الأمّة ، والجمع بالنحو المذكور أكثر حرجا من التفريق.

قال ابن قدامة : إنّ الجمع رخصة ، فلو كان على ما ذكروه لكان أشد ضيقا وأعظم حرجا من الإتيان بكلّ صلاة في وقتها ، لأنّ الإتيان بكلّ صلاة في وقتها أوسع من مراعاة طرفي الوقتين بحيث لا يبقى من وقت الأولى إلاّ قدر فعلها.

ص : 306


1- شرح صحيح مسلم : 5 / 225.

ثمّ لو كان الجمع هكذا ، لجاز الجمع بين العصر والمغرب ، والعشاء والصبح ولا خلاف بين الأمّة في تحريم ذلك والعمل بالخبر على الوجه السابق إلى الفهم منه أولى من هذا التكلّف. (1)

كما أنّ المقدسي في الشرح الكبير (2) ردّ على هذا التأويل بنفس ما ذكره ابن قدامة ، واللفظ في كلا الكتابين واحد ولذلك اقتصرنا بلفظ ابن قدامة.

نعم انّهما ردّا بما نقلناه عنهما على من فسّر جواز الجمع بين الصلاتين للمسافر بالجمع الصوري ، ولمّا كان ملاك الجمع في كلا المقامين ( المسافر والحاضر ) واحدا ، وهو رفع الحرج والمشقة عن الأمّة ، وكان الجمع الصوري محرجا على نحو أشد ، أثبتنا كلامهما في المقام أيضا.

ولأجل ما ذكرنا حمل الخطّابي الجمع في الرواية على الجمع الحقيقي دون الصوري ، فقال :

ظاهر اسم « الجمع » عرفا لا يقع على من أخّر الظهر حتّى صلاّها في آخر وقتها وعجّل العصر فصلاّها في أوّل وقتها ، لأنّ هذا قد صلّى كلّ صلاة منهما في وقتها الخاصّ بها.

قال : وإنّما الجمع المعروف بينهما أن تكون الصلاتان معا في وقت إحداهما ، ألا ترى أنّ الجمع بعرفة بينهما ومزدلفة كذلك. (3)

ص : 307


1- المغني : 2 / 113 _ 114 ، ذكره في نقد كلام من حمل الجمع بين الصلاتين في السفر ، ولما كان المناط واحدا نقلناه في المقام.
2- الشرح الكبير في ذيل المغني : 2 / 115.
3- معالم السنن : 2 / 52 ، ح 1163 ؛ عون المعبود : 1 / 468.
أدلّة الشوكاني على أنّ الجمع كان صوريّا

ثمّ إنّ الشوكاني ممّن يؤيّد تفسير الجمع بالجمع الصوري ، وأيّده بوجوه ثلاثة :

الأوّل : ما أخرجه مالك في الموطّأ والبخاري وأبو داود والنسائي عن ابن مسعود ، قال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلّى صلاة لغير ميقاتها إلاّ صلاتين جمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة وصلّى الفجر يومئذ قبل ميقاتها.

قال الشوكاني : نفى ابن مسعود مطلق الجمع وحصره في جمع المزدلفة ، مع أنّه ممّن روى حديث الجمع بالمدينة كما تقدّم ، وهو يدلّ على أنّ الجمع الواقع بالمدينة جمع صوري ، ولو كان جمعا حقيقيا لتعارض روايتاه والجمع ما أمكن المسير إليه هو الواجب. (1)

يلاحظ عليه أوّلا : أنّه لا يحتجّ به ، لأنّه حصر الجمع في المزدلفة مع تضافر الروايات على أنّه صلى الله عليه وآله وسلم جمع في المزدلفة وعرفة ، فالحديث متروك الظاهر لا يعرّج عليه ، ولا يصحّ قرينة على المراد من الجمع في روايات المقام.

وثانيا : انّ ابن مسعود نفسه روى جمع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين الصلاتين في المدينة وقال : جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء فقيل له في ذلك ، فقال : صنعت ذلك لئلاّ تحرج أمّتي. (2)

وقد عرفت أنّ الجمع الصوري أشدّ حرجا من الجمع الحقيقي ، فإنّ معرفة أواخر الأوقات وأوائلها على وجه الضبط كان مشكلا في الأعصار السابقة ، فلا

ص : 308


1- نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار : 3 / 217. وفي المصدر « المصير » مكان « المسير ».
2- لاحظ الرواية برقم 30.

محيص من تفسير الجمع بالجمع الحقيقي ، وهذا دليل على أنّ رواية الحصر في المزدلفة متروكة لا يحتجّ بها.

الثاني : ما أخرجه ابن جرير عن ابن عمر قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان يؤخّر الظهر ويعجّل العصر فيجمع بينهما ، ويؤخر المغرب ويعجّل العشاء فيجمع بينهما ، وهذا هو الجمع الصوري. (1)

يلاحظ عليه : أنّ الحديث وإن كان مشعرا بالجمع الصوري ولكنّه لا يؤخذ به ، وذلك لإجمال المراد منه ، فإن أراد أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك في السفر ، فقد تقدّم أنّ جمع الرسول بين الصلاتين في السفر ، كان جمعا حقيقيا.

روى مسلم عن أنس بن مالك أنّه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخّر الظهر إلى وقت العصر ، ثمّ نزل فجمع بينهما. (2)

وفي رواية أخرى عنه : أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا عجّل عليه السفر يؤخر الظهر إلى أوّل وقت العصر فيجمع بينهما ، ويؤخّر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حتّى يغيب الشفق. (3)

وإن أراد أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع بين الصلاتين بالجمع الصوري في الحضر ، فقد عرفت تضافر الروايات على الجمع الحقيقي ، حيث إنّ حديث ابن عباس وغيره صريح فيه وقرينة على حمل سائر الروايات على الحقيقي فلا يمكن أن يطرح حديث حبر الأمّة وعمله بحديث مجمل لابن عمر.

الثالث : ما أخرجه النسائي عن ابن عباس : صلّيت مع النبي الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا ، « أخّر الظهر وعجّل العصر وأخّر المغرب وعجّل

ص : 309


1- نيل الأوطار : 3 / 217.
2- . شرح صحيح مسلم ، ج 5 ، باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر ، برقم 46 و 48.
3- . شرح صحيح مسلم ، ج 5 ، باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر ، برقم 46 و 48.

العشاء » ، وهذا ابن عباس راوي حديث الباب قد صرّح بأنّ ما رواه من الجمع المذكور هو الجمع الصوري. (1)

يلاحظ عليه : بأنّ التفسير _ أعني قوله : أخّر الظهر وعجّل العصر وأخّر المغرب وعجّل العشاء _ ليس من ابن عباس ، بل من جابر بن زيد ، بقرينة ما أخرجه الإمام أحمد عن جابر بن زيد أنّه سمع ابن عباس يقول : صلّيت مع رسول الله ثمانيا جميعا وسبعا جميعا ، قلت له : يا أبا الشعثاء أظنّه أخّر الظهر وعجّل العصر وأخّر المغرب وعجّل العشاء قال : وأنا أظن ذلك. (2)

وهذا دليل واضح على أنّ التفسير من أبي الشعثاء وأضرابه ، وما أوّلوه إلاّ لأنّهم اعتادوا على التوقيت والتفريق بين الصلوات ، فزعموا أنّ التوقيت فرض لا يترك ، ولمّا وقفوا على هذه الروايات الهائلة تحيّروا في مفاد الرواية واتخذ كلّ منهم مهربا ، وفسّره أبو الشعثاء بالجمع الصوري.

4. كان الجمع لعذر المطر

هذا هو التأويل الثالث الذي لجأ إليه من لم يجوز الجمع بين الصلاتين في الحضر اختيارا.

قال النووي : منهم من تأوّله على أنّه جمع بعذر المطر ، وهذا مشهور عن جماعة من الكبار المتقدّمين ، ثمّ رد عليه بأنّه ضعيف بالرواية الأخرى من غير خوف ولا مطر. (3)

ص : 310


1- نيل الأوطار : 3 / 216.
2- مسند أحمد : 1 / 221.
3- شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 225.

إنّ السبب لهذا النوع من التأويل هو تطبيق الرواية على فتوى الجمهور وإلاّ فالروايات صريحة في أنّ هذا الجمع كان بلا عذر ولو استقرأت نصوص الروايات التي نقلناها عن ابن عباس وغيره لوقفت على أنّ الجمع لم يكن لعذر بل كان لأجل رفع الحرج عن الأمة.

ففي بعضها : في غير خوف ولا سفر ( لاحظ الرواية رقم 1 ، 2 ، 15 ، 16 ، 18 ، و 23 ).

وفي بعض آخر : في غير خوف ولا مطر ( لاحظ الرواية رقم 3 ، 4 ، 11 ، (12). ).

(1). ).

وفي بعضها : في غير سفر ولا مطر ( لاحظ الرواية 22 ).

وفي بعضها : من غير خوف ولا علة ( لاحظ الرواية 26 ).

وفي بعضها : من غير مرض ولا علة ( لاحظ الرواية 28 ).

أضف إلى ذلك التعليل الوارد في الروايات الذي يرد هذا الاحتمال بوضوح ، وإليك نصها :

فقد علّل في بعض الروايات بقوله : ( أراد ان لا يحرج أحدا من أمّته ) ( لاحظ الرواية رقم 2 و (3). و 12 و 23 ).

(1). و 12 و 23 ).

وفي بعض آخر : لئلا يكون على أمته حرج ( لاحظ الرواية 19 ).

وفي بعض آخر : أراه للتوسعة على أمّته ( لاحظ الرواية 22 ).

وفي بعض آخر : لأن لا يحرج أمّته ان جمع رجل ( لاحظ الرواية 25 ).

وفي بعض آخر : لئلا تحرج أمّتي ( لاحظ الرواية 30 ).

فالناظر في هذه الروايات يذعن بأنّ الجمع لم يكن لعذر المطر والسفر والخوف ولا لعلة أخرى وانّ الصادق بالحق جمع بين الصلاتين في المدينة _ بلا أيّ

ص : 311

عذر _ بأمر من الله سبحانه ليتسع الأمر على أمّته ولئلا يتوهم متوهم انّ التوقيت فرض لا يمكن التخلّف عنه بل هو فضيلة لا تنكر ، ومع ذلك لكلّ واحد من آحاد الأمّة الجمع بين الصلاتين بلا توقيت.

5. كان الجمع للغيم في السماء

ومنهم من تأوّله على أنّه كان غيم فصلى الظهر ثمّ انكشف الغيم وبان انّ وقت العصر دخل فصلاها.

وهذا الاحتمال من الوهن بمكان وكفى في وهنه ما ذكره النووي حيث قال : إنّه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهر والعصر ولكن لا احتمال فيه في المغرب والعشاء مع أنّ الجمع لم يكن مختصا بالظهرين بل جمع بين المغرب والعشاء حتّى انّ ابن عباس أخّر المغرب إلى وقت العشاء. (1)

أضف إلى ذلك انّه لو كان الجمع في هذه الحالة كان على الرواية التصريح بذلك أفيحتمل انّ حبر الأمة غفل عن القيد أو تذكر ولم ينقل وهكذا غيره نظراء أبي هريرة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود؟!

6. كان الجمع لمرض

وقد أوّله بعض من لا يروقه الجمع بين الصلاتين وقال بأنّ الرواية محمولة على الجمع بعذر المرض أو نحوه ، نقله النووي عن أحمد بن حنبل والقاضي حسين من الشافعية واختاره الخطابي والتولي والروياني من الشافعية. واختاره النووي

ص : 312


1- شرح صحيح مسلم : 5 / 225.

وقال : وهو المختار في تأويله لظاهر الحديث ولفعل ابن عباس وموافقة أبي هريرة ، ولأنّ المشقة فيه أشدّ من المطر. (1)

يلاحظ عليه : بأنّه أيضا كسائر التأويلات في الوهن والسقوط ، وقد ورد في بعض الروايات من غير خوف ولا علة ، وفي البعض الآخر من غير مرض ولا علّة.

والذي يبطل ذلك هو انّ ابن عباس جمع بين المغرب والعشاء ولم يكن هناك مرض ولا مريض ، بل كان يخطب الناس وطال كلامه حتى مضى وقت الفضيلة للمغرب فصلّى المغرب مع العشاء في وقت واحد.

على أنّه لو كان التأخير للمرض ، فيجوز لخصوص المريض لا لمن لم يكن مريضا مع أنّ النبي جمع بين الصلاتين مع عامة أصحابه ، واحتمال انّ المرض عمّ الجميع بعيد غاية البعد. (2)

وبما ذكرنا صرّح الحافظ ابن حجر العسقلاني فقال : لو كان جمعه صلى الله عليه وآله وسلم بين الصلاتين لعارض المرض لما صلّى معه إلاّ من به نحو ذلك العذر ، والظاهر أنّه صلّى بأصحابه ، وقد صرّح بذلك ابن عباس في روايته. (3)

وهذا هو الخطابي يحكي في معالمه عن ابن المنذر انّه قال : ولا معنى لحمل الأمر فيه على عذر من الأعذار ، لأنّ ابن عباس قد أخبر بالعلة فيه وهو قوله : « أراد أن لا تحرج أمّته » وحكي عن ابن سيرين انّه كان لا يرى بأسا أن يجمع بين الصلاتين إذا كانت حاجة أو شيء ما لم يتّخذه عادة. (4)

وقال المحقّق لسنن الترمذي بعد نقل كلام الخطابي : وهذا هو الصحيح

ص : 313


1- شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 226.
2- لاحظ نيل الأوطار للشوكاني : 3 / 216.
3- فتح الباري : 2 / 24.
4- معالم السنن : 1 / 265.

الذي يؤخذ من الحديث ، وأمّا التأوّل بالمرض أو العذر أو غيره فإنّه تكلّف لا دليل عليه ، وفي الأخذ بهذا رفع كثير من الحرج عن أناس قد تضطرهم أعمالهم أو ظروف قاهرة إلى الجمع بين الصلاتين ويتأثّمون من ذلك ويتحرّجون وفي هذا ترفيه لهم وإعانة على الطاعة ما لم يتّخذه عادة كما قال ابن سيرين. (1)

وما ذكره هو الحقّ ولكنّه تضييق أيضا لما وسّعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحصر الجمع بمن له حاجة مع أنّ النبي بإذن من الله وسّع على وجه الإطلاق سواء أكانت هناك علة أو لا.

نعم لا شكّ انّ التوقيت أفضل ومن أتى بكلّ صلاة في وقتها ( وقت الفضيلة ) أفضل من إتيانها في الوقت المشترك ، ومع ذلك فمجال الإتيان في الشريعة أوسع.

7. كان الجمع لأحد الأعذار المبهمة

لما كان تعيين العذر المسوّغ للجمع ، أمرا مشكلا سلك بعضهم مسلك الإبهام والإجمال وانّ الجمع كان لأحد الأعذار المسوّغة ، من دون تعيين.

وممّن عرّج على هذا الاحتمال مفتي السعودية السابق عبد العزيز بن باز في تعليقة مختصرة له على « فتح الباري بشرح صحيح البخاري » فهو لمّا ضعّف مختار ابن حجر في تفسير الجمع ( الجمع الصوري ) بقوله هذا الجمع ضعيف ، قال :

الصواب حمل الحديث المذكور على أنّه صلى الله عليه وآله وسلم جمع بين الصلوات المذكورة لمشقّة عارضة ذلك اليوم من مرض غالب أو برد شديد أو وحل ونحو ذلك ، ويدلّ على ذلك قول ابن عباس ، لمّا سئل عن علّة هذا الجمع ، قال : لئلاّ يحرج أمّته

ص : 314


1- سنن الترمذي : 1 / 358 ، قسم التعليقة بقلم أحمد محمد شاكر.

ثمّ استحسن هذا الجمع وقال : وهو جواب عظيم سديد شاف. (1)

يلاحظ عليه : أنّ هذا الجمع كالجمع الذي ضعّفه في الضعف والوهن سواء ، وذلك لأنّه يخالف رواية ابن عباس وعمله ، فإنّه جمع بين الصلاتين في البصرة من دون أن يكون هناك مرض غالب أو برد شديد أو وحل.

أضف إلى ذلك إطلاق التعليل ، أعني : رفع الحرج عن الأمّة ، فإنّ الحرج لا يختصّ بصور الأعذار ، بل يعمّ إلزام الناس بالتفريق بين الصلوات على وجه الإيجاب عبر الحياة.

إنّ لابن الصدّيق في تأليفه المنيف المسمّى ب_ « إزالة الحظر عمّن جمع بين الصلاتين في الحضر » هنا كلاما لا بأس بإيراده هنا :

قال : إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صرّح بأنّه فعل ذلك ليرفع الحرج عن أمّته وبيّن لهم جواز الجمع إذا احتاجوا إليه. فحمله على المطر بعد هذا التصريح من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة الذين رووه ، تعسف ظاهر ، بل تكذيب للرواة ومعارضة لله والرسول ، لأنّه لو فعل ذلك للمطر لما صرّح النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بخلافه ، ولما عدل الرواة عن التعليل به ، إلى التعليل بنفي الحرج ، كما رووا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه كان يأمر المنادي أن ينادي في الليلة المطيرة : « ألا صلّوا في الرحال » ولم يذكروا ذلك في الجمع فكيف وقد صرّحوا بنفي المطر؟!

وأضاف أيضا وقال : إنّ ابن عباس الراوي لهذا الحديث أخّر الصلاة وجمع لأجل انشغاله بالخطبة ، ثمّ احتجّ بجمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يجوز أن يحتجّ بجمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمطر _ وهو عذر بيّن ظاهر _ على الجمع لمجرّد الخطبة أو الدرس الذي في

ص : 315


1- فتح الباري بشرح صحيح البخاري : 2 / 24 ، بتعاليق عبد العزيز بن باز.

إمكانه أن يقطعه للصلاة ثمّ يعود إليه أو ينتهي منه عند وقت الصلاة ولا يلحقه فيه ضرر ولا مشقة كما يلحق الإنسان في الخروج في حالة المطر والوحل. (1)

حصيلة الكلام : انّ هذا التشريع من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من الله سبحانه أضفى للشريعة مرونة قابلة للتطبيق على مرّ العصور وعلى كافة أصعدة الحياة المتطورة مهما تطورت.

فمن ألقى نظرة فاحصة على الحياة المتطورة في الغرب الصناعي يقف على أنّ التفريق بين الصلاتين _ خصوصا الظهر والعصر _ أمر شاق على المسلمين خاصة العمال والموظفين بنحو ينتهي الأمر ، إمّا إلى تحمل المشقة الكبيرة ، أو ترك الصلاة من رأس ، وربما ينجر الأمر إلى الإعراض عن الفريضة.

إنّ لفقهاء السنّة الواعين أن يأخذوا بنظر الاعتبار السماحة التي نادى بها الإسلام في اجتهاداتهم ، والسعة التي جاءت بها الأخبار في حساباتهم ، وأن يعلنوا للملإ بصراحة انّ الجمع بين الظهرين والعشاءين أمر مسموح به موافق للشريعة وإن كان التوقيت أفضل ، فمن فرّق فله فضل التوقيت ، ومن جمع فقد أدّى الفريضة وأخذ بالسعة والسماحة.

ص : 316


1- إزالة الحظر عمّن جمع بين الصلاتين في الحضر : 116 _ 120.

أسئلة وأجوبة

اشارة

ثمّ إنّ من لم يجوّز الجمع بين الصلاتين ، اعترض على الاحتجاج برواية ابن عباس وغيره بوجوه نذكرها مع تحليلها.

الأوّل : الجمع وحديث « حنش »

أخبار الجمع يعارضها ما أخرجه الترمذي عن حنش ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر. (1)

أقول : كفى في ضعفه انّ في سنده حنش ، وهو لقب حسين بن قيس الرحبي الواسطي وهو ضعيف للغاية.

قال أحمد : متروك ، وقال البخاري : أحاديثه منكرة ولا يكتب حديثه.

وقال أبو زرعة وابن معين : ضعيف ، وقال النسائي : ليس بثقة.

وقال مرة : متروك. وقال السعدي : أحاديثه منكرة جدا ، وقال الدارقطني :

متروك وعدّ الذهبي من مناكيره هذا الحديث. (2)

وقال العقيلي في حديثه : « من جمع بين صلاتين فقد أتى بابا من الكبائر » لا يتابع عليه ولا يعرف إلاّ به ، ولا أصل له ، وقد صحّ عن ابن عباس انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم

ص : 317


1- سنن الترمذي : 1 / 356.
2- ميزان الاعتدال : 1 / 546 ، الترجمة رقم 2043.

جمع بين الظهر والعصر. (1)

أضف إلى ذلك انّ في سنده أيضا عِكْرمة ، وهو ضعيف لا يحتج بحديثه.

الثاني : الجمع وحديث ليلة التعريس

وربّما تتوهّم المعارضة بين ما دلّ على جواز الجمع بين الصلاتين جمعا حقيقيا وما رواه مسلم من حديث ليلة التعريس نقله الآلوسي في تفسيره عن ابن الهمام بقوله : قال ابن الهمام : إنّ حديث ابن عباس معارض بما في مسلم في حديث ليلة التعريس أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال : ليس في النوم تفريط وإنّما التفريط في اليقظة أن يؤخّر الصلاة حتّى يدخل وقت صلاة أخرى ».

قال الآلوسي بعد نقل كلام ابن الهمام : وللبحث في ذلك مجال. (2)

وفي الاستدلال _ كما ذكره الآلوسي _ مجال للبحث بل للرّدّ.

أوّلا : إنّ حديث التعريس لا يشمل جمع التقديم ، بل يختصّ بجمع التأخير حيث قال : « يؤخّر الصلاة حتّى يدخل وقت صلاة أخرى ».

ثانيا : إنّ فعل ابن عباس رضي الله عنه حاك عن أنّ جمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين الصلاتين كان جمع تأخير على ما رواه مسلم كما مرّ ، وفيه : خطبنا ابن عباس يوما بعد العصر حتّى غربت الشمس وبدت النجوم وجعل الناس يقولون : الصلاة الصلاة ، قال : فجاءه رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني : الصلاة الصلاة ، فقال ابن عباس : أتعلّمني بالسنة لا أمّ لك ، ثمّ قال : رأيت رسول الله جمع الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، فقال عبد الله بن شقيق : فحاك في صدري من ذلك

ص : 318


1- تهذيب التهذيب : 1 / 538.
2- روح المعاني : 15 / 134 في تفسير آية ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ )

شيء فأتيت أبا هريرة ، فسألته فصدّق مقالته ». (1)

فأي الحديثين أولى بالأخذ؟

والحديث محمول على تأخير صلاة العشاء حتّى يدخل وقت صلاة الفجر لا تأخيره إلى نهاية الوقت ويؤيّده ورود الرواية في ليلة التعريس الّتي ينشغل فيها الإنسان بأمور حتى يدخل وقت صلاة الفجر.

الثالث : حديث حبيب بن أبي ثابت لا يحتجّ به

إنّ الرواية الثالثة التي أخرجها مسلم ، ورد في سندها حبيب بن أبي ثابت قال في حقّه الخطابي في معالم السّنن : هذا حديث لا يقول به أكثر الفقهاء ، وإسناده جيّد إلاّ ما تكلّموا من أمر حبيب. (2)

يلاحظ عليه : بأنّ ما ذكره من أنّ الحديث لا يقول به أكثر الفقهاء حق ، ولكن يقول به كثير من الفقهاء ومن يؤخذ عنه الفتوى وقد مرّت أسماؤهم ، وأمّا عدم أخذ الأكثر به فقد عرفت أنّ الوجه في عدم الأخذ إمّا لكون التفريق موافقا للاحتياط أو كونه مخالفا لما استمرّ عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

أمّا الاحتياط فقد مرّ أنّ الإفتاء بلزوم التفريق في ظروفنا هذه على خلاف الاحتياط ، لأنّه ربما ينتهي الأمر بسببه إلى ترك الصلاة رأسا.

وأمّا فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد عرفت أنّه جمع أيضا ، ليفهم الأمّة على أنّ استمراره على التفريق سنّة مؤكّدة وليست بفرض.

وأمّا ما ذكر من أنّهم تكلّموا في حبيب بن أبي ثابت ، فهو يخالف ما ذكره

ص : 319


1- لاحظ الرواية برقم 6.
2- معالم السنن : 2 / 55 ، رقم 1167.

الذهبي في « ميزان الاعتدال » ، حيث قال : احتجّ به كلّ من أفراد الصحاح بلا تردّد وقال : وثّقه يحيى بن معين وجماعة. (1)

على أنّ الرواية في أحد الصحيحين اللّذين اتّفق الجمهور على صحّة أحاديثهما والعمل بما ورد فيهما.

وفي الختام نأتي بحديث الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الذي نقله الفريقان قال صلى الله عليه وآله وسلم « إنّ هذا الدّين متين فأوغل فيه برِفْق ولا تبغّض إلى نفسك عبادة ربّك ، فان المنبت لا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع ». (2)

ص : 320


1- ميزان الاعتدال : 1 / 451 برقم 1690.
2- روى الفريقان هذا الحديث بصيغ مختلفة بهذا المضمون اخترنا منها ما يلي : الكافي : 2 / 87 ، الحديث 6 ، باب الاقتصاد في العبادة ، السنن الكبرى : 3 / 18 ، مسند أحمد : 3 / 199.

8. القصر في السفر

اشارة

ص : 321

ص : 322

هل القصر في السفر

عزيمة أو رخصة؟

اتّفق المسلمون تبعا للكتاب العزيز والسنّة النبوية على مشروعية القصر في السفر وإن لم يكن معه خوف.

إنّما الكلام في أنّ القصر في السفر عزيمة ، أو سنّة مؤكدة ، أو رخصة؟!

هنا أقوال ثلاثة نشير إليها بالتفصيل :

ذهبت الإمامية والحنفية إلى أنّها عزيمة ، وإنّ فرض المسافر في كلّ صلاة رباعية ركعتان.

وقالت المالكية : القصر سنّة مؤكدة لفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنّه لم ير منه في أسفاره أنّه أتمّ الصلاة.

اخرج الشيخان عن ابن عمر انّه قال : صحبت النبي فكان لا يزيد في السفر على ركعتين ، وأبو بكر وعمر وعثمان كذلك. (1)

وقالت الشافعية والحنابلة : القصر رخصة على سبيل التخيير ، فللمسافر أن يتمّ أو يقصر.

ص : 323


1- شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 205 ، باب صلاة المسافرين وقصرها من كتاب الصلاة برقم 8.

قال الشيخ الطوسي في « الخلاف » : التقصير في السفر فرض وعزيمة ، والواجب في هذه الصلوات الثلاث : الظهر والعصر والعشاء الآخرة ركعتان ، فإن صلّى أربعا مع العلم وجب عليه الإعادة.

وقال أبو حنيفة مثل قولنا : إلاّ أنّه قال : إن زاد على ركعتين ، فإن كان تشهد في الثانية صحّت صلاته وما زاد على اثنتين يكون نافلة إلاّ أن يأتم بمقيم فيصلي أربعا فيكون الكل فريضة أسقط بها الفرض.

والقول بأنّ التقصير عزيمة مذهب علي عليه السلام وعمر ، وفي الفقهاء مذهب أبي حنيفة وأصحابه.

وقال الشافعي : هو بالخيار بين أن يصلّي صلاة السفر ركعتين وبين أن يصلّي صلاة الحضر أربعا ، فيسقط بذلك الفرض عنه.

وقال الشافعي : التقصير أفضل.

وقال المزني : والإتمام أفضل ، وبمذهبه قال في الصحابة : عثمان وعبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص وعائشة ، وفي الفقهاء : الأوزاعي وأبو ثور. (1)

هذه هي الأقوال.

ثمّ إنّ البحث في صلاة المسافر واسع المجال ، فيبحث فيها تارة عن المسافة التي يجوز فيها القصر ، وأخرى عن نوع السفر وانّه هل يختص القصر بالسفر المباح أم يعم سفر المعصية أيضا؟ وثالثة في الموضع الذي يبدأ منه المسافر بالقصر ؛ ورابعة في مقدار الزمان الذي يتمّ فيه المسافر إذا أقام في موضع ، فهناك من يقول يكفي نيّة إقامة أربعة أيام كالمالكية والشافعية (2) ، وهناك من يقول بأنّه

ص : 324


1- الخلاف : 1 / 569 ، كتاب الصلاة ، المسألة 321.
2- الفقه الإسلامي وأدلّته : 2 / 338 _ 339 ، نقلا عن الشرح الكبير ومغني المحتاج.

يقصر إلاّ إذا نوى إقامة عشرة أيّام كما عليه الإمامية ، إلى غير ذلك من المباحث الراجعة إلى صلاة المسافر ، ونحن نركز على موضع آخر وهو كون القصر عزيمة أو سنّة مؤكّدة أو رخصة. ولا ندخل في المواضع الأربعة كما لا ندخل في مبحث شروط القصر التي ذكرها الفقهاء ، فان البحث في هاتيك المواضيع يحوجنا إلى تأليف كتاب مفرد وقد قمنا بتحريرها في كتاب « ضياء الناظر في صلاة المسافر » المطبوع.

إذا عرفت ذلك فلندخل في صلب الموضوع فنقول :

أمّا الكتاب فقد قال سبحانه : ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً ). (1)

تفسير مفردات الآية

1. الضرب في الأرض كناية عن السفر ، أي إذا سرتم فيها فليس عليكم جناح _ يعني : حرج _ ولا إثم أن تقصروا من الصلاة _ يعني : من عددها _ فتصلّوا الرباعيات ركعتين. (2)

وبهذا أيضا فسر القرطبي في « الجامع لأحكام القرآن » (3) ويؤيد ذلك استعمال الضرب في الأرض في غير واحد من الآيات كقوله سبحانه ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا ). (4)

ص : 325


1- النساء : 101.
2- التبيان في تفسير القرآن : 3 / 307.
3- الجامع لأحكام القرآن : 5 / 351.
4- النساء : 94.

وقال سبحانه ( إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ ). (1)

وقال سبحانه ( إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا ). (2)

2. وأمّا الجناح فهو بمعنى الإثم كما تقدّم في عبارة الشيخ في « التبيان » ، وقد تضافر استعماله في الإثم في آيات كثيرة.

يقول سبحانه ( فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ). (3)

وقد ورد لفظة « جناح » في الكتاب العزيز 25 مرة ، والمقصود في الجميع هو ما ذكرنا.

3. انّ قوله ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ) جزاء للشرط المتأخر ، فكأنّه قال سبحانه : « إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ».

4. المراد من القصر هو تخفيف عدد الركعات من أربع ركعات إلى ركعتين ، وربما يفسر بتخفيف كيفية الصلاة ووصفها من تبدّل الركوع والسجود إلى الإيماء أو الإتيان بالصلاة راكبا أو ماشيا حسب ما تقتضيه الظروف ، كما ورد في صلاة الخوف والمطاردة والمسايرة.

نسب ذلك المعنى في بعض الروايات إلى ابن عباس وابن جريح عن ابن طاوس عن أبيه ، ومال إليه أبو بكر الجصاص في تفسيره. (4)

ص : 326


1- المائدة : 106.
2- آل عمران : 156.
3- البقرة : 158.
4- أحكام القرآن : 2 / 259.

وربما يظهر من السيد المرتضى في « انتصاره » (1) والقطب الراوندي في « فقه القرآن ». (2)

ولكن المعروف بين المفسرين وعليه روايات أئمّة أهل البيت عليهم السلام هو انّ المراد من القصر هو تخفيف ركعات الصلوات الرباعية ، وعلى ذلك فلفظة « من » في قوله : « من الصلاة » تبعيضية أي شيئا من الصلاة.

وأمّا جعل من زائدة حسب ما نقله أبو البقاء عن الأخفش القائل بزيادتها في الإثبات فهو غير لائق بالكتاب العزيز. (3)

ثمّ إنّ الآية تخصّ القصر بالسفر المرافق للخوف ، وظاهرها انّ السفر ليس موضوعا مستقلا ، بل الموضوع هو السفر المرافق للخوف ، لكنّ السنّة فسرت الآية وأعطت للسفر استقلالا للتقصير.

فإنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقصر في حالتي الخوف والأمن كما ستوافيك رواياته ، وأمّا تعليق القصر على الخوف في الآية كأنّه كان لتقرير الحالة الواقعة ، لأنّ غالب أسفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تخلو منه.

وبعبارة أخرى : انّ القيد في الآية قيد غالبي بالنسبة إلى الظروف التي نزلت الآية فيها ، فمن حاول أن يحصر التقصير بسفر الخوف دون سفر الأمن ، فقد أخذ بظاهر الآية وترك السنّة النبوية واتّفاق المسلمين وفي مقدمهم أئمّة أهل البيت عليهم السلام الذين عرّفهم الرسول بكونهم أعدال القرآن وقرناء الكتاب.

ثمّ إنّ من زعم انّ القصر رخصة تمسّك بظاهر الآية وهو قوله سبحانه :

ص : 327


1- الانتصار : 53.
2- فقه القرآن : 4 / 516.
3- نقله عن أبي البقاء الآلوسي في روح المعاني : 5 / 131.

( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ) ، ولكنّه غفل عن أنّ هذا التعبير لا يدلّ على مقصوده ، لأنّ الآية وردت في مقام رفع توهم الحظر ، فكأنّ المخاطب يتصوّر انّ القصر إيجاد نقص في الصلاة وهو أمر محظور ، فنزلت الآية لدفع هذا التوهم ، لتطيب النفس بالقصر وتطمئن إليه. (1)

وليس ذلك بغريب فقد ورد مثله في قوله سبحانه ( إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ ). (2)

فان المسلمين لمّا أرادوا الطواف بين الصفا والمروة في عمرة القضاء شاهدوا وجود الأصنام فوق الصفا والمروة ، فتحرّج المسلمون من الطواف بينهما ، فنزل قوله سبحانه ( إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ).

يقول الطبرسي : كان على الصفا صنم يقال له : إساف وعلى المروة صنم يقال له : نائلة ، وكان المشركون إذا كانوا بهما مسحوهما ، فتحرّج المسلمون عن الطواف بهما لأجل الصنمين ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وهو منقول عن الشعبي وكثير من العلماء ، فرجع رفع الجناح عن الطواف بهما إلى تحرّجهم عن الطواف بهما لأجل الصنمين لا إلى عين الطواف ، كما لو كان الإنسان محبوسا في موضع لا يمكنه الصلاة إلاّ بالتوجه إلى ما يكره التوجه إليه من المخرج وغيره ، فيقال له : لا جناح عليك في الصلاة إلى ذلك المكان ، فلا يرجع رفع الجناح إلى عين الصلاة ، لأنّ عين الصلاة واجبة وإنّما يرجع التوجّه إلى ذلك المكان.

ورويت رواية أخرى عن أبي عبد الله عليه السلام انّه كان ذلك في عمرة القضاء ،

ص : 328


1- الكشاف : 1 / 294 ، ط دار المعرفة.
2- البقرة : 158.

وذلك انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام ، فتشاغل رجل من أصحابه حتى أعيدت الأصنام ، فجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقيل له : إنّ فلانا لم يطف وقد أعيدت الأصنام ، فنزلت هذه الآية ( فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ) أي والأصنام عليهما ، قال : فكان الناس يسعون والأصنام على حالها. (1)

ويجري نفس هذا الكلام في المقام ، فان قصر الصلاة وتبديلها إلى ركعتين من الأمور التي يتحرّج به المسلم ويتصوّر انّه ترك للفريضة ، ففي هذه الظروف يقول سبحانه ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ).

وعلى ضوء هذا فالآية لا تدلّ على العزيمة ولا على الرخصة ، بل هي ساكتة عن هذا الجانب.

إلى هنا تبين انّ الآية لا تدلّ على أحد الأقوال ، فلا محيص من الرجوع إلى السنّة.

أدلّة القول بأنّ القصر عزيمة

دلّت السنّة المتضافرة المبثوثة في الصحاح والسنن والمسانيد على أنّ القصر عزيمة ، وكان النبي يقصر في عامّة أسفاره ، فنذكر من الكثير ما يلي :

1. أخرج مسلم عن عائشة زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم انّها قالت : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرّت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر. (2)

قال الشوكاني : وهو دليل ناهض على الوجوب ، لأنّ صلاة السفر إذا كانت مفروضة ركعتين لم تجز الزيادة عليها كما أنّها لا تجوز الزيادة على الأربع في الحضر.

ص : 329


1- مجمع البيان : 1 / 240 في تفسير الآية.
2- شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 201 ؛ وصحيح البخاري : 2 / 55 ، باب يقصر إذا خرج من موضعه من كتاب الصلاة.

ثمّ إنّ بعض من يحاول إخضاع الرواية على فقه إمام مذهبه ناقش فيها بوجوه واهية ، نقلها الشوكاني في كتابه ، وإليك نصها :

أ. انّ الحديث من قول عائشة غير مرفوع ، وانّها لم تشهد زمان فرض الصلاة وانّه لو كان ثابتا لنقل تواترا.

يلاحظ عليه : بأنّ مقتضى عدالة الراوي هو انّه سمع الحديث من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أو من عدل آخر سمعه منه.

ولو اقتصرنا في الأخذ بروايات عائشة على زمن ملازمتها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لسقط قسط كبير من رواياتها عن الاعتبار ، فإنّها كثيرا ما تروي حوادث لم تشاهدها ، ونذكر في المقام كنموذج رواية كيفية نزول الوحي على النبي ، نقلها البخاري في صحيحه على وجه التفصيل.

كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجاور في حراء من كلّ سنة شهرا حتّى إذا كان الشهر الذي بعثه الله سبحانه فيه خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حراء حتّى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ، جاءه جبرئيل بأمر الله ، ولنترك وصف ذلك إلى ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله :

« فجاءني جبرئيل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال : اقرأ؟ قلت : ما اقرأ؟

فغتني به حتى ظننت انّه الموت ثمّ أرسلني فقال : اقرأ؟ قال : قلت : ما أقرأ؟

قال : فغتني به حتى ظننت انّه الموت ثمّ أرسلني فقال : اقرأ؟ قال : قلت : ما ذا أقرأ. (1)

ترى أنّها كيف ترسل كيفية نزول الوحي على الرسول مع أنّها لم

ص : 330


1- صحيح البخاري : 1 / 3 و 3 / 173 في تفسير سورة العلق.

تولد يوم ذلك.

ب. انّ المراد بقولها : فرضت ، أي قدرت.

ج. المراد من قولها : فرضت ، يعني : لمن أراد الاقتصار عليها ، فزيد في صلاة الحضر ركعتان على سبيل التحتم وأقرت صلاة السفر على جواز الاقتصار. (1)

يلاحظ عليهما : أنّ كلا من الوجهين صرف للدليل عن وجهه ، وهو تفسير بالرأي ، وهو أمر مرفوض من غير فرق بين تفسير كلام الله سبحانه أو كلام نبيه أو كلام غيره.

2. أخرج مسلم عن عائشة أنّ الصلاة أوّل ما فرضت ركعتين فأقرّت صلاة السفر وأتمّت صلاة الحضر. قال الزهري : فقلت لعروة : ما بال عائشة تتمّ في السفر؟ قال : إنّها تأوّلت كما تأوّل عثمان. (2)

وسيوافيك الكلام في إتمام عائشة في السفر.

3. أخرج مسلم عن ابن عباس قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيّكم صلى الله عليه وآله وسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة.

4. أخرج مسلم عن موسى بن سلمة الهذلي ، قال : سألت ابن عباس كيف أصلّي إذا كنت بمكة إذا لم أصلّ مع الإمام؟

فقال : ركعتين ، سنّة أبي القاسم.

5. أخرج مسلم عن عيسى بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب عن أبيه قال : صحبت ابن عمر في طريق مكة ، قال : فصلّى لنا الظهر ركعتين.

ص : 331


1- نيل الأوطار : 3 / 201.
2- شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 201.

إلى أن قال : إنّي صحبت رسول الله في السفر فلم يزد على ركعتين حتّى قبضه الله ، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتّى قبضه الله ، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتّى قبضه الله ، ثمّ صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتّى قبضه الله ، فقد قال الله ( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ).

6. أخرج مسلم عن أنس انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلّى الظهر بالمدينة أربعا ، وصلّى العصر بذي الحليفة ركعتين.

7. أخرج مسلم عن يحيى بن يزيد الهنائي قال : سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة؟ فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ « شعبة الشاك » صلّى ركعتين.

وظاهر الحديث انّ مبدأ القصر بعد الخروج مسيرة ثلاثة أميال ، والمشهور على خلافه.

قال النووي : هذا ليس على سبيل الاشتراط وإنّما وقع بحسب الحاجة ، لأنّ الظاهر من أسفاره انّه ما كان يسافر سفرا طويلا فيخرج عند حضور فريضة مقصورة ويترك قصرها بقرب المدينة ويتمّها ، وإنّما كان يسافر بعيدا من وقت المقصورة فتدركه على ثلاثة أميال أو أكثر أو نحو ذلك فيصلّيها حينئذ ، والأحاديث المطلقة مع ظاهر القرآن متعاضدات على جواز القصر من حين يخرج من البلد فإنّه حينئذ يسمّى مسافرا. (1)

8. أخرج مسلم عن جبير بن نفير قال : خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلا ، فصلّى ركعتين ، فقلت له فقال :

ص : 332


1- شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 207.

رأيت عمر صلّى بذي الحليفة ركعتين ، فقلت له فقال : إنّما أفعل كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل.

والحديث دالّ على أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقصر في السفر دائما ، وانّما الاختلاف في أنّ مبدأ القصر هو الخروج عن البلد كما جرى عليه عمر أو بعد الخروج مسيرة ثمانية عشر ميلا.

قال النووي : أمّا قوله : « قصر شرحبيل على رأس 17 ميلا أو 18 ميلا » فلا حجة فيه ، لأنّه تابعي فعل شيئا يخالف الجمهور ، أو يتأوّل على أنّها كانت في أثناء سفره لا انّها غايته ، وهذا التأويل ظاهر. (1)

وعلى كلّ تقدير فما هو موضع الخلاف خارج عن إطار بحثنا.

9. أخرج مسلم عن أنس بن مالك قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة إلى مكة فصلّى ركعتين ركعتين حتّى رجع ، قلت : كم أقام بمكة؟ قال : عشرا.

ثمّ إنّ قصر النبي في مكة مع إقامته فيها عشرة أيّام وإن كان يوافق بعض المذاهب لكنّه يخالف مذهب الإمام مالك ، كما يخالف مذهب الإمامية ، فإنّ نية العشرة قاطعة للسفر موجبة للإتمام ، ولعلّ الإقامة لم تكن عشرة كاملة بالضبط بل كانت عشرة عرفية وربما تنقص عن العشرة التامة.

هذه الأحاديث التسعة نقلها مسلم في صحيحه ، وإليك بعض ما نقله غيره.

10. أخرج أبو داود عن عمران بن الحصين ، قال : غزوت مع رسول الله

ص : 333


1- شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 208.

وشهدت معه الفتح فأقام بمكة 18 ليلة لا يصلي إلاّ ركعتين ، ويقول : يا أهل البلد صلّوا أربعا فانّا قوم سفر. (1)

ويؤخذ من الحديث صدره ، وأمّا ما نسب إلى النبي أنّه أقام 18 ليلة لا يصلّي إلاّ ركعتين ، فهو معارض مع ما نقله أنس من أنّه أقام بمكة 10 أيام.

وعلى كلّ تقدير انّ تأكيد النبي على القصر في مكة المكرمة طول إقامته فيها _ مع أنّه كان بصدد تعليم أحكام الصلاة لأهل مكة الذين كانوا يدخلون في دين الله أفواجا _ دليل على كون القصر عزيمة ، وإلاّ لأتمّ الصلاة ، لكونه أوفق في مقام التعليم ، لأجل وحدة الإمام مع صلاة المأموم في الكم والكيف.

11. أخرج ابن ماجة في سننه عن عمر أنّه قال : صلاة السفر وصلاة الجمعة ركعتان ، والفطر والأضحى ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم. (2)

12. أخرج الطبراني عن ابن عباس قال : افترض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين في السفر كما افترض في الحضر أربعا. (3)

وهناك آثار مبثوثة في الكتب الفقهية ، وإليك نصّها :

13. روي عن صفوان بن محرز انّه سأل ابن عمر عن الصلاة في السفر ، فقال : ركعتان فمن خالف السنّة كفر. (4)

14. وروي عن ابن عمر قال : إنّ رسول الله أتانا ونحن ضلال فعلّمنا ، فكان فيما علّمنا أنّ الله عزّ وجل أمرنا أن نصلّي ركعتين في السفر. (5)

ص : 334


1- سنن أبي داود : 2 / 10 ، برقم 1229 ؛ وسنن الترمذي : 2 / 430 برقم 545.
2- سنن ابن ماجة : 1 / 338 ، برقم 1036.
3- نصب الراية : 2 / 189.
4- المغني : 2 / 107.
5- نيل الأوطار : 3 / 204 ، قال : رواه النسائي.

15. وقال عمر بن عبد العزيز : الصلاة في السفر ركعتان حتم لا يصلح غيرها. (1)

16. وعن عمر بن الخطاب عن النبي قال : صلاة المسافر ركعتان حتّى يئوب إلى أهله أو يموت. (2)

17. عن إبراهيم انّ عمر بن الخطاب صلّى الظهر بمكة ركعتين فلما انصرف قال : يا أهل مكة إنّا قوم سفر ، فمن كان منكم من أهل البلد فليكمل ، فأكمل أهل البلد. (3)

18. عن أبي الكنود عبد الله الأزدي قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر؟ فقال : ركعتان نزلتا من السماء ، فإن شئتم فردّوهما. (4)

والحديث يكشف عن وجود نزاع قائم على قدم وساق بين التابعين والصحابة.

19. عن الصائب بن يزيد الكندي ، قال : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ثمّ زيد في صلاة الحضر وأقرّت صلاة السفر. (5)

20. عن ابن مسعود قال : من صلّى في السفر أربعا أعاد الصلاة. (6)

21. عن سلمان قال : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ، فصلاّها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكّة حتّى قدم المدينة فصلاّها بالمدينة ما شاء الله ، وزيد في صلاة الحضر

ص : 335


1- المغني : 2 / 108 ؛ المحلى : 4 / 271.
2- أحكام القرآن : 2 / 254.
3- الآثار : (30). لأبي يوسف كما في الغدير : 8 / 113.
4- مجمع الزوائد : 2 / 154 ، قال : ورجاله موثقون.
5- مجمع الزوائد : 2 / 155 ، ومرّ نظير هذا الحديث عن عائشة.
6- مجمع الزوائد : 2 / 155.

ركعتين وتركت الصلاة في السفر على حالها. (1)

22. عن جعفر بن عمر قال : انطلق بنا أنس بن مالك إلى الشام إلى عبد الملك ونحن أربعون رجلا من الأنصار ليفرض لنا ، فلمّا رجع وكنّا بفج الناقة صلّى بنا الظهر ركعتين ، ثم دخل فسطاطه وقام القوم يضيفون إلى ركعتيهم ركعتين أخريين ، فقال : قبح الله الوجوه فو الله ما أصابت السنّة ولا قبلت الرخصة ، فاشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : « إنّ أقواما يتعمّقون في الدين ، يمرقون كما يمرق السهم من الرميّة ». (2)

23. عن ثمامة بن شراحيل قال : خرجت إلى ابن عمر فقلت : ما صلاة المسافر؟ قال : ركعتين ركعتين إلاّ صلاة المغرب ثلاثا. إلى آخر الحديث. (3)

24. عن أبي هريرة قال : أيّها الناس إنّ الله عزّ وجلّ فرض لكم على لسان نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة في الحضر أربعا. (4)

25. عن ابن حرب قال : سألت ابن عمر ، كيف صلاة السفر يا أبا عبد الرحمن؟ قال : إمّا أنتم تتبعون سنّة نبيّكم صلى الله عليه وآله وسلم أخبرتكم ، وإمّا لا تتبعون سنّة نبيّكم فلا أخبركم؟ قلنا : فخير ما اتّبع ، سنة نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج من المدينة لم يزد على ركعتين حتّى يرجع إليها. (5)

26. عن سعيد بن المسيب ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « خياركم من قصّر في السفر وأفطر ». (6)

ص : 336


1- المصدر نفسه : ص 156.
2- مسند أحمد : 3 / 159 ، مجمع الزوائد : 2 / 155.
3- مسند أحمد : 2 / 154.
4- المصدر نفسه : 2 / 400.
5- مسند أحمد : 2 / 124 ، المغني : 2 / 111.
6- المغني : 2 / 111.

هذا ما وقفنا عليه من النصوص عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ، وقد أخذ بها لفيف من الصحابة وغيرهم ؛ منهم : عمر بن الخطاب ، وابنه ، وابن عباس ، وجابر ، وجبير بين مطعم ، والحسن ، والقاضي إسماعيل ، وحماد بن أبي سليمان ، وعمر بن عبد العزيز ، وقتادة ، والكوفيون. (1)

أضف إلى ذلك اتّفاق أئمّة أهل البيت عليهم السلام ، وفقهاء الشيعة من عصر الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلى يومنا هذا.

أترى مع هذه الأحاديث مجالا للقول بأنّ القصر في السفر رخصة لا عزيمة؟! ولو كان الإتمام في السفر سائغا لكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعرب عنه بقول أو بفعل ولو بإتيانه في العمر مرّة لبيان جوازه كما يفعل في غير هذا المورد.

أخرج مسلم في صحيحه من حديث بريدة قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتوضّأ عند كل صلاة فلمّا كان يوم الفتح صلّى صلوات بوضوء واحد. فقال له عمر : إنّك صنعت شيئا لم تكن تصنعه؟ فقال : « عمدا صنعته » أي لبيان الجواز. (2)

ولو كان هناك ترخيص لما خفي على أكابر الصحابة حتّى نقدوا من أتمّها نقدا مرّا. وبذلك تعلم قيمة تبرير عمل المتمّين بأنّ الإتمام والقصر مسألة اجتهادية اختلف فيها العلماء. (3)

قصر الصلاة بمنى

تضافرت الروايات على أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء بعده وحتّى عثمان في سنين

ص : 337


1- الجامع لأحكام القرآن : 5 / 351.
2- صحيح مسلم : 1 / 122 ؛ نيل الأوطار : 1 / 258.
3- الرياض النضرة : 2 / 251.

من خلافته كانوا يقصرون في منى دون استثناء ، فلمّا أتمّ عثمان بعد ثمانية سنين قامت ضجة عليه ، ولما سمع عبد الله بن مسعود انّ الخليفة أتمّ الصلاة في منى استرجع ، أي قال ( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) ، ولا تقال تلك الكلمة إلاّ إذا ألمّت مصيبة ، وهذا يدلّ على أنّ عبد الله بن مسعود تلقّى فعل عثمان مصيبة في الدين ورزءا عظيما.

والناظر في هذه الروايات التي سننقلها تباعا يذعن بأنّ متلقّى الصحابة هو كون القصر عزيمة والتمام غير مشروع ، وإلاّ فلو كان القصر رخصة أو سنّة لما أثارت حفيظة الصحابة والتابعين ضدّ عثمان.

27. أخرج مسلم في صحيحه عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انّه صلّى صلاة المسافر بمنى (1) وغيره ركعتين وأبو بكر وعمر وعثمان ركعتين صدرا من خلافته ثمّ أتمّها أربعا. (2)

28. أخرج مسلم عن ابن عمر قال : صلّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمنى ركعتين ، وأبو بكر بعده ، وعمر بعد أبي بكر ، وعثمان صدرا من خلافته. انّ عثمان صلّى بعد أربعا ، فكان ابن عمر إذا صلّى مع الإمام صلّى أربعا وإذا صلاّها وحده صلّى ركعتين. (3) وسيأتي انّه كان يعيدها في بيته.

29. أخرج مسلم عن حفص بن عاصم ، عن ابن عمر ، قال : صلّى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمنى صلاة المسافر وأبو بكر وعمر وعثمان ثمانية سنين أو قال : ست سنين ، قال حفص : وكان ابن عمر يصلّي بمنى ركعتين ثمّ يأتي فراشه ، فقلت : أي عمّ لو

ص : 338


1- انّ منى تذكر وتؤنث بحسب القصد ، إن قصد الموضع فيذكّر ، وإن قصد البقعة فتؤنّث.
2- . شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 209 ، باب قصر الصلاة بمنى من كتاب صلاة المسافرين وقصرها.
3- . شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 209 ، باب قصر الصلاة بمنى من كتاب صلاة المسافرين وقصرها.

صلّيت بعدها ركعتين؟ قال : لو فعلت لأتمت الصلاة. (1)

30. اخرج مسلم عن حارث بن وهب الخزاعي ، قال : صلّيت خلف رسول الله بمنى والناس أكثر ما كانوا ، فصلّى ركعتين في حجّة منى. (2)

31. أخرج مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد ، يقول : صلّى بنا عثمان بمنى أربع ركعات ، فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود ، فاسترجع ، ثمّ قال : صلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمنى ركعتين ، وصلّيت مع أبي بكر الصديق بمنى ركعتين ، وصلّيت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين ، فليت حظي من أربع ركعات ، ركعتان متقبّلتان. (3)

يقول النووي بعد قوله : ( فليت حظي من أربع ركعات ، ركعتان متقبّلتان ) : إنّ معناه ليت عثمان صلّى ركعتين بدل الأربع كما كان النبي وأبو بكر وعمر وعثمان في صدر خلافته يفعلون.

ولما كانت الرواية صريحة في أنّ متلقّى عبد الله بن مسعود من فعل النبي هو كون القصر عزيمة ، ولذلك استرجع وأردفه بقوله : ( فليت حظي من أربع ركعات ، ركعتان متقبّلتان ) حاول النووي وغيره تأويل الأثر وتخفيف الوطأة وقال : مقصوده كراهة مخالفة ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصاحباه ، ومع هذا فابن مسعود _ رضي الله عنه _ موافق على جواز الإتمام ، ولهذا كان يصلّي وراء عثمان متمّا ، ولو كان القصر عنده واجبا لما استجاز تركه وراء أحد.

ص : 339


1- . شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 209 ، باب قصر الصلاة بمنى من كتاب صلاة المسافرين وقصرها.
2- . شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 209 ، باب قصر الصلاة بمنى من كتاب صلاة المسافرين وقصرها.
3- صحيح البخاري : 2 / 53 ، باب ما جاء في التقصير ؛ شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 209 ، باب قصر الصلاة بمنى.

ولا يخفى انّ ما ذكره تعسف ظاهر ، إذ لا معنى للاسترجاع ولا للتمنّي لو كان عمل الخليفة عملا مشروعا سوّغه الشرع وأبلغه النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير انّه اختار النبي أحد فردي التخيير الأفضل مع عدم نفي العدل الآخر.

ثمّ إنّ ما عزي إلى عبد الله بن مسعود من أنّه أتمّ الصلاة في السفر عند ما صلّى مع عثمان فإنّما كان مراعاة سياسة مقطعية اتّباعا لما رآه عثمان خلافا لرأي نفسه في لزوم القصر ، قال الأعمش : حدّثني معاوية بن قرّة عن أشياخه ، انّ عبد الله صلّى أربعا ، فقيل له : عبت على عثمان ثمّ صليت أربعا؟ قال : الخلاف شر. (1)

ومنه يظهر حال عبد الله بن عمر ، قال ابن حزم : روينا من طريق عبد الرزاق ، عن عبد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر انّه كان إذا صلّى مع الإمام بمنى أربع ركعات ، انصرف إلى منزله فصلّى فيه ركعتين أعادها. (2)

وهؤلاء كانوا يرون رعاية شئون السياسة الزمنية خوفا من الشر ، وهي عندهم أولى من رعاية حفظ الأحكام كما نزلت من عند الله والوقوف أمام قبولها وتغييرها ، إلاّ أنّ بعض الصحابة يرى خلاف ذلك ، فهذا علي عليه السلام أبى أن يصلّي أربعا في منى رغم إصرار عثمان وبني أميّة ، حيث قيل له : صلّ بالناس ، فقال : « إن شئتم صلّيت لكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم » يعني ركعتين ، قالوا : لا إلاّ صلاة أمير المؤمنين _ يعنون عثمان _ أربعا ، فأبى عثمان (3). (4)

هذا وإنّ بني أميّة قد اتّخذوا من أحدوثة عثمان سنّة مستمرة مقابل سنّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأبد وإن لم يكن لهم عذر شرعي للإتمام.

ص : 340


1- سنن أبي داود : 1 / 308 ، كتاب الأم للشافعي : 1 / 159.
2- المحلى : 4 / 270. وفي الهامش : في بعض النسخ « أبي » فقط.
3- هكذا في المطبوع والصحيح : فأبى علي.
4- المحلى : 4 / 270.

32. أخرج الإمام أحمد بن حنبل بسنده عن عبد الله بن الزبير ، قال : لمّا قدم علينا معاوية حاجّا قدمنا معه مكة ، قال : فصلّى بنا الظهر ركعتين ، ثمّ انصرف إلى دار الندوة ، قال : نهض إليه مروان بن الحكم وعمر بن عثمان فقالا له : ما عاب أحد ابن عمك بأقبح ما عبتَه به ، فقال لهما : وما ذاك؟ قال : فقالا له : ألم تعلم أنّه أتمّ الصلاة بمكة؟ قال : فقال لهما : ويحكما وهل كان غير ما صنعت؟ قد صلّيتهما مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع أبي بكر وعمر ، قالا : فان ابن عمك قد كان أتمّها وإن خلافك إيّاه له عيب.

قال : فخرج معاوية إلى العصر فصلاّها بنا أربعا. (1)

إلى هنا تمّ ما يدلّ من الأحاديث والآثار على أنّ القصر في السفر عزيمة وانّ الإتمام أحدوثة حدثت بعد رحيل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم اجتهادا أو اتباعا للمصالح المقطعية ، ولا محيص لفقيه ، أمام مداومة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوّلا ، وهذه الروايات والآثار ثانيا من الخضوع لها والإخبات إليها.

نعم بقي علينا أن نستعرض أدلّة القول بأنّ القصر رخصة أو سنّة مؤكّدة لا عزيمة وهي أدلّة واهية للغاية لا يصحّ للفقيه أن يستند إليها إذا كان ملما باستنباط الحكم عن أدلّته.

أدلّة القائلين بأنّ القصر رخصة

استدلّ القائلون بعد الكتاب العزيز بأمور نذكرها تباعا.

أمّا الكتاب ، فقد مضى الكلام فيه حيث قلنا بأنّ الآية لا تدلّ على أحد القولين : الرخصة أو العزيمة ، بل هي بصدد بيان رفع توهّم الحظر حيث كان قصر

ص : 341


1- مسند أحمد : 4 / 94.

الصلاة مظنّة توهم انّه إيجاد نقص في الصلاة فبيّن سبحانه ( بأنّه لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة ) وأين هذا من الدلالة على أنّ القصر رخصة؟!

إنّما المهم الروايات والآثار المروية.

1. أخرج مسلم عن يعلى بن أميّة ، قال : قلت لعمر بن الخطاب ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) فقال : عجبت ممّا عجبت منه ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال : « صدقة منّ الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ». (1)

وجه الدلالة : انّ المتصدّق عليه لا يجب عليه قبول الصدقة.

وأجاب الشوكاني عن الاستدلال المذكور بقوله : إنّ الأمر بقبولها يدلّ على أنّه لا محيص عنها وهو المطلوب. (2)

وكان للشوكاني أن يرد على الاستدلال بوجه آخر أيضا ويقول : إنّ قياس صدقة الله وهديته ، على صدقات الناس وهداياهم قياس مع الفارق ، وذلك لأنّ المهدى إليه أو المتصدّق عليه لا يجب عليه قبول الهدية أو الصدقة إذا كان المتصدّق إنسانا مثله ، وأمّا إذا كان المتصدّق هو الله سبحانه فيجب قبولها ، وذلك لأنّ صدقة الله أمر امتناني ، وامتناناته سبحانه ليست أمورا اعتباطية ، بل هي ناشئة من الحكمة البالغة الإلهية ، فحيث يعلم الله بأنّ المصالح الذاتية للبشر تقتضي ذلك الامتنان يمنّ بها على العباد ، فيصير القبول أمرا مفروضا عليهم.

وربما يظهر من أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم السلام انّه يحرم رد صدقة الله ، حيث قال الصادق عليه السلام : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّ الله عزّ وجلّ تصدّق على مرضى أمّتي

ص : 342


1- شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 203 برقم 4.
2- نيل الأوطار : 3 / 201.

ومسافريها بالتقصير والإفطار ، أيسرّ أحدكم إذا تصدق بصدقة أن ترد عليه؟! ». (1)

وكأنّ في رد الصدقة نوع إهانة للمتصدّق ، وفي المقام ازدراء بالتشريع الإلهي.

2. أخرج الدارقطني والبيهقي واللفظ للأوّل عن عبد الرحمن بن أسود ، عن عائشة قالت : خرجت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عمرة في رمضان فأفطر وصمت ، وقصّر وأتممت ، فقلت : يا رسول الله بأبي وأمي ، أفطرت وصمت ، وقصّرت وأتممت؟ فقال : أحسنت يا عائشة. (2)

قال الشوكاني : أخرجه أيضا النسائي والبيهقي بزيادة : « أنّ عائشة اعتمرت مع رسول الله من المدينة إلى مكة حتّى إذا قدمت مكة قالت : بأبي أنت وأمّي يا رسول الله أتممت وقصّرت » ، والاحتجاج بالرواية رهن صحّة السند أوّلا وإمكان الأخذ بالمضمون ثانيا.

أمّا السند ففيه العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن أسود بن يزيد النخعي ، عن عائشة. قال ابن حبان : كان يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الإثبات ، فبطل الاحتجاج به فيما لم يوافق الإثبات.

قال الدارقطني : وهذا اسناد حسن ، وعبد الرحمن قد أدرك عائشة ودخل عليها وهو مراهق وهو مع أبيه وقد سمع منها. (3)

وقال أبو حاتم : دخل عليها وهو صغير ولم يسمع منها ، ومع هذا الاختلاف كيف يمكن الأخذ بقول راو لم يثبت سماعه من عائشة؟! وعلى فرض السماع فقد سمع وهو صغير أو مراهق.

ولأجل ذلك احتمل الدارقطني في « العلل » انّه مرسل كما نقله عنه

ص : 343


1- وسائل الشيعة : 1 / 175.
2- سنن الدارقطني : 2 / 188 ، السنن الكبرى : 3 / 142.
3- سنن الدارقطني : 2 / 188 ، رقم 40.

الشوكاني في « نيل الأوطار ». (1)

والذي يزيد في الطين بلّة ، انّ الدارقطني تارة نقله عن عبد الرحمن عن أبيه عن عائشة ، وأخرى عن عبد الرحمن عن عائشة. (2)

ونقل البيهقي عن أبي بكر النيسابوري انّه من قال عن أبيه في هذا الحديث فقد أخطأ. (3)

هذا كلّه حول السند.

وأمّا المضمون فيلاحظ عليه أوّلا : أنّه جاء في حديث عائشة أنّها قالت : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عمرة رمضان إلخ ، وهذا ما يخالف التأريخ القطعي في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد جاء في السيرة الحلبية : « لا خلاف انّ عمرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تزد على أربع ، أي كلّهن في ذي القعدة مخالفا للمشركين ، فإنّهم كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج ويقولون هي من أفجر الفجور. وأوّل تلك الأربعة عمرة الحديبية التي كانت في ذي القعدة التي صدّه فيها المشركون عن البيت.

وثانيها : عمرته من العام المقبل وهي عمرة القضاء وكانت في ذي القعدة.

وثالثها : عمرته صلى الله عليه وآله وسلم حين قسم غنائم حنين وكانت من الجعرّانة وكانت في ذي القعدة.

ورابعها : عمرته صلى الله عليه وآله وسلم مع حجة الوداع فإنّه أحرم لخمس بقين من ذي القعدة ، وقد قالت عائشة : اعتمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثا سوى التي قرنها بحجة الوداع. (4)

وعلى هذا فكيف يمكن الأخذ بمضمون الحديث مع أنّه لم يكن للنبي مع

ص : 344


1- نيل الأوطار : 3 / 202.
2- سنن الدارقطني : 2 / 188 برقم 39 و 40.
3- السنن الكبرى : 3 / 142.
4- السيرة الحلبية : 3 / 340 _ 341.

زوجته أيّة عمرة في شهر رمضان؟!

قال في « البدر المنير » : إنّ في متن هذا الحديث نكارة ، وهو كون عائشة خرجت معه في عمرة رمضان ، والمشهور انّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يعتمر إلاّ أربع عمر ليس منهنّ شيء في رمضان بل كلّهن في ذي القعدة إلاّ التي مع حَجّته ، فكان إحرامها في ذي القعدة وفعلها في ذي الحجة ، وهذا هو المعروف في الصحيحين وغيرهما. (1)

وثانيا : أنّه كيف أتمّت عائشة وصامت مع أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه قصّروا وأفطروا ولم يكن عملها عمل يوم واحد ، بل كانت على ما يروى عبر الأيام من المدينة المنورة إلى مكة المشرفة ، وكانت القوافل تقطع المسافة بين البلدين في حوالي عشرة أيام ، فهل يعقل أن تخالف أمّ المؤمنين النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة وهي بمرأى ومسمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيره؟!

ولذلك قال ابن تيمية : هذا حديث كذب على عائشة ، ولم تكن عائشة تصلّي بخلاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسائر الصحابة ، وهي تشاهدهم يقصرون ثمّ تتم هي وحدها بلا موجب.

كيف وهي القائلة : فرضت الصلاة ركعتين فزيدت في صلاة الحضر وأقرّت صلاة السفر؟! فكيف يظن بها انّها تزيد على فرض الله وتخالف رسول الله وأصحابه؟!! (2)

3. أخرج الدارقطني عن محمد بن منصور بن أبي الجهم ، حدّثنا نصر بن علي ، حدّثنا عبد الله بن داود ، عن المغيرة بن زياد الموصلي ، عن عطاء ، عن عائشة : انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يتم الصلاة في السفر ويقصر.

ص : 345


1- نيل الأوطار : 3 / 202 ، نقلا عن البدر المنير.
2- زاد المعاد : 1 / 161 ونقله أيضا الشوكاني في نيل الأوطار : 3 / 203.

ثمّ قال : المغيرة بن زياد الموصلي ليس بالقوي. (1)

4. أخرج أبو داود الطيالسي ، قال : حدثنا يونس ، قال : حدّثنا أبو داود ، قال : حدّثنا طلحة قال : سمعت عطاء يحدث عن عائشة ، قالت : كلّ ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السفر صام وأفطر. (2) بناء على وحدة حكم الصلاة والصوم في السفر وإلاّ فالرواية أجنبيّة عن المقام.

ونقله الدارقطني بهذا الاسناد مع اختلاف طفيف في المتن ، ثمّ قال في آخره : طلحة ضعيف. (3)

يلاحظ على الروايتين : أنّ السند لا يحتج به ، لما عرفت من أنّ المغيرة ليس بالقوي وطلحة ضعيف ، وعلى فرض صحّة الاحتجاج فلا يقاومان ما تضافر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قولا وفعلا على القصر ، كما لا يقاوم ما تضافر عن الصحابة من أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقصر طيلة عمره في السفر وقد مرت الروايات الدالّة عليه.

وأمّا الدلالة فلأنّ عائشة تروي فعل النبي وانّه كان يتم ولكن من المحتمل انّ إتمامه كان في صورة عدم اجتماع شرائط القصر في سفره ، وقد قرر في محلّه انّ العمل لا يحتج به حتّى يعلم وجهه ، والعمل في تينك الروايتين مجمل جدّا ، لاحتمال أن يكون الإتمام لأجل الرخصة في السفر أو لعدم وجود شرائط القصر.

ثمّ إنّ لابن حزم في « المحلى » كلاما جامعا حول هذه الروايات ، حيث قال :

أمّا الذي من طريق عبد الرحمن بن الأسود ، فانفرد به العلاء بن زهير الأزدي لم يروه غيره ، وهو مجهول.

وأمّا حديث عطاء ، فانفرد به المغيرة بن زياد لم يروه غيره ، وقال فيه أحمد بن

ص : 346


1- سنن الدارقطني : 2 / 189.
2- مسند الطيالسي : 6 / 209 ، ط دار المعرفة ، بيروت.
3- سنن الدارقطني : 2 / 189.

حنبل : هو ضعيف كلّ حديث أسنده فهو منكر.

5. ما رواه النووي في شرحه على صحيح مسلم وحيث قال : إنّ الصحابة _ رضي الله عنهم _ كانوا يسافرون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فمنهم القاصر ومنهم المتمم ومنهم الصائم ومنهم المفطر لا يعيب بعضهم على بعض. (1)

نقل ابن قدامة عن أنس ، قال : كنّا أصحاب رسول الله نسافر فيتمّ بعضنا ويقصر بعضنا ويصوم بعضنا ويفطر بعضنا فلا يعيب أحد على أحد ، ثمّ قال :

ولأنّ ذلك إجماع الصحابة رحمهم الله بدليل انّ فيهم من كان يتم الصلاة ولم ينكر الباقون عليه بدليل حديث أنس. (2)

وقال الشوكاني : الحجة الثالثة على جواز الإتمام ما في صحيح مسلم وغيره ، انّ الصحابة كانوا يسافرون مع رسول الله فمنهم القاصر ومنهم المتم ، ومنهم الصائم ومنهم المفطر لا يعيب بعضهم على بعض. (3)

يلاحظ عليه : بأنّه قد أخرج مسلم في باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر سبع روايات عن أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله الأنصاري وأنس بن مالك ليس فيها أيّ أثر من القصر والإتمام ، بل الروايات تدور على الصوم والإفطار ، فلم يظهر لي مصدر ما نسب إلى أنس : « فيتم بعضنا ويقصر بعضنا ». (4)

ص : 347


1- شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 201 ، كتاب صلاة المسافرين وقصرها.
2- المغني : 2 / 109.
3- نيل الأوطار : 3 / 201 _ 202 ، وذكره النووي في شرح صحيح مسلم.
4- لاحظ شرح صحيح مسلم للنووي : 7 / 237 باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر الحديث 93 ، 94 ، 95 ، 96 ، 97 ، 98 ، 99 ولاحظ صحيح مسلم : 3 / 143 ، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر من كتاب الصوم.

ونذكر نموذجا من هذه الروايات.

سئل أنس ( رض ) عن صوم رمضان في السفر ، فقال : سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم.

قال الشوكاني : ولم نجد في صحيح مسلم قوله : « فمنهم القاصر ومنهم المتم » وليس فيه إلاّ أحاديث الصوم والإفطار. (1)

ولنفرض صحّة ما عزي إلى صحيح مسلم لكن من أين ثبت انّ النبي اطّلع على فعلهم فأقرّهم عليه حتى يكون التقرير حجة علينا؟ وليس عمل الصحابي بمجرّده حجة ما لم يعلم كونه مستندا إلى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعمله.

قال الشوكاني : إنّ إجماع الصحابة في عصره ليس بحجّة والخلاف بينهم في ذلك مشهور بعد موته. (2)

إلى هنا تمّ ما يمكن أن يكون دليلا لجواز الإتمام في السفر ، وقد عرفت أنّ الجميع سراب لا ماء فلا يمكن أن يحتج بها أمام الروايات والآثار الهائلة ، التي رويت بطرق مختلفة تنتهي إلى الصحابة.

يقول ابن حزم : ورويناه أيضا من طريق حذيفة وجابر وزيد بن ثابت وأبي هريرة وابن عمر كلّهم عن رسول الله بأسانيد في غاية الصحة. (3)

بقي هنا شيء آخر وهو التمسّك بعمل الصحابي والصحابية ، وإليك دراسته.

ص : 348


1- . نيل الأوطار : 3 / 202.
2- . نيل الأوطار : 3 / 202.
3- المحلّى : 4 / 271.

الاحتجاج بفعل عثمان وعائشة

وربما يحتجّ على جواز الإتمام بفعل عثمان الذي أتمّ في مكة وفي منى مع أنّه كان مسافرا ومهاجرا عن مكة ومتوطّنا في المدينة.

يلاحظ على هذا الاحتجاج : أنّ فعل الصحابي ليس حجّة ما لم يستند إلى حديث صحيح عن رسول الله ، فإنّ الحجة هي فعل المعصوم لا فعل غيره.

أضف إلى ذلك انّه قامت الضجة ضد عثمان واستنكره كثير من الصحابة حتى استرجع عبد الله بن مسعود.

والذي يدلّ على أنّ عثمان أتمّ من عند نفسه من دون دليل صالح ، ما أخرجه مسلم عن الزهري عن عروة عن عائشة.

قال الزهري : فقلت لعروة : ما بال عائشة تتم في السفر؟ قال : إنّها تأوّلت كما تأوّل عثمان. (1)

ونقله ابن حزم في « المحلى » ، قال : قال الزهري ، فقلت لعروة : فما كان عمل عائشة ان تتم في السفر وقد علمت أنّ الله تعالى فرضها ركعتين ركعتين؟ قال : تأوّلت من ذلك ما تأوّل عثمان من إتمام الصلاة بمنى. (2)

فلو كان لعثمان دليل على جواز الإتمام لاحتجّ به ولم يلجأ إلى التأويل ، وهذا دليل على أنّ القصر في السفر متعيّن ولكنّه أتمّ بمسوّغ خاص هو أعلم به.

وقد قام غير واحد ممّن يحاول تبرير فعل الخليفة وأمّ المؤمنين بنحت أعذار لهما!!

ص : 349


1- شرح صحيح مسلم : 5 / 202 ، كتاب صلاة المسافرين.
2- المحلّى : 4 / 270.

قال النووي : اختلف العلماء في تأويلهما :

1. فالصحيح الذي عليه المحقّقون أنّهما رأيا القصر جائزا والإتمام جائزا ، فأخذا بأحد الجائزين وهو الإتمام.

يلاحظ عليه : أنّه ليس بتأويل ، فلو كان هناك دليل على جواز الإتمام لكان عليه أن يحتجّ به من دون تأويل ، ولذلك أوّلوا فعل الخليفة وأمّ المؤمنين بوجوه أخرى ، أعني :

2. انّ عثمان إمام المؤمنين وعائشة أمّهم فكأنّهما في منازلهما.

يلاحظ عليه : عزب عن المؤوّل انّ النبي أولى منهما بذلك ، فلما ذا تداوم على القصر؟!

3. انّ عثمان تأهّل بمكة.

يلاحظ عليه : بمثل ما لوحظ على الوجه السابق ، فإنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم سافر بأزواجه منهنّ مكية وقد قصّر.

4. فعل ذلك من أجل الأعراب الذين حضروا معه لئلاّ يظنوا ان فرض الصلاة ركعتان أبدا حضرا وسفرا.

يلاحظ عليه : بما لوحظ على السابق بأنّ هذا المعنى كان موجودا في زمن النبي ، بل اشتهر أمر الصلاة في زمن عثمان أكثر ممّا قيل.

إلى غير ذلك من الوجوه التافهة التي لا يركن إليها الفقيه والتي نقلها الإمام النووي في شرحه وأبطل الكلّ إلاّ الوجه الأوّل ، وقد عرفت أنّه أيضا غير مبرر. (1)

ص : 350


1- شرح صحيح مسلم : 5 / 202 ، باب صلاة المسافرين وقصرها.

وبذلك يعلم أنّ فعل الصحابية عائشة لا يكون دليلا مع أنّها الرواية بأنّه سبحانه فرض الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرّت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر. (1)

إنّ لابن جرير الطبري كلاما حول فعل عائشة حيث روى في تفسير قوله تعالى ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ) بسنده عن عمر بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، قال : سمعت أبي يقول : سمعت عائشة تقول : في السفر أتموا صلاتكم ، فقالوا : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي في السفر ركعتين ، فقالت : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان في حرب وكان يخاف ، هل تخافون أنتم؟! (2)

وعلّق عليه الشوكاني بقوله : قيل في تأويل عائشة أنّها إنّما أتمّت في سفرها إلى البصرة لقتال علي عليه السلام والقصر عندها إنّما يكون في سفر طاعة _ إلى أن قال : _ وأمّا تأوّل عائشة فأحسن ما قيل فيه ما أخرجه البيهقي بإسناد صحيح من طريق هشام بن عروة عن أبيه أنّها كانت تصلّي في السفر أربعا ، فقلت لها : لو صليت ركعتين ، فقالت : يا بن أختي إنّه لا يشق علي ، وهو دالّ على أنّها تؤوّل أنّ القصر رخصة وانّ الإتمام لمن لا يشق عليه أفضل. (3)

ص : 351


1- شرح صحيح مسلم : 5 / 202.
2- تفسير الطبري : 4 / 155.
3- نيل الأوطار : 3 / 212.

ص : 352

9. إفطار المسافر في شهر رمضان

اشارة

ص : 353

ص : 354

الإفطار في السفر

اشارة

اتّفقت كلمة الفقهاء على مشروعية الإفطار جوازا أو وجوبا في السفر تبعا للذكر الحكيم والسنّة المتواترة إلاّ انّهم اختلفوا في كونه عزيمة أو رخصة ، نظير الخلاف في كون القصر فيه جائزا أو واجبا.

ذهبت الإمامية تبعا لأئمّة أهل البيت عليهم السلام والظاهرية إلى كون الإفطار عزيمة ، واختاره من الصحابة : عبد الرحمن بن عوف وعمر وابنه عبد الله وأبو هريرة وعائشة وابن عباس ، ومن التابعين : علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام وابنه محمد الباقر عليه السلام وسعيد بن المسيب وعطاء وعروة بن الزبير وشعبة والزهري والقاسم بن محمد بن أبي بكر ويونس بن عبيد وأصحابه (1).

وذهب جمهور أهل السنّة وفيهم فقهاء المذاهب الأربعة إلى كون الإفطار رخصة وإن اختلفوا في أفضلية الإفطار والصوم.

قال الجصّاص : الصوم في السفر أفضل من الإفطار ، وقال مالك والثوري : الصوم في السفر أحبّ إلينا لمن قوي عليه ، وقال الشافعي : إن صام في السفر أجزأه. (2)

ص : 355


1- المحلّى : 6 / 258.
2- أحكام القرآن : 1 / 215.

وقال السرخسي : إنّ أداء الصوم في السفر يجوز في قول جمهور الفقهاء ، وهذا قول أكثر الصحابة ، وعلى قول أصحاب الظواهر لا يجوز _ إلى أن قال : _ إنّ الصوم في السفر أفضل من الإفطار عندنا.

وقال الشافعي : الفطر أفضل ، لأنّ ظاهر ما روينا من آثار يدلّ على أنّ الصوم في السفر لا يجوز ، فإن ترك هذا الظاهر في حقّ الجواز (1) بقي معتبرا في أنّ الفطر أفضل ، وقاس بالصلاة فإنّ الاقتصار على الركعتين في السفر أفضل من الإتمام فكذلك الصوم لأنّ السفر يؤثر فيهما ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّ الله وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم ». (2)

وقال ابن قدامة : حكم المسافر حكم المريض في إباحة الفطر وكراهية الصوم وإجزائه إذا فعله ، وإباحة الفطر ثابتة بالنص والإجماع ، وأكثر أهل العلم على أنّه إن صام أجزأه _ إلى أن قال : _ والفطر في السفر أفضل. (3)

وقال القرطبي : واختلف العلماء في الأفضل من الفطر أو الصوم في السفر ، فقال مالك والشافعي في بعض ما روي عنهما : الصوم أفضل لمن قوي عليه. وجعل مذهب مالك التخيير وكذلك مذهب الشافعي ، قال الشافعي ومن تبعه : هو مخيّر ولم يفضّل وكذلك ابن عليّة. (4)

وهذه النقول وغيرها صريحة في اتّفاق الجمهور على جواز الإفطار في السفر لا على وجوبه مع اعتراف الشافعي بأنّ ظواهر الأدلّة هو المنع عن الصوم حيث

ص : 356


1- كذا في النسخة ولعلّ الصحيح : في حدّ الجواز.
2- المبسوط للسرخسي : 3 / 91 _ 92.
3- الشرح الكبير في ذيل المغني : 3 / 17 _ 19.
4- الجامع لأحكام القرآن : 2 / 280.

قال : « لأنّ ظاهر ما روينا من الآثار يدلّ على أنّ الصوم في السفر لا يجوز ». (1) وإن كان ما نقله القرطبي وغيره عنه يخالفه.

وعلى كلّ تقدير ، فالمهم هو بيان ما يستفاد من الأدلّة من كون الإفطار عزيمة أو رخصة. وسيتضح إليك انّ الإفطار عزيمة يدلّ عليها الكتاب والسنّة.

ص : 357


1- المبسوط : 3 / 91.
1. الكتاب وصوم رمضان في السفر
اشارة

قال سبحانه ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ). (1)

( أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ). (2)

( شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ). (3)

إنّ هذه الآيات المباركة تتضمّن أحكام الطوائف الأربع بعد التأكيد على أنّ الصوم ممّا كتب على المؤمنين كما كتب على الذين من قبلهم والكتابة آية الفرض

ص : 358


1- البقرة : 183.
2- البقرة : 184.
3- البقرة : 185.

والوجوب غالبا ، وليس للمكلّف تركه ، فالله سبحانه يخاطب قاطبة المؤمنين بقوله : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ). فالصيام مكتوب على الإنسان بأشكال مختلفة من غير فرق بين المصحّ والمريض والمسافر والمطيق ، لكن يختلف امتثاله حسب اختلاف أحوال المكلّف ، لأنّه ينقسم حسب العوارض إلى الأصناف الأربعة ، ولكلّ صنف حكمه.

الفقيه كلّ الفقيه ما يكون بصدد فهم القرآن والسنّة سواء أوافق مذهب إمامه الذي يقلّده أم خالف ، غير انّ كثيرا من المفسرين في تفسير هذه الآيات حاولوا أن يطبقوها على مذهب إمامهم من دون أن يمعنوا النظر في مفردات الآية وجملها حتّى يخرجوا بنتيجة واحدة من دون اختلاف وقد عرفت أقوالهم.

فنقول : الآيات المتقدّمة تبيّن أحكام الأصناف الأربعة التي عرفت عناوينها ، وإليك بيان ما يستفاد من الآيات في حقّ هؤلاء.

1. الصحيح المعافى

إنّ قوله سبحانه ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) صريح في لزوم الصوم لمن شهد الشهر ، من غير فرق بين تفسير شهود الشهر بالحضور في البلد وعدم السفر ، أو برؤية الهلال ، فليس للشاهد إلاّ تكليف واحد وهو صوم الشهر كلّه إذا اجتمعت فيه الشرائط.

2. المريض
3. المسافر
اشارة

وقد بيّن سبحانه حكم المريض والمسافر بقوله في موردين

ص : 359

_ ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ). (1)

_ ( وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ). (2)

والمقصود فهم ما تتضمّنه الجملة في الموردين من الحكم في حقّ المريض والمسافر ، فهل هو ظاهر في كون الإفطار عزيمة أو رخصة؟

والإمعان في الآية يثبت انّ الإفطار عزيمة ، وذلك بوجوه أربعة :

الأوّل : وجوب الصيام في العدّة ، آية لزوم الإفطار

إنّ معنى قوله سبحانه ( فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) أي « فعليه صيام عدّة أيام أخر » أو « يلزمه صيام تلك الأيام » ، وهذا هو الظاهر من أكثر المفسرين حيث يذكرون بعد قوله سبحانه ( فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) قولهم : عليه صوم أيّام أخر. وعلى ذلك فالمتبادر من الآية هو انّه يلزمه صيام تلك الأيّام ، أو على ذمّته صيامها ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر : انّه إذا وجب صيام تلك الأيام مطلقا ، يكون الإفطار في شهر رمضان واجبا ، وإلاّ فلو جاز صومه ، لما وجب صيام تلك الأيام ( أَيَّامٍ أُخَرَ ) على وجه الإطلاق فإيجاب صيامها كذلك ، آية وجوب الإفطار في شهر رمضان.

الثاني : التقابل بين الجملتين يدلّ على حرمة الصوم

إذا كانت في الكلام جملتان متقابلتان فإبهام إحداهما يرتفع بظهور الأخرى ، وهذا ممّا لا سترة عليه ، وعلى ضوء هذا نرفع إبهام قوله ( أَوْ عَلى سَفَرٍ ) بالجملة الأخرى التي تقابله فنقول :

قال سبحانه في من شهد الشهر :

ص : 360


1- البقرة : 184.
2- البقرة : 185.

( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ )

ثمّ قال في من لم يشهد الشهر :

( فَمَنْ كانَ ... أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ).

فإذا كان معنى الجملة الأولى انّ الشاهد يصوم ، يكون معنى الجملة الثانية _ بحكم التقابل _ انّ غير الشاهد ( المسافر ) لا يصوم ، فإذا كان الأمر في الجملة الأولى ظاهرا في الوجوب يكون النهي في الثانية ظاهرا في التحريم.

وقد روى عبيد بن زرارة ، عن الإمام الصادق عليه السلام قال : قلت له ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) ، قال : « ما أبينها :

من شهد الشهر فليصمه ومن سافر فلا يصمه ». (1)

الثالث : المكتوب عليهما من أوّل الأمر هو صيام العدّة
اشارة

الثالث (2) : المكتوب عليهما من أوّل الأمر هو صيام العدّة

إنّ ظاهر قوله سبحانه ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) هو انّ المكتوب على الصنفين من أوّل الأمر هو الصيام في أيّام أخر ، فإذا كان الصيام واجبا على عامة المكلّفين وكان المكتوب عليهم من أوّل الأمر هو الصيام في أيام أخر ، فصيامهم في شهر رمضان يكون بدعة وتشريعا محرّما ، لاتّفاق الأمّة على عدم وجوب صومين طول السنة.

كلمات بعض المفسرين تدعم موقفنا

إنّ لفيفا من المفسرين عند تفسير الآية _ حرفيّا _ فسروا الآية على غرار ما ذكرنا ، لكن عند ما وصلوا إلى بيان حكم الإفطار من العزيمة والرخصة ، صدّهم

ص : 361


1- الوسائل : 7 ، الباب 1 من أبواب من يصحّ منه الصوم ، الحديث 8.
2- يأتي الوجه الرابع ص 366 فلا تغفل.

فتوى إمامهم عن الإصحار بالحقيقة.

يقول الطبري : فمن كان منكم مريضا ممن كلّف صومه أو كان صحيحا غير مريض وكان على سفر فعدّة من أيام أخر ( يقول ) فعليه صوم عدّة الأيام التي أفطرها في مرضه أو في سفره من أيام أخر ، يعني من أيّام أخر غير أيّام مرضه أو سفره. (1)

فظاهر قوله : « فعليه صوم عدّة أيّام » أي يلزم عليهما صوم تلك العدة ، ومع لزوم القضاء مطلقا كيف يكون مخيّرا بين الإفطار والصيام؟!

قال ابن كثير ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) أي المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر ، لما في ذلك من المشقة عليهما ، بل يفطران ويقضيان بعدة ذلك من أيام أخر. (2)

وفي الوقت نفسه هو يقول بعد صفحة ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح ورخّص فيه للمريض والمسافر. (3) فأين قوله : « لا يصومان في حال المرض والسفر » من قوله : ويرخّص فيه للمريض والمسافر؟!

فالتعبير الأوّل تعبير عن ظهور الآية جرى على قلمه بصورة عفوية من دون أن يلتفت إلى مذهب إمامه ، والجملة الثانية صدرت منه _ غفلة عمّا ذكره _ لدعم رأي إمام مذهبه.

تقدير « فأفطر » لتطبيق الآية على المذهب

ثمّ إنّ بعض المفسرين لما أدرك ظهور الآية في لزوم الإفطار وصيام أيّام أخر

ص : 362


1- تفسير الطبري : 2 / 77.
2- تفسير القرآن العظيم : 1 / 376.
3- المصدر نفسه : 1 / 378.

مكان الأيّام التي أفطر فيها ، حاول أن يطبّق الآية على مذهب الترخيص فقدّر بعد قوله : « أو على سفر » لفظة « فأفطر » وقال : « فأفطر » فعدّة من أيّام أخر ، وكأنّ الصيام كتب عليهم أيضا في شهر رمضان لكن لهم الخيار ، فإذا أفطروا يجب عليهم صيام العدة وإن لم يفطروا فلا ، وليس هذا إلاّ لغاية تطبيق الآية على المذهب دون تفسير الآية برأسها ، وها نحن نذكر نماذج من كلماتهم :

1. إنّ الإمام الرازي ممّن ذكر دليل القائل بكون الإفطار عزيمة لا رخصة ومع ذلك اختار المذهب الآخر بحجّة انّ في الآية تقديرا أعني : « فأفطر » ، أو انّ القضاء يجب بالإفطار لا بالمرض والسفر ، يقول :

ذهب قوم من علماء الصحابة إلى أنّه يجب على المريض والمسافر أن يفطر أو يصوم عدّة من أيّام أخر وهو قول ابن عباس وابن عمر.

وذهب أكثر الفقهاء إلى أنّ الإفطار رخصة ، فإن شاء أفطر وإن شاء صام.

احتجّ الجمهور بوجوه :

الأوّل : انّ في الآية إضمارا ، لأنّ التقدير : فأفطر فعدة من أيّام أخر.

الثاني : ما ذكره الواحدي في كتاب البسيط ، قال : القضاء إنّما يجب بالإفطار لا بالمرض والسفر.

الثالث : ما رواه ابن داود في سننه عن هشام. انّ حمزة الأسلمي سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال : يا رسول الله هل أصوم على السفر؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم : صم إن شئت وأفطر إن شئت. (1)

يلاحظ على الوجه الأوّل : انّ الإضمار على خلاف الظاهر. ولا دليل على

ص : 363


1- التفسير الكبير : 5 / 74 و 76.

تقديره سوى تطبيق الآية على المذهب الفقهي.

وعلى الوجه الثاني : فهو ادّعاء بلا دليل ، وظاهر الآية والروايات التي ستوافيك انّ السفر لا يجتمع مع الصوم سواء أفطر أو لا.

وأمّا الوجه الثالث : فسيوافيك حال الرواية ، فانتظر.

2. قال صاحب المنار في تطبيق الآية على فتوى مذهب الجمهور ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) أي من كان كذلك « فأفطر » فعليه صيام عدّة من أيّام أخر غير تلك الأيّام المعدودات ، فالواجب عليه القضاء _ إذا أفطر _ بعدد الأيام التي لم يصمها. (1)

أقول : ما ساق صاحب المنار إلى تقدير قوله « فأفطر » أو قوله : « إذا أفطر » إلاّ وقوفه على دلالة الآية على لزوم الإفطار وانّ الواجب عليه هو صوم عدّة أيّام أخر ، فحاول بتقدير « إذا أفطر » أن يصرف الآية عن ظهورها ويجعلها ظاهرة في التخيير بين صيام رمضان وصيام عدّة أيّام أخر.

والعجب انّه يصرّح في موضع آخر من كلامه بأنّه « تأويل » ، ومعنى كلامه عندئذ انّه صرف للآية عن ظاهرها بلا دليل.

يقول : اختلف السلف في هذه المسألة فقالت طائفة : لا يجزي الصوم عن الفرض ، بل من صام في السفر وجب عليه قضاؤه في الحضر ، لظاهر قوله تعالى : ( فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) ... ظاهره فعليه عدّة أو فالواجب عدة ، وتأوّله الجمهور بأنّ التقدير : فأفطر فعدة. (2)

ص : 364


1- تفسير المنار : 2 / 150.
2- تفسير المنار : 2 / 153.

ولا ينقضي تعجّبي منه ، حيث إنّه يصفه بأنّه تأويل _ ومع ذلك يصرّ على صحة فتوى الجمهور ، ومع أنّه يندّد في ثنايا تفسيره بجملة من المقلّدين لأئمّة مذاهبهم حيث يؤوّلون ظواهر الآية تطبيقا لها لفتوى مذهب إمامهم ، ويقول في مسألة الطلاق ثلاثا _ التي اختار فيها تبعا لظاهر القرآن بأنّه لا يقع إلاّ مرة واحدة _ : ليس المراد مجادلة المقلّدين أو إرجاع القضاة والمفتين عن مذاهبهم فإنّ أكثرهم يطّلع على هذه النصوص في كتب الحديث وغيرها ولا يبالي بها ، لأنّ العمل عندهم على أقوال كتبهم دون كتاب الله وسنّة رسوله. (1)

وقد ردّ غير واحد من علماء الإمامية على من قدّر « فأفطر » بغية إثبات التخيير.

يقول الشيخ الطوسي : وفي هذه الآية دلالة على أنّ المسافر والمريض يجب عليهما الإفطار ، لأنّه تعالى أوجب عليهما القضاء مطلقا ، وكلّ من أوجب عليه القضاء بنفس السفر والمرض ، أوجب الإفطار.

فإن قدّروا في الآية « فأفطر » كان ذلك على خلاف الآية. وبوجوب الإفطار في السفر قال عمر بن الخطاب ( وقد ذكر أسماء عدّة من الصحابة والتابعين القائلين بوجوب الإفطار الذين ذكرنا أسماءهم في صدر البحث ). (2)

يقول العلاّمة الطباطبائي ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) « الفاء » للتفريع ، والجملة متفرعة على قوله : « كتب » وقوله : « معدودات » أي انّ الصيام مكتوب مفروض عليهم فيها.

ثمّ يقول : وقد قدّر القائلون بالرخصة في الآية تقديرا فقالوا : إنّ التقدير

ص : 365


1- تفسير المنار : 2 / 386.
2- التبيان : 2 / 150.

فمن كان مريضا أو على سفر فأفطر فعدّة من أيّام أخر.

ويرد عليه أوّلا : انّ التقدير كما صرّحوا به خلاف الظاهر لا يصار إليه إلاّ بقرينة ، ولا قرينة من نفس الكلام عليه.

وثانيا : انّ الكلام على تقدير تسليم التقدير لا يدلّ على الرخصة ، فإنّ المقام كما ذكروه مقام تشريع وغاية ما يدلّ عليه قولنا : « فمن كان مريضا أو على سفر فأفطر » هو ، انّ الإفطار لا يقع معصية ، بل جائزا بالجواز بالمعنى الأعم من الوجوب والاستحباب والإباحة ، وأمّا كونه جائزا بالمعنى الأخصّ فلا دليل عليه من الكلام البتة ، بل الدليل على خلافه ، فان بناء الكلام على عدم بيان ما يجب بيانه في مقام التشريع لا يليق بالمشرّع الحكيم وهو ظاهر. (1)

الرابع : ذكر المريض والمسافر في سياق واحد

إنّ الآية ذكرت المريض والمسافر في سياق واحد وحكم عليهما بحكم واحد وقال ( فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) فهل الرخصة في حقّ المسافر فقط ، أو تعمّ المسافر والمريض؟

فالأوّل يستلزم التفكيك ، فان ظاهر الآية انّ الصنفين في الحكم على غرار واحد لا يختلفان ، فالحكم بجواز الإفطار في المسافر دون المريض لا يناسب ظاهر الآية.

وأمّا الثاني فهل يصحّ لفقيه أن يفتي بالترخيص في المريض إذا كان الصوم ضارا أو شاقا عليه؟! فان الإضرار بالنفس حرام في الشريعة المقدسة كما أنّ

ص : 366


1- الميزان : 2 / 11.

الإحراج في امتثال الفرائض ليس مكتوبا ولا مجعولا في الشرع ، قال سبحانه : ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ). (1)

إلى هنا تبين حكم المسافر والمريض ، وإليك حكم الصنف الرابع.

4. المطيق
اشارة

هذا هو الصنف الرابع الذي يبيّن سبحانه حكمه بقوله ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ).

والمراد هو الشيخ الكبير والشيخة الكبيرة اللّذين لا يستطيعان أن يصوما أو لا يستطيعان إلاّ بمشقة كبيرة ، والظاهر هو الثاني ، لأنّ الإطاقة في اللغة أدنى درجات المكنة والقدرة على الشيء ، فلا تقول العرب أطاق إلاّ إذا كانت قدرته عليه في نهاية الضعف بحيث يتحمّل به مشقة كثيرة.

وعلى كلّ تقدير فالواجب عليه فدية طعام ، وقد اختلفوا في مقدار الفدية على نحو مذكور في الفقه ، فمنهم من قال : نصف صاع وهم أهل الرأي ، وقال الشافعي : مدّ عن كلّ يوم ، وهو المذهب المنصور عند الإمامية.

لكن الاكتفاء بهذا المقدار أمر جائز ، غير انّ من قدر على الزائد من هذا المقدار فهو خير ، كما يقول سبحانه ( فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ) أي أطعم أكثر من مسكين فهو خير.

ثمّ إنّ هنا تفسيرين آخرين للتطوّع :

1. الجملة ناظرة إلى المطيق والمقصود من جمع بين الصوم والصدقة فهو خير.

ص : 367


1- الحج : 78.

يلاحظ عليه بأنّه بعيد عن ظاهر الآية ، فإنّ المفروض انّ الشيخ لا يطيق الصوم إلاّ ببذل عامة جهده وطاقته فهل يستحبّ له الجمع بين الصوم والصدقة؟!

أضف إلى ذلك انّ المستطيع يجب عليه الصوم وحده ولا يستحب له الفدية ولكن الشيخ الكبير يستحب له مع الصوم ، الفدية!!

2. الجملة ناظرة إلى أصحاب الأعذار ، أعني : المريض والمسافر ، والمقصود : إن زادا على تلك الأيام المعدودات فهو خير له ، لأنّ فائدته وثوابه له ، و « الفاء » في قوله ( فَمَنْ تَطَوَّعَ ) يدلّ على هذا ، لأنّها تفريع على حصر الفرضية في الأيام المعدودات. (1)

يلاحظ عليه بأنّه كيف تكون الجملة ناظرة إلى أصحاب الأعذار _ مع توسط حكم الصنف الرابع بينهما حيث قال ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) ، ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ) ، ( فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ).

والظاهر انّه يرجع إلى الصنف الرابع ، والجملة تفريع على حصر الفرض في طعام مسكين ، والمقصود : فمن تطوّع بزيادة إطعام المسكين فهو خير له.

إلى هنا تمّ حكم الأصناف الأربعة.

* * *

بقي الكلام في تفسير قوله سبحانه ( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) فنقول :

ص : 368


1- تفسير المنار : 2 / 158.
من هو المخاطب في قوله ( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ )؟

ثمّ إنّه سبحانه بعد ما بيّن أحكام الأصناف الأربعة خاطب عامة المؤمنين مرّة أخرى بقوله :

( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ).

وهذا الخطاب على غرار الخطاب السابق ، أعني قوله :

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ).

والفرق بين الخطابين انّ الخطاب السابق خطاب قبل التفصيل ودعوة إلى الصوم والخطاب اللاحق خطاب بعد تفصيل أحكام الأصناف الأربعة ، فتكون النتيجة :

وان تصوموا أيّها المكلّفون على النحو المذكور في الآية خير لكم ، أي : يصوم الشاهد ، ويفطر المريض والمسافر ويصوم في أيّام أخر ويفدي المطيق.

وأمّا من يقول بالرخصة في المريض والمسافر أو في خصوص المسافر يتخذ ذلك ذريعة للرخصة ويقول « إنّ الخطاب فيها لأهل الرخص ، وانّ الصيام في رمضان خير لهم من الترخّص بالإفطار ». (1)

يلاحظ عليه بأنّ التفسير نابع من محاولة إخضاع الآية على المذهب الفقهي ، وهو التخيير بين الصوم والإفطار ، ولكنّه غير تام لوجهين :

1. انّ صرف الخطاب العام إلى الصنف الخاص ، تفسير بلا دليل ومن شعب التفسير بالرأي.

ص : 369


1- تفسير المنار : 2 / 158 ، نقله عن بعض المفسرين وردّ عليه بقوله : وهذا غير مطرد ولا متفق عليه.

2. لو كان الخطاب لأهل الرخص كان اللازم أن يقول : وان يصوم المسافر خير من الإفطار ويبيّن الحكم باللفظ الغائب ، لا بالخطاب الحاضر.

بل الظاهر _ كما مرّ _ أنّه تأكيد على امتثال الفريضة وانّ الصوم خير ، فله أثره الجميل في النفس فان التنزّه عن الاسترسال في استيفاء اللذائذ الجسمانية ، وكبح جماح الشهوات يورث التقوى والتجافي عن الإخلاد إلى الأرض.

ولغاية الإيضاح نقول إنّ الآية الثانية ، تتشكل من أربع فقرأت بعد بيان انّ الواجب لا يتجاوز عن كونه أيّاما معدودات.

الأولى ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ).

الثانية ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ).

الثالثة ( فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ).

الرابعة ( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ).

وجاءت الفقرات الثلاث الأول بصيغة الغائب بخلاف الأخيرة فجاءت بصيغة الخطاب.

وهذا دليل على أنّه منقطع عن المقاطع الثلاثة وتأكيد للخطاب الأوّل بعد التفصيل أعني قوله سبحانه ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ).

* * *

ثمّ إنّه سبحانه ذكر في الآية الثالثة جملا ثلاثا :

أ. ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ).

وهو بيان لحكمة رفع الصيام عن الأصناف الثلاثة ، أي أمروا بالإفطار لأجل اليسر ودفع العسر ، من غير فرق بين المريض والمسافر ومن يشق عليه

ص : 370

الصيام.

ب. ( وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ).

وهو راجع إلى قضاء المريض والمسافر ، أي أنّ الموضوع عنهما هو حكم الصيام في شهر رمضان ، وأمّا القضاء بعدد الأيّام المعدودات فلا.

ج. ( وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ).

الجملة غاية أصل الصيام حيث إنّه سبحانه يطلب من عباده ، تكبيرة في مقابل هدايتهم حتّى يكونوا شاكرين لنعمه.

هذا تفسير الآيات الثلاث حسب ما يوحيه ظاهرها.

ص : 371

2. السنّة وصوم رمضان في السفر

قد عرفت قضاء الكتاب في مورد الصوم في السفر وانّ الواجب هو الإفطار والقضاء في أيّام أخر حسب ما أفطر ، فلنرجع إلى السنّة ولندرس الروايات الواردة ، وسيوافيك انّها تعاضد القرآن الكريم ولا تخالفه قيد شعرة بشرط الإمعان في مضامينها وأسنادها ، أمّا ما ورد عن طريق أئمّة أهل البيت عليهم السلام فهو متضافر لا يسعنا نقلها في المقام وإنّما نتبرّك بذكر بعضها :

1. روى الكليني بسنده عن الزهري ، عن علي بن الحسين عليهما السلام في حديث قال : « وأمّا صوم السفر والمرض فإنّ العامة قد اختلفت في ذلك ، فقال قوم : يصوم ، وقال آخرون : لا يصوم ، وقال قوم : إن شاء صام وإن شاء أفطر ، وأمّا نحن فنقول : يفطر في الحالين جميعا ، فإن صام في حال السفر أو في حال المرض فعليه القضاء ، فان الله عزّ وجلّ يقول ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) فهذا تفسير الصيام ». (1)

2. روى الكليني بسنده عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : « سمّى رسول

ص : 372


1- الكافي : 4 / 83 ، باب وجوه الصوم.

الله صلى الله عليه وآله وسلم قوما صاموا حين أفطر وقصّر : عصاة ، وقال : هم العصاة إلى يوم القيامة ، وانّا لنعرف أبناءهم وأبناء أبنائهم إلى يومنا هذا ». (1)

3. روى الكليني عن عبيد بن زرارة قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام قول الله عزّ وجلّ ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) ، قال : « ما أبينها : من شهد الشهر فليصمه ، وإن سافر فلا يصمه ». (2)

4. روى الكليني عن ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : سمعته يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّ الله عزّ وجلّ تصدّق على مرضى أمّتي ومسافريها بالتقصير والإفطار ، أيسرّ أحدكم إذا تصدّق بصدقة ان ترد عليه ». (3)

5. روى الكليني عن عيص بن القاسم ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : « إذا خرج الرجل في شهر رمضان مسافرا أفطر » وقال : « إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج من المدينة إلى مكة في شهر رمضان ومعه الناس وفيهم المشاة ، فلمّا انتهى إلى كراع الغميم دعا بقدح من ماء فيما بين الظهر والعصر فشرب وأفطر ثمّ أفطر الناس معه ، وثمّ أناس على صومهم فسمّاهم العصاة ، وإنّما يؤخذ بآخر أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ». (4)

هذا بعض ما روي عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام ذكرناه ليكون نموذجا لما لم نذكر ، واقتصرنا بالقليل من الكثير ، ومن المعلوم أنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام أحد

ص : 373


1- الكافي : 4 / 127 ، باب كراهية الصوم في السفر ، الحديث 6.
2- المصدر نفسه ، الحديث 1.
3- المصدر نفسه ، الحديث 2.
4- المصدر نفسه ، الحديث 5. وقد ورد هذا المضمون في غير واحد من روايات أهل السنّة روى مسلم في رواية خرج رسول الله عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثمّ أفطر وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره ( شرح صحيح مسلم للنووي : 7 / 229 ).

الثقلين اللّذين تركهما الرسول بين الأمّة لصيانتها عن الضلالة فلا يعادل قولهم قول الآخرين.

ومن حسن الحظ انّ روايات أهل السنّة توافق ما روي عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام ، ونذكر منها ما يلي :

1. أخرج الشيخان في صحيحيهما عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، كان رسول الله في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلّل عليه.

فقال : ما هذا؟

فقالوا : صائم.

فقال : ليس من البر الصوم في السفر.

وفي لفظ صحيح مسلم : ليس البر أن تصوموا في السفر. (1)

إنّ البر في مصطلح القرآن هو العمل الحسن الذي يقابله الإثم ، يقول سبحانه ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) (2) فإذا لم يكن الصوم في السفر برا فهو إثم ، وحكم الإثم واضح.

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم وإن ورد فيمن وقع في حرج شديد ، لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضرب قاعدة كلية لمطلق الصائم في السفر ، سواء أكان عليه حرج أم لا ، بشهادة انّه لو كان الموضوع هو الصوم الحرجي لكان عليه التركيز عليه ويقول ليس من البر الصوم الحرجي أو يستشهد بقوله سبحانه ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ).

يقول ابن حزم : فإن قيل : إنّما منع عليه السلام في مثل حال ذلك الرجل.

قلنا : هذا باطل لا يجوز ، لأنّ تلك الحال محرّم ، البلوغ إليها باختيار المرء

ص : 374


1- صحيح البخاري : 3 / 44 ؛ صحيح مسلم : 7 / 233.
2- المائدة : 2.

للصوم في الحضر كما هو في السفر ، فتخصيص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمنع من الصيام في السفر إبطال لهذه الدعوى المفتراة عليه صلى الله عليه وآله وسلم وواجب أخذ كلامه عليه السلام على عمومه. (1)

2. أخرج مسلم عن جابر بن عبد الله انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس ، ثمّ دعا بقدح من ماء فرفعه حتّى نظر الناس إليه ثمّ شرب ، فقيل له بعد ذلك : إنّ بعض الناس قد صام؟ فقال : « أولئك العصاة ، أولئك العصاة ». (2)

والمراد من العصيان هو مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول سبحانه ( وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً ). (3)

والعجب ممّن يريد احياء مذهب إمامه يحمل الحديث على أنّ أمره صلى الله عليه وآله وسلم كان أمرا استحبابيا ، لكنّه بمعزل من الواقع ، فأين الاستحباب من قوله : « أولئك العصاة ، أولئك العصاة »؟!

3. أخرج ابن ماجة عن عبد الرحمن بن عوف قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر ». (4)

ودلالة الحديث على كون الإفطار عزيمة واضحة ، فإنّ الإفطار في السفر إذا كان إثما وحراما فيكون النازل منزلته أعني : الصيام في نفس هذا الشهر إثما وحراما.

4. أخرج ابن ماجة عن أنس بن مالك ، عن رجل من بني عبد الأشهل

ص : 375


1- المحلّى : 6 / 254.
2- شرح صحيح مسلم للنووي : 7 / 232.
3- الأحزاب : 36.
4- سنن ابن ماجة : 1 / 532 ، رقم الحديث 1666 ؛ سنن أبي داود : 2 / 217 رقم 2407.

قال : أغارت علينا خيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتغدّى ، فقال : « ادن فكل » ، قلت : إنّي صائم قال : « اجلس أحدّثك عن الصوم أو الصيام ، إنّ الله عزّ وجلّ وضع عن المسافر شطر الصلاة ، وعن المسافر والحامل والمرضع ، الصوم أو الصيام ». والله لقد قالهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلتاهما أو إحداهما ، فيا لهف نفسي فهلاّ كنت طعمت من طعام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (1)

5. روى أبو داود انّ دحية بن خليفة خرج من قرية من دمشق إلى قدر قرية عقبة من الفسطاط ، وذلك ثلاثة أميال في رمضان ، ثمّ إنّه أفطر وأفطر معه أناس وكره آخرون أن يفطروا ، فلمّا رجع إلى قريته ، قال : والله لقد رأيت اليوم أمرا ما كنت أظن أنّي أراه ، انّ قوما رغبوا عن هدى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ذلك للذين صاموا ثمّ قال عند ذلك : اللهم اقبضني إليك. (2)

هذا بعض ما يستدلّ به على كون الإفطار عزيمة ، وقد تركنا البعض الآخر لما استوفينا البحث في نقل الروايات الواردة في الصحاح والسنن في كتابنا « البدعة » (3) ، فمن أراد التبسط فليرجع إليه.

ص : 376


1- سنن ابن ماجة : 1 / 533 برقم 1667.
2- سنن أبي داود : 2 / 319 ، الحديث 2413.
3- البدعة : 283 _ 287.
3. ما اتّخذ ذريعة لجواز الصوم في السفر
اشارة

إنّ هنا روايات يتمسّك بها على أنّ الإفطار رخصة وانّ المكلّف مخيّر بينه وبين الصيام وقبل الخوض في المقام نلفت نظر القارئ إلى أمور ثلاثة يظهر بالإمعان فيها حال بعض ما روي في المقام.

1. انّ البحث مركّز على حكم صيام شهر رمضان في السفر ، وانّ الإفطار عزيمة أو رخصة وامّا صيام غيره في السفر فخارج عن موضوع البحث.

2. انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالإفطار في عام الفتح ( السنة الثامنة من الهجرة ) وكان الحكم قبله على الجواز ، فلو دلّ حديث عليه فإنّما يصحّ الاستدلال به إذا ورد بعد عام الفتح ، وإلاّ فالجواز قبل الفتح ليس موردا للنقاش.

3. لو افترضنا دلالة الروايات على التخيير فتقع المعارضة بين الآمرة بالإفطار والحاكمة على التخيير ، فلا بدّ من الرجوع إلى المرجّحات فما وافق الكتاب فهو الحجّة دون ما خالف.

وعلى ضوء هذه الأمور ندرس الروايات المجوّزة ونقول : إنّ الروايات المجوّزة على أصناف :

ص : 377

أ. ما ليس صريحا في شهر رمضان

1. أخرج البخاري عن عائشة انّ حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : أصوم في السفر _ وكان كثير الصيام _ فقال : « إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر ». (1)

إنّ قوله : « وكان كثير السفر » يصلح أن يكون قرينة على أنّ السؤال كان عن الصوم المندوب ، ولو لم يكن قرينة فالحديث ليس صريحا في صيام شهر رمضان ، وما لم يكن كذلك لا يحتجّ به.

2. ما أخرجه البخاري بسنده عن أبي الدرداء قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض أسفاره في يوم حار حتّى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحرّ وما فينا صائم إلاّ ما كان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وابن رواحة. (2)

يلاحظ عليه : بما ذكرناه في الرواية السابقة من عدم ظهور الرواية في صوم شهر رمضان ، ومعه لا يحتجّ به ، مع أنّه يحتمل أن يكون صومه قبل عام الفتح.

3. أخرج البخاري عن أنس بن مالك قال : كنّا نسافر مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم. (3)

يلاحظ عليه : بأنّه ليس صريحا في شهر رمضان _ مضافا _ إلى سكوت الصحابة ليس حجّة شرعية وليس بعد نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم نبوة تشريعية حتّى يكون تقريرهم حجّة.

ص : 378


1- صحيح البخاري : 3 / 43.
2- صحيح البخاري : 3 / 43.
3- صحيح البخاري : 3 / 44. ونقله مسلم مقيّدا برمضان ، وسيوافيك في القسم الثاني.

على أنّه يحتمل أن يكون ذلك قبل يوم الفتح ، وقد عرفت أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ندّد بمن لم يفطر في ذلك اليوم وقال : « أولئك العصاة ، أولئك العصاة ».

4. أخرج مسلم بسنده عن طاوس ، عن ابن عباس ، قال : لا تعب على من صام ولا على من أفطر ، فقد صام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السفر وأفطر. (1)

وليس الحديث صريحا في شهر رمضان ولا ظاهرا فيه ، على أنّه يمكن أن يكون قبل الفتح ، ومنه يظهر ما نقله مسلم في صحيحه (2) وما ذكره ابن حزم في « المحلّى » عن علي. (3)

ب : ما هو صريح في شهر رمضان وليس صريحا في ما بعد الفتح

5. أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد _ رضي الله عنه _ قال : كنّا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رمضان فما يعاب على الصائم صومه ولا على المفطر إفطاره. (4)

6. وأخرج عن أنس _ رضي الله عنه _ عن صوم رمضان في السفر فقال :

سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم. (5)

يلاحظ عليه : قد سافر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرّة في شهر رمضان في غزوة بدر ، وأخرى في عام الفتح ، فلعلّ الحديثين ناظران إلى سفره صلى الله عليه وآله وسلم في شهر رمضان في غزوة بدر ، وإلاّ فهو صلى الله عليه وآله وسلم قد ندّد بمن تخلّف وصام في رمضان عام الفتح وسمّاهم

ص : 379


1- صحيح مسلم : 3 / 143 ، باب جواز الصوم والفطر.
2- صحيح مسلم : 3 / 143.
3- المحلى : 6 / 247.
4- . صحيح مسلم : 3 / 143 ، باب جواز الصوم والفطر.
5- . صحيح مسلم : 3 / 143 ، باب جواز الصوم والفطر.

عصاة ، والحديثان شاهدان على أنّ ما دلّ على الجواز ، فإنّما يرجع إلى ما قبل الفتح لا فيه ولا بعده.

ج : ما هو ضعيف سندا لا يحتجّ به

وهناك روايات ضعاف لا يحتج بها ، نذكر منها نموذجين :

1. ما روي عن العطريف بن هارون مرسلا : انّ رجلين سافرا فصام أحدهما وأفطر الآخر ، فذكرا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : كلاكما أصاب. (1)

2. ما روي مرسلا عن أبي عياض : انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر أن ينادى في الناس من شاء صام ومن شاء أفطر. (2)

والرواية مرسلة لا يحتجّ به. (3)

كما أنّ ما رواه ابن حزم عن عائشة (4) « انّها كانت تصوم في السفر وتتم الصلاة » اجتهاد منها لا يحتجّ به إذا صامت في شهر رمضان بعد الفتح.

وحاصل الكلام : انّ هذه الروايات بين ما هي غير صريحة في كون الصيام كان صيام شهر رمضان أو صريح في كونه في شهر رمضان لكن ليس صريحا فيما بعد الفتح وبين ما هي ضعيفة سندا لا يحتج بها.

ولو افترضنا دلالة هذه الروايات على الرخصة فتقع المعارضة بينها وبين ما دلّت بصراحتها على أنّ الإفطار عزيمة وعندئذ يقع التعارض بينهما فتصل النوبة إلى المرجّحات ، وأولى المرجّحات هو موافقة الكتاب ، ومن المعلوم انّ الطائفة الأولى توافق الكتاب وقد عرفت دلالة الكتاب على أنّ الإفطار عزيمة.

ص : 380


1- المحلى : 6 / 247.
2- المحلى : 6 / 248.
3- . المحلى : 6 / 247.
4- . المحلى : 6 / 247.

10. صلاة التراويح

اشارة

ص : 381

ص : 382

صلاة التراويح

إنّ التهجّد في ليالي شهر رمضان سنّة مؤكّدة ، ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأئمّة أهل البيت عليهم السلام حسب ما يوافيك بيانه ، والتهجّد فيها بنوافلها من أفضل المسنونات والمندوبات ، وقد سنّها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والهدف الذي يستعقبه هذا المقال هو البحث في جواز إقامتها جماعة وعدمه ، ويتجلّى ما هو الحقّ ضمن أمور :

1. التراويح لغة واصطلاحا

التراويح جمع ترويحة ، وهي مأخوذة من الراحة بمعنى زوال المشقة والتعب ، والترويحة في الأصل اسم للجلسة مطلقة ، وسمّيت الجلسة التي بعد أربع ركعات في ليالي رمضان بالترويحة ، لاستراحة القوم بعد كلّ أربع ركعات ، وهي المرّة الواحدة من الراحة ، مثل تسليمة من السّلام. (1)

ص : 383


1- لسان العرب : 2 ، مادة روح.

2. قيام ليالي رمضان بالتطوع

سنّة مؤكّدة

أنّ قيام ليالي شهر رمضان سنّة مؤكدة (1) حثّ عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديثه.

1. أخرج البخاري عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : لرمضان من قامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه. (2)

2. أخرج مسلم عن أبي هريرة قال : من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه ، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه. (3)

3. أخرج الشيخ الطوسي بإسناده عن أبي الورد ، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : « خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس في آخر جمعة من شعبان فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أيّها الناس انّه قد أظلّكم شهر ، فيه ليلة خير من ألف شهر ، وهو شهر

ص : 384


1- سنّة مؤكّدة عند الإمامية وثلاثة من الأئمة وخالفت المالكية.
2- صحيح البخاري : 3 / 44 ، باب فضل من قام رمضان ، صحيح مسلم : 2 / 176 ، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح.
3- صحيح مسلم : 2 / 177 ، الباب نفسه.

رمضان ، فرض الله صيامه ، وجعل قيام ليلة فيه بتطوع صلاة ، كمن تطوع بصلاة سبعين ليلة فيما سواه من الشهور ، وجعل لمن تطوع فيه بخصلة من خصال الخير والبر ، كأجر من أدّى فريضة من فرائض الله عزّ وجلّ ، ومن أدّى فيه فريضة من فرائض الله عزّ وجلّ كان كمن أدّى سبعين فريضة من فرائض الله فيما سواه من الشهور. ». (1)

4. أخرج الشيخ عن يونس بن عبد الرحمن ، عن محمد بن يحيى قال : كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فسأل هل يزاد في شهر رمضان في صلاة النوافل؟ فقال : « نعم ، قد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي بعد العتمة في مصلاّه فيكثر ». (2)

5. أخرج الشيخ عن علي بن أبي حمزة ، قال : دخلنا على أبي عبد الله عليه السلام فقال له أبو بصير : ما تقول في الصلاة في رمضان؟ فقال له : « إنّ لرمضان لحرمة وحقا لا يشبهه شيء من الشهور ، صلّ ما استطعت في رمضان تطوعا بالليل والنهار ، وإن استطعت في كلّ يوم وليلة ألف ركعة فصلّ انّ عليا عليه السلام كان في آخر عمره يصلّي في كلّ يوم وليلة ألف ركعة ، فصلّ يا أبا محمد زيادة في رمضان » فقال : كم جعلت فداك؟ فقال : « في عشرين ليلة تمضي في كلّ ليلة عشرين ركعة ، ثماني ركعات قبل العتمة واثنتي عشرة بعدها سوى ما كنت تصلي قبل ذلك ، فإذا دخل العشر الأواخر فصلّ ثلاثين ركعة كلّ ليلة ، ثمان قبل العتمة واثنتين وعشرين بعد العتمة سوى ما كنت تفعل قبل ذلك ». (3)

ص : 385


1- التهذيب : 3 / 57 ، باب فضل شهر رمضان والصلاة فيه زيادة على النوافل.
2- التهذيب : 3 / 60 ، باب فضل شهر رمضان ، الحديث 8.
3- التهذيب : 3 / 64 ، باب فضل شهر رمضان ، الحديث 18.

3. خير صلاة المرء في بيته إلاّ المكتوبة

أخرج أصحاب الصحاح والسنن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انّه قال : إنّ خير صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة ، وانّ للمرء أن يجعل للبيت نصيبا من الصلاة.

1. اخرج مسلم عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : « اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتّخذوها قبورا ». (1)

2. وأخرج أيضا عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : « صلّوا في بيوتكم ولا تتّخذوها قبورا ». (2)

3. وأخرج أيضا عن جابر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته ، فان الله جاعل في بيته من صلاته خيرا ». (3)

4. أخرج مسلم عن أبي موسى ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : « مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت ». (4)

5. أخرج مسلم عن زيد بن ثابت ، قال : احتجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجيرة بخصفة أو حصير فخرج رسول الله يصلّي فيها قال : فتتبع إليه رجال وجاءوا

ص : 386


1- . صحيح مسلم : 2 / 187 _ 188 باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد.
2- . صحيح مسلم : 2 / 187 _ 188 باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد.
3- . صحيح مسلم : 2 / 187 _ 188 باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد.
4- . صحيح مسلم : 2 / 187 _ 188 باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد.

يصلون بصلاته ، قال : ثمّ جاءوا ليلة فحضروا وابطأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنهم ، قال : فلم يخرج إليهم ، فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب ، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مغضبا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت انّه سيكتب عليكم ، فعليكم بالصلاة في بيوتكم ، فان خير صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة. (1)

6. أخرج أبو داود عن زيد بن ثابت قال : احتجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد حجرة ، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخرج من الليل فيصلّي فيها ، قال : فصلّوا معه بصلاته _ يعني رجالا _ وكانوا يأتونه كلّ ليلة ، حتّى إذا كان ليلة من الليالي لم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتنحنحوا ورفعوا أصواتهم وحصّبوا بابه ، قال : فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مغضبا ، فقال : أيّها الناس ، ما زال بكم صنيعكم حتّى ظننت أن ستكتب عليكم ، فعليكم بالصلاة في بيوتكم ، فان خير صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة. (2)

7. أخرج النسائي عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : صلّوا في بيوتكم ولا تتّخذوها قبورا. (3) وقد شبّه النبي البيت الذي لا يصلّى فيه بالقبر الذي لا يتعبّد فيه.

8. أخرج النسائي عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، عن أبيه ، عن جدّه قال : صلّى رسول الله صلاة المغرب في مسجد بني الأشهل ، فلمّا صلّى قام ناس يتنفّلون فقال النبي : عليكم بهذه الصلاة في البيوت. (4)

ص : 387


1- صحيح مسلم : 2 / 187 _ 188 باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد.
2- سنن أبي داود : 2 / 69 ، حديث 1447.
3- سنن النسائي : 3 / 197 ، باب قيام الليل وتطوع النهار.
4- سنن النسائي : 3 / 198 ، باب قيام الليل وتطوع النهار ؛ وأخرجه أحمد في المسند : 5 / 427 و 428.

وعلى ضوء هذا الإيصاء من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسنّة التي أوصى بها غير مرة ، تخرج إقامة صلاة التراويح في شهر رمضان في المساجد مطلقا _ سواء أقيمت جماعة أو فرادى _ على خلاف السنّة وعلى خلاف إيصائه صلى الله عليه وآله وسلم غير مرّة ، إذ بذلك تضحى بيوت المسلمين كالقبور حيث لا يصلّى فيها ولا يتعبّد.

ولا أدري لما ذا تركت هذه السنّة عبر القرون مع إصرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم على إقامة النوافل في البيوت؟!

والعجب من ابن حزم انّه اعترف بأفضلية كلّ تطوع في البيوت ولكن استثنى ما صلّى جماعة في المسجد حيث قال : « مسألة » وصلاة التطوّع في الجماعة أفضل منها منفردا ، وكلّ تطوع فهو في البيوت أفضل منه في المساجد إلاّ ما صلّى منه جماعة في المسجد فهو أفضل. (1)

ولا يخفى على القارئ الكريم انّ ما استثناه ابن حزم اجتهاد في مقابل النصّ ، فان كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مطلق يعمّ حالتي الفرادى والجماعة ، وقد مرّ في رواية سعد بن إسحاق انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلّى صلاة المغرب في مسجد بني عبد الأشهل فلما صلّى ، قام ناس يتنفّلون ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « عليكم بهذه الصلاة في البيوت ». فلو كان التنفّل مع الجماعة في المسجد أفضل من التنفّل في البيوت ، لأرشدهم النبي إلى ما هو الأفضل مع أنّه قال بضرس قاطع : « عليكم بهذه الصلاة في البيوت » أي اتركوا التنفّل في المسجد مطلقا فرادى وجماعة وعليكم بها في البيوت.

ص : 388


1- المحلّى : 3 / 38.

لقد نقل المعلّق على « المحلّى » تعليقا في المقام ، يدعم ما ذكرنا ، قال ما هذا نصه :

« قال ابن حزم ما كان عليه السلام ؛ ليدع الأفضل ، وهذا في هذه الوجهة ، ثمّ قال : هنا الجماعة أفضل للمتطوع ، وقد علم كلّ عالم انّ عامة تنفّل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان منفردا فعلى ما أصل ابن حزم ، كيف كان يدع الأفضل ، فعلمنا انّ صلاة الجماعة تفضل بخمسة وعشرين درجة إذا كانت فريضة لا تطوعا » وهو نقد وجيه ، وهو الحق.

9. أخرج ابن ماجة عن عبد الله بن سعد قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيّما أفضل الصلاة في بيتي أو الصلاة في المسجد؟ قال : ألا ترى إلى بيتي ما أقربه إلى المسجد؟! فلان أصلّي في بيتي أحبّ إليّ من أن أصلّي في المسجد إلاّ أن تكون صلاة مكتوبة. (1)

قال المعلّق في الزوائد : إسناده صحيح ورجاله ثقات.

10. أخرج ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري عن النبي قال : « إذا قضى أحدكم صلاته فليجعل لبيته نصيبا ، فان الله جاعل في بيته من صلاته خيرا ». (2)

ولا ينافي ما ذكرنا ما رواه الترمذي مرسلا عن حذيفة انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلّى المغرب ، فما زال يصلّي في المسجد حتى صلّى العشاء الآخرة. (3) وذلك لأنّ

ص : 389


1- سنن ابن ماجة : 1 / 439 برقم 1378.
2- سنن ابن ماجة : 1 / 438 برقم 1376.
3- سنن الترمذي : 2 / 500 ذيل حديث 604 ، وأخرجه أحمد في المسند : 5 / 414.

الحديث محمول على وجود عذر خاص للنبي صلى الله عليه وآله وسلم للتنفّل في المسجد بعد المغرب ، وقد اتّفق للنبي التنفّل في المسجد في بعض الليالي ، وكان كلّها استثناء من القاعدة لأجل عذر خاص ، كضيق في البيت أو غير ذلك.

فخرجنا بالنتيجة التالية : إنّ التنفّل في المساجد حتّى إقامة نوافل شهر رمضان فيها جماعة أو فرادى على خلاف السنّة النبوية ، فعلى المسلمين إقامتها في البيوت لا في المساجد.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى حكم إقامة نوافل شهر رمضان جماعة والتي يطلق عليها صلاة التراويح فنقول :

ص : 390

4. صلاة التراويح جماعة عند الإماميّة

اتّفقت الشيعة الإمامية تبعا لأئمّة أهل البيت عليهم السلام على أنّ نوافل شهر رمضان تقام فرادى. وانّ إقامتها جماعة بدعة حدثت بعد رسول الله بمقياس ما أنزل الله به من سلطان. (1)

قال الشيخ الطوسي : نوافل شهر رمضان تصلى انفرادا والجماعة فيها بدعة. (2)

وقال العلاّمة : ولا تجوز الجماعة في هذه الصلاة عند علمائنا أجمع. (3)

وقال في « المنتهى » : قال علماؤنا : الجماعة في نافلة شهر رمضان بدعة. (4)

ترى هذه الكلمة _ أي انّ إقامة النوافل في شهر رمضان بدعة _ في عامّة الكتب الفقهية للشيعة الإمامية ولم يختلف فيه اثنان.

وقد تضافرت الأحاديث عن أئمة أهل البيت عليهم السلام على أنّها بدعة محدثة حدثت بعد الرسول ، ونذكر بعض ما أثر عنهم :

ص : 391


1- ذكر ذلك المقياس ابن حجر العسقلاني في فتح الباري : 4 / 240 ، وسوف يوافيك نصه.
2- الخلاف : كتاب الصلاة ، المسألة 268.
3- التذكرة : 2 / 282.
4- المنتهى : 6 / 142.

1. روى الشيخ الطوسي في التهذيب عن عمّار ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : سألته عن الصلاة في رمضان في المساجد؟ قال : « لمّا قدم أمير المؤمنين عليه السلام الكوفة أمر الحسن بن علي عليهما السلام أن ينادي في الناس : « لا صلاة في شهر رمضان في المساجد جماعة » ، فنادى في الناس الحسن بن علي عليهما السلام بما أمره به أمير المؤمنين عليه السلام ، فلمّا سمع الناس مقالة الحسن بن علي صاحوا : وا عمراه ، وا عمراه ، فلمّا رجع الحسن إلى أمير المؤمنين عليه السلام قال له : ما هذا الصوت؟ فقال : يا أمير المؤمنين : الناس يصيحون : وا عمراه ، وا عمراه ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام : قل لهم صلّوا ».

قال الشيخ الطوسي : إنّ أمير المؤمنين عليه السلام لما أنكر ، أنكر الاجتماع ولم ينكر نفس الصلاة ، فلمّا رأى أنّ الأمر يفسد عليه ويفتتن الناس ، أجاز وأمرهم بالصلاة على عادتهم. (1)

2. أخرج الكليني عن زرارة ومحمد بن مسلم والفضيل سألوا أبا جعفر الباقر عليه السلام وأبا عبد الله الصادق عليه السلام عن الصلاة في شهر رمضان نافلة بالليل جماعة؟ فقالا : « إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا صلّى العشاء الآخرة انصرف إلى منزله ثمّ يخرج من آخر الليل إلى المسجد فيقوم فيصلّي ، فخرج في أوّل ليلة من شهر رمضان ليصلّي كما كان يصلّي ، فاصطف الناس خلفه فهرب منهم إلى بيته وتركهم ، ففعلوا ذلك ثلاث ليال ، فقام صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم الرابع على منبره ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أيّها الناس إنّ الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة في جماعة بدعة ، وصلاة الضحى بدعة ، ألا فلا تجتمعوا ليلا في شهر رمضان لصلاة الليل ولا تصلّوا صلاة الضحى ، فإنّ تلك معصية ألا فإنّ كل بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار. ثمّ نزل وهو يقول : قليل في سنّة ، خير من كثير في بدعة ». (2)

ص : 392


1- التهذيب : 3 ، باب فضل شهر رمضان ، الحديث 30.
2- الكافي : 4 / 154.

وأخرجه الشيخ في التهذيب. (1)

3. أخرج الكليني عن عبيد بن زرارة ، عن الصادق عليه السلام قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزيد في صلاته في شهر رمضان إذا صلّى العتمة ، صلّى بعدها ، فيقوم الناس خلفه فيدخل ويدعهم ، ثمّ يخرج أيضا فيجيئون فيقومون خلفه ، فيدعهم ويدخل مرارا ». (2)

وحصيلة هذه الروايات : انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهاهم بتركهم ودخوله البيت مرّة بعد أخرى ، غير انّ القوم لأجل رغبتهم إلى التنفّل جماعة وراء النبي ، حال بينهم وبين ما يصبو إليه النبي من تركهم ودخول البيت ، فلمّا رأى أنّهم يصرّون على ذلك قام في اليوم الرابع على منبره فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : « أيّها الناس إنّ الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة في جماعة بدعة ، وصلاة الضحى بدعة ، ألا فلا تجتمعوا ليلا في شهر رمضان لصلاة الليل ولا تصلّوا صلاة الضحى ، فان تلك معصية ألا فإنّ كلّ بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار ». ثمّ نزل وهو يقول : « قليل في سنّة خير من كثير في بدعة ». (3)

ص : 393


1- التهذيب : 3 / 69 باب في فضل شهر رمضان ، الحديث 29.
2- الكافي : 4 / 154.
3- الفقيه : 1 / 87 ، كتاب الصوم.

5. صلاة التراويح جماعة عند أهل السنّة

المشهور عند أهل السنّة هو جواز إقامتها جماعة وعليه عملهم عبر القرون إلاّ أنّهم اختلفوا فيما هو الأفضل من الجماعة والانفراد :

قال الشافعي : صلاة المنفرد أحبّ إليّ منه. (1)

واختلف أصحاب الشافعي في ذلك على قولين :

فقال أبو العباس وأبو إسحاق وعامّة أصحابه : صلاة التراويح في الجماعة أفضل بكلّ حال.

والقول الثاني منهم من قال بظاهر كلام الشافعي وانّ صلاة التراويح على الانفراد أفضل منها في الجماعة بشرطين :

أحدهما : أن لا تختل الجماعة بتأخّره عن المسجد.

والثاني : أن يطيل القيام والقراءة فيصلّي منفردا ويفرد أكثر ممّا يفرد إمامه. (2)

قال النووي : اتّفق العلماء على استحبابها واختلفوا في أنّ الأفضل صلاتها في بيته منفردا أم في جماعة في المسجد ، فقال الشافعي وجمهور أصحابه وأبو حنيفة وأحمد وبعض المالكية وغيرهم : الأفضل صلاتها جماعة ، كما فعله عمر بن الخطاب

ص : 394


1- المجموع : 4 / 5.
2- الخلاف : 1 / 528 ، المسألة 268 من كتاب الصلاة.

والصحابة واستمر عمل المسلمين عليه ، لأنّه من الشعائر الظاهرة وأشبه بصلاة العيد ، وبالغ الطحاوي فقال : إنّ صلاة التراويح في الجماعة واجبة على الكفاية ، وقال مالك وأبو يوسف وبعض الشافعية وغيرهم : الأفضل فرادى في البيت لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « أفضل الصلاة ، صلاة المرء في بيته إلاّ المكتوبة » متّفق عليه. (1)

وقال الشوكاني : قالت العترة إنّ التجميع فيها بدعة. (2)

وقد فصل عبد الرحمن الجزيري في كتابه « الفقه على المذاهب الأربعة » الأقوال على النحو التالي :

قالت المالكية : الجماعة في صلاة التراويح مستحبة أمّا باقي النوافل ، فان صلاتها جماعة تارة يكون مكروها ، وتارة يكون جائزا ، فيكون مكروها إذا صلّيت بالمسجد ، وصلّيت بجماعة كثيرين ، أو كانت بمكان يكثر تردد الناس عليه ، وتكون جائزة إذا كانت بجماعة قليلة ، ووقعت في المنزل ونحوه في الأمكنة التي لا يتردد عليها الناس.

وقال الحنفية : تكون الجماعة سنّة كفاية في صلاة التراويح والجنازة ، وتكون مكروهة في صلاة النوافل مطلقا والوتر في غير رمضان ، وإنّما تكره الجماعة في ذلك إذا زاد المقتدون عن ثلاث. أمّا الجماعة في وتر رمضان ففيها قولان مصححان ، أحدهما : انّها مستحبة فيه ، وثانيهما : انّها غير مستحبة ولكنّها جائزة ، وهذا القول أرجح.

وقالت الشافعية : أمّا الجماعة في صلاة العيدين والاستسقاء والكسوف

ص : 395


1- شرح صحيح مسلم للنووي : 6 / 286.
2- نيل الأوطار : 3 / 50.

والتراويح ووتر رمضان فهي مندوبة.

وقالت الحنابلة : أمّا النوافل فمنها ما تسنّ فيه الجماعة وذلك كصلاة الاستسقاء والتراويح والعيدين ، ومنها ما تباح فيه الجماعة كصلاة التهجد ورواتب الصلاة المفروضة. (1)

هذه هي أقوال أهل السنّة وآراؤهم.

ص : 396


1- الفقه على المذاهب الأربعة : 407 ، كتاب الصلاة.

6. صلاة التراويح جماعة في حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

اشارة

سيوافيك في الفصل التالي انّ ظاهر الروايات وكلام الخليفة عمر بن الخطاب وما حوله من كلمات الشرّاح انّ إقامة نوافل رمضان جماعة تستمد مشروعيتها من عمل الخليفة لا من عمل النبي ، لكن هناك من يقول بأنّ إقامتها جماعة تستمدّ مشروعيتها من إقامة المسلمين لها وراء النبي في بعض ليالي شهر رمضان وإن كان لا يتجاوز عن ليلة أو ثلاث ليال.

أقول : إنّ النصوص الدالّة على ذلك مختلفة وفيها شذوذ نشير إليها تباعا.

1. إقامتها ليلة واحدة
اشارة

أخرج مسلم عن زيد بن ثابت قال : احتجر رسول الله حجيرة بخصفة أو حصير فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي فيها ، قال : فتتبع إليه رجال وجاءوا يصلّون بصلاته ، قال : ثمّ جاءوا ليلة فحضروا وأبطأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنهم ، قال : فلم يخرج إليهم فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب ، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مغضبا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما زال بكم صنيعكم حتّى ظننت انّه سيكتب عليكم ، فعليكم بالصلاة في بيوتكم ، فان خير صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة. (1)

ص : 397


1- صحيح مسلم : 2 / 188 ، باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد.
تفسير لغات الحديث

1. الحجيرة _ بضم الحاء _ تصغير حُجرة ، عطف الحصير على الخصفة يعرب عن شك الراوي في تعيّن واحد منهم ، ومعنى الرواية احتجر حجرة أي حوّط موضعا من المسجد بحصير أو نحوه ليستره ليصلّي فيه ولا يمرّ بين يديه مارّ ولا يتهوش بغيره ويتوفر خشوعه وفراغ قلبه.

2. « فتتبع إليه رجال » أي طلبوا موضعه.

3. « حصبوا الباب » أي رموه بالحصاء وهي الحصاء الصغار تذكيرا له وظنوا أنّه نسي.

فلو صحّ الحديث لدلّ على أنّ المسلمين أقاموا نوافل شهر رمضان جماعة مع الرسول مرة واحدة من دون إذن أو استئذان ، فلما جاءوا ليلة أخرى فحضروا وأبطأ رسول الله عنهم فلم يخرج إليهم ، رفعوا أصواتهم وحصبوا الباب ، فخرج إليهم رسول الله مغضبا ، وقال ما قال.

فعلى ضوء هذا الحديث لم تثبت مشروعية الجماعة بفعل الرسول ، لأنّ القوم اقتدوا به من دون أن يستفسروا ويستبينوا حكمه ، وأمّا الليلة الثانية فلم يقم الجماعة أبدا بل ظهرت ملامح الغضب على وجهه لما صدر عنهم من موقف مشين بالنسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوّلا ، وإصرارهم على إقامة النوافل جماعة ثانيا بالرغم من عدم استبانتهم حكمها.

2. إقامتها ليلتين

انّ هناك روايات أخرى تخالف الرواية الأولى حيث يدلّ على أنّه أقيمت الجماعة في ليلتين.

ص : 398

أخرج البخاري عن عروة بن الزبير ، عن عائشة أمّ المؤمنين انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلّى ذات ليلة في المسجد وصلّى بصلاته ناس ، ثمّ صلّى من القابلة فكثر الناس ، ثمّ اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلمّا أصبح ، قال : قد رأيت الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلاّ انّي خشيت أن تفرض عليكم وذلك في رمضان. (1)

وأخرجه مسلم أيضا في صحيحه. (2)

3. إقامتها ثلاث ليال
اشارة

أخرج البخاري عن عروة انّ عائشة أخبرته انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج ليلة من جوف الليل فصلّى في المسجد وصلّى رجال بصلاته ، فأصبح الناس فتحدّثوا فاجتمع أكثر منهم ، فصلّى وصلّوا معه ، فأصبح الناس فتحدّثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلّى وصلّوا بصلاته ، فلمّا كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتّى خرج لصلاة الصبح ، فلمّا قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثمّ قال : « أمّا بعد فإنّه لم يخف عليّ مكانكم ولكنّي خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها » فتوفّي رسول الله والأمر على ذلك. (3)

وأخرجه مسلم في صحيحه. (4)

ص : 399


1- صحيح البخاري : 2 / 49 باب تحريض النبي على صلاة الليل.
2- صحيح مسلم : 2 / 177 باب الترغيب في قيام رمضان.
3- صحيح البخاري : 3 / 45 ، باب فضل من قام رمضان.
4- صحيح مسلم : 2 / 177 ، باب الترغيب في قيام رمضان.

أخرج البيهقي عن أبي ذر ، قال : صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يصل بنا حتى بقي سبع من الشهر ، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل ، ثمّ لم يقم بنا في الثالثة ، وقام بنا في الخامسة ، حتّى ذهب شطر الليل ، فقلنا : يا رسول الله لو نفلنا بقية ليلتنا هذه؟ فقال : إنّه من قام مع الإمام حتّى ينصرف كتب له القيام ليلة ، ثمّ لم يقم بنا حتّى بقي ثلاث من الشهر فصلّى بنا في الثالثة ودعا أهله ونساءه ، فقام بنا حتّى تخوفنا الفلاح ، قلت له : وما الفلاح؟ قال : السحور. (1)

وعلى هذه الرواية خرج في الليلة الرابعة ( أو الثالثة والعشرين على قول بعضهم ) (2) والعشرين والسادسة والعشرين والثامنة والعشرين.

هذه عمدة ما روي في المقام.

إنّ الأخذ بمضمون هذه الروايات مشكل لوجوه عديدة :

1. الاختلاف في عدد الليالي وتواليها ومواضعها

إنّ بين هذه الروايات تعارضا واختلافا في أمور ثلاثة :

الأوّل : وجود التعارض بين هذه الروايات في مقدار الليالي التي أقام النبي فيها جماعة ، فان كلّ واحد بصدد بيان عدد الليالي التي أقيمت فيها النوافل جماعة مع النبي ، فهل أقامها النبي ليلة واحدة كما هو مضمون الرواية الأولى؟ أو ليلتين أو ثلاث ليال ، كما هو مضمون الطائفتين الأخيرتين؟ وهذا يعرب عن أنّ الرواة لم يضبطوا الواقع بشكل دقيق.

ص : 400


1- سنن البيهقي : 2 / 494 ، باب من زعم أنّها بالجماعة أفضل ، ونقله الشوكاني في نيل الأوطار : 3 / 50 ، وقال : رواه الخمسة وصححه الترمذي.
2- الفقه على المذاهب الأربعة : 1 / 251.

الثاني : الاختلاف في توالي الليالي وعدمه ، فصريح رواية البخاري : « انّه صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي بصلاته ناس ثمّ صلّى من القابلة » انّ الليالي كانت متوالية ، وصريح رواية أبي ذر انّها كانت غير متوالية ، فقد صلّى معهم في الليلة الرابعة والعشرين ، والسادسة والعشرين ، والثامنة والعشرين.

الثالث : الاختلاف في مواضع الليالي ، فالمتبادر من أغلبها أنّه صلى الله عليه وآله وسلم صلّى بهم في أوائل الشهر ، وصريح رواية أبي ذر انّه صلى الله عليه وآله وسلم صلّى بهم في العشر الآخر.

ومع هذا الاختلاف كيف نؤمن بصحّة ما فيها من المضامين؟!

2. عدم إناطة التشريع برغبة الناس

إنّ قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها » يعرب عن أنّ التشريع تابع لإقبال الناس وأدبارهم ، ولا أقلّ لإقبالهم ، فلو أظهر الناس رغبتهم إلى العمل ربّما يفرض عليهم مع أنّ الملاك في فرض شيء على كلّ الناس ، هو وجود مصلحة ملزمة في الشيء ، سواء أكان هناك رغبة من الناس أم لا ، فتشريعه سبحانه ليس تابعا لرغبة الناس أو أعراضهم وإنّما يتبع الملاكات الواقعية ، فالمصلحة الملزمة تستتبع تشريعها ، وعدمها عدمه ، ولمّا وقف شراح الصحيحين على هذا الإشكال مالوا يمينا ويسارا لحلّه.

قال ابن حجر في شرح جملة : « إلاّ انّي خشيت أن تفرض عليكم » انّ ظاهر هذا الحديث انّه صلى الله عليه وآله وسلم توقع ترتّب افتراض الصلاة في الليل جماعة على وجود المواظبة عليها _ ثمّ قال : _ وفي ذلك إشكال.

إنّ ابن حجر وإن أحجم عن بيان مقصوده من الإشكال ولكن يمكن أن يكون إشارة إلى أمرين :

ص : 401

1. انّ الأحكام تابعة للملاكات الواقعية لا لرغبة الناس فيها ولا عنها.

2. انّ في الشريعة المقدسة أمورا واظب عليها النبي والمسلمون كالمضمضة والاستنشاق ، ولم تفرض عليهم ، كما أنّ هناك أحكاما رغب عنها كثير من المسلمين حتى في زمن النبي فضلا عما بعده ومع ذلك بقي حكمه على ما كان ، وهذا كحكم الجهاد الذي تقاعس عنه بعض المسلمين حتّى واجهوا تقريعه سبحانه وتبكيته حيث قال ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ ). (1)

إنّ بعض أئمّة أهل البيت عليهم السلام كالإمام الباقر والصادق عليهما السلام نقلا كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه الذين كانوا مصرّين على إقامة نوافلهم بالجماعة مع الرسول ، وليس فيه أيّ إشارة إلى هذا التعليل ، فقالا :

« إنّ رسول الله حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أيّها الناس انّ الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة في جماعة بدعة ، وصلاة الضحى بدعة ، ألا فلا تجتمعوا ليلا في شهر رمضان لصلاة الليل. ». (2) ترى أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حسب هذا النقل علل عدم حضوره لإقامة النوافل جماعة بأنّه أمر غير مشروع لا انّه خشي أن يكتب عليهم.

3. مخالفة التعليل لنداء المعراج

أخرج أصحاب الصحاح والسنن عن أنس بن مالك قال : فرضت [ الصلاة ] على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة أسري به الصلوات خمسين ، ثمّ نقصت حتّى جعلت خمسا ثمّ نودي يا محمد انّه لا يبدّل القول لدي وإنّ لك بهذه الخمس

ص : 402


1- التوبة : 38.
2- الفقيه : 1 / 87 ، كتاب الصوم.

خمسين. (1)

قال العسقلاني : وقد استشكل الخطابي أصل هذه الخشية مع ما ثبت في حديث الإسراء انّ الله تعالى قال : هنّ خمس وهنّ خمسون لا يبدل القول لديّ ، فإذا أمن التبديل فكيف يقع الخوف من الزيادة؟! (2)

ثمّ ذكر الشارحان العسقلاني والقسطلاني توجيهات وتمحلات لا تغني ولا تسمن من جوع ، وقد حكى القسطلاني في إرشاد الساري عن صاحب شرح التقريب تلك التمحلات وانّه قال : ومع هذا فإنّ المسألة مشكلة ولم أر من كشف الغطاء عن ذلك. (3)

4. رغبة الصحابة لا يكون ملاكا للتشريع في حقّ الأجيال

لو افترضنا انّ الصحابة أظهرت اهتمامها بصلاة التراويح بإقامتها جماعة ، أفيكون ذلك ملاكا للفرض على غيرهم ولم تكن نسبة الحاضرين إلى الغائبين إلاّ شيئا لا يذكر ، فان مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم ذاك كان مكانا محدودا لا يسع إلاّ ما يقارب ستة آلاف شخص أو أقل ، فقد جاء في الفقه على المذاهب الخمسة : كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 35 مترا في 30 مترا ثمّ زاده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وجعله 57 مترا في 50 مترا. (4) أفيصحّ جعل اهتمامهم كاشفا عن اهتمام جميع الناس بها عبْر العصور إلى يوم القيامة.

ص : 403


1- صحيح البخاري : 1 / 75 ، باب كيف فرضت الصلوات في الاسراء ، سنن الترمذي : 1 / 417 ، باب كم فرض الله على عباده من الصلوات ، الحديث 213 ، واللفظ للترمذي.
2- فتح الباري : 3 / 10.
3- إرشاد الساري : 3 / 428.
4- الفقه على المذاهب الخمسة : 2850.
5. القدر المتيقّن من فعل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

لو افترضنا صحّة مضامين هذه الروايات لكن الظاهر من روايات الصحيحين انّ النبي خرج في جوف الليل فصلّى في المسجد وهو كناية انّه صلّى في المسجد ، النوافل الليلية ، وهي لا تتجاوز عن ثماني ركعات ، فسواء أقلنا انّه خرج ليلة واحدة أو ليلتين أو ثلاث أو أربع فقد خرج في جوف الليل لإقامة النوافل الليلية فاقتدى به من اقتدى من الصحابة ، فعندئذ يكون الثابت من فعل النبي هو هذا المقدار وأين هذا من إقامة صلاة التراويح في عامة شهر رمضان في كلّ ليلة عشرين ركعة ، ترويحة بعد أربع ركعات فتكون ستمائة ركعة إذا كان الشهر تاما.

فلو قلنا بأنّ التشريع ثبت بفعل النبي فإنّما ثبت هذا المقدار القليل فما الدليل على الأكثر منه؟ يقول عبد الرحمن الجزيري في كتابه « الفقه على المذاهب الأربعة » :

روى الشيخان أنّه صلى الله عليه وآله وسلم خرج من جوف الليل ليالي من رمضان ، وهي ثلاث متفرقة : ليلة الثالث ، والخامس ، والسابع والعشرين ، وصلّى في المسجد ، وصلّى الناس بصلاته فيها ، وكان يصلّي بهم ثماني ركعات ويكملون باقيها في بيوتهم فكان يسمع لهم أزيز ، كأزيز النحل.

وقال : ومن هذا يتبين انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنّ لهم التراويح والجماعة فيها ولكن لم يصلّ بينهم عشرين ركعة كما جرى عليه من عهد الصحابة ومن بعدهم إلى الآن. (1)

وممّن التفت إلى هذا الإشكال ، القسطاني ، قال :

ص : 404


1- الفقه على المذاهب الأربعة : 1 / 251.

1. انّ النبي لم يسنّ لهم الاجتماع لها.

2. ولا كانت في زمن الصديق.

3. ولا أوّل الليل.

4. ولا كلّ ليلة.

5. ولا هذا العدد.

ثمّ التجأ في إثبات مشروعيتها إلى اجتهاد الخليفة ، وسيوافيك الكلام فيه.

وقال العيني : إنّ رسول الله لم يسنّها لهم ولا كانت في زمن أبي بكر ، ثم اعتمد في شريعته إلى اجتهاد عمر واستنباطه من إقرار الشارع الناس يصلّون خلفه ليلتين. (1)

وقال الشاطبي : وممّن نبّه بذلك من السلف الصالح ، أبو أمامة الباهلي قال : أحدثتم قيام شهر رمضان ولم يكتب عليكم ، إنّما كتب عليكم الصيام فدوموا على القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه ، فان أناسا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعا لم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله فما رعوها حقّ رعايتها فعاتبهم الله بتركها فقال ( وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ). (2)

فلم يبق هنا مبرر لأزيد ممّا ثبت من عمل النبي إلاّ عمل الخليفة وسوف نتكلم فيه.

6. صلاة التراويح بين اللغوية وعدم التشريع

إنّ التشريع الإلهي مصون من اللغو ، فالمشرّع هو الله سبحانه ، وفعله نزيه

ص : 405


1- عمدة القارئ : 11 / 126.
2- الاعتصام : 2 / 291.

من اللغو والعبث ، فعندئذ تتوجه الأسئلة التالية إلى مشروعية نوافل رمضان جماعة في عصر الرسول :

1. إنّ إقامتها جماعة في عصر الرسول لم تخل عن صورتين :

كانت إقامتها كذلك أمرا مشروعا وسنّ سبحانه لنبيّه أن يقيمها جماعة.

لم تكن مشروعة وكانت الجماعة مختصة بالفرائض.

فلو كانت مشروعة ، فلما ذا أهمل النبي تلك السنّة في حياته بل كان عليه أن يجسّد مشروعيتها حينا بعد حين على وجه لا يخشى عليها الافتراض مع أنّه لم يفعل كذلك طيلة عمره ، بل خرج مغضبا ورادعا عن هذا الأمر؟!

وهذا يعرب عن كون الواقع هو الأمر الثاني ، وانّ إقامة النوافل مطلقا ، أو نوافل شهر رمضان جماعة ، كان أمرا غير مشروع ، ولذلك صارت متروكة في عصره صلى الله عليه وآله وسلم وعصر الخليفة الأوّل وسنين في خلافة الثاني ، ثمّ بدا له ما بدا.

2. إذا كانت إقامة صلاة التراويح جماعة ، أمرا مشروعا في الشريعة الإسلامية ، فطبع الحال يقتضي أن تكون محددة من جانب الوقت ، وأنّه هل تصلّى في أوائل الليل أو أواسطه أو أواخره ، كما يجب أن تحدد من حيث عدد الركعات ، حتّى لا يكون المصلّون على غمّة من الأمر.

فإذا كان النبي قد صلّى ثماني ركعات في المسجد ، وأتمها في بيته ، فلما ذا لم يحدّد الركعات ، ويبقى الأمر مكتوما حتّى حدّده عمر بن الخطاب بعشرين ركعة من دون أن ينسبه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فكيف يحتجّ بفعله؟ فإنّ فعل الصحابة وقولهم ما لم يسندهما إلى المعصوم ليسا بحجّة إلاّ على نفسه.

3. كيف يتدخل عمر بن عبد العزيز في أمر الشريعة ، فأدخل فيها ما ليس منها ، ليتساوى _ في رأيه _ أهل المدينة وأهل مكة في الفضيلة والثواب ، فإنّ فتح

ص : 406

هذا الباب لعمر بن عبد العزيز وأقرانه ، يجعل الشريعة المقدسة شرعة لكلّ وارد ، والعوبة بيد الحكام يحكمون فيها بآرائهم.

4. ثمّ إنّ عمر بن عبد العزيز جعل عدد ركعاتها (36) ركعة ، بحجّة أنّ أهل مكة يطوفون بالبيت بعد كلّ أربع ركعات مرّة ، فرأى أن يصلّى بدل كلّ طواف أربع ركعات.

فلو صحّ هذا ( يطوفون بالبيت بعد كلّ أربع ركعات ) ، يجب أن يجعل عدد ركعاتها أربعين ركعة ، لأنّ أهل مكة كانوا يطوفون بعد كلّ أربع ركعات مرّة ، ومن المعلوم أنّهم كانوا _ حسب هذا التعبير _ يطوفون بعد عشرين ركعة طوافا آخر ، فيبلغ عد مرات طوافهم خمسة ، فلو أقيم مكان كلّ طواف أربع ركعات ، لصارت الزيادة مع الأصل أربعين ركعة ، عشرون ركعة بدل الطواف مضافة إلى عشرين ركعة مسنونة بالأصل.

نعم على ما نقله ابن قدامة من أنّ الطواف كان بين كلّ ترويحة ، يبلغ عدد مرات الطواف أربعة ، فيصير عدد الركعات ستا وثلاثين.

7. الاختلاف الكبير في عدد ركعاتها

اختلف الفقهاء في عدد ركعات صلاة التراويح ، فقال الخرقي في مختصره : وقيام شهر رمضان عشرون ركعة ، يعني صلاة التراويح.

وقال ابن قدامة في شرحه على مختصر الخرقي : والمختار عند الإمام أحمد عشرون ركعة ، وبهذا قال الثوري ، وأبو حنيفة ، والشافعي. وقال مالك : ستة وثلاثون ، وزعم أنّه الأمر القديم ، وتعلّق بفعل أهل المدينة. (1)

ص : 407


1- المغني : 2 / 137 _ 138.

وقد اعتمد من جعله عشرين ركعة على فعل الخليفة عمر ، في حين اعتمد من جعله ستّا وثلاثين ركعة على فعل عمر بن عبد العزيز.

قال عبد الرحمن الجزيري في « الفقه على المذاهب الأربعة » : إنّ عددها ليس مقصورا على الثماني ركعات التي صلاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهم ، بدليل أنّها يكملونها في بيوتهم ، وقد بيّن فعل عمر ، أنّ عددها عشرون ، حيث إنّه جمع الناس أخيرا على هذا العدد في المسجد ، ووافقه الصحابة على ذلك. نعم زيد فيها في عهد عمر بن عبد العزيز ، فجعلت ستا وثلاثين ركعة ، وكان القصد من هذه الزيادة مساواة أهل مكة في الفضل ، لأنّهم كانوا يطوفون بالبيت بعد كلّ أربع ركعات مرة ، فرأى عمر بن عبد العزيز أن يصلّى بدل كلّ طواف أربع ركعات. (1)

وربما يظن القاري أنّ الاختلاف ينحصر بهذين القولين ، ولكن الاختلاف في عدد ركعاتها أوسع من ذلك بكثير إلى حدّ قلّ نظيره في أبواب العبادات.

فمن قائل : إنّ عدد ركعاتها 13 ركعة ، إلى آخر : أنّها 20 ركعة ، إلى ثالث :

أنّها 24 ركعة ، إلى رابع : أنّها 28 ركعة ، إلى خامس : أنّها 36 ركعة ، إلى سادس : أنّها 38 ركعة ، إلى سابع : أنّها 39 ركعة ، إلى ثامن : أنّها 41 ركعة ، إلى تاسع : أنّها 47 ركعة ، وهلمّ جرّا. (2)

إنّ العبادة الجماعية كصلاة التراويح ، التي تقيمها الأمّة الإسلامية في رمضان كلّ سنة ، تطلب لنفسها أن تكون مبيّنة الحدود في لسان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

ص : 408


1- الفقه على المذاهب الأربعة : 1 / 251 ، كتاب الصلاة ، مبحث صلاة التراويح.
2- فتح الباري : 4 / 204 ، إرشاد الساري : 3 / 426 ، عمدة القاري : 11 / 126. وقد تكلّفوا في الجمع بين هذه الأقوال المتشتّتة.

محددة من جانب الركعات وغيرها من الجهات لكن تسرّب الفوضى إليها من وجوه شتّى ، يكشف عن عدم نص من الرسول في الموضوع ، ولا وجود رغبة منه إلى إقامة الأمّة لها بعد رحيله ، فإنّ السنّة المؤكدة ، أو السنّة المرغوبة فيها تكون بعيدة عن الغمّة.

ص : 409

7. صلاة التراويح جماعة في كلام عمر

اشارة

لم تنعقد الجماعة لنوافل شهر رمضان في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعصر الخليفة الأوّل وسنين من عصر الخليفة الثاني ، بل كان المسلمون يصلّون نوافل شهر رمضان في البيوت والمساجد فرادى.

نعم بدا للخليفة الثاني جمع المصلّين المتفرقين في المسجد على إمام واحد.

ويدلّ على ما ذكرنا ما أخرجه الشيخان في هذا المضمار.

أخرج البخاري عن أبي هريرة انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من قام شهر رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه ، قال : ابن شهاب : فتوفّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأمر على ذلك ، ثمّ كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرا من خلافة عمر. (1) وأخرجه أيضا مسلم في صحيحه. (2)

قوله : « فتوفّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأمر على ذلك ، ثمّ كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر ».

فقد فسّره الشرّاح بقولهم : أي على ترك الجماعة في التراويح ، ولم يكن رسول

ص : 410


1- صحيح البخاري : 3 / 44 ، باب فضل من قام رمضان من كتاب الصوم.
2- صحيح مسلم : 2 / 176 ، باب الترغيب في قيام رمضان.

الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع الناس على القيام. (1)

وقال بدر الدين العيني : والناس على ذلك ( أي على ترك الجماعة ) ثم قال : فإن قلت : روى ابن وهب عن أبي هريرة : خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإذا الناس في رمضان يصلّون في ناحية المسجد ، فقال : « ما هذا » فقيل : ناس يصلّي بهم أبيّ بن كعب ، فقال : « أصابوا ونعم ما صنعوا » ، ذكره ابن عبد البر. ثم أجاب بقوله ، قلت : فيه مسلم بن خالد وهو ضعيف ، والمحفوظ أنّ عمر _ رضي الله عنه _ هو الذي جمع الناس على أبيّ بن كعب _ رضي الله عنه. (2)

وقال القسطلاني : والأمر على ذلك ( أي على ترك الجماعة في التراويح ) ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر ، إلى آخر ما ذكره. (3)

وقال النووي : في شرح قوله « فتوفّي رسول الله والأمر على ذلك » معناه : استمر الأمر هذه المدة على أنّ كلّ واحد يقوم رمضان في بيته منفردا حتّى انقضى صدرا من خلافة عمر ثمّ جمعهم عمر على أبي بن كعب فصلّى بهم جماعة ، واستمر العمل على فعلها جماعة. (4)

وأخرج أيضا عن عبد الرحمن بن عبد القاري انّه قال : خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلّي الرجل لنفسه ويصلّي الرجل فيصلّي بصلاته الرهط (5) ، فقال عمر : إنّي أرى لو جمعت

ص : 411


1- فتح الباري : 4 / 203.
2- عمدة القارئ في شرح صحيح البخاري : 6 / 125 ، وجاء نفس السؤال والجواب في فتح الباري.
3- إرشاد الساري : 3 / 425.
4- شرح صحيح مسلم للنووي : 6 / 287.
5- الرهط بين الثلاثة إلى العشرة.

هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ، ثمّ عزم فجمعهم على أبيّ بن كعب ، ثمّ خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم ، قال عمر : نعم البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون ، يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوّله. (1)

قوله : « نعم البدعة » :

إنّ الظاهر من قوله : « نعم البدعة هذه » أنّها من سنن نفس الخليفة ولا صلة لها بالشرع ، وقد صرّح بذلك لفيف من العلماء.

قال القسطلاني : سمّاها ( عمر ) بدعة ، لأنّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يسنّ لهم الاجتماع لها ، ولا كانت في زمن الصديق ، ولا أوّل الليل ولا كلّ ليلة ولا هذا العدد _ إلى أن قال : _ وقيام رمضان ليس بدعة ، لأنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال : « اقتدوا باللّذين من بعدي أبي بكر وعمر » ، وإذا اجتمع الصحابة مع عمر على ذلك زال عنه اسم البدعة.

وقال العيني : وإنّما دعاها بدعة ، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يسنّها لهم ، ولا كانت في زمن أبي بكر _ رضي الله عنه _ ولا رغب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها. (2)

وهناك من نقل أنّ عمر أوّل من سنّ الجماعة ، نذكر منهم :

1. قال ابن سعد في ترجمة عمر : هو أوّل من سنّ قيام شهر رمضان بالتراويح ، وجمع الناس على ذلك ، وكتب به إلى البلدان ، وذلك في شهر رمضان سنة أربع عشرة. (3)

ص : 412


1- صحيح البخاري : 3 / 44 ، باب فضل من قام رمضان من كتاب الصوم.
2- عمدة القاري : 6 / 126 _ وقد سقط لفظة « لا » من قوله و « رغب » كما أنّ كلمة « بقوله » بعد هذه الجملة في النسخة مصحّف « قوله » فلاحظ.
3- الطبقات الكبرى : 3 / 281.

2. وقال ابن عبد البر في ترجمة عمر : وهو الذي نوّر شهر الصوم بصلاة الاشفاع فيه. (1)

قال الوليد بن الشحنة عند ذكر وفاة عمر في حوادث سنة 23 ه : وهو أوّل من نهى عن بيع أمهات الأولاد. وأوّل من جمع الناس على إمام يصلّي بهم التراويح. (2)

إذا كان المفروض أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يسنّ الجماعة فيها ، وإنّما سنّها عمر ، وهل يكفي تسنين الخليفة في مشروعيتها؟ مع أنّه ليس لإنسان _ حتى الرسول _ حقّ التسنين والتشريع ، وإنّما هو صلى الله عليه وآله وسلم مبلغ عن الله سبحانه.

إنّ الوحي يحمل التشريع إلى النبي الأكرم وهو صلى الله عليه وآله وسلم الموحى إليه وبموته انقطع الوحي وسدّ باب التشريع والتسنين ، فليس للأمة إلاّ الاجتهاد في ضوء الكتاب والسنّة ، لا التشريع ولا التسنين ، ومن رأى أنّ لغير الله سبحانه حقّ التسنين فمعنى ذلك عدم انقطاع الوحي.

قال ابن الأثير في نهايته ، قال : ومن هذا النوع قول عمر : نعم البدعة هذه ( التراويح ) لما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح سماها بدعة ومدحها ، إلاّ أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يسنّها لهم وإنّما صلاّها ليالي ثم تركها ، ولم يحافظ عليها ، ولا جمع الناس لها ، ولا كانت في زمن أبي بكر وإنّما عمر جمع الناس عليها وندبهم إليها ، فبهذا سمّاها بدعة وهي في الحقيقة سنّة ، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي » ، وقوله : « اقتدوا باللّذين من بعدي أبي بكر وعمر ». (3)

ص : 413


1- الاستيعاب : 3 / 1145 برقم 1878.
2- روضة المناظر كما في النص والاجتهاد : 150.
3- النهاية : 1 / 79.

وكلامه وكلام كلّ من برّر كون الجماعة سنّة ، دالّ على أنّ للخلفاء حقّ التشريع والتسنين ، أو للخليفتين فقط.

التشريع مختص بالله سبحانه

إنّ هؤلاء الأكابر مع اعترافهم بأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يسنّ الاجتماع ، برّروا إقامتها جماعة بعمل الخليفة ، ومعناه أنّ له حقّ التسنين والتشريع ، وهذا يضاد إجماع الأمّة ، إذ لا حقّ لإنسان أن يتدخّل في أمر الشريعة بعد إكمالها ، لقوله تعالى :

( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) (1) وكلامه يصادم الكتاب والسنّة ، فان التشريع حقّ الله سبحانه لم يفوّضه لأحد والنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مبلّغ عنه.

أضف إلى ذلك : لو كان للخليفة استلام الضوء الأخضر في مجال التشريع والتسنين ، فلم لا يكون لسائر الصحابة ذلك الضوء مع كون بعضهم أقرأ منه كأبي بن كعب ، وأفرض كزيد بن ثابت ، وأعلم كعليّ بن أبي طالب عليه السلام؟! فلو كان للجميع ذلك الضوء ، لانتشر الفساد وعمّت الفوضى أمر الدين ويكون الدين العوبة بأيدي غير المعصومين.

وأمّا التمسّك بالحديثين ، فلو صحّ سندهما فإنّهما لا يهدفان إلى أنّ لهما حقّ التشريع ، بل يفيدان لزوم الاقتداء بهما لأجل أنّهما يعتمدان على سنّة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لا أنّ لهما حقّ التسنين.

نعم يظهر ممّا رواه السيوطي عن عمر بن عبد العزيز أنّه كان يعتقد أنّ للخلفاء حقّ التسنين ، قال : قال حاجب بن خليفة : شهدت عمر بن عبد العزيز

ص : 414


1- المائدة : 3.

يخطب وهو خليفة ، فقال في خطبته : ألا أنّ ما سنّ رسول الله وصاحباه فهو دين نأخذ به وننتهي إليه ، وما سنّ سواهما فإنّا نرجئه. (1)

وعلى كل تقدير ، نحن لسنا بمؤمنين بأنّه سبحانه فوّض أمر دينه في التشريع والتقنين إلى غير الوحي ، وفي ذلك يقول الشوكاني : والحقّ أنّ قول الصحابي ليس بحجة ، فإنّ الله سبحانه وتعالى لم يبعث إلى هذه الأُمّة إلاّ نبيّنا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وليس لنا إلاّ رسول واحد ، والصحابة ومن بعدهم مكلّفون على السواء باتّباع شرعه والكتاب والسنّة ، فمن قال إنّه تقوم الحجّة في دين الله بغيرهما ، فقد قال في دين الله بما لا يثبت ، وأثبت شرعا لم يأمر به الله. (2)

استنباط مشروعيتها من تقرير النبي صلى الله عليه وآله وسلم

نقل القسطلاني عن ابن التين وغيره : إنّ عمر استنبط مشروعيته من تقرير النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ومن صلّى معه في تلك الليالي وإن كان كره ذلك لهم فإنّما كرهه خشية أن يفرض عليهم. فلمّا مات النبيّ حصل الأمن من ذلك ورجح عند عمر ذلك لما في الاختلاف من افتراق الكلمة ، ولأنّ الاجتماع على واحد أنشط لكثير من المصلّين. (3)

يلاحظ عليه : أنّه لو كانت صلاة التراويح أمرا مشروعا ومما سنّها الله سبحانه فلما ذا كرهه النبي؟! ولو كانت الكراهة لأجل الخشية من الفرض ، يكفي في دفعها ، إقامتها حينا بعد حين ، فدخوله البيت وعدم حضوره في المسجد ، طيلة عمره دالّ على أنّها لم تكن مشروعة ، إذ لو كانت مسنونة لما تركها النبي بتاتا ، وقد

ص : 415


1- تاريخ المذاهب الإسلامية. كما في بحوث مع أهل السنّة : 235.
2- المصدر نفسه.
3- فتح الباري : 4 / 204.

مرّ انّ التشريع المجرّد عن التطبيق على الصعيد العملي لغو (1) لا يصدر من الله سبحانه.

روى أبو يوسف قال : سألت أبا حنيفة عن التراويح وما فعله عمر ، قال : التراويح سنّة مؤكّدة ، ولم يتخرص عمر من تلقاء نفسه ولم يكن فيه مبتدعا ولم يأمر به إلاّ عن أصل لديه وعهد من رسول الله. ولقد سنّ عمر هذا وجمع الناس على أبي بن كعب فصلاها جماعة والصحابة متوافرون من المهاجرين والأنصار وما رد عليه واحد منهم بل وافقوه وأمروا بذلك. (2)

يلاحظ عليه : بأنّه برر عمل الخليفة بالوجوه التالية :

1. أصل لديه ، 2. عهد من رسول الله ، 3. لم يعترض عليه أحد من الصحابة.

يلاحظ على الأوّل ما ذا يريد من الأصل الموجود لدى الخليفة ، وهل كان هذا الأصل يختص بالخليفة أو يعمّ غيره؟

وعلى الثاني ما هو العهد الذي كان عهده إليه رسول الله سوى انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم امتنع من إقامتها جماعة وأمر بإقامتها في البيوت؟

وعلى الثالث من أنّ أئمّة أهل البيت وعلى رأسهم علي بن أبي طالب عليه السلام اعترض عليه ووصفها بالبدعة ولم تكن يوم ذاك آذان صاغية.

وختاما نقول : إنّ ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يتجاوز عن انّه صلّى صلاة الليل ليلة أو ليلتين إلى أربع ليالي جماعة ثمّ دخل بيته ولم يخرج ، فلو قلنا بأنّ عمل النبي هذا في هذه الظروف المحدقة بالإبهام حجّة ، وغضضنا النظر عمّا حوله من ردود من النبي على إقامتها جماعة ، فلا يصحّ لنا إلاّ هذا المقدار ( ثماني ركعات ) بشرط أن تكون الصلاة صلاة الليل لا مطلق النوافل.

ص : 416


1- لاحظ ص 404.
2- الموسوعة الفقهية الكويتية : 13827 نقلا عن فتح القدير : 1 / 333.
خاتمة المطاف
اشارة

( وفيها أمور : )

1. إقامة التراويح جماعة غفلة عن حكمة الله

لو كانت إقامة التراويح جماعة ، سنّة مؤكدة ، كان على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يوصي بإقامتها بعد رحيله ، لارتفاع خوف الفرض على المسلمين برحيله. ومع ذلك لم ينبس صلى الله عليه وآله وسلم بذلك ببنت شفة ، بل دخل بيته مغضبا ، ولم يقمها جماعة إلاّ مرّة أو مرّتين أو ثلاث ، كلّها على مضاضة.

وذلك يعرب أنّ الحكمة تكمن في إقامتها فرادى في البيوت لا في المساجد ، وكان صلى الله عليه وآله وسلم أعرف بمصالح ذلك العمل ، وأنّه يعطي للبيوت حظا من البركة.

إنّ لتشريعات الإسلام وشعائره أسرارا وحكما تدركها العقول تارة ، وتخفى عليها تارة أخرى ، تغيب عن أذهان بعضهم آونة ، وتنكشف لآخرين آونة أخرى ، تجهل في مقطع زمني معيّن ، وتعلم في مقطع آخر.

ص : 417

وممّا لا شكّ فيه أنّ من وراء سنّة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ( الذي لا ينطق عن الهوى ) في عدم إقامة صلاة التراويح جماعة ، حكمة سامية ، قد تتجلى في الآثار الإيجابية التي ترتّب على إقامتها في البيوت فرادى ، حيث يقف المصلّي بين يدي ربّه عزّ وجلّ خاشعا خائفا راجيا ، يبثّه همومه وأحزانه ، ويستمطر رحمته وعفوه وغفرانه ، ينقطع إليه تعالى بكلّه لا يشغله عن ذلك شاغل ، ولا تكدّر موقفه شائبة من شوائب العجب والتباهي والرياء.

ثمّ إنّ إقامتها في البيوت يشيع عليها جوا من الإيمان والطهر والبركة والصفاء ، حيث لا يخلو البيت من ذكر وتسبيح وصلوات.

ولا ريب أنّ من يقطن في البيت ( من زوجة وأولاد وغيرهم ) سوف يعيش في رحاب هذه الأجواء ، ويتنسّم أريجها الفوّاح ، وذلك لعمري من العوامل التربوية المهمة في الأخذ بأيديهم إلى حيث الهدى والصلاح والاستقامة والسلوك القويم.

يقول السيد شرف الدين : إنّ فائدة إقامتها في البيت فرادى ، وهي إنّ المصلّي حين يؤديها ينفرد بربه عزّ وعلا يشكو إليه بثّه وحزنه ويناجيه بمهماته مهمة مهمة حتى يأتي على آخرها ملحّا عليه ، متوسّلا بسعة رحمته إليه ، راجيا لاجئا ، راهبا راغبا ، منيبا تائبا ، معترفا لائذا عائذا ، لا يجد ملجأ من الله تعالى إلاّ إليه ، ولا منجى منه إلاّ به.

لهذا ترك الله السنن حرة من قيد الجماعة ليتزوّدوا فيها من الانفراد بالله ما أقبلت قلوبهم عليه ، ونشطت أعضاؤهم له ، يستقلّ منهم من يستقل ، ويستكثر من يستكثر ، فإنّها خير موضوع ، كما جاء في الأثر عن سيّد البشر.

إمّا ربطها بالجماعة فيحدّ من هذا النفع ، ويقلّل من جدواه.

أضف إلى هذا أنّ إعفاء النافلة من الجماعة يمسك على البيوت حظّها من

ص : 418

البركة والشرف بالصلاة فيها ، ويمسك عليها حظّها من تربية الناشئة على حبّها والنشاط لها ، ذلك لمكان القدوة في عمل الآباء والأمهات والأجداد والجدّات ، وتأثيره في شد الأبناء إليها شدّا يرسخها في عقولهم وقلوبهم ، وقد سأل عبد الله بن مسعود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أيّما أفضل ، الصلاة في بيتي ، أو الصلاة في المسجد؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم « ألا ترى إلى بيتي ما أقربه من المسجد ، فلأن أصلّي في بيتي أحب إليّ من أن أصلّي في المسجد إلاّ أن تكون صلاة مكتوبة » رواه أحمد وابن ماجة وابن خزيمة في صحيحه كما في باب الترغيب في صلاة النافلة من كتاب الترغيب والترهيب للإمام زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري. وعن زيد بن ثابت أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : « صلّوا أيّها الناس في بيوتكم فإنّ أفضل صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة » رواه النسائي وابن خزيمة في صحيحه. (1)

وحصيلة الكلام : قد روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم انّه قال : « فصلّوا أيّها الناس في بيوتكم فإنّ أفضل صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة ». (2)

وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأداء النوافل في البيوت ابتعادا عن الرياء والسمعة مطلقا وليس مقيّدا بزمانه ، وهذا يدلّ على مرجوحيّة أداء النوافل في المساجد.

فلو كانت الجماعة مشروعة في النوافل لكان الإتيان بها في المساجد جماعة أفضل من الإتيان بها في البيوت ، إلاّ أن تصريح النبي بأنّ الإتيان بها في البيوت أفضل كما في الحديث ، فهذا ممّا يلوّح _ على الأقلّ _ بعدم مشروعيّة الجماعة فيها.

ص : 419


1- النص والاجتهاد : 151 _ 152.
2- سنن النسائي : 3 / 161.
2. تقديم المصلحة على النصّ

إنّ عمل الخليفة لم يكن إلاّ من قبيل تقديم المصلحة _ حسب تشخيصه _ على النص وليس المورد وحيدا في حياته بل له نظائر في عهده نظير :

1. تنفيذ الطلاق ثلاثا بعد ما كان في عهد الرسول وبعده وسنين من عهده طلاقا واحدا.

2. تحريم متعة الحجّ وقد تمتع الصحابة في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيوافيك تفصيله في المسألة القادمة.

3. تحريم متعة النساء ، وسيوافيك تفصيلها في المسألة الثانية عشرة.

يقول أحمد أمين المصري : ظهر لي أنّ عمر بن الخطاب كان يستعمل الرأي في أوسع من المعنى الذي ذكرناه ، وذلك أنّ ما ذكرناه هو استعمال الرأي حيث لا نصّ من كتاب ولا سنّة ، ولكنّا نرى الخليفة سار أبعد من ذلك ، فكان يجتهد في تعرّف المصلحة التي لأجلها نزلت الآية أو ورد الحديث ، ثمّ يسترشد بتلك المصلحة في أحكامه ، وهو أقرب شيء إلى ما يعبّر عنه الآن بالاسترشاد بروح القانون لا بحرفيّته. (1)

إنّ الاسترشاد بروح القانون الذي أشار إليه أحمد أمين أمر ، ونبذ النص والعمل بالرأي أمر آخر ، ولكن الطائفة الثانية كانوا ينبذون النص ويعملون بالرأي ، وما روي عن الخليفة في هذه المسألة ونظائرها من هذا القبيل.

ص : 420


1- فجر الإسلام : 238 ، نشر دار الكتاب.
3. تقسيم البدعة إلى الحسنة والسيئة بدعة

قد سمعت من أنّ الخليفة سمّى عمله بدعة حسنة ، أو سمّى اجتماع الناس على إمامة أبيّ بن كعب ، بدعة حسنة ، فإذا كانت البدعة عبارة عن التدخل في أمر الشريعة ، فليس له إلاّ قسم واحد لا يثنّى ولا يكرر.

إنّ إقامة صلاة التراويح جماعة لا تخلو من صورتين :

الأولى : إذا كان لها أصل في الكتاب والسنّة ، فعندئذ يكون عمل الخليفة إحياء لسنّة متروكة ، سواء أراد إقامتها جماعة أو جمعهم على قارئ واحد ، فلا يصحّ قوله : « نعمت البدعة هذه » إذ ليس عمله تدخّلا في الشريعة.

الثانية : إذا لم يكن هناك أصل في المصدرين الرئيسين ، لا لإقامتها جماعة أو لجمعهم على قارئ واحد ، وإنّما كره الخليفة تفرّق الناس ، ولأجل ذلك أمرهم بإقامتها جماعة ، أو بقارئ واحد ، وعندئذ تكون هذه بدعة قبيحة محرّمة.

ص : 421

4. بين السنة والبدعة

البدعة في الدين من كبائر المعاصي وعظائم المحرمات ، لأنّ المبتدع ينازع سلطان الله تبارك وتعالى في مجالي العقيدة والشريعة ويتدخّل في دينه فيزيد فيه وينقص منه افتراء على الله سبحانه.

فإذا دار أمر العبادة بين كونها سنّة أو بدعة فاللازم تركها ، لأنّ روح العبادة هو قصد التقرّب بإتيانها ولا يتمشّى قصد القربة بصلاة يحتمل كونها بدعة.

نحن نفترض أنّ ما سردناه من الأدلّة على عدم مشروعية التراويح جماعة ، لم يفد اليقين بأنّ صلاة التراويح بدعة لكنّها تورث الشك في مشروعيتها ، ومجرّد الشكّ فيها كاف في إلزام العقل بتركها ، إذ لا يجوز التعبّد بعمل مشكوك.

فاللازم على المسلم المحتاط إقامة نوافل شهر رمضان بين الأهل والعيال في البيوت فرادى عسى أن يقيض الله رجالا متحررين عن قيد التقليد ، يستنبطون الأحكام من الكتاب والسنّة من جديد ، وذلك ببناء نهضة علمية وثّابة تعالج الخلافات الفقهية من جذورها ، انّه خير مأمول وخير مجيب.

ص : 422

11. متعة الحجّ

اشارة

ص : 423

ص : 424

المتعة وأقسامها

التمتّع بمعنى التلذّذ ، يقال : تمتّع واستمتع بكذا ومن كذا : انتفع وتلذّذ به زمانا طويلا ، والمتعة في مصطلح الفقهاء يستعمل في موارد ثلاثة :

1. متعة الحجّ الواردة في قوله سبحانه ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ ). (1) وسيوافيك توضيحها.

2. متعة الطلاق ، وهي ما تصل إلى المرأة بعد الطلاق من قميص وإزار وملحفة ، وإليه يشير قوله سبحانه ( لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ). (2)

وهل هذه المتعة لخصوص من لم يسمّ لها صداق؟ أو لكلّ مطلقة سوى المختلعة والمبارأة والملاعنة؟ أو لكلّ مطلقة سوى المفروض لها إذا طلقت قبل الدخول فان لها نصف الصداق ولا متعة لها خلاف. (3)

3. متعة النساء ويسمّى بالزواج المؤقت ، وهي عبارة عن تزويج المرأة الحرّة الكاملة نفسها إذا لم يكن بينها وبين الزوج مانع _ من نسب أو سبب أو رضاع أو

ص : 425


1- البقرة : 196.
2- البقرة : 236.
3- مجمع البيان : 1 / 340.

إحصان أو عدّة أو غير ذلك من الموانع الشرعية _ بمهر مسمّى إلى أجل مسمّى بالرضا والاتّفاق ، فإذا انتهى الأجل تبين منه من غير طلاق ، ويجب عليها مع الدخول بها _ إذا لم تكن يائسة _ أن تعتد عدّة الطلاق إذا كانت ممّن تحيض ، وإلاّ فبخمسة وأربعين يوما. والأصل فيه قوله سبحانه ( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ). (1)

والمتعة بالمعنى الأوّل والثاني مورد اتّفاق بين الفقهاء ، واختلفوا في المتعة بالمعنى الثالث ؛ فالشيعة الإمامية على حلّيّتها وعدم منسوخيتها ، وأكثر الجمهور على التحريم ، وسيوافيك التفصيل في المسألة الثانية عشر بإذن الله.

ص : 426


1- النساء : 24.

أقسام الحج الثلاثة

اشارة

ينقسم الحجّ إلى أقسام ثلاثة : تمتع ، وقران ، وإفراد.

فلنبيّن هذه الأقسام على ضوء المذهب الإمامي ثمّ نردفه بتوضيحها وفقا لمذهب أهل السنّة.

أمّا التمتع في الفقه الإمامي فهو عبارة عن إحرام المكلّف من الميقات بالعمرة المتمتع بها إلى الحجّ ، ثمّ يدخل مكة فيطوف سبعة أشواط بالبيت ، ويصلّي ركعتي الطواف بالمقام ، ويسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط ، ثمّ يقصّر ، فإذا فعل ذلك فقد أحلّ من كلّ شيء أحرم منه ، فله التمتّع بأي شيء شاء من الأمور المحلّلة بالذات إلى أن ينشئ إحراما آخر للحجّ.

ثمّ ينشئ إحراما آخر للحج من مكة يوم التروية وإلاّ فيما يعلم معه إدراك الوقوف ، ثمّ يمضي إلى عرفات فيقف بها إلى الغروب ، ثمّ يفيض إلى المشعر الحرام فيقف به بعد طلوع الفجر ، ثمّ يفيض إلى منى ويرمي جمرة العقبة ، ثمّ يذبح هديه ، ثمّ يحلق رأسه ، ثمّ يأتي مكة ليومه أو من غده ، فيطوف للحج ويصلّي ركعتين ، ثمّ يسعى سعي الحجّ ، ثمّ يطوف طواف النساء ويصلّي ركعتيه ، ثمّ يعود إلى منى ليرمي ما تخلّف عليه من الجمار الثلاث ، يوم الحادي عشر ، والثاني عشر. (1)

وأمّا الإفراد فهو أن يحرم من الميقات أو من حيث يصحّ له الإحرام منه

ص : 427


1- تحرير الأحكام : 1 / 557.

بالحجّ ، ثمّ يمضي إلى عرفات فيقف بها ، ثمّ يقف بالمشعر الحرام ، ثمّ يأتي منى فيقضي مناسكه بها ، ثمّ يأتي إلى مكة يطوف بالبيت للحج ويصلّي ركعتين ويسعى للحجّ ويطوف طواف النساء ويصلي ركعتين ، فيخرج من الإحرام فيحل له كلّ المحرمات.

ثمّ يأتي بعمرة مفردة من أدنى الحلّ.

وأمّا القران فهو نفس حجّ الإفراد _ عند الإمامية _ إلاّ أنّه يضيف إلى إحرامه سياق الهدي ، وإنّما يسمّى بالقران لسوقه الهدي فيقرن حجّه بسوقه. فالقران والإفراد شيء لا يفترقان إلاّ في حال واحدة ، وهي انّ القارن يسوق الهدي عند إحرامه ، وأمّا من حجّ حجّة الإفراد فليس عليه هدي أصلا.

إنّ التمتع فرض من نأى عن المسجد الحرام وليس من حاضريه ، ولا يجزئه غيره مع الاختيار.

وأمّا القران والإفراد فهو فرض أهل مكة وحاضريها.

وحدّ حاضري المسجد الحرام الذين لا متعة عليهم من كان بين منزله ومكة دون 48 ميلا من كلّ جانب ، ويعادل 88 كيلومترا. (1)

والحاصل : انّ من نأى عن مكة أكثر من 48 ميلا لا يجوز له إلاّ التمتع.

وأمّا القران والإفراد فهما فرض أهل مكة ومن كان بينه وبينها دون 48 ميلا ولا يجوز لهما غير هذين النوعين.

ثمّ إنّ من وظيفته التمتع لا يجوز أن يعدل إلى غيره ، إلاّ لضيق وقت أو حيض ، فيجوز العدول حينئذ إلى الإفراد على أن يأتي بالعمرة بعد الحجّ. وحدّ الضيق هو انّه إذا اعتمر لا يتمكّن من الوقوف بعرفة عند الزوال.

ص : 428


1- ربما قيل 12 ميلا ، فيعادل 22 كيلومترا.

ولا يجوز لمن فرضه القران أو الإفراد كأهل مكة وضواحيها أن يعدل إلى التمتع إلاّ مع الاضطرار ، كخوف الحيض المتوقّع. هذه هي صور أقسام الحجّ الثلاثة ، ويتلخص الكلّ في الأمور التالية :

1. انّ حجّ التمتع للنائي عن مكة وحجّ الإفراد والقران لغير النائي.

2. لا يجوز للمتمتع أن يعدل إلى غيره إلاّ عند الضرورة ، وهكذا للمفرد والقارن إلاّ عند الضرورة.

3. انّ حجّ الإفراد والقران شيء واحد يفترقان في سوق الهدي وعدمه.

4. لا يجوز التداخل بين إحرامين ، فلا يجوز لمن أحرم أن ينشئ إحراما آخر حتّى يكمل أفعال ما أحرم له.

5. ويشترط في حجّ التمتع وقوعه في أشهر الحجّ _ وهي : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجّة _ وأن يأتي بالحجّ والعمرة في سنة واحدة ، ولو أحرم بالعمرة المتمتع بها في غير أشهر الحجّ لم يجز له التمتع بها. (1)

إلى هنا تمّ بيان صور الأقسام الثلاثة على مذهب الإمامية ، وإليك بيان أقسام الحجّ وفق مذهب أهل السنّة ، فنقول :

قالوا : من أراد الحجّ والعمرة جاز له في الإحرام بهما ثلاث كيفيات.

الأوّل : الإفراد ، وهو أن يحرم بالحجّ وحده ، فإذا فرغ من أعماله أحرم بالعمرة وطاف وسعى لها ويأتي بأعمال العمرة.

الثاني : القران ، وهو الجمع بين الحج والعمرة في إحرام واحد حقيقة أو حكما

ص : 429


1- راجع الشرائع : 1 / 174 _ 177 ، تحرير الأحكام : 1 / 557 _ 559 ، جواهر الكلام ، وغيرها من الكتب الفقهية للشيعة الإمامية.

( وسيوافيك تفصيلهما ).

الثالث : التمتع ، وهو أن يعتمر أوّلا ثمّ يحجّ من عامه.

هذا إجمال الأقسام الثلاثة عند مذهب أهل السنّة ، وفي تفاصيلها اختلاف بينهم.

فالذي يهمنا أمران :

الأوّل : تفسير القرآن ، فالقران عند أهل السنّة هو الجمع بين الحجّ والعمرة في إحرام واحد ، وصفة القرآن عندهم أن يهل بالعمرة والحج معا من الميقات ويقول : اللهم إنّي أريد الحجّ والعمرة فيسّرهما لي وتقبّلهما مني ، فهي عندهم كحجّ التمتع إلاّ أنّه يهلّ بالعمرة والحجّ بنيّة واحدة ولا يتحلّل بين العمرة والحجّ.

وفي « المغني » لابن قدامة : إنّ الإحرام يقع بالنسك من وجوه ثلاثة :

1. تمتع ، وإفراد ، وقران.

فالتمتع أن يُهلّ بعمرة مفردة من الميقات في أشهر الحجّ ، فإذا فرغ منها أحرم بالحجّ من عامه.

والإفراد أن يهل بالحجّ مفردا.

والقران أن يجمع بينهما في الإحرام بهما أو يحرم بالعمرة ثمّ يدخل عليها الحجّ قبل الطواف ، فأي ذلك أحرم به جاز.

وأمّا الأفضل ، فاختارت الحنابلة انّ الأفضل هو التمتع ثمّ الإفراد ثمّ القران ، وممّن روي عنه اختيار التمتع : ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وعائشة وحسن وعطاء وطاوس ومجاهد وجابر بن زيد والقاسم وسالم وعكرمة وهو أحد قولي الشافعي.

وروى المروزي عن أحمد : إن ساق الهدي فالقران أفضل ، وإن لم يسقه فالتمتع أفضل ، لأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرن حين ساق الهدي ومنع كلّ من ساق الهدي من

ص : 430

الحل حتّى ينحر هديه. (1)

هذا إجمال ما عليه المذاهب الأربعة ، ولعلّ الاختلاف بين المذهب الإمامي وسائر المذاهب في ماهية النسك الثلاثة ، قليل ، ولو كان هناك اختلاف فإنّما هو في موضعين :

1. في تفسير القرآن ، فحجّ القران عند الإمامية هو نفس حجّ الإفراد ، غير انّ المفرد لا يسوق الهدي والقارن يسوق.

2. انّهم بتفسير القرآن بالجمع بين العمرة والحج ، جوّزوا ذلك بالصورتين التاليتين :

أ. أن يهلّ بالعمرة والحجّ معا من الميقات بنيّة الأمرين معا ، وهو الجمع الحقيقي.

ب : أن يهلّ بالعمرة فقط ثمّ بالحجّ قبل أن يطوف للعمرة أكثر الطواف.

قال ابن رشد : أمّا القران فهو أن يهلّ بالنسكين معا أو يهلّ بالعمرة في أشهر الحجّ ثمّ يردف ذلك بالحجّ قبل أن يحل من العمرة والقارن يلزمه الهدي إن كان آفاقيّا وإلاّ فلا.

وربّما يقال ويصحّ العكس عند أكثر الفقهاء بأن يحرم بالحجّ ثمّ يدخل العمرة عليه ، لكنّه مكروه عند الحنفية. (2)

وأمّا الشيعة الإمامية فلا تجوّز القران بين الحجّ والعمرة بنيّة واحدة ، ولا إدخال أحدهما على الآخر.

إذا عرفت ذلك فتحقيق المقام رهن البحث في أمور :

ص : 431


1- المغني : 3 / 233.
2- راجع : بداية المجتهد : 3 / 293 _ 301 ، الهداية في شرح البداية : 1 / 150 _ 154 ، المغني : 3 / 232 ، الفقه على المذاهب الأربعة : 1 / 688 _ 695.
الأوّل : في بيان الأحكام الواردة في الآية
اشارة

يقول سبحانه ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ). (1)

الآية المباركة تتضمن أحكاما نشرحها حسب مقاطع الجمل.

1. إتمام الحج والعمرة لله

يقول سبحانه ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) فما هو المراد من الإتمام؟

إنّه سبحانه يأمر بإتمام الحجّ والعمرة ، والمراد من الإتمام في المقام وغيره هو إنجاز العمل كاملا لا ناقصا ، كما أنّ المراد من كون الإتمام لله ، كون العمل بعيدا عن الرياء والسمعة ، والذي يعرب عن كون المراد من الإتمام هو الإكمال ، أمران :

أ : أطلق الإتمام في القرآن الكريم وأريد به الإكمال ، كقوله سبحانه ( وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ ) (2) وقوله سبحانه : ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى

ص : 432


1- البقرة : 196.
2- البقرة : 124.

اللَّيْلِ ) (1) وقوله سبحانه ( وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ) (2) وقوله سبحانه ( وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ ). (3)

ب : قوله سبحانه ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ) أي منعكم حابس قاصر عن إتمام الحجّ فعليكم بما استيسر من الهدي ، فالجملة قرينة على أنّ المراد من الإتمام ، الإكمال.

وعلى ذلك جرى المفسرون في تفسير الجملة الآنفة الذكر ، قال الشيخ الطوسي : يجب أن يبلغ آخر أعمالها بعد الدخول فيها ، ثمّ عزاه إلى مجاهد والمبرد وأبي علي الجبائي. (4)

وقال الرازي : إنّ الإتمام يراد به فعل الشيء كاملا وتامّا ، فالمراد الإتيان به بما جاء في ذيل الآية من حكم الحصر. (5)

هذا هو المفهوم من الآية ، وأمّا تفسير الآية بأفراد كلّ واحد منهما بإنشاء سفر مستقل ، فممّا لا تدلّ عليه الآية.

نعم انّ العرب في عصر الجاهلية كانوا يفرّقون بين الحجّ والعمرة ، فكانوا يأتون بالعمرة في غير أشهر الحج وبالحجّ في أشهره ، وكانوا يفردون كلاّ عن الآخر ، وكانت سيرتهم على ذلك إلى أن أدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم العمرة في الحجّ حتّى أمر من لبّى بالحج في أشهر الحجّ وأحرم له ، أن يجعله عمرة ثمّ يتحلّل ويحرم للحج ثانيا ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم « دخلت العمرة في الحجّ إلى الأبد » كما سيوافيك تفسيره.

ص : 433


1- البقرة : 187.
2- التوبة : 32.
3- يوسف : 6.
4- التبيان : 1 / 154.
5- تفسير الرازي : 5 / 139.

نعم روي ذلك مرفوعا عن أبي هريرة ، كما روي أنّ عمر كان يترك القران والتمتع ويذكر أنّ ذلك أتمّ للحجّ والعمرة وأن يعتمر في غير شهور الحجّ ، فان الله تعالى يقول ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ) وروى نافع عن ابن عمر أنّه قال : « فرّقوا بين حجّكم وعمرتكم ». (1)

كما روي ذلك القول عن قتادة أنّه قال : « الاعتمار في غير أشهر الحج » (2) ، ولعلّه أراد العمرة المفردة لا عمرة التمتّع التي لا تنفكّ عن الحجّ.

فظهر ممّا ذكرنا انّ المراد بإتمام الحجّ والعمرة لله هو إكمالهما على النحو المقدور ، فإن لم يمنع حابس يكمله بإتيان عامّة الأجزاء وإن حُصِر ، يخرج من الإحرام على النحو الذي سيوافيك ، وهو أيضا نوع من الإتمام.

وأمّا تفسير الإتمام بإنشاء السفر لكلّ من العمرة والحجّ ، فغير مفهوم من الآية ومخالف لسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث أمر أصحابه بإدخال العمرة في الحجّ وتبديل النيّة من الحجّ إلى العمرة ، وقد كان ذلك شاقّا على أصحابه ، لأنّهم كانوا قد أحرموا للحجّ على النحو الرائج في العصر السابق ، فمن حاول تفسير الآية بتفكيك العمرة عن الحجّ بإنشاء سفرين : أحدهما في أشهر الحجّ والآخر يعني : العمرة في غيره ، فقد فسّر الآية برأيه أوّلا ، وخالف سنّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثانيا.

2. إذا أحصر بالعدو أو المرض

لمّا أمر سبحانه حجاج بيته بإتمام الحجّ والعمرة وإكمالهما ، حاول بيان وظيفة المحصر الذي يمنعه حابس عن إكمال الحجّ والعمرة ، فقال : ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا

ص : 434


1- تفسير الرازي : 5 / 145.
2- التبيان : 1 / 154.

اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ).

أصل الحصر ، الحبس ، ومنه يقال للّذي لا يبوح بسرّه « حصر » لأنّه حبس نفسه عن البوح ، والمعروف انّ لفظ الحصر مخصوص بمنع العدو إذا منعه عن مراده وضيّق عليه ، وربما يستعمل في مطلق المانع ويقال : أحصر بالمرض وحصر بالعدو.

وعلى ذلك فالمحصر عليه التحلّل بالذبح ، ولا يتحلّل قبل الذبح كما قال سبحانه ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) أي ما تيسّر منه ، وقيل الهدي جمع الهدية كالتمر جمع التمرة ، والمراد من الهدي ما يهدى إلى بيت الله عزّ وجلّ تقرّبا إليه ، أعلاه بدنة ، وأوسطه بقرة ، وأيسره شاة.

3. لا يتحلّل قبل الذبح

إنّ المحصر يتحلّل بالذبح ، فلا يتحلّل من الإحرام حتّى ينحر أو يذبح. قال سبحانه ( وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ) وأمّا ما هو المراد من المحل؟ فهناك أقوال ثلاثة :

أ. الحرم فإذا ذبح به في يوم النحر أحل.

ب : الموضع الذي يصد فيه ، لأنّ النبي نحر هديه بالحديبية وأمر أصحابه ففعلوا مثل ذلك ، وليست الحديبية من الحرم.

ج : التفصيل بين المحصر بالعدو ، والمحصر بالمرض. فالأوّل يذبح في المحل الذي صدّ فيه ، وأمّا الثاني ينتظر إلى أن يذبح في يوم النحر.

ص : 435

4. حكم المريض ومن برأسه أذى

لمّا منع سبحانه حلق الرأس قبل بلوغ الهدي محلّه رخّص لفريقين وإن لم يذبحوا :

أحدهما : المريض الذي يحتاج إلى الحلق للمداواة.

والثاني : من كان برأسه أذى.

وقال ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) فالمحرم المعذور يحلق رأسه قبل الذبح ، وفي الوقت نفسه يكفّر بأحد الأمور الثلاثة ، وكلّ واحد منها فدية ، أي بدل وجزاء من العمل الذي تركه لأجل العذر ، وهو أن يصوم أو يتصدّق أو يذبح شاة. وأمّا الصوم فيصوم ثلاثة أيّام ، وأمّا الصدقة فيتصدّق على ستة مساكين أو عشرة ، وأمّا النسك فيذبح شاة ، وهو مخيّر بين الأمور الثلاثة.

5. التمتّع بالعمرة إلى الحجّ

يقول سبحانه ( فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) ، كان كلامه سبحانه في المحصر ، والكلام في المقام في غير المحصر ومن حصل له الأمن وارتفع المانع كما يدلّ عليه قوله سبحانه ( فَإِذا أَمِنْتُمْ ) ، فعلى قسم من المكلّفين (1) إذا أتوا بالعمرة ثمّ أحرموا للحج فعليه ما تيسّر من الهدي في يوم النحر في أرض منى.

المراد من التمتع في ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ ) هو التمتع

ص : 436


1- أي غير حاضري المسجد الحرام كما سيأتي في الآية.

بمحظورات الإحرام بسبب أداء العمرة فيبقى متحلّلا متمتعا إلى أن يحرم للحج ، وعندئذ يجب عليه ما تيسّر من الهدي.

والآية تصرح بأنّ صنفا من المكلّفين ، وهم الذين فرض عليهم حجّ التمتع يحلّ لهم التمتع بعامة المحظورات إلى زمن إحرام الحجّ ، فاستنكار التمتع بين العمرة والحجّ _ لأجل استلزامه تعرّس الحاج بين العمرة والحج ورواحة إلى المواقف ورأسه يقطر ماء _ إطاحة بالوحي وتقديم للرأي على الوحي ، كما سيوافيك تفصيله.

وإنّما ذكر من أعمال الحجّ الكثيرة خصوص الهدي ، فقال ( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) مع أنّ من تمتّع بالعمرة إلى الحجّ فعليه الإحرام أوّلا ثمّ الوقوف في عرفة ، ثمّ الإفاضة إلى المشعر والمزدلفة ، ثمّ منها إلى منى ورمي الجمرات والذبح والحلق إلى غير ذلك.

أقول : إنّما خصّ ذلك بالذكر لاختصاص الهدي بحكم خاص ، وهو سبحانه بصدد بيان حكمه ، وهو انّه إذا عجز عن الهدي فله بدل ، بخلاف سائر الأعمال فإنّ ذاتها مطلوبة وليس لها بدل ، فقال سبحانه مبيّنا لبدل الهدي.

6. الفاقد للهدي

بيّن سبحانه حكم من لم يجد الهدي ( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ) أي انّه يصوم بدل الهدي ثلاثة أيّام في الحجّ وسبعة إذا رجع إلى موطنه على وجه يكون الجميع عشرة كاملة ، وأمّا أيّام الصوم فقد ذكرت في الكتب الفقهية ، وهي اليوم السابع والثامن والتاسع.

ص : 437

7. التمتع بالعمرة إلى الحجّ وظيفة الآفاقي

إنّه سبحانه أشار بأنّ التمتع بالعمرة إلى الحجّ فريضة من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ، وقال ( ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) أي ما تقدّم ذكره حين التمتع بالعمرة إلى الحجّ ليس لأهل مكة ومن يجري مجراهم وإنّما هو لمن لم يكن من حاضري مكة ، وأمّا الحاضر فهو من يكون بينه وبينها دون 48 ميلا ، من كلّ جانب على الاختلاف.

ثمّ إنّه سبحانه أتمّ الآية بالأمر بالتقوى ، أي العمل بما أمر والنهي عمّا نهى ، وذلك لأنّه سبحانه شديد العقاب ، فقال ( وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ).

هذا هو تفسير الآية المباركة جئنا به ليكون قرينة واضحة على تفسير ما سنسرد من الروايات والأحاديث من احتدام النزاع بين النبي وأصحابه في كيفية الحجّ ودام حتّى بعد رحيله صلى الله عليه وآله وسلم.

والمهم في المقام في إفادة المقصود هو الجملتان التاليتان :

1. ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ).

2. ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ ).

فالأولى تدلّ على إكمالهما دون أفرادهما في الزمان ، كما أنّ الثانية تدلّ على لزوم التحلّل والتمتّع بين العملين.

* * *

ص : 438

الثاني : متعة الحجّ سنّة أبدية

تضافرت الروايات الصحاح على أنّ متعة الحجّ سنّة أبدية إلى يوم القيامة لا تتغيّر ولا تتبدّل ، بل تبقى بحالها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، ونذكر في ذلك ما رواه الشيخان ولا نتجاوز عنهما.

1. روى مسلم عن عمرة قالت : سمعت عائشة ( رضي الله عنها ) تقول : خرجنا مع رسول الله لخمس بقين من ذي القعدة ولا نرى إلاّ أنّه الحج حتّى إذا دنونا من مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحل. (1)

2. أخرج مسلم عن جابر رضي الله عنه انّه قال : أقبلنا مهلّين مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحجّ مفرد ، وأقبلت عائشة ( رضي الله عنها ) بعمرة ، حتّى إذا كنا بسرف عركت حتّى إذا قدمنا طفنا بالكعبة والصفا والمروة ، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحل منّا من لم يكن معه هدي ، قال : فقلنا : حلّ ما ذا؟ قال : الحلّ كلّه ، فواقعنا النساء وتطيّبنا بالطيب ولبسنا ثيابنا وليس بيننا وبين عرفة إلاّ أربع ليال ، ثمّ أهللنا يوم التروية. (2)

3. أخرج مسلم عن جابر رضي الله عنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

ص : 439


1- صحيح مسلم : 4 / 32 ، باب وجوه الإحرام.
2- صحيح مسلم : 4 / 35 ، باب وجوه الإحرام.

مهلّين بالحج معنا النساء والولدان ، فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت وبالصفا والمروة ، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من لم يكن معه هدي فليحلل ، قال : قلنا : أيّ الحل؟ قال : الحلّ كلّه ، قال : فأتينا النساء ولبسنا الثياب ومسسنا الطيب ، فلمّا كان يوم التروية أهللنا بالحج. (1)

4. أخرج مسلم عن عطاء ، قال : حدّثني جابر بن عبد الله الأنصاري أنّه حجّ مع رسول الله عام ساق الهدي معه ، وقد أهلّوا بالحجّ مفردا ، فقال رسول الله : « أحلّوا من إحرامكم فطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة وقصّروا وأقيموا حلالا ، حتّى إذا كان يوم التروية فأهلّوا بالحجّ ، واجعلوا التي قدمتم بها متعة » قالوا : كيف نجعلها متعة وقد سمّينا الحجّ؟ قال : « افعلوا ما آمركم به فانّي لو لا أنّي سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به ولكن لا يحلّ منّي حرام حتّى يبلغ الهدي محله ، فافعلوا ». (2)

5. أخرج مسلم عن جابر بن عبد الله قال : قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مهلّين بالحجّ ، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نجعلها عمرة ونحل ، قال : وكان معه الهدي فلم يستطع أن يجعلها عمرة. (3)

6. أخرج مسلم عن جابر بن عبد الله في حديث مفصّل انّه قال : لسنا ننوي إلاّ الحجّ ، لسنا نعرف العمرة ، حتّى إذا أتينا البيت معه استلم الركن _ إلى أن يقول : _ حتّى إذا كان آخر طوافه ( النبي ) على المروة ، فقال : « لو انّي استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة ، فمن كان منكم ليس معه هدي

ص : 440


1- صحيح مسلم : 4 / 36 ، باب وجوه الإحرام.
2- صحيح مسلم : 4 / 37 ، باب وجوه الإحرام.
3- صحيح مسلم : 4 / 38 ، باب وجوه الإحرام.

فليحلّ وليجعلها عمرة » فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال : يا رسول الله ، ألعامنا أم لا بد؟ فشبّك رسول الله أصابعه واحدة في الأخرى ، فقال : « دخلت العمرة في الحج مرتين : لا ، بل لا بد أبد ». (1)

هذا بعض ما رواه مسلم ، وتركنا البعض الآخر وربّما يأتي لمناسبة أخرى.

وإليك ما رواه البخاري في صحيحه.

1. أخرج البخاري عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قالت : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجّة الوداع فأهللنا بعمرة ، قال النبي : من كان معه هدي فليهل بالحجّ مع العمرة ، ثمّ لا يحلّ حتّى يحلّ منهما جميعا. (2)

2. أخرج البخاري عن ابن عباس انّه سئل عن متعة الحجّ ، فقال : أحلّ المهاجرون والأنصار وأزواج النبي في حجّة الوداع وأهللنا فلمّا قدمنا مكة ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اجعلوا إهلالكم بالحجّ عمرة إلاّ من قلّد الهدي ، طفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب. (3)

هذا بعض ما رواه البخاري ويأتي بعضه الآخر ، وما رواه الشيخان يدلّ على أمور :

1. انّ حجّ التمتع فريضة من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام.

2. انّ التمتّع بين العمرة والحجّ سنّة فيها وليس لأحد أن يعترض على التمتع بين الأمرين.

3. انّ العرب في الجاهلية والإسلام كانوا يحرمون بالحجّ في أشهر الحجّ

ص : 441


1- صحيح مسلم : 4 / 40 ، باب حجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
2- صحيح البخاري : 2 / 140 ، باب كيف تحل الحائض والنفساء.
3- صحيح البخاري : 2 / 144 ، باب قول الله ( لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ).

لا للعمرة ، ولذلك أحرم أصحاب النبي وأزواجه للحجّ تبعا للسيرة السائدة بين العرب من اختصاص أشهر الحجّ بالحجّ فلمّا دنوا من مكة (1) أو قضوا أعمال العمرة أمرهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بجعل الإحرام عمرة والعدول إليها ، وقد كان ثقيلا عليهم ، كما ستوافيك الروايات في هذا الباب.

4. انّ التمتع بين العمرة والحجّ سنّة أبدية لا تختص بعام دون عام ولا بقوم دون قوم.

5. انّ من ساق الهدي معه ليس له أن يتحلّل ولا يخرج من الإحرام إلاّ إذا بلغ الهدي محلّه وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ممّن ساق الهدي ، ولذلك لم يخرج حتّى أبلغ هديه محله ، وقد كان عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مظنة سؤال للصحابة حيث أمرهم بالتحلّل وبقي نفسه على إحرامه ، فنبّههم النبي بأنّه ساق الهدي ولكنّه لو وفّق للحجّ في المستقبل لما ساق الهدي ، وإلى ذلك يشير قوله : « لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ».

إنّ في هذا الموضوع روايات في السنن الأربع اقتصرنا بما ذكرنا ، وللقارئ أن يرجع إلى السنن والمسانيد فإنّه يجد أمثال ما ذكرناه بوفرة.

ص : 442


1- الترديد لأجل اختلاف الروايات في ذلك ، فلاحظ.
الثالث : سيرة العرب قبل الإسلام في الحجّ

يظهر ممّا سردناه من الروايات وما سيوافيك انّ العرب لم تكن تعرف العمرة في أشهر الحجّ وإنّما تأتي بها في غيرها ، ولذلك تعاظم عليهم إدخال العمرة في الحجّ ، ولأجل إيقاف القارئ على تلك الحقيقة عن كثب ، نذكر بعض ما ورد :

1. أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال : كانوا يرون أنّ العمرة في أشهر الحجّ من أفجر الفجور ، ويجعلون محرم صفرا ويقولون : إذا برأ الدّبر ، وعفا الأثر ، وانسلخ صفر حلّت العمرة لمن اعتمر. قدم النبي وأصحابه صبيحة رابعة مهلّين بالحجّ ، فأمرهم أن يجعلوها عمرة ، فتعاظم ذلك عندهم ، فقالوا : يا رسول الله أي الحلّ؟ قال : الحلّ كلّه. (1)

والحديث يدلّ بوضوح على أنّ إفراز العمرة عن الحجّ كان سنّة جاهلية سادت على الحج لأسباب غير معلومة وكانوا يصرون على أنّ العمرة بعد انقضاء صفر وفي الحقيقة بعد انقضاء محرّم ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام بوجه هذه البدعة مدة إقامته في المدينة ، فقد اعتمر ثلاث عمر في ذي القعدة الحرام كما أتى بعمرة رابعة في حجّه في شهر ذي الحجّة في حجة الوداع ، وإليك العمر التي أحرم لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم طيلة حياته :

ص : 443


1- صحيح البخاري : 2 / 142 ، باب التمتع والإقران والإفراد بالحجّ.

الأولى : عمرة الحديبية ، وهي أوّلهنّ سنّة ست ، فصدّه المشركون عن البيت ، فنحر البدن وحلق هو وأصحابه رءوسهم وحلّوا من إحرامهم ورجعوا إلى المدينة.

الثانية : عمرة القضاء في العام المقبل في نفس ذلك الشهر.

الثالثة : عمرته من الجعرّانة لما خرج إلى حنين ثمّ رجع إلى مكة فاعتمر من الجعرانة داخلا إليها.

الرابعة : عمرته التي قرنها مع حجته.

ص : 444

الرابع : احتدام النزاع بين الصحابة في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم

قد عرفت أنّ العرب في العصر الجاهلي يفرزون العمرة عن الحجّ ويأتون بها في غير أشهر الحجّ ، وقد كان الجمع بينهما من أفجر الفجور ، وقد ترسخت تلك الفكرة عند العرب في العصر الجاهلي حتّى أضحت جزءا من كيانهم ، فالدعوة إلى إدخال العمرة في الحج كانت دعوة على خلاف ما شبّوا وشاخوا عليه ، ولذلك لمّا أمرهم النبي بإدخال العمرة إلى الحجّ وجعل الإهلال للحجّ عمرة ، تعاظم أمرهم وثارت ثورتهم ، وقاموا بوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على نحو أثاروا غضبه ، وإليك بعض ما روي في المقام :

1. أخرج مسلم عن عطاء قال : سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنه في ناس معي قال : أهللنا أصحاب محمد بالحجّ خالصا وحده ، قال عطاء : قال جابر : فقدم النبي صبح رابعة مضت من ذي الحجّة فأمرنا أن نحل ، قال عطاء : قال : حلّوا وأصيبوا النساء ، قال عطاء : ولم يعزم عليهم ولكن أحلهنّ لهم ، فقلنا : لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلاّ خمس ، أمرنا أن نفضي إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكرنا المني.

ص : 445

قال : يقول جابر بيده كأنّي أنظر إلى قوله « بيده » يحركها ، قال : فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فينا فقال : قد علمتم أنّي أتقاكم لله وأصدقكم وأبرّكم ولو لا هديي لحللت كما تحلون ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي فحلّوا ، فحللنا وسمعنا وأطعنا.

قال عطاء : قال جابر : فقدم عليّ من سعايته فقال : بم أهللت؟ قال : بما أهلّ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له رسول الله : فأهد ، وامكث حراما ، قال : وأهدى له علي هديا ، فقال سراقة بن مالك بن جُعشم : يا رسول الله : ألعامنا هذا أم لا بد ، فقال : لا بد. (1)

2. روى مسلم عن جابر بن عبد الله ( رض ) قال : أهللنا مع رسول الله بالحجّ ، فلمّا قدمنا مكة أمرنا أن نحلّ ونجعلها عمرة ، فكبر ذلك علينا وضاقت به صدورنا ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فما ندري أشيء بلغه من السماء أم شيء من قبل الناس ، فقال : أيّها الناس أحلّوا فلو لا الهدي الذي معي ، فعلت كما فعلتم ، قال : فأحللنا حتّى وطئنا النساء وفعلنا ما يفعل الحلال حتّى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر ، أهللنا بالحج. (2)

3. أخرج مسلم عن عائشة انّها قالت : قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأربع مضين من ذي الحجّة أو خمس فدخل عليّ وهو غضبان ، فقلت : من أغضبك يا رسول الله ، أدخله الله النار؟ قال : أو ما شعرت إنّي أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون ، ولو اني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتّى أشتريه ثمّ أحلّ كما حلّوا. (3)

ص : 446


1- صحيح مسلم : 3 / 36 ، باب بيان وجوه الإحرام وانّه يجوز إفراد الحجّ والتمتع والقران.
2- صحيح مسلم : 3 / 37 ، باب بيان وجوه الإحرام وانّه يجوز إفراد الحجّ والتمتع والقران.
3- صحيح مسلم : 3 / 33 ، باب بيان وجوه الإحرام.

هذا غيض من فيض ممّا يحكي عن حالة عصيان بين الصحابة في ذلك الموضوع وانّهم لم يستجيبوا بادئ بدء لأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتّى أغضبوه ، فأين عملهم هذا من قوله سبحانه ( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (1) وقوله سبحانه ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ). (2)

أي لا تتقدّموا على الله ورسوله ، ولا تقدّموا قولكم على قولهما.

ص : 447


1- الأحزاب : 36.
2- الحجرات : 1.
الخامس : عودة التقاليد الجاهلية
اشارة

حجّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه وعلّمهم مناسك الحجّ ومواقفه وسننه وطقوسه فأعاد كلّ ما حرّف إلى محله ، ولكن للأسف انّ عمر بن الخطاب ، قدم الاجتهاد على النص ومنع من متعة الحج وشدد النكير عليه وتبعه عثمان ودام الأمر عليه إلى العهود التالية ، وكفى في ذلك ما رواه الشيخان وغيره.

1. روى مسلم عن أبي موسى قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو منيخ بالبطحاء ، فقال لي : أحججت؟ فقلت : نعم ، فقال : بم أهللت؟ قال : قلت : لبيك بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : فقد أحسنت طف بالبيت وبالصفا والمروة وأحلّ (1) قال : فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثمّ أتيت امرأة من بني قيس ففلت رأسي ثمّ أهللت بالحج ، قال : فكنت أفتي به الناس حتّى كان في خلافة عمر.

فقال له رجل : يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس ، رويدك بعض فتياك فإنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النّسك بعدك ، فقال : يا أيّها النّاس ما كنّا أفتيناه فتيا فليتّئد (2) فإنّ أمير المؤمنين قادم عليكم فيه فائتمّوا.

ص : 448


1- مع أنّ أبا موسى علّق إحرامه بإحرام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومع ذلك أمر النبي بإحلاله بعد العمرة ، وستوافيك الإجابة عنه في آخر الرسالة في خاتمة المطاف ص 467 فانتظر.
2- فليتأنّ.

قال : فقدم عمر فذكرت ذلك له ، فقال : إن نأخذ بكتاب الله فان كتاب الله يأمر بالتمام ، وإن نأخذ بسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يحلّ حتّى بلغ الهدي محله. (1)

والعجب من أبي موسى مع أنّه كان يفتي الناس بما جرت عليه سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكنّه في خلافة عمر عدل عن هدي الرسول وأمر الناس بالتأنّي مع أنّه سمع من السائل بأنّه حدث جديد في النسك.

نعم استدلّ عمر على إخراج العمرة عن الحجّ بأمرين :

الأوّل : ما في كتاب الله حيث أمر سبحانه ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ).

الثاني : سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث لم يحل حتّى بلغ الهدي محله.

وكلا الاستدلالين من الوهن بمكان.

أمّا الاستدلال بالكتاب فقد عرفت أنّ معنى إتمام الحجّ والعمرة إكمالهما في مقابل المحصر الذي لا يستطيع الإكمال ، وأين هو من إخراج العمرة عن الحجّ بإنشاء السفر المستقل لكلّ منهما؟!

وأمّا سيرة النبي فقد كشف قوله صلى الله عليه وآله وسلم النقاب عن عدم إحلاله ، لأنّه ساق الهدي وكلّ من ساق الهدي لا يحلّ إلاّ أن يبلغ الهدي محله.

2. أخرج مسلم عن أبي نضرة ، قال : كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها ، قال : فذكرت ذلك لجابر بن عبد الله ، فقال : على يدي دار الحديث ، تمتعنا مع رسول الله ، فلمّا قام عمر قال : إنّ الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء ، وانّ القرآن قد نزل منازله فأتمّوا الحجّ والعمرة لله كما أمركم الله وابتّوا نكاح هذه النساء. (2)

ص : 449


1- صحيح مسلم : 4 / 44 ، باب في نسخ التحلّل من الإحرام.
2- صحيح مسلم : 4 / 48 ، باب في المتعة الحجّ والعمرة.

3. وروى أيضا بالإسناد السابق انّ عمر قال : فافصلوا حجّكم من عمرتكم فإنّه أتمّ لحجّكم وأتمّ لعمرتكم. (1)

ويدلّ الحديث على أنّ فصل الحج عن العمرة ظهر في عصر عمر ، وقد عرفت أنّ استدلاله بقوله سبحانه ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) لا يمتّ إلى هذا الباب بصلة ، وقوله في ذيل الحديث الثاني ( فافصلوا حجكم من عمرتكم ) صريح في فصل الحجّ من العمرة والإتيان بها في غير أشهر الحجّ ، وقد مرّ انّ العرب في العصر الجاهلي ترى الجمع بينهما من أفجر الفجور فكأنّ الرجل تأثر مما رسب في ذهنه فحرّم متعة الحج.

4. أخرج مسلم عن أبي موسى انّه كان يفتي بالمتعة ، فقال له رجل : رويدك ببعض فتياك فإنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النّسك بعد حتى لقيه بعد فسأله ، فقال عمر : قد علمت أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد فعله وأصحابه ولكن كرهت أن يظلّوا معرسين بهنّ في الأراك (2) ، ثمّ يروحون في الحجّ تقطر رءوسهم. (3)

الحديث يكشف عن أنّه اجتهد أمام النص ، لأنّه يكره أن يذهب الحاج إلى عرفة ورأسه يقطر ماء. وصار ذلك سببا للمنع عن السنّة القطعية. (4)

وقد استنكر الخليفة متعة الحجّ إلى حدّ كان الأعاظم من الصحابة على خوف من أن يتفوّهوا بجوازه وكانوا يوصون أن لا ينقل عنهم ما داموا على قيد الحياة ، وهذا هو عمران بن حصين يوصي بعدم إفشاء كلامه ما دام حيّا.

ص : 450


1- صحيح مسلم : 4 / 48 ، باب في متعة الحجّ والعمرة.
2- الأراك موضع بعرفة قرب نمرة.
3- صحيح مسلم : 4 / 45.
4- سيوافيك البحث عن سبب استنكاره ص 452.

أخرج مسلم عن قتادة ، عن مطرّف قال : بعث إلي عمران بن حصين في مرضه الذي توفّى فيه ، فقال : إنّي محدّثك بأحاديث لعل الله ينفعك بها بعدي ، فإن عشت فأكتم عني وإن مُتُّ فحدّث بها إن شئت ، انّه قد سُلّم عليّ وأعلم انّ نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قد جمع بين حج وعمرة ثمّ لم ينزل فيها كتاب الله ولم ينه عنها نبيّ الله قال رجل فيها برأيه ما شاء. (1)

صورة ثانية

وأخرج أيضا عن مطرّف بن عبد الله بن الشّخّير ، عن عمران بن حصين قال : اعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع بين حجّ وعمرة ثمّ لم ينزل فيها كتاب ولم ينهنا عنهما رسول الله ، قال فيها رجل برأيه ما شاء. (2)

صورة ثالثة

وأخرج أيضا عن مطرّف ، قال : قال لي عمران بن حصين انّي لأُحدّثك بالحديث اليوم ينفعك الله به بعد اليوم ، وأعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أعمر طائفة من أهله في العشر فلم تنزل آية تنسخ ذلك ولم ينه عنه حتّى مضى لوجهه ، ارتأى كلّ امرئ بعد ما شاء أن يرتئي. (3)

صورة رابعة
اشارة

وأخرج البخاري عن قتادة ، قال : حدّثني مطرف عن عمران قال : تمتّعنا على عهد رسول الله فنزل القرآن ، قال رجل برأيه ما شاء. (4) فان قول عمران بن

ص : 451


1- . صحيح مسلم : 4 / 48 ، باب جواز التمتع.
2- . صحيح مسلم : 4 / 48 ، باب جواز التمتع.
3- صحيح مسلم : 4 / 47 ، باب جواز التمتع.
4- صحيح البخاري : 2 / 144 باب التمتع.

حصين فإن عشت فاكتم عنّي وإن مت فحدث بها إن شئت ، أو قوله : « قال رجل فيها برأيه ما شاء » يعرب عن وجود ضغط وكبت من جانب الخليفة في المسألة.

ثمّ إنّ السبب لنهي الخليفة عن متعة الحجّ أحد أمرين :

الأوّل : كراهته أن يكون الحجّاج معرسين بهن في الأراك ثمّ يروحون إلى الحج ورءوسهم تقطر ماء.

قال أبو حنيفة عن حمّاد ، عن إبراهيم النخعي ، عن الأسواد بن يزيد قال : بينما أنا واقف مع عمر بن الخطاب بعرفة عشية عرفة ، فإذا هو برجل مرجّل شعره ، يفوح منه ريح الطيب ، فقال له عمر : أمحرم أنت؟ قال : نعم ، فقال عمر : ما هيأتك بهيئة محرم ، إنّما المحرم ، الأشعث ، الأغبر ، الأذفر ، قال : إنّي قدمت متمتّعا وكان معي أهلي وإنّما أحرمت اليوم ، فقال عمر عند ذلك : لا تتمتعوا في هذه الأيام ، فإنّي لو رخصت في المتعة لعرسوا بهنّ في الأراك ثمّ راحوا بهنّ حجاجا. (1)

روى سعيد بن المسيب : انّ عمر بن الخطاب نهى أنّ المتعة في أشهر الحجّ ، وقال : فعلتها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أنهى عنها ، وذلك أنّ أحدكم يأتي من أفق من الآفاق شعثا نصبا معتمرا في أشهر الحج وإنّما شعثه ونصبه وتلبيته في عمرته ثمّ يقدم فيطوف بالبيت ويحلّ ويلبس ويتطيّب ويقع على أهله إن كانوا معه حتّى إذا كان يوم التروية أهلّ بالحج وخرج إلى منى يلبّي بحجة لا شعث فيها ولا نصب ولا تلبية إلاّ يوما ، والحجّ أفضل من العمرة ، لو خلّينا بينهم وبين هذا لعانقوهنّ تحت الأراك مع أنّ أهل البيت ليس لهم ضرع ولا زرع ، وإنّما ربيعهم فيمن يطرأ عليهم. (2)

ص : 452


1- زاد المعاد : 1 / 214 ، ط مصر ، المطبعة المصرية.
2- كنز العمال : 5 / 164 رقم 12477.

الثاني : خوف تسرب الفقر إلى سكان البيت حيث ليس لهم ضرع ولا زرع فمنع عن الجمع بين العمرة والحجّ حتّى يتقاطر الحاج في عامة الشهور إلى البلد الأمين ، ولأجل هذه الغاية منع عن الجمع حتّى يكون الحجّ في عام والعمرة في عام آخر بإنشاء سفر مستقل لكلّ واحد.

روى أبو نعيم في « حلية الأولياء » : انّ عمر بن الخطاب نهى عن المتعة في أشهر الحجّ ، وقال : فعلتها مع رسول الله وأنا أنهى عنها وذلك : انّ أحدكم يأتي من أفق من الآفاق شعثا نصبا معتمرا أشهر الحجّ وإنّما شعثه ونصبه وتلبيته في عمرته ثمّ يقدم فيطوف بالبيت ويحل ويلبس ويتطيّب ويقع على أهله إن كانوا معه حتّى إذا كان يوم التروية أهلّ بالحج وخرج إلى منى يلبي بحجّة لا شعث فيها ولا نصب ولا تلبية إلاّ يوما ، والحجّ أفضل من العمرة ، لو خلّينا بينهم وبين هذا لعانقوهن تحت الأراك وإنّ أهل هذا البيت ( أي أهل مكة ) ليس لهم ضرع ولا زرع وإنّما ربيعهم في من يطرأ عليهم. (1) وقد مرّ ما يؤيّده من رواية سعيد بن المسيب.

هذا وانّه سبحانه نقل دعاء الخليل حيث سأله سبحانه أن يرزق سكنة مكة من الثمرات وقال ( رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ). (2)

وقد استجاب سبحانه لدعاء أبيهم إبراهيم ، يقول سبحانه : ( وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ

ص : 453


1- حلية الأولياء : 5 / 205.
2- إبراهيم : 37.

شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ). (1) وعندئذ فلا حاجة للمنع عن السنّة النبوية بغية توفير أرزاقهم.

ولعمر الحقّ انّ هذه الأعذار لا تبرّر تغيّر الشريعة وتبديلها والمنع من المناسك التي شرعها سبحانه وبلغها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، وصاحب الشريعة أعرف بمصالح المسلمين ومصالح سدنة مكة وسكنتها.

وقد بلغ منع الخليفة عن متعة الحجّ حتّى قال في بعض خطبه : « متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما : متعة الحجّ ومتعة النساء » وفي لفظ الجصاص : لو تقدمت فيها لرجمت. وفي رواية أخرى : أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما : متعة النساء ومتعة الحجّ. (2)

حجّ التمتع على عهد عثمان

وقد اتّبع عثمان سلفه فيما أبدع وأحدث في المناسك فقد منع من الجمع بين العمرة والحجّ.

روى ابن حزم انّ عثمان بن عفان سمع رجلا يحلّ بعمرة وحجّ فقال : عليّ بالمهلّ ، فضربه وحلقه. (3)

ص : 454


1- القصص : 57.
2- البيان والتبيين : 2 / 193 ، أحكام القرآن : 1 / 290 _ 293 ، الجامع لأحكام القرآن : 2 / 261 ، زاد المعاد : 2 / 184 ، ط مصر.
3- المحلى : 7 / 107 ، ط منشورات دار الآفاق الجديدة ، بيروت.
السادس : الصحابة وتحريم متعة الحج
اشارة

قد استنكر لفيف من الصحابة عمل الخليفة وتحريمه متعة الحج بحماس نذكر منهم بعضهم :

1. الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

قد كان الإمام أمير المؤمنين يكافح البدع والمحدثات الطارئة على الشريعة بحماس ولا يعير أهمية لنهي الناهي مهما كان له السطوة والشوكة.

1. روى البخاري عن مروان بن الحكم قال : شهدت عثمان وعليا ، وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما ، فلمّا رأى علي ، أهلّ بهما ، لبّيك بعمرة وحجة ، قال : ما كنت لأدع سنّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقول أحد. (1)

2. أخرج البخاري عن سعيد بن المسيب قال : اختلف عليّ وعثمان وهما بعُسفان ، في المتعة ، فقال علي : ما تريد إلاّ أن تنهى عن أمر فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلمّا رأى ذلك عليّ أهلّ بهما جميعا. (2)

3. روى مالك في « الموطأ » : انّ المقداد بن الأسود دخل على عليّ عليه السلام

ص : 455


1- صحيح البخاري : 2 / 142 ، باب التمتع والإقران والإفراد بالحج.
2- صحيح البخاري : 2 / 143 ، باب التمتع.

بالسهيا وهو ينجع بكرات له دقيقا وخبطا ، فقال : هذا عثمان بن عفان ينهى أن يقرن بين الحج والعمرة ، فخرج علي عليه السلام وعلى يديه أثر الدقيق والخبط فما أنسى أثر الدقيق والخبط على ذراعيه ، حتّى دخل على عثمان فقال : أنت تنهى عن أن يقرن بين الحجّ والعمرة ، فقال عثمان : ذلك رأيي ، فخرج علي عليه السلام مغضبا وهو يقول : لبيك اللهم لبيك بحجة وعمرة معا. (1)

4. عن سعيد بن المسيب قال : حجّ علي وعثمان فلمّا كنّا ببعض الطريق نهى عثمان عن التمتع ، فقال علي : إذا رأيتموه قد ارتحل فارتحلوا ، فلبّى علي وأصحابه بالعمرة ، فلم ينههم عثمان ». (2)

5. روى عبد الله بن الزبير ، قال : أنا والله لمع عثمان بالجحفة ومعه رهط من أهل الشام وفيهم حبيب بن مسلمة الفهري ، إذ قال عثمان وذكر له التمتع بالعمرة إلى الحجّ : أن أتمّوا الحجّ وخلّصوه في أشهر الحجّ ، فلو أخّرتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين كان أفضل ، فإنّ الله قد وسع في الخير.

فقال له علي : « عمدت إلى سنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورخصة رخّص للعباد بها في كتابه ، تضيق عليهم فيها وتنهى عنها ، وكانت لذي الحاجة ولنائي الدار » ، ثمّ أهلّ بعمرة وحجّة معا ، فأقبل عثمان على الناس.

فقال : وهل نهيت عنها؟ إنّي لم أنه عنها إنّما كان رأيا أشرت به ، فمن شاء أخذ به ، ومن شاء تركه.

قال : فما أنسى قول رجل من أهل الشام مع حبيب بن مسلمة : انظر إلى هذا كيف يخالف أمير المؤمنين؟ والله لو أمرني لضربت عنقه ، قال : فرفع « حبيب »

ص : 456


1- موطإ مالك : 336 ، باب القران في الحج ، الحديث 40.
2- سنن النسائي : 5 / 152 ، كتاب الحجّ باب حج التمتع ، مستدرك الصحيحين : 1 / 472.

يده فضرب بها في صدره وقال : اسكت فإنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعلم بما يختلفون فيه. (1)

2. عبد الله بن عمر
اشارة

ولم يكن عليّ عليه السلام هو الوحيد بين الصحابة في الاستنكار _ وإن كان وحيدا في شدة استنكاره _ بل كان هناك من يستنكر التحريم بين الفينة والأخرى ، روى القرطبي في تفسيره عن سالم قال : إنّي لجالس مع ابن عمر في المسجد إذ جاءه رجل من أهل الشام فسأله عن التمتّع بالعمرة إلى الحجّ ، فقال ابن عمر : حسن جميل ، قال : فإنّ أباك كان ينهى عنها ، فقال : ويلك فإن كان أبي نهى عنها وقد فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمر به أفبقول أبي آخذ أم بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! قم عنّي. (2)

وسئل عبد الله بن عمر عن متعة الحج؟ قال : هي حلال ، فقال له السائل : إنّ أباك قد نهى عنها ، فقال : أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أأمر أبي يتبع أم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! فقال الرجل : بل أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : لقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (3)

صورة ثانية

قال سالم : سئل ابن عمر عن متعة الحجّ فأمر بها فقيل له : إنّك تخالف أباك؟ قال : إنّ أبي لم يقل الذي تقولون إنّما قال : أفردوا العمرة من الحجّ ، أي انّ العمرة لا تتم في شهور الحجّ إلاّ بهدي وأراد أن يزار البيت في غير شهور الحجّ ، فجعلتموها أنتم حراما وعاقبتم الناس عليها ، وقد أحلّها الله عزّ وجلّ وعمل بها

ص : 457


1- جامع العلم : 270 ، طبع دار الكتب الحديثة ، مصر.
2- تفسير القرطبي : 2 / 388.
3- سنن الترمذي : 3 / 186 برقم 824.

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : فإذا أكثروا عليه. قال : أفكتاب الله عزّ وجلّ أحقّ أن يتبع أم عمر؟! (1)

صورة ثالثة

قال سالم : كان عبد الله بن عمر يفتي بالذي أنزل الله عزّ وجلّ من الرخصة في التمتع وسنّ فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فيقول ناس لعبد الله بن عمر : كيف تخالف أباك وقد نهى عن ذلك؟!

فيقول لهم عبد الله : ويلكم ، ألا تتقون الله؟ أرأيتم إن كان عمر نهى عن ذلك يبتغي فيه الخير ويلتمس فيه تمام العمرة فلم تحرّمون وقد أحلّه الله وعمل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ أفرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحقّ أن تتّبعوا سنّته أو عمر؟! إنّ عمر لم يقل لك : إنّ العمرة في أشهر الحجّ حرام ولكنّه قال : إن أتمّ العمرة أن تفردوها من أشهر الحجّ. (2)

3. استنكار ابن عباس

وممّن استنكر عمل الخليفة ومن لفّ لفّه ، حبر الأمّة عبد الله بن عباس رضي الله عنه. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : تمتّع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال عروة : نهى أبو بكر وعمر عن المتعة ، فقال ابن عباس : ما يقول عريّة؟! (3) قال : نقول نهى أبو بكر وعمر عن المتعة ، فقال ابن عباس : أراهم سيهلكون ، أقول قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقولون : قال أبو بكر وعمر. (4)

ص : 458


1- السنن الكبرى : 5 / 21.
2- السنن الكبرى : 5 / 21.
3- مصغّر عروة.
4- مسند أحمد : 1 / 337.
4. استنكار أبي بن كعب

وممّن استنكر تحريم المتعة ولم ير نهي الخليفة صالحا للأخذ هو الصحابي العظيم : أبي بن كعب أخرج السيوطي عن مسند ابن راهويه وأحمد انّ عمر بن الخطاب همّ أن ينهى عن متعة الحجّ فقام إليه أبي بن كعب فقال : ليس ذلك لك ، قد نزل بها كتاب الله واعتمرناها مع رسول الله ، فنزل عمر. (1)

5. استنكار سعد بن أبي وقاص

إنّ سعد بن أبي وقاص كان ممّن يعظّمه عمر بن الخطاب ويحترمه وكان يأمر ابنه عبد الله باتّباعه ، وقد أنكر تحريم متعة الحجّ. أخرج الإمام مالك عن محمد بن عبد الله بن حارث ، أنّه حدّثه : أنّه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وممّا يذكر انّ التمتع بالعمرة أي الحج ، فقال الضحاك بن قيس : لا يفعل ذلك إلاّ من جهل أمر الله عزّ وجلّ ، فقال سعد : بئس ما قلت يا ابن أخي ، فقال الضحاك : فان عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك ، فقال سعد : قد صنعها رسول الله وصنعناها معه. (2)

عن محمد بن عبد الله بن نوفل قال : سمعت عام حجّ معاوية يسأل سعد بن مالك كيف تقول بالتمتع بالعمرة إلى الحجّ؟ قال : حسنة جميلة ، قال : قد كان عمر ينهى عنها فأنت خير من عمر؟! قال : عمر خير مني وقد فعل ذلك النبي وهو خير من عمر. (3)

ص : 459


1- الدر المنثور : 1 / 520 ، ط دار الفكر.
2- الموطأ : 294 ، برقم 63 ، باب ما جاء في التمتع ؛ زاد المعاد : 1 / 179 ط مصر.
3- سنن الدارمي : 2 / 36 ، ط دار الفكر.
6. عمران بن حصين
اشارة

قد استنكر عمران بن حصين تحريم متعة الحج وأوصى في أخريات عمره وفي المرض الذي توفّى فيه أن يُحدّث عنه : انّ نبي الله جمع بين حجّ وعمرة ثمّ لم ينزل فيها كتاب الله ولم ينه عنها نبي الله وإنّما نهى عنها رجل برأيه ، دون دليل في كتاب الله وسنّة رسوله. (1)

وقد توالى الاستنكار في العهود اللاحقة وإن كان المرتقون على صهوات الحكم مصرّين على اتّباع السلف إلى أن زالت الحكومة الأموية وأخذ بنو عباس بزمام الحكم ، فانتشر القول بجواز التمتع بالعمرة إلى الحجّ ، وذلك لأنّ الجواز موقف جد العباسيّين فرفعوا الحرج عن المسلمين ، وتبنّى أحمد بن حنبل في عهدهم دخولها في الحج ، وذاع القول به إلى يومنا هذا بين المذاهب خصوصا بين الحنابلة.

التمتّع بالعمرة إلى الحج وشروطه

قد عرفت أنّ حجّ التمتّع عبارة عن الإهلال بالعمرة ثمّ الإهلال بعد الإتيان بها ثمّ الإحرام إلى الحجّ ، وإليه يشير قوله سبحانه ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ).

قال القرطبي : التمتّع بالعمرة إلى الحجّ عند العلماء على أربعة أوجه منها وجه واحد مجتمع عليه ، والثلاثة مختلف فيها.

فأمّا الوجه المجتمع عليه فهو التمتع المراد بقول الله جلّ وعز : ( فَمَنْ تَمَتَّعَ

ص : 460


1- صحيح مسلم : 4 / 48 ، باب جواز التمتع.

بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) وذلك أن يحرم الرجل بعمرة في أشهر الحجّ وأن يكون من أهل الآفاق ، وقدم مكة ففرغ منها ثمّ أقام حلالا بمكة إلى أن أنشأ الحجّ منها في عامه ذلك قبل رجوعه إلى بلده ، أو قبل خروجه إلى ميقات أهل ناحيته ، فإذا فعل ذلك كان متمتعا وعليه ما أوجب الله على المتمتع ، وذلك ما استيسر من الهدي يذبحه ويعطيه للمساكين بمنى أو بمكة ، فإن لم يجد صام ثلاثة أيّام ، وسبعة إذا رجع إلى بلده ، وليس له صيام يوم النحر بإجماع من المسلمين واختلف في صيام أيّام التشريق.

فهذا إجماع من أهل العلم قديما وحديثا في المتعة ، ورابطها ثمانية شروط :

الأوّل : أن يجمع بين الحجّ والعمرة.

الثاني : في سفر واحد.

الثالث : في عام واحد.

الرابع : في أشهر الحجّ.

الخامس : تقديم العمرة.

السادس : لا يمزجها ، بل يكون إحرام الحجّ بعد الفراغ من العمرة.

السابع : أن تكون العمرة والحجّ عن شخص واحد.

الثامن : أن يكون من غير أهل مكة.

وتأمّل هذه الشروط فيما وصفنا من حكم التمتع تجدها. (1)

وهذا هو الذي منع عنه بعد رحيل الرسول ، لا غير.

ونهى عنه عمر بن الخطاب وتبعه عثمان ومعاوية ومن بعدهم.

ص : 461


1- الجامع لأحكام القرآن : 2 / 391.
السابع : التبريرات المختلقة للحظر المفروض
اشارة

لمّا كان النهي عن متعة الحجّ ، يضاد صريح الكتاب ، وعمل النبي وسنّته ، وعمل أكابر أصحابه ، حاول غير واحد تأويل النهي ، بوجوه نذكر منها وجهين :

1. فسخ الحجّ إلى العمرة

ربما يقال : انّ المنهي ، هو فسخ الحجّ إلى العمرة التي يأتي بعدها فمن أحرم للحجّ ، فله أن يأتي بأعماله ثمّ ينشئ إحراما آخر للعمرة ، فليس له أن يعدل عن حجّ القران إلى حجّ التمتع ، وهذا هو الذي ينقله بدر الدين العيني الحنفي عن بعضهم ، وإليك نصّه : قال عياض وغيره جازمين بأنّ المتعة التي نهى عنها عمر وعثمان هي فسخ الحجّ إلى العمرة ، لا العمرة التي يحجّ بعدها.

ولمّا كان التأويل بمكان من الوهن _ حيث تدفعه النصوص السابقة عن جابر وابن عباس وعمران بن حصين وسعد بن أبي وقاص ، كما تدفعه نصوص العلماء على أنّ المنهي عنه هو الجمع بين العمرة والحجّ _ ردّ عليه بدر الدين الحنفي وقال : قلت : يرد عليهم ما جاء في رواية مسلم في بعض طرقه التصريح بكونه متعة الحجّ ، وفي رواية له انّ رسول الله أعمر بعض أهله في العشر ، وفي رواية : جمع بين حج وعمرة ، ومراده التمتع المذكور وهو الجمع بينهما في عام

ص : 462

واحد. (1)

قلت : ويخالف هذا التأويل ، كلمات المحرّم :

الف : أنّي أخشى أن يعرّسوا بهن في الأراك ثمّ يروحوا بهنّ حجاجا.

ب : انّي لو رخصت في المتعة لهم لعرسوا بهن في الأراك ثمّ راحوا بهنّ حجاجا.

ج. كرهت أن يكونوا معرسين بهنّ في الأراك ثمّ يروحون في الحج تقطر رءوسهم.

د : انّ أهل البيت ليس لهم ضرع ولا زرع وإنّما ربيعهم في من يطرأ عليهم.

فان هذه الكلمات صريحة في أنّ النهي عن الجمع بين العمرة والحج ، بل ليس للوافد إلاّ الحجّ ، ثمّ الإتيان بالعمرة في العام المقبل ، لاستكراهه التعرس بالنساء بين العملين أو ليفيض الزائر في عامة الشهور إلى مكة المكرمة.

2. اختصاص التمتّع بالصحابة

إنّ في الفقه الإسلامي بابا باسم خصائص النبي والأمور أو الأحكام المختصة به ، وقد ذكرها العلامة الحلّي برمّتها في كتاب « تذكرة الفقهاء » أوائل كتاب النكاح ولم تسمع إذن الدنيا ، خصائص الصحابة وانّ لهم خصائص كخصائص النبي مع أنّ حكمه صلى الله عليه وآله وسلم على الأوّلين كحكمه على الآخرين ، وحلال محمّد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة.

لكن لما كان تحريم التمتع ، والمنع عن الجمع بين العمرة والحجّ ، يضاد الكتاب والسنّة القطعية حاول بعضهم تأويله قائلاً بأنّ الجمع بينهما من

ص : 463


1- عمدة القارئ في شرح صحيح البخاري : 4 / 568.

خصائص أصحاب النبي ، حتّى عزوه إلى أبي ذر ، حسب ما رواه مسلم.

أخرج مسلم عن أبي ذر انّه قال : كانت متعة الحجّ لأصحاب محمد خاصّة. (1)

وفي رواية أخرى : لا تصلح المتعتان إلاّ لنا خاصة يعني : متعة النساء ومتعة الحجّ. (2)

وقد أيّدوه ببعض الآثار التي قال في حقّها ابن قيم الجوزية : إنّ تلكم الآثار الدالّة على الاختصاص بالصحابة بين باطل لا يصحّ عمّن نسب إليه البتة ، وبين صحيح عن قائل غير معصوم لا يعارض به نصوص المشرّع المعصوم. (3)

وفي صحيح الشيخين وغيرهما عن سراقة بن مالك قال : متعتنا هذه يا رسول الله لعامنا هذا أم لا بد؟ قال : لا بل لا بد أبد.

وفي صحيحة أخرى عن سراقة : قام رسول الله خطيبا فقال : ألا إنّ العمرة قد دخلت في الحجّ إلى يوم القيامة. (4)

وقد مرّ نقل البخاري انّ العرب كانت تعدّ العمرة في أشهر الحجّ قبل الإسلام من أفجر الفجور ، وقد نهض النبي بأمر من الله بإعادة السنّة الإبراهيمية إلى الساحة ، فاعتمر أربع عمر كلّها في أشهر الحجّ.

3. عزوه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطروء النسيان على الصحابة

قد تعرفت على مدى صحة التأويلين السابقين وبعدهما عن النصوص الواردة في الموضوع فهلم معي نقرأ ما انتحله ابن أبي سفيان حيث نسب النهي عن

ص : 464


1- . الجمع بين الصحيحين : 1 / 271 رقم 368.
2- . الجمع بين الصحيحين : 1 / 271 رقم 368.
3- زاد المعاد : 1 / 207.
4- مسند أحمد : 4 / 175 ، سنن البيهقي : 4 / 352.

الجمع بين العمرة والحجّ إلى رسول الله ، ولما سأل أصحاب النبي عن هذا النهي وواجه استنكارهم له ، رماهم بالنسيان.

أخرج أبو داود عن معاوية بن أبي سفيان انّه قال لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل تعلمون انّ رسول الله نهى عن كذا أو كذا ، وركوب جلود النمور؟ قالوا : نعم ، قال : فتعلمون انّه نهى ان يقرن بين الحجّ والعمرة؟ فقالوا : أمّا هذا فلا ، فقال : أما إنّها معهن ولكن نسيتم. (1)

ولو كان المسئول شخصا أو شخصين من أصحاب النبي لكان احتمال تطرق النسيان إليه أو إليهما مبرر ، ولكنّه سأل أصحاب النبي ، الظاهر في أنّ المسئول كان جماعة كثيرة ، فهل يحتمل أن يتسرب النسيان إلى هؤلاء ، الذين طالت صحبتهم مع النبي ولا يذكره إلاّ ابن أبي سفيان الذي أسلم عام الفتح وقصرت صحبته وقلّ سماعه؟!

كيف وقد كان مع النبي ألوف من الصحابة رأوا بأمّ أعينهم عمل النبي وقوله وحثّه وترغيبه إلى الجمع بين العمرة والحجّ ، والإحلال بينهما من المحظورات.

قال ابن قيم : لما عزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الحج علم الناس انه حاج فتجهّزوا للخروج معه ، وسمع بذلك مَنْ حول المدينة فقدموا يريدون الحج مع رسول الله ووافاه في الطريق خلائق لا يحصون ، فكان من بين يده ومن خلفه وعن يمينه وشماله مدّ البصر. (2)

ص : 465


1- سنن أبي داود : 2 / 157 رقم الحديث 1794.
2- زاد المعاد : 1 / 175 ، طبع مصر.
خاتمة المطاف في أمور :

الأوّل : اتّفقت كلمة شرّاح الصحيحين على أنّ المراد من « رجل » في قوله : « وقال رجل برأيه » هو عمر بن الخطاب ، قال القسطلاني في شرح قوله : « قال رجل برأيه ما يشاء » هو عمر بن الخطاب لا عثمان بن عفان ، لأنّ عمر أوّل من نهى عنها فكان من بعده تابعا له في ذلك.

ففي صحيح مسلم انّ ابن الزبير كان ينهى ، وابن العباس يأمر بها فسألوا جابرا فأشار إلى أنّ أوّل من نهى عنها عمر. (1)

وقال النووي في شرح صحيح مسلم : هو عمر بن الخطاب ، لأنّه أوّل من نهى عن المتعة ، فكان من بعده من عثمان وغيره تابعا له. (2)

الثاني : أخرج مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي موسى قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثني إلى اليمن فوافقته في العام الذي حجّ فيه ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا أبا موسى كيف قلت حين أحرمت؟ قال : قلت : لبيك إهلالا كإهلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : هل سقت هديا؟ فقال : لا ، قال : فانطلق فطف بالبيت وبين الصفا والمروة ثمّ أحل. (3)

ص : 466


1- إرشاد الساري : 4 / 169.
2- شرح النووي : 8 / 451.
3- شرح صحيح مسلم للنووي : 8 / 450.

هنا سؤال هو انّ علي بن أبي طالب وأبا موسى علّقا إحرامهما بإحرام النبي ، فأمر عليّا بالدوام على إحرامه ، وأمر أبا موسى بجعله عمرة فما هو الفارق بين الإحرامين؟

أقول : قد أجاب عنه النووي في شرحه وقال : إنّ عليّا كان معه هدي كما كان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الهدي فبقي على إحرامه كما بقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكلّ من معه هدي ، وأبو موسى لم يكن معه هدي فتحلّل بعمرة كمن لم يكن معه هدي ولو لا الهدي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لجعلها عمرة. (1)

الثالث : انّ في حظر متعة الحجّ لعبرة لمن سبر التأريخ ، وحاول الوقوف على الوقائع التي جرت فيه ، فهذا هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد حجّ ومعه آلاف من أصحابه ومن تبعه من الأعراب حيث أمر فيه بإدخال العمرة في الحجّ والإحلال بينهما وقد شهد به الكبير والصغير والداني والنائي ، وبالرغم من ذلك فقد غلب منطق القوة على قوة المنطق عقب رحيله حتى صار التمتع بالعمرة إلى الحجّ من المحرمات التي يعاقب عليها مرتكبها أشدّ العقوبة ، مع أنّ هذه المسألة لم تكن مصدر تهديد للسلطات الحاكمة.

فإذا كان هذا هو حالها فما ظنك بالمسائل السياسية التي تهدّد المنافع الشخصية للبعض ، فلا غرو في أن يقف أصحاب الآراء والأهواء بوجه الحقّ الذي أمر به النبي.

وبذلك يسهل على القارئ الكريم الوقوف على مغزى مخالفة بعض الصحابة للحقّ المشروع لعلي عليه السلام في الخلافة.

ص : 467


1- شرح صحيح مسلم : 8 / 450.

إنّ كثيرا من الباحثين من أهل السنّة يأوّلون ما ورد من النصوص حول خلافة الإمام أمير المؤمنين في أوائل البعثة وأواسطها وأواخرها ويفسرونها بالدعوة إلى نصرة علي ومحبّته ، يقول الشيخ سليم البشري شيخ الأزهر في وقته في رسالته إلى السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي :

إنّ أولي البصائر النافذة والرؤية الثاقبة ينزّهون الصحابة عن مخالفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شيء من ظواهر أوامره ونواهيه ولا يجوّزون عليهم غير التعبّد بذلك ، فلا يمكن أن يسمعوا النص على الإمام ثمّ يعدلوا عنه أوّلا وثانيا وثالثا ، وكيف يمكن حملهم على الصحّة في عدولهم عنه مع سماعهم النصّ عليه؟ ما أراك بقادر على أن تجمع بينهما. (1)

وما ذكره شيخ الأزهر نابع من حسن ظنه بالصحابة كافة ، ولكن لو سبر أخبارهم لوقف على أنّهم خالفوا النصوص في موارد كثيرة ، ومنها متعة الحجّ على الرغم من أنّها لم تشكّل تهديدا لمصالحهم بل كانت مجرد استهجان للتحلّل بين العمرة والحجّ.

وأمّا النصوص التي تتعرض لمصالحهم الشخصية ، فقد كانوا يخالفونها في حياته فكيف بعد رحيله؟! والموارد التي لم يتعبّد السلف من الصحابة بالنصوص فيها أكثر من أن تذكر في ذلك المجال ، وكفانا في ذلك ما قام به السيد شرف الدين العاملي في كتابه القيّم « النص والاجتهاد » فقد جمع شطرا وافرا من اجتهادات الصحابة مقابل النص ، وقد أنهاها إلى 66 موردا ، نقتصر منها على هذا النموذج :

ص : 468


1- المراجعات : ص 234 ، المراجعة 83.

رزية يوم الخميس التي حيل فيها بين النبي وما كان يرومه من كتابة أمر بالغ الأهمية ، فإنّها من أشهر القضايا وأكبر الرزايا أخرجها أصحاب الصحاح والسنن ونقلها الإمام البخاري في صحيحه ، بسنده إلى عبيد الله بن عتبة ابن مسعود عن ابن عباس ، قال : لمّا حضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : هلمّ أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده ، فقال عمر : إنّ النبي قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله ، فاختلف أهل البيت فاختصموا ، منهم من يقول : قرّبوا يكتب لكم النبي كتابا لا تضلّوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي ، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قوموا ، فكان ابن عباس يقول : إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. (1)

ويكشف عن ذلك الحوار الذي جرى بين الخليفة وابن عباس الذي نقله على وجه التفصيل شارح نهج البلاغة ابن أبي الحديد في شرحه ، يقول :

قال عمر بن الخطاب لابن عباس : يا ابن عباس أتدري ما منع الناس منكم؟ قال : لا ، يا أمير المؤمنين.

قال : لكنّي أدري.

قال : ما هو ، يا أمير المؤمنين؟

قال : كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة ، فتُجْحفوا الناس جحفا ، فنظرت قريش لأنفسها فاختارت ، ووفقت فأصابت. (2)

ص : 469


1- صحيح البخاري : 1 / 30 ، باب كتابة العلم.
2- شرح نهج البلاغة : 12 / 53 ، في شرح قوله : لله بلاد فلان.

وبما انّ المقام لا يقتضي التبسّط فلنقتصر على ذلك.

الرابع : المعروف انّ الخليفة حرم متعة الحجّ لاستلزامه التحلّل بين العمرة والحجّ ، وهذا ممّا كان يستهجنه الخليفة ويعرب عنه قوله :

« إنّي أخشى أن يعرّسوا بهنّ تحت الأراك ثمّ يروحوا بهنّ حجّاجا » ، وقوله : « كرهت أن يظلّوا معرسين بهنّ ثمّ يروحون في الحجّ تقطر رءوسهم ».

وعلى ذلك فقد رخص في الإفراد والقران ، أمّا الفارد فلأنّ العمرة يؤتى بها بعد الحجّ ، وأمّا القران فان الحاج بما انّه يهل بالعمرة والحجّ معا فلا يتحلّل بين العملين.

ولكنّه بالنسبة إلى سائر أقواله فقد منع عن حجّ القران أيضا ، وذلك لأنّه كان يصر بفصل الحجّ عن العمرة مستدلا بأنّه ليس لأهل هذا البلد ضرع ولا زرع. (1) وكان ينادي بقوله : « فافصلوا حجّكم عن عمرتكم فإنّه أتم لحجّكم وأتمّ لعمرتكم » (2) ومعنى ذلك حرمان أكثر الناس من العمرة التي دعا إليها سبحانه بقوله ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ) ، إذ ربما لا تتهيّأ الأسباب لإقامة الآفاقي في مكة المكرمة حتّى يحول الحول فيأتي بالعمرة نزولا لنهي الخليفة.

وما أبعد عمل الخليفة وما يرويه ابن عباس ، ويقول : والله ما أعمر رسول الله عائشة في ذي الحجّة إلاّ ليقطع بذلك أمر أهل الشرك ، وقال كانوا يرون أنّ العمرة في أشهر الحجّ من أفجر الفجور في الأرض. (3)

الخامس : قد روي عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام ما مرّ من احتدام النزاع بين

ص : 470


1- . مرّ كلامه ص 408 ، 410 ، 411.
2- . مرّ كلامه ص 408 ، 410 ، 411.
3- صحيح البخاري : 3 / 69.

النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولفيف من صحابته في إدخال العمرة في الحجّ والتحلّل بعد الأولى.

روى الشيخ الطوسي بسند صحيح عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال : « لمّا فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من سعيه بين الصفا والمروة أتاه جبرئيل عليه السلام عند فراغه من السعي وهو على المروة ، فقال : إنّ الله تعالى يأمرك أن تأمر الناس أن يحلّوا إلاّ من ساق الهدي. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الناس بوجهه ، فقال : يا أيّها الناس هذا جبرئيل _ وأشار بيده إلى خلفه _ يأمرني عن الله عزّ وجلّ أن آمر الناس أن يحلّوا إلاّ من ساق الهدي فآمرهم بما أمر الله به.

فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نخرج إلى منى ورءوسنا تقطر من النساء. وقال آخرون : يأمرنا بشيء ويصنع هو غيره. فقال : « يا أيّها الناس لو استقبلت من أمري ما استدبرت صنعت كما صنع الناس ، ولكنّي سقت الهدي ولا يحلّ من ساق الهدي حتّى يبلغ الهدي محلّه » فقصر الناس وأحلّوا وجعلوها عمرة.

فقام إليه سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال : بل للأبد إلى يوم القيامة وشبّك بين أصابعه. وأنزل الله تعالى في ذلك قرآنا ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) (1). (2)

السادس : انّ رسول الله أقام بالمدينة عشر سنين فلما نزل قوله سبحانه : ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) (3)

ص : 471


1- البقرة : 196.
2- التهذيب : 5 / 30 ، باب ضروب الحجّ ، الحديث 3.
3- الحج : 27.

أمر المؤذنين أن يؤذنوا بأعلى أصواتهم بأنّ رسول الله يحجّ في عامه هذا فاتبعه من حضر المدينة وأهل العوالي والاعراب.

واختلفت كلمة أهل السنّة في كيفية حجّه إلى أقوال ووجوه :

1. انّه صلى الله عليه وآله وسلم كان قارنا لا مفردا. وهذا خيرة ابن قيم الجوزية ، وأقام على مختاره ما يربو على 21 دليلا. (1)

2. انّه صلى الله عليه وآله وسلم حجّ حجّا مفردا لم يعتمر فيه واحتجّوا برواية عائشة في الصحيحين انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهل بالحجّ.

3. انّه صلى الله عليه وآله وسلم حجّ متمتّعا تمتعا حلّ فيه من إحرامه ثمّ أحرم يوم التروية بالحجّ مع سوق الهدي.

4. حجّ متمتعا تمتعا لم يحل منه لأجل سوق الهدي.

هذه الوجوه ذكرها ابن قيم الجوزية وبسط الكلام في أدلّة القائلين ونقدها. (2) وأمّا ما هو الحقّ حسب روايات أئمّة أهل البيت عليهم السلام فموكول إلى محلّه وقد استدلّ صاحب الحدائق على أنّه لم يكن متمتعا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ». (3)

( إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ

قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ). (4)

ص : 472


1- زاد المعاد 1 / 216 _ 220.
2- لاحظ زاد المعاد : 1 / 222 _ 232.
3- الحدائق : 14 / 313.
4- سورة ق : 37.

12. متعة النساء أو الزواج المؤقت

اشارة

ص : 473

ص : 474

تمهيد: الغريزة الجنسية بين التحديد والإباحة الغربية

أنّ العلاقة الجنسية علاقة طبيعية راسخة في وجود كلّ إنسان في مقطع زمنيّ خاص ، بنحو لا تجد لها مثيلا في سائر العلاقات ، وفي ظلّها تنفتح مشاعر الحب والعطف والحنان وتتعاظم المسئولية بغية إرساء دعائم الأسرة التي هي أوّل نواة المجتمع الإنساني الكبير.

أنّ تلبية الغريزة الجنسية تعدّ من حاجات الإنسان الملحّة ، ومن ضروريات الحياة ، التي لا يختلف فيه اثنان. وليست حاجته إلى الزواج بأقلّ من حاجته إلى الطعام والشراب.

أنّ الشريعة الإسلامية بما أنّها خاتمة الشرائع ، ونبيّها خاتم الأنبياء ، وكتابها خاتمة الكتب ، قد تناولت هذا الجانب من شخصية الإنسان وأشبعته بسنن وقوانين تنسجم مع سائر غرائزه الكامنة في وجوده.

وقد بلغت عناية الشريعة بالدعوة إلى تلبية الغريزة المذكورة حدا أن عدّ

ص : 475

النكاح ، سنّة إلهية والإعراض عنه إعراض عن الشريعة كما يجسّده حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « النكاح سنّتي فمن أعرض عن سنّتي فليس مني ». (1)

وهذا يعرب عن قدسية الزواج في الإسلام وانّه أرفع من أن يكون تبادلا بين الإنسان والمال كما طاب لبعض الجدد المتأثرين بالغرب أن يسمّيه. (2)

ومهما حرص الإنسان على حياة التبتّل والعزوف عن الزواج ، فإنّه يظل يشعر بفراغ كبير لا يسدّه شيء سوى الزواج.

وانطلاقا من هذه الأهمية فقد شرّع الإسلام قوانين رائعة في تنظيم الغريزة الجنسية وسوقها في الاتجاه الصحيح الذي يكفل للإنسان إشباع غريزته الجنسية ، بأسلوب يتجاوب مع سائر ميوله وغرائزه ويحفظ له كرامته وشرفه ، قال سبحانه ( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ). (3)

فقد سمح له في غير واحد من الآيات ، أن يلبّي حاجته الجنسية بطرق ثلاثة :

1. النكاح الدائم.

2. النكاح المؤقت.

3. ملك يمين.

ومهما يكن من أمر فالذي دعانا إلى عقد بحث في النكاح المؤقت هو انّ الإخلاء والألدّاء أجحفوا بحقه في كتاباتهم.

ص : 476


1- جامع أحاديث الشيعة : 25 / 38 رقم 36412.
2- الزواج المؤقت عند الشيعة للكاتبة شهلا حائري : 45.
3- النور : 32.

أمّا الألدّاء فقد نظروا إليه بعين الحقد والحسد ، نظرة الضّرة ، إلى الضّرة ، فصوّروا محاسنه معايب.

وأمّا الإخلاء فقد أكثروا فيه اللغط والتهويش ، وأخذوا بالقضاء والإبرام من دون تدبر وتبصر وعدل وإنصاف ، حتّى تجاوز بعضهم وعدّه زواجا أقرب إلى الدعارة والزنا ، ومعنى ذلك انّ صاحب الرسالة _ والعياذ بالله _ رخّص الدعارة في أيام قلائل لأصحابه لأجل إخماد نار الشهوة فيهم ( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ ).

فما تنتظر من موضوع ، خاض في تحليله وتبيينه العدو للطعن به ، والصديق للجهل بحقيقته ، أن لا تحوم حوله الشبهات. ولو أنّ الصديق درس الموضوع دراسة معمّقة ، وأحاط بما ورد فيه في الذكر الحكيم ، وأحاديث الرسول لما كان يتفوّه بتلك الكلمة القارصة.

فالذي نشير إليه في هذه العجالة ، هو انّ الإسلام عالج مشكلة الغريزة الجنسية بالدعوة إلى النكاح الدائم وجعله أساسا في حياة الإنسان ، وتلقى هذا النوع من النكاح أمرا ضروريا وطعاما روحيا لكافة بني الإنسان.

وعلى الرغم من ذلك فقد تطرأ ظروف خاصة لا يتمكن الإنسان خلالها من سلوك الطريق العام ( أي النكاح الدائم ) ، فكان لا بدّ للشريعة الإسلامية أن تقول كلمتها في هذا المضمار ، من خلال تقنين زواج خاصّ كعلاج مقطعيّ ، فمن الخطأ أن نتصور انّ دعوة الإسلام إلى الزواج المؤقت كدعوته إلى الزواج الدائم ، كلاّ ، فالزواج الدائم تلبية للحاجة الجنسية في عامة مقاطع الحياة.

وأمّا النكاح المؤقت فهو _ كما عرفت _ دواء وليس بطعام ، علاج لضروريات مقطعية يحول دون انتشار الفساد في المجتمع الإسلامي.

ص : 477

إذ ربما تطرأ على الإنسان ظروف لا يتيسر من خلالها الزواج الدائم فلا يبقى أمامه سوى الأمور الثلاثة التالية :

1. كبت جماع الشهوة.

2. التردّد على بيوت الدعارة والفساد.

3. النكاح المؤقت بالشروط التي وضعها الإسلام.

أمّا الأوّل فمن المستحيل عادة أن يصون به أحد نفسه _ إلاّ من عصمه الله _ ولا يطرق ذلك الباب إلاّ الأمثل فالأمثل من الناس وأين هو من عامة الناس؟! وأمّا الثاني ففيه _ مضافا إلى هدم الكرامة الإنسانية _ شيوع الفساد والأمراض وتداخل الأنساب فلم يبق إلاّ الطريق الثالث وهو النكاح المؤقت.

وعلى ذلك فالزواج المؤقت من أروع السنن الإسلامية التي سنّها الإسلام وأراد بها صون كرامة الإنسان.

وقد وقف الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام على عمق المشكلة ، فأدلى بكلمة قيّمة تقرع آذاننا وتحذّر المجتمع من تفاقم هذا الأمر عند إهماله لهذا العلاج ، وقال : « لو لا نهي عمر عن المتعة لما زنى إلاّ شقي أو شقية ».

وهنا كلام للمفكّر الإسلامي الشهيد المطهري يقول : « السمة المميزة لعصرنا هي اتساع المسافة الزمنية بين البلوغ الجنسي ، والنضج الاجتماعي حين يصبح بمقدور المرء تأسيس عائلة ، فهل بإمكان الشبّان قضاء فترة من التنسك المؤقت ، وتحمل قيود التقشف القاسية في انتظار تمكنهم من عقد زواج دائم.

ولنفترض انّ هناك شابا مستعدا لتحمل هذا التنسك المؤقت ، فهل ستكون الطبيعة مستعدة _ عند الامتناع عن النكاح _ بتحمل تلك العقوبات النفسية الفظيعة والخطرة التي يصاب بها الأشخاص الذين يمتنعون عن ممارسة

ص : 478

النشاطات الجنسية الغريزية كما يدل على ذلك اكتشافات علماء النفس الآن.

فعند ذاك انّ أمام الشبان خيارين :

1. إمّا اتّباع النموذج الغربي المنحطّ _ أعني : الإباحة الجنسية _ القائم على إعطاء الحرية للشبّان والشابات على قدم المساواة.

2. أو الإقرار بشرعية الزواج المؤقت المحدد ».

هذا وقد ضمّ بعض فلاسفة الغرب في العصور الأخيرة من الذين اشتهروا بالتحرر من القيود والحرية في الرأي ، أصواتهم إلى صوت الإسلام في تشريعه الخالد للنكاح المؤقت.

فهذا هو « راسل » يرى أنّ سنن الزواج قد تأخرت بغير اختيار وتدبير فان الطالب كان يستوفي علومه قبل مائة سنة أو مائتي سنة في نحو الثامنة عشرة أو العشرين فيتأهب للزواج في سن الرجولة الناضجة ، ولا يطول به عهد الانتظار إلاّ إذا آثر الانقطاع للعلم مدى الحياة ، وقلّ من يؤثر ذلك بين المئات والألوف من الشبان.

أمّا في العصر الحاضر فالطلاب يبدءون التخصص في العلوم والصنائع بعد الثامنة عشرة أو العشرين ، ويحتاجون بعد التخرج من الجامعات إلى زمن يستعدون فيه لكسب الرزق من طريق التجارة أو الأعمال الصناعية والاقتصادية. ولا يتسنّى لهم الزواج وتأسيس البيوت قبل الثلاثين ، فهناك فترة طويلة يقضيها الشابّ بين سن البلوغ وبين سن الزواج لم يحسب لها حسابها في التربية القديمة.

وهذه الفترة هي فترة النمو الجنسي ، والرغبة الجامحة ، وصعوبة المقاومة للمغريات ، فهل من المستطاع أن نسقط حساب هذه الفترة من نظام المجتمع الإنساني ، كما أسقطها الأقدمون وأبناء القرون الوسطى؟

ص : 479

يقول الفيلسوف الآنف الذكر أنّ ذلك غير مستطاع ، وأنّنا إذا أسقطناها من الحساب فنتيجة ذلك شيوع الفساد والعبث بالنسل بين الشبان والشابات ، وإنّما الرأي عنده أن تسمح القوانين في هذه السن بضرب من الزواج بين الشبان والشابات ، لا يؤدهم بتكاليف الأسرة ، ولا يتركهم لعبث الشهوات الموبقات وما يعقبه من العلل والمحرجات. وهذا ما سماه ب_ « الزواج بغير أطفال » ، وأراد أن يكون عاصما من الابتذال ومدرّبا على المعيشة المزدوجة قبل السن التي تسمح بتأسيس البيوت. (1)

ولعلّ مراده من قوله : « الزواج بغير أطفال » هو استعمال موانع الحمل ومع ذلك فالالتزام بهذا الشرط أمر ممكن ولكنّه مشكل ، وعلى فرض استعماله ، فلو أنجبا طفلا فهو ولد شرعي يلحق بالوالدين.

إنّ الاقتراح الذي عرضه الفيلسوف الإنجليزي هو ما دعا إليه الإسلام منذ أكثر من 14 قرنا ، ولكن الإسلام جعله في إطار تقنيني وتشريعي أضفى عليه مزيدا من الروعة والجمال وكمالا من حيث القيود والشروط.

هذه دراسة موجزة حول النكاح المؤقّت نقدّمها للقراء الكرام راجين أن يولوا عناية فائقة بهذا الموضوع ويتدارسوه من زوايا مختلفة حتّى تتبين لهم عظمة التشريع الإسلامي وانّ الأغيار جحدوا حقّه ، وغيرهم جهلوه وما عرفوه.

والله من وراء القصد

ص : 480


1- الفلسفة القرآنية لعباس محمود العقاد : 87 _ 88.

آراء الفقهاء في المتعة

اشارة

اتّفقت المذاهب الفقهية على أنّ متعة النساء كانت حلالا أحلّها رسول الله بوحي منه سبحانه في برهة من الزمن وإنّما اختلفوا في استمرار حليتها وكونها منسوخة أو لا؟ فالشيعة الإمامية ولفيف من الصحابة والتابعين على بقاء الحلية خلافا للمذاهب الأربعة وهي على التحريم.

ومن المعلوم انّ مسألة المتعة مسألة شائكة ، يكتنفها شيء من الغموض والإبهام ، وليس معنى ذلك أنّ المسألة تفقد الدليل الشرعي من الذكر الحكيم والسنّة المطهرة على حلّيتها بعد رحيل الرسول إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

بل يراد من الغموض ، هو أنّ الكاتب مهما كان موضوعيا ، ربما يتّهم بالانسياق وراء الشهوات عند الخوض في هذه المسائل.

هذا ، مع الاعتراف بأنّ ظاهرة المتعة ليست ظاهرة متفشية بين القائلين بحليتها _ كما يتصوّرها المغفلون _ بل تمارس في نطاق ضيق ، وفي ظروف معينة.

وتبيين الحقّ يتم ضمن أمور :

ص : 481

1. تعريفها ونبذ من أحكامها
اشارة

الزواج المؤقت عبارة عن تزويج المرأة الحرة الكاملة نفسها إذا لم يكن بينها وبين الزوج مانع _ من نسب أو سبب أو رضاع أو إحصان أو عدّة أو غير ذلك من الموانع الشرعية _ بمهر مسمّى إلى أجل مسمّى بالرضا والاتفاق ، فإذا انتهى الأجل تبين منه من غير طلاق ، ويجب عليها من الدخول بها _ إذا لم تكن يائسة _ أن تعتد عدّة الطلاق إذا كانت ممّن تحيض وإلاّ فبخمسة وأربعين يوما.

إنّ الزواج المؤقت كالزواج الدائم لا يتم إلاّ بعقد صحيح دالّ على قصد الزواج جدّا ، وكلّ مقاربة تحصل بين رجل وامرأة من دون عقد فلا تكون متعة حتّى مع التراضي والرغبة ، ومتى تم العقد كان لازما يجب الوفاء به.

نبذ من أحكامها
اشارة

إنّ أكثر المشكلات التي تثار على زواج المتعة نابعة من عدم الوقوف على حقيقتها وآثارها وأحكامها ، فنذكر شيئا موجزا منها حتّى يتبين انّ بين المتعة والسفاح بعد المشرقين.

إنّ لنكاح المتعة أحكاما مشتركة بينها وبين النكاح الدائم ، كما أنّ لها أحكاما خاصّة فقد بسطنا الكلام في كلا القسمين من أحكامها في كتابنا « نظام

ص : 482

النكاح في الشريعة الإسلامية الغرّاء » فمن أراد التفصيل فليرجع إليه. (1) فها نحن نذكر شيئا من أحكامها المشتركة والمختصة والفقيه العارف يميّز المشترك من المختص.

للنكاح المنقطع أركان أربعة :

1. الصيغة ، 2. المحل ، 3. الأجل ، 4. المهر.

الف : الصيغة

فهي الإيجاب والقبول ويكفي في الإيجاب أحد الألفاظ الثلاثة : زوجتك ومتّعتك وأنكحتك ، ويكفي في القبول كلّ لفظ دالّ على الرضا بذلك الإيجاب كقوله : قبلت النكاح أو المتعة.

ب : المحل

وهو الزوج والزوجة ويشترط فيهما ما يشترط في النكاح الدائم إلاّ ما استثني ، فيشترط أن تكون الزوجة مسلمة ويجوز أن تكون كتابية على القول الأشهر بين الفقهاء.

وأمّا المسلمة فلا تتمتع إلاّ بالمسلم خاصة.

ولا يدخل على الزوجة المنقطعة بنت أختها ، ولا بنت أخيها إلاّ بإذنها ، ولو فعل توقّف على إذنها ، فإن ردت ، بطل العقد.

ج : المهر

المهر ركن في عقد المتعة ، يبطل العقد بعدم ذكره في العقد ويشترط أن يكون

ص : 483


1- نظام النكاح : 2 / 47 _ 108.

مملوكا ، معلوما إمّا بالكيل أو الوزن أو المشاهدة والوصف.

ولو وهب الزوج ، المدة لها ، قبل الدخول لزمه النصف ، ولو دخل استقرّ المهر كله.

د : الأجل

فهو ركن من عقد المتعة ، ولو ترك الأجل فهنا قولان : بطل وقيل ينقلب العقد دائما ، ولا بد أن يكون معينا محروسا من الزيادة والنقصان.

يجوز العزل من المتمتع بها ولا يقف على إذنها خلافا للدائمة فلا يجوز العزل إلاّ بإذنها.

وتبين المتمتع بها بانقضاء الأجل ولا يقع بها طلاق ولا يتوارثان إلاّ مع الشرط في متن العقد.

المتعة كالدوام فيما يحرم بالمصاهرة ، فلو عقد على امرأة تمتعا ، حرمت عليه أمّها ، مطلقا ، وبنتها مع الدخول ، وهكذا سائر المحرمات المذكورة في باب التحريم بالمصاهرة.

وإذا دخل بها وانقضى أجلها فإن كانت من ذوات الحيض ، وجب عليها الاعتداد بحيضتين ، وإن لم تكن من ذوات الأقراء ، وهي في سنهنّ اعتدت بخمسة وأربعين يوما ، وإن لم يكن دخل بها فلا عدّة عليها.

ولو مات عنها في الأجل اعتدت بأربعة أشهر وعشرة أيّام ، سواء دخل بها أو لا إن كانت حائلا ، وقيل شهران وخمسة أيّام ، وإن كانت حاملا اعتدت بأبعد الأجلين ، ولو كانت أمة اعتدت حائلا بشهرين وخمسة أيّام. (1)

ص : 484


1- شرائع الإسلام : 2 / 307 ، تحرير الأحكام : 3 / 526.

والغرض من ذلك هو الإشارة إلى أنّ نكاح المتعة نكاح حقيقي ، وهو كالنكاح الدائم في عامّة الأحكام إلاّ ما خرج بالدليل ، وأهمّ الفروق عبارة عن :

1. الزوجة الدائمة تفارق بالطلاق وهذه تفارق بانقضاء الأجل.

2. الزوجة الدائمة ينفق عليها ، دونها.

3. الزوجة الدائمة ترث زوجها وهو يرثها ، دونها.

4. انّ الدائم إذا طلقت تعتد بثلاثة أشهر أو بثلاث حيضات وهي تعتد بحيضتين أو خمسة وأربعين يوما.

وهذه الفروق الضئيلة لا تخرجها عن كونها زوجة لها من الأحكام ما لغيرها ، مثلا يقول سبحانه ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) (1) والمزوجة متعة داخلة في قوله سبحانه ( إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ ) فهي زوجة حقيقة ، لها من الأحكام ما للزوجة الدائمة إلاّ ما استثني بالدليل كما عرفت. وانتفاء بعض الأحكام أو تخصيصها في مورد المؤقتة ، لا يسلب عنها عنوان الزوجيّة ، وسيوافيك انّ الدائمة أيضا تبين أحيانا بلا طلاق ، أو لا ترث أو لا يرثها زوجها ، أو لا ينفق عليها فانتظر.

ص : 485


1- المؤمنون : 5 _ 6.
2. الزواج المؤقت في صدر الإسلام

بزغت شمس الإسلام وكانت المتعة أمرا رائجا بين الناس غير انّ الإسلام حدّ لها حدودا وجعل لها شروطا كما مرّ ، ويكفيك في ذلك دراسة تاريخها وذلك بملاحظة ما يلي :

1. ما رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كانت متعة النساء في أوّل الإسلام ، كان الرجل يقدم البلدة ليس معه من يصلح له ضيعته ولا يحفظ متاعه ، فيتزوج المرأة إلى قدر ما يرى أنّه يفرغ من حاجته ، فتنظر له متاعه وتصلح له ضيعته. (1)

2. أخرج الطبراني والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : كانت المتعة في أوّل الإسلام. فكان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج بقدر ما يرى أنّه يفرغ من حاجته لتحفظ متاعه وتصلح له شأنه. (2)

3. أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم عن ابن مسعود قال : كنّا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس معنا نساؤنا فقلنا : ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك ورخص لنا أن نتزوج المرأة بالثوب إلى أجل ، ثمّ قرأ عبد الله ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

ص : 486


1- . الدر المنثور : 2 / 139 _ 140.
2- . الدر المنثور : 2 / 139 _ 140.

لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) (1). (2)

4. أخرج عبد الرزاق وأحمد ومسلم عن سبرة الجهني قال : أذن لنا رسول الله عام فتح مكة في متعة النساء فخرجت أنا ورجل من قومي ولي عليه فضل في الجمال وهو قريب من الدمامة. (3)

6. أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن جابر بن عبد الله وسلمة بن الأكوع ، قال : كنّا في جيش فأتانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إنّه قد أذن لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا. (4)

7. أخرج مسلم في صحيحه بسنده : خرج علينا منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أذن لكم أن تستمتعوا ، يعني متعة النساء. (5)

8. أخرج مسلم في صحيحه أيضا بسنده عن سلمة بن الأكوع ، وجابر بن عبد الله انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتانا فأذن لنا في المتعة. (6)

والأحاديث الأخيرة _ بشهادة ما تقدّمها _ تكشف عن كون الاستمتاع بالمرأة في ظروف خاصة لغايات عقلائية كان أمرا معروفا ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أرشد بإذنه إليه لا انّه صلى الله عليه وآله وسلم ابتكره.

فإذا كان مثل هذا الزواج أمرا رائجا بين الناس في عصر الرسالة فلا منتدح للشارع عن التعرض له من خلال الإمضاء أو الرد ولا يصحّ غض النظر عنه ، بعد عدم كونها من قبيل السفاح ، وإلاّ فمن المستحيل أن يحلله النبي ولو في فترة خاصة ( قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ). (7)

ص : 487


1- المائدة : 87.
2- صحيح البخاري : 7 / 4 ، باب ما يكره من التبتل والخصاء من كتاب النكاح.
3- الدر المنثور : 2 / 140.
4- . صحيح مسلم : 4 / 130 _ 131 ، باب نكاح المتعة.
5- . صحيح مسلم : 4 / 130 _ 131 ، باب نكاح المتعة.
6- . صحيح مسلم : 4 / 130 _ 131 ، باب نكاح المتعة.
7- الأعراف : 28.
3. الزواج المؤقت
في الذكر الحكيم

قد سبق انّ المتعة كانت أمرا رائجا بين الناس وانّه لا محيص للشارع من بيان حكمها إمضاء أو ردّا ، ومن حسن الحظ انّ الذكر الحكيم حسب نظر مشاهير المفسرين تعرض لها بالإمضاء ( وإن ادّعى بعضهم كونها منسوخة ) وذلك في قوله سبحانه :

1. ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ ) _ إلى أن قال سبحانه : ( وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ). (1)

2. ( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ). (2)

3. ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما

ص : 488


1- النساء : 23.
2- النساء : 24.

مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ). (1)

تفسير الآيات الثلاث

هذه الآيات الثلاث تحدد ما هو الحرام والحلال في أمر النساء.

أمّا الآية الأولى وشيء من صدر الآية الثانية يبيّن ما هو الحرام من نكاح النساء وهو عبارة عن :

1. الأمّهات ، 2. البنات ، 3. الأخوات ، 4. العمّات ، 5. الخالات ، 6. بنات الأخ ، 7. بنات الأخت ، 8. الأمّهات المرضعة ، 9. الأخوات من الرضاعة ، 10. أمّهات النساء ، 11. الربائب التي دخل بأمّهاتهن ، 12. حلائل الأبناء ، 13. الجمع بين الأختين ، 14. النساء المتزوجات ، وقد أشار إلى الأخير في أوائل الآية الثانية وقال ( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) والمحصنات جمع المحصنة وهي المتزوجة فهي محرمة لمكان زوجها إلاّ صورة واحدة أخرجت بقوله : ( إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ).

وأمّا ما هو المراد من هذا الاستثناء ففيه خلاف بين المفسرين فليرجع إلى محله.

إلى هنا تمّ بيان ما هو الحرام من نكاح النساء وقد أنهاها التشريع القرآني إلى 14 ، وبه تمّ تفسير الآية الأولى وجزء من الآية الثانية التي عطف فيها « المحصنات » ذوات الأزواج إلى المحرمات.

وأمّا بقية الآية فقد ابتدأ بقوله ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ

ص : 489


1- النساء : 25.

عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ).

فلنأخذ بتفسيرها ضمن مقاطع :

1. ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) : المراد من الموصول هو النساء غير المذكورات ولا غرو في استعمال ما مكان « من » كما في قوله سبحانه ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ). (1)

قوله ذلكم مركّب من ( ذا ) و ( كم ) والأوّل للإشارة إلى ما سبق والثاني خطاب للمؤمنين كافة ، والمراد أحل لكم ما وراء المذكورات من النساء أيّها المؤمنون. وأمّا ما هو الوجه في استعمال « ذا » مكان « ذي » فليطلب من محلّه.

2. ( أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ ) هو بدل البعض من الكل أو عطف بيان من قوله ( ما وَراءَ ذلِكُمْ ) وقد حذف مفعوله ، ولعله نكاح النساء : أي تبتغوا بأموالكم نكاح النساء. وعلى أي تقدير فالجملة تبين الطريق المشروع في نكاح النساء غير المذكورات وانّه يجوز لكم نكاح النساء بصرف المال. ومصاديقه في بادي النظر تنحصر في ثلاثة :

أ. النكاح بأجرة.

ب. نكاح الأمة.

ج. السفاح وهو الزنا.

3. ( مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ) : أي أن تطلبوا بأموالكم نكاح النساء في حال انّكم تريدون العفة لا السفاح والزنا ومعنى الجملة : متعفّفين ، لا زانين وبذلك حرم القسم الثالث ، وانّه ليس للمسلم أن يبتغي بأمواله مباشرة النساء عن طريق السفاح والزنا.

ص : 490


1- النساء : 3.

وتنحصر الحلية في القسمين الآخرين وهو نكاح الحرة ونكاح الأمة.

4. ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ) : وهذا المقطع يشير إلى نكاح الحرة كما أنّ الآية الثالثة تشير إلى نكاح الإماء (1) وبما انّ نكاح الأمّة خارج عن محط البحث لا نذكر فيه شيئا ، فالمهم هو تفسير ما يرجع إلى نكاح الحرائر الوارد في قوله سبحانه ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ ) وهذا المقطع من الآية هو بيت القصيد في المقام من دون فرق بين كون ( ما ) « فيما استمتعتم » شرطية أو موصولة عائدها هو الضمير في لفظة « به » وعندئذ يقع الكلام في أنّ المراد منه هو النكاح الدائم أو النكاح المؤقت ، والإمعان في القرائن الخارجية والقرائن المحتفة بالآية يعين الثاني ولا يبقى مجال لإرادة المعنى الأوّل وإليك القرائن المعينة للمقصود.

القرينة الأولى : الاستمتاع هو عقد المتعة

إنّ لفظ الاستمتاع _ يوم نزول الآية _ كان منصرفا إلى عقد المتعة والزواج المؤقت على النحو الذي مرّ في أوّل البحث لا التلذذ والجماع وإن كان يطلق عليه أيضا كقوله سبحانه ( رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ ) (2) ويرشدك إلى ما ذكرناه أمران :

1. تعابير الصحابة حيث يعبرون عن نكاح المتعة بلفظة « الاستمتاع ».

أخرج مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله ، قال : كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله وأبي بكر حتّى _ ثمة _ نهى عنه عمر. (3)

ص : 491


1- أي قوله سبحانه ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ. ).
2- الأنعام : 128.
3- صحيح مسلم : 4 / 131 ، باب نكاح المتعة من كتاب النكاح.

أخرج مالك عن عروة بن الزبير انّ خولة بنت حكيم دخلت على عمر بن الخطاب ، فقالت : إنّ ربيعة بن أمية استمتع بامرأة مولّدة فحملت منه ، فخرج عمر يجرّ رداءه فزعا ، فقال : هذه المتعة لو كنت تقدمت فيه لرجمته. (1)

إلى غير ذلك من الروايات والآثار التي ورد فيها الاستمتاع بصورها المختلفة وأريد به نكاح المتعة والعقد على امرأة بأجل مسمّى وأجرة مسمّاة.

2. انّ المراد من الاستمتاع في الآية هو العقد لا الاستمتاع بمعنى الانتفاع والتلذذ ، بشهادة ترتب دفع الأجرة على الاستمتاع ترتّب الجزاء على الشرط ويقول ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ ) فلو أريد من الاستمتاع هو العقد لصحّ الترتب ، لأنّ المهر كلّه يجب بمجرد العقد غاية الأمر يسقط النصف بالطلاق قبل الدخول في العقد الدائم وبانقضاء المدة قبله في المؤقت.

وأمّا لو أريد من الاستمتاع هو التلذذ والانتفاع فلا يصحّ الترتب ، لأنّ الأجرة تلزم على الزوج قبل الاستمتاع ، فالزوج يكون مكلّفا بدفع المهر كلّه. سواء أكان هناك تلذذ أو لا ، كلّ ذلك يؤيد على أنّ المراد من الاستمتاع هو العقد.

قال الطبرسي : إنّ لفظ الاستمتاع ، والتمتع وإن كان في الأصل واقعا على الانتفاع والالتذاذ ، فقد صار بعرف الشرع مخصوصا بهذا العقد المعيّن ، لا سيما إذا أضيف إلى النساء. فعلى هذا يكون معناه فمتى عقّدتم عليهن هذا العقد المسمّى متعة فآتوهن أجورهن.

ويدلّ على ذلك انّ الله علّق وجوب عطاء المهر بالاستمتاع وذلك يقتضي أن يكون معناه ، هذا العقد المخصوص دون الجماع والاستلذاذ ، لأنّ المهر لا يجب إلاّ بالعقد. (2)

ص : 492


1- الموطأ : 2 / 30 ، سنن البيهقي : 7 / 206.
2- مجمع البيان : 2 / 32 ، ط صيدا.

ولعلّ الزمخشري وقف على أنّ وجوب المهر لا يتوقف على الاستمتاع ، عطف العقد على الجماع ، وقال « فما استمتعتم به من المنكوحات من جماع أو خلوة صحيحة أو عقد عليهن ». (1)

القرينة الثانية : الحمل على المتعة يستلزم التكرار

يجب علينا إمعان النظر فيما تهدف إليه جملة ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ ) ، هنا احتمالات :

أ. تحليل النكاح الدائم.

ب. التأكيد على دفع المهر بعد الاستمتاع.

ج. نكاح المتعة.

أمّا الأوّل فالحمل عليه يوجب التكرار بلا وجه ، لأنّه سبحانه بيّن حكمه في الآية الثالثة من تلك السورة ، قال سبحانه ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً ). (2)

وأمّا الثاني فمثل الأوّل فقد بيّنه في الآية الرابعة من هذه السورة وقال : ( وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً ) (3) بل بينه في آيتين أخريين أعني قوله ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ ). (4)

وقال سبحانه : ( وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً

ص : 493


1- الكشاف : 1 / 391 ، في تفسير الآية.
2- النساء : 3.
3- النساء : 4.
4- النساء : 19.

فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً ). (1)

فلم يبق من الوجوه المحتملة التي تهدف إليها الجملة إلاّ نكاح المتعة.

القرينة الثالثة : الجملتان المتقدّمتان

إنّ في الجملتين المتقدّمتين على قوله ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ. ) أعني :

1. ( أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ ).

2. ( مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ).

إشارة إلى الزواج المؤقت وانّ المراد من الاستمتاع هو نكاح المتعة والعقد على المتمتع بها.

أمّا الجملة الأولى فتدلّ على أنّها بصدد بيان النكاح الذي يبتغى بالأموال على نحو يكون فيه للمال ( الصداق ) دور كبير ، بحيث لولاه لبطل ، وليس هو إلاّ نكاح المتعة الذي عرف بقوله : « أجل مسمّى وأجر مسمّى » فالأجر في نكاح المتعة ركن ولولاه لبطل (2) بخلاف النكاح الدائم إذ لا يجب فيه ذكره ، يقول سبحانه : ( لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ) (3) ولذلك قالوا يستحبّ أن لا يعرى النكاح عن تسمية الصداق ، لأنّ النبي كان يزوّج بناته وغيرهن ويتزوج فلم يكن يخلي ذلك من صداق. (4)

أمّا الجملة الثانية فالله سبحانه يؤكد قبل الأمر بعقد الاستمتاع على كون الزوجين _ محصنين غير مسافحين _ بأن يكون اللقاء بنيّة التعفّف لا الزنا وبما انّ

ص : 494


1- النساء : 20.
2- وقد مرّ عند بيان أحكام نكاح المتعة ، انّه لو نسي ذكر المهر أو لم يذكره بطل العقد ، فنكاح المتعة من أوضح مصاديق قوله سبحانه ( أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ ).
3- البقرة : 236.
4- المغني : 7 / 136.

عقد المتعة ربما ينحرف عن مجراه ومسيره الصحيح فيتخذ لنفسه لون السفاح لا الزواج ، أمر سبحانه بأن يكون الهدف هو الزواج لا السفاح.

وبما انّ نكاح الإماء أيضا مظنة لذلك الأمر إذ الغالب على الإماء هو روح الابتذال ، قيّد سبحانه نكاح الإماء في الآية الثالثة بقوله ( مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ ). (1)

فافتتاح الكلام بجملتين حاملتين مفهوم المتعة قرينة على أنّ المراد من قوله : ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ ) عقد النكاح كما أنّ هاتين الجملتين بما انّهما يحملان مفهوم نكاح المتعة سوّغ دخول الفاء على قوله ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ ) لأنّ فاء التفريع لا يستعمل إلاّ إذا سبق الكلام فيه ولو إجمالا.

القرينة الرابعة : تفسيره في لسان الصحابة بنكاح المتعة

إنّ لفيفا من الصحابة والتابعين فسروا قوله ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ ) بنكاح المتعة نذكر منهم ما يلي :

1. أخرج الحاكم وصحّحه من طرق عن أبي نضرة قال ابن عباس « فما استمتعتم به منهنّ » « إلى أجل مسمّى » فقلت ما نقرأها كذلك ، فقال ابن عباس : والله لأنزلها الله كذلك. (2)

2. أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قراءة أبيّ بن كعب « فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى ». (3)

3. أخرج ابن أبي داود في المصاحف عن سعيد بن جبير ، قال : في قراءة أبيّ بن كعب « فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى ». (4)

ص : 495


1- النساء : 25.
2- . الدر المنثور : 2 / 484 _ 488.
3- . الدر المنثور : 2 / 484 _ 488.
4- . الدر المنثور : 2 / 484 _ 488.

وظهور هذه الروايات في كون قوله « إلى أجل مسمّى » جزءا من الآية محمول على تأويل الآية وتحقيق معناها. وإلاّ فالقرآن مصون من التحريف والنقص والزيادة.

4. أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد فما استمتعتم به منهن ، قال : يعني نكاح المتعة. (1)

5. أخرج الطبري عن السدي قال : فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى فآتوهن أجورهن فريضة قال : فهذه المتعة ، الرجل ينكح المرأة بشرط إلى أجل مسمّى ويشهد شاهدين وينكح بإذن وليها وإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل وهي منه برية وعليها أن تستبرئ ما في رحمها وليس بينهما ميراث ليس يرث واحد منهما صاحبه. (2)

6. أخرج الإمام أحمد بإسناد رجاله كلّهم ثقات عن عمران بن الحصين ، قال : نزلت آية المتعة في كتاب الله وعملنا بها مع رسول الله فلم تنزل آية تنسخها ولم ينه عنها النبي حتّى مات. (3)

7. أخرج الطبري في تفسيره بإسناد صحيح عن شعبة عن الحكم قال : سألته عن هذه الآية أمنسوخة هي؟ قال : لا. (4)

8. أخرج البيهقي عن أبي نضرة عن جابر قال : قلت : إنّ ابن الزبير ينهى عن المتعة وانّ ابن عباس يأمر بها ، قال : على يدي جرى الحديث تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع أبي بكر فلمّا ولي عمر خطب الناس : إنّ رسول الله هذا الرسول ، وإنّ

ص : 496


1- انظر الدر المنثور : 2 / 484 _ 488 ولاحظ تفسير الطبري : 5 / 8 _ 10.
2- تفسير الطبري : 5 / 8 _ 10.
3- مسند أحمد : 4 / 446.
4- تفسير الطبري : 5 / 9.

القرآن هذا القرآن ، وإنّهما كانتا متعتان على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما : إحداهما متعة النساء ولا أقدر على رجل تزوج امرأة إلى أجل إلاّ غيّبته بالحجارة ، والأخرى متعة الحجّ. (1)

إلى غير ذلك من الروايات الواردة حول تفسير الآية الحاكية عن استمرار الحلية أو منسوخيتها فان النسخ فرع القول بدلالتها على نزولها في نكاح المتعة من الصحابة والتابعين وفي مقدمهم الإمام أمير المؤمنين وأهل بيته فقد فسروا الآية بنكاح المتعة.

القرينة الخامسة : اتّفاق أئمّة أهل البيت عليهم السلام على نزول الآية في المتعة

اتّفق أئمّة أهل البيت عليهم السلام على نزول الآية في نكاح المتعة ، والروايات عنهم متضافرة أو متواترة نكتفي بالقليل من الكثير.

1. أخرج الكليني عن أبي بصير قال : سألت أبا جعفر عن المتعة فقال : نزلت في القرآن ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ). (2)

2. أخرج الكليني عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال : سمعت أبا حنيفة يسأل أبا عبد الله عن المتعة ، فقال : « عن أي المتعتين تسأل؟ » فقال : سألتك عن متعة الحجّ فأنبئني عن متعة النساء أحق هي؟ فقال : « سبحان الله أما تقرأ كتاب الله ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ) فقال أبو حنيفة : والله كأنّها آية لم أقرأها قط. (3)

ص : 497


1- سنن البيهقي : 7 / 206.
2- . الكافي : 5 / 448 _ 449 ، أبواب المتعة ، الحديث 6.
3- . الكافي : 5 / 448 _ 449 ، أبواب المتعة ، الحديث 6.
القرينة السادسة : تصريح الصحابة بالحلّية

لا شكّ انّ من سبر تاريخ المسألة في عصر ظهر الاختلاف في استمرار الحلية وعدمها ، يقف على أنّ الصحابة قالوا بحلية المتعة سواء أقالوا ببقائها واستمرارها أم ذهبوا إلى منسوخيتها وكان أفضل مصدر لقولهم ، هو نفس الآية مضافا إلى تقرير النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد عرفت فيما سبق أسماء لفيف من الصحابة فسروا الآية بنكاح المتعة ، ونأتي الآن بأسماء من قالوا بحلية المتعة وإن لم يصرحوا بمصدر فتواهم. وقد ذكرهم ابن حزم في « المحلّى ».

قال : ولا يجوز نكاح المتعة وهو النكاح إلى أجل وكان حلالا على عهد رسول الله ثمّ نسخها الله تعالى على لسان رسوله نسخا باتا إلى يوم القيامة وقد ثبت على تحليلها بعد رسول الله جماعة من السلف رضي الله عنهم ، منهم من الصحابة رضي الله عنهم : أسماء بنت أبي بكر الصديق ، وجابر بن عبد الله ، وابن مسعود ، وابن عباس ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وعمرو بن حريث ، وأبو سعيد الخدري ، وسلمة ، ومعبد أبناء أمية بن خلف ، ورواه جابر بن عبد الله عن جميع الصحابة مدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومدة أبي بكر وعمر إلى قرب آخر خلافة عمر ، واختلف في إباحتها عن ابن الزبير ، وعن علي فيها توقف وعن عمر بن الخطاب انّه إنّما أنكرها إذا لم يشهد عليها عدلان فقط وأباحها بشهادة عدلين.

ومن التابعين : طاوس وعطاء وسعيد بن جبير وسائر فقهاء مكة. (1)

وقد اعتمد السيد المرتضى على قول هؤلاء في رد من شمت بالشيعة حيث قال الشامت :

ص : 498


1- المحلى : 9 / 519 _ 520.

قول الروافض نحن أطيب مولد

قول أتى بخلاف قول محمد

نكحوا النساء تمتعا فولدن من

ذاك النكاح فأين طيب المولد

إنّ انتماء شيعة أهل البيت بطيب المولد يرجع إلى أمور أخرى ولا يمتّ بكونهم مواليد نكاح المتعة ، فإنّ نكاح المتعة _ على الرغم من اتّفاقهم على حليتها _ بينهم قليل جدا ، كما هو واضح لمن عاشرهم.

فأجابه السيد المرتضى بقوله :

انّ التمتع سنّة مفروضة

ورد الكتاب بها وسنة أحمد

وروى الرواة بأنّ ذلك قد جرى

من غير شك في زمان محمد

ثمّ استمرّ الحال في تحليلها

قد صحّ ذلك في الحديث المسند

عن جابر وعن ابن مسعود التقيّ

وعن ابن عباس كريم المولد

حتّى نهى عمر بغير دلالة

عنها فكدّر صفو ذاك المورد

لا بل مواليد النواصب جدّدت

دين المجوس فأين دين محمد

ص : 499

وقد وقفت على ما روي عن ابن عباس وابن مسعود في استمرار حلّيتها ، وإليك ما روي عن جابر في صحيح مسلم.

أخرج مسلم في صحيحه عن أبي نضرة قال : كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها قال : فذكرت ذلك لجابر بن عبد الله ، فقال : على يدي دار الحديث تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما قام عمر ، قال : إنّ الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء وانّ القرآن قد نزل منازله ، فأتموا الحجّ والعمرة لله كما أمركم الله وأبتّوا نكاح هذه النساء فلئن أوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلاّ رجمته بالحجارة. (1)

فبالتمسك بقوله سبحانه ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) حرّم فصل العمرة عن الحجّ بالتحليل بينهما. وبالتالي أنكر حجّ التمتع.

وبقوله : « ابتّوا نكاح هذه النساء » أنكر نكاح المتعة.

وأمّا انّ عمر أوّل من نهى عن هذا النكاح فسيوافيك بيانه.

ص : 500


1- صحيح مسلم : 4 / 38 ، باب في المتعة بالحجّ والعمرة من كتاب الحجّ.
4. المتعة في السنّة النبوية

قد تعرفت على دلالة الذكر الحكيم على حلّية المتعة واستمرارها إلى يومنا هذا فحان البحث عن السنّة النبوية وقد مضى شطر منها حول تفسير الآية من الصحابة والتابعين (1) ، ولنذكر من الروايات ما يدلّ على حلية المتعة واستمرارها من الصحاح والمسانيد :

1. أخرج الحفاظ عن عبد الله بن مسعود انّه قال : كنّا نغزو مع رسول الله وليس لنا نساء فقلنا : يا رسول الله ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك ثمّ رخص لنا أن ننكح بالثوب إلى أجل ثمّ قرأ علينا ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ). (2)

وغرضه من تلاوة الآية هو الإطاحة بقول من حرّمها من غير دليل ، فنكاح المتعة عند ابن مسعود من الطيبات التي أحلّها الله سبحانه ، وليس لأحد تحريم الطيبات.

2. أخرج مسلم عن جابر بن عبد الله وسلمة بن الأكوع ، قال : خرج علينا

ص : 501


1- لاحظ صفحة 495 _ 496 من هذا الكتاب.
2- صحيح البخاري : 7 / 4 ، باب ما يكره من التبتل والخصاء من كتاب النكاح ، صحيح مسلم : 4 / 130 ، باب نكاح المتعة من كتاب النكاح.

منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أذن لكم أن تستمتعوا ( يعني : متعة النساء ). وفي لفظ : إنّ رسول الله أتانا فأذن لنا في المتعة. (1)

3. أخرج مسلم عن ابن جريج ، قال : أخبرني أبو الزبير قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر حتّى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث. (2)

4. أخرج مسلم في صحيحه عن أبي نضرة قال : كنت عند جابر بن عبد الله ، فأتاه آت فقال ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين ، فقال جابر : فعلناهما مع رسول الله ثمّ نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما. (3)

5. أخرج الترمذي انّ رجلا من أهل الشام سأل ابن عمر عن المتعة ، فقال : هي حلال ، فقال الشامي : إنّ أباك قد نهى عنها؟ فقال ابن عمر : أرأيت إن كان أبي قد نهى عنها وقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر أبي نتّبع أم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (4)

6. أخرج مسلم في صحيحه عن عروة بن الزبير انّ عبد الله بن الزبير قام بمكة فقال : إنّ ناسا أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة يعرّض برجل ( ابن عباس ) فناداه فقال : إنّك لجلف جاف ، فلعمري لقد كانت المتعة تفعل على عهد إمام المتقين ( يريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال له ابن الزبير : فجرّب بنفسك ، فو الله لئن فعلتها لأرجمنّك بأحجارك. (5)

ص : 502


1- المصدر السابق ، وانظر صحيح البخاري : 7 / 13 ، باب نهي الرسول عن نكاح المتعة من كتاب النكاح.
2- صحيح مسلم : 4 / 131 ، باب نكاح المتعة من كتاب النكاح.
3- صحيح مسلم : 4 / 131 ، باب نكاح المتعة من كتاب النكاح.
4- سنن الترمذي : 3 / 186 برقم 824.
5- صحيح مسلم : 4 / 133 ، باب نكاح المتعة من كتاب النكاح.

والعجب من ابن الزبير حيث يرجم من ينكح نكاح المتعة _ تبعا لسلفه _ مع أنّ الحدود تدرأ بالشبهات ، فالفاعل يعتقد بكونه نكاحا حلالا لا سفاحا ، وله من الكتاب والسنّة دليل ومع هذه الشبهة كيف يرجم إلاّ أن يكون غرضه التهديد والتخويف.

7. أخرج مسلم عن ابن شهاب انّه قال : فأخبرني خالد بن المهاجر بن سيف الله انّه بينا هو جالس عند رجل جاءه رجل فاستفتاه في المتعة فأمره بها ، فقال له ابن أبي عمرة الأنصاري : مهلا ما هي والله لقد فعلت في عهد إمام المتقين. (1)

8. أخرج أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن نعيم الأعرجي قال : سأل رجل ابن عمر في المتعة _ وأنا عنده _ متعة النساء ، فقال : والله ما كنّا على عهد رسول الله زانين ولا مسافحين. (2)

9. أخرج أحمد في مسنده عن ابن الحصين انّه قال : نزلت آية المتعة في كتاب الله تبارك وتعالى وعملنا بها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم تنزل آية تنسخها ولم ينه عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتّى مات. (3)

10. روى ابن حجر عن سمير ( لعلّه سمرة بن جندب ) قال : كنّا نتمتع على عهد رسول الله. (4)

ولنقتصر على هذا المقدار وقد تعرفت على أسماء المحلّلين للمتعة من الصحابة والتابعين في كلام ابن حزم في « المحلّى ». (5)

ص : 503


1- صحيح مسلم : 4 / 133 _ 134 ، باب نكاح المتعة من كتاب النكاح.
2- مسند أحمد : 2 / 95.
3- مسند أحمد : 4 / 436.
4- الإصابة : 2 / 181.
5- لاحظ ص 498 من هذا الكتاب.

قال أبو عمر ( صاحب الاستيعاب ) : أصحاب ابن عباس من أهل مكة واليمن كلّهم يرون المتعة حلالا على مذهب ابن عباس وحرمها سائر الناس. (1)

وقال القرطبي في تفسيره : أهل مكة كانوا يستعملونها كثيرا. (2)

وقال الرازي في تفسيره : ذهب السواد الأعظم من الأمّة إلى أنّها صارت منسوخة ، وقال السواد منهم إنّها بقيت كما كانت. (3)

وهذه الكلمات المنثورة في الكتب والتي تجد لها نظائر كثيرة تثبت انّ المتعة كانت أمرا حلالا في عهد رسول الله ودامت إلى شطر من خلافة عمر ، فمن حاول إثبات النسخ فعليه أن يأتي بدليل قاطع يصلح لنسخ القرآن الكريم ، فان خبر الواحد لا ينسخ به القرآن ، والقرآن دليل قطعي لا ينسخ إلاّ بدليل قطعي.

والذي يعرب عن عدم وجود الناسخ هو انّ التحريم يسند إلى عمر وانّه هو المحرم كما سيوافيك لفظه ، فلو كان هناك تحريم من رسول الله لما أسند عمر التحريم إلى نفسه!!

قال الرازي : إنّ الأمّة مجمعة على أنّ نكاح المتعة كان جائزا في الإسلام ولا خلاف بين أحد من الأمّة فيه إنّما الخلاف في طريان الناسخ ، فنقول : لو كان الناسخ موجودا ، لكان ذلك الناسخ إمّا أن يكون معلوما بالتواتر أو بالآحاد ، فإن كان معلوما بالتواتر ، كان علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعمران بن الحصين منكرين لما عرف ثبوته بالتواتر من دين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وذلك يوجب تكفيرهم ، وهو باطل قطعا ، وإن كان ثابتا بالآحاد فهذا أيضا باطل ، لأنّه لما كان ثبوت

ص : 504


1- تفسير القرطبي : 5 / 133.
2- تفسير القرطبي : 5 / 132 ؛ فتح الباري : 9 / 142.
3- تفسير الرازي : 10 / 53.

إباحة المتعة معلوما بالإجماع والتواتر ، كان ثبوته معلوما قطعا ، فلو نسخناه بخبر الواحد لزم جعل المظنون رافعا للمقطوع وانّه باطل.

قالوا : وممّا يدلّ أيضا على بطلان القول بهذا النسخ ، إنّ أكثر الروايات انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ، وأكثر الروايات انّه عليه الصلاة والسّلام أباح المتعة في حجّة الوداع وفي يوم الفتح ، وهذان اليومان متأخران عن يوم خيبر ، وذلك يدلّ على فساد ما روي انّه عليه السلام نسخ المتعة يوم خيبر ، لأنّ الناسخ يمتنع تقدّمه على المنسوخ ، وقول من يقول : إنّه حصل التحليل مرارا والنسخ مرارا ضعيف ، لم يقل به أحد من المعتبرين ، إلاّ الذين أرادوا إزالة التناقض عن هذه الروايات. (1)

وسيوافيك اضطراب أقوال المحرّمين _ ربّما ناهزت الستة _ في عدد التحليل والتحريم ومكانهما ، وهذا النوع من الاضطراب ، يورث الشكّ في أصل التحريم ، فانتظر.

ص : 505


1- تفسير الرازي : 10 / 52.
5. المتعة في التفاسير غير الروائية

لقد تعرفت على موقف التفاسير الروائية من تفسير الآية بالنكاح المؤقت ، حيث نقل الطبري والسيوطي والثعلبي نزول الآية في المتعة ، هلمّ معي ندرس ما ذكره الآخرون من المفسرين فإنّهم بين من فسروا الآية بنكاح المتعة بقول واحد أو جعلوا نزولها في نكاح المتعة أحد القولين ، وها نحن ننقل في المقام شيئا موجزا.

1. يقول الزمخشري : قيل نزلت في المتعة التي كانت ثلاثة أيام حين فتح الله مكة على رسوله. (1)

2. قال القرطبي : قال الجمهور : إنّها نزلت في نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام. (2)

3. وقال البيضاوي : نزلت الآية في المتعة التي كانت ثلاثة أيام حين فتحت مكة. (3)

4. وقال ابن كثير : وقد استدلّ بعموم الآية على نكاح المتعة ، ولا شكّ انّه

ص : 506


1- الكشاف : 1 / 519.
2- الجامع لأحكام القرآن : 5 / 130.
3- أنوار التنزيل : 1 / 375.

كان مشروعا في ابتداء الإسلام ثمّ نسخ ، وقد قيل بإباحتها للضرورة وهي رواية واحدة عن الإمام أحمد. (1)

5. وقال أبو السعود : نزلت في المتعة التي هي النكاح إلى وقت معلوم (2) وقد تعرفت على كلام الرازي تفصيلا.

6. وقال الشوكاني : قال الجمهور : إنّ المراد بالآية نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام ويؤيد ذلك قراءة أبيّ بن كعب وابن عباس وسعيد بن جبير « فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن ». (3)

7. وقال علاء الدين البغدادي في تفسيره المعروف بتفسير « الخازن » : المراد من حكم الآية هو نكاح المتعة ، وهو أن ينكح امرأة إلى مدة معلومة بشيء معلوم ، فإذا انقضت المدة بانت منه بغير طلاق ، وكان هذا في ابتداء الإسلام. (4)

8. وقال الآلوسي : قراءة ابن عباس وعبد الله بن مسعود ، الآية : « فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى » ثمّ قال : ولا نزاع عندنا في أنّها قد حلّت ثمّ حرمت. (5)

وفيما ذكرنا غنى وكفاية غير انّ هؤلاء الأعاظم _ عفا الله عنّا وعنهم _ بين من نسب الحلية إلى صدر الإسلام كالقرطبي وابن كثير والخازن ومن نسبها إلى عام الفتح كالزمخشري والبيضاوي ، وقد عرفت أنّ نكاح المتعة كان أمرا رائجا حين بزوغ شمس الإسلام وانّ التشريع الإسلامي ، أنفذها وحدّد لها حدودا وأكملها حتى عادت نكاحا صحيحا ، تحل مشاكل الأمة في أوقات حرجة.

ص : 507


1- تفسير ابن كثير : 1 / 474.
2- هامش تفسير الرازي : 2 / 251.
3- تفسير الشوكاني : 1 / 414 كما في الغدير : 6 / 235.
4- تفسير الخازن : 1 / 357.
5- روح المعاني : 5 / 5.
6. شبهات وحلول
اشارة

قد تعرفت على دلالة الذكر الحكيم والسنّة النبوية على حلّية المتعة واستمرارها بعد رحيله فلا منتدح للمسلم عن القول بجوازه فمن حرّمها فقد حرّم ما أحل الله.

ثمّ إنّ جمعا ممّن لم يقف على حدود المتعة ولا على حقيقتها راموا ينحتون شبهات واهية حول تحليل المتعة ، ونحن نذكر تلكم الشبهات واحدة تلو الأخرى حتّى يتّضح انّ التشريع الإلهي من أحكم التشريعات وأنصعها فلا يزول بهذه الشبهات التي هي أوهن من بيت العنكبوت.

الشبهة الأولى : المتعة وتكوين الأسرة
اشارة

الهدف من تشريع النكاح هو تكوين الأسرة وإيجاد النسل وهو يختص بالنكاح الدائم دون المنقطع الذي لا يترتب عليه سوى استجابة للقوة الشهوية وصب الماء والسفح.

قال الدكتور الدريني : شرع النكاح في الإسلام لمقاصد أساسية قد نصّ عليها القرآن الكريم صراحة ترجع كلّها إلى تكوين الأسرة الفاضلة التي تشكّل النواة الأولى للمجتمع الإسلامي بخصائصه الذاتية من العفّة والطهر والولاية

ص : 508

والنصرة والتكافل الاجتماعي ، ثمّ يقول : إنّ الله إذ يربط الزواج بغريزة الجنس لم يكن ليقصد مجرد قضاء الشهوة ، بل قصد أن يكون على النحو الذي يحقّق ذلك المقصد بخصائصه من تكوين الأسرة التي شرع أحكامها التفصيلية في القرآن الكريم.

وعلى هذا فان الاستمتاع مجردا عن الأنجاب وبناء الأسرة ، يحبط مقصد الشارع من كلّ أصل تشريع النكاح. (1)

يلاحظ عليه بوجوه :

الأوّل : أنّ الأستاذ خلط علّة التشريع ومناطه ، بحكمته ، فإنّ العلّة عبارة عمّا يدور الحكم مدارها ، يحدث الحكم بوجودها ويرتفع بارتفاعها ، وهذا بخلاف الحكمة ، فربّما يكون الحكم أوسع منها ، وإليك توضيح الأمرين :

إذا قال الشارع اجتنب المسكر ، فالسكر علّة وجوب الاجتناب بحجّة تعليق الحكم على ذلك العنوان ، فما دام المائع مسكرا ، له حكمه ، فإذا انقلب إلى الخلّ يرتفع.

وأمّا إذا قال ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. ). (2)

فالتربّص _ لأجل تبيّن وضع الرحم ، وإنّها هل تحمل ولدا أو لا؟ _ حكمة الحكم ، لا علّته ، ولأجل ذلك نرى أنّ الحكم أوسع منها بشهادة أنّه يجب التربّص

ص : 509


1- الدكتور الدريني في تقديمه لكتاب « الأصل في الأشياء الحلية. ولكن المتعة حرام » وكلّما ننقله منه فهو من تقديمه لهذا الكتاب ولاحظ أيضا : المنار : 5 / 8 فإنّ عامة اعتراضاته مأخوذة من هذا الكتاب. كما أنّ المنار ، في طرح الشبهات عيال على غيره حيّا الله الأمانة.
2- البقرة : 228.

على من نعلم بعدم وجود حمل في رحمها.

1. كما إذا كانت عقيما لا تلد أبدا.

2. إذا كان الرجل عقيما.

3. إذا غاب عنها الزوج مدة طويلة كستة أشهر فما فوق ، ونعلم بعدم وجود حمل في رحمها.

4. إذا تبيّن عن طريق إجراء التجارب الطبّية ، خلو رحمها عنه.

ومع العلم بعدم وجود الحكمة في هذه الموارد فحكم الآية محكمة وإن لم تكن حكمة الحكم موجودة ، وهذا لا ينافي ما توافقنا عليه من تبعية الأحكام للمصالح ، فان المقصود منه هو وجود الملاكات في أغلب الموارد لا في جميعها.

إذا عرفت الفرق بين الحكمة والعلّة تقف على أنّ الأستاذ خلط بين العلة والحكمة ، فتكوين الأسرة والأنجاب والتكافل الاجتماعي كلّها من قبيل الحكم بشهادة أنّ الشارع حكم بصحّة الزواج في موارد فاقدة لهذه الغاية.

1. يجوز زواج العقيم بالمرأة الولود.

2. يجوز زواج المرأة العقيم بالرجل المنجب.

3. يجوز نكاح اليائسة.

4. يجوز نكاح الصغيرة.

5. يجوز نكاح الشاب من الشابة مع العزم على عدم الأنجاب إلى آخر العمر.

أفيصح للأستاذ أن يشطب على هذه الأنكحة بقلم عريض بحجّة افتقادها لتكوين الأسرة؟!

ص : 510

على أنّ من الأمور الواضحة هو أنّ أغلب المتزوّجين في سنّ الشباب بالزواج الدائم لا يقصدون إلاّ قضاء الوطر ، واستيفاء اللذة من طريقها المشروع ، ولا يخطر ببالهم طلب النسل ، وإن كان يحصل لهم قهرا.

الثاني : يجب على الأستاذ التفصيل بين من يتزوّج متعة لغاية الأنجاب وتشكيل الأسرة بخصائصها الذاتية من العفّة ، والطهر ، والولاية ، والنصرة ، والتكافل الاجتماعي ، وبين من يتزوّج لقضاء الوطر ، ودفع الشهوة بهذا الطريق ، فيحرّم الثانية دون الأولى ، وأمّا إنّه لما ذا يتزوّج زواجا مؤقتا للإنجاب وتشكيل الأسرة؟ فلأجل وجود بعض التسهيلات في المؤقت دون الدائم.

إنّ الأستاذ كأكثر من كتب عن المتعة من أهل السنّة ، يتعامل مع المتمتع بها معاملة الغانيات المفتوحة أبوابهنّ ، يدخل عليهنّ في كل يوم رجل ويجتمع معهنّ ذلك اليوم ثم يفارق ويأتي رجل آخر بهذه الخصوصية. فلو كان هذا معنى التمتّع بالمرأة والزواج المؤقت ، فالشيعة الإمامية بريئون من هذا التشريع الذي يرادف الزنا إلاّ في التسمية. ولكن المتعة تفارق ذلك مائة بالمائة ، فربّما يكون هناك نساء توفّى عنهنّ أزواجهنّ ولهنّ جمالهنّ وكمالهنّ ، وربّما لا يتمكّن الرجل من الزواج الدائم لمشاكل اجتماعية ، ومع ذلك يرغب إلى هذه الطبقة من النساء فيتزوّجها طالبا بها رفع العنت أوّلا وتشكيل الأسرة بما لها من الخصوصيات ثانيا.

والحق أنّ ما اختمر في ذهن الكاتب وغيره من المتعة أشبه بالنساء المبذولات في بيوت خاصة ، ومحلاّت معيّنة فمثل ذلك لا يمكن أن تضفى عليه المشروعية ، غير أنّ المتعة الشرعية غير ذلك ، وربّما يتوقّف التزوّج بهنّ على طي عقبات ، فيشترط فيها ما يشترط في الدائم ، ويفارق الدائم بأمور أوضحها : الطلاق والنفقة.

ص : 511

وأمّا التوارث فيتوارثان بالاشتراط على الأقوى ، ومثل ذلك يلازم الغايات المطلوبة للنكاح غالبا.

والحق أنّ الغاية القصوى في كل مورد رخّص فيه الشارع العلاقة الجنسية بعامّة أقسامها حتى ملك اليمين وتحليل الإماء في بعض المذاهب الفقهيّة هو صيانة النفس عن الوقوع في الزنا والسفاح. وأمّا سائر الغايات من تشكيل الأسرة ، والتكافل الاجتماعي ، فإنّما هي غايات ثانوية تحصل بالنتيجة سواء توخّاها الزوجان أم لا.

والغاية القصوى موجودة في الزواج المؤقت ، وأنّ الهدف من تشريعه هو صيانة النفس عن الحرام لمن لا يتمكّن من الزواج الدائم ، ولأجل ذلك استفاض عن ابن عباس قوله : « يرحم الله عمر ما كانت المتعة إلاّ رحمة من الله رحم بها أمّة محمد ولو لا نهيه عنها ما احتاج إلى الزنا إلاّ شقيّ ». (1) وروي النص باختلاف طفيف عن عليّ عليه السلام أيضا. (2)

إنّ قوله سبحانه ( وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ. ) (3) دليل على أنّ الغاية من تجويز النكاح ، والنهي عن الرهبانية هو صيانة النفس عن الفحشاء ودفعها إلى التعفّف ، وهذه الغاية كما عرفت موجودة في جميع الأنكحة والعلاقات الجنسية من الزواج الدائم إلى الزواج المؤقّت إلى ملك اليمين إلى تحليل الإماء بشروطها المقرّرة في الفقه.

ص : 512


1- الدر المنثور : 2 / 141.
2- لاحظ تفسير الرازي : 3 / 200 المسألة الثالثة في بيان نكاح المتعة.
3- النور : 33. وقوله ( وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها ) ( الروم : 2 ).
الشبهة الثانية

المتعة خارجة عن الحصر المحلل

انّه سبحانه أمر بحفظ الفروج إلاّ في موردين وقال ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) (1) والمراد من قوله فمن ابتغى هم المتجاوزون عمّا أحله الله لهم إلى ما حرمه عليهم ، والمرأة المتمتع بها ليست زوجة ليكون لها على الرجل مثل الذي له عليها بالمعروف. (2)

يلاحظ عليه : أنّ المستشكل لم يدرس حقيقة المتعة إلاّ بما دارت على الألسن من تشبيه المتعة بالنساء المبتذلات في بيوت خاصة ومحلات معينة ، ومن المعلوم انّ مثل هذه المرأة غير داخلة في قوله ( إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ ).

وأمّا المتمتع بها فهي زوجة حقيقة لا تحل بلا عقد ولا تحرم إلاّ بانقضاء الأجل ويجب عليها الاعتداد بعد الفراق ، كما تقدّم عند شرح نبذ من أحكامها إلى غير ذلك من الأحكام المذكورة فمثل ذلك داخل في قوله ( إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ ).

نسأل القائل إذا صحّ ما يقوله من أنّها ليست زوجة فكيف أحلّها الذكر

ص : 513


1- المؤمنون : 5 _ 7.
2- الدكتور الدريني في تقديمه ، ص 26.

الحكيم والرسول الكريم في غير موقف من المواقف؟ فهل يتوهم انّه سبحانه أحلّ الفحشاء أو انّ نبيه دعا أصحابه إليها ، وهو القائل سبحانه ( وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) (1) كلّ ذلك يبعث الباحث إلى القول بأنّ المتمتع بها زوجة بلا شك.

نحن نسأل القائل عن الزوجين اللّذين يتزوجان نكاح دوام ولكن ينويان الفراق بالطلاق بعد سنة. فهل هذا نكاح صحيح أو لا؟ لا أظن أنّ فقيها من فقهاء الإسلام يمنع ذلك إلاّ إذا أفتى بغير دليل ولا برهان ، فأي فرق يكون حينئذ بين المتعة وهذا النكاح الدائم سوى أنّ المدّة مذكورة في الأوّل دون الثاني؟

يقول صاحب المنار : إنّ تشديد علماء السلف والخلف في منع المتعة يقتضي منع النكاح بنيّة الطلاق ، وإن كان الفقهاء يقولون إنّ عقد النكاح يكون صحيحا إذا نوى الزوج التوقيت ولم يشترطه في صيغة العقد ، ولكن كتمانه إيّاه يعدّ خداعا وغشّا وهو أجدر بالبطلان من العقد الذي يشترط فيه التوقيت. (2)

أقول : نحن نفترض أنّ الزوجين رضيا بالتوقيت لبّا ، حتى لا يكون هناك خداع وغشّ ، فهو صحيح بلا إشكال.

ص : 514


1- النور : 33.
2- تفسير المنار : 5 / 17.
الشبهة الثالثة

لو كانت زوجة

فلما ذا لا ينفق عليها ولا ترث؟

إنّ المرأة المتمتع بها ليست أمة كما هو واضح ولا زوجة لعدم ترتّب آثار عقد النكاح الصحيح عليها كالنفقة والإرث والطلاق وقد استدلّ به غير واحد من المانعين ونقلها الرازي في تفسيره عنهم فقال :

وهذه المرأة لا شكّ انّها ليست مملوكة ولا زوجة ، ويدلّ عليه أنّها لو كانت زوجة لحصل التوارث بينهما لقوله تعالى ( وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ ) بالاتفاق لا توارث بينهما ، وثانيا لثبت النسب لقوله عليه الصلاة والسّلام : « الولد للفراش وللعاهر الحجر » وبالاتفاق لا يثبت ، ثالثا ولوجبت العدة عليها لقوله تعالى ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ). (1)

يلاحظ عليه : بأنّ المستدلّ خلط آثار الشيء بمقوماته ، فالذي يضرّ هو فقدان المقومات لا بعض الآثار ، فان النكاح رابطة وعلقة بين الزوجين ، كما أنّ

ص : 515


1- البقرة : 234.

البيع رابطة بين المالين ، فالذي يجب وجوده هو ما جاء في التعريف من وجود الزوجين ، أو وجود المالين ، وأمّا ما وراء ذلك فإنّما هي آثار ربّما تترتّب ، وربّما تتخلّف ، فقد ذكر من آثار النكاح : النفقة ، والإرث ، والطلاق. وزعم أنّ فقدان واحد منها يوجب فقدان حقيقة النكاح ، ولكنّ الأمر ليس كذلك ، بشهادة الموارد التالية التي تفقد الآثار ولا تفقد حقيقة النكاح :

1. الزوجة الناشزة لا تجب نفقتها مع أنّها زوجة.

2. الزوجة الصغيرة زوجة ولا تجب نفقتها.

3. الزوجة القاتلة لا ترث الزوج مع أنّها زوجة.

4. الزوجة المسلمة زوجة ولا ترث زوجها الكافر عند أهل السنّة.

5. الزوجة المجنونة وغيرها من ذوي العاهات تفارق بلا طلاق قال الخرقي في متن المغني : « وأي الزوجين وجد بصاحبه جنونا أو جذاما أو برصا أو كانت المرأة رتقاء أو قرناء أو عفلاء أو فتقاء أو الرجل مجنونا فلمن وجد ذلك منهما بصاحبه الخيار في فسخ النكاح » (1) أي تبين بلا طلاق.

إلى غير ذلك من الموارد التي يبين فيها الزوجان بلا طلاق ممّا ذكره الفقهاء في مجوّزات الفسخ.

6. الزوجة التي بأهلها الزوج تبين بلا طلاق.

وأمّا الاعتداد فقد مرّ انّها تعتدّ بعد انقضاء الأجل وعند موت الزوج.

ولا أدري من أين يقول إنّها لا تثبت النسب ، إذ لا فرق بين النكاحين في

ص : 516


1- المغني : 7 / 109 تصحيح محمد خليل ، ولاحظ الخلاف للطوسي : 2 / 396 فصل في العيوب المجوّزة للفسخ المسألة 124.

موارد ثبوت النسب.

وقال السدّي _ أحد التابعين _ في تعريفه نكاح المتعة : الرجل ينكح المرأة بشرط إلى أجل مسمّى ويشهد شاهدان ، وينكح بإذن وليّها ، وإذا انقضت المدّة فليس له عليها سبيل ، وهي منه بريئة وعليها أن تستبرئ ما في رحمها ، وليس بينهما ميراث. (1)

وكان على الباحث أن يدرس مقوّمات الموضوع ويميّزها عن آثارها ، وعلى ذلك فالمتمتّع بها داخلة في قوله ( إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ ) بلا إشكال. ويترتّب على عقدها آثار خاصة وإن كان يفقد بعض آثار النكاح الدائم.

ص : 517


1- تفسير الطبري : 5 / 9.
الشبهة الرابعة

لو كانت جائزة لما أمر بنكاح الإماء والاستعفاف

لو كان نكاح المتعة زواجا صحيحا ونكاحا مطابقا للأصول فلما ذا أمر الله تعالى بالاستعفاف ، وقال ( وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) (1) لأنّ أعباء الاستمتاع وتكاليفه سهلة ميسورة فلا حاجة إذن إلى الأمر بالاستعفاف ، وهذا دليل على أنّه ليس للمسلم إلاّ طريق واحد وهو النكاح أو الاستعفاف؟

يلاحظ عليه : أنّ الكاتب خلط بين النساء المتعفّفات ، والمبتذلات في النوادي والفنادق وبيوت الدعارة ، وقد عرفت أنّ كثيرا من النساء لعلوّ طبعهنّ لا يخضعن للمتعة وإن كانت حلالا ، إذ ليس كل حلال مرغوبا عند الكل ، ولأجل ذلك تصل النوبة إلى الاستعفاف وربما لا يجد الشاب نكاحا مؤقتا ولا دائما.

* * *

لو كانت المتعة جائزة لما وصلت النوبة إلى نكاح الإماء مع أنّه سبحانه قيّد

ص : 518


1- النور : 33.

نكاحهن بعدم الاستطاعة على نكاح الحرائر دائما أو منقطعا حسب الفرض وقال ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ) (1) لأنّ في نكاح المتعة مندوحة عن ذلك كلّه ، لو كان جائزا.

يقول الأستاذ مصطفى الرافعي : فلو كانت المتعة جائزة على الإطلاق لما كانت ثمة حاجة _ كما يقول المانعون _ إلى نكاح الأمة. (2)

يلاحظ عليه : أنّ هذه الشبهة نظير ما سبق من الشبهة والجواب عن الجميع واحد ، ومصدرهما الذهنيّة الخاطئة بالنسبة إلى المتعة ، وتصور انّ المرأة المتمتع بها لا تختلف عن النساء المبتذلات اللاتي يعرضن أنفسهن في النوادي والفنادق وبيوت الدعارة ، فان الالتذاذ بهن يغني عن نكاح الإماء وما أكثرها في تلك البيوت.

ولكن المتمتع بهنّ _ يا أستاذ _ حرائر عفاف لا صلة بينهن وبين المتواجدات في دمن الفحشاء.

إنّ إغناء نكاح المتعة عن نكاح الإماء ، رجم بالغيب ، إذ ليس بالوفرة التي يتخيّلها الكاتب حتّى يستغنى بها عن نكاح الإماء ، فإنّ كثيرا من النساء الثيّبات تأبى نفوسهنّ عن العقد المنقطع ، فضلا عن الأبكار ، فليس للشارع إلاّ فتح طريق ثالث _ وراء النكاح الدائم والمنقطع _ وهو نكاح الإماء عند عدم الطول وخوف العنت.

ص : 519


1- النساء : 25.
2- إسلامنا في التوفيق بين السنّة والشيعة : 152 ، في فصل زواج المتعة.
الشبهة الخامسة

اندراج المتعة ضمن السفاح

وقد بلغ تجرّء بعض الكتّاب من المعاصرين إلى حدّ ألحقه بالسفاح وقال :

ولطالما نهى القرآن عن السفاح ، وحرّمه تحريما قاطعاً ، وحاسما بالنسبة إلى الرجال والنساء على السواء ودعا إلى النكاح المشروع الدائم ورغّب فيه. (1)

يلاحظ عليه : أنّ المسلمين عامة أصفقوا على أنّ نبي الإسلام أحلّ المتعة في فترة سواء أكانت في فتح خيبر ، أم فتح مكة ، أم غيرهما ، ولو افترضنا انّ المتعة داخلة تحت السفاح ، يكون معنى ذلك انّ الشريعة الإسلامية أمرت بالزنا والسفاح ، ونزل الوحي السماوي على تشريعه ، ولا أظن مسلما على أديم الأرض يتفوّه بذلك ، فان معناه انّ الله ورسوله أمر بالفحشاء مع ( إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ). (2)

والمسلم المؤمن بالحسن والقبح والعارف بمقاصد الشريعة لا يخطر بباله انّه سبحانه جوّز الزنا للمسلمين في فترة من الزمن وأمر بالقبح مكان الأمر بالحسن ، كلّ ذلك يفرض علينا أن ندرس المتعة من جديد حتّى نقف على حدودها

ص : 520


1- الدكتور الدريني في تقديمه : 31.
2- الأعراف : 28.

وشرائطها وأحكامها ، وعندئذ يتجلّى الحقّ بأجلى مظاهرة ، ولا يبقى شكّ في أنّ نكاح المتعة ، لا يفترق عن النكاح الدائم في الماهية والحقيقة وإن كانا يفترقان في بعض الأحكام ، نظير نكاح الإماء ، الذي ندب إليه الوحي ، بقوله ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ. ). (1) فنكاح الإماء لا يفترق عن نكاح الحرائر جوهرا وحقيقة ، وإن افترقا في بعض الأحكام الشرعية.

ولو انّ الكاتب أمعن في أحكام المتعة التي تقدم الحديث عنها في صدر الرسالة ، لأذعن بأنّ بين نكاح المتعة والسفاح فرقا شاسعا فان متعة النكاح من المسائل الفقهية الفرعية التي اختلفت أنظار الفقهاء في استمرار حلّيتها لا أصلها كسائر المسائل الفقهية المختلف فيها ، فعندئذ يطرح هذا السؤال وهو : ما هذا الصخب الذي أثير حول هذه المسألة ، وما هو السبب لرشق السهام في حلبة القائلين بالحلية؟ أو ليس من الأفضل أن نمرّ على هذه المسألة كسائر المسائل الفقهية من دون تفسيق وتكفير ، ومع الأسف الشديد صارت المسألة من المسائل التي تشهّر بها طائفة من المسلمين ويطعن عليها لقولهم بحليّتها ، وليس القول بحليتها من خصائص تلك الطائفة فحسب ، بل سبقهم إليه لفيف من الصحابة والتابعين في عصر تضاربت فيه الأقوال ، وقد تقدّمت أسماؤهم.

وأظن _ وظن الألمعي صواب _ انّ وراء هذا الهياج والضوضاء ، خلفيات سياسية تتلخص في تبرير عمل الخليفة الثاني الذي قام بتحريم متعة النكاح كمتعة الحج ، فحرّم ما أحله الله تبارك وتعالى.

ص : 521


1- النساء : 25.

ولما كان هذا الأمر ثقيلا في ميزان العدل ، راح رجال من هنا وهناك بنحت شبهات حول الحلية ليسهل تعاطي الحرمة التي فرضها الخليفة على مثل هذا النكاح.

هب انّهم برروا عمل الخليفة وموقفه حيال هذه المسألة فبما ذا يبررون العديد من المواقف التي اتّخذها الخليفة قبال النص؟! مثلا : حكم على الطلاق ثلاثا في مجلس واحد بلا تخلّل العدة والرجوع ، بأنّها تحسب تطليقات ثلاث خلافا لنصّ الكتاب والسنّة ، وقد وقف الخليفة على مضاعفات عمله بعد ما بلغ السيل الزبى.

والفقيه الموضوعي يجعل الكتاب والسنّة قدوة لفتياه من دون أن يتّخذ موقفا مسبقا في مسألة حتّى يسهل له الوصول إلى الحق.

ص : 522

الشبهة السادسة

المتمتع يقصد السفح لا الإحصان

إنّ المتمتّع في النكاح المؤقت لا يقصد الإحصان دون المسافحة ، بل يكون قصده مسافحة ، فإن كان هناك نوع ما من إحصان نفسه ومنعها من التنقّل في دمن الزنا ، فإنّه لا يكون فيه شيء ما من إحصان المرأة التي تؤجر نفسها كل طائفة من الزمن لرجل فتكون كما قيل :

كرة حذفت بصوالجة

فتلقّفها رجل رجل (1)

يلاحظ عليه : أنّه من أين وقف على أنّ الإحصان في النكاح المؤقّت يختص بالرجل دون المرأة ، فإنّا إذا افترضنا كون العقد شرعيا ، فكل واحد من الطرفين يحصن نفسه من هذا الطريق ، وإلاّ فلا محيص عن التنقل في دمن الزنا. والذي يصون الفتى والفتاة عن البغي أحد الأمور الثلاثة :

1. النكاح الدائم ، 2. النكاح المؤقّت بالشروط الماضية ، 3. كبت الشهوة الجنسية.

فالأوّل ربّما يكون غير ميسور خصوصا للطالب والطالبة اللّذين يعيشان بمنح ورواتب مختصرة يجريها عليهما الوالدان أو الحكومة ، والثالث أي كبت الشهوة الجنسية أمر شاق لا يتحمّله إلاّ الأمثل فالأمثل من الشباب ، والمثلي من النساء ، وهم قليلون ، فلم يبق إلاّ الطريق الثاني ، فيحصنان نفسهما عن التنقّل في

ص : 523


1- تفسير المنار : 5 / 13.

بيوت الدعارة.

إنّ الدين الإسلامي هو الدين الخاتم ، ونبيّه خاتم الأنبياء ، وكتابه خاتم الكتب ، وشريعته خاتمة الشرائع ، فلا بدّ أن يضع لكل مشكلة اجتماعية حلولا شرعية ، يصون بها كرامة المؤمن والمؤمنة ، وما المشكلة الجنسية عند الرجل والمرأة إلاّ إحدى هذه النواحي التي لا يمكن للدين الإسلامي أن يهملها ، وعندئذ يطرح هذا السؤال نفسه :

ما ذا يفعل هؤلاء الطلبة والطالبات الذين لا يستطيعون القيام بالنكاح الدائم ، وتمنعهم كرامتهم ودينهم عن التنقّل في بيوت الدعارة والفساد ، والحياة المادية بجمالها تؤجّج نار الشهوة في نفوسهم؟ فمن المستحيل عادة أن يصون نفسه أحد إلاّ من عصمه الله ، فلم يبق طريق إلاّ زواج المتعة ، الذي يشكّل الحل الأنجح لتلافي الوقوع في الزنا ، وتبقى كلمة الإمام علي بن أبي طالب ترنّ في الآذان محذّرة من تفاقم هذا الأمر عند إهمال العلاج الذي وصفه المشرّع الحكيم له ، حيث قال عليه السلام : « لو لا نهي عمر عن المتعة لما زنى إلاّ شقي أو شقيّة ».

وأمّا تشبيه المتعة بما جاء في الشعر فهو يعرب عن جهل الشاعر ومن استشهد به بحقيقة نكاح المتعة وحدودها ، فإنّ ما جاء فيه هي المتعة الدورية التي ينسبها الرجل (1) إلى الشيعة ، وهم براء من هذا الإفك ، إذ يجب على المتمتّع بها بعد انتهاء المدّة الاعتداد على ما ذكرنا ، فكيف يمكن أن تؤجّر نفسها كلّ طائفة من الزمن لرجل؟! سبحان الله ما أجرأهم على الكذب على الشيعة والفرية عليهم ، وما مضمون الشعر إلاّ إطاحة بالوحي والتشريع الإلهي ، وقد اتّفقت كلمة المحدّثين والمفسّرين على التشريع ، وأنّه لو كان هناك نهي أو نسخ فإنّما هو بعد التشريع والعمل.

ص : 524


1- لاحظ كتابه : السنّة والشيعة : 65 _ 66.
الشبهة السابعة
اشارة

نسخ النبي صلى الله عليه وآله وسلم حلية المتعة (1)

لقد وقفت على دلالة الكتاب في تحليل المتعة ومكانتها في السنّة النبوية ، وذهاب جمع من الصحابة إلى حليتها بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلا منتدح إلاّ الأخذ بما ورد في الكتاب والسنّة كما وقفت على شبهاتهم مهلهلة النسج لا أساس لها في الواقع والتي حيكت لأغراض خاصة.

بقيت هنا شبهة أخرى وهي العمدة في تحريمها عند الفقهاء حيث قالوا : إنّ حلّية المتعة منسوخة نسخها النبي صلى الله عليه وآله وسلم مستدلّين بأحاديث تصل إلى لفيف من الصحابة ، منهم :

1. سلمة بن الأكوع

أخرج مسلم عن إياس بن سلمة ، عن أبيه قال : رخّص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثا ثمّ نهى عنها. (2) وعام أوطاس هو عام الفتح ( السنة الثامنة من الهجرة ) وأوطاس واد بديار هوازن.

ص : 525


1- لمّا كان القائلون بالتحريم يعرّجون على تلك الشبهة أكثر من سائر الشّبه ، بسطنا الكلام في دحضها بوجوه سبعة على نحو لا يبقى لمشكّك شك ولا لمرتاب ريب في عدم صدور أيّ تحريم من النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
2- صحيح مسلم : 4 / 131 ، باب نكاح المتعة من كتاب النكاح.
2. سبرة بن معد الجهني

أخرج مسلم عن سبرة انّه قال : أذن لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمتعة فانطلقت أنا ورجل إلى امرأة من بني عامر كأنّها بكرة عيطاء فعرضنا عليها أنفسنا فقالت : ما تعطي؟ فقلت : ردائي وقال صاحبي : ردائي ، وكان رداء صاحبي أجود من ردائي ، وكنت أشبّ منه ، فإذا نظرت إلى رداء صاحبي أعجبها وإذا نظرت إليّ أعجبتها ، ثمّ قالت : أنت ورداؤك يكفيني ، فمكثت معها ثلاثا ، ثمّ إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من كان عنده شيء من هذه النساء التي يتمتع فليخلّ سبيلها. (1)

وقد أخرج مسلم عن الربيع بن سبرة عن أبيه سبرة هذا الحديث بألفاظ مختلفة تصل طرقها إلى عشرة ، وربما يظن الغافل انّها روايات عشر مع أنّها رواية واحدة بطرق مختلفة تصل إلى شخص واحد وهو سبرة بن معد الجهني ، وسيوافيك وجود الاختلاف فيما روي عنه على نحو يسقطها عن الاعتبار.

3. ابن مسعود

أخرج عبد الرزاق وابن المنذر والبيهقي عن ابن مسعود ، قال : المتعة منسوخة نسخها الطلاق والصدقة والعدة والميراث. (2)

والرواية مكذوبة على لسان ابن مسعود ، وقد مرّ انّه أحد القائلين بحلية المتعة مستشهدا بآية تحريم الطيبات (3) ثمّ كيف خفي عليه انّ انتفاء بعض الأحكام في مورد المتعة يعد تخصيصا للعموم ولا يعد الثاني نسخا لحلية المتعة؟ ثم كيف تنسخها آية العدّة مع أنّ على المتمتع بها ، عدة الفراق والوفاة كما سلف.

ص : 526


1- صحيح مسلم : 4 / 131 ، باب نكاح المتعة من كتاب النكاح.
2- الدر المنثور : 2 / 486.
3- لاحظ ص 486 من هذا الكتاب.
4. أبو ذر

أخرج البيهقي عن أبي ذر ، قال : إنّما أحلت لأصحاب رسول الله متعة النساء ثلاثة أيّام نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (1)

5. ابن عباس

أخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر والنحاس من طريق عطاء عن ابن عباس في قوله ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ) قال : نسختها ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ ) ، ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) ، ( وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ ). (2)

إنّ حبر الأمّة ، تلميذ الإمام علي عليه السلام أعرف بكتاب الله وسنّة رسوله وكيف تنسخ ما شرعه كتابه سبحانه ، بهذه الآيات ، مع أنّ التمتع بها ممّن كتب عليها العدة؟!

6. علي بن أبي طالب

أخرج مسلم عن يحيى بن يحيى بسند يتصل إلى عبد الله والحسن ابني محمد بن علي ( الحنفية ) ، عن أبيهما ، عن علي بن أبي طالب انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية. (3)

أخرج مسلم بهذا السند عن علي انّه سمع ابن عباس يليّن في متعة النساء ،

ص : 527


1- الدر المنثور : 2 / 486.
2- الدر المنثور : 2 / 485.
3- صحيح مسلم : 4 / 134 ، باب نكاح المتعة من كتاب النكاح.

فقال : مهلا يا بن عباس فان رسول الله نهى عنها يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسية. (1) والحديثان مكذوبان على الإمام ، كيف وهو وبيته الرفيع ممّن ينادون باستمرار الحلية وقد خلا الخافقين كلامه : لو لا نهي عمر عن المتعة لما زنى إلاّ شقي؟!

7. عمر بن الخطاب
اشارة

أخرج البيهقي عن عمر انّه خطب فقال : ما بال رجال ينكحون هذه المتعة وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنها ، لا أوتى بأحد نكحها إلاّ رجمته. (2)

يلاحظ على هذه الشبهة _ وراء ما عرفت في ضمن النقل _ بأمور :

الأوّل : وجود التعارض بين الروايات
اشارة

لو افترضنا صحّة الاحتجاج بهذه الروايات على أنّها نسخت نكاح المتعة لكن هناك روايات صحيحة رواها مسلم في صحيحه تدلّ على استمرار الحلية تصل إلى بعض الصحابة ، منهم :

1. جابر بن عبد الله

1. أخرج مسلم عن أبي الزبير قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : كنّا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر حتّى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث. (3)

2. أخرج مسلم عن ابن نضرة قال : كنت عند جابر بن عبد الله فأتاه آت

ص : 528


1- صحيح مسلم : 4 / 135 ، باب نكاح المتعة من كتاب النكاح.
2- الدر المنثور : 2 / 486.
3- صحيح مسلم : 4 / 131 ، باب نكاح المتعة.

فقال ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين ، فقال جابر : فعلناهما مع رسول الله ثمّ نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما. (1)

2. عبد الله بن مسعود

كنّا نغزو مع رسول الله وليس معنا نساؤنا فقلنا : ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك ورخّص لنا أن نتزوج المرأة بالثوب إلى أجل ، ثمّ قرأ عبد الله ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ). (2)

3. عبد الله بن عمر

أخرج الترمذي : انّ رجلا من أهل الشام سأل ابن عمر عن متعة النساء ، فقال : هي حلال ، فقال : إنّ أباك قد نهى عنها ، فقال ابن عمر : أرأيت إن كان أبي قد نهى عنها وقد سنّها رسول الله ، أنترك السنة ونتبع قول أبي؟! (3)

4. عبد الله بن العباس

وقد مضت رواياته وسيوافيك بعض من تمتع من الصحابة في عصر الخليفة غير مبال لتهديده وتخويفه. (4)

إلى غير ذلك من صحاح الروايات التي مرت ومع وجود هذا التعارض تسقط الروايات من كلا الجانبين ويكون المرجع هو كتاب الله العزيز فهو راسخ كالجبل الشامخ فما لم يثبت النسخ فعلى الفقيه الرجوع إلى كتاب الله لحسم الموقف.

ص : 529


1- صحيح مسلم : 4 / 131 ، باب نكاح المتعة.
2- الدر المنثور : 2 / 485.
3- سنن الترمذي : 3 / 186 برقم 824.
4- لاحظ ص 541 _ 542 من هذا الكتاب.
الثاني : التعارض في الروايات الحاكية للتحريم
اشارة

إنّ في نفس الروايات الحاكية للتحريم تعارضا في زمان التحريم ومكانه وعدده واضطرابا شديدا ولأجل إيقاف القارئ على وجوه الاضطراب نذكر ما ورد في ذلك.

أ. التحريم في خيبر

أخرج مالك وعبد الرزاق وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة عن علي انّ رسول الله نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية. (1)

ب. التحريم في أرض هوازن

أخرج مسلم عن إياس بن سلمة عن أبيه قال : رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثا ثمّ نهى عنها. (2) وقد أقام النبي في مكة المكرمة العشر الأواخر من شهر رمضان وأياما من شهر شوال ثمّ غادر مكة إلى هوازن ، وعلى ذلك فقد استغرق التحليل والتحريم بعد الفتح ثلاثة أيّام في أرض أوطاس ، وهو واد بديار هوازن ولم يكن أي تحليل وتحريم في أرض مكة.

ج. التحريم في أرض مكة

أخرج مسلم عن سبرة انّه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتح مكة قال : فأقمنا بها خمس عشرة ( ثلاثين بين ليلة ويوم ) فأذن لنا رسول الله في متعة النساء فخرجت أنا ورجل من قومي ولي عليه فضل في الجمال وهو قريب من الدمامة ، إلى أن قال :

ص : 530


1- الدر المنثور : 2 / 486.
2- صحيح مسلم : 4 / 131 ، باب نكاح المتعة.

حتّى إذا كنّا بأسفل مكة أو بأعلاها فتلقتنا فتاة مثل البكرة _ إلى أن قال : _ ثمّ استمتعت منها فلم أخرج حتّى حرمها رسول الله.

وفي رواية أخرى عنه : أمرنا رسول الله بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة ثمّ لم نخرج منها حتّى نهانا عنها. (1)

فأين التحريم في غزوة خيبر التي وقعت في أوائل السنة السابعة من الهجرة من التحريم في أرض أوطاس في الغزوة التي وقعت في العشر الثاني من شهر شوال من العام الثامن أو من التحريم في أرض مكة التي دخلها رسول الله في الثامن عشر من شهر رمضان وخرج منها بعد مضي قرابة عشرين يوما.

فلا يمكن الركون إلى هذه الروايات المتعارضة.

الثالث : خلو حديث الرسول عن التحريم في المواقف المذكورة

إنّ من تتبع كلمات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في المواقف المذكورة لم يجد أيّ أثر للتحريم ، امّا غزوة خيبر فقد كان مسير الرسول إليها في شهر محرم الحرام ولا نجد في كتب السيرة أي تصريح للنبي صلى الله عليه وآله وسلم حول المتعة ، على أنّ المتعة تختص بالحرائر وأمّا سبايا خيبر فمقتضى الحال انّهم كانوا إماء للمسلمين فكيف يحلّل النبي صلى الله عليه وآله وسلم التمتع بالإماء اللواتي هن ملك يمين؟! يقول سبحانه ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ). (2)

ومن سبر كتب السير لم يجد في كلمات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أي أثر من تحريم المتعة.

وإليك بعض كلامه في خيبر :

روى ابن إسحاق عن حنش الصنعاني ، قال : غزونا مع رويفع بن ثابت

ص : 531


1- صحيح مسلم : 4 / 133 ، باب نكاح المتعة.
2- المؤمنون : 5 _ 6.

الأنصاري المغرب فافتتح قرية من قرى المغرب يقال لها جربة ، فقام فينا خطيبا ، فقال : يا أيّها الناس إنّي لا أقول فيكم إلاّ ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقوله فينا يوم خيبر ، قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال :

لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماؤه زرع غيره ، يعني إتيان الحبالى من السبايا حتّى يستبرئها ، ولا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصيب امرأة من السبي حتّى يستبرئها ، ولا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنما حتّى يقسم ، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين حتّى إذا أعجفها ردها فيه ، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتّى إذا أخلقه رده فيه. (1)

والمكان المناسب لتحريم المتعة هو هذا الموضع من كلامه ولا نرى فيه أثرا لتحريم المتعة.

يقول ابن القيم : « وقصة خيبر لم يكن الصحابة يتمتعون باليهوديات ، ولا استأذنوا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا نقله أحد قط في هذه الغزوة ، ولا كان للمتعة فيها ذكر البتة لا فعلا ولا تحريما ، فان خيبر لم يكن فيها مسلمات وإنّما كنّ يهوديّات ، وإباحة نساء أهل الكتاب لم يكن ثبت بعد. وإنّما ابحن بعد. (2)

وأمّا فتح مكة فقد ذكر أهل السير خطبة النبي وانّه صلى الله عليه وآله وسلم قام على باب الكعبة فقال : لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده إلى آخر الخطبة التي جاء في آخرها : اذهبوا فأنتم الطلقاء. (3) فأين حلّل المتعة وأين حرّمها؟! أو ليس جديرا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول على رءوس الاشهاد بأنّ ما حلله صار

ص : 532


1- سيرة ابن هشام : 2 / 331.
2- زاد المعاد : 2 / 158 و 204.
3- سيرة ابن هشام : 2 / 412.

حراما وأفضل المواقف لهذه الأمور حين إلقاء الخطب.

والعجب انّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم خطب في حجّة الوداع وذكر فيها النساء ولم يذكر شيئا لا من تحريم المتعة ولا تحليها : فقال : أمّا بعد ، أيّها الناس فان لكم على نسائكم حقا ولهن عليكم حقّا ، لكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة ، فإن فعلن فان الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح ، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، واستوصوا بالنساء خيرا فإنّهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا ، وإنّكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله ، فاعقلوا أيّها الناس قولي فإنّي قد بلغت. (1)

الرابع : اضطراب كلماتهم في زمان التحريم

ما ذكر من التعارض في زمان التحليل والتحريم ومكانهما يرجع إلى خصوص ما رواه مسلم في صحيحه وأمّا اختلاف فقهاء السنة في تحليها وتحريمها عددا وزمانا ومكانا فحدّث عنه ولا حرج فقد ذكر النووي تفصيلها ونحن نذكر ملخصه :

1. أحلت وحرّمت في غزوة خيبر. رووه عن علي عليه السلام.

2. ما حلّت إلاّ في عمرة القضاء وهو المروي عن الحسن البصري. وروى هذا عن سبرة الجهني.

3. أحلّت وحرمت يوم الفتح وهو المروي عن سبرة الجهني أيضا.

4. نهى عنها النبي في غزوة تبوك كما في رواية إسحاق بن راشد عن الزهري.

ص : 533


1- سيرة ابن هشام : 2 / 604.

5. أباحها يوم أوطاس.

6. أباحها يوم حجة الوداع.

هذه الأقوال نقلها النووي في شرحه على صحيح مسلم وناقش في بعضها ثمّ قال : إنّ الذي جرى في حجّة الوداع مجرّد النهي كما جاء في غير رواية ويكون تجديده صلى الله عليه وآله وسلم النهي عنها يومئذ لاجتماع الناس وليبلغ الشاهد الغائب ولتمام الدين وتقرر الشريعة كما قرر غير شيء وبين الحلال والحرام يومئذ وبتّ تحريم المتعة حينئذ لقوله إلى يوم القيامة. (1)

وقد عزب عن النووي انّه لو صحّ ما ذكره أخيرا كان الأنسب أن ينهى عن هذا الأمر إلهام عند إيراد الخطبة في حجّة الوداع في ذلك المحتشد العظيم الذي لم ير مثله إلاّ في الغدير عند ما أوصى بالنساء وقال : فان لكم على نسائكم حقّا.

وقد عرفت أنّه ليس هناك أيّ أثر من التحريم في ذلك الموقف العظيم.

وقال ابن قدامة : اختلف أهل العلم في الجمع بين هذين الخبرين _ تحريم المتعة يوم خيبر وفي فتح مكة _ فقال قوم في حديث علي ( نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن لحوم الحمر الأهلية ) تقديم وتأخير ، وتقديره : انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ، ونهى عن متعة النساء ولم يذكر ميقات النهي عنها ، وقد بيّنه الربيع بن سبرة حديثه انّه كان في حجة الوداع ، لأنّه قال : اشهد على أبي انّه حدّث أنّ النبي نهى عن المتعة في حجة الوداع.

وقال الشافعي : لا أعلم شيئا أحلّ الله ثمّ حرمه ، ثمّ أحلّه ، ثمّ حرمة ، إلاّ المتعة فحمل الأمر على ظاهره ، وانّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم حرمها يوم خيبر ثمّ أباحها في حجة الوداع ثلاثة أيام ثم حرمها. (2)

ص : 534


1- شرح صحيح مسلم : 9 / 191.
2- المغني : 7 / 572.

أنّ التشريع بهذا المنوال ، أشبه بتقنين إنسان غير عالم بعواقب الأمور ، غير محيط بمصالحها ومفاسدها ، فيحكم وينقض من دون تروّ وتفكير ، ونبيّ الإسلام هو نبيّ العظمة والقداسة قد أوتي من العلم ما لم يؤت أحد من العالمين قال سبحانه ( وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ) (1) ونجلّ ساحته من التشريع الأشبه بالتلاعب بالأحكام.

وقال ابن حجر في « فتح الباري » : قال السهيلي : وقد اختلف في وقت تحريم نكاح المتعة ، فأغرب ما روي في ذلك ، رواية من قال في غزوة تبوك ، ثمّ رواية الحسن انّ ذلك كان في عمرة القضاء ، والمشهور في تحريمها إنّ ذلك كان في غزوة الفتح كما أخرجه مسلم من حديث الربيع بن سبرة عن أبيه ، وفي رواية عن الربيع أخرجها أبو داود انّه كان حجّة الوداع ، قال : ومن قال من الرواة كان في غزوة أوطاس فهو موافق لمن قال عام الفتح.

ثمّ قال ابن حجر : فتحصّل ممّا أشار إليه ستة مواطن : خيبر ، ثمّ عمرة القضاء ، ثمّ الفتح ، ثمّ أوطاس ، ثمّ تبوك ، ثمّ حجّة الوداع ، إلى أن قال : ومن قال لا مخالفة بين أوطاس والفتح لأنّ الفتح كان في رمضان ثمّ خرجوا إلى أوطاس في شوال.

ثمّ أخذ ابن حجر بالنقض والإبرام بما لا يسعنا نقله. (2)

وعلى كلّ حال فهذا الاختلاف الكبير يجرّ الباحث إلى التشكيك في أصل التحريم ، وإلاّ فكيف خفي زمان التحريم ومكانه على المسلمين حتّى صاروا طوائف ست لا سيما في مسألة كمسألة المتعة التي يبتلى بها الناس في حلّهم

ص : 535


1- النساء : 113.
2- فتح الباري : 9 / 170.

وترحالهم ، فلا يمكن نسخ القرآن الكريم بهذه الأخبار المشوّشة المضطربة.

ثمّ إنّ ابن القيم ممن حاول أن يجتهد في المسألة ويجمع بين المتعارضين فأورد السؤال بما هذا لفظه :

فإن قيل : فما تصنعون بما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال : كنّا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر حتّى نهى عنها عمر في شأن عمرو بن حريث ، وفيما ثبت عن عمر انّه قال : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا أنهى عنهما : متعة النساء ومتعة الحجّ.

ثمّ أجاب وقال : إنّ الناس في هذا طائفتان :

1. طائفة تقول انّ عمر هو الذي حرّمها ونهى عنها وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باتّباع ما سنّه الخلفاء الراشدون ، ولم تر هذه الطائفة تصحيح حديث سبرة بن معبد في تحريم المتعة عام الفتح ، فإنّه من رواية عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جدّه وقد تكلّم فيه ابن معين ولم ير البخاري إخراج حديثه في صحيحه مع شدة الحاجة إليه وكونه أصلا من أصول الإسلام.

ولو صحّ عنده لم يصبر عن إخراجه والاحتجاج به ، قالوا : ولو صحّ حديث سبرة لم يخف على ابن مسعود حتّى يروي انّهم فعلوها ويحتج بالآية. وأيضا ولو صحّ لم يقل عمر انّها كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أنهى عنها وأعاقب عليها ، بل كان يقول : انّه صلى الله عليه وآله وسلم حرّمها ونهى عنها ، قالوا : ولو صحّ لم تفعل على عهد الصديق وهو عهد خلافة النبوة حقّا.

والطائفة الثانية : رأت صحة حديث سبرة ، ولو لم يصحّ فقد صحّ حديث علي عليه السلام انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرم متعة النساء فوجب حمل حديث جابر على أنّ الذي

ص : 536

أخبر عنها بفعلها لم يبلغه التحريم ، ولم يكن قد اشتهر حتّى كان زمن عمر ، فلمّا وقع فيها النزاع ظهر تحريمها واشتهر وبهذا تألف الأحاديث الواردة فيها. (1)

ولا يخفى على الباحث قوة منطق الطائفة الأولى ، وأمّا ما نقله عن الطائفة الثانية فيتلخص في الأمور التالية :

1. صحّة حديث سبرة.

2. صحّة الحديث عن علي انّ رسول الله حرم المتعة.

3. انّ جابر بن عبد الله لم يبلغه التحريم.

أمّا الأوّل فقد عرفت وجود التعارض في حديث سبرة على وجه يسقطه عن الاحتجاج به وانّ البخاري لم يخرّجه.

وأمّا الثاني أي المنقول عن علي فهو مكذوب على لسانه ، لأنّ عليّا وبيته الرفيع اشتهروا بالقول بجواز المتعة وهو القائل : لو لا نهي عمر عن المتعة لما زنى إلاّ شقي.

وأمّا الثالث وهو عدم بلوغ التحريم إلى صحابي عظيم كجابر بن عبد الله الأنصاري إلى أن اشتهر الحكم في زمان عمر فهو أمر غريب ، لأنّ المسألة ليست من المسائل المغفول عنها حتّى لا يبلغه التحريم على أنّك عرفت انّه نسب جابر التحريم إلى نفس الخليفة دون النبي.

الخامس : نقل أحاديث متعارضة عن راو واحد

وانّ أغرب ما في الباب هو أن ينسب إلى علي روايتين متعارضتين ، فقد أخرج مسلم عن محمد الحنفية بن علي بن أبي طالب انّه سمع علي بن أبي طالب

ص : 537


1- زاد المعاد : 2 / 205 _ 206.

يقول لابن عباس نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية. (1) مع أنّه اشتهر عن علي قوله : « لو لا نهي عمر عن المتعة ما زنى إلاّ شقي ». (2)

وقال الرازي : وأمّا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فالشيعة يروون عنه إباحة المتعة وروى محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن علي بن أبي طالب عليه السلام انّه قال : « لو لا انّ عمر نهى الناس عن المتعة ما زنى إلاّ شقي ». (3)

وأغرب من ذلك انّهم يروون عن ابن عباس تحريم المتعة.

أخرج البخاري عن أبي جمرة قال : سئل ابن عباس عن متعة النساء فرخّص فيها ، فقال له مولى له : إنّما كان ذلك وفي النساء قلة والحال شديد! فقال ابن عباس : نعم. (4) مع أنّ ابن عباس قد اشتهر بالفتيا بحلية المتعة.

أخرج مسلم عن عروة بن الزبير انّ عبد الله بن الزبير قام بمكة ، فقال : إنّ ناسا أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة يعرّض برجل ، فناداه فقال : أنت لجلف جاف فلعمري لقد كانت المتعة تفعل في عهد إمام المتقين _ يريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم _ فقال له ابن الزبير : فجرب بنفسك فو الله لئن فعلتها لأرجمنّك بأحجارك.

أخرج الحافظ ابن أبي شيبة عن نافع : انّ ابن عمر سئل عن المتعة؟ فقال : حرام ، فقيل له : إنّ ابن عباس يفتي بها ، قال : فهلا ترمرم بها _ تزمزم _ في زمان عمر. (5)

ص : 538


1- صحيح مسلم : 4 / 135 ، باب نكاح المتعة.
2- تفسير الطبري : 3 / 200 ؛ الدر المنثور : 2 / 486.
3- تفسير الرازي : 10 / 50.
4- الدر المنثور : 2 / 486.
5- الدر المنثور : 2 / 487.
السادس : استناد التحريم إلى نفس الخليفة

قد تضافرت الروايات على نسبة التحريم إلى الخليفة نفسه وانّه هو الذي حرمها وأوعد مرتكبيها بالرجم ، ولا يسعنا نقل ما ذكره أهل السير والتأريخ في ذلك الموقف فنقتصر بالقليل عن الكثير :

1. قال عمران بن حصين : نزلت آية المتعة في كتاب الله وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثمّ لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج ولم ينه عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتّى مات ، قال رجل برأيه بعد ما شاء. (1)

2. قال عمران بن حصين : نزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينزل قرآن يحرمه ، ولم ينه عنها حتّى مات ، قال رجل برأيه ما شاء. (2)

3. أخرج مسلم عن أبي الزبير قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر حتّى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث. (3) وسيوافيك ما ورد في شأن ابن حريث.

4. أخرج أيضا عن أبي نضرة قال : كنت عند جابر بن عبد الله فأتاه آت فقال : ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين ، فقال جابر : فعلناهما مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما. (4)

5. أخرج مسلم عن أبي نضرة قال : كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنهما ، قال : فذكرت ذلك لجابر بن عبد الله فقال : على يديّ دار

ص : 539


1- صحيح مسلم : 4 / 49 باب جواز التمتع وفي الحديث إشارة إلى كلتا المتعتين.
2- صحيح البخاري : 6 / 33.
3- صحيح مسلم : 4 / 131 ، باب نكاح المتعة.
4- المصدر نفسه.

الحديث تمتعنا مع رسول الله فلما قام عمر ، قال : إنّ الله كان يحلّ لرسوله ما شاء بما شاء ، وانّ القرآن قد نزل منازله ، فأتموا الحجّ والعمرة لله كما أمركم الله.

وأبتّوا نكاح هذه النساء فلن أوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلاّ رجمته بالحجارة. (1)

والمقطع الأوّل راجع إلى تحريم التحلل بين العمرة والحجّ ، كما أنّ المقطع الثاني راجع إلى تحريم متعة النساء.

6. ما تضافر من أنّ عمر بن الخطاب قال على المنبر : متعتان كانتا مشروعتين في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أنهى عنهما : متعة الحجّ ، ومتعة النكاح. (2)

إنّ خطبة عمر من الخطب المتسالم عليها ، وقد اكتفينا من المصادر بالقليل عن الكثير حتّى أنّ المتكلّم الأشعري القوشجي في شرحه على تجريد الاعتقاد حاول تأويله دون أن يناقش سنده ، وإليك نصّه.

7. قال عمر وهو على المنبر : أيّها الناس ثلاث كنّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أنهى عنهنّ وأحرمهنّ وأعاقب عليهنّ : متعة النساء ، ومتعة الحجّ ، وحيّ على خير العمل. ثمّ اعتذر عنه بقوله : إنّ ذلك ليس مما يوجب قدحا فيه ، فان مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهادية ليس ببدع. (3)

8. قال الراغب في « المحاضرات » ، قال : يحيى بن أكثم لشيخ بالبصرة بمن

ص : 540


1- صحيح مسلم : 4 / 38 ، باب في المتعة بالحجّ والعمرة.
2- تفسير الفخر الرازي : 5 / 370 ؛ زاد المعاد لابن القيم : 2 / 184 ؛ سنن البيهقي : 7 / 206 ؛ المبسوط : 4 / 37 ؛ المغني : 7 / 571 ؛ الشرح الكبير : 7 / 537 ؛ المحلى : 7 / 107 ؛ بداية المجتهد : 1 / 268 ؛ أحكام القرآن للجصاص : 2 / 152 ؛ كنز العمال : 16 / 519 برقم 45715 _ 45722 ؛ مسند أحمد : 3 / 325.
3- شرح التجريد : 484 الطبعة الحجرية.

اقتديت في جواز المتعة قال : بعمر بن الخطاب ، قال : كيف وعمر كان أشدّ الناس فيها؟ فقال : لأنّ الخبر الصحيح انّه صعد المنبر ، فقال : إنّ الله ورسوله قد أحلاّ لكم متعتين وأنا محرّمهما عليكم وأعاقب عليهما ، فقبلنا شهادته ولم نقبل تحريمه. (1)

السابع : سيرة الصحابة بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم

إنّ السبر في كتب التأريخ والسير يثبت بأنّ سيرة الصحابة بعد رحيل النبي استمرت على الحلية فكان يستمتعون بلا تريث ، وإنّما بدأ الاختلاف عند ما أفتى الخليفة بتحريمها في أخريات خلافته.

وقد مرت أسماء طائفة من الصحابة الذين استمتعوا بعد رحيل الرسول ولم يعترض عليهم أحد وقد وقفت على أحاديث لفيف منهم :

1. جابر بن عبد الله الأنصاري.

2. عبد الله بن مسعود.

3. عمران بن حصين.

إلى غير ذلك ممن مرت أسماؤهم ، وها نحن نذكر هنا نزرا يسيرا ممّن استمتع بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وهم من الصحابة العدول وإن أثار حفيظة المحرّم.

1. أخرج الحافظ عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج قال : أخبرني أبو الزبير عن جابر قدم عمرو بن حريث الكوفة فاستمتع بمولاة فأتى بها عمرو حبلى فسأله فاعترف ، قال : فذلك حين نهى عنها عمر. (2)

ص : 541


1- المحاضرات : 2 / 94.
2- فتح الباري : 9 / 141.

2. أخرج المتقي الهندي عن سليمان بن يسار عن أمّ عبد الله ابنة أبي خيثمة انّ رجلا قدم من الشام فنزل عليها ، فقال : إنّ العزبة قد اشتدت عليّ فابغيني امرأة أتمتع بها ، قالت : فدللته على امرأة فشارطها وأشهدوا على ذلك عدولا ، فمكث معها ما شاء الله أن يمكث.

ثمّ إنّه خرج فأخبر عن ذلك عمر بن الخطاب فأرسل إليّ فسألني أحقّ ما حدّثت؟ قلت : نعم. قال : فإذا قدم فأذنيني ، فلمّا قدم أخبرته فأرسل إليه ، فقال : ما حملك على الذي فعلته؟ قال : فعلته مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ لم ينهنا عنه حتّى قبضه الله ، ثمّ مع أبي بكر فلم ينهنا عنه حتّى قبضه الله ، ثمّ معك فلم تحدث لنا فيه نهيا ، فقال عمر : أما والذي نفسي بيده لو كنت تقدّمت في نهي لرجمتك ، بينوا حتّى يعرف النكاح من السفاح. (1)

3. نقل ابن حجر عن ابن الكلبي إنّ سلمة بن أميّة بن خلف الجمحي استمتع من سلمى مولاة حكيم بن أمية بن الأوقص الأسلمي ، فولدت له ، فجحد ولدها ، فبلغ ذلك عمر فنهى المتعة. وروى أيضا انّ سلمه استمتع بامرأة فبلغ عمر فتوعّده. (2)

ص : 542


1- كنز العمال : 16 / 522 برقم 45726.
2- الإصابة : 2 / 63.
الشبهة الثامنة

الزواج المؤقت

ومشكلة الأنجاب

كانت الشبهة السابقة تدور حول حلّية المتعة كتابا وسنّة أو منسوخيّتها كذلك.

ولكن ثمة شبهة أخرى وهي ترجع إلى مشكلة اجتماعية مفادها انّ الرجل إذا نزل بلدة واستمتع بامرأة مسلمة وقضى وطره منها ثمّ تركها وغادر البلدة والمرأة حبلى فحينها تثار مشكلة المولود وانتسابه إلى الأب ، وربما يبقى المولود إلى آخر عمره لا يعرف أباه ، ويولّد ذلك بمرور الزمن عقد نفسية لا يمكن تجاوزها.

وحسم هذه المشكلة يتم بالبيان التالي :

1. انّ المشكلة مشتركة بين الزواج الدائم والمؤقت ، فربما يتوافق الزوجان على عقد دائم عرفي مع إقامة الشهود والولي فربما يغادر الزوج البلد ويتركها من دون أن يطلع الزوجة على مكانه والزوجة حبلى ، فتثار حينها مشكلة الولد كنظيرتها في النكاح المؤقت.

2. انّ الملاك في تشريع القوانين وتقنينها هو انسجامها مع مصالح

ص : 543

المجتمع على الوجه الغالب ولا تضر المفسدة في شواذّ الأمور ونوادرها ، إذ قلّما يؤمّن القانون مصالح المجتمع بالتمام ، فعلى الباحث أن يطالع القانون وآثاره الإصلاحية في أكثر الموارد دون أن يأخذ بنظر الاعتبار الموارد الشاذّة.

هذا والذي يحسم جذور الإشكال انّ على المرأة المتزوجة إذا خافت من مضاعفات النكاح المؤقت أن لا ترضى إلاّ بالعزل أوّلا ثمّ الإشهاد على الزواج ثانيا ، سواء كان الإشهاد واجبا كما في فقه السنّة ، أو مستحبا كما في فقه الشيعة ، وأولى من ذلك أن يكون هناك وثيقة رسمية تكفل لها حقوقها في المحاكم الرسمية كالزواج الدائم.

نعم يتجلّى الإشكال في أكثر البلاد الإسلامية والتي لم يعترف فيها بالمتعة تحليلا ، وأمّا إذا كان هناك اعتراف رسمي بالزواج المؤقت فيكون المؤقت والدائم على حدّ سواء.

وتتلو هذه الشبهة شبهة أخرى ربما تتّحدان جوهرا وتختلفان صورة ، وهي مسألة اختلاط الأنساب وضياع النسل وعقد عابر الطريق والمجهول في النكاح المؤقت ، وهذه الشبهة هي التي طرحها السيد الراوي البغدادي في المقام.

والشبهة نابعة من عدم الإمعان في حقيقة النكاح المؤقت ، وقد عرفت أنّ من أحكامه العدّة : عدة الطلاق ، وعدة الوفاة ، وفي ظلّه يحفظ النسل ويمنع اختلاط المياه ، فلا يجوز لأحد أن يتمتع بامرأة تمتع بها غيره حتّى تخرج من عدة ذلك الغير وإلاّ كان زانيا ومع اعتبار العدة فأين يكون اختلاط الأنساب وضياع النسل؟!

وحصيلة الكلام : انّه يجب على الزوج أن يتعرف حال المتمتع بها حتّى إذا ولدت ولدا الحق به كي لا تضيع الأنساب وكذلك المتمتع بها إذا انتهى أجلها يجب عليها أن تعتد.

ص : 544

الشبهة التاسعة

أكذوبة

المتعة الدورية

إنّ طرح مثل هذه الشبهة ممّا يندي له الجبين ويأسف له العقل السليم ، وفي الحقيقة هي ليست شبهة ، بل فرية وافتراء على شريحة واسعة من المسلمين الذين أخذوا عقيدتهم من معين أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم العذب الذين عرّفهم النبي بأنّهم أعدال القرآن وقرناؤه وقال : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي ».

وحاصل الشبهة : انّ المرأة الواحدة يتناوبها ويتعاقبها عدة من الرجال بحسب ساعاتهم ، فعندئذ فبمن يلحق الولد.

أقول : إنّ ما نسبه إلى القائلين بالحلية يعرب عن أنّ صاحب الشبهة أعياه البرهان حتى التجأ إلى الكذب والفرية ، وقد عرفت في صدر البحث أحكام المتعة ووجوب العدة ومع ذلك كيف يمكن تصحيح تلك المتعة الدورية التي هي في الواقع زنا لا غير؟!

وهنا كلام قيم للإمام المصلح الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء الذي كان ينبض قلبه للمّ شمل الأمّة وجمع شتاتها ، يقول ردا على طرح تلك الشبهة :

ص : 545

فاللازم أوّلا : ان تدلنا على كتاب جاهل من الشيعة ذكر فيه تحليل هذا النحو من المتعة فضلا عن عالم من علمائهم ، وإذا لم تدلنا على كتابة منهم أو كتاب ، فاللازم إن تحد حد المفتري الكذاب ، كيف وإجماع الإمامية على لزوم العدة في المتعة وهي على الأقل خمسة وأربعون يوما ، فأين التناوب والتعاقب عليها حسب الساعات؟!

وإن كنت تريد انّ بعض العوام والجهلاء الذين لا يبالون بمقارفة المعاصي وانتهاك الحرمات قد يقع منهم ذلك ، فهذا مع أنّه لا يختص بعوام الشيعة بل لعلّه في غيرهم أكثر ، ولكن لا يصحّ أن يسمّى هذا تحليلا ، إذ التحليل ما يستند إلى فتوى علماء المذهب لا ما يرتكبه عصاتهم وفسّاقهم ، وهذا النحو من المتعة عند علماء الشيعة من الزنا المحض الذي يجب فيه الحدّ ولا يلحق الولد بواحد ، كيف وقد قال سيد البشر : « الولد للفراش وللعاهر الحجر ». (1)

قال العلاّمة الأميني _ ردّا على صاحب المنار الذي نسب المتعة الدورية إلى الشيعة _ ما هذا لفظه :

نسبة المتعة الدوريّة وقل : الفاحشة المبيّنة إلى الشيعة إفك عظيم تقشعرّ منه الجلود ، وتكفهرّ منه الوجوه ، وتشمئزّ منه الأفئدة ، وكان الأحرى بالرّجل حين أفك أن يتّخذ له مصدرا من كتب الشيعة ولو سوادا على بياض من أيّ ساقط منهم ، بل نتنازل معه إلى كتاب من كتب قومه يسند ذلك إلى الشيعة ، أو سماع عن أحد لهج به ، أو وقوف منه على عمل ارتكبه أناس ولو من أوباش الشيعة وأفنائهم ، لكنّ المقام قد أعوزه عن كلّ ذلك ، لأنّه أوّل صارخ بهذا الإفك الشائن ، ومنه أخذ القصيمي في [ الصراع بين الإسلام والوثنيّة ] وغيره. (2)

ص : 546


1- أصل الشيعة وأصولها : 151 ، مطبعة العرفان ، صيدا.
2- الغدير : 3 / 286.
الشبهة العاشرة

تحاشي الأشراف من تعاطيها

وهناك من يجعل تحاشي الأشراف دليلا على عدم الحلية ويقول : لو كانت المتعة حلالا فلما ذا نرى أنّ أشراف الشيعة وأعيانهم يتحاشون من تعاطيها بينهم ، فلم يسمع من يقول حضرنا تمتّع السيد الفلاني أو الفاضل الفلاني بالآنسة بنت السيد الفلاني كما يقال : حضرنا عقد نكاح الفاضل الفلاني بآنسة الفاضل ، بل أكثر جريانها وتعاطيها في الساقطات والسافلات ، فهل ذلك إلاّ لقضاء الوطر وإن حصل منه النسل قهرا؟

فنقول : إنّ هذه الشبهة ممّا تضحك منها الثكلى ، كيف يعد التحاشي دليلا على الحرمة والإقبال دليلا على الحلية ، فإنّ الطلاق أمر مشروع لكن يتحاشى منه الأشراف غالبا ، فهل يمكن أن يستدلّ بتحاشيهم على حرمته؟!

إنّ القائل بادر إلى طرح هذه الشبهة نتيجة استفلاسه عن دحض أدلّة الزواج المؤقت بحجج دامغة ، فالتجأ إلى هذه الشبهة غافلا عن أنّ النكاح المؤقت كما مرّ في المقدمة دواء لمقطع زمني خاص وليس هو السبيل الأمثل ، وانّ المتمتع إنّما يتمسك بأهداب المتعة حين الاضطرار وعدم مقدرته على الزواج الدائم ، ولهذا السبب لا يعقد له النوادي ولا الحفلات ولا تبعث له التبريكات ، يقول

ص : 547

العلاّمة كاشف الغطاء : أمّا تحاشي أشراف الشيعة وسراتهم من تعاطيها فهو عفّة وترفّع واستغناء واكتفاء بما أحلّ الله لهم من تعدّد الزوجات الدائمة مثنى وثلاث ورباع ، فإن أرادوا الزيادة على ذلك جاز لهم التمتع بأكثر من ذلك كما يفعله بعض أهل الثروة والبذخ من رؤساء القبائل وغيرهم.

وعلى كلّ فإنّ تحاشي الأشراف والسراة لا يدلّ على الكراهة الشرعية فضلا عن عدم المشروعية ، ألا ترى أنّ الصحابة والتابعين _ رضوان الله عليهم _ كانوا كثيرا ما يتسرون بالإماء ويتمتعون بملك اليمين ويلدن لهم الأولاد الأفاضل.

أمّا اليوم فالأشراف يأنفون من ذلك مع أنّه حلال بنص القرآن العزيز. (1)

* * *

هذه هي المتعة وهذه هي حقيقتها ودلائلها الساطعة من الكتاب والسنّة وسيرة الصحابة بعد رحيل النبي ، وهذه شبهاتها الواهية وأجوبتها الواضحة ، وعندئذ :

فما هذا النكير والنفير ، والنبز والتعيير على الشيعة في أمر المتعة يا فقهاء الإسلام ويا حملة الأحكام.

والحق كما يقوله المصلح الكبير الشيخ كاشف الغطاء : لو انّ المسلمين عملوا بها على أصولها الصحيحة من العقد ، والعدة ، والضبط ، وحفظ النسل منها ، لانسدت بيوت المواخير وأوصدت أبواب الزنا والعهار ، ولارتفعت أو قلت ويلات هذا الشر على البشر ، ولأصبح الكثير من تلك المومسات المتهتكات ، مصونات محصنات ، ولتضاعف النسل وكثرت المواليد الطاهرة ، واستراح الناس

ص : 548


1- أصل الشيعة وأصولها : 151 _ 152 ، مطبعة العرفان ، صيدا.

من اللقيط والنبيذ ، وانتشرت صيانة الأخلاق وطهارة الأعراق إلى كثير من الفوائد والمنافع التي لا تعد ولا تحصى.

ولله در عالم بني هاشم وحبر الأمة عبد الله بن عباس ( رض ) في كلمته الخالدة الشهيرة التي رواها ابن الأثير في « النهاية » والزمخشري في « الفائق » وغيرهما حيث قال : ما كانت المتعة إلاّ رحمة رحم الله بها أمّة محمد ولو لا نهيه عنها ما زنا إلاّ شقي ، وقد أخذها من عين صافية من أستاذه ومعلّمه ومربّيه أمير المؤمنين ، وفي الحق أنّها رحمة واسعة ، وبركة عظيمة ولكن المسلمون فوّتوها على أنفسهم وحرموا من ثمراتها وخيراتها ووقع الكثير في حمأة الخنا والفساد والعار والنار والخزي والبوار ( أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ). (1)

ص : 549


1- أصل الشيعة وأصولها : 148.
خاتمة المطاف

لا يخفى انّ كلّ هذا الضجيج الذي أثير حول النكاح المؤقت ما ظهر إلاّ لتبرير عمل الخليفة الثاني الذي حرم ما نص على حلّيته الذكر الحكيم والسنّة النبوية وسيرة الصحابة وقضاء الفطرة الإنسانية ، فلم يجدوا بدّا إلاّ القول بمنسوخية التشريع في حياة الرسول وجاء عمل الخليفة الثاني كتعزيز وتأكيد لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، غير انّ هذا التبرير لا يعضده التأريخ ويزيّفه قول الخليفة نفسه ، فإنّه نسب صراحة التحريم إلى نفسه ، وقد مرّ نصّه وذلك بعد ما وقف على قضية عمرو بن حريث وانّه تمتع ، فثارت ثورته من العمل المذكور فقال ما قال.

وأجود ما يقال في تبرير عمل الخليفة أنّ تحريمه انطلق من مصلحة زمنية في نظره دعته إلى تحريمها والكيد بفاعلها.

وما ذكرناه من التوجيه هو الذي مال إليه الشيخ كاشف الغطاء _ رضوان الله عليه _ فقال : إذا أردنا أن نسير على ضوء الحقائق ، ونعطي المسألة حقّها من التمحيص والبحث عن سرّ ذلك الارتباك وبذرته الأولى _ التي نمت وتأثلت _ لا نجد حلا لتلك العقدة إلاّ أنّ الخليفة قد اجتهد برأيه لمصلحة رآها بنظره للمسلمين في زمانه وأيامه ، اقتضت أن يمنع من استعمال المتعة منعا مدنيا لا دينيا ، لمصلحة زمنية ، ومنفعة وقتية ، ولذا تواتر النقل عنه أنّه قال : « متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أحرّمهما وأعاقب عليهما ». ولم يقل انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

ص : 550

حرّمهما أو نسخهما ، بل نسب التحريم إلى نفسه وجعل العقاب عليها منه لا من الله سبحانه. (1)

ولو انّ مخالفي النكاح المؤقت اعتمدوا على التوجيه الذي بذله الشيخ كاشف الغطاء ، لانصاعوا لأدلّة النكاح المؤقت الدامغة ، وبما انّ تحريم الخليفة كان تحريما مؤقتا نابعا من مصلحة زمنية ، فإذا ارتفع المانع عاد المقتضي ، حينها يأخذ النكاح المؤقت مكانته في التشريع الإسلامي ولحل محلّ المحرم ولصلحت الأمة الإسلامية في حاضرها ومستقبلها ، وبذلك يتجسّد القول الخالد لأمير المؤمنين عليه السلام : « لو لا النهي عن المتعة لما زنا إلاّ شقي ».

قال سبحانه :

( وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا

حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ

الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ). (2)

ص : 551


1- أصل الشيعة وأصولها : 138.
2- النحل : 116.

ص : 552

الفهارس

اشارة

* فهرس المصادر

* فهرس المحتويات

ص : 553

ص : 554

فهرس المصادر

نبدأ تبرّكاً بالقرآن الكريم

حرف الألف

1. أحكام القرآن : أحمد بن علي الرازي الجصّاص الحنفي ( المتوفّى 370 ه_ ) دار الكتاب العربي ، بيروت _ 1406 ه_.

2. الإحكام في أُصول الأحكام : ابن حزم الأندلسي الظاهري ( 383 _456 ه_ ) دار الجيل ، بيروت _ 1407 ه_.

3. اخبار اصبهان : أبو نعيم الأصفهاني أحمد بن عبد اللّه ( المتوفّى430 ه_ ) منشورات جهان ، إيران.

4. الأذكياء : أبو الفرج بن علي بن الجوزي ( من أعلام القرن السادس الهجري ) مكتبة القرآن ، القاهرة ، مصر.

5. إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري : أحمد بن القسطلاني ( 851 _ 923 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

6. الأرض والتربة الحسينية : الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء ( 1295 _

ص : 555

1373 ه_ ) ، المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام ، قم المقدسة _ 1416 ه_.

7. أُسد الغابة : ابن الأثير علي بن أبي الكرم ( المتوفّى630 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

8. إسلامنا في التوفيق بين السنّة والشيعة : مصطفى الرافعي ، مؤسسة الأعلمي ، بيروت _ 1404 ه_.

9. أسماء الصحابة والرواة : ابن حزم الأندلسي الظاهري ( 383 _ 456 ه_ ) دار الكتب العلمية ، بيروت _ 1412 ه_.

10. الإصابة : ابن حجر أحمد بن علي العسقلاني ( 773 _ 852 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

11. أصل الشيعة وأُصولها : الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء ( 1295 _1373 ه_ ) مؤسسة الإمام علي ، قم المقدسة _ 1415 ه_.

12. الاعتصام بالكتاب والسنّة : جعفر السبحاني ( تولد 1347 ه_ ) مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام ، قم المقدسة_ 1414 ه_.

13. الانتصار : الشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي ( 355 _ 436 ه_ ) منشورات المطبعة الحيدرية ، النجف الأشرف _ 1391 ه_.

14. أنوار التنزيل وأسرار التأويل ( المعروف بتفسير البيضاوي ) : عبد اللّه بن عمر بن محمد البيضاوي ( المتوفّى791 ه_ ) دار الكتب العلمية ، بيروت _ 1408 ه_.

حرف الباء

15. بحار الأنوار : محمد باقر المجلسي ( المتوفّ_ى 1110 ه_ ) مؤسسة الوفاء ، بيروت _ 1403 ه_.

ص : 556

16. بداية المجتهد : محمد بن رشد القرطبي ( 520 _ 595 ه_ ) دار المعرفة ، بيروت _ 1403 ه_.

17. البداية والنهاية : ابن كثير الدمشقي ( 700 _ 774 ه_ ) دار الفكر ، بيروت _ 1402 ه_.

18. البدعة : جعفر السبحاني ( تولّد 1347 ه_ ) مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام ، قم المقدسة _ 1416 ه_.

19. البيان والتبيين : أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ( 150 _ 255 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

حرف التاء

20. تاج العروس من جواهر القاموس : محمد مرتضى الحسيني الزبيدي ( 1145 _ 1205 ه_ ) دار الهداية ، بيروت.

21. تاريخ بغداد : أحمد بن علي الخطيب البغدادي ( المتوفّى463 ه_ ) المكتبة السلفية ، المدينة المنورة.

22. التاريخ الكبير : إسماعيل بن إبراهيم الجعفي البخاري ( المتوفّى 256 ه_ ) دار الفكر ، بيروت.

23. تاريخ المذاهب الإسلامية : محمد أبو زهرة ( المتوفّى 1396 ه_ ) دار الفكر العربي ، بيروت.

24. التبيان في تفسير القرآن : محمد بن الحسن الطوسي ( 385 _ 460 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

25. تحرير الأحكام : العلاّمة الحلّي ( 648 _ 726 ه_ ) مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام ، قم المقدسة _ 1420 ه_.

ص : 557

26. تذكرة الحفاظ : محمد بن أحمد الذهبي ( 683 _ 748 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

27. تذكرة الفقهاء : العلاّمة الحلّي ( 648 _ 726 ه_ ) مؤسسة آل البيت عليهم السلام ، قم المقدسة _ 1414 ه_.

28. تفسير ابن كثير ( تفسير القرآن العظيم ) : إسماعيل بن كثير الدمشقي ( 700 _ 774 ه_ ) دارالفكر ، بيروت _ 1403 ه_.

29. تفسير الخازن المسمّى « لباب التأويل في معاني التنزيل » : علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي الشهير بالخازن ( المتوفّى 725 ه_ ) دار الكتب العلمية ، بيروت _ 1415 ه_.

30. تفسير الطبري ( جامع البيان ) : محمد بن جرير الطبري ( المتوفّى 310 ه_ ) دار المعرفة ، بيروت.

31. تفسير العياشي : محمد بن مسعود بن محمد الكوفي ( من أعلام القرن الثالث الهجري ) طبع المكتبة الإسلامية ، طهران.

32. تفسير غرائب القرآن ( المطبوع بهامش تفسير الطبري ) : النيشابوري الحسن بن محمد بن حسين القمي ، دار المعرفة ، بيروت.

33. تفسير القمي : علي بن إبراهيم القمي ( من أعلام القرن الثالث والرابع الهجري ) مؤسسة دار الكتاب ، قم _ 1404 ه_.

34. تفسير المنار : محمد رشيد رضا ( المتوفّى 1354 ه_ ) دار المنار ، مصر _ 1373 ه_.

35. تفسير النهر الماد من البحر المحيط : أبو حيان الأندلسي ( المتوفّى 754 ه_ ) مؤسسة الكتب الثقافية ودار الجنان ، بيروت _ 1407 ه_.

36. تهذيب الأحكام : محمد بن الحسن الطوسي ( 385 _ 460 ه_ ) دار الكتب الإسلامية ،

ص : 558

طهران _ 1397 ه_.

37. تهذيب الأسماء واللغات : أبو زكريا محيى الدين بن شرف النووي ( 631 _ 676 ه_ ) دارالفكر ، بيروت _ 1416 ه_.

38. تهذيب التهذيب : أحمد بن علي بن حجر ( 773 _ 852 ه_ ) دار الفكر ، بيروت _ 1404 ه_.

39. تهذيب الكمال في أسماء الرجال : جمال الدين المزي أبو الحجاج يوسف ( 654 _ 742 ه_ ) مؤسسة الرسالة ، بيروت _ 1406 ه_.

حرف الثاء

40. الثقات : محمد بن حبّان التميمي البستي ( المتوفّى354 ه_ ) دائرة المعارف العثمانية حيدر آباد الدكن ، الهند _ 1973م.

41. ثواب الأعمال : الشيخ الصدوق ( 306 _ 381 ه_ ) مكتبة الصدوق ، طهران.

حرف الجيم

42. جامع أحاديث الشيعة : إسماعيل المعزّي الملايري ( المعاصر ) تحت إشراف السيد حسين الطباطبائي البروجردي قدس سره ، قم المقدسة _ 1421 ه_.

43. جامع الأُصول : ابن الأثير الجزري المبارك بن محمد ( 544 _ 606 ه_ ) دارالفكر ، بيروت _ 1403 ه_.

44. الجامع لأحكام القرآن : أبو عبد اللّه محمد بن أحمد القرطبي ( المتوفّى671 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت _ 1405 ه_.

45. جامع المسانيد : محمد بن محمود الخوارزمي ( 593 _ 665 ه_ ) دار الكتب العلمية ، بيروت.

ص : 559

46. الجرح والتعديل : أبو حاتم الرازي ( المتوفّى 327 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت _ 1371 ه_.

47. الجمع بين الصحيحين : محمد بن فتوح الحميدي ( المتوفّى488 ه_ ) دار ابن حزم ودار الصميعي ، بيروت والرياض _ 1419 ه_.

48. جمع الفوائد من جامع الأُصول ومجمع الزوائد : محمد بن محمد بن سليمان المغربي ( المتوفّى 1049 ه_ ).

49. جواهر الكلام : الشيخ محمد حسن النجفي ( المتوفّى1266 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت _ 1981م.

حرف الحاء

50. الحدائق الناظرة في أحكام العترة الطاهرة : الشيخ يوسف البحراني ( 1107 _ 1186 ه_ ) مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ، قم المشرفة _ 1405 ه_.

51. حلية الأولياء : أبو نعيم أحمد بن عبد اللّه الاصبهاني ( المتوفّى 430 ه_ ) دار الكتاب العربي ، بيروت _ 1378 ه_.

52. حلية العلماء في معرفة مذهب الفقهاء : محمد بن أحمد الشاشي القفّال ( 429 _ 507 ه_ ) مكتبة الرسالة الحديثة ، المملكة الأردنية الهاشمية _ 1988م.

حرف الخاء

53. الخصائص الكبرى : عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي ( 215 _ 303 ه_ ) تحقيق محمدباقر المحمودي ، قم المقدسة _ 1403 ه_.

54. الخصال : الشيخ الصدوق : محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي ( 306

ص : 560

_ 381 ه_ ) مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ، قم _ 1403 ه_.

55. الخطط المقريزية : تقي الدين المقريزي ( المتوفّى 845 ه_ ) دار صادر ، بيروت.

56. الخلاف : الشيخ الطوسي ( 385 _ 460 ه_ ) مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ، قم المشرفة _ 1407 ه_.

حرف الدال

57. الدر المنثور : عبد الرحمن السيوطي ( 849 _ 911 ه_ ) دار الفكر ، بيروت _ 1403 ه_.

حرف الراء

58. رحمة الأُمّة في اختلاف الأئمّة : محمد بن عبد الرحمن الدمشقي ( من أعلام القرن الثامن الهجري ) دار الكتب العلمية ، بيروت _ 1407 ه_.

59. الرسائل : الشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي ( 355 _ 436 ه_ ) دار القرآن الكريم ، قم المقدسة _ 1405 ه_.

60. رسالة مختصرة في السدل : عبد الحميد بن مبارك ، الإمارات العربية المتحدة _1414 ه_.

61. روح المعاني : أبو الفضل محمود البغدادي الآلوسي ( المتوفّى 1270 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

62. روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان : الشهيد الثاني زين الدين العاملي ( 911 _ 965 ه_ ) مؤسسة آل البيت عليهم السلام ، الطبعة الحجرية ، إيران.

63. الرياض النضرة : أبو جعفر أحمد الشهير بالمحب الطبري ( المتوفّى 694 ه_ ) دار الكتب العلمية ، بيروت.

ص : 561

حرف الزاء

64. زاد المعاد : ابن قيّم الجوزية ( المتوفّى 751 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

65. الزواج المؤقت عند الشيعة : شهلا حائري ، ترجمة فادي حمود ، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ، بيروت _ 1996م.

حرف السين

66. سبل السلام : الصنعاني محمد بن إسماعيل الكحلاني المعروف بالأمير ( 1059 _ 1182 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت _ 1379 ه_.

67. السجود على الأرض : العلاّمة علي الأحمدي ، مؤسسة في طريق الحق ، قم المقدسة.

68. السنن : ابن ماجة محمد بن يزيد القزويني ( 207 _ 275 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

69. السنن : أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني ( 202 _ 275 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

70. سنن الترمذي : محمد بن عيسى بن سورة ( 209 _ 279 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

71. سنن الدار قطني : علي بن عمر الدار قطني ( المتوفّى 385 ه_ ) المدينة المنورة _ 1386 ه_.

72. سنن الدارمي : عبد اللّه بن عبد الرحمن ( 181 _ 255 ه_ ) دار إحياء السنّة النبوية.

73. السنن الكبرى : أحمد بن الحسين البيهقي ( المتوفّى 458 ه_ ) دار المعرفة ، بيروت _ 1406 ه_.

74. سنن النسائي : أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي ( 215 _ 303 ه_ ) دار الفكر ، بيروت _ 1348 ه_.

ص : 562

75. السنّة والشيعة : محمد رشيد رضا ( المتوفّى1354 ه_ ).

76. سير أعلام النبلاء : محمد بن أحمد الذهبي ( المتوفّى 848 ه_ ) مؤسسة الرسالة ، بيروت _ 1409 ه_.

77. سيرتنا وسنتنا : العلاّمة عبد الحسين الأميني ( 1320 _ 1390 ه_ ) المطبعة الحيدرية ، النجف الأشرف.

78. السيرة الحلبية : علي بن برهان الدين الحلبي ( 975 _ 1044 ه_ ) دار المعرفة ، بيروت.

79. السيرة النبوية : ابن هشام عبد الملك بن أيوب الحميري ( المتوفّى 213 أو 218 ه_ ) دار التراث العربي ، بيروت.

حرف الشين

80. شذرات الذهب : ابن عماد الحنبلي ( 1032 _ 1089 ه_ ) دار الفكر ، بيروت _ 1399 ه_.

81. شرائع الإسلام : المحقّق الحلّي جعفر بن الحسن ( 602 _ 676 ه_ ) تحقيق عبد الحسين محمد علي ، النجف الأشرف _ 1389 ه_.

82. شرح التجريد : علاء الدين القوشجي ، طبعة حجر ، تبريز.

83. شرح صحيح مسلم : النووي أبو زكريا محيي الدين بن شرف ( 631 _ 676 ه_ ) دار القلم ، بيروت _ 1407 ه_.

84. شرح نهج البلاغة : ابن أبي الحديد المعتزلي ( المتوفّى 655 ه_ ) دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة _ 1378 ه_.

85. شعب الإيمان : البيهقي أبو بكر أحمد بن الحسين ( 384 _ 458 ه_ ) دار الكتب العلمية ، بيروت.

ص : 563

حرف الصاد

86. صحيح ابن خزيمة : محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري ( 223 _ 311 ه_ ) المكتب الإسلامي ، ط 2 ، بيروت _ 1412 ه_.

87. الصحيح : البخاري محمد بن إسماعيل ( المتوفّى256 ه_ ) مكتبة عبد الحميد أحمد حنفي ، مصر _ 1314 ه_.

88. الصحيح : مسلم بن الحجاج القشيري ( المتوفّى 261 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

حرف الطاء

89. طبقات الحفّاظ : جلال الدين عبد الرحمن السيوطي ( 849 _ 911 ه_ ) دار الكتب العلمية ، بيروت _ 1403 ه_.

90. الطبقات الكبرى : محمد بن سعد ( المتوفّى 230 ه_ ) دار صادر ، بيروت _ 1380 ه_.

حرف العين

91. العروة الوثقى : السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي ( المتوفّى 1337 ه_ ) دار الكتب الإسلامية ، طهران _ 1388 ه_.

92. العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير : عبد الكريم بن محمد الرافعي الشافعي ( المتوفّى 623 ه_ ) دار الكتب العلمية ، بيروت _ 1417 ه_.

93. علل الشرائع : الشيخ الصدوق ( 306 _ 381 ه_ ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت _ 1408 ه_.

94. عمدة القاري في شرح صحيح البخاري : محمود بن أحمد العيني الحنفي ، طبع مصر.

ص : 564

95. عون المعبود في شرح سنن أبي داود : محمد شمس الحق العظيم آبادي ، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان ، دار الفكر ، بيروت.

96. عيون أخبار الرضا : الشيخ الصدوق ( 306 _ 381 ه_ ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت _ 1404 ه_.

حرف الغين

97. الغدير : العلاّمة عبد الحسين أحمد الأميني ( 1320 _ 1390 ه_ ) دار الكتاب العربي ، بيروت _ 1387 ه_.

98. غرر الحكم ودرر الكلم : عبد الواحد الآمدي التميمي ( من علماء القرن الخامس الهجري ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت _ 1407 ه_.

حرف الفاء

99. فتح الباري : أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ( 773 _ 852 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

100. فجر الإسلام : أحمد أمين المصري ( المتوفّى 1388 ه_ ) نشر دار الكتاب العربي.

101. الفقه الإسلامي وأدلّته : الدكتور وهبة الزحيلي ، دار الفكر ، دمشق _ 1417 ه_.

102. فقه الشيعة الإمامية ومواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الأربعة : علي السالوس ، مكتبة ابن تيمية ، الكويت _ 1398 ه_.

103. الفقه على المذاهب الأربعة : عبد الرحمن الجزيري ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

104. الفقه على المذاهب الخمسة : محمد جواد مغنية ، دار العلم للملايين ، بيروت _ 1979م.

ص : 565

105. فقه القرآن : قطب الدين سعيد بن هبة اللّه الراوندي ( المتوفّى 573 ه_ ) نشر مكتبة المرعشي النجفي ، قم المقدسة _ 1405 ه_.

106. الفلسفة القرآنية : عباس محمود العقاد.

حرف الكاف

107. الكافي : محمد بن يعقوب الكليني ( المتوفّى 329 ه_ ) دار الكتب الإسلامية ، طهران _ 1397 ه_.

108. الكامل في التاريخ : ابن الأثير محمد بن محمد الجزري ( المتوفّى 630 ه_ ) دار صادر ، بيروت.

109. الكشاف : محمود بن عمر الزمخشري ( المتوفّى 538 ه_ ) مكتبة مصطفى البابي الحلبي ، القاهرة _ 1367 ه_.

110. كنز العمال : المتقي الهندي ( المتوفّى 975 ه_ ) مؤسسة الرسالة ، بيروت _ 1405 ه_.

حرف اللام

111. لسان العرب : العلاّمة ابن منظور محمد بن مكرم ( المتوفّى 711 ه_ ) قم المقدسة _ 1405 ه_.

112. لسان الميزان : أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ( 773 _ 852 ه_ ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت.

حرف الميم

113. المبسوط : محمد بن أحمد السرخسي ( المتوفّى 483 ه_ ) دار المعرفة ، بيروت _ 1406 ه_.

ص : 566

114. مجمع البيان : الفضل بن الحسن الطبرسي ( 471 _ 548 ه_ ) دار المعرفة ، بيروت _ 1408 ه_.

115. مجمع الزوائد : علي بن أبي بكر الهيثمي ( 735 _ 807 ه_ ) دار الكتاب العربي ، بيروت _ 1402 ه_.

116. المجموع شرح المهذب للشيرازي : أبو زكريا محيي الدين بن شرف النووي ( 631 _ 676 ه_ ) مكتبة الإرشاد ، جدّة.

117. المحاسن : أحمد بن محمد بن خالد البرقي ( المتوفّى 274 أو 280 ه_ ) دار الكتب الإسلامية ، قم.

118. محاسن التأويل : جمال الدين القاسمي ( المتوفّى 1332 ه_ ) دار الفكر ، بيروت _ 1398 ه_.

119. المحاضرات : الراغب الاصفهاني حسين بن محمد ( المتوفّى حدود 425 ه_ ) المكتبة الحيدرية ، قم المقدسة _ 1416 ه_.

120. المحلّى : ابن حزم الأندلسي : محمد بن علي بن أحمد ( المتوفّى 456 ه_ ) دار الآفاق الجديدة ، بيروت.

121. المراجعات : سيد عبدالحسين شرف الدين الموسوي ( المتوفّى 1377 ه_ ) منشورات أُسوة التابعة لمنظمة الأوقاف ، قم _ 1413 ه_.

122. مسائل فقهية : عبد الحسين شرف الدين العاملي ( المتوفّى 1377 ه_ ) منظمة الأعلام الإسلامي ، طهران _ 1407 ه_.

123. المستدرك على الصحيحين : الحاكم النيسابوري : محمد بن عبد اللّه ( المتوفّى 405 ه_ ) ، دار المعرفة ، بيروت.

124. مستدرك الوسائل : الشيخ النوري الحسين بن محمد تقي ( 1254 _ 1320 ه_ )

ص : 567

مؤسسة آل البيت عليهم السلام ، قم المقدسة _ 1407 ه_.

125. المسند : أحمد بن حنبل ( المتوفّى241 ه_ ) دار الفكر ، بيروت.

126. مسند البزار : أحمد بن عمرو البزار ( المتوفّى 292 ه_ ).

127. مسند الشافعي : محمد بن إدريس الشافعي ( 150 _ 204 ه_ ) دار الكتب العلمية ، بيروت.

128. مسند الطيالسي : سليمان بن داود البصري الشهير بأبي داود الطيالسي ( المتوفّى 204 ه_ ) دار المعرفة ، بيروت.

129. المصباح المنير : أحمد بن محمد بن علي المقري الفيّومي ( المتوفّى 770 ه_ ) ايران _ 1405 ه_.

130. المصنف : ابن أبي شيبة ( المتوفّى 235 ه_ ) دار الفكر ، بيروت _ 1409 ه_.

131. المصنف : عبد الرزاق بن همام الصنعاني ( 126 _ 211 ه_ ) تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي ، دار الكتب السلفية ، القاهرة.

132. معاني القرآن وإعرابه : إبراهيم بن السري الزجاج ( المتوفّى سنة 311 ه_ ) عالم الكتب ، بيروت _ 1408 ه_.

133. المعجم الأوسط : أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني ( المتوفّى 360 ه_ ) دار الكتب العلمية ، بيروت _ 1420 ه_.

134. المعجم الكبير : أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني ( 260 _ 360 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت _ 1404 ه_.

135. المغني : عبد اللّه بن قدامة ( 541 _ 620 ه_ ) مطبعة الإمام ، مصر.

136. مغني اللبيب : ابن هشام عبد اللّه بن يوسف الأنصاري ( المتوفّى 761 ه_ ) بيروت _ 1979م.

ص : 568

137. مفاتيح الغيب ( التفسير الكبير ) : محمد بن عمر الخطيب الرازي ( 504 _ 606 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

138. مقاتل الطالبيين : أبو الفرج الاصفهاني ( 284 _ 356 ه_ ) النجف الأشرف.

139. منتخب كنز العمال ( المطبوع في هامش مسند أحمد ) : المتقي الهندي ، دار الفكر.

140. منتهى المطلب : العلاّمة الحلّي : الحسن بن يوسف ( 648 _ 726 ه_ ) مجمع البحوث الإسلامية ، مشهد ، إيران _ 1412 ه_.

141. من لا يحضره الفقيه : الشيخ الصدوق ( 306 _ 381 ه_ ) مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ، قم المقدسة.

142. الموسوعة العربية العالمية : مؤسسة اعمال الموسوعة للنشر والتوزيع ، الرياض ، المملكة العربية السعودية _ 1419 ه_.

143. الموسوعة الفقهية الكويتية : وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ، الكويت _ 1414 ه_.

144. الموطأ : مالك بن أنس ( المتوفّى 179 ه_ ) دار الآفاق الجديدة ، بيروت _ 1403 ه_.

145. الميزان في تفسير القرآن : العلاّمة الطباطبائي ( 1321 _ 1402 ه_ ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت _ 1403 ه_.

146. ميزان الاعتدال : محمد بن أحمد الذهبي ( المتوفّى 748 ه_ ) دار المعرفة ، بيروت.

حرف النون

147. النص والاجتهاد : سيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي ( المتوفّى 1377 ه_ ) المجمع الثقافي لمنتدى النشر ، النجف الأشرف _ 1375 ه_.

ص : 569

148. نظام النكاح في الشريعة الإسلامية الغرّاء : جعفر السبحاني ( تولّد 1347 ه_ ) مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام ، قم المقدسة _ 1418 ه_.

149. النهاية في غريب الحديث : ابن الأثير الجزري مبارك بن محمد ( المتوفّى 606 ه_ ) مؤسسة إسماعيليان ، قم المقدسة _ 1405 ه_.

150. نور الثقلين : عبد علي بن جمعة العروسي الحويزي ، مؤسسة إسماعيليان ، قم _ 1412 ه_.

151. نيل الأوطار : محمد بن علي بن محمد الشوكاني ( 1172 _ 1255 ه_ ) دار الكتب العلمية ، بيروت.

حرف الهاء

152. الهداية في شرح البداية : علي بن أبي بكر المرغيناني ( المتوفّى 593 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

حرف الواو

153. وسائل الشيعة : الحرّ العاملي محمد بن الحسن ( 1033 _ 1104 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت _ 1403 ه_.

حرف الياء

154. اليواقيت والجواهر في عقائد الأكابر : عبد الوهاب الشعراني ، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده ، مصر _ 1378 ه_.

ص : 570

فهرس المحتويات

مقدمة........ 5

1. الوضوء في الكتاب والسنة

آية الوضوء آية محكمة..... 9

بداية الاختلاف......... 13

القرآن هو المهيمن والمرجع الوحيد عند اختلاف الآثار...... 15

سورة المائدة آخر سورة نزلت....... 16

مصدر الاختلاف في كيفية الوضوء......... 18

1. اختلاف القراءة... 18

2. التمسّك بروايات الغسل المنسوخة........ 19

3. إشاعة الغسل من قبل السلطة..... 20

ما هو العامل في قوله «أرجلكم»؟... 22

القراءتان والمسح على الأرجل....... 25

ص : 571

القراءتان وغسل الأرجل.... 28

الغسل وقراءة النصب.... 28

الغسل وقراءة الجر....... 30

الجر بالجوار صحة وشرطا... 31

الاجتهاد تجاه النص......... 34

1. الغسل يشمل المسح....... 35

2. نسخ السنّة للكتاب....... 36

3. التنبيه على وجوب الاقتصاد في صب الماء........ 37

4. سهولة غسل الرجلين دون الشعر......... 38

5. اتّباع السلف في الغسل.... 39

6. التحديد آية الغسل........ 40

7. المرجع هو السنّة بعد تعارض القراءتين.... 41

8. الغسل إضافة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم.... 41

9. التمسّك بالمصالح......... 43

10. اعتراض جملة «فامسحوا» لبيان الترتب........ 44

المسح على الأرجل في الأحاديث الصحيحة......... 45

ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حول مسح الأرجل......... 45

ما حكي عن الصحابة والتابعين حول مسح الأرجل........ 49

التجاهل لروايات المسح..... 52

أسماء أعلام الصحابة والتابعين القائلين بالمسح....... 54

تأمّلات واهية في أخبار المسح....... 60

ص : 572

عثرة لا تقال :...... 63

وضوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن لسان أئمّة أهل البيت عليهم السلام....... 67

نظرة عامّة في أخبار الغسل......... 71

معالجة روايات الغسل....... 82

أ. نسخها بالقرآن..... 83

ب. إشاعة الغسل بعد نزول القرآن من قبل السلطة... 83

خاتمة المطاف : الآن حصحص الحق........ 85

إكمال : آية الوضوء وكيفية غسل الأيدي......... 87

2. المسح على الخفّين

اختيارا

في الحضر والسفر

حكم المسح على الخفين في حال الاختيار.... 93

1. الاحتجاج بالكتاب العزيز........ 95

2. الاحتجاج بالسنّة......... 96

3. إجماع أئمة أهل البيت عليهم السلام..... 97

ما يدعم القول بعدم جواز المسح على الخفين........ 99

أدلّة القائلين بجواز المسح على الخفين...... 101

الأوّل : رواية جرير بن عبد الله البجلي........ 101

ص : 573

الثاني : رواية المغيرة بن شعبة... 104

الثالث : دراسة سائر الروايات........ 108

تساؤلات حول مسألة المسح على الخفّين......... 111

فروع المسألة...... 115

3. تشريع الأذان و التثويب في أذان الفجر

المقام الأول : وفيه أُمور

الأذان لغة وشرعا ومكانة المؤذن عند الله....... 121

منزلة الأذان في التشريع الإسلامي...... 123

تاريخ تشريع الأذان في أحاديث أهل البيت عليهم السلام..... 125

كيفيّة تشريع الأذان عند أهل السنّة.... 129

استعراض ما روي في كيفية تشريع الأذان في السنن.... 131

تحليل مضمون الروايات بوجوه........ 135

الأول : لا تتّفق هذه الروايات مع مقام النبوّة... 135

الثاني : أنّها متعارضة جوهرا.... 136

الثالث : انّ الرائي كان أربعة عشر شخصا لا واحدا... 138

الرابع : التعارض بين نقل البخاري وغيره...... 138

ص : 574

مناقشة الأسانيد والروايات في الكتب السنة ...... 140

روايات الأذان في غير الكتب الستّة....... 144

المقام الثاني : التثويب في الأذان

دراسة تاريخ دخول التثويب في أذان صلاة الفجر........ 151

كلمات الأعلام في التثويب....... 159

خاتمة المطاف : بدعة تلو بدعة.... 163

حذف الحيعلة من الأذان... 165

4. القبض

بين البدعة والسنة

حكم القبض في الصلاة.... 169

القبض بدعة محدثة........ 170

1. حديث أبي حميد الساعدي......... 171

2. حديث حمّاد بن عيسى..... 173

دليل القائلين بلزوم القبض........ 175

1. حديث سهل بن سعد... 175

2. حديث وائل بن حجر... 177

3. حديث عبد الله بن مسعود...... 182

4. أحاديث ضعاف لا يحتجّ بها..... 183

ص : 575

الآن حصحص الحق....... 191

أحاديث أئمة أهل البيت عليهم السلام في القبض........ 192

5. البسملة

جزئيّتها والجهر بها

البسملة في اللغة والاصطلاح...... 197

فضل البسملة..... 199

أقوال الفقهاء في جزئيّة البسملة.... 200

البسملة جزء من الفاتحة... 203

السبع المثاني هي فاتحة الكتاب..... 207

فاتحة الكتاب سبع آيات مع البسملة...... 211

روايات أئمّة أهل البيت عليهم السلام حول البسملة...... 212

التسمية ولزوم الجهر بها... 215

أئمّة أهل البيت عليهم السلام والجهر بالبسملة.... 220

حجّة القائلين بعدم جزئية البسملة وحكم الجهر بها....... 222

ما يزيّفه التأريخ الصحيح......... 227

البسملة جزء من مفتتح كلّ سورة........ 230

ص : 576

6. السجود على الأرض

السجود على الأرض مظهر ناصع من مظاهر العبودية..... 234

اختلاف الفقهاء في شرائط المسجود عليه......... 236

الفرق بين المسجود له والمسجود عليه..... 241

السجدة في اللغة... 243

سرّ كشف الجبهة في السجدة..... 244

السجود في عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومراحل بعد السجود......... 248

المرحلة الأولى : السجود على الأرض..... 249

تبريد الحصى للسجود عليها....... 250

الأمر بالتتريب..... 251

الأمر بحسر العمامة عن الجبهة..... 252

سيرة النبي في السجود..... 253

سيرة الصحابة والتابعين في السجود....... 255

المرحلة الثانية : الترخيص في السجود على الخُمُر والحُصر........ 258

المرحلة الثالثة : السجود على الثياب لعذر........ 260

حصيلة البحث.... 262

ما هو السرّ في اتّخاذ تربة طاهرة ......... 264

ص : 577

خاتمة المطاف : يذكر فيها أمران... 268

1. فرض العقيدة والفقه على الزائر....... 268

2. صيرورة السنّة بدعة... 269

7. الجمع بين الصلاتين

أقسام الجمع بين الصلاتين........ 275

الجمع بين الصلاتين في عرفة والمزدلفة..... 276

الجمع بين الصلاتين في السفر..... 277

الجمع بين الصلاتين في الحضر لأجل العذر........ 281

الجمع بين الصلاتين في الحضر اختيارا..... 285

التنويع في الوقت في فقه السنّة..... 289

من يوافق الإمامية بعض الموافقة من السنة......... 289

من يوافق الإمامية تمام الموافقة من السنّة.... 290

الكتاب والجمع بين الصلاتين..... 291

السنّة والجمع بين الصلاتين في الحضر اختيارا..... 293

تبريرات غير ناجحة لرفض الجمع بين الصلاتين... 301

1. ترك الجمهور العمل بها..... 302

2. الحديث لا ينص على جمع التقديم والتأخير........ 304

ص : 578

3. كان الجمع بين الصلاتين جمعا صوريا...... 306

أدلّة الشوكاني على أنّ الجمع كان صوريّا...... 308

4. كان الجمع لعذر المطر...... 310

5. كان الجمع للغيم في السماء........ 312

6. كان الجمع لمرض... 312

7. كان الجمع لأحد الأعذار المبهمة... 314

أسئلة وأجوبة...... 317

الأوّل : الجمع وحديث « حنش »..... 317

الثاني : الجمع وحديث ليلة التعريس.... 318

الثالث : حديث حبيب بن أبي ثابت لا يحتجّ به....... 319

8. القصر في السفر

هل القصر في السفر عزيمة أو رخصة؟.... 323

أدلّة القول بأنّ القصر عزيمة....... 329

قصر الصلاة بمنى... 337

أدلّة القائلين بأنّ القصر رخصة.... 341

الاحتجاج بفعل عثمان وعائشة.... 349

ص : 579

9. إفطار المسافر في شهر رمضان

الإفطار في السفر......... 355

الكتاب وصوم رمضان في السفر... 358

الاستدلال بالآية على أن الإفطار في شهر رمضان للمسافر عزيمة......... 360

تفسير قوله : ( وان تصوموا خير لكم )........ 368

السنّة وصوم رمضان في السفر..... 372

ما اتّخذ ذريعة لجواز الصوم في السفر..... 377

10. صلاة التراويح

التراويح لغة واصطلاحا.... 383

قيام ليالي رمضان بالتطوع سنّة مؤكّدة.... 384

خير صلاة المرء في بيته إلاّ المكتوبة........ 386

صلاة التراويح جماعة عند الإماميّة........ 391

صلاة التراويح جماعة عند أهل السنّة...... 394

صلاة التراويح جماعة في حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم......... 397

ص : 580

الاختلاف في عدد الليالي وتواليها ومواضعها...... 400

عدم إناطة التشريع برغبة الناس.... 401

مخالفة التعليل لنداء المعراج........ 402

رغبة الصحابة لا يكون ملاكا للتشريع في حقّ الأجيال.... 403

القدر المتيقّن من فعل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم........ 404

صلاة التراويح بين اللغوية وعدم التشريع......... 405

الاختلاف الكبير في عدد ركعاتها......... 407

صلاة التراويح جماعة في كلام عمر....... 410

التشريع مختص بالله سبحانه....... 414

استنباط مشروعيتها من تقرير النبي صلى الله عليه وآله وسلم....... 415

خاتمة المطاف : وفيه أمور

الأمر الأول : إقامة التراويح جماعة غفلة عن حكمة الله.... 417

الأمر الثاني : تقديم المصلحة على النصّ.... 420

الأمر الثالث : تقسيم البدعة إلى الحسنة والسيئة بدعة..... 421

الأمر الرابع : بين السنة والبدعة... 422

11. متعة الحجّ

المتعة وأقسامها..... 425

ص : 581

أقسام الحج الثلاثة........ 427

الأوّل : في بيان الأحكام الواردة في الآية... 432

إتمام الحج والعمرة لله...... 432

إذا أحصر بالعدو أو المرض....... 434

لا يتحلّل قبل الذبح....... 435

حكم المريض ومن برأسه أذى..... 436

التمتّع بالعمرة إلى الحجّ.... 436

الفاقد للهدي...... 437

التمتع بالعمرة إلى الحجّ وظيفة الآفاقي..... 438

الثاني : متعة الحجّ سنّة أبدية....... 439

الثالث : سيرة العرب قبل الإسلام في الحجّ........ 443

الرابع : احتدام النزاع بين الصحابة في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم......... 445

الخامس : عودة التقاليد الجاهلية... 448

حجّ التمتع على عهد عثمان....... 454

السادس : الصحابة وتحريم متعة الحج...... 455

التمتّع بالعمرة إلى الحج وشروطه......... 460

السابع : التبريرات المختلقة للحظر المفروض....... 462

1. فسخ الحجّ إلى العمرة...... 462

ص : 582

2. اختصاص التمتّع بالصحابة......... 463

3. عزوه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطروء النسيان على الصحابة...... 464

خاتمة المطاف : في أُمور.... 466

الأوّل : المراد من « رجل » هو مر بن الخطاب........ 466

الثاني : الفرق بين إحرام علي وإحرام أبي موسى....... 466

الثالث : ان في حظر متعة الحج لعبرة لمن سبر التاريخ... 467

الرابع : هل الخليفة حرم خصوص التحلل بين العمرة والحج؟... 470

12. متعة النساء أو الزواج المؤقت

الغريزة الجنسية بين التحديد والإباحة الغربية...... 475

كلمة « راسل » والزواج المؤقت......... 479

آراء الفقهاء في الزواج المؤقت..... 481

الزواج الؤقت ، تعريفها ونبذ من أحكامها........ 482

الزواج المؤقت في صدر الإسلام... 486

المتعة في الذكر الحكيم..... 488

ص : 583

القرائن الست على أن المراد من قوله ( فما استمتعتم ) هو عقد النكاح المؤقت لا التلذذ الجنسي 491

المتعة في السنّة النبوية...... 501

المتعة في التفاسير غير الروائية...... 506

شبهات وحلول.... 508

الشبهة الأولى : المتعة وتكوين الأسرة... 508

الشبهة الثانية : المتعة خارجة عنالحصر المحلل.... 513

الشبهة الثالثة : لو كانت زوجة لمذا لا ينفق عليها ولا ترث؟... 515

الشبهة الرابعة : لو كانت جائزة لما أمر بنكاح الإماء والاستعفاف..... 518

الشبهة الخامسة : اندراج المتعة ضمن السفاح... 520

الشبهة السادسة : المتمتع يقصد السفح لا الإحصان.... 523

الشبهة السابعة : نسخ النبي حلية المتعة......... 525

الشبهة الثامنة : الزواج المؤقت ومشكلة الإنجاب....... 543

الشبهة التاسعة : اكذوبة المتعة الدورية......... 545

الشبهة العاشرة : تحاشي الأشراف عن تعاطيها........ 547

خاتمة المطاف : في توجيه نهي الخليفة...... 550

الفهارس... 553

1. فهرس المصادر...... 555

2. فهرس المحتويات.... 571

ص : 584

المجلد 2

هویة الکتاب

سرشناسه : سبحاني تبريزي جعفر، - 1308

عنوان و نام پديدآور : الانصاف في مسائل دام فيها الخلاف

تاليف جعفر السبحاني

مشخصات نشر : قم موسسه الامام الصادق ع ، 1423ق = 1381.

شابك : 964-357-047-9 (ج 1)

يادداشت : عربي يادداشت : ج 3 (1424ق = )1382

يادداشت : كتابنامه

موضوع : فقه تطبيقي

شناسه افزوده : موسسه امام صادق ع

رده بندي كنگره : BP169/7 /س2الف 8 1381

رده بندي ديويي : 297/324

شماره كتابشناسي ملي : م 81-19943

تنظیم متن دیجیتال: میثم حیدری

ص : 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص : 2

ص : 3

الانصاف

في مسائل دام فيها

الخلاف

دراسات فقهیة موجزة في مسائل احتدم

فیها النقاش عبر القرون

الجزء الثاني

تأليف

الفقیه المحقق آیة الله

جعفر السبحاني

نشر مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام

ص : 4

بسم الله الرحمن الرحيم

المسائل الخلافيّة و دورها في الاستنباط

الحمد لله الّذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لو لا أن هدانا الله ، والصلاة والسلام على أفضل خليقته وأشرف بريّته أبي القاسم محمد ، وعلى خلفائه المبشّرين المعصومين ، الموصوفين بكلّ جميل ، ما تعاقب جيل بعد جيل.

أمّا بعد ؛ فإنّ عدم محاباة العلماء بعضهم لبعض من أعظم مزايا هذه الأُمّة الّتي أعظم الله بها عليهم النعمة ، حيث حفظهم عن وَصْمة محاباة أهل الكتابين ، المؤدِّية إلى تحريف ما فيهما ، واندراس تينك الملّتين ، فلم يتركوا لقائل قولاً فيه أدنى دخل إلاّ بيّنوه ، ولفاعل فعلاً فيه تحريف إلاّ قوّموه ، حتّى اتّضحت الآراء ، وانعدمت الأهواء ، ودامت الشريعة الواضحة البيضاء على امتلاء الآفاق بأضوائها ، وشفاء القلوب بها من أدوائها ، مأمونة من التحريف ، مصونة عن التصحيف. (1)

إنّ القرآن الكريم يُشيد بالوحدة ، واتّفاق الكلمة والاعتصام بالعروة الوثقى ،

ص : 5


1- إبانة المختار لشيخ الشريعة الاصبهاني ، نقله عن بعض الأعاظم : 10.

ورفض التشتّت والتفرّق ، ويندِّد بالاختلاف والفرقة ، يقول سبحانه : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا). (1)

فهذا المقطع من الآية الكريمة بإيجازها يتكفّل بيان أمرين :

1. يأمر بتوحيد الكلمة والاعتصام بحبل الله.

2. يزجر عن التفرّق والتشتّت.

وهذان الأمران من الوضوح بمرتبة لا يختلف فيهما اثنان.

ومع الاعتراف بذلك كلّه فاختلاف الكلمة إنّما يضرّ إذا كان صادراً عن ميول وأهواء ، فهذا هو الّذي نزل الكتاب بذمّه في غير واحدة من آياته ، يقول سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (2) ، ويقول : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) (3) ، فهؤلاء اختلفوا بعد ما تمّت عليهم الحجة وبانت لهم الحقيقة ، فهذا النوع من الاختلاف آية الأنانية أمام الخضوع للحقائق الراهنة.

وأمّا إذا كان الاختلاف موضوعياً نابعاً عن حبِّ تحرّي الحقيقة وكشف الواقع ، فهذا أمر ممدوح ، وأساس للوصول إلى الحقائق المستورة ، وإرساء لقواعد العلم ودعائمه.

إنّ الاختلاف بين الفقهاء أشبه بالخلاف الّذي وقع بين نبيّين كريمين : داود وسليمان - على نبينا وآله وعليهما السلام - في واقعة واحدة حكاها سبحانه في كتابه العزيز وقال : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ

ص : 6


1- آل عمران : 103.
2- الأنعام : 159.
3- آل عمران : 105.

وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ * فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً). (1)

وكما آتى سبحانه لكلّ منهما حكماً وعلماً ، فقد آتى لكلّ فقيه ربّاني فهماً وعلماً ، يدفعه روح البحث العلمي إلى إجراء المزيد من الدقّة والفحص في الأدلّة المتوفّرة بين يديه ، بُغية الوصول إلى الواقع ، وهذا العمل بطبيعته يورث الاختلاف وتعدّد الآراء.

ولأجل ذلك نجم الاختلاف في الشريعة بعد رحيل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - واتّسعت شقّته في القرن الثاني والثالث.

وقد اهتمّ كثير من العلماء منذ وقت مبكر بالمسائل الخلافية وصنّفوا فيها كتباً عديدة ، جمعوا فيها آراء الفقهاء في مسائل خلافية إلى أن عادت معرفة العلم بالخلافيات علماً برأسه وأساساً لصحّة الاجتهاد ، حتّى قيل : إنّ معرفة الأقوال في المسألة نصف الاستنباط. وإليك فيما يلي أسماء بعض الكتب الّتي أُلّفت في الخلافيات ، فمن السنَّة :

1. «الموطّأ» للإمام مالك (المتوفّى 179 ه) يذكر فيه أقوال الفقهاء السابقين في مختلف أبوابه.

2. كتاب «الأُمّ» الّذي جمع فيه البويطي (المتوفّى 231 ه) ثم الربيع المرادي (المتوفّى 270 ه) أقوال الإمام الشافعي ، وقد ضمَّ فصولاً عديدة في اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى ، واختلاف أبي حنيفة والأوزاعي ، واختلاف الشافعي مع محمد بن الحسن.

3. «مسائل إسحاق الكوسج» قد تضمنت اختلاف الإمام أحمد مع معاصريه كابن راهويه وغيره.

ص : 7


1- الأنبياء : 7978.

4. «اختلاف الفقهاء» تأليف الإمام أبي عبد الله محمد بن نصر المروزي (294202 ه) المطبوع بتحقيق الدكتور محمد طاهر حكيم ، ط عام 1420 ه.

5. «اختلاف الفقهاء» تأليف الإمام أبي بكر محمد بن المنذر النيسابوري الشافعي (المتوفّى 309 ه).

6. «اختلاف الفقهاء» تأليف الإمام محمد بن جرير الطبري (المتوفّى 310 ه)

ذكر في كتابه اختلاف مالك والأوزاعي والثوري والشافعي وأبي حنيفة مع أبي يوسف ومحمد بن الحسن ثم أبي ثور ، وذكر بعض فقهاء الصحابة والتابعين وأتباعهم إلى المائة الثالثة ، ولم يذكر فيه أحمد بن حنبل ، وحكي انّه سئل عن سبب ذلك؟ فقال : لم يكن أحمد فقيهاً وانّما كان محدِّثاً.

وقد لعب بالكتاب طوارق الحدثان ولم يبق منه إلاّ القليل يبتدأ بكتاب : «المدبّر فالبيوع والصرف والسلم والمزارعة والمساقاة والغصب والضمان» ، والمطبوع من الكتاب مجلد واحد يشتمل على هذه الكتب.

7. «اختلاف العلماء» تأليف الإمام أبي جعفر أحمد بن محمد الطحاوي الحنفي (المتوفّى 321 ه) واختصره الإمام أبو بكر أحمد بن علي الجصّاص الحنفي (المتوفّى 370 ه) ونشره الدكتور محمد صغير حسن.

8. «اختلاف الفقهاء» تأليف محمد بن محمد الباهلي الشافعي (المتوفّى 321 ه).

9. «الخلافيات» للإمام أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (458384 ه) ناقش فيه أدلّة الحنفية وانتصر لمذهب الشافعية. وطبعت بتحقيق مشهور بن حسن آل سلمان.

10. «اختلاف العلماء» تأليف أبي المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة الحنبلي

ص : 8

الوزير (المتوفّى 555 ه).

هذه عشرة كاملة ذكرناها لإيقاف القارئ على أهمية معرفة الخلافيات وعناية الفقهاء بها. هذا ما لدى السنّة وأمّا الشيعة فهي بدورها قد اهتمّت بهذا العلم أيضاً منذ عصر مبكِّر وألّفت فيه كتباً ، نذكر منها ما يلي :

1. كتاب «الاختلاف» لأبي عبد الله محمد بن عمر الواقدي (207130 ه) ذكر ابن النديم : انّه كان يتشيّع ، حسن المذهب ، يلزم التقية ، وقال : وكتاب «الاختلاف» يحتوي على اختلاف أهل المدينة والكوفة في الشفعة والصدقة والعمرى والرقبى والوديعة والعارية والبضاعة والمضاربة والغصب والسرقة والحدود والشهادات ، وعلى نسق كتب الفقه ما يبقى.

2. «اختلاف الفقهاء» للقاضي أبي حنيفة نعمان بن أحمد المصري المغربي (المتوفّى 363 ه) نقله ابن خلّكان عن ابن زولاق في كتابه «أخبار مصر» ، قال : إنّه ينتصر فيه لأهل البيت - عليهم السلام - وعبّر عنه في «كشف الظنون» باختلاف أُصول المذاهب.

3. «مسائل الخلاف في الفقه» للشريف المرتضى (436355 ه) ذكره الشيخ الطوسي في «الفهرست». وقد أحال المصنّف إليها في كتاب «الناصريات».

4. «مسائل الناصريات» ألّفه الشريف المرتضى وفاءً لجده الناصر على الرغم من اختلاف المذهب بينهما ، ويتجلّى فيه روح التفاهم والتسالم بين عالمين إماميّ وزيديّ ، وهو لا يقتصر على المسائل الخلافية بين الإمامية والزيدية ، بل يحتوي جلّ الخلافات الفقهية على مستوى المذاهب.

5. «الخلاف في الأحكام» لشيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (المتوفّى 460 ه) ويقال له «مسائل الخلاف» وهو مرتّب على ترتيب كتب الفقه ، وقد صرح فيه بأنّه ألّفه بعد كتاب «التهذيب» و «الاستبصار» وناظر فيه المخالفين

ص : 9

جميعاً ، وقد طبع مراراً.

6. «المؤتلف من المختلف بين أئمة السلف» تأليف أمين الإسلام فضل بن الحسن الطبرسي (471 - 548 ه) وقد لخّص به كتاب «الخلاف» للشيخ الطوسي ونشر في ثلاثة أجزاء ، وأثبت هو في ذلك الكتاب انّ الخلاف بين الشيعة والسنّة في المسائل الفقهية ليس على نحو التباين ، بل كثيراً ما يوافق الشيعة مذهباً ويخالف مذهباً آخر ، وهذا هو الأمر السائد في معظم المسائل الفقهية.

7. «خلاف المذاهب الخمسة في الفقه» للشيخ تقي الدين الحسن بن علي بن داود الحلّي (707647 ه) صاحب كتاب الرجال المشهور برجال ابن داود.

8. «تذكرة الفقهاء» للعلاّمة حسن بن المطهر (726648 ه) والكتاب مشحون بنقل أدلّة الفقهاء على اختلاف مذاهبهم ، وقد طبع قديماً ، ويطبع حالياً طبعة جديدة محقّقة من قبل مؤسسة آل البيت - عليهم السلام - حيث صدر منه أكثر من 12 جزءاً.

9. «منتهى المطلب في تحقيق المذهب» للعلاّمة الحلي وهو أفضل ما أُلّف في الفقه المقارَن نقلاً وتحقيقاً ، يذكر آراء العلماء برحابة صدر ويناقش فيها ، والكتاب من حسنات الدهر. وقد طبع قديماً وحديثا.

10. «مختلف الشيعة» له أيضاً وهو يختص ببيان اختلافات خصوص الشيعة في المسائل الفقهية ، وقد طبع طبعات عديدة محقّقة. (1)

هذا بعض ما يمكن أن يذكر في المقام ، ولعلّك تلمس بما ذكرناه اهتمام

ص : 10


1- لاحظ للوقوف على أسماء هذه الكتب وميزاتها كشف الظنون : 1 / 64 ، مادة اختلاف ؛ الذريعة : 1 / 360 ، مادة اختلاف و 7 / 236 ، مادة خلاف ؛ مقدّمة كتاب اختلاف الفقهاء للمروزي ، والخلافيات للإمام البيهقي ، واختلاف الفقهاء لأبي جعفر الطبري وغيرها.

العلماء بالخلافيات ، وجدير بالذكر انّ الخلاف بين العلماء كان مرافقاً في الغالب برعاية أدب الخلاف وأُسلوب الحوار.

هذا البحث الموجز أوقفك على وجود الاختلاف في المسائل الفقهية في عصر الصحابة والتابعين والفقهاء إلى يومنا هذا ، إلاّ أنّ الكلام في أسباب الاختلاف ودوافعه ، فهناك أمران :

الأوّل : ما هو الحافز لاختلاف فقهاء السنّة فيما بينهم ، فقد ذكر ابن رشد : انّ أسباب الاختلاف بين فقهاء السنّة ، أُمور ستة :

الأوّل : تردد الألفاظ بين هذه الطرق الأربع : أعني بين أن يكون اللفظ عامّاً يراد به الخاص ، أو خاصّاً يراد به العام ، أو عامّاً يراد به العام ، أو خاصّاً يراد به الخاص ، أو يكون له دليل خطاب ، أو لا يكون له.

الثاني : الاشتراك الّذي في الألفاظ ، وذلك إمّا في اللفظ المفرد كلفظ القرء الّذي يطلق على الأطهار وعلى الحيض ، وكذلك لفظ الأمر الذي يحمل على الوجوب أو الندب ، ولفظ النهي الذي يحمل على التحريم أو الكراهية ، وإمّا في اللفظ المركب مثل قوله تعالى : (إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا) فإنّه يحتمل أن يعود على الفاسق فقط ، ويحتمل أن يعود على الفاسق والشاهد ، فتكون التوبة رافعة للفسق ومجيزة شهادة القاذف.

والثالث : اختلاف الإعراب.

والرابع : تردد اللفظ بين حمله على الحقيقة أو حمله على نوع من أنواع المجاز ، الّتي هي : إمّا الحذف ، وإمّا الزيادة ، وإمّا التقديم ، وإمّا التأخير وإمّا تردده على الحقيقة أو الاستعارة.

والخامس : إطلاق اللفظ تارة وتقييده تارة ، مثل إطلاق الرقبة في العتق تارة ، وتقييدها بالإيمان تارة.

ص : 11

والسادس : التعارض في الشيئين في جميع أصناف الألفاظ الّتي يتلقى منها الشرع ، الأحكام بعضها مع بعض ، وكذلك التعارض الّذي يأتي في الأفعال أو في الإقرارات ، أو تعارض القياسات أنفسها ، أو التعارض الّذي يتركب من هذه الأصناف الثلاثة : أعني معارضة القول للفعل أو للإقرار أو للقياس ، ومعارضة الفعل للإقرار أو للقياس ، ومعارضة الإقرار للقياس. (1)

الثاني : ما هو الحافز للاختلاف بين الفقهين السني والشيعي؟ وهذا هو الذي نبحث عنه في المقام.

نعم هذه الأُمور الستة هي أسباب الاختلاف بين فقهاء أهل السنّة ، لكن أسباب الاختلاف بين الفقهين : السني والشيعي ترجع إلى الاختلاف في الكبريات أي حجّية أُمور يأتي الكلام عنها ، لا إلى الصغريات الّتي ذكرها ابن رشد ، ولعلّنا نستقصي في خاتمة المطاف الأُمور الّتي وسعت الشقةَ بين الفقهين ، ولكن نكتفي هنا ببيان سبب واحد.

الإعراض عن أحاديث العترة الطاهرة

إنّ العترة الطاهرة - بتنصيص النبي قرناء الكتاب وأعداله ، حيث قال - صلى الله عليه وآله وسلم - : «إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا».

والحديث متواتر أو متضافر ، رواه الفريقان ، أخرجه مسلم في صحيحه والترمذي في سننه وأحمد في مسنده إلى غير ذلك من المصادر المتوفّرة. (2)

ص : 12


1- بداية المجتهد : 1 / 65 ، ط دار المعرفة ، بيروت
2- لاحظ صحيح مسلم : 7 / 122 و 123 ، باب فضائل علي ؛ سنن الترمذي : 2 / 308 ؛ مستدرك الصحيحين : 3 / 109 و 148 ؛ مسند أحمد : 3 / 17 و 26 و 4 / 371 و 5 / 181 ؛ الطبقات الكبرى لابن سعد : 2 / 2 ؛ حلية الأولياء : 1 / 355 و 9 / 64 ؛ كنز العمال : 1 / 47 و 96.

فعلى ذلك قولهم حجة قاطعة ، مصون من الخطأ كالكتاب العزيز بحكم انّهما عِدْلان وصنوان.

والحديث يركز على أنّ المرجع العلمي بعد رحيل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هو الكتاب والعترة ، وانّ قول العترة قول الرسول وكلامه ، وبقولهم تحفظ السنّة عبر القرون ، غير أنّ أصحاب المذاهب الأربعة وغيرهم تلقّوا روايات أهل البيت فتاوى خاصة لهم ، فلم يعتبروها حجّة شرعية على الجميع ، وهذا النوع من التفسير لأحاديثهم مخالف لحديث الثقلين أوّلاً وكلامهم ثانياً ، فإنّهم يعتبرون كل ما يروون ، سنّة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - يرويه كابر عن كابر إلى أن يصل إلى الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -.

هذا هو النجاشي ينقل في ترجمة محمد بن عذافر الصيرفي عن أبيه قال : كنت مع الحكم بن عتيبة عند أبي جعفر - عليه السلام - ، فجعل يسأله ، وكان أبو جعفر - عليه السلام - له مكرِماً ، فاختلفا في شيء ، فقال أبو جعفر - عليه السلام - : «يا بني قم فأخرج كتاب عليّ - عليه السلام -» فأخرج كتاباً مدروجاً عظيماً ، ففتحه وجعل ينظر حتّى أخرج المسألة ، فقال أبو جعفر - عليه السلام - : «هذا خط عليّ - عليه السلام - وإملاء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -» وأقبل على الحكم ، وقال : «يا أبا محمد اذهب أنت وسلمة بن كهيل وأبو المقدام حيث شئتم يميناً وشمالاً ، فو الله لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرئيل - عليه السلام -». (1)

فإذا كانت هذه مكانة أحاديث أئمة أهل البيت وأنّهم حفظة السنّة وعيبة علم الرسول ، فلا حجّة للسنّيّ في الإعراض عن أحاديثهم والالتجاء إلى قواعد ، كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع وفتحها وقول الصحابي إلى غير ذلك من القواعد الّتي ألجأهم إلى تأسيسها وإرسائها قلّة النصوص النبويّة في

ص : 13


1- رجال النجاشي : 2 / 261 ، الترجمة 967.

الشريعة والأحكام الفرعية.

ولكنّهم لو رجعوا إلى أحاديث أئمة أهل البيت - عليهم السلام - ، فيما لم يرد فيه نصّ في الكتاب والسنّة النبويّة لاستغنوا عن إرساء هذه القواعد والعمل بالظنون الّتي لا تغني من الحق شيئاً.

ويظهر ممّا رواه البخاري وغيره أن النبي الأكرم - صلى الله عليه وآله - كان بصدد التصريح باسم من يشغل منصّة الحكم ومرجعية الأحكام في أُخريات أيامه ، لكن حال بعضهم دون تحقيق أُمنيّة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -.

أخرج البخاري في كتاب العلم عن ابن عباس ، قال : لمّا اشتدّ بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وجعُهُ ، قال : ائتوني بكتاب أكتبُ لكم كتاباً لن تضلّوا بعده. قال عمر : إنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - غَلَبَهُ الوَجَع ، وعندنا كتاب الله حسبُنا. فاختلفوا وكَثُرَ اللَّغَط قال : «قوموا عنّي ، ولا ينبغي عندي التنازع» فخرج ابن عباس يقول ، إنَّ الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بين رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وبين كتابه. (1)

والحقّ أنّها كانت رزيّة ليس فوقها رزيّة ، فإنّ الحيلولة بين النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأُمنيّته الكبرى ، وهو طريح الفراش ، فرّقت المسلمين ، وشتتت شملهم إلى يومنا هذا ، وظهرت خلافات على كافة الأصعدة.

والذي يميط الستر عن وجه الحقيقة ، هو ما رواه ابن أبي الحديد عن أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب «تاريخ بغداد» في كتابه مُسنداً ، حيث قال : روى ابن عباس (رض) ، قال : دخلتُ على عُمَر في أوّل خلافته ، وقد أُلقي له صاعٌ من تمر على خَصَفة ، فدعاني إلى الأكل ، فأكلت تمرة واحدة ،

ص : 14


1- صحيح البخاري : 1 / 38 ، كتاب العلم ، الحديث 114 ، دار الكتب العلمية ، بيروت - 1420 ه. وللحديث أطراف في صحيح البخاري ، لاحظ الأرقام التالية : 3053 ، 3168 ، 4431 ، 4432 ، 5669 ، 7366.

وأقبل يأكل حتّى أتى عليه ، ثم شرب من جَرّ كان عنده ، واستلقى على مِرفقة له ، وطفق يحمد الله ، يكرر ذلك.

ثم قال : من أين جئت يا عبد الله؟ قلتُ : من المسجد ، قال : كيف خلّفت ابن عمك؟ فظننته يعني عبد الله بن جعفر ، قلتُ : خلّفتُه يلعب مع أترابه ، قال : لم أعنِ ذلك ، إنّما عنيتُ عظيمَكم أهلَ البيت ، قلتُ : خلّفته يمتح بالغَرْب (1) على نخيلات من فلان ، وهو يقرأ القرآن.

قال : يا عبد الله ، عليك دماء البُدن إن كتمتنيها! هل بقيَ في نفسه شيء من أمر الخلافة؟ قلت : نعم ، قال : أيزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - نصّ عليه؟ قلت : نعم ، وأزيدك ، سألت أبي عمّا يدّعيه ، فقال : صدق.

فقال عمر : لقد كان من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في أمره ذَرْوٌ (2) من قول لا يثبتُ حُجّة ، ولا يقطع عذراً ، ولقد كان يربَع في أمره وقتاً ما ، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه ، فمنعتُ من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام ، لا ورب هذه البنيّة لا تجتمع عليه قريش أبدا! ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها ، فعلم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - انّي علمت ما في نفسه ، فأمسك ، وأبى الله إلاّ إمضاء ما حتم. (3)

فكل من يريد رأب الصدع وتقليل الشُّقّة بين الفقهين ، فيلزمه الرجوع إلى روايات أئمة اهل البيت - عليهم السلام - المروية بطرق صحيحة ، مضافاً إلى ما بين يديه من الروايات الواردة عن طريق الصحابة والتابعين. فلعل الله تعالى يلمّ بذلك الشّعَث والتفرّق.

ص : 15


1- الغَرْب : الدلو.
2- ذرو : طرف.
3- شرح نهج البلاغة : 12 / 2120 ، ولاحظ أيضاً ص 53.

وفي الختام نود أن نشير إلى خطوة كبيرة في مجال التقريب بين المذاهب قام بها صاحب الفضيلة الأُستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر في شأن جواز التعبد بمذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية عند ما سُئل عن جواز التعبد به ، فأجاب :

1. انّ الإسلام لا يوجب على أحد من أتباعه اتباعَ مذهب معيّن ، بل نقول : إنّ لكلّ مسلم الحق في أن يقلد بادئ ذي بدء أيَّ مذهب من المذاهب المنقولة نقلاً صحيحاً والمدونة أحكامها في كتبها الخاصة ، ولمن قلّد مذهباً من هذه المذاهب أن ينتقل إلى غيره - أي مذهب كان - ولا حرج عليه في شيء من ذلك.

2. انّ مذهب الجعفرية المعروفة بمذهب الشيعة الإمامية الاثنا عشرية مذهب يجوز التعبد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنّة.

فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك ، وأن يتخلّصوا من العصبية ، بغير الحق لمذاهب معينة ، فما كان دين الله وما كان شريعته بتابعة لمذهب ، أو مقصورة على مذهب ، فالكلّ مجتهدون مقبولون عند الله تعالى ، يجوز لمن ليس أهلاً للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقررونه في فقههم ، ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات. (1)

نسأله سبحانه أن يجمع كلمة المسلمين ويلمّ شعثهم

بمنّه وكرمه

جعفر السبحاني قم

- مؤسسة الإمام الصادق - عليه السلام -

1 رمضان المبارك 1423

ص : 16


1- صدرت الفتوى بتاريخ 17 ربيع الأوّل 1378 ه - في القاهرة.

13- الخمس في الكتاب والسنّة

اشارة

ص : 17

ص : 18

الخمس في الكتاب والسنّة (1)

الأصل في ضريبة الخمس هو قوله سبحانه : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (2)

لا شك أنّ الآية نزلت في مورد خاص ، أعني : يوم الفرقان ، يوم التقى الجمعان وهو غزوة «بدر» الكبرى ، لكن الكلام في مادة «الغنيمة» في قوله سبحانه : (أَنَّما غَنِمْتُمْ) هل هو عام لكلّ ما يفوز به الإنسان في حياته ، أو خاص بما يظفر به في الحرب من السلب والنهب؟

وعلى فرض كونه عامّاً فهل المورد مخصّص أو لا؟

فيقع الكلام في مقامين :

الأوّل : الغنيمة مطلق ما يفوز به الإنسان

فالظاهر من أئمّة اللغة أنّه في الأصل أعم ممّا يظفر به الإنسان في ساحات

ص : 19


1- ربّما يُخيّل لبعض البسطاء أنّ الشيعة تنفرد بالقول بوجوب الخمس في غير الغنائم ، ولأجل توضيح الحال ندرس الموضوع في ظل الكتاب والسنّة ، وكلمات الفقهاء.
2- الأنفال : 41.

الحرب ، بل هو لغة لكلّ ما يفوز به الإنسان ، وإليك بعض كلماتهم :

1. قال الخليل : الغُنْم : الفوز بالشيء في غير مشقة ، والاغتنام : انتهاز الغنم. (1)

2. قال الأزهري : قال الليث : الغنم : الفوز بالشيء ، والاغتنام انتهاز الغنم. (2)

3. قال الراغب : الغنم معروف ... والغُنْم : إصابته والظفر به ، ثم استعمل في كل مظفور به من جهة العِدَى وغيرهم ، قال : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) ، (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) والمغنم : ما يُغنم وجمعه مغانم ، قال : (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ). (3)

4. قال ابن فارس : «غنم» أصل صحيح واحد يدلّ على إفادة شيء لم يملك من قبل ثمّ يختص بما أُخذ من المشركين. (4)

5. قال ابن منظور : «الغُنْم» الفوز بالشيء من غير مشقّة. (5)

6. قال ابن الأثير : في الحديث : الرهن لمن رهنه ، له غُنمه وعليه غُرمه ، غُنْمه : زيادته ونماؤه وفاضل قيمته. (6)

7. قال الفيروزآبادي : «الغنم» الفوز بالشيء لا بمشقّة ، وأغنمه كذا تغنيماً نفله إيّاه ، واغتنمه وتغنّمه ، عدّه غنيمة. (7)

ص : 20


1- كتاب العين : 4 / 426 ، مادة غنم.
2- تهذيب اللغة : مادة «غنم».
3- المفردات : مادة «غنم».
4- مقاييس اللغة : مادة «غنم».
5- لسان العرب : مادة «غنم».
6- نهاية اللغة : مادة «غنم».
7- قاموس اللغة : مادة «غنم».

8. وقال الزبيدي : الغنيمة والغنم بالضم ، وفي الحديث : «الرهن لمن رهنه ، له غُنْمه وعليه غرمه» غنمه أي زيادته ونماؤه وفاضل قيمته ، والغنم الفوز بالشيء بلا مشقة. (1)

9. وقال في الرائد : غنم : يغنم : أصاب غنيمة في الحرب أو غيرها. (2)

10. انّ الغُنم يستعمل مقابل الغرم وهو الضرر ، فيكون معناه بمقتضى المقابلة هو النفع ، ومن القواعد الفقهية قاعدة «الغُنْم بالغرم» ومعناه انّ من ينال نفع شيء يتحمّل ضرره.

ودليل هذه القاعدة هو قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه ، له غنمه وعليه غرمه» ، قال الشافعي : غنمه زيادته ، وغرمه هلاكه ونقصه. (3)

وهذه النصوص تعرب عن أنّ المادّة لم توضع لما يفوز به الإنسان في الحروب ، بل معناها أوسع من ذلك وإن كان يغلب استعمالها في العصور المتأخّرة عن نزول القرآن في ما يظفر به في ساحة الحرب.

ولأجل ذلك نجد أنّ المادة استعملت في مطلق ما يفوز به الإنسان في الذكر الحكيم والسنّة النبويّة.

لقد استعمل القرآن لفظة «المغنم» فيما يفوز به الإنسان وإن لم يكن عن طريق القتال ، بل كان عن طريق العمل العادي الدنيوي أو الأُخروي ، إذ يقول سبحانه :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى

ص : 21


1- تاج العروس : ج 9 : مادة «غنم».
2- الرائد : 2 : مادة «غنم».
3- الموسوعة الفقهية : 31 / 301 ، مادة غنم.

إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ). (1)

والمراد بالمغانم الكثيرة : هو أجر الآخرة ، بدليل مقابلته لعرض الحياة الدنيا ، فيدل على أنّ لفظ المَغْنم لا يختصّ بالأُمور والأشياء التي يحصل عليها الإنسان في هذه الدنيا أو في ساحات الحرب فقط ، بل هو عام لكلّ مكسب وفائدة وإن كان أُخرويّاً.

كما وردت هذه اللفظة في الأحاديث وأُريد منها مطلق الفائدة الحاصلة للمرء.

روى ابن ماجة في سننه : أنّه جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «اللهمّ اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرما». (2)

وفي مسند أحمد عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «غنيمة مجالس الذكر الجنّة». (3)

وفي وصف شهر رمضان عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - : «غنم للمؤمن». (4)

وفي نهاية ابن الأثير : الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة ، سمّاه غنيمة لما فيه من الأجر والثواب. (5)

فقد بان ممّا نقلناه من كلمات أئمّة اللغة وموارد استعمال تلك المادة في الكتاب والسنّة ، أنّ العرب تستعملها في كل مورد يفوز به الإنسان ، من جهة العدى وغيرهم ، وإنّما صار حقيقة متشرعة في الأعصار المتأخّرة في خصوص ما

ص : 22


1- النساء : 94.
2- سنن ابن ماجة : كتاب الزكاة ، باب ما يقال عند إخراج الزكاة ، الحديث 1797.
3- مسند أحمد : 2 / 330 و 374 و 524.
4- المصدر نفسه : ص 177.
5- النهاية : مادة «غنم».

يفوز به الإنسان في ساحة الحرب ، ونزلت الآية في أوّل حرب خاضها المسلمون تحت لواء رسول الله ، ولم يكن الاستعمال إلاّ تطبيقاً للمعنى الكلّي على مورد خاص.

الثاني : المورد غير مخصّص

اشارة

إذا كان مفهوم اللفظ عامّاً يشمل كافّة ما يفوز به الإنسان ، فلا يكون وروده في مورد خاص ، مخصّصاً لمفهومه ومضيّقاً لعمومه ، فإذا وقفنا على أنّ التشريع الإسلامي فرض الخمس في الركاز والكنز والسيوب أوّلاً ، وأرباح المكاسب ثانياً ، فيكون ذلك التشريع مؤكّداً لإطلاق الآية ، ولا يكون وروده في الغنائم الحربية رافعاً له. وإليك ما ورد في السنّة من الروايات في الموردين :

1. وجوب الخمس في الركاز من باب الغنيمة
اشارة

اتّفقت السنّة على أنّ في الركاز الخمس وإنّما اختلفوا في المعادن ، فالواجب هو الخمس لدى الحنفية والمالكية ، وربع العشر عند الشافعية والحنابلة.

وقد استدلّت الحنفية على وجوب الخمس في المعادن بالكتاب والسنّة والقياس فقالوا :

أمّا الكتاب : فقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) ويعدّ المعدن غنيمة ، لأنّه كان في محلّه من الأرض في أيدي الكفرة ، وقد استولى عليه المسلمون عنوة.

وأمّا السنّة : فقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «العجماء جُبار - أي هدر لا شيء فيه - والبئر جبار والمعدن جبار ، وفي الركاز الخمس» والركاز يشمل المعدن والكنز ، لأنّه من الركز

ص : 23

أي المركوز ، سواء من الخالق أو المخلوق.

وأمّا القياس : فهو قياس المعدن على الكنز الجاهلي ، بجامع ثبوت معنى الغنيمة في كلّ منهما ، فيجب الخمس فيهما. (1)

ترى أنّ الحنفية تستدلّ على وجوب الخمس في المعادن بآية الغنيمة ولا تصلح للاستدلال إلاّ أن يراد بها المعنى اللغوي لا المعنى الاصطلاحي.

وما جاء في ثنايا الاستدلال بأنّ المعدن غنيمة ، لأنّه كان في محلّه من الأرض في أيدي الكفرة وقد استولى عليه المسلمون عنوة ، غير تام ، بل الظاهر انّ المعدن - بما هو هو - مع قطع النظر عن تلك الحيثية «غنيمة» ، وإلاّ يتوجّه عليه إشكالان :

1. عدم وجوب الخمس في المعادن التي لم تكن عليها يد الكفر ، كما في الصحارى الخالية عن أيّة سلطة عبر التاريخ.

2. انّ أمر «الغنيمة» دائر بين كونها حقيقة في خصوص ما يفوز به الإنسان في ساحة الحرب أو مطلق ما يفوز به الإنسان ، وأمّا الفوز بالشيء بعد مرور قرن أو قرون على الحرب فهو ممّا لم يقل به أحد ، ومن الواضح انّ أكثر المعادن التي عليها يد الدولة الإسلامية أو آحاد الناس من هذا القبيل.

هذا وقد تضافرت الروايات عن طريق أهل السنّة على وجوب الخمس في الأُمور الأربعة :

أ. الركاز.

ب. الكنز.

ج. المعدن.

د. السيوب.

ص : 24


1- الفقه الإسلامي وأدلّته : 2 / 776.

روى لفيف من الصحابة كابن عباس وأبي هريرة وجابر وعبادة بن الصامت وأنس بن مالك ، وجوب الخمس في الركاز والكنز والسيوب ، وإليك قسماً ممّا روي في هذا المجال :

1. في مسند أحمد وسنن ابن ماجة واللفظ للأوّل : عن ابن عباس قال :

قضى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في الركاز ، الخمس (1).

2. وفي صحيحي مسلم والبخاري واللفظ للأوّل : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «العجماء جرحها جبار ، والمعدن جبار ، وفي الركاز الخمس». (2)

قال أبو يوسف في كتاب «الخراج» : كان أهل الجاهلية إذا عطبَ الرجل في قُلَيب جعلوا القليب عَقَله ، وإذا قتلته دابة جعلوها عقله ، وإذا قتله معدن جعلوه عقله. فسأل سائل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن ذلك؟ فقال : «العجماء جبار ، والمعدن جبار ، والبئر جبار ، وفي الركاز الخمس» فقيل له : ما الركاز يا رسول الله؟ فقال : «الذهب والفضة الذي خلقه الله في الأرض يوم خلقت». (3)

3. وفي مسند أحمد : عن الشعبي عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «السائمة جبار ، والجُبّ جبار ، والمعدن جبار ، وفي الركاز الخمس» قال الشعبي : الركاز : الكنز العادي. (4)

4. وفيه أيضاً : عن عبادة بن الصامت قال : من قضاء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أنّ

ص : 25


1- مسند أحمد : 1 / 314 ؛ سنن ابن ماجة : 2 / 839 ، ط 1373 ه.
2- صحيح مسلم : 5 / 127 ، باب جرح العجماء والمعدن والبئر جبار ، من كتاب الحدود ؛ صحيح البخاري : 1 / 182 ، باب في الركاز الخمس.
3- الخراج : 22.
4- مسند أحمد : 3 / 335.

المعدن جبار ، والبئر جبار ، والعجماء جرحها جبار. والعجماء : البهيمة من الأنعام وغيرها ، والجبار هو الهدر الذي لا يُغرم ، وقضى في الركاز الخمس. (1)

5. وفيه : عن أنس بن مالك قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى خيبر فدخل صاحب لنا إلى خربة يقضي حاجته فتناول لبنة ليستطيب بها فانهارت عليه تبرا ، فأخذها فأتى بها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فأخبره بذلك ، قال : «زنها» فوزنها فإذا مائتا درهم فقال النبي : «هذا ركاز وفيه الخمس». (2)

6. وفيه : أنّ رجلاً من مزينة سأل رسول الله مسائل جاء فيها : فالكنز نجده في الخرب وفي الآرام؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «فيه وفي الركاز الخمس». (3)

7. وفي نهاية اللغة ولسان العرب وتاج العروس في مادة «سيب» واللفظ للأوّل : وفي كتابه - أي كتاب رسول الله - لوائل بن حجر : «وفي السيوب الخمس» السيوب : الركاز.

قالوا :

«السيوب : عروق من الذهب والفضة تَسيب في المعدن ، أي تتكوّن فيه وتظهر» والسيوب : جمع سيب ، يريد به - أي يريد النبي بالسيب - المال المدفون في الجاهلية ، أو المعدن لأنّه من فضل الله تعالى وعطائه لمن أصابه». (4)

تفسير ألفاظ الأحاديث

العجماء : الدابة المنفلتة من صاحبها ، فما أصابت في انفلاتها فلا غرم على

ص : 26


1- مسند أحمد : 5 / 326.
2- المصدر نفسه : 3 / 128.
3- المصدر نفسه : 2 / 186.
4- النهاية : مادة «سيب».

صاحبها ، والمعدن جبار يعني : إذا احتفر الرجل معدناً فوقع فيه انسان فلا غرم عليه ، وكذلك البئر إذا احتفرها الرجل للسبيل فوقع فيها إنسان فلا غرم على صاحبها ، وفي الركاز الخمس ، والركاز : ما وجد من دفن أهل الجاهلية ، فمن وجد ركازاً أدّى منه الخمس إلى السلطان وما بقي له. (1)

والآرام : الأعلام وهي حجارة تجمع وتنصب في المفازة يُهتدى بها ، واحدها إرَم كعنب. وكان من عادة الجاهلية أنّهم إذا وجدوا شيئاً في طريقهم لا يمكنهم استصحابه ، تركوا عليه حجارة يعرفونه بها حتى إذا عادوا أخذوه. (2)

وفي «لسان العرب» وغيره من معاجم اللغة ، : ركَزَه يركُزُه رَكزاً : إذا دفنه. والركاز : قطع ذهب وفضة تخرج من الأرض ، أو المعدن. واحده الركزة ، كأنّه ركز في الأرض.

وفي نهاية اللغة : والركزة : القطعة من جواهر الأرض المركوزة فيها ، وجمع الركزة : الركاز.

إنّ هذه الروايات تعرب عن وجود ضريبة غير الزكاة ، هي الخمس ، وعليه كلام أبي يوسف في كتابه «الخراج» وإليك نصّه :

كلام أبي يوسف في المعدن والركاز

قال أبو يوسف : في كل ما أُصيب من المعادن من قليل أو كثير ، الخمس ، ولو أنّ رجلاً أصاب في معدن أقل من وزن مائتي درهم فضّة أو أقل من وزن عشرين مثقالاً ذهباً فإنّ فيه الخمس ، وليس هذا على موضع الزكاة إنّما هو على

ص : 27


1- سنن الترمذي : 6 / 145 ، باب ما جاء في العجماء.
2- النهاية : مادة «ارم».

موضع الغنائم (1) ، وليس في تراب ذلك شيء إنّما الخمس في الذهب الخالص والفضة الخالصة والحديد والنحاس والرصاص ، ولا يحسب لمن استخرج ذلك من نفقته عليه شيء ، وقد تكون النفقة تستغرق ذلك كلّه فلا يجب إذن فيه خمس عليه ، وفيه الخمس حين يفرغ من تصفيته قليلاً كان أو كثيراً ، ولا يحسب له من نفقته شيء من ذلك ، وما استخرج من المعادن سوى ذلك من الحجارة - مثل الياقوت والفيروزج والكحل والزئبق والكبريت والمغرّة - فلا خمس في شيء (2) من ذلك ، إنّما ذلك كلّه بمنزلة الطين والتراب.

قال : ولو أنّ الذي أصاب شيئاً من الذهب أو الفضة أو الحديد أو الرصاص أو النحاس ، كان عليه دين فادح لم يُبطل ذلك الخمس عنه ، ألا ترى لو أنّ جنداً من الأجناد أصابوا غنيمة من أهل الحرب خُمِّسَت ولم ينظر أعليهم دين أم لا ، ولو كان عليهم دين لم يمنع ذلك من الخمس.

قال : وأمّا الركاز فهو الذهب والفضة الذي خلقه الله عزّ وجلّ في الأرض يوم خلقت ، فيه أيضاً الخمس ، فمن أصاب كنزاً عاديّاً في غير ملك أحد - فيه ذهب أو فضة أو جوهر أو ثياب - فإنّ في ذلك الخمس وأربعة أخماسه للذي أصابه وهو بمنزلة الغنيمة يغنمها القوم فتخمَّس وما بقي فلهم.

قال : ولو أنّ حربياً وجد في دار الإسلام ركازاً وكان قد دخل بأمان ، نزع ذلك كلّه منه ولا يكون له منه شيء ، وإن كان ذمّياً أُخذ منه الخمس كما يؤخذ من

ص : 28


1- ترى أنّ أبا يوسف يعد الخمس الوارد في هذا الموضع من مصاديق الغنيمة الواردة في آية الخمس وهو شاهد على كونها عامة مفهوماً.
2- هذا رأي أبي يوسف ، واطلاق الآية يخالفه مضافاً إلى مخالفته مع روايات أئمّة أهل البيت فإنّها تفرض الخمس في الجميع.

المسلم ، وسلِّم له أربعة أخماسه. وكذلك المكاتب يجد ركازاً في دار الإسلام فهو له بعد الخمس .... (1)

إنّ الناظر في فتاوى العلماء وروايات الواردة في وجوب الخمس في الركاز الذي هو الكنز عند الحجازيين والمعدن عند أهل العراق يقف على أنّ إيجابه من باب انّه فوز بالشيء بلا بذل جهد ، كالغنائم المأخوذة في الغزوات ، وهذا يعرب عن أنّ مدلول الآية أوسع ممّا يتصوّر في بدء الأمر.

يقول ابن الأثير ناقلاً عن مالك : الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا والذي سمعت أهل العلم يقولون : إنّ الركاز إنّما هو دفن يوجد من دفن الجاهلية ، ما لم يطلب بمال ولم يتكلّف فيه نفقة ، ولا كبير عمل ولا مئونة ، فأمّا ما طلب بمال ، وتكلّف فيه كبير عمل فأصيب مرة وأخطئ مرة ، فليس بركاز.

والركاز عند أهل الحجاز كنز الجاهلية ودفنها ، لأنّ صاحبه ركزه في الأرض ، أي أثبته وهو عند أهل العراق ، المعدن ، لأنّ الله تعالى ركزه في الأرض ركزاً ، والحديث إنّما جاء في التفسير الأوّل منهما ، وهو الكنز الجاهلي على ما فسّره الحسن وإنّما كان فيه الخمس لكثرة نفعه وسهولة أخذه ، والأصل فيه أنّ ما خفت كلفته كثر الواجب فيه ، وما ثقلت كلفته قلّ الواجب فيه.

ويؤيد (2) ذلك ما رواه الإمام الصادق - عليه السلام - عن آبائه - عليهم السلام - في وصية النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لعلي - عليه السلام - قال : «يا علي إنّ عبد المطلب سنّ في الجاهلية خمس سنن أجراها الله له في الإسلام ... ووجد كنزاً فأخرج منه الخمس وتصدّق به فأنزل الله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ)». إلى غير ذلك من الأخبار. (3)

ص : 29


1- الخراج : 22.
2- جامع الأُصول : 4 / 621620.
3- الوسائل : 6 ، الباب 5 من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث 3.

ترى أنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - جعل الكنز من مصاديق الغنيمة الواردة في الآية المباركة ، وهذا يعرب عن سعة مفهوم الآية.

غير أنّ الشيعة الإمامية عمّمتها إلى أرباح المكاسب ولكن السنّة خصصتها بالركاز والكنز والمعدن ، وسيوافيك ما يدلّ على وجوب الخمس في أرباح المكاسب في روايات أهل السنّة.

2. الخمس في أرباح المكاسب
اشارة

هذا هو بيت القصيد في المقام ، والهدف من عنوان المسألة هو إثبات ذلك ، حيث يظهر من غير واحد من الروايات أنّ النبيّ الأكرم أمر بإخراج الخمس من مطلق ما يغنمه الإنسان من أرباح المكاسب وغيرها ، وإليك بعض ما ورد في المقام :

1. قدم وفد عبد القيس على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقالوا : إنّ بيننا وبينك المشركين وإنّا لا نصل إليك إلاّ في شهر الحرام ، فَمُرْنا بأمر فصل ، إنْ عملنا به دخلنا الجنة وندعو إليه مَن وراءنا» فقال - صلى الله عليه وآله وسلم - : «آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع ؛ آمركم : بالإيمان بالله ، وهل تدرون ما الإيمان؟ شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وتعطوا الخمس من المغنم». (1)

ومن المعلوم أنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يطلب من بني عبد القيس أن يدفعوا غنائم الحرب كيف وهم لا يستطيعون الخروج من حيّهم في غير الأشهر الحرم ، خوفاً من

ص : 30


1- صحيح البخاري : 4 / 250 ، باب «والله خلقكم وما تعملون» من كتاب التوحيد ، وج 1 / 13 و 19 ، وج 3 / 53 ؛ صحيح مسلم : 1 / 35 - 36 باب الأمر بالإيمان ؛ سنن النسائي : 1 / 333 ؛ مسند أحمد : 1 / 318 ؛ الأموال : 12 وغيرها.

المشركين. فيكون قد قصد المغنم بمعناه الحقيقي في لغة العرب وهو ما يفوزون به فعليهم أن يعطوا خمس ما يربحون.

وهناك كتب ومواثيق ، كتبها النبيّ وفرض فيها الخمس على أصحابها وستتبيّن بعد الفراغ من نقلها ، دلالتها على الخمس في الأرباح وإن لم تكن غنيمة حربية ، فانتظر.

2. كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن :

«بسم الله الرحمن الرحيم ... هذا ... عهد من النبي رسول الله لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن ، أمره بتقوى الله في أمره كلّه ، وأن يأخذ من المغانم خمس الله ، وما كتب على المؤمنين من الصدقة من العقار عُشر ما سقى البعل وسقت السماء ، ونصف العُشر ممّا سقى الغرب». (1)

والبعل ما سُقِيَ بعروقه ، والغَرَبَ : الدلو العظيمة.

3. كتب إلى شرحبيل بن عبد كلال ، وحارث بن عبد كلال ، ونعيم بن عبد كلال قيل ذي رعين ، ومعافر وهمدان :

«أمّا بعد ، فقد رجع رسولكم وأعطيتم من المغانم خمس الله». (2)

4. كتب إلى سعد هُذيم من قضاعة ، وإلى جذام كتاباً واحداً يعلّمهم فرائض الصدقة ، ويأمرهم أن يدفعوا الصدقة والخمس إلى رسوليه أُبيّ وعنبسة أو من أرسلاه». (3)

ص : 31


1- فتوح البلدان : 1 / 81 باب اليمن ؛ سيرة ابن هشام : 4 / 265 ؛ تنوير الحوالك في شرح موطأ مالك : 1 / 157.
2- الوثائق السياسية : 227 برقم 110. (ط 4 بيروت).
3- الطبقات الكبرى : 1 / 270.

5. كتب للفُجَيع ومن تبعه :

«من محمد النبيّ للفجيع ، ومن تبعه وأسلمَ وأقام الصلاةَ وآتى الزكاة وأطاع الله ورسوله وأعطى من المغانم خمس الله ...». (1)

6. كتب لجنادة الأزدي وقومه ومن تبعه :

«ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطاعوا الله ورسوله وأعطوا من المغانم خمس الله وسهم النبي وفارقوا المشركين ، فإنّ لهم ذمّة الله وذمّة محمد بن عبد الله». (2)

7. كتب لجهينة بن زيد فيما كتب :

«إنّ لكم بطون الأرض وسهولها وتلاع الأودية وظهورها ، على أن ترعوا نباتها وتشربوا ماءها ، على أن تؤدّوا الخمس». (3)

8. كتب لملوك حمير فيما كتب :

«وآتيتم الزكاة ، وأعطيتم من المغانم : خمس الله ، وسهم النبي وصفيّه وما كتب الله على المؤمنين من الصدقة». (4)

9. كتب لبني ثعلبة بن عامر :

«من أسلم منهم وأقام الصلاة وآتى الزكاة وأعطى خمس المغنم وسهم النبي والصفي». (5)

10. كتب إلى بعض أفخاذ جهينة :

ص : 32


1- المصدر نفسه : 304 - 305.
2- المصدر نفسه : 270.
3- الوثائق السياسية : 265 برقم 157.
4- فتوح البلدان : 1 / 82 ؛ سيرة ابن هشام : 4 / 258.
5- الإصابة : 2 / 189 ؛ أُسد الغابة : 3 / 34.

«من أسلم منهم وأقام الصلاة وآتى الزكاة وأطاع الله ورسوله وأعطى من الغنائم الخمس». (1)

إيضاح الاستدلال بهذه المكاتيب

يتبيّن - بجلاء - من هذه الرسائل أنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يكن يطلب منهم أن يدفعوا خمس غنائم الحرب التي اشتركوا فيها ، بل كان يطلب ما استحقّ في أموالهم من خمس وصدقة.

ثم إنّه كان يطلب منهم الخمس دون أن يشترط - في ذلك - خوض الحرب واكتساب الغنائم.

هذا مضافاً إلى أنّ الحاكم الإسلامي أو نائبه هما اللّذان يليان بعد الفتح قبض جميع غنائم الحرب وتقسيمها بعد استخراج الخمس منها ، ولا يَملِك أحد من الغزاة عدا سلب القتيل شيئاً ممّا سلب وإلاّ كان سارقاً مغلاّ.

فإذا كان إعلان الحرب وإخراج خمس الغنائم على عهد النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - من شئون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فما ذا يعني طلبه الخمس من الناس وتأكيده في كتاب بعد كتاب ، وفي عهد بعد عهد؟

فيتبيّن أنّ ما كان يطلبه لم يكن مرتبطاً بغنائم الحرب. هذا مضافاً إلى أنّه لا يمكن أن يقال : إنّ المراد بالغنيمة في هذه الرسائل هو ما كان يحصل الناس عليه في الجاهلية عن طريق النهب ، كيف وقد نهى النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - عن النهب والنهبى بشدّة ، ففي كتاب الفتن باب النهي عن النُّهبة عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - :

ص : 33


1- الطبقات الكبرى : 1 / 271.

«من انتهب نهبة فليس منّا» (1) ، وقال : «إنّ النهبة لا تَحِلّ». (2)

وفي صحيح البخاري ومسند أحمد عن عبادة بن الصامت : بايعنا النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أن لا ننهب. (3)

وفي سنن أبي داود ، باب النهي عن النهبى ، عن رجل من الأنصار قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فأصاب الناس حاجة شديدة وجهدٌ ، وأصابوا غنماً فانتهبوها ، فإنّ قدورنا لتغلي ، إذ جاء رسول الله يمشي [متّكئاً] على قوسه فأكفأ قدورنا بقوسه ، ثمّ جعل يُرمِّل اللحم بالتراب ، ثمّ قال : «إنّ النُّهبة ليست بأحلَّ من الميتة». (4)

وعن عبد الله بن زيد : نهى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن النهبى والمثلة. (5)

إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت في كتاب الجهاد.

وقد كانت النُّهبة والنهبى عند العرب تساوق الغنيمة والمغنم - في مصطلح يومنا هذا - الذي يستعمل في أخذ مال العدو.

فإذا لم يكن النهب مسموحاً به في الدين ، وإذا لم تكن الحروب التي تُخاض بغير إذن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - جائزة ، لم تكن الغنيمة في هذه الوثائق غير ما يفوز به الناس من غير طريق القتال بل من طريق الكسب وما شابهه ، ولا محيص حينئذ من أن يقال : إنّ المراد بالخمس الذي كان يطلبه النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - هو خمس أرباح الكسب والفوائد الحاصلة للإنسان من غير طريق القتال أو النهب الممنوع في الدين.

وفي الجملة : إنّ الغنائم المطلوب في هذه الرسائل النبويّة أداء خمسها إمّا أن

ص : 34


1- سنن ابن ماجة : 2 / 1298 برقم 3937 و 3938 ، كتاب الفتن.
2- سنن ابن ماجة : 2 / 1298 برقم 3937 و 3938 ، كتاب الفتن.
3- صحيح البخاري : 2 / 48 باب النهب بغير إذن صاحبه.
4- سنن أبي داود : 3 / 66 برقم 2705.
5- رواه البخاري في الصيد ، راجع التاج : 4 / 334.

يراد بها ما يُستولى عليه من طريق النهب والإغارة ، أو ما يستولى عليه من طريق محاربة بصورة الجهاد ، أو ما يستولى عليه من طريق الكسب والكد.

والأوّل ممنوع ، بنصّ الأحاديث السابقة فلا معنى أن يطلب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خمس النهبة.

والثاني يكون أمر الغنائم بيد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مباشرة ، فهو الذي يأخذ كل الغنائم ويضرب لكلّ من الفارس والراجل ما له من الأسهم بعد أن يستخرج الخمس بنفسه من تلك الغنائم ، فلا معنى لأن يطلبه النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - من الغزاة ، فيكون الثالث هو المتعيّن.

وورد عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - ما يدلّ على ذلك ، فقد كتب أحد الشيعة إلى الإمام الجواد - عليه السلام - قائلاً : أخبرني عن الخمس أعَلى جميع ما يستفيد الرجل من قليل وكثير من جميع الضروب وعلى الصنّاع وكيف ذلك؟ فكتب - عليه السلام - بخطّه : «الخمس بعد المئونة».(1) وفي هذه الإجابة القصيرة يظهر تأييد الإمام - عليه السلام - لما ذهب إليه السائل ، ويتضمّن ذكر الكيفية التي يجب أن تراعى في أداء الخمس.

وعن سماعة قال : سألت أبا الحسن (الكاظم) - عليه السلام - عن الخمس؟ فقال : «في كل ما أفاد الناس من قليل أو كثير». (2)

وعن أبي علي ابن راشد (وهو من وكلاء الإمام الجواد والإمام الهادي - عليهما السلام -) قال : قلت له (أي الإمام الهادي - عليه السلام -) : أمرتني بالقيام بأمرك ، وأخذ حقّك ، فأعلمت مواليك بذلك فقال لي بعضهم : وأي شيء حقّه؟ فلم أدر ما أُجيبه؟

ص : 35


1- الوسائل : ج 6 الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث 1.
2- المصدر نفسه ، الحديث 6.

فقال : «يجب عليهم الخمس» ، فقلت : وفي أي شيء؟ فقال : «في أمتعتهم وصنائعهم» ، قلت : والتاجر عليه ، والصانع بيده؟ فقال : «إذا أمكنهم بعد مئونتهم». (1)

إلى غير ذلك من الأحاديث والأخبار المرويّة عن النبيّ الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - وأهل بيته الطاهرين - عليهم السلام - التي تدلّ على شمول الخمس لكلّ مكسب.

ثمّ إنّ هنا سؤالاً وهو إذا كان إخراج الخمس من أرباح المكاسب فريضة إلهية فلما ذا كان أمراً متروكاً قبل الصادقين - عليهما السلام -؟ فانّ الأخبار الدالة عليه مروية عنهما - عليهما السلام - وعمّن بعدهما من الأئمّة ، بل أكثرها مروية عن الإمامين الجواد والهادي - عليهما السلام - ، وهما من الأئمة المتأخّرين ، فهل كان هذا الحكم مهجوراً عند الفريقين بعد عصر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى عصر الإمام الصادق - عليه السلام -؟

والجواب هو انّه قد عرفت تضافر الروايات النبوية على وجوب الخمس في كلّ ما يربح الرجل ويفوز ، وأمّا عدم قيام الخلفاء به فلأجل عدم وقوفهم على هذا التشريع ، كما أنّ عدم قيام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بهذه المهمة على رءوس الأشهاد لأجل تفشّي الفقر بين المسلمين يوم ذاك ، والناس كانوا حديثي عهد بالإسلام ، وكانت المصلحة تقتضي تأخير إجراء التشريع إلى الأعصار اللاحقة.

وأمّا عصر الصادقين - عليهما السلام - الذي ورد فيه بعض الروايات ثمّ وردت تترى إلى عصر الجوادين - عليهما السلام - ، فلأجل تكدّس الأموال بين المسلمين ، الأمر الذي اقتضى الإجهار بالحكم ودعوة الشيعة إلى العمل به ، وإلاّ فأصل تشريع الخمس كان في عصر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كما عرفت.

ص : 36


1- المصدر نفسه ، الحديث 3.

14- مواضع الخمس في القرآن الكريم

اشارة

ص : 37

ص : 38

مواضع الخمس في القرآن الكريم

يُقسَّم الخمس حسب تنصيص الآية على ستة أسهم ، فيفرق على مواضعها الواردة في الآية ، قال سبحانه : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (1) غير أنّه يطيب لي تعيين المراد من ذي القربى.

يقصد ب (لِذِي الْقُرْبى) صاحب القرابة والوشيجة النسبية ، ويتعيّن فرده ، بتعيين المنسوب إليه. وهو يختلف حسب اختلاف مورد الاستعمال ، ويستعان في تعيينه بالقرائن الموجودة في الكلام وهي : الأشخاص المذكورون في الآية ، أو ما دلّ عليها سياق الكلام.

1. قال سبحانه : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) (2) والمراد أقرباء المذكورين في الآية ، أي النبيّ والمؤمنين لتقدّم قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا).

2. وقال سبحانه : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) (3) ، والمراد أقرباء المخاطبين في الآية بقوله : (قُلْتُمْ) و (فَاعْدِلُوا).

ص : 39


1- الأنفال : 41.
2- التوبة : 113.
3- الأنعام : 152.

3. وقال سبحانه : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى) (1) والمراد أقرباء من يقسم ماله أعني الميّت مطلقاً.

فقد أُريد من ذي القربى في هذه الآيات الثلاث ، مطلق القريب دون أقرباء النبي خاصة ، لما عرفت من القرائن بخلاف الآيتين التاليتين ، فإنّ المراد ، أقرباء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لنفس الدليل.

4. قوله سبحانه : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى). (2)

5. وقوله سبحانه : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (3). المراد في الآيتين قرابة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لتقدّم ذكره وعدم صلاحية السياق إلاّ لذلك.

وأمّا آية الخمس من سورة الأنفال المتقدّم ذكرها ، فقد اتّفق المفسّرون على أنّ المراد من ذي القربى قرابة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فسدس الخمس لذي القربى وهو حكم خالد ثابت غير منسوخ إلى يوم القيامة.

وأمّا الأسداس الثلاثة الباقية فهي للأصناف الثلاثة المذكورة في الآية - أعني : اليتامى والمساكين وابن السبيل - وهل المراد مطلق اليتامى والمساكين وأبناء السبيل ، أو يتامى آل محمّد ومساكينهم وأبناء سبيلهم ، وبالجملة : الثلاثة من ذوي القربى على الخصوص؟ والسياق هنا وإن لم يقتض الالتزام بأحدهما ، إلاّ أنّ السنّة الشريفة الواردة عن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وأهل بيته اقتضت الأخير كما يأتي في البحث التالي.

ص : 40


1- النساء : 8.
2- الحشر : 7.
3- الشورى : 23.

مواضع الخمس في السنّة

وأمّا السنّة فهي أيضاً تدعم ما هو مفاد الآية :

روي عن ابن عباس : كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقسم الخمس على ستة : لله وللرسول سهمان وسهم لأقاربه حتى قبض. (1)

إنّ السهم الوارد في قوله : «وسهم لأقاربه» تعبير آخر عن ثلاثة أسهم من الخمس يدل عليه قوله «على ستة : لله وللرسول سهمان» فانّ معناه سهم لله ، وسهمان للرسول ، أي سهم لنفس الرسول وسهم «لذي القربى» فتبقى الأسهم الثلاثة في الخمس ومن لأقاربه ، أعني : اليتامى والمساكين وابن السبيل.

وهذا هو الذي عليه الإمامية في تقسيم الخمس.

وروي عن أبي العالية الرياحي (2) : كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، يؤتى بالغنيمة فيقسمها على خمسة ، فتكون أربعة أخماس لمن شهدها ، ثمّ يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه فيأخذ منه الذي قبض كفّه ، فيجعله للكعبة وهو سهم الله ، ثمّ يقسّم ما بقي على خمسة أسهم ، فيكون سهم للرسول وسهم لذي القربى وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل. قال : والذي جعله للكعبة فهو سهم الله. (3)

ولعلّ جعله للكعبة كان لتجسيد السهام وتفكيكها ، وربّما خالفه كما روى

ص : 41


1- تفسير النيسابوري المطبوع بهامش الطبري : 10 / 4.
2- أبو العالية الرياحي : هو رفيع بن مهران ، مات سنة 90. لاحظ تهذيب التهذيب : 3 / 246.
3- الأموال : 325 ؛ تفسير الطبري : 10 / 4 ؛ أحكام القرآن : 3 / 60.

عطاء بن أبي رباح (1) قال : «خمس الله ، وخمس رسوله واحد ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يحمل منه ويعطي منه ويضعه حيث شاء ويصنع به ما شاء». (2)

والمراد من كون سهمهما واحداً ، كون أمره بيده - صلى الله عليه وآله وسلم - بخلاف الأسهم الأُخر ، فإنّ مواضعها معيّنة.

وبذلك يظهر المراد ممّا رواه الطبري : «كان نبيّ الله إذا اغتنم غنيمة جعلت أخماساً ، فكان خمس لله ولرسوله. ويقسّم المسلمون ما بقي (الأخماس الأربعة) وكان الخمس الذي جعل لله ولرسوله ، لرسوله ، ولذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، فكان هذا الخُمْس خمسة أخماس خمس لله ولرسوله». (3)

فالمراد منه - كما يظهر - أنّ أمر السهمين كان بيد الرسول ولذا جعلهما سهماً واحداً ، بخلاف السهام الأُخر ، وإلاّ فالخبر مخالف لتنصيص القرآن الكريم ، لتصريحه بأنّ الخمس يقسم أسداساً.

وأمّا تخصيص بعض سهام الخمس بذي القربى ومن جاء بعدهم من اليتامى والمساكين وابن السبيل ، فلأجل الروايات الدالة على أنّه لا تحل لهم الصدقة فجعل لهم خمس الخمس من آل محمّد - صلى الله عليه وآله وسلم -. روى الطبري : كان آل محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - لا تحل لهم الصدقة فجعل لهم (ذوي القربى) خُمُس الخُمْسِ ، وقال : قد علم الله أنّ في بني هاشم الفقراء فجعل لهم الخُمْس مكان الصدقة (4). كما

ص : 42


1- عطاء بن أبي رباح مات سنة 114 ، أخرج حديثه أصحاب الصحاح.
2- تفسير الطبري : 10 / 4.
3- المصدر نفسه. والأصح أن يقول ستة أسداس وقد مرّ وجه العدول عنه.
4- المصدر نفسه : 5 ، فجعل لهم تارة خمس الخمس ، بلحاظ المواضع الخمسة ما سوى لله ، وجعله كله لهم تارة أُخرى كما في ذيل كلامه : «فجعل لهم الخمس» باعتبار أنّ أمره أيضاً بيده ، فلا منافاة بين الجعلين.

تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت أنّ السهام الأربعة من الخمس ، لآل محمد صلى الله عليه وآله و (1) سلَّم.

فتبين انّ سدس الخمس لذي القربى والأسداس الثلاثة الباقية ، للطوائف الثلاث من آل محمّد.

هذا ما يستفاد من الكتاب والسنّة ، غير أنّ الاجتهاد لعب دوراً كبيراً في تحويل الخمس عن أصحابه ، وإليك ما ذهبت إليه المذاهب الأربعة :

إسقاط حقّ ذي القربى بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم

اتّفق أكثر فقهاء المذاهب تبعاً لأسلافهم على إسقاط سهم ذوي القربى من خمس الغنائم وغيره ، وإليك كلماتهم :

قالت الشافعية والحنابلة : تقسم الغنيمة ، وهي الخمس ، إلى خمسة أسهم ، واحد منها سهم الرسول ، ويصرف على مصالح المسلمين ، وواحد يعطى لذوي القربى ، وهم من انتسب إلى هاشم بالابوّة من غير فرق بين الأغنياء والفقراء ، والثلاثة الباقية تنفق على اليتامى والمساكين وأبناء السبيل ، سواء أكانوا من بني هاشم أو من غيرهم.

وقالت الحنفية : إنّ سهم الرسول سقط بموته ، أمّا ذوو القربى فهم كغيرهم من الفقراء يعطون لفقرهم لا لقرابتهم من الرسول.

وقالت المالكية : يرجع أمر الخمس إلى الإمام يصرفه حسبما يراه من المصلحة.

ص : 43


1- الوسائل : ج 6 ، الباب 29 من أبواب المستحقّين للزكاة. ولاحظ أيضاً صحيح البخاري : 1 / 181 ، باب تحريم الزكاة على رسول الله.

وقالت الإمامية : إنّ سهم الله وسهم الرسول وسهم ذوي القربى يفوّض أمرها إلى الإمام أو نائبه ، يضعها في مصالح المسلمين. والأسهم الثلاثة الباقية تعطى لأيتام بني هاشم ومساكينهم وأبناء سبيلهم ، ولا يشاركهم فيها غيرهم. (1)

وفي هامش المغني لابن قدامة بعد ما روى أنّ أبا بكر وعمر - رضى الله عنهما - قسّما الخمس على ثلاثة أسهم : «وهو قول أصحاب الرأي - أبي حنيفة وجماعته - قالوا : يقسّم الخمس على ثلاثة : اليتامى والمساكين وابن السبيل ، وأسقطوا سهم رسول الله بموته ، وسهم قرابته أيضاً.

وقال مالك : الفيء والخمس واحد يجعلان في بيت المال.

وقال الثوري : والخمس يضعه الإمام حيث أراه الله عزّ وجلّ.

وما قاله أبو حنيفة مخالف لظاهر الآية ، فإنّ الله تعالى سمّى لرسوله وقرابته شيئاً وجعل لهما في الخمس حقّاً كما سمّى الأصناف الثلاثة الباقية ، فمن خالف ذلك فقد خالف نصّ الكتاب ، وأمّا جعل أبي بكر وعمر - رضى الله عنهما - سهم ذي القربى في سبيل الله ، فقد ذكر لأحمد فسكت وحرّك رأسه ولم يذهب إليه ، ورأى أنّ قول ابن عباس ومن وافقه أولى ، لموافقته كتاب الله وسنّة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - .... (2)

إسقاط سهم ذي القربى اجتهاد تجاه النص

ثمّ إنّ الخلفاء بعد النبيّ الأكرم اجتهدوا تجاه النص في موارد منها إسقاط سهم ذي القربى من الخمس ، وذلك أنّ الله سبحانه وتعالى جعل لهم سهماً ،

ص : 44


1- الفقه على المذاهب الخمسة : 188.
2- الشرح الكبير - على هامش المغني - : 10 / 493 - 494.

وافترض أداءه نصاً في الذكر الحكيم والفرقان العظيم يتلوه المسلمون آناء الليل وأطراف النهار ، وهو قوله عزّ من قائل : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (1)

وقد أجمع أهل القبلة كافّة على أنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يختصّ بسهم من الخمس ويخص أقاربه بسهم آخر منه ، وأنّه لم يَعْهَد بتغيير ذلك إلى أحد حتى قبضه الله إليه وانتقاله إلى الرفيق الأعلى.

فلمّا ولي أبو بكر - رضى الله عنه - تأوّل الآية فأسقط سهم النبيّ وسهم ذي القربى بموت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ومنع بني هاشم من الخمس ، وجعلهم كغيرهم من يتامى المسلمين ومساكينهم وأبناء السبيل منهم.

قال الزمخشري : وعن ابن عباس : الخمس على ستّة أسهم : لله ولرسوله ، سهمان ، وسهم لأقاربه حتى قبض ، فأجرى أبو بكر الخمس على ثلاثة ، وكذلك روي عن عمر ومن بعده من الخلفاء قال : وروي أنّ أبا بكر منع بني هاشم الخمس. (2)

وقد أرسلت فاطمة - عليها السلام - تسأله ميراثها من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ممّا أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر ، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً ، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك ، فهجرته فلم تكلّمه حتى توفّيت ، وعاشت بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ستّة أشهر ، فلمّا توفّيت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر ،

ص : 45


1- الأنفال : 41.
2- الكشاف : 2 / 126.

وصلّى عليها. الحديث. (1)

وفي صحيح مسلم عن يزيد بن هرمز قال : كتب نجدة بن عامر الحروري الخارجي إلى ابن عباس قال ابن هرمز : فشهدتُ ابن عباس حين قرأ الكتاب وحينَ كتب جوابه وقال ابن عباس : والله لو لا أن أردّه عن نتن يقع فيه ما كتبت إليه ، ولا نعمة عين. قال : فكتب إليه : إنّك سألتني عن سهم ذي القربى الذين ذكرهم الله من هم؟ وإنّا كنّا نرى أنّ قرابة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - هم نحن فأبى ذلك علينا قومُنا. الحديث. (2)

وأخرجه الإمام أحمد من حديث ابن عباس في أواخر ص 294 من الجزء الأوّل من مسنده.

ورواه كثير من أصحاب المسانيد بطرق كلها صحيحة ، وهذا هو مذهب أهل البيت المتواتر عن أئمّتهم - عليهم السلام -.

لكن الكثير من أئمّة الجمهور أخذوا برأي الخليفتين فلم يجعلوا لذي القربى نصيباً من الخمس خاصّاً بهم.

فأمّا مالك بن أنس فقد جعله بأجمعه مفوّضاً إلى رأي الإمام يجعله حيث يشاء في مصالح المسلمين ، لا حقّ فيه لذي قربى ولا ليتيم ولا لمسكين ولا لابن سبيل مطلقاً.

وأمّا أبو حنيفة وأصحابه فقد أسقطوا بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سهمه وسهم ذي قرباه ، وقسموه بين مطلق اليتامى والمساكين وابن السبيل على السواء ، لا فرق

ص : 46


1- صحيح البخاري : 3 / 36 باب غزوة خيبر. وفي صحيح مسلم : 5 / 154 : «... وصلّى عليها علي».
2- صحيح مسلم : 2 / 105 ، كتاب الجهاد والسير.

عندهم بين الهاشميين وغيرهم من المسلمين.

والشافعي جعله خمسة أسهم : سهماً لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يصرف إلى ما كان يصرف إليه من مصالح المسلمين كعُدَّة الغزاة من الخيل والسلاح والكراع ونحو ذلك ، وسهماً لذوي القربى من بني هاشم وبني المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل يقسم بينهم (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ، والباقي للفرق الثلاث : اليتامى والمساكين وابن السبيل مطلقاً. (1)

إلى هنا خرجنا بالنتيجة التالية :

إنّ الخمس يقسم على ستة أسهم ، الثلاثة الأُولى ، أمرها بيد الإمام يتولاّها حسب ما رأى من المصلحة ، والثلاثة الأُخرى ، للأيتام والمساكين وأبناء السبيل من آل النبيّ الأكرم لا مطلقهم.

ص : 47


1- النص والاجتهاد : 25 - 27.

ص : 48

15- الإشهاد على الطلاق

اشارة

ص : 49

ص : 50

الإشهاد على الطلاق

وممّا انفردت به الإماميّة ، القول : بأنّ شهادة عدلين شرط في وقوع الطلاق ، ومتى فُقِد لم يقع الطلاق ، وخالف باقي الفقهاء في ذلك. (1)

وقال الشيخ الطوسي : كلّ طلاق لم يحضره شاهدان مسلمان عدلان وإن تكاملت سائر الشروط ، فإنّه لا يقع. وخالف جميع الفقهاء ولم يعتبر أحد منهم الشهادة. (2)

قال سيد سائق : ذهب جمهور الفقهاء من السلف والخلف إلى انّ الطلاق يقع بدون إشهاد لانّ الطلاق من حقوق الرجل ولا يحتاج إلى بيّنة كي يباشر حقّه ولم يرد عن النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا عن الصحابة ما يدلّ على مشروعية الإشهاد ، وخالف في ذلك فقهاء الشيعة الإمامية ... وممّن ذهب إلى وجوب الإشهاد واشتراطه لصحته من الصحابة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعمر ان بن حصين - رضي الله عنهما - ومن التابعين الإمام محمّد الباقر والإمام جعفر الصادق ، وبنوهما أئمّة أهل البيت - رضوان الله عليهم - ، وكذلك عطاء وابن جُريح وابن سيرين. (3)

ولا يخفى ما في كلامه من التهافت فأين قوله «ولم يرد عن النبي ولا عن

ص : 51


1- الانتصار : 127 - 128.
2- الخلاف : 2 ، كتاب الطلاق المسألة 5.
3- فقه السنة : 2 / 230.

الصحابة ما يدلّ على مشروعية الإشهاد» ، من قوله : «وممن ذهب إلى وجوب الإشهاد واشتراطه لصحّته من الصحابة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعمران بن حصين» أو ليسا من الصحابة العدول.

ولا نعثر على عنوان للموضوع في الكتب الفقهية لأهل السنّة وانّما تقف على آرائهم في كتب التفسير عند تفسير قوله سبحانه : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) (1). وهم بين من يجعله قيداً للطلاق والرجعة ، ومن يخصّه قيداً للرجعة المستفادة من قوله : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ).

روى الطبري عن السدّي أنّه فسّر قوله سبحانه : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) تارة بالرجعة وقال : أشهدوا على الإمساك إن أمسكتموهنّ وذلك هو الرجعة ، وأُخرى بها وبالطلاق ، وقال : عند الطلاق وعند المراجعة.

ونقل عن ابن عباس : أنّه فسّرها بالطلاق والرجعة. (2)

وقال السيوطي : أخرج عبد الرزاق عن عطاء قال : النكاح بالشهود ، والطلاق بالشهود ، والمراجعة بالشهود.

وسئل عمران بن حصين عن رجل طلّق ولم يشهد ، وراجع ولم يشهد؟ قال : بئس ما صنع طلّق في بدعة وارتجع في غير سنّة ، فليشهد على طلاقه ومراجعته وليستغفر الله. (3)

قال القرطبي : قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا) أمرنا بالإشهاد على الطلاق ، وقيل : على الرجعة ، والظاهر رجوعه إلى الرجعة لا إلى الطلاق. ثمّ الإشهاد مندوب إليه

ص : 52


1- الطلاق : 2.
2- جامع البيان : 28 / 88.
3- الدر المنثور : 6 / 232 ، وعمران بن حصين كان أيضاً من كبار أصحاب الإمام عليّ - عليه السلام -.

عند أبي حنيفة كقوله : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) وعند الشافعي واجب في الرجعة. (1)

وقال الآلوسي : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) عند الرجعة إن اخترتموها أو الفرقة إن اخترتموها تبرّياً عن الريبة. (2)

تدلّ الآية تدلّ بوضوح على لزوم الإشهاد في صحّة الطلاق وتقرير الدلالة ، انّ قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) إمّا أن يكون راجعاً إلى الطلاق ، كأنّه قال : «إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهنّ وأشهدوا ، أو أن يكون راجعاً إلى الفرقة (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ، أو إلى الرجعة التي عبر تعالى عنها بالإمساك (فَأَمْسِكُوهُنَ).

ولا يجوز أن يرجع ذلك إلى الفرقة [الثاني] لأنّها ليست هاهنا شيئاً يوقع ويفعل ، وإنّما هو العدول عن الرجعة ، وإنّما يكون مفارقاً لها بأن لا يراجعها فتبين بالطلاق السابق ، على أنّ أحداً لا يوجب في هذه الفرقة الشهادة وظاهر الأمر يقتضي الوجوب ، ولا يجوز أن يرجع الأمر بالشهادة إلى الرجعة ، لأنّ أحداً لا يوجب فيها الإشهاد وإنّما هو مستحب فيها ، فثبت انّ الأمر بالإشهاد راجع إلى الطلاق. (3)

إلى غير ذلك من الكلمات الواردة في تفسير الآية.

وممّن أصحر بالحقيقة عالمان جليلان ، وهما : أحمد محمد شاكر القاضي المصري ، والشيخ أبو زهرة.

قال الأوّل - بعد ما نقل الآيتين من أوّل سورة الطلاق : «والظاهر من سياق

ص : 53


1- الجامع لأحكام القرآن : 18 / 157.
2- روح المعاني : 28 / 134.
3- الانتصار : 300.

الآيتين أنّ قوله : (وَأَشْهِدُوا) راجع إلى الطلاق وإلى الرجعة معاً ، والأمر للوجوب ، لأنّه مدلوله الحقيقي ، ولا ينصرف إلى غير الوجوب - كالندب - إلاّ بقرينة ، ولا قرينة هنا تصرفه عن الوجوب ، بل القرائن هنا تؤيّد حمله على الوجوب - إلى أن قال : - فمن أشهد على طلاقه ، فقد أتى بالطلاق على الوجه المأمور به ، ومن أشهد على الرجعة فكذلك ، ومن لم يفعل فقد تعدّى حدود الله الذي حدّه له فوقع عمله باطلاً ، لا يترتّب عليه أيُّ أثر من آثاره - إلى أن قال : - وذهب الشيعة إلى وجوب الإشهاد في الطلاق وأنّه ركن من أركانه ، ولم يوجبوه في الرجعة والتفريق بينهما غريب لا دليل عليه. (1)

وقال أبو زهرة : قال فقهاء الشيعة الإمامية الاثنا عشرية والإسماعيلية : إنّ الطلاق لا يقع من غير إشهاد عدلين ، لقوله تعالى - في أحكام الطلاق وإنشائه في سورة الطلاق - : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (2) فهذا الأمر بالشهادة جاء بعد ذكر إنشاء الطلاق وجواز الرجعة ، فكان المناسب أن يكون راجعاً إليه ، وإنّ تعليل الإشهاد بأنّه يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر يرشّح ذلك ويقوّيه ، لأنّ حضور الشهود العدول لا يخلو من موعظة حسنة يزجونها إلى الزوجين ، فيكون لهما مخرج من الطلاق الذي هو أبغض الحلال إلى الله سبحانه وتعالى.

وأنّه لو كان لنا أن نختار للمعمول به في مصر لاخترنا هذا الرأي ، فيشترط لوقوع الطلاق حضور شاهدين عدلين. (3)

ص : 54


1- نظام الطلاق في الإسلام : 118 - 119.
2- الطلاق : 32.
3- الأحوال الشخصية : 365 ، كما في الفقه على المذاهب الخمسة : 131.

وهذه النصوص تعرب عن كون القوم بين من يقول برجوع الإشهاد إلى الرجعة وحدها ، وبين من يقول برجوعه إليها وإلى الطلاق ، ولم يقل أحد من السنّة برجوعه إلى الطلاق وحده إلاّ ما عرفته من كلام أبي زهرة. وعلى ذلك فاللازم علينا بعد نقل النص ، التدبّر والاهتداء بكتاب الله إلى حكمه.

قال سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً * فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً). (1)

إنّ المراد من بلوغهنّ أجلهنّ : اقترابهنّ من آخر زمان العدة وإشرافهنّ عليه. والمراد بإمساكهنّ : الرجوع على سبيل الاستعارة ، كما أنّ المراد بمفارقتهنّ : تركهنّ ليخرجن من العدّة ويبنّ.

لا شك أنّ قوله : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ) ظاهر في الوجوب كسائر الأوامر الواردة في الشرع ولا يعدل عنه إلى غيره إلاّ بدليل ، إنّما الكلام في متعلّقه. فهناك احتمالات ثلاثة :

1. أن يكون قيداً لقوله : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ).

2. أن يكون قيداً لقوله : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ).

3. أن يكون قيداً لقوله : (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ).

لم يقل أحد برجوع القيد إلى الأخير فالأمر يدور بين رجوعه إلى الأوّل أو

ص : 55


1- الطلاق : 21.

الثاني ، والظاهر رجوعه إلى الأوّل ، وذلك لأنّ السورة بصدد بيان أحكام الطلاق وقد افتتحت بقوله سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) فذكرت للطلاق عدّة أحكام :

1. أن يكون الطلاق لعدّتهنّ.

2. إحصاء العدّة.

3. عدم خروجهنّ من بيوتهنّ.

4. خيار الزوج بين الإمساك والمفارقة عند اقتراب عدّتهنّ من الانتهاء.

5. إشهاد ذوَي عدل منكم.

6. عدّة المسترابة.

7. عدّة من لا تحيض وهي في سن من تحيض.

8. عدّة أُولات الأحمال.

وإذا لاحظت مجموع آيات السورة من أوّلها إلى الآية السابعة تجد أنّها بصدد بيان أحكام الطلاق ، لأنّه المقصود الأصلي ، لا الرجوع المستفاد من قوله : (فَأَمْسِكُوهُنَ) وقد ذكر تبعا.

وهذا هو المرويّ عن أئمتنا - عليهم السلام -. روى محمد بن مسلم قال : قدم رجل إلى أمير المؤمنين - عليه السلام - بالكوفة فقال : إنّي طلّقت امرأتي بعد ما طهرت من محيضها قبل أن أُجامعها ، فقال أمير المؤمنين - عليه السلام - : أشهدت رجلين ذوَي عدل كما أمرك الله؟ فقال : لا ، فقال : اذهب فانّ طلاقك ليس بشيء. (1)

ص : 56


1- الوسائل : ج 15 الباب 10 من أبواب مقدّمات الطلاق ، الحديث 7 و 3 ولاحظ بقية أحاديث الباب.

وروى بكير بن أعين عن الصادقين - عليهما السلام - أنّهما قالا : «وإن طلّقها في استقبال عدّتها طاهراً من غير جماع ، ولم يشهد على ذلك رجلين عدلين ، فليس طلاقه إيّاها بطلاق». (1)

وروى الفضلاء من أصحاب الإمام الباقر الصادق كزرارة ومحمد بن مسلم ، وبريد ، وفضيل عنهما - عليهما السلام - في حديث انّهما قالا : وإن طلقها في استقبال عدتها طاهراً من غير جماع ولم يشهد على ذلك رجلين عدلين فليس طلاقه إياها بطلاق. (2)

وروى محمد بن الفضيل عن أبي الحسن - عليه السلام - أنّه قال لأبي يوسف : إنّ الدين ليس بقياس كقياسك وقياس أصحابك ، إنّ الله أمر في كتابه بالطلاق وأكّد فيه بشاهدين ولم يرض بهما إلاّ عدلين ، وأمر في كتابه التزويج وأهمله بلا شهود ، فأتيتم بشاهدين فيما أبطل الله ، وأبطلتم شاهدين فيما أكّد الله عزّ وجلّ ، وأجزتم طلاق المجنون والسكران ، ثم ذكر حكم تظليل المحرم. (3)

قال الطبرسي : قال المفسرون : أُمروا أن يشهدوا عند الطلاق وعند الرجعة شاهدي عدل حتى لا تجحد المرأة المراجعة بعد انقضاء العدّة ولا الرجل الطلاق. وقيل : معناه وأشهدوا على الطلاق صيانة لدينكم ، وهو المروي عن أئمتنا - عليهم السلام - وهذا أليق بالظاهر ، لأنّا إذا حملناه على الطلاق كان أمراً يقتضي الوجوب وهو من شرائط الطلاق ، ومن قال : إنّ ذلك راجع إلى المراجعة ، حمله على الندب. (4)

ص : 57


1- الوسائل : ج 15 الباب 10 من أبواب مقدّمات الطلاق ، الحديث 7 و 3 ولاحظ بقية أحاديث الباب.
2- الوسائل : 15 ، الباب 10 من أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه ، الحديث 3.
3- الوسائل : ج 15 الباب 10 من أبواب مقدّمات الطلاق ، الحديث 12 ولاحظ بقية أحاديث الباب.
4- مجمع البيان : 5 / 306.

ومن عجيب الأمر حمل الأمر على الإشهاد في الآية على الندب قال الآلوسي : وأشهدوا ذوي عدل منكم عند الرجعة إن اخترتموها أو الفرقة (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) إن اخترتموها تبرياً عن الريبة وقطعاً للنزاع ، وهذا أمر ندب كما في قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) وقال الشافعي في القديم : إنّه للوجوب في الرجعة. (1)

يلاحظ عليه : بأنّ المتبادر من الأمر هو الوجوب ، وقد قلنا في محلّه : إنّ الأصل المقرر عند العقلاء الذي أنفذه الشارع هو «انّ أمر المولى لا يترك بلا جواب» والجواب إمّا العمل بالأمر أو قيام الدليل على كونه مندوباً ، وعلى ضوء ذلك فالأمر في المقام للوجوب خصوصاً بالنسبة إلى حكمة التشريع الذي ذكره وهو قوله تبرياً عن الريبة وقطعاً للنزاع.

وأمّا قوله سبحانه : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) فقد اتّفقت الأُمّة على كون الإشهاد عند البيع أمراً مندوباً.

ثمّ إنّ الشيخ أحمد محمد شاكر ، القاضي الشرعي بمصر كتب كتاباً حول «نظام الطلاق في الإسلام» وأهدى نسخة منه مشفوعة برسالة إلى العلامة الكبير الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء وكتب إليه : إنّني ذهبت إلى اشتراط حضور شاهدين حين الطلاق ، وإنّه إذا حصل الطلاق في غير حضرة الشاهدين لم يكن طلاقاً ولم يعتد به ، وهذا القول وإن كان مخالفاً للمذاهب الأربعة المعروفة إلاّ أنّه يؤيّده الدليل ويوافق مذهب أئمّة أهل البيت والشيعة الإمامية.

وذهبتُ أيضاً إلى اشتراط حضور شاهدين حين المراجعة ، وهو يوافق أحد القولين للإمام الشافعي ويخالف مذهب أهل البيت والشيعة ، واستغربت (2) من

ص : 58


1- روح المعاني : 28 / 134.
2- مرّ نصّ كلامه حيث قال : والتفريق بينهما غريب.

قولهم أن يفرقوا بينهما والدليل له : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) واحد فيها.

وبعث إليه العلاّمة كاشف الغطاء برسالة جوابية بيّن فيها وجه التفريق بينهما ، وإليك نص ما يهمنا من الرسالة :

قال بعد كلام له : وكأنّك - أنار الله برهانك - لم تمعن النظر هنا في الآيات الكريمة كما هي عادتك من الإمعان في غير هذا المقام ، وإلاّ لما كان يخفى عليك أنّ السورة الشريفة مسوقة لبيان خصوص الطلاق وأحكامه حتى أنّها قد سمّيت بسورة الطلاق ، وابتدأ الكلام في صدرها بقوله تعالى : (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) ثم ذكر لزوم وقوع الطلاق في صدر العدّة أي لا يكون في طهر المواقعة ، ولا في الحيض ، ولزوم إحصاء العدّة ، وعدم إخراجهنّ من البيوت ، ثمّ استطرد إلى ذكر الرجعة في خلال بيان أحكام الطلاق حيث قال عزّ شأنه : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي إذا أشرفن على الخروج من العدّة ، فلكم إمساكهنّ بالرجعة أو تركهنّ على المفارقة. ثمّ عاد إلى تتمة أحكام الطلاق فقال : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي في الطلاق الذي سيق الكلام كلّه لبيان أحكامه ويستهجن عوده إلى الرجعة التي لم تذكر إلاّ تبعاً واستطراداً ، ألا ترى لو قال القائل : إذا جاءك العالم وجب عليك احترامه واكرامه وأن تستقبله سواء جاء وحده أو مع خادمه أو رفيقه ، ويجب المشايعة وحسن الموادعة ، فانّك لا تفهم من هذا الكلام إلاّ وجوب المشايعة والموادعة للعالم لا له ولخادمه ورفيقه ، وإن تأخّرا عنه ، وهذا لعمري حسب القواعد العربية والذوق السليم جلي واضح لم يكن ليخفى عليك وأنت خريت العربية لو لا الغفلة (وللغفلات تعرض للأريب) ، هذا من حيث لفظ الدليل وسياق الآية الكريمة.

وهنالك ما هو أدقّ وأحقّ بالاعتبار من حيث الحكمة الشرعية والفلسفة

ص : 59

الإسلامية وشموخ مقامها وبعد نظرها في أحكامها. وهو أنّ من المعلوم أنّه ما من حلال أبغض إلى الله سبحانه من الطلاق ، ودين الإسلام كما تعلمون - جمعي اجتماعي - لا يرغب في أي نوع من أنواع الفرقة لا سيما في العائلة والأُسرة ، وعلى الأخص في الزيجة بعد ما أفضى كل منهما إلى الآخر بما أفضى.

فالشارع بحكمته العالية يريد تقليل وقوع الطلاق والفرقة ، فكثّر قيوده وشروطه على القاعدة المعروفة من أنّ الشيء إذا كثرت قيوده ، عزّ أو قلّ وجوده ، فاعتبر الشاهدين العدلين للضبط أوّلاً وللتأخير والأناة ثانياً ، وعسى إلى أن يحضر الشاهدان أو يحضر الزوجان أو أحدهما عندهما يحصل الندم ويعودان إلى الألفة كما أُشير إليه بقوله تعالى : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) وهذه حكمة عميقة في اعتبار الشاهدين ، لا شكّ أنّها ملحوظة للشارع الحكيم مضافاً إلى الفوائد الأُخر ، وهذا كلّه بعكس قضية الرجوع فإنّ الشارع يريد التعجيل به ، ولعلّ للتأخير آفات فلم يوجب في الرجعة أيّ شرط من الشروط.

وتصح عندنا معشر الإمامية - بكلّ ما دلّ عليها من قول أو فعل أو إشارة - ولا يشترط فيها صيغة خاصة كما يشترط في الطلاق ؛ كل ذلك تسهيلاً لوقوع هذا الأمر المحبوب للشارع الرحيم بعباده والرغبة الأكيدة في ألفتهم وعدم تفرّقهم ، وكيف لا يكفي في الرجعة حتى الإشارة ولمسها ووضع يده عليها بقصد الرجوع وهي - أي المطلّقة الرجعية - عندنا معشر الإمامية لا تزال زوجة إلى أن تخرج من العدّة ، ولذا ترثه ويرثها ، وتغسّله ويغسّلها ، وتجب عليه نفقتها ، ولا يجوز أن يتزوّج بأُختها ، وبالخامسة ، إلى غير ذلك من أحكام الزوجية. (1)

ص : 60


1- أصل الشيعة وأُصولها : 163 - 165 ، الطبعة الثانية.

16- الطلاق ثلاثاً بصيغة أو ثلاث صيغ في مجلس واحد

اشارة

ص : 61

ص : 62

الطلاق ثلاثاً بصيغة أو ثلاث صيغ في مجلس واحد

من المسائل التي أوجبت انغلاقاً وعنفاً في الحياة ، وأدّت إلى تمزيق الأُسر وتقطيع صلات الأرحام في كثير من البلاد ، مسألة تصحيح الطلاق ثلاثاً دفعة واحدة ، بأن يقول : أنت طالق ثلاثاً ، أو يكرّره ثلاث دفعات ويقول في مجلس واحد : أنتِ طالق ، أنتِ طالق ، أنتِ طالق. حيث تحسب ثلاث تطليقات حقيقية وتحرم المطلّقة على زوجها حتى تنكح زوجاً غيره.

إنّ الطلاق عند أكثر أهل السنّة غير مشروط بشروط عائقة عن التسرّع إلى الطلاق ، ككونها غير حائض ، أو في غير طهر المواقعة ، أو لزوم حضور العدلين. فربّما يتغلّب الغيظ على الزوج ويمتلكه الغضب فيطلّقها ثلاثاً في مجلس واحد ، ثمّ يندم على عمله ندامة شديدة فتضيق عليه الأرض بما رحبت ويتطلّب المَخْلَص من أثره السيّئ ، ولا يجد عند أئمّة المذاهب الأربعة والدعاة إليها مخلصاً فيقعد ملوماً محسوراً ، ولا يزيده السؤال والفحص إلاّ نفوراً من الفقه والفتوى.

إنّ إغلاق باب الاجتهاد وإقفاله بوجه الأُمّة ، ومنع المفكرين من استنباط الأحكام من الكتاب والسنّة دون التزام برأي إمام خاص ، أثار مشاكل كثيرة في مسائل لها صلة بالأُسرة ، يقول الكاتب محمد حامد الفقي رئيس جماعة أنصار

ص : 63

السنة المحمدية : إنّ رابطة الأُسرة التي وثّقها الله برباط الزوجية وهَتْ وكادت أن تنفصم عروتها ، بلى قد انفصمت في كثير من الطبقات وكان منشأ ذلك ، ما استنّه الناس في الزواج من سنن سيئة وما شدّد الفقهاء قديماً وحديثاً في الطلاق حتّى جعلوه أشبه بالعبث واللعب (1) أو بالآصار والأغلال ، وكم لمست فيما عرض لي في حياتي الوعظية ، شقاء كثير من الأزواج الذين أوقعهم سوء حظهم في مشكل من مشاكل الطلاق فيطلبون حلها عند أحد أُولئك الجامدين فلا يزيدها إلاّ تعقيداً. (2)

وليس الفقّي هو المشتكي الوحيد من إغلاق باب الاجتهاد ، والتعبّد بحرفية المذاهب الأربعة ، بل هو أحد مَن ضم صوته إلى صوت أحمد محمد شاكر عضو المحكمة العليا الشرعية حيث لمس خطورة الموقف ، التي سبّبت إحلال القوانين الوضعية مكان الأحكام الإسلامية.

قال : كان والدي : الشيخ محمد شاكر كاتب الفتوى لدى شيخه الشيخ محمد العباس المهدي مفتي الديار المصرية - رحمه الله - فجاءت امرأة شابة ، حُكم على زوجها بالسجن مدّة طويلة ، وهي تخشى الفتنة وتريد عرض أمرها على المفتي يرى لها رأياً في الطلاق من زوجها لتتزوج من غيره ، وليس في مذهب الإمام أبي حنيفة حلٌّ لمثل هذه المعضلة إلاّ الصبر والانتظار فصرفها الوالد معتذراً آسفاً متألِّماً.

ثمّ عرض الأمر على شيخه المفتي ، واقترح عليه اقتباس بعض الأحكام من

ص : 64


1- يقف على صدق هذا ، من طالع مبحث الحلف بالطلاق في الكتب الفقهية التي تعبر عنه بالطلاق غير المعتبر ، حيث أصبح الطلاق أُلعوبة بيد الزوج.
2- مقدّمة «نظام الطلاق في الإسلام» : 6.

مذهب الإمام مالك في مثل هذه المشاكل ، فأبى الشيخ كلّ الإباء واستنكر هذا الرأي أشدّ استنكار ، وكان بين الأُستاذ وتلميذه جدال جادّ في هذا الشأن لم يؤثر على ما كان بينهما من مودة وعطف ، وما زال الأُستاذ الوالد - حفظه الله - ... برأيه ، معتقداً صحّته وفائدته للناس. (1)

ولو كان والد الشيخ أحمد (محمد شاكر) مطلعاً على فقه أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - وانّ لهم في هذه المشاكل المستعصية حلولاً واضحة مأخوذة من الكتاب والسنّة ، لاقترح على أُستاذه الرجوعَ إليه.

كيف والإمام جعفر الصادق - عليه السلام - أبو الفقهاء ، وقد تتلمذ على يده الأئمّة الأربعة إمّا مباشرة أو بالواسطة.

إنّ أغلب المشاكل التي واجهت الشيخ في المحاكم هي إعسار الزوج ، وإضراره بالزوجة ، وغيبته الطويلة وما ضاهاها ، ولم يكن في فقه الإمام أبي حنيفة حلولاً لها ، مع أنّ هذه المشاكل مطروحة في الفقه الإمامي بأوضح الوجوه.

وكان الأولى بوالد الشيخ أن يقترح كسر طوق التقليد والرجوع إلى الكتاب والسنّة لاستنباط الأحكام الشرعية من دون التزام برأي إمام دون إمام ، وهذا هو الحجر الأساس لحلّ هذه المعضلات ، ولم يزل الفقه الإمامي منادياً بهذا الأصل عبر القرون.

نحن نعلم علماً قاطعاً بأنّ الإسلام دين سهل وسمح ، وليس فيه حرج وهذا يدفع الدعاة المخلصين إلى دراسة المسألة من جديد دراسة حرّة بعيدة عن أبحاث الجامدين الذين أغلقوا باب الاجتهاد في الأحكام الشرعية أمام وجوههم ، وعن أبحاث أصحاب الهوى الهدّامين الذين يريدون تجريد الأُمم من الإسلام ، حتى

ص : 65


1- نظام الطلاق في الإسلام : 109.

ينظروا إلى المسألة ويتطلبوا حكمها من الكتاب والسنّة ، متجرّدين عن كلّ رأي مسبق فلعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً ، وربّما تفك العقدة ويجد المفتي مَخلصاً من هذا المضيق الذي أوجده تقليد المذاهب.

وإليك نقل الأقوال :

قال الشيخ الطوسي : إذا طلّقها ثلاثاً بلفظ واحد ، كان مبدعاً ووقعت واحدة عند تكامل الشروط عند أكثر أصحابنا ، وفيهم من قال : لا يقع شيء أصلاً وبه قال عليّ - عليه السلام - وأهل الظاهر ، وحكى الطحاوي عن محمد بن إسحاق أنّه تقع واحدة كما قلناه ، ورُوي أنّ ابن عباس وطاوساً كانا يذهبان إلى ما يقوله الإمامية.

وقال الشافعي : فإن طلّقها ثنتين أو ثلاثاً في طهر لم يجامعها فيه ، دفعة أو متفرّقة كان ذلك مباحاً غير محذور ووقع. وبه قال في الصحابة عبد الرحمن بن عوف ، ورووه عن الحسن بن علي - عليهما السلام - ، وفي التابعين ابن سيرين ، وفي الفقهاء أحمد وإسحاق وأبو ثور.

وقال قوم : إذا طلّقها في طهر واحد ثنتين أو ثلاثاً دفعة واحدة ، أو متفرقة ، فعل محرّماً وعصى وأثم ، ذهب إليه في الصحابة عليّ - عليه السلام - ، وعمر ، وابن عمر ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وفي الفقهاء أبو حنيفة وأصحابه ومالك ، قالوا : إلاّ أنّ ذلك واقع. (1)

قال ابن رشد : جمهور فقهاء الأمصار على أنّ الطلاق بلفظ الثلاث حكمه حكم الطلقة الثالثة ، وقال أهل الظاهر وجماعة : حكمه حكم الواحدة ولا تأثير للفظ في ذلك. (2)

ص : 66


1- الخلاف : 2 كتاب الطلاق ، المسألة 3. وعلى ما ذكره ، نقل عن الإمام عليّ رأيان متناقضان : عدم الوقوع والوقوع مع الإثم.
2- بداية المجتهد : 2 / 61 ، ط بيروت.

وقال عبد الرحمن الجزيري : يملك الرجل الحرُّ ثلاث طلقات ، فإذا طلّق الرجل زوجته ثلاثاً دفعة واحدة ، بأن قال لها : أنت طالق ثلاثاً ، لزمه ما نطق به من العدد في المذاهب الأربعة وهو رأي الجمهور ، وخالفهم في ذلك بعض المجتهدين : كطاوس وعكرمة وابن إسحاق وعلى رأسهم ابن عباس - رضي الله عنهم -. (1)

وقد بين فتاوى الجمهور ، الفقيه المعاصر «وهبة الزحيلي» وقال : اتّفق فقهاء المذاهب الأربعة والظاهرية على أنّه إذا قال الرجل لغير المدخول بها : «أنت طالق ثلاثاً» وقع الثلاث ، لأنّ الجميع صادف الزوجية ، فوقع الجميع ، كما لو قال ذلك للمدخول بها.

واتّفقوا أيضاً على أنّه إن قال الزوج لامرأته : «أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق» وتخلل فصل بينها ، وقعت الثلاث سواء أقصد التأكيد أم لا ، لأنّه خلاف الظاهر ، وإن قال : قصدت التأكيد صدق ديانة ، لا قضاء.

وإن لم يتخلل فصل ، فإن قصد تأكيد الطلقة الأُولى بالأخيرتين ، فتقع واحدة ، لأنّ التأكيد في الكلام معهود لغة وشرعاً ، وإن قصد استئنافاً أو أطلق (بأن لم يقصد تأكيداً ولا استئنافاً) تقع الثلاث عملاً بظاهر اللفظ.

وكذا تُطلَّق ثلاثاً إن قال : أنت طالق ، ثمّ طالق ، ثم طالق ، أو عطف بالواو أو بالفاء. (2)

هذه هي آراء جمهور فقهاء السنّة ، وقد خالفهم جماعة من الصحابة والتابعين ذكر أسماء غير واحد منهم الشوكاني في «نيل الأوطار» وقال :

ص : 67


1- الفقه على المذاهب الأربعة : 4 / 341.
2- الفقه الإسلامي وأدلّته : 7 / 391 - 392.

ذهبت طائفة من أهل العلم إلى أنّ الطلاق لا يتبع الطلاق بل يقع واحدة فقط. وقد حكى ذلك صاحب البحر عن أبي موسى ورواية عن عليّ - عليه السلام - وابن عباس وطاوس وعطاء وجابر بن زيد والهادي والقاسم والباقر والناصر وأحمد بن عيسى ، وعبد الله بن موسى بن عبد الله.

ورواية عن زيد بن علي وإليه ذهب جماعة من المتأخرين منهم ابن تيمية وابن القيم وجماعة من المحقّقين ، وقد نقله ابن مغيث في كتاب الوثائق عن محمد بن وضاح ، ونُقل الفتوى بذلك عن جماعة من مشايخ قرطبة كمحمد بن بقي ومحمد بن عبد السلام وغيرهما ، ونقله ابن المنذر عن أصحاب ابن عباس كعطاء وطاوس وعمر بن دينار وحكاه ابن مغيث أيضاً في ذلك الكتاب عن علي رضي الله عنه وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف والزبير. (1)

إلى غير ذلك من نظائر تلك الكلمات التي تعرب عن اتّفاق جمهور الفقهاء بعد عصر التابعين على نفوذ ذلك الطلاق محتجّين بما تسمع ، ورائدهم في ذلك تنفيذ عمر بن الخطاب ، الطلاق الثلاث بمرأى ومسمع من الصحابة ، ولكن لو دلّ الكتاب والسنّة على خلافه فالأخذ بما دلّ متعيّن.

وتبيين الحق يتم ضمن أُمور :

ص : 68


1- نيل الأوطار : 6 / 231.

دراسة الآيات الواردة في المقام

اشارة

قال سبحانه :

(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). (1)

قوله سبحانه : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) كلمة جامعة لا يُؤدَّى حقّها إلاّ بمقال ، وهي صريحة في أنّ الحقوق بينهما متبادلة ، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلاّ وعلى الرجل عمل يقابله ، فهما - في حقل المعاشرة - متماثلان في الحقوق والأعمال ، فلا تسعد الحياة إلاّ باحترام كل من الزوجين للآخر ، وقيام كلّ منهما بواجباته ، فعلى المرأة القيام بتدبير المنزل وإنجاز الأعمال فيه ، وعلى الرجل السعي والكسب خارجه ، هذا هو الأصل الثابت في حياة الزوجين والذي تؤيدها الفطرة ، وقد قسّم النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - الأُمور بين ابنته فاطمة وزوجها عليّ - عليه السلام - على النحو الذي ذكرناه.

(الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما

ص : 69


1- البقرة : 228.

حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). (1)

كان للعرب في الجاهلية طلاق وعدّة مقدرة للمطلقة ، ورجعة للمطلِّق أثناء العدة ، ولكن لم يكن للطلاق عدد معيّن ، فربما طلّق الرجل امرأته مائة مرة وراجعها ، وتكون المرأة بذلك أُلعوبة بيد الرجل يضارّها بالطلاق والرجوع متى شاء.

وجاء في بعض الروايات : انّ رجلاً قال لامرأته : لا أقربك أبداً ، ومع ذلك تبقين في عصمتي ، ولا تستطيعين الزواج من غيري ، قالت له : كيف ذلك؟ قال : أُطلّقك ، حتى إذا قرب انقضاء العدة راجعتُكِ ، ثمّ طلقتُكِ ، وهكذا أبداً ، فشكته إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فأنزل سبحانه : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ). (2) أي أنّ الطلاق الذي شرع الله فيه الرجوع هو الطلاق الأوّل والثاني فقط وأمّا الطلاق الثالث فلا يحلّ الرجوع بعده حتّى تنكح زوجاً غير المطلق ، فعندئذ لو طلّقها فيحلّ للأوّل نكاحها ، هذا هو مفهوم الآية :

(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). (3)

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَ

ص : 70


1- البقرة : 229.
2- مجمع البيان : 1 / 328 ؛ تفسير البغوي : 1 / 328 ؛ تفسير البغوي : 1 / 304 ؛ روح المعاني : 2 / 135 ؛ الكاشف : 1 / 346.
3- البقرة : 230.

بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ...). (1)

جئنا بمجموع الآيات الأربع - مع أنّ موضع الاستدلال هو الآية الثانية - للاستشهاد بها في ثنايا البحث وقبل الخوض في الاستدلال نشير إلى نكات في الآيات :

«المرّة» بمعنى الدفعة للدلالة على الواحد في الفعل ، و «الإمساك» خلاف الإطلاق.

و «التسريح» في قوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) مأخوذ من السرح وهو الإطلاق ، يقال : سرّح الماشية في المرعى : إذا أطلقها لترعى. والمراد من الإمساك هو إرجاعها إلى عصمة الزوجية.

تفسير قوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ)

أنّ المقصود من «التسريح» عدم التعرّض لها لتنقضي عدتها في كل طلاق أو الطلاق الثالث الذي هو أيضاً نوع من التسريح. على اختلاف في معنى الجملة.

وذلك لانّ التسريح الذي هو خلاف الإمساك قابل للانطباق على الأمرين :

1. عدم التعرض لها حتّى تنقضي عدّتها.

2. أن يرجع إليها ثمّ يطلقها طلقة ثالثة.

وفي ضوء ذلك للمفسّرين في تفسير قوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) رأيان :

الأوّل : انّه ناظر إلى عدم التعرض لها حتّى تنقضي عدّتها ، ويمكن تقريب

ص : 71


1- البقرة : 231.

هذا القول بالوجوه التالية :

أ. إنّ التسريح بالمعروف في الآية 231 أُريد به ترك الرجعة ، قال سبحانه : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ).

فالأولى حمل الثانية أيضاً على ترك الرجعة وإن اختلفا في التعبير حيث إنّ التعبير في المقام هو (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) وفي الآية الأُخرى : (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ، ولعلّ المعروف والإحسان بمعنى واحد ، كما عبّر عن ترك الرجعة بلفظة (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) (1) فالأولى تفسير الجميع بترك الرجعة.

ب. انّ التطليقة الثالثة مذكورة بعد هذه الجملة (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) ، حيث قال سبحانه : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) ، وعندئذ فلا محيص من تفسير الجملة بترك الرجعة ، حتّى لا يلزم التكرار.

ج. لا يجوز أن يفسّر قوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) بالطلاق الثالث وإلاّ يلزم أن يكون قوله : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ) طلاقاً رابعاً ولا طلاق رابع في الإسلام. (2)

الثاني : إنّ المراد بقوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) ، هو الطلاق الثالث ، لا ترك الرجعة بعد الطلاق الثاني ومعنى الآية انّ الزوج بعد ما طلّق زوجته مرّتين يجب أن يفكر في أمر زوجته أكثر ممّا مضى حتّى يقف على أنّه ليس له بعد الطلقتين إلاّ أحد أمرين :

أمّا الإمساك بمعروف والاستمرار معها ، أو التسريح بإحسان بالتطليقة الثالثة التي لا رجوع بعدها أبداً إلاّ في ظرف خاص أشار إليها في الآية التالية

ص : 72


1- الطلاق : 2.
2- هذه الوجوه ذكرها الجصّاص في تفسيره : 1 / 389.

بقوله : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ).

وعندئذ يكون قوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) إشارة إلى التطليق الثالث الذي لا رجوع فيه ويكون التسريح بالمقام متحقّقاً في الطلاق الثالث على هذا القول لا بترك الرجعة كما على القول الآخر.

هذا ما ذكرناه هو عصارة القولين ولكلّ قائل.

وأمّا الوجوه التي ذُكرت تأييداً للقول الأوّل فالثاني والثالث قابلان للدفع ، أمّا الثاني فلأنّه لا مانع من ذكر الشيء أوّلاً بالإجمال (أو تسريح بإحسان) ثمّ التفصيل ثانياً بقوله : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) ، فهو بيان تفصيلي للتسريح بعد البيان الإجمالي ، والتفصيل مشتمل على ما لم يشتمل عليه الإجمال من تحريمها عليه حتّى تنكح زوجاً غيره ، فلو طلّقها الزوج الثاني باختياره فلا جناح عليهما بالعقد الجديد ان ظنّا أن يقيما حدود الله ، فأين هذه التفاصيل من قوله (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ)؟!

وبذلك يعلم دفع الوجه الثالث ، لأنّ حمل قوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) على الطلقة الثالثة لا يلزم أن يكون قوله : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ ...) طلاقاً رابعاً ، بل يكون تفسيراً له.

أضف إلى ذلك انّ روايات الفريقين تؤيد المعنى الثاني.

روى أبو رزين قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال : يا رسول الله ، أرأيت قول الله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) فأين الثالثة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ).

ورواه الثوري وغيره عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين مثله. (1)

ص : 73


1- تفسير القرطبي : 3 / 128.

وقد عزا الطبرسي القول الأوّل إلى أبي جعفر وأبي عبد الله - عليهما السلام - مع أنّه روى السيد البحراني في تفسير البرهان روايات ست عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - تؤيّد القول الثاني.

وعلى كلّ تقدير فالوجه الثاني والثالث قابل للإجابة ، وأمّا الوجه الأوّل ، فالإجابة عنه واضحة ، وذلك لأنّ التسريح في الموارد الثلاثة بمعنى الإطلاق وإنّما الاختلاف في المصداق فلا مانع من أن يكون المحقّق له في المقام هو الطلاق وفي الآيتين هو ترك الرجعة والاختلاف في المصداق لا يوجب اختلافاً في المفهوم.

إلى هنا تمّ تفسير قوله سبحانه : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ).

وإليك تفسير ما بقي من الآية ، أعني قوله : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). (1)

وهذه الفقرة من الآية ناظرة إلى بيان أمرين :

الأوّل : انّه لا يحلّ للزوج أن يأخذ من الزوجة شيئاً ممّا آتاها إذا أراد طلاقها قال سبحانه : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) ، وفي آية أُخرى (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً). (2)

الثاني : انّه سبحانه استثنى من عدم جواز الأخذ صورة خاصة ، وهي أنّ

ص : 74


1- البقرة : 229.
2- النساء : 20.

تكون الزوجة كارهة للزوج ولا تُطيق عشرته بحيث يؤدي نفورها منه إلى معصية الله في التقصير بحقوق الزوج وقد يخاف الزوج أيضاً أن يقابلها بالإساءة أكثر ممّا تستحقّ ، ففي هذه الحال يجوز لها أن تطلب الطلاق من الزوج وتعوضه عنه بما يرضيه ، كما يجوز له أن يأخذ ما افتدت به نفسها ، وإليه يشير قوله سبحانه : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ...) إلى هنا تمّ تفسير الآية 229 ، وإليك تفسير الآية 230.

(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). (1)

ومحصل الآية انّ من طلّق زوجته ثلاث مرات فلا تحلّ له حتّى تنكح زوجاً غيره نكاحاً صحيحاً ، ثمّ إذا فارقها بموت أو طلاق وانقضت عدّتها جاز للأوّل أن يعقد عليها ثانياً.

ثمّ إنّ للمحلل شروطاً مذكورة في كتب الفقه.

وأمّا الآية الرابعة ، أعني قوله : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) ، فإنّها واضحة المفهوم.

هذا ما ارتأينا ذكره بشأن تفسير الآيات ، ونرجع الآن إلى صلب البحث وهو حكم الطلاق ثلاثاً ، فنقول :

إذا تعرّفت على مفاد الآية ، فاعلم أنّ الكتاب والسنّة يدلاّن على بطلان الطلاق ثلاثاً ، وأنّه يجب أن يكون الطلاق واحدة بعد الأُخرى ، يتخلّل بينهما رجوع

ص : 75


1- البقرة : 230.

أو نكاح ، فلو طلّق ثلاثاً مرّة واحدة ، أو كرّر الصيغة فلا يقع الثلاث. وأمّا احتسابها طلاقاً واحداً ، فهو وإن كان حقّاً ، لكنّه خارج عن موضوع بحثنا ، وإليك الاستدلال عن طريق الكتاب أوّلاً والسنّة ثانياً :

أوّلاً : الاستدلال عن طريق الكتاب بوجوه :

1. قوله سبحانه : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ)

إنّ قوله سبحانه : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) : ظاهر في :

1. إنّ هذا الحكم يشمل كافّة أقسام الطلاق وانّ التفريق بين الطلقات ليس من خصيصة طلاق دون طلاق ، بل طبيعة الطلاق تلازم ذلك الطلاق ، لأنّ الألف واللام إذا لم يكونا للمعهود أفاد الاستغراق ، فصار تقدير الآية : كلّ الطلاق مرّتان ، ومرّة ثالثة ، ولو قال هكذا لأفاد انّ الطلاق المشروع متفرّق ، لأنّ المرّات لا تكون إلاّ بعد تفرّق بالإجماع. (1)

2. انّ قوله : مرّتان ظاهر في لزوم وقوعه مرّة بعد أُخرى لا دفعة واحدة وإلاّ يصير مرّة ودفعة ، ولأجل ذلك عبّر سبحانه بلفظ «المرّة» ليدلّ على كيفية الفعل وانّه الواحد منه ، كما أنّ الدفعة والكرّة والنزلة ، مثل المرّة ، وزناً ومعنىً واعتباراً.

وعلى ما ذكرنا فلو قال المطلِّق : أنت طالق ثلاثاً ، لم يطلِّق زوجته مرة بعد أُخرى ، ولم يطلّق مرّتين ، بل هو طلاق واحد ، وأمّا قوله «ثلاثاً» فلا يصير سبباً لتكرّره ، وتشهد بذلك فروع فقهية لم يقل أحد من الفقهاء فيها بالتكرار بضم عدد فوق الواحد. مثلاً اعتبر في اللعان شهادات أربع ، فلا تجزي عنها شهادة واحدة

ص : 76


1- التفسير الكبير : 6 / 103.

مشفوعة بقوله «أربعا». وفصول الأذان المأخوذة فيها التثنية ، لا يتأتّى التكرار فيها بقراءة واحدة وإردافها بقوله «مرتين» ، ولو حلف في القسامة وقال : «أُقسم بالله خمسين يميناً أنّ هذا قاتله» كان هذا يميناً واحداً ، ولو قال المقرّ بالزنا : «أنا أُقرّ أربع مرّات أنّي زنيت» كان إقراراً واحداً ، ويحتاج إلى إقرارات ثلاث ، إلى غير ذلك من الموارد التي لا يكفي فيها العدد عن التكرار.

هذا هو المقياس الكلي في كلّ مورد اعتبر فيه العدد كرمي الجمرات السبع فلا يجزي عنه رمي الحصيات مرة واحدة ، وكتكبيرات صلاة العيدين الخمس أو السبع المتوالية - عند القوم - قبل القراءة لا تتأتى بتكبيرة واحدة بعدها قول المصلي خمساً أو سبعاً ، وكصلاة التسبيح (1) وقد أخذ في تسبيحاتها العدد عشراً وخمسة عشر فلا تجزي عنها تسبيحة واحدة مردوفة بقوله عشراً أو خمسة عشر ، وهذه كلّها ممّا لا خلاف فيها.

ولم أر من تردّد في ذلك غير ابن حزم ، فزعم انّه ربما يستعمل في غير ذلك المعنى حيث قال : وأمّا قولهم : معنى قوله (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) انّ معناه مرّة بعد مرّة فخطأ ، بل هذه الآية كقوله تعالى : (نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) أي مضاعفاً معاً ، وهذه الآية أيضاً تعليم لما دون الثلاث من الطلاق. (2)

يلاحظ على ما ذكره ، أنّ استعمال «مرّتين» في هذه الآية بمعنى مضاعفاً ، لأجل وجود القرينة ولولاها لحمل على المعنى الحقيقي ، وذلك لأنّه سبحانه يخاطب نساء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بخطابين :

الأوّل : قوله : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا

ص : 77


1- المراد صلاة جعفر الطيّار.
2- المحلى : 10 / 168.

الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً).

الثاني : (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً). (1)

فقوله في الآية الأُولى : (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) قرينة على أنّ المراد من قوله : (نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) إيتاء الأجر المضاعف لا الأجر بعد الأجر ، فلا يكون استعماله مرّتين في المضاعف فيها دليلاً على سائر المقامات.

قال الجصاص : والدليل على أنّ المقصد في قوله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) الأمر بتفريق الطلاق وبيان حكم ما يتعلّق بإيقاع ما دون الثلاث من الرجعة انّه قال : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) ، وذلك يقتضي التفريق لا محالة ، لأنّه لو طلّق اثنتين معاً لما جاز أن يقال : طلّقها مرّتين ، وكذلك لو دفع رجل إلى آخر درهمين لم يجز أن يقال : أعطاه مرتين ، حتى يفرق الدفع ، فحينئذ يطلق عليه ، وإذا كان هذا هكذا ، فلو كان الحكم المقصود باللفظ هو ما تعلّق بالتطليقتين من بقاء الرجعة لأدّى ذلك إلى إسقاط فائدة ذكر المرّتين ، إذ كان هذا الحكم ثابتاً في المرة الواحدة إذا طلّق اثنتين ، فثبت بذلك أنّ ذكر المرتين إنّما هو أمر بإيقاعه مرتين ، ونهي عن الجمع بينهما في مرّة واحدة. (2)

وقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لا طلاق إلاّ بعد نكاح» ، وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لا طلاق قبل نكاح» ، وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لا طلاق لمن لا يملك». (3)

فلا نكاح بعد الصيغة الأُولى حتّى يطلق.

ص : 78


1- الأحزاب : 3130.
2- أحكام القرآن : 1 / 379378.
3- السنن الكبرى : 7 / 318 - 321 ؛ المستدرك للحاكم : 2 / 24 ، وغيرهما من المصادر المتوفرة.

هذا كلّه إذا عبّر عن التطليق ثلاثاً بصيغة واحدة ، أمّا إذا كرّر الصيغة كما عرفت ، فربّما يغتر به البسطاء ويزعمون أنّ تكرار الصيغة ينطبق على الآية ، لكنّه مردود من جهة أُخرى وهي :

أنّ الصيغة الثانية والثالثة تقعان باطلتين لعدم الموضوع للطلاق ، فإنّ الطلاق إنّما هو لقطع علقة الزوجية ، فلا زوجية بعد الصيغة الأُولى حتى تقطع ، ولا رابطة قانونية حتى تصرم.

وربّما يقال : إنّ المطلقة ما زالت في حبالة الرجل وحكمها حكم الزوجة ، فعندئذ يكون للصيغة الثانية والثالثة تأثير بحكم هذه الضابطة.

يلاحظ عليه : أنّه ما ذا يريد من قوله : «انّها بحكم الزوجة»؟

فإن أراد به انّ للزوج حقّ الرجوع إليها ، فهو صحيح ولذلك يقال : الرجعية بحكم الزوجة ، أو هي زوجة باعتبار انّ للزوج إعادة البناء الذي هدمه بالطلاق ، فلا حاجة إلى النكاح الجديد ، وهذا غير المدّعى.

وإن أراد انّها زوجة بمعنى انّ صيغة الطلاق لم تؤثر شيئاً ولم تهدم بناء الزوجية وانّ حالها قبل الطلاق وبعده سيان ، فهو على خلاف الأُصول الصحيحة ، إذ كيف تكون حالها قبله وبعده سيّان ، مع أنّها لو تركت حتّى تنقضي عدّتها ، تصير أجنبية وبائنة بالتمام.

وكونها قابلة للطلاق الثاني - قبل الرجوع - مبنيّ على الوجه الثاني الذي عرفت مخالفته للأُصول ، لا على الوجه الأوّل.

وبعبارة واضحة : إنّ الطلاق هو أن يقطع الزوج علقة الزوجيّة بينه وبين امرأته ويطلق سراحها من قيدها ، وهو لا يتحقّق بدون وجود تلك العلقة الاعتبارية الاجتماعية ، ومن المعلوم أنّ المطلّقة لا تطلق ، والمسرَّحة لا تسرح.

ص : 79

على أنّ هناك إشكالاً يختص بهذه الصورة(إنشاء الطلاق الثلاث بلا تكريرللصيغة)

وتقريره : انّ الطلاق أمر اعتباري يتحقّق بإنشاء المطلّق ، وليس له واقع وراء الاعتبار ، مقابل الأمر التكويني الذي له واقع وراء الذهن والاعتبار.

فإذا كان الانشاء واحداً فيكون المنشأ أيضاً كذلك ، فتعدّد الطلاق رهن تعدّد الإنشاء والمفروض وحدته.

نعم لا يتطرّق هذا الإشكال إلى ما إذا تعدّدت الصيغة كأن يقول : أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق.

والحاصل : أنّه لا يحصل بهذا النحو من التطليقات الثلاث ، العدد الخاص الذي هو الموضوع للآية التالية ، أعني قوله سبحانه : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) ، لأنّ تعدد الطلاق رهن تخلّل عقدة الزواج بين الطلاقين ، ولو بالرجوع ، وإذا لم تتخلّل يكون التكلّم أشبه بالتكلّم بكلام لغو.

قال سماك - من عنده - : إنّما النكاح عقدة تعقد ، والطلاق يحلّها ، وكيف تُحل عقدة قبل أن تعقد؟! (1)

والحاصل انّه إذا قال : أنت طالق ، فكأنّه قال لها : حللت العقدة بيني وبينك ، فسخت هذا العقد ، قطعت هذا الرباط الذي يربط كلاً منّا بصاحبه ؛ فإذا فسخ العقد الذي كان بينهما ، أو حلّت العقدة أو قطع الرباط فمن أين يملك الرجل فسخ العقد أو حل العقدة أو قطع الرباط مرة أُخرى أو ثالثة؟ وفي أي عقد من العقود في هذه الشريعة المطهرة أو في غيرها من الشرائع والقوانين ،

ص : 80


1- السنن الكبرى : 7 / 321.

يمكن فسخ العقد الواحد مرّتين أو ثلاثاً ، وهو عقد واحد ، إلاّ أن يتجدد العقد فيتجدد إمكان الفسخ ، ويكون فسخاً لعقد آخر. (1)

2. قوله سبحانه : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ)

تقدّم أنّ في تفسير هذه الفقرة من الآية قولين مختلفين ، والمفسّرون بين من يجعلونها ناظرة إلى الفقرة المتقدّمة ، أعني قوله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ ...) ومن يجعلونها ناظرة إلى التطليق الثالث الذي جاء في الآية التالية ، وقد عرفت ما هو الحق ، فتلك الفقرة تدل على بطلان الطلاق الثلاث على كل التقادير.

أمّا على التقدير الأوّل ، فواضح ، لأنّ معناها أنّ كلّ مرّة من المرّتين يجب أن يتبعها أحد أمرين : إمساك بمعروف ، أو تسريح بإحسان.

قال ابن كثير : أي إذا طلّقتها واحدة أو اثنتين ، فأنت مخيّر فيها ما دامت عدّتها باقية ، بين أن تردّها إليك ناوياً الإصلاح والإحسان وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتها ، فتبين منك ، وتطلق سراحها محسناً إليها ، لا تظلمها من حقّها شيئاً ولا تضارّ بها. (2)

وأين هذا من الطلاق ثلاثاً بلا تخلّل واحد من الأمرين - الإمساك أو تركها حتى ينقضي أجلها - سواء طلّقها بلفظ : أنت طالق ثلاثاً ، أو : أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق.

قال الشوكاني : يشترط في وقوع الثالثة أن تكون في حال يصح من الزوج فيها الإمساك - قبل الطلاق الثالث - وإذا لم يصحّ الإمساك إلاّ بعد المراجعة لم تصحّ الثالثة إلاّ بعدها لذلك ، وإذا لزم في الثالثة ، لزم في الثانية. (3)

ص : 81


1- نظام الطلاق في الإسلام : 72.
2- تفسير ابن كثير : 1 / 53.
3- نيل الأوطار : 6 / 234.

وأمّا على التقدير الثاني ، فإنّ تلك الفقرة وإن كانت ناظرة لحال الطلاق الثالث ، وساكتة عن حال الطلاقين الأوّلين ، لكن قلنا : إنّ بعض الآيات ، تدلّ على أنّ مضمونها من خصيصة مطلق الطلاق ، من غير فرق بين الأوّلين والثالث ، فالمطلّق يجب أن يُتبعَ طلاقه بأحد أمرين :

قال سبحانه : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ). (1)

1. الإمساك بمعروف.

2. التسريح بإحسان.

فالمحصّل من المجموع هو كون إتباع الطلاق بأحد أمرين من لوازم طبيعة الطلاق الذي يصلح للرجوع.

ويظهر ذلك بوضوح إذا وقفنا على أنّ قوله : (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) من القيود الغالبية ، وإلاّ فالواجب منذ أن يطلّق زوجته ، هو القيام بأحد الأمرين ، لكن تخصيصه بزمن خاص وهو بلوغ آجالهن ، هو لأجل أنّ المطلّق الطاغي عليه غضبه وغيظه ، لا تنطفئ سورة غضبه فوراً حتى تمضي عليه مدّة من الزمن تصلح فيها لأن يتفكّر في أمر زوجته ويخاطب بأحد الأمرين ، وإلاّ فطبيعة الحكم الشرعي : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) تقتضي أن يكون حكماً سائداً على جميع الأزمنة من لدن أن يتفوّه بصيغة الطلاق إلى آخر لحظة تنتهي معها العدّة.

وعلى ضوء ما ذكرنا تدلّ الفقرة على بطلان الطلاق الثلاث وأنّه يخالف الكيفية المشروعة في الطلاق ، غير أنّ دلالتها على القول الأوّل بنفسها ، وعلى القول الثاني بمعونة الآيات الأُخر.

ص : 82


1- البقرة : 231.

3. قوله سبحانه : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ)

إنّ قوله سبحانه : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) وارد في الطلاق الذي يجوز فيه الرجوع (1) ، ومن جانب آخر دلّ قوله سبحانه : (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) (2). على أنّ الواجب في حقّ هؤلاء هو الاعتداد وإحصاء العدّة ، من غير فرق بين أن نقول أنّ «اللام» في (لِعِدَّتِهِنَ) للظرفية بمعنى «في عدّتهنّ» أو بمعنى الغاية ، والمراد لغاية أن يعتددن ، إذ على كلّ تقدير يدلّ على أنّ من خصائص الطلاق الذي يجوز فيه الرجوع ، هو الاعتداد وإحصاء العدّة ، وهو لا يتحقّق إلاّ بفصل الأوّل عن الثاني ، وإلاّ يكون الطلاق الأوّل بلا عدّة وإحصاء لو طلّق اثنتين مرّة. ولو طلّق ثلاثاً يكون الأوّل والثاني كذلك.

وقد استدلّ بعض أئمّة أهل البيت بهذه الآية على بطلان الطلاق الثلاث.

روى صفوان الجمّال عن أبي عبد الله - عليه السلام - : أنّ رجلاً قال له : إنّي طلّقت امرأتي ثلاثاً في مجلس واحد؟ قال : «ليس بشيء» ، ثمّ قال : «أما تقرأ كتاب الله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) - إلى قوله سبحانه : - (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) ثمّ قال : كلّما خالف كتاب الله والسنّة فهو يرد إلى كتاب الله والسنّة». (3)

ص : 83


1- فخرج الطلاق البائن كطلاق غير المدخولة ، وطلاق اليائسة من المحيض الطاعنة في السن وغيرهما.
2- الطلاق : 1.
3- قرب الاسناد : 30 ؛ ورواه الحر العاملي في وسائل الشيعة ج 15 ، الباب 29 من أبواب مقدّمات الطلاق ، الحديث 25.

4. قوله سبحانه : (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً)

أنّه لو صحّ التطليق ثلاثاً فلا يبقى لقوله سبحانه : (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) فائدة ، لأنّه يكون بائناً ويبلغ الأمر إلى ما لا تحمد عقباه ، ولا تحل العقدة إلاّ بنكاح رجل آخر وطلاقه ، مع أنّ الظاهر أنّ المقصود حلّ المشكل من طريق الرجوع أو العقد في العدّة.

ثانياً : الاستدلال عن طريق السنّة

قد تعرّفت على قضاء الكتاب في المسألة ، وأمّا حكم السنّة ، فهي تعرب عن أنّ الرسول كان يعدّ مثل هذا الطلاق لعباً بالكتاب.

1. أخرج النسائي عن محمود بن لبيد قال : أُخبر رسول الله عن رجل طلّق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً ، فقام غضبان ثم قال : أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟! حتى قام رجل وقال : يا رسول الله ألا أقتله؟ (1)

ومحمود بن لبيد صحابي صغير وله سماع ، روى أحمد باسناد صحيح عنه قال : أتانا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فصلّى بنا المغرب في مسجدنا ، فلما سلّم منها ، قال : اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم ، للسبحة بعد المغرب. (2)

وهذا دليل على سماعه من الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وقد نقله الحافظ ابن حجر في «الإصابة». (3)

ولعلّ هذا الرجل الذي طلّق امرأته ثلاث تطليقات هو (ركانة) الذي يأتي

ص : 84


1- سنن النسائي : 6 / 142 ؛ الدر المنثور : 1 / 283.
2- مسند أحمد : 5 / 427.
3- لاحظ : 6 / 67.

الكلام عنه في الحديث الثاني.

ثمّ نرى أنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يصف هذا النوع من الطلاق : باللعب بكتاب الله ، وتظهر آثار الغضب في وجهه أفيمكن القول بصحّته بعد ما كان هذا منزلته؟!

ولو سلمنا عدم سماعه كما يدّعيه ابن حجر في فتح الباري (1) فهو صحابي ومراسيل الصحابة حجة بلا كلام عند الفقهاء ، أخذاً بعدالتهم أجمعين.

2. روى ابن إسحاق ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : طلّق ركانة زوجته ثلاثاً في مجلس واحد ، فحزن عليها حزناً شديداً ، فسأله رسول الله : كيف طلّقتها؟ قال : طلقتها ثلاثاً في مجلس واحد. قال : إنّما تلك طلقة واحدة فارتجعها. (2)

والسائل هو ركانة بن عبد يزيد. روى الإمام أحمد باسناد صحيح عن ابن عباس قال : طلّق ركانة بن عبد يزيد أخو بني مطلب امرأته ثلاثاً في مجلس واحد ، فحزن عليها حزناً شديداً ، قال : فسأله رسول الله : كيف طلّقتها؟ قال : طلّقتها ثلاثاً. قال ، فقال : في مجلس واحد؟ قال : نعم. قال : فإنّما تلك واحدة فأرجعها إن شئت. قال : فأرجعها ، فكان ابن عباس يرى إنّما الطلاق عند كلّ طهر. (3)

ص : 85


1- فتح الباري : 9 / 315. ومع ذلك قال : رجاله ثقات ، وقال في كتابه الآخر «بلوغ المرام» : 224 : رواته موثّقون ؛ ونقل الشوكاني في نيل الأوطار : 6 / 227 ، عن ابن كثير أنّه قال : اسناده جيد.
2- بداية المجتهد : 2 / 61. ورواه آخرون كابن قيم في إغاثة اللهفان : 156 ، والسيوطي في الدر المنثور : 1 / 279 وغيرهم.
3- مسند أحمد : 1 / 265.

أدلّة القائل بصحّة الطلاق ثلاثاً

استدلّ القائل بجواز إرسال الثلاث دفعة أو مفرقة بالكتاب تارة والسنّة أُخرى والإجماع ثالثة.

أمّا الكتاب فبالآيات التالية :

1. انّ قوله سبحانه : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) يعمّ إيقاع الطلاق الثلاث دفعة.

2. وقوله : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ).

3. وقوله : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ).

4. وقوله تعالى : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ).

ولم يفرق في هذه الآيات بين إيقاع الواحدة والثنتين والثلاث.

وقد أُجيب عن الاستدلال بأنّ هذه عمومات مخصّصة وإطلاقات مقيّدة بما ثبت من الأدلة الدالّة على المنع من وقوع فوق الواحدة. (1)

والأولى أن يجاب بأنّ شرط التمسّك بالإطلاق كون المتكلّم في مقام البيان لا في مقام الإجمال والإهمال ، مثلاً : لو كان المتكلّم في مقام بيان حكم الطبيعة بما هي هي بأن يقول : الغنم حلال ، والخنزير حرام فلا يمكن أن يستدلّ بهما على حلية الغنم وإن كان جلاّلاً أو مغصوباً تمسّكاً بإطلاقه ، وقد قرر في علم الأُصول

ص : 86


1- نيل الأوطار : 6 / 232.

انّ التمسّك بالإطلاق رهن شروط ثلاثة ، أوّلها : كون المتكلّم في مقام بيان الحيثية التي نحن بصدد استنباط حكمها ، فإذا سكت يتمسّك بالإطلاق ، وأمّا إذا لم يكن في مقام بيان تلك الحيثية ، فلا يصحّ التمسّك بالإطلاق ، وهذه الآيات من هذا القبيل فانّها في مقام بيان أُمور أُخرى ، فالأولى منها في مقام بيان كون المطلقة محرمة أبداً حتّى تنكح زوجاً غيره ، والثانية في مقام بيان حكم المطلقة قبل المس ومثلها الثالثة والرابعة في مقام بيان انّ للمطلقة حقّاً خاصاً باسم المتاع ، فأين هذه الموضوعات من تجويز الطلاق ثلاثاً.

والحقّ انّ إغلاق باب الاجتهاد من أواسط القرن السابع إلى يومنا هذا صار سبباً لتدهور الاستنباط ، وإلاّ فلا يخفى ضعف هذا النوع من الاستدلال على المستنبط الملمّ بالأُصول.

الاستدلال بالسنّة

اشارة

استدلّ القائل بصحّة الطلاق ثلاثاً في مجلس واحد بالسنّة :

1. خبر فاطمة بنت قيس

روى ابن حزم من طريق يحيى بن أبي كثير : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، أنّ فاطمة بنت قيس أخبرته انّ زوجَها ابن حفص بن المغيرة المخزومي طلّقها ثلاثاً ، ثمّ انطلق إلى اليمن ، فانطلق خالد بن الوليد في نفر فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في بيت ميمونة أُمّ المؤمنين فقالوا : انّ ابن حفص طلّق امرأته ثلاثاً فهل لها من نفقة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «ليس لها نفقة ، وعليها العدّة». (1)

ص : 87


1- المحلى : 10 / 172.

فلو كانت التطليق ثلاثاً أمراً منكراً لأنكره النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -.

يلاحظ عليه : أنّ ابن حزم نقل الرواية على غير وجهها ، فقد روى أحمد في مسنده بسنده عن فاطمة بنت قيس ، قالت : كنت عند أبي عمرو بن حفص بن المغيرة ، وكان قد طلّقني تطليقتين ، ثمّ إنّه سار مع علي إلى اليمن حين بعثه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فبعث بتطليقتي الثالثة. (1)

وفي سنن الدارقطني بسنده عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن فاطمة بنت قيس أنّها أخبرته أنّها كانت عند أبي عمرو بن حفص بن المغيرة ، فطلّقها آخر ثلاث تطليقات ، فزعمت أنّها جاءت رسول الله فاستفته في خروجها من بيتها. (2)

وما نقله المحدثان دليل على أنّ التطليقات كانت متفرقة لا مجتمعة ، غير أنّ ابن حزم تغافل عن ذكر نص الحديث.

2. حديث عائشة

روى ابن حزم عن طريق البخاري عن عائشة أُمّ المؤمنين قالت : إنّ رجلاً طلّق امرأته ثلاثاً فتزوجت فطلق (3) ، فسئل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أتحلّ للأوّل؟ قال : «لا حتّى يذوق عسيلتها كما ذاق الأوّل» ، فلم ينكر عليه الصلاة والسلام هذا السؤال ، ولو كان لا يجوز لأخبر بذلك. (4)

يلاحظ عليه : أنّ الرواية غير ظاهرة في أنّ التطليقات كانت مجتمعة لو لم نقل انّها ظاهرة في المتفرقة ، بشهادة وقوع الطلاق في عصر رسول الله ، وقد كان

ص : 88


1- مسند أحمد : 7 / 563 ، حديث 26789.
2- سنن الدارقطني : 4 / 29 ، كتاب الطلاق ، الحديث 80.
3- أي طلّقها الزوج الثاني.
4- المحلى : 10 / 171.

الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة. (1)

3. حديث سهل

روى سهل بن سعد الساعدي قال : لاعن رسول الله بين الزبير العجلاني وزوجته ، فلمّا تلاعنا ، قال الزوج : إن أمسكتها فقد كذبت عليها ، فهي طالق ثلاثاً ، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : لا سبيل لك عليها. (2)

وجه الاستدلال : انّ العجلاني كان قد طلق في وقت لم يكن له أن يطلق فيه ، فطلق ثلاثاً فبين له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حكم الوقت ، وانّه ليس له أن يطلق فيه ولم يبين له حكم العدد ، ولو كان ذلك العدد محرماً وبدعة لبيّنه.

يلاحظ عليه : بأنّه من غرائب الاستدلال فانّ الزوج إذا لاعن زوجته تحرم عليه مؤبداً. (3) فلا موضوع للنكاح والطلاق ، ولمّا كان الرجل جاهلاً بحكم الإسلام وأنّها بانت عنه باللعان من دون حاجة إلى الطلاق ، طلّقها ثلاثاً بزعم انّها زوجته على رسم الجاهلية.

وأمّا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فليس في كلامه انّه انّه صحّح قوله - بعد اللعان - فهي طالق ثلاثاً ، بل أشار إلى الحرمة الأبدية وانّها صارت محرمة على الزوج ، وقال : «لا سبيل لك عليها» ، وأين هذا من تصحيح النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حكم العدد.

ص : 89


1- صحيح مسلم : 2 ، باب الطلاق الثلاث ، الحديث 15.
2- سنن البيهقي : 7 / 328.
3- اتّفقت فقهاء المذاهب الأربع على أنّ اللعان يحرم مؤبداً فلا تحلّ له أبداً حتّى وإن أكذب نفسه ، نعم قالت الحنفية بالحرمة المؤبدة إلاّ إذا أكذب نفسه. (الفقه الإسلامي وأدلّته : 7 / 177).

الاستدلال بالإجماع

استدلّ القائل بالصحّة بالإجماع وانّ الطلاق الوارد في الكتاب منسوخ ، فقال العيني في «عمدة القارئ» :

فإن قلت : ما وجه هذا النسخ وعمر لا ينسخ؟ وكيف يكون النسخ بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؟

قلت : لما خاطب عمر الصحابة بذلك فلم يقع إنكار صار إجماعاً ، والنسخ بالإجماع جوّزه بعض مشايخنا بطريق أنّ الإجماع موجب علم اليقين كالنصّ ، فيجوز أن يثبت النسخ به ، والإجماع في كونه حجّة أقوى من الخبر المشهور ، فإذا كان النسخ جائزاً بالخبر المشهور فجوازه بالإجماع أولى.

فإن قلت : هذا إجماع على النسخ من تلقاء أنفسهم ، فلا يجوز ذلك في حقّهم.

قلت : يحتمل أن يكون ظهر لهم نصّ أوجب النسخ ، ولم ينقل إلينا ذلك. (1)

يلاحظ عليه : كيف يدّعي الإجماع وقد تواتر النصّ على أنّه كان على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحداً ، ومع ذلك كيف يدّعي الإجماع مع تحقّق الخلاف في المسألة وذهاب كثير من الصحابة والتابعين إلى عدم صحّة الطلاق ثلاثاً؟!

وأمّا التمسّك بسكوت الناس ، فهو لا يكشف عن وجود نصّ يدلّ على النسخ ، إذ لو كان هناك نص لأظهروه ، ويصل من السلف إلى الخلف قطعاً ، لأنّ المسألة ممّا يعمّ بها الابتلاء.

ص : 90


1- عمدة القارئ : 20 / 222.

ولو افترضنا وجود النصّ فكيف خفي في عصر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وعصر الخليفة الأوّل وسنتين من عصر الخليفة الثاني؟!

الاجتهاد تجاه النص

التحق النبيّ الأكرم بالرفيق الأعلى وقد برز بين المسلمين اتّجاهان مختلفان ، وفكران متباينان ، فعليّ وسائر أئمّة أهل البيت ، كانوا يتعرّفون على الحكم الشرعي من خلال النصّ الشرعي آية أو رواية ، ولا يعملون برأيهم بتاتاً ، وفي قبالهم لفيف من الصحابة يستخدمون الرأي للتوصّل إلى الحكم الشرعي من خلال التعرّف على المصلحة ووضع الحكم وفق متطلّباتها.

إنّ استخدام الرأي فيما لا نصّ فيه ، ووضع الحكم وفق المصلحة أمر قابل للبحث والنقاش ، إنّما الكلام في استخدامه فيما فيه نص ، فالطائفة الثانية كانت تستخدم رأيها تجاه النص ، لا في خصوص ما لا نصّ فيه من كتاب أو سنّة بل حتى فيما كان فيه نصّ ودلالة.

يقول أحمد أمين المصري : ظهر لي أنّ عمر بن الخطاب كان يستعمل الرأي في أوسع من المعنى الذي ذكرناه ، وذلك أنّ ما ذكرناه هو استعمال الرأي حيث لا نصّ من كتاب ولا سنّة ، ولكنّا نرى الخليفة سار أبعد من ذلك ، فكان يجتهد في تعرّف المصلحة التي لأجلها نزلت الآية أو ورد الحديث ، ثمّ يسترشد بتلك المصلحة في أحكامه ، وهو أقرب شيء إلى ما يعبّر عنه الآن بالاسترشاد بروح القانون لا بحرفيته. (1)

إنّ الاسترشاد بروح القانون الذي أشار إليه أحمد أمين أمر ، ونبذ النص

ص : 91


1- فجر الإسلام : 238 ، نشر دار الكتاب.

والعمل بالرأي أمر آخر ، ولكن الطائفة الثانية كانت تنبذ النص وتعمل بالرأي ، وما روي عن الخليفة في هذه المسألة ، من هذا القبيل. وإن كنتَ في ريب من ذلك ، فنحن نتلو عليك ما وقفنا عليه :

1. روى مسلم عن طاوس عن ابن عباس ، قال : كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر : طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر بن الخطاب : إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم. (1)

2. وروى مسلم عن ابن طاوس عن أبيه : أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس : أتعلم انّما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأبي بكر وثلاثاً من (خلافة) عمر؟ فقال : نعم. (2)

3. وروى مسلم عن طاوس أيضاً : أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس : هات من هناتك ، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر واحدة؟ قال : قد كان ذلك فلمّا كان في عهد عمر تتايع الناس في الطلاق فأجازه عليهم. (3)

وربما يقال : انّ هذه الرواية تخالف ما روي عن ابن عباس أنّه أفتى بوقوع الثلاث. قال أحمد بن حنبل : كلّ أصحاب ابن عباس رووا عنه خلاف ما رواه طاوس في هذه المسألة ، أعني بهم : سعيد بن جبير ومجاهد ونافع.

قال أبو داود في سننه : صار قول ابن عباس فيما حدثنا أحمد بن صالح ، قال : حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن محمد بن إياس انّ ابن عباس وأبا هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص سئلوا عن البكر يطلقها زوجها ثلاثاً فكلّهم ، قال :

ص : 92


1- صحيح مسلم : 4 / 184 باب الطلاق الثلاث ، الحديث 31. التتايع : بمعنى التتابع في الشر.
2- صحيح مسلم : 4 / 184 باب الطلاق الثلاث ، الحديث 31. التتايع : بمعنى التتابع في الشر.
3- صحيح مسلم : 4 / 184 باب الطلاق الثلاث ، الحديث 31. التتايع : بمعنى التتابع في الشر.

لا تحلّ له حتّى تنكح زوجاً غيره. (1)

يلاحظ عليه : بأنّ المعتبر إنّما هو رواية ابن عباس وهي على بطلان الطلاق ثلاثاً ، وأمّا ما نقل عنه من الرأي وهو حجّة عليه لا على غيره ، ولو صحّ انّه أفتى على خلاف الرواية ، فلا يكون دليلاً على ضعف الرواية ، لأنّ الاحتمالات المسوّغة لترك الرواية والعدول إلى الرأي ، كثيرة منها النسيان ونظائره.

ثمّ إنّ الشوكاني بعد ما ذكر هذا الجواب قال : إنّ القائلين بالتتابع (صحّة الطلاق ثلاثاً) قد استكثروا من الأجوبة على حديث ابن عباس كلّها غير خارجة عن دائرة التعسف ، والحقّ أحقّ بالاتّباع. (2)

4. روى البيهقي ، قال : كان أبو الصهباء كثير السؤال لابن عباس ، قال : أما علمت أنّ الرجل كان إذا طلّق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها ، جعلوها واحدة على عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأبي بكر - رضى الله عنه - وصدراً من إمارة عمر - رضى الله عنه - فلمّا رأى الناس قد تتابعوا فيها ، قال : أجيزوهن عليهم. (3)

5. أخرج الطحاوي من طريق ابن عباس أنّه قال : لمّا كان زمن عمر - رضى الله عنه - قال : يا أيّها الناس قد كان لكم في الطلاق أناة وإنّه من تعجل أناة الله في الطلاق ألزمناه إياه. (4)

6. عن طاوس قال : قال عمر بن الخطاب : قد كان لكم في الطلاق أناة فاستعجلتم أناتكم ، وقد أجزنا عليكم ما استعجلتم من ذلك. (5)

ص : 93


1- نيل الأوطار : 6 / 233.
2- نيل الأوطار : 6 / 234.
3- سنن البيهقي : 7 / 339 ؛ الدر المنثور : 1 / 279.
4- عمدة القارئ : 9 / 537 ، وقال : اسناده صحيح.
5- كنز العمال : 9 / 676 ، برقم 27943.

7. عن الحسن : أنّ عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري : لقد هممت أن أجعل إذا طلّق الرجل امرأته ثلاثاً في مجلس أن أجعلها واحدة ، ولكنّ أقواماً جعلوا على أنفسهم ، فألزِمُ كلّ نفس ما ألزَمَ نفسه؟ من قال لامرأته : أنت عليَّ حرام ، فهي حرام ؛ ومن قال لامرأته : أنت بائنة ، فهي بائنة ؛ ومن قال : أنت طالق ثلاثاً ، فهي ثلاث. (1)

هذه النصوص تدلّ على أنّ عمل الخليفة لم يكن من الاجتهاد فيما لا نصّ فيه ، ولا أخذاً بروح القانون الذي يعبّر عنه بتنقيح المناط وإسراء الحكم الشرعي إلى المواضع التي تشارك النصوص في المسألة ، كما إذا قال : الخمر حرام ، فيسري حكمه إلى كلّ مسكر أخذاً بروح القانون ، وهو أنّ علّة التحريم هي الإسكار الموجود في المنصوص وغير المنصوص ، وانّما كان عمله من نوع ثالث وهو الاجتهاد تجاه النص ونبذ الدليل الشرعي ، والسير وراء رأيه وفكره وتشخيصه ، وقد ذكروا هنا تبريرات لحكم الخليفة نذكرها تباعاً :

تبريرات لحكم الخليفة

اشارة

لمّا كان الحكم الصادر عن الخليفة يخالف نصّ القرآن أو ظاهره ، حاول بعض المحقّقين تبرير عمل الخليفة ببعض الوجوه حتّى يبرّر حكمه ويصحّحه ويخرجه عن مجال الاجتهاد تجاه النص ، بل يكون صادراً عن دليل شرعي ، وإليك بيانه :

ص : 94


1- كنز العمال : 9 / 676 ، برقم 27943.
1. نسخ الكتاب بالإجماع الكاشف عن النص

إنّ الطلاق الوارد في الكتاب منسوخ.

فان قلت : ما وجه هذا النسخ وعمر - رضى الله عنه - لا ينسخ ، وكيف يكون النسخ بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؟

قلت : لمّا خاطب عمر الصحابة بذلك فلم يقع إنكار ، صار إجماعاً ، والنسخ بالإجماع جوّزه بعض مشايخنا ، بطريق أنّ الإجماع موجب علم اليقين كالنص فيجوز أن يثبت النسخ به ، والإجماع في كونه حجّة أقوى من الخبر المشهور.

فان قلت : هذا إجماع على النسخ من تلقاء أنفسهم فلا يجوز ذلك في حقّهم.

قلت : يحتمل أن يكون ظهر لهم نص أوجب النسخ ولم ينقل إلينا. (1)

يلاحظ عليه أولاً : أنّ المسألة يوم أفتى بها الخليفة ، كانت ذات قولين بين نفس الصحابة ، فكيف انعقد الإجماع على قول واحد؟! وقد عرفت الأقوال في صدر المسألة. ولأجل ذلك نرى البعض الآخر ينفي انعقاد الإجماع البتة ويقول : وقد أجمع الصحابة إلى السنة الثانية من خلافة عمر على أنّ الثلاث بلفظ واحد ، واحدة ، ولم ينقض هذا الإجماع بخلافه ، بل لا يزال في الأُمّة من يفتي به قرناً بعد قرن إلى يومنا هذا. (2)

وثانياً : أنّ هذا البيان يخالف ما برّر به الخليفة عمله حيث قال : إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم ، ولو كان هناك نص عند الخليفة ، لكان التبرير به هو المتعيّن.

ص : 95


1- العيني : عمدة القارئ : 9 / 537.
2- تيسير الوصول : 3 / 162.

وفي الختام نقول : أين ما ذكره صاحب العمدة ممّا ذكره الشيخ صالح بن محمد العمري (المتوفّى 1298 ه) حيث قال : إنّ المعروف عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعند سائر العلماء المسلمين : أنّ حكم الحاكم المجتهد إذا خالف نصّ كتاب الله تعالى أو سنّة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وجب نقضه ومنع نفوذه ، ولا يُعارض نصّ الكتاب والسنّة بالاحتمالات العقليّة والخيالات النفسية ، والعصبيّة الشيطانية بأن يقال : لعلّ هذا المجتهد قد اطّلع على هذا النصّ وتركه لعلّة ظهرت له ، أو أنّه اطّلع على دليل آخر ، ونحو هذا ممّا لهج به فرق الفقهاء المتعصّبين وأطبق عليه جهلة المقلّدين. (1)

2. تعزيرهم على ما تعدّوا به حدود الله

لم يكن الهدف من تنفيذ الطلاق ثلاثاً في مجلس ، إلاّ عقابهم من جنس عملهم ، وتعزيرهم على ما تعدّوا حدود الله ، فاستشار أُولي الرأي ، وأُولي الأمر وقال : إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم؟ فلمّا وافقوه على ما اعتزم أمضاه عليهم وقال : أيّها الناس قد كانت لكم في الطلاق أناة وأنّه من تعجّل أناة الله ألزمناه إيّاه. (2)

لم أجد نصّاً - فيما فحصت - في مشاورة عمر أُولي الرأي والأمر ، غير ما كتبه إلى أبي موسى الأشعري بقوله : لقد هممت أن أجعل إذا طلّق الرجل امرأته ثلاثاً في مجلس أن أجعلها واحدة .... (3) وهو يُعرب عن عزمه وهمّه لا عن استشارته له ، ولو كان بصدد الاستشارة ، فالأجدر به أن يستشير الصحابة من المهاجرين

ص : 96


1- إيقاظ همم أُولي الأبصار : 9.
2- مسند أحمد : 1 / 314 ، برقم 2877.
3- كنز العمال : 9 / 676 ، برقم 27944.

والأنصار القاطنين في المدينة وعلى رأسهم علي بن أبي طالب ، وقد كان يستشيره في مواقف خطيرة ويقتفي رأيه.

ولا يكون استعجال الناس ، مبرّراً لمخالفة الكتاب والسنّة ، بل كان عليه ردع الناس عن عملهم السيّئ بقوّة ومنعة ، وكيف تصحّ مؤاخذتهم بموافقتهم في عمل أسماه رسول الله لعباً بكتاب الله؟! (1)

ثمّ إنّ أحمد محمد شاكر مؤلف كتاب «نظام الطلاق في الإسلام» وإن أبدى شجاعة في هذه المسألة وأفتى ببطلان الطلاق الثلاث مطلقاً واستنبط حكم المسألة من الكتاب والسنة بوجه جدير بالاهتمام ، لكنّه برّر عمل الخليفة بوجه لا يخلو من التعسّف ، وقد صدر عمّا أجاب به ابن قيم الجوزية - كما سيوافيك كلامه - يقول :

«ولم يكن هذا الإلزام من عمر تغييراً للحكم الظاهر من القرآن ، والثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - انّ الطلاق لا يلحق الطلاق ، وانّ الطلقة الأُولى ليس للمطلق بعدها إلاّ الرجعة أو الفراق ، وكذلك الثانية بعد رجعة أو زواج ، وإنّما كان إلزاماً بحكم السياسة الشرعية في النظر إلى المصالح. ممّا جعل الله للحكام بعد استشارة أُولي الأمر ، وهم العلماء وزعماء الناس وعرفاؤهم ، فقد أراد عمر والصحابة أن يمنعوا الناس من الاسترسال في الطلاق ، ومن التعجل إلى بت الفراق ، فألزموا المطلق ثلاث مرات في عدّة واحدة ما ظنّه - أو ما رغب فيه - من أنّها بانت منه بمرة ، فمنعوه من رجعتها بإرادته ومن تزويجها بعقد آخر حتّى تنكح زوجاً غيره ، ولذلك قال عمر : انّه من تعجل أناة الله في الطلاق الزمناه إياه ، فجعله إلزاماً من الإمام ومن أُولي الأمر. ولم يجعله حكماً بوقوع الطلاق الذي لم يقع ، لأنّ الأحكام

ص : 97


1- الدر المنثور : 1 / 283.

الثابتة بالكتاب والسنّة صريحاً لا يملك أحد تغييرها أو الخيار بينها وبين غيرها ، سواء أكان فرداً أم كان أُمّة مجتمعة».

يلاحظ على (1) ه أوّلاً : أنّ للحاكم الإسلامي اتّخاذ سياسة مناسبة من أجل دفع المجتمع إلى ما فيه صلاحه وزجره عمّا فيه فساده.

فالتعزيرات الشرعية معظمها من هذا الباب ويشترط فيها قبل كلّ شيء أن تكون أمراً حلالاً لا حراماً ، فلا يصحّ تعزير الناس بأمر لم يشرِّعه الشارع.

وعلى ضوء ذلك فلا يمكن أن يعد إمضاء عمر للتطليقات الثلاث سياسة شرعية ، لأنّه من قبيل دفع الناس إلى ما نهاهم الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - عنه وحذّرهم منه وعدّه لعباً بكتاب الله حيث قال غاضباً : «أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟!»

وثانياً : أنّ الصحابة والتابعين ومن تلاهم تلقوه تشريعاً قام به الخليفة لا حكماً تأديبياً ، ولذلك أخذوا به عبر القرون إلى يومنا هذا ، وما خالفه إلاّ النادر من أهل السنّة ، كابن تيمية في «الفتاوى الكبرى» ، وابن القيم في «اعلام الموقعين» و «إغاثة اللهفان».

والحقّ أن يقال : انّ إمضاء هذا النوع من الطلاق من قبل الخليفة بأيّ داع كان ، قد جرّ الويل والويلات على الأُسر والعائلات ، فصار سبباً لانفصام عُقَد الزوجية في عوائل كثيرة.

وممّا ذكرنا يظهر ضعف تبرير ابن قيم الجوزية عمل الخليفة بقوله : إنّ هذا القول قد دلّ عليه الكتاب والسنّة والقياس والإجماع القديم ، ولم يأت بعده إجماع يبطله ، ولكن رأى أمير المؤمنين عمر - رضى الله عنه - أنّ الناس قد استهانوا بأمر الطلاق وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة ، فرأى من المصلحة

ص : 98


1- نظام الطلاق في الإسلام : 80.

عقوبتهم بإمضائه عليهم ليعلموا أنّ أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة ، وحرّمت عليه ، حتى تنكح زوجاً غيره نكاح رغبة ، يراد للدوام لا نكاح تحليل ، فإذا علموا ذلك كفّوا عن الطلاق المحرَّم ، فرأى عمر أنّ هذا مصلحة لهم في زمانه ، ورأى أنّ ما كانوا عليه في عهد النبيّ وعهد الصديق ، وصدراً من خلافته كان الأليق بهم ، لأنّهم لم يتابعوا فيه وكانوا يتّقون الله في الطلاق ، وقد جعل الله لكلّ من اتّقاه مخرجاً ، فلمّا تركوا تقوى الله وتلاعبوا بكتاب الله وطلّقوا على غير ما شرّعه الله ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم فإنّ الله شرّع الطلاق مرّة بعد مرّة ، ولم يشرّعه كلّه مرّة واحدة. (1)

وبما ذكرنا حول كلام أحمد محمد شاكر يعلم ضعفه فلا نعيد.

3. تنفيذ الطلاق ثلاثاً للحد من الكذب

وربما يقال في تبرير فعل الخليفة الثاني هو وجود الفرق بين عصر رسول الله وعصر الخليفة ، ففي عصر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان الناس في صلاح وفلاح ، وإذا قالوا : أردنا من قولنا : أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق ، التكرير يؤخذ بقولهم ، بخلاف عصر الخليفة ، فقد فشا في عصره الفساد والكذب فكانوا يعتذرون بنفس ما كانت الصحابة يعتذرون به ، وبما انّ قسماً كثيراً منهم يكذبون في قولهم ، بالتأكيد لم يجد الخليفة بداً من الأخذ بظاهر كلامهم وهو الطلاق ثلاثاً.

وهذا الوجه نقله الشوكاني ، فقال : إنّ الناس كانوا في عهد رسول الله وعهد أبي بكر على صدقهم وسلامتهم وقصدهم في الغالب الفضيلة والاختيار لم يظهر فيهم خب ولا خداع ، وكانوا يصدقون في إرادة التوكيد ، فلمّا رأى عمر في زمانه

ص : 99


1- اعلام الموقعين : 3 / 36.

أُموراً ظهرت وأحوالاً تغيرت وفشا إيقاع الثلاث جملة بلفظ لا يحتمل التأويل ألزمهم الثلاث في صورة التكرير ، إذ صار الغالب عليهم قصدها ، وقد أشار إليه بقوله : «إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة».

ثمّ إنّ الشوكاني ردّه - بعد نقله - حيث قال : وقد ارتضى هذا الجواب القرطبي ، وقال النووي : إنّه أصحّ الأجوبة ، ولا يخفى انّ ما جاء بلفظ يحتمل التأكيد وادعى انّه نواه يُصدَّق في دعواه ولو في آخر الدهر فكيف بزمن خير القرون ومن يليهم؟!

وإن جاء بلفظ لا يحتمل التأكيد لم يصدق إذا ادّعى التأكيد من غير فرق بين عصر وعصر. (1)

أقول : إنّ هذا التبرير - بالإضافة إلى ما ذكره الشوكاني - من قبيل دفع الفاسد بالأفسد ، وقد زاد في الطين بلّة ، حيث إنّ المجيب حاول أن يبرر عمل الخليفة ويبرّئه من الخطأ ولو على حساب كرامة قسم من الصحابة والتابعين ، حيث إنّ كثيراً منهم كان يرجع إلى الخليفة ، فكيف يرميهم بالكذب والخداع؟!

وفي الختام نأتي بكلمة قيمة للشوكاني ، فانّه بعد ما ذكر أدلّة القائلين بوقوع الطلاق ثلاثاً ، وتأويل رواية ابن عباس ، وتبرير عمل الخليفة ، قال : فإن كانت تلك المماشاة لأجل مذاهب الأسلاف فهي أحقر وأقل من أن تُؤثَر على السنّة المطهرة ، وإن كانت لأجل عمر بن الخطاب فأين يقع المسكين من رسول الله ، فأيّ مسلم من المسلمين يستحسن عقله وعلمه ترجيح قول صحابي على قول المصطفى؟! (2)

ص : 100


1- نيل الأوطار : 6 / 233.
2- نيل الأوطار : 6 / 234.

نعم بعض علماء أهل السنّة في هذه العصور فنّد هذا النوع من الطلاق ، ولأجل ذلك تغيّر قانون محاكم مصر الشرعية وخالف مذهب الحنفية بعد استقلالها وتحرّرها عن سلطنة الدولة العثمانية. كما أنّ عدداً من مفتي أهل السنّة عمِد إلى تفنيد هذا النوع من الطلاق ، في هذا الإطار يقول مؤلّف المنار بعد البحث الضافي حول المسألة : ليس المراد مجادلة المقلّدين أو إرجاع القضاة والمفتين عن مذاهبهم ، فإنّ أكثرهم يطّلع على هذه النصوص في كتب الحديث وغيرها ولا يبالي بها ، لأنّ العمل عندهم على أقوال كتبهم دون كتاب الله وسنّة رسوله. (1)

4. تغيّر الأحكام بالمصالح

ولابن قيم الجوزية كلام مسهب في تحليل إمضاء عمر الطلاق ثلاثاً ، وهو يعتمد على تغيّر الأحكام بالمصالح ، ويخلط الصحيح بالسقيم ، وإليك ملخّص كلامه :

قال : الأحكام نوعان :

نوع لا يتغيّر عن حالة واحدة هو عليها ، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمّة ، كوجوب الواجبات وتحريم المحرّمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم.

والنوع الثاني : ما يتغيّر بحسب اقتضاء المصلحة له زماناً ومكاناً وحالاً ، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها - ثمّ أتى بأمثلة كثيرة في باب التعزيرات - وقال : ومن ذلك أنّه رضى الله عنه - يريد عمر بن الخطاب - لمّا رأى الناس قد

ص : 101


1- تفسير المنار : 2 / 386 ، الطبعة الثالثة - 1376 ه.

أكثروا في الطلاق ، رأى أنّهم لا ينتهون عنه إلاّ بعقوبة ، فرأى إلزامهم بها عقوبة لهم ليكفّوا عنها ، وذلك :

إمّا من التعزير العارض الذي يفعل عند الحاجة كما كان يضرب في الخمر ثمانين ويحلق فيها الرأس.

وإمّا ظنّاً أنّ جعل الثلاث واحدة كان مشروعاً بشرط وقد زال.

وإمّا لقيام مانع قام في زمنه منع من جعل الثلاث واحدة.

- إلى أن قال : - فلمّا رأى أمير المؤمنين أنّ الله سبحانه عاقب المطلِّق ثلاثاً ، بأن حال بينه وبين زوجه وحرّمها عليه حتى تنكح زوجاً غيره ، علم أنّ ذلك لكراهة الطلاق المحرّم ، وبغضه له ، فوافقه أمير المؤمنين في عقوبته لمن طلّق ثلاثاً بأن ألزمه بها وأمضاها عليه. وقال :

فإن قيل : كان أسهل من ذلك أن يمنع الناس من إيقاع الثلاث ، ويحرمه عليهم ويعاقب بالضرب والتأديب من فعله لئلاّ يقع المحذور الذي يترتّب عليه.

قيل : نعم ، لعمر الله كان يمكنه ذلك ، ولذا ندم في آخر أيامه وودَّ أنّه كان فعله ، قال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي في مسند عمر : أخبرنا أبو يعلى ، حدثنا صالح بن مالك ، حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك ، عن أبيه قال : قال عمر بن الخطاب : ما ندمت على شيء مثل ندامتي على ثلاث : أن لا أكون حرّمت الطلاق ، وعلى أن لا أكون أنكحت الموالي ، وعلى أن لا أكون قتلت النوائح.

وليس مراده من الطلاق الذي حرّمه ، الطلاق الرجعيّ الذي أباحه الله تعالى وعلم من دين رسول الله جوازه ، ولا الطلاق المحرّم الذي أجمع المسلمون على تحريمه كالطلاق في الحيض والطهر المجامع فيه ، ولا الطلاق قبل الدخول ، فتبيّن قطعاً أنّه أراد تحريم الطلاق الثلاث - إلى أن قال : - ورأى عمر أنّ المفسدة تندفع

ص : 102

بإلزامهم به فلمّا تبيّن أنّ المفسدة لم تندفع بذلك وما زاد الأمر إلاّ شدّة ، أخبر أنّ الأولى كان عدوله إلى تحريم الثلاث الذي يدفع المفسدة من أصلها ، واندفاع هذه المفسدة بما كان عليه الأمر في زمن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأبي بكر وأوّل خلافة عمر. (1)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من تقسيم الأحكام إلى نوعين ، صحيح. ولكن من أين علم أنّ حكم الطلاق الثلاث من النوع الثاني ، فأيّ فرق بين حكم الواجبات والمحرّمات وقوله سبحانه : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) وكيف يتغيّر حكم وصفَ رسول الله خلافه لعباً بالدين؟

وأمّا ما ذكره من الاحتمالات الثلاثة ، فالاحتمال الأوّل هو المتعيّن وهو الموافق لكلام الخليفة نفسه ، وأمّا الاحتمالان الأخيران - أي جعل الثلاث واحدة كان مشروعاً بشرط وقد زال ، أو قام مانع عن إمضائه - فلا يعتمد عليهما ، ويبدو أن الدافع إلى تصوّر هذين الاحتمالين هو الخضوع للعاطفة وتبرير عمل الخليفة بأي نحو كان.

5. تغيّر الأحكام حسب مقتضيات الزمان

إنّ الأحكام التي تتغيّر بتغيّر الزمان وتبدّل الظروف ، عبارة عن الأحكام التي حُدّد جوهرها برعاية المصالح ، وتركت خصوصياتها وأشكالها إلى رأي الحاكم الإسلامي ، فهذا النوع من الأحكام يتعرّض للتغيّر دون ما قام الشارع بتحديد جوهره وشكله وكيفيته ، ولم يترك للحاكم الإسلامي أيّ تدخّل فيه ، والأحكام

ص : 103


1- إعلام الموقعين : 3 / 36 ، وأشار إليه أيضاً في كتابه «إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان» : 1 / 336.

الواردة في الأحوال الشخصية من هذا القبيل ، فليس للحاكم التدخل في أحكام النسب والمصاهرة والرضاع والعدد ، فليس له أن يحرّم ما أحلّ الله عقوبة للخاطئ وبالعكس ، وإنّما هي أحكام ثابتة لا تخضع لرأي حاكم وغيره.

وأمّا ما يجوز للحاكم التدخل فيه فهو عبارة عن الأحكام التي تركت خصوصياتها وأشكالها إلى الحاكم ، ليصون مصالح الإسلام والمسلمين ، بما تقتضيه الظروف السائدة ، وإليك نزراً يسيراً منها ، لئلاّ يخلط أحدهما بالآخر :

1. في مجال العلاقات الدولية الدبلوماسية : يجب على الدولة الإسلامية أن تراعي مصالح الإسلام والمسلمين ، فهذا أصل ثابت وقاعدة عامة ، وأمّا كيفية تلك الرعاية ، فتختلف باختلاف الظروف الزمانية والمكانية ، فتارة تقتضي المصلحة ، السلام والمهادنة والصلح مع العدو ، وأُخرى تقتضي ضد ذلك.

وهكذا تختلف المقررات والأحكام الخاصّة في هذا المجال ، باختلاف الظروف ، ولكنّها لا تخرج عن نطاق القانون العام الذي هو رعاية مصالح المسلمين ، كقوله سبحانه :

(وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً). (1)

وقوله سبحانه : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

(إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). (2)

2. العلاقات الدولية التجارية : فقد تقتضي المصلحة عقد اتّفاقيات

ص : 104


1- النساء : 141.
2- الممتحنة : 98.

اقتصادية وإنشاء شركات تجارية أو مؤسّسات صناعية ، مشتركة بين المسلمين وغيرهم ، وقد تقتضي المصلحة غير ذلك. ومن هذا الباب حكم الإمام المغفور له ، الفقيه المجدّد السيد الشيرازي بتحريم التدخين ليمنع من تنفيذ الاتّفاقية الاقتصادية التي عقدت في زمانه بين إيران وانجلترا ، إذ كانت مجحفة بحقوق الأُمّة المسلمة الإيرانية ، لأنّها خوّلت لانجلترا حقّ احتكار التنباك الإيراني.

3. الدفاع عن بيضة الإسلام وحفظ استقلال البلاد وصيانة حدودها من الأعداء ، قانون ثابت لا يتغيّر ، فالمقصد الأسنى لمشرّع الإسلام ، إنّما هو صيانة السيادة من خطر الأعداء وأضرارهم ، ولأجل ذلك أوجب تحصيل قوة ضاربة ، وإعداد جيش عارم جرّار ، ضدّ الأعداء كما يقول سبحانه : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) (1) ، فهذا هو الأصل الثابت في الإسلام الذي يؤيده العقل والفطرة ، أمّا كيفيّة الدفاع وتكتيكه ونوع السلاح ، أو لزوم الخدمة العسكرية وعدمه ، فكلّها موكولة إلى مقتضيات الزمان ، تتغيّر بتغيّره ، ولكن في إطار القوانين العامة ، فليس هناك في الإسلام أصل ثابت ، حتى مسألة لزوم التجنيد الإجباري ، الذي أصبح من الأُمور الأصلية في غالب البلاد.

وما نرى في الكتب الفقهية من تبويب باب أو وضع كتاب خاص ، لأحكام السبق والرماية ، وغيرها من أنواع الفروسية التي كانت متعارفة في الأزمنة الغابرة ، ونقل أحاديث في ذلك الباب عن الرسول الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - وأئمّة الإسلام فليست أحكامها أصلية ثابتة في الإسلام ، دعا إليها الشارع بصورة أساسية ثابتة ، بل كانت نوعاً من أنواع التطبيق لذلك الحكم ، الغرض منه تحصيل القوّة الكافية تجاه العدو في تلك العصور ، وأمّا الأحكام التي ينبغي أن تطبّق في العصر الحاضر ، فإنّها

ص : 105


1- الأنفال : 60.

تخضع تفرضها لمقتضيات العصر نفسه. (1)

فعلى الحاكم الإسلامي تقوية جيشه وقواته المسلحة بالطرق التي يقدر معها على صيانة الإسلام ومعتنقيه عن الخطر ، ويصدّ كلّ مؤامرة عليه من جانب الأعداء حسب إمكانيات الوقت.

والمقنّن الذي يتوخّى ثبات قانونه ودوامه وسيادة نظامه الذي جاء به ، لا يجب عليه التعرّض إلى تفاصيل الأُمور وجزئياتها ، بل الذي يجب عليه هو وضع الكليات والأُصول ليساير قانونه جميع الأزمنة بأشكالها وصورها المختلفة ، ولو سلك غير هذا السبيل لصار حظّه من البقاء قليلاً جدّاً.

4. نشر العلم والثقافة واستكمال المعارف التي تضمن سيادة المجتمع مادياً ومعنوياً يعتبر من الفرائض الإسلامية ، أمّا تحقيق ذلك وتعيين نوعه ونوع وسائله فلا يتحدّد بحدّ خاص ، بل يوكل إلى نظر الحاكم الإسلامي ، واللّجان المقررة لذلك من جانبه حسب الإمكانيات الراهنة في ضوء القوانين الثابتة.

وبالجملة : فقد ألزم الإسلام ، رعاة المسلمين ، وولاة الأمر نشر العلم بين أبناء الإنسان واجتثاث مادة الجهل من بينهم ومكافحة أيّ لون من الأُميّة ، وأمّا نوع العلم وخصوصياته ، فكل ذلك موكول إلى نظر الحاكم الإسلامي وهو أعلم

ص : 106


1- قال المحقق في «الشرائع» : 152 : وفائدة السبق والرماية : بعث النفس على الاستعداد للقتال والهداية لممارسة النضال وهي معاملة صحيحة. وقال الشهيد الثاني : في «المسالك» في شرح عبارة المحقّق : لا خلاف بين المسلمين في شرعية هذا العقد ، بل أمر به النبي في عدّة مواطن لما فيه من الفائدة المذكورة وهي من أهم الفوائد الدينية لما يحصل بها من غلبة العدو في الجهاد لأعداء الله تعالى. الذي هو أعظم أركان الإسلام ولهذه الفائدة يخرج عن اللهو واللعب المنهى عن المعاملة عليهما. فإذا كانت الغاية من تشريعها الاستعداد للقتال والتدرّب للجهاد ، فلا يفرق عندئذ بين الدارج في زمن النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وغيره أخذاً بالملاك المتيقّن.

بحوائج عصره.

فربّ علم ، لم يكن لازماً ، لعدم الحاجة إليه ، في العصور السابقة ، ولكنّه أصبح اليوم في طليعة العلوم اللازمة ، التي فيها صلاح المجتمع ، كالاقتصاد والسياسة.

5. حفظ النظام وتأمين السبل والطرق ، وتنظيم الأُمور الداخلية ورفع المستوى الاقتصادي و... من الضروريات ، فيتبع فيه وأمثاله ، مقتضيات الظروف وليس فيه للإسلام حكم خاص يتبع ، بل الذي يتوخّاه الإسلام ، هو الوصول إلى هذه الغايات ، وتحقيقها بالوسائل الممكنة ، دون تحديد وتعيين لنوع هذه الوسائل وإنّما ذلك متروك إلى إمكانيات الزمان الذي يعيش فيه البشر ، وكلّها في ضوء القوانين العامة.

6. قد جاء الإسلام بأصل ثابت في مجال الأموال ، وهو قوله سبحانه : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) ، وقد فرع الفقهاء على هذا الأصل شرطاً في صحّة عقد البيع أو المعاملة فقالوا : يشترط في صحّة المعاملة وجود فائدة مشروعة وإلاّ فلا تصح المعاملة ، ومن هنا حرّموا بيع (الدم) وشراءه.

إلاّ أنّ تحريم بيع الدم وشرائه ليس حكماً ثابتاً في الإسلام ، بل التحريم كان في الزمان السابق صورة إجرائية لما أفادته الآية من حرمة أكل المال بالباطل ، وكان بيع الدم في ذلك الزمان مصداقاً له ، فالحكم يدور مدار وجود الفائدة (التي تخرج المعاملة عن كونها أكل المال بالباطل) وعدم تحقّق الفائدة (التي تخرج المعاملة عن كونها أكل المال بالباطل) فلو ترتّبت فائدة معقولة على بيع الدم أو شرائه فسوف يتبدّل حكم الحرمة إلى الحلّية ، والحكم الثابت هنا هو قوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ).

ص : 107

وفي هذا المضمار ورد أنّ علياً - عليه السلام - سئل عن قول الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - : غيّروا الشيب ولا تشبّهوا باليهود؟ فقال - عليه السلام - : «إنّما قال - صلى الله عليه وآله وسلم - ذلك والدين قُلٌّ ، فأمّا الآن فقد اتّسع نطاقه وضرب بجرانه فامْرؤٌ وما اختار». (1)

هذا ولمّا كان الحكم بصحة الطلاق ثلاثاً ، مثيراً للفساد ، عبر التاريخ ، قام ابن قيم - مع تبريره عمل الخليفة بما ذكر - ببيان ما ترتّب عليه من شماتة أعداء الدين به ، وها نحن ننقل نصّ كلامه :

جزاء الانحراف عن الطريق المهيع

إنّ ابن القيم - كما عرفت - كان من المدافعين المتحمّسين عن فتيا الخليفة ، وقد برّر حكمه بأنّ المصلحة يوم ذاك كانت تقتضي الأخذ بما التزم به المطلّق على نفسه ، وقد عرفت ضآلة دفاعه ووهن كلامه ، ولكنّه ذكر في آخر كلامه بأنّ المصلحة في زماننا هذا على عكس ما كان عليه زمن الخليفة ، وأنّ تصحيح التطليق الثلاث ، جرّ الويلات على المسلمين في أجوائنا وبيئاتنا ، وصار سبباً لاستهزاء الأعداء ، بالدين وأهله ، وأنّه يجب في زماننا هذا الأخذ بمُرّ الكتاب والسنّة ، وهو أنّه لا يقع منه إلاّ واحد.

ولكنّه غفل عمّا هو الحق في المقام وأنّ المصلحة في جميع الأزمنة كانت على وتيرة واحدة ، وأنّ ما حدّه سبحانه من الحدود ، هو المطابق لمصالح العباد ومصائرهم ، وأنّ الشناعة والاستهزاء اللَّتين يذكرهما ابن قيم الجوزية إنّما نجمتا من الانحراف عن الطريق المهيَع والاجتهاد تجاه النص بلا ضرورة مفضية إلى العدول ومن دون أن يكون هناك حرج أو كلفة ، ولأجل ذلك نأتي بكلامه حتى يكون عبرة

ص : 108


1- نهج البلاغة ، الحكمة رقم 16. لاحظ كتابنا مفاهيم القرآن : 3 / 265 - 275.

لمن يريد في زماننا هذا أن يتلاعب بالأحكام الشرعية بهذه المصالح المزعومة ، وإليك نصّ كلامه :

هذه المسألة ممّا تغيّرت الفتوى بها بحسب الأزمنة وأمّا في هذه الأزمان التي قد شكت الفروج فيها إلى ربّها من مفسدة التحليل ، وقبح ما يرتكبه المحلّلون ممّا هو رمد بل عمى في عين الدين ، وشجىً في حلوق المؤمنين ، من قبائح تشمّت أعداء الدين بها ، وتمنع كثيراً ممّن يريد الدخول فيه بسببه ، بحيث لا يحيط بتفاصيلها خطاب ، ولا يحصرها كتاب ، يراها المؤمنون كلّهم من أقبح القبائح ويعدّونها من أعظم الفضائح ، قد قلبت من الدين رسمه ، وغيّرت منه اسمه ، وضمخ التيس المستعار فيها المطلّقةَ بنجاسة التحليل ، وقد زعم أنّه قد طيّبها للحليل ، فيا لله العجب! أيّ طيب أعارها هذا التيس الملعون؟! وأيّ مصلحة حصلت لها ولمطلِّقها بهذا الفعل الدون؟!

أترى وقوف الزوج المطلِّق أو الولي على الباب ، والتيس الملعون قد حلّ أزرارها وكشف النقاب ، وأخذ في ذلك المرتع ، والزوج أو الولي يناديه : لم يُقدَّم إليك هذا الطعام لتشبع ، فقد علمت أنت والزوجة ونحن والشهود والحاضرون والملائكة الكاتبون ، وربّ العالمين ، أنّك لست معدوداً من الأزواج ، ولا للمرأة أو أوليائها بك رضاً ولا فرح ولا ابتهاج ، وإنّما أنت بمنزلة التيس المستعار للضراب ، الذي لو لا هذه البلوى لما رضينا وقوفك على الباب ، فالناس يُظهرون النكاح ويُعلنونه فرحاً وسروراً ، ونحن نتواصى بكتمان هذا الداء العضال ، ونجعله أمراً مستوراً بلا نثار ولا دف ، ولا خوان ولا اعلان ، بل التواصي بهس ومس والاخفاء والكتمان ، فالمرأة تنكح لدينها وحسبها ومالها وجمالها.

والتيس المستعار لا يسأل عن شيء من ذلك ، فانّه لا يُمسك بعصمتها ، بل

ص : 109

قد دخل على زوالها ، والله تعالى قد جعل كل واحد من الزوجين سكناً لصاحبه ، وجعل بينهما مودة ورحمة ليحصل بذلك مقصود هذا العقد العظيم ، وتتم بذلك المصلحة التي شرّعه لأجلها العزيز الحكيم.

فسل التيس المستعار : هل له من ذلك نصيب ، أو هو من حكمة هذا العقد ومقصوده ومصلحته أجنبي غريب؟! وسله : هل اتّخذ هذه المصابة حليلة وفراشاً يأوى إليه؟ هل رضيت به قط زوجاً وبعلاً تعول في نوائبها عليه؟! وسل أُولي التمييز والعقول : هل تزوّجت فلانة بفلان؟! وهل يعد هذا نكاحاً في شرع أو عقل أو فطرة إنسان؟ وكيف يلعن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - رجلاً من أُمّته نكح نكاحاً شرعياً صحيحاً ، ولم يرتكب في عقده محرماً ولا قبيحاً؟! وكيف يشبهه بالتيس المستعار ، وهو من جملة المحسنين الأبرار؟! وكيف تعيّر به المرأة طول دهرها بين أهلها والجيران ، وتظل ناكسة رأسها إذا ذكر ذلك التيس بين النسوان؟! وسل التيس المستعار : هل حدّث نفسه وقت هذا العقد الذي هو شقيق النفاق ، بنفقة أو كسوة أو وزن صداق؟! وهل طمعت المصابة منه في شيء من ذلك ، أو حدّثت نفسها به هنالك؟! وهل طلب منها ولداً نجيباً واتّخذته عشيراً وحبيباً؟!

وسل عقول العالمين وفطرهم : هل كان خير هذه الأُمّة أكثرهم تحليلاً ، وكان المحلّل الذي لعنه الله ورسوله أهداهم سبيلاً؟ وسل التيس المستعار ومن ابتليت به : هل تجمّل أحد منهما لصاحبه كما يتجمّل الرجال بالنساء والنساء بالرجال ، أو كان لأحدهما رغبة في صاحبه بحسب أو مال أو جمال؟ وسل المرأة : هل تكره أن يتزوّج عليها هذا التيس المستعار أو يتسرّى ، أو تكره أن تكون تحته امرأة غيرها أُخرى ، أو تسأله عن ماله وصنعته أو حسن عشيرته وسعة نفقته؟! وسل التيس المستعار : هل سأل قط عمّا يسأله عنه مَن قصد حقيقة النكاح ، أو يتوسل إلى بيت أحمائه

ص : 110

بالهدية والحمولة ، والنقد الذي يتوسّل به خاطب الملاح؟ وسله : هل هو «أبو يأخذ» أو «أبو يعطي»؟ وهل قوله عند قراءة أبي جاد هذا العقد : خذي نفقة هذا العرس أو حطي؟ وسله : هل تحمّل من كلفة هذا العقد خذي نفقة هذا العرس أو حطي؟

وسله عن وليمة عرسه ، هل أولم ولو بشاة؟ وهل دعا إليها أحداً من أصحابه فقضى حقّه وأتاه؟ وسله : هل تحمّل من كلفة هذا العقد ما يتحمّله المتزوّجون ، أم جاءه - كما جرت به عادة الناس - الأصحاب والمهنئون؟ وهل قيل له بارك الله لكما وعليكما وجمع بينكما في خير وعافية ، أم لعن الله المحلِّل والمحلَّل له لعنة تامة وافية؟ (1)

يلاحظ عليه : أنّ العار الذي - على زعمه - دخل الإسلام رهن تصحيح الطلاق ثلاثاً ، وأنّ الطلاق الواحد حقيقة يعد ثلاثاً ، وأمّا ما شرّعه الذكر الحكيم من توقّف صحّة النكاح بعد التطليقات الثلاث على المحلّل فهو من أفضل قوانينه المشرقة ، وأرسخها وأتقنها فلا يدخل العار من جانبه على الإسلام أبداً ، وذلك :

أوّلاً : أنّه يصد الزوج عن الطلاق الثالث لما يعلم أنّ النكاح بعده يتوقّف على التحليل الذي لا يتحمّله أكثر الرجال.

وثانياً : أنّه لا يقوم به إلاّ إذا يئس من التزويج المجدّد ، لأنّ التجارب المتكرّرة ، أثبتت أنّ الزوجين ليسا على شاكلة واحدة من جانب الأخلاق والروحيات فلا يُقدِم على الطلاق إلاّ إذا كان آيساً من الزواج المجدّد وقلّما يتّفق تجدد الجنوح إلى بناء البيت بالزوجة التي طلّقها ثلاثاً لو لم نقل إنّه يندر جداً -

ص : 111


1- اعلام الموقّعين : 3 / 4341. ولاحظ إغاثة اللهفان له أيضاً : 1 / 312.

فعند ذاك تقل الحاجة إلى المحلّل جداً ، وهذا بخلاف تصحيح الطلاق الواحد ، ثلاثاً ، فكثيراً ما يندم الزوج من الطلاق ويريد إعادة بناء البيت الذي هدمه بالطلاق - وهو حسب الفرض يتوقّف على المحلّل الذي يلصق العار بهما ويترتّب عليه ما ذكره ابن قيم الجوزية في كلامه المسهب.

وفي كلامه ملاحظات أُخرى تركناها خصوصاً في تصويره المحلّل كأنّه الأجير للتحليل ، ويتزوّج لتلك الغاية ، وهو تصوير خاطئ جداً ، بل يتزوج بنفس الغاية التي يتزوّج لأجلها سائر النساء ، غير أنّه لو طلّق الزوجة عن اختيار يصير حلالاً للزوج السابق ، وأين ذلك ممّا جاء في كلامه؟!

ص : 112

17- الطلاق المعلّق

اشارة

ص : 113

ص : 114

الطلاق المعلّق

ينقسم الطلاق إلى منجَّز ومعلّق ، والأوّل هو الطلاق الخالي في صيغته عن التعليق ، والثاني على خلافه فيكون مضمون صيغة الطلاق ، مقروناً بحصول أمر آخر ، سواء أكان ذلك الأمر ، فعلَ المطلِّق أو فعلَ المطلَّقة أو غيرهما. إذا عرفت ذلك فنقول :

هل يشترط في صحّة الطلاق ، التنجيز ، أو يصحّ مع التعليق أيضاً ، كما إذا قال : أنت طالق إن طلعت الشمس ، أو أنت طالق إن قدم الحاج؟

والجواب : إنّ الطلاق المعلّق على قسمين :

1. قسم يعلّق على غير وجه اليمين وهذا كما في المثالين السابقين ، ومثلهما ما إذا قال : إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق ، أو إن أعطيتني ألفاً فأنت طالق.

2. قسم يعلّق على وجه اليمين وهو الذي يُقصد به الحثّ أو المنع ، كما إذا قال : إن كلّمتِ فلاناً فأنت طالق ، أو إن ذهبت إلى دار عدوي فأنت طالق ، وربّما يكون المقصود حمل المخاطب على الثقة بكلام الحالف فيقول مثلاً عند نقطة التفتيش : «ليس في حقيبتي ما هو ممنوع ولو كان فزوجتي طالق».

ونركز على البحث في القسم الأوّل ونحيل البحث في القسم الثاني ، إلى المسألة الآتية.

ص : 115

فنقول : إنّ للشروط تقسيمات :

1. ما تتوقّف عليه صحّة الطلاق ككونها زوجة - ويقول : إن كنت زوجتي فأنت طالق - وما لا تتوقف عليه كقدوم الحاج.

2. ما يعلم المطلق بوجوده عند الطلاق ، كتعليقه بكون هذا اليوم يوم الجمعة ، وأُخرى ما يشكّ في وجوده.

3. ما يذكر في الصيغة تبركاً ، لا شرطاً وتعليقاً كمشيئته سبحانه ، كما إذا قال : إن شاء الله فأنت طالق.

ومورد البحث هو القسم الثاني ، أمّا الأوّل فالطلاق معلّق على مثل هذا الشرط لبّاً ، سواء تكلم به أو لا ، وأمّا الثالث فانّما يذكر تبركاً ، لا اشتراطاً ، وهو كثير الدوران على لسان المسلمين.

إذا عرفت ذلك ، نقول : إنّ بطلان الطلاق المعلّق من متفردات الفقه الإمامي ، وإليك بعض كلمات فقهائنا :

1. قال السيد المرتضى : ممّا انفردت الإمامية به القول بأنّ الطلاق لا يقع مشروطاً وإن وجد شرطه ، وخالف باقي الفقهاء في ذلك وأوقعوا الطلاق عند وقوع شرطه الذي علّقه المتلفظ. (1)

2. قال الشيخ في «الخلاف» : إذا قال لها أنت طالق ، إذا قدم فلان ، فقدم فلان لا يقع طلاقه ، وكذلك لو علّقه بشرط من الشروط أو بصفة من الصفات المستقبلة فانّه لا يقع أصلاً ، لا في الحال ولا في المستقبل حين حصول الشرط والصفة وقال جميع الفقهاء : انّه يقع إذا حصل الشرط. (2)

ص : 116


1- الانتصار ، كتاب الطلاق ، المسألة 16.
2- الخلاف : الجزء 4 ، كتاب الطلاق ، المسألة 12.

وبما انّ المسألة عندنا موضع وفاق نقتصر على هذا المقدار ، وقد وافقَنا فيها الظاهريّة ، قال ابن حزم - الذي يُمثِّل فقهُه ، فقه الظاهريين - : إذا قال : إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق ، أو ذكر وقتاً ما ، فلا تكون طالقاً بذلك لا الآن ولا إذا جاء رأس الشهر. برهان ذلك : انّه لم يأت قرآن ولا سنّة بوقوع الطلاق بذلك ، وقد علّمنا الله الطلاق على المدخول بها وفي غير المدخول بها ، وليس هذا فيما علّمنا (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ). (1)

وقال السبكي : قد أجمعت الأُمّة على وقوع المعلّق كوقوع المنجّز ، فإنّ الطلاق ممّا يقبل التعليق ، ولا يظهر الخلاف في ذلك إلاّ عن طوائف من الروافض ، ولما حدث مذهب الظاهريّين المخالفين لإجماع الأُمّة المنكرين للقياس خالفوا ذلك - إلى أن قال - : ولكنّهم قد سبقهم الإجماع. (2)

أدلّة القائل بالبطلان

الأوّل : الطلاق المشروط غير مسنون

إنّ تعليق الطلاق بالشرط غير مسنون ، والمشروع في كيفية الطلاق غيره ، فيجب أن لا تتعلّق به حكم الفرقة ، لأنّ الفرقة حكم شرعي ، والشرع هو الطريق إليه ، وإذا انتفى الدليل الشرعي ، انتفى الحكم الشرعي.

الثاني : مقتضى الاستصحاب بقاء الزوجية

ثبوت الزوجية متيقّن ، فلا ينتقل عنه إلى التحريم إلاّ بيقين ولا يقين في

ص : 117


1- المحلّى : 10 / 213 ، المسألة 1970.
2- الدرة المضيئة : 155 - 156.

الطلاق المشروط. (1)

وإلى الأخير أشار الشيخ الطوسي أيضاً في خلافه فقال : الأصل بقاء العقد ، وإيقاع هذا الضرب من الطلاق يحتاج إلى دليل ، والشرع خال من ذلك. (2)

وإلى الوجه الأوّل يشير ابن حزم فيقول : وبرهان عدم الصحة انّه لم يأت قرآن ولا سنّة بوقوع الطلاق بذلك ، وقد علّمنا الله الطلاق على المدخول بها ، وفي غير المدخول بها ، وليس هذا فيما علمنا (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ). (3)

وتوضيح الوجه الأوّل : أنّ الطلاق ليس كالبيع والإجارة ، حيث إنّ الأخيرين من الأُمور العقلائية ، التي عليها رحى معاشهم وحياتهم فيُتّبع ما عليه العقلاء في ذينك الأمرين إلاّ إذا دلّ الدليل على اعتبار شيء زائد ، وهذا بخلاف الطلاق فهو وإن كان أمراً عرفياً ، لوجود الطلاق بين الناس قبل بزوغ شمس الإسلام لكن الإسلام تصرف فيه كثيراً ، وحدّ له حدوداً ، يظهر ذلك من مطالعة الآيات الواردة في سورة البقرة ، الآيات 226 - 232 ، والآية 237 والآية 241 ، والآية 49 من سورة الأحزاب ، والآية 31 من سورة الطلاق ، كلّ ذلك أضفى على الطلاق حقيقة وماهية ، تختلف مع تلك التي بين العقلاء ، فلا يتمسّك بما في يد العقلاء لتجويز ما شكّ ، بل يجب أن يرجع إلى الشرع ، فان تبيّن حكم الطلاق المعلّق فيُتبع ، وإلاّ فالحكم هو الاحتياط.

يقول الفقيه الفقيد الشيخ محمد جواد مغنية - رضوان الله عليه - : إنّ الإمامية يضيّقون دائرة الطلاق إلى أقصى الحدود ، ويفرضون القيود الصارمة على المطلِّق والمطلَّقة ، وصيغة الطلاق وشهود ، كلّ ذلك لأنّ الزواج عصمة ومودة ورحمة

ص : 118


1- الانتصار : 298 - 299.
2- الخلاف : 4 / 458.
3- المحلّى : 10 / 213 ، المسألة 1970.

وميثاق من الله ، قال الله تعالى : (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (1) ، وقال سبحانه : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً). (2) إذن لا يجوز بحال أن ننقض هذه العصمة والمودة والرحمة ، وهذا العهد والميثاق ، إلاّ بعد أن نعلم علماً قاطعاً لكلّ شك ، بأنّ الشرع قد حلّ الزواج ، ونقضه بعد أن أثبته وأبرمه. (3)

هذا كلّه حول الدليل الأوّل ، وأمّا الثاني أي التمسّك بالاستصحاب وبقاء العقد ، فكأنّه مكمّل له ، فإذا شككنا في بقاء العقد ونقضه ، فالاستصحاب هو المحكم ، إلاّ إذا دلّ الدليل على نقض الحالة السابقة.

الثالث : الطلاق المعلّق خارج عن القسمين

دلّ قوله سبحانه : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) (4) على أنّ الطلاق يجب أن يتمتع بأحد الأمرين : إمساك بمعروف بالرجوع إليها ، أو تسريح بإحسان بتركها على حالها حتى تنقضي عدّتها ، والطلاق بالأجل والشرط ، خارج عن كلا القسمين ، فلو قال في أوّل السنة : أنت طالق في نهاية السنة ، أو أنت طالق عند رجوع الحجاج ، فالمرأة لا مأخوذة ولا متروكة حتّى تنقضي عدّتها ، لاحتمال عدم حصول المعلّق ، فتبقى في الزوجية.

الرابع : المطلّقة أشبه بالمعلّقة

إنّ عناية الإسلام بنظام الأُسرة الذي أُسّه النكاح والطلاق ، تقتضي أن يكون

ص : 119


1- النساء : 21.
2- الروم : 21.
3- الفقه على المذاهب الخمسة : 414.
4- البقرة : 229.

الأمر فيها منجّزاً لا معلّقاً ، فإنّ التعليق ينتهي إلى ما لا تحمد عاقبته من غير فرق بين النكاح والطلاق ، فالمرء إمّا إن يقدم على النكاح والطلاق أو لا ، فعلى الأوّل ينكح أو يطلّق بتاتاً ، وعلى الثاني يسكت حتّى يحدث بعد ذلك أمراً ، والتعليق في النكاح والطلاق لا يناسب ذلك الأمر الهامّ ، فقد قال سبحانه : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً). (1)

والله سبحانه يشبّه المرأة التي يترك الزوج أداء حقّها الواجب عليه ، بالمعلّقة التي هي لا ذات زوج ولا أيّم ، فالمنكوحة معلّقاً ، أو المطلّقة كذلك ، أشبه شيء بالمعلّقة الواردة في الآية ، فهي لا ذات زوج ولا أيّم.

الخامس : إجماع أئمّة أهل البيت - عليهم السلام -

يظهر من مجموع الروايات الواردة في هذه المسألة وما يتلوها ، إجماع أئمّة أهل البيت على بطلان الطلاق المعلّق.

روى بكير بن أعين عن أحدهما - عليهما السلام - أنّه قال : «ليس الطلاق إلاّ أن يقول الرجل لها - وهي طاهر من غير جماع - : أنت طالق ، ويشهد شاهدي عدل ، وكلّ ما سوى ذلك فهو ملغى». (2)

وأيّ تعبير أوضح من قوله : «وكلّ ما سوى ذلك فهو ملغى» مع شيوع الطلاق المعلق خصوصاً قسم الحلف في أعصارهم.

فإذا أضيف إلى ذلك ما روي عنهم - عليهم السلام - في بطلان الحلف بالطلاق ،

ص : 120


1- النساء : 129.
2- وسائل الشيعة : 15 ، الباب 16 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ، الحديث 1.

لأصبح الحكم واضحاً ، لأنّ الحلف قسم من أقسام الطلاق المعلّق.

نعم ربّما استدلّ ببعض الوجوه العقلية على البطلان ، وهي ليست تامّة عندنا ، نظير :

أ. إنّ الطلاق المعلّق من قبيل تفكيك المنشأ عن الإنشاء ، لأنّ المفروض عدم وقوعه قبل الشرط ، فيلزم تفكيك المنشأ عن الإنشاء.

وأنت خبير بعدم استقامة الدليل ، فإنّ المنشأ بعد الإنشاء محقّق من غير فرق بين المنجّز والمعلّق ، غير أنّ المنشأ تارة يكون منجّزاً وأُخرى معلّقاً ، وفائدة الإنشاء أنّه لو تحقّق المعلّق عليه لا يحتاج إلى إنشاء جديد.

ب. ظاهر الأدلّة ترتّب الأثر على السبب فوراً ، فاشتراط تأخّره إلى حصول المعلّق عليه ، خلاف ظاهر الأدلّة.

يلاحظ عليه : أنّه ليس في الأدلّة ما يثبت ذلك ، فالوارد في الأدلّة هو لزوم الوفاء بالإنشاء غير أنّ الوفاء يختلف حسب اختلاف مضمونه.

وبذلك يظهر عدم صحّة الاستدلال على البطلان بما في «المحلّى» حيث قال : فإن كلّ طلاق لا يقع حين إيقاعه فمن المحال أن يقع بعد ذلك في حين لم يوقعه فيه. (1)

أدلّة القائل بالصحّة

استدلّ القائل بالصحّة بوجوه :

1. إطلاق قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) حيث لم يفرق بين منجز ومعلّق. (2)

ص : 121


1- المحلى : 10 / 213 ، المسألة 1970.
2- الفقه الإسلامي وأدلته : 7 / 448.

يلاحظ عليه : أنّ من شرائط التمسك بالإطلاق أو من شرائط انعقاد الإطلاق كون المتكلّم بصدد بيان حكم الأمر المشكوك فيه ، حتّى يستدلّ بسكوته على التسوية بين الأمر المشكوك فيه وغيره ، كما في قوله : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) (1) فإذا شكّ في شرطية الإيمان في تحرير الرقبة ، يحكم بعدم الشرطية بإطلاق الآية.

وأمّا إذا لم يكن بصدد بيان حكم الأمر المشكوك فيه فلا يستدلّ بسكوته وعدم تعرّضه على التسوية كما في المقام ، حيث إنّ قوله سبحانه بصدد بيان عدد الطلاق وانّه مرتان ، وليس بصدد بيان كيفيته من حيث التنجيز والتعليق حتّى يتمسك بإطلاقه.

وكون المتكلّم في بيان المقام من مقدمات انعقاد الإطلاق كما هو محرر في محله.

2. المسلمون عند شروطهم ، والطلاق المعلّق من قبيل الأُمور المشروطة.

يلاحظ عليه : أنّ قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «المسلمون عند شروطهم» ضابطة شرعية يستدلّ بها إذا شكّ في لزوم العمل بالشرط وعدمه ، - بعد ثبوت صحة الاشتراط - كما إذا اشترطت الزوجة في عقد النكاح أن لا يمنعها الزوج من مواصلة الدراسة أو العمل في خارج البيت إذا لم يكن مخلاً بحقّ الزوج ففي مثل هذا المورد - بعد ثبوت أصل مشروعية التعليق - يتمسك بالكبرى ويلزم الزوج بالعمل بالشرط.

وأمّا إذا شكّ في جواز أصل تعليق الإنشاء ، وانّه هل يصحّ أو لا ، لاحتمال خصوصية في الطلاق ، فلا يتمسك بالكبرى لإثبات أصل مشروعية الصغرى ، وهذا واضح لمن له إلمام بالأُصول.

ص : 122


1- المجادلة : 3.

ونظير الشرط ، النذر ، والعهد واليمين ، فإنّما يستدلّ بكبرياتها على لزوم العمل إذا ثبتت المشروعية ، وأمّا إذا شكّ في صحّة النذر ، فلا يتمسك بالكبرى لإثبات صحة الصغرى ، فلو نذر أن يتوضأ بالماء المضاف ، أو بالنبيذ ، فلا يصلح قوله : (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) (1) لإثبات مشروعية التوضّؤ بهما.

3. انّ القائلين بالصحّة استدلوا بآثار وفتاوى من ابن مسعود ، وأبي ذرّ الغفاري ، وعائشة ، والحسن البصري وغيرهم من الفقهاء ، ومعلوم أنّ أقوالهم وآراءهم حجّة على أنفسهم لا على غيرهم ما لم يثبت صدورها عن المعصوم.

ص : 123


1- الحج : 29.

ص : 124

18- الحلف بالطلاق

اشارة

ص : 125

ص : 126

الحلف بالطلاق

قد عرفت أنّ الحلف بالطلاق من أقسام الطلاق المعلّق ويفارق المسألة السابقة في انّ الغاية فيها ربط مضمون صيغة الطلاق بفعل المطلّق أو المطلّقة أو غيرهما كطلوع الشمس وقدوم الحاج من دون أن يكون فيه حث على الفعل أو منع عنه ، بخلاف الحلف بالطلاق ، فانّ الغاية فيه هو الحث أو المنع من العمل ، أو حمل المخاطب على الثقة بكلامه ، وإنّما سمّي حلفاً تجوّزاً لمشاركته الحلف في الغاية وهو الحث أو المنع أو تأكيد الخبر ، كقوله «والله لأفعلن» وليس في الواقع حلفاً.

وقبل الخوض في المقصود نقدم أُموراً :

الأوّل : ليس للطلاق إلاّ صيغة واحدة

ذهبت الإمامية تبعاً لأئمة أهل البيت - عليهم السلام - إلى أنّه ليس للطلاق إلاّ صيغة واحدة. روى بكير بن أعين عن أحدهما - عليهما السلام - قال : «ليس الطلاق إلاّ أن يقول الرجل لها - وهي طاهر من غير جماع - : أنت طالق ، ويشهد شاهدي عدل ، وكلّ ما سوى ذلك فهو ملغى». (1)

خلافاً لأهل السنّة فقد أجازوا الطلاق بكلّ ما دلّ عليه لفظاً ، وكتابة ،

ص : 127


1- وسائل الشيعة : 15 ، الباب 16 من أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه ، الحديث 1.

وصراحة ، وكناية مثل : أنت عليّ حرام ، أو أنت بريّة ، أو اذهبي فتزوجي ، أو حبلك على غاربك ، أو الحقي بأهلك ، إلى غير ذلك من الصيغ. وللبحث في تعيّن الصيغة الواحدة أو كفاية كلّ ما دلّ على الطلاق ، مقام آخر.

الثاني : تسويد الصفحات بأقسام الحلف بالطلاق

ذهبت الإمامية إلى بطلان الحلف بالطلاق ، لأنّه من أقسام المعلّق الذي أوضحنا حاله ، وبذلك أراحوا أنفسهم من تسويد الصفحات الطوال العراض بأقسام الحلف بالطلاق ، في حين زخرت كتب فقهاء السنّة بآراء وفتاوى لم يبرهنوا عليها بشيء من الكتاب والسنّة ، والراجع إلى تلك الصفحات التي ربما تستغرق 45 صفحة يذعن بأنّ الطلاق أُلعوبة يتلاعب بها الرجل بصور شتى ، وإن كنت في شك من ذلك فلاحظ الكتابين المعروفين :

1. المغني : تأليف محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة (المتوفّى عام 620) وهو أوسع كتاب فقهي ظهر عند الحنابلة مع الترجيح بين الأقوال بالدليل المقنع لهم. فقد خصّص (45) صفحة من كتابه لهذا النوع من الصيغ. (1)

2. الفقه على المذاهب الأربعة : تأليف الشيخ عبد الرحمن الجزيري ، ألّفه ليعرض الفقه بثوبه الجديد على الجيل الجديد ، ومع ذلك تجد قد خصّص لهذا النوع من صور الطلاق صفحات كثيرة. (2) وإليك نماذج من هذه الصور حتى تقف على صدق ما قلناه ؛ ننقلها من «المغني» لابن قدامة.

1. إن قال لامرأتيه : كلّما حلفت بطلاقكما فأنتما طالقتان ، ثمّ أعاد ذلك ثلاثاً ، طلّقت كل واحدة منهما ثلاثاً.

ص : 128


1- لاحظ الجزء السابع 369 - 414 بتصحيح الدكتور محمد خليل هراس.
2- الفقه على المذاهب الأربعة ، الجزء الرابع.

2. إن قال لإحداهما : إن حلفت بطلاقك ، فضرّتك طالق ، ثمّ قال للأُخرى مثل ذلك ...

3. وإن كان له ثلاث نسوة فقال : إن حلفتُ بطلاق زينب ، فعمرة طالق ، ثم قال : وإن حلفت بطلاق عمرة ، فحفصة طالق ، ثمّ قال : إن حلفت بطلاق حفصة ، فزينب طالق ، طلّقت عمرة ، وإن جعل مكان زينب عمرة طلّقت حفصة ، ثمّ متى أعاده بعد ذلك طلّقت منهنّ واحدة ...

4. ومتى علّق الطلاق على صفات فاجتمعن في شيء واحد وقع بكلّ صفة ما علّق عليها كما لو وجدت متفرّقة وكذلك العتاق ، فلو قال لامرأته : إن كلّمت رجلاً فأنت طالق ، وإن كلّمت طويلاً فأنت طالق ، وإن كلّمت أسود فأنت طالق ، فكلّمت رجلاً أسود طويلاً ، طلّقت ثلاثاً. (1)

إلى غير ذلك من الصور التي لا يترتب على نقلها سوى إضاعة الوقت والورق.

الثالث : بطلان الحلف بالطلاق عند البعض

المشهور عند أهل السنّة هو صحّة الطلاق بالحلف به ، ومع ذلك ذهب لفيف من الصحابة والتابعين إلى كونه باطلاً ، ووافقهم بعض المتأخّرين من الظاهريين كابن حزم ، وابن تيمية من الحنابلة.

قال ابن حزم : وصحّ خلاف ذلك (وقوع الطلاق باليمين) عن السلف.

1. روينا من طريق حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن : انّ رجلاً تزوّج امرأة وأراد سفراً فأخذها أهل امرأته فجعلها طالقاً إن لم يبعث بنفقتها إلى شهر ،

ص : 129


1- المغني : 7 / 369 - 376.

فجاء الأجل ولم يبعث بشيء ، فلمّا قدم خاصموه إلى عليّ ، فقال عليّ - عليه السلام - : اضطهدتموه حتى جعلها طالقاً ، فردّها عليه. (1)

2. روينا من طريق عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن عطاء : في رجل قال لامرأته : أنتِ طالق إن لم أتزوّج عليك. قال : إن لم يتزوّج عليها حتى تموت أو يموت ، توارثا. والحكم بالتوارث آية بقاء العلقة.

3. ومن طريق عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن غيلان بن جامع ، عن الحكم بن عتيبة قال : في الرجل يقول لامرأته : أنتِ طالق إن لم أفعل كذا ثمّ مات أحدهما قبل أن يفعل ، فإنّهما يتوارثان.

إنّ في عدم اعتداد الإمام عليّ بالطلاق - بلا إكراه - والحكم بالتوارث في الروايتين الأخيرتين دلالة على عدم الاعتداد باليمين بالطلاق.

4. ومن طريق عبد الرزاق ، عن ابن جريج : أخبرني ابن طاوس عن أبيه أنّه كان يقول : الحلف بالطلاق ليس شيئاً. قلت : أكان يراه يميناً؟ قال : لا أدري.

قال ابن حزم بعد نقل هذه الروايات : فهؤلاء علي بن أبي طالب وشريح (2) وطاوس لا يقضون بالطلاق على من حلف به فحنث ، ولا يعرف لعلي في ذلك مخالف من الصحابة - رضي الله عنهم - ثم يقول : من أين أجزتم الطلاق بصفة ولم تجيزوا النكاح بصفة ، والرجعة بصفة كمن قال : إذا دخلت الدار فقد راجعت زوجتي المطلّقة ، أو قال : فقد تزوّجتك ، وقالت هي مثل ذلك ، وقال الولي مثل

ص : 130


1- ظاهر الحديث : أنّ الإمام ردّ المرأة لوقوع الطلاق مكرهاً ، وبما أنّه لم تكن هناك كراهة ولم يطلب أهل المرأة سوى النفقة ، يحمل على خلاف ظاهره ، من بطلان الطلاق لأجل الحلف به.
2- نقل رواية عن شريح تركنا نقلها لعدم دلالتها. وكان عليه عطف عطاء عليه أيضاً.

ذلك ولا سبيل إلى فرق. (1)

هذا وقد فصّل ابن تيميّة بين التعليق الذي يقصد به الإيقاع والذي يقصد به اليمين.

فالأوّل أن يكون مريداً للجزاء عند الشرط وإن كان الشرط مكروهاً له ، لكنّه إذا وجد الشرط فانّه يريد الطلاق لكون الشرط أكره إليه من الطلاق ، كما إذا قال لزوجته : «إن خنت فأنت طالق» ، فخانت الزوجة ، فهذا موقع للطلاق عند الصفة لا حالف ووقوع الطلاق في مثل هذا هو المأثور عن الصحابة.

والثاني هو التعليق الذي يقصد به اليمين ، ويمكن التعبير عن معناه بصيغة القسم ، كما إذا قال : «إن خنتِ فأنت طالق» بقصد زجرها أو تخويفها باليمين لإيقاع الطلاق (في المستقبل) إذا فعلت ، لأنّه لا يكون مريداً لها - له - وإن فعلت لكون طلاقها أكره إليه من مقامها على تلك الحال فهو علق بذلك لقصد الحظر والمنع لا لقصد الإيقاع فهذا حالف ليس بموقع. (2)

حاصل تفصيله : يرجع إلى التفريق بين الحلف على النتيجة ، والحلف على الفعل ، فعلى الأوّل يتحقّق الطلاق ، إذا حصل المعلّق عليه ولا يتصوّر فيه الحنث ، لصيرورة الزوجة عندئذ مطلقة ، شاء الزوج أم لم يشأ ، لأنّ المنشأ صيرورتها مطلقة عند وقوع المعلق عليه وأمّا على الثاني ، فالمنشأ قيامه بالفعل في المستقبل وتطليقها ، وعندئذ يتصوّر فيه الحنث ولو كان ابن تيمية ملمّاً بفقه الشيعة ومصطلحاتهم ، لسهل عليه التعبير عن مقصده بما قلناه.

نعم الحلف على النتيجة ، إنّما يصحّ إذا لم يتوقّف حصولها على سبب

ص : 131


1- المحلّى : 10 / 213212.
2- الفتاوى الكبرى : 3 / 9.

خاص ، ككون الشيء ملكاً لزيد ، وأمّا إذا توقّف على سبب خاص أو شكّ في توقّفها عليه ، كما هو الحال في الطلاق ، فالحلف به ، لا يفيد في حصولها.

إذا عرفت هذه الأُمور يقع الكلام في محورين :

الأوّل : صحة الطلاق بالحلف به عند حصول المعلّق عليه.

الثاني : حكم الزوجة في الفترة التي لم يتحقق المعلّق عليه.

وإليك الكلام في الأوّل :

بطلان الطلاق بالحلف به

ذهبت الإمامية - كما عرفت - إلى بطلانه ، وقد اشتهرت الطائفة في باب الطلاق بإنكار أُمور :

1. طلاق المرأة وهي حائض.

2. طلاق المرأة دون حضور عدلين.

3. الحلف بالطلاق.

والدليل على بطلان الحلف بالطلاق ، هو نفس الدليل على بطلان الطلاق المعلّق ، لما عرفت من أنّ الأوّل من أقسام الثاني ، ونزيده بياناً بما ورد عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - في خصوص الحلف بالطلاق.

عن أبي أُسامة الشحام ، قال : قلت لأبي عبد الله - عليه السلام - : إنّ لي قريباً لي أو صهراً حلف إن خرجت امرأته من الباب فهي طالق ثلاثاً ، فخرجت ، فقد دخل صاحبها منها ما شاء الله من المشقة ، فأمرني أن أسألك ، فأصغى إليّ ، فقال : «مره فليُمسكها فليس بشيء» ، ثمّ التفت إلى القوم فقال : «سبحان الله يأمرونها أن تتزوّج

ص : 132

ولها زوج». (1)

ونعيد هنا كلمة لبعض المشايخ ، مرّت بنا والصفحات الماضية ، قال : إنّ الزواج عصمة ومودة ورحمة وميثاق من الله. قال تعالى : (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (2) ، وقال سبحانه : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً). (3) إذن لا يجوز بحال أن ننقض هذه العصمة والمودة والرحمة ، وهذا العهد والميثاق ، إلاّ بعد أن نعلم علماً قاطعاً لكلّ شكّ بأنّ الشرع قد حلّ الزواج ، ونقضه بعد أن أثبته وأبرمه. (4)

دليل القائل بالصحّة

استدلّ القائل بالصحّة بما مرّ في الطلاق المعلّق من أنّه التزم أمراً عند وجود شرطه فلزمه ما التزمه مثلاً التزم بأنّه إذا كلّمت الزوجة فلاناً فهي طالق.

يلاحظ عليه : أنّه عبارة أُخرى للتمسّك بقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «المسلمون عند شروطهم» وقد سبق انّه لا يستدلّ بالكبرى على صحّة الصغرى فانّ معنى قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «المسلمون عند شروطهم» هو انّهم عند شروطهم التي ثبتت صحّة الاشتراط بها في الإنشاء ، دون ما إذا شكّ في صحّة الاشتراط.

وربما يستدلّ عليه بالإجماع ، كما ذهب إلى ذلك السبكي في «الدرة» ، وقد عرفت وجود الخلاف بين الصحابة والتابعين فكيف يدّعي الإجماع؟!

ص : 133


1- الوسائل : الجزء 15 ، الباب 18 من أبواب مقدّمات الطلاق ، الحديث 3.
2- النساء : 21.
3- الروم : 21.
4- الفقه على المذاهب الخمسة : 414.

حكم المرأة في الفترة

لو قلنا ببطلان الحلف بالطلاق وانّ وجوده وعدمه سيان ، تكون المحلوف عليها زوجته ، سواء تحقّق المعلّق عليه أو لا ، فيكون البحث أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع ، وقد مرّ في كلام أبي عبد الله - عليه السلام - : «سبحان الله يأمرونها أن تتزوّج ولها زوج»

وأمّا على القول بصحّة الإنشاء وصيرورتها مطلّقة عند تحقّق المعلّق عليه فمقتضى القاعدة جواز مسها في الفترة بين إنشاء الصيغة وتحقّق المعلّق عليه ، وقد روى ابن حزم عن ابن عباس جواز مسّها قبل رأس الشهر إذا علّق الطلاق عليه ، ومع ذلك نقل عن سعيد بن المسيب حرمة المس قبل رأس شهر.

ويترتب على ذلك التوارث إذا مات أحدهما قبل رأس الشهر ، فيرث على قول ابن عباس ، لأنّها زوجته ولا يرث على القول الآخر.

كما روى عن مالك التفصيل بين كون المعلّق عليه مشكوك الوجود في المستقبل ، فيجوز فيها ويتوارثان إذا مات أحدهما قبل تحقّق المعلّق عليه ، دون ما إذا كان محقّق الوجود ، فلا يجوز فيها ولا يتوارثان. (1)

ص : 134


1- المحلى : 10 / 214213 ، ونقل قولاً رابعاً لا يخلو من إبهام ولذا تركنا نقله.

خاتمة المطاف: هل تتعلّق الكفّارة إذا حنث

قال الشهيد : تختصّ الكفّارة بما إذا حلف بالله أو أسمائه الخاصة لتحقّق ما يحتمل المخالفة والموافقة في المستقبل. (1)

وقال العلاّمة : اليمين عبارة عن تحقيق ما يمكن فيه الخلاف بذكر اسم الله أو صفاته. (2) إلى غير ذلك من الكلمات المتضافرة من اختصاص الكفّارة بالحلف بالله وصفاته ولا ينعقد الحلف باليمين على غير الله وصفاته وإن كان المحلوف به هو الكعبة والقرآن والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وعلى ذلك فالبحث عن الكفّارة على أُصولنا أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع لعدم انعقاد اليمين بغير الله وصفاته.

نعم ذهبت المالكية إلى أنّ أيمان المسلمين ستة أشياء ، وهي : اليمين بالله تعالى ، والطلاق البات لجميع الزوجات ، أو عتق ما يملك من العبيد والإماء ، والتصدق بثلث المال ، والمشي بحج وصوم عام. ونُقل قريب من ذلك من الحنابلة. (3)

واختاره ابن تيمية فقال : إنّ هذا يمين من أيمان المسلمين فيجري فيها ما

ص : 135


1- الدروس : 2 / 161.
2- القواعد : 3 / 266.
3- الموسوعة الفقهية : 17 / 251.

يجري في أيمان المسلمين ، وهو الكفارة عند الحنث ، إلاّ أن يختار إيقاع الطلاق فله أن يوقعه ولا كفّارة. (1)

ولكن من أين ثبت انّه من أيمان المسلمين ، ليكونَ للطلاق من القداسة ما للفظ الجلالة ، فلاحظ.

ومن عجيب الأمر ما أحدثه الحجاج بن يوسف الثقفي المعروف بأيمان البيعة ، فكان يأمر الناس عند البيعة لعبد الملك بن مروان أن يحلفوا بالطلاق والعتاق واليمين بالله وصدقة المال ، فكان هذه الأيمان الأربعة ، أيمان البيعة القديمة المبتدعة.

ثمّ أحدث المستحلفون من الأمراء عن الخلفاء والملوك وغيرهم إيماناً كثيرة تختلف فيها عاداتهم. (2)

ومع ذلك فلا خلاف بين فقهاء السنة عدا ابن تيميّة في كلامه السابق انّ الحلف بغير الله لا تجب بالحنث فيه الكفّارة ، إلاّ ما روي عن أكثر الحنابلة في وجوب الكفارة على من حنث في رسول الله ، لأنّه أحد شطري الشهادتين اللّتين يصير بهما الكافر مسلماً.

ثمّ إنّ الحنث إنّما يتصوّر إذا حلف على الفعل بأن يطلقها في المستقبل عند حصول المعلّق عليه ، فإذا حصل ولم يطلق ، حصل الحنث دون ما إذا حلف على النتيجة أي صيرورة المرأة مطلقة أو ماله صدقة أو عبده معتقاً بنفس هذه الصيغة إذا حصل المعلّق عليه من دون حاجة إلى صيغة أُخرى ، إذ تكون المرأة عندئذ مطلقة ، شاء الحالف أم لم يشأ. ومثله كون أمواله صدقة وعبيده عتقاء ، وقد مرّ توضيحه عند نقل كلام ابن تيمية.

ص : 136


1- الفتاوى الكبرى : 3 / 12 و 13.
2- الموسوعة الفقهية : 7 / 250.

19- الطلاق في الحيض والنفاس أو في طهر جامعها

اشارة

ص : 137

ص : 138

الطلاق في الحيض والنفاس أو في طهر جامعها

اشارة

اتّفقت الإمامية على أنّ الطلاق في الحيض والنفاس حرام تكليفاً وباطل وضعاً ، وهكذا الطلاق في طهر المواقعة ، وأمّا جمهور الفقهاء من السنّة فاتّفقوا على وقوع الطلاق مع اتّفاقهم على وقوع الإثم فيه على المطلِّق. وقبل الخوض في تحرير دليل المسألة ، نقدّم أُموراً :

الأوّل : تقسيم الطلاق إلى سُنّي وبدعيّ

قسَّم الفقهاء الطلاق من حيث وصفه الشرعي إلى سُنّي وبدعي ؛ ويريدون بالسنّي ما وافق السنّة في طريقة إيقاعه ، والبدعي ما خالف السنّة في ذلك.

فمن مصاديق الطلاق السُّني هو أن يطلّق الزوج زوجته طلقة واحدة رجعية في طهر لم يطأها فيه ، وعلى ذلك فالطلاق في الطهر الذي واقعها أو في حالة الحيض والنفاس طلاق بدعي ، وهذا ممّا لا كلام فيه.

ص : 139

الثاني : في تفسير شرطية الطهر في الطلاق السنّي

اتّفقت كلمتهم على أنّ طهارة المرأة من الحيض والنفاس طلاق سنّي ومقابله بدعي ، إلاّ أنّ الكلام في مفاد شرطية الطهر ، فهل هو شرط الصحة والإجزاء ، أو شرط الكمال والتمام؟

وبعبارة أُخرى : هل التكليف في المقام تكليف وضعي بمعنى كونها شرطاً لصحّة الطلاق ولولاه كان الطلاق باطلاً ، أو انّه حكم تكليفي متوجّه إلى المطلِّق ، وهو انّه يجب أن يُحلّ العقدة في حال كونها طاهرة من الحيض والنفاس فلو تخلّف أثم وصحّ الطلاق؟

فالإمامية وقليل من غيرهم كسعيد بن المسيب. (1) وابن عليّة كما يأتي على الأوّل (شرط الصحّة) وأكثر المذاهب على الثاني (حكم تكليفي).

الثالث : نقل كلمات الفقهاء

قال الشيخ الطوسي في «الخلاف» : الطلاق المحرَّم ، هو أن يطلّق مدخولاً بها غير غائب عنها غيبة مخصوصة ، في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه ، فما هذا حكمه فانّه لا يقع عندنا ، والعقد ثابت بحاله. وبه قال ابن عليّة ، وقال جميع الفقهاء : إنّه يقع وإن كان محظوراً ، ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه ومالك والأوزاعي والثوري والشافعي. (2)

وقال ابن رشد في حكم من طلّق في وقت الحيض : إنّ الجمهور قالوا :

ص : 140


1- تفسير القرطبي : 18 / 150.
2- الخلاف : 4 ، كتاب الطلاق ، المسألة 2.

يُمضى طلاقه ، وقالت فرقة : لا ينفذ ولا يقع ، والذين قالوا : ينفذ ، قالوا : يؤمر بالرجعة ، وهؤلاء افترقوا فرقتين ، فقوم رأوا انّ ذلك واجب ، وأنّه يجبر على ذلك ، وبه قال مالك وأصحابه ، وقالت فرقة : بل يندب إلى ذلك ولا يجبر ، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد. (1)

وفي الموسوعة الفقهية : اتّفق جمهور الفقهاء على وقوع الطلاق البدعي ، مع اتّفاقهم على وقوع الإثم فيه على المطلق لمخالفته السنّة المتقدّمة.

فإذا طلق زوجته في الحيض وجب عليه مراجعتها ، رفعاً للإثم لدى الحنفية في الأصح عندهم ، وقال القدوري من الحنفية : إنّ الرجعة مستحبة لا واجبة.

وذهب الشافعي إلى أنّ مراجعة من طلقها بدعياً سنّة ، وعبر الحنابلة عن ذلك بالاستحباب. (2)

الرابع : ما هو المراد من القُرء؟

اتّفق الفقهاء على أنّ المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ، غير أنّهم اختلفوا في معنى «القرء» الذي يجمع على قروء ، فالشيعة الإمامية على أنّ المراد منه هو الأطهار الثلاثة.

وقد تبعوا في ذلك ما روي عن عليّ - عليه السلام - ؛ روى زرارة عن أبي جعفر - عليه السلام - قال : قلت له : إنّي سمعت ربيعة الرأي يقول : إذا رأت الدم من الحيضة الثالثة بانت منه ، وإنّما القرء ما بين الحيضتين وزعم انّه أخذ ذلك برأيه ، فقال أبو جعفر - عليه السلام - : «أخذه عن عليّ - عليه السلام -» قال : قلت له : وما قال فيها عليّ - عليه السلام -؟ قال : «كان يقول : إذا

ص : 141


1- بداية المجتهد : 2 / 64.
2- الموسوعة الفقهية : 29 / 35.

رأت الدم من الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها ولا سبيل عليها وإنّما القرء ما بين الحيضتين». (1)

روى زرارة قال : قلت لأبي عبد الله - عليه السلام - سمعت ربيعة الرأي يقول : من رأيي انّ الاقراء التي سمّى الله عزّ وجلّ في القرآن إنّما هو الطهر فيما بين الحيضتين ، فقال : «إنّما بلغه عن عليّ - عليه السلام -» فقلت : أكان عليّ - عليه السلام - يقول ذلك ، فقال : «نعم ، إنّما القرء الطهر الذي يُقرأ فيه الدم ، فيجمعه ، فإذا جاء المحيض دفعه». (2)

وذهب أصحاب سائر المذاهب إلاّ من عرفت إلى أنّ المراد منها هي الحيضات والتحقيق في محلّه ، وإنّما ذكرنا ذلك مقدّمة لتفسير الآية الآتية.

الخامس : عدم احتساب الحيضة من العدّة

إذا طلق زوجته في الحيض والنفاس فلا تحسب تلك الحيضة من الإقراء الثلاثة عند القائلين بصحّة الطلاق ، بل تحسب الحيضة الثانية بعد انقضاء الأُولى بالدخول في طهرها ، وعلى هذا الأصل ذكر بعض الباحثين بأنّ الحكمة في المنع من الطلاق في الحيض هو انّ ذلك يُطيل على المرأة العدة ، فانّها إن كانت حائضاً لم تحتسب الحيضة من عدتها ، فتنتظر حتى تطهر من حيضها وتتم مدة طهرها ، ثمّ تبدأ العدة من الحيضة التالية. (3)

هذا على مذهب أهل السنّة من تفسير القروء ، وبالتالي العدّة بالحيضات.

وتطول العدة أيضاً على القول بتفسير «القرء» بالطهر ، إذا لا تحتسب الحيضة من عدتها فتنتظر حتّى تطهر من حيضها وتبدأ العدة من يوم طهرت.

ص : 142


1- الوسائل : 15 ، الباب 15 من أبواب العدد ، الحديث 4 ، ولاحظ الحديث 1.
2- الوسائل : 15 ، الباب 14 من أبواب العدد ، الحديث 4.
3- نظام الطلاق في الإسلام : 27.
السادس : طلاق عبد الله بن عمر هو الأصل

إنّ دليل القائل بالجواز في حال الحيض رواية عبد الله بن عمر ، وقد وردت بألفاظ كثيرة ، حتّى أوجدت في الرواية اضطراباً ، وسيوافيك صورها ومعالجة اضطرابها وانطباقها على المختار.

إذا عرفت هذه الأُمور ، فلنذكر الدليل على بطلان الطلاق.

الاستدلال بالكتاب على شرطية الطهر

يقول سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً). (1)

والآية ظاهرة في أنّ المسلم إذا أراد أن يطلّق زوجته فعليه أن ينتظر الوقت المناسب للدخول في العدة بحيث يكون الوقت الذي تطلّق فيه جزءاً من العدة ، فلو طُلِّقت في حالة الحيض ، فانّها لا تحسب منها بالاتّفاق.

قال القرطبي : معنى فطلقوهنّ لعدتهنّ ، أي في الزمان الذي يصلح لعدتهن ، وحصل الإجماع على أنّ الطلاق في الحيض ممنوع ، وفي الطهر مأذون فيه. (2)

توضيح ذلك : انّ الآية دالّة على شرطية الطهارة من الحيض مطلقاً ، سواء فسرت ثلاثة قروء - وبالتالي قوله : «لعدتهن» - بالأطهار الثلاثة ، أو بالحيضات

ص : 143


1- الطلاق : 1.
2- تفسير القرطبي : 18 / 153.

الثلاث.

وذلك انّه إذا قلنا بأنّ المراد من قوله «لعدتهن» هي الأطهار الثلاثة ، فاللام في قوله : (لِعِدَّتِهِنَ) عندئذ ظاهرة في الغاية والتعليل والمعنى فطلقوهن لغاية أن يعتددن ، والأصل هو ترتّب الغاية على ذيها بلا فصل ولا تريّث (ما لم يدلّ دليل على الخلاف) ، مثل قوله سبحانه : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (1) وقوله تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) (2) ، واحتمال كون اللام للعاقبة التي ربّما يكون هناك فصل بين الغاية وذيها ، مثل قوله سبحانه : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (3) غير صحيح ، لأنّ موردها فيما إذا كانت النتيجة مرتبة على ذيها ترتّباً قهرياً غير إرادي كما في الآية ، ومثل قولهم : لدوا للموت وابنوا للخراب.

وأمّا إذا قلنا بأنّ المراد من قوله : «لعدتهن» هو الحيضات الثلاث فبما انّ الطلاق في حال الحيض حرام تكليفاً في عامة المذاهب الفقهية ، فلا يصحّ تفسير اللام بالظرفية إن طلقوهن في عدتهن (الحيضات) أو بالغاية فطلقوهن لغاية اعتدادهنّ بعد الطلاق ، لما عرفت من أنّ الحيضة التي وقع الطلاق فيها لا تحسب من الثلاث ، فلا محيص من تفسير الآية بتقدير كلمة «مستقبلات لعدتهن» كما تقول : «لقيته لثلاث بقين من الشهر» تريد مستقبلاً لثلاث ، وبما انّ المراد ب «عدتهن» هو الحيضات الثلاث ، فيكون المراد بمستقبلها ، هو أيّام الطهر من الحيض ، أي طلقوهن في حال كونهن مطهرات ، مستقبلات لعدتهنّ ، أي الحيضات الثلاث.

ص : 144


1- النحل : 44.
2- النحل : 64
3- القصص : 8.

قال القرطبي : معنى (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) أي من قَبْل عدتهن أو لقبل عدتهن ، وهي قراءة النبي كما قال ابن عمر في صحيح مسلم وغيره : فَقَبْل العدة آخر الطهر حتى يكون القرء هو الحيض.

هذا ولكن الحقّ هو الوجه الأوّل ، فانّ لازم ذلك اختصاص الطلاق بآخر الطهر ، ويترتّب عليه انّه لو طلق في أوّل الطهر لا يصلح ، إذ لا يكون عندئذ مستقبلاً للعدة ، لأنّ المفروض انّ الحيض لم يقبل بعد ، ولعلّ هذا دليل على عدم صحّة تفسير (لِعِدَّتِهِنَ) بالحيضات وتعيّن تفسيرها بالأطهار.

وعلى كلّ تقدير فالآية ظاهرة في شرطية الطهارة في صحّة الطلاق ، سواء أفسرت «العدّة» بالأطهار أو بالحيضات.

الاستدلال بالسنّة

اشارة

تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - على اشتراط الطهارة.

روى الكليني بسند صحيح عن أبي جعفر الباقر - عليه السلام - قال : «كلّ طلاق لغير السنّة فليس بطلاق ، أن يطلّقها وهي حائض أو في دم نفاسها أو بعد ما يغشاها قبل أن تحيض فليس طلاقها بطلاق». (1)

هذا ما لدى الشيعة وأمّا ما لدى السنّة فالمهم لديهم في تصحيح طلاق الحائض هو رواية عبد الله بن عمر ، حيث طلّق زوجته وهي حائض ، وقد نقلت بصور مختلفة نأتي بها. (2)

ص : 145


1- الوسائل : 15 ، الباب 8 من أبواب مقدّمات الطلاق ، الحديث 9 ، وغيره.
2- راجع للوقوف على تلك الصور ، السنن الكبرى : 7 / 324 - 325.
الأُولى : ما دلّ على عدم الاعتداد بتلك التطليقة

1. روى أبو الزبير قال : سألت جابراً عن الرجل يطلّق امرأته وهي حائض؟ فقال : طلّق عبد الله بن عمر امرأته وهي حائض ، فأتى عمر رسول الله فأخبره بذلك فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ليراجعها فانّها امرأته.

2. روى نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر أنّه قال في الرجل يطلّق امرأته وهي حائض ، قال ابن عمر : لا يعتدّ بها.

الثانية : ما يتضمّن التصريح باحتساب تلك التطليقة طلاقاً صحيحاً

1. يونس بن جبير قال : سألت ابن عمر قلت : رجل طلّق امرأته وهي حائض؟ فقال : تعرف عبد الله بن عمر؟ قلت : نعم ، قال : فانّ عبد الله بن عمر طلّق امرأته وهي حائض ، فأتى عمر - رضى الله عنه - النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فسأله ، فأمره أن يراجعها ثمّ يطلّقها من قبل عدّتها. قال ، قلت : فيعتدّ بها؟ قال : نعم ، قال : أرأيت إن عجز واستحمق.

2. يونس بن جبير قال : سألت ابن عمر قلت : رجل طلّق امرأته ، وهي حائض؟ قال : تعرف ابن عمر؟ إنّه طلّق امرأته وهي حائض ، فسأل عمر النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فأمره أن يراجعها ، قلت : فيعتد بتلك التطليقة؟ قال : فمه؟ أرأيت إن عجز واستحمق.

3. يونس بن جبير قال : سمعت ابن عمر قال : طلّقت امرأتي وهي حائض. فأتى عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فذكر ذلك له ، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : ليراجعها ، فإذا طهرت فليطلّقها ، قال : فقلت لابن عمر : فاحتسبت بها؟ قال : فما يمنعه؟ أرأيت إن عجز واستحمق.

ص : 146

4. أنس بن سيرين قال : سمعت ابن عمر يقول : طلَّقت امرأتي وهي حائض ، قال : فذكر ذلك عمر للنبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال ، فقال : ليراجعها فإذا طهرت فليطلقها. قال : فقلت له - يعني لابن عمر : يحتسب بها؟ قال : فمه؟

5. أنس بن سيرين : ذكر نحوه غير أنّه قال : فليطلّقها إن شاء. قال : قال عمر - رضى الله عنه - : يا رسول الله أفتحتسب بتلك التطليقة؟ قال : نعم.

6. أنس بن سيرين قال : سألت ابن عمر عن امرأته التي طلّق؟ فقال : طلّقتها وهي حائض. فذكر ذلك لعمر - رضى الله عنه - فذكره للنبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال : مره فليراجعها ، فإذا طهرت فليطلّقها لطهرها. قال : فراجعتها ثمّ طلّقتها لطهرها. قلت : واعتدّت بتلك التطليقة التي طلّقت وهي حائض؟ قال : ما لي لا أعتدّ بها ، وإن كنت عجزت واستحمقت.

7. عامر قال : طلّق ابن عمر امرأته وهي حائض واحدة ، فانطلق عمر إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فأخبره ، فأمره إذا طهرت أن يراجعها ثمّ يستقبل الطلاق في عدّتها ثمّ تحتسب بالتطليقة التي طلّق أوّل مرّة.

8. نافع عن ابن عمر - رضى الله عنه - أنّه طلّق امرأته ، وهي حائض ، فأتى عمر - رضى الله عنه - النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فذكر ذلك له فجعلها واحدة.

9. سعيد بن جبير عن ابن عمر - رضى الله عنه - قال : حُسِبَتْ عليَّ بتطليقة.

الثالثة : ما ليس فيه تصريح بأحد الأمرين

1. ابن طاوس عن أبيه : أنّه سمع ابن عمر سئل عن رجل طلق امرأته حائضاً؟ فقال : أتعرف عبد الله بن عمر؟ قال : نعم. قال : فإنّه طلّق امرأته حائضاً ، فذهب عمر - رضى الله عنه - إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فأخبره الخبر ، فأمره أن

ص : 147

يراجعها. قال : لم أسمعه يزيد على ذلك لأبيه.

2. منصور بن أبي وائل : إنّ ابن عمر طلّق امرأته ، وهي حائض ، فأمره النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يراجعها حتى تطهر ، فإذا طهرت طلّقها.

3. ميمون بن مهران عن ابن عمر أنّه طلّق امرأته في حيضها ، قال : فأمره رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يرتجعها حتى تطهر ، فإذا طهرت فإن شاء أمسك قبل أن يجامع.

4. سئل أبو الزبير عن رجل طلّق امرأته حائضاً؟ قال : طلّق عبد الله بن عمر - رضى الله عنهما - امرأته وهي حائض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فسأل عمر - رضى الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال : إنّ عبد الله بن عمر طلّق امرأته وهي حائض؟ فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : ليراجعها ، فردّها عليّ وقال : إذا طهرت فليطلّق أو ليمسك ، قال ابن عمر : وقرأ النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) أي في قبل عدّتهنّ.

وبعد تصنيف هذه الروايات نبحث عن الفئة الراجحة منها بعد معرفة طبيعة الإشكالات التي تواجه كلاً منها ومعالجتها.

معالجة الصور المتعارضة

لا شك أنّ الروايات كانت تدور حول قصة واحدة ، لكن بصور مختلفة ، فالحجة بينها مردّدة بين تلك الصور والترجيح مع الأُولى لموافقتها الكتاب وهي الحجّة القطعية ، وما خالف الكتاب لا يحتج به ، فالعمل على الأُولى.

وأمّا الصورة الثالثة ، فيمكن إرجاعها إلى الأُولى لعدم ظهورها في الاعتداد والصحّة ، نعم ورد فيه الرجوع الذي ربّما يتوهّم منه ، الرجوع إلى الطلاق الملازم

ص : 148

لصحّته ، لكن ليس بشيء.

فانّ المراد من المراجعة فيها هو المعنى اللغوي لا مراجعة المطلّقة الرجعية ، ويؤيّد ذلك أنّ القرآن يستعمل كلمة الرد أو الإمساك ، فيقول : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) (1).

وقال سبحانه : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) (2) ، وقال سبحانه : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) (3) ، وقال تعالى : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) (4).

نعم استعمل كلمة الرجعة في المطلّقة ثلاثاً إذا تزوّجت رجلاً آخر فطلّقها ، قال سبحانه : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) (5).

بقي الكلام في النصوص الدالة على الاحتساب ، أعني : الصورة الثانية ، فيلاحظ عليها بأُمور :

1. مخالفتها للكتاب ، وما دلّ على عدم الاحتساب.

2. أنّ غالب روايات الاحتساب لا تنسبه إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وإنّما إلى رأي ابن عمر وقناعته ، فلو كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد أمر باحتسابها ، لكان المفروض أن يستند ابن عمر إلى ذلك في جواب السائل ، فعدم استناده إلى حكم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - دليل على عدم صدور ما يدل على الاحتساب من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نفسه ، فتكون هذه النصوص موافقة للنصوص التي لم تتعرّض للاحتساب ، لأنّها كلّها تتّفق في عدم حكم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - باحتساب التطليقة ، غايته اشتمل بعضها على نسبة الاحتساب إلى ابن عمر نفسه ، وهو ليس حجّة لإثبات الحكم الشرعي.

ص : 149


1- البقرة : 228.
2- البقرة : 229.
3- البقرة : 231.
4- البقرة : 231.
5- البقرة : 230.

وأمّا الرواية الأُولى لنافع فقد نسب الحكم بالاحتساب في إحدى الصيغتين إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نفسه (الرواية 8 من القسم الثاني) ، بينما رويت الثانية بصيغة أُخرى تضمّنت النسبة إلى ابن عمر بعدم الاحتساب (الرواية 2 من القسم الأوّل).

وأمّا رواية أنس فرويت بصيغتين تدلاّن على أنّ الحكم بالاحتساب هو قناعة ابن عمر نفسه لا قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - (الرواية 4 و 6 من القسم الثاني) وبصيغة ثالثة نسبت الاحتساب إلى النبيّ (الرواية 5 من القسم الثاني) ومع هذا الاضطراب لا تصلح الرواية لإثبات نسبة الحكم بالاحتساب إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نفسه.

3. أنّ فرض صحّة التطليقة المذكورة لا يجتمع مع أمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بإرجاعها وتطليقها في الطهر الذي بعده هذا ، لأنّ القائلين بصحّة الطلاق في الحيض لا يصحّحون إجراء الطلاق الثاني في الطهر الذي بعده ، بل يشترطون بتوسّط الحيض بين الطهرين وإجراء الطلاق في الطهر الثاني. فالأمر من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بإرجاعها وتطليقها في الطهر الأوّل ينافي احتساب تلك تطليقة صحيحة.

4. اشتهر في كتب التاريخ أنّ عمر كان يعتبر ولده عاجزاً عن الطلاق ، وظاهره يوحي بأنّ ما فعله لم يكن طلاقاً شرعيّاً.

وبعد ملاحظة كل ما قدّمناه يتّضح عدم ثبوت نسبة الاحتساب إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والذي يبدو أنّ النص - على فرض صدوره - لم يتضمّن احتساب التطليقة من قبل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وانّما هي إضافات أو توهّمات بسبب قناعة ابن عمر أو بعض من هم في سلسلة الحديث ، ولذلك اضطربت الصيغ في نقل الحادثة.

بقيت هنا رواية ثالثة لنافع وهي : إنّ عبد الله بن عمر طلّق امرأته وهي

ص : 150

حائض ، في عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن ذلك؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : فليراجعها ، ثمّ ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثمّ تطهر ، ثمّ إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس ، فتلك العدّة التي أمر الله عزّ وجلّ أن يطلّق لها النساء.

فالظاهر انّ الرواية من أدلّة القول بالبطلان ، إذ لا تدلّ على صحّة التطليقة الأُولى إلاّ بادّعاء ظهور «الرجوع» في صحّة الطلاق وقد علمت ما فيه.

وأمّا أمره بالطلاق في الطهر الثاني بعد توسّط الحيض بين الطهرين حيث قال : «مره فليراجعها ، ثمّ ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر. ثمّ إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلّق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله عزّ وجلّ أن يطلّق لها النساء» وكان بإمكانه أن يطلقها في الطهر الأوّل حسب مختارنا فلعلّ أمره بمضي طهر وحيض ، لأجل مؤاخذة الرجل حيث تسرّع في الطلاق وجعله في غير موضعه فأُرغم أن يصبر طهراً وحيضاً ، فإذا استقبل طهراً ثانياً فليطلّق أو يمسك.

وبعد كلّ هذا لا يصحّ الاعتماد على رواية عبد الله بن عمر ، لاضطراب النقل عنه ، خصوصاً مع ملاحظة الكتاب العزيز الدالّ على وقوع الطلاق في العدّة.

الطلاق في طهر المواقعة

قد عرفت أنّ الطلاق في حالة الحيض والنفاس حرام تكليفاً وباطل وضعاً وإن ذهب جمهور الفقهاء إلى الحرمة التكليفية دون الوضعية.

بقي الكلام في طلاق الزوجة في طهر المواقعة ، فهو أيضاً من الطلاق البدعيّ ، حكمه حكم الطلاق في الحيض والنفاس.

ص : 151

ويدلّ عليه من طرق أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - صحيحة الفضلاء (1) كلّهم عن أبي جعفر وأبي عبد الله - عليهما السلام - انّهما قالا : «إذا طلّق الرجل في دم النفاس أو طلّقها بعد ما يمسّها فليس طلاقه إيّاها بطلاق». (2)

وروى أيضاً عمر بن أُذينة ، عن بكير بن أعين وغيره ، عن أبي جعفر - عليه السلام - كلّ ذلك لغير السنّة فليس بطلاق ، أن يطلقها وهي حائض أو في دم نفاسها أو بعد ما يغشاها ، قبل أن تحيض فليس طلاقه بطلاق». (3)

هذا عند الشيعة الإمامية وأمّا فقهاء السنّة فلهم أقوال ثلاثة :

1. إذا أوقع الزوج الطلاق في طهر جامعها فيه ، كان الطلاق عند الجمهور حراماً شرعاً.

2. قالت الحنفية : مكروه تحريميّاً ، وهو المسمّى طلاقاً بدعيّاً.

3. ذهبت المالكية إلى القول بتحريم الطلاق في الحيض أو النفاس ويكره في غيرهما. (4)

وعلى كلّ تقدير فإنّ الطلاق في هذه الحالة حرام تكليفاً ، أو مكروه عند المالكية ولا يضرّ بصحّة الطلاق ، ويمكن الاستدلال على بطلانه في طهر المواقعة بالكتاب والسنّة.

أمّا الكتاب فلقوله سبحانه : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ).

فإن قلنا بأنّ المراد من قوله : (لِعِدَّتِهِنَ) هي الأطهار الثلاثة فواضح ، سواء

ص : 152


1- المراد : زرارة ومحمد بن مسلم وبكير بن أعين وبُريد وفضيل وإسماعيل الأزرق ومعمر بن يحيى.
2- الوسائل : 15 ، الباب 8 من أبواب مقدّمات الطلاق ، الحديث 5 ، 9.
3- الوسائل : 15 ، الباب 8 من أبواب مقدّمات الطلاق ، الحديث 5 ، 9.
4- الفقه الإسلامي وأدلّته : 7 / 402.

قلنا : إنّ اللام بمعنى «في» فإنّ المراد إيقاع الطلاق في الزمان الذي يصلح للاعتداد ، أو بمعنى الغاية والمراد إيقاع الطلاق لغاية الاعتداد ، وعلى كلا الوجهين يجب أن يترتّب الاعتداد على إيقاع الطلاق بلا تريث ، فلا تعمّ الآية الطلاقَ في طهر المواقعة ، لأنّه لا يصلح للاعتداد ، ظرفاً وغاية في عامّة المذاهب.

وأمّا إن قلنا بأنّ المراد بها ، هي الحيضات الثلاث ، فكذلك ، لما عرفت من أنّ المراد بالآية ، هو إيقاع الطلاق مستقبلاً لعدتهن ، وبما انّ الحيضة التي تقدّمها طهر المواقعة ، لا تحسب من العدة ، فالآية لا تعمّ إيقاعه في مثل ذلك الطهر ، لأنّه ليس من أقسام «مستقبلات عدة».

وأمّا السنّة فيمكن الاستدلال برواية ابن عمر أنّه طلّق امرأة له وهي حائض ، فذكر ذلك عمر للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فتغيظ فيه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ثمّ قال : ليراجعها ، ثمّ يمسكها حتّى تطهر ، ثمّ تحيض فتطهر ، فإن بدا له أن يطلّقها ، فليطلّقها قبل أن يمسها ، فتلك العدّة كما أمر الله تعالى.

وفي لفظ : فتلك العدّة التي أمر الله أن يطلق لها النساء.

وأمّا كيفية الاستدلال : فلأنّ النبي بصدد بيان كيفية إيقاع الطلاق وشروطه ، فأمر بإيقاعها في الطهر الثاني بشرط أن لا يمسّها ، فلو كان الطلاق في الطهر الذي واقعها صحيحاً ، لما خصّه النبي بالطهر المشروط.

وأمّا عدم تجويز إيقاعه في الطهر الأوّل ، فلأجل مؤاخذة الرجل حيث تسرّع في الطلاق ، وجعله في غير موضعه فأُرغم أن يصبر طهراً وحيضاً ، كما مرّ.

ص : 153

ص : 154

20- الوصيّة للوارث إذا لم تتجاوز الثلث

اشارة

ص : 155

ص : 156

الوصية للوارث إذا لم تتجاوز الثلث

اتّفقت المذاهب الخمسة على أنّ الوصية التبرّعيّة تنفذ في مقدار الثلث فقط ، مع وجود الوارث سواء صدرت في المرض أم في الصحّة ، وما زاد عن الثلث يفتقر إلى إجازة الورثة. وإن كان الأفضل في بعض المذاهب أن لا يستوعب الثلث بالوصية. (1)

وأمّا في مقدار الثلث فتنفّذ وصيته عند الإمامية في الأقرب والأجنبي ، ومن غير فرق في الأقرب ، بين الوارث وغيره. وأمّا المذاهب الأربعة فأجازت الوصية للأقرب بشرط أن لا يكون وارثاً ، وأمّا الوارث فلا تجوز الوصية له سواء كان بمقدار الثلث أم أقل أم أكثر ، إلاّ بإجازة الورثة.

قال السيد المرتضى : وممّا ظنّ انفراد الإمامية به ، ما ذهبوا إليه من أنّ الوصية للوارث جائزة ، وليس للوارث (غير الموصى له) ردّها. وقد وافقهم في هذا المذهب بعض الفقهاء (2) وإن كان الجمهور والغالب ، على خلافه. (3)

وقال الشيخ الطوسي : تصحّ الوصية للوارث مثل الابن والأبوين. وخالف

ص : 157


1- المغني : 6 / 78.
2- سيوافيك التصريح به من صاحب المنار أيضاً.
3- الانتصار : 308.

جميع الفقهاء في ذلك وقالوا : لا وصية للوارث. (1)

وقال الخرقي في متن المغني : «ولا وصية لوارث إلاّ أن يجيز الورثة ذلك». وقال ابن قدامة في شرحه : إنّ الإنسان إذا أوصى لوارثه بوصية فلم يجزها سائر الورثة ، لم تصح ، بغير خلاف بين العلماء. قال ابن المنذر وابن عبد البرّ : أجمع أهل العلم على هذا ، وجاءت الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بذلك فروى أبو أُمامة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول : «إنّ الله قد أعطى كل ذي حقّ حقّه فلا وصية لوارث» رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي ، ولأنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - منع من عطية بعض ولده وتفضيل بعضهم على بعض في حال الصحّة وقوّة الملك وإمكان تلافي العدل بينهم بإعطاء الذي لم يعطه فيما بعد ذلك ، لما فيه من إيقاع العداوة والحسد بينهم ، ففي حال موته أو مرضه وضعف ملكه وتعلّق الحقوق به وتعذّر تلافي العدل بينهم أولى وأحرى ، وإن أجازها جازت في قول الجمهور من العلماء. (2)

وحاصل الكلام : انّ فقهاء السنّة يشترطون لنفاذ الوصية أن لا يكون الموصى له وارثاً للموصي عند موت الموصي إذا كان هناك وارث آخر لم يجز الوصية ، فإن أجاز بقية الورثة الوصية للوارث نفذت الوصية ، فتكون الوصية للوارث موقوفة على إجازة بقية الورثة أخذاً بقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لا تجوز وصية لوارث إلاّ أن يشاء الورثة» ، وقوله : «لا وصية لوارث إلاّ أن يجيز الورثة».

ثمّ إنّ القوم بدل أن يعرضوا المسألة على الكتاب أخذوا بالتفلسف ونحت الحكمة للمسألة كما عرفت في كلام ابن قدامة حيث قال : «لما فيه من ايقاع العداوة والحسد بينهم».

ص : 158


1- الخلاف : 2 كتاب الوصية 1.
2- المغني : 6 / 8079.

وقال بعضهم : لما في إيثار بعض الورثة من غير رضا الآخرين ما يؤدي إلى الشقاق والنزاع وقطع الرحم وإثارة البغضاء والحسد بين الورثة.

لكن هؤلاء غفلوا عن أنّ ما ذكروه من الوجه ليس كلياً ، بل ولا غالبياً ، إذ ربما يكون بعض الورثة أولى ببعض الميراث من غيرهم ، كما إذا كان المورث صاحب كتاب مخطوط أو مطبوع لا يستفيد منه إلاّ الوارث الطالب دون الآخرين المشتغلين بالتجارة ، فهل الإيصاء عندئذ يوجب البغضاء؟

وربما يكون الموصى له عاجزاً مقعداً مستحقاً للإيصاء فهل يثير الإيصاء في المقام البغضاء والحسد ، ولأجل ذلك نرى أنّ قانون الوصية في مصر أخذ برأي الشيعة الإمامية في سنة 1946 م ، فأجاز الوصية للوارث في حدود الثلث من غير إجازة الورثة ، نعم التزم القانون السوري برأي الجمهور وهي انّ الوصية لا تنفذ إلاّ إذا أجازها الورثة.

ومع أنّ الكتب الفقهية للمذاهب الأربعة تنفي جواز الوصية للوارث ، إلاّ إذا أجاز الورثة ، حتى أنّ بعضهم يقول بأنّ الوصية باطلة وإن أجازها سائر الورثة إلاّ أن يعطوه عطية مبتدأة (1) - ومع هذا التصريح - ينقل الشيخ محمد جواد مغنية : ما زال عمل المحاكم الشرعية السنّية في لبنان على عدم صحّة الوصية للوارث ، ومنذ سنوات قدّم قضاتها مشروعاً إلى الحكومة يجيز الوصية للوارث ورغبوا إليها في تبنّيه. (2)

يلاحظ على ما ذكره ابن قدامة من الحكمة : أنّها لا تقاوم الذكر الحكيم ، واتّفاق أئمّة أهل البيت ، ولو صحّت لزم تحريم تفضيل بعضهم على بعض في

ص : 159


1- المصدر نفسه.
2- الفقه على المذاهب الخمسة : 465.

الحياة في البر والإحسان ، لأنّ ذلك يدعو إلى الحسد والبغضاء مع أنّه لا خلاف في جوازه ، وما نقل عن النبي من النهي ، فهو محمول على التنزيه لا التحريم إذ لم يقل أحد بحرمة التفضيل في الحياة. وسيوافيك الكلام فيما تصور من الحكمة.

والأوْلى عرض المسألة على الكتاب والسنّة ، أمّا الكتاب فيكفي في جواز الوصية قوله سبحانه : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ).(1)

المراد من حضور الموت : ظهور أماراته من المرض والهرم وغيره ، ولم يرد إذا عاين ملك الموت ، لأنّ تلك الحالة تشغل الإنسان عن الوصيّة ، وأيضاً يجب أن يراعى جانب المعروف في مقدار الوصية والموصى له ، فمن يملك المال الكثير إذا أوصى بدرهم فلم يوص بالمعروف ، كما أنّ الإيصاء للغني دون الفقير خارج عن المعروف ، فانّ المعروف هو العدل الذي لا ينكر ، ولا حيف فيه ولا جور.

والآية صريحة في الوصية للوالدين ، ولا وارث أقرب للإنسان من والديه ، وقد خصّهما بالذكر لأولويّتهما بالوصية ثم عمّم الموضوع وقال : (وَالْأَقْرَبِينَ) ليعمّ كل قريب ، وارثاً كان أم لا.

وهذا صريح الكتاب ولا يصح رفع اليد عنه إلاّ بدليل قاطع مثله ، وقد أجاب القائلون بعدم الجواز عن الاستدلال بالآية بوجهين :

1. آية الوصية منسوخة بآية المواريث

قالوا : إنّها منسوخة بآية المواريث ، فعن ابن عباس والحسن : نسخت

ص : 160


1- البقرة : 180.

الوصية للوالدين بالفرض في سورة النساء (1) ، وتثبت للأقربين الذين لا يرثون ، وهو مذهب الشافعي وأكثر المالكيين ، وجماعة من أهل العلم.

ومنهم من يأبى كونها منسوخة ، وقال : بأنّها محكمة ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الوالدين اللَّذين لا يرثان كالكافرين والعبدين ، وفي القرابة غير الورثة. (2)

ومرجع الوجه الأوّل : إلى نسخ جواز الايصاء في الوالدين وانّه لا يوصى لهما مطلقاً وارثين كانا أو ممنوعين من الإرث لأجل الكفر والرق ، وتقييد جواز الإيصاء للأقربين بما إذا كانا غير وارثين.

ومرجع الوجه الثاني : إلى تقييدين ، تقييد جواز الايصاء للوالدين بما إذا كانا ممنوعين من الإرث ، وتقييد جواز الايصاء بالأقربين بما مرّ في الوجه الأوّل.

وقال الجصاص في تفسير الآية : نسختها آية الفرائض.

1. قال ابن جريج عن مجاهد : كان الميراث للولد والوصية للوالدين والأقربين. فهي منسوخة. (3)

2. وقالت طائفة أُخرى : قد كانت الوصية واجبة للوالدين والأقربين فنسخت عمّن يرث ، وجعلت للوالدين والأقربين الذين لا يرثون (4).

وعلى الوجه الأوّل فآية الوصية منسوخة بالمعنى الحقيقي ، وعلى الثاني مخصّصة حيث أخرج الوارث منهما وأبقى غير الوارث ، لكن لازم كون الوصية

ص : 161


1- (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ...) النساء : الآية 11.
2- الجامع لأحكام القرآن : 2 / 262 - 263.
3- سنن الدارمي : 2 / 419 مرسلاً عن قتادة.
4- أحكام القرآن : 1 / 164.

واجبة وبقاء الأقربين تحت العموم ، وجوب الوصية لغير الوارث منهما. وهو كما ترى.

تجد نظير هذه الكلمات في كتب التفسير والفقه لأهل السنّة ونعلّق عليها بوجهين :

الأوّل : إنّ السابر في كتب القوم يقف على أنّ الذي حملهم على ادّعاء النسخ والتخصيص في الآية هو رواية أبي أُمامة أو عمر بن خارجة وأنّه سمع رسول الله يقول في خطبته - عام حجة الوداع : ألا أنّ الله قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه فلا وصية لوارث. (1) ولو لا هذه الرواية لما خطر في بال أحد بأنّ آية المواريث ناسخة لآية الوصية ، إذ لا تنافي بينهما قيد شعرة حتى تكون إحداهما ناسخة أو مخصّصة ، إذا لا منافاة أن يكتب سبحانه على الإنسان فرضاً أو ندباً أن يوصي للوالدين والأقربين بشيء ، لا يتجاوز الثلث ، وفي الوقت نفسه يُورِّث الوالدين والأقربين على النظام المعروف في الفقه.

والذي يوضح ذلك : هو أنّ الميراث ، في طول الوصيّة ، ولا يصح للمتأخّر أن يعارض المتقدّم ، وأنّ الورّاث يرثون بعد إخراج الدين والوصية ، قال سبحانه : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) (2) وفي ثلاثة موارد أُخرى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ) ... (تُوصُونَ) ... (يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) ، (3) فلا موضوع للنسخ ولا للتخصيص.

وقد تفطّن القرطبي لبعض ما ذكرنا وقال : ولو لا هذا الحديث لأمكن الجمع

ص : 162


1- سيوافيك نصّه وسنده.
2- النساء : 11.
3- النساء : 12.

بين الآيتين بأن يأخذوا المال عن المورِّث بالوصية ، وبالميراث إن لم يوص ، أو ما بقى بعد الوصية ، لكن منع من ذلك هذا الحديث والإجماع. (1)

أقول : أمّا الإجماع ، فغير متحقّق ، وكيف يكون كذلك مع أنّ أئمة أهل البيت - كما سيوافيك - اتّفقوا على جوازه وكذلك فقهاء الإمامية طوال القرون وهم ثلث المسلمين ، وبعض السلف كما يحدّث عنه صاحب المنار ، وأمّا الحديث فسيوافيك ضعفه ، وأنّه على فرض الصحّة سنداً ، قابل للتأويل والحمل على ما زاد الإيصاء عن الثلث.

الثاني : إنّ ادّعاء النسخ أو التخصيص في الآية ، بآية المواريث ، متوقّف على تأخّر الثانية عن الأُولى وأنّى للقائل بهما إثباته؟! بل لسان آية الوصية بما فيها من التأكيد لأجل الإتيان بلفظ (كُتِبَ) وتوصيفه بكونه حقّاً على المؤمنين يأبى عن كونه حكماً مؤقتاً لا يدوم إلاّ شهراً أو شهوراً.

قال الإمام عبده : إنّه لا دليل على أنّ آية المواريث نزلت بعد آية الوصية هنا فانّ السياق ينافي النسخ ، فانّ الله تعالى إذا شرّع للناس حكماً وعلم أنّه مؤقت وأنّه سينسخه بعد زمن قريب ، فانّه لا يؤكّده ولا يوثّقه بمثل ما أكّد به أمر الوصية هنا من كونه حقّاً على المتّقين ومن وعيد لمن بدّله.

ثم قال : وبإمكان الجمع بين الآيتين إذا قلنا إنّ الوصيّة في آية المواريث مخصوصة بغير الوارث بأن يخصّ القريب هنا بالممنوع من الإرث ولو بسبب اختلاف الدين ، فإذا أسلم الكافر وحضرته الوفاة ووالداه كافران ، فله أن يوصي لهما بما يؤلّف به قلوبهما. (2)

ص : 163


1- الجامع لأحكام القرآن : 1 / 263.
2- تفسير المنار : 2 / 136 - 137.

ولا يخفى ما في صدر كلامه من الإتقان لو لا ما تنازل في آخره وحاول الجمع بين الآيتين بتخصيص جواز الوصية لمن لا يرثان من الوالدين لسبب كالقتل والكفر والسرقة ، إذ لقائل أن يسأل الإمام أنّه إذا كان المراد من الوالدين والأقربين في آية الوصية هم الممنوعين من الوراثة ، فما معنى هذا التأكيد والعناية البارزة في الآية مع ندرة المصداق أو قلّته بالنسبة إلى غير الممنوعين ، أوَليس هذا أشبه بالتخصيص المستهجن فلا محيص عن القول بعموم الآية ، لكلّ والد ووالدة ، والأقربين ممنوعين كانوا أم غيرهم.

وأمّا ما يثيرون حول الإيصاء للوالدين من كونه سبباً لظهور العداء ، فقد مرّ جوابه في صدر البحث ، وهنا نزيد ما ذكره ذلك الإمام بقوله :

وجوّز بعض السلف الوصية للوارث نفسه بأن يخصّ بها من يراه أحوج من الورثة كأن يكون بعضهم غنياً والبعض الآخر فقيراً. مثال ذلك أن يطلّق أبوه أُمّه وهو غنيّ ، ولا عائل لها إلاّ ولدها ، ويرى أنّ ما يصيبها من التركة لا يكفيها ، ومثله أن يكون بعض ولده أو إخوته - إن لم يكن له ولد - عاجزاً عن الكسب فنحن نرى أنّ الحكيم الخبير اللطيف بعباده ، الذي وضع الشريعة والأحكام لمصلحة خلقه ، لا يحكم أن يساوي الغني الفقير. والقادر على الكسب من يعجزه عنه ، فإذا كان قد وضع أحكام المواريث العادلة على أساس التساوي بين الطبقات باعتبار أنّهم سواسية في الحاجة كما أنّهم سواء في القرابة ، فلا غرو أن يجعل أمر الوصيّة مقدّماً على أمر الإرث ... ويجعل الوالدين والأقربين في آية أُخرى أولى بالوصيّة لهم من غيرهم لعلمه سبحانه وتعالى بما يكون من التفاوت بينهم في الحاجة أحياناً ، فقد قال في آيات الإرث في سورة النساء : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي

ص : 164

بِها أَوْ دَيْنٍ) فأطلق أمر الوصية وقال في آية الوصية هنا ما هو تفصيل لتلك.

لقد بان الحق ممّا ذكرنا وانّ الذكر الحكيم أعطى للإنسان حقّ الإيصاء للوالدين لمصالح هو أعرف بها ، على حدّ لا يتجاوز الثلث ، وليكون إيصاؤه أيضاً على حدّ المعروف.

ويؤيّده إطلاق قوله سبحانه في ذيل آية المواريث قال سبحانه : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) (1). ويريد من الذيل الإحسان في الحياة والوصية عند الموت فانّه جائز. (2) وإطلاقه يعمّ الوارث وغيره.

والله سبحانه هو العالم بمصالح العباد ، فتارة يخصّ بعض الورّاث ببعض التركة عن طريق تنفيذ الوصية ما لم تتجاوز الثلث ، وأُخرى يوصي لغير الوارث بشيء منها ، يقول سبحانه : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً). (3)

والمراد من ذوي القربى الأخ للميت الشقيق وهو لا يرث ، وكذلك العم والخال والعمّة والخالة ويعدّون من ذوي القربى للوارث ، الذي لا يرثون معه وقد يسري إلى نفوسهم الحسد فينبغي التودّد إليهم ، واستمالتهم بإعطائهم شيئاً من ذلك الموروث ، بحسب ما يليق بهم ولو بصفة الهبة أو الهدية .... (4)

ص : 165


1- الأحزاب : 7.
2- الجامع لأحكام القرآن : 14 / 126.
3- النساء : 8.
4- تفسير المنار : 2 / 394.

2. آية الوصية منسوخة بالسنّة

اشارة

قد عرفت مدى صحّة نسخ الآية بآية المواريث فهلمّ معي ندرس منسوخية الآية بالسنّة التي رواها أصحاب السنن ولم يروها الشيخان : البخاري ومسلم في صحيحيهما ، وإليك ما نقل سنداً ومتناً.

روى الترمذي في باب : ما جاء لا وصية لوارث :

1. حدثنا علي بن حجر وهنّاد قالا : حدثنا إسماعيل بن عياش ، حدثنا شرحبيل بن مسلم الخولاني ، عن أبي أُمامة الباهلي قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول في خطبته عام حجة الوداع : إنّ الله قد أعطى لكلّ ذي حقّ حقّه فلا وصية لوارث ، الولد للفراش وللعاهر الحجر ...

2. حدثنا قتيبة ، حدثنا أبو عوانة ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن عمرو بن خارجة : أنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خطب على ناقته وأنا تحت جِرانها وهي تقصع بجرّتها (1) وإنّ نعامها يسيل بين كتفي فسمعته يقول : إنّ الله أعطى كلّ ذي حقّ حقّه ، ولا وصية لوارث والولد للفراش وللعاهر الحجر .... (2).

وفي الاسناد : من لا يحتجّ به.

1. إسماعيل بن عياش

قال الخطيب : عن يحيى بن معين يقول : أمّا روايته عن أهل الحجاز فإنّ

ص : 166


1- «الجران» : هو من العنق ما بين المذبح إلى المنحر. و «تقصع بجرّتها» : أراد شدة المضغ وضمّ بعض الأسنان على بعض ، وقيل : قصع الجرّة : خروجها من الجوف إلى الشدق. النهاية.
2- سنن الترمذي : 4 / 433 ، باب ما جاء لا وصية لوارث ، الحديث 21212120.

كتابه ضاع ، فخلط في حفظه عنهم.

وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، عن علي بن المديني : كان يوثق فيما روى عن أصحابه أهل الشام فأمّا من روى عن غير أهل الشام ففيه ضعف.

وقال عمر بن علي : كان عبد الرحمن بن المهدي : لا يحدّث عن إسماعيل بن عياش. (1)

وقال ابن منظور : وقال مضر بن محمد الأسدي ، عن يحيى : إذا حدّث عن الشاميين وذكر الخبر فحديثه مستقيم ، فإذا حدّث عن الحجازيين والعراقيين خلط ما شاء. (2)

وقال الحافظ جمال الدين المزّي : قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : سئل أبي عن إسماعيل بن عياش فقال : نظرت في كتابه عن يحيى بن سعيد أحاديث صحاح ، وفي «المصنّف» أحاديث مضطربة.

وقال عثمان بن سعيد الدارمي عن دحيم : إسماعيل بن عياش في الشاميّين غاية ، وخلط عن المدنيّين.

وقال أحمد بن أبي الحواري : سمعت وكيعاً يقول : قدم علينا إسماعيل بن عياش فأخذ منّي أطرافاً لاسماعيل بن أبي خالد ، فرأيته يُخلِّط في أخذه.

وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني : ما أشبه حديثه بثياب سابور يُرقّم على الثوب المائة ، وأقلّ شرائه دون عشرة. قال : كان من أروى الناس عن الكذابين.

وقال أبو إسحاق الفزاري في حقّه : ذاك رجل لا يدري ما يخرج من رأسه. (3)

ص : 167


1- تاريخ بغداد : 6 / 227226.
2- مختصر تاريخ دمشق : 4 / 376.
3- تهذيب الكمال : 3 / 178175.

ونقل الترمذي بعد ذكر الحديث عن أبي إسحاق الفزاري : ولا تأخذوا عن إسماعيل بن عياش ما حدّث عن الثقات ولا عن غير الثقات. (1)

2. شرحبيل بن مسلم الخولاني الشامي

قال ابن معين : ضعيف واختُتِنَ في ولاية عبد الملك بن مروان ، ووثّقه الآخرون. (2)

3. شهر بن حوشب

تابعي توفّي حدود عام 100.

قال النسائي : ليس بالقوي. (3)

وقال يحيى بن أبي بكر الكرماني عن أبيه : كان شهر بن حوشب على بيت المال فأخذ خريطة فيها دراهم ، فقال القائل :

لقد باع شهر دينه بخريطة

فمن يأمن القرّاء بعدك يا شهرُ(4)

وقال جمال الدين المزّي : قال شبابة بن سوّار عن شعبة : ولقد لقيت شهراً فلم أعتد به. وقال عمرو بن علي : كان يحيى لا يُحدِّث عن شهر بن حوشب. وقال أيضاً : سألت ابن عون عن حديث هلال بن أبي زينب عن شهر ... فقال : ما يُصنع بشهر إنَّ شعبة نزك شهراً. فقال النضر : نزكوه. أي طعنوا فيه.

ص : 168


1- سنن الترمذي : 4 / 433 ، الحديث 2120.
2- تهذيب الكمال : 12 / 431 برقم 1721.
3- الضعفاء والمتروكين : 134 برقم 310.
4- تهذيب التهذيب : 4 / 286 ، برقم 570.

وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني : أحاديثه لا تشبه حديث الناس. وقال موسى بن هارون : ضعيف. وقال علي بن المديني : كان يحيى بن سعيد لا يحدّث عن شهر ، وقال يعقوب بن شيبة : ... على أنّ بعضهم قد طعن فيه. (1)

3. روى أبو داود : حدثنا عبد الوهاب بن نجدة ، حدثنا ابن عياش ، عن شرحبيل بن مسلم : سمعت أبا أُمامة : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول : «إنّ الله قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه فلا وصية لوارث». (2)

والاسناد مشتمل على إسماعيل بن عياش وشرحبيل بن مسلم وقد عرفت حالهما. فلاحظ.

4. روى النسائي : أخبرنا قتيبة بن سعيد ، قال : حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن عمرو بن خارجة قال : خطب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال : إنّ الله قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه ، ولا وصية لوارث.

5. أخبرنا إسماعيل بن مسعود ، قال : حدّثنا خالد ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدّثنا قتادة عن شهر بن حوشب ، أنّ ابن غنم ذكر أنّ ابن خارجة ذكر له أنّه شهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يخطب الناس على راحلته ، وإنّها لتقصع بجرّتها وإنّ نعامها ليسيل. فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في خطبته : إنّ الله قد قسّم لكل إنسان قسمة من الميراث ، فلا تجوز لوارث وصية.

فالإسنادان مشتملان على شهر بن حوشب ، وقد تعرّفت عليه.

6. أخبرنا عتبة بن عبد الله المروزي قال : أنبأنا عبد الله بن المبارك ، قال : أنبأنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن قتادة ، عن عمرو بن خارجة قال : قال رسول

ص : 169


1- تهذيب الكمال : 12 / 581.
2- سنن أبي داود : 3 / 114 ، باب ما جاء في الوصية للوارث ، برقم 2870.

الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «إنّ الله عزّ اسمه قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه ، ولا وصيّة لوارث». (1)

وقد اشتمل الإسناد على قتادة بن دعامة بن قتادة : أبو الخطاب البصري (11761 ه) الذي ورد في حقّه عن حنظلة بن أبي سفيان : كنت أرى طاوساً إذا أتاه قتادة يسأله يفرّ منه ، قال : وكان قتادة يتّهم بالقَدَر.

وقال علي بن المديني : قلت ليحيى بن سعيد : إنّ عبد الرحمن يقول : اترك كلّ من كان رأساً في بدعة يدعو إليها. قال : كيف تصنع بقتادة ...؟ ثم قال يحيى : إنْ تَرَكَ هذا الضرب ، تَرَكَ ناساً كثيراً.

وقال الحاكم في علوم الحديث : لم يسمع قتادة من صحابي غير أنس.

وقال أبو داود : حدّث قتادة عن ثلاثين رجلاً لم يسمع منهم. (2)

7. روى ابن ماجة : حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا يزيد بن هارون : أنبأنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن عمرو بن خارجة : أنّ النبيّ خطبهم وهو على راحلته ، وإنّ راحلته لتقصع بجرّتها ، وإنّ لُغامَها ليسيل بين كتفيَّ ، قال : إنّ الله قسّم لكلّ وارث نصيبه من الميراث ، فلا يجوز لوارث وصية ، والولد للفراش ...

الإسناد مشتمل على شهر بن حوشب ، وقد مرّ الكلام فيه.

8. حدثنا هشام بن عمّار ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، حدثنا شرحبيل بن مسلم الخولاني : سمعت أبا أُمامة الباهلي يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول في خطبته ، عام حجّة

ص : 170


1- سنن النسائي : 6 / 207 ، كتاب الوصايا ، باب إبطال الوصية للوارث. الحديث بأسناده الثلاثة ينتهي إلى عمرو بن خارجة الذي قال البزار في حقّه : إنّه لا نعلم له عن النبي إلاّ هذا الحديث.
2- تهذيب التهذيب : 8 / 319 ؛ تهذيب الكمال : 23 / 509.

الوداع : إنّ الله قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه ، فلا وصية لوارث.

وفي الاسناد إسماعيل بن عياش ، وقد عرفت حاله.

9. حدثنا هشام بن عمّار ، حدثنا محمد بن شعيب بن شابور ، حدثنا عبد الرحمن ابن يزيد بن جابر ، عن سعيد بن أبي سعيد ، أنّه حدّثه عن أنس بن مالك قال : إنّي لتحت ناقة رسول الله ، يسيل عليَّ نعامها ، فسمعته يقول : إنّ الله قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه ألا لا وصية لوارث. (1)

وفي السند ، من لا يحتج به :

1. عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الأزدي ، أبو عتبة الشامي (المتوفّى عام 153 ه).

قال الفلاس : ضعيف الحديث ... روى عن أهل الكوفة أحاديث مناكير. (2)

2. سعيد بن أبي سعيد ، واسمه كيسان المقبري أبو سعد المدني (المتوفّى عام 125 ه).

قال يعقوب بن شيبة : قد كان تغيّر واختلط قبل موته يقال بأربع سنين ، وقال الواقدي : اختلط قبل موته بأربع سنين ، وقال ابن حبّان في «الثقات» : اختلط قبل موته بأربع سنين. (3)

10. روى الدارقطني : نا أبو بكر النيسابوري ، نا يوسف بن سعيد ، نا حجاج ، عن جريج ، عن عطاء عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : لا تجوز

ص : 171


1- سنن ابن ماجة : 2 / 905 ، كتاب الوصايا ، باب لا وصية لوارث ، الأحاديث 2712 - 2714.
2- تهذيب التهذيب : 6 / 266 برقم 581.
3- المصدر نفسه : 4 / 34 برقم 61.

الوصية لوارث إلاّ أن يشاء الورثة.

وفي الاسناد عطاء بن أبي مسلم الخراساني (50 - 135 ه).

قال الدارقطني : لم يلق ابن عباس.

وقال أبو داود : ولم يدرك ابن عباس ولم يره.

البخاري قد ذكر عطاء الخراساني في الضعفاء ... والبخاري لم يخرج له شيئاً.

وقال ابن حبّان : كان رديء الحفظ يخطئ ولا يعلم ، فبطل الاحتجاج به. (1)

وقال البيهقي : عطاء هذا هو الخراساني لم يدرك ابن عباس ولم يره. قاله أبو داود السجستاني وغيره ، وقد روى من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس. (2)

11. نا علي بن إبراهيم بن عيسى ، نا أحمد بن محمد الماسرجسي ، نا عمرو ابن زرارة ، نا زياد بن عبد الله ، نا إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن ، عن عمرو بن خارجة قال : قال رسول الله : لا وصية لوارث إلاّ أن يجيز الورثة.

ولو صحّ الاسناد ، فهو محمول على ما إذا زاد عن الثلث كما سيأتي نقله.

12. نا عبيد الله بن عبد الصمد بن المهتدي ، نا محمد بن عمرو بن خالد ، نا أبي ، عن يونس بن راشد ، عن عطاء الخراساني ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله : «لا يجوز لوارث وصية إلاّ أن يشاء الورثة». (3)

ولا أظنّ أن فقيهاً يحتجّ بحديث في سنده :

ص : 172


1- المصدر نفسه : 7 / 190 برقم 395.
2- السنن الكبرى : 6 / 264.
3- سنن الدار قطني : 4 / 152 «الوصايا» الحديث 10 و 11.

عكرمة البربري : أبو عبد الله المدني ، مولى ابن عباس : وقد عرّفه أهل الرجال بما يلي :

قال ابن لهيعة : عن أبي الأسود : كان عكرمة قليل العقل خفيفاً ، كان قد سمع الحديث من رجلين ، وكان إذا سئل حدّث به عن رجل يسأل عنه بعد ذلك ، فيحدّث به عن الآخر ، فكانوا يقولون : ما أكذبه.

وقال يحيى بن معين : إنّما لم يذكر مالك بن أنس عكرمة ، لأنّ عكرمة كان ينتحل رأي الصفرية (طائفة من الخوارج) وقال عطاء : كان إباضياً.

وقال أبو خلف الخزاز ، عن يحيى البكاء : سمعت ابن عمر يقول لنافع : اتّق الله ويحك يا نافع ولا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس.

وعن سعيد بن المسيب أنّه كان يقول لغلامه : لا تكذب عليّ كما يكذب عكرمة على ابن عباس.

وعن عطاء الخراساني : قلت لسعيد بن المسيب : إنّ عكرمة يزعم أنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - تزوّج ميمونة وهو محرم ، فقال : كذب مخبثان.

وقال سعيد بن جبير : كذب عكرمة.

وقال وهيب بن خالد عن يحيى بن سعيد الأنصاري : كان كذّاباً.

وكان مالك لا يرى عكرمة ثقة ويأمر أن لا يؤخذ عنه.

وقال حنبل بن إسحاق عن أحمد بن حنبل : ... وعكرمة مضطرب الحديث يختلف عنه.

وقال ابن علية : ذكره أيوب فقال : قليل العقل.

وقال الحاكم : أبو أحمد احتجّ بحديثه الأئمّة القدماء لكن بعض المتأخرين

ص : 173

أخرج حديثه من حيز الصحاح. (1)

13. نا أحمد بن كامل ، نا عبيد بن كثير ، نا عباد بن يعقوب ، نا نوح بن دراج ، عن أبان بن تغلب ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه قال : قال رسول الله : لا وصية لوارث ولا إقرار بدين.

وفي الاسناد من لا يحتجّ به أهل السنّة ، وهو نوح بن دراج (المتوفّى عام 182 ه) والحديث نقل محرّفاً.

فقد تضافر عن جعفر بن محمد ، صحّة الوصية للوارث إلاّ إذا تجاوز عن الثلث ، فانّه إضرار بالورثة ويؤيّده ذيل الحديث «ولا إقرار بدين» والإقرار بالدين ، والإيصاء فوق الثلث مظنّة الإضرار بالورثة.

14. نا أحمد بن زياد ، نا عبد الرحمن بن مرزوق ، نا عبد الوهاب ، نا سعيد ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن عمرو بن خارجة قال : خطبنا رسول الله بمنى فقال : إنّ الله عزّ وجلّ قد قسّم لكلّ إنسان نصيبه من الميراث ، فلا يجوز لوارث وصية إلاّ من الثلث.

قال : ونا سعيد بن مطر ، عن شهر ، عن عمرو بن خارجة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مثله. (2)

والسند مشتمل على شهر بن حوشب ، والمتن يؤيد مقالة الإمامية حيث قال : فلا يجوز لوارث وصية إلاّ من الثلث.

15. روى الدارمي : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا هشام الدستوائي ، حدثنا قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن عمرو بن خارجة ، قال :

ص : 174


1- تهذيب التهذيب : 7 / 234 رقم 476.
2- سنن الدارقطني : 4 / 152 «الوصايا» الحديث 12 و 13.

كنت تحت ناقة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهي تقصع بجرّتها ونعامها وينوص بين كتفي ، سمعته يقول : ألا إنّ الله قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه فلا يجوز وصية لوارث. (1)

وفي الاسناد شهر بن حوشب وكفى به ضعفاً.

16. روى البيهقي بأسانيد مختلفة ، لا تخلو من ضعف.

فالأوّل مقطوع برواية عطاء عن ابن عباس ، وقد عرفت عدم إدراكه له ، وعطاء هذا هو عطاء الخراساني.

والثاني مشتمل على رواية : عطاء عن عكرمة عن ابن عباس ، وقد عرفت حال الرجلين.

والثالث أيضاً مثل الثاني.

والرابع مشتمل على الربيع بن سليمان ، الذي كان يوصف بغفلة شديدة ، وعن الشافعي أنّه ليس بثبت وإنّما أخذ أكثر الكتب من آل البويطي بعد موت البويطي. (2)

وعلى سفيان بن عيينة (المتوفّى عام 198) قال محمد بن عبد الله بن عمّار : سمعت يحيى بن سعيد يقول : اشهدوا أنّ سفيان بن عيينة اختلط سنة 197 ، فمن سمع في هذه السنة وبعدها ، سماعه لا شيء. (3)

وعلى مجاهد بن جبر المكّي المولود في خلافة عمر (المتوفّى عام 100 ه) فمضافاً إلى أنّ الرواية مقطوعة فقد ورد في حقّه : مجاهد معلوم التدليس ، فعنعنته لا تفيد الوصل. (4)

ص : 175


1- سنن الدارمي : 2 / 419 ، باب الوصية للوارث.
2- تهذيب التهذيب : 3 / 213 برقم 473.
3- تهذيب الكمال : 11 / 196.
4- تهذيب التهذيب : 10 / 40 برقم 68.

والخامس مشتمل على ابن عياش وشرحبيل بن مسلم ، وقد تعرّفت عليهما.

والسادس مشتمل على شهر بن حوشب.

والسابع مشتمل على حماد بن سلمة عن قتادة ، والسند إمّا مقطوع أو موصول بواسطة شهر بن حوشب بقرينة الرواية السابقة.

والثامن مشتمل على إسماعيل بن مسلم ، وهو مردّد بين العبدي (أبو محمد البصري) والمكي (أبو إسحاق البصري) الذي ضعّفه جمال الدين المزّي بقوله : قال عمرو بن علي : كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدّثان عن إسماعيل المكي.

وقال أبو طالب : قال أحمد بن حنبل : إسماعيل بن مسلم المكي منكر الحديث.

وقال عباس الدوري عن يحيى بن معين : إسماعيل بن مسلم المكي ليس بشيء. وكذلك قال عثمان بن سعيد الدارمي وأبو يعلى الموصلي عن يحيى.

وعن علي بن المديني : إسماعيل بن مسلم المكي لا يكتب حديثه ... وكان ضعيفاً في الحديث ... يكثر الخلط.

وقال أبو زرعة : هو بصري سكن مكة ، ضعيف الحديث.

وقال النسائي : ... متروك الحديث. وقال في موضع آخر : ليس بثقة. (1)

والتاسع مشتمل على عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الأزدي ، وسعيد بن أبي سعيد ، وقد تعرّفت عليهما.

والعاشر مشتمل على سفيان بن عيينة وقد تعرّفت عليه ؛ وعلى طاوس بن كيسان اليماني ، وهو تابعي لم يدرك النبيّ ، وإنّما ينقل ما ينقل عن ابن عباس. (2).

17. روى الحافظ سعيد بن منصور المكي (المتوفّى 227) في سننه هذا

ص : 176


1- تهذيب الكمال : 3 / 198 برقم 483.
2- سنن البيهقي : 6 / 265264.

الحديث بأسانيد مختلفة.

فالأوّل - مضافاً إلى أنّه مقطوع بمجاهد - : مشتمل على سفيان بن عيينة.

والثاني : مقطوع بعمرو بن دينار (المتوفّى حدود عام 125 ه) ومشتمل على سفيان بن عيينة.

والثالث : مشتمل على إسماعيل بن عياش وشرحبيل بن مسلم.

والرابع : مشتمل على شهر بن حوشب.

والخامس : مشتمل على سفيان بن عيينة وهشام بن حجر المكي الذي ضعّفه يحيى بن معين ، وعن غيره أنّه يضرب على حديثه ، وعن أبي داود أنّه ضرب الحدّ بمكة. (1)

18. روى عبد الرزاق بن همام الصنعاني (211176 ه) بسند ينتهي إلى شهر بن حوشب عن عمرو بن خارجة ، قال : سمعت رسول الله يقول : لا وصية لوارث. (2) وقد تعرفت على حال «شهر».

ملاحظات على نسخ الآية بالسنّة

ويلاحظ على هذه الإجابة - أي نسخ الكتاب بهذه الروايات - بوجوه :

1. الكتاب العزيز ، قطعي السند ، وصريح الدلالة في المقام. وظاهر الآية كون الحكم أمراً أبدياًّ وأنّه مكتوب على المؤمنين ، وهو حقّ على المتّقين ، أفيصح نسخه أو تخصيصه برواية لم يسلم سند منها عن خلل ونقاش فرواتها : مخلّط ، من أروى الناس عن الكذابين ، لا يرى ما يخرج من رأسه ، إلى ضعيف أُختُتِنَ في كبر

ص : 177


1- تهذيب التهذيب : 11 / 32 برقم 74.
2- المصنف : 9 / 70 برقم 16376.

سنِّه ، إلى بائع دينه بخريطة ، إلى مسنِد ولم ير المسند إليه ، إلى محدود أُجري عليه الحد في مكة ، إلى خارجيّ يُضرب به المثل ، إلى ، إلى ، إلى .... (1)

ولو قلنا بجواز نسخ الكتاب فانّما نقول به إذا كان الناسخ ، دلالة قرآنية أو سنّة قاطعة.

2. كيف يمكن الاعتماد على رواية ، تدّعي أنّ النبي الأكرم خطب في محتشد كبير لم ينقل لنا التاريخ له مثيلاً في حياة النبي إلاّ في وقعة الغدير ، وقال : إنّه لا وصية لوارث ، ولم يسمعه أحد من الصحابة إلاّ أعرابي مثل عمرو بن خارجة الذي ليس له رواية عن رسول الله سوى هذه (2) ، أو شخص آخر كأبي أُمامة الباهلي وهذا ما يورث الاطمئنان على وجود الخلل فيها سنداً أو دلالة.

3. لو سلم أنّ الحديث قابل للاحتجاج ، لكنّه لا يعادله ولا يقاوم ما تواتر عن أئمّة أهل البيت من جواز الوصية للوارث. فهذا هو محمد بن مسلم أحد فقهاء القرن الثاني ، من تلاميذ أبي جعفر الباقر - عليه السلام - يقول : سألت أبا جعفر عن الوصية للوارث؟ فقال : «تجوز» ، ثم تلا هذه الآية : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ). (3)

وهذا أبو بصير المرادي شيخ الشيعة في عصر الصادق - عليه السلام - يروي عنه أنّه سأله عن الوصية للوارث؟ فقال : تجوز. (4)

4. أنّ التعارض فرع عدم وجود الجمع الدلالي بين نصّ الكتاب والحديث ،

ص : 178


1- لاحظ ما نقلناه عن أئمة الرجال في حق رواة الحديث ونقلته.
2- الاصابة : 2 / 527 ؛ تهذيب الكمال : 21 / 599 ؛ الثقات : 3 / 271.
3- وسائل الشيعة : 13 ، الباب 15 من أبواب أحكام الوصايا ، الحديث 2 و 3 ، وفيه ثلاثة عشر حديثاً تصرِّح بجواز الوصية للوارث.
4- وسائل الشيعة : 13 ، الباب 15 من أبواب أحكام الوصايا ، الحديث 2 و 3 ، وفيه ثلاثة عشر حديثاً تصرِّح بجواز الوصية للوارث.

إذ من المحتمل جداً أنّ الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ذكر قيداً لكلامه ، ولم يسمعه الراوي أو سمعه ، وغفل عن نقله ، أو نقله ولم يصل إلينا وهو أنّه مثلاً قال : «ولا تجوز وصية للوارث» إذا زاد عن الثلث أو بأكثر منه ، كما ورد كذلك من طرقنا ، وطرق أهل السنّة. وقد عرفت : أنّ الدارقطني نقله عن الرسول الأكرم بهذا القيد. (1) وقد ورد من طرقنا عن النبي الأكرم أنّه قال في خطبة الوداع : «أيّها الناس إنّ الله قد قسّم لكلّ وارث نصيبه من الميراث ، ولا تجوز وصية لوارث بأكثر من الثلث».(2) وبعد هذه الملاحظات لا يبقى أيّ وثوق بالرواية المنقولة بالصورة الموجودة في كتب السنن.

أضف إلى ذلك : أنّ الإسلام دين الفطرة ، ورسالته خاتمة الرسالات ، فكيف يصحّ أن يسد باب الإيصاء للوارث ، مع أنّه ربّما تمسّ الحاجة إلى الإيصاء للوارث ، بعيداً عن الجور والحيف ، من دون أن يثير عداء الباقين وحسد الآخرين كما إذا كان طفلاً ، أو مريضاً ، أو معوّقاً أو طالب علم ، لا يتسنّى له التحصيل إلاّ بعون آخرين.

كل ذلك يدعو فقهاء المذاهب في الأمصار ، إلى دراسة المسألة من الأصل عسى أن يتبدّل المختلف إلى المؤتلف والخلاف إلى الوفاق بفضله وكرمه سبحانه.

قد عرفت أنّ مصدر الحكم عند القوم هو الروايات التي تعرفت على ضعفها ومقدار دلالتها ، وربّما يستدلّ بوجه غريب : انّ المال حينئذ صار للورثة ، فحكم الموصي فيما استحقوه بالميراث باطل ، لقول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» فليس لهم إجازة الباطل ، لكن إن أحبوا أن

ص : 179


1- لاحظ الرقم 14 ممّا سلف وفيه : فلا يجوز لوارث وصية إلاّ من الثلث.
2- تحف العقول : 34.

ينفذوا الوصية من مالهم باختيارهم ، فلهم التنفيذ ، ولهم حينئذ أن يجعلوا الأجر لمن شاءوا.

يلاحظ عليه : ما هو الدليل لقوله : «المال حينئذ صار للورثة فحكم الموصي فيما استحقّوه بالميراث باطل.

فإن كان الدليل هو الرواية ، أعني قوله : «لا وصية لوارث» فقد عرفت ضعف الرواية وانّها لا تقاوم الذكر لحكيم أوّلاً ، وإمكان الجمع بينهما ثانياً.

وإن كان الدليل قول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «إنّ دماءكم وأولادكم وأعراضكم عليكم حرام» كما هو الظاهر من ذيل كلامه ففيه انّه لم يدل دليل على أنّ الموصى به ملك للورثة ينتقل منهم إلى الموصى له ، بل ظاهر الآية انّ المنقول من التركة إلى الوارث مخصص بغير الدين والوصية ، فمقدار الدين وما أوصى به لا ينتقلان إلى الورثة حتّى ينتقلا إلى الموصى له ، بل المنقول إليهم مضيق من أوّل الأمر بغير الدين والوصية ، ويدلّ عليه قوله سبحانه في موردين :

أ. (فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ).

ب. (فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ).

ص : 180

21- المسلم يرث الكافر دون العكس

اشارة

ص : 181

ص : 182

المسلم يرث الكافر دون العكس

اشارة

إنّ للإرث في الفقه الإسلامي موجبات وموانع

أمّا الموجبات له فسببان : النسب والسبب. وقد قيل :

الإرث في الشرع بأمرين وجب

بالنسب الثابت شرعاً وسبب

وأمّا الموانع فهي : الكفر ، والقتل ، والرقّ ، فنُهمِلُ الكلامَ في المانعين الأخيرين ، ونركّز على المانع الأوّل ضمن مسألتين :

الأُولى : توريث الكافر من المسلم

لا يرث الكافر المسلم مطلقاً ، إجماعاً محقّقاً بين المسلمين ، مع تضافر الروايات عليه.

قال المفيد في «المقنعة» : ولا يرث كافر مسلماً على حال. (1)

وقال الطوسي في «المبسوط» : والكافر لا يرث المسلم بلا خلاف. (2)

وقال ابن قدامة : أجمع أهل العلم على أنّ الكافر لا يرث المسلم. (3)

وبما انّ هذه المسألة ممّا لم يختلف فيها اثنان ، وهي مورد اتفاق بين الفريقين نكتفي بهذا المقدار ونركّز البحث على المسألة الثانية.

ص : 183


1- المقنعة : 700.
2- المبسوط : 4 / 79.
3- المغني : 6 / 340.
الثانية : توريث المسلم من الكافر
اشارة

هذه المسألة اختلفت فيها كلمات الفقهاء ، فالإمامية ولفيف من غيرهم على أنّه يرث الكافر ، ولكن الأكثرية من غيرهم على المنع.

وتحقيق الكلام في هذه المسألة التي أصبحت مثار بحث وجدل واسع بين المذهبين ، يتم ببيان أُمور :

ص : 184

1- استعراض كلمات الفقهاء

1. قال الشيخ الطوسي : ذهبت الإمامية قاطبة تبعاً لأئمّة أهل البيت - عليهم السلام - ، ومعاذ بن جبل ومعاوية بن أبي سفيان من الصحابة ، ومسروق وسعيد وعبد الله بن معقل ومحمد بن الحنفية وإسحاق بن راهويه من التابعين إلى أنّ المسلم يرث الكافر.

وقال جمهور الصحابة والفقهاء على أنّه لا يرث المسلم الكافر. (1)

2. وقال ابن قدامة : قال جمهور الصحابة والفقهاء : لا يرث المسلم الكافر. يروى هذا عن أبي بكر وعثمان وعلي وأُسامة بن زيد وجابر بن عبد الله ، وبه قال عمرو بن عثمان وعروة والزهري وعطاء وطاوس والحسن وعمر بن عبد العزيز وعمرو بن دينار والثوري وأبو حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي وعامّة الفقهاء ، وعليه العمل.

وروي عن عمر ومعاذ ومعاوية ، أنّهم ورَّثوا المسلم من الكافر ولم يورِّثوا الكافر من المسلم. وحكي ذلك عن محمد بن الحنفية ، وعلي بن الحسين ، وسعيد بن المسيب ، ومسروق ، وعبد الله بن معقل ، والشعبي ، والنخعي ، ويحيى بن يعمر ،

ص : 185


1- الخلاف : 4 / 23 ، كتاب الفرائض ، المسألة 16.

وإسحاق ؛ وليس بموثوق به عنهم ، فإنّ أحمد قال : ليس بين الناس اختلاف في أنّ المسلم لا يرث الكافر. (1)

وجدير بالذكر انّهم ينسبون عدم الإرث إلى عليّ - عليه السلام - وعلي بن الحسين المعروف بزين العابدين - عليه السلام - مع أنّ روايات أئمة أهل البيت متضافرة على خلافه كما سيوافيك.

ص : 186


1- المغني : 6 / 340.
2- الكتاب حجّة قطعية لا يعدل عنه إلاّ بدليل قطعي

إنّ الكتاب حجّة قطعية سنداً ودلالة في غير المجملات والمبهمات والمتشابهات ولا ترفع اليد عن مثله إلاّ بدليل قطعي آخر ، فإنّ كون الكتاب حجّة ليس ككون خبر الواحد حجّة ، بل هو من الحجج القطعية الذي لا يعادله شيء إلاّ نفس كلام المعصوم ، لا الحاكي عنه الذي يحتمل أن يكون كلام المعصوم أو موضوعاً على لسانه ، وقد سمّاه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في حديث الثقلين بالثقل الأكبر ، ومعه كيف يمكن رفع اليد عن ظواهر القرآن بخبر الواحد وإن كان ثقة؟!

ولذلك قلنا في الأُصول : إنّ رفع اليد عن إطلاق الكتاب وعمومه بمجرّد ورود خبر ثقة مشكل جدّاً ، إلاّ إذا احتفّ الخبر بقرينة توجب اطمئنان الإنسان بصدوره من المعصوم يجعله بمثابة تسكن النفس إليه ، ولأجل ذلك لم تجوّز طائفة من الأُصوليّين تخصيص القرآن بخبر الواحد.

قال الشيخ الطوسي - بعد نقل الآراء في تخصيص الكتاب وتقييده بخبر الواحد - :

والذي أذهب إليه انّه لا يجوز تخصيص الكتاب بها [بأخبار الآحاد] على

ص : 187

كلّ حال ، سواء خُصّ أم لم يخصّ ، بدليل متّصل أو منفصل ، والذي يدلّ على ذلك انّ عموم القرآن يوجب العلم ، وخبر الواحد يوجب غلبة الظن ، ولا يجوز أن يترك العلم بالظن على حال ، فوجب بذلك أن لا يخصّ العموم به. (1)

وأيّده المحقّق الحلّيّ فقال : لا نسلّم انّ خبر الواحد دليل على الإطلاق ، لأنّ الدلالة على العمل به ، هي الإجماع على استعماله فيما لا يوجد عليه دلالة فإذا وجدت الدلالة القطعية سقط وجوب العمل. (2)

وحاصل كلامهما وجود الشكّ في سعة دليل حجّية خبر الواحد ، وانّه هل يعمّ ما إذا كان في المورد دليل قطعي مثل الكتاب؟!

إنّ كثيراً من الأُصوليّين وإن كانوا يتعاملون مع الكتاب العزيز معاملة سائر الحجج ، أعني : السنّة الحاكية ، لكنّ الكتاب أعظم شأناً من أن يكون عِدْلاً لأمثالها بل هو حجة قطعية ، فعموم القرآن وإطلاقاته حجّة على المجتهد إلاّ إذا وقف على حجّة أُخرى تسكن النفس إليها ويطمئن بها المجتهد ، فعند ذلك يقيّد عموم القرآن وإطلاقاته به.

إذا عرفت ذلك فلندخل في صلب الموضوع ونقدّم أدلّة القائلين بالإرث على أدلّة نفاته.

ص : 188


1- عدّة الأُصول : 1 / 135.
2- المعارج : 46.
3- أدلّة القائلين بإرث المسلم من الكافر
اشارة

استدلّ القائلون بأنّ المسلم يرث الكافر مطلقاً ، كتابياً كان أو وثنياً بوجوه :

1. إطلاقات الكتاب العزيز

إنّ مقتضى إطلاقات الكتاب وعموماته ، هو التوارث في الحالتين ، من دون فرق بين إرث الكافر ، المسلم وبالعكس ، قال سبحانه :

(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ). (1)

وقال سبحانه : (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ ...). (2)

ص : 189


1- النساء : 11.
2- النساء : 12

وقال سبحانه : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ...). (1)

غير أنّ الدليل القطعي وهو اتّفاق المسلمين قام على إخراج إرث الكافر من المسلم من تحت هذه الإطلاقات والعمومات.

وأمّا إرث المسلم من الكافر فخروجه رهن دليل قطعي تسكن إليه النفس حتّى يعد عديلاً للقرآن في الحجّية ويخصّ الكتاب أو يقيّد بهذا الدليل ، فلا بدّ من دراسة الروايات التي استدلّ بها على عدم توريث المسلم من الكافر ، وانّه هل هي بهذه المثابة أو لا؟ وستتم دراسته في الفصل القادم.

2. إجماع الإمامية على الإرث

اتّفقت الإمامية على أنّ المسلم يرث الكافر مطلقاً ، ولم يختلف فيه اثنان منهم ، وقد مرّت الإشارة إلى إجماع الطائفة في كلام الشيخ الطوسي ، ولنذكر غيرها ، حتّى يتّضح اتّفاقهم في المسألة.

1. قال المفيد (336 - 413 ه) : ويرث أهل الإسلام بالنسب والسبب أهلَ الكفر والإسلام ، ولا يرث كافر مسلماً على كلّ حال. فإن ترك اليهودي ، أو النصراني ، أو المجوسي ، ابناً مسلماً وابناً على ملّته ، فميراثه عند آل محمد لابنه المسلم دون الكافر ؛ ولو ترك أخاً مسلماً وابناً كافراً ، حجب الاخُ المسلم الابنَ في الميراث وكان أحقّ به من الابن الكافر ، وجرى الابن الكافر مجرى الميت في حياة أبيه ، أو القاتل الممنوع بجنايته من الميراث. (2)

2. وقال السيد المرتضى (355 - 436 ه) في «الانتصار» : وممّا انفردت به

ص : 190


1- النساء : 176.
2- المقنعة : 700.

الإمامية عن أقوال باقي الفقهاء في هذه الأزمان القريبة وإن كان لها موافق في متقدّم الزمان : القول بأنّ المسلم يرث الكافر وإن لم يرث الكافر ، المسلم.

وقد روى الفقهاء في كتبهم موافقة الإمامية على هذا المذهب عن سيدنا علي بن الحسين - عليه السلام - ومحمد بن الحنفية وعن مسروق وعبد الله بن معقل المزني وسعيد بن المسيب ويحيى بن يعمر ومعاذ بن جبل ، ومعاوية بن أبي سفيان. (1)

3. وقال الطوسي (385 - 460 ه) : والكافر لا يرث المسلم بلا خلاف ، والمسلم يرث الكافر عندنا ، حربياً كان أو ذمّيّاً ، أو كافر أصل ، أو مرتداً عن الإسلام. (2)

4. وقال ابن زهرة (585511 ه) : إنّ الكافر لا يرث المسلم ، فأمّا المسلم فانّه يرث الكافر عندنا وإن بعد نسبه. ويدلّ على ذلك الإجماع الماضي ذكره ، وظاهر آيات الميراث ، لأنّه إنّما يخرج من ظاهرها ما أخرجه دليل قاطع. (3)

5. وقال ابن إدريس (539 - 598 ه) : قد بيّنا فيما مضى انّ الكافر لا يرث المسلم ، فأمّا المسلم فانّه يرث الكافر عندنا وإن بعد نسبه ويحجب من قرب عن الميراث بلا خلاف بيننا. (4)

6. وقال الكيدري (... - 600 ه) : المسلم يرث الكافر ، وإن بعد نسبه ، أمّا بالعكس فلا ، كما مضى.

7. و (5) قال المحقّق الحلي : (602 - 676 ه) : ويرث المسلم الكافر ، أصلياً

ص : 191


1- الانتصار : 587 ، المسألة 323.
2- المبسوط : 4 / 79.
3- غنية النزوع : 328 ، تحقيق مؤسسة الإمام الصادق - عليه السلام -.
4- السرائر : 3 / 266.
5- إصباح الشيعة بمصباح الشريعة : 370.

ومرتداً ، ولو مات كافر وله ورثة كفّار ، ووارث مسلم ، كان ميراثه للم (1) سلم.

8. قال الشهيد الثاني - معلّقاً على كلام المحقّق «ويرث المسلم الكافر» : هذا موضع وفاق بين الأصحاب. (2)

إلى غير ذلك من الكلمات الّتي يجدها الباحث في مظانّها ، ولا حاجة إلى نقلها تفصيلاً.

وهذا النوع من الإجماع الموسوم بالإجماع المحصّل حجّة بنفسه حسب أُصول المخالفين ، وكاشف عن رأي المعصوم على أُصولنا ، وهو حجّة قطعية لا يعدل عنها إلى غيرها.

3. الروايات المتضافرة عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام -

قد تضافرت الروايات على أنّ المسلم يرث الكافر ولا عكس ، وقد جمعها الشيخ الحرّ العاملي في كتاب الفرائض الباب الأوّل من أبواب موانع الإرث ، وهي تناهز عشر روايات ، وإليك استعراضها :

1. أخرج الصدوق بسند صحيح عن أبي ولاّد ، قال : سمعت أبا عبد الله - عليه السلام - يقول : «المسلم يرث امرأته الذمّيّة ، وهي لا ترثه». (3)

ومورد الرواية هو إرث المسلم زوجته ، ولكن المورد غير مخصّص خصوصاً بقرينة ما يأتي من المطلقات والعمومات.

2. أخرج الصدوق عن الحسن بن صالح ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : «المسلم يحجب الكافر ويرثه ، والكافر لا يحجب المسلم ولا يرثه». (4)

ص : 192


1- الشرائع : 2 / 814.
2- مسالك الأفهام : 13 / 31.
3- الوسائل : 17 ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، الحديث 1 و 2.
4- الوسائل : 17 ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، الحديث 1 و 2.

وعلى ذلك فلو كان للكافر ابن كافر ، وأخ مسلم يحجب الأخ إرث الابن الكافر ؛ والكلام في المقام في إرث المسلم ، الكافر ، وكونه - وراء ذلك - حاجباً عن إرث الكافر مسألة ثانية ، ولا ملازمة عقلاً بين المسألتين ، إذ يمكن الفصل بين المسألتين عقلاً ، بأن يكون وارثاً ، لا حاجباً.

نعم دلّت الروايات على كونه حاجباً أيضاً ، فيحجب إرث الكافر من الكافر ، سواء كان الحاجب متّحداً مع الممنوع في الطبقة أو متأخّراً عنه ، فالولد المسلم يحجب الولد الكافر ، كما أنّ الأخ المسلم يحجب إرث الولد الكافر.

3. أخرج الشيخ بسند معتبر عن أبي خديجة ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : «لا يرث الكافر المسلم ، وللمسلم أن يرث الكافر ، إلاّ أن يكون المسلم قد أوصى للكافر بشيء». (1)

4. أخرج الشيخ عن عبد الرحمن بن أعين ، عن أبي جعفر - عليه السلام - في النصراني يموت وله ابن مسلم ، أيرثه؟ قال : «نعم ، إنّ الله عزّ وجلّ لم يزدنا بالإسلام إلاّ عزّاً ، فنحن نرثهم وهم لا يرثوننا». (2)

5. ما أخرجه الصدوق بسند موثّق عن سماعة ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : سألته عن المسلم هل يرث المشرك؟ قال - عليه السلام - : «نعم ، فأمّا المشرك فلا يرث المسلم». (3)

6. أخرج الفقيه بسند معتبر عن محمد بن قيس ، عن أبي جعفر - عليه السلام - ، قال : سمعته ، يقول : «لا يرث اليهودي والنصراني المسلمين ، ويرث المسلمون اليهود والنصارى». (4)

ص : 193


1- الوسائل : 17 ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، الحديث 3 ، 4 ، 5 ، 7.
2- الوسائل : 17 ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، الحديث 3 ، 4 ، 5 ، 7.
3- الوسائل : 17 ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، الحديث 3 ، 4 ، 5 ، 7.
4- الوسائل : 17 ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، الحديث 3 ، 4 ، 5 ، 7.

7. أخرج الشيخ في «التهذيب» عن أبي العباس (البقباق) قال : سمعت أبا عبد الله - عليه السلام - يقول : «لا يتوارث أهل ملّتين (يرث هذا هذا ، ويرث هذا هذا) إلاّ أنّ المسلم يرث الكافر والكافر لا يرث المسلم». (1)

8. أخرج الكليني بسند صحيح عن جميل وهشام ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - انّه قال : فيما روى الناس عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنّه قال : «لا يتوارث أهل ملّتين ، قال : نرثهم ولا يرثونا ، انّ الإسلام لم يزده في حقّه إلاّ شدّة».

وفي رواية الشيخ الطوسي : «انّ الإسلام لم يزده إلاّ عزّاً في حقّه». (2)

ثمّ إنّ الرواية السابعة والثامنة تفسران ما رواه الجمهور عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من أنّه لا يتوارث أهل ملّتين كما سيوافيك بيانه ، وحاصل التفسير : انّ نفي التوارث كما يحصل بعدم إرث كلّ الآخر ، يتحقّق أيضاً بعدم إرث الكافر المسلم دون المسلم ، الكافر.

وبذلك أيضاً يفسر بعض الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت بنفس اللفظ النبوي أو قريب منه ، نظير الروايات التالية :

9. أخرج الشيخ بسند معتبر عن حنان بن سدير ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : سألته يتوارث أهل ملّتين؟ قال : «لا». (3)

10. ونظيره ما رواه علي بن جعفر - عليه السلام - ، عن أخيه موسى بن جعفر - عليه السلام - ، قال : سألته عن نصراني يموت ابنه وهو مسلم ، فهل يرث ، فقال : «لا يرث أهل ملّة».

وفي المصدر : لا يرث أهل ملّة ملّةً. (4)

ص : 194


1- الوسائل ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، الحديث 15 ، 14 ، 20.
2- الوسائل ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، الحديث 15 ، 14 ، 20.
3- الوسائل ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، الحديث 15 ، 14 ، 20.
4- لاحظ الوسائل : 17 ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، الحديث 24.

وهو محمول على عدم التوارث من الطرفين فلا ينافي إرث المسلم الكافر.

إلى هنا تمّت دراسة ما دلّ على إرث المسلم الكافر ، وهي متضافرة تفيد الاطمئنان بالصدور.

الروايات المعارضة

ثمّ إنّ هناك روايات ربّما يتراءى التعارض بينها وبين ما سبق ، لا تعارضاً مطلقاً ، بل تعارضاً نسبياً ، وهي القول بإرث المسلم الكافر إلاّ في مورد الزوج والزوجة أو خصوص الزوجة.

ومقتضى صناعة الفقه تخصيص المطلقات السابقة بهذه الروايات المتعارضة ، إلاّ أنّها فاقدة للحجّية فيطرح تخصيصها بها ، وإليك ما يعارضها بظاهره :

1. ما رواه الصدوق مرسلاً ، قال : قال أبو عبد الله - عليه السلام - في الرجل النصراني تكون عنده المرأة النصرانية فتسلم أو يسلم ثمّ يموت أحدهما؟ قال : «ليس بينهما ميراث». (1)

2. رواية عبد الملك بن عمير القبطي ، عن أمير المؤمنين - عليه السلام - أنّه قال للنصراني الذي أسلمت زوجته : «بضعها في يدك ، ولا ميراث بينكما». (2)

3. رواية عبد الرحمن البصري ، قال : قال أبو عبد الله - عليه السلام - : «قضى أمير المؤمنين - عليه السلام - في نصراني ، اختارت زوجته الإسلام ودار الهجرة : أنّها في دار الإسلام لا تخرج منها ، وأنّ بضعها في يد زوجها النصراني ، وأنّها لا ترثه ولا

ص : 195


1- الوسائل : 17 ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، الحديث 12 و 22.
2- الوسائل : 17 ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، الحديث 12 و 22.

يرثها». (1)

4. رواية عبد الرحمن بن أعين قال : قال أبو جعفر - عليه السلام - : «لا نزداد بالاسلام إلاّ عزّاً ، فنحن نرثهم ولا يرثونا ، هذا ميراث أبي طالب في أيدينا ، فلا نراه إلاّ في الولد والوالد ، ولا نراه في الزوج والمرأة». (2)

وهذه الروايات لا يعتمد عليها في مقابل ما تضافر.

أمّا الأُولى فهي مرسلة الصدوق في «المقنع» وليست مسندة إلى المعصوم.

وأمّا الثانية - فهي مضافاً إلى كونها مرسلة لما في سندها من قوله : عن أُمّي الصيرفي أو بينه وبينه رجل ، عن عبد الملك بن عمير القبطي - فإنّ عبد الملك لم يوثّق.

وأمّا الثالثة فسندها وإن كان موثّقاً ومقتضى الجمع الصناعي هو تخصيص ما دلّ على إرث المسلم الكافر بهذه الرواية وتكون النتيجة : إرث المسلم الكافر ، إلاّ الزوجة المسلمة فإنّها لا ترث الزوج الكافر.

ولكن العمل بهذه الرواية في مقابل ما تضافر وتواتر عنهم غير صحيح ، مضافاً إلى أنّ مقتضى التعليل الوارد في رواية عبد الرحمن بن أعين عن أبي عبد الله - عليه السلام - : «لا يتوارث أهل ملّتين ، نحن نرثهم ولا يرثونا ، إنّ الله عز وجلّ لم يزدنا بالإسلام إلاّ عزّاً». (3) هو عدم الفرق بين الزوجة وغيرها ، لأنّ التعليل آب عن التخصيص.

وأمّا الرواية الرابعة فيرد عليها أمران :

ص : 196


1- الوسائل : 17 ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، الحديث 23 و 19.
2- الوسائل : 17 ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، الحديث 23 و 19.
3- انظر الرواية الرابعة.

الأوّل : انّ ظاهر الرواية هو عدم إيمان أبي طالب ، وهذا ممّا اتّفق أئمّة أهل البيت على خلافه.

الثاني : انّ إخراج الزوجة والزوج خلاف مقتضى التعليل الوارد في نفس هذه الرواية.

أضف إلى ذلك إعراض المشهور عن هذه الروايات الأربع ومخالفتها لصحيح أبي ولاّد (الرواية الأُولى) على نحو التباين.

فخرجنا بالنتيجة التالية : انّ الرأي السائد عند أتباع أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - هو إرث المسلم الكافر ، من دون فرق في المسلم بين كونه زوجاً أو زوجة.

وأمّا هذه الروايات الأربع ، فهي بين ضعيفة كمرسلة الصدوق ورواية عبد الملك بن عمير ، أو مخالفة للتعليل الآبي عن التخصيص ، كالرواية الثالثة ، أو مخدوش في المضمون لاشتماله على كفر أبي طالب ، مضافاً إلى أنّ إخراج الزوج والزوجة خلاف التعليل الوارد فيها وخلاف صحيحة أبي ولاّد.

إلى هنا تمّت دراسة الروايات المروية عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام -.

الرابع : الآثار المروية في السنن

ثمّ إنّ هناك آثاراً مروية عن الصحابة تؤيّد موقف الإمامية في المسألة ، وإليك بعض ما وقفنا عليه :

1. أخرج أبو داود عن عبد الله بن بريدة ، انّ أخوين اختصما إلى يحيى بن يعمر ، يهودي ومسلم فورّث المسلم منهما ، وقال : حدّثني أبو الأسود انّ رجلاً حدّثه ، انّ معاذاً حدّثه ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول : الإسلام يزيد ولا

ص : 197

ينقص ، فورث المسلم. (1)

2. أخرج أبو داود عن عبد الله بن بريدة ، عن يحيى بن يعمر ، عن أبي الأسود الدؤلي انّ معاذاً أتى بميراث يهودي وارثه مسلم ، بمعناه عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. (2)

3. أخرج الدارمي عن مسروق قال : كان معاوية يورِّث المسلم من الكافر ولا يورث الكافر من المسلم ، قال : قال مسروق : وما حدث في الإسلام قضاء أحب إليّ منه ، قيل لأبي محمد تقول بهذا ، قال : لا. (3)

قال السيد المرتضى بعد نقل قضاء معاذ : ونظائر هذا الخبر موجودة كثيرة في رواياتهم.

وعلى كلّ تقدير ففي الكتاب مع ما تضافر من الروايات عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - وفي هذه الآثار كفاية لمن رام الحق ، ولكن لا يتم الإفتاء إلا بدراسة دليل المخالف فانتظر.

الخامس : حرمان المسلم خلاف الامتنان

إنّ من درس موارد الحرمان في الإرث يقف على أنّه إمّا للإرغام ، أو لضعة الوارث.

والأوّل كما في القاتل فلا يرث المقتول ، وذلك لأنّه حاول بقتله أن يرثه معجلاً ، فانعكس الأمر وصار محروماً بتاتاً.

والثاني كما في الرق حيث لا يرث الحر لضعة مرتبته ودرجته.

ص : 198


1- سنن أبي داود : 3 / 126 ، حديث رقم 2912.
2- سنن أبي داود : 3 / 126 ، برقم 2913.
3- سنن الدارمي : 370 ، باب في ميراث أهل الشرك وأهل الإسلام.

فعلى ضوء ما ذكرنا يجب أن يرث الكافر المسلم دون العكس ، وإلاّ يلزم أن يكون حرمان المسلم إرث الكافر إرغاماً له ، وهو كما ترى.

وإن شئت قلت : إنّ التشريع الإسلامي قائم على الترغيب والترهيب ، ففي الموضع الذي يكون المورِّث كافراً والوارث على وشك اعتناق الإسلام ، فلو قيل له أنت لو أسلمت يكون جزاء إسلامك هو حرمانك من عطايا والدك وأُمّك التي يتركها لك ، فهو يرجع إلى الوراء ويتعجب من هذا التشريع الذي يُرهب مكان الترغيب ، ويبعِّد بدل التقريب إلى الإسلام ويعده على طرف النقيض من الترغيب.

إلى هنا تمّ ما دلّ على إرث المسلم الكافر.

فحان حين البحث في أدلّة نفاة الإرث وهي على قسمين :

1. الأحاديث الواردة في الموضوع.

2. الآثار المنقولة عن الصحابة.

فإليك دراسة كلّ واحد على حدة.

ص : 199

4- أدلّة القائلين بعدم التوريث
اشارة

استدلّ القائلون بعدم توريث المسلم من الكافر بأحاديث وآثار ، نشير إلى الجميع.

1. حديث عمرو بن شعيب

أخرج أبو داود بسنده عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لا يتوارث أهل ملّتين شتى». (1)

وأخرج الدارقطني بسنده عن عمرو بن شعيب ، قال : أخبرني أبي ، عن جدّي عبد الله بن عمرو ، انّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قام يوم فتح مكة ، قال : «لا يتوارث أهل ملّتين». (2)

وأخرجه البيهقي بنفس السند ، قال : لا يتوارث أهل ملّتين شتّى. وفي لفظ آخر : ولا يتوارثون أهل ملّتين. (3)

ص : 200


1- سنن أبي داود 3 / 126 ، برقم 2911.
2- سنن الدارقطني : 2 / 72 ، برقم 16.
3- سنن البيهقي : 6 / 218 ، باب لا يرث المسلم الكافر.

ورواه أيضاً ابن ماجة في سننه. (1)

ونقله الدارمي عن عمر مرسلاً عن النبي ، وعن أبي بكر وعمر موقوفاً أنّ رسول الله وأبا بكر وعمر قالوا : لا يتوارث أهل دينين. ونقل عن عمر قال : لا يتوارث أهل ملّتين. (2)

ولكن الاستدلال غير تام دلالة وسنداً.

أمّا الدلالة فقد أُشير إليه في غير واحد من روايات أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - ، وحاصله : انّ الحديث بصدد نفي التوارث لا الإرث من كلّ جانب ويصدق نفي التوارث بعدم توريث الكافر من المسلم دون العكس ، فلو قيل : ما تضارب زيد وعمرو ، كفي في صدقه عدم الضرب من جانب واحد ، فيقال : لم يكن هنا تضارب بل ضرب من جانب واحد ، فالنبي بصدد نفي التوارث وهو لا ينافي الإرث من جانب واحد ، وهذه الروايات وإن مرّت الإشارة إليها لكن نأت بواحد منها.

أخرج الكليني عن جميل وهشام ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - انّه قال : فيما روي الناس عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - انّه قال : لا يتوارث أهل ملّتين ، قال : «نرثهم ولا يرثونا ، انّ الإسلام لم يزده في حقّه إلاّ شدة». (3)

هذا كلّه حول دلالة الرواية ، وأمّا السند فقد تفرّد بروايته عمرو بن شعيب وأبوه وجدّه عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أفيمكن ترك الكتاب بالخبر الذي تفرد به هؤلاء؟!

على أنّ عمرو بن شعيب مطعون به ، فقد ترجم له ابن حجر في «التهذيب» ترجمة ضافية على نحو يسلب سكون النفس إلى روايته ، حيث قال : قال علي بن المديني عن يحيى بن سعيد : حديثه عندنا واه.

ص : 201


1- سنن ابن ماجة : 2 / 912 ، الحديث 2731.
2- سنن الدارمي : 2 / 369.
3- لاحظ الرواية الثامنة.

وقال علي عن ابن عيينة : حديثه عند الناس فيه شيء.

وقال أبو عمرو بن العلاء : كان يعاب على قتادة وعمرو بن شعيب انّهما كانا لا يسمعان شيئاً إلاّ حدّثا به.

وقال الميموني : سمعت أحمد بن حنبل يقول : له أشياء مناكير ، وإنّما يكتب حديثه يعتبر به فأمّا أن يكون حجّة فلا.

إلى أن قال : وقال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين : إذا حدّث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه فهو كتاب ، ومن هنا جاء ضعفه. (1)

فمن قرأ ترجمته المفصّلة في هذا الكتاب وأقوال العلماء المتضاربة في حقّه ، يقف على أنّه لا يمكن تقييد الكتاب وتخصيصه بروايته.

2. حديث أُسامة

أخرج البخاري عن أبي عاصم ، عن ابن جريج ، عن ابن شهاب ، عن علي بن الحسين ، عن عمرو بن عثمان ، عن أُسامة بن زيد انّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : لا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم. (2)

أخرج مالك عن عمرو بن عثمان بن عفان ، عن أُسامة بن زيد ، انّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : لا يرث المسلم الكافر. (3)

أخرج مسلم بنفس هذا السند انّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم. (4)

وأخرجه البيهقي في سننه (5) ، إلى غير ذلك من المصادر.

يلاحظ على الاستدلال : أوّلاً : أنّه خبر واحد تفرّد بنقله أُسامة بن زيد كما

ص : 202


1- تهذيب التهذيب : 8 / 48 برقم 80.
2- فتح الباري : 12 / 40 برقم 6764.
3- الموطأ : 2 / 519 ، الحديث 10.
4- صحيح مسلم : 5 / 59 ، كتاب الفرائض.
5- سنن البيهقي : 6 / 218.

تفرد بنقله من نقل عنه ، وطبيعة المسألة تقتضي أن يقوم بنقلها غير واحد من الصحابة والتابعين لا سيّما في العهد النبوي ومن بعده حيث إنّ شرائح كبيرة من المجتمع كانت تبتلي بتلك الظاهرة ، فتفرّد أُسامة بسماع الحكم دون غيره يورث الشك بالرواية.

وثانياً : أنّ ابن شهاب في سند البخاري عن علي بن الحسين ، عن عمرو بن عثمان ، عن أُسامة انّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» (1) ، مع أنّ أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - ومنهم علي بن الحسين - عليهما السلام - كانوا يروون ويفتون على خلاف ذلك ، فقد اشتهر أنّ آل محمّد متفردون بهذا الرأي.

وثالثاً : أنّ الدارمي نقل الحديث عن علي بن الحسين ، عن أُسامة بحذف عمرو بن عثمان من السند. (2)

وقد نقل المرتضى في «الانتصار» أنّ الزهري [ابن شهاب] نقله عن عمرو بن عثمان ولم يذكر علي بن الحسين ، فالاختلاف في السند يوجب الطعن في الرواية. (3)

ورابعاً : أنّ أحمد بن حنبل ينقل عن مالك ، عن الزهري ، عن علي بن الحسين - عليهما السلام - ، عن عمرو بن عثمان ، عن أُسامة بن زيد عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لا يرث المسلم الكافر» (4) الظاهر في عدّ سماعة من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، مباشرة خلافاً لما رواه البخاريّ الظاهر في سماعة عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - وهذا أيضاً اختلاف واضطراب في الرواية ، يحطّ من الاعتماد عليها.

3. حديث عامر الشعبي

عن عامر الشعبي انّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأبا بكر وعمر قالوا : لا يتوارث أهل

ص : 203


1- مسند أحمد : 5 / 208
2- سنن الدارمي : 2 / 370.
3- نقله المرتضى في الانتصار : 590.
4- مسند أحمد : 5 / 208.

دينين.

ولكن الرواية مرسلة ، لأنّ الشعبي (1) ولد بالكوفة سنة 19 ه - وقيل : سنة 21 ه ، ورأى الإمام عليّاً وصلّى خلفه ، فكيف ينقل عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؟! والمعروف أنّ الشعبي كان من الموالين لبني أُميّة أعداء أهل البيت - عليهم السلام - ، فكيف يمكن الاعتماد على روايته؟!

4. الاستدلال بالآثار المروية عن الصحابة

وقد استدلّ بالروايات الموقوفة على الصحابة من دون أن تسند إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهي كثيرة :

1. أخرج الدارمي عن عامر الشعبي ، عن عمر قال : لا يتوارث أهل ملّتين. (2)

2. عن عامر انّ المغيرة بنت الحارث توفيت باليمن وهي يهودية ، فركب الأشعث بن قيس وكانت عمّته إلى عمر في ميراثها ، فقال عمر : ليس ذلك لك ، يرثها أقرب الناس منها من أهل دينها ، لا يتوارث ملّتان. (3)

3. عن ابن سيرين ، قال عمر بن الخطاب : لا يتوارث ملّتان شتّى ولا يحجب من لا يرث. (4)

يلاحظ على الاستدلال بهذه الآثار : أنّها موقوفات لم تسند إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فهي حجّة على أصحابها على أنّ قوله : «لا يتوارث أهل ملّتين» أو قوله : «لا يتوارث ملّتان شتّى» لا يصلح دليلاً على عدم توريث المسلم من الكافر ، لما عرفت من أنّه يهدف إلى نفي التوارث ، ويكفي في صدقه عدم توريث الكافر من المسلم.

ص : 204


1- انظر موسوعة طبقات الفقهاء : 1 / 414 برقم 181.
2- سنن الدارمي : 2 / 369 ، 370 ؛ سنن البيهقي : 6 / 218.
3- سنن الدارمي : 2 / 369 ، 370 ؛ سنن البيهقي : 6 / 218.
4- سنن الدارمي : 2 / 369 ، 370 ؛ سنن البيهقي : 6 / 218.

نعم فهم الخليفة وأضرابه ، نفي الإرث من كلّ جانب ، ففهمهم حجّة على أنفسهم دون غيرهم.

ولذلك يمكن أن يقال : انّ الحرمان من كلا الطرفين كان سنّة للخليفة لمصلحة رآها ، وليس ذلك ببعيد ، فإنّ له نظيراً غير هذا المورد.

أخرج مالك في موطّئه عن الثقة عنده انّه سمع سعيد بن المسيب يقول : أبى عمر بن الخطاب أن يورث أحداً من الأعاجم ، إلاّ أحداً ولد في العرب. (1)

قال مالك : وإن جاءت امرأة حامل من أرض العدو ووضعته في أرض العرب ، فهو ولدها يرثها إن ماتت وترثه إن مات. (2)

وبذلك يعلم أنّ ما نسب إلى سعيد بن المسيب انّه قال : مضت السنّة أن لا يرث المسلم الكافر. (3) فلعلّ مراده من السنّة هو سنّة الخلفاء لا سنّة الرسول ، وإلاّ لنسبها إليه - صلى الله عليه وآله وسلم -.

وأمّا ما رواه البيهقي في سننه عن مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب انّ عمر بن الخطاب قال : لا نرث أهل الملل ولا يرثونا. (4)

فهو مخدوش ، لأنّ المعروف انّ سعيد بن المسيب ممّن يقول بالإرث ، وقد نقله عنه غير واحد من الفقهاء.

وفي الحاوي : وحكي عن معاذ بن جبل ومعاوية انّ المسلم يرث الكافر ولا يرث الكافر المسلم ، وبه قال محمد بن الحنفية وسعيد بن المسيب ومسروق والنخعي والشعبي وإسحاق بن راهويه. (5)

ص : 205


1- الموطأ : 2 / 520 برقم 14.
2- الموطأ : 2 / 520 برقم 14.
3- نقله المرتضى في الانتصار : 589.
4- سنن البيهقي : 6 / 219.
5- الحاوي : 8 / 78.

ونقله أيضاً النووي في شرح صحيح مسلم. (1)

إلى هنا تمت دراسة أدلّة المانعين ، وهي على أقسام :

1. غير تامّة دلالة ، أعني : ما يركز على نفي التوارث بين المسألتين الذي يصدق بنفي الإرث من جانب الكافر فقط.

2. تامّة سنداً ودلالة ، مثلما أخرجه البخاري ، لكنّه خبر واحد لا يقاوم الكتاب.

3. غير تامّة سنداً كرواية عمرو بن شعيب ، وقد عرفت ضعفها.

4. آثار موقوفة ليست حجّة إلاّ على أصحابها.

بقي للمانعين دليل آخر وحاصله : انّ الإرث من آثار الولاية ، ولا ولاية بين الكافر والمسلم.

5. انقطاع الولاية بين الكافر والمسلم

استدلّ القائل بنفي التوريث مطلقاً بوجه آخر ، وهو انّه سبحانه قال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (2) فإنّ الآية بصدد بيان نفي الولاية من الكفّار والمسلمين ، فإن كان المراد به الإرث فهو إشارة إلى أنّه لا يرث المسلم الكافر ، وإن كان المراد به مطلق الولاية ففي الإرث الولاية لأحدهما على الآخر. (3)

وقال ابن حجر : إنّ التوارث يتعلّق بالولاية ، ولا ولاية بين المسلم والكافر ، لقوله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (4). (5)

ص : 206


1- شرح صحيح مسلم : 11 / 52.
2- الأنفال : 73.
3- المبسوط للسرخسي : 30 / 30.
4- المائدة : 51.
5- فتح الباري : 12 / 50.

يلاحظ عليه بأمرين :

أوّلاً : بأنّ الإرث من آثار الولاية في العتق وضمان الجريرة ، فميراث المعتَق للمعتِق لأجل الولاء ، وهكذا الأمر في ضمان الجريرة.

وأمّا الوراثة في غير هذين الموردين فلم يعلم أنّه من آثار الولاية ، بل من آثار النسب والسبب.

والذي يدلّ على ذلك انّ التوارث أمر عقلائي لا يختصّ بأصحاب الشرائع ، بل يعمّ قاطبة البشر ، والملاك عند الجميع هو العلقة التكوينية بين أصحاب النسب أو الاعتبارية في السبب ووجود الولاية بين الوالد والولد أو غيرهما وإن كان أمراً ثابتاً مع العلقة التكوينية ، لكن ليس كلّ مقرون بها يكون موضوعاً للوراثة.

والذي يوضح ذلك انّ الفقهاء يذكرون عند بيان أسباب الإرث ، السببَ والنسَب مقابل الولاء.

أسباب ميراث الورى ثلاثة

كل يفيد ربّه الوراثة

وهي نكاح وولاء ونسب

ما بعدهن من مواريث سبب(1)

وثانياً : أنّ كون الولاية هي السبب للميراث يخالف ما عليه الحنفية ومن تبعهم من أنّ المسلم ، يرث المرتد مع انقطاع الولاية بين المسلم والمرتد.

قال النووي في شرح المهذب : قال أبو حنيفة والثوري : ما اكتسبه قبل الردة ورث عنه ، وما اكتسب بعد الردة يكون فيها. (2)

ص : 207


1- المجموع : 17 / 48.
2- المجموع : 17 / 57.

وقال النووي في شرح صحيح مسلم : أمّا المسلم فلا يرث المرتد عند الشافعي ومالك وربيعة وابن أبي ليلى وغيرهم ، بل يكون ماله فيئاً للمسلمين.

وقال أبو حنيفة والكوفيون والأوزاعي وإسحاق : يرثه ورثته من المسلمين ، وروي ذلك عن علي وابن مسعود وجماعة من السلف. (1)

وقال في الشرح الكبير عن أحمد ما يدلّ على أنّ ميراث المرتد لورثته من المسلمين ، يروى ذلك عن أبي بكر الصديق وعلي وابن مسعود (رض) ، وبه قال سعيد بن المسيب وجابر بن زيد والحسن وعمر بن عبد العزيز وعطاء والشعبي والحكم والأوزاعي والثوري وابن شبرمة وأهل العراق وإسحاق. (2)

ومن غريب القول : إنّ المسلم لا يرث الكافر ولكن الكافر يرث عتيقه المسلم ، وهو منقول عن أحمد كما في الموسوعة الفقهية. (3)

ونكتفي بهذا المقدار من البحث ، ولعلّ فيه غنى وكفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد ، وأمّا الكلام في الفروع الأُخرى ، أعني :

1. حجب المسلم الكافر.

2. إذا أسلم الكافر قبل القسمة وبعدها.

3. اشتراط عدم حجب المسلم الكافر في عقد الذمّة.

فنحيل الكلام فيها إلى مجال آخر ، فإنّ هذه الفروع اختلفت فيها كلمة الفريقين بخلاف الفرع الأوّل ، فجماهير أهل السنّة على المنع والإمامية على الجواز ، وقد دام هذا الخلاف إلى يومنا هذا ، ولعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً.

ص : 208


1- شرح النووي لصحيح مسلم : 11 / 52.
2- المغني : 7 / 167.
3- الموسوعة الفقهية : 3 / 25 ، مادة إرث نقله عن العذب الفائض : 1 / 31.

22- الميراث بالقرابة أو بالتعصيب

اشارة

ص : 209

ص : 210

الميراث بالقرابة أو بالتعصيب

اشارة

الميراث بالتعصيب من خصائص الفقه السنّي وليس في الفقه الإمامي منه عين ولا أثر ، بل هو منكر عند الإمامية أشدّ الإنكار كما سيوافيك ، ولإيضاح المقام نقدّم أُموراً

الأوّل : العَصَبة في اللغة والاصطلاح

العَصَبَة جمع عاصب كطلبة جمع طالب ، وهو مأخوذ من العَصَب وهو الطيّ الشديد ، يقال : عصب برأسه العمامة ، شدّها ولفّها عليه ، ومع كونها جمعاً لكن تطلق على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، وتجمع أيضاً على عَصَبات.

ويطلق على الذكر من أقارب الميت الذي لم تدخل في نسبته إلى الميت أُنثى ، وسُمُّوا عصبة لأنّهم أصابوا به ، أي أحاطوا بالميت ، فالأب طرف والابن طرف والأخ طرف ، والعم طرف ، وهؤلاء كلّهم عَصَبَة ، لأنّهم يحيطون بالميت كإحاطة العمامة بالرأس.

وفي مصطلح الفقهاء : العصبَة ، هو الوارث بغير فرض وتقدير ، فإذا كان

ص : 211

معه ذو فرض أخذ بما فضل عنه قلّ أو كثر ، وإن انفرد ، أخذ الكل ، وإن استغرقت الفروض المال ، سقط. (1)

الثاني : أقسام العصبة

تنقسم العصبة عندهم إلى قسمين :

الأوّل : العصبة النَّسَبيّة.

الثاني : العصبة السببيّة.

أمّا القسم الأوّل فهو على ثلاثة أصناف :

أحدها : العصبة بنفسه وهي كلّ ذكر لا يدخل في نسبته إلى الميت أُنثى ، وتنحصر في أربعة.

أ. البنوة ، وتسمّى جزء الميت.

ب. الأُبوة ، وتسمّى أصل الميت.

ج. الأُخوة ، وتسمّى جزء أبيه.

د. العمومة ، وتسمّى جزء الجد.

ثانيها : عصبة بغيره ، وهي الأُنثى التي يكون فرضها النصف حال الانفراد ، والثلثين إذا كان معها أُخت أو أكثر ، فإذا كان معها أو معهن أخ صار الجميع حينئذ عصبة به ، وهي أربع :

1. البنت أو البنات.

2. بنت أو بنات الابن.

ص : 212


1- المغني : 6 / 226.

3. الأُخت أو الأخوات الشقيقات.

4. الأُخت أو الأخوات لأب.

فكلّ صنف من هذه الأصناف الأربعة يكون عصبة بغيره وهو الأخ ويكون الإرث بينهم للذكر مثل حظ الأُنثيين.

ثالثها : العصبة مع الغير وهي كلّ أُنثى تحتاج في كونها عاصبة إلى أُنثى أُخرى وتنحصر العصبة مع الغير في اثنتين فقط من الإناث ، وهي :

أ. الأُخت الشقيقة أو الأخوات الشقيقات مع البنت أو بنت الابن.

ب. الأُخت لأب أو الأخوات لأب مع البنت أو بنت الابن ، ويكون لهن الباقي من التركة بعد الفروض.

وأمّا القسم الثاني ، أي العصبة السببية هو المولى المعتِقُ ، ذكراً كان أم أُنثى ، فإذا لم يوجد المعتِق فالميراث لعصبته الذكور. (1)

الثالث : أقسام نسبة الفروض مع مجموع التركة

الفروض الستة المقدرة في كتاب الله ، تارة تتساوى مع مجموع التركة ، كبنتين وأبوين ، وحينئذ لا عول ولا تعصيب ، حيث تأخذ البنتان الثلثين ، والأبوان الثلث.

وأُخرى تنقص الفروض عن التركة ، كبنت واحدة ، فإن فرضها النصف أو بنتين فإن فرضهما الثلثان ، فهل يردّ الباقي إليها أو إليهما بالقرابة كما عليه الإمامية ، أو يردّ إلى العصبة كما عليه فقهاء السنّة ويسمّى الميراث بالتعصيب؟

وثالثة تزيد الفروض على مجموع التركة ، كزوج وأبوين وبنت ، فإنّ فرض

ص : 213


1- فقه السنّة : 3 / 442 ، ط بيروت.

الزوج الربع والبنت النصف والأبوين الثلث ، والتركة لا تتحمل ربعاً ونصفاً وثلثاً ، وهذا هو العول الذي سيوافيك حكمه في المسألة الآتية.

الرابع : إيضاح التوريث بالتعصيب

المراد من التعصيب هنا هو توريث العصبة مع ذي فرض قريب ، كما إذا كان للميت بنت أو أكثر ، وليس له ولد ذكر.

أو لم يكن له أولاد أصلاً لا ذكور ولا إناث ، وله أُخت أو أخوات وليس له أخ ، وله عمّ.

فانّ مذاهب السنة تجعل أخ الميت شريكاً مع البنت أو البنات ، في المثال الأوّل ، كما تجعل العم أيضاً شريكاً مع الأُخت أو الأخوات كذلك في المثال الثاني.

هذا ما لدى السنّة ، وأمّا الإمامية فالإرث بالتعصيب باطل مطلقاً وإنّما الميراث بالفرض المسمى في كتاب الله ، أو بالقرابة أو الأسباب التي يورث بها من الزوجيّة والولاء.

ففي المثالين المذكورين إن بقي من الفرض يجب رده على صاحب الفرض القريب ، فالتركة عندهم بكاملها للبنت أو للبنات وليس لأخ الميت شيء ، وإذا لم يكن له أولاد ذكور ولا إناث وكان له أُخت أو أخوات ، فالمال كلّه للأُخت والأخوات ولا شيء للعمّ ، لأنّ الأُخت أقرب منه ، والأقرب يحجب الأبعد.

وبالجملة ليس للتعصيب دور في الميراث وإنّما يدور الميراث على الفروض والقرابة والسببية : الزوجية والولاء.

ص : 214

الخامس : ضابطة الميراث عند الفريقين

إنّ الضابطة لتقديم بعض الأقرباء النسبيّين على البعض الآخر عند الإمامية أحد أمرين :

1. كونه صاحب فريضة في الكتاب ، قال سبحانه : (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً). (1)

2. القربى إذا لم يكن صاحب فريضة ، فالأقرب إلى الميّت ، هو الوارث للكلّ ، أو لما فضل عن التركة ، قال سبحانه : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). (2)

وأمّا عند أهل السنّة فالملاك بعد الفرض ، هو التعصيب - بالمعنى الذي عرفت - بعد أصحاب الفرض ، وإن بعد عنهم ، كالأخ عند ما يموت عن بنت أو بنتين ، أو العم عند ما يموت عن أُخت أو أُختين فيرث الأخ أو العم ، الفاضلَ من التركة ، بما أنّهما عصبة ، ويُردّ عندنا إلى أصحاب الفروض ، وربّما لا يترتّب على الخلاف ثمرة ، كما في الموردين التاليين :

كما لو اجتمع الأب مع الابن ، فالأب يأخذ فرضه وهو السدس ، وما بقي يأخذه الابن بالاتّفاق لكن عندنا بالقرابة وعند أهل السنّة بالعصبة.

ومثله لو اجتمع الأب مع ابن الابن فبما أنّ الأولاد تنزل منزلة الآباء فللأب السدس والباقي لابن الابن عندنا بالقرابة وعندهم بالتعصيب.

لكن تظهر الثمرة في موارد أُخر. كما إذا كانت العصبة بعيدة عن ذي فرض ، كالأخ فيما إذا ترك بنتاً أو بنات ، ولم يكن له ولد ذكر ، أو العم فيما إذا ترك

ص : 215


1- النساء : 11.
2- الأنفال : 75.

أُختاً أو أخوات ولم يكن له أخ ، فعلى مذهب الإمامية لا يرد إلى البعيد أبداً ، سواء كان أخاً أو عمّاً ، لأنّ الضابط في التقديم والتأخير هو الفرض والقرابة ، وأمّا الأخو العم فهما ليسا من أصحاب الفروض قطعاً ، كما أنّهما بعيدان عن الميّت مع وجود البنت أو الأُخت ، فيرد عليهما الفاضل ، فالبنت ترث النصف فرضاً والنصف الآخر قرابة ، وهكذا الصورة الأُخرى.

وأمّا على مذاهب أهل السنّة ، فبما أنّهم حكموا بتوريث العصبة مع ذي فرض قريب ، يردّون الفاضل إلى الأخ في الأوّل ، والعم في الثاني.

قال الشيخ الطوسي : القول بالعصبة باطل عندنا ولا يورث بها في موضع من المواضع ، وإنّما يورث بالفرض المسمّى أو القربى ، أو الأسباب التي يورث بها من الزوجية والولاء ، وروي ذلك عن ابن عباس ، لأنّه قال فيمن خلّف بنتاً وأُختاً : إنّ المال كلّه للبنت دون الأُخت (1) ، ووافقه جابر بن عبد الله في ذلك.

وروى موافقة ابن عباس عن إبراهيم النخعي ، روى عنه الأعمش ولم يجعل داود الأخوات مع البنات عصبة ، وخالف جميع الفقهاء في ذلك وأثبتوا العصبات من جهة الأب والابن. (2)

السادس : عدم الثمرة فيما إذا كان قريب مساو لا فرض له

إذا بقى من سهام التركة شيء - بعد إخراج الفريضة - وكان بين الورثة من لا فرض له لا فرق بين القولين ولا تترتب عليهما ثمرة.

وبعبارة أُخرى : إذا اجتمع من لا فرض له مع أصحاب الفرض ففيها يردّ الفاضل على المساوي الذي ليس له سهم خاص في الكتاب ، سواء قلنا

ص : 216


1- وهي عصبة بالغير أي الأخ.
2- الخلاف : 4 / 62 ، كتاب الفرائض ، المسألة 80.

بالتعصيب أم لا. وإليك بعض الأمثلة :

1. إذا ماتت عن أبوين وزوج.

2. إذا مات عن أبوين وزوجة.

فالزوج في الأوّل ، والزوجة في الثاني ، والأُمّ في كليهما من أصحاب الفروض دون الأب ، فما فضل بعد أخذهم ، فهو لمن لا فرض له ، أي الأب ، فللزوج والزوجة نصيبهما الأعلى وللآُمّ الثلث ، والباقي للأب لأنّه لا فرض له ، نعم الأب من أصحاب الفروض إذا كان للميّت ولد قال سبحانه : (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) (1) بخلاف الأُمّ فهي مطلقاً من ذوات الفروض.

قال الخرقي في متن المغني : وإذا كان زوج وأبوان ، أُعطي الزوج النصف والأُم ثلث ما بقي ، وما بقي فللأب ، وإذا كانت زوجة أُعطيت الزوجة الربع ، والأُمّ ثلث ما بقي ، وما بقي للأب.

قال ابن قدامة : هاتان المسألتان تسمّيان العُمَريّتين لأنّ عُمَر قضى فيهما بهذا القضاء ، فتبعه على ذلك عثمان وزيد بن ثابت وابن مسعود ، وروي ذلك عن علي ، وبه قال الحسن والثوري ومالك والشافعي - رضي الله عنهم - وأصحاب الرأي ، وجعل ابن عباس ثلث المال كلّه للآُمّ في المسألتين ، ويروى ذلك عن علي. (2)

ص : 217


1- النساء : 11.
2- المغني : 6 / 236 - 237. وهذا ونظائره الكثيرة في الفرائض يعرب عن عدم وجود نظام محدّد في الفرائض في متناول الصحابة ، ومع أنّهم يروون عن النبي أنّ أعلم الصحابة بالفرائض هو زيد بن ثابت وانّه - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : «أفرضهم زيد ، وأقرأهم أُبيّ». لكنّه تبع قضاء عمر ولم يكن عنده شيء في المسألة التي يكثر الابتلاء بها.

3. ذلك الفرض ولكن كان للآُمّ حاجب ، فللزوج والزوجة نصيبهما الأعلى وللآُمّ السدس ، والكلّ من أصحاب الفرض ، والباقي للأب الذي لا فرض له.

4. إذا مات عن أبوين وابن وزوج أو زوجة ، فلهما نصيبهما الأدنى - لأجل الولد - وللوالدين السدسان والباقي للابن الذي لا فرض له.

5. إذا مات عن زوج أو زوجة وإخوة من الأُمّ ، وإخوة من الأبوين أو من الأب ، فللزوج النصف أو للزوجة الربع ، وللإخوة من الأُمّ الثلث ، والباقي لمن لا فرض له ، أي الإخوة من الأبوين أو الذين يتقرّبون بالأب.

ففي هذه الصورة فالزائد بعد إخراج الفرائض للمساوي في الطبقة الذي لا فرض له. ولعلّ هذه الصورة موضع اتّفاق بين الفقهاء : السنّة والشيعة.

السابع : ترتّب الثمرة إذا لم يكن قريب مساو لا فرض له

إذا لم يكن بين الورثة - وراء أصحاب الفروض - قريب مساو لا فرض له وزادت سهام التركة عن الفروض ، فهناك رأيان مختلفان بين الفقهاء : الشيعة والسنّة.

1. الشيعة كلّهم على أنّ الزائد يرد إلى أصحاب الفرائض عدا الزوج والزوجة (1) بنسبة سهامهم ، فإذا مات عن أبوين وبنت وليس في طبقتهم من ينتمي إلى الميّت بلا واسطة سواهم ، يرد الفاضل - أي السدس - عليهم بنسبة

ص : 218


1- اتّفقت عليه المذاهب كلّها قال ابن قدامة : «فأمّا الزوجان فلا يرد عليهما ، باتّفاق أهل العلم» المغني : 6 / 257.

سهامهم ، فيرد السدس عليهم أخماساً فللأبوين : الخمسان من السدس ، وللبنت ثلاثة أخماس منه ، ولا تخرج التركة عن هذه الطبقة أبداً.

2. أهل السنّة يرون أنّه يرد إلى أقرباء الميّت من جانب الأب والابن وهم العصبة.

إذا عرفت هذه الأُمور فلندرس أدلّة القولين :

ص : 219

دراسة أدلّة نفاة التعصيب

اشارة

احتجّت الإمامية على نفي التعصيب - وانّه لا دور له في الميراث وانّه مع وجود الأقرب وإن كان ذا فرض لا يرد إلى البعيد وإن كان ذكراً - بالكتاب والسنّة ، وإليك دراسة ما يدلّ على نفيه من الكتاب :

الآية الأُولى: مشاركة النساء للرجال في الميراث

قال سبحانه : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً). (1)

وجه الاستدلال : انّ ظاهر الآية انّ النساء في درجة الرجال من حيث الاستحقاق وانّ كلّ مورد يرث فيه الرجل ، ترث فيه المرأة إلاّ ما خرج بالدليل كالقاتل والمرتد.

وبعبارة أُخرى : انّه أوجب توريث جميع النساء والأقربين ، ودلّت على المساواة بين الذكور والإناث في استحقاق الإرث - لا في مقداره - ، لأنّها حكمت بأنّ للنساء نصيباً كما حكمت بأنّ للرجال نصيباً ، مع أنّ القائل بالتعصيب يُورّث

ص : 220


1- النساء : 7.

الرجال دون النساء مع كونهما في رتبة واحدة ، وذلك في الصور التالية :

1. لو مات وترك بنتاً ، وأخاً وأُختاً ، فالفاضل عن فريضة البنت يرد إلى الأخ ، ويحكم على الأُخت بالحرمان.

2. لو مات وترك بنتاً ، وابن أخ ، وابن أُخت ، فالقائل بالتعصيب يعطي النصف للبنت ، والنصف الآخر لابن الأخ ، ولا شيء لابن أُخته مع أنّهما في درجة واحدة.

3. لو مات وترك أُختاً ، وعمّاً ، وعمّة ، فالفاضل عن فريضة الأُخت يرد إلى العم ، لا العمّة.

4. لو مات وترك بنتاً ، وابن أخ ، وبنت أخ ، فإنّهم يعطون النصف للبنت ، والنصف الآخر لابن الأخ ، ولا يعطون شيئاً لبنت الأخ مع كونهما في درجة واحدة.

فالآية تحكم بوراثة الرجال والنساء معاً وبوراثة الجميع ، والقائل بالتعصيب يورّث الرجال دون النساء والحكم به أشبه بحكم الجاهلية المبني على هضم حقوق النساء كما سيوافيك بيانه.

وحمل ظهور الآية في مشاركة الرجال والنساء ، على خصوص الميراث المفروض ، لا الميراث لأجل التعصيب كما ترى ، لأنّه حمل بلا قرينة في الآية ، وعلى خلاف إطلاقها.

والحاصل : أنّ نتيجة القول بالتعصيب هو توريث الرجال وإهمال النساء على ما كانت الجاهلية عليه.

قال العلاّمة الصافي في تفسير قوله سبحانه : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ...) قد أبطل الله بهذه الآية النظام الجاهلي المبنيّ على توريث الرجال دون النساء ، مثل توريث الابن دون البنت ، وتوريث الأخ دون الأُخت ،

ص : 221

وتوريث العم دون العمّة ، وابن العم دون بنته ، فقرّر بها مشاركة النساء مع الرجال في الإرث ، إذا كنّ معهم في القرابة في مرتبة واحدة ، كالابن والبنت ، والأخ والأُخت ، وابن الابن وبنته ، والعم والعمّة وغيرهم ، فلا يوجد في الشرع مورد تكون المرأة مع المرء في درجة واحدة إلاّ وهي ترث من الميت بحكم الآية ... فكما أنّ القول بحرمان الرجال الذين هم من طبقة واحدة نقض لهذه الضابطة المحكمة الشريفة ، كذلك القول بحرمان النساء أيضاً ... ومثل هذا النظام - الذي تجلّى فيه اعتناء الإسلام بشأن المرأة ورفع مستواها في الحقوق المالية كسائر حقوقها - يقتضي أن يكون عامّاً لا يقبل التخصيص والاستثناء. (1)

قال السيد المرتضى : توريث الرجال دون النساء مع المساواة في القربى والدرجة ، من أحكام الجاهلية ، وقد نسخ الله بشريعة نبيّنا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - أحكام الجاهلية ، وذمّ من أقام عليها واستمرّ على العمل بها بقوله : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً) (2) وليس لهم أن يقولوا إنّنا نخصّص الآية التي ذكرتموها بالسنّة ، وذلك أنّ السنّة التي لا تقتضي العلم القاطع لا يُخصَّص بها القرآن ، كما لم يُنسخ بها ، وإنّما يجوز بالسنّة أن يخصّص وينسخ إذا كانت تقتضي العلم واليقين ، ولا خلاف في أنّ الأخبار المروية في توريث العصبة أخبار آحاد لا توجب علماً ، وأكثر ما يقتضيه غلبة الظن ، على أنّ أخبار التعصيب معارضة بأخبار كثيرة ترويها الشيعة من طرق مختلفة في إبطال أن يكون الميراث بالعصبة ، وأنّه بالقربى والرحم ، وإذا تعارضت الأخبار رجعنا إلى ظاهر الكتاب. (3)

ص : 222


1- مع الشيخ جاد الحق ، شيخ الأزهر : 1615.
2- المائدة : 5.
3- الانتصار : 278.
الآية الثانية: الضابطة في الميراث هي الأقربية
اشارة

قال سبحانه : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

وقال فى (1) آية أُخرى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً). (2)

وجه الاستدلال : أنّ الآية ظاهرة في أنّ ذوي الأرحام والقرابة بعضهم أحقّ بميراث بعضهم من غيرهم ، والمروي عن جماعة من المفسّرين انّ الآية ناسخة لما قبله من التوارث بالمعاقدة والهجرة وغير ذلك من الأسباب ، فقد كانوا يتوارثون بالمؤاخاة ، فانّ النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - كان قد آخى بين المهاجرين والأنصار.

ثمّ إنّ وجه الأولوية هو الأقربية ، فكلّ من كان أقرب إلى الميت في النسب كان أولى بالميراث ، سواء كان ذا سهم أو غير ذي سهم ، وسواء كان عصبة أو غير ذي عصبة. (3)

ص : 223


1- الأنفال : 75.
2- الأحزاب : 6.
3- مجمع البيان : 2 / 563.

قال العلاّمة الطباطبائي : جعل الولاية بين أُولي الأرحام والقرابات ، وهي ولاية الإرث ، فانّ سائر أقسام الولاية لا ينحصر فيما بينهم.

والآية تنسخ ولاية الإرث بالمؤاخاة التي أجراها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بين المسلمين في أُول الهجرة ، وتُثبت الإرث بالقرابة ، سواء كان هناك ذو سهم أو لم يكن ، وكان عصبة أو لم يكن ، فالآية مطلقة كما هو ظاهر. (1)

وقد استدلّ بالآية بعض الفقهاء والمفسّرين في مورد الإرث وفسروه بالنحو التالي الموافق لما ذكرنا.

قال السرخسي في مبسوطه : والميراث يبنى على الأقرب ، قال الله تعالى : (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) وزيادة القرب تدلّ على قوة الاستحقاق.

وقال أيضاً : فإن كان بعضهم أقرب فهو بالميراث أحقّ.

وقال أيضاً : وميراث ذوي الأرحام يبنى على القرب. (2)

وممّا يدلّ على أنّ مفاد الآية هو منع القريب البعيد هو انّ بعض فقهاء السنة تمسك بالآية على أُولوية بعض العصبة على بعض ، مثلاً : قدّموا الأخ على ابن الأخ ، والعم على ابن العم ، حتّى أنّهم يقدّمون الأخ لأبوين على ابن الأخ لأب ، كما أنّ العمّ لأبوين يقدّمونه على العمّ لأب ، وابن العم لأبوين على ابن العم لأب ، تمسّكاً بالآية. (3)

وبما انّ الآية وردت في سورتين مدنيتين ، فهي تؤكد على نسخ ما كان شائعاً في الجاهلية من تقديم الأقوياء على الضعفاء ، والرجال على النساء في الميراث ،

ص : 224


1- الميزان : 9 / 142.
2- المبسوط : 29 / 139 ، 30 / 13 و 20.
3- تفسير القرطبي : 8 / 58 و 59.

وتضع ملاكاً جديداً ، هو الأقربية للميت ، فالأقرب يرث ويمنع غيره من دون فرق بين الرجل والمرأة.

وعلى ضوء ذلك فكيف يرث الأخ أو العم مع وجود الأقرب - أعني : البنت أو الأُخت - وهما أقرب إلى الميّت من الأخ والعم ، لأنّ البنت تتقرّب إلى الميّت بنفسها ، والأخ يتقرّب إليه بالأب ، والأُخت تتقرّب إلى الميّت بالأب ، والعمّ يتقرّب إليه بواسطة الجد ، والأُخت تتقرّب بواسطة ، والعم يتقرّب بواسطتين ، وأولاده بوسائط.

وممّا يدل على أنّ الآية في بيان تقديم الأقرب فالأقرب - مضافاً إلى ما مرَّ من أنّها وردت ناسخة للتوارث بمعاقدة الإيمان والتوارث بالمهاجرة اللَّذين كانا ثابتين في صدر الإسلام - أنّ عليّاً كان لا يعطي الموالي شيئاً مع ذي رحم ، سمّيت له فريضة أم لم تسم له فريضة وكان يقول :

«(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) قد علم مكانهم فلم يجعل لهم مع أُولي الأرحام». (1)

وروى زرارة عن أبي جعفر - عليه السلام - في قول الله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) : إنّ بعضهم أولى بالميراث من بعض ، لأنّ أقربهم إليه رحماً أولى به ، ثمّ قال أبو جعفر : أيّهم أولى بالميت وأقربهم إليه؟ أُمّه؟ أو أخوه؟ أليس الأُمّ أقرب إلى الميّت من إخوته وأخواته؟ (2)

وروي عن زيد بن ثابت أنّه قال : من قضاء الجاهلية أن يورث الرجال دون النساء. (3)

وربما يثار على الاستدلال بالآية استفساران :

ص : 225


1- الوسائل : 17 ، الباب 8 من أبواب موجبات الإرث ، الحديث 10 و 11 و 12.
2- الوسائل : 17 ، الباب 8 من أبواب موجبات الإرث ، الحديث 10 و 11 و 12.
3- الوسائل : 17 ، الباب 8 من أبواب موجبات الإرث ، الحديث 10 و 11 و 12.
الأوّل : تخصيص الآية بما دلّ على ميراث العصبة

إنّ قوله سبحانه : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) لا يعدو إمّا أن يكون مطلقاً أو عاماً ، فالمطلق يُقيّد والعام يخصص بما ورد من توريث العصبة بعد استيفاء ذوي الفروض فروضهم وإن كانوا بُعَداء.

يلاحظ عليه : - بعد غضّ النظر عن الضعف الطارئ على أدلّة التعصيب سنداً ودلالة كما سيوافيك - انّ الآية المباركة تأبى على التخصيص والتقييد ، لأنّها تحكي عن تشريع صدر استجابةً لميول ورغبات البشر ، وهو انّ الإنسان أرأف وأميل بالوارث الأقرب من الأبعد ، فتخصيص مثل ذلك التشريع يأباه الطبع السليم ، مثل قوله سبحانه : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (1) ، أو قوله سبحانه : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (2) ، وقوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (3) وأمثالها.

والشاهد على إبائها التخصيص والتقييد انّه لو قيل (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) إلاّ في مورد كذا لما استحسنه الطبع ولاستهجنه ، مثل ما إذا قيل (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) إلاّ في مورد كذا ..

الثاني : حرمان الرجال من الميراث في الفقه الإمامي

إذا دلّت الآية على المشاركة ، فكما أنّ حرمان النساء مخالف لها ، فكذلك حرمان الرجال مع أنّه ثابت في القول بعدم التعصيب ، وذلك كما في المثال التالي :

إذا مات الرجل عن بنت وعم أو ابن عم ، فإنّ التركة كلّها للبنت عندهم

ص : 226


1- التوبة : 91.
2- الحج : 78.
3- التوبة : 120.

ولا حظّ لهما. وهو حرمان الرجال دون النساء عكس القول بالتعصيب ، ويشتركان في الحرمان ومخالفة الذكر الحكيم.

يلاحظ عليه : أنّ الحرمان في المثال لأجل عدم الاستواء في القرابة. ألا ترى أنّ ولد الولد (ذكوراً كانوا أو إناثاً) لا يرثون مع الولد ، لعدم التساوي في الدرجة والقرابة ، وإن كانوا يدخلون تحت التسمية بالرجال والنساء ، وإذا كانت القرابة والدرجة مراعاة بين العم وابنه ، فلا يساوي - العم - البنت في القربى والدرجة ، وهو أبعد منها كثيراً.

وليس كذلك العمومة والعمّات وبنات العم وبنو العم ، لأنّ درجة هؤلاء واحدة وقرباهم متساوية والمخالف يورِّث الرجال منهم دون النساء ، فظاهر الآية حجّة عليه وفعله مخالف لها ، وليس كذلك قولنا في المسألة التي وقعت الإشارة إليها ، وهذا واضح فليتأمّل. (1)

ص : 227


1- الانتصار : 283.
الآية الثالثة: توريث الأُخت مشروط بعدم وجود الولد

قال سبحانه : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). (1)

إنّ ظاهر قوله سبحانه : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) هو انّ توريث الأُخت من الأخ مشروط بعدم وجود الولد له مع أنّه يلزم في بعض صور التعصيب توريث الأُخت مع وجود الولد (البنت) للميّت ، وذلك فيما إذا كان التعصيب بالغير كأُخت أو أخوات لأبوين ، أو أُخت وأخوات لأب ، فإنّهنّ عصبة بالغير من جانب الأب فلو مات عن بنت وأُخت لأبوين أو لأب ، فالنصف للبنت ، والنصف الآخر للعصبة وهي الأُخت أو الأخوات مع أنّ وراثة الأُخت مشروطة بعدم الولد في صريح الآية. قال الخرقي : والأخوات مع البنات عصبة ، لهنّ ما فضل ، وليس لهنّ معهنّ فريضة مسمّاة.

وقال ابن قدامة في شرحه : والمراد بالأخوات هاهنا ، الأخوات من الأبوين ،

ص : 228


1- النساء : 176.

أو من الأب ، وإليه ذهب عامّة الفقهاء إلاّ ابن عباس ومن تابعه ، فإنّه يروى عنه أنّه كان لا يجعل الأخوات مع البنات عصبة فقال في بنت وأُخت : للبنت النصف ولا شيء للأُخت. فقال ابن عباس : أنتم أعلم أم الله ، يريد قول الله سبحانه : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ...) فإنّما جعل لها الميراث بشرط عدم الولد.

ثمّ إنّ ابن قدامة ردّ على الاستدلال بقوله : إنّ الآية تدل على أنّ الأُخت لا يفرض لها النصف مع الولد ، ونحن نقول به ، فإنّ ما تأخذه مع البنت ليس بفرض ، وإنّما هو بالتعصيب كميراث الأخ ، وقد وافق ابن عباس على ثبوت ميراث الأخ مع الولد مع قول الله تعالى : (وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) وعلى قياس قوله «ينبغي أن يسقط الأخ لاشتراطه في توريثه منها عدم ولدها». (1)

حاصل كلامه : أنّ الأُخت ترث من الأخ النصف في حالتي وجود الولد وعدمه ، غاية الأمر عند عدم الولد ترث فرضاً ، وعند وجوده ترثه عصبة.

يلاحظ عليه : أنّ المهم عند المخاطبين هو أصل الوراثة ، لا التسمية تارة بالفرض وأُخرى بالتعصيب ، فانّ الأسماء ليس بمطروحة لهم ؛ فإذا كان الولد وعدمه غير مؤثّر فيها ، كان التقييد لغواً ، وما ذكره من أنّها ترث النصف عند الولد تعصيباً لا فرضاً أشبه بالتلاعب بالألفاظ ، والمخاطب بالآية هو العرف العام ، وهو لا يفهم من الآية سوى حرمان الأُخت عند الولد وتوريثها معه باسم آخر ، يراه مناقضاً.

وما نسبه إلى ابن عباس من أنّه كان يرى ميراث الأخ مع الولد ، غير ثابت ، وعلى فرض تسليمه فهو ليس بحجة.

ص : 229


1- المغني : 6 / 227.

الاستدلال بالسنّة على نفي التعصيب

1. روى الشيخان عن سعد بن أبي وقاص أنّه قال : مرضت بمكّة مرضاً فأشفيت (1) منه على الموت فأتاني النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يعودني فقلت : يا رسول الله : إنّ لي مالاً كثيراً وليس يرثني إلاّ ابنتي أفأتصدّق بثلثي مالي؟ قال : لا ، قلت : فالشَّطرُ؟ قال : لا ، قلت : الثلث؟ قال : الثلث كبير ، إنّك إن تركت ولدك أغنياء خيرٌ من أن تتركهم عالةً يتكفّفون الناس. (2)

وفي لفظ مسلم في باب الوصية بالثلث : «ولا يرثني إلاّ ابنة لي واحدة». (3) والرواية صريحة في أنّه كان يدور في خلد سعد ، أنّها الوارثة المتفرّدة والنبيّ سمع كلامه وأقرّه عليه ، ولم يرد عليه بأنّ لك وارثاً آخر وهم العصبة ، بل قرره على ذلك فيكون المال للبنت فالنصف فرضاً والنصف الآخر بالردّ.

وقد كان السؤال والجواب بعد نزول آيات الفرائض.

ص : 230


1- أي فأشرفت وقاربت.
2- صحيح البخاري : 8 / 150 ، كتاب الفرائض ، باب ميراث البنات.
3- صحيح مسلم ، ج 4 ، باب الوصية بالثلث ، ص 71.

2. روى البيهقي عن سويد بن غفلة في ابنة وامرأة ومولى قال : كان علي - عليه السلام - يعطي الابنة النصف والمرأة الثمن ويرد ما بقي على الابنة (1).

ورواه الدارمي عن حيان بن سليمان قال : كنت عند سويد بن غفلة فجاءه فسأله عن فريضة رجل ترك ابنته وامرأته قال : أما أُنبئك قضاء عليّ؟ قال : حسبي قضاء عليّ. قال : قضى عليّ لامرأته الثمن ولابنته النصف ، ثمّ رد البقية على ابنته. (2)

3. روي عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال : : من ترك مالاً فلأهله. (3)

وليس الأخ ، أو الأُخت من أهل الرجل وإنّما أهله أولاده وزوجته.

4. وربّما يستدل بما روي عن واثلة بن الأسقع ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : والمرأة تحوز ثلاث مواريث : عتيقها ولقيطها وولدها الذي تلاعن عليه. (4)

وجه الاستدلال ظاهر في الرواية انّ الأُمّ ترث ما يتركه ولدها كلّه ، لأنّ الأب ممنوع من الإرث للملاعنة ونفي الولد عنه فيكون المال كله للأُمّ سدسه أو ثلثه بالفرض والباقي بالردّ ، لأنّ سهم الأُمّ هو السدس أو الثلث ، وقد حكم على الفاضل عن التركة بالرد عليها دون العصبة. إلاّ أن يقال : إنّ عدم الرد لعدم وجود العصبة شرعاً (بحكم اللعان) فلا يصحّ الاستدلال به على ما إذا كانت هناك عصبة.

ص : 231


1- السنن الكبرى : 6 / 242 ، باب الميراث بالولاء.
2- سنن الدارمي ، كتاب الفرائض ، باب فيمن أعطى ذوي الأرحام دون الموالي ، ص 288.
3- صحيح البخاري : 8 / 150 كتاب الفرائض باب قول النبي : من ترك مالاً فلأهله ؛ كنز العمال : 11 / 7 الحديث 30388 ؛ جامع الأُصول : 9 / 631 قال : رواه الترمذي.
4- مسند أحمد : 3 / 490 ؛ سنن ابن ماجة : 2 / 916 ، باب ما تحوزه المرأة ، ثلاث مواريث رقم 2742 ؛ وفي جامع الأُصول : 9 / 614 ، برقم 7401 ... ولدها الذي لاعنت عنه. أخرجه أبو داود والترمذي.

إلى هنا تمّ الاستدلال بما رواه أهل السنّة وليعلم إنّ القول بالتعصيب يقتضي كون توريث الوارث مشروطاً بوجود وارث آخر ، وهو مخالف لما علم الاتّفاق عليه ، لأنّه إمّا أن يتساوى مع الوارث الآخر فيرثان ، وإلاّ فيمنع وذلك كما في المثال الآتي :

إذا خلّف الميّت بنتين ، وابنة ابن ، وعمّ. فبما أنّ العمّ من العصبة بالنفس والابنة عصبة بالغير يرد الفاضل إلى العمّ. ولا شيء لبنت الابن. ولكنّه لو كان معها أخ أي ابن الابن ، فهي تتعصّب به ، وبما أنّه أولى ذَكَر بالميّت يكون مقدماً على العم ويكون الفاضل بينهما أثلاثاً ، للإجماع على المشاركة ، لقوله سبحانه : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) (1) ، وهذا هو ما قلناه من أنّه يلزم أن يكون توريث الابنة مشروطاً بالأخ وإلاّ فيرث العم.

قال الخرقي في متن المغني : «فإن كنّ بنات ، وبنات ابن ، فللبنات الثلثان وليس لبنات الابن شيء إلاّ أن يكون معهنّ ذكر فيعصبهن فيما بقي للذكر مثل حظّ الأُنثيين»

وقال ابن قدامة : «فإن كان مع بنات الابن ، ابن في درجتهنّ كأخيهنّ أو ابن عمّهنّ ، أو أنزل منهنّ كابن أخيهنّ أو ابن ابن عمّهنّ أو ابن ابن ابن عمّهن ، عصبهنّ في الباقي فجعل بينهم للذكر مثل حظّ الأُنثيين». (2)

الأحاديث المأثورة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام

لقد أُثر عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - أنّ الفاضل عن الفروض للأقرب ، وفي

ص : 232


1- النساء : 11.
2- المغني : 6 / 229.

ذلك روايات متضافرة لو لم نقل أنّها متواترة ، ولعل الشهيد الثاني لم يتفحّص في أبواب الإرث فقال : ترجع الإمامية إلى خبر واحد (1) ، ويظهر من الروايات أنّه كان مكتوباً في كتاب الفرائض لعليّ - عليه السلام -.

1. روى حماد بن عثمان قال : سألت أبا الحسن - عليه السلام - عن رجل ترك أُمّه وأخاه؟ قال : «يا شيخ تريد على الكتاب؟» قال : قلت : نعم. قال : «كان علي - عليه السلام - يعطي المال للأقرب ، فالأقرب». قال : قلت : فالأخ لا يرث شيئاً؟ قال : «قد أخبرتك أنّ علياً - عليه السلام - كان يعطي المال الأقرب فالأقرب». (2)

2. روى زرارة عن أبي جعفر - عليه السلام - في رجل مات وترك ابنته وأُخته لأبيه وأُمّه؟ فقال : «المال كلّه للابنة وليس للأُخت من الأب والأُمّ شيء». (3)

3. روى عبد الله بن خداش المنقري أنّه سأل أبا الحسن عن رجل مات وترك ابنته وأخاه؟ فقال : «المال للابنة». (4)

4. عن بريد العجلي عن أبي جعفر - عليه السلام - قال : قلت له : رجل مات وترك ابنة وعمّه؟ فقال : «المال للابنة وليس للعم شيء ، أو قال : ليس للعم مع الابنة شيء». (5)

5. ما رواه حسين الرزاز قال : أمرت من يسأل أبا عبد الله - عليه السلام - المال لمن هو؟ للأقرب أو العصبة؟ فقال : «المال للأقرب والعصبة في فيه التراب». (6)

6. ما رواه العياشي في تفسيره عن ابن سنان ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال :

ص : 233


1- المسالك ، كتاب الفرائض عند شرح قول المحقق : ولا يثبت الميراث عندنا بالتعصيب.
2- الوسائل : 17 ، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين ، الحديث : 6 و 1.
3- الوسائل : 17 ، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين ، الحديث : 6 و 1.
4- الوسائل : 17 ، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين الحديث : 3 و 14. ولاحظ الحديث 4 و 5 و 7 من ذلك الباب.
5- الوسائل : 17 ، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين الحديث : 3 و 14. ولاحظ الحديث 4 و 5 و 7 من ذلك الباب.
6- الوسائل : 17 ، الباب 8 من أبواب موجبات الإرث ، الحديث 1 ، وفي السند : صالح بن السعدي وهو ممدوح ، والحسين الرزاز مجهول ، وفي التهذيب : 9 / 267 رقم 972 «البزاز» مكان الرزّاز وهو أيضاً مجهول.

«اختلف علي بن أبي طالب وعثمان في الرجل يموت وليس له عصبة يرثونه وله ذو قرابة لا يرثونه ، ليس لهم سهم مفروض ، فقال عليّ : ميراثه لذوي قرابته ، لأنّ الله تعالى يقول : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) وقال عثمان : اجعل ماله في بيت مال المسلمين. (1)

7. ما رواه الشيخ في «التهذيب» عن محمد بن الحسن الصفار ، عن السندي ، عن موسى بن حبيش ، عن عمّه هاشم الصيداني ، قال : كنت عند العباس وموسى بن عيسى ، وعنده أبو بكر بن عيّاش ، وإسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة ، وعلي بن ظبيان ، ونوح بن درّاج تلك الأيام على القضاء ، قال : فقال العباس : يا أبا بكر أما ترى ما أحدث نوح بن درّاج (2) في القضاء ، أنّه ورث الخال ، وطرح العصبة ، وأبطل الشفعة ، فقال أبو بكر بن عياش : ما عسى أن أقول لرجل قضى بالكتاب والسنّة ، قال : فاستوى العبّاس جالساً فقال : وكيف قضى بالكتاب والسنّة؟ فقال أبو بكر : إنّ النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لما قُتل حمزة بن عبد المطلب بعث علي بن أبي طالب - عليه السلام - فأتاه بابنة حمزة فسوّغها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الميراث كلّه ، فقال له العباس : يا أبا بكر فظلم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - جدّي؟ فقال : مه أصلحك الله ، شرع لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ما صنع ، فما صنع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلاّ الحقّ. (3)

هذا بعض ما روي عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - وغيرهم ومن أراد الإحاطة بكلّ ما روي فعليه الرجوع إلى الجوامع الحديثية.

ص : 234


1- الوسائل : 17 ، الباب 8 من أبواب موجبات الإرث ، الحديث 9.
2- هو اخو جميل بن درّاج : كان قاضياً في الكوفة ، ترجمه النجاشي عند ترجمة ابنه ، أيوب في رجاله وقال : «صحيح الاعتقاد» أي شيعي إماميّ.
3- تهذيب الأحكام : 6 / 356 ، ذيل الحديث 63 ، باب في الزيادات في القضايا والأحكام ط الغفاري. ونقله ملخصاً في الوسائل ، الباب 8 من أبواب موجبات الإرث ، الحديث 3.

دراسة أدلّة القائلين بالتعصيب

اشارة

لقد اتّضح الحق وتجلّى بأجلى مظاهره ، بقي الكلام في دراسة أدلّة المخالف ، فقد استدلّ بوجوه :

الأوّل : لو أراد سبحانه توريث البنات ونحوهنّ أكثر ممّا فرض لهنّ لفعل ذلك والتالي باطل ، فإنّه تعالى نصّ على توريثهنّ مفصّلاً ولم يذكر زيادة على النصيب.

بيان الملازمة أنّه تعالى لما ورّث الابن الجميع لم يفرض له فرضاً ، وكذا الأخ للأب والعم وأشباههم ، فلولا قصر ذوي الفروض على فرضهم لم يكن في التنصيص على المقدار فائدة.

وحاصله : أنّ كل من له فرض لا يزاد عنه وإلاّ كان الفرض لغواً وكل من لم يفرض له يعطى الجميع.

يلاحظ عليه : أوّلاً : بالنقض بورود النقيصة على ذوات الفروض عند أهل السنّة إذا عالت الفرائض على السهام ، كما سيوافيك شرحه فإنّهم يدخلون النقص على الجميع مثل باب الديون ، فربّما يكون سهم البنت والأُخت أقل من النصف ، فإذا جاز النقص فما المانع من الزيادة ، بل الأمر في النقصان أولى ، لأنّ النقصان ينافي الفرض بخلاف الزيادة عليه بدليل آخر ، فإنّ فيه إعمال الدليلين والأخذ بمفادهما.

ص : 235

وثانياً : بالحلّ إنّ تحديد الفرض بالنصف إنّما يكون لغواً إذا لم تترتّب عليه فائدة مطلقاً ، ولكنّه ليس كذلك لترتّب الثمرة عليه فيما إذا كان معه وارث ذو فرض كالأُم ، فإنّ كيفية الرد على الوارثين لا تعلم إلاّ بملاحظة فرضهما ثم الرد عليهما بحسب تلك النسبة فلو لم يكن سهم البنت والبنتين منصوصاً في الذكر الحكيم لما عُلِمت كيفيّة الرد عليهما وعلى الأُمّ.

وبالجملة : أنّه وإن كان لا تظهر للقيد ثمرة إذا كان الوارث هو البنت أو الأُخت وحدها ، ولكنّه ليس كذلك إذا كان معه وارث آخر وهو ذو فرض مثلها كالأُمّ ، فإنّ الرد عليهما يتوقّف على ملاحظة فرضهما ثمّ الرد بتلك النسبة.

وثالثاً : أنّ التصريح بالفرض لأجل التنبيه على أنّها لا تستحق بالذات إلاّ النصف أو الثلثين ، وإنّما تأخذ الزائد بعنوان آخر وهو عند ما لم يكن معه وارث مساو بخلاف الابن أو الأخ ، فإنّ كلاّ يستحق المال كلّه بالذات.

ورابعاً : إنّ المفهوم في المقام أشبه بمفهوم اللقب وهو ليس بحجة فيه.

الثاني : قوله سبحانه : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ).(1)

وجه الاستدلال : أنّه سبحانه حكم بتوريث الأُخت ، نصف ميراث أخيها مع عدم الولد وحكم بتوريث الأخ ميراث الأُخت - إذا لم يكن لها ولد - أجمع بدليل قوله تعالى : (وَهُوَ يَرِثُها) فلو ورثت الأُخت - نصفه بالفرض ونصفه الآخر بالردّ لأجل القرابة - الجميع كما هو مذهبكم لن تبقَ للفرق بين الأخ والأُخت ثمرة أصلاً.

الجواب : أنّ التقييد بالنصف مع أنّها ربّما ترث الكلّ لأجل التنبيه ، على أنّها

ص : 236


1- النساء : 176.

لا تستحق بالذات إلاّ النصف وأنّ الأصل القرآني هو استحقاق الذكر ضعف سهم الأُنثى وهو النصف ، وأنّها إن ورثت المال كله فإنّما هو لأجل طارئة خاصة ، على أنّ التصريح بالفرض لأجل تبيين ما يتوقّف عليه تقسيم الفاضل ، بينها وبين من يشاركه في الطبقة كالإخوة أو الأخوات من الأُمّ ، فإنّ الباقي يردّ عليهما بنسبة سهامهما فلو لم يكن هناك تحديد بالنصف فمن أين تعلم كيفيّة الرد.

الثالث : قوله تعالى : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا). (1)

وجه الاستدلال : أنّ زكريا - عليه السلام - لمّا خاف أن ترثه العصبة ، سأل الله سبحانه أن يهبه وليّاً حتى يرث المال كلّه ، لا وليّة حتى ترث المال نصفه ويرث الموالي الفاضل ، ولو لا ذلك لما أكّد على كون الولد الموهوب من الله ذكراً ، في قوله سبحانه : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا).

يلاحظ عليه : أنّ المقصود من قوله «وليّاً» هو مطلق الأولاد ذكراً كان أو أُنثى ، وذلك على مساق إطلاق المذكّر وإرادة الجنس ، وهو شائع في القرآن الكريم.

مثل قوله سبحانه : (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بشهادة قوله تعالى في آية أُخرى : (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ). (2)

بل يمكن أن يقال إنّه طلب ذرّية مثل مريم لقوله سبحانه قبل هذه الآية : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا

ص : 237


1- مريم : 65.
2- آل عمران : 38.

(قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ هُنالِكَ دَعا ...) (1) أي في هذه الحال التي رأى فيها الكرامة من مريم سأل الله سبحانه أن يرزقه ذريّة طيّبة (مثل مريم) فلو لم نقل إنّه سأل أُنثى مثل مريم ، ليس لنا أن نقول إنّه طلب الذكر.

ولو سلمنا أنّه طلب الذكر لكنّه لم يطلب لأجل أنّه لو رزق الأُنثى ترثه العصبة وإنّما سأله الذكر للحبّ الكثير له ، أو لأنّه أولى بالإدارة من الأُنثى كما لا يخفى.

الرابع : الروايات والآثار الواردة في هذا المجال ولعلّها أهم المدارك والمصادر لهذه الفتيا.

الرواية الأُولى : في أنّ بقية المال لأولى رجل ذكر

روى البخاري عن مسلم بن إبراهيم ، عن وهيب ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر. (2)

ص : 238


1- مريم : 87.
2- صحيح البخاري : 8 / 151 ، باب ميراث ابن الابن إذا لم يكن ابن ؛ وص 152 ، باب ميراث الجد مع الأب والإخوة ، ورواها عن سليمان بن حرب (مكان مسلم بن إبراهيم) ورجال السند في غيرهما ، واحد ، وباب ابني عم أحدهما أخ والآخر زوج ص 153 ، رواها عن أُمية بن بسطام ، عن يزيد بن زريع عن روح عن عبد الله بن طاوس. وصحيح مسلم : 5 / 59 ، باب ألحقوا الفرائض بأهلها عن ابن طاوس عن ابن عباس برقم 1615. وصحيح الترمذي في الفرائض باب ميراث العصبة برقم 2099. وسنن أبي داود في الفرائض باب ميراث العصبة برقم 2898. ولاحظ السنن الكبرى : 6 / 238 باب العصبة ؛ جامع الأُصول : 9 / 6104 برقم 7421.

وهذه الرواية ، هي الرواية المعروفة برواية طاوس بن كيسان اليماني (المتوفّى سنة 132).

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ الرواية ضعيفة سنداً ، لأنّ الروايات تنتهي إلى عبد الله بن طاوس بن كيسان اليماني وقد وثّقه علماء الرجال (1) ، لكن يعارض توثيقهم مع ما ذكره أبو طالب الأنباري (2) في حقّ هذه الرواية قال : حدثنا محمد بن أحمد البربري ، قال : حدثنا بشر بن هارون ، قال : حدثنا الحميري ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن قاربة بن مضرب (3) قال : جلست عند ابن عباس وهو بمكة ، فقلت : يا ابن عباس حديث يرويه أهل العراق عنك وطاوس مولاك يرويه : إنّ ما أبقت الفرائض فلأولي عصبة ذكر؟ قال : أمن أهل العراق أنت؟ قلت : نعم ، قال : أبلغ من وراءك أنّي أقول : إنّ قول الله عزّ وجلّ : (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) وقوله : (أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) وهل هذه إلاّ فريضتان ، وهل أبقتا شيئاً؟ ما قلت هذا ، ولا طاوس يرويه عليّ ، قال قاربة بن مضرب : فلقيت طاوساً فقال : لا والله ما رويت هذا على ابن عباس قط وإنّما الشيطان ألقاه على ألسنتهم ، قال سفيان :

ص : 239


1- تهذيب التهذيب : 5 / 268 ؛ برقم 458 سير أعلام النبلاء ، حوادث عام 132 ، وغيرهما.
2- هو عبيد الله بن أبي زيد أحمد بن يعقوب بن نصر الأنباري. قال النجاشي : شيخ من أصحابنا «أبو طالب» ثقة في الحديث ، عالم به ، كان قديماً من الواقفة توفّي عام 356 (رجال النجاشي برقم 615 طبع بيروت).
3- وأمّا رجال السند ففي تعليقة الخلاف أنّه لم يتعرّف على البربريّ ، وأمّا بشر بن هارون لعلّه تصحيف بشر بن موسى ، إذ هو الراوي عن الحميدي على ما في تاريخ البغدادي : 86. والحميدي هو عبد الله بن الزبير القرشي توفّي بمكة 219 كما في تذكرة الحفّاظ : 2 / 413 ، وسفيان هو سفيان بن عيينة ، وأبو إسحاق هو : عمرو بن عبد الله بن عبيد السبيعي.

أراه من قبل ابنه عبد الله بن طاوس فإنّه كان على خاتم سليمان بن عبد الملك (1) وكان يحمل على هؤلاء القوم حملاً شديداً - أي بني هاشم -. (2)

إنّ سليمان بن عبد الملك الأموي المرواني هو الذي قتل أبا هاشم عبد الله بن محمد بن علي الحنفية بالسم ظلماً وخداعاً ، فكيف يكون حال من يواليهم؟!

وثانياً : أنّ وراثة العصبة ليست من المسائل التي يقل الابتلاء بها ، بل هي ممّا تعمّ البلوى بها في عصر النبيّ وعصور الخلفاء ، فلو كان هناك تشريع على مضمون هذه الرواية لما خفي على غيره ونقله الآخرون ، وقد عرفت أنّ الأسناد ينتهي إلى عبد الله بن طاوس.

وثالثاً : أنّ فقهاء المذاهب أفتوا في موارد على خلاف مضمون هذا الخبر ، وقد أشار إليها فقيه الطائفة الشيخ الطوسي ، نذكر قسماً منها.

1. لو مات وخلّف بنتاً وأخاً وأُختاً ، فقد ذهبوا إلى أنّ للبنت النصف والنصف الآخر للأخ والأُخت (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) مع أنّ مقتضى خبر ابن طاوس أنّ النصف للأخ فقط لانّه أخذاً بقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «ألحقوا الفرائض بأهلها فما يفي فهو لأولى رجل ذكر».

2. لو أنّ رجلاً مات وترك بنتاً ، وابنة ابن ، وعمّاً ، فقد ذهبوا إلى أنّ النصف للبنت والنصف الآخر لابنة الابن والعم ، مع أنّ مقتضى الخبر أن يكون النصف الآخر للعم وحده لأنّه أولى ذكر. (3)

ص : 240


1- سليمان بن عبد الملك بن مروان سابع خلفاء بني أُمية ، بويع سنة 96 وتوفّي سنة 98 ، وهو ابن خمس وأربعين سنة ، وكان خاتمه بيده يختم رسائله بخاتمه صيانة عن التزوير.
2- التهذيب : 9 / 262 ؛ الخلاف : 2 ، المسألة 80.
3- الخلاف : 4 / 68 ، المسألة 80 ؛ والتهذيب : 9 / 306 ط الغفاري.

إلى غير ذلك من الأحكام التي اتّفقوا عليها وهي على طرف النقيض من الخبر.

فإن قلت : فما ذا تصنع بالخبر (خبر عبد الله بن طاوس) ، مع أنّ الشيخين نقلاه بل نقله غيرهما على ما عرفت؟

قلت : يمكن حمل الخبر على ما لا يخالف إطلاق الكتاب ولا ما أطبق المسلمون عليه ، وهو أنّه وارد في مجالات خاصّة : مثلاً :

1. رجل مات وخلّف أُختين من قبل الأُمّ ، وابن أخ ، وابنة أخ لأب وأُمّ ، وأخاً لأب ، فالأُختان من أصحاب الفرائض ، كلالة الأُمّ ، يعطى لهما الثلث والباقي لأولى ذكر ، وهو الأخ لأب.

2. رجل مات وخلّف زوجة وخالاً وخالة ، وعمّاً وعمّة ، وابن أخ ، فالزوجة من أصحاب الفرائض تلحق بفريضتها وهي الربع والباقي يدفع إلى أولى ذكر ، وهو ابن الأخ.

3. رجل مات وخلّف زوجة ، وأُختاً لأب ، وأخاً لأب وأُمّ ، فإنّ الزوجة من أصحاب الفرائض تلحق بفريضتها وهي الربع والباقي للأخ للأب والأُم ، ولا ترث الأُخت لأب معه.

4. امرأة ماتت وخلّفت زوجاً ، وعمّاً من قبل الأب والأُم ، وعمّة من قبل الأب ، فللزوج النصف سهمه المسمّى وما بقي للعم للأب والأُمّ ، ولا يكون للعمّة من قبل الأب شيء.

إلى غير ذلك من الصور التي يمكن أن ينطبق عليها الخبر.

قال السيد المرتضى ، ولا عتب إذا قلنا إنّ الرواية وردت : في من خلّف أُختين لأُمّ ، وابن أخ ، وبنت أخ لأب وأُمّ ، وأخاً لأب ، فإنّ الأُختين من الأُمّ

ص : 241

فرضهنّ الثلث وما بقي فلأولى ذكر أقرب ، وهو الأخ من الأب وسقط ابن الأخ وبنت الأخ ، لأنّ الأخ أقرب منهما.

وفي موضع آخر وهو أن يخلف الميّت امرأة وعمّاً وعمّة ، وخالاً وخالة ، وابن أخ ، فللمرأة الربع وما بقي فلأولى ذكر وهو ابن الأخ ؛ وسقط الباقون. والعجب أنّهم ورثوا الأُخت مع البنت عصبة ، فإن قالوا : من حيث عصَّبها أخوها ، قلنا : فألاّ جعلتم البنت عصبة عند عدم البنين ويكون أبوها هو الذي يعصِّبها. (1)

الرواية الثانية : ما ورد في ميراث البنتين

ما أخرجه الترمذي وابن ماجة وأبو داود وأحمد ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر بن عبد الله قال : جاءت امرأة سعد بن الربيع ، بابنتيها من سعد إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقالت : يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك يوم أُحد شهيداً ، وإنّ عمّهما أخذ مالهما فلم يدَع لهما مالاً ، ولا تُنكحان إلاّ ولهما مال ، قال : يقضي الله في ذلك ، فنزلت آية الميراث فبعث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى عمّهما فقال : أعط ابنتي سعد الثلثين وأعط أُمّهما الثمن وما بقي فهو لك. (2)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ جابر بن عبد الله نقل نزول الآية في واقعة أُخرى قال

ص : 242


1- الانتصار : 280.
2- سنن الترمذي 4 / 414 ، باب ما جاء في ميراث البنات رقم 2092 ؛ سنن ابن ماجة : 2 / 908 باب فرائض الصلب رقم 272 ؛ سنن أبي داود : 3 / 121 ، باب ما جاء في ميراث الصلب رقم 2891 ؛ ومسند أحمد : 4 / 319 ، الحديث 14384.

السيوطي : أخرج عبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه ، من طرق عن جابر بن عبد الله قال : عادني رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأبو بكر في بني سلمة ماشيين فوجدني النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لا أعقل شيئاً ، فدعا بماء فتوضّأ منه ثم رشّ عليّ فأفقت فقلت : ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) (1) واحتمال نزول الآية مرّتين ، أو كون سبب النزول متعدّداً يحتاج إلى دليل.

وثانياً : أنّ ابن كثير روى هذه الرواية وفيها انّ لسعد بن الربيع بنات وليس فيها ذكر للأُم والعم.

و (2) ثالثاً : أنّ أبا داود أخرج الرواية وفيها مكان بنتا سعد بن الربيع ، بنتا ثابت بن قيس. (3)

وهذا يكشف عن عدم ضبط الراوي فتارة ينقل الواقعة في بنتي سعد بن الربيع وأُخرى في بنتي ثابت بن قيس وإن كان الصحيح هو الأوّل ، لأنّ المقتول في غزوة أُحد ، هو سعد بن الربيع ، وأمّا ثابت بن قيس فقد قتل في يوم اليمامة. (4)

ص : 243


1- الدر المنثور : 2 / 124.
2- جامع المسانيد والسنن : 24 / 216 ، الحديث 24.
3- سنن أبي داود : 3 / 120 ، الحديث 2891.
4- السنن الكبرى : 6 / 229 باب فرض الابنتين ، وقال البيهقي : قوله : ثابت بن قيس خطأ ، إنّما هو سعد بن الربيع ، وقال أبو داود 3 / 121 رقم 2891 : أخطأ بشر بن المفضل فيه انّما هما ابنتا سعد بن الربيع ، وثابت بن قيس قتل يوم اليمامة.

ورابعاً : أنّ في سند الرواية من لا يصحّ الاحتجاج به ، وإليك البيان :

1. عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب ، والأسانيد في سنن الترمذي وابن ماجة وأبي داود ، تنتهي إليه.

ذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة من أهل المدينة وقال : كان منكر الحديث ، لا يحتجّون بحديثه وكان كثير العلم ، وقال بشر بن عمر : كان مالك لا يروي عنه ، وقال يعقوب بن أبي شيبة عن ابن المديني : لم يُدخله مالك في كتبه ، قال يعقوب : وابن عقيل صدوق وفي حديثه ضعف شديد جداً ، وكان ابن عيينة يقول : أربعة من قريش يُترك حديثهم فذكره فيهم ، وقال ابن المديني عن ابن عيينة : رأيته يحدّث نفسه فحملته على أنّه قد تغيّر ، إلى غير ذلك من الكلمات الجارحة التي تسلب ثقة الفقيه بحديثه. (1)

2. الراوي عنه في سنن الترمذي هو عبيد بن عمرو البصري الذي ضعّفه الأزدي وأورد له ابن عدي حديثين منكرين وضعّفه الدارقطني ووثّقه ابن حبَّان. (2)

3. الراوي عنه في سنن أبي داود : بشر بن المفضّل ، قال ابن سعد : كان ثقة كثير الحديث عثمانياً ..

ا (3) لى غير ذلك من رجال في الأسانيد ، مرميّين بأُمور لا يحتجّ معها.

4. انّ الاستدلال بفعل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فرع معرفة وجهه ، فكما يحتمل انّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ورّث العم من باب التعصيب ، يحتمل انّه دفع الباقي إلى العم لأجل تكفله

ص : 244


1- تهذيب التهذيب : 6 / 140 ، ولاحظ بقيّة كلامه.
2- المصدر نفسه : 4 / 121.
3- تهذيب التهذيب : 1 / 459.

حضانة البنتين والحفاظ على أموالهما من التلف والضياع ، والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أولى بالمؤمنين من أنفسهم فكيف على أموالهم.

* * *

أضف إلى ذلك انّه ورد من طرقهم ما يخالف ذلك.

أخرج البيهقي في سننه بسنده عن حيان بياع الأنماط ، قال : كنت جالساً مع سويد بن غفلة فأتى في ابنة ، وامرأة ومولى ، فقال : كان علي رضي الله عنه يعطي الابنة النصف ، والمرأة الثمن ويرد ما بقي على الابنة. (1)

الرواية الثالثة : ما ورد في ميراث البنت والأُخت

روى الأسود بن يزيد قال : أتانا معاذ بن جبل باليمن معلّماً وأميراً ، فسألناه عن رجل توفّي وترك ابنة وأُختاً؟ فقضى : أنّ للابنة النصف ، وللأُخت النصف. ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حي. (2)

وفي لفظ أبي داود : أنّ معاذ بن جبل ورث أُختاً وابنة ، جعل لكلّ واحدة منهما النصف ، وهو باليمن ، ونبيّ الله يومئذ حي. (3)

والأثر يتضمّن عمل الصحابة وهو ليس بحجّة إلاّ إذا أُسند إلى المعصوم وكون النبي حيّاً يوم ذاك لا يلازم تقريراً لعمله.

والرجوع إلى الآثار الواردة عن الصحابة في مجال الفرائض يعرب عن أنّه لم

ص : 245


1- السنن الكبرى : 6 / 242.
2- صحيح البخاري : 8 / 150 في الفرائض باب ميراث البنات ، وباب ميراث الأخوات مع البنات عصبة.
3- سنن أبي داود في الفرائض ، باب ما جاء في ميراث الصلب رقم 2893. ولاحظ جامع الأُصول : 9 / 610 رقم 7394.

يكن عندهم إحاطة بأحكام الفرائض ، بل كلّ كان يفتي حسب معايير ومقاييس يتصوّرها صحيحة. ويكفي في ذلك اختلاف أبي موسى الأشعري مع ابن مسعود في رجل ترك بنتاً وأُختاً وابنة ابن.

روى البخاري : سُئل أبو موسى عن ابنة وابنة ابن ، وأُخت؟ فقال : للابنة النصف ، وللأُخت النصف وأْت ابن مسعود فسيتابعني ، قال : سئل ابن مسعود وأُخبر بقول أبي موسى فقال : لقد ضللتُ إذاً وما أنا من المهتدين ، أقضي فيها بما قضى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : للابنة النصف ، ولابنة ابن السدس تكملةَ الثلثين ، وما بقي فللأُخت ، فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال : لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم. (1)

الرواية الرابعة : ما ورد في ميراث الأخوات مع البنات

أخرج البخاري ، قال : حدّثني عمرو بن عباس ، حدّثنا عبد الرحمن ، حدّثنا سفيان عن أبي قيس عن هزيل ، قال : قال عبد الله : لأقضين فيها بقضاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - للابنة النصف ولابنة الابن السدس ، وما بقي فللأُخت. (2)

يلاحظ عليه : أوّلاً : بأنّه لا يصحّ الاحتجاج به ، إذ في سنده عبد الرحمن بن ثروان ، قال ابن حجر في «التهذيب» ناقلاً عن أبي حاتم انّه قال فيه : ليس بقوي ، هو قليل الحديث وليس بحافظ. (3)

ص : 246


1- صحيح البخاري : 8 / 151 ، باب ميراث ابنة ابن مع ابنة ؛ سنن الترمذي : 4 / 415 ، باب ما جاء في ميراث ابنة الابن مع ابنة الصلب رقم 2093 ؛ سنن أبي داود : 3 / 120 ، باب ما جاء في ميراث الصلب رقم 2890.
2- صحيح البخاري : 8 / 189.
3- تهذيب التهذيب : 6 / 138.

وعدّه الصقيل من الضعفاء. (1)

وثانياً : أنّ دفع السدس لبنت الابن لم يكن من باب التعصيب ، إذ عليه يكون للابنة النصف والباقي بين الأُخت وابنة الابن بالمناصفة ، فالحكم عليه بالسدس مخالف للتعصيب.

الرواية الخامسة : ما رواه البخاري في صحيحه عن الأسود

قال : قضى فينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - النصف للابنة والنصف للأُخت ، ثمّ قال سليمان : قضى فينا ولم يذكر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. (2)

يلاحظ عليه : بأنّه عمل صحابي موقوف لم يسنده إلى قول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وفعله أو تقريره فهو حجّة عليه.

هذا ما استدلّ به القائل بالتعصيب من الروايات بعد الذكر الحكيم.

مضاعفات القول بالتعصيب

ثمّ إنّه يلزم على القول بالتعصيب أُمور يأباها الطبع ولا تصدّقها روح الشريعة ، نأتي بنماذج :

1. لو كان للميّت عشر بنات وابن ، يأخذ الابن السدس ، وتأخذ البنات خمسة أسداس ، وذلك أخذاً بقوله سبحانه : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ).

2. لو كان له مكان الابن ، ابن عم للميّت ، فللبنات فريضتها وهي الثلثان ،

ص : 247


1- الضعفاء الكبير : 2 / 327.
2- صحيح البخاري : 8 / 189.

والباقي - أي الثلث - لابن العم. فيكون الابن أسوأ من ابن العم.

قال السيد المرتضى : فإذا تبيّن بطلان القول بالتعصيب يظهر حكم كثير من المسائل ، منها : فمن هذه المسائل أن يخلف الرجل بنتاً وعمّاً فعند المخالف أنّ للبنت النصف والباقي للعم بالعصبة ، وعندنا أنّه لا حظّ للعم والمال كلّه للبنت بالفرض والرد ، وكذلك لو كان مكان العم ابن عم ، وكذلك لو كان مكان البنت ابنتان ، ولو خلف الميت عمومة وعمّات أو بني عم وبنات عم فمخالفنا يورّث الذكور من هؤلاء دون الإناث لأجل التعصيب - أي قول : لأولى رجل ذكر - ونحن نورث الذكور والإناث. ومسائل التعصيب لا تحصى كثرة. (1)

يقول المحقّق محمد جواد مغنية : إنّ الإنسان أرأف بولده منه بإخوته ، وهو يرى أنّ وجود ولده ذكراً أو أُنثى امتداد لوجوده ، ومن هنا رأينا الكثير من أفراد الأُسر اللبنانية الذين لهم بنات فقط يبدلون مذهبهم من التسنّن إلى التشيّع ، لا لشيء إلاّ خوفاً أن يشترك مع أولادهم الإخوان أو الأعمام.

ويفكر الآن ، الكثير من رجال السنّة بالعدول عن القول بالتعصيب ، والأخذ بقول الإمامية من ميراث البنت تماماً كما عدلوا عن القول بعدم صحّة الوصيّة للوارث ، وقالوا بصحّتها كما تقول الإمامية ، على الرغم من اتّفاق المذاهب على عدم الصحّة. (2)

ص : 248


1- الانتصار : 282.
2- الفقه على المذاهب الخمسة : 517 - 518.

23- العول في الفرائض

اشارة

ص : 249

ص : 250

العول في الإرث أو حكم الفرائض إذا عالت

اشارة

قبل الخوض في المقصود ، نقدّم أُموراً :

الأوّل : العول لغة واصطلاحاً

للعول في اللغة معاني متعددة أو معنى واحد ، له مصاديق مختلفة ، فيُستعمل في الموارد التالية :

1. الفاقة والحاجة يقال : عال ، يعيل ، عيلة : إذا احتاج ، قال سبحانه : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) (1) وفي الحديث : «ما عال مقتصد». (2)

2. الميل إلى الجور ، قال سبحانه : (ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا). (3)

3. النقصان : يقال : عال الميزان عولاً فهو عائل إذا نقص.

4. الارتفاع : يقال : عالت الناقة بذنبها إذا رفعته ، ومنه العويل وهو ارتفاع الصوت بالبكاء.

إلى غير ذلك ممّا ذكره أصحاب المعاجم. (4)

ص : 251


1- التوبة : 28.
2- المقاييس : 4 / 198.
3- النساء : 3.
4- انظر اللسان : 11 / 481 - 484 ؛ المصباح المنير : 2 / 599.

وأمّا اصطلاحاً فهو عبارة عن زيادة السهام المفروضة في الكتاب على مبلغ المال ، أو نقصان المال عن السهام المفروضة.

قال السيد المرتضى : إنّ لفظ العول يجري مجرى الأضداد ، وإنّما دخل هذا الاسم في الفرائض في الموضع الذي ينقص فيه المال عن السهام المفروضة فيه ، فدخل هاهنا النقصان ، ويمكن أن يكون دخوله لأجل الزيادة ، لأنّ السهام زادت على مبلغ المال [وبالجملة] إذا أضيف إلى المال كان نقصاناً وإذا أُضيف إلى السهام كان زيادة. (1)

وحصيلة الكلام هو انّ العول عبارة عن زيادة سهام الفروض عن أصل المسألة بزيادة كسورها عن الواحد الصحيح. مثلاً إذا ترك الميت زوجة وأبوين وبنتين فللزوجة الثُّمن ، وللأبوين الثلث ، وللبنتين الثلثان ، والتركة لا تتسع للثمن والثلث والثلثين ، بل يستغرق الأخيران مجموعَ التركة ولم يتَّسع للثمن.

وكذا لو ماتت امرأة وتركت زوجاً وابنتين شقيقتين ، فللزوج النصف - لعدم الولد للميت - وللبنتين الثلثان ، والمال المتروك لا يتسع للنصف والثلثين ، ولا يتحقّق العول إلاّ بوجود الزوج أو الزوجة مع سائر الورثة ، فلو فقد الزوج والزوجة بين الورثة لما يتحقّق العول عندنا ، وأمّا عند غيرنا فيتحقّق عند فقدهما أيضاً كما سيوافيك.

الثاني : العول ، تاريخيّاً

إنّ مسألة العول من المسائل التي لم يرد فيها نصّ عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وقد ابتلى بها عمر بن الخطاب عند ما ماتت امرأة في عهده وكان لها زوج وأُختان ،

ص : 252


1- الانتصار : 561.

فجمع الصحابة ، فقال لهم : فرض الله تعالى للزوج النصف ، وللأُختين الثلثان ، فإن بدأت للزوج لم يبق للأُختين حقهما ، وإن بدأت للأُختين لم يبق للزوج حقّه ، فأشيروا عليَّ ، فاتّفق رأيه مع عبد الله بن مسعود ، على العول ، أي إيراد النقص على الجميع بنسبة فرضهم من دون تقديم ذي فرض على آخر ؛ وخالف ابن عباس ، في عصر عثمان ، وقال : إنّ الزوجين يأخذان تمام حقّهما ويدخل النقص على البنات فهو يقدّم من له فرضان في الكتاب على من له فرض واحد كما سنبيّن.

ومنذ ذلك العصر صار الفقهاء على فرقتين ، فالمذاهب الأربعة وما تقدّمها من سائر المذاهب الفقهية قالوا بالعول ، والشيعة الإمامية ، تبعاً للإمام عليّ - عليه السلام - وتلميذه ابن عباس على خلافه ، فهم على إيراد النقص على البعض دون بعض من دون أن يكون عملهم ترجيحاً بلا مرجح.

فعن عبد الله بن عباس انّه قال : أوّل من أعال الفرائض عمر لما التوت عليه الفرائض ودافع بعضها بعضاً ، فقال : ما أدري أيّكم قدَّمه الله ولا أيّكم أخّره ، فقال : ما أجد شيئاً أوسع لي من أن أقسِّم التركة عليكم بالحصص ، وأدخل على كلّ ذي حقّ ما دخل عليه من عول الفريضة ، ولم يخالف في ذلك أحد حتى انتهى أمر الخلافة إلى عثمان ، فأظهر ابن عباس خلافه في ذلك وقال : لو أنّهم قدَّموا من قدَّم الله وأخّروا من أخّر الله ما علت فريضة قط ، فقيل له : من قدّمه الله ومن أخّره الله؟ فقال : قدّم الله الزوج والزوجة ، والأُمّ والجدة ، وأمّا من أخّره الله فالبنات وبنات الابن والأخوات الشقيقات والأخوات لأب.

وفي رواية أُخرى أنّه قال : من أهبطه الله من فرض إلى فرض فهو الذي قدّمه ، ومن أهبطه الله من فرض إلى غير فرض فهو الذي أخّره. (1)

ص : 253


1- المبسوط للسرخسي : 29 / 161 - 162.

ويظهر من بعض الروايات انّ ابن عباس كان يصرّ على رأيه ويدعو المخالف إلى المباهلة.

قال الشربيني في «مغني المحتاج» : كان ابن عباس صغيراً فلما كبر أظهر الخلاف بعد موت عمر وجعل للزوج النصف ، وللأُمّ الثلث وللأُخت ما بقي (1) ولا عول حينئذ فقيل له : لِمَ ، لَمْ تقل هذا لعمر؟ فقال : كان رجلاً مهاباً فهبتُه ، ثمّ قال : إنّ الذي أحصى رمل عالج عدداً لم يجعل في المال نصفاً ونصفاً وثلثاً ، ذهب النصفان بالمال فأين موضع الثلث؟

ثمّ قال له عليّ - عليه السلام - : هذا لا يغني عنك شيئاً لو متُّ أو مت لقُسِّم ميراثنا على ما عليه الناس من خلاف رأيك ، قال : فإن شاءوا فلندع أبناءنا وأبناءهم ، ونساءنا ونساءهم ، وأنفسنا وأنفسهم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ، فسمّيت المباهلة لذلك. (2)

وروى الجصاص في تفسيره عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال : دخلت أنا وزفر بن أوس بن الحدثان على ابن عباس بعد ما ذهب بصره فتذاكرنا فرائض الميراث ، فقال : ترون الذي أحصى رمل عالج عدداً لم يحص في مال نصفاً ونصفاً وثلثاً ، إذا ذهب نصف ونصف فأين موضع الثلث؟ فقال له زفر : يا ابن عباس ، مَنْ أوّل من أعال الفرائض؟ قال : عمر بن الخطاب ، قال : ولم؟ قال : لما تدافعت عليه وركب بعضها بعضاً ، قال : والله ما أدري كيف أصنع بكم؟ والله ما أدري أيّكم قدّم الله ولا أيّكم أخّر ، قال : وما أجد في هذا المال شيئاً أحسن من أن أُقسمه عليكم بالحصص ، ثمّ قال ابن عباس : وأيم الله لو قدّم من

ص : 254


1- وهذه المسألة نفس ما ابتلى به عمر بن الخطاب ، غير أنّه أُضيفت عليها «الأُمّ».
2- مغني المحتاج : 3 / 33. وانظر المبسوط 29 / 161.

قدّم الله ، وأخّر من أخر الله ما عالت فريضة ، فقال له زفر : وأيّهم قدّم وأيهم أخّر؟ فقال : كلّ فريضة لا تزول إلاّ إلى فريضة فتلك التي قدّم الله وتلك فريضة الزوج ، له النصف فإن زال فإلى الربع لا ينقص منه ، والمرأة لها الربع فإن زالت عنه صارت إلى الثمن لا تنقص منه ، والأخوات لهن الثلثان والواحدة لها النصف ، فإن دخل عليهم كان لهنّ ما بقي فهؤلاء الذين أخّر الله ، فلو أعطى من قدّم الله فريضة كاملة ثمّ قُسِّم ما يبقى بين من أخّر الله بالحصص ما عالت فريضة ، فقال له زفر : فما منعك أن تشير بهذا الرأي على عمر؟ فقال : هبته والله. (1)

الثالث : الأقوال المطروحة في العول

اتّفقت الشيعة ووافقهم الظاهرية وثلّة من الصحابة والتابعين على بطلان العول بمعنى إدخال النقص على جميع الورثة بنسبة فروضهم ، بل يقدّم من له الفرضان على من له فرض واحد.

قال السيد المرتضى في «الانتصار» : والذي تذهب إليه الشيعة الإمامية : أنّ المال إذا ضاق عن سهام الورثة قدم ذو السهام المؤكدة من الأبوين والزوجين على البنات والأخوات من الأُمّ وعلى الأخوات من الأب والأُمّ أو من الأب ، وجعل الفاضل عن سهامهم لهنّ.

وذهب ابن عباس إلى مثل ذلك وقال به أيضاً عطاء بن أبي رباح وحكى الفقهاء من العامة هذا المذهب عن محمد بن علي بن الحسين الباقر - عليه السلام - ومحمد بن الحنفية ، وهو مذهب داود بن علي الاصفهاني.

وقال باقي الفقهاء : إنّ المال إذا ضاق عن سهام الورثة قُسِّم بينهم على قدر

ص : 255


1- أحكام القرآن : 2 / 109 ؛ مستدرك الحاكم : 4 / 340.

سهامهم كما يفعل في الديون والوصايا إذا ضاقت التركة عنها. (1)

وقال في الناصريات : وذهب أصحابنا - بلا خلاف - انّ الفرائض لا تعول ، ووافقنا على ذلك ابن عباس ، وداود بن علي الاصفهاني ، وخالفنا باقي الفقهاء. (2)

وقال الشيخ في «الخلاف» : العول عندنا باطل فكلّ مسألة تعول على مذهب المخالفين فالقول عندنا فيها بخلاف ما قالوه. وبه قال ابن عباس فانّه لم يُعْوِلْ المسائل وأدخل النقص على البنات وبنات الابن والأخوات للأب والأُمّ أو للأب ، وبه قال محمد بن الحنفية ، ومحمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - عليهم السلام - وداود بن علي ، وأعالها جميع الفقهاء. (3)

وممّن خالف العول ابن حزم في «المُحلّى» وهو من أعيان مذهب الظاهرية : وقال أوّل من قال به (العول) زيد بن ثابت ووافقه عليه عمر بن الخطاب وصحّ عنه هذا ، وروي عن علي وابن مسعود غير مسند ، وذكر عن العباس ولم يصحّ ، وصحّ عن شريح ونفر من التابعين يسير ، وبه يقول أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد. وأصحاب هؤلاء القوم إذا اجتمع رأيهم على شيء كان أسهل شيء عليهم دعوى الإجماع ، فإن لم يمكنهم ذلك ، لم تكن عليهم مئونة من دعوى أنّه قول الجمهور وانّ خلافه شذوذ وانّ خصومهم ليرثون لهم من تورطهم في هذه الدعاوى الكاذبة نعوذ بالله من مثلها ... وبقول ابن عباس هذا ، يقول عطاء ومحمد بن علي بن أبي طالب ومحمد بن علي بن الحسين وأبو سليمان وجميع أصحابنا وغيرهم. (4)

ص : 256


1- الانتصار : 561 - 562.
2- الناصريات : 403 ، المسألة 190.
3- الخلاف : 4 / 73 ، المسألة 81.
4- المحلّى : 9 / 263 - 264 ، المسألة 1717.
الرابع ذكر نماذج من صور العول

ذكر الفقهاء للعول صوراً مختلفة نذكر بعضها روماً للاختصار :

1. زوج وأُختان : للزوج النصف أي الثلاثة من ستة ، وللُاختين الثلثان أي الأربعة منها. ومن المعلوم أنّ المال ليس فيه نصف وثلثان فلو أُخذ من الست ، النصفُ ، لا يفي الباقي بالثلثين وهكذا العكس ، فتعول السهام إلى السبعة (7 / 4+ 3).

ففي المذهب الإمامي يقدّم الزوج فيعطى له النصف والباقي للأُختين ، وأمّا القائل بالعول فهو يقسّم التركة إلى سبعة سهام ، مكان الستة فيعطي للزوج ثلاثة سهام ، وللُاختين أربعة سهام لكن من السبعة ، وبذلك يُدخل النقص على الجميع ، فلا الزوج ورث النصف الحقيقي ولا الأُختان ، الثلثين ، بل أخذ كل أقل من سهامه.

2. تلك الصورة ومعهما أُخت واحدة من الأُمّ فريضتها السدس ، ومن المعلوم أنّ التركة لا تفي بالنصف والثلثين والسدس ، فتعول التركة إلى ثمانية سهام وذلك (8 / 4+ 3+ 1). ففي الفقه الإمامي يقدّم الزوج والأُخت لكونهما ذو فرضين فيعطى للزوج النصف وللأُخت السدس والباقي للأُختين ، وأمّا القائل بالعول فهو يورد النقص على الجميع ، فيقسّم المال إلى ثمانية سهام ، فيعطي للزوج ثلاثة. وللأُختين أربعة ، وللأُخت من الأُمّ واحداً ، ولكنّ الكلّ من ثمانية أجزاء ، فلا الزوج نال النصف ، ولا الأُختان الثلثين ، ولا الأُخت من الأُمّ ، السدس.

3. تلك الصورة ومعهم أخ من أُم وفريضتها أيضاً السدس فتعول الفريضة إلى تسعة ، وذلك (9 / 4+ 3+ 1+ 1).

ص : 257

ففي الفقه الإمامي يقدّم الزوج والأُخت من الأُمّ ، والأخ من الأب ، ويختص الباقي بالأُختين ؛ وأمّا القائل بالعول فيعطي للزوج ثلاثة ، وللُاختين أربعة ، ولكلّ من الأُخت والأخ من الأُمّ واحداً لكن من تسعة أسهم ، لا من ستة سهام ، وبالتالي لا يُمتَّع الزوج بالنصف ، ولا الأُختان بالثلثين ، ولا الأُخت والأخ من الأُمّ بالثلث إلاّ لفظاً.

4. زوجة وأبوان وبنتان وهي المسألة المعروفة باسم المسألة المنبرية ، وهي التي سُئل عنها الإمام عليّ - عليه السلام - وهو على المنبر ، فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين رجل مات وترك ابنتيه وأبويه وزوجة؟ فقال الإمام - عليه السلام - : «صار ثمن المرأة تسعاً». ومراده : أنّه على الرأي الرائج ، إدخال النقص على الجميع صار سهمها تسعاً.

وذلك لأنّ المخرج المشترك للثلثين والسدس والثمن هو عدد (24) فثلثاه (16) وسدساه (8) وثمنه (3) ، وعند ذلك تعول الفريضة إلى (27) سهماً ، وذلك مثل (27 / 16+ 8+ 3).

فالقائل بالعول ، يورد النقص على جميع أصحاب الفروض ، فيعطي لأصحاب الثلثين (16) سهماً ، وللأبوين (8) سهام ، وللزوجة (3) سهام ، من (27) ، بدل إعطائهم بهذا المقدار من (24) سهماً ، والزوجة وإن أخذت (3) سهام ، لكن لا من (24) سهماً حتى يكون ثمناً واقعياً ، بل من (27) وهو تُسْع التركة ، وهي في الواقع (24) سهماً (1). بخلاف المذهب الإمامي فهو يقدّم الزوجة والأبوين والباقي لابنتيه.

هذه هي نظرية العول وبيانها بوجه سهل غير مبتن على المحاسبات الدقيقة

ص : 258


1- سهم الزوجة 3 / 1 / 27 / 9 مجموع السهام 27 / 16+ 8+ 3.

وإن كان البيان على ضوئها أتقن وأدق.

ويظهر من السيد المرتضى أنّ القائلين بالعول ربّما يوافقون الإمامية في بعض الصور ، كامرأة ماتت وخلّفت بنتين وأبوين وزوجاً ، والمال يضيق عن الثلثين والسدسين والربع ، فنحن بين أُمور : إمّا أن ندخل النقص على كل واحد من هذه السهام أو ندخله على بعضها ، وقد أجمعت الأُمّة على أنّ البنتين هاهنا منقوصتان بلا خلاف ، فيجب أن نعطي الأبوين السدس والزوج الربع ، ويجعل ما بقي للابنتين ، ونخصّهما بالنقص لأنّهما منقوصتان بالاجماع. (1)

إذا عرفت هذه الأُمور فلندرس أدلّة القائلين بالعول أوّلاً ، ثمّ أدلّة القائلين بتقديم ذي الفرضين على من له فرض واحد.

ص : 259


1- الانتصار : 284.

أدلّة القائلين بالعول

اشارة

استدلّ القائلون بالعول بوجوه : (1)

1. قياس الحقّ بالدين

إنّ الدُّيّان يقتسمون المال على تقدير قصوره عن دينهم بالحصص ، وكذلك الورّاث ، والجامع ، الاستحقاق للمال.

يلاحظ عليه : أنّه قياس مع الفارق فانّ الدَّيْن يتعلّق بالذمة ، والتركة كالرهن عند الدائن. وبعبارة أُخرى : تعلّق الدين بعين المال تعلّقُ استحقاق لا تعلّق انحصار ، فلو لم يؤدّوا حقّ الغرماء فلهم مصادرة التركة واستيفاء طلبهم من باب التقاص ، ولو قاموا بالتأدية من غير التركة فليس لهم أيّ اعتراض ، ولأجل ذلك ليس بمحال أن يكون لرجل على رجل ألف ، ولآخر ألفان ، ولثالث عشرة آلاف وإن صار الدَّين أضعاف التركة ، لأنّ المديون أتلف مال الغير بالاستقراض والصرف ، فصار مديوناً بما أتلف ، كان بمقدار ماله أو أزيد أو أنقص فلا إشكال في تعلّق أضعاف التركة بالذمة لأنّها تسع أكثر من ذلك.

وأمّا سهام الإرث فانّها انّما تتعلّق بالتركة والأعيان الموروثة ، ومن المحال أن يكون للمال نصف ، ونصف وثلث (كما إذا ماتت الزوجة عن زوج وأُخت للأبوين وأُختين للأُمّ) ، فامتلاك الورثة من التركة بقدر هذه الفروض أمر غير معقول ،

ص : 260


1- أخذنا الدلائل الثلاثة الأُول من المغني : 6 / 242 مع تفصيل منّا.

فلا بدّ أن يكون تعلّقها بشكل آخر تسعها التركة. بأن لا يكون لبعض أدلّة الفروض إطلاق يعمّ حالي الانفراد والاجتماع حتى لا يستلزم المحال ، وسيوافيك بيان ماله إطلاق لحال الاجتماع مع سائر الفروض وما ليس له إطلاق.

وقد فصّل أصحابنا في نقد هذا الدليل بوجوه ، وما ذكرناه أتقن ، وإليك ما ذكره المرتضى في نقد هذا الدليل :

قال : ما يقولونه في العول : إنّ الديون إذا كانت على الميّت ولم تف تركته بالوفاء بها ، فإنّ الواجب القسمة للمال على أصحاب الديون بحسب ديونهم من غير إدخال النقص على بعضهم ، وذلك أنّ أصحاب الديون مستوون في وجوب استيفاء أموالهم من تركة الميّت ، وليس لأحد مزية على الآخر في ذلك ، فإن اتّسع المال لحقوقهم استوفوها ، فإن ضاق تساهموه وليس كذلك مسائل العول ، لأنّا قد بيّنّا أنّ بعض الورثة أولى بالنقص من بعض ، وأنّهم غير مستويين كاستواء أصحاب الديون فافترق الأمران. (1)

2. قياس الإرث بالوصية

إنّ التقسيط مع القصور واجب في الوصية للجماعة والميراث كذلك ، والجامع بينهما استحقاق الجميع التركة ، فلو أوصى لزيد بألف ، ولعمرو بعشرة آلاف ، ولبكر بعشرين ألف ، وضاق ثلثه عن القيام بالجميع ، يُورد النقص على الجميع حسب سهامهم.

يلاحظ عليه : أنّ الحكم ليس بمسلّم في المقيس عليه حتى يستظهر حال المقيس منها. بل الحكم فيه أنّه يعطى الأوّل فالأوّل - عند الإيصاء - إلى أن يبقى

ص : 261


1- الانتصار : 285.

من المال شيء ويسقط من لم يسعه الثلث ، لأنّه أوصى بشيء لم يملكه فتكون وصيّته باطلة.

نعم لو ذكر جماعة ثمّ سمّى ، كما إذا قال : زيد وعمر وبكر لكل واحد ألف ، فعجز عنه مقدار ما ترك ، فلا شك أنّه يدخل النقص على الجميع والفارق بينه وبين المقام هو تصريح الموصي بالعول ، ولو ورد التصريح به في الشريعة - وأغضينا عمّا سيوافيك - يجب اتباعه فكيف يقاس ، ما لم يرد فيه التصريح بالتقسيط بما ورد فيه التصريح به.

3. تقديم البعض على البعض ترجيح بلا مرجّح

إنّ النقص لا بدّ من دخوله على الورثة على تقدير زيادة السهام ، أمّا عند العائل فعلى الجميع وأمّا عند غيره فعلى البعض ، لكن هذا ترجيح من دون مرجّح.

يلاحظ عليه : أنّ رفع الأمر المحال بإيراد النقص على الجميع فرع إحراز صحّة أصل تشريعه ، وأنّه يصحّ أن يتملّك شخص ، نصفَ المال ، وآخر نصفَه الآخر ، وثالث ثلاثة ، وقد عرفت أنّه غير صحيح وأنّ المال لا يتحمّل تلك الفروض ، ومع عدم صحّة تشريعه لا تصل النوبة إلى احتمال ورود النقص على الجميع ، فانّ تصويره بصورة العول ، وإيراد النقص على الجميع رجوع عن الفرض ، واعتراف بأنّه ليس فيه نصفان وثُلث كما سيظهر عند بيان أدلّة القائلين ببطلانه ، لأنّ من سهمه النصفان أو الثُّلث ، يأخذ أقل من سهمهما ، وبالتالي يعترف بأنّه ليس في المال نصفان وثلث.

أضف إلى ذلك ، وجود المرجّح الذي أشار إليه الإمام أمير المؤمنين وتلميذه ابن عباس سابقاً ، وسيأتي كلامهما وكلام عترته الطاهرة.

ص : 262

4. قول علي عليه السلام - في المسألة المنبرية

روى البيهقي قال أخبرنا أبو سعيد ، أنبأنا أبو عبد الله ، حدثنا محمد بن نصر ، حدثنا إسحاق ، حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث عن علي - رضي الله عنه - في امرأة وأبوين وبنتين ، صار ثمنها تسعاً. (1)

والمسألة تسمّى المنبرية ، لأنّه سئل عنها الإمام وهو على المنبر ، يخطب ، ويظهر من أحمد المرتضى انّ السائل كان هو ابن الكوّاء ، أحد المناوئين فأجاب الإمام بقوله : «صار ثمنها ، تسعاً» ثمّ مضى في خطبته. (2)

قال في الشرح الكبير : انّ المرأة كان لها الثمن ثلاثة من أربعة وعشرين صار لها بالعول ثلاثة من سبعة وعشرين وهي التُّسع. (3)

وبعبارة أُخرى : انّ الثلاثة إذا نسبت إلى أربعة وعشرين فهو ثُمن التركة وإذا نسبت إلى سبعة وعشرين فهو تُسْع التركة ولذلك قال : «صار ثمنها تسعاً» ، وهذا صريح في العول ، إذ على القول الآخر : انّها لا تنقص سهمها عن الثمن ، وقد جعل الإمام ثمنها تسعاً.

يلاحظ عليه : أنّ السند ضعيف ، والدلالة غير تامة.

أمّا الأوّل ففيه : شريك بن عبد الله بن أبي شريك ، أبو عبد الله الكوفي القاضي فقد ترجمه ابن حجر في التهذيب» وقال : قال الجوزجاني : شريك ، سيّئ الحفظ ، مضطرب الحديث مائل.

وقال ابن أبي حاتم قلت لأبي زرعة : شريك يحتج بحديثه قال : كان كثير

ص : 263


1- السنن الكبرى : 6 / 253.
2- البحر الزخار : 356 باب العول والردّ ؛ الشرح الكبير في ذيل متن المغني : 7 / 74.
3- الشرح الكبير في ذيل متن المغني : 7 / 47.

الخطأ ، صاحب حديث وهو يغلط أحياناً.

وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري : أخطأ في أربعمائة حديث.

وقال ابن المثنى : ما رأيت يحيى ولا عبد الرحمن حدثنا عنه بشيء.

ونقل عن عبد الله بن أحمد عن أبيه الإمام أحمد : حسن بن صالح أثبت من شريك ، كان شريك لا يبالي كيف حدث. (1)

ويروي شريك ذلك الحديث عن أبي إسحاق وهو عمرو بن عبد الله السبيعي ، وقد وصفه ابن حيان في «الثقات» بأنّه كان مدلّساً ، كما وصفه به حسين الكرابيسي وأبو جعفر الطبري. (2)

ومع كلّ ذلك كيف يحتجّ به على الحكم الشرعي.

وأمّا الدلالة : ففيه احتمالات :

1. انّ الإمام ذكر ذلك تعجّباً ، وكأنّه قال : أصار ثُمنها تسعاً؟! فكيف يمكن ذلك ، مع أنّه سبحانه جعل فرضها الثمن ، وفي ما سألت صار فرضها تُسعاً حسب الظاهر ، وأمّا ما هو علاج المسألة وصيانة ثمنها الوارد في القرآن ، فقد سكت عنه الإمام ومضى في خطبته.

2. انّ ما ذكره إخبار عما جرى عليه الناس بعد إفتاء الخليفة بإدخال النقص على الجميع ، دون أن يفتي على وفقه.

3. انّه ذكر ذلك مجاراة للرأي السائد في ذلك وإخماداً للفتنة ، حيث إنّ السائل كان أحد المناوئين للإمام ، وقد حاول بسؤاله ، أن يجعل الإمام في مأزق ، وكان عارفاً برأي الإمام.

ويظهر ما ذُكر ممّا نقله شيخ الطائفة عن أبي طالب الأنباري قال : حدثني

ص : 264


1- تهذيب التهذيب : 4 / 295 - 296.
2- تهذيب التهذيب : 8 / 59

الحسن بن محمد بن أيوب الجوزجاني قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال : حدثنا يحيى بن أبي بكر ، عن شعبة ، عن سماك ، عن عبيدة السلماني قال : كان عليّ - عليه السلام - على المنبر فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين رجل مات وترك ابنتيه وأبويه وزوجة ، فقال عليّ - عليه السلام - : صار ثمن المرأة تسعاً. قال سماك : قلت لعبيدة : وكيف ذلك؟ قال : إنّ عمر بن الخطاب وقعت في إمارته هذه الفريضة ، فلم يدر ما يصنع وقال : للبنتين الثلثان ، وللأبوين السدسان ، وللزوجة الثمن. قال : هذا الثمن باق بعد الأبوين والبنتين ، فقال له أصحاب محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - : اعط هؤلاء فريضتهم ، للأبوين السدس ، وللزوجة الثمن ، وللبنتين ما يبقى ، فقال : فأين فريضتهما الثلثان؟ فقال له علي بن أبي طالب - عليه السلام - : لهما ما يبقى. فأبى ذلك عمر وابن مسعود فقال عليّ - عليه السلام - : على ما رأى عمر. قال عبيدة : وأخبرني جماعة من أصحاب عليّ - عليه السلام - بعد ذلك في مثلها أنّه أعطى للزوج الربع ، مع الابنتين ، وللأبوين السدسين والباقي ردّ على البنتين [قال :] وذلك هو الحق وإن أباه قومنا. (1)

ويستفاد من الحديث أوّلاً : أنّ عليّاً وأصحاب النبيّ إلاّ القليل منهم كانوا يرون خلاف العول ، وأنّ سيادة القول العول لأجل أنّ الخليفة كان يدعم ذلك آنذاك.

وثانياً : أنّ الإمام عمل في واقعة برأيه وأورد النقص على البنتين فقط ، وعلى ذلك يكون المراد من قوله ، فقال عليّ - عليه السلام - : «على ما رأى عمر» ، هو المجاراة والمماشاة ، وإلاّ يصير ذيل الحديث مناقضاً له.

إلى هنا تمت دراسة أدلّة القائلين بالعول. فلنذكر أدلّة المنكرين.

ص : 265


1- تهذيب الأحكام : 9 / 300 ، الحديث 13 ط الغفّاري.

أدلّة القائلين ببطلان العول

1. استلزام العول نسبة الجهل أو العبث إلى الله

يستحيل أن يجعل الله تعالى في المال نصفين وثلثاً ، أو ثلثين ونصفاً ونحو ذلك ممّا لا يفي به وإلاّ كان جاهلاً أو عابثاً ، تعالى الله عن ذلك.

توضيحه : انّ السهام المنصوصة في الذكر الحكيم ستة ، وهي :

الثلثان : وهو فرض صنفين : 1. البنتان فصاعداً ، 2. والأُختان الشقيقتان فصاعداً أو من الأب.

النصف : وهو فرض أصناف ثلاثة : 1. الزوج مع عدم الولد ، 2. والبنت المنفردة ، 3. والأُخت منفردة من الأبوين ، أو من الأب.

الثلث : وهو فرض صنفين : 1. الأُمّ مع عدم الولد ، 2. الاخوان أو الأُختان أو أخ وأُخت فصاعداً من الأُمّ.

الربع : وهو فرض صنفين : 1. الزوج مع الولد ، 2. الزوجة مع عدم الولد.

السدس : وهو فرض أصناف ثلاثة : 1. الأبوان مع الولد ، 2. الأُمّ مع الحاجب ، 3. الأخ والأُخت من الأُمّ.

الثمن : وهو فرض صنف واحد وهو الزوجة مع الولد.

إذا عرفت ذلك فعندئذ يقع الكلام في أنّ الأدلة المتكفّلة لبيان فروض هذه الأصناف هل هي مطلقة ، بمعنى ثبوت الفرض في كافة الصور ، كاجتماع أبوين والبنت مع الزوج ، أو ليس لها ذلك الإطلاق؟

فعلى الأوّل يلزم عبثية التشريع ولغويته لاستغراق فرض الزوج (النصف) و

ص : 266

فرض البنت المنفردة (النصف) مثلاً مجموع التركة وعدم اتساعها لفرض الأبوين وهو الثلث.

وعلى الثاني يلزم الوقوف على من قدّمه الله سبحانه ومن أخّره لئلاّ يلزم المحذور وهذا هو المطلوب.

2. استلزامه التناقض والإغراء بالجهل

إنّ القول بالعول يؤدّي إلى التناقض والإغراء بالجهل ، أمّا التناقض فقد بيّنا عند تفصيل القول بالعول أنّه إذا مات وترك أبوين وبنتين وزوجاً ، وقلنا : إنّ فريضتهم من اثني عشر ، فمعنى ذلك أنّ للأوّلين أربعة من اثني عشر ، وللثانيتين ، ثمانية من اثني عشر ، وللزوج ثلاثة من اثني عشر ، فإذا أعلناها إلى خمسة عشر فأعطينا الأبوين أربعة من خمسة عشر وللبنتين ثمانية من خمسة عشر ، وللأبوين أربعة من خمسة عشر ، فقد دفعنا للأبوين (مكان الثلث) خمساً وثلثه ، وإلى الزوج (مكان الربع) خُمساً ، وإلى الابنتين (مكان الثلثين) ثلثاً وخمساً ، وذلك نفس التناقض.

وأمّا الإغراء بالجهل ، فقد سمّى الله سبحانه ، الخمس وثلثه باسم الثلث ، والخُمس باسم الربع ، وثلثاً وخمساً باسم الثلثين (1).

ويمكن جعل الدليل الأوّل والثاني ، دليلاً واحداً بأن يقال : إذا جعل الله سبحانه في المال نصفين وثلثاً ، فأمّا أن يجعلها بلا ضم حلول - مثل العول - إليه ، يلزم كونه سبحانه جاهلاً أو عابثاً تعالى عن ذلك ، وأمّا أن يجعل مع النظر إلى حلول مثل العول ، يلزم التناقض بين القول والعمل ، والإغراء مع كونه قبيحاً.

ص : 267


1- لاحظ ص 253.
3. يلزم تفضيل النساء على الرجال

لو قلنا بالعول يلزم تفضيل النساء على الرجال في موارد ، ومن المعلوم أنّه يخالف روح الشريعة الإسلامية ، ولنذكر نموذجاً :

إذا ماتت المرأة عن زوج وأبوين وبنتاً ، فالتركة لا تتسع لنصفين وثلثاً ، فلو قلنا بالعول ارتفعت السهام إلى 13 سهماً ، فللبنت منها 6 وللأبوين منها 4 وللزوج منها 3 ، فهذه صورة المسألة :

41 (سهم الزوج) + 21 (سهم البنت) + 62 (سهم الأبوين) / 1213 / 4+ 6+ 123

(سهم الزوج) + (سهم البنت) + (سهم الأبوين)/

ففي هذه الصورة على القول بالعول صار سهم البنت 6 من 13.

ولو كان الابن مكان البنت ، أُعطي الأبوان 4 سهام من أصل 12 سهماً ، والزوج 3 سهام من أصل 12 سهماً والباقي وهو 5 سهام للابن فصار سهم الابن أقلّ من سهم البنت ، وهذا التالي الفاسد جاء من القول بالعول في الصورة الأُولى.

وقد جاء ذلك الدليل في رواية أبي جعفر الباقر - عليه السلام -.

أخرج الكليني عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر - عليه السلام - في امرأة ماتت وتركت زوجها وأبويها وابنتها ، قال : للزوج الربع ثلاثة أسهم من اثني عشر سهماً ، وللأبوين لكلّ واحد منهما السدس سهمين من اثني عشر سهماً ، وبقي خمسة أسهم فهي للابنة ، لأنّه لو كان ذكراً لم يكن له أكثر من خمسة أسهم من اثني عشر سهماً ، لأنّ الأبوين لا ينقصان كلّ واحد منهما في السدس شيئاً وانّ الزوج لا ينقص من الربع شيئاً. (1)

وقد جاءت الإشارة إلى بعض هذه الصور التي يلزم على القول بالعول

ص : 268


1- الوسائل : 17 ، الباب 18 من أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، الحديث 2.

زيادة نصيب النساء على الرجال في الروايات. (1)

الرابع : تصريح أئمّة أهل البيت ببطلان العول

اشارة

قد تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت - مضافاً إلى ما عرفت عن عليّ - عليه السلام - - على بطلان العول ، وإليك طائفة منها :

1. أخرج الكليني عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر - عليه السلام - قال : «السهام لا تعول».

2. أخرج الكليني عن محمد بن مسلم ، قال : أقرأني أبو جعفر - عليه السلام - صحيفة كتاب الفرائض التي هي إملاء رسول الله وخط علي بيده فإذا فيها انّ السهام لا تعول.

3. أخرج الشيخ الطوسي بسنده عن أبي بكر الحضرمي ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : كان ابن عباس يقول : إنّ الذي يحصي رمل عالج ليعلم أنّ السهام لا تعول من ستة ، فمن شاء لاعنته عند الحجر انّ السهام لا تعول من ستة».

ومعنى قوله : «لا تعول من ستة» انّها وإن زادت ولكن لا تزيد أُصولها على ستة.

إلى غير ذلك من الروايات التي رواها الشيخ الحرّ العاملي في «الوسائل». (2)

أُسلوب علاج العول من منظار روائي

قد عرفت أنّ أئمّة أهل البيت أنكروا العول ، ولم يكتفوا بالإنكار فحسب ، بل وضعوا الحلول المناسبة لعلاجه والتي وردت في روايات كثيرة ، نختار منها

ص : 269


1- لاحظ الوسائل : 17 ، الباب 3 من أبواب ميراث الإخوة والأجداد ، الحديث 3.
2- الوسائل : 17 ، الباب 6 من أبواب موجبات الإرث ، الحديث 1 ، 11 ، 12.

طائفة ، ومن أراد التفصيل فعليه ، فليرجع إلى الجوامع الحديثية.

1. ما ذكره ابن عباس وقد أخذه عن إمامه وأُستاذه علي بن أبي طالب - عليه السلام - ، وقد تقدّم ذكره فلنقتصر على محل الشاهد ، قال :

وأيم الله لو قدّم من قدّم الله وأخّر من أخّر الله ما عالت فريضة.

فقال له زفر : وأيّها قدّم وأيّها أخّر؟

فقال : كل فريضة لم يهبطها الله عن فريضة إلاّ إلى فريضة فهذا ما قدّم الله. وأمّا ما أخّر : فلكلّ فريضة إذا زالت عن فرضها لم يبق لها إلاّ ما بقى ، فتلك التي أخّر.

فأمّا الذي قدَّم : فالزوج له النصف فإذا دخل عليه ما يزيله عنه رجع إلى الربع لا يزيله عنه شيء ؛ والزوجة لها الربع ، فإذا دخل عليها ما يزيلها عنه صارت إلى الثمن لا يزيلها عنه شيء ؛ والأُم لها الثلث فإذا زالت عنه صارت إلى السدس ، ولا يزيلها عنه شيء ، فهذه الفرائض التي قدّم الله.

وأمّا التي أخّر : ففريضة البنات والأخوات لها النصف والثلثان ، فإذا أزالتهنّ الفرائض عن ذلك لم يكن لهنّ إلاّ ما بقى ، فتلك التي أخّر ؛ فإذا اجتمع ما قدّم الله وما أخّر بدئ بما قدّم الله فأُعطي حقّه كاملاً ، فإن بقى شيء كان لمن أخّر ، وإن لم يبق شيء فلا شيء له. (1)

فقد جاء في كلام ابن عباس الطوائف الذين لا يدخل عليهم النقص وهم عبارة عن :

1. الزوج. 2. الزوجة. 3. الأُمّ ، وهؤلاء يشتركون في أنّهم لا يهبطون عن

ص : 270


1- الوسائل : 17 ، الباب 7 من أبواب موجبات الإرث ، الحديث : 6. لاحظ المستدرك للحاكم : 4 / 340 كتاب الفرائض والحديث صحيح على شرط مسلم ؛ وأورده الذهبي في تلخيصه إذعاناً بصحّته.

فريضة إلاّ إلى فريضة أُخرى ، وهذا دليل على أنّ سهامهم محدودة لا تنقص.

وكان عليه أن يذكر الأخ والأُخت من أُمّ ، لأنّهم أيضاً لا يهبطون من سهم (الثلث) إلاّ إلى سهم آخر وهو السدس ، وقد جاء الجميع في كلام الإمام أمير المؤمنين التالي.

2. روى أبو عمر العبدي عن علي بن أبي طالب - عليه السلام - أنّه كان يقول : الفرائض من ستة أسهم : الثلثان أربعة أسهم ، والنصف ثلاثة أسهم ، والثلث سهمان ، والربع سهم ونصف ، والثمن ثلاثة أرباع سهم ، ولا يرث مع الولد إلاّ الأبوان والزوج والمرأة ، ولا يحجب الأُمّ عن الثلث إلاّ الولد والإخوة ، ولا يزاد الزوج عن النصف ولا ينقص من الربع ، ولا تزاد المرأة على الربع ولا تنقص عن الثمن ، وإن كنّ أربعاً أو دون ذلك فهنّ فيه سواء ، ولا تزاد الإخوة من الأُمّ على الثلث ولا ينقصون من السدس وهم فيه سواء الذكر والأُنثى ، ولا يحجبهم عن الثلث إلاّ الولد ، والوالد ، والدية تقسم على من أحرز الميراث». (1)

3. روى أبو بصير ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : أربعة لا يدخل عليهم ضرر في الميراث : الوالدان ، والزوج ، والمرأة». (2) وبما أنّ المراد من المرأة هي الزوجة فلا بدّ من تقييد الرواية بإدخال كلالة الأُمّ فيها ، لأنّها أيضاً لا يدخل عليها ضرر. فإذا كان هؤلاء من قدّمهم الله ولا يزيد عليهم النقص ، فيكون من أخّره الله عبارة عن البنت أو البنتين أو من يتقرّب بالأب والأُم أو بالأب من الأُخت أو الأخوات.

4. محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر - عليه السلام - قال : قلت له : ما تقول في امرأة تركت زوجها وإخوتها لأُمّها وإخوة وأخوات لأبيها؟ قال : «للزوج النصف ثلاثة

ص : 271


1- الوسائل : 17 ، الباب 7 من أبواب موجبات الإرث ، الحديث 12.
2- الوسائل : 17 الباب 7 من أبواب موجبات الإرث ، الحديث 3.

أسهم ، ولإخوتها من أُمّها الثلث سهمان الذكر والأُنثى فيه سواء ، وما بقي سهم للإخوة والأخوات من الأب : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ، لأنّ السهام لا تعول ، ولأنّ الزوج لا ينقص من النصف ، ولا الإخوة من الأُمّ من ثلثهم فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث». (1)

5. وورد تعبير لطيف في رواية الصدوق في «عيون الأخبار» : عن الرضا - عليه السلام - في كتابه إلى المأمون وهو أنّه : «وذو السهم أحقّ ممّن لا سهم له». (2)

ما الفرق بين البنت وكلالة الأُمّ؟

بقي الكلام في عدّ البنت والبنات والأُخت والأخوات ، ممّن يدخل عليهم النقص دون الأُخت والأخ من الأُمّ ، مع أنّ الطوائف الثلاث على وتيرة واحدة.

فللبنت : الثلثان والنصف ، وللأُخت : الثلثان والنصف ، ولكلالة الأُمّ : الثلث والسدس. فما هو الفارق بين الطائفة الثالثة والأُوليين؟

يتّضح الجواب ببيان أمر : وهو دخول الأخ في كلالة الأُمّ ، لا يخرجها عن كونها وارثة بالفرض ، فالواحد منها سواء كان ذكراً أم أُنثى له السدس ، وغير الواحد ، سواء كان ذكراً أم أُنثى ، أو ذكراً وأُنثى لهم الثلث يقتسمون بالمناصفة.

وهذا بخلاف الطائفتين الأُوليين فللبنت والأُخت الواحدتين النصف ، ولأزيد من الواحد الثلثان ، ولو انضمّ إليهما الأخ فللذكر مثل حظّ الأُنثيين في الطائفتين ، أي لا يرثن بالفرض بل بالقرابة.

وعلى ذلك فكلالة الأُمّ مطلقاً وارثة بالفرض لا ترث إلاّ به ، بخلاف البنت وأزيد ، أو الأُخت وأزيد ، فربّما يرثن بالقرابة وذلك فيما إذا انضمّ إليهنّ الأخ.

ص : 272


1- الوسائل : 17 ، الباب 7 من أبواب موجبات الإرث ، الحديث 17.
2- الوسائل : 17 ، الباب 7 من أبواب موجبات الإرث ، الحديث 15.

إذا عرفت ما ذكرنا ، فنقول :

إنّ كلالة الأُمّ ، ترث بالفرض مطلقاً كان معهم ذكر أو لا ، تفرّدت من الطبقة بالإرث أو لا ، فلو لم يكن وارث سواها وكانت واحدة ترث السدس ، وإن كانت غير واحدة ترث الثلث فرضاً والباقي ردّاً. ولا ينقص حظّهم في صورة من الصور لو لم يزد عند الرد ، وهذا آية عدم ورود النقص عند التزاحم.

وبالجملة : لا نرى فيهم أيّ إزالة من الفرض في حال من الحالات إلاّ إلى فرض آخر ولا ورود نقص عليهم عند تطوّر الأحوال. وهذا بخلاف البنت والأُخت فلو دخل فيهم : الأخ ، يتغيّر الفرض من النصف أو الثلثين ، إلى مجموع ما ترك بعد دفع سهام الآخرين كالوالدين ، أو كلالة الأُمّ ، ثم يقتسمون بالتثليث وتنقص حظوظ البنت أو البنات أو الأُخت والأخوات عن النصف والثلثين بكثير ، وهذا آية جواز دخول النقص عليهم عند التزاحم.

وبعبارة أُخرى : أنّ كلالة الأُمّ ترث دائماً بالفرض حتى فيما إذا تفرّدت ، وأمّا الطائفتان الأُوليتان فإنّما ترثان بالفرض تارة كما إذا لم يكن بينهم أخ ، وأُخرى بالقرابة فقط كما إذا انضمّ الأخ إليهنّ. وأيضاً : كلالة الأُمّ لا يرد عليها النقص ولا ينقص حظهم عن الثلث والسدس ، بخلاف الأخيرتين فينقص حظّهما عن النصف والثلثين.

ولعلّه إلى ما ذكرنا من التوضيح يشير صاحب الجواهر بقوله : دون من يتقرّب بالأُم الذي لا يرث إلاّ بفرض ، بخلاف غيره فإنّه يرث به تارة وبالقرابة أُخرى كالبنت والبنتين ، اللَّتين ينقص إذا اجتمعن مع البنين عن النصف أو الثلثين بنصّ الآية ، لأنّ للذكر حينئذ مثل حظّ الأُنثيين. (1)

وقال العاملي : ويدخل النقص على البنت والبنات ، لأنّهنّ إذا اجتمعن مع

ص : 273


1- الجواهر : 39 / 110. وحاشية جمال الدين على الروضة البهية : 2 / 297 في هامش الكتاب.

البنين ربّما نقص عن العشر أو نصفه لنصّ الآية (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ، وكذا الحال في الإخوة والأخوات من قبل الأب أو من قبلهما. (1)

وقال المحقّق : يكون النقص داخلاً على الأب أو البنت أو البنتين ، أو من يتقرّب بالأب والأُم أو بالأب من الأُخت والأخوات دون من يتقرّب بالأُم. (2)

وليعلم أنّ عامل العول هو الزوج أو الزوجة إذا اجتمع أحدهما مع البنت أو البنات ، أو مع الأُخت أو الأخوات من قبل الأبوين أو لأب ، وإلاّ لم يلزم العول.

وعلى ذلك :

1. فلو خلفت زوجاً وأبوين وبنتاً ، يختصّ النقص بالبنت بعد الربع والسدس.

2. لو خلّفت زوجاً وأحد الأبوين وبنتين ، يختصّ النقص بهما بعد الربع والسدس.

3. لو خلّف زوجة وأبوين وبنتين ، يختصّ النقص بهما بعد الثمن والسدسين.

4. لو خلّفت زوجاً مع كلالة الأُمّ وأُختاً أو أخوات لأب وأُم أو لأب ، يدخل النقص بالأُخت أو الأخوات بعد النصف والسدس إن كانت الكلالة واحدة أو الثلث إن كانت متعدّدة.

إنّ ما ذكرناه من أنّ عامل العول هو الزوج والزوجة إنّما يتم على أُصولنا في الإرث ، وأمّا على أُصول غيرنا فيأتي العول من غير جهة الزوج والزوجة ، كما إذا مات عن أبوين مع الأُختين ، فانّهما لا يرثان على أُصولنا مع وجود الأبوين ، لأنّهما أقرب من الأُختين بخلافه على أُصول غيرنا حيث ترث الأُختين بالتعصيب ،

ص : 274


1- مفتاح الكرامة : 8 / 120.
2- الشرائع : 4 / 823 ط الاستقلال.

فعندئذ يلزم العول ، لأنّ فرض الأُمّ عند عدم الولد للميت هو الثلث وفرض الأُختين هو الثلثان.

ولا يبقى من التركة للأب شيء إذا بدأنا بالأُم والأُختين.

بقيت هنا نكات نذكرها :

1. إنّ الآثار المروية عن ابن عباس تشهد على أنّ حبر الأُمّة كان صارماً في رأيه ببطلان العول إلى حد كان معه مستعدّاً للمباهلة. قال ابن قدامة : روي عن ابن عباس أنّه قال في زوج وأُخت وأُم : من شاء باهلته أنّ المسائل لا تعول ، إنّ الذي أحصى رمل عالج عدداً ، أعدل من أن يجعل في مال نصفاً ونصفاً وثلثاً ، هذان نصفان ذهبا بالمال فأين موضع الثلث؟! فسُمِّيت هذه المسألة ، مسألة المباهلة لذلك. (1)

ومن الغريب انّ العول أسفر عن طرح مسائل اشتهرت بألقاب خاصة نذكر منها ما يلي :

الأكدرية : وصورتها إذا ماتت المرأة عن زوج وأُمّ وأُخت وجدّ ، فللزوج النصف وللأُمّ الثلث وللأُخت النصف وللجد السدس ، وتسمّى هذه المسألة الأكدريّة ، قيل لأنّ عبد الملك بن مروان سأل عنها رجلاً اسمه الأكدر ، وقد اختلفت فتاوى فقهاء السنة بل التابعين في المسألة ، والمسألة من فروع العول حتّى ولو لم نقل انّ للجدّ سهماً في المقام ، لأنّ للزوج النصف وللأُخت النصف وللأُمّ الثلث فلا تتسع التركة لهذه الفروض فكيف إذا قلنا بوجوب السدس للجد؟

المروانية : وصورتها ست أخوات متفرقات وزوج ، للزوج النصف وللأُختين لأبوين الثلثان وللأُختين لأُم الثلث ، سميت المروانيّة لوقوعها في فرض مروان بن

ص : 275


1- المغني : 7 / 69 ، ونقله عن ابن عباس أكثر من تعرّض للمسألة.

الحكم ، وتسمّى العراء لاشتهارها بينهم.

وقد ذكرت ألقاب أُخرى لبعض المسائل في الموسوعة الفقهية. (1) وإن كان بعض هذه الصور خارجاً عن مسألة العول.

2. قد عرفت أنّ القول بالعول لا يصمد أمام الأدلّة الدالّة على خلافه ، والذي يصدّ الفقهاء الأربعة والتابعين عن العدول عن العول هو إفتاء عمر بن الخطاب بالعول ، وقد عرفت أنّ الرجل كان مهاباً لا يجرأ أحد على مخالفته ، ولم يكن الخليفة ملمّاً بأحكام الفرائض ، ولذلك كان يفتي بحكم في واقعة يخالفها في واقعة أُخرى.

أخرج البيهقي في سننه عن عبيدة انّه قال : إنّي لأحفظ عن عمر في الجد مائة قضية كلّها ينقض بعضها بعضاً. (2)

ولا بأس بنقل ما قضى به في مسألة سمّيت بالحمارية.

روى البيهقي بسنده عن الحكم بن مسعود الثقفي قال : شهدت عمرَ بن الخطاب أشرك الإخوة من الأب والأُم مع الإخوة من الأُمّ في الثلث ، فقال له رجل : قضيت في هذا عام أوّل بغير هذا ، قال : كيف قضيت؟

قال : جعلته للإخوة من الأُمّ ولم تجعل للإخوة من الأب والأُمّ شيئاً ، قال : تلك على ما قضينا وهذا على ما قضينا. (3)

وفي رواية السرخسي انّ الإخوة لأب وأُم سألوا عمر عن هذه المسألة ، فأفتى بنفي التشريك كما كان يقوله أوّلاً ، فقالوا : هب انّ أبانا كان حماراً ، ألسنا من أُمّ واحدة؟ فقال عمر : صدقتم ورجع إلى القول بالتشريك. (4)

ومن أجل ذلك سمّيت هذه المسألة بالحمارية.

ص : 276


1- الموسوعة الفقهية : 3 / 75 - 80.
2- السنن الكبرى : 6 / 245.
3- السنن الكبرى : 6 / 255.
4- المبسوط : 29 / 154 - 155.

3. إنّ فقيه المدينة : الزهري كان يستحسن فتوى ابن عباس ويقول : إنّها الحجّة لو لا أنّه تقدّم عليه عمر بن الخطاب.

روى الشيخ في «الخلاف» عن عبيد الله بن عبد الله وزفر بن أوس البصري أنّهما سألا ابن عباس : من أوّل من أعال الفرائض؟ قال : عمر بن الخطاب ، قيل له : هلا أشرت به عليه؟ قال : هبته وكان أمره مهيباً ، قال الزهري : لو لا أنّه تقدّم ابن عباس ، إمام عدل وحكم به وأمضاه وتابعه الناس على ذلك ، لما اختلف على ابن عباس اثنان. (1)

4. أطنب موسى جار الله في الكلام مسألة «العول» إلى حدّ مملّ جداً وأخذ يجترّ كلاماً واحداً ، وحصيلة كلامه : يغلب على ظنّي أنّ القول بأنّ لا عول عند الشيعة ، قول ظاهري ، فإنّ العول هو النقص ، فإن كان النقص في جميع السهام بنسبة متناسبة ، فهو العول العادل أخذت به الأُمّة وقد حافظت على نصوص الكتاب ، وإن كان النقص في سهم المؤخّر ، فهو العول الجائر أخذت به الشيعة وخالفت به نصوص الكتاب. (2)

يلاحظ عليه : أوّلاً : إنّ المعنى المناسب للعول في المقام هو الارتفاع أو الميل إلى الجور ، وتفسيره بالنقص وإن كان صحيحاً كما مرّ في صدر المسألة لكن الأنسب في المقام هو الزيادة ، لظهور ارتفاع الفرائض عن سهام التركة ، وارتفاعها وإن كان ملازماً لنقص التركة عن الإجابة لجميع الفروض ، لكن ينظر إلى المسألة من زاوية ارتفاع الفرائض دون نقصان سهام التركة ، ولأجل ذلك يقول ابن عباس : «وأيم الله لو قدّموا من قدّم الله ، وأخّروا من أخّر الله ما عالت فريضة» ومن المعلوم عدم صحّة تفسيره ب - «وما نقصت الفريضة».

ص : 277


1- الخلاف : 2 / 282 ، المسألة 81 وغيرها.
2- الوشيعة في نقض عقائد الشيعة ، وقد نقلنا كلامه مجرّداً عن الطعن بأئمّة أهل البيت - عليهم السلام -.

وثانياً : سلّمنا أنّ العول بمعنى النقص لكن رمي الشيعة بأنّهم يقولون به حيث إنّهم يوردون النقص على المؤخّر ، غفلة من نظره ، فانّ النقص إنّما يتصوّر إذا كان المؤخّر ذا فرض ، ولكنّه عندهم ليس بذي فرض ، بل يرث بالقرابة كسائر من يرثون بها ، وعندئذ لا يصدق النقص أبداً في هذه الحالة.

يشهد بذلك كلام ابن عباس حيث يفسّر المقدّم بأنّه ممّن له فرضان ، والمؤخّر بأنّه ممّن ليس له إلاّ فرض واحد وهو في غير هذا المورد : حيث قال في جواب «زفر» الذي سأله عمّن قدّمه ومن أخّره؟ فقال : والذي أهبطه من فرض إلى فرض فذلك الذي قدّمه ، والذي أهبطه من فرض إلى ما بقى فذلك الذي أخّره الله. (1)

وبعبارة أُخرى : إنّ الذي أخّره الله لم يجعل له حقّاً مفروضاً في حالة التزاحم والاجتماع فيرث ما بقى ، وليس هو بذي فرض في هذا الفرض لكونه وارثاً بالقرابة. وبذلك تبيّن أنّه لا عول عند الشيعة بالمعنى المصطلح عند الفقهاء.

وثالثاً : ما ذكره من أنّ السنّة حافظت على نصوص الكتاب ولكن الشيعة بإدخال النقص على المؤخّر خالفت نصوصه ، من أعاجيب الكلام ، فإذا كان في دخول النقص على المؤخّر (على وجه المسامحة) مخالفة لظاهر الكتاب ، ففي دخولها على الجميع مخالفة مضاعفة ، فقد عرفت في ما سبق أنّ من فرض الله له النصف أعطوه أقلّ منه ، ومن فرض له الثلثان أعطوه أقلّ منهما. فكيف لا يكون فيه مخالفة. (2)

ص : 278


1- لاحظ الوسائل : 17 ، الباب 7 من أبواب موجبات الإرث ، الحديث 6.
2- وقد كفانا في نقد ما اختلقه من الشبهات أو أخذها ممّن تقدم عليه العلمان الجليلان : السيد عبد الحسين العاملي في كتابه «أجوبة موسى جار الله» ، والسيد محسن العاملي في «نقض الوشيعة» - قدّس الله أسرارهما -.

24- التقية في الكتاب والسنّة

اشارة

ص : 279

ص : 280

تُعنى الشعوب الحيّة بتاريخها ، وتقف طويلاً عند أحداثه ووقائعه ، وتتطلّع إلى ما يزخر به من مواقف مضيئة ، ساهم في صنعها العظماء ، لتستهدي بها في بناء حاضرها ومستقبلها ، وتعزير وجودها وكيانها.

وهي في ذات الوقت لا تنفكّ عن ملاحظة ما شابَ تاريخَها من مساحات سوداء وصفحات مظلمة ، ودراسة الأسباب التي أدت إلى تواجدها ، بهدف إثراء التجربة وإنماء الوعي وصولاً إلى رسم حاضر ومستقبل زاهر ، تضيق فيه تلك المساحات أو تزول ، على حسب ما تتمتع به هذه الشعوب من وعي وعزم وإرادة تحثّها على تجاوز أسباب الضعف والتخلف والتقهقر.

وإذا كان التاريخ - كلّ تاريخ - بحاجة إلى دراسة وإعادة تقييم على ضوء الأفكار والمعطيات الجديدة والمناهج الحديثة لكي تنتفع به الأُمّة في مسيرتها الفكرية والاجتماعية والسياسية ، فإنّ التاريخ الإسلامي لا يشذّ عن ذلك ، بل هو - كما نرى - أشدّ حاجة إلى ذلك من غيره ، لتعدّد وتنوّع العوامل التي ساهمت في العبث به تحريفاً للحقائق وتزويراً للأقوال واختلافاً للأحداث.

فقد دُوِّن جانب كبير من تاريخنا بيد حكام الجور من بني أُميّة وبني العباس وأشياعهم من تجّار الحديث والتاريخ ، وبيد مستسلمة أهل الكتاب وغيرهم من أصحاب الأهواء والأطماع والأحقاد ، الذين جهدوا في طمس الحقائق ونشر الأباطيل وترويج الأكاذيب.

ص : 281

وممّا لا شكّ فيه أنّ أتباع مدرسة أهل البيت - عليهم السلام - قد نالهم على مرّ التاريخ - من التشويه والطعن والتحامل نصيب وافر ، ولا زالت معاناتهم في هذا المجال قائمة ، ولله درّ الشاعر الأزري ، حيث يقول :

اقرأْ بعصرك ما الأهواءُ تكتبهُ *** يُنْبِئْكَ عمّا جرى في سالف الحُقُبِ

لقد آن الأوان لإماطة اللثام عن وجه الحقيقة ، ورفع الحيف عن المظلومين من خلال دراسة جادّة للتاريخ ، تُعيد تفسير أحداثه ووقائعه انطلاقاً من مقاييس وموازين ومفاهيم صحيحة تعتمد الصدق والاخلاص والأمانة التاريخية والمناهج العلمية الحديثة.

ونحن نعتقد أنّ النقد البنّاء للتاريخ لإجلاء حقائقه سوف ينعكس بنتائجه الايجابية على حاضرنا ومستقبلنا ويوطّد عرى الوحدة والتعاون بين المسلمين ، ويذيب الخلافات بينهم والصراعات التي تُنهك القوى وتُبعثر الجهود.

النقد يُصلحُ للشعوب كيانَها *** وتُماثُ فيه الفتنة الصمّاء

وإذا تمّ اعتماد ما سبق ، وكُسرت قيود التعصب ، وأُغمد سيف التهديد والإرعاب ، فإنّ الآفاق ستتسع للتعبير الأفكار والمفاهيم والرؤى دون خوف أو وجل ، وعندها سترحل التقيّة - التي اشتهر بالعمل بها أتباع مدرسة أهل البيت - عليهم السلام - - عن واقعنا ، وسيحلّ محلّها الاطمئنان والثقة المتبادلة.

ولما كانت التقيّة قد أُحيطت بالغموض ، وأُثيرت حولها الشبهات ، فإنّنا نعمد إلى الكشف عن حقيقتها بهذا البيان القائم على الحجج التاريخية الصحيحة التي أُسدل عليها ستار الجهل.

تُعدّ التقية من المفاهيم الإسلامية الأصيلة ، المنسجمة مع حكم العقل ،

ص : 282

وروح الإسلام ، ومرونة الشريعة المقدسة وسماحتها ، وضرورات العمل الإسلامي ، وقد وردت في القرآن الكريم ، وأكّدتها السنة الشريفة ، وآمن بمشروعيتها علماء المسلمين.

ولا ريب في أنّ الشيعة - وبحكم الظروف العصيبة التي حاقت بهم على امتداد فترات تاريخية طويلة - اشتهروا بالعمل بالتقية ، واللّياذ بظلها كلما اشتدت عليهم وطأة القهر والظلم.

وقد سعى الصائدون في الماء العكر من حُكّام الجور والمغرضين والمتعصّبين إلى استغلال هذا الأمر ، وذرّ الرماد في العيون من خلال إيجاد تصوّرات وأوهام باطلة ، وغرسها في أذهان الناس ، بدعوى أنّ التقية عند الشيعة ضرب من النفاق والخداع والتموية ، وأنّها تجعل منهم منظّمة سرية غايتها الالتفاف على الإسلام وتشويه صورته وتهديم أركانه.

إنّ العمل بالتقية والاحتراز عن الإفصاح عن المبادئ والأفكار لا يعنيان أبداً أنّ للشيعة أسراراً وطلاسم يتداولونها بينهم ، ولا يتيحون للآخرين فرصة الاطلاع عليها ومعرفتها ، ولا يعنيان أيضاً أنّ لهم نوايا عدوانية ضدّ الإسلام وأهله ، وإنّما يتعلّق الأمر كلّه بإرهاب فكري وسياسي مُورس ضدهم ، وجرائم وحشية ارتكبت بحقهم ، ألجأتهم إلى اتخاذ التكتّم والاحتراز أسلوباً لصيانة النفوس والأعراض والمحافظة عليها. ونحن إذا نظرنا إليهم في بعض العهود التي استطاعوا أن يتنفسوا فيها نسائم الحرية ، نجد كيف أنّهم بادروا وبنشاط إلى نشر أفكارهم وآرائهم وبثّ مبادئهم وتعاليمهم ، وكيف أنّهم ساهموا - مع إخوانهم من سائر المذاهب والطوائف - في صنع حضارة الإسلام الخالدة.

ص : 283

وإذا كان الانصاف يدعو إلى تبرير موقف ضحايا القمع والاستبداد بالالتجاء إلى حمى التقية لضمان السلامة والتوقّي من الشر المستطير ... وإذا كان الضمير الحي يدعو إلى مواساة هؤلاء المظلومين الذين تُحصى عليهم أنفاسهم ويعانون أفانين الضغط والإكراه ، وأشكال التضييق والمحاربة ، فإنّ شيئاً من هذا ولا ذاك لم يحصل ، بل حصل العكس ، إذ عمد الكثير من أهل السنّة والجماعة - ومع الأسف - إلى الإغضاء عن الجزّارين أو معاضدتهم ، وإلى التنديد بالضحايا والتشهير بهم!!

وأخيراً ، نحن نعتقد أنّ العمل بالتقية أمر لا مفرّ منه ، وأنّ مجانبتها تماماً وفي كلّ الأحوال والعصور أمر لا واقع ولا حقيقة له. وأنت إذا رميت ببصرك إلى بعض الشعوب التي تحكمها أنظمة قمعية استبدادية ، لوجدت أنّها - وفيها من هم من أهل السنّة - تتجنّب الإعلان عن آرائها وأهدافها جهرةً ، وتسكت عمّا يُمارس بين ظهرانيها من أعمال منافية للإسلام ، وما ذلك إلاّ خوفاً من البطش والقتل والأذى الذي سيصيبها لو أنّها نطقت بما يخالف إرادة المستبدين.

وهذه الرسالة المتواضعة ، ستميط الستر عن وجه الحقيقة وتثبت ، انّ التقية ثمرة البيئة التي صودرت فيها الحريات ، ولو كان هناك لومٌ وانتقاد ، فالأجدر أن نتوجه بهما إلى من حمل المستضعفين على التقية ، لا إليهم أنفسهم.

وستتضح للقارئ في غضون هذه الرسالة ، انّ التقيّة من المفاهيم القرآنية التي وردت في أكثر من موضع في القرآن الكريم ، وفي تلك الآيات إشارات واضحة إلى الموارد التي يلجأ فيها المؤمن إلى استخدام هذا المسلك الشرعي خلال حياته أثناء الظروف العصيبة ، ليصون بها نفسه وعرضه وماله ، أو نفسَ من

ص : 284

يمتُّ إليه بصلة وعرضَه ومالَه ، كما استعملها مؤمن آل فرعون لصيانة الكليم عن القتل والتنكيل (1) ولاذ بها عمّار عند ما أُخذ وأُسِر وهُدِّد بالقتل (2) ، إلى غير ذلك من الموارد الواردة في الكتاب والسنّة ، فمن المحتّم علينا أن نتعرّف عليها ، مفهوماً (لغة واصطلاحاً) ، وتاريخاً وغايةً ودليلاً وحدّاً ، حتى نتجنَّب الافراط والتفريط في مقام القضاء والتطبيق.

وتحقيق المسألة يتم ببيان أُمور :

ص : 285


1- القصص : 20.
2- النحل : 106.

1- التقية لغة

التقية اسم مصدر ل «اتقى يتقي» وأصل اتقى : اوتقى فقلبت الواو ياءً للكسرة قبلها ، ثمّ أُبدلت تاءً وادغمت وقد تكرر ذكر الاتقاء في الحديث ومنه حديث علي : «كنّا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول الله» ، أي جعلناه وقاية لنا من العدو. (1)

وقد أخذ «اتقى» من وقي الشيء ، يقيه إذا صانه ، قال الله تعالى : (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) أي حماه (2) منهم فلم يضرّه مكرهم.

وربما تستعمل مكان التقية لفظة «التُّقاة» قال سبحانه : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً). (3)

قرأ الأكثر «تقاة» إلاّ يعقوب فقرأ «تقيّة» وكلاهما مصدر لفعل اتقى «فتقاة ، أصله «وقية» أبدلت الواو تاءً كما أبدلوها في تُجاة وتكاة وانقلبت الياء الفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وهو مصدر على وزن فُعل كتؤدة وتخمة. (4)

ص : 286


1- النهاية : مادة وقي.
2- غافر : 45.
3- آل عمران : 28.
4- عن تعليق أحمد محمد شاكر على دائرة المعارف الإسلامية : 5 / 423.

2- التقية اصطلاحاً

التقية كما عرّفها السرخسي هي أن يقي الإنسان نفسه بما يظهره وإن كان ما يضمر خلافه. (1)

وقال ابن حجر : التقية : الحذر من إظهار ما في النفس من معتقد وغيره للغير. (2)

وعرفها صاحب المنار بأنّها ما يقال أو يفعل مخالفاً للحقّ لأجل توقّي الضرر. (3)

وعرفها الشيخ محمد أبو زهرة بأنّها أن يخفي الشخص ما يعتقد دفعاً للأذى. (4)

والتعريف الثالث أشمل من الرابع لاختصاص الأخير بالعقيدة وعمومية الآخر لها وللفعل.

ص : 287


1- المبسوط للسرخسي : 25 / 45.
2- فتح الباري : 12 / 314 ، ط المكتبة السلفية.
3- تفسير المنار : 3 / 280.
4- محمد أبو زهرة : الإمام الصادق : 255.

وأمّا الشيعة فقد عرّفها الشيخ المفيد بقوله : التقية كتمان الحقّ وستر الاعتقاد فيه ، ومكاتمة المخالفين وترك مظاهرتهم بما يعقب ضرراً في الدين أو الدنيا.

وفُرض ذلك ، إذا علم بالضرورة أو قوي في الظن ، فمتى لم يعلم ضرراً بإظهار الحقّ ولا قوي في الظن ذلك لم يجب فرض التقية. (1)

وعرفها الشيخ الأنصاري بقوله : التحفّظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحقّ. (2)

ص : 288


1- شرح عقائد الصدوق : 66 ، ط تبريز.
2- رسالة التقية للشيخ الأنصاري : 37.

3- التقية تاريخيّاً

اشارة

ربما يتصوّر لأوّل وهلة انّ للتقية مبدأً تاريخياً ظهر في المجتمع الإنساني ، ولكن هذا التصور يجانب الحقّ ، فظاهرةُ التقية زامنت وجود الإنسان على هذا الكوكب يوم برز بين البشر القويّ والضعيف ، وصادر الأوّل حريات الثاني ولم يسمح له بإبداء ما يضمره عن طريق القول والفعل.

فظهور التقية في المجتمع البشري إذن ، كان تعبيراً عن مصادرة الحريات ، وسلاحاً لم يجد الضعيف بدّاً من اللجوء إليه للدفاع عن نفسه وعرضه وماله.

1. التقيّة في عصر الكليم

وأظهر مورد تبنّاه القرآن الكريم في هذا الصدد هو مؤمن آل فرعون ، يقول الله تعالى :

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ). (1)

ص : 289


1- غافر : 28.

وكانت عاقبة أمره أن (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ). (1)

وما كان ذلك إلاّ لأنّه بتعميته ، استطاع أن ينجّي نبيَّ الله من القتل كما يحكيه سبحانه عنه ويقول : (قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ). (2)

نقل الثعلبي عن السدي ومقاتل انّ مؤمن آل فرعون كان ابن عم فرعون وهو الذي أخبر الله تعالى عنه فقال : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى). (3)

وقال آخرون : كان إسرائيلياً ، ومجاز الآية : «وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعونْ ، واختلفوا أيضاً في اسمه.

فقال ابن عباس وأكثر العلماء : اسمه حزبيل.

وقال وهب بن منبه : اسمه حزيقال.

وقال ابن إسحاق : خبرل. (4)

2. التقية في عصر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم

هناك حوادث تاريخية تدلّ على شرعية التقية في عصر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - نكتفي بهذين النموذجين :

1. يقول سبحانه : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ). (5)

قال المفسرون : قد نزلت الآية في جماعة أُكْرِهُوا على الكفر ، وهم عمّار وأبوه

ص : 290


1- غافر : 45.
2- القصص : 20.
3- القصص : 20.
4- تفسير الثعلبي : 8 / 273.
5- النحل : 106.

ياسر وأُمّه سُميّة ، وقُتل الأبوان لأنّهما لم يُظهرا الكفر ولم ينالا من النبي ، وأعطاهم عمّار ما أرادوا منه فأطلقوه ، ثمّ أخبر بذلك رسول الله ، وانتشر خبره بين المسلمين ، فقال قوم : كفر عمار ، فقال الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - : «كلاّ انّ عماراً ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه».

وفي ذلك نزلت الآية السابقة ، وكان عمّار يبكي ، فجعل رسول الله يَمْسَحَ عينيه ، ويقول : «إن عادُوا لك فعُد لهم بما قلت». (1)

2. أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن ، انّ مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال لأحدهما :

أتشهد انّ محمّداً رسول الله؟ قال : نعم ، قال : أفتشهد أنّي رسول الله؟ قال : نعم ، ثمّ دعا بالآخر فقال : أتشهد أنّ محمّداً رسول الله؟ قال : نعم ، فقال له : أفتشهد انّي رسول الله؟ قال : إنّي أصمّ. قالها ثلاثاً ، كل ذلك يجيبه بمثل الأوّل ، فضرب عُنقُه ، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال : أمّا ذلك المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه ، وأخذ بفضله ، فهنيئاً له.

وأمّا الآخر فقبلَ رخصة الله فلا تبعةَ عليه. (2)

3. التقية بعد رحيل الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم

قد استغل الأمويُّون مسألة القضاء والقدر وركّزوا على أنّ كلّ ما يجري في

ص : 291


1- مجمع البيان : 3 / 388.
2- مسند ابن أبي شيبة : 12 / 358 ، ط السلفية ؛ التبيان : 2 / 453 ، وقد علق الطوسي على الرواية وقال : وعلى هذا التقية رخصة ، والافصاح بالحق فضيلة ، وظاهر أخبارنا يدلّ على انّها واجبة ، وخلافها خطأ وسيوافيك أنّها على أقسام خمسة.

المجتمع الإسلامي بقضاء وقدر من الله سبحانه وليس لأحد فيه الاختيار ولا الاعتراض ، وعلى ذلك فالفقر المدقع السائد بين أكثر المسلمين تقدير من الله ، والترف الذي يعيشه الأمويون ، والظلم الذي يُلحقونه بالمسلمين تقدير من الله.

ولما كانت تلك المزعمة مخالفة لضرورة الدين وبعثة الأنبياء ، قام غير واحد بوجه هذه الفكرة ، وسكت كثيرون خوفاً من بطش الأمويين ، فكتموا عقيدتهم وسلكوا مسلك التقيّة.

1. هذا هو ابن سعد يروي عن الحسن البصري بانّه كان يخالف الأمويين في القدر بالمعنى الذي تتبنّاه السلطة آنذاك فلما خوّفه بعض أصدقائه من السلطان ، وعد أن لا يعود.

روى ابن سعد في طبقاته عن أيوب قال : نازلت الحسن في القدر غير مرة حتّى خوّفته من السلطان ، فقال : لا أعود بعد اليوم. (1)

2. كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم رئيس الشرطة في بغداد أن يُشخص إليه سبعة نفر من المحدثين منهم :

1. محمد بن سعد كاتب الواقدي ، 2. أبو مسلم ، مستملي يزيد بن هارون ، 3. يحيى بن معين ، 4. زهير بن حرب أبو خثيمة ، 5. إسماعيل بن داود ، 6. إسماعيل بن أبي مسعود ، 7. أحمد بن الدورقي فامتحنهم المأمون وسألهم عن خلق القرآن ، فأجابوا جميعاً انّ القرآن مخلوق فأشخصهم إلى مدينة السلام ، وأحضرهم إسحاق بن إبراهيم داره فشهّر أمرهم وقولهم بحضرة الفقهاء والمشايخ من أهل الحديث فأقرّوا بمثل ما أجابوا به المأمون فخلّى سبيلهم. وقد فعل إسحاق بن إبراهيم ذلك بأمر المأمون.

ص : 292


1- طبقات ابن سعد : 7 / 167 ، ط بيروت.

يُذكر أن الرأي الذي كان سائداً بين المحدّثين هو قدم القرآن أو عدم حدوثه ولكنّهم اتّقوا واعترفوا بخلق القرآن ، وهذا هو نفس التقية التي يعمل بها الشيعة ، وقد مارسها المحدِّثون في عصر المأمون.

وهناك رسالة أُخرى للمأمون إلى إسحاق بن إبراهيم رئيس الشرطة ، وممّا جاء فيها : وليس يَرى أمير المؤمنين لمن قال بهذه المقالة (القرآن ليس بمخلوق) حظاً في الدين ولا نصيباً من الإيمان ....

فلما جاءت الرسالة إلى إسحاق بن إبراهيم أحضر لفيفاً من المحدّثين ربما يبلغ عددهم إلى 26 فقرأ عليهم رسالة المأمون مرتين حتّى فهموها ثمّ انّ إسحاق دعا بهم رجلاً رجلاً فأجاب القوم كلّهم واعترفوا بانّ القرآن مخلوق إلاّ أربعة نفر منهم :

أحمد بن حنبل ، وسجادة ، والقواريري ، ومحمد بن نوح المضروب ، فأمر بهم إسحاق بن إبراهيم فشُدُّوا في الحديد ، فلما كان من الغد دعا بهم جميعاً يساقون في الحديد فأعاد عليهم المحنة فأجابه سجادة إلى أنّ القرآن مخلوق فأمر بإطلاق قيده وخلّى سبيله وأصرّ الآخرون على قولهم.

فلما كان من بعد الغد عاودهم أيضاً فأعاد عليهم القول ، فأجاب القواريري بأنّ القرآن مخلوق فأمر بإطلاق قيده وخلّى سبيله ، وأصرّ أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح على قولهما ولم يرجعا فشدّا جميعاً في الحديد ووُجِّها إلى طرسوس وكتب معهما كتاباً بإشخاصهما.

ثمّ لما اعتُرض على الراجعين عن عقيدتهم ، برّروا عملهم بعمل عمار بن ياسر حيث أكره على الشرك وقلبه مطمئن بالإيمان. (1)

ص : 293


1- لاحظ تاريخ الطبري : 7 / 197 ، حوادث 218 ه.

كلّ ذلك يدلّ على انّ التقية أصل مشروع التزم بها المسلمون عند الشعور بالضعف أمام السلطة الغاشمة.

وبذلك يظهر انّ اتهام الشيعة بتفرّدها بالقول بالتقية يضادُّ الذكر الحكيم والسنة النبوية وسيرة المسلمين عبر التاريخ.

إنّ التقية سلاح الضعيف ، سلاح من صُودرتْ حقوقه وحرّياته من قبل سلطة غاشمة ، قاهرة ، لا تُبدي أية مرونة في مواقفها ، وهذا هو حكم العقل وهو دفع الضرر عن النفس والنفيس بإظهار الموافقة لساناً وعملاً حتّى يرتفع الضرر ثمّ يعود الإنسان إلى ما كان عليه.

ومثل هذا لا يمكن أن يختص بفرقة دون أُخرى.

ص : 294

4- محنة الشيعة في عصر الأمويين والعباسيين

اشارة

اشتهرت الشيعة بالتقيّة أكثر من سائر الفرق ، ولكونهم أكثر من غيرهم من حيث التعرّض للضغط ، ومصادرة الحريّات ، والأخذ بالظنّة ، والتشريد والقتل تحت كلّ حجر ومدر.

إنّ الذي دفع بالشيعة إلى التقية بين إخوانهم وأبناء دينهم إنّما هو الخوف من السلطات الغاشمة ، فلو لم يكن هناك في غابر القرون - من عصر الأمويين ثمّ العباسيين والعثمانيين - أيُّ ضغط على الشيعة ، ولم تكن بلادهم وعُقر دارهم مخضّبة بدمائهم (والتاريخ خير شاهد على ذلك) ، لأصبح من المعقول أن تَنْسى الشيعة كلمة التقية وأن تحذفها من قاموس حياتها ، ولكن - يا للأسف - إنّ كثيراً من إخوانهم كانوا أداة طيّعة بيد الأمويين والعباسيين الذين كانوا يرون في مذهب الشيعة خطراً على مناصبهم ، فكانوا يؤلِّبون العامة من أهل السنّة على الشيعة يقتلونهم ويضطهدونهم وينكلون بهم ، ولذا ونتيجة لتلك الظروف الصعبة ، لم يكن للشيعة ، بل لكل من يملك شيئاً من العقل وسيلة إلاّ اللجوء إلى التقية أو رفع اليد عن المبادئ المقدّسة التي هي أغلى عنده من نفسه وماله.

ص : 295

والشواهد على ذلك أكثر من أن تُحصى أو أن تعدَّ ، إلاّ أنّا سنستعرض جانباً مختصراً منها : فمن ذلك ما كتبه معاوية بن أبي سفيان باستباحة دماء الشيعة أينما كانوا وكيفما كانوا ، وإليك نص ما ذكرته المصادر عن هذه الواقعة لتدرك محنة الشيعة :

محنة الشيعة في العصر الأموي

روى أبو الحسن علي بن محمّد بن أبي سيف المدائني في كتاب «الأحداث» قال : كتب معاوية نسخة واحدة إلى عُمّاله بعد عام الجماعة : أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته ، فقامت الخطباء في كل كورة ، وعلى كل منبر ، يلعنون علياً ويتبرءون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته ، وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة ، لكثرة مَن بها من شيعة عليّ - عليه السلام - فاستعمل عليها زياد بن سمية ، وضم إليه البصرة ، فكان يتتبَّع الشيعة وهو بهم عارف ، لأنّه كان منهم أيام عليّ - عليه السلام - ، فقتلهم تحت كل حجر ومدر ، وأخافهم ، وقطع الأيدي والأرجل ، وسَمَلَ العيون ، وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم وشرَّدهم عن العراق ، فلم يبق بها معروف منهم ، وكتب معاوية إلى عمّاله في جميع الآفاق : ألاّ يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة.

ثمّ كتب إلى عمّاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان : انظروا من قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ علياً وأهل بيته ، فامحوه من الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه ، وشفع ذلك بنسخة أُخرى : مَن اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم ، فنكّلوا به ، واهدموا داره. فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق ، ولا سيّما بالكوفة حتّى أنّ الرجل من شيعة عليّ - عليه السلام - ليأتيه من يثق به ، فيدخل بيته ، فيُلقي إليه سرّه ، ويخاف من خادمه ومملوكه ، ولا يحدّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ، ليكتمنَّ عليه.

ص : 296

وأضاف ابن أبي الحديد : فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي - عليهما السلام - ، فازداد البلاء والفتنة ، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلاّ وهو خائف على دمه ، أو طريد في الأرض.

ثمّ تفاقم الأمر بعد قتل الحسين - عليه السلام - ، وولي عبد الملك بن مروان ، فاشتد على الشيعة ، وولّى عليهم الحجاج بن يوسف ، فتقرَّب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض علي وموالاة أعدائه ، وموالاة من يدعي من الناس أنّهم أيضاً أعداؤه ، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم ، وأكثروا من البغض من عليّ - عليه السلام - وعيبه ، والطعن فيه ، والشنئان له ، حتى أنّ إنساناً وقف للحجاج - ويقال إنّه جد الأصمعي عبد الملك بن قريب - فصاح به : أيّها الأمير إنّ أهلي عقوني فسمّوني علياً ، وإنّي فقير وبائس وأنا إلى صلة الأمير محتاج ، فتضاحك له الحجاج ، وقال : للطف ما توسّلتَ به ، قد ولّيتك موضع كذا. (1)

واستمر الحزب الأموي في الإرهاب وسفك الدماء على امتداد مراحل وجوده في السلطة ، حيث سجّل لنا التاريخ حوادث أُخرى تحكي أبشع صور الإرهاب والاستخفاف بقيم الحق والعدل أيام عبد الملك بن مروان وقتله سعيد بن جبير. وقد جاء في كتاب عبد الملك بن مروان الذي ولى فيه خالد بن عبد الله القسري :

أمّا بعد ، فانّي ولّيت عليكم خالد بن عبد الله القسري ، فاسمعوا له وأطيعوا ، ولا يجعلن امرؤ على نفسه سبيلاً ، فإنّما هو القتل لا غير ، وقد برئت الذمة من رجل آوى سعيد بن جبير ، والسلام. ثمّ التفت إليهم خالد ، وقال : والذي نحلف به ، ونحجُّ إليه ، لا أجده في دار أحد إلاّ قتلته وهدمت داره ودار كلّ من جاوره واستبحت حرمته ، وقد أجلّت لكم فيه ثلاثة أيّام. (2)

ص : 297


1- شرح نهج البلاغة : 11 / 44 - 46.
2- الإمامة والسياسة : 2 / 47 ، ط مصر.

ثمّ يُلقى القبض على سعيد بن جبير الذي كان من طلائع الموالين لآل البيت النبوي ، ويُسلَّم إلى الحجاج السفّاح الشهير في تاريخ الإسلام الذي قتل عشرات الآلاف من معارضي السلطة ، فيقتله.

وهذا هو الإمام الباقر - عليه السلام - يصف بيئته والمجتمع الذي كان يعيش فيه حيث قال لبعض أصحابه : يا فلان ، ما لقينا من ظلم قريش إيانا ، وتظاهرهم علينا ، وما لقي شيعتنا ومحبونا من الناس ... - إلى أن قال - ثمّ لم نزل - أهلَ البيت - نُستذل ونُستضام ، ونُقصى ونُمتهن ، ونُحرم ونُقتل ، ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا ، ووجد الكاذبون الجاحدون ، لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقربون به إلى أوليائهم ، وقضاة السوء وعمال السوء في كلّ بلدة ، فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة ورووا عنّا ما لم نقله وما لم نفعله ، ليبغّضونا إلى الناس ، وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن - عليه السلام - فقتلت شيعتنا بكلّ بلدة ، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة ، وكان من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سُجن أو نُهب ماله ، أو هدمت داره ، ثمّ لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين - عليه السلام - ثمّ جاء الحجاج فقتلهم كلّ قتلة وأخذهم بكلّ ظنة وتهمة ، حتّى انّ الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحبّ إليه من أن يقال شيعة علي. (1)

محنة الشيعة في العصر العباسي

لقد مارست السلطة العباسية سياسة البطش والقتل والتشريد كنظيرتها

ص : 298


1- شرح ابن أبي الحديد : 11 / 43 - 44.

السلطة الأموية بل كانت أكثر بطشاً وتنكيلاً ، وهذا هو أبو الفرج الاصفهاني يقول في حقّ المتوكل :

كان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب ، غليظاً في جماعتهم ، شديد الغيظ والحقد عليهم ، وسوء الظن والتهمة لهم ... واستعمل على المدينة ومكة عمر بن الفرج الرخجي ، فمنع آل أبي طالب من التعرض لمسألة الناس ومنع الناس من البرّ بهم ، وكان لا يبلغه انّ أحداً أبرّ أحداً منهم بشيء ، وإن قل إلاّ أنهكه عقوبة ، واثقله غرماً ، حتّى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلّين فيه واحدة بعد واحدة ثمّ يرقعنه ، ويجلسن على مغازلهن عواري حاسرات. (1)

هكذا شاء أمير المؤمنين المتوكل على الله ، أن تقبع العلويات في بيوتهن عاريات يتبادلن القميص المرقع عند الصلاة ، وان تختال الفاجرات العاهرات بالحلي وحلل الديباج بين الاماء والعبيد ... لقد أرسل الرشيد إلى بنات الرسول من يسلب الثياب عن أبدانهن ، أمّا المتوكّل فقد شدد وضيق عليهن ، حتّى ألجأهن إلى العري ، وهكذا تتطور الفلسفات والمناهج مع الزمن على أيدي القرشيين العرب أبناء الأمجاد والأشراف!

لقد تفرق العلويون أيام المتوكل ، فمنهم من توارى فمات في حال تواريه كأحمد بن عيسى الحسين وعبد الله بن موسى الحسيني ، ومنهم من ثار على القهر والجور كمحمد بن صالح ومحمد بن جعفر.

ولم يكتف المتوكل بالتنكيل بالأحياء ، حتّى اعتدى على قبور الأموات فهدم

ص : 299


1- مقاتل الطالبيين : 395 - 396.

قبر الحسين - عليه السلام - وما حوله من المنازل والدور ، ومنَع الناس من زيارته ونادى مناديه من وجدناه عند قبر الحسين - عليه السلام - حبسناه في المطبق - سجن تحت الأرض - فقال الشاعر :

تالله إن كانت أمية قد أتت *** قتل ابن بنت نبيها مظلوماً

فلقد أتاه بنو أبيه مثلها *** هذا لعمرك قبره مهدوماً

أسفوا على أن لا يكونوا شايعوا *** في قتله فتَتّبعوه رميماً(1)

نعم كانت التقية بين الشيعة تزداد تارة وتتضاءل أُخرى ، حسب قوّة الضغط وضآلته ، فشتّان بين عصر المأمون الذي يجيز مادحي أهل البيت ، ويكرم العلويين ، وبين عصر المتوكل الذي يقطع لسان ذاكرهم بفضيلة.

فهذا ابن السكيت أحد أعلام الأدب في زمن المتوكل ، وقد اختاره معلّماً لولديه فسأله يوماً : أيّهما أحبُّ إليك ابناي هذان أم الحسن والحسين؟ قال ابن السكيت : والله إنّ قنبر خادم عليّ - عليه السلام - خير منك ومن ابنيك. فقال المتوكل : سلّوا لسانه من قفاه ، ففعلوا ذلك به فمات. ولما مات سيَّر المتوكل لولده يوسف عشرة آلاف درهم وقال : هذه دية والدك!! (2).

وهذا ابن الرومي الشاعر العبقري يقول في قصيدته التي يرثي بها يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد بن علي :

ص : 300


1- الشيعة والحاكمون : 169 - 170.
2- ابن خلكان : وفيات الأعيان : 3 / 33. الذهبي : سير أعلام النبلاء : 12 / 16.

أكلّ أوان للنبيّ محمّد *** قتيل زكيّ بالدماء مضرَّجُ

بني المصطفى كم يأكل الناس شلوكم *** لبلواكم عمّا قليل مفرِّجُ

أبعد المكنّى بالحسين شهيدكم *** تضيء مصابيح السماء فتسرجُ (1)

وكان العباسيون أشدّ كرهاً للعلويين من الأمويين ، وأعظم بغضاً فأمعنوا فيهم قتلاً وحرقاً واضطهاداً وتعذيباً ، فهذا هو المنصور يُحمل إليه من المدينة كلّ من كان فيها من العلويين مقيدين بالسلاسل والأغلال ، ولما وصلوا إليه حبسهم في سجن مظلم لا يعرف فيه ليل من نهار ، وكان إذا مات أحدهم تُرك معهم وأخيراً أمر بهدم السجن عليهم ، وفي ذلك يقول أحد شعراء الشيعة :

والله ما فعلت أمية فيهم *** معشار ما فعلت بنو العباس

وقال آخر :

يا ليت جور بني مروان دام لنا *** وليت عدل بني العباس في النار(2)

وقال أبو فراس :

ما نال منهم بنو حرب وإن عظمت *** تلك الجرائم إلاّ دون نيلكم

وقال الشريف الرضي :

ألا ليس فعل الأولين وإن علا *** على قبح فعل الآخرين بزائد

وقال الشيخ الطوسي الذي كان يعيش في عصر ازدهار الخلافة العباسية ، وهو يصف حال الشيعة :

ص : 301


1- ديوان ابن الرومي : 2 / 243.
2- الشعر لأبي عطاء السندي.

لم تلق فرقة ولا بُلي أهل مذهب بما بُليت به الشيعة ، حتّى إنّا لا نكاد نعرف زماناً تقدّم سلمت فيه الشيعة من الخوف ولزوم التقية ، ولا حالاً عريت فيه من قصد السلطان وعصبيته وميله وانحرافه. (1)

هذه لمحة خاطفة لمحنة الشيعة في العصر العباسي وقد دام الأمر على هذه الوتيرة في العصور المتأخرة لا سيما في عصر الأيوبيين والعثمانيين.

محنة الشيعة في العصرين : الأيوبي والعثماني

ما إن انتزع صلاح الدين الأيّوبي الملك من الفاطميين حتّى قام بعزل القضاة الشيعة واستناب عنهم قضاة شافعية ، وأبطل من الأذان «حي على خير العمل» وتظاهر الناس بمذهب مالك والشافعي ، واختفى مذهب التشيع إلى أن نسي من مصر ، وكان يحمل الناس على التسنن وعقيدة الأشعري ، ومن خالف ضربت عنقه ، وأمر أن لا تقبل شهادة أحد ولا يقدم للخطابة ولا للتدريس إلاّ إذا كان مقلداً لأحد المذاهب الأربعة ، قال الخفاجي في كتابه «الأزهر في ألف عام» ما ن (2) صه : فقد غالى الأيوبيون في القضاء على كلّ أثر للشيعة.

وأمّا في العصر العثماني فقد تولى السلطان سليم زعامة السنة واستحصل على فتوى من شيوخ السوء بأنّ الشيعة خارجون على الدين يجب قتلهم ولذلك أمر بقتل كلّ من كان معروفاً بالتشيع داخل بلاده.

وبهذا الأمر قُتل في الأناطول وحدها أربعون ألفاً وقيل سبعون ، لا لشيء إلاّ لأنّهم شيعة. وجاء في «الفصول المهمة» للسيد شرف الدين انّ الشيخ نوح الحنفي

ص : 302


1- الطوسي : تلخيص الشافي : 2 / 59.
2- الأزهر في ألف عام : 1 / 58.

أفتى بكفر الشيعة ووجوب قتلهم ، فقتل من جراء هذه الفتوى عشرات الألوف من شيعة حلب حتّى لم يبق فيها شيعي واحد وكان التشيّع فيها راسخاً ومنتشراً منذ كانت حلب عاصمة الدولة الحمدانية ، وقد نشأ في حلب منذ القديم العديد من كبار العلماء وأئمة الفقه كبني زهرة وآل أبي جرادة وغيرهم ممن جاء ذكرهم في كتب السير والتراجم خاصة كتاب «أمل الآمل». (1)

وقتل العثمانيون الشهيد الثاني المشهور بفضله وورعه وكتبه العلمية الجليلة التي يدرس بعضها حتّى اليوم في جامعة النجف وقم ، وفَعل الجزار والي عكا بجبل عامل ما فَعل الحجاج في العراق.

وانتهب الجزار أموال العامليين ومكتباتهم ، وكان في مكتبة آل خاتون خمسة آلاف مجلد ، وبقيت أفران عكا توقد أسبوعاً كاملاً من كتب العامليين ، ولم يسلم من ظلم الجزار إلاّ من استطاع الفرار ، وفي عهده هاجر علماء جبل عامل مشردين في الأقطار ، ومن هؤلاء الشاعر الشيعي إبراهيم يحيى الذي هرب إلى دمشق ، وفي نفسه لوعة وحسرة ، وذكرى فظائع الجزار لا تفارقه بحال ، وقد صورها وهو شاهد عيان في قصائد تدمي الأفئدة والقلوب منها قصيدة طويلة ، يقول فيها :

مضى ما مضى والدهر بؤس وأنعم *** وبصر الفتى ان مسه الضر أحزم

إلى أن قال :

يعز علينا أن نروح ومصرنا *** لفرعون مغنى ، يصطفيه ومغنم

منازل أهل العدل منهم خليّة *** وفيها لأهل الجور جيش عرمرم

ص : 303


1- راجع الفصول المهمة : 206 ، الفصل التاسع ؛ غنية النزوع : 11 ، المقدمة.

هذه لمحة خاطفة لمحنة الشيعة في العصر العثماني ، وعلى الرغم من شيوع الحرية في عصرنا الراهن فلم تزل الشيعة في أكثر نقاط العالم تمارس التقية ، وإلاّ يضيق عليها الخناق.

يقول العلاّمة السيّد هبة الدين الشهرستاني : إنّ التقية شعار كلّ ضعيف مسلوب الحرية. إنّ الشيعة قد اشتهرت بالتقية أكثر من غيرها لأنّها مُنيت باستمرار الضغط عليها أكثر من أية أُمّة أُخرى ، فكانت مسلوبة الحرية في عهد الدولة الأموية كلّه ، وفي عهد العباسيين على طوله ، وفي أكثر أيام الدولة العثمانية ، ولأجله استشعروا بشعار التقية أكثر من أيّ قوم ، ولما كانت الشيعة ، تختلف عن الطوائف المخالفة لها في قسم مهم من الاعتقادات في أُصول الدين وفي كثير من الأحكام الفقهيّة ، والمخالفة تستجلب بالطبع رقابة وتصدقه التجارب ، لذلك أضحت شيعة الأئمّة من آل البيت مضطرّة في أكثر الأحيان إلى كتمان ما تختص به من عادة أو عقيدة أو فتوى أو كتاب أو غير ذلك ، تبتغي بهذا الكتمان ، صيانةَ النفس والنفيس ، والمحافظة على الوداد والاخوة مع سائر اخوانهم المسلمين ، لئلاّ تنشق عصا الطاعة ، ولكي لا يحسّ الكفّار بوجود اختلاف ما في المجتمع الإسلامي فيوسع الخلاف بين الأُمّة المحمدية.

لهذه الغايات النزيهة كانت الشيعة تستعمل التقية وتحافظ على وفاقها في الظواهر مع الطوائف الاخرى ، متبعة في ذلك سيرة الأئمّة من آل محمد وأحكامهم الصارمة حول وجوب التقية من قبيل : «التقية ديني ودين آبائي» ، إذ أنّ دين الله يمشي على سنّة التقية لمسلوبي الحرية ، دلّت على ذلك آيات من القرآن العظيم. (1)

ص : 304


1- غافر : 28 ؛ النحل : 106.

روي عن صادق آل البيت - عليهم السلام - في الأثر الصحيح :

«التقية ديني ودين آبائي».

لقد كانت التقية شعاراً لآل البيت - عليهم السلام - دفعاً للضرر عنهم ، وعن أتباعهم ، وحقناً لدمائهم ، واستصلاحاً لحال المسلمين ، وجمعاً لكلمتهم ، ولمّاً لشعثهم ، وما زالت سمة تُعرف بها الإمامية دون غيرها من الطوائف والأُمم. وكل إنسان إذا أحسّ بالخطر على نفسه ، أو ماله بسبب نشر معتقده ، أو التظاهر به لا بد أن يتكتم ويتقي مواضع الخطر. وهذا أمر تقتضيه فطرة العقول.

من المعلوم أنّ الإمامية وأئمّتهم لاقوا من ضروب المحن ، وصنوف الضيق على حرياتهم في جميع العهود ما لم تلاقه أية طائفة ، أو أُمّة أُخرى ، فاضطروا في أكثر عهودهم إلى استعمال التقية في تعاملهم مع المخالفين لهم ، وترك مظاهرتهم ، وستر عقائدهم ، وأعمالهم المختصة بهم عنهم ، لما كان يعقب ذلك من الضرر في الدنيا.

ولهذا السبب امتازوا بالتقية وعرفوا بها دون سواهم. (1)

حصيلة البحث

فحصيلة البحث انّ أوساط الشيعة شهدت مجازر بشعه على يد السلطات الغاشمة ، فقتل الآلاف منهم ، وأمّا من بقي منهم على قيد الحياة فقد تعرض إلى شتى صنوف التنكيل والارهاب والتخويف ، والحقّ يقال : انّ من الأُمور العجيبة أن يبقى لهذه الطائفة باقية رغم كلّ ذلك الظلم الكبير والقتل الذريع بل العجب العجاب أن تجد هذه الطائفة قد ازدادت قوة وعدة وأقامت دولاً وشيّدت

ص : 305


1- مجلة المرشد : 3 / 252 ، 253 ولاحظ تعاليق اوائل المقالات ص 96.

حضارات وبرز منها الكثير من العلماء والمفكرين.

فلو كان الأخ السني يرى التقية أمراً محرماً فليعمل على رفع الضغط عن أخيه الشيعي وأن لا يضيق عليه في الحرية التي سمح بها الإسلام لأبنائه ، وليعذره في عقيدته وعمله كما عذَرَ أُناساً كثيرين خالفوا الكتاب والسنّة وأراقوا الدماء ونهبوا الديار ، فكيف بطائفة تدين بدينه وتتفق معه في كثير من معتقداته ، وإذا كان معاوية وأبناء بيته والعباسيون كلّهم عنده مجتهدين في بطشهم وإراقة دماء مخالفيهم فما ذا يمنعه عن إعذار الشيعة باعتبارهم مجتهدين.

وإذا كانوا يقولون - وذاك هو العجيب - انّ الخروج على الإمام عليّ - عليه السلام - غير مضرّ بعدالة الخارجين والثائرين عليه ، وفي مقدمتهم طلحة والزبير وأُمّ المؤمنين عائشة ، وإنّ إثارة الفتن في صفّين - التي انتهت إلى قتل كثير من الصحابة والتابعين وإراقة دماء الآلاف من العراقيين والشاميين - لا تنقص شيئاً من ورع المحاربين!! وهم بعد ذلك مجتهدون معذورون لهم ثواب من اجتهد وأخطأ ، فَلِمَ لا يتعامل مع الشيعة ضمن هذا الفهم ولا يذهب إلى أنّهم معذورون ومثابون!!

ص : 306

5- الغاية من تشريع التقية

الغاية من التقية : هي صيانة النفس والعرض والمال ، وذلك في ظروف قاهرة لا يستطيع فيها المؤمن أن يعلن عن موقفه الحق صريحاً خوفاً من أن تترتّب على ذلك مضار وتهلكة من قوى ظالمة غاشمة تمارس الارهابَ ، والتشريد والنفي ، والقتل والتنكيل ، ومصادرة الأموال ، وسلب الحقوق الحقة ، وعندئذ لا يجد صاحبُ العقيدة - الذي يرى نفسه محقاً - محيصاً من إبطانها ، والتظاهر بما يوافق هوى الحاكم وتوجّهاته حتى يسلم من الاضطهاد والتنكيل والقتل ، إلى أن يُحدِث الله أمراً.

إنّ التقية سلاح الضعيف في مقابل القوي الغاشم ، سلاح من يُبتلى بمن لا يحترم دمه وعرضه وماله ، لا لشيء إلاّ لأنّه لا يتفق معه في بعض المبادئ والأفكار.

إنّما يمارس التقية من يعيش في بيئة صودرت فيها الحرية في القول والعمل ، والرأي والعقيدة فلا ينجو المخالف إلاّ بالصمت والسكوت مُرغماً أو بالتظاهر بما يوافق هوى السلطة وأفكارها ، أو قد يلجأ إليها البعض كوسيلة لا بدّ منها من أجل اغاثة الملهوف المضطهد والمستضعف الذي لا حول له ولا قوة ، فيتظاهر بالعمل إلى جانب الحكومة الظالمة وصولاً إلى ذلك كما كان عليه مؤمن آل فرعون الذي

ص : 307

حكاه سبحانه في الذكر الحكيم.

إنّ أكثر من يَعيبُ التقية على مستعملها ، يتصوّر أو يصوِّر أنّ الغاية منها هو تشكيل جماعات سرية هدفها الهدم والتخريب ، كما هو المعروف من الباطنيين والأحزاب الإلحادية السرية ، وهو تصوّر خاطئ ذهب إليه أُولئك جهلاً أو عمداً دون أن يرتكزوا في رأيهم هذا على دليل ما أو حجة مقنعة ، فأين ما ذكرناه من هذا الذي يُذكر ، ولو لم تستبد الظروف القاهرة والأحكام المتعسفة بهذه الجموع المستضعفة من المؤمنين لما كانوا عمدوا إلى التقية ، ولما تحمّلوا عبء إخفاء معتقداتهم ولَدَعوا الناس إليها علناً ، ودون تردّد.

أين العمل الدفاعي بصورة بدائية من الأعمال التي يرتكبها أصحاب الجماعات السرية للإطاحة بالسلطة وامتطاء منصّة الحكم؟ وهي أعمال كلها تخطيطات مدبّرة لغايات ساقطة.

وهؤلاء هم الذين يحملون شعار «الغايات تبرّر الوسائل» فكل قبيح عقلي أو ممنوع شرعي يستباح عندهم لغاية الوصول إلى المقاصد المشئومة.

إنّ القول بالتشابه بين هؤلاء وبين من يتخذ التقية غطاءً ، وسلاحاً دفاعياً ليسلم من شر الغير ، حتى لا يُقْتَل ولا يُستأصل ، ولا تُنهب داره وماله ، إلى أن يُحدث الله أمراً ، من قبيل عطف المباين على مثله.

إنّ المسلمين القاطنين في الاتحاد السوفيتي السابق قد لاقوا من المصائب والمحن ما لا يمكن للعقول أن تحتملها ولا أن تتصورها ، فإنّ الشيوعيّين طيلة تسلّطهم على المناطق الإسلامية قلبوا لهم ظهر المِجَنّ ، فصادروا أموالهم وأراضيهم ، ومساكنهم ، ومساجدهم ، ومدارسهم ، وأحرقوا مكتباتهم ، وقتلوا كثيراً منهم قتلاً ذريعاً ووحشياً ، فلم ينج منهم إلاّ من اتقاهم بشيء من التظاهر

ص : 308

بالمرونة ، وإخفاء المراسيم الدينية ، والعمل على إقامة الصلاة في البيوت إلى أن نجّاهم الله سبحانه بانحلال تلك القوة الكافرة ، فبرز المسلمون إلى الساحة من جديد ، فملكوا أرضهم وديارهم ، وأخذوا يستعيدون مجدهم وكرامتهم شيئاً فشيئاً ، وما هذا إلاّ ثمرة من ثمار التقية المشروعة التي أباحها الله تعالى لعباده بفضله وكرمه سبحانه على المستضعفين.

فإذا كان هذا معنى التقية ومفهومها ، وكانت هذه غايتَها وهدفَها ، فهي أمر فطريّ ، يسوق الإنسان إليها قبل كل شيء عقلُه ولبُّه ، وتدعوه إليها فطرته ، ولأجل ذلك يلوذ بها كل من ابتُلي بالملوك والساسة الذين لا يحترمون شيئاً سوى رأيهم وفكرتهم ومطامعهم وسلطتهم ولا يترددون عن التنكيل بكل من يعارضهم في ذلك ، من غير فرق بين المسلم - شيعياً كان أم سنيّاً - وغيره ، ومن هنا تظهر جدوى التقية وعمق فائدتها.

ولأجل دعم هذا الأصل الحيويّ ، ندرس دليله من القرآن والسنّة.

ص : 309

6- التقية في الكتاب العزيز

اشارة

شرّعت التقية بنص القرآن الكريم ، حيث وردت فيها جملة من الآيات الكريمة (1) سنحاول استعراضها في الصفحات التالية :

الآية الأُولى :

قال سبحانه : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ). (2)

ترى أنّه سبحانه يجوّز إظهار الكفر كرهاً ومجاراةً للكافرين خوفاً منهم ، بشرط أن يكون القلب مطمئناً بالإيمان ، وصرّح بذلك لفيف من المفسرين القدامى والجُدد ، سنحاول أن نستعرض كلمات البعض منهم تجنّباً عن الإطالة والاسهاب ، ولمن يبتغي المزيد فعليه مراجعة كتب التفسير المختلفة :

1. قال الطبرسي : قد نزلت الآية في جماعة أُكرهوا على الكفر ، وهم عمّار

ص : 310


1- غافر : الآية 28 و 45 ، والقصص : الآية 20 ، وستوافيك نصوص الآيات في ثنايا البحث.
2- النحل : 106.

وأبوه ياسر وأُمّه سمية ، وقُتلَ الأبوان لأنّهما لم يظهرا الكفر ولم ينالا من النبيّ ، وأعطاهم عمّار ما أرادوا منه ، فأطلقوه ، ثمّ أخبر عمّار بذلك رسول الله ، وانتشر خبره بين المسلمين ، فقال قوم : كفر عمّار ، فقال الرسول : «كلاّ إنّ عمّاراً مُلئ إيماناً من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه».

وفي ذلك نزلت الآية السابقة ، وكان عمّار يبكي ، فجعل رسول الله يمسح عينيه ويقول : «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت». (1)

2. وقال الزمخشري : روي أنّ أُناساً من أهل مكّة فُتِنُوا فارتدّوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه ، وكان فيهم من أُكره وأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للإيمان ، منهم عمّار بن ياسر وأبواه : ياسر وسمية ، وصهيب وبلال وخبّاب.

أمّا عمّار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً .... (2)

3. وقال الحافظ ابن ماجة : والايتاء : معناه الاعطاء أن وافقوا المشركين على ما أرادوا منهم تقية ، والتقية في مثل هذه الحال جائزة ، لقوله تعالى : (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ). (3)

4. وقال القرطبي : قال الحسن : التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة - ثمّ قال : - أجمع أهل العلم على أنّ من أُكره على الكفر حتّى خشى على نفسه القتل إنّه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان ولا تَبين منه زوجته ولا يُحكم عليه بالكفر ، هذا قول مالك والكوفيين والشافعي (4).

ص : 311


1- مجمع البيان : 3 / 388.
2- الكشاف عن حقائق التنزيل : 2 / 430.
3- ابن ماجة : السنن : 1 / 53 ، شرح حديث رقم 150.
4- الجامع لأحكام القرآن : 4 / 57.

5. قال الخازن : التقية لا تكون إلاّ مع خوف القتل مع سلامة النيّة ، قال الله تعالى : (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) ثمّ هذه التقية رخصة. (1)

6. قال الخطيب الشربيني : (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ) أي على التلفّظ به (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) فلا شيء عليه لأنّ محل الإيمان هو القلب. (2)

7. وقال إسماعيل حقّي : (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ) أُجبر على ذلك اللفظ بأمر يخاف على نفسه أو عضو من أعضائه ... لأنّ الكفر اعتقاد ، والإكراه على القول دون الاعتقاد ، والمعنى : «ولكن المكره على الكفر باللسان» ، (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) لا تتغير عقيدته ، وفيه دليل على أنّ الإيمان المنجي المعتبر عند الله ، هو التصديق بالقلب. (3)

الآية الثانية :

قال سبحانه : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (4).

وكلمات المفسّرين حول الآية تغنينا عن أي توضيح :

1. قال الطبري : (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) : قال أبو العالية : التقية باللسان ، وليس بالعمل ، حُدّثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحّاك يقول في قوله تعالى : (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) قال :

ص : 312


1- تفسير الخازن : 1 / 277.
2- السراج المنير. في تفسير الآية.
3- تفسير روح البيان : 5 / 84.
4- آل عمران : 28.

التقيّة باللسان من حُمِلَ على أمر يتكلّم به وهو لله معصية فتكلم مخافة نفسه (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) فلا إثم عليه ، إنّما التقية باللسان. (1)

2. وقال الزمخشري في تفسير قوله تعالى : (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) : رخّص لهم في موالاتهم إذا خافوهم ، والمراد بتلك الموالاة : مخالفة ومعاشرة ظاهرة ، والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع. (2)

3. قال الرازي في تفسير قوله تعالى : (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) : المسألة الرابعة : اعلم : أنّ للتقية أحكاماً كثيرة ، ونحن نذكر بعضها :

ألف : إنّ التقيّة إنّما تكون إذا كان الرجل في قوم كفّار ، ويخاف منهم على نفسه ، وماله ، فيداريهم باللسان ، وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان ، بل يجوز أيضاً أن يظهر الكلام الموهم للمحبة والموالاة ، ولكن بشرط أن يضمر خلافه وأن يعرض في كل ما يقول ، فإنّ للتقيّة تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب.

ب : التقيّة جائزة لصون النفس ، وهل هي جائزة : لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز ، لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» ، ولقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «من قتل دون ماله فهو شهيد». (3)

4. وقال النسفي : (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) إلاّ أن تخافوا جهتهم أمراً يجب اتّقاؤه ، أي ألاّ يكون للكافر عليك سلطان فتخافه على نفسك ومالك فحينئذ يجوز لك اظهار الموالاة وإبطان المعاداة. (4)

5. وقال الآلوسي : وفي الآية دليل على مشروعية التقية وعرَّفوها بمحافظة

ص : 313


1- جامع البيان : 3 / 153.
2- الكشاف : 1 / 422.
3- مفاتيح الغيب : 8 / 13.
4- تفسير النسفي بهامش تفسير الخازن : 1 / 277.

النفس أو العرض أو المال من شر الأعداء. والعدو قسمان :

الأوّل : من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين ، كالكافر والمسلم.

الثاني : من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية ، كالمال والمتاع والملك والامارة. (1)

6. وقال جمال الدين القاسمي : ومن هذه الآية : (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) استنبط الأئمّة مشروعية التقية عند الخوف ، وقد نقل الإجماع على جوازها عند ذلك الإمام مرتضى اليماني في كتابه (إيثار الحق على الخلق). (2)

7. وفسّر المراغي قوله تعالى : (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) بقوله : أي انّ ترك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم في كل حال إلاّ في حال الخوف من شيء تتّقونه منهم ، فلكم حينئذ أن تتّقوهم بقدر ما يتقى ذلك الشيء ، إذ القاعدة الشرعية : «إنّ درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح».

وإذا جازت موالاتهم لاتّقاء الضرر فأولى أن تجوز لمنفعة المسلمين ، إذاً فلا مانع من أن تحالف دولة إسلامية دولة غير مسلمة ، لفائدة تعود إلى الأُولى ، إمّا بدفع ضرر أو جلب منفعة ، وليس لها أن تواليها في شيء يضر المسلمين ، ولا تختص هذه الموالاة بحال الضعف ، بل هي جائزة في كل وقت.

وقد استنبط العلماء من هذه الآية جواز التقية بأن يقول الإنسان أو يفعل ما يخالف الحق ، لأجل التوقّي من ضرر يعود من الأعداء إلى النفس ، أو العرض ، أو المال.

فمن نطق بكلمة الكفر مكرهاً وقاية لنفسه من الهلاك ، وقلبه مطمئن

ص : 314


1- روح المعاني : 3 / 121.
2- محاسن التأويل : 4 / 82.

بالإيمان ، لا يكون كافراً بل يُعذر كما فعل عمّار بن ياسر حين أكرهته قريش على الكفر فوافقها مكرهاً وقلبه مطمئن بالإيمان ، وفيه نزلت الآية :

(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ). (1)

هذه الجمل الوافية والعبارات المستفيضة لا تدع لقائل مقالاً إلاّ أن يحكم بشرعية التقيّة بالمعنى الذي عرفته ، بل قد لا يجد أحد مفسّراً أو فقيهاً وقف على مفهومها وغايتها ، وهو يتردد في الحكم بجوازها ، كما أنّك - أخي القارئ - لا تجد إنساناً واعياً لا يستعملها في ظروف عصيبة ، ما لم تترتّب عليها مفسدة عظيمة ، كما سيوافيك بيانها عند البحث عن حدودها.

وإنّما المعارض لجوازها أو المغالط في مشروعيتها ، فإنّما يفسّرها بالتقية الرائجة بين أصحاب التنظيمات السرية والمذاهب الهدّامة كالباطنية وأمثالهم ، إلاّ أنّ المسلمين جميعاً بريئون من هذه التقية الهدّامة لكل فضيلة رابية.

الآية الثالثة :

قوله سبحانه : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ). (2)

وكانت عاقبة أمره أن : (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ

ص : 315


1- تفسير المراغي : 3 / 136.
2- غافر : 28.

الْعَذابِ). (1)

وما كان ذلك إلاّ لأنّه بتقيّته استطاع أن ينجي نبيّ الله من الموت : (قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) (2).

وهذه الآيات تدل على جواز التقية لإنقاذ المؤمن من شرّ عدوّه الكافر.

ص : 316


1- غافر : 45.
2- القصص : 20.

7- التقيّة في السنّة النبويّة

اشارة

دلّت الروايات على أنّ الوجوب والحرمة ترتفع عند طروء الاضطرار ، الذي تعدّ التقية من مصاديقه وأوضح دليل على ذلك هو حديث الرفع الذي رواه الفريقان.

1. روى الصدوق بسند صحيح في خصاله عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «رفع عن أُمّتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما أُكرهوا عليه ، وما لا يطيقون ، وما لا يعلمون ، وما اضطروا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة». (1)

إنّ للحديث دوراً في مبحث البراءة والاشتغال في علم الأُصول ، وقد فصلنا الكلام حوله في بحوثنا الأُصولية. (2)

وعلى كلّ تقدير فالحديث صريح في أنّ الاضطرار يبيح المحظور.

2. روى الكليني بسند صحيح عن زرارة ، عن أبي جعفر - عليه السلام - ، قال : «التقية في كلّ ضرورة ، وصاحبها أعلم بها حين تنزل به». (3)

3. روى الكليني عن محمد بن مسلم وزرارة قالوا : سمعنا أبا جعفر - عليه السلام -

ص : 317


1- الخصال : 417.
2- لاحظ إرشاد العقول : 1 / 347 - 364.
3- الوسائل : 11 ، الباب 25 من أبواب الأمر والنهي ، الحديث 1.

يقول : «التقية في كلّ شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه الله له». (1)

4. وعن الإمام الصادق - عليه السلام - انّه قال : «وكلّ شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية ممّا لا يؤدي إلى الفساد في الدين فانّه جائز». (2)

5. وعنه - عليه السلام - انّه قال : «ولا حنث ولا كفّارة على من حلف تقية يدفع بذلك ظلماً عن نفسه». (3)

6. وعنه - عليه السلام - قال : «وانّ التقية لأوسع ممّا بين السماء والأرض». (4)

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في هذا الموضوع.

ولك أن تضيف إلى ذلك الاستدلال بالآيات التي رخصت عند الاضطرار ، قال تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (5) ومورد الآية وإن كان الاضطرار لأجل الجوع ، ولكن الموضوع هو الاضطرار ، سواء أكان العامل داخلياً كاضطراره إلى أكل الميتة ، أو خارجياً قاهراً مُلْزِماً على العمل بالخلاف على نحو لو لم يفعله لأدّى إلى إلحاق الضرر بنفسه ونفيسه.

التقية في كلمات العلماء

1. قال ابن عباس : التقيّة باللسان والقلب مطمئن بالإيمان ولا يبسط يده للقتل. (6)

2. قال الحسن البصري : التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة إلاّ في قتل النفس. (7)

ص : 318


1- الوسائل : 11 ، الباب 25 من أبواب الأمر والنهي ، الحديث 2.
2- الكافي : 2 / 168.
3- الخصال : 607.
4- بحار الأنوار : 75 / 412.
5- البقرة : 173.
6- فتح الباري : 12 / 279.
7- تفسير النيسابوري في هامش الطبري : 3 / 178.

3. وقال الرازي : تجوز التقية لصون المال على الأصح كما يجوز صون النفس. (1)

4. وقال السيوطي : يجوز أكل الميتة في المخمصة وإساغة اللقمة في الخمر ، والتلفظ بكلمة الكفر ، ولو عمّ الحرام قطراً بحيث لا يوجد فيه حلال إلاّ نادراً فانّه يجوز استعمال ما يحتاج إليه. (2)

وقد أنكر الشاطبي على الخوارج إنكارهم التقية في القول والفعل ، وعدها من جملة مخالفاتهم للكليات الشرعية أصلية وعملية. (3)

5. وقال الطوسي : والتقية عندنا واجبة عند الخوف على النفس ، وقد روي رخصة في جواز الإفصاح بالحق عنده. (4)

6. وقال العلاّمة الطباطبائي : الكتاب والسنّة متطابقان في جوازها في الجملة ، والاعتبار العقلي يؤيده ، إذ لا بغية للدين ولا همَّ لشارعه إلاّ ظهور الحقّ وحياته ، وربما يترتّب على التقية والمجاراة مع أعداء الدين ومخالفي الحقّ حفظ مصلحة الدين وحياة الحق ما لا يترتب على تركها وإنكار ذلك مكابرة وتعسف. (5)

مجال التقية هو الأُمور الشخصية

عُرِفَتِ الشيعة بالتقية وأنّهم يتّقون في أقوالهم وأفعالهم ، فصار ذلك مبدأ لوهم عَلِقَ بأذهان بعض السطحيين والمغالطين ، فقالوا : بما أنّ التقية من مبادئ التشيّع فلا يصح الاعتماد على كلّ ما يقولون ويكتبون وينشرون ، إذ من المحتمل جداً أن تكون هذه الكتب دعايات والواقع عندهم غيرها. هذا ما نسمعه منهم مرّة بعد مرّة ، ويكرّره الكاتب الباكستاني «إحسان إلهي ظهير» في كتبه السقيمة

ص : 319


1- التفسير الكبير : 8 / 13.
2- الأشباه والنظائر : 76.
3- الموافقات : 4 / 180.
4- التبيان : 2 / 435.
5- الميزان : 3 / 153.

التي يتحامل بها على الشيعة.

ونحن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ مجال التقية إنّما هو في حدود القضايا الشخصية الجزئية عند وجود الخوف على النفس والنفيس ، فإذا دلّت القرائن على أنّ في إظهار العقيدة أو تطبيق العمل على مذهب أهل البيت ما يُلحق بالمؤمن الضرر ، يُصبح هذا المورد من مواردها ، ويحكم العقل والشرع بلزوم الاتقاء حتى يصون بذلك نفسه ونفيسه عن الخطر. وأمّا الأُمور الكلّية الخارجة عن إطار الخوف فلا تتصوّر فيها التقية ، والكتب المنتشرة من جانب الشيعة داخلة في هذا النوع الأخير ، إذ لا خوف هناك حتى يكتب خلاف ما يعتقد ، حيث ليس هناك أيُّ مُلْزم للكتابة أصلاً في هذه الأحوال فله أن يسكت ولا يكتب شيئاً.

فما يدعيه هؤلاء أنّ هذه الكتب دعايات لا واقعيات ناشئ عن قلّة معرفتهم بحقيقة التقية عند الشيعة.

والحاصل : أنّ الشيعة إنّما كانت تتّقي في عصر لم تكن لهم دولة تحميهم ، ولا قدرة ولا منعة تدفع عنهم الأخطار. وأمّا هذه الأعصار فلا مسوّغ ولا مبرّر للتقية إلاّ في موارد جزئيّة خاصة.

إنّ الشيعة كما ذكرنا لم تلجأ إلى التقية إلاّ بعد أن اضطرّت إلى ذلك ، وهو حق لا أعتقد أنّ أحداً ممّن ينظر إلى الآُمور بلبّه لا بعواطفه يخالفها فيه ، إلاّ أنّ من الأُمور المسلّمة في تاريخ التشيّع ، كثرة التقية على مستوى الفتاوى ، وأمّا على المستوى العمليّ فالشيعة من أكثر الناس تضحية ، وبوسع كل باحث أن يرجع إلى مواقف رجال الشيعة مع معاوية وغيره من الحكّام الأمويين ، والحكام العباسيين ، أمثال حجر بن عدي ، وميثم التمار ، ورشيد الهجري ، وكميل بن زياد ، ومئات من غيرهم ، وكمواقف العلويين على امتداد التاريخ وثوراتهم المتتالية وقد مرّ تفصيله في بعض الفصول.

ص : 320

8- أقسام التقية

تنقسم التقية حسب انقسام الأحكام إلى خمسة ، والمهم هو الإشارة إلى الأقسام الثلاثة :

1. التقية الواجبة : وهي ما كانت لدفع الخوف على نفس أو عرض محترمين ، أو ضرر لا يتحمل عن نفسه أو غيره من المؤمنين.

2. التقية المندوبة : وهي ما كانت لدفع ما يرجح دفعه من ضرر يسير يتحمّل عادة ، سواء تعلق بنفسه أو بغيره.

3. التقية المحرمة وهي ما يترتّب عليها مفسدة أعظم ، كهدم الدين وخفاء الحقيقة على الأجيال الآتية ، وتسلّط الأعداء على شئون المسلمين وحرماتهم ومعابدهم ، ولأجل ذلك ترى أنّ كثيراً من أكابر الشيعة رفضوا التقية في بعض الأحيان وقدّموا أنفسهم وأرواحهم أضاحي من أجل الدين ، فللتقية مواضع معينة ، كما أنّ للقسم المحرم منها مواضع خاصة أيضاً.

إنّ التقية في جوهرها كتم ما يحذر من إظهاره حتى يزول الخطر ، فهي أفضل السبل للخلاص من البطش ، ولكن ذلك لا يعني أنّ الشيعي جبان خائر العزيمة ، خائف متردّد الخطوات يملأ حناياه الذل ، كلاّ إنّ للتقية حدوداً لا

ص : 321

تتعداها ، فكما هي واجبة في حين ، هي حرام في حين آخر ، فالتقية أمام الحاكم الجائر كيزيد بن معاوية مثلاً محرّمة ، إذ فيها الذل والهوان ونسيان المُثُل والرجوع إلى الوراء ، فليست التقية في جوازها ومنعها تابعة للقوّة والضعف ، وإنّما تحددها جوازاً ومنعاً مصالح الإسلام والمسلمين.

إنّ للإمام الخميني - قدّس الله سرّه - كلاماً في المقام ننقله بنصّه حتى يقف القارئ على أنّ للتقية أحكاماً خاصة وربّما تحرم لمصالح عالية. قال - قدّس الله سرّه - :

تحرم التقية في بعض المحرّمات والواجبات التي تمثّل في نظر الشارع والمتشرّعة مكانة بالغة ، مثل هدم الكعبة ، والمشاهد المشرّفة ، والرد على الإسلام والقرآن والتفسير بما يفسد المذهب ويطابق الإلحاد وغيرها من عظائم المحرّمات ، ولا تعمّها أدلة التقية ولا الاضطرار ولا الإكراه.

وتدلّ على ذلك معتبرة مسعدة بن صدقة وفيها : «فكلّ شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية ممّا لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنّه جائز». (1)

ومن هذا الباب ما إذا كان المتقي ممن له شأن وأهمية في نظر الخلق ، بحيث يكون ارتكابه لبعض المحرّمات تقية أو تركه لبعض الواجبات كذلك مما يعد موهناً للمذهب وهاتكاً لحرمه ، كما لو أُكره على شرب المسكر والزنا مثلاً ، فإنّ جواز التقية في مثله متمسّكاً بحكومة دليل الرفع (2) وأدلّة التقية مشكل بل ممنوع ، وأولى من ذلك كلّه في عدم جواز التقية ، ما لو كان أصل من أُصول الإسلام أو المذهب أو ضروري من ضروريات الدين في معرض الزوال والهدم والتغيير ، كما لو

ص : 322


1- الوسائل : 10 ، الباب 25 من أبواب الأمر والنهي ، الحديث 8.
2- الوسائل : 10 ، الباب 56 من أبواب جهاد النفس ، الحديث 1.

أراد المنحرفون الطغاة تغيير أحكام الإرث والطلاق والصلاة والحج وغيرها من أُصول الأحكام فضلاً عن أُصول الدين أو المذهب ، فإنّ التقية في مثلها غير جائزة ، ضرورة أنّ تشريعها لبقاء المذهب وحفظ الاصول وجمع شتات المسلمين لإقامة الدين وأُصوله ، فإذا بلغ الأمر إلى هدمها فلا تجوز التقية ، وهو مع وضوحه يظهر من الموثقة المتقدمة. (1)

وعلى ضوء ما تقدّم ، نخرج بالنتائج التالية :

1. إنّ التقية أصل قرآني مدعم بالسنّة النبوية ، وقد عمل بها في عصر الرسالة من ابتلي من الصحابة ، لصيانة نفسه ، فلم يعارضه الرسول ، بل أيّده بالنص القرآني كما في قضية عمّار بن ياسر ، حيث أمره - صلى الله عليه وآله وسلم - بالعودة إذا عادوا.

2. انّ التقيّة ليست بمعنى تشكيل جماعات سرية لغاية التخريب والهدم ، وهذا لا يمتّ إلى التقية بصلة.

3. اتّفق المفسّرون عند التعرّض لتفسير الآيات الواردة في التقية على ما ذهبت إليه الشيعة من إباحتها للتقية.

4. تنقسم التقية حسب انقسام الأحكام إلى أقسام خمسة ، فبينما هي واجبة في موضع ، تجدْها محرّمة في موضع آخر.

5. إنّ مجال التقية لا يتجاوز القضايا الشخصية ، وهي فيما إذا كان الخوف قائماً ، وأمّا إذا ارتفع الخوف والضغط ، فلا مجال للتقية.

وفي ختام هذا البحث نقول :

نفترض أنّ التقية جريمة يرتكبها المتقي لصيانة دمه وعرضه وماله ، ولكنّها

ص : 323


1- رسالة في التقية مطبوعة ضمن الرسائل العشر : 14 ، باب حول موارد استثنيت من الأدلّة.

في الحقيقة ترجع إلى السبب الذي يفرض التقيّة على الشيعي المسلم ويدفعه إلى أن يتظاهر بشيء من القول والفعل الذي لا يعتقد به ، فعلى من يعيب التقية للمسلم المضطهد ، أن يسمح له بالحرية في مجال الحياة ويتركه بحاله ، وأقصى ما يصح في منطق العقل ، أن يسأله عن دليل عقيدته ومصدر عمله ، فإن كان على حجّة بيّنة يتبعه ، وإن كان على خلافها يعذره في اجتهاده وجهاده العلمي والفكري.

نحن ندعو المسلمين للتأمّل في الدواعي التي دفعت بالشيعة إلى التقية ، وأن يعملوا قدر الإمكان على فسح المجال لإخوانهم في الدين فإنّ لكل فقيه مسلم ، رأيَه ونظرَه ، وجهدَه وطاقتَه.

إنّ الشيعة يقتفون أثر أئمّة أهل البيت في العقيدة والشريعة ، ويرون رأيهم ، لأنّهم هم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، وأحد الثقلين اللّذين أمر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بالتمسّك بهما في مجالي العقيدة والشريعة ، وهذه عقائدهم لا تخفى على أحد ، وهي حجّة على الجميع.

نسأل الله سبحانه ، أن يصون دماء المسلمين وأعراضهم عن تعرض أي متعرض ، ويوحّد صفوفهم ، ويؤلّف بين قلوبهم ، ويجمع شملهم ، ويجعلهم صفّاً واحداً في وجه الأعداء ، إنّه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.

ص : 324

9- شبهات حول التقية

اشارة

لقد تعرفت على حقيقة التقية : لغة واصطلاحاً وتاريخاً ، كما تعرفت على أدلّتها من الكتاب والسنّة وظهر انّ سيرة المسلمين جرت على ممارسة التقية عند الشدة ، وبقيت ثمّة شبهات تدور حول التقية ، نطرحها على طاولة البحث.

الشبهة الأُولى : التقية من شعب النفاق

إذا كانت التقية إظهارَ ما يُضمر القلبُ خلافَه أو ارتكاب عمل يخالف العقيدة ، فهي إذن شعبة من شعب النفاق ، لأجل انّ النفاق عبارة عن التظاهر بشيء على خلاف العقيدة.

والجواب عنها واضح : لأنّ مفهوم التقية في الكتاب والسنّة هو إظهار الكفر وإبطان الايمان ، أو التظاهر بالباطل وإخفاء الحق ، وإذا كان هذا مفهومها ، فهي تقابل النفاق ، تقابلَ الإيمان والكفر ، فانّ النفاق ضدها وخلافها ، فهو عبارة عن إظهار الإيمان وإبطان الكفر ، والتظاهر بالحق وإخفاء الباطل ، ومع وجود هذا التباين بينهما فلا يصحّ عدّها من فروع النفاق.

وبعبارة أُخرى : انّ النفاق في الدين ستر الكفر بالقلب ، وإظهار الإيمان

ص : 325

باللسان ، وأين هذا من التقية التي هي على العكس تماماً (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) فهي إظهار الكفر وإخفاء الإيمان وستره بالقلب ، وأمّا تقية الشيعة فهي تَكْمُنُ في إخفاء الاعتقاد بالإمامة والولاية لأهل البيت - عليهم السلام - يعني ستر التشيع مع التظاهر بموافقة الآخرين في عقيدتهم تجاه الإمامة وفي الوقت نفسه يشاركون المسلمين في الشهادتين والإيمان بالقيامة ، ويمارسون العبادات ويعملون بالفروع ويعتقدون ذلك بقلوبهم ويعيشون هذه العقيدة بوجدانهم وبأرواحهم.

نعم من فسر النفاق بمطلق مخالفة الظاهر للباطن وبه صوّر التقية - الواردة في الكتاب والسنّة - من فروعه ، فقد فسره بمفهوم أوسع ممّا هو عليه في القرآن ، فانّه يعرف المنافقين بالمتظاهرين بالإيمان والمبطنين للكفر بقوله تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) (1) فإذا كان هذا حدّ المنافق فكيف يعمّ من يستعمل التقية تجاه الكفار والعصاة فيُخفي إيمانه أو عقيدته في ولاء أهل البيت ويظهر الموافقة لغاية صيانة النفس والنفيس والعرض والمال من التعرض؟!

ويظهر صدق ذلك إذا وقفنا على ورودها في التشريع الإسلامي ، ولو كانت من قسم النفاق ، لكان ذلك أمراً بالقبيح ويستحيل على الحكيم أن يأمر به (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ). (2)

الشبهة الثانية : لما ذا عُدَّت التقية من أُصول الدين؟

قد نقل عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - انّهم قالوا : التقية ديني ودين آبائي ، ولا

ص : 326


1- المنافقون : 1.
2- الأعراف : 28.

دين لمن لا تقية له. (1)

وظاهر هذه الروايات انّ الاعتقاد بالتقية وتطبيق العمل على ضوئها من أُصول الدين فمن لم يتق فقد خرج عن الدين وليس له من الإيمان نصيب.

يلاحظ عليه : بأنّ التقية من الموضوعات الفقهية ، تخضع كسائر الموضوعات للأحكام الخمسة ، فتارة تجب وأُخرى تحرم ، وثالثة ... ، ومعه كيف يمكن أن تكون من أُصول الدين ، وقد ذكرها فقهاء الشيعة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وأمّا الروايات التي عدتها من الدين فهي من باب الاستعارة وغايتها ، التأكيد على أهميتها وتطبيقها في الحياة لصيانة النفس والنفيس ، وبما انّ بعض الشيعة كانوا يجاهرون بعقائدهم وشعائرهم ، الأمر الذي يؤدي إلى إلقاء القبض عليهم وتعذيبهم وإراقة دمائهم ، فالإمام وللحيلولة دون وقوع ذلك يقول بأنّ (التقية ديني ودين آبائي) لحثّهم على الاقتداء بهم ، وأمّا ما ورد في الحديث «لا دين لمن لا تقيّة له» فالغاية التأكيد على الالتزام بالتقيّة ، نظير قوله : لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد.

وبعبارة أُخرى : ليس المراد من الدين هو الأُصول العامة كالتوحيد والنبوة والمعاد التي بالاعتقاد بها يرد إلى حظيرة الإسلام وبإنكارها أو إنكار واحد منها أو إنكار ما يلازم إنكار أحد الأُصول الثلاثة يخرج عنها ، وإنّما المراد به هو الشأن الذي يتعبد به الإمام ويعمل بدين الله ، فقوله : «التقية ديني ودين آبائي» أي هو من شئوننا أهل البيت - عليهم السلام - فاقتدوا بنا ، وأمّا من يتصور انّ التقية تمس كرامته فهو إنسان جاهل خارج عن هذا الشأن الذي عليه تدين الأئمة به.

ص : 327


1- الوسائل : 10 ، الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف ، الحديث 3 ، 22.
الشبهة الثالثة : التقية تؤدي إلى محق الدين

إذا مارست جماعةٌ التقية فترة طويلة في أُصول الدين وفروعه ، ربما يتجلى للجيل المقبل بأنّ ما مارسه آباؤهم من صميم الدين وواقعه ، فعند ذلك تنتهي التقية إلى محق الدين واندثاره.

يلاحظ عليه : أنّ الظروف مختلفة وليست على منوال واحد ، فربما يشتد الضغط فلا يجد المحقّ مجالاً للإعراب عن رأيه وعقيدته وشريعته ، وقد تتبدّل الظروف إلى ظروف مناسبة تسمح بممارسة الشعائر بكلّ حرية ، وقد عاشت الشيعة بين الحين والآخر في هذه الظروف المختلفة ، وبذلك صانت أُصولها وفروعها وثقافتها والله سبحانه هو المعين لحفظ الدين وشريعته.

وبعبارة أُخرى : انّ للتقية سيطرة على الظاهر دون الباطن ، فالأقلّية التي صودرت حرياتها يمارسونها في الظاهر ، وأمّا في المجالس الخاصة فيقومون بواجبهم على ما هو عليه ويربّون أولادهم على وفق التعاليم التي ورثوها عن آبائهم عن أئمتهم.

ولو افترضنا انّ مراعاة التقية فترة طويلة تنتهي إلى محق الدين فالتقية عندئذ تكون محرمة يجب الاجتناب عنها. وقد مرّ انّ التقية لها أحكام خمسة ، فالتقية المنتهية إلى محق الدين محظورة.

الشبهة الرابعة : التقية تؤدي إلى تعطيل الأمر بالمعروف

إنّ التقية فكرة تحوّل المسلم إلى إنسان يتعايش مع الأمر الواقع على ما فيه من ظلم وفساد وانحراف ، فتعود إلى الرضا بكلّ ما يحيط بها من الظلم والفساد

ص : 328

والانحراف.

يلاحظ عليه : أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشروط بالتمكن منه ، فمرتبة منه وظيفة الفرد وهو الأمر بالمعروف بكراهية القلب واللسان ، ومرتبة منه وظيفة المجتمع وعلى رأسه الدولة صاحبة القدرة والمنعة ، فالممارس للتقية يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حسب مقدرته ولو لا القدرة فلا حكم عليه ، لأنّ الله سبحانه لا يكلف نفساً إلاّ وسعها.

ومع ذلك فالممارس للتقية يتحيّن الفرص للانقضاض على الواقع الفاسد وتغييره ، فلو ساعدته الظروف على هذا التغيير فحينها يتخلّى عن التقية ويجاهر بالحقّ قولاً وعملاً.

الشبهة الخامسة : التقية من المسلم من البدع

ربما يتصور انّ التقية من اختلافات الشيعة وانّها لا دليل عليها من الكتاب والسنّة ، وذلك لأنّ الآيات الواردة في التقية ترجع إلى اتّقاء المسلم من الكافر ، وأمّا اتّقاء المسلم من المسلم فهذا ما لا دليل عليه من الكتاب والسنة.

الجواب

إنّ مورد الآيات وإن كان هو اتّقاء المسلم من الكافر ، ولكن المورد كما هو المسلم لا يكون مخصِّصاً ، إذ ليس الغرض من تشريع التقية عند الابتلاء بالكفار إلاّ صيانة النفس والنفيس من الشر ، فإذا ابتُلي المسلم بأخيه المسلم الذي يخالفه في بعض الفروع ولا يتردد الطرف القوي عن إيذاء الطرف الآخر ، كأن ينكل به أو ينهب أمواله أو يقتله ، ففي تلك الظروف الحرجة يحكم العقل السليم بصيانة

ص : 329

النفس والنفيس عن طريق كتمان العقيدة واستعمال التقية ، ولو كان هناك وزر فإنّما يحمله من يُتّقى منه لا المتّقي. ونحن نعتقد أنّه إذا سادت الحرية جميع الفرق الإسلامية ، وتحمّلت كل فرقة آراء الفرقة الأُخرى لوقفت على أنّ الرأي الآخر هو نتيجة اجتهادها ، وعندها لا يضطر أحد من المسلمين إلى استخدام التقية ، ولساد الوئام مكان النزاع.

وقد فهم ذلك لفيف من العلماء وصرّحوا به ، وإليك نصوص بعضهم :

1. قال الشافعي : تجوز التقية بين المسلمين كما تجوز بين الكافرين محاماة عن النفس. (1)

2. يقول الإمام الرازي في تفسير قوله سبحانه : (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) : ظاهر الآية يدل على أنّ التقية إنّما تحل مع الكفّار الغالبين ، إلاّ أنّ مذهب الشافعي - رضي الله عنه - : أنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والكافرين حلّت التقية محاماة عن النفس ، وقال : التقية جائزة لصون النفس ، وهل هي جائزة لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» ، وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «من قتل دون ماله فهو شهيد». (2)

3. ينقل جمال الدين القاسمي عن الإمام مرتضى اليماني في كتابه «إيثار الحق على الخلق» ما نصّه : وزاد الحق غموضاً وخفاءً أمران : أحدهما : خوف العارفين - مع قلّتهم - من علماء السوء وسلاطين الجور وشياطين الخلق مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن ، وإجماع أهل الإسلام ، وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحق ، ولا برح المحق عدوّاً لأكثر الخلق ، وقد صحّ عن أبي هريرة - رضي الله

ص : 330


1- تفسير النيسابوري في هامش تفسير الطبري : 3 / 178.
2- مفاتيح الغيب : 8 / 13 في تفسير الآية.

عنه - أنّه قال - في ذلك العصر الأوّل - : حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وعاءين ، أمّا أحدهما فبثثته في الناس ، وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم. (1)

4. وقال المراغي في تفسير قوله سبحانه : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) : ويدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة والفسقة ، وإلانة الكلام لهم ، والتبسّم في وجوههم ، وبذل المال لهم ، لكف أذاهم وصيانة العرض منهم ، ولا يعد هذا من الموالاة المنهي عنها ، بل هو مشروع ، فقد أخرج الطبراني قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «ما وَقَى المؤمن به عرضَه فهو صدقة». (2)

إنّ الشيعة تتقي الكفّار في ظروف خاصة لنفس الغاية التي لأجلها يتّقيهم السنّي ، غير أنّ الشيعي ولأسباب لا تخفى ، يلجأ إلى اتّقاء أخيه المسلم لا لتقصير في الشيعي ، بل في أخيه الذي دفعه إلى ذلك ، لأنّه يدرك أنّ الفتك والقتل مصيره إذا صرّح بمعتقده الذي هو عنده موافق لأُصول الشرع الإسلامي وعقائده ، نعم كان الشيعي وإلى وقت قريب يتحاشى أن يقول : إنّ الله ليس له جهة ، أو أنّه تعالى لا يُرى يوم القيامة ، وإنّ المرجعية العلمية والسياسية لأهل البيت بعد رحلة النبي الأكرم ، أو أنّ حكم المتعة غير منسوخ. إنّ الشيعي إذا صرّح بهذه الحقائق - التي استنبطت من الكتاب والسنّة - سوف يُعرّض نفسه ونفيسه للمهالك والمخاطر. وقد مرّ عليك كلام الرازي وجمال الدين القاسمي والمراغي الصريح في جواز هذا النوع من التقية ، فتخصيص التقية بالتقية من الكافر فحسب ، جمود على ظاهر الآية وسد لباب الفهم ، ورفض للملاك الذي شُرّعت لأجله التقية ، وإعدام لحكم العقل القاضي بحفظ الأهم إذا عارض المهم.

ص : 331


1- محاسن التأويل : 4 / 82.
2- تفسير المراغي : 3 / 136.

وقد مرّ الكلام عن لجوء جملة من كبار المحدّثين إلى التقية في ظروف عصيبة أوشكت أن تؤدي بحياتهم وبما يملكون ، وخير مثال على ذلك ما أورده الطبري في تاريخه (1) عن محاولة المأمون دفع وجوه القضاة والمحدّثين في زمانه إلى الإقرار بخلق القرآن قسراً وقد علموا انّ إنكاره يستعقب قتل الجميع دون رحمة ، ولما أبصر أُولئك المحدّثون لَمَعان ، حد السيف عمدوا إلى مصانعة المأمون في دعواه وأسرّوا معتقدهم في صدورهم ، ولمّا عُوتبوا على ما ذهبوا إليه من موافقة المأمون برّروا عملهم بعمل عمّار بن ياسر حين أُكره على الشرك وقلبه مطمئن بالإيمان ، والقصّة شهيرة وصريحة في جواز اللجوء إلى التقية التي دأب البعض بالتشنيع فيها على الشيعة وكأنّهم هم الذين ابتدعوها من بنات أفكارهم دون أن تكون لها قواعد وأُصول إسلامية ثابتة ومعلومة.

ص : 332


1- تاريخ الطبري : 7 / 206195.

10- الآثار البنّاءة للتقية

اشارة

إذا ساد الاستبداد المجتمعَ الإنساني وصودرت فيه الحريات وهُضمت فيه الحقوق وأُخمدت فيه أصوات الأحرار ، فحينئذ لا تجد الأقلية المهضومة ، حيلة سوى اللجوء إلى التقية والتعايش مع الأمر الواقع ، وهذا الأمر وان يتلقّاه البعض أمراً مرغوباً عنه ، ولكن الإمام أمير المؤمنين - عليه السلام - - كما سيوافيك كلامه - يصفه بأنّه رخصة من الله تفضّل الله بها على المؤمنين. كيف وقد يترتّب على ممارسة التقية آثار بنّاءة تتلخّص في الأُمور التالية :

1. حفظ النفس والنفيس

إنّ ممارسة التقية والمداراة مع الظالم المستبد يصون الأقلية من البطش والكبت والقتل ومصادرة الأموال بخلاف عدم ممارستها فانّه يعرِّضها للقتل والفناء ، ولذلك يعبر عنها بالترس والجُنّة ، قال الإمام الصادق - عليه السلام - : «إنّ التقية ترس المؤمن ، ولا إيمان لمن لا تقية له». (1)

وقال - عليه السلام - : «كان أبي يقول : وأي شيء أقرّ لعيني من التقية ، انّ التقية جُنّة المؤمن». (2)

ص : 333


1- الوسائل : 11 ، الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف ، الحديث 4 و 6.
2- الوسائل : 11 ، الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف ، الحديث 4 و 6.

روى شيخنا المفيد قال : كتب علي بن يقطين (الوزير الشيعي للرشيد) إلى الإمام الكاظم - عليه السلام - يسأله عن الوضوء؟ فكتب إليه أبو الحسن - عليه السلام - : «فهمت ما ذكرت من الاختلاف في الوضوء ، والذي آمرك به في ذلك أن تمضمض ثلاثاً ، وتستنشق ثلاثاً ، وتغسل وجهك ثلاثاً ، وتخلّل شعر لحيتك ، وتغسل يديك من أصابعك إلى المرفقين ثلاثاً ، وتمسح رأسك كلّه ، وتمسح ظاهر أُذنيك وباطنهما ، وتغسل رجليك إلى الكعبين ثلاثاً ، ولا تخالف ذلك إلى غيره.

فلمّا وصل الكتاب إلى علي بن يقطين تعجب مما رسم له أبو الحسن - عليه السلام - فيه ممّا أجمع العصابة على خلافه ، ثمّ قال : مولاي أعلم بما قال : وأنا أمتثل أمره ، فكان يعمل في وضوئه على هذا الحد ، ويخالف ما عليه جميع الشيعة امتثالاً لأمر أبي الحسن - عليه السلام - ، وسُعِيَ بعلي بن يقطين إلى الرشيد ، وقيل : إنّه رافضي ، فامتحنه الرشيد من حيث لا يشعر ، فلمّا نظر إلى وضوئه ناداه : كذب يا علي بن يقطين من زعم أنّك من الرافضة ، وصلحت حاله عنده ، وورد عليه كتاب أبي الحسن - عليه السلام - : «ابتدأ من الآن يا علي بن يقطين وتوضّأ كما أمرك الله تعالى ، اغسل وجهك مرة فريضة وأُخرى إسباغاً واغسل يديك من المرفقين كذلك ، وامسح بمقدم رأسك وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك ، فقد زال ما كنّا نخاف منه عليك ، والسلام». (1)

ترى أنّ الإمام أنقذ علي بن يقطين من الموت من خلال أمره بالتقية وكم له في التاريخ من نظير ، وكفى شاهداً قصة عمّار وأبيه وأُمّه المتقدّمة.

ص : 334


1- الوسائل : 1 ، الباب 32 من أبواب الوضوء ، الحديث 3.
2. حفظ وحدة الأُمّة

لا شكّ انّ وحدة الكلمة هي مصدر قوة الأُمّة وازدهارها ، وهي حبل الله الوثيق الذي لا بدّ من الاعتصام به ، حيث قال في محكم كتابه : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا). (1)

فقد عدّ سبحانه التفريق والتشرذم والتشتت عذاباً يستأصل الأُمّة ويستنفد قواها ، قال سبحانه : (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ). (2)

إلى غير ذلك من الآيات الحاثّة على الوحدة والمحذِّرة من التفرق والتبدد.

وتشريع التقية يعين على الوحدة ويمسك الأُمة عن التبدد ، فلذلك يصفها الإمام بأنّها «رخصة تفضّل بها الله على المؤمنين رحمة لهم».

وهذا لا يعني الإفراط في ممارسة التقية حتّى إذا توفرت الفرص المناسبة للتعبير عن رأيه ومنهجه ، فعند ذلك تحرم التقية ، لأنّه يترتب عليها طمس الدين وكتمان الحقيقة.

3. الحفاظ على القوى من الاستنزاف

إنّ الجماعة المهضومة ، بممارسة التقية تحمي قواها وطاقاتها من الاستنزاف ، وبالتالي تربّي جماعة واعية لأهدافها ، فإذا هبّ على مجتمعها نسيم الحرية فيتيسّر عندها أن تُجاهر بأفكارها وآرائها دون أي خوف أو وجل وتطالب بحقوقها ، وهذا من آثار التقية حيث صانت الجماعة الضعيفة من استنزاف قواها.

ص : 335


1- آل عمران : 103.
2- الأنعام : 65.

وبما انّ هذه الآثار البنّاءة تعبير واضح للرحمة ، التي أشار إليها الإمام أمير المؤمنين ، نأتي بنص كلمته :

روى الشريف المرتضى في رسالة «المحكم والمتشابه» نقلاً عن «تفسير النعماني» عن عليّ - عليه السلام - أنّه قال : «وانّ الله منّ على المؤمن بإطلاق الرخصة له عند التقية في الظاهر ، أن يصوم بصيامه ويفطر بإفطاره ويصلّي بصلاته ويعمل بعمله ويظهر له استعمال ذلك ، موسعاً عليه فيه ، وعليه أن يدين الله تعالى في الباطن بخلاف ما يظهر لمن يخافه من المخالفين المستولين على الأُمّة ، فهذه رخصة تفضّل الله بها على المؤمنين رحمة لهم ليستعملوها عند التقية في الظاهر». (1)

ص : 336


1- الوسائل : 1 ، الباب 25 من أبواب مقدمة العبادات ، الحديث 1.

11- موقف أئمة أهل البيت - عليهم السلام - من التقية

إنّ أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - خلفاء الرسول في الخلافة والإمامة ، فهم ساسة العباد في حقل قيادة المجتمع إلى المنهج المهيع ، والمرجع العلمي في تفسير الكتاب والسنّة وما تحتاج إليه الأُمّة إلى يوم القيامة في حقل الأحكام ، هذا عندنا وأمّا غيرنا ، فقد اتّفقت كلمة الأُمّة على أنّ العترة الطاهرة باب علم النبي بحكم حديث الثقلين ، ولذلك يرجع إليهم الموافق والمخالف في حلّ المشاكل العقائدية والتشريعية.

فأئمّة المذاهب الأربعة وغيرهم من التابعين قد نهلوا من نمير علومهم ، ولا يشكّ في ذلك مَن له أدنى إلمام بتاريخ الحديث والفقه ، ولا يسع المقام هنا لبيان التفصيل.

وينبغي أن يعلم أنّ أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - لم يمارسوا التقية في حياتهم الشخصية إلاّ في المجالات السياسية التي تمس سياسة الخلفاء ، ولم تكن لديهم أيّة خشية في الإفصاح عن أفكارهم وآرائهم أمام فقهاء عصرهم ، كيف وانّ الفقهاء والمحدّثين كلّهم كانوا معترفين بفضلهم ومغترفين من علومهم ، وكانوا عيالاً عليهم ، وبذلك يظهر ما ينسب إلى الأئمّة من التقية في حياتهم لا يجانب

ص : 337

الصواب.

نعم كانوا يمارسون التقية في الأُمور التي تتعلّق بالسلطان ولا يخالفونه.

روى الصدوق بسند صحيح عن عيسى بن أبي منصور أنّه قال : كنت عند أبي عبد الله - عليه السلام - في اليوم الذي يشك فيه ، فقال : يا غلام اذهب فانظر أصام السلطان أم لا؟ فذهب ثمّ عاد فقال : لا ، فدعا بالغداء فتغدّينا. (1)

وهنا سؤال يطرح نفسه وهو انّه لا يشكّ مَن أمعن في الأخبار المروية عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - انّهم كانوا يفتون - في بعض الموارد - على وفق آراء فقهاء عصرهم تقية مع أنّ الحكم الواقعي لديهم غير ذلك ، فما هو الوجه في الإفتاء بالتقية؟

والجواب : انّ الإفتاء بالتقية لم يكن لأجل الحفاظ على أنفسهم من القتل والتعذيب ، وإنّما كان الغرض صيانة شيعتهم من أن يُعرَّضوا ويُؤخذوا لمخالفتهم الرأي العام في حقل العقيدة والشريعة ، ولما قلناه شواهد كثيرة في تاريخ الحديث والفقه ، نكتفي بهذين الحديثين :

1. روى سلمة بن محرز قال : قلت لأبي عبد الله - عليه السلام - : إنّ رجلاً مات وأوصى إليّ بتركته وترك ابنته ، قال : فقال لي : «أعطها النصف» ، قال : فأخبرت زرارة بذلك ، فقال لي : اتّقاك إنّما المال لها ، قال : فدخلت عليه بعدُ ، فقلت : أصلحك الله! إنّ أصحابنا زعموا أنّك اتّقيتني فقال : «لا والله ما اتّقيتك ، ولكنّي اتّقيت عليك أن تُضْمن ، فهل علم بذلك أحد؟» قلت : لا ، قال : «فاعطها ما بقي». (2)

ص : 338


1- الوسائل : 7 ، الباب 75 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث 1.
2- الوسائل : 17 ، الباب 4 من أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، الحديث 3.

2. روى عبد الله بن محرز بياع القلانس ، قال : أوصى إليّ رجل ، وترك خمسمائة درهم أو ستمائة درهم ، وترك ابنة ، وقال : لي عصبة بالشام ، فسألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن ذلك؟ فقال : «اعط الابنة النصف ، والعصبة النصف الآخر».

فلمّا قدمت الكوفة أخبرت أصحابنا ، فقالوا : اتّقاك ، فأعطيت الابنة النصف الآخر ، ثمّ حججت فلقيت أبا عبد الله - عليه السلام - فأخبرته بما قال أصحابنا وأخبرته انّي دفعت النصف الآخر إلى الابنة ، فقال : «أحسنت إنّما أفتيتك مخافة العصبة عليك». (1)

إنّ مذهب أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - كان أمراً ذائعاً بين الناس وكان خلافهم مع سائر الفقهاء والمحدّثين في مسائل كثيرة واضحة ، ولذلك لم يكن أيّ ضغط عليهم بالإفصاح بالحقيقة ، نعم الإفتاء على وفق الواقع واجتماع الشيعة على العمل به يورث سوء الظن للسلطة وتقف في وجههم بحجة انّهم بصدد الثورة عليها ، فلذلك كان الإمام يكره اجتماعهم على فكرة واحدة لئلاّ يؤخذوا. نعم البطانة من أصحاب الأئمة كانوا يميزون الحكم الواقعي عن الحكم الصادر تقية ، يقول الشيخ جعفر كاشف الغطاء :

وليس مذهبنا أقل وضوحاً من مذهب الحنفية والشافعية والحنبلية والمالكية والزيدية والناووسية والواقفية والفطحية وغيرهم ، فانّ لكلّ طائفة طريقة مستمرة يتوارثونها صاغراً عن كابر ، بل أهل الملل من عدا المسلمين على بُعد عهدهم عن أنبيائهم الماضين لهم طرائق وسير يمشون فيها على الأثر ولا يصغون إلى إنكار من أنكر. (2)

ص : 339


1- المصدر نفسه ، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، الحديث 4.
2- كشف الغطاء : 1 / 215.

12- في إجزاء العمل الموافق للتقية

اشارة

قد تقدّم البحث في أقسام التقية وأحكامها التكليفية ، بقي الكلام في أحكامها الوضعيّة ، والمراد منها هو صحّة العمل الموافق للتقية المخالف للواقع ، وله أقسام :

1. أن تكون التقية في العمل بالحكم الواقعي كغسل القدمين مكان مسحهما ، والمسح على الخفّين ، والنكس في غسل اليدين والصلاة في جلد الميتة وما لا يؤكل لحمه ، والتكفير في اليدين (قبض اليسرى باليمنى) والتأمين في الصلاة ، والسجود على ما لا يصحّ السجود عليه ، والطلاق بلا حضور عدلين أو مع كون المطلقة حائضاً ، إلى غير ذلك من الأعمال التي تخالف الواقع وتوافق التقية ، ومورد التقيّة هو الأحكام الشرعية.

2. أن تكون التقية في الموضوعات لا في الأحكام الشرعية ، سواء كان الموضوع عاماً غير مقيد بزمان دون زمان ، ككون المغرب متحقّقاً بسقوط القرص ؛ أو في الموضوعات الخاصة كثبوت هلال ذي الحجة أو شهر رمضان أو شوال في سنة معينة ، وعندئذ يقع الكلام في صحّة العمل في هذه الموارد فالعمل موافق للتقية لكنّه مخالف للوظيفة الواقعية في مجال الحكم والموضوع.

ص : 340

والظاهر الصحّة في جميع الأقسام وفاقاً للشيخ كاشف الغطاء في كتابه (1) والسيد الأُستاذ الإمام الخميني كما أفاد في محاضراته.

ثمّ إنّ الروايات الدالّة على صحّة العمل الصادر عن التقية على أصناف :

1. ما دلّ على صحّة العمل المضطر إليه ، فيختصّ هذا الصنف بالتقية الاضطرارية التي تنبع عن خوف الضرر على النفس والنفيس ، ضرراً لا يتحمل عادة.

2. ما دلّ على صحّة العمل المأتي به تقية والظاهر انصراف هذا الصنف إلى التقية الاضطرارية.

وعلى كلّ تقدير فعنوان الحكم في الصنف الأوّل هو الاضطرار وفي الصنف الثاني هو التقية.

3. ما دلّ على صحّة العمل المخالف للواقع والموافق للمخالف مداراة له حفظاً للوحدة الإسلامية.

فها نحن نتناول لغاية الاختصار من كلّ صنف بعض الروايات.

الصنف الأوّل : ما يكون فيه الموضوع هو الاضطرار

إذا أتى بعمل مخالف للواقع لأجل الاضطرار ، فيدلّ على صحّته الروايات التالية :

1. حديث الرفع ، أعني قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «رفع عن أُمّتي ... ما اضطروا إليه». (2)

والرواية صحيحة سنداً لكن المهم تحقيق مدلولها ، فإنّ الرفع يتعلّق بأمر وجودي وهو دائر بين أحد أُمور ثلاثة :

أ. المؤاخذة والعقاب.

ص : 341


1- كشف الغطاء : 1 / 300.
2- الوسائل : 11 ، الباب 56 من أبواب جهاد النفس ، الحديث 1.

ب. الأثر المناسب لكلّ واحد من الأُمور التسعة.

ج. تمام الآثار المترتبة على الأمر المرفوع في لسان الشرع.

والأوّل غير صحيح ، لوضوح انّ الرواية بصدد الإخبار عن رفع أمر تشريعي من الوجوب والحرمة أو الجزئية والمانعية ، وأمّا المؤاخذة والعقاب الأُخروي فهو أمر تكويني لا تشريعي.

أضف إلى ذلك انّه لا يصحّ تقديرها في رفع النسيان والخطأ اللّذين هما من الأُمور التسعة ، لعدم وجود العقوبة فيهما حتّى يصحّ الامتنان من الشرع على الأُمّة برفعها فيهما.

والثاني بعيد أيضاً فانّه يحتاج إلى الفحص عن الأثر المناسب لكلّ واحد من الأُمور التسعة وربّما لا يصل الإنسان إليه في بعضها.

والثالث هو المتعيّن ، أي رفع تمام الآثار الشرعية المترتبة على الموضوع ، مثلاً : يحرم التكفير في الصلاة ، كما تجب السورة كاملة فيها ، فينتزع من حرمة التكفير ، مانعيته للصلاة ؛ ومن وجوب السورة ، جزئيتها لها. فإذا اضطر إلى التكفير أو إلى ترك قراءة السورة الكاملة ، فالآثار المترتبة على التكفير أو السورة مرفوعة ، فالمرفوع في التكفير هو الحرمة وبالتالي المانعية ، كما أنّ المرفوع في ترك السورة الكاملة اضطراراً هو الوجوب وبالتالي الجزئية ، وكأنّ الشارع لم يحكم على التكفير والسورة بشيء من الأحكام ، فينحصر المأمور به فيما أتى على وفق التقيّة.

فإن قلت : إنّ الرفع يتعلّق بأمر وجودي ، وعندئذ يصحّ التمسك بحديث الرفع في التكفير الذي هو أمر وجودي دون ترك السورة الذي هو أمر عدمي.

قلت : الملاك في الاستدلال هو تعلّق الرفع بعنوان كلّي - أعني : ما اضطروا إليه وهو أمر وجودي - سواء كان المنطبَق والمصداق أمراً وجودياً أو أمراً عدمياً ،

ص : 342

فالمصحِّح لصدق الرفع هو متعلّقه في الحديث - أعني : ما اضطروا إليه - وعلى ذلك فلو اضطرّ إلى ترك الوقوف في عرفات دون المشعر أمكن التمسّك في صحّة العمل بحديث الرفع ، لأنّ العنوان في الحديث الذي تعلّق به الرفع (الاضطرار) أمر وجودي.

2. صحيحة زرارة ، عن أبي جعفر الباقر - عليه السلام - : «إنّ التقية في كلّ شيء يضطر إليه ابن آدم ، فقد أحلّه الله له». (1)

وجه الدلالة : انّ الإنسان يضطر إلى التكفير وترك الوقوف بعرفة وغير ذلك من الأفعال والتروك الممنوعة شرعاً في عباداته ، فكلّ ذلك أحلّه الله ورفع المنع الثابت فيها لو لا التقية.

وبعبارة أُخرى : المراد بالإحلال رفع المنع السابق ، والرفع في كلّ ممنوع بحسب حاله سواء كان الممنوع حكماً تكليفياً كشرب النبيذ أو الفقاع أو حكماً غيرياً كالتكفير وترك الوقوف بعرفة ، فالمنع في كلا الموردين مرفوع بحكم قوله : أحلّه الله ، وينتج صحّة العمل.

3. موثّقة سماعة ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : «إذا حلف رجل تقية لم يضرّ إذا هو أُكره أو اضطر إليه» وقال : «ليس شيء ممّا حرم الله إلاّ وقد أحلّه الله لمن اضطر إليه». (2)

وجه الدلالة على صحّة العمل المأتي به اضطراراً ، هو انّ حنث الحلف حرام تكليفاً ووضعاً بمعنى ترتب الكفّارة عليه في حالة الاختيار ، وهذا العمل إذا صدر عن إكراه واضطرار يتجرّد عن كلا الحكمين ، فلا هو حرام تكليفاً ولا وضعاً بمعنى

ص : 343


1- الكافي : 2 / 175 ، الحديث 18 ، باب التقية. ولاحظ الوسائل : 11 ، الباب 25 من أبواب الأمر والنهي ، الحديث 2.
2- الوسائل : 16 ، الباب 12 من كتاب الأيمان ، الحديث 18.

وجوب الكفّارة.

4. صحيحة زرارة : «عن أبي جعفر - عليه السلام - قال : التقية في كلّ ضرورة ، وصاحبها أعلم بها حين تنزل به». (1)

والظاهر انّ الضرورة أعمّ من الاضطرار من حيث المورد ، فانّ الثاني يختصّ بما إذا كان الخوف على نفس الشخص ونفيسه ، بخلاف الضرورة فهي أعمّ ، فتصدق أيضاً على ما إذا كان في ترك العمل خطر يهدد كيان الإسلام والمسلمين أو طائفة منهم.

هذا بعض ما دلّ على صحّة العمل المخالف للواقع لأجل الاضطرار والضرورة ، وعلى ضوء ذلك فلو اضطر الإنسان أو دعت الضرورة إلى فعل المانع كالتكفير أو ترك الجزء كالسورة الكاملة فالعمل جائز وماض ، وسيوافيك في روايات الصنف الثاني انّ المراد من قوله : «أحله الله» هو تنفيذ العمل وقبوله لا بمعنى حلّيته وعدم حرمته.

الصنف الثاني : ما يكون الموضوع فيه «التقيّة»

ما اتّخذ عنوان التقيّة موضوعاً لتنفيذ العمل وتصحيحه فيدلّ عليه الروايات التالية :

1. موثّقة مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - في حديث وتفسير ما يتّقى : «مثل أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحقّ وفعله ، فكلّ شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية ممّا لا يؤدي إلى الفساد في الدين فانّه جائز». (2)

ص : 344


1- الوسائل : 11 ، الباب 25 من أبواب الأمر والنهي ، الحديث 1.
2- الوسائل : 11 ، الباب 25 من أبواب الأمر والنهي ، الحديث 6.

فلو أُريد من الجواز الإباحة فيدلّ على حلية العمل إذا كان حراماً في الواقع ، وأمّا لو أُريد به نفوذ العمل ومضيّه عند الشارع فيدلّ على صحّة العمل مثل قوله : «الصلح جائز بين المسلمين» ، فإفطار المؤمن عند سقوط القرص أو وقوفه بعرفات قبل وقته أو إيقاعه الطلاق مع عدم العدلين كلّها جائزة أي نافذة ومقبولة لدى الشارع.

نعم المتبادر من التقية هي التقية الاضطرارية ، ولا يعمّ القسم المدارائي الذي يتجرّد عن الخوف.

2. صحيحة أبي الصباح إبراهيم بن النعيم ، قال : والله لقد قال لي جعفر بن محمد : «إنّ الله علم نبيه التنزيل والتأويل ، فعلمه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - علياً - عليه السلام -» قال : «وعلمنا والله» ثمّ قال : «ما منعتم من شيء أو حلفتم عليه من يمين في تقية ، فأنتم منه في سعة». (1)

فقوله : «ما منعتم من شيء ... تقية» يعم كلّ عمل صدر من الإنسان تقية فهو في سعة منه ، أي لا يترتب عليه الأثر ، فلو كفّر أو ترك سورة كاملة أو سجد على ما لا يجوز السجود عليه ، فالمصلي في سعة من هذا العمل يعني لا يعد عمله هذا محرّماً ولا يترتب عليه الإعادة والقضاء ، وتوهم انّ المراد من السعة هو خصوص عدم الحرمة لا رفع الكفّارة فقط كما ترى ، مخالف لإطلاقها.

3. موثّقة سماعة قال : سألته عن رجل كان يصلّي ، فخرج الإمام وقد صلّى الرجل ركعة من صلاة فريضة ، قال : «إن كان إماماً عدلاً فليصل أُخرى وينصرف ويجعلها تطوعاً ، وليدخل مع الإمام في صلاته كما هو ، وإن لم يكن إمام عدل فليبن على صلاته كما هو ، ويصلّي ركعة أُخرى ، ويجلس قدر ما يقول : أشهد أن لا

ص : 345


1- الوسائل : 16 ، الباب 12 من أبواب كتاب الأيمان ، الحديث 3.

إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله ، ثمّ ليتم صلاته معه على ما استطاع فانّ التقية واسعة ، وليس شيء من التقية إلاّ وصاحبها مأجور عليها إن شاء الله». (1)

والرواية صريحة في صحّة صلاته بمحضر منهم مع ترك ما لم يستطع فعله أو إتيان ما لم يستطع تركه من الأجزاء والشرائط والموانع.

والرواية كالضابطة الكلية في كافة الأعمال حيث قال : «فانّ التقية واسعة ، وليس شيء من التقية إلاّ وصاحبها مأجور».

وحصيلة الكلام : انّ الإنسان إذا تأمّل في العناوين التالية :

1. رفع عن أُمّتي ما اضطروا إليه.

2. كلّ شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه الله.

3. ليس شيء ممّا حرم الله إلاّ وقد أحلّه الله لمن اضطر إليه.

4. التقيّة في كلّ ضرورة وصاحبها أعلم بها.

5. كلّ شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية فانّه جائز.

6. ما صنعتم من شيء أو حلفتم عليه في يمين في تقية فأنتم منه في سعة.

7. وليس شيء من التقية إلاّ وصاحبها مأجور عليها.

فإذا أمعن في هذه العناوين وما حمل عليها من الأحكام يقف على أنّ طروء الاضطرار والضرورة والتقية سبب لرفع الحكم أو نفوذ العمل وجوازه فينتزع منه صحّة العمل في مجالي التكليف والوضع.

4. ما رواه في أُصول الكافي بسنده عن أبي جعفر أنّه قال : «التقية في كلّ شيء إلاّ في شرب المسكر والمسح على الخفّين». (2)

ص : 346


1- الوسائل : 8 / 405 ، الباب 56 من أبواب كتاب الصلاة ، الحديث 2.
2- الكافي : 2 / 172 ، باب التقية ، الحديث 2.

دلّت الرواية على ثبوت التقية ومشروعيتها في كلّ شيء ممنوع لو لا التقية ، إلاّ في الفعلين المذكورين ، فاستثناء المسح على الخفين مع كون المنع فيه عند عدم التقية منعاً غيرياً دليل على عموم الشيء لكلّ ما يشبهه من الممنوعات ، لأجل التوصّل بتركها إلى صحّة العمل ، فدلّ على رفع التقية لمثل هذا المنع الغيري وتأثيرها في ارتفاع أثر ذلك الممنوع منه ، فيدلّ على أنّ التقية ثابتة في التكفير في الصلاة مثلاً ، بمعنى عدم كونه ممنوعاً عليه فيها عند التقية ، وكذا في غسل الرجلين واستعمال النبيذ في الوضوء ونحوهما. (1)

فظهر ببركة هذه الروايات انّ العمل الموافق للتقية مجزي مطلقاً.

فإن قلت : قد ورد في بعض الروايات وجوب القضاء لمن أفطر في شهر رمضان تقية ، نظير :

1. ما رواه الكليني بسند صحيح عن داود بن الحصين ، عن رجل من أصحابه ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - أنّه قال وهو بالحيرة في زمان أبي العباس : إنّي دخلت عليه وقد شك الناس في الصوم وهو والله من شهر رمضان ، فسلّمت عليه ، فقال : يا أبا عبد الله أصمت اليوم؟ فقلت : لا والمائدة بين يديه ، قال : فادنُ فكل ، قال : فدنوت فأكلت ، قال : وقلت : الصوم معك والفطر معك ، فقال الرجل لأبي عبد الله - عليه السلام - : تفطر يوماً من شهر رمضان؟! فقال : «أي والله أفطر يوماً من شهر رمضان وأقضي أحبّ إليّ من أن يضرب عنقي». (2)

2. ما رواه الكليني عن رفاعة ، عن رجل ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : «دخلت على أبي العباس بالحيرة ، فقال : يا أبا عبد الله ما تقول في الصيام اليوم؟ فقال :

ص : 347


1- لاحظ رسالة التقية للشيخ الأنصاري : 56 - 57.
2- الوسائل : 7 ، الباب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث 4.

«ذاك إلى الإمام إن صمت صمنا ، وإن أفطرت أفطرنا ، فقال : يا غلام عليّ بالمائدة فأكلت معه ، وأنا أعلم والله انّه يوم من شهر رمضان ، فكان إفطاري يوماً وقضاؤه أيسر عليّ من أن يضرب عنقي ولا يعبد الله». (1)

فهاتان الروايتان تدلاّن على لزوم القضاء وعدم كفاية التقية في الإجزاء.

قلت : مضافاً إلى أنّ الروايتين لا يحتجّ بهما لوجود الإرسال في آخرهما أنّ الكلام في الإجزاء وعدمه في العمل الموافق للتقية ، كما إذا أتى العمل على وفق التقية لا فيما إذا تركه رأساً كما في المقام ، لأنّ مصب روايات التقية هو العمل المأتي به لتلك الغاية لا ترك العمل للتقية ، وعندئذ الروايات الدالة على وجوب القضاء لمن أفطر يوم الشك ولو عن عذر حاكم في المقام لو عملنا بالروايتين وقد علمت ضعفهما.

الصنف الثالث : التقية لغاية المداراة

كان الكلام في السابق في التقية الناشئة من الخوف وهناك قسم آخر من التقية وهو المسمّى بالتقية المدارائية.

والمراد منها هو حسن المعاشرة مع العامة بالحضور في شعائرهم والمشاركة في عباداتهم تحبيباً للقلوب ، دون أيّ خوف على النفس والنفيس. ويدلّ عليه روايات :

1. صحيحة هشام بن الحكم وفيه قال : قال : سمعت أبا عبد الله - عليه السلام - يقول : «إيّاكم أن تعملوا عملاً نُعيَّر به ، فإنّ ولد السوء يُعيّر والده بعمله ، كونوا لمن انقطعتم إليه زيناً ، ولا تكونوا عليه شيناً ، صلّوا في عشائرهم ، وعوِّدوا مرضاهم ،

ص : 348


1- المصدر السابق ، الحديث 5.

واشهدوا جنائزهم ، ولا يسبقونكم إلى شيء من الخير فأنتم أولى به منهم ، والله ما عبد الله بشيء أحب إليه من الخبء» ، قلت : وما الخبء؟ قال : «التقية». (1)

2. ما رواه الصدوق عن حماد بن عثمان ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : «من صلّى معهم في الصف الأوّل كمن صلّى مع رسول الله في الصف الأوّل». (2)

وليست الرواية ناظرة إلى صورة الخوف ، وإلاّ لأشار إليه الإمام.

3. صحيحة حفص البختري ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : «يحسب لك إذا دخلت معهم وإن كنت ، لا تقتدي بهم ، مثل ما يحسب لك إذا كنت مع من تقتدي به». (3)

4. صحيحة حماد ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : «من صلّى معهم في الصف الأوّل كان كمن صلّى خلف رسول الله». (4)

5. ما رواه إسحاق بن عمار ، قال لي أبو عبد الله - عليه السلام - : «يا إسحاق ، أتصلّي معهم في المسجد» ، قلت : نعم ، قال : «صلّ معهم ، فانّ المصلّي معهم في الصف الأوّل كالشاهر سيفه في سبيل الله». (5)

6. ما رواه البرقي عن عبد الله بن سنان قال : سمعت أبا عبد الله - عليه السلام - يقول : أُوصيكم بتقوى الله عز وجل ، ولا تحملوا الناس على أكتافكم فتُذلّوا ، إنّ الله تبارك وتعالى يقول في كتابه : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)».

ص : 349


1- الوسائل : 11 ، الباب 26 من أبواب الأمر والنهي ، الحديث 2.
2- الوسائل : 5 ، الباب 5 من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث 1.
3- المصدر السابق ، الحديث 2.
4- المصدر السابق ، الحديث 3.
5- المصدر السابق ، الحديث 7.

ثمّ قال : «عودوا مرضاهم ، واشهدوا جنائزهم ، واشهدوا لهم وعليهم ، وصلوا معهم في مساجدهم». (1)

7. ما رواه سماعة ، قال : سألته عن مناكحتهم والصلاة خلفهم ، فقال : «هذا أمر شديد لم تستطيعوا ذلك ، قد أنكح رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وصلّى عليّ - عليه السلام - وراءهم». (2)

إنّ الدعوة إلى معاشرتهم وإقامة الصلاة في مساجدهم وجماعاتهم ربما يترتّب عليه فعل المانع في الصلاة أو ترك الجزء أو غير ذلك من الأُمور المبطلة للصلاة عندنا ومع ذلك نرى أنّ الإمام يرغب إلى العمل في صفوفهم وعشائرهم.

فقوله في صحيحة هشام : «والله ما عبد الله بشيء أحبّ إليه من الخبء» ، قلت : وما الخبء؟ ، قال : «التقية» لأجل دفع استبعاد المخاطب صحّة العمل المخالف للواقع وانّه كيف يكون أحب العبادات وأحسنها ، ولكن القدر المتيقن من هذا الصنف هو الصلاة وشموليّتها لسائر الأُمور لا يخلو من تأمّل.

ثمّ إنّ هناك روايات ربما يستظهر منها خلاف ما ذكرناه ، مثلاً قوله :

1. رواية عمرو بن ربيع انّه سأل الإمام - عليه السلام - إن لم أكن أثق به أُصلّي خلفه وأقرأ ، قال : «لا ، صلّ قبله أو بعده» ، قيل له : أفأُصلّي خلفه وأجعلها تطوعاً ، قال : «ولو قبلت التطوع لقبلت الفريضة ولكنّها اجعلها سبحة». (3)

والرواية ضعيفة وفي سندها مجهول ، وهو أحمد بن محمد بن يحيى الخازني ، كما أنّ في سندها الحسن بن الحسين وهو مشترك.

ص : 350


1- المصدر السابق ، الحديث 8.
2- المصدر السابق ، الحديث 10.
3- الوسائل : 5 ، الباب 6 من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث 5.

2. رواية ناصح المؤذن ، قال : قلت لأبي عبد الله - عليه السلام - إنّي أُصلّي في البيت وأخرج إليهم ، قال : «اجعلها نافلة ولا تكبر معهم فتدخل معهم في صلاتهم ، فانّ مفتاح الصلاة التكبيرة». (1)

والرواية ضعيفة ، والناصح المؤذن مجهول على أنّ الرواية ظاهرة في الصحّة إذا كبّر ودخل معهم في الصلاة.

3. رواية عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله قال : قلت : إنّي أدخل المسجد وقد صليت فأُصلّي معهم فلا أحتسب تلك الصلاة ، قال : «لا بأس».

وأمّا أنا فأُصلّي معهم وأُريهم إنّي أسجد وما أسجد».

والرواية ضعيفة لوجود قاسم بن عروة في سندها وهو مجهول. إلى غير ذلك من الروايات التي يستشم منها عدم الاعتداد بالأعمال التي يؤتى بها معهم ، فالجل لو لا الكلّ ضعاف وما دلّ على الصحّة أكثر عدداً وأوضح دلالة.

وبما اخترنا من صحّة العمل في مجالي الاضطرار والمداراة نستغني عن عقد البحث حول «اشتراط عدم المندوحة في صحّة العمل المأتي به تقية» كمالا يخفي كما نستغني عن البحث حول وجوب اعمال الحيلة والتورية لفظاً وعملاً.

بقي هنا مباحث طفيفة تظهر الحال فيها ممّا ذكرنا.

والحمد لله أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً.

ص : 351


1- الوسائل : 5 ، الباب 6 من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث 7.

ص : 352

خاتمة المطاف: جذور الاختلاف بين الفريقين

اشارة

ص : 353

إنّ الاختلاف بين الفقهاء أمر مستحسن ، إذ في ظلّه تتلاقى الأفكار وتتلاقح الآراء ، ويُثمر عن نتائج بنّاءة تعود بالنفع إلى الأُمّة الإسلامية ، ولعلّ على هذا ورد في بعض الآثار انّه - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : «اختلاف أُمّتي رحمة» فالمراد من هذا الاختلاف هو جانبه الإيجابي ، المؤدّي إلى الوصول إلى الحقيقة.

وثمة وجه مشترك بين الاختلاف والشكّ ، فكما أنّ الشكّ قنطرة إلى اليقين فكذلك الاختلاف الموضوعي هو القنطرة الأُخرى لنيل الحقيقة شريطة أن لا يراوح في مكانه بل يتجاوزه إلى اليقين.

فلأجل هذه الغاية طرحت هذه المسائل على طاولة البحث ، ليكون حافزاً للمفكرين على مناقشة هذه المسائل في ظل إقامة مؤتمر فقهي يجمع كافة المذاهب الإسلامية حتّى ينفض عن وجهها غبار الاختلاف المضني ، ويتجلى وجه الحقيقة بأنصع صورها ولا ينال هذا الهدف إلاّ بإزالة العراقيل أمام الجهود المخلصة للوصول إلى الحقّ.

وهذه العراقيل عبارة عن ضرورة التعرف على جذور الاختلاف ومحاولة استئصالها على ضوء المنهج الموضوعي بعيداً عن التعصب المقيت.

وقد دونت هذه البحوث لتكون خطوة متواضعة للوقوف على جذور الاختلاف كي يُبان الحقُ ويُتَّبع ، ويأتي ذلك في ضمن فصول :

ص : 354

الفصل الأوّل: أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - هم المرجع العلمي للمسلمين بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم

اشارة

إنّ الإمامية - كما تصدر عن الكتاب والسنّة في مجالي العقيدة والشريعة - كذلك تصدر عن أحاديث أئمّة أهل البيت وترى قولهم وفعلهم وتقريرهم حجّة ، وهذا لا يعني أنّ أحاديثهم ، حجّة ثالثة ، في عرض الكتاب والسنّة أو أنّهم أنبياء يوحى إليهم كما ربّما يتخيّله من ليس له إلمام بعقائدهم وأُصولهم ، بل العترة الطاهرة لما كانوا وعاة علمه - صلى الله عليه وآله وسلم - وحفظة سنّته ، وخلفاءه بعده ، يحكون بقولهم وأفعالهم وتقريرهم ، سنّة النبي الأكرم ، فالاحتجاج بأحاديثهم ، احتجاج في الحقيقة بحديث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وكلامه. ولأجل إيضاح الموضوع ، نأتي بتفصيل ذلك :

أئمّة الشيعة أوصياء الرسول
اشارة

اتّفقت الشيعة على أنّ الأئمّة الاثني عشر أوصياء الرسول ، وأنّهم أئمّة الأُمّة وأحد الثقلين اللَّذين أوصى بهما رسول الله في غير موقف من المواقف ، وقال : «إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي» والحديث من التواتر بمكان أغنانا عن

ص : 355

ذكر مصادره ، ويكفي في ذلك ما نشرته دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة في هذا المجال.

إنّ الشيعة الإماميّة كسائر المسلمين مؤمنون بعالمية رسالة النبيّ الأكرم كما هم مؤمنون بخاتمية رسالته ، مستدلين بقوله سبحانه : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (1).

وقوله سبحانه : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (2) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث.

إنّ خاتمية رسالة النبي الأكرم من الأُمور الدينية الضرورية تكفّل لبيانها الذكر الحكيم والأحاديث المتضافرة التي بلغت حدّ التواتر ، منها قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - عند ما خرج إلى غزوة تبوك فقال له علي : أأخرج؟ فقال : لا ، فبكى علي ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي». (3)

وهذا علي أمير المؤمنين أوّل الأئمّة الاثني عشر قال وهو يلي غسل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «بأبي أنت وأُمّي لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوّة والأنباء وأخبار السماء». (4)

وفي كلام آخر له : «أمّا رسول الله فخاتم النبيّين ليس بعده نبيّ ولا رسول ،

ص : 356


1- الأحزاب : 40.
2- فصّلت : 4241.
3- أمالي الصدوق : 29 ؛ معاني الأخبار : 94 وغيرها من المصادر الشيعية ولاحظ صحيح البخاري : 6 / 3 باب غزوة تبوك.
4- نهج البلاغة : الخطبة 129.

وختم رسول الله الأنبياء إلى يوم القيامة». (1)

ونكتفي في هذه العجالة بهذا المقدار من النصوص فمن أراد أن يقف على نصوص الأئمّة الاثني عشر على ختم النبوّة وانقطاع الوحي وسدّ باب التشريع بعد رحلة الرسول ، فعليه الرجوع إلى الجزء الثالث من كتابنا «مفاهيم القرآن» فقد جاء فيه قرابة (134) نصّاً من النبي الأكرم وأهل بيته الطاهرين في ذلك المجال.

إنّ فقهاء الشيعة حكموا بارتداد من أنكر عالمية الرسالة ، أو خاتميتها ، فلأجل ذلك فالبابية والبهائية وهكذا القاديانية مرتدّون عندهم ارتداداً فطرياً أو ملّيّاً (2) أحياناً ، وهذه كتبهم الفقهية في باب الحدود وأحكام المرتد وغير ذلك.

هذا قليل من كثير اكتفينا به لتبيين عقيدة الشيعة في حقّ الرسول الأعظم وأنّهم عن بكرة أبيهم معتقدون بعالمية رسالة الرسول وخاتميته ، ولم ينحرفوا عن هذا الخط قيد شعرة ، ويظهر ذلك من المرور على الكتب الاعتقادية المدوّنة من بداية القرن الثالث الهجري إلى عصرنا هذا ، فقد ألّفوا مئات الكتب والرسائل ، بل الموسوعات الكبيرة حول العقائد الإسلامية وهي بين مخطوطة ومطبوعة منتشرة في العالم وهذه كتبهم ومكتباتهم وجامعاتهم العلمية ، وخطباؤهم ومنشوراتهم الرسمية لا تجد فيها كلمة تشير إلى نبوّة غير النبي الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - ، أو بنزول الوحي على غيره فلا محيص عن القول بأنّ هذه النظرية الخاطئة ، استنبطها البعض من خلال أُمور لا دلالة لها على ما يرتئيه ولا بأس بالإشارة إلى بعض هذه الأُمور التي كانت

ص : 357


1- نهج البلاغة : الخطبة 230 ؛ مجالس المفيد : 527 ؛ بحار الأنوار : 22 / 527.
2- المرتد الملّي : عبارة عن من لم يكن أحد والديه مسلماً حين انعقاد نطفته ، كما إذا كان الوالدان كتابيين فأسلم الولد بعد البلوغ ثم ارتدّ.

سبباً لهذا الوهم ، وقد ألمح إليها بعض دكاترة العصر من المستهترين وهي لا تتجاوز أمرين :

1. حجّية أحاديثهم وأفعالهم.

2. القول بعصمتهم من الإثم والخطأ.

وإليك تحليل هذين الأمرين :

ص : 358

1- حجّية أقوال العترة الطاهرة
اشارة

إنّ الشيعة يتعاملون مع أحاديث العترة الطاهرة كالتعامل مع أحاديث النبيّ الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فلولا كونهم أنبياء أو طرفاً للوحي فكيف تكون أحاديثهم حجّة؟

الجواب : إنّ الشيعة الإمامية تأخذ بأقوالهم للأُمور التالية :

ألف : إنّ النبيّ الأكرم هو الذي أمر المسلمين قاطبة بالأخذ بأقوال العترة حيث قال : «إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ...» (1) فالتمسّك بأحاديثهم وأقوالهم امتثال لقول الرسول الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وهو لا يصدر إلاّ عن الحق ، فمن أخذ بالثقلين فقد تمسّك بما ينقذه من الضلالة ، ومن أخذ بواحد منهما فقد خالف الرسول.

ب : نرى أنّ الرسول الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - يأمر الأُمّة بالصلاة على آل محمد في الفرائض والنوافل ، والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يذكرون العترة بعد النبيّ الأكرم في تشهّدهم ويصلّون عليهم مثل الصلاة عليه ، والفقهاء وإن

ص : 359


1- ربّما يروى عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - : إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وسنّتي. ولا تعارض بين الخبرين ، غير أنّ الأوّل متواتر دون الثاني والأوّل مسند ، والثاني مرسل نقله الإمام مالك في موطئه ، وأين هو من حديث العترة الذي أطبق المحدّثون على نقله؟! والتفصيل موكول إلى محلّه.

اختلفوا في صيغة التشهّد ولكنّهم لا يختلفون في لزوم الصلاة على النبي وآله وفيها يقول الإمام الشافعي :

يا أهل بيت رسول الله حبّكمُ *** فرض من الله في القرآن أنزلهُ

كفاكمُ من عظيم الشأن أنّكم *** من لم يصلّ عليكم لا صلاة لهُ

فلو لم يكن للعترة شأن ومقام في مجال هداية الأُمّة ولزوم الاقتفاء بهم ، فما معنى جعل الصلاة عليهم فريضة في التشهّد وتكرارها في جميع الصلوات ليلاً ونهاراً ، فريضة ونافلة؟

وهذا يعرب عن سرّ نقف عليه من خلال أمر النبيّ الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - في هذا المجال ، وهو أنّ لآل محمّد شأناً خاصّاً في الأُمور الدينية والقيادة الإسلامية أظهرها : أنّ أقوالهم وآراءهم حجّة على المسلمين ، وأنّ لهم المرجعية الكبرى بعد رحلة الرسول ، سواء أكان في مجال العقيدة والشريعة أم في مجال آخر.

ج : إنّ النبيّ الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - شبّه العترة الطاهرة بسفينة نوح ، وأنّه من ركبها نجا ، وأنّ من تخلّف عنها غرق (1). وهو يدلّ على حجّية أقوالهم وأفعالهم.

إلى غير ذلك من الوصايا الواردة في حقّ العترة التي نقلها أصحاب الصحاح والمسانيد ، ومن أراد فليرجع إلى مصادرها.

فالمسلم المؤمن بصحّة هذه الوصايا لا يشك في حجّية أقوال العترة سواء أعلم مصدر علومهم أم لم يعلم. قال سبحانه : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (2).

ص : 360


1- مستدرك الحاكم : 2 / 151 ؛ الخصائص الكبرى : 2 / 266 ؛ الصواعق : 191 ، الباب 12.
2- الأحزاب : 36.

ومع ذلك كلّه نحن نشير إلى بعض مصادر علومهم حتى يتّضح أنّ حجية أقوالهم لا تدلّ على أنّهم أنبياء أو فوّض إليهم أمر التشريع :

1. السماع عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - :

إنّ الأئمّة يروون أحاديث رسول الله سماعاً منه - صلى الله عليه وآله وسلم - ، إمّا بلا واسطة أو بواسطة آبائهم ، ولأجل ذلك ترى في كثير من الروايات أنّ الإمام الصادق - عليه السلام - يقول : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن زين العابدين ، عن أبيه الحسين بن علي ، عن عليّ أمير المؤمنين ، عن الرسول الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم -. وهذا النمط في الروايات كثير في أحاديثهم ، وقد تضافر عن الإمام الصادق أنّه كان يقول : «حديثي ، حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدّي» ، فعن هذا الطريق تحمّلوا أحاديث كثيرة عن الرسول الأكرم وبلّغوها ، من دون أن يعتمدوا على الأحبار والرهبان ، أو على أُناس مجاهيل ، أو شخصيات متسترة بالنفاق وهذا النوع من الأحاديث ليس بقليل.

2. كتاب عليّ - عليه السلام - :

يرجع قسم آخر من أحاديثهم إلى ما أخذوه عن كتاب الإمام أمير المؤمنين بإملاء رسول الله وخطّ عليّ ، وقد أشار أصحاب الصحاح والمسانيد إلى بعض هذه الكتب. (1)

فقد كان لعليّ كتاب خاص بإملاء رسول الله وقد حفظته العترة الطاهرة وصدرت عنه في مواضع كثيرة ونقلت نصوصه في موضوعات مختلفة ، وقد بثّ الحر العاملي في موسوعته الحديثية ، أحاديث ذلك الكتاب حسب الكتب الفقهية

ص : 361


1- مسند أحمد : 1 / 81 ؛ صحيح مسلم : 4 / 217 ؛ السنن الكبرى : 8 / 26 نقلاً عن الإمام الشافعي.

من الطهارة إلى الديات ومن أراد فليرجع إلى تلك الموسوعة.

وقال الإمام الصادق - عليه السلام - عند ما سئل عن الجامعة؟ فقال : «فيها كل ما يحتاج الناس إليه وليس من قضية إلاّ فيها حتى أرش الخدش».

وكان كتاب علي مصدراً لأحاديث العترة الطاهرة يرثونه واحداً بعد آخر وينقلون عنه ويستدلّون به على السائلين.

وهذا هو أبو جعفر الباقر - عليه السلام - يقول لأحد أصحابه - أعني حمران بن أعين - وهو يشير إلى بيت كبير : «يا حمران إنّ في هذا البيت صحيفة طولها سبعون ذراعاً بخطّ عليّ - عليه السلام - وإملاء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لو ولّينا الناس لحكمنا بما أنزل الله لم نعد ما في هذه الصحيفة».

وهذا هو الإمام الصادق - عليه السلام - يعرّف كتاب عليّ - عليه السلام - بقوله : «فهو كتاب طوله سبعون ذراعاً إملاء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من فلق فِيهِ وخطّ علي بن أبي طالب - عليه السلام - بيده ، فيه والله جميع ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة حتى أنّ فيه أرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة».

ويقول سليمان بن خالد : سمعت أبا عبد الله - عليه السلام - يقول : «إنّ عندنا لصحيفة طولها سبعون ذراعاً إملاء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وخطّ عليّ - عليه السلام - بيده ، ما من حلال ولا حرام إلاّ وهو فيها حتى أرش الخدش».

ويقول أبو جعفر الباقر - عليه السلام - لبعض أصحابه : «يا جابر إنّا لو كنّا نحدّثكم برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نحدّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -» (1).

ص : 362


1- وقد جمع العلاّمة المجلسي ما ورد من الأثر حول كتب الإمام عليّ في موسوعته «بحار الأنوار» : 26 / 18 - 66 تحت عنوان «باب جهات علومهم وما عندهم من الكتب» فلاحظ الباب ، الحديث 12 ، 1 ، 10 ، 30.
3. الاستنباط من الكتاب والسنّة :

المصدر الثالث لأقوالهم ، هو إمعانهم في الكتاب والسنّة وتدبّرهم فيهما ، فاستخرجوا من المصدرين الرئيسيين ما يخصّ العقيدة والشريعة بصورة يقصر عنها أكثر الأفهام ، وهذا هو الذي جعلهم متميّزين بين المسلمين بالوعي والدقّة والفهم ، وخضع لهم أئمّة الفقه في مواقف شتّى حتى قال الإمام أبو حنيفة بعد تتلمذه على الإمام الصادق «سنتين» : لو لا السنتان لهلك النعمان. ولأجل ذلك كانوا يستدلّون على كثير من الأحكام عن طريق الكتاب والسنّة ويقولون : «ما من شيء إلاّ وله أصل في كتاب الله وسنّة نبيّه».

أخرج الكليني باسناده عن عمر بن قيس عن أبي جعفر - عليه السلام - قال : سمعته يقول : «إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأُمة إلاّ أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله وجعل لكلّ شيء حدّاً. وجعل عليه دليلاً يدلّ عليه ، وجعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّاً».

أخرج الكليني باسناده عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : سمعته يقول : «ما من شيء إلاّ وفيه كتاب أو سنّة».

وأخرج عن سماعة عن أبي الحسن موسى - عليه السلام - قال : قلت له : أكلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه أو تقولون فيه؟ قال : «بل كلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه». (1)

ومن وقف على الأحاديث المروية عنهم يقف على أنّهم كيف يستدلّون على الأحكام الإلهية عن المصدرين بفهم خاص ووعي متميّز يبهر العقول ، ويورث

ص : 363


1- راجع الكافي : 1 / 6259 «باب الرد إلى الكتاب والسنّة» تجد فيه أحاديث تصرّح بما ذكر ، والمراد منها أُصول الأحكام وجذورها لا فروعها وجزئياتها.

الحيرة. ولو لا الخوف من الإطالة لنقلت في المقام نماذج من ذلك ونكتفي ببيان موردين :

1. قُدِّم إلى المتوكّل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة فأراد أن يقيم عليه الحد ، فأسلم ، فقال يحيى بن أكثم : الإيمان يمحو ما قبله ، وقال بعضهم : يُضرب ثلاثة حدود ، فكتب المتوكّل إلى الإمام الهادي يسأله ، فلمّا قرأ الكتاب ، كتب : يُضرب حتى يموت ، فأنكر الفقهاء ذلك ، فكتب إليه يسأله عن العلّة ، فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) (1) فأمر به المتوكّل فضرب حتى مات. (2)

إنّ الإمام الهادي ببيانه هذا شقّ طريقاً خاصّاً لاستنباط الأحكام من الذكر الحكيم ، طريقاً لم يكن يحلم به فقهاء عصره ، وكانوا يزعمون أنّ مصادر الأحكام الشرعية هي الآيات الواضحة في مجال الفقه التي لا تتجاوز ثلاثمائة آية ، وبذلك أبان للقرآن وجهاً خاصّاً لدلالته ، لا يلتفت إليه إلاّ من نزل القرآن في بيته ، وليس هذا الحديث غريباً في مورده ، بل له نظائر في كلمات الإمام وغيره من آبائه وأبنائه - عليهم السلام -.

2. لمّا سمّ المتوكّل نذر لله : إن رزقه الله العافية أن يتصدّق بمال كثير ، أو بدراهم كثيرة. فلمّا عوفي اختلف الفقهاء في مفهوم «المال الكثير» فلم يجد المتوكّل عندهم فرجاً ، فبعث إلى الإمام عليّ الهادي فسأله؟ قال : يتصدق بثلاثة وثمانين ديناراً ، فقال المتوكل : من أين لك هذا؟ فقال : من قوله تعالى : (لَقَدْ

ص : 364


1- غافر : 84 - 85.
2- مناقب آل أبي طالب : 4 / 405.

نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ...). (1)

والمواطن الكثيرة : هي هذه الجملة ، وذلك لأنّ النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - غزا سبعاً وعشرين غزوة ، وبعث خمساً وخمسين سرية ، وآخر غزواته يوم حنين ، وعجب المتوكل والفقهاء من هذا الجواب. (2)

وقد ورد عن طريق آخر أنّه قال «بثمانين» مكان «ثلاثة وثمانين» وذلك لأنّ عدد المواطن التي نصر الله المسلمين فيها إلى يوم نزول هذه الآية كان أقلّ من ثلاثة وثمانين. (3)

4. الإشراقات الإلهية :

إنّ هناك مصدراً رابعاً لأحاديثهم نعبّر عنه بالإشراقات الإلهية ، وأيّ وازع من أن يخصّ سبحانه بعض عباده بعلوم خاصّة يرجع نفعها إلى العامّة من دون أن يكونوا أنبياء ، أو معدودين من المرسلين ، والله سبحانه يصف مصاحب موسى بقوله : (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) ولم يكن المصاحب نبيّاً بل كان وليّاً من أولياء الله سبحانه وتعالى بلغ في العلم والمعرفة مكاناً حتى قال له موسى - وهو نبيّ مبعوث بشريعة - : (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً). (4)

يصف سبحانه وتعالى جليس سليمان - آصف بن برخيا - بقوله : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا

ص : 365


1- التوبة : 25.
2- تذكرة الخواص : 202.
3- مناقب آل أبي طالب : 4 / 402.
4- الكهف : الآية 66.

عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي). (1)

وهذا الجليس لم يكن نبيّاً ، ولكن كان عنده علم من الكتاب ، وهو لم يحصّله من الطرق العاديّة التي يتدرّج عليها الصبيان والشبان في المدارس والجامعات ، بل كان علماً إلهياً أُفيض إليه لصفاء قلبه وروحه ، ولأجل ذلك ينسب علمه إلى فضل ربّه ويقول : (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي).

تضافرت الروايات على أنّ في الأُمّة الإسلامية - مثل الأُمم السابقة - رجالاً مخلصين محدَّثين تفاض عليهم حقائق من عالم الغيب من دون أن يكونوا أنبياء ، وإن كنت في شكّ من ذلك فارجع إلى ما رواه أهل السنّة في هذا الموضوع.

روى البخاري في صحيحه : لقد كان في من كان قبلكم من بني إسرائيل يُكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء ، فإن يكن من أُمّتي منهم أحد فعمر. (2)

قال القسطلاني ليس قوله : «فإن يكن» للترديد بل للتأكيد كقولك : إن يكن لي صديق ففلان ، إذ المراد اختصاصه بكمال الصداقة لا نفي الأصدقاء.

وإذا ثبت أنّ هذا وجد في غير هذه الأُمّة المفضولة فوجوده في هذه الأُمّة الفاضلة أحرى. (3)

وأخرج البخاري في صحيحه بعد حديث الغار : عن أبي هريرة مرفوعاً : أنّه قد كان فيما مضى قبلكم من الأُمم محدَّثون إن كان في أُمّتي هذه منهم فإنّه عمر ابن الخطاب. (4)

ص : 366


1- النمل : 40.
2- صحيح البخاري : 2 / 149.
3- إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري : 6 / 99.
4- صحيح البخاري : 2 / 171.

قال القسطلاني في شرحه : قال المؤلف : يجري على ألسنتهم الصواب من غير نبوّة. (1)

وقال الخطابي : يُلقى الشيء في روعه ، فكأنّه قد حُدِّث به يظن فيصيب ، ويخطر الشيء بباله فيكون ، وهي منزلة رفيعة من منازل الأولياء.

وأخرج مسلم في صحيحه في باب فضائل عمر عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : قد كان في الأُمم قبلكم محدَّثون فإن يكن في أُمّتي منهم أحد فإنّ عمر بن الخطاب منهم.

ورواه ابن الجوزي في «صفة الصفوة» وقال : حديث متّفق عليه. (2)

وأخرجه أبو جعفر الطحاوي في «مشكل الآثار» بطرق شتى عن عائشة وأبي هريرة ، وأخرج قراءة ابن عباس : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدّث. قال : معنى قوله محدَّثون أي ملهمون ، فكان عمر - رضى الله عنه - ينطق بما كان ينطق ملهماً. (3)

قال النووي في شرح صحيح مسلم : اختلف تفسير العلماء للمراد بمحدّثون فقال ابن وهب : ملهمون ، وقيل : مصيبون إذا ظنّوا فكأنّهم حُدِّثوا بشيء فظنّوه. وقيل : تكلّمهم الملائكة ، وجاء في رواية : مكلّمون. وقال البخاري : يجري الصواب على ألسنتهم وفيه إثبات كرامات الأولياء.

وقال الحافظ محبّ الدين الطبري في «الرياض» : ومعنى «محدّثون - والله أعلم - أي يلهمون الصواب ، ويجوز أن يحمل على ظاهره وتحدّثهم الملائكة لا

ص : 367


1- إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري : 5 / 431.
2- صفة الصفوة : 1 / 104.
3- مشكل الآثار : 2 / 257.

بوحي وإنّما بما يطلق عليه اسم حديث ، وتلك فضيلة عظيمة». (1)

قال القرطبي : محدَّثون - بفتح الدال - اسم مفعول جمع محدَّث - بالفتح - أي ملهم أو صادق الظن ، وهو من أُلقي في نفسه شيء على وجه الإلهام والمكاشفة من الملأ الأعلى ، أو من يجري الصواب على لسانه بلا قصد ، أو تكلّمه الملائكة بلا نبوّة ، أو من إذا رأى رأياً أو ظنّ ظنّاً أجاب كأنّه حدّث به ، وأُلقي في روعه من عالم الملكوت فيظهر على نحو ما وقع له ، وهذه كرامة يكرم الله بها من شاء من عباده ، وهذه منزلة جليلة من منازل الأولياء.

فإن يكن من أُمّتي منهم أحد فإنّه عمر ، كأنّه جعله في انقطاع قرينة في ذلك كأنّه نبيّ ، فلذلك أتى بلفظ «إن» بصورة التردّد. قال القاضي : ونظير هذا التعليق في الدلالة على التأكيد والاختصاص قولك : إن كان لي صديق فهو زيد ، فإنّ قائله لا يريد به الشكّ في صداقته بل المبالغة في أنّ الصداقة مختصّة به لا تتخطّاه إلى غيره. (2)

فإذا كان في الأُمم السالفة رجال بهذا القدر والشأن فلِمَ إذاً لا يكون بين الأُمّة الإسلامية رجال شملتهم العناية الإلهية فأحاطوا بالكتاب والسنّة إحاطة كاملة يرفعون حاجات الأُمّة في مجال العقيدة والتشريع.

فمن زعم أنّ مثل هذه الإفاضة تساوق النبوّة والرسالة ، فقد خلط الأعم بالأخصّ فالنبوّة منصب إلهيّ يقع طرفاً للوحي يسمع كلام الله تعالى ويرى رسول الوحي ، ويكون إمّا صاحب شريعة مستقلّة أو مروّجاً لشريعة من قبله.

وأمّا الإمام : وهو الخازن لعلوم النبوّة في كل ما تحتاج إليه الأُمّة من دون أن

ص : 368


1- الرياض : 1 / 199.
2- لاحظ للوقوف على سائر الكلمات حول المحدّث ، كتاب الغدير : 5 / 42 - 49.

يكون طرفاً للوحي أو سامعاً كلامه سبحانه أو رائياً للملك الحامل له. ولإحاطته بعلوم النبوّة طرقاً أشرنا إليها.

ومن التصوّر الخاطئ : الحكم بأنّ كل من أُلهم من الله سبحانه أو كلّمه الملك فهو نبيّ ورسول ، مع أنّ الذكر الحكيم يعرّف أُناساً ، أُلهموا أو رأوا الملك ولم يكونوا بالنسبة إلى النبوّة في حلّ ولا مرتحل.

هذه أُمّ موسى يقول في حقّها سبحانه : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ). (1)

أفصارت أُمّ موسى بهذا الإلهام نبيّة من الأنبياء؟

وهذه مريم البتول ، تكلّمها الملائكة من دون أن تكون نبيّة قال سبحانه : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ * يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ ...). (2)

بلغت مريم العذراء مكاناً شاهدت رسول ربّها المتمثَّل لها بصورة البشر قال سبحانه : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا * قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا * قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا). (3)

نرى أنّ مريم البتول رأت الملك وسمعت كلامه ولم تصبح نبيّة ولا رسولة ، فمن تدبّر في الكتاب والسنّة يقف على أبدال شملتهم العناية الإلهية وقفوا على أسرار الشريعة ومكامن الدين بفضل من الله سبحانه من دون أن يصيروا أنبياء.

ص : 369


1- القصص : 7.
2- آل عمران : 42 - 43.
3- مريم : 2117.
2- عصمة الأئمّة الاثني عشر

إنّ القول بعصمة الأئمّة الاثني عشر وقعت ذريعة لتخيّل أنّهم أنبياء ، زاعمين بأنّ العصمة تساوي النبوّة ، غافلين عن أنّها أعمّ من النبوّة وإليك البيان :

العصمة : قوّة تمنع صاحبها من الوقوع في المعصية والخطأ ، حيث لا يترك واجباً ، ولا يفعل محرّماً مع قدرته على الترك والفعل ، وإلاّ لم يستحقّ مدحاً ولا ثواباً ، وإن شئت قلت : إنّ المعصوم قد بلغ في التقوى حدّاً لا تتغلّب عليه الشهوات والأهواء ، وبلغ من العلم في الشريعة وأحكامها مرتبة لا يخطأ معها أبداً.

وليست العصمة شيئاً ابتدعته الشيعة وإنّما دلّهم عليها في حق العترة الطاهرة كتاب الله وسنّة رسوله ، أمّا الكتاب :

فقد قال سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (1) وليس المراد من الرجس إلاّ الرجس المعنوي وأظهره هو الفسق.

وأمّا السنّة فنذكر بعضها :

ص : 370


1- الأحزاب : 33.

1 - قال الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - : «عليٌّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور معه كيفما دار». (1) ومن دار معه الحقّ كيفما دار محال أن يعصي أو أن يخطأ.

2 - وقال الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - في حقّ العترة : «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبداً». (2) فإذا كانت العترة عدل القرآن ، تصبح معصومةً كالكتاب ، لا يخالف أحدهما الآخر وليس القول بعصمة العترة بأعظم من القول بكون الصحابة كلّهم عدول.

ولا أظنّ أن يرتاب فيما ذكرنا أحد ، إلاّ أنّ اللازم التعرّف على أهل بيته عن طريق نصوص الرسول الأكرم فنقول : من هم العترة وأهل البيت؟

لا أظنّ أنّ أحداً ، قرأ الحديث والتاريخ ، يشكّ في أنّ المراد من العترة وأهل البيت لفيف خاصّ من أهل بيته ، ويكفي في ذلك مراجعة الأحاديث التي جمعها ابن الأثير في جامعه عن الصحاح ، ونكتفي بالقليل من الكثير منها.

روى الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال : لمّا نزلت هذه الآية : (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ ...) الآية ، دعا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عليّاً ، وفاطمة ، وحسناً ، وحسيناً ، فقال : «اللهمّ هؤلاء أهلي».

وروى أيضاً عن أُمّ سلمة - رضي الله عنها - : إنّ هذه الآية نزلت في بيتي : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

قالت : وأنا جالسة عند الباب ، فقلت : يا رسول الله ، ألستُ من أهل البيت؟ فقال : إنّك إلى خير ، أنت من أزواج رسول الله. قال : وفي البيت رسول الله ،

ص : 371


1- حديث مستفيض ، رواه الخطيب في تاريخه : 14 / 321 ، والهيثمي في مجمعه : 7 / 236.
2- حديث متواتر أخرجه مسلم في صحيحه والدارمي في فضائل القرآن وأحمد في مسنده : 2 / 114 وغيرهم.

وعليّ ، وفاطمة ، وحسن ، وحسين ، فجلّلهم بكسائه وقال : «اللهمّ هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً».

وروي أيضاً عن أنس بن مالك : أنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يمرُّ بباب فاطمة إذا خرج إلى الصلاة حين نزلت هذه الآية قريباً من ستة أشهر ، يقول : «الصلاة أهل البيت» : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

وروى مسلم عن زيد بن أرقم قال : قال يزيد بن حيّان : انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم ، إلى زيد بن أرقم ، فلمّا جلسنا إليه قال له حصين : لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً ، رأيت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وسمعت حديثه ، وغزوت معه ، وصلّيت خلفه ، لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً ، حدّثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟

قال : يا ابن أخي والله ، لقد كبر سنّي ، وقدم عهدي ، فما حدّثتكم فاقبلوا وما لا فلا تكلّفونيه. ثم قال : قام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خمّاً ، بين مكّة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ووعظ وذكر ثم قال :

«أمّا بعد ، ألا أيّها الناس ، إنّما أنّا بشر ، يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأُجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين ، أوّلهما كتاب الله فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به - فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه ، ثمّ قال : - وأهل بيتي ، أُذكّركم الله في أهل بيتي ، أُذكّركم الله في أهل بيتي ، أُذكّركم الله في أهل بيتي».

فقلنا : من أهل بيته؟ نساؤه؟ قال : وأيم الله ، إنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ، ثمّ يطلّقها فترجع إلى أبيها وقومها ، أهل بيته أصله وعصبته

ص : 372

الذين حرموا الصدقة بعده. (1)

3. روى المحدّثون عن النبيّ الأكرم أنّه قال : «إنّما مثل أهل بيتي في أُمّتي ، كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق». (2)

فشبّه - صلوات الله عليه وآله - أهل بيته بسفينة نوح في أنّ من لجأ إليهم في الدين فأخذ أُصوله وفروعه منهم نجا من عذاب النار ، ومن تخلّف عنهم كان كمن آوى يوم الطوفان إلى جبل ليعصمه من أمر الله غير أنّ ذاك غرق في الماء وهذا في الحميم.

فإذا كانت هذه منزلة علماء أهل البيت (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)؟

يقول ابن حجر في صواعقه : «ووجه تشبيههم بالسفينة : أنّ من أحبّهم وعظّمهم ، شكراً لنعمة مشرّفهم وأخذاً بهدي علمائهم ، نجا من ظلمة المخالفات. ومن تخلّف عن ذلك ، غرق في بحر كفر النعم ، وهلك في مفاوز الطغيان». (3)

ص : 373


1- لاحظ فيما نقلناه من الأحاديث ، جامع الأُصول : 1 / 100 - 103 الفصل الثالث ، من الباب الرابع.
2- مستدرك الحاكم : 2 / 151 ؛ الخصائص الكبرى : 2 / 266. وللحديث طرق ومسانيد كثيرة من أراد الوقوف عليها ، فعليه بتعاليق إحقاق الحق : 9 / 270 - 293.
3- الصواعق : 191 الباب 11. يقول سيدنا شرف الدين في مراجعاته : راجع كلامه هذا لما ذا لم يأخذ - ابن حجر - بهدي أئمتهم في شيء من فروع الدين وعقائده ، ولا في شيء من أُصول الفقه وقواعده ، ولا في شيء من علوم السنّة والكتاب ، ولا في شيء من الأخلاق والسلوك والآداب؟ ولما ذا تخلّف عنهم ، فأغرق نفسه في بحار كفر النعم ، وأهلكها في مفاوز الطغيان؟! لاحظ المراجعات : 25 ، المراجعة 8.
عصمة الإمام في الكتاب

وممّا يدلّ على عصمة الإمام على وجه الإطلاق قوله سبحانه : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ). (1)

والاستدلال مبنيّ على دعامتين :

1. إنّ الله سبحانه أمر بطاعة أُولي الأمر على وجه الإطلاق ، أي في جميع الأزمنة والأمكنة وفي جميع الحالات والخصوصيات ، ولم يقيّد وجوب امتثال أوامرهم ونواهيهم بشيء كما هو مقتضى الآية.

2. إنّ من البديهي أنّه سبحانه لا يرضى لعباده الكفر والعصيان (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ).

من غير فرق (2) بين أن يقوم به العباد ابتداءً من دون تدخّل أمر آمر أو نهي ناه ، أو يقومون به بعد صدور أمر ونهي من أُولي الأمر.

فمقتضى الجمع بين هذين الأمرين : وجوب إطاعة أُولي الأمر على وجه الاطلاق وحرمة طاعتهم إذا أمروا بالعصيان ، وأن يتّصف أُولو الأمر الذين وجبت إطاعتهم على وجه الإطلاق ، بخصوصية ذاتية وعناية إلهية ربّانية ، تصدّهم عن الأمر بالمعصية والنهي عن الطاعة. وليس هذا إلاّ عبارة أُخرى عن كونهم معصومين ، وإلاّ فلو كانوا غير واقعين تحت العناية ، لما صحّ الأمر بإطاعتهم على وجه الاطلاق ولما صحّ الأمر بالطاعة بلا قيد وشرط. فيستكشف من إطلاق الأمر بالطاعة اشتمال المتعلّق على خصوصية تصدّه عن الأمر بغير الطاعة.

ص : 374


1- النساء : 59.
2- الزمر : 7.

هذه الآية تدلّ على عصمة من أمر الله بطاعتهم ولا تحدد مصداق المعصوم الواجب طاعته ، ولكن اتّفقت الأُمّة على عدم عصمة غير النبي والأئمّة الاثني عشر ، فلا محيص عن انطباقه عليهم لئلاّ تخلو الآية عن المصداق.

وممّن صرّح بدلالة الآية على العصمة الإمام الرازي في تفسيره ويطيب لي أن أذكر نصّه حتى يمعن فيه من يعشق الحقيقة قال :

«إنّ الله تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ، ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع ، لا بدّ وأن يكون معصوماً عن الخطأ ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته ، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ ، والخطأ لكونه خطأ منهيٌ عنه ، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد ، وأنّه محال فثبت أنّ الله تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم وثبت أنّ كلّ من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ ، فثبت قطعاً أنّ أُولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بدّ وأن يكون معصوماً». (1)

وهذه الأدلّة والبراهين على لزوم اتّباع أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - لا تبقي شكّاً لمشكّك ولا جدلاً لمجادل ، ويفرض على المسلمين الرجوع إليهم فيما لا نصّ فيه في كتاب أو سنّة ، ولكن - مع الأسف الشديد - نجد انّ جماهير أهل السنّة ولجوا كلّ باب إلاّ باب أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - في الأُصول والفروع حتّى بلغ الأمر إلى حد أثار تعجب الشيخ سليم البشري شيخ الأزهر الأسبق من عدول أهل السنة عنهم ، والتوجه إلى غيرهم ويقول : «فما ندري لما ذا عدل أهل القبلة عن أئمّة أهل البيت

ص : 375


1- مفاتيح الغيب : 10 / 144.

فلم يتعبدوا بمذاهبهم في شيء من الأُصول والفروع ، ولا وقفوا في المسائل الخلافية عند قولهم ، ولا كان علماء الأُمّة يبحثون عن رأيهم ، بل كانوا يعارضونهم في المسائل النظرية ولا يبالون بمخالفتهم ، وما برح عوام الأُمّة خلفاً عن سلف يرجعون في الدين إلى غير أهل البيت بلا نكير». (1)

ص : 376


1- المراجعات : المراجعة 17.

الفصل الثاني: الصحابة والمرجعية العلميّة بعد رحيل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم

اشارة

إنّ الصحابة هم الذين رأوا نور الوحي واستضاءوا به ، وصحبوا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وجاهدوا بين يديه ونشروا الإسلام وحملوا رايته خفّاقة ، كما تعلّموا منه العقيدة والشريعة في ظل تعلم القرآن والسنّة ، وأخذ منهم الخلف ، فلهم حقّ كبير على الأُمّة في حفظ الشريعة ونشرها.

ومع أنّهم بذلوا جهوداً كبيرة في تعلّم الدين وأحكام الشريعة ومعالمها ومعارفها ، ولكنّهم لم يستوعبوا كلّ ما تحتاج إليه الأُمّة عبْر القرون ، فهم وإن أخذوا من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - معالم دينهم ولكنّهم لم يبلغوا مستوى يؤهّلُهم لرفع حاجات الأُمّة في مختلف العصور.

ولعلّ القارئ يتلقّى ما ذكرنا دعوة بلا برهان نظراً للقداسة التي حظي بها الصحابة عبر القرون على نحو عرفوا بمراجع الدين في العقيدة والشريعة.

ولكنّه فكرة مرفوضة ، لأنّ التاريخ يشهد على خلافه ، وإليك نماذج من تلك الشواهد.

ص : 377

1- الإفتاء بالرأي

إنّ ردّ الفرع إلى الأصل ، واستخراج حكم الواقعة من الأُصول الكلية ، ليس إفتاءً بالرأي وإنّما هو إفتاء بالدليل وبالكتاب والسنّة ، غاية الأمر انّ الكتاب أدلى ، والسنّة أشارت إلى القاعدة ، والمستنبط يستخرج حكم الواقعة الجزئية من الضوابط الكلية ، وهذا هو الاجتهاد الصحيح الذي هو رمز بقاء الشريعة ولولاه لما قامت لخاتمية الإسلام دعامة ، ومن أنكره فإنّما ينكره بلسانه ويذعن به بقلبه.

إنّ الإفتاء بالمقاييس الظنية التي لم تثبت حجيتها بدليل قاطع هو الإفتاء بالرأي ، والصحابة بعد رحيل النبي إذا لم يجدوا في الواقعة المستجدة دليلاً من الكتاب والسنّة أفتوا بتلك المقاييس ، وربّما تشاوروا فأخذوا بالرأي الراجح المظنون انّه حكم الله سبحانه ، ومن المعلوم أنّ الإفتاء بهذا النوع من الرأي ، ليس إفتاءً بحكم الله سبحانه ، بل أشبه بالأحكام الوضعية الرائجة في الغرب غاية الأمر انّهم كانوا يلتجئون إلى هذا النوع من الحكم بعد اليأس عن وجود دليل في الكتاب والسنّة ، وإليك شواهد على ذلك.

1. عن ميمون بن مهران قال : كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله ، فإن وجد فيه ما يَقْضي بينهم قضى به ، وإن لم يكن في الكتاب وعُلِمَ عن رسول الله في ذلك الأمر سنّة قضى بها ، فإن أعياه خرج ، فسأل المسلمين ،

ص : 378

فقال : أتاني كذا وكذا ، فهل علمتم أنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر كلّهم يذكر عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فيه قضايا ، فيقول أبو بكر : الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ علينا علم نبيّنا ، فإن أعياه ان يجد فيه سنّة عن رسول الله ، جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم ، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به. (1)

وهذا اعتراف صريح من الخليفة بأنّ السنّة النبوية التي وعاها الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كانت غير وافية بالحاجات الفقهية ، ولذلك كان يعمد إلى الأخذ بالرأي والمقاييس الظنيّة لاستنباط حكم الموضوع ، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ الصحابة لم يكونوا بمنزلة ، تجعلهم مصادر الحكم ومراجع الدين على نحو تكون الشريعة مخزونة عندهم ، بل كانوا كسائر الناس في عدم المعرفة بالمستجدات وما ليس فيه نص معين وإن كانوا يتفاوتون عن الآخرين بصحبتهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأخذهم عنه قسماً من معالم الدين حسب ما سمح لهم الوقت.

2. نصب عمر بن الخطاب شريحاً قاضي بالكوفة وأوصاه على النحو التالي :

إن جاءك شيء من كتاب الله ، فاقض به ولا يُلفتك عنه الرجال ، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ، فانظر سنّة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فاقض بها ، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم تكن في سنّة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به ، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن في سنّة رسول الله ولم يتكلّم فيه أحد قبلك فاختر أيّ الأمرين شئت : إن شئت أن تجتهد برأيك فتُقدِّم ، وإن شئت ان تتأخر فتأخر ، ولا أرى التأخير إلاّ خيراً لك. (2)

ص : 379


1- دائرة المعارف لفريد وجدي : 3 / 212 ، مادة جهد.
2- دائرة المعارف لفريد وجدي : 3 / 212 مادة جهد.

فالمراد من قوله : «ان تجتهد برأيك» هو العمل بالمقاييس الظنية التي لم يدل عليه دليل ، وإلاّ فلو كان هناك دليل لما كان هناك حاجة إلى الرأي.

وممّا يدلّ على أنّ العمل بالرأي لم يكن عملاً بالدليل الشرعي ، بل كان تخلّصاً من المأزق ، انّ الإمام علياً - عليه السلام - لما ولى شريحاً على القضاء ، اشترط عليه ألاّ ينفذ القضاء حتى يعرضه عليه ، وما ذلك إلاّ لأجل انّ الإمام كان واقفاً بأنّ بعض المعايير التي يقضي على ضوئها شريح ، ليست معايير شرعية فلذلك اشترط عليه العرض. (1)

3. يقول عبد الله بن مسعود : أتى علينا زمان لسنا نقضي ولسنا هنالك ، وان الله قد قدر من الأمر ان قد بلغنا ما ترون ، فمن عرض له قضاء بعد اليوم ، فليقض فيه بما في كتاب الله عزّ وجلّ ، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله ولم يقض به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فليقض فيه بما قضى به الصالحون ، ولا يقل إنّي أخاف وإنّي أرى. (2)

وزاد مؤلف كتاب «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» : فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولم يقض به نبيُّه ولم يقض به الصالحون ، فليجتهد برأيه فإن لم يحسن فليقم ولا يستحيي. (3)

فهو على النصّ الأوّل نهي عن الإفتاء بالرأي ، بخلاف النصّ الثاني فقد أجاز الإفتاء به.

4. كان ابن عباس إذا سئل عن أمر : فإن كان في القرآن أخْبِر به ، وإن لم

ص : 380


1- الوسائل : 18 ، الباب 3 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 6.
2- دائرة المعارف لفريد وجدي : 3 / 212 - 213 ، مادة جهد.
3- تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية : 177.

يكن في القرآن وكان عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أخْبِر به ، فإن لم يكن فعن أبي بكر وعمر ، فإن لم يكن ، كان فيه رأيه. (1)

إنّ هذه العبارات ونظائرها من الاعترافات ، تستطيع أن تكشف عن مدى قصور الصحابة في أخذ التعاليم والأحكام الإسلامية عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -.

فهي تكشف بوضوح عن أنّ الصحابة كانوا يواجهون وقائع وحوادث جديدة لا يجدون لها حلولاً في الكتاب الكريم أو في ما تلقُّوه من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولذلك كانوا يحاولون استنباط حلول لها من غير الكتاب والسنّة.

نحن لا نلومهم في أخذ الرأي لوقوفهم على قصور ما بأيديهم من مصادر التشريع عن إغنائهم من الإفتاء بالرأي ، كيف وكلّ الأحاديث الصحيحة التي نقلها أعلام السنّة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الفروع لا تتجاوز 500 حديث.

قال السيد محمد رشيد رضا : إنّ أحاديث الأحكام والأُصول 500 حديث تمدّها أربعة آلاف فيما أذكر. (2)

وما ذكره من الممدّات ، هي آثار موقوفة على الصحابة ، أو مراسيل ، لا يحتج بها.

وقال في تفسير المنار : يقولون إنّ مصدر القوانين الأُمة ، ونحن نقول بذلك في غير المنصوص في الكتاب والسنّة كما قرره الإمام الرازي ، والمنصوص قليل جداً. (3)

كيف يقول : إنّ مصدر القوانين في غير المنصوص هو الأُمّة أو ليس سبحانه وتعالى يقول : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً). (4)

ص : 381


1- دائرة المعارف لفريد وجدي : 3 / 213.
2- الوحي المحمدي : 217.
3- تفسير المنار : 5 / 189.
4- المائدة : 3.

ويصرح به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في خطابه التاريخي في حجة الوداع إذ يقول : «أيّها الناس والله ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلاّ وقد أمرتكم به ، وما من شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلاّ وقد نهيتكم عنه». (1)

وقد أكد الإمام عليّ - عليه السلام - على هذه الحقيقة أي اكتمال الدين وغناء الأُمّة عن الرجوع إلى القوانين الوضعية التي مصدرها رأي نواب الأُمّة ، وقال : «أم أنزل الله سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاء له ، فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل الله سبحانه ديناً تاماً فقصّر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - عن تبليغه وأدائه ، والله سبحانه يقول : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) وفيه تبيان لكلّ شيء). (2)

فإذا كان الله قد أكمل دينه فلا نقصان فيه ، والرسول الأعظم - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يقصِّر عن تبليغه وأدائه ، وكانت الصحابة عاجزة عن حل المعضلات الجديدة التي تواجهها في حياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، فمن المرجع والمفزع للمسلمين عند ذاك؟

ترى أنّ الكتاب والسنّة يحكمان بكمال الدين في كلّ ما تحتاج إليه الأُمّة إلى يوم القيامة في الأُصول والفروع ، في الحوادث الفعلية ، أو المستجدة وعندئذ كيف يمكن القول بأنّ مصدر القوانين هو الأُمّة وما هذه إلاّ امتداد لنفس الفكرة في عصر الصحابة لكن بنحو آخر حيث قام رأي الأُمّة ، مكانَ رأي الصحابي واجتهاده وسعيه في بيان حكم الواقعة.

إلى هنا تبيّن انّ الصحابة - مع الاعتراف بفضلهم - لم يستوعبوا الأحكام الشرعية ولذلك التجئوا إلى العمل بالرأي.

وهناك شواهد أُخرى على العمل بالرأي أعرضنا عن ذكرها مخافة الإطناب.

ص : 382


1- الكافي : 2 / 74.
2- نهج البلاغة : الخطبة رقم 18.
2- اعتراف الصحابة بقصور علمهم بالشريعة

إنّ هناك شواهد تاريخية تحفل بها كتب التاريخ والمعاجم على قصور علم جُلّ الصحابة عن الإحاطة بالأحكام ولذلك يرجع بعضهم إلى بعض ، وربما لا ينتهي إلى نتيجة ونذكر هنا نماذج :

1. روى ابن عساكر في تاريخه عن أبي عبيدة (بن عبد الله بن مسعود) قال : أرسل عثمان إلى أبي يسأله عن رجل طلّق امرأته ثمّ راجعها حين دخلت في الحيضة الثالثة ، فقال أبي : وكيف يفتي منافق؟ فقال عثمان : نعيذك بالله أن تكون منافقاً ، ونعوذ بالله أن نسمّيك منافقاً ، ونعيذك بالله أن تكون مثل هذا ، قال : أولى أنّه إذاً أحقّ بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة ، وتحل لها الصلاة.

قال : لا أعلم عثمان إلاّ أخذ بذلك. (1)

وذيل الرواية يدلّ على أنّ عثمان لم يكن جازماً بصحة ما أفتى به ابن مسعود ولكنّه أخذ به لأجل الضرورة ، فإذا كان هذا حال من جلس على منصَّة الحكم فما ظنك بغيره.

2. روى ابن عساكر في تاريخه عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي : أنّه أُتي في فريضة ابني عم ، أحدهما أخ لأُمّ فقالوا : أعطاه ابن مسعود المال كلّه ، فقال : يرحم الله ابن مسعود ، إن كان لفقيهاً لكني أعطيه سهم الأخ من الأُمّ من قبل أُمّه ،

ص : 383


1- تاريخ مدينة دمشق : 33 / 150.

ثمّ أقسم المال بينهما. (1)

3. روى ابن عساكر في تاريخه عن أبي عمرو الشيباني قال : أتى رجل ابن مسعود ، فقال : في حجري بنت عم لي ، وإن امرأتي خافتني عليها فأرضعتْها ، فقال : سألت أحداً قبلي؟ قال : نعم ، أبا موسى ، فقال : حُرِّمتْ عليك ، قال : إنّه لا يقول شيئاً ، لا أُحرّم من الرضاع إلاّ ما أنبت اللحم والدم ، فأتيت أبا موسى فذكرت ذلك له ، فقال : لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهركم ، فو الله لقد رأيته ، وما رأيته إلاّ عبد آل محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -. (2)

4. روى ابن عساكر في تاريخه عن ابن عطية قال :

جاء رجل إلى أبي موسى فقال : إنّ امرأتي ورم ثديها فمصصتُ فدخل حلقي شيء فسبقني ، فشدّد عليه أبو موسى فأتى ابن مسعود فقال : سألت أحداً غيري ، قال : نعم ، أبا موسى ، فشدّد عليّ وقال : فأتى أبا موسى ، فقال له : أرضيع هذا؟ فقال أبو موسى : لا تسألون ما دام هذا الحبر بين أظهركم. (3)

هذا حال أبي موسى الأشعري الصحابي الكبير الذي اختير حكماً في وقعة صفين!

ويظهر من غير واحد من الروايات انّ عبد الله بن مسعود كان يختلف مع زيد بن ثابت في الفتيا والقراءة وقد قالوا : إنّ زيد بن ثابت أفرض الصحابة.

5. روى ابن عساكر عن أبي وائل عن عبد الله قال : لقد أخذتُ من في رسول الله بضعاً وسبعين سورة وانّ زيد بن ثابت له ذؤابة يلعب مع الغلمان. (4)

ص : 384


1- تاريخ مدينة دمشق : 33 / 151.
2- تاريخ مدينة دمشق : 33 / 151.
3- تاريخ مدينة دمشق : 33 / 152.
4- تاريخ مدينة دمشق : 33 / 135.

6. وفي رواية أُخرى خطب ابن مسعود على المنبر فقال : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) غُلاّ) (1) مصاحفكم ، كيف تأمروني أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت؟ وقد قرأت من في رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بضعاً وسبعين سورة ، وانّ زيد بن ثابت ليأتي مع الغلمان له ذؤابتان ، والله ما نزل من القرآن إلاّ وأنا أعلم في أيّ شيء نزل ، ما أحد أعلم بكتاب الله مني ، وأما أنا خيركم ، ولو أعلم مكاناً تبلغه الإبل أعلم بكتاب الله مني لأتيته.

قال أبو وائل : فلمّا نزل عن المنبر جلست في الحِلَق فما أحد ينكر ما قال. (2)

وكم في غصون التاريخ شواهد كثيرة على اختلاف الصحابة بعضهم مع بعض في التشريع والقراءة وغير ذلك ، وهذا إن دل فإنّما يدلّ على عدم استيعابهم لأحكام الشريعة ومعالم الدين ، فكيف يكونوا مراجع الأحكام ومصادر التشريع ومنابع الحكم بعد رحيل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؟!

ص : 385


1- آل عمران : 161.
2- تاريخ مدينة دمشق : 33 / 136.
3- قلة معرفتهم بالأحكام

إنّ تاريخ الفقه سجل أُموراً يكثر بها الابتلاء ومع ذلك لم يكن عند الصحابة حلول واضحة لها ، لذلك تشبّثوا بالمقاييس والظنون ولنذكر أمثلة :

1. لقد شغلتْ مسألةُ العول بالَ الصحابة فترة من الزمن ، ويُعنى به أن تقصر التركة عن سهام ذوي الفروض ولا تقصر غالباً إلاّ بدخول الزوج أو الزوجة في الورثة كما في المثال التالي :

إذا ترك الميت زوجة وأبوين وبنتين ، ففرض الزوجة هو الثمن ، وفرض الأبوين هو السدسان ، وفرض البنتين الثلثان مع أنّ التركة لا تسع للثمن والسدسين والثلثين.

أو إذا ماتت امرأة وتركت زوجاً وأُختين للأب ، ففرض الزوج النصف ، وفرض الأُختين الثلثان ، فحينئذ زادت السهام عن التركة.

وقد واجه الصحابة هذه المسألة ، فاختلفوا على قولين :

أ: إدخال النقص على من له فريضة واحدة في القرآن وذلك كالأب والبنتين والأُختين دون من له فريضتان في الكتاب لاستحالة أن يجعل الله في المال ثمناً وسدسين وثلثين ، كما أنّه محال أن يجعل فيه نصفاً وثلثين وإلاّ كان المشرع جاهلاً أو عابثاً ، تعالى عن ذلك. وهذا ما كان عليه الإمام عليّ - عليه السلام - وحبر الأُمّة

ص : 386

ابن عباس وغيرهما.

ب : ما اختاره الخليفة عمر بن الخطاب بعد ما تحيّر وقال : والله ما أدري أيّكم قدَّم الله وأيكم أخّر ، ولكنّي لا أجد شيئاً هو أوسع لي من أن أقسم المال عليكم بالحصص وادخل على ذي حقّ ما أدخل عليه من عول الفريضة. (1)

وكم لهذه المسألة (العول) من نظير في حياة الصحابة :

2. سأل رجل عمر بن الخطاب عن رجل طلق امرأته في الجاهلية تطليقتين وفي الإسلام تطليقة ، فهل يحسب ذلك ثلاثَ تطليقات؟ فقال عمر : لا آمرك ولا أنهاك ، وقد احتاط الخليفة في الإفتاء وعمل بالوظيفة لكن ابنه عبد الرحمن بن عمر ، قال : لكنّي آمرك ليس طلاقك في الشرك بشيء. (2)

ولم يذكر دليل حكمه وقضائه.

3. روى الشعبي قال : اختلف علي وابن مسعود وزيد بن ثابت وعثمان بن عفان وابن عباس في جد وأُمّ وأُخت لأب وأُمّ ؛ فقال علي : للأُخت النصف ، وللأُمّ الثلث ، وللجدّ السدس ؛ وقال ابن مسعود : للأُخت النصف ، وللأُمّ السدس ، وللجدّ الثلث ؛ وقال عثمان : للأُمّ الثلث ، وللأُخت الثلث ، وللجدّ الثلث ؛ وقال زيد : هي على تسعة أسهم ، للأُمّ الثلث ثلاثة ، وما بقي فثلثان للجدّ ، والثلث للأُخت ؛ وقال ابن عباس : للأُمّ الثلث ، وما بقي فللجد وليس للأُخت شيء. (3)

4. روى عكرمة قال : أرسلني ابن عباس إلى زيد بن ثابت أسأله عن زوج

ص : 387


1- أحكام القرآن للجصاص : 2 / 114.
2- كنز العمال : 5 / 161.
3- كنز العمال : 11 / 68.

وأبوين؟ فقال : للزوج النصف ، وللأُمّ الثلث ممّا بقي ، وللأب الفضل ، فقال ابن عباس : أفي كتاب الله وجدتَه أم رأي تراه؟ قال : رأي أراه ، لا أرى ان أُفضل أُمّاً على أب ، وكان ابن عباس يجعل لها الثلث من جميع المال. (1)

5. ورد عن طريق أهل السنّة انّ زيد بن ثابت أفرض الصحابة. (2)

ولكن روى بكير بن أعين من أصحاب الإمام الباقر - عليه السلام - قال : دخل رجل على أبي جعفر الباقر - عليه السلام - فسأله عن امرأة تركت زوجها واخوتها لأُمّها وأختاً لأب ، قال أبو جعفر : «للزوج النصف ثلاثة أسهم ، وللإخوة من الأُمّ الثلث سهمان ، وللأُخت للأب سهم» فقال له الرجل : فإنّ فرائض زيد وابن مسعود وفرائض العامة والقضاة على غير ذا يا أبا جعفر ، يقولون : للأب والأُمّ ثلاثة أسهم نصيب من ستة يعول إلى ثمانية؟ فقال أبو جعفر - عليه السلام - : «ولم قالوا ذلك؟» قال : لأنّ الله قال : (وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ).

فقال أبو جعفر : «فما لكم نقصتم الأخ إن كنتم تحتجون بأمر الله فإنّ الله سمّى لها النصف وإن الله سمّى للأخ الكل ، فالكلّ أكثر من النصف ، فإنّه قال : (فَلَهَا النِّصْفُ) وقال للأخ : (وَهُوَ يَرِثُها) يعني جميع المال إن لم يكن لها ولد ، فلا تعطون الذي جعل له الجميع في بعض فرائضكم شيئاً وتعطون الذي جعل الله له النصف تاماً». (3)

6. أُتي عمر بن الخطاب بخمسة نفر أُخذوا في زنا ، فأمر أن يقام على كلّ

ص : 388


1- المصدر نفسه : 43.
2- السنن الكبرى : 6 / 210.
3- البحار : 101 / 346 ، الباب 5 من أبواب الميراث ، ح 25.

واحد منهم الحدّ ، وكان أمير المؤمنين على - عليه السلام - حاضراً ، فقال : «يا عمر ، ليس هذا حكمهم» قال عمر : فأقم أنت عليهم الحكم. فقدّم واحداً منهم فضرب عنقه ، وقدّم الثاني فرجمه حتى مات ، وقدّم الثالث فضربه الحدّ ، وقدّم الرابع فضربه نصف الحدّ ، وقدّم الخامس فعزّره. فتحيّر الناس وتعجّب عمر!!

فقال : يا أبا الحسن خمسة نفر في قضية واحدة ، أقمت عليهم خمس حكومات (أي أحكام) ليس فيها حكم يُشبه الآخر؟

فقال أمير المؤمنين - عليه السلام - : «نعم ، أمّا الأوّل ، فكان ذمياً وخرج عن ذمّته فكان الحكم فيه السيف.

وأمّا الثاني : فرجل محصن قد زنا فرجمناه.

وأمّا الثالث : فغير محصن ، زنا فضربناه الحد.

وأمّا الرابع : فرجل عبد زنا فضربناه نصف الحدّ.

وأمّا الخامس : فمجنون مغلوب على عقله عزّرناه».

فقال عمر : لا عشت في أُمّة لست فيها يا أبا الحسن. (1)

هذه نماذج قليلة من الموارد التي لم يرد فيها نصّ صريح ، وقد واجهتها كبار الصحابة بعد وفاة النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وعجزوا عن حلّ معضلاتها ممّا يدلّ بوضوح على أنّه لو كان الصحابة مستوعبين لكلّ أحكام الشريعة وأبعادها ، لأجابوا عليها دون تحير أو تردد. ويثبت انّ المرجع العلمي على الإطلاق ، أعني : الذين يعلمون كلّ الأحكام بلا تحيّر وتردد ، غيرهم.

ص : 389


1- الكافي : 7 / 265 ، الحديث 26.
4- اختلافهم فيما يكثر الابتلاء به

إنّ أدلّ دليل على عدم استيعابهم للسنّة النبوية ، اختلافهم في أبسط المسائل التي يعمل بها المسلمون كلّ يوم وليلة ، أعني : كيفية صلاة الميت ، فهل يصلى عليه بخمس أو بالأربع فقد قال زيد بن أرقم وحذيفة بن اليمان انّها خمس تكبيرات (1) ، وقد كبر عليّ - عليه السلام - على سهل بن حنيف خمساً. (2)

وكان أصحاب معاذ يكبرون على الجنازة خمساً. (3) وعليه أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - ، وقال الإمام الباقر - عليه السلام - كبر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - (4) خمساً.

وسئل الصادق - عليه السلام - عن التكبير على الميت فقال خمس. (5)

وقال الفقهاء الأربعة والثوري والأوزاعي وداود وأبو ثور التكبير أربع ، ورووه عن الحسن بن علي - عليهما السلام - وأخيه محمد بن الحنفية ، وعمر ، وابن عمر ، وزيد ، وجابر ، وأبي هريرة ، والبراء بن عازب ، وعتبة بن عامر ، وعطاء بن أبي رباح ، لأنّ

ص : 390


1- المجموع : 5 / 231.
2- المغني : 2 / 387 ؛ الشرح الكبير : 2 / 349 نقلاً عن سعيد في سننه.
3- سنن البيهقي : 4 / 37 ؛ مصنف ابن أبي شيبة : 3 / 303.
4- التهذيب : 3 / 315 ، الحديث 977.
5- الكافي : 3 / 184 ، الحديث 3.

رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - نعى النجاشي للناس وكبّر بهم أربعاً. (1)

وفي مقابل هاتين الطائفتين قال محمد بن سيرين (2) وأبو الشعثاء جابر بن زيد انّه يُكبّر ثلاثاً ، ورواه الجمهور عن ابن عباس. (3)

وقال عبد الله بن مسعود : يكبر ما كبر الإمام أربعاً وخمساً وسبعاً وتسعاً. (4)

وعن أحمد روايات : إحداها : يكبر أربعاً ، والأُخرى يتابع الإمام إلى خمس ، وأُخرى يتابعه إلى سبع. (5)

ومن حاول أن يقف على اختلافهم في عدد التكبيرات على الميت فليرجع إلى «السنن الكبرى» للبيهقي فقد جمع عدداً كبيراً من الروايات الواردة حول التكبير على الميت تحت باب عدد التكبير في صلاة الجنائز والبابين التاليين. (6) وإذا كان هذا حال هذه المسألة فما ظنك بسائر المسائل التي لا يكثر الابتلاء بها.

ولا يقتصر اختلافهم عند هذا الحد بل تعداه إلى الاختلاف في تفسير الآيات التي تتضمن بيان الأحكام ، فلنأت بنماذج :

1. قال سبحانه في آية الوضوء : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ). (7)

ص : 391


1- صحيح البخاري : 2 / 92 و 112 ؛ صحيح مسلم : 2 / 656 و 951 ؛ سنن الترمذي : 3 / 342 ؛ سنن أبي داود : 3 / 212 ؛ سنن النسائي : 4 / 72 ؛ والموطأ : 1 / 226.
2- المجموع : 5 / 231 ؛ المحلى : 5 / 127.
3- المغني : 2 / 389 ؛ المجموع : 5 / 231 ؛ المحلّى : 5 / 127.
4- المغني : 2 / 388.
5- المغني : 2 / 387 - 388 ؛ الشرح الكبير بهامش المغني : 2 / 349 ؛ المجموع : 5 / 231.
6- سنن البيهقي : 4 / 35 - 38.
7- المائدة : 6.

وقد تضاربت الآراء في فهم هذه الآية ، وصارت الأُمّة إلى قولين :

فمن عاطف لفظ «أرجلكم» على الرءوس فيحكم على الأرجل بالمسح.

ومن عاطف له على الأيدي فيحكم على الأرجل بالغسل ، فأي الرأيين هو الصحيح؟!

2. لقد حكم الله تعالى على السارق والسارقة بقطع الأيدي ، حيث قال : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما). (1)

وقد اختلفت الأُمّة في مقدار القطع وموضع اليد.

فمن قائل : انّ القطع من أُصول الأصابع دون الكف وترك الإبهام ، كما عليه الإمامية وجماعة من السلف.

ومن قائل : انّ القطع من الكوع ، وهو المفصل بين الكف والذراع ، كما عليه أبو حنيفة ومالك والشافعي.

ومن قائل : انّ القطع من المنكب كما عليه الخوارج. (2)

هذه نماذج من اختلافاتهم في حقل التفسير.

ص : 392


1- المائدة : 38.
2- راجع الخلاف للطوسي كتاب السرقة : 184.
5- المرجع العلمي وأصناف الصحابة

نفترض انّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ارتحل وجعل أصحابه المرجع العلمي بعده لاستنطاق الكتاب والسنّة وبيان معالم الشريعة ، ولكن الصحابة كانوا على أصناف.

فصنف منهم هم المهاجرون والأنصار أهل الجهاد والإنفاق.

وصنف آخر يشمل الأعراب والطلقاء والمنافقين.

فهل المرجع العلمي هو صنف خاص أو يعم جميع الأصناف؟

فعلى الأوّل ما هو سماتهم وصفاتهم ، وعلى الثاني فيعم الأعراب والطلقاء والمنافقين ومن رأى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مرّة واحدة ، فهل يمكن أن يكون هؤلاء مراجع العلم؟!

وحصيلة الكلام : انّه لو كانت المرجعية العلمية بعد رحيل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هو أصحابه لكان على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يحدّدهم صنفاً ووصفاً.

ثمّ إنّ طائفة كبيرة من الصحابة اتهموا بالنفاق وقد سجّل وصفهم بالنفاق في المعاجم ، كما أنّ طائفة كبيرة منهم لم يُحسنوا الصحبة ومع ذلك كيف يكونون مراجع الفتيا؟! نظير :

1. احمد بن قيس الأنصاري ، قيل انّه صاحب الجمل الأحمر ، وقد قال في

ص : 393

حقّه النبي : كلّكم مغفور له إلاّ صاحب الجمل الأحمر. رواه مسلم. (1)

2. الحرقوص بن زهير السعدي شهد الرضوان لكنّه كان رأس الخوارج ، وهو الذي قال للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : اعدل يا محمد.

3. الحارث بن سويد بن الصامت ، عدّه ابن حزم من المتهمين بالنفاق ويظهر له براءته فقد شهد بدراً لكنّه قتل المجذر بن زياد يوم أحد لثأر جاهلي فأمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بقتل الحارث بالمجذر.

4. العرنيون الذين قتلهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - جزاء على فعلهم بقتل بعض الرعاة وسرقة الإبل ، كانوا قد صحبوا قبل الحديبية.

5. محلم بن جثامة ، وقد قال فيه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : اللهم لا تغفر لمحلم بن جثامة ، ولم يكن منافقاً لكنّه قتل صحابياً متعمّداً.

6. مقيس بن صبابة ، قتل نفساً مؤمنة فأهدر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - دمه ، فقتل في فتح مكة.

7. عبد الله بن خطل ، كان صحابياً ثمّ ارتد ولحق بمكة وقتل يوم فتح مكة.

8. المغيرة بن شعبة ، اتّهم بالنفاق في غزوة الطائف ، وساءت سيرته بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -.

9. مدعم مولى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي غلّ من غنائم خيبر.

10. كركرة مولى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - غلّ من غنائم خيبر أيضاً.

11. سمرة بن جندب ، لم يؤثر عنه نفاق لكنّه أساء السيرة بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فكان يبيع الخمر ويقتل البشر ويُرضي معاوية في سخط الخالق.

ص : 394


1- صحيح مسلم ، ح 8 ، كتاب صفات المنافقين ، ص 123 ، وليس في الرواية ما يدلّ على انّه كان منافقاً ، وإنّما ذكره مسلم في ذلك الباب لصيانة عدالة الصحابة

12. عبيد الله بن جحش الأسدي كان من السابقين إلى الإسلام ومن مهاجرة الحبشة لكنّه تنصّر بالحبشة.

13. الحارث بن ربيعة بن الأسود القرشي افتتن وارتد بمكة.

14. علي بن أُميّة بن خلف افتتن بمكة.

15. العاص بن المنبه بن الحجاج افتتن بمكة وقتل ببدر مع المشركين.

16. الوليد بن عقبة الذي وصفه القرآن الكريم بالفسق في سورة الحجرات عند قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا). (1)

17. مسلم بن عقبة الأشجعي الذي أباح القتل والنهب في المدينة المنورة ثلاثة أيام في سنة 63 ه.

18. بسر بن أبي أرطاة الذي ذبح ولدي عبيد الله بن العباس.

19. معاوية بن أبي سفيان رأس الفئة الباغية وهو الذي قال في حقّه النبي مخاطباً عمار : «ويح عمار ، تقتلك الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار».

20. أبو الغالية قاتل عمار. (2)

هذه نماذج من الصحابة الذين لم يُحسنوا الصحبة ، وأمّا ما ورد في القرآن الكريم من قوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) (3) وقوله : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ). (4)

وقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : إنّ الله اطّلع على أهل بدر - إن كان الخبر صحيحاً - فكلّه مشروط بسلامة العاقبة ، ولا يجوز أن يخبر الحكيم فرداً غير معصوم بأنّه لا عقاب عليه فليفعل ما شاء.

وبعبارة أُخرى : كلّ ما ورد من الثناء على المهاجرين والأنصار في الكتاب

ص : 395


1- الحجرات : 6.
2- لاحظ كتاب : الصحبة والصحابة : 182 - 184.
3- الحجرات : 18.
4- الحجرات : 29.

العزيز فإنّما هو ثناء على مجموعهم لا على كلّ فرد فرد منهم وإن تبيّن فسقه وبانت زلّته ، وكم له في الذكر الحكيم من نظير :

1. انّه سبحانه أثنى على بني إسرائيل في غير واحد من الآيات وقال : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ). (1)

2. وقال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ). (2)

فليس لأحد أن يستدل بهذه الآيات على تنزيه كلّ فرد من بني إسرائيل.

3. وقال تعالى في حقّ أُمّة نبينا : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ). (3)

فالآية تصف الأُمة المرحومة بأنّها خير أُمّة ولكنّها ليست بصالحة للاستدلال على صلاح كلّ مسلم وفلاحه ، وهل كلّ فرد من آحاد الأُمّة كذلك؟!

ونحن لم نزل نسمع عن كلّ من يحاول اثبات عدالة كلّ صحابي الاستدلال بهذه الآيات ولكنّهم غفلوا عن نكات :

الأوّل : انّ الآيات نزلت في حقّ المهاجرين والأنصار ، فأين هي من الأعراب والطلقاء والمرتدين والمنافقين المندسين في الصحابة؟!

الثانية : انّها ثناء على مجموعة ولا يخص كلّ فرد فرد منهم ، مثلاً إذا أُثني على الأُمة العربية فإنّما يراد المجموعة من الأُمة لا كلّ فرد فرد حتّى أُولئك الخونة الذين باعوا الأراضي الإسلامية بثمن بخس.

ص : 396


1- البقرة : 47.
2- الجاثية : 16.
3- آل عمران : 110.
6- المرجع العلمي وعدم تدوين الحديث و تفرق الصحابة

إنّ مرجعية الصحابة بعد رحيل النبي في حلّ المشاكل والمعضلات الطارئة في مختلف الأصعدة ، بمعنى مرجعية سنّة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - التي حدّث بها النبي أو شوهد منه فعل أو تقرير ، ولكنّها إنّما تُزيح العلة وترفع حاجات الأُمّة إذا كانت مدونة في ضمن صحف ورسائل حتّى يتيسّر رجوع بغاة العلم وأهل الفتيا إليها ، ولكنّها - وللأسف - لم تكن مدونة في عصره - صلى الله عليه وآله وسلم - بل حالت الخلافة ، بينها وبين تدوينها قرابة قرن ونصف - فبعد ما بلغ السيل الزُّبى واندرس العلم وأُبيد معظمُ الصحابة والتابعين فعند ذلك وقف المسلمون على الرزيّة الكبرى التي مُنوا بها ، فعادوا يتداركونه ببذل جهود حثيثة في تقييد شوارد الحديث.

يقول ابن الأثير : لما انتشر الإسلام ، واتسعت البلاد ، وتفرقت الصحابة في الاقطار ، وكثرت الفتوح ، ومات معظم الصحابة ، وتفرّق أصحابهم وأتباعهم وقلّ الضبط ، احتاج العلماء إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة ولعمري انّها الأصل ، فانّ الخاطر يغفل ، والذهن يغيب ، والذكر يُهمِل والعلم يحفظ ولا

ص : 397

ينسى. (1)

يقول الذهبي : «في سنة مائة وثلاثة وأربعين شرع علماء الإسلام في تدوين الحديث والفقه والتفسير فصنف ابن جريج بمكة ، ومالك الموطّأ بالمدينة ، والأوزاعي بالشام ، وابن أبي عروبة وحماد بن سلمة وغيرهما بالبصرة ، ومعمر باليمن ، وسفيان الثوري بالكوفة ، وصنّف أبو إسحاق المغازي ، وصنف أبو حنيفة الفقه والرأي - إلى أن قال - وقبل هذا العصر كان الأئمة يتكلّمون من حفظهم أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة. (2)

أفيصحّ في منطق العلم ، اتهام صاحب الرسالة بعدم وضع ضمانات لازمة لحلّ العويصات التي تطرأ على المجتمع الإسلامي في هذه الفترة الطويلة ، فإذا لم يصحّ فما هي الضمانات اللازمة فيها ، وهل هناك مرجع آخر ، غير العترة الطاهرة الذين هم حَفَظة سُننه ورواةُ أحاديثه ، وعيبة علمه.

وهناك مشكلة أُخرى وهي عدم حضور أكثر الصحابة في عامة القضايا والوقائع التي يقضي فيها النبي ويُفتي أو يحدّث أو يقرر ، لأنّ أكثر الصحابة كانوا على النعت الذي يصفهم به ابن حزم ويقول : مشاغيل في المعاش ، وتعذر القوت عليهم لجهد العيش في الحجاز ، وانّه كان يفتي بالفتيا ويحكم بالحكم بحضرة من حضره من أصحابه فقط ، وانّه إنّما قامت الحجة على سائر من لم يحضر بنقل من حضره وهم واحد أو اثنان. (3)

ص : 398


1- جامع الأُصول : 1 / 40.
2- تاريخ الخلفاء للسيوطي : 316.
3- الأُصول العامة للفقه المقارن : 166 ، نقلاً عن تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية : 123 ، نقلاً عن ابن حزم.

هذا ويقول المحقّق الفقيد : السيد محمد تقي الحكيم بعد نقل هذا : وإذا صحّ هذا - وهو صحيح جدّاً ، لأنّ التاريخ لم يحدثنا عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنّه كان يجمع الصحابة جميعاً ، ويبلّغهم بكلّ ما يجد من أحكام ، ولو تصورناه في أقواله فلا نتصوره في أفعاله وتقريراته وهما من السنّة - فما ذا يصنع من يريد التمسك بسنّته من بعده ولنفترضه من غير الصحابة؟

أيظل يبحث عن جميع الصحابة - وفيهم الولاة والحكام ، وفيهم القواد والجنود في الثغور - ليسألهم عن طبيعة ما يريد التعرف عليه من أحكام؟ أم يكتفي بالرجوع إلى الموجودين وهو لا يجزيه ، لاحتمال صدور الناسخ أو المقيِّد أو المخصِّص أمام واحد أو اثنين ممّن لم يكونوا بالمدينة؟ والحجية - كما يقول ابن حزم - : لا تتقوّم إلاّ بهم.

والعمل بالعام أو المطلق لا يجوز قبل الفحص عن مخصِّصه أو مقيِّده ، ما دمنا نعلم أنّ من طريقة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في التبليغ هو الاعتماد على القرائن المنفصلة ، فالإرجاع إلى شيء متشتّت وغير مدوّن تعجيز للأُمّة وتضييع للكثير من أحكامها الواقعية.

وإذا كانت هذه المشكلة قائمة بالنسبة إلى من أدرك الصحابة وهم القلة نسبياً ، فما رأيكم بالمشكلة بعد تكثر الفتوح ، وانتشار الإسلام ، ومحاولة التعرف على أحكامه من قِبَل غير الصحابة من رواتهم ، وبخاصة بعد انتشار الكذب والوضع في الحديث للأغراض السياسية أو الدينية أو النفسية؟

ومثل هذه المشكلة هل يمكن أن لا تكون أمامه - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو المسئول عن وضع الضمانات لبقاء شريعته ما دامت خاتمة الشرائع؟!

إنّ الشيء الطبيعي أن لا يفرض أيَّ مصدر تشريعي على الأُمّة ما لم يكن

ص : 399

مدوّناً ومحدَّد المفاهيم ، أو يكون هناك مسئول عنه يكون هو المرجع فيه.

وما دمنا نعلم أنّ السنّة لم تدوّن على عهد الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وانّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - منزّه عن التفريط برسالته ، فلا بدّ أن نفترض جعل مرجع تُحدَّد لديه السنّة بكلّ خصائصها. (1)

وليس هناك أي مرجع بهذا الوصف إلاّ العترة الطاهرة الذين هم أحد الثقلين ، اللذين أُنيط بالتمسك بهما ، النجاة من الضلالة في حديث الثقلين المتواتر أو المتضافر ، وحديث السفينة الذي جاء فيه : «ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق». (2)

ص : 400


1- الأُصول العامة للفقه المقارن : 167.
2- مستدرك الحاكم : 3 / 151.

الفصل الثالث: حجّية العقل في مجالات خاصّة

اشارة

إنّ الشيعة الإمامية أدخلت العقل في دائرة التشريع واعترفت بحجيته في الموارد التي يصلح له التدخل والقضاء فيها. فالعقل أحد الحجج الشرعية وفي مصافّ المصادر الأُخر للتشريع وبه يُكْشف الحكم الشرعي وتُبين وجهة نظر الشارع في مورده ، وانّه من الممتنع أن يحكم العقل بشيء ولا يحكم الشرع على وفاقه أو يحكم بخلافه إذا كان الموضوع من المواضيع التي يصلح للعقل أن يقضي فيه ، فالملازمة بين حكمي العقل والشرع حتمية.

ولا يهمّنا البحث في أنّ ما يدركه العقل في مورد ، هل هو نفس الحكم الشرعي أو انّه يكشف عن نظر الشارع إذا توفّرت فيه الشروط التي اعتبرها الشارع في حجّية إدراكاته.

وإنّما المهم أن نقف على أنّ العقل احتلّ محلاً خاصاً في التشريع الإسلامي وانّ كلّ ما يحكم به العقل فكأنّه ينطق على لسان الشرع كالكتاب والسنّة ، وعند ذلك يستند إليه الشارع في تبليغ أحكامه إلى الناس كما يستند إلى القرآن والسنّة.

ص : 401

وقد فتح هذا الاعتراف للإسلام بقاء وخلوداً ، وجعله صالحاً للانطباق مع عامة الحضارات الإنسانية ، وغدا التشريع الإسلامي في ضوئه ذا سعة وانطلاق وشمول لما يتجدد من الأحداث ولما يطرأ من الأوضاع الاجتماعية الجديدة.

هذا بخلاف ما إذا اعتبرناه عنصراً غريباً في صعيد التشريع وعزلناه عن الحكم ورفضنا كلّ ما يدركه من الأحكام العقلية المحضة ، فانّه يؤدي إلى تجميد المخطط القانوني ، وعدم صلاحيته للحكم والتطبيق في البيئات والظروف الاجتماعية المختلفة.

نعم ليس معنى الاعتراف بحجّية العقل ، انّه يطلق سراحه في جميع المجالات حتّى يتاح له أن يتسرع في الحكم في مصالح الفرد والمجتمع وشكل العلاقات والروابط الاجتماعية والعبادات والأحكام التوقيفية.

بل يفسح له الحكم في مجالات خاصة إذا توفرت فيه الشرائط التي تصونه عن الاشتباه والخطأ واقترن بالضمانات الكافية التي تحفظه عن الزلل.

وقد نصّ أئمّة أهل البيت على حجّيته في مجالات خاصة ، فهذا هو الإمام موسى بن جعفر الكاظم - عليه السلام - يخاطب تلميذه هشام بن الحكم ويقول : «يا هشام : ما بعث الله أنبياءَه ورسلَه إلى عباده إلاّ ليعقلوا عن الله فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة ، وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلاً ، وأكملهم عقلاً أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة.

يا هشام انّ لله على الناس حجّتين : حجّة ظاهرة وحجّة باطنة ؛ فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة ، وأمّا الباطنة فالعقول». (1)

وقال الصادق - عليه السلام - : «حجّة الله على العباد ، النبي ، والحجّة على ما بين العباد

ص : 402


1- الكافي : 1 / 16 ، الحديث 12.

وبين الله ، العقل». (1)

هذا الحديث وما قبله وغيرهما يعرب عن نظر الإسلام السامي في الأحكام التي يستقل بها العقل بشرط أن يتجرّد عن الرواسب المنحرفة ، والغرائز الحيوانية ، والعواطف الإنسانية ، ويحكم حكماً باتاً عقلانياً محضاً غير منبعث عن هذه الجوانب ويحترز عن بعض الأساليب التي منع الشارع عن إعمالها في طريق استنباط الحكم الشرعي كالأقيسة والاستحسانات ، وما هذا لانّها تفيد الظنّ.

وعلى ذلك جرى علماؤنا من عصر مبكر إلى يومنا هذا ، فحصروا الأدلة الشرعية في أربعة : الكتاب والسنّة والإجماع والعقل ، فلنذكر نصاً من أحد علمائنا القدامى.

يقول ابن إدريس الحلّي (539 - 598 ه) : إنّ الحقّ لا يعدو أربع طرق : إمّا كتاب الله سبحانه ، أو سنّة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - المتواترة المتفق عليها ، أو الإجماع ، أو دليل العقل ، فإذا فقدت الثلاثة فالمعتمد في المسائل الشرعية عند المحقّقين الباحثين عن مأخذ الشريعة ، التمسكُ بدليل العقل فيها ، فانّها مبقاة عليه وموكولة إليه ، فمن هذا الطريق يوصل إلى العلم بجميع الأحكام الشرعية في جميع مسائل أهل الفقه ، فيجب الاعتماد عليها والتمسّك بها فمن تنكّب عنها عسف وخبط خبط عشواء ، وفارق قولُه من المذهب. (2)

وحصيلة الكلام : إذا كان حكم العقل منبعثاً عن الجانب العقلي المحض ، غير متأثر بالجوانب اللاشعورية ، والغرائز الحيوانية ، والعواطف الإنسانية ، وتجنب عن الأساليب الممنوعة ، وحكم من صميم التدبر والتفكر بحكم بات

ص : 403


1- الكافي : 1 / 25 ، الحديث 22.
2- السرائر : 1 / 46.

يصير حجة بين الله وعبده وتكون النتيجة تأسيسَ حكم شرعي أو تحديدَ إطلاق لحكم شرعي أو تخصيصاً لعموم ، ويصير عند ذاك أحد الأدلة التي يستنبط منها الحكم الشرعي ويدور عليها رحى الاستنباط ويعد قريناً للكتاب والسنّة والإجماع ولا ينفك عن قرنائه وأعداله.

هذا هو إجمال الموضوع ، وأمّا تفاصيله فتحتاج إلى بيان المجالات التي يكون العقل فيها حجّة قطعية.

ص : 404

1- مجال التحسين والتقبيح
اشارة

إذا استقل العقل بحسن فعل بما هو فعل صادر عن الفاعل المختار أو قبحه ، وتجرّد في قضائه عن كلّ شيء إلاّ النظر إلى نفس الفعل فهل يكون حكم العقل كاشفاً عن حكم الشرع ، نظير استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وحسنه معه ، فهل يستكشف منه انّ حكم الشرع كذلك؟ والجواب نعم.

وذلك لأنّ الحكم المزبور من الأحكام البديهية للعقل العملي وكلّ إنسان يجد من نفسه حسن العدل وقبح الظلم ، وإذا عرض الإنسان ذينك الأمرين على وجدانه وعقله يجد في نفسه نزوعاً إلى العدل وتنفراً عن الظلم وهكذا كلّ فعل يصدق عليه أحد العنوانين وهذا من الأحكام العقلية النابعة عن صميم العقل من دون أن يكون متأثراً عن الجوانب اللاشعورية أو الغرائز الحيوانية أو العواطف الإنسانية ، يقول العلاّمة الحلي :

انّا نعلم بالضرورة حسن بعض الأشياء وقبح بعضها من غير نظر إلى شرع ، فانّ كلّ عاقل يجزم بحسن الإحسان ويمدح عليه ويُقبِّح الإساءة والظلم ويذم عليه ، وهذا حكم ضروري لا يقبل الشك وليس مستفاداً من الشرع لحكم البراهمة والملاحدة به من غير اعتراف منهم بالشرائع. (1)

ص : 405


1- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : 59 ، المطبوع مع تعاليقنا.

ويقول أيضاً في كتاب آخر : إنّ من الأفعال ما هو معلوم الحُسن والقبح بضرورة العقل ، كعلمنا بحسن الصدق النافع ، وقبح الكذب الضار ، فكلّ عاقل لا يشكّ في ذلك ، وليس جزمه بهذا الحكم بأدون من الجزم بافتقار الممكن إلى السبب ، وأنّ الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية.

ومنها ما يعجز العقل عن العلم بحسنه أو قبحه فيكشف الشرع عنه كالعبادات.

وقالت الأشاعرة : إنّ الحسن والقبح شرعيان ، ولا يقضي العقل بحسن شيء منها ولا بقبحه ، بل القاضي بذلك هو الشرع ، وما حسّنه فهو حسن وما قبحه فهو قبيح. (1)

ومن حسن الحظ انّ الذكر الحكيم يشير إلى موقف العقل من درك تحسين الأشياء وتقبيحها ، فترى أنّه يحتج في موارد بقضاء فطرة الإنسان على حسن بعض الأفعال وفي الوقت نفسه يقبح بعضها على وجه يُسلِّم انّ الفطرة الإنسانية صالحة لهذين الإدراكين ، ولذلك يتخذ وجدان الإنسان قاضياً صادقاً في قضائه ويقول :

1. (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ). (2)

2. (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ). (3)

3. (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ). (4)

ففي هذه الطائفة من الآيات يوكّل الذكرُ الحكيم القضاءَ إلى وجدان

ص : 406


1- نهج الحق وكشف الصدق : 83.
2- ص : 28.
3- القلم : 35.
4- الرحمن : 60.

الإنسان ، وانّه هل يصحّ التسوية بين المفسدين والمتّقين ، والمسلمين والمجرمين ، كما يتّخذ من الوجدان قاضياً ، في قوله : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ).

وهناك آيات أُخرى تأمر بالمعروف كالعدل والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي على نحو تسلِّم انّ المخاطب ، يعرفهما معرفة ذاتية ولا يحتاج إلى الشرع بغيَة التعرّف على الموضوع ، وكان الشرع يؤكد ما يجده الإنسان بفطرته.

ويقول سبحانه :

1. (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). (1)

2. (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ). (2)

3. (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ). (3)

معنى درك حسن الفعل أو قبحه

إنّ العقل بفضل سعة آفاق إدراكه ، يدرك انّ نفس الفعل بما هو هو إمّا حسن أو قبيح ، سواء كان الفاعل واجباً أو ممكناً ، مؤثراً في حفظ النظام (كالعدل) أو لا ، مؤمِّناً لغرض الفاعل أو لا ، كلّ هذه القيود مرفوضة غير مأخوذة في الموضوع ، بل الموضوع هو نفس الفعل بما هو هو ، مع غض النظر عنها ، كردّ الأمانة ، والخيانة فيها ، والوفاء بالميثاق ونقضه ، وجزاء الإحسان بالإحسان ، وبالإساءة ، وهكذا.

ص : 407


1- النحل : 90.
2- الأعراف : 33.
3- الأعراف : 157.

فإذا كان الموضوع هو نفس الفعل ولا دور لأي قيد في وصفه بأحدهما فيكون حكمه بالحسن أو القبح وبالتالي : وجوب إتيان الأوّل ، وترك الثاني ، حكماً عامّاً يحكي عن كونه كذلك عند الواجب والممكن فيستكشف من حسن الفعل وجوبه ، ومن قبحه ، حرمته ، وبذلك يُصبح العقل من منابع التشريع ومصادره في إطار خاص ، أي إطار إدراك العقل حسن الأفعال وقبحها.

الآثار المترتبة على التحسين والتقبيح
اشارة

تحتل مسألة التحسين والتقبيح العقليين مكانة مرموقة في المعارف والعقائد والتشريع والأحكام ، ونذكر شيئاً من آثارهما ممّا يتعلق بباب التشريع ونترك ما يرجع إلى باب العقائد والمعارف :

أ. أصالة البراءة من التكليف

إذا شكّ الإنسان في وجوب شيء أو حرمته ، وفحص عن مظان التكليف فحصاً كاملاً فلم يعثر على بيان الشارع ، فالعقل عندئذ يستقل بقبح العقاب بلا بيان ، وانّه لو كان في الواقع واجباً أو حراماً والعبد تركه أو ارتكبه ، لا يكون معاقباً فانّ عقابه عقاب بلا بيان وهو قبيح بحكم العقل لا يصدر من الله الحكيم.

وعلى ضوء ذلك بنوا أصالة البراءة في عامة الشبهات شريطة أن لا يكون الشكّ مقترناً بالعلم الإجمالي.

ص : 408

ب : وجوب الاحتياط عند العلم الإجمالي

إذا علم المكلّف انّ أحد الفعلين واجب أو انّ أحدهما حرام فعندئذ يجب عليه إتيان الأوّلين معاً وترك الآخرين كذلك ، لأنّ العقل يستقل بالاحتياط ، في كلا الموردين ، لأنّ اشتغال ذمّته بأحد التكليفين قطعي ، والعقل يستقل بأنّ الاشتغال القطعي يبعث الإنسان إلى تحصل البراءة القطعية وهو لا يتحقّق إلاّ بفعل الأوّلين وترك الآخرين وذلك باب واسع في الفقه الإسلامي.

ثمّ إنّ مذهب الأشعري تبعاً لأهل الحديث أنكر التحسين والتقبيح العقليين ، وبذلك صار شعار أهل السنّة حذف العقل عن مجال المعارف والتشريع.

وعمدة أدلّتهم على إنكار الحسن والقبح هو تخيّل انّ القول بالتحسين والتقبيح بمعنى فرض الوجوب على الله من جانب العبد. والله سبحانه فوق أن يقع معرضاً لحكم العقل عليه بالتحسين والتقبيح وبالتالي التكليف على الله بإيجاب الحسن ، وتحريم القبيح. (1)

يلاحظ عليه : أنّ المستدل خلط بين التكليف على الله وكشف ما عنده سبحانه من الحكم من خلال صفاته وكماله ، فالقائل بالملازمة لا يفرض التكليف على الله ، ويقول : أين التراب ورب الأرباب ، لكن هذا لا يمنع من أن نستكشف ما عنده من الأحكام من خلال دراسة صفاته الكمالية ، فهو بما انّه عادل لا يجور ، وحكيم لا يعبث ، وعالم لا يجهل ، نستكشف الأحكام اللائقة به حسب صفاته ، فالتكاليف المخوّلة إليه من قبيل التكاليف التي فرضتها عليه حكمته وعدله

ص : 409


1- شرح المقاصد : 2 / 105 ، طبع الآستانة ، اسلامبول.

وعلمه ، فلو قلنا لا يجوز على الله سبحانه تعذيب البريء أو أخذه بذنب المجرم لا نعني أن نفرض هذا التكليف عليه ، وانّه يجب أن يقوم به ، وإنّما يراد أنّ لازم صفاته الكمالية هو أن لا يفعل ذلك.

وهذا نظير ما يقوم به العلماء من كشف أسرار الطبيعة وقوانينها ، فلو قال القائل بأنّ زوايا المثلث تساوي قائمتين ، فهذا لا يعني إلاّ أنّه في الواقع كذلك لا انّه يجب أن يكون كذلك لأجل حكمه به.

فإذا كان النظام السائد على الكون نظاماً مبنياً على العلم والعدل والحكمة ، فلازم ذلك أن لا يؤخذ البريء بذنب المجرم ، فكشف هذا الحكم نظير كشف القوانين السائدة على الكون في العلوم الطبيعية والرياضية والفلكية.

ص : 410

2- في مجال الملازمات

قد تقدّم انّ العقل حجّة في مجالات خاصة ، منها : حكمه بالتحسين والتقبيح على النحو الذي ذكرنا ، ومن المجالات التي يؤخذ فيها بحكم العقل ويستكشف حكم الشرع ، هو مجال الملازمات ، أعني بها :

1. الملازمة بين الوجوبين ، كوجوب الشيء وجوب مقدّمته.

2. الملازمة بين الحرمتين ، كحرمة الشيء وحرمة مقدّمته.

3. الملازمة بين وجوب الشيء وحرمة ضدّه ، كوجوب المضيق وحرمة الموسّع عند التزاحم.

4. الملازمة بين امتثال المأمور به ، وأجزائه.

5. الملازمة بين النهي عن العبادة ، وفسادها.

6. الملازمة بين النهي عن المعاملة ، وفسادها.

7. الملازمة بين الوجود لدى الوجود ، والانتفاء لدى الانتفاء (المفاهيم).

8. الملازمة بين وجوب الشيء وامتناع وصفه بالحرمة على القول بالامتناع وبالعكس ، أو عدم الملازمة على القول بالاجتماع كما في الصلاة في الدار المغصوبة.

إلى غير ذلك من أبواب الملازمة الموصوفة عندهم بالملازمات غير المستقلة ، فانّ الحكم المستكشف في هذه الموارد عن طريق الملازمة ، حكم

ص : 411

شرعي نظير :

1. كوجوب مقدّمة ، الواجب.

2. حرمة مقدّمة الحرام.

3. حرمة الضدّ الموسّع المزاحم للمضيق كالصلاة عند الابتلاء بإزالة النجاسة عن المسجد ، أو أداء الدين الحال.

4. إجزاء المأتي به وكونه مسقطاً عن الإعادة والقضاء ، سواء كان المأتي به واجباً بالأمر الواقعي ، أو الاضطراري ، كالصلاة مع الطهارة الترابية ، أو بالأمر الظاهري كالصلاة في ثوب نجس واقعاً محكوم بالطهارة ظاهراً.

5. فساد العبادة المنهية ، كالصوم في يوم الفطر.

6. فساد المعاملات كبيع المنابذة.

7. انتفاء الحكم عند انتفاء القيد كما في قوله في سائمة الغنم زكاة.

8. كون الموضوع محكوماً بأحد الحكمين أو كلاهما في الصلاة في الدار المغصوبة.

إلى غير ذلك من الموارد التي توصف بباب الملازمات غير المستقلة. وفي الفقه الشيعي والأُصول دور كبير لباب الملازمات ، فمن مثبت وناف ومفصِّل.

والعجب انّ أهل السنة أعرضوا عن العقل في مجال التحسين والتقبيح ولكن لهم مواقف مشهورة في باب الملازمات حيث طرحوا في علم الأُصول وجوب المقدّمة وحرمتها وهكذا سائر أبواب الملازمات.

قال المحقّق السيد علي القزويني معلّقاً على قول المحقّق القمي : «ومنها ما يحكم به العقل بواسطة خطاب الشرع كالمفاهيم والاستلزامات» أي بملاحظته

ص : 412

كحكمه بوجوب المقدمة بملاحظة الخطاب بذي المقدمة ، وبحرمة الضد ، بملاحظة الخطاب بالمأمور به المضيق ، وبالانتفاء عند الانتفاء بملاحظة الخطاب المعلق على شرط أو وصف أو غيرهما ، لئلا يلغوا التعليق وذكر القيد ويسمّى بالاستلزامات العقلية كحكم العقل باستلزام إيجاب الشيء وجوب مقدماته واستلزام الأمر بالشيء لحرمة ضده ، واستلزام الوجود عند الوجود ، والانتفاء عند الانتفاء فالمفاهيم أيضاً مندرجة في الاستلزامات. (1)

إلى هنا تبيّن حجّية حكم العقل في المجالين :

1. مجال التحسين والتقبيح ويسمّى بالملازمات المستقلة.

2. مجال الملازمات غير المستقلة.

ووجه تسمية الأوّل بالمستقلات والثاني بغيرها ، هو انّ إدراك الموضوع والحكم في الأوّل ، راجع إلى العقل ولا يستعين في حكمه بالشرع ، بل يدرك الموضوع ويصدر الحكم ، كقولنا : العدل حسن والظلم قبيح. بخلاف القسم الثاني ، فانّه في حكمه يستعين بالشرع ، فإنّ الشارع هو المعيّن للموضوع ، مثلاً يقول : إنّ الوضوء مقدمة للواجب ، والعقل يصدر الحكم ويقول مقدمة الواجب واجب ، ومثله سائر الموارد الثمانية.

ص : 413


1- القوانين : 2 / 1 ، قسم الحواشي.
3- في مجال تنقيح المناط لا في مجال تخريجه

إذا اقترن الموضوع في لسان الدليل بأوصاف وخصوصيات لا يراها العرف دخيلة في الموضوع ويتلقّاها من قبيل المثال ، كما إذا ورد في السؤال : رجل شكّ في المسجد بين الثلاث والأربع فأجيب بأنّه يبني على كذا ، فانّ السائل وإن سأل عن الرجل الذي شكّ في المسجد ، لكنّه يتلقّى العرف تلك القيود ، مثالاً ، لا قيداً للحكم ، أي بأنّه يبني على كذا ، فيعمّ الرجل والأُنثى ومن شكّ في المسجد والبيت.

إنّ تنقيح المناط على حدّ يساعده ، الفهم العرفي ممّا لا إشكال فيه ، ولا صلة له بالقياس ، إذ لا أصل ولا فرع ، بل الحكم يعمّ الرجل والأُنثى ، والشاك في المسجد والبيت ، مرة واحدة.

وأمّا تخريج المناط فهو ممنوع ومعناه أنّه إذا قضى الشارع على حكم في محل من دون أن ينصَّ لمناطه ، مثلاً : إذا حرّم الربا المعاوضي في البُرّ فيعمم إلى كل مكيل بدعوى انّ مناط التحريم هو الكيل ، وهذا ما ربما يعبر عنه باستنباط علّة الحكم بطريق من الطرق ، ثمّ تعميم الحكم حسب صدقها على مواردها وقد ذكر له طرقاً سبعة أو أكثر والمهم منها هو استنباط العلة عن طريق السبر والتقسيم. وسيوافيك انّ تخريج المناط بهما ممنوع جدّاً ولا يفيد سوى الظن وسيوافيك توضيحه عند البحث في عدم حجّية القياس.

ص : 414

4- في مجال درك مصالح الأفعال ومفاسدها

إذا أدرك العقل وجود ا لمصلحة أو المفسدة في فعل إدراكاً نوعياً يستوي فيه جميع العقلاء كوجود المفسدة في استعمال المخدرات ففي مثله يكون حكم العقل ذريعة لاستكشاف الحكم الشرعي دون ما لا يكون كذلك ، كإدراك فرد أو فردين وجوب المصلحة الملزمة أو المفسدة ، وذلك.

إذا أدرك العقل المصلحة في شيء أو المفسدة ولم يكن إدراكه مستنداً إلى المصلحة أو المفسدة العامتين يتساوى في إدراكها جميع العقلاء فلا سبيل للعقل إلى الحكم بأنّ ما أدركه علّة ، هي العلة التامة التي يدور الحكم مدارها ، إذ يحتمل أن يكون هناك مانع يمنع من حكم الشارع على وفق ما أدركه العقل وإن كان ما أدرك مقتضياً لحكم الشرع. (1)

يقول المحقّق الاصفهاني : إنّ مصالح الأحكام الشرعية المولوية التي هي ملاكات تلك الأحكام ومناطاتها ، لا تندرج تحت ضابطة ، ولا تجب أن تكون هي بعينها ، المصالح العمومية ، المبنى عليها حفظ النظام وإبقاء النوع وعليه لا سبيل للعقل بما هو إليها.

اللهمّ إلاّ إذا وصل الأمر إلى المصالح والمفاسد العامة التي أطبق العقلاء

ص : 415


1- وبذلك رفضوا المصالح المرسلة التي لم يتّفق العقلاء عليها بل يدركها الفقيه.

عامة على صلاحها أو فسادها على نحو صار من الضروريات وهذا كتعاطي المخدرات التي أطبق العقلاء على ضررها ، ومثله التلقيح الوقائي عند ظهور الأمراض السارية كالجدري والحصبة وغيرهما فقد أصبحت من الأُمور التي لا يتردد في صلاحيتها ذوو الاختصاص.

ص : 416

الفصل الرابع: التشريع تابع للمصالح والمفاسد

اشارة

إنّ الأحكام الشرعية عند الإمامية تابعة للمصالح والمفاسد ، فلا واجب إلاّ لمصلحة في فعله ، ولا حرام إلاّ لمفسدة في اقترافه وانّ التشريع الإسلامي بعيد عن الفوضى ، ونصوص الكتاب والسنّة يشهدان على ذلك.

1. انّه سبحانه يعلِّل وجوب الاجتناب عن الخمر والميسر بأنّهما وسيلتان للعداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله عموماً والصلاة خصوصاً يقول سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ). (1)

كما أنّه يعلل وجوب الصلاة بأنّها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، قال سبحانه : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) (2) إلى غير ذلك من الآيات والروايات التي تشير إلى ملاكات التشريع في الذكر الحكيم.

وأكد الإمام علي بن موسى الرضا - عليه السلام - - في كلماته - على ذلك وقال : «إنّ الله تبارك وتعالى لم يبح أكلاً ولا شرباً إلاّ لما فيه المنفعة والصلاح ، ولم يُحرّم إلاّ ما فيه

ص : 417


1- المائدة : 91.
2- العنكبوت : 45.

الضرر والتلف والفساد». (1)

وقال - عليه السلام - : «في الدم انّه يُسيء الخُلْق ، ويورث القسْوة للقلب ، وقلّة الرأفةَ والرحمةَ ولا يؤمن أن يقتل ولده ووالده». (2)

وقال أبو جعفر الباقر - عليه السلام - : «إنّ مدْمن الخمر كعابد الوثن ، وپيورثه الارتعاشُ ويهدم مروّته ، ويحمله على التجسّر على المحارم من سفك الدماء وركوب الزنا». (3)

إلى غير ذلك من النصوص المتضافرة عن أئمّة الدين. (4)

ولكن المعروف عن الأشاعرة خلاف ذلك ، وذلك لأنّ أفعاله سبحانه عندهم ليست معلّلة بالأغراض ، واحتجّوا لذلك : انّه لو كان فعله تعالى لغرض لكان ناقصاً لذاته ، مستكملاً بتحصيل ذلك الغرض ، لأنّه لا يصلح غرضاً للفاعل إلاّ ما هو أصلح له من عدمه ، وهو معنى الاستكمال. (5)

فإذا كان فعله عارياً عن الغرض ، يكون تشريعه الذي هو أيضاً من أفعاله سبحانه ، خالياً عنه.

ولكن الاستدلال ضعيف غايته ، لأنّ الاستكمال بالغرض إنّما يلزم إذا كان الغرض عائداً إليه سبحانه ، لا إذا كان تفضلاً على العباد ، واستصلاحاً لأحوالهم.

وبعبارة أُخرى : الغاية ، غاية للفعل ، لا للفاعل ، وقد خلط الأشعري بين الغرض الراجع إلى الفاعل ، والغرض الراجع إلى الفعل ، فالاستكمال لازم المعنى

ص : 418


1- مستدرك الوسائل : 3 / 71.
2- بحار الأنوار : 62 / 165 ، الحديث 3.
3- بحار الأنوار : 62 / 164 ، الحديث 2.
4- راجع علل الشرائع ، للشيخ الصدوق.
5- المواقف للإيجي : 331.

الأوّل دون الثاني ، والقائل بكون أفعاله ومنها تشريعاته ، معللة بالأغراض والغايات والدواعي والمصالح ، انّما يعني المعنى الثاني دون الأوّل ، والغرض بالمعنى الأوّل ينافي كونه غنياً مطلقاً في ذاته ، وصفاته ، وأفعاله ولكن إثبات الغرض بالمعنى الثاني يخرج فعله سبحانه عن العبث واللغو ، فالجمع بين كونه سبحانه غنياً غير محتاج إلى شيء ، وكونه حكيماً منزهاً عن العبث واللغو يتحقّق بالقول باشتمال أفعاله على مصالح وحكم ترجع إلى العباد لا إلى وجوده وذاته.

ثمّ إنّ النصوص الصريحة تؤيد موقف الإمامية في ذلك.

يقول سبحانه : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ). (1)

وقال عزّ من قائل : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ). (2)

وقال سبحانه : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ). (3)

وقال سبحانه : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ). (4) إلى غير ذلك من الآيات التي تنفي العبث عن فعله وتصرح باقترانه بالحكمة والغرض.

إجابة عن سؤال

قد تقدّم في الفصل الثاني انّ العقل من مصادر التشريع في موردين فقط :

1. إذا استقل بحسن الفعل أو قبحه.

2. إذا أدرك الملازمة بين الحكمين.

ص : 419


1- المؤمنون : 115.
2- الدخان : 38.
3- ص : 27.
4- الذاريات : 56

وسبق انّه إذا أدرك الفعل مصالح ومفاسد في الفعل من عند نفسه - دون ورود نصّ حولهما - فلا يصح للفقيه أن يتخذه ذريعة إلى استكشاف الحكم الشرعي من الوجوب والحرمة ، بحيث يكون علمه بالمصالح والمفاسد من مصادر التشريع.

ومع هذا الاعتراف كيف يصحّ القول بأنّ الأحكام الشرعية رهن المصالح والمفاسد؟!

وأمّا الإجابة فواضحة ، إذ لا منافاة بين الأمرين فانّ الكلام هنا في مقام الثبوت وانّ التشريع الإسلامي ، رهن الملاكات والمناطات عند الله سبحانه وربما يقف عليها العباد عن طريق النصّ كما أنّهم كثيراً ما يجهلون بعلل التشريع. والحاصل : وليس التشريع فوضى غير خاضع للملاك.

وهذا لا ينافي ما رفضناه من أنّه ليس للفقيه الخوض في تعيين مصالح الأفعال ومفاسدها فيحكم على الأوّل بالوجوب وعلى الثاني بالحرمة لقصور العقل عن الإحاطة بالمصالح والمفاسد الواقعية وربما يدرك العقل مصلحة أو مفسدة ويغفل عن موانعهما ، فإدراكه أحد الأمرين لا يكون دليلاً على التشريع.

مرجّحات باب التزاحم
اشارة

ثمّ إنّ المصالح والمفاسد ، لما لم تكن على وزان واحد ، بل رب واجب يسوغ في طريق إحرازه ، اقتراف بعض المحرّمات ، لاشتماله على مصلحة كثيرة لا يجوز تركها بحال ، كإنقاذ الإنسان المتوقف على استطراق أرض الغير ، بلا إذنه ، ورب حرام ذي مفسدة كبيرة لا يجوز اقترافه وإن استلزم ترك الواجب أو الواجبات. فلذلك يحكم العقل بتقديم الأهم على المهم عند التزاحم.

ص : 420

وعلى هذا الأساس ، فَتح الفقه الإمامي باباً باسم «التزاحم» - وهو غير باب التعارض - وانّه إذا كان هناك تزاحم بين الواجبين أو الحرامين ، أو الواجب وارتكاب الحرام ، يقدّم الأهم منها على المهم ، وقد أعان ذلك على حل كثير من المشاكل الاجتماعية التي ربما يتوهم الجاهل انّها تعرقل خطا التشريع الإسلامي ، عن التحرك نحو الأمام ومسايرة الحياة ، ونأتي بمثال.

أصبح تشريح بدن الإنسان في المختبرات من الضروريات الحيويّة التي يتوقف عليه نظام الطب الحديث فلا يتسنّى تعلم الطب إلاّ بالتشريح والاطّلاع على خفايا الأمراض والأدوية ، غير أنّ هذه المصلحة ، تصادمها مصلحة احترام المؤمن حيّه وميته إلى حد أوجب الشارع التسريعَ بتغسيله وتكفينه وتجهيزه للدفن ، كما حرّم نبش قبره إذا دفن وحرّم التمثيل به وتقطيع أعضائه ، لانّه من المحرمات التي لم يجوزها الشارع حتّى بالنسبة إلى الكلب العقور.

لكن عناية الشارع بالصحة العامة صارت سبباً لتسويغ هذا العمل لتلك الغاية الكبرى مقدِّماً بدن الكافر على المسلم ، والمسلم غير المعروف على المعروف وهكذا.

ولمعرفة التزاحم ومعرفة مرجحاته دور كبير في استنباط كثير من الأحكام التي لم ترد في الكتاب والسنّة بشرط تميز الأهم من المهم ، تمييزاً قطعياً ، مستند إلى الدليل ، ولأجل ذلك نذكر شيئاً من مرجحات ذلك الباب :

1. تقديم ما لا بدل له على ما له بدل

إذا كان واجبان لأحدهما بدل شرعاً دون الآخر ، فالعقل يحكم بتقديم الثاني على الأوّل جمعاً بين الامتثالين ، كالتزاحم الموجود بين رعاية الوقت وتحصيل

ص : 421

الطهارة الحدثية بالماء ، فبما أنّ الوقت فاقد للبدل بخلاف الطهارة الحدثية فانّ له البدل كالتراب ، فتقدّم مصلحة الوقت على تحصيل مصلحة الطهارة الحدثية بالماء فيتيمّم.

2. تقديم المضيّق على الموسّع

إذا كان هناك تزاحم بين المضيّق الذي لا يرضى المولى بتأخيره والموسّع الذي لا يفوت بالاشتغال بالواجب المضيّق إلاّ فضيلة الوقت ، يحكم العقل بتقديم الأوّل ولذلك تجب إزالة النجاسة أوّلاً ، ثمّ القيام إلى الصلاة ثانياً.

فإن قلت : إنّ مرجع المرجّح الثاني إلى المرجّح الأوّل فانّه من باب تقديم ما لا بدل له كالمضيّق على ما له بدل ، كالموسّع ، إذ له إبدال طول الوقت.

قلت : لا مشاحة في الاصطلاح فيطلق الأوّل على ما يكون البدل في عرض ما لا بدل له كاجتماع الطهارة الحدثية الترابية مع الطهارة الخبثية بالماء في صلاة واحدة بخلاف الثاني ، فانّما يطلق على ما إذا كان ماله البدل في طول ما ليس له البدل كإزالة النجاسة في الوقت الأوّل والصلاة في الوقت الثاني.

3. تقديم الواجب التعييني على التخييري

إذا كان هناك تزاحم بين امتثال الواجب التعييني كأداء الدين وامتثال الواجب التخييري ببعض أعداله كإطعام ستّين مسكيناً بحيث لا يتمكّن من أداء الدين إذا صرفه في كفّارة شهر رمضان عن طريق الطعام ، وهكذا العكس ، فالعقل يحكم بأداء الدين ، إذ ليس له بدل ، وامتثال وجوب الكفّارة عن طريق الصوم.

ص : 422

4. تقديم أحد المتزاحمين على الآخر لأهميّته

هذا هو المرجّح الواضح في باب المتزاحمين ، فإذا دار الأمر بين ترك الأهمّ والمهمّ فالعقل يحكم بترك المهمّ وامتثال الأهم ، وهذا من القضايا التي قياساتها معها.

5. سبق امتثال أحد الحكمين زماناً

إذا كان أحد الواجبين سابقاً في مقام الامتثال على الآخر زماناً كما إذا وجب صوم يوم الخميس والجمعة ولا يقدر إلاّ على صيام يوم واحد ، ومثله إذا وجبت عليه صلاتان ولا يتمكّن إلاّ من الإتيان بواحدة منهما قائماً ، أو وجبت صلاة واحدة ولا يتمكّن إلاّ من القيام في ركعة واحدة ؛ ففي جميع هذه الصور يستقل العقل بتقديم ما يجب امتثاله سابقاً على الآخر حتّى يكون في ترك الواجب في الزمان الثاني معذوراً إلاّ إذا كان الواجب المتأخّر أهمّ في نظر المولى فيجب صرف القدرة في الثاني ، وهو خارج عن الفرض. وبعبارة أُخرى : لو صام يوم الخميس أو صلّى الظهر قائماً فقد ترك صوم الجمعة والقيام في صلاة العصر عن عذر وحجّة ، بخلاف ما إذا أفطر يوم الخميس وصلّى الظهر قاعداً فقد ترك الواجب بلا عذر.

6. تقديم الواجب المطلق على المشروط

إذا كان هناك واجب مطلق ، وآخر مشروط لم يحصل شرطه ، يقدّم المطلق على المشروط كما إذا احتلم المعتكف ، فانّ مكثَ الجنب في المسجد حرام ، وخروجَ المعتكف في اليوم الثالث حرام ، لكنّه مشروط بعدم الحاجة ، ولكن الشرط العدمي غير حاصل فيقدّم الخروج على البقاء.

ص : 423

ونظيره إذا حصل في يده مال ، يدور أمره بين صرفه في نفقة من يجب عليه الإنفاق عليه بلا شرط كالزوجة غير الناشزة ، والوالدين والأولاد ، وصرفه في الحجّ ، فيقدّم الأوّل ، لأنّ الثاني مشروط بالاستطاعة ، وهي من ملك زاد نفسه وزاد من تجب نفقته عليه والراحلة والعود إلى الكفاية ، وشرط الثاني غير موجود ، لأنّه يجب عليه صرفه في نفقة هؤلاء بلا شرط ، ومعه ينتفي شرط وجوب الحجّ وهو الاستطاعة.

ص : 424

الفصل الخامس: ما هو المرجع فيما لا نصّ فيه في الفقه الشيعي؟

اشارة

إنّ المرجع عند الشيعة الإمامية في ما لا نصّ فيه في الكتاب والسنّة وليس فيه إجماع بين الأُمّة ولا يمكن استنباطه من العقل هو الأُصول العملية ، أعني بها :

1. أصالة البراءة.

2. أصالة الاشتغال.

3. أصالة التخيير.

4. الاستصحاب.

5. الأُصول الخاصة بمورد دون مورد.

وإليك تفصيل مجاري تلك الأُصول.

الأدلّة الشرعية التي يتمسّك بها المستنبط على قسمين :

ألف : أدلّة اجتهادية.

ب. أُصول عملية.

وهذا التقسيم من خصائص الفقه الشيعي ، وأمّا الفرق بينهما فهو :

ص : 425

إنّ الدليل قد يكون طريقاً إلى الحكم الشرعي إمّا طريقاً قطعياً ، كالكتاب والسنّة المتواترة والإجماع المحصّل وحكم العقل ، أو طريقاً مورثاً للاطمئنان ، كالخبر المستفيض ، وخبر الثقة ، وهذا ما يسمّى بالدليل الاجتهادي أو الأمارات الشرعية.

وأمّا إذا قصرت يد المجتهد عن الدليل الشرعي الموصل إلى الواقع ، وصار شاكاً متحيراً في حكم الواقعة ، فعند ذلك عالج الشارع تحيّر المجتهد بوضع قواعد لها جذور بين العقلاء ، وهذا ما يسمّى بالأُصول العملية ، أو الدليل الفقاهي ، وهي بين أُصول خاصة بباب ، أو عامة شاملة لجميع أبواب الفقه ، فمن القسم الأوّل القواعد التالية :

1. قاعدة الطهارة : كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر.

2. أصالة الحلية : كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام.

3. أصالة الصحّة في فعل الغير.

4. قاعدة التجاوز والفراغ عند الشك في صحّة عمل النفس بعد التجاوز عن محله.

5. القرعة لكلّ أمر مشكل.

ومن القسم الثاني الأُصول التالية :

1. أصالة البراءة

إذا شكّ في وجوب شيء أو حرمته بعد الفحص عن مظانّه ولم يقف على ما دلّ على وجوبه أو على حرمته ، فالعقل والشرع يحكمان بعدم صحّة العقاب على مخالفته ، وهذا ما يعبر عنه بالبراءة العقلية أو الشرعية.

ص : 426

أمّا العقلية فلاستقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان كما عرفت.

وأمّا الشرعية فلقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «رفع عن أُمّتي تسعة : الخطأ والنسيان وما أُكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه ...». (1)

2. أصالة الاشتغال

إذا علم بوجوب شيء مردّد بين أمرين أو حرمته كذلك ، فالعقل يستقل بالاشتغال والاحتياط بمعنى الإتيان بهما أو ترك كليهما ، لأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة القطعية ، فقد تضافر العقل والنقل على الاحتياط.

أمّا العقل ، فلاستقلاله على لزوم تحصيل البراءة بعد الاشتغال اليقيني.

وأمّا الشرع ، فلما ورد في غير واحد من الروايات في أنّ المبتلى بإناءين مشتبهين إذا علم بنجاسة أحدهما يهريقهما ويتيمّم. (2)

3. أصالة التخيير

إذا دار حكم الشيء بين الوجوب والحرمة ؛ فبما أنّ التحصيل اليقيني أمر محال ، فهو يتخير بين الأخذ بأحد الحكمين إذا لم يكن أحدهما أهم من الآخر ، وهذا ما يعبر عنه بأصالة التخيير.

4. الاستصحاب

إذا تيقّن بوجوب شيء ، أو حرمته ، أو طهارته ، أو نجاسته ، ثمّ عرض له الشك في بقاء المتيقّن السابق فيحكم بالبقاء ، وهو أصل عقلائي إجمالاً أمضاه

ص : 427


1- الخصال : 417 ، باب التسعة ، الحديث 9.
2- الوسائل : الجزء 1 ، الباب 8 من أبواب الماء المطلق ، الحديث 82.

الشارع وتضافرت روايات عن أئمّة أهل البيت على حرمة نقض اليقين بالشك.

فهذه هي الأُصول العملية الأربعة المستمدة حكمها من العقل والشرع.

فظهر انّ الأُصول على قسمين ، إمّا خاصة ببعض الأبواب ، أو عامة شاملة لجميع أبواب الفقه.

وبما ذكرنا من أنّ الأُصول العملية الخاصة أو العامة تستمد حكمها من الكتاب أو السنّة أو العقل ، فهي ليست من مصادر التشريع برأسها ، وإنّما ترجع إلى المنابع الأربعة الأُولى ؛ خلافاً لما يتراءى من أهل السنّة ، فجعلوا البراءة أو الاستصحاب في عرض الكتاب والسنّة ، كما جعلوا القياس أيضاً كذلك.

وأمّا أهل السنّة ، فالمرجع عندهم فيما لا نصّ فيه ، هي الأُمور السبعة التالية التي نطرحها على صعيد البحث والدراسة ، في الفصل التالي.

ص : 428

الفصل السادس: ما هو المرجع فيما لا نصّ فيه في الفقه السنّيّ؟

اشارة

قد تعرّفت على ما هو المرجع فيما لا نصّ فيه عند الشيعة الإمامية بقي الكلام في بيان ما هو المرجع عند أهل السنّة فيما لا نصّ فيه.

إنّ قلة النصوص الشرعية في الأحكام هو السبب الرئيسي لالتجاء فقهائهم إلى العمل بالقواعد الظنية ، وهي كالتالي :

1. القياس.

2. الاستحسان.

3. المصالح المرسلة (الاستصلاح).

4. سدّ الذرائع.

5. فتح الذرائع.

6. قول الصحابي.

7. اتّفاق أهل المدينة.

فما ذكرناه من المصادر هي المعروفة بين فقهاء المذاهب الأربعة وإن كان

ص : 429

بينهم اختلاف في حجّية بعض دون بعض ، فمثلاً القياس قد اتّفقوا على حجّيته جميعاً ، غير الظاهرية في حين انّ المصالح المرسلة قد انفرد بها مالك وإن نسب القول بها إلى غيره كما سيتضح فيما بعد ، فنسبة هذه الأُمور إلى أهل السنّة لا تعني انّهم يعتبرون الجميع على حدّ سواء ، بل انّ بعضها محلّ خلاف بينهم.

ص : 430

1- مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه عند أهل السنّة
القياس
اشارة

ظهر القول بالقياس بعد رحيل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لمواجهة الأحداث الجديدة وكان هناك اختلاف حادّ بين الصحابة في الأخذ به ، ولو توفرت بأيديهم نصوص في الموضوع ، لما حاموا حول القياس ، ولكن إعواز النصوص جرّهم إلى القياس لأجل معالجة المشاكل العالقة والمسائل المستحدثة وقد نقل ابن خلدون عن أبي حنيفة انّه لم يصح عنده من أحاديث الرسول إلاّ سبعة عشر حديثاً. (1)

فإذا كان الصحيح عنده هذا المقدار اليسير فكيف يقوم باستنباط الأحكام من الكتاب والسنّة؟ فلم يكن له محيص إلاّ اللجوء إلى القياس ونظائره.

فأئمّة أهل البيت - عليهم السلام - ولفيف من الصحابة والتابعين رفضوه ، وأكثروا من ذمّه ، والشيعة عن بكرة أبيهم تبعاً للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأهل بيته أبطلوا العمل بالقياس ، ووافقهم من الفقهاء داود بن خلف ، إمام أهل الظاهر ، وتبعه ابن حزم الأندلسي فلم يقيموا له وزناً ، وأوّل من توسع في القياس هو أبو حنيفة شيخ أهل القياس وتبعه مالك والشافعي وابن حنبل وقال الشافعي : ليس لأحد أبداً أن يقول في

ص : 431


1- مقدّمة ابن خلدون : 444 ، الفصل السادس في علوم الحديث.

شيء : حل ولا حرم إلاّ من جهة العلم ، وجهة العلم الخبر في الكتاب أو السنّة أو الإجماع أو القياس. (1)وقبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً :

الأوّل : القياس لغة واصطلاحاً

قال في «لسان العرب» : قاس الشيء يقيسه قَيساً : إذا قدّره على مثاله والمقياس : المقدار. (2)

ومن ذلك يقال : قاس الثوب بالذراع إذا قدّره به ، وفي كلام عليّ - عليه السلام - : «لا يقاس بآل محمّد من هذه الأُمّة أحد» أي لا يسوّى بهم أحد.

وأمّا اصطلاحاً فيستعمل في موردين ، أحدهما مهجور والآخر ذائع.

الأوّل : التماس العلل الواقعية للأحكام الشرعية من طريق العقل وجعلها مقياساً لصحة النصوص الشرعيّة فما وافقها يحكم عليه انّه حكم الله الذي يُؤخذ به وما خالفها كان موضعاً للرفض أو التشكيك ، وعلى هذا النوع من الاصطلاح تنزّل التعبيرات الشائعة : انّ هذا الحكم موافق للقياس وذلك الحكم مخالف له.

وقد كان القياس بهذا المعنى مثارَ معركة فكرية واسعة النطاق على عهد الإمام الصادق - عليه السلام - وبعض فقهاء عصره. وعلى هذا الاصطلاح دارت المناظرة التالية بين الإمام وأبي حنيفة : روى أبو نعيم بسنده عن عمرو بن جميع : دخلتُ على جعفر بن محمد أنا وابن أبي ليلى وأبو حنيفة ، فقال لابن أبي ليلى : من هذا

ص : 432


1- الرسالة : 39 ، تحقيق حمد محمد شاكر.
2- لسان العرب : مادة قاس.

معك؟! قال : هذا رجل له بصر ونفاذ في أمر الدين ، قال : «لعلّه يقيس أمر الدين برأيه» إلى أن قال : «يا نعمان ، حدثني أبي عن جدّي انّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : أوّل من قاس أمر الدين برأيه إبليس ، قال الله تعالى له : اسجد لآدم فقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ، فمن قاس الدين برأيه قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس لأنّه اتّبعه بالقياس». (1)

فالقياس في هذه الرواية منصرف إلى هذا المصطلح حيث إنّ إبليس تمرّد عن الأمر بالسجود ، لأنّه على خلاف قياسه لتخيله انّ الأمر بالسجود يقتضي أن يبتني على أساس التفاضل العنصري ، ولأجل هذا خطّأ الحكم الشرعي لاعتقاده بأنّه أفضل في عنصره من آدم لكونه مخلوقاً من نار وهو مخلوق من طين. (2)

وعلى هذا الاصطلاح يبتني ما رواه أبان حيث يقول :

قلت لأبي عبد الله - عليه السلام - : ما تقول في رجل قطع إصبعاً من أصابع امرأة ، كم فيها؟ قال : «عشرة من الإبل» ، قلت : قطع اثنين؟ قال : «عشرون». قلت : قطع ثلاثاً؟ قال : «ثلاثون».

قلت : قطع أربعاً؟ قال : «عشرون».

قلت : سبحان الله! يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع أربعاً فيكون عليه عشرون؟! انّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله ، ونقول : إنّ الذي قاله ، الشيطان ، فقال - عليه السلام - : «مهلاً يا أبان! هذا حكم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - انّ المرأة تعاقل الرجل إلى ثُلث الدية ، فإذا بلغت الثلث رجعت المرأة إلى النصف ، يا أبان انّك

ص : 433


1- حلية الأولياء : 3 / 197.
2- الأُصول العامة للفقه المقارن للسيد محمد تقي الحكيم : 315. وهو - قدس سره - أوّل من نبّه بوجود اصطلاحين في استعمال القياس.

أخذتني بالقياس ، والسنّة إذا قيست محق الدين». (1)

إنّما صار أبان إلى تخطئة الخبر الذي وصل إليه حتّى نسبه إلى الشيطان ، لأجل أنّه وجده خلاف ما حصّله وأصّله ، وهو انّه كلّما ازدادت الأصابع المقطوعة تزداد الدية فلمّا سمع قوله «قطع أربعاً ، قال : عشرون» قامت سورته ، إذ وجده مخالفاً للأصل الأصيل عنده ، فردعه الإمام بأنّ هذا هو حكم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وانّ استنكارك قائم على الأخذ بالقياس ، والسنّة إذا قيست محق الدين ، وتصحيح الأحكام وتخطئتها حسب الموازين المتخيّلة سبب لمحق الدين ، وأنّى للعقول أن تصل إليها.

هذا أحد المصطلحين في القياس ، وقد صار هذا الاصطلاح مهجوراً في العصور المتأخرة ، والرائج هو الاصطلاح التالي.

الثاني : هو استنباط حكم واقعة - لم يرد فيها نصّ - عن حكم واقعة ورد فيها نص لتساويهما في علّة الحكم ومناطه وملاكه.

هذا هو القياس الذي وقع معركة للنقاش والجدال ، وما ذكرنا من التعريف أوضح التعاريف وأفضلها ، وقد عرف بتعاريف أُخرى.

1. حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما ، أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من حكم أو صفة. (2)

2. مساواة فرع لأصله في علّة حكمه الشرعي.

إلى غير ذلك من التعاريف.

ص : 434


1- وسائل الشيعة : 29 / 352 ؛ القوانين المحكمة : 2 / 89.
2- إرشاد الفحول : 2 / 198.
الثاني : أركان القياس

ثمّ إنّ أركان القياس أربعة :

الأصل : وهو المقيس عليه.

الفرع : وهو المقيس.

الحكم : وهو ما يحكم به على الثاني بعد الحكم به على الأوّل.

العلة : وهي الوصف الجامع ، الذي يجمع بين المقيس والمقيس عليه ، ويكون هو السبب للقياس.

مثلاً إذا قال الشارع : «الخمر حرام» وثبت بطريق انّ علّة التحريم هو الإسكار ، فإذا شككنا في حكم سائر السوائل المسكرة كالنبيذ والفقاع يحكم عليهما بالحرمة ، لاشتراكهما مع الخمر في الجهة الجامعة.

الثالث : إمكان العمل بالقياس

لا شكّ انّ التعبد بالقياس أمر ممكن فللشارع أن يتعبّدنا به كما تعبدنا بالعمل بقول الثقة ، وما ربما يُنسب إلى الشيعة بقولهم بامتناع العمل بالقياس وعدم إمكانه (1) ففي غير موضعه.

وذلك لأنّ القياس كسائر الأدلّة الظنية المشتركة في إمكان التعبّد به ، وإنّما الكلام في وقوعه وعدم ورود النهي عنه ، فالشيعة الإمامية على الثاني.

ويعجبني أن أنقل كلمة لبعض علمائنا السابقين لمناسبتها المقام :

يقول ابن زهرة الحلبي (511 - 585 ه) : ويجوز من جهة العقل التعبّد بالقياس في الشرعيات ، لأنّه يمكن أن يكون طريقاً إلى معرفة الأحكام الشرعية

ص : 435


1- المستصفى : 2 / 56.

ودليلاً عليها ، ألا ترى أنّه لا فرق في العلم بتحريم النبيذ المسكر مثلاً بين أن ينصَّ الشارع على تحريم جميع المسكر ، وبين أن ينصَّ على تحريم الخمر بعينها ، وينص على أنّ العلّة في هذا التحريم ، الشدة.

ولا فرق بين أن ينصّ على العلة ، وبين أن يدل بغير النص على أنّ تحريم الخمر لشدتها أو ينصب لنا أمارة تغلب في الظن عندها انّ تحريم الخمر لهذه العلّة مع إيجابه القياس علينا في هذه الوجوه كلّها ، لأنّ كلّ طريق منها ، يوصل إلى العلم بتحريم النبيذ المسكر ، ومن منع من جواز ورود العبادة بأحدها كمن صنع من جواز ورودها بالباقي. (1)

الرابع : أقسام القياس

القياس ينقسم إلى منصوص العلة ومستنبطها.

فالأوّل عبارة عمّا إذا نصّ الشارع على علّة الحكم وملاكه على وجه علم انّه علّة الحكم التي يدور الحكم موردها ، لا حكمته التي ربما يتخلّف الحكم عنها.

والثاني : فيما إذا لم يكن هناك تنصيص من الشارع عليها ، وإنّما قام الفقيه باستخراج علّة الحكم بفكره وجُهده ، فيطلق على هذا النوع من القياس ، مستنبط العلّة.

وينقسم مستنبط العلّة إلى قسمين :

تارة يصل الفقيه إلى حد القطع بأنّ ما استخرجه علّة الحكم ومناطه ، وأُخرى لا يصل إلاّ إلى حدّ الظن بكونه كذلك.

ص : 436


1- غنية النزوع : 386 ، قسم الأُصولين ، الطبعة الحديثة.

وقلّما يتّفق لإنسان عادي أن يقطع بأنّ ما وصل إليه من العلّة هو علّة التشريع ومناطه واقعاً ، وليس هناك ضمائم أُخرى وراء ما أدرك.

الخامس : الفرق بين علّة الحكم وحكمته

كثيراً ما يختلط على الفقيه علّة الحكم مع حكمته ، والعلّة هي ما يدور الحكم مدارها ، والحكمة أعمّ من ذلك.

وبعبارة أُخرى : لو كان الحكم دائراً مدار الشيء وجوداً وعدماً فهو علّة الحكم ومناطه ، كالإسكار بالنسبة إلى الخمر ، وأمّا إذا كان الحكم أوسع ممّا ذكر في النصّ ، أو استُنبط فهو من حِكَم الأحكام ومصالحه ، لا من مناطاته وملاكاته ، فمثلاً :

وهذا ما سمّوه ب «المناسب المؤثر» يقول خلاف : ولا خلاف بين العلماء في بناء القياس على المناسب المؤثر ويسمّون القياس بناء عليه قياساً في معنى الأصل. (1)

ولعلّ من هذا القبيل قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - في الهرة : «إنّها ليست بنجس انّها من الطوافين عليكم والطوافات». (2) فلو كان المفهوم من الرواية «انّ الطواف» علة الحكم ويدور مدارها ، صحّ إلحاق الحشرات من الفأرة وغيرها بها ، وأمّا لو قلنا بأنّه حكمة الحكم ، لا علّته ، يتوقّف في الإلحاق.

نعم الإنجاب وتشكيل الأُسرة من فوائد النكاح ومصالحه ، وليس من مناطاته وملاكاته ، بشهادة انّه يجوز تزويج المرأة العقيمة واليائسة ومن لا تطلب ولداً بالعزل ، وغير ذلك من أقسام النكاح.

ص : 437


1- مصادر التشريع فيما لا نص فيه : 45.
2- سنن الترمذي : 1 / 154 ، كتاب الطهارة ، ح 92.

ولنذكر مثالاً آخر : قال سبحانه : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). (1)

ففرض سبحانه على المطلّقة تربّص ثلاثة قروء بُغية استعلام حالها من حيث الحمل وعدمه ، وأضاف سبحانه بأنّها لو كانت حاملاً فعدتها أن تضع حملها ، قال سبحانه : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ). (2)

ولكن استعلام حال المطلّقة ليس ضابطاً للحكم ولا ملاكاً له ، بل من حِكَمِه ، بشهادة انّه لو غاب زوجها عنها مدّة سنة أو أقلّ أو أكثر فطلّقها يجب عليها التربّص مع العلم بعدم حملها منه.

كلّ ذلك يعرب عن أنّ بعض ما ورد في الشرع بصورة العلّة ، ربما تكون حكمة ومصلحة.

قال أبو زهرة : الفارق بين العلّة والحكمة ، هو انّ الحكمة غير منضبطة بمعنى انّها وصف مناسب للحكم يتحقّق في أكثر الأحوال ، وأمّا العلة فهي وصف ظاهر منضبط محدود ، أقامه الشارع أمارة على الحكم. (3)

السادس : حكم القياس في منصوص العلّة

العمل بالقياس في منصوص العلّة راجع في الحقيقة إلى العمل بالسنّة ، لا بالقياس ، لأنّ الشارع شرّع ضابطة كلية عند التعليل فنسير على ضوئها في جميع الموارد التي تمتلك تلك العلة.

نفترض انّه ورد في الحديث : «الخمر حرام لأنّه مسكر» فإلحاق غير الخمر

ص : 438


1- البقرة : 228.
2- الطلاق : 4.
3- أُصول الفقه لأبي زهرة : 223 و 233.

من سائر المسكرات عليه ليس عملاً بالقياس المصطلح ، بل عمل بالسنّة الشريفة والضابطة الكلية التي أدلى بها الشارع.

وعلى ضوء ذلك فما يلحق من الفروع بالأصل المنصوص ليس قياساً أوّلاً بل عمل بالسنّة ، وعلى افتراض كونه عملاً بالقياس فهو خارج عن محل النزاع ثانياً ، وقد أطبق مشايخنا الإمامية على العمل بمنصوص العلّة.

توضيحه : إذا كان استخراج الحكم غير متوقّف إلاّ على فهم النص بلا حاجة إلى اجتهاد ، فهو عمل بالظاهر ، بخلاف ما إذا كان متوقفاً وراء فهم النص إلى بذل جهد ، والوقوف على المناط ثمّ التسوية ثمّ الحكم ، قال سبحانه : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ). (1) فلا نحتاج في فهم حكم الخير الكثير إلاّ إلى فهم مدلول الآية.

ولنذكر مثالاً من طريقنا.

روى محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الإمام الرضا - عليه السلام - ، أنّه قال : «ماء البئر واسع لا يفسده شيء ، إلاّ أن يتغيّر ريحه أو طعمه فيُنزح حتّى يذهب الريح ، ويطيب طعمه لأنّ له مادة». (2)

فإنّ قوله : «لأنّ له مادة» بما أنّه تعليل لقوله : «لا يفسده شيء» يكون حجّة في غير ماء البئر أيضاً ، فيشمل التعليل بعمومه ، ماءَ البئر ، وماءَ الحمام والعيون وحنفيةَ الخزّان وغيرها فلا ينجس الماء إذا كان له مادة ، فالعمل عندئذ بظاهر السنّة لا بالقياس ، فليس هناك أصل ولا فرع ولا انتقال من حكم الأصل إلى الفرع

ص : 439


1- الزلزلة : 7.
2- وسائل الشيعة : 1 ، الباب 14 من أبواب الماء المطلق ، الحديث 6.

بل موضوع الحكم هو العلة والفروع بأجمعها داخلة تحته.

وعلى ضوء ما ذكرنا ، يكون العمل بالملاك المنصوص عملاً بظاهر السنّة لا بالقياس ، وأمّا المجتهد فعمله تطبيق الضابطة التي أعطاها الشارع على جميع الموارد دفعة واحدة فليس هناك أصل ولا فرع ولا انتقال من حكم الأصل إلى الفرع ، بل موضوع الحكم هو العلة والفروع بأجمعها داخلة تحتها.

وإن شئت قلت : هناك فرق بين استنباط الحكم عن طريق القياس وبين استنباط الحكم عن طريق تطبيق القاعدة المعطاة على مواردها.

ففي الأوّل أي استنباط الحكم من طريق القياس ، يتحمل المجتهد جُهداً في تخريج المناط ، ثمّ يجعل الموضوع الوارد في الدليل أصلاً ، والذي يريد إلحاقه به فرعاً وأمّا الثاني فيكفي فيها فهم النصّ لغة بلا حاجة إلى الاجتهاد ، ولا إلى تخريج المناط فيكون النص دالاّ على الحكمين بدلالة واحدة.

يقول سبحانه : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) (1) دلت الآية على وجوب الاعتزال في المحيض ، وعلّل بكونه أذى ، فلو دلّت الآية على كونه تمام الموضوع للحكم فيتمسك بها في غير المحيض إذا كان المسّ أذى كالنفاس وليس ذلك في العمل بالقياس بل من باب تطبيق الضابطة على مواردها.

السابع : قياس الأولوية

إذا كان ثبوت الحكم في الفرع أولى من ثبوته في الأصل لقوة العلّة المفهومة فيه بطريق النص فهو قياس الأولوية ، وهو حجّة على الإطلاق وهو أيضاً عمل

ص : 440


1- البقرة : 222.

بالنص لا بالقياس وعلى فرض كونه قياساً فهو حجّة عند الجميع نظير الاحتجاج بقوله سبحانه : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) على تحريم ال (1) ضرب ، ولا شكّ في وجوب الأخذ بهذا الحكم ، لأنّه مدلول عرفي يقف عليه كلّ من تدبّر في الآية.

الثامن : تنقيح المناط

إذا اقترن الموضوع في لسان الدليل بأوصاف وخصوصيات لا يراها العرف دخيلة في الموضوع ويتلقّاها من قبيل المثال ، كما إذا ورد في السؤال : رجل شكّ في المسجد بين الثلاث والأربع فأجيب بأنّه يبني على كذا ، فانّ السائل وإن سأل عن الرجل الذي شكّ في المسجد ، لكنّه يتلقّى العرف تلك القيود ، مثالاً ، لا قيداً للحكم ، أي بأنّه يبني على كذا ، فيعمّ الرجل والأُنثى ومن شكّ في المسجد والبيت.

إنّ تنقيح المناط على حدّ يساعده ، الفهم العرفي ممّا لا إشكال فيه ، ولا صلة له بالقياس ، إذ لا أصل ولا فرع ، بل الحكم يعمّ الرجل والأُنثى ، والشاك في المسجد والبيت ، مرة واحدة.

ولعلّ من هذا القبيل قصة الأعرابي حيث قال : هلكت يا رسول الله ، فقال له : ما صنعت؟ قال وقعت على أهلي في نهار رمضان ، قال : اعتق. (2)

والعرف يساعد على إلغاء القيود الثلاثة التالية وعدم مدخليتها في الحكم.

1. كونه أعرابياً.

2. الوقوع على الأهل.

3. صيام شهر رمضان.

ص : 441


1- الإسراء : 23.
2- صحيح مسلم ، كتاب الصيام ، الحديث 187 ، وقد روي بطرق مختلفة وباختلاف يسير في المتن.

فيعمّ البدوي والقروي والوقوع على الأهل وغيره وصيام شهر رمضان وغيره فيكون الموضوع من أفطر بالوقاع صومَه الواجب.

إنّ تنقيح المناط من المزالق للفقيه وربما يُلغي بعض القيود باستحسان ، أو غيره مع عدم مساعدة العرف عليه ، فعليه الاحتياط التام في تنقيح موضوع الحكم والاقتصار بما يساعد عليه فهم العرف على إلغاء القيد وإن شك ، في مساعدة العرف على الإلغاء وعدمها ، فليس له تعميم الحكم.

وعلى كلّ حال ، فهذه التعميمات ، لا صلة لها بالقياس ، وإنّما هي استظهار مفاد الدليل واستنطاقه حسب الفهم العرفي.

وهذا ما يعبر عنه في الفقه الإمامي ، بإلغاء الخصوصية ، أو مناسبة الحكم والموضوع ، مضافاً إلى التعبير عنه ب «تنقيح المناط».

التاسع : المتشابهان غير المتماثلين

إنّ مصبّ القياس هو الأمران المتشابهان لا الأمران المتماثلان ، فكم فرق بين المتماثلين والمتشابهين ، فمثلاً إذا أثبتنا بالتجربة أنّ الفلز يتمدّد بالحرارة ، فيكون ذلك معياراً كلّياً لكلّ فلز مماثل وأنّه يخضع لنفس الحكم ، وهذا خارج عن مصبّ البحث ، إنّما الكلام في القياس بين أمرين متغايرين نوعاً ، متشابهين في جهة خاصة ، فهل يصحّ لنا تسرية حكم الأصل إلى الفرع بذريعة وجود التشابه بينهما أو لا؟ فمثلاً الخمر نوع حرام بالنصّ ، والفقّاع نوع آخر ، لأنّ الأوّل مأخوذ من العنب ، والثاني مأخوذ من الشعير ، فهما نوعان ، فهل يصحّ لنا أن نُسري حكم الخمر إلى الفقّاع لتساويهما في صفة الإسكار؟

وكثيراً ما نرى أنّ الباحثين لا يميّزون بين المتماثلين والمتشابهين ، إذ مرجع

ص : 442

الأوّل غالباً إلى التجربة التي هي دليل عقليّ قطعيّ ، بخلاف الثاني فإنّ الحكم فيه ظنّي لجهة المناسبة والمشابهة إلاّ أن ينتهي إلى مرحلة القطع.

العاشر : تخريج المناط
اشارة

إذا قضى الشارع على حكم في محل من دون أن ينصَّ لمناطه ، مثلاً : إذا حرّم الربا المعاوضي في البُرّ فيعمم إلى كل مكيل بدعوى انّ مناط التحريم هو الكيل ، وهذا ما ربما يعبر عنه باستنباط علّة الحكم بطريق من الطرق ، ثمّ تعميم الحكم حسب صدقها على مواردها وقد ذكر له طرقاً سبعة أو أكثر والمهم منها هو استنباط العلة عن طريق السبر والتقسيم.

والسبر في اللغة هو الامتحان ، وتقريره : أن يُحصر الأوصاف التي توجد في واقعة الحكم وتَصْلح لأن تكون العلّة واحداً منها ، ويختبرها وصفاً وصفاً على ضوء الشروط الواجب توفّرها في العلّة ، وأنواع الاعتبار الذي تعتبر به ، وبواسطة هذا الاختبار تُستبعد الأوصاف التي لا يصحّ أن تكون علّة ويُستبقي ما يصحّ أن تكون علّة ، وبهذا الاستبعاد وهذا الاستبقاء يتوصّل إلى الحكم بأنّ هذا الوصف هو العلّة.

إنّ الغزالي ذكر لإثبات العلّة بالاستنباط طرقاً ثلاثة وجعل السبر والتقسيم النوع الأوّل وقال : وهو دليل صحيح وذلك أن يقول : هذا الحكم معلّل ولا علّة له إلاّ كذا وكذا ، وقد بطل أحدهما فتعيّن الآخر ، وإذا استقام السبر كذلك فلا يحتاج إلى مناسبة ، بل له أن يقول : حرّم الربا في البر ولا بدّ من علامة تضبط مجرى الحكم عن موقعه ، ولا علامة إلاّ الطعم أو القوت أو الكيل ، وقد بطل القوت والكيل بدليل كذا ، فثبت الطعم. لكن يحتاج هاهنا إلى إقامة الدليل على ثلاثة

ص : 443

أُمور :

الأوّل : انّه لا بدّ من علامة ، ولا يمكن أن يقال هو معلوم باسم البُرّ فلا يحتاج إلى علامة وعلة ، وذلك لأنّه يستلزم أن ينتفي الربا إذا صار دقيقاً أو سويقاً وقد زال اسم البر ، فدلّ انّ مناط الربا أعمّ من اسم البر.

الثاني : أن يكون سبره حاصراً يحصر جميع ما يمكن أن يكون علّة.

الثالث (1) : إفساد سائر العلل تارة ببيان سقوط أثرها في الحكم بأن يظهر بقاء الحكم مع انتفائها ، أو بانتقاضها بأن يظهر انتفاء الحكم مع وجودها. (2)

يلاحظ عليه : بأنّ السبر والتقسيم إنّما يوجب الاطمئنان في موردين :

1. فيما إذا أفاد السبر والتقسيم الاطمئنان بأنّ ما أخذه هو المناط للحكم ، كما في مسألة تحريم الخمر فلو افترضنا انّه لم يرد فيه نصّ على علّة الحكم ، فالمجتهد يردّد العلّة بين كونه من العنب ، أو كونه سائلاً ، أو كونه ذا لون خاص ، أو كونه مسكراً ، ويستبعد كلّ واحد من العلل إلاّ الأخير فيحكم بأنّه علّة ، ثمّ يقيس كلّ مسكر عليه ، لكن يفقد أكثر موارد القياس هذا النوع من الاطمئنان.

2. التقسيم إذا كان دائراً بين النفي والإثبات يفيد اليقين ، كقولك : العدد إمّا زوج أو فرد ، والحيوان إمّا ناطق أو غير ناطق. وأمّا إذا كان بشكل التقسيم والسبر أي ملاحظة كلّ وصف خاصّ وصلاحيّته للحكم ، فما استحسنه الذوق الفقهي يجعله مناطاً للحكم ، وما يستبعده يطرحه ، فمثل هذا لا يكون دليلاً قطعياً بل ظنّياً ، وهذا شيء أطبق عليه مثبتو القياس.

ص : 444


1- سقط لفظ «الثالث» عن النسخة المطبوعة ببولاق مصر عام 1324 ه.
2- المستصفى : 2 / 74.

قال الشيخ عبد الوهاب خلاّف : وخلاصة هذا المسلك أنّ المجتهد ، عليه أن يبحث في الأوصاف الموجودة في الأصل ، ويستبعد ما لا يصلح أن يكون علّة منها ، ويستبقي ما هو العلّة حسبَ رجحان ظنّه. وهاديه في الاستبعاد والاستبقاء تحقيقُ شروط العلّة بحيث لا يستبق إلاّ وصفاً منضبطاً متعدّياً مناسباً معتبراً بنوع من أنواع الاعتبار ، وفي هذا تتفاوت عقول المجتهدين ، لأنّ منهم من يرى المناسب هذا الوصف ، ومنهم من يرى المناسب وصفاً آخر.

فالحنفية رأوا المناسب في تعليل التحريم في الأموال الربوية ، القدر مع اتحاد الجنس ، والشافعية رأوه الطعم مع اتحاد الجنس ، والمالكية رأوه القوت والادّخار. (1) فمن أين يجزم القائس بأنّ المناط هو الطعم لا القوت ولا الكيل ، فما ذكره الغزالي من أنّه إذا بطل القوت والكيل بدليل كذا وكذا فثبت الطعم ، غير تام ، وذلك لأنّه إن أراد من الدليل الدليل الشرعي القاطع للنزاع فهو حقّ ، ولكن أين للمستنبط هذا الدليل القاطع ، وإن أراد الظن بأنّه المناط دون الآخرين فهو ظن لم يقم على حجّيته دليل.

ونأتي في المقام بمثال حتّى يعلم أنّ استخراج المناط أمر محظور لا يمكن الاطمئنان به.

قد ورد في الحديث «لا يزوّج البكر الصغيرة إلاّ وليّها» ، فقد ألحق بها أصحاب القياس الثيّبَ الصغيرة ، بل المجنونةَ والمعتوهةَ ، وذلك بتخريج المناط وانّه عبارة عن كون المزوّجة صغيرة ناقصة العقل ، فيعمّ الحكم الثيّب الصغيرة والمجنونة أو المعتوهة لاتحاد المناط.

وأمّا استخراج المناط فهو بالبيان التالي :

ص : 445


1- علم أُصول الفقه : 87.

إنّ الحديث اشتمل على وصفين كلّ منهما صالح للتعليل ، وهما الصغر والبكارة ، وبما انّه عُلّلت ولاية الولي على الصغيرة في المال في آية (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) (1) وما دام الشارع قد اعتبر الصغر علة للولاية على المال ، والولاية على المال والولاية على التزويج نوعان من جنس واحد وهو الولاية ، فيكون الشارع قد اعتبر الصغر علّة للولاية على التزويج بوجه من وجوه الاعتبار ، ولهذا يقاس على البكر الصغيرة من في حكمها من جهة نقص العقل ، وهي المجنونة أو المعتوهة ، وتقاس عليها أيضاً الثيّب الصغيرة.

وبذلك أسقطوا دلالة لفظ البكارة من الحديث مع إمكان أن تكون جزءاً من التعليل كما هو مقتضى جمعها مع الصغر لو أمكن استفادة التعليل من أمثال هذه التعابير. (2)

فانّ استخراج الحكم الشرعي عن هذا الطريق أمر لا يعتمد عليه إلاّ إذا ورد الدليل القاطع على حجّيته.

مضافاً إلى أنّ قياس باب النكاح بباب التصرف في الأموال ، قياس مع الفارق ، فانّ العناية بصيانة مال الصغير تستدعي أن يكون الموضوع هو الصغر ذكراً كان أو أُنثى ، بكراً كان أو ثيباً ، إذ لا دخالة لهذه القيود في أمر الصيانة ولهذا يعم الحكم جميع أفراد الصغير ، وهذا بخلاف باب النكاح فيحتمل فيه الفرق بين الصغير البكر والثيب نظير الفرق بين الكبير البكر والثيب حيث ذهب جماعة إلى أنّ الأُولى أيضاً لا تزوّج إلاّ بإذن الوليّ.

ص : 446


1- النساء : 6.
2- الأُصول العامة للفقه المقارن : 298.
تخريج المناط بالسبر والتقسيم يفيد الظنّ
اشارة

إنّ تخريج المناط بالسبر والتقسيم يفيد الظن لا القطع بالمناط ، وقد عرفت تصريح عبد الوهاب خلاف باختلاف العقول في تشخيص المناط ونزيد على بيانه بأنّ هنا احتمالات أُخرى تخلُّ بعلّية المناط بالبيان التالي :

أوّلاً : نحتمل أن يكون الحكم في الأصل معلّلاً عند الله بعلّة أُخرى غير ما ظنه القائس وهو كونه صغيراً أو قاصر العقل ، وليس هذا بأمر بعيد وقد قال سبحانه : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً). (1)

إذ الإنسان لم يزل في عالم الحس تنكشف له أخطاؤه ، فإذا كان هذا حال عالم المادة الملموسة ، فكيف بملاكات الأحكام ومناطاتها المستورة على العقل إلاّ في موارد جزئية كالإسكار في الخمر ، أو إيقاع العداء والبغضاء في الميسر ، أو إيراث المرض في النهي عن النجاسات؟ وأمّا ما يرجع إلى العبادات والمعاملات خصوصاً فيما يرجع إلى أبواب الحدود والديات فالعقل قاصر عن إدراك مناطاتها الحقيقية وإن كان يظن شيئاً.

قال ابن حزم : وإن كانت العلة غير منصوص عليها فمن أيِّ طريق تعرف ولم يوجد من الشارع نص يبين طريق تعرفها؟ وترك هذا من غير دليل يعرف العلة ينتهي إلى أحد أمرين : إمّا انّ القياس ليس أصلاً معتبراً ، وإمّا انّه أصل عند الله معتبر ولكن أصل لا بيان له وذلك يؤدي إلى التلبيس ، وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً فلم يبق إلاّ نفي القياس. (2)

ثانياً : لو افترضنا انّ المقيس أصاب في أصل التعليل ، ولكن من أين يعلم انّها تمام العلة ، ولعلّها جزء العلّة وهناك جزء آخر منضم إليه في الواقع ولم يصل

ص : 447


1- الإسراء : 85.
2- أُصول الفقه لأبي زهرة : 210 ، نقلاً عن الاحكام.

القائس إليه؟

ثالثاً : احتمال أن يكون القائس قد أضاف شيئاً أجنبياً إلى العلة الحقيقية لم يكن له دخل في المقيس عليه.

رابعاً : احتمال أن يكون في الأصل خصوصية في ثبوت الحكم وقد غفل عنها القائس ، ويعلم ذلك بالتدبر في الأمثلة التالية :

1. قياس الولاية في النكاح بالميراث

يقدّم الأخ من الأب والأُمّ على الأخ للأب في الميراث / المقيس عليه

فيقدّم الأخ من الأب والأُمّ على الأخ للأب في ولاية النكاح / المقيس

فإنّ علّة التقديم في الميراث امتزاج الاخوة وهو الجامع المؤثر الموجود في الطرفين.

2. قياس الجهل في المهر بالبيع

انّ الجهل بالعوض يفسد البيع بالاتفاق / المقيس عليه

فالجهل بالمهر يفسد النكاح / المقيس

لوجود المعاوضة والجهل فيها / الجامع

3. قياس ضمان السارق بالغاصب
اشارة

إنّ الغاصب يضمن إذا تلف المال تلف يده / المقيس عليه

والسارق أيضاً يضمن وإن قطعت يده / المقيس

تلف المال تحت اليد العادية / الجامع

ص : 448

فانّ تخريج المناط في هذه الموارد وعشرات من أمثالها تخريجات ظنية وهي بحاجة إلى قيام الدليل ، وإلاّ فيمكن أن يكون للميراث خصوصية غير موجودة في النكاح أو يكون الجهل بالعوض مفسداً في البيع دون النكاح ، لأنّ البيع مبادلة بين المالين بخلاف النكاح فانّه علاقة تجمع بين شخصين ، فالعلّة هو الجهل بالعوض لا الجهل بالمهر ، والمهر ليس عوضاً.

وفي كلام الإمام الصادق لابن شبرمة إلماع إلى محظورية هذا النوع من التخريج فانّه أشبه بالرجم بالغيب.

روى أبو نعيم في «حلية الأولياء» مذاكرة الإمام الصادق - عليه السلام - مع أبي حنيفة كما في رواية ابن شبرمة بالنحو التالي :

أيّهما أعظم قتل النفس أو الزنا.

قال : قتل النفس.

قال : فإنّ الله عزّ وجلّ جعل في قتل النفس شاهدين ولم يقبل في الزنا إلاّ أربعة؟

ثمّ قال : أيّهما أعظم الصلاة أم الصوم؟

قال : الصلاة.

قال : فما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة.

فكيف ويحك يقوم لك قياسك ، اتق الله ولا تقس الدين برأيك. (1)

توضيح الاستدلال : انّه لو افترضنا ورود النص في قتل النفس دون الزنا وانّ القتل يثبت بشاهدين فمقتضى القياس هو قبول الشاهدين في الفرع مع أنّ حكم الله على خلافه.

ونظيره الصلاة والصوم ، فلو افترضنا ورود النصّ في أنّ الحائض لا تقضي و

ص : 449


1- حلية الأولياء : 3 / 197.

لم يرد النص في الصوم فمقتضى القياس عدم لزوم قضائه مع أنّ الحكم الواقعي هو خلافه.

حصيلة البحث

قد خرجنا من دراسة هذه الأُمور العشرة انّ ما هو محط النزاع عبارة عن أمرين :

1. التماس العلل الواقعية للأحكام الشرعية من طريق العقل وقد عرفت انّ الإمام الصادق - عليه السلام - ركّز على هذا النوع في كلام له مع أبي حنيفة وهذا النوع من الاصطلاح في مورد القياس مهجور.

2. تخريج المناط عن طريق السبر والتقسيم ، فانّ المسالك لمعرفة العلة غير مقطوعة ، وقد اعترف بها مثبتو القياس ، وأمّا ما سوى ذلك من الأقيسة فهو ليس بقياس حقيقة وإنّما عمل بالسنّة.

إذا علمت هذه الأُمور فلنختم هذا البحث بتأسيس الأصل في حجية الظن ، فهل الأصل في الظنون الحجية إلاّ ما ورد المنع فيه ، أو الأصل عدم الحجية إلاّ ما دلّ الدليل عليه؟ وهذا من أروع البحوث في أُصول الفقه الإمامي وقد خلا عنه كتب السنّة ، وحصيلة هذا البحث هو ما يلي :

الشكّ في الحجية يساوق القطع بعدمها
اشارة

إنّ الأثر تارة يترتب على الوجود الواقعي للشيء كتحريم الخمر المترتب على الخمر الواقعي ، وأُخرى يترتّب على واقعه ومشكوكه معاً كالطهارة حيث إنّ الطاهر الواقعي ومشكوك الطهارة كلاهما محكومان بالطهارة واقعاً أو ظاهراً.

وثالثة أُخرى يترتب على الوجود العلمي للشيء بأن يكون معلوماً للمكلّف.

ص : 450

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ المراد من الحجّة في المقام هو ما يحتج به المولى على العبد ، والعبد على المولى ولها آثار منها :

1. التنجز عند الإصابة ، 2. التعذير عند المخالفة ، وهما من آثار ما علم كونه حجّة بالفعل ، وإلاّ فلو كان حجّة في الواقع ولم يقف المكلف على كونه كذلك لا يترتب عليه شيء من الأثر ، لأنّ العقل حاكم بقبح العقاب بلا بيان ، وعند ذلك لو شككنا في حجية شيء فهو ملازم للقطع بعدم الحجية الفعلية ومعه لا يترتّب عليه شيء من آثارها فيكون الأصل في الشك في الحجية عدمها قطعاً ، أي عدم صحّة الاحتجاج وترتب الآثار.

وبعبارة أُخرى : انّ معنى حجّية الظن هو صحة اسناد مؤدّاه إلى الله سبحانه ، والاستناد إليه في مقام العمل ، فإذا كان هذا معنى الحجّية فلا شكّ انّه مرتب على العلم بحجيّة الشيء بأن يقوم دليل قطعي على حجّية الظن ، من كتاب أو سنّة ، فعند ذلك يوصف الظن بالتنجيز أو التعذير ، ويصح إسناد مؤدّاه إلى الله سبحانه ، كما يصحّ الاستناد إليه في مقام الامتثال والعمل.

وأمّا إذا لم يقم الدليل القطعي على حجّية الظن ، بل صار مظنونَ الحجّية أو محتملها فلا يترتب عليه الأثران الأوّلان : التنجز والتعذير ، لأنّ العقل إنّما يحكم بتنجيز الواقع إذا كان هناك بيان من الشارع وإلاّ فيستقل بقبح العقاب بلا بيان والمفروض انّه لم يثبت كون الظن بياناً للحكم الشرعي ، إذ لم يصل بيان من الشارع على حجّية الظن ، كما أنّه لا يعد المكلف العاملُ بالظن معذوراً إذا خالف الواقع إذا لم يدعمه دليل قطعي.

فخرجنا بتلك النتيجة : انّ الحجية بمعنى التنجيز والتعذير من آثار معلوم الحجّية لا مظنونها ولا محتملها ، هذه هي الضابطة في مطلق الظن.

ص : 451

ومنها يظهر حكم القياس ، وذلك لأنّ المفروض وجود الشكّ في حجّية القياس حيث إنّ البحث الآن فيما لم يدعمه دليل ونهى عنه ومعه يكون الاحتجاج به غير صحيح ، إلاّ إذا دل الدليل القطعي على حجيته ، كما أنّ الأثرين الأخيرين ، أعني : اسناد مضمونه إلى الشارع والاستناد إليه في مقام العمل من آثار ما علم كونه حجّة ، وإلاّ يكون الاسناد والاستناد بدعة ، وتشريعاً محرماً ، حيث إنّ الاستناد إلى مشكوك الحجية في مقام العمل واسناد مؤدّاه إلى الشارع تشريع عملي وقولي دلّت على حرمته الأدلة الأربعة.

وعلى ضوء ما ذكرنا فالقاعدة الأوّلية هو عدم حجّية أيّ ظن من الظنون بمعنى انّه لا يحتج به ما لم يقم على صحّة الاحتجاج به دليل ، ومن تلك الظنون القياس فالأصل فيه عدم الحجّية ، فإن قام على حجّيتها دليل فهو وإلاّ كان العمل به بدعة داخلة تحت قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ). (1)

ومفاد الآية انّ كلّ ما لم يأذن به الله فاسناده إلى الله والاستناد إليه في مقام العمل يعد افتراءً على الله ، ونظيره قوله سبحانه : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ). (2)

ومفاد الآية انّ التقول على الله بما لا يعلم كونه من الله أمر محرم ، سواء أمر به في الواقع أم لا.

وعلى ضوء ذلك فنفاة القياس في فسحة من إقامة الدليل على حجيته ، لأنّ الأصل عدم حجّية الظن إلاّ ما قام على حجيته الدليل ، وإنّما يلزم على مثبتي

ص : 452


1- يونس : 59.
2- الأعراف : 28.

القياس إقامة الدليل القطعي على أنّ الشارع سوّغ العمل بهذا النوع من الظن كما سوغ العمل بخبر الثقة ، فيجب علينا دراسة أدلّتهم من الكتاب والسنّة والعقل ، وهذا هو بيت القصيد في هذا الفصل وقد استدلّوا بآيات من الذكر الحكيم نذكر ما هو المهم وهي ستة :

1. آية الاعتبار

قال سبحانه في حادثة بني النضير : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ). (1)

والحشر هو الاجتماع ، قال سبحانه : (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) (2) ، وهو كناية عن اللقاء بين اليهود والمسلمين.

وجه الاستدلال : أنّ الله سبحانه بعد ما قصّ ما كان من بني النضير الذين كفروا ، وما حاق بهم من حيث لم يحتسبوا ، قال : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) أي فَقِسُوا أنفسَكم بهم ، لأنّكم أُناسٌ مثلهم إن فعلتم مثلَ فعلهم حاق بكم مثل ما حاق بهم ، من غير فرق بين تفسير الاعتبار بالعبور والمرور ، أو فُسِّرَ بالاتّعاظ ، فهو تقرير ، لبيان أنّ سنّة الله في ما جرى على بني النضير وغيرهم واحد. (3)

نعم لو فسّر بالتعجب كما عن ابن حزم فلا صلة له بالقياس ، وأمّا لو فسّر بالعبور والمجاوزة فهو يرتبط به ، لأنّ في القياس عبوراً من حكم الأصل ، ومجاوزة

ص : 453


1- الحشر : 2.
2- طه : 59.
3- الحاصل من المحصول : 2 / 162 ؛ المحصول في علم الأُصول : 2 / 247.

عنه إلى حكم الفرع ، فإذا كنّا مأمورين بالاعتبار ، فقد أمرنا بالقياس وهو معنى حجّيته كما أنّه لو فسّر بالاتعاظ فهو أيضاً ظاهر في جعل الحجية للقياس ، لأنّه تقرير لسنّة الله في خلقه ، وانّ ما يجري على النظير ، يجري على نظيره. (1)

يلاحظ على الاستدلال : أوّلاً : بأنّ الآية بصدد بيان سنّة الله في الظالمين ، سواء فسّر الاعتبار بالتجاوز أو بالاتّعاظ ، وأنّ إجلاء بني النضير من قلاعهم وتخريبهم بيوتَهم بأيديهم وأيدي المؤمنين كان جزاءً لأعمالهم الإجرامية ، وأنّ الله تبارك وتعالى يعذّب الكافر والمنافق والظالم بأنحاء العذاب ولا يتركه ، فليس هناك أصل متيقّن ولا فرع مشكوك حتى نستبين حكمَ الثاني من الأوّل بواسطة المشابهة ، بل كل ذلك فرض على مدلول الآية ، وكم لها من نظائر في القرآن الكريم ، قال سبحانه : (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ). (2)

هل تجد في نفسك أنّ الآية بصدد إضفاء الحجّية على القياس؟ أو أنّها لبيان سنّة الله في المكذّبين؟ وقال سبحانه : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً). (3)

قال سبحانه : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ). (4)

وأدلّ دليل على أنّ الآية ليست بصدد بيان حجّية القياس ، هو أنّك لو وضعت كلمة أهل القياس مكان قول : (أُولِي الْأَبْصارِ) فقلت : فاعتبروا يا أهل

ص : 454


1- مصادر التشريع الإسلامي : 26.
2- آل عمران : 137 - 138.
3- الإسراء : 76 - 77.
4- هود : 82 - 83.

القياس ، لعاد الكلام هزلاً غير منسجم.

وثانياً : نفترض انّ الآية بصدد بيان انّ حكم النظير ، يستكشف من حكم النظير ولكن مصبّها ، هو الأُمور الكونيّة لا الأُمور التشريعية والأحكام الاعتبارية فتعميم مدلول الآية في الأُولى إلى الثانية يحتاج إلى الدليل ، وإثبات التعميم بالتمسك بالقياس مستلزم للدور.

وثالثاً : نفترض انّها بصدد إضفاء الحجّية على القياس في التشريع أيضاً ، وانّ حكم الفرع يعلم في حكم الأصل فيما إذا توفّرت علة الحكم بينهما بحيث يجعلهما كصنوان على أساس واحد ، ولكن ما هو المسلك الكاشف عن توفر العلّة ، فالآية ساكتة عنه ، فهل المسلك الكاشف هو :

1. تنصيص الشارع في كلامه.

2. أو الإجماع على وحدة العلّة.

3. أو تنقيح المناط حسب فهم العرف من الكلام.

4. أو تخريج المناط بالسبر والتقسيم.

وبما انّ الآية ساكتة عن هذه الجهة فلا يصحّ الاستدلال بها على حجّية القياس على وجه الإطلاق.

2. آية الردّ إلى الله والرسول

قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً). (1)

ص : 455


1- النساء : 59.

وجه الاستدلال : أنّ الله سبحانه أمر المؤمنين - بأنّهم إن تنازعوا واختلفوا في شيء ليس لله ولا لرسوله ولا لأُولي الأمر منهم فيه حكم - أن يردُّوه إلى الله وإلى الرسول ، وردّه أي إرجاعه إلى الله وإلى الرسول بإطلاقه يشمل كلّ ما يصدق عليه أنّه ردّ إليهما ، فردّه إلى قواعد الشرع الكلية ردّ إلى الله ورسوله ، وردّ ما لا نصّ فيه إلى ما فيه النصّ ، والحكم عليه بحكم النصّ لتساوي الواقعتين في العلّة التي بُني عليها الحكم ، هو ردّ المتنازع فيه إلى الله ورسوله.

والحاصل : انّ القياس بعد استنباط علّته بالطرق الظنية من الكتاب والسنّة يكون ردّاً إلى الله والرسول وبما انّا مأمورون بالرجوع إليها بهذه الآية ، فتكون النتيجة : نحن مأمورون بالرجوع إلى القياس في التنازع.

قال أبو زهرة : وليس الردّ إلى الله وإلى الرسول إلاّ بتعرّف الأمارات الدالّة منهما على ما يرميان إليه ، وذلك بتعليل أحكامهما والبناء عليها ، وذلك هو القياس. (1)

يلاحظ عليه أوّلاً : إنّ الردّ إلى الله ورسوله يتحقّق إمّا بالرجوع إليهم وسؤالهم عن حكم الواقعة قال سبحانه : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). (2)

أو إرجاعها إلى الضابطة الكلّية التي ذكرها الرسول ، فمثلاً إذا شككنا في لزوم شرط ذكره المتعاقدون في العقد وعدمه ، فنرجع إلى الضابطة التي ذكرها الرسول في باب الشروط وقال : إنّ المسلمين عند شروطهم ، إلاّ شرطاً حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً. (3)

قال القرطبي في تفسير قوله : (فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) أي ردّوا ذلك الحكم

ص : 456


1- أُصول الفقه : 207.
2- الأنبياء : 7.
3- الوسائل : الجزء 12 ، الباب 6 من أبواب الخيار ، الحديث 5.

إلى كتاب الله أو إلى رسوله بالسؤال في حياته أو بالنظر إلى سنّته بعد وفاته وهذا قول مجاهد والأعمش وقتادة وهو الصحيح - إلى أن قال - : «وقد استنبط عليّ - رضي الله عنه - مدة أقل الحمل - وهو ستة أشهر من قوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) وقوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) فإذا فصلنا الحولين من ثلاثين شهراً بقيت ستة أشهر. (1)

وأين هذا (أي الرد إلى كتاب الله وسنّة رسوله) ، من الرجوع إلى القياس لأنّ قياس ما لا نصّ فيه على ما نصّ فيه لأجل تساوي الواقعتين في شيء أو في أشياء نحتمل أو نظنّ أن تكون جهة المشاركة هي العلّة لبناء الحكم ، ليس ردّاً إلى الله ورسوله ، لأنّ العلّة ، ليست منصوصة في كلامه أو كلام نبيّه ، بل مستنبطة بطريق من الطرق التي لا نذعن بإصابتها ، وبذلك يظهر ضعف ما استند إليه الشيخ أبو زهرة ، وذلك لأنّ الاهتداء بتعليل الأحكام إلى نفسها إنّما يصحّ إذا كانت العلّة مذكورة في كلامه سبحانه أو كلام رسوله ، لا ما إذا قام العقل الظنيّ باستخراج العلّة بالسبر والتقسيم أو بغيرهما من الطرق.

وثانياً : انّ الآية نزلت في مورد التخاصم والتحاكم ، كما يدلّ عليه قوله سبحانه في نفس الآية : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) ، وقوله سبحانه بعد هذه الآية : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) (2). ومن المعلوم أنّ الرجوع إلى القياس الظني لا يفضّ نزاعاً ولا يقطع اختلافاً ، وإنّما يقطع النزاعُ الرجوعَ إلى كتاب الله وسنّة رسوله اللّذين لا يختلف فيهما اثنان ، ولذلك تختلف فتاوى العلماء القائلين بحجيّة القياس في موارد كثيرة حيث إنّ

ص : 457


1- تفسير القرطبي : 5 / 262.
2- النساء : 60.

البعض يرى توفر شروط العمل به دون البعض الآخر ، ومثله لا يقطع الخصومة.

وثالثاً : انّ مصب الآية هو التنازع فلو دلت الآية على حجّية القياس في باب التحاكم لاختصت دلالتها به ، وتعميمها إلى باب الإفتاء ، يحتاج إلى الدليل والتمسك بالقياس في هذا المورد ، يستلزم الدور ، لأنّ حجّية الآية في مورد الافتاء تتوقف على حجّية القياس ، والمفروض ، انّ حجّيته موقوف على دلالة الآية. (1)

3. آية الاستنباط

قال سبحانه : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً). (2)

وقد استدلّ به السرخسي في أُصوله ، وقال : والاستنباط استخراج المعنى من المنصوص بالرأي ، وقيل : المراد بأُولي الأمر : أُمراء السرايا ، وقيل : العلماء وهو الأظهر ، فإنّ أُمراء السرايا إنّما يستنبطونه بالرأي إذا كانوا علماء. (3)

وقد تفرّد السرخسي في الاستدلال بها ، والمشهور هو الاستدلال بالآية السابقة ، غير أنّ تفسير أُولي الأمر بالعلماء تفسير على خلاف الظاهر ، وإلاّ لقال : «أُولي العلم منهم» ، كما قال سبحانه : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ). (4)

يقول العلاّمة الطباطبائي : ومورد قوله : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ) هي الأخبار التي لها جذور سياسية ترتبط بأطراف شيء ربّما أفضى قبولها ، أو ردّها ، أو إهمالها بما فيها من المفاسد والمضار الاجتماعية إلى ما لا يمكن

ص : 458


1- الأُصول العامة : 319.
2- النساء : 83.
3- أُصول الفقه : 2 / 128.
4- آل عمران : 18.

أن يستصلح بأيّ مصلح آخر ، أو يبطل مساعي أُمّة في طريق سعادتها ، أو يذهب بسؤددهم ويضرب بالذلّة والمسكنة والقتل والأسر عليهم ، وأيّ خبرة للعلماء من حيث إنّهم محدّثون أو فقهاء أو قرّاء أو نحوهم في هذه القضايا حتى يأمر الله سبحانه بإرجاعها وردّها إليهم. (1)

وأمّا من هم «أُولي الأمر» في زمن نزول الآية ، فلسنا بصدد بيانه ، وعلى أيّ حال لا صلة للآية بالقياس أبداً ، بل هدف الآية الإشارة إلى أنّ واجب المسلمين إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله من أمن أو خوف أو سلامة وخلل ، هو عدم إذاعة ما سمعوه ، وردّه إلى أُولي الأمر الذين يستخرجون صحّة أو سقم ما وصل إليهم من الخبر بفطنتهم وتجاربهم ، وهل تجويز الاستنباط في المسائل السياسيّة بالقرائن يكون دليلاً على جواز استنباط الأحكام الشرعيّة بالقياس؟

4. آية النشأة الأُولى

قوله سبحانه : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (2).

فإنّ الآية الثانية جواب لما ورد في الآية الأُولى من قوله : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) فأُجيب بالقياس ، فإنّ الله سبحانه قاس إعادة المخلوقات بعد فنائها على بدء خلقها وإنشائها أوّل مرّة ، لإقناع الجاحدين بأنّ من قدر على خلق الشيء وإنشائه أوّل مرّة قادر على أن يعيده بل هذا أهون عليه.

فهذا الاستدلال بالقياس ، إقرار لحجّية القياس وصحّة الاستدلال به وهو

ص : 459


1- الميزان : 5 / 23.
2- يس : 78 - 79.

قياس في الحسيات ولكنّه يدلّ على أنّ النظير ونظيره يتساويان. (1)

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ الله سبحانه لم يدخل من باب القياس ، وهو أجل من أن يقيس شيئاً على شيء ، وإنّما دخل من باب البرهان ، فأشار إلى سعة قدرته ووجود الملازمة بين القدرة على إنشاء العظام وإيجادها أوّل مرّة بلا سابق وجوده ، وبين القدرة على إحيائها من جديد ، بل القدرة على الثاني أولى ، فإذا ثبتت الملازمة بين القدرتين والمفروض أنّ الملزوم وهي القدرة على إنشائها أوّل مرّة موجودة ، فلا بدّ أن يثبت اللازم ، وهي القدرة على إحيائها وهي رميم ، فأين هو من القياس؟!

ولو صحّت تسمية الاستدلال قياساً ، فهو من باب القياس الأولوي الذي فرغنا عن كونه خارجاً عن مورد النزاع ، ويدلّ على ذلك أنّه سبحانه لم يقتصر بهذا البرهان ، بل أشار إلى سعة قدرته بآية أُخرى بعدها وقال : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ). (2)

والآيات كسبيكة واحدة والهدف من ورائها تنبيه المخاطب على أنّ استبعاد إحياء العظام الرميمة في غير محلّه ، إذ لو كانت قدرته سبحانه محدودة لكان له وجه ، وأمّا إذا وسعت قدرته كلَّ شيء بشهادة أنّه خلق الإنسان ولم يكن شيئاً مذكوراً ، وخلق السماوات والأرض وهي خلق أعظم من الإنسان ، لكان أقدر على معاد الإنسان وإحياء عظامه الرميمة.

وليس كلّ استدلال عقلي قياساً.

وثانياً : سلّمنا دلالة الآية على حجّية القياس لكن مصبّها هو قياس الأُمور الكونيّة بعضها ببعض فيما إذا كانت الجهة المشتركة بين المقيس والمقيس عليه ،

ص : 460


1- مصادر التشريع : 27.
2- يس : 81.

أمراً واضحاً كالشمس في رائعة النهار ، وأين هذا من القياس في الأُمور التشريعية الاعتبارية في الموارد التي يصل المجتهد فيها إلى الجهة المشتركة بالسبر والتقسيم وربما يظن الذي لا يفيد سوى الظن بالمشاركة ، فتعميم مفاد الآية إلى التشريع لا يصحّ إلاّ بضرب من القياس والاستدلال عليه بالآية عندئذ يستلزم الدور كما مرّ نظيره.

5. آية جزاء الصيد

قال الله تعالى : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) (1).

قال الشافعي : فأمرهم بالمثْل ، وجعل المثْل إلى عدلين يحكمان فيه فلمّا حُرِّم مأكولُ الصيد عامّاً كانت لدوابّ الصيد أمثال على الأبدان ، فحكم مَنْ حكم من أصحاب رسول الله على ذلك فقضى في الضَّبع بكبش وفي الغزال بعنز ، وفي الأرنب بعناق ، وفي اليربوع بجفرة. (2)

والعلم يحيط أنّهم أرادوا في هذا ، المثل بالبدن لا بالقيم ، ولو حكموا على القيم اختلفت أحكامهم لاختلاف أثمان الصيد في البلدان ، وفي الأزمان وأحكامهم فيها واحدة.

والعلم يحيط أنّ اليربوع ليس مثل الجفرة في البدن ، ولكنّها كانت أقرب الأشياء منه شبهاً فجعلت مثله ، وهذا من القياس ، يتقارب تقارب العنز والظبي ،

ص : 461


1- المائدة : 95.
2- العناق - بفتح العين المهملة - : هي الأُنثى من أولاد المعز ما لم يتمّ له سنة ، والجفرة : ما لم يبلغ أربعة أشهر وفصل عن أُمّه وأخذ في الرعي.

ويبعد قليلاً بعد الجفرة من اليربوع. (1)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ حاصل مفاد الآية أنّه يشترط في الكفارة أن تكون مماثلة لما قتله من النعم إمّا مماثلة في الخلقة كما هو المشهور ، أو المماثلة في القيمة كما هو المنقول عن إبراهيم النخعي ، وعلى أيّ تقدير فلا صلة له بحجّية القياس في استنباط الأحكام الشرعية وكونه من مصادرها ، لأنّ أقصى ما يستفاد من الآية أنّ المحرم إذا قتل الصيد متعمّداً فجزاؤه هو ذبح ما يشبه الصيد في الخلقة كالبدنة في قتل النعامة ، والبقرة في قتل الحمار الوحشي وهكذا ، وهل اعتبار التشابه في مورد يكون دليلاً على أنّ الشارع أخذ به في جميع الموارد ، أو يقتصر بمورده ولا يصحّ التجاوز عن المورد إلاّ بالقول بالقياس غير الثابت إلاّ بهذه الآية ، وهل هذا إلاّ دور واضح؟

إنّ وزان التمسّك بالآية في حجّية القياس نظير الاستدلال عليها بقول الفقهاء في ضمان المثلي بالمثلي والقيمي بالقيمي ، حيث اقتصر في براءة الذمّة ، بالمماثلة ، في العين أو قيمتها.

وثانياً : أنّ محطّ البحث هو كون القياس من مصادر التشريع للأحكام الشرعية الكلّية ، وأين هذا من كون التشابه معياراً في تشخيص مصداق الواجب على الصائد؟

وربما يستدلّ بالآية بوجه آخر ، وهو انّه سبحانه أوجب المثل وجعل طريق تشخيص المماثلة هو الظن. (2)

يلاحظ عليه : أنّ حجّية الظنّ في مورد لا يكون دليلاً على اعتباره في سائر الموارد كما سيوافيك.

ص : 462


1- الرسالة : 491 ، ذكره في باب الاجتهاد ، وهو عنده مساو للقياس كما مرّ.
2- الطوسي : العدة : 2 / 276.

وقد استدلّ الشوكاني (1) بوجه ثالث قريب من الوجه الثاني هو انّه سبحانه أوجب المثل ولم يقل أيّ مثل فوكّل ذلك إلى اجتهادنا ورأينا ، نظيره أنّه أمر بالتوجه إلى القبلة بالاستدلال وقال : (حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ). (2)

يلاحظ عليه : أنّ الشارع وإن ترك لنا تشخيص الموضوعات ، إلاّ أنّه جعل لها طرقاً كالبيّنة ، مضافاً إلى الطرق العلمية في مورد القبلة ، وكون القياس أحد هذه الطرق أوّل الكلام.

6. آية القدر

وتعلّقوا أيضاً بقوله تعالى : (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ). (3) قالوا : والمثلية والمقدار طريقة غالب الظن وبقوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ). (4) قالوا : وذلك طريقة غالب الظن. (5)

يلاحظ عليه : أنّه إذا ثبتت حجّية الظنّ في مورد أو موردين لا يكون دليلاً على حجّيته مطلقاً ، ولو قيل بذلك يصير قياساً وكلامنا في مسألة القياس ، فكيف يستدلّ به على نفسه؟

7. آية العدل

واستدلّ ابن تيمية على حجّية القياس بقوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى). (6) بتقريب انّ العدل هو التسوية ، والقياس هو التسوية بين مثلين في الحكم فيتناوله عموم الآية.

ص : 463


1- إرشاد الفحول : 201.
2- البقرة : 201.
3- البقرة : 236.
4- النساء : 3.
5- عدة الأُصول : 2 / 276.
6- النحل : 90.

يلاحظ عليه : أنّ الله سبحانه يأمر بالعدل والإحسان والنهي عن الظلم والبغي في الحياة الفردية والاجتماعية ، وأي صلة للآية بالقياس في الأحكام وانّ المثلين في المناط المستخرج عن طريق السبر والتقسيم يجب أن يكونا متماثلين.

يقول الشوكاني : لو قلنا بدلالة الآية على حجّية القياس فإنّما نقول بها في الأقيسة التي قام الدليل على نفي الفارق فيها لا الأقيسة التي هي شعبة من شعب الرأي ونوع من الظنون الزائغة وخصلة من خصال الخيالات الزائفة. (1)

وقد تمسّكوا بآيات أُخرى ليس لها أيّ مساس بحجّية القياس ، فلنذكر ما استدلّوا به على صحّته من السنّة.

2. الاستدلال بالسنّة
اشارة

استدلّ القائلون بالقياس بروايات نذكر ما هو المهمّ منها :

1. حديث معاذ بن جبل
اشارة

احتجّ غير واحد من أصحاب القياس بحديث معاذ بن جبل والاحتجاج فرع إتقان الرواية سنداً ومتناً وإليك بيانها :

عن الحرث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة ، عن ناس من أصحاب معاذ من أهل حمص :

إنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حين بعثه إلى اليمن ، فقال : كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟

قال : أقضي بما في كتاب الله.

ص : 464


1- إرشاد الفحول : 202.

قال : فإن لم يكن في كتاب الله؟

قال : فبسنّة رسول الله.

قال : فإن لم يكن في سنّة رسول الله؟

قال : أجتهد رأيي ، لا آلو.

قال : فضرب رسول الله صدري ، ثمّ قال : الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله. (1)

وقد استدلّ به الإمام الشافعي ، فقال - بعد ما أفاد أنّ القياس حجّة فيما لم يكن في المورد نصّ كتاب أو سنّة - : فما القياس؟ أهو الاجتهاد أم هما مفترقان؟ ثمّ أجاب : هما اسمان لمعنى واحد. (2)

وقال في موضع آخر : أمّا الكتاب والسنّة فيدلاّن على ذلك ، لأنّه إذا أمر النبي بالاجتهاد فالاجتهاد أبداً لا يكون إلاّ على طلب شيء ، وطلب الشيء لا يكون إلاّ بدلائل ، والدلائل هي القياس. (3)

وقال أبو الحسين البصري : وجه الاستدلال به أنّ النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - صوّبه في قوله : أجتهد رأيي عند الانتقال من الكتاب والسنّة ، فعلمنا أنّ قوله : أجتهد رأيي ، لم ينصرف إلى الحكم بالكتاب والسنّة. (4)

وثمّة كلمات متماثلة لما ذكرنا في تقريب الاستدلال به.

لكنّ الحديث ضعيف سنداً وغير تام دلالة.

ص : 465


1- مسند أحمد : 5 / 230 ؛ سنن الدارمي : 170 ؛ سنن أبي داود : 3 / 303 برقم 3593 ؛ سنن الترمذي : 3 / 616 برقم 1328 ، ينتهي سند الجميع إلى حارث بن عمرو عن ناس من أصحاب معاذ من أهل حمص.
2- الرسالة : 477 و 505 ، طبع مصر ، تحقيق أحمد محمد شاكر.
3- الرسالة : 477 و 505 ، طبع مصر ، تحقيق أحمد محمد شاكر.
4- المعتمد : 2 / 222.

أمّا السند ، ففيه الأُمور التالية :

1. إنّ أبا عون محمد بن عبيد الله الثقفي الوارد في السند ، مجهول لم يعرف.

2. إنّ الحارث بن عمرو ، مجهول مثله ولم يعرف سوى أنّه ابن أخي المغيرة بن شعبة.

3. إنّ الحارث بن عمرو ، ينقل عن أُناس من أهل حمص وهم مجهولون فتكون الرواية مرسلة. وبعد هذه الأُمور أفيصحّ الاستدلال بحديث يرويه مجهول عن مجهول عن مجاهيل؟!

قال ابن حزم : وأمّا خبر معاذ ، فإنّه لا يحلّ الاحتجاج به لسقوطه ، وذلك أنّه لم يُروَ قطّ إلاّ من طريق الحارث بن عمرو وهو مجهول لا يدري أحد من هو : حدّثني أحمد بن محمد العذري ، حدثنا أبو ذر الهروي ، حدثنا زاهر بن أحمد الفقيه ، حدثنا زنجويه بن محمد النيسابوري ، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري فذكر سند هذا الحديث ، وقال :

قال البخاري : ولا يعرف الحارث إلاّ بهذا ولا يصحّ. هذا نصّ كلام البخاري في تاريخه الأوسط ، ثمّ هو عن رجال من أهل حمص لا يدرى من هم. (1)

وقال الذهبي : الحارث بن عمرو ، عن رجال ، عن معاذ بحديث الاجتهاد ، قال البخاري : لا يصحّ حديثه.

قلت : تفرّد به أبو عون (محمد بن عبيد الله الثقفي) عن الحارث بن عمرو الثقفي ابن أخي المغيرة وما روى عن الحارث ، غير أبي عون وهو مجهول.

وقال الترمذي : ليس إسناده عندي بمتّصل. (2)

ص : 466


1- الإحكام : 5 / 207.
2- ميزان الاعتدال : 1 / 439 برقم 1635.

وقال السيد المرتضى : إنّ حديث معاذ خبر واحد وبمثله لا تثبت الأُصول المعلومة ، ولو ثبتت بأخبار الآحاد لم يجز ثبوتها بمثل خبر معاذ ، لأنّ رُواته مجهولون. وقيل : رواه جماعة من أصحاب معاذ ولم يُذكَروا. (1)

وفي عون المعبود : وهذا الحديث أورده الجوزقاني في «الموضوعات» وقال : هذا حديث باطل ، رواه جماعة عن شعبة ، وقد تصفحت هذا الحديث في أسانيد الكبار والصغار ، وسألت من لقيتُه من أهل العلم بالنقل عنه فلم أجد له طريقاً غير هذا ، - إلى أن قال : - فإن قيل انّ الفقهاء قاطبة أوردوه واعتمدوا عليه قيل هذا طريقه والخلف قلّد السلف. (2)

وأمّا الدلالة ، فانّ الاستدلال بالحديث على حجّية القياس لا يخلو من غرابة.

أمّا أوّلاً : فلأنّها مبنية على مساواة الاجتهاد بالقياس ، بل المراد به هو الاجتهاد في كتاب الله وسنّة رسوله حتّى يتوصل إلى حكم الله عن طريقهما ، لأنّ الأحكام على قسمين قسم موجود في ظواهر الكتاب والسنّة لا يحتاج إلى بذل الجهد ، بل يعرفه كلّ من يعرف اللغة ، وقسم منه غير موجود في ظواهره لكن يمكن التوصل إليها عن طريقهما بالتدبر فيهما.

وهذا هو الاجتهاد الدارج بين العلماء ، وأين هذا من القياس الذي ورد فيه النص على حكم الأصل دون الفرع ، والقائس يبذل جهده ، ليجد فيهما التشابه ، حتّى يسري حكم الأصل إلى الفرع.

قال المرتضى : ولا يُنكر أن يكون معنى قوله : «أجتهد رأيي» أي أجتهد

ص : 467


1- الذريعة إلى أُصول الشريعة : 2 / 773.
2- عون المعبود شرح سنن أبي داود : 9 / 510.

حتى أجد حكم الله تعالى في الحادثة ، من الكتاب والسنّة ، إذ كان في أحكام الله فيهما ما لا يتوصّل إليه إلاّ بالاجتهاد ، ولا يوجد في ظواهر النصوص ، فادّعاؤهم أنّ إلحاق الفروع بالأُصول في الحكم لعلّة يستخرجها القياس ، هو الاجتهاد الذي عناه في الخبر ، ممّا لا دليل عليه ولا سبيل إلى تصحيحه. (1)

وثانياً : أنّ تجويز القياس في القضاء لا يكون دليلاً على تجويزه في الإفتاء ، لأنّ القضاء أمر لا يمكن تأخيره ، بخلاف الإفتاء ، فالاستدلال بجواز القياس في القضاء على جوازه في الإفتاء ، مبنيّ على صحّة القياس وهو دور واضح.

وثالثاً : أنّ القضاء منصب خطر إذ به تصان الدماء والأعراض والأموال ، كما به تباح النواميس والشئون الخطيرة ، فهل يمكن أن يبعث النبي رجلاً ويخوّل له النبي التصرف في مهام الأُمور ، باعمال الرأي من دون أن يحدّده على وجه يصونه عن الخطأ ومجانبة الواقع ، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ المراد من الاجتهاد هو استخراج حكم الواقعة عن المصدرين بالتأمل فيهما ، لا إعمال الرأي بأقسامه المختلفة التي ربما لا تمس الواقع غالباً.

وهذا يكشف عن وجود خصوصية في معاذ تصدّه عن استعمال الرأي الخارج عن حدود الكتاب والسنّة ، وإلاّ لما خوله أمر القضاء من دون تحديده.

ويشهد على ما ذكرنا ما حكي من سيرة معاذ حيث إنّه لم يكن يجتهد برأيه في الأحكام وإنّما كان يتوقّف حتى يسأل النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم -.

روى يحيى بن الحكم أنّ معاذاً قال : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أُصدِّق أهلَ اليمن ، وأمرني أن آخذ من البقر من كلِّ ثلاثين تبيعاً ، ومن كلّ أربعين مُسِنَّةً قال : فعرضوا عليّ أن آخذ من الأربعين فأبيت ذاك ، وقلت لهم : حتى أسأل

ص : 468


1- الذريعة : 2 / 776.

رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن ذلك.

فقدمتُ ، فأخبرت النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فأمرني أن آخذ من كلّ ثلاثين تبيعاً ، ومن كلّ أربعين مُسِنَّةً. (1)

فإذا كانت هذه سيرته فكيف يقضي بالظنون والاعتبارات؟!

ثمّ إنّ هناك نقطة جديرة بالذكر ، وهي أنّ القضاء منصب خطير لا يشغله إلاّ العارف بالكتاب والسنّة والخبير في فضّ الخصومات ، فالنبيّ الذي نصبه للقضاء لا بدّ أن يعلِّمه الكتاب والسنّة أوّلاً وأن يكون واقفاً على مدى إحاطته بهما ، ثم يبعثه إلى القضاء وفصل الخصومات مع المعرفة التامّة لحال القاضي.

وعلى هذا (أي لزوم المعرفة بكفاءة المبعوث قبل البعث) يكون السؤال بقوله : «فكيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال : أقضي بما في كتاب الله» أمراً لغواً ، وهذا يعرب عن أنّ الحديث لم ينقل على الوجه الصحيح ، وستوافيك الصور الأُخرى للرواية.

قال الرازي : إنّ الحديث يقتضي أنّه سأله عمّا به يقضي بعد أن نصبه للقضاء ، وذلك لا يجوز لأنّ جواز نصبه للقضاء مشروط بصلاحيته للقضاء ، وهذه الصلاحية إنّما تثبت لو ثبت كونه عالماً بالشيء الذي يجب أن يقضي به والشيء الذي لا يجب أن يقضي به. (2)

ثمّ إنّ المتمسّكين بالحديث لمّا رأوا ضعف الحديث سنداً ودلالة ، حاولوا تصحيح التمسّك بقولهم بأنّ خبر معاذ خبر مشهور ولو كان مرسلاً ، لكنّ الأُمّة تلقّته بالقبول. (3)

ص : 469


1- مسند أحمد بن حنبل : 5 / 240 ؛ المسند الجامع : 15 / 230 برقم (11518 - 41).
2- المحصول : 2 / 255.
3- الحاصل من المحصول : 2 / 163.

لكن عزب عن المستدلّ أنّ اشتهار الحديث نتيجة الاستدلال به للقياس ولو لا كونه مصدراً لمقالة أهل القياس لما نال تلك الشهرة.

يقول السيد المرتضى : أمّا تلقّي الأُمّة له بالقبول ، فغير معلوم ، فقد بيّنا أنّ قبول الأُمّة لأمثال هذه الأخبار كقبولهم لمسّ الذكر ، وما جرى مجراه ممّا لا يُقطع به ولا يُعلم صحّته. (1)

إلى هنا تمّ مناقشة الحديث سنداً ودلالة ، وتبيّن أنّ الحديث غير صالح للاحتجاج به.

الصور الأُخرى للحديث

إنّ الحديث قد ورد بصور مختلفة وبينها تضادّ كبير في المضمون ، وإليك هذه الصور :

الصورة الأُولى : ما رواه ابن حزم قال : حدثنا حمام وأبو عمر الطلمنكي قال حمام : حدثنا أبو محمد الباجي ، حدثنا عبد الله بن يونس ، قال : حدثنا بقى (2) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة.

وقال الطلمنكي : حدثنا ابن مفرج ، حدثنا إبراهيم بن أحمد بن فراس ، قال : حدثنا محمد بن علي بن زيد ، حدثنا سعيد بن منصور ، ثمّ اتّفق ابن أبي شيبة وسعيد كلاهما عن أبي معاوية الضرير. حدثنا أبو إسحاق الشيباني عن محمد بن عبيد الله الثقفي - أبو عون - قال : لمّا بعث رسول الله معاذاً إلى اليمن ، قال : يا معاذ بم تقضي؟ قال : أقضي بما في كتاب الله ، قال : فإن جاءك

ص : 470


1- الذريعة إلى أُصول الشريعة : 2 / 774.
2- هكذا في المصدر.

أمر ليس في كتاب الله ولم يقض به نبيّه؟ قال : أقضي بما قضى به الصالحون. قال : فإن جاءك أمر ليس في كتاب الله ولم يقض به نبيّه ولا قضى به الصالحون؟ قال : أؤم الحقّ جهدي.

فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : الحمد لله الذي جعل رسول رسول الله يقضي بما يُرضى به رسول الله. (1)

ترى أنّ معاذاً يقدّم ما قضى به الصالحون على كلّ شيء ، بعد الكتاب والسنّة ، ولعلّ مراده هي الأعراف السائدة بين المجتمعات التي تكون مرجعاً للقضاء كما أوضحنا في بعض محاضراتنا الأُصوليّة (2) حالها عند دراسة حجّية العرف والأعراف. ويحتمل أن يكون مراده ، هو ما ورد في الشرائع السالفة.

كما أنّ مراده من قوله : «أؤمّ الحقّ» هو التفكّر في الأُصول والقواعد الواردة في الكتاب والسنّة.

أضف إلى ذلك أنّ الرواية مرسلة ، لأنّ أبا عون لا يروي عن «معاذ» مباشرة ، لتأخّر طبقته في الحديث عن «معاذ» بطبقتين.

الصورة الثانية : عن عبد الرحمن بن غنم ، قال : حدثنا معاذ بن جبل ، قال :

لمّا بعثني رسول الله إلى اليمن ، قال : لا تقضينّ ولا تفصِلنّ إلاّ بما تعلم ، وإن أشكل عليك أمر فقف حتى تبيّنه أو تكتب إليَّ فيه. (3)

وهي : متّصلة السند ولكن المتن غير ما جاء في الحديث بل يغايره تماماً ، وينفي مقالة حماة القياس.

الصورة الثالثة : ما وردت في الكتب الأُصولية ولعلّها منقولة بالمعنى.

قال أبو الحسين البصريّ : روي عن النبيّ ، أنّه قال لمعاذ وأبي موسى

ص : 471


1- الإحكام : 5 / 208.
2- إرشاد العقول : 1 / 285 - 291.
3- أخرجه ابن ماجة برقم 55.

الأشعري ، وقد أنفذهما إلى اليمن ، بم تقضيان؟

قالا : إن لم نجد الحكم في السنّة ، قسنا الأمر بالأمر ، فما كان أقرب إلى الحقّ عملنا به. (1)

ونقله الرازي في «المحصول» ، وقال : روي أنّه أنفذ معاذاً وأبا موسى الأشعري إلى اليمن فقال - صلى الله عليه وآله وسلم - لهما : بما تقضيان ، فقالا : إذا لم نجد الحكم في السنّة نقيس الأمر بالأمر فما كان أقرب إلى الحقّ عملنا به.

فقال - صلى الله عليه وآله وسلم - : أصبتما. (2)

وتبعه الأرموي في «التحصيل من المحصول». (3)

والظاهر أنّ الحديث نقل بالمعنى حسب فهم الراوي ، ولم نعثر على هذا النصّ في الصحاح والمسانيد.

نعم أخرج أحمد عن أبي بردة عن أبي موسى أنّ رسول الله بعث معاذاً وأبا موسى إلى اليمن فأمرهما أن يعلّما الناس القرآن. (4)

وعلى أيّ تقدير فالرواية مرسلة أوّلاً ، وإجابة الرجلين بجواب واحد في زمان واحد بعيد ثانياً ، واختصاصها بالقضاء دون الإفتاء ثالثاً ، وتفويض أمر القضاء إلى رأي الرجلين دون تحديد له ، يلازم التهاون بالنواميس رابعاً ، فلا محيص عن القول بوجود خصوصية فيهما كانت تصدهما عن الإفتاء بالرأي الذي ليس له جذر في الكتاب والسنّة.

ص : 472


1- المعتمد : 2 / 222.
2- المحصول : 2 / 254.
3- الحاصل من المحصول : 2 / 163.
4- مسند أحمد بن حنبل : 4 / 397.
2. حديث عمر

عن جابر بن عبد الله ، عن عمر بن الخطاب ، قال : هششت فقبَّلتُ وأنا صائم ، فقلت : يا رسول الله أتيت أمراً عظيماً قبّلتُ وأنا صائم ، فقال : «أرأيت لو تمضمضت من الماء وأنت صائم؟» فقلت : لا بأس بذلك ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «ففيم؟!». (1)

قال ابن قيم الجوزية : ولو لا أنّ حكمَ المثل حكمُ مثلِه وأنّ المعاني والعلل مؤثّرة في الأحكام نفياً وإثباتاً لم يكن لذكر هذا التشبيه معنى ، فَذَكَره ليُدلّ به على أنّ حكم النظير حكمُ مثله ، وأنّ نسبة القبلة التي هي وسيلة للوطء كنسبة وضع الماء في الفم الذي هو وسيلة إلى شربه ، فكما أنّ هذا الأمر لا يضرّ ، فكذلك الآخر. (2)

وقال السرخسي : هذا تعليم المقايسة ، فإنّ بالقبلة يفتتح طريق اقتضاء الشهوة ولا يحصل بعينه اقتضاء الشهوة ، كما أنّ بإدخال الماء في الفم يفتتح طريق الشرب ولا يحصل به الشرب. (3)

أقول : إنّ القياس عبارة عن استفادة حكم الفرع عن حكم الأصل بحيث يعتمد أحدهما على الآخر وليس المقام كذلك ، بل كلاهما كغصني شجرة أو كجدولي نهر ، فالمبطل هو الأكل والجماع لا مقدّمتهما فبما أنّ المخاطب كان واقفاً على ذلك الحكم في الأكل دون الجماع ، أرشده النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - إليه بتشبيه القبلة بالمضمضة إقناعاً للمخاطب لا استنباطاً للحكم من الأصل وليس الكلام في إقناع المخاطب ، بل في استنباط الحكم والرواية غير ظاهرة ، في الأمر الثاني الذي

ص : 473


1- سنن أبي داود : 2 / 311 ، كتاب الصوم رقم 2385 ؛ مسند أحمد : 1 / 21.
2- إعلام الموقعين : 1 / 199.
3- أُصول الفقه : 2 / 130.

هو المقصود بالاستدلال بها.

أضف إلى ذلك ما ذكره ابن حزم حولها حيث قال :

لو لم يكن في إبطال القياس إلاّ هذا الحديث لكفى ، لأنّ عمر ظنّ أنّ القبلة تفطر الصائم قياساً على الجماع ، فأخبره - صلى الله عليه وآله وسلم - أنّ الأشياء المماثلة والمتقاربة لا تستوي أحكامها ، وأنّ المضمضة لا تفطر ، ولو تجاوز الماء الحلق عمداً لأفطر ، وأنّ الجماع يفطر ، والقبلة لا تفطر ، وهذا هو إبطال القياس حقاً. (1)

3. حديث ابن عباس

عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس ، أنّ رجلاً سأل النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - : إنّ أبي أدركه الحجّ وهو شيخ كبير لا يثبت على راحلته فإن شددته خشيت أن يموت أفأحجّ عنه؟

قال : أفرأيت لو كان عليه دَين فقضيتَه أكان مجزئاً؟ قال : نعم.

قال : فحجّ عن أبيك.

ورواه نافع بن جبير وسعيد بن جبير وعكرمة وأبو الشعثاء وعطاء عن ابن عباس بتعابير متقاربة ، فالرواية واحدة لانتهاء أسنادها إلى ابن عباس والرواة عنه متعدّدون (2) ولكن الرواية في الكتب الأُصولية منسوبة ، إلى جارية خثعميّة. (3)

والرواية المنسوبة إليها ليست مشتملة على التشبيه ، وإليك نصّها :

عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس أنّه قال :

ص : 474


1- الإحكام : 7 / 409.
2- لاحظ للوقوف على صور الروايات : المسند الجامع : 9 / 16 - 19 ، كتاب الحج.
3- المنخول : 329 ؛ المحصول : 2 / 262.

كان الفضل بن عباس رديف رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه ، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يصرف وجه الفضل إلى الشقّ الآخر. قالت : يا رسول الله إنّ فريضة الله في الحجّ على عباده أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ، أفأحجّ عنه؟ قال : نعم ، وذلك في حجّة الوداع. (1)

وعلى كلّ تقدير فقد استدلّ بهذه الرواية ، يقول السرخسي : هذا تعليم المقايسة وبيان بطريق إعمال الرأي.

وقال الآمدي : إنّه ألحق دين الله بدين الآدمي في وجوب القضاء ونفعه وهو عين القياس. (2)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ ما جاء في هذه الرواية ليس من مقولة القياس ، بل من باب تطبيق الكبرى المسلّمة عند القائل على صغراها ، أعني قوله : كلّ دين يقضى ، وقد طبقها رسول الله على دين الله لأبيها ، فحكم بلزوم القضاء فأين هذا من القياس؟!

وإن شئت قلت : إنّ القياس يتحقّق بأركان أربعة :

1. الأصل ، 2. الفرع ، 3. الجهة الجامعة بينهما ، 4. الحكم ، فيلاحظ القياس الأصل أوّلاً ، ثمّ الفرع ثانياً ، ثمّ يتفحص عن الجهة الجامعة بينهما ، ثمّ يحكم بالتحاق الفرع بالأصل ، وأين هذه الأُمور المتسلسلة ، ممّا ورد في الرواية ، بل النبي لما كان عالماً بالتشريع الإلهي وهو انّ كلّ دين يقضى من غير فرق بين كونه دين الناس ، أو دين الله سبحانه ، وكان السائل جاهلاً بالتسوية ، فشبّه أحدهما

ص : 475


1- موطأ مالك : 236 ؛ مسند أحمد : 1 / 361 برقم 1893 ؛ صحيح البخاري : 2 / 163 ؛ صحيح مسلم : 4 / 101 ؛ سنن النسائي : 5 / 117 ؛ سنن أبي داود : برقم 1809.
2- الأحكام للآمدي : 3 / 78.

بالآخر بنية تطبيق الكبرى على الصغرى.

وثانياً : أنّ القياس الوارد في الحديث من باب القياس الأولوي ، وقد مرّ أنّه خارج عن محلّ النزاع ، والشاهد عليه قوله : «أحقّ بالقضاء».

4. حديث الأعرابي

عن أبي طاهر وحرملة بن يحيى قالا : أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة :

إنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - جاءه أعرابي فقال : يا رسول الله إنّ امرأتي ولدت غلاماً أسود (وإنّي أنكرته) ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «هل لك من إبل؟» قال : نعم ، قال : «ما ألوانها؟» ، قال : حمر ، قال : «هل فيها من أورق؟» قال : نعم ، قال : «فأنّى كان ذلك؟» ، قال : أراه عرق نزعه ، قال : «فلعلّ ابنك هذا عرق نزعه». (1)

يلاحظ عليه : أنّ الأصل المقرّر في الشرع ، هو أنّ الولد للفراش ، ولم يكن للأعرابي نفي الولد بحجّة عدم التوافق في اللون ، وأراد النبيّ أن يبطل حجّته بأنّ عدم التوافق لا يكون دليلاً على عدم الإلحاق ، وليس ذلك بعجيب ، لأنّه يوجد نظيره في الحيوانات فالإبل الحمر ربّما تلد أورق بالرغم من حمرتها ، وقد بيّن وجهه في الحديث.

فلو صحت تسمية ذلك قياساً فإنّما هو في الأُمور الطبيعية لا في الأحكام الشرعية.

قال ابن حزم : وهذا من أقوى الحجج عليهم في إبطال القياس ، وذلك لأنّ الرجل جعل خلاف ولده في شبه اللون علّة لنفيه عن نفسه ، فأبطل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -

ص : 476


1- صحيح البخاري ، كتاب الحدود : 8 / 173.

حكم الشبه ، وأخبره أنّ الإبل الورق قد تلدها الإبل الحمر ، فأبطل - صلى الله عليه وآله وسلم - أن تتساوى المتشابهات في الحكم ، ومن المحال الممتنع أن يكون من له مسكة عقل يقيس ولادات الناس على ولادات الإبل ، والقياس عندهم إنّما هو ردّ فرع إلى أصله وتشبيه ما لم ينصّ بمنصوص ، وبالضرورة نعلم أنّه ليس الإبل أولى بالولادة من الناس ، ولا الناس أولى من الإبل وأنّ كلا النوعين في الإيلاد ، والإلقاح سواء ، فأين هاهنا مجال للقياس؟ وهل من قال : إن توالد الناس مقيس على توالد الإبل ، إلاّ بمنزلة من قال : إنّ صلاة المغرب إنّما وجبت فرضاً لأنّها قيست على صلاة الظهر؟ وإنّ الزكاة إنّما وجبت قياساً على الصلاة.

وهذه حماقة لا تأتي بها إلاّ عضاريط أصحاب القياس ، لا يرضون بها لأنفسهم.

فكيف أن يضاف هذا إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي آتاه الله الحكمة والعلم دون معلّم للناس ، وجعل كلامه على لسانه ما أخوفنا أن يكون هذا استخفافاً بقدر النبوّة وكذباً عليه - صلى الله عليه وآله وسلم -. (1)

وممّا ذكرنا يعلم حال بعض ما استدلّ به على حجّية القياس نظير :

جاء في الحديث انّه قال لأُمّ سلمة «قد سُئلتْ عن قبلة الصائم : هل أخبرته انّي أُقبّل وأنا صائم».(2)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ لسان الرواية يأبى نسبة مضمونها إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فهو أسمى من أن يشهر بشيء يعود إلى شئونه وعوالمه الخاصة مع نسائه وحسبه من تبليغ الحكم بغير هذا الطريق. (3)

ص : 477


1- الإحكام : 7 / 413 - 414.
2- الإحكام للآمدي : 3 / 78.
3- الأُصول العامة للفقه المقارن : 344.

وثانياً : أنّ النبي بصدد بيان السنّة بفعله ، فانّها كما تبلغ بالقول بأن يقول القبلة لا تبطل الصوم ، كذلك تبلغ بالفعل ، وهو بفعله حكى السنة وأين هذا من القياس.

هذه هي الأحاديث التي تشبّثوا بها في إثبات القياس ، وقد عرفت قصور الجميع في الدلالة ، وقصور بعضها في السند ، وإليك دراسة بقية أدلّتهم.

3. الاستدلال بإجماع الصحابة
اشارة

وقد اعتبر الآمدي إجماع الصحابة أقوى الأدلة وقال ابن عقيل الحنبلي : وقد بلغ التواتر المعنوي عن الصحابة باستعماله وهو قطعي.

وقال الصفي الهندي : دليل الإجماع هو المعوَّل لجماهير المحقّقين من الأُصوليين وقال الرازي في المحصول : مسلك الإجماع هو الذي عول عليه جمهور الأُصوليين. (1)

ثمّ إنّ الرازي استدلّ بدليل مؤلف من مقدّمات ثلاث :

المقدّمة الأُولى : إنّ بعض الصحابة ذهب إلى العمل بالقياس والقول به.

المقدّمة الثانية : إنّه لم يوجد من أحدهم إنكار أصل القياس ، فلأنّ القياس أصل عظيم في الشرع نفياً أو إثباتاً فلو أنكر بعضهم لكان ذلك الإنكار أولى بالنقل من اختلافهم ، ولو نقل لاشتهر ، ولوصل إلينا فلمّا لم يصل إلينا علمنا أنّه لم يوجد.

ص : 478


1- الأحكام للآمدي : 3 / 81.

المقدّمة الثالثة : إنّه لمّا قال بالقياس بعضهم ولم ينكره أحد منهم فقد انعقد الإجماع على صحّته.(1)

يلاحظ عليه : أنّ كلاً من المقدّمات الثلاث قابلة للنقاش والرد.

أمّا الأُولى فلنفترض انّ بعض الصحابة عمل بالقياس على وجه الإجمال ولكن لم يُشخّص تفاصيله ، وانّهم هل عملوا بمنصوص العلّة أو بمستنبطها؟ وعلى فرض العمل بالثاني فلم يعلم ما هو مسلكهم في تعيين علة الحكم ومناطه فهل كان بالسبر والتقسيم أو من طريق آخر؟ ومع هذا الإجمال كيف يمكن أن يتخذ عمل الصحابة دليلاً على حجّية القياس في عامة الموارد وعامة المسالك إلى تعيين علّة الحكم ومناطه.

وأمّا الثانية فلأنّ تسمية عمل البعض مع سكوت الآخرين إجماعاً غير صحيح جدّاً ، لأنّ الإجماع عند الأُصوليين وحتّى الغزالي نفسه عبارة عن اتفاق علماء عصر واحد على حكم شرعي. (2)

ومن المعلوم أنّ عمل البعض لا يعدّ دليلاً على الإجماع وإن سكت الآخرون ، وذلك لأنّ الصحابة لم يكونوا مجتمعين في المدينة المنورة بل ميادين الجهاد والبلدان المفتوحة والثغور وغيرهما أخذت كثيراً من الصحابة ولاة وعُمّالاً وجنداً وقادة فكيف عرف اتّفاقهم على هذين المقامين حتّى يتحقّق الإجماع.

وأمّا الثالثة وهو عدم إنكار أحد منهم فهو أيضاً محجوج بالروايات القطعية عن الصحابة والتابعين في استنكار القياس.

ص : 479


1- المحصول : 2 / 262 - 269. وقد صرح في ص 292 : انّ مذهب أهل البيت إنكار القياس.
2- المستصفى : 1 / 110.

وستوافيك نصوص المخالفين واستدلالهم على عدم صحّته ، وقد اشتهر بين المحدّثين قول الإمام عليّ - عليه السلام - بأنّه لو كان الدين بالقياس لكان باطن الخُفّ أولى بالمسح من ظاهره.

وقد روي عن ابن مسعود أنّه قال : إذا قلتم في دينكم بالقياس ، أحللتم كثيراً مما حرّم الله وحرمتم كثيراً ممّا حلل الله. (1)

وقال ابن عباس : إياكم والمقاييس فإنّما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس. (2)

إلى غير ذلك من الآثار المروية عن الصحابة والتابعين وقد نقلها ابن قيم الجوزية في «اعلام الموقعين» ، وابن حزم في كتاب «إبطال القياس» ومع هذه النقول عن الصحابة ، كيف يمكن أن نعتمد على مثل هذا الإجماع؟! (3)

وقد شاع بين التابعين نقد أدلّة القائلين بالقياس ، بأنّ أوّل من قاس هو إبليس إذ قاس نفسه بآدم ، وقال : خلقتني من نار وخلقته من طين.

والحاصل لم يكن هناك إجماع من الصحابة على العمل بالقياس ، ولو كان هناك شيء فإنّما هو كقضية جزئية لا تكون سنداً للقاعدة. على أنَّ قول الصحابي ليس بحجّة ما لم يعلم استناده إلى الرسول ، فكيف يكون فعله حجّة؟ وستوافيك نصوص من الصحابة والتابعين على نفي القياس.

قال ابن حزم : أين وجدتم هذا الإجماع؟ وقد علمتم أنّ الصحابة أُلوف لا تحفظ الفتيا عنهم في أشخاص المسائل إلاّ عن مائة ونيّف وثلاثين نفراً منهم سبعة مكثرون ، وثلاثة عشر نفساً متوسطون ، والباقون مقلّون جدّاً تروى عنهم

ص : 480


1- الإحكام : 3 / 83.
2- الإحكام : 3 / 83.
3- أُصول الفقه للمظفر : 2 / 172.

المسألة والمسألتان حاشا المسائل التي تيقن إجماعهم عليها ، كالصلوات وصوم رمضان فأين الإجماع على القول؟! (1)

عمل الصحابة بالرأي

وربّما يتمسّك بأنّ الصحابة كانوا يفتون بالرأي وقد شاع بينهم «هذا رأي فلان» في الكلالة ، أو «بيع أُمّهات الأولاد» وليس الرأي إلاّ الإفتاء بالقياس.

وقد روي عن أبي بكر في الكلالة أنّه قال : أقول فيها برأيي ، فإن يكون صواباً فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان منه. (2)

وقد روي أيضاً عنه انّه حكم بالرأي في التسوية في العطاء حتّى قيل له : كيف تجعل من ترك دياره وأمواله وهاجر إلى رسول الله كمن دخل في الإسلام كرهاً؟ فقال أبو بكر : إنّما أسلموا لله وأُجورهم على الله ، وإنّما الدنيا بلاغ ، وحيث انتهت النوبة إلى عمر فرّق بينهما. (3)

كما روي عن عمر أنّه قال : أقضي في الجد برأيي وأقول فيه برأيي. (4)

وقال ابن مسعود : سأقول فيها بجهد رأيي ، فإن كان صواباً فمن الله وحده ، وإن كان خطأً فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريء. (5)

يلاحظ عليه : لا شكّ أنّ بعض الصحابة كانوا يفتون بالرأي ، ولكن لم يكن الرأي مساوقاً للعمل بالقياس بل لعلّهم اعتمدوا فيها على ضرب من الاستدلال والتأمّل ، ولو كان ديدنهم في الإفتاء في غير ما نصّ عليه على القياس ، لبان وارتفع الخلاف. ويتّضح ذلك ممّا يذكره الشيخ المظفّر في المقام قائلاً :

ص : 481


1- إبطال القياس : 19.
2- روضة الناظر : 148.
3- الإحكام : 3 / 81.
4- الإحكام : 3 / 81.
5- المحلى : 1 / 61.

ويجب الاعتراف بأنّ بعض الصحابة استعملوا الاجتهاد بالرأي وأكثروا بل حتى فيما خالف النصّ تصرّفاً في الشريعة باجتهاداتهم ، والإنصاف أنّ ذلك لا ينبغي أن ينكر من طريقتهم ، ولكن لم تكن الاجتهادات واضحةَ المعالم عندهم من كونها على نحو القياس ، أو الاستحسان ، أو المصالح المرسلة ولم يعرف عنهم ، على أيّ كانت اجتهاداتهم ، أكانت تأويلاً للنصوص ، أم جهلاً بها ، أم استهانة بها؟ ربّما كان بعض هذا أو كلّه من بعضهم ، وفي الحقيقة إنّما تطوّر البحث عن الاجتهاد بالرأي في تنويعه وخصائصه في القرن الثاني والثالث. (1)

إنّ هنا اجتهادات حُكيت من الصحابة لا يصحّ حملها على القياس :

1. تحريم المتعتين : قال عمر بن الخطاب : متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا محرّمهما ومعاقب عليهما.

2. جعل عمر الطلاق الثلاث ، ثلاثاً مع أنّه كان في عصر الرسول وخلافة أبي بكر وسنتين من خلافته ، واحدة.

3. قطع أيضاً سهم المؤلّفة قلوبهم.

4. إلغاء الحيعلة وهو قول : «حيّ على خير العمل» من الأذان. (2)

وغيرها.

وليس الاجتهاد فيها مبنيّاً على القياس بل الاستحسان المطلق.

وقد ذكر الغزالي مواضع من اجتهادات الصحابة وحاول تطبيقها على القياس بجهد بالغ غير ناجح ، لأنّ أكثرها بعيد عن القياس.

نعم روي عن عمر انّه كتب في رسالته إلى أبي موسى الأشعري : اعرف

ص : 482


1- أُصول الفقه : 2 / 172.
2- لاحظ للوقوف على تفصيل هذه الأُمور : كتاب «النص والاجتهاد» للسيد شرف الدين ، وكتاب «الاعتصام بالكتاب والسنّة» للمؤلّف ، وغيرهما.

الأشياء والأمثال وقس الأُمور. (1)

أقول : لم يثبت رسالة عمر إلى أبي موسى ، وقد وصفها ابن حزم انّها مكذوبة عليه وراويها عبد الملك بن وليد بن معدان عن أبيه وهو ثابت بلا خلاف ، وأبوه أسقط منه أو هو مثله في السقوط. (2)

4. الاستدلال بدليل العقل
اشارة

استدلّ على حجّية القياس بوجوه :

1. إنّه سبحانه ما شرع حكماً إلاّ لمصلحة ، وأنّ مصالح العباد هي الغاية المقصودة من وراء تشريع الأحكام ، فإذا تساوت الواقعة المسكوتُ عنها ، بالواقعة المنصوص عليها ، في علّة الحكم التي هي مظنّة المصلحة ، قضت الحكمةُ والعدالةُ أن تساويها في الحكم تحقيقاً للمصلحة التي هي مقصود الشارع من التشريع ، ولا يتّفق وعدل الله وحكمته أن يحرّم الخمر لإسكارها محافظة على عقول عباده ويبيح نبيذاً آخر فيه خاصّية الخمر وهي الإسكار ، لأنّ مآلها المحافظة على العقول من مسكر وتركها عرضة للذهاب بمسكر آخر. (3)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ ما ذكره من «أنّه سبحانه ما شرع حكماً إلاّ لمصلحة وانّ مصالح العباد هي الغاية المقصودة من تشريع الأحكام» ، مبني على القول بأنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد ، والمذهب الأشعري يرد ذلك كما يرد كون فعله سبحانه معللاً بالأغراض ، ومن أفعاله تعالى هو تشريعه فالاستدلال مبني على قول العدلية القائلين بالتحسين والتقبيح أوّلاً ، وعلى تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ثانياً ، فعندئذ يُصبح الاستدلال جدلياً لا برهانياً حيث استدلّ بعقيدة

ص : 483


1- المحلى : 1 / 59.
2- المحلى : 1 / 59.
3- مصادر التشريع الإسلامي : 34 - 35.

الخصم ومسلماته.

وثانياً : أنّ الكبرى وهي أنّ أحكام الشرع تابعة للمصالح والمفاسد أمر مسلّم ، إنّما الكلام في الوقوف على مناط الحكم وعلّته ، وأمّا ما مثّله من قياس النبيذ على الخمر فهو خارج عن محلّ الكلام ، لأنّا نعلم علماً قطعياً واضحاً بأنّ مناط التحريم هو الإسكار ، ولأجل ذلك جاءت في روايات أئمّة أهل البيت : حرّم الله عزّ وجلّ الخمر بعينها وحرّم رسول الله المسكر من كلّ شارب فأجاز الله له ذلك. (1) وإنّما الكلام في أنّ الظنّ بالعلّة هل يغني عن مُرّ الحق شيئاً؟ وهل المظنون كونه علّة يكون علّة حقيقة ، أو أنّ هناك احتمالات أُخرى قد مضى بيانها عند بيان استنباط العلّة؟

إنّ المستدل جعل القياس في مسألة اتّفق عليها العقل والعقلاء والنصوص الشرعية ، دليلاً على حجّيته في عامة الموارد التي لم تُعلم الجهةُ المشاركة المظنونة هي علة الحكم في الأصل فكيف في الفرع ، وإنّما ظن المستدل به ، فكيف يمكن أن يحتج بالظن على الحكم الشرعي الذي لم يقم عليه دليل.

2. إنّ نصوص القرآن والسنّة محدودة ومتناهية ، ووقائع الناس وأقضيتهم غير محدودة ولا متناهية ، فلا يمكن أن تكون النصوص المتناهية وحدها مصادر تشريعية لما لا يتناهى.

وبعبارة أُخرى : القياس هو المصدر التشريعي الذي يساير الوقائع المتجدّدة ، ويكشف حكم الشريعة فيما يقع من الحوادث ويوفّق بين التشريع والمصالح. (2)

ص : 484


1- الكافي : 1 / 266.
2- مصادر التشريع الإسلامي : 35 ، وانظر : المنخول من تعليقات الأُصول : 359 و 327.

يلاحظ عليه :

أوّلاً : أنّ عدم إيفاء النصوص عند أهل السنّة بالإجابة على جميع الأسئلة المتكثّرة ، لا يكون دليلاً على حجّية القياس ، فربّما تكون الحجّة غيره ، إذ غاية ما في الباب أنّ عدم الوفاء يكون دليلاً على أنّ الشارع قد حلّ العقدة بطريق ما ، وأمّا أنّ هذا الطريق هو القياس ، فلا يكون دليلاً عليه.

إنّ القوم لو رجعوا إلى الطرق والأمارات والأُصول المؤمِّنة الأربعة التي مضى الإيعاز إليها في صدر البحث لاستغنوا عن اعتبار القياس ، وهذه الضوابط والأمارات واردة في حديث أئمّة أهل البيت عن جدّهم ، والقوم لما أعرضوا عن أحد الثقلين - أعني : العترة الطاهرة في حديث الرسول - وقعوا في هذا المأزق وزعموا انّ النصوص غير وافية ببيان الأحكام غير المتناهية ، وقد غفلوا انّ غير المتناهي هي الجزئيات والمصاديق ، وهو لا يوجد مشكلة إذا كانت الضوابط العامة قادرة على إعطاء حكمها.

وثانياً : أنّ المستدلّ اتّخذ المدّعى دليلاً وقال : والقياس هو المصدر التشريعي الذي يساير الوقائع المتجدّدة ، مع أنّ الكلام في أنّ القياس هل هو مصدر تشريعيّ حتى نأخذ به في مسايرته مع الوقائع المتجدّدة أو لا؟ ومجرد كونه يساير الأحداث لا يكون دليلاً على كونه حجّة.

3. القياس يفيد الظنّ بالحكم وهو يلازم الظنّ بالضرر فيجب دفعه.

قال الرازي : إنّ من ظنّ أنّ الحكم في الأصل معلّل بكذا وعلم أو ظنّ حصول ذلك الوصف في الفرع ، وجب أن يحصل له الظنّ بأنّ حكم الفرع مثل حكم الأصل ومعه علم يقيني بأنّ مخالفة حكم الله تعالى سبب العقاب ، فتولد من ذلك الظن ، وهذا العلم ، ترك العمل به سبب للعقاب ، فثبت أنّ القياس يفيد ظن

ص : 485

الضرر. (1)

يلاحظ عليه : أنّ الرازي خلط بين القاعدتين العقليتين المحكمتين :

1. قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

2. وجوب دفع الضرر المظنون بل المحتمل.

أمّا القاعدة الأُولى فهي قاعدة محكمة دلّ العقل والنقل على صحّتها أمّا العقل فواضح فانّ استقلال العقل بالقبح شيء لا ينكر وأمّا النقل فيكفي قوله سبحانه : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). (2)

فإذا لم يرد في واقعة دليل شرعي على الحرمة أو الوجوب يستقل العقل بقبح عقاب المكلّف إذا ارتكب حتى ولو ظن بأحد الحكمين ، وذلك إمّا لأنَّه لا يكون هناك ظنّ بالضرر أو يكون ظنّ به لكن لا يكون مثله واجب الاجتناب.

وذلك لأنّه لو أُريد بالضرر ، الضرر الأُخروي فهو مقطوع الانتفاء بحكم تقبيح العقل مثل ذلك العقاب وتأييد الشرع ، ففي مثل ذلك المورد لا يكون الظن بالحرمة أو الوجوب ، ملازماً للظن بالضرر أبداً لعدم تمامية الحجّة على المكلّف.

ولو أُريد بالضرر ، الضرر الدنيوي فهو وإن كان ملازماً للظنِّ بالحكم غالباً نظراً إلى تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، لكنّه ليس بواجب الدفع إلاّ إذا كان ضرراً عظيماً لا يتحمل ففي مثله يستقل العقل بدفعه.

وحصيلة الكلام : انّ القياس لما لم تثبت حجّيته فالظن بالحكم لأجله ، لا يلازم الظن

ص : 486


1- المحصول : 2 / 288.
2- الإسراء : 15.

بالضرر الأُخرويّ أبداً ، وأمّا الضرر الدنيوي فهو وإن كان يلازمه لكنّه غير واجب الدفع غالباً إلاّ ما ذكرناه.

فخرجنا بتلك النتيجة : انّ الظن الحاصل بالحكم لأجل القياس الذي لم تثبت حجّيته لا يكون ملازماً للظن بالعقوبة ولا يكون داخلاً في قاعدة «لزوم دفع الضرر المظنون».

وأمّا القاعدة الثانية التي زعم الرازي انّ المقام من مصاديقها وجزئياتها فموردها ما إذا قام الدليل على الحكم الكلي ، وعلى وجود الموضوع له ، فعندئذ يجب دفع الضرر بصوره الثلاث :

ألف. تارة يكون الضرر (العقاب) مقطوعاً كما إذا علم بأنّ الخمر حرام وانّ هذا المائع خمر.

ب. وأُخرى يكون الضرر مظنوناً ، كما إذا علم بأنّ الخمر حرام وعلم أنّ أحد الإناءين خمر ، فشرب أحدهما - لا كليهما - مظنة للضرر الأُخروي.

ج. وثالثة يكون الضرر (العقاب) مشكوكاً ، كما إذا تردد الخمر بين أوان عشرة فشرب أحدها ، محتملاً للضرر.

فالضرر بتمام صوره واجب الدفع للعلم بالكبرى ، أعني : الحكم الكلي ، والعلم بالموضوع معيناً أو مردداً بين إناءين أو أواني كثيرة.

فاللازم على الفقيه تنقيح مصاديق القاعدتين حتى لا يخلط مواردهما ، كما خلط الرازي.

ص : 487

الآن حصحص الحقّ

لقد أثبتت البحوث السابقة حول ما أُقيم من الأدلّة على حجّية القياس انّه ليس هناك دليل صالح قاطع للنزاع ، مفيد للعلم بأنّ الشارع جعل القياس حجّة فيما لا نصّ فيه ، وهناك نكتة جديرة بالتأمّل فيها ، وهي انّه إذا كان للقياس في الشريعة المقدسة هذه المنزلة في التشريع الإسلامي فلما ذا لم يقع في إطار البيان الصريح من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، كما وقع قول الثقة أو حجّية البيّنة في إطاره؟

وقد عرفت أنّ ما استدلّوا من كلام الشارع في ذلك المجال كلّها انتزاعات شخصية فرضت عليه ، وانّ عقيدة المستدل جرّته إلى أن يبحث عن الدليل حول عقيدته فلذلك جمع أشياء من هنا وهناك ليثبت بها مدّعاه ، والجميع بريء ممّا يرتئيه.

بقي هنا كلام وهو دراسة كلمات أئمّة أهل البيت في القياس ، فانّهم أحد الثقلين وكسفينة نوح ، حتّى نقف على موقفهم من القياس في الشريعة الإسلامية.

القياس في كلمات أئمّة أهل البيت - عليهم السلام :

1. عن جعفر بن محمد - عليهما السلام - عن أبيه - عليه السلام - أنّ علياً - عليه السلام - قال : «من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس ، ومن دان الله بالرأي لم يزل دهره في ارتماس».

2. كتب الإمام الصادق - عليه السلام - في رسالة إلى أصحابه أمرهم بالنظر فيها وتعاهدها والعمل بها ، وقد جاء فيها : «لم يكن لأحد بعد محمّد - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقاييسه ، ثمّ قال : واتبعوا آثار رسول الله وسنّته فخذوا بها ولا تتبعوا أهواءكم ورأيكم فتضلّوا».

ص : 488

3. روى سماعة بن مهران عن أبي الحسن - عليه السلام - : «ما لكم وللقياس ، إنّما هلك من هلك من قبلكم بالقياس».

4. دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله - عليه السلام - ، فقال له : «يا أبا حنيفة بلغني انّك تقيس؟» قال : نعم ، قال : «لا تقس فإنّ أوّل من قاس إبليس».

5. عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله - عليه السلام - : ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب الله ولا سنّته فننظر فيها؟ فقال : «لا ، أما إنّك إن أصبت لم تؤجر ، وإن أخطأت كذبت على الله».

6. عن يونس بن عبد الرحمن ، قال : قلت لأبي الحسن الأوّل - عليه السلام - : بما أوحّد الله؟ فقال : «يا يونس لا تكونن مبتدعاً ، من نظر برأيه هلك ، ومن ترك أهل بيت نبيّه ضل ، ومن ترك كتاب الله وقول نبيّه كفر».

7. عن المفضّل بن عمر قال : سمعت أبا عبد الله - عليه السلام - يقول : «من شك أو ظنّ فأقام على أحدهما فقط حبط عمله ، انّ حجّة الله هي الحجّة الواضحة».

8. عن أبان بن تغلب ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : «إنّ السنّة لا تقاس ، ألا ترى أنّ المرأة تقضي صومها ولا تقضي صلاتها ، يا أبان إنّ السنّة إذا قيست محق الدين».

9. عن عثمان بن عيسى قال : سألت أبا الحسن موسى - عليه السلام - عن القياس ، فقال : «وما لكم وللقياس ، إنّ الله لا يسأل كيف أحلّ وكيف حرّم».

10. عن أبي شيبة الخراساني ، قال : سمعت أبا عبد الله - عليه السلام - يقول : «إنّ أصحاب المقاييس طلبوا العلم بالمقاييس فلم تزدهم المقاييس من الحقّ إلاّ بعداً ، وإنّ دين الله لا يصاب بالمقاييس».

11. عن محمد بن مسلم قال : كنت عند أبي عبد الله - عليه السلام - بمنى إذ أقبل أبو

ص : 489

حنيفة على حمار له فلما جلس قال : إنّي أُريد أن أُقايسك ، فقال أبو عبد الله - عليه السلام - : «ليس في دين الله قياس».

12. عن زرارة بن أعين قال : قال لي أبو جعفر محمد بن علي - عليه السلام - : «يا زرارة إيّاك وأصحاب القياس في الدين ، فانّهم تركوا علم ما وُكّلُوا به وتُكلِّفوا ما قد كفوه ، يتأوّلون الأخبار ، ويكذبون على الله عزّ وجلّ ، وكأنّي بالرجل منهم ينادى من بين يديه فيجيب من خلفه ، وينادى من خلفه فيجيب من بين يديه ، قد تاهوا وتحيّروا في الأرض والدين».

13. عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : «إنّ أصحاب القياس ، غيّروا كتاب الله وسنّة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - واتّهموا الصادقين في دين الله». (1)

القياس في كلمات الصحابة والتابعين

إنّ لفيفاً من الصحابة والتابعين ممّن يؤخذ عنهم العلم قد خالفوا القياس بحماس وندّدوا به ، وإليك نزراً من كلماتهم ليعلم أنّ القياس لم يكن أمراً متفقاً عليه بين أوساط الصحابة والتابعين :

1. عن أبي الشعثاء ، عن ابن عباس ، قال : كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذّراً ، فبعث الله نبيّه - صلى الله عليه وآله وسلم - وأنزل كتابه وأحل حلاله ، وحرم حرامه ، فما أحل فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو.

2. عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود أنّه قال : ليس عام إلاّ والذي بعده شر منه ، لا أقول عام أمطر من عام ، ولا عام أخصب من عام ، ولا أمير خير من أمير ، ولكن ذهب خياركم وعلماؤكم ، ثمّ يحدث قوم يقيسون

ص : 490


1- راجع الوسائل : 18 ، الباب 6 من أبواب صفات القاضي.

الأُمور برأيهم فينهدم الإسلام وينثلم.

3. عن جابر بن زيد ، قال : لقيني ابن عمر قال : يا جابر إنّك من فقهاء البصرة وستُسْتفتى ، فلا تُفتينَّ إلاّ بكتاب ناطق أو سنّة ماضية.

4. عن زيد بن عميرة ، عن معاذ بن جبل ، قال : تكون فتن يكثر فيها الملل ويفتح فيها القرآن حتى يقرؤه الرجل والمرأة والصغير والكبير والمؤمن والمنافق ، فيقرؤه الرجل فلا يتبع ، فيقول : والله لأقرأنّه علانية ، فيقرؤه علانية فلا يتبع ، فيتخذ مسجداً ويبتدع كلاماً ليس من كتاب الله ولا من سنّة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فإيّاكم وإيّاه ، فإنّها بدعة ضلالة ، قالها ثلاث مرات.

هذا وقد ذكر ابن حزم أحاديث أُخرى على لسان الصحابة في ذم القياس أعرضنا عنها خوفاً من الإطالة ، ونقتصر على سرد أسمائهم :

أبو هريرة ، سمرة بن جندب ، عبد الله بن أبي أوفى ، ومعاوية. (1)

وكذلك صرح أئمة التابعين على ذم القياس وشجبه والنهي عنه :

1. عن داود بن أبي هند قال : سمعت محمد بن سيرين ، يقول : القياس شؤم وأوّل من قاس إبليس فهلك ، وإنّما عُبدت الشمسُ والقمرُ بالمقاييس.

2. قال ابن وهب : أخبرني مسلم بن علي انّ شريحاً القاضي قال : إنّ السنّة سبقت قياسَكم.

3. عن المغيرة بن مقسم عن الشعبي ، قال : السنّة لم توضع بالقياس.

4. وعن عامر الشعبي أيضاً : إنّما هلكتم حيث تركتم الآثار وأخذتم

ص : 491


1- انظر الاحكام في أُصول الاحكام لابن حزم : 6 / 508 ، 511 ؛ اعلام الموقعين عن ربّ العالمين لابن قيم الجوزية : 1 / 242240 ، طبعة دار الكتاب العربي.

بالمقاييس.

5. عن جابر ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : لا أقيس شيئاً بشيء قيل : لمَ؟ قال : أخشى أن تزل رجلي.

وكان يقول : إيّاكم والقياس والرأي ، فانّ الرأي قد يزل.

إلى غير ذلك من الروايات التي يطول بذكرها الكلام ، ونكتفي هنا بسرد أسماء التابعين الذين نالوا من القياس :

إياس بن معاوية ، مالك بن أنس ، وكيع بن الجراح ، حماد بن أبي حنيفة ، ابن شبرمة ، مطر الوراق ، عطاء بن أبي رباح ، أبو سلمة بن عبد الرحمن. (1)

وبعد نقل هذه الطائفة الكبيرة من الأحاديث من قبل أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - والصحابة والتابعين كيف يُدّعى انّ الإجماع قام على صحّة القياس ولم يخالفه أحد ، لو لم نقل انّ الإجماع قام على نفي القياس؟!

وهذا يدلّ على أنّ هذا العنصر قد دخل حيّز التشريع الإسلامي بموافقة بعض ومخالفة البعض الآخر له ، وانّ ادّعاء الإجماع في مثل هذه المسألة أمر لا يليق بمن تتبع كلمات الفقهاء في هذا الصدد ، وقد نقل ابن قيم الجوزيّة كلمات الموافقين كما نقل كلمات المخالفين للقياس ، وإن كان في كثير من المباحث عيالاً على كتاب الإحكام لابن حزم الأندلسيّ.

ص : 492


1- انظر الاحكام في أُصول الاحكام لابن حزم : 6 / 511 - 514 ؛ اعلام الموقعين لابن قيم الجوزية : 1 / 243 - 246 ؛ العدّة للشيخ الطوسي : 2 / 688 - 690.
2- مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه عند أهل السنّة
الاستحسان

الاستحسان من مصادر التشريع لدى المالكيّة ، وقد روي عن الإمام مالك أنّه قال : «الاستحسان تسعة أعشار العلم» خلافاً للشافعي حيث رفضه وقال : «من استحسن فقد شرّع» وربما يُفصّل بين الاستحسان المبنيّ على الدليل ، والاستحسان المبنيّ على الهوى والرأي ، ومع كونه أصلاً معتبراً لدى المالكيّة وغيرهم ، فلم يُعرَّف بوجه يكون مثلَ القياس ، واضحَ المعالم ، فإنّ الاستحسان ضد الاستقباح ، وتعالى التشريع الإسلامي أن يكون تابعاً لاستحسان إنسان أو استقباحه من دون أن يكون له رصيد من الشرع والعقل ، ولا يصحّ الإفتاء إلاّ بما دلّ الدليل القطعي على حجّيته ، والاستحسان بما هو هو ، ليس عِلْماً ولا ظنّاً يدل دليل قطعي على حجّيته ، كلّ ذلك يبعثنا إلى تحقيق مراد القائلين من كونه دليلاً فقهياً كسائر الأدلّة ، واللازم هو الإمعان في موارد استعماله.

أقول : مع ما عُرّف الاستحسان بتعاريف كثيرة أكثرها خاضعة للسجع دون بيان الواقع نظير ما يحكى عن الحاكم الذي كتب إلى قاضي قم بقوله :

أيّها القاضي بقم

قد عزلناك فقم

ص : 493

ولذلك قال القاضي المعزول ما عزلني إلاّ وحدة القافية ، وإن شئت فأمعن النظر في هذه التعاريف ، فكأنّ الغاية فيها هو حفظ السجع دون تفهيم المراد.

1. الاستحسان : ترك القياس ، والأخذ بما هو أوفق للناس.

2. الاستحسان : طلب السهولة في الأحكام ، فيما يبتلى به الخاص والعام.

3. الاستحسان : الأخذ بالسعة ، وابتغاء الدعة.

4. الاستحسان : الأخذ بالسماحة ، وانتفاء ما فيه الراحة.

5. الاستحسان : هو الالتفات إلى المصلحة والعدل.

فإنّ هذه التعاريف لا تُوضح حقيقة الاستحسان ، فالذي يمكن أن يكون محطاً للنزاع هو ما سنذكره عن قريب.

وقبل استعراضه يجب أن نركّز على نكتة وهي انّ ظاهر القائلين بالاستحسان عدّه دليلاً مستقلاً وراء الكتاب والسنّة والإجماع والعقل. ووراء القياس والاستصلاح (المصالح المرسلة) وسد الذرائع وفتحها وغيرها لكنّه في أغلب الموارد يرجع إلى أحد الأدلة المذكورة كما سيتضح عن قريب.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه يُطلق ويراد منه أحد المعاني التالية :

الأوّل : العمل بالرأي والظن

قد يطلق الاستحسان ويراد منه العمل بالرأي فيما جعله الشارع موكولاً إلى آرائنا ، ويظهر هذا من السرخسيّ في أُصول فقهه ، كما في مورد تمتيع المطلقة غير المدخول بها قال سبحانه : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً

ص : 494

بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ). (1)

ونظيره قوله سبحانه في مورد رزق الوالدات وكسوتهنّ ، قال سبحانه : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (2) فقد ترك الشارع تعيين كيفية التمتيع وتقدير المعروف بحسب اليسر والعسر إلى آرائنا. (3) وهو يختلف حسب اختلاف الأزمنة والأمكنة.

والاستحسان بهذا المعنى ، عمل بالظن في موضوع من الموضوعات ، كالعمل به في سائر الموارد الذي جعل الظن فيه حجّة ، فلو قام دليل على حجّية مثل هذا الظن يتمسك به ويقتصر على مورده سواء استحسنه المجتهد أم لا ، وإلاّ فلا. وتسمية مثل هذا استحساناً أمر مُورِث للاشتباه.

على أنّ المرجع في هذه الموارد هو عرف البلد لا رأي القاضي ولا المجتهد كما هو واضح ، ولذلك يختلف مقدار تمتيع المطلقة ونفقة الزوجة حسب اختلاف الأزمنة والأمكنة.

الثاني : العدول من قياس إلى قياس أقوى منه

وقد يطلق ويراد منه العدول عن مقتضى قياس ظاهر إلى مقتضى قياس أقوى منه ، وهذا هو الذي نقله أبو الحسين البصري عن بعضهم ، فقال : العدول من موجب قياس إلى قياس أقوى منه. (4)

ص : 495


1- البقرة : 236.
2- البقرة : 233.
3- أُصول الفقه : 2 / 200.
4- المعتمد : 2 / 296.

وعلى هذا لا يكون الاستحسان دليلاً مستقلاً ويكون مرجّحاً لتقديم القياس الأقوى على غيره كما هو الحال في سائر الأدلّة حيث يقدم الأقوى على غيره ، كالخاص على العام ، والمقيّد على المطلق ، وهكذا ، ولو أُريد من الاستحسان هذا فمثله لا يليق أن يقع موضع خلاف بين القائلين بحجّية القياس كمالك والشافعي ، فالجميع على تقديم أقوى الدليلين على الآخر من غير فرق بين القياسين أو الدليلين.

الثالث : العدول من مقتضى قياس جلي إلى قياس خفي

يطلق الاستحسان ويراد منه ، العدول من مقتضى القياس الجلي إلى قياس خفي. (1) وهذا هو الذي يظهر من الأُصولي المعاصر الدكتور «وهبة الزحيلي» وغيره والفرق بين التعريفين - الثاني والثالث بعد اشتراكهما في أنّ المعدول عنه والمعدول إليه ، قياس - هو انّ المعدول إليه على التعريف الثاني ، هو القياس الأقوى الأعم من أن يكون جلياً أو خفياً ، بخلاف التعريف الثالث فإنّ المعدول إليه قياس خفيّ. ولنذكر مثالين :

1. مقتضى القياس الجلي ، هو إلحاق سؤر الطيور المعلّمة بسؤر الحيوان المفترس في النجاسة - على القول بنجاسة سؤره - لاشتراكهما في الافتراس ، ولكن مقتضى القياس الخفي إلحاقه بسؤر الإنسان في الطهارة.

2. إذا وقف أرضاً زراعية فهل يدخل فيه حقوق الري والمرور؟ قولان :

أ. لا يدخل حقوق الريّ والمرور في الوقف قياساً على البيع ، فإنّ البيع ، والوقف يشتركان في خروج المبيع عن ملك الواقف والبائع ، فلا يدخل في بيع

ص : 496


1- الوجيز في أُصول الفقه : 86.

الأرض الزراعية حقوقُ ريّها وصرفها والمرور إليها بدون ذكرها ، فكذلك في وقفها ، وهذا هو مقتضى القياس الظاهري.

ب. يدخل حقوق الري والمرور قياساً على الإجارة بجامع انّ المقصود من كلّ منهما الانتفاع بريع العين لا تملُّك رقبتها ، وفي إجارة الأرض الزراعية تدخل حقوق ريّها وصرفها والمرور إليها بدون ذكرها ، فكذلك في وقفها ، وهذا هو العدول عن مقتضى القياس الظاهري إلى مقتضى القياس الخفي وسموه بالاستحسان. (1)

أقول : إنّ دخول حقّ الريّ والمرور أو عدمه لا يبتني على قياس الوقف بالبيع أو الإجارة ، بل هما مبنيان على وجود الملازمة العرفية بين وقف الأرض ودخول حقوق ريّها والمرور إليها فيه أو عدمها ، فلو قلنا بالملازمة العرفية بين إخراج الشيء عن ملكه وإخراج ما يتوقف الانتفاع به عليه (كحقوق ريّها وصرفها والمرور إليها على نحو إذا بيعت الأرض الزراعية أو أُوجرت أو أُوقفت يفهم منه نقل توابعها ممّا يتوقف الانتفاع بها عليها) فيدخل إلاّ أن ينصَّ على خلافه ، ولو قلنا بعدم الملازمة وانّه لا يفهم من نقل الأصل ، نقل التوابع ، فلا يدخل واحد ، فعلى الأوّل يكونُ الدخول هو مقتضى القاعدة حتى يثبت خلافه بخلاف الثاني ، فإنّه يكون عدم الدخول هو المطابق لمقتضى القاعدة حتى يثبت خلافه.

ونظير المقام توابع المبيع من اللجام والسرج ومفتاح الباب وغيرها ، وبذلك تعرف انّه لا دور للقياس في حلّ المسألتين خروجاً وعدمه ، حتّى يسمّى العدول استحساناً وإنّما يجب على الفقيه أن يركز على الملازمة العرفية بين النقلين وعدمها.

ص : 497


1- مصادر التشريع الإسلامي : 72.
الرابع : العدول من مقتضى القياس بدليل

قد يطلق ويراد منه هو العدول عن مقتضى القياس بدليل شرعي سواء كان المعدول إليه قياساً أم غيره. نعم يشترط في المعدول عنه كونه قياساً.

وهذا هو الذي يظهر أيضاً من السرخسي في أُصول فقهه قال : هو الدليل يكون معارضاً للقياس الظاهر الذي تسبق إليه الأوهام قبل إنعام التأمل فيه ، وبعد إنعام التأمل في حكم الحادث وأشباهه من الأُصول يظهر انّ الدليل الذي عارضه ، فوقه في القوة وانّ العمل به هو الواجب. (1)

وظاهر هذا التعريف كما عرفت أنّ العدول عن القياس بدليل شرعي هو الاستحسان ، وعلى ضوء هذا يختص الاستحسان بصورة العدول عن مقتضى القياس فحسب لا مطلق الدليل ، فيشترط في المعدول عنه أن يكون قياساً وامّا المعدول إليه ، فيشترط أن يكون دليلاً غير القياس.

وهذا هو الظاهر من الكرخي أيضاً حيث عرفه بقوله : إثبات الحكم في صورة من الصور على خلاف القياس من نظائرها مع أنّ القياس يقتضي إثباته ، بدليل خاص لا يوجد في غيرها. (2)

ولنذكر مثالاً :

إذا ضاع شيء تحت يد الصانع ، فمقتضى القياس هو عدم ضمانه إذا ضاع أو تلف لديه من غير تقصير منه قياساً على يد المودع ، ولكن روي عن الإمام علي بن أبي طالب - عليه السلام - والقاضي أبي أُمية شريح بن الحارث الكندي بأنّهما يضمّنان

ص : 498


1- أُصول الفقه : 2 / 200.
2- الوصول إلى الأُصول : 2 / 321 ؛ المنخول : 375 ، حيث قال : الصحيح في ضبط الاستحسان ما ذكره الكرخي.

الصنّاع ، وما هذا إلاّ لأنّ عدم تضمينهم ربما ينتهي إلى إهمالهم في حفظ أموال الناس. (1)

وروي أنّ الإمام الشافعي يذكر انّه قد ذهب شريح إلى تضمين القصّار فضمّن قصّاراً احتُرق بيته ، فقال : تضمّنني وقد احترق بيتي ، فقال شريح : أرأيت لو احترق بيته كنت تترك له أجرك. (2)

وعلى ضوء هذا المثال ربما يفسر الاستحسان : بترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس.

أقول : المثال قابل للنقاش.

أوّلاً : ليس المورد من موارد القياس ، لأنّ قياس الأجير ، بالودعي قياس مع الفارق ، فإنّ الأوّل يأخذ المال لصالحه بُغية أخذ الأُجرة لعمله ، وهذا بخلاف الودعي فانّه يأخذ المال لصالح صاحب المال ، فقياس الأوّل بالثاني مع هذا الفارق ، قياس مع الفارق.

ثانياً : إذا كان المورد غير صالح لاعمال القياس - لفقدان بعض شرائطه - فيكون المرجع ، هو الأصل الأوّلي في الأموال ، وليس إلاّ الاحترام والضمان حتى يثبت خلافه لا الاستحسان «أعني : كون الضمان أوفق للناس ، أو لئلاّ ينتهي إلى الإهمال في أموال الناس». فإذا أتلفه الأجير أو تلف عنده فمقتضى قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» هو الضمان ما لم يدل دليل على خلافه كما دلّ في مورد الودعي حيث ليس لصاحب المال تغريم الودعي ، نعم لصاحب المال إحلافه على أنّ التلف لم يكن عن تعد أو تفريط ، ولذلك قالوا : «ليس على الأمين إلاّ اليمين».

ص : 499


1- السنن الكبرى : 3 / 122.
2- السنن الكبرى : 3 / 122.
الخامس : الاستحسان والعمل بأقوى الدليلين

إذا كان بين الدليلين تعارض بنحو التباين أو بنحو العموم والخصوص من وجه ، يُعمل بأقوى الدليلين ، فالأوّل كما إذا ورد «ثمن العذرة سحت» ، وورد أيضاً «لا بأس ببيع العذرة». والثاني كما إذا قال : أكرم العلماء وقال أيضاً : لا تكرم الفاسق ، فاجتمع الدليلان في العالم الفاسق ، ففي هذه الموارد يرجع إلى مرجحات باب التعارض التي طرحها الأُصوليون في باب التعادل والترجيح ، وأهمّ المرجّحات هو موافقة الكتاب ، أو موافقة السنّة ، أو كون أحد الدليلين موافقاً لما هو المشهور بين العلماء ، أو غير ذلك.

ونظير ذلك إذا كان بين الدليلين تزاحم كما إذا تزاحم الأمر بإنقاذ نفس محترمة بالتصرف في أرض الغير ، أو تزاحم أداء الدين مع الحجّ إلى غير ذلك من موارد المتزاحمين ، فيرجع فيهما إلى أقوى الدليلين ملاكاً وأعظمهما أهمية.

فلو أُريد من الاستحسان هذا فلا أظن أن يكون هذا موضع اختلاف بين مالك والشافعي ، أو بين القائلين به والنافين له.

السادس : الاستحسان والأخذ بالعرف

وربما يفسر الاستحسان بالرجوع إلى العرف كما في عقد «الاستنصاع» وهو عقد على معدوم وقد قيل بصحته لأخذ العرف به ، ولعلّ المراد من العرف هو السيرة ولكنّها لا تكون دليلاً على مشروعية العقد إلاّ أن تكون متصلة إلى عصر المعصوم حتّى يقع موقع إقراره.

ومن عجيب الأمر أن يتوارد النفي والإثبات على موضوع كالاستحسان من دون أن يحدد مفهوم الاستحسان.

ص : 500

السابع : الاستحسان والمصلحة

وربما يفسر الاستحسان بإدراك الفعل لمصلحة توجب جعل حكم من الشارع له على وفقها ، وهذا يرجع إلى الاستصلاح والمصالح المرسلة الذي سيوافيك البحث فيه في الفصل التالي.

إلى هنا تبين انّه لم نعثر على معنى واضح للاستحسان ليقع مورد النزاع فالوجوه السبعة الآنفة الذكر ليست مورداً للخلاف وليس لها من الأهمية حتّى يعدّه مالك تسعة أعشار العلم كما نُقل عنه.

وإليك إجمال ما مضى من المعاني السبعة :

أمّا المعنى الأوّل أي العمل بالظن والرأي ، فهو فرع وجود دليل على حجّيته ولا يختلف فيه علمان.

وأمّا الثاني - أعني : العدول من قياس إلى قياس أقوى - فلو قلنا بحجّية القياس فلا محيص عن العدول.

وأمّا الثالث - أعني : العدول عن مقتضى قياس جلي إلى قياس خفي - فلو كان المعدول إليه أقوى فلا محيص عنه ، وإلاّ لكان القياسان متعارضين.

وأمّا الرابع - أي العدول من مقتضى القياس بالدليل - فهو أيضاً على وفق القاعدة بشرط أن يكون الدليل أقوى من القياس.

وأمّا الخامس - وهو العمل بأقوى الدليلين في بابي التعارض والتزاحم - فهو أيضاً أمر لا سترة فيه.

وأمّا السادس - أعني : العمل بالعرف والسيرة المستمرة - فهو أمر صحيح بشرط أن تكون السيرة مورد تقرير للمعصوم.

ص : 501

وأمّا السابع - أعني : العمل بالمصلحة - فالاستحسان بهذا المعنى لا يكون أصلاً مستقلاً برأسه ، والمفروض انّه دليل في مقابل الاستصلاح ، فلم يبق من المحتملات إلاّ الوجه الآتي ، أعني :

الثامن : العدول عن مقتضى الدليل إلى ما يستحسنه المجتهد
اشارة

الظاهر انّ المراد بالاستحسان هو العدول عن مقتضى الدليل باستحسان المجتهد.

وقريب منه ما يقال «دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على التعبير عنه» ولذلك يستحسن أن يفتي على وفقه.

وبعبارة أُخرى : يستحسن أن يكون الموضوع داخلاً تحت ذلك الدليل لا الدليل الآخر من دون أن يكون له دليل على هذا سوى استحسانه.

والاستحسان بهذا المعنى قابل للنقض والإبرام ، ولذلك يصفه الشافعي بقوله : «أفرأيت إذا قال المفتي في النازلة ليس فيها نصّ خبر ولا قياس ، وقال : استحسن فلا بدّ أن يزعم انّه جائز لغيره أن يستحسن خلافه ، فيقول كلّ حاكم في بلد ومفت بما يستحسن ، فيقال في الشيء الواحد بضروب من الحكم والفتيا ، فإن كان هذا جائزاً عندهم فقد أهملوا أنفسهم فحكموا حيث شاءوا ، وإن كان ضيقاً فلا يجوز أن يدخلوا فيه». (1)

ولعلّ مراد الشافعي من كلامه هذا ما استظهره بعض الأجلة وقال :

والظاهر انّ مراده هو الردع عن خصوص هذا القسم ، كما تومئ إليه بقية أقواله ، ممّا لا تخضع لضوابط من شأنها أن تقلل من وقوع الاختلاف وتفسح

ص : 502


1- فلسفة التشريع الإسلامي : 174.

المجال أمام المتطفّلين على منصب الإفتاء ليرسلوا كلماتهم بسهولة استناداً إلى ما يدعونه لأنفسهم من انقداحات نفسية وأدلة لا يقدرون على التعبير عنها ، ممّا يسبِّب إشاعة الفوضى في عوالم الفقه والتشريع. (1)

ويمكن توضيح هذا الوجه بمثالين :

أ. انّ مقتضى إطلاق قوله سبحانه : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (2) هو قطع يد السارق دون فرق بين عام الرخاء والمجاعة ، ولكن نقل عن عمر عدم العمل به في عام المجاعة.

ب. يقول سبحانه : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) (3) وقد نقل عن الإمام مالك إخراج الأُمّ الرفيعة المنزلة التي ليست من شأن مثلها أن ترضع ولدها ، وعلى هذا ينطبق تعريف الجرجاني : الاستحسان ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس. (4)

أقول : لا وجه للعدول عن إطلاق الآية الشامل لعام المجاعة والأُم الرفيعة المنزلة وغيرهما إلاّ بدليل ، ويمكن أن يكون الدليل انصراف الآية عن الصورتين ، والانصراف يحدّد دلالة الدليل ويُتّبع الدليل في غير مورد الانصراف.

ولكن الذي يؤاخذ على هذا الاستعمال هو انّ تسمية الانصراف وأشباهه ممّا يوجب العدول عن الدليل الأوّل بالاستحسان أمر غير صحيح.

وبعبارة أُخرى : إذا كان هنا دليل على العدول ، وكان المورد يتمتع برصيد خاص ، فما هو الوجه لاستعمال كلمة الاستحسان المريب ، إذ من الواضح انّ

ص : 503


1- الأُصول العامة للفقه المقارن : 363.
2- المائدة : 38.
3- البقرة : 233.
4- التعريفات : 13.

استحسان شخص واستقباحه ما لم يعتمد على دليل ، لا يعدان من مصادر التشريع؟

وهنا نقطة جديرة بالإشارة وهي انّ الاختلاف في تعريف الاستحسان الذي جعل من مصادر الفقه إلى هذا المستوى يعرب عن أنّه لم يمتلك مفهوماً واضحاً حتى عرّف بتعاريف مختلفة.

إنّ الاختلاف في حجّية الاستحسان ناتج عن عدم دراسة مصادر التشريع حسب مراتبها ، فإنّ تقديم دليل على دليل آخر سواء كانا قياسين أو غيرهما فرع وجود الملاك للتقديم حتى تقدم إحدى الحجّتين على الأُخرى بملاك وليس الاستحسان منه أبداً ، وعلى القائلين بالاستحسان بالوجوه المذكورة أن يدرسوا ملاك تقدّم الأدلّة بعضها على بعض.

مثلاً أنّ الخاص يقدّم على العام ، والمقيّد على المطلق ، والنص على الظاهر المخالف ، وأحكام العناوين الثانوية كالضرر والحرج على أحكام العناوين الأوّلية وغير ذلك فتقديم أيّ دليل على آخر يجب أن يكون داخلاً تحت أحد هذه الملاكات وأمثالها ممّا قرّر في مبحث تعارض الأدلّة وترجيحها ، لا تحت عنوان الاستحسان ، وعلى هذا لو فسروا الاستحسان بمعنى تقدم أحد الدليلين على الدليل الآخر بملاك موجب له ، لاتفقت الشيعة أيضاً معهم.

وممّا يرشد إلى ذلك انّ الأُستاذ «أبو زهرة» يعرف القياس ويقسمه إلى قسمين : أحدهما : استحسان القياس ، والآخر : استحسان سبب معارضة القياس ، ويمثل للقسم الأوّل بقوله : أن يكون في المسألة وصفان يقتضيان قياسين متباينين أحدهما ظاهر متبادر وهو القياس الاصطلاحي ، والثاني خفي يقتضي إلحاقها بأصل آخر فتسمى هنا استحساناً ، مثل انّ المرأة عورة من قمة رأسها إلى قدميها ،

ص : 504

ثمّ أُبيح النظر إلى بعض المواضع للحاجة ، كرؤية الطبيب ، فأعملت علّة التيسير هنا في هذا الموضع. (1)

إنّ الأُستاذ وإن أصاب في تقديم الدليل الثاني على الأوّل ولكنّه لم يذكر وجهه ، فانّ المقام داخل تحت العناوين الثانوية فتقدم على أحكام العناوين الأوّلية ، فقوله سبحانه : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (2) يدلّ على أنّ كلّ حكم حرجي مرفوع في الإسلام وغير مشرّع ، فلو افترضنا انّ بدن المرأة عورة كلّه يجب عليها ستره ، لكن هذا الحكم يختص بغير حالة الضرورة ، وذلك لتقدم أحكام العناوين الثانوية كالضرورة والاضطرار على العناوين الأوّلية ، فقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «رفع عن أُمّتي ما اضطروا إليه» دليل على إباحة الرؤية ، فأي صلة لهذه المسألة بالاستحسان ، وما هذا إلاّ لأنّ القوم لم يقيّموا مصادر التشريع حسب مراتبها فأسموا مثلَ ذلك بالاستحسان.

الاستدلال على حجّية الاستحسان

استدلّوا على حجّية الاستحسان بوجوه :

الاستدلال بالكتاب والسنّة

الأوّل : قوله سبحانه : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ). (3)

ص : 505


1- أُصول الفقه : 247 - 249.
2- الحج : 78.
3- الزمر : 18.

الثاني : قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن. (1)

يلاحظ على الأوّل : أنّه لا نزاع في الكبرى وانّ عباد الله هم الذين يستمعون القول فيتّبعون ما هو الأحسن ، ولكن الكلام في أنّ الإفتاء بشيء ممّا لم يقم عليه دليل سوى استحسان المجتهد ، هل هو اتّباع للأحسن أو اتّباع للهوى؟

وبعبارة أُخرى : القرآن يدعو إلى اقتفاء القول الأحسن وهو الذي دعمه العقل الصريح والشرع المبين ، وأين هذا من الإفتاء بشيء بمجرّد استحسان ذهن المجتهد ورأيه من دون أن يقوم عليه دليل قطعي من عقل أو شرع؟! نعم إذا كان الإفتاء مستنداً إلى دليل شرعي فهو حجّة قطعية ولا حاجة في جواز الإفتاء بها إلى الاستدلال بالآية ، بل يكفي دليل حجّيته.

والدليل على أنّ المراد من قوله «أحسن» هو ما قام الدليل على حجّيته انّك لو فسرت الآية بالاستحسان وقلت : الذين يتبعون الاستحسان لاختل انسجام الآية.

والحاصل : انّ لفظ «الأحسن» يُمثّل أحد معنيين :

1. امّا أن يتضمن معنى التفصيل ، فعندئذ يدلّ على أنّ هناك قولاً حسناً وقولاً أحسن فيتبعون الثاني دون الأوّل ، ولا يوصف القول بالحُسْن إلاّ إذا دلّ الدليل من العقل والنقل على كونه حجّة.

2. أن يكون بمعنى الحسن خالياً عن المفاضلة فيكون المعنى يتبعون الحسن دون غيره ، وعلى كلا التقديرين لا صلة للآية بما يستحسنه المجتهد بأنّه حكم الله من دون أن يستند إلى دليل قاطع.

ص : 506


1- احكام الفصول في احكام الأُصول : 688 - 689 ؛ الإحكام : 6 / 192 - 196.

ومنه يظهر انّ الحديث لا صلة له بالمقام ، فإنّ المراد ما رآه المسلمون حسناً أي ما اتّفقت عليه عقولهم لا رأي واحد منهم.

الاستدلال بالإجماع

وربما يستدلّ بإجماع الأُمّة واستحسانهم دخول الحمام وشرب الماء بأيدي السقّائين من غير تقدير لزمان المكث وتقدير الماء والأُجرة.

يلاحظ عليه : أنّه إذا جرت السيرة على هذا فهي حجّة إذا استمرت إلى عصر المعصوم حتّى يقع موقع التقرير وإلاّ فليست السيرة حجّة في مقابل الأدلة الشرعية ، حيث إنّ الجهل في المعاملة مرفوض شرعاً إلاّ ما جرت السيرة المستمرة عليه بالشرط المذكور.

بقي هنا أمر :

ربما يُمثّل بالاستحسان بالموارد التالية ويدعى انّ النبي الأعظم أفتى فيها به دون الوحي وانّه كان يجتهد كسائر الناس :

أ. نهى رسول الله عن بيع المعدوم ، ورخّص في السلم.

ب. نهى رسول الله عن بيع الرطب باليابس ، ورخّص في العرايا.

ج. نهى رسول الله عن أن يخضد شجر مكة وأن يختلى خلاها ورخّص في الإذخر.

يلاحظ على المثال الأوّل : أنّه لم يرد على لسان الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قوله : نهى رسول الله عن بيع المعدوم ، وإنّما الوارد قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لا تبع ما ليس عندك» (1) وهو ناظر إلى بيع المبيع الشخصي الذي هو تحت يد الغير ، فما لم يتملّكه البائع لا حق له في بيعه ،

ص : 507


1- لاحظ بلوغ المرام : 162 ، الحديث 820.

لعدم جواز بيع ما لا يملك ، وأين هو من بيع السلم الذي هو بيع شيء في الذمة ، فلم يكن ما صدر عن الرسول بنحو الضابطة شاملاً لبيع السلم حتى يكون الثاني استثناء من الأوّل ومبنيّاً على اجتهاده واستحسانه.

ومنه يظهر حال المثال الثاني أعني : «نهى رسول الله عن بيع الرطب باليابس».

فانّ نهي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إنّما كان منصبّاً على المجنيّ من الثمرة دون ما كان على الشجرة ، فنهى عن بيع الرطب باليابس ، لئلا يلزم الربا ، وإليك نصّ الحديث

عن سعد بن أبي وقاص قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يسأل عن اشتراء الرطب بالتمر ، فقال : أينقص الرطب إذا يبس؟ قال : نعم ، فنهى عن ذلك. (1) وعلى ذلك فالنهي كان منصبّاً على البيع الشخصي ، أي تبديل الرطب المعيّن بعين يابس ، وعلى ضوء ذلك فلم يكن بيع العرايا داخلاً في النهي حتى يحتاج إلى الترخيص ويكون مبنياً على الاستحسان.

ومن ذلك يعلم أنّ ما رواه زيد بن ثابت «انّ رسول الله رخص في العرايا تباع بخرصها كيلاً» (2) ليس بمعنى انّه كان ممنوعاً ، ثمّ رخصه رسول الله ، بل بمعنى عدم تعلّق النهي به من بدء الأمر ، بخلاف المجنيّ.

وأمّا الثالث فلأنّ استثناء الإذخر من «اختلاء خلاه» ليس بمعنى انّ النبي استثناه من تلقاء نفسه معتمداً على الاستحسان ، بل كان الحكم (لا يخضد شجر مكة ولا يختلي خلاها) غير شامل للأُذخر في الواقع ، ولعلّ النبي كان مستعداً لبيان المخصص غير أنّ عمه العباس لما سبقه وقال : إلاّ الإذخُر ، فأعقبه النبي وقال : إلاّ الأُذخُر ، فزُعم انّ النبي قاله اجتهاداً أو استحساناً ، وما ذكرناه وإن كان احتمالاً ، لكنّه يكفي في نقض الدليل وإسقاطه عن الصلاحية

ص : 508


1- بلوغ المرام : 172 ، الحديث 865.
2- بلوغ المرام : 173 ، الحديث 867.
3- مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه عند أهل السنّة
الاستصلاح أو المصالح المرسلة
اشارة

المصالح المرسلة» مركبة من كلمتين لا بدّ من إيضاحهما :

أمّا الأُولى فيقول الغزالي : المصلحة هي عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة - وقال - : ولسنا نعني به ذلك ، فانّ جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم ، لكنّا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع ؛ ومقصود الشرع من الخلق خمسة : وهو أن يحفظ عليهم دينَهم ، ونفسَهم ، وعقلَهم ، ونسلهم ، ومالهم ؛ فكلّ ما يتضمن هذه الأُصول الخمسة فهو مصلحة ، وكلّ ما يفوِّت هذه الأُصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة. (1)

وأمّا المرسلة فقد اختلفت كلمتهم في تفسيرها على وجهين :

1. المراد هو المصلحة غير المعتمدة على نصّ خاص ولكن تدخل ضمن ما ورد في الشريعة من نصوص عامة.

وبعبارة أُخرى : لم يرد في خصوص تلك المصلحة دليل معيّن ولكن المصلحة داخلة في مقاصد الشريعة التي يُرغب إليها وهذا هو الظاهر من الأُستاذ

ص : 509


1- المستصفى : 1 / 140.

الدواليبي في تفسير الاستصلاح فقال : الاستصلاح في حقيقته هو نوع من الحكم بالرأي المبني على المصلحة ، وذلك في كلّ مسألة لم يرد في الشريعة نصّ عليها ، ولم يكن لها في الشريعة أمثال تقاس بها ، وإنّما بنى الحكم فيها على ما في الشريعة من قواعد عامة برهنت على أنّ كلّ مسألة خرجت عن المصلحة ليست من الشريعة بشيء وتلك القواعد هي مثل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) (1) وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لا ضرر ولا ضرار». (2)

2. انّ المراد عدم الاعتماد على أي نص شرعي من دون فرق بين الخاص والعام وإنّما يترك للعقل حق استكشافها ، وعلى هذا عرفه ابن برهان بقوله : هي ما لا تستند إلى أصل كلي أو جزئي.

وعلى هذا الوجه فكشف العقل المصلحة في فعل الشيء أو تركه من أدلة التشريع عند القائلين به.

ولو قبل به فالأولى تعريفه بالنحو التالي :

المصالح المرسلة عبارة «عن كلّ مصلحة لم يرد فيها أيُّ نصّ يدعو إلى اعتبارها ، أو عدم اعتبارها ، ولكن في اعتبارها نفع أو دفع ضرر».

وبعبارة أُخرى : الاستصلاح طريق شرعي لاستنباط الحكم فيما لا نصّ فيه ولا إجماع وانّ المصلحة المطلقة التي لا يوجد من الشرع ما يدلّ على اعتبارها ولا إلغائها ، مصلحة صالحة لأن يبنى عليها الاستنباط. (3)

وهي من مصادر الفقه والاستنباط عند المالكية والحنابلة ، دون الحنفية

ص : 510


1- النحل : 90.
2- المدخل إلى أُصول الفقه للدواليبي : 284.
3- مصادر التشريع : 73.

والشافعية ، فقد ذهب الأوّلان إلى أنّ الاستصلاح طريق شرعي لاستنباط الحكم فيما لا نصّ فيه ولا إجماع ، وانّ المصلحة المطلقة - التي لا يوجد دليل من الشرع يدل على اعتبارها ولا على إلغائها - مصلحة صالحة لأن يبنى عليها الاستنباط.

والمعروف من الحنفية انّهم لا يأخذون بالاستصلاح ، وكذا الشافعية ، حتى روي عن الشافعي انّه قال : «من استصلح فقد شرّع» ، كما أنّ «من استحسن فقد شرّع» ، والاستصلاح كالاستحسان متابعة الهوى.

وقد اعتبرها الإمام مالك بشروط ثلاثة :

1. أن لا تنافي إطلاقَ أُصول الشرع ، ولا دليلاً من أدلّته.

2. أن تكون ضرورية للناس مفيدة لهم ، أو دافعة ضرراً عنهم.

3. أن لا تمسّ العبادات ، لأنّ أغلبها لا يعقل لها معنى على التفسير.

والفرق بين الأدلة الثلاثة واضح.

فالقياس عبارة عن استنباط حكم الفرع عن الأصل بحجّة اشتراكهما في العلّة.

والاستحسان عبارة عن العدول عن مقتضى دليل إلى دليل آخر بوجه من الوجوه.

والاستصلاح عبارة عن حيازة المصلحة المطلقة في مورد ، لم يرد من الشارع دليل لصيانتها ولا لإلغائها.

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّهم استدلّوا على القاعدة بوجوه سيأتي التعرض لها والأولى بيان صور الاستصلاح :

ص : 511

الأوّل : تقديم المصلحة على النصّ ، ونبذ الآخر

إنّ الاستصلاح بهذا المعنى تشريع محرّم وتقدّم على الله ورسوله قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) (1) والواجب على كلّ مسلم ، التجنّب عن هذا القسم من الاستصلاح فمن يتوهم المصلحة في سلب حق التطليق عن الزوج ، أو منح الزوجة حق التطليق أيضاً ، لا يصحّ له التشريع ، ولكن نجد - مع الأسف - رواج هذا الأُسلوب بين الخلفاء حيث كانوا يقدّمون المصلحة على النص.

1. روى مسلم عن ابن عباس ، قال : كان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر بن الخطاب : إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم.

2. وروى عن ابن طاوس ، عن أبيه : انّ أبا الصهباء قال لابن عباس : أتعلم انّما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأبي بكر وثلاثاً من خلافة عمر؟ فقال : نعم.

3. وروى أيضاً : أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس : هات من هناتك (2) ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر واحدة؟ قال : قد كان ذلك ، فلمّا كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم. (3)

هذه النصوص تدلّ بوضوح على أنّ عمل الخليفة لم ينطلق من الاجتهاد

ص : 512


1- الحجرات : 1.
2- يقال في فلان هنات : أي خصلات شر ، ولا يقال ذلك في الخير.
3- صحيح مسلم 4 / 184183 ، باب الطلاق ثلاثاً ، الحديث 31.

فيما لا نصّ فيه ولا أخذاً بروح القانون الذي يعبّر عنه بتنقيح المناط ، وإنّما كان عمله من الاجتهاد تجاه النص ونبذ الدليل الشرعي والسير وراء رأيه.

ومن هذا القبيل : نهي الخليفة عن متعة الحجّ ، ومتعة النساء ، والحيعلة في الأذان ، وغير ذلك.

الثاني : تقييد النصّ بالمصلحة

روي أنّه جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وقال : هلكت يا رسول الله ، قال : «ما أهلكك؟».

قال : وقعت على امرأتي في رمضان ، فقال : «هل تجد ما تعتق رقبته؟» قال : لا ، قال : «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟» قال : لا ، قال : «فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال : لا ، ثمّ جلس فأُتي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعرق فيه تمر ، فقال : «تصدق بهذا». (1)

ومقتضى إطلاق الحديث كفاية كلّ من الخصال في مقام التكفير فالغنيّ المفطر ، له أن يكفّر بالعتق كما له التكفير بالأُخرى ، ولكن ربما يقال بتعيّن الصيام على الغني ، لأنّه لا يُكفّر ذنبه إلاّ به ، أي صوم شهرين متتابعين ، لأنّه هو الرادع له عن العود إلى الإفطار لا الإطعام ولا عتق الرقبة ، لعسر الأوّل ويسر الثانيين.

ولكنّه تشريع تجاه النص والاستصلاح في المقام ، كالاستصلاح في القسم الأوّل بدعة ، غير أنّه في الأوّل بمعنى نبذ النص من رأسه وفي المقام نبذ لإطلاقه.

إنّ هذا القسم من الاستصلاح ربما يعبر عنه بالأخذ بروح القانون (2) ، وهو

ص : 513


1- بلوغ المرام : 136 ، الحديث 695.
2- فجر الإسلام : 238 ، نشر دار الكتاب.

بذل الجهد للوقوف على ملاك الحكم ومناطه الذي يقع التشريع وراءه وهو يكون أساساً لعملين :

1. إسراء الحكم ممّا فيه النصّ إلى ما ليس فيه إذا كان حائزاً للمناط ، وهنا تلتقي المصالح المرسلة مع القياس.

2. تقييد إطلاق النص بالمناط والاسترشاد بالمصلحة والأخذ بروح القانون لا بحرفيّته.

لكن تنقيح المناط في كلا الموردين محظور جداً سواء كان أساساً للقياس ، أو كان سبباً لتقييد الدليل ، فإنّ عقول الناس أقصر من أن تحيط بالمصالح والمفاسد فيكون الاستصلاح في كلا الموردين تشريعاً محرماً وباطلاً.

وعلى هذا الأساس المنهار ، منع الخليفة إعطاء المؤلّفة قلوبهم في أيّام خلافته قائلاً بأنّ مناط الحكم هو ضعف المسلمين وشوكة الكافرين فيصرف شيء من الزكاة فيهم ، لكي يستعان بهم على الكفار ، وهو منتف الآن. وبهذا ، قيّد إطلاق الآية : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (1) وخصّصها بصورة الضعف وأخرج صورة القوّة.

والاستصلاح بهذا المعنى ، فوق ما يرومه الأُصوليون من أهل السنّة ، وقد عرفت أنّ الإمام مالكاً خصّ العمل به بما إذ توفّرت فيه الشروط الثلاثة التي منها أن لا تنافي إطلاق أُصول الشرع ولا دليلاً من أدلّته.

فتلخص انّ الاستصلاح بالمعنى الأوّل والمعنى الثاني بكلا قسميه خارج عمّا هو محط البحث لدى الأُصوليين ، وإليك سائر الأقسام.

ص : 514


1- التوبة : 60.
الثالث : إنشاء الحكم فيما لا نصّ فيه على وفق المصلحة

إذا كان الموضوع ممّا لا نصّ فيه ولكن أدركنا بعقولنا وجود مصلحة فيه وإن لم يرد من الشارع أمر بالأخذ ، ولا بالرفض ، فتشريع الحكم الشرعي على وفقها هو الاستصلاح ولا مانع منه ويعلّله بعض المعاصرين بأنّ الحياة في تطوّر مستمر ، ومصالح الناس تتجدّد وتتغير في كلّ زمن ، فلو لم تشرع الأحكام المناسبة لتلك المصالح ، لوقع الناس في حرج ، وتعطّلت مصالحهم في كلّ الأزمنة والأمكنة ، ووقف التشريع عن مسايرة الزمن ومراعاة المصالح والتطوّرات ، وهذا مصادم لمقصد التشريع في مراعاة مصالح الناس وتحقيقها. (1)

يلاحظ عليه : أنّ لتشريع الحكم على وفق المصلحة صوراً :

الأُولى : تشريعه في الأُمور العبادية التوقيفية ، كتشريع الأذان الثاني لصلاة الجمعة لمّا كثر المسلمون ولم يكف الأذان بين يدي الخطيب لإعلامهم ، فلا شكّ انّه تشريع محرّم وإدخال في الدين ما لم يأذن به الله ، لأنّ الأذان الثاني عمل عباديّ لم يأذن به الشارع مع توفّر طرق أُخرى عاديّة لإعلام المصلّين ، من دون لزوم التشريع كما هو واضح.

الثانية : إذا كان أصل الحكم منصوصاً بوجه كلي ، ولكن فُوِّضت كيفيةُ العمل به وتحقيقه على صعيد الحياة إلى الحاكم الشرعي ، وذلك مثل ما مرّ من الأمثلة ، كإنشاء الدواوين أو سكّ النقود ، وتكثير الجنود وغيرها فالمنصوص ، هو حفظ بيضة الإسلام ، للحيلولة دون غلبة الكفار. قال سبحانه : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) (2) وقوله

ص : 515


1- الوجيز في أُصول الفقه : 94 ؛ مصادر التشريع الإسلامي : 100.
2- الأنفال : 60.

- صلى الله عليه وآله وسلم - : «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه». (1)

فعند ذلك فالحكم المنشأ على وفق المصلحة ليس حكماً شرعياً أوّلياً ، ولا حكماً شرعياً ثانوياً وإنّما هو حكم ولائي نابع من ولاية الحاكم على إجراء القانون المنصوص إليه على صعيد الحياة وفقاً للمصالح ، ما لم يخالف تشريع الكتاب والسنّة فقد سمح للحاكم وضع هذه الضوابط والمقررات ضمن «إطار خاص» لأجل تطبيق الأحكام الكلية على صعيد الحياة فهي لازمة الاتّباع ما دامت تضمن مصلحة الأُمة فيدوم ما دام الحكم مقروناً بالمصلحة ، فإذا فقد الملاك ينتفي.

والأولى تسمية هذا النوع من الأحكام بالمقررات ، لتمييزها عن الأحكام الشرعية المجعولة الصادرة من ناحية الشرع.

فلو أُريد كون الاستصلاح مبدأ لهذا النوع من الحكم ، فهو صحيح لكن يبدو انّه غير مراد للقائلين بكونه من مبادئ التشريع ومصادره.

الثالثة : تشريع الحكم حسب المصالح والمفاسد العامة الذي اتّفق عليه العقلاء ، فلو افترضنا انّ موضوعاً مستجدّاً لم يكن له نظير في عصر النبي والأئمّة المعصومين ، لكن وجد فيه مصلحة عامة للمسلمين أو مفسدة لهم ، فالعقل يستقل بارتكاب الأُولى والاجتناب عن الثانية ، فالعقل عندئذ لا يكون مشرِّعاً بل كاشفاً عن حكم شرعي دون أن يكون للمجتهد حقّ التشريع. وذلك كتعاطي المخدّرات فقد اتّفق العقلاء على ضررها وإفسادها الجسم والروح ، فيكون العقل كاشفاً عن حكم شرعي ، للملازمة بين الحكمين ، وعندئذ تكون قاعدة الاستصلاح من شعب حجّية العقل.

ص : 516


1- الوسائل : الجزء 17 ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، الحديث 11.

ومثله التلقيح الوقائي عند ظهور الأمراض السارية كالجدري ، والحصبة وغيرهما فقد أصبح من الأُمور التي لا يتردد في صلاحيتها ذوو الاختصاصات.

يقول الأُستاذ عبد الوهاب خلاف : إنّ الأحكام الشرعية إنّما شرعت لتحقيق مصالح العباد وانّ هذه المصالح التي بنيت عليها الأحكام الشرعية ، معقول ، أي ممّا يدرك العقل حسنها كما أنّه يدرك قبحها فيصح ما نهى عنه ، فإذا حدثت واقعة لا نصّ فيها ، وبنى المجتهد حكمه فيها على ما أدركه عقله من نفع أو ضرر ، كان حكمه على أساس صحيح معتبر من الشارع ولذلك لم يقع باب الاستصلاح إلاّ في المعاملات ونحوها ممّا تعقل معاني أحكامها. (1)

أقول : ما ذكره لا غبار عليه لو لا ما في قوله : «وبنى المجتهد حكمه فيها على ما أدركه عقله من نفع أو ضرر» حيث اتّخذ الإدراك الفردي ملاكاً للتشريع وهو غير صحيح ، لأنّ كون الفعل ذا مصلحة أو مفسدة عند الفقيه ، لا يكشف عن كونه كذلك في الواقع ، لقصور العقل الفردي عن الإحاطة بالمصالح والمفاسد الواقعية ، فربما يدرك المصلحة والمفسدة ويغفل عن موانعهما ، فإدراك فرد واحد أو فردين ، أو ثلاثة وجود المصلحة أو المفسدة في الفعل لا يكون ملاكاً للتشريع على وفقه.

وهذا بخلاف ما أُطبق عليه العقلاء جيلاً بعد جيل على اشتمالَ الفعل على المصلحة الملزمة أو المفسدة ، فيؤخذ بما يحكم فيه العقل.

الرابعة : إذا استدعى العمل بالتشريع الإسلامي حرجاً عاماً أو مشقة للمجتمع الإسلامي لأجل ظروف وملابسات مقطعية أو كان هناك تزاحم بين الحكمين الواقعيين ، فللحاكم الإسلامي رفع الحرج بتقديم أحكام العناوين

ص : 517


1- مصادر التشريع الإسلامي : 75.

الثانوية على أحكام العناوين الأوّلية ما دام الحرج باقياً ، أو تقديم الأهم من الحكمين على المهم ، وهذا النوع من الأحكام ليست أوّلية ، كوجوب الصلاة ولا ثانوية كالتيمم عند فقدان الماء ، بل صلاحيات خوّلها الشارع إلى الحاكم الشرعي لما يتمتع به من ولاية على الناس. فهذا النوع من التصرّف لغاية تطبيق الأحكام على صعيد الحياة.

يقول الأُستاذ خلاف : «إنّ الوقائع تحدث ، والحوادث تتجدد ، فلو لم ينفتح للمجتهدين باب التشريع بالاستصلاح ، ضاقت الشريعة الإسلامية عن مصالح العباد وقصرت عن حاجاتهم ، ولم تصلح لمسايرة مختلف الأزمنة والأمكنة والبيئات والأحوال مع أنّها الشريعة العامة لكافة الناس وخاتمة الشرائع كلّها. (1)

ما ذكره الأُستاذ مؤلّف من أمرين قد خلط بينهما :

1. انّ النصوص المتناهية غير وافية لاستنباط الحوادث الطارئة غير المتناهية فلا بدّ من الأخذ بقاعدة الاستصلاح ، للإجابة عليها.

وقد استدلّ به على حجّية القياس وقد تقدّم انّ الحوادث وإن كانت غير متناهية ، لكن في الإطلاقات والعمومات ، مضافاً إلى القول بحجّية العقل من باب التحسين والتقبيح غنى وكفاية.

2. لو لم نقل بالاستصلاح ضاقت الشريعة الإسلامية عن مصالح العباد ... ، لكن الفقيه إذا عرف موانع الأدلّة ودرجاتها ، فهي في غنى عن التشريع والاستصلاح وأخص بالذكر أمرين :

1. معرفة الأدلّة الثانوية كالضرر والحرج والعسر وما يحكم به العقل في موارد التزاحم.

ص : 518


1- مصادر التشريع الإسلامي : 75.

2. الأحكام الولائية التي يصدر الحاكم الإسلامي في مواجهة المشاكل والمعضلات الاجتماعية ، وهي أحكام حكومية مؤقتة.

ففي ذلك غنى عن التشريع بالاستصلاح.

وعلى ضوء ما ذكرنا ليس للفقيه ، تصحيح الاستصلاح على وجه الإطلاق أو رفضه كذلك ، بل لا بدّ من الإمعان في صوره وأقسامه.

والذي تبيّن لي من إمعان النظر في قاعدة الاستصلاح انّ السبب من وراء جعلها من مصادر التشريع أُمور ثلاثة :

الأوّل : إهمال العقل كأحد مصادر التشريع بالمعنى الذي أشرنا إليه - أعني : كونه كاشفاً عن التشريع الإلهي في مجال التحسين والتقبيح لا كونه مشرعاً بنفسه - في مجالات خاصّة ، هذا من جانب ومن جانب آخر واجه الفقهاء مصلحة حقيقية عامة لا تختلف في كونها مصلحة ، قاطبة العقلاء - أي ليست مصلحة شخصية - فرأوا انّ حيازتها أمر لازم فاخترعوا قاعدة الاستصلاح مع أنّها في هذا المورد من شعب قاعدة حجّية العقل ، فلو أضفوا على العقل وصف الحجّية واعتبروه من مصادر التشريع لاستغنوا عن تلك القاعدة.

الثاني : عدم دراسة أحكام العناوين الأوّلية والثانوية كأدلّة الضرر والحرج ، فإنّ الأحكام الأوّلية محددة بعدم استلزام إطلاقها الحرج والضرر ، فإذا صارت موجبة لأحدهما يقدّم حكمهما على الأحكام الأوّلية.

وبذلك يستغني الفقيه عن قاعدة الاستصلاح مع ما لها من الانطباعات المختلفة.

وبما ذكرنا يعلم ما في كلام الأُستاذ عبد الوهاب خلاف ، حيث قال : إنّ الذين لا يحتجون بالمصلحة المرسلة إطلاقاً لا فيما لا نصّ على حكمه ولا فيما

ص : 519

ورد نص بحكمه قد سدّوا باباً من أبواب اليسر ورفع الحرج في التشريع وأظهروا الشريعة قاصرة عن مصالح الناس وعن مسايرة التطورات. (1)

يلاحظ عليه : بأنّ الذين قالوا بحجّية حكم العقل فيما له مجال القضاء فيه ، قد فتحوا باباً من أبواب اليسر فيما لا نصّ على حكمه ، أوّلاً ؛ ومن وقف على مكانة أحكام العناوين الثانوية بالنسبة إلى أحكام العناوين الأوّلية ، فقد رفع الحرج في التشريع ، ثانياً.

الثالث : انّ كلّ من كتب حول قاعدتي الاستصلاح وسد الذرائع لم يفرّقوا بين الأحكام الشرعية والأحكام الولائية الحكومية ، فانّ الطائفة الأُولى أحكام شرعية جاء بها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لتبقى خالدة إلى يوم القيامة ، وأمّا الطائفة الثانية فإنّما هي أحكام مؤقتة أو مقررات يضعها الحاكم الإسلامي (على ضوء سائر القوانين) لرفع المشاكل العالقة في حياة المجتمع الإسلامي.

ومنه يتضح انّ ما مثّلوا به لقاعدة الاستصلاح - فإنّما هو في الواقع - من صلاحيات الحاكم الشرعي ، فمثلاً عدّوا الأمثلة التالية من مصاديق تلك القاعدة :

أ. إنشاء الدواوين.

ب. سكّ النقود.

ج. فرض الإمام العادل على الأغنياء من المال ما لا بدّ منه كتكثير الجند وإعداد السلاح وحماية البلاد.

د. سجن المتهم كي لا يفر.

ص : 520


1- مصادر التشريع الإسلامي : 100.

إلى غير ذلك ممّا يعد من صلاحيات الحاكم الشرعي التي خوّلت إليه بغية تنظيم أُمور المجتمع في إطار الأحكام الأوّلية والثانوية.

وبذلك يظهر ما في كلام الأُستاذ عبد الوهاب خلاف حيث استدلّ على الاستصلاح بسيرة الصحابة وقال : «إنّ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لمّا طرأت لهم بعد وفاته حوادث وجدّت لهم طوارئ ، شرّعوا لها ما رأوا أنّ فيه تحقيق المصلحة وما وقفوا عن التشريع لأنّ المصلحة ما قام دليل من الشارع على اعتبارها ، بل اعتبروا انّ ما يجلب النفع أو يدفع الضرر حسبما أدركته عقولهم هو المصلحة واعتبروه كافياً لأن يبنوا عليه التشريع والأحكام.

1. فأبو بكر جمع القرآن في مجموعة واحدة.

2. حاربَ مانعي الزكاة.

3. ودرأ القصاصَ عن خالد بن الوليد.

4. وعمر أوقع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة.

5. ووقّف تنفيذ حدّ السرقة في عام المجاعة.

6. وقتل الجماعة في الواحد.

7. وعثمان حدّد أذاناً ثانياً لصلاة الجمعة. (1)

يلاحظ عليه : أنّ ما قاموا به من الاعمال بين ما لها رصيد في القرآن والسنّة أو هي بدعة في الدين ورفض لحكم الكتاب والسنّة.

فمن الأوّل ، جمع القرآن في عصر من العصور قال سبحانه : (ثم (إِنَّ عَلَيْنا

ص : 521


1- مصادر التشريع الإسلامي : 75. كما في الأُصول العامة للفقه المقارن للسيد محمد تقي الحكيم : 389.

جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) ، (1) فالآية تدلّ على أنّ جمع القرآن أمر محبوب لله وهو سبحانه ينفِّذ إرادته من خلال أعمال عباده ، ونظيره محاربة مانعي الزكاة ، فانّه من شعب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويقرب منها ، وقف تنفيذ حد السرقة في عام المجاعة ، فلعلّه كان لأجل انصراف أدلّة الحد عن هذه الصورة.

ومن الثاني ، إيقاع الطلاق الثلاث وتنفيذها ثلاثاً ، فقد خالف كتاب الله وسنّة رسوله ، والرأي العام للصحابة ذاك اليوم ، وندم على ما فعل في أُخريات عمره ، نعم ندم حينما لا ينفعه الندم وقد بلغ السيلُ الزبى ، وقد مرّ تفصيله في هذا الجزء.

وأمّا درء القصاص عن خالد بن الوليد حيث قتل «مالك بن نويرة ، ثمّ نزا على امرأته» فكان خطيئة ، إذ كيف يمكن درء هذه الخطيئة التي لا تغسل عن ثوب المقترف بماء البحار ، ولذلك قال عمر بن الخطاب لخالد عند ما دخل المدينة : «قتلتَ امرأً مسلماً ، ثمّ نزوت على امرأته والله لأرجمنك بأحجارك» وأقصى ما كان عند أبي بكر من العذر هو ما قال في جواب عمر : «ما كنتُ لأغمد سيفاً سلّه الله عليهم» أي وإن فعل ما فعل ، وإن كانت الغاية من سل السيف صيانة دماء المسلمين وأعراضهم ، لا سفك دمائهم واستباحة نواميسهم ، فما قيمة هذا السيف الذي يستعمل السلّ ضد الإسلام والمسلمين.

وحصيلة البحث :

1. أنّ المصلحة لو كانت مستفادة من المنصوص والقواعد العامة فيحكم

ص : 522


1- القيامة : 19.

على وفقها ، ولكنّه عندئذ لا يكون الاستصلاح دليلاً مستقلاً بل يعدّ عملاً بالسنّة.

2. ولو كانت مستفادة من حكم العقل فيعمل بها ، ولا يكون دليلاً مستقلاً بل عملاً بحكم العقل.

وإن لم يكن مستفادة من الشرع ولا العقل ، ولم ينص الشارع عليها ولم يلغها ، فلا يكون مصدراً للتشريع ، لاحتمال وجود مانع من جعل الحكم ، أو لأنّها فاقدة لبعض الشرائط ، فمثل هذه المصلحة المظنونة لا يصلح دليلاً للحكم الشرعي ، والشكّ في حجّية ذلك الظن ، يساوق القطع بعدم حجّيتها.

ص : 523

4- مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه عند أهل السنّة
سدّ الذرائع

إنّ سدّ الذرائع من الأُصول المعتبرة لدى المالكية والحنابلة دون غيرهما.

وقبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً :

1. سدّ الذرائع لغة واصطلاحاً

«الذريعة» في اللغة ، بمعنى الوسيلة التي يتوصّل بها إلى الشيء ، سواء أكان الشيء محبوباً أم مبغوضاً ، أم أمراً مباحاً غير محبوب ولا مبغوض. و «السدّ» يقابل الفتح ، وبما انّ البحث في المقام مركز على «سد الذرائع» في مقابل «فتح الذرائع» الذي سيوافيك بيانه في البحث القادم ، يكون المراد من الشيء في المقام هو الأمر المحرّم أو المكروه ، ولا يعمّ ما يقع ذريعة للواجب والمستحبّ ، فضلاً عن المباح.

وعلى ضوء هذا ، فأفضل التعاريف ما ورد في ألسنة المتأخّرين ، أعني : «ما يتوصّل به إلى شيء ممنوع مشتمل على مفسدة». (1)

ص : 524


1- المدخل للفقه الإسلامي : 266.
2. سدّ الذرائع من مصادر التشريع مستقلاً

يبدو من أصحاب سدّ الذرائع كالمالكية والحنابلة ، انّ سدّ الذرائع أصل برأسه ومصدر مستقل وراء الكتاب والسنّة والإجماع والعقل ، لكن لو قلنا بدلالة النهي عن الشيء ، على حرمة مقدّمته دلالة لفظيّة ، أو قلنا بوجود الملازمة العقلية بين الحرمتين ، لرجع الأصل إلى أحد المصدرين ، ولا يعدّ مصدراً مستقلاً.

3. تعريفه وأقسامه
اشارة

وقد عُرّف بتعاريف منها :

«العمل الذي يعدّ حلالاً في الشرع ، لكن الفاعل يتوصل به إلى فعل محظور».

أو :

التذرّع بفعل جائز إلى عمل غير جائز.

إلى غير ذلك من التعاريف التي جمعها محمد هاشم البرهاني في كتابه «سد الذرائع في الشريعة الإسلامية». (1)

وأوضحها الشاطبي بالمثال التالي :

إذا اشترى شخص غنماً من رجل بعشرة إلى أجل ، ثمّ باعها منه بثمانية نقداً ، فقد صار مآل هذا العمل مقدمة لأكل الربا ، لأنّ المشتري أخذ ثمانية ودفع عشرة عند حلول الأجل. فالقائل بسد الذرائع يمنع البيع الأوّل تجنّباً عن الربا. (2)

ص : 525


1- انظر ص 74.
2- الموافقات : 4 / 112.

ومع أنّ القائلين بالقاعدة ركّزوا على قسم واحد وهو ما عرفته ، لكن ذكر ابن القيم للذريعة أقساماً أربعة :

1. الوسائل الموضوعة للإفضاء إلى المفسدة كشرب الخمر المفضي إلى مفسدة السكر ، والزنا المفضي إلى اختلاط المياه وفساد الفراش.

2. الوسائل الموضوعة للأُمور المباحة ، إلاّ انّ فاعلها قصد بها التوصّل إلى المفسدة كما يعقد البيع قاصداً الربا (كما في مثال الشاطبي).

3. الوسائل الموضوعة للأُمور المباحة ، والتي لم يقصد بها التوصّل إلى المفسدة لكنّها مفضية إليها غالباً ، كسبّ آلهة المشركين المفضي إلى سبّ الله سبحانه وتزين المتوفى عنها زوجها في زمن عدّتها.

4. الوسائل الموضوعة للمباح وقد تفضي إلى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها ، كالنظر إلى المخطوبة ، أو المشهود عليها. (1)

هذا ولكن المالكية ثمّ الحنابلة الذين هم الأصل لتأسيس هذا الأصل ، يركزون على القسم الثاني من تلك الأقسام ، وهي الوسائل المباحة التي يقصد التوصّل بها إلى المفسدة. والحقّ اختصاص القاعدة به ، وذلك لأنّ القسم الأوّل في كلام ابن القيّم خارج عن محط البحث ، إذ مضافاً إلى أنّ نفس شرب المسكر حرام سواء أدّى إلى السكر أم لا ، انّ لازم ذلك ، دخول عامّة المحرمات النفسية الواردة في الكتاب والسنّة تحت هذا الأصل وبالتالي انقلابها من الواجب النفسي إلى الواجب الغيري بناء على القول بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، ومن المعلوم أنّ الغاية من تأسيس ذاك الأصل غير المحرمات النفسية.

كما أنّ الثالث ممّا مثل به من سب آلهة المشركين أو تزيّن المتوفّى عنها زوجها

ص : 526


1- اعلام الموقعين : 3 / 148.

في زمن عدتها ، حرام بالذات كما سيوافيك بيانه.

وأمّا الرابع فليس بحرام قطعاً وانحصر مورد الأصل بالصورة الثانية ، وقد أكثر الإمام مالك العمل بهذه القاعدة حتّى أفتى لمن رأى هلال شوال وحده ، أن لا يفطر لئلاّ يقع ذريعة إلى إفطار الفسّاق ، محتجّين بما احتجّ به ، ولكن كان في وسع الإمام أن لا يُحرِّم عليه الإفطار عملاً بالسنّة : «صوموا عند الرؤية وأفطروا عند الرؤية» ((1)) وفي الوقت نفسه يمنعه عن التظاهر به ويجمع بين القاعدتين ، ولعلّ هذا مراد الإمام.

وممّن أطنب فيه الكلام ، ابن القيم حيث استدلّ على القاعدة بوجوه بلغت تسعة وتسعين وجهاً ، فمن أراد فليرجع إلى اعلام الموقعين.(2) ونحن نقتصر بالوجوه الأربعة المستمدة من الأدلّة الأربعة.

أدلّة القاعدة

وقد استدلّوا على القاعدة بالكتاب والسنّة والإجماع والعقل :

الاستدلال بآيات أربع من الكتاب
1. آية النهي عن سبّ الآلهة

قال سبحانه : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ). ((3))

ص : 527


1- بلوغ المرام برقم 271 باختلاف يسير.
2- اعلام الموقعين : 3 / 171149.
3- الأنعام : 108.

وقد نهى سبحانه عن سب آلهة المشركين لئلاّ يقع ذريعة لسبِّه سبحانه بغير علم.

2. آية النهي عن القول ب «راعنا»

قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ). (1)

وإنّما مُنعوا من مخاطبة الرسول بقولهم : «راعنا» لئلا يكون ذريعة لاستعمال اليهود إيّاه شتيمة له على ما ذكره المفسرون.

قال الزمخشري في تفسير الآية : كان المسلمون يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا ألقى إليهم شيئاً من العلم «راعنا» يا رسول الله ، أي راقبنا وانتظرنا وتأنّى بنا حتى نفهمه ونحفظه ، وكانت لليهود كلمة يتسابّون بها عبرانية أو سريانية ، فلمّا سمعوا بقول المؤمنين «راعنا» اغتنموا الفرصة وخاطبوا به الرسول ، وهم يعنون به تلك المسبَّة ، فنُهي المؤمنون عنها وامروا بما هو في معناه وهو انظرنا.

3. آية النهي عن حيازة الحيتان

قال سبحانه : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ). (2)

نهاهم عن حيازة الحيتان يوم السبت لئلاّ تقع ذريعة للاصطياد.

ص : 528


1- البقرة : 104.
2- الأعراف : 163.
4. آية النهي عن التقرب من الشجرة
اشارة

قال سبحانه : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ). (1)

نهاهم عن التقرب ، لأنّها ذريعة للأكل.

يلاحظ على الاستدلال بأنّه لا دليل على أنّ التحريم في هذه الموارد ، تحريم غيريّ ، بل ظاهر الآيات انّها محرمة تحريماً نفسيّاً ، وفي الوقت نفسه ، له غايات كما في تحريم سب آلهة المشركين ، فانّ الغاية من تحريمه ، عدم إثارة حفيظة المشركين ، لسبّ الله عدواً ، وكون التحريم لغاية صحيحة لا يكون سبباً لكونه تحريماً غيريّاً ، وإلاّ تصبح عامة المحرمات ، واجبة غيرية ، حرمت لغايات قصوى.

الاستدلال بالسنّة

قد استدلّوا - وراء الكتاب - بما ورد في السنّة أوضحها : ما رواه معاذ بن جبل قال : كنت رديف رسول الله على حمار يقال له عفير قال : فقال : «يا معاذ تدري ما حقّ الله على العباد ، وما حقّ العباد على الله؟» قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : «فإنّ حقّ الله على العباد أن يعبدوا الله ، ولا يشركوا به شيئاً ، وحقّ العباد على الله عزّ وجلّ أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً» ، قال : قلت يا رسول الله : أفلا أبشر الناس؟ قال : «لا تبشرهم فيتّكلوا». (2)

مناقشة حديث معاذ

أ. انّ ما نقله عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من حقّ العباد على الله وأمره بكتمانه ، فقد جاء

ص : 529


1- البقرة : 25.
2- شرح النووي على صحيح مسلم : 1 / 232.

في الذكر الحكيم ولم يكتمه سبحانه حيث قال : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (1) ، وقوله سبحانه : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (2) ، وقوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) (3) أي في حالة كونهم ظالمين وعاصين ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على غفرانه سبحانه لذنوب عباده.

ب. لو صحّ الحديث ، فقد أمر النبي معاذاً بالكتمان ، فلما ذا أفشى سره وارتكب الحرام مع أنّه كسائر الصحابة عدل؟!

الاستدلال بالإجماع

اتّفقوا على النهي عن إلقاء السم في أطعمة المسلمين المبذولة للتناول ، بحيث يعلم أو يظن انّهم يأكلونها فيهلكون ، والمنع عن حفر بئر خلف باب الدار في الظلام الدامس لئلا يقع فيها الداخل.

يلاحظ عليه : أنّ النهي في هذه الموارد نفسيّ وإن كان لغاية أُخرى ، كما شأن عامة النواصي في المصدرين.

الاستدلال بالعقل
اشارة

يقول ابن قيم الجوزية في تقرير القاعدة : فإذا حرّم الربُّ تعالى شيئاً ، وله طرق ووسائل تُفضي إليه ، فانّه يحرّمها ويمنع منها تحقيقاً لتحريمه وتثبيتاً له ، ومنعاً أن يقرب حماه ، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضاً

ص : 530


1- النساء : 48.
2- الزمر : 53.
3- الرعد : 6.

للتحريم ، وإغراءً للنفوس به ، وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كلّ الإباء ، بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك ، فانّ أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثمّ أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه لعدّ متناقضاً ، ولحصل من رعيته وجنده ضدّ مقصوده ، وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه ، وإلاّ فسد عليهم ما يرومون إصلاحه ، فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال ، ومن تأمّل مصادرها ومواردها علم أنّ الله تعالى ورسوله سدّ الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرّمها ونهى عنها.

يلاحظ عليه : بأنّ الحرام - كما سيوافيك - الجزء الأخير من المقدّمة الذي لا ينفك عن ذيها.

إذا وقفت على أدلّة القائلين بهذا الأصل وما فيه فلنرجع إلى تحليل القاعدة.

أقول : يقع الكلام في مقامين :

الأوّل : تحليل القاعدة وتبيين مكانتها في علم الأُصول.

الثاني : دراسة الأمثلة الّتي فرّعوها عليها.

1. مكانة القاعدة في علم الأُصول

إنّ قاعدة سدّ الذرائع ليست قاعدة مستقلة وإنّما ترجع لإحدى القاعدتين :

الأُولى : وجود الملازمة بين حرمة الشيء وحرمة مقدّمته.

فمغزى القاعدة عبارة عن أنّه إذا حُرِّم الشيء ، حرِّمت مقدّماته وذرائعه التي يتوصل الإنسان بها ، وهي مطروحة في كتب الأُصول ، فمنهم من حرّم مطلقَ المقدّمة ، ومنهم من حرّم المقدّمة الموصلة ، ومنهم من حرّم الجزء الأخير من المقدّمة

ص : 531

بمعنى العلّة التامة التي لا تنفك عن ذيها ، والأخير هو المتعيّن ، لأنّ قبح الذريعة أو ممنوعيتها لأجل كونها وسيلة للوصول إلى الحرام ، فلا توصف بالحرام إلاّ إذا كانت موصلة لا غير ، ولا يتحقّق الإيصال إلاّ بالجزء الأخير الذي يلازم وجود المبغوض.

وعلى ضوء ذلك فلا يصحّ لنا الحكم بحرمة كلّ مقدمة للعمل المحظور ، إلاّ إذا انتهى إلى الجزء الأخير من المقدمة الذي لا ينفك عن المحظور.

الثانية : الإعانة على الإثم التي أفتى الفقهاء بحرمتها ، مستدلّين بقوله سبحانه : (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ). (1) بناءً على انّ التعاون يعمّ الإعانة الجماعية والفرديّة ، ومن هذا القبيل سبّ آلهة المشركين الذي يثير حفيظتهم إلى سبّ الله سبحانه ، أو خطاب النبي بقولهم : «راعنا» والذي يحرك الآخرين لاستعماله في هتك حرمة النبي ، فليس لنا أصل باسم سدّ الذرائع ، وإنّما مرجعه إلى إحدى القاعدتين.

2. دراسة بعض الفروع المبنية عليها

ثمّ ذكر بعض الكتّاب المعاصرين تطبيقات عملية لهذه القاعدة نسرد بعضها :

1. الاجتهاد لاستنباط أحكام الوقائع أمر مقرر مشروع ، لكنَّ في الاجتهاد الفردي في هذه الأيّام مفسدة ينبغي التحرّز عنها وسدّ أبوابها بأن تؤلف مجالس تَضُم كبارَ العلماء المختصين في مختلف علوم الشريعة وأبوابها ويسند إليها أمر الاجتهاد.

ص : 532


1- المائدة : 2.

أقول : إنّ الحقيقة بنت البحث ، والاختلاف إذا نشأ عن نيّة صادقة يؤدي إلى نضج العلم وتكامله ، ولذلك يُعدّ الاجتهاد الجماعي أوثقَ وأقوى ، ولكن إذا بلغ الرجل مبلغَ الاجتهاد ، فمنعه عن الاجتهاد والعمل برأيه والإفتاء به ، أمر بالمنكر وصدّ عن العمل بالواجب.

2. ترجمة القرآن إلى اللغات الأجنبية فزعم القائل عدم جوازه سدّاً لذريعة التبديل والتغيير والتحريف. مضافاً إلى أنّ اللغات الأجنبية لا تسع لمعاني القرآن العميقة والدقيقة.

يلاحظ عليه : لا شكّ انّ ترجمة القرآن بأيّ لغة كانت لا تواكب معاني القرآن العميقة ، وهذا أمر ليس بحاجة إلى برهنة ، ولكن الحيلولة بين القرآن وترجمته ، يوجب سدَّ باب المعرفة للأُمم التي لا تجيد اللغة العربية ، فإذا أقر المترجم في مقدمة ترجمته بما ذكرناه وانّ ترجمته اقتباس ممّا جاء في الذكر الحكيم فعندها سترتفع المفسدة ، فتكون الترجمة ذات مصلحة خالية عن المفسدة.

ثمّ إنّ النص القرآني محفوظ بين المسلمين فهو المرجع الأصيل دون الترجمة.

3. تدّخل الدولة في أيّام الأزمات والحروب لتحديد الأسعار ، والأُجور والخدمات وتنظيم الحياة العامة على نحو معين لحماية الضعفاء من أرباب الجشع والطمع على أن يتجاوز حدّ الضرورة.

أقول : المراد من مصادر التشريع ، ما يقع في طريق استنباط الأحكام الشرعية التي أمر النبي بإبلاغها ، للناس ، وهي أحكام ثابتة عبر الأجيال والقرون.

وأمّا تحديد الأسعار ، فليس من الأحكام الشرعية بالمعنى المتقدّم ، بل هو حكم حكومي ، يعدّ من حقوق الحاكم واختياره ، فلو مسّت الحاجة إلى التسعير

ص : 533

قام به ، وإلاّ ترك الناس والأجناس بحالها ، فعدّ سدّ الذرائع من مصادر التشريع ، واستنتاج جواز تحديد الأسعار منه واقع في غير محلّه.

حصيلة البحث

إنّ سدّ الذرائع ، ليس دليلاً مستقلاً في عرض سائر الأدلّة الأربع ، فانّ حرمة المقدمة إمّا مستفادة من نفس النهي عن ذيها ، فتدخل في السنّة حيث إنّ النهي عن ذيها ، يدلّ بإحدى الدلالات على تحريم المقدّمة.

أو مستفادة من العقل الحاكم بالملازمة بين التحريمين وانّه إذا حرم الشيء ، يجب أن يحرم ما يتوصّل به إليه. أو هي من فروع الإعانة على الإثم والعدوان.

وعلى كلّ تقدير فليس سدّ الذرائع أصلاً برأسه.

ص : 534

5- مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه عند أهل السنّة
الحيل(فتح الذرائع)

إنّ فتح الذرائع من أُصول الحنفية كما أنّ سدّ الذرائع من أُصول المالكية ، ويسمّى الأوّل بالمخارج من المضائق ، والتحيّل على إسقاط حكم شرعي ، أو قلبه إلى حكم آخر.

وقد صارت هذه القاعدة مثاراً للنزاع وسبباً للطعن بالحنفية ، حيث إنّ التحيّل لإبطال المقاصد الشرعية لأجل أحد أمرين :

إمّا نفي الحكمة المقصودة من الأحكام الشرعية حتى يصير المكلّف ناظراً إلى الصور ، والألفاظ لا إلى المقاصد والأغراض.

وأمّا الاجتراء على إبطال الحكمة الشرعية بما يُرضي العامة ، وهذه نزعة إسرائيلية معروفة تشهد بها آية السبت في سور مختلفة. (1)

ص : 535


1- ذُكرت قصة أهل السبت في مواضع خمسة من القرآن : البقرة : 65 - 66 ، النساء : 154 - 155 ، الأعراف : 163 ، النحل : 124 ، وقد جاء لعنهم في سورة النساء : 47 قال سبحانه : (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ).

إنّ ذهاب الحنفية إلى هذه القاعدة أثار حفيظة الآخرين ، ممّا حدا بالبخاري أن يعقد باباً خاصّاً للرد على القاعدة معبّراً عن أبي حنيفة ، بقوله : «قال بعض الناس» وإليك الباب وما فيه :

«باب» إذا غصب جارية فزعم أنّها ماتت ، فقُضي بقيمة الجارية الميتة ، ثمّ وجدها صاحبها فهي له ويرد القيمة ، ولا تكون القيمة ثمناً - ثمّ أضاف البخاري قائلاً : وقال بعض الناس : الجارية للغاصب لأخذه القيمة ، وفي هذا احتيال لمن اشتهى جارية رَجل لا يبيعها فغصبها واعتلّ بأنّها ماتت حتى يأخذ ربُّها قيمتها ، فيطيب للغاصب جارية غيره ، قال النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - : «أموالكم عليكم حرام ، ولكلّ غادر لواء يوم القيامة». (1)

ومن أكثر الناس ردّاً للحيل الحنابلة ، ثمّ المالكية ، لأنّهم يقولون بسدِّ الذرائع ، وهو أصل مناقض للحيل تمام المناقضة.

يقول ابن القيم : إنّ هؤلاء المحتالين الذين يُفتون بالحيل التي هي كفر أو حرام ، ليسوا مقتدين بمذهب أحد من الأئمّة ، وانّ الأئمّة أعلم بالله ورسوله ودينه وأتقى له من أن يفتوا بهذه الحيل (2) ، فقد قال أبو داود في مسائله : سمعتُ أحمد وذكر أصحاب الحيل يحتالون لنقض سنن رسول الله ، وقال في رواية أبي الحارث الصانع : هذه هي الحيل التي وضعوها ، عَمِدوا إلى السنن واحتالوا لنقضها.

والشيء الذي قيل لهم انّه حرام احتالوا فيه حتى أحلّوه ، قالوا : الرهن لا

ص : 536


1- صحيح البخاري : 9 / 32 ، كتاب الإكراه.
2- لا يخفى ما في كلامه من المبالغة فإنّ الحنفية - وعلى رأسهم أبو حنيفة - قد ابتدعت تلك القاعدة ، فكيف نزّهه عنها؟

يحلّ أن يستعمل ، ثمّ قالوا : يحتال له حتى يستعمل فكيف يحل ما حرم الله ورسوله بالحيلة؟

وقال - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لعن الله اليهود حرّمت عليهم الشحوم ، فأذابوها ، فباعوها ، وأكلوا أثمانها ، أذابوها حتى أزالوا عنها اسم الشحم». (1)

ثمّ إنّ ابن القيم لمّا كان من المتعصبين للمذهب الحنبلي خصّص الجزء الثالث وقسماً من الرابع في القاعدتين ، فاستدلّ على قاعدة سد الذرائع بتسعة وتسعين وجهاً. (2)

كما بسط الكلام في قاعدة الحيل ، واستوعب قسماً كبيراً من الجزء الثالث وقسماً من الجزء الرابع فخصص 361 صفحة لإبطال هذه القاعدة ، وضرب أمثلة كثيرة لها ناهزت 116 مثالاً.

وقد استدلّ المثبتون لها بالكتاب والسنّة :
الاستدلال بالكتاب :

1. قوله سبحانه : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ). (3)

روى المفسرون أنّ أيّوب قد حلف على ضرب امرأته بمائة سوط ، فأمره سبحانه أن يجمع مائة من شماريخ (4) ويجعلها ضِغثاً ، ويضربها مرة واحدة ، وكأنّه

ص : 537


1- اعلام الموقعين : 3 / 191.
2- اعلام الموقعين : 3 / 147 - 171.
3- سورة ص : 44
4- جمع الشمراخ غصن دقيق ينبت في أعلى الغصن الغليظ.

ضربها مائة سوط ، فذلك تحلّة أيمانه.

يلاحظ عليه : أنّ الاستدلال بالآية غير صحيح ، لاحتمال أن يكون ذلك الحكم تخفيفاً من الله سبحانه في حقّ أيّوب لمّا صبر طيلة سنين متمادية حتى وصفه الله سبحانه بقوله : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ) فهذا النوع من التخفيف كان جزاءً له على صبره ، وتخفيفاً عن امرأته ورحمة بها.

ولو كان هذا الحكم عاماً لما خفي على أيوب وهو نبيّ من أنبيائه سبحانه ، وسّع الله صدره بالعلم.

وما ربما يقال من أنّ الخصوصية لا تثبت إلاّ بدليل (1) ، وإن كان صحيحاً ولكن الدليل على الخصوصيّة هو التعليل الوارد في الآية.

2. وقوله سبحانه : (وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). (2)

حيث أمر يوسف - عليه السلام - بجعل صواع الملك في رحل أخيه ليتوصل بذلك إلى أخذه وكيد إخوته. (3)

يلاحظ عليه : أنّ يوسف توصّل بالحلال إلى الحلال ، وهو أخذ الأخ ولم يكن غير راض بذلك في الواقع ، كما ولم يكن قصده بذلك إيذاء إخوته ولا إيذاء أبيه.

أمّا الأوّل (إيذاء الإخوة) فواضح إذ لو كان قاصداً لذلك لعاقبهم بغير هذا

ص : 538


1- الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي : 2 / 491.
2- يوسف : 62.
3- اعلام الموقعين : 3 / 224.

الأُسلوب ، وأمّا الثاني (إيذاء الأب) فلأنّ الوالد كان واقفاً على أنّ أخا يوسف سيُحاصر ، حيث قال لهم : (قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ). (1)

والظاهر من الكتاب العزيز أنّ يوسف قام بذلك بأمر من الله سبحانه حيث قال : (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ) (2) ، أمره سبحانه بذلك ليبلغ الكتاب أجله ويتم البلاء الذي أحاط بيعقوب ويوسف وتبلغ حكمة الله تعالى التي قضاها لهم نهايتَها.

وهل يكون ذلك دليلاً على الجواز لعامة الناس لغايات سخيفة؟!

الاستدلال بالسنّة

استدلّوا من السنّة بما رواه البخاري ، عن أبي هريرة ، وأبي سعيد الخدري ، أنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - استعمل رجلاً على خيبر ، فجاءه بتمر جنيب ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : أكلُّ تمر خيبر هكذا؟» قال : لا والله يا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - انّا لنأخذ الصاعَ من هذا ، بالصاعين ، والصاعين بالثلاثة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لا تفعل ، بع الجمع بالدراهم ، ثمّ ابتع بالدراهم جنيباً». (3)

والجمع نوع من تمر خيبر رديء ، والجنيب نوع جيد ، ولم يفصّل بين أن يكون البيع من رجلين أو رجل واحد.

وسيوافيك الكلام فيها فانتظر.

ص : 539


1- يوسف : 66.
2- يوسف : 76.
3- اعلام الموقعين : 3 / 202 ؛ ولاحظ بلوغ المرام برقم 855.
القول الحاسم في فتح الذرائع (الحيل)

إنّ الموافق والمخالف لفتح الذرائع قد أطنبوا الكلام في المقام ، وكلّ تمسك وجوه من الأمثلة الفقهية ، فلنذكر ما يحسم الموقف ويزيل الخلاف فنقول :

إنّ الحيل التي يتوصّل بها على أقسام :

1. أن يكون التوصل بالوسيلة منصوصاً في الكتاب والسنّة ، وليس المكلّف هو الذي يتحيّلها بل أنّ الشارع هو الذي جعلها سبباً للخروج عن المضائق ، نظير تجويز السفر في شهر رمضان لغاية الإفطار ، قال سبحانه : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ). (1)

فَخيَّر المكلّف بين البقاء في بلده فيصوم ، والخروج عنه فيفطر ، فالخروج عن ضيق الصوم بالسفر ، ممّا أرشده إليه الشارع. وليس بإيعاز من المكلّف نفسه.

ونظير تجويز نكاح المطلّقة ثلاثاً بعد التحليل ، إذ من المعلوم أنّه من طلّق زوجته ثلاثاً حرمت عليه أبداً قال سبحانه : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) وفي الوقت نفسه إنّ الشارع قد أرشده إلى الخروج من هذا المأزق بقوله : (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ). (2)

ص : 540


1- البقرة : 185.
2- البقرة : 230.

فلا أظن فقيهاً من المذاهب يرى مثل هذا التحيّل أمراً قبيحاً ، أو على خلاف المصلحة ، فانّ معنى ذلك هو رفض التشريع الإلهي ، بل يمكن أن يقال : انّ هذا القسم خارج عن محلّ الكلام ، لاختلاف موضوعي الحكمين ، فقد وجب الصوم على الحاضر ، والإفطار على المسافر ، ومثله المطلقة ثلاثاً. فالمحرّمة هي غير المنكوحة للغير ، والمحلّلة هي المنكوحة بعد الطلاق.

2. إذا كان هناك أمر واحد له طريقان ، أحلّ الشارع أحدهما وحرّم الآخر ، فلو سلك الحلال لا يعدّ ذلك تمسكاً بالحيلة ، لأنّه اتّخذ سبيلاً حلالاً إلى أمر حلال.

مثاله : انّ مبادلة التمر الرديء بالجيّد تفاضلاً رباً محرّم ، ولكن بيعَ كلّ على حدة أمر جائز ، وإن كانت النتيجة في كلا الأمرين واحدة ، ولكن الحرام هو سلوك الطريق الثاني لا الأوّل.

وهذا القسم خارج عن محلّ النزاع أيضاً ، لأنّه فيما إذا احتال وتوصل بالحلال إلى الحرام ، وأمّا هنا فقد توصل بالحلال إلى الحلال.

3. إذا كان السبب غير مؤثر في حصول النتيجة شرعاً ، فالتوصل في مثله محرّم غير ناتج ، وذلك كالمثال الذي نقله الإمام البخاري عن أبي حنيفة وانّه أفتى بأنّه إذا غصب جارية ، فزعم انّها ماتت فقضى بقيمة الجارية الميتة ، وانّ الجارية للغاصب وإن تبيّن بعدُ انّها حيّة ، وليس لصاحبها أخذها إذا وجدها حية.

وغير خفي انّ زعم الغاصب موت الجارية لا يخرجها عن ملك صاحبها ، ولا يوجب اشتغال ذمة الغاصب بقيمتها ، بل تبقى الجارية على ملكية المالك ، فلو ظهر حياتها انكشف انّ القضاء بردّ القيمة كان باطلاً من أصله.

ص : 541

ومن خلاله ظهر انّ السبب (زعم الغاصب موت الجارية) غير مؤثر في الانتقال فلا تقع ذريعة لتملّكها ، وهو الذي رتّب عليها البخاري رداً على أبي حنيفة وقال : إنّه يحتال من اشتهى جارية رجل لا يبيعها ، فغصبها واعتلّ بأنّها ماتت حتى يأخذ ربّها قيمتها ، فيطيب للغاصب جارية غيره.

لما عرفت من أنّ اعتقاد الغاصب بموت الجارية جازماً لا يكون سبباً لخروج الجارية عن ملك صاحبها وخروج قيمتها عن ملك الغاصب ، فكيف إذا كان عالماً بالخلاف وكاذباً في الإخبار؟ فعدم جواز التحيّل في هذه المسألة لأجل انّ السبب حلالاً كان أو حراماً غير مؤثر فيه.

4. إذا كانت الوسيلة حلالاً ، ولكن الغاية هي الوصول إلى الحرام على نحو لا تتعلّق إرادته الجدّية إلاّ بالمحرم ولو تعلّق بالسبب فإنّما تعلق بها صورياً لا جدياً ، كما إذا باع ما يسوى عشرة بثمانية نقداً ، ثمّ اشتراه بعد بعشرة نسيئة إلى شهرين فمن المعلوم أنّ إرادته الجدية تعلّقت باقتراض ثمانية ودفع عشرة ، وحيث إنّ ظاهره ينطبق مع الربا ، فاحتال ببيعين مختلفين مع عدم تعلّق الإرادة الجدية بهما ، فيكون عندها التحيّل أمراً محرماً ، ولعلّ من هذا القسم قوله سبحانه في سورة الأعراف : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ). (1)

فإنّ الغرض من تحريم الاصطياد في السبت هو امتحانهم في أُمور الدنيا ، ولكنّهم توصلوا بحيلة مبطلة لغرضه سبحانه ، وهي حيازة الحيتان وحبسها عن الخروج إلى البحر يوم السبت ، لغاية الاصطياد يوم الأحد ، فكيف يمكن أن يكون

ص : 542


1- الأعراف : 163.

مثل هذا التحيّل أمراً جائزاً؟!

ومنه يعلم أنّ أكثر الحيل المطروحة للمرابين أمر محرّم ، لعدم تعلّق الإرادة الجدّية بصورة المعاملة وإنّما تعلّقت بالنتيجة وهو أخذ الفائض.

هذا هو القول الحاسم في العمل بالحيل حسب ما طرحه علماء السنّة في المقام ، وبذلك خرجنا بالنتائج التالية :

1. إذا كان الشارع هو الذي أرشد إلى الخروج عن المضائق ، أو أنّه لم يُشِرْ إلى الخروج ، ولكن جعل لأمر واحد طريقين ، حرّم أحدهما وأحلّ الآخر ، فهاتان الصورتان خارجتان عن محطّا لبحث.

2. إذا كان السبب غير مؤثر في حصول النتيجة ، والتوصل به للوصول إلى الحلال توصلاً باطلاً لافتراض أنّه غير مؤثر في نظر الشارع ، كالجارية المغصوبة التي يزعم الغاصب موتها كذباً ويكتم حياتها ، ففي مثله لا يكون الخروج عن الغرامة بدفع القيمة مؤثراً في تملّك الجارية.

3. إذا كانت الغاية من التوصّل بالأمر الحلال صوريّاً وتعلّقت الإرادة الجدية بالأمر الحرام فالتوصّل بها حرام ، نظير توصل أصحاب السبت إلى اصطياد الحيتان بحفر جداول قرب البحر لحبسها يوم السبت واصطيادها يوم الأحد ، أو بيع الشيء نقداً بثمانية واشترائه نسيئة بعشرة.

ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : قاتل الله اليهود انّ الله تعالى لما حرّم عليهم شحومها جملوه ثمّ باعوه فأكلوا ثمنه. (1)

ثمّ إنّ علماء الشيعة تطرّقوا لفتح الذرائع في آخر كتاب الطلاق ، وأطنبوا

ص : 543


1- بلوغ المرام : برقم 801. وجملوه : أي جمعوه ثم أذابوه احتيالاً على الوقوع في المحرم.

القول فيه كالمحقّق في «الشرائع» (1) والشهيد الثاني في «مسالك الأفهام» (2) والمحدّث البحراني في «الحدائق» (3) ولنذكر كلام شيخنا الشهيد الثاني ، قال عند شرح قول المحقّق : «يجوز التوصل بالحيل المباحة دون المحرمة في إسقاط ما لو لا الحيلة تثبت».

هذا باب واسع في جميع أبواب الفقه ، والفرق هو التوصّل إلى تحصيل أسباب يترتّب عليها أحكام شرعية ، وتلك الأسباب قد تكون محلّلة وقد تكون محرمة ، (وربما تكون محكومة بالأحكام الخمسة) والغرض من ذكرها تعليم الفقيه الأسباب المباحة ، وأمّا المحرمة فيذكرونها بالعرض ، ليعلم حكمها على تقدير وقوعها.

ص : 544


1- الشرائع : 3 / 3331.
2- المسالك : 9 / 203 - 210.
3- الحدائق : 25 / 375.
6- مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه عند أهل السنّة
قول الصحابي

يعدُّ الأئمّة الثلاثة غير أبي حنيفة قولَ الصحابي من مصادر التشريع ، وربّما ينقل عنه أيضاً خلافه ، لكن المعروف انّه لا يعترف بحجية قول الصحابي. والمهم في المقام هو تحرير محل النزاع وتعيين موضوعه ، فإنّه غير منقّح في كلامهم.

إنّ ظاهر العنوان - مذهب الصحابي من مصادر التشريع - هو انّ مذهبه من مصادره ، في عرض الكتاب والسنّة والإجماع والعقل وغيرها وربما يعبّر عن مذهب الصحابي ، بسنّته ، الظاهرة في أنّ له سنّة ، عرض سنّة النبي ، فلو أُريد هذا فهو محجوج بما ذكره الغزالي حيث قال :

إنّ من يُجوَّز عليه الغلط والسهو ، ولم تثبت عصمته عنه فلا حجّة في قوله ، فكيف يحتج بقولهم مع جواز الخطأ؟ وكيف تدّعى عصمتهم من غير حجّة متواترة؟ وكيف يتصوّر قوم يجوز عليهم الاختلاف؟ وكيف يختلف المعصومان؟ كيف وقد اتّفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة؟ فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد ، بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كلّ مجتهد أن يتبع

ص : 545

اجتهاد نفسه. (1)

وعلى ظاهر العنوان (مصادر التشريع) اعترض عليه الشوكاني وقال : والحقّ أنّه ليس بحجّة ، فإنّ الله سبحانه لم يبعث إلى هذه الأُمّة إلاّ نبيّنا محمّداً - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وليس لنا إلاّ رسول واحد وكتاب واحد ، وجميع الأُمّة مأمورة باتّباع كتابه وسنّة نبيّه ولا فرق بين الصحابة ومن بعدهم في ذلك ، فكلّهم مكلّفون بالتكاليف الشرعية ، وباتّباع الكتاب والسنّة ، فمن قال : إنّه تقوم الحجّة في دين الله عزّ وجلّ بعد كتاب الله تعالى وسنّة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - وما يرجع إليهما ، فقد قال في دين الله بما لا يثبت. (2)

ويمكن أن يقال : انّ في عدّ مذهب الصحابي من مصادر التشريع مسامحة واضحة وغرض القائل ، ادّعاء حجّية مذهبه وقوله ، بشهادة انّهم يقولون بحجّيته شريطة أن لا يكون قوله موافقاً للقياس ، إذ في صورة الموافقة وبما يكون مصدر قوله ، هو القياس ، وعندئذ يكون الجميع أمامه سواء ، وعلى كلّ تقدير ، فنحن نذكر صور القاعدة.

لا شكّ انّه لو نقل الصحابي سنّة الرسول يؤخذ به بالإجماع عندهم ، وعندنا إذا اجتمعت فيه شرائط الحجّية. وهذا خارج عن محل البحث.

كما إذا اتّفق سائر الصحابة على رأي الصحابي ؛ فمن قال بحجّية الإجماع بما هو هو ، أو لكشفه عن وجود الحجّة في البين ، يكون قوله حجّة ، لأجل انعقاد الإجماع عليه. وهذا أيضاً خارج عن محل البحث.

فينحصر النزاع في الموارد الثلاثة التالية :
اشارة

فينحصر النزاع في الموارد الثلاثة التالية :

ص : 546


1- المستصفى : 1 / 135.
2- إرشاد الفحول : 214.
1. قول الصحابي

إذا نقل الصحابي قولاً ، ولم يُسْنده إلى الرسول ، ودلّت القرائن على أنّه نقلُ قول لا نقلُ رأي فهل هو حجّة أو لا؟ لاحتمال كونه ناقلاً قول الرسول ، أو قول غيره ، وهذا ما يطلق عليه «الموقوف» لوقف النقل على الصحابي دون أن يتجاوز عنه إلى غيره.

2. رأي الصحابي

إذا نقل رأيه واستنباطه من الكتاب والسنّة وما فهمه منهما ، فهو حجّة له ولمقلِّديه ، ولا يكون حجّة لسائر المجتهدين.

3. قوله المردّد بين النقل والرأي
اشارة

إذا تردّد بين كونه نقلَ قول أو نقلَ رأي ؛ فلو قلنا بحجّية قوله ورأيه على سائر المجتهدين ، يكون حجّةً في المقام بخلاف ما لو خصّصنا الحجّية بنقل القول دون الرأي - كما هو الحقّ - فلا يكون النقل المردّد بين القول والرأي حجّة.

هذه هي الصور الثلاث التي تصلح لأن تقع محلاً لورود النفي والإثبات.

وأمّا الأقوال ، فمن قائل بحجّية ما روي عن الصحابي ، إلى آخر ناف لها ، إلى ثالث يفصّل بين كون المنقول موافقاً للقياس فليس بحجّة وكونه مخالفاً له فهو حجّة.

إذا وقفت على الصور المتصوّرة لمحلّ النزاع والأقوال ، فلنتناول كلّ واحدة منها بالدراسة :

ص : 547

1. الحجّة هو قول الصحابي لا رأيه
اشارة

يظهر من السرخسي انّ محلّ النزاع هو الصورة الأُولى ، فقد حاول في كلام مبسوط أن يثبت انّ قول الصحابي ظاهر في أنّ مستنده هو قول النبي وإن لم يسنده إليه ظاهراً ، يقول :

لا خلاف بين أصحابنا المتقدّمين والمتأخرين انّ قول الواحد من الصحابة حجّة فيما لا مدخل للقياس في معرفة الحكم فيه ، وذلك لأنّ أحداً لا يظن بهم المجازفة في القول ، ولا يجوز أن يحمل قولهم في حكم الشرع على الكذب ؛ فإنّ طريق الدين من النصوص إنّما انتقل إلينا بروايتهم ، وفي حمل قولهم على الكذب والباطل قولٌ بفسقهم ، وذلك يبطل روايتهم.

فلم يبق إلاّ الرأي أو السماع ممّن ينزل عليه الوحي ، ولا مدخل للرأي (القياس) في هذا الباب ، فتعيّن السماع وصار فتواه مطلقاً كروايته عن رسول الله ، ولا شكّ انّه لو ذكر سماعه من رسول الله لكان ذلك حجّة لإثبات الحكم به ، فكذلك إذا أفتى به ولا طريق لفتواه إلاّ السماع ، ولهذا قلنا : إنّ قول الواحد منهم فيما لا يوافقه القياس يكون حجّة في العمل به كالنص يترك القياس به. (1)

وخلاصة كلامه : أنّ قول الصحابي إن كان موافقاً للقياس نحدس بأنّه رأيه ونظره استند إلى القياس فلا يكون حجّة للمجتهد الآخر ، وأمّا إذا كان مخالفاً للقياس ، فلا يكون لقوله مبدأ سوى السماع عن الرسول ويكون حجّة.

يلاحظ على كلامه بوجوه :

الأوّل : أنّ كلامه مبنيّ على أنّ للاجتهاد دعامتين : إحداها : القياس ،

ص : 548


1- أُصول السرخسي : 2 / 110 بتلخيص.

والأُخرى : النص. فإذا كان قول الصحابي مخالفاً للقياس ، فيكون دليلاً على أنّه اعتمد على النص ونقله ، ولكنّك خبير بأنّ للاجتهاد دعامات أُخرى ، فمن الممكن أن يستند في قوله إلى إطلاق الآية وليس لها إطلاق ، أو عموم دليل وليس بعام ، وعلى كلّ تقدير استنتج الحكم من دليل لو وصل إلينا لم نعتبره دليلاً ، فمع هذا الاحتمال لم يبق وثوق بأنّه سبحانه أذن في الإفتاء وفق قوله.

الثاني : أنّ أقصى ما يمكن أن يقال هو الظنّ بأنّه استند إلى النّص ، لا القطع ، ومن المعلوم أنّ الظنّ لا يغني عن الحقّ شيئاً ، بل يجب أن يحرز أنّه استند إلى النص ، فيكون ممّا أذن الله أن يفتى به ، فما لم يحرز اعتماده على النصّ إحرازاً علمياً ، يدخل الإفتاء به تحت قوله سبحانه : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ). (1)

الثالث : لو كان قول الصحابي مستنداً إلى سماعه عن النبي ، أو عمّن سمعه من النبي ، لم يكن يترك ذكره ، لما فيه من الشرف والمفخرة له ، بشهادة أنا نجد اهتمام الصحابة بنقل كلّ ما يمتّ إلى النبي بصلة من دقيق وجليل وقول وفعل وتقرير وتصديق.

فالإفتاء بلا ذكر السماع يُشرف الفقيه على القطع بأنّ ما نقله الصحابي هو في الواقع اجتهاد منه ، وبذلك لا يبقى أيّ اطمئنان ووثوق بمثل هذا القول.

وهناك حقيقة مرّة ، وهي انّ التأكيد على حجية قول الصحابي لأجل انّ حذفه من الفقه السنّي يوجب انهيار صرح البناء الفقهي الذي أشادوه ، وتغيّر القسم الأعظم من فتاواهم ، وحلول فتاوى أُخر محلّها ربما استتبع فقهاً جديداً لا

ص : 549


1- يونس : 59.

أُنس لهم به.

ومنه يظهر ضعف ما جاء به بعض المعاصرين حيث يقول في جملة كلامه :

إنّ الصحابة هم الذين عاصروا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ونقلوا أقواله وأفعاله ، فكانوا أعرف الناس بأسرار التشريع الإسلامي ومصادره وموارده ، فمن اتّبعهم فهو من الذين قال الله فيهم : (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) ثمّ نقل عن الإمام أبي حنيفة ، أنّه كان يقول : إذا لم أجد في كتاب الله ولا سنّة رسول الله ، أخذت بقول من شئت من أصحابه ، وتركت من شئت ، ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم. (1)

يلاحظ عليه بأمرين :

1. كونهم أعرف بآراء التشريع لا يلازم كون المنقول ممّا سمعه ، إذ من المحتمل انّه استنبطه من الأدلّة بحجّة أنّهم أعرف بأسرار التشريع.

2. انّ ما نقله من أبي حنيفة يدلّ على حرمة الخروج عن أقوال الصحابة إذا علم إجمالاً أنّ الحقّ غير خارج عن أقوالهم المتعارضة ، وأين هذا من الأخذ بقول كلّ صحابي وإن لم ينحصر الحقّ في قوله؟!

وهناك نكتة أُخرى وهي انّ الصحابة لو كانوا مقتصرين في مقام الأخذ ، على سنّة الرسول فقط كان لما ذكره وجه ، ولكنّهم - مع الأسف - لم يقتصروا عليها ، بل أخذوا من مستسلمة أهل الكتاب ، فقد أخذ أبو هريرة وابن عباس من كعب الأحبار - الذي عدّوه من أوعية العلم - كثيراً ، كما أخذ عنه وعن أضرابه كتميم

ص : 550


1- مصادر التشريع الإسلامي : 269 - 277 ؛ ولاحظ كتاب الأُمّ : 7 / 24.

الداري غيرهما من الصحابة.

والحاصل : انّ الحجّة هو العلم بأنّه بصدد نقل سنة الرسول ، وأمّا إذا ظنّ بأنّه كذلك فليس بحجّة وما دلّ من الأدلّة على حجّية قول الصحابي ، منحصر بما إذا علم أنّه بصدد بيان كلام الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وقوله ، أو عمله وفعله ، أو تقريره وتصديقه.

2. الحجّة هو الأعم من القول والرأي
اشارة

يظهر من كلام ابن القيم ، انّ موضوع النزاع أعمّ من القول والرأي فقد أقام على حجّيته 46 دليلاً لا يسعنا ذكر معشارها ، لأنّ غالبها لا يخرج عن نطاق الحدس وليس لها أصالة ، وإنّما نقتصر على دليلين :

الدليل الأوّل
اشارة

إنّ قول الصحابي يحتمل أوجهاً لا تخرج عن ستة :

1. أن يكون قد سمعها من النبي.

2. أن يكون سمعها ممّن سمعها منه.

3. أن يكون فهمها من آيات كتاب الله فهماً خفي علينا.

4. أن يكون قد اتّفق عليها ملؤُهم ولم ينقل إلينا إلاّ قول المفتي بها وحده.

5. أن يكون لمكان علمه باللغة ودلالة اللفظ على الوجه الذي انفرد به عنّا ، أو لقرائن حالية اقترنت بالخطاب ، أو لمجموع أُمور فهموها على طول الزمان لأجل معاشرة النبي.

ص : 551

6. أن يكون فهم ما لم يرده الرسول واخطأ في فهمه ، والمراد غير ما فهمه ، وعلى هذا التقدير لا يكون قوله حجّة ، ومعلوم قطعاً أنّ وقوع احتمال من خمسة أغلب على الظن من وقوع احتمال واحد معين ، وذلك يفيد ظناً غالباً قوياً على أنّ الصواب في قوله دون ما خالفه من أقوال مَن بعده وليس المطلوب إلاّ الظنّ الغالب والعمل به متعيّن ، ويكفي العارف هذا الوجه. (1)

أقول : يلاحظ عليه بوجوه :

أوّلاً : أنّ أقصى ما يمكن أن يقال هو الظن الغالب بأنّه استند إلى الوجوه الخمسة الأُولى لا القطع به ، وقد دللنا في صدر الفصل على أنّ الأصل في الظن عدم الحجّية ، إلاّ إذا دلّ دليل قطعي على حجّيته.

ثانياً : من أين نعلم أنّ فهمه من الكتاب كان فهماً صحيحاً؟ أو انّ استفادته من اللغة كانت استفادة رصينة مع أنّ التابعين من العرب الأقحاح مثله؟ فما هو الفرق بين أن يكون قوله حجّة دون التابعين؟

ثالثاً : على أنّه يحتمل أن يكون لفتواه مصادر ظنّية اعتمد عليها ، كالقياس بشيء لا يخطر في أذهاننا ، أو الاعتماد على وجوه واعتبارات تبلورت في ذهنه ، أو الاستناد إلى الإطلاق والعموم مع أنّه ليس من مواردها ، لكون المورد شبهة مصداقية لهما.

الدليل الثاني
اشارة

قد ذكر ابن القيم في الوجه الرابع والأربعين ما هذا لفظه : انّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -

ص : 552


1- أعلام الموقعين : 4 / 148 في ضمن الدليل الثالث والأربعين.

قال : «لا تزال طائفة من أُمّتي ظاهرين بالحق».

وقال علي - كرم الله وجهه - : «لا تخلو الأرضُ من قائم لله بحجّة ، لئلاّ تبطل حججُ الله وبيّناته» فلو جاز أن يخطئ الصحابي في حكم ولا يكون في ذلك العصر ناطق بالصواب في ذلك الحكم لم يكن في الأُمّة قائم بالحقّ في ذلك الحكم ، لأنّهم بين ساكت ومخطئ ، ولم يكن في الأرض قائم لله بحجّة في ذلك الأمر ، ولا من يأمر فيه بمعروف أو ينهى فيه عن منكر. (1)

أقول : أمّا الحديث الأوّل فيدلّ على وجود طائفة ظاهرين بالحقّ من أُمّته ، ولكن من أين نعلم أنّهم هم الصحابة؟ فانّ الأخبار عن الكبرى لا تثبت الصغرى ، أي كون القائمين بالحقّ هم الصحابة ، فليكن التابعين لهم بإحسان.

وأمّا الحديث الثاني فيدلّ على وجود القائم بالحقّ بين الأُمّة في كلّ الأزمنة والأعصار لا الناطق بالحقّ ، وشتان ما بين القائم بالحقّ والناطق بالحقّ ، والقائم بالحقّ بطبيعة الحال يكون ناطقاً ، ولكن ربما يكون مضطراً للسكوت خوفاً من حكّام الجور ، فلا يكون سكوت الأُمّة دليلاً على إصابة الصحابي الناطق وكونه القائم بالحقّ.

وجود المخالفة بين الصحابة

إنّ تاريخ التشريع حافل بنماذج كثيرة من مخالفة صحابي لصحابي آخر حتى بعد سماع كلامه وقوله ، فلو كان قول الصحابي نتاجاً للسماع لما جاز لآخر أن يخالفه ويقدّم رأيه على قوله ، فإنّه يكون من قبيل تقديم الرأي على النصّ ، وهذا يعرب على أنّ قول الصحابي لا يساوق سماعه عن النبي ، بل أعمّ منه بكثير ، وهذا

ص : 553


1- أعلام الموقعين : 4 / 150 ، فصل جواز الأخذ بفتاوى الصحابة.

هو الذي يسوغ وجود المخالفة بينهم ، فمثلاً :

كان أبو بكر وعمر وعبد الله بن عباس يرون قول الرجل لامرأته : أنت عليّ حرام ، إيلاء ويميناً ، وفي الوقت نفسه كان ابن مسعود يراه طلقة واحدة ، وكان زيد ابن ثابت يراه طلاق ثلاث ، فلم يقل أحد انّ قول الخليفتين حجّة على الآخرين.

وذلك لأنّ كلّ واحد كان مجتهداً ومستنبطاً ، وليس رأي المستنبط حجّة على الآخرين ، فإذا كان هذا هو الحال بين الصحابة ، فليكن كذلك بعدهم ، فإنّ التكليف واحد ، والتشريع فارد ، فلا معنى أن يكون تكليف الصحابة مغايراً لتكليف التابعين لهم بإحسان ، أي لا يكون رأي الصحابي حجّة على مثله ، ولكنّه حجّة على التابعين.

اجتهاد الصحابي بين الردّ والقبول

كان اجتهاد الصحابة عند غيبتهم عن الرسول حجّة لهم لعدم تمكّنهم من الرجوع إليه ، فإذا ما رجعوا إليه ، إمّا يقرّهم على ما رأوا ، وإمّا أن يبيّن لهم خطّ الصواب ، فلم يكن اجتهاد الصحابي بما هو اجتهاد من مصادر التشريع ، وهو ظاهر لمن رجع إلى اجتهادات الصحابة وطرحها على الرسول ، وهو - صلى الله عليه وآله وسلم - بين مصوّب لهم ومخطِّئ ، ولنذكر نموذجين :

1. كان علي - عليه السلام - باليمن أتاه ثلاثة نفر يختصمون في غلام ، فقال كلّ واحد منهم هو ابني ، فجعل علي - عليه السلام - يخبرهم واحداً واحداً أترضى أن يكون الولد لهذا؟ فأبوا ، فقال : «أنتم شركاء متشاكسون» فأقرع بينهم ، فجعل الولد للذي خرجت له القرعة ، وجعل عليه للرجلين الآخرين ثلثي الدية ، فبلغ ذلك

ص : 554

النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فضحك حتى بدت نواجذه ، من قضاء علي - عليه السلام -. روى ذلك الخطيب البغدادي في كتاب «الفقيه والمتفقّه». (1)

وقد اعتبر علي - عليه السلام - في هذا الحكم أنّه بالنسبة للقارع بمنزلة الإتلاف للآخرين ، كمن أتلف رقيقاً بينه وبين شريكين له ، فإنّه يجب عليه ثلثا القيمة لشريكيه ، فإتلاف الولد الحر بحكم القرعة ، كإتلاف الرقيق الذي بينهم.

2. روى مسلم ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه انّ رجلاً أتى عمر ، فقال : إنّي أجنبت فلم أجد ماء؟ قال : لا تصلّ ، فقال عمار : ما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية ، فأجنبنا فلم نجد ماء ، فأمّا أنت فلم تصلّ ، وأمّا أنا فتمعكت في التراب وصليت.

فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : إنّما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ، ثمّ تنفخ ، ثمّ تمسح بهما وجهك وكفيك.

فقال عمر : اتّق الله يا عمار ، قال : إن شئت لم أُحدّث به. (2)

أحاديث الاقتداء بالصحابة

قد ذكرنا انّ ابن قيم الجوزية استدلّ على أنّ رأي الصحابة والتابعين حجّة بأنفسهما ، واستدل على ذلك بوجوه كثيرة لا دلالة فيها لما يروم إليه. وإليك بعض ما استدلّ به من الروايات :

1. ما رواه الترمذي من حديث الثوري ، عن عبد الملك بن عمير ، عن هلال مولى رِبْعي بن حِرَاش ، عن رِبْعي ، عن حذيفة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «اقتدوا

ص : 555


1- أعلام الموقعين : 1 / 203.
2- صحيح مسلم : 1 / 193 ، باب التيمّم.

باللّذين من بعدي أبي بكر وعمر». (1)

يلاحظ عليه : أنّ الحديث مخدوش سنداً ودلالةً.

أمّا سنداً فبعبد الملك بن عمير ، حيث روى إسحاق الكوسج ، عن يحيى بن معين قال : مخلِّط.

وقال علي بن الحسن الهسنجاني : سمعت أحمد بن حنبل يقول : عبد الملك ابن عمير مضطرب الحديث جداً مع قلّة روايته.

وذكر إسحاق الكوسج عن أحمد ، أنّه ضعفه جداً. (2)

وقد نُقل هذا الحديث بسند ثان عن أحمد بن محمد بن الجسور ، حدّثنا أحمد ابن الفضل الدينوري ، حدّثنا محمد بن جبير ، حدّثنا عبد الرحمن بن الأسود الطفاوي ، حدّثنا محمد بن كثير الملائي ، حدّثنا المفضل الضبي ، عن ضرارة بن مرة ، عن عبد الله بن أبي الهذيل العتري ، عن جدته.

وهو مخدوش أيضاً ، لأنّه مروي عن مولى لربعي مجهول ، كما أنّ المفضل بن محمد الضبي متروك الحديث ، متروك القراءة. (3)

كما نقل هذا الحديث بسند ثالث عن القاضي أبي الوليد بن الفرضي ، عن ابن الدخيل ، عن العقيلي ، عن محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا وكيع ، حدثنا سالم المرادي ، عن عمرو بن هرم ، عن ربعي بن حرث وأبي عبد الله ، عن رجل من أصحاب حذيفة ، عن حذيفة.

ص : 556


1- أعلام الموقعين : 4 / 140.
2- سير أعلام النبلاء : 5 / 439.
3- الجرح والتعديل : 8 / 318 برقم 1466 ؛ لسان الميزان : 6 / 81 برقم 293.

وفيه أنّ هلال مولى ربعي مجهول ، كما أنّ سالم المرادي قد ضعَّفه ابن معين والنسائي. (1)

وأمّا دلالةً ، فقد قال ابن حزم : وأمّا رواية : «اقتدوا باللّذين من بعدي» فحديث لا يصح. ولو صحّ لكان عليهم لا لهم ، لأنّهم - أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي - أترك الناس لأبي بكر وعمر ، وقد بيّنا انّ أصحاب مالك خالفوا أبا بكر ممّا رووا في «الموطّأ» خاصة في خمسة مواضع ، وخالفوا عمر في نحو ثلاثين قضية ممّا رووا في «الموطأ» خاصة ، وقد ذكرنا انّ عمر وأبا بكر اختلفا ، وإن اتّباعهما فيما اختلفا فيه ، متعذر ممتنع لا يقدر عليه أحد. (2)

2. ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن رباح عن أبي قتادة انّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : إن يطع القوم أبا بكر وعمر يُرشَدُوا. (3)

أقول : لو صحّت الرواية ، وقلنا بأنّ المراد من القوم هم المسلمون بأجمعهم إلى يوم القيامة ، لدلّت على وجوب طاعتهما فيما لهما فيه أمر ونهي ، وأين هما من لزوم الأخذ بآرائهما وفتاواهما في الأحكام الشرعية التي ليس لهما فيه أي أمر ونهي؟!

3. ما روي عن طريق عبد الله بن روح ، عن سلام بن سلم ، قال : حدثنا الحارث بن غصين ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر مرفوعاً انّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم. (4)

وهذا الحديث مخدوش سنداً ودلالة.

ص : 557


1- كتاب الضعفاء الكبير : 2 / 150 برقم 651 ؛ لسان الميزان : 3 / 7 برقم 21.
2- الاحكام : 5 / 243.
3- أعلام الموقعين : 4 / 140.
4- جامع العلم : 2 / 91 ؛ جامع الأُصول : 8 / 556 ، الحديث 6369.

أمّا سنداً فبالحارث بن غصين ، قال عنه ابن عبد البر في كتاب العلم : مجهول. (1)

كما أنّ في السند المذكور سلام بن سلم المدائني ، وقيل : سلام بن سليمان المدائني ، قال عنه يحيى : كان ضعيفاً.

وقال الأعين : سمعت أبا نعيم ضعّف سلام بن سلم. (2)

وقال عنه البخاري : سلام بن سلم المدائني : متروك.

وذكره ابن حبان في المجروحين. (3)

كما روي هذا الحديث أيضاً عن طريق عبد الرحيم بن زيد العمي ، عن أبيه ، عن سعيد بن المسيب ، عن ابن عمر. وعن طريق حمزة الجزري ، عن نافع ، عن ابن عمر.

وفيه أنّ عبد الرحيم بن زيد وأباه متروكان (4) ، وحمزة الجزري مجهول.

وأمّا دلالة : فلما قاله ابن حزم : قد ظهر أنّ هذه الرواية لا تثبت أصلاً ، إذ من المحال أن يأمر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - باتّباع كلّ قائل من الصحابة ، وفيهم من يحلل الشيء ، وغيره منهم يحرّمه. (5)

ولقد أجاد الشوكاني حينما قال : وأمّا ما تمسّك به بعض القائلين بحجيّة قول الصحابي ممّا روي عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنّه قال : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم ، فهذا ممّا لم يثبت قط ، والكلام فيه معروف عند أهل هذا الشأن بحيث لا يصحّ العمل بمثله

ص : 558


1- لسان الميزان : 2 / 156.
2- الضعفاء الكبير : 2 / 158.
3- المجروحين : 2 / 339.
4- سير أعلام النبلاء : 8 / 358 ؛ التاريخ الكبير : 6 / 137 ؛ ميزان الاعتدال : 2 / 605.
5- الاحكام : 5 / 244.

في أدنى حكم من أحكام الشرع ، فكيف مثل هذا الأمر العظيم والخطب الجليل؟! (1)

وحاصل الكلام : أنّ الفقيه يجب أن يعتمد على كتاب الله وسنّة رسوله ، وان يحتج بما جعله الله حجّة بينه وبين الله تبارك وتعالى ، كخبر العدل المتصل إلى المعصوم ، أو العقل فيما له فيه قضاء وحكم ، وأمّا في غير هذه الموارد كآراء الصحابة أو سنّتهم وسيرتهم أو التابعين فكلّها أُمور ظنية لا دليل على الاحتجاج بها إلاّ إذا ثبت أنّها أقوال الرسول وسننه ، وأنّى لنا إثبات ذلك.

وبذلك يعلم أنّ الفقه ليس هو نقل آراء الصحابة والتابعين ، أو الفقهاء الذين جاءوا بعدهم ، فإنّ مرد ذلك إلى سرد آراء أُناس غير مصونين عن الخطأ والزلل.

رؤيا الصحابي والتشريع

قد وقفت على أنّ التشريع الإلهي أعلى وأجلّ من أن تناله يد الاجتهاد ، فالتشريع فيض إلهي جار من ينبوع فياض لا يشوبه خطأ ولا وهم ولا ظن ولا خرص ولا تخمين ، والنبي هو المبيّن للتشريع ، وليس بمجتهد فيه يضرب الآراء بعضها ببعض كي يصل إلى حكم الله سبحانه.

وأسوأ من ذلك أن تكون رؤيا الصحابة أو تصويبهم مصدراً للتشريع ، ومع الأسف نرى نماذج كثيرة منها مروية في الصحاح والمسانيد ، فلنقتصر على ذكر نموذجين على سبيل المثال :

1. اهتم النبي للصلاة كيف يجمع الناس لها؟ فقيل له : انصب راية عند

ص : 559


1- إرشاد الفحول : 214.

حضور الصلاة ، فإذا رأوها آذن بعضهم بعضاً ، فلم يعجبه ذلك ، قال : فذكر له القبع - يعني الشبور - قال زياد : شبور اليهود ، فلم يُعجبه ذلك ، وقال : هو من أمر اليهود.

قال : فذكر له الناقوس ، فقال : هو من أمر النصارى.

فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد ربّه وهو مهتم لهمِّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فأُري الأذان في منامه ، قال : فغدا على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فأخبره ، فقال له : يا رسول الله ، إنّي لبين نائم ويقظان ، إذ أتاني آت فأراني الأذان.

قال : وكان عمر بن الخطاب قد رآه قبل ذلك ، فكتمه عشرين يوماً ، ثمّ أخبر النبي به ، قال - صلى الله عليه وآله وسلم - : ما منعك أن تخبرني؟ فقال : سبقني عبد الله بن زيد ، فاستحييت.

فقال رسول الله : يا بلال قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله ، قال : فأذّن بلال ، قال أبو بشر : فأخبرني أبو عمير انّ الأنصار تزعم أنّ عبد الله بن زيد لو لا انّه كان يومئذ مريضاً لجعله رسول الله مؤذناً. (1)

إنّ هذه الرواية وما شاكلها لا تتفق مع مقام النبوة ، لأنّه سبحانه بعث رسوله لإقامة الصلاة مع المؤمنين في أوقات مختلفة ، وطبيعة الحال تستدعي أن يعلّمه سبحانه كيفية تحقّق هذه الأُمنية ، فلا معنى لتحيّر النبي أياماً طويلة ، وهو لا يدري كيف يحقّق المسئولية الملقاة على عاتقه!!

إنّ الصلاة والصيام من الأُمور العبادية وليست من الأُمور الطبيعية العادية

ص : 560


1- سنن أبي داود : 1 / 135134 برقم 498 - 499 ، تحقيق محمد محي الدين. لاحظ سنن ابن ماجة : 1 / 232 - 233 ، باب بدء الأذان برقم 706 - 707 ؛ سنن الترمذي : 1 / 358 باب ما جاء في بدء الأذان برقم 189.

حتى يشاور النبي فيها أصحابه ، أوليس من الوهن في أمر الدين أن تكون رؤيا وأحلام أشخاص عاديّين مصدراً لأمر عبادي في غاية الأهمية كالأذان والإقامة؟!

إنّ هذا يدفعنا إلى القول بأنّ الرؤيا كانت مصدراً للأذان أمر مكذوب ومجعول على الشريعة ، وانّ الكذّابين المنتمين إلى بيت عبد الله بن زيد هم الذين أشاعوا هذه الأُكذوبة طلباً لعلو المنزلة والجاه.

إنّ البحث عن اسناد الروايات الواردة في هذا الموضوع وما فيها من التناقضات لا يناسب وضع الكتاب. (1)

2. روى الإمام أحمد أنّ الصحابة «كانوا يأتون الصلاة ، وقد سبقهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ببعضها ، فكان الرجل يشير إلى الرجل إن جاءكم صلى ، فيقول : واحدة أو اثنتين ، فيصلّيها ، ثمّ يدخل مع القوم في صلاتهم.

قال : فجاء معاذ ، فقال : لا أجده على حال أبداً إلاّ كنت عليها ، ثمّ قضيت ما سبقني.

قال : فجاء وقد سبقه النبي ببعضها ، قال : فثبت معه ، فلمّا قضى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - صلاته قام فقضى.

فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : قد سنَّ لكم معاذ فهكذا فاصنعوا. (2)

قد سبق انّ الصلاة عبادة إلهية وليس في الإسلام عبادة أعظم منها ، فكيف تخضع لسنّة صحابي مقطوع عن الوحي ، وقد سنَّ شيئاً اعتباطياً دون أن يستأذن

ص : 561


1- انظر الجزء الأوّل : 131 - 162.
2- مسند أحمد بن حنبل : 5 / 246.

من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فكان عمله أشبه بالبدعة وإدخال شيء في الدين ما لم يأذن به الله؟! ومعاذ أجلَّ من أن لا يعرف حد البدعة والسنّة ويدخل في الصلاة مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وقد سبقه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ثمّ يقضي ما فاته.

وأنت إذا تصفّحت الصحاح والمسانيد تعثر على نماذج كثيرة لهذا النوع من التشريع.

عود إلى بدء

قد تقدّم في صدر البحث انّ مغزى القول بحجيّة مذهب الصحابي إلى حكاية قول الرسول بقرينة انّهم يشترطون في حجية قوله : «كونه مخالفاً للقياس» دون ما إذا كان موافقاً له.

ولكن الظاهر من الشاطبي في موافقاته انّ سنّة الصحابة سنّة يعمل بها ويرجع إليها ، واستدلّ على ذلك بوجوه أربعة لا يستدلّ بها إلاّ من أعوزه الدليل مع الرغبة الأكيدة إلى إثبات المدّعى ، قال :

أحدها : ثناء الله عليهم من غير مثنوية ، مدحهم بالعدالة وما يرجع إليها ، كقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (1) وقوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً). (2) ففي الأُولى إثبات الأفضلية على سائر الأُمم ، وذلك يقضي باستقامتهم في كلّ حال ، وجريان أحوالهم على الموافقة دون المخالفة ؛ وفي الثانية إثبات العدالة مطلقاً ، وذلك يدلّ على ما دلّت عليه الأُولى.

يلاحظ على الآية الأُولى : أنّها بمعزل عن الدلالة على «استقامتهم على كلّ

ص : 562


1- آل عمران : 110.
2- البقرة : 143.

حال» وإنّما هي بصدد بيان أحد أمرين :

1. انّ الآية تخاطب معاشر المسلمين عبر القرون بأنّهم خير أُمّة أظهرها الله للناس بهدايتها بحجّة انّهم يؤمنون بالله ويأتون بفريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والخطاب وإن كان للحاضرين في عصر الخطاب لكن خطابات القرآن كخطابات الكتب المصنّفة لا تختص بفرد دون فرد ، بل تشمل كلّ المسلمين من دون اختصاص بالصحابة ، كيف وقد قال سبحانه : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) (1) ، وقال سبحانه : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (2) فيكون الخطاب عاماً يشمل جميع المسلمين من عصر الرسالة إلى يوم البعث.

ومن المعلوم أنّ وصف الأُمّة بهذا الوصف ليس باعتبار اتصاف كلّ فرد منهم به بل لأجل اتصاف جمع منهم بحقيقة الإيمان والقيام بحق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وليس ذلك بأمر بديع وقد وصف القرآن بني إسرائيل بكونهم ملوكاً وهو وصف لبعضهم وقال : (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً). (3)

ولو افترضنا تواجد هذه الصفات في عامة المسلمين ، لما كان دليلاً على حجّية آرائهم وتفكراتهم ، بل يكون دليلاً على فضيلتهم وكرامتهم وأين هي من حجّية آراءهم.

2. انّ الآية تمدح حال المؤمنين في أوّل ظهور الإسلام من السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار ، وتخاطبهم بقوله كنتم خير أُمّة ظهرت للناس لأجل

ص : 563


1- الفرقان : 1.
2- الأنعام : 19.
3- المائدة : 20.

الإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ثمّ يصف بأنّه لو كان أهل الكتاب مثلكم لكان خيراً لهم ، ولكنّهم اختلفوا ، منهم أُمّة مؤمنون وأكثرهم فاسقون. ويدلّ على ما ذكر ذيل الآية ، وإليك الآية بتمامها : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ). (1)

فاتّضح بذلك انّ الآية ليست بصدد إثبات الاستقامة للصحابة في عامّة الأحوال ولا بصدد إثبات العدالة لهم ، ولا لإفاضة الحجّية على أقوالهم وآرائهم ، وليست للآية أي صلة بهذا الموضوع ، بل يدور المعنى على أحد أمرين :

إذا قلنا بأنّ فعل «كنتم» منسلخ عن الزمان يكون الهدف مدح المسلمين عامة لأجل اتّصافهم بالأوصاف الواردة بالآية 1. الأمر بالمعروف ، 2. النهي عن المنكر ، 3. الإيمان بالله ، 4. ووحدة الكلمة المفهومة من قوله «أُمّة».

ومن المعلوم أنّ عامّة المسلمين لا يشاركون في هذه الأوصاف ، بل عدّة منهم بوصف الجميع باعتبار وصف البعض. ولو افترضنا تواجدها في جميعهم ، لما كان أيضاً دليلاً على حجّية آرائهم.

وإذا قلنا : إنّ فعل «كنتم» غير منسلخ عن الزمان والآية تختص بالمهاجرين والأنصار ، فالآية بصدد تنبيه أهل الكتاب وتذكيرهم بأن يتّصفوا بأوصاف المسلمين ويكونوا مثلهم في الأوصاف الأربعة ، لكنّهم - للأسف - ليسوا على وتيرة واحدة ، فقليل منهم مؤمن بالله وأكثرهم فاسقون.

هذا كلّه حول الآية الأُولى.

وأمّا الآية الثانية ، أعني قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ

ص : 564


1- آل عمران : 110.

عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً). (1)

يلاحظ على الاستدلال : بأنّ ظاهر الآية انّه سبحانه جعل الأُمّة الإسلامية أُمّة وسطاً ، لأجل تخلّلهم بين الناس والرسول فجعلهم وسطاً.

1. ليكونوا شهداء على الناس من جانب.

2. ويكون الرسول شهيداً عليهم من جانب آخر.

وعندئذ فمعنى كونهم وسطاً لأجل تخلّلهم بين الرسول والناس.

فالناس هم المشهود عليهم.

والأُمّة الإسلامية هم الشهداء عليهم.

والرسول هو الشهيد على الأُمّة.

هذا هو ظاهر الآية ، وبذلك يعلم معنى الوسطية التي هي تخلّلهم بين الناس والرسول.

وعلى ضوء هذا فيجب أن نقف على معنى كون الأُمّة شهداء على الناس ، فهل يصح وصف جميع الأُمّة بذلك ، وإنّما هو وصف لطائفة خاصة ، أعني : الذين وصلوا في طهارة القلب والروح إلى حدّ يشهدون يوم القيامة على الناس؟ ومن المعلوم أنّ مثل هذه الشهادة ليست في وسع الإنسان العادي إلاّ رجل يتولّى الله أمره وكشف الغطاء عن بصره وبصيرته ، وأمّا من هم الذين لهم تلك الميزة والمكانة فالآية ساكتة عنه ، ولكن الآيات الأُخرى تفصح عن ذلك ، يقول سبحانه : (مَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (2) ، والمراد من الشهداء هم شهداء

ص : 565


1- البقرة : 143.
2- النساء : 69

الاعمال الذين شملتهم عنايته سبحانه فشهدوا على حقائق الأعمال والمعاني النفسية من الكفر والإيمان والفوز والخسران ، فلا صلة للآية بعدالة الصحابة.

إنّ للإمام الصادق - عليه السلام - في تفسير الآية بياناً بديعاً رواه أبو عمرو الزبيري عنه قال : قال الإمام بعد تلاوة الآية : «فإن ظننتَ انّ الله عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحّدين؟ أفترى أنّ من لا يجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب الله شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأُمم الماضية؟!». (1)

ثمّ لو افترضنا دلالة الآية على عدالة كلّ صحابي ، ولكنّه لا يكون دليلاً على حجّية كلّ ما يصدر عنهم من السنّة ، وإلاّ لعمّمنا الحكم إلى كلّ عادل ، سواء كان صحابياً أم غير صحابي ، لكون الموضوع هو العدل والعدالة ، وغاية ما تقتضيه العدالة انّه لا يتعمّد الكذب ، امّا مطابقة كلامه وفعله للواقع نزيهاً عن الخطأ وا لاشتباه فالآيتان لا تدلاّن عليه.

ثمّ إنّ الإمام الشاطبي استدلّ بوجه ثان وهو التمسّك في مدح الصحابة وقال :

الدليل الثاني : ما جاء في الحديث من الأمر باتّباعهم ، وانّ سنّتهم في طلب الاتّباع كسنّة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، كقوله : «فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين ، تمسّكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ» ، وقوله : «وتفترق أُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النار إلاّ واحدة».

قالوا : ومن هم يا رسول الله؟ قال : «ما أنا عليه وأصحابي».

وعنه أنّه قال : «أصحابي مثل الملح ، لا يصلح الطعام إلاّ به».

وعنه أيضاً : انّ الله اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيّين

ص : 566


1- البرهان في تفسير القرآن : 1 / 160.

والمرسلين ، واختار لي منهم أربعة : أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً ، فجعلهم خير أصحابي كلّهم خير» ويروى في بعض الأخبار : «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» إلى غير ذلك ممّا في معناه. (1)

يلاحظ على الاستدلال : أنّ الشاطبي أرسل هذه الروايات إرسالَ المسلّمات من دون أن يبحث عن أسانيدها وما جاء فيها من الطعون ، ونحن أيضاً نتغافل عمّا حول الأسانيد من الضعف والنكارة ونركّز الأمر على المضامين.

أمّا الحديث الأوّل ، أعني قوله : «فعليكم سنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهتدين ...» فقد ذكر محقّق كتاب الموافقات انّه قطعة من الحديث الذي أخرجه أبو داود والترمذي ولم يصف السند بشيء ، فهو قاصر عن إثبات عدالة عامّة الصحابة وبالتالي حجّية أقوالهم ومذاهبهم ، فانّه يختص بالخلفاء الأربعة لا غير.

أضف إلى ذلك انّ العمل بمضمونه مستحيل لاختلاف سيرة الخلفاء وكيف يمكن أن يتعبّدنا الشارع بالمتناقضات من سيرتهم.

وهذا هو أبو بكر ساوى في توزيع الأموال الخراجية وخالفه عمر حيث فاوت فيها ، وكان أبو بكر يرى طلاق الثلاث واحداً ، ورآه عمر ثلاثاً.

وأمّا الاختلاف بين سيرة الشيخين وعثمان فواضح جدّاً حتّى أنّ اختلافه معهما أودى بحياة الخليفة وأثار حفيظة المسلمين على خلافته فقتل في عقر داره.

كما أنّ اختلاف سيرة علي مع عثمان بل مع الجميع واضح لمن استقرأ التاريخ ، فكيف يمكن للنبي أن يتعبّدنا بالعمل بالمتناقضات؟!

وأمّا الحديث الثاني ، أعني قوله : «تفترق أُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النار إلاّ واحدة» فيكفي في نكارة الحديث.

أوّلاً : انّ هذه الزيادة غير موجودة في بعض نصوص الرواية ، ولا يصحّ أن

ص : 567


1- الموافقات للشاطبي : 4 / 56.

يقال انّ الراوي ترك نقلها مع عدم الأهمية.

وثانياً : انّ المعيار الوحيد للهلاك والنجاة هو شخص النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأمّا أصحابه فلا يمكن أن يكونوا معياراً للهداية والنجاة إلاّ بقدر اهتدائهم واقتدائهم برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وإلاّ فلو تخلّفوا عنه قليلاً أو كثيراً فلا يكون الاقتداء بهم موجباً للنجاة.

وعلى ذلك فعطف «وأصحابي» على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يخلو من غرابة!!

وثالثاً : انّ المراد إمّا صحابته كلّهم ، أو الأكثرية الساحقة.

فالأوّل : مفروض العدم ، لاختلاف الصحابة في مسالكهم ومشاربهم السياسية والدينية بعد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وأدلّ دليل على ذلك ما وقع من الخلاف في السقيفة وبعدها في كثير من الأحكام والموضوعات.

والثاني : ممّا لا يلتزم به أهل السنّة ، فانّ الأكثرية الساحقة من الصحابة خالفوا الخليفة الثالث ، وقد قتله المصريون والكوفيون في مرأى ومسمع من بقية الصحابة ، الذين كانوا بين مؤلِّب ، أو مهاجم ، أو ساكت.

وأمّا الحديث الثالث ، أعني قوله : «أصحابي مثل الملح لا يصلح الطعام إلاّ به».

قال معلق كتاب «الموافقات» : رواه ابن قيّم الجوزية في «اعلام الموقعين» عن ابن بطة باسنادين إلى عبد الرزاق ، ثمّ بطرق أُخرى عن الحسن عنه ، منها رواية البغوي فلو افترضنا صحّة الحديث ، فالحديث مجمل للغاية ، لا يثبت شيئاً.

وأمّا الحديث الرابع ، أعني «انّ الله اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيّين والمرسلين ، واختار لي منهم أربعة : أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً ، فجعلهم

ص : 568

خير أصحابي كلّهم خير» فمع غض النظر عن سنده فهو يناقض ما تضافر عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - من ارتداد كثيراً من أصحابه فكيف يمكن أن يكونوا كلّهم خيراً؟!

روى البخاري عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : «بينا أن قائم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال : هلم ، فقلت : أين؟ قال : إلى النار والله ، قلت : وما شأنهم؟ قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، ثمّ إذا زمرة حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال : هلم ، قلت : أين؟ قال : إلى النار والله ، قلت : وما شأنهم؟ قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم». (1)

وفي روايته الأُخرى عن سهل بن سعد قال : قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : «إنّي فرطكم على الحوض من مرّ عليّ شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً ، ليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثمّ يحال بيني وبينهم» ، قال أبو حازم : فسمعني النعمان بن أبي عياش ، فقال : هكذا سمعت من سهل؟ فقلت : نعم ، فقال : اشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها : «فأقول : إنّهم منّي ، فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول سحقاً سحقاً لمن غير بعدي». (2)

وكأنّ هذه الأحاديث تفسر قوله سبحانه : (وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) (3)

ولا يصحّ حملها على الأعراب المرتدّة لمكان قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «أعرفهم ويعرفوني».

وأمّا الحديث الخامس ، أعني : «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم»

ص : 569


1- صحيح البخاري : 8 / 121 ، باب في الحوض ، الحديث 6099.
2- المصدر السابق.
3- آل عمران : 144.

فيكفي في ضعفه ما قاله ابن حزم في حقّه حيث قال : حديث موضوع مكذوب باطل ، وقال أحمد : حديث لا يصحّ وقال البزاز : لا يصحّ هذا الكلام عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. (1)

وقد نقل الشارح الحديدي عن النقيب أبي جعفر يحيى بن محمد العلوي البصري انّه قال : إنّ هذا الحديث «أصحابي كالنجوم» من موضوعات متعصبة الأموية فانّ لهم من ينصرهم بلسانه وبوضعه الأحاديث إذا عجز عن نصرهم بالسيف.

الدليل الثالث : أنّ جمهور العلماء قدموا الصحابة عند ترجيح الأقاويل.

فقد جعل طائفة قول أبي بكر وعمر حجّة ودليلاً.

وبعضهم عدّ قول الخلفاء الأربعة دليلاً.

وبعضهم يعدّ قول الصحابة على الإطلاق حجّة ودليلاً. ولكلّ قول من هذه الأقوال متعلّق من السنّة.

وهذه الآراء - وإن ترجّح عند العلماء خلافها - ففيها تقوية تضاف إلى أمر كلّي هو المعتمد في المسألة ، وذلك أنّ السلف والخلف من التابعين ومن بعدهم يهابون مخالفة الصحابة ، ويتكثرون بموافقتهم ، وأكثر ما تجد هذا المعنى في علوم الخلاف الدائر بين الأئمّة المعتبرين ، فتجدهم إذا عينوا مذاهبهم قوّوها بذكر من ذهب إليها من الصحابة. وما ذاك إلاّ لما اعتقدوا في أنفسهم وفي مخالفيهم من تعظيمهم ، وقوة مآخذهم دون غيرهم ، وكبر شأنهم في الشريعة ، وأنّهم ممّا يجب متابعتهم وتقليدهم فضلاً عن النظر معهم فيما نظروا فيه.

وقد نقل عن الشافعي أنّ المجتهد قبل أن يجتهد لا يُمنع من تقليد

ص : 570


1- لاحظ تعليقة الموافقات : 4 / 56.

الصحابة ، ويمنع من غيره. وهو المنقول عنه في الصحابي : «كيف أتركُ الحديثَ لقول من لو عاصرتُه لحَجَجْتُه؟» ولكنّه مع ذلك يعرف لهم قدرهم. (1)

يلاحظ عليه : أنّ المدّعى في هذا الدليل بطوله هو قوله : «إنّهم ممّا يجب متابعتهم وتقليدهم» ، ولكن الدليل غير واف بإثباته ولا يلازمه إذ غاية ما يثبته : انّ جمهور العلماء عند تعارض الأقاويل يرجّحون قول الشيخين أو الخلفاء الأربعة أو عامّة الصحابة ، وأين الترجيح عند التعارض من القول بحجّية آرائهم ومذاهبهم وسننهم مطلقاً ، كان هناك تعارض أوّلاً ، وانّه يجب على الخلف متابعة الصحابة وتقليدهم ثانياً.

أضف إلى ذلك انّ أصل الدليل غير ثابت ، إذ طالما خالف الخَلفُ ، السلفَ ، نعم لو اتّفقت الصحابة على أمر من الأُمور يكون حكمه ، حكم سائر الإجماعات ، وعندئذ لا تظهر خصوصية ، لإجماعهم.

هذا وقد علّق على الدليل محقّق الكتاب وقال : فإن كان غرض المسألة وجوب الأخذ بسنّتهم التي اتّفقوا عليها فذلك ما لا نزاع فيه ، لأنّه أهمّ أنواع الإجماع فليس من باب السنّة ، وإن كان الغرض ما جرى العمل عليه في عهدهم ، وإن لم يتّفقوا عليه ، فهذا ليس بدليل شرعي يتقيّد به المجتهد. (2)

ويظهر من الآمدي وجه آخر لحجّية سنّتهم ، وهي أنّها عند الاختلاف لا تخرج عن كونها حجّة في نفسها كأخبار الآحاد والنصوص الظاهرة ، وعلى هذا يكون سنّة قولاً وفعلاً في غير موضع الإجماع منهم ، تعدّ سنّة كخبر الواحد فيعوّل عليها ويرجع إليها كحجّة ظنية.

يلاحظ عليه : أنّ قياس رأي الصحابة وسنّتهم ، على خبر الواحد ، قياس مع

ص : 571


1- الموافقات : 4 / 57.
2- الموفقات : 4 / 57 ، قسم التعليقة.

الفارق ، فانّ الثاني يروي عن المعصوم ويسنده إليه ، فيدخل في باب السنّة المحكية بواسطة الثقة ، بخلاف سنّة الصحابي ، فهي مرددة بين النقل عن المعصوم ، والاستنباط عن الكتاب والسنّة ، ومع هذا التردد كيف يجوز للمجتهد أن يأخذ بها ، إذ لو كانت رأي الصحابي لا يكون حجّة عليه.

على أنّك قد عرفت أنّ الأصل في الظن هو عدم الحجّية ، والشكّ فيها يساوق القطع بعدمها ، فكيف يُؤخذ بهذا الظن مع عدم قياس دالّ عليه.

الدليل الرابع : ما جاء في الأحاديث من إيجاب محبّتهم وذم من أبغضهم ، وانّ من أحبّهم فقد أحبّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ومن أبغضهم فقد أبغض النبي عليه الصلاة والسلام ، وما ذاك من جهة كونهم رأوه أو جاوروه أو حاوروه فقط ، إذ لا مزية في ذلك ، وإنّما هو لشدة متابعتهم له وأخذهم أنفسهم بالعمل على سنّته ، مع حمايته ونصرته ، ومن كان بهذه المثابة حقيق أن يتّخذ قدوة ، وتجعل سيرته قبلة ، ولما بالغ مالك في هذا المعنى بالنسبة إلى الصحابة أو من اهتدى بهديهم واستنّ بسنّتهم جعله الله تعالى قدوة لغيره في ذلك ، فقد كان المعاصرون لمالك يتبعون آثاره ويقتدون بأفعاله ، ببركة اتّباعه لمن أثنى الله ورسوله عليهم وجعلهم قدوة أو من اتّبعهم ، (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). (1)

يلاحظ عليه : أنّ هذا الدليل ، كسابقه ضعيف غايته : إذ مع غض النظر عمّا في أسانيد هذه الروايات انّ أقصى ما يدلّ عليه ، هو تكريمهم وحرمة بغضهم ، لأنّهم رأوا نور الوحي ، وعاشوا معه في السراء والضرّاء ، في الحرب والسلم ، والشدة والرخاء ، وأين هذا من حجّية آرائهم ومذاهبهم واجتهاداتهم ، كمشرِّع يؤخذ بتشريعاته؟!

ص : 572


1- المجادلة : 22.

والعجب انّ الشاطبي يجعل الأمر بحب الصحابة دليلاً على حجّية آرائهم ومذاهبهم - مضافاً إلى حجّية أقوالهم عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - - فلما ذا لم يأخذ شيئاً من أقوال أئمّة أهل البيت وآرائهم ومذاهبهم؟! مع تضافر النصوص على لزوم حبهم ، قال سبحانه : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى). (1)

وأمّا النصوص فنقتصر من الكثير بالقليل :

1. «لا يؤمن عبد حتّى أكون أحب إليه من نفسه ، وتكون عترتي أحبّ إليه من عترته ، ويكون أهلي أحبّ إليه من أهله».

2. «إنّ لكلّ نبيّ عصبة ينتمون إليها إلاّ ولد فاطمة فأنا وليّهم وأنا عصبتهم وهم عترتي خلقوا من طينتي ، ويل للمكذبين بفضلهم ، من أحبهم أحبه الله ، ومن أبغضهم أبغضه الله».

3. انّ النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أخذ بيد حسن وحسين ، وقال : «من أحبّني وأحبّ هذين وأباهما وأُمهما كان معي في درجتي يوم القيامة». (2)

أيّ الفريقين أحقّ بالأمن؟

قد عرفت منزلة مذهب الصحابي ورأيه تحليلاً ونقداً ، وتبيّن انّ قول الصحابي إنّما يكون حجّة إذا أسنده إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وأمّا لو وقف ولم يسنده ، أو تبيّن انّه رأيه ومذهبه وسنّته فلا قيمة له في عالم الاعتبار ، ومع ذلك عرفت إصرار الشاطبي ومن لفّ لفّه على لزوم الأخذ بآرائهم ومذاهبهم وإن كان نتيجة اجتهادهم واستنباطهم.

وهناك من يوافقه من قدماء القوم.

ص : 573


1- الشورى : 23.
2- لاحظ للوقوف على هذه الأحاديث ونظائرها الكثيرة ، كتاب كنز العمال : ج 10 و 12 و 13.

1. أخرج السيوطي وقال : قال حاجب بن خليفة شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو خليفة ، فقال في خطبته : ألا إنّ ما سنَّ رسولُ الله وصاحباه فهو دين نأخذ به وتنتهي إليه وما سنّ سواهما فإنّا نرجئه. (1)

2. أخرج ابن سعد في طبقاته عن ثعلبة بن أبي مالك القرطبي انّه قال في محاضرته مع عبد الملك بن مروان : وليست سنّة أحبّ إليّ من سنّة عمر. (2)

3. يقول الشيخ أبو زهرة : لقد وجدناهم يأخذون (أي الفقهاء من أهل السنّة) جميعاً بفتوى الصحابي ولكن يختلفون في طريق الأخذ ، فالشافعي كما يصرح في «الرسالة» يأخذ بفتواهم على أنّها اجتهاد منهم واجتهادهم أولى من اجتهاده ، ووجدنا مالكاً يأخذ بفتواهم على أنّها من السنّة ويوازن بينها وبين الأخبار المروية ان تعارض الخبر مع فتوى صحابي ، ثمّ يقول ما حاصله : انّه اختلف في نظر أبي حنيفة وأبو الحسن الكرخي اعتبر أبو حنيفة الأخذ بفتوى الصحابي من قبيل الأخذ بالحديث والسنّة وأبو سعيد البراذعي يجعل أبا حنيفة مثل الشافعي ، وأمّا أحمد بن حنبل فنراه يقدم الحديث الصحيح على فتوى الصحابي ويأخذ بكلّ فتاوى الصحابة كما نجده يقدّم فتوى الصحابي على الحديث المرسل. ويلخّص أبو زهرة رأي أحمد : انّ فتاوى الصحابة سنّة ولكنّها سنّة بعد الحديث الصحيح وحيث لا تصح سنّة غير أقوالهم. (3)

فإذا دار الأمر بين الأخذ بهذه السنن والآراء التي هي نتاج الاجتهاد والاستنباط دون الاستناد إلى قول الرسول وفعله وتقريره ، وبين الأخذ بأقوال أئمّة أهل البيت الذين يروون عن آبائهم فأجدادهم عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فأيّهما أولى وأحق بالأخذ؟

ص : 574


1- تاريخ الخلفاء : 160.
2- طبقات ابن سعد : 5 / 172.
3- بحوث مع أهل السنة والسلفية : 234.

1. فهذا هشام بن سالم وحمّاد بن عثمان وغيرهما قالا : سمعنا أبا عبد الله - عليه السلام - يقول : «حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدّي ، وحديث جدّي حديث الحسين ، وحديث الحسين حديث الحسن ، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين - عليه السلام - ، وحديث أمير المؤمنين - عليه السلام - حديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وحديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قول الله عزّ وجلّ». (1)

2. روى جابر قال : قلت لأبي جعفر (الباقر - عليه السلام -) إذا حدثتني بحديث فأسنده لي.

فقال : «حدّثني أبي ، عن جدّي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، عن جبرئيل - عليه السلام - ، عن الله عزّ وجلّ ، وكلّما أحدّثك بهذا الاسناد».

فقال : يا جابر لحديث واحد تأخذه عن صادق خير لك من الدنيا وما فيها. (2)

3. وهذا عنبسة قال : سأل رجل أبا عبد الله - عليه السلام - عن مسألة فأجابه فيها ، إلى أن قال : «مهما أجبتك بشيء فهو عن رسول الله لسنا نقول برأينا من شيء».

4. وفي رواية لجابر عن أبي جعفر قال : «يا جابر انّا لو كنّا نحدّثكم برأينا وهو انا لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نحدّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله». إلى غير ذلك من الروايات. (3)

وعلى ضوء هذا

(فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). (4)

ص : 575


1- الكافي : 1 / 3 / 53.
2- أمالي المفيد : 42.
3- لاحظ كتاب جامع أحاديث الشيعة : 1 ، الباب الرابع من أبواب المقدّمات وما هو الحجّة في الفقه : 181 - 183 وقد أخذنا بالقليل عن الكثير.
4- الأنعام : 81.
7- مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه عند أهل السنّة
إجماع أهل المدينة

قد نقل انّ مالك بن أنس اعتمد في فقهه على أحد عشر دليلاً :

1. القرآن ، 2. السنّة ، 3. الإجماع ، 4. إجماع أهل المدينة ، 5. القياس ، 6. قول الصحابي ، 7. المصلحة المرسلة ، 8. العرف والعادة ، 9. سدّ الذرائع ، 10. الاستصحاب ، 11. الاستحسان.

غير أنّ الشاطبي في «الموافقات» أرجع هذه الأدلّة إلى أربعة ، وهي : الكتاب والسنّة والإجماع والرأي ، فإنّ إجماع أهل المدينة وقول الصحابي كاشفان عن السنّة فهما من شعبها ، والخمسة الباقية من شعب الرأي ومن وجوهه.

وعلى كلّ تقدير فقد ذهب مالك إلى حجّية اتّفاق أهل المدينة قائلاً : بأنّ المدينة دار الهجرة ، وبها نزل القرآن وأقام رسول الله وأقام صحابته ، وأهل المدينة أعرف الناس بالتنزيل وبما كان من بيان رسول الله للوحي ، وهذه ميزات ليست لغيرهم ، وعلى هذا فالحقّ لا يخرج عمّا يذهبون إليه ، فيكون عملهم حجّة يقدّم على القياس وخبر الواحد.

وقد أوجد مشربه هذا ضجة كبيرة بين معاصريه ، فردّ عليه فقيه عصره

ص : 576

اللّيث بن سعد في رسالة مفصّلة نقد فيها قسماً من آراء مالك التي أفتى بها نظراً لاتّفاق أهل المدينة عليها وإن كان موضع خلاف بينهم وبين من خرجوا من دار الهجرة إلى غيرها من أمصار الإسلام ، وهذه المسائل عبارة عن :

1. الجمع بين الصلاتين ليلة المطر.

2. القضاء بشهادة واحد ويمين صاحب الحق.

3. طلب المرأة مؤخّر صداقها حال قيام الزوجية.

4. الإيلاء ووقوع الطلاق به.

5. الحكم إذا ملّك الزوج امرأته أمرها.

6. ترتيب أعمال صلاة الاستسقاء.

7. زكاة أموال الخليطين.

8. المفلس وقد باعه رجل سلعة.

9. الإسهام في الجهاد لفرس واحد أو لفرسين.

وقد نقل ابن قيّم الجوزية رسالة الليث بن سعد إلى مالك بن أنس في كتاب «أعلام الموقعين عن رب العالمين». (1)

وقد سبقه في النقل أبو يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي (المتوفّى 277 ه) في كتابه «المعرفة والتاريخ» (2) وبسط الدكتور محمد يوسف موسى الكلام حول هذه المسائل من وجهة نظر الفقه السنّي ، فمن أراد التفصيل فليرجع إليه. (3)

ص : 577


1- أعلام الموقعين : 3 / 10094.
2- المعرفة والتاريخ : 1 / 697687.
3- تاريخ الفقه الإسلامي : 2 / 90 - 101.

ولمّا وصلت رسالة الليث إلى مالك ردّ عليها وكتب رسالة نقلها القاضي عياض (المتوفّى 544 ه) في كتابه «ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة اعلام مذهب مالك» وحيث إنّ هذه الرسالة موجزة ننقلها بنصها ، وكان الأحرى أن ننقل رسالة الليث أيضاً ، لكن إسهابها عاقنا عن إثباتها بنصّها :

رسالة مالك إلى الليث بن سعد

من مالك بن أنس إلى الليث بن سعد.

سلام عليكم!

فإنّي أحمد الله إليك الذي لا إله إلاّ هو. أمّا بعد عصمنا الله وإيّاك بطاعته في السر والعلانية ، وعافانا وإيّاك من كلّ مكروه. اعلم رحمك الله أنّه بلغني أنّك تفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندنا وببلدنا الذي نحن فيه وأنت في إمامتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك ، وحاجة من قبلك إليك ، واعتمادهم على ما جاءهم منك ، حقيق بأن تخاف على نفسك وتتبع ما ترجو النجاة باتّباعه ، فإنّ الله تعالى يقول في كتابه : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) (1) الآية. وقال تعالى : (فَبَشِّرْ عِبادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (2) الآية. فإنّما الناس تبع لأهل المدينة ، إليها كانت الهجرة ، وبها نزل القرآن ، وأحلّ الحلال وحرّم الحرام ، إذ رسول الله بين أظهرهم يحضرون الوحي والتنزيل ، ويأمرهم فيطيعونه ، ويسنّ لهم فيتّبعونه ، حتى توفّاه الله ، واختار له ما عنده صلوات الله عليه ورحمته وبركاته. ثمّ قام من بعده أتبع الناس له من أُمّته ممّن ولي الأمر من بعده ، فما نزل بهم ممّا علموا أنفذوه ، وما لم يكن

ص : 578


1- التوبة : 100.
2- الزمر : 17 - 18.

عندهم فيه علم سألوا عنه ، ثمّ أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك في اجتهادهم وحداثة عهدهم ، وإن خالفهم مخالف أو قال امرؤ غيره أقوى منه أو أولى ، ترك قوله وعمل بغيره ، ثمّ كان التابعون من بعدهم يسلكون تلك السبل ويتبعون تلك السنن ، فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهراً معمولاً به لم أر لأحد خلافه للذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لا يجوز لأحد انتحالها ولا ادّعاؤها ، ولو ذهب أهل الأمصار يقولون هذا العمل ببلدنا ، وهذا الذي مضى عليه من مضى منّا ، لم يكونوا من ذلك على ثقة ، ولم يكن لهم من ذلك الذي جاز لهم.

فانظر رحمك الله فيما كتبت إليك فيه لنفسك ، واعلم أنّي أرجو أن لا يكون دعاني إلى ما كتبت به إليك إلاّ النصيحة لله تعالى وحده ، والنظر لك والضن بك ، فانزل كتابي منك منزلته ، فإنّك إن فعلت تعلم أنّي لم آلك نصحاً. وفقنا الله وإيّاك لطاعته وطاعة رسوله في كلّ أمر وعلى كلّ حال. والسلام عليك ورحمة الله ، وكتب يوم الأحد لتسع مضين من صفر. (1)

ولم تكن رسالة مالك إلى الليث مقنعة لمن أتى بعده ، فقد رد عليه ابن حزم الظاهري قائلاً في إبطال قول من قال : الإجماع هو إجماع أهل المدينة ، فإنّ هذا قول لهج به المالكيون قديماً وحديثاً ، وهو في غاية الفساد ، لأنّ قولهم : إنّ أهل المدينة أعلم بأحكام رسول الله من سواهم كذب وباطل ، وإنّما الحقّ انّ أصحاب رسول الله وهم العالمون بأحكامه ، سواء بقى منهم من بقى بالمدينة ، أو خرج منهم من خرج لم يزد (2) الباقي بالمدينة بقاءه فيها درجة في علمه وفضله ولا حطّ (3) الخارج

ص : 579


1- ترتيب المدارك : 1 / 6564.
2- في المطبوع : لم يرد ، وهو تصحيف.
3- في المطبوع : لاحظ ، وهو تصحيف.

منهم عن المدينة خروجه عنها درجة من علمه وفضله.

وأمّا قولهم : شهدوا آخر حكمه وعلموا ما نسخ ممّا لم ينسخ ، فتمويه فاحش وكذب ظاهر ، بل الخارجون من الصحابة عن المدينة شهدوا من ذلك كالذي شهده المقيم لها منهم سواء ، كعلي وابن مسعود وأنس وغيرهم ، والكذب عار في الدنيا ونار في الآخرة.

فظهر فساد كلّ ما موّهوا به ، وبنوه على هذا الأصل الفاسد ، وأسموه بهذا الأساس المنهار. (1)

كما ردّ عليه الإمام الآمدي أيضاً بقوله : اتّفق الأكثرون على أنّ إجماع أهل المدينة وحدهم لا يكون حجّة على من خالفهم في حالة انعقاد إجماعهم ، خلافاً لمالك ، فإنّه قال : يكون حجّة.

ومن أصحابه من قال : إنّما أراد بذلك ترجيح روايتهم على رواية غيرهم.

ومنهم من قال : أراد به أن يكون إجماعهم أولى ، ولا تمتنع مخالفته.

ومنهم من قال : أراد بذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -.

والمختار مذهب الأكثرين ، وذلك انّ الأدلّة الدالّة على أنّ الإجماع حجّة ، ليست ناظرة إلى أهل المدينة دون سواهم لا سيما وانّهم لا يشكلون كلّ الأُمة ، فلا يكون إجماعهم حجة.

ثمّ ذكر من نصر مذهب مالك بالنص والعقل ، وذكر من الثاني ثلاثة أوجه ، ثمّ أخذ بالرد على جميع الوجوه ، وخرج بالنتيجة التالية :

لا يكون إجماع أهل الحرمين : مكة والمدينة ، والمصرين : الكوفة والبصرة ،

ص : 580


1- الإحكام : 4 / 587586. ولكلامه صلة ، فراجع.

حجّة على مخالفيهم ، وإن خالف فيه قوم لما ذكرناه من الدليل. (1)

إنّ اتّفاق أهل المدينة على حكم شرعي ليس بأقوى من إجماع علماء عصر واحد على حكم شرعي ، فكما أنّ الثاني لا يكون حجّة على المجتهد ولا يمكن أن يستدلّ به على الحكم الشرعي ، فهكذا اتّفاق أهل المدينة خاصة انّ عنصر الاتّفاق تم على تقليد بعضهم البعض ، فالاحتجاج بهذا الاتفاق ونسبته إلى الشارع بدعة وإفتاء بما لم يعلم أنّه من دين الله.

نعم لو كان اتفاقهم ملازماً للإصابة خاصة في العصور الأُولى ، فيؤخذ به لحصول العلم ، وأنّى للمجتهد إثبات تلك الملازمة ، أو لو كشف اتّفاقهم عن وجود دليل معتبر وصل إليهم ولم يصل إلينا يمكن أن يحتج به.

وحصيلة البحث : أنّ اتّفاق أهل المدينة أو اتّفاق المصرين : الكوفة والبصرة رهن وجود الملازمة العادية بين الاتّفاق وإصابته للواقع ، أو بين الاتّفاق ووجود دليل معتبر وإلاّ فلا قيمة لاتّفاق غير المعصوم قليلاً كان أو كثيراً.

ص : 581


1- الإحكام في أُصول الأحكام : 1 / 302 - 305.
8- مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه عند أهل السنّة
إجماع العترة

إجماع العترة (1)

كلّ من كتب في تاريخ الفقه الإسلامي وتعرض لمنابع الفقه والأحكام غفل عن ذكر أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - وحجّية أقوالهم فضلاً عن حجّية اتّفاقهم ، وذلك بعين الله بخس لحقوقهم ، وحيث إنّ المقام يقتضي الاختصار نستعرض المهم من الأدلّة الدالّة على حجّية أقوالهم فضلاً عن اتّفاقهم على حكم من الأحكام ، كقوله سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). (2)

والاستدلال بالآية على عصمة أهل البيت وبالتالي حجية أقوالهم رهن أُمور :

الأوّل : الإرادة في الآية إرادة تكوينية لا تشريعية ، والفرق بين الإرادتين واضحة ، فإنّ إرادة التطهير بصورة التقنين تعلّقت بعامّة المكلّفين من غير

ص : 582


1- وهو نفس تعبير الطوفي في رسالته. وإلاّ فالحجّة عندنا قول أحد العترة فضلاً عن إجماعهم وبما انّا قدمنا بعض الكلام في حجية قول العترة الطاهرة في الفصل الثاني من فصول جذور الاختلاف اختصرنا الكلام في المقام.
2- الأحزاب : 33.

اختصاص بأئمّة أهل البيت - عليهم السلام - كما قال سبحانه : (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ). (1)

فلو كانت الإرادة المشار إليها في الآية إرادة تشريعية لما كان للتخصيص والحصر وجه مع انّا نجد فيها تخصيصاً بوجوه خمسة :

أ: بدأ قوله سبحانه بحرف (إِنَّما) المفيدة للحصر.

ب : قدّم الظرف (عَنْكُمُ) وقال : (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) ولم يقل ليذهب الرجس عنكم لأجل التخصيص.

ج : بيّن من تعلّقت إرادته بتطهيرهم بصيغة الاختصاص ، وقال : (أَهْلَ الْبَيْتِ) أي أخصّكم.

د : أكد المطلوب بتكرير الفعل ، وقال : (وَيُطَهِّرَكُمْ) تأكيداً (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ).

ه : أرفقه بالمفعول المطلق ، وقال : (تَطْهِيراً).

كلّ ذلك يؤكد انّ الإرادة التي تعلّقت بتطهير أهل البيت غير الإرادة التي تعلّقت بعامة المكلّفين.

ونرى مثل هذا التخصيص في مريم البتول قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ). (2)

الثاني : المراد من الرجس كل قذارة باطنية ونفسية ، كالشرك ، والنفاق ، وفقد الإيمان ، ومساوئ الأخلاق ، والصفات السيئة ، والأفعال القبيحة التي يجمعها الكفر والنفاق والعصيان ، فالرجس بهذا المعنى أذهبه الله عن أهل البيت ، ولا شكّ انّ المنزّه عن الرجس بهذا المعنى يكون معصوماً من الذنب بإرادة منه سبحانه ،

ص : 583


1- المائدة : 6.
2- آل عمران : 42.

كيف وقد ربّاهم الله سبحانه وجعلهم هداة للأُمة كما بعث أنبياءه ورسله لتلك الغاية.

الثالث : المراد من أهل البيت هو علي وفاطمة وأولادهما ، لأنّ أهل البيت وإن كان يطلق على النساء والزوجات بلا شك ، كقوله سبحانه : (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ). (1) ولكن دلّ الدليل القاطع على أنّ المراد في الآية غير نساء النبي وأزواجه وذلك بوجهين :

أ: نجد انّه سبحانه عند ما يتحدّث عن أزواج النبي يذكرهن بصيغة جمع المؤنث ولا يذكرهن بصيغة الجمع المذكر ، فإنّه سبحانه أتى في تلك السورة (الأحزاب) من الآية 28 إلى الآية 34 باثنين وعشرين ضميراً مؤنثاً مخاطباً بها نساء النبي ، وإليك الإيعاز بها :

1. كُنْتُنّ ، 2. تُرِدْنَ ، 3. تَعالَيْنَ ، 4. أُمتّعكُنّ ، 5. أُسرّحْكُنَّ. (2)

6. كُنْتُنَّ ، 7. تُرِدْنَ ، 8. مِنْكُنَّ. (3)

9. مِنْكُنَّ. (4)

10. مِنْكُنَّ. (5)

11. لَسْتُنَّ ، 12. إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ، 13. فَلا تَخْضَعْنَ ، 14. قُلْنَ. (6)

15. قَرنَ ، 16. فِي بُيُوتِكُنَّ ، 17. تَبَرَّجْنَ ، 18. أَقِمْنَ ، 19. آتِينَ ، 20. أَطِعْنَ اللهَ. (7)

ص : 584


1- هود : 73.
2- الأحزاب : 28.
3- الأحزاب : 29.
4- الأحزاب : 30.
5- الأحزاب : 31.
6- الأحزاب : 32.
7- الأحزاب : 33.

21. اذكُرْنَ ، 22. في بُيُوتِكُنَّ. (1)

وفي الوقت نفسه عند ما يذكر أئمة أهل البيت في آخر الآية 33 يأتي بضمائر مذكّرة ويقول : (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ) ... (وَيُطَهِّرَكُمْ) فإنّ هذا العدول دليل على أنّ الذكر الحكيم انتقل من موضوع إلى موضوع آخر ، أي من نساء النبي إلى أهل بيته ، فلا بدّ أن يكون المراد منه غير نساءه.

ب : انّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أماط الستر عن وجه الحقيقة ، فقد صرّح بأسماء من نزلت الآية بحقّهم حتى يتعيّن المنظور منه باسمه ورسمه ولم يكتف بذلك ، بل أدخل جميع من نزلت الآية في حقّهم تحت الكساء ومنع من دخول غيرهم.

ولم يقتصر على هذين الأمرين (ذكر الأسماء وجعل الجميع تحت كساء واحد) بل كان كلّما يمرّ ببيت فاطمة إلى ثمانية أشهر يقول : الصلاة ، أهل البيت (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

وقد تضافرت الروايات على ذلك ، ولو لا خوف الإطناب لأتينا بكلِّ ما روي عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ولكن نذكر من كلّ طائفة نموذج.

أمّا الطائفة الأُولى : أخرج الطبري في تفسير الآية عن أبي سعيد الخدري قال ، قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - نزلت الآية في خمسة : فيّ وفي علي رضي الله عنه وحسن رضي الله عنه ، وحسين رضي الله عنه ، وفاطمة رضي الله عنها ، (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

وقد رويت روايات كثيرة في هذا المجال ، فمن أراد فليرجع إلى تفسير الطبري والدر المنثور للسيوطي.

ص : 585


1- الأحزاب : 34.

وأمّا الطائفة الثانية : فقد روى السيوطي وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : خرج رسول الله غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود ، فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما فأدخلهما معه ، ثمّ جاء علي فأدخله معه ، ثمّ قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

ولو لم نذكر فاطمة في هذا الحديث ، فقد جاء في حديث آخر ، حيث روى السيوطي ، قال : واخرج ابن جرير والحاكم وابن مردويه عن سعد ، قال : نزل على رسول الله الوحي ، فأدخل علياً وفاطمة وابنيهما تحت ثوبه ، قال : اللهمّ إنّ هؤلاء أهل بيتي.

وفي حديث آخر جاء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى فاطمة ومعه حسن وحسين ، وعلي حتى دخل ، فأدنى علياً وفاطمة فأجلسهما بين يديه وأجلس حسناً وحسيناً كلّ واحد منهما على فخذه ، ثمّ لفّ عليهم ثوبه وأنا مستدبرهم ، ثمّ تلا هذه الآية : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

وأمّا الطائفة الثالثة : فقد أخرج الطبري عن أنس أنّ النبي كان يمرّ ببيت فاطمة ستة أشهر كلّما خرج إلى الصلاة فيقول : الصلاة أهل البيت (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). (1)

والروايات تربو على أربع وثلاثين رواية ، رُوِيتْ من عيون الصحابة ؛ أبو سعيد الخدري ، أنس بن مالك ، ابن عباس ، أبو هريرة الدوسي ، سعد بن أبي وقاص ، واثلة بن الأسقع ، أبو الحمراء ، أعني : هلال بن حارث ، وأُمهات المؤمنين :

ص : 586


1- وللوقوف على مصادر هذه الروايات لاحظ : تفسير الطبري : 22 / 75 ، والدر المنثور : 5 / 198 - 199.

عائشة وأُمّ سلمة. (1)

فعلى ضوء هذا فأئمّة أهل البيت - عليهم السلام - معصومون من الذنب ، قولاً وفعلاً فيكون قولهم كاتفاقهم حجّة وإن غاب هذا الأمر عن أكثر إخواننا أهل السنّة.

نعم قد عدّ نجم الدين الطوفي (المتوفّى 716 ه) إجماع العترة الطاهرة من مصادر التشريع الإسلامي كما أنهاها إلى 19 مصدراً ، وإليك رءوسها :

1. الكتاب.

2. السنّة.

3. إجماع الأُمّة.

4. إجماع أهل المدينة.

5. القياس.

6. قول الصحابي.

7. المصلحة المرسلة.

8. الاستصحاب.

9. البراءة الشرعية.

10. العوائد.

11. الاستقراء.

12. سد الذرائع.

13. الاستدلال.

14. الاستحسان.

15. الأخذ بالأخف.

16. العصمة.

17. إجماع أهل الكوفة.

18. إجماع العترة.

19.إجماع الخلفاءالأربعة. (2)

ولا يخفى انّ بعضها متّفق عليه وبعضها مختلف فيه ، وانّ كثيراً ممّا عدّه من مصادر التشريع قابل للإدغام في البعض الآخر ، كما مرّ في بعض الفصول.

إلى هنا تمّ بيان ما هو مصادر التشريع عند أهل السنّة ، وإليك الكلام فيما بقي من جذور الاختلاف.

ص : 587


1- ورواه مسلم في صحيحه : 7 / 123122. ولاحظ جامع الأُصول لابن الأثير : 10 / 103.
2- رسالة الطوفي ، نشرها الأُستاذ عبد الوهاب خلاف في مصادر التشريع الإسلامي فيما يرجع إلى المقام ، ص 109.

الفصل السابع: هل الإجماع أصل برأسه أو حاك عن الدليل؟

اشارة

اتّفق الفريقان على حجّية الإجماع المحصّل واختلفوا في وجه حجّيته وسبب كونه من مصادر التشريع ؛ فالشيعة الإمامية على أنّه حجّة لأجل كشفه عن قول المعصوم أو دليل معتبر صدر عنه المجمعون ، وعلى هذا ليس الإجماع دليلاً برأسه فلو يتمّ كشفه عن قوله أو الدليل المعتبر فلا يعدّ حجّة ، وهذا بخلاف الإجماع عند أهل السنّة ، فله عندهم كيان مستقل في جعل المجمع عليه حكماً واقعيّاً ، فلا يحتاج في حجّيته رجوعه إلى الأُصول الثلاثة - أعني : الكتاب والسنّة والعقل - وإنّما هو مستقل في مقابلها.

نعم يشترط أن يكون له مستند كما يقول الخضري في «أُصول الفقه» إنّه لا ينعقد الإجماع إلاّ عن مستند».

وقال بعض المعاصرين : لو كان المستند هو المصلحة أو دفع المفسدة ، فالاتّفاق على حكم شرعي استناداً إلى ذلك الدليل يجعله حكماً شرعياً قطعياً ، كزيادة أذان لصلاة الجمعة في عهد عثمان لإعلام الناس

ص : 588

بالصلاة كي لا تفوتهم حتّى صار الأذان الآخر عملاً شرعياً إلهياً وإن لم ينزل به الوحي. (1)

وعلى هذا فاتّفاق الأُمّة على شيء سبب لصيرورة المجمع عليه حكماً شرعيّاً.

هذا وينبغي الكلام في موقفين :

الأوّل : مكانة الإجماع المحصّل عند الشيعة
اشارة

إنّ الأُمّة مع قطع النظر عن الإمام المعصوم بينهم ، غير مصونة من الخطأ في الأحكام ، فليس للاتّفاق والإجماع رصيد علمي ، إلاّ إذا كشف عن الحجّة بأحد الطريقين :

1. استكشاف قول المعصوم - عليه السلام - بالملازمة العقلية (قاعدة اللطف).

2. استكشاف قوله - عليه السلام - بالملازمة العادية (قاعدة الحدس).

أمّا الأمر الأوّل فحاصل النظرية انّه يمكن أن يستكشف عقلاً رأي الإمام - عليه السلام - من اتّفاق من عداه من العلماء على حكم وعدم ردعهم عنه نظراً إلى قاعدة اللطف التي لأجلها وجب على الله نصب الحجّة الموصوف بالعلم والعصمة في كلّ الأزمنة. فإنّ من أعظم فوائدها ، حفظ الحقّ وتمييزه عن الباطل كي لا يضيع بخفائه ويرتفع عن أهله أو يشتبه بغيره ، وتلقينُهم طريقاً يتمكّن العلماء وغيرهم من الوصول به إليه ومنعهم وتثبيطهم عن الباطل أوّلاً ، أو ردّهم عنه إذا أجمعوا عليه ثانياً. (2)

وحاصل هذا الوجه : انّ من فوائد نصب الإمام هو هداية الأُمّة وردّهم عن

ص : 589


1- الوجيز في أُصول الفقه : 49.
2- كشف القناع عن وجه حجّية الإجماع : 114.

الإجماع على الباطل وإرشادهم إلى الحقّ ، فلو كان المجمع عليه باطلاً كان على الإمام ردّهم عن ذلك الاتّفاق بوجه من الوجوه. وهذا ما يسمّى بقاعدة اللطف.

وأمّا الثاني - أي استكشاف قوله - عليه السلام - بالملازمة العادية - فيمكن تقريره بالنحوين التاليين :

الف : تراكم الظنون مورث لليقين

إنّ فتوى كلّ فقيه - وإن كان يفيد الظن ولو بأدنى مراتبه ، إلاّ أنّها - تعزَّز بفتوى فقيه ثان فثالث ، إلى حدّ ربما يحصل للفقيه - من إفتاء جماعة على حكم - القطعُ بالحكم ، إذ من البعيد أن يتطرّق البطلان إلى فتوى جماعة كثيرين.

نقل المحقّق النائيني عن بعضهم : إنّ حجّيته لمكان تراكم الظنون من الفتاوى إلى حدّ يوجب القطع بالحكم ، كما هو الوجه في حصول القطع من الخبر المتواتر. (1)

ب : الاتّفاق كاشف عن دليل معتبر

إنّ حجّية الاتّفاق ليس لأجل إفادتها القطع بالحكم ، بل لأجل كشفه عن وجود دليل معتبر وصل إليهم ولم يصل إلينا ، وهذا هو الذي اعتمد عليه صاحب الفصول وقال : يستكشف قول المعصوم عن دليل معتبر باتّفاق علمائنا الذين كان ديدنهم الانقطاع إلى الأئمّة في الأحكام وطريقتهم التحرّز عن القول بالرأي والاستحسان. (2)

ص : 590


1- فوائد الأُصول : 3 / 149.
2- الفصول : 2 / 248 ، الطبعة الحجرية.
الثاني : الإجماع أصل برأسه عند السنّة

قد عرفت أنّ الإجماع عند أهل السنّة برأسه بشرط أن يكون في مورد الإجماع مستند ظني ، بل يظهر من الآمدي انّه لا يشترط المستند بل يجوز صدوره عن توفيق بأن يوفقهم الله تعالى لاختيار الصواب. (1)

وعلى كلّ تقدير فالكلام في ثبوت مدّعاه وانّه أصل برأسه ، وقد استدل بآيات وروايات ، وقد أوضحنا حال الآيات في كتابنا «مصادر الفقه الإسلامي ومنابعه». (2) وانّها لا صلة للآيات بالإجماع.

كما أنّهم استدلّوا بروايات لا صلة لها بالمقصود ، مثل قولهم : «إنّ الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد». (3)

«يد الله مع الجماعة ، ولا يبالي الله بشذوذ من شذ». (4)

«لا تزال طائفة من أُمّتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم». (5)

«من خرج عن الجماعة أو فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه». (6)

«من فارق الجماعة ... ومات ، فميتة جاهلية». (7) إلى غيرها من الروايات أوردها الخضري في «أُصول الفقه». (8)

ص : 591


1- أُصول الفقه للخضري : 275.
2- مصادر السنة الإسلامي ومنابعه : 142 - 147 ؛ الوسيط : 32 - 35.
3- كنز العمال ، الحديث 1033.
4- سنن الترمذي : 4 / 466 ، كتاب الفتن ، الحديث 2167.
5- سنن أبي داود : 4 / 98 ، كتاب الفتن ، الحديث 4252.
6- المعجم الكبير : 10 / 289 ، ح 10687.
7- صحيح البخاري : 8 / 87 ، كتاب الفتن.
8- أُصول الفقه : 279 وبعدها.

فإنّ هذه الروايات لا مساس لها بحجّية الإجماع ، وإنّما الغاية منها الدعوة إلى الأُلفة والتجمع ، نظير قوله «اتّبعوا السواد الأعظم فانّه من شذّ شذّ في النار». (1)

والمهم في المقام ما استندوا عليه من قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لا تجتمع أُمّتي على الخطأ».

وقد ألّفنا رسالة في بيان حال الحديث وأوضحنا انّ أكثرها ضعيف ، وعلى فرض صحة السند فهو خبر غير متواتر فلا يفيد العلم ، ومعه لا يمكن أن يحتج به على مسألة أُصولية. (2)

يقول الطوفي في رسالته : إنّ هذا الخبر وإن تعدّدت ألفاظه ورواياته لا نسلم انّه بلغ رتبة التواتر المعنوي ، لأنّه إذا عرضنا هذا الخبر على أذهاننا ، وسخاء حاتم وشجاعة علي ونحوهما من المتواترات المعنوية ، وجدناها قاطعة بثبوت الرأي الثاني غير قاطعة بالأوّل ، فهو إذن في القوة دون سخاء حاتم وشجاعة علي ، وهما متواتران ، وما دون المتواتر ليس بمتواتر ، فهذا الخبر ليس بمتواتر لكنّه في غاية الاستفاضة. (3)

وقال تاج الدين السبكي (المتوفّى 771 ه) : أمّا الحديث فلا أشك انّه اليوم غير متواتر ، بل لا يصحّ ، أعني : لم يصحّ منه طريق على السبيل الذي يرتضيه جهابذة الحفاظ ، ولكنّي أعتقد صحّة القدر المشترك من كلّ طرقه ، والأغلب على الظن انّه «عدم اجتماعها عن الخطأ». (4)

هذا كلّه حول سندها وأمّا الدلالة ففيها :

ص : 592


1- مستدرك الحاكم : 1 / 115.
2- نشرت الرسالة في مصادر الفقه الإسلامي : 147 - 160.
3- مصادر التشريع الإسلامي ، رسالة الطوفي : 105.
4- رفع الحاجب عن ابن الحاجب : ورقة 176 ب ، المخطوط في الأزهر.

أوّلاً : فلأنّه جعل الملاك اتّفاق الأُمّة ، ومن المعلوم أنّ اتّفاقهم بعامّة أصنافهم حجّة إمّا برأسها أو لكشفها عن الدليل ، وأين هو من اتّفاق المجتهدين منهم في عصر واحد ، أو اتّفاق أهل الحديث كما في رأي مالك ، أو اتفاق أهل الحرمين (مكة والمدينة) أو أهل المصرين (الكوفة والبصرة) ، أو اتّفاق الشيخين ، أو اتّفاق الخلفاء الأربع؟! (1)

وثانياً : أنّ المنقول مسنداً هو لفظ «الضلالة» لا لفظ «الخطأ» أو «على غير هدى» وإنّما جاء الخطأ في غير الكتب الحديثية.

وعلى ذلك فالحديث على فرض ثبوته يرجع إلى المسائل العقائدية التي عليها مدار الهداية والضلالة ، أو ما يرجع إلى صلاح الأُمّة من وحدة الكلمة والاجتناب عن التشتت فيما يمس وحدة المسلمين.

وأمّا المسائل الفقهية فلا يوصف المصيب والمخطئ فيها بالهداية والضلالة كما لا يكون مصير الشاذ فيها هو النار أو لا يكون الشاذ نصيب الشيطان.

وعلى ذلك فالاستدلال به على حجّية الإجماع في المسائل الفقهية كما ترى.

ثالثاً : لو سلمنا سعة دلالة الحديث فالمصون من الضلالة هو الأُمّة بما هي أُمّة ، لا الفقهاء فقط ، ولا أهل العلم ، ولا أهل الحلّ والعقد ، وعلى ذلك ينحصر مفاد الحديث بما اتّفقت عليه جميع الأُمّة من العقائد والأُصول.

رابعاً : أنّ مصونية الأُمّة كما يمكن أن يكون سببه كمال عقلها ، يمكن أن يكون لوجود معصوم فيهم ، والرواية ساكتة عنه ، فلا يمكن أن يستدلّ بالرواية على أنّ الأُمّة مع قطع النظر عن المعصوم مصونة عن الخطأ ، بل لما ثبت في محله انّ الزمان لا يخلو من إمام معصوم تكون عصمة الأُمّة بعصمة الإمام - عليه السلام -.

ص : 593


1- أُصول الفقه للخضري : 270.

الفصل الثامن: الخلاف في مسألة التخطئة والتصويب

اشارة

اتّفقت الشيعة الإمامية على أنّ لله سبحانه في كلّ واقعة حكماً شرعياً أُمر الرسول بتبليغه بلا واسطة أو من خلال بيان خلفائه.

1. روى الكليني بسنده عن عمر بن قيس ، عن أبي جعفر - عليه السلام - قال : سمعته يقول : «إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأُمّة إلاّ أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله ، وجعل لكلّ شيء حدّاً وجعل عليه دليلاً يدلّ عليه ، وجعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّاً».

2. روى الكليني بسنده عن حمّاد ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : سمعته يقول : «ما من شيء إلاّ وفيه كتاب أو سنّة». (1)

إنّ الإمام الصادق - عليه السلام - يصف الجامعة التي هي كتاب علي ويقول : «فيها كلّ ما يحتاج الناس إليه ، وليس من قضية إلاّ وهي فيها حتّى أرش الخدش». (2)

ص : 594


1- الكافي : 1 / 59 ، الباب الرد إلى الكتاب والسنة ، الحديث 2 و 4.
2- الكافي : 1 / 241 ، باب فيه ذكر الصحيفة الجامعة ، الحديث 5.

إلى غير ذلك من الروايات الحاكية عن ذلك.

وعلى ضوء هذه الأحاديث ، اتّفقت الشيعة الإمامية على أنّ لله سبحانه في كلّ واقعة حكماً بيّنه الرسول مباشرة أو عن طريق خلفائه ، والمجتهد إمّا مصيب أو مخطئ ، فلذلك عرفت بالمخطئة أي لا يصوّبون آراء المجتهدين عامة في كلّ مسألة ، بل المصيب واحد وغيره مخطئ.

هذا ما لدى الشيعة ، وأمّا السنّة فقد اشتهروا بالتصويب فنقول :

لو ورد النصّ في حكم واقعة خاصة يبيّن حكمها فلا أظنّ أنّ أحداً يصف المجتهد بالتصويب ، بل المصيب واحد ، وغيره مخطئ.

فمسألة التصويب مختصّة بما إذا لم يكن في الواقعة نصّ ، كما نصّ به الغزالي في «المستصفى» وقسّم المصوبة إلى قسمين : أحدهما للأشاعرة والآخر لغيرهم.

يقول : إنّه ليس في الواقعة التي لا نصّ فيها حكم معيّن يُطلب بالظن ، بل الحكم يتبع الظن ، وحكم الله تعالى على كلّ مجتهد ما غلب على ظنه ، وهو المختار ، وإليه ذهب القاضي [الباقلاني].

وذهب قوم من المصوبة إلى أنّ في تلك الواقعة حكماً معيناً يتوجه إليه الطلب ، إذ لا بدّ للطلب من مطلوب ، لكن لم يكلف المجتهد إصابتَه ، فلذلك كان مصيباً وإن أخطأ ذلك الحكم المعيّن الذي لم يؤمر بإصابته. (1)

وربما ينسب القول الثاني في كتب الأُصول (2) إلى المعتزلة ، ويظهر من الغزالي فيما يأتي انّه خيرة الشافعي.

وإنّما عدل صاحب القول الثاني عن تصويب الأشاعرة ، لأجل توجّه الدور

ص : 595


1- المستصفى : 2 / 109.
2- فوائد الأُصول للكاظمي : 1 / 252.

إليه ، لأنّه إذا لم يكن لله سبحانه فيما لا نصّ فيه حكم معيّن فما معنى الطلب وبذل الجهد؟ فالطلب موقوف على وجود الحكم لله سبحانه ، والمفروض انّه تابع لرأي المجتهد.

وهذا بخلاف القول الثاني فالمفروض فيه : انّ فيه حكماً معيناً يتوجّه إليه الطلب لكن المجتهد غير مكلّف بإصابته ، فلذلك يكون مصيباً وإن كان قد أخطأ ذلك الحكمَ المعين الذي لم يؤمر بإصابته.

ثمّ إنّ الغزالي في «المستصفى» نسب التصويب بالمعنى الثاني إلى الشافعي وقال : أمّا المصوبة فقد اختلفوا فيه ، فذهب بعضهم إلى إثباته وإليه تشير نصوص الشافعي لأنّه لا بدّ للطالب من مطلوب ، وربّما عبروا عنه بأنّ مطلوب المجتهد الأشبه عند الله تعالى والأشبه معين عند الله. (1)

وقال الخضري : لكن المجتهد لم يكلّف بإصابته ، فلذلك كان مصيباً وإن أخطأ ذلك المعين الذي لم يؤمر بإصابته. (2)

قول ثالث في التصويب

ولمّا كان القول بإنكار الحكم الإلهي في الوقائع التي لا نصّ فيها ، يحبط من جامعية الإسلام في مجالي العقيدة والشريعة ، حاول بعض أهل السنّة تفسير التصويب بمعنى لا يخالف ذلك ، ومجمل ما أفاد : انّ القول بالتصويب ليس بمعنى نفي حكم الله في الواقع ، وانّ حكم الله تابع لرأي المفتي ، بل هو في قبال القول بالتأثيم وانّ المجتهد إذا أخطأ يأثم ، فصار القائل بالتصويب يعني نفي الإثم لا إصابة الواقع ، فعليه يصير النزاع في التصويب والتخطئة لفظياً.

ص : 596


1- المستصفى : 2 / 116.
2- أُصول الفقه للخضري : 336.

وعلى ضوء ذلك فالمراد من التصويب هو نفي القول بالإثم الذي أصرّ عليه بشر المريسيّ لا إصابة كلّ مجتهد للحق الملازم لنفي الحكم المشترك ، وكيف يمكن نسبة القول بالتصويب بمعنى نفي حكم الله في الواقعة مع أنّهم رووا في كتبهم عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر. (1)

وممّن جزم بالمعنى الثالث الشوكاني فقال : إنّ المجتهد لا يأثم بالخطإ ، بل يؤجر على الخطأ بعد أن يُوفي الاجتهاد حقّه ، ولم نقل انّه مصيب للحقّ الذي هو حكم الله في المسألة ، فإنّ هذا خلاف ما نطق به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في الحديث حيث قال - صلى الله عليه وآله وسلم - : «إن اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر».

فتلخص من ذلك انّ الأقوال في تخطئة المجتهد وتصويبه لا يتجاوز عن أربع.

1. انّ لله سبحانه في كلّ واقعة حكماً واقعياً بلّغه الرسول مباشرة أو غير مباشرة ، والمجتهد إمّا يصيبه أو يخطأه ، وهذا ما عليه الإمامية ، وهو مقتضى إكمال الدين.

2. ليس لله تعالى في الواقعة التي ليس فيها نصّ حكم معيّن. وهذا هو المنسوب إلى الأشاعرة واختاره الغزالي ، وقد أطال الكلام في تقريبه ودفع ما يورد عليه من الشبه ، وقد تصعّد وتصوب ولكنّه لم يتمكن من رفع الدور المتوجه إلى هذه النظرية.

3. انّ لله سبحانه في كلّ واقعة حكماً معيناً يتوجه إلى الطلب ، إذ لا بدّ

ص : 597


1- صحيح البخاري : 4 / 268 ؛ صحيح مسلم : 3 / 122 ؛ وسنن أبي داود : 3 / 307 ؛ المستدرك : 4 / 88

للطلب من مطلوب لكن المجتهد لم يكلّف إصابته ، فلذلك كان مصيباً وإن أخطأ. وهذا هو المنسوب إلى الإمام الشافعي وفي الكتب الأُصولية للمعتزلة كما مرّ. (1)

4. انّ المراد من التصويب هو رفع الإثم لا إصابة المجتهد ، وفي الحقيقة يتفق هو مع الإمامية في أنّ لله سبحانه في كلّ واقعة حكماً معيناً لكن خطأ المجتهد لا يستلزم الإثم.

وهناك قول خامس ، وهو : انّ المجتهد الذي أخطأ الدليل القطعي آثم غير فاسق ولا كافر. وهذا قول بشر المريسي ، ونسبه الغزالي والآمدي إلى ابن عليّة وأبي بكر الأصم ، وهؤلاء هم المؤثمة. (2)

وقد عرفت مقتضى الأدلّة هو التخطئة مطلقاً ، وأمّا الأجر مع التخطئة فهو رهن ثبوت الدليل على الأجر ولعلّه غير بعيد حسب ما مرّ.

وأمّا ما هو الحافز للقول بالتصويب بالمعنيين الأوّلين فيُكْمن في أمرين :

الأوّل : قلة النصوص بين أهل السنّة فاستنتج منها عدم الحكم.

يقول الغزالي : أمّا المسائل التي لا نصّ فيها فيعلم أنّه لا حكم فيها ، لأنّ حكم الله تعالى خطابُه ، وخطابه يعرف بأن يُسمع من الرسول ، أو يدلّ عليه دليل قاطع من نقل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أو سكوته ، فانّه قد يعرفنا خطاب الله من غير استماع صيغة ، فإذا لم يكن خطاب لا مسموع ولا مدلول عليه فكيف يكون فيه حكم؟ فقليل النبيذ إن اعتقد فيه كونه عند الله حراماً فمعنى تحريمه انّه قيل فيه لا تشربوه ، وهذا خطاب والخطاب يستدعي مخاطباً ، والمخاطب به هم الملائكة أو الجن أو الآدميون ، ولا بدّ أن يكون المخاطب به هم المكلّفون من الآدميين ، ومتى

ص : 598


1- فوائد الأُصول للكاظمي : 1 / 142.
2- المستصفى : 2 / 361.

خوطبوا ولم ينزل فيه نصّ ، بل هو مسكوت عنه غير منطوق به ولا مدلول عليه بدليل قاطع سوى النطق ، فإذن لا يعقل خطاب لا مخاطب به ، كما لا يعقل علم لا معلوم له وقتل لا مقتول له ، ويستحيل أن يخاطب من لا يسمع الخطاب ولا يعرفه بدليل. (1)

فاستنتج من عدم ورود النص في الصحاح والسنن والمسانيد ، عدم ورود النصّ من الشارع ، ولكنّه لو رجع إلى أحاديث أئمّة أهل البيت المروية عن النبي بأسانيد لا غبار عليها ، لوقف على النصّ في أكثر المسائل ووجود الإطلاقات والعمومات والعمل في غيره.

هذا ما لدى الأشاعرة.

الثاني : انّ الحافز عند الشافعي الذي ذهب إلى وجود الحكم في كلّ واقعة لله سبحانه ولكنّه لم يكلّف بإصابته هو وجود الإشكال في الجمع بين الحكم الواقعي عند الله سبحانه والأمارات الظنية التي ثبتت حجّيتها مع العلم ، وذلك لأنّ بعضها يخالف الحكم الواقعي المعيّن عند الله ، فلم يجد بدّاً لأجل الجمع بين الحكم الواقعي وحجّية هذه الأمارات بالقول بعدم تكليف المجتهد بإصابة الواقع وعندئذ يرفع اليد عن الأحكام الواقعية المعيّنة عند الله.

وهذا ما يعبّر عنه في علم الأُصول الإمامي بانقلاب الحكم الواقعي إلى ما في الأمارات والأُصول ، ولنا حول الجمع بين الحكم الواقعي ، ومفاد الأمارات والأُصول العملية بحوث رائعة لا يسع المجال لإيرادها ، ومن حاول التوسع فليرجع إلى المصدرين التاليين. (2)

ص : 599


1- المستصفى : 2 / 116.
2- المحصول في علم الأُصول : 3 / 110 ؛ إرشاد العقول إلى علم الأُصول : 3 / 112.

الفصل التاسع: انفتاح باب الاجتهاد عند الشيعة وانسداده عند السنّة

1. الاجتهاد لغة واصطلاحاً

الاجتهاد مأخوذ من الجُهد - بضم الجيم - بمعنى الطاقة والوسع ، وبفتحها بمعنى المشقة ، فإذا كان من باب الافتعال يراد به إمّا بذل الوسع والطاقة في طلب الشيء ، أو تحمّل المشقّة. (1)

وأمّا في اصطلاح الأُصوليّين فعرّفه الغزّالي بأنّه بذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة ، والاجتهاد التام هو أن يبذل الوسع بحيث يحسّ من نفسه بالعجز من مزيد الطلب. (2)

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّه مشتمل على الدور الواضح حيث أُخذ المعرّف في التعريف.

ص : 600


1- لاحظ لسان العرب : مادة جهد.
2- المستصفى : 2 / 350.

وثانياً : أنّ الغاية من الاجتهاد تارة يكون تحصيل العلم بالحكم الشرعي وأُخرى تحصيل الحجّة القطعية عليه ، وكون الشيء حجّة قطعية لا يلازم كون مفاده قطعياً وعلماً واقعياً بالحكم الشرعي ، كما في الخبر الواحد القائم على حكم من الأحكام ، فقد قام الدليل القطعي على حجّيته ، فهو حجّة قطعاً ومع ذلك لا يفيد العلم بالحكم الشرعي.

وأفضل التعاريف ما عرّفه الشيخ بهاء الدين العاملي في «زبدة الأُصول» وقال : بأنّه ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي من الأصل ، فعلاً أو قوّة قريبة من الفعل. (1)

وقوله : «فعلاً أو قوة» قيدان للاستنباط لا للملكة للزوم فعلية الملكة.

نعم يرد عليه : انّ الغاية من الاجتهاد أعمّ من استنباط الحكم الشرعي الفرعي أو الوظيفة الفعلية ، كالبراءة والاشتغال عند اليأس عن الدليل الاجتهادي.

2. الاجتهاد المطلق والاجتهاد في مذهب خاص

المراد من الاجتهاد المطلق هو أن يجتهد على وفق الأُصول والمعايير التي حصلها قبل الاستنباط واعتمد عليها في علم الأُصول وغيره وأثبت حجّيتها.

وبعبارة أُخرى : أن يستنبط الحكم الشرعي على وفق المنهاج الذي اختاره بنفسه ، والمراد من الاجتهاد في المذهب هو الاجتهاد على وفق الأُصول التي قررها إمام مذهبه ويلتزم بمنهاجه وأُصوله التي اعتبرها.

نعم ربما يخالف الواحد منهم مذهب إمامه في بعض الأحكام الفرعية ،

ص : 601


1- زبدة الأُصول : 150 ، المنهج الرابع في الاجتهاد والتقليد.

ومن هؤلاء الحسن بن زياد من الحنفية ، وابن القاسم وأشهب من المالكية ، والبويطي والمازني من الشافعية. (1)

ثمّ إنّ مهمة الصنف الثاني تتلخص في الأُمور التالية التي ذكرها «عبد الوهاب خلاف» في كتابه بالنحو التالي :

1. الاجتهاد في المسائل التي لا رواية فيها عن إمام المذهب وفق الأُصول المجعولة من قبله وبالقياس على ما اجتهد فيها من الفروع ، كالخصاف والطحاوي والكرخي من الحنفية ، واللخمي وابن العربي وابنُ رشيد من المالكية ، والغزالي والاسفراييني من الشافعية.

2. الاجتهاد الذي لا يتجاوز تفسير قول مجمل من أقوال أئمتهم أو تعيين وجه معين لحكم يحتمل وجهين فإليهم المرجع في إزالة الخفاء والغموض الذي يوجد في بعض أقوال الأئمّة وأحكامهم ، كالجصاص وأضرابه من علماء الحنفية.

3. اجتهاد أهل الترجيح بمعنى الموازنة بين ما روي عن أئمّتهم من الروايات المختلفة ، وترجيح بعض على بعض من جهة الرواية أو من جهة الدراية ، كأن يقول المجتهد منهم : هذا أصحّ رواية وهذا أولى النقول بالقبول ، أو هذا أوفق للقياس أو أرفق للناس ، ومن هؤلاء القدوري وصاحب الهداية وأضرابهما من علماء الحنفية. (2)

3. لزوم فتح باب الاجتهاد

إنّ الاجتهاد رمز خلود الدين وبقاء قوانينه ، لأنّه يحفظ غضاضة الدين

ص : 602


1- خلاصة التشريع الإسلامي : 342
2- خلاصة التشريع الإسلامي : 342.

وطراوته ، ويجدّده ويصونه عن الاندراس ، ويغني المسلمين عن موائد الأجانب ، بإعطائه كلّ موضوع ما يقتضيه من حكم.

أمّا لزوم فتح هذا الباب في أعصارنا هذه فلا يحتاج إلى البرهنة والدليل ، إذ نحن في زمن تتوالى فيه الاختراعات والصناعات ، وتستجدّ الحوادث التي لم يكن لها مثيل فيما غبر ، وتجعلنا هذه المجالات امام أحد أُمور :

إمّا بذل الوسع في استنباط أحكام الموضوعات الحديثة ، من الأُصول والقواعد الإسلامية أو اتّباع المبادئ الأُوروبية ، من غير نظر إلى مقاصد الشريعة ، وإمّا الوقوف من غير إعطاء حكم. (1)

وليس الاجتهاد من البدع المحدثة ، فانّه كان مفتوحاً في زمن النبوة وبين أصحابه - صلى الله عليه وآله وسلم - فضلاً عن غيرهم وفضلاً عن سائر الأزمنة التي بعده ، نعم غايته انّ الاجتهاد يومئذ كان خفيف المئونة جدّاً لقرب العهد وتوفر القرائن وإمكان السؤال المفيد للعلم القاطع ، ثمّ كلّما بعد العهد من زمن الرسالة وكثرت الآراء والأحاديث والروايات ، ربّما قد دخل فيها الدسّ والوضع ، وتوفرت دواعي الكذب على النبي ، أخذ الاجتهاد ومعرفة الحكم الشرعي ، يصعب ويحتاج إلى مزيد من المئونة واستفراغ الوسع. (2)

ولم يزل هذا الباب مفتوحاً عند الشيعة ، من زمن صاحب الرسالة إلى يومنا هذا ، وقد تخرج منهم الآلاف من المجتهدين والفقهاء ، قد أحيوا الشريعة وأنقذوها من الانطماس ، وأغنوا بذلك الأُمّة الإسلامية في كلّ مصر وعصر ، عن التطلّع إلى موائد الغربيّين ، وألّفوا مختصرات ومطوّلات لا يحصيها إلاّ الله سبحانه.

ص : 603


1- رسالة الإسلام : السنة الثالثة ، العدد الثاني عن مقال أحمد أمين المصري.
2- أصل الشيعة وأُصولها : 119.

وقد اقتدى الشيعة في فتح هذا الباب على مصراعيه في وجه الأُمّة بأئمّة دينهم وخلفاء رسولهم الذين حثُّوا شيعتهم بأقوالهم وأفعالهم على التفقّه في الدين والاجتهاد فيه ، وانّه «مَن لم يتفقه فهو اعرابي» ، وأرشدوهم إلى كيفية استخراج الفروع المتشابكة من الآيات والقواعد المتلقاة عنهم ، بالتدبّر فيهما ، وأمروا أصحابهم بالتفريع ، وقد بلغت عنايتهم بذلك إلى حد دفعهم إلى تنصيب بعض من يعبأ بقوله ورأيه ، لمنصب الإفتاء ، إلى غير ذلك.

غير انّ أهل السنّة قد أقفلوا باب الاجتهاد إلاّ الاجتهاد في مذهب خاص ، وبما انّ الفتاوى المنقولة عن الأئمّة مختلفة ، أخذ علماء كلّ مذهب يبذلون جهدهم لتشخيص ما هو رأي كلّ إمام في هذا الباب.

ولا أدري لما ذا أقفل هذا الباب المفتوح من زمن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وإن تفلسف في بيان وجهه بعض الكتّاب من متأخّريهم ، وقال : ولم يكن مجرّد إغلاق باب الاجتهاد باجتماع بعض العلماء وإصدار قرار منهم ، وإنّما كان حالة نفسية واجتماعية ، ذلك انّهم رأوا غزو التتر لبغداد وعسفهم بالمسلمين ، فخافوا على الإسلام ، ورأوا انّ أقصى ما يصبون إليه هو أن يصلوا إلى الاحتفاظ بتراث الأئمة ممّا وضعوه واستنبطوه. (1)

ولا يخفى ما في اعتذاره من الإشكال ، وسوف يوافيك بيان الأسباب الّتي أدّت إلى الاغلاق.

وأمّا زمان إقفاله فيظهر من المقريزي في خططه انّه أقفل عام 665 ه ، قال :

إنّه تولّى القاضي أبو يوسف القضاء من قبل هارون الرشيد بعد سنة 170 إلى ان صار قاضي القضاة ، فكان لا يولّي القضاء إلاّ من أراده ، ولمّا كان هو من

ص : 604


1- رسالة الإسلام : العدد الثالث من السنة الثالثة عن مقال أحمد أمين المصري.

أخصّ تلاميذ أبي حنيفة فكان لم ينصب للقضاء ببلاد خراسان والشام والعراق وغيرهما إلاّ من كان مقلّداً لأبي حنيفة ، فهو الذي تسبّب في نشر مذهب الحنفية في البلاد.

وفي أوان انتشار مذهب الحنفية في المشرق نشر مذهب مالك في إفريقية المغرب ، بسبب زياد بن عبد الرحمن ، فانّه أوّل من حمل مذهب مالك إليها ، وأوّل من حمل مذهب مالك إلى مصر سنة 160 ه - هو عبد الرحمن بن القاسم.

قال : ونشر مذهب محمد بن إدريس الشافعي في مصر بعد قدومه إليها سنة 198 وكان المذهب في مصر لمالك والشافعي إلى أن أتى القائد «جوهر» بجيوشِ مولاه المعز لدين الله أبي تميم معد الخليفة الفاطمي إلى مصر سنة 358 فشاع بها مذهب الشيعة حتّى لم يبق بها مذهب سواه (أي سوى مذهب الشيعة).

ثمّ إنّ المقريزي بيّن بدء انحصار المذاهب في أربعة فقال :

فاستمرت ولاية القضاة الأربعة من سنة 665 حتّى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام غير هذه الأربعة ، وعودي من تمذهب بغيرها ، وأُنكر عليه ، ولم يُولّ قاض ولا قُبلت شهادة أحد ما لم يكن مقلّداً لأحد هذه المذاهب ، وأفتى فقهاؤهم في هذه الأمصار في طول هذه المدة بوجوب اتّباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها والعمل على هذا ، إلى اليوم. (1)

وهذه الكلمة أعني : «وتحريم ما عداها» تكشف عن أعظم المصائب التي واجه بها الإسلام ، حيث إنّه قد مضى على الإسلام ما يقرب من سبعة قرون ومات فيها على دين الإسلام ما لا يحصي عددهم إلاّ ربهم ، ولم يسمع أحد من أهل القرنين الأوّلين اسم المذاهب أبداً ، وفيما بعد القرنين كان المسلمون بالنسبة إلى

ص : 605


1- راجع الخطط المقريزية : 2 / 333 و 334 و 344.

الأحكام الفرعية في غاية من السعة والحرية ، كان يقلّد عامّيهم من اعتمد عليه من المجتهدين ، وكان المجتهدون يستنبطون الأحكام عن الكتاب والسنّة على موازينهم المقررة عندهم في العمل بالسنّة النبوية ، فأي شيء أوجب في هذا التاريخ على عامّة المسلمين : «العامّي المقلّد والفقيه المجتهد» أن لا يخرج أحد في الأحكام الشرعية عن حد تقليد الأئمة الأربعة؟! وبأي دليل شرعي صار اتّباع أحد المذاهب الأربعة واجباً مخيراً ، والرجوع إلى ما ورائها حراماً معيناً مع علمنا بأحوال جميع المذاهب من بدئها وكيفية نشرها وتأثير العوامل في تقدّم بعضها على غيرها ، بالقهر والغلبة من الدولة والحكومة ، كما أوضح عن بعض ذلك ما ذكره ابن الفوطي في الحوادث الجامعة ، ص 216 في وقائع سنة 645 ، يعني قبل انقراض بني العباس بإحدى عشرة سنة في أيام المستعصم الذي قتله هولاكو ، سنة 656 ، فلاحظ ذلك الكتاب. (1)

وقد خلّف هذا الوضع أثراً سلبياً عجيباً ، وهو انّ انتصار كلّ حاكم من الحكام لمذهب من المذاهب ، صار سبباً لانقراض كثير من المذاهب ؛ كمذهب سفيان الثوري ، وسفيان بن عينية ، وعبد الله بن مبارك ، وابن عمر ، والأوزاعي ، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وليث بن سعد ، وداود بن علي ، وأبي ثور ، وابن جرير الطبري ، وغيرهم.

فقد كانت الدولة العباسية تثبّت دعائم مذهب أبي حنيفة ، فيولّى القضاء من كان متّبعاً لهذا المذهب ، ولمّا استولى الفاطميون على مصر نشروا المذهب الإسماعيلي ومنعوا التفقّه على مذهب أبي حنيفة ، لأنّه مذهب الدولة العباسية وسمحوا بالتفقّه على المذهب المالكي والشافعي والحنبلي.

ص : 606


1- رسالة الاجتهاد للطهراني : 104.
4. ما هي العوامل التي سببت الإغلاق؟
اشارة

ثمّ إنّ المهم هو كشف العوامل التي سبّبت إغلاق باب الاجتهاد. فقد ذكر الأُستاذ مصطفى أحمد الزرقاء عوامل ثلاثة نأتي بها بنصها :

أ. التعصّب المذهبي

فقد تعصّب التلاميذ لآثار أساتذتهم من الأئمّة المجتهدين الّذين أناروا العصر السابق ، وكشفوا ظلمات المسائل بنور عقولهم الساطع.

إنّ التعصّب لفكرة تحمل الإنسان على الجمود عليها والتعلّق بأهدابها ، ودعوة الناس إليها دون سواها ، وهكذا فعل أُولئك الذين جاءوا بعد الأئمة السابقين ، فقد عنوا بدراسة مذاهبهم ونشرها بدلاً من السير على منهاجها ، والاجتهاد كما اجتهد أصحابها ، فوثق الناس بالسابقين وشكّوا في أنفسهم.

ب. ولاية القضاء

فقد كان الخلفاء يختارون القضاة أوّل الأمر من المجتهدين لا من مقلّديهم ، ولكنّهم فيما بعدُ آثروا اختيارهم من المقلّدين ، ليقيدوهم بمذهب معين ، ويعيّنوا لهم ما يحكمون على أساسه بحيث يكونون معزولين عن كلّ قضاء يخالف ذلك المذهب ، ولأنّ بعض القضاة المجتهدين كان يتعرض الفقهاء المذهبيون لتخطئته ، فيكون حكمه مثاراً لنقد الناس لا سبب اطمئنان لهم.

وهكذا كان تقيّد القاضي بمذهب يرتضيه الخليفة سبباً في اكتفاء أكثر الناس به وأقبالهم عليه.

ص : 607

ج. تدوين المذاهب

إنّ تدوينها قد سهل على الناس تناولها ، والناس دائماً يطلبون السهل اليسير دون الصعب العسير ، وقد كان يدفع الناس إلى الاجتهاد في العصور السابقة ضرورة ملجئة إلى تعرّف أحكام حوادث وشئون جديدة لا يعرفون حكمها الشرعي.

فلمّا جاء المجتهدون في الأدوار السابقة ودوّنوا أحكام الحوادث التي عرضت والتي يحتمل عروضها ، صار الناس كلّما عرضت لهم مسألة وجدوا السابقين قد تعرّضوا لها ، فاكتفوا بمقالهم في شأنها ، فسدّت حاجتهم بما وجدوا ، فلا حافز يحفزهم إلى بحث جديد.

وساعد على ذلك ما للأقدمين من موقع علمي كبير جدير بالتقدير ، وما يكسبهم تفوقهم على مضي الزمن من إجلال ، وما يكون من عناية الأُمم بتكريم سلفها الصالح ليرتبط حاضرها بماضيها برباط متين.

لهذا كلّه انصرف الناس إلى التقليد ، اللهمّ إلاّ في تعرّف علل الأحكام المذهبية ، أو ترجيح بعض الآراء في المذهب نفسه على غيرها.

ويسمّى من أُوتي القدرة العلمية على ذلك : مجتهداً في المذهب ، أي انّه ليس مجتهداً مطلقاً ذا مذهب مستقل ، بل هو من أتباع إمام مجتهد ، ولكنّه ذو رأي معتبر في ضمن مذهب إمامه ، وفي البناء على أُصوله. (1)

هذه العوامل الثلاثة وإن سببت ركود الحركة الاجتهادية ، ولكنّها عوامل جانبية على ما يبدو ، بل هناك سبب آخر وهو المهم في شلِّ الحركة العلمية الفقهية ، وهو تأثير السياسة التي اتّخذها القادر بالله الخليفة العباسي للحد من

ص : 608


1- المدخل الفقهي العام : 1 / 179177.

نشاط الحركة الاجتهادية حيث تصدّى للخلافة ما يقرب عن 41 عاماً. (1) ساد في هذه الفترة الطويلة فكرة التقشّف والتنسّك وذم الفكر والاجتهاد في الدين ، ويعرف ذلك عن ما ذُكر من حالاته وأفعاله ، فقد عرفوا القادر بالله بأنّه : صنّف كتاباً ذكر فيه فضائل الصحابة على ترتيب مذهب أصحاب الحديث ، وأورد في كتابه فضائل عمر بن عبد العزيز ، وأفكار المعتزلة ، والقائلين بخلق القرآن ، وكان الكتاب يقرأ في كلّ جمعة في حلقة أصحاب الحديث بجامع المهدي ، ويحضر الناس سماعه ، ذكر محمد بن عبد الملك الهمداني انّ القادر بالله كان يلبس زي العوام ويقصد الأماكن المعروفة بالبركة ، كقبر معروف وتربة ابن بشار. (2)

وقد بلغ كبح جماح الفكر حداً انّه استتاب القادر بالله سنة 408 ه - فقهاء المعتزلة والحنفية ، فأظهروا الرجوع وتبرّءوا من الاعتزال ، ثمّ نهاهم عن الكلام والتدريس والمناظرة في الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام ، وأخذ خطوطهم بذلك وانّهم متى خالفوه حلّ بهم من النكال والعقوبة ما يتّعظ به أمثالهم ، وامتثل يمين الدولة وأمين الملّة أبو القاسم محمود أمرَ أمير المؤمنين ، واستنّ بسننه في أعماله التي استخلفه عليها في خراسان وغيرها في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبهة وصلبهم وحبسهم ونفاهم ، وأمر بلعنهم على منابر المسلمين ، وإبعاد كلّ طائفة من أهل البدع وطردهم عن ديارهم ، وصار ذلك سنّة في الإسلام. (3)

فإذا كان هذا حال أمير المؤمنين وحال وزيره في أصقاع كبيرة من الأرض

ص : 609


1- بويع بالخلافة عام 381 ه - وتوفّي عام 422 ه. لاحظ المنتظم : 14 / 353 و 15 / 217.
2- المنتظم : 14 / 354.
3- المنتظم : 15 / 125 - 126.

كخراسان ، فكيف يستطيع أيّ متكلم بارع أو فقيه متضلّع أن يفكّر في تجديد الهيكلية الفقهية أو العقائدية ، أو يطرح وجهات نظره الخاصة ، إذ لا يؤمن من أن يؤخذ باتّهام مخالفته لأهل السنّة والجماعة ، فينكل به أو يحبس أو يصلب على أعواد المشانق؟!

وقد مضى انّه كتب كتاباً عرف باسم «الاعتقاد القادري» ، وكأنّه وحي منزل يجب أن يقرأ في كلّ جمعة ، وقد امتد ذلك طول خلافته الطويلة ، ومع أنّه توفّي عام 422 ه ، ولكن السياسة التي ابتدعها للدولة دامت بعد موته في خلافة ابنه القائم بأمر الله ، وهذا هو ابن الجوزي يذكر في حوادث عام 433 ه - انّه قرأ الاعتقاد القادري في الديوان ، وحضر الزهّاد والعلماء ، وممّن حضر الشيخ أبو الحسن علي بن عمر القزويني ، فكتب خطه تحته قبل أن يكتب الفقهاء ، وكتب الفقهاء خطوطهم فيه : إنّ هذا اعتقاد المسلمين ومن خالفه فقد فسق وكفر ، ثمّ ذكر نص الاعتقاد القادري. (1)

ويقول في آخره : هذا هو قول أهل السنّة والجماعة الذي من تمسّك به كان على الحق المبين ، وعلى منهاج الدين ، والطريق المستقيم ، ورجا به النجاة من النار ودخوله الجنة. (2)

وقد ذكر عبد الوهاب خلاف في «خلاصة التشريع الإسلامي» عوامل أربع ربما تتداخل بعض ما ذكره فيما نقلناه عن الأُستاذ مصطفى أحمد الزرقاء ، فمن أراد التفصيل فليرجع إلى «خلاصة التشريع الإسلامي». (3)

ص : 610


1- المنتظم : 15 / 279 ، حوادث سنة 433 ه.
2- المنتظم : 15 / 281.
3- خلاصة التشريع الإسلامي : 341 وما بعدها.
5. اجتهاد الشيعة اجتهاد مطلق

إنّ اجتهاد فقهاء الشيعة من أوّل يومهم ، اجتهاد مطلق ، وكلّ مجتهد ، يجتهد حسب الميزان والمنهاج الذي انتخبه.

لكن يظهر من الشيخ أبي زهرة انّ اجتهاد الشيعة ، من قبل الاجتهاد المنتسب (الاجتهاد في مذهب خاص) ، وذلك لأنّ اجتهادهم حسب ما رسمت لهم المناهج من بيان أحكام النسخ والعموم ، وطريق الاستنباط والتعارض بين الأخبار وحكم العقل وإن لم يكن نصّ ، وكلّ هذا يقتضي أن يطبق في اجتهاده ، لا أن يرسم ويخطِّط ، فهو يسير في اجتهاده على خط مرسوم لا يعدوه ولا يبتعد عنه يمنة ولا يسرة ، وبهذا النظر يكون في درجة المجتهد المنتسب. (1)

يلاحظ عليه بأمرين :

أوّلاً : أنّ قسماً من الخطط التي يسر عليها مجتهد الشيعة ومستنبطهم ، أمر حصّله من الكتاب والسنّة النبوية القطعية والسيرة المستمرة إلى عهد الرسول والعقل الحاسم إلى غير ذلك من الأُمور التي تكون السنة والشيعة أمامها سواء.

وثانياً : أنّ الخطط الكلّية التي أخذوها عن أئمّة أهل البيت انّما وصلت إليهم عن النبي ، فهم حفظة سنّة النبي وعيبة علمه ، وأعدال الكتاب وقرناؤه ، معصومون من الضلال والخطأ كنفس القرآن من دون أن يكونوا أنبياء ، وهم يصدرون من عين صافية ، لا كدر فيها ، ومن أخذ عنهم فقد صدر أيضاً عن عين صافية. غير أنّ أبا زهرة زعم انّ أئمّة أهل البيت ، مجتهدون كالأئمّة الأربعة أو غيرهم ، لهم آراء وتفكّرات ، شأن كلّ عالم مفكّر ، ورتّب على ذلك بأنّ اجتهاد فقهاء

ص : 611


1- الإمام الصادق - عليه السلام - : 540.

الشيعة اجتهاد في مذهب وليس اجتهاداً مطلقاً ......... لكنّه زعم خاطئ ، يضاد كلماتهم وإرشاداتهم ، كما مرّ في صدر البحث فما رسموا من الخطوط ، والضوابط ، فإنّما هو مقتبس من أحاديث الرسول ، وكلماته رواها كابر عن كابر.

(الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات)

نحمده سبحانه ونشكره ونستعين به ونصلّي على

خاتم أنبيائه وخلفائه الطاهرين

فرغ المؤلّف من تبييض هذه الأوراق

عشية يوم العشرين من شهر رمضان المبارك

من شهور عام 1423 ه

ص : 612

فهرس محتويات الكتاب

المسائل الخلافيّة ودورها في الاستنباط ...... 5

الكتب المؤلّفة في الخلافيّات من السنة...... 7

الكتب المؤلّفة في الخلافيّات من الشيعة..... 9

ما هو السبب لاختلاف فقهاء السنة فيما بينهم...... 11

ما هو سبب الاختلاف بين الفقهين: الشيعي والسني... 11

الفتوى التاريخية للإمام الشيخ الشلتوت... 16

(13)

الخمس في الكتاب والسنّة

الغنيمة مطلق ما يفوز به الإنسان.... 19

ورود الآية في مورد الغنائم الحربيّة غير مخصص..... 23

وجوب الخمس في الركاز من باب الغنيمة...... 23

كلام أبي يوسف في المعدن والركاز...... 27

ص : 613

السنة النبوية والخمس في أرباح المكاسب ..... 30

إيضاح الاستدلال على تعلق الخمس بالأرباح ..... 33

(14)

مواضع الخمس

في القرآن الكريم

الخمس حسب تنصيص الآية يقسم على ستة أسهم... 39

مواضع الخمس في السنة.... 41

اسقاط حقّ ذي القربى بعد رحيل الرسولصلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم.... 43

اسقاط سهم ذي القربى كان اجتهاداً تجاه النصّ... 44

(15)

الاشهاد على الطلاق

دلالة الآية على لزوم الإشهاد في صحة الطلاق ... 52

تصريح علمين من أهل السنة على لزوم الإشهاد في صحّة الطلاق ... 53

رجوع الاشهاد في الآية إلى الطلاق دون الرجعة.... 55

رسالة الشيخ أحمد محمد شاكر إلى الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في رجوع الاشهاد إلى الطلاق والرجعة معا 58

إجابة الشيخ كاشف الغطاء على رسالته...... 59

ص : 614

(16)

الطلاق ثلاثاً دفعة واحدة

بصيغة أو ثلاث صيغ

مضاعفات تصحيح الطلاق ثلاثاً دفعة واحدة..... 63

نقل كلام الشيخ أحمد محمد شاكر في الموضوع..... 64

أقوال الفقهاء في الطلاق ثلاثاً في مجلس واحد .... 66

دراسة الآيات الواردة في المقام ... 69

تفسير قوله:(فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)... 71

1. الاستدلال على بطلان الطلاق ثلاثاً بقوله: (الطلاق مرّتان).... 76

2. الاستدلال على البطلان بقوله(فإمساك بمعروف أو تسريح باحسان) 81

3. الاستدلال على البطلان بقوله(فطلّقوهنّ لعدتهنّ)..... 83

4. الاستدلال على البطلان بقوله : (لعل الله يحدث بذلك أمراً)...... 84

الاستدلال على بطلان الطلاق ثلاثاً عن طريق السنّة ...... 84

استدلال القائل بصحّة الطلاق ثلاثاً بالسنة والإجماع ونقده ..... 86

اجتهاد الخليفة تجاه النصّ ...... 91

تبريرات لحكم الخليفة ..... 94

1. نسخ الكتاب بالإجماع الكاشف عن النصّ .... 95

2. تعزيرهم على ما تعدّوا به حدود اللّه.... 96

3. تنفيذ الطلاق ثلاثاً للحد من الكذب ..... 99

ص : 615

4. تغير الأحكام بالمصالح..... 101

5. تفسير تغيّر الأحكام حسب مقتضيات الزمان..... 103

جزاء الانحراف عن الطريق المهيع ... 108

(17)

الطلاق المعلّق

تقسيم الطلاق إلى منجَّز ومعلَّق ... 115

أدلّة القائل ببطلان الطلاق المعلق: ..... 117

1. الطلاق المشروط غير مسنون ... 117

2. مقتضى الاستصحاب بقاء الزوجية ...... 117

3. الطلاق المعلّق خارج عن القسمين(فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) 119

4. تلك المطلقة أشبه بالمعلقة ...... 119

5. إجماع أئمّة أهل البيت على البطلان ..... 120

أدلّة القائلين بالصحة ..... 121

1. إطلاق قوله: الطلاق مرّتان ونقده (الطلاق مرّتان) .... 121

2. إطلاق قوله: المسلمون عند شروطهم ونقده ...... 122

(18)

الحلف بالطلاق

ليس للطلاق إلاّ صيغة واحدة ..... 127

ص : 616

تسويد الصفحات الطوال حول أقسام الحلف بالطلاق ... 128

بطلان الحلف بالطلاق عند البعض من أهل السنة ... 129

بطلان الطلاق بالحلف به عند الإمامية وأدلته ... 132

دليل القائلين بالصحّة ونقده ...... 133

خاتمة المطاف: هل تتعلّق الكفّارة إذا حنث ..... 135

(19)

الطلاق في الحيض والنفاس

أو في طهر جامعها

تقسيم الطلاق إلى سنّي وبدعيّ ... 139

تفسير شرطية الطهر في الطلاق السني ...... 140

نقل كلمات الفقهاء ..... 140

ما هو المراد من القرء في قوله (والمطلّقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)... 141

عدم احتساب الحيضة على فرض الطلاق فيها من العدة عند الجميع ... 142

الاستدلال بالكتاب على شرطيّة الطهر ..... 143

الاستدلال بالسنة على شرطيّة الطهر ...... 145

الروايات الواردة حول طلاق عبد اللّه بن عمر على طوائف ثلاث ...... 146

1. ما دلّ على عدم الاعتداد بالطلاق في الحيض .... 146

ص : 617

2. ما يتضمن التصريح باحتسابها ...... 146

3. ما ليس فيه تصريح بأحد الأمرين.... 147

معالجة الصور المتعارضة ... 148

حكم الطلاق في طهر المواقعة ..... 151

دلالة الكتاب على عدم صحّة الطلاق في ذلك الطهر ... 152

(20)

الوصية للوارث إذا لم تتجاوز الثلث

اتّفاق الإمامية على انّ الوصية للوارث جائزة ..... 157

اتّفاق أهل السسنة إلاّ القليل على انّه لا وصية للوارث إلاّ إذا أجاز سائر الورثة 158

عرض المسألة على الكتاب والسنّة ودلالتها على نفوذ الوصية ..... 160

هل آية الوصية منسوخة ب آية المواريث ونقدها ..... 160

هل آية الوصية منسوخة بالسنة ونقدها ..... 166

دراسة سند رواية أبي أمامة الباهلي وجود مجاهيل فيه ..... 167

ملاحظات على تجويز نسخ الآية بالسنة .... 177

(21)

المسلم يرث الكافر دون العكس

توريث الكافر من المسلم باطل إجماعاً ...... 183

ص : 618

توريث المسلم من الكافر صحيح عند الإمامية وبيانه ضمن أُمور ... 184

استعراض كلمات الفقهاء ..... 185

الكتاب حجّة قطعية لا يعدل عنه إلاّ بدليل قطعي ...... 187

أدلّة القائلين بإرث المسلم من الكافر ... 189

أدلّة القائلين بعدم التوريث ونقدها ..... 200

(22)

الميراث بالقرابة

أو بالتعصيب

العَصَبة في اللغة والاصطلاح ...... 211

أقسام العصبة ... 212

أقسام نسبة الفروض مع مجموع التركة ...... 213

إيضاح التوريث بالتعصيب .... 214

ضابطة الميراث عند الفريقين ... 215

عدم الثمرة فيما إذا كان قريب مساو لا فرض له .... 216

ترتب الثمرة إذا لم يكن قريب مساو لا فرض له ..... 218

دراسة أدلة نفاة التعصيب من الكتاب ..... 220

دراسة أدلة نفاة التعصيب من السنة ... 230

الأحاديث المأثورة من أئمّة أهل البيت في نفي التعصيب ...... 232

دراسة أدلّة القائلين بالتعصيب من الكتاب ونقدها ... 235

ص : 619

دراسة أدلّة القائلين بالتعصيب من السنة ونقدها .... 238

مضاعفات القول بالتعصيب ...... 247

(23)

العول في الإرث

العول لغة واصطلاحاً .... 251

العول تاريخياً .... 252

الأقوال المطروحة في العول ..... 255

ذكر نماذج من صور العول .... 257

أدلة القائلين بصحّة العول .... 260

1. قياس الحق بالدين ونقده ... 260

2. قياس الإرث بالوصية ونقده .... 261

3. تقديم البعض على البعض ترجيح بلا مرجح ونقده ..... 262

4. قول علي عليه السَّلام في المسألة المنبرية وإيضاحه...... 263

أدلّة القائلين ببطلان العول ... 266

استلزام العول نسبة الجهل أو العبث إلى المشرّع ...... 266

استلزامه التناقض والاغراء بالجهل ...... 267

استلزامه تفضيل النساء على الرجال .... 268

تصريح أئمّة أهل البيت على بطلان العول ...... 269

ص : 620

أُسلوب علاج العول من منظار روائي .... 69

ما الفرق بين البنت وكلالة الأُم .... 272

نكات في المقام ...... 275

(24)

في التقية

اعمال سياسة القمع والاستبداد في حقّ الشيعة عبر القرون .... 281

التقية لغة واصطلاحاً ..... 286

التقية تاريخياً .... 289

التقية في عصر الكليم ... 289

التقية في عصر الرسول ... 290

التقية بعد رحيل الرسول ...... 291

تقية المحدثين في مسألة خلق القرآن في عصر المأمون ...... 292

محنة الشيعة في العصر الأموي ..... 296

محنة الشيعة في العصر العباسي .... 298

محنة الشيعة في العصرين: الأموي والعثماني ...... 302

كلام العلاّمة هبة الدين الشهرستاني حول التقية ..... 304

حصيلة البحث ..... 305

الغاية من تشريع التقية ... 307

التقية في الكتاب العزيز ...... 310

ص : 621

التقية في السنة النبوية .... 317

التقية في كلمات العلماء ...... 318

مجال التقية هو الأُمور الشخصية ...... 319

أقسام التقية .... 321

شبهات حول التقية ...... 325

الآثار البنّاءة للتقية ...... 333

موقف أئمّة أهل البيت من التقية ...... 337

في اجزاء العمل الموافق للتقية عن الإعادة والقضاء .... 340

حكم التقية لغاية المداراة ...... 348

خاتمة المطاف

في جذور الاختلاف بين الفقهين

وفيه فصول:

الفصل الأوّل: أئمّة أهل البيت هم المرجع العلمي بعد النبي صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم 355

أئمّة الشيعة أوصياء الرسول وخلفاؤه ... 355

حجّية أقوال العترة الطاهرة .... 355

مصادر علومهم ..... 360

1. السماع عن رسول اللّه ..... 361

2. كتاب علي عليه السَّلام ... 361

3. الاستنباط من الكتاب والسنة ...... 363

ص : 622

4. الاشراقات الإلهية وكونهم محدَّثين .... 365

عصمة الأئمة الإثني عشر .... 370

عصمة الإمام في الكتاب العزيز ... 374

الفصل الثاني: الصحابة والمرجعية العلمية بعد رحيل الرسول ... 377

1. الافتاء بالرأي مكان الافتاء بالكتاب والسنة ...... 378

2. اعتراف الصحابة بقصور علمهم بالشريعة .... 383

3. قلّة معرفتهم بالأحكام ..... 386

4. اختلافهم فيما يكثر الابتلاء به ..... 390

5. المرجع العلمي وأصناف الصحابة .... 393

6. المرجع العلمي وعدم تدوين الحديث وتفرق الصحابة ... 397

الفصل الثالث: حجّية العقل في مجالات خاصة ...... 401

العقل أحد الأدلة الأربعة عندنا مصرّ ونقل كلام ابن إدريس ... 403

1. حكم العقل في مجال التحسين والتقبيح ...... 405

الآثار المرتبة على القول بالتحسين والتقبيح ... 408

2. حكم العقل في مجال الملازمات... 411

3. حكم العقل في مجال تنقيح المناط ... 414

4. حكم العقل في مجال لدرك المصالح والمفاسد ... 415

الفصل الرابع: التشريع تابع للمصالح والمفاسد ... 417

إنكار الأشاعرة تبعية أفعاله سبحانه بالأغراض... 418

ص : 623

إنكارهم تبعية الأحكام بالمصالح والمفاسد ... 418

مرجحات باب التزاحم ... 420

الفصل الخامس: ما هو المرجع فيما لا نصّ فيه في الفقه الشيعي ... 425

المرجع فيما لا نصّ فيه في الفقه الشيعي: الأُصول العملية ..... 426

الأُصول العلمية عبارة عن البراءة والاشتغال والتخيير والاستصحاب ..... 427

الفصل السادس: مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه عند أهل السنّة ..... 429

1. القياس

القياس لغة واصطلاحاً ... 432

أركان القياس وإمكان العمل به .... 435

أقسام القياس والفرق بين علة الحكم وحكمته ... 437

حكم القياس في منصوص العلة ... 438

قياس الأولوية وتنقيح المناط ... 441

المتشابهان غير المتماثلين... 442

تخريج المناط بالسبر والتقسيم ...... 443

تخريج المناط بالسبر والتقسيم يفيد الظن .... 447

الشكّ في الحجّية يساوق القطع بعدمها ..... 450

الاستدلال على حجّية القياس ب آيات سبع لا دلالة لها على حجّية القياس 453

الاستدلال بالسنة ... 464

ص : 624

دراسة حديث معاذ بن جبل سنداً ودلالة ... 466

الصور المختلفة لحديث معاذ بن جبل ...... 470

الاستدلال بحديث ابن عمر وحديث ابن عباس ونقدهما ...... 473

الاستدلال بحديث الاعرابي ... 476

الاستدلال بإجماع الصحابة ونقده ..... 478

الاستدلال بدليل العقل ...... 483

القياس في كلمات أئمّة أهل البيت عليهم السَّلام..... 488

القياس في كلمات الصحابة والتابعين.... 492

2. الاستحسان

تعريف الاستحسان بتعاريف مختلفة .... 494

ما هو المراد من الاستحسان: فيه آراء ...... 494

العمل بالرأي والظن ..... 495

العدول من قياس إلى قياس أقوى ...... 495

العدول من مقتضى قياس جلي إلى قياس خفي ...... 496

العدول من مقتضى القياس بدليل ...... 498

الاستحسان والعمل بأقوى الدليلين .... 500

الاستحسان والأخذ بالعرف ...... 501

الاستحسان والمصلحة ... 501

العدول عن مقتضى الدليل إلى ما يستحسنه المجتهد ...... 502

ص : 625

الاستدلال على حجّية الاستحسان بوجوه ضعيفة .... 505

3. الاستصلاح أو المصالح المرسلة

تفسير مفردات العنوان ... 510

الاستصلاح وتقديم المصلحة على النص .... 512

الاستصلاح وتقييد النصّ بالمصلحة .... 513

الاستصلاح وانشاء الحكم فيما لا نصّ فيه على وفق المصلحة ..... 515

ما هو السبب لعدّ الاستصلاح من مصادر التشريع ...... 517

الاستصلاح ليس دليلاً مستقلاً ... 519

4. سدّ الذرائع

سدّ الذرائع لغة واصطلاحاً .... 524

أدلّة القاعدة من الكتاب ..... 527

أدلّة القاعدة من السنة ... 529

أدلة القاعدة من الإجماع والعقل ... 530

مكانة القاعدة في علم الأُصول .... 531

دراسة بعض الفروع المبنيّة عليها ... 532

5. فتح الذرائع

الاستدلال على جواز فتح الذرائع بالكتاب ونقده .... 537

الاستدلال على فتح الذرائع بالسنة ونقده ...... 539

القول الحاسم في فتح الذرائع ...... 540

ص : 626

6. قول الصحابي

قول الصحابي حجّة إذا أسنده إلى الرسول... 547

رأي الصحابي أو القول المردد بين النقل والرأي ليسا بحجّة .... 547

الحجّة هو الأعم من القول والرأي عند ابن القيم ..... 551

وجود المخالفة بين الصحابة ... 553

أحاديث الاقتداء بالصحابة وتفسيرها ...... 555

رؤيا الصحابة والتشريع ... 559

عود إلى بدء .... 562

استدلال الشاطئ بوجوه أربعة على حجّية رأي الصحابي ونقدها ... 563

7. إجماع أهل المدينة

اختلاف مالك والليث في حجّية إجماع أهل المدينة... 576

رسالة الليث إلى مالك في الموضوع ..... 578

8. إجماع العترة الطاهرة

أئمّة أهل البيت معصومون بتنصيص القرآن الكريم ...... 583

الفصل السابع:هل الإجماع أصل برأسه أو حاك عن الدليل ... 588

مكانة الإجماع المحصّل عند الشيعة ..... 589

الإجماع عند أهل السنة أصل برأسه .... 591

الاستدلال برواية لا تجتمع أُمتي على خطأ ونقده .... 592

ص : 627

الفصل الثامن: في مسألة التخطئة والتصويب ... 594

التصويب وأقسامه ... 595

ما هو السبب للقول بالتصويب عند أهل السنة ..... 598

الفصل التاسع: انفتاح باب الاجتهاد عند الشيعة وانسداده عند أهل السنة . 600

الاجتهاد لغة واصطلاحاً ...... 600

الاجتهاد المطلق والاجتهاد في مذهب خاص .... 601

لزوم فتح باب الاجتهاد ...... 602

مبدأ غلق باب الاجتهاد ...... 605

ما هي العوامل التي سبّبت الاغلاق..... 607

اجتهاد الشيعة اجتهاد مطلق ...... 611

الحمدالله ربّ العالمين

ص : 628

المجلد 3

هویة الکتاب

سرشناسه : سبحاني تبريزي جعفر، - 1308

عنوان و نام پديدآور : الانصاف في مسائل دام فيها الخلاف

تاليف جعفر السبحاني

مشخصات نشر : قم موسسه الامام الصادق ع ، 1423ق = 1381.

شابك : 964-357-047-9 (ج 1)

يادداشت : عربي يادداشت : ج 3 (1424ق = )1382

يادداشت : كتابنامه

موضوع : فقه تطبيقي

شناسه افزوده : موسسه امام صادق ع

رده بندي كنگره : BP169/7 /س2الف 8 1381

رده بندي ديويي : 297/324

شماره كتابشناسي ملي : م 81-19943

تنظیم متن دیجیتال: میثم حیدری

ص : 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص : 2

الانصاف

في مسائل دام فيها

الخلاف

دراسات فقهیة موجزة في مسائل احتدم

فیها النقاش عبر القرون

الجزء الثالث

تأليف : الفقیه المحقق آیة الله جعفر السبحاني

نشر مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام

ص : 3

ص : 4

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي حسرت عن معرفة كماله ، عقول الأولياء ، وعجزت عن إدراك حقيقته ، أفهام العلماء ، واحد لا شريك له ، لا يُشبهه شيء لا في الأرض ولا في السماء ؛ والصلاة والسلام على نبيّه الخاتم ، أفضل خلائقه وأشرف سفرائه ، وعلى آله البررة الأصفياء ، والأئمّة الأتقياء.

أمّا بعد فغير خفيّ على النابه انّ للعقيدة - على وجه الإطلاق - دوراً في حياة الإنسان أيسره انّ سلوكَه وليدُ عقيدته ونتاج تفكيره ، فالمواقف التي يتّخذها تمليها عليه عقيدتُه ، والمسير الذي يسير عليه ، توحيه إليه فكرته.

إنّ سلوك الإنسان الذي يؤمن بإله حىّ قادر عليم ، يرى ما يفعله ، ويحصي عليه ما يصدر عنه من صغيرة وكبيرة ، يختلف تماماً عن سلوك من يعتقد أنّه سيّد نفسه وسيّد الكون الذي يعيش فيه ، لا يرى لنفسه رقيباً ولا حسيباً.

ومن هنا يتّضح أنّ العقيدة هي ركيزة الحياة ، وأنّ التكاليف والفرائض التي نعبّر عنها بالشريعة بناء عليها ، فالعقيدة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالروح والعقل ، في حين ترتبط الشريعة والأحكام بألوان السلوك والممارسات.

ولأجل هذه الغاية قُمنا بتحرير مواضع الخلاف عن جوانب من العقيدة الإسلامية بصورة موجزة ، وركّزنا على أبرز النقاط التي يحتدم فيها النقاش.

ص : 5

وبما أنّ لكلّ علم لغته ، فقد آثرنا اللغة السهلة ، واخترنا في مادة البحث ما قام عليه دليل واضح من الكتاب والسنّة ، وأيّده العقل الصريح - الذي به عرفنا الله سبحانه وأنبياءه ورسله - حتّى يكون أوقع في النفوس ، وأقطع لعذر المخالف.

وخصصنا الجزءين السابقين بدراسة مسائل فقهية احتدم فيها الخلاف من العصور الأُولى إلى يومنا هذا.

وأمّا هذا الجزء فهو مخصّص لمسائل فكرية أو عقائدية هي من نتاج النقاش العلمي بين المحقّقين من المسلمين ويأتي كلّ ذلك في ضمن عشرة فصول.

ونرجو من الله سبحانه أن يكون رائدنا في هذه البحوث هو الكتاب والسنة والعقل الحصيف.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات

جعفر السبحاني قم

- مؤسسة الإمام الصادق - عليه السلام -

ص : 6

الفصل الأوّل : التحسين والتقبيح العقليان ومكانتهما في العقيدة والشريعة

اشارة

ص : 7

ص : 8

تمهيد

شغلت قاعدةُ التحسين والتقبيح العقليّين بالَ كثير من المفكّرين من أقدم العصور إلى يومنا هذا ، إذ قلّما يتّفق أن يخوض باحث في العلوم الإنسانية دون أن يُشير إليها ، لعلاقتها بعلم الكلام والأخلاق ، والفقه وأُصوله.

مثلاً الباحث في علم الكلام عند ما يصل بحثه إلى أفعاله سبحانه ، يصف بعضه بالوجوب والحتمية ، ويقول يجب عليه سبحانه بعث الرسل ، لهداية الناس وإيصالهم إلى الغاية المتوخّاة من خلقتهم ، كما يصف البعض الآخر بالامتناع وعدم الجواز كإعطاء المعجزة بيد المدّعي الكاذب ، ويتّخذ الحسن والقبح أساساً لقضائه البات في المسألتين حيث يحسنُ الأوّل ويقبح الثاني.

وليس معنى ذلك ، فرض التكليف على الله سبحانه؟! بأن يحكم العبد عليه تعالى بالإيجاب والامتناع كما ربما يتصوّره بعض المنكرين للحسن والقبح العقليين. (1)

وذلك لأنّ هناك فرقاً بين فرض التكليف على الله ، وبين كشف ما عنده من الحكم من خلال صفاته وكمال ذاته ، فالقائل بالتحسين والتقبيح العقليين لا يفرض على الله تكليفاً إذ أين التراب ورب الأرباب ، بل يستدلّ من خلال ما عنده

ص : 9


1- شرح المقاصد : 2 / 150 طبعة استنبول ؛ التبصير في الدين : 153.

من الصفات ، على اللزوم والامتناع فيقول : إنّه سبحانه بما هو عادل ، لا يجور على عباده ، وبما انّه حكيم لا يعبث في فعله ، إلى ذلك من الأحكام المستكشفة من خلال دراسة صفاته وسنوضحه - بإذن الله - في المستقبل.

هذا حال الباحث في علم الكلام وحاجته إلى تنقيح مسألة التحسين والتقبيح العقليين ، ومثله الباحث في الأخلاق حينما يطرح القيم الأخلاقية على طاولة البحث فيعتمد على تلك القاعدة في تقييم الأفعال الإنسانية من حيث كونه فضيلة أو رذيلة.

وليست حاجة الفقيه إلى تلك القاعدة بأقلّ من حاجة الطائفتين ، فانّ خلود الأحكام الفقهية عبْر الزمان وكون الشريعة الإسلامية ، خاتمة الشرائع ، رهن القول بالتحسين والتقبيح العقليين ، فكلّ حكم شرعي يستمد ملاكه من تلك القاعدة فهو حكم مؤبّد بتأبيد ملاكه - الحسن والقبح - فلا يتغير ولا يتبدّل ، فانّ الحسن ، حسن على كلّ حال ، والقبيح قبيح كذلك ، والحكم المستمَدَّ منه يكون كذلك فالاعتراف بالحسن والقبح العقليّين الأبديّين يُضيف على الأحكام الشرعيّة المستندة إليهما ، وصفَ الأبديّة.

وأمّا حاجة الأُصولي إلى القاعدة فواضحة جدّاً ، حيث إنّ العقل أحد الأدلّة الأربعة التي يستنبط بها الأحكام ومن أحكامه ، الحكم بحسن الفعل وقبحه مثلاً إذا افترضنا انّ المكلّف شكّ في حكم موضوع بعد الفحص عن مظانّه في الكتاب والسنّة ولم يعثر فيهما على حكمه ، فعند ذاك يستقل العقل بقبح عقاب المكلّف إذا ارتكب مع احتمال الحرمة ، أو ترك مع احتمال الوجوب استناداً إلى قبح العقاب بلا بيان.

ص : 10

دور القاعدة في العلوم الإنسانية

اشارة

وخلاصة القول : إنّ القاعدة إذا فُسِّرت بصورة صحيحة ، تعدّ حجر الأساس لكثير من المسائل في العلوم الإنسانية كما عرفت نماذجها.

ولمّا كانت القاعدة أساساً لثبات القيم الأخلاقية ، والقوانين الشرعية السماوية ، المبنية على التحسين والتقبيح العقليّين ، عاد بعض المفكّرين من الغربيّين الذين لا يروقهم ثبات القيم ودوامها ، وبقاء الشريعة السماوية ، يثيرون الشكوك حول القاعدة.

نعم سبقهم في إنكار القاعدة طائفة من المتكلّمين وهم الأشاعرة ، وأهل الحديث لا لهذه الغاية ، بل لاستنكارهم استطاعة العقل على إدراك حسن الفعل أو قبحه ، وقالوا : إنّ المرجع في تمييز الحسن عن القبح هو الشرع ، وبذلك افترق المسلمون إلى طائفتين :

1. من يقول بالتحسين والتقبيح العقليّين تمثّلهم الإمامية والمعتزلة.

2. من ينكر التحسين والتقبيح العقليّين ويقول بالشرعيّين منهما ، وأنّ الحسن ما حسّنه الشارع والقبيح ما قبّحه الشارع ولو لا أمر الشارع ونهيه لما استطاع الإنسان على معرفة الحسن والقبيح ، وهذا مقالة الأشاعرة وأهل الحديث ، وسيوافيك انّ من أنكر استطاعة إدراك الحسن والقبح من الأفعال لا يتسنّى له ، إثبات التحسين والتقبيح مطلقاً حتّى الشرعي منهما.

هذا هو دور القاعدة في العقيدة والشريعة ، وهذا خلاف طائفة من المتكلّمين وجماعة من المفكّرين الغربيّين ، لكن تبيين الموضوع ومناقشة الأقوال والآراء ، والقضاء بين أدلة الطرفين والثمرات المترتبة على المسألة على وجه الإيجاز ، يأتي في ضمن فصول :

ص : 11

1- ملاكات التحسين والتقبيح العقليّين
اشارة

إنّ القول بأنّ العقل قادر على درك حسن الأفعال وقبحها ، يُفسّر على وجوه ، فلا بدّ من ذكرها وتعيين ما هو محطّ البحث بين المثبتين والمنكرين.

1. التحسين والتقبيح الذاتيان

إذا كان الفعل الصادر عن الفاعل المختار - سواء أكان واجباً أم ممكناً - على نحو إذا نظر إليه العقل وتجرّد عن كلّ شيء ، يحكم بحسنه ولزوم فعله أو بقبحه ولزوم تركه ، فالعقل في قضائه هذا بالحسن أو القبح ، لا ينظر إلاّ إلى نفس الموضوع ، دون ما يترتّب عليه من المصالح والمفاسد العامّة ، أو كونه موافقاً لغرض الفاعل أو الإنسان الحاكم أو غير ذلك من الأُمور الخارجة عن ذات الفعل ، فهذا هو المسمّى بالتحسين والتقبيح العقليّين الذاتيّين.

مثاله ، الإحسان والظلم فيستقل العقل بحسن الأوّل وقبح الثاني ، من دون نظر إلى مصالح الفعل أو مفاسده ، أو كونه مؤمِّناً لغرض الفاعل أو الحاكم ، فكأنّ الحسن والقبح داخلان في ذات الفعل وجوهره ، لا ينفكان عنه ، ففرض الفعل يلازم فرض أحد الحكمين.

وسيوافيك انّ هذا هو محطّ البحث بين المثبت والنافي.

ص : 12

2. التحسين والتقبيح في إطار المصالح والمفاسد

تؤكد هذه النظرية على القول بالتحسين والتقبيح العقليّين ، لكن بالنظر إلى المصالح والمفاسد المترتبة على الفعل ، ففي هذه النظرة لا يكون الفعل بما هو هو ، موضوعاً للحسن والقبح كما عليه النظرية السابقة بل باعتبار كونه مبدأ للمصالح والمفاسد ، وربّما يعبّر عن المصالح والمفاسد ، بالأغراض والمقاصد.

والمراد منها ، هي الأغراض النوعية لا الشخصية وإلاّ يلزم الهرج والمرج في وصف الأفعال ، فإنّ الظلم يؤمِّن غرض الظالم ، دون المظلوم فيوصف بالقبح عند الأوّل دون الثاني ، بل المراد المصالح والأغراض العقلائية التي يدور عليها بقاء النظام وهذا كالعدل فانّه حسن إذ به قوام النظام ، والظلم فانّه قبيح لأنّه هادم للنظام.

وسيوافيك انّ وصف الأفعال بالحسن والقبح باعتبار الآثار المترتّبة عليها وإن كان صحيحاً ، لكنّه يصلح لوصف قسم من الأفعال بهما وهو أفعال الإنسان الذي يحمل فعْلُه المصلحةَ النوعية أو مفسدتها ولا يشمل فعل الله سبحانه فإن فعله يوصف بالحسن والقبح دون أن يكون هناك حديث المصلحة أو المفسدة كأخذ البريء بذنب المجرم ، ونقض العهد والميثاق ، وإساءة المحسن فانّه قبيح من دون أن يكون هنا أي فساد ، فشمولية المسألة ، لفعل المولى سبحانه وعبده يقتضي خروج هذا النوع من الحسن والقبح عن محط البحث.

وبما انّ الغاية الكبرى من الخوض في هذه المسألة ، هو التعرف على أفعاله سبحانه وتمييز ما يجوز عليه عمّا لا يجوز ، فلا محيص من القول بأنّ الملاك لوصف الفعل بالحسن والقبح في إطار عام حتّى يشتمل فعله سبحانه ، هو الملاك الأوّل ، أي ما يكون الفعل بما هو هو ، مجرّداً عن القيود التالية :

ص : 13

1. كون الفاعل واجباً أو ممكناً.

2. كون الفعل ممّا يترتّب عليه المصلحة أو لا.

3. كونه مؤمِّناً للغرض أو لا.

موضوعاً لحكم العقل بالحسن أو القبح.

3. موافقة العادات والتقاليد

إنّ لكلّ قوم عادات وتقاليد تخصّهم ، فملاك الحسن والقبح موافقة الفعل للعادات والتقاليد ومخالفتها ، وربّما يطلق عليه الحسن والقبح العرفيان ، والتحسين والتقبيح بهذا المعنى وإن كان صحيحاً لكنّه لا يصلح لأن تكون ملاكاً للبحث عند المتكلّمين أو الأُصوليين ، لانّهما بهذا المعنى يُصبحان أمرين نسبيين أوّلاً ، لأنّ المعروف عند قوم ربما يكون منكراً عند قوم آخر ؛ ولا يكون معياراً لمعرفة وصف أفعاله سبحانه ثانياً ، لأنّها فوق العادات والتقاليد.

فخرجنا بالنتيجة التالية :

إنّ لوصف الأفعال بالحسن والقبح ملاكات ثلاثة فالذي يصلح لأن يكون ملاكاً للبحث في المقام ، هو كون الفعل مجرّداً عن أي قيد وشرط ، صالحاً لوصفه عند العقل بأحدهما ، دون الملاكين الآخرين ، كوصفه بهما باعتبار ما يترتّب عليه من المصالح والمفاسد ، والمنافع والمضار النوعية ، أو باعتبار موافقته العادة السائدة على القوم أو مخالفتها ، فإنّ هذين الملاكين تحدِّد المسألة على وجه يخرج فعله سبحانه عن موردها.

ص : 14

2- تقسيم الحكمة إلى نظريّة وعمليّة

تنقسم الحكمة ، لدى الحكماء منذ عهد مبكِّر إلى حكمة نظرية وحكمة عملية ، فلو تعلّق الإدراك بما من شأنه أن يُعلم ، كانقسام الموجود إلى واجب وممكن ، فهو حكمة نظريّة ولو تعلّق بما من شأنه أن يعمل كقولنا : العمل بالميثاق حسن ونقضه قبيح فهو حكمة عملية فالحكمتان : النظرية والعملية كلاهما من أقسام الإدراك وإنّما الاختلاف في المتعلَّق.

وهذا هو المعنى المعروف عند الفلاسفة والمتكلّمين وهو الظاهر من عبارة الفارابي حيث قال : النظرية هي التي بها يحوز الإنسان علم ما من شأنه أن يعلمه إنسان ، والعملية هي التي يعرف ما من شأنه أن يعمله الإنسان بإرادته. (1)

والعقل المدرِك للحكمة الأُولى عقل نظري والمدرِك للثانية منهما عقل عمليّ وليس معناه انّ هنا عقلين مختلفين جوهراً بل عقل واحد يوصف تارة بالنظري وأُخرى بالعملي باعتبار اختلاف متعلقه.

وهنا مصطلح آخر للعقل العملي ، يجعله في عداد القوى العاملة التي هي مبدأ محرّك لبدن الإنسان إلى الأفاعيل الجزئيّة (2) ، أعرضنا عن ذكره تفصيلاً روماً للاختصار.

ص : 15


1- شرح منظومة السبزواري : 310.
2- النجاة لابن سينا : 164 ، ط مصر ، وص 202 ط بيروت.
3- تقسيم القضايا إلى ضرورية وغير ضرورية

تنقسم الحكمة النظرية إلى ضروريّة وغير ضروريّة ، فالقسم الأوّل ما يحضر في النفس بلا نظر ، والقسم الثاني ، ما يحصل فيها بعد إعمال الفكر والنظر. وجه التقسيم انّه لو كانت القضايا بأجمعها ضرورية لما احتاجت إلى التفكير ولم يكن هناك أية مشكلة فكرية ، ولو كانت بأسرها غير ضرورية لتاه الإنسان في دوّامة من المشاكل الفكرية دون أن يجد حلولاً لها ، لأنّ المفروض كون القضايا على نمط واحد ، فلم يكن بد من أن تكون القضايا في الحكمة النظرية منقسمة إلى قسمين حتّى يستمد في حل غير الضروري ، من الضروري.

فكما أنّ القضايا في الحكمة النظرية تنقسم إلى قسمين ، فهكذا الحال في الحكمة العملية تنقسم إلى ضرورية وغير ضرورية بنفس الدليل السابق في الحكمة النظرية ، فانّ القضايا التي يحكم العقل بحسنها أو قبحها ، وبالتالي يمدح الفاعل ويذمُّه ويُلزم العمل على وفقه أو الاجتناب عنه لا تخلو من حالتين :

1. إمّا أن تكون قضايا واضحة يدركها العقل بلا توسيط مقدّمة ، وهي القضايا الضرورية في الحكمة العملية.

وامّا أن لا يدركها إلاّ بإرجاعها إلى قضايا أُخرى حتّى تنتهي إلى أُم القضايا العملية الضرورية لتكون مفتاحاً لحمل سائر القضايا.

ص : 16

فإذا كان امتناع اجتماع الضدّين أو ارتفاعهما أُمّ القضايا في الحكمة النظرية وبهما تثبت صحّة كلّ القضايا في العلوم ، فحسن العدل وقبح الظلم أُمّ القضايا في الحكمة العملية ، فلا يحكم بحسن شيء أو قبحه إلاّ إذا انطبق على الفعل أحد العنوانين.

وبذلك يظهر انّ تقسيم القضايا إلى ضروريّة وغير ضروريّة ، لا ينحصر بالحكمة النظريّة ، بل يعمّ القسمين ، والدليل على التقسيم جار في كلا القسمين.

ص : 17

4- أدلّة القول بالتحسين والتقبيح العقليّين
اشارة

أقام القائلون بالتحسين والتقبيح العقليّين أدلّة ساطعة على أنّ العقل يدرك حسن الأفعال وقبحها ولا يقتصر على مجرّد الإدراك ، بل يبعث إلى الأوّل ويمدح فاعله ، ويزجر عن الثاني ويذم فاعله ، والرسالة الحاضرة لا تتحمل البسط بنقل عامة الدلائل ونكتفي من الكثير بالقليل.

الأوّل : بداهة العقل

كلّ إنسان يجد في نفسه حسن العدل وقبح الظلم ، وإذا عَرَضَ الموضوعين على وجدانه ، يجد في نفسه نزوعاً إلى العدل واستحساناً له ، وتنفراً عن الظلم وتقبيحاً له ، وهكذا سائر الأفعال التي تعد من مشتقات العدل والظلم.

ولقائل أن يقول : إنّ الحكم بالتحسين والتقبيح ليس ناتجاً من صميم العقل وإنّما هو وليد التعاليم الدينية الراسخة التي يعتمد عليها المصلحون في دعوتهم فصار ذلك سبباً لرسوخ تلك الفكرة في أذهان الناس.

لكن وقفة قصيرة أمام هذا السؤال تُبطل هذا الاحتمال ، إذ لو كانت الفكرة ناتجة من دعوة المصلحين لاختصت الفكرة بهم وبمن وقع في إطار دعوتهم ، ولكنّا نجد الفكرة أوسع من ذلك فقد غطَّت كافةَ الأُمم وطوائف البشر حتّى الّذين لا

ص : 18

يمتلكون ايماناً بالشرائع.

وإلى ما ذكر يشير العلاّمة الحلي في شرح تجريد الاعتقاد ويقول : إنّا نعلم بالضرورة حسن بعض الأشياء ، وقبح بعضها من غير نظر إلى شرع ، فإنّ كلّ عاقل يجزم بحسن الإحسان ويمدح عليه وبقبح الإساءة والظلم ويذم عليه ، وهذا حكم ضروري لا يقبل الشك وليس مستفاداً من الشرع لحكم البراهمة والملاحدة به من غير اعتراف بالشرائع. (1)

الثاني : عدم ثبوتهما مطلقاً لو قلنا بالشرع فقط

إنّ نفاة القول بالتحسين والتقبيح العقليّين ذهبوا إلى أنّ التعرّف على حسن الأفعال وقبحها رهن بيان الشرع ، فما حسّنه الشارع فهو حسن وما قبحه فهو قبيح ، وليس للعقل سبيل إلى معرفة حسن الأفعال وقبحها ، ولكنّهم غفلوا عن مضاعفات هذا القول ، إذ لازمه عدم ثبوت الحسن والقبح مطلقاً حتّى الشرعي منهما.

بيان ذلك : أنّه لو قلنا بأنّه لا سبيل للعقل إلى معرفة حسن الفعل أو قبحه ولا يُعرفان إلاّ بتصريح الشرع بأنّ العدل حسن أو الظلم قبيح ، لا يحصل الجزم بقوله ، لتجويز الكذب عليه وبالتالي نحتمل أن يكون ما وصفه بالحسن ، قبيحاً واقعاً ، وما وصفه بالقبح ، حسناً كذلك.

ولو افترضنا انّ الشارع أضاف إلى ما ذكره قوله : الصدق حسن والكذب قبيح ، لا ينفعنا في الجزم بما حكم على العدل والظلم ، من تحسين الأوّل وتقبيح الثاني لتجويز الكذب عليه في كلّ ما يخبر حتى قوله : «الصدق حسن» «والكذب

ص : 19


1- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : 59 المطبوع مع تعاليقنا.

قبيح» ، فلا يدفع هذا الاحتمال إلاّ بثبوت حسن الصدق وقبح الكذب قبل كلّ شيء بفضل العقل فما لم يثبت هذا الأصل بدليل العقل وحكمه لما حصل اليقين بصدق الأحكام الصادرة عن الشارع.

وحصيلة الكلام ، أنّه ما لم يثبت حسن الصدق وقبح الكذب عن طريق العقل لا يثبت حسن أيِّ فعل أو قبحه بحكم الشرع ، لأنّه من المحتمل أن يأمر بما هو المنكر عنده أو ينهى عمّا هو المعروف عنده ولو أخبر عن طريق أنبيائه وسفرائه انّه إنّما يأمر بالعدل والإحسان ، وينهى عن الفحشاء والمنكر ، فلا يحصل اليقين بصدق كلامه وأخباره ، لمكان احتمال الكذب في كلامه هذا ، ولا يُنفى هذا الاحتمال إلاّ إذا ثبت عن غير طريق الشرع حسن الأوّل وقبح الثاني وانّه سبحانه فاعل مختار حكيم ، مثله لا يكذب ، ولا يعبث بكلامه.

ولو تدبّر نفاة القول بالتحسين والتقبيح العقليّين في هذا الدليل لرجعوا عن إنكارهم إلى الصراط المستقيم.

الثالث : إنكارهما يلازم امتناع إثبات الشرائع السماوية

من ادّعى السفارة من الله سبحانه وكونه نبيّاً مبعوثاً عنه ، لا يمكن لنا تصديقه إلاّ في ظل القول بالحسن والقبح العقليّين ، لأنّ الدليل الوحيد أو المؤثر على عامة الطبقات ، كونه مبعوثاً بالمعاجز والبيّنات ، فيستدلُّ بها على أنّه كان مبعوثاً من الله سبحانه لهداية الناس ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر انّ المعاجز لا تفيد اليقين بأنّه مبعوث من الله سبحانه إلاّ إذا ثبت أصل في باب النبوة وهو :

انّه سبحانه لا يزوِّد الكاذب بقدرة خارقة ليضلّ الناس عن طريقه لأنّه أمر

ص : 20

قبيح عقلاً لا يصدر منه سبحانه ، فلو لم يثبت هذا الأصل بحكم العقل لا يمكن الإذعان بصدق دعواه لاحتمال انّ المزوَّد بالمعاجز ، مدّع كاذب ، إذ لم يثبت بعدُ قبح تسلط الكاذب على المعاجز والبيّنات.

ولو صدع الشارع بأنّه لا يسلط الكاذب على القوة الخارقة ، لا يمكن الإيمان بصدق قوله ، لعدم ثبوت قبح الكذب على الشارع كما مرّ في الدليل الأوّل.

يقول العلاّمة الحلّي حول هذا الدليل : لو كان الحسن والقبح سمعيّاً لا عقلياً ، لما قبح من الله شيء ، ولو كان كذلك لما قبح منه تعالى إظهار المعجزات على يد الكاذبين ، وتجويز ذلك يسدّ باب معرفة النبوة إذ إظهار المعجزة بعد ادّعاء النبوة لا يكون دليلاً لصدق ادّعائه إذا كان باب احتمال إظهار المعجزة على يد الكاذب مفتوحاً. (1)

الرابع : الحسن والقبح العقليان في الذكر الحكيم

من سبر القرآن الكريم وأمعن في دعوته إلى الصلاح والفلاح يقف على أنّ القرآن يتّخذ وجدان الإنسان قاضياً ليحكم في قضايا كثيرة بشيء يرجع إلى الحسن والقبح ، فالآيات التي نتلوها عليك تُسلّم انّ الإنسان الحرّ المجرّد عن سائر النزعات ، قادر على درك حسن الفعل أو قبحه ، ولذلك يترك القضاء فيها إليه ويقول :

1. (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ). (2)

ص : 21


1- نهج الحقّ وكشف الصدق ، 84 بتصرف.
2- ص : 28.

2. (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ). (1)

3. (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ). (2)

ففي هذه الطائفة من الآيات يوكِّل الذكر الحكيم القضاءَ إلى وجدان الإنسان ، وانّه هل يصحّ التسوية بين المفسدين والمتّقين ، والمسلمين والمجرمين ، كما يتّخذ من الوجدان قاضياً ، في قوله : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ).

وهناك آيات أُخرى تأمر بالمعروف كالعدل والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي على نحو تسلِّم انّ المخاطب بها ، يعرفها معرفة ذاتية ولا يحتاج إلى الشرع ليعرّفه الموضوع ، وكأنّ الشرع يؤكد ما يجده الإنسان بفطرته ، يقول سبحانه :

1. (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). (3)

2. (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ). (4)

3. (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ). (5)

وكيفية دلالة هذه الآيات على قابلية العقل على درك الحسن والقبح علمت ممّا سبق.

ص : 22


1- القلم : 35.
2- الرحمن : 60.
3- النحل : 90.
4- الأعراف : 33.
5- الأعراف : 157.

وثمة آية أُخرى تندِّد بعمل المشركين حينما ينسبون بعض أعمالهم المنكرة إلى أمره سبحانه ، وهو يردُّ عليهم بأنّ عملهم فحشاء والله لا يأمر بها ، والآية صريحة في انّ الإنسان بفضل الوجدان يعرف الفحشاء عن غيرها بلا حاجة إلى تعريف الشارع ، كما هي صريحة في انّ الله سبحانه منزّه عن ارتكاب القبائح والمنكرات التي يعرفها الإنسان بوجدانه ويقول :

(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ). (1)

فأخبر سبحانه أنّ فعلهم فاحشة قبل نهيه ، وأخبر أنّه لا يأمر بما هو فاحشة في العقول والفطرة ، ولو كان إنّما علم كونه فاحشة بالنهي ، وأنّه لا معنى لكونه فاحشة إلاّ تعلق النهي ، لصار معنى الكلام إنّ الله لا يأمر بما ينهى عنه ، ولصار معنى قوله : (أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) أي : أمر ربي بما أمر به ، ولكان معنى قوله : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ...) الآية ، أي : قل إنّما حرّم ربّي ما حرّم وهذا ما يصان عن التكلم به آحاد العقلاء ، فضلاً عن كلام العزيز الحكيم ، ويلزم ألا تكون الفاحشة فاحشة ، ولا الشرك شركاً إلاّ بعد النهي.

ولا شكّ أنّ الشرع كساها بنهيه عنه قبحاً إلى قبحها ، فكان قبحها في ذاتها وازدادت قبحاً عند العقل بنهي الربّ تعالى عنها ، وذمّه لها ، كما أنّ العدل والصدق والتوحيد حسن في نفسه وازداد حسناً إلى حسنه يأمر الرب به وثنائه على فاعله. (2)

ص : 23


1- الأعراف : 28.
2- انظر ابن القيم ، مدارج السالكين ، 1 / 233 - 235 ؛ وانظر : مجموع الفتاوى : 11 / 678 - 8 ؛ 683 / 433.

وممّا يؤيّد هذا الوجه قوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً). (1)

فأخبر تعالى أنّه حرمه عليهم مع كونه طيباً في نفسه ، فلولا أن طيبه أمر ثابت له بدون الأمر لم يكن ليجمع الطيب والتحريم. (2)

ص : 24


1- النساء : 160.
2- انظر ابن القيم ، مفتاح دار السعادة : 2 / 10.
5- أدلّة المنكرين للتحسين والتقبيح العقليّين
اشارة

ذهبت الأشاعرة تبعاً لأهل الحديث إلى أنّ الفعل عاجز عن إدراك حسن الأفعال وقبحها وانّ الحسن ما أمر به الشارع والقبيح ما نهى عنه ، ولو جُرّد الموضوع عن الأمر والنهي لما تمكّن العقل من إدراكهما (1) وإنكارهم هذا أشبه بإنكار السوفسطائيين في إنكار الحقائق الخارجية ، حتّى وجودهم وأنفسهم لأجل شبهات واهية ، وذلك لأنّه لا يوجد على أديم الأرض إنسان ينكر جداً حسن الإحسان وقبح الظلم ، حسن العمل بالميثاق وقبح نقضه ، حسن جزاء الإحسان بالإحسان وقبح جزائه بالسوء ، إلى غير ذلك من القضايا الواضحة التي تعد أُسساً للحياة الفردية والاجتماعية.

وقد وقفت على كلام ، لبعض السلفين ردّ فيه على الأشاعرة المنكرين للحسن والقبح العقليين فقال : أنّ الأشاعرة أجازوا على الله أن يأمر بأيّ شيء ، وينهى عن أيّ شيء ، بناء على نفيهم التحسين والتقبيح العقليين ، ونفيهم الحكم والغايات ، وعلى ذلك فالشرك عندهم ليس قبيحاً في ذاته ، وسائر المحرمات كذلك ، وإنّما اكتسبت صفة القبح بنهي الله عنها ، ولو أمر الله تعالى بالشرك وبسائر المحرمات لكانت حسنة ، وجوزوا على الله ذلك ، كما أنّهم يرون أنّ التوحيد وسائر الطاعات ليست حسنة في ذاتها ، وإنّما اكتسبت صفة الحسن بأمر الله بها ،

ص : 25


1- الإرشاد للجويني : 258 وغيره.

ولو نهى الله تعالى عن التوحيد وسائر الطاعات لكانت قبيحة ، وأجازوا عليه ذلك.

كما أجازوا على الله فعل كلّ شيء ممكن لذاته ، فله أن يعذب أنبياءه وأولياء ويجعلهم في سجين ، وينعم شياطين الإنس والجن ويجعلهم في عليّين ، ويكون ذلك عدلاً وحسناً ، وذلك بناء على نفيهم الحكم والغايات. (1)

وهؤلاء المنكرون وإن رفعوا راية الإنكار ولكنّهم تراجعوا عنها باختراع معاني متعددة للحسن والقبح فسلّموا حكم العقل بالتحسين والتقبيح في بعضها دون البعض الآخر وليس التعرّف عليها بمهم.

وإنّما المهم في المقام دراسة أدلّتهم على الإنكار ، وإليك البيان :

الأوّل : لو كانا بديهيين لما اختلف فيه اثنان
اشارة

لو كان العلم بحسن بعض الأفعال وقبحها ضرورياً لما وقع التفاوت بينه وبين العلم بزيادة الكل على الجزء ، والثاني باطل بالوجدان ، لوقوع الاختلاف بين العلمين ، فانّ العلم بزيادة الكلّ على الجزء أوضح وأبين من التحسين والتقبيح.

على هامش الاستدلال

الاستدلال كأنّه مبني على ردّ الدليل الأوّل للمثبتين حيث قالوا : إنّ حسن الأفعال وقبحها من الأُمور البديهية ، فردّ عليه النفاة بأنّه لو كان بديهياً ، لما تفاوت العلمان : العلم بزيادة الكلّ على الجزء وحسن العدل وقبح الظلم ، والعلوم الضرورية لا تتفاوت.

ص : 26


1- موقف المتكلّمين : 1 / 331.

والاستدلال مبني على أصل غير أصيل وهو عدم وجود التفاوت في العلوم الضرورية ، وذلك لأنّ القضايا اليقينية التي تتمتع بالبداهة على أقسام ستة وكلّها قضايا ضرورية مع وجود التفاوت بينهما.

1. الأوّليات : الكلّ أعظم من الجزء.

2. المشاهدات : وهي إمّا مشاهدة ظاهرية كقولنا : الشمس مشرقة ، أو باطنية ، كقولنا انّ لنا جوعاً وعطشاً.

3. التجربيات : انبساط الفلز في الحرارة.

4. الحدسيات : نور القمر مستفاد من الشمس.

5. المتواترات : مكّة المكرمة موجودة.

6. الفطريات : الأربعة زوج.

فأين قولنا : «الكلّ أعظم من الجزء» الذي يعد من الأوّليات في البداهة من قولنا : «نور القمر مستفاد من الشمس» الذي هو من الحدسيات ، فوجود التفاوت بين هذه العلوم واضح جدّاً.

وأمّا سبب التفاوت فيرجع غالباً إلى وجود الاختلاف بين تصوّر مفرداتها. مثلاً قوله : «كلّ ممكن يحتاج إلى علّة» ، حكم بديهي كما أنّ قولنا : «الكلّ أعظم من الجزء» أيضاً بديهي ، وسبب الاختلاف يرجع إلى أظهريّة مفردات الثاني من مفردات الأوّل ، فأين الإمكان والحاجة والعلة في الظهور من «الكل» و «الجزء» و «العِظَم» ، فاختلاف المفردات من حيث الظهور والخفاء ، يورث ظهوراً وخفاءً في المركب أيضاً.

ص : 27

الثاني : الكذب النافع ليس بقبيح
اشارة

«لو كان الكذب قبيحاً ، لكان الكذب المفضي إلى تخليص النبي من يد الظالم قبيحاً أيضاً ، والتالي باطل لأنّه يحسن تخليص النبي من يد الظالم ، فالمقدّم مثله ، فيصبح الكذب النافع غير قبيح ، فلو كان قبح الكذب ذاتيّاً ، لما تغيّر قبحه ، بل يبقى عليه وإن ما بلغ.

على هامش الاستدلال

إنّ في المقام أمرين قبيحين :

1. الكذب والإغراء بالجهل.

2. ترك نصرة النبي وتعريضه للهلاك.

وقد دار الأمر بين ارتكاب أحد القبيحين.

1. أن يكذب وفيه نجاة النبي.

2. أن يترك نصرة النبي ويعرّضه للهلاك وفيه ترك الكذب القبيح.

والعقل عندئذ يحكم بتقديم أخف القبيحين على الآخر ، تخلصاً عن ارتكاب الأقبح. فالكذب باق على قبحه ، لكنّه يقدّم ارتكابه على الأقبح ويكون معذوراً في ارتكابه.

ويمكن أن يقال : إنّ إنقاذ النبي لا يتوقّف على الكذب مطلقاً إذا كان باب التعريض والتورية مفتوحاً ، ولهذا قيل : «إنّ في التعاريض لمندوحة».

الثالث : التحسين والتقبيح فرض تكليف على الله
اشارة

هذا الدليل هو أكثر تداولاً على ألسنة السُذَّج من الناس الذين يغترون

ص : 28

بأدلّة المنكرين للتحسين والتقبيح العقليّين قالوا بأنّ القائلين بهما يوجبون على الله ما يوجبون على العبد ، ويحرِّمون عليه من جنس ما يحرِّمون على العبد ، ويسمّون ذلك العدل ، والحكمة مع قصور عقلهم عن معرفة حكمتهم. (1)

على هامش الاستدلال

إنّ المستدل خلط بين فرض التكليف على الله ، وكشف ما عنده من الحُكْم من خلال صفاته وكماله ، فالقائل بالملازمة لا يفرض التكليف على الله ، ويقول : أين التراب ورب الأرباب ، بل يستكشف ما عنده من الأحكام من خلال دراسة صفاته الكمالية ، فهو بما انّه عادل ، لا يجور ، وحكيم لا يعبث ، وعالم لا يجهل ، نستكشف بها الأحكام اللائقة به حسب صفاته فالتكاليف التي يستنبطها العقل من قبيل التكاليف التي فرضتها على الله حكمتُه وعدله وعلمه. فلو قلنا لا يجوز على الله سبحانه تعذيبُ البريء أو أخذُه بذنب المجرم ، لا نعني انّا نفرض هذا التكليف عليه ، وانّه يجب أن يقوم به ، وإنّما نريد أنّ لازم صفاته الكمالية هو أن لا يفعل ذلك.

وهذا نظير ما يقوم به العلماء من كشف أسرار الطبيعة وقوانينها ، فلو قال القائل : بأنّ زوايا المثلث تساوي قائمتين ، فهذا لا يعني إلاّ أنّه في الواقع كذلك ، لا انّه يجب أن يكون كذلك لأجل حكمه به.

فإذا كان النظام السائد على الكون نظاماً مبنياً على العلم والعدل والحكمة فلازم ذلك أن لا يؤخذ البريء بذنب المجرم ، فكشف هذا الحكم نظير كشف القوانين السائدة على الكون في العلوم الطبيعية والرياضية والفلكية.

ص : 29


1- التبصير في الدين : 153 ؛ شرح المقاصد : 2 / 150 طبعة اسطنبول.

وفي كلام بعض الأشاعرة إلماع لما ذكرنا ، يقول النسفي (المتوفّى 537 ه) : وفي إرسال الرسل ، حكمة.

ويقول التفتازاني (المتوفّى 791 ه) في شرحه على ذلك الموضع من كلام النسفي : أي مصلحة وعاقبة حميدة. وفي هذا إشارة إلى أنّ الإرسال واجب لا بمعنى الوجوب على الله تعالى ، بل بمعنى أنّ قضية الحكمة تقتضيه لما فيه من الحِكَم والمصالح وليس بممتنع. (1)

وكلامه هذا نفس ما ذكرناه ، وهذا دليل على أنّ الأشاعرة قد أظهروا نوعاً من المرونة للعدلية عبْر الزمان.

الدوافع من وراء إنكار التحسين والتقبيح العقليّين

إنّ التحسين والتقبيح العقليّين من المسائل الواضحة لدى العقل والعقلاء والتي لا تحتاج إلى مزيد بيان ، ومن أنكرهما فإنّما ينكرهما بلسانه دون قلبه ، وعلى الرغم من ذلك نرى وجود فئة كبيرة من المتكلّمين - كالأشاعرة - غلب عليهم إنكار هذا الأصل ، فما هو الدافع الذي جرّهم إلى إنكاره؟

أقول : إنّ الدافع من وراء إنكار الحسن والقبح في أفعاله سبحانه غير الدافع الذي جرّهم إلى إنكارهما في أفعال الإنسان.

فالدافع في الأوّل هو زعمهم المنافاة بين القول بهما وبين وصفه سبحانه بالمالك المطلق والسلطان بلا منازع الذي له أن يتصرف في ملكه كيف ما شاء حتى لو جازى الإحسان بالسوء.

ص : 30


1- شرح العقائد النسفية : 164.

كما أنّ الدافع في الثاني (إنكارهما في أفعال الإنسان) هو قولهم بالجبر في أفعاله وانّ الإنسان مضطر في فعله لا محيص له عن ارتكابه ، ومع ذلك كيف يمكن أن يوصف فعله بالحسن والقبح؟!

يقول المحقّق الخراساني (المتوفّى 1329 ه) في هذا الصدد :

وإنّما أنكر الأشاعرة الحسن والقبح العقليّين مطلقاً ، أو في أفعاله تعالى فلبنائهم انّه تعالى كلّما فعل ، صدر منه في محله ، لأنّه مالك الخلق كلّه ، فلو أثاب العاصي وعاقب المطيع لم يأت بقبيح ، لأنّه تصرّف في ملكه ، وهو لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون.

وأمّا في أفعال العباد ، فلبنائهم على عدم صدور الأفعال منهم بالاختيار ، بل بالجبر والاضطرار ، ولا شيء من أفعال المجبور بحسن ولا قبيح. (1)

الرابع : جواز التكليف بما لا يطاق

اعتمد الفخر الرازي في إنكاره للحسن والقبح العقليّين على أنّ التكليف بما لا يطاق قبيح عقلاً عند العدلية ، مع أنّ الشرع أمر به ، وإليك نصّه :

1. لو كان قبيحاً لما فعله الله تعالى ، وقد فعله بدليل أنّه كلّف الكافر بالإيمان ، مع علمه بأنّه لا يؤمن ، وعلمه بأنّه متى كان كذلك كان الإيمان منه محالاً.

2. لأنّه كلّف أبا لهب بالإيمان ، ومن الإيمان تصديق الله تعالى في كلّ ما أخبر عنه ، وممّا أخبر عنه أنّه لا يؤمن ، فقد كلّفه بأن يؤمن بأنّه لا يؤمن ، وهو تكليف الجمع بين الضدين. (2)

ص : 31


1- درر الفوائد في شرح الفرائد : 339.
2- المحصل : 153 ، ط دار الفكر ؛ نقد المحصل : 339 ، ط طهران.

يلاحظ عليه : أنّ الرازي تصور انّه قد وقف على دليل حاسم في المقام ، فاستدلّ بما ذكرته المجبرة قبله بقرون وأجابت عنه العدلية بوجوه ، وقال الرازي في بعض كلماته : لو اجتمعت جملة العقلاء لم يقدروا على أن يوردوا على هذا الوجه حرفاً إلاّ بالتزام مذهب هشام وهو انّه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها. (1)

أقول : إنّ ما نسبه إلى هشام بن الحكم فرية عليه كما أوضحناه في محله (2) ، وإليك الإجابة عن الدليلين الأوّلين ، أمّا الدليل الأوّل فلأنّ علمه الأزلي لم يتعلّق بصدور كلّ فعل من فاعله على وجه الإطلاق ، بل تعلّق علمه بصدور كل فعل عن فاعله حسب الخصوصيات المتوفرة فيه.

وعلى ضوء ذلك فقد تعلّق علمه الأزلي بصدور الحرارة من النار على وجه الجبر ، بلا شعور ، كما تعلّق علمه الأزلي بصدور الرعشة من المرتعش ، عالماً بلا اختيار ، ولكن تعلّق علمه سبحانه بصدور فعل الإنسان عن اختيار منه ، فتعلّق علمه بوجود الإنسان وصدور فعله منه اختياراً ، يؤكِّد الاختيار ويدفع الجبر عن ساحة الإنسان.

وإن شئت قلت : إنّ العلّة إذا كانت عالمة شاعرة ، ومريدة ومختارة كالإنسان ، فقد تعلّق علمه بصدور أفعالها منها بتلك الخصوصيات وانصباغ فعلها بصبغة الاختيار والحرية ، فلو صدر فعل الإنسان منه بهذه الكيفية لكان علمه مطابقاً للواقع غير متخلّف عنه ، وأمّا لو صدر فعله منه عن جبر واضطرار بلا علم وشعور ، أو بلا اختيار وإرادة ، فعند ذلك يتخلّف علمه عن الواقع.

وأمّا الجواب عن الدليل الثاني فحاصله : انّ أبا لهب مكلّف بالإيمان لكونه

ص : 32


1- شرح المواقف : 8 / 155.
2- لب الأثر في الجبر والقدر : 150.

أمراً اختيارياً له ، وأمّا الإخبار بعدم إيمانه فقد نزل به الوحي بعد ما ختم الله على قلبه ، وعندئذ فليس مكلّفاً بما جاء في القرآن من أنّه لا يؤمن بل هو من إخبارات القرآن كسائر أخباره.

إلى هنا تمّ بيان أدلّة المثبتين والمنكرين ، وأظن انّ الحقّ تجلّى بأجلى مظاهره ، وهو أحقّ أن يتبع ، وما جاء به المنكرون تسويلات سحروا أعين المغترين بها واسترهبوهم ولكن نور الحقيقة لا يفتأ متبلِّجا.

بقي الكلام في الآثار والثمرات المترتبة على القاعدة وهو موضوعنا في الفصل الآتي.

ص : 33

6- النتائج المترتّبة على التحسين والتقبيح العقليّين
اشارة

إنّ قيمة كلّ بحث رهن الآثار التي تترتّب عليه ، والثمار التي يقتطفها الباحث ، ومن حسن الحظ انّ للمسألة دوراً عظيماً في العلوم الإنسانية لا سيما في الكلام والأخلاق ، وقد مضى الالماع إليه في صدر الرسالة وإليك شيئاً من هذه الثمرات.

1. وجوب المعرفة عقلاً
اشارة

اتّفق المتكلمون على لزوم معرفة المنعم ، لكن اختلفوا في وجه لزومه.

ذهبت الأشاعرة المنكرون للحسن والقبح العقليّين إلى أنّ معرفة المنعم (الله سبحانه) واجبة شرعاً مع أنّه أمر غير معقول ، إذ كيف تجب معرفته شرعاً مع أنّ الشريعة لم تثبت بعدُ حتّى يثبت وجود معرفة الله في ضمن سائر أحكامه.

وذهبت الإمامية والمعتزلة إلى أنّ معرفته واجبة عقلاً ، واستدلّوا على ذلك بوجهين

ص : 34

الف : لزوم شكر المنعم

لا شكّ انّ حياة الإنسان رهن النعم التي يعيش فيها ، فليس مصدر النعم هو نفسه بل شخص آخر هذا من جانب.

ومن جانب آخر انّ العقل يدفع الإنسان إلى شكر من أحسن إليه ولا يصح الشكر إلا بمعرفته ، فينتج وجوب معرفته عقلاً.

ب : دفع العقاب المحتمل بالمعرفة

إنّ معرفة الله دافعة للخوف الحاصل من الاختلاف ، ودفع الخوف حسن بالضرورة. (1)

توضيحه : انّه ذهب الإلهيون إلى أنّ العالم وما فيه مخلوق لله سبحانه - وهم جماهير الناس ، وإن خالفهم شرذمة قليلة من المادّيين - ويدّعون أنّ لله سبحانه سفراء وأنبياء حوّل إليهم بيان وظائف العباد في أبعاد مختلفة وإنّ في مخالفتهم مضاعفات وعقوبات.

وحيث إنّ الإنسان يحتمل جداً صدق مقولتهم فيبعثه عقله إلى وجوب معرفته ومعرفة سفرائه ويحسنه كما يزجره عن ترك المعرفة ويقبحه ، ولو لا القول بالحسن والقبح العقليّين لما كان هناك أي باعث إلى معرفته سبحانه.

2. وصفه بالعدل والحكمة
اشارة

إنّ وصفه سبحانه بالعدل والحكمة فرع ثبوت التحسين والتقبيح العقليّين ، ولو لا استقلال العقل بحسن العدل وقبح الظلم لما صحّ وصفه سبحانه بالعدل أو

ص : 35


1- نهج الحق وكشف الصدق : 51.

تنزيهه عن الظلم ، ونظير ذلك وصفه بكونه حكيماً لا يعبث ، لأنّ الفعل العبث قبيح عقلاً ، ومن عزل العقل عن درك التحسين والتقبيح العقليين لما تسنّى له إثبات هذين الوصفين له والاعتماد في إثباتهما على اخبار الشرع قد علمت عدم صحّته. (1)

الدليل على نفي صدور القبيح عن الله سبحانه

اعتمد المتكلّمون على نفي صدور القبيح منه سبحانه على وصفين :

أ. علمه بالحسن والقبح.

ب. غناه وعدم حاجته إلى شيء.

ونحن في حياتنا اليومية نشاهد ذلك بالعيان ، فانّ من يرتكب القبيح فإنّما يرتكب لإحدى جهتين : إمّا لجهله بقبح الفعل ، أو لإحساس الحاجة إليه (وإن كان ربّما لا يكون محتاجاً إليه في الواقع) ومن فقد هذين الأمرين فلا يصدر منه القبيح.

فإذا كان هذا هو السبب الأساسي لصدور القبيح من الإنسان ، فهذا هو السبب أيضاً في صدوره عن الله سبحانه ، فإذا كان سبحانه نفس العلم والغنى يمتنع صدور فعل القبيح منه.

3. لزوم اللطف على الله

اللطف عبارة عمّا يكون المكلّف معه أقرب إلى فعل الطاعة وأبعد عن فعل المعصية ، وقد قسموا اللطف إلى : المقرِّب نحو الطاعة ، وإلى المحصِّل لها ؛ فلو

ص : 36


1- لاحظ ص 20 من هذا الكتاب.

كان موجباً لقرب المكلّف إلى فعل الطاعة والبعد عن فعل المعصية ، فهو لطف مقرّب ، ولو ترتّبت عليه الطاعة فهو لطف محصّل.

وحاصل اللطف عبارة عن فسح المجال أمام المكلّف بُغية حصول الطاعة والابتعاد عن المعصية ، وهو أمر غير إعطاء القابلية للمكلّف بل فوقه ، فانّ القدرة شرط عقلي ولولاها لقبح التكليف ، والمراد انّه سبحانه يتلطّف على العبد - وراء إعطائه القابلية والقدرة - بفعل أُمور يرغب معها إلى الطاعة وترك المعصية ، فلو توقّف تحصيل الغرض (طاعة العبد) وراء إعطاء القدرة ، على فعل المرغِّبات إلى الطاعة وترك المعصية كوعده وإيعاده كان على المكلّف القيام به لكيلا ينتفي الغرض ، وإلى هذا الدليل يشير المحقّق الطوسي ، ويقول : «واللطف واجب لتحصيل الغرض به».

4. بعثة الأنبياء

إنّ العقل يحكم بلزوم بعث الأنبياء ، وذلك لأمرين رئيسيّين :

الأوّل : انّ للعقل أحكاماً كلية كلزوم شكر المنعم وعبادته ، إلاّ أنّه عاجز عن الخوض في تفاصيلها ، فوجب من باب اللطف بعث الأنبياء ، لغاية إيضاح كيفية أداء الواجب وبيان المزيد من التفاصيل.

الثاني : انّ ادراك العقل حسن فعل أو قبحه ربما لا يكون باعثاً أو زاجراً إلاّ إذا افترض بوعد ووعيد من قبل المولى سبحانه وهو لا يتحقّق إلاّ ببعث الأنبياء الناطقين عنه سبحانه ، وبذلك يعلم أنّ دور الأنبياء بالنسبة إلى ما يدركه العقل أحد أمرين ، إمّا دور الإرشاد إلى التفاصيل التي لا يدركها العقل ، وإمّا دور الدعم لحكمه.

ص : 37

5. حسن التكليف

إذا كان فعله سبحانه منزّهاً عن العبث ، يستقلّ العقل بالحكم بلزوم إيصال كلّ مكلّف إلى الغايات التي خلق لها ، وذلك بتكليفهم بما يوصلهم إلى الكمال ، وزجرهم عمّا يمنعهم عنه ، حتى لا يُتركوا سدىً وتنفتح في ضوء التكليف طاقاتهم الروحية ، وعلم الإنسان بالحسن والقبح لا يكفي في استكماله ، إذ هناك أُمور يقصر عن إدراك حكمه ، علم الإنسان ، ولا تعلم إلاّ عن طريق الوحي والشرع.

مضافاً إلى أنّ حفظ النظام أمر حسن واختلاله وزعزعته أمر قبيح ، ولا يسود النظام في المجتمع الإنساني إلاّ بتقنين قوانين سماويّة (1) تكفل تحقيق العدل والمساواة بين كافة الشعوب.

إلى غير ذلك من الثمرات المذكورة لحسن التكليف.

6. لزوم تزويد الأنبياء بالبيّنات والمعاجز

إنّ بداهة العقل قاضية بعدم جواز الخنوع والخضوع لأي ادّعاء ما لم يعضده الدليل والبرهان ، فمقتضى الحكمة الإلهية تزويد الأنبياء بالمعاجز والبيّنات حتى تتحقّق الغاية المتوخّاة من بعثهم ، ولولاها لأصبح بعثهم سدىً وعملاً بلا غاية وهو قبيح.

7. لزوم النظر في برهان مدّعي النبوة

إذا كان مقتضى الحكمة الإلهية دعم الأنبياء بالبراهين ، فيلزم على العباد عقلاً النظر في برهان مدّعي النبوة ، لاستقلال العقل بذلك ، ولدفع الضرر

ص : 38


1- خرجت الوضعية فانّها لا تسعد بها الإنسان ، العيان يكفيك عن البيان.

المحتمل.

وأمّا من عزل العقل عن الحكم في ذلك المجال ، فليس له أن يثبت لزوم النظر إلاّ عن طريق الشرع ، وهو بعد غير ثابت ، فتطرح مشكلة الدور.

8. العلم بصدق دعوى الأنبياء

إذا اقترنت دعوة المتنبّئ بالمعاجز والبيّنات الواضحة - فبناء على استقلال العقل بالحسن والقبح العقليّين - لحكمنا بصدقه ، لقبح إعطاء البيّنات للمدّعي الكذّاب لما فيه من إضلال الناس ، وأمّا إذا عزلنا العقل عن الحكم المذكور ، فلا دليل على صدق نبوّته.

9. الخاتمية واستمرار أحكام الإسلام

إنّ استقلال العقل بالتحسين والتقبيح - بالمعنى الذي عرفت - أساس الخاتمية وبقاء أحكام الإسلام وخلودها إلى يوم القيامة ، لأنّ الفطرة - التي هي العماد لإدراك الحسن والقبح - مشتركة بين جميع أفراد البشر ولا تتبدّل بتبدّل الحضارات وتطور الثقافات ، فإنّ تبدّلها لا يمسّ فطرة الإنسان ولا يُغير جبلته ، فيصبح ما تستحسنه الفطرة أو تستقبحه خالداً إلى يوم القيامة ، دون أن يتطرّق إليه التبدّل والتغيّر.

10. الله عادل لا يجور
اشارة

من أبرز مصاديق حكمته - تعالى - هو عدله ، بمعنى قيامه بالقسط ، وأنّه لا يجور ولا يظلم ، ويترتب عليه بعض النتائج التي منها :

ص : 39

أ. قبح العقاب بلا بيان

إذا كان الله تعالى عادلاً ، فانّه لا يعاقب عباده دون أن يبيّن لهم تكاليفهم ، لحكم العقل بقبح العقاب بلا صدور بيان ، أو مع صدور دون أن يقع في متناول العباد ، ولزوم تنزّه الواجب عنه.

ب. قبح التكليف بما لا يطاق

من نتائج حكم العقل بعدله تعالى ، حكمه بلزوم تكليفه بما يطيقه العبد ، وأنّ تكليفه وإلزامه بما هو فوق طاقته ظلم وقبيح لا يصدر عن الحكيم.

ج. مدَى تأثير القضاء والقدر في مصير الإنسان

هذه المسألة على الرغم من أهميتها البالغة في العقيدة الإسلامية ، فقد احتدم الجدل حولها إلى درجه التكفير وإراقة الدماء خاصة في العصور الأُولى ، فهل تأثيرهما إلى حدّ يسلب الاختيار عن الإنسان ، أو لا. والأوّل قبيح عند العقل فيتعين الثاني.

د. اختيار الإنسان.

من جملة المسائل المترتبة على عدله تعالى ، اختيار الإنسان في أفعاله دون أن يكون مجبوراً مسيَّراً فيما يقوم به من ظلم وجور.

11. ثبات الأخلاق والقيم

إنّ مسألة ثبات الأخلاق في جميع العصور والحضارات أو تبدّلها تبعاً لاختلافها ، ممّا طرح مؤخراً عند الغربيّين ودارت حوله نقاشات حادة ، فمن قائل بثبات أُصولها ، ومن قائل بتبدّلها وتغيّرها حسب تغير الأنظمة والحضارات ، ولكن

ص : 40

المسألة لا تنحل إلاّ في ضوء التحسين والتقبيح العقليّين الناشئين من قضاء الجبلّة الإنسانية والفطرة الثابتة ، فعند ذاك تتسم أُصول الأخلاق بسمة الثبات والخلود.

خذ على سبيل المثال «إكرام المحسن» فانّه أمر يستحسنه العقل ، ولا يتغير حكم العقل هذا أبداً ، وإنّما الذي يتغيّر بمرور الزمان ، وسائل الإكرام وكيفيته.

إنّ الثابت عبارة عن الأُصول الفطرية التي لها جذور في عمق الإنسان ، وطبيعته ، وبما انّ الفطرة الإنسانية واحدة في جميع الشرائط والظروف لا تتغير بتغيّرها ، تُصبح الأُصول المبنية على الفطرة الإنسانية أُصولاً ثابتة لا تتغيّر أيضاً ، فقوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (1) ثابت ولا يتغيّر عبر القرون ، لأنّ العدل والإحسان قد جبل الإنسان عليهما ، نعم ثمة تغيّر يطرأ على الأساليب المقررة لإجراء تلك الأُصول الثابتة تبعاً لتغيّر الزمان ، فهي لم تزل تتغيّر حسب تغيّر الحضارات وهذا التغيّر ليس جوهرياً يمس ثبات تلك الأُصول.

إنّ للإنسان - مع غض النظر عن البيئة التي يعيش فيها - سلوكاً باطنياً يلازمه ولا ينفك عنه ، وفطرة ثابتة ويعدّ جزءاً مهماً من شخصيته يميّزه عن سائر الحيوانات ويلازم وجوده في كلّ زمان ومكان.

فهذا السلوك الباطني الثابت لا يستغني عن قانون ينظم اتجاهاته ، ويصونه عن الإفراط والتفريط ، فإذا كان القانون مطابقاً لمقتضى فطرته ، وصالحاً لتعديل ميولها ، لزم خلوده بخلوده ، وثبوته بثبوته ، فمن زعم أنّ الأخلاق تتطور

ص : 41


1- النحل : 90.

حسب تطور الظروف والشرائط غفل عن أنّ للإنسان سلوكاً باطنياً وفطرة ثابتة لا تنفك عنه ما دام الإنسان إنساناً.

نعم إنّ الذي يتغيّر وتتغيّر بتبعه العادات والتقاليد ، لا صلة له بالأخلاق وثباتها ، وها نحن نذكر من الأُصول الثابتة في علم الأخلاق نماذج :

1. لا يشك ذو مسكة أنّ بقاء النظام في المجتمع الإنساني رهن قوانين تؤمِّن حقوق جميع شرائح المجتمع بعيداً عن الظلم والجور والتعسّف ، وهذا أصل ثابت لا يشك فيه أحد ، بيد أنّ الذي يتغيّر هو الأساليب التي تتكفّل إجراء هذا الأصل ، فلا تجد على أديم الأرض من ينكر حسن تقنين مبنيّ على العدل وبسطه بين الناس ، وقبح الظلم والتعسف.

وهذا الأصل الثابت لم يتغيّر منذ أن وجد الإنسان على البسيطة وأصبحت له حياة اجتماعية.

2. الاختلاف بين الرجل والمرأة أمر تكويني محسوس ، فهما موجودان مختلفان عضوياً وروحياً على الرغم من الأبواق الإعلامية التي تبغي كسر الحواجز بينهما ، ولذلك اختلفت أحكام كلّ منهما عن الآخر.

فإذا كان التشريع مطابقاً لفطرتهما ومسايراً لطبعهما يظل ثابتاً لا يتغيّر بمرور الزمان ، لثبات الموضوع المقتضي لثبات المحمول.

3. الروابط العائلية ، كرابطة الابن بأبويه ، ورابطة الأخ بأخيه ، وهي روابط طبيعية ، تتحد فيها الأواصر الروحية والنسبية ، فالأحكام التي قُنّنت لتنظيم تلك الروابط باتت ثابتة لا تتغيّر بتغيّر الزمان.

4. انّ التشريع الإسلامي بالغ في الاهتمام بالأخلاق للحيلولة دون تفسّخها ، كما عالج أسباب التفسّخ الخلقي كالخمر والميسر والإباحة الجنسية

ص : 42

بوضع حلول تتناسب معها من خلال تحريمها وإقامة الحدود على مقترفيها ، وهذه الحلول ليست مقطعية تتغيّر بتغير الزمان ، بل هي ثابتة لا تتغير ، لأنّ الآثار التي تتركها المفاسد الخلقية أيضاً ثابتة ، فالخمر يزيل العقل ، والميسر ينبت العداوة في المجتمع ، والإباحة الجنسية تفسد النسل والحرث.

هذا وأمثالها من الأحكام الثابتة في حياة الإنسان الاجتماعية ، وهي تنسجم قبل كلّ شيء مع فطرته.

وخلاصة البحث : أنّ تطوّر الحياة الاجتماعية في بعض مجالاتها ، أو تغيّر الأحكام الموضوعة على وفق ملاكات واقعية متغيّرة لا يكون ذريعة لنسخ قبح الظلم وحسن العدل ولزوم أداء الأمانة ، ودفع الغرامات ، والوفاء بالعهود والمواثيق وأضرابها.

ص : 43

ص : 44

الفصل الثاني: الإنسان بين الجبر والتفويض

اشارة

ص : 45

ص : 46

تمهيد

إنّ للشخصية الإنسانية أبعاداً مختلفة ، ومن تلك الأبعاد كون الإنسان فاعلاً مختاراً فيما يفعل أو يترك ، أو كونه مسيّراً قد رُسِم مصيرُ حياته بيد القَدَر أو عامل آخر - كما سيوافيك - ولا محيص له إلاّ السير في الطريق الذي خُطّ له.

مع انّ دراسة هذا البعد من أبعاد الشخصية الإنسانية دراسة مسألة فلسفية محضة يَلجها كبارُ الحكماء والفلاسفة عبْر القرون ولهم فيها آراء وأفكار ، لكنّها وفي الوقت نفسه مسألة يشتاق إلى فهمها عامّة الناس وقلّما وجدت في حياة الإنسان مسألة لها تلك الميزة ، وفي الحقيقة هي من إحدى المسائل الأربع التي يتطلّع إلى فهمها الجميع ألا وهي :

1. من أين جاء إلى الدنيا؟

2. لما ذا جاء إليها؟

3. إلى أين يذهب؟

4. وهل هو في إعماله مخيّر أو مسير؟

ولأجل ذلك لا يمكن تحديد الزمن الذي طُرِحت فيه مسألة الجبر والاختيار ، كما لا يمكن تحديد مكانها ، وإنّ باذرها هل هو إفريقي أو روميّ أو هندي أو صيني أو إيراني؟ وعلى كلّ تقدير فللمسألة جذور عميقة في تاريخ حياة

ص : 47

الإنسان.

ثمّ إنّ الآراء المطروحة في المسألة تدور على محورين :

1. الإنسان مسيّر لا مخيّر ، مجبور في أفعاله وليس بمختار.

2. الإنسان مخيّر في أفعاله لا مسيّر ، مختار فيها وليس بمجبور.

ولكلّ من الرأيين قائل ودليل يعضد رأيه ، إلاّ أنّ المهم هو الوقوف على الرأي السائد حين نزول الوحي على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فالسير في الحديث والتاريخ يُثبت بأنّ الرأي العام في الجزيرة العربية قبل البعثة كان هو الجبر ، وقد بقيت رسوبات تلك الفكرة بعد البعثة وحتى رحيل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. ولأجل تبيين هذا الجانب من جوانب البحث نعقد الفصل التالي.

ص : 48

1- الجبر على مسرح التاريخ الإسلامي

اشارة

إنّ التأمّل في عقائد العرب في الجاهلية يُثبت بأنّهم أو طائفة منهم كانوا معتقدين بالتقدير السالب للاختيار عن الإنسان ، يقول سبحانه : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ). (1)

وليست الآية ، آية وحيدة تكشف عن عقيدة العرب في العصر الجاهلي حول فعل الإنسان ، بل هناك آية أو آيات أُخرى تشير إلى عقيدتهم ، يقول سبحانه : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ). (2)

فقولهم : (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) إشارة إلى أنّ عبادة الوثن أمر قدّره الله سبحانه وليس لنا الفرار ممّا قُضي به ، والله سبحانه يردّ على مزعمتهم بقوله : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) ، فلا يأمر بها ولا يقدِّرها بالمعنى

ص : 49


1- الأنعام : 148.
2- الأعراف : 28.

الذي تدّعون أي السالب للاختيار.

وأمّا جذور هذه العقيدة وانّها كيف تسرّبت إلى الجزيرة العربية حتّى سادت على المشركين فقد ظلّت مجهولة؟

والعجب انّ رسوبات فكرة الجبر بقيت بعد بزوغ نجم الإسلام وسادت حال حياة الرسول وبعد رحيله أيضاً.

روى الواقدي في مغازيه عن أُمّ الحارث الأنصارية وهي تحدِّث عن فرار المسلمين يوم حنين قالت : مرّ بي عمر بن الخطاب منهزماً ، فقلت : ما هذا؟ فقال عمر : أمر الله. (1)

ومعنى ذلك انّه لم يكن دور للغزاة من المسلمين في هزيمة حنين ، وقد كانت الهزيمة تقديراً قطعياً من الله ولم يكن محيص من التسليم امامه.

وهذا هو نفس الجبر لا يفترق عنه قيد شعرة ، مع أنّه سبحانه يقول : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ). (2)

وقد أشار سبحانه إلى عامل الهزيمة وأنّه أمران :

الأوّل : إعجابهم بكثرتهم ، فاعتمدوا على الكثرة ، مكان الاعتماد على الله سبحانه أوّلاً وعلى قواهم الذاتية ثانياً كما يقول : (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ).

الثاني : الانسحاب عن ساحة الحرب بدل الثبات ، كما يقول سبحانه (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) مع أنّهم أُمروا بالثبات كما يقول تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ). (3)

ص : 50


1- المغازي : 3 / 904.
2- التوبة : 25.
3- الأنفال : 15.

والعجب انّ هذه العقيدة (القدر السالب للاختيار) كانت سائدة بعد رحيل الرسول وباقية في اذهان الصحابة ، وهذا السيوطي ينقل عن عبد الله بن عمر أنّه جاء رجل إلى أبي بكر ، فقال : أرأيت الزنا بقدر؟ قال : نعم ، قال : فإنّ الله قدّره عليّ ثمّ يعذّبني؟ قال : نعم يا بن اللخناء أما والله لو كان عندي إنسان أمرته أن يجأ أنفك. (1)

لقد كان السائل في حيرة من أمر القدر فسأل الخليفة عن كون الزنا مقدَّراً من الله أم لا؟ فلما أجاب الخليفة بنعم ، استغرب من ذلك ، لأنّ العقل لا يسوّغ تقديره سبحانه شيئاً سالباً للاختيار عن الإنسان في فعله أو تركه ثمّ تعذيبه عليه ، ولذلك قال : «فانّ الله قدّره عليّ ثمّ يعذبني؟!» فعند ذاك أقرّه الخليفة على ما استغربه ، وقال : نعم يا ابن اللخناء.

استغلال الأُمويّين للقدر

إنّ طبيعة الحكومات الاستبدادية هي تبرير كلّ ما يسود المجتمع من الفقر والظلم والاعتساف بعامل خارج عن دائرة حكمهم كقضاء الله سبحانه وقدره حتّى لا يعترض عليهم معترض.

ومن هنا وجد التفسيرُ الخاطئ للدين طريقَه إلى المجتمع الحاضر وانّه وسيلة لدعم الجهاز الحاكم ، وقد استغل الشيوعيون والعلمانيُّون هذه الفكرة لإبعاد الناس عن الدين ولكنّهم خلطوا سهواً أو عمداً بين كون الدين الواقعي - الذي أُلهم على قلوب الأنبياء ولا أن يكون مسانداً للجهاز الظالم - وبين التفسير الباطل للدين ، إذ كيف يكون الدين مسانداً للسلطات الزمنية الجائرة مع أنّه يأمر بالعدل

ص : 51


1- تاريخ الخلفاء للسيوطي : 95.

والاحسان وينهى عن الظلم والفحشاء؟! يقول إمام المسلمين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - راوياً عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لن تقدس أُمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القوي غير متعتع». (1)

1. انّ الأمويين استغلّوا الجبر لإرساء قواعد حُكْمِهم حتى أنّ معاوية لمّا نصب ولده يزيداً خليفة للمسلمين وسلّطه على رقاب المسلمين اعترضت عليه أُمّ المؤمنين عائشة ، فأجابها معاوية : إنّ أمر يزيد قضاء من القضاء وليس للعباد الخيرة من أمرهم. (2)

2. وبهذا أيضاً أجاب معاوية عبد الله بن عمر عند ما سأل معاوية عن تنصيبه يزيدَ للحكم؟ بقوله : إنّي أُحذرك أن تشق عصا المسلمين وتسعى في تفريق ملئهم وأن تسفك دماءهم ، وانّ أمر يزيد قد كان قضاءً من القضاء وليس للعباد خيرة من أمره. (3)

3. وقد سرى هذا الاعتذار إلى غير الأمويّين من الذين ساروا في ركب الخلفاء ، فهذا هو عمر بن سعد بن أبي وقاص ، قاتل الإمام الشهيد الحسين - عليه السلام - فلمّا اعترض عليه عبد الله بن مطيع العدوي بقوله : اخترت همدَان والريَ على قتل ابن عمك؟! فقال عمر : كانت أُمور قُضِيتْ من السماء وقد أعذرت إلى ابن عمي قبل الوقعة فأبى إلاّ ما أبى. (4)

4. وقد برّرتْ عائشة أُم المؤمنين خلافَها مع علي - عليه السلام - بالقضاء والقدر ، على ما رواه الخطيب عن أبي قتادة فعند ما ذكر قصة الخوارج في النهروان لعائشة أجابته

ص : 52


1- نهج البلاغة ، قسم الرسائل برقم 53.
2- الإمامة والسياسة لابن قتيبة : 1 / 167.
3- الإمامة والسياسية : 1 / 171.
4- طبقات ابن سعد : 5 / 148 ، ط بيروت.

أُمّ المؤمنين بقولها : وما يمنعني ما بيني وبين عليّ أن أقول الحق ، سمعت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول : «تفترق أُمّتي على فرقتين تمرق بينهما فرقة محلّقون رءوسهم ، مخفّون شواربهم ، أزرهم إلى أنصاف سوقهم ، يقرءون القرآن لا يتجاوز تراقيهم يقتلهم أحبهم إليّ ، وأحبهم إلى الله» ، قال : يا أُمّ المؤمنين فأنت تعلمين هذا فلم كان الذي منك؟! قالت : يا قتادة وكان أمر الله قدراً مقدوراً ، وللقدر أسباب!!. (1)

التقدير المساوي للجبر عقيدة مستوردة

ومن العوامل التي صارت سبباً لتركيز فكرة الجبر بين المسلمين هي الأساطير التي حاكها الأحبار والرهبان ونشروها بين المسلمين حول القضاء والقدر ، فهذا هو حماد بن سلمة يروي عن أبي سنان قال : سمعنا وهب بن منبه ، قال : كنتُ أقول بالقدر حتّى قرأت بضعة وسبعين كتاباً مَنْ كتب الأنبياء في كلّها : من جعل لنفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر ، فتركتُ قولي. (2)

والمراد من القدر في قوله : «كنت أقول بالقدر» ليس القول بتقدير الله سبحانه وقضائه ، بل المراد هو القول بالاختيار والمشيئة للعبد كما يظهر من ذيل كلامه.

وهذا النقل يعطي انّ القول بنفي الاختيار والمشيية للإنسان ، قد تسرّب إلى الأوساط الإسلامية عن طريق هذه الجماعة وعن الكتب الإسرائيلية أفيصحّ بعد هذا أن نعد القول بنفي المشيئة للإنسان عقيدة جاء بها القرآن والسنّة النبوية ، ونكفّر من قال بالمشيئة له ولو مشيئة ظلية تابعة لمشيئته سبحانه ، ونقاتل في سبيل هذه العقيدة؟!

ص : 53


1- تاريخ بغداد : 1 / 160.
2- ميزان الاعتدال : 4 / 353.
حديث «الفراغ من الأمر» بدعة يهوديّة

يجد الباحث في ثنايا الأحاديث وكلمات المحدّثين قولهم : «إنّ الله سبحانه قد فرغ من الأمر» ، أي قد فرغ سبحانه من أمر التدبير والتكوين فلا يتغيّر ما قُدّر ، ولا يتبدّل ما قضى به ، وهو بظاهره نفس الجبر ، إذ معناه انّه لا محيص للإنسان إلاّ العمل بما قُدّر وقضى ولا يتمكّن من تغييره وتبديله ، وبالتالي لا خيرة للإنسان في حياته فيما يختار أو يترك مع أنّه سبحانه يحكم على خلافه ويقول : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ * يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ). (1)

وهل يمحو إلاّ ما أثبتَ؟! فلو كان قد فرغ من الأمر فما معنى محو ما أثبته وقدّره؟ كيف والله سبحانه مبسوط اليد لا يكبّله تقديره وقضاؤه ، فله السيادة على القضاء والقدر دونهما عليه؟!

وهذا هو الثعلبي ينقل عن مجاهد قال : قالت قريش : «حينما أنزل (ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ) ما لنا نراك يا محمد تملك من شيء وقد فرغ من أمره ، فأنزلت هذه الآية تخويفاً ووعداً لهم ، أي أن يشأ أحدثها من أمر - إلى أن قال : - ويُحدث في كلّ رمضان في ليلة القدر ويمحو ويُثبت ما يشاء من أرزاق الناس ومسائلهم وما يؤتيهم ويُنسأهم له. (2)

وقد تطرق عن طريق تلامذة الاحبار والرهبان انّه سبحانه يمحو ما يشاء ويثبت إلاّ الحياة والموت والشقاء والسعادة فانّهما لا يتغيران ، ونقله السيوطي عن

ص : 54


1- الرعد : 38 - 39.
2- تفسير الثعلبي ، المسمّى بالكشف والبيان : 5 / 298 ؛ الدر المنثور : 4 / 659 واللفظ للثاني.

غير واحد من الصحابة والتابعين الذين كانوا يحسنون الظن باحبار اليهود ورهبان النصارى.

أخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ...) قال : إلاّ الحياة والموت ، والشقاء والسعادة فانّهما لا يتغيّران. (1)

أخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عمر : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) : إلاّ الشقوة والسعادة والحياة والموت. (2)

وقد روى عن ابن عباس : قال : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) قال : «ذلك كلّ ليلة القدر يرفع ويخفض ويرزق» أي غير الحياة والموت والشقاوة والسعادة ، فإنّ ذلك لا يزول. (3)

وأظنّ أنّ الرواية مكذوبة على لسان ابن عباس تلميذ الإمام أمير المؤمنين - عليه السلام - ، فإنّ الإمام - عليه السلام - وبيته الرفيع مجمعون على إمكان تغيير المصير حتّى السعادة والشقاء بالأعمال الصالحة والطالحة.

إنّ سيادة القدر على مصير الإنسان على نحو يسلب عنه الاختيار ولا يتمكّن من تبديل ما قدّر إلى خلافه ، نفس القول بالجبر وسيادته.

إنّ هذا القول مرفوض عقلاً ، وكتاباً ، فإنّ إطلاق الكتاب في المحو الإثبات ، يعمّ الجميع حتّى الموت والحياة والسعادة والشقاء.

إنّ قوم يونس قد غيّروا مصيرهم السيّئ بالتوبة والعمل الصالح. يقول سبحانه : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا

ص : 55


1- الدرّ المنثور : 4 / 663 ، 661 ، 662.
2- الدرّ المنثور : 4 / 663 ، 661 ، 662.
3- الدرّ المنثور : 4 / 663 ، 661 ، 662.

عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ). (1)

ويدلّ على ذلك أيضاً الروايات المتضافرة.

أخرج ابن أبي شيبة في «المصنّف» وابن أبي الدنيا في الدعاء ، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : ما دعا عبد قطّ بهذه الدعوات إلاّ وسّع الله له في معيشته : يا ذا المن ولا يُمنُّ عليه ، يا ذا الجلال والإكرام ، يا ذا الطول لا إله إلاّ أنت ، ظهر اللاجئين ، وجار المستجيرين ، ومأمن الخائفين ، إن كنت كتبتني عندك في أُمّ الكتاب شقيّاً فامح عني اسم الشقاء وأثبتني عندك سعيداً ... ، - إلى أن قال - : فإنّك تقول في كتابك الذي أنزلت (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ). (2)

ص : 56


1- يونس : 98.
2- الدر المنثور : 4 / 661 ، وبهذا المضمون روايات أُخرى لاحظ ص 663.

2- أحاديث لا تفارق الجبرَ قيد شعرة

إنّ اتّفاق المحدّثين على أنّ الصحيحين وبعدهما السنن الأربع ، من أصحّ الكتب بعد القرآن الكريم ، عاق الكثير من المحقّقين من الخوض فيهما نقداً وتمحيصاً ، ولو لا هذا الاتّفاق ، لقام المحقّقون بالنقد والتمحيص فيما كان مخالفاً للكتاب والسنّة النبوية القطعية والعقل الصريح ، وها نحن نسرد في المقام بعض ما جاء في الصحيحين ما لا يفارق الجبر قيد شعرة وهو إمّا مؤوّل أو موضوع على لسان الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -.

1. روى مسلم في صحيحه عن زيد بن وهب ، عن عبد الله قال : حدّثنا رسول الله - وهو الصادق - أنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أُمّه أربعين يوماً ، ثمّ يكون في ذلك علقة مثل ذلك ، ثمّ يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ، ثمّ يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ، فوالذي لا إله غيره إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنّة حتّى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتّى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. (1)

ص : 57


1- صحيح مسلم : 8 / 44 ، كتاب القدر.

فعلى هذا لا يقدر الإنسان على إضلال نفسه ولا هدايتها كما لا يقدر على أن يجعل نفسه من أهل الجنة أو النار ، ولو حاول لتحصيل شيء منها ، سبقَ الكتابُ حائلاً بينه وبين إرادته ، وهذا هو نفس القول بأنّ الإنسان مسيّر لا مخيّر.

ثمّ إنّ الإمام النووي الشارح لصحيح مسلم نظر إلى هذه الأحاديث بعين الرضا والقبول ، فلما رأى انّها لا تفارق الجبر قيد شعرة حاول تأويل قوله : «فيسبق عليه الكتاب» في كلا الموضعين ، وقال : «انّ هذا قد يقع في نادر من الناس لا أنّه غالب فيهم».

ثمّ إنّ من لطف الله تعالى وسعة رحمته انقلابُ الناس من الشر إلى الخير في كثرة وأمّا انقلابهم من الخير إلى الشر ففي غاية الندور ونهاية القلة ، وهو نحو قوله تعالى : «إنّ رحمتي سبقت غضبي وغلبت غضبي». (1)

يلاحظ عليه أوّلاً : بانّ حمل أحد الطرفين على الغلبة والطرف الآخر على وجه الندرة قسمة ضيزى فانّ ظاهر الحديث أنّ سبق الكتاب في الطرفين سيّان.

وثانياً : انّ الحديث ظاهر في غلبة القدر على عمل الإنسان ونيته فربما يجعل الصالح طالحاً والطالح صالحاً ، ولا صلة له بسبق رحمته على غضبه والظاهر انّ هذه الأحاديث حيكت على وفق عقائد اليهود الذين ذهبوا إلى انّ يده سبحانه مغلولة فبعد ما قضى ، لا يتمكن من تغييره ، غُلَّت أيديهم.

2. وروى عنه أيضاً حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : «يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين ليلة فيقول : يا رب أشقي أو سعيد؟ فيكتبان ، فيقول : أي رب أذكر أو أُنثى؟ فيكتبان ، ويكتب عمله

ص : 58


1- شرح صحيح مسلم للنووي : 16 / 435.

وأثره وأجله ورزقه ، ثمّ تُطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص». (1)

فعلى هذا فالصحف الأُولى التي قُدِّر فيها مصير الإنسان مطوية لا تفتح فلا يزيد فيها شيء ولا ينقص ، وهذا لا يختلف عن الجبر قيد شعرة.

إنّ تفسير القضاء والقدر - اللّذين هما من المعارف العليا في الإسلام - بالمعنى الوارد في الرواية يجعل الإنسان مكتوف اليدين في خضمِّ الحياة فيسلب عنه كلّ سعي في طريق السعادة إذا كتب من أهل الشقاء أو في طريق الشقاء إذا كتب من أهل السعادة.

3. روى عبد الله بن عمر ، عن أبيه قال : يا رسول الله أرأيت ما نعمل فيه أمر مبتدع أو فيما قد فرغ منه؟ فقال : بل فيما قد فرغ منه ، يا ابن الخطاب وكلّ ميسر ، أمّا من كان من أهل السعادة فإنّه يعمل للسعادة ، وأمّا من كان من أهل الشقاء فإنّه يعمل للشقاء.

وفي رواية قال : لمّا نزلت (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) سألت رسول الله ، فقلت : يا نبي الله فعلامَ نعمل ، على شيء قد فرغ منه ، أو على شيء لم يفرغ منه؟ قال : بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ، ولكن كلّ ميسّر لما خلق له. (2)

وهذا الحديث يعرب عن أنّه قد تمّ القضاء على الناس في الأزل وجعلهم صنفين وكلّ ميسر لما خلق له في الأزل لا لما لم يخلق له ، فأهل السعادة ميسّرون للاعمال الصالحة فقط وأهل الشقاء ميسّرون للأعمال الطالحة فقط ، وأي جبر أوضح وأبين ممّا جاء في هذا الحديث.

ص : 59


1- صحيح مسلم : 8 / 45 ، كتاب القدر.
2- صحيح مسلم : 8 / 45 ، كتاب القدر.

3- مضاعفات القول بالجبر

اشارة

إنّ للقول بالجبر وإنّ الإنسان مسيّر لا مخيّر ، مضاعفات كثيرة ، نشير إلى قسم منها ونحيل الباقي إلى مجال آخر :

1. انتفاء الغرض من بعثة الأنبياء

إنّ الغرض من بعثة الأنبياء هو دعوة الناس وإرشادهم إلى معالم التوحيد ونهيهم عن الشرك في مجال العقيدة ، وإلى محاسن الأخلاق وزجرهم عن مساويها في مجال العمل ، يقول سبحانه : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (1) ، وقال سبحانه : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) (2) إلى غير ذلك من الآيات التي تعكس الهدف المنشود من وراء بعث الأنبياء ، ولا يتحقّق هذا الغرض إلاّ في ظل كون الإنسان مخيّراً لا مسيَّراً ، فلو كان مسيّراً فكلّ إنسان كتب عليه النار ، فهو يدخلها ، إذن فما هو فائدة بعث الأنبياء ، فإنّ دعوة الأنبياء وعدمها بالنسبة إليه سيّان؟! وهذا من الوضوح بمكان لا يحتاج إلى التطويل.

ص : 60


1- النحل : 36.
2- البقرة : 213.
2. انتفاء فائدة المناهج التربوية

التربية عبارة عن توفير أرضية مناسبة لخروج ما هو بالقوة إلى منصّة الظهور والفعلية ، وهذا كالمزارع والفلاح القائمين بتربية البذور والنباتات فيوفّران ما يحتاجان إليه في إخراج الاستعداد المكنون فيهما إلى حيز الظهور والكمال ، فليس للمربّى دور الخلق والإيجاد ، بل تهيئة الظروف المناسبة لأن يُظهر الشيءُ كمالَه المستور لكي ينقلب البذر زرعاً والنبات شجراً.

وعلى ضوء ذلك فالمناهج التربوية في الإنسان ، شعارها رفع المستوى الفكري له وسوقه نحو الفضائل ومنعه من السقوط في هاوية الرذائل ، ومن المعلوم أنّ تحقّق هذه الغاية رهن وجود الحرية في الإنسان لكي يقع في إطار التربية ، فيسير حسب الضوء الذي يريه المربي ، فلو كان مسيّراً لا مخيّراً فإعمال الأساليب التربوية يُصبح أمراً لغواً غير مؤثر.

3. تكذيب الكتاب العزيز

إنّ من سبر الكتاب العزيز وتجرد عن عامّة الرواسب يجد انّ القرآن يصوّر الإنسان فاعلاً مختاراً يخاطبه فينصحه تارة ، ويأمره أُخرى ، ويزجره ثالثاً ، ويعده رابعاً ويوعده خامساً ، إلى غير ذلك من علائم الاختيار وآثاره ، ونذكر منها ما يلي :

1. قوله سبحانه : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً).

2. قوله سبحانه : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً). (1)

ص : 61


1- الكهف : 29.

ولله در الشهيد السعيد زين الدين العاملي حينما أنشد :

لقد جاء في القرآن آيةُ حكمة *** تدمِّر آياتِ الضلال ومن يُجبر

وتخبر انّ الاختيار بأيدينا *** فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر

3. قال سبحانه : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ). (1)

4. قال سبحانه : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ). (2)

5. قال سبحانه : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ). (3)

6. قال تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى * ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى). (4)

إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في أنّ الإنسان مخيّر فيما يختار ويترك وليس في حياته عاملُ ضغط باسم القدر والقضاء أو غيره ، يسلب عنه الاختيار ، وأمّا الآيات التي ربّما يستشم منها الجبر ، ككون الهداية والضلال بيد الله سبحانه فسيوافيك تفسيرها.

4. الجبري في ساحة الحياة ، اختياريّ

كلّ من رفع راية الجبر واتّسم به في الحياة ، وبنى عليه منهجاً فلسفياً ، فهو يغالط نفسه ، فترى أنّه إذا ظُلم وغصب حقّه ، يندِّد بالظالم ويرفع شكواه إلى

ص : 62


1- فصلت : 46.
2- الطور : 21.
3- النور : 11.
4- النجم : 4139.

المحاكم حتّى يأخذ الحاكم حقّه من الغاصب والظالم ، فلو لم يكن لخصمه خيرة واختيار فما معنى التنديد والتعرض له؟ وهذا يدلّ على أنّه يصوّر الخصم المخالف إنساناً مختاراً غصب ما يملكه عن اختيار وله أن يقوم بردّه إلى صاحبه.

وبالجملة كلّ من رفع عقيرته بالجبر فهو حين الجدال والسجال وإن كان جبريّاً ولكنّه في حياته الاجتماعية اختياري على ضد الجبر ولا يقبل أيّ عذر لخصمه!!

5. الجبر واجهة لنيل المزيد من الحرية

إنّ من دوافع القول بالجبر هو اشباع الميول والغرائز الحيوانية في الحياة ، فالجبري يطلب المزيد من الحرية من وراء ادّعائه الجبر ، ويتستر تحت واجهة الجبر ليخلِّص نفسه من عهدة التكليف والمسئولية ، ففي الحقيقة هو لا يؤمن بالجبر كمنهج للحياة ، بل يعتقد بالحرية فيها ليعيش فيها وفقاً لما تمليه عليه غرائزه الجامحة.

إلى هنا تم الحديث عن بعض مضاعفات الجبر.

ص : 63

4- شبهات وحلول

اشارة

ثمّ إنّ للقائلين بالجبر شبهات مختلفة ربما يغتر بها السذج من الناس ، فها نحن نستعرض تلك الشبهات ونضع أمام القارئ حلولاً لها على نحو لا يبقى لمشكك شك ولا لمريب ريب ، فنقول :

الشبهة الأُولى
1. مثلث الشخصية

إنّ فعل الإنسان تعبير عن شخصيّته المكوّنة بأُصول ثلاثة يعبّر عنها بمثلث الشخصية وإن كانت الأضلاع في بنائها ومقدار تأثيرها غير متساوية ، ولكن كلّ ضلع يؤثر فيها تأثيراً قطعيّاً ، وأمّا أضلاعها :

أ. ناموس الوراثة.

ب. الثقافة.

ج. البيئة.

أمّا الأوّل : فهو أمر اعترف به العلم والتجربة ويلمسه كل إنسان واع ، فالولد كما يرث الصفات الجسمانية للوالدين كذلك يرث صفاتهما الخُلقية وينشأ

ص : 64

عليها ، يقول الشاعر :

ينشأ الصغير على ما كان والده *** انّ الأُصول عليها ينبت الشجر

فاللبنة الأُولى في بناء الشخصية الصالحة أم الطالحة هي ما يرث الولد من الوالدين من الفضائل والرذائل ، وقد كشف العلم أنّ الجينات الموجودة في النطفة الإنسانية سبب طبيعي وعامل لانتقال هذه الصفات من الوالدين إلى الطفل.

وأمّا الثاني فيأتي دوره بعد دور الوراثة حيث إنّ المعلّم يمثِّل المدرسة التربوية الثانية بعد مدرسة الأبوين ، ولهذا يكون دور التعليم في مصير الطفل دوراً حسّاساً في قلبه.

وأمّا الثالث فيأتي دوره إذا أتمّ دراسته وبدأ ممارسة العمل ، فعندئذ يتأثر في سلوكه وخُلقه بالبيئة التي يعيش فيها ، فإذا كانت العوامل الثلاثة متجانسة في الغاية والأثر ، يقع الكلّ في طريق تكوين الشخصية الواحدة بلا صراع بينها ولا نزاع ، وأمّا إذا كان بينها نزاع وصراع في الغاية والدعوة ، فتكون النتيجة من حيث السلوك ، تابعة لأقوى العوامل وأرسخها في الروح وهو يختلف حسب اختلاف تأثير الأوفر سهماً من هذه ، ولأجل ذلك يوجد من يختار سلوك الآباء كما يوجد من يتركه ويقتفي أثر الثقافة أو البيئة.

وعلى كلّ تقدير فالإنسان مختار صورة ، لكنّه مسيّر سيرة يخط مصيره هذه العوامل أو أقواها تأثيراً.

يلاحظ عليه : أوّلاً : بأنّ ما ذكر من تأثير العوامل الثلاثة في بناء الشخصية أمر لا غبار عليه ، إنّما الكلام في كونها علّة تامّة أو معدّات تُوجِد أرضية لنمو مقتضاها ، ولا تُوجِدُ حتمية ، غير قابلة للتغيير :

ص : 65

أمّا العامل الأوّل فلا شكّ في تأثيره ، وقد قال سبحانه : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً). (1) وفي الآيات والروايات تصريحات وإشارات إلى ذلك ، لكن أثرها بين غير قابل للتغيير ، كالبُله والحُمق والبلادة ، وبين قابل له في ظلّ عوامل تربوية ، ولأجل ذلك ربما يكون الولد المتولّد من أبوين بارّين ، خائناً وجانياً ، كما ربما يكون الولد المتولّد من أبوين طاغيين ، إنساناً صالحاً مطيعاً ، والأوّل كولد نوح ، والثاني كعمر بن عبد العزيز الأموي.

ومثله العامل الثاني ، فليس عاملاً حتميّ الأثر وقطعيّ النتيجة ، فربّما يسعى الوالدان ، لتغيير ما أوجده التعلّم من الآثار الطيّبة أو الخبيثة.

ولا يقلُّ عنه العامل الثالث ، فقد أثّرت البيئة الفاسدة على امرأة نوح وامرأة لوط ، فأفسدتهما (2) وفي الوقت نفسه بقيت في بيت نوح عدّة على صلاحهم وفلاحهم. فهذه العوامل بأجمعها معدّات ، لا علّة تامّة في بناء الشخصية الحتمية غير القابلة للتغيير.

ثانياً : أنّ العوامل المكوِّنة للشخصية الإنسانية لا تنحصر في العوامل الثلاثة المذكورة التي اختارها المادي ، لأنّها تناسب ما يبتغيه ، كيف وانّ هناك أبعاداً روحية للإنسان وأحاسيس خاصة ، توحي إليه خير الحياة وتدفعه إليها ، بحماس ، وإن لم يكن علّة تامة أيضاً في التخطيط ، وهي عبارة عن الإدراكات النابعة من داخل الإنسان وفطرته من دون أن يتدخل في الإيحاء عامل خارجي ، كإحساسه بالجوع والعطش ، ورغبته في الزواج في سنين معيّنة ، والاشتياق إلى المال والمنصب في فترات من حياته ، وميله إلى ما هو حسن بالذات وهروبه عمّا هو قبيح كذلك ،

ص : 66


1- الأعراف : 58.
2- لاحظ سورة التحريم ، الآية 10.

كالإحسان والأمانة والوفاء بالميثاق ، وفي مقابله الظلم ، والخيانة ، ونقض العهد. تلك المعارف - وإن شئت سمّيتها بالأحاسيس - تنبع من ذات الإنسان وأعماق وجوده.

ص : 67

الشبهة الثانية : أفعال الإنسان في إطار القضاء والقدر
اشارة

القدر بمعنى انّه سبحانه يقدّر وجود الشيء ويحدّده كمّاً وكيفاً وزماناً ومكاناً إلى غير ذلك من الخصوصيات الحافّة بالشيء قبل تحقّقه وايجاده. هذا هو التقدير ، وأمّا القضاء فهو حكمه القطعي بتحقّق ذلك الشيء المقدّر في ظرفه.

هذا حسَب أُصولنا وأمّا على أُصول غيرنا ، «فالقضاء» هو إرادته سبحانه الأزلية ، «والقدر» هو ايجاد الشيء على قدر مخصوص كما سيوافيك. (1)

فقد أخذوا من القدر ، المعنى العيني وغفلوا عن معناه العلمي ، فالتقدير منه علمي قبل الايجاد ، ومنه عيني معه.

والتقدير والقضاء بهذا المعنى يشمل كلّ ما في الكون من الموجودات الممكنة من السماء والأرض وما فيها حتّى الإنسان وجوده وفعله.

وإن أردنا أن نشبه المعقول بالمحسوس فنقول :

ص : 68


1- لاحظ ص 78.

التقدير والقضاء أشبه بعمل الخياط عند ما يأخذ قياسات الثوب ، ثمّ يشرع بخياطته ولو لا ذلك لتعسّر عليه الخياطة.

ما هو محط النزاع في المقام؟

إنّ محطّ النزاع في القضاء والقدر ، هو أفعال الإنسان ، التي يترتّب عليها الثواب والعقاب ، ويحمد أو يذمّ ، فهل وقوعها في إطار القضاء والقدر يسلب عنه الاختيار ويسود عليها ، الجبر والحتم ، أو لا؟!

وأمّا ما وراء ذلك من الأُمور الكونية سواء أكان له صلة بحياة الإنسان وأفعاله أم لا ، فخارج عن محط النزاع ، فالقول بسيادة الجبر عليه ، نظر إلى الخصوصيات الكامنة في وجوده ، تعبير واضح عن واقع وجوده مثلاً.

1. انّ حركة الشمس والقمر وما بينهما وفوقهما من السيارات والكواكب والمجرّات ، حركات جبرية لأنّه سبحانه قدّر وجودها ، وحركاتها بهذه الخصوصية وقضى عليها به ، يقول سبحانه : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (1) فالجميع فواعل ، تسخرية غير شاعرة بأفعالها.

2. ما يقوم به النحل والنمل من الأفاعيل العجيبة ، المحيّرة للعقول حركات تسخرية ، يقوم به عن شعور ، ولكن لا بحرية واختيار فقد كتبت عليهما بقلم الفضاء ان يتخذ من الجبال بيوتاً والشجر وممّا يعرشون يقول سبحانه حاكياً عن القضاء المحتوم على النحل : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ

ص : 69


1- النحل : 12.

ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). (1)

فالنحل ذاته ووجوده وعمله وصنعه واقع في إطار التقدير والقضاء والنظام السائد على ذلك ، هو سيادة الجبر عليه وأشباهه.

3. انّ خلقة الإنسان ونشؤه من النطفة إلى العلقة ، إلى المضغة إلى العظام إلى غير ذلك ممّا يجري عليه إلى أن يؤكد وينمو ويشبّ ويشيب ، ويموت كلّها واقع في إطار التقدير والقضاء ، لا خيار للإنسان فيه ، شاء أم لم يشأ ، فالقول بسيادة الجبر عليه في هذه المرحلة تعبير واقعي ، لا ينافي حكم العقل والشرع.

4. انّ ما يواجهه الإنسان في حياته ، ممّا يبتلي به غير مريد به كالطوفان الجارف الذي يكتسح مزرعته ، والسيل العارم الذي يهدم منزله وبيته ، والزلزال الشديد ، الذي يزعزع بنيانه وبالتالي يخسر ويتضرر ، كلّها بقدر من الله سبحانه لا يُلام بها الإنسان ولا يذمّ وهو أيضاً كسوابقه خارج عن محطّ البحث.

فالذي تدور عليه رحى النزاع والدراسة ، ما يصدر عن الإنسان من الأفعال التي في وسعه تركها أو فعلها ، فهل وقوعها في إطار التقدير يجرّنا إلى القول بالجبر ، أولا صلة بين القول بالقضاء والقدر ، واستنتاج الجبر منه؟

وهذا موضوع بحثنا ودراستنا.

إنّ كثيراً من الناس زعموا انّ القول بالقضاء والقدر يضادّ كون الإنسان مخيراً ، وقد كان ذلك الزعم سائداً في عصر الإمام أمير المؤمنين حيث أقبل شيخ إلى الإمام علي - عليه السلام - عند منصرفه من صفين فقال : أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام ، أبقضاء الله وقدره؟

ص : 70


1- النحل : 66.

فقال : «أجل يا شيخُ ما علَوتُم من تلْعة ولا هبطتم من واد إلاّ بقضاء من الله وقدره فقال الشيخ : عند الله احتسب عنائي يا أمير المؤمنين. (1)

فقال أمير المؤمنين - عليه السلام - : «يا شيخ ، فو الله لقد عظّم الله لكم الأجر في مسيركم ، وأنتم سائرون ، وفي مقامكم إذ أنتم مقيمون ، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ، لم تكونوا في شيء من حالاتكم مُكْرَهين ، ولا إليه مضطرّين».

فقال الشيخ : فكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ، ولا إليه مضطرين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا؟!

فقال أمير المؤمنين - عليه السلام - : «أتظن أنّه كان قضاءً حتماً ، وقدراً لازماً ، إنّه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب ، والأمر والنهي ، والزجر من الله تعالى ، وسقط معنى الوعد والوعيد ، ولم تكن لائمة للمذنب ، ولا مَحْمَدَة للمحسن ، ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن ، ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب ، وتلك مقالة إخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن ، وحزب الشيطان وقدرية هذه الأُمّة ومجوسها ، وانّ الله كلّف تخييراً ونهى تحذيراً ، وأعطى على القليل كثيراً ، ولم يُعص مغلوباً ، ولم يُطع مكرهاً ، ولم يملِّك مفوِّضاً ، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً ، ولم يبعث النبيّين مبشّرين ومنذرين عبثاً ، ذلك ظن الّذين كفروا فويل للّذين كفروا من النار». (2)

والحديث جمع بين القول بين القدر والقضاء وكون الإنسان مخيّراً لا مسيّراً. وانّ الإيمان بالقدر ، لا يجعل الإنسان مكتوف اليدين بل هو مختار غير مكرَه.

ولقد بقيت الفكرة بعد رحيل الإمام علي - عليه السلام - وتسرّبت إلى كثير من الأوساط

ص : 71


1- ومعنى هذه الجملة : انّي لم أقم بعمل اختياري ، ولأجل ذلك احتسب عنائي عند الله.
2- الصدوق : التوحيد : 380 ، الحديث 28.

فجعلوا القضاء والقدر من أدلّة الجبر.

ولمّا كان في القول بالقضاء والقدر وصمة الجبر ، أنكرت المعتزلة وقوع الأفعال الاختيارية الصادرة عن العباد متعلّقة بالقضاء والقدر ، خلافاً للأشاعرة فقد جعلوا الأفعال متعلّقاً للقضاء والقدر ، فقالوا : إنّ قضاء الله هو إرادته الأزلية المتعلّقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال ، وقدره إيجادها إيّاها على قدر مخصوص وتقدير معيّن في ذواتها وأحوالها. (1)

أقول : لا شكّ انّ كلّ ما في الكون من كبير وصغير وجليل ودقيق من الجواهر والأعراض كلّها واقعة في إطار القدر والقضاء ، غير أنّ استنتاج الجبر من القدر والقضاء ، استنتاج خاطئ ، بل القول بهما يؤكد الاختيار على خلاف ما يستنتجه القائلون بالجبر. وإليك توضيح المقام فانّه يطلق القضاء والقدر على معنيين :

ص : 72


1- شرح المواقف : 8 / 181180.
1- المعنى الأوّل للقضاء والقدر
القضاء والقدر : السنن الكونية

يُطلق القضاء والقدر ويراد بهما السنن الكونية الواردة في الكتاب والسنّة السائدة على الكون عامّة ، والإنسان خاصة وبيد الإنسان مفتاح التظلّل تحت أي سنّة من السنن ، ونذكر من هذه السنن ، الشيء القليل من الكثير :

1. قال سبحانه حاكياً عن شيخ الأنبياء نوح - عليه السلام - :

(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً). (1)

فترى أنّ نوحاً - عليه السلام - يجعل الاستغفار سبباً مؤثراً في نزول المطر وكثرة الأموال وجريان الأنهار ، ووفرة الأولاد. وإنكار تأثير الاستغفار في هذه الكائنات أشبه بكلمات الملاحدة. وموقف الاستغفار هنا موقف العلّة التامّة أو المقتضي بالنسبة إليها ، والآية تهدف إلى أنّ الرجوع إلى الله وإقامة دينه وأحكامه ، يسوق المجتمع إلى النظر والعدل والقسط ، إذ في ظلّه تنصبّ القوى على بناء المجتمع على أساس

ص : 73


1- نوح : 1210.

صحيح ، فتُصرف القوى في العمران والزراعة وسائر مجالات المصالح الاقتصادية العامّة ؛ كما أنّ العمل على خلاف هذه السنّة ، وهو رجوع المجتمع عن الله وعن الطهارة في القلب والعمل ، ينتج خلاف ذلك.

وللمجتمع الخيار في التمسّك بأهداب أيّة من السُّنتين ، فالكلّ قضاء الله وتقديره. فمن تمسّك بالأُولى فقد تمسّك بقضاء الله ، كما أنّ تمسّك بالثانية فقد تمسّك به أيضاً.

2. قال سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ). (1)

3. قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ). (2)

4. قال سبحانه : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ). (3)

والتقرير في مورد هذه الآيات الثلاث مثله في الآية السابقة عليها وللإنسان الخيار في الأخذ بأيّة من السّنتين.

5. وقال سبحانه : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ). (4)

ترى أنّ الآية تتكفّل ببيان كلا طرفي السنّة الإلهية إيجاباً وسلباً ، وتُبيّن النتيجة المترتّبة على كلّ واحد منهما. والكلّ قضاؤه وتقديره والخيار في سلوكهما للمجتمع.

6. وقال سبحانه : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا

ص : 74


1- الأعراف : 96.
2- الرعد : 11.
3- الأنفال : 53.
4- إبراهيم : 7.

يَحْتَسِبُ). (1)

7. وقال سبحانه : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ). (2)

فالمجتمع المؤمن بالله وكتابه وسنّة رسوله إيماناً راسخاً يثبّته الله سبحانه في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، كما أنّ الظالم والعادل عن الله سبحانه يخذله سبحانه ولا يوفّقه إلى شيء من مراتب معرفته وهدايته. ولأجل ذلك يُرتِّب على تلك الآية قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ). (3)

8. وقال سبحانه : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ). (4)

فالصالحون لأجل تحلِّيهم بالصلاح في العقيدة والعمل ، يغلبون الظالمين وتكون السيادة لهم ، والذلّة والخذلان لمخالفيهم.

9. وقال سبحانه : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ). (5)

فالاستخلاف في الأرض نتيجة الإيمان بالله والعمل الصالح وإقامة دينه على وجه التمام ، ويترتّب عليه - وراء الاستخلاف - ما ذكره في الآية من التمكين

ص : 75


1- الطلاق : 32.
2- إبراهيم : 27.
3- إبراهيم : 28 - 29.
4- الأنبياء : 105.
5- النور : 55.

وتبديل الخوف بالأمن.

10. وقال سبحانه : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها). (1)

والآيات الواردة حول الأمر بالسير في الأرض والاعتبار بما جرى على الأُمم السالفة لأجل عتوّهم وتكذيبهم رسل الله سبحانه ، كثيرة في القرآن الكريم ، تبيّن سنّته السائدة على الأُمم جمعاء.

11. وقال سبحانه : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ). (2)

12. وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ). (3)

13. وقال سبحانه : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ * وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ). (4)

والآية من أثبت الآيات المبيّنة لسنته تعالى في الذين كفروا ، فلا يصلح للمؤمن أن يغرّه تقلّبهم في البلاد ، وعليه أن ينظر في عاقبة أمرهم كقوم نوح والأحزاب من بعدهم ، حتّى يقف على أنّ للباطل جولة وللحقّ دولة ، وانّ مردّ الكافرين إلى الهلاك والدمار كما أنّ مردّ المؤمنين إلى الجنة ، والإنسان مخيّر بين

ص : 76


1- محمد : 10.
2- الأنفال : 29.
3- آل عمران : 137.
4- غافر : 64.

التظلّل تحت أي واحد منهما.

14. وقال سبحانه : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً * اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً). (1)

وما ذكرنا من الآيات نبذة من السنن الإلهيّة السائدة على الفرد والمجتمع. وفي وسع الباحث أن يتدبّر في آيات الكتاب العزيز حتّى يقف على سننه تعالى وقوانينه ، ثمّ يرجع إلى تاريخ الأُمم وأحوالها فيُصدِّق قوله سبحانه : (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً).

فالجميع من قضائه وقدره ، وللبشر أن يتظلل بأي واحد منهما شاء ... وليس في القول بالقضاء والقدر بهذا المعنى ، رائحة الجبر ، بل فيها تأكيد للاختيار. هذا هو المعنى الأوّل لهما وإليك المعنى الثاني.

ص : 77


1- فاطر : 42 - 43.
2. المعنى الثانى للقضاء والقدر
علمه الأزلي بتحقّق الشيء مع خصوصياته

المراد من القدر هو علمه سبحانه بالأزل بحد الشيء وخصوصيات وجوده وحدوده ، كما أنّ المراد من القضاء هو علمه بتحقّقه ووجوده ، وهذا ما يسمّى بالتقدير والقضاء العلميّين.

وربما يتوهّم انّ دخول فعل الإنسان في اطار القدر والقضاء يوجب سلب الاختيار عن الإنسان ، لأنّه سبحانه يعلم في الأزل فعل الإنسان حسب ما له من الخصوصيات ، ويعلم تحقّقه في المستقبل ، فإذا كان فعل الإنسان معلوماً لله سبحانه تقديراً وقضاءً فلا يبقى له الاختيار.

على هامش الشبهة

إنّ علمه الأزلي لم يتعلّق بصدور كلّ فعل عن فاعله على وجه الإطلاق ، بل تعلّق علمه بصدور كلّ فعل عن فاعله حسب الخصوصيات الموجودة فيه ، وعلى ضوء ذلك تعلّق علمه الأزلي بصدور الحرارة من النار على وجه الجبر بلا شعور ، كما تعلّق علمه الأزلي بصدور الرعشة من المرتعش ، عالماً بلا اختيار ، ولكن تعلّق علمه سبحانه بصدور فعل الإنسان الاختياري منه بقيد الاختيار والحرية ، فتعلّق

ص : 78

علمه بوجود الإنسان وكونه فاعلاً مختاراً ، وصدور فعله عنه اختياراً ، يؤكّد الاختيار ويدفع الجبر عن ساحة الإنسان.

وإن شئت قلت : إنّ العلّة إذا كانت عالمة شاعرة ، ومريدة ومختارة كالإنسان ، فقد تعلّق علمه بصدور أفعالها منها بتلك الخصوصيات ، وانصباغ فعلها بصبغة الاختيار والحرية. فلو صدر فعل الإنسان منه بهذه الكيفية لكان علمه مطابقاً للواقع غير متخلّف عنه ؛ وأمّا لو صدر فعله عنه في هذا المجال عن جبر واضطرار بلا علم وشعور ، أو بلا اختيار وإرادة ، فعند ذلك يتخلّف علمه عن الواقع.

ونقول توضيحاً لذلك : إنّ الأعمال الصادرة من الإنسان على قسمين : قسم يصدر منه بلا شعور ولا إرادة ، كأعمال الجهاز الدمويّ ، والجهاز المعويّ ، وجهاز القلب ، والأحشاء ، التي تتسم في أفعال الإنسان بسمة الأعمال الاضطرارية ، غير الاختيارية ؛ وقسم آخر يصدر منه عن إرادة واختيار ، ويتسم بسمة الأعمال الاختيارية غير الاضطرارية ، كدراسته ، وكتابته ، وتجارته ، وزراعته.

ولمّا كان علم الله تعالى تعبيراً عن الواقع على نحو لا يتخلّف عنه قيدَ شعرة ، فيتعلّق علم الله بأفعال الإنسان على ما هي عليه من الخصائص والألوان. فتكون النتيجة أنّه سبحانه يعلم من الأزل صدور فعل معين في لحظة معيّنة من إنسان معيّن إمّا بالاضطرار ، أو الإكراه ، أو بالاختيار والحرية ، وتعلّق مثل هذا العلم لا يُنتج الجبر ، بل يلازم الاختيار. ولو صدر كلّ قسم على خلاف ما اتّسم به لكان ذلك تخلّفاً عن الواقع.

ولمّا كان الموضوع ممّا ضلّ فيه كثير من الأفهام ، وزلّت أقدام غير واحد من الباحثين ، ندرس الموضوع على وجه التفصيل ، ونرفع النقاب عن وجه الواقع ،

ص : 79

بذكر بعض الأمثلة :

1. إذا كان تعلّق العلم بالفعل سالباً للاختيار وموجباً للجبر يلزم أن يكون سبحانه - نعوذ بالله - فاعلاً بالجبر ، لعلمه بفعله قبل إيجاده ، والله سبحانه هو الفاعل المختار لا يخضع لشيء.

2. انّ المعلم الذي يمارس التدريس ، بإمكانه التنبّؤ بنتائج الامتحان الذي سيقام لتلاميذه آخر الفصل الدراسي ، حيث يستطيع أن يميز بين الناجح منهم والراسب وتكون نتيجة الامتحان وفق ما تنبّأ به ، أفيصح للراسب في الامتحان أن يلقي وزر ذلك على عهدة معلمه؟!

فإنّ علم المعلّم وصّاف كشّاف يحكي عن الواقع ولا يؤثّر عليه وإنّما المؤثر على الواقع مؤهّلات التلميذ وسعيه وكدحه.

3. انّ علمه سبحانه لا يتعلّق بالمسبّب بما هو مسبّب وإنّما يتعلّق بضم المسبّب إلى أسبابه والنتائج إلى مقدّماتها ، فإذا كان السبب والمقدمة أمراً اختيارياً ، فأولى أن يكون المسبب كذلك.

كلمة للشيخ الغزالي حولَ استنتاج الجبر من العلم الإلهي

وللشيخ محمد الغزالي كلمة في نقد انّ العلم الإلهي يسلب الاختيار ، يقول : إنّ عامّة المسلمين يطوون أنفسهم على ما يُشبه عقيدة الجبر ولكنّهم حياءً من الله يسترون الجبر باختيار خافت موهوم ، وقد أسهمت بعض المرويات في تكوين هذه الشبهة وتمكينها ، وكانت بالتالي سبباً في إفساد الفكر الإسلامي وانهيار الحضارة والمجتمع.

إنّ العلم الإلهي المحيط بكلّ شيء وصّاف ، كشاف ، يصف ما كان ،

ص : 80

ويكشف ما يكون ، والكتاب الدالّ عليه يسجّل للواقع وحسب! لا يجعل السماء أرضاً ولا الجماد حيواناً ، إنّه صورة تطابق الأصل بلا زيادة ولا نقص ولا أثر لها في سلب أو إيجاب.

إنّ هذه الأوهام (التقدير سالب للاختيار) تكذيب للقرآن والسنّة ، فنحن بجهدنا وكدحنا ننجو أو نهلك ، والقول بأنّ كتاباً سبق علينا بذلك وأنّه لا حيلة لنا بإزاء ما كتب أزلاً هذا كلّه تضليل وإفك ، لقوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها). (1) (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ). (2)

والواقع انّ عقيدة الجبر تطويح بالوحي كلّه وتزييف للنشاط الإنساني من بدء الخلق إلى قيام الساعة ، بل هي تكذيب لله والمرسلين قاطبة ، ومن ثمّ فإنّنا نتناول بحذر شديد ما جاء في حديث مسلم وغيره : انّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتّى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار ، فيدخلها ، وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ...».

إلى أن قال : وكلّ ميل بعقيدة القدر إلى الجبر فهو تخريب متعمّد لدين الله ودنيا الناس ، وقد رأيت بعض النقلة والكاتبين يهوِّنون من الإرادة البشرية ومن أثرها في حاضر المرء ومستقبله وكأنّهم يقولون للناس أنتم محكومون بعلم سابق لا فكاك منه ومسوقون إلى مصير لا دخل لكم فيه ، فاجهدوا جهدكم فلن تخرجوا من الخط المرسوم لكم مهما بذلتم.

إنّ هذا الكلام الرديء ليس نضح قراءة واعية لكتاب ربنا ، ولا اقتداء

ص : 81


1- الأنعام : 104.
2- الكهف : 29.

دقيقاً بسنّة نبينا انّه تخليط قد جنينا منه المرّ.

وكل أثر مروي يشغب على حرية الإرادة البشرية في صنع المستقبل الأُخروي يجب أن لا نلتفت إليه ، فحقائق الدين الثابتة بالعقل والنقل لا يهدّها حديث واهي السند أو معلول المتن ، لكنّنا مهما نوّهنا بالإرادة الإنسانية فلا تنسى إنّنا داخل سفينة يتقاذفها بحر الحياة بين مد وجزر وصعود وهبوط ، والسفينة تحكمها الأمواج ، ولا تحْكم الأمواجَ ، ويعني هذا انّ نُلْزم موقفاً محدداً بإزاء الأوضاع المتغيرة التي تمرّ بنا هذا الموقف من صنعنا وبه نحاسب. (1)

ص : 82


1- السنّة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث للشيخ الغزالي : 144 - 157.
الشبهة الثالثة: الهداية والضلالة بيد الله
اشارة

دلّت الآيات القرآنية على أنّ الهداية والضلالة بيده سبحانه ، فهو يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء ، فإذا كان أمر الهداية مرتبطاً بمشيئته ، فلا يكون للعبد دور لا في الهداية ولا في الضلالة ، فالضال يعصي بلا اختيار ، والمهتدي يطيع كذلك وهذا بالجبر ، أشبه منه بالاختيار.

قال سبحانه :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). (1)

فإذا كانت الهداية والضلالة بيد الله سبحانه فما معنى الاختيار؟

على هامش الشبهة
اشارة

هذه هي الشبهة أو الاستدلال على القول بالجبر ولكن الإجابة عليها ليست أمراً مشكلاً بشرط أن نقف على أنّ الهداية على أقسام ، ونميز الهداية العامّة التي عليها تبتني مسألة الجبر والاختيار والهداية الخاصة التي مفتاحها بيد الإنسان ، وإليك التفصيل :

ص : 83


1- إبراهيم : 4.
1. الهداية التكوينية العامّة

والمراد منها خلق كلّ شيء وتجهيزه بما يهديه إلى الغاية التي خلق لها : قال سبحانه حاكياً كلام النبي موسى - عليه السلام - : (قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (1) ، وجهز كلّ موجود بجهاز يوصله إلى الكمال ، فالنبات مجهّز بأدقّ الأجهزة التي توصله في ظروف خاصة إلى تفتح طاقاته ، فالحبة المستورة تحت الأرض ترعاها أجهزة داخلية وعوامل خارجية كالماء والنور إلى أن تصير شجرة مثمرة ، ومثله الحيوان والإنسان فهذه الهداية عامة لجميع الأشياء ليس فيها تبعيض وتمييز.

قال سبحانه : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى). (2)

وقال سبحانه : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ). (3)

وقال سبحانه : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها). (4)

إلى غير ذلك من الآيات الواردة حول الهداية التكوينية التي تنبع من ذات الشيء بما أودع الله فيها من الأجهزة والالهامات التي توصله إلى الغاية المنشودة من غير فرق بين المؤمن والكافر ، فقوله سبحانه عام يعمّ مجموع البشر مؤمنه وكافره (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). (5)

ص : 84


1- طه : 50.
2- الأعلى : 31.
3- البلد : 108.
4- الشمس : 87.
5- الروم : 30.

ففطرة كلّ إنسان تهديه إلى التوحيد ونبذ الشرك ، ومن أجهزة الهداية التكوينية ، العقل الموهوب للإنسان المرشد له إلى معالم الخير والصلاح. وهذا النوع من الهداية العامة لكلّ موجود فضلا عن الإنسان.

2. الهداية التشريعية العامّة

المقصود من الهداية العامة التشريعية هو بعث الأنبياء وإرسال الرسل وإنزال الكتب لهداية الناس ، وهذا الفرع من الهداية يشمل عامّة البشر ، ولا يختص بطائفة دون أُخرى ، قال سبحانه :

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ). (1)

فالآية بظاهرها تثبت الهداية العامة لكافة البشر.

3. الهداية الخاصة

وهناك هداية خاصة تختص بجملة من الأفراد الذين استضاءُوا بنور الهداية العامة ، تكوينيّها وتشريعيّها فيقعون مورداً للعناية الإلهية ، فمن اقتفى أثر الأنبياء وعمل بكتابهم يصلح لأن تشمله هداية خاصة وهو تسديده في مزالق الحياة إلى سبيل النجاة.

كما أنّ من لم يستضئ بنور الهداية التشريعية العامة يحرم من تلك الهداية الخاصّة ، وهذا النوع من الهداية بيد الله تعالى وإليه يشير قوله سبحانه : (وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). (2) ولكن شموله

ص : 85


1- الحديد : 25.
2- النحل : 93.

لطائفة دون أُخرى ليس اعتباطياً ، بل تشمل من استضاء بالهدايتين الأُوليين فتعمه هذه الهداية الخاصة ، كما أنّ من أعرض عنهما يحرم منها وتكون النتيجة خذلانه في الحياة ، وهذا النوع من الهداية تابع لملاكات خاصة (1) فيشير إليها سبحانه عند البحث عنهما ، يقول :

1. (إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ).

فهذه الهداية هداية تشريعية خاصة ولا تشمل إلاّ لمن وُصف بالانابة والتوجّه إلى الله كما يقول (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) ، وبما ذكرنا يتّضح معنى كثير من الآيات الباحثة عن الهداية ويصفها بأنّها بيد الله يضلّ ويهدي ، ولكن يهدي من اكتسب لنفسه أهلية خاصة لشمولها ويحرم منها من حرم نفسه عن الهدايتين الأُوليين ، وإليك باقي الآيات :

وقال سبحانه : (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ). (2)

وقال سبحانه : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (3) فمن أراد وجه الله سبحانه يمدّه بالهداية إلى سبله.

وقال سبحانه : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً). (4)

وقال سبحانه : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً * وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً). (5)

وكما أنّه علق الهداية هنا على من جعل نفسه في مهبِّ العناية الخاصّة ،

ص : 86


1- وهذه الملاكات كما تشير إليها الآيات التالية عبارة عن الإنابة ، والجهاد والاهتداء في أمر الهداية ومقابلاتها في أمر الضلالة.
2- الشورى : 13.
3- العنكبوت : 69.
4- محمد : 17.
5- الكهف : 13 و 14.

علّق الضلالة في كثير من الآيات على صفات تشعر باستحقاقه الضلال وبمعنى الحرمان من الهداية الخاصة.

قال سبحانه : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). (1)

وقال سبحانه : (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ). (2)

وقال سبحانه : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ). (3)

وقال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ). (4)

وقال سبحانه : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ). (5)

فالمراد من الإضلال هو عدم الهداية لأجل عدم استحقاق العناية والتوفيق الخاص ، لأنّهم كانوا ظالمين وفاسقين. كافرين ومنحرفين عن الحقّ. وبالمراجعة إلى الآيات الواردة حول الهداية والضلالة يظهر أنّه سبحانه لم ينسب في كلامه إلى نفسه إضلالاً إلاّ ما كان مسبوقاً بظلم من العبد أو فسق أو كفر أو تكذيب ونظائرها التي استوجبت قطع العناية الخاصة وحرمانه منها.

إذا عرفت ما ذكرنا ، تقف على أنّ الهداية العامة التي بها تناط مسألة الجبر والاختيار ، عامة شاملة لجميع الأفراد ، ففي وسع كلّ إنسان أن يهتدي بهداها. وأمّا الهداية الخاصة والعناية الزائدة فتختص بطائفة المنيبين والمستفيدين من الهداية الأُولى. فما جاء في كلام المستدل من الآيات من تعليق الهداية والضلالة على

ص : 87


1- الجمعة : 5.
2- إبراهيم : 27.
3- البقرة : 26.
4- النساء : 168 و 169.
5- الصف : 5.

مشيئته سبحانه ناظرٌ إلى القسم الثاني لا الأوّل.

أمّا القسم الأوّل فلأنّ المشيئة الإلهية تعلقت على عمومها بكلّ مكلّف بل بكل إنسان ، وأمّا الهداية الخاصة فقد تعلقت مشيئته بشمولها لصنف دون صنف ولم تكن مشيئته ، مشيئة جزافية ، بل الملاك في شمولها لصنف خاص هو قابليته لأن تنزل عليه تلك الهداية ، لأنّه قد استفاد من الهدايتين : التكوينية والتشريعية العامتين ، فاستحق بذلك العناية الزائدة.

كما أنّ عدم شمولها لصنف خاص ما هو إلاّ لأجل اتصافهم بصفات رديئة لا يستحقون معها تلك العناية الزائدة.

ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه بعد ما يقول : (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ، يذيّله بقوله : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (1) ، مشعراً بأنّ الإضلال والهداية كانا على وفاق الحكمة ، فهذا استحقّ الإضلال وذاك استحق الهداية.

ص : 88


1- إبراهيم : 4.

5- هل الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان؟

إنّ الإيمان بالقدر من المعارف القرآنية وقد ورد في غير واحد من الآيات.

قال سبحانه : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ). (1)

وقال عزّ اسمه : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً). (2)

فالكون وما فيه ، خُلِق عن علم وتقدير ، فقُدِّر كلّ شيء بما له من الصفات والخصوصيات ، والمقادير والأشكال قبل وقوعها ، وسُجِّل ذلك في كتاب خاص ، قال سبحانه : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ). (3)

وقال عزّ شأنه : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ). (4)

وقال في المصائب التي تحدث في الأرض وما يواجهه الإنسان من خير و

ص : 89


1- القمر : 49.
2- الفرقان : 2.
3- يونس : 61.
4- الأنعام : 59.

شر : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ). (1)

فالمصائب قدرت من حيث الخصوصيات وقضى عليها بالوجود ، في كتاب قبل أن يُخلق الكون وما فيه.

لكن الكلام في أنّ الإيمان بالقدر هل هو ركن من الأركان ، كما عليه أكثر أهل السنّة فيكون الإيمان به في جنب الإيمان بالله وكتبه ورسله ، ويوم ميعاده ، أو هو أصل ومعرفة قرآنية كسائر المعارف الواردة في الكتاب العزيز؟ والظاهر هو الثاني ، وأمّا الأوّل فلا دليل عليه ، إذ كون شيء معدوداً من المعارف القرآنية غير كونه ركناً من أركان الإيمان ، إذ رب معرفة وردت في القرآن ، وليست ركناً من الإيمان ، كالحياة البرزخية ، والشفاعة ، والتوبة ، ومع ذلك فليست من أركان الإيمان.

ولو كان ركناً من الأركان لجاءت الإشارة إليه في ثنايا الآيات المشيرة إلى أركان الإيمان كقوله سبحانه : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ). (2)

وقال تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ). (3)

فقد جاء فيهما أركان الإيمان وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ولم ترد فيهما أية إشارة إلى الإيمان بالقدر ، فلو كانت له هذه المنزلة ، لما أهملها

ص : 90


1- الحديد : 22.
2- البقرة : 177.
3- البقرة : 285.

الذكر الحكيم.

وأظنّ انّ الغلو في القدر جاء من قبل الأحبار والرهبان ، وعدّ من أركان الإيمان في عصر الأمويين ، وقد أحصا الأحاديث الواردة فيه ابن الوزير اليمني (1). فبلغت 227 حديثاً ، منها 72 حديثاً في وجوب الإيمان بالأقدار ، و 155 حديثاً في ثبوتها. (2)

وقد تفلسف بعضهم في عدّه من أركان الإيمان من أنّ الإيمان بالقدر داخل ضمناً في الإيمان بالله ، بل جزء حقيقي منه ، لأنّ معناه الإيمان باحاطة علم الله تعالى بكلّ شيء وشمول إرادته لكلّ ما يقع من الكون ونفوذ قدرته في كلّ. (3)

أقول : لو كان السرّ في عدّه من أركان الإيمان ، كونه تعبيراً آخر عن إحاطة علمه وشمول إرادته لكلّ شيء ، فلما ذا عدل عن المعنى الواضح إلى المعنى المبهم الذي لا ينتقل إلى ما ذكره إلاّ العلماء. فمقتضى البلاغة أن تُعدّ إحاطة علمه وشمول إرادته لكلّ شيء من أركان الإيمان.

ومن قرأ تاريخ نشوء فكرة القدر ، وانتشاره بين المحدّثين ، يقف على أنّ إكبار القدر وجعله من أركان الإيمان ، كان سياسة أموية ، لأجل تبكيت الناس وكبح جماحهم ، والحط من مظاهراتهم أمام أعمال السلطة ، ولا أظن أنّ معبد الجهني ، وغيلان الدمشقي ، كانا ينكران سعة علمه ، أو إرادته سبحانه حتّى ذهب الثاني ضحيّة جهاده ، ومكافحته مع الظالمين وقُتل بفتوى فقيه السلطة «الأوزاعي».

ص : 91


1- تقرأ ترجمة ضافية له في كتابنا «الزيدية في موكب التاريخ».
2- نقله عنه مؤلّف الإيمان بالقدر.
3- الإيمان بالقدر : 9.

6- التفويض ومضاعفاته

اشارة

لما كانت السلطة الأُموية مروّجة للقدر والقضاء بالمعنى السالب للاختيار وكان ذلك مخالفاً للفطرة الإنسانية وقضاء العقل وسيرة العقلاء ، قام رجال أحرار في وجه هذه العقيدة يركزون على القول بحرية الإنسان في إطار حياته ولكنّ السلطة اتّهمتهم بنفي القضاء والقدر ثمّ وضعت السيوف على رقاب بعضهم.

هذا هو معبد الجهني اتّهموه بنفي القدر فذهب إلى الحسن البصري فقال له : إنّ بني أُميّة يسفكون الدماء ويقولون إنّما تجري أعمالنا على قدر الله تعالى ، فقال : كذب أعداء الله. (1)

ومثله غيلان الدمشقي فقد اتّهم بنفس ما اتّهم به معبد الجهني فقد جاهر بمذهبه أيام هشام بن عبد الملك وأُحضِر الأوزاعي لمناظرته فأفتى بقتله فصُلب على باب كيسان بدمشق. (2)

ولا أظن انّ الرجلين كانا ينكران القضاء والقدر ، إذ كيف يمكن لمسلم أن ينكر أصلاً قرآنياً يعد من المعارف العليا للقرآن الكريم ، وإنّما كانا ينكران تبرير

ص : 92


1- الخطط المقريزية : 2 / 356.
2- الملل والنحل للشهرستاني : 1 / 47.

ظلم الظالمين وتعدّي الجائرين ، بالقضاء والقدر.

نعم صار ذلك سبباً بعد فترة من الزمن لظهور نظرية التفويض التي تدّعي تفويض الأُمور إلى العباد وانّه ليس لله سبحانه أيّ صنع في أفعالهم فجعلوا الإنسان خالقاً لأفعاله ، مستغنياً عن الله سبحانه في ايجاد أفعاله ، فصار الإنسان على حسب هذه النظرية كالإله في مجال الأفعال كما كان القضاء والقدر عند الجبريّين حاكماً على كلّ شيء ولا يمكن تغييره إلى صورة أُخرى من الصور ، فالطرفان يحيدان عن جادة التوحيد ويميلان إلى جانبي الإفراط والتفريط. وإليك نقد النظرية على وجه الإيجاز :

1. القول بالتفويض يلازم الشرك

إنّ القول بالتفويض يلازم الشرك الخفي ، أي الاعتقاد بوجود خالقين مستقلّين في الخلق والإيجاد : أحدهما العلّة العليا التي خلقت الموجودات والكائنات والإنسان ، والأُخرى الإنسان نفسه فإنّه يستقل بعد الخلقة في أفعاله وتنقطع حاجته إلى الله بعد وجوده وهو نفس تصوير المِثْل لله سبحانه.

2. الإنسان في دوّامة الحدوث

إنّ الموجود الطبيعي في النظرة الأُولى له حدوث وبقاء ولكنّه في النظرة الدقيقة كلّه حدوث بعد حدوث ، لأنّ مقتضى الحركة الجوهرية هو كون العالم في تبدل مستمر وتجدّد دائم ، بأعراضها وجواهرها ، فذوات الأشياء في تجدد واندثار متواصل ، وما أشبه العالم بالصورة المنعكسة في الماء الجاري ، فهي ثابتة في النظرة الأُولى ، ولكنّها في النظرة الدقيقة متعددة متبدّلة حسب تبدّل الماء وقال سبحانه :

ص : 93

(وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ). (1)

وبما أنّ المروي عن المفوضة انّ الإنسان محتاج إلى الله في حدوثه لا في بقائه ، ولذلك قالوا باستغنائه في الفعل عنه تعالى ، فليبين موقف الوجود الإمكاني إلى الواجب تبارك وتعالى حتّى يتبيّن حاجته إليه حدوثاً وبقاءً ونأتي بمثال :

انّ مثل الموجودات الإمكانية بالنسبة إلى الواجب كمثل المصباح الكهربائي المضيء فالحس الخاطئ يزعم انّ الضوء المنبعث من هذا المصباح هو استمرار للضوء الأوّل ، ويتصور انّ المصباح إنّما يحتاج إلى المولّد الكهربائي في حدوث الضوء دون استمراره.

والحال انّ المصباح فاقد للإضاءة في مقام الذات محتاج في ضوئها إلى ذلك المولّد في كلّ لحظة ، لأنّ الضوء المتلألئ من المصباح إنّما هو استضاءة بعد استضاءة واستنارة بعد استنارة من المولد الكهربائي.

فينطفئ المصباح إذا انقطع الاتصال بينه وبين المولد ، فالعالم يشبه هذا المصباح الكهربائي تماماً فهو لكونه فاقداً للوجود بالذات يحتاج إلى العلّة (الواجب الوجود) في حدوثه وبقائه ، لأنّه يأخذ الوجود - عنه تعالى - آناً بعد آن وزماناً بعد زمان.

فإذا كان هذا حال الفاعل وذاته ، فكيف حال الفعل فالإنسان المحتاج إلى الواجب في كلّ آن ، محتاج إليه في الفعل والإيجاد ، لأنّ الفعل رهن الذات وموقوف عليها ، والذات في كلّ آن رهن العلّة العليا وموقوفة عليها ، فينتج انّ الفعل رهن العلّة العليا وموقوف عليها.

ص : 94


1- النمل : 88.

7- الأمر بين الأمرين

اشارة

كان الرأي السائد في المسألة أحد الرأيين ، إمّا الجبر ، وإمّا التفويض ؛ وبذلك ضلّ القائلون إمّا في متاهات الجبر أو بوقوعهم في حبال الشرك.

ثمّ إنّ الداعي لاختيار أحد المذهبين هو انّ القائلين بالجبر زعموا أنّ صيانة التوحيد في الخالقية (لا خالق ولا مؤثر إلاّ الله سبحانه) رهن القول بالجبر ، فلو قلنا بالاختيار يلزم أن يكون الإنسان خالقاً لفعله ، جاعلاً لعمله وهو ينافي التوحيد الأفعالي الذي يعبّر عنه بالتوحيد في الخالقية.

كما أنّ القائلين بالتفويض زعموا أنّ صيانة عدله سبحانه وتنزيهه عن الظلم والتعدّي ، رهن القول بالتفويض وتصوير انّ الإنسان فاعل مختار مستغن في فعله عن الواجب سبحانه بل محتاج في حدوثه إلى الله لا في بقائه فكيف في فعله؟

وعلى كلّ تقدير فالجبري يعتقد بانقطاع فعل الإنسان عنه ، وانّه فعل الله تماماً من دون أن يكون له صلة بالفاعل إلاّ كونه ظرفاً لفعل الخالق.

والقائل بالتفويض يعكس الأمر ويعتقد بانقطاع نسبة الفعل إلى الخالق ، وكونه مخلوقاً للإنسان تماماً من دون أن يكون هناك صلة بين فعله وخالق الكون. فالطائفة الأُولى يحسبون أنّهم بالقول بالجبر يرفعون راية التوحيد في الخالقية ، كما أنّ

ص : 95

الطائفة الثانية يزعمون أنّهم بالقول بالتفويض ينزهون الرب عن كلّ عيب وشين.

كان الرأيان سائدين ولكن أئمّة أهل البيت ضربوا على وجه الرأيين وقالوا : إنّ موقف الإنسان بالنسبة إلى الله غير موقف الجبر المشوِّه لسُمعة المذهب ، وغير موقف التفويض المُلْحِق للإنسان بمكان الشرك ، بل موقفه أمر واقع بين الأمرين.

إنّ صيانة التوحيد في الخالقية ليس منوطاً بالقول بالجبر ، أو صيانة عدله وقسطه ليس منحصراً بالقول بالتفويض ، بل يمكن الجمع بين الرأيين برأي ثالث ، وهو انّ الإنسان ذاته وفعله قائمان بذاته سبحانه ، وبذلك لا يصحّ فصل فعل الإنسان عنه سبحانه لافتراض قيامهما وعامة العوالم بوجوده سبحانه.

وفي الوقت نفسه انّ فعله غير منقطع عنه ، وذلك لأنّ مشيئة الله تعلّقت بنظام قائم على أسباب ومسببات ، وصدور كلّ مسبب (فعل الإنسان) عن سببه وهو الإنسان ، فلا يصحّ فصل المسبّب عن سببه ، فالنتيجة هو انّ لفعل الإنسان صلة بالله وصلة بسببه ، وهذا هو الأمر بين الأمرين.

نحن نعتقد بالتوحيد في الخالقية الذي يعبر عنه بالتوحيد الأفعالي ، ولكن لا بمعنى إنكار العلل والأسباب وإنكار الروابط بين الظواهر الكونية ونفي أيّ سبب ظلّي يعمل بإذنه سبحانه ، فإنّ إلغاء الأسباب مخالف للضرورة والوجدان والذكر الحكيم.

بل بمعنى انّ العوالم الحسيّة والغيبيّة بذواتها وأفعالها قائمة به سبحانه ، وكما انّ تأثيرها وسببيّتها بإذنه ومشيئته ، فكلّ ظاهرة كونية لها نسبة إلى أسبابها ، كما أنّ لها نسبة إلى خالق أسبابها ، فإلغاء كلّ سبب وعلّة ، ونسبة الظاهرة إلى ذاته سبحانه ، غفلة عن تقديره سبحانه لكلّ شيء سبباً ، كما أنّ نسبة الفعل إلى السبب القريب وفصله عن الله سبحانه غفلة عن واقع السبب وانّه بوجوده وأثره قائم بالله

ص : 96

سبحانه ، فكيف يمكن فصل أثره عنه تعالى؟!

ولأجل إيضاح الموضوع نقول : إنّ الأسباب الطبيعية على أقسام :

1. سبب مؤثر - بإذن الله - فاقد للشعور.

2. سبب مؤثر - بإذن الله - واجد للشعور ، لكن فاقد للاختيار كحركة المرتعش.

3. سبب مؤثر - بإذن الله - واجد للشعور والاختيار كتحريك الإنسان ليده.

فالحرارة تصدر من النار بإذنه سبحانه بلا شعور.

وحركة يد المرتعش تصدر منه مع علم الفاعل بلا اختيار.

والأفعال التي يُثاب بها الإنسان أو يعاقب وبها تناط سعادته وشقاؤه يوم القيامة تصدر منه عن علم واختيار ، كلّ ذلك بإذنه ومشيئته.

فلا القول بالتوحيد الأفعالي (لا مؤثر ولا خالق إلاّ هو) يصادم الاختيار ، لأنّ حصر الخالقية المستقلّة بالله لا ينافي نسبة الخالقية غير المستقلة وغير النابعة من ذاته إلى الإنسان ، ولا القول بالاختيار يزاحم سلطانه وقدرته ، فالفعل فعل الإنسان ، لأنّه السبب القريب وفي الوقت نفسه منسوب إليه سبحانه لكونه السبب البعيد (1) الذي أوجد الإنسان وأفاض عليه القدرة وزوّده بالاختيار.

هذا بيان موجز لهذا القول الموروث من أئمّة أهل البيت واستقبل المفكّرون من أهل السنّة هذه الفكرة ، كالإمام الرازي والشيخ عبده في رسالة التوحيد ، لمّا رأوا انّ في القول بالجبر الأشعري مضاعفات لا تحتمل ، وقد شاع ذلك القول بين المفكّرين المصريّين في العصر الأخير لما تأثّروا بالأفكار الغربية المروّجة للحرية والاختيار.

ص : 97


1- قد استخدمنا «السبب البعيد» لأجل تقريب المطلب ، وإلاّ فالواقع فوق ذلك.

وتتجلّى قيمة هذا المذهب ببيان برهانه العقلي أوّلا ، وتحليل ما يدلّ عليه من الذكر الحكيم ثانياً ، والأحاديث الصحيحة ثالثاً.

1. نسبة الفعل إلى الله بالتسبيب وإلى العبد بالمباشرة

إنّ نسبة فعل العبد إلى الله بالتسبيب وإلى العبد بالمباشرة ، فإنّ الله سبحانه وهب الوجود والحياة والعلم والقدرة لعباده وجعلها في اختيارهم ، وانّ العبد هو الذي يصرف الموهوب في أي مورد شاء فيُنسب الفعل إلى الله تعالى لكونه مفيضَ الأسباب ، وإلى العبد لكونه هو الذي يصرفها في أي مورد شاء. وهناك مثال يبين حال النظريات الثلاث : الجبر ، والتفويض ، والأمر بين الأمرين.

لو فرضنا شخصاً مرتعش اليد ، فاقد القدرة ، فإذا ربط رجل بيده المرتعشة سيفاً قاطعاً وهو يعلم انّ السيف المشدود في يده سيقع على آخر ويُهلكه ، فإذا وقع السيف وقتله ، ينسب القتل إلى من ربط يده بالسيف ، دون صاحب اليد الذي كان مسلوب القدرة في حفظ يده.

ولو فرضنا أنّ رجلاً أعطى سيفاً لمن يملك حركة يده وتنفيذ إرادته فقتل هو به رجلاً ، فالأمر على العكس ، فالقتل ينسب إلى المباشر دون من أعطى.

ولكن لو فرضنا شخصاً مشلول اليد (لا مرتعشها) غير قادر على الحركة إلاّ بإيصال رجل آخر التيّار الكهربائي إليه ليبعث في عضلاته قوّة ونشاطاً بحيث يكون رأس السلك الكهربائي بيد الرجل بحيث لو رفع يده في آن ، انقطعت القوة عن جسم هذا الشخص في الحال وأصبح عاجزاً. فلو أوصل الرجل تلك القوة إلى جسم هذا الشخص ، فذهب باختياره وقتل إنساناً ، والرجل يعلم بما

ص : 98

فعله ، ففي مثل ذلك يستند الفعل إلى كلّ منهما ، أمّا إلى المباشر فلأنّه قد فعل باختياره وإعمال قدرته ، وأمّا إلى الموصل فلأنّه أقدره وأعطاه التمكّن ، حتّى في حال الفعل والاشتغال بالقتل ، كان متمكناً من قطع القوة عنه في كلّ آن شاء وأراد.

فالجبري يمثِّل فعل العبد بالنسبة إلى الله تعالى كالمثال الأوّل ، حيث إنّ اليد المرتعشة فاقدة للاختيار ومضطرة إلى الإهلاك.

كما أنّ التفويضي يمثّل نسبة فعله إليه كالمثال الثاني ، فهو يصور أنّ العبد يحتاج إلى إفاضة القدرة والحياة منه سبحانه حدوثاً لا بقاءً والعلّة الأُولى كافية في بقاء القدرة فيه إلى نهاية المطاف ، كما أنّه كان الأمر في المثال كذلك ، فكان الإنسان محتاجاً إلى رجل آخر في أخذ السيف ، وبعد الحصول عليه انقطعت حاجته إلى المعطي.

والقائل بالأمر بين الأمرين يصوّر النسبة كالمثال الثالث ، فالإنسان في كلّ حال يحتاج إلى إفاضة القوة والحياة منه إليه بحيث لو قُطع الفيض في آن واحد بطلت الحياة والقدرة ، فهو حين الفعل يفعل بقوة مفاضة منه وحياة كذلك من غير فرق بين الحدوث والبقاء.

والحاصل إنّ للفعل الصادر من العبد نسبتين واقعيتين ، إحداهما : نسبته إلى فاعله بالمباشرة باعتبار صدوره منه باختياره وإعمال قدرته ؛ وثانيتهما : نسبته إلى الله تعالى باعتبار أنّه معطي الحياة والقدرة في كلّ آن وبصورة مستمرة حتى في آن اشتغاله بالعمل. (1)

وهناك مثال آخر ذكره شيخنا المفيد ، فقال :

ص : 99


1- المحاضرات : 2 / 8887 ؛ أجود التقريرات : 1 / 90.

نفترض انّ مولى من الموالي العرفيّين يختار عبداً من عبيده ويزوّجه إحدى فتياته ثمّ يقطع له قطيعة ويخصه بدار وأثاث وغير ذلك ممّا يحتاج إليه الإنسان في حياته إلى حين محدود ولأجل مسمّى.

فإن قلنا إنّ المولى وإن أعطى لعبده ما أعطى وملّكه ما ملك ، لكنّه لا يملك ، وأين العبد من الملك؟ كان ذلك قول المجبرة.

وإن قلنا : إنّ المولى بإعطائه المال لعبده وتمليكه ، جعله مالكاً وانعزل هو عن المالكية وكان المالك هو العبدُ ، كان ذلك قول المعتزلة.

ولو جمعنا بين الملكين بحفظ المرتبتين ، وقلنا : إنّ المولى مقامه في المولوية ، وللعبد مقامه في الرقية ، وانّ العبد يملك في ملك المولى ، فالمولى مالك في حين انّ العبد مالك ، فهنا ملك على ملك.

كان ذلك القول الحق الذي رآه أهل البيت - عليهم السلام - وقام عليه البرهان. (1)

وفي بعض الروايات إشارات واضحة إلى الأمر بين الأمرين.

روى الصدوق في توحيده عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : «قال الله عزّ وجلّ : يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد». (2)

ترى أنّه يجعل مشيئة العبد وإرادته تلوَ مشيئة الله سبحانه وإرادته ، ولا يعرّفهما مفصولتين عن الله سبحانه ، بل الإرادة في نفس الانتساب إلى العبد ، لها نسبة إلى الله سبحانه.

ص : 100


1- الميزان : 1 / 100.
2- التوحيد : 340 ، باب المشيئة والإرادة ، الحديث 10.
2. الأمر بين الأمرين في الكتاب العزيز

إذا كان معنى الأمر بين الأمرين هو وجود النسبتين في فعل العبد : نسبة إلى الله سبحانه ونسبة إلى العبد من دون أن تزاحم إحدى النسبتين ، النسبةَ الأُخرى ، فقد قرره الكتاب العزيز ببيانات مختلفة :

1. انّه ربما ينسب الفعل إلى العبد وفي الوقت نفسه يسلبه عنه وينسبه إلى الله سبحانه ، يقول : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). (1)

ولا يصحّ هذا الإيجاب (إِذْ رَمَيْتَ) في عين السلب (وَما رَمَيْتَ) إلاّ على الوجه الذي ذكرنا ، وهذا يعرب عن أنّ للفعل نسبتين وليست نسبتُه إلى العبد ، كلَّ حقيقته وواقعه ، وإلاّ لم تصح نسبته إلى الله ، كما أنّ نسبته إلى الله ليست خالصة (وإن كان قائماً به تماماً) بل لوجود العبد وإرادته تأثير في طروء عناوين عليه.

2. قال سبحانه : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ). (2)

فالظاهر انّ المراد من التعذيب هو القتل ، لأنّ التعذيب الصادر من الله تعالى بأيدي المؤمنين ليس إلاّ ذاك ، لا العذاب البرزخي ولا الأُخروي فانّهما راجعان إلى الله سبحانه دون المؤمنين ، وعلى ذلك فقد نسب فعل واحد (التعذيب) إلى المؤمنين وخالقهم ولا تصح هاتان النسبتان إلاّ على هذا المنهج ، وإلاّ ففي منهج الجبر لا تصح النسبة إلاّ إليه سبحانه. وفي منهج التفويض على العكس ،

ص : 101


1- الأنفال : 17.
2- التوبة : 14.

والمنهج الذي يصحّح كلتا النسبتين هو منهج الأمر بين الأمرين.

3. الأمر بين الأمرين في الروايات

لقد تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - في فعل الإنسان فيما يثاب به ويعاقب عليه ، بانّه أمر بين الأمرين ، وقد جمع الصدوق القسم الأوفر من الروايات في توحيده ، والعلاّمة المجلسي في بحاره ، ونحن نذكر رواية واحدة ذكرها صاحب «تحف العقول» وهي مأخوذة عن رسالة كتبها الإمام الهادي - عليه السلام - في نفي الجبر والتفويض ، ومما جاء فيها :

فأمّا الجبر الذي يلزم من دان به الخطأ ، فهو قول من زعم انّ الله عزّ وجلّ أجبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها ، ومن قال بهذا القول فقد ظلم الله في حكمه وكذّبه وردّ عليه قوله : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (1) وقوله : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) (2) وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (3) فمن زعم انّه مجبر على المعاصي ، فقد أحال بذنبه على الله ، وقد ظلمه في عقوبته ، ومن ظلم الله فقد كذب كتابه ، ومن كذب كتابه فقد لزمه الكفر بإجماع الأُمّة.

ومن زعم انّ الله تعالى فوّض أمره ونهيه إلى عباده فقد أثبت عليه العجز.

لكن نقول : إنّ الله عزّ وجلّ خلق الخلق بقدرته ، وملّكهم استطاعة تعبّدهم بها ، فأمرهم ونهاهم بما أراد ، وهذا ، هو القول بين القولين ليس بجبر ولا تفويض.

ص : 102


1- الكهف : 49.
2- الحج : 10.
3- يونس : 44.

الفصل الثالث: نظرية الكسب في أفعال العباد

اشارة

ص : 103

ص : 104

نظرية الله خالق والعبد كاسب في الميزان

قد اشتهر بين الأشاعرة ، انّ الله سبحانه خالق ، والعبد كاسب يريدون بذلك انّ الخلق والايجاد من الله سبحانه ، والكسب والاكتساب من العبد ، والثواب والعقاب ، ليس لخلق العقل وايجاده ، وإنّما هو لكسب العبد.

ولما كان القول بنظرية الكسب نابعاً من القول بالتوحيد في الخالقية وحصرها في الله سبحانه بالمعنى الذي اختاره أهل الحديث ، يجب تبيين نظريتهم في هذا الأصل ، ثمّ تبيين نظرية الكسب التي تبنّاها الأشعري وغيره لدفع وصمة الجبر عن أفعال العباد ، وإيضاح المراحل التي مرّت على النظرية عبْر قرون.

فتبيين الحقّ في عامّة جوانب الموضوع يأتي ضمن فصول :

ص : 105

1- التوحيد في الخالقية عند أهل الحديث

إنّ من الأُصول المسلَّمة عند أهل الحديث (1) - وتبعهم الإمام الأشعري - انّ أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه وليس للإنسان أيُّ دور في إيجاد أفعاله وإنشائها ، بل كلّ ما في الكون من الجواهر والأعراض مخلوق لله سبحانه بالمباشرة ، وليس بينه سبحانه وعالم الكون أيّ واسطة في الإيجاد والإفاضة حتّى على نحو الظلِّية والتبعيَّة ولو بإذن الله سبحانه.

وبعبارة أُخرى : ليس في صفحة الوجود مؤثّر أصلي وتبعي ، ذاتي وظلّي إلاّ الله سبحانه ، وهو تعالى اسمُه ، قائم مكان عامّة العلل التي تتصوّرها الفلاسفة والمتكلّمون - وأخصُّ بالذكر علماء الطبيعة - عللاً مؤثّرة ولو بإذنه تعالى ولا يشذُّ منه فعل الإنسان فهو مخلوق لله سبحانه ، خلقاً مباشرياً ويعبّر عنه ب «خلق الأعمال» أو «خلق الأفعال».

قد انتقل الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري (260 - 324 ه)

ص : 106


1- سيوافيك انّه من الأُصول المسلّمة عند الجميع سوى المعتزلة وإنّما الاختلاف بين الإمامية والأشاعرة في تفسير ذلك الأصل.

من الاعتزال - بعد ما قضى أربعة عقود من عمره فيه - إلى منهج أهل السنّة وبالأخص منهج الإمام أحمد ابن حنبل (164 - 241 ه) ، وقد دخل جامع البصرة وارتقى كرسياً ونادى بأعلى صوته : أيّها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي ، أنا فلان بن فلان ؛ كنت أقول بخلق القرآن ، وانّ الله لا تراه الأبصار ، وانّ أفعال الشر أنا أفعلها ؛ وأنا تائب مقلع ، معتقد للرد على المعتزلة مخرج لفضائحهم ومعايبهم. (1)

ولأجل إيقاف القارئ الكريم على حقيقة التوحيد في الخالقية بالمعنى الذي تبنّاه الإمام أحمد وبعده الإمام الأشعري نأتي ببعض نصوصهم.

1. قال الشيخ الأشعري في الباب الثاني من كتاب «الإبانة» في عقائد أهل الحديث :

إنّه لا خالق إلاّ الله ، وإنّ أعمال العبد مخلوقة لله ومقدورة كما قال : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (2). وانّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً وهم يُخْلَقون ، كما قال سبحانه : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) (3). (4)

2. وقال في «مقالات الإسلاميّين» عند نقل عقائد أهل الحديث وأهل السنّة : واقرّوا : انّه لا خالق إلاّ الله ، وانّ سيئات العباد يخلقها الله ، وانّ أعمال العباد يخلقها الله عزّ وجلّ ، وانّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا منها شيئاً. (5)

3. وقال في «اللمع» : إن قال قائل : لم زعمتم أنّ أكساب العباد مخلوقة لله تعالى؟ قيل له : قلنا ذلك لأنّ الله تعالى قال : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) وقال :

ص : 107


1- وفيات الأعيان : 3 / 285 ، فهرست ابن النديم : 257.
2- الصافات : 96.
3- فاطر : 3.
4- الإبانة : 20.
5- مقالات الإسلاميين : 1 / 321.

(جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، فلمّا كان الجزاء واقعاً على أعمالهم كان الخالق لأعمالهم. (1)

وترى لِدَة هذه العبارات في غير واحد من الرسائل التي أُلّفت لبيان عقيدة أهل الحديث والأشاعرة - التي اشتُقَّت من أهل الحديث - ننقل منها ما يتعلّق بالمتأخرين منهم.

4. قال السيد الشريف الجرجاني في «شرح المواقف» : إنّ أفعال العباد الاختيارية ، واقعة بقدرة الله سبحانه وحدها وليس لقدرتهم تأثير فيها ، والله سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختياراً ، فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارناً لهما ، فيكون فعل العبد مخلوقاً لله إبداعاً وإحداثاً ومكسوباً للعبد ، والمراد بكسبه إيّاه ، مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك من تأثير ومدْخل في وجوده ، سوى كونه محلاً له ، وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري. (2)

5. وقال الزبيدي في «إتحاف السادة» : إنّ الإله ، هو الذي لا يمانعه شيء ، وإنّ نسبة الأشياء إليه على السويّة ، وبهذا بطل قول المجوس وكلّ من أثبت مؤثراً غير الله من علّة أو طبع أو ملك أو إنس أو جن ، ولذلك لم يتوقف علماء ما وراء النهر في تكفير المعتزلة حيث جعلوا التأثير للإنسان. (3)

وهذا المقدار من النصوص يكفي فيما هو المقصود (وما أبعد بينه وبين ما يمرّ عليك من ابن تيميّة من أنّ أكثر أهل السنّة يعترفون بالعلل الطبيعية).

وحاصل تلك العقيدة هو إنكار الأسباب والمسبّبات في صحيفة الوجود

ص : 108


1- اللمع : 69.
2- شرح المواقف : 8 / 146.
3- إتحاف السادة : 2 / 135.

عامّة ، فليس هنا إلاّ خالق واحد هو الله سبحانه وما سواه مخلوق ، وليس بين الخالق وعامّة المخلوقات أيُّ سبب تبعي أو علّة يؤثر بإذنه سبحانه.

وعلى ضوء هذا التفسير : أنكروا العلّيّة والمعلولية والتأثير والتأثّر بين الموجودات الإمكانية ، فزعموا انّ آثار الظواهر الطبيعية كلّها مفاضة منه سبحانه من دون أن يكون هناك رابطة بين الظاهرة المادية وآثارها ، فعلى مذهبهم «النار حارّة» بمعنى انّه جرت سنّة الله على إيجاد الحرارة عند وجود النار مباشرة من دون أن تكون هناك علقة بين النار وحرارتها ، والشمس وإضاءتها ، والقمر وإنارته ، بل عادة الله سبحانه جرت على إيجاد الضوء والنور مباشرة عقيب وجود الشمس والقمر دون أن يكون هناك نظام وقانون تكويني باسم العلّيّة والمعلولية ، وعلى ذلك فليس في صفحة الوجود إلاّ علّة واحدة ، ومؤثر واحد ، يؤثّر بقدرته وسلطانه في كلّ الأشياء من دون أن يُعمل سبحانه قدرته ويظهر سلطانه عن طريق إيجاد الأسباب والمؤثرات ، بل هو بنفسه شخصياً قائم مقام جميع ما يُتصور من العلل والأسباب التي كشف عنها العلم طيلة قرون.

وقد سادت هذه الفكرة على شرائح واسعة من العلماء والمفكّرين طيلة عصور متمادية ، فيقولون : «جرت عادة الله على خلق هذا بعد ذلك» أي خلق الحرارة بعد النار والبرودة بعد الماء ، وقد بلغ إصرارهم على إنكار أصل العلّيّة حداً كفّروا من يتفوّه بالعلّيّة أو مقتضى الطبيعة - كما نقله الزبيدي -.

وهذا هو الأزهر كان يُدرّس فيها قول الناظم :

ومن يقل بالطبع أو بالعلّة

فذاك كفر عند أهل الملّة

نعم ظهر في الآونة الأخيرة مفكِّرون آثروا اتّباع الحقّ على تقليد الأئمة وأصحروا بالحقيقة كما تأتي أسماؤهم ونصوصهم فانتظر.

ص : 109

2- التوحيد في الخالقية عند الإماميّة

التوحيد في الخالقية عند الإماميّة (1)

اتّفق أهل القبلة - إلاّ من شذّ كالمعتزلة - على التوحيد في الخالقية وانّه لا خالق إلاّ الله سبحانه ، وقد قامت الإمامية منهم بتفسيره بوجه لا ينافي القول بنظام الأسباب والمسبّبات والعلل الطبيعية ومعاليلها ، وإليك حاصل نظريتهم.

إنّ الخالقية المستقلّة النابعة من الذات ، غير المعتمدة على شيء منحصرة بالله سبحانه ولا يشاركه فيها شيء ، وأمّا غيره سبحانه فإنّما يقوم بأمر الخلق والإيجاد بإذن منه وتسبيب ، ويعدّ الكلّ جنوداً لله سبحانه ، يعملون بتمكين منه لهم. ويظهر هذا المعنى من ملاحظة الأُمور التالية :

الأوّل : لا يشك المتدبّر في الذكر الحكيم في أنّه كثيراً ما يُسنِد آثاراً إلى الموضوعات الخارجية والأشياء الواقعة في دار المادة ، كالسماء وكواكبها ونجومها والأرض وجبالها وبحارها وبراريها وعناصرها ومعادنها والسحاب والرعد والبرق والصواعق والماء والأعشاب والأشجار والحيوان والإنسان إلى غير ذلك من

ص : 110


1- قلنا «عند الإمامية» ولم نقل عند العدلية ، لأنّ هذا التفسير يختصّ بهم وأمّا المعتزلة الذين يُعدّون من العدلية فقد أنكروا هذا الأصل ، لأجل صيانة عدله سبحانه زاعمين أنّ القول بهذا الأصل يضاد أصل العدل ، غافلين عن أنّ المضاد هو التفسير الأشعري ، لا الإمامي. وقد فصّلنا الكلام في ذلك في محاضراتنا المنتشرة باسم : «الإلهيات» فلاحظ.

الموضوعات الواردة في القرآن الكريم. فمن أنكر إسناد القرآن آثار تلك الأشياء إلى أنفسها فإنّما أنكره باللسان ، وقلبه مطمئن بخلافه ، وسيوافيك في الفصل التالي شيء من الآيات الناصّة على ذلك.

الثاني : انّ القرآن يُسند إلى الإنسان أفعالاً لا يقوم بها إلاّ هو ، ولا يصحّ إسنادها إلى الله سبحانه بلا واسطة ، كأكله وشربه ومشيه وقعوده ونكاحه وحربه وجداله وصلاته وصيامه ، فهذه أفعال قائمة بالإنسان مستندة إليه ، فهو الذي يأكل ويشرب ويحارب ويجادل ويفهم ويصلّي ويصوم وهو سبحانه منزّه عن هذه الأفعال.

الثالث : انّ الله سبحانه أمر الإنسان بالطاعة أمر إلزام ، ونهاه عن المعصية نهيَ تحريم ، فيجزيه بالطاعة ، ويعاقبه بالمعصية. فلو لم يكن للإنسان دور في ذلك المجال ، وتأثير في الطاعة والعصيان فما هي الغاية من الأمر والنهي ، وما معنى الجزاء والعقوبة؟!

وهذه الأُمور الثلاثة إذا قارنها الباحث إلى قوله سبحانه : (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (1) الذي يدلّ على بسط فاعليته وعلّيته على كلّ شيء ، يستنتج منها انّ النظام الإمكاني على اختلاف هويّاته وأنواعه ، فعّال ومؤثر في آثاره ، لكن بتقديره سبحانه ومشيئته وإذنه وهو القائل جلّ وعلا : (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (2) والقائل تعالى : (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (3) ، وأنّ مظاهر الكون وأعمالها وآثارها وحركاتها وسكناتها تنتهي إلى قضائه وتقديره وهدايته وإجرائه نظام الأسباب والمسببات في صحيفة الكون.

ص : 111


1- الرعد : 16.
2- طه : 50.
3- الأعلى : 3.

فعلى هذا فالأشياء في جواهرها وذواتها وحدود وجودها وخصوصياتها تنتهي إلى الخلقة الإلهية ، كما أنّ أفعالها التي تصدر عنها في ظل تلك الخصوصيات تنتهي إليه أيضاً وليس العالم ومجموع الكون إلاّ مجموعة متوحّدة يتّصل بعضها ببعض ويتلاءم بعضها مع بعض ، ويؤثر بعضها في بعض ، والله سبحانه وراء هذا النظام ومعه وبعده ولا خالق ولا مدبّر حقيقة وبالأصالة إلاّ هو كما لا حول ولا قوة إلاّ بالله.

وبعبارة أُخرى : انّ التدبر في الآيات الواردة في التوحيد في الخالقية إذا فسّرت على نحو التفسير الموضوعي (1). يثبت أنّ آثار الموجودات الإمكانية آثار لها ، وفي الوقت نفسه تنتهي الأسباب إلى الله سبحانه. فجميع هذه الأسباب والمسببات يرتبط بعضها ببعض ويؤثر بعضها في بعض ، وفي الوقت نفسه مرتبطة بالله سبحانه وإليه ينتهي النظام الإمكاني والعلل والمعاليل.

وليس السبب منقطعاً عن الله ، وفي الوقت نفسه ليس المسبب فعلاً مباشرياً له سبحانه فبذلك يجمع بين القول بحصر الخالقية في الله سبحانه ، والقول بنظام العلل والمعاليل المنتهية إليه والقائمة به ، فالخالقية المستقلة النابعة من الذات ، منحصرة بالله سبحانه ، والخالقية الظلية والتبعية ، النابعة من قدرته سبحانه من خصائص النظام الإمكاني ، ولنعم قول القائل : «فالفعل فعل الله وهو فعلنا».

وباختصار : إنّ العوالم الممكنة من عاليها إلى سافلها متساوية النسبة إلى قدرته سبحانه ، فالجليل والحقير ، والثقيل والخفيف عنده سواسية ، لكن ليس

ص : 112


1- نريد من التفسير الموضوعي هو جمع الآيات الواردة في أي موضوع من الموضوعات واستنطاق بعض الآيات ببعض والخروج بنتيجة واحدة ، هي حصيلة عامة الآيات. وقد ألّفنا موسوعة قرآنية على هذا الغرار وأسميناها ب «مفاهيم القرآن» انتشرت في عشرة أجزاء.

معنى «المساواة» هو قيامه تعالى بكلّ شيء مباشرة ، وخلع التأثير عن الأسباب والعلل ، بل يعني أنّ الله سبحانه يُظهر قدرته وسلطانه عن طريق خلق الأسباب ، وبعث العلل نحو المسببات والمعاليل ، والكلّ مخلوق له ، ومظاهر قدرته وحوله ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله.

فالأشعري ، خلع الأسباب والعلل - وهي جنود الله سبحانه - عن مقام التأثير والإيجاد ، كما أنّ المعتزلي (1) عزل سلطانه عن ملكه وجعل بعضاً منه في سلطان غيره ، أعني : فعل العبد في سلطانه.

والحقّ الذي عليه البرهان ويصدّقه الكتاب هو كون الفعل موجوداً بقدرتين ، لكن لا بقدرتين متساويتين ، ولا بمعنى علّتين تامّتين ، بل بمعنى كون الثانية من مظاهر القدرة الأُولى وشئونها وجنودها : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ) (2) وقد جرت سنّة الله تعالى على خلق الأشياء بأسبابها ، فجعل لكلّ شيء سبباً ، وللسبب سبباً ، إلى أن ينتهي إليه سبحانه ، والمجموع من الأسباب الطولية علّة واحدة تامّة كافية لإيجاد الفعل ، والتفصيل يطلب من محله ، ونكتفي في المقام بكلمة عن الإمام الصادق - عليه السلام - : «أبى الله أن يجري الأشياء إلاّ بأسباب ، فجعل لكلّ شيء سبباً وجعل لكلّ سبب شرحاً». (3)

ص : 113


1- قد تقدّم في ص 110 انّ المعتزلة ، أنكرت هذا الأصل من رأس ، لغاية حفظ عدله وتنزيهه من الظلم والعمل السيّئ ، وزعمت انّ وجود الإنسان مخلوق لله وفعله مخلوق لنفس الإنسان فقط ، فأخرجت أفعال العباد عن سلطان الله تبارك وتعالى ، ونعم ما قال الإمام الكاظم - عليه السلام - : «مساكين القدرية أرادوا أن يصفوا الله بعدله ، فأخرجوه عن سلطانه» وسيوافيك في خاتمة المطاف ما يفيدك في المقام.
2- المدثر : 31.
3- الكافي : 1 / 183 ، باب معرفة الإمام ، الحديث 7.

وبهذه النظرية - أي نظرية كون العالم مخلوقاً على النظام السببي والمسببي وانّ فيه فواعل اضطرارية كما أنّ فيه فواعل اختيارية - تتناسق الأُمور الثلاثة الماضية (1) وتتوحّد نتائجها ، وهذا بخلاف ما إذا قلنا بالنظرية الأُولى فانّها توجب التضاد بين الأُمور الثلاثة المسلمة.

ص : 114


1- لاحظ ص 111110.

3- مضاعفات حصر الخالقية في الله على ضوء التفسير الأشعري

اشارة

قد تقدّم انّ المسلمين إلاّ من شذّ تبعاً للذكر الحكيم والبراهين العقلية اتّفقوا على حصر الخالقية في الله سبحانه وعدُّوه من مراتب التوحيد ولا يصحّ الحصر ولا ينسجم مع سائر الأُصول إلاّ إذا فسر على النحو الذي مرّ آنفاً ، فالقول بهذا الحصر - على ما فسرنا - لا ينافي الإيمان بالعلل والأسباب الطولية والنظام السائد على العالم من العلّية والمعلولية ، المنتهي إلى الله سبحانه.

غير انّ الإمام الأشعري ومن تبعه أخذوا بظواهر بعض الآيات فأنكروا أصل التأثير حتّى الظلي والتبعي في غيره سبحانه ولم يعترفوا إلاّ بعلة واحدة وهي الله سبحانه ، القائم مكان عامة العلل ، فجعلوا الظواهر كلّها مخلوقة لله بالمباشرة وبلا توسط سبب وكأنّ من أنكر ذلك التفسير فقد أنكر التوحيد في الخالقية ، غير انّ ذلك التفسير مردود من جهات نشير إلى بعضها.

الأُولى : تصريح القرآن بتأثير العلل الطبيعية

إنّ القرآن الكريم يصرح بوضوح كامل بتأثير بعض الأشياء في بعض ويكشف عن نظام سائد على العالم نظاماً عليّاً ومعلولياً ، سببياً ومسببياً ، ونحن

ص : 115

نذكر في المقام بعض الآيات :

1. (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). (1)

وجملة (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) كاشفة عن دور الماء وأثره في إنبات النباتات ونمو الأشجار ، ومع ذلك يفضل بعض الثمار على بعض.

وأوضح دليل على ذلك قوله تعالى في الآيتين التاليتين :

2. (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ). (2)

3. (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ). (3)

ففي هاتين الآيتين يصرح الكتاب العزيز - بجلاء - بتأثير الماء في الزرع ، إذ أنّ «الباء» تفيد السببية - كما تعلم -.

4. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ). (4)

ففي هذه الآية نرى - لو أمعنا النظر - كيف بيّن القرآن الكريم المقدّمات الطبيعية لنزول المطر والثلج من السماء من قبل أن يعرفها العلم الحديث ويطّلع عليها بالوسائل التي يستخدمها لدراسة الظواهر الطبيعية واكتشاف عللها ومقدّماتها.

ص : 116


1- الرعد : 4.
2- البقرة : 22.
3- السجدة : 27.
4- النور : 43.

فقبل أن يتوصل العلم الحديث إلى معرفة ذلك - بزمن طويل - سبق القرآن إلى بيان تلك المقدّمات في عبارات هي :

1. يزجي (يحرك) سحاباً.

2. ثمّ يؤلّف (ويركِّب) بينه.

3. ثمّ يجعله ركاماً (أي كتلة متراكمة متكاثفة).

فينسب هذه المراحل إلى الله تعالى. ثمّ يقول :

4. فترى الودق (أي المطر) يخرج من خلاله.

5. يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار.

وهكذا يصرح الله سبحانه بتأثير الأسباب والعلل الطبيعية في المرحلتين الأخيرتين ، غاية ما هنالك أنّ تأثير هذه العلل والأسباب بإذن الله ومشيئته بحيث إذا لم يشأ هو سبحانه لتعطلت هذه العلل عن التأثير.

5. (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ). (1)

وأيّة جملة أوضح من قوله : (فَتُثِيرُ سَحاباً) أي الرياح ، فالرياح في نظر القرآن هي التي تثير السحاب وتسوقه من جانب إلى جانب آخر.

إنّ الإمعان في عبارات هذه الآية يهدينا إلى نظرية القرآن ورأيه الصريح حول «تأثير العلل الطبيعية بإذن الله».

ففي هذه الجمل جاء التصريح :

1. بتأثير الرياح في نزول المطر.

ص : 117


1- الروم : 48.

2. وتأثير الرياح في تحريك السحب.

3. كما جاء التصريح بانتساب انبساط السحب في السماء إلى الله.

4. وتجمع السحب - فيما بعد - على شكل قطع متراكمة إلى الله سبحانه.

5. ثمّ نزول المطر بعد هذه التفاعلات والمقدمات.

فإذا ينسب القرآن هذين الأمرين - الثالث والرابع - إلى الله وانّه (هو) يبسط السحاب في السماء و (هو) الذي يجعله كسفاً ، فإنّما يقصد - من وراء ذلك - التنبيه إلى مسألة «التوحيد الأفعالي» الذي يعبّر عنه بالتوحيد في الخالقية ، وفي الوقت نفسه «لا منافاة بين هذه النسبة والقول بتأثير العلل الطبيعية في بسط السحب وجمعها.

على أنّ الآيات التي تؤكد على دور العلل الطبيعية وتأثيرها المباشر وتعتبر العالم مجموعة من الأسباب للمسببات التي تعمل بإرادة الله وإذنه ، وتكون فاعليتها فرعاً من فاعليته سبحانه ، أكثر من أن ينقل في المقام ، وفيما ذكرنا من الآيات كفاية لمن تدبّر.

الثانية : انتفاء الغاية من إيجاد القدرة في الإنسان

إذا صحّ تقسيم الفاعل إلى فاعل قادر مختار ، يتوصّل إلى مقاصده بالمشيئة وإعمال القدرة ؛ وفاعل مضطرّ ، يقع مصدراً للآثار ،

من دون إرادة وإعمال القدرة ، فالإنسان من مصاديق القسم الأوّل بل من أفضل مصاديقه ، فهو يصدر عن فكر ورويّة وميل واشتياق ، وعزم وجزم ، وإعمال للقدرة التي وهبها الله سبحانه له ، وهذا شيء يدركه وجدان كلّ إنسان حرّ التفكير ولا يبطله أي دليل وبرهان حتّى أنّ الشيخ الأشعري استدلّ على كون الإنسان مختاراً في فعله ، بالفرق بين الحركتين : الاكتسابية والاضطرارية فقال : فإذا كانت حركة المرتعش من الفالج والمرتعد من

ص : 118

الحمى حركة اضطرارية ، وإذا كانت الحركة الأُخرى بخلاف هذا الوصف لم يكن اضطراراً ، لأنّ الإنسان في ذهابه ومجيئه ، وإقباله وإدباره بخلاف المرتعش من الفالج والمرتعِد من الحمى ، يعلم الإنسان التفرقة بين الحالين من نفسه وغيره علمَ اضطرار لا يجوز معه الشك. (1)

فإذا كان هذا حال الإنسان وهذه مواهبه وعطاياه ، فما هي الغاية من خلق القدرة في الإنسان التي لا دور لها في الإنشاء والإيجاد ، سوى حديث المقارنة ، مقارنة القدرة مع الحادثة من دون أن يكون بين قدرة العبد وفعله أي صلة.

إنّ إبعاد قدرة العبد عن التأثير في مصير الإنسان ، يضادّ وجدانَ كلّ فاعل ، أوّلاً ، ويُضفي على تزويد الإنسان بها ، شأن اللغوية ثانياً ، ويُعرِّف خالق القدرة لاعباً ثالثاً ، قال سبحانه : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ). (2)

إنّ التوحيد في الخالقية ، من المعارف العليا القرآنية والتي لم يصل إليها حتى الأوحدي من الفلاسفة إلاّ عن طريق التدبّر في آيات الذكر الحكيم ، ومن خالفه من المعتزلة فإنّما خالفه بزعم انّه يخالف عدلَه وتنزيهه سبحانه غير انّ الذي يخالف عدله ، ويضاد تنزيهه ، هو حصر الخالقية بالمعنى الذي تبنّاه أهل الحديث والأشاعرة ، فانّه يضاد كونه حكيماً ، عادلاً ، نزيهاً عن اللغو واللعب حيث خلق في الإنسان القدرة التي لا دور لها في حياته في عاجله وآجله ، وأمّا تفسيره على النهج الذي عرفت وقد سار عليه أئمة أهل البيت فهو يدعم كونه سبحانه حكيماً ، عادلاً ، نزيهاً من اللغو والعبث.

ص : 119


1- اللمع : 75.
2- الأنبياء : 16.

وكم من عائب قولاً صحيحاً *** وآفته من الفهم السقيم

الثالثة : كلّ فاعل مسئول عن فعله

إنّ العقلاء قاطبة - حتى أهل الحديث والأشاعرة - يرى الإنسان مسئولاً عن فعله وعمله ، وليس المحسِن والمسيء عندهم سواسية ، بل يُثاب الأوّل ، ويُعاقب الثاني ، كلّ وفقَ عمله ، ومدى مسئوليته ، وهذا فرع أن يكون للفاعل دور في فعله ، وعمله ، ولو أصاب رأسه حجر فأدماه ، فيحمّل مسئولية الإدماء على عاتق الرامي ، دون الحجر ، وذلك لأنّ له شعوراً وارادة ، دون الآخر ، وعلى ضوء ذلك يصف الذكر الحكيم بأنّ الإنسانَ مسئول عن عمله ويقول : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (1) بل يعد أدوات المعرفة أيضاً ، مسئولة ويقول (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (2) ، وذلك لأنّها بيد الإنسان ، أداة طيّعة يستخدمها كيف ما شاء.

فإذا كان هذا لسانَ العقل والعقلاء وصريحَ الذكر الحكيم فلو كانت أفعاله وأعماله ، مخلوقة لله ، على نحو تفقد صلتها بالإنسان ، فما معنى كونه مسئولاً عن عمل ، قام به غيره ، أو مجزياً بفعل غيره ، وليس لجسمه أو روحه دور ، سوى كونه ظرفاً ووعاءً لفعل الغير يخلقه فيه.

إذ كيف يثاب أو يعاقب على ما ليس له فيه شأن؟! وكيف يكون معاقباً وقد جنى غيره وفق قول القائل :

ص : 120


1- الصافات : 24.
2- الإسراء : 36.

غيري جنى وأنا المعاقَبُ فيكم *** فكأنني سبّابة المتندم

إنّ هذه التوالي الفاسدة التي يدركها كلّ إنسان واع ووجدان حرّ دفعت الشيخ الأشعري ، ومن لفّ لفّه إلى الخروج عن هذا المأزق باختراع «نظرية الكسب» حتّى يتخلّصوا ممّا يترتب على خلق الأعمال من التوالي الفاسدة ، فإذا قيل لهم : كيف يُثاب المرء أو يُعاقب على عمل لم يوجده هو؟ وكيف يتفق هذا مع ما هو مقرّر في عدالة الله وحكمته في تكليف خلقه؟

أجابوا : انّ العباد وإن لم يكونوا خالقين لأعمالهم لكنّهم كاسبون لها ، وهذا الكسب هو مناط التكليف ومدار الثواب والعقاب وبه يتحقّق عدل الله وحكمته فيما شرّع للمكلّفين.

قالوا : إنّ هنا نصوصاً تثبت بأنّه لا خالق إلاّ هو ، كقوله (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (1) ، (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (2) إلى غير ذلك.

وبجانب هذا توجد نصوص ، تَنسب أعمال العباد إليهم ، وتُعلّق رضوان الله للمحسنين منهم وتعلّق غضبه للمسيئين منهم ويقول : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) (3) ، (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) (4) إلى غير ذلك من الآيات.

فحملوا النصوص الأُولى على الخلق ، وحملوا الثانية على الكسب جمعاً بين الأدلّة ، فإذا قيل ما هذا الكسب؟ وما يراد به؟ وهل هو أيضاً موجود أو معدوم؟

ص : 121


1- الرعد : 16.
2- فاطر : 3.
3- الجاثية : 15.
4- الإسراء : 7.

فمالوا يميناً ويساراً حتّى يأتوا به تفسيراً معقولاً مع أنّه مضت على النظرية قرون عشرة لكنّها بقيت في محاق الإبهام ، بل دخلت أخيراً في مدحرة الإنكار ، وهذا هو الذي ندرسه في الفصول المقبلة بعد مقدّمة موجزة.

ص : 122

4- نظرية الكسب بين التفسير ، والتكامل ، والإبطال

اشارة

قد تعرفت على أنّ القول بالتوحيد في الخالقية - الذي يعبّر عنه اليوم بعموم القدرة والإرادة - بالتفسير الذي قام به أهل الحديث والأشاعرة ، صار ذا مضاعفات عديدة ، أهمها : كون الإنسان مجبوراً لا مختاراً ، مسيّراً لا مخيّراً ، غير مسئول عن عمله وفعله ، لأنّ الفعل فعل الله لا فعله ، وهو خالقه وموجده وليس له دور ، سوى كونه وعاءً لفعل الله سبحانه.

كما تعرّفت على أنّ الشيخ الأشعري قد وقف على ما يترتب على تفسيره من النتائج الفاسدة ، حاول أن يتخلّص من ذلك المأزق بطرح نظرية الكسب حتّى يكون للإنسان دور في مجال أفعاله وأعماله فصار سهم الخالق هو الإيجاد والإنشاء وسهم الإنسان هو الكسب والاكتساب ، والثواب والعقاب على الكسب.

وقد مرّت على النظرية مراحل مختلفة عبر أجيال ، وذلك لأنّ باذر الفكرة وغارسها مرّ عليها بإجمال دون أن يفسّرها ويبيّنها ، فأخذ روّاد منهج الأشعري بتبيينها وتفسيرها تارة ، وتطويرها وإكمالها ثانياً ، إلى أن وصلت النوبة إلى العقول

ص : 123

الحرّة ، فأنكروها وأبطلوها وصرّحوا بأنّها نظرية لا تسمن ولا تغني من جوع وانّ المضاعفات والتوالي الفاسدة باقية بحالها ، فها نحن نشرح كلّ واحد من هذه المراحل في فصل خاص حتى تسهل الإحاطة بها.

ص : 124

المرحلة الأُولى: في تبيين النظرية وتفسيرها
اشارة

يظهر من غير واحد من كُتّاب تاريخ العقائد والمناهج الكلامية انّ الإمام الأشعري لم يكن مبتكراً لنظرية الكسب ، بل لها جذور في كلمات من سبق عليه كجهم بن صفوان (المتوفّى 128 ه) وضرار بن عمرو العيني الذي يعدّ من رجال منتصف القرن الثالث.

قال القاضي عبد الجبار : إنّ جهم بن صفوان ذهب إلى أنّ أفعال العباد لا تتعلّق بنا وقال : إنّما نحن كالظروف لها ، حتى أنّ ما خلق فينا كان وإن لم يخلق لم يكن.

وقال ضرار بن عمرو : إنّها متعلّقة بنا ومحتاجة إلينا ، ولكن جهة الحاجة إنّما هي الكسب ، فقد شارك جهماً في المذهب وزاد عليه في الإحالة. (1)

إنّ الشيخ الأشعري نقل في كتاب «مقالات الإسلاميّين واختلاف المصلّين» انّ ضرار بن عمرو ممّن كان يذهب إلى أنّ العبد كاسب ، قال : والذي فارق ضرار بن عمرو به المعتزلة ، قوله : إنّ أعمال العباد مخلوقة وانّ فعلاً واحداً لفاعلين أحدهما خَلَقَه وهو الله ، والآخر اكتسبه وهو العبد ، وانّ الله عزّ وجلّ فاعل لأفعال العباد في

ص : 125


1- شرح الأُصول الخمسة : 363.

الحقيقة ، وهم فاعلون لها في الحقيقة. (1)

وقد نقل العلاّمة الحلّي نظرية الكسب عمّن تقدّم على الشيخ الأشعري كالنجّار وحفص الفرد. (2)

فسواء أكانت النظرية للإمام الأشعري أم لغيره ، فقد مرّت عليها مراحل أُولاها ، مرحلة التبيين والتفسير حتى تخرج عن الإبهام والغموض.

مرحلة التبيين

قد حاول غير واحد من أعيان الأشاعرة ، أن يرفع النقاب عن وجه النظرية منهم الغزالي (505450 ه) من مشاهير الأشاعرة في أواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس فقام بإيضاحها بكلام مبسوط يتلخّص في العنوان التالي :

1. الكسب صدور الفعل من الله ، عند حدوث القدرة في العبد

قال : ذهبت المجبرة إلى إنكار قدرة العبد فلزمها إنكار ضرورة التفرقة بين حركة الرعدة ، والحركة الاختيارية ، ولزمها أيضاً استحالة تكاليف الشرع. وذهبت المعتزلة إلى إنكار تعلّق قدرة الله تعالى بأفعال العباد من الحيوانات والملائكة والجن والإنس والشياطين ، وزعمت أنّ جميع ما يصدر منها ، من خلق العباد واختراعهم ، لا قدرة الله تعالى عليها بنفي ولا إيجاب ، فلزمتها شناعتان عظيمتان :

إحداهما : إنكار ما أطبق عليه السلف من أنّه لا خالق إلاّ الله ، ولا مخترع سواه.

ص : 126


1- مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين : 281.
2- كشف المراد ، الفصل الثالث من الإلهيات : 189 ، ط صيدا.

والثانية : نسبة الاختراع والخلق إلى قدرة من لا يعلم ما خلقه ، كأعمال النحل والعنكبوت وغيرهما من الحيوانات التي تقوم بأعاجيب الأعمال وغرائبها ، ثمّ قال : وإنّما الحقّ إثبات القدرتين على فعل واحد ، والقول بمقدور منسوب إلى قادرين ، فلا يبقى إلاّ استبعاد توارد القدرتين على فعل واحد. وهذا إنّما يبعد إذا كان تعلّق القدرتين على وجه واحد ، فإن اختلفت القدرتان ، واختلف وجه تعلّقهما فتوارد التعلّقين على شيء واحد غير محال ، كما نبيّنه.

ثمّ إنّه حاول بيان تغاير الجهتين ، وحاصل ما أفاد هو : إنّ الجهة الموجودة في تعلّق قدرته سبحانه على الفعل غير الجهة الموجودة في تعلّق قدرة العبد. والجهة في الأُولى جهة إيجادية تكون نتيجتُها وقوعَ الفعل في الخارج ، وحصوله في العين. والجهة في القدرة الثانية جهة أُخرى ، وهي صدور الفعل من الله سبحانه عند حدوث القدرة في العبد.

فلأجل ذلك تُسمّى الأُولى خالقاً ومخترعاً ، دون الثانية ، فاستعير لهذا النمط من النسبة اسم الكسب تيمّناً بكتاب الله تعالى.

هذا توضيح مرامه وإليك نصّ عبارته : لما كانت القدرة (قدرة العبد) والمقدور جميعاً بقدرة الله تعالى : سُمّي خالقاً ومخترعاً ، ولمّا لم يكن المقدور بقدرة العبد وإن كان معه ، فلم يسمّ خالقاً ولا مخترعاً. (1)

ثمّ اعترض على نفسه بما هذا حاصله : كيف تصحّ تسمية القدرة المخلوقة في العبد قدرة ، إذا لم يكن لها تعلّق بالمقدور ، فإنّ تعلق القدرة بالمقدور ليس إلاّ من جهة التأثير والإيجاد - وحصول المقدور بها - وأجاب عنه : بأنّ التعلّق ليس مقصوراً على الوقوع بها ، بل هناك تعلّق آخر غير الوقوع ، نظير تعلّق الإرادة بالمراد ،

ص : 127


1- الاقتصاد في الاعتقاد : 92.

والعلم بالمعلوم ، فإنّهما يتعلّقان بمتعلّقهما بتعلّق ، غير الوقوع ضرورة أنّ العلم ليس علّة للمعلوم ، فإذا لا بدّ من إثبات أمر آخر من التعلّق سوى الوقوع. (1)

وقد قام التفتازاني بتفسير الجهتين في شرح مقاصده وقال : لمّا بطل الجبر المحض بالضرورة ، وكون العبد خالقاً لأفعاله بالدليل ، وجب الاقتصاد في الاعتقاد ، وهو انّها مقدورة بقدرة الله تعالى اختراعاً وبقدرة العبد على وجه آخر من التعلّق يعبّر عنه بالاكتساب وليس من ضرورة ، تعلّق القدرة بالمقدور أن يكون على وجه الاختراع. (2)

يلاحظ عليه : أنّ الغزالي لم يأت في تفسير نظرية الكسب بأمر جديد ولم يزد التفتازاني شيئاً على بيانه ، وحاصله يتلخّص في كلمتين :

1. إنّ دور قدرة العبد ليس إلاّ دور المقارنة ، فعند حدوث القدرة في العبد يقوم سبحانه بخلق الفعل.

2. إنّ للتعلّق أنواعاً ولا تنحصر في الإيجاد والوجود ، والإيقاع والوقوع ، بل هناك جهة أُخرى يُعبّر عنها بالكسب - فالعبد مصدر لهذه الجهة ، وبذلك يسمّى كاسباً -.

ومع هذا التطويل فالإشكال باق بحاله ، فإنّ وقوع الفعل مقارناً لقدرة العبد ، لا يُصحّح نسبة الفعل إلى العبد ، ولا تحمّل مسئوليته ، فإنّ نسبة المقارن إلى المقارن كنسبة تكلم الإنسان إلى نزول المطر في الصحراء ، فإذا لم يكن لقدرة العبد تأثير في وقوع الفعل ، كيف يصحّ في منطق العقل التفكيك بين الحركة الاختيارية ، والحركة الاضطرارية؟ والغزالي بكلامه هذا نقض ما ذكره في صدر البحث حيث

ص : 128


1- الاقتصاد : 92 - 93.
2- شرح المقاصد : 127.

ردّ على المجبّرة بوجدان الفرق بين الحركتين ، وهذا الفرق لا يتعقّل إلاّ في ظل تأثير قدرة العبد على الوقوع والوجود.

وأضعف من ذلك تنزيل تعلّق قدرة العبد بتعلّق العلم على المعلوم ، مع أنّ واقعية العلم وماهيته هي الكشف التابع للمكشوف ، فلا يصحّ أن يكون مؤثّراً في المعلوم وموجداً له ، ولكن واقعية القدرة والسلطة ، واقعية الإفاضة والإيجاد ، فلا يتصوّر خلعها عن التأثير مع فرضه قدرة كاملة وبصورة علّة تامّة.

2. الكسب : توجه قدرة العبد صوب الفعل عند صدوره من الله

قام التفتازاني (792712 ه) في «شرح العقائد النسفية» بتفسير الكسب بالوجه التالي وهو : انّ صرف العبد قدرته وإرادته إلى الفعل كسب ، وإيجاد الله تعالى الفعلَ عقيب ذلك خلق. والمقدور الواحد داخل تحت قدرتين ، لكن بجهتين مختلفتين. فالفعل مقدور الله تعالى بجهة الإيجاد ، ومقدور العبد بجهة الكسب ، وهذا القدر من المعنى ضروري وإن لم نقدر على أزيد من ذلك في تلخيص العبارة المفصحة عن تحقيق كون فعل العبد بخلق الله تعالى وإيجاده ، مع ما فيه للعبد من القدرة والاختيار. (1)

ويقرب من ذلك ما في متن المواقف للعضدي وشرحه للشريف الجرجاني قالا : وأمّا التكليف والتأديب والبعثة والدعوة فانّها قد تكون دواعي للعبد ، إلى الفعل واختياره ، فيخلق الله الفعل عقيبها عادة وباعتبار ذلك الاختيار المترتب على الدواعي يصير الفعل طاعة إذا وافق ما دعاه الشرع إليه ومعصية إذا خالفه ويصير علامة للثواب والعقاب. (2)

ص : 129


1- شرح العقائد النسفية : 117.
2- شرح المواقف : 8 / 155.

ويرد على ما ذكروه انّ العزم والإرادة والاختيار من الأُمور الوجودية الممكنة فمن خالقها أهو الله سبحانه ، أم العبد؟ وعلى الأوّل يلزم الجبر وعلى الثاني ينتقص القاعدة ، أعني : التوحيد في الخالقية.

ثمّ إنّ نظرية الكسب بلغت من الإبهام إلى حد أنّ القمة من مشايخ الأشاعرة كالتفتازاني يعترف بعجزه عن تفسيرها حيث قال : «وإن لم نقدر على أزيد من ذلك في تلخيص العبارة المفصحة ...».

إلى هنا تمت المرحلة الأُولى من المراحل (1) التي مرّت على نظرية الكسب ، وهنا من سلك مسلك العلمين : الغزالي والتفتازاني في تفسير النظرية ، أعرضنا عن نقله روماً للاختصار ، وحان وقت الانتقال إلى المرحلة الثانية ، أعني : مرحلة التطوير والتكامل.

ص : 130


1- ولا يفوتنّك انّ هذه المراحل الثلاث لم تتكون حسب التسلسل الزمني بل تكوّنت عبر قرون لا تأبى أن تكون بعضها في عرض الآخر.
المرحلة الثانية: مرحلة التطوير والتكامل
اشارة

قد يرى الباحث في كلمات الأشاعرة في هذه المرحلة معاني ومفاهيم جديدة حول نظرية الكسب على وجه يخرجها عن الإبهام الذي كان يصحب النظرية في المرحلة الأُولى ، حتى كانت النظرية موصوفة باللغز كما في قول القائل :

ممّا يقال ولا حقيقة عنده *** معقولة تدنو إلى الأفهام

الكسب عند الأشعري والحال *** عند البهشمي وطفرة النظام (1)

فعدّ الشاعرُ نظريةَ الكسب في إحاطة الإبهام بها في عداد نظرية «الحال» عند أبي هاشم و «الطفرة» عند النظام. وهذا دليل على قصور النظرية وعدم كفايتها لحلّ العقدة ، وهناك كلام متين للقاضي عبد الجبار نأتي بنصه :

قال : إنّ فساد المذهب قد يكون بأحد طريقين :

أحدهما : بأن يُبيّن فساده بالدلالة.

والثاني : بأن يُبيّن أنّه غير معقول في نفسه ، وإذا ثبت أنّه غير معقول في

ص : 131


1- القضاء والقدر لعبد الكريم الخطيب : 185.

نفسه ، كفيت نفسَك مئونة الكلام عليه ، لأنّ الكلام على ما لا يعقل لا يمكن ... والذي يبيّن لك صحّة ما نقوله أنّه لو كان معقولاً لكان يجب أن يعقله مخالفو المجبّرة في ذلك ، من الزيدية والمعتزلة والخوارج والإمامية. فإنّ دواعيهم متوافرة ، وحرصهم شديد في البحث عن هذا المعنى ، فلمّا لم يوجد في واحد من هذه الطوائف - على اختلاف مذاهبهم ، وتنائي ديارهم ، وتباعد أوطانهم ، وطول مجادلتهم في هذه المسألة - من ادّعى أنّه عقل هذا المعنى أو ظنّه أو توهّمه ، دلّ على أنّ ذلك ممّا لا يمكن اعتقاده والإخبار عنه البتة.

وأحد ما يدلّ على أنّ الكسب غير معقول ، هو أنّه لو كان معقولاً لوجب - كما عقله أهل اللغة وعبروا عنه - أن يعقله غيرهم من أرباب اللغات ، وأن يضعوا له عبارة تُنبئ عن معناه. فلمّا لم يوجد شيء من اللغات ما يفيد هذه الفائدة ، دلّ على أنّه غير معقول. (1)

قال الشيخ المفيد :

ثلاثة أشياء لا تُعقل ، وقد اجتهد المتكلّمون في تحصيل معانيها من معتقديها بكلّ حيلة فلم يظفروا منهم إلاّ بعبارات يتناقض المعنى فيها على مفهوم الكلام :

1. اتحاد النصرانية.

2. كسب النجارية.

3. أحوال البهشمية.

إلى أن قال : ومن ارتاب فيما ذكرناه في هذا الباب فليتوصل إلى إيراد معنى - في واحد منها - معقول ، والفرق [كذا] بينها في التناقض والفساد ، ليعلم أنّ

ص : 132


1- شرح الأُصول الخمسة للقاضي عبد الجبار : 364 - 366.

خلاف ما حكمنا به هو الصواب! وهيهات. (1)

ولأجل وجود هذا النقص الواضح حول النظرية حاول بعض روّاد الأشاعرة الذين قامت بهم خيمة هذا المنهج وأشادوا بنيانه ، ورفعوا قوائمه ، ان يُفسّر النظرية مزيجة بشيء من التطوير والإكمال حتّى يخرج عن عداد الأحوال لأبي هاشم أو الطفرة للنظام ، واذكر منهم الأقطاب الثلاثة :

1. أبو بكر محمد الطيب القاضي المعروف بابن الباقلاني (المتوفّى 403 ه)

إنّ القاضي الباقلاني من أئمّة الأشاعرة ، فقد بذل وسعه في دعم المنهج الأشعري والذب عنه بحماس ولو لا القاضي وبعض أترابه ، كابن فورك الاصفهاني (المتوفّى 406 ه) لما كان للمنهج الأشعري نصيب من السعة والشمول ، وقد اعتنقه - إلى يومنا هذا - عامّة أهل السنّة - غير أهل الحديث -.

وقد أضفى القاضي على نظرية الكسب مفهوماً جديداً ، صحّ أن يعبر عنه بالتطوير ، وقال ما هذا حاصله :

الدليل قد قام على أنّ القدرة الحادثة لا تصلح للإيجاد ، لكن ليست الأفعال أو وجوهها واعتباراتها تقتصر على وجهة الحدوث فقط ، بل هاهنا وجوه أُخرى هي وراء الحدوث.

ثمّ ذكر عدّة من الجهات والاعتبارات وقال : إنّ الإنسان يفرّق فرقاً ضرورياً بين قولنا : أوجد ، وبين قولنا : صلى وصام وقعد وقام. وكما لا يجوز أن تضاف إلى الباري تعالى جهة ما يضاف إلى العبد ، فكذلك لا يجوز أن تضاف إلى العبد ، جهة

ص : 133


1- حكايات الشيخ المفيد برواية الشريف المرتضى لاحظ مجلة «تراثنا» العدد 3 ، من السنة الرابعة ، 118.

ما يضاف إلى الباري تعالى.

فأثبت القاضي تأثيراً للقدرة الحادثة ، وأثرها هو الحالة الخاصة ، وهو جهة من جهات الفعل ، حصلت نتيجة تعلّق القدرة الحادثة بالفعل ، وتلك الجهة هي المتعيّنة لأن تكون مقابلة بالثواب والعقاب ، فإنّ الوجود من حيث هو وجود لا يُستحق عليه ثواب وعقاب ، خصوصاً على أصل المعتزلة ، فإنّ جهة الحسن والقبح هي التي تقابل بالجزاء ، والحسن والقبح صفتان ذاتيتان وراء الوجود ، فالوجود من حيث هو وجود ليس بحسن ولا قبيح.

قال : فإذا جاز لكم إثبات صفتين هما حالتان ، جاز لي إثبات حالة هي متعلّق القدرة الحادثة ، ومن قال هي حالة مجهولة ، فبيّنا بقدر الإمكان جهتها ، وعرفنا أي شيء هي ، ومثلناها كيف هي. (1)

وحاصل كلامه - مع ما قمنا بتلخيصه - : هو أنّ للقدرة الحادثة تأثيراً في حدوث العناوين والخصوصيات التي هي ملاك الثواب والعقاب ، وهذه العناوين وليدة قدرة العبد ، حادثة بها ، وإن كان وجود الفعل حادثاً بقدرته سبحانه.

فوجود الفعل مخلوق لله سبحانه ، لكن تعنونه بعنوان الصوم والصلاة والأكل والشرب راجع إلى العبد والقدرة الحادثة فيه.

يلاحظ عليه : أنّ هذه العناوين والجهات التي صارت ملاكاً للطاعة والعصيان لا تخلو من صورتين : إمّا أن تكون من الأُمور الوجودية وعندئذ تكون مخلوقة لله سبحانه حسب الأصل المسلم.

وإمّا أن تكون من الأُمور العدمية فعندئذ لا تكون للكسب واقعية خارجية ، بل يكون أمراً ذهنياً غنياً عن الإيجاد والقدرة. ومثل ذلك كيف يكون ملاكاً للثواب

ص : 134


1- الملل والنحل : 1 / 9897.

والعقاب؟

وباختصار : إنّ واقعية الكسب إمّا واقعية خارجية موصوفة بالوجود فحينئذ يكون مخلوقاً لله سبحانه ، ولا يكون للعبد نصيب في الفعل ، أو لا تكون له تلك الواقعية بل يكون أمراً وهمياً ذهنياً ، فحينئذ لا يكون العبد مصدراً لشيء حتّى يثاب عليه أو يعاقب.

2. كمال الدين بن همام (861789 ه)

إنّ كمال الدين محمد بن همام الدين مؤلّف كتاب «المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة» (1) تخلّص من المأزق بالقول بتخصيص ما دلّ على حصر الخالقية بالله ، بعزم العبد وقصده ، فكلّ شيء مخلوق لله سبحانه وهو خالقه إلاّ عزم العبد على الطاعة والعصيان فالخالق هو العبد ، وإليك نصّه في ذلك المجال :

فإن قيل : لا شكّ انّه تعالى خلق للعبد قدرة على الأفعال ، ولذا يدرك تفرقة ضرورية بين الحركة المقدورة وغيرها.

قلنا : إنّ براهين وجوب استناد كلّ الحوادث ، إلى القدرة القديمة بالإيجاد ، إنّما تلجئ إلى القول بتعلّق القدرة بالفعل بلا تأثير ، لو لم تكن عمومات تحتمل التخصيص. فأمّا إذا وجد ما يوجب التخصيص فلا. لكن الأمر كذلك. وذلك المخصّص أمر عقلي ، هو أنّ إرادة العموم فيها يستلزم الجبر المحض ، المستلزم لضياع التكليف وبطلان الأمر والنهي.

ثمّ أوضح ذلك بقوله : لو عرّف الله تعالى العبد العاقل أفعالَ الخير والشر ، ثمّ خلق له قدرة أمكنه بها من الفعل والترك ، ثمّ كلّفه بالإتيان بالخير ووعده عليه.

ص : 135


1- طبع في القاهرة مع شرح كمال الدين الشريف.

وترك الشر وأوعده عليه ، بناء على ذلك الإقدار لم يوجب ذلك نقصاً في الألوهية. إذ غاية ما فيه أنّه أقدره على بعض مقدوراته لحكمة صحّة التكليف واتجاه الأمر والنهي. غير أنّ السمع ورد بما يقتضي نسبة الكلّ إليه تعالى بالإيجاد وقطعها عن العباد. فلنفي الجبر المحض وصحّة التكليف وجب التخصيص ، وهو لا يتوقّف على نسبة جميع أفعال العباد إليهم بالإيجاد ، بل يكفي لنفيه أن يقال :

جميع ما يتوقف عليه أفعال الجوارح من الحركات ، وكذا التروك التي هي أفعال النفس من الميل والداعية التي تدعو والاختيار ، بخلق الله تعالى ، لا تأثير لقدرة العبد فيه. وإنّما محلّ قدرته ، عزمه عقيب خلق الله تعالى هذه الأُمور في باطنه عزماً مصمّماً بلا تردّد ، فإذا أوجد العبد ذلك العزم ، خلق الله تعالى له الفعل. فيكون منسوباً إليه تعالى من حيث هو حرّكه ، وإلى العبد من حيث هو زنى ونحوه. فعن ذلك العزم الكائن بقدرة العبد المخلوقة لله تعالى ، صحّ تكليفه وثوابه وعقابه. وكفى في التخصيص تصحيح التكليف هذا الأمر الواحد. أعني : العزم المصمّم. وما سواه ممّا لا يحصى من الأفعال الجزئية والتروك كلّها مخلوقة لله تعالى ومتأثّرة عن قدرته ابتداءً بلا واسطة القدرة الحادثة. (1)

يلاحظ عليه : أنّ المجيب تصوّر أنّ القول بانحصار الخلق بالله سبحانه يستند إلى دليل سمعي قابل للتخصيص كسائر عمومات الكتاب والسنّة في الأحكام الشرعية والسنن. ولكن القول به يستند إلى برهان عقلي غير قابل للتخصيص ، وهو أنّ الممكن في ذاته وفعله قائم بالله سبحانه ، متدلّ به ، وليس يملك لنفسه ذاتاً ولا فعلاً. ولا فرق في ذلك بين الأفعال الخارجية والأفعال القلبية ، أعني : العزم والجزم فالكلّ ممكن ، والممكن يحتاج إلى واجب في وجوده

ص : 136


1- شرح العقائد الطحاوية : 122 - 126 ، نقلاً عن المسايرة.

وتحقّقه ، فينتج أنّ العزم والجزم في وجوده وتحقّقه محتاج إلى الواجب ومعلول لوجوده.

نعم ، لو كان صاحب المسايرة وأساتذته وتلامذته ممّن يفرقون بين الخلقين : خلق على وجه الاستقلال وخلق على النحو التبعي لما صعب عليهم المقام.

3. ابن الخطيب «قدرة الله مانعة عن قدرة العبد»

إنّ لسان الدين ابن الخطيب يرى أنّ الكسب فعل يخلقه الله في العبد ، كما يخلق القدرة والإرادة والعلم فيضاف الفعل إلى الله خلقاً لأنّه خالقه ، وإلى العبد كسباً لأنّه محله الذي قام به - إلى أن قال : - إنّ الطاعة والمعصية للعبد من حيث الكسب ، ولا طاعة ولا معصية من حيث الخلق ، والخلق لا يصحّ أن يضاف إلى العبد ، لأنّه إيجاد من عدم والفعل موجود بالقدرة القديمة لعموم تعلّق القدرة الحادثة بها.

فالقدرة الحادثة تتعلق ولا تؤثّر وهي - القدرة الحادثة - تصلح للتأثير لو لا المانع وهو وجود القدرة القديمة ، لأنّهما إذا تواردتا لم يكن للقدرة الحادثة تأثير. (1)

وحاصل هذه النظرية : أنّ لقدرة العبد شأناً في التأثير لو لا المانع ، ولكن وجود القدرة القديمة مانع عن تأثير قدرة العبد الحادثة ، ولو لا سبق القدرة القديمة لكان المجال للقدرة الحادثة مفتوحاً.

يلاحظ عليه :

أوّلا : إذا كان دور الإنسان في مجال أفعاله دور الظرف والمحل ، فلا معنى

ص : 137


1- القضاء والقدر : 187 نقلاً عن كتاب الفلسفة والأخلاق ، للسان الدين ابن الخطيب : 55. ولا يخفى ما في كلامه من أنّ الكسب فعل يخلقه الله في العبد ، إذ على هذا لم يبق أي دور للعبد.

لإلقاء المسئولية في الشرائع السماوية والأنظمة البشرية على عاتقه ، لأنّ مكان الفعل لا يكون مسئولاً عن الفعل المحقّق فيه ، وقد صرح صاحب النظرية بكون الإنسان محلاً لإعمال قدرته سبحانه.

ثانياً : أنّ ما جاء في هذا البيان يغاير ما عليه الأشعري وأتباعه ، فإنّهم لا يقيمون لقدرة الإنسان وزناً ولا قيمة ، ولكن ابن الخطيب يعتقد بكونها قابلة للتأثير لو لا سبق المانع وهو القدرة القديمة ، ومع ذلك ليس بتام.

وذلك لأنّ فرض المانعية لإحدى القدرتين بالنسبة إلى الأُخرى إنّما يتم لو قلنا بأنّه سبحانه هو الفاعل المباشر لكلّ ما ظهر على صفحة الوجود الإمكاني ، فعند ذاك يصحّ جميع ما تصوّر من أنّ قدرة الإنسان مغلوبة لقدرة الخالق ، ولكنّه لم يثبت ، بل الثابت خلافه ، وأنّ النظام الإمكاني نظام مؤلف من أسباب ومسببات ، وكلّ مسبب يستمد - بإذنه سبحانه - عمّا تقدّمه من السبب تقدّماً زمانياً أو تقدّماً رتبياً وكمالياً.

وعلى ذاك الأصل يسقط حديث مانعية إحدى القدرتين ، بل تُصبح قدرة العبد بالنسبة إلى قدرته تعالى ، مجلى لإرادته ومظهراً لمشيئته ، كيف وقد تعلّقت مشيئته بصدور فعل كلّ فاعل عن مباديه التي أفاضها عليه ، حتّى تكون النار مبدأً للحرارة عن إجبار واضطرار ، والإنسان مصدراً لأفعاله عن قدرة واختيار ، فلو قام كلّ بفعله فقد قام في الجهة الموافقة لإرادة الله لا المضادّة والمخالفة ، فقيام هؤلاء أشبه بقيام الجنود بأمر آمرهم : (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (1) ، (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ). (2)

ثالثاً : أنّ هذه المحاولات والتمحّلات ناشئة عن تصوير القدرتين في عرض

ص : 138


1- الفتح : 4.
2- المدثر : 31.

واحد ، فلأجل ذلك يتصوّر تارة كون قدرته سبحانه مانعاً عن تأثير قدرة العبد ، وأُخرى بأنّه لو تعلّقت قدرة العبد على ما تعلّقت به قدرته ، يلزم توارد القدرتين على مقدور واحد.

ولكن الحقّ كون فعل العبد مقدوراً ومتعلّقاً بهما ، ولا يلزم من ذلك أيّ واحد من المحذورين ، لا محذور التزاحم والتمانع ، ولا محذور اجتماع القدرتين التامتين على مقدور واحد ، وذلك لأنّ قدرة العبد في طول قدرة الله سبحانه ، فالله سبحانه بقدرته الواسعة أوجد العبد وأودع في كيانه القدرة ، وأعطاه الإرادة والحرية والاختيار ، فلو اختار أحد الجانبين فقد أوجده بقدرة مكتسبة من الله سبحانه ، واختيار نابع عن ذاته ، وحريّة هي نفس واقعيته وشخصيته ، فالفعل منتسب إلى الله لكون العبد مع قدرته وإرادته ، وما يحفّ به من الخصوصيات ، قائم بذاته سبحانه ، متدلّية بها ، كما أنّه منتسب إلى الإنسان لكونه باختياره الذاتي وحريته النابعة من نفسه ، اختار أحد الجانبين وصرف قدرته المكتسبة في تحقّقه ، كما قال سبحانه : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (1) ، (وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ). (2)

فنفى عنه الرمي بعد إثباته له ، وأثبت له المشيئة في ظل المشيئة الإلهية.

وما جاء في هذه الآيات من المعارف الإلهية لا يصل إليها إلاّ المتأمّل في آي الذكر الحكيم ، وما نشر عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - حولها ، وعليه «فالفعل فعل الله وهو فعلنا». (3)

ص : 139


1- الأنفال : 17.
2- الإنسان : 30.
3- شرح المنظومة للسبزواري : ص 175 اقتباس من قوله فيها : نفسه ، وإذا ثبت أنّه غير معقول في لنا والفعل فعل الله وهو فعلنا

المرحلة الثالثة: مرحلة الإنكار والإبطال

اشارة

قد تعرّفت على المرحلتين المتقدّمتين اللتين مرّتا على نظرية الكسب وهي فيهما بين التبيين والتطوير - ولكن مشايخ الأشاعرة - عفا الله عنّا وعنهم - وإن بذلوا جهودهم الحثيثة لإيضاحها وتطويرها ، ولكنّهم لم يأتوا بشيء يسمن ويغني من جوع ، أو يروي الغليل - وكان الأمر على هذه الحالة إلى أن بعث الله رجالاً أبطالاً أدركوا خطورة الموقف ، وجفاف النظرية ومضاعفاتها السيّئة ، فنفضوا غبار التقليد عن عقولهم ، وتفكّراتهم ، ونظروا إلى الموضوع نظر متحرّر عن كلّ رأي مسبق ، فجعلوا لقدرة الإنسان نصيباً في أفعاله وأعماله ، منهم :

1. إمام الحرمين الجويني (المتوفّى 478 ه) نسبة الفعل إلى قدرة العبد حقيقة

إنّ أبا المعالي المعروف بإمام الحرمين ، ذهب إلى أنّ لقدرة العباد تأثيراً في أفعالهم ، وأنّ قدرتهم ستنتهي إلى قدرة الله سبحانه وإقداره ، وأنّ عالم الكون مجموعة من الأسباب والمسبّبات ، وكلّ مسبّب يستمد من سببه المقدّم عليه ، وفي الوقت نفسه ، ذاك السبب يستمد من آخر ، إلى أن يصل إلى الله سبحانه. وإليك نص عبارته :

ص : 140

إنّ نفي هذه القدرة والاستطاعة ممّا يأباه العقل والحس ، وأمّا إثبات قدرة لا أثر لها بوجه ، فهو كنفي القدرة أصلاً. وأمّا إثبات تأثير في حالة لا يفعل ، فهو كنفي التأثير ، فلا بدّ إذاً من نسبة فعل العبد إلى قدرته حقيقة لا على وجه الإحداث والخلق ، فإنّ الخلق يشعر باستقلال إيجاده من العدم ، والإنسان كما يحسُّ من نفسه الاقتدار ، يحسّ من نفسه أيضاً عدم الاستقلال. فالفعل يستند وجوده إلى القدرة ، والقدرة يستند وجودها إلى سبب آخر تكون نسبة القدرة إلى ذلك السبب ، كنسبة الفعل إلى القدرة ، وكذلك يستند سبب إلى سبب آخر حتّى ينتهي إلى مسبب الأسباب ، وهو الخالق للأسباب ، ومسبباتها - المستغني على الإطلاق - فإنّ كلّ سبب مهما استغنى من وجه ، محتاج من وجه ، والباري تعالى هو الغني المطلق الذي لا حاجة له ولا فقر. (1)

قال الشهرستاني بعد ما نقل كلامه هذا : وهذا الرأي إنّما أخذه من الحكماء الإلهيّين ، وأبرزه في معرض الكلام. وليس تختص نسبة السبب إلى المسبّب - على أصله - بالفعل والقدرة (قدرة الإنسان) بل كلّ ما يوجد من الحوادث فذلك حكمة ، وحينئذ يلزم القول بالطبع وتأثير الأجسام في الأجسام إيجاداً ، وتأثير الطبائع في الطبائع إحداثاً ، وليس ذلك مذهب الإسلاميّين ، كيف ، ورأي المحقّقين من العلماء أنّ الجسم لا يؤثر في الجسم. (2)

هذا هو ما علّقه الشهرستاني على كلام إمام الحرمين وآخذه عليه ، وهو غير صحيح. فإنّ المراد من العلّية الطبيعية بين الأجسام والمظاهر المادية ، ليس هو الإيجاد والإحداث من كتم العدم ، بل المراد هو تفاعل الأجسام والطبائع ، بعضها

ص : 141


1- الملل والنحل : 1 / 9998.
2- المصدر نفسه.

مع بعض بإذنه سبحانه ، كانقلاب الماء إلى البخار ، والمواد الأرضية إلى الأزهار والأشجار ، وغير ذلك ممّا كشف عنه الحسّ والعلم.

وأمّا الصور الطارئة على الطبائع عند التفاعل والانقلاب كصور الزَّهْر والشجر ، فليست مستندة إلى نفس الطبائع ، بل الطبائع معدات وممهدات لنزول هذه الصور من علل عليا ، كشف عنها الذكر الحكيم عند ما صرح بأنّ لعالم الكون مدبرات يدبرونه بإذنه سبحانه ، قال : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً). (1)

إنّ كون العبد فاعلاً لفعله ، وعالم الطبائع مؤثراً في آثاره فإنّما هو بمعنى كونهما «ما به الوجود» لا «ما منه الوجود» ، وكم من فرق بين التعبيرين. فمن اعترف بالتأثير فقد اعترف بالمعنى الأوّل والسببية الناقصة ، لا بالمعنى الثاني ، أعني إفاضة الوجود ، والخلق بالمعنى القائم بالله سبحانه ، فإنّ الخلق فيض يُبتدئ منه سبحانه ، ويجري في القوابل والقوالب فيتجلّى في كلّ مورد بصورة وشكل ، والإنسان بما أنّه مجبول على الاختيار ، يصرف باختياره ما أُفيض عليه في مكان دون مكان وفي صورة دون صورة. نعم ليس لغيره من الطبائع إلاّ طريق واحد وتجلّ فارد.

وأظن أنّ الشهرستاني لو وقف على الفرق بين الفاعلين ، لما اعترض على كلام إمام الحرمين - بأنّه ليس من مذهب الإسلاميين - نعم هو ليس من مذاهب الحنابلة والأشاعرة ، وأمّا العدلية بعامة طوائفها فهم قائلون بذلك ، وقد عرفت قضاء القرآن والعقل في ذاك المجال.

ص : 142


1- النازعات : 5
2. أحمد بن تيمية (662 - 728 ه) يعترف بتأثر قدرة العبد

إنّ أحمد بن تيمية من دعاة السلفية في القرن الثامن ، وهو الذي أحيا مذهب السلف ، بعد اندراسه ، ودعا إليه بحماس وخالف الرأي العام في مسائل عديدة في العقائد والفقه ، وأخذ برأي أهل الحديث في عامّة الموارد ، حتّى في إجلاسه سبحانه فوق عرشه ، ووصفه بأنّ له أطيطاً كأطيط الرحل ، إلاّ أنّه خالفهم في تأثير العلل الطبيعية وقدرة العبد واستطاعته ، وأنّما عدل عن آرائهم في هذا الموضوع وأخذ برأي العدلية من الإمامية والمعتزلة لأجل قوة البراهين التي أقامها العلاّمة الحلي رداً على قول الأشاعرة بأنّه لا دور للعبد في أفعاله ، وذلك لأنّ مقالة مثل هذه تستلزم أشياء شنيعة.

فلم يجد ابن تيمية محيصاً إلاّ العدول عن رأي أهل الحديث والانسلاك في صفوف العدلية ، وممّا يقضى به العجب انّه نسب مختاره إلى جمهور أهل السنّة المثبتين للقدر ، وكأنّ الإمام أحمد أو الإمام الأشعري ليسا من أئمة أهل السنّة.

وعلى كلّ تقدير ، فهذا نصّ كلامه :

إنّ جمهور أهل السنّة المثبتين للقدر ، لا يقولون بما ذكره ، بل جمهورهم يقولون بأنّ العبد فاعل حقيقة ، وأنّ له قدرة حقيقية واستطاعة حقيقية ، وهم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية بل يقرّون بما دلّ عليه العقل من أنّ الله تعالى يخلق السحاب بالرياح ، ويُنزّل الماء بالسحاب ويُنبِت النباتَ بالماء ، ولا يقولون بأنّ قوى الطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها ، بل يقرون أنّ لها تأثيراً لفظاً ومعنى.

ولكن هذا القول الذي حكاه هو (العلاّمة الحلّي) قول بعض المثبتة للقدر كالأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد ، حيث لا

ص : 143

يثبتون في المخلوقات قوى الطبائع ويقولون : إنّ الله فعل عندها لا بها ، ويقولون : إنّ قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل ، وأبلغ من ذلك قول الأشعري بأنّ الله فاعل فعل العبد ، وأنّ عمل العبد ليس فعلاً للعبد ، بل كسب له ، وإنّما هو فعل الله ، وجمهور الناس من أهل السنّة من جميع الطوائف على خلاف ذلك ، وأنّ العبد فاعل لفعله حقيقة. (1)

أقول : إنّ الإمام في العقائد لدى أهل السنّة ، هو الإمام أحمد ، وبعده الإمام الأشعري ، والمفروض أنّهم لا يقولون بتأثير قدرة العبد في فعله ، ومعه : كيف يمكن أن ينسب إلى أهل السنّة غيره؟!

والحقّ أنّ ابن تيمية من رماة القول على عواهنه فيقضي ويبرم وينقض من دون أن يصدر من مصدر صحيح.

والعجب انّه ينسب إلى أهل السنّة بأنّهم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية!!

كيف يقول ذلك والأزهر والأزهريون يردّدون في ألسنتهم قول القائل :

ومن يقل بالطبع أو بالعلة *** فذاك كفر عند أهل الملة

3. نظرية الشعراني (973911 ه) وتأثير قدرة العبد في فعله

إنّ الشيخ الشعراني مؤلف كتاب «اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر» من أقطاب الحديث والكلام والتصوف ، فقد أدرك بصفاء ذهنه انّ الاعتقاد بالكسب لا يتفارق الجبر قدر شعرة ، فحاول أن يعالج المسألة من طريق

ص : 144


1- منهاج السنة : 1 / 266.

الكشف فقال :

اعلم يا أخي أنّ هذه المسألة من أدقّ مسائل الأُصول وأغمضها ، ولا يُزيل إشكالها إلاّ الكشف الصوفي ، أمّا أرباب العقول من الفِرَق فهم تائهون في إدراكها ، وآراؤهم فيها مضطربة. إذ كان أبو الحسن الأشعري يقول : ليس للقدرة الحادثة (قدرة العبد) أثر ، وإنّما تعلّقها بالمقدور مثل تعلّق العلم بالمعلوم في عدم التأثير.

وقد اعترض عليه بأنّ القدرة الحادثة إذا لم يكن لها أثر فوجودها وعدمها سواء ، فإنّ قدرة لا يقع بها المقدور ، بمثابة العجز. ولقوة هذا الاعتراض لجأ أصحاب الأشعري إلى القول بالجبر. وقال آخرون إنّ لها تأثيراً ما ، وهو اختيار الباقلاني ، لكنّه لما سئل عن كيفية هذا التأثير في حين التزامه باستقلال القدرة القديمة في خلق الأفعال ، لم يجد جواباً. وقال : إنّا نلتزم بالكسب لأنّه ثابت بالدليل ، غير أنّي لا يمكنني الإفصاح عنه بعبارة. وتمثل الشيخ أبو طاهر بقول الشاعر :

إذا لم يكن إلاّ الأسنّة مركباً *** فلا رأي للمضطر إلاّ ركوبها

ثمّ قال : ملخص الأمر : أنّ من زعم أنّه لا عمل للعبد ، فقد عاند ، ومن زعم أنّه مستبد بالعمل ، فقد أشرك ؛ فلا بدّ من القول بأنّه مضطر على الاختيار. (1)

هذا ، وقد أحسن الشيخ في نقد الكسب ولكن الإحالة إلى الكشف الصوفي إحالة إلى المجهول ، أو إحالة إلى إدراك شخصي لا يكون حجّة للغير.

ص : 145


1- اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر : 139 - 141.
4. الشيخ عبده (13231266 ه) ، وتأثير قدرة العبد في فعله

لم نجد بين رحيل الشيخ الشعراني عام 937 ه - إلى عصر مفتي الديار المصرية من ينفض غبار التقليد عن تفكيره ، ولعلّ في هذه الفترة رجالاً أحراراً في التفكير ، وصلوا إلى ما وصل إليه إمام الحرمين ومن جاء بعده ، وعلى كلّ تقدير فقد خالف الشيخ محمد عبده ، الرأي السائد على الأزهر والأزهريين وقام بوجههم وصرح بتأثير قدرة العبد في فعله.

كانت العقيدة الإسلامية في مصر تتجلّى في المذهب الأشعري وكان إنكار العلّية والمعلولية والرابطة الطبيعية بين الطبائع وآثارها من أبرز سمات ذاك المذهب ، وكان التفوّه بخلافه ، آية الإلحاد والكفر ، وقد شنّ الماديون على هذه العقيدة أُموراً ملئوا بها صحفهم وكتبهم ، منها :

1. إنّ الإلهيّين لا يعترفون بناموس العلّية والمعلولية ، وينكرون الروابط الطبيعية بين الأشياء وآثارها ، مع أنّ العلم - بأساليبه التجريبية المختلفة - يثبت ذلك بوضوح.

2. إنّ الإلهيّين يعترفون بعلّة واحدة وهي الله تعالى ، وهم يقيمونه مقام جميع العلل ، وينسبون كلّ ظاهرة مادية إليه سبحانه ، وأحياناً إلى العوالم العِلْوية التي يعبّر عنها بالملك والجن والروح.

3. إنّ الإلهيّين - بسبب قولهم بأنّ أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه - لا يعتقدون بدور للإنسان في حياته وعيشه ، فهو مجبور في السير على الخط الذي يرسمه له خالقه ، ومكتوف الأيدي أمام تلاطم أمواج الحوادث ، فلأجل ذلك لا يؤثّر في الإنسان شيء من الأساليب التربوية ولا يغيره إلى حال.

إلى غير ذلك من الإشكالات والمضاعفات والتوالي الفاسدة ، التي لا تقف

ص : 146

عند حدّ.

وقد وقف الشيخ عبده على خطورة الموقف ، وأنّه ممّا يستحقّ أن يشتري لنفسه اللومَ والذمَ ، بل الأمرَ الأشد من ذلك ، في سبيل إظهاره الحقيقة ، حتّى يدفع الهجمات الشعواء عن وجه الإسلام والمسلمين بقوة ورصانة.

نعم ، قد أثّر في تفكير الشيخ عبده وأوجد فيه هذا الحافز والاندفاع ، عاملان كبيران ، كان لهما الأثر البالغ في بناء شخصيته الفكرية والفلسفية والاجتماعية والسياسية ، وهما :

1. اطّلاعه على نهج البلاغة للإمام أمير المؤمنين - عليه السلام - في منفاه (بيروت).

2. اتّصاله بالسيد المجاهد جمال الدين الأسدآبادي (1254 - 1316 ه).

ففي ضوء هذين العاملين ، خالف الرأي العام في كثير من الموارد ، ومنها أفعال العباد ، فقال في رسالة التوحيد التي كتبها عام 1303 ه - للتدريس في المدارس الإسلامية في بيروت سنة إقصائه من مصر إليها وقد وقف على نهج البلاغة في منفاه - :

يشهد سليم العقل والحواسّ من نفسه أنّه موجود ولا يحتاج في ذلك إلى دليل يهديه ، ولا معلم يرشده ، كذلك يشهد أنّه مدرك لأعماله الاختيارية ، يزن نتائجها بعقله ، ويقدّرها بإرادته ، ثمّ يصدرها بقدرة ما فيه ، ويعد إنكار شيء من ذلك مساوياً لإنكار وجوده في مجافاته لبداهة العقل.

كما يشهد بذلك في نفسه يشهده أيضاً في بني نوعه كافة ، متى كانوا مثله في سلامة العقل والحواس ... وعلى هذا قامت الشرائع ، وبه استقامت التكاليف ، ومن أنكر شيئاً منه فقد أنكر مكان الإيمان من نفسه ، وهو عقله الذي شرفه الله بالخطاب في أوامره ونواهيه.

ص : 147

إلى أن قال : ودعوى أنّ الاعتقاد بكسب العبد. (1) لأفعاله يؤدي إلى الإشراك بالله - وهو الظلم العظيم - دعوى من لم يلتفت إلى معنى الإشراك على ما جاء به الكتاب والسنّة ، فالإشراك اعتقاد أنّ لغير الله أثراً فوق ما وهبه الله من الأسباب الظاهرة ، وأنّ لشيء من الأشياء سلطاناً على ما خرج عن قدرة المخلوقين ، وهو اعتقاد من يعظِّم سوى الله مستعيناً به في ما لا يقدر العبد عليه ....

جاءت الشريعة لتقرير أمرين عظيمين ، هما ركنا السعادة وقوام الأعمال البشرية :

الأوّل : إنّ العبد يكسب بإرادته وقدرته ما هو وسيلة لسعادته.

والثاني : إنّ قدرة الله هي مرجع لجميع الكائنات ، وإنّ من آثارها ما يحول بين العبد وبين إنفاذ ما يريده ، وإنّ لا شيء سوى الله يمكن له أن يمدّ العبد بالمعونة فيما لم يبلغه كسبه.

وقد كلّفه سبحانه أن يرفع همّته إلى استمداد العون منه وحده ، بعد أن يكون قد أفرغ ما عنده من الجهد في تصحيح الفكر وإجادة العمل. وهذا الذي قرّرناه قد اهتدى إليه سلف الأُمّة ، فقاموا من الأعمال بما عجبت له الأُمم ، وعوّل عليه من متأخّري أهل النظر إمام الحرمين الجويني ، وإن أنكر عليه بعض من لم يفهمه. (2)

ص : 148


1- ولعلّه استخدم لفظ الكسب ليكون واجهة لبيان مقصده بتعبير مقبول عند أهل السنّة وإلاّ فما ذكره لا صلة له بالكسب المصطلح ، إلاّ أن يريد الكسب القرآني ، أعني قوله سبحانه : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) البقرة : 286.
2- رسالة التوحيد : 59 - 62 بتلخيص.
5. الزرقاني والجمع بين النصوص

إنّ الشيخ محمد بن عبد العظيم الزرقاني مؤلّف كتاب «مناهل العرفان في علوم القرآن» أحد المحقّقين في العلوم القرآنية ، وكتابه هذا ، يدلّ على سعة باعه واطّلاعه ونزاهة قلمه ودماثة خلقه مع المخالفين ، فقد طرح في كتابه مسألة خلق الأفعال وقال : ولنعلم أنّ المتخالفين في ذلك ما زالوا مع خلافهم ، إخواناً مسلمين ، تظلّهم راية القرآن ويضمّهم لواء الإسلام.

في القرآن الكريم والسنّة النبوية نصوص كثيرة على أنّ الله تعالى خالق كلّ شيء ، وانّ مرجع كلّ شيء إليه وحده ، وانّ هداية الخلق وضلالهم بيده سبحانه ، ثمّ ذكر شيئاً من الآيات والروايات الواردة في هذا الصدد.

ثمّ قال : بجانب هذا توجد نصوص كثيرة أيضاً من الكتاب والسنّة ، تنسب أعمال العباد إليهم وتعلن رضوان الله وحبّه للمحسنين فيها ، كما تعلن غضبه وبغضه للمسيئين ، ثمّ ذكر قسماً من الآيات والروايات الدالّة على ذلك ، ثمّ خرج بالنتيجة التالية :

إنّ أهل السنّة بهرتهم النصوص الأُولى فقالوا : إنّ العبد لا يخلق أفعالَ نفسه الاختيارية وإنّما هي خلق الله وحده. وإذا قيل لهم : كيف يثاب المرء أو يعاقب على عمل لم يوجده هو؟ وكيف يتّفق هذا وما هو مقرر من عدالة الله وحكمته في تكليف خلقه؟ قالوا : إنّ العباد - وإن لم يكونوا خالقين لأعمالهم - كاسبون لها. وهذا الكسب هو مناط التكليف ومدار الثواب والعقاب ، وبه يتحقّق عدل الله وحكمته فيما شرع للمكلّفين.

وهكذا حملوا النصوص الأُولى على الخلق وحملوا الثانية على

ص : 149

الكسب جمعاً بين الأدلّة.

أمّا المعتزلة فقد بهرتهم النصوصُ الثانية وما يظاهرها من برهان العقل فرجّحوها وقالوا : إنّ العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية. وإذا قيل لهم : أليس الله خالق كلّ شيء ومنها أعمال العبد؟ قالوا : بلى إنّه خالق كلّ شيء حتّى أعمال عباده الاختيارية ، بيد أنّه خلق بعض الأشياء بلا واسطة وخلق بعضها الآخر بواسطة ، وأعمال المكلّفين من القبيل الثاني ، خلقها الله بوساطة خلق آلاتها فيه ، وآلاتها هي القدرة الكلية والإرادة الكلية الصالحتان للتعلق بكلّ من الطرفين. وليس لنا من حول ولا قوة سوى أنّنا استعملناها على أحد وجهيها ، إمّا بحسن الاختيار وإمّا بسوء الاختيار. ثمّ لا مانع عندنا من القول بأنّه سبحانه خالق لأفعال عباده ، ولكن على سبيل المجاز ، باعتبار أنّه خالق أسبابها ووسائلها.

ثمّ قال هو : ولقد كان سلفنا الصالح يؤمنون بوحدانية الله وعدله ، ويؤمنون بقدره وأمره ، ويؤمنون بهذه النصوص وتلك النصوص ، ويؤمنون بأنّ العبد يعمل ما يعمل وأنّ الله خالق كلّ شيء ، ويؤمنون بأنّه تعالى تنزّه في قدره عن أن يكون مغلوباً أو عاجزاً ، وتنزّه في أمره وتكليفه عن أن يكون ظالماً أو عابثاً. ثمّ بعد ذلك يصمتون ، فلا يخوضون في تحديد نصيب عمل الإنسان الاختياري من قدرة الله ، ونصيبه من قدرة العبد. ولا يتعرّضون لبيان مدى ما يبلغ فعل الله في قدره ، ولا لبيان مدى ما يبلغ فعل العبد في امتثال أمره ، ذلك ما لم يعلموه ولم يحاولوه ، لأنّهم لم يكلّفوه ، وكان سبحانه أرحم بعباده من أن يكلّفهم إيّاه ، لأنّه من أسرار القدر أو يكاد ، والعقل البشري محدود التفكير ضعيف الاستعداد. ومن شره العقول طلب ما لا سبيل لها إليه (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً).

ص : 150

لم يمتحنّا بما تعيا العقولُ به *** حرصاً علينا فلم نرتب ولم نهمِ(1)

6. الشيخ شلتوت (13831310 ه) العبد فاعل بإرادته وقدرته
اشارة

إنّ الشيخ شلتوت أحد المجتهدين الأحرار في القرن الماضي لا تأخذه في الله لومة لائم ، فإذا شاهد الحق أجهر به ، ولا يطلب رضى أحد ، ولا يخاف غضب آخر ، فهو ممّن اعترف بحرية الإنسان في مجال العمل ، قال :

وقد تناول علماء الكلام في القديم والحديث هذه المسألة ، وعُرِفت عندهم بمسألة الهدى والضلال ، أو بمسألة الجبر والاختيار ، أو بمسألة خلق الأفعال ، وكان لهم فيها آراء فرّقوا بها كلمة المسلمين ، وزلزلوا بها عقائد الموحدين العاملين ، وصرفوا الناس بنقاشهم في المذاهب والآراء عن العمل الذي طلبه الله من عباده ، وأخذوا يتقاذفون فيما بينهم بالإلحاد والزندقة ، والتكفير والتفسيق ، وما كان الله - وآياته بينات واضحات - ليقيم لهم وزناً فيما وقفوا عنده ، وداروا حوله ، ودفعوا الناس إليه.

ثمّ إنّ ذلك العيلم بعد ما ذكر آراء السلف المختلفة قال :

والذي نراه كما قلنا أنّ للعبد قدرة وإرادة ولم يخلقهما الله فيه عبثاً ، بل خلقهما ليكونا مناط التكليف ومناط الجزاء وأساس نسبة الأفعال إلى العبد نسبة حقيقية ، والله يترك عبده وما يختار لنفسه ، فإن اختار الخير تركه فيه

ص : 151


1- مناهل العرفان في علوم القرآن : 1 / 506 - 511 ، والشعر جزء من قصيدة البوصيري في مدح النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -.

يدعوه سابقه إلى لاحقه ، ولا يمنعه بقدرته الإلهية عن استمراره فيه ؛ وإن اختار الشر ، تركه فيه يدعوه سابقه إلى لاحقه ، ولا يمنعه بقدرته الإلهية عن استمراره فيه ، والعبد وقدرته واختياره كل ذلك بمشيئة الله وقدرته وتحت قهره ، ولو شاء لسلب قوة الخير فكان العبد شرّاً بطبعه لا خير فيه ، ولو شاء لسلبه قوة الشر فكان خيراً بطبعه لا شر فيه ، ولكن حكمته الإلهية في التكليف والابتلاء ، قضت بما رسم ، وكان فضل الله على الناس عظيماً.

ومن هنا يتبين أنّ العبد ليس مجبوراً ، لا ظاهراً ولا باطناً ، ولا مجزياً على ضلاله بإضلال الله إياه ، فإنّ هذا أمر تأباه حكمة الحكيم وعدل العادل ، وتمنع تصوّرَه.

القضاء والقدر لا يستلزمان الجبر

وبهذا يكون المؤمنون عمليّين ، لا يعتذر الواحد منهم عن تقصير في واجب بالقضاء والقدر ، فليس في القضاء والقدر إلاّ العدل المطلق ، والحكمة الشاملة العامة ، ليس فيهما إلاّ الحكم والترتيب ، وربط الأسباب بالمسببات على سنّة دائمة مطّردة ، هي أصل الخلق كلّه ، وهي أساس الشرائع كلّها ، وهي أساس الحساب والجزاء عند الله ، وليس فيهما شيء من معاني الإكراه والإلزام. وإنّما معناهما الحكم والترتيب ، فقضى : حكم وأمر ، وقدر : رتب ونظم ، وعلم الله بما سيكون من العبد باختياره وطوعه - شأن المحيط علمُه بكلّ شيء - ليس فيه معنى إلزام العبد بما علم الله أنّه سيكون منه ، وإنّما هو العلم الكامل الذي لا يقصر عن شيء في الأرض ولا في السماء ، ولا فيما كان وما يكون. (1)

وبذلك تمت المراحل التي مرّت على نظرية الكسب التي شغلت بالَ

ص : 152


1- تفسير القرآن الكريم ، للشيخ شلتوت : 240 - 242.

المفكّرين عدة قرون وتركتْ بصماتِها على ثقافة المسلمين وعلى حياتهم بحجة انّ الإنسان مكتوف اليد ، ليس له ولا لقدرته وإرادته أيُّ أثر في حياته.

قال أحمد أمين : غالت المعتزلة ، بحرية الإرادة ، وغلوا فيها أمام قوم ، سلَبُوا الانسانَ إرادتَه ، حتّى جعلوه كالريشة في مهب الريح ، أو كالخشبة في اليمّ. وعندي انّ الخطأ في القول بسلطان العقل ، وحرية الإرادة ، والغلوّ فيهما ، خير من الغلوّ في أضدادهما ، وفي رأيي انّه لو سادت تعاليم المعتزلة إلى اليوم كان للمسلمين موقف آخر في التاريخ غير موقفهم الحالي ، وقد أعجزهم التسليمُ وشلّهم الجبرُ ، وقعد بهم التواكل. (1)

ولو كان الكاتب واقفاً على منهج أئمّة أهل البيت في حرية الإنسان ، وحدود سلطان العقل لأذعن بأنّ المنهج في تحديد الحرية ، خال عن الغلوّ ، وانّه أعطى لكلّ حقّه ، فما عاقه القول بالتوحيد في الخالقية ، عن القول بحرية الإنسان ، وانّ مصيره من حيث السعادة والشقاء بيده ، كما لم يمنعه القول بتأثير قدرة العبد في انتخابه واختياره عن القول بالتوحيد في الأفعال ، وانّ كلّ ما في الكون من دقيق وجليل قائم به سبحانه ، ومفاض منه عبر العلل والأسباب.

لم يزل النقاش والجدال قائماً بين الأشاعرة والمعتزلة على قدم وساق ، وكلّ يتهم الآخر بأشنع التهم ، فالأشعري يتّهم المعتزلي بالشرك وانّ القول باستقلال الإنسان في فعله يستلزم أن يكون لله شركاء بعدد الإنسان وهم عباده المكلّفون ، وهذا يناقض عقيدة التوحيد ، وبرهان الوحدانية ؛ كما أنّ المعتزلة تتّهم الأشاعرة بأنّ قولهم بخلق الأعمال لا يتّفق مع القول بعدله وحكمته سبحانه ، إذ كيف يثاب المرء أو يعاقب على عمل لم يوجده.

ص : 153


1- ضحى الإسلام : 3 / 7.

ولو رجع روّاد المنهجين ، إلى منهج أئمّة أهل البيت لوقفوا على الحقّ الصراح ، وانّ القول بالتوحيد في الخالقية لا يزاحم القول بالعدل والحكمة ، (بشرط أن يفسر على النهج الصحيح) وانّ بين الأصلين كمال التلاؤم.

رُوي انّ القاضي عبد الجبار المعتزلي (المتوفّى 415) دخل دارَ الصاحب بن عباد فرأى فيه أبا إسحاق الأسفرائيني الأشعري (المتوفّى 413 ه) فقال القاضي : سبحان من تنزّه عن الفحشاء (يريد بذلك انّ القول بخلق الاعمال يستلزم انّه سبحانه خلق الفحشاء) ، فأجابه أبو إسحاق : سبحان من لا يجري في ملكه إلاّ ما شاء ، ويريد انّ القول بوقوع أفعال العباد بلا مشيئة منه سبحانه يستلزم القول بتحقّق أُمور خارجة عن سلطانه. (1)

ولو تتلمذ عميدا المعتزلة والأشاعرة على خريجي منهج أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - لوقفا على أنّ الشعارين غير متزاحمين ، فالله سبحانه في الوقت الذي تنزّه عن الفحشاء لا يجري في ملكه إلاّ ما شاء ، فَجعْلُ كلّ من الشعارين مقابلاً للآخر رهن الجمود على القول بعموم الخلقة على التفسير الذي سار عليه الأشعري ، وعلى انقطاع فعل العبد عن قدرته سبحانه على النحو الذي سار عليه المعتزلة.

هذا تمام الكلام حول نظرية الكسب ، ومراحلها التي مرّت بها وما لها من التوالي والمضاعفات.

بقيت هنا عدّة أُمور نذكرها تباعاً في خاتمة المطاف.

ص : 154


1- شرح المقاصد : 2 / 145 ؛ شرح المواقف : 8 / 156.

5- خاتمة المطاف

اشارة

وفيها أُمور :

الأمر الأوّل: نسبة فعل العبد إلى الله فوق التسبيب

ربما يقال : انّ نسبة فعل العبد إلى الله سبحانه نسبةُ المسبَّب إلى السبب ، والله سبحانه خلق الإنسان وزوّده بالقدرة فهو يفعل بقدرته سبحانه ، وبما انّ العبد والقدرة من أفعاله سبحانه ، يكون الصادر عن قدرة العبد فعلاً له سبحانه تسبيباً.

أقول : إنّ حديث التسبيب هو متلقّى النظر الساذج وكفى في النجاة الاعتقاد بذلك.

وأمّا في النظرة الدقيقة فانّ نسبة فعل العبد إلى الله سبحانه فوق ذلك ، لأنّ العالم الإمكاني بجواهره وأعراضه وطبائعه ومجرداته فقير بالذات لا يملك لنفسه شيئاً من الوجود ، فالجميع قائم بالله سبحانه قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ، فلا يُمكن الفصل بين الوجود الإمكاني ووجود الواجب ، فانّ الفصل آية الغناء ، وهو يلازم الوجوب والمفروض انّه فقير بالذات حدوثاً وبقاء.

ص : 155

وأفضل جملة تعبر عن هذه العلقة الوثيقة قوله سبحانه : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (1) وقوله سبحانه : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) (2) ومفاد هاتين الآيتين هو كونه سبحانه مع كلّ موجود إمكاني من دون فرق بين الإنسان وفعله.

وليس المراد من المعية هو حلوله سبحانه في ذوات الأشياء وآثارها ، بل المراد هو المعية القيومية.

وقد ذكر صدر المتألّهين تمثيلاً في المقام ، وإليك بيانه :

إذا أردت التمثيل لتبيين كون الفعل الواحد فعلاً لشخصين على الحقيقة ، فلاحظ النفس الإنسانية ، وقواها ، فالله سبحانه خلقها مثالاً ، ذاتاً وصفة وفعلاً ، لذاته وصفاته وأفعاله ، قال سبحانه : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ). (3) وقد أُثر عن النبي والوصي القول بأنّه «من عرف نفسه ، عرف ربّه». (4)

إنّ فعل كلّ حاسّة وقوة من حيث هو فعل تلك القوة ، فعل النفس أيضاً ، فالباصرة ليس لها شأن إلاّ إحضار الصورة المبصرة ، أو انفعال البصر منها ، وكذلك السامعة ، فشأنها إحضار الهيئة المسموعة أو انفعالها بها ، ومع ذلك فكلّ من الفعلين ، كما هو فعل القوة ، فعل النفس أيضاً ، لأنّها السميعة البصيرة في

ص : 156


1- الحديد : 4.
2- المجادلة : 7.
3- الذاريات : 20 - 21.
4- غرر الحكم : 268 ، طبعة النجف. وروي عن أمير المؤمنين - عليه السلام - قوله : «أعلمكم بنفسه أعلمكم بربه» أمالي المرتضى : 2 / 329.

الحقيقة ، وليس شأن النفس استخدام القوى بل هو فوق ذلك. لأنّا إذا راجعنا إلى وجداننا نجد انّ نفوسنا بعينها الشاعرة في كلّ إدراك جزئي ، وشعور حسّي ، كما أنّها المتحركة بكلّ حركة طبيعية أو حيوانية منسوبة إلى قواها. وبهذا يتّضح انّ النفس بنفسها في العين قوّة باصرة ، وفي الأُذن قوة سامعة ، وفي اليد قوة باطشة ، وفي الرِّجل قوّة ماشية ، وهكذا الأمر في سائر القوى التي في الأعضاء ، فبها تبصر العين وتسمع الأُذن وتمشي الرجل. فالنفس مع وحدتها وتجرّدها عن البدن وقواه وأعضائه ، لا يخلو منها عضو من الأعضاء عالياً كان أو سافلاً ، ولا تبائنها قوة من القوى مدركة كانت أو محركة ، حيوانية كانت أو طبيعية.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّه كما ليس في الوجود شأن إلاّ وهو شأنه ، كذلك ليس في الوجود فعل إلاّ فعله ، لا بمعنى أنّ فعل زيد مثلاً ليس صادراً عنه ، بل بمعنى انّ فعل زيد مع أنّه فعله بالحقيقة دون المجاز فهو فعل الله بالحقيقة. فكما أنّ وجود زيد بعينه أمر متحقّق في الواقع ، منسوب إلى زيد بالحقيقة لا بالمجاز ، وهو مع ذلك شأن من شئون الحقّ الأوّل ، فكذلك علمه وإرادته وحركته وسكونه وجميع ما يصدر عنه منسوب إليه بالحقيقة لا بالمجاز والكذب. فالإنسان فاعل لما يصدر عنه ومع ذلك ففعله أحد أفاعيل الحقّ الأوّل على الوجه اللائق بذاته سبحانه. (1)

وفي الحديث القدسي إلماع إلى هذا النوع من النسبة بين الخالق والمخلوق ، قال : «يا ابن آدم بمشيئتي كنتَ أنتَ الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبقوتي أدّيتَ إليّ فرائضي ، وبنعمتي قويتَ على معصيتي ، جعلتك سميعاً بصيراً قوياً». (2)

ص : 157


1- الأسفار : 6 / 377 - 378 ، وص 374.
2- البحار : 5 / 57.

فالأشاعرة خلعوا الأسباب والعلل وهي جنود الله سبحانه ، عن مقام التأثير والإيجاد. كما أنّ المفوّضة عزلتْ سلطانَه عن ملكه وجعلت بعضاً منه في سلطان غيره. والحقّ الذي أيّده البرهان ويصدّقه الكتاب كون الفعل موجوداً بقدرتين ، لكن لا بقدرتين متساويتين ولا بمعنى علّتين تامّتين بل بمعنى كون الثانية من مظاهر القدرة الأُولى وشئونها وجنودها ، (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ). (1)

ص : 158


1- المدثر : 31.
الأمر الثاني: تنمية العلم في ظلّ القول بنظام الأسباب والمسبّبات

قد أوضحنا في محاضراتنا في «الإلهيات» انّ القول بأنّ المادة لم تزل أزلية ، ولو صارت ذات سنن وقوانين فإنّما هي وليدة الصدفة ، لا يدفع بالإنسان إلى التحقيق وسبر أغوار الطبيعة ، وذلك إذ لا علم له بوجود سنن وأنظمة في داخل العالم حتّى يبحث عنه الإنسان ، فلا محيص للباحث في سنن العالم والمستطلع للحقائق السائدة فيه - قبل الفحص عن السنن - عن اعتناق نظرية الخلقة وهي انّ العالَم مصنوع علم وقدرة واسعة ، أخرجه من العدم إلى الوجود وأجرى فيه سنناً وأنظمة.

والحاصل : انّ الذي يبعث الإنسان إلى الفحص عن النظم والسنن هو نظرية الإلهيّين وهو انّ العالم مخلوق موجود واجب عالم قد مر ، وأمّا النظرية الأُخرى أي عدم تدخّل علم وقدرة في النظم والسنن فيعرقل خُطى الباحث عن الغور في العالم.

هذا هو الذي أوضحنا حاله في «الإلهيات».

فنقول : إنّ إنكار العلل والمعاليل والأسباب والمسبّبات والاعتقاد بعلّة واحدة مكان العلل نظير القول بأنّ النظام مخلوق صدفة ، وذلك لأنّ الذي يبعث الباحث عن الوجود وأسراره هو اعتقاده بأنّ كلّ ذرة في ذات هذا العالم مشتملة

ص : 159

على قانون يريد أن يستكشفه ويفرغه في قالب العلم ، وأمّا إذا اعتقد خلاف ذلك وانّه ليس للعالم إلاّ علّة واحدة وأنكر الأنظمة والسنن فلا يجد في نفسه باعثاً نحو الفحص والتحقيق ، إذ لا علم له بوجود السنن والأنظمة حتّى يبحث عنها ، فدعامة العلم لا تقوم إلاّ بالقول بأنّه سبحانه تبارك وتعالى خلق العالم على نظام خاص وأجرى فيه شيئاً هو مظاهر علمه وقدرته.

وقد جرت سنّة الله تعالى على خلق الأشياء بأسبابها ، فجعل لكلّ شيء سبباً وللسبب سبباً إلى أن ينتهي إلى الله سبحانه ، والمجموع من الأسباب الطولية علّة واحدة تامّة كافية لايجاد الفعل ، ونكتفي في المقام بكلمة عن الإمام الصادق - عليه السلام - حيث قال : «أبى الله أن يجري الأشياء إلاّ بأسباب ، فجعل لكلّ شيء سبباً وجعل لكلّ سبب شرحاً». (1)

الأمر الثالث نظرية «مالبرانس»

إنّ المنقول عن الفيلسوف الفرنسي «مالبرانس» (1631 - 1715 م) يتّحد مع نظرية الأشعري حرفاً بحرف ، ومن المظنون أنّه وقف على بعض الكتب الكلامية للأشاعرة ، فأفرغ نظرية الكسب حسب ما تلقّاه من تلك الكتب في كتابه ، وحاصل ما قال :

إنّ كلّ فعل إنّما هو في الحقيقة لله ، ولكن يظهر على نحو ما يظهر ، إذا تحقّقت ظروف خاصة إنسانية أو غير إنسانية حتّى لكأنّها يخيّل للإنسان أنّ الظروف هي التي أوجدته.

فهذه النظرية أولى بأن تسمّى بنظرية الاتّفاقية ، أو نظرية الظروف

ص : 160


1- الكافي : 1 / 183 ، باب معرفة الإمام ، الحديث 7.

والمناسبات ، وهي نفس نظرية الأشعري حيث يرى أنّه لا تأثير للقدرة الحادثة في الأحداث ، وإنّما جرت سنّة الله بأن يلازم بين الفعل المحدَث وبين القدرة المحدثة (بالكسر) له إذا أراد العبد وتجرد له ، ويسمى هذا الفعل كسباً. فيكون خلقاً من الله ، وكسباً من العبد ، عند ما يقع في متناول قدرته واستطاعته ، من غير تعلّقه عليه. (1)

وقد نقل «ذكاء الملك» نظرية ذلك الفيلسوف الفرنسي في موسوعته الفلسفية. وهي تبتني على إنكار قانون العلّية والمعلولية بين الأشياء ، وأنّ كلّ ما يعدّ علّة لشيء فهو من باب المقارنة. فلو رأينا أنّ جسماً يحرك جسماً آخر ، فذلك إدراك سطحي ، والمُحْدِث هو الله سبحانه ، وتلاقي الجسمين ظرف لقيامه بالتحريك ، ومثله تحريك النفس عضواً من أعضاء البدن ، فالمحرّك هو الله سبحانه وإرادة النفس ظرف ومحلّ لظهور فعله سبحانه.

ولا نعلّق على هذه النظرية سوى القول بأنّها مخالفة للبراهين الفلسفية القائمة على وحدة حقيقة الوجود في جميع المراتب ، واختلافها بالشدة والضعف. فعندئذ لا معنى لأن يختصّ التأثير ببعض المراتب دون آخر مع الوحدة في الحقيقية.

إنّ إنكار التأثير على وجه الإطلاق بين الظواهر الطبيعية وما فوقها يخالف البرهان العقلي الفلسفي ، أوّلاً ؛ وصريح الذكر الحكيم ، ثانياً ؛ والفطرة السليمة الإنسانية ، ثالثاً ، والتفصيل في الجهات الثلاث موكول إلى محلّه.

ص : 161


1- القضاء والقدر للكاتب المصري عبد الكريم الخطيب : 182.
الأمر الرابع التفسير الخاطئ في قسم من الأُصول

قد تعرّفت على التفسير الخاطئ للتوحيد في الخالقية وانّ هذه العقيدة القرآنية كيف فسِّرت بصورة مشوهة حتّى صارت سبباً لانتفاء الغاية من خلق القدرة في الإنسان إلى غير ذلك من المضاعفات التي تعرّفت عليها.

وفي تاريخ العقائد نظائر لهذا الأصل ابتليت بتفاسير خاطئة استوجب توالي فاسدة ، نظير :

1. القضاء والقدر وسعتها لأفعال البشر.

2. علمه سبحانه بالكائنات وأفعال الإنسان.

3. البداء وانّ للإنسان أن يغيّر مصيره بالأعمال الصالحة والطالحة.

4. التقية التي هي سلاح الضعيف أمام من صادر حرياته.

ونظائرها فانّ كلاً من هذه الأُصول لها دلائل ساطعة في القرآن الكريم والسنّة تعدّ من المعارف العليا في الإسلام ولكنّها مع الأسف الشديد وقعت في إطار تفاسير باطلة صارت سبباً للطعن والغمز.

أمّا القضاء والقدر فقد فسّرا بنحو صارت نتيجته كون الإنسان مكتوف اليد ، أو كالريشة في مهب الريح ، أو كالخشبة في اليم ، أو غير ذلك.

وأمّا الثاني ، فقد جعلوا علمه الوسيع سبباً للجبر وانّه ليس للخاطئ إلاّ ارتكاب الخطأ وإلاّ ينقلب علمه جهلاً.

وأمّا الثالث ، فقد فسروه بظهور ما خفي عليه سبحانه ، وتعالى عن ذلك.

وأمّا الرابع ، فقد جعلوه من فروع النفاق.

فيجب على الباحث أن يستنطق الكتاب والسنة فيها مجرداً عن كلّ رأي

ص : 162

مسبق حتّى يقف على حقائق تلك الأُصول.

وبما انّه قد استوفينا الكلام في هذه الأُصول في عدة من مؤلّفاتنا فلا نجد حاجة إلى تكرارها ، ومن أراد فليرجع إلى الصفحة أدناه. (1)

الأمر الخامس تغيير عنوان المسألة في كتب المتأخّرين

إنّ العنوان الرائج في كتب القدماء هو خلق الأعمال والأفعال ولكن العنوان الموجود بين المتأخرين غير ذلك فهم يعبرون عن المسألة بالعنوان التالي :

إنّ الله قادر على كلّ المقدورات أو انّ أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله سبحانه وتعالى وحده. (2)

ولعل التعبير الثاني أفضل ، وذلك لأنّ مادة الخلق لا تنسب إلى الفعل في لغة العرب ، فلا تجد في الكتاب والسنّة ولا عند شعراء العصر الجاهلي من ينسب الخلق إلى الفعل ويقول خلق الأكل أو الشرب.

نعم ورد في القرآن الكريم قول إبراهيم : (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) (3) فقد نسب الخلق إلى الإفك الذي هو يعدّ فعلاً للإنسان.

ولكن الإمعان في الآية يفسر لنا وجه هذه النسبة ، فانّ الإفك كناية عن الاعتقاد بكون الأصنام إلهاً يُعبد ، فقد صار هذا سبباً لنسبة الخلق إلى الفعل المتجسّم في ضمن «الأوثان» التي يتعلّق بها «الخلق».

ص : 163


1- انظر 1. الإلهيات في أربعة أجزاء : الجزء الأوّل والثاني ؛ 2. مفاهيم القرآن في عشرة أجزاء ، الجزء الأوّل ؛ 3. الملل والنحل ، الجزء الأوّل والثالث ؛ 4. مع الشيعة الإمامية في تاريخهم وعقائدهم.
2- لاحظ شرح المواقف : 8 / 145.
3- العنكبوت : 17.

وهذا يعرب عن أنّ العنوان الواضح هو ما اختاره المتأخّرون من عمومية قدرته لأفعال العباد.

الأمر السادس في إيضاح الجهمية والنجارية والضرارية

إنّ هذه الطوائف الثلاث من دُعاة القول بالجبر وخلق الأعمال وانّ نصيب العبد من الفعل هو الكسب ، ولذا حاولنا أن نقول فيهم كلمة للإيضاح.

تنتسب الجهمية إلى جهم بن صفوان (المتوفّى 128 ه) وهو تلميذ الجعد بن درهم الذي قتله خالد بن عبد الله القسري سنة 124 ه.

ويليهم في القول بالجبر النجارية وهم أصحاب الحسين بن محمد بن عبد الله النجار (المتوفّى عام 230 ه) وله مناظرات مع النظام.

وعرفهم الشهرستاني بقوله بأنّهم يقولون إنّ الباري تعالى هو خالق أعمال العباد خيرها وشرها ، حسنها وقبيحها والعبد مكتسب لها ، ويثبتون تأثيراً للقدرة الحادثة ويسمّون ذلك كسباً. (1)

الضرارية نسبة إلى ضرار بن عمرو ، وقد ظهر في أيام واصل بن عطاء ، وقد ألف قيس بن المعتمر كتاباً في الردّ على ضرار سمّاه كتاب «الردّ على ضرار».

إنّ هذه الطائفة أيضاً تقول بأنّ أفعال العباد مخلوقة لله حقيقة والعبد مكتسبها. (2)

ص : 164


1- لاحظ الملل والنحل للشهرستاني : 1 / 89.
2- مقالات الإسلاميين : 129 ؛ الملل والنحل : 1 / 90.

الفصل الرابع: الإرادة الإلهية التكوينيّة والتشريعيّة

اشارة

ص : 165

ص : 166

1- في تقسيم صفاته

اشارة

إنّ صفاته سبحانه تنقسم إلى قسمين : ثبوتية ، وسلبية. وإن شئت قلت : جمالية وجلالية. فإن كانت الصفة مثبتة لجمال وكمال في الموصوف ، وكانت مشيرة إلى واقعية في ذاته ، تسمّى ثبوتية ذاتية أو جمالية ؛ وإن كانت الصفة هادفة إلى نفي نقص وحاجة عنه سبحانه ، تسمّى سلبية أو جلالية.

فالعلم والقدرة والحياة من الصفات الثبوتية التي تشير إلى وجود كمال وواقعية في الذات الإلهية ، كما أنّ نفي الجسمانية والتحيّز والحركة والتغيّر من الصفات السلبية التي تهدف إلى سلب ما يعدّ نقصاً في الموجود ، عن ساحته سبحانه.

وهذان الاصطلاحان «الجمالية والجلالية» قريبان ممّا ورد في الكتاب العزيز قال سبحانه : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ). (1)

فصفة الجلال تدلّ على ما جلّت ذاتُه عن التلبّس به ، وصفة الإكرام ما تكرّمت ذاتُه به وتجمّلت ، فيُوصف بالكمال ، ويُنزّه بالجلال.

ثمّ إنّ علماء العقائد حصروا الصفات الجمالية في ثماني وهي : العلم ،

ص : 167


1- الرحمن : 78.

القدرة ، الحياة ، السمع ، البصر ، الإرادة ، التكلّم ، والغنى ؛ كما حصروا الصفات السلبية في سبع وهي : انّه تعالى ليس بجسم ، ولا جوهر ، ولا عرض ، وانّه غير مرئي ، ولا متحيّز ، ولا حالّ في غيره ، ولا يتّحد بشيء.

غير أنّ النظر الدقيق يقتضي عدم حصر الصفات في عدد معين ، فإنّ الحقّ أن يقال : انّ الملاك في الصفات الجمالية والجلالية هو أنّ كلّ وصف يعدّ كمالاً للوجود فالله موصوف به. وكلّ وصف يعتبر نقصاً وعجزاً وحاجة فهو منزّه عنه ، وليس علينا أن نُحصر الكمالية والجلالية في عدد معيّن.

وعلى ذلك يمكن إرجاع جميع الصفات الثبوتية إلى وصف واحد ، والصفات السلبية إلى أمر واحد ، ويؤيّد ما ذكرناه انّ الأسماء والصفات التي وردت في القرآن الكريم تفوق بأضعاف المرّات العدَد الذي ذكره المتكلّمون.

تقسيم آخر

قسّم المتكلّمون صفاته سبحانه إلى : صفة الذات ، وصفة الفعل. والأوّل ما يكفي فرض الذات في حمل الوصف عليه كالعلم والحياة والقدرة ، فيقال : الله عالم ، حيّ ، قادر ؛ والثاني ما يتوقّف وصف الذات به على فرض شيء وراء الذات ، وهو فعله سبحانه.

فصفات الفعل هي المنتزعة من مقام الفعل ، بمعنى انّ الذات توصف بالصفة عند ملاحظة الذات مع الفعل ، وذلك كالخلق والرزق ونظائرهما من الصفات الفعلية الزائدة على الذات بحكم انتزاعها من مقام الفعل.

ومعنى انتزاعها انّا إذا لاحظنا النِّعَم التي يتنعّم بها الناس نسمّيه سبحانه

ص : 168

لأجل هذا الفعل رزاقاً ، كما نسمّيه رحيماً وغافراً لأجل رحمته لعباده وغفرانه لذنوبهم.

ثمّ إنّهم اختلفوا في بعض الصفات وانّه هل هو من صفات الذات أو من صفات الفعل كالإرادة والتكلّم؟ فأهل الحديث والمتكلّمون على أنّ الإرادة من صفات الفعل تنتزع من إعمال القدرة خلافاً للحكماء فإنّهم جعلوها من صفات الذات بالمعنى المناسب لذاته سبحانه ، نظير الاختلاف في الكلام فالأشاعرة على أنّه من صفات الذات ، والمعتزلة والإمامية على أنّه من صفات الفعل.

أمّا وجه الاختلاف في الكلام فهو مذكور في محلّه وخارج عن هدف الرسالة.

وأمّا وجه اختلافهم في الإرادة وذهاب بعض إلى أنّه من صفات الذات والبعض الآخر إلى أنّه من صفات الفعل ، فحاصله :

إنّ من جعلها من صفات الذات فباعتبار أنّ الإرادة من صفات الكمال بشهادة انّ الفاعل المريد أكمل من الفاعل غير المريد ، فسلبها عن الذات يستلزم كونه فاعلاً غير مريد ، وهو نقص في الفاعلية ، سواء أكانت مع الشعور أم بدونه.

وأمّا من جعله من صفات الفعل فلأجل انّ الإرادة أمر تدريجي بالذات ، توجد بعد وجود مقدّمات من تصوّر الموضوع والتصديق بفائدته واشتياقاً إلى فعله إلى أن ينتهي إلى الجزم والتصميم ، والإرادة بهذا المعنى أمر حادث تعالى سبحانه عن أن تقع ذاته محلًّا للحوادث.

فلأجل هذين الأمرين اختلفت أنظارهم في أمر الإرادة وأنّها هل هي من

ص : 169

صفات الذات أو من صفات الفعل؟ فمن جانب انّ الإرادة وصف كمال لا يمكن خلو الذات عن ذلك الكمال ، ومن جانب آخر انّ حقيقة الإرادة حقيقة متجدّدة ، والتجدّد عين الحدوث ، والحدوث عين الفقر ، والله سبحانه منزّه عن ذلك.

ص : 170

2- في حقيقة الإرادة الإنسانية

اشارة

إنّ الإرادة والكراهة كيفيّتان نفسانيّتان كسائر الكيفيّات النفسانية ، يجدهما الإنسان بذاتهما بلا توسط شيء مثل اللّذة والألم وغيرهما من الأُمور الوجدانية. والمقصود في المقام تحليل ذلك الأمر الوجداني وصياغته في قالب علمي ، وقد اختلفت أنظارهم في واقع الإرادة في الإنسان فضلاً عن الله سبحانه. وإليك الآراء المطروحة في الإرادة الإنسانية

1. نظرية المعتزلة : الاعتقاد بالنفع

فسّرت المعتزلة الإرادة ب «اعتقاد النفع» والكراهة ب «اعتقاد الضرر» قائلين بأنّ نسبة القدرة إلى طرفي الفعل والترك متساوية ، فإذا حصل في النفس الاعتقاد بالنفع في أحد الطرفين ، يرجَّح بسببه ذلك الطرف ويصير الفاعل مؤثراً فيه. (1)

يلاحظ عليه : أنّ مجرّد الاعتقاد بالنفع لا يكون مبدأ وباعثاً نحو المراد ، إذ كثيراً ما يعتقد الإنسان بوجود النفع في كثير من الأفعال ولا يريدها ، وربّما لا

ص : 171


1- الأسفار : 6 / 337.

يعتقد بوجوده فيها ، بل يعتقد بوجود الضرر ومع ذلك يريدها لموافقتها لبعض القوى الحيوانية.

2. نظرية الأشاعرة : المخصّصة للقدرة بأحد المقدورين

فسّرت الأشاعرة الإرادة بأنّها صفة مخصِّصة للقدرة بأحد المقدورين وهي مغايرة للعلم والقدرة ، لأنّ خاصية القدرة صحّة الإيجاد واللاإيجاد ، وذلك بالنسبة إلى جميع الأوقات وإلى طرفي الفعل والترك على السواء.

يلاحظ عليه : أنّ تفسير الإرادة ، بما يخصّص القدرة بأحد المقدورين ، تفسير لها بأثرها ولازمها ، من دون إلماع إلى حقيقتها وواقعها ، إذ من آثار الإرادة هو تحديد القدرة وسوقها إلى صوب المراد ، ولكنّه غير واقع الإرادة الذي نحن بصدد بيانه.

3. النظرية المعروفة : الشوق النفساني

وقد اشتهر بين المحصلين انّ الإرادة عبارة عن الشوق النفساني الذي يحصل في الإنسان تلو اعتقاده بالنفع. (1)

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّه ربّما يوجد هذا الميل والشوق ، دون أن يكون هناك إرادة ، كما في الإنسان المتديّن بالنسبة للمحرمات.

وثانياً : قد يوجد الفعل بدون الشوق النفساني أو الشوق المؤكّد كما في الأفعال العادية من تحريك الأعضاء وكثير من الأفعال العبثية والجزافية ، وكما

ص : 172


1- الأسفار : 6 / 337.

في تناول الأدوية غير المستساغة وغيرها ، فإنّ الإنسان يشرب الدواء المرّ عن إرادة لا عن شوق.

4. الإرادة : القصد والعزم

الإرادة كيفية نفسانية متخلّلة بين العلم الجازم والفعل ويعبّر عنها بالقصد والعزم تارة ، وبالإجماع والتصميم أُخرى. وليس ذلك القصد من مقولة الشوق بقسميه المؤكّد وغير المؤكّد ، كما أنّه ليس من مقولة العلم رغم حضوره لدى النفس كسائر الكيفيات النفسانية.

وباختصار ، حقيقة الإرادة هي العقد والميل القاطع نحو الفعل ، وهذا هو المختار ويشهد عليه الوجدان.

وعلى كلّ حال فسواء أصحّت هذه التفاسير للإرادة الإنسانيّة أم لا ، لكن لا يمكن تفسير الإرادة الإلهية بهذه الوجوه.

أمّا الأوّل : فقد عرفت أنّ تفسير الإرادة باعتقاد النفع ملازم لإنكار الإرادة مطلقاً في الموجودات الإمكانية فضلاً عن الله سبحانه ، وذلك لأنّ ملجأها إلى العلم بالنفع مع أنّا نجد في أنفسنا شيئاً وراء العلم والاعتقاد بالنفع ، ومن فسر الإرادة بالاعتقاد بالنفع فقد أثبت العلم وأنكر الإرادة.

وأمّا الثاني : أعني : تفسير الإرادة بتخصيص القدرة بأحد المقدورين ، ففيه : انّه لا يناسب شأنه سبحانه ، لأنّ التخصيص أمر حادث فتعالى أن تكون ذاته مركزاً للحوادث إلاّ أن يرجع إلى تفسير الإرادة الفعلية به دون الذاتية ، فالإرادة في مقام الفعل هو ما جاء في هذا التفسير ، وعلى هذا تكون الإرادة من صفات الفعل دون صفات الذات فيلزم خلوها عن ذلك الكمال.

ص : 173

وأمّا الثالث : ففيه انّ الشوق من مقولة الانفعال تعالى عنه ، مضافاً إلى أنّ الشوق شأن الفاعل الناقص الذي يريد الخروج عن النقص إلى الكمال فيشتاق إليه شوقاً أكيداً.

وأمّا الأخير : فسواء أفسّرت بالقصد والعزم أو الإجماع والتصميم فحقيقتها الحدوث بعد العدم ، والوجود بعد اللاوجود ، وهي بهذا المعنى يستحيل أن يوصف به سبحانه.

ولأجل عدم مناسبة هذه التعاريف لذاته سبحانه صار المتألّهون على طائفتين :

الأُولى : من يحاول جعلها من صفات الذات ولكن يتصرف في معنى الإرادة.

الثانية : من لا يتصرف في نفي الإرادة ولكن يجعلها من صفات الفعل كالخلق والرزق ، فالجميع ينتزع من فعله سبحانه وإعمال قدرته. وأصحاب هذا القول قد أراحوا أنفسهم من الإشكالات المتوجهة إلى كون الإرادة من الصفات الذاتية لله سبحانه.

وإليك الكلام حول هذين القولين في فصلين مختلفين.

ص : 174

3- الإرادة الإلهية من صفات الذات

اشارة

قد عرفت أنّ الإرادة بتفاسيرها المختلفة لا تليق أن تنسب إلى الله سبحانه ، ولذلك عاد القائلون بأنّ الإرادة من صفات الذات إلى تفسيرها بنحو يناسب ذاته سبحانه ، وإليك تفاسيرهم :

الأُولى : الإرادة هو العلم بالأصلح

يظهر من صدر المتألّهين وغيره ، أنّ إرادته سبحانه عبارة عن العلم بالأصلح ، فقال الأوّل : فثبت انّ إرادة الله ليست عبارة عن القصد ، بل الحقّ في كونه مريداً ، انّه سبحانه وتعالى يعقل ذاته ، ويعقل نظام الخير الموجود في الكلّ من ذاته ، وانّه كيف يكون؟ وذلك النظام يكون لا محالة كائناً مستفيضاً وهو غير مناف لذات المبدأ الأوّل جلّ اسمه ، لأنّ ذاته كلّ الخيرات الوجودية كما مرّ مراراً من أنّ البسيط الحق كلّ الأشياء الوجودية ، فالنظام الأكمل الكوني الإمكاني تابع للنظام الأشرف الواجبي الحقّي ، وهو عين العلم والإرادة فعلم

ص : 175

المبدأ بفيضان الأشياء عنه ، وانّه غير مناف لذاته ، هو إرادته لذلك ورضاه ، فهذه هي الإرادة الخالية عن النقص والإمكان. (1)

أقول : إنّ تفسير الإرادة الإلهية بالعلم بالأصلح هو الظاهر من أكثر المتأخّرين بعد صدر المتألّهين ، وقد تلقّاه الحكيم السبزواري أصلاً مسلّماً ففسّرها به ، قال في منظومته :

عقيب داع ، دركنا الملائما *** شوقاً مؤكداً إرادة سما

وفيه عين الداع عين علمه *** نظام خير هو عين ذاته(2)

يلاحظ عليه : أنّ تفسير الإرادة الإلهية بالعلم بالأصلح أو العلم العنائي وإن كان سليماً عن إشكال الحدوث والتدرّج حيث إنّ علمه سبحانه بذاته علم فعلي قديم منزّه عن وصمة الحدوث والتدرج ، إلاّ أنّ إرجاع الإرادة إلى العلم ، يلازم نفي واقع الإرادة عنه سبحانه ، لأنّ العلم والإرادة حقيقتان مختلفتان ، فتفسير الثانية بالأوّل ، إثبات لوصف العلم ، ونفي لوصف الإرادة ، فيُصبح سبحانه فاعلاً عالماً غير مريد ، مع أنّ الفاعل العالم المريد أفضل وأكمل من الفاعل العالم غير المريد.

وقد نبّه بذلك بعض أئمّة أهل البيت. روى بكير بن أعين أنّه قال : قلت لأبي عبد الله - عليه السلام - : علمه ومشيئته هما مختلفان أو متّفقان؟ فقال : «العلم ليس هو المشيئة ، ألا ترى أنّك تقول : سأفعل كذا إن شاء الله ولا تقول : سأفعل كذا

ص : 176


1- الأسفار : 6 / 316 ، الموقف الرابع ، الفصل الثاني. ولاحظ أيضاً ص 341 ، 342.
2- شرح المنظومة : 179.

إن علم الله ، فقولك : إن شاء الله دليل على أنّه لم يشأ ، فإذا شاء ، كان الذي شاء كما شاء وعلم الله السابق للمشيئة». (1)

ثمّ إنّ العلاّمة الطباطبائي ممّن يسلّم انّ علمه بنظام الخير مبدأ له ، ومع ذلك يُنكر تسمية العلم بالأصلح والنظام الأتم إرادة فقال : إنّ ما ذكره صدر المتألّهين وغيره من الحكماء المتقدّمين من أمر الإرادة الذاتية ، وأقاموا عليه البرهان ، فهو حقّ ، لكن الذي تثبته البراهين انّ ما سواه تعالى يستند إلى قدرته التي هي مبدئيته المطلقة للخير وعلمه بنظام الخير ، وأمّا تسمية العلم بالخير والأصلح ، إرادة أو انطباق مفهوم الإرادة بعد التجريد على العلم بالأصلح الذي هو عين الذات فلا.

نعم قام البرهان على أنّه واجد لكلّ كمال وجودي ، وهذا لا يوجب تخصيص الإرادة من بينها بالذكر في ضمن الصفات الذاتية. وبالجملة ما ذكروه حق من حيث المعنى وإنّما الكلام في إطلاق لفظ الإرادة وانطباق ما جرّد من مفهومها ، على صفة العلم. (2)

وليعلم أنّ القول باتّحاد صفاته سبحانه مع ذاته ليس بمعنى أنّ كلّ وصف عين الوصف الآخر كأن تكون الإرادة عين العلم ، بل المراد أنّ ذاته سبحانه كلّه علم وفي الوقت نفسه كلّه قدرة وكلّه حياة دون أن يشكّل العلم جزءاً من الذات والقدرة جزءاً آخر حتّى يلزم التركيب ، فلا يصحّ أن يقع القول بعينيّة صفاته مع الذات ، ذريعة لتفسير الإرادة بالعلم بالأصلح.

ص : 177


1- الكافي : 1 / 109 ، باب الإرادة من صفات الفعل.
2- الأسفار : 6 / 316 قسم التعليقة.
الثانية : إرادته سبحانه هو ابتهاجه بذاته

هذه هي النظرية الثانية التي اختارها بعض المحقّقين من مشايخ مشايخنا - قدّس الله أسرارهم - فقد فسّر الإرادة بالابتهاج وجعل له مرحلتين :

1. الابتهاج الذاتي وهو الإرادة في مقام الذات.

2. الابتهاج الفعلي ينبعث من الابتهاج الأوّل قائلاً : فإنّ من أحب شيئاً أحبّ آثاره ، وهذه المحبة الفعلية هي الإرادة في مقام الفعل وأسماها بالإرادة الفعلية ، فقال في كلام مبسوط :

«لا ريب عند أهل النظر أنّ مفاهيم الصفات - حسبما يقتضيه طبعها - متفاوتة متخالفة ، لا متوافقة مترادفة ، وإن كان مطابَقها واحداً بالذات من جميع الجهات ، فكما أنّ مفهوم العلم غير مفهوم الذات وسائر الصفات ، وإن كان مطابَق مفهوم العلم والعالِم ، ذاته بذاته ؛ حيث إنّ حضور ذاته لذاته ، بوجدان ذاته لذاته ، وعدم غيبة ذاته عن ذاته ، كذلك ينبغي أن يكون مفهوم الإرادة بناء على كونها من صفات الذات - كمفهوم العلم - مبايناً مع الذات ومفهوم العلم ، لا أنّ لفظ الإرادة معناه العلم بالصلاح ، فانّ الرجوع الواجب هو الرجوع في المصداق ، لا رجوع مفهوم إلى مفهوم. ومن البين أنّ مفهوم الإرادة - كما هو مختار الأكابر من المحقّقين - هو الابتهاج والرضا ، وما يقاربهما مفهوماً ، ويعبّر عنه بالشوق الأكيد فينا.

والسرّ في التعبير عنها بالشوق فينا ، وبصرف الابتهاج والرضا فيه تعالى : أنا لمكان إمكاننا ناقصون غير تامّين في الفاعلية ، وفاعليتنا لكلّ شيء بالقوة ، فلذا نحتاج في الخروج من القوة إلى الفعل إلى أُمور زائدة على ذواتنا - من تصوّر الفعل والتصديق بفائدته والشوق الأكيد - المميلة جميعاً للقوة الفاعلة

ص : 178

المحرّكة للعضلات ، بخلاف الواجب تعالى فإنّه - لتقدّسه عن شوائب الإمكان وجهات القوة والنقصان - فاعل وجاعل بنفس ذاته العليمة المريدة ، وحيث إنّه صرف الوجود ، وصرف الوجود صرف الخير ، فهو مبتهج بذاته أتمّ ابتهاج ، وذاته مرضية لذاته أتمّ الرضا. وينبعث من هذا الابتهاج الذاتي - وهي الإرادة الذاتية - ابتهاج في مرحلة الفعل ، فإنّ من أحبّ شيئاً أحبّ آثاره ، وهذه المحبّة الفعلية هي الإرادة في مرحلة الفعل ، وهي التي وردت الأخبار عن الأئمّة الأطهار - سلام الله عليهم - بحدوثها (1) ؛ لوضوح أنّ المراد هو الإرادة التي هي غير المراد ، دون الإرادة الأزلية التي هو عين المراد ؛ حيث لا مراد في مرتبة ذاته إلاّ ذاته ، كما لا معلوم في مرتبة ذاته إلاّ ذاته. (2)

ويظهر من الحكيم السبزواري ارتضاؤه ، قال في منظومته :

مبتهج بذاته بنهجة *** أقوى ومن له بشيء بهجة

مبتهج بما يصير مصدره *** من حيث إنّه يكون أثره

كرابط لا شيء باستقلاله *** ليس له حكم على حياله

رضاؤه بالذات بالفعل رضا *** وذا الرضا إرادة لمن قضى(3)

ص : 179


1- أُصول الكافي : 1 / 8685 ، باب الإرادة ، نشر المكتبة الإسلامية ؛ وتوحيد الصدوق : 146 - 148 ، باب صفات الذات والأفعال ، الحديث 15 - 19 ، نشر جماعة المدرسين.
2- نهاية الدراية : 1 / 278 - 279.
3- شرح المنظومة : 180.

يلاحظ على تلك النظرية بما مرّ في النظرية السابقة ، فإنّ تفسير الإرادة الإلهية بابتهاج الذات وإن كان يدفع مشكل التدريج والحدوث ، لكن الإشكال الآخر باق بحاله ، فإن واقع الابتهاج في الإنسان من مقولة الانفعال ، والإرادة أشبه بمقولة الفعل ، فتفسير الإرادة بالابتهاج - حتّى مع التجريد عن النقص - يستلزم نفي وصف الإرادة عنه سبحانه.

إنّ الإرادة في الإنسان رمز الاختيار والحرية ، فالفاعل المريد ، مختار في فعله ، يوجده بإرادته ، وأين هي من تفسير الإرادة بالابتهاج الذي هو رمز كون الفعل ملائماً لذات الفاعل وطبعه؟! فتفسير أحدهما بالآخر نفي لواقع المفسَّر.

ص : 180

4- الإرادة الإلهية من صفات الفعل

اشارة

قد مضى في الفصل السابق بعض الأنظار الذي يفسر الإرادة الإلهية بأنّها من صفات الذات ، وحان وقت البحث عن الأنظار التي تعدّها من صفات الفعل ، فخصصنا هذا الفصل بهذا كما خصصنا الفصل السابق بالنظر الآخر.

ذهب غير واحد من المحقّقين إلى أنّ الإرادة أشبه بصفة الفعل ، نظير الخلق والإيجاد والرحمة ، وقبل الخوض في بيانها نقدّم شيئاً ربّما مضى التنبيه عليه في صدر الرسالة ، وهو

أثبتت البراهين الفلسفية انّ كلّ كمال وجودي فإنّه موجود للواجب في حدّ ذاته ، وإلاّ يلزم تطرّق النقص إليه ، وفرض موجود أكمل منه ، لأنّ كون الفاعل وراء كونه عالماً ، مريداً مختاراً ، كمال للذات فلا يمكن سلبه عنه.

ومن جانب آخر انّ الإرادة كيفية نفسانية ، وماهية ممكنة والواجب منزّه عن الماهية والإمكان ، وليست الإرادة كالعلم فإنّه يصلح وصف الواجب به إذا جرّد عن النقص وبقى منه سوى الكشف ، وهذا بخلاف الإرادة فإنّها مهما جرّدت عن شوائب الإمكان والنقص لا يوصف بها الواجب ، لأنّ واقعيّة الإرادة

ص : 181

هي الخروج من القوّة إلى الفعل ، ومن التصوّر إلى التصديق بالفائدة ومنه إلى الشوق ومنه إلى القصد والعزم ، وهذا المعنى مهما جرّد من النقص لا يصلح لأن يوصف به الواجب.

ثمّ إنّ هذين الأمرين صارا سبباً لذهاب جمع إلى أنّه من صفات الذات أخذاً بالأمر الأوّل وذهاب جمع آخر إلى أنّها من صفات الفعل ، منهم السيد الطباطبائي - قدس سره - فقال في تعاليقه على «الأسفار» ما هذا لفظه :

1. الإرادة صفة منتزعة من حضور العلّة التامّة للفعل

لو كان بين كيفيّاتنا النفسانية ، كيفيّة متميّزة متخلّلة بين العلم الجازم والفعل ، باسم الإرادة فهو القصد ، وهو ميل نفساني نحو الفعل ، نظير ميل الجسم الطبيعي من مكان إلى مكان وليس من الشوق أو الشوق المؤكّد في شيء ، كما سيجيء ، وليس هو العلم وإن كانت الصفات والأحوال النفسانيّة كالحبّ والبغض والرضا والسخط والحزن والسرور وغيرها ، علميّة شعورية ، لأنّ الإرادة لو كانت أمراً متميّزاً في نفسها فهي متخلّلة بين العلم والفعل فليست فينا علماً.

ومن هنا يظهر أنّا لو جرّدناها من شوائب النقص وأجرينا وصفها عليه تعالى لم ينطبق على علمه تعالى ، لأنّ مفهومها غير مفهوم العلم ولا ينفع التجريد مع تغاير المفهومين ، بخلاف تجريد معنى العلم مثلاً ، فإنّه وإن تبدّلت خصوصيّاته وحدوده بالتجريد حتّى عاد وجوداً واجبياً منفياً عنه جميع خصائص الكيفية النفسانية الخاصة لكن معناه الأصلي وهو حضور شيء لشيء محفوظ باق بعد التجريد وعند الإجراء على ما كان عليه قبل.

ص : 182

ويظهر أيضاً أنّ الإرادة لو أخذت صفة له تعالى بعد التجريد ، كانت صفة فعل نظير الخلق والإيجاد والرحمة ، منتزعة عن مقام الفعل ، فتماميّة الفعل من حيث السبب إذا نسب إلى الفعل سمّيت إرادة له ، فيكون الفعل مراداً له تعالى ، وإذا نسبت إلى الله كانت إرادة منه فهو مريد ، كما أنّ كلّ ما يستكمل به الشيء في بقائه رزق ، فالشيء مرزوق وهو تعالى رزّاق وهكذا.

إلى أن قال : وما ذكره الحكماء الإلهيون من أمر الإرادة الذاتية وأقاموا عليه البرهان ، فهو حقّ لكن الذي تثبته البراهين أنّ ما سواه تعالى يستند إلى قدرته التي هي مبدئيته المطلقة للخير وعلمه بنظام الخير ، وأمّا تسمية العلم بالخير والأصلح ، إرادة أو انطباق مفهوم الإرادة بعد التجريد على العلم بالأصلح الذي هو عين الذات فلا. (1)

وقال في مقام آخر : إنّ الإرادة منتزعة من مقام الفعل من حيث انتسابه إلى قدرته تعالى القاهرة أو من اجتماع الأسباب الموجبة عليه من حيث انتسابها إليه. (2)

وقد ذكر عصارة نظريته في «نهاية الحكمة» حيث قال :

لا ينبغي أن تقاس الإرادة بالعلم الذي يقال إنّه كيفية نفسانية ثمّ يجرّد عن الماهية ويجعل حيثية وجودية عامة موجودة للواجب تعالى وصفاً ذاتياً هو عين الذات. وذلك لأنّا ولو سلمنا أنّ بعض مصاديق العلم وهو العلم الحصوليّ كيف نفساني ، فبعض آخر من مصاديقه وهو العلم الحضوريّ جوهر أو غير ذلك ، وقد تحقّق أنّ المفهوم الصادق على أكثر من مقولة واحدة وصف

ص : 183


1- الأسفار : 6 / 315 - 316 ، قسم التعليقة.
2- الأسفار : 6 / 353 ، قسم التعليقة.

وجودي غير مندرج تحت مقولة ، منتزع عن الوجود بما هو وجود ، فللعلم معنى جامع يهدى إليه التحليل وهو حضور شيء لشيء.

وأمّا الإرادة المنسوبة إليه تعالى فهي منتزعة من مقام الفعل ، إمّا من نفس الفعل الذي يوجد في الخارج ، فهو إرادة ثمّ إيجاب ، ثمّ وجوب ، ثمّ وجود ؛ وإمّا من حضور العلّة التامة للفعل كما يقال عند مشاهدة جمع الفاعل أسباب الفعل ليفعله ، أنّه يريد كذا فعلاً. (1)

يلاحظ على النظرية : لا شكّ أنّ أكثر ما ذكره السيد الأُستاذ حقّ لا غبار عليه ، وقد مرّ بعض ما ذكره في البحوث السابقة ، أعني :

1. أنّ ماهية الإرادة وواقعيتها غير واقعية العلم.

2. أنّ الإرادة في الإنسان مهما جرّدت عن وصفة الإمكان لا يوصف به الواجب.

3. أنّ الإرادة من صفات الكمال ، والموجود المريد أفضل من غير المريد فلا بدّ من وصفه سبحانه بأنّه مريد.

كلّما ذكره من هذه الأُمور صحيح ، ولكن تفسير الإرادة بحضور العلّة التامة للفعل يناقض الأصل الثالث ، وقد صرّح به أيضاً في ثنايا كلامه ، حيث قال :

«نعم قام البرهان بأنّه واجد لكلّ كمال وجودي ، ومع ذلك كيف يمكن خلوّ الذات عن هذا الكمال الوجودي وحصره في مقام الفعل».

ولو كانت الإرادة منتزعة من حضور العلّة التامّة للفعل ، يلزم أن تكون الفواعل الطبيعية كلّها مريدة لحضورها عند آثارها.

ص : 184


1- نهاية الحكمة : 299 - 300.

وبالجملة تصوّر خلوّ الذات عن واقع الإرادة يلزم أن يكون سبحانه فاعلاً غير مريد ولا مختار ، وهذا نقص في الفاعل تعالى عنه سبحانه. وسيوافيك ما هو الحقّ في معنى الإرادة الذاتية في الله سبحانه.

2. الإرادة إعمال القدرة

إنّ المحقّق الخوئي بعد ما طرح تفسير الإرادة بالعلم والابتهاج والرضا ونقدهما بما مرّ ذكره ، حاول أن يفسّر الإرادة الإلهية بإعمال القدرة ، فقال : إنّ الإرادة لا تخلو من أن تكون بمعنى إعمال القدرة ، أو بمعنى الشوق الأكيد ولا ثالث لهما ، وحيث إنّ الإرادة بالمعنى الثاني لا تعقل لذاته سبحانه ، يتعيّن الإرادة بالمعنى الأوّل له سبحانه وهو المشيئة وإعمال القدرة. (1)

وقال في موضع آخر : إنّ أفعال العباد لا تقع تحت إرادته سبحانه وتعالى ومشيئته.

والوجه ما تقدّم بشكل مفصّل ، من أنّ إرادته تعالى ، ليست من الصفات العليا الذاتية ، بل هي من الصفات الفعلية التي هي عبارة عن المشيئة وإعمال القدرة. (2)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ تفسير الإرادة بإعمال القدرة يرجع إلى كونها من صفات الفعل ، ومعنى ذلك خلوّ الذات عن ذلك الكمال الوجودي وهو يستلزم تصوّر الأكمل والأفضل من الواجب.

وثانياً : أنّ القول بأنّ أفعال العباد خارجة من متعلّق الإرادة الإلهية مخالف

ص : 185


1- المحاضرات : 2 / 37.
2- المحاضرات : 2 / 72.

للبرهان ، فإنّ الفعل ممكن كذاته ، فكما أنّ الذّات تتعلّق به الإرادة الإلهية ، فهكذا الفعل وإلاّ يلزم تحديد سلطانه سبحانه ، وتحقّق بعض الأشياء بلا إرادة منه وهو كما ترى ، وقد ورد في غير واحد من الروايات الردّ على تلك الفكرة.

روى هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : «إنّ الله أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون ، والله أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد». (1)

يقول سبحانه : (وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ). (2)

ويقول سبحانه : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ). (3)

إلى غير ذلك من الروايات والآيات الدالّة على أنّ أفعال العباد غير خارجة عن إرادته سبحانه بها ، وأمّا كيفيّة الجمع بين عموم إرادته والقول بالاختيار ، فسيوافيك بيانه.

3. الإرادة الإلهية في روايات أئمّة أهل البيت - عليهم السلام -
اشارة

إنّ السابر في ما صدر عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - في مورد الإرادة الإلهية يقف على أنّهم نظروا إليها من زوايا ثلاث :

1. الإرادة الإلهيّة غير العلم والقدرة.

2. ما من ظاهرة من الظواهر الكونية إلاّ وقد تعلّقت بها إرادته سبحانه.

3. إرادته سبحانه من صفات الفعل لا من صفات الذات.

فلنقتصر في كلّ من هذه المواضيع الثلاثة بالقليل عن الكثير.

ص : 186


1- بحار الأنوار : 5 / 41 ، كتاب العدل والمعاد ، الحديث 64.
2- التكوير : 29.
3- يونس : 100.
الف : إرادته غير علمه وقدرته

قد ناظر الإمام علي بن موسى الرضا - عليه السلام - أحد المتكلّمين في خراسان - أعني : سليمان المروزي - والمناظرة مبسَّطة نقتصر على ما له صلة بالمقام :

قال سليمان : إنّ إرادته علمه.

قال الرضا - عليه السلام - : «... وعلى هذا فإذا علم الشيء فقد أراده».

قال سليمان : أجل.

قال الرضا - عليه السلام - : «فإذا لم يرده ، لم يعلمه».

قال سليمان : أجل.

قال الرضا - عليه السلام - : «من أين قلنا ذلك وما الدليل على أنّ إرادته علمه ، وقد يعلم ما لا يريده أبداً؟

ذلك قول الله عزّ وجلّ : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) (1) ، فهو يعلم كيف يذهب ولا يذهب به أبداً».

قال سليمان : إنّه سبحانه قد فرغ من الأمر ، فليس يزيد فيه شيئاً.

قال الرضا - عليه السلام - : «هذا قول اليهود ، فكيف قال تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)». (2)

قال سليمان : إنّما عنى بذلك أنّه قادر عليه.

قال الرضا - عليه السلام - : «أفيعد ما لا يفي به؟ فكيف قال : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) (3) وقال عزّ وجلّ : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (4) وقد

ص : 187


1- الإسراء : 86.
2- المؤمن : 60.
3- فاطر : 1.
4- الرعد : 39.

فرغ من الأمر ...» فلم يحر سليمان جواباً. (1)

إنّ ما دار بين الإمام والمروزي كاف في نقد ما يتخيّل بأنّ إرادته سبحانه هي علمه بالأصلح.

ب. عموم إرادته سبحانه بكلّ ظاهرة كونية

أمّا عموم إرادته سبحانه بكلّ ظاهرة كونية فهو يبتني على مقدّمات فلسفية ثابتة ، وإليك الإشارة إليها على وجه الإيجاز :

1. سعة قدرته وخالقيته سبحانه ، وانّ كلّ ما في صفحة الكون من دقيق وجليل وذات وفعل مخلوق لله سبحانه لا على النحو الذي فسّر به الأشاعرة عموم قدرته بأن يكون الواجب الفاعل المباشري لكلّ ظاهرة مجردة أو مادية ، بل على النحو المختار لدى الإمامية. (2)

2. إنّ كلّ ما في دار الإمكان ، قائم بالواجب غير مستغن عنه في شأن من شئونه لا في ذاته ولا في فعله ، وإنّ غناء فعل الإنسان عن الواجب يستلزم خروجه عن حدّ الإمكان وانقلابه موجوداً واجباً ، وهذا خلف ، فما في الكون يجب أن يكون منتهياً إلى الواجب قائماً به قيام المعنى الحرفي بالاسمي ، فالقول باستقلال الإنسان في فعله أشبه بمقالة الثنوية.

3. شهادة الروايات على عموم قدرته ، ونقتصر على روايات ثلاث :

1. روى الصدوق في توحيده بسنده عن حفص بن فرط ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «من زعم أنّ الله تعالى يأمر بالسوء والفحشاء فقد

ص : 188


1- عيون أخبار الرضا : 1 / 189.
2- لاحظ الإلهيات : 2 / 275.

كذب على الله ، ومن زعم أنّ المعاصي من غير قوة الله ، فقد كذب على الله ، ومن كذب على الله أدخله النار». (1)

2. روى البرقي في محاسنه عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : «إنّ الله أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون ، والله أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد». (2)

3. وروى عن حمزة بن حمران ، قال : قلت له : إنّا نقول إنّ الله لم يكلّف العباد إلاّ ما آتاهم وكلّ شيء لا يطيقونه فهو عنهم موضوع ، ولا يكون إلاّ ما شاء الله ، وقضى وقدر وأراد؟ فقال : «والله إنّ هذا لديني ودين آبائي». (3)

ج : الإرادة من صفات الفعل
اشارة

من سبر فيما ورد عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - في مجال الرواية يقف على اهتمام الأئمّة بتوجيه أصحابهم إلى أنّ الإرادة من صفات الفعل لا من صفات الذات ، وقد عقد الشيخ الكليني باباً في ذلك المجال ننقل منه ما يلي :

1. روى عاصم بن حميد ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : قلت : لم يزل الله مريداً؟ قال : «إنّ المريد لا يكون إلاّ المراد معه ، لم يزل الله عالماً قادراً ثمّ أراد». (4)

2. روى صفوان بن يحيى ، عن الإمام الكاظم - عليه السلام - : أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق؟ فقال : «الإرادة من الخلق الضمير ، وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل ، وأمّا من الله تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك ، لأنّه لا يروِّي ولا يهمّ

ص : 189


1- توحيد الصدوق : 359 ، باب نفي الجبر والتفويض ، الحديث 2.
2- بحار الأنوار : 5 / 41 ، كتاب العدل والمعاد ، الحديث 64.
3- بحار الأنوار : 5 / 41 ، الحديث 65.
4- الكافي : 1 / 109 ، باب الإرادة من صفات الفعل ، الحديث 1.

ولا يتفكّر ، وهذه الصفات منفية عنه وهي صفات الخلق ، فإرادة الله ، الفعل ، لا غير ذلك ، يقول له : كن فيكون بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همّة ولا تفكّر ولا كيف لذلك ، كما أنّه لا كيف له». (1)

3. روى محمد بن مسلم ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : «المشيئة محدثة». (2)

تحليل الروايات الماضية

لا يشكّ ذو مسكة في أنّ الروايات ظاهرة في كون الإرادة من صفات الفعل دون صفات الذات ، لما يترتّب على القول الثاني من قدم العالم وغيره ، ولما كان القول بكونها من صفات الفعل مخالفاً للأصل المبرهن في الفلسفة الإسلامية من أنّ الإرادة وصف كمال للموجود بما هو موجود ، حاول صدر المتألّهين تفسير الروايات بنحو يوافق أُصوله فقال :

«والتحقيق انّ الإرادة تطلق بالاشتراك الصناعي على معنيين :

أحدهما : ما يفهمه الجمهور وهو ضد الكراهة ، وهي التي تحصل فينا عقيب تصوّر الشيء الملائم ، وعقيب التردّد حتّى يترجح عندنا الأمر ، الداعي إلى الفعل أو الترك فيصدر أحدُهما منّا ، وهذا المعنى فينا من الصفات النفسانية ، وهي والكراهة فينا كالشهوة والغضب فينا وفي الحيوان ، ولا يجوز على الله ، بل إرادته نفس صدور الأفعال منه من جهة علمه بوجه الخير ، وكراهته عدم صدور الفعل القبيح عنه لعلمه بقبحه.

وثانيهما : كون ذاته بحيث يصدر عنه الأشياء لأجل علمه بنظام الخير فيها التابع لعلمه بذاته ، لا كاتّباع الضوء للمضيء والسخونة للمسخِّن ، ولا كفعل

ص : 190


1- الكافي : 1 / 109 ، باب الإرادة من صفات الفعل ، الحديث 3 و 7.
2- الكافي : 1 / 109 ، باب الإرادة من صفات الفعل ، الحديث 3 و 7.

المجبورين والمسحّرين ، ولا كفعل المختارين بقصد زائد وإرادة ظنيّة يحتمل الطرف المقابل ، وقد تحقّقت انّ قيّوم الكلّ إنّما يفعل الكلّ عن علم هو نفس ذاته العليم الذي هو أتمّ العلوم ، فإذن هو سبحانه فاعل للأشياء كلّها بإرادة ترجع إلى علمه بذاته ، المستتبع لعلمه بغيره ، المقتضي لوجود غيره في الخارج لا لغرض زائد وجلب منفعة - إلى أن قال : - ولما كان فهم الجمهور لا يصل إلى الإرادة بهذا المعنى ، بل إلى النحو الذي في الحيوان أو ضدّه الكراهة ويكون حادثاً عند حدوث المراد ، جعلها (الإمام) من صفات الأفعال ومن الصفات الإضافية المتجدّدة كخالقيته أو رازقيته. (1)

وقال المولى محمد صالح المازندراني في شرحه على أُصول الكافي : الإرادة تطلق على معنيين كما صرّح به بعض الحكماء الإلهيّين.

أحدهما : الإرادة الحادثة وهي الّتي فُسرت في الحديث بأنّها نفس الإيجاد واحداث الفعل.

وثانيهما : الإرادة التي هي من الصفات الذاتية التي لا توصف الذات بنقيضها أزلاً وأبداً ، وهي التي وقع النزاع فيها.

فذهب جماعة إلى أنّها نفس علمه الحق بالمصالح والخيرات وعين ذاته الأحدية.

وذهبت الأشاعرة إلى أنّها صفة غير العلم. (2)

نقد وتحليل

إنّ هذا التفسير للروايات يتمتع بنقاط قوّة ، وهي :

ص : 191


1- شرح أُصول الكافي : 1 / 278.
2- شرح أُصول الكافي ، للمولى محمد صالح المازندراني : 3 / 345.

أوّلاً : فسّر الإرادة بمعنيين وهي بأحدهما صفة ذات وبالمعنى الآخر فهي صفة فعل.

ثانياً : الإرادة الإنسانية تمتنع أن تقع وصفاً لله سبحانه فلا محيص من إرجاع الإرادة بهذا المعنى في حقّه سبحانه إلى كونها صفة فعل.

ثالثاً : الإرادة الذاتية بالمعنى المناسب لذاته كانت حقيقة لا تُدرك الأفهام الساذجة غورَها ، بل حتّى الأفهام الحادة كسليمان المروزي ، فلذلك لم يذكر الإمام من الإرادة إلاّ ما هو وصف للفعل.

ورابعاً : انّ إصرار أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - على كون الإرادة من صفات الفعل للحيلولة دون وصف ذاته بالإرادة بهذا المعنى ، ولأجل ذلك ركزوا على أنّها من صفات الفعل.

وخامساً : انّ جعل الإرادة من صفات الذات كان مثاراً لشبهة قدم الإرادة بقدم الذات وبالتالي قدم العالم وعامّة مخلوقاته. ولأجل الحيلولة دون طروء هذه الشبهة في الأذهان كان الأئمّة - عليهم السلام - يعدّون الإرادة من صفات الفعل.

وممّا يعرب عن ذلك ما رواه سليمان بن جعفر الجعفري قال : قال الرضا - عليه السلام - : «المشيئة والإرادة من صفات الأفعال ، فمن زعم أنّ الله تعالى لم يزل مريداً شائياً فليس بموحّد». (1)

هذه هي نقاط القوة في هذا النوع من التفسير ، وعلى الرغم من ذلك فلا يخلو التفسير المذكور من ضعف ، وهو انّ إرجاع الإرادة الذاتية إلى العلم بالأصلح إنكار للإرادة والكمال المطلق للموجود.

ص : 192


1- توحيد الصدوق : 338.

5- ما هو المختار في الإرادة الالهيّة؟

قد مرّ آنفاً التفاسير المطروحة للإرادة الإلهية وعرفت وجوه الضعف فيها ، والذي يمكن أن يقال : انّ الإرادة تنقسم إلى : إرادة في مقام الفعل ، وإرادة في مقام الذات.

فالإرادة في مقام الفعل هو ما مرّ تفسيره في الأحاديث وكلمات المحقّقين فلا نطيل ، ونظير الإرادة هو العلم فإنّه ينقسم إلى العلم في مقام الفعل والعلم في مقام الذات.

فما سوى الله علمه سبحانه في مقام الفعل ، فكلّ الأشياء بما انّه فعله وخلقه ، أيضاً علمه وعرفانه ، نظير الصور الذهنية المخلوقة للنفس فهي في حدّ كونها فعلاً للنفس ، علم لها.

وهذا هو المستفاد من رواية أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - ، ولكنّا لا نرى فيها ما يدلّ على نفي الإرادة الذاتية بالمعنى المتناسب لمقام ذاته.

وأمّا الإرادة في مقام الذات فبيانه رهن مقدّمة ، وهي انّ الفاعل من حيث العلم بفعله وإرادته واختياره ينقسم إلى أقسام أربعة :

أ. ما يفعل بلا شعور ، كالعلل الطبيعية مثل النار والحرارة.

ص : 193

ب. ما يفعل مع شعور دون أن يكون له إرادة واختيار ، كحركة يد المرتعش.

ج. ما يصدر عن الفاعل عن علم وإرادة ولكنّه ليس مختاراً بل مضطرّاً إلى الفعل ، وهذا كإرادة المكرَه ، فالمكرَه عندنا من أقسام المريد لكنّه ليس بمختار ، فانّه يرجح أحد المحذورين على الآخر بإرادته ، ولكنّه ليس في ترجيح هذا مختاراً ، ولو لم يكن هناك ضغط خارجي لترك العمل من رأس.

د. ما يصدر عن علم وإرادة واختيار ، فهذا النوع من الفواعل أتمُّها وأفضلها ، لأنّ الفعل يصدر عن الفاعل من صميم ذاته فهو شاعر ، مقابل ما ليس بشاعر ، مريد ، في مقابل من ليس بمريد ، مختار في فعله دون أن يكون مكرهاً وعليه ضغط من خارج يبعثه إلى إرادة أحد العملين حتّى يرجح أقل المحذورين.

هذه هي أقسام الفواعل والأخير أفضلها.

إذا علمت ذلك فاعلم أنّ الفاعل المختار من جميع الجهات واجد لكمالات المراتب السابقة ، أعني : العلم والإرادة ، فانّ الغاية من العلم والإرادة هو جعل الفاعل فاعلاً مختاراً ، فإذا حصل الاختيار للفاعل وكان مختاراً في فعله ، والفعل صادراً عن صميم ذاته دون أن يكون هناك مكرَهاً فهو واجد لكمالات المراتب السابقة خصوصاً الإرادة.

وعلى ضوء ذلك انّه سبحانه تبارك وتعالى مريد بالذات فهو بهذا المعنى أي أنّه مختار والفاعل المختار واجد لكمال الإرادة وإن لم يكن واجداً لها بحدّها ، وهذا ما نسمّيه بالإرادة البسيطة.

والحاصل : انّ الإرادة التفصيلية التي تتألّف من تصوّر الفعل والتصديق

ص : 194

بالفائدة ورفع الموانع والشوق المؤكّد ثمّ الجزم والتصميم وإن لم تكن موجودة في الذات ولكن نتيجة الإرادة كون الفاعل مختاراً بالذات ، متحقّق في الذات وهي موصوفة بها ، فكونه مختاراً جامع لعامّة الكمالات السابقة.

وإن شئت قلت : إنّ الإرادة صفة كمال لا لأجل كونها حادثة طارئة متقضّية بعد حدوث المراد ، وإنّما هي صفة كمال لكونها رمز الاختيار وسمة عدم المقهورية حتّى أنّ الفاعل المريد المكرَه له قسط من الاختيار ، حيث يختار أحد طرفي الفعل على الآخر تلو محاسبات عقلية فيرجّح الفعل على الضرر المتوعّد به ، فإذا كان الهدف والغاية من وصف الفاعل بالإرادة هو إثبات الاختيار وعدم المقهورية فوصفه سبحانه بكونه مختاراً غير مقهور في سلطانه ، غير مجبور في إعمال قدرته ، كاف في جري الإرادة عليه ، لأنّ المختار واجد لكمال الإرادة على النحو الأتم والأكمل.

وقد ثبت في محلّه انّه يلزم في إجراء الصفات ترك المبادئ والأخذ بجهة الكمال ، فكمال الإرادة ليس في كونها طارئة زائلة عند إيجاد المراد أو كون الفاعل خارجاً بها عن القوة إلى الفعل أو من النقص إلى الكمال ، بل كمالها في كون صاحبها مختاراً مالكاً لفعله ، آخذاً بزمام عمله ، فلو كان هذا هو كمال الإرادة ، فالله سبحانه واجد له على النحو الأكمل ، إذ هو الفاعل المختار غير المقهور في سلطانه (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) (1). (2)

ص : 195


1- يوسف : 21.
2- لاحظ الإلهيات : 1 / 175.

6- الإرادة التكوينية والتشريعية

اشارة

تنقسم الإرادة إلى تكوينية وتشريعية ، واختلفوا في تفسير هذا التقسيم إلى نظريات

الأُولى : نظرية المحقّق الخراساني

قال المحقّق الخراساني : الإرادة التكوينية عبارة عن العلم بالنظام على النحو الكامل التام ، والإرادة التشريعية هو العلم بالمصلحة في فعل المكلّف. (1)

وفسّرهما في موضع آخر بالعبارة التالية وقال : لا محيص عن اتّحاد الإرادة والطلب وان يكون ذلك الشوق المؤكّد المستتبع لتحريك العضلات في إرادة فعله بالمباشرة (التكوينيّة) أو المستتبع لأمر عبيده به فيما لو أراده لا كذلك (لا بالمباشرة) مسمّى بالطلب والإرادة. (2)

والعبارة الأُولى ناظرة إلى تفسير الإرادتين في حقّه سبحانه ، والثانية ناظرة إلى تفسيرهما في الإنسان.

فالإرادة التكوينية على التفسير الأوّل هو العلم بالنظام على النحو

ص : 196


1- الكفاية : 1 / 99.
2- الكفاية : 1 / 96.

الكامل ، والإرادة التشريعية هو العلم بالمصلحة في فعل المكلّف ؛ ولكنّهما على التفسير الثاني عبارة عن الشوق المؤكّد المستتبع إمّا لتحريك العضلات فهي الإرادة التكوينية ، أو المستتبع لأمر العبيد به فهي التشريعية.

ولا يخفى ضعف التفسيرين.

أمّا الأوّل ، فلأنّ تفسير الإرادة الإلهية التكوينية بالعلم بالنظام على النحو الكامل والتشريعية بالعلم بالمصلحة ، تفسير غير تام ، لما مرّ من أنّ واقع الإرادة غير واقع العلم.

وأمّا التفسير الثاني ، فلأنّ تفسير الإرادة بالشوق المؤكّد الذي هو الجامع بين الإرادة التكوينية والتشريعية في الإرادة الإنسانية تفسير ضعيف ، إذ ليس الشوق من مبادئ الإرادة ولا نفس الإرادة بشهادة انّ الإنسان كثيراً ما يريد شيئاً ويفعله بلا شوق كشرب الدواء المرّ ، وربّما يشتاق ولا يفعله كما في المحرّمات.

الثانية : نظرية المحقّق الأصفهاني

إنّ الإرادة التكوينية تتعلّق بفعل المريد نفسِه ، والتشريعية تتعلّق بفعل الغير. ثمّ ذكر في توضيح الثانية ما هذا نصّه :

إنّ فعل الغير إذا كان ذا فائدة عائدة إلى الشخص ، ينبعث من الشوق إلى تلك الفائدة ، شوق إلى فعل الغير بملاحظة ترتّب تلك الفائدة العائدة إليه ، وحيث إنّ فعل الغير - بما هو فعل اختياري له - ليس بلا واسطة مقدوراً للشخص ، بل يتبع البعث والتحريك إليه ، لحصول الداعي للغير فلا محالة ينبعث للشخص (الآمر) شوق إلى ما يوجب حصول فعل الغير اختياراً وهو

ص : 197

تحريكه إلى الفعل.

فالإرادة التشريعية ليست ما تعلّق بالتحريك والبعث فانّهما من أفعاله (1) ، فلا مقابلة بين التشريعية والتكوينية ، بل التشريعية من الشوق المتعلّق بفعل الغير اختياراً ، وأمّا إذا لم يكن لفعل الغير فائدة عائدة إلى الشخص فلا يعقل تعلّق الشوق به بداهة انّ الشوق النفساني لا يكون بلا داع. (2)

ولمّا كان تفسير الإرادة التشريعية بالشوق المتعلّق بفعل الغير اختياراً ، موجباً لانتفاء الإرادة التشريعية في الله سبحانه ، لعدم تعقّل الشوق في ساحته تعالى ، حاول أن يفسّر الإرادة التشريعية بوجه ، يناسب ساحته تعالى وقال :

نعم من جملة النظام التام - الذي لا أتمّ منه - نظام إنزال الكتب وإرسال الرسل والتحريك إلى ما فيه صلاح العباد ، والزجر عمّا فيه الفساد ، فالمراد بالإرادة الذاتيّة بالعرض لا بالذات ، هذه الأُمور دون متعلّقاتها فلا أثر للإرادة التشريعية في صفاته الذاتية ؛ كما في الخبر الشريف المروي في توحيد الصدوق - قدس سره - بسنده عن أبي الحسن - عليه السلام - قال - عليه السلام - : «إنّ لله إرادتين ومشيّتين : إرادة حتم وإرادة عزم ، ينهى وهو يشأ ، ويأمر وهو لا يشأ» الخ ، وهو ظاهر في أنّ الإرادة التشريعية حقيقتها الأمر والنهي ، وانّ حقيقة الإرادة والمشيئة هي الإرادة التكوينية. (3)

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ الإرادة التكوينية وإن كانت تقابل الإرادة التشريعية

ص : 198


1- أي ليست الإرادة التشريعية هي الإرادة المتعلّقة بالبعث ، إذ على هذا لا تبقى مقابلة بين الإرادتين حيث تتعلّقان بفعل الآمر.
2- نهاية الدراية : 1 / 280 - 281.
3- نهاية الدراية : 1 / 281 - 282 ، الطبعة المحقّقة.

لكن التقابل لا يقتضي تفسير الأُولى بما يتعلّق بفعل المريد ، والأُخرى بما يتعلّق بفعل الغير ، بل يكفي وجود التغاير بينهما في خصوصيات المتعلّق بأن يقال : انّ الإرادة مطلقاً في التكوينية والتشريعية تتعلّق بفعل النفس والمريد ؛ غاية الأمر انّه لو كان متعلّقها إيجاد شيء في الخارج كالأكل والشرب توصف بالتكوينية ، ولو كان متعلّقها بعث المكلّف إلى إيجاد شيء في الخارج تسمّى تشريعية ، وبذلك يظهر عدم صحّة قوله : فالإرادة التشريعية ليست ما تتعلّق بالتحريك والبعث فانّهما من أفعاله فلا مقابلة (أي يلزم عدم المقابلة) بين الإرادتين ، لما عرفت من أنّه يكفي في التقابل ، وجود الاختلاف في خصوصيات المتعلّق بعد اشتراكهما في كون المتعلّق فيهما هو فعل المريد ، غاية الأمر ينقسم فعل المريد إلى قسمين ، كما عرفت.

وثانياً : أنّ لازم تفسير التشريعية بالشوق إلى فعل الغير لما فيه فائدة عائدة إلى الشخص المريد ، هو كون الإرادة التكوينية أيضاً من مقولة الشوق ، وقد عرفت أنّ الإرادة ليست من مقولة الشوق ، وربّما يكون هنا شوق ولا إرادة كما تكون إرادة ولا يكون شوق.

وثالثاً : أنّ تقسيم الإرادة إلى التكوينية والتشريعية في مورده سبحانه والإنسان بملاك واحد ، وهو إن تعلّقت الإرادة بإيجاد الشيء تكويناً ، فالإرادة تكوينية مطلقاً في المالك والمملوك ، وإن تعلّقت بالإنشاء والبعث فهي تشريعية كذلك ، وهذا بخلاف ما أفاده - قدس سره - حيث فسّر الإرادة التكوينية : بحبه بذاته لذاته ، وحبه لأفعاله بالعرض ، وأمّا الإرادة التشريعية فهي عبارة عن إرسال الرسل وإنزال الكتب.

ص : 199

رابعاً : انّ إرسال الرسل وإنزال الكتب من مظاهر الإرادة التكوينية ، حيث إنّها عبارة عن ابتهاج الواجب ذاته بذاته وابتهاجه بأفعاله وما يدخل في دار الوجود ، بالعرض ، ومن أفعاله إرسال الرسل وإنزال الكتب ومعه كيف عدّهما من مظاهر الإرادة التشريعية؟!

الثالثة : نظرية العلاّمة الطباطبائي

وحاصل النظرية عبارة عمّا ذكرناه في نقد نظرية المحقّق الأصفهاني من أنّه لا فرق بين الإرادة التكوينية والتشريعية في أنّ كليهما يتعلّقان بفعل المريد ، غاية الأمر إن تعلّقت بفعل المريد غير البعث والزجر فهي إرادة تكوينية ، وإن تعلّقت ببعث الغير وزجره عن الشيء فهي إرادة تشريعية ، فمتعلّق الإرادتين في الحقيقة فعل المريد ؛ غاية الأمر انّ المتعلّق إن كان الفعل الخارجي فهو إرادة تكوينية ، وإن تعلّقت بإنشاء البعث والزجر الذي هو أيضاً فعل المريد فالإرادة تشريعية.

قال - قدس سره - معلّقاً على قول صاحب الكفاية «المستتبع لأمر عبيده به فيما لو أراده لا كذلك» ما هذا لفظه : إنّ الإرادة في استتباعها لأمر العبيد من قبيل إرادة الفعل بالمباشرة ، وأمّا بالنسبة إلى إرادة فعل العبد مثلاً فلا إرادة في النفس تتعلّق بفعل الغير ، بل إنّما هي إرادة إنشائية وتسميتها إرادة متعلّقة بفعل الغير مجاز أو مسامحة ، لمكان التلبّس الواقع بين الأمر والمأمور به.

وبه يتبيّن انّ القول بتعلّق الإرادة بفعل المأمور به مسامحة أو خطأ واضح تابع من الاتّحاد المتوهّم بين الأمر والمأمور به ، وذلك انّ الإرادة حيثية حقيقية

ص : 200

رابطة بين الذات المريدة وفعلها القائم بها ، وأمّا النفس وفعل غيرها فلا رابطة بينهما حتّى يتوسط بينهما حيثية الإرادة ، فالإرادة المتعلّقة بفعل المأمور توهّماً متعلّقة بالحقيقة بأمره بالفعل فتنسب إلى نفس الفعل مجازاً ، أو انّ إرادة الأمر لتعلّقها بفعل ما (البعث) له ارتباط بفعل المأمور تعد متعلّقة بنفس فعل المأمور تجوّزاً ، كما يقال : أردت الخبز وإنّما أراد أكله ، وهذا النحو من الاسناد أو النسبة كثير الدوران في الاستعمال. (1)

وحاصل تلك النظرية : انّ تقسيم الإرادة إلى التكوينية والتشريعية صرف اصطلاح نشأ من غرض خاص ، وإلاّ فالإرادة في كلا القسمين تتعلّق بفعل المريد ، إذ يمتنع أن تتعلّق الإرادة بفعل الغير ، لأنّها لا تتعلّق إلاّ بما كان تحت اختيار المريد وفعل الغير خارج عن اختياره فكيف تتعلّق إرادته به؟! هذا ما بعث السيد العلاّمة الطباطبائي إلى القول بأنّ كلا القسمين من نسيج واحد ، وإنّما الاختلاف في المراد ، فتارة يكون المراد أمراً تكوينياً ، وأُخرى أمراً اعتبارياً كإنشاء البعث المنتزع من الأمر.

وبعبارة أُخرى : إنّ الإنسان بما انّه طالب للكمال ربّما يقوم بالفعل بنفسه الذي يرى فيه الكمال وربّما يستخدم الغير لأجل تبسيط قدرته ونيل الكمال المطلوب عن طريقه ، فتكون الغاية من الإرادة التشريعية هو الوصول إلى الكمال المطلوب عن طريق استخدام الغير وبعثه نحو المراد.

هذه هي الإرادة التشريعية الإنسانية ، وأمّا الإرادة التشريعية الإلهية فهي أجل من أن تكون لتلك الغاية ، لأنّه كمال مطلق لا يتطرّق إليه النقص ولا

ص : 201


1- حاشية الكفاية ، للعلاّمة الطباطبائي : 78.

يتصوّر فوقه كمال ، إنّما الغاية لأمره ونهيه هو إيصال المأمور إلى الكمال ، وعلى هذا فالإرادة التشريعية في عامّة المراتب بمعنى واحد غير أنّ الغاية تختلف في الإنسان وغيره ، فالغرض منها في الإنسان هو طلب الكمال لنفسه وفي حقّه سبحانه هو إيصال الغير إلى الكمال.

ص : 202

الفصل الخامس: رؤية الله سبحانه

اشارة

ص : 203

ص : 204

تمهيد

إنّ رؤية الله سبحانه في الدارين التي أثارت ضجة كبيرة في الأوساط الإسلامية ، فالمفكِّرون الواعون على تنزيهه سبحانه عن التجسيم والتشبيه والجهة والرؤية ، ومقلِّدة أخبار الآحاد والمخدوعون بالإسرائيليات على جواز الرؤية في الآخرة. ورائدنا في الرسالة ، الكتاب ، والسنّة الصحيحة ، والعقل الصريح الذي به عرفنا الله سبحانه وصفاته وأنبياءه ويأتي كلامنا فيها ضمن فصول :

ص : 205

1- الرؤية فكرة يهودية مستوردة

لما انتشر الإسلام في الجزيرة العربية وضرب بجرانه أراضيها ، ودخل الناس في الإسلام زرافات ووحداناً ، لم تجد اليهود والنصارى محيصاً إلاّ الاستسلام للأمر الواقع ، فدخلوا في الإسلام متظاهرين به غير معتقدين غالباً ، إلاّ من شملتهم العناية الإلهية منهم وكانوا قليلين ، ولكن الأغلبية الساحقة منهم خصوصاً الأحبار والرهبان بقوا على ما كانوا عليه من العقائد.

كانت الأحبار والرهبان عارفين بما في العهدين من القصص والحكايات والأُصول والعقائد ، فعمدوا إلى نشرها بين المسلمين بخداع خاص وبطريقة علمية ، وكانت السذاجة سائدة على أكثر المسلمين فزعموهم علماء ربانيّين يحملون العلم ، فأخذوا منهم ما يلقون ، بقلب واع ونيّة صادقة ، فأوجد ذلك أرضية صالحة لنشر القصص الخرافية والعقائد الباطلة خصوصاً فيما يرجع إلى التجسيم والتشبيه وتحقير الأنبياء في أنظار المسلمين بإسناد المعاصي الموبقة إليهم ، ولم تكن رؤية الله بأقلّ ممّا سبق في تركيزهم عليها ، فما ترى في كتب الحديث قديماً وحديثاً من الأخبار الكثيرة حول التجسيم والتشبيه والرؤية ونسبة المعاصي إلى الأنبياء والتركيز على القدر والقضاء السالبين للاختيار ، فكلّها من آفات المستسلمة من

ص : 206

اليهود والنصارى ، فحسبها بعض السلف حقائق راهنة وقصصاً صادقة ، فتلقّوها بقبول حسن ونشروها بين الخلف ، ودام الأمر على ذلك حتّى يومنا هذا. ويكفيك الحديث التالي :

قصد الحنابلة الإمام العلاّمة محمد بن جرير الطبري يوم الجمعة في الجامع وسألوه عن حديث جلوسه سبحانه على العرش ، فقال أبو جعفر : أمّا أحمد بن حنبل فلا يعدّ خلافه ، فقالوا له : فقد ذكره العلماء في الاختلاف ؛ فقال : ما رأيته روي عنه ، ولا رأيت له أصحاباً يعوّل عليهم ، وأمّا حديث الجلوس على العرش فمحال ، ثمّ أنشد :

سبحان من ليس له أنيس

ولا له في عرشه جليس

فلما سمعوا ذلك وثبوا فرموه بمحابرهم ، وقد كانت أُلوفاً ، فقام بنفسه ودخل داره فردموا داره بالحجارة حتّى صار على بابه كالتل العظيم ، وركب «نازوك» صاحب الشرطة في عشرات أُلوف من الجند يمنع عنه العامّة ، ووقف على بابه إلى الليل ، وأمر برفع الحجارة عنه ، وكان قد كتب على بابه البيت المتقدّم فأمر «نازوك» بمحو ذلك ، وكتب مكانه بعض أصحاب الحديث :

لأحمدَ منزلٌ لا شكَّ عَال *** إذا وَافى إلى الرحمن وافِدْ

فيُدْنيه ويقعده كريماً *** على رغم لهم في أنفِ حاسِدْ

عَلى عرشِ يُغَلِّفُهُ بطيب *** على الأكبادِ من بَاغ وعَانِدْ

ص : 207

له هذا المُقامُ يكونُ حقا *** كَذاكَ رواه ليثٌ عن مُجَاهِد(1)

أهكذا يتعامل مع إمام كبير وفقيه عظيم ، ومحدّث بصير مثل الطبري ولا ذنب له إلاّ أنّه إمام مفكّر ، لا يؤمن بأساطير اليهود ، وإن تلقّاها «مجاهد» ونظراؤه حقيقة راهنة؟!

ومن العوامل التي فسحت المجال للأحبار والرهبان لنشر ما في العهدين بين المسلمين ، حظر تدوين حديث الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ونشره ونقله والتحدّث به أكثر من مائة سنة ، فأوجد الفراغ الذي خلفه هذا العمل ، أرضية مناسبة لظهور بدع يهودية ونصرانية وسخافات مسيحية وأساطير يهودية خصوصاً من قبل كهنة اليهود ورهبان النصارى.

يقول الشهرستاني : وضع كثير من اليهود الذين اعتنقوا الإسلام أحاديث متعدّدة في مسائل التجسيم والتشبيه ، وكلّها مستمدة من التوراة. (2)

قال ابن خلدون : إنّ العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم وإنّما غلبت عليهم البداوة والأُمّية ، وإذا تشوّقوا إلى معرفة شيء ممّا تتوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكوّنات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإنّما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ، ويستفيدونه منهم وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم

ص : 208


1- قال الطبري في التفسير : حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي قال : حدثنا ابن فضيل عن ليث عن مجاهد في قوله : عسى الخ قال : يجلسه معه على عرشه. لاحظ مقدمة اختلاف الفقهاء للطبري : 11.
2- الملل والنحل : 1 / 117.

فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم ، وتساهل المفسرون في مثل ذلك وملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات ، وأصلها كلّها كما قلنا من التوراة أو ممّا كانوا يفترون. (1)

ومن أكابر أحبار اليهود الذين تظاهروا بالإسلام هو كعب الأحبار ، فقد خدع عقول المسلمين وحتى الخلفاء والمترجمين له من علماء الرجال ، وقد أسلم في زمن أبي بكر ، وقدم من اليمن في خلافة عمر فأخذ عنه الصحابة وغيرهم.

قال الذهبي : العلاّمة الحبر الذي كان يهودياً فأسلم بعد وفاة النبيّ ، وقدم المدينة من اليمن في أيام عمر ، وجالس أصحاب محمد ، فكان يحدّثهم عن الكتب الإسرائيلية ويحفظ عجائب - إلى أن قال : - حدّث عنه أبو هريرة ومعاوية وابن عباس وذلك من قبيل رواية الصحابي عن تابعي وهو نادر عزيز ، وحدّث عنه أيضاً أسلم «مولى عمر» وتبيع الحميري ابن امرأة كعب ، وروى عنه عدّة من التابعين كعطاء بن يسار وغيره مرسلاً ، وقع له رواية في سنن أبي داود والترمذي والنسائي. (2)

وعرّفه الذهبي أيضاً في بعض كتبه بأنّه من أوعية العلم. (3)

فقد وجد الحبر الماكر جوّاً ملائماً لنشر الأساطير والقصص الوهمية ، وبذلك بثّ سمومه القتّالة بين الصحابة والتابعين ، وقد تبعوه وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً.

وقد تنبّه إلى جسامة الخسارة التي أحدثها ذلك الحبر ، لفيف من السابقين ،

ص : 209


1- مقدّمة ابن خلدون : 439.
2- سير أعلام النبلاء : 3 / 489.
3- تذكرة الحفّاظ : 1 / 52.

منهم ابن كثير في تفسيره حيث إنّه بعد ما أورد طائفة من الأخبار في قصة ملكة سبأ مع سليمان - عليه السلام - قال : والأقرب في مثل هذه السياقات أنّها متلقّاة عن أهل الكتاب ، ممّا وجد في صحفهم كروايات كعب ووهب - سامحهما الله تعالى - في ما نقلاه إلى هذه الأُمّة من أخبار بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب ممّا كان وما لم يكن ، وممّا حُرِّف وبُدِّل ونُسِخَ ، وقد أغنانا الله سبحانه عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ. (1)

والذي يدلّ على عمق مكره وخداعه لعقول المسلمين أنّه ربّما ينقل شيئاً من العهدين ، وفي الوقت ذاته نرى أنّ بعض الصحابة الذين تتلمذوا على يديه وأخذوا منه ، ينسب نفس ما نقله «كعب» إلى الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ، والذي يبرّر ذلك العمل حسن ظنّهم وثقتهم به ، فحسبوا المنقول شيئاً صحيحاً ، فنسبوه إلى النبيّ ، زاعمين أنّه إذا كان كعب الأحبار عالماً به ، فالنبيّ أولى بالعلم منه.

فإن كنت في شكّ من ذلك فاقرأ نصّين في موضوع واحد أحدهما للإمام الطبري في تاريخه ينقله عن كعب الأحبار في حشر الشمس والقمر يوم القيامة ، والآخر للإمام ابن كثير صاحب التفسير ينقله عن أبي هريرة عن النبيّ الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ومضمون الحديث ينادي بأعلى صوته بأنّه موضوع مجعول على لسان الوحي نشره الحبر الخادع وقَبِلَه الساذج من المسلمين ونسبه إلى نبي الإسلام - صلى الله عليه وآله وسلم -.

1. قال الطبري : عن عكرمة قال : بينا ابن عباس ذات يوم جالس إذ جاءه رجل فقال : يا ابن عباس سمعت العجب من كعب الحبر يذكر في الشمس والقمر قال : وكان متّكئاً فاحتفر ثم قال : وما ذاك؟ قال : زعم يُجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنّهما ثوران عقيران فيُقذفان في جهنم ، قال عكرمة : فطارت

ص : 210


1- ابن كثير : التفسير ، قسم سورة النمل : 3 / 339.

من ابن عباس شفة ووقعت أُخرى غضباً ، ثم قال : كذب كعب ، كذب كعب ، كذب كعب ، ثلاث مرّات ، بل هذه يهودية يريد إدخالها في الإسلام ، الله أجلّ وأكرم من أن يعذّب على طاعته ، ألم تسمع قول الله تبارك وتعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) إنّما يعني دءوبهما في الطاعة ، فكيف يعذِّب عبدين يُثني عليهما أنّهما دائبان في طاعته. قاتلَ الله هذا الحبر وقبّح حبريته ، ما أجرأه على الله وأعظم فريته على هذين العبدين المطيعين لله ، قال : ثم استرجع مراراً. (1)

2. قال ابن كثير : روى البزار عن عبد العزيز بن المختار قال : سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن في هذا المسجد مسجد الكوفة ، وجاء الحسن فجلس إليه فحدث قال : حدثنا أبو هريرة أنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : «إنّ الشمس والقمر ثوران في النار عقيران يوم القيامة» فقال الحسن : وما ذنبهما؟ فقال : أُحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وتقول أحسبه قال : وما ذنبهما؟! ثم قال : لا يروى عن أبي هريرة إلاّ من هذا الوجه. (2)

إنّ كعب الأحبار لمّا أسلم بعد رحيل الرسول لم يتمكّن من إسناد ما رواه من الأسطورة إلى النبيّ الأكرم ، ولو كان مدركاً لحياته وإن كان قليلاً لنسبها إليه ولكن حالت المشيئة الإلهية دون أمانيّه الباطلة.

ولكنّ أبا هريرة لمّا صحب النبي واستحسن الظن بكعب الأحبار - أُستاذه في الأساطير - نسب الرواية إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -.

هذا نموذج قدّمته إلى القارئ لكي يقف على دور الأحبار والرهبان في نشر البدع اليهودية والنصرانية بين المسلمين ، ولا يُحسن الظن بمجرّد النقل بلا تأكيد

ص : 211


1- الطبري : التاريخ : 1 / 44 ، ط بيروت.
2- ابن كثير : التفسير : 4 / 475 ، ط دار الاحياء.

من صحته.

هذا غيض من فيض وقليل من كثير ممّا لعب به مستسلمة اليهود والنصارى في أحاديثنا وأُصولنا ، ولو لا أنّ الله سبحانه قيّض في كل آونة رجالاً مصلحين كافحوا هذه الخرافات وأيقظوا المسلمين من السبات ، لذهبت هذه الأساطير بروعة الإسلام وصفائه وجلاله.

ص : 212

2- الرؤية في العهد القديم

قد سبق انّ الرؤية فكرة مستوردة أدخلها مستسلمة أهل الكتاب بين المسلمين ونشروها بينهم حتّى صارت عقيدة إسلامية ربما يُكفّر من ينكرها ، وقد استمد الأحبار والرهبان في نشر تلك الفكرة من العهدين المتوافرين بين أيديهم ، وها نحن نذكر نصوصاً من العهد القديم حول الرؤية ليتّضح صدق ما قلناه.

1. وقال (الرب) لا تقدر أن ترى وجهي لأنّ الإنسان لا يراني ويعيش. قال الرب هو ذا عندي مكان ، فتقف على الصخرة ، ويكون من اجتاز مجدي أني أضعك في نقرة من الصخرة وأترك بيدي حتّى أجتاز ، ثمّ أرفع يدي فتنظر ورائي وأمّا وجهي فلا يُرى.

سفر الخروج آخر الاصحاح الثالث والثلاثين.

وعلى هذا فالرب يُرى قفاه ولا يرى وجهه.

2. رأيت السيد جالساً على كرسي عال ... فقلت ويل لي لأنّ عيني قد رأتا الملك رب الجنود.

سفر أشعيا الاصحاح 6 الفقرة 61.

والمقصود من السيد هو الله جلّ ذكره.

ص : 213

3. كنت أرى انّه وضعت عروش وجلس القديم الأيام ، لباسه أبيض كالثلج وشعر رأسه كالصوف النقي وعرشه لهيب نار.

سفر دانيال الاصحاح 7 الفقرة 91.

4. أمّا أنا فبالبرّ أنظر وجهك.

مزامير داود الاصحاح 17 الفقرة 15.

5. فغضب الرب على سليمان لأنّ قلبه مال عن الرب إله إسرائيل الذي تراءى له مرتين.

سفر الملوك الأوّل الاصحاح 11 الفقرة 9.

وقد رأيت الرب جالساً على كرسيه وكلّ جند البحار وقوف لديه.

سفر الملوك الأول الاصحاح 22 الفقرة 19.

6. كان في سنة الثلاثين في الشهر الرابع في الخامس من الشهر وأنا بين المسبيين عند نهر خابور ، انّ السماوات انفتحت فرأيت رؤى الله - إلى أن قال - هذا منظر شبه مجد الرب ، ولمّا رأيته خررت على وجهي وسمعت صوت متكلّم.

سفر حزقيال الاصحاح 1 ، الفقرة 281.

هذه نماذج ممّا في العهد القديم حول الرؤية ، وعليه اعتمد الحبر الماكر في نشر أفكاره ، وقد كان يركّز على فكرتين يهوديتين.

الأُولى : فكرة التجسيم.

الثانية : رؤية الله.

يقول في الفكرة الأُولى : إنّ الله تعالى نظر إلى الأرض فقال : إنّي واطئ على بعضك. فاستعلت إليه الجبال ، وتضعضعت له الصخرة ، فشكر لها ذلك فوضع

ص : 214

عليها قدمه فقال : هذا مقامي ، ومحشر خلقي وهذه جنتي وهذه ناري ، وهذا موضع ميزاني ، وأنا ديان الدين. (1)

ففي هذه الكلمة من هذا الحبر تصريح على تجسيمه تعالى أوّلاً ، وتركيز على أنّ الجنة والنار والميزان ستكون على هذه الأرض ، ومركز سلطانها سيكون على الصخرة ، وهذا من صميم الدين اليهودي المحرّف. هذا حول التجسيم.

وأمّا تركيزه على الرؤية فقد أشاع فكرة التقسيم ، فقال : إنّ الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمد ، ومنه انتشرت هذه الفكرة ، أي فكرة التقسيم بين المسلمين. (2)

ومن أعظم الدواهي انّ الرجل تزلّف إلى الخلفاء في خلافة عمر وعثمان وحدّث عن الكثير من القصص الخرافية ، وبعد ما توفّي عثمان تزلّف إلى معاوية ونشر في عهده ما يؤيد به ملكه ودولته ، ومن كلماته في حقّ الدولة الأموية ، يقول : مولد النبي بمكة ، وهجرته بطيبة ، وملكه بالشام. (3)

وبذلك أضفى على الدولة الأموية صبغة شرعية ، وجعل ملكهم وسلطتهم امتداداً لملك النبي وسلطته.

إنّ فكرة الرؤية تسرّبت إلى المسلمين من المتظاهرين بالإسلام كالأحبار والرهبان ، وصار ذلك سبباً لجرأة طوائف من المسلمين على جعلها في ضمن العقيدة الإسلامية (4) ، بحيث يكفر منكرها أحياناً ويفسق ، ولمّا صارت تلك

ص : 215


1- حلية الأولياء لابن نعيم الاصفهاني : 6 / 20.
2- شرح نهج البلاغة : 3 / 237.
3- الدارمي في السنن : 1 / 5.
4- مقالات الإسلاميين رسالة الأشعري في عقيدة أهل الحديث ، الفقرة 21.

العقيدة راسخة في القرنين الثاني والثالث بين المسلمين ، عاد المتكلّمون المحقّقون للبرهنة والاستدلال على بطلان الفكرة من الكتاب أوّلاً والسنّة ثانياً ، ولو لا رسوخها بينهم لما تحمّلوا عبء الاستدلال وجهد البرهنة ، وسوف يوافيك انّ الكتاب العزيز يرد فكرة الرؤية ويستعظم أمرها وينكرها ويستفظعها بشدة وحماس ، وما استدلّ به على جواز الرؤية من الكتاب فلا مساس له بالموضوع ، فانتظر حتّى يأتيك البيان.

ص : 216

3- الرؤية في منطق العلم والعقل

اشارة

إنّ الرؤية في منطق العلم والعقل لا تتحقّق إلاّ إذا كان الشيء مقابلاً أو حالاً في المقابل ، من غير فرق بين تفسيرها حسب رأي القدماء أو حسب العلم الحديث ، فإنّ القدماء كانوا يفسرون الرؤية على النحو التالي :

خروج الشعاع من العين وسقوطه على الأشياء ثمّ انعكاسه عن الأشياء فرجوعه إلى العين لكي تتحقق الرؤية ، ولكن العلم الحديث كشف بطلان هذا التفسير ، وقال :

إنّها عبارة عن صدور الأشعة من الأشياء ودخولها إلى العين عن طريق عدستها وسقوطها على شبكية العين فتتحقّق الرؤية.

وعلى كلّ تقدير فالضرورة قاضية على أنّ الإبصار بالعين متوقّف على حصول المقابلة بين العين والمرئي ، أو حكم المقابلة كما في رؤية الصور في المرآة ، وهذا أمر تحكم به الضرورة وإنكاره مكابرة واضحة ، فإذا كانت ماهية الرؤية هي ما ذكرناه فلا يمكن تحقّقها فيما إذا تنزّه الشيء عن المقابلة أو الحلول في المقابل.

وبعبارة واضحة : انّ العقل والنقل اتّفقا على كونه سبحانه ليس بجسم ولا

ص : 217

جسماني ولا في جهة ، والرؤية فرع كون الشيء في جهة خاصة ، وما شأنه هذا لا يتعلّق إلاّ بالمحسوس لا المجرد.

المحاولة اليائسة في تجويز الرؤية
اشارة

إنّ مفكّري الأشاعرة الذين لهم قدم راسخة في المسائل العقلية لمّا وقفوا أمام هذا الدليل ذهبوا يميناً ويساراً للجمع بين الرؤية والتنزيه ، وإليك بيان ذلك :

1. الرؤية بلا كيف

هذا العنوان هو الذي يجده القارئ في كتب الأشاعرة وربّما يعبر عنه خصومهم ب «البلكفة» ومعناه انّ الله تعالى يُرى بلا كيف وانّ المؤمنين في الجنة يرونه بلا كيف ، أي منزّهاً عن المقابلة والجهة والمكان.

يلاحظ عليه : أنّ تمنّي الرؤية بلا مقابلة ولا جهة ولا مكان ، أشبه برسم أسد بلا رأس ولا ذنب على جسم بطل ، فالرؤية التي لا يكون المرئي فيها مقابلاً للرائي ولا متحقّقاً في مكان ولا متحيزاً في جهة كيف تكون رؤية بالعيون والأبصار؟!

والحقّ انّ قول الأشاعرة كأهل الحديث «بلا كيف» مهزلة لا يعتمد عليها ، فانّ الكيفية ربما تكون من مقوّمات الشيء ولولاها لما كان له أثر ، فمثلاً يقولون : إنّ لله يداً ورجلاً وعيناً وسمعاً بلا كيف ، ويصرحون بثبوت واقعيات هذه الصفات حسب معانيها اللغوية لله سبحانه لكن بلا كيفية.

وهذا كما ترى فأنّ اليد في اللغة العربية وضعت للجارحة حسب ما لها من الكيفية ، فإثبات اليد لله بالمعنى اللغوي مع حذف الكيفية ، يكون مساوياً لنفي معناها اللغوي ويكون راجعاً إلى تفسيرها بالمعاني المجازية التي يفرون منها فرار المزكوم من المسك ، ومثله القدم والوجه.

ص : 218

وبعبارة أُخرى : انّ الحنابلة والأشاعرة يصرّون على أنّ الصفات الخبرية كاليد والرجل والقدم والوجه في الكتاب والسنّة يجب ان تفسر بنفس معانيها اللغوية ، ولا يجوز لنا حملها على معانيها المجازية كالقدرة في اليد مثلاً ، ولمّا رأوا انّ ذلك يلازم التجسيم التجئوا إلى قولهم : يد بلا كيف أو وجه بلا كيف ، ولكنّهم ما دروا انّ الكيفية في اليد والوجه وغيرهما مقوّمة لمفاهيمها ، فنفي الكيفية يساوق نفي المعنى اللغوي ، فكيف يمكن الجمع بين المعنى اللغوي والحمل عليه بلا كيف؟! ومنه يعلم حال الرؤية بالبصر والعين فإنّ التقابل مقوّم لمفهومها ، فإثباتها بلا كيف يلازم نفي أصل الرؤية ، والكلام في المقام إنّما هو النظر بالبصر والرؤية بالعين ، لا الرؤية بالقلب أو في النوم فانّها خارجة عن محط البحث.

2. اختلاف الأحكام باختلاف الظروف

إنّ بعض المتّفقين من الجدد لمّا وجدوا انّ الرؤية لا تنفك عن الجهة التجئوا إلى القول بأنّ كلّ شيء في الآخرة غيره في الدنيا ، ولعلّ الرؤية تتحقّق في الآخرة بلا هذا اللازم السلبي. وهذا ما سمعته عن بعض المشايخ في دمشق.

يلاحظ عليه : بأنّه رجم بالغيب ، فإن أرادوا من المغايرة بأنّ الآخرة ظرف للتكامل وانّ الأشياء توجد في الآخرة بأكمل وجودها وأمثلها ، فهذا لا مناقشة فيه ، يقول سبحانه : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً). (1) وإن أرادوا انّ القضايا العقلية البديهية تتبدّل في الآخرة إلى نقيضها ، فهذا يوجب انهيار النّظم الكلامية والأساليب العلمية التي يعتمد عليها المفكّرون من أتباع الشرائع وغيرهم ، إذ معنى ذلك انّ النتائج المثبتة في جدول

ص : 219


1- البقرة : 25.

الضرب سوف تتبدّل في الآخرة إلى ما يباينها ، فتكون النتيجة ضرب 2* 5 / 2 أو 10 أو ... وانّ قولنا : «كلّ ممكن يحتاج إلى علّة» يتبدّل في الآخرة إلى أنّ الممكن غني عن العلّة ، فعند ذلك لا يستقر حجر على حجر وتنهار جميع المناهج الفكرية ، ويصير الإنسان سوفسطائيا.

3. عدم المبالاة بإثبات الجهة

إنّ أساتذة الجامعات الإسلامية في الرياض ومكة المكرمة والمدينة المنورة بدل أن يجهدوا أنفسهم في فهم المعارف ويتجردوا في مقام التحليل عن الآراء المسبقة ، نرى أنّهم يدعمون شباب الجامعات وخرّيجيها بدعم مالي وفكري ليجمعوا من هنا وهناك أُموراً حول الرؤية ، فخرجوا بنتيجة هي إثبات الجهة لله حتّى يتسنّى لهم إثبات الرؤية ، وهذا العمل أشبه بدفع الفاسد بالأفسد ، وإن كنت في شك من ذلك فاستمع لما يلي :

يقول الدكتور أحمد بن محمد آل حمد خريج جامعة أُم القرى : إنّ إثبات رؤية حقيقية بالعيان من غير مقابلة أو جهة ، مكابرة عقلية لأنّ الجهة من لوازم الرؤية ، وإثبات اللزوم ونفي اللازم مغالطة ظاهرة.

ومع هذا الاعتراف تخلّص عن الالتزام بإثبات الجهة لله بقوله : إنّ إثبات صفة العلو لله تبارك وتعالى ورد في الكتاب والسنّة في مواضع كثيرة جدّاً ، فلا حرج في إثبات رؤية الله تعالى في هذا العلو الثابت له تبارك وتعالى ، ولا يقدح هذا في التنزيه ، لأنّ من أثبت هذا أعلم البشر بما يستحقّ الله تعالى من صفات الكمال.

أمّا لفظة الجهة فهي من الألفاظ المجملة التي لم يرد نفيها ولا إثباتها بالنص

ص : 220

فنأخذ حكم مثل هذه الألفاظ. (1)

يلاحظ عليه :

أوّلاً : من أين ادّعى انّ الكتاب والسنّة أثبت العلو لله الذي هو مساوق للجهة ، فإن أراد قوله سبحانه : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) فقد حقّق في محلّه بأنّ استواءه على العرش كناية عن استيلائه على السماوات والأرض ، وعدم عجزه عن التدبير ، وأين هو من إثبات العلوّ لله؟! وقد أوضحنا مفاد هذه الآيات في أسفارنا الكلامية. (2)

وإن أراد ما جمعه ابن خزيمة وأضرابه من حشويات المجسّمة والمشبّهة ، فكلّها بدع يهودية أو مجوسية تسرّبت إلى المسلمين يرفضها القرآن الكريم وروايات أئمة أهل البيت - عليهم السلام -.

ثانياً : إذا افترضنا صحّة كونه موجوداً في جهة عالية ينظر إلى السماوات والأرض ، فكيف يكون محيطاً بكل شيء وموجوداً مع كلّ شيء؟! (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (3) فإذا كان هذا معنى التنزيه فسلام الله على التجسيم ، ولعلّ شاعر المعرة تمنّى الموت أمام هذه الأقوال والآراء وقال :

يا موت زر إنّ الحياة ذميمة

ويا نفس جدي إنّ دهرك هازل

أقول : إنّ الذي تستهدفه رسالات السماء كان يتلخّص في توحيده سبحانه وأنّه واحد لا نظير له ولا مثيل أوّلاً ، وتنزيهه سبحانه عن مشابهة الممكنات

ص : 221


1- رؤية الله تعالى : 61 ، نشر معهد البحوث العلمية في مكة المكرمة.
2- الإلهيات : 1 / 330 - 340.
3- الحديد : 4.

والموجودات ثانياً.

لكنّ لفيفاً من أصحاب الحديث بعد رحيل الرسول توغّلوا في وحل الشرك والتجسيم وأبطلوا كلتا النتيجتين ؛ فقالوا بحماس بقدم القرآن وعدم حدوثه ، فأثبتوا بذلك مِثْلاً لله في الأزلية وكونه قديماً كقدمه سبحانه.

وأثبتوا لله سبحانه العلو والجهة اغتراراً ببعض الظواهر والأحاديث المستوردة ، فأبطلوا بذلك تنزيهه سبحانه وتعاليه عن مشابهة المخلوقات.

فخالفوا رسالات السماء في موردين أصليّين :

1. التوحيد ، بالقول بقدم القرآن. (1)

2. التنزيه بإثبات الجهة والرؤية.

(كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً). (2)

ص : 222


1- القول بقدم القرآن غير القول بقدم علمه سبحانه ،. فلا يختلط عليك الأمر.
2- النحل : 92.

4- موقف الذِّكر الحكيم من أمر الرؤية إجمالاً

إنّ الذكر الحكيم يصف الله سبحانه بصفات تهدف جميعها إلى أنّه منزّه عن الجسم والجسمانية ، وأنّه ليس له مثل ولا نظير ، ولا ندّ ولا كفو ، وأنّه محيط بكل شيء ، ولا يحيطه شيء ، إلى غير ذلك من الصفات المنزّهة التي يقف عليها الباحث عند جمع الآيات الواردة في هذا المجال ، وبدورنا نشير إلى بعض منها :

قال سبحانه :

1. (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). (1)

2. (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ). (2)

3. (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). (3)

4. (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ

ص : 223


1- الشورى : 11.
2- الإخلاص : 1 - 4.
3- الحديد : 3.

يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). (1)

5. (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ). (2)

6. (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). (3)

7. (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). (4)

8. (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ). (5)

9. (اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ). (6)

10. (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ). (7)

وحصيلة هذه الآيات أنّه لا يوجد في صفحة الوجود له مثل ، وهو أحد لا كفو له ، لم يلد ولم يولد بل هو أزليّ ، فبما أنّه أزليّ الوجود ، فوجوده قبل كل شيء أي

ص : 224


1- الحديد : 4.
2- الحشر : 23.
3- الحشر : 24.
4- المجادلة : 7.
5- فصلت : 54.
6- البقرة : 255.
7- الأنعام : 103.

لا وجود قبله ، وبما أنّه أبديّ الوجود فهو آخر كل شيء إذ لا وجود بعده ، وبما أنّه خالق السماوات والأرض فالكون قائم بوجوده فهو باطن كل شيء ، كما أنّ النظام البديع دليل على وجوده فهو ظاهر كل شيء.

لا يحويه مكان لأنّه خالق السماوات والأرض وخالق الكون والمكان ، فكانَ قبل أن يكون أيّ مكان ، وبما أنّ العالم دقيقه وجليله ، فقير محتاج إليه قائم به ، فهو مع الأشياء معيّة قيومية لا معيّة مكانية ، ومع الإنسان أينما كان. فلا يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم ولا خمسة إلاّ هو سادسهم ، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلاّ هو معهم أينما كانوا وذلك مقتضى كونه قيّوماً وما سواه قائماً به ، ولا يمكن للقيوم الغيبوبة عمّا قام به ، وفي النهاية هو محيط بكل شيء لا يحيطه شيء ، فقد أحاط كرسيّه السماوات والأرض ، فالجميع محاط وهو محيط ، ومن كان بهذه المنزلة لا تدركه الأبصار الصغيرة الضعيفة ولا يقع في أُفقها ولكنّه لكونه محيطاً ، يدرك الأبصار.

هذه صفاته سبحانه في القرآن ذكرناها على وجه الإيجاز وأوردناها بلا تفسير. وقد ثبت في محله أنّ من سمات العقيدة الإسلامية كونها عقيدة سهلة لا إبهام فيها ولا لغز فلو وجدنا شيئاً في السنّة أو غيرها يصطدم بهذه الصفات فيحكم عليه بالتأويل إن صحّ السند ، أو بالضرب عرض الجدار إن لم يصح ، فمن تلا هذه الآيات وتدبّر فيها ، يحكم بأنّه سبحانه فوق أن يقع في وهم الإنسان وفكره ومجال بصره وعينه ؛ وعند ذلك لو قيل له : إنّه جاء في الأثر أنّكم سترون ربّكم يوم القيامة كما ترون هذا (البدر) لا تضامون في رؤيته (1) ، يتلقّاه أمراً مناقضاً لما تلا من الآيات

ص : 225


1- البخاري : الصحيح : 4 / 200.

أو استمع إليها ، ويحدث في نفسه ويقول : الخالق البارئ الذي هو ليس بجسم ولا جسماني ، لا يحويه مكان ، محيط بالسماوات والأرض كيف يُرى يوم القيامة كالبدر في جهة خاصة وناحية عالية مع أنّه كان ولا علو ولا جهة ، بل هو خالقهما؟! وأين هذه الرؤية من وصفه سبحانه بأنّه لا يحويه مكان ولا يقع في جهة وهو محيط بكل شيء؟!

ولا يكون التناقض بين الوصفين بأقل من التناقض الموجود في العقيدة النصرانية من أنّه سبحانه واحد وفي الوقت نفسه ثلاثة ، وكلّما حاول القائل بالرؤية الجمع بين العقيدتين ، لا يستطيع أن يرفع التعارض والاصطدام بين المعرفتين في أنظار المخاطبين بهذه الآيات والرواية ، ومن جرّد نفسه عن المجادلات الكلامية والمحاولات الفكرية للجمع بين المعرفتين يرى التعريفين متصادمين ، فأين القول بأنّه سبحانه بعيد عن الحسّ والمحسوسات ، منزّه عن الجهة والمكان ، محيط بعوالم الوجود ، وفي نفس الوقت تنزّله سبحانه منزلة الحسّ والمحسوسات ، واقعاً بمرأى ومنظر من الإنسان يراه ويبصره كما يبصر البدر ، يشاهده في أُفق عال؟! وقد تعرّفت على أنّ السهولة في العقيدة وخلوّها من الألغاز هو من سمات العقيدة الإسلامية ، فالجمع بين المعرفتين كجمع النصارى بين كونه سبحانه واحداً وثلاثاً.

هذا من جانب ، ومن جانب آخر نرى أنّه سبحانه كلّما طرح مسألة الرؤية في القرآن الكريم فإنّما طرحها باستعظام من أن ينالها الإنسان ويتلقّى سؤالها وتمنّيها من الإنسان أمراً فظيعاً وقبيحاً وتطلّعاً إلى ما هو دونه.

1. قال سبحانه : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ

ص : 226

تَشْكُرُونَ). (1)

2. وقال سبحانه : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً). (2)

3. وقال سبحانه : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ). (3)

4. وقال سبحانه : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ). (4)

فالمتدبّر في هذه الآيات يقضي بأنّ القرآن الكريم يستعظم الرؤية ويستفظع سؤالها ويقبّحه ويعدّ الإنسان قاصراً عن أن ينالها على وجه ينزل العذاب غبَّ سؤالها. فلو كانت الرؤية أمراً ممكناً ولو في وقت آخر لكان عليه سبحانه أن يتلطّف عليهم بأنّكم سترونه في الحياة الآخرة لا في الحياة الدنيا ، ولكنّا نرى أنّه سبحانه يقابلهم بنزول الصاعقة فيقتلهم ثم يحييهم بدعاء موسى ، كما أنّ موسى لمّا طلب الرؤية وأُجيب بالمنع ، تاب إلى الله سبحانه وقال : (أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) بأنّك

ص : 227


1- البقرة : 55 - 56.
2- النساء : 153.
3- الأعراف : 143.
4- الأعراف : 155.

لا تُرى. فإذا كانت الرؤية نعمة عظمى كما يدّعيها القوم ، فلا وجه لنزول العذاب عند طلبها ، غاية الأمر يجاب السائل بعدم الإمكان في الدنيا.

فالإمعان بما ورد فيها من عتاب وتنديد ، بل وإماتة وإنزال عذاب يدلّ بوضوح على أنّ الرؤية فوق قابلية الإنسان ، وطلبه إليها أشبه بالتطلّع إلى أمر محال.

فعند ذلك لو قيل للمتدبّر بالآيات : إنّه روى قيس بن أبي حازم أنّه حدّثه جرير وقال : خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ليلة البدر فقال : «إنّكم سترون ربّكم يوم القيامة كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته» (1) ؛ يجد الحديث مناقضاً لما ورد في هذه الآيات ، ويحدِّث نفسه أنّه كيف صار الأمر الممتنع أمراً ممكناً ، والإنسان غير المؤهّل للرؤية مؤهّلاً لها؟!

ص : 228


1- البخاري : الصحيح : 4 / 200.

5- الرؤية في الذكر الحكيم تفصيلاً

الآية الأُولى : عدم قدرة الأبصار على إدراكه
اشارة

قد عرفت تعبير الكتاب عن الرؤية إجمالاً ، وانّه يعد طلب الرؤية وسؤالها أمراً فظيعاً قبيحاً موجباً لنزول الصاعقة والعذاب ، فالآيات السابقة وضّحت موقف الكتاب من هذه المسألة لكن على وجه الإجمال ، غير أنّا إذا استنطقنا ما سبق من الآيات ، نقف على قضاء الكتاب في أمر الرؤية على وجه التفصيل. وقد عقدنا هذا الفصل لدراسة بعض ما سبق حتّى نتأكد ممّا فهمنا من الكتاب العزيز ، وإليك البيان :

قال سبحانه : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ).

(لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ). (1)

تقرير الاستدلال يتم في مرحلتين :

ص : 229


1- الأنعام : 102 - 103.
المرحلة الأُولى : في بيان مفهوم الدرك

الدرك في اللغة : اللحوق والوصول وليس بمعنى الرؤية ، ولو أريد منه الرؤية فإنّما هو باعتبار قرينية المتعلّق.

قال ابن فارس : الدرك له أصل واحد (أي معنى واحد) وهو لحوق الشيء بالشيء ووصوله إليه ، يقال : أدرك الغلام والجارية إذا بلغا ، وتدارك القوم : لحق آخرهم أوّلهم. (1)

وذكر ابن منظور نحو ما ذكره ابن فارس وأضاف : ففي الحديث أعوذ بك من درك الشقاء أي لحوقه ، يقال : مشيت حتّى أدركته ، وعشت حتّى أدركته ، وأدركته ببصري أي رأيته. (2)

ومنه قوله سبحانه : (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ). (3) أي حتّى إذا لحقهم الغرق فأظهروا الإيمان ولات حين مناص.

إذا كان الدرك بمعنى اللحوق والوصول فدرك كلّ شيء ووصوله بحسبه ، فالإدراك بالبصر ، التحاق من الرائي بالمرئي بالبصر ، والإدراك بالمشي كما في قول ابن منظور مشيت حتى أدركت ، التحاق الماشي المتأخر بالمتقدّم بالمشي ، وهكذا.

فإذا قال سبحانه : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) يتعيّن ذلك المعنى الكلّي ، أي اللحوق والوصول بالرؤية ، ويكون المعنى انّ الأبصار لا تلحق بالله بالرؤية ، فإنّ لحوق البصر يتحقّق عن طريق الرؤية ، وهذا الوصف ممّا تفرّد به سبحانه.

ص : 230


1- مقاييس اللغة : 2 / 366.
2- لسان العرب : 10 / 419 ، نفس المادة.
3- يونس : 90.
الثانية : في مفهوم الآيتين

إنّه سبحانه لما قال : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) ربّما يتبادر إلى بعض الأذهان انّه إذا صار وكيلاً على كلّ شيء ، يكون جسماً قائماً بتدبير الأُمور الجسمانية ، فدفعه بأنّه سبحانه مع كونه وكيلاً لكلّ شيء (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ).

ولما يتبادر من ذلك الوصف إلى بعض الأذهان انّه إذا تعالى عن تعلّق الابصار فقد خرج عن حيطة الأشياء الخارجية وبطل الربط الوجودي الذي هو مناط علمه بمخلوقاته ، دفعه بقوله : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) مشيراً إلى وجود الربط الذي هو مناط علمه بهم.

ثمّ علّله بقوله : (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) و «اللطيف» هو الرقيق النافذ في الشيء ، و «الخبير» من له الخبرة الكاملة ، فإذا كان تعالى محيطاً بكلّ شيء لرقته ونفوذه في الأشياء كان شاهداً على كلّ شيء لا يفقده ظاهر كلّ شيء وباطنه ، ومع ذلك فهو عالم بظواهر الأشياء وبواطنها من غير أن يشغله شيء عن شيء أو يحتجب عنه شيء بشيء.

وبعبارة أُخرى : انّ الأشياء في مقام التصوّر على أصناف :

1. ما يَرى ويُرى ، كالإنسان.

2. ما لا يَرى ولا يُرى ، كالأعراض النسبية كالأُبوّة والبنوة.

3. ما يُرى ولا يَرى كالجمادات.

4. ما يَرى ولا يُرى ، وهذا القسم تفرّد به خالق جميع الموجودات بأنّه يَرى ولا يُرى ، والآية بصدد مدحه وثنائه ، بأنّه جمع بين الأمرين يَرى ولا يُرى إلاّ بالشقّ

ص : 231

الأوّل وحده نظير قوله سبحانه : (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ). (1) ودلالة الآية على انّه سبحانه لا يُرى بالأبصار بمكان من الوضوح.

الآية الثانية : الرؤية إحاطة علمية بالله سبحانه

قال سبحانه : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً * يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً). (2)

إنّ الآية تتركب من جزءين :

الأوّل : قوله : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ).

الثاني : قوله : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً).

والضمير المجرور في قوله : «به» يعود إلى الله سبحانه.

ومعنى الآية : الله يحيط بهم لأنّه : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) ويكون معادلاً لقوله : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) ولكنّهم (لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) ويساوي قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ).

وأمّا كيفية الاستدلال فبيانها انّ الرؤية سواء أوقعت على جميع الذات أم على جزء منه ، نوع إحاطة علمية من البشر به سبحانه ، وقد قال : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً).

ص : 232


1- الأنعام : 14.
2- طه : 110109.
الآية الثالثة : ردّ السؤال بنفي الرؤية مؤبّداً
اشارة

قال سبحانه : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ). (1)

لا شكّ إنّنا إذا عرضنا الآية على عربي صميم لم يتأثّر ذهنه بالمناقشات الكلامية الدائرة بين النفاة والمثبتين وطلبنا منه أن يبيّن الإطار العام للآية ومفادها ومنحاها وانّها بصدد بيان امتناع الرؤية أو جوازها ، يجيب بصفاء ذهنه بأنّ الإطار العام لها هو تعاليه سبحانه عن الرؤية وانّ سؤاله أمر عظيم فظيع لا يمحى أثره إلاّ بالتوبة ، ففهم ذلك العربي حجة علينا لا يجوز لنا العدول عنها ، والقرآن نزل بلسان عربي مبين ولم ينزل بلسان المتكلّمين أو المجادلين.

كما أنّا إذا أردنا أن نفسر مفاد الآية تفسيراً صناعياً ، فلا شكّ أنّه يدلّ أيضاً على تعاليه عنها وذلك بوجوه :

1. الإجابة بالنفي المؤبّد

لمّا سأل موسى رؤية الله تبارك وتعالى أُجيب ب (لَنْ تَرانِي) والمتبادر من هذه الجملة أي قوله (لَنْ تَرانِي) هو النفي الأبدي الدالّ على عدم تحقّقها أبداً.

ص : 233


1- الأعراف : 143.

والدليل على ذلك هو تتبّع موارد استعمال كلمة «لن» في الذكر الحكيم ، فلا تراها متخلّفة عن ذلك حتّى في مورد واحد.

1. قال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ). (1)

2. (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ). (2)

3. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ). (3)

4. (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ). (4)

5. (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ). (5)

6. (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا). (6)

إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في أنّ «لن» تفيد التأبيد.

2. تعليق الرؤية على أمر غير واقع

علّق سبحانه الرؤية على استقرار الجبل وبقائه على الحالة التي هو عليها عند التجلّي ، وعدم تحوّله إلى ذرات ترابية صغار بعده ، والمفروض انّه لم يبق على حالته السابقة وبطلت هويته وصار تراباً مدكوكاً ، فإذا انتفى المعلّق عليه ينتفي

ص : 234


1- الحج : 73.
2- التوبة : 80.
3- محمد : 34.
4- المنافقون : 6.
5- البقرة : 120.
6- التوبة : 83.

المعلّق ، وهذا النوع من الكلام طريقة معروفة حيث يعلّقون وجود الشيء بما يعلم أنّه لا يكون والله سبحانه بما أنّه يعلم أنّ الجبل لا يستقرّ في مكانه - بعد التجلّي - فيعلّق الرؤية على استقراره ، حتّى يستدلّ بانتفائه على انتفائه ، قال سبحانه : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ). (1)

3. تنزيهه سبحانه - بعد الافاقة - عن الرؤية

تذكر الآية بأنّ موسى لما أفاق فأوّل ما تكلّم به هو تسبيحه سبحانه وتنزيهه وقال : (سُبْحانَكَ) ، وذلك لأنّ الرؤية لا تنفك عن الجهة والجسمية وغيرهما من النقائص ، فنزّه سبحانه عنها ، فطلبها نوع تصديق لها.

4. توبته لأجل طلب الرؤية
اشارة

إنّه - عليه السلام - بعد ما أفاق ، أخذ بالتنزيه أوّلاً ، والتوبة والإنابة إلى ربّه ثانياً ، وظاهر الآية انّه تاب من سؤاله كما أنّ الظاهر من قوله : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) أنّه أوّل المصدّقين بأنّه لا يُرى بتاتاً.

إجابة عن سؤال

إنّ سؤال الرؤية من الكليم دليل على إمكانها ، فلو كان أمراً محالاً لما سألها.

والجواب عن الشبهة واضح ، فإنّ الاستدلال بطلب موسى إنّما يصحّ إذا طلبها الكليم باختيار ومن دون ضغط من قومه ، فعندئذ يصلح للتمسّك به ظاهراً ، لكن القرائن تشهد على أنّه سأل الرؤية على لسان قومه حين كانوا مصرّين على ذلك.

ص : 235


1- الأعراف : 40.

ويدلّ عليه قوله سبحانه : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ). (1)

وبعد ما عادوا إلى الحياة بدعاء موسى طلبوا منه أن يسأل الرؤية لنفسه لا لهم حتّى تحلّ رؤيته لله مكان رؤيتهم كما حلّ سماعه للوحي سبحانه محلّ سماعهم لكلامه تعالى حتّى يؤمنوا به.

فعند ذاك لم يكن لموسى محيص إلاّ الإقدام على السؤال وقال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) فأجيب بقوله : (لَنْ تَرانِي).

وعلى ذلك ما كان طلب الرؤية إلاّ ليكبت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضُلاّلاً وتبرّأ من فعلهم ، وذلك أنّهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخطأ ونبّههم على الحقّ فلجّوا وتمادوا في لجاجهم ، وقالوا لا بدّ ولن نؤمن حتّى نرى الله جهرة ، فأراد أن يسمعوا النص من عند الله باستحالة ذلك وهو قوله : (لَنْ تَرانِي) ليتيقّنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة ، فلذلك قال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ). (2)

إلى هنا تمت دراسة الآيات الصريحة في امتناع رؤية الله تبارك وتعالى بطرق مختلفة ، ومن أمعن فيها وتجرد عن العقيدة التي تربّى عليها منذ نعومة أظفاره لرأى انّ الذكر الحكيم صريح في تعاليه سبحانه عن أن يقع في إطار الرؤية وأنّ طلب الرؤية تمنّي باطل.

ص : 236


1- النساء : 153.
2- الزمخشري : الكشاف : 1 / 573 - 574.

6- الرؤية في كلمات أئمّة أهل البيت عليهم السلام

إنّ المراجع إلى خطب الإمام علي - عليه السلام - في التوحيد وما أُثر عن أئمّة العترة الطاهرة في مجال الرؤية ، يقف على أنّ مذهبهم هو امتناعها وانّه سبحانه لا تدركه أوهام القلوب ، فكيف بأبصار العيون؟ وإليك نزراً يسيراً ممّا ورد في هذا الباب.

1. قال الإمام علي - عليه السلام - في خطبة الأشباح : «الأوّل الذي لم يكن له قبل فيكون شيء قبله ، والآخر الذي ليس له بعد فيكون شيء بعده ، والرادع أناسي الأبصار عن أن تناله أو تدركه». (1)

2. وقد سأله ذعلب اليماني ، فقال : هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟ فقال - عليه السلام - : «أفأعبد ما لا أرى؟» فقال : وكيف تراه؟ فقال : «لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان ، قريب من الأشياء غير ملابس ، بعيد منها غير مباين». (2)

3. وقال - عليه السلام - : «الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد ، ولا تحويه المشاهد ، ولا تراه النواظر ، ولا تحجبه السواتر». (3)

ص : 237


1- نهج البلاغة ، الخطبة 87.
2- نهج البلاغة ، الخطبة 174.
3- نهج البلاغة ، الخطبة 180.

إلى غير ذلك من خطبه - عليه السلام - الطافحة بتقديسه وتنزيهه عن إحاطة القلوب والأبصار به. (1)

وأمّا المروي عن سائر أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - فحدث عنه ولا حرج.

1. روى الصدوق عن عبد الله بن سنان ، عن أبيه قال : حضرت أبا جعفر (محمد الباقر) - عليه السلام - فدخل عليه رجل من الخوارج فقال له : يا أبا جعفر أيّ شيء تَعبد؟ قال : «الله» ، قال : رأيته؟ قال : «لم تره العيون بمشاهدة العيان ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ، لا يُعرف بالقياس ولا يُدرك بالحواس ، ولا يُشبه بالناس ، موصوف بالآيات ، معروف بالعلامات ، لا يجور في حكمه ، ذلك الله لا إله إلاّ هو» قال : فخرج الرجل وهو يقول : الله أعلم حيث يجعل رسالته. (2)

2. روى الصدوق عن أبي الحسن الموصلي ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : «جاء حبر إلى أمير المؤمنين - عليه السلام - فقال : يا أمير المؤمنين هل رأيت ربّك حين عبدته؟ فقال : ويلك ما كنت أعبد ربّاً لم أره ، وقال : كيف رأيته؟ قال : ويلك لا تُدرِكه العيون بمشاهدة الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان». (3)

3. ما روي عن الإمام علي بن موسى الرضا - عليه السلام - في مناظرته مع أحد المحدّثين باسم أبي قرة ، ذكر أبو قرة الحديث الموروث عن الحبر الماكر كعب الأحبار من أنّه سبحانه قسم الرؤية والكلام بين نبيّين فقسّم لموسى - عليه السلام - الكلام ولمحمّد - صلى الله عليه وآله وسلم - الرؤية.

فقال أبو الحسن - عليه السلام - : «فمن المبلّغ عن الله إلى الثقلين الجن والإنس إنّه (لا

ص : 238


1- لاحظ الخطبتين 48 و 81.
2- التوحيد : 108 ، باب ما جاء في الرؤية الحديث 5 ، والسائل كان من الخوارج.
3- التوحيد : 109 ، الحديث 6. والسائل أحد أحبار اليهود.

تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ، (لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أليس محمّد - صلى الله عليه وآله وسلم -؟» قال : بلى.

قال أبو الحسن - عليه السلام - : «فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم انّه جاء من عند الله ، وانّه يدعوهم إلى الله بأمر الله ، ويقول إنّه : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ، (لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ثمّ يقول : أنا رأيته بعيني وأحطت به علماً وهو على صورة البشر ، أما تستحيون؟! أما قدرت الزنادقة ان ترميه بهذا ، أن يكون أتى عن الله بأمر ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر». (1)

ص : 239


1- الاحتجاج : 2 / 375.

7- شبهات القائلين بالرؤية

إنّ للقائلين بالرؤية في الآخرة شبهات ربّما يغتر بها من ليس له إلمام بالكتاب والسنّة فيتصوّر المغالطة دليلاً ، نذكر منها ما هو المهم ، وهو :

قوله سبحانه : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ)

استدلّوا على تحقّق الرؤية في الآخرة بهذا المقطع الوارد في الآيات التالية :

(كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ). (1)

يقول المستدل : إنّ النظر إذا كان بمعنى الانتظار يستعمل بغير صلة ، ويقال : انتظرته ، وإذا كان بمعنى التفكّر يستعمل بلفظة «في» ، وإذا كان بمعنى الرأفة يستعمل بلفظة «اللام» ، وإذا كان بمعنى الرؤية استعمل بلفظة «إلى» فيحمل على الرؤية. (2)

أقول : سواء أقلنا إنّ النظر في الآية بمعنى الانتظار أو قلنا بمعنى الرؤية ،

ص : 240


1- القيامة : 2520.
2- شرح التجريد للقوشجي : 334.

فالآية لا تدلّ على جواز الرؤية يوم القيامة بتاتاً ، وذلك لوجوه :

الأوّل : انّه سبحانه نسب النظر إلى الوجوه لا إلى العيون ، فلم يقل عيون يومئذ ناظرة إلى ربّها ناضرة ، بل قال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) ، فلو كان المراد الجدي هو الرؤية الحسّية لكان المتعيّن استخدام العيون بدل الوجوه ، وأنت لا تجد في الأدب العربي قديمه وحديثه مورداً نسب فيه النظر إلى الوجوه وأُريدت به الرؤية الحسية بالعيون والأبصار ، بل كلّما أُريد منه الرؤية نسب إلى العيون أو الأبصار.

يقول سبحانه : (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ). (1)

وقال سبحانه : (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها). (2)

وقال سبحانه : (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ). (3)

فأداة الرؤية في القرآن الكريم هي العين والبصر لا الوجه ، يقول سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ). (4)

الثاني : نحن نوافق المستدلّ بأنّ النظر إذا استعمل مع إلى يكون بمعنى الرؤية ، لكن ربّما تكون الرؤية كناية عن معنى آخر ، فعندئذ يكون المقصود الحقيقي هو المكنّى عنه لا المكنّى به.

مثلاً إذا أردنا وصف زيد بالجود يقال : «زيد كثير الرماد» ، فالمعنى اللغوي ذم حيث يحكي عن كثرة النفايات في الدار ، ولكن المعنى المكنّى عنه الذي هو المتبادر العرفي هو مدح يحكي عن جوده وسخائه ، فالعبرة في تفسير الآية هو المراد الجدي لا المراد الاستعمالي.

ص : 241


1- آل عمران : 13.
2- الأعراف : 179.
3- النور : 31.
4- المؤمنون : 87.

والآية الكريمة - أعني قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) - من هذا القبيل فهو حسب الإرادة الاستعمالية بمعنى وجوه ناظرة إلى الله سبحانه أي رائية له ، ولكنّه كناية عن انتظار الرحمة أو العذاب مثلاً : يقول الشاعر :

وجوه ناظرات يوم بدر *** إلى الرحمن يأتي بالفلاح

فلا يشكّ الإنسان انّ قوله : «وجوه ناظرات» بمعنى رائيات ، ولكنّه كُنّي به عن انتظار النصر والفتح.

ومنه الشعر التالي :

أني إليك لما وعدت لناظر *** نظر الفقير إلى الغني الموسر

لا شكّ انّ المراد من النظر في كلا الموردين هو الرؤية ، استعمالاً ، ولكنّه كناية عن انتظار إنجاز الوعد ووصول العطاء.

والحاصل : انّ النظر إذا أُسند إلى العيون يكون المعنى الاستعمالي والجدي هو الرؤية ، ولكن إذا أُسند إلى الشخص أو الوجه تكون بمعنى الرؤية استعمالاً ويكون كناية عن الانتظار جداً ، مثلاً يقال : أنا إلى فلان ناظر ما يصنع به ، يريد معنى التوقع والرجاء.

ينقل الزمخشري انّه سمع سروية مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم ، تقول : «عيينتي نويظرة إلى الله وإليكم» تقصد راجية ومتوقعة لإحسانهم إليها كما هو معنى قولهم : «أنا أنظر إلى الله ثمّ إليك» أتوقع فضل الله ثمّ فضلك. (1)

ص : 242


1- الكشاف : 3 / 294.

الثالث : كان على من يستدلّ بالآية أن يرفع إبهامها بمقابلها ، فإنّ الآيات تتألف من ثلاث مقاطع متقابلة ، بالنحو التالي :

1. (كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) يقابلها (وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ).

2. (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) يقابلها (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ).

3. (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) يقابلها (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ).

فقوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) كما ترى يقابلها قوله : (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) ، فبما انّ الجملة المقابلة صريحة في أنّ أصحاب الوجوه الباسرة ينتظرون العذاب الكاسر لظهرهم ويظنون نزوله ومثل هذا الظن لا ينفك عن الانتظار ، فتكون قرينة على أنّ أصحاب الوجوه المشرقة ينظرون إلى ربّهم ، أي يرجون رحمته ، حتّى تكون الجملة متقابلة لمقابلها.

وإلاّ فلو حمل قوله سبحانه : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) إلى رؤية الله خرجت الجملة عن التقابل ويعود كلاماً عارياً عن البلاغة ويكون مفاد المتقابلين كالشكل التالي :

أصحاب الوجوه الناضرة ...... ينظرون إلى الله ويرونه سبحانه.

أصحاب الوجوه الباسرة ...... ينتظرون نزول العذاب والنقمة.

وهو كما ترى لا يليق أن ينسب إلى الوحي.

على أنّك تجد هذا التقابل والانسجام في آيات أُخرى وكأنّ الجميع سبيكة واحدة.

1. (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) (ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ).

2. (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ) (تَرْهَقُها قَتَرَةٌ). (1)

ص : 243


1- عبس : 4138.

فإنّ قوله : (ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) قائم مقام قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) فيرفع إبهام الثاني بالأوّل.

3. (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ * تَصْلى ناراً حامِيَةً). (1)

4. (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) (لِسَعْيِها راضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ). (2)

انظر إلى الانسجام البديع ، والتقابل الواضح بينها ، والاستهداف الواحد ، والجميع بصدد تصنيف الوجوه يوم القيامة ، إلى ناضرة ومسفرة ، وناعمة وإلى باسرة ، وسوداء (غبرة) وخاشعة.

أفبعد هذا البيان يبقى الشكّ في أنّ المراد من (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) هو انتظار الرحمة ، والقائل بالرؤية يتمسّك بهذه الآية ويغض النظر عمّا حولها من الآيات ، ومن المعلوم أنّ هذا من قبيل محاولة إثبات المدّعى بالآية ، لا محاولة الوقوف على مفادها.

وفي الختام أرى من الجدير بالذكر أن أنقل الحوار القصير الذي دار بيني وبين أحد المثقّفين في تركيا ، وكان يُجيد اللغتين التركية والعربية والثانية كانت لغته الأُمّ ، لأنّه كان من الإسكندرونة المحتلّة - حسب زعم السوريين - ، وقد كان يرافقني عند ما حللت ضيفاً على تركيا لإلقاء محاضرة في المؤتمر الذي انعقد لبيان أحكام السفر ، وقد استرسلنا في الحوار إلى أن سألني عن رؤية الله تبارك وتعالى في الآخرة؟

فأجبته بالنفي.

قال : لما ذا؟

ص : 244


1- الغاشية 42.
2- الغاشية : 108.

قلت له : هل يُرى سبحانه كلّه أو بعضه.

فعلى الأوّل يكون الرائي محيطاً والله سبحانه محاطاً مع أنّه تعالى محيط بكلّ شيء.

وعلى الثاني يكون مركباً ذا أجزاء تكون بعض أجزائه غائبة من البعض الآخر والحاجة آية الإمكان وهو آية الفقر والحاجة الذي هو على طرف النقيض من الله الغني.

فتحيّر السائل من جوابي هذا ولم يجب بشيء.

ص : 245

8- رؤيته تعالى في الأحاديث النبوية

اشارة

قد تعرّفت على موقف الكتاب من رؤيته سبحانه وأنّه كلّما يذكر الرؤية وسؤالها وطلبها ، يستعظمه ويستفظعه إجمالاً ، وعند ما يطرحها تفصيلاً ، يعدّها أمراً محالاً ، كما عرفت أنّ ما تمسك به القائلون بجواز الرؤية من الآيات لا يدلّ على ما يدّعون.

بقي الكلام في الروايات الواردة حول الرؤية في الصحاح والمسانيد ، ودلالتها على المطلوب واضحة كما ستوافيك ، لكن الكلام في حجية الروايات التي تضاد الذكر الحكيم ، وتباينه ، فإذا كان الكتاب العزيز مهيمناً على سائر الكتب فلما ذا لا يكون مهيمناً على السنن المروية عن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - التي دوّنت بعد مضي 143 سنة من رحيله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولم تَصُن عن دسّ الأحبار والرهبان؟! قال سبحانه : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ) (1) وقال تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (2) ولا يعني ذلك ، حذف السنّة من الشريعة ورفع شعار : حسبنا كتاب الله ، بل يعني التأكد من

ص : 246


1- المائدة : 48.
2- النمل : 76.

الصحّة ثم تطبيق العمل عليها.

وإليك ما ورد في الصحاح حول الرؤية :

روى البخاري في باب «الصراط جسر جهنم» بسنده عن أبي هريرة قال : قال أُناس : يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ فقال : «هل تضارّون في الشمس ليس دونها سحاب؟» قالوا : لا يا رسول الله ، قال : «هل تضارّون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟» قالوا : لا يا رسول الله ، قال : «فإنّكم ترونه يوم القيامة ، كذلك يجمع الله الناس فيقول : من كان يعبد شيئاً فليتبعه ، فيتبع من كان يعبد الشمسَ ، ويتبع من كان يعبد القمر ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت ، وتبقى هذه الأُمّة فيها منافقوها ، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربّنا فإذا أتانا ربّنا عرفناه فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : أنت ربّنا فيتبعونه ويضرب جسر جهنم ... - إلى أن يقول : - ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار فيقول : يا ربّ قد قشبني ريحها ، وأحرقني ذكاؤها ، فاصرف وجهي عن النار ، فلا يزال يدعو الله فيقول : لعلّك إن أعطيتك أن تسألني غيره.

فيقول : لا وعزتك لا أسألك غيره ، فيصرف وجهه عن النار ، ثم يقول بعد ذلك : يا رب قرّبني إلى باب الجنة ، فيقول : أليس قد زعمت أن لا تسألني غيره؟ ويلك ابن آدم ما أغدرك ، فلا يزال يدعو فيقول : لعلّي إن أعطيتك ذلك تسألني غيره ، فيقول : لا وعزتك لا أسألك غيره ، فيعطي الله من عهود ومواثيق أن لا يسأله غيره ، فيقرّبه إلى باب الجنّة فإذا رأى ما فيها ، سكت ما شاء الله أن يسكت ، ثم يقول : ربي أدخلني الجنّة ، ثم يقول : أو ليس قد زعمت أن لا تسألني غيره ، ويلك يا ابن آدم ما أغدرك ، فيقول : يا رب لا تجعلني أشقى خلقك ، فلا يزال يدعو حتى

ص : 247

يضحك (الله) فإذا ضحك منه أذن له بالدخول فيها ... الحديث. (1)

ورواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة مع اختلاف يسير (2).

ورواه أيضاً عن أبي سعيد الخدري باختلاف غير يسير في المتن وفيه : حتى إذا لم يبق إلاّ من كان يعبد الله تعالى من برّ وفاجر أتاهم ربّ العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها ، قال : فما تنتظر تتبع كل أُمّة ما كانت تعبد ، قالوا : يا ربّنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنّا إليهم ولم نصاحبهم ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك ، لا نشرك بالله شيئاً ، مرتين أو ثلاثاً حتى أنّ بعضهم ليكاد أن ينقلب ، فيقول : هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ فيقولون : نعم ، فيكشف عن ساق ، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه ، إلاّ أذن الله له بالسجود ، ولا يبقى من كان يسجد اتقاءً ورياءً إلاّ جعل الله ظهره طبقة واحدة ، كلما أراد أن يسجد خرّ على قفاه ... الحديث. (3)

وقد نقل الحديث في مواضع من الصحيحين بتلخيص ، ورواه أحمد في مسنده (4)

تحليل الحديث

إنّ هذا الحديث مهما كثرت رواته ، وتعددت نقلته لا يصح الركون إليه في منطق الشرع والعقل بوجوه :

1. إنّه خبر واحد لا يفيد شيئاً في باب الأُصول والعقائد ، وإن كان مفيداً في

ص : 248


1- البخاري : الصحيح : 8 / 117 باب الصراط جسر جهنم.
2- مسلم : الصحيح : 1 / 113 ، باب معرفة طريق الرؤية.
3- مسلم : الصحيح : 1 / 115 ، باب معرفة طريق الرؤية.
4- أحمد بن حنبل : المسند : 2 / 368.

باب الفروع والأحكام ، إذ المطلوب في الفروع هو الفعل والعمل ، وهو أمر ميسور سواء أذعن العامل بكونه مطابقاً للواقع أو لا ، بل يكفي قيام الحجّة على لزوم تطبيق العمل عليه ، ولكن المطلوب في العقائد هو الإذعان وعقد القلب ونفي الريب والشك عن وجه الشيء ، وهو لا يحصل من خبر الواحد ولا من خبر الاثنين ، إلاّ إذا بلغ إلى حدّ يُورِث العلم والإذعان ، وهو غير حاصل بنقل شخص أو شخصين.

2. إنّ الحديث مخالف للقرآن ، حيث يثبت لله صفات الجسم ولوازم الجسمانية كما سيوافيك بيانه عن السيد الجليل شرف الدين - رحمه الله -.

3. ما ذا يريد الراوي في قوله : «فيأتي الله في غير الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربكم»؟! فكأنَّ لله سبحانه صوراً متعددة يعرفون بعضها ، وينكرون البعض الآخر ، وما ندري متى عرفوا التي عرفوها ، فهل كان ذلك منهم في الدنيا ، أو كان في البرزخ أم في الآخرة؟!

4. ما ذا يريد الراوي من قوله : «فيقولون : نعم ، فيكشف عن ساق ، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه ...»؟ فإنّ معناه أنّ المؤمنين والمنافقين يعرفونه سبحانه بساقه ، فكانت هي الآية الدالّة عليه.

5. كفى في ضعف الحديث ما علّق عليه العلاّمة السيد شرف الدين - رحمه الله - حيث قال : إنّ الحديث ظاهر في أنّ لله تعالى جسماً ذا صورة مركّبة تعرض عليها الحوادث من التحوّل والتغيّر ، وأنّه سبحانه ذو حركة وانتقال ، يأتي هذه الأُمّة يوم حشرها ، وفيها مؤمنوها ومنافقوها ، فيرونه بأجمعهم ماثلاً لهم في صورة غير الصورة التي كانوا يعرفونها من ذي قبل. فيقول لهم : أنا ربكم ، فينكرونه متعوذين بالله منه ، ثم يأتيهم مرّة ثانية في الصورة التي يعرفون. فيقول لهم : أنا ربكم ، فيقول

ص : 249

المؤمنون والمنافقون جميعاً : نعم ، أنت ربّنا. وإنّما عرفوه بالساق ، إذ كشف لهم عنها ، فكانت هي آيته الدالة عليه ، فيتسنّى حينئذ السجود للمؤمنين منهم ، دون المنافقين ، وحين يرفعون رءوسهم يرون الله ماثلاً فوقهم بصورته التي يعرفون لا يمارونَ فيه ، كما كانوا في الدنيا لا يُمارون في الشمس والقمر ، ماثلين فوقهم بجرميهما النيرين ليس دونهما سحاب ، وإذا به ، بعد هذا يضحك ويعجب من غير معجب ، كما هو يأتي ويذهب إلى آخر ما اشتمل عليه الحديثان ممّا لا يجوز على الله تعالى ، ولا على رسوله ، بإجماع أهل التنزيه من أشاعرة وغيرهم ، فلا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم. (1)

2. روى البخاري في كتاب الصلاة ، باب مواقيت الصلاة ، وفضيلتها عن قيس (بن أبي حازم) عن جرير قال : كنّا عند النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فنظر إلى القمر ليلة - يعني البدر - فقال : إنّكم ترون ربّكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثمّ قرأ : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) (2).

وحديث قيس بن أبي حازم مع كونه مضاداً للكتاب ضعيف من جانب السند وإن رواه الشيخان ، ويكفي فيه وقوع قيس بن أبي حازم في سنده ، ترجمه ابن عبد البر وقال : قيس بن أبي حازم الأحمسي جاهلي إسلامي لم ير النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في عهده وصدق إلى مصدِّقه ، وهو من كبار التابعين ، مات سنة ثمان أو سبع وتسعين وكان

ص : 250


1- كلمة حول الرؤية : 65 ، وهي رسالة قيّمة في تلك المسألة وقد مشينا على ضوئها - رحم الله مؤلفها رحمة واسعة -.
2- البخاري : الصحيح : 1 / 111 - 115 ، الباب 26 و 35 من أبواب المواقيت الصلاة ، طبع مصر ، ورواه مسلم في صحيحه لاحظ : صحيح مسلم بشرح النووي : 5 / 136 وغيرهما.

عثمانياً. (1)

وقال الذهبي : قيس بن أبي حازم عن أبي بكر وعمر ، ثقة حجة كاد أن يكون صحابياً ، وثّقه ابن معين والناس ، وقال علي بن عبد الله عن يحيى بن سعيد : منكر الحديث ، ثم سمّى له أحاديث استنكرها ، وقال يعقوب الدوسي : تكلّم فيه أصحابنا ، فمنهم من حمل عليه ، وقال : له مناكير ، فالذين أطروه عدّوها غرائب وقيل : كان يحمل على عليّ - رضي الله عنه - إلى أن قال : والمشهور أنّه كان يقدم عثمان ، وقال إسماعيل : كان ثبتاً قال : وقد كبر حتى جاوز المائة وخرف. (2)

وقد تقدم أنّ العدل والتنزيه علويان ، كما أنّ الجبر والتشبيه أمويان ، وهل يصح في ميزان النصفة الأخذ برواية رجل عثماني الهوى ، معرضاً عن الإمام علي - عليه السلام - ، وعاش حتى خرف؟! أو أنّ الواجب ضربها عرض الحائط؟

نرجو من الله سبحانه أن تكون هذه البحوث مصباحاً منيراً للشباب المتطلّعين إلى الحقيقة الذين استهدفوا من قبل أعداء الإسلام بغية سلب هويتهم وأصالتهم الإسلامية.

ص : 251


1- الاستيعاب : 3 برقم 2126.
2- ميزان الاعتدال : 3 برقم 6908.

ص : 252

الفصل السادس: عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

اشارة

ص : 253

ص : 254

1- العصمة في اللغة والاصطلاح

اشارة

العصمة في اللغة بمعنى الإمساك والمنع ، قال ابن فارس : عصم له أصل واحد يدلّ على إمساك ومنع ، من ذلك العصمة ، أن يعصم الله تعالى عبده من سوء يقع فيه.

وأمّا اصطلاحاً ، فالعصمة هي المصونية عن الخطأ والعصيان وبهذا المعنى وصف سبحانه الملائكة الموكلين على الحجيم بقوله (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (1) ولا يجد الإنسان كلمة أوضح من قوله سبحانه : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) في تحديد حقيقة العصمة وواقعها في مجال الامتثال فالآية تنص على عصمة الملائكة في مجال التكليف ، وأمّا العصمة في مجال غير التكليف فالله سبحانه يصف الذكر الحكيم بقوله : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (2) فالآية تنص على مصونية القرآن من طروء الباطل عليه والخطأ من أقسام الباطل.

ص : 255


1- التحريم : 6.
2- فصلت : 42
مبدأ ظهور فكرة العصمة بين المسلمين

وبالامعان في هذه الآيات يظهر انّ العصمة بمفهومها البسيط (العصمة من العصيان والخطأ) مع قطع النظر عن موصوفها ، قد طرحها القرآن وألفتَ نظر المسلمين إليها من دون أن يحتاج علماؤهم إلى أخذ هذه الفكرة من الأحبار والرهبان.

وبذلك يعلم انّ مبدأ ظهور فكرة العصمة في الأُمة الإسلامية هي القرآن الكريم لا غير.

نعم انّ الموصوف في هذه الآيات وإن كانت هي الملائكة أو القرآن الكريم والمطروح عند علماء الكلام هو عصمة الأنبياء والأئمة ، لكن الاختلاف في الموصوف لا يضرّ بكون القرآن مبدأً لهذه الفكرة ، لانّ المطلوب هو الوقوف على منشأ تكوّن هذه الفكرة ، ثمّ تطورها عند المتكلّمين ويكفي في ذلك كون القرآن قد طرح هذه المسألة في حقّ الملائكة والقرآن.

على أنّ القرآن الكريم طرح عصمة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في غير واحد من آياته كما سيوافيك ، ويكفيك في المقام قوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى). (1)

فنرى الآيتين تشيران بوضوح إلى انّ النبي لا ينطق عن ميول نفسانية وان ما ينطق به ، وحي ألْقى في روعه وأُوحِي إلى قلبه ، ومن لا يتكلّم عن الميول النفسانية ويعتمد في منطقه على الوحي يكون مصوناً من الزلل في المرحلتين : مرحلة الأخذ والتبليع ، إذ قال سبحانه : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) ... (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى). (2)

ص : 256


1- النمل : 43.
2- النجم : 111. 17

وقد نرى جذور عصمة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في كلام الإمام علي حيث يصف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الخطبة القاصعة بقوله :

«ولقد قَرَن الله به مِنْ لدن أن كانَ فطيماً أعظمَ ملك من ملائكته ، يسلك به طريقَ المكارم ، ومحاسنَ أخلاق العالم ليله ونهاره». (1)

ودلالة هذه الجمل من هذه الخطبة على عصمة النبي في القول والعمل عن الخطأ والزلل واضحة فانّ من ربّاه أعظم ملك من ملائكة الله سبحانه من لدن أن كان فطيماً ، إلى أُخريات حياته الشريفة ، لا تنفك عن المصونية من العصيان والخطأ ، كيف وهذا الملك يسلك به طريق المكارم ، ويربّيه على محاسن أخلاق العالم ، ليلَه ونهارَه ، لا يعصي ولا ينحرف عن الجادة الوسطى وليست المعصية إلاّ سلوك طريق المآثم ومساوى الأخلاق ومن يسلك الطريق الأوّل يكون متجنباً عن سلوك الطريق الثاني.

هذه جذور المسألة في الكتاب العزيز وفي كلمات الإمام أمير المؤمنين ، ثمّ إنّ المتكلّمين هم الذين اهتموا بمسألة العصمة خصوصاً الإمامية والمعتزلة.

نعم لا يمكن أن ينكر انّ المناظرات التي دارت بين الإمام علي بن موسى الرضا وأهل المقالات من الفرق الإسلامية قد اعطت للمسألة مكانة خاصة ، فقد أبطل الإمام الرضا - عليه السلام - كثيراً من حجج المخالفين في مجال نفي العصمة عن الأنبياء عامة والنبي الأعظم خاصة ، ولو لا خوف الإطالة لأتينا ببعض هذه المناظرات التي دارت بين الإمام - عليه السلام - وأهل المقالات من الفرق الإسلامية.

هذا هو مفهوم العصمة لغة واصطلاحاً ومبدأ ظهوره وسيره في التاريخ.

نعم نجد المستشرق «رونالدوسن» ينسب فكرة ظهور العصمة في الإسلام

ص : 257


1- نهج البلاغة ، الخطبة 187.

إلى تطور علم الكلام عند الشيعة وانّهم أوّل من تطرق إلى بحث هذه العقيدة ووصف بها أئمّتهم. (1)

انّ هذا التحليل لا يبتني على أساس رصين وإنّما هو من الأوهام والأساطير التي اخترعتها نفسية الرجل وعداؤه للإسلام والمسلمين أوّلاً ، والشيعةُ أئمّتهم ثانياً.

وكم لهذا الرجل عثرات وأوهام في كتابه الذي أسماه «عقيدة الشيعة» وليس فيه من عقيدة الشيعة إلاّ شيئاً لا يذكر.

ص : 258


1- عقيدة الشيعة : 328.

2- تعريف العصمة وحقيقتها

اشارة

لا شكّ انّ الإنسان بالذات غير مصون عن الخطأ والنسيان ، والانحراف والعصيان ولذلك يصفه سبحانه بقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) (1) فلو بلغ الإنسان إلى مرحلة لا يعصي ولا يُخطِئ ولا يَنْسى فهو لأجل عامل خارجي عن ذاته يبلغ به إلى تلك الدرجة التي يعبّر عنها بالعصمة ، ولذلك عاد المحقّقون إلى تعريف العصمة بتعاريف يؤيد بعضها بعضاً.

فالعصمة عبارة عن لطف يفعله الله في المكلّف بحيث لا يكون له مع ذلك داع إلى ترك الطاعة ولا إلى فعل المعصية مع قدرته على ذلك ، ويحصل انتظام ذلك اللطف بأن يحصل له ملكة مانعة من الفجور والاقدام على المعاصي مضافاً إلى العلم بما في الطاعة من الثواب ، والعصمة من العقاب ، مع خوف المؤاخذة على ترك الأُولى ، وفعل المنهيّ. (2)

وربما تعرف بانّها قوّة تمنع الإنسان عن اقتراف المعصية والوقوع في الخطأ. (3)

ص : 259


1- العصر : 1.
2- إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين : 301 - 302.
3- الميزان : 2 / 142.

ثمّ إنّ العامل الذي يصدّ الإنسان عن اقتراف المعاصي بل عن ارتكاب الخطأ والنسيان أحد الأُمور الثلاثة التالية على وجه منع الخلو وليست بمانعة عن الجمع.

1. العصمة ، الدرجة القصوى من التقوى

العصمة ترجع إلى التقوى بل هي درجة عليا منها فما تُعرَّف به التقوى تُعرَّف به العصمة.

لا شك أنّ التقوى حالة نفسانية تعصم الإنسان عن اقتراف كثير من القبائح والمعاصي ، فإذا بلغت تلك الحالة إلى نهايتها تعصم الإنسان عن اقتراف جميع قبائح الأعمال ، وذميم الفعال على وجه الإطلاق ، بل تعصم الإنسان حتى عن التفكير في المعصية ، فالمعصوم ليس خصوص من لا يرتكب المعاصي ويقترفها بل هو من لا يحوم حولها بفكره.

إنّ العصمة ملكة نفسانية راسخة في النفس لها آثار خاصة كسائر الملكات النفسانية من الشجاعة والعفة والسخاء ، فإذا كان الإنسان شجاعاً وجسوراً ، سخياً وباذلاً ، وعفيفاً ونزيهاً ، يطلب في حياته معالي الأُمور ، ويتجنب عن سفاسفها فيطرد ما يخالفه من الآثار ، كالخوف والجبن والبخل والإمساك ، والقبح والسوء ، ولا يرى في حياته أثراً منها.

ومثله العصمة ، فإذا بلغ الإنسان درجة قصوى من التقوى ، وصارت تلك الحالة راسخة في نفسه ، يصل الإنسان إلى حد لا يُرى في حياته أثر من العصيان والطغيان ، والتمرّد والتجرّي ، وتصير ساحته نقية عن المعصية.

وأمّا أنّ الإنسان كيف يصل إلى هذا المقام؟ وما هو العامل الذي يُمكِّنُه من

ص : 260

هذه الحالة؟ فهو بحث آخر سنرجع إليه في مستقبل الأبحاث.

فإذا كانت العصمة من سنخ التقوى والدرجة العليا منها ، يسهل لك تقسيمها إلى العصمة المطلقة والعصمة النسبية.

فإنّ العصمة المطلقة وإن كانت تختص بطبقة خاصة من الناس لكن العصمة النسبيّة تعم كثيراً من الناس من غير فرق بين أولياء الله وغيرهم ، لأنّ الإنسان الشريف الذي لا يقل وجوده في أوساطنا ، وإن كان يقترف بعض المعاصي لكنه يجتنب عن بعضها اجتناباً تاماً بحيث يتجنب عن التفكير فيها فضلاً عن الإتيان بها.

مثلاً الإنسان الشريف لا يتجوّل عارياً في الشوارع والطرقات مهما بلغ تحريض الآخرين له على ذلك الفعل ، حتّى أنّ كثيراً من اللصوص لا يقومون بالسرقة في منتصف الليل متسلحين لانتهاب شيء رخيص ، كما أنّ كثيراً من الناس لا يقومون بقتل الأبرياء ولا بقتل أنفسهم وان عرضت عليهم مكافآت مادية كبيرة ، فإنّ الحوافز الداعية إلى هذه الأفاعيل المنكرة غير موجودة في نفوسهم ، أو أنّها محكومة ومردودة بالتقوى التي تحلّوا بها ، ولأجل ذلك صاروا بمعزل عن تلك الأفعال القبيحة حتى أنّهم لا يفكّرون فيها ولا يحدّثون بها أنفسهم أبداً.

والعصمة النسبية التي تعرفت عليها ، تقرّب حقيقة العصمة المطلقة في أذهاننا ، فلو بلغت تلك الحالة النفسانية الرادعة في الإنسان مبلغاً كبيراً ومرحلة شديدة بحيث تمنعه من اقتراف جميع القبائح ، يصير معصوماً مطلقاً ، كما أنّ الإنسان في القسم الأوّل يصير معصوماً نسبياً.

وعلى الجملة : إذا كانت حوافز الطغيان والعصيان والبواعث على المخالفة

ص : 261

محكومة عند الإنسان ، منفورة لديه لأجل الحالة الراسخة ، يصير الإنسان معصوماً تاماً منزهاً عن كل عيب وشين.

2. العصمة : نتيجة العلم القطعي بعواقب المعاصي

العلم القطعي بعواقب المعاصي والآثام ، يصدّ الإنسان عن اقترافها وارتكابها ، والمراد من هذا العلم ، هو بلوغ الإنسان من حيث الكمال درجة يلمس في هذه النشأة لوازم الأعمال وآثارها في النشأة الأُخرى وتبعاتها فيها ، وهذا النوع من العلم القطعي يزيل الحجب بين الإنسان وآثار العمل ، وكأنّه سبحانه يريد أمثال هذا العلم من قوله : (كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ). (1)

فمن رأى درجات أهل الجنّة ودركات أهل النار يكون مصوناً من الخلاف والعصيان ، وأصحاب هذا العلم هم الدين يصفهم الإمام علي - عليه السلام - بقوله : «فهم والجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون ، وهم والنار كمن قد رآها وهم فيها معذّبون». (2)

فإذا ملك الإنسان هذا النوع من العلم وانكشف له الواقع كشفاً قطعياً ، فهو لا يحوم حول المعاصي بل لا يفكر حوله.

ولأجل تقريب الذهن إلى أنّ العلم بأثر العمل السيئ يصدّ الإنسان عن اقترانه واقترافه نأتي بمثال :

«إنّ الإنسان إذا وقف على أنّ في الأسلاك الكهربائية طاقة ، من شأنها قتل الإنسان إذا مسّها من دون حاجز أو عائق بحيث يكون المسّ والموت مقترنين ، أحجمت نفسه عن مس تلك الاسلاك والاقتراف منها دون عائق.

ص : 262


1- التكاثر : 56.
2- نهج البلاغة ، 2 ، الخطبة 188 ، طبعة عبده.

هذا نظير الطبيب العارف بعواقب الأمراض وآثار الجراثيم ، فإنّه إذا وقف على ماء اغتسل فيه مصاب بالجذام أو البرص أو السلّ ، لم يقدم على شربه والاغتسال منه ومباشرته مهما اشتدّت حاجته إلى ذلك لعلمه بما يجرّ عليه الشربُ والاغتسالُ بذلك الماء الموبوء ، فإذا وقف الإنسان الكامل على ما وراء هذه النشأة من نتائج الأعمال وعواقب الفعال ورأى بالعيون البرزخية تبدل الكنوز المكتنزة من الذهب والفضة إلى النار المحماة التي تكوى بها جباه الكانزين وجنوبهم وظهورهم ، امتنع عن حبس الأموال والإحجام عن إنفاقها في سبيل الله.

قال سبحانه : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ). (1)

إنّ ظاهر قوله سبحانه : (هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) هو انّ النار التي تكوى بها جباه الكانزين وجنوبهم وظهورهم ، ليست إلاّ نفس الذهب والفضة ، لكن بوجودهما الأُخرويّين ، وأنّ للذهب والفضة وجودين أو ظهورين في النشأتين فهذه الأجسام الفلزية ، تتجلّى في النشأة الدنيوية في صورة الذهب والفضة ، وفي النشأة الأُخروية بصورة النيران المحماة.

فالإنسان العادي اللامس لهذه الفلزات المكنوزة وان كان لا يحس فيها الحرارة ولا يرى فيها النار ولا لهيبها ، إلاّ أنّ ذلك لأجل أنّه يفقد حين المس ، الحسَّ المناسب لدرك نيران النشأة الآخرة وحرارتها ، فلو فرض إنسان كامل يمتلك هذا الحس إلى جانب بقية حواسه العادية المتعارفة ويدرك بنحو خاص الوجه الآخر لهذه الفلزات ، وهو نيرانها وحرارتها ، يجتنبها ، كاجتنابه النيران الدنيوية ، ولا يُقدم

ص : 263


1- التوبة : 34 - 35.

على كنزها ، وتكديسها.

وهذا البيان يفيد انّ للعلم مرحلة قويّة راسخة تصد الإنسان عن الوقوع في المعاصي والآثام ولا يكون مغلوباً للشهوات والغرائز.

3. الاستشعار بعظمة الربّ وكماله وجماله

إنّ استشعار العبد بعظمة الخالق وتفانيه في حبّه ، يصدّه عن سلوك ما يخالف رضاه ، فانّ حبّه لجماله وكماله من العوامل الصادّة للعبد عن مخالفته.

إذا عرف الإنسان خالقه كمال المعرفة الميسورة ، وتعرَّف على معدن الكمال المطلق وجماله وجلاله ، وجد في نفسه انجذاباً نحو الحق ، وتعلّقاً خاصاً به بحيث لا يستبدل برضاه شيئاً ، فهذا الكمال المطلق هو الذي إذا تعرّف عليه الإنسان العارف ، يؤجج في نفسه نيران الشوق والمحبّة ، ويدفعه إلى أن لا يبغي سواه ، ولا يطلب سوى إطاعة أمره وامتثال نهيه. ويصبح كلّ ما يخالف أمره ورضاه منفوراً لديه ، مقبوحاً في نظره ، أشدّ القبح وعندئذ يصبح الإنسان مصوناً عن المخالفة ، بعيداً عن المعصية بحيث لا يؤثر على رضاه شيئاً وإلى ذلك يشير الإمام علي بن أبي طالب - عليه السلام - بقوله : «ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك إنّما وجدتك أهلاً للعبادة». (1)

هذه النظريات الثلاث أو النظرية الواحدة المختلفة في البيان والتقرير تعرب عن أنّ العصمة قوّة في النفس تعصم الإنسان عن الوقوع في مخالفة الرب سبحانه وتعالى ، وليست العصمة أمراً خارجاً عن ذات الإنسان الكامل وهوية الخارجية.

ص : 264


1- نقله في البحار : 41 / 14 من دون ذكر مصدره كما نقله في 68 / 186 عن بعض المحقّقين.

3- هل العصمة موهبة إلهية أو أمر اكتسابي

اشارة

قد وقفت على حقيقة «العصمة» والعوامل التي توجب صيانة الإنسان عن الوقوع في حبال المعصية ، ومهالك التمرّد والطغيان ، غير انّ هاهنا سؤالاً هاماً يجب الإجابة عنه وهو : أنّ العصمة سواء أفسّرت بكونها هي الدرجة العليا من التقوى ، أو بكونها العلم القطعي بعواقب المآثم والمعاصي ، أم فسّرت بالاستشعار بعظمة الرب وجماله وجلاله ، وعلى أيّ تقدير فهو كمال نفساني له أثره الخاص ، وعندئذ يُسأل عن أنّ هذا الكمال هل هو موهوب من الله لعباده المخلصين ، أو أمر حاصل للشخص بالاكتساب؟ فالظاهر من كلمات المتكلّمين انّها موهبة من مواهب الله سبحانه يتفضل بها على من يشاء من عباده بعد وجود أرضيات صالحة وقابليات مصحّحة لإفاضتها عليهم.

قال الشيخ المفيد : «العصمة تفضل من الله على من علم أنّه يتمسك بعصمته». (1)

ص : 265


1- شرح عقائد الصدوق ، 61.

وقال المرتضى : العصمة لطف الله الذي يفعله تعالى فيختار العبد عنده الامتناع عن فعل قبيح. (1)

فإذا كانت العصمة أمراً إلهياً وموهبة من مواهبه سبحانه ، فعندئذ هاهنا سؤال :

1. لو كانت العصمة موهبة من الله مفاضة منه سبحانه إلى رسله وأوصيائهم لم تعد عندئذ كمالاً ومفخرة للمعصوم حتّى يستحق بها التحميد ، فإنّ الكمال الخارج عن الاختيار كصفاء اللؤلؤ لا يستحق التحميد ، فإنّ الحمد إنّما يصحّ مقابل الفعل الاختياري وإليك الاجابة.

إفاضة العصمة بعد توفر أرضية صالحة

إنّ العصمة الإلهية لا تفاض للأفراد إلاّ بعد وجود قابليّات صالحة في نفس المعصوم تقتضي إفاضة تلك الموهبة إلى صاحبها ، تلك القابليات على قسمين : قسم خارج عن اختيار المعصوم ، وقسم واقع في إرادته واختياره ، امّا القسم الأوّل فيتلخص في عامل الوراثة والتربية.

أمّا الوراثة فهي القابليات التي ينتقل إلى المعصوم من آبائه وأجداده عن طريق الوراثة فإنّ الأولاد كما يرثون أموال الآباء وثرواتهم ، هكذا يرثون أوصافهم الظاهرية والباطنية ، فترى أنّ الولد يُشبه الأب أو العمّ ، أو الأُمّ أو الخال ، وقد جاء في المثل : الوالد الحلال يُشبه العمَّ أو الخالَ.

وعلى ذلك فالروحيات الصالحة أو السيئة تنتقل عن طريق الوراثة إلى الأولاد فنرى ولد الشجاع شجاعاً ، وولد الجبان جباناً إلى غير ذلك من الأوصاف

ص : 266


1- أمالي المرتضى : 2 / 347 ، ط مصر ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.

الجسمانية والروحانية.

إنّ الأنبياء كما يحدِّثنا التاريخ كانوا ربيبو البيوتات الصالحة العريقة بالفضائل والكمالات ، وما زالت تنتقل تلك الكمالات والفضائل الروحية من جيل إلى جيل وتتكامل إلى أن تتجسد في نفس النبي ويتولد هو بروح طيبة وقابلية كبيرة لإفاضة المواهب الإلهية علية.

وأمّا عامل التربية فإنّ الكمالات والفضائل الموجودة في بيتهم تنتقل عن طريق التربية إليهم ، ففي ظلّ ذينك العاملين (الوراثة والتربية) نرى كثيراً من أهل تلك البيوتات ذوي ايمان وأمانة ، وذكاء ودراية ، فهذه الكمالات الروحية توجد أرضية صالحة لإفاضة العصمة إلى أصحابها.

نعم هناك عامل ثالث لهذه الإفاضة ، وهو داخل في إطار الاختيار وحرّية الإنسان بخلاف العاملين السابقين وهو :

إنّ حياة الأنبياء من لدن ولادتهم إلى زمان بعثتهم ، مشحونة بالمجاهدات الفردية ، والاجتماعية ، فقد كانوا يجاهدون النفس

الأمارة أشدّ الجهاد ، ويمارسون تهذيب أنفسهم بل ومجتمعهم ، فهذا هو يوسف الصدّيق - عليه السلام - جاهد نفسه الأمارة وألجمها بأشد الوجوه عند ما راودته من هو في بيتها (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) فأجاب بالرد والنفي بقوله : (مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ). (1)

وهذا موسى كليم الله وجد في مدين امرأتين تذودان واقفتين على بعد من البئر ، فقدم إليهما قائلاً : ما خطبكما فقالتا : انا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير ، وعند ذلك لم يتفكر في شيء إلاّ في رفع حاجتهما ، ولأجل ذلك سقى لهما

ص : 267


1- يوسف : 23.

ثم تولّى إلى الظل قائلاً : (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (1). (2)

وكم هناك من شواهد تاريخية على جهاد الأنبياء وقيامهم بواجبهم إبّان شبابهم إلى زمان بعثتهم التي تصدت لذكرها الكتب السماوية وقصص الأنبياء وتواريخ البشر.

فهذه العوامل ، الداخل بعضها في إطار الاختيار والخارج بعضها عن إطاره ، أوجدت قابليات وأرضيات صالحة لإفاضة وصف العصمة عليهم وانتخابهم لذلك الفيض العظيم ، فعندئذ تكون العصمة مفخرة للنبي صالحة للتحسين والتبجيل والتكريم.

وإن شئت قلت : إنّ الله سبحانه وقف على ضمائرهم ونيّاتهم ومستقبل أمرهم ، ومصير حالهم وعلم أنّهم ذوات مقدسة ، لو أُفيضت إليهم تلك الموهبة ، لاستعانوا بها في طريق الطاعة وترك المعصية بحرية واختيار ، وهذا العلم كاف لتصحيح إفاضة تلك الموهبة عليهم بخلاف من يُعلَم من حاله خلافُ ذلك.

إنّ للسيد الشريف المرتضى كلاماً يؤيد ما ذكرناه ، يقول : كلّ من علم الله تعالى أن له لطفاً يختار عنده الامتناع من القبائح فإنّه لا بدّ أن يفعل به وإن لم يكن نبيّاً ، ولا إماماً ، لأنّ التكليف يقتضي فعل اللطف على ما دل عليه في مواضع كثيرة غير انّه لا يمتنع أن يكون في المكلفين من ليس في المعلوم أنّ شيئاً متى فعل ، اختار عنده الامتناع من القبيح ، فيكون هذا المكلف لا عصمة له في المعلوم ولا لطف ، وتكليف من لا لطف له يحسن ولا يقبح وانّما القبيح منع اللطف في من له

ص : 268


1- القصص : 23 - 24.
2- لاحظ قصة موسى في دفعه القبطي المعتدي على إسرائيلي في سورة القصص الآيات : 15 - 20 وفي ذلك يقول : (رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) القصص : 17.

لطف مع ثبوت التكليف. (1)

وحاصل ما أفاده هو : انّ الملاك في إفاضة هذا الفيض هو علمه سبحانه بحال الأفراد في المستقبل فكل من علم سبحانه أنّه لو أُفيض عليه وصف العصمة لاختار عنده الامتناع من القبائح ، فعندئذ تفاض عليه العصمة ، وان لم يكن نبياً ولا إماماً ، وأمّا من علم انّه متى أُفيضت إليه تلك الموهبة لما اختار عندها الامتناع من القبيح لما أُفيضت عليه العصمة لأنّه لا يستحق الإفاضة.

وعلى ذلك فوصف العصمة موهبة إلهية تفاض لمن يعلم من حاله انّه ينتفع منها في ترك القبائح عن حرية واختيار.

ولأجل ذلك يعد مفخرة قابلة للتحسين والتكريم ولا يلزم أن يكون المعصوم نبياً أو إماماً ، بل كل من ينتفع منها في طريق كسب رضاه سبحانه تفاض عليه.

ص : 269


1- أمالي المرتضى : 2 / 347 - 348 ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.

4- العصمة وسلب الاختيار

انّ من أبرز الشبهات الطارئة حول العصمة هي انّ العصمة تسلب الاختيار عن صاحبها ، فلا يقدر معها على ارتكاب المعصية ، ومعه لا تصبح العصمة مكرمة وفضيلة.

وهذه الشبهة هي التي أشار إليها السيد الشريف المرتضى وقال :

ما حقيقة العصمة التي يُعتقد وجوبُها للأنبياء والأئمّة - عليهم السلام -؟ وهل هي معنى يضطر إلى الطاعة ويمنع من المعصية ، أو معنى يضام الاختيار؟ فإن كان معنى يضطر إلى الطاعة ويمنع من المعصية ، فكيف يجوز الحمد والذم لفاعلها؟ وإن كان معنى يضام الاختيار فاذكروه ، ودُلّوا على صحّة مطابقته له. (1)

والجواب : انّ العصمة لا تسلب الاختيار عن الإنسان بأي معنى فسرت ، سواء أقلنا بأنّها الدرجة العليا من التقوى ، أو أنّها نتيجة العلم القطعي بعواقب المآثم والمعاصي ، أو أنّها أثر الاستشعار بعظمة الرب والمحبة لله سبحانه (2) ، وعلى كل تقدير فالإنسان المعصوم مختار في فعله ، قادر على كلا طرفي القضية من الفعل

ص : 270


1- أمالي المرتضى : 2 / 347.
2- إشارة إلى التعابير الثلاثة في شرح حقيقة العصمة.

والترك ، وتوضيح ذلك بالمثال الآتي :

إنّ الإنسان العاقل الواقف على وجود الطاقة الكهربائية في الأسلاك المنزوعة من جلدها ، لا يمسّها كذلك ، كما انّ الطبيب لا يأكل سؤر المجذومين والمسلولين لعلمهما بعواقب فعلهما ، وفي الوقت نفسه يرى كل واحد منهما نفسه قادراً على ذلك الفعل ، بحيث لو أغمض العين عن حياته وهيّأ نفسه للمخاطرة بها ، لَفَعَلَ ما يتجنبه ، غير انّهما لا يقومان به لكونهما يحبّان حياتهما وسلامتهما.

فإن شئت قلت : إنّ العمل المزبور ممكن الصدور بالذات من العاقل والطبيب ، غير انّه ممتنع الصدور بالعرض والعادة ، وليس صدوره محالاً ذاتياً وعقلياً ، وكم فرق بين المحالين ، ففي المحال العادي يكون صدور الفعل من الفاعل ممكناً بالذات ، غير انّه يرجح أحد الطرفين على الآخر بنوع من الترجيح بخلاف الثاني (المحال الذاتي) فإنّ الفعل فيه يكون ممتنعاً بالذات ، فلا يصدر لعدم إمكانه الذاتي.

وإن شئت فلاحظ صدور القبيح منه سبحانه أمر ممكن بالذات ، داخل في إطار قدرته فهو يستطيع أن يدخل المطيع في نار الجحيم ، والعاصي في نعيم الجنة ، غير انّه لا يصدر منه ذلك الفعل لكونه مخالفاً للحكمة ومبايناً لما وعد به وأوعد عليه ، وعلى ذلك فامتناع صدور الفعل عن الإنسان معا لتحفظ على الأغراض والغايات ، لا يكون دليلاً على سلب الاختيار والقدرة.

فالنبي المعصوم قادر على اقتراف المعاصي وارتكاب الخطايا ، حسب ما أُعطي من القدرة والحرية ، غير أنّه لأجل حصوله على الدرجة العليا من التقوى ، واكتساب العلم القطعي بآثار المآثم والمعاصي ، واستشعاره بعظمة الخالق ، يتجنب عن اقترافها واكتسابها ولا يكون مصدراً لها مع قدرته واقتداره عليها.

ص : 271

ومثلهم في ذلك المورد كمثل الوالد العطوف الذي لا يقدم على قتل ولده ، ولو أُعطيت له الكنوز المكنوزة والمناصب المرموقة ومع ذلك فهو قادر على قتله ، بحمل السكين والهجوم عليه وقطع أوردته ، وفي هذا الصدد يقول العلامة الطباطبائي :

إنّ هذا العلم أعني ملكة العصمة لا يغيِّر الطبيعة الإنسانية المختارة في أفعالها الإرادية ، ولا يخرجها إلى ساحة الإجبار والاضطرار كيف؟ والعلم من مبادئ الاختيار ، ومجرد قوة العلم لا يوجب إلاّ قوة الإرادة كطالب السلامة إذا أيقن بكون مائع ما ، سمّاً قاتلاً من حينه فإنّه يمتنع باختياره من شربه قطعاً ، وإنّما يضطر الفاعل ويجبر إذا أخرج المجبر أحد طرفي الفعل والترك من الإمكان إلى الامتناع.

ويشهد على ذلك قوله : (وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (1) تفيد الآية انّهم في إمكانهم أن يشركوا بالله وإن كان الاجتباء أو الهدى الإلهي مانعاً من ذلك ، وقوله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) (2) ، إلى غير ذلك من الآيات.

فالإنسان المعصوم إنّما ينصرف عن المعصية بنفسه وعن اختياره وإرادته ، ونسبة الصرف إلى عصمته تعالى كنسبة انصراف غير المعصوم عن المعصية إلى توفيقه تعالى.

ولا ينافي ذلك أيضاً ما يشير إليه كلامه تعالى وتصرح به الأخبار من أنّ

ص : 272


1- الأنعام : 87 - 88.
2- المائدة : 67.

ذلك من الأنبياء والأئمّة بتسديد من روح القدس ، فإنّ النسبة إلى روح القدس ، كنسبة تسديد المؤمن إلى روح الإيمان ، ونسبة الضلال والغواية إلى الشيطان وتسويله ، فإنّ شيئاً من ذلك لا يخرج الفعل عن كونه فعلاً صادراً عن فاعله مستنداً إلى اختياره وإرادته فافهم ذلك. (1)

5 - مراحل العصمة وأدلّتها

اشارة

وقد وقفت على حقيقة العصمة وما يرجع إليها من المباحث الاستطرادية ، فيجب الآن الوقوف على مراحلها التالية :

1. العصمة في تلقي الوحي ، والحفاظ عليه ، وإبلاغه إلى الناس وبعبارة أُخرى العصمة في تبليغ الرسالة.

2. العصمة في العصيان وارتكاب الذنب المصطلح.

3. العصمة من الخطأ في الأُمور الفردية والاجتماعية.

هذه هي مراحل العصمة وإليك دراستها على ضوء الكتاب والسنة والعقل.

ص : 273


1- الميزان : 11 / 179 - 180.
المرحلة الأُولى

5- العصمة في تبليغ الرسالة

اشارة

ذهب جمهور المسلمين من السنة والشيعة إلى عصمة الأنبياء من تبليغ الرسالة ، واستدلوا عليه بالعقل والنقل ، أمّا العقل فبوجوه أهمّها ما ذكره المحقّق الطوسي في تجريد الاعتقاد ، «وهو حصول الوثوق بأفعاله وأقواله».

توضيحه انّ الهدف الاسمي والغاية القصوى من بعث الأنبياء وهداية الناس إلى التعاليم الإلهية والشرائع المقدّسة ولا تحصل تلك الغاية إلاّ بإيمانهم بصدق المبعوثين ، وإذعانهم بكونهم مرسلين من جانبه سبحانه ، وانّ كلامهم وأقوالهم كلامه وقوله سبحانه ، وهذا الإيمان والاذعان لا يحصل إلاّ بإذعان آخر وهو الإذعان بمصونيتهم من الخطأ في مجال تبليغ الرسالة ، أعني المصونية في مقام أخذ الوحي أوّلاً ، والمصونية في مقام التحفظ عليه ثانياً ، والمصونية في مقام الابلاغ والتبيين ثالثاً ومثل هذا لا يحصل إلاّ بمصونية النبي عن الزلل والخطأ عمده وسهوه في تحمل رسالات الله وابلاغها لعباده.

انّ الآيات القرآنية تؤكّد على عصمة الأنبياء في أخذ الوحي وحفظه وإبلاغه ، نقتصر منها بآيتين :

ص : 274

الآية الأُولى

يقول سبحانه : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). (1)

انّ الآية تصرّح بانّ الهدف من بعث الأنبياء هو القضاء بين الناس في ما اختلفوا فيه ، وليس المراد من القضاء إلاّ القضاء بالحقّ ، وهو فرع وصول الحقّ إلى القاضي بلا تغيير وتحريف.

ثم إنّ نتيجة القضاء هي هداية من آمن من الناس إلى الحق بإذنه كما هو صريح قوله : (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ).

والهادي وإن كان هو الله سبحانه في الحقيقة لكن الهداية تتحقق عبر بيان النبي ، وبواسطته ، وتحقق الهداية منه فرع كونه واقفاً على الحق ، بلا تحريف.

وكل ذلك يستلزم عصمة النبي في تلقي الوحي والحفاظ عليه ، وإبلاغه إلى الناس.

وبالجملة فالآية تدل على أنّ النبي يقضي بالحق بين الناس ويهدي المؤمنين إليه ، وكل ذلك (أي القضاء بالحق أوّلاً ، وهداية المؤمنين إليه ثانياً) يستلزم كونه واقفاً على الحق على ما هو عليه وليس المراد من الحق إلاّ ما يوحى إليه.

ص : 275


1- البقرة : 213.
الآية الثانية

قوله سبحانه : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى). (1)

فالآية تصرح بأنّ النبي لا ينطق عن الهوى ، أي لا يتكلم بداعي الهوى. فالمراد إمّا جميع ما يصدر عنه من القول في مجال الحياة كما هو مقتضى إطلاقه أو خصوص ما يحكيه من الله سبحانه ، فعلى كل تقدير فهو يدل على صيانته وعصمته في المراحل الثلاث (2) المتقدم ذكرها في مجال إبلاغ الرسالة.

وبما أنّ عصمة الأنبياء في تلك المرحلة ممّا اصفقت عليها المحقّقون من أصحاب المذاهب والملل ، فلنعطف عنان البحث إلى ما تضاربت فيه آراء المتكلمين ، وإن كان للشيعة فيه قول واحد ، وهو عصمتهم عن العصيان والمخالفة لأوامره ونواهيه قبل البعثة وبعدها.

ص : 276


1- النجم : 43.
2- أخذ الوحي وحفظه وبلاغه.
المرحلة الثانية

6- عصمة الأنبياء عن المعصية

اشارة

لقد تعرفت على دلائل عصمة الأنبياء في تلقى الوحي وحفظه في نفسه وأدائه إلى الناس ، وحان الحين للبحث عن عصمتهم عن المعصية.

وفي هذا المجال وإن كان ربما يوجد نقول شاذة في عصمة الأنبياء بالنسبة إلى المعاصي الصغيرة ، أو عصمتهم قبل البعثة ، لكن نضرب عنها صفحاً ونستنطق الفعل والقرآن في هذا المجال.

العقل وعصمة الأنبياء عن المعصية

إنّ القرآن الكريم يصرح بأنّ الهدف من بعث الأنبياء هو تزكية نفوس الناس وتصفيتهم من الرذائل وغرس الفضائل فيها قال سبحانه حاكياً عن لسان إبراهيم : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (1) وقال سبحانه : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ

ص : 277


1- البقرة : 129.

الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ). (1)

والمراد من التزكية هو تطهير القلوب من الرذائل وإنماء الفضائل ، وهذا هو ما يسمى في علم الأخلاق ب - «التربية».

ولا شك أنّ تأثير التربية في النفوس يتوقف على إذعان من تراد تربيته بصدق المربي وإيمانه بتعاليمه ، وهذا يعرف من خلال عمل المربّي بما يقوله ويعلمه وإلاّ فلو كان هناك انفكاك بين القول والعمل ، لزال الوثوق بصدق قوله وبالتالي تفقد التربية أثرها ، ولا تتحقق حينئذ الغاية من البعث.

وإن شئت قلت : إنّ التطابق بين مرحلتي القول والفعل ، هو العامل الوحيد لكسب ثقة الآخرين بتعاليم المصلح والمربي ، ولو كان هناك انفكاك بينهما لانفضّ الناس من حوله قائلين بأنّه لو كان مذعناً بصحة دعوته لما خالف قولَه في مقام العمل.

سؤال وجواب

نعم يمكن أن يقال : يكفي في الاعتماد على النبي مصونيته عن معصية واحدة وهي الكذب فالبرهان المذكور على تماميته لا يثبت إلاّ مصونيته عن خصوص الكذب لا مطلقاً.

أقول : الإجابة عن هذا السؤال سهلة ، لأنّ التفكيك بين المعاصي فرضية محضة لا يصح أن تقع أساساً للتربية العامة لما فيها من الإشكالات.

أمّا أوّلاً : فانّ المصونية عن المعاصي نتيجة إحدى العوامل التي أوعزنا إليها

ص : 278


1- آل عمران : 164.

عند البحث عن حقيقة العصمة فإن تم وجودها أو وجود بعضها تحصل المصونية المطلقة للإنسان ، وإلاّ فلا يمكن التفكيك بين الكذب وسائر المعاصي بأن يجتنب الإنسان عن الكذب طيلة عمره ويرتكب سائر المعاصي ، فإنّ العوامل التي تسوق الإنسان إلى ارتكابها تسوقه أيضاً إلى اقتراف الكذب واجتياح التهمة.

وأمّا ثانياً : فلو صح التفكيك بينهما في عالم الثبوت لا يمكن إثباته (الداعي لا يكذب أبداً وان كان يركب سائر المعاصي) في حق الداعي ومدعي النبوة ، إذ كيف يمكن الإنسان أن يقف على أنّ مدّعي النبوة مع ركوبه المعاصي واقترافه للمآثم ، لا يكذب أصلاً عند ما اضطر إليه حتى ولو صرح الداعي إلى الإصلاح بنفس هذا التفكيك ، لسرى الريب إلى نفس هذا الكلام أيضاً.

وعلى الجملة : انّ الهدف من بعث الرسل وإنزال الكتب هو دعوة الناس إلى الهداية الإلهية التي يقوم بأعبائها الأنبياء والرسل ، ولا يتحقق ذلك الهدف إلاّ بعد اعتماد الناس على حامل الدعوة والقائم بالهداية ، فاقتراف المعاصي ومخالفة ما يدعو إليه من القيم والخلق ، يزيل من النفوس الثقة به والاعتماد عليه.

وبهذا البيان تظهر الإجابة عن سؤال لا يقصر في الضالّة عن السؤال الماضي. وهو ما ربما يقال : إنّ أقصى ما يثبته هذا البرهان هو لزوم نزاهة النبي عن اقتراف المعاصي في المجتمع ، وهذا لا يخالف أن يكون عاصياً ومقترفاً للذنوب في الخلوات ، وهذا القدر من النزاهة كاف في جلب الثقة.

والجواب عن هذا السؤال واضح تمام الوضوح ، فإنّ مثل هذا التصور عن النبي والقول بأنّه يرتكب المعاصي في السر دون العلن يهدم الثقة به ، إذ ما الذي يمنعه - عندئذ - من أن يكذب ويتستر على كذبه ، وبذلك تزول الثقة بكل ما يقول

ص : 279

ويعمل.

أضف إلى ذلك أنّه يمكن خداع الناس بتزيين الظاهر مدة قليلة لا مدة طويلة ولا ينقضي زمان إلاّ وقد تظهر البواطن ويرتفع الستار عن حقيقته فتكشف سوأته ، ويظهر عيبه.

إلى هنا ظهر أنّ ثقة الناس بالأنبياء إنّما هي في ضوء الاعتقاد بصحة مقالهم وسلامة أفعالهم ، وهو فرع كونهم مصونين عن الخلاف والعصيان في الملأ والخلأ والسر والعلن من غير فرق بين معصية دون أُخرى.

القرآن وعصمة الأنبياء من المعصية

إنّه سبحانه يطرح في كتابه العزيز عصمة الأنبياء ويصفهم بهذا الوصف ، ويشهد بذلك لفيف من الآيات :

الآية الأُولى

قال سبحانه : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ * وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). (1)

ثم إنّه يصف هذه الصفوة من عباده بقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ

ص : 280


1- الأنعام : 84 - 87.

فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ). (1)

والآية الأخيرة تصف الأنبياء بأنّهم مهديون بهداية الله سبحانه على وجه يجعلهم القدوة والاسوة.

هذا من جانب ومن جانب آخر نرى أنّه سبحانه يصرح بأنّ من شملته الهداية الإلهية لا مضلَّ له ويقول : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ). (2)

وفي آية ثالثة يصرح بأنّ حقيقة العصيان هي الانحراف عن الجادة الوسطى بل هي الضلالة ويقول : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ* وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ). (3)

وبملاحظة هذه الطوائف الثلاث من الآيات تظهر عصمة الأنبياء بوضوح وتوضيح ذلك :

انّه سبحانه يصف الأنبياء في اللفيف الأوّل من الآيات بأنّهم القدوة الاسوة والمهديون من الأُمّة كما يصرح في اللفيف الثاني بأنّ من شملته الهداية الإلهية لا ضلالة ولا مضل له.

كما هو يصرح في اللفيف الثالث بأنّ العصيان نفس الضلالة أو مقارنه وملازمه حيث يقول : (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ) وما كانت ضلالتهم إلاّ لأجل عصيانهم ومخالفتهم لأوامره ونواهيه.

ص : 281


1- الأنعام : 90.
2- الزمر : 36 - 37.
3- يس : 6260.

فإذا كان الأنبياء مهديين بهداية الله سبحانه ، ومن جانب آخر لا يتطرق الضلال إلى من هداه الله ، ومن جانب ثالث كانت كل معصية ضلالاً يستنتج أنّ من لا تتطرق إليه الضلالة لا يتطرق إليه العصيان.

وإن أردت أن تفرغ ما تفيده هذه الآيات في قالب الأشكال المنطقية فقل :

النبي : من هداه الله.

وكل من هداه الله فما له من مضل.

ينتج : النبي ما له من مضل.

الآية الثانية

انّه سبحانه يعد المطيعين لله والرسول بأنّهم من الذين يحشرون مع النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين الذين أنعم الله عليهم إذ يقول :

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً). (1)

وعلى مفاد هذه الآية فالأنبياء من الذين أنعم الله عليهم بلا شك ولا ريب ، وهو سبحانه يصف تلك الطائفة أعني : (من أنعم عليهم) بقوله : بأنّهم : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ). (2)

فإذا انضمت الآية الأُولى الواصفة للأنبياء بالإنعام عليهم ، إلى هذه الآية الواصفة بأنّهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، يستنتج عصمة الأنبياء بوضوح ، لأنّ العاصي من يشمله غضب الله سبحانه ويكون ضالاً بقدر عصيانه

ص : 282


1- النساء : 69.
2- الفاتحة : 7.

ومخالفته.

وعلى الجملة : من كان غير المغضوب عليه ولا الضال فهو لا يخالف ربه ولا يعصي أمره فإنّ العاصي يجلب غضب الرب ، ويضل عن الصراط المستقيم قدر عصيانه.

الآية الثالثة

انّه سبحانه يصف جملة من الأنبياء ويقول في حق إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون وإسماعيل وإدريس : (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا). (1)

فهذه الآية تصف تلك الصفوة من الأنبياء بأوصاف أربعة :

1. أنعم الله عليهم.

2. وممن هدينا.

3. واجتبينا.

4. خرّوا سجّداً وبُكيّا.

ثم إنّه سبحانه يصف في الآية التالية ذرية هؤلاء وأولادهم بأوصاف تقابل الصفات الماضية ، ويقول : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا). (2)

نرى أنّه سبحانه يصف خلفهم بأوصاف ثلاثة تضاد أوصاف آبائهم وهي

ص : 283


1- مريم : 58.
2- مريم : 59.

عبارة عن أُمور ثلاثة :

1. أضاعوا الصلاة.

2. واتبعوا الشهوات.

3. يلقون غيّاً.

وبحكم المقابلة بين الصفات يكون الأنبياء ممن لم يضيّعوا الصلاة ولم يتّبعوا الشهوات ، وبالنتيجة لا يلقون غيّاً ، وكل من كان كذلك فهو مصون من الخلاف ومعصوم من اقتراف المعاصي ، لأنّ العاصي لا يعصي إلاّ لاتباع الشهوات وسوف يلقى أثر غيه وضلالته.

الآية الرابعة

إنّ القرآن الكريم يدعو المسلمين إلى الاقتفاء بأثر النبي بمختلف التعابير والعبارات يقول سبحانه : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ). (1)

ويقول أيضاً : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ). (2)

ويقول في آية ثالثة : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ). (3)

كما أنّه سبحانه يندد بمن يتصور انّ على النبي أن يقتفي الرأي

ص : 284


1- آل عمران : 31 - 32.
2- النساء : 80.
3- النور : 52.

العام ويقول : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ). (1)

وعصارة القول : إنّ هذه الآيات تدعو إلى إطاعة النبي والاقتداء به بلا قيد وشرط ، ومن وجبت طاعته على وجه الإطلاق أي بلا قيد وشرط يجب أن يكون معصوماً من العصيان ومصوناً عن الخطأ والزلل.

توضيحه : انّ دعوة النبي تتحقّق بأحد الأمرين : اللفظ أو العمل. والدعوة بالكتابة ترجع إلى أحدهما ، وعند ذلك فلو كان كل ما يدعو إليه النبي بلسانه وفمه وقلمه ويراعه ، صادقاً مطابقاً للواقع غير مخالف له قدر شعرة ، لصح الأمر بالاقتداء به وإنّ طاعته طاعة الله سبحانه كما قال : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ). (2)

وأمّا لو كان بعض ما يدعو به باللفظ والعمل والقول والكتابة على خلاف الواقع وعلى خلاف ما يرضى به سبحانه يجب تقييد الدعوة إلى طاعة النبي بقيد يخرج هذه الصورة.

فالحكم باتّباعه على وجه الإطلاق يكشف عن أنّ دعواته وأوامره قولاً وفعلاً حليفة الواقع ، وقرينة الحقيقة لا تتخلف عنه قدر شعرة ، من غير فرق بين الدعوة اللفظية أو العملية.

فإنّ الدعوة عن طريق العمل والفعل من أقوى العوامل تأثيراً في مجال التربية والتعليم وأرسخها وكل عمل يصدر من الرسل فالناس يتلقونه دعوة عملية إلى اقتفاء أثره في ذاك المجال.

ص : 285


1- الحجرات : 7.
2- النساء : 80.

فلو كان ما يصدر من النبي طيلة الحياة مطابقاً لرضاه وموافقاً لحكمه صح الأمر بالاقتفاء في القول والفعل ، ولو كانت أفعالهم تخالف الواقع في بعض الأحايين وتتسم بالعصيان والخطأ ، لما صح الأمر بطاعته والاقتداء به على وجه الإطلاق.

كيف وقد وصف الرسول بأنّه الأُسوة الحسنة في قوله سبحانه : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً). (1)

فكونه أُسوة حسنة في جميع المجالات لا يتفق إلاّ مع عصمته المطلقة ، بخلاف من يكون أُسوة في مجال دون مجال ، وعلى ذلك فهو مصون من الخلاف والعصيان والخطأ والزلل.

وإن شئت قلت : لو صدر عن النبي عصيان وخلاف فمن جانب يجب علينا طاعته واقتفاؤه واتباعه ، وبما انّ الصادر منه أمر منكر يحرم الاقتداء به واتباعه وتجب المخالفة ، فعندئذ يلزم الأمر بالمتناقضين ، والقول بأنّه يجب اتّباعه في خصوص ما ثبت كونه موافقاً للشرع أو لم تعلم مخالفته له ، خلاف إطلاق الآيات الآمرة بالاتّباع على وجه الإطلاق من غير فرق بين فعل دون فعل ، ووقت دون وقت.

إلى هنا تمّت دراسة ما يدلّ بوضوح على عصمة النبي في المرحلتين التاليتين :

ص : 286


1- الأحزاب : 21.

1. عصمته في أخذ الوحي وحفظه ، وابلاغه إلى الناس.

2. عصمته عن اقتراف المعاصي والضلالة في الفكر والعمل.

بقي الكلام في المرحلة الثالثة أعني عصمته عن الخطأ في حياته الدينية أو المادية وهذا هو الذي نستعرضه في الفصل التالي.

ص : 287

المرحلة الثالثة

7- عصمة النبي عن الخطأ

اشارة

انّ صيانة النبي عن الخطأ وا لاشتباه سواء أكان في مجال تطبيق الشريعة ، أم في مجال الأُمور العادية الفردية المرتبطة بحياته ، ممّا طرح في علم الكلام وطال البحث فيه بين متكلمي الإسلام.

غير انّ تحقق الغاية من البعثة رهن صيانته عن الخطأ في كلا المجالين ، وإلاّ فلا تتحقق الغاية المتوخاة من بعثته ، وهذا هو الدليل العقلي الذي اعتمدت عليه العدلية ، بعد ما اتفق الكل على لزوم صيانته عن الخطأ وا لاشتباه في مجال تلقي الوحي وحفظه ، وأدائه إلى الناس ، ولم يختلف في ذلك اثنان.

منطق العقل في عصمة النبي عن الخطأ

وإليك توضيح هذا الدليل العقلي : إنّ الخطأ في غير أمر الدين وتلقّي الوحي يتصوّر على وجهين :

أ. الخطأ في تطبيق الشريعة كالسهو في الصلاة أو في إجراء الحدود.

ب. الاشتباه في الأُمور العادية المعدة للحياة كما إذا استقرض ألف دينار ،

ص : 288

وظن أنّه استقرض مائة دينار.

والحقّ انّه مصون من الاشتباه والسهو في كلا الموردين ، وذلك لأنّ الغاية المتوخاة من بعث الأنبياء هي هدايتهم إلى طريق السعادة ، ولا تحصل تلك الغاية إلاّ بكسب اعتماد الناس على صحة ما يقوله النبي وما يحكيه عن جانب الوحي ، وهذا هو الأساس لحصول الغاية ، ومن المعلوم أنّه لو سها النبي واشتبه عليه الأمر في المجالين الأوّلين ربّما تسرب الشك إلى أذهان الناس ، وانّه هل يسهو أيضاً في ما يحكيه من الأمر والنهي الإلهي أم لا؟

فبأي دليل أنّه لا يخطأ في هذا الجانب مع أنّه يسهو في المجالين الآخرين؟! وهذا الشعور إذا تغلغل في أذهان الناس سوف يسلب اعتماد الناس على النبي ، وبالتالي تنتفي النتيجة المطلوبة من بعثه.

نعم ، التفكيك بين صيانته في مجال الوحي وصيانته في سائر الأُمور وإن كان أمراً ممكناً عقلاً ، ولكنه ممكن بالنسبة إلى عقول الناضجين في الأبحاث الكلامية ونحوها ، وأمّا العامّة ورعايا الناس الذين يشكّلون أغلبية المجتمع ، فهم غير قادرين على التفكيك بين تينك المرحلتين ، بل يجعلون السهو في إحداهما دليلاً على إمكان تسرّب السهو إلى المرحلة الأُخرى.

ولأجل سدّ هذا الباب ، المنافي للغاية المطلوبة من إرسال الرسل ، ينبغي أن يكون النبي مصوناً في عامّة المراحل ، سواء أكانت في حقل الوحي أو في تطبيق الشريعة أو في الأُمور العاديّة ، ولهذا يقول الذكر الحكيم في حقّ المسيح (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) (1) والإمام الصادق - عليه السلام - : «جعل مع النبي روح القدس وهي لا تنام ولا تغفل ولا تلهو ولا تسهو». (2)

ص : 289


1- البقرة : 253.
2- بصائر الدرجات : 454.

وعلى ذلك فبما أنّه ينبغي أن يكون النبي اسوة في الحياة في عامة المجالات يجب أن يكون نزيهاً عن العصيان أو لا الخلاف والسهو والخطأ ثانياً.

منطق القرآن في عصمة النبي عن الخطأ

قد عرفت منطق العقل في لزوم عصمة النبي من الخطأ في مجال تطبيق الشريعة ، ومجال الأُمور العادية المعدّة للحياة ، وهذا الحكم لا يختص بمنطقه ، بل الذكر الحكيم يدعمه بأحسن وجه ، وإليك ما يدل على ذلك :

1. قال سبحانه : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) (1) ، وقال أيضاً : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً). (2)

وقد نقل المفسرون حول نزول الآيات وما بينهما من الآيات روايات رووها بطرق مختلفة نذكر ما ذكره ابن جرير الطبري عن ابن زيد قال : كان رجل سرق درعاً من حديد في زمان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وطرحه على يهودي ، فقال اليهودي : والله ما سرقتها يا أبا القاسم ، ولكن طرحت عليّ وكان للرجل الذي سرق ، جيران يبرءونه ويطرحونه على اليهودي ، ويقولون : يا رسولَ الله إنّ هذا اليهودي الخبيث يكفر بالله وبما جئت به ، قال : حتى مال عليه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ببعض القول فعاتبه الله عزّ وجلّ في ذلك فقال : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا

ص : 290


1- النساء : 105.
2- النساء : 113.

تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً). (1)

أقول : سواء أصحت هذه الرواية أم لا ، فمجموع ما ورد حول الآيات من أسباب النزول متفق على أنّ الآيات نزلت حول شكوى رفعت إلى النبي ، وكان كل من المتخاصمين يسعى ليبرئ نفسه ويتهم الآخر ، وكان في جانب واحد منهما رجل طليق اللسان يريد أن يخدع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ببعض تسويلاته ويثير عواطفه على المتهم البريء حتى يقضي على خلاف الحق ، وعند ذلك نزلت الآية ورفعت النقاب عن وجه الحقيقة فعُرِف المحقُّ من المبطل.

والدقة في فقرات الآية الثانية يوقفنا على سعة عصمة النبي من الخطأ وصيانته من السهو ، لأنّها مؤلفة من فقرات أربع ، كل يشير إلى أمر خاص :

1. (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ).

2. (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ).

3. (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ).

4. (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً).

فالأُولى منها : تدل على أنّ نفس النبيّ بمجردها لا تصونه من الضلال (أي من القضاء على خلاف الحق) وإنّما يصونه سبحانه عنه ، ولو لا فضل الله ورحمته لهمّت طائفة أن يرضوه بالدفاع عن الخائن والجدال عنه ، غير أنّ فضله العظيم على النبي هو الذي صدّه عن مثل هذا الضلال وأبطل أمرهم المؤدي إلى إضلاله ، وبما أنّ رعاية الله سبحانه وفضله الجسيم على النبي ليست مقصورة على حال دون

ص : 291


1- تفسير الطبري : 5 / 172.

حال ، أو بوقت دون وقت آخر ، بل هو واقع تحت رعايته وصيانته منذ أن بعث إلى أن يلاقي ربَّه ، فلا يتعدى إضلال هؤلاء أنفسهم ولا يتجاوز إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فهم الضالون بما هموا به كما قال : (وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ).

والفقرة الثانية : تشير إلى مصادر حكمه ومنابع قضائه ، وأنّه لا يصدر في ذلك المجال إلاّ عن الوحي والتعليم الإلهي ، كما قال سبحانه : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) والمراد المعارف الكلية العامة من الكتاب والسنة.

ولما كان هذا النوع من العلم الكلي أحد ركني القضاء وهو بوحده لا يفي بتشخيص الموضوعات وتمييز الصغريات ، فلا بد من الركن الآخر وهو تشخيص المحق من المبطل ، والخائن من الأمين ، والزاني من العفيف ، أتى بالفقرة الثالثة وقال : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) ومقتضى العطف ، مغايرة المعطوف ، مع المعطوف عليه ، فلو كان المعطوف عليه ناظراً إلى تعرّفه على الركن الأوّل وهو العلم بالأُصول والقواعد الكلية الواردة في الكتاب والسنّة ، يكون المعطوف ناظراً إلى تعرّفه على الموضوعات والجزئيات التي تعد ركناً ثانياً للقضاء الصحيح ، فالعلم بالحكم الكلي الشرعي أوّلاً وتشخيص الصغريات وتمييز الموضوعات ثانياً جناحان للقاضي يحلّق بهما في سماء القضاء بالحق من دون أن يجنح إلى جانب الباطل ، أو يسقط في هوّة الضلال.

قال العلاّمة الطباطبائي : إنّ المراد من قوله سبحانه : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) ليس علمه بالكتاب والحكمة ، فإنّ مورد الآية ، قضاء النبي في الحوادث الواقعة ، والدعاوى المرفوعة إليه ، برأيه الخاص ، وليس ذلك من الكتاب والحكمة بشيء ، وإن كان متوقفاً عليهما ، بل المراد رأيه ونظره الخاص. (1) ولما كان هنا موضع

ص : 292


1- الميزان : 5 / 81.

توهم وهو أنّ رعاية الله لنبيّه تختص بمورد دون مورد ، دفع ذلك التوهم بالفقرة الرابعة فقال سبحانه : (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) حتى لا يتوهم اختصاص فضله عليه بواقعة دون أُخرى ، بل مقتضى عظمة الفضل ، سعة شموله لكل الوقائع والحوادث ، سواء أكانت من باب المرافعات والمخاصمات ، أم الأُمور العادية ، فتدل الفقرة الأخيرة على تعرّفه على الموضوعات ومصونيته عن السهو والخطاء في مورد تطبيق الشريعة ، أو غيره ، ولا كلام أعلى وأغزر من قوله سبحانه في حق حبيبه : (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً).

2. قال سبحانه : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (1) إنّ الشهادة المذكورة في الآية حقيقة من الحقائق القرآنية تكرر ذكرها في كلامه سبحانه ، قال تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (2) ، وقال تعالى : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (3) ، وقال تعالى : (وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) (4) ، والشهادة فيها مطلقة ، وظاهر الجميع هو الشهادة على أعمال الأُمم وعلى تبليغ الرسل كما يومي إليه قوله تعالى : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) (5) ، وهذه الشهادة وإن كانت في الآخرة ويوم القيامة لكن يتحملها الشهود في الدنيا على ما يدل عليه قوله سبحانه حكاية عن عيسى : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (6) ، وقال

ص : 293


1- البقرة : 143.
2- النساء : 41.
3- النحل : 84.
4- الزمر : 69.
5- الأعراف : 6.
6- المائدة : 117.

سبحانه : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) (1) ، ومن الواضح أنّ الشهادة فرع العلم ، وعدم الخطأ في تشخيص المشهود به ، فلو كان النبي من الشهداء يجب ألاّ يكون خاطئاً في شهادته ، فالآية تدلّ على صيانته وعصمته من الخطأ في مجال الشهادة كما تدلّ على سعة علمه ، لأنّ الحواس لا ترشدنا إلاّ إلى صور الأعمال والأفعال ، والشهادة عليها غير كافية عند القضاء ، وإنّما تكون مفيدة إذا شهد على حقائقها من الكفر والإيمان ، والرياء والإخلاص ، وبالجملة على كل خفيّ عن الحس ومستبطن عند الإنسان ، أعني ما تكسبه القلوب وعليه يدور حساب رب العالمين ، قال تعالى : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) (2) ، ولا شك أنّ الشهادة على حقائق أعمال الأُمّة خارج عن وسع الإنسان العادي إلاّ إذا تمسّك بحبل العصمة وولي أمر الله بإذنه.

وأمّا الأحاديث الحاكية عن سهو النبي في صلاته فهي أخبار آحاد ، لا تفيد علماً حتّى يحتجّ بها في حقل العقيدة.

أضف إلى ذلك انّها بظاهرها يخالف الذكر الحكيم - كما عرفت - ولذا ضربنا عنها صفحاً ولم نستعرض للبحث والدراسة.

ص : 294


1- النساء : 159.
2- البقرة : 225.

8- حجة المخالفين لعصمة الأنبياء

اشارة

قد تعرفت على الآيات الدالة على عصمة الأنبياء في المجالات التالية : «تلقّي الوحي ، والتحفّظ عليه ، وإبلاغه إلى الناس ، والعمل به» غير انّ هناك آيات ربما توهم في بادئ النظر خلاف ما دلت عليه صراحة الآيات السابقة ، وقد تذرعت بها بعض الفرق الإسلامية التي جوزت المعصية على الأنبياء بمختلف صورها.

وهذه الآيات على طوائف :

الأُولى : ما يمس ظاهرها عصمة جميع الأنبياء بصورة كليّة.

الثانية : ما يمس عصمة عدة منهم كآدم ويونس بصورة جزئيّة.

الثالثة : ما يتراءى منه عدم عصمة النبي الأكرم.

وبما انّ الهدف من هذا الفصل هو وضع خطوط عامة لعصمة الأنبياء نقتصر بدراسة آيات الطائفة الأُولى ، ونحيل البحث في الطائفتين الأخيرتين إلى موسوعتنا «مفاهيم القرآن».(1)

ص : 295


1- مفاهيم القرآن : 5 / 23097.
الطائفة الأُولى : ما يمس ظاهرها عصمة جميع الأنبياء
الآية الأُولى
اشارة

قوله سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ). (1)

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ). (2)

استدل القائل بعدم عصمة الأنبياء بظاهر الآية قائلاً بأنّ الضمائر الثلاثة في قوله : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) ترجع إلى الرسل ، ومفاد الآية انّ رسل الله سبحانه وأنبياءه كانوا يُنذرون قومهم ، وكان القوم يخالفونهم أشدَّ المخالفة ، وكان الرسلَ يعدون المؤمنين بالنصر عن الله والغلبة ويُوعدون الكفّار بالهلاك والإبادة ، لكن لما تأخّر النصرُ الموعود وعقاب الكافرين «ظن الرسل أنّهم قد كذبوا» فيما وعدوا به من جانب الله من نصر المؤمنين وإهلاك الكافرين ، ومن المعلوم انّ هذا الظن سواء أكان بصورة الإذعان واليقين أم بصورة الزعم والميل إلى ذاك الجانب ، اعتقاد باطل لا يجتمع مع العصمة.

وإن شئت تفسير الآية فعليك بإظهار مراجع الضمائر بأن تقول : لما أخّرنا العقاب عن الأُمم السالفة ظن الرسل انّ الرسل قد كُذِبَ الرسل في ما وُعدوا به من النصر للمؤمنين والهلاك للكافرين.

ص : 296


1- يوسف : 109.
2- يوسف : 110.

وعلى هذا فكل جواب من القائلين بعصمة الرسل على خلاف هذا الظاهر يكون غير متين ، بل يجب أن يكون الجواب منطبقاً على هذا الظاهر.

وإليك الأجوبة المذكورة في التفاسير :

الأوّل : انّ الضمائر الثلاثة ترجع إلى الرسل غير انّ الوعد الذي تصور الرسل أنّهم قد كذبوا (أي قيل لهم قولاً كاذباً) هو تظاهر عدة من المؤمنين بالإيمان وادّعاؤهم الإخلاص لهم ، فتصور الرسل انّ تظاهر هؤلاء بالإيمان كان كذباً وباطلاً ، وكأنّهم تصوروا انّ الذين وعدوهم بالإيمان من قومهم أخلفوهم أو كذبوا فيما أظهروه من الإيمان. (1)

وفيه : انّ هذا الجواب وان كان أظهر الأجوبة إذ ليس فيه تفكيك بين الضمائر كما في سائر الأجوبة الآتية لكن الذي يرده هو بعده عن ظاهر الآية ، إذ ليس فيها عن إيمان تلك الثلة القليلة أثر حتى يقع متعلّق الكذب في قوله سبحانه : (قَدْ كُذِبُوا).

وإن شئت قلت : ليس في مقدم الآية ولا في نفسها ما يشير إلى أنّه قد آمن بالرسل عدّة قليلة وتظاهروا بالإيمان غير انّه صدر عنهم ما جعل الأنبياء يظنون بكذبهم في ما أظهروه من الإيمان حتى يصح أن يقال انّ متعلق الكذب هو هذا ، وانّما المذكور في مقدمها ونفسها هو مخالفة الزمرة الطاغية من أقوام الأنبياء وعنادهم ولجاجهم مع رسل الله وأنبيائه حيث يقول : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ). (2)

ص : 297


1- مجمع البيان : 5 - 6 / 415 ، ط دار المعرفة ، بيروت.
2- يوسف : 109.

ومجرد قوله : (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) لا يكفي في جعل إيمانهم متعلّقاً للكذب ، إذ عندئذ يجب أن تتعرض الآية إلى إيمان تلك الشرذمة وصدور ما يوجب ظنّ الرسل بخلاف ما تظاهروا به حتى يصح أن يقال إنّ الرسل ظنوا انّ المتظاهرين بالإيمان قد كذبوا في ادّعاء الإيمان بالرسل.

أضف إلى ذلك : إنّ هذه الإجابة لا تصحّح العصمة المطلقة للأنبياء ، إذ على هذا الجواب يكون ظن الرسل بعدم إيمان تلك الشرذمة القليلة خطأً ، وكان ادّعاؤهم للإيمان صادقاً ، وهذا يمس كرامتهم من جانب آخر ، لأنّهم تخيّلوا غير الواقع واقعاً ، والمؤمن كافراً.

على أنّ ذلك الجواب لا يناسب ذيل الجملة فانّه سبحانه يقول بعد تلك الجملة : (جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ) مع أنّ المناسب على هذه الإجابة أن يقول : «بل تبين للرسل صدق ادّعاء المؤمنين فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين».

الثاني : انّ معنى الآية : ظن الأُمم أنّ الرسل كذبوا في ما أخبروا به من نصر الله إيّاهم وإهلاك أعدائهم وهذا الوجه هو المروي عن سعيد بن جبير واختاره العلاّمة الطباطبائي ، فالآية تهدف إلى أنّه إذا استيئس الرسل من إيمان أُولئك الناس ، هذا من جانب ومن جانب آخر ظنّ الناس - لأجل تأخر العذاب - انّ الرسل قد كذبوا ، أي أخبروا بنصر المؤمنين وعذاب الكافرين كذباً ، جاءهم نصرنا ، فننجّي بذلك من نشاء وهم المؤمنون ، ولا يرد بأسنا أي شدتنا عن القوم المجرمين.

وقد دلّت الآيات على أنّ الأُمم السالفة كانوا ينسبون الأنبياء إلى الكذب ،

ص : 298

قال سبحانه في قصة نوح حاكياً عن قول قومه : (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) (1) ، وكذا في قصة هود وصالح.

وقال سبحانه في قصة موسى : (فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) (2). (3)

يلاحظ عليه بأنّ الظاهر هو انّ مرجع الضمير المتصل في «ظنّوا» هو الرسل المقدم عليه ، وإرجاعه إلى الناس على خلاف الظاهر ، وعلى خلاف البلاغة وليس في نفس الآية حديث عن هذا اللفظ (الناس) حتى يكون مرجعاً للضمير في «ظنّوا».

أضف إلى ذلك انّ ما استشهد به مما ورد في قصة نوح لا يرتبط بما ادّعاه فإنّ معنى (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) انّ الناس صوّروا نفس الرسل كاذبين وانّهم قد تعمّدوا التقوّل على خلاف الواقع ، والمذكور في الآية المبحوث عنها ليس كون الرسل كاذبين بل كونهم مكذوبين ، أي وعدوا كذباً وقيل لهم قولاً غير صادق وإن تصوّروا أنفسهم صادقين في ما يخبرون به ، وبين المعنيين بون بعيد.

الثالث : ما روي عن ابن عباس من أنّ الرسل لمّا ضعفوا وغُلبوا ظنّوا أنّهم قد أُخْلِفُوا ما وعدهم الله من النصر، وقال كانوا بشراً ، وتلا قوله : (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ). (4)

وقال صاحب الكشاف في حق هذا القول : إنّه إن صح هذا عن ابن عباس ، فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية ، وأمّا الظن الذي هو ترجح أحد الجائزين

ص : 299


1- هود : 27.
2- الإسراء : 101.
3- الميزان : 11 / 279.
4- البقرة : 214.

على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين فما بال رسل الله الذين هم أعرف الناس بربهم ، وانّه متعال عن خلف الميعاد منزه عن كل قبيح. (1)

وهذا التفسير مع التوجيه الذي ذكره الزمخشري وإن كان أوقع التفاسير في القلوب غير انّه أيضاً لا يناسب ساحة الأنبياء الذين تسدِّدهم روح القدس وتحفظهم عن الزلل والخطأ في الفكر والعمل ، وتلك الهاجسة وان كانت بصورة حديث النفس وشبه الوسوسة ، لكنها لا تلائم العصمة المطلقة المترقبة من الأنبياء.

الرابع (وهو المختار)

إنّ المستدل زعم أنّ الظن المذكور في الآية أمر قلبي اعترى قلوب الرسل ، وأدركوه بمشاعرهم وعقولهم مثل سائر الظنون التي تحدق بالقلوب البشرية وتنقدح فيها.

مع أنّ المراد غير ذلك ، بل المراد انّ الظروف التي حاقت بالرسل بلغت من الشدة والقسوة الى حد صارت تحكي بلسانها التكويني عن أنّ النصر الموعود كأنّه نصر غير صادق ، لا أنّ هذا الظن كان يراود قلوب الرسل ، وأفئدتهم ، وكم فرق بين كونهم ظانّين بكون الوعد الإلهي بالنصر وعداً مكذوباً ، وبين كون الظروف والشرائط المحيطة بهم من المحنة والشدة كانت كأنّها تشهد في بادئ النظر على أنّه ليس لوعده سبحانه خبر ولا أثر وأنّهم وعدوا به كذباً.

فحكاية وضعهم والملابسات التي كانت تحدق بهم عن كون الوعد كذباً ، أمر ، وكون الأنبياء قد وقعوا فريسة ذلك الظن غير الصالح أمر آخر ، والمخالف

ص : 300


1- الكشاف : 2 / 157.

للعصمة هو الثاني لا الأوّل ، ولذلك نظائر في الذكر الحكيم.

منها قوله سبحانه : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (1) ، فإنّ يونس النبي بن متى كان مبعوثاً إلى أهل نينوى ، فدعاهم فلم يؤمنوا ، فسأل الله أن يعذّبهم ، فلمّا أشرف عليهم العذاب تابوا وآمنوا ، فكشفه الله عنهم وفارقهم يونس قبل نزول العذاب مغاضباً لقومه ظانّاً بأنّه سبحانه لن يضيق عليه ولا يؤدبه ، لأجل مفارقته قومه وتركهم مع إمكان رجوعهم إلى الله سبحانه وإيمانهم به وتوبتهم عن أعمالهم.

فما هذا الظن الذي ينسبه سبحانه إلى يونس ، هل كان ظناً قائماً بمشاعره ، فنحن نجلّه ونجلّ ساحة جميع الأنبياء عن هذا الظن الذي لا يتردد في ذهن غيرهم ، فكيف الأنبياء؟! بل المراد انّ عمله هذا (أي ذهابه ومفارقة قومه) كان يُمثِّل هذا الظنّ وأنّ مولاه لا يقدر عليه وهو يفوته بالابتعاد عنه فلا يقوى على سياسته ، فكم فرق بين ورود هذا الظن على مشاعر يونس ، وبين كون عمله مجسماً وممثلاً لهذا الظن في كل من رآه وشاهده؟ فما يخالف العصمة هو الأوّل لا الثاني.

ومنها : قوله سبحانه في سورة الحشر حاكياً عن بني النضير إحدى الفرق اليهودية الثلاث التي كانت تعيش في المدينة ، وتعاقدوا مع النبي على أن لا يخونوا ويتعاونوا في المصالح العامة ، ولما خدعوا المسلمين وقتلوا بعض المؤمنين في مرأى من الناس ومسمع منهم ، ضيّق عليهم النبي ، فلجئوا إلى حصونهم ، وفي ذلك يقول سبحانه : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ

ص : 301


1- الأنبياء : 87.

الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا). (1)

فما هذا الظن الذي ينسبه سبحانه إلى تلك الفرقة؟ هل كانوا يظنون بقلوبهم أنّ حصونهم مانعتهم من الله؟ فإنّ ذلك بعيد جداً ، فانّهم كانوا موحّدين ومعترفين بقدرته سبحانه غير انّ علمهم بصدق النبيّ أوّلاً والتجاءهم إلى حصونهم في مقابل النبي الذي تبيّن لهم صدق نبوته ثانياً ، كان يحكي عن أنّهم مصدر هذا الظن وصاحبه.

ولذلك نظائر في المحاورات العرفية فإنّا نصف المتهالكين في الدنيا والغارقين في زخارفها ، والبانين للقصور المشيدة والأبراج العاجية بأنّهم يعتقدون بخلود العيش ودوام الحياة ، وانّ الموت كأنّه كتب على غيرهم ، ولا شك أنّ هذه النسبة نسبة صادقة لكن بالمعنى الذي عرفت أي أنّ عملهم مبدأ انتزاع هذا الظن ، ومصدر هذه النسبة.

وعلى ذلك فالآية تهدف إلى أنّ البلايا والشدائد كانت تحدق بالأنبياء طيلة حياتهم وتشتد عليهم الأزمة والمحنة من جانب المخالفين ، فكانوا يعيشون بين أقوام كأنّهم أعداء ألداء ، وكان المؤمنون بهم في قلّة ، فصارت حياتهم المشحونة بالبلايا والنوازل ، والبأساء والضراء ، مظنّة لأن يتخيّل كل من وقف عليها من نبي وغيره ، انّ ما وعدوا به وعد غير صادق ، ولكن لم يبرح الوضع على هذا المنوال حتى يفاجئهم نصره سبحانه ، للمؤمنين ، وإهلاكه وإبادته للمخالفين كما يقول : (فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ). (2)

ص : 302


1- الحشر : 2.
2- يوسف : 110.

ويشعر بما ذكرناه قوله سبحانه : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ). (1)

فالمراد من الرسول هو غير النبي الأكرم من الرسل السابقين ، فعند ما كانت البأساء والضراء تحدق بالمؤمنين ونفس الرسول ، وكانت المحن تزلزل المؤمنين حتى أنّها كانت تحبس الأنفاس ، فعند ذلك كانت تكاد تلك الأنفاس المحبوسة والآلام المكنونة تتفجر في شكل ضراعة إلى الله ، فيقول الرسول والذين آمنوا معه (مَتى نَصْرُ اللهِ)؟ فإنّ كلمة (مَتى نَصْرُ اللهِ) مقرونة بالضراعة والالتماس ، تقع مظنة تصور استيلاء اليأس والقنوط عليهم لا بمعنى وجودهما في أرواحهم وقلوبهم ، بل بالمعنى الذي عرفت من كونه ظاهراً من أحوالهم لا من أقوالهم.

وما برح الوضع على هذا إلى أن كان النصر ينزل عليهم وتنقشع عنهم سحب اليأس والقنوط المنتزع من تلك الحالة.

هذا ما وصلنا إليه في تفسير الآية ، ولعلّ القارئ يجد تفسيراً أوقع في النفس مما ذكرناه.

الآية الثانية
اشارة

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). (2)

ص : 303


1- البقرة : 214.
2- الحج : 52.

(لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ). (1)

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). (2)

وهذه الآية أو الآيات من أوثق الأدلة في نظر القائل بعدم عصمة الأنبياء ، وقد استغلها المستشرقون في مجال التشكيك في الوحي النازل على النبي على وجه سيوافيك بيانه.

وكأنّ المستدل بهذه الآية يفسر إلقاء الشيطان في أُمنية الرسول أو النبي بالتدخل في الوحي النازل عليه فيغيّره إلى غير ما نزل به.

ثم إنّه سبحانه يمحو ما يلقي الشيطان ويصحّح ما أُنزل على رسوله من الآيات ، فلو كان هذا مفاد الآية ، فهو دليل على عدم عصمة الأنبياء في مجال التحفّظ على الوحي أو إبلاغه الذي اتفقت كلمة المتكلمين على المصونية في هذا المجال.

وربما يؤيد هذا التفسير بما رواه الطبري وغيره في سبب نزول هذه الآية ، وسيوافيك نصه وما فيه من الإشكال.

فالأولى تناول الآية بالبحث والتفسير حتى يتبيّن انّها تهدف إلى غير ما فسّره المستدل فنقول :

يجب توضيح نقاط في الآيات.

الأُولى : ما معنى أُمنية الرسول أو النبي؟ وإلامَ يهدف قوله سبحانه : (إِذا

ص : 304


1- الحج : 53.
2- الح ج : 54.

تَمَنَّى)؟

الثانية : ما معنى مداخلة الشيطان في أُمنية النبي الذي يفيده قول الله سبحانه : (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ)؟

الثالثة : ما معنى نسخ الله سبحانه ما يلقيه الشيطان؟

الرابعة : ما ذا يريد سبحانه من قوله : (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) وهل المراد منه الآيات القرآنية؟

الخامسة : كيف يكون ما يلقيه الشيطان فتنة لمرضى القلوب وقاسيتها؟ وكيف يكون سبباً لإيمان المؤمنين ، وإخبات قلوبهم له؟

وبتفسير هذه النقاط الخمس يرتفع الإبهام الذي نسجته الأوهام حول الآية ومفادها فنقول :

1. ما معنى أُمنية الرسول أو النبي؟

أمّا الأُمنية قال ابن فارس : فهي من المنى ، بمعنى تقدير شيء ونفاذ القضاء به ، منه قولهم : مني له الماني أي قدر المقدر قال الهذلي :

لا تأمنن وان أمسيت في حرم

حتى تلاقي ما يمني لك الماني

والمنا : القدر ، وماء الإنسان : منيّ ، أي يُقدّر منه خلقته. والمنيّة : الموت ، لأنّها مقدّرة على كل أحد ، وتمنّى الإنسان : أمل يقدِّره ، ومنى مكة : قال قوم : سمِّي به لما قُدِّر أن يُذبح فيه ، من قولك مناه الله. (1)

وعلى ذلك فيجب علينا أن نقف على أُمنية الرسل والأنبياء من طريق

ص : 305


1- المقاييس : 5 / 276.

الكتاب العزيز ، ولا يشك من سبر الذكر الحكيم انّه لم يكن للرسل والأنبياء ، أُمنية سوى نشر الهداية الإلهية بين أقوامهم وإرشادهم إلى طريق الخير والسعادة ، وكانوا يدأبون في تنفيذ هذا المقصد السامي ، والهدف الرفيع ولا يألون في ذلك جهداً ، وكانوا يخططون لهذا الأمر ، ويفكّرون في الخطة بعد الخطة ، ويمهدون له قدر مستطاعهم ، ويدل على ذلك جمع من الآيات نكتفي بذكر بعضها :

يقول سبحانه في حق النبي الأكرم : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ). (1)

ويقول أيضاً : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ). (2)

ويقول أيضاً : (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ). (3)

ويقول سبحانه : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ). (4)

ويقول سبحانه : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ). (5)

هذا كلّه في حق النبي الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم -.

ويقول سبحانه حاكياً عن استقامة نوح في طريق دعوته : (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا

ص : 306


1- يوسف : 103.
2- فاطر : 8.
3- النحل : 37.
4- القصص : 56.
5- الغاشية : 21 - 22.

وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً* ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً* ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً). (1)

ويقول سبحانه بعد عدة من الآيات : (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً* وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً* وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً* وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً). (2)

فهذه الآيات ونظائرها تنبئ بوضوح عن أنّ أُمنية الأنبياء الوحيدة في حياتهم وسبيل دعوتهم هو هداية الناس إلى الله ، وتوسيع رقعة الدعوة إلى أبعد حد ممكن ، وان منعتهم من تحقيق هذا الهدف عراقيل وموانع ، فهم يسعون إلى ذلك بعزيمة راسخة ورجاء واثق.

إلى هنا تبيّن الجواب عن السؤال الأوّل ، وهلم معي الآن لنقف على جواب السؤال الثاني ، أعني :

2. ما معنى إلقاء الشيطان في أُمنية الرسل؟

وهذا السؤال هو النقطة الحاسمة في استدلال المخالف ، وبالإجابة عليها يظهر وهن الاستدلال بوضوح فنقول : إنّ إلقاء الشيطان في أُمنيتهم يتحقّق بإحدى صورتين :

1. أن يوسوس في قلوب الأنبياء ويوهن عزائمهم الراسخة ، ويقنعهم بعدم جدوى دعوتهم وإرشادهم ، وانّ هذه الأُمّة ، أُمّة غير قابلة للهداية ، فتظهر بسبب

ص : 307


1- نوح : 7 - 9.
2- نوح : 21 - 24.

ذلك سحائب اليأس في قلوبهم ويكفّوا عن دعوة الناس وينصرفوا عن هدايتهم.

ولا شك أنّ هذا المعنى لا يناسب ساحة الأنبياء بنص القرآن الكريم ، لأنّه يستلزم أن يكون للشيطان سلطان على قلوب الأنبياء وضمائرهم ، حتى يوهن عزائمهم في طريق الدعوة والإرشاد ، والقرآن الكريم ينفي تسلل الشيطان إلى ضمائر المخلصين الذين هم الأنبياء ومن دونهم ، ويقول سبحانه : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ). (1)

ويقول أيضاً ناقلاً عن نفس الشيطان : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ). (2)

وليس إيجاد الوهن في عزائم الأنبياء من جانب الشيطان إلاّ إغواءهم المنفي بنص الآيات.

2. أن يكون المراد من إلقاء الشيطان في أُمنية النبي هو إغراء الناس ودعوتهم إلى مخالفة الأنبياء - عليهم السلام - والصمود في وجوههم حتى تصبح جهودهم ومخططاتهم عقيمة غير مفيدة.

وهذا المعنى هو الظاهر من القرآن الكريم حيث يحكي في غير مورد أنّ الشيطان كان يحض أقوام الأنبياء - عليهم السلام - على المخالفة ويعدهم بالأماني ، حتى يخالفوهم.

قال سبحانه : (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً). (3)

ص : 308


1- الحجر : 42 ، الإسراء : 65.
2- ص : 82 - 83.
3- النساء : 120.

وقال سبحانه : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ). (1)

وهذه الآيات ونظائرها تشهد بوضوح على أنّ الشيطان وجنوده كانوا يسعون بشدة وحماس في حضّ الناس على مخالفة الأنبياء والرسل ، وكانوا يخدعونهم بالعدة والأماني ، وعند ذلك يتضح مفاد الآية ، قال سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى) (أي إذا فكّر في هداية أُمّته وخطّط لذلك الخطط ، وهيّأ لذلك المقدمات) (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) (بحضِّ الناس على المخالفة والمعاكسة وإفشال خطط الأنبياء حتى تصبح المقدمات عقيمة غير منتجة).

3. ما معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان؟

إذا عرفت هذا المقطع من الآية يجب أن نقف على مفاد المقطع الآخر منها وهو قوله سبحانه : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) وما معنى هذا النسخ؟

والمراد من ذاك النسخ ما وعد الله سبحانه رسله بالنصر ، والعون والإنجاح ، قال سبحانه : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (2) ، وقال سبحانه : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (3) ، وقال سبحانه : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ). (4)

وقال سبحانه : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ

ص : 309


1- إبراهيم : 22.
2- غافر : 51.
3- المجادلة : 21.
4- الأنبياء : 18.

الْمَنْصُورُونَ* وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ). (1)

وقال في حق النبي الأعظم - صلى الله عليه وآله وسلم - : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ). (2)

وقال سبحانه : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ). (3)

إلى غير ذلك من الآيات الساطعة التي تحكي عن انتصار الحق الممثَّل في الرسالات الإلهية في صراعها مع الباطل وأتباعه.

4. ما معنى إحكامه سبحانه آياته؟

إذا تبين معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان ، يتبين المراد من قوله سبحانه : (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ).

فالمراد من الآيات هي الدلائل الناصعة الهادية إلى الله سبحانه وإلى مرضاته وشرائعه.

وإن شئت قلت : إذا نسخ ما يلقيه الشيطان ، يخلفه ما يلقيه سبحانه إلى أنبيائه من الآيات الهادية إلى رضاه أوّلاً ، وسعادة الناس ثانياً.

ومن أسخف القول : إنّ المراد من الآيات ، الآيات القرآنية التي نزلت على النبي الأكرم ، وذلك لأنّ موضوع البحث فيها ليس خصوص النبي الأكرم ، بل الرسل والأنبياء على وجه الإطلاق ، أضف إليه انّه ليس كل نبي ذا كتاب وآيات ،

ص : 310


1- الصافات : 171 - 173.
2- التوبة : 33.
3- الأنبياء : 105.

فكيف يمكن أن يكون ذا قرآن مثله؟

ويعود مفاد الجملة إلى أنّ الله سبحانه يحكم دينه وشرائعه وما أنزله الله إلى أنبيائه وسفرائه من الكتاب والحكمة.

والحاصل : انّ في مجال الصراع بين أنصار الحق وجنود الباطل يكون الانتصار والظفر للأوّل ، والاندحار والهزيمة للثاني فتضمحل الخطط الشيطانية وتنهزم أذنابه ، بإرادة الله سبحانه ، فتخلفها البرامج الحيوية الإلهية وآياته الناصعة ، فيصبح الحق قائماً وثابتاً ، والباطل داثراً وزاهقاً ، قال سبحانه : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً). (1)

5. ما هي النتيجة من هذا الصراع؟
اشارة

قد عرفت أنّ الآية تعلِّل الهدف من هذا الصراع بأنّ ما يلقيه الشيطان يكون فتنة لطوائف ثلاث :

1. الذين في قلوبهم مرض.

2. ذات القلوب القاسية.

3. الذين أوتوا العلم.

إنّ نتيجة هذا الصراع تعود إلى اختبار الناس وامتحانهم حتى يظهروا ما في مكامن نفوسهم وضمائر قلوبهم من الكفر والنفاق أو من الإخلاص والإيمان.

فالنفوس المريضة التي لم تنلها التزكية والتربية الإلهية ، والقلوب القاسية التي

ص : 311


1- الإسراء : 81.

أسّرتها الشهوات ، وأعمتها زبارج الحياة الدنيا ، تتسابق إلى دعوة الشيطان وتتبعه فيظهر ما في مكامنها من الكفر والقسوة ، فيثبت نفاقها ويظهر كفرها.

وأمّا النفوس المؤمنة الواقفة على أنّ ما جاء به الرسل حق من جانب الله سبحانه ، فلا يزيدها ذلك إلاّ إيماناً وثباتاً وهداية وصمودا.

وهذه النتيجة حاكمة في عامة اختبارات الله سبحانه لعباده ، فإنّ اختباراته سبحانه ليس لأجل العلم بواقع النفوس ومكامنها ، فإنّه يعلم بها قبل اختبارها (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (1) ، وانّما الهدف من الاختبار هو إخراج تلك القوى والقابليات الكامنة في النفوس والقلوب ، إلى عالم التحقّق والفعلية وبالتالي تمكين الاستعدادات من الظهور والوجود.

وفي ذلك يقول الإمام أمير المؤمنين علي - عليه السلام - في معنى الاختبار بالأموال والأولاد الوارد في قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) (2) : «ليتبيّن الساخط لرزقه ، والراضي بقسمه ، وان كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب». (3)

وقد وقفت بعد ما حررت هذا على كلام لفقيد العلم والتفسير الشيخ محمد جواد البلاغي - قدس الله سره - وهو قريب مما ذكرناه : قال : المراد من الأُمنية هو الشيء المتمنّى كما هو الاستعمال الشائع في الشعر والنثر ، كما أنّ الظاهر من التمنّي المنسوب إلى الرسول والنبي ويشهد به سوق الآيات ، هو أن يكون ما يناسب وظيفتهما ، وهو تمنّي ظهور الهدى في الناس وانطماس الغواية والهوى ، وتأييد

ص : 312


1- الملك : 14.
2- الأنفال : 28.
3- نهج البلاغة : قسم الحكم الرقم : 93.

شريعة الحق ، ونحو ذلك ، فيلقي الشيطان بغوايته بين الناس في هذا المتمنّى الصالح ما يشوشه ، ويكون فتنة للذين في قلوبهم مرض ، كما ألقى بين أُمّة موسى من الضلال والغواية ما ألقى ، وألقى بين أتباع المسيح ما أوجب ارتداد كثير منهم ، وشك خواصهم فيه واضطرابهم في التعاليم ، وأحكام الشريعة بعده ، وألقى بين قوم رسول الله ما أهاجهم على تكذيبه وحربه وبين أُمّته ما أوجب الخلاف وظهور البدع ، فينسخ الله بنور الهدى غياهب الضلال وغواية الشيطان ، فيسفر للعقول السليمة صبح الحق ، ثم يحكم الله آياته ويؤيد حججه بإرسال الرسل ، أو تسديد جامعة الدين القيم. (1)

وما ذكره - قدس سره - كلام لا غبار عليه ، وقد شيدنا أساسه فيما سبق.

إلى هنا تبيّن مفاد جميع مقاطع الآية بوضوح وبقي الكلام في التفسير السخيف الذي تمسك به بعض القساوسة الطاعنين في الإسلام ، ومن حذا حذوهم من البسطاء.

التفسير الباطل للآية

ثمّ إنّ بعض القساوسة الذين أرادوا الطعن في الإسلام والتنقيص من شأن القرآن ، تمسّكوا بهذه الآية وقالوا : بأنّ المراد من الآية هو انّ «ما من رسول ولا نبي إلاّ إذا تمنّى وتلا الآيات النازلة عليه ، تدخل الشيطان في قراءته فأدخل فيها ما ليس منها» واستشهدوا لذلك التفسير بما رواه الطبري عن محمد بن كعب القرضي ، ومحمد بن قيس قالا : جلس رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في ناد من أندية قريش كثير أهله فتمنّى يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه ، فأنزل الله عليه (وَالنَّجْمِ إِذا

ص : 313


1- الهدى إلى دين المصطفى : 1 / 134.

هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) (1) فقرأها - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى إذا بلغ : (أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى* وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (2) ألقى عليه الشيطان كلمتين : «تلك الغرانقة العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى» فتكلم بها ثم مضى فقرأ السورة كلّها ، فسجد في آخر السورة وسجد القوم جميعاً معه ، ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود ، فرضوا بما تكلّم به وقالوا قد عرفنا : إنّ الله يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق ، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده إذ جعلت لها نصيباً فنحن معك ، قالا : فلمّا أمسى أتاه جبرائيل - عليه السلام - فعرض عليه السورة ، فلمّا بلغ الكلمتين اللّتين ألقى الشيطان عليه ، قال ما جئتك بهاتين ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : افتريتُ على الله وقلتُ على الله ما لم يقل فأوحى الله إليه : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) إلى قوله : (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) (3) ، فما زال مغموماً مهموماً حتى نزلت عليه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) قال فسمع من كان من المهاجرين بأرض الحبشة انّ أهل مكة قد أسلموا كلهم فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا : هم أحب إلينا فوجدوا قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان. (4)

ولا يخفى ما في هذا التفسير وشأن النزول من الإشكالات التي تسقطه عن صحة الاستناد إليه.

ص : 314


1- النجم : 1 - 2.
2- النجم : 19 - 20.
3- الإسراء : 73 ، 75.
4- تفسير الطبري : 17 / 131 ، ونقله السيوطي في الدر المنثور في تفسير الآية.

أمّا أوّلاً : فلأنّه مبني على أنّ قوله «تمنّى» بمعنى تلا ، وانّ لفظة «أُمنيته» بمعنى تلاوته ، وهذا الاستعمال ليس مأنوساً في لغة القرآن والحديث ولو صح فإنّما هو استعمال شاذ يجب تنزيه القرآن عنه.

نعم استدل بعضهم بقول حسان على ذاك الاستعمال :

تمنى كتاب الله أوّل ليلة *** وآخره لاقى حمام المقادر

وقول الآخر :

تمنّى كتاب الله آخر ليلة *** تمنّيَ داود الزبور على رسل

وهذان البيتان لو صح اسنادهما إلى عربي صميم كحسان لا يحسن حمل القرآن على لغة شاذة.

أضف إلى ذلك انّ البيت غير موجود في ديوان حسان ، وانّما نقله عنه المفسرون في تفاسيرهم ، وقد نقله أبو حيان في تفسيره (ج 6 ص 382) واستشهد به صاحب المقاييس (ج 5 ص 277).

ولو صح الاستدلال به فرضاً فإنّما يتم في اللفظ الأوّل دون الأُمنية لعدم ورودها فيه.

وثانياً : أنّ الرواية لا يمكن أن يحتج بها لجهات كثيرة أقلّها أنّ سندها ينتهي إلى ابن عباس مع أنّه لم يكن مولوداً في الوقت المجعول للقصة.

أضف إلى ذلك ، الاضطراب الموجود في متنها فقد نقل بصور مختلفة يبلغ عدد الاختلاف إلى أربع وعشرين صورة وقد جمع تلك الصور المختلفة العلاّمة البلاغي في أثره النفيس ، فلاحظ. (1)

ص : 315


1- الهدى إلى دين المصطفى : 1 / 130.

وثالثاً : أنّ القصة تكذّب نفسها ، لأنّها تتضمن أنّ النبي بعد ما أدخل الجملتين الزائدتين في ثنايا الآيات ، استرسل في تلاوة بقية السورة إلى آخرها وسجد النبي والمشركون الحاضرون معه ، فرحاً بما جاء في تينك الجملتين من الثناء على آلهتهم.

ولكن الآيات التي وقعت بعدهما ، واسترسل النبي في تلاوتها عبارة عن قوله سبحانه : (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى * إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) (1) إلى آخر الآيات.

وعندئذ يطرح هذا السؤال ، وهو انّه كيف رضي متكلّم العرب ومنطقيهم وحكيمهم وشاعرهم : الوليد بن المغيرة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بهذا الثناء القصير ، وغفل عن الآيات اللاحقة التي تندد بآلهتهم بشدة وعنف ، ويعدّها معبودات خرافية لا تملك من الألوهية إلاّ الاسم والعنوان؟!

أو ليس ذلك دليلاً على أنّ جاعل القصة من الوضّاعين الكذّابين الذي افتعل القصة في موضع غفل عن أنّه ليس محلاً لها ، وقد قيل : لا ذاكرة لكذوب.

ورابعاً : أنّ الله سبحانه يصف في صدر السورة نبيه الأكرم بقوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى) (2) ، وعندئذ كيف يصح له سبحانه أن يصف نبيه في أوّل السورة بهذا الوصف ، ثم يبدر من نبيه ما ينافي هذا التوصيف أشد المنافاة وفي وسعه سبحانه صون نبيه عن الانزلاق إلى مثل هذا المنزلق الخطير؟!

وخامساً : أنّ الجملتين الزائدتين اللّتين أُلصقتا بالآيات ، تكذبهما سائر

ص : 316


1- النجم : 22 - 23.
2- النجم : 3 - 4.

الآيات الدالة على صيانة النبي الأكرم في مقام تلقّي الوحي والتحفظ عليه وإبلاغه كما مرّ في تفسير قوله سبحانه : (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً). (1)

وقوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ). (2)

وسادساً : أنّ علماء الإسلام ، وأهل العلم والدراية من المسلمين قد واجهوا هذه الحكاية بالرد ، فوصفها المرتضى بالخرافة التي وضعوها. (3)

وقال النسفي : إنّ القول بها غير مرضيّ. وقال الخازن في تفسيره : إنّ العلماء وهّنوا أصل القصة ولم يروها أحد من أهل الصحة ، ولا أسندها ثقة بسند صحيح ، أو سليم متصل ، وإنّما رواها المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب ، الملفقون من الصحف كل صحيح وسقيم ، والذي يدل على ضعف هذه القصة اضطراب رواتها ، وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها. (4)

هذه هي أهم الإشكالات التي ترد على القصة وتجعلها في موضع من البطلان قد ذكرها المحقّقون في الرد على هذه القصة وقد ذكرنا قسماً منها في كتابنا «سيّد المرسلين» (5) ، ولا نطيل المقام بذكرها.

ص : 317


1- الجن : 27.
2- الحاقة : 44 - 46.
3- تنزيه الأنبياء : 109.
4- الهدى إلى دين المصطفى : 1 / 130.
5- كتاب أُلّف في بيان سيرة النبي الأكرم من ولادته إلى وفاته - صلى الله عليه وآله وسلم - وقد طبع في جزءين.

ص : 318

الفصل السابع: المتكلّم والصفات الخبرية

اشارة

ص : 319

ص : 320

المتكلّم

أجمع المسلمون تبعاً للكتاب والسنّة على كونه سبحانه متكلّماً ، ويبدو أنّ البحث في هذا الوصف هو أوّل مسألة في تاريخ علم الكلام طرحت على طاولة البحث ، وقد شغلت المسألة بال المُفكرين والمتكلّمين في أعصار مختلفة ، وقد تناولوها بالبحث من زاويتين :

1. ما معنى كونه سبحانه متكلّماً؟ وهل هو من صفات الذات كالعلم والقدرة ، أو من صفات الفعل كالخلق والرزق؟

2. هل كلامه سبحانه حادث أو قديم؟

وقد سبّب البحث في كون كلامه حادثاً أو قديماً صدامات سجّلها التاريخ في طياته وعُرِفتْ بمحنة خلق القرآن ، وها نحن نتناول كلاً من الموضوعين بالبحث :

معنى كونه سبحانه متكلّماً

اشارة

اختلفت كلمتهم في تفسير كونه سبحانه متكلّماً بعد اتّفاقهم على أصل الوصف ، وقد تضافرت النصوص عليه ، وإليك ما ورد في الذكر الحكيم :

1. (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ). (1)

ص : 321


1- البقرة : 253.

2. (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً). (1)

3. (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ). (2)

4. (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ). (3)

وقد بيّن سبحانه في الآية الأخيرة انّ تكليمه الأنبياء لا يعدو الأقسام التالية :

أ. (إِلاَّ وَحْياً).

ب. (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ).

ج. (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً).

وإليك تفسير الأقسام الثلاثة :

1. (إِلاَّ وَحْياً) إشارة إلى الكلام الملقى في روع الأنبياء بسرعة وخفاء.

2. (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) إشارة إلى الكلام الذي سمعه موسى - عليه السلام - في البقعة المباركة ، أعني قوله سبحانه : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ). (4)

3. (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) إشارة إلى الإلقاء بتوسيط ملك الوحي وأمينه ، قال سبحانه : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ). (5)

ص : 322


1- النساء : 164.
2- الأعراف : 143.
3- الشورى : 51.
4- القصص : 30.
5- الشعراء : 192 - 194.

وحصيلة الآيات : انّ الله سبحانه يوحي إلى أنبيائه ورسله بصور مختلفة.

تارة بلا واسطة بالإلقاء في الروع.

وأُخرى بالتكلّم من وراء حجاب بحيث يسمع الصوت ولا يُرى المتكلّم.

وثالثة بواسطة الرسول : أمين الوحي.

إذا عرفت نصوص الآيات حول تكلمه سبحانه ومفاهيمها ، فلنذكر الآراء المختلفة حول تكلّمه تعالى.

ص : 323

1- نظرية المعتزلة

ذهبت المعتزلة إلى أنّ كلامه أصوات وحروف ليست قائمة بذاته تعالى ، بل يخلقها في غيره كاللوح المحفوظ أو جبرئيل أو النبي ، وقد صرّح بذلك القاضي عبد الجبار رئيس المعتزلة في القرن الخامس فقال : حقيقة الكلام ، الحروف المنظومة ، والأصوات المقطعة ، وهذا كما يكون منعماً بنعمة توجد في غيره ، ورازقاً برزق يوجد في غيره ، فهكذا يكون متكلّماً بإيجاد الكلام في غيره ، وليس من شرط الفاعل أن يحل عليه الفعل. (1)

والظاهر انّ كونه سبحانه متكلّماً بهذا المعنى لا خلاف فيه ، إنّما الكلام في حصر تكلّمه في هذا المعنى ، قال السيّد الشريف عميد الأشاعرة في القرن التاسع في شرح المواقف : «هذا الذي قالته المعتزلة لا ننكره ، بل نحن نقوله ونسمّيه كلاماً لفظياً ونعترف بحدوثه وعدم قيامه بذاته تعالى ، ولكن نثبت أمراً وراء ذلك. (2)

ولكن يرد على هذه النظرية أنّها تفسر الكلام الذي يخاطب به سبحانه شخصاً من أوليائه ، وأمّا إذا لم يكن هناك مخاطب خاص فلا بدّ أن يكون لكلامه معنى آخر ، إذ لا معنى للخطاب بالأصوات والألفاظ دون أن يكون هناك مخاطب إلاّ أن يكون كلامه سبحانه محصوراً في هذا القسم ، وسيوافيك عدم صحّته.

ص : 324


1- شرح الأُصول للقاضي عبد الجبار : 528 ؛ شرح المواقف للسيد الشريف : 495.
2- شرح المواقف : 1 / 77.
2- نظرية الحكماء

وهناك نظرية ثانية تفسر معنى كونه متكلّماً خصوصاً فيما إذا لم يكن هناك مخاطب خاص ، وحاصل هذه النظرية هو ما يلي :

إنّ الكلام في أنظار عامة الناس هو الحروف والأصوات الصادرة من المتكلم ، القائمة به ، وهو يحصل من تموج الهواء واهتزازه بحيث إذا زالت الأمواج زال الكلام معه. ولكن الإنسان الاجتماعي يتوسع في إطلاقه ، فيطلق الكلام على الخطبة المنقولة أو الشعر المرويّ عن شخص ، ويقول : هذا كلام النبي أو خطبة الإمام علي - عليه السلام - ، مع أنّ كلامهما قد زال بزوال الموجات والاهتزازات ، وما هذا إلاّ من باب التوسع في الإطلاق ومشاهدة ترتّب الأثر على المروي والمنقول.

وعلى هذا فكلّ فعل من المتكلّم أفاد نفس الأثر الذي يفيده كلامه من إبراز ما يكتنفه الفاعل في باطنه من المعاني والحقائق ، تصحّ تسميته كلاماً من باب التوسع والتطوير.

والذي يقرب ذلك انّ المصباح وضع حينما وضع على مصداق بسيط لا يعدو الغصن المشتعل ، ولكن لمّا كان أثره - وهو الإنارة - موجوداً في الجهاز الزيتي والغازي والكهربائي أُطلق على الجميع ؛ فإذا صحت تلك التسمية وجاز ذلك التوسع في لفظ «المصباح» ، يجوز في لفظ «الكلام» ، فهو وإن وضع يوم وضع للأصوات والحروف المتتابعة الكاشفة عمّا يقوم في ضمير المتكلّم من المعاني ، إلاّ

ص : 325

أنّه لو وجد هناك شيء يفيد ما تفيده الأصوات والحروف المتتابعة بنحو أعلى وأتم ، لصحّت تسميته كلاماً أو كلمة. وهذا الشيء الذي يمكن أن يقوم مقام الكلام اللفظي هو فعل الفاعل الذي يليق أن يسمّى بالكلام الفعلي ، ففعل كلّ فاعل ، يكشف عن مدى ما يكتنفه الفاعل من العلم والقدرة والعظمة والكمال. غير أنّ دلالة الألفاظ على السرائر والضمائر اعتبارية ، ودلالة الأفعال والآثار على ما عليه الفاعل والمؤثر من العظمة تكوينية.

ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يصف عيسى بن مريم بانّه كلمة الله التي ألقاها إلى مريم العذراء ويقول : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ) (1) ، كما يصف يحيى بها ويقول : (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ). (2)

بل يَعُدّ سبحانه كلّ ما في الكون من كلماته ويقول : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً). (3)

ويقول سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ). (4)

قال أمير المؤمنين وسيّد الموحدين - عليه السلام - في «نهج البلاغة» :

«يُخْبِرُ لا بلسان وَلَهَوات ، وَيَسْمَعُ لا بخُروق وأدوات ، يقول ولا يَلفِظُ ، ويَحْفَظُ وَلا يَتَحَفَّظُ ، ويُريد ولا يُضمِر ، يُحِبّ ويرضى من غير رِقّة ، ويُبْغِضُ ويغضب من غير مشقّة ، يقول لمن أراد كونه : كن. فيكون ، لا

ص : 326


1- النساء : 171.
2- آل عمران : 39.
3- الكهف : 109.
4- لقمان : 27.

بصوت يَقْرَع ، ولا بِنداء يُسْمَع ، وإنّما كلامه سبحانه فِعْلٌ منه أنشأه ومثَّلَهُ ، لم يكن من قبل ذلك كائناً ، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً». (1)

وقد نقل عنه - عليه السلام - أنّه قال مبيّناً عظمة خلقة الإنسان :

أتزعم أنّك جرمٌ صغير *** وفيكَ انطوى العالمُ الأكبرُ

وأنت الكتابُ المبين الذي *** بأحرُفِهِ يَظْهَرُ المُضْمَرُ

فكلّ ما في صحيفة الكون من الموجودات الإمكانية كلماته ، وتخبر عمّا في المبدأ من كمال وجمال وعلم وقدرة.

ص : 327


1- نهج البلاغة : 2 / 122 ، الخطبة 179 ، ط عبده.
3- نظرية الأشاعرة

إنّ وصف التكلّم في النظريتين الماضيتين عدّ من صفات الفعل ، فهو إمّا بخلق الأصوات والألفاظ يوصف بالتكلّم ، أو بخلق العالم من جواهره وأعراضه يوصف به ، لأنّ فعله يعرب عن كماله الذاتي كما يعرب الكلام اللفظي عمّا يقوم في ذهن المتكلّم من المعاني.

غير أنّ الأشاعرة ذهبت إلى أنّ وصف التكلّم من صفات ذاته كالعلم والقدرة وفسروا معنى كونه متكلّماً بالكلام النفسي ، وقالوا :

إنّ الكلام النفسي غير علمه سبحانه في الإخبار ، وغير إرادته وكراهته في الإنشاء مثلاً ، فإذا قال سبحانه مخبراً :

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ). (1)

فانّ هناك علماً ، وكلاماً نفسيّاً ، والثاني غير الأوّل.

وإذا قال سبحانه منشئاً حكماً شرعياً إيجابياً : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى). (2) فهناك إرادة وكلام نفسي.

وإذا قال منشئاً نهياً تحريمياً : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ

ص : 328


1- التوبة : 111.
2- البقرة : 238.

الْمُؤْمِنِينَ). (1)

فهناك كراهة ، وكلام نفسي.

فالأشاعرة ذهبوا إلى أنّ في الجمل الإخبارية - وراء العلم - وفي الإنشائية كالأمر والنهي - وراء الإرادة والكراهة - شيء في ذهن كلّ متكلّم سواء أكان واجباً أم ممكناً هو المسمّى بالكلام النفسي وهو الكلام حقيقة.

وأمّا الكلام اللفظي فهو تعبير عن الكلام الواقعي.

وهذا الكلام النفسي في الإنسان حادث يتبع حدوث ذاته ، وفيه سبحانه قديم يتبع قدم ذاته ، وها نحن نأتي بكلمة من أقطاب الأشاعرة في المقام الذي يوضح معنى الكلام النفسي.

قال الفضل بن روزبهان في كتاب نهج الحق : إنّ الكلام عندهم لفظ مشترك يطلقونه على المؤلَّف من الحروف المسموعة ، وتارة يطلقونه على المعنى القائم بالنفس الذي يعبر عنه بالألفاظ ويقولون هو الكلام حقيقة ، وهو قديم قائم بذاته ، ولا بدّ من إثبات هذا الكلام ، فانّ العرف لا يفهمون من الكلام إلاّ المؤلف من الحروف والأصوات ، فنقول :

ليرجع الشخص إلى نفسه انّه إذا أراد التكلّم بالكلام ، فهل يفهم من ذاته انّه يزوِّر ويرتِّب معاني فيعزم على التكلم بها؟ كما أنّ من أراد الدخول على السلطان أو العالم فانّه يرتّب في نفسه معاني وأشياء ويقول في نفسه سأتكلم بهذا ، فالمصنف يجد من نفسه هذا البتة ، فها هو الكلام النفسي.

ثمّ نقول على طريقة الدليل : إنّ الألفاظ التي نتكلم بها لها مدلولات قائمة

ص : 329


1- آل عمران : 28.

بالنفس فنقول هذه المدلولات هي الكلام النفسي. (1)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره صحيح ولكنه ليس شيئاً وراء العلم في الجمل الخبرية ولا غير الإرادة والكراهة في الجمل الإنشائية ، وذلك :

إنّ المعاني التي تدور في خلد المتكلم في الجمل الخبرية ليست إلاّ تصور المعاني المفردة أو المركبة أو الإذعان بالنسبة فيرجع الكلام النفسي إلى التصورات والتصديقات فأي شيء هنا وراء العلم حتّى نسمّيه بالكلام النفسي.

كما أنّه عند ما يرتّب المعاني الإنشائية فلا يرتّب إلاّ إرادته وكراهته أو ما يكون مقدّمة له ، كتصور الشيء والتصديق بفائدته ، فيرجع الكلام النفسي في الإنشاء إلى الإرادة والكراهة بضميمة تصور أُمور يعدّ من مقدماتهما ، فأي شيء هنا غير الإرادة والكراهة وغير التصور والتصديق حتّى نسمّيه بالكلام النفسي.

وعلى ضوء ذلك لا يكون التكلّم وصفاً وراء العلم في الاخبار ووراء الإرادة والكراهة في الإنشاء مع أنّ الأشاعرة يصرّون على إثبات وصف ذاتي لكلّ متكلّم واجباً كان أو ممكناً وراء العلم والإرادة والكراهة ، ولذلك يقولون : كونه متكلّماً بالذات غير كونه عالماً ومريداً بالذات.

وحصيلة الكلام : انّ الأشاعرة زعموا انّ في ذهن المتكلّم في الجملة الخبرية والإنشائية وراء التصوّرات والتصديقات في الأُولى ، ووراء الإرادة في الثانية شيئاً يسمّونه الكلام النفسي ، وربّما سمّوا الكلام النفسي في القسم الإنشائي بالطلب مشعرين بتغايره مع الإرادة ، وبذلك صحّحوا كونه سبحانه متكلّماً ، ككونه عالماً وقادراً ، وانّ الكلّ من الصفات الذاتية.

ص : 330


1- نهج الحق ، المطبوع في ضمن دلائل الصدق : 146.

ولكن البحث والتحليل أوقفنا على خلاف ما ذهبوا إليه ، لما عرفت من أنّه ليس وراء العلم في الجمل الخبرية ، ولا وراء الإرادة والكراهة في الجمل الإنشائية شيء نسمّيه كلاماً نفسياً ، ولو أرادوا بالكلام النفسي معنى الكلام اللفظي أو صورته العلمية التي ينطبق على لفظه ، يرجع لبه إلى العلم ولا يزيد عليه وإن أرادوا به معنى وراء ذلك فلسنا نعرفه في نفوسنا إذا راجعناه.

أدلّة الأشاعرة على الكلام النفسي

ثمّ إنّ الأشاعرة استدلّوا على وجود الكلام النفسي في كلّ متكلّم بوجوه لا تسع الرسالة لذكرها. ونقتصر بذكر دليلين :

الأوّل : العصاة والكفّار مكلَّفون بما كلّف به أهل الطاعة والإيمان بنص القرآن الكريم ، والتكليف عليهم لا يكون ناشئاً من إرادة الله سبحانه وإلاّ لزم تفكيك إرادته عن مراده ، ولا بدّ أن يكون هناك منشأ آخر للتكليف ، وهو الذي نسمّيه بالكلام النفسي تارة ، والطلب أُخرى ، فيستنتج من ذلك انّه يوجد في الإنشاء شيء غير الإرادة.

ويجاب عنه بوجهين :

1. إرادته سبحانه لو تعلّقت بفعل نفسه فلا تنفك عن المراد ، وأمّا إذا تعلّقت بفعل الغير فبما انّها تعلّقت بالفعل الصادر عن العبد عن حرية واختيار ، فلا محالة يكون الفعل مسبوقاً باختيار العبد ، فإن أراد واختار العبد يتحقّق الفعل ، وإن لم يرد فلا يتحقّق.

وبعبارة أُخرى : لم تتعلّق مشيئته سبحانه بصدور الفعل من العبد على كلّ تقدير ، أي سواء أراده أم لم يرده ، وإنّما تعلّقت بصدوره منه بشرط سبق الإرادة ، فإن

ص : 331

سبقت يتحقّق الفعل وإلاّ فلا.

2. انّ إرادته سبحانه لا تتخلّف عن مراده مطلقاً من غير فرق بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية.

أمّا الأُولى ، فلو تعلّقت إرادته بإيجاد الشيء مباشرة أو من طريق الأسباب يتحقّق لا محالة ، قال سبحانه : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). (1)

وأمّا الثانية ، فلا بد من إمعان النظر في متعلّق الإرادة ، فانّ متعلّقها في الإرادة التشريعية هو الإنشاء والبعث أو الزجر والتنفير وهو متحقّق في جميع عوامله ونواهيه ، سواء امتثل العبد أم خالف.

وأمّا فعل العبد أو انتهاؤه فليسا متعلّقين بالإرادة التشريعية في أوامره ونواهيه ، فتخلّفها لا يعدّ نقضاً للقاعدة ، لأنّ فعل الغير لا يكون متعلّقا لإرادة أحد ، لعدم كون فعل الغير في اختيار المريد ، ولأجل ذلك ذهب المحقّقون إلى أنّ الإرادة التشريعية إنّما تتعلّق بفعل النفس ، أي إنشاء البعث والزجر لا فعل الغير.

الثاني : انّ كلّ عاقل يعلم أنّ المتكلّم من قامت به صفة التكلّم ، ولو كان معنى كونه سبحانه متكلماً هو خلق الكلام ، فلا يكون ذلك الوصف قائماً به فلا يقال لخالق الكلام متكلم.

يلاحظ عليه : أنّ قيام المبدأ بالفاعل ليس منحصراً بالقيام الحلولي ، بل له أقسام :

1. القيام الصدوري ، كالقتل والضرب في القاتل والضارب.

2. القيام الحلولي ، كالعلم والقدرة في العالم والقادر.

ص : 332


1- يس : 82.

3. القيام الانتسابي ، كما في اللابن والتامر.

إلى غير ذلك من أنواع القيام ، فالتكلّم كالضرب ليس من المبادئ الحلولية في الفاعل ، بل من المبادئ الصدورية ، فلأجل انّه سبحانه موجد الكلام يطلق عليه انّه متكلّم وزان إطلاق الرازق والخالق والمميت والمحيي.

إلى هنا خرجنا بالنتيجة التالية : انّ تفسير وصفه سبحانه بكونه متكلماً إنّما يصحّ بكلا الوجهين الأوّلين :

1. كونه خالقاً للكلام في الخارج بنحو من الأنحاء.

2. كون فعله مطلقاً كلام له.

وأمّا تفسير كلامه بالكلام النفسي فغير صحيح.

إلى هنا تمّ الكلام في المقام الأوّل ، وحان البحث في المقام الثاني ، أي في حدوثه وقدمه الذي شغل بال المحدّثين والمتكلّمين عبر القرون.

ص : 333

2- في حدوث كلامه سبحانه أو قدمه
اشارة

وقبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً :

1. مبدأ فكرة قدم القرآن

الفتوحات الإسلامية أوجبت اختلاط المسلمين بغيرهم وصارت مبدأ لاحتكاك الثقافتين الإسلامية والأجنبية ، وفي ذلك الخضمّ المشحون بتضارب الأفكار طُرِحت مسألة تكلّمه سبحانه في الأوساط الإسلامية. هذا من جانب.

ومن جانب آخر ، كان الخلفاء يروّجون الخوض في المسائل العقائدية حتّى تنصرف الطبقة الفاضلة عن نقد أفعالهم وانحرافاتهم.

فالمهم في المقام التنبيه على مصدر هذه الفكرة (قدم القرآن أو حدوثه) فنقول : إنّ البحث في كونه مخلوقاً أو غير مخلوق ، حادثاً أو قديماً ممّا أثاره النصارى الذين كانوا في بلاط البيت الأُموي ، وعلى رأسهم يوحنا الدمشقي (المتوفّى 112 ه) الذي كان يشكّك المسلمين في دينهم ، فبما انّ القرآن عدّ عيسى بن مريم (كلمة الله) حيث قال : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ) صار ذلك وسيلة لئن يبثّ هذا الرجل بين المسلمين قدم «المسيح» عن طريق خاص ، وهو أنّه كان يسألهم : أكلمة الله قديمة أو لا؟

ص : 334

فإن قالوا : قديمة.

قال : ثبت دعوى النصارى بأنّ عيسى قديم ، لأنّه كلمة الله حسب تعبير كتابكم.

وإن قالوا : لا.

قال : زعمتم انّ كلامه مخلوق (أي مختلق).

فهو يجعل المسلمين على مفترق طريقين :

1. القرآن إمّا قديم ، فعندئذ يثبت نظرية النصارى في المسيح ، لأنّه كلمة الله حسب تنصيص القرآن ، والكلام والكلمة قديم ، فثبت انّ عيسى المسيح قديم.

2. أو مخلوق ، أي مختلق مكذوب على الله.

وبهذه القضية المنفصلة هيمن على السُّذّج من الناس وجرّ المحدِّثين إلى القول بأنّ القرآن قديم حذراً من كونه مختلقاً.

وقد غاب عنهم أوّلاً : انّ نقيض قولهم : القرآن قديم ، هو كونه حادثاً ، والقول بالحدوث لا يترتب عليه أي فساد.

وثانياً : انّ قولهم مخلوق ليس بمعنى «مختلق» ، أعني : ما يومي إليه قول القائل الذي حكاه سبحانه في كتابه (إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ) (1) ، بل بمعنى انّه مخلوق لله سبحانه أنزله بعلمه على قلب سيّد المرسلين ، فلا فرق بين القرآن وسائر الموجودات في أنّ الجميع مخلوق له سبحانه.

وممّا يؤيد انّ فكرة قدم القرآن تعود إلى أهل الكتاب ما رواه ابن النديم في

ص : 335


1- المدثر : 25.

فهرسته قال : قال أبو العباس البغوي : دخلنا على «فثيون» النصراني وكان دار الروم بالجانب الغربي ، فجرى الحديث إلى أن سألته عن ابن كلاب (الذي كان يقول بأنّ كلام الله هو الله).

فقال : «رحم الله عبد الله كان يجيء فيجلس إلى تلك الزاوية وأشار إلى ناحية من البيعة وعنّي أخذ هذا القول (كلام الله هو الله) ولو عاش لنصّرنا المسلمين».

قال البغوي : وسأله محمد بن إسحاق الطالقاني ، فقال : ما تقول في المسيح؟ قال : ما يقوله أهل السنّة من المسلمين في القرآن. (1)

وعلى ذلك فالمسألة مستوردة وليست ناجمة من صميم الدين وأُصوله وقد طرحت في أوائل القرن الثاني في عصر المأمون وامتدت إلى عصر المتوكّل وما بعده.

2. واجب أهل الحديث ، السكوت في هذه المسائل

إنّ مسلك أهل الحديث في اتّخاذ العقيدة في مسائل الدين هو اقتفاء كتاب الله وسنّة رسوله ، فما جاء فيها يؤخذ به وما لم يجئ فيها يُسكت عنه ولا يبحث فيه ، ولأجل ذلك كان أهل الحديث يحرّمون علم الكلام ويمنعون البحث عن كلّ ما ليس وارداً في الكتاب والسنّة.

وعلى هذا كان اللازم على أهل الحديث السكوت وعدم النبس ببنت شفة في هذه المسألة ، لأنّ البحث فيها حرام على أُصولهم ، سواء أكان الموقف هو قدم القرآن أو حدوثه ، لأنّه لم يرد فيه نصّ عن رسول الله ولا عن أصحابه ، ومع الأسف

ص : 336


1- فهرست ابن النديم : 23 ، الفن الثالث من المقالة الخامسة.

كان موقفهم وفي مقدمهم أحمد بن حنبل موقف الإيجاب وتكفير المخالف.

3. طرح المسألة في ظروف عصيبة

إنّ تاريخ البحث عن حدوث القرآن وقدمه يعرب عن أمرين :

أ. انّ المسألة طرحت في جو غير هادئ ، ولم يكن البحث لغاية كشف الحقيقة وابتداعها ، بل كلّ يصرّ على إثبات مدّعاه.

ب. لم يكن موضوع البحث منقَّحاً حتّى يتوارد عليه النفي والإثبات ، وانّهم لما ذا يفرّون من القول بحدوث القرآن؟ ولما ذا يكفّرون القائل به؟ أهم يريدون من قدم القرآن ، قدم الآيات التي يتلوها القارئ أو النبي أو أمين الوحي؟ أم يريدون قدم معانيه والمفاهيم الواردة فيه؟ أو يريدون قدم علمه سبحانه إلى غير ذلك من الاحتمالات التي سيوافيك مع أنّهم لم يركّزوا البحث على واحد منها.

إذا علمت هذه الأُمور فلنرجع إلى تحليل القول بحدوث القرآن وقدمه ، فنقول :

تحليل مسألة القول بقدم القرآن

إنّ محط النزاع لم يُحدد بشكل واضح يقدر الإنسان معه على القضاء فيه ، فهاهنا احتمالات يمكن أن تكون محطّ النظر لأهل الحديث والأشاعرة نطرحها على بساط البحث ونطلب حكمها من العقل الحصيف والقرآن الكريم :

1. الألفاظ والجمل الفصيحة البليغة التي عجز الإنسان في جميع القرون عن الإتيان بمثلها ، وقد جاء بها أمين الوحي إلى النبي الأكرم ، وقرأها الرسول فتلقّتها الأسماع وحرّرتها الأقلام على الصحف المطهرة. فهي ليست بمخلوقة على الإطلاق لا لله سبحانه ولا لغيره.

ص : 337

2. المعاني السامية والمفاهيم الرفيعة في مجالات التكوين والتشريع والحوادث والأخلاق والآداب وغيرها الواردة في القرآن.

3. ذاته سبحانه وصفاته من العلم والقدرة والحياة التي بحث عنها القرآن وأشار إليها بألفاظه وجُمَلِه.

4. علمه سبحانه بكلّ ما ورد في القرآن الكريم.

5. الكلام النفسي القائم بذاته.

6. القرآن ليس مخلوقاً للبشر وإن كان مخلوقاً لله.

وهذه المحتملات لا تختص بالقرآن الكريم ، بل تطّرد في جميع الصحف السماوية النازلة إلى أنبيائه ورسله.

وإليك بيان حكمها من حيث الحدوث والقدم.

أمّا الأوّل : فلا أظن أنّ إنساناً يملك شيئاً من الدَّرْك والعقل يعتقد بكونها غير مخلوقة أو كونها قديمة ، كيف وهي شيء من الأشياء ، وموجود من الموجودات ، ممكن غير واجب. فإذا كانت غير مخلوقة وجب أن تكون واجبة بالذات وهو نفس الشرك بالله سبحانه وحتّى لو فُرض أنّه سبحانه يتكلّم بهذه الألفاظ والجمل ، فلا يخرج تكلُّمه عن كونه فعله ، فهل يمكن أن يقال إنّ فعله غير مخلوق أو قديم؟!

وأمّا الثاني : فهو قريب من الأوّل في البداهة ، فإنّ القرآن - وكذا سائر الصحف - يشتمل على الحوادث المحقَّقة في زمن النبي من مُحاجّة أهل الكتاب والمشركين وما جرى في غزواته وحروبه من الحوادث المؤلمة أو المُسرّة ، فهل يمكن أن نقول بأنّ الحادثة التي يحكيها قوله سبحانه : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ

ص : 338

فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ). (1) قديمة؟

وقد أخبر الله تبارك وتعالى في القرآن والصحف السماوية عمّا جرى على أنبيائه من الحوادث وما جرى على سائر الأُمم من ألوان العذاب ، كما أخبر عمّا جرى في التكوين من الخلق والتدبير ، فهذه الحقائق الواردة في القرآن الكريم ، حادثة بلا شكّ ، لا قديمة.

وأمّا الثالث : فلا شكّ أنّ ذاته وصفاته من العلم والقدرة والحياة وكلّ ما يرجع إليها كشهادته أنّه لا إله إلاّ هو ، قديم بلا إشكال وليس بمخلوق بالبداهة ، ولكنّه لا يختصّ بالقرآن ، بل كلّ ما يتكلّم به البشر ويشير به إلى هذه الحقائق ، فالمشار إليها بالألفاظ والأصوات قديمة ، وفي الوقت نفسه ما يشار به من الكلام والجمل حادث.

وأمّا الرابع : أي علمه سبحانه بما جاء في هذه الكتب وما ليس فيها ، فلا شكّ أنّه قديم نفس ذاته. ولم يقل أحد من المتكلّمين الإلهيين - إلاّ من شذّ من الكرّامية - بحدوث علمه.

وأمّا الخامس : أعني كونه سبحانه متكلّماً بكلام قديم أزلي نفساني ليس بحروف الأصوات ، مغاير للعلم والإرادة ، فقد عرفت أنّ ما سمّاه الأشاعرة كلاماً نفسيّاً لا يخرج عن إطار العلم والإرادة ، ولا شكّ أنّ علمه وإرادته البسيطة قديمان.

وأمّا السادس : وهو أنّ الهدف من نفي كونه غير مخلوق ، كون القرآن غير مخلوق للبشر ، وفي الوقت نفسه هو مخلوق لله سبحانه ، فهذا أمر لا ينكره مسلم. فإنّ القرآن مخلوق لله سبحانه والناس بأجمعهم لا يقدرون على مثله.

ص : 339


1- المجادلة : 1.

قال سبحانه : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً). (1)

وهذا التحليل يُعرِبُ عن أنّ المسألة كانت مطروحة في أجواء مُشَوّشة وقد اختلط فيها الحابُل بالنابِل ، ولم يكن محط البحث محرّراً على وجه الوضوح حتّى يعرف المُثْبَت عن المَنْفي ، ويُمخض الحق من الباطل.

موقف أهل البيت - عليهم السلام - في هذه المسألة

إنّ تاريخ البحث وما جرى على الفريقين من المحن ، يشهد بأنّ التشدّد فيه لم يكن لإحقاق الحقّ وإزاحة الشكوك ، بل استغلت كلّ طائفة تلك المسألة للتنكيل بخصومها. فلأجل ذلك نرى أنّ أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - منعوا أصحابهم من الخوض في تلك المسألة ، فقد سأل الرّيّان بن الصَّلْت الإمام الرضا - عليه السلام - وقال له : ما تقول في القرآن؟

فقال - عليه السلام - : «كلامُ الله لا تَتَجاوَزُوهُ وَلا تَطْلبوا الهُدى في غَيرِه ، فَتَضِلّوا». (2)

وروى علي بن سالم عن أبيه قال : سألت الصادق جعفر بن محمد - عليه السلام - فقلت له : يا ابن رسول الله ما تقول في القرآن؟

فقال : «هو كلامُ الله ، وقولُ الله ، وكتابُ الله ، ووحيُ الله ، وتنزيلُه. وهو الكتاب العزيز لا يأتيه الباطل من بين يَدَيْه ولا من خلفه ، تنزيلٌ من حكيم حميد». (3)

ص : 340


1- الإسراء : 88.
2- التوحيد للصدوق ، باب القرآن ما هو ، الحديث 2 ، ص 223.
3- التوحيد ، للصدوق ، باب القرآن ، الحديث 3 ، ص 224.

وحدّث سليمان بن جعفر الجعفري قال : قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر - عليه السلام - : يا ابن رسول الله ، ما تقول في القرآن؟ فقد اختلف فيه مَن قبْلَنا ، فقال قوم إنّه مخلوق ، وقال قوم إنّه غير مخلوق؟

فقال - عليه السلام - : «أما إنّي لا أقول في ذلك ما يقولون ، ولكنّي أقول : إنّه كلام الله». (1)

فإنّا نرى أنّ الإمام - عليه السلام - يبتعد عن الخوض في هذه المسألة لما رأى من أنّ الخوض فيها ليس لصالح الإسلام ، وأنّ الاكتفاء بأنّه كلام الله أحسم لمادة الخلاف. ولكنّهم - عليهم السلام - عند ما أحسوا بسلامة الموقف ، أدلوا برأيهم في الموضوع ، وصرّحوا بأنّ الخالق هو الله وغيره مخلوق والقرآن ليس نفسه سبحانه ، وإلاّ يلزم اتحاد المُنْزَل والمُنْزِل ، فهو غيره ، فيكون لا محالة مخلوقاً.

فقد روى محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني أنّه كتب علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا - عليه السلام - إلى بعض شيعته ببغداد : «بسم الله الرّحمن الرّحيم ، عَصَمَنا اللهُ وإيّاك من الفِتْنَةِ ، فإنْ يَفْعَل فقد أعظَمَ بِها نِعمة ، وإن لا يَفْعَل فهي الهَلَكة. نحن نرى أنّ الجِدالَ في القرآن بِدْعَةٌ ، اشترك فيها السائل والمُجيب ، فيتعاطى السائل ما ليس له ، ويتكلّف المُجيب ما ليس عليه ، وليس الخالقُ إلاّ الله عزّ وجلّ ، وما سواهُ مخلوقٌ ، والقرآنُ كلامُ الله ، لا تَجْعَل لَه اسماً مِنْ عندِك فتكون من الضّالّين ، جعَلَنا الله ، وإياك من الّذين يَخْشَوْنَ ربّهم بالغيب وهم من السّاعة مُشفقون». (2)

وفي الرواية المروية إشارة إلى المحنة التي نقلها المؤرخون ، حيث كتب المأمون

ص : 341


1- المصدر السابق ، الحديث 5 ، ص 224.
2- المصدر السابق ، الحديث 4.

إلى الولاة في العواصم الإسلامية أن يختبروا الفقهاء والمحدّثين في مسألة خلق القرآن ، وفرض عليهم أن يعاقبوا كلّ من لا يرى رأي حدوث القرآن في هذه المسألة. وجاء المعتصم والواثق فطبّقا سيرته وسياسته مع خصوم المعتزلة وبلغت المحنة أشدها على المحدّثين ، وبقى أحمد بن حنبل ثمانية وعشرين شهراً تحت العذاب فلم يتراجع عن رأيه. (1)

ولما جاء المتوكل العباسي ، نصر مذهب الحنابلة وأقصى خصومهم ، فعند ذلك أحسّ المحدثون بالفرج وأحاطت المحنة بأُولئك الذين كانوا بالأمس القريب يفرضون آراءهم بقوة السلطان.

فهل يمكن عدّ مثل هذا الجدال جدالاً إسلامياً ، وقرآنياً ، لمعرفة الحقيقة وتبيّنها ، أو أنّه كان وراءه شيء آخر؟ الله العالم بالحقائق وضمائر القلوب.

ص : 342


1- لاحظ سير أعلام النبلاء للذهبي ، ج 11 ، ص 252.

الصفات الخبرية

اشارة

قسّم الباحثون صفاتهِ سبحانه إلى : صفات ذاتية وصفات خبرية. فالعِلْم والقدرة والحياة والسمع والبصر وكلّ ما تطلق عليه صفة الكمال يعدّ من الصفات الذاتية ، وأمّا ما دلّت عليه ظواهر الآيات والأحاديث كالعلوّ والوجه واليدين والاستواء والرجل إلى غير ذلك ممّا ورد في المصدرين فتعدّ من الصفات الخبريّة.

ثمّ إنّ لأهل الحديث والكلام آراءً في تفسير الصفات الخبرية قد أوضحنا حالها في بحوثنا الكلامية (1) ، ونحن نقتصر في المقام بنقل ما عليه سلف أهل السنّة وهم على طائفتين :

نعبر عنها ب :

مبتدعة السلفية.

ومعطِّلة السلفية.

والطائفة الأُولى مغترون بظواهر بعض الآيات والأحاديث من دون إمعان وفكر في مفاهيمها ومقاصدها وهم المجسِّمة والمشبِّهة.

والطائفة الثانية يتبرّءون من التجسيم ولكنّهم لا يخوضون في فهم الآيات ولا يمعنون في معانيها ، وبذلك عدّوا من المُعطِّلة ، لأنّهم عطّلوا العقول في الإمعان في صفاته. فكلا الطائفتين حُرمتا من الاستضاءة بنور القرآن.

ص : 343


1- لاحظ بحوث في الملل والنحل : 2 / 95 - 114 ؛ مفاهيم القرآن : قسم المقدمة : 3215.

وإليك دراسة كلتا النظريتين :

1. مبتدعة السلفية

إنّ غالبية السلف اغترّوا بكل حديث وقعت أعينهم عليه ، فجمعوا في حقائبهم كلّ ما سمعوه ، وبالتالي أخذوا بالظواهر وتركوا الاستعانة بالقرائن ، ووصفوا كلّ بحث حول المعارف القرآنية تأويلاً للقرآن وخروجاً عن الدين ، وكبحوا جماح العقل بتهمة الزندقة ، فوصفوا الكمال المطلق بالحلول والنزول والصعود والاستواء على السرير ، ترى كثيراً من هذه الأحاديث في مرويات حمّاد بن سلمة ، ونعيم بن حماد ، ومقاتل بن سليمان ، ومن لفّ لفّهم ، ففي مرويّاتهم تلك الآثار المشينة ، وقد قلّدهم كثير من البسطاء في القرون المتأخرة فحسبوها حقائق راهنة وألفوا فيها الكتب.

وعلى هذا الأساس ألّف كتاب «التوحيد» لمحمد بن إسحاق بن خزيمة (المتوفّى 321 ه) وكتاب «السنّة» لعبد الله بن أحمد بن حنبل ، وكتاب «النقض» لعثمان بن سعيد الدارمي السجزي المجسّم فانّه أوّل من اجترأ من المجسمة بالقول بأنّ الله لو شاء لاستقرّ على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته فكيف على عرش بعيد؟!!

هذا هو الشهرستاني يحكي عقيدة مبتدعة السلف الذين يجرون الصفات الخبرية على الله بمعانيها الحرفية من دون تدبر فيما هو المراد الواقعي من خلال هذه الصفات ، ويقول

وأمّا ما ورد في التنزيل من الاستواء والوجه واليدين والجنب والمجيء والإتيان والفوقية وغير ذلك ، فأجروها على ظاهرها ، أعني : ما يفهم عند إطلاق

ص : 344

هذه الألفاظ على الأجسام ، وكذلك ما ورد في الأخبار من الصورة وغيرها في قوله عليه الصلاة والسلام : «خُلق آدم على صورة الرحمن» ، وقوله : «حتّى يضع الجبار قدمه في النار» ، وقوله : «قلب المؤمن بين اصبعين من أصابع الرحمن» ، وقوله : «خمّر طينة آدم بيده أربعين صباحاً» ، وقوله : «وضع يده أو كفّه على كتفي» ، وقوله : «حتّى وجدت برد أنامله على كتفي» إلى غير ذلك ، أجروها على ما يتعارف في صفات الأجسام ، وزادوا في الأخبار أكاذيب وضعوها ونسبوها إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأكثرها مقتبسة من اليهود ، فانّ التشبيه فيهم طباع ، حتّى قالوا : اشتكت عيناه (الله) فعادته الملائكة ، وبكى على طوفان نوح حتّى رمدت عيناه ، وإنّ العرش لتئط من تحته أطيط الرحل الجديد ، وأنّه ليفضل من كلّ جانب أربع أصابع ، وروى المشبهة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لقيني ربي فصافحني وكافحني ووضع يده بين كتفي حتّى وجدت برد أنامله». (1)

هذه عقيدة مبتدعة السلف ، وإليك شيئاً من نصوص هؤلاء :

1. قيل لعبد الله بن مبارك : كيف يعرف ربنا؟ قال : بأنّه فوق السماء السابعة على العرش بائن من خلقه. (2)

2. وقال الأوزاعي : إنّ الله على عرشه ، ونؤمن بما وردت به السنّة من صفاته. (3)

3. وقال الدارمي في مقدّمة كتابه «الرد على الجهمية» : استوى على عرشه ، فبان من خلقه ، لا تخفى عليه منهم خافية ، علمه بهم محيط ، وبصره فيهم نافذ. (4)

ص : 345


1- الملل والنحل : 1 / 105 - 107. 2 ، 3 ، 4 راجع في الوقوف على مصادر هذه النصوص كتاب «علاقة الإثبات والتفويض» : ص 48 ، 41 ، 68.

4. وقال المقدسي في كتابه «أقاويل الثقات في الصفات» : ولم ينقل عن النبي أنّه كان يحذِّر الناس من الإيمان بما يظهر في كلامه في صفة ربّه من الفوقية واليدين ونحو ذلك ، ولا نقل لهذه الصفات معاني أُخر ، باطنها غير ما يظهر من مدلولها ، وكان يحضر في مجلسه العالم والجاهل والذكي والبليد والأعرابي الجافي ، ثمّ لا تجد شيئاً يعقب تلك النصوص بما يصرفها عن حقائقها ، لا نصاً ولا ظاهراً ، ولما قال للجارية : أين الله؟ فقالت : في السماء ، لم ينكر عليها بحضرة أصحابه كي لا يتوهموا أنّ الأمر على خلاف ما هي عليه ، بل أقرّها وقال : أعتقها فإنّها مؤمنة. (1)

5. وقال القرطبي في تفسيره عند تفسير آية 54 من سورة الأعراف (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ):

وقد كان السلف الأوّل - رضي الله عنهم - لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك ، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله ، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنّه استوى على عرشه حقيقة ، وخص العرش بذلك لأنّه أعظم مخلوقاته ، وإنّما جهلوا كيفية الاستواء فإنّها لا تعلم حقيقته. (2)

إلى غير ذلك من الكلمات التي يتبادر منها أنّ القائل بها يريد إجلاسه سبحانه على العرش إجلاساً حقيقياً حسّياً ، وأنّ تلك هي العقيدة الإسلامية التي يشترك فيها العالم والأعرابي الجافي.

ولكن العجب انّ هذه البدع بعد إخمادها ، أخذت تنتعش في أوائل القرن الثامن بيد أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفّى عام 728 ه) فجدد ما

ص : 346


1- «علاقة الإثبات والتفويض» ، ص 115.
2- الملل والنحل : 1 / 15.

اندرس من آثار تلك الطائفة المشبّهة ، وقد وصفه السبكي في «السيف الصقيل» : «بأنّه رجل جسور يقول بقيام الحوادث بذات الرب» ، ولكنّه يقول بأنكر من ذلك ، وقد أتى بنفس ما ذكره الدارمي المجسم في كتابه «غوث العباد» المطبوع بمصر عام 1351 ه - في مطبعة الحلبي.

وعلى ذلك فابن تيمية أذن إمام المدافعين عن بيضة أهل التشبيه وشيخ إسلام أهل التجسيم ممّن سبقه من الكرامية وجهلة المحدّثين ، الذين اهتموا بالحفظ المجرد ، وغفلوا عن الفهم والتفكير ، ولأجل ذلك نرى أنّ الشيخ الحراني يرمي المفكّرين من المسلمين كإمام الحرمين والغزالي في كتابيه (منهاج السنة والموافقة المطبوع على هامش الأوّل) ، بأنّهما أشدّ كفراً من اليهود والنصارى مع أنّه (أي ابن تيمية) يعتنق عقائد يخالف فيها جمهرة المسلمين وأئمّة أهل البيت - عليهم السلام -.

2. معطلة السلفية
اشارة

لمّا كانت هذه الفكرة تُخبر عن التجسيم والجهة وغير ذلك من المضاعفات حاول الإمام الأشعري (324260 ه) بإصلاح عقيدة أهل الحديث بشق طريق متوسط بين الأخذ بالصفات الخبرية بحرفيتها وبين تأويلها الذي كان عليه المعتزلة فصارت عقيدة الأشعري عقيدة معدّلة.

وحاصل تلك النظرية : انّ الصفات الخبرية تُحمل على الله تعالى بنفس معانيها ولكن مقيدة بعدم الكيف ، فله سبحانه يد بلا كيف ، وعين بلا كيف ، ورجل بلا كيف ، واستواء بلا كيف ، ومعنى كونه بلا كيف انّه لا يعرف كنه الصفة ولسنا مكلّفين بمعرفة تفسير هذه الآيات.

وهذه الطائفة وإن خرجت عن مغبّة التشبيه والتجسيم غير انّهم تورّطوا في أشراك التعطيل وحبائله ، فعطّلوا العقول عن التفكّر في المعارف والأُصول كما

ص : 347

عطّلوها عن التدبر في الآيات والأحاديث ، فكأنّ القرآن ألغاز نزلت إلى البشر ، وليس كتاباً للتعليم والإرشاد ، قال تعالى (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (1) فإذا كان القرآن مبيناً لكلّ شيء فكيف لا يكون مبيناً لنفسه؟ وكيف يكون المطلوب منه نفس الاعتقاد من دون فهم معناه؟

ولكن التتبع في سير المسائل الكلامية يثبت بأنّ هذا النوع من العقيدة حول الصفات الخبرية كانت له جذور في كلام أئمّة أهل السنّة ، ولعلّ الإمام الأشعري أخذ النظرية عنهم. وإليك نصين أحدهما من أبي حنيفة والآخر من الشافعي.

قال أبو حنيفة : وما ذكر الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس ، فهو له صفات بلا كيف ولا يقال انّ يده قدرته ونعمته ، لأنّ فيه إبطال الصفة ، وهذا قول أهل القدر والاعتزال ولكن يده صفته بلا كيف ، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف.

وقال الشافعي : لله أسماء وصفات لا يسع أحداً ردّها ، ومن خالف بعد ثبوت الحجّة عليه كفر ، وأمّا قبل قيام الحجّة ، فانّه يعذر بالجهل ، ونثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه فقال ب (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (2). (3)

إثبات الأشعري بين التشبيه والتعقيد

إنّ نظرية الإمام الأشعري - بل نظرية الإمامين : أبي حنيفة والشافعي - وان تميّزت عن سابقتها بنفي التجسيم والتشبيه لكنّها انتهت إلى سقوطها في ورطة

ص : 348


1- النحل : 89.
2- الشورى : 11.
3- فتح الباري : 13 / 343.

الألغاز والتعقيد ، وذلك من خلال البيان التالي :

إنّ العقيدة الإسلامية المستقاة من الكتاب والسنّة والعقل الحصيف تتسم بسمتين :

1. تنزيهها عن التشبيه والتجسيم المأثورين عن اليهود والنصارى.

2. ابتعادها عن التعقيد والالغاز التي لا تجتمع مع موقف الاسلام والقرآن في عرض العقائد بأسلوب واضح على المجتمع الإسلامي.

فكما أنّه يجب على الباحث التحرز عن سمة التجسيم والتشبيه ، يجب التحرز عن جعل صفاته سبحانه ألفاظاً جوفاء أو معاني معقدة لا يفهم منها شيء.

وللأسف انّ أكثر السلف ابتلوا بأحد هاتين الوصمتين : إمّا التشبيه والتجسيم كما مرّ ، وإمّا التعقيد واللغز. وذلك لأنّ إثبات الصفات الخبرية لله سبحانه وإمرارها عليه عند السلف «مبتدعة ومعطّلة» لا يخرج عن أحد هذين الإطارين ، فالكلّ إمّا يتكلّمون عنها في إطار التشبيه والتكييف ، ويسترسلون في هذا المضمار ، كما عليه مبتدعة السلف ، أو يفسرونها في إطار من التعقيد والغموض ، والكلّ مردود ، مرفوض.

وها نحن نأتي ببعض نصوص القوم في هذا المجال ، حتى نرى كيف أنّ العناية بالإثبات في مقابل «نفاة الصفات» أفضى بالقوم إلى حدّ التعقيد ومهزلة الغموض ، وكأنّ الصفات الواردة في الذكر الحكيم لم ترد للتدبر فيها ، فإليك نزراً من كلماتهم :

1. قال سفيان بن عيينة : كلّ شيء وصف الله به نفسه في القرآن فقراءته

ص : 349

تفسيره ، لا كيف ولا مثيل. (1)

2. قال ابن خزيمة : إنّما نثبت لله ما أثبته لنفسه ، نقر بذلك بألسنتنا ونصدق بذلك في قلوبنا من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين. (2)

3. قال الخطيب : إنّما وجب إثباتها ، لأنّ التوقيف ورد بها ، ووجب نفي التشبيه عنها بقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). (3)

4. قال ابن قدامة المقدسي : وعلى هذا درج السلف والخلف متفقون على الإمرار والإثبات لما ورد من الصفات في كتاب الله وسنّة رسوله من غير تعرض لتأويله. (4)

إنّ أصحاب هذه العقيدة وإن كانوا يتظاهرون بإثبات معاني الصفات الخبرية عليه سبحانه ولكنّهم يصفون الصفات بلفظة «بلا كيف» وهذا يجعلهم بين مفترق طريقين :

إمّا التشبيه وإمّا التعقيد.

وهذا ما نوضحه بالبيان التالي :

إنّ اليد والوجه والرجل موضوعة للأعضاء الخاصة في الإنسان ، ولا يتبادر منها إلاّ ما يتبادر عند أهل اللغة ، وحينئذ فإن أُريد منها المعنى الحقيقي يلزم التشبيه ، وإن أُريد غيره فذلك الغير إمّا معنى مجازي أُريد منه بحسب القرينة فيلزم التأويل ، وهم يفرّون منه فرار المزكوم من المسك.

وإمّا شيء لا هذا ولا ذاك ، فما هو ذلك الغير؟ بيّنوه لنا حتّى تتسم العقيدة

ص : 350


1- علاقة الإثبات والتفويض : 44.
2- علاقة الإثبات والتفويض : 58 ، 59 ، 59.
3- علاقة الإثبات والتفويض : 58 ، 59 ، 59.
4- علاقة الإثبات والتفويض : 59. وهذا الكتاب مشحون بهذا النوع من الأقوال.

بالوضوح والسهولة ، ونبتعد عن التعقيد والإبهام ، وإلاّ فالقول بأنّ له وجهاً لا كالوجوه ، ويداً لا كالأيدي ألفاظ جوفاء وشعارات خدّاعة لا يستفاد منها شيء سوى تخدير الأفكار وتضليلها عن جادة الصواب.

وباختصار : انّ المعنى الصحيح لا يخرج عن المعنى الحقيقي والمجازي ، وإرادة أمر ثالث خارج عن إطار هذين المعنيين يعد غلطاً وباطلاً ، وعلى هذا الأساس لو أُريد المعنى الحقيقي لزم التشبيه بلا إشكال ، ولو أُريد المعنى المجازي لزم التأويل ، والكلّ ممنوع عندهم ، فما هو المراد من هذه الصفات الواردة في الكتاب والسنّة؟

إنّ ما يلهجون به ويكررونه من أنّ هذه الصفات تجري على الله سبحانه بنفس معانيها الحقيقية ولكن الكيفية مجهولة ، أشبه بالمهزلة ، إذ لو كان إمرارها على الله بنفس معانيها الحقيقية لوجب أن تكون الكيفية محفوظة حتّى يكون الاستعمال حقيقياً ، لأنّ الواضع إنّما وضع هذه الألفاظ على تلك المعاني التي يكون قوامها بنفس كيفيتها ، ويكون عمادها وسنادها بنفس هويتها الخارجية ، فاستعمالها في المعاني حقيقة بلا كيفية أشبه بالأسد بلا ذنب ولا مخلب ولا ولا ... فقولهم : «المراد هو أنّ لله يداً حقيقة لكن لا كالأيدي» أشبه بالكلام الذي يناقض ذيله صدره.

أضف إلى ذلك : انّه ليس في النصوص من الكتاب والسنّة من هذه «البلكفة» أثر ولا عين وإنّما هو شيء اخترعه الفكر ، للتدرع به في مقام الرد على الخصم والنقض عليه ، بأنّ لازم إمرارها على الله بنفس معانيها ، هو التجسيم والتشبيه.

وأمّا ما هو الصحيح في تفسير الصفات الخبرية ، على نحو لا يلزم منه

ص : 351

تعطيل العقول عن الإمعان في مفاهيمها ، ولا التأويل أي حمل ظاهر الآية على خلافها؟ فهذا ما سنبيّنه تالياً.

بين التعطيل والتأويل

إنّ تفسير الصفات الخبرية على النحو الصحيح يقوم على دعامتين :

الأُولى : أن لا ينتهي التفسير إلى التجسيم والتشبيه والجهة وما لا يصحّ وصفه سبحانه به على ما دلّت عليه الآيات القرآنية والأدلة العقلية.

الثانية : أن يكون نزيهاً عن التأويل بمعنى صرف الآية عن ظاهرها إلى غير ظاهرها ، وذلك لأنّ الآيات القرآنية حجّة بظاهرها ولا يصحّ لنا ترك ظاهر الآية إلى غيرها ، لأنّ ذلك عمل اليهود والنصارى حيث يؤوّلون ظواهر التوراة والإنجيل لكونها مخالفة للأحكام العقلية الواضحة والعلوم القطعية التي أثبتتها التجارب العلمية.

والمحقّقون من الإسلاميّين عن بكرة أبيهم يأخذون بظواهر الآيات ولا يؤوّلونها قيد شعرة ، غير أنّ الذي يجب التركيز عليه هو تشخيص ظاهر الآية ، فبعد ثبوته لا يمكن رفع اليد عنه إلاّ بدليل قرآني خاص يكون ناسخاً أو مخصصاً أو مقيّداً. ومن المعلوم أنّ مجاري النسخ والتخصيص والتقييد هو آيات الأحكام ، لا العقائد والمعارف. وأمّا ما وراء ذلك فيجب علينا الأخذ بالظواهر دون التنازل عنه قيد شعرة.

الظاهر الإفرادي غير الظاهر الجملي أو التصديقي

إنّ الظاهر الإفرادي لا يؤخذ به في منهج العقلاء وإنّما يؤخذ بالظاهر

ص : 352

الجمْلي والتصديقي.

1. رأيت أسداً في الحمام ، فلفظة «أسد» ظاهرة في الحيوان المفترس ، ولكنّه ظاهر أفرادي لا يؤخذ به ولا تدور عليه رحى المحاورة ، وإنّما يؤخذ بالظاهر الجمْلي أو التصديقي وهو الرجل الشجاع بقرينة قوله : في الحمام.

2. يتكرر في مصطلحاتنا ومحاضراتنا وصف الرجل ببسط اليد وقبضه ، فله ظهور أفرادي وهو انّ يده مبسوطة لا تقبض أو مقبوضة لا تبسط ، ولكنّه لا يحتج به وله ظهور جملي وتصديقي ، وإنّما يحتج بالظهور الثاني وهو كونه كريماً وسخياً ، أو لئيماً وبخيلاً.

3. إذا قلنا زيد كثير الرماد فالظهور البدوي انّ بيت زيد غير نظيف ، ولكنّه ظهور بدوي ، فإذا لوحظ انّ الكلام ورد في مقام المدح يكون قرينة على أنّ المراد لازم المعنى وهو الجود ، والذي يجب الأخذ به هو الظهور الجملي لا الحرفي والظهور المستقر لا البدوي.

تفسير نماذج من الصفات الخبرية

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الآيات الحاكية عن الصفات الخبرية إذا لوحظت مع القرائن المحتفة بالكلام يتبيّن الظهور التصوري عن التصديقي ، والظهور الابتدائي عن الاستقراري ويتبيّن انّ هذه الآيات غنية عن التأويل بمعنى حمل ظاهر الآية على خلافه.

ولأجل توضيح تلك الفكرة التي عليها العدلية نفسر بعض الآيات على هذا الأساس ليكون مقياساً لسائر الآيات التي ربما يكون ظاهرها البدوي على خلاف التنزيه.

ص : 353

1. يقول سبحانه (قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ). (1)

فنقول : إنّ «اليد» في الآية استعمل في العضو المخصوص ولكن كُنِّي بها عن الاهتمام بخلقة آدم حتى يتسنّى بذلك ذم إبليس على ترك السجود لآدم ، فقوله سبحانه : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) كناية عن أنّ آدم لم يكن مخلوقاً لغيري حتى يصحّ لك يا شيطان التجنّب عن السجود له ، بحجة أنّه لا صلة له بي ، مع أنّه موجود خلقتُه بنفسي ، ونفخت فيه من روحي ، فهو مخلوقي الذي قمت بخلقه ، فمع ذلك تمرّدت عن السجود له.

فأُطلقت الخلقةُ باليد وكُنّي بها عن قيامه سبحانه بخلقه ، وعنايته بإيجاده ، وتعليمه إيّاه أسماءه ، لأنّ الغالب في عمل الإنسان هو القيام به باستعمال اليد ، يقول : هذا ما بنيته بيدي ، أو ما صنعته بيدي ، أو ربّيته بيدي ، ويراد من الكل هو القيام المباشري بالعمل بكلّ الوجود ، لا خصوص اليد ، وكأنّه سبحانه يندد بالشيطان بأنّك تركتَ السجود لموجود اهتممت بخلقه وصنعه.

2. (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ) (2) فالمجسّمة المتعبّدة بظواهر النصوص البدوية تستدلّ بالآية على أنّ لله سبحانه أيدي يقوم بها بالأعمال الكبيرة ، ولكن المساكين اغترّوا بالظهور التصوريّ ولم يتدبّروا في الظهور التصديقي ، أخذوا بالظهور الجزئي دون الجملي ، فلو كانوا ممعنين في مضمون الآية وما احتفّ بها من القرائن ، لميّزوا الظهور التصديقي الذي هو الملاك عن غيره ، فإنّ الأيدي في الآية كناية عن تفرّده تعالى

ص : 354


1- ص : 75.
2- يس : 71.

بخلق الأنعام وانّه لم يشاركه أحد فيها ، فهي مصنوعة لله تعالى والناس ينتفعون بها ، فبدل أن يشكروا ، يكفرون بنعمته ، وأنت إذا قارنت بين الآيتين تقف على أنّ المقصود هو المعنى الكنائي ، والمدار في الموافقة والمخالفة هو الظهور التصديقي لا التصوري.

قال الشريف المرتضى : قوله تعالى : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) جار مجرى قوله : «لما خلقت أنا» وذلك مشهور في لغة العرب. يقول أحدهم : هذا ما كسبتْ يداك ، وما جرت عليك يداك. وإذا أرادوا نفي الفعل عن الفاعل استعملوا فيه هذا الضرب من الكلام فيقولون : فلان لا تمشي قدمه ، ولا ينطق لسانه ، ولا تكتب يده ، وكذلك في الإثبات ، ولا يكون للفعل رجوع إلى الجوارح في الحقيقة بل الفائدة فيه النفي عن الفاعل. (1)

3. قال سبحانه : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (2) فاليد وإن كانت ظاهرة في العضو الخاص لكنّها في الآية كناية عن القوة والإحكام ، وذلك لأنّ «اليد» من مظاهر القدرة والقوة بقرينة قوله : (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) ، وكأنّه سبحانه يقول : والسماء بنيناها بقدرة لا يوصف قدرها وإنّا لذو سعة في القدرة لا يعجزها شيء ، أو بنيناها بقدرة عظيمة ونوسعها في الخلقة. (3)

4. قال سبحانه : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (4) انّ العرش في اللغة هو السرير والاستواء عليه هو الجلوس ، غير أنّ هذا حكم مفرداتها ، وأمّا معنى الجملة فيتفرع الاستظهار منها ، على القرائن الحافة بها ، فالعرب الأقحاح لا يفهمون منها سوى السلطة والاستيلاء ، وحملها على غير ذلك يعدّ تصرّفاً في الظاهر ، وتأويلاً لها ،

ص : 355


1- أمالي المرتضى : 1 / 565.
2- الذاريات : 47.
3- الكشاف : 3 / 21.
4- طه : 5.

فإذا سمع العرب قول القائل :

قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق

أو سمع قول الشاعر :

ولما علونا واستوينا عليهم *** تركناهم مرعى لنسر وكاسر

فلا يتبادر إلى أذهانهم سوى الاستيلاء والسيطرة والسلطة ، لا العلو المكاني الذي لا يعد - حتّى - كمالاً للجسم ، وأين هو من العلو المعنوي الذي هو كمال الذات.

وقد جاء استعمال لفظ الاستواء على العرش في سبع آيات مقترناً بذكر فعل من أفعاله ، وهو رفع السماوات بغير عمد ، أو خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، فكان ذاك قرينة على أنّ المراد منه ليس هو الاستواء المكاني بل الاستيلاء والسيطرة على العالم كله ، فكما لا شريك له في الخلق والإيجاد لا شريك له أيضاً في الملك والسلطة ، ولأجل ذلك يقول في بعض هذه الآيات - بعد الإخبار عن استوائه على العرش - : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ). (1)

فالتأويل بلا قيد وشرط ، إذا كان ضلالاً - كما سيوافيك بيانه - فكذلك الجمود على ظهور المفردات ، وترك التفكّر والتعمّق أيضاً ابتداع مفض إلى صريح الكفر ، فلو حمل القارئ قوله سبحانه : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (2) على أنّ لله مثلاً ، وليس لهذا المثل مثل ... إذن يقع في مغبّة الشرك وحبائله ، وقد نقل الرازي في تفسيره لهذه الآية كلاماً عن ابن خزيمة نأتي بنصّه حيث قال : «واعلم أنّ محمد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية في الكتاب الذي سمّاه

ص : 356


1- الأعراف : 54.
2- الشورى : 11

بالتوحيد ، وهو في الحقيقة كتاب الشرك ، واعترض عليها ، وأنّا أذكر حاصل كلامه بعد حذف التطويلات ، لأنّه كان رجلاً مضطرب الكلام ، قليل الفهم ، ناقص العقل». (1)

هذه نماذج قدمناها إلى القارئ الكريم لكي تسلط ضوءاً على تفسير ما لم نذكره.

فخرجنا بالنتيجة التالية :

إنّ الصفات الخبرية كالوجه واليد ، والعين وغيرها ، لها حكم عند الافراد ولها حكم آخر إذا جاءت في ضمن الجمل فعند الافراد يؤخذ بمعانيها اللغوية ، وعند ما تأتي في ضمن الجمل ، تتبع القرائن الموجودة في الكلام من غير فرق بين ما وقع وصفاً لله سبحانه ، أو جاء وصفاً لغيره.

فإذا قال سبحانه (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (2) تحمل اليد والعنق على ما هو المتبادر من هذه الجمل ، وهو الإسراف والتقتير ، فبسط اليد أُريد به الإنفاق بلا شرط ؛ كما أنّ جعل اليد مغلولة ، أُريد به التقتير.

هذا - مع العلم - بأنّ بسط اليد عند الإفراد بمعنى مدها وغلّ اليد إلى العنق بمعنى شدّها.

وممّا ذكرنا يظهر لك مقاصد الآيات التي وردت فيها الصفات الخبرية ، نظير :

1. العين ، كقوله سبحانه : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي). (3)

ص : 357


1- التفسير الكبير : 14 / 150.
2- الإسراء : 29
3- طه : 39.

2. اليمين ، كقوله سبحانه : (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ). (1)

3. الاستواء ، كقوله سبحانه : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى). (2)

4. النفس ، كقوله سبحانه : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ). (3)

5. الوجه ، كقوله سبحانه : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ). (4)

6. الساق ، كقوله سبحانه : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ). (5)

7. الجنب ، كقوله سبحانه : (عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ). (6)

8. القرب ، كقوله سبحانه : (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ). (7)

9. المجيء ، كقوله سبحانه : (وَجاءَ رَبُّكَ). (8)

10. الإتيان ، كما قال سبحانه : (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ). (9)

11. الغضب ، كما في قوله : (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ). (10)

12. الرضا ، كما في قوله : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ). (11)

إلى غير ذلك من الصفات الخبرية التي وردت في القرآن الكريم وأخبر عنها الوحي ، فللجميع ظواهر غير مستقرة لا تلائم الأُصول الواردة في محكمات الآيات ، ولكن بالإمعان والدقة يصل الإنسان إلى مآلها ومرجعها وواقعها ، وهذا

ص : 358


1- الزمر : 67.
2- طه : 5.
3- المائدة : 116.
4- البقرة : 115.
5- القلم : 42.
6- الزمر : 56.
7- البقرة : 186.
8- الفجر : 22.
9- الأنعام : 158.
10- . الفتح : 6.
11- . المائدة : 119.

لا يعني حمل الظاهر على خلافه ، بل التتبع في القرائن الموجودة في نفس الآية لغاية العثور على الظاهر ، إذ ليس للمتشابه ظاهر ظهور مستقرّ في بدء الأمر حتّى نتبعه.

بقي هنا سؤال وهو انّ تفسير الصفات الخبرية في ضوء القرائن الموجودة في الآية ينتهي بنا إلى القول بالتأويل ، فأيّ فرق بين هذا والقول بالتأويل؟

والإجابة عنه واضحة ، وذلك لأنّه إن أُريد من التأويل هو حمل الكلام على ظهوره التصديقي ، سواء أكان المعنى حقيقياً أم مجازياً فهذا أمر مقبول ، سواء أسمي بالأخذ بالظاهر أو سمي بالتأويل.

وإن أُريد من التأويل هو صرف ظاهر الآية إلى خلافه فهو أمر مرفوض فانّ ظاهر القرآن حجّة قطعية لا يعدل عنها ، إنّما اللازم هو تشخيص الظاهر فانّ من يسمّي هذا النوع من التفسير تأويلاً فإنّما يأخذ بحرفية ظاهر الكلمة وظهورها الافرادي ، وقد عرفت أنّ الميزان هو الظهور التصديقي والظهور الجملي.

نعم هناك بحثان آخران ربما نفردهما بالتعريف :

1. تأويل المتشابه الذي ورد في قوله سبحانه : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ). (1)

2. تأويل كلّ القرآن الذي ورد في قوله سبحانه : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ). (2)

وبما انّ البحث في هذين الموضوعين طويل الذيل نحيل القارئ الكريم في هذا الصدد إلى كتاب «المناهج التفسيرية في علوم القرآن». (3)

ص : 359


1- آل عمران : 7.
2- الأعراف : 53.
3- المناهج التفسيرية : 159 - 181.
كلمة شيخ الأزهر الشيخ سليم البشري حول الصفات الخبريّة

كلمة شيخ الأزهر الشيخ سليم البشري (1) حول الصفات الخبريّة

ونحن نختم هذا البحث بذكر كلمة شيخ الأزهر الشيخ سليم البشري كتبه حول سؤال رفعه إليه الشيخ أحمد علي بدر شيخ معهد «بلصفورة» وإليك خلاصة السؤال :

ما قولكم - دام فضلكم - في رجل من أهل العلم يتظاهر باعتقاد ثبوت جهة الفوقية لله سبحانه وتعالى ويدّعي انّ ذلك مذهب السلف ، وتبعه على ذلك بعض الناس وجمهور أهل العلم ينكرون ذلك ، والسبب في تظاهره بهذا المعتقد عثوره على كتاب لبعض علماء الهند نقل فيه صاحبه كلاماً كثيراً عن ابن تيمية في إثبات الجهة للباري سبحانه وتعالى ويخطئ أبا البركات - رضي الله عنه - في قوله : في خريدته :

منزه عن الحلول والجهة *** والاتصال الانفصال والسفه

ص : 360


1- تولّى مشيخة الأزهر مرّة بعد أُخرى ، توفّي عام 1335 ه. ق.

يخطئه في موضعين من البيت قوله : والجهة وقوله : والانفصال.

والشيخ اللقاني في قوله :

ويستحيل ضدّ ذي الصفات *** في حقّه كالكون في الجهات

وبالجملة هو مخطئ لكلّ من يقول بنفي الجهة مهما كان قدره.

ولا يخفى على فضيلتكم أنّ الكلام في مسألة الجهة شهير ، إلاّ أنّه من المعلوم أنّ قول فضيلتكم سيما في مثل هذا الأمر هو الفصل ، وأرجو أن يكون عليه إمضاؤكم بخطكم والختم ولا مؤاخذة ، لا زلتم محفوظين ولمذهب أهل السنّة والجماعة ناصرين آمين.

نصّ الجواب

وقد كتب إليه شيخ الأزهر جواباً لسؤاله وهذا نصّه :

إلى حضرة الفاضل العلاّمة الشيخ أحمد علي بدر خادم العلم الشريف ببلصفورة :

قد أرسلتم بتاريخ 22 محرم سنة 1325 ه - مكتوباً مصحوباً بسؤال عن حكم من يعتقد ثبوت الجهة له تعالى ، فحررنا لكم الجواب الآتي وفيه الكفاية لمن اتّبع الحق وأنصف ، جزاكم الله عن المسلمين خيراً.

«اعلم أيدك الله بتوفيقه وسلك بنا وبك سواء طريقه ، أنّ مذهب الفرقة الناجية وما عليه أجمع السنّيون أنّ الله تعالى منزّه عن مشابهة الحوادث ، مخالف لها في جميع سمات الحدوث ، ومن ذلك تنزهه عن الجهة والمكان كما دلّت على ذلك البراهين القطعية ، فانّ كونه في جهة يستلزم قدم الجهة أو المكان وهما من العالم ،

ص : 361

وهو ما سوى الله تعالى ، وقد قام البرهان القاطع على حدوث كلّ ما سوى الله تعالى بإجماع من أثبت الجهة ومن نفاها ، ولأنّ المتمكن يستحيل وجود ذاته بدون المكان مع أنّ المكان يمكن وجوده بدون المتمكن لجواز الخلاء ، فيلزم إمكان الواجب ووجوب الممكن ، وكلاهما باطل ، ولأنّه لو تحيز لمكان جوهراً لاستحالة كونه عرضاً ، ولو كان جوهراً فامّا أن ينقسم وإمّا أن لا ينقسم ، وكلاهما باطل ، فانّ غير المنقسم هو الجزء الذي لا يتجزأ وهو أحقر الأشياء ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

والمنقسم جسم وهو مركّب والتركيب ينافي الوجوب الذاتي ، فيكون المركّب ممكناً يحتاج إلى علّة مؤثرة ، وقد ثبت بالبرهان القاطع أنّه تعالى واجب الوجود لذاته ، غنيّ عن كلّ ما سواه ، مفتقر إليه كلّ ما عداه ، سبحانه ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير ....

هذا وقد خذل الله أقواماً أغواهم الشيطان وأزلّهم ، اتّبعوا أهواءهم وتمسّكوا بما لا يجدي فاعتقدوا ثبوت الجهة تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

واتّفقوا على أنّها جهة فوق إلاّ أنّهم افترقوا ؛ فمنهم من اعتقد أنّه جسم مماس للسطح الأعلى من العرش ، وبه قال الكرامية واليهود ، وهؤلاء لا نزاع في كفرهم.

ومنهم من أثبت الجهة مع التنزيه ، وأنّ كونه فيها ليس ككون الأجسام ، وهؤلاء ضلاّل فسّاق في عقيدتهم ، وإطلاقهم على الله ما لم يأذن به الشارع ، ولا مرية أنّ فاسق العقيدة أقبح وأشنع من فاسق الجارحة بكثير سيما من كان داعية أو مقتدى به. وممّن نسب إليه القول بالجهة من المتأخّرين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي من علماء القرن الثامن ، في ضمن

ص : 362

أُمور نسبت إليه خالف الإجماع فيها عملاً برأيه وشنع عليه معاصروه بل البعض منهم كفروه ، ولقى من الذل والهوان ما لقى ، وقد انتدب بعض تلامذته للذب عنه وتبرئته ممّا نسب إليه وساق له عبارات أوضح معناها ، وأبان غلط الناس في فهم مراده.

واستشهد بعبارات له أُخرى صريحة في دفع التهمة عنه ، وأنّه لم يخرج عمّا عليه الإجماع ، وذلك هو المظنون بالرجل لجلالة قدره ورسوخ قدمه ، وما تمسّك به المخالفون القائلون بالجهة أُمور واهية وهمية ، لا تصلح أدلّة عقلية ولا نقلية ، قد أبطلها العلماء بما لا مزيد عليه ، وما تمسكوا به ظواهر آيات وأحاديث موهمة :

كقوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) وقوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) وقوله : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) وقوله : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) وقوله : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ).

وكحديث : «إنّه تعالى ينزل إلى سماء الدنيا كلّ ليلة».

وفي رواية «في كلّ ليلة جمعة فيقول هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟».

وكقوله للجارية الخرساء : «أين الله فأشارت إلى السماء» حيث سأل بأين التي للمكان ولم ينكر عليها الإشارة إلى السماء ، بل قال إنّها مؤمنة.

ومثل هذه يجاب عنها بأنّها ظواهر ظنيّة لا تعارض الأدلّة القطعية اليقينيّة الدالّة على انتفاء المكان والجهة ، فيجب تأويلها وحملها على محامل صحيحة لا تأباها الدلائل والنصوص الشرعية ، إمّا تأويلاً إجمالياً بلا تعيين للمراد منها كما هو مذهب السلف ، وإمّا تأويلاً تفصيلياً بتعيين محاملها وما يراد منها كما هو رأي الخلف ، كقولهم : إنّ الاستواء بمعنى الاستيلاء كما في قول القائل :

ص : 363

قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مُهراق

وصعود الكلم الطيب إليه قبوله إياه ورضاه به ، لأنّ الكلم عرض يستحيل صعوده ، وقوله : من في السماء : أي أمره وسلطانه أو ملك من ملائكته موكّل بالعذاب.

وعروج الملائكة والروح إليه صعودهم إلى مكان يتقرب إليه فيه. وقوله : فوق عباده أي بالقدرة والغلبة ، فإنّ كلّ من قهر غيره وغلبه فهو فوقه أي عال عليه بالقهر والغلبة ، كما يقال : أمر فلان فوق أمر فلان ، أي أنّه أقدر منه وأغلب.

ونزوله إلى السماء محمول على لطفه ورحمته وعدم المعاملة بما يستدعيه علوّ رتبته وعظم شأنه على سبيل التمثيل ، وخصّ الليل لأنّه مظنّة الخلوة والخضوع وحضور القلب.

وسؤاله للجارية ب «أين» استكشاف لما يظن بها اعتقاده من أينية المعبود كما يعتقده الوثنيون ، فلمّا أشارت إلى السماء فهم أنّها أرادت خالق السماء ، فاستبان أنّها ليست وثنية ، وحكم بإيمانها. وقد بسط العلماء في مطولاتهم تأويل كلّ ما ورد من أمثال ذلك ، عملاً بالقطعي وحملاً للظني عليه ، فجزاهم الله عن الدين وأهله خير الجزاء.

ومن العجيب أن يدع مسلم قول جماعة المسلمين وأئمّتهم ويتمشدق بتُرهات المبتدعين وضلالتهم. أما سمعوا قول الله تعالى : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) فليتب إلى الله تعالى من تلطخ بشيء من هذه القاذورات ولا يتبع خطوات الشيطان فانّه يأمر بالفحشاء والمنكر ، ولا يحملنه العناد على التمادي والإصرار عليه فانّ الرجوع إلى الصواب

ص : 364

عين الصواب والتمادي على الباطل يفضي إلى أشدّ العذاب (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) نسأل الله تعالى أن يهدينا جميعاً سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل ، وصلّى الله تعالى وسلّم على سيّدنا محمّد وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أملاه الفقير إليه سبحانه (سليم البشري) خادم العلم والسادة المالكية بالأزهر عفى عنه آمين آمين. (1)

اقتراح

وفي الختام نوصي رؤساء الطوائف الإسلامية بالابتعاد عن العصبية وعن الآراء التي ورثوها عن أُناس غير معصومين ، وإجراء الحوار الهادئ فيم اختلف فيه كلمة المحقّقين من العلماء حتّى يرتفع كثير من الخلافات النابعة من تقديم الهوى على الحقّ.

قال أمير المؤمنين علي - عليه السلام - : «إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان : اتّباع الهوى وطول الأمل ؛ فأمّا اتباع الهوى فيصدّ عن الحقّ ، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة». (2)

ص : 365


1- فرقان القرآن : 74 - 76.
2- نهج البلاغة : الخطبة 42 ، طبعة عبده.

ص : 366

الفصل الثامن: البداء في الكتاب والسنّة

اشارة

ص : 367

ص : 368

البداء في حديث الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم

تمهيد

البداء في اللغة هو ظهورُ ما خفي. يقول سبحانه : (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (1) ، أي ظهر لهم آثار ما عملوا من السيّئات وأحاط بهم ما كانوا به يستهزءون.

وقال عزّ من قائل : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) (2) ، أي ظهر لهم بعد ما رأوا الآيات الدالّة على براءة يوسف أن يسجنوه إلى حين ينقطع فيه كلام النّاس ، وإلى غيرهما من الآيات التي تدلّ على أنّ البداء عبارة عن ظهور ما خفي.

وعلى ذلك فالبداء بهذا المعنى من خصائص من كان جاهلاً بعواقب الأُمور ثمّ يبدو له ما خفي عليه ، ولأجل ذلك نسب البداء في القرآن إلى غيره سبحانه.

كما نرى أنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يستعمل كلمة البداء وينسبها إلى الله سبحانه ، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة :

ص : 369


1- الجاثية : 33.
2- يوسف : 35.

إنّه سمع من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أنّ ثلاثة في بني إسرائيل : أبرص وأقرع وأعمى «بدا لله» أن يبتليهم ، فبعث إليهم ملكاً فأتى الأبرصَ ، فقال : أي شيء أحب إليك؟ قال : لون حسن ، وجلد حسن ، قد قذّرني الناس ، قال فمسحه فذهب عنه فأُعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً ، فقال : أي المال أحب إليك؟ قال : الإبل أو قال : البقر - هو شك في ذلك أنّ الأبرص والأقرع ، قال أحدهما : الإبل ، وقال الآخر : البقر - فأُعطي ناقة عشراء ، فقال : يبارك الله لك فيها.

وأتى الأقرع ، فقال : أي شيء أحبّ إليك؟ قال : شعر حسن ويذهب عنّي هذا قد قذرني الناس قال : فمسحه ، فذهب ، وأُعطي شعراً حسناً ، قال : فأي المال أحب إليك؟ قال : البقر. قال : فأعطاه بقرة حاملاً ، وقال : يبارك لك فيها.

وأتى الأعمى فقال : أي شيء أحب إليك؟ قال : يرد الله إليّ بصري ، فأبصر به الناس ، قال : فمسحه فردّ الله إليه بصره. قال : فأي المال أحب إليك؟ قال : الغنم ، فأعطاه شاة والداً. فأُنتج هذان وولّد هذا ، فكان لهذا واد من إبل ، ولهذا واد من بقر ، ولهذا واد من الغنم.

ثمّ إنّه أتى الأبرص في صورته وهيئته ، فقال : رجل مسكين تقطّعت بي الحبال في سفري ، فلابلاغ اليوم إلاّ بالله ثمّ بك ، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال ، بعيراً أتبلّغ عليه في سفري ؛ فقال له : إنّ الحقوق كثيرة. فقال له : كأنّي أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس ، فقيراً فأعطاك الله؟ فقال : لقد ورثت لكابر عن كابر؟ فقال : إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كنت.

وأتى الأقرع في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا فرد عليه مثلما رد عليه هذا ، فقال : إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كنت.

وأتى الأعمى في صورته فقال : رجل مسكين وابن سبيل وتقطّعت بي

ص : 370

الحبال في سفري ، فلابلاغ اليوم إلاّ بالله ، ثمّ بك ، أسألك بالذي رد عليك بصرك ، شاة أتبلّغ بها في سفري ؛ فقال : قد كنت أعمى فرد الله بصري ، وفقيراً فقد أغناني ، فخذ ما شئت ، فو الله لا أجحدك اليوم بشيء أخذته لله ، فقال : أمسك مالك فإنّما ابتليتم فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك. (1)

هذا هو كلام الرسول الأعظم - صلى الله عليه وآله وسلم - وقد استعمل لفظ البداء في حقّه سبحانه ، ومن الطبيعي انّ النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يستعمل هذا اللفظ في معناه اللغوي لاستلزامه - والعياذ بالله - الجهل على الله سبحانه ، بل استعمله في معنى آخر لمناسبة بينه وبين المعنى اللغوي.

وكم له من نظير في الكتاب والسنّة ، وقد اشتهر انّ كلام البلغاء مشحون بالمجاز.

إنّ البراهين العقلية الرصينة والآيات الباهرة القرآنية قد أسفرت عن إحاطة علمه سبحانه بكلّ شيء في الأرض والسماء وما مضى وما يأتي على نحو لا يتصوّر في مثله الظهور بعد الخفاء ، ولنتبرك بذكر بعض الآيات وترك ذكر البراهين العقلية إلى محلها. قال عزّ من قائل :

(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ). (2)

(وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ). (3)

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ). (4)

ص : 371


1- البخاري : الصحيح 4 / 172 ، كتاب الأنبياء ، باب حديث أبرص وأعمى وأقرع في بني إسرائيل.
2- آل عمران : 5.
3- إبراهيم : 38.
4- الحديد : 22.

كيف يمكن طروء الخفاء عليه سبحانه مع أنّه محيط بالعالم صغيره وكبيره ، مادّيه ومجرّده ، والأشياء كلّها قائمة به قياماً قيّومياً كقيام المعنى الحرفي بالاسمي؟! وغيبوبة المعنى الحرفي عن المعنى الاسمي تساوي فناءه.

كلّ ذلك يقودنا إلى التفتيش عن تفسير آخر للبداء ينسجم مع ما جاء في الحديث المنقول عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وإلاّ فالرسول وخلفاؤه وقاطبة علماء المسلمين أجل من أن ينسبوا إلى الله سبحانه البداء بالمعنى اللغوي الآنف الذكر.

وهذه الرسالة الماثلة بين يديك عزيزي القارئ الكريم أخذت على عاتقها بيان التفسير الصحيح للبداء والمنسجم مع حديث الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -.

ويأتي كلّ ذلك ضمن أُمور :

ص : 372

1- تغيير المصير بالأعمال الصالحة والطالحة

اشارة

ذهبت اليهود إلى استحالة تعلّق مشيئة الله بغير ما جرى عليه قلم القضاء والقدر ، فيمتنع تغيير ما قُدِّر إلى خلافه ، وقد تبلورت تلك العقيدة في كلامهم بأنّ يد الله مغلولة ، قال سبحانه حاكياً عنهم : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً). (1)

وعلى هذا الأساس قالوا يد الله مغلولة عن القبض والبسط والأخذ والعطاء ، وانّه إذا جرى قلمه وتقديره على شيء لا يبدّل ولا يغيّر فيخرج عن إطار قدرته.

واستنتجوا من هذا الأصل ، امتناع نسخ الأحكام الشرعية أيضاً.

ثمّ إنّه سبحانه يردّ على تلك العقيدة في غير واحدة من الآيات ويقول :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ... (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (2)

ص : 373


1- المائدة : 64.
2- فاطر : 1.

(وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ). (1)

فالله سبحانه كما هو المقدِّر للمصير الأوّل ، هو المقدّر أيضاً للمصير الثاني ، فهو في كلّ يوم في شأن ، وانّه جلّ وعلى يبدئ ويعيد ، ويحيي ويميت ، يزيد في الرزق والعمر ويُنقص ، كلّ ذلك حسب مشيئته الحكمية والمصالح الكامنة. فكما هو عالم بالتقدير الأوّل ، عالم - في نفس ذلك الوقت - بأنّه سوف يزول ويخلفه تقدير آخر ، لكن لا بمعنى وجود الفوضى في التقدير ، بل بتبعية كلّ تقدير لملاكه وسببه.

إذا كان في هذه الآيات إلماع إلى إخلاف تقدير مكان تقدير ، ففي الآيات التالية تصريحات بأنّ الإنسان هو الذي يستطيع أن يغيّر مصيره بصالح أعماله وطالحها ، وأنّ التقدير الأوّل الذي نجم عن سبب في حياة العبد ليس تقديراً قطعياً لا يغيّر ، بل هو تقدير معلّق سيتغيّر إذا تغيّر سببه.

يقول سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (2) وليست هذه الآية ، آية فريدة ، بل هناك آيات كثيرة تُبيّن بأنّ للإنسان مقدرة واسعة على إخلاف تقدير مكان تقدير وقضاء مكان قضاء ، كلّ ذلك بمشيئته سبحانه وإرادته حيث زوّد العبدَ بحرية ومشيئة على أن يُخلف تقديراً مكان تقدير آخر ، وها نحن نقتصر على نزر قليل منها حتّى يتّضح الحال.

1. (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً* وَ

ص : 374


1- فاطر : 11.
2- الأعراف : 96.

يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً). (1)

2. (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ). (2)

3. (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ). (3)

4. (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ). (4)

5. (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ). (5)

6. (وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ). (6)

7. (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ* فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ). (7)

8. (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ* وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ). (8)

إنّ هذه الآيات تعرب عن أنّ الأعمال الصالحة مؤثّرة في مصير الإنسان وانّه يقدر بعمله الصالح على تغيير التقدير وتبديل القضاء - غير المبرم - ، لأنّه ليس في أفعال الإنسان الاختيارية مقدَّر محتوم حتّى يكون العبد في مقابله مكتوف الأيدي والأرجل.

ص : 375


1- نوح : 1210.
2- الرعد : 11.
3- الأنفال : 53.
4- الطلاق : 32.
5- إبراهيم : 7.
6- الأنبياء : 76.
7- الأنبياء : 8483.
8- الصافات : 143 - 146.
تغيير المصير بالأعمال في الروايات

دلّ غير واحد من الروايات على أنّ الأعمال الصالحة أو غيرها تُغيّر التقدير ، كما ورد عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - انّ الصدقة والاستغفار والدعاء وصلة الرحم وما أشبه ذلك يغير التقدير.

وما هذا إلاّ لأنّ التقدير لم يكن تقديراً قطعياً ، بل تقديراً معلّقاً على عدم الإتيان بصالح الأعمال أو بطالحها ، فإذا وجد المعلّق عليه يتبدّل التقدير بتقدير آخر ، كلّ ذلك بعلم ومشيئة منه سبحانه ، فهو عند ما يقدر عالم ببقاء التقدير أو بتبدّله - في المستقبل - إلى تقدير آخر ، فلو كان هناك جهل فإنّما هو في جانب العباد لا في ساحة المقدِّر ، فانّه عالم بعامة الأشياء والتقديرات ثابتها ومتغيّرها.

سنّة الله الحكيمة في عباده

إنّه سبحانه حسب حكمته الحكيمة جعل تقدير العباد على قسمين نذكرهما بالتفصيل التالي :

1. تقدير قطعي لا يقبل المحو والتغيير ، وذلك كسنّته سبحانه في موت الإنسان وفنائه ، فقوله سبحانه : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (1) من السنن القطعية التي لا تتغيّر ولا تتبدّل ، وكم له من نظير كقوله سبحانه : (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ). (2)

2. تقدير معلق غير قطعي مشروط بشرط خاص ، فلو قدّر الصلاح فهو مشروط بعدم ارتكاب ما يخرجه من الصلاح ، وإذا قدّر الضلال فهو أيضاً

ص : 376


1- الزمر : 30.
2- الأنبياء : 105.

مشروط بعدم تعاطيه ما يدخله مدخل الهدى ، كلّ ذلك لحكمة.

إنّ تلك السنّة - الّتي تُمكّن الإنسان من تغيير مصيره - بصيص أمل للمذنبين ، لئلاّ يقنطوا ، ولئلاّ ينقطع رجاؤهم من رحمته سبحانه ، بل تبقى اضبارة أعمالهم مفتوحة حتّى السنين الأخيرة من أعمارهم ، كما هي إنذار للصالحين بأن لا يغتروا بأعمالهم الصالحة ، وذلك لأنّ العبرة بخواتيم الأعمال ، فلو صدر منهم في فترة أُخرى من حياتهم ما يغضب الرب فسوف يتغيّر تقديره سبحانه من صلاح إلى طلاح.

وبما انّ لهذه السنة أثراً تربوياً في الأُمّة ، نرى أنّ الروايات كالآيات تركّز على تمكّن الإنسان من تغيير مصيره من خير إلى شر ومن شر إلى خير ، وقد تضافرت الروايات عن النبيّ الأعظم - صلى الله عليه وآله وسلم - وأئمّة أهل البيت - عليهم السلام - في هذا المقام نذكر فيما يلي نماذج منها.

أثر الدعاء في تغيير المصير

أخرج الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنه قال : لا ينفع الحذر عن القدر ولكن الله يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر. (1)

وأخرج ابن أبي شيبة في «المصنّف» وابن أبي الدنيا في الدعاء عن ابن مسعود رضي الله عنه : قال : ما دعا عبد بهذه الدعوات إلاّ وسّع الله له في معيشته :

«يا ذا المن ولا يُمنّ عليه ، يا ذا الجلال والإكرام يا ذا الطول ، لا إله إلاّ أنت ظهر اللاجين وجار المستجيرين ، ومأمن الخائفين إن كنت كتبتني

ص : 377


1- الدر المنثور : 4 / 661.

عندك في أُمّ الكتاب شقياً فامح عني اسم الشقاء واثبتني عندك سعيداً ، وإن كنت كتبتني عندك في أُمّ الكتاب محروماً مقتراً على رزقي ، فامح حرماني ويسّر رزقي وأثبتني عندك سعيداً موفقاً للخير ، فإنّك تقول في كتابك الذي أنزلت (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ). (1)

روى الكليني بسنده عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : سمعته يقول : «إنّ الدعاء يرد القضاء ينقضه كما يُنقض السلك وقد أُبرم إبراماً». (2)

وروى الكليني بسند عن أبي الحسن موسى - عليه السلام - : «عليكم بالدعاء ، فانّ الدعاء لله والطلب إلى الله يردّ البلاء وقد قدّر وقضى ولم يبق إلاّ إمضاؤه ، فإذا دعي الله عز وجلّ وسئل صرف البلاء صرفة». (3)

أثر الصدقة في تغيير المصير

روى السيوطي في «الدر المنثور» عن علي - عليه السلام - : انّه سأل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن هذه الآية (يَمْحُوا اللهُ)؟ فقال له : «لأقرّنّ عينيك بتفسيرها ولأقرّنّ عين أُمّتي بعدي بتفسيرها : الصدقة على وجهها ، وبرّ الوالدين ، واصطناع المعروف يحوّل الشقاء سعادة ، ويزيد في العمر ، ويقي مصارع السوء». (4)

وكما أنّ للأعمال الصالحة أثراً في المصير وحسن العاقبة ، وشمول الرحمة وزيادة العمر وسعة الرزق ، كذلك الأعمال الطالحة والسيئات في الأفعال فانّ لها تأثيراً ضد أثر الأعمال الحسنة.

ويدلّ على ذلك من الآيات قوله سبحانه :

ص : 378


1- الدر المنثور : 4 / 661.
2- الكافي : 2 / 169 ، باب انّ الدعاء يردّ البلاء والقضاء ، الحديث 1.
3- الكافي : 2 / 470 ، باب انّ الدعاء يرد البلاء ، الحديث 8.
4- الدر المنثور : 4 / 661.

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ). (1)

وقال سبحانه : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ). (2)

ص : 379


1- النحل : 112.
2- الأعراف : 130.

2- البداء في الكتاب العزيز

لقد عرفت أنّه ليس للإنسان مصير واحد لا يُردّ ولا يبدّل ، بل ما كتب وقدّر يتغيّر بصالح الأعمال وطالحها ، فليس الإنسان في مقابل التقدير مسيّراً ، ولكنّه بعدُ مخيّر في أن يغيّر التقدير بصالح أفعاله أو بسيّئاتها.

ومن حسن الحظ انّ الكتاب يركّز على ذلك ويعرب عن أنّ لله سبحانه لوحين :

1. لوح المحو والإثبات.

2. أُمّ الكتاب.

فما في اللوح الأوّل خاضع للتغيير والتبديل ، فليس ما كتب فيه أمراً قطعياً لا يغيّر ولا يتبدّل ، قال سبحانه : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ* يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ). (1)

وهذه الآية هي الأصل في البداء في الشريعة الإسلامية ، وها نحن ننقل

ص : 380


1- الرعد : 38 - 39.

بعض كلمات المحقّقين من المفسّرين حتّى يقف القارئ على المعنى الصحيح للبداء ويعلم أنّه ممّا أصفقت عليه الأُمّة ولا يوجد بينهم أيُّ خلاف في ذلك.

1. روى الطبري (المتوفّى 310 ه) في تفسير الآية عن لفيف من الصحابة والتابعين أنّهم كانوا يدعون الله سبحانه بتغيير المصير وإخراجهم من الشقاء - إن كتب عليهم - إلى السعادة مثلاً : كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول وهو يطوف بالكعبة : اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها ، وإن كنت كتبتني على الذنب [الشقاوة] فامحني وأثبتني في أهل السعادة ، فإنّك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أُمّ الكتاب.

وروى نظير هذا الكلام عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وشقيق وأبي وائل. (1)

وروى عن ابن زيد أنّه قال في قوله سبحانه : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) بما يُنزِّلُ على الأنبياء ، ويُثبت ما يشاء مما ينزله إلى الأنبياء وقال وعنده أُمّ الكتاب لا يُغيّر ولا يُبدَّل. (2)

2. قال الزمخشرى (المتوفّى 528 ه) : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) ينسخ ما يستصوب نسخه ويثبت بدله ما يرى المصلحة في إثباته أو ينزله غير منسوخ. (3)

3. ذكر الطبرسي (548470 ه) : لتفسير الآية وجوهاً متقاربة وقال : «الرابع : أنّه عامٌّ في كل شيء فيمحو من الرزق ويزيد فيه ، ومن الأجل ، ويمحو السعادة والشقاوة ويثبتهما. (روي ذلك) عن عمر بن الخطاب ، وابن مسعود وأبي وائل ، وقتادة. وأُمّ الكتاب أصل الكتاب الذي أُثبتت فيه الحادثات والكائنات.

ص : 381


1- الطبري : التفسير (جامع البيان) : 13 / 114112.
2- الطبري : التفسير (جامع البيان) : 13 / 114112.
3- الكشاف : 2 / 169.

وروى أبو قلابَة عن ابن مسعود أنّه كان يقول : اللهمّ إن كنت كتبتني في الأشقياء فامحنى من الأشقياء ...». (1)

4. قال الرازي (المتوفّى 608 ه) : إنّ في هذه الآية قولين :

القول الأوّل : إنّها عامّة في كل شيء كما يقتضيه ظاهر اللفظ ، قالوا : إنّ الله يمحو من الرزق ويزيد فيه ، وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر ، وهو مذهب عمر وابن مسعود ، والقائلون بهذا القول كانوا يدعون ويتضرّعون إلى الله تعالى في أن يجعلهم سعداء لا أشقياء. وهذا التأويل رواه جابر عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -.

والقول الثاني : إنّ هذه الآية خاصّة في بعض الأشقياء دون البعض.

ثم قال : فإن قال قائل : ألستم تزعمون إنّ المقادير سابقة قد جفَّ بها القلم وليس الأمر بأنف ، فكيف يستقيم مع هذا المعنى ، المحو والإثبات؟

قلنا : ذلك المحو والإثبات أيضاً مما جفّ به القلم ، فلأنّه لا يمحو إلا ما سبق في علمه وقضائه محوه. (2)

5. وقال القرطبي (المتوفّى 671 ه) - بعد نقل القولين وإن المحو والإثبات هل يعمّان جميع الأشياء أو يختصان ببعضها - : مثل هذا لا يدرك بالرأي والاجتهاد ، وإنّما يؤخذ توقيفاً فإن صحَّ فالقول به يجب أن يوقف عنده ، وإلاّ فتكون الآية عامّة في جميع الأشياء ، وهو الأظهر - ثم نقل دعاء عمر بن الخطاب في حال الطواف ودعاء عبد الله بن مسعود ثم قال : روى في الصحيحين عن أبي

ص : 382


1- مجمع البيان : 6 / 398.
2- تفسير الرازي : 10 / 6564.

هريرة قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول : «مَن سرّه أن يبسط له في رزقهِ ويُنسَأ له في أثره (أجله) فليصل رحمه». (1)

6. قال ابن كثير (المتوفّى 774 ه) بعد نقل قسم من الروايات : ومعنى هذه الروايات أنّ الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها ويثبت منها ما يشاء ، وقد يُستأنس لهذا القول بما رواه الإمام أحمد عن ثوبان قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «إن الرجل ليُحْرَمُ الرزقَ بالذنب يصيبه ولا يرد القَدَرُ إلاّ بالدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر». ثم نقل عن ابن عباس : الكتاب كتابان : فكتاب يمحو الله منه ما يشاء ويثبت عنده ما يشاء ، وعنده أُمّ الكتاب. (2)

7. روى السيوطي (المتوفّى 911 ه) عن ابن عباس في تفسير الآية : هو الرجل يعمل الزمان بطاعة الله ، ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلالة فهو الذي يمحو ، والذي يثبت : الرجل يعمل بمعصية الله تعالى وقد سبق له خير حتى يموت وهو في طاعة الله سبحانه وتعالى. ثم نقل ما نقلناه من الدعاء عن لفيف من الصحابة والتابعين. (3)

8. ذكر الألوسي (المتوفّى 1270 ه) عند تفسير الآية قسماً من الآثار الواردة حولها وقال : أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن عليّ - كرم الله وجهه - أنّه سأل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ ...) الآية فقال له عليه الصلاة والسلام : «لأقرَّنَّ عينك بتفسيرها ، ولأُقرَّنَّ عين أُمّتي بعدي بتفسيرها : الصدقة على وجهها ، وبر الوالدين واصطناع المعروف ، محوِّل الشقاء سعادة ، ويزيد في العمر ،

ص : 383


1- الجامع لأحكام القرآن : 5 / 329.
2- ابن كثير : التفسير 2 / 520.
3- الدر المنثور 4 / 660. لاحظ ما نقله في المقام من المأثورات كلّها تحكي عن تغيير التقدير بالأعمال والأفعال.

ويقي مصارع السوء». ثم قال : دفع الإشكال عن استلزام ذلك ، بتغير علم الله سبحانه ، ومن شاء فليرجع. (1)

9. وقال صديق حسن خان (المتوفّى 1307 ه) في تفسير الآية : وظاهر النظم القرآني العموم في كل شيء ممّا في الكتاب ، فيمحو ما يشاء محوه من شقاوة أو سعادة أو رزق أو عمر أو خير أو شرّ ، ويبدل هذا بهذا ، ويجعل هذا مكان هذا. لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس وأبو وائل وقتادة والضحاك وابن جريج وغيرهم ... (2)

10. وقال القاسمي (المتوفّى 1332 ه) : تمسك جماعة بظاهر قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) فقالوا : إنّها عامَّة في كل شيء كما - يقتضيه ظاهر اللفظ - قالوا : يمحو الله من الرزق ويزيد فيه ، وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر. (3)

11. وقال المراغي (المتوفّى 1371 ه) في تفسير الآية : وقد أُثر عن أئمة السلف أقوال لا تناقض فيها ، بل هي داخلة فيما سلف. ثم نقل الأقوال بإجمال. (4)

وهذه الجمل والكلم الدرّية المضيئة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، والمفسرين تعرب عن الرأي العام بين المسلمين في مجال إمكان تغيير المصير بالأعمال الصالحة والطالحة ومنها الدعاء والسؤال ، وأنّه ليس كل تقدير حتمياً

ص : 384


1- روح المعاني 13 / 111.
2- فتح البيان 5 / 171.
3- محاسن التأويل : 9 / 372.
4- تفسير المراغي : 5 / 155.

لا يُغيّر ولا يبدّل ، وإنّ لله سبحانه لوحين : لوح المحو والإثبات ، ولوح «أُمّ الكتاب». والذي لا يتطرق التغيير إليه هو الثاني دون الأوّل ، وإنّ القول بسيادة القدر على اختيار الإنسان في مجال الطاعة والمعصية ، قول بالجبر ، الباطل بالعقل والضرورة ، ومحكمات الكتاب. ومن جنح إليه لزمه القول بلغوية إرسال الرسل وإنزال الكتب (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ). (1)

ص : 385


1- ص : 27.

3- النزاع في البداء لفظي

اشارة

لم يزل النزاع بين الشيعة والسنّة في وصف الله سبحانه بالبداء قائماً على قدم وساق ، فالشيعة الإمامية تعتبر البداء من صميم الدين بحجّة انّه بمعنى تغيّر المصير بصالح الأعمال وطالحها ، وتنكره بمعنى الظهور بعد الخفاء كما سيوافيك ؛ والسنّة ترفض البداء بالمعنى المحال وهو ظهور الشيء بعد الخفاء ، وتكفّر القائل به لاستلزامه نسبة الجهل إلى الله سبحانه وتنسبه إلى الشيعة.

ومن الواضح انّ المقبول لدى الشيعة يغاير موضوعاً ومحمولاً مع ما هو المرفوض لدى السنّة ، فلا يرد مثل ذلك الإيجاب والسلب على مورد واحد ، حيث لا نجد بين الأُمّة الإسلامية من ينكر علم الله سبحانه وإحاطته بما في الأرض والسماء ، كما لا نجد فيهم من ينكر تغير المصير بصالح الأعمال.

فالفريقان يتنازعان ولكنّهما يتفقان في المعنى الإيجابي ، كما أنّهما يتّفقان في المعنى السلبي.

وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ المسألة لم تطرح في جوّ هادئ حتّى تقف كلّ طائفة على ما لدى الطائفة الأُخرى من المعنى لهذا الأصل. ونحن ندعو إلى عقد مؤتمر علمي لدراسة هذه المسألة بدقة لإزالة الشكّ والالتباس فيها وفي غيرها من المسائل المختلف فيها.

ص : 386

نصوص علماء الإمامية في البداء

1. قال الصدوق (381306 ه) في «باب الاعتقاد بالبداء» : إنّ اليهود قالوا : إنّ الله تبارك وتعالى قد فرغ من الأمر ، قلنا : بل هو تعالى «كلّ يوم هو في شأن» لا يشغله شأن عن شأن ، يحيي ويميت ، ويخلق ويرزق ويفعل ما يشاء ، وقلنا : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (1). (2)

2. قال الشيخ المفيد (413336 ه) : معنى البداء ما يقوله المسلمون بأجمعهم في النسخ وأمثاله من : الإفقار بعد الإغناء ، والإمراض بعد الإعفاء ، والإماتة بعد الإحياء ، وما يذهب إليه أهل العدل خاصة ، من الزيادة في الآجال والأرزاق والنقصان منها بالأعمال. (3)

3. قال السيد المرتضى (355 - 436 ه) : البداء في لغة العرب هو الظهور من قوله : «بدا الشيء : إذا ظهر وبان ، والمتكلّمون تعرّفوا فيما بينهم أن يسمّوا ما يقتضي هذا البداء باسمه ، فقالوا : إذا أمر الله تعالى بالشيء في وقت مخصوص على وجه معيّن ومكلّف واحد ، ثمّ نهى عنه ، فهو بداء ، والبداء على ما حدّدناه لا يجوز على الله تعالى لأنّه علم بنفسه ، ولا يجوز له أن يتجدّد كونه عالماً ، ولا أن يظهر له من المعلومات ما لم يكن ظاهراً.

وقد وردت أخبار آحاد لا توجب علماً ، ولا تقتضي قطعاً بإضافة البداء إلى الله ، وحملها محقّقو أصحابنا على أنّ المراد بلفظة البداء فيها النسخ للشرائع ولا

ص : 387


1- الرعد : 39.
2- عقائد الإمامية ، المطبوع في ذيل شرح الباب الحادي عشر : 73.
3- أوائل المقالات : 53 ، باب القول في البداء والمشيئة.

خلاف بين العلماء في جواز النسخ للشرائع. (1)

ترى أنّ السيد الشريف يتبرّأ من البداء بمعنى ظهور الشيء بعد خفائه ، ويفسّر الروايات بمعنى النسخ وهو صحيح ، لكن يجب أن يضاف إليه بأنّ النسخ يستعمل في التشريع والبداء في التكوين.

4. وقال الشيخ الطوسي (385 - 460 ه) : البداء حقيقة في الظهور ، ولذلك يقال : بدا لنا سور المدينة ، وبدا لنا وجه الرأي وقال الله تعالى : (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) (2) و (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا). (3)

فأمّا إذا أُضيفت هذه اللفظة إلى الله تعالى ، فمنه ما يجوز إطلاقه عليه ومنه ما لا يجوز ؛ فأمّا ما يجوز من ذلك ، فهو ما إذا أفاد النسخ بعينه ، ويكون إطلاق ذلك عليه ضرباً من التوسّع ، وعلى هذا الوجه يحمل جميع ما ورد عن الصادقين - عليهما السلام - من الأخبار المتضمّنة لإضافة البداء إلى الله ، دون ما لا يجوز عليه من حصول العلم بعد أن لم يكن.

ووجه إطلاق ذلك فيه تعالى ، هو أنّه إذا كان منه ما يدلّ على النسخ ، يظهر به للمكلّفين ما لم يكن ظاهراً ، ويحصل لهم العلم به بعد أن لم يكن حاصلاً لهم ، أطلق على ذلك لفظ البداء. (4)

ترى أنّ شيخ الطائفة أيضاً يفسّر البداء بالنسخ ، ولكن نضيف إلى ما ذكره أنّ النسخ يستعمل في نسخ الحكم والبداء في نسخ التكوين ، أعني : تغيير المصير

ص : 388


1- رسائل الشريف المرتضى ، مسألة 5 ، ص 117 ، المسألة الرازيّة. وقد نقل العلاّمة المجلسي خلاصة نظرية السيد في بحار الأنوار : 4 / 129 ، ومرآة العقول : 2 / 131 حيث قال : الرابع ما ذكره السيد المرتضى.
2- الجاثية : 33.
3- الزمر : 4847.
4- عدة الأُصول : 2 / 29. ولاحظ كتاب الغيبة للشيخ الطوسي ، ص 263.

بصالح الأعمال وطالحها.

5. وقال الشيخ أيضاً في كتاب «الغيبة» : إنّه لا يمتنع أن يكون الله تعالى قد وقّت هذا الأمر (الحادثة المعيّنة) في الأوقات التي ذكرت ، فلما تجدّد ما تجدّد ، تغيّرت المصلحة واقتضت تأخيره إلى وقت آخر - إلى أن قال : - وعلى هذا يُتأوّل ما روي في تأخير الأعمار عن أوقاتها والزيادة فيها عند الدعاء وصلة الأرحام ، وما روي في تنقيص الأعمار عن أوقاتها إلى ما قبله عند فعل الظلم وقطع الرحم ، وغير ذلك ، وهو تعالى وإن كان عالماً بالأمرين ، فلا يمتنع أن يكون أحدهما معلوماً بشرط ، والآخر بلا شرط ، وهذه الجملة لا خلاف فيها بين أهل العدل ، وعلى هذا يتأوّل أيضاً ما روي من أخبارنا المتضمّنة للفظ البداء ويبيّن أنّ معناها النسخ على ما يريده جميع أهل العدل ، فيما يجوز فيه النسخ أو تغيّر شروطها ، إن كان طريقها الخبر عن الكائنات. (1)

6. وقال السيّد المحقّق الداماد (... 1041 ه) : البداء منزلته في التكوين منزلة النسخ في التشريع ، فما في الأمر التشريعي والأحكام التكليفية فهو نسخ وفي الأمر التكويني والمكوّنات الزمانية بداء ، فالنسخ كأنّه بداء تشريعي ، والبداء كأنّه نسخ تكويني ، ولا بداء في القضاء ولا بالنسبة إلى جناب القدّوس الحق.

- إلى أن قال : - وكما حقيقة النسخ عند التحقيق انتهاء الحكم التشريعي وانقطاع استمراره ، لا رفعه وارتفاعه عن وعاء الواقع ، فكذلك حقيقة البداء انبتات (2) استمرار الأمر التكويني وانتهاء اتصال الإفاضة. (3)

ص : 389


1- الغيبة للشيخ الطوسي ، ص 262 - 264 ، طبعة النجف.
2- انقطاع.
3- نبراس الضياء ، ص 56.

7. قال العلاّمة المجلسي (11101037 ه) : إنّ أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - بالغوا في البداء ردّاً على اليهود الذين يقولون : إنّ الله قد فرغ من الأمر ، وردّاً على النظّام وبعض المعتزلة الذين يقولون : إنّ الله خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه وإنّما التقدّم يقع في ظهورها لا في حدوثها ووجودها ، فنفت أئمّة أهل البيت ذلك المعنى وأثبتوا انّه تعالى كلّ يوم في شأن ، في إعدام شيء وإحداث آخر ، وإماتة شخص وإحياء آخر ، إلى غير ذلك ، لئلاّ يترك العباد التضرّع إلى الله ومسألته وطاعته والتقرّب إليه ما يصلح أُمور دنياهم وعقباهم ، وليرجوا عند التصدّق على الفقراء وصلة الأرحام وبر الوالدين والمعروف والإحسان ما وُعدوا عليها من طول العمر وزيادة الرزق وغير ذلك. (1)

8. وقال السيد عبد الله شبّر (... - 1241 ه) : للبداء معان ، بعضها يجوز عليه ، وبعضها يمتنع ، وهو بالفتح والمدّ أكثر ما يطلق في اللغة على ظهور الشيء بعد خفائه ، وحصول العلم به بعد الجهل ، واتّفقت الأُمّة على امتناع ذلك على الله سبحانه إلاّ من لا يعتدّ به ، ومن نسب إلى الإماميّة فقد افترى عليهم كذباً ، والإمامية براء منه ، وقد يطلق على النسخ ، وعلى القضاء المجدّد ، وعلى مطلق الظهور ، وعلى غير ذلك من المعاني.

ثمّ استشهد على هذا بما ورد من أنّ الصدقة والدعاء يغيّران القضاء ، إلى غير ذلك ممّا روي في هذا المضمار. (2)

هذا هو قول علماء الشيعة وأكابرهم ، ترى أنّ الجميع يفسّر البداء بما

ص : 390


1- بحار الأنوار : 4 / 130.
2- مصابيح الأنوار : 1 / 33.

يقارب النسخ الذي اتّفق المسلمون على جوازه ، غير أنّ مجال النسخ هو التشريع ومجاله هو التكوين.

كلام الإمام شرف الدين في البداء

وهناك كلامٌ للإمام شرف الدين (1290 - 1377 ه) قد كشف اللثام عن حقيقة البداء بوجه يقنع كلّ باحث يرتاد الحقيقة ، وبما أنّ كلامه فصل حاسم نأتي به تفصيلاً ليقف القارئ على مدى اضطهاد الشيعة ، قال : إنّ الله قد ينقص من الرزق وقد يزيد فيه ، وكذا الأجل والصحّة والمرض والسعادة والشقاء ، والمحن والمصائب والإيمان والكفر وسائر الأشياء كما يقتضيه قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ).

وهذا مذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود وأبي وائل وقتادة ، وقد رواه جابر عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وكان كثير من السلف الصالح يدعون ويتضرّعون إلى الله تعالى أن يجعلهم سعداء لا أشقياء ، وقد تواتر ذلك عن أئمّتنا في أدعيتهم المأثورة وورد في السنن الكثيرة ، أنّ الصدقة على وجهها ، وبرّ الوالدين ، واصطناع المعروف يحوّل الشقاء ، سعادة ويزيد في العمر ، وصحّ عن ابن عباس انّه قال : لا ينفع الحذر من القدر ولكنّ الله يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر.

هذا هو البداء الذي تقول به الشيعة ، تجوّزوا في إطلاق البداء عليه بعلاقة المشابهة ، لأنّ الله عزّ وجلّ أجرى كثيراً من الأشياء التي ذكرناها على خلاف ما كان يظنّه الناس فأوقعها مخالفة لما تقتضيه الأمارات والدلائل ، وكان مآل الأُمور فيها مناقضاً لأوائلها ، والله عز وجلّ هو العالم بمصيرها ومصير الأشياء كلّها ، وعلمه بهذا كلّه قديم أزليّ ، لكن لمّا كان تقديره لمصير الأُمور يخالف تقديره لأوائلها. كان

ص : 391

تقدير المصير أمراً يشبه «البداء» فاستعار له بعض سلفنا الصالح هذا اللّفظ مجازاً ، أو كأنّ الحكمة قد اقتضت يومئذ هذا التجوّز.

وبهذا ردّ بعض أئمّتنا قول اليهود : إنّ الله قدّر في الأزل مقتضيات الأشياء ، وفرغ الله من كلّ عمل إذا جرت الأشياء على مقتضياته ، قال - عليه السلام - : بأنّ لله عزّ وجلّ في كلّ يوم قضاءً مجدّداً بحسب مصالح العباد لم يكن ظاهراً لهم ، وما بدا لله في شيء إلاّ كان في علمه الأزلي ، فالنزاع في هذه بيننا وبين أهل السنّة لفظيّ لأنّ ما ينكرونه من البداء الذي لا يجوز على الله عزّ وجلّ تبرّأ الشيعة منه ، وممّن يقول به ، براءتها من الشرك بالله ومن المشركين.

وما يقوله الشيعة من البداء بالمعنى الذي ذكرناه يقول به عامّة المسلمين ، وهو مذهب عمر بن الخطّاب وغيره كما سمعت ، وبه جاء التنزيل (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (1) ، و (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (2) ، أي كلّ وقت وحين يُحدث أُموراً ويجدّد أحوالاً من إهلاك وإنجاء وحرمان وإعطاء ، وغير ذلك كما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وقد قيل له : ما ذلك الشأن؟ فقال : من شأنه سبحانه وتعالى أن يغفر ذنباً ويفرّج كرباً ويرفع قوماً ، ويضع آخرين.

هذا هو الذي تقول به الشيعة وتسمّيه بداءً ، وغير الشيعة يقولون به ، لكنّهم لا يسمّونه بداءً ، فالنزاع في الحقيقة إنّما هو في تسميته بهذا الاسم وعدم تسميته به ، ولو عرف غير الشيعة أنّ الشيعة إنّما تُطلِق عليه هذا الاسم مجازاً لا حقيقة ، لتبيّن - حينئذ - لهم أنّه لا نزاع بيننا وبينهم حتّى في اللفظ ، لأنّ باب المجاز واسع عند العرب إلى الغاية ، ومع هذا كلّه فان أصرّ غيرنا على هذا النزاع اللفظي وأبى

ص : 392


1- الرعد : 39.
2- الرحمن : 29.

التجوّز بإطلاق البداء على ما قلناه ، فنحن نازلون على حكمه فليبدل لفظ البداء بما يشاء «وليتّق الله ربّه» في أخيه المؤمن «ولا يبخس منه شيئاً» (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ* بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (1). (2)

كلام المصلح الكبير كاشف الغطاء في البداء

وممّن صرّح بأنّ النزاع بين الشيعة والسنة نزاع لفظي ، وأنّ الإيجاب والسلب من الطرفين لا يتوجهان على موضوع واحد ، هو العلاّمة المصلح الكبير الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء حيث يقول في كتاب «الدين والإسلام» :

يحسب عامّة المسلمين (جمع الله كلمتهم) أنّ هذه الكلمة (البداء) ممّا انفردت به الإمامية واعتدُّوها شناعة عليهم ، ولو تمحّصت الحقائق واستوضحت المقاصد وزالت أغشيةُ الأوهام التي تحول بين الحقيقة والأفهام لانكسرت السورة وانكبحت الشرّة ، ولعرف الجميع أنّهم متّفقون على مقالة واحدة وأنّ النزاع بينهم لم يكن إلاّ لفظياً.

وهكذا أكثر الخلافيات التي تضارب فيها المسلمون ، التضارب الذي جرّ عليهم الويلات وآل بجمعهم إلى الشتات وصيّرهم بالحالة التي تراها وتسمع بها اليوم ، وكلّ تلك المنازعات إلاّ الطفيف قد عملت فيها عوامل الشدّة ونظر الشنآن والحدّة وعدم التروّي والأناة في تبلُّغ المقاصد وتفهُّم المرامي والغايات ، حتّى بلغ الأمر إلى أوخم عاقبة وأسود مغبّة ، وإلى الله المشتكى والرغبةُ في إدالة هذه الحال والنزوع عن تلك الضرائب فإنّه الحريّ بالإجابة إن شاء الله. (3)

ص : 393


1- هود : 85 - 86.
2- أجوبة مسائل جار الله : 101 - 103.
3- الدين والإسلام : 1 / 169168.
فذلكة البحث

هذه بعض نصوص علماء الإمامية (1) قديماً وحديثاً أتينا بها ليقف القارئ على أنّ البداء عقيدة مشتركة بين المسلمين ، وإنّما يستوحش منه من يستوحش لأجل عدم وقوفه على معناه ، ولتصوّره أنّ المراد هو ظهور الأمر لله بعد الخفاء عليه. وقد عرفت اتّفاق علمائنا تبعاً للقرآن والسنّة على امتناع إطلاقه على الله سبحانه ، وإنّما المراد تغيير ما قدِّر بالدعاء والعمل ، وهناك كلمات لسائر مشايخنا لم نذكرها وإنّما نشير إلى أسمائهم فمن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى مؤلفاتهم نظراء :

1. ميرزا رفيع النائيني في شرح الكافي ، وقد نقله العلاّمة المجلسي في البحار : 4 / 129.

2. المحدّث الكبير محمد محسن الفيض الكاشاني في علم اليقين : 1 / 177 ، والوافي : 1 / 507 ، الباب الخامس.

3. شيخنا المجيز الشيخ آقا بزرگ الطهراني في الذريعة إلى تصانيف الشيعة : 3 / 5351.

4. المحقّق العلاّمة الشيخ فضل الله الزنجاني في تعليقاته على كتاب «أوائل المقالات» ، ص 94.

5. السيد حسين مكي في كتابه «عقيدة الشيعة في الإمام الصادق وسائر الأئمّة». (2)

إلى غير ذلك من المحقّقين العظام.

ص : 394


1- وقد تركنا ذكر كثير من النصوص في هذا المجال لخوف الاطالة.
2- الإمام الصادق عليه السلام - : 4847 ، ط دار الأندلس ، بيروت.

4- التفسير الخاطئ للبداء عند مشايخ السنّة

اشارة

قد تعرّفت في صدر البحث على أنّ للبداء معنى إيجابياً وقد اتّفق عليه الفريقان ، ومعنى سلبيّاً ، قد نفاه الفريقان بحماس ، فكان المتوقّع عدم وجود النقاش والجدال في تلك المسألة كسائر المسائل التي اتّفق الفريقان عليها ، ولكن يا للأسف كان في حياة المسلمين عوامل خاصّة تزرع بذور الخلاف بين الفريقين ، وبالتالي لا تحصد الأُمّة منها إلاّ التناحر والدماء ، ومن هذه المسائل ، مسألة البداء ، فنذكر كلمات بعضهم لترى أنّهم يتّبعون ظاهر حرفية «بدا لله» ثمّ يشنّعون على الشيعة ويرمونهم بالأباطيل التي لا أساس لها بزعم انّ مرادهم منه هذا المعنى ، منهم :

1. البلخي (المتوفّى 317 ه)

إنّ الشيخ البلخي فسّر البداء من قبل نفسه وافترى على الشيعة ثمّ ردّ عليه ، وقد حكى كلامه شيخنا الأكبر شيخ الطائفة الطوسي في تبيانه إذ قال : قال قوم - ليس ممّن يعتبرون ولكنّهم من الأُمة على حال - انّ الأئمّة المنصوص عليهم - بزعمهم - مفوض إليهم نسخ القرآن وتدبيره ، وتجاوز بعضهم حتّى خرج من

ص : 395

الدين بقوله : إنّ النسخ قد يجوز على وجه البداء ، وهو أن يأمر الله عز وجلّ عندهم بالشيء ولا يبدو له ، ثمّ يبدو له فيغيّره ، ولا يريد في وقت أمره به أن يغيّره هو ويبدله وينسخه ، لأنّه عندهم لا يعلم الشيء حتّى يكون ، إلاّ ما يقدره فيعلمه علم تقدير ، وتعجرفوا فزعموا انّ ما نزل بالمدينة ناسخ لما نزل بمكة. (1)

هذا كلام البلخي الذي هو من أئمّة المعتزلة.

وكلامه يعرب عن أنّه تبع ظاهر حرفية البداء ولم يرجع فيه إلى تأليف شيعي أو رواية مرويّة عن أئمّتهم ، ولذلك قال الشيخ الطوسي بعد كلامه :

وأظن انّه عنى بهذا أصحابنا الإمامية ، لأنّه ليس في الأُمّة من يقول بالنصّ على الأئمّة - عليهم السلام - سواهم. فإن كان عناهم فجميع ما حكاه عنهم باطل وكذب عليهم ، لأنّهم لا يجيزون النسخ على أحد من الأئمّة - عليهم السلام - ، ولا أحد منهم يقول بحدوث العلم. (2)

2. أبو الحسن الأشعري (260 - 324 ه)

إنّ الشيخ أبا الحسن الأشعري تربّى في أحضان الاعتزال طيلة أربعة عقود ، ولكنّه عدل عن الاعتزال والتحق عام 305 ه - بركب إمام الحنابلة أحمد بن حنبل في تفكيره وعقيدته وألّف كتاباً باسم «مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين» وقد ذكر فيه عقائد الشيعة وقال : وكلّ الروافض إلاّ شرذمة قليلة يزعمون انّه يريد الشيء ثمّ يبدو له.

وتبعه محقّق الكتاب وفسّر كلامه وقال : أي يظهر له وجه المصلحة بعد

ص : 396


1- التبيان : 1 / 13 - 14 ، ط النجف عام 1376.
2- التبيان : 1 / 1413.

خفائه عليه فيتغيّر رأيه.

ثمّ ذكر الإمام الأشعري بعد صفحتين قوله : افترقت الرافضة هل الباري يجوز أن يبدو له إذا أراد شيئاً أم لا؟ على ثلاث مقالات ثمّ فسرها. (1)

إنّ الإمام الأشعري كان يعيش في البصرة وبغداد ويتردد بينهما ، والبصرة مرفأ الكلام والمقالات ، ولو رجع إلى علماء الشيعة فيها وفي بغداد لكشفوا له عن حقيقة البداء.

والعجب انّه ينسب البداء بالمعنى الباطل إلى كلّ الشيعة ثمّ يأتي بخلافه بعد صفحتين ويقول :

والفرقة الثانية منهم يزعمون أنّه لا يجوز وقوع النسخ في الأخبار ، وأن يخبر الله سبحانه انّ شيئاً يكون ثمّ لا يكون ، لأنّ ذلك يوجب التكذيب في أحد الخبرين.

إنّ المتوقّع من شيخ الأشاعرة هو نزاهة القلم ورعاية الأدب ، فكان اللائق أن لا يعبّر عن الشيعة بالرافضة ، فانّه من أوضح مصاديق قوله سبحانه : (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ). (2)

وأسوأ من ذلك ما ارتكبه المعلّق في تعاليقه من لعن الرافضة وتقبيحهم.

غفر الله ذنوب الجميع.

إنّ الشيعة ليسوا إلاّ نفس المسلمين في صدر الإسلام ، ويمتازون عمّن سواهم بأنّهم بقوا على وصية الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - في حقّ أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - أحد الثقلين وعدل القرآن الكريم كما جاء على لسان الصادق الأمين - صلى الله عليه وآله وسلم - في حديث الثقلين

ص : 397


1- لاحظ مقالات الإسلاميين : 107 ، 109 ، 119.
2- الحجرات : 11.

الذي رواه أصحاب الصحاح والسنن (1) ، وتبعهم التابعون منهم إلى يومنا هذا ، فلا وجه لتفريقهم عن المسلمين بهذه الكلمات اللاذعة.

3. فخر الدين الرازي (المتوفّى 606 ه)

إنّ الإمام الرازي كأسلافه تبع ظاهر حرفية لفظ «البداء» ونسبه إلى الشيعة ثمّ ناقشه ، بل ردّ عليه بعنف ، مع أنّه كان رازي المولد وكان موطنه معقل الشيعة ، ومن مقاربي عصره المفسّر الكبير أبو الفتوح الرازي مؤلف «روض الجنان في تفسير القرآن» في عشرة أجزاء (المتوفّى حوالي سنة 550 ه) ، ومن معاصريه الشيخ محمود الحمصي المتكلّم الكبير الذي يذكر اسمه في تفسيره عند تفسير قوله سبحانه : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ). (2)

ومع ذلك فقد وضع من عنده للبداء تفسيراً خاطئاً جعله أساساً للردّ على الشيعة وأتى في خاتمة المحصل بما يحكى عن سليمان بن جرير الزيدي أنّه قال : إنّ أئمّة الرافضة وضعوا مقالتين لشيعتهم ، لا يظفر معهما أحد عليهم ، الأوّل : القول بالبداء ، فإذا قالوا : إنّه سيكون لهم قوّة وشوكة ثمّ لا يكون الأمر على ما أخبروه قالوا : بدا الله تعالى فيه. (3)

إنّ المترقّب من فخر الدين الرازي أن لا يصدر إلاّ عن دليل ، وهذا التفسير الذي وضعه للبداء ممّا اخترعه خصوم الشيعة ، ولا يحتجّ به وقد علمت نصوص

ص : 398


1- راجع صحيح الترمذي : 5 / 328 ح 3874 ؛ مسند أحمد : 5 / 182 و 189 ؛ المستدرك على الصحيحين للحاكم : 3 / 148 ، وغيرها كثير.
2- مفاتيح الغيب : 10 / 145. والآية 59 من سورة النساء.
3- تلخيص المحصّل : 421.

علمائهم.

وأعجب من ذلك تعبيره اللاذع بأنّ أئمّة الشيعة وضعوا مقالتين لشيعتهم ، فهل يريد بذلك أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - من الباقر والصادق والكاظم والرضا - عليهم السلام - الذين هم أتقى الناس وأعلاهم شأناً ، وأبرأ الناس من الكذب والحيلة والخدعة ، وقد أثنى فخر الدين نفسه على أئمّة الشيعة في كتابه عند تفسير سورة الكوثر حيث قال :

الكوثر أولاده ، لأنّ هذه السورة إمّا نزلت ردّاً على من عابه - عليه السلام - بعدم الأولاد ، فالمعنى أنّه يعطيه نسلاً يبقون على مرّ الزمان ، فانظر كم قتل من أهل البيت ثمّ العالم ممتلئ منهم ، ولم يبق من بني أُميّة في الدنيا أحد يعبأ به ، ثمّ انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا - عليهم السلام - والنفس الزكية وأمثالهم. (1) وبذلك يصدق المثل السائر : «لا ذاكرة لكذوب»!!

4. أبو زهرة وهفوته في تفسير البداء
اشارة

ولعلّ خطأ البلخي والأشعري والرازي في تفسير البداء ليس بخطير ، لأنّ ظروفهم كانت تحكم ضد الشيعة وتعكس عقائدهم حسب ميول الحكام والخلفاء ، ولكن بعد ما انكشفت الحقائق وارتفعت الحواجز وسهل الاطّلاع على عقائد الآخرين لا تُغتفر أيّة زلّة في تفسير عقائد الآخرين.

وهذا هو العلاّمة المفضال الشيخ أبو زهرة المصري خريج الأزهر والباحث الكبير في القرن الماضي (المتوفّى 1396 ه) فقد خدم المكتبة العربية ببيانه وقلمه وكتبه ، وخدماته مشكورة ، غير أنّ له ردّاً هادئاً بالنسبة إلى البداء في

ص : 399


1- مفاتيح الغيب : 31 / 124.

عقيدة الشيعة حيث إنّه نقل نظريّتهم عن تعليقة المحقّق الزنجاني على كتاب «أوائل المقالات في المذاهب المختارات» (1) ، وعلّق عليه بما نذكره بنصّه :

إنّ البداء بمعنى أن ينزل بالناس ما لم يحتسبوا ويقدّروا كالغنى بعد الفقر ، والمرض بعد العافية ، فهذا موضع اتّفاق بين الشيعة والسنّة ولكنّهم يقولون : من البداء الزيادة في الآجال ، والأرزاق والنقصان منها بالأعمال ، ولا شكّ أنّ الزيادة في الآجال إن أُريد بالزيادة ما قدّره الله تعالى في علمه الأزلي ، والزيادة عمّا قدّر ، فذلك يقتضي تغيير علم الله ، وإن أُريد بالزيادة عمّا يتوقّعه الناس فذلك ممّا ينطبق عليه قول الله تعالى : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ). (2)

وعلى ذلك نقول : إن كان البداء في ما يحتسبه الناس ويقدّرونه فيجيء الأمر على خلاف ما توقّعوا فانّ ذلك موضع إجماع ، وإن كان البداء هو التغيير في المقدور فذلك ما لم يقله أحد من أهل السنّة ، لأنّه تغيير لعلمه وذلك لا يجوز. (3)

يلاحظ على ما ذكره : من أنّ ما يدّعيه الشيعة الإمامية من زيادة الآجال والأرزاق والنقصان بالأعمال ممّا لا يتفردون به ، فقد عرفت أنّ أهل السنّة قالوا به كما يظهر من الروايات التي رواها أئمّة أهل الحديث ومن كلمات المفسّرين ، وقد مرّ قول بعضهم من أنّ قوله سبحانه : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) عام وليس بخاص هذا أوّلاً.

وثانياً : أنّ الزيادة في الآجال والأرزاق تغيّر التقدير ولكن لا تحدث التغيّر في علم الله ، ومنشأ الخلط هو جعل تقديره سبحانه نفس علمه تعالى ، وتوهّم انّ التغيير في الأوّل يوجب التغيير في الثاني ، مع أنّ مركز التغيير هو لوح المحو

ص : 400


1- لاحظ ص 94 ترى فيها نصّه.
2- الزمر : 47.
3- الإمام الصادق - عليه السلام - : 238 - 239.

والإثبات وهو لوح مخلوق لله لا نعلم كنهه ، وأمّا علمه سبحانه فهو قائم بذاته بل عين ذاته ، لا يتغيّر ولا يتبدّل وهو سبحانه حينما يقدّر التقدير الأوّل في كتاب المحو والإثبات يعلم عن مصير ذلك التقدير وانّه هل يثبت ولا يمحى لتمادي العبد على ما كان عليه ، أو انّه يتغيّر بحسب حياة العبد وطروء التغير إلى أفعاله.

ولأجل إيضاح الحقّ نأتي بما ألقيناه في سالف الزمان في ذلك المجال ونقتبس منه ما يلي :

إنّ العبد الفارغ من الدعاء والعمل الصالح التارك لهما ، قُدّر له قصر العمر ، وقلّة الرزق ؛ كما أنّ العبد المقبل على الدعاء والعمل الصالح كتب عليه طول العمر وسعة الرزق ، وكلا التقديرين تقدير من الله سبحانه.

فلو كان الرجل في إبّان شبابه غير متفرّغ للدعاء والعمل الصالح فهو داخل تحت التقدير الأوّل ، فقد قدر في حقّه قصر العمر ونقصان الأرزاق بشرط البقاء على تلك الحالة.

ولكنّه إذا تحول إلى حالة أُخرى في أُخريات حياته وأقبل على الدعاء والعمل الصالح ، انقلب التقدير الأوّل إلى خلافه وضده ، فيكتب في حقّه الزيادة في الأجل والرزق وغيرهما.

نعم هو سبحانه يعلم من الأزل أنّ أيَّ عبد يختار أيَّ واحد من التقديرين طول حياته ، أو انّ أيّ عبد ينتقل من تقدير إلى تقدير آخر ، فليس هاهنا تقدير واحد ، وقضاء فارد ، لا ينفك عنه الإنسان ولا مناص له منه ، وإن كان هناك علم واحد أزلي غير متغيّر.

ص : 401

لا تخصيص في القاعدة العقلية

والعجب من أبي زهرة ، حيث يتفاعل مع الشيعة في معنى البداء في موضع دون موضع آخر ، فقال : إنّ البداء بمعنى أن ينزل بالناس ما لم يحتسبوا ويقدروا كالغنى بعد الفقر والمرض بعد العافية ، فهذا موضع اتّفاق بين الشيعة والسنة.

فنسأله أيّ فرق بين تغيير الفقر إلى الغنى والمرض إلى العافية وبين الزيادة في الآجال والأرزاق والنقصان منها بالأعمال ، حيث جوّز الأوّل دون الثاني ، مع أنّ الجميع في تغيير ما قُدِّر سيّان ، حيث كان المقدّر هو الفقر والمرض ، فتغيّرا إلى ضدهما ، ولو كان التغير في المقدَّر مستلزماً للتغيّر في علمه سبحانه فما هو الفرق بين الموردين ، ولما ذا تمسّك بالقاعدة العقلية في مورد دون مورد؟

وزان التقديرين وزان الأجلين

وهذا مثل قوله سبحانه : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ). (1)

والمراد من الأجل الأوّل ، هو القابليّة الطبيعيّة لأفراد النوع الإنساني ، والعمر الطبيعي لنوع الإنسان.

وأمّا الأجل المسمّى ، فهو الأجل القطعي الذي لا يتجاوزه الفرد ، وإليه يشير سبحانه بقوله : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ). (2)

نعم الأجل المسمّى كثيراً ما ينقص عن الأجل المطلق ، فلو جعلنا مقدار

ص : 402


1- الأنعام : 2.
2- النحل : 61.

الأجل المطلق لطبيعة الإنسان مائة وعشرين سنة ، فقلّما يتّفق أن يبلغ الإنسان إلى ذلك الحدّ من العمر ، فإنّ هناك موانع وعراقيل تمنعه - في العادة - من الوصول إليه.

نعم قلّما يزيد هذا الأجل على الأجل المطلق إذا توفّرت لذلك مقتضيات وقابليّات خارجة عن المتعارف تؤثّر في طول العمر وامتداده.

وعلى كلّ ، فكما أنّ وجود الأجلين لا يوجب تغييراً في علم الله سبحانه ، فهكذا وجود التقديرين.

وتغيير التقدير الأوّل بالتقدير الثاني مثل تغيير الأجل المطلق بالأجل المسمّى في ناحيتي الزيادة والنقصان ، بل لا معنى للأجلين إلاّ التقديرين.

ثمّ إنّ المراد من تغيير المقدّر هو تغيير المكتوب في لوحي المحو والإثبات ، فإنّ لله سبحانه لوحين :

الأوّل : اللوح المحفوظ الذي لا يتطرّق إليه التغيير ، وقد أشار إليه سبحانه بقوله : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ). (1)

الثاني : لوح المحو والإثبات ، فيكتب فيه التقدير الأوّل ، وهو وإن كان بظاهره مطلقاً وظاهراً في الاستمرار ، إلاّ أنّه مشروط بشروط ، فإذا تغيّرت الشروط انتهى أمر التقدير الأوّل ، وحان وقت التقدير الثاني ، وإلى هذا اللوح أشار سبحانه بقوله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ). (2)

ص : 403


1- الحديد : 22.
2- الرعد : 39.

ومثل هذا التغيّر في التقدير لا يمسّ كرامة العلم الإلهي الأزلي أبداً.

أحد أعلام السنّة يصحر بالحقيقة

انّ الشيخ عبد العزيز البلوشي من أعضاء مجلس الخبراء لكتابة الدستور للجمهورية الإسلامية الإيرانية ، اجتمع بي وسألني عن حقيقة البداء ، وقد شرحت له مغزى المسألة ، واستمع لما نقوله بهدوء وتفهم ، فقال : لو كان البداء بهذا المعنى فهو ممّا يعتقده أهل السنّة أجمع غير أنّكم لا تريدون من البداء هذا ، وإنّما تريدون معنى آخر يلازم جهله سبحانه وظهور الحقيقة بعد الخفاء.

ثمّ قال : لو أتيت بكتاب من قدماء الشيعة يتبنّى هذه العقيدة كما شرحتها لصدّقت كلامك وآمنت بالبداء ، فنزلت عند رغبته ، وآتيت له كتاب «أوائل المقالات» و «شرح عقائد الصدوق» للعلاّمة الشيخ المفيد ، فأخذ الكتاب وطالعه بدقّة وقلّبه ظهراً لبطن ، وجاء بعد أيّام قائلاً : لو كان البداء بنفس المعنى الذي فسّره معلم الشيعة الشيخ المفيد ، فأهل السنّة قاطبة معه في هذه العقيدة من لدن ضرب الإسلام بجرانه في الأرض.

ص : 404

5- الأثر التربوي للإيمان بالبداء

إذا كان البداء هو تمكّن العبد من تغيير المصير بنواياه الصادقة وأعماله الطاهرة ، فهو يبعث الرجاء في نفس العبد ويكون نظيرَ تشريع قبول التوبة والشفاعة وتكفير الصغائر بالاجتناب عن الكبائر ، فتشريع الكلّ لأجل بعث الرجاء وإيقاد نوره في قلوب المكلّفين حتّى لا ييأسوا من روح الله ، ولا يتنكّبُوا عن الصراط المستقيم ، بتصوّر انّهم بأعمالهم السابقة صاروا من الأشقياء وكتبت عليهم النار تقديراً حتمياً لا تبديل فيه.

فلو علم الإنسان أنّه سبحانه لم يجفّ قلمُه في لوح المحو والإثبات ، وله أن يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء ، يُسعِد من يشاء ويُشقي من يشاء ، لسعى في إسعاده وإخراجه من ديوان الأشقياء ، وتسجيله في قائمة السعداء ، إذ ليست مشيئته جزافية غير تابعة لضابطة خاصّة ، بل إذا تاب وعمل بالفرائض وتمسّك بالعروة الوثقى يخرج من سلك الأشقياء ويدخل في صنف السعداء وبالعكس ، وهكذا كلّ ما قدر في حقّه من الأجل والمرض والفقر والشقاء ، يمكن تغييره بالدعاء والصدقة وصلة الرحم وإكرام الوالدين وغير ذلك ، فالكلّ لأجل بثّ الأمل في قلب الإنسان ، وعلى هذا فالاعتقاد بذلك من ضروريات

ص : 405

الكتاب وصريح آياته وأخبار الأئمّة الهداة.

وبهذا يظهر أنّ البداء من المعارف العليا التي اتّفقت عليه كلمة المسلمين وإن غفل عن معناه الجمهور (ولو عرفوه لأذعنوا له).

وأمّا اليهود - خذلهم الله - فقالوا باستحالة تعلّق المشيئة بغير ما جرى عليه القلم ، ولأجل ذلك قالوا : يد الله مغلولة عن القبض والبسط ، والأخذ والإعطاء.

وبعبارة أُخرى : أنّ للإنسان عندهم مصيراً واحداً لا يمكن تغييره ولا تبديله ، وأنّه ينال ما قُدِّر له من الخير والشر بلا استثناء.

ولو صحّ ذلك لبطل الدعاء والتضرّع ، ولبطل القول بأنّ للأعمال الصالحة وغير الصالحة ممّا عددناه تأثيراً كبيراً في تغيير مصير الإنسان.

وعلى ضوء هذا البيان نتمكّن من فهم ما جاء في فضيلة البداء وأهميته في الروايات عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - ، مثل ما روى زرارة عن أحدهما (الباقر أو الصادق - عليهما السلام -) : «ما عُبد الله عز وجلّ بشيء مثل البداء». (1)

ولقد أدرك قوم يونس إمكان تغيير التقدير بالتوبة والعمل الصالح ، فلمّا نزل بهم العذاب مشوا إلى رجل من علمائهم ، فقالوا : علّمنا دعاءً ندعُو به لعلّ اللهَ يكشفُ عنّا العذابَ ، فقال : قولوا : يا حيّ ، حينَ لا حيَّ ، يا حيّ محيي الموتى ، يا حي لا إله إلاّ أنت ، قال : فكشف عنهم العذاب. (2)

ويظهر ممّا رواه السيوطي أنّهم وقفوا بين يدي الله سبحانه بحالة تستنزل الرحمة وتدفع النقمة ، قال : أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنه قال :

ص : 406


1- البحار : 4 / 107 ، باب البداء ، الحديث 19.
2- تفسير ابن كثير : 3 / 530.

لما دعا يونس على قومه أوحى الله إليه انّ العذاب مُصْبحهم. فقالوا : ما كذب يونس وليُصبحنا العذاب ، فتعالوا حتّى نُخرج سخالَ كلّ شيء فنجعلها مع أولادنا فلعلّ الله أن يرحمهم. فأخرجوا النساء معهن الولدان ، وأخرجوا الإبل معها فَصلانها ، وأخرجوا البقر معها عجاجيلها ، وأخرجوا الغنم معها سخالها فجعلوه أمامهم ، وأقبل العذاب فلما أن رأوه جأروا إلى الله ودعوا ، وبكت النساء والولدان ، ورغت الإبل وفصلانها ، وخارت البقر وعجاجيلها ، وثغت الغنم وسخالها ، فرحمهم الله ، فصرف عنهم العذاب. (1)

ص : 407


1- الدر المنثور : 4 / 393.

6- الحوادث التي بدا لله تبارك وتعالى فيها

اشارة

تفسير البداء بتغيير المصير بالأعمال الصالحة والطالحة تفسير له في مقام الثبوت. وهناك مصطلح آخر للبداء نعبّر عنه بالبداء في مقام الإثبات وهو انّه ربّما يلهم النبي أو يوحى إليه وقوع شيء ولكنّه لا يقع ، وهذا ما يعبّر عنه بأنّه بدا لله في تلك الحادثة.

أمّا استعمال كلمة «بدا لله» فسيوافيك انّه مجاز. وقد تبع المسلمون في هذا النوع من الاستعمال سنّةَ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في أبرص وأقرع وأعمى كما مرّ. (1)

إنّما الكلام في كيفية الإلهام أو الوحي إلى النبي وأخباره للناس وعدم وقوعه ، فبيانه :

انّه ربما تقتضي المصلحةُ اطّلاعَ النبي على المقتضي للشيء دون العلّة التامة لوقوعه ، فيخبر استناداً إلى المقتضي مع عدم الوقوف على العلّة التامة التي من أجزائها عدم المانع من تأثير المقتضي.

فإخباره يستند إلى وجود المقتضي للشيء ، وأمّا عدم وقوعه فلاستناده إلى وجود المانع من تأثير المقتضي ، وها نحن نذكر شيئاً من هذه الإخبارات الواردة في الكتاب والسنّة والتي بدا لله فيها :

ص : 408


1- راجع ص 370 من هذا الكتاب.
1. حادثة رفع العذاب عن قوم يونس

أخبر يونسُ قومَه بنزول العذاب ثمّ ترك القوم وكان في وعده صادقاً معتمداً على مقتضي العذاب الذي اطّلع عليه ، لكن نزول العذاب كان مشروطاً بعدم المانع ، أعني : التوبة والتضرّع ، إذ مع المانع لا تجتمع العلة التامة للعذاب ، قال سبحانه : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ). (1)

أخرج عبد الرزاق عن طاوس في قوله : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (2) قال : قيل ليونس - عليه السلام - : إنّ قومك يأتيهم العذاب يوم كذا وكذا ... فلمّا كان يومئذ ، خرج يونس - عليه السلام - ففقده قومه ، فخرجوا بالصغير والكبير والدواب وكلّ شيء ، ثمّ عزلوا الوالدة عن ولدها ، والشاة عن ولدها ، والناقة والبقرة عن ولدها ، فسمعت لهم عجيجاً فأتاهم العذاب حتّى نظروا إليه ثمّ صرف عنهم فلما لم يصبهم العذاب ، ذهب يونس - عليه السلام - مغاضباً فركب في البحر في سفينة مع أناس ... الخ. (3)

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : لمّا بعث الله يونس - عليه السلام - إلى أهل قريته ، فردوا عليه ما جاءهم به ، فامتنعوا منه ، فلمّا فعلوا ذلك أوحى الله إليه إنّي مرسل عليهم العذاب في يوم كذا وكذا ، فأخرج من بين أظهرهم ، فأعلم قومه الذي وعد الله من عذابه إيّاهم ، فقالوا : ارمقوه فإن هو خرج من بين أظهركم فهو والله كائن ما وعدكم ، فلمّا كانت الليلة التي وُعِدُوا

ص : 409


1- يونس : 98.
2- الصافات : 139 - 140.
3- الدر المنثور : 7 / 121.

العذاب في صبيحتها ، أدلج فرآه القوم ، فحذروا فخرجوا من القرية إلى براز من أرضهم وفرقوا بين كلّ دابة وولدها ، ثمّ عجّوا إلى الله وأنابوا واستقالوا فأقالهم ، وانتظر يونس عليه خبر القرية وأهلها ، حتّى مرّ مارّ فقال : ما فعل أهل القرية؟ قال : فعلوا أنّ نبيهم لمّا خرج من بين أظهرهم عرفوا أنّه قد صدقهم ما وعدهم من العذاب ، فخرجوا من قريتهم إلى براز من الأرض ، ثمّ فرقوا بين كلّ ذات ولد وولدها ، ثمّ عجُّوا إلى الله ، وتابوا إليه فقُبِل منهم وأخّر عنهم العذاب. (1)

2. حادثة الإعراض عن ذبح إسماعيل

قد تضافر في الآثار انّ رؤية الأنبياء رؤيا صادقة وربّما يكون وحياً. (2) وقد رأى إبراهيم في منامه انّه يذبح إسماعيل ، وأعلم ابنه بذلك ، ليكون أهون عليه ، وليختبر صبره وجلده وعزمه على طاعة الله وطاعة أبيه ، يقول سبحانه : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ* فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ). (3)

فقوله : (أَنِّي أَذْبَحُكَ) يحكي عن حقيقة ثابتة وواقعية مسلّمة ، وهو أمر الله لإبراهيم بذبح ولده أوّلاً ، وتحقّق ذلك في عالم الوجود ثانياً ، وكأنّ قوله سبحانه : (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) يكشف عن أمرين :

1. الأمر بذبح الولد وهو أمر تشريعي.

2. الكناية عن تحقّق ذلك في الواقع الخارجي.

ص : 410


1- الدر المنثور : 7 / 122.
2- الدر المنثور : 5 / 280.
3- الصافات : 101 - 102.

فقد أخبر إبراهيم - عليه السلام - بذلك ، بطريق من طرق الوحي ، وأخبر هو ولده بذلك ، ومع ذلك كلّه لم يتحقّق ونُسخ نسخاً تشريعياً ، كما لم يتحقّق ذبح إبراهيم إسماعيل في الخارج فكان نسخاً تكوينياً.

ويحكي عن كلا الأمرين قوله سبحانه : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ). (1)

وسيوافيك انّ اخبار الأنبياء عن حوادث مستقبلية مع عدم وقوعها لا يستلزم كذبهم ولا يمسّ كرامتهم بشيء ، وذلك لدلالة القرائن على وجود المقتضي للحوادث وإنّما لم يقع لأجل موانع حالت بين المقتضي وتأثيره.

ثمّ إنّه سبحانه يحكي لنا عزمَ إبراهيم لذبح ولده ، وانّ الوالد والولد سلّما ما أُمرا به ، ووضع إبراهيم وجهه للأرض (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) فلمّا أخذ الشفرة وأراد أن يذبحه ، نودي مِن خلفه أن يا إبراهيمُ قد صدّقتَ الرؤيا وخرجتَ من الاختبار مرفوع الرأس ، قال سبحانه :

(فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ* وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ* وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ* وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ* كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ). (2)

3. حادثة إكمال ميقات موسى - عليه السلام -
اشارة

ذكر المفسّرون انّه سبحانه واعد موسى ثلاثين ليلة ، فصامها موسى - عليه السلام - وطواها ، فلمّا تمّ الميقات استاك بلحاء شجرة فأمره الله تعالى أن يُكْمل بعشر ، يقول

ص : 411


1- الصافات : 107.
2- الصافات : 111103.

سبحانه : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ). (1)

إنّه سبحانه لمّا واعد موسى ثلاثين ليلة ، كلّم بما وعده الله سبحانه قومه الذين صحبوه إلى الميقات ، فلمّا طوى موسى - عليه السلام - ثلاثين ليلة أمر بإكمال بأربعين ليلة.

أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في تفسير الآية : انّ موسى قال لقومه : انّ ربّي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه وأخلف هارون فيكم ، فلمّا فصل موسى إلى ربّه زاده الله عشراً ، فكانت فتنتهم في العشر التي زاده الله. (2)

فكان هناك إخباران :

الأوّل بأنّه يمكث في الميقات ثلاثين ليلة ، ثمّ نسخه خبر آخر بأنّه يمكث أربعين ليلة ، وكان موسى صادقاً في كلا الأخبارين ، حيث كان الخبر الأوّل مستنداً إلى جهات يقتضي إقامة ثلاثين ليلة ، لو لا طروء ملاك آخر يقتضي أن يكون الوقوف أزيد من ثلاثين.

هذه جملة الحوادث التي تنبّأ أنبياء الله بوقوعها في الذكر الحكيم إلاّ أنّها لم تقع ، وهذا ما يعبّر عنه بأنّه بدا لله فيها.

وسيوافيك وجه استعمال لفظة «بدا» في المقام وكيفية نسبته إلى الله.

ص : 412


1- الأعراف : 142.
2- الدر المنثور : 3 / 335.
حوادث بدا لله تعالى فيها في الأحاديث

المتتبع في الآثار والروايات يجد نظائر هذه الحوادث فيها ، ونذكر نزراً قليلاً منها :

1. مر يهوديّ بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال : السام عليك ، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - له : «وعليك» ، فقال أصحابه : انما سلّم عليك بالموت ، فقال : الموت عليك؟ فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : «وكذلك رددت» ، ثمّ قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لأصحابه : «إنّ هذا اليهودي يعضّه أسود في قفاه فيقتله». قال : فذهب اليهودي فاحتطب حطباً كثيراً فاحتمله ، ثمّ لم يلبث أن انصرف.

فقال له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - «ضعه» ، فوضع الحطب فإذا أسود في جوف الحطب عاض على عود ، فقال - صلى الله عليه وآله وسلم - : «يا يهوديّ ما عملت اليوم؟» قال : ما عملت عملاً إلاّ حطبي هذا حملته فجئت به ، وكان معي كعكتان فأكلت واحدة وتصدّقت بواحدة على مسكين ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «بها دفع الله عنه» ، وقال : «إنّ الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإنسان». (1)

2. انّ المسيح مرّ بقوم مجلبين ، فقال : ما لهؤلاء؟ قيل : يا روح الله فلانة بنت فلانة تُهدى إلى فلان في ليلته هذه ، فقال : يُجلَبُون اليوم ويَبكوُن غداً ، فقال قائل منهم : ولم يا رسول الله؟ قال : لأنّ صاحبتهم ميتة في ليلتها هذه ، فلما أصبحوا وجدوها على حالها ، ليس بها شيء ، فقالوا : يا روح الله إنّ التي اخبرتَنا أمس انّها ميتة لم تمت ، فدخل المسيح دارها فقال : ما صنعت ليلتك هذه؟ قالت : لم أصنع شيئاً إلاّ وكنت أصنعه فيما مضى ، انّه كان يعترينا سائل في كلّ ليلة جمعة فننيله ما

ص : 413


1- بحار الأنوار : 4 / 121.

يقوته إلى مثلها. فقال المسيح : تنحّ عن مجلسك فإذا تحت ثيابها أفعى مثل جذعة ، عاضّ على ذنبه ، فقال - عليه السلام - : بما صنعت ، صرف عنك هذا. (1)

أقول : إنّ الأخبارات الصادرة من الأنبياء لأجل اتّصالهم باللوح الثاني الذي في معرض التغيّر والتبدّل كثيرة مبثوثة في الكتب ، فيخبرون لمصالح حسب ما يقتضي المقتضي مع احتمال تغيّرها حسب توفّر الشروط وعدمها أو الموانع وعدمها.

وفي هذا المجال يقول العلاّمة المجلسي في عالم الإثبات :

اعلم أنّ الآيات والأخبار تدلّ على أنّ الله خلق لوحين أثبت فيها ما يحدث في الكائنات :

أحدهما : اللوح المحفوظ الذي لا تغيّر فيه أصلاً وهو مطابق لعلمه تعالى.

والآخر : لوح المحو والإثبات ، فيثبت فيه شيئاً ثمّ يمحوه ، لحكم كثيرة لا تخفى على أُولي الألباب.

ص : 414


1- بحار الأنوار : 4 / 94.

7- شبهات وحلول

اشارة

تثار حول البداء شبهات عديدة تطلب لنفسها الإجابة ، ونحن بدورنا نذكر المهم منها :

الأُولى : استحالة إطلاق البداء على الله سبحانه

إنّ البداء في اللغة هو الظهور بعد الخفاء ، وهو يلازم العلم بعد الجهل ، والله سبحانه عالم بكلّ شيء قبل الخلقة ومعها وبعدها فكيف يقال بدا لله في هذه الحادثة؟

والجواب : انّ هذه الشبهة صارت ذريعة لإنكار البداء حتّى بالمعنى الصحيح ، غير انّا نُلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ النزاع ليس في إطلاق لفظ «البداء» على الله ، وإنّما النزاع في المسمّى ، فسواء أصحت تسميته بالبداء أم لم تصحّ ، فالبداء عبارة عن تغيير المصير بالعمل الصالح والطالح ، فلو كان إطلاق البداء عليه غير صحيح عند شخص فليسمّه بلفظ آخر ، على أنّ إطلاقه على الله صحيح لإحدى الجهات التالية أو جميعها :

1. انّ الشيعة الإمامية اقتفوا أثر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في إطلاق البداء على الله سبحانه

ص : 415

حيث جاء في حديث الأقرع والأبرص والأعمى قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : (بدا لله عزّ وجلّ أن يبتليهم) (1) وقد قال سبحانه : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً). (2)

2. انّ وصفه سبحانه بهذا الوصف من باب المشاكلة ، وهو باب واسع في كلام العرب ، فانّه سبحانه في مجالات خاصة يعبّر عن فعل نفسه بما يعبّر به الناس عن فعل أنفسهم ، وما ذلك إلاّ لأجل المشاكلة الظاهرية ، وقد صرّح بها القرآن الكريم في مواضع عديدة ، نذكر منها :

يقول سبحانه : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ). (3)

ويقول تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ). (4)

وقال عزّ من قائل : (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ). (5)

وقال عزّ اسمه : (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا). (6)

وقال عزّ وجلّ : (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا). (7)

إذ لا شكّ انّه سبحانه لا يخدع ولا يمكر ولا ينسى ، لأنّها من صفات الإنسان الضعيف ، ولكنّه سبحانه وصف أفعاله بما وصف به أفعال الإنسان من باب المشاكلة ، والجميع كناية عن إبطال خدعتهم ومكرهم وحرمانهم من مغفرة الله سبحانه وبالتالي عن جنّته ونعيمها.

وعلى ضوء ذلك فلا غرو في أن نعبّر عن فعله بما نعبّر عن أفعالنا ، إذا كان

ص : 416


1- تقدم تخريجه : انظر ص 370 - 371 من هذا الكتاب.
2- الأحزاب : 21.
3- النساء : 142.
4- آل عمران : 54.
5- الأنفال : 30.
6- الجاثية : 34.
7- الأعراف : 51.

التعبير مقروناً بالقرينة الدالّة على المراد ، فإذا ظهر الشيء بعد الخفاء ، فبما انّه بداء بالنسبة إلينا نوصف فعله سبحانه به أيضاً وفقاً للمشاكلة ، وإلاّ فهو - في الحقيقة - بداء من الله للناس ، ولكنّه يتوسّع كما يتوسّع في غيره من الألفاظ ، ويقال بدا لله تمشّياً مع ما في حسبان الناس وأذهانهم وقياس أمره سبحانه بأمرهم ، ولا غرو في ذلك إذا كانت هناك قرينة على المجاز والمشاكلة.

3. انّ اللام هنا بمعنى «من» فقوله : «بدا لله» أي بدا من الله للناس ، يقول العرب : قد بدا لفلان عمل صحيح أو بدا له كلام فصيح ، كما يقولون بدا من فلان كذا ، فيجعلون اللام مقام «من» ، فقولهم : بدا لله أي بدا من الله سبحانه. (1)

فعلى ضوء هذه الجهات يصحّ إطلاق البداء على الله سبحانه ووصفه به ، حتّى لو قلنا بتوقيفية الأسماء والصفات وما ينسب إليه تعالى من الأفعال ، لوروده في الحديث النبوي الآنف الذكر.

الثانية : استلزام البداء في مقام الإثبات الكذب

قد عرفت أنّ للبداء مجالين : مقام الثبوت ومقام الإثبات ، والمراد من الثاني كما تقدّم هو إخبار النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - عن حادثة وعدم وقوعها لانتفاء شرطها ، فحينئذ تطرح الشبهة التالية بأنّه إذا أخبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولم يتحقّق ما أخبر به يلزم حينها كذبه وزوال الاعتماد على قوله.

والجواب : إنّ مصدر خبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إمّا الوحي كما هو الحال في الإخبار عن أمره سبحانه بذبح إسماعيل أو نزول العذاب على قوم يونس ، أو اتّصال النبي بلوح المحو والإثبات ، أو الألواح التي يكتب فيها الحوادث الثابتة والمتغيّرة ، فربّما

ص : 417


1- أوائل المقالات : 53.

يكتب فيها الموت بالنظر إلى مقتضياته فيتّصل به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فيطلع على موته مع أنّه كان مشروطاً بشرط لم يتحقّق.

غير أنّ هذا النوع من الإخبار لا يستلزم كذب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وذلك لدلالة القرائن على صدق النبي ، وهو وجود المقتضي للحادثة وانّها لم تقع لأجل فقدان الشرط ، مثلاً :

إنّه سبحانه - بعد ما نسخ ذبح إسماعيل - أمر إبراهيم بالفداء عنه بذبح عظيم وقال : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (1) ، ففي هذه الفدية دليل على صدق ما أخبر به النبي من الرؤيا ، وقد كانت هناك مصلحة للأمر بالذبح ، غير أنّه نسخ لمصلحة فيه.

ونظير هذا قصة يونس حيث أخبر عن العذاب وقد تقدّم أنّ القوم رأوا طلائعه ، فقال لهم عالمهم : افزعوا إلى الله فلعلّ الله يرحمكم ، ويرد العذاب عنكم ، فاخرجوا إلى المفازة ، وفرّقوا بين النساء والأولاد وبين سائر الحيوان وأولادها ثمّ ابكوا وادعوا ، ففعلوا فصرف عنهم العذاب. (2)

وقد مضى في قصة المسيح انّه أخبر بهلاك العروس ولم يقع ، لكنّه برهن على صحّة إخباره بقوله لها : «تنحّي عن مجلسك» فإذا تحت ثيابها أفعى مثل جذعة عاض على ذنبه ، فقال - عليه السلام - : «بما صنعت صرف عنك هذا». (3)

كما أنّ في إخبار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بهلاك اليهودي كان مقروناً بمشاهدة الأسود في جوف الحطب عاض على عود.

ص : 418


1- الصافات : 107.
2- مجمع البيان : 3 / 153.
3- تقدم تخريجه.

وبالجملة : إنّ تنبّؤات الأنبياء والأولياء بوقوع حوادث مستقبلية تتحقّق غالباً ، وعند ما تتخلّف يكون الإخبار مقروناً بأمارات دالّة على صدقه كما تقدّم.

الثالثة : استلزام البداء للتشكيك في مطلق ما أخبر
اشارة

إذا كان إخبار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خاضعاً للبداء فلا يبقى أيُّ اعتماد بتنبّؤات الأنبياء والأولياء ، فإذا أخبر المسيح بمجيء نبي بعده اسمه أحمد ، أو أخبر النبي عن كونه خاتم الأنبياء ، أو عن ظهور المهدي في آخر الزمان ، وكان الجميع خاضعاً للبداء والتغيير فلا يبقى وثوق بما أخبر.

والجواب : انّ البداء إنّما يتعلّق بموارد جزئية وحوادث خاصّة ، كما عرفت من ذبح إسماعيل ونزول البلاء على قوم يونس وموت العروس واليهودي بالأسود ، فهذا القسم من التنبؤات تقتضي المصلحة وقوع البداء فيها ، وهي أُمور نادرة بالنسبة إلى ما جاء به الأنبياء من السنن والقضايا والسياسات ، فلا يورث البداء في مورد أو موارد لا تتعدى عن عدد الأصابع ، شكاً وترديداً فيما أخبر به الأنبياء أو جاءوا به من الأحكام ، وإن شئت التفصيل فنذكر بعض ما لا يتطرّق إليه البداء فنقول :

1. السنن الكونية لا تخضع للبداء

إنّ لله سبحانه تبارك وتعالى سنناً كونية غير محددة بزمان ومكان ، وهي ثابتة لا تخضع للبداء ، لأنّها سنة ، والسنّة بطبعها تقتضي الشمول والعموم وتأبى التخصيص والتبعيض ، قال الله سبحانه : (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) (1)

ص : 419


1- الأحزاب : 62.

وإليك نزراً من هذه السنن.

1. يقول سبحانه حاكياً عن شيخ الأنبياء نوح (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً). (1)

فهل يتصوّر طروء البداء إلى هذه السنن الكونية التي لا تقصر عن السنن الطبيعية؟ كلا ولا.

2. يقول سبحانه : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ). (2)

فالآية تتكفّل ببيان سنّتين إلهيّتين : ايجابية وسلبية.

فلا يتطرق إليهما البداء ولا النسخ.

3. يقول سبحانه : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ). (3)

4. ويقول عزّ وجلّ : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ). (4)

فهذه السنن قد أخذ الله على ذمته أن تكون ثابتة في عامّة الأجيال والأزمان لا تخضع للتغيّر لمنافاته للسنّة الإلهية.

2. التنبّؤ بالنبوّة والإمامة لا يخضع للبداء

قد تقتضي المصلحة تنبّؤ النبي بنبيّ لاحق بعده كما تنبّأ عيسى - عليه السلام - بظهور

ص : 420


1- نوح : 1210.
2- إبراهيم : 7.
3- الطلاق : 32.
4- الأنبياء : 105.

نبيّ بعده اسمه أحمد ، يقول سبحانه حاكياً عن المسيح : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ). (1)

فهذا النوع من التنبّؤ لا يخضع للبداء ، لأنّه على طرف النقيض من مصالح النبوّة ، إذ معنى ذلك إيجاد الفوضى عند ظهور النبيّ اللاحق. وقس على هذين المورد ، ما ورد عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - حول المهدي وظهوره وبسطه العدل والقسط.

وبذلك يعلم أنّ ما يخضع للبداء في مقام الإثبات أُمور نادرة تتعلّق بأُمور خارجة عن النظام التشريعي والعقائدي ونسبتها إلى غيرها كنسبة الواحد إلى الأُلوف ، فلا يُورِث البداء في مثل تلك الأُمور أيّ شك وترديد في تنبّؤات الأنبياء.

أضف إلى ذلك انّه يشترط في صحّة البداء وقوعه في حياة المخبر ، كما هو الحال في قصة الخليل ويونس والمسيح والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وعلى ذلك فما أخبر به النبي والوصي يحدد احتمال ظهور الخلاف بحياتهم ، فإذا انقضت آجالهم فلا يبقى أيّ موضوع للبداء.

فنخرج بالحصيلة التالية : انّ كلّ ما ورد في القرآن والسنّة والآثار بعد رحيل النبيّ من الأخبار أُمور محتومة لا يتطرّق إليها البداء.

الرابعة : البداء ومسألة جفّ القلم

إذا كان البداء بمعنى تغيير المصير بالأعمال الصالحة والطالحة فهو لا يجتمع مع ما روي عن النبي من أنّه قال لأبي هريرة : «جفّ القلم بما

ص : 421


1- الصف : 6.

أنت لاق» (1) ، فانّ الحديث يعرب عن تماميّة الأُمور والفراغ عن الأمر دون أي تجديد في المصير بالعمل وغيره.

أقول : إذا كان الميزان في صحّة العقيدة هو تطابقها مع كتاب الله العزيز والسنّة النبويّة المتضافرة أو المتواترة فيجب أن نعتمد عليهما لا على أخبار الآحاد وإنْ رواها الإمام البخاري في صحيحه ، وقد عرفت دلالة الكتاب العزيز على انّه سبحانه (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ). (2) وقال سبحانه : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ). (3)

إلى غير ذلك من الآيات الصحيحة في تمكّن الإنسان من تغيير ما قدّر.

وأمّا ما رواه أبو هريرة فلو أخذنا بحديثه فيُحمل على ما قدر في أُمّ الكتاب وفي علمه الذاتي سبحانه لا ما قُدِّر في لوح المحو والإثبات وفي مقام علمه الفعلي.

ويؤيّد ما ذكرنا ما رواه البخاري في باب أسماه «العمل بالخواتيم» ، وقد ورد في أحاديث الباب قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : وإنّما الأعمال بالخواتيم. (4)

فإذا كانت العبرة بخواتيم الأعمال ، فمعنى ذلك انّ المصير يتغيّر ، ولو كان ما قدر ثابتاً كانت العبرة بالأوائل لا بالخواتيم.

إنّ القول بجفاف القلم وانّ الله سبحانه فرغ من الأمر عقيدة مستوردة ، انتحلتها اليهود كما أشار إليها سبحانه في القرآن الكريم بقوله : (قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) (5) ، والآية وإن وردت في مورد الإنفاق ، ولكن العبرة بعموم اللفظ (يَدُ اللهِ

ص : 422


1- صحيح البخاري : 4 / 230 ، كتاب القدر ، الحديث 6596.
2- الرحمن : 29.
3- الرعد : 39.
4- نفس المصدر : برقم 6607.
5- المائدة : 64.

مَغْلُولَةٌ) دون خصوص المورد ، كما هو الحال في عامّة الآيات الواردة في سبب خاص.

يقول العلاّمة محمد هادي معرفة : إنّ ذكر الإنفاق كيف يشاء في ذيل الآية جاء بياناً لأحد مصاديق بسط يده تعالى وشمول قدرته ، وليس ناظراً إلى الانحصار فيه ، ولعلّ ذكر ذلك كان بسبب ما واجه المسلمين في إبّان أمرهم من الضيق وعدم التوفّر في تهيئة التجهيز الكافي والحصول على الإمكانات اللازمة ، فأخذت اليهود في الطعن عليهم بأنّ ذلك هو المقدّر لهم ، وليس بوسعه تعالى أن يفسح لهم المجال أو يوسع عليهم في المعاش. (1)

وفي رواية أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - تصريح بأنّ الفراغ من الأمر عقيدة اليهود ، قال الإمام علي بن موسى الرضا - عليه السلام - لسليمان بن حفص المروزي ، متكلّم خراسان وقد استعظم مسألة البداء في التكوين : «أحسبك ضاهيت اليهود في هذا الباب» قال : أعوذ بالله من ذلك ، وما قالت اليهود؟ قال : «قالت اليهود : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) يعنون انّ الله قد فرغ من الأمر فليس يحدث شيئاً». (2)

وروى الصدوق باسناده إلى إسحاق بن عمّار ، عمّن سمعه ، عن الصادق - عليه السلام - انّه قال في الآية الشريفة : لم يعنوا انّه هكذا (أي مكتوف اليد) لكنّهم قالوا : قد فرغ من الأمر فلا يزيد ولا ينقص. فقال الله جلّ جلاله تكذيباً لقولهم : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) ألم تسمع الله عزّ وجلّ يقول : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ). (3)

ص : 423


1- شبهات وردود : 361.
2- عيون أخبار الرضا : 1 / 145 ، باب 13 ، رقم 1.
3- توحيد الصدوق : 167 ، باب 25 ، رقم 1.

وممّن صرّح بما ذكرنا الراغب الاصفهاني في مفرداته ، قال : قيل : إنّهم لمّا سمعوا انّ الله قد قضى كلّ شيء قالوا : إذاً يد الله مغلولة ، أي في حكم المقيد لكونها فارغة. (1)

إنّ يهود عصر الرسالة استنكروا تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة ، وما هذا إلاّ لاعتقادهم بالفراغ عن التكوين والتشريع.

وبهذا فسّره الجبائي قوله سبحانه : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ). (2)

وبهذا الشأن نزل قوله سبحانه : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (3)

وممّا يشهد على أنّ القول بالفراغ عن الأمر وجفاف القلم من العقائد المستوردة هو ما عليه اليهود في عامّة القرون من أنّه سبحانه بعد ما فرغ من خلق السماوات والأرض خلال الستة أيام ، استراح في اليوم السابع وهو يوم السبت جاء في سفر التكوين : فأكملت السماوات والأرض وكلّ جندها ، وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمله فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل. (4)

يقول سبحانه ردّاً على تلك العقيدة : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ). (5)

ص : 424


1- المفردات : 363.
2- البقرة : 115 ، لاحظ مجمع البيان : 1 / 191.
3- البقرة : 106.
4- سفر التكوين : الاصحاح : 2 / 1.
5- ق : 38.

واللغب في اللغة بمعنى التعب والإعياء وما يقرب منه.

أخي العزيز

هذا هو البداء ، وهذا هو معناه في الكتاب والسنّة ، وتلك هي آثاره البنّاءة في شخصية الإنسان.

وهو من صميم الدين ، ولا يلازمه نسبة الجهل إلى الله تعالى.

ولو قدحت في ذهنك شبهة ، فأعد القراءة بوعي وإمعان حتّى تزول الشبهة ، وتقف على الجواب في ثنايا ما ذكرناه ، بفضل من الله.

ص : 425

ص : 426

الفصل التاسع: نظام الحكم في الإسلام بعد رحلة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

اشارة

ص : 427

ص : 428

الأمر الأوّل: الحكومة حاجة ملحَّة

اشارة

إنّ وجود الدولة في الحياة البشرية ليس أمراً تقتضيه الحياة المعاصرة التي اشتدت فيها الحاجة إلى الحكومة ، بل هي حاجة طبيعية ضرورية للإنسان الاجتماعي عبر القرون.

فإذا الدولة حاجة طبيعية تقتضيها الفطرة الإنسانية بحيث يُعدّ الخارج على الدولة ونظامها وتدبيرها : إمّا متوحشاً ساقطاً ، أو موجوداً يفوق الموجود الإنساني.

انّ استعراض ما قام به الباحثون والمفكّرون من تبيين ضرورة الحكومة في المجتمع الإنساني ، وانّه لولاها لانهارت الحياة وانفصمت عقد الاجتماع وعادت الفوضى إلى المجتمع الإنساني ، ممّا لا تسعه هذه الرسالة ولنتركها لمحلها.

ولكن المهم لنا هو تبيين سيرة الرسول في تأسيس الحكومة الإسلامية بعد ما استتب له الأمر ، وهو يعرب عن أنّ الحكومة تعد بنى تحتيّة لإجراء عامّة الأحكام الإسلامية ، وانّه لولاها لتعطلت الأحكام ، وتوقّف إجراء الحدود والتعزيرات ، وبالتالي سادت الفوضى على الحياة ، فلذلك نقتصر في المقام على بيان سيرة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد نزوله المدينة المنورة فنقول :

من تتبع سيرة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقف على أنّه قام بتأسيس الدولة بكلّ ما لهذه

ص : 429

الكلمة من معنى ، فقد مارس ما هو شأن الحاكم السياسي من تشكيل جيش منظم ، وعقد معاهدات ومواثيق مع الطوائف الأُخرى ، وتنظيم الشئون الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية ممّا يتطلّبه أي مجتمع منظم ذو طابع قانوني ، وصفة رسمية ، وصيغة سياسية ، واتخاذ مركز للقضاء وإدارة الأُمور وهو المسجد ، وتعيين مسئوليات إدارية ، وتوجيه رسائل إلى الملوك والأُمراء في الجزيرة العربية وخارجها ، وتسيير الجيوش والسرايا وبذلك يكون الرسول الأعظم - صلى الله عليه وآله وسلم - أوّل مؤسس للدولة الإسلامية التي استمرت من بعده ، واتسعت وتطورت وتبلورت ، واتخذت صوراً أكثر تكاملاً في التشكيلات والمؤسسات وإن كانت الأُسس متكاملة في زمن المؤسس الأوّل - صلى الله عليه وآله وسلم -.

ومن ملامح تأسيس حكومته قيامه بأُمور تعد من صميم العمل السياسي والنشاط الإداري الحكومي ، نذكر من باب المثال لا الحصر :

1. انّه - صلى الله عليه وآله وسلم - عقد بين أصحابه وبين الطوائف والقبائل الأُخرى المتواجدة في المدينة كاليهود وغيرهم اتفاقية وميثاقاً يعتبر في الحقيقة أوّل دستور للحكومة الإسلامية.

2. انّه - صلى الله عليه وآله وسلم - جهز الجيوش وبعث السرايا إلى مختلف المناطق في الجزيرة ، وقاتل المشركين وغزاهم ، وقاتل الروم ، وقام بمناورات عسكرية لارهاب الخصوم ، وقد ذكر المؤرخون أنّه - صلى الله عليه وآله وسلم - خاض أو قاد خلال 10 أعوام من حياته المدنية 85 حرباً بين غزوة وسريّة.

3. بعد ان استتبّ له الأمر في المدينة وما حولها وأمن جانب مكة وطرد اليهود لتآمرهم ضد الإسلام والمسلمين من المدينة وما حولها وقلع جذورهم ، توجه باهتمام خاص إلى خارج الجزيرة ، وإلى المناطق التي لم تصل إليها دعوته ودولته

ص : 430

من مناطق الجزيرة ، فراح يراسل الملوك والأُمراء ويدعوهم إلى الانضواء تحت راية الإسلام والدخول تحت ظل دولته والقبول بحكومته الإلهية.

4. انّه - صلى الله عليه وآله وسلم - بعث السفراء والمندوبين السياسيين إلى الملوك والزعماء وكان عملاً بديعاً من أعمال الدبلوماسية ، وهذه الدبلوماسية الفطنة التي لجأ إليها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في مخاطبة الملوك في عصره لم تذهب كلّها سدى.

5. انّه - صلى الله عليه وآله وسلم - نصب القضاة وعيّن الولاة ، وأعطاهم برامج للإدارة والسياسة ، فأوصاهم فيما أوصاهم بتعليم أحكام الإسلام ونشر الأخلاق والآداب التي جاء بها الإسلام ، وتعليم القرآن الكريم ، وجباية الضرائب الإسلامية كالزكاة وإنفاقها على الفقراء والمعوزين ، وما شابه ذلك من المصالح العامة ، وفصل الخصومات بين الناس ، وحلّ مشاكلهم) والقضاء على الظلم والطغيان ، وغير ذلك من المهام والصلاحيات والمسئوليات الإدارية والاجتماعية.

6. انّ من قرأ سورة الأنفال والتوبة ومحمّد - صلى الله عليه وآله وسلم - يلاحظ كيف يرسم القرآن فيها الخطوط العريضة لسياسة الحكومة الإسلامية وبرامجها ووظائفها. فهي تشير إلى مقومات الحكومة الإسلامية المالية ، وأُسس التعامل مع الجماعات غير الإسلامية ، ومبادئ الجهاد والدفاع وبرامجها ، وتعاليم في الوحدة الإسلامية التي تعتبر أقوى دعامة للحكومة الإسلامية ، وكذا غيرها من السور والآيات القرآنية فهي مشحونة بالتعاليم والبرامج اللازمة للحكومة والدولة.

وهذا يكشف عن أنّ النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - كان أوّل مؤسس للحكومة الإسلامية في المدينة المنورة بعد أن مهّد لها في مكة.

إنّ من سبر الأحكام الإسلامية من العبادات إلى المعاملات إلى الإيقاعات والسياسات ، يقف على أنّها بطبعها تقتضي إقامة حكومة عادلة واعية لإجراء كلّ

ص : 431

ما جاء به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وانّه لولاها لأصبحت تلك القوانين حبراً على ورق من دون أن تظهر في المجتمع آثارها ، فانّ الإسلام ليس مجرّد أدعية خاوية أو طقوس ومراسيم فردية يقوم بها كلّ فرد في بيئته ومعبده ، بل هو نظام سياسي ومالي وحقوقي واجتماعي واقتصادي واسع وشامل ، وما ورد في هذه المجالات من قوانين أو أحكام ، تدلّ بصميم ذاتها على أنّ مشرّعها افترضَ وجودَ حاكم يقوم بتنفيذها ورعايتها ، لأنّه ليس من المعقول سنّ مثل هذه القوانين دون وجود قوة مجرية وسلطة تنفيذية تتعهد بإجرائها وتتولّى تطبيقها مع العلم بأنّ سنّ القوانين وحده لا يكفي في تنظيم المجتمعات ، وإلى هذا الدليل يشير السيد المرتضى بقوله :

إنّه سبحانه وتعالى يأمرنا بالاستجابة لله وللرسول إذا دعا لما فيه حياتنا ، يقول سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ). (1)

وفسّرت الآية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإذا كان الأمر والنهي كما تُوحي هذه الآيات مبدأ للحياة وجب أن يكون للناس إمام يقوم بأمرهم ونهيهم ويقيم فيهم الحدود ، ويجاهد فيهم العدو ، ويقسم الغنائم ، ويفرض الفرائض ويحذِّرهم عمّا فيه مضارهم ، ولهذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب بقاء الخلق فوجبا ، وإلاّ سقطت الرغبة والرهبة ولم يرتدع أحد ، ولفسد التدبير ، أو كان ذلك سبباً لهلاك العباد. (2)

نظام الإمامة والخلافة في الإسلام

قد عرفت أنّ الحكومة ضرورة ملحة ولا تحتاج إلى إقامة برهان وقد وردت

ص : 432


1- الأنفال : 24.
2- المحكم والمتشابه ، للسيد المرتضى : 50.

على لسان الرسول وأئمّة أهل البيت - عليهم السلام - إلماعات إلى ذلك نذكر منها ما يلي :

1. قال النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - : «صنفان من أُمّتي إذا صلحا صلحت أُمّتي ، وإذا فسدا فسدت أُمّتي».

قيل : يا رسول الله ومن هم؟

قال : «الفقهاء والأُمراء». (1)

فالحديث يعرب عن ضرورة وجود الفقيه والأمير في المجتمع الإسلامي ، غير أنّ سعادته رهن كونهما مصلحين لا مفسدين.

2. قال الإمام أمير المؤمنين - عليه السلام - لمّا سمع قول الخوارج : لا حكم إلاّ لله ، قال : «كلمة حقّ يراد بها باطل ؛ نعم انّه لا حكم إلاّ لله ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلاّ لله ، وإنّه لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ، ويبلّغ الله فيه الآجل ، ويُجمع به الفيء ويُقاتل به العدو وتأمَنُ به السبل ، ويُؤخذ به للضعيف من القوي ، حتّى يستريح برّ ، ويُستراحَ من فاجر». (2)

3. وقال الإمام علي بن موسى الرضا - عليه السلام - في حديث طويل حول ضرورة وجود الحكومة في الحياة البشرية : «إنّا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملّة من الملل بقُوا وعاشوا إلاّ بقيّم ورئيس لما لا بدّ لهم منه في أمر الدين والدنيا ، فلم يجز في حكمه الحكيم أن يترك الخلقَ لما يعلم أنّه لا بدّ لهم منه ، ولا قوام لهم إلاّ به ، فيقاتِلونَ به عدوّهم ، ويقسّمون به فيئهم ، ويقيمون به جمعتهم وجماعتهم ، ويمنعُ ظالمهم من مظلومهم». (3)

ص : 433


1- تحف العقول : 42.
2- نهج البلاغة ، الخطبة 40.
3- علل الشرائع : 253.

ولأجل هذه الأهمية التي تحظى بها الحكومة الإسلامية يتعيّن على علماء الإسلام أن يبذلوا غاية الجهد في توضيح معالمها ومناهجها وخطوطها وخصائصها في جميع العصور والعهود.

ص : 434

الأمر الثاني: ملامح الحكومة الإسلامية في الكتاب والسنّة

اشارة

إنّ الحاكم الإسلامي - في منطق القرآن وحسب تشريعه - ليس مجرّد من يأخذ بزمام الجماعة كيفما كان ، ويأمر وينهى بما تشتهيه نفسه ، ويحكم على الناس لمجرّد السلطة وشهوة الحكم ، بل هو ذو مسئولية كبيرة وثقيلة.

وبما انّ هذه الرسالة لا تتسع لبيان أكثر ملامح الحكومة الإسلامية نقتصر على بعض ما ورد في الذكر الحكيم من ملامح مقروناً ببعض الروايات ، ونحيل التفصيل إلى محاضراتنا. (1)

قال سبحانه : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ). (2)

فالمسئوليات الملقاة على عاتق الحاكم في الإسلام عبارة عن :

1. إقامة الصلاة وتوثيق عرى المجتمع الإسلامي بربّه الذي فيه كلّ الخير.

ص : 435


1- انظر كتاب معالم الحكومة الإسلامية : 34 - 47.
2- الحج : 41.

2. إيتاء الزكاة الذي فيه تنظيم اقتصاده ومعاشه.

3. الأمر بالمعروف وإشاعة الخير والصلاح في المجتمع.

4. النهي عن المنكر ومكافحة كلّ ألوان الفساد والانحراف والظلم والزور.

ومن المعلوم أنّ حكومة كهذه توفر للائقين والصالحين وذوي القابليات والمواهب فرصاً مناسبة لإبراز مواهبهم ، وتهيّئ الظروف المساعدة لتنمية استعداداتهم العلمية والفكرية في جميع المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، وتدفعها في طريق التقدّم والازدهار.

وقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لا تصلح الإمامة إلاّ لرجل فيه ثلاث خصال :

وَرَع يحجزه عن معاصي الله

وحِلْم يملك به غضبه

وحسن الولاية على من يلي حتّى يكون لهم كالوالد الرحيم». (1)

وقال - صلى الله عليه وآله وسلم - - في ردّ من قال : بئس الشيء الأمارة - : «نعم الشيء الأمارة لمن أخذها بحلها وحقّها ، وبئس الشيء الأمارة لمن أخذها بغير حقّها وحلها تكون عليه يوم القيامة حسرة وندامة». (2)

مسئولية الحاكم في النصوص الشرعية

1. إنّ الرسول الأعظم - صلى الله عليه وآله وسلم - يتحدث عن مسئوليته تجاه الأُمّة الإسلامية الّتي يأخذ بزمام حكمها ، فيقول : «كلّكم راع وكلّكم مسئول عن رعيته».

فالأمير الذي على الناس ، راع عليهم ، وهو مسئول عنهم.

ص : 436


1- الكافي : 1 / 407.
2- كتاب الأموال : 10.

والرجل راع على أهل بيته ، وهو مسئول عنهم.

وامرأة الرجل ، راعية على بيت زوجها وولدها ، وهي مسئولة عنهم.

«ألا فكلّكم راع وكلّكم مسئول عن رعيّته». (1)

2. ويمكن لنا أن نستجلي ملامح الحكومة الإسلامية وصفات الحاكم الإسلامي من كلام الإمام علي - عليه السلام - الذي يرسم لنا ما على الحاكم الإسلامي الأعلى تجاه الشعب وما على الشعب تجاه الحاكم ، إذ يقول في وضوح كامل :

«وأعظم ما افترض الله من تلك الحقوق ؛ حقُّ الوالي على الرّعيّة وحقُّ الرّعيّة على الوالي ، فريضةً فرض الله سبحانه ، لكلّ على كلّ ، فجعلها نظاماً لأُلفتهم ، وعزّا لدينهم ، فليست تصلح الرّعيّة إلا بصلاح الولاة ، ولا يصلح الولاة إلا باستقامة الرّعيّة.

فإذا أدّت الرّعيّة إلى الوالي حقّه وأدّى الوالي إليها حقّها ، عزّ الحقُّ بينهم ، وقامت مناهج الدّين ، واعتدلت معالم العدل وجرت على أذلالها السُّنن ، فصلح بذلك الزّمان ، وطمع في بقاء الدّولة ويئست مطامع الأعداء ، وإذا غلبت الرّعيّة واليها أو أجحف الوالي برعيّته ، اختلفت هنالك الكلمة ، وظهرت معالم الجور ، وكثر الإدغال في الدّين ، وتركت محاجُّ السُّنن ، فعمل بالهوى ، وعطّلت الأحكام ، وكثرت علل النفوس ، فلا يستوحش لعظيم حقّ عطّل ، ولا لعظيم باطل فعل ، فهنالك تذلُّ الأبرار ، وتعزُّ الأشرار ، وتعظّم تبعات الله عند العباد». (2)

ثمّ إنّ الإمام عليّاً - عليه السلام - يصرّح في هذه الخطبة ذاتها بالحقوق المشتركة والمسئوليات المتقابلة ، إذ يقول : «أمّا بعد ، فقد جعل الله لي عليكم حقّاً بولاية

ص : 437


1- كتاب الأموال للحافظ أبي عبيد سلاّم بن القاسم المتوفى 225 ه ، ص 10.
2- نهج البلاغة : الخطبة 216 ، طبعة عبده.

أمركم ، ولكم عليّ من الحقّ مثل الذي لي عليكم».

ثم يشير الإمام - عليه السلام - في هذه الخطبة إلى واحدة من أنصع القوانين الإسلاميّة ؛ وهو قانون التسوية بين جميع أفراد الأُمّة الإسلاميّة حكّاماً ومحكومين ، رؤساء ومرءوسين ، وزراء ومستوزرين ، وبذلك ينسف فكرة : أنا القانون ، أو أنا فوق القانون ، فيقول - عليه السلام - : «... الحقُّ لا يجري لأحد إلاّ جرى عليه ، ولا يجري عليه إلاّ جرى له»

وعلى هذا ؛ فلا تمييز ولا تفرقة بين الحاكم والمحكوم بل الجميع أمام القوانين الإسلاميّة المدنيّة والجزائيّة وغيرها سواء ، وعلى الحاكم والرئيس أن يؤدّي حقوق الناس كأيّ فرد من أفراد الأُمّة العاديّين ، وبذلك يدعم الإمام ما روي عن الرسول الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - إذ يقول : «النّاس أمام الحقّ سواء».

3. كما يمكن أن نعرف طبيعة الحكومة الإسلامية من خطبة الإمام الحسين الشهيد - عليه السلام - بعد نزوله بأرض كربلاء ، فقال :

«اللهم إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان ، ولا التماساً من فضول الحطام ، ولكن لنري المعالم من دينك ، ونظهر الإصلاح في بلادك ، ويأمن المظلومون من عبادك ، ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك». (1)

إنّ من أهمّ الوثائق التي ترسم لنا بوضوح معالم الحكومة الإسلامية ؛ الوثيقة التي كتبها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ليهود يثرب بعد ما نزل المدينة المنوّرة ، وقد رواه : ابن هشام في سيرته (2) ، وأبو عبيد في كتاب «الأموال» (3) ، وابن كثير في البداية والنهاية. (4) وهي

ص : 438


1- بحار الأنوار : 100 / 80 - 81 ، الحديث 37.
2- سيرة ابن هشام : 1 / 501.
3- الأموال ، ص 517 ، ط مصر.
4- البداية والنهاية : 2 / 224.

وثيقة تاريخية مفصّلة ، فمن أراد فليرجع إلى محالّه.

فالحاكم الإسلامي في الحقيقة هو الحافظ لمصالح الشعب ، وهو كالأب الحنون لعامّة المواطنين حتّى اليهود والنصارى إذا عملوا بشرائط الذمّة ، فهو يسمح للمسلمين بأن يعاملوا غيرهم من الطوائف غير المسلمة بالعدل والرفق والشفقة ما داموا لا يتآمرون على المسلمين ولا يسيئون إلى أمنهم ، ولا يقاتلونهم ، فالإسلام لا يمنع عن البرّ والقسط إليهم ، وإنّما يمنع عن الذين ظاهروا على المسلمين وتآمروا ضدهم ، ترى كلّ ذلك في الآيتين التاليتين :

يقول سبحانه : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). (1)

ويقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ). (2)

ولعلّ النظرة الواحدة إلى تاريخ الحكومات الإسلامية يكشف لنا عفوهم وسماحتهم لكثير من الذمّيين من النصارى واليهود ، وقد كانت الأقلّيات بين المسلمين يرجّحون الحياة تحت ظلّ الإسلام على العيش مع الدول الكافرة ، نذكر هاهنا وثيقة تاريخية ذكرها البلاذري في هذا المجال. قال :

لمّا جمع هرقل للمسلمين الجموع ، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة

ص : 439


1- الممتحنة : 8 - 9.
2- آل عمران : 118.

اليرموك ، ردّوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج ، وقالوا : قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم ، فقال أهل حمص [وكانوا مسيحيّين] : لولايتكم وعدلكم أحبّ إلينا ممّا كنّا فيه من الظلم والغشم ، ولندفعنّ جند هرقل عن المدينة مع عاملكم ، ونهض اليهود فقالوا : والتوراة [أي قسماً بالتوراة] لا يدخل هرقل مدينة حمص إلاّ أن نغلب ونجهد ، فأغلقوا الأبواب وحرسوها ، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود وقالوا : إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنّا عليه [من الظلم والحرمان] ، وإلاّ فانّا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد.

فلمّا هزم الله الكفرة وأظهر المسلمين ، فتحوا مدنهم ، وأخرجوا المقلّسين (1) فلعبوا وأدّوا الخراج». (2)

إنّ الحاكم الإسلامي ، من يشارك شعبه في إفراحه وإتراحه ، وفي آلامه وآماله لا أن يعيش في بروج عاجيّة ، متنعماً في أحضان اللذة رافلاً في أنواع الشهوات ، غير عارف بأحوال من يسوسهم.

يقول الإمام وهو يرسم ملامح الحاكم الإسلامي.

«أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر ، أو أكون أُسوة لهم في جشوبة العيش ، فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها ، أو المرسلة ، شغلها تقممها». (3)

ص : 440


1- التقليس : استقبال الولاة عند قدومهم بضرب الدّف والغناء وأصناف اللهو ، راجع المنجد في اللغة.
2- البلاذري (م 279 ه) ، فتوح البلدان ، ص 143.
3- نهج البلاغة ، الرسالة رقم 45.

الأمر الثالث: أنظمة الحكم في المجتمعات البشريّة

إنّ لنظم الحكم في العالم ألواناً وأنواعاً نذكر عناوينها باختصار :

1. النظام الملكي.

2. الحكومة الأشرافية.

3. حكومة الأغنياء.

4. النظام الجمهوري.

إلى غير ذلك من الأنظمة المعروفة لدى السياسيّين ، غير أنّ المهم لنا في المقام كيفيّة نظام الحكم في الإسلام بعد رحيل الرسول الأكرم ، أمّا في زمانه فلا شكّ أنّه الحاكم المبعوث من الله سبحانه وليس للناس اختيار في ردّه وقبوله. يقول سبحانه : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ). (1)

إنّ البحث عن صيغة الحكومة الإسلامية من أهمّ المباحث لكنّها - للأسف - قلّت العناية بترسيم شكلها ومعالمها وما يرجع إليها من المباحث.

ص : 441


1- الأحزاب : 36.

أمّا الشيعة فبما أنّهم كانوا يمثّلون طول العصور جبهة الرفض والمعارضة للحكومات الجائرة لم تسنح لهم الظروف أن يتحدّثوا عن صيغة الحكومة الإسلامية ، وأمّا السنّة فقد تبعوا في ترسيمها الوضع السائد على الحكومات بعد رحيله - صلى الله عليه وآله وسلم - وزعمت أنّها حكومات إسلامية شرعية من دون أن ترفع النقاب عن واقع الحكومة الإسلامية ، ولأجل ذلك غابت الصورة الحقيقية للحكومة الإسلامية عن أذهان أكثر المسلمين ، ومن حاول أن يستجلي كيفية النظام الإسلامي يجب عليه رعاية الأُمور الثلاثة :

أوّلاً : العودة إلى المصادر الأساسية للإسلام ، ونعني بها الكتاب والسنّة المطهرة.

ثانياً : أن لا يخلطوا بين ما وقع وجرى على الساحة الإسلامية في مجال الحكم ، وبين ما هو مرسوم لنظام الحكم في أصل الشريعة المقدّسة.

ثالثاً : أن لا يخلطوا بين تاريخ المسلمين ونظام الدين ، لأنّ ذلك التاريخ لا يكون ممثّلاً واقعياً لكلّ تعاليم الدين ، ولا مبرزاً لجميع حقائقه.

إنّ التتبع في الكتاب والسنّة يقضي بأنّ الحكومة في الإسلام تقوم بأحد أمرين ، لكلّ واحد ظرفه الخاصّ :

1. التنصيص الإلهي على الحاكم الأعلى باسمه وشخصه. وهذا فيما لو كان هناك نصّ أو نصوص على حاكمية شخص معيّن على الأُمّة كما في النبيّ الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - باتّفاق المسلمين ، أو الأئمّة المعصومين حسب ما تذهب إليه الشيعة.

ومن المعلوم ، أنّه لو كان نصّ لما جاز العدول عنه إلى الطريق الآخر الذي سنشير إليه.

2. التنصيص الإلهي على صفات الحاكم الأعلى ، وشروطه ، ومواصفاته

ص : 442

الكليّة فيما إذا لم يكن هناك تنصيص على الشخص ، أو كان لكن الظروف تحول دون الوصول إليه والانتفاع بقيادته.

وبما انّ البحث في الرسالة مركّز على بيان صيغة الحكومة بعد رحيل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا مطلقاً حتّى يشمل البحث الأحوال الحاضرة ، فتتحدد الدراسة ببيان نظام الحكم بعد وفاة الرسول الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - فقط وأمّا ما هي صيغة الحكم في الأحوال الحاضرة فهو رهن كتاب مفرد قمنا ببيانها في محاضراتنا. (1)

ص : 443


1- لاحظ مفاهيم القرآن ، الجزء الثاني تجد فيه بغيتك.

الأمر الرابع: التنصيص الإلهي على الحاكم باسمه وشخصه

اشارة

لا شكّ أنّ النبيّ الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - كان حاكماً منصوباً من جانبه سبحانه ولم يختلف فيه أحد من المسلمين إنّما الاختلاف في صيغة الحكومة الإسلامية ، بعد رحيله ، فهل هي كانت على غرار حكومة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأنّ الله سبحانه نصب شخصاً أو أشخاصاً معيّنين للحكومة على لسان نبيّه ، أو أنّ الحكومة بعده - صلى الله عليه وآله وسلم - على غرار الطريق الثاني ، أعني : التنصيص على الصفات والشروط الكليّة اللازمة للحاكم ، وحث الأُمّة على تعيين الحاكم من عند أنفسهم حسب تلك الصفات والشروط وعلى ضوء تلكم المواصفات؟

فهناك قولان ، ذهبت إلى كلّ واحد طائفة من المسلمين.

إنّ طائفة كبيرة من المسلمين ذهبت إلى أنّ صيغة الحكومة بعد الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - كانت حكومة تنصيصية إلهية على غرار حكومة النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - والله سبحانه نصّ على أسماء من يجب أن يخلفوا نبيّه على لسان نبيّه ، وأوجب طاعتهم وحرّم مخالفتهم.

ويمكن استجلاء الحقيقة بالطرق الثلاثة التالية :

1. هل المصالح كانت تقتضي التنصيص على الاسم ، أو كانت تقتضي

ص : 444

التنصيص على الوصف وترك الاختيار للأُمّة؟

2. إنّ الفراغ الذي يحدث برحيل النبيّ الأكرم هل يسدّ بانتخاب الأُمّة ، أو لا يسدّ إلاّ بالتنصيص على فرد معيّن؟

3. ما هو المرتكز في أذهان المسلمين في حياة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وبعد رحيله؟

وها نحن نأخذ كلّ واحد من هذه الطرق بالبحث والتحليل.

ص : 445

1- المصالح العالية تقتضي التنصيص على الاسم
اشارة

كانت المصالح بعد رحيل النبي مقتضية لأن ينصب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - شخصاً مكانه ، وكان في ترك الأمر إلى رأي الأُمّة مفسدة ، ويعلم ذلك من خلال دراسة أمرين

أ: الأُمّة الإسلامية والخطر الثلاثي

كانت الأُمّة الإسلامية قُبيل وفاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - محصورة بأكبر امبراطوريتين عرفهما تاريخ تلك الفترة. امبراطوريتان كانتا على جانب كبير من القوّة والبأس والقدرة العسكرية المتفوّقة ممّا لم يتوصّل المسلمون إلى أقلّ درجة منها ... وتلك الامبراطوريتان هما : الروم وإيران. هذا من الخارج.

وأمّا من الداخل ، فقد كان الإسلام والمسلمون يُعانون من جماعة المنافقين الذين كانوا يشكّلون العدوّ الداخلي المبطّن (أو ما يسمى بالطابور الخامس).

كان المنافقون يتربصون بالنبي الدوائر ، حتّى أنّهم كادوا له ذات مرّة ، وأرادوا أن يجفلوا به بعيره في العقبة عند عودته من حجّة الوداع ، وربّما اتّفقوا مع

ص : 446

اليهود والمشركين لتوجيه الضربات إلى الكيان الإسلامي من الداخل تخلّصاً من هذا الدين الذي هدّد مصالحهم ، ولقد كان المنافقون ولا يزالون أشدّ خطراً من أيّ شيء آخر على الإسلام ، وذلك لأنّهم كانوا يوجّهون ضرباتهم بصورة ماكرة وخفيّة ، وبنحو يخفى على العاديين من الناس.

لقد تصدى الذكر الحكيم لفضح المنافقين والتشهير بجماعتهم وخططهم في أكثر السور القرآنية ، مثل البقرة ، آل عمران ، المائدة ، الأنفال ، التوبة ، العنكبوت ، الأحزاب ، محمّد ، الفتح ، المجادلة ، الحديد ، والحشر.

كما نزلت في حقّهم سورة خاصة باسم المنافقين ، ولا يسعنا نقل معشار ما تآمروا به في الفترة المدنية ، ويكفي في ذلك قوله سبحانه في حقّهم : (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ). (1)

ويشير أيضاً إلى تآمرهم ليلاً ونهاراً حيث كانوا يبيّتون خلاف ما يظهرونه ويبدونه أمام النبيّ كما يقول : (وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ). (2)

وكان من المحتمل جدّاً أن يتفق هذا الخطر الثلاثي - الناقم على الإسلام - على محو الدين وهدم كلّ ما بناه الرسول طوال ثلاثة وعشرين عاماً من الجهود والمتاعب ، وتضييع كلّ ما قدّمه المسلمون من تضحيات في سبيل إقامته.

إنّ احتمال قيام المؤامرات واتّحاد قوى الشرك مع الطابور الخامس لم يكن يوم ذاك غائباً عن ذهنية المشرِف على الأوضاع السياسية فضلاً عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ومثل هذا يفرض على القائد العليم أن يدحض جميع تلك المخططات والمؤامرات

ص : 447


1- التوبة : 48.
2- النساء : 81.

بتنصيب خليفة من بعده عارفاً بالكتاب والسنّة ، شُجاعاً مِقْداماً ، واعياً بالأوضاع السياسية ، حازماً ، يمسك بزمام الأُمور ويقود المجتمع الإسلامي إلى ساحل الأمان وهذا بخلاف ما لو ارتحل دون أن يفكر بمستقبل الحكومة الإسلامية والمؤامرات والفتن التي تحدق بها ، ويدلي بالأمر إلى الأُمّة كي تنتخب لها قائداً من بعده ، فانّ اتخاذ مثل هذا الموقف كان على خلاف مصالح الأُمّة ، وبعيداً عن ذهنية من كان محيطاً بالأوضاع الداخلية لأُمّته والنزاعات الطائفية التي كانت قائمة على قدم وساق والتي ربما كانت تنتهي إلى حروب داخلية تجعل الأُمّة عرضة لأطماع الأعداء التوسعية التي يحكي عنها قوله سبحانه : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ). (1)

ب : النظام القبلي يمنع من الاتفاق على قائد

لقد كان من أبرز ما يتميز به المجتمع العربي قبل الإسلام ، هو النظام القبلي ، والتقسيمات العشائرية التي كانت تحتلّ - في ذلك المجتمع - مكانة كبرى ، وتتمتّع بأهميّة عظيمة.

فلقد كان شعب الجزيرة العربية ، غارقاً في هذا النظام الذي كان سائداً في كلّ أنحائها.

ولقد كان للقبيلة أكبر الدور في الحياة العربية - قبل الإسلام - وعلى أساسها كانت تدور المفاخرات وتنشد القصائد ، وتُبنى الأمجاد ، كما كانت هي منشأ أكثر الحروب وأغلب المنازعات التي ربما كانت تستمرّ قرناً أو أزيد ، كما حدث بين الأوس والخزرج ، أكبر قبيلتين عربيّتين في يثرب (المدينة) كلّفهم مئات القتلى قبل

ص : 448


1- الطور : 30.

دخول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - المدينة.

ورغم ما أوجد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في ضوء التعاليم الإسلامية من تحولات عظيمة في حياة العرب إلاّ أنّ أكثرها كانت تتعلّق بقضايا عقائدية ومسائل أخلاقية ، لا بالحياة القبلية ، ولم يكن من الممكن أن ينقلب النظام القبلي العربي في خلال ثلاث وعشرين عاماً ويتبدل كلّيّاً. بل كان التعصب للقبيلة ولشيخها هو المظهر الأتم للحياة القبلية.

وعلى ضوء ذلك فهل يجوز في منطق العقل أن يترك القائد - كالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - - أُمّته المفطورة على التعصبات القبلية والاختلافات العرفيّة دون أن يعين مصير الخلافة بتنصيب خليفة من بعده ، وفي تعيينه قطع لدابر الاختلاف والفرقة ، وسدّ لأفواه الطامعين بالخلافة؟!

وأوضح دليل على التعصبات القبلية في الشئون الاجتماعية ولا سيما في الخلافة العامة ، هو الخلاف والتشاجر الذي ظهر في السقيفة حيث سارعت كلّ قبيلة إلى ترشيح زعيمها للخلافة متجاهلة كلّ المبادئ والتعاليم الإسلامية ، فهذا هو الناطق بلسان الأنصار يرفع عقيرته في السقيفة ويقول :

نحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منّا وقد دفّت دافّة من قومكم (1) إذ هم يريدون أن يجتازون (2) ويغصبونا الأمر.

وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على رسوخ التعصبات القبلية في نفوسهم.

أفيصحّ لقائد محنك كالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يترك الأمر لقوم هذا مبلغ تفكيرهم وتغلغلهم في العصبية القبلية متجاهلة كل المعايير الإسلاميّة في الحاكم

ص : 449


1- جاء جماعة ببطء.
2- أي يدفعوننا من أصلنا.

الإسلامي.

وهذا هو أحد المهاجرين الحاضرين في السقيفة يتعصّب لقريش ويقول :

«... لن تعرف العرب هذا الأمر (أي الزعامة) إلاّ لهذا الحيّ من قريش ، هم أوسط العرب نسباً وداراً ...».

ومن قرأ تاريخ السقيفة والمناقشات الدائرة بين الحاضرين (الأوس والخزرج وجمع من المهاجرين) يلاحظ كيف تأجّجت نار العصبية بين هؤلاء بحيث أخذ كلّ يتعصّب لقبيلته دون أن ينظر إلى مصالح الإسلام والمسلمين.

إلى هنا تبين انّ المصلحة كانت تكمن في التنصيب للخلافة دون الإدلاء بها إلى الأُمّة ، وقد أوضحنا حالها من خلال دراسة أمرين :

1. الخطر الثلاثي المُحدِق بالإسلام والمسلمين.

2. التعصبات القبلية التي تحول دون الاتّفاق على شيء وتؤجّج نار الطائفية بين المسلمين.

ونبحث الآن في العامل الثاني الذي يدعم نظرية التنصيب من جانب النبيّ بوحي من الله.

ص : 450

2- الفراغات الهائلة لا تسدّ إلاّ بالتنصيص
اشارة

إنّ النبيّ الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - ، كان يملأ فراغاً كبيراً وعظيماً في حياة الأُمّة الإسلامية ، ولم تكن مسئولياته وأعماله مقتصرة على تلقّي الوحي الإلهي ، وتبليغه إلى الناس فحسب ، بل كان يقوم بالأُمور التالية :

1. يُفسِّر الكتاب العزيز ، ويشرح مقاصده وأهدافه ، ويكشف رموزه وأسراره.

2. يُبيِّن أحكام الموضوعات التي كانت تَحْدُثُ في زمن دعوته.

3. يَرُدّ على الحملات التشكيكية ، والتساؤلات العويصة المريبة التي كان يثيرها أعداء الإسلام من يهود ونصارى.

4. يصون الدين من التحريف والدسّ ، ويراقب ما أخذه عنه المسلمون من أُصول وفروع ، حتّى لا تَزِلّ فيه أقدامهم.

وهذه الأُمور الأربعة كان النبي يمارسها ويملأ بشخصيته الرسالية ثغراتها. ولأجل جلاء الموقف نوضح كلّ واحد من هذه الأُمور.

ص : 451

أمّا الأمر الأوّل : فيكفي فيه قوله سبحانه : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (1) فقد وصف النبي في هذه الآية بأنّه مبيّن لما في الكتاب ، لا مجرّد تال له فقط.

وقوله سبحانه : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) (2) فكان النبي يتولى بيان مُجْمَلِهِ ومُطْلَقِهِ ومُقَيَّده ، بقدر ما تتطلبه ظروفه.

والقرآن الكريم ليس كتاباً عادياً ، على نسق واحد ، حتّى يستغني عن بيان النبي ، بل فيه المُحكَم والمتشابه ، والعام والخاص ، والمطلَق والمقيَّد ، والمنسوخ والناسخ ، يقول الإمام علي - عليه السلام - : «وخلّف (النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -) فيكم ما خلّفت الأنبياء في أُممها : كتاب ربّكم فيكم ، مبيّناً حلالَه وحرامه ، وفرائضه وفضائله ، وناسخه ومنسوخه ، ورُخَصَه وعزائمه ، وخاصّه وعامّه ، وعِبره وأمثاله ، ومُرسله ومَحْدُدَهُ ، ومحكمه ومتشابهه ، مفسّراً مجمله ، ومبيِّناً غوامضه». (3)

وأمّا الأمر الثاني : فهو غني عن التوضيح ، فإنّ الأحكام الشرعية وصلت إلى الأُمّة عن طريق النبي ، سواء أكانت من جانب الكتاب أو من طريق السنّة.

وأمّا الأمر الثالث : فبيانه أنّ الإسلام قد تعرض ، منذ ظهوره ، لأعنف الحملات التشكيكية ، وكانت تتناول توحيده ورسالته وإمكان المعاد ، وحشر الإنسان ، وغير ذلك. وهذا هو النبي الأكرم ، عند ما قدم عليه جماعة من كبار النصارى لمناظرته ، استدلّوا لاعتقادهم بنبوة المسيح ، بتولده من غير أب ، فأجاب

ص : 452


1- النحل : 44.
2- القيامة : 1916.
3- نهج البلاغة ، الخطبة 1.

النبي بوحي من الله سبحانه ، بأنّ أمر المسيح ليس أغرب من أمر آدم حيث ولد من غير أب ولا أُمّ قال سبحانه : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). (1)

وأنت إذا سبرت تفاسير القرآن الكريم ، تقف على أنّ قسماً من الآيات نزلت في الإجابة عن التشكيكات المتوجهة إلى الإسلام من جانب أعدائه من مشركين ويهود ونصارى وقد وردت حول المعاد جملة كثيرة من الشبهات التي كانوا يعترضون بها على عقيدة المعاد ، وأجاب القرآن عنها.

وأمّا الأمر الرابع : فواضح لمن لاحظ سيرة النبي الأكرم ، فقد كان هو القول الفصل وفصل الخطاب ، إليه يفيء الغالي ، ويلحق التالي ، فلم يُرَ إبّان حياته مذهب في الأُصول والعقائد ، ولا في التفسير والأحكام. وكان - بقيادته الحكيمة - يرفع الخصومات والاختلافات ، سواء فيما يرجع إلى السياسة أو غيرها. (2)

هذه هي الأُمور التي مارسها النبي الأكرم أيّام حياته ، ومن المعلوم أنّ رحلته وغيابه صلوات الله عليه ، يخلّف فراغاً هائلاً ومفزعاً في هذه المجالات الأربعة ،فيكون التشريع الإسلامي حينئذ أمام أُمور ثلاثة :

الأوّل : أن لا يبدي الشارع اهتماماً بسدّ هذه الفراغات الهائلة التي ستحدث بعد الرسول ، ورأى تركَ الأُمور لتجري على عَواهنها.

ص : 453


1- آل عمران : 59. ولاحظ سورة الزخرف : 6157.
2- يكفي في ذلك ملاحظة غزوة الحديبية ، وكيف تغلّب بقيادته الحكيمة على الاختلاف الناجم ، من عقد الصلح مع المشركين وما نجم في غزوة بني المصطلق من تمزيق وحدة الكلمة ، أو ما ورد في حجّة الوداع ، حيث أمر من لم يَسُق هدياً. بالإحلال ، ونجم الخلاف من بعض أصحابه ، فحسمه بفصله القاطع.

الثاني : أن تكون الأُمّة ، قد بلغت بفضل جهود صاحب الدعوة في إعدادها ، حدّاً تقدر معه بنفسها على سدّ ذلك الفراغ.

الثالث : أن يستودع صاحب الدعوة ، كلّ ما تلقاه من المعارف والأحكام بالوحي ، وكلّ ما ستحتاج إليه الأُمّة بعده ، يستودعه شخصية مثالية ، لها كفاءة تَقَبُّلِ هذه المعارف والأحكام وتحمُّلها ، فتقوم هي بسد هذا الفراغ بعد رحلته صلوات الله عليه.

أمّا الاحتمال الأوّل : فساقط جداً ، لا يحتاج إلى البحث ، فإنّه لا ينسجم مع غرض البعثة ، فإنّ في ترك سدّ هذه الفراغات ضياعاً للدين والشريعة ، وبالتالي قطع الطريق أمام رُقيّ الأُمّة وتكاملها فيبقى أمامنا احتمالان ندرسهما تالياً.

دراسة الاحتمال الثاني

أن تكون الأُمّة قد بلغت بفضل جهود صاحب الدعوة في إعدادها حدّاً تقدر معه بنفسها على سدِّ ذلك الفراغ. غير أنّ التاريخ والمحاسبات الاجتماعية يبطلان هذا الاحتمال ويثبتان انّه لم يقدّر للأُمّة بلوغ تلك الذروة لتقوم بسدّ هذه الثغرات التي خلّفها غياب النبيّ الأكرم ، لا في جانب التفسير ولا في جانب الأحكام ، ولا في جانب ردّ التشكيكات ودفع الشبهات ، ولا في جانب صيانة الدين عن الانحراف.

أمّا في جانب التفسير ، فيكفي وجود الاختلاف الفاحش في تفسير آيات الذكر الحكيم حتى فيما يرجع إلى أعمال المسلمين اليومية كما هو الحال في تفسير آية الوضوء.

ص : 454

وأمّا في مجال الأحكام ، فيكفي في ذلك الوقوف على أنّ بيان الأحكام الدينيّة حصل تدريجاً على ما تقتضيه الحوادث والحاجات الاجتماعية في عهد الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ومن المعلوم انّ هذا النمط كان مستمرّاً بعد الرسول ، غير انّ ما ورثه المسلمون منه - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يكن كافياً للإجابة عن ذلك ، أمّا الآيات القرآنية في مجال الأحكام فهي لا تتجاوز ثلاثمائة آية ، وأمّا الأحاديث في هذا المجال ، فالذي ورثته الأُمّة لا يتجاوز خمسمائة حديث ، وهذا القدر لا يفي بالإجابة عن جميع الموضوعات المستجدّة.

ولا نعني من ذلك انّ الشريعة الإسلامية ناقصة في إيفاء أغراضها التشريعية وشمول المواضيع المستجدّة ، بل المقصود انّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يراعي في إبلاغ الحكم حاجة الناس ومقتضيات الظروف الزمنية ، فلا بدّ في إيفاء غرض التشريع على وجه يشمل المواضيع المستجدة والمسائل المستحدثة أن يستودع أحكام الشريعة من يخلفه ويقوم مقامه.

وأمّا في مجال ردّ الشبهات والتشكيكات وإجابة التساؤلات ، فقد حصل فراغ هائل بعد رحلة النبيّ من هذه الناحية ، فجاءت اليهود والنصارى تترى ، يطرحون الأسئلة ، حول أُصول الإسلام وفروعه ، ولم يكن في وسع الخلفاء آنذاك الإجابة الصحيحة عنها ، كما يشهد بذلك التاريخ الموجود بأيدينا.

وأمّا في جانب صيانة المسلمين عن التفرقة ، والدّين عن الانحراف ، فقد كانت الأُمّة الإسلامية في أشدّ الحاجة إلى من يصون دينها عن التحريف وأبناءها عن الاختلاف ، فإنّ التاريخ يشهد على دخول جماعات عديدة من أحبار اليهود ورهبان النصارى ومؤبدي المجوس بين المسلمين ، فراحوا يدسّون الأحاديث الإسرائيلية والأساطير النصرانية والخرافات المجوسية بينهم ، ويكفي في ذلك أن

ص : 455

يذكر الإنسان ما كابده البخاري من مشاقّ وأسفار في مختلف أقطار الدولة الإسلامية ، وما رواه بعد ذلك ، فإنّه ألفى الأحاديث المتداولة بين المحدثين في الأقطار الإسلامية ، تربو على ستمائة ألف حديث ، لم يصحّ لديه منها أكثر من أربعة آلاف ، وكذلك كان شأن سائر الذين جمعوا الأحاديث وكثير من هذه الأحاديث التي صحّت عندهم كانت موضع نقد وتمحيص عند غيرهم. (1)

فهذه المجعولات على لسان الوحي ، تقلع الشريعة من رأس ، وتقلب الأُصول ، وتتلاعب بالأحكام ، وتشوّش التاريخ ، أو ليس هذا دليلاً على عدم وفاء الأُمّة بصيانة دينها عن الانحراف والتشويش؟!

هذا البحث الضافي يثبت حقيقة ناصعة ، وهي عدم تمكّن الأُمّة ، مع ما لها من الفضل ، من القيام بسدِّ الفراغات الهائلة التي خلّفتها رحلة النبيّ الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - ويبطل بذلك الاحتمال الثاني تجاه التشريع الإسلامي بعد عصر الرسالة. فيتعين الاحتمال الثالث الذي ندرسه تالياً.

دراسة الاحتمال الثالث

أن يستودع صاحب الدعوة ، كلّ ما تلقّاه من المعارف والأحكام بالوحي ، وكلّ ما ستحتاج إليه الأُمّة بعده ، شخصيّة مثالية ، لها كفاءة تقبُّل هذه المعارف والأحكام وتحمّلها ، فتقوم هي بسدِّ هذا الفراغ بعد رحلته - صلى الله عليه وآله وسلم - وبعد بطلان الاحتمالين الأوّلين لا مناص من تعيُّن هذا الاحتمال ، فإنّ وجود إنسان مثالي كالنبيّ في المؤهّلات ، عارف بالشريعة ومعارف الدين ، ضمان لتكامل المجتمع ، وخطوة ضرورية في سبيل ارتقائه الروحي والمعنوي ، فهل يسوغ لله سبحانه أن

ص : 456


1- لاحظ حياة محمد ، لمحمّد حسين هيكل ، الطبعة الثالثة عشرة : 5049.

يهمل هذا الأمر الضروري في حياة الإنسان الدينية؟

إنّ الله سبحانه جهَّز الإنسان بأجهزة ضرورية فيما يحتاج إليها في حياته الدنيوية المادية ، ومع ذلك كيف يعقل إهمال هذا العنصر الرئيسي في حياته المعنوية والدينية؟!

يقول المفكّر الإسلامي الكبير ابن سينا :

إنّه تعالى قد زوّده بإنبات الشعر على أشفار عينيه وحاجبيه وتقعير الأخمص من القدمين لكي تكون حياته لذيذة غير متعبة ، فهل تكون حاجته إلى هذه الأُمور أشد من حاجته إلى الإمام المنصوب من الله الذي يضمن كماله بعلمه وتقواه ، وقيادته الحكيمة. (1)

ومن الواضح انّ التعرف على هذا الشخص الذي توفرت فيه مؤهلات غيبية لا يحصل إلاّ عن طريق تنصيبه من قبل النبي بأمر من الله سبحانه ، وهذا ما يدعم نظرية التنصيب مكان انتخاب الأُمّة.

ص : 457


1- كتاب النجاة ، ص 304.
3- ما هو مرتكز الصحابة في صيغة الحكومة؟
اشارة

لقد دلّت المحاسبات العقلية والاجتماعية السابقة على لزوم تنصيب الإمام من جانب الله تعالى ، وأثبتت أن إدلاء الأمر إلى نظر الأُمّة وانتخابها وتعيينها خطأ فاضح ، يأباه العقل وترفضه المصالح العامة وتعارضه المحاسبات الاجتماعية.

وهناك جانب آخر يسلط الضوء على نظرية الإمامة وهو تصور النبي وأصحابه للإمامة والخلافة.

أمّا الأوّل فالقرائن والشواهد تؤكد على أنّ مسألة الإمامة كانت عندهم تنصيبية وفيما ننقل من الشاهدين تصريح بذلك :

1. لما عرض الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - نفسه على بني عامر الذين جاءوا إلى مكة في موسم الحجّ ودعاهم إلى الإسلام ، قال له كبيرهم؟ أرأيت إن بايعناك على أمرك ثمّ أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟

فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : «الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء». (1)

ص : 458


1- السيرة النبوية لابن هشام : 2 / 424 - 425.

2. لما بعث النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - سليط بن عمرو العامري إلى ملك اليمامة الذي كان نصرانياً ، يدعوه إلى الإسلام وقد كتب معه كتاباً ، فقدم على هوذة ، فأنزله وحباه وكتب إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول فيه : ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله ، وأنا شاعر قومي وخطيبهم ، والعرب تهاب مكاني فاجعل لي بعض الأمر أتّبعك.

فقدم سليط على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأخبره بما قال هوذة ، وقرأ كتابه ، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لو سألني سيابة من الأرض ما فعلت. باد وباد ما في يده». (1)

إنّ هذين النموذجين التاريخيين للّذين لم تمسّهما أيدي التحريف والتغيير يدلاّن خصوصاً الأوّل بوضوح كامل على تصور النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن مسألة الخلافة والقيادة من بعده ، فهما يدلاّن على أنّ هذه المسألة كانت إذا طرحت على النبي ، وسئل عمّن سيخلفه في أمر قيادة الأُمّة كان يتجنب إرجاعها إلى نفسه أو إلى نظر الأُمّة ، بل يرجع أمرها إلى الله تعالى ، أو يتوقّف في إبداء النظر فيه على الأقل.

وأمّا تصوّر الصحابة لمسألة الخلافة والمرتكز في أذهانهم فقد كان يدور حول التنصيب ، أي سدّ الفراغ بتنصيب إمام سابق على إمامة إمام لاحق ، وما كان يدور في خلدهم ، انتخاب الشعب ، أو أهل الحلّ والعقد من الأُمّة ، وإليك شواهد على ذلك.

ما هو المرتكز في أذهان الصحابة؟

إنّ المتتبع في تاريخ الصحابة والخلفاء والذين تعاقبوا على مسند الخلافة بعد النبي ، يرى بوضوح انّ الطريقة التي اتّبعها أُولئك الصحابة ، والخلفاء كانت هي الطريقة الانتصابية - وإن كان الانتصاب من جانب شخص لا من الله

ص : 459


1- طبقات ابن سعد الكبرى : 1 / 262.

سبحانه - لا الانتخابية الشعبية.

فالخليفة السابق كان يعين الخليفة اللاحق ، إمّا مباشرة أو بتعيين أشخاص يتولون تعيين الخليفة والاتفاق عليه ، ولم يترك أحد أُولئك أمر القيادة إلى نظر الأُمّة وإرادتها واختيارها ، أو يتكل على آراء المهاجرين والأنصار ، أو أهل الحلّ والعقد ليختاروا مَن يشاءون للخلافة والامرة.

فمن يلاحظ تاريخ الصدر الأوّل يرى انّ خلافة عمر ابن الخطاب تمت بتعيين من أبي بكر.

1. روى ابن الأثير في كامله أنّ أبا بكر أملى على عثمان عهده ، ولكنّه غشي عليه أثناء الإملاء ، فأكمله عثمان وكتب فيه استخلاف عمر من عند نفسه ، ثمّ إنّه لما أفاق أبو بكر من غشيته ، وافق على ما كتبه عثمان ، وإليك نصّ ما كتبه ابن الأثير :

إنّ أبا بكر أحضر عثمان بن عفان ليكتب عهده إلى عمر فقال له : اكتب بسم الله الرّحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين ، أمّا بعد ... ثمّ أُغمي عليه ... فكتب عثمان أمّا بعد : فانّي قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم ألكم خيراً.

ثمّ أفاق أبو بكر فقال : اقرأ عليّ ، فقرأ عليه ، فكبّر أبو بكر ، وقال : أراك خفت أن يختلف الناس ان متُّ في غشيتي.

قال عثمان : نعم.

قال : جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله.

فلما كتب العهد أمر به أن يقرأ على الناس فجمعهم ، وأرسل الكتاب مع مولى له ومعه عمر ، وكان عمر يقول للناس : انصتوا واسمعوا لخليفة رسول الله

ص : 460

انّه لم يألكم نصحاً.

فسكت الناس فلما قرأ عليهم الكتاب سمعوا له وأطاعوا. (1)

وأمّا استخلاف عثمان فقد ذكره المؤرخون ونقتصر على نصّ ابن الأثير في كامله ، قال :

2. انّ عمر بن الخطاب لما طعن قيل له : يا أمير المؤمنين لو استخلفت؟ فقال : مَنْ استخلف؟ لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته ، ولو كان سالم مولى حذيفة حياً لاستخلفته.

فقال رجل : أدلك عليه عبد الله بن عمر ، فقال عمر : قاتلك الله كيف استخلف من عجز عن طلاق امرأته ... إلى أن قال :

عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - انّهم من أهل الجنة ، وهم : علي وعثمان وعبد الرحمن وسعد والزبير بن العوام وطلحة بن عبد الله. فلما أصبح عمر دعا علياً وعثمان وسعداً وعبد الرحمن والزبير ، فقال لهم :

إنّي نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم ، ولا يكون هذا الأمر إلاّ فيكم ، وقد قبض رسول الله وهو عنكم راض ، وانّي لا أخاف الناس عليكم إن استقمتم ، ولكنّي أخافكم فيما بينكم فيختلف الناس ، فانهضوا إلى حجرة عائشة بإذنها فتشاوروا فيها ، واختاروا رجلاً منكم ، فإذا مت فتشاوروا ثلاثة أيّام ، وليصلّ بالناس صهيب ، ولا يأتي اليوم الرابع إلاّ وعليكم أمير.

فاجتمع هؤلاء الرهط في بيت حتّى يختاروا رجلاً منهم.

قال لصهيب : صلّ بالناس ثلاثة أيام وأدخل هؤلاء الرهط بيتاً وقم على

ص : 461


1- الكامل في التاريخ : 2 / 292 ؛ طبقات ابن سعد الكبرى : 3 / 200.

رءوسهم ، فإن اجتمع خمسة وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف ، وإن اتّفق أربعة وأبى اثنان فاضرب رءوسهما ، وإن رضي ثلاثة رجلاً وثلاثة رجلاً ، فحكّموا عبد الله بن عمر ؛ فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر ، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع فيه الناس. (1)

وعلى هذه السيرة جرى أصحاب السياسة بعد حياة الرسول ولم يكن عندهم أيّ رؤى في تعيين الخليفة لا بالشورى ولا ببيعة أهل الحل والعقد ، بل كان التنصيص عندهم هو الطريق الوحيد ، لكن لا من الله سبحانه بل من جانب الخليفة الذي كان يلفظ أنفاسه الأخيرة.

3. روى المؤرخون انّه لما اغتيل عمر بن الخطاب وأحسّ بالموت ، أرسل ابنه عبد الله إلى عائشة واستأذن منها أن يدفن في بيتها مع رسول الله ومع أبي بكر ، فأتاها عبد الله ، فأعلمها ، فقالت : نعم وكرامة ، ثمّ قالت : يا بُني ، أبلغ عمر سلامي وقل له ، لا تدع أُمّة محمد بلا راع ، استخلف عليهم ، ولا تدعهم بعدك هملا ، فانّي أخشى عليهم الفتنة ، فأتاه فأعلمه. (2)

4. انّ عبد الله بن عمر دخل على أبيه قبيل وفاته فقال : إنّي سمعت الناس يقولون مقالة ، فآليت أن أقولها لك ، وزعموا انّك غير مستخلف وانّه لو كان لك راعي إبل أو غنم ثمّ جاءك وتركها لرأيت ان قد ضيّع فرعاية الناس أشد. (3)

5. قدم معاوية المدينة لأخذ البيعة من أهلها لابنه يزيد ، فاجتمع مع عدّة من الصحابة ، وأرسل إلى عبد الله بن عمر فأتاه وخلا به ، وكلمه بكلام ، وقال : انّي كرهت أن أدع أُمّة محمد بعدي كالضأن لا راعي لها. (4)

ص : 462


1- الكامل في التاريخ : 3 / 35.
2- الإمامة والسياسة : 1 / 32.
3- حلية الأولياء : 1 / 44.
4- الإمامة والسياسة : 1 / 168.
الآن حصحص الحق

إنّ هذا البحث الضافي المقرون بالشواهد والدلائل التاريخية يثبت بوضوح انّ نظام الحكم بعد رحيل النبي كان قائماً على التنصيب من الله سبحانه كتنصيبه للنبي ، وتشهد على ذلك الأُمور المتقدّمة التي نأتي بخلاصتها ليستنتج منها النتيجة المبتغاة ، وإليك إعادة الدلائل إجمالاً :

1. انّ الدولة الإسلامية الفتية كانت محاطة بعد وفاة النبي بأعداء في الداخل والخارج ، فمقتضى المصلحة العامة في تلك الظروف الحرجة تعيين الإمام لئلاّ تُترك الدولة بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - عرضة للاختلاف وبالتالي تمكن أعداءها منها.

2. انّ حياة العرب في عاصمة الإسلام وخارجها كانت حياة قبلية والتعصبات العشائرية لا تزال راسخة في نفوسهم ، وترك أمر الخلافة إلى مجتمع هذا حاله يؤدّي إلى التشاغل والاختلاف وبالتالي إلى القتل والدمار.

3. انّ الفراغات الهائلة الطارئة بعد رحيل النبي على ما تقدم لا يسد إلاّ بتنصيب من يكون له مؤهلات علمية ونفسية يقوم بوظائف النبي في تلك المجالات دون أن يكون نبياً أو رسولاً والذي يتمتع بهذه المؤهلات يجب أن يكون خاضعاً لرعاية إلهية ولا يعرّف إلاّ من جانبه.

4. انّ تصور النبي للخلافة الإسلامية هو إيكالها إلى الله سبحانه.

5. كما أنّ تصور الصحابة وسيرتهم في الخلافة هي سيرة التنصيب وكانوا يحتجون بأنّ في تركه تعريضاً للأُمّة للهلاك والدمار وفريسة للذئاب والأعداء.

وهل يمكن أن يلتفت الخلفاء وأُمّ المؤمنين إلى ضرورة التنصيب صيانة للأُمّة

ص : 463

عن وقوعها فريسة للأعداء ولا يلتفت إليه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي أُوتي من العلم ما أُوتي ، ويقول سبحانه في حقّه : (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً). (1)

كلّ ذلك يعرب عن أنّ القائد الحكيم بأمر من الله سبحانه سلك مسلكاً ونهج منهجاً يطابق هذه الأُصول والمقدمات وما خالفها وعيّن القائد بعده في حياته وأعلنه للأُمّة في موسم أو مواسم.

هذا ما أوصلنا إليه السبر والتقسيم والمحاسبة في الأُمور الاجتماعية والسياسية فيجب علينا عندئذ الرجوع إلى الكتاب والسنّة لنقف ونتعرف على ذلك القائد المنصوب ، ونذعن بأنّ عمل النبيّ كان مرافقاً لهذه الأُصول العقلائية التي تقدّمت. وهذا ما سيوافيك بعد دراسة نظرية مبدئية الشورى للحكم.

ص : 464


1- النساء : 113.

الأمر الخامس: هل الشورى أساس الحكم والخلافة؟

اشارة

ربما يتصوّر بعض الكتاب الجدد انّ نظام الحكم في الإسلام هو الشورى ، وقد حاول غير واحد من المعاصرين صبّ صيغة الحكومة الإسلامية على أساس المشورة بجعله بمنزلة الاستفتاء الشعبي بملاحظة انّه لم يكن من الممكن بعد وفاة النبي مراجعة كلّ الأفكار لقلّة وسائل المواصلات فاكتفوا بالشورى ، واستدلّوا عليه بآيتين كريمتين :

1. (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ). (1)

2. (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ). (2)

هذه النظرية وإن كانت لها روعة خاصة خصوصاً وانّها تتجاوب مع روح العصر لكن الواقع على خلافها لما عرفت من أنّ عمر بن الخطاب أخذ بزمام الحكم بتعيين الخليفة الأوّل ، وانّ الثالث استتب له الأمر بشورى سداسية عيّنها نفس الخليفة ، حتّى أنّ الخليفة الأوّل أخذ زمام الحكم ببيعة نفرات قليلة ، وهم :

ص : 465


1- آل عمران : 159.
2- الشورى : 38.

عمر بن الخطاب وأبو عبيدة ، من المهاجرين وبشر بن سعد ، من الخزرج ، وأسيد بن حضير من الأنصار ، وأمّا الباقون من رجال الأوس لم يبايعوا أبا بكر إلاّ تبعاً لرئيسهم «سعد بن حضير» ، كما أنّ الخزرجيين رغم حضورهم في السقيفة ، امتنعوا من البيعة لأبي بكر. (1)

وقد غاب عن المجلس كبار الصحابة كالإمام علي - عليه السلام - والمقداد ، وأبي ذر ، وحذيفة بن اليمان ، وأبي بن كعب ، وطلحة ، والزبير وعشرات آخرين من الصحابة. دون أن يكون هناك شورى وإنّما وقعت الأُمّة أمام عمل مفروغ عنه.

وأحسن كلمة تعبر عن خلافة أبي بكر ما ذكره عمر ابن الخطاب بقوله : ... إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت ، ألا وانّها قد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها ، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر ، من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه ، تغرّة ان يقتلا. (2)

نقد كون الشورى مبدأ الحكم

إنّ هنا أُموراً تثبت بوضوح على أنّ الشورى لم يكن مبدأً لنظام الحكم بعد رحيل الرسول ، وإليك الإشارة إليها.

1. لو كان أساس الحكم هو الشورى ، لوجب على الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - التصريح به أوّلاً ، وبيان حدوده وخصوصياته ثانياً ، بأن يبين من هم الذين يشاركون في الشورى ، هل هم القراء وحدهم ، أو السياسيون أو القادة العسكريون أو الجميع؟ وما هي شرائط المنتخب؟ وأنّه لو حصل هناك اختلاف في الشورى فما هو

ص : 466


1- راجع تاريخ الطبري : 2 / 445.
2- صحيح البخاري : 8 / 169 ، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت.

المرجح؟ هل هو كمية الآراء وكثرتها ، أو الرجحان بالكيفية ، وخصوصيات المرشحين وملكاتهم النفسية والمعنوية؟

فهل يصحّ سكوت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على الاجابة عن هذه الأسئلة التي تتصل بجوهر مسألة الشورى ، وقد جعل الشورى طريقاً إلى تعيين الحاكم؟

2. انّ القوم يعبّرون عن أعضاء الشورى بأهل الحل والعقد ، ولا يفسرونه بما يرفع إبهامه ، فمن هم أهل الحل والعقد؟ وما ذا يحلون وما ذا يعقدون؟ أهم أصحاب الفقه والرأي الذين يرجع إليهم الناس في أحكام دينهم؟ وهل يشترط حينئذ درجة معينة من الفقه والعلم؟ وما هي تلك الدرجة؟ وبأي ميزان توزن؟ ومن إليه يرجع الأمر في تقديرها؟ أم غيرهم ، فمن هم؟

وربما تجد من يبدل كلمة أهل الحلّ والعقد ب «الأفراد المسئولين» وما هو إلاّ وضع كلمة مجملة مكان كلمة مثلها.

3. وعلى فرض كون الشورى أساس الحكم ، فهل يكون انتخاب أعضاء الشورى ملزماً للأُمّة ، ليس لهم التخلّف عنه؟ أو يكون بمنزلة الترشيح حتّى تعطي الأُمّة رأيها فيه؟ وما هو دليل كلّ منهما؟

هذه الأسئلة كلّها ، لا تجد لها جواباً في الكتاب والسنّة ولا في كتب المتكلّمين ، ولو كانت مبدأً للحكم لما كان السكوت عنها سائغاً ، بل لكان على عاتق التشريع الإسلامي الإجابة عنها وإضاءة طرقها.

4. انّ الحكومة الإسلامية دعامة الدين وأساس نشر العدل والقسط في المجتمع ودعوة الناس من الأديان كافة إلى الإسلام إلى ما لها من الفوائد العظيمة التي لا تدرك ولا توصف بالبيان.

فلو كانت صيغة الحكومة هي التنصيب فقد أدى التشريع الإسلامي

ص : 467

وظيفته وجاز له السكوت عن البحث حول الحكومة وصيغتها وسائر الأُمور الراجعة إليها ، وأمّا لو كانت صيغة الحكومة من الشورى أو البيعة فلما ذا لم يرد في الكتاب والسنّة التصريح بذلك الأمر وبيان شرائط الشورى من المنتخِب والمنتخَب.

انّا نرى أنّه روي عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حول القدر نحو 250 رواية ، وحول آداب التخلي ما لا يحصى ، وهكذا في أكثر الأُمور العادية النازلة مرتبة ومكانة ، فهل من المعقول سكوت التشريع الإسلامي عن أمر بالغ الأهمية والخطورة وإسهاب الكلام في أُمور عادية؟!

وأمّا الاستدلال بالآيتين الكريمتين فلا يصحّ تماماً في المقام.

أمّا الآية الأُولى أوّلاً : قوله سبحانه : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) (1) فالخطاب فيها متوجه إلى الحاكم الذي استقرت حكومته ، فيأمره سبحانه أن ينتفع من آراء رعيته فأقصى ما يمكن التجاوز به عن الآية ، هو انّ من وظائف كلّ الحكام التشاور مع الأُمّة ، وأمّا انّ الخلافة بنفس الشورى ، فلا يمكن الاستدلال عليه بهذه الآية.

وثانياً : انّ المتبادر من الآية هو أنّ التشاور لا يوجب حكماً للحاكم ، ولا يلزمه بشيء ، بل هو يقلب وجوه الرأي ويستعرض الأفكار المختلفة ، ثمّ يأخذ بما هو المفيد في نظره ، وذلك لقوله سبحانه في نفس الآية : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ، المعرب عن أنّ العزم والتصميم والاستنتاج من الآراء والأخذ بما هو الأصلح راجع إلى نفس المشير ، وهذا يتحقّق في ظرف يكون هناك مسئول تام الاختيار في استحصال الأفكار والعمل بالنافع منها ، حتّى يخاطب بقوله : (فَإِذا عَزَمْتَ) ،

ص : 468


1- آل عمران : 159.

وأمّا إذا لم يكن ثمة رئيس ، فلا تنطبق عليه الآية ، إذ ليس في انتخاب الخليفة بين المشيرين من يقوم بدعوة الأفراد للمشورة ، لغاية استعراض آرائهم ، ثمّ تمحيص أفكارهم ، والأخذ بالنافع منها ، ثمّ العزم القاطع عليه.

وكلّ ذلك يعرب عن أنّ الآية ترجع إلى غير مسألة الحكومة وما شابهها. ولأجل ذلك لم نر أحداً من الحاضرين في السقيفة احتجّ بهذه الآية.

وأمّا الآية الثانية فهي : قوله سبحانه : (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ). (1)

فيقرر كيفية دلالتها على كون الشورى مبدأً للحكم بالبيان التالي :

أنّ المصدر (أمْر) أضيف إلى الضمير (هُمْ) ، وهو يفيد العموم والشمول لكلّ أمر ، ومنه الخلافة ، فيعود معنى الآية أنّ شأن المؤمنين في كلّ مورد ، شورى بينهم.

يلاحظ عليه : أنّ الآية تأمر بالمشورة في الأُمور المضافة إلى المؤمنين ، وأمّا أنّ تعيين الخليفة من الأُمور المضافة إليهم ، فهو أوّل الكلام ، والتمسّك بالآية في هذا المجال ، تمسّك بالحكم في إثبات موضوعه.

وبعبارة أُخرى : إنّ الآية حثّت على الشورى فيما يمتّ إلى شئون المؤمنين بصلة ، لا فيما هو خارج عن حوزة أُمورهم ، أمّا كون تعيين الإمام داخلاً في أُمورهم ، فهو أوّل الكلام ، إذ لا ندري هل هو من شئونهم أو من شئون الله سبحانه ، ولا ندري ، هل هي إمرة وولاية إلهية تتم بنصبه سبحانه وتعيينه ، أو إمرة وولاية شعبية ، ويجوز للناس التدخّل فيها. ومع هذا الترديد لا يصحّ التمسّك بالآية.

ص : 469


1- الشورى : 38.

الأمر السادس: النصوص الدينية وتنصيب عليّ - عليه السلام - للإمامة

اشارة

قد تبيّن بما قدّمناه من الأبحاث على ضوء الكتاب والسنّة ومن خلال مطالعة تاريخ الإسلام والمحاسبة في الأُمور الاجتماعية والسياسيّة ، وفي ظلّ هداية العقل الصريح ، انّ خليفة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وإمام المسلمين يجب أن يكون منصوباً من جانب الرسول بإذن من الله سبحانه ، وعندئذ يلزمنا الرجوع إلى الكتاب والسنّة لنقف على ذلك القائد المنصوب فنقول :

إنّ من أحاط بسيرة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يجد علي بن أبي طالب وزير رسول الله في أمره وولي عهده وصاحب الأمر من بعده ، ومن وقف على أقوال النبي وأفعاله في حلّه وترحاله ، يجد نصوصه في ذلك متواترة ، كما أنّ هناك آيات من الكتاب العزيز تهدينا إلى ذلك ، ونحن نكتفي في هذا المجال بذكر آية الولاية من الكتاب ونتبعها بحديثي المنزلة والغدير :

1. آية الولاية

قال سبحانه :

ص : 470

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ). (1)

وقبل الاستدلال بالآية نذكر شأن نزولها ، روى المفسرون عن أنس بن مالك وغيره انّ سائلاً أتى المسجد وهو يقول : من يقرض المليء الوفيّ ، وعليّ راكع يشير بيده للسائل : اخلع الخاتم من يدي ، فما خرج أحد من المسجد حتى نزل جبرئيل ب :

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ). (2)

وإليك توضيح الاستدلال :

إنّ المستفاد من الآية انّ هناك أولياء ثلاثة وهم : الله تعالى ، ورسوله ، والمؤمنون الموصوفون بالأوصاف الثلاثة ، وانّ غير هؤلاء من المؤمنين هم مولّى عليهم ، ولا يتحقّق ذلك إلاّ بتفسير الولي بالزعيم والمتصرّف في شئون المولّى عليه ، إذ هذه الولاية تحتاج إلى دليل خاص ، ولا يكفي الإيمان في ثبوتها ، بخلاف ولاية المحبّة والنصرة ، إذ هما من فروع الإيمان ، فكلّ مؤمن محبّ لأخيه المؤمن وناصر له.

ص : 471


1- المائدة : 55.
2- رواه الطبري في تفسيره : 6 / 186 ؛ والجصاص في أحكام القرآن : 2 / 446 ؛ والسيوطي في الدر المنثور : 2 / 293 ؛ وغيرهم. وأنشأ حسّان بن ثابت في ذلك أبياته المعروفة ، وهي : أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي *** وكلّ بطيء في الهدى ومسارع أيذهب مدحي والمحبين ضائعاً *** وما المدح في ذات الإله بضائع فأنت الذي أعطيت إذ أنت راكع *** فدتك نفوس القوم يا خير راكع بخاتمك الميمون يا خير سيد *** ويا خير شار ثم يا خير بائع فأنزل فيك الله خير ولاية *** وبيَّنها في محكمات الشرائع

هذا مضافاً إلى الاختصاص المستفاد من كلمة إنّما وأحاديث شأن النزول الواردة في الإمام علي - عليه السلام - ، فهذه الوجوه الثلاثة تجعل الآية كالنصّ في الدلالة على ما يرتئيه الإمامية في مسألة الإمامة.

فإن قلت : إذا كان المراد من قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا) هو الإمام علي بن أبي طالب - عليه السلام - فلما ذا جيء بلفظ الجماعة؟

قلت : جيء بذلك ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه ، ولينبِّه على أنّ سجيَّة المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ والإحسان وتفقّد الفقراء حتى إن لزمهم أمر لا يقبل التأخير وهم في الصلاة ، لم يؤخّروه إلى الفراغ منها. (1)

وهناك وجه آخر أشار إليه الشيخ الطبرسي ، وهو أنّ النكتة في إطلاق لفظ الجمع على أمير المؤمنين ، تفخيمه وتعظيمه ، وذلك انّ أهل اللغة يعبّرون بلفظ الجمع عن الواحد على سبيل التعظيم ، وذلك أشهر في كلامهم من أن يحتاج إلى الاستدلال عليه. (2)

ربما يقال إنّ المراد من الوليّ في الآية ليس هو المتصرف ، بل المراد الناصر والمحبّ بشهادة ما قبلها وما بعدها ، حيث نهى الله المؤمنين أن يتّخذوا اليهود والنصارى أولياء ، وليس المراد منه إلاّ النصرة والمحبة ، فلو فُسّرت في الآية بالمتصرّف يلزم التفكيك. (3)

والجواب عنه : أنّ السّياق إنّما يكون حجّة لو لم يقم دليل على خلافه ، وذلك

ص : 472


1- الكشاف : 1 / 649 ، دار الكتاب العربي ، بيروت.
2- مجمع البيان : 43 / 211.
3- الإشكال للرازي في : مفاتيح الغيب : 12 / 28.

لعدم الوثوق حينئذ بنزول الآية في ذلك السياق ، إذ لم يكن ترتيب الكتاب العزيز في الجمع موافقاً لترتيبه في النزول بإجماع الأُمّة ، وفي التنزيل كثير من الآيات الواردة على خلاف ما يعطيه السياق كآية التطهير المنتظمة في سياق النساء مع ثبوت النص على اختصاصها بالخمسة أهل الكساء. (1)

2. حديث «المنزلة»

روى أهل السير والتاريخ انّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - خلّف عليّ بن أبي طالب - عليه السلام - على أهله في المدينة عند توجّهه إلى تبوك ، فأرجف به المنافقون ، وقالوا ما خلّفه إلاّ استثقالاً له وتخوّفاً منه ، فضاق صدره بذلك ، فأخذ سلاحه وأتى النبيّ وأبلغه مقالتهم ، فقال - صلى الله عليه وآله وسلم - :

«كذبوا ، ولكنّي خلّفتك لما تركت ورائي ، فارجع واخلف في أهلي وأهلك ، أفلا ترضى يا عليّ أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي؟». (2)

إضافة كلمة «منزلة» - وهي اسم جنس - إلى هارون يقتضي العموم ، فالرواية تدلّ على أنّ كلّ مقام ومنصب كان ثابتاً لهارون فهو ثابت لعليّ ، إلاّ ما استثني وهو النبوّة ، بل الاستثناء أيضاً قرينة على العموم ولولاه لما كان وجه للاستثناء ، وكون المورد هو الاستخلاف على الأهل لا يدلّ على الاختصاص ، فإنّ المورد لا يكون

ص : 473


1- المراجعات : 167 ، الرقم 44.
2- السيرة النبوية لابن هشام : 2 / 519 - 520. وقد نقله من أصحاب الصحاح ، البخاري في غزوة تبوك : 6 / 3 ، ط 1314 ؛ ومسلم في فضائل علي : 7 / 120 ؛ وابن ماجة في فضائل أصحاب النبي : 1 / 55 ؛ والإمام أحمد في غير مورد من مسنده ، لاحظ : 1 / 173 ، 175 ، 177 ، 179 ، 182 ، 185 ، 230 ؛ وغيرهم من الأثبات الحفاظ.

مخصِّصاً ، كما لو رأيت الجنب يمسّ آية الكرسي مثلاً فقلت له لا يمسَّن آيات القرآن محدث ، يكون دليلاً على حرمة مسّ القرآن على الجنب مطلقاً.

وأمّا منزلة هارون من موسى فيكفي في بيانها قوله سبحانه حكاية عن موسى :

(وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي). (1)

وقد أُوتي موسى جميع ذلك كما يقول سبحانه :

(قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى). (2)

وقد استخلف موسى أخيه هارون عند ذهابه إلى ميقات ربّه مع جماعة من قومه ، قال سبحانه :

(وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ). (3)

وهذا الاستخلاف وإن كان في قضية خاصّة ووقت خاص ، لكن اللفظ مطلق والمورد لا يكون مخصّصاً. ومن هنا لو فرض غيبة أُخرى لموسى من قومه مع عدم تنصيصه على استخلاف هارون كان خليفة له بلا إشكال. وهارون وإن كان شريكاً لموسى في النبوّة إلاّ أنّ الرئاسة كانت مخصوصة لموسى ، فموسى كان وليّاً على هارون وعلى غيره ، وهذا دليل على أنّ منزلة الإمامة منفصلة من النبوة ، وإنّما

ص : 474


1- طه : 3229.
2- طه : 36.
3- الأعراف : 142.

اجتمع الأمران لأنبياء مخصوصين ، لأنّ هارون لو كان له القيام بأمر الأُمّة من حيث كان نبياً لما احتاج فيه إلى استخلاف موسى إيّاه وإقامته مقامه. (1)

3. حديث «الغدير»

حديث الغدير ، ممّا تواترت به السنّة النبويّة وتواصلت حلقات أسانيده منذ عهد الصحابة والتابعين إلى يومنا الحاضر ، رواه من الصحابة (110) صحابياً ومن التابعين (84) تابعياً ، وقد رواه العلماء والمحدّثون في القرون المتلاحقة ، وقد أغنانا المؤلّفون في الغدير عن إراءة مصادره ومراجعه ، وكفاك في ذلك كتب لمّة كبيرة من أعلام الطائفة ، منهم : العلاّمة السيد هاشم البحراني (المتوفّى 1107 ه) مؤلّف «غاية المرام» ، والسيد مير حامد حسين الهندي (المتوفّى 1306 ه) مؤلّف «العبقات» ، والعلاّمة الأميني (المتوفّى 1390 ه) مؤلف «الغدير» ، والسيد شرف الدين العاملي (المتوفّى 1381 ه) مؤلّف «المراجعات».

ومجمل الحديث هو انّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أذَّن في الناس بالخروج إلى الحجّ في السنة العاشرة من الهجرة ، وأقلّ ما قيل انّه خرج معه تسعون ألفاً ، فلمّا قضى مناسكه وانصرف راجعاً إلى المدينة ووصل إلى غدير «خم» ، وذلك يوم الخميس ، الثامن عشر من ذي الحجّة ، نزل جبرئيل الأمين عن الله تعالى بقوله :

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ). (2)

فأمر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يردّ من تقدّم ، ويحبس من تأخّر حتى إذا أخذ القوم منازلهم نودي بالصلاة ، صلاة الظهر ، فصلّى بالناس ، ثمّ قام خطيباً وسط القوم

ص : 475


1- مجمع البيان : 43 / 473.
2- المائدة : 67.

على أقتاب الإبل ، فقال : «الحمد لله ونستعينه ونؤمن ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا. الذي لا هادي لمن أضلّ ولا مضلّ لمن هدى ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله.

أمّا بعد ؛ أيّها الناس قد نبّأني اللطيف الخبير : أنّه لم يعمّر نبيّ إلاّ مثل نصف عمر الذي قبله ، وإنّي أُوشك أن ادعى فأُجيب ، وإنّي مسئول ، وأنتم مسئولون ، فما ذا أنتم قائلون؟».

قالوا : نشهد إنّك قد بلّغت ونصحت وجهدت فجزاك الله خيراً.

قال : «ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله ، وأنّ جنّته حق ، وناره حق ، وأنّ الموت حق ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث من في القبور؟».

قالوا : بلى نشهد بذلك. قال : «اللهمّ اشهد - ثمّ قال : - أيّها الناس ألا تسمعون؟» قالوا : نعم.

قال : «فإنّي فرط على الحوض ، وأنتم واردون على الحوض ، وإنّ عرضه ما بين صنعاء وبصرى ، فيه أقداح عدد النجوم من فضة ، فانظروا كيف تخلّفوني في الثقلين».

فنادى مناد : وما الثقلان يا رسول الله؟

قال : «الثقل الأكبر : كتاب الله ، طرف بيد الله عزّ وجلّ وطرف بأيديكم ، فتمسّكوا به لا تضلّوا ؛ والآخر الأصغر : عترتي ، وإنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فسألت ذلك لهما ربّي ، فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا».

ص : 476

ثمّ أخذ بيد علي فرفعها حتّى رئي بياض آباطهما وعرفه القوم أجمعون ، فقال : «أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟» قالوا : الله ورسوله أعلم.

قال : «إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فعليّ مولاه - يقولها ثلاث مرّات ، وفي لفظ أحمد إمام الحنابلة : أربع مرّات ، ثمّ قال : - اللهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وأحبّ من أحبّه ، وأبغض من أبغضه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحق معه حيث دار ، ألا فليبلّغ الشاهد الغائب». ثمّ لم يتفرّقوا حتى نزل أمين وحي الله بقوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) الآية. فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «الله أكبر على إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضا الربّ برسالتي ، والولاية لعليّ من بعدي».

ثمّ طفق القوم يهنّئون أمير المؤمنين - صلوات الله عليه - وممّن هنّأه - في مقدّم الصحابة - الشيخان : أبو بكر وعمر ، كلّ يقول : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة. قال ابن عبّاس : وجبت - والله - في أعناق القوم.

فقال حسّان : ائذن لي يا رسول الله أن أقول في عليّ أبياتاً تسمعهنّ ، فقال : «قل على بركة الله» فقام حسّان ، فقال : يا معشر مشيخة قريش أتبعها قولي بشهادة من رسول الله في الولاية ماضية ، ثمّ قال :

يناديهم يوم الغدير نبيّهم *** بخمّ واسمع بالرسول منادياً

ص : 477

وقد جاءه جبريل عن أمر ربّه *** بانّك معصوم فلا تك وانيا

وبلّغهم ما أنزل الله ربّهم *** إليك ولا تخش هناك الأعاديا

فقام به إذ ذاك رافع كفّه *** بكفّ عليّ معلن الصوت عاليا

فقال فمن مولاكم ووليّكم *** فقالوا ولم يبدوا هناك تعاميا

إلهك مولانا وأنت وليّنا *** ولن تجدن فينا لك اليوم عاصياً

فقال له قم يا عليّ فإنّني *** رضيتك من بعدي إماماً وهادياً

فمن كنت مولاه فهذا وليّه *** فكونوا له أنصار صدق موالياً

هناك دعا اللهم وال وليّه *** وكن للذي عادى عليّاً معادياً

فيا ربّ انصر ناصريه لنصرهم *** إمام هدى كالبدر يجلو الدياجيا(1)

ص : 478


1- الغدير : 1 / 34 - 36 وج 2 ، ص 73. وقد جاءت مصادر الخطبة في ثنايا الكتاب ، بما لا يسعنا ذكرها في المقام
دلالة الحديث
اشارة

إنّ دلالة الحديث على إمامة مولانا أمير المؤمنين - عليه السلام - دلالة واضحة ، لم يشكّ فيها أيّ عربي صميم عصر نزول الحديث وبعده إلى قرون ، ولم يفهموا من لفظة المولى إلاّ الإمامة.

إنّ هناك قرائن حالية ومقالية تجعل الحديث كالنّصّ في أنّ المراد من المولى هو الأولى بالتصرّف في شئون المؤمنين على غرار ما كان للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من الولاية.

أمّا القرينة الحالية (المقامية) فيكفينا في بيانها ما ذكره التفتازاني بقوله :

«المولى قد يراد به المعتِق والمعتَق والحليف ، والجار ، وابن العمّ ، والناصر ، والأولى بالتصرّف ، وينبغي أن يكون المراد به في الحديث هو هذا المعنى ، ليطابق صدر الحديث ، ولأنّه لا وجه للخمسة الأُول وهو ظاهر ، ولا للسادس لظهوره ، وعدم احتياجه إلى البيان وجمع الناس لأجله».

ثمّ قال :

«لا خفاء في أنّ الولاية بالناس ، والتولّي والمالكية لتدبير أمرهم والتصرّف فيهم بمنزلة النبي ، وهو معنى الإمامة». (1)

وأمّا القرائن المقالية فكثيرة نشير إلى بعضها :

القرينة الأُولى : صدر الحديث وهو قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - :

«ألست أولى بكم من أنفسكم».

ص : 479


1- شرح المقاصد : 5 / 274273. ولكنّه رمى الحديث بعدم التواتر فلم يأخذ به في المقام حيث إنّ مسألة الإمامة ليست من الفروع عند الإماميّة. أقول : لكنّها من مسائل الفروع عندهم ، فعلى فرض صحّة الرواية تكون حجّة وإن لم تكن متواترة عنده.

أو ما يؤدّي مؤدّاه من ألفاظ متقاربة ، ثمّ فرَّع على ذلك قوله :

«فمن كنت مولاه فعليّ مولاه» وقد روى هذا الصدر من حفّاظ أهل السنّة ما يربو على أربعة وستين عالماً. (1)

القرينة الثانية : نعي النبيّ نفسه إلى الناس حيث إنّه يعرب عن أنّه سوف يرحل من بين أظهرهم فيحصل بعده فراغ هائل ، وانّه يُسدّ بتنصيب علي - عليه السلام - في مقام الولاية. (2)

القرينة الثالثة : قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «يا أيّها الناس بم تشهدون؟» قالوا : نشهد أن لا إله إلاّ الله ، قال : «ثمّ مه؟» قالوا : وأنّ محمّداً عبده ورسوله. قال : «فمن وليكم؟» قالوا : الله ورسوله مولانا.

ثمّ ضرب بيده إلى عضد علي ، فأقامه ، فقال : «من يكن الله ورسوله مولاه فانّ هذا مولاه ...».

هذا لفظ جرير ، وقريب منه لفظ أمير المؤمنين - عليه السلام - ولفظ زيد بن أرقم وعامر بن ليلى ، وفي لفظ حذيفة بن أسيد بسند صحيح :

«ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله؟ ... - إلى أن قال

قالوا : بلى نشهد بذلك.

قال : «اللهم اشهد» - ثمّ قال : - يا أيّها الناس إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فهذا مولاه ، يعني

ص : 480


1- لاحظ نقولهم في كتاب الغدير ، ج 1 ، موزَّعين حسب قرونهم.
2- المصدر السابق : 370.

علياً». (1)

القرينة الرابعة : قوله - عليه السلام - عقيب لفظ الحديث : «الله أكبر على إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضا الربّ برسالتي ، والولاية لعلي بن أبي طالب».

وفي لفظ شيخ الإسلام الحمّوئي (2) : «الله أكبر ، تمام نبوتي وتمام دين الله ولاية عليّ بعدي».

فأي معنى تراه يكمل به الدين ، ويتمّ النعمة ، ويُرضي الربَّ في عداد الرسالة غير الإمامة التي بها تمام أمرها وكمال نشرها وتوطيد دعائمها؟! إذن فالناهض بذلك العبء المقدّس أولى الناس منهم بأنفسهم.

القرينة الخامسة : قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - قبل بيان الولاية : «كأنّي دُعيتُ فأجبتُ» ، أو : «أنّه يوشك أن أُدعى فأُجيب» ، أو «ألا وإنّي أُوشك أن أُفارقكم» ، أو : «يوشك أن يأتي رسول ربّي فأُجيب».

وهو يُعطينا علماً بأنّه - صلى الله عليه وآله وسلم - كان قد بقي من تبليغه مهمّة يُحاذر أن يدركه الأجل قبل الإشادة بها ، ولو لا الهتاف بها بقي ما بلّغه مُخدَجاً ، ولم يذكر - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد هذا الاهتمام إلاّ ولاية أمير المؤمنين وولاية عترته الطاهرة الذين يَقْدمهم هو - صلوات الله عليه - كما في نقل مسلم (3) ، فهل من الجائز أن تكون تلك المهمّة المنطبقة على هذه الولاية إلاّ معنى الإمامة المصرّح بها في غير واحد من الصحاح؟ وهل صاحبها إلاّ أولى الناس بأنفسهم؟ ....

ص : 481


1- الغدير ، ج 1 ، ص 656.
2- فرائد السمطين : 1 / 315 ، باب 58 ، ح 250.
3- صحيح مسلم : 5 / 25 ، ح 36 ، كتاب فضائل الصحابة.

القرينة السادسة : قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد بيان الولاية : «فليبلّغ الشاهد الغائب» ، أوَتحسب أنّه - صلى الله عليه وآله وسلم - يؤكّد هذا التأكيد في تبليغ الغائبين أمراً علمه كلُّ فرد منهم بالكتاب والسنّة من الموالاة والمحبّة والنصرة بين أفراد المسلمين مشفوعاً بذلك الاهتمام والحرص على بيانه؟ لا أحسب أنّ ضئولة الرأي يُسفُّ بك إلى هذه الخطّة ، لكنّك ولا شك تقول : إنّه - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يُرد إلاّ مهمّة لم تُتَح الفرص لتبليغها ولا عرفته الجماهير ممّن لم يشهدوا ذلك المجتمع ، وما هي إلاّ مهمّة الإمامة التي بها كمال الدين ، وتمام النعمة ، ورضا الربّ ، وما فهم الملأ الحضور من لفظه - صلى الله عليه وآله وسلم - إلاّ تلك ، ولم يؤثر له - صلى الله عليه وآله وسلم - لفظ آخر في ذلك المشهد يليق أن يكون أمره بالتبليغ له ، وتلك المهمّة لا تساوق إلاّ معنى الأولى من معاني المولى. (1)

الغدير في الكتاب الكريم

شاء سبحانه أن يبقى حديث الغدير غضّاً طرياً لا يبليه الحدثان ، فأنزل حوله آيات ناصعة البيان ، نقتصر على ذكر آيتين منها :

1. آية البلاغ

قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ). (2)

صرّح غير واحد من الحفاظ والمحدّثين بنزول الآية يوم الثامن عشر من ذي الحجة سنة حجة الوداع لمّا بلغ النبي الأعظم غدير خُمّ فأتاه جبرئيل فقال : يا

ص : 482


1- الغدير : 1 / 656 - 658.
2- المائدة : 67.

محمد إنّ الله يقرئك السلام ويقول : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

1. قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري : أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال : نزلت هذه الآية (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم غدير خم ، في علي بن أبي طالب - عليه السلام -. (1)

2. أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : كنّا نقرأ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أنّ علياً مولى المؤمنين (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ). (2)

3. أخرج أبو إسحاق الثعلبي النيسابوريّ بسنده عن ابن عباس : في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ...). الآية ، قال : نزلت في عليّ ، أُمر النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يُبلّغ فيه ، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بيد علي ، فقال : «من كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، اللهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه». (3)

4. روى أبو الحسن الواحديّ النيسابوري بسنده عن أبي سعيد الخُدريّ قال : نزلت هذه الآية يوم غدير خُمّ في عليّ بن أبي طالب - عليه السلام -. (4)

5. روى الحافظ الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل وقواعد التفضيل والتأويل «بإسناده عن الكلبي ، عن أبي صالح عن ابن عباس وجابر الأنصاري قالا : أمر الله تعالى محمّداً - صلى الله عليه وآله وسلم - أن ينصب عليّاً للناس ، فيخبرهم بولايته فتخوّف النبي

ص : 483


1- الدر المنثور : 3 / 117.
2- الدر المنثور : 3 / 117.
3- الكشف والبيان : 4 / 92 ، تفسير سورة المائدة ، آية 67.
4- أسباب النزول : 135.

أن يقولوا : حابى ابن عمّه ، وأن يطعنوا في ذلك عليه ، فأوحى الله (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ...) الآية ، فقام رسول الله بولايته يوم غدير خُمّ. (1)

6. قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره عند ذكر الوجوه حول الآية : العاشر : نزلت الآية في فضل عليّ ولمّا نزلت هذه الآية أخذ بيده وقال : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه». فلقيه عمر فقال : هنيئاً لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة.

وهو قول ابن عبّاس ، والبراء بن عازب ، ومحمد بن عليّ. (2)

إلى غير ذلك من الحفّاظ والمحدثين والمفسرين الذين نقلوا أنّ سبب نزول الآية كان حول حديث الغدير.

2. آية إكمال الدين

قال سبحانه : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً). (3)

قد نقل غير واحد من علماء التفسير وأئمّة الحديث نزول الآية يوم الغدير.

يؤيد ذلك ما نقله الرازي وقال : قال أصحاب الآثار لمّا نزلت هذه الآية على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يعمّر بعد نزولها إلاّ أحداً وثمانين يوماً أو اثنين وثمانين يوماً ، ولم يحصل في الشريعة زيادة ولا نسخ ولا تبديل ، وكان ذلك جارياً مجرى إخبار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن قرب وفاته. (4)

ص : 484


1- مجمع البيان : 3 / 344.
2- التفسير الكبير : 12 / 49.
3- المائدة : 3.
4- التفسير الكبير : 11 / 136.

هذا من جانب ومن جانب آخر ذكر المؤرِّخون من أهل السنّة ، كالبخاري في صحيحه (1) أنّ وفاته - صلى الله عليه وآله وسلم - في الثاني عشر من ربيع الأوّل.

فمن يوم الغدير الذي كان في الثامن عشر من شهر ذي الحجة الحرام إلى الثاني عشر من ربيع الأوّل يكون بضعاً وثمانين يوماً.

وأمّا المحدّثون فقد نقلوا أنّ سبب نزول الآية في غير واحد من كتبهم ، نظراء :

1. أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال : لمّا نصب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عليّاً يوم غدير خم فنادى له بالولاية ، هبط جبريل عليه بهذه الآية : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ).

2. أخرج ابن مردويه والخطيب وابن عساكر عن أبي هريرة قال : لمّا كان يوم غدير خم وهو يوم ثماني عشر من ذي الحجة ، قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : «من كنت مولاه فعليٌّ مولاه» فأنزل الله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ). (2)

3. وأخرج أيضاً الحميدي وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن حبان البيهقي في سننه عن طارق بن شهاب قال : «قالت اليهود لعمر : إنّكم تقرءون آية في كتابكم ، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتّخذنا ذلك اليوم عيداً قال : وأي آية؟ قالوا : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) قال عمر : والله إنّي لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فيه والساعة التي نزلت فيها. نزلت على رسول الله عشية عرفة في يوم الجمعة. (3)

ص : 485


1- البخاري : 4 ، رقم الحديث 4145.
2- الدر المنثور : 6 / 19.
3- نفس المصدر ، ص 17.

ما نسب إلى الخليفة أنّها نزلت في عشية عرفة يخالف ما نقله الرازي عن أصحاب الآثار أنّه لمّا نزلت هذه الآية على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يعمّر بعد نزولها إلاّ أحداً وثمانين يوماً أو اثنين وثمانين يوماً.

وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : مكث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد ما نزلت هذه الآية إحدى وثمانين ليلة. (1)

ووجه المخالفة أنّ النبي حسب ما اتّفق عليه الجمهور توفّي في الثاني عشر من شهر ربيع الأوّل ، فإذا افترضنا انّ الآية تنزلت يوم عرفة يبقى هناك عشرين يوماً ، فإذا أُضيف إليه - أعني : محرم الحرام وصفر المظفر واثنا عشر يوماً من شهر ربيع الأوّل - يكون الحد الفاصل بين نزول الآية ويوم وفاة النبي 92 يوماً ونوضحه كالتالي :

من شهر ذي الحجة الحرام - 20 يوماً

من شهري محرم وصفر - 60 يوماً

من شهر ربيع الأوّل - 12 يوماً

المجموع - 92 يوماً

فلو افترضنا كون الشهرين 29 يوماً يكون الحدّ الفاصل 90 يوماً مع أنّ المذكور عن أصحاب الآثار انّ الرسول لم يعمّر إلاّ 81 ليلة. بخلاف ما إذا اخترنا الروايات الدالة على أنّها نزلت في الثامن عشر من شهر ذي الحجة حيث يكون الحدّ الفاصل نحو إحدى وثمانين أو قريباً منه.

ص : 486


1- الدر المنثور : 6 / 20.
لما ذا أعرض الصحابة عن مدلول حديث الغدير؟

أقوى مستمسك لمن يريد التخلّص من الأخذ بالنصّ المتواتر الجليّ في المقام ، هو انّه لو كان الأمر كذلك فلما ذا لم تأخذه الصحابة مقياساً بعد النبي؟ وليس من الصحيح إجماع الصحابة وجمهور الأُمّة على ردّ ما بلَّغه النبيّ في ذلك المحتشد العظيم.

والجواب عنه انّ من رجع إلى تاريخ الصحابة يرى لهذه الأُمور نظائر كثيرة في حياتهم السياسية ، وليكن ترك العمل بحديث الغدير من هذا القبيل ، منها «رزيّة يوم الخميس» رواها الشيخان وغيرهما (1) ، ومنها سريّة أُسامة (2) ، ومنها صلح الحديبية واعتراض لفيف من الصحابة (3) ، ولسنا بصدد استقصاء مخالفات القوم لنصوص النبي وتعليماته ، فإنّ المخالفة لا تقتصر على ما ذكر ، بل تربو على نيّف وسبعين مورداً ، استقصاها بعض الأعلام. (4)

وعلى ضوء ذلك لا يكون ترك العمل بحديث الغدير ، من أكثريّة الصحابة دليلاً على عدم تواتره ، أو عدم تماميّة دلالته.

ص : 487


1- أخرجه البخاري في غير مورد لاحظ ج 1 ، باب كتابة العلم ، الحديث 3 ، وج 4 / 70 وج 6 / 10 من النسخة المطبوعة سنة 1314 ه ؛ والإمام أحمد في مسنده : 1 / 355.
2- طبقات ابن سعد : 2 / 192189 ؛ الملل والنحل للشهرستاني : 1 / 23.
3- صحيح البخاري : 2 / 81 ، كتاب الشروط ؛ صحيح مسلم : 5 / 175 ، باب صلح الحديبية ؛ والطبقات الكبرى لابن سعد : 2 / 114.
4- لاحظ كتاب النص والاجتهاد للسيد الإمام شرف الدين.

الأمر السابع: السنّة النبويّة والأئمّة الاثنا عشر

إنّ النبيّ الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يكتف بتنصيب علي - عليه السلام - منصب الإمامة والخلافة ، كما لم يكتف بإرجاع الأُمّة الإسلامية إلى أهل بيته وعترته الطاهرة ، ولم يقتصر على تشبيههم بسفينة نوح ، بل قام ببيان عدد الأئمّة الّذين يتولّون الخلافة بعده ، واحداً بعد واحد ، حتّى لا يبقى لمرتاب ريب ، فقد روي في الصحاح والمسانيد بطرق مختلفة عن جابر بن سمرة انّ الخلفاء بعد النبيّ اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش ، وإليك ما ورد في توصيفهم من الخصوصيات :

1. لا يزال الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة.

2. لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة.

3. لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة ، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة.

4. لا يزال الدين ظاهراً على من ناوأه حتى يمضي من أُمّتي اثنا عشر خليفة.

5. لا يزال هذا الأمر صالحاً حتى يكون اثنا عشر أميراً.

ص : 488

6. لا يزال الناس بخير إلى اثني عشر خليفة. (1)

وقد اختلفت كلمة شرّاح الحديث في تعيين هؤلاء الأئمّة ، ولا تجد بينها كلمة تشفي العليل ، وتروي الغليل ، إلاّ ما نقله الشيخ سليمان البلخي القندوزي الحنفيّ في ينابيعه عن بعض المحقّقين ، قال :

«إنّ الأحاديث الدالّة على كون الخلفاء بعده اثني عشر شخصاً ، قد اشتهرت من طرق كثيرة ، ولا يمكن أن يحمل هذا الحديث على الخلفاء بعده من الصحابة ، لقلّتهم عن اثني عشر ، ولا يمكن أن يحمل على الملوك الأُمويّين لزيادتهم على الاثني عشر ولظلمهم الفاحش إلاّ عمر بن عبد العزيز ... ولا يمكن أن يحمل على الملوك العباسيين لزيادتهم على العدد المذكور ولقلّة رعايتهم قوله سبحانه :

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى). (2)

فلا بد من أن يحمل على الأئمة الاثني عشر من أهل بيته وعترته ، لأنّهم كانوا أعلم أهل زمانهم ، وأجلّهم ، وأورعهم ، وأتقاهم ، وأعلاهم نسباً ، وأفضلهم حسباً ، وأكرمهم عند الله ، وكانت علومهم عن آبائهم متصلة بجدّهم - صلى الله عليه وآله وسلم - وبالوراثة اللّدنية ، كذا عرّفهم أهل العلم والتحقيق ، وأهل الكشف والتوفيق.

ويؤيّد هذا المعنى ويرجّحه حديث الثقلين والأحاديث المتكثّرة المذكورة في هذا الكتاب وغيرها». (3)

ص : 489


1- راجع صحيح البخاري : 9 / 81 ، باب الاستخلاف ؛ صحيح مسلم : 6 / 3 ، كتاب الأمارة ، باب الناس تبع لقريش ؛ مسند أحمد : 5 / 10886 ؛ مستدرك الحاكم : 3 / 618.
2- الشورى : 23.
3- ينابيع المودَّة : 446 ، ط استنبول ، عام 1302.

أقول : الإنسان الحرّ الفارغ عن كلّ رأي مسبق ، لو أمعن النظر في هذه الأحاديث وأمعن في تاريخ الأئمّة الاثني عشر من ولد الرسول ، يقف على أنّ هذه الأحاديث لا تروم غيرهم ، فإنّ بعضها يدلّ على أنّ الإسلام لا ينقرض ولا ينقضي حتّى يمضي في المسلمين اثنا عشر خليفة ، كلّهم من قريش ؛ وبعضها يدلّ على أنّ عزَّة الإسلام إنّما تكون إلى اثني عشر خليفة ؛ وبعضها يدلّ على أنّ الدين قائم إلى قيام السّاعة وإلى ظهور اثني عشر خليفة ، وغير ذلك من العناوين.

وهذه الخصوصيات لا توجد في الأُمّة الإسلامية إلاّ في الأئمّة الاثني عشر المعروفين عند الفريقين (1) ، خصوصاً ما يدلّ على أنّ وجود الأئمّة مستمرّ إلى آخر الدهر ومن المعلوم انّ آخر الأئمّة هو المهدي المنتظر الذي يعدّ ظهوره من أشراط الساعة.

ثمّ إنّه قد تضافرت النصوص في تنصيص الإمام السابق على الإمام اللاحق ، فمن أراد الوقوف على هذه النصوص ، فليرجع إلى الكتب المؤلّفة في هذا الموضوع. (2)

ص : 490


1- وهم : علي بن أبي طالب ، وابناه الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة ، وعلي بن الحسين السجاد ، ومحمّد بن علي الباقر ، وجعفر بن محمّد الصادق ، وموسى بن جعفر الكاظم ، وعلي بن موسى الرضا ، ومحمّد بن علي التقي ، وعلي بن محمّد النقي ، والحسن بن علي العسكري ، وحجّة العصر المهدي المنتظر - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين -.
2- لاحظ الكافي : ج 1 ، كتاب الحجّة ؛ كفاية الأثر ، لعلي بن محمد بن الحسن الخزاز القمي من علماء القرن الرابع ؛ إثبات الهداة للشيخ الحرّ العاملي ، وهو أجمع كتاب في هذا الموضوع.

الفصل العاشر: عدالة الصحابة بين العاطفة والبرهان

اشارة

ص : 491

ص : 492

اتجاهان حول الصحبة والصحابة

لقد احتدم النزاع منذ عصر مبكّر حول الصحبة والصحابة ، أعني : الذين التفّوا حول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وخاضوا معه المعارك والمغازي ، ورفعوا رايةَ الإسلام خفّاقة في أحلك الظروف ، وأشد المواقف ، وجاهدوا بين يديه بأنفسهم ونفيسهم حتّى نشروا الإسلام في ربوع الأرض.

ولا شكّ في أنّ هذا يثير مشاعر كلّ مسلم واع يعتزّ بدينه وشريعته ورسوله وقرآنه ، ويشدّه. إلى حبّهم وودّهم حتّى صار حب الصحابة من مظاهر حب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وقد اشتهر بأنّ من أحب شيئاً أحبّ آثاره ولوازمه ، فمن أحب الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فقد أحب المتعلّمين على يديه والمجاهدين دونه.

هذا ممّا لا سترة ولا خلاف فيه ، إنّما الكلام في أنّ مجرّد صحبة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سواء أكانت قصيرة الأمد أم طويلته ، هل تجعل الصحابي إنساناً مثالياً بعيداً عن المعاصي ، صغيرها وكبيرها ، جليلها وحقيرها طول عمره؟!

أو انّ صحبة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - تؤثر في سلوك الصحابي وأخلاقياته ، وأنّ كلّ من صحبه يستضيء بنوره وبيانه حسب قابلياته واستعداداته؟!

ولأجل ذلك ظهر هنا اتجاهان :

ص : 493

أحدهما : عدالة الصحابة برُمّتهم استغراقاً في حبهم ونزولاً عند حكم العاطفة لصاحب الشريعة وأنصاره ، وهو خيرة جمهور أهل السنّة.

ثانيهما : انّ صحبة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - تؤثر في سلوك الصحابي وأخلاقياته حسب قابلياته ، فمنهم من بلغ قمة الكمال حتّى أصبح يُستدرّ به الغمام ، ومنهم من لم يبلغ هذا الشأو ولكن استضاء بنور النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وحسنت صحبته وسلمت سريرته ، ومنهم من لم ينل إلاّ حظاً قليلاً ، وما هذا إلاّ لتفريطه وتقصيره.

والنظرية الثانية هي خيرة الشيعة الإمامية ولفيف من غيرهم.

فالغاية من تأليف هذه الرسالة هو القضاء بين هذين الاتجاهين على ضوء القرآن الكريم والسنّة الشريفة والتاريخ الصحيح والعقل الحصيف بأسلوب موضوعي بعيد عن التعصّب والعاطفة.

ويأتي ما هو المقصود ضمن أُمور :

ص : 494

1- من هو الصحابي

اختلفت كلمة جمهور أهل السنّة في تعريف الصحابي مع اتّفاقهم على عدالته ، فاتّفقوا على حكم (عدالة الصحابي) لم يُحدَّد موضوعه سعة وضيقاً عندهم. وإليك نصوصهم في هذا الشأن :

1. قال سعيد بن المسيب : الصحابي ، ولا نعدّه إلاّ من أقام مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - سنة أو سنتين وغزا معه غزوة أو غزوتين.

2. قال الواقدي : رأينا أهل العلم يقولون : كلّ من رأى رسول الله وقد أدرك فأسلم وعقل أمر الدين ورضيه فهو عندنا ممّن صحب رسول الله ، ولو ساعة من نهار ، ولكن أصحابه على طبقاتهم وتقدّمهم في الإسلام.

3. قال أحمد بن حنبل : أصحاب رسول الله كلّ من صحبه شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه.

4. قال البخاري : من صحب رسول الله أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه.

5. وقال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب : لا خلاف بين أهل اللغة في أنّ الصحابي مشتق من الصحبة ، قليلاً كان أو كثيراً ، ثمّ قال : ومع هذا فقد تقرر للأُمّة عرف ، فإنّهم لا يستعملون هذه التسمية إلاّ فيمن كثرت صحبته ، ولا

ص : 495

يجيزون ذلك إلاّ فيمن كثرت صحبته لا على من لقيه ساعة أو مشى معه خطى ، أو سمع منه حديثاً ، فوجب ذلك أن لا يجري هذا الاسم على من هذه حاله ، ومع هذا فإنّ خبر الثقة الأمين عنه مقبول ومعمول به وإن لم تطل صحبته ولا سمع عنه إلاّ حديثاً واحداً.

6. وقال صاحب الغوالي : لا يطلق اسم الصحبة إلاّ على من صحبه ثمّ يكفي في الاسم من حيث الوضع ، الصحبةُ ولو ساعة ولكن العرف يخصّصه بمن كثرت صحبته.

قال الجزري بعد ذكر هذه النقول ، قلت : وأصحاب رسول الله على ما شرطوه كثيرون ، فإنّ رسول الله شهد حنيناً ومعه اثنا عشر ألف سوى الأتباع والنساء ، وجاء إليه «هوازن» مسلمين فاستنقذوا حريمهم وأولادهم ، وترك مكة مملوءة ناساً وكذلك المدينة أيضاً ، وكلّ من اجتاز به من قبائل العرب كانوا مسلمين فهؤلاء كلّهم لهم صحبة ، وقد شهد معه تبوك من الخلق الكثير ما لا يحصيهم ديوان ، وكذلك حجة الوداع ، وكلّهم له صحبة. (1)

إنّ التوسع في مفهوم الصحابي على الوجه الذي عرفته في كلماتهم ممّا لا تساعد عليه اللغة والعرف العام ، فإنّ صحابة الرجل عبارة عن جماعة تكون لهم خلطة ومعاشرة معه مدّة مديدة ، فلا تصدق على من ليس له حظ إلاّ الرؤية من بعيد ، أو سماع الكلام أو المكالمة أو المحادثة فترة يسيرة ، أو الإقامة معه زمناً قليلاً.

وأعجب منه كما تقدّم انّهم اتّفقوا على عدالة كل صحابي مع أنّهم اختلفوا في مفهوم الصحابي اختلافاً واسعاً ، ومن الواضح انّ اتّفاقهم على العدالة رهن اتّفاقهم على تعريف محدد وجامع للمفهوم الصحابي.

ص : 496


1- أُسد الغابة : 1 / 1211 ، طبع مصر.

2- الصحبة وملاكات الاختلاف

لا شكّ انّ للصحبة تأثيراً في النفوس من غير فرق بين كون المصاحَب مصاحَب سوء أو غيره ، فلذلك نرى أنّ المجرم يوم القيامة يتمنّى عدم اتخاذ فلان صديقاً ، يقول سبحانه حاكياً عنه : (يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) (1) ، ويقول أيضاً حاكياً عن الخلّة والصحبة : (الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ) (2) ، فإذا كان لصحبة السوء تأثير في تكوين شخصية الإنسان ، فلصحبة الأخيار تأثير في النفوس القابلة المستعدة ، فربما ترفعه إلى منزلة عالية ، وهذا شيء يلمسه كلّ إنسان في واقعه العملي.

لا شكّ انّ لصحبة الأخيار أثراً تربوياً ، ولكن مدى تأثيرها يختلف حسب اختلاف عناصر ثلاثة ، هي :

1. السن.

2. الاستعداد.

ص : 497


1- الفرقان : 28.
2- الزخرف : 67.

3. مقدار الصحبة.

أمّا الأوّل فلا شكّ انّ الإنسان الواقع في إطار التربية إذا كان إنساناً يافعاً أو شاباً في عنفوان السن يكون قلبه وروحه كالأرض الخالية تنبت ما أُلقي فيها ، فربما تُكوّن الصحبةُ شخصية كاملة تعدّ مثلاً للفضل والفضيلة ، وهذا بخلاف ما إذا كان طاعناً في السن ، واكتملت شخصيّته الروحية والفكرية ، فانّ النفوذ في النفوس المكتملة الشخصية والتأثير عليها والثورة على أفكارها وروحياتها واتجاهاتها أمر صعب ، فيكون تأثير الصحبة أقل بمراتب من الطائفة الأُولى.

وأمّا الثاني - أعني : الاختلاف في الاستعداد - فهو أمر لا يحتاج إلى البيان ، فكما أنّ البشر يختلفون في تقبّل العلم ، فهكذا هم يختلفون في مقدار قبول الهداية الإلهية ، ولهذا نرى أنّ من تخرّجوا عن مدرسة الرسول يختلفون إيماناً وإيثاراً وأخلاقاً وسلوكاً.

وأمّا الثالث أي مقدار الصحبة فقد كانوا مختلفين فيه ، فبعضهم صحب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من بدء البعثة إلى لحظة الرحلة ، وبعضهم أسلم بعد البعثة وقبل الهجرة ، وكثير منهم أسلموا بعد الهجرة وربما أدركوا من الصحبة سنة أو شهراً أو أيّاماً أو ساعة فهل يصحّ أن نقول : انّ صحبة ما ، قلعت ما في نفوسهم جميعاً من جذور غير صالحة وملكات ردية ، وكوّنت منهم شخصيات ممتازة أعلى وأجل من أن يقعوا في إطار التعديل والجرح.

وهذه العوامل تؤيد الاتجاه الثاني القائل بأنّ تأثير الصحبة في صحابة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يكن على نحو يجعل الجميع على حدّ سواء من الإيمان والفضل والتقوى والإيثار والزهد والخير ، وما دامت هذه الاختلافات سائدة عليهم فمن البعيد أن نجعلهم على غرار واحد ونزن الكل بصاع معيّن ، ونحكم على الكلّ

ص : 498

بصفاء النفس ، والتجافي عن زخارف الدنيا.

إنّ صحبة الصحابة لم تكن أشدّ ولا أقوى ولا أطول من صحبة امرأة نوح وامرأة لوط ، فقد صحبتا زوجيهما الكريمين ، ولبثتا معهما ليلاً ونهاراً ولكن هذه الصحبة - للأسف - ما أغنت عنهما من الله شيئاً ، قال سبحانه : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ). (1)

إنّ التشرّف بصحبة النبي لم يكن أكثر امتيازاً وتأثيراً من التشرّف بزوجية النبي ، وقد قال سبحانه في شأنها : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً). (2)

وأنت ترى الكتاب العزيز يندّد بنساء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لأجل كشف سره ويعاتبهنّ في ذلك.

يقول سبحانه : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ* إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ* عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً). (3)

فأي عتاب أشدّ من قوله سبحانه : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) أي مالت قلوبكما عن الحقّ ، كما أنّ قوله : (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) يعرب عن وجود

ص : 499


1- التحريم : 10.
2- الأحزاب 30.
3- التحريم : 53.

أرضية فيهن للتظاهر ضدّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وخلافه ، وهو سبحانه أخبر عن إحقاق أُمنيتهنّ ، لأنّ الله ناصر النبي وجبرئيل وصالح المؤمنين والملائكة.

كلّ ذلك ينبئ عن أنّ الصحبة ليست علّة تامة لتحويل المصاحب إلى إنسان عادل صالح خائف من الله ، ناء عن اقتراف السيّئات حقيرة كانت أو كبيرة ، بل هي مقتضية لصلاح الإنسان إذا كان فيه قابلية للاستضاءة ، وعزم للاستفاضة.

ومعنى هذا انّ للصحبة تأثيراً متفاوتاً وليست على وتيرة واحدة.

ص : 500

3- الصحبة ونفي البعد الإعجازي لها

إنّ دعوة الأنبياء - لا سيّما دعوة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - - ابتنيت على أُسس رائجة في ميادين الدعوة ، فكانوا يدعون بالقول والعمل والتبشير والتنذير ، ومثل هذا النوع من الدعوة يؤثر في طائفة دون طائفة ، كما أنّه عند التأثير يختلف تأثيره عند من يلبّي دعوته ، ولم تكن دعوته دعوة إعجازية خارجة عن قوانين الطبيعة ، فالرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يقم بتربية الناس وتعليمهم عن طريق الإعجاز ، بل قام بإرشاد الناس ودعوتهم إلى الحق مستعيناً بالأساليب التربوية المتاحة والإمكانيات المتوفرة ، والدعوة القائمة على هذا الأساس يختلف أثرها في النفوس حسب اختلاف استعدادها وقابلياتها ، ولم يكن تأثير الصحبة في تكوين الشخصية الإسلامية كمادة كيمياوية تستعمل في تحويل عنصر كالنحاس إلى عنصر آخر كالذهب حتّى تصنع الصحبةُ الجيلَ الكبير الذي يناهز مائة ألف ، أُمّة عادلة مثالية تكون قدوة وأُسوة للأجيال المستقبلة ، فانّ هذا ممّا لا يقبله العقل السليم.

فبالنظر إلى ما ذكرنا نخرج بالنتيجة التالية :

ص : 501

إنّ الأُصول التربوية تقضي بأنّ بعض الصحابة يمكن أن يصل في قوة الإيمان ورسوخ العقيدة إلى درجات عالية ، كما يمكن أن يصل بعضهم في الكمال والفضيلة إلى درجات متوسطة ، ومن الممكن أن لا يتأثر بعضهم بالصحبة وسائر العوامل المؤثرة إلاّ شيئاً طفيفاً لا يجعله في صفوف العدول وزمرة الصالحين.

ويقول بعض المعاصرين تحت عنوان : «هل للصحابي خصوصية مسألة العدالة» :

وأرى أنّ أوّل الخلل يكون عند ما نتعامل مع الصحابة وكأنّهم جنس آخر غير البشر ، والقرآن الكريم والسنّة المطهرة لا يوجد فيها أبداً هذا التفريق بين الصحابة وغيرهم إلاّ ميزة الفضل للمهاجرين والأنصار الذين كانت لهم ميزة الجهاد والإنفاق أيّام ضعف الإسلام وذلّة أهله ، أمّا بقية الأُمور كطروء النسيان والوهم والخطأ وارتكاب بعض الكبائر ، فهذه وجدت وحصل من بعض السابقين ومن كثير من اللاحقين.

ولم أجد دليلاً مقنعاً صحيحاً صريحاً يفرق بين شروط العدالة بين جيل وآخر ، لا استثني من ذلك صحابة ولا تابعين. (1)

وما ذكرناه هو نتيجة التحليل على ضوء الأُصول النفسية والتربوية غير أنّ البحث لا يكتمل ولا يصحّ القضاء الباتّ إلاّ بالرجوع إلى القرآن الكريم حتّى نقف على نظره فيهم ، كما تجب علينا النظرة العابرة إلى كلمات الرسول في حقّهم ثمّ ملاحظة سلوكهم في زمنه - صلى الله عليه وآله وسلم - وبعده. وسيوافيك بيانه في الفصول المستقبلة.

ص : 502


1- الصحبة والصحابة : 217 - 218.

4- الصحابة أبصر بحالهم من غيرهم

إنّ من سبر تاريخ الصحابة بعد رحيل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، يجد فيه صفحات مليئة بألوان الصراع والنزاع بينهم ، حافلة بتبادل التّهم والشتائم ، بل تجاوز الأمر بهم إلى التقاتل وسفك الدماء ، فكم من بدري وأُحدي انتُهكت حرمته ، وصُبّ عليه العذاب صبّاً ، أو أُريق دمه بيد صحابي آخر.

وهذا ممّا لا يختلف فيه اثنان ، بيد أنّ الذي ينبغي التنبيه عليه ، هو أنّ كلاً من المتصارعين ، كان يعتقد أنّ خصمه متنكّبٌ عن جادة الصواب ، وأنّه مستحقّ للعقاب أو القتل ، وهذا الاعتقاد ، حتّى وإن كان نابعاً عن اجتهاد ، فإنّه يكشف عن أنّ كلاً من الفئتين المختلفتين لم تكن تعتقد بعدالة الفئة الأُخرى.

فإذا كان الصحابي يعتقد أنّ خصمه عادل عن الحق ومجانب لشريعة الله ورسوله ، وهو على أساس ذلك يبيح سلّ السيف عليه وقتله ، فكيف يجوز لنا نحن أن نحكم بعدالتهم ونزاهتهم جميعاً ، وأن نضفي عليهم ثوب القدسيّة على حدّ سواء؟! ونُبرّأهم من كل زيغ وانحراف؟

أو ليس الإنسان أعرف بحاله وأبصر بروحيّاته؟

أو ليس الصحابة أعرف منّا بنوازع أنفسهم ، وبنفسيات أبناء جيلهم؟

ص : 503

هذا وراء ما دار بينهم كلمات تكشف عن اعتقاد بعضهم في حق بعض ، فالاتّهام بالكذب والنفاق والشتم والسب كان من أيسر الأُمور المتداولة بينهم ، فهذا هو سعد بن عبادة سيّد الخزرج ، يخاطب سعد بن معاذ ، وهو سيد الأوس وينسبه إلى الكذب كما حكاه البخاري في صحيحه.

قالت عائشة : فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخرج فقال لسعد [بن معاذ] كذبت لعمر الله ... فقام أُسيد ابن حضير وهو ابن عم سعد [بن معاذ] فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنّه فإنّك منافق تجادل عن المنافقين ، فتثاور الحيّان حتّى همّوا أن يقتتلوا ورسول الله قائم على المنبر ، فلم يزل رسول الله يخفِّضهم حتّى سكتوا وسكت. (1)

وليست هذه القضية فريدة في بابها فلها عشرات النظائر في الصحاح والمسانيد وفي غضون التاريخ. وإنّما ذكرته ليكون كنموذج لما لم أذكر ، وسيوافيك في الفصول التالية نماذج من أفعالهم وأقوالهم التي يكشف عن اعتقادهم في حقّ مخالفيهم.

أو ليس من العجب العجاب ، انّ الصحابي يصف صحابياً آخر - في محضر النبي - بالكذب ، والآخر يصف خصمه بالنفاق ، وكلا الرجلين من جبهة الأنصار وسنامهم؟! ولكن الذين جاءوا بعدهم يصفونهم بالعدل والتقوى ، والزهد والتجافي عن الدنيا ، وهل سمعت ظئراً أرحم بالطفل من أُمّه. (2)

ص : 504


1- صحيح البخاري : 3 / 245 ، كتاب التفسير ، رقم الحديث 4750.
2- مثل يضرب.

5- ما هي الغاية من نقد آراء الصحابة وأفعالهم؟

قد أثبتت البحوث السابقة انّ الصحابة من جنس البشر وليسوا من جنس الملائكة المعصومين الذين (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (1) فهم كالتابعين وتابعي التابعين في كلّ ما يجوز وما لا يجوز ، فتحريم البحث عن حياتهم ونقد آرائهم وأفعالهم ، تخصيص بلا جهة.

وقد تذرّعوا في تحريم نقدهم «بأنّ الصحابة هم المصدر لأخذ الدين والمسلمون متطفّلون على موائدهم حيث أخذوا عنهم دينهم ، فنقد آرائهم وأفعالهم ينتهي إلى تقويض دعائم الدين» ولكن هذا التذرّع لا يثبت أمام الآيات الصريحة والأحاديث النبوية والتاريخ الصحيح الواردة في نقد آراء الصحابة وأفعالهم.

أضف إلى ذلك : انّ المسلمين كما أخذوا دينهم عن الصحابة أخذوا عن التابعين أيضاً ، فلو ثبت ما تذرّعوا به لسرى التحريم إلى التابعين أيضاً ، وقد اتّفق

ص : 505


1- التحريم : 6.

المسلمون على خلافه في مورد التابعين.

إنّ البحث حول الصحابة لا يؤول إلى انهيار الدين وتصدّع الشريعة ، ما دام يعيش بين ظهرانيهم علماء ربّانيّون هم أُسوة في الحياة ، أُمناء على الدين والدنيا ، فلا يضرّ جرح طائفة أو فئة خاصة بثبات الدين وقوامه.

ومع ذلك كلّه ، نرى أنّ علماء الرجال وأصحاب الجرح والتعديل يحذرون من نقد حياة الصحابة أشدَّ الحذر ويعدّون ذلك من عمل المبتدعة ، يقول الحافظ ابن حجر في الفصل الثالث من «الإصابة» :

اتّفق أهل السنّة على أنّ الجميع عدول ، ولم يخالف في ذلك إلاّ شذوذ من المبتدعة ، وقد ذكر الخطيب في الكفاية فصلاً نفيساً في ذلك ، فقال : عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم ، ثمّ نقل عدّة آيات حاول بها إثبات عدالتهم وطهارتهم جميعاً ، إلى أن قال : روى الخطيب بسنده إلى أبي زرعة الرازي قال : إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله فاعلم أنّه زنديق ، وذلك انّ الرسول حقّ والقرآن حق ، وما جاء به حقّ ، وإنّما أدّى إلينا ذلك كلّه الصحابة ، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنّة ، والجرح بهم أولى وهم زنادقة. (1)

أقول : إنّ نقد الصحابي عقيدة وفعلاً ليس لغاية إبطال الكتاب والسنّة ، ولا لإبطال شهود المسلمين ، وإنّما الغاية من البحث في عدالتهم هي الغاية ذاتها من البحث في عدالة غيرهم ، فالغاية في الجميع هي التعرف على الصالحين والطالحين ، حتّى يتسنّى لنا أخذ الدين عن الصلحاء واجتناب أخذه عن غيرهم ، فلو قام الرجل بهذا العمل وتحمّل العبء الثقيل ، لما كان عليه لوم ، فلو قال أبو

ص : 506


1- الإصابة : 1 / 17.

زرعة مكان هذا القول : «إذا رأيت الرجل يتفحّص عن أحد من أصحاب الرسول لغاية العلم بصدقه أو كذبه ، أو خيره أو شرّه ، حتّى يأخذ دينه عن الخيرة الصادقين ويتحرز عن الآخرين ، فاعلم أنّه من جملة المحقّقين في الدين والمتحيرين للحقيقة» ، لكان أحسن وأولى ، بل هو الحق والمتعيّن.

ومن غير الصحيح أن يتهم العالم أحداً ، يريد التثبّت في أُمور الدين ، والتحقيق في مطالب الشريعة ، بالزندقة وانّه يريد جرح شهود المسلمين لإبطال الكتاب والسنّة ، وما شهود المسلمين إلاّ الآلاف المؤلّفة من أصحابه - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فلا يضرّ بالكتاب والسنّة جرح لفيف منهم وتعديل قسم منهم ، وليس الدين القيم قائماً بهذا الصنف من المجروحين «ما هكذا تورد يا سعد الإبل».

ص : 507

6- هل الصحابة الكرام فوق الأنبياء؟

إنّ من سبر كتب الحديث والتفسير يجد انّ السلف الصالح ينسبون إلى الأنبياء قصصاً خرافية ويلهجون بأكاذيب شنيعة بلا اكتراث ولا تكذيب ، ولكنّهم يتورّعون عن دراسة حياة الصحابي ونقد أفعاله وآرائه وأقواله ، وربما يتّهمون الناقل بالزندقة وإبطال شهود المسلمين ، فما هذا التبعيض؟! فهل يحظى الصحابة بالتكريم أكثر ممّا يحظى به الأنبياء؟! وهل هم فوق رجال السماء في النزاهة وكرامة النفس؟! وإليك بعض الأكاذيب الشنيعة التي ملئت بها كتب التفاسير.

1. أُكذوبة الغرانيق

قال ابن كثير في تفسير قوله سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ* لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ* وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ

ص : 508

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). (1)

قد ذكر كثير من المفسّرين هاهنا قصة الغرانيق ، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة ظناً منهم انّ مشركي قريش قد أسلموا ، ولكنّها من طرق كلّها مرسلة ، ولم أرها مسندة من وجه صحيح.

قال ابن أبي حاتم : حدّثنا يونس بن حبيب ، حدّثنا أبو داود ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، قال :

قرأ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بمكة النجم ، فلمّا بلغ هذا الموضع : (أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى* وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ، قال : فألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلى وانّ شفاعتهن ترتجى ، قالوا : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم ، فسجد وسجدوا ، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). (2)

لا يشكّ أي مسلم عارف بحقّ النبي الخاتم في أنّ القصة مكذوبة ، والأدلّة على نزاهة النبي عن هذه ، كثيرة ، ويكفيك انّ سورة الحجّ مدنية أمر فيها بالأذان بالحجّ وأذن فيها بالقتال وأمر فيها بالجهاد ولم يكن هذا الأمر وهذا الإذن إلاّ بعد الهجرة بأعوام. وانّ الذي بين ذلك ، وبين الوقت الذي يجعلونه لخرافة الغرانيق أكثر من عشرة أعوام. ولو أغمضنا عن ذلك ، إذ لا مانع من كون السورة مكية وبعض آياتها مدنية ، لكفى في إبطالها ما أقمنا عليه في

ص : 509


1- الحج : 52 - 54.
2- تفسير ابن كثير : 4 / 655 ؛ ولاحظ تفسير الطبري : 17 في تفسير نفس الآية ، ص 131 ، وغيرهما.

محاضراتنا. (1)

والغرض الأسنى من ذكر هذه الأُكذوبة انّ القوم ينقلون هذه الأكاذيب الشنيعة المنسوبة إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولكنّهم يتورّعون عن دراسة حال الصحابي ونقد رأيه وفعله ، فكأنّ الصحابة عندهم أرفع وأنزه من الأنبياء المعصومين بنص الكتاب!!

وهذه القصة التي وردت في كتب التفسير لأهل السنّة صارت أساساً لكتاب «الآيات الشيطانية» لسلمان رشدي المرتدّ حيث نشر كتابه هذا في الملأ العام وأضاف إلى هذه القصة أضعافاً كثيرة ممّا أوحى إليه شيطانه. وقد حكم الإمام الخميني - رحمه الله - بارتداده ووجوب قتله.

2. اتّهام داود - عليه السلام - بقتل زوج أوريا وتزوّجها

إنّ نبي الله داود - عليه السلام - أحد الأنبياء العظام الذي وصفه سبحانه بقوله : (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) (2) وقد بلغ من الكمال حدّاً ، أن كانت الجبال تتجاوب معه في التسبيح ، يقول سبحانه : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ). (3)

كما سخّر له الله سبحانه الجبال والطير ، فقال : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ* وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ). (4)

ص : 510


1- سيرة سيّد المرسلين : 1 / 488 - 497.
2- البقرة : 251.
3- سبأ : 10.
4- ص : 1918.

أفهل يتصوّر في حق نبي بلغ من الكمال ما بلغ أن يعشق امرأة محصنة وهي أوريا ، ثمّ يمهد الطريق لقتل زوجها لغاية التزوّج بها؟ ومع ذلك ملئت بهذه الخرافة ، التفاسير.

يروي المفسرون في تفسير قوله سبحانه : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ* إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ* إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ* قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ). (1)

... جاءه الشيطان قد تمثل في صورة حمامة حتّى وقع عند رجليه ، وهو قائم يصلّي ، فمدّ يده ليأخذه فتنحى ، فتبعه فتباعد حتّى وقع في كوّة ، فذهب ليأخذها ، فطار من الكوّة ، فنظر أين يقع ، فذهب في أثره ، فأبصر امرأة تغتسل على سطح لها ، فرأى امرأة من أجمل الناس خلقاً ، فحانت منها التفاتة فأبصرته ، فالتَفّت بشعرها فاستترت به ، فزاده ذلك فيها رغبة ، فسأل عنها ، فأُخبر أنّ لها زوجاً غائباً بمسلحة كذا وكذا. فبعث إلى صاحب المسلحة يأمره أن يبعث إلى عدوّ كذا وكذا ... فبعثه ففتح له أيضاً ، فكتب إلى داود - عليه السلام - بذلك ، فكتب إليه أن ابعثه إلى عدوّ كذا وكذا ... فبعثه فقتل في المرة الثالثة ، وتزوّج امرأته.

فلمّا دخلت عليه لم يلبث إلاّ يسيراً حتّى بعث الله له ملكين في صورة أُنسيّين ، فطلبا أن يدخلا عليه ، فتسوّرا عليه المحراب ، فما شعر وهو يصلّي إذ هما

ص : 511


1- ص : 21 - 24.

بين يديه جالسين ، ففزع منهما فقالا : (لا تَخَفْ) إنّما نحن (خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ) يقول : لا تخف (وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) إلى عدل القضاء فقال : قُصّا عليَّ قصتكما ، فقال أحدهما (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ) قال الآخر : وأنا أُريد أن آخذها فأكمل بها نعاجي مائة ، قال : وهو كاره ، قال : إذاً لا ندعك وذاك ، قال : يا أخي أنت على ذلك بقادر ، قال : فإن ذهبت تروم ذلك ضربنا منك هذا وهذا. يعني طرف الأنف والجبهة.

قال : يا داود أنت أحقّ أن يضرب منك هذا وهذا. حيث لك تسع وتسعون امرأة ، ولم يكن لأُوريا إلاّ امرأة واحدة ، فلم تزل تعرضه للقتل حتّى قتلته. وتزوّجت امرأته ، فنظر فلم ير شيئاً ، فعرف ما قد وقع فيه ، وما قد ابتلى به. (1)

ومعنى ذلك انّه كان لداود 99 زوجة وأراد أن يتمّها بامرأة غيره وبذلك ظلم أخاه ، فبعث الله ملكين يطرحان عمله بصورة أُخرى وانّ هناك أخوين لأحدهما 99 نعجة وللآخر نعجة واحدة فأراد صاحب النعاج الكثيرة أن يتملّك النعجة الوحيدة.

وهذه القصة الخرافية وأمثالها تُنسب إلى الأنبياء بلا اكتراث ومع ذلك لا يرضون لأحد أن ينقد حياة صحابي حتى يأخذ دينه من عين صافية ومن رجال صلحاء ، أعني : الذين خامر الدين والإيمان أنفسهم وأرواحهم

ما هكذا تورد يا سعدُ الابل.

ص : 512


1- الدر المنثور : 7 / 160 ، تفسير سورة ص ؛ تفسير الطبري : 23 / 93 ، وغيرهما.

7- مظاهر الغلو في الصحابة

اشارة

الغلو هو تجاوز الحدّ ، ومنه غلا السعر : إذا تجاوز حدّه ، قال سبحانه : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ). (1)

فالغلو في الدين في الآية ، كناية عن الغلو في رسوله ، أعني : المسيح عيسى بن مريم.

فذكر سبحانه أوّلاً واقعَ المسيح وانّه كان بشراً رسولاً ، لا يختلف عمّن تقدّم من الرسل ، وهو كلمة الله التي حملتها مريم وولدتها.

ثمّ أشار ثانياً إلى أنواع غلوهم فحلّت الآلهة الثلاثة مكان الإله الواحد ، وُعّد المسيح أحد الآلهة تارة ، وابن الإله أُخرى ، فهذا كلّه غلو وإفراط ، قال : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً). (2)

فكما أنّ الإفراط غلو وتجاوز للحد فهكذا التفريط والتقصير ، والداعي إلى

ص : 513


1- النساء : 171.
2- النساء : 171.

الأخير إمّا عجز الإنسان وعيّه عن أداء الحقّ ، أو حسده وحقده.

وللإمام أمير المؤمنين حول الإفراط والتفريط كلمتان نأتي بهما :

1. قال : الثناء بأكثر من الاستحقاق ملق ، والتقصير عن الاستحقاق عيّ أو حسد. (1)

2. وقال : إنّ دين الله بين المقصر والغالي ، فعليكم بالنمرقة الوسطى ، فيها يلحق المقصر ، ويلحق إليها الغالي. (2)

فالمسلم الحرّ ، لا يعدل عن النمرقة الوسطى ، وهو يخضع للحق مكان خضوعه للملق والعاطفة ، أو للبغض والحسد.

إنّ كثيراً من أهل السنّة ، غالوا في حقّ الصحابة وتجاوزوا الحد ، خضوعاً للعاطفة ، وإغماضاً عمّا ورد في حقّهم في الكتاب العزيز والسنّة النبوية والتاريخ الصحيح ، فألبسوهم جميعاً لباس العدالة - بل العصمة من غير وعي - فصاروا مصادر للدين ، أُصوله وفروعه ، دون أن يقعوا في إطار الجرح والتعديل ، من غير فرق بين من آمن قبل بيعة الرضوان وبعدها ، ومن آمن قبل الفتح أو بعده ، ومن غير فرق بين الطلقاء وأبنائهم والأعراب ، مع تفريق الكتاب العزيز بينهم في الإيمان والإخلاص ، فالكلّ في نظرهم من أوّلهم إلى آخرهم عدول ، لا يخطئون ولا يسهون ، ولا يعصون.

وليس هذا إلاّ نوعا من الغلو لم يعهد في أُمّة عبر التاريخ.

مظاهر الغلو
اشارة

وهنا - وراء القول بعدالتهم بل عصمتهم - مظاهر للغلو ، نشير إليها :

ص : 514


1- نهج البلاغة : قصار الكلمات ، 347.
2- ربيع الأبرار للزمخشري : 2 / 63.
1. سنّة الصحابة

يرى غير واحد من الباحثين انّ للصحابة سنّة ، تُعتبر حجة يعمل بها ، وإن لم تكن في الكتاب الكريم ولا في المأثور عن النبي ، قال مؤلّف كتاب «السنّة قبل التدوين». (1)

«وتطلق السنّة أحياناً عند المحدّثين وعلماء أُصول الفقه على ما عمل به أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، سواء أكان في الكتاب الكريم أم في المأثور عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أم لا. ويحتج لذلك بقوله عليه الصلاة والسلام : «عليكم بسُنّتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسّكوا بها وعضّوا عليها بالنّواجذ». وقوله أيضاً : «تفترق أُمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النار إلاّ واحدة» ، قالوا : ومَن هم يا رسول الله؟ قال : «ما أنا عليه وأصحابي».

ومن أبرز ما ثبت في السنّة بهذا المعنى (سنّة الصحابة) حد الخمر ، وتضمين الصناع ، وجمع المصاحف في عهد أبي بكر برأي الفاروق ، وحمل الناس على القراءة بحرف واحد من الحروف السبعة ، وتدوين الدواوين ... وما أشبه ذلك ممّا اقتضاه النظر المصلحي الذي أقرّه الصحابة رضي الله عنهم.

ثمّ قال :

وممّا يدلّ على أنّ السنّة هي العمل المتبع في الصدر الأوّل قول علي بن أبي طالب - عليه السلام - لعبد الله بن جعفر عند ما جلد شارب الخمر أربعين جلدة : «كفّ. جلد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أربعين ، وأبو بكر أربعين ، وكمّلها عمر ثمانين وكلّ سنّة». (2)

روى السيوطي : قال حاجب بن خليفة شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب

ص : 515


1- الدكتور محمد عجاج الخطيب ، أُستاذ الحديث وعلومه في كلية الشريعة بدمشق.
2- تدوين السنة : 20 ، ط دار الفكر.

وهو خليفة فقال في خطبته : ألا إنّ ما سنَّ رسول الله وصاحباه فهو دين نأخذ به ، وننتهي إليه وما سنّ سواهما فإنّما نرجئه. (1)

هذا وقد احتلّت فتوى الصحابة منزلة الآثار النبوية يأخذ بها فقهاء السنّة ، يقول الشيخ أبو زهرة : ولقد وجدناهم (الفقهاء) يأخذون جميعاً بفتوى الصحابي ولكن يختلفون في طريق الأخذ ، فالشافعي كما يصرح في «الرسالة» يأخذ بفتواهم على أنّها اجتهاد منهم واجتهادهم أولى من اجتهاده ، ووجدنا مالكاً - رضي الله عنه - يأخذ بفتواهم على انّها من السنّة. الخ

وهذا يعرب عن أنّ للصحابة حق التشريع وجعل الأحكام في ضوء المصالح العامة ، مع أنّ الكتاب العزيز دلّ بوضوح على أنّ حق التشريع خاص بالله فقط ، ولا يحق لأحد أن يفرض رأيه على الآخرين.

فدفعُ زمام التشريع إلى غيره سبحانه أشبه بعمل أهل الكتاب حيث اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله. فلم يعبدوهم ، بل خضعوا لهم في التحريم والتحليل فصاروا أرباباً في مجال التقنين والتشريع.

روى الثعلبي باسناده عن عدي بن حاتم قال : أتيت رسول الله وفي عنقي صليب من ذهب ، فقال لي : «يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك» قال : فطرحته ، ثم انتصب إليه وهو يقرأ هذه الآية : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً) (2) حتى فرغ منها ، فقلت : إنّا لسنا نعبدهم ، فقال : «أليس يحرّمون ما أحله الله فتحرّمونه ، ويحلّون ما حرّم الله فتتحلّونه؟» قال : فقلت : بلى ، قال : «فتلك عبادة» (3).

وأين هذا ممّا عليه أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - روى جابر بن عبد الله عن أبي جعفر

ص : 516


1- تاريخ الخلفاء : 16.
2- التوبة : 31.
3- تفسير الثعلبي : 5 / 314.

الباقر - عليه السلام - قال : «يا جابر إنّا لو كنّا نحدّثكم برأينا وهوانا ، لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نحدّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله». (1)

وممّن وقف على خطورة الموقف ، الشوكاني قال : والحق إنّ قول الصحابي ليس بحجّة ، فانّ الله سبحانه وتعالى لم يبعث إلى هذه الأُمّة إلاّ نبيّنا محمّداً ، وليس لنا إلاّ رسول واحد ، والصحابة ومن بعدهم مكلّفون على السواء باتّباع شرعه والكتاب والسنّة ، فمن قال : إنّه تقوم الحجّة في دين الله بغيرهما فقد قال في دين الله بما لا يثبت وأثبت شرعاً لم يأمر الله به. (2)

وممّن بالغ في حجّية قول الصحابي - غير المسند إلى الرسول - ابن قيّم الجوزية في كتابه «اعلام الموقعين» وقد أوضحنا حال أدلّته البالغة إلى ستة وأربعين دليلاً ، في تقديمنا لكتاب طبقات الفقهاء ، القسم الأوّل ، فلاحظ. (3)

والعجب انّ الصحابة لم يدّعوا لأنفسهم هذا المقام ولم يغالوا في حقّهم ولم يتجاوزوا الحد ، وهذا هو عمر بن الخطاب يقول : وإنّي لعلي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم ، وآمركم بأشياء لا تصلح لكم. (4)

وقد شاع وذاع عن الخلفاء قولهم : أقول فيها برأيي فإن أصبتُ فمن الله ، وإن أخطأت فمنّي أو من الشيطان» فكيف يمكن أن يكون الرأي المردد بين الله وغيره حكماً شرعياً لازم الاتّباع إلى يوم البعث.

إن هذا إلاّ الغلو الواضح النابع من القول بعصمتهم من غير وعي.

ص : 517


1- جامع أحاديث الشيعة : 1 / 17.
2- إرشاد الفحول : 214.
3- الفقه الإسلامي منابعه وأدواره : 289 - 303.
4- تاريخ بغداد : 14 / 81.
2. العزوف عن نقد الصحابة

من مظاهر الغلو في الصحابة هو العزوف عن نقد الصحابة ، والمنع عن التكلم حول ما دار بينهم من النزاع والنقاش ، يقول إمام الحنابلة :

وخير هذه الأُمّة بعد نبيّها - صلى الله عليه وآله وسلم - أبو بكر ، وخيرهم بعد أبي بكر عمر ، وخيرهم بعد عمر ، عثمان ، وخيرهم بعد عثمان علي - رضوان الله عليهم - خلفاء راشدون مهديّون ، ثمّ أصحاب محمّد بعد هؤلاء الأربعة لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساويهم ولا يطعن على أحد منهم ، فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته ، ليس له أن يعفو عنه ، بل يعاقبه ثمّ يستتيبه ، فإن تاب قبل منه ، وإن لم يتب أعاد عليه العقوبة ، وجلده في المجلس حتّى يتوب ويراجع. (1)

وقال الإمام الأشعري : ونشهد بالجنة للعشرة الذين شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بها ونتولّى بها ونتولّى سائر أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ونكفّ عمّا شجر بينهم ... (2)

وقال أبو الحسين محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الملطي (المتوفّى 377 ه) عند ما ذكر عقائد أهل السنّة ومنها : الكفّ عن أصحاب محمد. (3)

وعند ما يقف الباحث على مصادر جمة وتظهر أمامه أفانين من اقتراف المعاصي وسفك الدماء الطاهرة ، وهتك الحرمات ، ويجابههم بهذه الحقائق ، فإنّهم يلتجئون إلى ما يُروى عن عمر بن عبد العزيز وأحياناً عن الإمام أحمد بن حنبل من لزوم الإمساك عمّا شجر بين الصحابة من الاختلاف ، وكثيراً ما يقولون حول الدماء التي أُريقت بيد الصحابة - حيث قتل بعضهم بعضاً - تلك دماء طهّر الله

ص : 518


1- كتاب السنة لأحمد بن حنبل : 50.
2- الإبانة : 40 ، ط دار النفائس ، ومقالات الإسلاميين : 294.
3- التنبيه والردّ : 15.

منها أيدينا فلا نلوّث بها ألسنتنا.

غير أنّ هذه الكلمة - من أيّ شخص صدرت - تخالف القرآن الكريم والسنّة النبوية والعقل الصريح.

أمّا القرآن الكريم فقد وصف طوائف من الصحابة بالأوصاف التي سوف تقف عليها عند تصنيف الصحابة والتي منها الفسق وقال فيما قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ). (1)

وأمّا السنّة النبوية فهي تصف قتلة عمار بالفئة الباغية حيث قال - صلى الله عليه وآله وسلم - : «تقتلك الفئة الباغية ، تدعوهم إلى الجنّة ويدعونك إلى النار». (2) وكان معاوية ، وعمرو بن العاص يقودان الفئة الباغية.

ويقول - صلى الله عليه وآله وسلم - في حقّ الخوارج : «تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق». (3)

وهذه الأحاديث وأمثالها كثيرة مبثوثة في الصحاح والمسانيد ، فإذا كان الإمساك أمراً واجباً والإطلاق أمراً محرماً ، فلما ذا أطلق الوحي الإلهي والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لسانهما بوصف هؤلاء بالأوصاف الماضية؟!

وأمّا العقل فلا يجوّز لنا أن نلبس الحق بالباطل ونكتم الحقّ ونكيل للظالم والعادل بمكيال واحد ، أمّا ما روي عن الإمام أحمد فلعلّه يريد به الإمساك عن الكلام فيهم بالباطل والهوى ، وأمّا الكلام فيهم بما اشتهر اشتهار الشمس في رائعة النهار ونقله المحدّثون والمؤرخون في كتبهم وأُشير إليه في الذكر الحكيم فلا معنى

ص : 519


1- الحجرات : 6.
2- الجمع بين الصحيحين : 2 / 461 ، رقم 1794.
3- السنّة لابن حنبل ، رقم 41.

للزوم الإمساك عنه.

ثمّ إنّه يُستشفّ من هذا الكلام أنّ الدماء التي أُريقت في وقائع الجمل وصفين والنهروان ، كانت قد سُفكت بغير حق ، وهذا - وأيم الحق - عين النصب ، وقضاء بالباطل ، وإلاّ فأي ضمير حرّ يحكم بأنّ قتال الناكثين والقاسطين والمارقين ، كان قتالاً بغير حقّ؟! وكلّنا يعلم أنّ أمير المؤمنين - عليه السلام - كان على بيّنة من ربّه وبصيرة من دينه ، يدور معه الحقّ حيثما دار ، وهو الذي يقول : «والله لو أُعطيتُ الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصيَ اللهَ في نملة أسلبُها جِلْبَ شعيرة ما فعلتُ».

ما هذا التجنّي أمام الحقائق الواضحة؟!

أو ليس العزوف عن نقد الصحابة تكريساً للأخطاء ، وإيغالاً في التقديس؟!

أو ليس تنزيه الصحابة جميعاً تنكّراً للطبيعة البشرية.

إنّ النقد الموضوعي تعزيز لجبهة الحق ، وتمييز الخبيث من الطيّب ، والمبطل عن المحق قال سبحانه : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ). (1)

ولو كان الكفّ عمّا اقترفوا أمراً واجباً فلما ذا خرق النبي هذا الستر وأخبر عن رجوعهم عن الطريق المهيع.

وهذا هو الإمام البخاري يروي روايات كثيرة حول ارتداد بعض الصحابة بعد رحيل النبي ، نكتفي بواحدة منها.

إنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : بينما أنا قائم على الحوض إذا زمرة حتّى إذا

ص : 520


1- آل عمران : 179.

عرفتهُم خرج رجل بيني وبينهم فقال : هلم! فقلت : أين؟ فقال : إلى النار والله ، فقلت : ما شأنهم؟ قال : إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى ، ثمّ إذا زمرة أُخرى ، حتّى إذا عرفتهم خرج رجل بيني وبينهم فقال لهم : هلم ، فقلت : إلى أين؟ قال : إلى النار والله ، قلت : ما شأنهم؟ قال : إنّهم ارتدوا على أدبارهم ، فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل هِمْل النعم». (1)

وظاهر الحديث : «حتّى إذا عرفتهم» وقوله : «ارتدوا على أدبارهم القهقرى» أنّ الذين أدركوا عصره وكانوا معه ، هم الذين يرتدون بعده.

إذا راجعنا الصحاح والمسانيد نجد أنّ أصحابهم أفردوا باباً بشأن فضائل الصحابة إلاّ أنّهم لم يفردوا باباً في مثالبهم ، بل أقحموا ما يرجع إلى هذه الناحية في أبواب أُخر ، ستراً لمثالبهم وقد ذكرها البخاري في الجزء التاسع من صحاحه في باب الفتن ، وأدرجها ابن الأثير في جامعه في أبواب القيامة عند البحث عن الحوض ، والوضع الطبيعي لجمع الأحاديث وترتيبها ، كان يقتضي عقد باب مستقل للمثالب في جنب الفضائل حتّى يطلع القارئ على قضاء السنة حول صحابة النبي الأكرم.

3. السنّة قاضية على القرآن

القرآن الكريم هو المرجع الأوّل للمسلمين في الشريعة والعقيدة ، وقد وصفه سبحانه بأنّ فيه تبياناً لكلّ شيء ، قال : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ). (2)

ص : 521


1- جامع الأُصول لابن الأثير : 11 / 120 ، كتاب الحوض في ورود الناس عليه ، رقم الحديث 7972. و «الفرط» : المتقدم قومه إلى الماء ، ويستوي فيه الواحد والجمع ، يقال : رجل فرط وقوم فرط.
2- النحل : 89.

والمراد من الشيء في الآية إمّا المعنى العام ، أو المعنى الخاص ، أي العقيدة والشريعة ، والمعنى الثاني هو القدر المتيقّن ، فيجب أن يكون ميزاناً للحقّ والباطل فيما تحكيه الروايات في مجالي العقيدة والشريعة.

كما أنّه سبحانه عرّفه في مكان آخر بأنّه المهيمن على جميع الكتب السماوية (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ). (1)

فإذا كان القرآن مهيمناً على جميع الكتب السماوية وميزاناً للحقّ والباطل الواردين فيها ، فأولى أن يكون مهيمناً على ما يُنسب إلى صاحب الشريعة المحمّدية من صحيح وسقيم.

ومقتضى ذلك أن يكون القرآن حاكماً على السنّة ومعياراً لصحّتها وسقمها ؛ ولكن الغلوّ في رواة السنّة وعلى رأسهم الصحابة ، انتهى إلى خلاف ذلك ، فصارت السنّة قاضية على القرآن ، حاكمة عليه ، وهذا أحد مظاهر الغلوّ في الصحابة ومن تتلمذ على أيديهم حيث قدّموا رواياتهم على كتاب ربّ العزّة ، وإن كنت في ريب ممّا ذكرنا فاقرأ ما نتلوه عليك :

روى الحافظ الكبير أبو محمد عبد الرحمن الدارمي في سننه في باب «السنّة قاضية على كتاب الله» بسنده عن يحيى بن أبي كثير قال : السنّة قاضية على القرآن وليس القرآن بقاض على السنّة. (2)

قال الإمام الأشعري واختلفوا في القرآن هل ينسخ إلاّ بقرآن ، وفي السنّة هل ينسخها القرآن؟ فقال : المختلفون في ذلك ثلاثة أقاويل ، منها :

السنّة تنسخ القرآنَ وتقضي عليه ، والقرآن لا ينسخ السنّة ولا يقضي

ص : 522


1- المائدة : 48.
2- سنن الدارمي : 1 / 144.

عليها. (1)

لا شكّ انّ السنّة المحكية الّتي تصدر عن لسان النبيّ هي كالقرآن الكريم ، تخصِّص عموم القرآن وتقيّد مطلقه ، ولا يكون بينهما أيّ خلاف حتّى يكون أحدهما قاضياً على الآخر ، إنّما الكلام في هذه السنن الحاكية المبثوثة في الصحاح والسنن والمسانيد ، فهل يمكن أن تكون تلك السنّة قاضية على كتاب الله ولا يكون الكتاب قاضياً عليها؟!

(تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى).

4. حجّية رواياتهم بلا استثناء

من مظاهر الغلو في حقّ الصحابة ، حجّية رواياتهم بلا استثناء ، مع أنّ الصحابة كانوا على أصناف يعرفهم كلّ من قرأ الكتاب العزيز وتدبّر في آياته.

كانت في الصحابة طائفة من المؤمنين المخلصين بدرجات مختلفة ، وفيهم المسلمون الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم ، وفيهم المنافقون وهم عدد غير قليل ، وفيهم المؤلّفة قلوبهم ، وفيهم من نزل القرآن بفسقه ، وفيهم من أُقيم عليه الحدّ الشرعي في زمن النبيّ ، وفيهم من ارتدّ عن دينه إلى غير ذلك من الأصناف الّتي لا يحتجّ بأقوالها ورواياتها.

ومع ذلك احتج بروايات الصحابي مطلقاً ، ومن دون استثناء.

إنّ الرسول الأعظم - صلى الله عليه وآله وسلم - حذّر أصحابه من الكذب عليه في حياته ، وهذا يعرب عن وجود من كان يكذب عليه في حياته فكيف بعد مماته.

روى البخاري ، عن رِبْعي بن حراش يقول : سمعت عليّاً يقول : قال

ص : 523


1- مقالات الإسلاميين : 608.

النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : لا تكذبوا عليّ فانّه مَنْ كذب عليّ فليلج النار». (1)

وروى أيضاً عن عبد الله بن الزبير قال : قلت للزبير : إنّي لا أسمعك تحدّث عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كما يحدّث فلان وفلان؟ قال : إنّي لم أُفارقه ، ولكن سمعته يقول : «من كذب عليّ فليتبوّأ مقعده من النّار».

إلى غير ذلك من الأحاديث الّتي رواها الإمام البخاري في هذه المضمار.

وقد عقد ابن ماجة في سننه باب التغليظ على تعمّد الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وروى فيه ثماني روايات حول نهي النبي عن الكذب عليه.

وعن أبي قتادة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول على هذا المنبر : إيّاكم وكثرة الحديث عنّي ، فمن قال ، عليّ فليقل عدلاً أو صدقاً ، ومن تقوّل عليّ ما لم أقل فليتبوّأ مقعده من النار. (2)

ما ذا يريد رسول الله من خطابه : «إيّاكم وكثرة الحديث عنّي» ألا يدلّ هذا على أنّه كان بين الصحابة من يتقوّل عليه وينقل عنه ما لم يقل؟ نعم هذا لا يستلزم اختصاص الحكم بالصحابة ، بل يحرم التقوّل على غير الصحابي ، أيضاً بملاك الاشتراك في التكليف ، ولكن الخطاب متوجه إلى الصحابة يخصّهم بالذكر وإن كان الحكم واسعاً.

ثمّ إنّ ابن ماجة عقد باباً آخر ، تحت عنوان «من حدّث عن رسول الله حديثاً وهو يُرى أنّه كذب» روى فيه أربع روايات كلّها بمضمون الحديث التالي : من حدّث عنّي حديثاً وهو يرى أنّه كذب فهو أحد الكاذبين. (3)

ص : 524


1- صحيح البخاري : 1 ، باب إثم من كذب على النبيّ ، الحديث 106 - 107.
2- سنن ابن ماجة : 1 / 14 ، رقم 35.
3- سنن ابن ماجة : 1 / 14 ، قسم المقدمة ، برقم 38.

وهذا يكشف عن وجود أرضية سيّئة بين نقلة الحديث في عصر الرسول ، أفيمكن بعد هذه الروايات أن نكيل عامة الصحابة بكيل واحد ونصفهم بالعدل والزهد والتقى؟! مع أنّ منهم - بعد ما ظهر كذبه في الحديث - من يعتذر بأنّه من كيسه.

أخرج البخاري عن أبي صالح ، قال : حدّثني أبو هريرة ، قال : قال النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - : أفضل الصدقة ما ترك غنىً ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول ، تقول المرأة : إمّا أن تطعمني وإمّا أن تطلقني.

ويقول العبد : اطعمني واستعملني.

ويقول الابن : أطعمني إلى من تدعني؟

فقالوا : يا أبا هريرة ، سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟!

قال : لا ، من كيس أبي هريرة.

ورواه الإمام أحمد في مسنده باختلاف طفيف في اللفظ.

انظر إلى الرجل ينسب في صدر الحديث الرواية إلى النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - بضرس قاطع ، ولكنّه عند ما سُئل عن سماع الحديث من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عدل عمّا ذكره أوّلاً ، وصرح بأنّه من كيسه الخاص أي من موضوعاته. (1)

5. القول بعدالتهم جميعاً

إنّ من مظاهر الغلو في الصحابة ، القول بعدالتهم جميعاً ، كأنّ الرؤية أو الصحبة جعلتهم ملائكة يسيرون في الأرض بصورة الإنس ، لا يعصون الله ما

ص : 525


1- البخاري ، كتاب النفقات ، رقم الحديث 5355 ؛ مسند أحمد : 2 / 252.

أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

والقوم وإن كانوا يصفونهم بالعدل ، ولكن يتعاملون معهم بنحو كأنّهم معصومون ، فوق أن يكونوا عدولاً ، ولذلك يتحاشون عن نسبة أيّ ذنب أو خطيئة إليهم ، إلى حدّ ذهب الإمام أحمد إلى وجوب الإمساك عن التعرض للصحابة وحمل أعمالهم على الصحة ، قال : لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساوئهم ، ولا يطعن على أحد منهم بعيب أو نقص ، فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه عقوبته ليس له أن يعفو عنه ، بل يعاقبه ثمّ يستتيبه فإن تاب قبل منه ، وإن لم يتب أعاد عليه العقوبة وجلده في المجلس حتّى يتوب ويراجع. (1)

وقال ابن حجر : ويجب الاعتقاد بنزاهتهم لأنّه قد ثبت أنّ الجميع من أهل الجنّة وأنّه لا يدخل أحد منهم النار. (2)

ليت ابن حجر يشير إلى آية أو رواية صحيحة تدلّ على أنّ جميع الصحابة من أهل الجنّة ، وأنّه لا يدخل أحد منهم النار ، وسيوافيك من الصحابة مَن وصفه الله سبحانه بأنّه فاسق. (3) كما وصف لفيفاً منهم بأنّهم يريدون الدنيا ولفيفاً يريدون الآخرة وقال : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ). (4)

كيف تحرم النار على مَن ترك رسول الله وهو يلقي عليهم خطبة الجمعة وذهب للهو والتجارة ، قال سبحانه : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً ...) (5) ، إلى غير ذلك من الآيات الذامة لفئة منهم ، وستوافيك تلك الآيات في مكانها.

ص : 526


1- السنّة وعقيدة أهل السنّة : 50.
2- الإصابة : 1 / 1.
3- الحجرات : 6.
4- آل عمران : 152.
5- الجمعة : 11.

وقال الذهبي : وأمّا الصحابة فبساطهم مطوي ، وإن جرى ما جرى ، وإن غلطوا كما غلط غيرهم من الثقات!! فما يكاد يسلم أحد من الغلط ولكنّه غلط نادر لا يضر أبداً ، إذ على عدالتهم ، وقبول ما نقلوا - العمل وبه ندين الله تعالى. وأمّا التابعون فيكاد فيهم - من يكذب عمداً ، ولكن لهم غلط وأوهام ... وأمّا أصحاب التابعين كمالك والأوزاعي ، وهذا الضرب ، فعلى المراتب المذكورة ووجد في عصرهم من يتعمد الكذب أو من كثر غلطه ، فترك حديثه هذا مالك وهو النجم الهادي بين الأُمّة ، وما سلم من الكلام فيه ، وكذا الأوزاعي ثقة حجة ، وربما انفرد ووهم ، وحديثه عن الزهري فيه شيء .... (1)

وقال الطحاوي : ونحبّ أصحاب رسول الله ولا نفرّط في حب أحد منهم ، ولا نتبرّأ من أحد منهم ، ونبغض من يبغضهم ، وبغير الخير يذكرهم ، ولا نذكرهم إلاّ بخير ، وحبّهم دين وإيمان وإحسان وبغضهم كفر ونفاق وطغيان. (2)

ولمّا كان القول بعدالة الصحابة جميعاً أمراً غريباً ، إذ كيف يتصوّر أنّ جماعة كثيرة ربما تناهز مائة ألف قد صاروا عدولاً بمجرّد الرؤية أو بإضافة الصحبة مع أنّ قسماً منهم كانوا يفقدون حسن السابقة في عهد الجاهلية وارتكبوا جنايات يندى لها الجبين ، فهل يمكن أن تكون رؤية الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أو صحبته إكسيراً يقلب العنصر الخبيث إلى العنصر الطيب كقلب النحاس إلى الذهب؟

كلاّ لا يمكن ، ولا العقل يصدقه ، ولا العلم ولا التجربة الاجتماعية.

ولذلك نرى أنّ بعض المنصفين من أهل السنة توقّفوا في الحكم بعدالة جميع

ص : 527


1- الرواة الثقات : 21.
2- شرح العقيدة الطحاوية : 396.

الصحابة فلم يؤيّدوا عدالتهم بقول مطلق ولم ينفوها كذلك ولم يبدوا رأيهم في المسألة وإنّما حكوا الآراء فيها وإليك نقل بعض كلماتهم :

قال الآمدي : اتّفق الجمهور على عدالة الصحابة ، وقال قوم : إن حكمهم في العدالة حكم من بعدهم في لزوم البحث عن عدالتهم في الرواية ، ومنهم من قال : إنّهم لم يزالوا عدولاً إلى حين ما وقع الاختلاف والفتن فيما بينهم ، وبعد ذلك فلا بدّ من البحث في العدالة عن الراوي أو الشاهد منهم إذا لم يكن ظاهر العدالة ، ومنهم من قال : إنّ كلّ من قاتل عليّاً عالماً منهم فهو فاسق مردود الرواية والشهادة على الإمام الحقّ ، ومنهم من قال بردّ رواية الكلّ وشهادتهم ، لأنّ أحد الفريقين فاسق وهو غير معلوم ولا معيّن. (1)

قال الغزالي : وزعم قوم إنّ حالهم - أي الصحابة - كحال غيرهم في لزوم البحث ، وقال قوم : حالهم العدالة في بداية الأمر إلى ظهور الحرب والخصومات ، ثمّ تغيرت الحال وسفكت الدماء فلا بدّ من البحث. (2)

وسيوافيك انّ القول بعدالة الصحابة أو التوقّف فيها مرفوض بتصريح القرآن على خلافه وشهادة السنّة على ضدّه.

ص : 528


1- الاحكام : 2 / 128.
2- المستصفى : 1 / 308.

8- الاعتقاد بعدالة الصحابة كخلافة الخلفاء ليس من صميم الدين

اشارة

من يراجع الرسائل والكتب العقائدية يقف فيها على مسألتين تعتبران منذ عصر الإمام أحمد (المتوفّى 241 ه) من صميم الدين وممّا يجب الإيمان به ، وهما :

1. خلافة الخلفاء الأربعة.

2. عدالة الصحابة جميعاً.

يقول إمام الحنابلة في رسالة عقائدية : وخير هذه الأُمّة بعد نبيّها - صلى الله عليه وآله وسلم - أبو بكر ، وخيرهم بعد أبي بكر ، عمر ، وخيرهم بعد عمر ، عثمان ، وخيرهم بعد عثمان ، علي - رضوان الله عليهم - خلفاء راشدون مهديّون ، ثمّ أصحاب محمد بعد هؤلاء الأربعة. (1)

وقال الإمام الأشعري في رسالة ألّفها لبيان عقيدة أهل الحديث :

إنّ الإمام الفاضل بعد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أبو بكر الصدّيق ، ثمّ عمر بن الخطاب ، ثمّ عثمان بن عفان ، ثمّ علي بن أبي طالب - عليه السلام -.

ص : 529


1- السنّة : 50.

فهؤلاء الأئمّة بعد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وخلافتهم خلافة النبوّة. (1)

وقال أبو جعفر الطحاوي في العقيدة الطحاوية المسمّاة ب «بيان السنّة والجماعة» :

وتثبيت لأبي بكر الصديق تفضيلاً وتقديماً على جميع الأُمّة ثمّ لعمر بن الخطاب ، ثمّ لعثمان ، ثمّ لعلي». (2)

هذه النصوص المذكورة وما لم نذكره تعرب عن أنّ خلافة الخلفاء - عند القوم - عقيدة إسلامية يجب على كلّ مسلم الاعتقاد بها كالاعتقاد بسائر الأُصول من توحيده سبحانه ونبوّة نبيّه ومعاد الإنسان ، وقد ذكرها الإمامان : أحمد والأشعري في عداد عقائد أهل السنة والجماعة.

هذا هو المفهوم من هذه الكلمات وربما يتصوّر القائل أنّ الاعتقاد بخلافة الخلفاء أصل من أُصول الإسلام وقد جاء به النبيّ الخاتم وأمر الناس بالاعتقاد به.

الاعتقاد بخلافة الخلفاء ليس من صميم الدين

كيف يتصوّر ذلك مع أنّ النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يقبل إسلام من ذكر الشهادتين دون أن يسأله عن خلافة الخلفاء؟

والذي يدلّ على أنّ خلافة الخلفاء ليست أصلاً دينيّاً وإنّما هي مرحلة زمنية مرّ بها المسلمون في فترة من تاريخهم كما مرّوا بخلافة سائر الخلفاء ، هو أنّ أصل الخلافة والإمامة من الفروع عند متكلّمي أهل السنّة ، فكيف تكون خلافة

ص : 530


1- الإبانة في أُصول الديانة : 21 - 22 ، باب إبانة قول أهل الحقّ والسنّة.
2- شرح العقيدة الطحاوية ، للشيخ عبد الغني الميداني الحنفي الدمشقي : 479. ولاحظ الفرق بين الفرق : 350 ، للبغدادي وغيره.

الخلفاء من الأُصول؟

قال الغزالي : واعلم أنّ النظر في الإمامة أيضاً ليست من المهمّات ، وليس أيضاً من فن المعقولات ، بل من الفقهيّات. (1)

وقال الآمدي : اعلم أنّ الكلام في الإمامة ليس من أُصول الديانات ، ولا من الأُمور اللابدّيّات بحيث لا يسع المكلّف الإعراض عنها والجهل بها. (2)

وقال السيد الشريف : وليست الإمامة من أُصول الديانات والعقائد ، بل هي من الفروع المتعلّقة بأفعال المكلّفين ، إذ نصب الإمام عندنا واجب على الأُمّة سمعاً. (3)

فإذا كانت الكبرى حكماً فرعياً من فروع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد قام المسلمون بعد رحيل الرسول بتطبيقها على الخلفاء الأربعة ثم توالى الخلفاء بعدهم ، أفهل يكون ذلك دليلاً على أنّ الاعتقاد بخلافتهم أصل من الأُصول؟

إذ طالما قام المسلمون بواجبهم في أكثر بقاع العالم فبايعوا شخصاً بالخلافة فلم تُصبح خلافته أصلاً من أُصول الإسلام ، هذا من غير فرق بين أن نقول بصحّة خلافتهم وكونها جامعة شرائط الخلافة أم لم نقل ، إنّما الكلام في أنّ الاعتقاد بها ليس أصلاً من أُصول الإسلام.

ومن سبر التاريخ يقف على أنّ يد السياسة أوجدت تلك الفكرة ، وجعلت خلافة الخلفاء الثلاث أصلاً من أُصول الإيمان ليكون ذريعة إلى سائر المسائل السياسية.

ص : 531


1- الاقتصاد في الاعتقاد ، ص 234.
2- غاية المرام في علم الكلام ، ص 362.
3- شرح المواقف ، ج 8 ، ص 344.

ذكر المسعودي : اجتمع عمرو بن العاص مع أبي موسى الأشعري في دومة الجندل ، فجرى بينهما مناظرات ، وقد أحضر عمرو غلامه لكتابة ما يتّفقان عليه ، فقال عمرو بن العاص بعد الشهادة بتوحيده سبحانه ونبوّة نبيّه - صلى الله عليه وآله وسلم - ونشهد أنّ أبا بكر خليفة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عمل بكتاب الله وسنّة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى قبضه الله إليه ، وقد أدّى الحق الذي عليه.

قال أبو موسى : اكتب ، ثمّ قال في عمر مثل ذلك ، فقال أبو موسى : اكتب. ثمّ قال عمرو : اكتب انّ عثمان ولي هذا الأمر بعد عمر على إجماع من المسلمين وشورى من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ورضا منهم وأنّه كان مؤمناً ، فقال أبو موسى الأشعري : ليس هذا ممّا قعدنا له ، قال : والله لا بدّ من أن يكون مؤمناً أو كافراً ، فقال أبو موسى : كان مؤمناً. قال عمرو : فمره يكتب ، قال أبو موسى : اكتب. قال عمرو : فظالماً قتل عثمان أو مظلوماً؟ قال أبو موسى : بل قتل مظلوماً ، قال عمرو : أو ليس قد جعل الله لوليّ المظلوم سلطاناً يطلب بدمه؟ قال أبو موسى : نعم. قال عمرو : فهل تعلم لعثمان ولياً أولى من معاوية؟ قال أبو موسى : لا ، قال عمرو : أفليس لمعاوية أن يطلب قاتله حيثما كان حتّى يقتله أو يعجز عنه؟ قال أبو موسى : بلى ، قال عمرو للكاتب : اكتب وأمره أبو موسى فكتب ، قال عمرو : فإنّا نقيم البيّنة على أنّ علياً قتل عثمان .... (1)

ومن يقرأ قصة التحكيم في حرب صفّين يجد أنّ إقحام الاعتقاد بخلافة الشيخين ، كان تمهيداً لانتزاع الإقرار بخلافة الثالث ، ولم يكن الإقرار بخلافة الثالث مقصوداً بالذات ، بل كان ذريعة لانتزاع اعترافات أُخرى من أنّه قتل مظلوماً ، وأنّه ليس له وليّ يطلب بدمه أولى من معاوية وأنّ علياً هو الذي قتله.

ص : 532


1- مروج الذهب للمسعودي : 2 / 396 - 397.

وقد استفحلت أهميّة الإيمان بخلافة الخلفاء ولا سيما الثالث في عهد معاوية للإطاحة بعليّ وأهل بيته وإقصائهم عن الساحة السياسية ، حتّى يخلو الجوّ لمعاوية وأبناء بيته ، وقد أمر الخطباء والوعّاظ بنشر مناقب الخلفاء أوّلاً ، وسائر الصحابة ثانياً ، والمنع عن نشر أيّة فضيلة من فضائل أمير المؤمنين علي - عليه السلام -.

إنّ الرسائل العقائدية الّتي أشرنا إليها اشتملت على ما يربو على خمسين أصلاً ، يتراءى لنا أنّها من أُصول الإسلام ، وأنّها ممّا قد أجمع عليها المسلمون بعد رحيل الرسول ، ولكن الواقع غير ذلك فأكثر الأُصول ردود على الفرق الكلامية الّتي ظهرت في الساحة ، فصارت العقائد الإسلامية كأنّها ردود على الفرق الناجمة في عصر التيارات الكلامية ولا أصالة لها. ولو لا تلك الفرق الضالة! لم يكن لهذه الأُصول عين ولا أثر ، حتّى أنّ مسألة تربيع الخلفاء تمّ الاتّفاق عليها في عصر الإمام أحمد ، وكان أكثر المحدّثين على التثليث.

قد ذكر ابن أبي يعلى بالاسناد إلى وديزة الحمصي قال : دخلت على أبي عبد الله أحمد بن حنبل حين أظهر التربيع بعلي - رضي الله عنه - فقلت له : يا أبا عبد الله إنّ هذا لطعن على طلحة والزبير ، فقال : بئس ما قلت وما نحن وحرب القوم وذكرها ، فقلت : أصلحك الله إنّما ذكرناها حين ربّعت بعلي وأوجبت له الخلافة وما يجب للأئمّة قبله ، فقال لي : وما يمنعني من ذلك؟ قال : قلت : حديث ابن عمر. فقال لي : عمر خير من ابنه فقد رضي علياً للخلافة على المسلمين وأدخله في الشورى ، وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قد سمّى نفسه أمير المؤمنين ، فأقول : أنا ليس للمؤمنين بأمير ، فانصرفتُ عنه. (1)

والحقّ أنّ الأُصول التي تبنّاها الإمام أحمد وبعده الإمام الأشعري أو جاءت

ص : 533


1- طبقات الحنابلة : 1 / 393.

في العقيدة الطحاوية هي أُصول استنبطها الإمام من الآيات والروايات فجعلها عقائد إسلامية يجب الإيمان بها ، وهي أولى بأن تسمّى : عقائد الإمام أحمد بدل أن تسمّى عقائد إسلاميّة.

الاعتقاد بعدالة الصحابة ليس من صميم الدين

هذا هو حال الخلافة التي جعلوها من الأُصول ولا تمّت إليها بصلة ، ولنبحث الآن مسألة عدالة الصحابة ، أي عدالة مائة ألف إنسان رأى النبيّ وشاهده أو عدالة خمسة عشر ألف صحابي سُجّلت أسماؤهم في المعاجم فقد هتفت الكتب الرجالية بعدالتهم على الإطلاق ، وحُرّم أيّ نقد علمي أو تاريخي في حقّهم ، بل عُدّ الناقد لهم خارجاً عن الإسلام مبطلاً لأدلة المسلمين على ما مرّ. (1)

إنّ الدارس لتاريخ حياة الصحابة يقف بوضوح على أنّ هذه الحالة القدسية التي يضفيها جمهور السنّة على الصحابة ليست إلاّ وليدة عصر متأخر عنهم ، ولم تزل هذه الحالة تزداد وتتّسع ، حتّى أصبحنا في عصر لا يمكن فيه لأحد أن يبحث في ممارسات الصحابة وسلوكيّاتهم ، ولا أن يشير إلى مواضع الألم في تاريخ تلك الحقبة ، حتّى ولو اعتمد القائل في قضائه على الآيات والروايات والتاريخ الصحيح ، بل يتّهم بأنّه زنديق ، وأنّ الجارح أولى بالجرح.

لقد تكوّنت هذه النظرية ونشأت عن العاطفة الدينية التي حملها المسلمون تجاه الرسول الأكرم وجرّتهم إلى تبنّي تلك الفكرة واستغلّتها السلطة الأموية لإبعاد الناس عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - أحد الثقلين الذين تركهما الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد رحيله لهداية الناس.

ص : 534


1- لاحظ ص 518 من هذا الكتاب.

والشاهد على أنّ هذه القداسة طارئة على فكر المجتمع الإسلامي ، هو تضافر الآيات على تصنيف الصحابة إلى أصناف مختلفة يجمعها من حسنت صحبته ومن لم تحسن ، كما تضافرت الروايات على ذمّ لفيف منهم ، وقد احتفل التاريخ بنزاعهم وقتالهم وقتلهم الأبرياء ، ومع ذلك كلّه فعدالة الصحابة من أوّلهم إلى آخرهم صارت كعقيدة راسخة في فكر المجتمع الإسلامي ، لا يجترئ أحد على التشكيك فيها إلاّ من تجرّد عن العقائد المسبقة وقدّم تبنّي الحقيقة على المناصب الدنيوية وزخارفها وابتاع لنفسه أنواع التهم والذموم.

وها نحن نذكر شيئاً من الآيات الصريحة في ذمّ لفيف منهم على نحو لا يبقى معه شكّ لمشكّك ولا ريب لمرتاب.

وهذا ما سيوافيك في الفصل التالي :

ص : 535

9- القرآن الكريم وعدالة الصحابة

اشارة

إنّ القرآن الكريم في مختلف سوره وآياته ينقد أقوال الصحابة وأفعالهم بوضوح كما أنّه في بعض آياته يثني على طائفة منهم ، فمن الخطأ أن نركّز على طائفة دون طائفة ، فها نحن ندرس في هذا الفصل بعض الآيات التي تنقد أفعالهم وآراءهم كما ندرس في الفصول القادمة الآيات المادحة.

1. تنبّؤ القرآن بارتداد لفيف من الصحابة

القرآن يتنبّأ بإمكان ارتداد بعض الصحابة بعد رحيل الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -. وذلك لمّا انهزم من انهزم من المسلمين يوم أُحد وقتل من قتل منهم. يقول ابن كثير : نادى الشيطان على أنّ محمّداً - صلى الله عليه وآله وسلم - قد قتل. فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس واعتقدوا أنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قد قتل وجوّزوا عليه ذلك ، فحصل ضعف ووهن وتأخّر عن القتال ، روى ابن نجيح عن أبيه إنّ رجلاً من المهاجرين مرّ على رجل من الأنصار وهو يتشحّط في دمه ، فقال له : يا فلان أشعرت أنّ محمّداً - صلى الله عليه وآله وسلم - قتل؟ فقال الأنصاري : إن كان محمّد قد قتل فقد بلّغ ، فقاتلوا عن دينكم. فأنزل الله

ص : 536

سبحانه قوله : (وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ). (1)

قال ابن قيّم الجوزية : كانت وقعة أُحد مقدّمة وإرهاصاً بين يدي محمّد - صلى الله عليه وآله وسلم - ونبّأهم ووبّخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله أو قتل. (2)

والظاهر من الارتداد هو الأعمّ من الارتداد عن الدين الذي جاهر به بعض المنافقين والارتداد عن العمل كالجهاد ومكافحة الأعداء وتأييد الحقّ إنساء ما أوصى به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -.

وهذه الآية تخبر عن إمكانية الانقلاب على الأعقاب بعد رحيل الرسول ، فهل يمكن أن يوصف بالعدالة التامّة الّتي هي أُخت العصمة من كان يُحتمل فيه تلك الإمكانية؟ ولذلك ترى أنّهم لا يرضون بنقد آراء الصحابة وأقوالهم.

2. ترك الرسول قائماً وهو يخطب

بينا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يخطب الجمعة قدمت عير المدينة فابتدرها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حتّى لم يبق معه إلاّ اثنا عشر رجلاً. فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : والذي نفسي بيده ، لو تتابعتم حتّى لا يبقى منكم أحد سال لكم الوادي ناراً ، فنزلت هذه الآية : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).

قال ابن كثير : يعاتب تبارك وتعالى على ما كان وقع ، من الانصراف عن

ص : 537


1- تفسير ابن كثير : 1 / 409 والآية 144 من سورة آل عمران.
2- زاد المعاد : 253.

الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة التي قدمت المدينة يومئذ ، فقال تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً) أي على المنبر تخطب ، هكذا ذكره غير واحد من التابعين منهم أبو العالية والحسن وزيد بن أسلم وقتادة وزعم بن حبّان أنّ التجارة كانت لدحية بن خليفة قبل أن يسلم وكان معها طبل ، فانصرفوا إليها وتركوا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قائماً على المنبر إلاّ القليل منهم ، وقد صحّ بذلك الخبر ، فقال الإمام أحمد : حدّثنا ابن إدريس ، عن حصين بن سالم بن أبي الجعد ، عن جابر ، قال : قدمت غير مرّة المدينة ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يخطب فخرج الناس وبقي اثنا عشر رجلاً فنزلت (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) أخرجاه في الصحيحين. (1)

أفمن يقدّم اللهو والتجارة على ذكر الله ويستخف بالنبيّ ، يكون ذا ملكة نفسانية تحجزه عن اقتراف المعاصي واجتراح الكبائر ، ما لكم كيف تحكمون؟

3. الخيانة بالنكاح سرّاً

شرّع الله سبحانه صوم شهر رمضان وحرّم على الصائم إذا نام ليلاً مجامعة النساء ، فكان جماعة من المسلمين ينكحون سرّاً وهو محرّم عليهم.

قال ابن كثير : كان الأمر في ابتداء الإسلام ، هو إذا أفطر أحدهم إنّما يحلّ له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو نام قبل ذلك فمتى نام أو صلّى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القادمة ، ثمّ إنّ أُناساً من المسلمين أصابوا من النساء والطعام في شهر رمضان بعد العشاء ، منهم عمر بن الخطاب ، فشكوا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فأنزل الله قوله : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ

ص : 538


1- تفسير ابن كثير : 4 / 378 ؛ صحيح البخاري : 1 / 316 ، كتاب الجمعة ، باب الساعة التي في يوم الجمعة ؛ صحيح مسلم : 2 / 590 كتاب الجمعة ، باب في قوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً ...).

الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ...). (1)

فهل يصحّ لنا أن نصف من خانوا أنفسهم بارتكاب الحرام بأنّهم عدول ذوي ملكة رادعة عن اقتراف الكبائر والإصرار على الصغائر؟! أو أنّ أكثرهم لم يكونوا حائزين تلك الملكة ، وإنّما كانوا على درجة متوسطة من الإيمان والتقوى وقد يغلب عليهم حبّ الدنيا ولذّاتها.

4. خيانة بعض البدريّين

يقول سبحانه : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ). (2)

قال ابن كثير : نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر ، فقال بعض الناس : لعلّ رسول الله أخذها فأكثروا في ذلك ، فأنزل الله : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وهذا تنزيه له - صلوات الله وسلامه عليه - من جميع وجوه الخيانة في أداء الأمانة وقسم الغنيمة ، ثمّ تبيّن أنّه قد غلّ بعض أصحابه. (3)

والآية تعرب عن مدى حسن ظنّهم واعتقادهم برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حتّى اتّهموه بالخيانة في الأمانة وتقسيم الأموال ، ثمّ تبين أنّه قد غلّه بعض أصحابه ، فهؤلاء الجاهلون بمكانة النبي ، أو من مارس الخيانة في أموال المسلمين لا يوصفون بالعدالة.

ص : 539


1- تفسير ابن كثير : 1 / 219 ؛ صحيح البخاري : 4 / 1639 ، كتاب التفسير ، وغيرهما ، والآية 187 من سورة البقرة.
2- آل عمران : 161.
3- تفسير ابن كثير : 1 / 421 ؛ تفسير الطبري : 4 / 155 في تفسير الآية ، إلى غير ذلك من المصادر.

وهذا حال البدريين ، لا الأعراب ولا الطلقاء ولا أبنائهم ولا المنافقين ، فكيف حال من أتى بعدهم؟ ولعمري أنّ من يقرأ هذه الآيات البيّنات وما ورد حولها من الأحاديث والكلمات ثمّ يصرّ على عدالة الصحابة جميعاً دون تحقيق فقد ظلم نفسه وظلم أُمّته.

5. فاسق يغرّ النبيّ وأصحابه

يقول سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ). (1)

أمر الله سبحانه بالتثبت في خبر الفاسق ليحتاط له لئلاّ يحكم بقوله فيكون في نفس الأمر كاذباً أو مخطئاً ، قال ابن كثير : قد ذكر كثير من المفسّرين أنّ الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على صدقات بني المصطلق إلى حارث بن ضرار وهو رئيسهم ليقبض ما كان عنده ممّا جمع من الزكاة ، فلمّا أن سار الوليد حتّى بلغ بعض الطريق فرق - أي خاف - فرجع حتّى أتى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال : يا رسول الله إنّ الحارث قد منعني الزكاة وأراد قتلي ، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وبعث البعث إلى الحارث - رضي الله عنه - وأقبل الحارث بأصحابه حتّى إذا استقبل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث ، فقالوا : هذا الحارث. فلمّا غشيهم قال لهم : إلى من بعثتم؟ قالوا : إليك. قال : ولم؟ قالوا : إنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنّك منعته الزكاة وأردت قتله ، قال رضي الله عنه : لا والذي بعث محمّداً - صلى الله عليه وآله وسلم - بالحقّ ما رأيته بتة ولا أتاني ، فلمّا دخل الحارث على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : منعتَ الزكاة وأردتَ قتل رسولي؟ قال : لا ،

ص : 540


1- الحجرات : 6.

والذي بعثك بالحقّ ما رأيته ولا أتاني ، وما أقبلت إلاّ حين احتبس عليّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - خشيت أن تكون سخطة من الله تعالى ورسوله ، قال : فنزلت الحجرات : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) إلى قوله : (حَكِيمٌ). (1)

6. تنازعهم في الغنائم إلى حدّ التخاصم

إنّ صحابة النبي بعد انتصارهم على المشركين في غزوة بدر ، استولوا على أموالهم وتنازعوا فيها إلى حدّ التخاصم ، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب.

وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم أحقّ بها منّا ونحن منعنا عنه العدوّ وهزمناهم.

وقال الذين أحدقوا برسول الله : لستم بأحقّ بها منّا نحن أحدقنا برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وخفنا أن يصيب العدوّ منه غرّة واشتغلنا به فنزل : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). (2)

قال ابن كثير : سأل أبو أمامة عبادة عن الأنفال؟ قال فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا ، فانتزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول الله ، فقسّمه رسول الله بين المسلمين عن سواء. (3)

وفي الآية إلماعات إلى سوء أخلاقهم حيث يعظ سبحانه هؤلاء السائلين ويأمرهم بأُمور ثلاثة بقوله :

ص : 541


1- تفسير ابن كثير : 4 / 209.
2- الأنفال : 1.
3- تفسير ابن كثير : 2 / 283.

1. (فَاتَّقُوا اللهَ) في أُموركم وأصلحوا فيما بينكم ولا تظالموا ولا تخاصموا ولا تشاجروا ، فما آتاكم الله من الهدى والعلم خير ممّا تختصمون بسببه.

2. (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) : أي لا تسبّوا.

3. (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) : أي لا تخالفوه ولا تشاجروا. (1)

فالإمعان في الآيات النازلة حول هؤلاء المتنازعين والروايات الواردة في تفسير الآية ، لا تدع مجالاً للشكّ في أنّ لفيفاً من الحاضرين في غزوة بدر لم يبلغوا مرحلة عالية تميزهم عن غيرهم ، بل كانوا كسائر الناس الذين يتنازعون على حطام الدنيا وزبرجها دون أن يستشيروا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في أمرها ، ويسألونه عن حكمها ، أفهؤلاء الذين كانوا يتنازعون على حطام الدنيا ، يصبحون مُثُلاً للفضيلة وكرامة النفس والطهارة؟!

7. استحقاقهم مسَّ عذاب عظيم

كانت السنّة الجارية في الأنبياء الماضين انّهم إذا حاربوا أعداءهم وظفروا بهم ينكّلون بهم بالقتل ليعتبر به من وراءهم حتّى يكفّوا عن عدائهم لله ورسوله ، وكانوا لا يأخذون أسرى حتّى يثخنوا في الأرض ويستقر دينهم بين الناس ، فعند ذلك لم يكن مانع من الأسر ، ثمّ يعقبه المنّ أو الفداء.

يقول سبحانه في آية أُخرى : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) (2) فأجاز أخذ الأسر ، لكن بعد الإثخان في الأرض واستتباب الأمر.

ص : 542


1- تفسير ابن كثير : 2 / 285.
2- محمد : 4.

غير أنّ لفيفاً من الصحابة كانوا يصرون على النبي بالعفو عنهم وقبول الفداء منهم (قبل الإثخان في الأرض) فأخذوا الأسرى ، فنزلت الآية في ذم هؤلاء وعرّفهم بأنّهم استحقوا مسَّ عذاب عظيم لو لا ما سبق كتاب من الله ، يقول سبحانه : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ). (1)

والمستفاد من الآيتين أمران :

الأوّل : انّ الحافز لأكثرهم أو لفئة منهم هو الاستيلاء على عرض الدنيا دون الآخرة كما يشير إليه سبحانه بقوله : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ). (2)

الثاني : لقد بلغ عملهم من الشناعة درجة ، بحيث استحقُّوا مسَّ عذاب عظيم ، غير أنّه سبحانه دفع عنهم العذاب لما سبق منه في الكتاب ، قال سبحانه : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ) أخذ الأسرى (عَذابٌ عَظِيمٌ).

فقوله : (عَذابٌ عَظِيمٌ) يعرب عن عظم المعصية التي اقترفوها حتّى استحقوا بها العذاب العظيم.

أفيمكن وصف من أراد عرض الدنيا مكان الآخرة واستحقّ مس عذاب عظيم بأنّه ذو ملكة نفسانية تصده عن اقتراف الكبائر والإصرار على الصغائر ، كلاّ ، ولا.

ص : 543


1- الأنفال : 67 - 69.
2- الأنفال : 67.
8. الفرار من الزحف

لقد دارت الدوائر على المسلمين يوم أُحد ، لأنّهم عصوا أمر الرسول وتركوا مواقعهم على الجبل طمعاً في الغنائم فأصابهم ما أصابهم من الهزيمة التي ذكرتها كتب السيرة والتاريخ على وجه مبسوط. وبالتالي تركوا النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - في ساحة الحرب وليس معه إلاّ عدد قليل من الصحابة ، ولم تنفع معهم دعواته - صلى الله عليه وآله وسلم - بالعودة إلى ساحة القتال ونصرته ، فقد خذلوه في تلك الساعات الرهيبة ، وأخذوا يلتجئون إلى الجبال حذراً من العدو ، ويتحدّث سبحانه تبارك وتعالى عن تلك الهزيمة النكراء بقوله : (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ). (1)

فالخطاب موجّه للذين انهزموا يوم أُحد ، وهو يصف خوفهم من المشركين وفرارهم يوم الزحف ، غير ملتفتين إلى أحد ، ولا مستجيبين لدعوة الرسول ، حين كان يناديهم من ورائهم ويقول : هلم إليَّ عباد الله أنا رسول الله ... ومع ذلك لم يُجبه أحد من المولّين.

والآية تصف تفرقهم وتولّيهم على طوائف أُولاهم بعيدة عنه ، وأُخراهم قريبة ، والرسول يدعوهم ولا يجيبه أحد لا أوّلهم ولا آخرهم ، فتركوا النبيّ بين جموع المشركين غير مكترثين بما يصيبه من القتل أو الأسر أو من الجراح.

نعم كان هذا وصف طوائف منهم وكانت هناك طائفة أُخرى ، التفت حول النبي ودفعت عنه شرّ الأعداء ، وهم الذين أُشير إليهم بقوله سبحانه :

ص : 544


1- آل عمران : 153.

(وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ). (1)

ثمّ إنّه سبحانه يصرح بتولّيهم وفرارهم عن الجهاد وينسب زلّتهم إلى الشيطان ويقول : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ). (2) وليس هؤلاء من أصحاب النفاق (لأنّ المنافق لا يُغفر له ولا يعفى عنه) بل من الصحابة العدول!

9. نسبة الغرور إلى الله ورسوله

إنّ غزوة الأحزاب من المغازي المعروفة في الإسلام ، حيث اتحد المشركون واليهود للانقضاض على الإسلام ، فحاصروا المدينة وهم عشرة آلاف مدجّجين بالسلاح ، وحفر المسلمون خندقاً حول المدينة لمنع العدو من اقتحامها وقد طال الحصار نحو شهر.

وفي هذه الغزوة امتحِن أصحابُ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وزلزلوا زلزالاً عظيماً ، وتبيّن الثابت من المستزلّ ، وانقسم أصحابه إلى قسمين :

1. المؤمنون وشعارهم (هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً). (3)

2. المنافقون والذين في قلوبهم مرض وشعارهم : (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً). (4)

فضعفاء الإيمان من المؤمنين كانوا يظنون بالله انّه وعدهم وعداً غروراً ، فهل

ص : 545


1- آل عمران : 144.
2- آل عمران : 155.
3- الأحزاب : 22.
4- الأحزاب : 12.

يصحّ وصف هؤلاء بالعدالة والتزكية؟! وهم - طبعاً - غير المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ، ويدلّ على ذلك ، عطف (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) على المنافقين ، قال سبحانه : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ).

ومن يمعن النظر في الآيات الواردة حول غزوة الأحزاب يعرف مدى صمود كثير من الصحابة أمام ذلك السيل الجارف ، فإنّ كثيراً منهم كانوا يستأذنون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - للرجوع إلى المدينة بحجة انّ بيوتهم عورة ويقول سبحانه : (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً). (1)

10. المنافقون المندسّون بين الصحابة

لقد شاع النفاق بين الصحابة منذ نزول النبي ، بالمدينة ، وقد ركّز القرآن على عصبة المنافقين وصفاتهم ، وفضح نواياهم ، وندّد بهم في السور التالية : البقرة ، آل عمران ، المائدة ، التوبة ، العنكبوت ، الأحزاب ، محمد ، الفتح ، الحديد ، المجادلة ، الحشر ، والمنافقون.

وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ المنافقين كانوا جماعة هائلة في المجتمع الإسلامي ، بين معروف عرف بسمة النفاق ووصمة الكذب ، وغير معروف بذلك ، ولأنّه مقنّع بقناع الإيمان والحب للنبي ، فلو كان المنافقون جماعة قليلة غير مؤثرة لما رأيت هذه العناية البالغة في القرآن الكريم.

وهناك ثلة من المحقّقين ألّفوا كتباً ورسائل حول النفاق والمنافقين ، وقد قام بعضهم بإحصاء ما يرجع إليهم فبلغ مقداراً يقرب من عشر القرآن الكريم.

ص : 546


1- الأحزاب : 13.

ومع ذلك فهل يمكن عد جميع من صحب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عدولاً؟!

نعم المنافقون ليسوا من الصحابة ولكنّهم كانوا مندسّين فيهم ، وعند ذلك فكثيراً ما يشتبه الصحابي الصادق بالمنافق ، ولا يتميّز المنافق عن المؤمن ، حتّى أنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ربما كان لا يعرفهم ، يقول سبحانه : (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ). (1)

فهذا يجر الباحث - الذي يريد الإفتاء على ضوء ما قاله الصحابة - التفتيش عن حال الصحابي حتّى يعرف المنافق عن غيره ، فلو اشتبه الحال فلا يكون قوله ولا روايته حجّة.

هذا بعض قضاء القرآن في حق الصحابة ، ولسنا بصدد الاستقصاء بأنّ أصناف الصحابة المجانبين للعدالة ، أكثر (2) ممّا ذكرنا لكن التفصيل لا يناسب وضع الكتاب.

ص : 547


1- التوبة : 101.
2- كالسّماعين (التوبة : 4745 ،) خالطوا العمل الصالح بغيره (التوبة : 102) ، المسلمون غير المؤمنين (الحجرات : 14) ، المؤلفة قلوبهم (التوبة : 60).

10- السنّة النبوية وعدالة الصحابة

اشارة

درسنا عدالة الصحابة في ضوء القرآن الكريم وخرجنا بالنتيجة التالية : انّ حال الصحابة كحال التابعين ، ففيهم عادل وفاسق ، وصالح وطالح ، منهم من يُستدرّ به الغمام ومنهم من دون ذلك.

ومن حسن الحظ انّ السنّة النبوية تدعم ذلك الموقف ، فلنذكر منها نزراً قليلاً حسب ما يقتضيه وضع الرسالة.

1. زعيم الفئة الباغية

روى مسلم عن أبي سعيد قال : أخبرني من هو خير منّي - أبو قتادة - انّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال لعمّار حين جعل يحفر الخندق وجعل يمسح رأسه ويقول : بُؤسَ ابنُ سمية تقتلك فئة باغية. (1)

وروى البخاري عن أبي سعيد انّه قال : كنّا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين ، فرآه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فجعل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ينفض التراب عنه ويقول : ويح عمار

ص : 548


1- جامع الأُصول : 9 / 42 برقم 6580.

يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار.

قال الحميدي في هذا الحديث زيادة مشهورة لم يذكرها البخاري أصلاً من طريق هذا الحديث ، ولعلّها لم تقع إليه فيها ، أو وقعت فحذفها لغرض قصده في ذلك ، وأخرجها أبو بكر البرقاني ، وأبو بكر الإسماعيلي قبله ، وفي هذا الحديث عندهما انّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : ويح عمّار ، تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ، ويدعونه إلى النار. (1)

وقد كشف الحميدي عن نوايا البخاري انّه ربما يتلاعب بالحديث فيحذف بعض أجزائه لغرض معيّن ، وهو إنّما حذف هذه الجملة المشهورة ، أعني : «تقتله الفئة الباغية» بقصد تبرئة معاوية ، وتبرير أعماله.

ونحن نسأل القائلين بعدالة الصحابة من هي الفئة الباغية التي قتلت عماراً؟! وهل كان فيها من صحابة النبي من يؤيّد موقف الفئة الباغية؟! لا شكّ انّ معاوية كان يترأس الفئة الباغية وكان عمرو بن العاص وزيره في الحرب ، وكان انتصار معاوية في حرب صفين رهن مكيدة عمرو بن العاص ، وكان بين الفئة الباغية من الصحابة النعمان بن بشير الأنصاري ، وعُقْبة بن عامر الجهني ، وأبو الغادية يسار بن سبع الجهني وغيرهم.

2. عصيان أمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بإحضار القلم والدواة

قد روى أصحاب الصحاح انّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أمر بإحضار القلم والدواة ليكتب كتاباً لا يضلّوا بعده أبداً ، وقد حال بعض الحاضرين بينه وبين ما يروم إليه ، وقد أخرجه البخاري في غير مورد من صحيحه.

ص : 549


1- جامع الأُصول : 9 / 44 برقم 6583.

ففي كتاب العلم أخرج عن ابن عباس انّه قال : لما اشتدّ بالنبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وجعه ، قال : «ائتوني بكتاب اكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده» ، قال عمر : إنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - غلبه الوجع ، وعندنا كتاب الله حسبنا ، فاختلفوا وكثر اللغط ، قال : «قوموا عنّي ولا ينبغي عندي التنازع» فخرج ابن عباس يقول : إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وبين كتابه. (1)

وأخرج أيضاً عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنّه قال : يوم الخميس وما يوم الخميس ، ثمّ بكى حتّى خَضَبَ دمعُه الحصباءَ ، فقال : اشتدّ برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وجعه يوم الخميس ، فقال : «ائتوني بكتاب اكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً». فتنازعوا ، ولا ينبغي عند نبي تنازع ، فقالوا : هجر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ قال : «دعوني فالذي أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه». (2)

وهنا نكتة لا بدّ من إلفات القارئ إليها وهي : انّ فعل النبي (طلب الكتاب) ، نسب في الصورة الأُولى إلى غلبة الوجع وعند ذاك سمّي القائل به وهو عمر ، وفي الصورة الثانية نسب إلى الهجر والهذيان ، ولم يذكر اسم القائل ، وجاء مكان «عمر» لفظة : «قالوا».

ولما كانت الصورة الأُولى أخف وطأة من الثانية ، جاء فيها ذكر القائل دون الثانية.

والقائل في الجميع واحد.

ويذكره أيضاً بشكل آخر في موضع ثالث ، يقول :

اشتدّ برسول الله وجعه فقال : «ائتوني بكتف اكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده

ص : 550


1- صحيح البخاري : 1 / 38 ، برقم 114.
2- صحيح البخاري : 2 / 287 ، برقم 3053.

أبداً» فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع ، فقالوا : ماله أهجر؟ استفهموه ، فقال : «ذروني فالذي أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه». (1)

وفي صورة رابعة قال بعضهم : إنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قد غلبه الوجع وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله ، فاختلف أهل البيت واختصموا ، فمنهم من يقول : قرّبوا يكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده ، ومنهم من يقول غير ذلك ، فلمّا أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : قوموا. (2)

أُنشدك بالله انّ من يخالف أمر النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي تدلّ القرائن على كونه إلزامياً ، ثمّ يصف أمره بأنّه نتيجة غلبة الوجع أو الهجر والهذيان هل يوصف هذا بأنّه صاحب ملكة رادعة عن اقتراف المحرمات؟!

وما أبعد ما بين وصف هؤلاء وبين وصفه سبحانه لنبيّه الكريم بقوله : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى).

كيف يقول ذلك الصحابي حسبنا كتاب الله؟! فلو كان هذا صحيحاً فلما ذا ألف المسلمون الصحاح والسنن والمسانيد؟!

3. الانقلاب على الأعقاب بعد رحيل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -
اشارة

1. أخرج البخاري وعن أبي حازم قال : سمعت سهل بن سعد يقول : سمعت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول : أنا فَرَطُكُم على الحوض من ورده شرب منه ، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبداً ، ليرد عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ثمّ يحال بيني وبينهم.

ص : 551


1- صحيح البخاري : 2 / 321 ، برقم 3168
2- صحيح البخاري : 3 / 132 برقم 4432 ، ولاحظ أيضاً : 4 / 10 برقم 5669 ورقم 7366.

قال أبو حازم : فَسَمِعَني النعمان بن أبي عيّاش وأنا أُحدِّثهم هذا ، فقال : هكذا سمعتَ سهلاً؟ فقلت : نعم ، قال : وأنا أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعتُه يزيد فيه قال : إنّهم منّي ، فيقال : إنّك لا تدري ما بدّلوا بعدك ، فأقول : سُحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي. (1)

2. أخرج البخاري عن المغيرة ، قال سمعت أبا وائل ، عن عبد الله رضي الله عنه ، عن النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : أنا فَرَطُكم على الحوض ، وليرفعنّ رجال منكم ثمّ ليُختلجُنَّ دوني ، فأقول : يا ربّ أصحابي ، فقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك. (2)

3. أخرج البخاري عن أنس ، عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : ليردَنَّ عليّ ناس من أصحابي الحوض حتّى إذا عرفتهم ، اختُلِجُوا دوني فأقول : أصحابي؟! فيقول : لا تدري ما أحدثوا بعدك. (3)

4. أخرج البخاري عن سهل بن سعد قال ، قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : إنّي فَرَطُكم على الحوض من مرّ عليّ شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً ، ليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ثمّ يحال بيني وبينهم. (4)

5. أخرج البخاري عن أبي هريرة انّه كان يحدث انّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيحلّئون عن الحوض ، فأقول : يا رب أصحابي ، فيقول : إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، انّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى. (5)

6. أخرج البخاري عن أبي المسيب انّه كان يحدِّث عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -

ص : 552


1- صحيح البخاري : 4 / 355 ، برقم 7050 و 7051.
2- صحيح البخاري : 4 / 227 ، برقم 6576.
3- صحيح البخاري : 4 / 228 ، برقم 6582 ، 6583 ، 6585.
4- صحيح البخاري : 4 / 228 ، برقم 6582 ، 6583 ، 6585.
5- صحيح البخاري : 4 / 228 ، برقم 6582 ، 6583 ، 6585.

انّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : يرد عليّ الحوض رجال من أصحابي فيحلّئون عنه ، فأقول : يا ربّ أصحابي ، فيقول : إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى. (1)

7. أخرج البخاري عن ابن عباس في حديث : ... ثمّ يؤخذ برجال من أصحابي ذات اليمين وذات الشمال ، فأقول : أصحابي ، فيقال : إنّهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم ، فأقول كما قال العبد الصالح عيسى ابن مريم : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) - إلى قوله : - (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (2). (3)

8. أخرج البخاري عن العلاء بن المسيب قال : لقيت البراء بن عازب فقلت : طوبى لك صحبت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وبايعته تحت الشجرة ، فقال : يا ابن أخي انّك لا تدري ما أحدثنا بعده. (4)

9. أخرج ابن أبي شيبة عن أبي بكرة انّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : ليردنّ على الحوض رجال ممّن صحبني ورآنى حتّى إذا رفعوا إليّ اختلجوا دوني فلأقولنّ : ربّي أصحابي! فليُقالَنّ إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك. (5)

10. أخرج مسلم عن أسماء بنت أبي بكر ، قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : إنّي على الحوض حتّى أنظر من يرد عليّ منكم ، وسيؤخذ أُناس دوني ، فأقول : يا ربّ منّي ومن أُمّتي ، فيقال : أما شعرت ما عملوا بعدك ، والله ما برحوا بعدك يرجعون

ص : 553


1- صحيح البخاري : 4 / 227 - 228 ، برقم 6586.
2- المائدة : 117 - 118.
3- صحيح البخاري : 2 / 402 ، كتاب أحاديث الأنبياء ، برقم 3447.
4- صحيح البخاري : 3 / 64 ، كتاب المغازي برقم 4170.
5- مصنّف ابن أبي شيبة : كتاب الفضائل برقم 35 ؛ مسند أحمد : 5 / 48.

أعقابهم.

قال : فكان ابن أبي مليكة يقول : اللهم إنّا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا وأن نفتن عن ديننا. (1)

وتنتهي أسانيد هذه الروايات إلى شخصيات نظراء ، سهل بن سعد ، أبي وائل عن عبد الله ، أنس بن مالك ، أبي هريرة ، ابن المسيب ، واقتصرنا بما رواه البخاري وتركنا ما نقله غيره ، وما ظنّك بحديث يرويه الإمام البخاري وقد نقل شيئاً منه في الفتن ، وقسماً أكثر في باب الحوض.

ولا بدّ من الكلام في مقامين :

الأوّل : من هم الذين أخبر النبي عن ارتدادهم بعد رحيله؟

الثاني : ما هو المراد من ارتدادهم؟

أمّا الأوّل : فالقرائن القطعية تدلّ على انّ المراد ، بعض أصحابه الذين عاشوا معه وكان يعرفهم وهم يعرفونه واجتمعوا معه في فترة زمنية ، وليس هؤلاء إلاّ لفيف من أصحابه ، والدليل على ذلك ما جاء في متونها من الكلمات التالية :

1. ليردنّ علي أقوام أعرفهم ويعرفونني كما في رقم 1 ، 4.

2. حتّى إذا عرفتهم اختلجوا دوني (رقم 3).

3. أنا فرطكم على الحوض وليرفعن رجال منكم (رقم 2).

4. فأقول : يا ربّ أصحابي (رقم 3 ، 5 ، 6).

إذا كان من علائم هؤلاء :

1. انّ الرسول يعرفهم وهم يعرفونه ، وانّهم من رجال عصر الرسول (رجال

ص : 554


1- شرح صحيح مسلم للنووي : 15 / 61 برقم 2293.

منكم) لا من الأجيال المستقبلة ، فهؤلاء أصحابه الذين عاشوا معه في عصر الرسالة ، حتّى استحقوا بأن يصفهم النبي عند الاستغاثة بقوله : «يا رب أصحابي».

فلا أظن من يدرس هذه الروايات الواردة الصحيحين وغيرهما بتجرّد وموضوعية أن يدور في خلده ، انّ المراد من الذين ارتدوا على أدبارهم ، أُمّته الذين أتوا بعده وعاشوا في أحقاب بعيدة عن عصر الرسول ، ولم يكن فيها من وجود الرسول عين ولا أثر ، إذ لو كان هذا هو المراد ، فمتى عاش معهم النبي ، حتّى عرفهم وعرفوه؟ ومتى كانوا معه حتّى صحّ وصفهم بقوله : «رجال منكم» ومتى صحبوه (فترة قصيرة أو طويلة) وصاروا أصحابه؟

ومن التجنّي على الحقيقة القول : «بأنّ جميع الأُمّة أصحاب النبي ، كما أنّ جميع من يقلّدون الشافعي مثلاً أصحابه» فانّ هذا التفسير في المقيس عليه ممنوع فكيف المقيس؟ فأصحاب الشافعي هم الذي تربّوا على يديه والتفُّوا حوله وانتفعوا بعلمه ، وأمّا الذين جاءوا بعده ولم يشاهدوه فهم أتباعه ، لا أصحابه ، فلو صح إطلاق الأصحاب عليهم ، فإنّما هو إطلاق مجازي لا حقيقي.

وأمّا المقيس فالحال فيه واضحة.

فالصحابة ، في الروايات والآثار ، هم الذين أقاموا مع رسول الله فترة من الزمن ، أو رأوا رسول الله وأدركوه وأسلموا ، إلى غير ذلك من التعاريف التي ذكرها الجزري في «أُسد الغابة». (1)

وليس هذا المورد إلاّ كسائر الموارد التي وردت فيها كلمة الصحابة ، مثلاً رووا عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنّه قال : «لا تسبُّوا أصحابي» كما رووا عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنّه قال : مثل

ص : 555


1- أُسد الغابة : 1 / 1211.

أصحابي كالنجوم ، إلى غير ذلك من الموارد ، فالمراد من الجميع هو المعنى المصطلح.

وقد ألّف غير واحد من الرجاليين كتباً في حياة الصحابة ، كالاستيعاب لابن عبد البرّ ، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر ، وإلى غير ذلك من الموارد التي أُطلقت فيها كلمة الصحابة وأُريد بها ، من كانوا وعاشوا معه.

إنّ المتبادر من قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك» ، أو «إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك» أو «إنّهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى» ، هو انّهم كانوا معك ولكن اقترفوا هذه الجريمة بعد رحيل الرسول ، دون فاصل زماني طويل ، وقد كان المترقب من هؤلاء الذين رأوا شمس الرسالة واستضاءوا بها ، أن يتّبعوا دينه وشريعته ولا يعدلوا عنه قيد شعرة ، ولكنّهم - للأسف - ارتدوا على أدبارهم القهقرى.

هذا كلّه حول الأمر الأوّل ، أعني : رفع الستر عن هؤلاء الذين ارتدوا وبدلوا.

وأمّا الأمر الثاني ، فهل المراد من الارتداد هو الخروج عن الدين ، أو المراد من الارتداد هو الأعم من الرجوع عن العقيدة ، أو السلوك على غير ما أوصى به النبي في غير واحد من الأُمور؟ ، ولعل المراد هو الثاني حيث إنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أوصى بالثقلين وأهل بيته ، فخالفوا وصية الرسول ، كما أنّهم خالفوا في كثير من الأحكام ، المذكورة في محلّها ، فقدّموا الاجتهاد على النصّ ، والمصلحة المزعومة على أمره ، وبذلك أحدثوا في دينه بدعاً ، ليس لها في الكتاب والسنّة أصل.

موقف النبي ممّن لم تحسن صحبته
اشارة

ما مرّ من الروايات لا تهدف شخصاً معيّناً بالذكر ، وهناك روايات تخص

ص : 556

بعض الصحابة بالذكر من الذين لم تحسن صحبتهم ويخبر عن سوء مصيرهم ويندد بسوء عملهم ، وهي كثيرة ، ونذكر منها النزر اليسير :

1. كلّهم مغفور له إلاّ

أخرج مسلم عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : من يصعد ، الثنيّة ، ثنيّة المُرار فانّه يحطّ عنه ، ما حطّ عن بني إسرائيل قال : فكان أوّل من صعدها ، خيَلنا خيلَ بني الخزرج ثمّ تتامّ الناس ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «وكلّهم مغفور له إلاّ صاحب الجمل الأحمر» فأتيناه فقلنا له : تعال يستغفر لك رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فقال : والله لأن أجد ضالّتي أحبّ إليّ من أن يستغفر لي صاحبكم ، وكان رجل ينشد ضالّة له. (1)

إنّ مسلماً وان ذكره في كتاب صفات المنافقين ، لكنّه لا دليل على أنّه كان منهم ، بل كان من ضعفاء الإيمان ، أو مرضى القلوب ، أو السمّاعين ، إلى غير ذلك من الأصناف المتوفرة في صحابة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وقد ذكر الشراح انّه كان الجدّ بن قيس الأنصاري.

وروى مسلم بعد هذا الحديث عن أنس بن مالك قال : كان منّا رجل من بني النجّار قد قرأ البقرة وآل عمران ، وكان يكتُب لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فانطلق هارباً حتّى لحق بأهل الكتاب قال فرفعوه ، قالوا : هذا كان يكتب لمحمد ، فأُعجبوا به ....

2. اللهم إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد

أخرج البخاري عن سالم ، عن أبيه قال : بعث النبي خالد بن الوليد إلى بني

ص : 557


1- صحيح مسلم : 8 / 223 ، صفات المنافقين وأحكامهم.

جذيمة ، فدعاهم إلى الإسلام فلم يُحسِنُوا أن يقولوا أسلمنا ، فجعلوا يقولون : صبأنا صبانا ، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر ، ودفع إلى كلّ رجل منّا أسيره ، حتّى إذا كان يوم ، أمر خالد أن يقتل كلّ رجل منّا أسيره ، فقلت : والله لا أقتل أسيري ، ولا يَقْتُل رجل من أصحابي أسيره حتّى قدمنا على النبي فذكرناه ، فرفع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يده فقال : «اللهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد» مرّتين. (1)

هذا هو سيف الإسلام ، وبطله يقتل الأبرياء واحداً بعد الآخر ، ويتبرأ النبي الأعظم من جريمته ولكنّه يُصبح بعد رحيل الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - رجلاً بارّاً وسيفاً مسلولاً سلّه رسول الله ولا يُغمد ، وإن زنى بزوجة مالك بن نويرة وقتله ، فما حال غيره!

3. تنبّؤه بمصير ذي الخويصرة

أخرج البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بينما نحن عند رسول الله وهو يقسم قسماً ، أتاه ذو الخويصرة ، وهو رجلٌ من بني تميم ، فقال : يا رسول الله اعدل ، فقال : «ويلك ، ومن يعدل إذا لم أعدل ، قد خِبتُ وخسرتُ إن لم أكن أعدِلُ». فقال عمر : يا رسول الله ، ائذَن لي فيه فأضرِبَ عُنقَهُ؟ فقال : «دَعْهُ ، فإنّ له أصحاباً يحقِّرُ أحدكم صلاتَه مع صلاتهم ، وصيامَه مع صيامهم ، يقرءون القرآن لا يُجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدِّين كما يمرقُ السَّهم من الرّمية».

4. انّ فيك شعبة من الكفر

قد سبّ أبو هريرة رجلاً بأُمّ له في الجاهلية فاستعدى رسول الله على أبي

ص : 558


1- صحيح البخاري ، كتاب المغازي ، باب بعث النبي خالد بن الوليد ، الحديث 4339.

هريرة ، فقال له رسول الله : «إنّ فيك شعبة من الكفر» فحلف أبو هريرة أن لا بسب بعده مسلماً. (1)

5. امتناع الرسول من الصلاة على أحد أصحابه

أخرج الحاكم في مستدركه عن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - انّ رجلاً من أصحاب رسول الله توفّي يوم حنين أو خيبر ، فامتنع - صلى الله عليه وآله وسلم - من الصلاة عليه ، لأنّه غلّ في سبيل الله ففتّشوا متاعه فوجدوا خِرزاً من خرز اليهود لا يساوي درهمين. (2)

6. تنبّؤ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالمصير الأسود لبعض أصحابه

أخرج البخاري عن أبي هريرة قال شهدنا خيبر ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لرجل ممّن معه يدّعي الإسلام : «هذا من أهل النّار». فلمّا حضر القتال قاتل الرجل أشدّ القتال حتّى كثُرت به الجِراحَة ، فكادَ بعض الناس يرتاب ، فوجد الرّجل ألمَ الجِراحَة ، فأهوى بيده إلى كنانته ، فاستخرج منها أسهماً فنَحَر بها نفسه ، فاشتدّ رجال من المسلمين فقالوا : يا رسول الله ، صدّق الله حديثك ، انتحَر فلانٌ فقتل نفسه ، فقال : «قم يا فلانُ ، فأذِّن أنّه لا يدخلُ الجنّة إلاّ مؤمنٌ ، إنّ الله يُؤيِّد الدّين بالرَّجلِ الفاجر». (3)

7. صحابي يخلو بامرأة

روى ابن كثير في تفسير قوله سبحانه : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ)

ص : 559


1- مجمع الزوائد : 8 / 86 ، كتاب الأدب ، باب في من يُعيّر بالنسب أو غيره.
2- مستدرك الحاكم : 2 / 127 ، كتاب الجهاد ؛ مسند أحمد : 4 / 114.
3- صحيح البخاري : 3 / 73 ، برقم 4203.

قال : روى الإمام أبو جعفر بسنده عن أبي اليسر كعب بن عمرو الأنصاري قال : أتتني امرأة تبتاع منّي بدرهم تمراً ، فقلت : إنّ في البيت تمراً أجود من هذا ، فدخلت فأهويت إليها فقبّلتها ، فأتيت عمر فسألته فقال : اتّق الله واستر على نفسك ولا تخبرن أحداً ، فلم أصبر حتّى أتيت أبا بكر فسألته فقال : اتّق الله واستر على نفسك ولا تخبرن أحداً ، قال : فلم أصبر حتّى أتيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فأخبرته فقال : «أخلفت رجلاً غازياً في سبيل الله في أهله بمثل هذا؟» حتّى ظننت انّي من أهل النار حتّى تمنيتُ انّي أسلمت ساعتئذ ، فأطرق رسول الله ساعة فنزل جبريل ، فقال أبو اليسر : فجئت فقرأ عليّ رسول الله : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) فقال إنسان : يا رسول الله له خاصة أم للناس عامة؟ قال : «للناس عامة». (1)

8. صحابي يجلس بين رجلي امرأة

أخرج عبد الرزاق عن يحيى بن جعدة انّ رجلاً من أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - ذكر امرأة وهو جالس مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فاستأذنه لحاجة ، فأذن له ، فذهب يطلبها فلم يجدها ، فأقبل الرجل يريد أن يبشر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالمطر ، فوجد المرأة جالسة على غدير فدفع في صدرها وجلس بين رجليها فصار ذكره مثل الهدبة ، فقام نادماً حتّى أتى النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فأخبره بما صنع فقال له «استغفر ربّك وصلّ أربع ركعات» قال : وتلا عليه : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) الآية. (2)

ص : 560


1- تفسير ابن كثير : 2 / 463 والآية 113 من سورة هود.
2- تفسير ابن كثير : 2 / 463.
9. صحابي يُقتص منه

وهذا حارث بن سويد بن الصامت شهد بدراً لكنّه قتل المِجذَر بن زياد يوم أُحد لثأر جاهلي فقُتِل بأمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. يقول ابن الأثير : «لا خلاف بين أهل الأثر انّ هذا قتله النبي بالمجذر بن زياد ، لأنّه قتل المجذر يوم أُحد غيلة. (1)

10. دعاء النبي على مُحلم بن جثامة

خرج هو ومعه نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة حتّى إذا كانوا ببطن «اضم» مرّ بهم عامر بن الاضبط الأشجعي على بعير له ، وسلم عليهم بتحية الإسلام ، وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله لشيء كان بينه وبينه وأخذ بعيره ومتاعه ، فلمّا قدموا على رسول الله وأخبروه الخبر ، فنزل فيهم قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) الآية. (2)

وفي تفسير ابن كثير قال له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : لا غفر الله لك. (3)

هذه نماذج من أصحاب النبي الذين اقترفوا المعاصي في حياة النبي وتنبّأ النبي بسوء مصيرهم ، أو ندد بعملهم ، وإلاّ فالمجروحون من أصحابه كثير. وكفى في نقض الموجبة الكلية (الصحابة كلّهم عدول) القضية الجزئية.

ص : 561


1- أُسد الغابة : 1 / 332.
2- أُسد الغابة : 4 / 309 ؛ النساء : 94.
3- تفسير ابن كثير : 1 / 539.

11- عدالة الصحابة والتاريخ الصحيح

اشارة

لقد أوقفك الامعان في آيات الذكر الحكيم والسنّة النبوية على أنّ الصحابة لم يكونوا على وتيرة واحدة ، فكان فيهم الصالح والطالح ، والعادل والفاسق ، ومن حسنتْ صحبتُه ، ومن ساءتْ ، وبذلك انثلمتِ القاعدةُ العامّة المدّعاة في حقّ الصحابة وهي : «انّ الصحابة كلّهم عدول» ، وقد بُرْهن في المنطق على أنّ نقيض الموجبة الكلية هو السالبة الجزئية ، وما ذكرناه من النماذج ليس إلاّ سوالب جزئية بالنسبة إلى الضابطة الكلية.

فهلمّ معي نسلّط الأضواء على ملامح من حياة الصحابة بعد رحيل الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فهي مشرقة من جانب ، إذ حملوا لواء الإسلام بأيديهم ، ونشروه في ربوع الأرض وقاتلوا وقتلوا ، وهذا ممّا لا يُنكر ، ومُظلمة من جانب آخر فانّ بعض من صحب النبي وعاشره اقترف جرائم لا تُغتفر ، سوّد بها صحيفة حياته حتّى عدّ عاراً على الصحابة أنفسِهم.

ص : 562

وها نحن نذكر في المقام نبذة موجزة عن بعض الصحابة الذين عدلوا عن الطريق المهيع لتكون نموذجاً لما لم نذكر ، فانّ استقصاء ذلك الجانب من حياة الصحابة رهن كتاب مفرد.

1. صحابيّ يقتل صحابيّاً ويزني بزوجته

إنّ مالك بن نويرة بن حمزة اليربوعي يعرّفه الطبري بقوله : بعث النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - مالك بن نويرة على صدقة بني يربوع وكان قد أسلم هو وأخوه متمم بن نويرة الشاعر. (1) ولما ارتحل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - شاع الارتداد في القبائل ، وبعث أبو بكر خالد بن الوليد ليطفئ هذه الفتنة ، ولكنّ خالداً ، تجاوز الحدّ فقتل الصحابي : مالك بن نويرة ، ولم يقتصر على قتله فحسب ، بل زنى بزوجته أيضاً.

فلمّا قدم خالد المدينة بالسبي ومعه سبعة عشر من وفد بني حنيفة ، دخل المسجد وعليه قباء عليه صدأ الحديد ، متقلداً السيف ، وفي عمامته أسهُم ، فمرّ بعمر فلم يكلّمه ودخل على أبي بكر ، فرأى منه كلّ ما يُحب ، وإنّما وجد عليه عمر لقتله مالك بن نويرة وتزوّجه بامرأته. (2)

وكانت شناعة الأمر بمكان ، بحيث انّ عمر بن الخطاب لمّا ولي الأمر عزله وكتب إلى أبي عبيدة : انّي قد استعملتك وعزلت خالداً. (3)

ص : 563


1- الاستيعاب : 3 برقم 2303.
2- مختصر تاريخ دمشق : 8 / 19 ؛ سير إعلام النبلاء : 3 / 235 في ترجمة خالد برقم 83 ولاحظ تاريخ الطبري : 2 / 272 وأُسد الغابة : 2 / 95 والإصابة : 5 / 755 في ترجمة مالك بن نويرة.
3- سير اعلام النبلاء : 3 / 236.
2. سمرة بن جندب يبيع الخمر

تولّى سمرة بن جندب (أحد الصحابة) إمارة البصرة في عهد معاوية ، وقد سفك من الدماء الكثير ، ومن شنائع ما اقترفه ، بيعه الخمر في عهد عمر.

أخرج مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال : بلغ عمر انّ سمرة باع خمراً ، فقال : قاتل الله سمرة ، ألم يعلم أنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها. (1)

ولم تقتصر القبائح التي ارتكبها سمرة بن جندب على ذلك ، بل تعداه إلى سفك الدماء والإسراف في قتل النفوس البريئة.

روى الطبري في حوادث سنة 50 ، قال : عن محمد بن سليم ، قال : سألتُ أنس بن سيرين هل كان سمرة قتل أحداً؟ قال : وهل يحصى من قتله سمرة بن جندب ، استخلفه زياد على البصرة ، وأتى الكوفة فجاء وقد قتل ثمانية آلاف من الناس ، فقال له : هل تخاف أن تكون قد قتلت أحداً بريئاً؟ قال : لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت.

وروى أيضاً عن أبي سوار العدوي قال : قتل سمرة بن جندب من قومي في غداة سبعة وأربعين رجلاً قد جمع القرآن. (2)

3. قدامة بن مظعون بدري يشرب الخمر

قدامة بن مظعون بن حبيب القريشي ، وهو خال عبد الله وحفصة ابني عمر بن الخطاب ، وقد استعمله عمر بن الخطاب على البحرين ، فقدم الجارود سيد عبد

ص : 564


1- صحيح مسلم : 5 / 41 باب تحريم الخمر والميتة.
2- تاريخ الطبري : 3 / 176.

القيس على عمر بن الخطاب من البحرين ، فقال : يا أمير المؤمنين انّ قدامة شرب المسكر ، فقال عمر : من يشهد معك ، فقال : أبو هريرة ، فدعي أبو هريرة ، فقال : بم تشهد ، فقال : لم أره يشرب ، ولكنّي رأيته سكران يقي. فقال عمر : لقد تنطعت في الشهادة ، ثمّ كتب إلى قدامة أن يقدم عليه من البحرين ، فقدم ، فقال الجارود لعمر : أقم على هذا كتاب الله الخ. (1)

قال عبد الرزاق في «المصنّف» : سمعت أيوب بن أبي يقول : لم يحدّ في الخمر أحد من أهل بدر إلاّ قدامة بن مظعون. (2)

4. أبو جندل يُحدّ حدّ الخمر

أبو جندل بن سهيل بن عمرو القرشي العامري ، وكان أبوه سهيل كاتب قريش في صلح الحديبية ، وهو ممّن فرّ من مشركي مكة والتحق بالمسلمين في صلح الحديبية.

ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال : أخبرت انّ أبا عبيدة بالشام وجد أبا جندل بن سهيل بن عمرو ، وضرار بن الخطاب وأبا الأزور ، وهم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد شربوا الخمر.

فقال أبو جندل : «ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طمعوا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات» ، فكتب أبو عبيدة إلى عمر : انّ أبا جندل خصمني بهذه الآية. فكتب عمر : انّ الذي زيّن لأبي جندل الخطيئة زيّن له الخصومة ، فاحددهم ، فقال أبو الأزور : أتحدّوننا؟ قال أبو عبيدة : نعم ، قال :

ص : 565


1- الاستيعاب : 3 / 1276 ، باب قدامة.
2- مصنف بن عبد الرزاق : 9 / 240 برقم 17075.

فدعونا نلقى العدو غداً فإن قُتلنا فذاك ، وإن رجعنا إليكم فحدُّونا ، فلقى أبو جندل وضرار وأبو الأزور العدوَّ فاستشهد أبو الأزور وحّد الآخران. فقال أبو جندل : هلكتُ. فكتب بذلك أبو عبيدة إلى عمر ، فكتب عمر إلى أبي جندل وترك أبا عبيدة : انّ الذي زين لك الخطيئة حظر عليك التوبة. (1)

5. أبو محجن الثقفي يُحد ثمانِ مرات

أبو محجن مالك بن حبيب الثقفي ، سمع من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وروى عنه ، وحدث عنه أبو سعد البقال ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول : أخوف ما أخاف عليكم على أُمّتي من بعدي ثلاث : إيمان بالنجوم ، وتكذيب بالقدر ، وحيف الأئمة.

ففي الاستيعاب : كان شاعراً مطبوعاً كريماً إلاّ أنّه منهمكاً في الشراب لا يكاد يُقلع عنه ، ولا يردعه حدّ ولا لوم لائم ، وجلده عمر بن الخطاب في الخمر مراراً ونفاه إلى جزيرة في البحر ، وبعث معه رجلاً فهرب منه ولحق بسعد بن أبي وقاص بالقادسية وهو محارب للفرس ، وكان قد همّ بقتل الرجل الذي بعثه معه عمر ، فأحس الرجل بذلك ، فخرج فارّاً فلحق بعمر فأخبره خبره ، فكتب عمر إلى سعد بن أبي وقاص بحبس ابن محجن ، فحبسه.

وروى عن ابن جريج قال : بلغني انّ عمر بن الخطاب حدّ أبا محجن الثقفي في الخمر سبع مرات ، وقال قبيصة بن ذويب : ضرب عمر بن الخطاب أبا محجن الثقفي في الخمر ثماني مرات ، ومن رواية أهل الاخبار انّ ابناً لأبي محجن الثقفي دخل على معاوية ، فقال له معاوية : أبوك الذي يقول :

ص : 566


1- الاستيعاب : 4 / 1623.

إذا متُّ فادفنّي إلى جنب كرمة

تروّي عظامي بعد موتي عروقها

ولا تدفنني بالفلاة فإنّني

أخاف إذا ما متّ أن لا أذوقها(1)

وقد عقد الحافظ الكبير عبد الرزاق باباً أسماه «باب من حدّ من أصحاب النبي وذكره فيه».

6. مسلم بن عقبة يشن الغارة على أهل المدينة

مسلم بن عقبة الأشجعي من صحابة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ذكره ابن حجر في «الإصابة» برقم 7977 ، وكفى في حقّه ما ذكره الطبري في حوادث سنة 64 ه ، قال : ولمّا فرغ مسلم بن عقبة من قتال أهل المدينة وإنهاب جنده أموالهم ثلاثاً ، شخص بمن معه من الجند متوجهاً إلى مكة ، فلما وصل إلى قفا المشلل نزل به الموت ، وذلك في آخر محرم من سنة 64 ه. (2)

7. بسر بن أرطاة يذبح ولدي عبيد الله بن العباس

بسر بن أرطاة من أصحاب الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - شهد فتح مصر واحتفظ بها ، وكان من شيعة معاوية ، وكان معاوية وجّهه إلى اليمن والحجاز في أوّل سنة أربعين وأمره أن ينظر من كان في طاعة عليّ - عليه السلام - فيوقع بهم ، ففعل ذلك.

وقد ارتكب جرائم كثيرة ذكرها التاريخ ، ولمّا كانت تمس عدالة الصحابة

ص : 567


1- الاستيعاب : 4 / 1749. ولاحظ مصنف عبد الرزاق : 9 / 243 برقم 17077.
2- تاريخ الطبري : 4 / 381 ، حوادث سنة 64.

وكرامتهم أعرض ابن حجر عن استعراضها مكتفياً بالقول : وله أخبار شهيرة في الفتن لا ينبغي التشاغل بها!!

ومن جرائمه التي لا تستقال ولا تغتفر ذبحه ولدي عبيد الله بن العباس.

قال الطبري : أرسل معاوية بن أبي سفيان بعد تحكيم الحكمين بسر بن أبي أرطاة ، فساروا من الشام حتّى قدموا المدينة وعامل علي - عليه السلام - على المدينة يومئذ أبو أيوب الأنصاري ، ففر منهم أبو أيوب. ثمّ صعد بسر على المنبر ونادى : يا أهل المدينة والله لو لا ما عهد إليّ معاوية ما تركت بها محتلماً إلاّ قتلته - إلى أن قال - : ثمّ مضى بسر إلى اليمن وكان عليها عبيد الله بن العباس ، فلمّا بلغه مسيره فرّ إلى الكوفة واستخلف عبد الله بن عبد المدان الحارثي على اليمن ، فأتاه بسر فقتله وقتل ابنه ، ولقي بسر ثَقَل عبيد الله بن عباس وفيه ابنان له ، فذبحهما. (1)

8. أُمّ المؤمنين وتزعّمها لجيش جرار
اشارة

أمر الله تبارك وتعالى أُمّهات المؤمنين بملازمة بيوتهن بقوله : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ). (2)

وقد خالفت أُمّ المؤمنين عائشة أمر الكتاب العزيز حينما خرجت مع طلحة والزبير في جيش جرّار لمحاربة الإمام أمير المؤمنين علي - عليه السلام - الذي بايعه جمهور الصحابة من المهاجرين والأنصار.

وكان لها موقف عدائي واضح من الإمام أمير المؤمنين - عليه السلام - ، ولمّا بلغها قتل

ص : 568


1- تاريخ الطبري : 4 / 107 ؛ وسير اعلام النبلاء : 3 / 409 برقم 65.
2- الأحزاب : 33.

الإمام - عليه السلام - أنشدت قائلة :

فألقت عصاها واستقرّ بها النوى *** كما قرّ عيناً بالإياب المسافر(1)

فهذه الصحابية مع ما لها من منزلة رفيعة بين المسلمين قادت جيشاً كبيراً لمحاربة الإمام - عليه السلام - ، ودارت بينهما معركة شرسة ، قُتل فيها من المسلمين ما يربو على عشرة آلاف حسب ما ذكره الطبري. (2)

وربما يقال : انّ القتلى يفوق هذا العدد.

هذه نماذج ممّا يطالعه القارئ في مرآة التاريخ ، ولو حاولنا الاستقصاء لفاق هذا العدد بكثير.

ومن سبر التاريخ بروح موضوعية وتجرد ، يجد انّ فئة من الصحابة سوّدت وجه التاريخ بنحو يثير أسف الخلف على هذا السلف.

ادّعاء العدالة لعامة الصحابة تنكّر للطبيعة البشرية

إنّ الصحابة الكرام لهم غرائز جامحة كسائر الناس ، فمن الغريب استثناء هذا الجيل عن سائر الأجيال ، وإضفاء هالة من القداسة عليهم بلا استثناء. ولم يكن للصحبة ، البعد الإعجازي حتّى يقلب فطرتهم رأساً على عقب ، ويحوّلهم إلى أشخاص مثاليّين ، بل هم بشر - كسائر البشر - لهم ميول وغرائز ، قد ينفلت زمامها ، فتُلقي بهم في وديان الهوى والظلم والعصيان.

وما ذكرناه هو الذي يدعمه الذكر الحكيم والسنّة النبوية وتاريخ

ص : 569


1- تاريخ الطبري : 4 / 115.
2- تاريخ الطبري : 3 / 540.

الصحابة ، فمن حاول الإصرار على موقفه من عدالة الصحابة كلّهم ، فقد خالف صريح القرآن الكريم والسنّة الشريفة وما أطبق عليه التاريخ الصحيح.

وعلى الرغم من ذلك فإنّ القائلين بعدالة الصحابة استدلّوا بوجوه :

الأوّل : الإجماع.

الثاني : ثناء الكتاب على الصحابة.

الثالث : ثناء السنّة عليهم.

وسنعقد بحثاً في الفصول الآتية نتناول فيه هذه الوجوه نقداً وتمحيصاً.

ص : 570

12. أدلّة القائلين بعدالة الصحابة

1- الإجماع على عدالة الصحابة
اشارة

استدلّ القائلون بعدالة الصحابة وهم جمهور السنّة بوجوه :

الأوّل : الإجماع على عدالتهم وقد مرّ آنفاً كلمة إمام الحنابلة وغيره ، يقول ابن حزم :

انّا نقطع على غيب قلوبهم انّهم كلّهم مؤمنون صالحون ماتوا كلّهم على الإيمان والهدى والبر ، كلّهم من أهل الجنّة لا يلج أحد منهم النار. (1)

يلاحظ عليه : بأنّه كيف يدّعي الإجماع على خلاف ما نطق به الكتاب العزيز والسنّة النبوية والتاريخ الصحيح ، أو ليس هذا الإجماع ، إجماعاً على خلاف الحجج القطعية؟! ثمّ كيف يدّعي الإجماع مع أنّ في عدالة الصحابة أقوالاً مختلفة نذكر منها ما يلي :

يقول الخطيب في كتابه : «السنّة قبل التدوين».

إنّ للصحبة شرفاً عظيماً يمنح صاحبها ميزة خاصة ، وهي انّ جميع الصحابة

ص : 571


1- ابن حزم حياته وعصره لأبي زهرة : 259.

عند من يعتدّ به من أهل السنّة عدول ، سواء من لابس منهم الفتن ومن لم يلابس ، وهو قول الجمهور.

وقال قوم : إنّ حكمهم في العدالة حكم من بعدهم في لزوم البحث عن عدالتهم عند الرواية.

ومنهم من قال : إنّهم لم يزالوا عدولاً إلى أن وقع الاختلاف والفتن بينهم ، فبعد ذلك لا بدّ من البحث في عدالتهم.

ومنهم من قال - وهم المعتزلة - : إنّ كلّ من قاتل عليّاً عالماً فهو فاسق مردود الرواية والشهادة ، لخروجهم على الإمام الحقّ.

ومنهم من قال برد رواية الكلّ وشهادتهم ، لأنّ أحد الفريقين فاسق وهو غير معلوم ولا معيّن.

ومنهم من قال : بقبول رواية كلّ واحد منهم وشهادته إذا انفرد ، لأنّ الأصل فيه العدالة ، وقد شككنا في فسقه ، ولا يقبل ذلك منه مع مخالفه ، لتحقّق فسق أحدهما من غير تعيين. (1)

وقد مرّ انّ عمر بن عبد العزيز ، وأحمد بن حنبل وغيرهما قالوا بلزوم الإمساك عمّا شجر بين الصحابة في الخلاف ، وما روي عنهم من اقتراف المعاصي ، ومعنى ذلك انّهم وقفوا على واقع الأمر وأرادوا التغطية على الواقع الملموس ، حفظاً لعقائد المسلمين!!

كلام التفتازاني في حقّ الصحابة

وهناك كلام للشيخ التفتازاني في شرح مقاصده مع أنّه استولت عليه

ص : 572


1- السنّة قبل التدوين : 258.

العصبية بدعوته إلى ترك الكلام في حقّ البغاة والجائرين من الصحابة ، ولكنّه أصحر بالحقيقة ، قائلاً :

ما وقع بين الصحابة من المحاربات والمشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ والمذكور على ألسنة الثقات يدلّ بظاهره على أنّ بعضهم قد حاد عن طريق الحقّ ، وبلغ حدّ الظلم والفسق وكان الباعث له الحقد والعناد والحسد واللداد ، وطلب الملك والرئاسة ، والميل إلى اللذات والشهوات ، إذ ليس كلّ صحابي معصوماً ولا كلّ من لقي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالخير موسوماً إلاّ أنّ العلماء لحسن ظنهم بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ذكروا لها محامل وتأويلات بها تليق ، وذهبوا إلى أنّهم محفوظون عمّا يوجب التضليل والتفسيق ، صوناً لعقائد المسلمين عن الزيغ والضلالة في حقّ كبار الصحابة لا سيما المهاجرين منهم ، والأنصار ، والمبشرين بالثواب في دار القرار.

وأمّا ما جرى بعدهم من الظلم على أهل بيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فمن الظهور بحيث لا مجال للإخفاء ، ومن الشناعة بحيث لا اشتباه على الآراء ، إذ تكاد تشهد به الجماد والعجماء ، ويبكي له من في الأرض والسماء ، وتنهد منه الجبال وتنشق الصخور ، ويبقى سوء عمله على كرّ الشهور ، ومرّ الدهور فلعنة الله على من باشر أو رضي أو سعى ولعذاب الآخرة أشدّ وأبقى. (1)

ص : 573


1- شرح المقاصد : 5 / 310 - 311 ؛ وراجع كتاب الأربعين لمحمد طاهر القمي الشيرازي : 633 ، بحار الأنوار : 28 / 364.
2- ثناء القرآن على الصحابة
اشارة

استدلّ غير واحد من القائلين بعدالة الصحابة كلّهم ، بآيات ورد فيها الثناء على طوائف منهم ، وليس على كلّ الصحابة ، لكن حب المستدلين للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه ، حال بينهم وبين ما تهدف إليها آيات الثناء ، فزعموا انّها تُثني على الصحابة بأجمعهم وانّه سبحانه شمل الجميع بثنائه وأشاد بفضلهم وفضيلتهم من دون استثناء وإليك هذه الآيات.

الآية الأُولى
اشارة

يقول سبحانه : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). (1)

أثنى سبحانه في هذه الآية المباركة على طوائف ثلاثة عبّر عن كلّ منها بلفظ خاص.

ص : 574


1- التوبة : 100.
1. السابقون الأوّلون من المهاجرين

أثنى سبحانه على السابقين من المهاجرين وحذف متعلّق السبق ، وبما أنّهم من المهاجرين ، يُعلم أنّ متعلّقه هو الهجرة أي الذين هاجروا أيّام هجرة النبي أو بعدها بقليل ، وبما انّ لفظة «من» في قوله «من المهاجرين» للتبعيض ، فهو يخرج المتأخرين في الهجرة فلا يعمّ المهاجرين غير السابقين ، وعلى هذا فالآية تنطبق على من آمن بالنبي قبل الهجرة ثمّ هاجر قبل وقعة بدر التي منها ابتدأ ظهور الإسلام على الكفر.

وأمّا المهاجرون بعد وقعة أُحد ، فلا يمكن الاستدلال بالآية عليهم لعدم وجود الموضوع أي السبق في الهجرة والنصرة.

2. السابقون الأوّلون من الأنصار
اشارة

أثنى سبحانه فيها على السابقين الأوّلين من الأنصار ، وذلك لأنّ قوله : «والانصار» عطف على قوله : «المهاجرين» فيكون تقدير الآية : السابقون الأوّلون من الأنصار ، ومتعلّق السبق وإن كان محذوفاً ، ولكن كونهم من الأنصار ، قرينة على أنّ المراد ، السبق في النصرة بالإنفاق والإيواء فلا يدخل فيهم مطلق الأنصار ولا أبناؤهم ، وحلفاؤهم ، فالآية تثني على السابقين الأوّلين من الأنصار وهم الذين آمنوا بالنبي وآووه وتهيّئوا لنصرته عند ما هاجر إلى المدينة ، ولا تُثني على عامة الأنصار ، وما ذكرناه هو الظاهر من المفسرين. قال الرازي : إنّ الآية تتناول الذين سبقوا في الهجرة والنصرة ، فهو لا يتناول إلاّ قدماء الصحابة ، لأنّ كلمة «من» تفيد التبعيض. (1)

ص : 575


1- التفسير الكبير : 16 / 171.
دفع وهم

وربما يتوهم انّ الآية بصدد الثناء على عامة المهاجرين والأنصار ، وهذا هو الظاهر من خطباء القوم ومؤلّفيهم وهو الذي ذكره الرازي قولاً ثانياً وقال : منهم من قال تتناول الآية جميع الصحابة ، لأنّ جملة الصحابة موصوفون بكونهم سابقين أوّلين بالنسبة إلى سائر المسلمين ، وكلمة «من» في قوله (مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) ليست للتبعيض ، بل للتبيين ، أي والسابقون الأوّلون الموصوفون بوصف كونهم مهاجرين وأنصاراً ، كما في قوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) وكثير من الناس ذهبوا إلى هذا القول. (1)

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ المتّبع في تفسير الآية ، هو المتبادر عند أهل اللسان من ظاهر الآية ، فإذا كان الصحابة حسب شهادة بعض الآيات منقسمين إلى قسمين سابق في الهجرة والنصرة ولاحق فيهما ، يكون السبق واللحوق قائمين بنفس الصحابة ، فمنهم سابق ومنهم لاحق لا أنّ كلّهم سابقون ، ومن آمن بعدهم لاحقون. يقول سبحانه (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا). (2)

وثانياً : لو كانت الآية بصدد الثناء على عامة المهاجرين والأنصار ، بل مطلق الصحابة وإن لم يكونوا منهما ، تلزم لغوية قوله : (السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) ، بل يكفي أن يقال : (المهاجرون والأنصار و...) ، لأنّ سبب الرضا والثناء هو هجرتهم ونصرتهم لا سبقهم على سائر الاجيال ، لأنّ سبقهم على سائر المسلمين في الأجيال اللاحقة لم يكن أمراً اختيارياً لهم ، وهذا بخلاف ما لو بان الثناء على

ص : 576


1- التفسير الكبير : 16 / 171.
2- الحديد : 10.

صنف من الصحابة دون صنف ، لأنّ سبق الأوّل في الهجرة والنصرة على سائر الصحابة إنّما كان بملاك الاختيار.

وثالثاً : إذا كان المراد من الآية عامّة الصحابة الذين أدركوا النبي وأسلموا ، يكون المراد من الطائفة الثالثة في (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) سائر المسلمين في الأجيال المتلاحقة.

فكان اللازم عندئذ أن يقول : «والذين يتّبعونهم بإحسان ، بصيغة المضارع لا الماضي ، كما أتى به سبحانه في سورة الجمعة وقال : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ* وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). (1)

فأراد من الآية الأُولى عامة الصحابة ، ومن الآية الثانية (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) كلّ من يأتي بعد الصحابة إلى يوم القيامة ، قال الله سبحانه بعث النبي إليهم فإنّ شريعته خاتمة الشرائع.

إلى هنا تمّ تفسير الطائفتين ، وإليك بيان الطائفة الثالثة الواردة في الآية.

3. والذين اتّبعُوهم بإحسان

ما هو المراد من الموصول؟! وما هو المراد من القيد بإحسان؟

أمّا الأوّل فالمراد هم الذين تحقق اتباعهم في عصر نزول الآية ، لا من يتحقّق في الأجيال الآتية ، وبما انّ مبدأ ظهور السابقين ، هو ظهور الإسلام في الفترة المكية ومنتهاهم هو انتصار الإسلام على مظاهر الشرك في المنطقة ، أعني :

ص : 577


1- الجمعة : 32.

غزوة بدر ، يكون نهاية هؤلاء مبدأ لظهور الطائفة الثالثة وتتحدد نهايتهم ببيعة الرضوان أو فتح مكة لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لا هجرة بعد الفتح».

وأمّا الثاني ، فالآية لا تثني على كلّ من اتبع السابقين بالهجرة والنصرة ولكن تقيّد الاتّباع بقوله : «بإحسان» أي يكون الاتّباع مقروناً ومصحوباً بالإحسان في القول والعمل ، فتقييد الرضا بحسن سلوكهم وسيرتهم يخرج من هاجر ونصر ، من دون اتّباع مصحوب بإحسان ، بأن ساءت سيرته ، ولم يحسن سلوكه.

والله سبحانه يعلن رضاه عن هذه الطائفة مثل السابقين ويقول : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ). (1)

فلو وجدنا صحابياً آمن وهاجر أو نصر النبي ولكن شككنا في حسن سلوكه وسيرته ، لا تكون الآية دليلاً على رضاه سبحانه

عنه ، للشكّ في شمول الآية له فضلاً عمّن ثبت سوء سيرته.

هذا ما هو المتبادر والمفهوم من الآية ، وهي دليل قاطع على أنّه سبحانه رضي عن طوائف ثلاث من الصحابة ، لا عن كلّهم ، والاستدلال به على الموجبة الكلية «عدالة كلّ صحابي» كما ترى.

الآية الثانية

استدلّوا على عدالة الصحابة بآية ثانية ، نظيرة الآية المتقدّمة في تصنيف الصحابة إلى أصناف ثلاثة.

وهذه الطوائف الثلاث التي أشارت إليها الآية عبارة عن :

1. الفقراء المهاجرين.

ص : 578


1- المجادلة : 22.

2. الذين تبوّءُوا الدار والإيمان (الأنصار).

3. والذين جاءوا من بعدهم.

ولكلّ من الأصناف سمات وميزات ، مذكورة فيها ويتميزون بها عن سائر الصحابة قال سبحانه : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ* وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ). (1)

فهذه الآيات الثلاث نظير ما تقدّم من الآيتين ، لا تُثني على عامّة الصحابة ، بل على فريق منهم.

أمّا المهاجرون فتثني على من تمتّع منهم بالصفات التالية :

أ. (أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ).

ب. (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً).

ج. (يَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ).

فمن تمتّع بهذه الصفات الثلاث من المهاجرين فقد أثنى القرآن عليه ، وبما انّ من أبرز صفاتهم ، كونهم مشرّدين من ديارهم وأموالهم ، فيكون المقصود هم الذين هاجروا قبل وقعة «بدر». فينطبق على السابقين الأوّلين من المهاجرين في

ص : 579


1- الحشر : 108

الآية السابقة.

وأمّا الأنصار فإنّما تثني على من تمتّع منهم بالصفات التالية :

أ. (تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي آمنوا بالله ورسوله ، فخرج بذلك من اتّهم بالنّفاق وكان في الواقع منافقاً.

ب. (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا).

ج. (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ).

وبما انّ من أبرز صفاتهم ، هو إيواء المهاجرين والأنصار وإيثارهم على الأنفس ، فيكون المراد من آمنوا بالنبيّ وآووه وآووا المهاجرين ، فينطبق على من آمن وآوى قبل غزوة بدر لانتفاء الإيواء بعدها خصوصاً بعد إجلاء «بني قينقاع» غبَّ معركة «بدر» حيث خرجوا من قلاعهم وأموالهم وأسلحتهم ، تاركين جميع ذلك للمسلمين. فينطبق على السابقين الأوّلين من الأنصار في الآية السابقة.

وأمّا التابعون لهم ، أعني : الذين جاءوا من بعدهم فإنّما أثنى على من تمتع منهم بالصفات التالية :

أ. (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ).

ب. (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا).

فالعلائم المذكورة للطائفة الثالثة ، كناية عن الاتّباع بإحسان الذي ورد في الآية الأُولى ، فتنطبق على التابعين فيها.

فظهر انّ الآيات الواردة في سورة الحشر ، تتّحد مضموناً مع ما ورد في سورة التوبة ولا تختلف عنها قيد شعرة.

فالاستدلال بهذه الآيات وما تقدّمها على أنّ القرآن أثنى على الصحابة جميعهم من أوّلهم إلى آخرهم - الذين ربّما جاوز عددهم المائة ألف - غفلة عن

ص : 580

مفاد الآيات ؛ فأين الدعاء والثناء على لفيف من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم المتمتّعين بخصوصيات معيّنة ، من الثناء على الطلقاء والأعراب وأبناء الطلقاء والمتّهمين بالنفاق؟!

وأين هذه الآيات من مدح خمسة عشر ألف صحابي سُجّلت أسماؤهم في المعاجم ، أو مائة ألف صحابي صحبوا النبي في مواقف مختلفة ورأوه وعاشروه؟!

الآية الثالثة

استدلّوا بآية ثالثة نزلت في مورد بيعة الرضوان وأبدى سبحانه رضاه عن المبايعين ، وقال :

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً). (1)

فالآية تثني على مَن صحبوا النبي في الحديبية وبايعوه تحت الشجرة ، وكان ذلك في السنّة السادسة من الهجرة ، وقد رافقه حوالي ألف وأربعمائة أو ألف وستمائة أو ألف وثمانمائة. (2)

والثناء على هذا العدد القليل لا يكون دليلاً على الثناء على جميع الصحابة من أوّلهم إلى آخرهم!!

كما أنّ الرضا محدّد بزمان البيعة حيث قال : (إِذْ يُبايِعُونَكَ) ولا يشمل الفترات المتأخرة عنها.

ص : 581


1- الفتح : 18.
2- السيرة النبوية : 2 / 309 ؛ مجمع البيان : 2 / 288.
الآية الرابعة
اشارة

استدلّوا على عدالتهم بآية رابعة تذكر سمات أصحاب النبي وصفاتهم ، يقول سبحانه :

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً). (1)

فهذه الآية بظاهرها أوسع دلالة ممّا سبق ، لأنّها تثني على النبي ومن معه ، ولكن مدلول الآية - في الحقيقة - ليس بأوسع ممّا سبق ، وذلك للقرائن التالية :

الأُولى : الصفات التالية لم تكن متوفرة في عامّة الصحابة ، أعني بها :

أ. (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ).

ب. (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ).

ج. (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً).

د. (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً).

ه. (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ).

فهل الذين أراقوا دم عثمان وقتلوه في عقر داره كانوا من غير الصحابة؟!

وهل الذين خضّبوا الأرض بدم الصحابة في ميادين القتال كانوا من الأجانب؟! فما لكم كيف تحكمون.

ص : 582


1- الفتح : 29.

فإذا كانت أعمالهم الإجرامية من مصاديق التراحم فكيف يكون تباغضهم ومشاجراتهم؟!

وهل كان في وجوه الأعراب والطلقاء وأبنائهم والذين آمنوا بعد الفتح أثر للسجود؟!

الثانية : انّ ذيل الآية يشهد بأنّ الثناء على قسم منهم ، يقول تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) فانّ لفظة «من» في قوله : «منهم» للتبعيض ، وما يقال من أنّ «من» بيانية غير صحيح ، لأنّها لا تدخل على الضمير مطلقاً في كلامهم وإنّما تدخل على الاسم الظاهر ، كما في قولك : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) (1). (2)

الثالثة : انّ الآية نزلت قبل فتح مكة وبعد الحديبية ، والمراد من قوله سبحانه في هذه الآية : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) هو الفتح في صلح الحديبية ، وفيه إخبار عن فتح مكة في المستقبل بقوله : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً). (3)

فالآية تتضمن الإخبار عن فتحين آخرين :

1. عمرة القضاء وأشار إليه بقوله : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ).

ص : 583


1- الحج : 30.
2- وربما يستشهد على دخول من البيانية على الضمير بقوله تعالى : (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ). والاستدلال مبني على عود الضمير في تزيلوا إلى المؤمنين ، والضمير في «منهم» إلى الذين كفروا ، ولكنّه غير صحيح ، بل الضميران جميعاً يرجعان إلى مجموع المؤمنين والكافرين من أهل مكة فتكون «من» تبعيضية لا بيانية.
3- الفتح : 27.

2. فتح مكة وأشار إليه بقوله : (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً).

فإذا كانت الآية ممّا نزلت في السنّة السادسة وحواليها ، فلا تكون أوسع دلالة من الآيات النازلة بعدها في السنّة التاسعة كما نقلناه ، فالثناء المطلق في الآية على مَن كان مع النبي (وَالَّذِينَ مَعَهُ) يحمل ويخصص بما خصصه القرآن في آيات أُخرى كالآيات المتقدّمة.

وعلى ضوء ما تقدّم ، نصل إلى النتيجة التالية : انّ ما اشتهر على الألسن من ثناء القرآن على صحابة الرسول قاطبة وتعديله إياهم ممّا لا أساس له ، وإنّما وقع الثناء - بعد ضمّ بعضها إلى بعض - على لفيف منهم وطائفة خاصّة.

ص : 584

إنّما الأعمال بالخواتيم

هذا العنوان كلمة قدسية قالها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فيما رواه البخاري عنه ، وذكر في الباب روايتين تدلاّن على أنّ الملاك للنجاة هو خواتيم الأعمال نذكر واحدة منها.

أخرج البخاري عن سهل : أنّ رجلاً من أعظم المسلمين غناءً عن المسلمين ، في غزوة غزاها مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فنظر النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال : «من أحبّ أن ينظر إلى الرّجل من أهل النار فلينظر إلى هذا ، فاتبعه رجل من القوم وهو على تلك الحال من أشدّ الناس على المشركين حتّى جرح ، فاستعجل الموت ، فجعل ذبابة سيفه بين ثَدييه حتّى خرج من بين كتفيه ، فأقبل الرّجل إلى النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - مسرعاً ، فقال : أشهد أنّك رسول الله ، فقال : «وما ذاك؟». قال : قلت لفلان : «من أحبّ أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إليه». وكان من أعظمنا غناء عن المسلمين ، فعرفتُ أنّه لا يموت على ذلك ، فلمّا جرح استعجل الموت فقتل نفسه ، فقال النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - عند ذلك : «إنّ العبد لَيعملُ عَمَل أهل النّار وانّه من أهل الجنّة ، ويعمل عمل أهل الجنّة وإنّه من أهل النار ، وإنّما الأعمال بالخواتيم». (1)

وكم من إنسان حسنتْ حياته في أوائل عمره ، ثمّ تبدلت وساءت سيرته وسلوكه ، وحبطت أعماله الصالحة أتى بها في أوائل عمره أو أواسطه يقول سبحانه :

ص : 585


1- صحيح البخاري : 4 / 233 ، كتاب القدر ، الباب 5 ، الحديث 6607 ؛ سنن الترمذي : 4 ، كتاب القدر ، الباب 5 ، الحديث 2137. والحديث الوارد في السنن غيره في صحيح البخاري.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ). (1)

والقرآن يحدث عمّن أُوتي آيات الله في مقتبل عمره ، لكنّه ساءت سيرته في الفترة الأخيرة من عمره فصار من الغاوين ، ويقول : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ). (2)

وهذا هو قارون بني إسرائيل كان يقرأ التوراة بصوت حسن ، ولكنّه ساء سلوكه فخسف سبحانه به وبداره وكنزه. (3)

وعلى ضوء ذلك فما مرّ من الآيات التي تُثني على فئات من الصحابة لا يحتج بها على صلاحهم إذا ثبت بالأدلّة القطعية انحرافهم عن الطريق المهيع ، واقترافهم المعاصي ومحاربتهم الحق والحقيقة.

وممّا لا شكّ فيه وقوع التشاجر بين الصحابة ، كما دارت بينهم معارك دامية ، قُتل على أثرها لفيف من البدريين والأُحديين وغيرهم من المسلمين الأبرياء وعندئذ يقال : إنّما العبرة بخواتيم الأعمال ، وثناء القرآن عليهم إنّما كان بحسب ملابساتهم وأحوالهم يوم ذاك. فكانوا من الصلحاء وليس من المستحيل أن ينسلخوا من تلك الأحوال كما انسلخ غيرهم.

ص : 586


1- الحجرات : 2.
2- الأعراف : 175.
3- القصص : 81.
3- ثناء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على الصحابة
اشارة

استُدلّ على عدالة الصحابة بثناء النبي عليهم ، ونحن نذكر منه ما هو المهم :

1. حديث انّ الله اطّلع على أهل بدر ...

أخرج البخاري عن علي رضي الله عنه قال : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأبا مرثد والزبير ، وكلُّنا فارس ، قال : انطلقوا حتّى تأتوا روضة خاخ ، فانّ بها امرأة من المشركين ، معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين ، فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فقلنا : الكتاب ، فقالت : ما منّا كتاب ، فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتاباً ، فقلنا : ما كذب رسول الله ، لتُخرجنّ الكتاب أو لنجرّدنّك ، فلمّا رأت الجدّ أهوت إلى حُجْزتها وهي محتجزة بكساء فأخرجته ، فانطلقنا بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فقال عمر : يا رسول الله ، قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، فدعني لاضرب عنقَه ، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : ما حملك على ما صنعت؟ قال حاطب : والله ما بي أن لا أكونَ مؤمناً بالله ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - أردت أن يكون لي

ص : 587

عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي ، وليس أحد من أصحابك إلاّ له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله. فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : صدق ، ولا تقولوا له إلاّ خيراً.

فقال عمر : إنّه قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، فدعْني فلأضرب عنقه ، فقال : أليس من أهل بدر؟ فقال : لعلّ الله اطّلع على أهل بدر ، فقال : اعمَلوا ما شئتم ، فقد وجبت لكم الجنة ، أو قد غفرتُ لكم ، فدمعت عينا عمر ، وقال : الله ورسوله أعلم. (1)

هذا الحديث وإن أخرجه البخاري وأسنده إلى علي - عليه السلام - ولكنّنا نجلّ الإمام أمير المؤمنين عليّاً - عليه السلام - عن رواية هذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فانّ مضمونه يشهد على كذبه ، إذ كيف يمكن للنبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يُعطي الضوء الأخضر لجماعة من الصحابة يناهز عددهم الثلاثمائة ، ويسمح لهم أن يفعلوا ما يشاءُون ، وإن اقترفوا الكبائر وارتكبوا المعاصي وإن سفكوا الدماء وخضّبوا بها وجه الأرض.

إنّه سبحانه يخاطب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بقوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ). (2) فهل يُعقل أن يسمح للبدريين أن يفعلوا ما شاءوا وأن يُبشرهم بالجنة؟! وقد تقدّم آنفاً انّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - اقتصّ من الحارث بن سويد بن الصامت البدريّ لقتله المجذر بن زياد.

وهذا هو حاطب بن أبي بلتعة يُصبح عينَ المشركين بالمدينة ، ولكنّه بالرغم من ذلك يدخل الجنة!! مع أنّ الجاسوس إذا كان مسلماً ، يتجسّس لصالح الكفّار يقتل ، أو يوجع ويعزّر على اختلاف في المذاهب. (3)

ص : 588


1- صحيح البخاري : 3 / 11 ، برقم 3983.
2- الزمر : 65.
3- الموسوعة الفقهية : 10 / 163 - 165.
2. حديث «مثل أصحابي كالنجوم»
اشارة

أخرج ابن حميد عن نافع عن ابن عمر ، انّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : مثل أصحابي مثل النجوم يهتدى به ، فأيّهم أخذتم بقوله اهتديتم. (1)

يلاحظ عليه : أنّ متن الحديث يكذِّب صدوره ، إذ ليس كلّ نجم هادياً في البرّ والبحر ، بل هناك نجوم خاصة للاهتداء ، ولأجل ذلك قال سبحانه : (وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ). (2)

وأمّا قوله سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (3) فاللام في النجوم للعهد أي النجوم المعهودة التي كانت العرب يوم ذاك يهتدون بها في البر والبحر وليست للاستغراق.

ولا يتمشّى ذلك الحمل في الحديث بأن يحمل على فئة من الصحابة ، لأنّ الغاية فيها التبسيط والتعميم لكلّ صحابي كما هو صريح قوله : «فأيّهم أخذتم بقوله اهتديتم» فلا محيص من حمل «كالنجوم» على الاستغراق ، والحال انّه ليس كلّ نجم هادياً.

ولو افترضنا الاهتداء بكلّ نجم في السماء ، أفهل يمكن أن يكون كلّ صحابي نجماً لامعاً هادياً للأُمّة؟ فهذا قدامة بن مظعون ، صحابي بدري يعد من السابقين الأوّلين ومن المهاجرين الهجرتين ، قد شرب الخمر وأقام عليه عمر الحدّ ،

ص : 589


1- المسند الجامع : 10 / 782 برقم 8219 نقله عن مسند عبد بن حُميْد.
2- النحل : 16.
3- الأنعام : 97.

كما أنّ المشهور انّ عبد الرحمن الأصغر بن عمر بن الخطاب قد شرب الخمر. (1)

كما أنّ بعض الصحابة أراق دماءً طاهرة فمن استقصى تاريخ حياة بسر بن أرطاة يجد انّه اقترف جرائم كثيرة ، حتّى أنّه قتل طفلين لعبيد الله بن عباس!! وكم بين الصحابة من رجال قد احتفل التاريخ بضبط مساويهم ، أفبعد هذه البيّنات يصحّ لأحد أن يتقوّل بأنّهم جميعاً وبلا استثناء كالنجوم يهتدى بهم؟!

يقول أبو جعفر النقيب : إنّ هذا الحديث من موضوعات متعصبة الأموية فانّ منهم من ينصرهم بلسانه وبوضعه الأحاديث إذا عجز عن نصرهم بالسيف. (2)

ولعل القارئ الكريم يتصوّر انّ أبا جعفر النقيب ممن ينفرد في شأن هذه الرواية وليس الأمر كذلك ، بل حكم بوضعها كثير من محقّقي السنّة يقول ابن حزم في رسالة إبطال الرأي والقياس والاستحسان والتعليل والتقليد : وهذا - أي حديث النجوم - خبر مكذوب موضوع باطل لم يصحّ قط. (3)

وقال الحافظ الكبير الذهبي في ترجمة جعفر بن عبد الواحد الهاشمي القاضي : ومن بلاياه عن وهب بن جرير ، عن أبيه ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : أصحابي كالنجوم من اقتدى بشيء منها اهتدى. (4)

وقال أيضاً في ترجمة زيد بن الحواري العَمِّي.

ص : 590


1- أُسد الغابة : 3 / 312.
2- شرح ابن أبي الحديد : 20 / 12.
3- البحر المحيط : 5 / 528.
4- ميزان الاعتدال : 1 / 413 برقم 1511.

روى نعيم بن حماد ، حدّثنا عبد الرحيم بن زيد العَمِّي ، عن أبيه ، عن سعيد بن المسيب ، عن عمر مرفوعاً : سألت ربي بين ما اختلف فيه أصحابي من بعدي ، فأوحى الله إليّ : يا محمد إنّ أصحابك عندنا بمنزلة النجوم بعضهم أضوأ من بعض ، فمن أخذ بشيء ممّا هم عليه من اختلافهم فهو عندي على هدى. فهذا باطل ، وعبد الرحيم تركوه ، ونعيم صاحب مناكير. (1) إلى غير ذلك من الكلمات حول الحديث.

ثمّ إنّ الحديث قد روي بصور مختلفة :

أ. أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم

رواه ابن عبد البر في جامع العلم (2 / 91) ، وابن حزم في الأحكام (6 / 82) من طريقة سلام بن سليم ، قال : حدثنا الحارث بن غصين ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر مرفوعاً به. وقال ابن عبد البر : هذا إسناد لا تقوم به حجّة ، لأنّ الحارث بن غصين مجهول.

وقال ابن حزم : هذه رواية ساقطة ، أبو سفيان ضعيف ، والحارث بن غصين هذا هو أبو وهب الثقفي ، وسلام بن سليمان يروى الأحاديث الموضوعة ، وهذا منها بلا شك». (2)

ب. مهما أُوتيتم من كتاب الله فالعمل به ، لا عذر لأحدكم في تركه ، فإن لم يكن في كتاب الله ، فسنّة منّي ماضية ، فإن لم يكن سنة منّي ماضية ، فما قال أصحابي ، إنّ أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيّها أخذتم به اهتديتم ، واختلاف

ص : 591


1- ميزان الاعتدال : 2 / 102 برقم 3003.
2- سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة : 1 / 144.

أصحابي لكم رحمة.

أخرجه الخطيب في الكفاية في علم الدراية ، ص 48 ، وكذا أبو العباس الأصم وابن عساكر (7 / 315 / 2) من طريق سليمان بن أبي كريمة ، عن جويبر ، عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعاً.

وهذا اسناد ضعيف جداً ، سليمان بن أبي كريمة ، قال ابن أبي حاتم (2 / 1 / 138) عن أبيه : «ضعيف الحديث».

وجويبر هو ابن سعيد الأزدي متروك ، كما قال الدارقطني والنسائي وغيرهما ، والضحاك هو ابن مزاحم الهلالي لم يلق ابن عباس. (1)

ج. سألت ربّي فيما اختلف فيه أصحابي من بعدي فأوحى الله إليّ ، يا محمد : انّ أصحابك عندي بمنزلة النجوم بعضها أضوأ من بعض ، فمن أخذ بشيء ممّا هم عليه فهو عندي على هدى.

رواه ابن بطّة في الإبانة (4 / 11 / 2) ، والخطيب أيضاً ، نظام الملك في الأمالي (13 / 2) ، والديلمي في مسنده (2 / 190) ، والضياء في المنتقى من مسموعاته بمرو (116 / 2) ، وكذا ابن عساكر (6 / 303 / 1) من طريق نعيم بن حمّاد ، حدّثنا عبد الرحيم بن زيد العمّي ، عن أبيه ، عن سعيد بن المسيب ، عن عمر بن الخطاب مرفوعاً.

وهذا السند موضوع ، نعيم بن حماد ضعيف ، قال الحافظ : يخطئ كثيراً. وعبد الرحيم بن زيد العَمّي كذاب فهو آفته. (2)

هذا قليل من كثير ممّا ذكره الشيخ الألباني المعاصر في كتابه ، ومن أراد

ص : 592


1- سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة : 1 / 146.
2- سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة : 1 / 148.

التفصيل فليرجع إلى نفس الكتاب.

وقد أضاف في آخر تحقيقه ، وقال : لو صحّ هذا الخبر يكون المراد إنّ ما قالوه برأيهم يجب العمل به ، وهذا دليل آخر على أنّ الحديث موضوع ، وليس من كلامه - صلى الله عليه وآله وسلم - ، إذ كيف يسوغ لنا أن نتصوّر أنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يبرّر لنا أن نقتدي بكل رجل من الصحابة مع أنّ فيهم العالم والمتوسط في العلم ، ومن هو دون ذلك وكان فيهم مثلاً من يرى أنّ البرد لا يفطر الصائم بأكله. (1)

3. خير القرون قرني

أخرج البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن عمران بن حصين يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : خير أُمّتي قرني ، ثمّ الذين يلونهم ، ثمّ الذين يلونهم ، قال عمران : فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثاً ، ثمّ إنّ بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون ، ويخونون ولا يؤتمنون ، وينذرون ولا يفون ، ويظهر فيهم السمن. (2)

وأخرجه مسلم في صحيحه عن عمران بن حصين. (3)

وأخرجه أحمد في مسنده عن بريدة الأسلمي. (4)

إنّ هذا الحديث مهما صح سنده ونقله أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن ، يكذبه التاريخ الصحيح الذي سجّل أحوال أهل القرون التي أُطلق عليهم هذا الاسم ، وذلك بالبيان التالي :

ص : 593


1- سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة : 1 / 147 - 148 ، وحديث البرد أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار ، لاحظ 2 / 340 وهو حديث غريب يضاد القرآن والسنة وإجماع المسلمين.
2- صحيح البخاري : 2 / 249 ، برقم 3650.
3- صحيح مسلم : 7 / 185 - 186 ، باب فضل الصحابة ثمّ الذين يلونهم.
4- مسند أحمد : 5 / 357.

القرن في اللغة عبارة عن الفترة من الزمان وإطلاقه على مائة سنة ، إطلاق حادث لا تحمل عليه الرواية. وعلى ضوء ذلك فالقرن الذي بعث فيه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خير القرون من الأزمنة باعتبار نفس النبي فقط ، فكان - صلى الله عليه وآله وسلم - نوراً انبعث في الظلمة حيث تقوضت به دعائم الشرك والوثنية ، وأُشيدت دعائم التوحيد والحنفية.

هذا يرجع إلى نفس النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وأمّا غيره فالظاهر من الرواية انّها تصنِّف الناس حسب التفضيل بالنحو التالي :

الصحابة (القرن الذي بعثتُ فيه).

التابعون (ثمّ الذين يلونهم).

تابعو التابعين (ثمّ الذين يلونهم) وهكذا.

فكلّ من قرب زمنه من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فهو أفضل ممّن بعد منه.

هذا ما تفيده الرواية ، وللأسف الشديد أنّ الواقع الملموس يثبت خلاف ذلك لا سيّما من تصفّح التاريخ والحديث.

فهذا هو الإمام البخاري يروي في حقّ الصحابة ما مرّ من ارتدادهم ، كما مرّ في ص 27.

ثمّ إنّ قوله : هم الذين يلونهم : يهدف إلى التابعين وفيهم الأمويون ، فهل يمكن أن نعدَّ عصر الأمويين خير القرون وقد لوّنوا وجه الأرض بدماء الأبرياء ، وقتلوا سبط النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في كربلاء عطشاناً وذبحوا أولاده وأصحابه ، وهتكوا حرمة الكعبة.

وهذا هو الحجاج صنيعة أيديهم اقترف من الجرائم البشعة ما يندى لها جبين الإنسانية ، ولا أُطيل الكلام في ذلك والتاريخ خير شاهد على كذب هذه الرواية ووضعها من قبل سماسرة الحديث لتطهير الجهاز الحاكم الأموي ممّا

ص : 594

ارتكبه.

ويكفي في ذلك ما علّقه أبو المعالي الجويني على هذا الحديث ، قائلاً :

وما يدلّ على بطلانه أنّ القرن الذي جاء بعده بخمسين سنة ، شرّ قرون الدنيا وهو أحد القرون التي ذكرها في النصّ ، وكان ذلك القرن هو القرن الذي قُتل فيه الحسين ، وأُوقع بالمدينة ، وحوصرت مكة ، ونقضت الكعبة ، وشربت خلفاؤه والقائمون مقامه المنتصبون في منصب النبوة ، الخمورَ وارتكبوا الفجور ، كما جرى ليزيد بن معاوية ولزيد بن عاتكة وللوليد بن يزيد ، وأُريقت الدماء الحرام ، وقتل المسلمون وسبي الحريم ، واستعبد أبناء المهاجرين والأنصار ونُقش على أيديهم كما ينقش على أيدي الروم ، وذلك في خلافة عبد الملك ، وإمرة الحجاج ، وإذا تأمّلت كتب التواريخ وجدت الخمسين الثانية ، شراً كلها ، لا خير فيها ولا في رؤسائها وأمرائها ، والناس برؤسائهم وأُمرائهم أشبه ، والقرن خمسون سنة فكيف يصحّ هذا الخبر؟ (1)

ص : 595


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 20 / 29 والرسالة مبسوطة جديرة بالمطالعة.

13- موعظة شافية

اشارة

أُريد أن أذكر في خاتمة المطاف كلمة فيها صلاح الإسلام والمسلمين ، وهي موعظة شافية لكلّ من ألقى السمع وهو شهيد ، وهي :

1. إذا كان السبُّ هو النيل من كرامة الشخص بكلمات مبتذلة ولسان بذيء ، لغاية التشفّي وهدم كرامة المسبوب ، فالمسلمون بعامة طوائفهم إلاّ النواصب منزّهون عن تلك الوصمة ، وقد ملئت أسماعهم بقول الرسول : «وسباب المسلم فسق ، وقتاله كفر».

وأمّا الرائج بين المحقّقين فليس من مقولة السبّ إنّما هو دراسة أحوال الصحابة من زاوية الحديث والتاريخ ، وهذا ليس سبّاً ، بل نقداً لحياة الشخص ، وأين هو من السبِّ؟

يقول الشيخ عبد الله الهروي الشافعي المعروف بالحبشي : ليس من سب الصحابة القول إنّ مقاتلي علي منهم بغاة ، لأنّ هذا ممّا صرّح به الحديث بالنسبة لبعضهم وهم أهل صفين ، وقد روى البيهقي في كتابه الاعتقاد باسناده المتصل إلى محمد بن إسحاق وهو ابن خزيمة قال : «وكلّ من نازع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في إمارته فهو باغ» وعلى هذا عهدتُ مشايخنا ، وبه قال ابن إدريس يعني

ص : 596

الشافعي ، فلا يُعدُّ ذكر ما جاء في حديث البخاري سبّاً للصحابة إلاّ من بعد عن التحقيق العلمي فليتفطن لذلك. (1)

وقال أيضاً : وهذا الحسن البصري (2) الذي قيل فيه انّه سيد التابعين (وإن كنّا نقول إنّ سيد التابعين أُويس القرني أخذاً بحديث مسلم) ، فانّه قال : لمّا مات عمرو بن العاص وهو يردّد لا إله إلاّ الله : وكيف إذا جاء بلا إله إلاّ الله وقد قتل أهلَ لا إله إلاّ الله. (3)

2. انّ النقد لا يعدّ سبّاً إذا كان لغرض شرعي صحيح ، بل يكون بنّاءً ، ويشهد لذلك حديث مسلم وأبي داود انّ رجلاً خطب عند رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال في خطبته من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فقد غوى ، فقال له رسول الله : بئس الخطيب أنت. (4)

وقد كان البحث حول محاربي عليّ في الجمل وصفين والنهروان قائماً على قدم وساق ، وقد كثر الكلام حول من نكث البيعة وحارب علياً في صفين وغيرها.

هذا هو أبو منصور البغدادي يقول في كتابه «الفرق بين الفرق» ما نصّه :

وقالوا - أي أهل السنّة - بإمامة علي في وقته ، وقالوا بتصويب علي في حروبه بالبصرة وبصفين وبالنهروان ، وقالوا بأنّ طلحة والزبير تابا ورجعا عن قتال علي ، لكن الزبير قتله عمرو بن جرموز بوادي السباع بعد منصرفه من الحرب ، وطلحة لما همّ بالانصراف رماه مروان بن الحكم وكان مع أصحاب الجمل بسهم فقتله ،

ص : 597


1- المقالات السنية : 360.
2- اتحاف السادة المتقين 10 / 333.
3- المقالات السنية : 360.
4- صحيح مسلم : 3 / 12 - 13 ، كتاب الجمعة ، باب تحقيق الصلاة والخطبة ؛ سنن أبي داود : 1 / 288 ، كتاب الحجّة ، باب الرجل يخطب على قوس ، رقم الحديث 1099.

وقالوا : إنّ عائشة قصدت الإصلاح بين الفريقين ، فغلبها بنو ضبّة والأزد على رأيها ، وقاتلوا علياً دون إذنها حتّى كان من الأمر ما كان. (1)

وقال في كتاب أُصول الدين : أجمع أصحابنا على أنّ علياً رضي الله عنه كان مصيباً في قتال أصحاب الجمل وفي قتال أصحاب معاوية بصفين ، وقالوا في الذين قاتلوه بالبصرة : انّهم كانوا على الخطأ ، وقالوا في عائشة وفي طلحة والزبير : انّهم أخطئوا ولم يفسقوا ، لأنّ عائشة قصدت الإصلاح بين الفريقين فغلبها بنو ضبة وبنو الأزد على رأيها ، فقاتلوا علياً فهم الذين فسقوا دونها ، وأمّا الزبير فانّه لما كلمه عليّ يوم الجمل عرف أنّه على الحقّ فترك قتاله وهرب من المعركة راجعاً إلى مكة ، فأدركه عمرو بن جرموز بوادي السباع فقتله وحمل رأسه إلى علي فبشره علي بالنار ، وأمّا طلحة فانّه لمّا رأى القتال بين الفريقين همّ بالرجوع إلى مكة ، فرماه مروان بن الحكم بسهم فقتله ، فهؤلاء الثلاثة بريئون من الفسق والباقون من أتباعهم الذين قاتلوا علياً فسقة ، وأمّا أصحاب معاوية فانّهم بغوا ، وسمّاهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بغاة في قوله لعمار : «تقتلك الفئة الباغية» ولم يكفروا بهذا البغي. (2)

نحن وإن لم نكن نوافق بعض ما جاء في بنود هذا النص ، وإنّما نستشهد به على أنّ دراسة أحوال الصحابة إذا كانت دراسة نزيهة لا تعدّ من السب بشيء.

وقال الحافظ الذهبي في «سير اعلام النبلاء» : لا ريب انّ عائشة ندمت ندامة كلية على مسيرها إلى البصرة وحضورها يوم الجمل ، وما ظنّت انّ الأمر يبلغ ما بلغ ، فعن عمارة بن عمير عمّن سمع عائشة إذا قرأت : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ)

ص : 598


1- الفرق بين الفرق : 350 - 351 ، باب بيان الأُصول التي اجتمع عليها أهل السنّة.
2- أُصول الدين : 289 - 290.

بكت حتّى تبل خمارها. (1)

وذكر مثل ذلك القرطبي وأبو حيان في تفسيره ، قال : وكانت عائشة إذا قرأت هذه الآية يعني آية (يا نِساءَ النَّبِيِ) بكت حتّى تبلّ خمارها ، تتذكر خروجها أيام الجمل تطلب بدم عثمان. (2)

وفي كتاب دلائل النبوة للبيهقي ما نصه : «عن أُمّ سلمة ، قالت : ذكر النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - خروج بعض نسائه أُمّهات المؤمنين ، فضحكت عائشة ، فقال : انظري يا حميراء ، أن لا تكوني أنت.

ثمّ التفت إلى عليّ فقال : يا علي إن ولِّيت من أمرها شيئاً فارفق بها. (3)

ونحن أيضاً لا نوافق بعض ما جاء في هذه الكلمات ، لكن الاستشهاد بها مثل ما سبق.

هذا وقد تضافر انّ الحافظ النسائي قال : لمّا دخلت دمشق وجدت أهلها منحرفين عن علي بن أبي طالب ، ولمّا علموا انّي عملتُ خصائص عليّ - عليه السلام - طلبوا أن أعمل خصائص معاوية ، فقلت : ما ذا أخرج له ، أخرج له لا أشبع الله بطنه. (4)

فصاروا يضربونه في خصيته فحمل من دمشق إلى الرملة فتوفي بها.

وهذا هو علي أفضل الصحابة وأوّل من آمن بالنبي ينقد صاحبي رسول الله كما ذكره الحافظ ابن حجر في المطالب العالية ، قال : إنّ صاحبي علي رضي الله عنه

ص : 599


1- سير اعلام النبلاء : 2 / 177.
2- الجامع لأحكام القرآن : 14 / 180.
3- دلائل النبوة : 6 / 411.
4- أخرجه مسلم في صحيحه : كتاب السير والصلة والآداب ، باب من لعنه النبي أو سبّه أو دعا عليه.

عبد الله بن الكواء وابن عباد سألاه عن طلحة والزبير قالا : فأخبرنا عن ملك هذين الرجلين (يعنيان طلحة والزبير) صاحباك في الهجرة وصاحباك في بيعة الرضوان وصاحباك في المشورة ، فقال : بايعاني بالمدينة وخالفاني بالبصرة ، وعزاه لإسحاق بن راهويه ، قال الحافظ البوصيري : رواه إسحاق بسند صحيح. (1)

ونحن لا نطيل الكلام بذكر نظائرها في غير من قاتل علياً ، فقد جرت السيرة على عدم الإمساك عمّا شجر بين الصحابة وما صدر عنهم ، وإن صدر الأمر بالإمساك عن عمر بن عبد العزيز وغيره.

روى الحافظ الذهبي في كتاب «سير اعلام النبلاء» ما هذا حاصله : اتّهم المغيرة بن شعبة بالزنا وهو أمير الكوفة في عصر الخليفة عمر بن الخطاب وشهد عليه شهود أربعة ، منهم أبو بكرة ونافع وشبل فشهدوا على أنّهم رأوه يولجه ويخرجه ويلج ولج المِروَد في المكحلة ، فلمّا حاول رابع الشهود وهو زياد بن أبيه ، حاول الخليفة أن يدرأ عنه الحد للشبهة ، فخاطبه بقوله : إنّي لأرى رجلاً لم يخز الله على لسانه رجلاً من المهاجرين ، فقال له الخليفة : أرأيتَه يُدخله كالميل في المكحلة؟ فقال : لا ولكنّي رأيت مجلساً قبيحاً وسمعت نفساً عالياً ورأيته تبطنها. (2)

فلو كانت الصحابة عدولاً ، لما استمع الخليفة إلى الشهادات ، ولرفضها ابتداءً!! ولو كانت دراسة سيرة الصحابي ، سبّاً له ، لعزّر الخليفة الشهود بالسبّ ، دون أن يسأل واحداً واحداً منهم عن صحّة الواقعة.

ص : 600


1- المطالب العالية ، باب قتال أهل البغي : 4 / 296.
2- سير اعلام النبلاء : 3 / 28 برقم 7 ؛ الأغاني : 14 / 146 ؛ تاريخ الطبري : 4 / 207 ؛ الكامل : 2 / 228.

3. لا شكّ انّ الآيات قد أثنت على جمع من الصحابة وقد أوضحنا مقاصدها ، ومع ذلك كلّه فالثناء ثناء جمعي لا يتعلّق بآحادهم ، نظير الثناء على قوم بني إسرائيل في قوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ). (1)

وقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ). (2)

وقد أدرك بعض المحقّقين من أهل السنّة انّ وصف الصحابة بالعدالة كلّهم يخالف ما روي في حقّهم ، ولذلك عاد إلى تفسير هذا الكلام وقال : إنّه ليس معنى «الصحابة كلّهم عدول» انّ كلاً منهم سالم من الكبيرة ، فانّه بعيد من الصواب ، لأنّ منهم من سمع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو يقول : «لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» ثمّ قاتل مع معاوية فكان قاتل عمار بن ياسر ، ثمّ كان يتبجّح بذلك ويقول لمّا يأتي إلى أبواب بني أُمية : «قاتلُ عمار بالباب» ، فهل يحكم لهذا بانّه عدل بمعنى انّه سالم من الكبائر؟! إنّما معنى قول أُولئك المحدِّثين انّهم لا يتّهمون بالكذب على الرسول فيما يروونه من الأحاديث عنه ، أليس قتل عمار من أفسق الفسق؟! فقد خالف قول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي سمعه منه وهذا الغادر هو أبو الغادية الجهني. (3)

قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» عند شرح الحديث الذي فيه قصة حاطب بن أبي بلتعة ما نصّه : وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدّم انّ المؤمن

ص : 601


1- البقرة : 47.
2- الجاثية : 16.
3- المقالات السنية : 365.

ولو بلغ بالصلاح أن يقطع له بالجنة ، لا يعصم من الوقوع في الذنب. (1)

4. انّ الاعتقاد المُسْبق بعدالة الصحابة آل - في كثير من الأحيان - بمحقّقي أهل السنّة إلى عدم التدبّر العميق في التاريخ ونقده ، ممّا أدّى إلى وقوعهم في مأزق كبير حفاظاً على ذلك المعتقد ، وهو إسدال الستار على كثير من حقائق التاريخ التي حدثت بعد رحيل الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ودامت حوالي قرن واحد ، فتراهم يؤولون ما صدر عن الصحابة من التكفير والتفسيق والنهب والقتل بالاتّكاء على النظرية القائلة : بأنّهم كانوا مجتهدين مخطئين ، ومثابين في الوقت نفسه!! حتّى أنّ من كثر خطأه زاد ثوابه وأجره ، وهذا من غرائب الأُمور.

أوَما آن للمحقّقين من أهل السنّة أن يخوضوا عباب التاريخ نقداً وتمحيصاً ، ويرفعوا ربقة التقليد للسلف والجري وراءهم ، لكي يفهموا التاريخ على ما هو عليه ويرفعوا اليد عن الاعتقاد بعدالة كلّ صحابي بلا استثناء.

إنّ الدعاية الأموية لغاية ترسيخ ملكهم وإبعاد الناس عن أئمة أهل البيت - عليهم السلام - حاكت حول الصحابة حالة قدسية وهمية على نحو لم ترخص فيه لأحد الخروج عن هذا الإطار والتدبّر فيما شجر بين الصحابة من مشاجرات.

إنّ الدعاية الأموية نشرت بين الناس أكاذيب وتهماً حول الشيعة للمساس بهم ، من سبّ الصحابة وبغضهم وتفسيقهم وكفرهم ، وهذا - شهيدي الله - كذب بلا مرية ، وفرية يتحمل أوزارها آل أُمية وآل مروان.

فكيف يمكن للشيعة أن تبغض الصحابة مع أنّ رواد التشيع كانوا منهم وقد حفل التاريخ بأسمائهم وتشيعهم؟!

ص : 602


1- فتح الباري : 12 / 310.

وليس عند الشيعة في هذا المجال إلاّ مسألة «عدالة الصحابة بأجمعهم» ، فإنّهم لا يعتقدون بعدالة الكلّ ، ويقولون : إنّ مثلهم بين المسلمين كمثل التابعين ، وهذا أمر يوافقه الكتاب العزيز والسنّة النبوية والتاريخ الصحيح.

5. وممّا يدلّ على إكبار الشيعة لصحابة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وتبجيلهم لهم ، انّ الكتب الرجالية للشيعة لم تزل إلى يومنا هذا تحتفل بذكر أسماء الصحابة كلّ حسب وسع المؤلّفين وطاقتهم.

هذا هو رجال البرقي من الأُصول الرجالية ، وقد أدرج في رجاله أسماء صحابة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قبل صحابة سائر الأئمة.

وهذا هو الشيخ الطوسي في كتابه المعروف ب - «رجال الطوسي» أدرج في كتاب في باب من روى عن النبي أسماء 430 شخصاً من الصحابة ، كما أنّه أدرج من الصحابيات أسماء 38 امرأة ، فاشتمل الكتاب على ترجمة 468 شخصاً. (1)

وقد تبعه غير واحد من أصحاب المعاجم فذكروا أسماء جمع غفير من الصحابة الذين لهم رواية عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ممّا يدلّ على أنّ للصحابة مقاماً ومكرمة لدى الشيعة ، إلاّ ما قامت البيّنة على إعراضهم عن الطريق المهيع.

6. روّاد التشيّع من الصحابة

إنّ التشيع ليس إلاّ نفس الإسلام الذي اتّفق عليه الفريقان ، ويختلف عن سائر الفرق في مسألة التنصيص على الخلافة ، فالشيعة الأوائل هم الذين اتّبعوا قول الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - في حقّ علي - عليه السلام - وكانوا مع علي - عليه السلام - في حياة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وبعد

ص : 603


1- رجال الشيخ ، باب من روى عن النبي من الصحابة ، ص 24 - 53.

رحيله.

فها نحن نضع أمام القارئ الكريم قائمة بأسماء ثلّة من الصحابة الذين شهدت أعمالهم على أوصافهم ، وأفعالهم على نيّاتهم ، وأثنى أصحاب الرجال والتراجم عليهم أو على الأقل سكت عنهم التاريخ ، ولنكتف بذكر القليل منهم عن الكثير ، وهم :

جندب بن جنادة (أبو ذر الغفاري) ، عمار بن ياسر ، سلمان الفارسي ، المقداد بن عمرو بن ثعلبة الكندي ، حذيفة بن اليمان صاحب سرّ النبيّ ، خزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين ، الخباب بن الأرت التميمي ، سعد بن مالك أبو سعيد الخدري ، أبو الهيثم بن التيهان الأنصاري ، قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ، أنس بن الحرث بن منبه أحد شهداء كربلاء ، أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد الذي استضاف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عند دخوله المدينة ، جابر بن عبد الله الأنصاري أحد أصحاب بيعة العقبة ، هاشم بن عتبة بن أبي وقاص المرقال فاتح جلولاء ، مالك بن الحارث الأشتر النخعي ، مالك بن نويرة ردف الملوك الذي قتله خالد بن الوليد ، البراء بن عازب الأنصاري ، أُبيّ بن كعب سيد القرّاء ، عبادة بن الصامت الأنصاري ، عبد الله بن مسعود صاحب وضوء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ومن سادات القرّاء ، أبو الأسود الدؤلي ظالم بن عمير واضع أُسس النحو بأمر الإمام عليّ ، خالد بن سعيد بن أبي عامر بن أُمية بن عبد شمس خامس من أسلم ، أُسيد بن ثعلبة الأنصاري من أهل بدر ، الأسود بن عيسى بن وهب من أهل بدر ، بشير بن مسعود الأنصاري من أهل بدر ومن القتلى بواقعة الحرة بالمدينة ، ثابت أبو فضالة الأنصاري من أهل بدر ، الحارث بن النعمان بن أُمية الأنصاري من أهل بدر ، رافع بن خديج

ص : 604

الأنصاري ممّن شهد أُحداً ولم يبلغ وأجازه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، كعب بن عمير بن عبادة الأنصاري من أهل بدر ، سماك بن خرشة أبو دجانة الأنصاري من أهل بدر ، سهيل بن عمرو الأنصاري من أهل بدر ، عتيك بن التيهان من أهل بدر ، ثابت بن عبيد الأنصاري من أهل بدر ، ثابت بن حطيم بن عدي الأنصاري من أهل بدر ، سهل بن حنيف الأنصاري من أهل بدر ، أبو مسعود عقبة بن عمرو من أهل بدر ، أبو رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي شهد مشاهده كلّها مع مشاهد عليّ - عليه السلام - وممّن بايع البيعتين : العقبة والرضوان وهاجر الهجرتين : للحبشة مع جعفر وللمدينة مع المسلمين ، أبو بردة بن دينار الأنصاري من أهل بدر ، أبو عمر الأنصاري من أهل بدر ، أبو قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري من أهل بدر ، عقبة بن عمر بن ثعلبة الأنصاري من أهل بدر ، قرظة بن كعب الأنصاري ، بشير بن عبد المنذر الأنصاري أحد النقباء ببيعة العقبة ، يزيد بن نويرة بن الحارث الأنصاري ممّن شهد له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالجنة ، ثابت بن عبد الله الأنصاري ، جبلة بن ثعلبة الأنصاري ، جبلة بن عمير بن أوس الأنصاري ، حبيب بن بديل بن ورقاء الخزاعي ، زيد بن أرقم الأنصاري شهد مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بضعة عشر وقعة ، أعين بن ضبيعة بن ناجية التميمي ، يزيد الأسلمي من أهل بيعة الرضوان ، تميم بن خزام ، جندب بن زهير الأزدي ، جعدة بن هبيرة المخزومي ، جارية بن قدامة التميمي السعدي ، جبير بن الحباب الأنصاري ، حبيب بن مظاهر الأسدي ، حكيم بن جبلة العبدي ، خالد بن أبي دجانة الأنصاري ، خالد بن الوليد الأنصاري ، زيد بن صوحان العبدي ، الحجاج بن عمرو بن غزية الأنصاري ، زيد بن شرحبيل الأنصاري ، زيد بن جبلة التميمي ، بديل بن ورقاء الخزاعي ، أبو عثمان الأنصاري ، مسعود بن مالك

ص : 605

الأسدي ، ثعلبة أبو عمرة الأنصاري ، أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي ، عبد الله بن حزام الأنصاري شهيد أُحد ، سعد بن منصور الثقفي ، سعد بن الحارث بن الصمد الأنصاري ، الحارث بن عمر الأنصاري ، سليمان بن صرد الخزاعي ، شرحبيل بن مرّة الهمداني ، شبيب بن رت النميري ، سهل بن عمر صاحب المربد ، سهيل بن عمر أخو سهل المار ذكره ، عبد الرحمن الخزاعي ، عبد الله بن خراش ، عبد الله بن سهيل الأنصاري ، عبيد الله بن العازر ، عدي بن حاتم الطائي ، عروة بن مالك الأسلمي ، عقبة بن عامر السلمي ، عمر بن هلال الأنصاري ، عمر بن أنس بن عون الأنصاري من أهل بدر ، هند بن أبي هالة الأسدي ، وهب بن عبد الله بن مسلم بن جنادة ، هاني بن عروة المذحجي ، هبيرة بن النعمان الجعفي ، يزيد بن قيس بن عبد الله ، يزيد بن حوثرة الأنصاري ، يعلى بن عمير النهدي ، أنس بن مدرك الخثعمي ، عمرو العبدي الليثي ، عميرة الليثي ، عليم بن سلمة الفهمي ، عمير بن حارث السلمي ، علباء بن الهيثم بن جرير وأبوه الهيثم من قواد الحملة في قتال الفرس بواقعة ذي قار ، عون بن عبد الله الأزدي ، علاء بن عمر الأنصاري ، نهشل بن ضمرة الحنظلي ، المهاجر بن خالد المخزومي ، مخنف بن سليم الأزدي ، محمد بن عمير التميمي ، حازم بن أبي حازم البجلي ، عبيد بن التيهان الأنصاري وهو أوّل المبايعين للنبي ليلة العقبة ، أبو فضالة الأنصاري ، أويس القرني الأنصاري ، زياد بن النضر الحارثي ، عوض بن علاط السلمي ، معاذ بن عفراء الأنصاري ، علاء بن عروة الأزدي ، الحارث بن حسان الذهلي صاحب راية بكر بن وائل ، بجير بن دلجة ، يزيد بن حجية التميمي ، عامر بن قيس الطائي ، رافع الغطفاني الأشجعي ، وأبان بن سعيد بن العاص بن أُمية بن عبد شمس من أُمراء السرايا أيّام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ومن خلّص أصحاب الإمام علي - عليه السلام - وأمثالهم من

ص : 606

الصحابة الكرام.

فهؤلاء هم طليعة الصحابة وسنام العرب من المهاجرين والأنصار ، قد استضاءوا بنور النبوّة والوحي واستقامت أُمورهم وكانوا على الصراط المستقيم في حياتهم ، وكم لهم من نظائر في صحابة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أعرضنا عن ذكرهم مخافة الإطناب.

7. انّ أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - كانوا باستمرار يدعون للصحابة ويترضّون عليهم ، ومن المعلوم أنّهم - عليهم السلام - يدعون للصالحين وما أكثر الصالحين فيهم يقول الإمام أمير المؤمنين - عليه السلام - في بعض خطبه مادحاً أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - :

لقد رأيت أصحاب محمّد - صلى الله عليه وآله وسلم - فما أرى أحداً منكم يشبههم ، لقد كانوا يصبحون شُعثاً غبراً ، وقد باتوا سجّداً وقياماً ، يراوحون بين جباههم وخدودهم ، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم ، كأنّ بين أعينهم رُكَبَ المعزى من طول سجودهم ، إذا ذُكر الله هملت أعينهم حتّى تَبُلَّ جيوبهم ، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف ، خوفاً من العقاب ورجاءً للثواب». (1)

وقال أيضاً مادحاً أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : أين القوم الذين دُعوا إلى الإسلام فقبلوه ، وقرءوا القرآن فأحكموه ، وهيجُوا إلى القتال فولهوا وله اللقاح إلى أولادها ، وسلبوا السيوف أغمادها ، وأخذوا بأطراف الأرض زحفاً زحفاً ، وَصَفّاً صفّاً ، بعضٌ هلك ، وبعض نجا ، لا يُبَشّرون بالأحياء ، ولا يُعَزَّونَ عن الموتى ، مُرْهُ العيون من البكاء ، خمصُ البطون من الصيام ، ذُبَّل الشفاه من الدعاء ، صُفرُ الألوان من السَّهَر ، على وجوههم غبرة الخاشعين ، أُولئك إخواني الذاهبون ، فحقّ

ص : 607


1- نهج البلاغة : الخطبة 93 ، شرح محمد عبده ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 7 / 77.

لنا أن نظمأ إليهم ، ونعضَّ الأيدي على فراقهم». (1)

وللأئمّة المعصومين كلمات أُخرى حول الصحابة غير ما ذكرناه ، منقولة في كتب الشيعة ، وهذا هو الإمام زين العابدين - عليه السلام - يقول في دعائه : «اللهمّ وأصحاب محمّد - صلى الله عليه وآله وسلم - خاصة الذين أحسنوا الصحبة والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره ، وكاتفوه وأسرعوا إلى وفادته ، وسابقوا إلى دعوته ...». (2)

هذا ونختم الفصل بذكر حوار دار بين الحسن البصري وعالم من علماء الزيدية ، وبما أنّ «الحقيقة بنت البحث» (3) يكون لنشر هذا الحوار أهمية لا تخفى على القارئ الكريم.

ص : 608


1- نهج البلاغة : الخطبة 117 ، شرح محمد عبده ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 7 / 291.
2- الصحيفة السجادية : الدعاء الرابع.
3- مثل سائر.
خاتمة المطاف

14- مناظرة بين الحسن البصري وعالم زيدي

اشارة

الحسن البصري أحد التابعين ، وقد توفّي 110 ه ، وكانت له حلقات تدريس ووعظ في البصرة ، وهو ممّن كان يتبنّى عدالة الصحابة ونزاهتهم عن كلّ رين وشين.

ولما كانت تلك العقيدة بعيدة عن الكتاب والسنّة ومخالفةً لما جاء من الآيات الكريمة والأحاديث الشريطة ، دعا أحد علماء الزيدية إلى نقد كلامه ، وقد نقل تلك المناظرة السيد المدنيّ في كتابه.

ونحن سنذكر نصّ كلام البصري والزيدي ونترك القضاء إلى القارئ الكريم.

نظرية الحسن البصري في صحابة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -

قال : حينما ذكرت عنده حرب الجمل وصفين : «تلك دماء طهر الله منها أسيافنا ، فلا نلطخ فيها ألسنتنا ، ثمّ إنّ تلك الأحوال قد غابت عنّا ، وبعُدت

ص : 609

أخبارها على حقائقها فلا يليق بنا أن نخوض فيها ، ولو كان واحد من هؤلاء قد أخطأ لوجب أن يحفظ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فيه ، فمن المروءة أن يحفظ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في عائشة زوجته ، وفي الزبير ابن عمته ، وفي طلحة الّذي وقاه بيده ، ثمّ ما الّذي ألزمنا وأوجب علينا أن نلعن أحداً من المسلمين أو نبرأ منه ، وأي ثواب في اللعنة والبراءة ، إنّ الله تعالى لا يقول يوم القيامة للمكلّف لِمَ لَمْ تَلعن؟ بل يقول له : لِمَ لعنت؟ ولو انّ إنساناً عاش عمره كلّه لم يلعن إبليس لم يكن عاصياً ولا آثماً ، ولو جعل الإنسان عوض اللعنة استغفر الله كان خيراً له ؛ ثمّ كيف يجوز للعامة أن تدخل نفسها في أُمور الخاصة؟ وأُولئك قوم كانوا أُمراء هذه الأُمّة وقادتها ، ونحن اليوم في طبقة سافلة جدّاً عنهم ، فكيف يحسن بنا التعرض لذكرهم؟ أليس بقبيح من الرعية أن تخوض في دقائق أُمور الملك وأحواله ، وشئونه التي ترى بينه وبين أهله وبني عمه ونسائه ومراديه؟ وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - صهراً لمعاوية ، وأُخته أُمّ حبيبة تحته ، فالأدب أن تحفظ أُمّ حبيبة وهي أُمّ المؤمنين في أخيها ، وكيف يجوز أن يلعن من جعل بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مودة ، أليس المفسّرون كلّهم قالوا : هذه الآية نزلت في أبي سفيان وهي قوله تعالى : (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) (1) ، وكان ذلك مصاهرة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أبا سفيان وتزوجه ابنته ... على أنّ جميع ما تنقله الشيعة من الاختلاف بينهم والمشاجرة لم يثبت ، ولم يكن القوم إلاّ كبني أُمّ واحدة ، ولم يتكدر باطن أحد منهم على صاحبه قط ، ولا وقع بينهم اختلاف ولا نزاع ...». انتهى كلام البصري.

ص : 610


1- الممتحنة : 7.
نقد العالم الزيدي رأي الحسن

قال : ما هذا نصّه : «لو لا انّ الله تعالى أوجب معاداة أعدائه ، كما أوجب موالاة أوليائه ، وضيّق على المسلمين تركها ، إذ دلّ العقل عليها ، وأوضح الخبر عنها ، يقول سبحانه : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) (1) وقوله تعالى : (لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) (2) ، وقوله تعالى : (وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ). (3)

ولإجماع المسلمين على أنّ الله تعالى فرض عداوة أعدائه ، وولاية أوليائه وانّ البغض في الله واجب ، والحبّ في الله واجب ... لما تعرضنا لمعاداة أحد من الناس في الدين ، ولا البراءة منه ، ولكانت عداوتنا للقوم تكلّفاً ، ولو قلنا : إنّ الله عزّ وجلّ يعذرنا إذا قلنا : يا رب غاب أمرهم عنّا فلم يكن لخوضنا في أمر قد غاب عنّا معنى ، لاعتمدنا على هذا العذر وواليناهم ولكنا نخاف أن يقول سبحانه لنا : إن كان أمرهم قد غاب عن أبصاركم فلم يغب عن قلوبكم وأسماعكم ، قد أتتكم به الأخبار الصحيحة التي بمثلها ألزمتم أنفسكم الإقرار بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وموالاة من صدقه ، ومعاداة من عصاه وجحده ، وأمرتم بتدبّر القرآن ، وما جاء به الرسول ، فهلا حذرتم من أن تكونوا من أهل هذه الآية القائلين غداً : (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا). (4)

ص : 611


1- المجادلة : 22.
2- الممتحنة : 13.
3- المائدة : 81.
4- الأحزاب : 67.

فأمّا لفظة اللعن فقد أمر الله بها وأوجبها ألا ترى قوله تعالى : (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ) (1) فهو إخبار معناه الأمر ، كقوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (2) ، وقد لعن الله تعالى الغاصبين بقوله : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ) (3) ، وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) (4) ، وقوله : (مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً). (5) وقال الله لإبليس : (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ) (6) وقال : (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً). (7)

فأمّا قول من يقول : أي ثواب في اللعن؟ وانّ الله تعالى لا يقول للمكلف : لِمَ لَمْ تلعن؟ بل قد يقول له : لِمَ لعنت؟ وانّه لو جعل مكان لعن الله فلاناً اللهمّ اغفر لي لكان خيراً له ، ولو انّ إنساناً عاش عمره كله ولم يلعن إبليس لم يؤاخذ بذلك ... فكلام جاهل لا يدري ما يقول ، اللعن طاعة لله ، ويستحقّ عليها الثواب إذا فعلت على وجهها ، وهو أن يلعن مستحق اللعنة لله وفي الله ، لا في المعصية والهوى ، لأنّ الشرع قد ورد بها في نفي الولد ، ونطق بها القرآن ، وهو أن يقول الزوج في الخامسة «انّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين» فلو لم يكن الله تعالى يريد أن يتلفظ عباده بهذه اللفظة ، لما جعلها من معالم الشرع ولما كررها في كثير من كتابه العزيز.

ص : 612


1- البقرة : 159.
2- البقرة : 228.
3- المائدة : 78.
4- الأحزاب : 57.
5- الأحزاب : 61.
6- ص : 78.
7- الأحزاب : 64.
لعن بعضهم بعضاً

ودعم كلامه بكثير من الحجج القاطعة ، وأضاف بعد ذلك يقول : «وقد كان كثير من الصحابة يلعن عثمان وهو خليفة ، منهم : عائشة كانت تقول : اقتلوا نعثلاً». (1) لعن الله نعثلة ، ومنهم : عبد الله بن مسعود ، وقد لعن معاوية علي بن أبي طالب ، وابنيه حسناً وحسيناً وهم أحياء يرزقون في العراق ، وهو يلعنهم في الشام على المنابر ، ويقنت عليهم في الصلوات ، وقد لعن أبو بكر وعمر سعد بن عبادة وهو حي ، وبرئا منه ، وأخرجاه من المدينة إلى الشام ، ولعن عمر خالد بن الوليد لماّ قتل مالك بن نويرة ، وما زال اللعن ماشياً في المسلمين إذا عرفوا من الإنسان معصية تقتضي اللعن والبراءة.

ولو كان حفظ شخص معتبراً من أجل أبيه لوجب أن يحفظ الصحابة في أولادهم فلا يلعنوا ، فيجب أن لا يلعن عمر بن سعد قاتل الحسين من أجل أبيه - سعد - ولا يلعن يزيد من أجل أبيه معاوية ، ويزيد هو صاحب واقعة الحرة ، وقاتل الحسين ، وأن يحفظ عمر بن الخطاب في عبيد الله ابنه قاتل الهرمزان ، والمحارب علياً في صفين.

ولو كان الإمساك عن عداوة من عادى الله من أصحاب محمّد رسول الله من حفظ رسول الله في أصحابه ، ورعاية عهده وعقده لم نعادهم ولو ضربت رقابنا بالسيوف ، ولكن محبة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لأصحابه ليست كمحبة الجهال الذين يضع أحدهم حجته لصاحبه مع المعصية ، وإنّما أوجب رسول الله محبة أصحابه لطاعة

ص : 613


1- تاريخ الطبري : 4 / 459 ؛ الكامل : 3 / 206 ؛ النهاية لابن الأثير : 5 / 80 ؛ تذكرة الخواص : 64 و 66 ؛ الفتوح : 2 / 249 - 255.

الله فإذا عصوا الله وتركوا ما أوجب محبتهم ، فليس عند رسول الله محاباة في ترك لزوم ما كان عليه في محبتهم.

سيرة رسول الله في الأعداء والأولياء

لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يحب أن يعادي أعداء الله ولو كانوا عترته كما يحب أن يوالي أولياء الله ولو كانوا أبعد الخلق نسباً منه ، والشاهد على ذلك إجماع الأُمّة على أنّ الله تعالى أوجب عداوة من ارتد بعد الإسلام ، وعداوة من نافق وإن كان من أصحاب رسول الله ، وانّ رسول الله هو الذي أمر بذلك ودعا إليه ، فقد أوجب قطع يد السارق ، وضرب القاذف ، وجلد البكر إذا زنت ، وإن كان من المهاجرين والأنصار.

ألا ترى أنّه قال : لو سرقت فاطمة لقطعت يدها وهي ابنته الجارية مجرى نفسه لم يحابها في دين الله ولا راقبها في حدود الله ، وجلد أصحاب الإفك وفيهم سطح بن اثاثة وكان من أهل بدر ، فلو كان محل أصحاب رسول الله - عليه السلام - أن لا يعادون إذا عصوا الله ولا يذكرون بالقبيح لأجل اسم الصحبة لكان كذلك صاحب موسى المسطور ثناؤه في القرآن لمّا اتّبع هواه فانسلخ عمّا أُوتي من الآيات ، قال سبحانه : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) (1) ، ولكان ينبغي محل عبدة العجل من أصحاب موسى - عليه السلام - هذا المحل ، لأنّ هؤلاء كلهم قد صحبوا موسى رسولاً جليلاً من رسل الله تعالى ، ولو كانت الصحابة تعرف هذه المنزلة لالتزمت به مع أنّ الأمر على خلاف ذلك ، فهذا علي وعمار وأبو الهيثم بن التيهان ، وخزيمة بن ثابت ، وجميع من كان مع علي

ص : 614


1- الأعراف : 175.

من المهاجرين والأنصار لم يروا ذلك ، فلم يتغافلوا عن طلحة والزبير حتّى فعلوا بهما وبمن معهما ما يفعل بالشراة في عصرنا ، وهذا طلحة والزبير وعائشة ومن كان معهم وفي جانبهم لم يروا أن يمسكوا عن علي حتّى قصدوا له وحاربوه ، وهذا معاوية وعمرو لم يريا علياً بالعين التي يرى بها العامي صديقه أو جاره ولم يقصرا دون ضرب وجهه بالسيف ، ولعنه ولعن أولاده ، وكلّ من كان حياً من أهله ، وقتل أصحابه ، وقد لعنهما هو أيضاً في الصلاة المفروضة ولعن معهما أبا الأعور السلمي وأبا موسى الأشعري ، وكلاهما من الصحابة ، وهذا سعد بن أبي وقاص ومحمد بن سلمة وأُسامة بن زيد وسعد بن عمرو بن نفيل وعبد الله بن عمر وحسان بن ثابت وأنس بن مالك لم يروا أن يقلدوا علياً في حرب طلحة ، ولا طلحة في حرب علي ، وطلحة والزبير بإجماع المسلمين أفضل من هؤلاء المعدودين ، لأنّهم زعموا أنّهم قد خافوا أن يكون علي قد غلط وزل في حربهما ، وخافا أن يكونا قد زلا وغلطا في حرب علي ، وهذا عثمان قد نفى أبا ذر إلى الربذة كما يفعل بأهل الخنا والريب ، وهذا عمار وابن مسعود تلقيا عثمان بما تلقياه به لما ظهر لهما بزعمهما منه ما وعظاه لأجله ، ثمّ فعل عثمان ما تناهى إليكم ، ثمّ فعل القوم بعثمان ما قد علمتم وعلم الناس كلهم ، وهذا عمر يقول : في قصة الزبير بن العوام لما استأذنه في الغزو إنّي ممسك بباب هذا الشعب أن يتفرق أصحاب محمد في الناس فيضلوهم ... ولا أنكر الناس على عمر هذا القول ، ولا أنكروا على عثمان دوس بطن عمار ، ولا كسر ضلع أبي مسعود ، ولا على عمار وابن مسعود ما تلقيا به عثمان كإنكار العامة اليوم الخوض في حديث الصحابة ، ولا اعتقدت الصحابة في أنفسها ما تعتقده العامة فيها ، اللهمّ إلاّ أن يزعموا أنّهم أعرف بحق القوم منهم ، وهذا علي والعباس ما زالا على كلمة واحدة يكذبان الرواية «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» ويقولان : انّها

ص : 615

مختلقة ، قالا : وكيف كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يعرّف هذا الحكم غيرنا ويكتمه عنا ونحن الورثة ، ونحن أولى الناس بأن يؤدى هذا الحكم إلينا.

وهذا عمر بن الخطاب يشهد لأهل الشورى أنّهم النفر الذين توفّي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو عنهم راض ، ثمّ يأمر بضرب أعناقهم إن أخّروا فصل حال الإمامة بعد أن ثلبهم ، وقال في حقهم ما لو سمعه اليوم من قائل لوضعت ثوبه في عنقه سحبا إلى السلطان ، ثمّ شهدت عليه بالرفض واستحلت دمه ، فإن كان الطعن على بعض الصحابة رفضاً فعمر بن الخطاب أرفض الناس ، وإمام الروافض كلّهم ، وقد شاع واشتهر قول عمر : «كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرّها فمن عاد لمثلها فاقتلوه» ، وهذا طعن في العقد وقدح في البيعة الأصلية ، ثمّ ما نقل عنه في ذكر أبي بكر في خلواته قوله عن عبد الرحمن ابنه : إنّه دويبة سوء ، وهو خير من أبيه ، ثمّ عمر القائل في سعد بن عبادة رئيس الأنصار وسيدها : اقتلوا سعداً قتل الله سعداً اقتلوه فانّه منافق ، وقد شتم أبا هريرة وطعن في روايته ، وشتم خالد بن الوليد ، وطعن في دينه ، وحكم بفسقه ، وبوجوب قتله ، وخون عمرو بن العاص ، ومعاوية بن أبي سفيان ، ونسبهما إلى سرقة مال الفيء واقتطاعه ، وكان سريعاً إلى المساءة ، كثير الجبة والشتم والسب لكلّ أحد ، وقلّ أن يكون في الصحابة من سلم من معرة لسانه ويده ولذلك أبغضوه ، وملوا أيامه مع كثرة الفتوح فيها ، فهلا احترم عمر الصحابة كما تحترمهم العامة ، إمّا أن يكون عمر مخطئاً ، وإمّا أن تكون العامة على خطأ.

الصحابة كسائر الناس

إنّ غرضنا الذي يجري بكلامنا أن نوضح أنّ الصحابة قوم من الناس لهم ما

ص : 616

للناس ، وعليهم ما عليهم ، من أساء منهم ذممناه ، ومن أحسن منهم حمدناه وليس لهم على غيرهم من المسلمين كثير فضل إلاّ بمشاهدة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ومعاصرته لا غير ، بل ربما كانت ذنوبهم أفحش من ذنوب غيرهم ، لأنّهم شاهدوا الاعلام والمعجزات ، وقد قرب اعتقادهم من الضرورة ، ونحن لم نشاهد ذلك فكانت عقائدنا محض النظر والفكر ، وهي معرضة للشكوك والشبه ، فمعاصينا أخف لأنّنا أعذر.

ثمّ نعود إلى ما كنّا فيه ، فنقول : هذه عائشة أُمّ المؤمنين خرجت بقميص رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهي تقول : هذا قميص رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يبل وعثمان قد أبلى سنّته. اقتلوا نعثلاً قتل الله نعثلاً ، ثمّ لم ترض بذلك حتى قالت : أشهد أنّ عثمان جيفة على الصراط غداً ... فمن الناس من يقول : روت بذلك خبراً ، ومن الناس من يقول : موقوف عليها ، وبدون هذا لو قاله إنسان اليوم يكون عند العامة زنديقاً ، ثمّ قد حصر عثمان ، حصره أعيان الصحابة فما كان أحد ينكر ذلك ولا يعظمه ، ولا يسعى في إزالته ، وإنّما أنكر على المحاصرين رجل كما علمتم من وجوه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ثمّ من أشرافهم ، ثمّ أقرب إليه من أبي بكر وعمر ، وهو مع ذلك إمام المسلمين ، والمختار منهم للخلافة وهو الإمام علي.

فإن كان القوم قد أصابوا فإذن ليست الصحابة في الموضع الذي وضعتهم به العامة ، وإن كان ما أصابوا فهذا هو الذي نقول : من أنّ الخطأ جائز على آحاد الصحابة كما يجوز على آحادنا ، ولسنا نقدح في الإجماع ولسنا ندعي إجماعاً حقيقياً على قتل عثمان ، وإنّما نقول : إنّ كثيراً من المسلمين فعلوا ذلك ، والخصم يسلم أنّ ذلك كان خطأ ومعصية ، فقد سلم أنّ الصحابي يجوز أن يخطئ ويعصي وهو المطلوب.

ص : 617

من أُنكِرَ عليهم من الصحابة

وهذا المغيرة بن شعبة ، وهو من الصحابة ادّعي عليه الزنا وشهد عليه قوم بذلك ، فلم ينكر ذلك عمر ، ولا قال : هذا محال وباطل ، لأنّ هذا صحابي من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا يجوز عليه الزنا ، وهلا أنكر عمر على الشهود ، وقال لهم : ويحكم هلا تغافلتم عنه ، فإنّ الله قد أوجب الإمساك عن مساوئ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأوجب الستر عليهم ، وهلا تركتموه لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في قوله : «دعوا إليّ أصحابي» ما رأينا عمر إلاّ قد أنصت لسماع الدعوى ، وإقامة الشهادة وأقبل يقول : يا مغيرة ذهب ربعك ، ذهب نصفك ، يا مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك حتّى اضطرب الرابع فجلد الثلاثة ، وهلا قال المغيرة لعمر : كيف تسمع قول هؤلاء ، وليسوا من الصحابة ، وأنا من الصحابة ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قد قال : «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» ما رأيناه قال ذلك ، بلى استسلم لحكم الله تعالى.

وهاهنا من هو أمثل من المغيرة وأفضل قدامة بن مضعون لما شرب الخمر في أيّام عمر فأقام عليه الحدّ ، وهو رجل من علية الصحابة ومن أهل بدر المشهود لهم بالجنة ، فلم يرد عمر الشهادة ، ولا درأ عنه الحدّ لعلمه أنّه بدري ، ولا قال : نهى رسول الله عن ذكر مساوئ أصحابه.

وقد ضرب عمر أيضاً ابنه الحدّ فمات ، وكان ممّن عاصر رسول الله ، ولم تمنعه معاصرته له من إقامة الحدّ عليه ... وهذا علي - عليه السلام - قال : ما حدثني أحد بحديث عن رسول الله إلاّ استحلفته عليه ، أليس هذا اتهاماً لهم بالكذب وما استثنى أحداً من المسلمين إلاّ أبا بكر - على ما ورد في الخبر - وقد صرح غير مرّة بتكذيب أبي هريرة ، وقال : لا أحد أكذب من هذا الدوسي على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وقال أبو بكر في

ص : 618

مرضه الذي توفي فيه : «وددت أنّي لم أكشف بيت فاطمة ولو كان أغلق على حرب» ، فندم والندم لا يكون إلاّ عن ذنب ، ثمّ ينبغي للعاقل أن يفكر في تأخر علي عن بيعة أبي بكر ستة أشهر إلى أن ماتت فاطمة سلام الله عليها ، فإن كان مصيباً فأبو بكر على الخطأ في انتصابه للخلافة ، وإن كان مصيباً فعلي على الخطأ في تأخره عن البيعة وحضور المسجد.

وقال أبو بكر في مرضه للصحابة : فلما استخلفت عليكم خيركم في نفسي - يعني عمر - فكلكم ورم أنفه ، يريد أن يكون الأمر له ، لما رأيتم الدنيا قد جاءت ، أما والله لتتخذن ستائر الديباج ونضائد الحرير ... أليس هذا طعناً في الصحابة وتصريحاً بنسبتهم إلى الحسد لعمر لمّا نص عليه بالعهد؟! وقال له طلحة لمّا ذكر عمر للأمر : ما ذا تقول : لربك إذا سألك عن عباده وقد وليت عليهم فظاً غليظاً ، فقال أبو بكر : اجلسوني أبالله تخوفني إذا سألني قلت وليت عليهم خير أهلي ، ثم شتمه ، فهل قول طلحة إلاّ طعن في عمر؟! وهل قول أبي بكر إلاّ طعن في طلحة؟!

وسيتعرض العالم الزيدي إلى تأييد ما ذهب إليه بكثير من الأحداث التاريخية التي عرضت لطعن بعض الصحابة لبعضهم الأمر الذي يدلّ بوضوح على ضحالة ما قيل من عدالة الصحابة أجمعين اكتعين ، وأضاف الزيدي قائلاً :

حديث أصحابي كالنجوم وضعه الأمويّون

«وكيف يصحّ أن يقول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم». ولا شبهة انّ هذا يوجب أنّ أهل الشام وصفين على هدى ، وأن يكون أهل العراق أيضاً على هدى ، وأن يكون قاتل عمار بن ياسر مهتدياً ، وقد صحّ

ص : 619

الخبر الصحيح أنّه - صلى الله عليه وآله وسلم - قال له : تقتلك الفئة الباغية ، وقال الله في القرآن : (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) (1) ومن يفارق أمر الله تعالى لا يكون مهتدياً ، وكان يجب أن يكون بسر بن أرطاة الذي ذبح ولدي عبيد الله بن العباس الصغيرين مهتدياً لأنّ بسراً من الصحابة ، وكان يجب أن يكون عمرو بن العاص ومعاوية اللذين كانا يلعنان عليّاً في أدبار الصلاة وولديه مهتديين ، وقد شذ بعض الصحابة فشرب الخمر وزنا كابن محجن الثقفي ، فمن اقتدى به يكون مهتدياً ولا شبهة انّ هذا الحديث موضوع من موضوعات العصابة الأموية التي نصرت الأمويين بوضعها للأحاديث.

وذكر الزيدي بعض الأحاديث الموضوعة ثمّ قال :

فأمّا ما ورد في القرآن من قوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) (2) وقوله سبحانه : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ...) (3) ، وقول النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - : «إنّ الله اطّلع على أهل بدر» ، إن كان الخبر صحيحاً فانّه مشروط بسلامة العاقبة ، ولا يجوز أن يخبر الحكيم مكلفاً غير معصوم بأن لا عقاب له فليفعل ما شاء.

ومن أنصف وتأمّل أحوال الصحابة وجدهم مثلنا يجوز عليهم ما يجوز علينا ، ولا فرق بيننا وبينهم إلاّ الصحبة لا غير فإنّ لها منزلة وشرفاً ولكن لا إلى حد يمتنع على كلّ من رأى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وصحبه يوماً أو شهراً أو أكثر من ذلك أن لا يخطئ ويزل ، وأضاف الزيدي قائلاً :

ص : 620


1- الحجرات : 9.
2- الفتح : 18.
3- الفتح : 29.

ومن الذي يجترئ على القول بأنّ أصحاب محمّد - صلى الله عليه وآله وسلم - لا تجوز البراءة من أحدهم وإن أساء وعصى بعد قول الله تعالى لنبيه : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (1) ، وبعد قوله سبحانه : (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (2) ، وبعد قوله عزّ وجلّ : (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) (3). (4)

حصيلة البحث : أنّ الصحابة كبقية المسلمين يصيبون ويخطئون ، وفيهم العدول والمجروحون ، وأنّ الحكم بعدالتهم أجمعين حكم لا تساعد عليه الأدلة العلمية ، والوثائق التاريخية.

والحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات

ص : 621


1- الزمر : 65.
2- الأنعام : 15.
3- ص : 26.
4- الدرجات الرفيعة للسيد علي المدني ، صاحب سلافة العصر في أعيان أهل العصر (المتوفّى عام 1118) : 11 - 32.

ص : 622

فهرس محتويات الكتاب

مقدمة..... 5

الفصل الأوّل

التحسين والتقبيح العقليان

تمهيد... 9

دور القاعدة في العلوم الإنسانية... 11

1

ملاكات التحسين والتقبيح العقليين، وفيه وجوه 13

1. التحسين والتقبيح الذاتيان.... 12

2. التحسين والتقبيح في إطار المصالح والمفاسد العقلائية..... 13

3. موافقة العادات والتقاليد والأعراف... 14

ص : 623

2

تقسيم الحكمة إلى نظرية وعملية 16

تبييين الحكمة النظرية والحكمة العملية... 15

تفسير العقل النظري والعقل العملي... 15

3

تقسيم القضايا إلى ضرورية وغير ضرورية 16

تقسيم الحكمة النظرية إلى ضرورية وغير ضرورية.... 16

تقسيم الحكمة العملية أيضاً إلى القسمين بملاك واحد..... 16

4

أدلّة المثبتين للتحسين والتقبيح العقليين 18

1. قضاء العقل بذلك بداهة..... 18

2. لو لم يثبتا عقلاً، لما ثبتا شرعاً..... 19

3. إنكارهما يلازم امتناع إثبات الشرائع السماوية... 20

4. الحسن والقبح في الذكر الحكيم... 21

5

دراسة أدلّة المنكرين لهما 25

1. لو كانا بديهيّين لما اختلف فيهما اثنان، ونقده..... 26

2. الكذب النافع ليس بقبيح، ونقده.... 28

ص : 624

3. التحسين والتقبيح العقليان فرض تكليف على اللّه، ونقده.... 28

ما هو الدافع لانكار التحسين والتقبيح العقليين.... 30

4. جواز التكليف بمالا يطاق، ونقده.... 31

6

النتائج المترتبة على

التحسين والتقبيح العقليين 34

1. وجوب معرفة اللّه عقلاً.... 34

2. دليل وصفه سبحانه بالعدل والحكمة.... 35

3. لزوم اللطف على اللّه... 36

4. لزوم بعثة الأنبياء.... 37

5. حسن التكليف..... 38

6. لزوم تزويد الأنبياء بالبيّنات والمعاجز..... 38

7. لزوم النظر في برهان مدعي النبوة..... 38

8. تأثير القاعدة في العلم بصدق دعوى الأنبياء.... 39

9. الخاتمية واستمرار الأحكام..... 39

10 .. اللّه عادل لا يجور..... 39

11. ثبات الأخلاق والقِيَم.... 40

ما هو الملاك للثابت في القيم والمتغير منها؟..... 41

ص : 625

الفصل الثاني

الإنسان بين الجبر والتفويض 45

تمهيد..... 47

1

الجبر على مسرح التاريخ الإسلامي 49

سيادة فكرة الجبر على المشركين... 49

سيادة الفكرة على الخلفاء بعد رحيل الرسول.... 50

استغلال الأمويين للقدر السالب للاختيار... 51

التقدير المساوي للجبر، عقيدة مستوردة..... 53

حديث الفراغ من الأمر، بدعة يهودية... 54

2

أحاديث لا تفارق الجبر قيد شعرة 57

سبق الكتاب على مشيئة الإنسان.... 58

الشقاء والسعادة مكتوبان منذ انعقاد نطفته..... 59

3

مضاعفات القول بالجبر 60

1. انتفاء الغرض من بعثة الأنبياء..... 60

2. انتفاء فائدة المناهج التربوية.... 60

ص : 626

3. تكذيب الكتاب العزيز فكرةَ الجبر.... 61

4. الجبري في ساحة الحياة، مُدْعِم للاختيار..... 62

5. الجبر، واجهة لنيل المزيد من الحرية.... 63

4

شبهات وحلول 64

الشبهة الأُولى: مثلّث الشخصية..... 64

تأثير العوامل المكوّنة للشخصية، في حدّ الاقتضاء لا العلة التامة..... 66

الشبهة الثانية: أفعال الإنسان في إطار القضاء والقدر..... 68

القول بتعلّق التقدير بفعل الإنسان يؤكد الاختيار... 71

المعنى الأوّل للقضاء والقدر: السنن الكونية..... 73

المعنى الثاني للقضاء والقدر: علم اللّه الأزلي سبحانه.... 78

كلمة للشيخ الغزالي حول استنتاج الجبر من العلم الأزلي.... 80

الشبهة الثالثة: الهداية والضلالة بيد اللّه سبحانه.... 83

أقسام الهداية والضلالة..... 84

1. الهداية التكوينية العامة..... 84

2. الهداية التشريعية العامة..... 85

3. الهداية الخاصة... 85

ص : 627

5

هل الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان؟ 89

الإيمان بالقدر من الأُصول والمعارف القرآنية وليس بركن من الإيمان... 90

أركان الإيمان هي التوحيد والنبوة والمعاد... 91

6

التفويض ومضاعفاته 92

القول بالتفويض ردّ فعل للقول بالجبر.... 92

اتّهام معبد الجهمي وغيلان الدمشقي بنفي القضاء والقدر..... 92

القول بالتفويض يلازم الشرك..... 93

الإنسان في دوّامة التجدد، حدوثاً وبقاءً..... 93

تمثيل لبيان موقف الوجود الإمكاني بالنسبة إلى اللّه سبحانه... 94

7

الأمر بين الأمرين 95

تبيين الأمر بين الأمرين.... 96

1. نسبة الفعل إلى اللّه بالتسبيب وإلى العبد بالمباشرة..... 98

تمثيل لبيان الأمر بين الأمرين... 10.0

2. الأمر بين الأمرين في الكتاب العزيز... 10.1

ص : 628

3. الأمر بين الأمرين في الروايات..... 10.2

الفصل الثالث

في نظرية الكسب 103

نظرية انّ اللّه خالق والعبد كاسب في الميزان..... 10.5

1

التوحيد في الخالقية عند أهل الحديث 106

نقل كلمات أعلام الأشاعرة حول التوحيد في الخالقية..... 10.7

اللّه سبحانه هو الخالق لكلّ ظاهرة في صحيفة الوجود بالمباشرة.... 10.9

2

التوحيد في الخالقية عند الإمامية 110

حصر الخالقية المستقلة في اللّه سبحانه، لا الخالقية التبعية... 111

الأسباب والعلل، جنود اللّه سبحانه في الكون.... 113

3

مضاعفات حصر الخالقية في اللّه على ضوء التفسير الأشعري 115

1. تصريح القرآن بتأثير العلل الطبيعية.... 115

2. انتفاء الغاية من إيجاد القدرة في الإنسان... 118

ص : 629

3. كلّ فاعل مسؤول عن فعله..... 120

4

نظرية الكسب بين التفسير والتكامل والإبطال 123

المرحلة الأُولى: مرحلة التبيين والتفسير..... 125

نقد نظرية الكسب على ضوء تفسير الغزالي... 126

نقد نظرية الكسب على ضوء تفسير التفتازاني.... 129

المرحلة الثانية: مرحلة التطوير والتكامل.... 131

نظرية الكسب، أحد الألغاز الثلاثة.... 132

أبوبكر الباقلاني وتطوير النظرية..... 133

كمال الدين بن همام وتطوير النظرية.... 135

ابن الخطيب وتطوير النظرية..... 137

المرحلة الثالثة: مرحلة الإنكار والإبطال.... 140

إمام الحرمين الجويني والاعتراف بتأثير قدرة العبد... 140

اعتراف ابن تيمية بالعلل الطبيعية... 143

الشعراني وثبوت تأثير قدرة العبد بالكشف لا بالبرهان... 144

دعم الشيخ محمد عبده لموقف إمام الحرمين... 146

الزرقاني والجمع بين دليلي القولين... 149

الشيخ شلتوت: العبد فاعل بإرادته وقدرته..... 151

ص : 630

القضاء والقدر لا يستلزمان الجبر..... 52

5

خاتمة المطاف

فيها أُمور

1. نسبة فعل العبد إلى اللّه فوق التسبيب.... 155

تمثيل رائع لصدر المتألهين في بيان كيفية النسبة.... 156

2. تطور العلم في ظل القول بنظام العلل والمعاليل.... 159

3. نظرية «مالبرانس» نفس نظرية الأشعري... 160

4. التفسير الخاطئ في قسم من الأُصول والمعارف.... 162

5. الاختلاف في عنوان المسألة في الكتب الكلامية..... 163

6. التعريف بالفرق الثلاث: الجهمية والنجارية والضرارية.... 164

الفصل الرابع

الإرادة الإلهية التكوينية والتشريعية

1. في تقسيم صفاته..... 167

2. في حقيقة الإرادة الإنسانية..... 171

1. نظرية المعتزلة... 171

2. نظرية الأشاعرة.... 172

3. النظرية المعروفة : الشوق النفساني..... 172

ص : 631

4. الإرادة : القصد والعزم... 173

3. الإرادة الإلهية من صفات الذات.... 175

الإرادة هو العلم بالأصلح.... 175

إرادته سبحانه هو ابتهاجه بذاته.... 178

4. الإرادة الإلهية من صفات الفعل.... 181

الإرادة صفة منتزعة من حضور العلّة التامّة للفعل..... 182

الإرادة إعمال القدرة..... 185

الإرادة الإلهية في روايات أئمّة أهل البيت - عليهم السَّلام -... 186

أ. إرادته غير علمه وقدرته... 187

ب. عموم قدرته لكلّ ظاهرة كونية.... 188

ج. الإرادة من صفات الفعل... 89

تحليل الروايات الماضية.... 190

نقد وتحليل.... 191

5. ما هو المختار في الإرادة الإلهية؟.... 193

6. الإرادة التكوينيةوالتشريعية... 196

نظرية المحقّق الخراساني.... 196

نظرية المحقّق الإصفهاني... 197

نظرية العلاّمة الطباطبائي.... 200

ص : 632

الفصل الخامس

رؤية اللّه سبحانه

تمهيد... 205

1. الرؤية فكرة يهودية مستوردة.... 206

2. الرؤية في العهد القديم... 213

3. الرؤية في منطق العلم والعقل.... 217

المحاولة اليائسة في تجويز الرؤية... 218

أ. الرؤية بلا كيف... 218

ب. اختلاف الأحكام باختلاف الظروف.... 219

ج. عدم المبالاة بإثبات الجهة.... 220

4. موقف الذكر الحكيم من أمر الرؤية إجمالاً.... 223

5. الرؤية في الذكر الحكيم تفصيلاً.... 229

الآية الأُولى: عدم قدرة الأبصار على إدراكه... 229

الآية الثانية: الرؤية إحاطة علمية باللّه سبحانه.... 232

الآية الثالثة: ردّ السؤال بنفي الرؤية مؤبّداً..... 233

6. الرؤية في كلمات أئمّة أهل البيت - عليهم السَّلام -..... 237

7. شبهات القائلين بالرؤية..... 240

قوله سبحانه: (إِلى ربّها ناظِرة) وتفسيره.... 242

ص : 633

8. رؤيته تعالى في الأحاديث النبوية.... 246

الفصل السادس

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

1. العصمة في اللغة والاصطلاح... 255

مبدأ ظهور فكرة العصمة بين المسلمين.... 256

2. تعريف العصمة وحقيقتها.... 259

العصمة: الدرجة القصوى من التقوى... 260

العصمة نتيجة العلم القطعي بعواقب المعاصي..... 262

العصمة: الاستشعار بعظمة الرب وكماله وجماله..... 264

3. هل العصمة موهبة إلهية أو أمر اكتسابي؟.... 265

إفاضة العصمة بعد توفر أرضية صالحة..... 266

كلام للسيد الشريف المرتضى في المقام..... 268

4. العصمة وسلبالاختيار... 270

مراحل العصمة وأدلّتها... 273

5. المرحلة الأُولى: العصمة في تبليغ الرسالة... 274

6. المرحلة الثانية: عصمة الأنبياء عن المعصية.... 277

العقل وعصمة الأنبياء عن المعصية..... 277

سؤالوجواب.... 278

ص : 634

القرآن وعصمة الأنبياء عن المعصية والاستدلال بآيات أربع..... 280

7. المرحلة الثالثة: عصمة النبي عن الخطأ..... 288

منطق العقل في عصمة النبي عن الخطأ..... 288

منطق القرآن في عصمة النبي عن الخطأ.... 290

8. حجة المخالفين لعصمة الأنبياء.... 295

الاستدلال بقوله سبحانه (حتّى إذا استيأس الرسل ...) الخ.... 296

الاستدلال بقوله: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي).... 303

ما معنى أمنية الرسول أو النبي؟..... 305

ما معنى القاء الشيطان في أمنية الرسل؟.... 307

ما معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان؟.... 309

ما معنى إحكامه سبحانه آياته؟.... 310.

ما هي النتيجة من هذا الصراع؟.... 311

التفسير الباطل للآية..... 313

الفصل السابع

المتكلّم والصفات الخبرية

التكلّم من صفاته سبحانه... 321

معنى كونه متكلّماً في الكتاب... 321

ص : 635

1. نظرية المعتزلة في تكلّمه سبحانه..... 324

2. نظرية الحكماء.... 325

3. نظرية الأشاعرة.... 328

تفسير الكلام النفسي للشيخ الأشعري.... 330

أدلة الأشاعرة على الكلام النفسي ونقده..... 331

في حدوث كلامه سبحانه أو قدمه.... 334

مبدأ فكرة قدم القرآن.... 334

واجب أهل الحديث السكوت أمام هذه المسائل..... 336

طرح المسألة في ظروف عصيبة..... 337

تحليل مسألة القول بقدم القرآن.... 337

موقف أهل البيت في هذه المسألة..... 340

الصفات الخبرية 343

الصفات الخبرية ومبتدعة السلفية... 344

الصفات الخبرية ومعطِّلة السلفية.... 347

إثبات الأشعري بين التشبيه والتعقيد... 348

الصفات الخبرية بين التعطيل والتأويل... 352

الظاهر الإفرادي غير الظاهر الجُملي... 352

نماذج من الصفات الخبرية... 353

تفسير قوله:(لما خلقتُ بيديّ)..... 355

ص : 636

تفسير قوله: (الرّحمنُ عَلَى العرشِ اسْتَوى).... 355

الإلماع إلى سائر الصفات الخبرية.... 357

كلمة شيخ الأزهر: سليم البشري حول الصفات الخبرية.... 360

اقتراح... 365

الفصل الثامن

البداء في الكتاب والسنّة

البداء في اللغة.... 369

البداء في حديث الرسول - صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم -... 370

1. تغيير المصير بالأعمال الصالحة والطالحة... 373

تغيير المصير بالأعمال في الروايات... 376

سنّة اللّه الحكيمة في عباده... 376

أثر الدعاء في تغيير المصير... 377

أثر الصدقة في تغيير المصير..... 378

2. البداء في الكتاب العزيز..... 380

كلمات المفسّرين حول البداء.... 381

3. النزاع في البداء لفظي.... 386

نصوص علماء الإمامية في البداء.... 387

ص : 637

كلام الإمام شرف الدين في البداء..... 391

كلام المصلح الكبير كاشف الغطاء.... 393

فذلكة البحث.... 394

4. التفسير الخاطئ للبداء عند مشايخ السنّة..... 395

البلخي وتفسير البداء.... 395

أبوالحسن الأشعري وتفسير البداء... 396

فخر الدين الرازي وتفسير البداء.... 398

أبو زهرة وهفوته في تفسير البداء.... 399

القاعدة العقلية لا تُخصَّص... 402

وزان التقديرين، وزان الأجلين.... 402

أحد أعلام السنّة يُصحر بالحقيقة... 404

5. الأثر التربوي للإيمان بالبداء.... 405

6. الحوادث التي بدا للّه تبارك وتعالى فيها وجاء ذكرها في الكتاب..... 408

1. حادثة رفع العذاب عن قوم يونس..... 409

2. حادثة الإعراض عن ذبح إسماعيل.... 410.

3. حادثة إكمال الميقات لموسى - عليه السَّلام -... 411

حوادث بدا للّه تعالى فيها في الأحاديث... 413

شبهات وحلول.... 415

1. استحالة إطلاق البداء على اللّه سبحانه... 415

ص : 638

2. استلزام البداء في مقام الإثبات، الكذب... 417

3. استلزام البداء التشكيك في مطلق ما أخبر.... 419

السنن الكونية لا تخضع للبداء..... 419

التنبّؤ بالنبوة والإمامة لا يخضع للبداء... 420

4. البداء ومسألة جفّ القلم... 421

الفصل التاسع

نظام الحكم في الإسلام بعد رحلة الرسول

الأمر الأوّل: الحكومة حاجة ملحّة..... 429

نظام الإمامة والخلافة في الإسلام.... 432

الأمر الثاني: ملامح الحكومة الإسلامية في الكتاب والسنّة..... 435

مسؤولية الحاكم في النصوص الشرعية..... 436

الأمر الثالث: أنظمة الحكم في المجتمعات البشرية.... 441

الأمر الرابع: التنصيص الإلهي على الحاكم باسمه وشخصه..... 444

1. المصالح العالية تقتضي التنصيص على الاسم، وفيه أمران:... 446

أ. الأُمّة الإسلامية والخطر الثلاثي... 446

ب. النظام القبلي يمنع من الاتفاق على قائد..... 448

2. الفراغات الهائلة لا تُسدّ إلاّ بالتنصيص.... 451

ص : 639

دراسة الاحتمال الثاني.... 454

3. ما هو مرتكز الصحابة في صيغة الحكومة؟.... 458

الأمر الخامس: هل الشورى أساس الحكم والخلافة؟..... 465

نقد كون الشورى مبدأ الحكم... 466

الأمر السادس: النصوص الدينية وتنصيب علي - عليه السَّلام - للإمامة... 470

1. آية الولاية..... 470

2. حديث المنزلة..... 473

3. حديث الغدير.... 475

دلالة الحديث..... 479

القرائن الست تبين مفاد الحديث... 480

الغدير في الكتاب الكريم.... 482

1. آية البلاغ..... 482

2. آية إكمال الدين..... 484

لماذا أعرض الصحابة عن مدلول حديث الغدير؟.... 487

الأمر السابع: السنّة النبوية والأئمّة الاثنا عشر... 488

الفصل العاشر

عدالة الصحابة بين العاطفة والبرهان

اتجاهان حول الصحبة والصحابة... 493

ص : 640

1. من هو الصحابي؟!... 495

2. الصحبة وملاكات الاختلاف..... 497

3. الصحبة ونفي البعد الإعجازي لها..... 501

4. الصحابة أبصر بحالهم من غيرهم... 503

5. ما هي الغاية من نقد آراء الصحابة وأفعالهم؟.... 505

6. هل الصحابة الكرام فوق الأنبياء؟..... 508

بعض الأكاذيب الشنيعة في حقّ الأنبياء... 508

أُكذوبة الغرانيق... 508

اتّهام داود - عليه السَّلام - بقتل زوج أوريا وتزوّجها.... 510.

7. مظاهر الغلو في الصحابة.... 513

1. سنّة النبيّ - صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم - وسنّة الصحابة... 515

2. العزوف عن نقد الصحابة... 518

3. السنّة قاضية على القرآن دون العكس..... 521

4. القول بحجّية رواياتهم بلا استثناء.... 523

5. القول بعدالتهم جميعاً.... 525

8. عدالة الصحابة وخلافة الخلفاء..... 529

الاعتقاد بخلافة الخلفاء ليس من صميم الدين..... 530

الاعتقاد بعدالة الصحابة ليس من صميم الدين... 534

9. القرآن الكريم وعدالة الصحابة..... 536

ص : 641

1. تنبّؤ القرآن بارتداد لفيف من الصحابة.... 536

2. ترك الرسول قائماً وهو يخطب... 537

3. الخيانة بالنكاح س-رّاً... 538

4. خيانة بعض البدريين..... 539

5. فاسق يغرُّ النبي وأصحابه.... 540

6. تنازعهم في الغنائم إلى حد التخاصم... 541

7. استحقاقهم مسَّ عذاب عظيم..... 542

8. الفرار من الزحف..... 544

9. نسبة الغرور إلى اللّه ورسوله..... 545

10 .. المنافقون المندسّون بين الصحابة.... 546

10 .. السنّة النبوية وعدالة الصحابة..... 548

1. زعيم الفئة الباغية.... 548

2. عصيان أمر النبي صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم بإحضار القلم الدواة... 549

3. الانقلاب على الأعقاب بعد رحيل النبي صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم.... 551

موقف النبي - صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم - ممّن لم تحسن صحبته..... 556

1. كلّهم مغفور له إلاّ صاحب الجمل الأحمر.... 557

2. اللّهم انّي أبرأ إليك مما صنع خالد... 557

3. تنبّؤه بمصير ذي الخويصرة.... 558

4. انّ فيك يا أبا هريرة شعبة من الكفر... 558

ص : 642

5. امتناع الرسول من الصلاة على أحد أصحابه..... 559

6. تنبّؤ النبي صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم بالمصير الأسود لبعض أصحابه... 559

7. صحابي يخلو بامرأة... 559

8. صحابي يجلس بين رجلي امرأة... 560

9. صحابي يُقتص منه... 561

10 .. دعاء النبي - صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم - على محلم بن جثامة... 561

11. عدالة الصحابة والتاريخ الصحيح.... 562

نماذج من حياة الصحابة..... 562

1. صحابي يقتل صحابياً ويزني بزوجته..... 563

2. سمرة بن جندب يبيع خمراً.... 564

3. قدامة بن مظعون بدريّ يشرب الخمر... 564

4. أبو جندل يُحد حدّ الخمر.... 565

5. أبو محجن الثقفي يحدّ ثمان مرّات... 566

6. مسلم بن عقبة يشن الغارة على أهل المدينة... 567

7. بسر بن أرطأة يذبح ولدي عبيد اللّه بن العباس..... 567

8. أُمّ المؤمنين وتزعّمها لجيش جرّار..... 568

ادّعاء العدالة لعامة الصحابة تنكر للطبيعة البشرية... 569

12. أدلّة القائلين بعدالة الصحابة.... 571

الدليل الأوّل: الإجماع على عدالة الصحابة... 571

ص : 643

كلام التفتازاني في حقّ الصحابة.... 572

الدليل الثاني: ثناء القرآن على الصحابة... 574

الآية الأُولى.... 574

1. السابقون الأوّلون من المهاجرين..... 575

2. السابقون الأوّلون من الأنصار..... 575

3. والّذين اتّبعوهم بإحسان..... 577

الآية الثانية.... 578

الآية الثالثة.... 581

الآية الرابعة.... 582

إنّما الأعمال بالخواتيم.... 585

الدليل الثالث: ثناء النبي - صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم - على الصحابة..... 587

1. حديث: انّ اللّه اطّلع على أهل بدر ... 587

2. حديث: مثل أصحابي كالنجوم.... 589

3. خير القرون قرني..... 593

13. موعظة شافية... 596

1. ضرورة دراسة أحوال الصحابة للتأكّد من صحّة الحديث.... 596

2. النقد لا يعد سبّاً..... 597

3. الثناء جمعي لا يتعلّق بآحادهم..... 601

ص : 644

4. الاعتقاد المسبق بعدالة الصحابة.... 602

5. إكبار الشيعة لصحابة النبي - صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم -.... 603

6. روّاد التشيع من الصحابة.... 603

7. دعاء أئمّة أهل البيت - عليهم السَّلام - للصحابة.... 607

14. خاتمة المطاف : مناظرة بين الحسن البصريّ وعالم زيدي..... 609

نظرية الحسن البصري في صحابة الرسول... 609

نقد العالم الزيدي رأي الحسن... 611

سيرة رسول اللّه - صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم - في الأعداء والأولياء... 614

الصحابة كسائر الناس... 616

من أُنكر عليهم من الصحابة.... 618

حديث أصحابي كالنجوم وضعه الأمويون.... 619

فهرس محتويات الكتاب..... 623

ص : 645

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.