الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف المجلد 3

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: السبحاني التبريزي جعفر، - 1308

عنوان المؤلف واسمه: الانصاف في مسائل دام فيها الخلاف

تاليف جعفر السبحاني

تفاصيل النشر: قم موسسة الامام الصادق ع ، 1423ق = 1381.

شابك : 964-357-047-9 (ج 1)

لسان : العربية

ملحوظة : ج 3 (1424ق = )1382

ملحوظة : فهرس

موضوع : فقه تطبيقي

معرف المضافة: موسسة الامام الصادق ع

تصنيف الكونجرس: BP169/7 /س2‮الف 8 1381

تصنيف ديوي: 297/324

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 81-19943

محرر الرقمي: میثم الحیدري

ص : 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص : 2

الانصاف

في مسائل دام فيها

الخلاف

دراسات فقهیة موجزة في مسائل احتدم

فیها النقاش عبر القرون

الجزء الثالث

تأليف : الفقیه المحقق آیة الله جعفر السبحاني

نشر مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام

ص : 3

ص : 4

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي حسرت عن معرفة كماله ، عقول الأولياء ، وعجزت عن إدراك حقيقته ، أفهام العلماء ، واحد لا شريك له ، لا يُشبهه شيء لا في الأرض ولا في السماء ؛ والصلاة والسلام على نبيّه الخاتم ، أفضل خلائقه وأشرف سفرائه ، وعلى آله البررة الأصفياء ، والأئمّة الأتقياء.

أمّا بعد فغير خفيّ على النابه انّ للعقيدة - على وجه الإطلاق - دوراً في حياة الإنسان أيسره انّ سلوكَه وليدُ عقيدته ونتاج تفكيره ، فالمواقف التي يتّخذها تمليها عليه عقيدتُه ، والمسير الذي يسير عليه ، توحيه إليه فكرته.

إنّ سلوك الإنسان الذي يؤمن بإله حىّ قادر عليم ، يرى ما يفعله ، ويحصي عليه ما يصدر عنه من صغيرة وكبيرة ، يختلف تماماً عن سلوك من يعتقد أنّه سيّد نفسه وسيّد الكون الذي يعيش فيه ، لا يرى لنفسه رقيباً ولا حسيباً.

ومن هنا يتّضح أنّ العقيدة هي ركيزة الحياة ، وأنّ التكاليف والفرائض التي نعبّر عنها بالشريعة بناء عليها ، فالعقيدة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالروح والعقل ، في حين ترتبط الشريعة والأحكام بألوان السلوك والممارسات.

ولأجل هذه الغاية قُمنا بتحرير مواضع الخلاف عن جوانب من العقيدة الإسلامية بصورة موجزة ، وركّزنا على أبرز النقاط التي يحتدم فيها النقاش.

ص : 5

وبما أنّ لكلّ علم لغته ، فقد آثرنا اللغة السهلة ، واخترنا في مادة البحث ما قام عليه دليل واضح من الكتاب والسنّة ، وأيّده العقل الصريح - الذي به عرفنا الله سبحانه وأنبياءه ورسله - حتّى يكون أوقع في النفوس ، وأقطع لعذر المخالف.

وخصصنا الجزءين السابقين بدراسة مسائل فقهية احتدم فيها الخلاف من العصور الأُولى إلى يومنا هذا.

وأمّا هذا الجزء فهو مخصّص لمسائل فكرية أو عقائدية هي من نتاج النقاش العلمي بين المحقّقين من المسلمين ويأتي كلّ ذلك في ضمن عشرة فصول.

ونرجو من الله سبحانه أن يكون رائدنا في هذه البحوث هو الكتاب والسنة والعقل الحصيف.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات

جعفر السبحاني قم

- مؤسسة الإمام الصادق - عليه السلام -

ص : 6

الفصل الأوّل : التحسين والتقبيح العقليان ومكانتهما في العقيدة والشريعة

اشارة

ص : 7

ص : 8

تمهيد

شغلت قاعدةُ التحسين والتقبيح العقليّين بالَ كثير من المفكّرين من أقدم العصور إلى يومنا هذا ، إذ قلّما يتّفق أن يخوض باحث في العلوم الإنسانية دون أن يُشير إليها ، لعلاقتها بعلم الكلام والأخلاق ، والفقه وأُصوله.

مثلاً الباحث في علم الكلام عند ما يصل بحثه إلى أفعاله سبحانه ، يصف بعضه بالوجوب والحتمية ، ويقول يجب عليه سبحانه بعث الرسل ، لهداية الناس وإيصالهم إلى الغاية المتوخّاة من خلقتهم ، كما يصف البعض الآخر بالامتناع وعدم الجواز كإعطاء المعجزة بيد المدّعي الكاذب ، ويتّخذ الحسن والقبح أساساً لقضائه البات في المسألتين حيث يحسنُ الأوّل ويقبح الثاني.

وليس معنى ذلك ، فرض التكليف على الله سبحانه؟! بأن يحكم العبد عليه تعالى بالإيجاب والامتناع كما ربما يتصوّره بعض المنكرين للحسن والقبح العقليين. (1)

وذلك لأنّ هناك فرقاً بين فرض التكليف على الله ، وبين كشف ما عنده من الحكم من خلال صفاته وكمال ذاته ، فالقائل بالتحسين والتقبيح العقليين لا يفرض على الله تكليفاً إذ أين التراب ورب الأرباب ، بل يستدلّ من خلال ما عنده

ص : 9


1- شرح المقاصد : 2 / 150 طبعة استنبول ؛ التبصير في الدين : 153.

من الصفات ، على اللزوم والامتناع فيقول : إنّه سبحانه بما هو عادل ، لا يجور على عباده ، وبما انّه حكيم لا يعبث في فعله ، إلى ذلك من الأحكام المستكشفة من خلال دراسة صفاته وسنوضحه - بإذن الله - في المستقبل.

هذا حال الباحث في علم الكلام وحاجته إلى تنقيح مسألة التحسين والتقبيح العقليين ، ومثله الباحث في الأخلاق حينما يطرح القيم الأخلاقية على طاولة البحث فيعتمد على تلك القاعدة في تقييم الأفعال الإنسانية من حيث كونه فضيلة أو رذيلة.

وليست حاجة الفقيه إلى تلك القاعدة بأقلّ من حاجة الطائفتين ، فانّ خلود الأحكام الفقهية عبْر الزمان وكون الشريعة الإسلامية ، خاتمة الشرائع ، رهن القول بالتحسين والتقبيح العقليين ، فكلّ حكم شرعي يستمد ملاكه من تلك القاعدة فهو حكم مؤبّد بتأبيد ملاكه - الحسن والقبح - فلا يتغير ولا يتبدّل ، فانّ الحسن ، حسن على كلّ حال ، والقبيح قبيح كذلك ، والحكم المستمَدَّ منه يكون كذلك فالاعتراف بالحسن والقبح العقليّين الأبديّين يُضيف على الأحكام الشرعيّة المستندة إليهما ، وصفَ الأبديّة.

وأمّا حاجة الأُصولي إلى القاعدة فواضحة جدّاً ، حيث إنّ العقل أحد الأدلّة الأربعة التي يستنبط بها الأحكام ومن أحكامه ، الحكم بحسن الفعل وقبحه مثلاً إذا افترضنا انّ المكلّف شكّ في حكم موضوع بعد الفحص عن مظانّه في الكتاب والسنّة ولم يعثر فيهما على حكمه ، فعند ذاك يستقل العقل بقبح عقاب المكلّف إذا ارتكب مع احتمال الحرمة ، أو ترك مع احتمال الوجوب استناداً إلى قبح العقاب بلا بيان.

ص : 10

دور القاعدة في العلوم الإنسانية

اشارة

وخلاصة القول : إنّ القاعدة إذا فُسِّرت بصورة صحيحة ، تعدّ حجر الأساس لكثير من المسائل في العلوم الإنسانية كما عرفت نماذجها.

ولمّا كانت القاعدة أساساً لثبات القيم الأخلاقية ، والقوانين الشرعية السماوية ، المبنية على التحسين والتقبيح العقليّين ، عاد بعض المفكّرين من الغربيّين الذين لا يروقهم ثبات القيم ودوامها ، وبقاء الشريعة السماوية ، يثيرون الشكوك حول القاعدة.

نعم سبقهم في إنكار القاعدة طائفة من المتكلّمين وهم الأشاعرة ، وأهل الحديث لا لهذه الغاية ، بل لاستنكارهم استطاعة العقل على إدراك حسن الفعل أو قبحه ، وقالوا : إنّ المرجع في تمييز الحسن عن القبح هو الشرع ، وبذلك افترق المسلمون إلى طائفتين :

1. من يقول بالتحسين والتقبيح العقليّين تمثّلهم الإمامية والمعتزلة.

2. من ينكر التحسين والتقبيح العقليّين ويقول بالشرعيّين منهما ، وأنّ الحسن ما حسّنه الشارع والقبيح ما قبّحه الشارع ولو لا أمر الشارع ونهيه لما استطاع الإنسان على معرفة الحسن والقبيح ، وهذا مقالة الأشاعرة وأهل الحديث ، وسيوافيك انّ من أنكر استطاعة إدراك الحسن والقبح من الأفعال لا يتسنّى له ، إثبات التحسين والتقبيح مطلقاً حتّى الشرعي منهما.

هذا هو دور القاعدة في العقيدة والشريعة ، وهذا خلاف طائفة من المتكلّمين وجماعة من المفكّرين الغربيّين ، لكن تبيين الموضوع ومناقشة الأقوال والآراء ، والقضاء بين أدلة الطرفين والثمرات المترتبة على المسألة على وجه الإيجاز ، يأتي في ضمن فصول :

ص : 11

1- ملاكات التحسين والتقبيح العقليّين

اشارة

إنّ القول بأنّ العقل قادر على درك حسن الأفعال وقبحها ، يُفسّر على وجوه ، فلا بدّ من ذكرها وتعيين ما هو محطّ البحث بين المثبتين والمنكرين.

1. التحسين والتقبيح الذاتيان

إذا كان الفعل الصادر عن الفاعل المختار - سواء أكان واجباً أم ممكناً - على نحو إذا نظر إليه العقل وتجرّد عن كلّ شيء ، يحكم بحسنه ولزوم فعله أو بقبحه ولزوم تركه ، فالعقل في قضائه هذا بالحسن أو القبح ، لا ينظر إلاّ إلى نفس الموضوع ، دون ما يترتّب عليه من المصالح والمفاسد العامّة ، أو كونه موافقاً لغرض الفاعل أو الإنسان الحاكم أو غير ذلك من الأُمور الخارجة عن ذات الفعل ، فهذا هو المسمّى بالتحسين والتقبيح العقليّين الذاتيّين.

مثاله ، الإحسان والظلم فيستقل العقل بحسن الأوّل وقبح الثاني ، من دون نظر إلى مصالح الفعل أو مفاسده ، أو كونه مؤمِّناً لغرض الفاعل أو الحاكم ، فكأنّ الحسن والقبح داخلان في ذات الفعل وجوهره ، لا ينفكان عنه ، ففرض الفعل يلازم فرض أحد الحكمين.

وسيوافيك انّ هذا هو محطّ البحث بين المثبت والنافي.

ص : 12

2. التحسين والتقبيح في إطار المصالح والمفاسد

تؤكد هذه النظرية على القول بالتحسين والتقبيح العقليّين ، لكن بالنظر إلى المصالح والمفاسد المترتبة على الفعل ، ففي هذه النظرة لا يكون الفعل بما هو هو ، موضوعاً للحسن والقبح كما عليه النظرية السابقة بل باعتبار كونه مبدأ للمصالح والمفاسد ، وربّما يعبّر عن المصالح والمفاسد ، بالأغراض والمقاصد.

والمراد منها ، هي الأغراض النوعية لا الشخصية وإلاّ يلزم الهرج والمرج في وصف الأفعال ، فإنّ الظلم يؤمِّن غرض الظالم ، دون المظلوم فيوصف بالقبح عند الأوّل دون الثاني ، بل المراد المصالح والأغراض العقلائية التي يدور عليها بقاء النظام وهذا كالعدل فانّه حسن إذ به قوام النظام ، والظلم فانّه قبيح لأنّه هادم للنظام.

وسيوافيك انّ وصف الأفعال بالحسن والقبح باعتبار الآثار المترتّبة عليها وإن كان صحيحاً ، لكنّه يصلح لوصف قسم من الأفعال بهما وهو أفعال الإنسان الذي يحمل فعْلُه المصلحةَ النوعية أو مفسدتها ولا يشمل فعل الله سبحانه فإن فعله يوصف بالحسن والقبح دون أن يكون هناك حديث المصلحة أو المفسدة كأخذ البريء بذنب المجرم ، ونقض العهد والميثاق ، وإساءة المحسن فانّه قبيح من دون أن يكون هنا أي فساد ، فشمولية المسألة ، لفعل المولى سبحانه وعبده يقتضي خروج هذا النوع من الحسن والقبح عن محط البحث.

وبما انّ الغاية الكبرى من الخوض في هذه المسألة ، هو التعرف على أفعاله سبحانه وتمييز ما يجوز عليه عمّا لا يجوز ، فلا محيص من القول بأنّ الملاك لوصف الفعل بالحسن والقبح في إطار عام حتّى يشتمل فعله سبحانه ، هو الملاك الأوّل ، أي ما يكون الفعل بما هو هو ، مجرّداً عن القيود التالية :

ص : 13

1. كون الفاعل واجباً أو ممكناً.

2. كون الفعل ممّا يترتّب عليه المصلحة أو لا.

3. كونه مؤمِّناً للغرض أو لا.

موضوعاً لحكم العقل بالحسن أو القبح.

3. موافقة العادات والتقاليد

إنّ لكلّ قوم عادات وتقاليد تخصّهم ، فملاك الحسن والقبح موافقة الفعل للعادات والتقاليد ومخالفتها ، وربّما يطلق عليه الحسن والقبح العرفيان ، والتحسين والتقبيح بهذا المعنى وإن كان صحيحاً لكنّه لا يصلح لأن تكون ملاكاً للبحث عند المتكلّمين أو الأُصوليين ، لانّهما بهذا المعنى يُصبحان أمرين نسبيين أوّلاً ، لأنّ المعروف عند قوم ربما يكون منكراً عند قوم آخر ؛ ولا يكون معياراً لمعرفة وصف أفعاله سبحانه ثانياً ، لأنّها فوق العادات والتقاليد.

فخرجنا بالنتيجة التالية :

إنّ لوصف الأفعال بالحسن والقبح ملاكات ثلاثة فالذي يصلح لأن يكون ملاكاً للبحث في المقام ، هو كون الفعل مجرّداً عن أي قيد وشرط ، صالحاً لوصفه عند العقل بأحدهما ، دون الملاكين الآخرين ، كوصفه بهما باعتبار ما يترتّب عليه من المصالح والمفاسد ، والمنافع والمضار النوعية ، أو باعتبار موافقته العادة السائدة على القوم أو مخالفتها ، فإنّ هذين الملاكين تحدِّد المسألة على وجه يخرج فعله سبحانه عن موردها.

ص : 14

2- تقسيم الحكمة إلى نظريّة وعمليّة

تنقسم الحكمة ، لدى الحكماء منذ عهد مبكِّر إلى حكمة نظرية وحكمة عملية ، فلو تعلّق الإدراك بما من شأنه أن يُعلم ، كانقسام الموجود إلى واجب وممكن ، فهو حكمة نظريّة ولو تعلّق بما من شأنه أن يعمل كقولنا : العمل بالميثاق حسن ونقضه قبيح فهو حكمة عملية فالحكمتان : النظرية والعملية كلاهما من أقسام الإدراك وإنّما الاختلاف في المتعلَّق.

وهذا هو المعنى المعروف عند الفلاسفة والمتكلّمين وهو الظاهر من عبارة الفارابي حيث قال : النظرية هي التي بها يحوز الإنسان علم ما من شأنه أن يعلمه إنسان ، والعملية هي التي يعرف ما من شأنه أن يعمله الإنسان بإرادته. (1)

والعقل المدرِك للحكمة الأُولى عقل نظري والمدرِك للثانية منهما عقل عمليّ وليس معناه انّ هنا عقلين مختلفين جوهراً بل عقل واحد يوصف تارة بالنظري وأُخرى بالعملي باعتبار اختلاف متعلقه.

وهنا مصطلح آخر للعقل العملي ، يجعله في عداد القوى العاملة التي هي مبدأ محرّك لبدن الإنسان إلى الأفاعيل الجزئيّة (2) ، أعرضنا عن ذكره تفصيلاً روماً للاختصار.

ص : 15


1- شرح منظومة السبزواري : 310.
2- النجاة لابن سينا : 164 ، ط مصر ، وص 202 ط بيروت.

3- تقسيم القضايا إلى ضرورية وغير ضرورية

تنقسم الحكمة النظرية إلى ضروريّة وغير ضروريّة ، فالقسم الأوّل ما يحضر في النفس بلا نظر ، والقسم الثاني ، ما يحصل فيها بعد إعمال الفكر والنظر. وجه التقسيم انّه لو كانت القضايا بأجمعها ضرورية لما احتاجت إلى التفكير ولم يكن هناك أية مشكلة فكرية ، ولو كانت بأسرها غير ضرورية لتاه الإنسان في دوّامة من المشاكل الفكرية دون أن يجد حلولاً لها ، لأنّ المفروض كون القضايا على نمط واحد ، فلم يكن بد من أن تكون القضايا في الحكمة النظرية منقسمة إلى قسمين حتّى يستمد في حل غير الضروري ، من الضروري.

فكما أنّ القضايا في الحكمة النظرية تنقسم إلى قسمين ، فهكذا الحال في الحكمة العملية تنقسم إلى ضرورية وغير ضرورية بنفس الدليل السابق في الحكمة النظرية ، فانّ القضايا التي يحكم العقل بحسنها أو قبحها ، وبالتالي يمدح الفاعل ويذمُّه ويُلزم العمل على وفقه أو الاجتناب عنه لا تخلو من حالتين :

1. إمّا أن تكون قضايا واضحة يدركها العقل بلا توسيط مقدّمة ، وهي القضايا الضرورية في الحكمة العملية.

وامّا أن لا يدركها إلاّ بإرجاعها إلى قضايا أُخرى حتّى تنتهي إلى أُم القضايا العملية الضرورية لتكون مفتاحاً لحمل سائر القضايا.

ص : 16

فإذا كان امتناع اجتماع الضدّين أو ارتفاعهما أُمّ القضايا في الحكمة النظرية وبهما تثبت صحّة كلّ القضايا في العلوم ، فحسن العدل وقبح الظلم أُمّ القضايا في الحكمة العملية ، فلا يحكم بحسن شيء أو قبحه إلاّ إذا انطبق على الفعل أحد العنوانين.

وبذلك يظهر انّ تقسيم القضايا إلى ضروريّة وغير ضروريّة ، لا ينحصر بالحكمة النظريّة ، بل يعمّ القسمين ، والدليل على التقسيم جار في كلا القسمين.

ص : 17

4- أدلّة القول بالتحسين والتقبيح العقليّين

اشارة

أقام القائلون بالتحسين والتقبيح العقليّين أدلّة ساطعة على أنّ العقل يدرك حسن الأفعال وقبحها ولا يقتصر على مجرّد الإدراك ، بل يبعث إلى الأوّل ويمدح فاعله ، ويزجر عن الثاني ويذم فاعله ، والرسالة الحاضرة لا تتحمل البسط بنقل عامة الدلائل ونكتفي من الكثير بالقليل.

الأوّل : بداهة العقل

كلّ إنسان يجد في نفسه حسن العدل وقبح الظلم ، وإذا عَرَضَ الموضوعين على وجدانه ، يجد في نفسه نزوعاً إلى العدل واستحساناً له ، وتنفراً عن الظلم وتقبيحاً له ، وهكذا سائر الأفعال التي تعد من مشتقات العدل والظلم.

ولقائل أن يقول : إنّ الحكم بالتحسين والتقبيح ليس ناتجاً من صميم العقل وإنّما هو وليد التعاليم الدينية الراسخة التي يعتمد عليها المصلحون في دعوتهم فصار ذلك سبباً لرسوخ تلك الفكرة في أذهان الناس.

لكن وقفة قصيرة أمام هذا السؤال تُبطل هذا الاحتمال ، إذ لو كانت الفكرة ناتجة من دعوة المصلحين لاختصت الفكرة بهم وبمن وقع في إطار دعوتهم ، ولكنّا نجد الفكرة أوسع من ذلك فقد غطَّت كافةَ الأُمم وطوائف البشر حتّى الّذين لا

ص : 18

يمتلكون ايماناً بالشرائع.

وإلى ما ذكر يشير العلاّمة الحلي في شرح تجريد الاعتقاد ويقول : إنّا نعلم بالضرورة حسن بعض الأشياء ، وقبح بعضها من غير نظر إلى شرع ، فإنّ كلّ عاقل يجزم بحسن الإحسان ويمدح عليه وبقبح الإساءة والظلم ويذم عليه ، وهذا حكم ضروري لا يقبل الشك وليس مستفاداً من الشرع لحكم البراهمة والملاحدة به من غير اعتراف بالشرائع. (1)

الثاني : عدم ثبوتهما مطلقاً لو قلنا بالشرع فقط

إنّ نفاة القول بالتحسين والتقبيح العقليّين ذهبوا إلى أنّ التعرّف على حسن الأفعال وقبحها رهن بيان الشرع ، فما حسّنه الشارع فهو حسن وما قبحه فهو قبيح ، وليس للعقل سبيل إلى معرفة حسن الأفعال وقبحها ، ولكنّهم غفلوا عن مضاعفات هذا القول ، إذ لازمه عدم ثبوت الحسن والقبح مطلقاً حتّى الشرعي منهما.

بيان ذلك : أنّه لو قلنا بأنّه لا سبيل للعقل إلى معرفة حسن الفعل أو قبحه ولا يُعرفان إلاّ بتصريح الشرع بأنّ العدل حسن أو الظلم قبيح ، لا يحصل الجزم بقوله ، لتجويز الكذب عليه وبالتالي نحتمل أن يكون ما وصفه بالحسن ، قبيحاً واقعاً ، وما وصفه بالقبح ، حسناً كذلك.

ولو افترضنا انّ الشارع أضاف إلى ما ذكره قوله : الصدق حسن والكذب قبيح ، لا ينفعنا في الجزم بما حكم على العدل والظلم ، من تحسين الأوّل وتقبيح الثاني لتجويز الكذب عليه في كلّ ما يخبر حتى قوله : «الصدق حسن» «والكذب

ص : 19


1- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : 59 المطبوع مع تعاليقنا.

قبيح» ، فلا يدفع هذا الاحتمال إلاّ بثبوت حسن الصدق وقبح الكذب قبل كلّ شيء بفضل العقل فما لم يثبت هذا الأصل بدليل العقل وحكمه لما حصل اليقين بصدق الأحكام الصادرة عن الشارع.

وحصيلة الكلام ، أنّه ما لم يثبت حسن الصدق وقبح الكذب عن طريق العقل لا يثبت حسن أيِّ فعل أو قبحه بحكم الشرع ، لأنّه من المحتمل أن يأمر بما هو المنكر عنده أو ينهى عمّا هو المعروف عنده ولو أخبر عن طريق أنبيائه وسفرائه انّه إنّما يأمر بالعدل والإحسان ، وينهى عن الفحشاء والمنكر ، فلا يحصل اليقين بصدق كلامه وأخباره ، لمكان احتمال الكذب في كلامه هذا ، ولا يُنفى هذا الاحتمال إلاّ إذا ثبت عن غير طريق الشرع حسن الأوّل وقبح الثاني وانّه سبحانه فاعل مختار حكيم ، مثله لا يكذب ، ولا يعبث بكلامه.

ولو تدبّر نفاة القول بالتحسين والتقبيح العقليّين في هذا الدليل لرجعوا عن إنكارهم إلى الصراط المستقيم.

الثالث : إنكارهما يلازم امتناع إثبات الشرائع السماوية

من ادّعى السفارة من الله سبحانه وكونه نبيّاً مبعوثاً عنه ، لا يمكن لنا تصديقه إلاّ في ظل القول بالحسن والقبح العقليّين ، لأنّ الدليل الوحيد أو المؤثر على عامة الطبقات ، كونه مبعوثاً بالمعاجز والبيّنات ، فيستدلُّ بها على أنّه كان مبعوثاً من الله سبحانه لهداية الناس ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر انّ المعاجز لا تفيد اليقين بأنّه مبعوث من الله سبحانه إلاّ إذا ثبت أصل في باب النبوة وهو :

انّه سبحانه لا يزوِّد الكاذب بقدرة خارقة ليضلّ الناس عن طريقه لأنّه أمر

ص : 20

قبيح عقلاً لا يصدر منه سبحانه ، فلو لم يثبت هذا الأصل بحكم العقل لا يمكن الإذعان بصدق دعواه لاحتمال انّ المزوَّد بالمعاجز ، مدّع كاذب ، إذ لم يثبت بعدُ قبح تسلط الكاذب على المعاجز والبيّنات.

ولو صدع الشارع بأنّه لا يسلط الكاذب على القوة الخارقة ، لا يمكن الإيمان بصدق قوله ، لعدم ثبوت قبح الكذب على الشارع كما مرّ في الدليل الأوّل.

يقول العلاّمة الحلّي حول هذا الدليل : لو كان الحسن والقبح سمعيّاً لا عقلياً ، لما قبح من الله شيء ، ولو كان كذلك لما قبح منه تعالى إظهار المعجزات على يد الكاذبين ، وتجويز ذلك يسدّ باب معرفة النبوة إذ إظهار المعجزة بعد ادّعاء النبوة لا يكون دليلاً لصدق ادّعائه إذا كان باب احتمال إظهار المعجزة على يد الكاذب مفتوحاً. (1)

الرابع : الحسن والقبح العقليان في الذكر الحكيم

من سبر القرآن الكريم وأمعن في دعوته إلى الصلاح والفلاح يقف على أنّ القرآن يتّخذ وجدان الإنسان قاضياً ليحكم في قضايا كثيرة بشيء يرجع إلى الحسن والقبح ، فالآيات التي نتلوها عليك تُسلّم انّ الإنسان الحرّ المجرّد عن سائر النزعات ، قادر على درك حسن الفعل أو قبحه ، ولذلك يترك القضاء فيها إليه ويقول :

1. (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ). (2)

ص : 21


1- نهج الحقّ وكشف الصدق ، 84 بتصرف.
2- ص : 28.

2. (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ). (1)

3. (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ). (2)

ففي هذه الطائفة من الآيات يوكِّل الذكر الحكيم القضاءَ إلى وجدان الإنسان ، وانّه هل يصحّ التسوية بين المفسدين والمتّقين ، والمسلمين والمجرمين ، كما يتّخذ من الوجدان قاضياً ، في قوله : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ).

وهناك آيات أُخرى تأمر بالمعروف كالعدل والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي على نحو تسلِّم انّ المخاطب بها ، يعرفها معرفة ذاتية ولا يحتاج إلى الشرع ليعرّفه الموضوع ، وكأنّ الشرع يؤكد ما يجده الإنسان بفطرته ، يقول سبحانه :

1. (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). (3)

2. (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ). (4)

3. (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ). (5)

وكيفية دلالة هذه الآيات على قابلية العقل على درك الحسن والقبح علمت ممّا سبق.

ص : 22


1- القلم : 35.
2- الرحمن : 60.
3- النحل : 90.
4- الأعراف : 33.
5- الأعراف : 157.

وثمة آية أُخرى تندِّد بعمل المشركين حينما ينسبون بعض أعمالهم المنكرة إلى أمره سبحانه ، وهو يردُّ عليهم بأنّ عملهم فحشاء والله لا يأمر بها ، والآية صريحة في انّ الإنسان بفضل الوجدان يعرف الفحشاء عن غيرها بلا حاجة إلى تعريف الشارع ، كما هي صريحة في انّ الله سبحانه منزّه عن ارتكاب القبائح والمنكرات التي يعرفها الإنسان بوجدانه ويقول :

(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ). (1)

فأخبر سبحانه أنّ فعلهم فاحشة قبل نهيه ، وأخبر أنّه لا يأمر بما هو فاحشة في العقول والفطرة ، ولو كان إنّما علم كونه فاحشة بالنهي ، وأنّه لا معنى لكونه فاحشة إلاّ تعلق النهي ، لصار معنى الكلام إنّ الله لا يأمر بما ينهى عنه ، ولصار معنى قوله : (أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) أي : أمر ربي بما أمر به ، ولكان معنى قوله : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ...) الآية ، أي : قل إنّما حرّم ربّي ما حرّم وهذا ما يصان عن التكلم به آحاد العقلاء ، فضلاً عن كلام العزيز الحكيم ، ويلزم ألا تكون الفاحشة فاحشة ، ولا الشرك شركاً إلاّ بعد النهي.

ولا شكّ أنّ الشرع كساها بنهيه عنه قبحاً إلى قبحها ، فكان قبحها في ذاتها وازدادت قبحاً عند العقل بنهي الربّ تعالى عنها ، وذمّه لها ، كما أنّ العدل والصدق والتوحيد حسن في نفسه وازداد حسناً إلى حسنه يأمر الرب به وثنائه على فاعله. (2)

ص : 23


1- الأعراف : 28.
2- انظر ابن القيم ، مدارج السالكين ، 1 / 233 - 235 ؛ وانظر : مجموع الفتاوى : 11 / 678 - 8 ؛ 683 / 433.

وممّا يؤيّد هذا الوجه قوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً). (1)

فأخبر تعالى أنّه حرمه عليهم مع كونه طيباً في نفسه ، فلولا أن طيبه أمر ثابت له بدون الأمر لم يكن ليجمع الطيب والتحريم. (2)

ص : 24


1- النساء : 160.
2- انظر ابن القيم ، مفتاح دار السعادة : 2 / 10.

5- أدلّة المنكرين للتحسين والتقبيح العقليّين

اشارة

ذهبت الأشاعرة تبعاً لأهل الحديث إلى أنّ الفعل عاجز عن إدراك حسن الأفعال وقبحها وانّ الحسن ما أمر به الشارع والقبيح ما نهى عنه ، ولو جُرّد الموضوع عن الأمر والنهي لما تمكّن العقل من إدراكهما (1) وإنكارهم هذا أشبه بإنكار السوفسطائيين في إنكار الحقائق الخارجية ، حتّى وجودهم وأنفسهم لأجل شبهات واهية ، وذلك لأنّه لا يوجد على أديم الأرض إنسان ينكر جداً حسن الإحسان وقبح الظلم ، حسن العمل بالميثاق وقبح نقضه ، حسن جزاء الإحسان بالإحسان وقبح جزائه بالسوء ، إلى غير ذلك من القضايا الواضحة التي تعد أُسساً للحياة الفردية والاجتماعية.

وقد وقفت على كلام ، لبعض السلفين ردّ فيه على الأشاعرة المنكرين للحسن والقبح العقليين فقال : أنّ الأشاعرة أجازوا على الله أن يأمر بأيّ شيء ، وينهى عن أيّ شيء ، بناء على نفيهم التحسين والتقبيح العقليين ، ونفيهم الحكم والغايات ، وعلى ذلك فالشرك عندهم ليس قبيحاً في ذاته ، وسائر المحرمات كذلك ، وإنّما اكتسبت صفة القبح بنهي الله عنها ، ولو أمر الله تعالى بالشرك وبسائر المحرمات لكانت حسنة ، وجوزوا على الله ذلك ، كما أنّهم يرون أنّ التوحيد وسائر الطاعات ليست حسنة في ذاتها ، وإنّما اكتسبت صفة الحسن بأمر الله بها ،

ص : 25


1- الإرشاد للجويني : 258 وغيره.

ولو نهى الله تعالى عن التوحيد وسائر الطاعات لكانت قبيحة ، وأجازوا عليه ذلك.

كما أجازوا على الله فعل كلّ شيء ممكن لذاته ، فله أن يعذب أنبياءه وأولياء ويجعلهم في سجين ، وينعم شياطين الإنس والجن ويجعلهم في عليّين ، ويكون ذلك عدلاً وحسناً ، وذلك بناء على نفيهم الحكم والغايات. (1)

وهؤلاء المنكرون وإن رفعوا راية الإنكار ولكنّهم تراجعوا عنها باختراع معاني متعددة للحسن والقبح فسلّموا حكم العقل بالتحسين والتقبيح في بعضها دون البعض الآخر وليس التعرّف عليها بمهم.

وإنّما المهم في المقام دراسة أدلّتهم على الإنكار ، وإليك البيان :

الأوّل : لو كانا بديهيين لما اختلف فيه اثنان
اشارة

لو كان العلم بحسن بعض الأفعال وقبحها ضرورياً لما وقع التفاوت بينه وبين العلم بزيادة الكل على الجزء ، والثاني باطل بالوجدان ، لوقوع الاختلاف بين العلمين ، فانّ العلم بزيادة الكلّ على الجزء أوضح وأبين من التحسين والتقبيح.

على هامش الاستدلال

الاستدلال كأنّه مبني على ردّ الدليل الأوّل للمثبتين حيث قالوا : إنّ حسن الأفعال وقبحها من الأُمور البديهية ، فردّ عليه النفاة بأنّه لو كان بديهياً ، لما تفاوت العلمان : العلم بزيادة الكلّ على الجزء وحسن العدل وقبح الظلم ، والعلوم الضرورية لا تتفاوت.

ص : 26


1- موقف المتكلّمين : 1 / 331.

والاستدلال مبني على أصل غير أصيل وهو عدم وجود التفاوت في العلوم الضرورية ، وذلك لأنّ القضايا اليقينية التي تتمتع بالبداهة على أقسام ستة وكلّها قضايا ضرورية مع وجود التفاوت بينهما.

1. الأوّليات : الكلّ أعظم من الجزء.

2. المشاهدات : وهي إمّا مشاهدة ظاهرية كقولنا : الشمس مشرقة ، أو باطنية ، كقولنا انّ لنا جوعاً وعطشاً.

3. التجربيات : انبساط الفلز في الحرارة.

4. الحدسيات : نور القمر مستفاد من الشمس.

5. المتواترات : مكّة المكرمة موجودة.

6. الفطريات : الأربعة زوج.

فأين قولنا : «الكلّ أعظم من الجزء» الذي يعد من الأوّليات في البداهة من قولنا : «نور القمر مستفاد من الشمس» الذي هو من الحدسيات ، فوجود التفاوت بين هذه العلوم واضح جدّاً.

وأمّا سبب التفاوت فيرجع غالباً إلى وجود الاختلاف بين تصوّر مفرداتها. مثلاً قوله : «كلّ ممكن يحتاج إلى علّة» ، حكم بديهي كما أنّ قولنا : «الكلّ أعظم من الجزء» أيضاً بديهي ، وسبب الاختلاف يرجع إلى أظهريّة مفردات الثاني من مفردات الأوّل ، فأين الإمكان والحاجة والعلة في الظهور من «الكل» و «الجزء» و «العِظَم» ، فاختلاف المفردات من حيث الظهور والخفاء ، يورث ظهوراً وخفاءً في المركب أيضاً.

ص : 27

الثاني : الكذب النافع ليس بقبيح
اشارة

«لو كان الكذب قبيحاً ، لكان الكذب المفضي إلى تخليص النبي من يد الظالم قبيحاً أيضاً ، والتالي باطل لأنّه يحسن تخليص النبي من يد الظالم ، فالمقدّم مثله ، فيصبح الكذب النافع غير قبيح ، فلو كان قبح الكذب ذاتيّاً ، لما تغيّر قبحه ، بل يبقى عليه وإن ما بلغ.

على هامش الاستدلال

إنّ في المقام أمرين قبيحين :

1. الكذب والإغراء بالجهل.

2. ترك نصرة النبي وتعريضه للهلاك.

وقد دار الأمر بين ارتكاب أحد القبيحين.

1. أن يكذب وفيه نجاة النبي.

2. أن يترك نصرة النبي ويعرّضه للهلاك وفيه ترك الكذب القبيح.

والعقل عندئذ يحكم بتقديم أخف القبيحين على الآخر ، تخلصاً عن ارتكاب الأقبح. فالكذب باق على قبحه ، لكنّه يقدّم ارتكابه على الأقبح ويكون معذوراً في ارتكابه.

ويمكن أن يقال : إنّ إنقاذ النبي لا يتوقّف على الكذب مطلقاً إذا كان باب التعريض والتورية مفتوحاً ، ولهذا قيل : «إنّ في التعاريض لمندوحة».

الثالث : التحسين والتقبيح فرض تكليف على الله
اشارة

هذا الدليل هو أكثر تداولاً على ألسنة السُذَّج من الناس الذين يغترون

ص : 28

بأدلّة المنكرين للتحسين والتقبيح العقليّين قالوا بأنّ القائلين بهما يوجبون على الله ما يوجبون على العبد ، ويحرِّمون عليه من جنس ما يحرِّمون على العبد ، ويسمّون ذلك العدل ، والحكمة مع قصور عقلهم عن معرفة حكمتهم. (1)

على هامش الاستدلال

إنّ المستدل خلط بين فرض التكليف على الله ، وكشف ما عنده من الحُكْم من خلال صفاته وكماله ، فالقائل بالملازمة لا يفرض التكليف على الله ، ويقول : أين التراب ورب الأرباب ، بل يستكشف ما عنده من الأحكام من خلال دراسة صفاته الكمالية ، فهو بما انّه عادل ، لا يجور ، وحكيم لا يعبث ، وعالم لا يجهل ، نستكشف بها الأحكام اللائقة به حسب صفاته فالتكاليف التي يستنبطها العقل من قبيل التكاليف التي فرضتها على الله حكمتُه وعدله وعلمه. فلو قلنا لا يجوز على الله سبحانه تعذيبُ البريء أو أخذُه بذنب المجرم ، لا نعني انّا نفرض هذا التكليف عليه ، وانّه يجب أن يقوم به ، وإنّما نريد أنّ لازم صفاته الكمالية هو أن لا يفعل ذلك.

وهذا نظير ما يقوم به العلماء من كشف أسرار الطبيعة وقوانينها ، فلو قال القائل : بأنّ زوايا المثلث تساوي قائمتين ، فهذا لا يعني إلاّ أنّه في الواقع كذلك ، لا انّه يجب أن يكون كذلك لأجل حكمه به.

فإذا كان النظام السائد على الكون نظاماً مبنياً على العلم والعدل والحكمة فلازم ذلك أن لا يؤخذ البريء بذنب المجرم ، فكشف هذا الحكم نظير كشف القوانين السائدة على الكون في العلوم الطبيعية والرياضية والفلكية.

ص : 29


1- التبصير في الدين : 153 ؛ شرح المقاصد : 2 / 150 طبعة اسطنبول.

وفي كلام بعض الأشاعرة إلماع لما ذكرنا ، يقول النسفي (المتوفّى 537 ه) : وفي إرسال الرسل ، حكمة.

ويقول التفتازاني (المتوفّى 791 ه) في شرحه على ذلك الموضع من كلام النسفي : أي مصلحة وعاقبة حميدة. وفي هذا إشارة إلى أنّ الإرسال واجب لا بمعنى الوجوب على الله تعالى ، بل بمعنى أنّ قضية الحكمة تقتضيه لما فيه من الحِكَم والمصالح وليس بممتنع. (1)

وكلامه هذا نفس ما ذكرناه ، وهذا دليل على أنّ الأشاعرة قد أظهروا نوعاً من المرونة للعدلية عبْر الزمان.

الدوافع من وراء إنكار التحسين والتقبيح العقليّين

إنّ التحسين والتقبيح العقليّين من المسائل الواضحة لدى العقل والعقلاء والتي لا تحتاج إلى مزيد بيان ، ومن أنكرهما فإنّما ينكرهما بلسانه دون قلبه ، وعلى الرغم من ذلك نرى وجود فئة كبيرة من المتكلّمين - كالأشاعرة - غلب عليهم إنكار هذا الأصل ، فما هو الدافع الذي جرّهم إلى إنكاره؟

أقول : إنّ الدافع من وراء إنكار الحسن والقبح في أفعاله سبحانه غير الدافع الذي جرّهم إلى إنكارهما في أفعال الإنسان.

فالدافع في الأوّل هو زعمهم المنافاة بين القول بهما وبين وصفه سبحانه بالمالك المطلق والسلطان بلا منازع الذي له أن يتصرف في ملكه كيف ما شاء حتى لو جازى الإحسان بالسوء.

ص : 30


1- شرح العقائد النسفية : 164.

كما أنّ الدافع في الثاني (إنكارهما في أفعال الإنسان) هو قولهم بالجبر في أفعاله وانّ الإنسان مضطر في فعله لا محيص له عن ارتكابه ، ومع ذلك كيف يمكن أن يوصف فعله بالحسن والقبح؟!

يقول المحقّق الخراساني (المتوفّى 1329 ه) في هذا الصدد :

وإنّما أنكر الأشاعرة الحسن والقبح العقليّين مطلقاً ، أو في أفعاله تعالى فلبنائهم انّه تعالى كلّما فعل ، صدر منه في محله ، لأنّه مالك الخلق كلّه ، فلو أثاب العاصي وعاقب المطيع لم يأت بقبيح ، لأنّه تصرّف في ملكه ، وهو لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون.

وأمّا في أفعال العباد ، فلبنائهم على عدم صدور الأفعال منهم بالاختيار ، بل بالجبر والاضطرار ، ولا شيء من أفعال المجبور بحسن ولا قبيح. (1)

الرابع : جواز التكليف بما لا يطاق

اعتمد الفخر الرازي في إنكاره للحسن والقبح العقليّين على أنّ التكليف بما لا يطاق قبيح عقلاً عند العدلية ، مع أنّ الشرع أمر به ، وإليك نصّه :

1. لو كان قبيحاً لما فعله الله تعالى ، وقد فعله بدليل أنّه كلّف الكافر بالإيمان ، مع علمه بأنّه لا يؤمن ، وعلمه بأنّه متى كان كذلك كان الإيمان منه محالاً.

2. لأنّه كلّف أبا لهب بالإيمان ، ومن الإيمان تصديق الله تعالى في كلّ ما أخبر عنه ، وممّا أخبر عنه أنّه لا يؤمن ، فقد كلّفه بأن يؤمن بأنّه لا يؤمن ، وهو تكليف الجمع بين الضدين. (2)

ص : 31


1- درر الفوائد في شرح الفرائد : 339.
2- المحصل : 153 ، ط دار الفكر ؛ نقد المحصل : 339 ، ط طهران.

يلاحظ عليه : أنّ الرازي تصور انّه قد وقف على دليل حاسم في المقام ، فاستدلّ بما ذكرته المجبرة قبله بقرون وأجابت عنه العدلية بوجوه ، وقال الرازي في بعض كلماته : لو اجتمعت جملة العقلاء لم يقدروا على أن يوردوا على هذا الوجه حرفاً إلاّ بالتزام مذهب هشام وهو انّه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها. (1)

أقول : إنّ ما نسبه إلى هشام بن الحكم فرية عليه كما أوضحناه في محله (2) ، وإليك الإجابة عن الدليلين الأوّلين ، أمّا الدليل الأوّل فلأنّ علمه الأزلي لم يتعلّق بصدور كلّ فعل من فاعله على وجه الإطلاق ، بل تعلّق علمه بصدور كل فعل عن فاعله حسب الخصوصيات المتوفرة فيه.

وعلى ضوء ذلك فقد تعلّق علمه الأزلي بصدور الحرارة من النار على وجه الجبر ، بلا شعور ، كما تعلّق علمه الأزلي بصدور الرعشة من المرتعش ، عالماً بلا اختيار ، ولكن تعلّق علمه سبحانه بصدور فعل الإنسان عن اختيار منه ، فتعلّق علمه بوجود الإنسان وصدور فعله منه اختياراً ، يؤكِّد الاختيار ويدفع الجبر عن ساحة الإنسان.

وإن شئت قلت : إنّ العلّة إذا كانت عالمة شاعرة ، ومريدة ومختارة كالإنسان ، فقد تعلّق علمه بصدور أفعالها منها بتلك الخصوصيات وانصباغ فعلها بصبغة الاختيار والحرية ، فلو صدر فعل الإنسان منه بهذه الكيفية لكان علمه مطابقاً للواقع غير متخلّف عنه ، وأمّا لو صدر فعله منه عن جبر واضطرار بلا علم وشعور ، أو بلا اختيار وإرادة ، فعند ذلك يتخلّف علمه عن الواقع.

وأمّا الجواب عن الدليل الثاني فحاصله : انّ أبا لهب مكلّف بالإيمان لكونه

ص : 32


1- شرح المواقف : 8 / 155.
2- لب الأثر في الجبر والقدر : 150.

أمراً اختيارياً له ، وأمّا الإخبار بعدم إيمانه فقد نزل به الوحي بعد ما ختم الله على قلبه ، وعندئذ فليس مكلّفاً بما جاء في القرآن من أنّه لا يؤمن بل هو من إخبارات القرآن كسائر أخباره.

إلى هنا تمّ بيان أدلّة المثبتين والمنكرين ، وأظن انّ الحقّ تجلّى بأجلى مظاهره ، وهو أحقّ أن يتبع ، وما جاء به المنكرون تسويلات سحروا أعين المغترين بها واسترهبوهم ولكن نور الحقيقة لا يفتأ متبلِّجا.

بقي الكلام في الآثار والثمرات المترتبة على القاعدة وهو موضوعنا في الفصل الآتي.

ص : 33

6- النتائج المترتّبة على التحسين والتقبيح العقليّين

اشارة

إنّ قيمة كلّ بحث رهن الآثار التي تترتّب عليه ، والثمار التي يقتطفها الباحث ، ومن حسن الحظ انّ للمسألة دوراً عظيماً في العلوم الإنسانية لا سيما في الكلام والأخلاق ، وقد مضى الالماع إليه في صدر الرسالة وإليك شيئاً من هذه الثمرات.

1. وجوب المعرفة عقلاً
اشارة

اتّفق المتكلمون على لزوم معرفة المنعم ، لكن اختلفوا في وجه لزومه.

ذهبت الأشاعرة المنكرون للحسن والقبح العقليّين إلى أنّ معرفة المنعم (الله سبحانه) واجبة شرعاً مع أنّه أمر غير معقول ، إذ كيف تجب معرفته شرعاً مع أنّ الشريعة لم تثبت بعدُ حتّى يثبت وجود معرفة الله في ضمن سائر أحكامه.

وذهبت الإمامية والمعتزلة إلى أنّ معرفته واجبة عقلاً ، واستدلّوا على ذلك بوجهين

ص : 34

الف : لزوم شكر المنعم

لا شكّ انّ حياة الإنسان رهن النعم التي يعيش فيها ، فليس مصدر النعم هو نفسه بل شخص آخر هذا من جانب.

ومن جانب آخر انّ العقل يدفع الإنسان إلى شكر من أحسن إليه ولا يصح الشكر إلا بمعرفته ، فينتج وجوب معرفته عقلاً.

ب : دفع العقاب المحتمل بالمعرفة

إنّ معرفة الله دافعة للخوف الحاصل من الاختلاف ، ودفع الخوف حسن بالضرورة. (1)

توضيحه : انّه ذهب الإلهيون إلى أنّ العالم وما فيه مخلوق لله سبحانه - وهم جماهير الناس ، وإن خالفهم شرذمة قليلة من المادّيين - ويدّعون أنّ لله سبحانه سفراء وأنبياء حوّل إليهم بيان وظائف العباد في أبعاد مختلفة وإنّ في مخالفتهم مضاعفات وعقوبات.

وحيث إنّ الإنسان يحتمل جداً صدق مقولتهم فيبعثه عقله إلى وجوب معرفته ومعرفة سفرائه ويحسنه كما يزجره عن ترك المعرفة ويقبحه ، ولو لا القول بالحسن والقبح العقليّين لما كان هناك أي باعث إلى معرفته سبحانه.

2. وصفه بالعدل والحكمة
اشارة

إنّ وصفه سبحانه بالعدل والحكمة فرع ثبوت التحسين والتقبيح العقليّين ، ولو لا استقلال العقل بحسن العدل وقبح الظلم لما صحّ وصفه سبحانه بالعدل أو

ص : 35


1- نهج الحق وكشف الصدق : 51.

تنزيهه عن الظلم ، ونظير ذلك وصفه بكونه حكيماً لا يعبث ، لأنّ الفعل العبث قبيح عقلاً ، ومن عزل العقل عن درك التحسين والتقبيح العقليين لما تسنّى له إثبات هذين الوصفين له والاعتماد في إثباتهما على اخبار الشرع قد علمت عدم صحّته. (1)

الدليل على نفي صدور القبيح عن الله سبحانه

اعتمد المتكلّمون على نفي صدور القبيح منه سبحانه على وصفين :

أ. علمه بالحسن والقبح.

ب. غناه وعدم حاجته إلى شيء.

ونحن في حياتنا اليومية نشاهد ذلك بالعيان ، فانّ من يرتكب القبيح فإنّما يرتكب لإحدى جهتين : إمّا لجهله بقبح الفعل ، أو لإحساس الحاجة إليه (وإن كان ربّما لا يكون محتاجاً إليه في الواقع) ومن فقد هذين الأمرين فلا يصدر منه القبيح.

فإذا كان هذا هو السبب الأساسي لصدور القبيح من الإنسان ، فهذا هو السبب أيضاً في صدوره عن الله سبحانه ، فإذا كان سبحانه نفس العلم والغنى يمتنع صدور فعل القبيح منه.

3. لزوم اللطف على الله

اللطف عبارة عمّا يكون المكلّف معه أقرب إلى فعل الطاعة وأبعد عن فعل المعصية ، وقد قسموا اللطف إلى : المقرِّب نحو الطاعة ، وإلى المحصِّل لها ؛ فلو

ص : 36


1- لاحظ ص 20 من هذا الكتاب.

كان موجباً لقرب المكلّف إلى فعل الطاعة والبعد عن فعل المعصية ، فهو لطف مقرّب ، ولو ترتّبت عليه الطاعة فهو لطف محصّل.

وحاصل اللطف عبارة عن فسح المجال أمام المكلّف بُغية حصول الطاعة والابتعاد عن المعصية ، وهو أمر غير إعطاء القابلية للمكلّف بل فوقه ، فانّ القدرة شرط عقلي ولولاها لقبح التكليف ، والمراد انّه سبحانه يتلطّف على العبد - وراء إعطائه القابلية والقدرة - بفعل أُمور يرغب معها إلى الطاعة وترك المعصية ، فلو توقّف تحصيل الغرض (طاعة العبد) وراء إعطاء القدرة ، على فعل المرغِّبات إلى الطاعة وترك المعصية كوعده وإيعاده كان على المكلّف القيام به لكيلا ينتفي الغرض ، وإلى هذا الدليل يشير المحقّق الطوسي ، ويقول : «واللطف واجب لتحصيل الغرض به».

4. بعثة الأنبياء

إنّ العقل يحكم بلزوم بعث الأنبياء ، وذلك لأمرين رئيسيّين :

الأوّل : انّ للعقل أحكاماً كلية كلزوم شكر المنعم وعبادته ، إلاّ أنّه عاجز عن الخوض في تفاصيلها ، فوجب من باب اللطف بعث الأنبياء ، لغاية إيضاح كيفية أداء الواجب وبيان المزيد من التفاصيل.

الثاني : انّ ادراك العقل حسن فعل أو قبحه ربما لا يكون باعثاً أو زاجراً إلاّ إذا افترض بوعد ووعيد من قبل المولى سبحانه وهو لا يتحقّق إلاّ ببعث الأنبياء الناطقين عنه سبحانه ، وبذلك يعلم أنّ دور الأنبياء بالنسبة إلى ما يدركه العقل أحد أمرين ، إمّا دور الإرشاد إلى التفاصيل التي لا يدركها العقل ، وإمّا دور الدعم لحكمه.

ص : 37

5. حسن التكليف

إذا كان فعله سبحانه منزّهاً عن العبث ، يستقلّ العقل بالحكم بلزوم إيصال كلّ مكلّف إلى الغايات التي خلق لها ، وذلك بتكليفهم بما يوصلهم إلى الكمال ، وزجرهم عمّا يمنعهم عنه ، حتى لا يُتركوا سدىً وتنفتح في ضوء التكليف طاقاتهم الروحية ، وعلم الإنسان بالحسن والقبح لا يكفي في استكماله ، إذ هناك أُمور يقصر عن إدراك حكمه ، علم الإنسان ، ولا تعلم إلاّ عن طريق الوحي والشرع.

مضافاً إلى أنّ حفظ النظام أمر حسن واختلاله وزعزعته أمر قبيح ، ولا يسود النظام في المجتمع الإنساني إلاّ بتقنين قوانين سماويّة (1) تكفل تحقيق العدل والمساواة بين كافة الشعوب.

إلى غير ذلك من الثمرات المذكورة لحسن التكليف.

6. لزوم تزويد الأنبياء بالبيّنات والمعاجز

إنّ بداهة العقل قاضية بعدم جواز الخنوع والخضوع لأي ادّعاء ما لم يعضده الدليل والبرهان ، فمقتضى الحكمة الإلهية تزويد الأنبياء بالمعاجز والبيّنات حتى تتحقّق الغاية المتوخّاة من بعثهم ، ولولاها لأصبح بعثهم سدىً وعملاً بلا غاية وهو قبيح.

7. لزوم النظر في برهان مدّعي النبوة

إذا كان مقتضى الحكمة الإلهية دعم الأنبياء بالبراهين ، فيلزم على العباد عقلاً النظر في برهان مدّعي النبوة ، لاستقلال العقل بذلك ، ولدفع الضرر

ص : 38


1- خرجت الوضعية فانّها لا تسعد بها الإنسان ، العيان يكفيك عن البيان.

المحتمل.

وأمّا من عزل العقل عن الحكم في ذلك المجال ، فليس له أن يثبت لزوم النظر إلاّ عن طريق الشرع ، وهو بعد غير ثابت ، فتطرح مشكلة الدور.

8. العلم بصدق دعوى الأنبياء

إذا اقترنت دعوة المتنبّئ بالمعاجز والبيّنات الواضحة - فبناء على استقلال العقل بالحسن والقبح العقليّين - لحكمنا بصدقه ، لقبح إعطاء البيّنات للمدّعي الكذّاب لما فيه من إضلال الناس ، وأمّا إذا عزلنا العقل عن الحكم المذكور ، فلا دليل على صدق نبوّته.

9. الخاتمية واستمرار أحكام الإسلام

إنّ استقلال العقل بالتحسين والتقبيح - بالمعنى الذي عرفت - أساس الخاتمية وبقاء أحكام الإسلام وخلودها إلى يوم القيامة ، لأنّ الفطرة - التي هي العماد لإدراك الحسن والقبح - مشتركة بين جميع أفراد البشر ولا تتبدّل بتبدّل الحضارات وتطور الثقافات ، فإنّ تبدّلها لا يمسّ فطرة الإنسان ولا يُغير جبلته ، فيصبح ما تستحسنه الفطرة أو تستقبحه خالداً إلى يوم القيامة ، دون أن يتطرّق إليه التبدّل والتغيّر.

10. الله عادل لا يجور

اشارة

من أبرز مصاديق حكمته - تعالى - هو عدله ، بمعنى قيامه بالقسط ، وأنّه لا يجور ولا يظلم ، ويترتب عليه بعض النتائج التي منها :

ص : 39

أ. قبح العقاب بلا بيان

إذا كان الله تعالى عادلاً ، فانّه لا يعاقب عباده دون أن يبيّن لهم تكاليفهم ، لحكم العقل بقبح العقاب بلا صدور بيان ، أو مع صدور دون أن يقع في متناول العباد ، ولزوم تنزّه الواجب عنه.

ب. قبح التكليف بما لا يطاق

من نتائج حكم العقل بعدله تعالى ، حكمه بلزوم تكليفه بما يطيقه العبد ، وأنّ تكليفه وإلزامه بما هو فوق طاقته ظلم وقبيح لا يصدر عن الحكيم.

ج. مدَى تأثير القضاء والقدر في مصير الإنسان

هذه المسألة على الرغم من أهميتها البالغة في العقيدة الإسلامية ، فقد احتدم الجدل حولها إلى درجه التكفير وإراقة الدماء خاصة في العصور الأُولى ، فهل تأثيرهما إلى حدّ يسلب الاختيار عن الإنسان ، أو لا. والأوّل قبيح عند العقل فيتعين الثاني.

د. اختيار الإنسان.

من جملة المسائل المترتبة على عدله تعالى ، اختيار الإنسان في أفعاله دون أن يكون مجبوراً مسيَّراً فيما يقوم به من ظلم وجور.

11. ثبات الأخلاق والقيم

إنّ مسألة ثبات الأخلاق في جميع العصور والحضارات أو تبدّلها تبعاً لاختلافها ، ممّا طرح مؤخراً عند الغربيّين ودارت حوله نقاشات حادة ، فمن قائل بثبات أُصولها ، ومن قائل بتبدّلها وتغيّرها حسب تغير الأنظمة والحضارات ، ولكن

ص : 40

المسألة لا تنحل إلاّ في ضوء التحسين والتقبيح العقليّين الناشئين من قضاء الجبلّة الإنسانية والفطرة الثابتة ، فعند ذاك تتسم أُصول الأخلاق بسمة الثبات والخلود.

خذ على سبيل المثال «إكرام المحسن» فانّه أمر يستحسنه العقل ، ولا يتغير حكم العقل هذا أبداً ، وإنّما الذي يتغيّر بمرور الزمان ، وسائل الإكرام وكيفيته.

إنّ الثابت عبارة عن الأُصول الفطرية التي لها جذور في عمق الإنسان ، وطبيعته ، وبما انّ الفطرة الإنسانية واحدة في جميع الشرائط والظروف لا تتغير بتغيّرها ، تُصبح الأُصول المبنية على الفطرة الإنسانية أُصولاً ثابتة لا تتغيّر أيضاً ، فقوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (1) ثابت ولا يتغيّر عبر القرون ، لأنّ العدل والإحسان قد جبل الإنسان عليهما ، نعم ثمة تغيّر يطرأ على الأساليب المقررة لإجراء تلك الأُصول الثابتة تبعاً لتغيّر الزمان ، فهي لم تزل تتغيّر حسب تغيّر الحضارات وهذا التغيّر ليس جوهرياً يمس ثبات تلك الأُصول.

إنّ للإنسان - مع غض النظر عن البيئة التي يعيش فيها - سلوكاً باطنياً يلازمه ولا ينفك عنه ، وفطرة ثابتة ويعدّ جزءاً مهماً من شخصيته يميّزه عن سائر الحيوانات ويلازم وجوده في كلّ زمان ومكان.

فهذا السلوك الباطني الثابت لا يستغني عن قانون ينظم اتجاهاته ، ويصونه عن الإفراط والتفريط ، فإذا كان القانون مطابقاً لمقتضى فطرته ، وصالحاً لتعديل ميولها ، لزم خلوده بخلوده ، وثبوته بثبوته ، فمن زعم أنّ الأخلاق تتطور

ص : 41


1- النحل : 90.

حسب تطور الظروف والشرائط غفل عن أنّ للإنسان سلوكاً باطنياً وفطرة ثابتة لا تنفك عنه ما دام الإنسان إنساناً.

نعم إنّ الذي يتغيّر وتتغيّر بتبعه العادات والتقاليد ، لا صلة له بالأخلاق وثباتها ، وها نحن نذكر من الأُصول الثابتة في علم الأخلاق نماذج :

1. لا يشك ذو مسكة أنّ بقاء النظام في المجتمع الإنساني رهن قوانين تؤمِّن حقوق جميع شرائح المجتمع بعيداً عن الظلم والجور والتعسّف ، وهذا أصل ثابت لا يشك فيه أحد ، بيد أنّ الذي يتغيّر هو الأساليب التي تتكفّل إجراء هذا الأصل ، فلا تجد على أديم الأرض من ينكر حسن تقنين مبنيّ على العدل وبسطه بين الناس ، وقبح الظلم والتعسف.

وهذا الأصل الثابت لم يتغيّر منذ أن وجد الإنسان على البسيطة وأصبحت له حياة اجتماعية.

2. الاختلاف بين الرجل والمرأة أمر تكويني محسوس ، فهما موجودان مختلفان عضوياً وروحياً على الرغم من الأبواق الإعلامية التي تبغي كسر الحواجز بينهما ، ولذلك اختلفت أحكام كلّ منهما عن الآخر.

فإذا كان التشريع مطابقاً لفطرتهما ومسايراً لطبعهما يظل ثابتاً لا يتغيّر بمرور الزمان ، لثبات الموضوع المقتضي لثبات المحمول.

3. الروابط العائلية ، كرابطة الابن بأبويه ، ورابطة الأخ بأخيه ، وهي روابط طبيعية ، تتحد فيها الأواصر الروحية والنسبية ، فالأحكام التي قُنّنت لتنظيم تلك الروابط باتت ثابتة لا تتغيّر بتغيّر الزمان.

4. انّ التشريع الإسلامي بالغ في الاهتمام بالأخلاق للحيلولة دون تفسّخها ، كما عالج أسباب التفسّخ الخلقي كالخمر والميسر والإباحة الجنسية

ص : 42

بوضع حلول تتناسب معها من خلال تحريمها وإقامة الحدود على مقترفيها ، وهذه الحلول ليست مقطعية تتغيّر بتغير الزمان ، بل هي ثابتة لا تتغير ، لأنّ الآثار التي تتركها المفاسد الخلقية أيضاً ثابتة ، فالخمر يزيل العقل ، والميسر ينبت العداوة في المجتمع ، والإباحة الجنسية تفسد النسل والحرث.

هذا وأمثالها من الأحكام الثابتة في حياة الإنسان الاجتماعية ، وهي تنسجم قبل كلّ شيء مع فطرته.

وخلاصة البحث : أنّ تطوّر الحياة الاجتماعية في بعض مجالاتها ، أو تغيّر الأحكام الموضوعة على وفق ملاكات واقعية متغيّرة لا يكون ذريعة لنسخ قبح الظلم وحسن العدل ولزوم أداء الأمانة ، ودفع الغرامات ، والوفاء بالعهود والمواثيق وأضرابها.

ص : 43

ص : 44

الفصل الثاني: الإنسان بين الجبر والتفويض

اشارة

ص : 45

ص : 46

تمهيد

إنّ للشخصية الإنسانية أبعاداً مختلفة ، ومن تلك الأبعاد كون الإنسان فاعلاً مختاراً فيما يفعل أو يترك ، أو كونه مسيّراً قد رُسِم مصيرُ حياته بيد القَدَر أو عامل آخر - كما سيوافيك - ولا محيص له إلاّ السير في الطريق الذي خُطّ له.

مع انّ دراسة هذا البعد من أبعاد الشخصية الإنسانية دراسة مسألة فلسفية محضة يَلجها كبارُ الحكماء والفلاسفة عبْر القرون ولهم فيها آراء وأفكار ، لكنّها وفي الوقت نفسه مسألة يشتاق إلى فهمها عامّة الناس وقلّما وجدت في حياة الإنسان مسألة لها تلك الميزة ، وفي الحقيقة هي من إحدى المسائل الأربع التي يتطلّع إلى فهمها الجميع ألا وهي :

1. من أين جاء إلى الدنيا؟

2. لما ذا جاء إليها؟

3. إلى أين يذهب؟

4. وهل هو في إعماله مخيّر أو مسير؟

ولأجل ذلك لا يمكن تحديد الزمن الذي طُرِحت فيه مسألة الجبر والاختيار ، كما لا يمكن تحديد مكانها ، وإنّ باذرها هل هو إفريقي أو روميّ أو هندي أو صيني أو إيراني؟ وعلى كلّ تقدير فللمسألة جذور عميقة في تاريخ حياة

ص : 47

الإنسان.

ثمّ إنّ الآراء المطروحة في المسألة تدور على محورين :

1. الإنسان مسيّر لا مخيّر ، مجبور في أفعاله وليس بمختار.

2. الإنسان مخيّر في أفعاله لا مسيّر ، مختار فيها وليس بمجبور.

ولكلّ من الرأيين قائل ودليل يعضد رأيه ، إلاّ أنّ المهم هو الوقوف على الرأي السائد حين نزول الوحي على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فالسير في الحديث والتاريخ يُثبت بأنّ الرأي العام في الجزيرة العربية قبل البعثة كان هو الجبر ، وقد بقيت رسوبات تلك الفكرة بعد البعثة وحتى رحيل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. ولأجل تبيين هذا الجانب من جوانب البحث نعقد الفصل التالي.

ص : 48

1- الجبر على مسرح التاريخ الإسلامي

اشارة

إنّ التأمّل في عقائد العرب في الجاهلية يُثبت بأنّهم أو طائفة منهم كانوا معتقدين بالتقدير السالب للاختيار عن الإنسان ، يقول سبحانه : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ). (1)

وليست الآية ، آية وحيدة تكشف عن عقيدة العرب في العصر الجاهلي حول فعل الإنسان ، بل هناك آية أو آيات أُخرى تشير إلى عقيدتهم ، يقول سبحانه : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ). (2)

فقولهم : (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) إشارة إلى أنّ عبادة الوثن أمر قدّره الله سبحانه وليس لنا الفرار ممّا قُضي به ، والله سبحانه يردّ على مزعمتهم بقوله : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) ، فلا يأمر بها ولا يقدِّرها بالمعنى

ص : 49


1- الأنعام : 148.
2- الأعراف : 28.

الذي تدّعون أي السالب للاختيار.

وأمّا جذور هذه العقيدة وانّها كيف تسرّبت إلى الجزيرة العربية حتّى سادت على المشركين فقد ظلّت مجهولة؟

والعجب انّ رسوبات فكرة الجبر بقيت بعد بزوغ نجم الإسلام وسادت حال حياة الرسول وبعد رحيله أيضاً.

روى الواقدي في مغازيه عن أُمّ الحارث الأنصارية وهي تحدِّث عن فرار المسلمين يوم حنين قالت : مرّ بي عمر بن الخطاب منهزماً ، فقلت : ما هذا؟ فقال عمر : أمر الله. (1)

ومعنى ذلك انّه لم يكن دور للغزاة من المسلمين في هزيمة حنين ، وقد كانت الهزيمة تقديراً قطعياً من الله ولم يكن محيص من التسليم امامه.

وهذا هو نفس الجبر لا يفترق عنه قيد شعرة ، مع أنّه سبحانه يقول : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ). (2)

وقد أشار سبحانه إلى عامل الهزيمة وأنّه أمران :

الأوّل : إعجابهم بكثرتهم ، فاعتمدوا على الكثرة ، مكان الاعتماد على الله سبحانه أوّلاً وعلى قواهم الذاتية ثانياً كما يقول : (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ).

الثاني : الانسحاب عن ساحة الحرب بدل الثبات ، كما يقول سبحانه (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) مع أنّهم أُمروا بالثبات كما يقول تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ). (3)

ص : 50


1- المغازي : 3 / 904.
2- التوبة : 25.
3- الأنفال : 15.

والعجب انّ هذه العقيدة (القدر السالب للاختيار) كانت سائدة بعد رحيل الرسول وباقية في اذهان الصحابة ، وهذا السيوطي ينقل عن عبد الله بن عمر أنّه جاء رجل إلى أبي بكر ، فقال : أرأيت الزنا بقدر؟ قال : نعم ، قال : فإنّ الله قدّره عليّ ثمّ يعذّبني؟ قال : نعم يا بن اللخناء أما والله لو كان عندي إنسان أمرته أن يجأ أنفك. (1)

لقد كان السائل في حيرة من أمر القدر فسأل الخليفة عن كون الزنا مقدَّراً من الله أم لا؟ فلما أجاب الخليفة بنعم ، استغرب من ذلك ، لأنّ العقل لا يسوّغ تقديره سبحانه شيئاً سالباً للاختيار عن الإنسان في فعله أو تركه ثمّ تعذيبه عليه ، ولذلك قال : «فانّ الله قدّره عليّ ثمّ يعذبني؟!» فعند ذاك أقرّه الخليفة على ما استغربه ، وقال : نعم يا ابن اللخناء.

استغلال الأُمويّين للقدر

إنّ طبيعة الحكومات الاستبدادية هي تبرير كلّ ما يسود المجتمع من الفقر والظلم والاعتساف بعامل خارج عن دائرة حكمهم كقضاء الله سبحانه وقدره حتّى لا يعترض عليهم معترض.

ومن هنا وجد التفسيرُ الخاطئ للدين طريقَه إلى المجتمع الحاضر وانّه وسيلة لدعم الجهاز الحاكم ، وقد استغل الشيوعيون والعلمانيُّون هذه الفكرة لإبعاد الناس عن الدين ولكنّهم خلطوا سهواً أو عمداً بين كون الدين الواقعي - الذي أُلهم على قلوب الأنبياء ولا أن يكون مسانداً للجهاز الظالم - وبين التفسير الباطل للدين ، إذ كيف يكون الدين مسانداً للسلطات الزمنية الجائرة مع أنّه يأمر بالعدل

ص : 51


1- تاريخ الخلفاء للسيوطي : 95.

والاحسان وينهى عن الظلم والفحشاء؟! يقول إمام المسلمين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - راوياً عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لن تقدس أُمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القوي غير متعتع». (1)

1. انّ الأمويين استغلّوا الجبر لإرساء قواعد حُكْمِهم حتى أنّ معاوية لمّا نصب ولده يزيداً خليفة للمسلمين وسلّطه على رقاب المسلمين اعترضت عليه أُمّ المؤمنين عائشة ، فأجابها معاوية : إنّ أمر يزيد قضاء من القضاء وليس للعباد الخيرة من أمرهم. (2)

2. وبهذا أيضاً أجاب معاوية عبد الله بن عمر عند ما سأل معاوية عن تنصيبه يزيدَ للحكم؟ بقوله : إنّي أُحذرك أن تشق عصا المسلمين وتسعى في تفريق ملئهم وأن تسفك دماءهم ، وانّ أمر يزيد قد كان قضاءً من القضاء وليس للعباد خيرة من أمره. (3)

3. وقد سرى هذا الاعتذار إلى غير الأمويّين من الذين ساروا في ركب الخلفاء ، فهذا هو عمر بن سعد بن أبي وقاص ، قاتل الإمام الشهيد الحسين - عليه السلام - فلمّا اعترض عليه عبد الله بن مطيع العدوي بقوله : اخترت همدَان والريَ على قتل ابن عمك؟! فقال عمر : كانت أُمور قُضِيتْ من السماء وقد أعذرت إلى ابن عمي قبل الوقعة فأبى إلاّ ما أبى. (4)

4. وقد برّرتْ عائشة أُم المؤمنين خلافَها مع علي - عليه السلام - بالقضاء والقدر ، على ما رواه الخطيب عن أبي قتادة فعند ما ذكر قصة الخوارج في النهروان لعائشة أجابته

ص : 52


1- نهج البلاغة ، قسم الرسائل برقم 53.
2- الإمامة والسياسة لابن قتيبة : 1 / 167.
3- الإمامة والسياسية : 1 / 171.
4- طبقات ابن سعد : 5 / 148 ، ط بيروت.

أُمّ المؤمنين بقولها : وما يمنعني ما بيني وبين عليّ أن أقول الحق ، سمعت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول : «تفترق أُمّتي على فرقتين تمرق بينهما فرقة محلّقون رءوسهم ، مخفّون شواربهم ، أزرهم إلى أنصاف سوقهم ، يقرءون القرآن لا يتجاوز تراقيهم يقتلهم أحبهم إليّ ، وأحبهم إلى الله» ، قال : يا أُمّ المؤمنين فأنت تعلمين هذا فلم كان الذي منك؟! قالت : يا قتادة وكان أمر الله قدراً مقدوراً ، وللقدر أسباب!!. (1)

التقدير المساوي للجبر عقيدة مستوردة

ومن العوامل التي صارت سبباً لتركيز فكرة الجبر بين المسلمين هي الأساطير التي حاكها الأحبار والرهبان ونشروها بين المسلمين حول القضاء والقدر ، فهذا هو حماد بن سلمة يروي عن أبي سنان قال : سمعنا وهب بن منبه ، قال : كنتُ أقول بالقدر حتّى قرأت بضعة وسبعين كتاباً مَنْ كتب الأنبياء في كلّها : من جعل لنفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر ، فتركتُ قولي. (2)

والمراد من القدر في قوله : «كنت أقول بالقدر» ليس القول بتقدير الله سبحانه وقضائه ، بل المراد هو القول بالاختيار والمشيئة للعبد كما يظهر من ذيل كلامه.

وهذا النقل يعطي انّ القول بنفي الاختيار والمشيية للإنسان ، قد تسرّب إلى الأوساط الإسلامية عن طريق هذه الجماعة وعن الكتب الإسرائيلية أفيصحّ بعد هذا أن نعد القول بنفي المشيئة للإنسان عقيدة جاء بها القرآن والسنّة النبوية ، ونكفّر من قال بالمشيئة له ولو مشيئة ظلية تابعة لمشيئته سبحانه ، ونقاتل في سبيل هذه العقيدة؟!

ص : 53


1- تاريخ بغداد : 1 / 160.
2- ميزان الاعتدال : 4 / 353.

حديث «الفراغ من الأمر» بدعة يهوديّة

يجد الباحث في ثنايا الأحاديث وكلمات المحدّثين قولهم : «إنّ الله سبحانه قد فرغ من الأمر» ، أي قد فرغ سبحانه من أمر التدبير والتكوين فلا يتغيّر ما قُدّر ، ولا يتبدّل ما قضى به ، وهو بظاهره نفس الجبر ، إذ معناه انّه لا محيص للإنسان إلاّ العمل بما قُدّر وقضى ولا يتمكّن من تغييره وتبديله ، وبالتالي لا خيرة للإنسان في حياته فيما يختار أو يترك مع أنّه سبحانه يحكم على خلافه ويقول : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ * يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ). (1)

وهل يمحو إلاّ ما أثبتَ؟! فلو كان قد فرغ من الأمر فما معنى محو ما أثبته وقدّره؟ كيف والله سبحانه مبسوط اليد لا يكبّله تقديره وقضاؤه ، فله السيادة على القضاء والقدر دونهما عليه؟!

وهذا هو الثعلبي ينقل عن مجاهد قال : قالت قريش : «حينما أنزل (ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ) ما لنا نراك يا محمد تملك من شيء وقد فرغ من أمره ، فأنزلت هذه الآية تخويفاً ووعداً لهم ، أي أن يشأ أحدثها من أمر - إلى أن قال : - ويُحدث في كلّ رمضان في ليلة القدر ويمحو ويُثبت ما يشاء من أرزاق الناس ومسائلهم وما يؤتيهم ويُنسأهم له. (2)

وقد تطرق عن طريق تلامذة الاحبار والرهبان انّه سبحانه يمحو ما يشاء ويثبت إلاّ الحياة والموت والشقاء والسعادة فانّهما لا يتغيران ، ونقله السيوطي عن

ص : 54


1- الرعد : 38 - 39.
2- تفسير الثعلبي ، المسمّى بالكشف والبيان : 5 / 298 ؛ الدر المنثور : 4 / 659 واللفظ للثاني.

غير واحد من الصحابة والتابعين الذين كانوا يحسنون الظن باحبار اليهود ورهبان النصارى.

أخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ...) قال : إلاّ الحياة والموت ، والشقاء والسعادة فانّهما لا يتغيّران. (1)

أخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عمر : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) : إلاّ الشقوة والسعادة والحياة والموت. (2)

وقد روى عن ابن عباس : قال : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) قال : «ذلك كلّ ليلة القدر يرفع ويخفض ويرزق» أي غير الحياة والموت والشقاوة والسعادة ، فإنّ ذلك لا يزول. (3)

وأظنّ أنّ الرواية مكذوبة على لسان ابن عباس تلميذ الإمام أمير المؤمنين - عليه السلام - ، فإنّ الإمام - عليه السلام - وبيته الرفيع مجمعون على إمكان تغيير المصير حتّى السعادة والشقاء بالأعمال الصالحة والطالحة.

إنّ سيادة القدر على مصير الإنسان على نحو يسلب عنه الاختيار ولا يتمكّن من تبديل ما قدّر إلى خلافه ، نفس القول بالجبر وسيادته.

إنّ هذا القول مرفوض عقلاً ، وكتاباً ، فإنّ إطلاق الكتاب في المحو الإثبات ، يعمّ الجميع حتّى الموت والحياة والسعادة والشقاء.

إنّ قوم يونس قد غيّروا مصيرهم السيّئ بالتوبة والعمل الصالح. يقول سبحانه : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا

ص : 55


1- الدرّ المنثور : 4 / 663 ، 661 ، 662.
2- الدرّ المنثور : 4 / 663 ، 661 ، 662.
3- الدرّ المنثور : 4 / 663 ، 661 ، 662.

عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ). (1)

ويدلّ على ذلك أيضاً الروايات المتضافرة.

أخرج ابن أبي شيبة في «المصنّف» وابن أبي الدنيا في الدعاء ، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : ما دعا عبد قطّ بهذه الدعوات إلاّ وسّع الله له في معيشته : يا ذا المن ولا يُمنُّ عليه ، يا ذا الجلال والإكرام ، يا ذا الطول لا إله إلاّ أنت ، ظهر اللاجئين ، وجار المستجيرين ، ومأمن الخائفين ، إن كنت كتبتني عندك في أُمّ الكتاب شقيّاً فامح عني اسم الشقاء وأثبتني عندك سعيداً ... ، - إلى أن قال - : فإنّك تقول في كتابك الذي أنزلت (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ). (2)

ص : 56


1- يونس : 98.
2- الدر المنثور : 4 / 661 ، وبهذا المضمون روايات أُخرى لاحظ ص 663.

2- أحاديث لا تفارق الجبرَ قيد شعرة

إنّ اتّفاق المحدّثين على أنّ الصحيحين وبعدهما السنن الأربع ، من أصحّ الكتب بعد القرآن الكريم ، عاق الكثير من المحقّقين من الخوض فيهما نقداً وتمحيصاً ، ولو لا هذا الاتّفاق ، لقام المحقّقون بالنقد والتمحيص فيما كان مخالفاً للكتاب والسنّة النبوية القطعية والعقل الصريح ، وها نحن نسرد في المقام بعض ما جاء في الصحيحين ما لا يفارق الجبر قيد شعرة وهو إمّا مؤوّل أو موضوع على لسان الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -.

1. روى مسلم في صحيحه عن زيد بن وهب ، عن عبد الله قال : حدّثنا رسول الله - وهو الصادق - أنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أُمّه أربعين يوماً ، ثمّ يكون في ذلك علقة مثل ذلك ، ثمّ يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ، ثمّ يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ، فوالذي لا إله غيره إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنّة حتّى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتّى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. (1)

ص : 57


1- صحيح مسلم : 8 / 44 ، كتاب القدر.

فعلى هذا لا يقدر الإنسان على إضلال نفسه ولا هدايتها كما لا يقدر على أن يجعل نفسه من أهل الجنة أو النار ، ولو حاول لتحصيل شيء منها ، سبقَ الكتابُ حائلاً بينه وبين إرادته ، وهذا هو نفس القول بأنّ الإنسان مسيّر لا مخيّر.

ثمّ إنّ الإمام النووي الشارح لصحيح مسلم نظر إلى هذه الأحاديث بعين الرضا والقبول ، فلما رأى انّها لا تفارق الجبر قيد شعرة حاول تأويل قوله : «فيسبق عليه الكتاب» في كلا الموضعين ، وقال : «انّ هذا قد يقع في نادر من الناس لا أنّه غالب فيهم».

ثمّ إنّ من لطف الله تعالى وسعة رحمته انقلابُ الناس من الشر إلى الخير في كثرة وأمّا انقلابهم من الخير إلى الشر ففي غاية الندور ونهاية القلة ، وهو نحو قوله تعالى : «إنّ رحمتي سبقت غضبي وغلبت غضبي». (1)

يلاحظ عليه أوّلاً : بانّ حمل أحد الطرفين على الغلبة والطرف الآخر على وجه الندرة قسمة ضيزى فانّ ظاهر الحديث أنّ سبق الكتاب في الطرفين سيّان.

وثانياً : انّ الحديث ظاهر في غلبة القدر على عمل الإنسان ونيته فربما يجعل الصالح طالحاً والطالح صالحاً ، ولا صلة له بسبق رحمته على غضبه والظاهر انّ هذه الأحاديث حيكت على وفق عقائد اليهود الذين ذهبوا إلى انّ يده سبحانه مغلولة فبعد ما قضى ، لا يتمكن من تغييره ، غُلَّت أيديهم.

2. وروى عنه أيضاً حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : «يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين ليلة فيقول : يا رب أشقي أو سعيد؟ فيكتبان ، فيقول : أي رب أذكر أو أُنثى؟ فيكتبان ، ويكتب عمله

ص : 58


1- شرح صحيح مسلم للنووي : 16 / 435.

وأثره وأجله ورزقه ، ثمّ تُطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص». (1)

فعلى هذا فالصحف الأُولى التي قُدِّر فيها مصير الإنسان مطوية لا تفتح فلا يزيد فيها شيء ولا ينقص ، وهذا لا يختلف عن الجبر قيد شعرة.

إنّ تفسير القضاء والقدر - اللّذين هما من المعارف العليا في الإسلام - بالمعنى الوارد في الرواية يجعل الإنسان مكتوف اليدين في خضمِّ الحياة فيسلب عنه كلّ سعي في طريق السعادة إذا كتب من أهل الشقاء أو في طريق الشقاء إذا كتب من أهل السعادة.

3. روى عبد الله بن عمر ، عن أبيه قال : يا رسول الله أرأيت ما نعمل فيه أمر مبتدع أو فيما قد فرغ منه؟ فقال : بل فيما قد فرغ منه ، يا ابن الخطاب وكلّ ميسر ، أمّا من كان من أهل السعادة فإنّه يعمل للسعادة ، وأمّا من كان من أهل الشقاء فإنّه يعمل للشقاء.

وفي رواية قال : لمّا نزلت (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) سألت رسول الله ، فقلت : يا نبي الله فعلامَ نعمل ، على شيء قد فرغ منه ، أو على شيء لم يفرغ منه؟ قال : بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ، ولكن كلّ ميسّر لما خلق له. (2)

وهذا الحديث يعرب عن أنّه قد تمّ القضاء على الناس في الأزل وجعلهم صنفين وكلّ ميسر لما خلق له في الأزل لا لما لم يخلق له ، فأهل السعادة ميسّرون للاعمال الصالحة فقط وأهل الشقاء ميسّرون للأعمال الطالحة فقط ، وأي جبر أوضح وأبين ممّا جاء في هذا الحديث.

ص : 59


1- صحيح مسلم : 8 / 45 ، كتاب القدر.
2- صحيح مسلم : 8 / 45 ، كتاب القدر.

3- مضاعفات القول بالجبر

اشارة

إنّ للقول بالجبر وإنّ الإنسان مسيّر لا مخيّر ، مضاعفات كثيرة ، نشير إلى قسم منها ونحيل الباقي إلى مجال آخر :

1. انتفاء الغرض من بعثة الأنبياء

إنّ الغرض من بعثة الأنبياء هو دعوة الناس وإرشادهم إلى معالم التوحيد ونهيهم عن الشرك في مجال العقيدة ، وإلى محاسن الأخلاق وزجرهم عن مساويها في مجال العمل ، يقول سبحانه : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (1) ، وقال سبحانه : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) (2) إلى غير ذلك من الآيات التي تعكس الهدف المنشود من وراء بعث الأنبياء ، ولا يتحقّق هذا الغرض إلاّ في ظل كون الإنسان مخيّراً لا مسيَّراً ، فلو كان مسيّراً فكلّ إنسان كتب عليه النار ، فهو يدخلها ، إذن فما هو فائدة بعث الأنبياء ، فإنّ دعوة الأنبياء وعدمها بالنسبة إليه سيّان؟! وهذا من الوضوح بمكان لا يحتاج إلى التطويل.

ص : 60


1- النحل : 36.
2- البقرة : 213.

2. انتفاء فائدة المناهج التربوية

التربية عبارة عن توفير أرضية مناسبة لخروج ما هو بالقوة إلى منصّة الظهور والفعلية ، وهذا كالمزارع والفلاح القائمين بتربية البذور والنباتات فيوفّران ما يحتاجان إليه في إخراج الاستعداد المكنون فيهما إلى حيز الظهور والكمال ، فليس للمربّى دور الخلق والإيجاد ، بل تهيئة الظروف المناسبة لأن يُظهر الشيءُ كمالَه المستور لكي ينقلب البذر زرعاً والنبات شجراً.

وعلى ضوء ذلك فالمناهج التربوية في الإنسان ، شعارها رفع المستوى الفكري له وسوقه نحو الفضائل ومنعه من السقوط في هاوية الرذائل ، ومن المعلوم أنّ تحقّق هذه الغاية رهن وجود الحرية في الإنسان لكي يقع في إطار التربية ، فيسير حسب الضوء الذي يريه المربي ، فلو كان مسيّراً لا مخيّراً فإعمال الأساليب التربوية يُصبح أمراً لغواً غير مؤثر.

3. تكذيب الكتاب العزيز

إنّ من سبر الكتاب العزيز وتجرد عن عامّة الرواسب يجد انّ القرآن يصوّر الإنسان فاعلاً مختاراً يخاطبه فينصحه تارة ، ويأمره أُخرى ، ويزجره ثالثاً ، ويعده رابعاً ويوعده خامساً ، إلى غير ذلك من علائم الاختيار وآثاره ، ونذكر منها ما يلي :

1. قوله سبحانه : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً).

2. قوله سبحانه : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً). (1)

ص : 61


1- الكهف : 29.

ولله در الشهيد السعيد زين الدين العاملي حينما أنشد :

لقد جاء في القرآن آيةُ حكمة *** تدمِّر آياتِ الضلال ومن يُجبر

وتخبر انّ الاختيار بأيدينا *** فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر

3. قال سبحانه : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ). (1)

4. قال سبحانه : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ). (2)

5. قال سبحانه : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ). (3)

6. قال تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى * ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى). (4)

إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في أنّ الإنسان مخيّر فيما يختار ويترك وليس في حياته عاملُ ضغط باسم القدر والقضاء أو غيره ، يسلب عنه الاختيار ، وأمّا الآيات التي ربّما يستشم منها الجبر ، ككون الهداية والضلال بيد الله سبحانه فسيوافيك تفسيرها.

4. الجبري في ساحة الحياة ، اختياريّ

كلّ من رفع راية الجبر واتّسم به في الحياة ، وبنى عليه منهجاً فلسفياً ، فهو يغالط نفسه ، فترى أنّه إذا ظُلم وغصب حقّه ، يندِّد بالظالم ويرفع شكواه إلى

ص : 62


1- فصلت : 46.
2- الطور : 21.
3- النور : 11.
4- النجم : 4139.

المحاكم حتّى يأخذ الحاكم حقّه من الغاصب والظالم ، فلو لم يكن لخصمه خيرة واختيار فما معنى التنديد والتعرض له؟ وهذا يدلّ على أنّه يصوّر الخصم المخالف إنساناً مختاراً غصب ما يملكه عن اختيار وله أن يقوم بردّه إلى صاحبه.

وبالجملة كلّ من رفع عقيرته بالجبر فهو حين الجدال والسجال وإن كان جبريّاً ولكنّه في حياته الاجتماعية اختياري على ضد الجبر ولا يقبل أيّ عذر لخصمه!!

5. الجبر واجهة لنيل المزيد من الحرية

إنّ من دوافع القول بالجبر هو اشباع الميول والغرائز الحيوانية في الحياة ، فالجبري يطلب المزيد من الحرية من وراء ادّعائه الجبر ، ويتستر تحت واجهة الجبر ليخلِّص نفسه من عهدة التكليف والمسئولية ، ففي الحقيقة هو لا يؤمن بالجبر كمنهج للحياة ، بل يعتقد بالحرية فيها ليعيش فيها وفقاً لما تمليه عليه غرائزه الجامحة.

إلى هنا تم الحديث عن بعض مضاعفات الجبر.

ص : 63

4- شبهات وحلول

اشارة

ثمّ إنّ للقائلين بالجبر شبهات مختلفة ربما يغتر بها السذج من الناس ، فها نحن نستعرض تلك الشبهات ونضع أمام القارئ حلولاً لها على نحو لا يبقى لمشكك شك ولا لمريب ريب ، فنقول :

الشبهة الأُولى

1. مثلث الشخصية

إنّ فعل الإنسان تعبير عن شخصيّته المكوّنة بأُصول ثلاثة يعبّر عنها بمثلث الشخصية وإن كانت الأضلاع في بنائها ومقدار تأثيرها غير متساوية ، ولكن كلّ ضلع يؤثر فيها تأثيراً قطعيّاً ، وأمّا أضلاعها :

أ. ناموس الوراثة.

ب. الثقافة.

ج. البيئة.

أمّا الأوّل : فهو أمر اعترف به العلم والتجربة ويلمسه كل إنسان واع ، فالولد كما يرث الصفات الجسمانية للوالدين كذلك يرث صفاتهما الخُلقية وينشأ

ص : 64

عليها ، يقول الشاعر :

ينشأ الصغير على ما كان والده *** انّ الأُصول عليها ينبت الشجر

فاللبنة الأُولى في بناء الشخصية الصالحة أم الطالحة هي ما يرث الولد من الوالدين من الفضائل والرذائل ، وقد كشف العلم أنّ الجينات الموجودة في النطفة الإنسانية سبب طبيعي وعامل لانتقال هذه الصفات من الوالدين إلى الطفل.

وأمّا الثاني فيأتي دوره بعد دور الوراثة حيث إنّ المعلّم يمثِّل المدرسة التربوية الثانية بعد مدرسة الأبوين ، ولهذا يكون دور التعليم في مصير الطفل دوراً حسّاساً في قلبه.

وأمّا الثالث فيأتي دوره إذا أتمّ دراسته وبدأ ممارسة العمل ، فعندئذ يتأثر في سلوكه وخُلقه بالبيئة التي يعيش فيها ، فإذا كانت العوامل الثلاثة متجانسة في الغاية والأثر ، يقع الكلّ في طريق تكوين الشخصية الواحدة بلا صراع بينها ولا نزاع ، وأمّا إذا كان بينها نزاع وصراع في الغاية والدعوة ، فتكون النتيجة من حيث السلوك ، تابعة لأقوى العوامل وأرسخها في الروح وهو يختلف حسب اختلاف تأثير الأوفر سهماً من هذه ، ولأجل ذلك يوجد من يختار سلوك الآباء كما يوجد من يتركه ويقتفي أثر الثقافة أو البيئة.

وعلى كلّ تقدير فالإنسان مختار صورة ، لكنّه مسيّر سيرة يخط مصيره هذه العوامل أو أقواها تأثيراً.

يلاحظ عليه : أوّلاً : بأنّ ما ذكر من تأثير العوامل الثلاثة في بناء الشخصية أمر لا غبار عليه ، إنّما الكلام في كونها علّة تامّة أو معدّات تُوجِد أرضية لنمو مقتضاها ، ولا تُوجِدُ حتمية ، غير قابلة للتغيير :

ص : 65

أمّا العامل الأوّل فلا شكّ في تأثيره ، وقد قال سبحانه : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً). (1) وفي الآيات والروايات تصريحات وإشارات إلى ذلك ، لكن أثرها بين غير قابل للتغيير ، كالبُله والحُمق والبلادة ، وبين قابل له في ظلّ عوامل تربوية ، ولأجل ذلك ربما يكون الولد المتولّد من أبوين بارّين ، خائناً وجانياً ، كما ربما يكون الولد المتولّد من أبوين طاغيين ، إنساناً صالحاً مطيعاً ، والأوّل كولد نوح ، والثاني كعمر بن عبد العزيز الأموي.

ومثله العامل الثاني ، فليس عاملاً حتميّ الأثر وقطعيّ النتيجة ، فربّما يسعى الوالدان ، لتغيير ما أوجده التعلّم من الآثار الطيّبة أو الخبيثة.

ولا يقلُّ عنه العامل الثالث ، فقد أثّرت البيئة الفاسدة على امرأة نوح وامرأة لوط ، فأفسدتهما (2) وفي الوقت نفسه بقيت في بيت نوح عدّة على صلاحهم وفلاحهم. فهذه العوامل بأجمعها معدّات ، لا علّة تامّة في بناء الشخصية الحتمية غير القابلة للتغيير.

ثانياً : أنّ العوامل المكوِّنة للشخصية الإنسانية لا تنحصر في العوامل الثلاثة المذكورة التي اختارها المادي ، لأنّها تناسب ما يبتغيه ، كيف وانّ هناك أبعاداً روحية للإنسان وأحاسيس خاصة ، توحي إليه خير الحياة وتدفعه إليها ، بحماس ، وإن لم يكن علّة تامة أيضاً في التخطيط ، وهي عبارة عن الإدراكات النابعة من داخل الإنسان وفطرته من دون أن يتدخل في الإيحاء عامل خارجي ، كإحساسه بالجوع والعطش ، ورغبته في الزواج في سنين معيّنة ، والاشتياق إلى المال والمنصب في فترات من حياته ، وميله إلى ما هو حسن بالذات وهروبه عمّا هو قبيح كذلك ،

ص : 66


1- الأعراف : 58.
2- لاحظ سورة التحريم ، الآية 10.

كالإحسان والأمانة والوفاء بالميثاق ، وفي مقابله الظلم ، والخيانة ، ونقض العهد. تلك المعارف - وإن شئت سمّيتها بالأحاسيس - تنبع من ذات الإنسان وأعماق وجوده.

ص : 67

الشبهة الثانية : أفعال الإنسان في إطار القضاء والقدر

اشارة

القدر بمعنى انّه سبحانه يقدّر وجود الشيء ويحدّده كمّاً وكيفاً وزماناً ومكاناً إلى غير ذلك من الخصوصيات الحافّة بالشيء قبل تحقّقه وايجاده. هذا هو التقدير ، وأمّا القضاء فهو حكمه القطعي بتحقّق ذلك الشيء المقدّر في ظرفه.

هذا حسَب أُصولنا وأمّا على أُصول غيرنا ، «فالقضاء» هو إرادته سبحانه الأزلية ، «والقدر» هو ايجاد الشيء على قدر مخصوص كما سيوافيك. (1)

فقد أخذوا من القدر ، المعنى العيني وغفلوا عن معناه العلمي ، فالتقدير منه علمي قبل الايجاد ، ومنه عيني معه.

والتقدير والقضاء بهذا المعنى يشمل كلّ ما في الكون من الموجودات الممكنة من السماء والأرض وما فيها حتّى الإنسان وجوده وفعله.

وإن أردنا أن نشبه المعقول بالمحسوس فنقول :

ص : 68


1- لاحظ ص 78.

التقدير والقضاء أشبه بعمل الخياط عند ما يأخذ قياسات الثوب ، ثمّ يشرع بخياطته ولو لا ذلك لتعسّر عليه الخياطة.

ما هو محط النزاع في المقام؟

إنّ محطّ النزاع في القضاء والقدر ، هو أفعال الإنسان ، التي يترتّب عليها الثواب والعقاب ، ويحمد أو يذمّ ، فهل وقوعها في إطار القضاء والقدر يسلب عنه الاختيار ويسود عليها ، الجبر والحتم ، أو لا؟!

وأمّا ما وراء ذلك من الأُمور الكونية سواء أكان له صلة بحياة الإنسان وأفعاله أم لا ، فخارج عن محط النزاع ، فالقول بسيادة الجبر عليه ، نظر إلى الخصوصيات الكامنة في وجوده ، تعبير واضح عن واقع وجوده مثلاً.

1. انّ حركة الشمس والقمر وما بينهما وفوقهما من السيارات والكواكب والمجرّات ، حركات جبرية لأنّه سبحانه قدّر وجودها ، وحركاتها بهذه الخصوصية وقضى عليها به ، يقول سبحانه : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (1) فالجميع فواعل ، تسخرية غير شاعرة بأفعالها.

2. ما يقوم به النحل والنمل من الأفاعيل العجيبة ، المحيّرة للعقول حركات تسخرية ، يقوم به عن شعور ، ولكن لا بحرية واختيار فقد كتبت عليهما بقلم الفضاء ان يتخذ من الجبال بيوتاً والشجر وممّا يعرشون يقول سبحانه حاكياً عن القضاء المحتوم على النحل : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ

ص : 69


1- النحل : 12.

ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). (1)

فالنحل ذاته ووجوده وعمله وصنعه واقع في إطار التقدير والقضاء والنظام السائد على ذلك ، هو سيادة الجبر عليه وأشباهه.

3. انّ خلقة الإنسان ونشؤه من النطفة إلى العلقة ، إلى المضغة إلى العظام إلى غير ذلك ممّا يجري عليه إلى أن يؤكد وينمو ويشبّ ويشيب ، ويموت كلّها واقع في إطار التقدير والقضاء ، لا خيار للإنسان فيه ، شاء أم لم يشأ ، فالقول بسيادة الجبر عليه في هذه المرحلة تعبير واقعي ، لا ينافي حكم العقل والشرع.

4. انّ ما يواجهه الإنسان في حياته ، ممّا يبتلي به غير مريد به كالطوفان الجارف الذي يكتسح مزرعته ، والسيل العارم الذي يهدم منزله وبيته ، والزلزال الشديد ، الذي يزعزع بنيانه وبالتالي يخسر ويتضرر ، كلّها بقدر من الله سبحانه لا يُلام بها الإنسان ولا يذمّ وهو أيضاً كسوابقه خارج عن محطّ البحث.

فالذي تدور عليه رحى النزاع والدراسة ، ما يصدر عن الإنسان من الأفعال التي في وسعه تركها أو فعلها ، فهل وقوعها في إطار التقدير يجرّنا إلى القول بالجبر ، أولا صلة بين القول بالقضاء والقدر ، واستنتاج الجبر منه؟

وهذا موضوع بحثنا ودراستنا.

إنّ كثيراً من الناس زعموا انّ القول بالقضاء والقدر يضادّ كون الإنسان مخيراً ، وقد كان ذلك الزعم سائداً في عصر الإمام أمير المؤمنين حيث أقبل شيخ إلى الإمام علي - عليه السلام - عند منصرفه من صفين فقال : أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام ، أبقضاء الله وقدره؟

ص : 70


1- النحل : 66.

فقال : «أجل يا شيخُ ما علَوتُم من تلْعة ولا هبطتم من واد إلاّ بقضاء من الله وقدره فقال الشيخ : عند الله احتسب عنائي يا أمير المؤمنين. (1)

فقال أمير المؤمنين - عليه السلام - : «يا شيخ ، فو الله لقد عظّم الله لكم الأجر في مسيركم ، وأنتم سائرون ، وفي مقامكم إذ أنتم مقيمون ، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ، لم تكونوا في شيء من حالاتكم مُكْرَهين ، ولا إليه مضطرّين».

فقال الشيخ : فكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ، ولا إليه مضطرين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا؟!

فقال أمير المؤمنين - عليه السلام - : «أتظن أنّه كان قضاءً حتماً ، وقدراً لازماً ، إنّه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب ، والأمر والنهي ، والزجر من الله تعالى ، وسقط معنى الوعد والوعيد ، ولم تكن لائمة للمذنب ، ولا مَحْمَدَة للمحسن ، ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن ، ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب ، وتلك مقالة إخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن ، وحزب الشيطان وقدرية هذه الأُمّة ومجوسها ، وانّ الله كلّف تخييراً ونهى تحذيراً ، وأعطى على القليل كثيراً ، ولم يُعص مغلوباً ، ولم يُطع مكرهاً ، ولم يملِّك مفوِّضاً ، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً ، ولم يبعث النبيّين مبشّرين ومنذرين عبثاً ، ذلك ظن الّذين كفروا فويل للّذين كفروا من النار». (2)

والحديث جمع بين القول بين القدر والقضاء وكون الإنسان مخيّراً لا مسيّراً. وانّ الإيمان بالقدر ، لا يجعل الإنسان مكتوف اليدين بل هو مختار غير مكرَه.

ولقد بقيت الفكرة بعد رحيل الإمام علي - عليه السلام - وتسرّبت إلى كثير من الأوساط

ص : 71


1- ومعنى هذه الجملة : انّي لم أقم بعمل اختياري ، ولأجل ذلك احتسب عنائي عند الله.
2- الصدوق : التوحيد : 380 ، الحديث 28.

فجعلوا القضاء والقدر من أدلّة الجبر.

ولمّا كان في القول بالقضاء والقدر وصمة الجبر ، أنكرت المعتزلة وقوع الأفعال الاختيارية الصادرة عن العباد متعلّقة بالقضاء والقدر ، خلافاً للأشاعرة فقد جعلوا الأفعال متعلّقاً للقضاء والقدر ، فقالوا : إنّ قضاء الله هو إرادته الأزلية المتعلّقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال ، وقدره إيجادها إيّاها على قدر مخصوص وتقدير معيّن في ذواتها وأحوالها. (1)

أقول : لا شكّ انّ كلّ ما في الكون من كبير وصغير وجليل ودقيق من الجواهر والأعراض كلّها واقعة في إطار القدر والقضاء ، غير أنّ استنتاج الجبر من القدر والقضاء ، استنتاج خاطئ ، بل القول بهما يؤكد الاختيار على خلاف ما يستنتجه القائلون بالجبر. وإليك توضيح المقام فانّه يطلق القضاء والقدر على معنيين :

ص : 72


1- شرح المواقف : 8 / 181180.
1- المعنى الأوّل للقضاء والقدر
القضاء والقدر : السنن الكونية

يُطلق القضاء والقدر ويراد بهما السنن الكونية الواردة في الكتاب والسنّة السائدة على الكون عامّة ، والإنسان خاصة وبيد الإنسان مفتاح التظلّل تحت أي سنّة من السنن ، ونذكر من هذه السنن ، الشيء القليل من الكثير :

1. قال سبحانه حاكياً عن شيخ الأنبياء نوح - عليه السلام - :

(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً). (1)

فترى أنّ نوحاً - عليه السلام - يجعل الاستغفار سبباً مؤثراً في نزول المطر وكثرة الأموال وجريان الأنهار ، ووفرة الأولاد. وإنكار تأثير الاستغفار في هذه الكائنات أشبه بكلمات الملاحدة. وموقف الاستغفار هنا موقف العلّة التامّة أو المقتضي بالنسبة إليها ، والآية تهدف إلى أنّ الرجوع إلى الله وإقامة دينه وأحكامه ، يسوق المجتمع إلى النظر والعدل والقسط ، إذ في ظلّه تنصبّ القوى على بناء المجتمع على أساس

ص : 73


1- نوح : 1210.

صحيح ، فتُصرف القوى في العمران والزراعة وسائر مجالات المصالح الاقتصادية العامّة ؛ كما أنّ العمل على خلاف هذه السنّة ، وهو رجوع المجتمع عن الله وعن الطهارة في القلب والعمل ، ينتج خلاف ذلك.

وللمجتمع الخيار في التمسّك بأهداب أيّة من السُّنتين ، فالكلّ قضاء الله وتقديره. فمن تمسّك بالأُولى فقد تمسّك بقضاء الله ، كما أنّ تمسّك بالثانية فقد تمسّك به أيضاً.

2. قال سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ). (1)

3. قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ). (2)

4. قال سبحانه : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ). (3)

والتقرير في مورد هذه الآيات الثلاث مثله في الآية السابقة عليها وللإنسان الخيار في الأخذ بأيّة من السّنتين.

5. وقال سبحانه : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ). (4)

ترى أنّ الآية تتكفّل ببيان كلا طرفي السنّة الإلهية إيجاباً وسلباً ، وتُبيّن النتيجة المترتّبة على كلّ واحد منهما. والكلّ قضاؤه وتقديره والخيار في سلوكهما للمجتمع.

6. وقال سبحانه : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا

ص : 74


1- الأعراف : 96.
2- الرعد : 11.
3- الأنفال : 53.
4- إبراهيم : 7.

يَحْتَسِبُ). (1)

7. وقال سبحانه : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ). (2)

فالمجتمع المؤمن بالله وكتابه وسنّة رسوله إيماناً راسخاً يثبّته الله سبحانه في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، كما أنّ الظالم والعادل عن الله سبحانه يخذله سبحانه ولا يوفّقه إلى شيء من مراتب معرفته وهدايته. ولأجل ذلك يُرتِّب على تلك الآية قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ). (3)

8. وقال سبحانه : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ). (4)

فالصالحون لأجل تحلِّيهم بالصلاح في العقيدة والعمل ، يغلبون الظالمين وتكون السيادة لهم ، والذلّة والخذلان لمخالفيهم.

9. وقال سبحانه : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ). (5)

فالاستخلاف في الأرض نتيجة الإيمان بالله والعمل الصالح وإقامة دينه على وجه التمام ، ويترتّب عليه - وراء الاستخلاف - ما ذكره في الآية من التمكين

ص : 75


1- الطلاق : 32.
2- إبراهيم : 27.
3- إبراهيم : 28 - 29.
4- الأنبياء : 105.
5- النور : 55.

وتبديل الخوف بالأمن.

10. وقال سبحانه : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها). (1)

والآيات الواردة حول الأمر بالسير في الأرض والاعتبار بما جرى على الأُمم السالفة لأجل عتوّهم وتكذيبهم رسل الله سبحانه ، كثيرة في القرآن الكريم ، تبيّن سنّته السائدة على الأُمم جمعاء.

11. وقال سبحانه : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ). (2)

12. وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ). (3)

13. وقال سبحانه : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ * وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ). (4)

والآية من أثبت الآيات المبيّنة لسنته تعالى في الذين كفروا ، فلا يصلح للمؤمن أن يغرّه تقلّبهم في البلاد ، وعليه أن ينظر في عاقبة أمرهم كقوم نوح والأحزاب من بعدهم ، حتّى يقف على أنّ للباطل جولة وللحقّ دولة ، وانّ مردّ الكافرين إلى الهلاك والدمار كما أنّ مردّ المؤمنين إلى الجنة ، والإنسان مخيّر بين

ص : 76


1- محمد : 10.
2- الأنفال : 29.
3- آل عمران : 137.
4- غافر : 64.

التظلّل تحت أي واحد منهما.

14. وقال سبحانه : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً * اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً). (1)

وما ذكرنا من الآيات نبذة من السنن الإلهيّة السائدة على الفرد والمجتمع. وفي وسع الباحث أن يتدبّر في آيات الكتاب العزيز حتّى يقف على سننه تعالى وقوانينه ، ثمّ يرجع إلى تاريخ الأُمم وأحوالها فيُصدِّق قوله سبحانه : (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً).

فالجميع من قضائه وقدره ، وللبشر أن يتظلل بأي واحد منهما شاء ... وليس في القول بالقضاء والقدر بهذا المعنى ، رائحة الجبر ، بل فيها تأكيد للاختيار. هذا هو المعنى الأوّل لهما وإليك المعنى الثاني.

ص : 77


1- فاطر : 42 - 43.
2. المعنى الثانى للقضاء والقدر
علمه الأزلي بتحقّق الشيء مع خصوصياته

المراد من القدر هو علمه سبحانه بالأزل بحد الشيء وخصوصيات وجوده وحدوده ، كما أنّ المراد من القضاء هو علمه بتحقّقه ووجوده ، وهذا ما يسمّى بالتقدير والقضاء العلميّين.

وربما يتوهّم انّ دخول فعل الإنسان في اطار القدر والقضاء يوجب سلب الاختيار عن الإنسان ، لأنّه سبحانه يعلم في الأزل فعل الإنسان حسب ما له من الخصوصيات ، ويعلم تحقّقه في المستقبل ، فإذا كان فعل الإنسان معلوماً لله سبحانه تقديراً وقضاءً فلا يبقى له الاختيار.

على هامش الشبهة

إنّ علمه الأزلي لم يتعلّق بصدور كلّ فعل عن فاعله على وجه الإطلاق ، بل تعلّق علمه بصدور كلّ فعل عن فاعله حسب الخصوصيات الموجودة فيه ، وعلى ضوء ذلك تعلّق علمه الأزلي بصدور الحرارة من النار على وجه الجبر بلا شعور ، كما تعلّق علمه الأزلي بصدور الرعشة من المرتعش ، عالماً بلا اختيار ، ولكن تعلّق علمه سبحانه بصدور فعل الإنسان الاختياري منه بقيد الاختيار والحرية ، فتعلّق

ص : 78

علمه بوجود الإنسان وكونه فاعلاً مختاراً ، وصدور فعله عنه اختياراً ، يؤكّد الاختيار ويدفع الجبر عن ساحة الإنسان.

وإن شئت قلت : إنّ العلّة إذا كانت عالمة شاعرة ، ومريدة ومختارة كالإنسان ، فقد تعلّق علمه بصدور أفعالها منها بتلك الخصوصيات ، وانصباغ فعلها بصبغة الاختيار والحرية. فلو صدر فعل الإنسان منه بهذه الكيفية لكان علمه مطابقاً للواقع غير متخلّف عنه ؛ وأمّا لو صدر فعله عنه في هذا المجال عن جبر واضطرار بلا علم وشعور ، أو بلا اختيار وإرادة ، فعند ذلك يتخلّف علمه عن الواقع.

ونقول توضيحاً لذلك : إنّ الأعمال الصادرة من الإنسان على قسمين : قسم يصدر منه بلا شعور ولا إرادة ، كأعمال الجهاز الدمويّ ، والجهاز المعويّ ، وجهاز القلب ، والأحشاء ، التي تتسم في أفعال الإنسان بسمة الأعمال الاضطرارية ، غير الاختيارية ؛ وقسم آخر يصدر منه عن إرادة واختيار ، ويتسم بسمة الأعمال الاختيارية غير الاضطرارية ، كدراسته ، وكتابته ، وتجارته ، وزراعته.

ولمّا كان علم الله تعالى تعبيراً عن الواقع على نحو لا يتخلّف عنه قيدَ شعرة ، فيتعلّق علم الله بأفعال الإنسان على ما هي عليه من الخصائص والألوان. فتكون النتيجة أنّه سبحانه يعلم من الأزل صدور فعل معين في لحظة معيّنة من إنسان معيّن إمّا بالاضطرار ، أو الإكراه ، أو بالاختيار والحرية ، وتعلّق مثل هذا العلم لا يُنتج الجبر ، بل يلازم الاختيار. ولو صدر كلّ قسم على خلاف ما اتّسم به لكان ذلك تخلّفاً عن الواقع.

ولمّا كان الموضوع ممّا ضلّ فيه كثير من الأفهام ، وزلّت أقدام غير واحد من الباحثين ، ندرس الموضوع على وجه التفصيل ، ونرفع النقاب عن وجه الواقع ،

ص : 79

بذكر بعض الأمثلة :

1. إذا كان تعلّق العلم بالفعل سالباً للاختيار وموجباً للجبر يلزم أن يكون سبحانه - نعوذ بالله - فاعلاً بالجبر ، لعلمه بفعله قبل إيجاده ، والله سبحانه هو الفاعل المختار لا يخضع لشيء.

2. انّ المعلم الذي يمارس التدريس ، بإمكانه التنبّؤ بنتائج الامتحان الذي سيقام لتلاميذه آخر الفصل الدراسي ، حيث يستطيع أن يميز بين الناجح منهم والراسب وتكون نتيجة الامتحان وفق ما تنبّأ به ، أفيصح للراسب في الامتحان أن يلقي وزر ذلك على عهدة معلمه؟!

فإنّ علم المعلّم وصّاف كشّاف يحكي عن الواقع ولا يؤثّر عليه وإنّما المؤثر على الواقع مؤهّلات التلميذ وسعيه وكدحه.

3. انّ علمه سبحانه لا يتعلّق بالمسبّب بما هو مسبّب وإنّما يتعلّق بضم المسبّب إلى أسبابه والنتائج إلى مقدّماتها ، فإذا كان السبب والمقدمة أمراً اختيارياً ، فأولى أن يكون المسبب كذلك.

كلمة للشيخ الغزالي حولَ استنتاج الجبر من العلم الإلهي

وللشيخ محمد الغزالي كلمة في نقد انّ العلم الإلهي يسلب الاختيار ، يقول : إنّ عامّة المسلمين يطوون أنفسهم على ما يُشبه عقيدة الجبر ولكنّهم حياءً من الله يسترون الجبر باختيار خافت موهوم ، وقد أسهمت بعض المرويات في تكوين هذه الشبهة وتمكينها ، وكانت بالتالي سبباً في إفساد الفكر الإسلامي وانهيار الحضارة والمجتمع.

إنّ العلم الإلهي المحيط بكلّ شيء وصّاف ، كشاف ، يصف ما كان ،

ص : 80

ويكشف ما يكون ، والكتاب الدالّ عليه يسجّل للواقع وحسب! لا يجعل السماء أرضاً ولا الجماد حيواناً ، إنّه صورة تطابق الأصل بلا زيادة ولا نقص ولا أثر لها في سلب أو إيجاب.

إنّ هذه الأوهام (التقدير سالب للاختيار) تكذيب للقرآن والسنّة ، فنحن بجهدنا وكدحنا ننجو أو نهلك ، والقول بأنّ كتاباً سبق علينا بذلك وأنّه لا حيلة لنا بإزاء ما كتب أزلاً هذا كلّه تضليل وإفك ، لقوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها). (1) (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ). (2)

والواقع انّ عقيدة الجبر تطويح بالوحي كلّه وتزييف للنشاط الإنساني من بدء الخلق إلى قيام الساعة ، بل هي تكذيب لله والمرسلين قاطبة ، ومن ثمّ فإنّنا نتناول بحذر شديد ما جاء في حديث مسلم وغيره : انّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتّى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار ، فيدخلها ، وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ...».

إلى أن قال : وكلّ ميل بعقيدة القدر إلى الجبر فهو تخريب متعمّد لدين الله ودنيا الناس ، وقد رأيت بعض النقلة والكاتبين يهوِّنون من الإرادة البشرية ومن أثرها في حاضر المرء ومستقبله وكأنّهم يقولون للناس أنتم محكومون بعلم سابق لا فكاك منه ومسوقون إلى مصير لا دخل لكم فيه ، فاجهدوا جهدكم فلن تخرجوا من الخط المرسوم لكم مهما بذلتم.

إنّ هذا الكلام الرديء ليس نضح قراءة واعية لكتاب ربنا ، ولا اقتداء

ص : 81


1- الأنعام : 104.
2- الكهف : 29.

دقيقاً بسنّة نبينا انّه تخليط قد جنينا منه المرّ.

وكل أثر مروي يشغب على حرية الإرادة البشرية في صنع المستقبل الأُخروي يجب أن لا نلتفت إليه ، فحقائق الدين الثابتة بالعقل والنقل لا يهدّها حديث واهي السند أو معلول المتن ، لكنّنا مهما نوّهنا بالإرادة الإنسانية فلا تنسى إنّنا داخل سفينة يتقاذفها بحر الحياة بين مد وجزر وصعود وهبوط ، والسفينة تحكمها الأمواج ، ولا تحْكم الأمواجَ ، ويعني هذا انّ نُلْزم موقفاً محدداً بإزاء الأوضاع المتغيرة التي تمرّ بنا هذا الموقف من صنعنا وبه نحاسب. (1)

ص : 82


1- السنّة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث للشيخ الغزالي : 144 - 157.

الشبهة الثالثة: الهداية والضلالة بيد الله

اشارة

دلّت الآيات القرآنية على أنّ الهداية والضلالة بيده سبحانه ، فهو يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء ، فإذا كان أمر الهداية مرتبطاً بمشيئته ، فلا يكون للعبد دور لا في الهداية ولا في الضلالة ، فالضال يعصي بلا اختيار ، والمهتدي يطيع كذلك وهذا بالجبر ، أشبه منه بالاختيار.

قال سبحانه :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). (1)

فإذا كانت الهداية والضلالة بيد الله سبحانه فما معنى الاختيار؟

على هامش الشبهة
اشارة

هذه هي الشبهة أو الاستدلال على القول بالجبر ولكن الإجابة عليها ليست أمراً مشكلاً بشرط أن نقف على أنّ الهداية على أقسام ، ونميز الهداية العامّة التي عليها تبتني مسألة الجبر والاختيار والهداية الخاصة التي مفتاحها بيد الإنسان ، وإليك التفصيل :

ص : 83


1- إبراهيم : 4.
1. الهداية التكوينية العامّة

والمراد منها خلق كلّ شيء وتجهيزه بما يهديه إلى الغاية التي خلق لها : قال سبحانه حاكياً كلام النبي موسى - عليه السلام - : (قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (1) ، وجهز كلّ موجود بجهاز يوصله إلى الكمال ، فالنبات مجهّز بأدقّ الأجهزة التي توصله في ظروف خاصة إلى تفتح طاقاته ، فالحبة المستورة تحت الأرض ترعاها أجهزة داخلية وعوامل خارجية كالماء والنور إلى أن تصير شجرة مثمرة ، ومثله الحيوان والإنسان فهذه الهداية عامة لجميع الأشياء ليس فيها تبعيض وتمييز.

قال سبحانه : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى). (2)

وقال سبحانه : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ). (3)

وقال سبحانه : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها). (4)

إلى غير ذلك من الآيات الواردة حول الهداية التكوينية التي تنبع من ذات الشيء بما أودع الله فيها من الأجهزة والالهامات التي توصله إلى الغاية المنشودة من غير فرق بين المؤمن والكافر ، فقوله سبحانه عام يعمّ مجموع البشر مؤمنه وكافره (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). (5)

ص : 84


1- طه : 50.
2- الأعلى : 31.
3- البلد : 108.
4- الشمس : 87.
5- الروم : 30.

ففطرة كلّ إنسان تهديه إلى التوحيد ونبذ الشرك ، ومن أجهزة الهداية التكوينية ، العقل الموهوب للإنسان المرشد له إلى معالم الخير والصلاح. وهذا النوع من الهداية العامة لكلّ موجود فضلا عن الإنسان.

2. الهداية التشريعية العامّة

المقصود من الهداية العامة التشريعية هو بعث الأنبياء وإرسال الرسل وإنزال الكتب لهداية الناس ، وهذا الفرع من الهداية يشمل عامّة البشر ، ولا يختص بطائفة دون أُخرى ، قال سبحانه :

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ). (1)

فالآية بظاهرها تثبت الهداية العامة لكافة البشر.

3. الهداية الخاصة

وهناك هداية خاصة تختص بجملة من الأفراد الذين استضاءُوا بنور الهداية العامة ، تكوينيّها وتشريعيّها فيقعون مورداً للعناية الإلهية ، فمن اقتفى أثر الأنبياء وعمل بكتابهم يصلح لأن تشمله هداية خاصة وهو تسديده في مزالق الحياة إلى سبيل النجاة.

كما أنّ من لم يستضئ بنور الهداية التشريعية العامة يحرم من تلك الهداية الخاصّة ، وهذا النوع من الهداية بيد الله تعالى وإليه يشير قوله سبحانه : (وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). (2) ولكن شموله

ص : 85


1- الحديد : 25.
2- النحل : 93.

لطائفة دون أُخرى ليس اعتباطياً ، بل تشمل من استضاء بالهدايتين الأُوليين فتعمه هذه الهداية الخاصة ، كما أنّ من أعرض عنهما يحرم منها وتكون النتيجة خذلانه في الحياة ، وهذا النوع من الهداية تابع لملاكات خاصة (1) فيشير إليها سبحانه عند البحث عنهما ، يقول :

1. (إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ).

فهذه الهداية هداية تشريعية خاصة ولا تشمل إلاّ لمن وُصف بالانابة والتوجّه إلى الله كما يقول (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) ، وبما ذكرنا يتّضح معنى كثير من الآيات الباحثة عن الهداية ويصفها بأنّها بيد الله يضلّ ويهدي ، ولكن يهدي من اكتسب لنفسه أهلية خاصة لشمولها ويحرم منها من حرم نفسه عن الهدايتين الأُوليين ، وإليك باقي الآيات :

وقال سبحانه : (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ). (2)

وقال سبحانه : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (3) فمن أراد وجه الله سبحانه يمدّه بالهداية إلى سبله.

وقال سبحانه : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً). (4)

وقال سبحانه : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً * وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً). (5)

وكما أنّه علق الهداية هنا على من جعل نفسه في مهبِّ العناية الخاصّة ،

ص : 86


1- وهذه الملاكات كما تشير إليها الآيات التالية عبارة عن الإنابة ، والجهاد والاهتداء في أمر الهداية ومقابلاتها في أمر الضلالة.
2- الشورى : 13.
3- العنكبوت : 69.
4- محمد : 17.
5- الكهف : 13 و 14.

علّق الضلالة في كثير من الآيات على صفات تشعر باستحقاقه الضلال وبمعنى الحرمان من الهداية الخاصة.

قال سبحانه : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). (1)

وقال سبحانه : (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ). (2)

وقال سبحانه : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ). (3)

وقال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ). (4)

وقال سبحانه : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ). (5)

فالمراد من الإضلال هو عدم الهداية لأجل عدم استحقاق العناية والتوفيق الخاص ، لأنّهم كانوا ظالمين وفاسقين. كافرين ومنحرفين عن الحقّ. وبالمراجعة إلى الآيات الواردة حول الهداية والضلالة يظهر أنّه سبحانه لم ينسب في كلامه إلى نفسه إضلالاً إلاّ ما كان مسبوقاً بظلم من العبد أو فسق أو كفر أو تكذيب ونظائرها التي استوجبت قطع العناية الخاصة وحرمانه منها.

إذا عرفت ما ذكرنا ، تقف على أنّ الهداية العامة التي بها تناط مسألة الجبر والاختيار ، عامة شاملة لجميع الأفراد ، ففي وسع كلّ إنسان أن يهتدي بهداها. وأمّا الهداية الخاصة والعناية الزائدة فتختص بطائفة المنيبين والمستفيدين من الهداية الأُولى. فما جاء في كلام المستدل من الآيات من تعليق الهداية والضلالة على

ص : 87


1- الجمعة : 5.
2- إبراهيم : 27.
3- البقرة : 26.
4- النساء : 168 و 169.
5- الصف : 5.

مشيئته سبحانه ناظرٌ إلى القسم الثاني لا الأوّل.

أمّا القسم الأوّل فلأنّ المشيئة الإلهية تعلقت على عمومها بكلّ مكلّف بل بكل إنسان ، وأمّا الهداية الخاصة فقد تعلقت مشيئته بشمولها لصنف دون صنف ولم تكن مشيئته ، مشيئة جزافية ، بل الملاك في شمولها لصنف خاص هو قابليته لأن تنزل عليه تلك الهداية ، لأنّه قد استفاد من الهدايتين : التكوينية والتشريعية العامتين ، فاستحق بذلك العناية الزائدة.

كما أنّ عدم شمولها لصنف خاص ما هو إلاّ لأجل اتصافهم بصفات رديئة لا يستحقون معها تلك العناية الزائدة.

ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه بعد ما يقول : (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ، يذيّله بقوله : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (1) ، مشعراً بأنّ الإضلال والهداية كانا على وفاق الحكمة ، فهذا استحقّ الإضلال وذاك استحق الهداية.

ص : 88


1- إبراهيم : 4.

5- هل الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان؟

إنّ الإيمان بالقدر من المعارف القرآنية وقد ورد في غير واحد من الآيات.

قال سبحانه : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ). (1)

وقال عزّ اسمه : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً). (2)

فالكون وما فيه ، خُلِق عن علم وتقدير ، فقُدِّر كلّ شيء بما له من الصفات والخصوصيات ، والمقادير والأشكال قبل وقوعها ، وسُجِّل ذلك في كتاب خاص ، قال سبحانه : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ). (3)

وقال عزّ شأنه : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ). (4)

وقال في المصائب التي تحدث في الأرض وما يواجهه الإنسان من خير و

ص : 89


1- القمر : 49.
2- الفرقان : 2.
3- يونس : 61.
4- الأنعام : 59.

شر : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ). (1)

فالمصائب قدرت من حيث الخصوصيات وقضى عليها بالوجود ، في كتاب قبل أن يُخلق الكون وما فيه.

لكن الكلام في أنّ الإيمان بالقدر هل هو ركن من الأركان ، كما عليه أكثر أهل السنّة فيكون الإيمان به في جنب الإيمان بالله وكتبه ورسله ، ويوم ميعاده ، أو هو أصل ومعرفة قرآنية كسائر المعارف الواردة في الكتاب العزيز؟ والظاهر هو الثاني ، وأمّا الأوّل فلا دليل عليه ، إذ كون شيء معدوداً من المعارف القرآنية غير كونه ركناً من أركان الإيمان ، إذ رب معرفة وردت في القرآن ، وليست ركناً من الإيمان ، كالحياة البرزخية ، والشفاعة ، والتوبة ، ومع ذلك فليست من أركان الإيمان.

ولو كان ركناً من الأركان لجاءت الإشارة إليه في ثنايا الآيات المشيرة إلى أركان الإيمان كقوله سبحانه : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ). (2)

وقال تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ). (3)

فقد جاء فيهما أركان الإيمان وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ولم ترد فيهما أية إشارة إلى الإيمان بالقدر ، فلو كانت له هذه المنزلة ، لما أهملها

ص : 90


1- الحديد : 22.
2- البقرة : 177.
3- البقرة : 285.

الذكر الحكيم.

وأظنّ انّ الغلو في القدر جاء من قبل الأحبار والرهبان ، وعدّ من أركان الإيمان في عصر الأمويين ، وقد أحصا الأحاديث الواردة فيه ابن الوزير اليمني (1). فبلغت 227 حديثاً ، منها 72 حديثاً في وجوب الإيمان بالأقدار ، و 155 حديثاً في ثبوتها. (2)

وقد تفلسف بعضهم في عدّه من أركان الإيمان من أنّ الإيمان بالقدر داخل ضمناً في الإيمان بالله ، بل جزء حقيقي منه ، لأنّ معناه الإيمان باحاطة علم الله تعالى بكلّ شيء وشمول إرادته لكلّ ما يقع من الكون ونفوذ قدرته في كلّ. (3)

أقول : لو كان السرّ في عدّه من أركان الإيمان ، كونه تعبيراً آخر عن إحاطة علمه وشمول إرادته لكلّ شيء ، فلما ذا عدل عن المعنى الواضح إلى المعنى المبهم الذي لا ينتقل إلى ما ذكره إلاّ العلماء. فمقتضى البلاغة أن تُعدّ إحاطة علمه وشمول إرادته لكلّ شيء من أركان الإيمان.

ومن قرأ تاريخ نشوء فكرة القدر ، وانتشاره بين المحدّثين ، يقف على أنّ إكبار القدر وجعله من أركان الإيمان ، كان سياسة أموية ، لأجل تبكيت الناس وكبح جماحهم ، والحط من مظاهراتهم أمام أعمال السلطة ، ولا أظن أنّ معبد الجهني ، وغيلان الدمشقي ، كانا ينكران سعة علمه ، أو إرادته سبحانه حتّى ذهب الثاني ضحيّة جهاده ، ومكافحته مع الظالمين وقُتل بفتوى فقيه السلطة «الأوزاعي».

ص : 91


1- تقرأ ترجمة ضافية له في كتابنا «الزيدية في موكب التاريخ».
2- نقله عنه مؤلّف الإيمان بالقدر.
3- الإيمان بالقدر : 9.

6- التفويض ومضاعفاته

اشارة

لما كانت السلطة الأُموية مروّجة للقدر والقضاء بالمعنى السالب للاختيار وكان ذلك مخالفاً للفطرة الإنسانية وقضاء العقل وسيرة العقلاء ، قام رجال أحرار في وجه هذه العقيدة يركزون على القول بحرية الإنسان في إطار حياته ولكنّ السلطة اتّهمتهم بنفي القضاء والقدر ثمّ وضعت السيوف على رقاب بعضهم.

هذا هو معبد الجهني اتّهموه بنفي القدر فذهب إلى الحسن البصري فقال له : إنّ بني أُميّة يسفكون الدماء ويقولون إنّما تجري أعمالنا على قدر الله تعالى ، فقال : كذب أعداء الله. (1)

ومثله غيلان الدمشقي فقد اتّهم بنفس ما اتّهم به معبد الجهني فقد جاهر بمذهبه أيام هشام بن عبد الملك وأُحضِر الأوزاعي لمناظرته فأفتى بقتله فصُلب على باب كيسان بدمشق. (2)

ولا أظن انّ الرجلين كانا ينكران القضاء والقدر ، إذ كيف يمكن لمسلم أن ينكر أصلاً قرآنياً يعد من المعارف العليا للقرآن الكريم ، وإنّما كانا ينكران تبرير

ص : 92


1- الخطط المقريزية : 2 / 356.
2- الملل والنحل للشهرستاني : 1 / 47.

ظلم الظالمين وتعدّي الجائرين ، بالقضاء والقدر.

نعم صار ذلك سبباً بعد فترة من الزمن لظهور نظرية التفويض التي تدّعي تفويض الأُمور إلى العباد وانّه ليس لله سبحانه أيّ صنع في أفعالهم فجعلوا الإنسان خالقاً لأفعاله ، مستغنياً عن الله سبحانه في ايجاد أفعاله ، فصار الإنسان على حسب هذه النظرية كالإله في مجال الأفعال كما كان القضاء والقدر عند الجبريّين حاكماً على كلّ شيء ولا يمكن تغييره إلى صورة أُخرى من الصور ، فالطرفان يحيدان عن جادة التوحيد ويميلان إلى جانبي الإفراط والتفريط. وإليك نقد النظرية على وجه الإيجاز :

1. القول بالتفويض يلازم الشرك

إنّ القول بالتفويض يلازم الشرك الخفي ، أي الاعتقاد بوجود خالقين مستقلّين في الخلق والإيجاد : أحدهما العلّة العليا التي خلقت الموجودات والكائنات والإنسان ، والأُخرى الإنسان نفسه فإنّه يستقل بعد الخلقة في أفعاله وتنقطع حاجته إلى الله بعد وجوده وهو نفس تصوير المِثْل لله سبحانه.

2. الإنسان في دوّامة الحدوث

إنّ الموجود الطبيعي في النظرة الأُولى له حدوث وبقاء ولكنّه في النظرة الدقيقة كلّه حدوث بعد حدوث ، لأنّ مقتضى الحركة الجوهرية هو كون العالم في تبدل مستمر وتجدّد دائم ، بأعراضها وجواهرها ، فذوات الأشياء في تجدد واندثار متواصل ، وما أشبه العالم بالصورة المنعكسة في الماء الجاري ، فهي ثابتة في النظرة الأُولى ، ولكنّها في النظرة الدقيقة متعددة متبدّلة حسب تبدّل الماء وقال سبحانه :

ص : 93

(وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ). (1)

وبما أنّ المروي عن المفوضة انّ الإنسان محتاج إلى الله في حدوثه لا في بقائه ، ولذلك قالوا باستغنائه في الفعل عنه تعالى ، فليبين موقف الوجود الإمكاني إلى الواجب تبارك وتعالى حتّى يتبيّن حاجته إليه حدوثاً وبقاءً ونأتي بمثال :

انّ مثل الموجودات الإمكانية بالنسبة إلى الواجب كمثل المصباح الكهربائي المضيء فالحس الخاطئ يزعم انّ الضوء المنبعث من هذا المصباح هو استمرار للضوء الأوّل ، ويتصور انّ المصباح إنّما يحتاج إلى المولّد الكهربائي في حدوث الضوء دون استمراره.

والحال انّ المصباح فاقد للإضاءة في مقام الذات محتاج في ضوئها إلى ذلك المولّد في كلّ لحظة ، لأنّ الضوء المتلألئ من المصباح إنّما هو استضاءة بعد استضاءة واستنارة بعد استنارة من المولد الكهربائي.

فينطفئ المصباح إذا انقطع الاتصال بينه وبين المولد ، فالعالم يشبه هذا المصباح الكهربائي تماماً فهو لكونه فاقداً للوجود بالذات يحتاج إلى العلّة (الواجب الوجود) في حدوثه وبقائه ، لأنّه يأخذ الوجود - عنه تعالى - آناً بعد آن وزماناً بعد زمان.

فإذا كان هذا حال الفاعل وذاته ، فكيف حال الفعل فالإنسان المحتاج إلى الواجب في كلّ آن ، محتاج إليه في الفعل والإيجاد ، لأنّ الفعل رهن الذات وموقوف عليها ، والذات في كلّ آن رهن العلّة العليا وموقوفة عليها ، فينتج انّ الفعل رهن العلّة العليا وموقوف عليها.

ص : 94


1- النمل : 88.

7- الأمر بين الأمرين

اشارة

كان الرأي السائد في المسألة أحد الرأيين ، إمّا الجبر ، وإمّا التفويض ؛ وبذلك ضلّ القائلون إمّا في متاهات الجبر أو بوقوعهم في حبال الشرك.

ثمّ إنّ الداعي لاختيار أحد المذهبين هو انّ القائلين بالجبر زعموا أنّ صيانة التوحيد في الخالقية (لا خالق ولا مؤثر إلاّ الله سبحانه) رهن القول بالجبر ، فلو قلنا بالاختيار يلزم أن يكون الإنسان خالقاً لفعله ، جاعلاً لعمله وهو ينافي التوحيد الأفعالي الذي يعبّر عنه بالتوحيد في الخالقية.

كما أنّ القائلين بالتفويض زعموا أنّ صيانة عدله سبحانه وتنزيهه عن الظلم والتعدّي ، رهن القول بالتفويض وتصوير انّ الإنسان فاعل مختار مستغن في فعله عن الواجب سبحانه بل محتاج في حدوثه إلى الله لا في بقائه فكيف في فعله؟

وعلى كلّ تقدير فالجبري يعتقد بانقطاع فعل الإنسان عنه ، وانّه فعل الله تماماً من دون أن يكون له صلة بالفاعل إلاّ كونه ظرفاً لفعل الخالق.

والقائل بالتفويض يعكس الأمر ويعتقد بانقطاع نسبة الفعل إلى الخالق ، وكونه مخلوقاً للإنسان تماماً من دون أن يكون هناك صلة بين فعله وخالق الكون. فالطائفة الأُولى يحسبون أنّهم بالقول بالجبر يرفعون راية التوحيد في الخالقية ، كما أنّ

ص : 95

الطائفة الثانية يزعمون أنّهم بالقول بالتفويض ينزهون الرب عن كلّ عيب وشين.

كان الرأيان سائدين ولكن أئمّة أهل البيت ضربوا على وجه الرأيين وقالوا : إنّ موقف الإنسان بالنسبة إلى الله غير موقف الجبر المشوِّه لسُمعة المذهب ، وغير موقف التفويض المُلْحِق للإنسان بمكان الشرك ، بل موقفه أمر واقع بين الأمرين.

إنّ صيانة التوحيد في الخالقية ليس منوطاً بالقول بالجبر ، أو صيانة عدله وقسطه ليس منحصراً بالقول بالتفويض ، بل يمكن الجمع بين الرأيين برأي ثالث ، وهو انّ الإنسان ذاته وفعله قائمان بذاته سبحانه ، وبذلك لا يصحّ فصل فعل الإنسان عنه سبحانه لافتراض قيامهما وعامة العوالم بوجوده سبحانه.

وفي الوقت نفسه انّ فعله غير منقطع عنه ، وذلك لأنّ مشيئة الله تعلّقت بنظام قائم على أسباب ومسببات ، وصدور كلّ مسبب (فعل الإنسان) عن سببه وهو الإنسان ، فلا يصحّ فصل المسبّب عن سببه ، فالنتيجة هو انّ لفعل الإنسان صلة بالله وصلة بسببه ، وهذا هو الأمر بين الأمرين.

نحن نعتقد بالتوحيد في الخالقية الذي يعبر عنه بالتوحيد الأفعالي ، ولكن لا بمعنى إنكار العلل والأسباب وإنكار الروابط بين الظواهر الكونية ونفي أيّ سبب ظلّي يعمل بإذنه سبحانه ، فإنّ إلغاء الأسباب مخالف للضرورة والوجدان والذكر الحكيم.

بل بمعنى انّ العوالم الحسيّة والغيبيّة بذواتها وأفعالها قائمة به سبحانه ، وكما انّ تأثيرها وسببيّتها بإذنه ومشيئته ، فكلّ ظاهرة كونية لها نسبة إلى أسبابها ، كما أنّ لها نسبة إلى خالق أسبابها ، فإلغاء كلّ سبب وعلّة ، ونسبة الظاهرة إلى ذاته سبحانه ، غفلة عن تقديره سبحانه لكلّ شيء سبباً ، كما أنّ نسبة الفعل إلى السبب القريب وفصله عن الله سبحانه غفلة عن واقع السبب وانّه بوجوده وأثره قائم بالله

ص : 96

سبحانه ، فكيف يمكن فصل أثره عنه تعالى؟!

ولأجل إيضاح الموضوع نقول : إنّ الأسباب الطبيعية على أقسام :

1. سبب مؤثر - بإذن الله - فاقد للشعور.

2. سبب مؤثر - بإذن الله - واجد للشعور ، لكن فاقد للاختيار كحركة المرتعش.

3. سبب مؤثر - بإذن الله - واجد للشعور والاختيار كتحريك الإنسان ليده.

فالحرارة تصدر من النار بإذنه سبحانه بلا شعور.

وحركة يد المرتعش تصدر منه مع علم الفاعل بلا اختيار.

والأفعال التي يُثاب بها الإنسان أو يعاقب وبها تناط سعادته وشقاؤه يوم القيامة تصدر منه عن علم واختيار ، كلّ ذلك بإذنه ومشيئته.

فلا القول بالتوحيد الأفعالي (لا مؤثر ولا خالق إلاّ هو) يصادم الاختيار ، لأنّ حصر الخالقية المستقلّة بالله لا ينافي نسبة الخالقية غير المستقلة وغير النابعة من ذاته إلى الإنسان ، ولا القول بالاختيار يزاحم سلطانه وقدرته ، فالفعل فعل الإنسان ، لأنّه السبب القريب وفي الوقت نفسه منسوب إليه سبحانه لكونه السبب البعيد (1) الذي أوجد الإنسان وأفاض عليه القدرة وزوّده بالاختيار.

هذا بيان موجز لهذا القول الموروث من أئمّة أهل البيت واستقبل المفكّرون من أهل السنّة هذه الفكرة ، كالإمام الرازي والشيخ عبده في رسالة التوحيد ، لمّا رأوا انّ في القول بالجبر الأشعري مضاعفات لا تحتمل ، وقد شاع ذلك القول بين المفكّرين المصريّين في العصر الأخير لما تأثّروا بالأفكار الغربية المروّجة للحرية والاختيار.

ص : 97


1- قد استخدمنا «السبب البعيد» لأجل تقريب المطلب ، وإلاّ فالواقع فوق ذلك.

وتتجلّى قيمة هذا المذهب ببيان برهانه العقلي أوّلا ، وتحليل ما يدلّ عليه من الذكر الحكيم ثانياً ، والأحاديث الصحيحة ثالثاً.

1. نسبة الفعل إلى الله بالتسبيب وإلى العبد بالمباشرة

إنّ نسبة فعل العبد إلى الله بالتسبيب وإلى العبد بالمباشرة ، فإنّ الله سبحانه وهب الوجود والحياة والعلم والقدرة لعباده وجعلها في اختيارهم ، وانّ العبد هو الذي يصرف الموهوب في أي مورد شاء فيُنسب الفعل إلى الله تعالى لكونه مفيضَ الأسباب ، وإلى العبد لكونه هو الذي يصرفها في أي مورد شاء. وهناك مثال يبين حال النظريات الثلاث : الجبر ، والتفويض ، والأمر بين الأمرين.

لو فرضنا شخصاً مرتعش اليد ، فاقد القدرة ، فإذا ربط رجل بيده المرتعشة سيفاً قاطعاً وهو يعلم انّ السيف المشدود في يده سيقع على آخر ويُهلكه ، فإذا وقع السيف وقتله ، ينسب القتل إلى من ربط يده بالسيف ، دون صاحب اليد الذي كان مسلوب القدرة في حفظ يده.

ولو فرضنا أنّ رجلاً أعطى سيفاً لمن يملك حركة يده وتنفيذ إرادته فقتل هو به رجلاً ، فالأمر على العكس ، فالقتل ينسب إلى المباشر دون من أعطى.

ولكن لو فرضنا شخصاً مشلول اليد (لا مرتعشها) غير قادر على الحركة إلاّ بإيصال رجل آخر التيّار الكهربائي إليه ليبعث في عضلاته قوّة ونشاطاً بحيث يكون رأس السلك الكهربائي بيد الرجل بحيث لو رفع يده في آن ، انقطعت القوة عن جسم هذا الشخص في الحال وأصبح عاجزاً. فلو أوصل الرجل تلك القوة إلى جسم هذا الشخص ، فذهب باختياره وقتل إنساناً ، والرجل يعلم بما

ص : 98

فعله ، ففي مثل ذلك يستند الفعل إلى كلّ منهما ، أمّا إلى المباشر فلأنّه قد فعل باختياره وإعمال قدرته ، وأمّا إلى الموصل فلأنّه أقدره وأعطاه التمكّن ، حتّى في حال الفعل والاشتغال بالقتل ، كان متمكناً من قطع القوة عنه في كلّ آن شاء وأراد.

فالجبري يمثِّل فعل العبد بالنسبة إلى الله تعالى كالمثال الأوّل ، حيث إنّ اليد المرتعشة فاقدة للاختيار ومضطرة إلى الإهلاك.

كما أنّ التفويضي يمثّل نسبة فعله إليه كالمثال الثاني ، فهو يصور أنّ العبد يحتاج إلى إفاضة القدرة والحياة منه سبحانه حدوثاً لا بقاءً والعلّة الأُولى كافية في بقاء القدرة فيه إلى نهاية المطاف ، كما أنّه كان الأمر في المثال كذلك ، فكان الإنسان محتاجاً إلى رجل آخر في أخذ السيف ، وبعد الحصول عليه انقطعت حاجته إلى المعطي.

والقائل بالأمر بين الأمرين يصوّر النسبة كالمثال الثالث ، فالإنسان في كلّ حال يحتاج إلى إفاضة القوة والحياة منه إليه بحيث لو قُطع الفيض في آن واحد بطلت الحياة والقدرة ، فهو حين الفعل يفعل بقوة مفاضة منه وحياة كذلك من غير فرق بين الحدوث والبقاء.

والحاصل إنّ للفعل الصادر من العبد نسبتين واقعيتين ، إحداهما : نسبته إلى فاعله بالمباشرة باعتبار صدوره منه باختياره وإعمال قدرته ؛ وثانيتهما : نسبته إلى الله تعالى باعتبار أنّه معطي الحياة والقدرة في كلّ آن وبصورة مستمرة حتى في آن اشتغاله بالعمل. (1)

وهناك مثال آخر ذكره شيخنا المفيد ، فقال :

ص : 99


1- المحاضرات : 2 / 8887 ؛ أجود التقريرات : 1 / 90.

نفترض انّ مولى من الموالي العرفيّين يختار عبداً من عبيده ويزوّجه إحدى فتياته ثمّ يقطع له قطيعة ويخصه بدار وأثاث وغير ذلك ممّا يحتاج إليه الإنسان في حياته إلى حين محدود ولأجل مسمّى.

فإن قلنا إنّ المولى وإن أعطى لعبده ما أعطى وملّكه ما ملك ، لكنّه لا يملك ، وأين العبد من الملك؟ كان ذلك قول المجبرة.

وإن قلنا : إنّ المولى بإعطائه المال لعبده وتمليكه ، جعله مالكاً وانعزل هو عن المالكية وكان المالك هو العبدُ ، كان ذلك قول المعتزلة.

ولو جمعنا بين الملكين بحفظ المرتبتين ، وقلنا : إنّ المولى مقامه في المولوية ، وللعبد مقامه في الرقية ، وانّ العبد يملك في ملك المولى ، فالمولى مالك في حين انّ العبد مالك ، فهنا ملك على ملك.

كان ذلك القول الحق الذي رآه أهل البيت - عليهم السلام - وقام عليه البرهان. (1)

وفي بعض الروايات إشارات واضحة إلى الأمر بين الأمرين.

روى الصدوق في توحيده عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : «قال الله عزّ وجلّ : يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد». (2)

ترى أنّه يجعل مشيئة العبد وإرادته تلوَ مشيئة الله سبحانه وإرادته ، ولا يعرّفهما مفصولتين عن الله سبحانه ، بل الإرادة في نفس الانتساب إلى العبد ، لها نسبة إلى الله سبحانه.

ص : 100


1- الميزان : 1 / 100.
2- التوحيد : 340 ، باب المشيئة والإرادة ، الحديث 10.

2. الأمر بين الأمرين في الكتاب العزيز

إذا كان معنى الأمر بين الأمرين هو وجود النسبتين في فعل العبد : نسبة إلى الله سبحانه ونسبة إلى العبد من دون أن تزاحم إحدى النسبتين ، النسبةَ الأُخرى ، فقد قرره الكتاب العزيز ببيانات مختلفة :

1. انّه ربما ينسب الفعل إلى العبد وفي الوقت نفسه يسلبه عنه وينسبه إلى الله سبحانه ، يقول : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). (1)

ولا يصحّ هذا الإيجاب (إِذْ رَمَيْتَ) في عين السلب (وَما رَمَيْتَ) إلاّ على الوجه الذي ذكرنا ، وهذا يعرب عن أنّ للفعل نسبتين وليست نسبتُه إلى العبد ، كلَّ حقيقته وواقعه ، وإلاّ لم تصح نسبته إلى الله ، كما أنّ نسبته إلى الله ليست خالصة (وإن كان قائماً به تماماً) بل لوجود العبد وإرادته تأثير في طروء عناوين عليه.

2. قال سبحانه : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ). (2)

فالظاهر انّ المراد من التعذيب هو القتل ، لأنّ التعذيب الصادر من الله تعالى بأيدي المؤمنين ليس إلاّ ذاك ، لا العذاب البرزخي ولا الأُخروي فانّهما راجعان إلى الله سبحانه دون المؤمنين ، وعلى ذلك فقد نسب فعل واحد (التعذيب) إلى المؤمنين وخالقهم ولا تصح هاتان النسبتان إلاّ على هذا المنهج ، وإلاّ ففي منهج الجبر لا تصح النسبة إلاّ إليه سبحانه. وفي منهج التفويض على العكس ،

ص : 101


1- الأنفال : 17.
2- التوبة : 14.

والمنهج الذي يصحّح كلتا النسبتين هو منهج الأمر بين الأمرين.

3. الأمر بين الأمرين في الروايات

لقد تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - في فعل الإنسان فيما يثاب به ويعاقب عليه ، بانّه أمر بين الأمرين ، وقد جمع الصدوق القسم الأوفر من الروايات في توحيده ، والعلاّمة المجلسي في بحاره ، ونحن نذكر رواية واحدة ذكرها صاحب «تحف العقول» وهي مأخوذة عن رسالة كتبها الإمام الهادي - عليه السلام - في نفي الجبر والتفويض ، ومما جاء فيها :

فأمّا الجبر الذي يلزم من دان به الخطأ ، فهو قول من زعم انّ الله عزّ وجلّ أجبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها ، ومن قال بهذا القول فقد ظلم الله في حكمه وكذّبه وردّ عليه قوله : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (1) وقوله : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) (2) وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (3) فمن زعم انّه مجبر على المعاصي ، فقد أحال بذنبه على الله ، وقد ظلمه في عقوبته ، ومن ظلم الله فقد كذب كتابه ، ومن كذب كتابه فقد لزمه الكفر بإجماع الأُمّة.

ومن زعم انّ الله تعالى فوّض أمره ونهيه إلى عباده فقد أثبت عليه العجز.

لكن نقول : إنّ الله عزّ وجلّ خلق الخلق بقدرته ، وملّكهم استطاعة تعبّدهم بها ، فأمرهم ونهاهم بما أراد ، وهذا ، هو القول بين القولين ليس بجبر ولا تفويض.

ص : 102


1- الكهف : 49.
2- الحج : 10.
3- يونس : 44.

الفصل الثالث: نظرية الكسب في أفعال العباد

اشارة

ص : 103

ص : 104

نظرية الله خالق والعبد كاسب في الميزان

قد اشتهر بين الأشاعرة ، انّ الله سبحانه خالق ، والعبد كاسب يريدون بذلك انّ الخلق والايجاد من الله سبحانه ، والكسب والاكتساب من العبد ، والثواب والعقاب ، ليس لخلق العقل وايجاده ، وإنّما هو لكسب العبد.

ولما كان القول بنظرية الكسب نابعاً من القول بالتوحيد في الخالقية وحصرها في الله سبحانه بالمعنى الذي اختاره أهل الحديث ، يجب تبيين نظريتهم في هذا الأصل ، ثمّ تبيين نظرية الكسب التي تبنّاها الأشعري وغيره لدفع وصمة الجبر عن أفعال العباد ، وإيضاح المراحل التي مرّت على النظرية عبْر قرون.

فتبيين الحقّ في عامّة جوانب الموضوع يأتي ضمن فصول :

ص : 105

1- التوحيد في الخالقية عند أهل الحديث

إنّ من الأُصول المسلَّمة عند أهل الحديث (1) - وتبعهم الإمام الأشعري - انّ أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه وليس للإنسان أيُّ دور في إيجاد أفعاله وإنشائها ، بل كلّ ما في الكون من الجواهر والأعراض مخلوق لله سبحانه بالمباشرة ، وليس بينه سبحانه وعالم الكون أيّ واسطة في الإيجاد والإفاضة حتّى على نحو الظلِّية والتبعيَّة ولو بإذن الله سبحانه.

وبعبارة أُخرى : ليس في صفحة الوجود مؤثّر أصلي وتبعي ، ذاتي وظلّي إلاّ الله سبحانه ، وهو تعالى اسمُه ، قائم مكان عامّة العلل التي تتصوّرها الفلاسفة والمتكلّمون - وأخصُّ بالذكر علماء الطبيعة - عللاً مؤثّرة ولو بإذنه تعالى ولا يشذُّ منه فعل الإنسان فهو مخلوق لله سبحانه ، خلقاً مباشرياً ويعبّر عنه ب «خلق الأعمال» أو «خلق الأفعال».

قد انتقل الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري (260 - 324 ه)

ص : 106


1- سيوافيك انّه من الأُصول المسلّمة عند الجميع سوى المعتزلة وإنّما الاختلاف بين الإمامية والأشاعرة في تفسير ذلك الأصل.

من الاعتزال - بعد ما قضى أربعة عقود من عمره فيه - إلى منهج أهل السنّة وبالأخص منهج الإمام أحمد ابن حنبل (164 - 241 ه) ، وقد دخل جامع البصرة وارتقى كرسياً ونادى بأعلى صوته : أيّها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي ، أنا فلان بن فلان ؛ كنت أقول بخلق القرآن ، وانّ الله لا تراه الأبصار ، وانّ أفعال الشر أنا أفعلها ؛ وأنا تائب مقلع ، معتقد للرد على المعتزلة مخرج لفضائحهم ومعايبهم. (1)

ولأجل إيقاف القارئ الكريم على حقيقة التوحيد في الخالقية بالمعنى الذي تبنّاه الإمام أحمد وبعده الإمام الأشعري نأتي ببعض نصوصهم.

1. قال الشيخ الأشعري في الباب الثاني من كتاب «الإبانة» في عقائد أهل الحديث :

إنّه لا خالق إلاّ الله ، وإنّ أعمال العبد مخلوقة لله ومقدورة كما قال : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (2). وانّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً وهم يُخْلَقون ، كما قال سبحانه : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) (3). (4)

2. وقال في «مقالات الإسلاميّين» عند نقل عقائد أهل الحديث وأهل السنّة : واقرّوا : انّه لا خالق إلاّ الله ، وانّ سيئات العباد يخلقها الله ، وانّ أعمال العباد يخلقها الله عزّ وجلّ ، وانّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا منها شيئاً. (5)

3. وقال في «اللمع» : إن قال قائل : لم زعمتم أنّ أكساب العباد مخلوقة لله تعالى؟ قيل له : قلنا ذلك لأنّ الله تعالى قال : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) وقال :

ص : 107


1- وفيات الأعيان : 3 / 285 ، فهرست ابن النديم : 257.
2- الصافات : 96.
3- فاطر : 3.
4- الإبانة : 20.
5- مقالات الإسلاميين : 1 / 321.

(جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، فلمّا كان الجزاء واقعاً على أعمالهم كان الخالق لأعمالهم. (1)

وترى لِدَة هذه العبارات في غير واحد من الرسائل التي أُلّفت لبيان عقيدة أهل الحديث والأشاعرة - التي اشتُقَّت من أهل الحديث - ننقل منها ما يتعلّق بالمتأخرين منهم.

4. قال السيد الشريف الجرجاني في «شرح المواقف» : إنّ أفعال العباد الاختيارية ، واقعة بقدرة الله سبحانه وحدها وليس لقدرتهم تأثير فيها ، والله سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختياراً ، فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارناً لهما ، فيكون فعل العبد مخلوقاً لله إبداعاً وإحداثاً ومكسوباً للعبد ، والمراد بكسبه إيّاه ، مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك من تأثير ومدْخل في وجوده ، سوى كونه محلاً له ، وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري. (2)

5. وقال الزبيدي في «إتحاف السادة» : إنّ الإله ، هو الذي لا يمانعه شيء ، وإنّ نسبة الأشياء إليه على السويّة ، وبهذا بطل قول المجوس وكلّ من أثبت مؤثراً غير الله من علّة أو طبع أو ملك أو إنس أو جن ، ولذلك لم يتوقف علماء ما وراء النهر في تكفير المعتزلة حيث جعلوا التأثير للإنسان. (3)

وهذا المقدار من النصوص يكفي فيما هو المقصود (وما أبعد بينه وبين ما يمرّ عليك من ابن تيميّة من أنّ أكثر أهل السنّة يعترفون بالعلل الطبيعية).

وحاصل تلك العقيدة هو إنكار الأسباب والمسبّبات في صحيفة الوجود

ص : 108


1- اللمع : 69.
2- شرح المواقف : 8 / 146.
3- إتحاف السادة : 2 / 135.

عامّة ، فليس هنا إلاّ خالق واحد هو الله سبحانه وما سواه مخلوق ، وليس بين الخالق وعامّة المخلوقات أيُّ سبب تبعي أو علّة يؤثر بإذنه سبحانه.

وعلى ضوء هذا التفسير : أنكروا العلّيّة والمعلولية والتأثير والتأثّر بين الموجودات الإمكانية ، فزعموا انّ آثار الظواهر الطبيعية كلّها مفاضة منه سبحانه من دون أن يكون هناك رابطة بين الظاهرة المادية وآثارها ، فعلى مذهبهم «النار حارّة» بمعنى انّه جرت سنّة الله على إيجاد الحرارة عند وجود النار مباشرة من دون أن تكون هناك علقة بين النار وحرارتها ، والشمس وإضاءتها ، والقمر وإنارته ، بل عادة الله سبحانه جرت على إيجاد الضوء والنور مباشرة عقيب وجود الشمس والقمر دون أن يكون هناك نظام وقانون تكويني باسم العلّيّة والمعلولية ، وعلى ذلك فليس في صفحة الوجود إلاّ علّة واحدة ، ومؤثر واحد ، يؤثّر بقدرته وسلطانه في كلّ الأشياء من دون أن يُعمل سبحانه قدرته ويظهر سلطانه عن طريق إيجاد الأسباب والمؤثرات ، بل هو بنفسه شخصياً قائم مقام جميع ما يُتصور من العلل والأسباب التي كشف عنها العلم طيلة قرون.

وقد سادت هذه الفكرة على شرائح واسعة من العلماء والمفكّرين طيلة عصور متمادية ، فيقولون : «جرت عادة الله على خلق هذا بعد ذلك» أي خلق الحرارة بعد النار والبرودة بعد الماء ، وقد بلغ إصرارهم على إنكار أصل العلّيّة حداً كفّروا من يتفوّه بالعلّيّة أو مقتضى الطبيعة - كما نقله الزبيدي -.

وهذا هو الأزهر كان يُدرّس فيها قول الناظم :

ومن يقل بالطبع أو بالعلّة

فذاك كفر عند أهل الملّة

نعم ظهر في الآونة الأخيرة مفكِّرون آثروا اتّباع الحقّ على تقليد الأئمة وأصحروا بالحقيقة كما تأتي أسماؤهم ونصوصهم فانتظر.

ص : 109

2- التوحيد في الخالقية عند الإماميّة

التوحيد في الخالقية عند الإماميّة (1)

اتّفق أهل القبلة - إلاّ من شذّ كالمعتزلة - على التوحيد في الخالقية وانّه لا خالق إلاّ الله سبحانه ، وقد قامت الإمامية منهم بتفسيره بوجه لا ينافي القول بنظام الأسباب والمسبّبات والعلل الطبيعية ومعاليلها ، وإليك حاصل نظريتهم.

إنّ الخالقية المستقلّة النابعة من الذات ، غير المعتمدة على شيء منحصرة بالله سبحانه ولا يشاركه فيها شيء ، وأمّا غيره سبحانه فإنّما يقوم بأمر الخلق والإيجاد بإذن منه وتسبيب ، ويعدّ الكلّ جنوداً لله سبحانه ، يعملون بتمكين منه لهم. ويظهر هذا المعنى من ملاحظة الأُمور التالية :

الأوّل : لا يشك المتدبّر في الذكر الحكيم في أنّه كثيراً ما يُسنِد آثاراً إلى الموضوعات الخارجية والأشياء الواقعة في دار المادة ، كالسماء وكواكبها ونجومها والأرض وجبالها وبحارها وبراريها وعناصرها ومعادنها والسحاب والرعد والبرق والصواعق والماء والأعشاب والأشجار والحيوان والإنسان إلى غير ذلك من

ص : 110


1- قلنا «عند الإمامية» ولم نقل عند العدلية ، لأنّ هذا التفسير يختصّ بهم وأمّا المعتزلة الذين يُعدّون من العدلية فقد أنكروا هذا الأصل ، لأجل صيانة عدله سبحانه زاعمين أنّ القول بهذا الأصل يضاد أصل العدل ، غافلين عن أنّ المضاد هو التفسير الأشعري ، لا الإمامي. وقد فصّلنا الكلام في ذلك في محاضراتنا المنتشرة باسم : «الإلهيات» فلاحظ.

الموضوعات الواردة في القرآن الكريم. فمن أنكر إسناد القرآن آثار تلك الأشياء إلى أنفسها فإنّما أنكره باللسان ، وقلبه مطمئن بخلافه ، وسيوافيك في الفصل التالي شيء من الآيات الناصّة على ذلك.

الثاني : انّ القرآن يُسند إلى الإنسان أفعالاً لا يقوم بها إلاّ هو ، ولا يصحّ إسنادها إلى الله سبحانه بلا واسطة ، كأكله وشربه ومشيه وقعوده ونكاحه وحربه وجداله وصلاته وصيامه ، فهذه أفعال قائمة بالإنسان مستندة إليه ، فهو الذي يأكل ويشرب ويحارب ويجادل ويفهم ويصلّي ويصوم وهو سبحانه منزّه عن هذه الأفعال.

الثالث : انّ الله سبحانه أمر الإنسان بالطاعة أمر إلزام ، ونهاه عن المعصية نهيَ تحريم ، فيجزيه بالطاعة ، ويعاقبه بالمعصية. فلو لم يكن للإنسان دور في ذلك المجال ، وتأثير في الطاعة والعصيان فما هي الغاية من الأمر والنهي ، وما معنى الجزاء والعقوبة؟!

وهذه الأُمور الثلاثة إذا قارنها الباحث إلى قوله سبحانه : (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (1) الذي يدلّ على بسط فاعليته وعلّيته على كلّ شيء ، يستنتج منها انّ النظام الإمكاني على اختلاف هويّاته وأنواعه ، فعّال ومؤثر في آثاره ، لكن بتقديره سبحانه ومشيئته وإذنه وهو القائل جلّ وعلا : (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (2) والقائل تعالى : (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (3) ، وأنّ مظاهر الكون وأعمالها وآثارها وحركاتها وسكناتها تنتهي إلى قضائه وتقديره وهدايته وإجرائه نظام الأسباب والمسببات في صحيفة الكون.

ص : 111


1- الرعد : 16.
2- طه : 50.
3- الأعلى : 3.

فعلى هذا فالأشياء في جواهرها وذواتها وحدود وجودها وخصوصياتها تنتهي إلى الخلقة الإلهية ، كما أنّ أفعالها التي تصدر عنها في ظل تلك الخصوصيات تنتهي إليه أيضاً وليس العالم ومجموع الكون إلاّ مجموعة متوحّدة يتّصل بعضها ببعض ويتلاءم بعضها مع بعض ، ويؤثر بعضها في بعض ، والله سبحانه وراء هذا النظام ومعه وبعده ولا خالق ولا مدبّر حقيقة وبالأصالة إلاّ هو كما لا حول ولا قوة إلاّ بالله.

وبعبارة أُخرى : انّ التدبر في الآيات الواردة في التوحيد في الخالقية إذا فسّرت على نحو التفسير الموضوعي (1). يثبت أنّ آثار الموجودات الإمكانية آثار لها ، وفي الوقت نفسه تنتهي الأسباب إلى الله سبحانه. فجميع هذه الأسباب والمسببات يرتبط بعضها ببعض ويؤثر بعضها في بعض ، وفي الوقت نفسه مرتبطة بالله سبحانه وإليه ينتهي النظام الإمكاني والعلل والمعاليل.

وليس السبب منقطعاً عن الله ، وفي الوقت نفسه ليس المسبب فعلاً مباشرياً له سبحانه فبذلك يجمع بين القول بحصر الخالقية في الله سبحانه ، والقول بنظام العلل والمعاليل المنتهية إليه والقائمة به ، فالخالقية المستقلة النابعة من الذات ، منحصرة بالله سبحانه ، والخالقية الظلية والتبعية ، النابعة من قدرته سبحانه من خصائص النظام الإمكاني ، ولنعم قول القائل : «فالفعل فعل الله وهو فعلنا».

وباختصار : إنّ العوالم الممكنة من عاليها إلى سافلها متساوية النسبة إلى قدرته سبحانه ، فالجليل والحقير ، والثقيل والخفيف عنده سواسية ، لكن ليس

ص : 112


1- نريد من التفسير الموضوعي هو جمع الآيات الواردة في أي موضوع من الموضوعات واستنطاق بعض الآيات ببعض والخروج بنتيجة واحدة ، هي حصيلة عامة الآيات. وقد ألّفنا موسوعة قرآنية على هذا الغرار وأسميناها ب «مفاهيم القرآن» انتشرت في عشرة أجزاء.

معنى «المساواة» هو قيامه تعالى بكلّ شيء مباشرة ، وخلع التأثير عن الأسباب والعلل ، بل يعني أنّ الله سبحانه يُظهر قدرته وسلطانه عن طريق خلق الأسباب ، وبعث العلل نحو المسببات والمعاليل ، والكلّ مخلوق له ، ومظاهر قدرته وحوله ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله.

فالأشعري ، خلع الأسباب والعلل - وهي جنود الله سبحانه - عن مقام التأثير والإيجاد ، كما أنّ المعتزلي (1) عزل سلطانه عن ملكه وجعل بعضاً منه في سلطان غيره ، أعني : فعل العبد في سلطانه.

والحقّ الذي عليه البرهان ويصدّقه الكتاب هو كون الفعل موجوداً بقدرتين ، لكن لا بقدرتين متساويتين ، ولا بمعنى علّتين تامّتين ، بل بمعنى كون الثانية من مظاهر القدرة الأُولى وشئونها وجنودها : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ) (2) وقد جرت سنّة الله تعالى على خلق الأشياء بأسبابها ، فجعل لكلّ شيء سبباً ، وللسبب سبباً ، إلى أن ينتهي إليه سبحانه ، والمجموع من الأسباب الطولية علّة واحدة تامّة كافية لإيجاد الفعل ، والتفصيل يطلب من محله ، ونكتفي في المقام بكلمة عن الإمام الصادق - عليه السلام - : «أبى الله أن يجري الأشياء إلاّ بأسباب ، فجعل لكلّ شيء سبباً وجعل لكلّ سبب شرحاً». (3)

ص : 113


1- قد تقدّم في ص 110 انّ المعتزلة ، أنكرت هذا الأصل من رأس ، لغاية حفظ عدله وتنزيهه من الظلم والعمل السيّئ ، وزعمت انّ وجود الإنسان مخلوق لله وفعله مخلوق لنفس الإنسان فقط ، فأخرجت أفعال العباد عن سلطان الله تبارك وتعالى ، ونعم ما قال الإمام الكاظم - عليه السلام - : «مساكين القدرية أرادوا أن يصفوا الله بعدله ، فأخرجوه عن سلطانه» وسيوافيك في خاتمة المطاف ما يفيدك في المقام.
2- المدثر : 31.
3- الكافي : 1 / 183 ، باب معرفة الإمام ، الحديث 7.

وبهذه النظرية - أي نظرية كون العالم مخلوقاً على النظام السببي والمسببي وانّ فيه فواعل اضطرارية كما أنّ فيه فواعل اختيارية - تتناسق الأُمور الثلاثة الماضية (1) وتتوحّد نتائجها ، وهذا بخلاف ما إذا قلنا بالنظرية الأُولى فانّها توجب التضاد بين الأُمور الثلاثة المسلمة.

ص : 114


1- لاحظ ص 111110.

3- مضاعفات حصر الخالقية في الله على ضوء التفسير الأشعري

اشارة

قد تقدّم انّ المسلمين إلاّ من شذّ تبعاً للذكر الحكيم والبراهين العقلية اتّفقوا على حصر الخالقية في الله سبحانه وعدُّوه من مراتب التوحيد ولا يصحّ الحصر ولا ينسجم مع سائر الأُصول إلاّ إذا فسر على النحو الذي مرّ آنفاً ، فالقول بهذا الحصر - على ما فسرنا - لا ينافي الإيمان بالعلل والأسباب الطولية والنظام السائد على العالم من العلّية والمعلولية ، المنتهي إلى الله سبحانه.

غير انّ الإمام الأشعري ومن تبعه أخذوا بظواهر بعض الآيات فأنكروا أصل التأثير حتّى الظلي والتبعي في غيره سبحانه ولم يعترفوا إلاّ بعلة واحدة وهي الله سبحانه ، القائم مكان عامة العلل ، فجعلوا الظواهر كلّها مخلوقة لله بالمباشرة وبلا توسط سبب وكأنّ من أنكر ذلك التفسير فقد أنكر التوحيد في الخالقية ، غير انّ ذلك التفسير مردود من جهات نشير إلى بعضها.

الأُولى : تصريح القرآن بتأثير العلل الطبيعية

إنّ القرآن الكريم يصرح بوضوح كامل بتأثير بعض الأشياء في بعض ويكشف عن نظام سائد على العالم نظاماً عليّاً ومعلولياً ، سببياً ومسببياً ، ونحن

ص : 115

نذكر في المقام بعض الآيات :

1. (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). (1)

وجملة (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) كاشفة عن دور الماء وأثره في إنبات النباتات ونمو الأشجار ، ومع ذلك يفضل بعض الثمار على بعض.

وأوضح دليل على ذلك قوله تعالى في الآيتين التاليتين :

2. (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ). (2)

3. (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ). (3)

ففي هاتين الآيتين يصرح الكتاب العزيز - بجلاء - بتأثير الماء في الزرع ، إذ أنّ «الباء» تفيد السببية - كما تعلم -.

4. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ). (4)

ففي هذه الآية نرى - لو أمعنا النظر - كيف بيّن القرآن الكريم المقدّمات الطبيعية لنزول المطر والثلج من السماء من قبل أن يعرفها العلم الحديث ويطّلع عليها بالوسائل التي يستخدمها لدراسة الظواهر الطبيعية واكتشاف عللها ومقدّماتها.

ص : 116


1- الرعد : 4.
2- البقرة : 22.
3- السجدة : 27.
4- النور : 43.

فقبل أن يتوصل العلم الحديث إلى معرفة ذلك - بزمن طويل - سبق القرآن إلى بيان تلك المقدّمات في عبارات هي :

1. يزجي (يحرك) سحاباً.

2. ثمّ يؤلّف (ويركِّب) بينه.

3. ثمّ يجعله ركاماً (أي كتلة متراكمة متكاثفة).

فينسب هذه المراحل إلى الله تعالى. ثمّ يقول :

4. فترى الودق (أي المطر) يخرج من خلاله.

5. يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار.

وهكذا يصرح الله سبحانه بتأثير الأسباب والعلل الطبيعية في المرحلتين الأخيرتين ، غاية ما هنالك أنّ تأثير هذه العلل والأسباب بإذن الله ومشيئته بحيث إذا لم يشأ هو سبحانه لتعطلت هذه العلل عن التأثير.

5. (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ). (1)

وأيّة جملة أوضح من قوله : (فَتُثِيرُ سَحاباً) أي الرياح ، فالرياح في نظر القرآن هي التي تثير السحاب وتسوقه من جانب إلى جانب آخر.

إنّ الإمعان في عبارات هذه الآية يهدينا إلى نظرية القرآن ورأيه الصريح حول «تأثير العلل الطبيعية بإذن الله».

ففي هذه الجمل جاء التصريح :

1. بتأثير الرياح في نزول المطر.

ص : 117


1- الروم : 48.

2. وتأثير الرياح في تحريك السحب.

3. كما جاء التصريح بانتساب انبساط السحب في السماء إلى الله.

4. وتجمع السحب - فيما بعد - على شكل قطع متراكمة إلى الله سبحانه.

5. ثمّ نزول المطر بعد هذه التفاعلات والمقدمات.

فإذا ينسب القرآن هذين الأمرين - الثالث والرابع - إلى الله وانّه (هو) يبسط السحاب في السماء و (هو) الذي يجعله كسفاً ، فإنّما يقصد - من وراء ذلك - التنبيه إلى مسألة «التوحيد الأفعالي» الذي يعبّر عنه بالتوحيد في الخالقية ، وفي الوقت نفسه «لا منافاة بين هذه النسبة والقول بتأثير العلل الطبيعية في بسط السحب وجمعها.

على أنّ الآيات التي تؤكد على دور العلل الطبيعية وتأثيرها المباشر وتعتبر العالم مجموعة من الأسباب للمسببات التي تعمل بإرادة الله وإذنه ، وتكون فاعليتها فرعاً من فاعليته سبحانه ، أكثر من أن ينقل في المقام ، وفيما ذكرنا من الآيات كفاية لمن تدبّر.

الثانية : انتفاء الغاية من إيجاد القدرة في الإنسان

إذا صحّ تقسيم الفاعل إلى فاعل قادر مختار ، يتوصّل إلى مقاصده بالمشيئة وإعمال القدرة ؛ وفاعل مضطرّ ، يقع مصدراً للآثار ،

من دون إرادة وإعمال القدرة ، فالإنسان من مصاديق القسم الأوّل بل من أفضل مصاديقه ، فهو يصدر عن فكر ورويّة وميل واشتياق ، وعزم وجزم ، وإعمال للقدرة التي وهبها الله سبحانه له ، وهذا شيء يدركه وجدان كلّ إنسان حرّ التفكير ولا يبطله أي دليل وبرهان حتّى أنّ الشيخ الأشعري استدلّ على كون الإنسان مختاراً في فعله ، بالفرق بين الحركتين : الاكتسابية والاضطرارية فقال : فإذا كانت حركة المرتعش من الفالج والمرتعد من

ص : 118

الحمى حركة اضطرارية ، وإذا كانت الحركة الأُخرى بخلاف هذا الوصف لم يكن اضطراراً ، لأنّ الإنسان في ذهابه ومجيئه ، وإقباله وإدباره بخلاف المرتعش من الفالج والمرتعِد من الحمى ، يعلم الإنسان التفرقة بين الحالين من نفسه وغيره علمَ اضطرار لا يجوز معه الشك. (1)

فإذا كان هذا حال الإنسان وهذه مواهبه وعطاياه ، فما هي الغاية من خلق القدرة في الإنسان التي لا دور لها في الإنشاء والإيجاد ، سوى حديث المقارنة ، مقارنة القدرة مع الحادثة من دون أن يكون بين قدرة العبد وفعله أي صلة.

إنّ إبعاد قدرة العبد عن التأثير في مصير الإنسان ، يضادّ وجدانَ كلّ فاعل ، أوّلاً ، ويُضفي على تزويد الإنسان بها ، شأن اللغوية ثانياً ، ويُعرِّف خالق القدرة لاعباً ثالثاً ، قال سبحانه : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ). (2)

إنّ التوحيد في الخالقية ، من المعارف العليا القرآنية والتي لم يصل إليها حتى الأوحدي من الفلاسفة إلاّ عن طريق التدبّر في آيات الذكر الحكيم ، ومن خالفه من المعتزلة فإنّما خالفه بزعم انّه يخالف عدلَه وتنزيهه سبحانه غير انّ الذي يخالف عدله ، ويضاد تنزيهه ، هو حصر الخالقية بالمعنى الذي تبنّاه أهل الحديث والأشاعرة ، فانّه يضاد كونه حكيماً ، عادلاً ، نزيهاً عن اللغو واللعب حيث خلق في الإنسان القدرة التي لا دور لها في حياته في عاجله وآجله ، وأمّا تفسيره على النهج الذي عرفت وقد سار عليه أئمة أهل البيت فهو يدعم كونه سبحانه حكيماً ، عادلاً ، نزيهاً من اللغو والعبث.

ص : 119


1- اللمع : 75.
2- الأنبياء : 16.

وكم من عائب قولاً صحيحاً *** وآفته من الفهم السقيم

الثالثة : كلّ فاعل مسئول عن فعله

إنّ العقلاء قاطبة - حتى أهل الحديث والأشاعرة - يرى الإنسان مسئولاً عن فعله وعمله ، وليس المحسِن والمسيء عندهم سواسية ، بل يُثاب الأوّل ، ويُعاقب الثاني ، كلّ وفقَ عمله ، ومدى مسئوليته ، وهذا فرع أن يكون للفاعل دور في فعله ، وعمله ، ولو أصاب رأسه حجر فأدماه ، فيحمّل مسئولية الإدماء على عاتق الرامي ، دون الحجر ، وذلك لأنّ له شعوراً وارادة ، دون الآخر ، وعلى ضوء ذلك يصف الذكر الحكيم بأنّ الإنسانَ مسئول عن عمله ويقول : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (1) بل يعد أدوات المعرفة أيضاً ، مسئولة ويقول (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (2) ، وذلك لأنّها بيد الإنسان ، أداة طيّعة يستخدمها كيف ما شاء.

فإذا كان هذا لسانَ العقل والعقلاء وصريحَ الذكر الحكيم فلو كانت أفعاله وأعماله ، مخلوقة لله ، على نحو تفقد صلتها بالإنسان ، فما معنى كونه مسئولاً عن عمل ، قام به غيره ، أو مجزياً بفعل غيره ، وليس لجسمه أو روحه دور ، سوى كونه ظرفاً ووعاءً لفعل الغير يخلقه فيه.

إذ كيف يثاب أو يعاقب على ما ليس له فيه شأن؟! وكيف يكون معاقباً وقد جنى غيره وفق قول القائل :

ص : 120


1- الصافات : 24.
2- الإسراء : 36.

غيري جنى وأنا المعاقَبُ فيكم *** فكأنني سبّابة المتندم

إنّ هذه التوالي الفاسدة التي يدركها كلّ إنسان واع ووجدان حرّ دفعت الشيخ الأشعري ، ومن لفّ لفّه إلى الخروج عن هذا المأزق باختراع «نظرية الكسب» حتّى يتخلّصوا ممّا يترتب على خلق الأعمال من التوالي الفاسدة ، فإذا قيل لهم : كيف يُثاب المرء أو يُعاقب على عمل لم يوجده هو؟ وكيف يتفق هذا مع ما هو مقرّر في عدالة الله وحكمته في تكليف خلقه؟

أجابوا : انّ العباد وإن لم يكونوا خالقين لأعمالهم لكنّهم كاسبون لها ، وهذا الكسب هو مناط التكليف ومدار الثواب والعقاب وبه يتحقّق عدل الله وحكمته فيما شرّع للمكلّفين.

قالوا : إنّ هنا نصوصاً تثبت بأنّه لا خالق إلاّ هو ، كقوله (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (1) ، (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (2) إلى غير ذلك.

وبجانب هذا توجد نصوص ، تَنسب أعمال العباد إليهم ، وتُعلّق رضوان الله للمحسنين منهم وتعلّق غضبه للمسيئين منهم ويقول : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) (3) ، (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) (4) إلى غير ذلك من الآيات.

فحملوا النصوص الأُولى على الخلق ، وحملوا الثانية على الكسب جمعاً بين الأدلّة ، فإذا قيل ما هذا الكسب؟ وما يراد به؟ وهل هو أيضاً موجود أو معدوم؟

ص : 121


1- الرعد : 16.
2- فاطر : 3.
3- الجاثية : 15.
4- الإسراء : 7.

فمالوا يميناً ويساراً حتّى يأتوا به تفسيراً معقولاً مع أنّه مضت على النظرية قرون عشرة لكنّها بقيت في محاق الإبهام ، بل دخلت أخيراً في مدحرة الإنكار ، وهذا هو الذي ندرسه في الفصول المقبلة بعد مقدّمة موجزة.

ص : 122

4- نظرية الكسب بين التفسير ، والتكامل ، والإبطال

اشارة

قد تعرفت على أنّ القول بالتوحيد في الخالقية - الذي يعبّر عنه اليوم بعموم القدرة والإرادة - بالتفسير الذي قام به أهل الحديث والأشاعرة ، صار ذا مضاعفات عديدة ، أهمها : كون الإنسان مجبوراً لا مختاراً ، مسيّراً لا مخيّراً ، غير مسئول عن عمله وفعله ، لأنّ الفعل فعل الله لا فعله ، وهو خالقه وموجده وليس له دور ، سوى كونه وعاءً لفعل الله سبحانه.

كما تعرّفت على أنّ الشيخ الأشعري قد وقف على ما يترتب على تفسيره من النتائج الفاسدة ، حاول أن يتخلّص من ذلك المأزق بطرح نظرية الكسب حتّى يكون للإنسان دور في مجال أفعاله وأعماله فصار سهم الخالق هو الإيجاد والإنشاء وسهم الإنسان هو الكسب والاكتساب ، والثواب والعقاب على الكسب.

وقد مرّت على النظرية مراحل مختلفة عبر أجيال ، وذلك لأنّ باذر الفكرة وغارسها مرّ عليها بإجمال دون أن يفسّرها ويبيّنها ، فأخذ روّاد منهج الأشعري بتبيينها وتفسيرها تارة ، وتطويرها وإكمالها ثانياً ، إلى أن وصلت النوبة إلى العقول

ص : 123

الحرّة ، فأنكروها وأبطلوها وصرّحوا بأنّها نظرية لا تسمن ولا تغني من جوع وانّ المضاعفات والتوالي الفاسدة باقية بحالها ، فها نحن نشرح كلّ واحد من هذه المراحل في فصل خاص حتى تسهل الإحاطة بها.

ص : 124

المرحلة الأُولى: في تبيين النظرية وتفسيرها

اشارة

يظهر من غير واحد من كُتّاب تاريخ العقائد والمناهج الكلامية انّ الإمام الأشعري لم يكن مبتكراً لنظرية الكسب ، بل لها جذور في كلمات من سبق عليه كجهم بن صفوان (المتوفّى 128 ه) وضرار بن عمرو العيني الذي يعدّ من رجال منتصف القرن الثالث.

قال القاضي عبد الجبار : إنّ جهم بن صفوان ذهب إلى أنّ أفعال العباد لا تتعلّق بنا وقال : إنّما نحن كالظروف لها ، حتى أنّ ما خلق فينا كان وإن لم يخلق لم يكن.

وقال ضرار بن عمرو : إنّها متعلّقة بنا ومحتاجة إلينا ، ولكن جهة الحاجة إنّما هي الكسب ، فقد شارك جهماً في المذهب وزاد عليه في الإحالة. (1)

إنّ الشيخ الأشعري نقل في كتاب «مقالات الإسلاميّين واختلاف المصلّين» انّ ضرار بن عمرو ممّن كان يذهب إلى أنّ العبد كاسب ، قال : والذي فارق ضرار بن عمرو به المعتزلة ، قوله : إنّ أعمال العباد مخلوقة وانّ فعلاً واحداً لفاعلين أحدهما خَلَقَه وهو الله ، والآخر اكتسبه وهو العبد ، وانّ الله عزّ وجلّ فاعل لأفعال العباد في

ص : 125


1- شرح الأُصول الخمسة : 363.

الحقيقة ، وهم فاعلون لها في الحقيقة. (1)

وقد نقل العلاّمة الحلّي نظرية الكسب عمّن تقدّم على الشيخ الأشعري كالنجّار وحفص الفرد. (2)

فسواء أكانت النظرية للإمام الأشعري أم لغيره ، فقد مرّت عليها مراحل أُولاها ، مرحلة التبيين والتفسير حتى تخرج عن الإبهام والغموض.

مرحلة التبيين

قد حاول غير واحد من أعيان الأشاعرة ، أن يرفع النقاب عن وجه النظرية منهم الغزالي (505450 ه) من مشاهير الأشاعرة في أواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس فقام بإيضاحها بكلام مبسوط يتلخّص في العنوان التالي :

1. الكسب صدور الفعل من الله ، عند حدوث القدرة في العبد

قال : ذهبت المجبرة إلى إنكار قدرة العبد فلزمها إنكار ضرورة التفرقة بين حركة الرعدة ، والحركة الاختيارية ، ولزمها أيضاً استحالة تكاليف الشرع. وذهبت المعتزلة إلى إنكار تعلّق قدرة الله تعالى بأفعال العباد من الحيوانات والملائكة والجن والإنس والشياطين ، وزعمت أنّ جميع ما يصدر منها ، من خلق العباد واختراعهم ، لا قدرة الله تعالى عليها بنفي ولا إيجاب ، فلزمتها شناعتان عظيمتان :

إحداهما : إنكار ما أطبق عليه السلف من أنّه لا خالق إلاّ الله ، ولا مخترع سواه.

ص : 126


1- مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين : 281.
2- كشف المراد ، الفصل الثالث من الإلهيات : 189 ، ط صيدا.

والثانية : نسبة الاختراع والخلق إلى قدرة من لا يعلم ما خلقه ، كأعمال النحل والعنكبوت وغيرهما من الحيوانات التي تقوم بأعاجيب الأعمال وغرائبها ، ثمّ قال : وإنّما الحقّ إثبات القدرتين على فعل واحد ، والقول بمقدور منسوب إلى قادرين ، فلا يبقى إلاّ استبعاد توارد القدرتين على فعل واحد. وهذا إنّما يبعد إذا كان تعلّق القدرتين على وجه واحد ، فإن اختلفت القدرتان ، واختلف وجه تعلّقهما فتوارد التعلّقين على شيء واحد غير محال ، كما نبيّنه.

ثمّ إنّه حاول بيان تغاير الجهتين ، وحاصل ما أفاد هو : إنّ الجهة الموجودة في تعلّق قدرته سبحانه على الفعل غير الجهة الموجودة في تعلّق قدرة العبد. والجهة في الأُولى جهة إيجادية تكون نتيجتُها وقوعَ الفعل في الخارج ، وحصوله في العين. والجهة في القدرة الثانية جهة أُخرى ، وهي صدور الفعل من الله سبحانه عند حدوث القدرة في العبد.

فلأجل ذلك تُسمّى الأُولى خالقاً ومخترعاً ، دون الثانية ، فاستعير لهذا النمط من النسبة اسم الكسب تيمّناً بكتاب الله تعالى.

هذا توضيح مرامه وإليك نصّ عبارته : لما كانت القدرة (قدرة العبد) والمقدور جميعاً بقدرة الله تعالى : سُمّي خالقاً ومخترعاً ، ولمّا لم يكن المقدور بقدرة العبد وإن كان معه ، فلم يسمّ خالقاً ولا مخترعاً. (1)

ثمّ اعترض على نفسه بما هذا حاصله : كيف تصحّ تسمية القدرة المخلوقة في العبد قدرة ، إذا لم يكن لها تعلّق بالمقدور ، فإنّ تعلق القدرة بالمقدور ليس إلاّ من جهة التأثير والإيجاد - وحصول المقدور بها - وأجاب عنه : بأنّ التعلّق ليس مقصوراً على الوقوع بها ، بل هناك تعلّق آخر غير الوقوع ، نظير تعلّق الإرادة بالمراد ،

ص : 127


1- الاقتصاد في الاعتقاد : 92.

والعلم بالمعلوم ، فإنّهما يتعلّقان بمتعلّقهما بتعلّق ، غير الوقوع ضرورة أنّ العلم ليس علّة للمعلوم ، فإذا لا بدّ من إثبات أمر آخر من التعلّق سوى الوقوع. (1)

وقد قام التفتازاني بتفسير الجهتين في شرح مقاصده وقال : لمّا بطل الجبر المحض بالضرورة ، وكون العبد خالقاً لأفعاله بالدليل ، وجب الاقتصاد في الاعتقاد ، وهو انّها مقدورة بقدرة الله تعالى اختراعاً وبقدرة العبد على وجه آخر من التعلّق يعبّر عنه بالاكتساب وليس من ضرورة ، تعلّق القدرة بالمقدور أن يكون على وجه الاختراع. (2)

يلاحظ عليه : أنّ الغزالي لم يأت في تفسير نظرية الكسب بأمر جديد ولم يزد التفتازاني شيئاً على بيانه ، وحاصله يتلخّص في كلمتين :

1. إنّ دور قدرة العبد ليس إلاّ دور المقارنة ، فعند حدوث القدرة في العبد يقوم سبحانه بخلق الفعل.

2. إنّ للتعلّق أنواعاً ولا تنحصر في الإيجاد والوجود ، والإيقاع والوقوع ، بل هناك جهة أُخرى يُعبّر عنها بالكسب - فالعبد مصدر لهذه الجهة ، وبذلك يسمّى كاسباً -.

ومع هذا التطويل فالإشكال باق بحاله ، فإنّ وقوع الفعل مقارناً لقدرة العبد ، لا يُصحّح نسبة الفعل إلى العبد ، ولا تحمّل مسئوليته ، فإنّ نسبة المقارن إلى المقارن كنسبة تكلم الإنسان إلى نزول المطر في الصحراء ، فإذا لم يكن لقدرة العبد تأثير في وقوع الفعل ، كيف يصحّ في منطق العقل التفكيك بين الحركة الاختيارية ، والحركة الاضطرارية؟ والغزالي بكلامه هذا نقض ما ذكره في صدر البحث حيث

ص : 128


1- الاقتصاد : 92 - 93.
2- شرح المقاصد : 127.

ردّ على المجبّرة بوجدان الفرق بين الحركتين ، وهذا الفرق لا يتعقّل إلاّ في ظل تأثير قدرة العبد على الوقوع والوجود.

وأضعف من ذلك تنزيل تعلّق قدرة العبد بتعلّق العلم على المعلوم ، مع أنّ واقعية العلم وماهيته هي الكشف التابع للمكشوف ، فلا يصحّ أن يكون مؤثّراً في المعلوم وموجداً له ، ولكن واقعية القدرة والسلطة ، واقعية الإفاضة والإيجاد ، فلا يتصوّر خلعها عن التأثير مع فرضه قدرة كاملة وبصورة علّة تامّة.

2. الكسب : توجه قدرة العبد صوب الفعل عند صدوره من الله

قام التفتازاني (792712 ه) في «شرح العقائد النسفية» بتفسير الكسب بالوجه التالي وهو : انّ صرف العبد قدرته وإرادته إلى الفعل كسب ، وإيجاد الله تعالى الفعلَ عقيب ذلك خلق. والمقدور الواحد داخل تحت قدرتين ، لكن بجهتين مختلفتين. فالفعل مقدور الله تعالى بجهة الإيجاد ، ومقدور العبد بجهة الكسب ، وهذا القدر من المعنى ضروري وإن لم نقدر على أزيد من ذلك في تلخيص العبارة المفصحة عن تحقيق كون فعل العبد بخلق الله تعالى وإيجاده ، مع ما فيه للعبد من القدرة والاختيار. (1)

ويقرب من ذلك ما في متن المواقف للعضدي وشرحه للشريف الجرجاني قالا : وأمّا التكليف والتأديب والبعثة والدعوة فانّها قد تكون دواعي للعبد ، إلى الفعل واختياره ، فيخلق الله الفعل عقيبها عادة وباعتبار ذلك الاختيار المترتب على الدواعي يصير الفعل طاعة إذا وافق ما دعاه الشرع إليه ومعصية إذا خالفه ويصير علامة للثواب والعقاب. (2)

ص : 129


1- شرح العقائد النسفية : 117.
2- شرح المواقف : 8 / 155.

ويرد على ما ذكروه انّ العزم والإرادة والاختيار من الأُمور الوجودية الممكنة فمن خالقها أهو الله سبحانه ، أم العبد؟ وعلى الأوّل يلزم الجبر وعلى الثاني ينتقص القاعدة ، أعني : التوحيد في الخالقية.

ثمّ إنّ نظرية الكسب بلغت من الإبهام إلى حد أنّ القمة من مشايخ الأشاعرة كالتفتازاني يعترف بعجزه عن تفسيرها حيث قال : «وإن لم نقدر على أزيد من ذلك في تلخيص العبارة المفصحة ...».

إلى هنا تمت المرحلة الأُولى من المراحل (1) التي مرّت على نظرية الكسب ، وهنا من سلك مسلك العلمين : الغزالي والتفتازاني في تفسير النظرية ، أعرضنا عن نقله روماً للاختصار ، وحان وقت الانتقال إلى المرحلة الثانية ، أعني : مرحلة التطوير والتكامل.

ص : 130


1- ولا يفوتنّك انّ هذه المراحل الثلاث لم تتكون حسب التسلسل الزمني بل تكوّنت عبر قرون لا تأبى أن تكون بعضها في عرض الآخر.

المرحلة الثانية: مرحلة التطوير والتكامل

اشارة

قد يرى الباحث في كلمات الأشاعرة في هذه المرحلة معاني ومفاهيم جديدة حول نظرية الكسب على وجه يخرجها عن الإبهام الذي كان يصحب النظرية في المرحلة الأُولى ، حتى كانت النظرية موصوفة باللغز كما في قول القائل :

ممّا يقال ولا حقيقة عنده *** معقولة تدنو إلى الأفهام

الكسب عند الأشعري والحال *** عند البهشمي وطفرة النظام (1)

فعدّ الشاعرُ نظريةَ الكسب في إحاطة الإبهام بها في عداد نظرية «الحال» عند أبي هاشم و «الطفرة» عند النظام. وهذا دليل على قصور النظرية وعدم كفايتها لحلّ العقدة ، وهناك كلام متين للقاضي عبد الجبار نأتي بنصه :

قال : إنّ فساد المذهب قد يكون بأحد طريقين :

أحدهما : بأن يُبيّن فساده بالدلالة.

والثاني : بأن يُبيّن أنّه غير معقول في نفسه ، وإذا ثبت أنّه غير معقول في

ص : 131


1- القضاء والقدر لعبد الكريم الخطيب : 185.

نفسه ، كفيت نفسَك مئونة الكلام عليه ، لأنّ الكلام على ما لا يعقل لا يمكن ... والذي يبيّن لك صحّة ما نقوله أنّه لو كان معقولاً لكان يجب أن يعقله مخالفو المجبّرة في ذلك ، من الزيدية والمعتزلة والخوارج والإمامية. فإنّ دواعيهم متوافرة ، وحرصهم شديد في البحث عن هذا المعنى ، فلمّا لم يوجد في واحد من هذه الطوائف - على اختلاف مذاهبهم ، وتنائي ديارهم ، وتباعد أوطانهم ، وطول مجادلتهم في هذه المسألة - من ادّعى أنّه عقل هذا المعنى أو ظنّه أو توهّمه ، دلّ على أنّ ذلك ممّا لا يمكن اعتقاده والإخبار عنه البتة.

وأحد ما يدلّ على أنّ الكسب غير معقول ، هو أنّه لو كان معقولاً لوجب - كما عقله أهل اللغة وعبروا عنه - أن يعقله غيرهم من أرباب اللغات ، وأن يضعوا له عبارة تُنبئ عن معناه. فلمّا لم يوجد شيء من اللغات ما يفيد هذه الفائدة ، دلّ على أنّه غير معقول. (1)

قال الشيخ المفيد :

ثلاثة أشياء لا تُعقل ، وقد اجتهد المتكلّمون في تحصيل معانيها من معتقديها بكلّ حيلة فلم يظفروا منهم إلاّ بعبارات يتناقض المعنى فيها على مفهوم الكلام :

1. اتحاد النصرانية.

2. كسب النجارية.

3. أحوال البهشمية.

إلى أن قال : ومن ارتاب فيما ذكرناه في هذا الباب فليتوصل إلى إيراد معنى - في واحد منها - معقول ، والفرق [كذا] بينها في التناقض والفساد ، ليعلم أنّ

ص : 132


1- شرح الأُصول الخمسة للقاضي عبد الجبار : 364 - 366.

خلاف ما حكمنا به هو الصواب! وهيهات. (1)

ولأجل وجود هذا النقص الواضح حول النظرية حاول بعض روّاد الأشاعرة الذين قامت بهم خيمة هذا المنهج وأشادوا بنيانه ، ورفعوا قوائمه ، ان يُفسّر النظرية مزيجة بشيء من التطوير والإكمال حتّى يخرج عن عداد الأحوال لأبي هاشم أو الطفرة للنظام ، واذكر منهم الأقطاب الثلاثة :

1. أبو بكر محمد الطيب القاضي المعروف بابن الباقلاني (المتوفّى 403 ه)

إنّ القاضي الباقلاني من أئمّة الأشاعرة ، فقد بذل وسعه في دعم المنهج الأشعري والذب عنه بحماس ولو لا القاضي وبعض أترابه ، كابن فورك الاصفهاني (المتوفّى 406 ه) لما كان للمنهج الأشعري نصيب من السعة والشمول ، وقد اعتنقه - إلى يومنا هذا - عامّة أهل السنّة - غير أهل الحديث -.

وقد أضفى القاضي على نظرية الكسب مفهوماً جديداً ، صحّ أن يعبر عنه بالتطوير ، وقال ما هذا حاصله :

الدليل قد قام على أنّ القدرة الحادثة لا تصلح للإيجاد ، لكن ليست الأفعال أو وجوهها واعتباراتها تقتصر على وجهة الحدوث فقط ، بل هاهنا وجوه أُخرى هي وراء الحدوث.

ثمّ ذكر عدّة من الجهات والاعتبارات وقال : إنّ الإنسان يفرّق فرقاً ضرورياً بين قولنا : أوجد ، وبين قولنا : صلى وصام وقعد وقام. وكما لا يجوز أن تضاف إلى الباري تعالى جهة ما يضاف إلى العبد ، فكذلك لا يجوز أن تضاف إلى العبد ، جهة

ص : 133


1- حكايات الشيخ المفيد برواية الشريف المرتضى لاحظ مجلة «تراثنا» العدد 3 ، من السنة الرابعة ، 118.

ما يضاف إلى الباري تعالى.

فأثبت القاضي تأثيراً للقدرة الحادثة ، وأثرها هو الحالة الخاصة ، وهو جهة من جهات الفعل ، حصلت نتيجة تعلّق القدرة الحادثة بالفعل ، وتلك الجهة هي المتعيّنة لأن تكون مقابلة بالثواب والعقاب ، فإنّ الوجود من حيث هو وجود لا يُستحق عليه ثواب وعقاب ، خصوصاً على أصل المعتزلة ، فإنّ جهة الحسن والقبح هي التي تقابل بالجزاء ، والحسن والقبح صفتان ذاتيتان وراء الوجود ، فالوجود من حيث هو وجود ليس بحسن ولا قبيح.

قال : فإذا جاز لكم إثبات صفتين هما حالتان ، جاز لي إثبات حالة هي متعلّق القدرة الحادثة ، ومن قال هي حالة مجهولة ، فبيّنا بقدر الإمكان جهتها ، وعرفنا أي شيء هي ، ومثلناها كيف هي. (1)

وحاصل كلامه - مع ما قمنا بتلخيصه - : هو أنّ للقدرة الحادثة تأثيراً في حدوث العناوين والخصوصيات التي هي ملاك الثواب والعقاب ، وهذه العناوين وليدة قدرة العبد ، حادثة بها ، وإن كان وجود الفعل حادثاً بقدرته سبحانه.

فوجود الفعل مخلوق لله سبحانه ، لكن تعنونه بعنوان الصوم والصلاة والأكل والشرب راجع إلى العبد والقدرة الحادثة فيه.

يلاحظ عليه : أنّ هذه العناوين والجهات التي صارت ملاكاً للطاعة والعصيان لا تخلو من صورتين : إمّا أن تكون من الأُمور الوجودية وعندئذ تكون مخلوقة لله سبحانه حسب الأصل المسلم.

وإمّا أن تكون من الأُمور العدمية فعندئذ لا تكون للكسب واقعية خارجية ، بل يكون أمراً ذهنياً غنياً عن الإيجاد والقدرة. ومثل ذلك كيف يكون ملاكاً للثواب

ص : 134


1- الملل والنحل : 1 / 9897.

والعقاب؟

وباختصار : إنّ واقعية الكسب إمّا واقعية خارجية موصوفة بالوجود فحينئذ يكون مخلوقاً لله سبحانه ، ولا يكون للعبد نصيب في الفعل ، أو لا تكون له تلك الواقعية بل يكون أمراً وهمياً ذهنياً ، فحينئذ لا يكون العبد مصدراً لشيء حتّى يثاب عليه أو يعاقب.

2. كمال الدين بن همام (861789 ه)

إنّ كمال الدين محمد بن همام الدين مؤلّف كتاب «المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة» (1) تخلّص من المأزق بالقول بتخصيص ما دلّ على حصر الخالقية بالله ، بعزم العبد وقصده ، فكلّ شيء مخلوق لله سبحانه وهو خالقه إلاّ عزم العبد على الطاعة والعصيان فالخالق هو العبد ، وإليك نصّه في ذلك المجال :

فإن قيل : لا شكّ انّه تعالى خلق للعبد قدرة على الأفعال ، ولذا يدرك تفرقة ضرورية بين الحركة المقدورة وغيرها.

قلنا : إنّ براهين وجوب استناد كلّ الحوادث ، إلى القدرة القديمة بالإيجاد ، إنّما تلجئ إلى القول بتعلّق القدرة بالفعل بلا تأثير ، لو لم تكن عمومات تحتمل التخصيص. فأمّا إذا وجد ما يوجب التخصيص فلا. لكن الأمر كذلك. وذلك المخصّص أمر عقلي ، هو أنّ إرادة العموم فيها يستلزم الجبر المحض ، المستلزم لضياع التكليف وبطلان الأمر والنهي.

ثمّ أوضح ذلك بقوله : لو عرّف الله تعالى العبد العاقل أفعالَ الخير والشر ، ثمّ خلق له قدرة أمكنه بها من الفعل والترك ، ثمّ كلّفه بالإتيان بالخير ووعده عليه.

ص : 135


1- طبع في القاهرة مع شرح كمال الدين الشريف.

وترك الشر وأوعده عليه ، بناء على ذلك الإقدار لم يوجب ذلك نقصاً في الألوهية. إذ غاية ما فيه أنّه أقدره على بعض مقدوراته لحكمة صحّة التكليف واتجاه الأمر والنهي. غير أنّ السمع ورد بما يقتضي نسبة الكلّ إليه تعالى بالإيجاد وقطعها عن العباد. فلنفي الجبر المحض وصحّة التكليف وجب التخصيص ، وهو لا يتوقّف على نسبة جميع أفعال العباد إليهم بالإيجاد ، بل يكفي لنفيه أن يقال :

جميع ما يتوقف عليه أفعال الجوارح من الحركات ، وكذا التروك التي هي أفعال النفس من الميل والداعية التي تدعو والاختيار ، بخلق الله تعالى ، لا تأثير لقدرة العبد فيه. وإنّما محلّ قدرته ، عزمه عقيب خلق الله تعالى هذه الأُمور في باطنه عزماً مصمّماً بلا تردّد ، فإذا أوجد العبد ذلك العزم ، خلق الله تعالى له الفعل. فيكون منسوباً إليه تعالى من حيث هو حرّكه ، وإلى العبد من حيث هو زنى ونحوه. فعن ذلك العزم الكائن بقدرة العبد المخلوقة لله تعالى ، صحّ تكليفه وثوابه وعقابه. وكفى في التخصيص تصحيح التكليف هذا الأمر الواحد. أعني : العزم المصمّم. وما سواه ممّا لا يحصى من الأفعال الجزئية والتروك كلّها مخلوقة لله تعالى ومتأثّرة عن قدرته ابتداءً بلا واسطة القدرة الحادثة. (1)

يلاحظ عليه : أنّ المجيب تصوّر أنّ القول بانحصار الخلق بالله سبحانه يستند إلى دليل سمعي قابل للتخصيص كسائر عمومات الكتاب والسنّة في الأحكام الشرعية والسنن. ولكن القول به يستند إلى برهان عقلي غير قابل للتخصيص ، وهو أنّ الممكن في ذاته وفعله قائم بالله سبحانه ، متدلّ به ، وليس يملك لنفسه ذاتاً ولا فعلاً. ولا فرق في ذلك بين الأفعال الخارجية والأفعال القلبية ، أعني : العزم والجزم فالكلّ ممكن ، والممكن يحتاج إلى واجب في وجوده

ص : 136


1- شرح العقائد الطحاوية : 122 - 126 ، نقلاً عن المسايرة.

وتحقّقه ، فينتج أنّ العزم والجزم في وجوده وتحقّقه محتاج إلى الواجب ومعلول لوجوده.

نعم ، لو كان صاحب المسايرة وأساتذته وتلامذته ممّن يفرقون بين الخلقين : خلق على وجه الاستقلال وخلق على النحو التبعي لما صعب عليهم المقام.

3. ابن الخطيب «قدرة الله مانعة عن قدرة العبد»

إنّ لسان الدين ابن الخطيب يرى أنّ الكسب فعل يخلقه الله في العبد ، كما يخلق القدرة والإرادة والعلم فيضاف الفعل إلى الله خلقاً لأنّه خالقه ، وإلى العبد كسباً لأنّه محله الذي قام به - إلى أن قال : - إنّ الطاعة والمعصية للعبد من حيث الكسب ، ولا طاعة ولا معصية من حيث الخلق ، والخلق لا يصحّ أن يضاف إلى العبد ، لأنّه إيجاد من عدم والفعل موجود بالقدرة القديمة لعموم تعلّق القدرة الحادثة بها.

فالقدرة الحادثة تتعلق ولا تؤثّر وهي - القدرة الحادثة - تصلح للتأثير لو لا المانع وهو وجود القدرة القديمة ، لأنّهما إذا تواردتا لم يكن للقدرة الحادثة تأثير. (1)

وحاصل هذه النظرية : أنّ لقدرة العبد شأناً في التأثير لو لا المانع ، ولكن وجود القدرة القديمة مانع عن تأثير قدرة العبد الحادثة ، ولو لا سبق القدرة القديمة لكان المجال للقدرة الحادثة مفتوحاً.

يلاحظ عليه :

أوّلا : إذا كان دور الإنسان في مجال أفعاله دور الظرف والمحل ، فلا معنى

ص : 137


1- القضاء والقدر : 187 نقلاً عن كتاب الفلسفة والأخلاق ، للسان الدين ابن الخطيب : 55. ولا يخفى ما في كلامه من أنّ الكسب فعل يخلقه الله في العبد ، إذ على هذا لم يبق أي دور للعبد.

لإلقاء المسئولية في الشرائع السماوية والأنظمة البشرية على عاتقه ، لأنّ مكان الفعل لا يكون مسئولاً عن الفعل المحقّق فيه ، وقد صرح صاحب النظرية بكون الإنسان محلاً لإعمال قدرته سبحانه.

ثانياً : أنّ ما جاء في هذا البيان يغاير ما عليه الأشعري وأتباعه ، فإنّهم لا يقيمون لقدرة الإنسان وزناً ولا قيمة ، ولكن ابن الخطيب يعتقد بكونها قابلة للتأثير لو لا سبق المانع وهو القدرة القديمة ، ومع ذلك ليس بتام.

وذلك لأنّ فرض المانعية لإحدى القدرتين بالنسبة إلى الأُخرى إنّما يتم لو قلنا بأنّه سبحانه هو الفاعل المباشر لكلّ ما ظهر على صفحة الوجود الإمكاني ، فعند ذاك يصحّ جميع ما تصوّر من أنّ قدرة الإنسان مغلوبة لقدرة الخالق ، ولكنّه لم يثبت ، بل الثابت خلافه ، وأنّ النظام الإمكاني نظام مؤلف من أسباب ومسببات ، وكلّ مسبب يستمد - بإذنه سبحانه - عمّا تقدّمه من السبب تقدّماً زمانياً أو تقدّماً رتبياً وكمالياً.

وعلى ذاك الأصل يسقط حديث مانعية إحدى القدرتين ، بل تُصبح قدرة العبد بالنسبة إلى قدرته تعالى ، مجلى لإرادته ومظهراً لمشيئته ، كيف وقد تعلّقت مشيئته بصدور فعل كلّ فاعل عن مباديه التي أفاضها عليه ، حتّى تكون النار مبدأً للحرارة عن إجبار واضطرار ، والإنسان مصدراً لأفعاله عن قدرة واختيار ، فلو قام كلّ بفعله فقد قام في الجهة الموافقة لإرادة الله لا المضادّة والمخالفة ، فقيام هؤلاء أشبه بقيام الجنود بأمر آمرهم : (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (1) ، (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ). (2)

ثالثاً : أنّ هذه المحاولات والتمحّلات ناشئة عن تصوير القدرتين في عرض

ص : 138


1- الفتح : 4.
2- المدثر : 31.

واحد ، فلأجل ذلك يتصوّر تارة كون قدرته سبحانه مانعاً عن تأثير قدرة العبد ، وأُخرى بأنّه لو تعلّقت قدرة العبد على ما تعلّقت به قدرته ، يلزم توارد القدرتين على مقدور واحد.

ولكن الحقّ كون فعل العبد مقدوراً ومتعلّقاً بهما ، ولا يلزم من ذلك أيّ واحد من المحذورين ، لا محذور التزاحم والتمانع ، ولا محذور اجتماع القدرتين التامتين على مقدور واحد ، وذلك لأنّ قدرة العبد في طول قدرة الله سبحانه ، فالله سبحانه بقدرته الواسعة أوجد العبد وأودع في كيانه القدرة ، وأعطاه الإرادة والحرية والاختيار ، فلو اختار أحد الجانبين فقد أوجده بقدرة مكتسبة من الله سبحانه ، واختيار نابع عن ذاته ، وحريّة هي نفس واقعيته وشخصيته ، فالفعل منتسب إلى الله لكون العبد مع قدرته وإرادته ، وما يحفّ به من الخصوصيات ، قائم بذاته سبحانه ، متدلّية بها ، كما أنّه منتسب إلى الإنسان لكونه باختياره الذاتي وحريته النابعة من نفسه ، اختار أحد الجانبين وصرف قدرته المكتسبة في تحقّقه ، كما قال سبحانه : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (1) ، (وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ). (2)

فنفى عنه الرمي بعد إثباته له ، وأثبت له المشيئة في ظل المشيئة الإلهية.

وما جاء في هذه الآيات من المعارف الإلهية لا يصل إليها إلاّ المتأمّل في آي الذكر الحكيم ، وما نشر عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - حولها ، وعليه «فالفعل فعل الله وهو فعلنا». (3)

ص : 139


1- الأنفال : 17.
2- الإنسان : 30.
3- شرح المنظومة للسبزواري : ص 175 اقتباس من قوله فيها : نفسه ، وإذا ثبت أنّه غير معقول في لنا والفعل فعل الله وهو فعلنا

المرحلة الثالثة: مرحلة الإنكار والإبطال

اشارة

قد تعرّفت على المرحلتين المتقدّمتين اللتين مرّتا على نظرية الكسب وهي فيهما بين التبيين والتطوير - ولكن مشايخ الأشاعرة - عفا الله عنّا وعنهم - وإن بذلوا جهودهم الحثيثة لإيضاحها وتطويرها ، ولكنّهم لم يأتوا بشيء يسمن ويغني من جوع ، أو يروي الغليل - وكان الأمر على هذه الحالة إلى أن بعث الله رجالاً أبطالاً أدركوا خطورة الموقف ، وجفاف النظرية ومضاعفاتها السيّئة ، فنفضوا غبار التقليد عن عقولهم ، وتفكّراتهم ، ونظروا إلى الموضوع نظر متحرّر عن كلّ رأي مسبق ، فجعلوا لقدرة الإنسان نصيباً في أفعاله وأعماله ، منهم :

1. إمام الحرمين الجويني (المتوفّى 478 ه) نسبة الفعل إلى قدرة العبد حقيقة

إنّ أبا المعالي المعروف بإمام الحرمين ، ذهب إلى أنّ لقدرة العباد تأثيراً في أفعالهم ، وأنّ قدرتهم ستنتهي إلى قدرة الله سبحانه وإقداره ، وأنّ عالم الكون مجموعة من الأسباب والمسبّبات ، وكلّ مسبّب يستمد من سببه المقدّم عليه ، وفي الوقت نفسه ، ذاك السبب يستمد من آخر ، إلى أن يصل إلى الله سبحانه. وإليك نص عبارته :

ص : 140

إنّ نفي هذه القدرة والاستطاعة ممّا يأباه العقل والحس ، وأمّا إثبات قدرة لا أثر لها بوجه ، فهو كنفي القدرة أصلاً. وأمّا إثبات تأثير في حالة لا يفعل ، فهو كنفي التأثير ، فلا بدّ إذاً من نسبة فعل العبد إلى قدرته حقيقة لا على وجه الإحداث والخلق ، فإنّ الخلق يشعر باستقلال إيجاده من العدم ، والإنسان كما يحسُّ من نفسه الاقتدار ، يحسّ من نفسه أيضاً عدم الاستقلال. فالفعل يستند وجوده إلى القدرة ، والقدرة يستند وجودها إلى سبب آخر تكون نسبة القدرة إلى ذلك السبب ، كنسبة الفعل إلى القدرة ، وكذلك يستند سبب إلى سبب آخر حتّى ينتهي إلى مسبب الأسباب ، وهو الخالق للأسباب ، ومسبباتها - المستغني على الإطلاق - فإنّ كلّ سبب مهما استغنى من وجه ، محتاج من وجه ، والباري تعالى هو الغني المطلق الذي لا حاجة له ولا فقر. (1)

قال الشهرستاني بعد ما نقل كلامه هذا : وهذا الرأي إنّما أخذه من الحكماء الإلهيّين ، وأبرزه في معرض الكلام. وليس تختص نسبة السبب إلى المسبّب - على أصله - بالفعل والقدرة (قدرة الإنسان) بل كلّ ما يوجد من الحوادث فذلك حكمة ، وحينئذ يلزم القول بالطبع وتأثير الأجسام في الأجسام إيجاداً ، وتأثير الطبائع في الطبائع إحداثاً ، وليس ذلك مذهب الإسلاميّين ، كيف ، ورأي المحقّقين من العلماء أنّ الجسم لا يؤثر في الجسم. (2)

هذا هو ما علّقه الشهرستاني على كلام إمام الحرمين وآخذه عليه ، وهو غير صحيح. فإنّ المراد من العلّية الطبيعية بين الأجسام والمظاهر المادية ، ليس هو الإيجاد والإحداث من كتم العدم ، بل المراد هو تفاعل الأجسام والطبائع ، بعضها

ص : 141


1- الملل والنحل : 1 / 9998.
2- المصدر نفسه.

مع بعض بإذنه سبحانه ، كانقلاب الماء إلى البخار ، والمواد الأرضية إلى الأزهار والأشجار ، وغير ذلك ممّا كشف عنه الحسّ والعلم.

وأمّا الصور الطارئة على الطبائع عند التفاعل والانقلاب كصور الزَّهْر والشجر ، فليست مستندة إلى نفس الطبائع ، بل الطبائع معدات وممهدات لنزول هذه الصور من علل عليا ، كشف عنها الذكر الحكيم عند ما صرح بأنّ لعالم الكون مدبرات يدبرونه بإذنه سبحانه ، قال : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً). (1)

إنّ كون العبد فاعلاً لفعله ، وعالم الطبائع مؤثراً في آثاره فإنّما هو بمعنى كونهما «ما به الوجود» لا «ما منه الوجود» ، وكم من فرق بين التعبيرين. فمن اعترف بالتأثير فقد اعترف بالمعنى الأوّل والسببية الناقصة ، لا بالمعنى الثاني ، أعني إفاضة الوجود ، والخلق بالمعنى القائم بالله سبحانه ، فإنّ الخلق فيض يُبتدئ منه سبحانه ، ويجري في القوابل والقوالب فيتجلّى في كلّ مورد بصورة وشكل ، والإنسان بما أنّه مجبول على الاختيار ، يصرف باختياره ما أُفيض عليه في مكان دون مكان وفي صورة دون صورة. نعم ليس لغيره من الطبائع إلاّ طريق واحد وتجلّ فارد.

وأظن أنّ الشهرستاني لو وقف على الفرق بين الفاعلين ، لما اعترض على كلام إمام الحرمين - بأنّه ليس من مذهب الإسلاميين - نعم هو ليس من مذاهب الحنابلة والأشاعرة ، وأمّا العدلية بعامة طوائفها فهم قائلون بذلك ، وقد عرفت قضاء القرآن والعقل في ذاك المجال.

ص : 142


1- النازعات : 5

2. أحمد بن تيمية (662 - 728 ه) يعترف بتأثر قدرة العبد

إنّ أحمد بن تيمية من دعاة السلفية في القرن الثامن ، وهو الذي أحيا مذهب السلف ، بعد اندراسه ، ودعا إليه بحماس وخالف الرأي العام في مسائل عديدة في العقائد والفقه ، وأخذ برأي أهل الحديث في عامّة الموارد ، حتّى في إجلاسه سبحانه فوق عرشه ، ووصفه بأنّ له أطيطاً كأطيط الرحل ، إلاّ أنّه خالفهم في تأثير العلل الطبيعية وقدرة العبد واستطاعته ، وأنّما عدل عن آرائهم في هذا الموضوع وأخذ برأي العدلية من الإمامية والمعتزلة لأجل قوة البراهين التي أقامها العلاّمة الحلي رداً على قول الأشاعرة بأنّه لا دور للعبد في أفعاله ، وذلك لأنّ مقالة مثل هذه تستلزم أشياء شنيعة.

فلم يجد ابن تيمية محيصاً إلاّ العدول عن رأي أهل الحديث والانسلاك في صفوف العدلية ، وممّا يقضى به العجب انّه نسب مختاره إلى جمهور أهل السنّة المثبتين للقدر ، وكأنّ الإمام أحمد أو الإمام الأشعري ليسا من أئمة أهل السنّة.

وعلى كلّ تقدير ، فهذا نصّ كلامه :

إنّ جمهور أهل السنّة المثبتين للقدر ، لا يقولون بما ذكره ، بل جمهورهم يقولون بأنّ العبد فاعل حقيقة ، وأنّ له قدرة حقيقية واستطاعة حقيقية ، وهم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية بل يقرّون بما دلّ عليه العقل من أنّ الله تعالى يخلق السحاب بالرياح ، ويُنزّل الماء بالسحاب ويُنبِت النباتَ بالماء ، ولا يقولون بأنّ قوى الطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها ، بل يقرون أنّ لها تأثيراً لفظاً ومعنى.

ولكن هذا القول الذي حكاه هو (العلاّمة الحلّي) قول بعض المثبتة للقدر كالأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد ، حيث لا

ص : 143

يثبتون في المخلوقات قوى الطبائع ويقولون : إنّ الله فعل عندها لا بها ، ويقولون : إنّ قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل ، وأبلغ من ذلك قول الأشعري بأنّ الله فاعل فعل العبد ، وأنّ عمل العبد ليس فعلاً للعبد ، بل كسب له ، وإنّما هو فعل الله ، وجمهور الناس من أهل السنّة من جميع الطوائف على خلاف ذلك ، وأنّ العبد فاعل لفعله حقيقة. (1)

أقول : إنّ الإمام في العقائد لدى أهل السنّة ، هو الإمام أحمد ، وبعده الإمام الأشعري ، والمفروض أنّهم لا يقولون بتأثير قدرة العبد في فعله ، ومعه : كيف يمكن أن ينسب إلى أهل السنّة غيره؟!

والحقّ أنّ ابن تيمية من رماة القول على عواهنه فيقضي ويبرم وينقض من دون أن يصدر من مصدر صحيح.

والعجب انّه ينسب إلى أهل السنّة بأنّهم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية!!

كيف يقول ذلك والأزهر والأزهريون يردّدون في ألسنتهم قول القائل :

ومن يقل بالطبع أو بالعلة *** فذاك كفر عند أهل الملة

3. نظرية الشعراني (973911 ه) وتأثير قدرة العبد في فعله

إنّ الشيخ الشعراني مؤلف كتاب «اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر» من أقطاب الحديث والكلام والتصوف ، فقد أدرك بصفاء ذهنه انّ الاعتقاد بالكسب لا يتفارق الجبر قدر شعرة ، فحاول أن يعالج المسألة من طريق

ص : 144


1- منهاج السنة : 1 / 266.

الكشف فقال :

اعلم يا أخي أنّ هذه المسألة من أدقّ مسائل الأُصول وأغمضها ، ولا يُزيل إشكالها إلاّ الكشف الصوفي ، أمّا أرباب العقول من الفِرَق فهم تائهون في إدراكها ، وآراؤهم فيها مضطربة. إذ كان أبو الحسن الأشعري يقول : ليس للقدرة الحادثة (قدرة العبد) أثر ، وإنّما تعلّقها بالمقدور مثل تعلّق العلم بالمعلوم في عدم التأثير.

وقد اعترض عليه بأنّ القدرة الحادثة إذا لم يكن لها أثر فوجودها وعدمها سواء ، فإنّ قدرة لا يقع بها المقدور ، بمثابة العجز. ولقوة هذا الاعتراض لجأ أصحاب الأشعري إلى القول بالجبر. وقال آخرون إنّ لها تأثيراً ما ، وهو اختيار الباقلاني ، لكنّه لما سئل عن كيفية هذا التأثير في حين التزامه باستقلال القدرة القديمة في خلق الأفعال ، لم يجد جواباً. وقال : إنّا نلتزم بالكسب لأنّه ثابت بالدليل ، غير أنّي لا يمكنني الإفصاح عنه بعبارة. وتمثل الشيخ أبو طاهر بقول الشاعر :

إذا لم يكن إلاّ الأسنّة مركباً *** فلا رأي للمضطر إلاّ ركوبها

ثمّ قال : ملخص الأمر : أنّ من زعم أنّه لا عمل للعبد ، فقد عاند ، ومن زعم أنّه مستبد بالعمل ، فقد أشرك ؛ فلا بدّ من القول بأنّه مضطر على الاختيار. (1)

هذا ، وقد أحسن الشيخ في نقد الكسب ولكن الإحالة إلى الكشف الصوفي إحالة إلى المجهول ، أو إحالة إلى إدراك شخصي لا يكون حجّة للغير.

ص : 145


1- اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر : 139 - 141.

4. الشيخ عبده (13231266 ه) ، وتأثير قدرة العبد في فعله

لم نجد بين رحيل الشيخ الشعراني عام 937 ه - إلى عصر مفتي الديار المصرية من ينفض غبار التقليد عن تفكيره ، ولعلّ في هذه الفترة رجالاً أحراراً في التفكير ، وصلوا إلى ما وصل إليه إمام الحرمين ومن جاء بعده ، وعلى كلّ تقدير فقد خالف الشيخ محمد عبده ، الرأي السائد على الأزهر والأزهريين وقام بوجههم وصرح بتأثير قدرة العبد في فعله.

كانت العقيدة الإسلامية في مصر تتجلّى في المذهب الأشعري وكان إنكار العلّية والمعلولية والرابطة الطبيعية بين الطبائع وآثارها من أبرز سمات ذاك المذهب ، وكان التفوّه بخلافه ، آية الإلحاد والكفر ، وقد شنّ الماديون على هذه العقيدة أُموراً ملئوا بها صحفهم وكتبهم ، منها :

1. إنّ الإلهيّين لا يعترفون بناموس العلّية والمعلولية ، وينكرون الروابط الطبيعية بين الأشياء وآثارها ، مع أنّ العلم - بأساليبه التجريبية المختلفة - يثبت ذلك بوضوح.

2. إنّ الإلهيّين يعترفون بعلّة واحدة وهي الله تعالى ، وهم يقيمونه مقام جميع العلل ، وينسبون كلّ ظاهرة مادية إليه سبحانه ، وأحياناً إلى العوالم العِلْوية التي يعبّر عنها بالملك والجن والروح.

3. إنّ الإلهيّين - بسبب قولهم بأنّ أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه - لا يعتقدون بدور للإنسان في حياته وعيشه ، فهو مجبور في السير على الخط الذي يرسمه له خالقه ، ومكتوف الأيدي أمام تلاطم أمواج الحوادث ، فلأجل ذلك لا يؤثّر في الإنسان شيء من الأساليب التربوية ولا يغيره إلى حال.

إلى غير ذلك من الإشكالات والمضاعفات والتوالي الفاسدة ، التي لا تقف

ص : 146

عند حدّ.

وقد وقف الشيخ عبده على خطورة الموقف ، وأنّه ممّا يستحقّ أن يشتري لنفسه اللومَ والذمَ ، بل الأمرَ الأشد من ذلك ، في سبيل إظهاره الحقيقة ، حتّى يدفع الهجمات الشعواء عن وجه الإسلام والمسلمين بقوة ورصانة.

نعم ، قد أثّر في تفكير الشيخ عبده وأوجد فيه هذا الحافز والاندفاع ، عاملان كبيران ، كان لهما الأثر البالغ في بناء شخصيته الفكرية والفلسفية والاجتماعية والسياسية ، وهما :

1. اطّلاعه على نهج البلاغة للإمام أمير المؤمنين - عليه السلام - في منفاه (بيروت).

2. اتّصاله بالسيد المجاهد جمال الدين الأسدآبادي (1254 - 1316 ه).

ففي ضوء هذين العاملين ، خالف الرأي العام في كثير من الموارد ، ومنها أفعال العباد ، فقال في رسالة التوحيد التي كتبها عام 1303 ه - للتدريس في المدارس الإسلامية في بيروت سنة إقصائه من مصر إليها وقد وقف على نهج البلاغة في منفاه - :

يشهد سليم العقل والحواسّ من نفسه أنّه موجود ولا يحتاج في ذلك إلى دليل يهديه ، ولا معلم يرشده ، كذلك يشهد أنّه مدرك لأعماله الاختيارية ، يزن نتائجها بعقله ، ويقدّرها بإرادته ، ثمّ يصدرها بقدرة ما فيه ، ويعد إنكار شيء من ذلك مساوياً لإنكار وجوده في مجافاته لبداهة العقل.

كما يشهد بذلك في نفسه يشهده أيضاً في بني نوعه كافة ، متى كانوا مثله في سلامة العقل والحواس ... وعلى هذا قامت الشرائع ، وبه استقامت التكاليف ، ومن أنكر شيئاً منه فقد أنكر مكان الإيمان من نفسه ، وهو عقله الذي شرفه الله بالخطاب في أوامره ونواهيه.

ص : 147

إلى أن قال : ودعوى أنّ الاعتقاد بكسب العبد. (1) لأفعاله يؤدي إلى الإشراك بالله - وهو الظلم العظيم - دعوى من لم يلتفت إلى معنى الإشراك على ما جاء به الكتاب والسنّة ، فالإشراك اعتقاد أنّ لغير الله أثراً فوق ما وهبه الله من الأسباب الظاهرة ، وأنّ لشيء من الأشياء سلطاناً على ما خرج عن قدرة المخلوقين ، وهو اعتقاد من يعظِّم سوى الله مستعيناً به في ما لا يقدر العبد عليه ....

جاءت الشريعة لتقرير أمرين عظيمين ، هما ركنا السعادة وقوام الأعمال البشرية :

الأوّل : إنّ العبد يكسب بإرادته وقدرته ما هو وسيلة لسعادته.

والثاني : إنّ قدرة الله هي مرجع لجميع الكائنات ، وإنّ من آثارها ما يحول بين العبد وبين إنفاذ ما يريده ، وإنّ لا شيء سوى الله يمكن له أن يمدّ العبد بالمعونة فيما لم يبلغه كسبه.

وقد كلّفه سبحانه أن يرفع همّته إلى استمداد العون منه وحده ، بعد أن يكون قد أفرغ ما عنده من الجهد في تصحيح الفكر وإجادة العمل. وهذا الذي قرّرناه قد اهتدى إليه سلف الأُمّة ، فقاموا من الأعمال بما عجبت له الأُمم ، وعوّل عليه من متأخّري أهل النظر إمام الحرمين الجويني ، وإن أنكر عليه بعض من لم يفهمه. (2)

ص : 148


1- ولعلّه استخدم لفظ الكسب ليكون واجهة لبيان مقصده بتعبير مقبول عند أهل السنّة وإلاّ فما ذكره لا صلة له بالكسب المصطلح ، إلاّ أن يريد الكسب القرآني ، أعني قوله سبحانه : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) البقرة : 286.
2- رسالة التوحيد : 59 - 62 بتلخيص.

5. الزرقاني والجمع بين النصوص

إنّ الشيخ محمد بن عبد العظيم الزرقاني مؤلّف كتاب «مناهل العرفان في علوم القرآن» أحد المحقّقين في العلوم القرآنية ، وكتابه هذا ، يدلّ على سعة باعه واطّلاعه ونزاهة قلمه ودماثة خلقه مع المخالفين ، فقد طرح في كتابه مسألة خلق الأفعال وقال : ولنعلم أنّ المتخالفين في ذلك ما زالوا مع خلافهم ، إخواناً مسلمين ، تظلّهم راية القرآن ويضمّهم لواء الإسلام.

في القرآن الكريم والسنّة النبوية نصوص كثيرة على أنّ الله تعالى خالق كلّ شيء ، وانّ مرجع كلّ شيء إليه وحده ، وانّ هداية الخلق وضلالهم بيده سبحانه ، ثمّ ذكر شيئاً من الآيات والروايات الواردة في هذا الصدد.

ثمّ قال : بجانب هذا توجد نصوص كثيرة أيضاً من الكتاب والسنّة ، تنسب أعمال العباد إليهم وتعلن رضوان الله وحبّه للمحسنين فيها ، كما تعلن غضبه وبغضه للمسيئين ، ثمّ ذكر قسماً من الآيات والروايات الدالّة على ذلك ، ثمّ خرج بالنتيجة التالية :

إنّ أهل السنّة بهرتهم النصوص الأُولى فقالوا : إنّ العبد لا يخلق أفعالَ نفسه الاختيارية وإنّما هي خلق الله وحده. وإذا قيل لهم : كيف يثاب المرء أو يعاقب على عمل لم يوجده هو؟ وكيف يتّفق هذا وما هو مقرر من عدالة الله وحكمته في تكليف خلقه؟ قالوا : إنّ العباد - وإن لم يكونوا خالقين لأعمالهم - كاسبون لها. وهذا الكسب هو مناط التكليف ومدار الثواب والعقاب ، وبه يتحقّق عدل الله وحكمته فيما شرع للمكلّفين.

وهكذا حملوا النصوص الأُولى على الخلق وحملوا الثانية على

ص : 149

الكسب جمعاً بين الأدلّة.

أمّا المعتزلة فقد بهرتهم النصوصُ الثانية وما يظاهرها من برهان العقل فرجّحوها وقالوا : إنّ العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية. وإذا قيل لهم : أليس الله خالق كلّ شيء ومنها أعمال العبد؟ قالوا : بلى إنّه خالق كلّ شيء حتّى أعمال عباده الاختيارية ، بيد أنّه خلق بعض الأشياء بلا واسطة وخلق بعضها الآخر بواسطة ، وأعمال المكلّفين من القبيل الثاني ، خلقها الله بوساطة خلق آلاتها فيه ، وآلاتها هي القدرة الكلية والإرادة الكلية الصالحتان للتعلق بكلّ من الطرفين. وليس لنا من حول ولا قوة سوى أنّنا استعملناها على أحد وجهيها ، إمّا بحسن الاختيار وإمّا بسوء الاختيار. ثمّ لا مانع عندنا من القول بأنّه سبحانه خالق لأفعال عباده ، ولكن على سبيل المجاز ، باعتبار أنّه خالق أسبابها ووسائلها.

ثمّ قال هو : ولقد كان سلفنا الصالح يؤمنون بوحدانية الله وعدله ، ويؤمنون بقدره وأمره ، ويؤمنون بهذه النصوص وتلك النصوص ، ويؤمنون بأنّ العبد يعمل ما يعمل وأنّ الله خالق كلّ شيء ، ويؤمنون بأنّه تعالى تنزّه في قدره عن أن يكون مغلوباً أو عاجزاً ، وتنزّه في أمره وتكليفه عن أن يكون ظالماً أو عابثاً. ثمّ بعد ذلك يصمتون ، فلا يخوضون في تحديد نصيب عمل الإنسان الاختياري من قدرة الله ، ونصيبه من قدرة العبد. ولا يتعرّضون لبيان مدى ما يبلغ فعل الله في قدره ، ولا لبيان مدى ما يبلغ فعل العبد في امتثال أمره ، ذلك ما لم يعلموه ولم يحاولوه ، لأنّهم لم يكلّفوه ، وكان سبحانه أرحم بعباده من أن يكلّفهم إيّاه ، لأنّه من أسرار القدر أو يكاد ، والعقل البشري محدود التفكير ضعيف الاستعداد. ومن شره العقول طلب ما لا سبيل لها إليه (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً).

ص : 150

لم يمتحنّا بما تعيا العقولُ به *** حرصاً علينا فلم نرتب ولم نهمِ(1)

6. الشيخ شلتوت (13831310 ه) العبد فاعل بإرادته وقدرته

اشارة

إنّ الشيخ شلتوت أحد المجتهدين الأحرار في القرن الماضي لا تأخذه في الله لومة لائم ، فإذا شاهد الحق أجهر به ، ولا يطلب رضى أحد ، ولا يخاف غضب آخر ، فهو ممّن اعترف بحرية الإنسان في مجال العمل ، قال :

وقد تناول علماء الكلام في القديم والحديث هذه المسألة ، وعُرِفت عندهم بمسألة الهدى والضلال ، أو بمسألة الجبر والاختيار ، أو بمسألة خلق الأفعال ، وكان لهم فيها آراء فرّقوا بها كلمة المسلمين ، وزلزلوا بها عقائد الموحدين العاملين ، وصرفوا الناس بنقاشهم في المذاهب والآراء عن العمل الذي طلبه الله من عباده ، وأخذوا يتقاذفون فيما بينهم بالإلحاد والزندقة ، والتكفير والتفسيق ، وما كان الله - وآياته بينات واضحات - ليقيم لهم وزناً فيما وقفوا عنده ، وداروا حوله ، ودفعوا الناس إليه.

ثمّ إنّ ذلك العيلم بعد ما ذكر آراء السلف المختلفة قال :

والذي نراه كما قلنا أنّ للعبد قدرة وإرادة ولم يخلقهما الله فيه عبثاً ، بل خلقهما ليكونا مناط التكليف ومناط الجزاء وأساس نسبة الأفعال إلى العبد نسبة حقيقية ، والله يترك عبده وما يختار لنفسه ، فإن اختار الخير تركه فيه

ص : 151


1- مناهل العرفان في علوم القرآن : 1 / 506 - 511 ، والشعر جزء من قصيدة البوصيري في مدح النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -.

يدعوه سابقه إلى لاحقه ، ولا يمنعه بقدرته الإلهية عن استمراره فيه ؛ وإن اختار الشر ، تركه فيه يدعوه سابقه إلى لاحقه ، ولا يمنعه بقدرته الإلهية عن استمراره فيه ، والعبد وقدرته واختياره كل ذلك بمشيئة الله وقدرته وتحت قهره ، ولو شاء لسلب قوة الخير فكان العبد شرّاً بطبعه لا خير فيه ، ولو شاء لسلبه قوة الشر فكان خيراً بطبعه لا شر فيه ، ولكن حكمته الإلهية في التكليف والابتلاء ، قضت بما رسم ، وكان فضل الله على الناس عظيماً.

ومن هنا يتبين أنّ العبد ليس مجبوراً ، لا ظاهراً ولا باطناً ، ولا مجزياً على ضلاله بإضلال الله إياه ، فإنّ هذا أمر تأباه حكمة الحكيم وعدل العادل ، وتمنع تصوّرَه.

القضاء والقدر لا يستلزمان الجبر

وبهذا يكون المؤمنون عمليّين ، لا يعتذر الواحد منهم عن تقصير في واجب بالقضاء والقدر ، فليس في القضاء والقدر إلاّ العدل المطلق ، والحكمة الشاملة العامة ، ليس فيهما إلاّ الحكم والترتيب ، وربط الأسباب بالمسببات على سنّة دائمة مطّردة ، هي أصل الخلق كلّه ، وهي أساس الشرائع كلّها ، وهي أساس الحساب والجزاء عند الله ، وليس فيهما شيء من معاني الإكراه والإلزام. وإنّما معناهما الحكم والترتيب ، فقضى : حكم وأمر ، وقدر : رتب ونظم ، وعلم الله بما سيكون من العبد باختياره وطوعه - شأن المحيط علمُه بكلّ شيء - ليس فيه معنى إلزام العبد بما علم الله أنّه سيكون منه ، وإنّما هو العلم الكامل الذي لا يقصر عن شيء في الأرض ولا في السماء ، ولا فيما كان وما يكون. (1)

وبذلك تمت المراحل التي مرّت على نظرية الكسب التي شغلت بالَ

ص : 152


1- تفسير القرآن الكريم ، للشيخ شلتوت : 240 - 242.

المفكّرين عدة قرون وتركتْ بصماتِها على ثقافة المسلمين وعلى حياتهم بحجة انّ الإنسان مكتوف اليد ، ليس له ولا لقدرته وإرادته أيُّ أثر في حياته.

قال أحمد أمين : غالت المعتزلة ، بحرية الإرادة ، وغلوا فيها أمام قوم ، سلَبُوا الانسانَ إرادتَه ، حتّى جعلوه كالريشة في مهب الريح ، أو كالخشبة في اليمّ. وعندي انّ الخطأ في القول بسلطان العقل ، وحرية الإرادة ، والغلوّ فيهما ، خير من الغلوّ في أضدادهما ، وفي رأيي انّه لو سادت تعاليم المعتزلة إلى اليوم كان للمسلمين موقف آخر في التاريخ غير موقفهم الحالي ، وقد أعجزهم التسليمُ وشلّهم الجبرُ ، وقعد بهم التواكل. (1)

ولو كان الكاتب واقفاً على منهج أئمّة أهل البيت في حرية الإنسان ، وحدود سلطان العقل لأذعن بأنّ المنهج في تحديد الحرية ، خال عن الغلوّ ، وانّه أعطى لكلّ حقّه ، فما عاقه القول بالتوحيد في الخالقية ، عن القول بحرية الإنسان ، وانّ مصيره من حيث السعادة والشقاء بيده ، كما لم يمنعه القول بتأثير قدرة العبد في انتخابه واختياره عن القول بالتوحيد في الأفعال ، وانّ كلّ ما في الكون من دقيق وجليل قائم به سبحانه ، ومفاض منه عبر العلل والأسباب.

لم يزل النقاش والجدال قائماً بين الأشاعرة والمعتزلة على قدم وساق ، وكلّ يتهم الآخر بأشنع التهم ، فالأشعري يتّهم المعتزلي بالشرك وانّ القول باستقلال الإنسان في فعله يستلزم أن يكون لله شركاء بعدد الإنسان وهم عباده المكلّفون ، وهذا يناقض عقيدة التوحيد ، وبرهان الوحدانية ؛ كما أنّ المعتزلة تتّهم الأشاعرة بأنّ قولهم بخلق الأعمال لا يتّفق مع القول بعدله وحكمته سبحانه ، إذ كيف يثاب المرء أو يعاقب على عمل لم يوجده.

ص : 153


1- ضحى الإسلام : 3 / 7.

ولو رجع روّاد المنهجين ، إلى منهج أئمّة أهل البيت لوقفوا على الحقّ الصراح ، وانّ القول بالتوحيد في الخالقية لا يزاحم القول بالعدل والحكمة ، (بشرط أن يفسر على النهج الصحيح) وانّ بين الأصلين كمال التلاؤم.

رُوي انّ القاضي عبد الجبار المعتزلي (المتوفّى 415) دخل دارَ الصاحب بن عباد فرأى فيه أبا إسحاق الأسفرائيني الأشعري (المتوفّى 413 ه) فقال القاضي : سبحان من تنزّه عن الفحشاء (يريد بذلك انّ القول بخلق الاعمال يستلزم انّه سبحانه خلق الفحشاء) ، فأجابه أبو إسحاق : سبحان من لا يجري في ملكه إلاّ ما شاء ، ويريد انّ القول بوقوع أفعال العباد بلا مشيئة منه سبحانه يستلزم القول بتحقّق أُمور خارجة عن سلطانه. (1)

ولو تتلمذ عميدا المعتزلة والأشاعرة على خريجي منهج أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - لوقفا على أنّ الشعارين غير متزاحمين ، فالله سبحانه في الوقت الذي تنزّه عن الفحشاء لا يجري في ملكه إلاّ ما شاء ، فَجعْلُ كلّ من الشعارين مقابلاً للآخر رهن الجمود على القول بعموم الخلقة على التفسير الذي سار عليه الأشعري ، وعلى انقطاع فعل العبد عن قدرته سبحانه على النحو الذي سار عليه المعتزلة.

هذا تمام الكلام حول نظرية الكسب ، ومراحلها التي مرّت بها وما لها من التوالي والمضاعفات.

بقيت هنا عدّة أُمور نذكرها تباعاً في خاتمة المطاف.

ص : 154


1- شرح المقاصد : 2 / 145 ؛ شرح المواقف : 8 / 156.

5- خاتمة المطاف

اشارة

وفيها أُمور :

الأمر الأوّل: نسبة فعل العبد إلى الله فوق التسبيب

ربما يقال : انّ نسبة فعل العبد إلى الله سبحانه نسبةُ المسبَّب إلى السبب ، والله سبحانه خلق الإنسان وزوّده بالقدرة فهو يفعل بقدرته سبحانه ، وبما انّ العبد والقدرة من أفعاله سبحانه ، يكون الصادر عن قدرة العبد فعلاً له سبحانه تسبيباً.

أقول : إنّ حديث التسبيب هو متلقّى النظر الساذج وكفى في النجاة الاعتقاد بذلك.

وأمّا في النظرة الدقيقة فانّ نسبة فعل العبد إلى الله سبحانه فوق ذلك ، لأنّ العالم الإمكاني بجواهره وأعراضه وطبائعه ومجرداته فقير بالذات لا يملك لنفسه شيئاً من الوجود ، فالجميع قائم بالله سبحانه قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ، فلا يُمكن الفصل بين الوجود الإمكاني ووجود الواجب ، فانّ الفصل آية الغناء ، وهو يلازم الوجوب والمفروض انّه فقير بالذات حدوثاً وبقاء.

ص : 155

وأفضل جملة تعبر عن هذه العلقة الوثيقة قوله سبحانه : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (1) وقوله سبحانه : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) (2) ومفاد هاتين الآيتين هو كونه سبحانه مع كلّ موجود إمكاني من دون فرق بين الإنسان وفعله.

وليس المراد من المعية هو حلوله سبحانه في ذوات الأشياء وآثارها ، بل المراد هو المعية القيومية.

وقد ذكر صدر المتألّهين تمثيلاً في المقام ، وإليك بيانه :

إذا أردت التمثيل لتبيين كون الفعل الواحد فعلاً لشخصين على الحقيقة ، فلاحظ النفس الإنسانية ، وقواها ، فالله سبحانه خلقها مثالاً ، ذاتاً وصفة وفعلاً ، لذاته وصفاته وأفعاله ، قال سبحانه : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ). (3) وقد أُثر عن النبي والوصي القول بأنّه «من عرف نفسه ، عرف ربّه». (4)

إنّ فعل كلّ حاسّة وقوة من حيث هو فعل تلك القوة ، فعل النفس أيضاً ، فالباصرة ليس لها شأن إلاّ إحضار الصورة المبصرة ، أو انفعال البصر منها ، وكذلك السامعة ، فشأنها إحضار الهيئة المسموعة أو انفعالها بها ، ومع ذلك فكلّ من الفعلين ، كما هو فعل القوة ، فعل النفس أيضاً ، لأنّها السميعة البصيرة في

ص : 156


1- الحديد : 4.
2- المجادلة : 7.
3- الذاريات : 20 - 21.
4- غرر الحكم : 268 ، طبعة النجف. وروي عن أمير المؤمنين - عليه السلام - قوله : «أعلمكم بنفسه أعلمكم بربه» أمالي المرتضى : 2 / 329.

الحقيقة ، وليس شأن النفس استخدام القوى بل هو فوق ذلك. لأنّا إذا راجعنا إلى وجداننا نجد انّ نفوسنا بعينها الشاعرة في كلّ إدراك جزئي ، وشعور حسّي ، كما أنّها المتحركة بكلّ حركة طبيعية أو حيوانية منسوبة إلى قواها. وبهذا يتّضح انّ النفس بنفسها في العين قوّة باصرة ، وفي الأُذن قوة سامعة ، وفي اليد قوة باطشة ، وفي الرِّجل قوّة ماشية ، وهكذا الأمر في سائر القوى التي في الأعضاء ، فبها تبصر العين وتسمع الأُذن وتمشي الرجل. فالنفس مع وحدتها وتجرّدها عن البدن وقواه وأعضائه ، لا يخلو منها عضو من الأعضاء عالياً كان أو سافلاً ، ولا تبائنها قوة من القوى مدركة كانت أو محركة ، حيوانية كانت أو طبيعية.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّه كما ليس في الوجود شأن إلاّ وهو شأنه ، كذلك ليس في الوجود فعل إلاّ فعله ، لا بمعنى أنّ فعل زيد مثلاً ليس صادراً عنه ، بل بمعنى انّ فعل زيد مع أنّه فعله بالحقيقة دون المجاز فهو فعل الله بالحقيقة. فكما أنّ وجود زيد بعينه أمر متحقّق في الواقع ، منسوب إلى زيد بالحقيقة لا بالمجاز ، وهو مع ذلك شأن من شئون الحقّ الأوّل ، فكذلك علمه وإرادته وحركته وسكونه وجميع ما يصدر عنه منسوب إليه بالحقيقة لا بالمجاز والكذب. فالإنسان فاعل لما يصدر عنه ومع ذلك ففعله أحد أفاعيل الحقّ الأوّل على الوجه اللائق بذاته سبحانه. (1)

وفي الحديث القدسي إلماع إلى هذا النوع من النسبة بين الخالق والمخلوق ، قال : «يا ابن آدم بمشيئتي كنتَ أنتَ الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبقوتي أدّيتَ إليّ فرائضي ، وبنعمتي قويتَ على معصيتي ، جعلتك سميعاً بصيراً قوياً». (2)

ص : 157


1- الأسفار : 6 / 377 - 378 ، وص 374.
2- البحار : 5 / 57.

فالأشاعرة خلعوا الأسباب والعلل وهي جنود الله سبحانه ، عن مقام التأثير والإيجاد. كما أنّ المفوّضة عزلتْ سلطانَه عن ملكه وجعلت بعضاً منه في سلطان غيره. والحقّ الذي أيّده البرهان ويصدّقه الكتاب كون الفعل موجوداً بقدرتين ، لكن لا بقدرتين متساويتين ولا بمعنى علّتين تامّتين بل بمعنى كون الثانية من مظاهر القدرة الأُولى وشئونها وجنودها ، (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ). (1)

ص : 158


1- المدثر : 31.

الأمر الثاني: تنمية العلم في ظلّ القول بنظام الأسباب والمسبّبات

قد أوضحنا في محاضراتنا في «الإلهيات» انّ القول بأنّ المادة لم تزل أزلية ، ولو صارت ذات سنن وقوانين فإنّما هي وليدة الصدفة ، لا يدفع بالإنسان إلى التحقيق وسبر أغوار الطبيعة ، وذلك إذ لا علم له بوجود سنن وأنظمة في داخل العالم حتّى يبحث عنه الإنسان ، فلا محيص للباحث في سنن العالم والمستطلع للحقائق السائدة فيه - قبل الفحص عن السنن - عن اعتناق نظرية الخلقة وهي انّ العالَم مصنوع علم وقدرة واسعة ، أخرجه من العدم إلى الوجود وأجرى فيه سنناً وأنظمة.

والحاصل : انّ الذي يبعث الإنسان إلى الفحص عن النظم والسنن هو نظرية الإلهيّين وهو انّ العالم مخلوق موجود واجب عالم قد مر ، وأمّا النظرية الأُخرى أي عدم تدخّل علم وقدرة في النظم والسنن فيعرقل خُطى الباحث عن الغور في العالم.

هذا هو الذي أوضحنا حاله في «الإلهيات».

فنقول : إنّ إنكار العلل والمعاليل والأسباب والمسبّبات والاعتقاد بعلّة واحدة مكان العلل نظير القول بأنّ النظام مخلوق صدفة ، وذلك لأنّ الذي يبعث الباحث عن الوجود وأسراره هو اعتقاده بأنّ كلّ ذرة في ذات هذا العالم مشتملة

ص : 159

على قانون يريد أن يستكشفه ويفرغه في قالب العلم ، وأمّا إذا اعتقد خلاف ذلك وانّه ليس للعالم إلاّ علّة واحدة وأنكر الأنظمة والسنن فلا يجد في نفسه باعثاً نحو الفحص والتحقيق ، إذ لا علم له بوجود السنن والأنظمة حتّى يبحث عنها ، فدعامة العلم لا تقوم إلاّ بالقول بأنّه سبحانه تبارك وتعالى خلق العالم على نظام خاص وأجرى فيه شيئاً هو مظاهر علمه وقدرته.

وقد جرت سنّة الله تعالى على خلق الأشياء بأسبابها ، فجعل لكلّ شيء سبباً وللسبب سبباً إلى أن ينتهي إلى الله سبحانه ، والمجموع من الأسباب الطولية علّة واحدة تامّة كافية لايجاد الفعل ، ونكتفي في المقام بكلمة عن الإمام الصادق - عليه السلام - حيث قال : «أبى الله أن يجري الأشياء إلاّ بأسباب ، فجعل لكلّ شيء سبباً وجعل لكلّ سبب شرحاً». (1)

الأمر الثالث نظرية «مالبرانس»

إنّ المنقول عن الفيلسوف الفرنسي «مالبرانس» (1631 - 1715 م) يتّحد مع نظرية الأشعري حرفاً بحرف ، ومن المظنون أنّه وقف على بعض الكتب الكلامية للأشاعرة ، فأفرغ نظرية الكسب حسب ما تلقّاه من تلك الكتب في كتابه ، وحاصل ما قال :

إنّ كلّ فعل إنّما هو في الحقيقة لله ، ولكن يظهر على نحو ما يظهر ، إذا تحقّقت ظروف خاصة إنسانية أو غير إنسانية حتّى لكأنّها يخيّل للإنسان أنّ الظروف هي التي أوجدته.

فهذه النظرية أولى بأن تسمّى بنظرية الاتّفاقية ، أو نظرية الظروف

ص : 160


1- الكافي : 1 / 183 ، باب معرفة الإمام ، الحديث 7.

والمناسبات ، وهي نفس نظرية الأشعري حيث يرى أنّه لا تأثير للقدرة الحادثة في الأحداث ، وإنّما جرت سنّة الله بأن يلازم بين الفعل المحدَث وبين القدرة المحدثة (بالكسر) له إذا أراد العبد وتجرد له ، ويسمى هذا الفعل كسباً. فيكون خلقاً من الله ، وكسباً من العبد ، عند ما يقع في متناول قدرته واستطاعته ، من غير تعلّقه عليه. (1)

وقد نقل «ذكاء الملك» نظرية ذلك الفيلسوف الفرنسي في موسوعته الفلسفية. وهي تبتني على إنكار قانون العلّية والمعلولية بين الأشياء ، وأنّ كلّ ما يعدّ علّة لشيء فهو من باب المقارنة. فلو رأينا أنّ جسماً يحرك جسماً آخر ، فذلك إدراك سطحي ، والمُحْدِث هو الله سبحانه ، وتلاقي الجسمين ظرف لقيامه بالتحريك ، ومثله تحريك النفس عضواً من أعضاء البدن ، فالمحرّك هو الله سبحانه وإرادة النفس ظرف ومحلّ لظهور فعله سبحانه.

ولا نعلّق على هذه النظرية سوى القول بأنّها مخالفة للبراهين الفلسفية القائمة على وحدة حقيقة الوجود في جميع المراتب ، واختلافها بالشدة والضعف. فعندئذ لا معنى لأن يختصّ التأثير ببعض المراتب دون آخر مع الوحدة في الحقيقية.

إنّ إنكار التأثير على وجه الإطلاق بين الظواهر الطبيعية وما فوقها يخالف البرهان العقلي الفلسفي ، أوّلاً ؛ وصريح الذكر الحكيم ، ثانياً ؛ والفطرة السليمة الإنسانية ، ثالثاً ، والتفصيل في الجهات الثلاث موكول إلى محلّه.

ص : 161


1- القضاء والقدر للكاتب المصري عبد الكريم الخطيب : 182.

الأمر الرابع التفسير الخاطئ في قسم من الأُصول

قد تعرّفت على التفسير الخاطئ للتوحيد في الخالقية وانّ هذه العقيدة القرآنية كيف فسِّرت بصورة مشوهة حتّى صارت سبباً لانتفاء الغاية من خلق القدرة في الإنسان إلى غير ذلك من المضاعفات التي تعرّفت عليها.

وفي تاريخ العقائد نظائر لهذا الأصل ابتليت بتفاسير خاطئة استوجب توالي فاسدة ، نظير :

1. القضاء والقدر وسعتها لأفعال البشر.

2. علمه سبحانه بالكائنات وأفعال الإنسان.

3. البداء وانّ للإنسان أن يغيّر مصيره بالأعمال الصالحة والطالحة.

4. التقية التي هي سلاح الضعيف أمام من صادر حرياته.

ونظائرها فانّ كلاً من هذه الأُصول لها دلائل ساطعة في القرآن الكريم والسنّة تعدّ من المعارف العليا في الإسلام ولكنّها مع الأسف الشديد وقعت في إطار تفاسير باطلة صارت سبباً للطعن والغمز.

أمّا القضاء والقدر فقد فسّرا بنحو صارت نتيجته كون الإنسان مكتوف اليد ، أو كالريشة في مهب الريح ، أو كالخشبة في اليم ، أو غير ذلك.

وأمّا الثاني ، فقد جعلوا علمه الوسيع سبباً للجبر وانّه ليس للخاطئ إلاّ ارتكاب الخطأ وإلاّ ينقلب علمه جهلاً.

وأمّا الثالث ، فقد فسروه بظهور ما خفي عليه سبحانه ، وتعالى عن ذلك.

وأمّا الرابع ، فقد جعلوه من فروع النفاق.

فيجب على الباحث أن يستنطق الكتاب والسنة فيها مجرداً عن كلّ رأي

ص : 162

مسبق حتّى يقف على حقائق تلك الأُصول.

وبما انّه قد استوفينا الكلام في هذه الأُصول في عدة من مؤلّفاتنا فلا نجد حاجة إلى تكرارها ، ومن أراد فليرجع إلى الصفحة أدناه. (1)

الأمر الخامس تغيير عنوان المسألة في كتب المتأخّرين

إنّ العنوان الرائج في كتب القدماء هو خلق الأعمال والأفعال ولكن العنوان الموجود بين المتأخرين غير ذلك فهم يعبرون عن المسألة بالعنوان التالي :

إنّ الله قادر على كلّ المقدورات أو انّ أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله سبحانه وتعالى وحده. (2)

ولعل التعبير الثاني أفضل ، وذلك لأنّ مادة الخلق لا تنسب إلى الفعل في لغة العرب ، فلا تجد في الكتاب والسنّة ولا عند شعراء العصر الجاهلي من ينسب الخلق إلى الفعل ويقول خلق الأكل أو الشرب.

نعم ورد في القرآن الكريم قول إبراهيم : (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) (3) فقد نسب الخلق إلى الإفك الذي هو يعدّ فعلاً للإنسان.

ولكن الإمعان في الآية يفسر لنا وجه هذه النسبة ، فانّ الإفك كناية عن الاعتقاد بكون الأصنام إلهاً يُعبد ، فقد صار هذا سبباً لنسبة الخلق إلى الفعل المتجسّم في ضمن «الأوثان» التي يتعلّق بها «الخلق».

ص : 163


1- انظر 1. الإلهيات في أربعة أجزاء : الجزء الأوّل والثاني ؛ 2. مفاهيم القرآن في عشرة أجزاء ، الجزء الأوّل ؛ 3. الملل والنحل ، الجزء الأوّل والثالث ؛ 4. مع الشيعة الإمامية في تاريخهم وعقائدهم.
2- لاحظ شرح المواقف : 8 / 145.
3- العنكبوت : 17.

وهذا يعرب عن أنّ العنوان الواضح هو ما اختاره المتأخّرون من عمومية قدرته لأفعال العباد.

الأمر السادس في إيضاح الجهمية والنجارية والضرارية

إنّ هذه الطوائف الثلاث من دُعاة القول بالجبر وخلق الأعمال وانّ نصيب العبد من الفعل هو الكسب ، ولذا حاولنا أن نقول فيهم كلمة للإيضاح.

تنتسب الجهمية إلى جهم بن صفوان (المتوفّى 128 ه) وهو تلميذ الجعد بن درهم الذي قتله خالد بن عبد الله القسري سنة 124 ه.

ويليهم في القول بالجبر النجارية وهم أصحاب الحسين بن محمد بن عبد الله النجار (المتوفّى عام 230 ه) وله مناظرات مع النظام.

وعرفهم الشهرستاني بقوله بأنّهم يقولون إنّ الباري تعالى هو خالق أعمال العباد خيرها وشرها ، حسنها وقبيحها والعبد مكتسب لها ، ويثبتون تأثيراً للقدرة الحادثة ويسمّون ذلك كسباً. (1)

الضرارية نسبة إلى ضرار بن عمرو ، وقد ظهر في أيام واصل بن عطاء ، وقد ألف قيس بن المعتمر كتاباً في الردّ على ضرار سمّاه كتاب «الردّ على ضرار».

إنّ هذه الطائفة أيضاً تقول بأنّ أفعال العباد مخلوقة لله حقيقة والعبد مكتسبها. (2)

ص : 164


1- لاحظ الملل والنحل للشهرستاني : 1 / 89.
2- مقالات الإسلاميين : 129 ؛ الملل والنحل : 1 / 90.

الفصل الرابع: الإرادة الإلهية التكوينيّة والتشريعيّة

اشارة

ص : 165

ص : 166

1- في تقسيم صفاته

اشارة

إنّ صفاته سبحانه تنقسم إلى قسمين : ثبوتية ، وسلبية. وإن شئت قلت : جمالية وجلالية. فإن كانت الصفة مثبتة لجمال وكمال في الموصوف ، وكانت مشيرة إلى واقعية في ذاته ، تسمّى ثبوتية ذاتية أو جمالية ؛ وإن كانت الصفة هادفة إلى نفي نقص وحاجة عنه سبحانه ، تسمّى سلبية أو جلالية.

فالعلم والقدرة والحياة من الصفات الثبوتية التي تشير إلى وجود كمال وواقعية في الذات الإلهية ، كما أنّ نفي الجسمانية والتحيّز والحركة والتغيّر من الصفات السلبية التي تهدف إلى سلب ما يعدّ نقصاً في الموجود ، عن ساحته سبحانه.

وهذان الاصطلاحان «الجمالية والجلالية» قريبان ممّا ورد في الكتاب العزيز قال سبحانه : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ). (1)

فصفة الجلال تدلّ على ما جلّت ذاتُه عن التلبّس به ، وصفة الإكرام ما تكرّمت ذاتُه به وتجمّلت ، فيُوصف بالكمال ، ويُنزّه بالجلال.

ثمّ إنّ علماء العقائد حصروا الصفات الجمالية في ثماني وهي : العلم ،

ص : 167


1- الرحمن : 78.

القدرة ، الحياة ، السمع ، البصر ، الإرادة ، التكلّم ، والغنى ؛ كما حصروا الصفات السلبية في سبع وهي : انّه تعالى ليس بجسم ، ولا جوهر ، ولا عرض ، وانّه غير مرئي ، ولا متحيّز ، ولا حالّ في غيره ، ولا يتّحد بشيء.

غير أنّ النظر الدقيق يقتضي عدم حصر الصفات في عدد معين ، فإنّ الحقّ أن يقال : انّ الملاك في الصفات الجمالية والجلالية هو أنّ كلّ وصف يعدّ كمالاً للوجود فالله موصوف به. وكلّ وصف يعتبر نقصاً وعجزاً وحاجة فهو منزّه عنه ، وليس علينا أن نُحصر الكمالية والجلالية في عدد معيّن.

وعلى ذلك يمكن إرجاع جميع الصفات الثبوتية إلى وصف واحد ، والصفات السلبية إلى أمر واحد ، ويؤيّد ما ذكرناه انّ الأسماء والصفات التي وردت في القرآن الكريم تفوق بأضعاف المرّات العدَد الذي ذكره المتكلّمون.

تقسيم آخر

قسّم المتكلّمون صفاته سبحانه إلى : صفة الذات ، وصفة الفعل. والأوّل ما يكفي فرض الذات في حمل الوصف عليه كالعلم والحياة والقدرة ، فيقال : الله عالم ، حيّ ، قادر ؛ والثاني ما يتوقّف وصف الذات به على فرض شيء وراء الذات ، وهو فعله سبحانه.

فصفات الفعل هي المنتزعة من مقام الفعل ، بمعنى انّ الذات توصف بالصفة عند ملاحظة الذات مع الفعل ، وذلك كالخلق والرزق ونظائرهما من الصفات الفعلية الزائدة على الذات بحكم انتزاعها من مقام الفعل.

ومعنى انتزاعها انّا إذا لاحظنا النِّعَم التي يتنعّم بها الناس نسمّيه سبحانه

ص : 168

لأجل هذا الفعل رزاقاً ، كما نسمّيه رحيماً وغافراً لأجل رحمته لعباده وغفرانه لذنوبهم.

ثمّ إنّهم اختلفوا في بعض الصفات وانّه هل هو من صفات الذات أو من صفات الفعل كالإرادة والتكلّم؟ فأهل الحديث والمتكلّمون على أنّ الإرادة من صفات الفعل تنتزع من إعمال القدرة خلافاً للحكماء فإنّهم جعلوها من صفات الذات بالمعنى المناسب لذاته سبحانه ، نظير الاختلاف في الكلام فالأشاعرة على أنّه من صفات الذات ، والمعتزلة والإمامية على أنّه من صفات الفعل.

أمّا وجه الاختلاف في الكلام فهو مذكور في محلّه وخارج عن هدف الرسالة.

وأمّا وجه اختلافهم في الإرادة وذهاب بعض إلى أنّه من صفات الذات والبعض الآخر إلى أنّه من صفات الفعل ، فحاصله :

إنّ من جعلها من صفات الذات فباعتبار أنّ الإرادة من صفات الكمال بشهادة انّ الفاعل المريد أكمل من الفاعل غير المريد ، فسلبها عن الذات يستلزم كونه فاعلاً غير مريد ، وهو نقص في الفاعلية ، سواء أكانت مع الشعور أم بدونه.

وأمّا من جعله من صفات الفعل فلأجل انّ الإرادة أمر تدريجي بالذات ، توجد بعد وجود مقدّمات من تصوّر الموضوع والتصديق بفائدته واشتياقاً إلى فعله إلى أن ينتهي إلى الجزم والتصميم ، والإرادة بهذا المعنى أمر حادث تعالى سبحانه عن أن تقع ذاته محلًّا للحوادث.

فلأجل هذين الأمرين اختلفت أنظارهم في أمر الإرادة وأنّها هل هي من

ص : 169

صفات الذات أو من صفات الفعل؟ فمن جانب انّ الإرادة وصف كمال لا يمكن خلو الذات عن ذلك الكمال ، ومن جانب آخر انّ حقيقة الإرادة حقيقة متجدّدة ، والتجدّد عين الحدوث ، والحدوث عين الفقر ، والله سبحانه منزّه عن ذلك.

ص : 170

2- في حقيقة الإرادة الإنسانية

اشارة

إنّ الإرادة والكراهة كيفيّتان نفسانيّتان كسائر الكيفيّات النفسانية ، يجدهما الإنسان بذاتهما بلا توسط شيء مثل اللّذة والألم وغيرهما من الأُمور الوجدانية. والمقصود في المقام تحليل ذلك الأمر الوجداني وصياغته في قالب علمي ، وقد اختلفت أنظارهم في واقع الإرادة في الإنسان فضلاً عن الله سبحانه. وإليك الآراء المطروحة في الإرادة الإنسانية

1. نظرية المعتزلة : الاعتقاد بالنفع

فسّرت المعتزلة الإرادة ب «اعتقاد النفع» والكراهة ب «اعتقاد الضرر» قائلين بأنّ نسبة القدرة إلى طرفي الفعل والترك متساوية ، فإذا حصل في النفس الاعتقاد بالنفع في أحد الطرفين ، يرجَّح بسببه ذلك الطرف ويصير الفاعل مؤثراً فيه. (1)

يلاحظ عليه : أنّ مجرّد الاعتقاد بالنفع لا يكون مبدأ وباعثاً نحو المراد ، إذ كثيراً ما يعتقد الإنسان بوجود النفع في كثير من الأفعال ولا يريدها ، وربّما لا

ص : 171


1- الأسفار : 6 / 337.

يعتقد بوجوده فيها ، بل يعتقد بوجود الضرر ومع ذلك يريدها لموافقتها لبعض القوى الحيوانية.

2. نظرية الأشاعرة : المخصّصة للقدرة بأحد المقدورين

فسّرت الأشاعرة الإرادة بأنّها صفة مخصِّصة للقدرة بأحد المقدورين وهي مغايرة للعلم والقدرة ، لأنّ خاصية القدرة صحّة الإيجاد واللاإيجاد ، وذلك بالنسبة إلى جميع الأوقات وإلى طرفي الفعل والترك على السواء.

يلاحظ عليه : أنّ تفسير الإرادة ، بما يخصّص القدرة بأحد المقدورين ، تفسير لها بأثرها ولازمها ، من دون إلماع إلى حقيقتها وواقعها ، إذ من آثار الإرادة هو تحديد القدرة وسوقها إلى صوب المراد ، ولكنّه غير واقع الإرادة الذي نحن بصدد بيانه.

3. النظرية المعروفة : الشوق النفساني

وقد اشتهر بين المحصلين انّ الإرادة عبارة عن الشوق النفساني الذي يحصل في الإنسان تلو اعتقاده بالنفع. (1)

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّه ربّما يوجد هذا الميل والشوق ، دون أن يكون هناك إرادة ، كما في الإنسان المتديّن بالنسبة للمحرمات.

وثانياً : قد يوجد الفعل بدون الشوق النفساني أو الشوق المؤكّد كما في الأفعال العادية من تحريك الأعضاء وكثير من الأفعال العبثية والجزافية ، وكما

ص : 172


1- الأسفار : 6 / 337.

في تناول الأدوية غير المستساغة وغيرها ، فإنّ الإنسان يشرب الدواء المرّ عن إرادة لا عن شوق.

4. الإرادة : القصد والعزم

الإرادة كيفية نفسانية متخلّلة بين العلم الجازم والفعل ويعبّر عنها بالقصد والعزم تارة ، وبالإجماع والتصميم أُخرى. وليس ذلك القصد من مقولة الشوق بقسميه المؤكّد وغير المؤكّد ، كما أنّه ليس من مقولة العلم رغم حضوره لدى النفس كسائر الكيفيات النفسانية.

وباختصار ، حقيقة الإرادة هي العقد والميل القاطع نحو الفعل ، وهذا هو المختار ويشهد عليه الوجدان.

وعلى كلّ حال فسواء أصحّت هذه التفاسير للإرادة الإنسانيّة أم لا ، لكن لا يمكن تفسير الإرادة الإلهية بهذه الوجوه.

أمّا الأوّل : فقد عرفت أنّ تفسير الإرادة باعتقاد النفع ملازم لإنكار الإرادة مطلقاً في الموجودات الإمكانية فضلاً عن الله سبحانه ، وذلك لأنّ ملجأها إلى العلم بالنفع مع أنّا نجد في أنفسنا شيئاً وراء العلم والاعتقاد بالنفع ، ومن فسر الإرادة بالاعتقاد بالنفع فقد أثبت العلم وأنكر الإرادة.

وأمّا الثاني : أعني : تفسير الإرادة بتخصيص القدرة بأحد المقدورين ، ففيه : انّه لا يناسب شأنه سبحانه ، لأنّ التخصيص أمر حادث فتعالى أن تكون ذاته مركزاً للحوادث إلاّ أن يرجع إلى تفسير الإرادة الفعلية به دون الذاتية ، فالإرادة في مقام الفعل هو ما جاء في هذا التفسير ، وعلى هذا تكون الإرادة من صفات الفعل دون صفات الذات فيلزم خلوها عن ذلك الكمال.

ص : 173

وأمّا الثالث : ففيه انّ الشوق من مقولة الانفعال تعالى عنه ، مضافاً إلى أنّ الشوق شأن الفاعل الناقص الذي يريد الخروج عن النقص إلى الكمال فيشتاق إليه شوقاً أكيداً.

وأمّا الأخير : فسواء أفسّرت بالقصد والعزم أو الإجماع والتصميم فحقيقتها الحدوث بعد العدم ، والوجود بعد اللاوجود ، وهي بهذا المعنى يستحيل أن يوصف به سبحانه.

ولأجل عدم مناسبة هذه التعاريف لذاته سبحانه صار المتألّهون على طائفتين :

الأُولى : من يحاول جعلها من صفات الذات ولكن يتصرف في معنى الإرادة.

الثانية : من لا يتصرف في نفي الإرادة ولكن يجعلها من صفات الفعل كالخلق والرزق ، فالجميع ينتزع من فعله سبحانه وإعمال قدرته. وأصحاب هذا القول قد أراحوا أنفسهم من الإشكالات المتوجهة إلى كون الإرادة من الصفات الذاتية لله سبحانه.

وإليك الكلام حول هذين القولين في فصلين مختلفين.

ص : 174

3- الإرادة الإلهية من صفات الذات

اشارة

قد عرفت أنّ الإرادة بتفاسيرها المختلفة لا تليق أن تنسب إلى الله سبحانه ، ولذلك عاد القائلون بأنّ الإرادة من صفات الذات إلى تفسيرها بنحو يناسب ذاته سبحانه ، وإليك تفاسيرهم :

الأُولى : الإرادة هو العلم بالأصلح

يظهر من صدر المتألّهين وغيره ، أنّ إرادته سبحانه عبارة عن العلم بالأصلح ، فقال الأوّل : فثبت انّ إرادة الله ليست عبارة عن القصد ، بل الحقّ في كونه مريداً ، انّه سبحانه وتعالى يعقل ذاته ، ويعقل نظام الخير الموجود في الكلّ من ذاته ، وانّه كيف يكون؟ وذلك النظام يكون لا محالة كائناً مستفيضاً وهو غير مناف لذات المبدأ الأوّل جلّ اسمه ، لأنّ ذاته كلّ الخيرات الوجودية كما مرّ مراراً من أنّ البسيط الحق كلّ الأشياء الوجودية ، فالنظام الأكمل الكوني الإمكاني تابع للنظام الأشرف الواجبي الحقّي ، وهو عين العلم والإرادة فعلم

ص : 175

المبدأ بفيضان الأشياء عنه ، وانّه غير مناف لذاته ، هو إرادته لذلك ورضاه ، فهذه هي الإرادة الخالية عن النقص والإمكان. (1)

أقول : إنّ تفسير الإرادة الإلهية بالعلم بالأصلح هو الظاهر من أكثر المتأخّرين بعد صدر المتألّهين ، وقد تلقّاه الحكيم السبزواري أصلاً مسلّماً ففسّرها به ، قال في منظومته :

عقيب داع ، دركنا الملائما *** شوقاً مؤكداً إرادة سما

وفيه عين الداع عين علمه *** نظام خير هو عين ذاته(2)

يلاحظ عليه : أنّ تفسير الإرادة الإلهية بالعلم بالأصلح أو العلم العنائي وإن كان سليماً عن إشكال الحدوث والتدرّج حيث إنّ علمه سبحانه بذاته علم فعلي قديم منزّه عن وصمة الحدوث والتدرج ، إلاّ أنّ إرجاع الإرادة إلى العلم ، يلازم نفي واقع الإرادة عنه سبحانه ، لأنّ العلم والإرادة حقيقتان مختلفتان ، فتفسير الثانية بالأوّل ، إثبات لوصف العلم ، ونفي لوصف الإرادة ، فيُصبح سبحانه فاعلاً عالماً غير مريد ، مع أنّ الفاعل العالم المريد أفضل وأكمل من الفاعل العالم غير المريد.

وقد نبّه بذلك بعض أئمّة أهل البيت. روى بكير بن أعين أنّه قال : قلت لأبي عبد الله - عليه السلام - : علمه ومشيئته هما مختلفان أو متّفقان؟ فقال : «العلم ليس هو المشيئة ، ألا ترى أنّك تقول : سأفعل كذا إن شاء الله ولا تقول : سأفعل كذا

ص : 176


1- الأسفار : 6 / 316 ، الموقف الرابع ، الفصل الثاني. ولاحظ أيضاً ص 341 ، 342.
2- شرح المنظومة : 179.

إن علم الله ، فقولك : إن شاء الله دليل على أنّه لم يشأ ، فإذا شاء ، كان الذي شاء كما شاء وعلم الله السابق للمشيئة». (1)

ثمّ إنّ العلاّمة الطباطبائي ممّن يسلّم انّ علمه بنظام الخير مبدأ له ، ومع ذلك يُنكر تسمية العلم بالأصلح والنظام الأتم إرادة فقال : إنّ ما ذكره صدر المتألّهين وغيره من الحكماء المتقدّمين من أمر الإرادة الذاتية ، وأقاموا عليه البرهان ، فهو حقّ ، لكن الذي تثبته البراهين انّ ما سواه تعالى يستند إلى قدرته التي هي مبدئيته المطلقة للخير وعلمه بنظام الخير ، وأمّا تسمية العلم بالخير والأصلح ، إرادة أو انطباق مفهوم الإرادة بعد التجريد على العلم بالأصلح الذي هو عين الذات فلا.

نعم قام البرهان على أنّه واجد لكلّ كمال وجودي ، وهذا لا يوجب تخصيص الإرادة من بينها بالذكر في ضمن الصفات الذاتية. وبالجملة ما ذكروه حق من حيث المعنى وإنّما الكلام في إطلاق لفظ الإرادة وانطباق ما جرّد من مفهومها ، على صفة العلم. (2)

وليعلم أنّ القول باتّحاد صفاته سبحانه مع ذاته ليس بمعنى أنّ كلّ وصف عين الوصف الآخر كأن تكون الإرادة عين العلم ، بل المراد أنّ ذاته سبحانه كلّه علم وفي الوقت نفسه كلّه قدرة وكلّه حياة دون أن يشكّل العلم جزءاً من الذات والقدرة جزءاً آخر حتّى يلزم التركيب ، فلا يصحّ أن يقع القول بعينيّة صفاته مع الذات ، ذريعة لتفسير الإرادة بالعلم بالأصلح.

ص : 177


1- الكافي : 1 / 109 ، باب الإرادة من صفات الفعل.
2- الأسفار : 6 / 316 قسم التعليقة.

الثانية : إرادته سبحانه هو ابتهاجه بذاته

هذه هي النظرية الثانية التي اختارها بعض المحقّقين من مشايخ مشايخنا - قدّس الله أسرارهم - فقد فسّر الإرادة بالابتهاج وجعل له مرحلتين :

1. الابتهاج الذاتي وهو الإرادة في مقام الذات.

2. الابتهاج الفعلي ينبعث من الابتهاج الأوّل قائلاً : فإنّ من أحب شيئاً أحبّ آثاره ، وهذه المحبة الفعلية هي الإرادة في مقام الفعل وأسماها بالإرادة الفعلية ، فقال في كلام مبسوط :

«لا ريب عند أهل النظر أنّ مفاهيم الصفات - حسبما يقتضيه طبعها - متفاوتة متخالفة ، لا متوافقة مترادفة ، وإن كان مطابَقها واحداً بالذات من جميع الجهات ، فكما أنّ مفهوم العلم غير مفهوم الذات وسائر الصفات ، وإن كان مطابَق مفهوم العلم والعالِم ، ذاته بذاته ؛ حيث إنّ حضور ذاته لذاته ، بوجدان ذاته لذاته ، وعدم غيبة ذاته عن ذاته ، كذلك ينبغي أن يكون مفهوم الإرادة بناء على كونها من صفات الذات - كمفهوم العلم - مبايناً مع الذات ومفهوم العلم ، لا أنّ لفظ الإرادة معناه العلم بالصلاح ، فانّ الرجوع الواجب هو الرجوع في المصداق ، لا رجوع مفهوم إلى مفهوم. ومن البين أنّ مفهوم الإرادة - كما هو مختار الأكابر من المحقّقين - هو الابتهاج والرضا ، وما يقاربهما مفهوماً ، ويعبّر عنه بالشوق الأكيد فينا.

والسرّ في التعبير عنها بالشوق فينا ، وبصرف الابتهاج والرضا فيه تعالى : أنا لمكان إمكاننا ناقصون غير تامّين في الفاعلية ، وفاعليتنا لكلّ شيء بالقوة ، فلذا نحتاج في الخروج من القوة إلى الفعل إلى أُمور زائدة على ذواتنا - من تصوّر الفعل والتصديق بفائدته والشوق الأكيد - المميلة جميعاً للقوة الفاعلة

ص : 178

المحرّكة للعضلات ، بخلاف الواجب تعالى فإنّه - لتقدّسه عن شوائب الإمكان وجهات القوة والنقصان - فاعل وجاعل بنفس ذاته العليمة المريدة ، وحيث إنّه صرف الوجود ، وصرف الوجود صرف الخير ، فهو مبتهج بذاته أتمّ ابتهاج ، وذاته مرضية لذاته أتمّ الرضا. وينبعث من هذا الابتهاج الذاتي - وهي الإرادة الذاتية - ابتهاج في مرحلة الفعل ، فإنّ من أحبّ شيئاً أحبّ آثاره ، وهذه المحبّة الفعلية هي الإرادة في مرحلة الفعل ، وهي التي وردت الأخبار عن الأئمّة الأطهار - سلام الله عليهم - بحدوثها (1) ؛ لوضوح أنّ المراد هو الإرادة التي هي غير المراد ، دون الإرادة الأزلية التي هو عين المراد ؛ حيث لا مراد في مرتبة ذاته إلاّ ذاته ، كما لا معلوم في مرتبة ذاته إلاّ ذاته. (2)

ويظهر من الحكيم السبزواري ارتضاؤه ، قال في منظومته :

مبتهج بذاته بنهجة *** أقوى ومن له بشيء بهجة

مبتهج بما يصير مصدره *** من حيث إنّه يكون أثره

كرابط لا شيء باستقلاله *** ليس له حكم على حياله

رضاؤه بالذات بالفعل رضا *** وذا الرضا إرادة لمن قضى(3)

ص : 179


1- أُصول الكافي : 1 / 8685 ، باب الإرادة ، نشر المكتبة الإسلامية ؛ وتوحيد الصدوق : 146 - 148 ، باب صفات الذات والأفعال ، الحديث 15 - 19 ، نشر جماعة المدرسين.
2- نهاية الدراية : 1 / 278 - 279.
3- شرح المنظومة : 180.

يلاحظ على تلك النظرية بما مرّ في النظرية السابقة ، فإنّ تفسير الإرادة الإلهية بابتهاج الذات وإن كان يدفع مشكل التدريج والحدوث ، لكن الإشكال الآخر باق بحاله ، فإن واقع الابتهاج في الإنسان من مقولة الانفعال ، والإرادة أشبه بمقولة الفعل ، فتفسير الإرادة بالابتهاج - حتّى مع التجريد عن النقص - يستلزم نفي وصف الإرادة عنه سبحانه.

إنّ الإرادة في الإنسان رمز الاختيار والحرية ، فالفاعل المريد ، مختار في فعله ، يوجده بإرادته ، وأين هي من تفسير الإرادة بالابتهاج الذي هو رمز كون الفعل ملائماً لذات الفاعل وطبعه؟! فتفسير أحدهما بالآخر نفي لواقع المفسَّر.

ص : 180

4- الإرادة الإلهية من صفات الفعل

اشارة

قد مضى في الفصل السابق بعض الأنظار الذي يفسر الإرادة الإلهية بأنّها من صفات الذات ، وحان وقت البحث عن الأنظار التي تعدّها من صفات الفعل ، فخصصنا هذا الفصل بهذا كما خصصنا الفصل السابق بالنظر الآخر.

ذهب غير واحد من المحقّقين إلى أنّ الإرادة أشبه بصفة الفعل ، نظير الخلق والإيجاد والرحمة ، وقبل الخوض في بيانها نقدّم شيئاً ربّما مضى التنبيه عليه في صدر الرسالة ، وهو

أثبتت البراهين الفلسفية انّ كلّ كمال وجودي فإنّه موجود للواجب في حدّ ذاته ، وإلاّ يلزم تطرّق النقص إليه ، وفرض موجود أكمل منه ، لأنّ كون الفاعل وراء كونه عالماً ، مريداً مختاراً ، كمال للذات فلا يمكن سلبه عنه.

ومن جانب آخر انّ الإرادة كيفية نفسانية ، وماهية ممكنة والواجب منزّه عن الماهية والإمكان ، وليست الإرادة كالعلم فإنّه يصلح وصف الواجب به إذا جرّد عن النقص وبقى منه سوى الكشف ، وهذا بخلاف الإرادة فإنّها مهما جرّدت عن شوائب الإمكان والنقص لا يوصف بها الواجب ، لأنّ واقعيّة الإرادة

ص : 181

هي الخروج من القوّة إلى الفعل ، ومن التصوّر إلى التصديق بالفائدة ومنه إلى الشوق ومنه إلى القصد والعزم ، وهذا المعنى مهما جرّد من النقص لا يصلح لأن يوصف به الواجب.

ثمّ إنّ هذين الأمرين صارا سبباً لذهاب جمع إلى أنّه من صفات الذات أخذاً بالأمر الأوّل وذهاب جمع آخر إلى أنّها من صفات الفعل ، منهم السيد الطباطبائي - قدس سره - فقال في تعاليقه على «الأسفار» ما هذا لفظه :

1. الإرادة صفة منتزعة من حضور العلّة التامّة للفعل

لو كان بين كيفيّاتنا النفسانية ، كيفيّة متميّزة متخلّلة بين العلم الجازم والفعل ، باسم الإرادة فهو القصد ، وهو ميل نفساني نحو الفعل ، نظير ميل الجسم الطبيعي من مكان إلى مكان وليس من الشوق أو الشوق المؤكّد في شيء ، كما سيجيء ، وليس هو العلم وإن كانت الصفات والأحوال النفسانيّة كالحبّ والبغض والرضا والسخط والحزن والسرور وغيرها ، علميّة شعورية ، لأنّ الإرادة لو كانت أمراً متميّزاً في نفسها فهي متخلّلة بين العلم والفعل فليست فينا علماً.

ومن هنا يظهر أنّا لو جرّدناها من شوائب النقص وأجرينا وصفها عليه تعالى لم ينطبق على علمه تعالى ، لأنّ مفهومها غير مفهوم العلم ولا ينفع التجريد مع تغاير المفهومين ، بخلاف تجريد معنى العلم مثلاً ، فإنّه وإن تبدّلت خصوصيّاته وحدوده بالتجريد حتّى عاد وجوداً واجبياً منفياً عنه جميع خصائص الكيفية النفسانية الخاصة لكن معناه الأصلي وهو حضور شيء لشيء محفوظ باق بعد التجريد وعند الإجراء على ما كان عليه قبل.

ص : 182

ويظهر أيضاً أنّ الإرادة لو أخذت صفة له تعالى بعد التجريد ، كانت صفة فعل نظير الخلق والإيجاد والرحمة ، منتزعة عن مقام الفعل ، فتماميّة الفعل من حيث السبب إذا نسب إلى الفعل سمّيت إرادة له ، فيكون الفعل مراداً له تعالى ، وإذا نسبت إلى الله كانت إرادة منه فهو مريد ، كما أنّ كلّ ما يستكمل به الشيء في بقائه رزق ، فالشيء مرزوق وهو تعالى رزّاق وهكذا.

إلى أن قال : وما ذكره الحكماء الإلهيون من أمر الإرادة الذاتية وأقاموا عليه البرهان ، فهو حقّ لكن الذي تثبته البراهين أنّ ما سواه تعالى يستند إلى قدرته التي هي مبدئيته المطلقة للخير وعلمه بنظام الخير ، وأمّا تسمية العلم بالخير والأصلح ، إرادة أو انطباق مفهوم الإرادة بعد التجريد على العلم بالأصلح الذي هو عين الذات فلا. (1)

وقال في مقام آخر : إنّ الإرادة منتزعة من مقام الفعل من حيث انتسابه إلى قدرته تعالى القاهرة أو من اجتماع الأسباب الموجبة عليه من حيث انتسابها إليه. (2)

وقد ذكر عصارة نظريته في «نهاية الحكمة» حيث قال :

لا ينبغي أن تقاس الإرادة بالعلم الذي يقال إنّه كيفية نفسانية ثمّ يجرّد عن الماهية ويجعل حيثية وجودية عامة موجودة للواجب تعالى وصفاً ذاتياً هو عين الذات. وذلك لأنّا ولو سلمنا أنّ بعض مصاديق العلم وهو العلم الحصوليّ كيف نفساني ، فبعض آخر من مصاديقه وهو العلم الحضوريّ جوهر أو غير ذلك ، وقد تحقّق أنّ المفهوم الصادق على أكثر من مقولة واحدة وصف

ص : 183


1- الأسفار : 6 / 315 - 316 ، قسم التعليقة.
2- الأسفار : 6 / 353 ، قسم التعليقة.

وجودي غير مندرج تحت مقولة ، منتزع عن الوجود بما هو وجود ، فللعلم معنى جامع يهدى إليه التحليل وهو حضور شيء لشيء.

وأمّا الإرادة المنسوبة إليه تعالى فهي منتزعة من مقام الفعل ، إمّا من نفس الفعل الذي يوجد في الخارج ، فهو إرادة ثمّ إيجاب ، ثمّ وجوب ، ثمّ وجود ؛ وإمّا من حضور العلّة التامة للفعل كما يقال عند مشاهدة جمع الفاعل أسباب الفعل ليفعله ، أنّه يريد كذا فعلاً. (1)

يلاحظ على النظرية : لا شكّ أنّ أكثر ما ذكره السيد الأُستاذ حقّ لا غبار عليه ، وقد مرّ بعض ما ذكره في البحوث السابقة ، أعني :

1. أنّ ماهية الإرادة وواقعيتها غير واقعية العلم.

2. أنّ الإرادة في الإنسان مهما جرّدت عن وصفة الإمكان لا يوصف به الواجب.

3. أنّ الإرادة من صفات الكمال ، والموجود المريد أفضل من غير المريد فلا بدّ من وصفه سبحانه بأنّه مريد.

كلّما ذكره من هذه الأُمور صحيح ، ولكن تفسير الإرادة بحضور العلّة التامة للفعل يناقض الأصل الثالث ، وقد صرّح به أيضاً في ثنايا كلامه ، حيث قال :

«نعم قام البرهان بأنّه واجد لكلّ كمال وجودي ، ومع ذلك كيف يمكن خلوّ الذات عن هذا الكمال الوجودي وحصره في مقام الفعل».

ولو كانت الإرادة منتزعة من حضور العلّة التامّة للفعل ، يلزم أن تكون الفواعل الطبيعية كلّها مريدة لحضورها عند آثارها.

ص : 184


1- نهاية الحكمة : 299 - 300.

وبالجملة تصوّر خلوّ الذات عن واقع الإرادة يلزم أن يكون سبحانه فاعلاً غير مريد ولا مختار ، وهذا نقص في الفاعل تعالى عنه سبحانه. وسيوافيك ما هو الحقّ في معنى الإرادة الذاتية في الله سبحانه.

2. الإرادة إعمال القدرة

إنّ المحقّق الخوئي بعد ما طرح تفسير الإرادة بالعلم والابتهاج والرضا ونقدهما بما مرّ ذكره ، حاول أن يفسّر الإرادة الإلهية بإعمال القدرة ، فقال : إنّ الإرادة لا تخلو من أن تكون بمعنى إعمال القدرة ، أو بمعنى الشوق الأكيد ولا ثالث لهما ، وحيث إنّ الإرادة بالمعنى الثاني لا تعقل لذاته سبحانه ، يتعيّن الإرادة بالمعنى الأوّل له سبحانه وهو المشيئة وإعمال القدرة. (1)

وقال في موضع آخر : إنّ أفعال العباد لا تقع تحت إرادته سبحانه وتعالى ومشيئته.

والوجه ما تقدّم بشكل مفصّل ، من أنّ إرادته تعالى ، ليست من الصفات العليا الذاتية ، بل هي من الصفات الفعلية التي هي عبارة عن المشيئة وإعمال القدرة. (2)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ تفسير الإرادة بإعمال القدرة يرجع إلى كونها من صفات الفعل ، ومعنى ذلك خلوّ الذات عن ذلك الكمال الوجودي وهو يستلزم تصوّر الأكمل والأفضل من الواجب.

وثانياً : أنّ القول بأنّ أفعال العباد خارجة من متعلّق الإرادة الإلهية مخالف

ص : 185


1- المحاضرات : 2 / 37.
2- المحاضرات : 2 / 72.

للبرهان ، فإنّ الفعل ممكن كذاته ، فكما أنّ الذّات تتعلّق به الإرادة الإلهية ، فهكذا الفعل وإلاّ يلزم تحديد سلطانه سبحانه ، وتحقّق بعض الأشياء بلا إرادة منه وهو كما ترى ، وقد ورد في غير واحد من الروايات الردّ على تلك الفكرة.

روى هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : «إنّ الله أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون ، والله أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد». (1)

يقول سبحانه : (وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ). (2)

ويقول سبحانه : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ). (3)

إلى غير ذلك من الروايات والآيات الدالّة على أنّ أفعال العباد غير خارجة عن إرادته سبحانه بها ، وأمّا كيفيّة الجمع بين عموم إرادته والقول بالاختيار ، فسيوافيك بيانه.

3. الإرادة الإلهية في روايات أئمّة أهل البيت - عليهم السلام -

اشارة

إنّ السابر في ما صدر عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - في مورد الإرادة الإلهية يقف على أنّهم نظروا إليها من زوايا ثلاث :

1. الإرادة الإلهيّة غير العلم والقدرة.

2. ما من ظاهرة من الظواهر الكونية إلاّ وقد تعلّقت بها إرادته سبحانه.

3. إرادته سبحانه من صفات الفعل لا من صفات الذات.

فلنقتصر في كلّ من هذه المواضيع الثلاثة بالقليل عن الكثير.

ص : 186


1- بحار الأنوار : 5 / 41 ، كتاب العدل والمعاد ، الحديث 64.
2- التكوير : 29.
3- يونس : 100.
الف : إرادته غير علمه وقدرته

قد ناظر الإمام علي بن موسى الرضا - عليه السلام - أحد المتكلّمين في خراسان - أعني : سليمان المروزي - والمناظرة مبسَّطة نقتصر على ما له صلة بالمقام :

قال سليمان : إنّ إرادته علمه.

قال الرضا - عليه السلام - : «... وعلى هذا فإذا علم الشيء فقد أراده».

قال سليمان : أجل.

قال الرضا - عليه السلام - : «فإذا لم يرده ، لم يعلمه».

قال سليمان : أجل.

قال الرضا - عليه السلام - : «من أين قلنا ذلك وما الدليل على أنّ إرادته علمه ، وقد يعلم ما لا يريده أبداً؟

ذلك قول الله عزّ وجلّ : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) (1) ، فهو يعلم كيف يذهب ولا يذهب به أبداً».

قال سليمان : إنّه سبحانه قد فرغ من الأمر ، فليس يزيد فيه شيئاً.

قال الرضا - عليه السلام - : «هذا قول اليهود ، فكيف قال تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)». (2)

قال سليمان : إنّما عنى بذلك أنّه قادر عليه.

قال الرضا - عليه السلام - : «أفيعد ما لا يفي به؟ فكيف قال : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) (3) وقال عزّ وجلّ : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (4) وقد

ص : 187


1- الإسراء : 86.
2- المؤمن : 60.
3- فاطر : 1.
4- الرعد : 39.

فرغ من الأمر ...» فلم يحر سليمان جواباً. (1)

إنّ ما دار بين الإمام والمروزي كاف في نقد ما يتخيّل بأنّ إرادته سبحانه هي علمه بالأصلح.

ب. عموم إرادته سبحانه بكلّ ظاهرة كونية

أمّا عموم إرادته سبحانه بكلّ ظاهرة كونية فهو يبتني على مقدّمات فلسفية ثابتة ، وإليك الإشارة إليها على وجه الإيجاز :

1. سعة قدرته وخالقيته سبحانه ، وانّ كلّ ما في صفحة الكون من دقيق وجليل وذات وفعل مخلوق لله سبحانه لا على النحو الذي فسّر به الأشاعرة عموم قدرته بأن يكون الواجب الفاعل المباشري لكلّ ظاهرة مجردة أو مادية ، بل على النحو المختار لدى الإمامية. (2)

2. إنّ كلّ ما في دار الإمكان ، قائم بالواجب غير مستغن عنه في شأن من شئونه لا في ذاته ولا في فعله ، وإنّ غناء فعل الإنسان عن الواجب يستلزم خروجه عن حدّ الإمكان وانقلابه موجوداً واجباً ، وهذا خلف ، فما في الكون يجب أن يكون منتهياً إلى الواجب قائماً به قيام المعنى الحرفي بالاسمي ، فالقول باستقلال الإنسان في فعله أشبه بمقالة الثنوية.

3. شهادة الروايات على عموم قدرته ، ونقتصر على روايات ثلاث :

1. روى الصدوق في توحيده بسنده عن حفص بن فرط ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «من زعم أنّ الله تعالى يأمر بالسوء والفحشاء فقد

ص : 188


1- عيون أخبار الرضا : 1 / 189.
2- لاحظ الإلهيات : 2 / 275.

كذب على الله ، ومن زعم أنّ المعاصي من غير قوة الله ، فقد كذب على الله ، ومن كذب على الله أدخله النار». (1)

2. روى البرقي في محاسنه عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : «إنّ الله أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون ، والله أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد». (2)

3. وروى عن حمزة بن حمران ، قال : قلت له : إنّا نقول إنّ الله لم يكلّف العباد إلاّ ما آتاهم وكلّ شيء لا يطيقونه فهو عنهم موضوع ، ولا يكون إلاّ ما شاء الله ، وقضى وقدر وأراد؟ فقال : «والله إنّ هذا لديني ودين آبائي». (3)

ج : الإرادة من صفات الفعل
اشارة

من سبر فيما ورد عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - في مجال الرواية يقف على اهتمام الأئمّة بتوجيه أصحابهم إلى أنّ الإرادة من صفات الفعل لا من صفات الذات ، وقد عقد الشيخ الكليني باباً في ذلك المجال ننقل منه ما يلي :

1. روى عاصم بن حميد ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : قلت : لم يزل الله مريداً؟ قال : «إنّ المريد لا يكون إلاّ المراد معه ، لم يزل الله عالماً قادراً ثمّ أراد». (4)

2. روى صفوان بن يحيى ، عن الإمام الكاظم - عليه السلام - : أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق؟ فقال : «الإرادة من الخلق الضمير ، وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل ، وأمّا من الله تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك ، لأنّه لا يروِّي ولا يهمّ

ص : 189


1- توحيد الصدوق : 359 ، باب نفي الجبر والتفويض ، الحديث 2.
2- بحار الأنوار : 5 / 41 ، كتاب العدل والمعاد ، الحديث 64.
3- بحار الأنوار : 5 / 41 ، الحديث 65.
4- الكافي : 1 / 109 ، باب الإرادة من صفات الفعل ، الحديث 1.

ولا يتفكّر ، وهذه الصفات منفية عنه وهي صفات الخلق ، فإرادة الله ، الفعل ، لا غير ذلك ، يقول له : كن فيكون بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همّة ولا تفكّر ولا كيف لذلك ، كما أنّه لا كيف له». (1)

3. روى محمد بن مسلم ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : «المشيئة محدثة». (2)

تحليل الروايات الماضية

لا يشكّ ذو مسكة في أنّ الروايات ظاهرة في كون الإرادة من صفات الفعل دون صفات الذات ، لما يترتّب على القول الثاني من قدم العالم وغيره ، ولما كان القول بكونها من صفات الفعل مخالفاً للأصل المبرهن في الفلسفة الإسلامية من أنّ الإرادة وصف كمال للموجود بما هو موجود ، حاول صدر المتألّهين تفسير الروايات بنحو يوافق أُصوله فقال :

«والتحقيق انّ الإرادة تطلق بالاشتراك الصناعي على معنيين :

أحدهما : ما يفهمه الجمهور وهو ضد الكراهة ، وهي التي تحصل فينا عقيب تصوّر الشيء الملائم ، وعقيب التردّد حتّى يترجح عندنا الأمر ، الداعي إلى الفعل أو الترك فيصدر أحدُهما منّا ، وهذا المعنى فينا من الصفات النفسانية ، وهي والكراهة فينا كالشهوة والغضب فينا وفي الحيوان ، ولا يجوز على الله ، بل إرادته نفس صدور الأفعال منه من جهة علمه بوجه الخير ، وكراهته عدم صدور الفعل القبيح عنه لعلمه بقبحه.

وثانيهما : كون ذاته بحيث يصدر عنه الأشياء لأجل علمه بنظام الخير فيها التابع لعلمه بذاته ، لا كاتّباع الضوء للمضيء والسخونة للمسخِّن ، ولا كفعل

ص : 190


1- الكافي : 1 / 109 ، باب الإرادة من صفات الفعل ، الحديث 3 و 7.
2- الكافي : 1 / 109 ، باب الإرادة من صفات الفعل ، الحديث 3 و 7.

المجبورين والمسحّرين ، ولا كفعل المختارين بقصد زائد وإرادة ظنيّة يحتمل الطرف المقابل ، وقد تحقّقت انّ قيّوم الكلّ إنّما يفعل الكلّ عن علم هو نفس ذاته العليم الذي هو أتمّ العلوم ، فإذن هو سبحانه فاعل للأشياء كلّها بإرادة ترجع إلى علمه بذاته ، المستتبع لعلمه بغيره ، المقتضي لوجود غيره في الخارج لا لغرض زائد وجلب منفعة - إلى أن قال : - ولما كان فهم الجمهور لا يصل إلى الإرادة بهذا المعنى ، بل إلى النحو الذي في الحيوان أو ضدّه الكراهة ويكون حادثاً عند حدوث المراد ، جعلها (الإمام) من صفات الأفعال ومن الصفات الإضافية المتجدّدة كخالقيته أو رازقيته. (1)

وقال المولى محمد صالح المازندراني في شرحه على أُصول الكافي : الإرادة تطلق على معنيين كما صرّح به بعض الحكماء الإلهيّين.

أحدهما : الإرادة الحادثة وهي الّتي فُسرت في الحديث بأنّها نفس الإيجاد واحداث الفعل.

وثانيهما : الإرادة التي هي من الصفات الذاتية التي لا توصف الذات بنقيضها أزلاً وأبداً ، وهي التي وقع النزاع فيها.

فذهب جماعة إلى أنّها نفس علمه الحق بالمصالح والخيرات وعين ذاته الأحدية.

وذهبت الأشاعرة إلى أنّها صفة غير العلم. (2)

نقد وتحليل

إنّ هذا التفسير للروايات يتمتع بنقاط قوّة ، وهي :

ص : 191


1- شرح أُصول الكافي : 1 / 278.
2- شرح أُصول الكافي ، للمولى محمد صالح المازندراني : 3 / 345.

أوّلاً : فسّر الإرادة بمعنيين وهي بأحدهما صفة ذات وبالمعنى الآخر فهي صفة فعل.

ثانياً : الإرادة الإنسانية تمتنع أن تقع وصفاً لله سبحانه فلا محيص من إرجاع الإرادة بهذا المعنى في حقّه سبحانه إلى كونها صفة فعل.

ثالثاً : الإرادة الذاتية بالمعنى المناسب لذاته كانت حقيقة لا تُدرك الأفهام الساذجة غورَها ، بل حتّى الأفهام الحادة كسليمان المروزي ، فلذلك لم يذكر الإمام من الإرادة إلاّ ما هو وصف للفعل.

ورابعاً : انّ إصرار أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - على كون الإرادة من صفات الفعل للحيلولة دون وصف ذاته بالإرادة بهذا المعنى ، ولأجل ذلك ركزوا على أنّها من صفات الفعل.

وخامساً : انّ جعل الإرادة من صفات الذات كان مثاراً لشبهة قدم الإرادة بقدم الذات وبالتالي قدم العالم وعامّة مخلوقاته. ولأجل الحيلولة دون طروء هذه الشبهة في الأذهان كان الأئمّة - عليهم السلام - يعدّون الإرادة من صفات الفعل.

وممّا يعرب عن ذلك ما رواه سليمان بن جعفر الجعفري قال : قال الرضا - عليه السلام - : «المشيئة والإرادة من صفات الأفعال ، فمن زعم أنّ الله تعالى لم يزل مريداً شائياً فليس بموحّد». (1)

هذه هي نقاط القوة في هذا النوع من التفسير ، وعلى الرغم من ذلك فلا يخلو التفسير المذكور من ضعف ، وهو انّ إرجاع الإرادة الذاتية إلى العلم بالأصلح إنكار للإرادة والكمال المطلق للموجود.

ص : 192


1- توحيد الصدوق : 338.

5- ما هو المختار في الإرادة الالهيّة؟

قد مرّ آنفاً التفاسير المطروحة للإرادة الإلهية وعرفت وجوه الضعف فيها ، والذي يمكن أن يقال : انّ الإرادة تنقسم إلى : إرادة في مقام الفعل ، وإرادة في مقام الذات.

فالإرادة في مقام الفعل هو ما مرّ تفسيره في الأحاديث وكلمات المحقّقين فلا نطيل ، ونظير الإرادة هو العلم فإنّه ينقسم إلى العلم في مقام الفعل والعلم في مقام الذات.

فما سوى الله علمه سبحانه في مقام الفعل ، فكلّ الأشياء بما انّه فعله وخلقه ، أيضاً علمه وعرفانه ، نظير الصور الذهنية المخلوقة للنفس فهي في حدّ كونها فعلاً للنفس ، علم لها.

وهذا هو المستفاد من رواية أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - ، ولكنّا لا نرى فيها ما يدلّ على نفي الإرادة الذاتية بالمعنى المتناسب لمقام ذاته.

وأمّا الإرادة في مقام الذات فبيانه رهن مقدّمة ، وهي انّ الفاعل من حيث العلم بفعله وإرادته واختياره ينقسم إلى أقسام أربعة :

أ. ما يفعل بلا شعور ، كالعلل الطبيعية مثل النار والحرارة.

ص : 193

ب. ما يفعل مع شعور دون أن يكون له إرادة واختيار ، كحركة يد المرتعش.

ج. ما يصدر عن الفاعل عن علم وإرادة ولكنّه ليس مختاراً بل مضطرّاً إلى الفعل ، وهذا كإرادة المكرَه ، فالمكرَه عندنا من أقسام المريد لكنّه ليس بمختار ، فانّه يرجح أحد المحذورين على الآخر بإرادته ، ولكنّه ليس في ترجيح هذا مختاراً ، ولو لم يكن هناك ضغط خارجي لترك العمل من رأس.

د. ما يصدر عن علم وإرادة واختيار ، فهذا النوع من الفواعل أتمُّها وأفضلها ، لأنّ الفعل يصدر عن الفاعل من صميم ذاته فهو شاعر ، مقابل ما ليس بشاعر ، مريد ، في مقابل من ليس بمريد ، مختار في فعله دون أن يكون مكرهاً وعليه ضغط من خارج يبعثه إلى إرادة أحد العملين حتّى يرجح أقل المحذورين.

هذه هي أقسام الفواعل والأخير أفضلها.

إذا علمت ذلك فاعلم أنّ الفاعل المختار من جميع الجهات واجد لكمالات المراتب السابقة ، أعني : العلم والإرادة ، فانّ الغاية من العلم والإرادة هو جعل الفاعل فاعلاً مختاراً ، فإذا حصل الاختيار للفاعل وكان مختاراً في فعله ، والفعل صادراً عن صميم ذاته دون أن يكون هناك مكرَهاً فهو واجد لكمالات المراتب السابقة خصوصاً الإرادة.

وعلى ضوء ذلك انّه سبحانه تبارك وتعالى مريد بالذات فهو بهذا المعنى أي أنّه مختار والفاعل المختار واجد لكمال الإرادة وإن لم يكن واجداً لها بحدّها ، وهذا ما نسمّيه بالإرادة البسيطة.

والحاصل : انّ الإرادة التفصيلية التي تتألّف من تصوّر الفعل والتصديق

ص : 194

بالفائدة ورفع الموانع والشوق المؤكّد ثمّ الجزم والتصميم وإن لم تكن موجودة في الذات ولكن نتيجة الإرادة كون الفاعل مختاراً بالذات ، متحقّق في الذات وهي موصوفة بها ، فكونه مختاراً جامع لعامّة الكمالات السابقة.

وإن شئت قلت : إنّ الإرادة صفة كمال لا لأجل كونها حادثة طارئة متقضّية بعد حدوث المراد ، وإنّما هي صفة كمال لكونها رمز الاختيار وسمة عدم المقهورية حتّى أنّ الفاعل المريد المكرَه له قسط من الاختيار ، حيث يختار أحد طرفي الفعل على الآخر تلو محاسبات عقلية فيرجّح الفعل على الضرر المتوعّد به ، فإذا كان الهدف والغاية من وصف الفاعل بالإرادة هو إثبات الاختيار وعدم المقهورية فوصفه سبحانه بكونه مختاراً غير مقهور في سلطانه ، غير مجبور في إعمال قدرته ، كاف في جري الإرادة عليه ، لأنّ المختار واجد لكمال الإرادة على النحو الأتم والأكمل.

وقد ثبت في محلّه انّه يلزم في إجراء الصفات ترك المبادئ والأخذ بجهة الكمال ، فكمال الإرادة ليس في كونها طارئة زائلة عند إيجاد المراد أو كون الفاعل خارجاً بها عن القوة إلى الفعل أو من النقص إلى الكمال ، بل كمالها في كون صاحبها مختاراً مالكاً لفعله ، آخذاً بزمام عمله ، فلو كان هذا هو كمال الإرادة ، فالله سبحانه واجد له على النحو الأكمل ، إذ هو الفاعل المختار غير المقهور في سلطانه (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) (1). (2)

ص : 195


1- يوسف : 21.
2- لاحظ الإلهيات : 1 / 175.

6- الإرادة التكوينية والتشريعية

اشارة

تنقسم الإرادة إلى تكوينية وتشريعية ، واختلفوا في تفسير هذا التقسيم إلى نظريات

الأُولى : نظرية المحقّق الخراساني

قال المحقّق الخراساني : الإرادة التكوينية عبارة عن العلم بالنظام على النحو الكامل التام ، والإرادة التشريعية هو العلم بالمصلحة في فعل المكلّف. (1)

وفسّرهما في موضع آخر بالعبارة التالية وقال : لا محيص عن اتّحاد الإرادة والطلب وان يكون ذلك الشوق المؤكّد المستتبع لتحريك العضلات في إرادة فعله بالمباشرة (التكوينيّة) أو المستتبع لأمر عبيده به فيما لو أراده لا كذلك (لا بالمباشرة) مسمّى بالطلب والإرادة. (2)

والعبارة الأُولى ناظرة إلى تفسير الإرادتين في حقّه سبحانه ، والثانية ناظرة إلى تفسيرهما في الإنسان.

فالإرادة التكوينية على التفسير الأوّل هو العلم بالنظام على النحو

ص : 196


1- الكفاية : 1 / 99.
2- الكفاية : 1 / 96.

الكامل ، والإرادة التشريعية هو العلم بالمصلحة في فعل المكلّف ؛ ولكنّهما على التفسير الثاني عبارة عن الشوق المؤكّد المستتبع إمّا لتحريك العضلات فهي الإرادة التكوينية ، أو المستتبع لأمر العبيد به فهي التشريعية.

ولا يخفى ضعف التفسيرين.

أمّا الأوّل ، فلأنّ تفسير الإرادة الإلهية التكوينية بالعلم بالنظام على النحو الكامل والتشريعية بالعلم بالمصلحة ، تفسير غير تام ، لما مرّ من أنّ واقع الإرادة غير واقع العلم.

وأمّا التفسير الثاني ، فلأنّ تفسير الإرادة بالشوق المؤكّد الذي هو الجامع بين الإرادة التكوينية والتشريعية في الإرادة الإنسانية تفسير ضعيف ، إذ ليس الشوق من مبادئ الإرادة ولا نفس الإرادة بشهادة انّ الإنسان كثيراً ما يريد شيئاً ويفعله بلا شوق كشرب الدواء المرّ ، وربّما يشتاق ولا يفعله كما في المحرّمات.

الثانية : نظرية المحقّق الأصفهاني

إنّ الإرادة التكوينية تتعلّق بفعل المريد نفسِه ، والتشريعية تتعلّق بفعل الغير. ثمّ ذكر في توضيح الثانية ما هذا نصّه :

إنّ فعل الغير إذا كان ذا فائدة عائدة إلى الشخص ، ينبعث من الشوق إلى تلك الفائدة ، شوق إلى فعل الغير بملاحظة ترتّب تلك الفائدة العائدة إليه ، وحيث إنّ فعل الغير - بما هو فعل اختياري له - ليس بلا واسطة مقدوراً للشخص ، بل يتبع البعث والتحريك إليه ، لحصول الداعي للغير فلا محالة ينبعث للشخص (الآمر) شوق إلى ما يوجب حصول فعل الغير اختياراً وهو

ص : 197

تحريكه إلى الفعل.

فالإرادة التشريعية ليست ما تعلّق بالتحريك والبعث فانّهما من أفعاله (1) ، فلا مقابلة بين التشريعية والتكوينية ، بل التشريعية من الشوق المتعلّق بفعل الغير اختياراً ، وأمّا إذا لم يكن لفعل الغير فائدة عائدة إلى الشخص فلا يعقل تعلّق الشوق به بداهة انّ الشوق النفساني لا يكون بلا داع. (2)

ولمّا كان تفسير الإرادة التشريعية بالشوق المتعلّق بفعل الغير اختياراً ، موجباً لانتفاء الإرادة التشريعية في الله سبحانه ، لعدم تعقّل الشوق في ساحته تعالى ، حاول أن يفسّر الإرادة التشريعية بوجه ، يناسب ساحته تعالى وقال :

نعم من جملة النظام التام - الذي لا أتمّ منه - نظام إنزال الكتب وإرسال الرسل والتحريك إلى ما فيه صلاح العباد ، والزجر عمّا فيه الفساد ، فالمراد بالإرادة الذاتيّة بالعرض لا بالذات ، هذه الأُمور دون متعلّقاتها فلا أثر للإرادة التشريعية في صفاته الذاتية ؛ كما في الخبر الشريف المروي في توحيد الصدوق - قدس سره - بسنده عن أبي الحسن - عليه السلام - قال - عليه السلام - : «إنّ لله إرادتين ومشيّتين : إرادة حتم وإرادة عزم ، ينهى وهو يشأ ، ويأمر وهو لا يشأ» الخ ، وهو ظاهر في أنّ الإرادة التشريعية حقيقتها الأمر والنهي ، وانّ حقيقة الإرادة والمشيئة هي الإرادة التكوينية. (3)

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ الإرادة التكوينية وإن كانت تقابل الإرادة التشريعية

ص : 198


1- أي ليست الإرادة التشريعية هي الإرادة المتعلّقة بالبعث ، إذ على هذا لا تبقى مقابلة بين الإرادتين حيث تتعلّقان بفعل الآمر.
2- نهاية الدراية : 1 / 280 - 281.
3- نهاية الدراية : 1 / 281 - 282 ، الطبعة المحقّقة.

لكن التقابل لا يقتضي تفسير الأُولى بما يتعلّق بفعل المريد ، والأُخرى بما يتعلّق بفعل الغير ، بل يكفي وجود التغاير بينهما في خصوصيات المتعلّق بأن يقال : انّ الإرادة مطلقاً في التكوينية والتشريعية تتعلّق بفعل النفس والمريد ؛ غاية الأمر انّه لو كان متعلّقها إيجاد شيء في الخارج كالأكل والشرب توصف بالتكوينية ، ولو كان متعلّقها بعث المكلّف إلى إيجاد شيء في الخارج تسمّى تشريعية ، وبذلك يظهر عدم صحّة قوله : فالإرادة التشريعية ليست ما تتعلّق بالتحريك والبعث فانّهما من أفعاله فلا مقابلة (أي يلزم عدم المقابلة) بين الإرادتين ، لما عرفت من أنّه يكفي في التقابل ، وجود الاختلاف في خصوصيات المتعلّق بعد اشتراكهما في كون المتعلّق فيهما هو فعل المريد ، غاية الأمر ينقسم فعل المريد إلى قسمين ، كما عرفت.

وثانياً : أنّ لازم تفسير التشريعية بالشوق إلى فعل الغير لما فيه فائدة عائدة إلى الشخص المريد ، هو كون الإرادة التكوينية أيضاً من مقولة الشوق ، وقد عرفت أنّ الإرادة ليست من مقولة الشوق ، وربّما يكون هنا شوق ولا إرادة كما تكون إرادة ولا يكون شوق.

وثالثاً : أنّ تقسيم الإرادة إلى التكوينية والتشريعية في مورده سبحانه والإنسان بملاك واحد ، وهو إن تعلّقت الإرادة بإيجاد الشيء تكويناً ، فالإرادة تكوينية مطلقاً في المالك والمملوك ، وإن تعلّقت بالإنشاء والبعث فهي تشريعية كذلك ، وهذا بخلاف ما أفاده - قدس سره - حيث فسّر الإرادة التكوينية : بحبه بذاته لذاته ، وحبه لأفعاله بالعرض ، وأمّا الإرادة التشريعية فهي عبارة عن إرسال الرسل وإنزال الكتب.

ص : 199

رابعاً : انّ إرسال الرسل وإنزال الكتب من مظاهر الإرادة التكوينية ، حيث إنّها عبارة عن ابتهاج الواجب ذاته بذاته وابتهاجه بأفعاله وما يدخل في دار الوجود ، بالعرض ، ومن أفعاله إرسال الرسل وإنزال الكتب ومعه كيف عدّهما من مظاهر الإرادة التشريعية؟!

الثالثة : نظرية العلاّمة الطباطبائي

وحاصل النظرية عبارة عمّا ذكرناه في نقد نظرية المحقّق الأصفهاني من أنّه لا فرق بين الإرادة التكوينية والتشريعية في أنّ كليهما يتعلّقان بفعل المريد ، غاية الأمر إن تعلّقت بفعل المريد غير البعث والزجر فهي إرادة تكوينية ، وإن تعلّقت ببعث الغير وزجره عن الشيء فهي إرادة تشريعية ، فمتعلّق الإرادتين في الحقيقة فعل المريد ؛ غاية الأمر انّ المتعلّق إن كان الفعل الخارجي فهو إرادة تكوينية ، وإن تعلّقت بإنشاء البعث والزجر الذي هو أيضاً فعل المريد فالإرادة تشريعية.

قال - قدس سره - معلّقاً على قول صاحب الكفاية «المستتبع لأمر عبيده به فيما لو أراده لا كذلك» ما هذا لفظه : إنّ الإرادة في استتباعها لأمر العبيد من قبيل إرادة الفعل بالمباشرة ، وأمّا بالنسبة إلى إرادة فعل العبد مثلاً فلا إرادة في النفس تتعلّق بفعل الغير ، بل إنّما هي إرادة إنشائية وتسميتها إرادة متعلّقة بفعل الغير مجاز أو مسامحة ، لمكان التلبّس الواقع بين الأمر والمأمور به.

وبه يتبيّن انّ القول بتعلّق الإرادة بفعل المأمور به مسامحة أو خطأ واضح تابع من الاتّحاد المتوهّم بين الأمر والمأمور به ، وذلك انّ الإرادة حيثية حقيقية

ص : 200

رابطة بين الذات المريدة وفعلها القائم بها ، وأمّا النفس وفعل غيرها فلا رابطة بينهما حتّى يتوسط بينهما حيثية الإرادة ، فالإرادة المتعلّقة بفعل المأمور توهّماً متعلّقة بالحقيقة بأمره بالفعل فتنسب إلى نفس الفعل مجازاً ، أو انّ إرادة الأمر لتعلّقها بفعل ما (البعث) له ارتباط بفعل المأمور تعد متعلّقة بنفس فعل المأمور تجوّزاً ، كما يقال : أردت الخبز وإنّما أراد أكله ، وهذا النحو من الاسناد أو النسبة كثير الدوران في الاستعمال. (1)

وحاصل تلك النظرية : انّ تقسيم الإرادة إلى التكوينية والتشريعية صرف اصطلاح نشأ من غرض خاص ، وإلاّ فالإرادة في كلا القسمين تتعلّق بفعل المريد ، إذ يمتنع أن تتعلّق الإرادة بفعل الغير ، لأنّها لا تتعلّق إلاّ بما كان تحت اختيار المريد وفعل الغير خارج عن اختياره فكيف تتعلّق إرادته به؟! هذا ما بعث السيد العلاّمة الطباطبائي إلى القول بأنّ كلا القسمين من نسيج واحد ، وإنّما الاختلاف في المراد ، فتارة يكون المراد أمراً تكوينياً ، وأُخرى أمراً اعتبارياً كإنشاء البعث المنتزع من الأمر.

وبعبارة أُخرى : إنّ الإنسان بما انّه طالب للكمال ربّما يقوم بالفعل بنفسه الذي يرى فيه الكمال وربّما يستخدم الغير لأجل تبسيط قدرته ونيل الكمال المطلوب عن طريقه ، فتكون الغاية من الإرادة التشريعية هو الوصول إلى الكمال المطلوب عن طريق استخدام الغير وبعثه نحو المراد.

هذه هي الإرادة التشريعية الإنسانية ، وأمّا الإرادة التشريعية الإلهية فهي أجل من أن تكون لتلك الغاية ، لأنّه كمال مطلق لا يتطرّق إليه النقص ولا

ص : 201


1- حاشية الكفاية ، للعلاّمة الطباطبائي : 78.

يتصوّر فوقه كمال ، إنّما الغاية لأمره ونهيه هو إيصال المأمور إلى الكمال ، وعلى هذا فالإرادة التشريعية في عامّة المراتب بمعنى واحد غير أنّ الغاية تختلف في الإنسان وغيره ، فالغرض منها في الإنسان هو طلب الكمال لنفسه وفي حقّه سبحانه هو إيصال الغير إلى الكمال.

ص : 202

الفصل الخامس: رؤية الله سبحانه

اشارة

ص : 203

ص : 204

تمهيد

إنّ رؤية الله سبحانه في الدارين التي أثارت ضجة كبيرة في الأوساط الإسلامية ، فالمفكِّرون الواعون على تنزيهه سبحانه عن التجسيم والتشبيه والجهة والرؤية ، ومقلِّدة أخبار الآحاد والمخدوعون بالإسرائيليات على جواز الرؤية في الآخرة. ورائدنا في الرسالة ، الكتاب ، والسنّة الصحيحة ، والعقل الصريح الذي به عرفنا الله سبحانه وصفاته وأنبياءه ويأتي كلامنا فيها ضمن فصول :

ص : 205

1- الرؤية فكرة يهودية مستوردة

لما انتشر الإسلام في الجزيرة العربية وضرب بجرانه أراضيها ، ودخل الناس في الإسلام زرافات ووحداناً ، لم تجد اليهود والنصارى محيصاً إلاّ الاستسلام للأمر الواقع ، فدخلوا في الإسلام متظاهرين به غير معتقدين غالباً ، إلاّ من شملتهم العناية الإلهية منهم وكانوا قليلين ، ولكن الأغلبية الساحقة منهم خصوصاً الأحبار والرهبان بقوا على ما كانوا عليه من العقائد.

كانت الأحبار والرهبان عارفين بما في العهدين من القصص والحكايات والأُصول والعقائد ، فعمدوا إلى نشرها بين المسلمين بخداع خاص وبطريقة علمية ، وكانت السذاجة سائدة على أكثر المسلمين فزعموهم علماء ربانيّين يحملون العلم ، فأخذوا منهم ما يلقون ، بقلب واع ونيّة صادقة ، فأوجد ذلك أرضية صالحة لنشر القصص الخرافية والعقائد الباطلة خصوصاً فيما يرجع إلى التجسيم والتشبيه وتحقير الأنبياء في أنظار المسلمين بإسناد المعاصي الموبقة إليهم ، ولم تكن رؤية الله بأقلّ ممّا سبق في تركيزهم عليها ، فما ترى في كتب الحديث قديماً وحديثاً من الأخبار الكثيرة حول التجسيم والتشبيه والرؤية ونسبة المعاصي إلى الأنبياء والتركيز على القدر والقضاء السالبين للاختيار ، فكلّها من آفات المستسلمة من

ص : 206

اليهود والنصارى ، فحسبها بعض السلف حقائق راهنة وقصصاً صادقة ، فتلقّوها بقبول حسن ونشروها بين الخلف ، ودام الأمر على ذلك حتّى يومنا هذا. ويكفيك الحديث التالي :

قصد الحنابلة الإمام العلاّمة محمد بن جرير الطبري يوم الجمعة في الجامع وسألوه عن حديث جلوسه سبحانه على العرش ، فقال أبو جعفر : أمّا أحمد بن حنبل فلا يعدّ خلافه ، فقالوا له : فقد ذكره العلماء في الاختلاف ؛ فقال : ما رأيته روي عنه ، ولا رأيت له أصحاباً يعوّل عليهم ، وأمّا حديث الجلوس على العرش فمحال ، ثمّ أنشد :

سبحان من ليس له أنيس

ولا له في عرشه جليس

فلما سمعوا ذلك وثبوا فرموه بمحابرهم ، وقد كانت أُلوفاً ، فقام بنفسه ودخل داره فردموا داره بالحجارة حتّى صار على بابه كالتل العظيم ، وركب «نازوك» صاحب الشرطة في عشرات أُلوف من الجند يمنع عنه العامّة ، ووقف على بابه إلى الليل ، وأمر برفع الحجارة عنه ، وكان قد كتب على بابه البيت المتقدّم فأمر «نازوك» بمحو ذلك ، وكتب مكانه بعض أصحاب الحديث :

لأحمدَ منزلٌ لا شكَّ عَال *** إذا وَافى إلى الرحمن وافِدْ

فيُدْنيه ويقعده كريماً *** على رغم لهم في أنفِ حاسِدْ

عَلى عرشِ يُغَلِّفُهُ بطيب *** على الأكبادِ من بَاغ وعَانِدْ

ص : 207

له هذا المُقامُ يكونُ حقا *** كَذاكَ رواه ليثٌ عن مُجَاهِد(1)

أهكذا يتعامل مع إمام كبير وفقيه عظيم ، ومحدّث بصير مثل الطبري ولا ذنب له إلاّ أنّه إمام مفكّر ، لا يؤمن بأساطير اليهود ، وإن تلقّاها «مجاهد» ونظراؤه حقيقة راهنة؟!

ومن العوامل التي فسحت المجال للأحبار والرهبان لنشر ما في العهدين بين المسلمين ، حظر تدوين حديث الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ونشره ونقله والتحدّث به أكثر من مائة سنة ، فأوجد الفراغ الذي خلفه هذا العمل ، أرضية مناسبة لظهور بدع يهودية ونصرانية وسخافات مسيحية وأساطير يهودية خصوصاً من قبل كهنة اليهود ورهبان النصارى.

يقول الشهرستاني : وضع كثير من اليهود الذين اعتنقوا الإسلام أحاديث متعدّدة في مسائل التجسيم والتشبيه ، وكلّها مستمدة من التوراة. (2)

قال ابن خلدون : إنّ العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم وإنّما غلبت عليهم البداوة والأُمّية ، وإذا تشوّقوا إلى معرفة شيء ممّا تتوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكوّنات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإنّما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ، ويستفيدونه منهم وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم

ص : 208


1- قال الطبري في التفسير : حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي قال : حدثنا ابن فضيل عن ليث عن مجاهد في قوله : عسى الخ قال : يجلسه معه على عرشه. لاحظ مقدمة اختلاف الفقهاء للطبري : 11.
2- الملل والنحل : 1 / 117.

فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم ، وتساهل المفسرون في مثل ذلك وملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات ، وأصلها كلّها كما قلنا من التوراة أو ممّا كانوا يفترون. (1)

ومن أكابر أحبار اليهود الذين تظاهروا بالإسلام هو كعب الأحبار ، فقد خدع عقول المسلمين وحتى الخلفاء والمترجمين له من علماء الرجال ، وقد أسلم في زمن أبي بكر ، وقدم من اليمن في خلافة عمر فأخذ عنه الصحابة وغيرهم.

قال الذهبي : العلاّمة الحبر الذي كان يهودياً فأسلم بعد وفاة النبيّ ، وقدم المدينة من اليمن في أيام عمر ، وجالس أصحاب محمد ، فكان يحدّثهم عن الكتب الإسرائيلية ويحفظ عجائب - إلى أن قال : - حدّث عنه أبو هريرة ومعاوية وابن عباس وذلك من قبيل رواية الصحابي عن تابعي وهو نادر عزيز ، وحدّث عنه أيضاً أسلم «مولى عمر» وتبيع الحميري ابن امرأة كعب ، وروى عنه عدّة من التابعين كعطاء بن يسار وغيره مرسلاً ، وقع له رواية في سنن أبي داود والترمذي والنسائي. (2)

وعرّفه الذهبي أيضاً في بعض كتبه بأنّه من أوعية العلم. (3)

فقد وجد الحبر الماكر جوّاً ملائماً لنشر الأساطير والقصص الوهمية ، وبذلك بثّ سمومه القتّالة بين الصحابة والتابعين ، وقد تبعوه وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً.

وقد تنبّه إلى جسامة الخسارة التي أحدثها ذلك الحبر ، لفيف من السابقين ،

ص : 209


1- مقدّمة ابن خلدون : 439.
2- سير أعلام النبلاء : 3 / 489.
3- تذكرة الحفّاظ : 1 / 52.

منهم ابن كثير في تفسيره حيث إنّه بعد ما أورد طائفة من الأخبار في قصة ملكة سبأ مع سليمان - عليه السلام - قال : والأقرب في مثل هذه السياقات أنّها متلقّاة عن أهل الكتاب ، ممّا وجد في صحفهم كروايات كعب ووهب - سامحهما الله تعالى - في ما نقلاه إلى هذه الأُمّة من أخبار بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب ممّا كان وما لم يكن ، وممّا حُرِّف وبُدِّل ونُسِخَ ، وقد أغنانا الله سبحانه عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ. (1)

والذي يدلّ على عمق مكره وخداعه لعقول المسلمين أنّه ربّما ينقل شيئاً من العهدين ، وفي الوقت ذاته نرى أنّ بعض الصحابة الذين تتلمذوا على يديه وأخذوا منه ، ينسب نفس ما نقله «كعب» إلى الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ، والذي يبرّر ذلك العمل حسن ظنّهم وثقتهم به ، فحسبوا المنقول شيئاً صحيحاً ، فنسبوه إلى النبيّ ، زاعمين أنّه إذا كان كعب الأحبار عالماً به ، فالنبيّ أولى بالعلم منه.

فإن كنت في شكّ من ذلك فاقرأ نصّين في موضوع واحد أحدهما للإمام الطبري في تاريخه ينقله عن كعب الأحبار في حشر الشمس والقمر يوم القيامة ، والآخر للإمام ابن كثير صاحب التفسير ينقله عن أبي هريرة عن النبيّ الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ومضمون الحديث ينادي بأعلى صوته بأنّه موضوع مجعول على لسان الوحي نشره الحبر الخادع وقَبِلَه الساذج من المسلمين ونسبه إلى نبي الإسلام - صلى الله عليه وآله وسلم -.

1. قال الطبري : عن عكرمة قال : بينا ابن عباس ذات يوم جالس إذ جاءه رجل فقال : يا ابن عباس سمعت العجب من كعب الحبر يذكر في الشمس والقمر قال : وكان متّكئاً فاحتفر ثم قال : وما ذاك؟ قال : زعم يُجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنّهما ثوران عقيران فيُقذفان في جهنم ، قال عكرمة : فطارت

ص : 210


1- ابن كثير : التفسير ، قسم سورة النمل : 3 / 339.

من ابن عباس شفة ووقعت أُخرى غضباً ، ثم قال : كذب كعب ، كذب كعب ، كذب كعب ، ثلاث مرّات ، بل هذه يهودية يريد إدخالها في الإسلام ، الله أجلّ وأكرم من أن يعذّب على طاعته ، ألم تسمع قول الله تبارك وتعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) إنّما يعني دءوبهما في الطاعة ، فكيف يعذِّب عبدين يُثني عليهما أنّهما دائبان في طاعته. قاتلَ الله هذا الحبر وقبّح حبريته ، ما أجرأه على الله وأعظم فريته على هذين العبدين المطيعين لله ، قال : ثم استرجع مراراً. (1)

2. قال ابن كثير : روى البزار عن عبد العزيز بن المختار قال : سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن في هذا المسجد مسجد الكوفة ، وجاء الحسن فجلس إليه فحدث قال : حدثنا أبو هريرة أنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : «إنّ الشمس والقمر ثوران في النار عقيران يوم القيامة» فقال الحسن : وما ذنبهما؟ فقال : أُحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وتقول أحسبه قال : وما ذنبهما؟! ثم قال : لا يروى عن أبي هريرة إلاّ من هذا الوجه. (2)

إنّ كعب الأحبار لمّا أسلم بعد رحيل الرسول لم يتمكّن من إسناد ما رواه من الأسطورة إلى النبيّ الأكرم ، ولو كان مدركاً لحياته وإن كان قليلاً لنسبها إليه ولكن حالت المشيئة الإلهية دون أمانيّه الباطلة.

ولكنّ أبا هريرة لمّا صحب النبي واستحسن الظن بكعب الأحبار - أُستاذه في الأساطير - نسب الرواية إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -.

هذا نموذج قدّمته إلى القارئ لكي يقف على دور الأحبار والرهبان في نشر البدع اليهودية والنصرانية بين المسلمين ، ولا يُحسن الظن بمجرّد النقل بلا تأكيد

ص : 211


1- الطبري : التاريخ : 1 / 44 ، ط بيروت.
2- ابن كثير : التفسير : 4 / 475 ، ط دار الاحياء.

من صحته.

هذا غيض من فيض وقليل من كثير ممّا لعب به مستسلمة اليهود والنصارى في أحاديثنا وأُصولنا ، ولو لا أنّ الله سبحانه قيّض في كل آونة رجالاً مصلحين كافحوا هذه الخرافات وأيقظوا المسلمين من السبات ، لذهبت هذه الأساطير بروعة الإسلام وصفائه وجلاله.

ص : 212

2- الرؤية في العهد القديم

قد سبق انّ الرؤية فكرة مستوردة أدخلها مستسلمة أهل الكتاب بين المسلمين ونشروها بينهم حتّى صارت عقيدة إسلامية ربما يُكفّر من ينكرها ، وقد استمد الأحبار والرهبان في نشر تلك الفكرة من العهدين المتوافرين بين أيديهم ، وها نحن نذكر نصوصاً من العهد القديم حول الرؤية ليتّضح صدق ما قلناه.

1. وقال (الرب) لا تقدر أن ترى وجهي لأنّ الإنسان لا يراني ويعيش. قال الرب هو ذا عندي مكان ، فتقف على الصخرة ، ويكون من اجتاز مجدي أني أضعك في نقرة من الصخرة وأترك بيدي حتّى أجتاز ، ثمّ أرفع يدي فتنظر ورائي وأمّا وجهي فلا يُرى.

سفر الخروج آخر الاصحاح الثالث والثلاثين.

وعلى هذا فالرب يُرى قفاه ولا يرى وجهه.

2. رأيت السيد جالساً على كرسي عال ... فقلت ويل لي لأنّ عيني قد رأتا الملك رب الجنود.

سفر أشعيا الاصحاح 6 الفقرة 61.

والمقصود من السيد هو الله جلّ ذكره.

ص : 213

3. كنت أرى انّه وضعت عروش وجلس القديم الأيام ، لباسه أبيض كالثلج وشعر رأسه كالصوف النقي وعرشه لهيب نار.

سفر دانيال الاصحاح 7 الفقرة 91.

4. أمّا أنا فبالبرّ أنظر وجهك.

مزامير داود الاصحاح 17 الفقرة 15.

5. فغضب الرب على سليمان لأنّ قلبه مال عن الرب إله إسرائيل الذي تراءى له مرتين.

سفر الملوك الأوّل الاصحاح 11 الفقرة 9.

وقد رأيت الرب جالساً على كرسيه وكلّ جند البحار وقوف لديه.

سفر الملوك الأول الاصحاح 22 الفقرة 19.

6. كان في سنة الثلاثين في الشهر الرابع في الخامس من الشهر وأنا بين المسبيين عند نهر خابور ، انّ السماوات انفتحت فرأيت رؤى الله - إلى أن قال - هذا منظر شبه مجد الرب ، ولمّا رأيته خررت على وجهي وسمعت صوت متكلّم.

سفر حزقيال الاصحاح 1 ، الفقرة 281.

هذه نماذج ممّا في العهد القديم حول الرؤية ، وعليه اعتمد الحبر الماكر في نشر أفكاره ، وقد كان يركّز على فكرتين يهوديتين.

الأُولى : فكرة التجسيم.

الثانية : رؤية الله.

يقول في الفكرة الأُولى : إنّ الله تعالى نظر إلى الأرض فقال : إنّي واطئ على بعضك. فاستعلت إليه الجبال ، وتضعضعت له الصخرة ، فشكر لها ذلك فوضع

ص : 214

عليها قدمه فقال : هذا مقامي ، ومحشر خلقي وهذه جنتي وهذه ناري ، وهذا موضع ميزاني ، وأنا ديان الدين. (1)

ففي هذه الكلمة من هذا الحبر تصريح على تجسيمه تعالى أوّلاً ، وتركيز على أنّ الجنة والنار والميزان ستكون على هذه الأرض ، ومركز سلطانها سيكون على الصخرة ، وهذا من صميم الدين اليهودي المحرّف. هذا حول التجسيم.

وأمّا تركيزه على الرؤية فقد أشاع فكرة التقسيم ، فقال : إنّ الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمد ، ومنه انتشرت هذه الفكرة ، أي فكرة التقسيم بين المسلمين. (2)

ومن أعظم الدواهي انّ الرجل تزلّف إلى الخلفاء في خلافة عمر وعثمان وحدّث عن الكثير من القصص الخرافية ، وبعد ما توفّي عثمان تزلّف إلى معاوية ونشر في عهده ما يؤيد به ملكه ودولته ، ومن كلماته في حقّ الدولة الأموية ، يقول : مولد النبي بمكة ، وهجرته بطيبة ، وملكه بالشام. (3)

وبذلك أضفى على الدولة الأموية صبغة شرعية ، وجعل ملكهم وسلطتهم امتداداً لملك النبي وسلطته.

إنّ فكرة الرؤية تسرّبت إلى المسلمين من المتظاهرين بالإسلام كالأحبار والرهبان ، وصار ذلك سبباً لجرأة طوائف من المسلمين على جعلها في ضمن العقيدة الإسلامية (4) ، بحيث يكفر منكرها أحياناً ويفسق ، ولمّا صارت تلك

ص : 215


1- حلية الأولياء لابن نعيم الاصفهاني : 6 / 20.
2- شرح نهج البلاغة : 3 / 237.
3- الدارمي في السنن : 1 / 5.
4- مقالات الإسلاميين رسالة الأشعري في عقيدة أهل الحديث ، الفقرة 21.

العقيدة راسخة في القرنين الثاني والثالث بين المسلمين ، عاد المتكلّمون المحقّقون للبرهنة والاستدلال على بطلان الفكرة من الكتاب أوّلاً والسنّة ثانياً ، ولو لا رسوخها بينهم لما تحمّلوا عبء الاستدلال وجهد البرهنة ، وسوف يوافيك انّ الكتاب العزيز يرد فكرة الرؤية ويستعظم أمرها وينكرها ويستفظعها بشدة وحماس ، وما استدلّ به على جواز الرؤية من الكتاب فلا مساس له بالموضوع ، فانتظر حتّى يأتيك البيان.

ص : 216

3- الرؤية في منطق العلم والعقل

اشارة

إنّ الرؤية في منطق العلم والعقل لا تتحقّق إلاّ إذا كان الشيء مقابلاً أو حالاً في المقابل ، من غير فرق بين تفسيرها حسب رأي القدماء أو حسب العلم الحديث ، فإنّ القدماء كانوا يفسرون الرؤية على النحو التالي :

خروج الشعاع من العين وسقوطه على الأشياء ثمّ انعكاسه عن الأشياء فرجوعه إلى العين لكي تتحقق الرؤية ، ولكن العلم الحديث كشف بطلان هذا التفسير ، وقال :

إنّها عبارة عن صدور الأشعة من الأشياء ودخولها إلى العين عن طريق عدستها وسقوطها على شبكية العين فتتحقّق الرؤية.

وعلى كلّ تقدير فالضرورة قاضية على أنّ الإبصار بالعين متوقّف على حصول المقابلة بين العين والمرئي ، أو حكم المقابلة كما في رؤية الصور في المرآة ، وهذا أمر تحكم به الضرورة وإنكاره مكابرة واضحة ، فإذا كانت ماهية الرؤية هي ما ذكرناه فلا يمكن تحقّقها فيما إذا تنزّه الشيء عن المقابلة أو الحلول في المقابل.

وبعبارة واضحة : انّ العقل والنقل اتّفقا على كونه سبحانه ليس بجسم ولا

ص : 217

جسماني ولا في جهة ، والرؤية فرع كون الشيء في جهة خاصة ، وما شأنه هذا لا يتعلّق إلاّ بالمحسوس لا المجرد.

المحاولة اليائسة في تجويز الرؤية

اشارة

إنّ مفكّري الأشاعرة الذين لهم قدم راسخة في المسائل العقلية لمّا وقفوا أمام هذا الدليل ذهبوا يميناً ويساراً للجمع بين الرؤية والتنزيه ، وإليك بيان ذلك :

1. الرؤية بلا كيف

هذا العنوان هو الذي يجده القارئ في كتب الأشاعرة وربّما يعبر عنه خصومهم ب «البلكفة» ومعناه انّ الله تعالى يُرى بلا كيف وانّ المؤمنين في الجنة يرونه بلا كيف ، أي منزّهاً عن المقابلة والجهة والمكان.

يلاحظ عليه : أنّ تمنّي الرؤية بلا مقابلة ولا جهة ولا مكان ، أشبه برسم أسد بلا رأس ولا ذنب على جسم بطل ، فالرؤية التي لا يكون المرئي فيها مقابلاً للرائي ولا متحقّقاً في مكان ولا متحيزاً في جهة كيف تكون رؤية بالعيون والأبصار؟!

والحقّ انّ قول الأشاعرة كأهل الحديث «بلا كيف» مهزلة لا يعتمد عليها ، فانّ الكيفية ربما تكون من مقوّمات الشيء ولولاها لما كان له أثر ، فمثلاً يقولون : إنّ لله يداً ورجلاً وعيناً وسمعاً بلا كيف ، ويصرحون بثبوت واقعيات هذه الصفات حسب معانيها اللغوية لله سبحانه لكن بلا كيفية.

وهذا كما ترى فأنّ اليد في اللغة العربية وضعت للجارحة حسب ما لها من الكيفية ، فإثبات اليد لله بالمعنى اللغوي مع حذف الكيفية ، يكون مساوياً لنفي معناها اللغوي ويكون راجعاً إلى تفسيرها بالمعاني المجازية التي يفرون منها فرار المزكوم من المسك ، ومثله القدم والوجه.

ص : 218

وبعبارة أُخرى : انّ الحنابلة والأشاعرة يصرّون على أنّ الصفات الخبرية كاليد والرجل والقدم والوجه في الكتاب والسنّة يجب ان تفسر بنفس معانيها اللغوية ، ولا يجوز لنا حملها على معانيها المجازية كالقدرة في اليد مثلاً ، ولمّا رأوا انّ ذلك يلازم التجسيم التجئوا إلى قولهم : يد بلا كيف أو وجه بلا كيف ، ولكنّهم ما دروا انّ الكيفية في اليد والوجه وغيرهما مقوّمة لمفاهيمها ، فنفي الكيفية يساوق نفي المعنى اللغوي ، فكيف يمكن الجمع بين المعنى اللغوي والحمل عليه بلا كيف؟! ومنه يعلم حال الرؤية بالبصر والعين فإنّ التقابل مقوّم لمفهومها ، فإثباتها بلا كيف يلازم نفي أصل الرؤية ، والكلام في المقام إنّما هو النظر بالبصر والرؤية بالعين ، لا الرؤية بالقلب أو في النوم فانّها خارجة عن محط البحث.

2. اختلاف الأحكام باختلاف الظروف

إنّ بعض المتّفقين من الجدد لمّا وجدوا انّ الرؤية لا تنفك عن الجهة التجئوا إلى القول بأنّ كلّ شيء في الآخرة غيره في الدنيا ، ولعلّ الرؤية تتحقّق في الآخرة بلا هذا اللازم السلبي. وهذا ما سمعته عن بعض المشايخ في دمشق.

يلاحظ عليه : بأنّه رجم بالغيب ، فإن أرادوا من المغايرة بأنّ الآخرة ظرف للتكامل وانّ الأشياء توجد في الآخرة بأكمل وجودها وأمثلها ، فهذا لا مناقشة فيه ، يقول سبحانه : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً). (1) وإن أرادوا انّ القضايا العقلية البديهية تتبدّل في الآخرة إلى نقيضها ، فهذا يوجب انهيار النّظم الكلامية والأساليب العلمية التي يعتمد عليها المفكّرون من أتباع الشرائع وغيرهم ، إذ معنى ذلك انّ النتائج المثبتة في جدول

ص : 219


1- البقرة : 25.

الضرب سوف تتبدّل في الآخرة إلى ما يباينها ، فتكون النتيجة ضرب 2* 5 / 2 أو 10 أو ... وانّ قولنا : «كلّ ممكن يحتاج إلى علّة» يتبدّل في الآخرة إلى أنّ الممكن غني عن العلّة ، فعند ذلك لا يستقر حجر على حجر وتنهار جميع المناهج الفكرية ، ويصير الإنسان سوفسطائيا.

3. عدم المبالاة بإثبات الجهة

إنّ أساتذة الجامعات الإسلامية في الرياض ومكة المكرمة والمدينة المنورة بدل أن يجهدوا أنفسهم في فهم المعارف ويتجردوا في مقام التحليل عن الآراء المسبقة ، نرى أنّهم يدعمون شباب الجامعات وخرّيجيها بدعم مالي وفكري ليجمعوا من هنا وهناك أُموراً حول الرؤية ، فخرجوا بنتيجة هي إثبات الجهة لله حتّى يتسنّى لهم إثبات الرؤية ، وهذا العمل أشبه بدفع الفاسد بالأفسد ، وإن كنت في شك من ذلك فاستمع لما يلي :

يقول الدكتور أحمد بن محمد آل حمد خريج جامعة أُم القرى : إنّ إثبات رؤية حقيقية بالعيان من غير مقابلة أو جهة ، مكابرة عقلية لأنّ الجهة من لوازم الرؤية ، وإثبات اللزوم ونفي اللازم مغالطة ظاهرة.

ومع هذا الاعتراف تخلّص عن الالتزام بإثبات الجهة لله بقوله : إنّ إثبات صفة العلو لله تبارك وتعالى ورد في الكتاب والسنّة في مواضع كثيرة جدّاً ، فلا حرج في إثبات رؤية الله تعالى في هذا العلو الثابت له تبارك وتعالى ، ولا يقدح هذا في التنزيه ، لأنّ من أثبت هذا أعلم البشر بما يستحقّ الله تعالى من صفات الكمال.

أمّا لفظة الجهة فهي من الألفاظ المجملة التي لم يرد نفيها ولا إثباتها بالنص

ص : 220

فنأخذ حكم مثل هذه الألفاظ. (1)

يلاحظ عليه :

أوّلاً : من أين ادّعى انّ الكتاب والسنّة أثبت العلو لله الذي هو مساوق للجهة ، فإن أراد قوله سبحانه : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) فقد حقّق في محلّه بأنّ استواءه على العرش كناية عن استيلائه على السماوات والأرض ، وعدم عجزه عن التدبير ، وأين هو من إثبات العلوّ لله؟! وقد أوضحنا مفاد هذه الآيات في أسفارنا الكلامية. (2)

وإن أراد ما جمعه ابن خزيمة وأضرابه من حشويات المجسّمة والمشبّهة ، فكلّها بدع يهودية أو مجوسية تسرّبت إلى المسلمين يرفضها القرآن الكريم وروايات أئمة أهل البيت - عليهم السلام -.

ثانياً : إذا افترضنا صحّة كونه موجوداً في جهة عالية ينظر إلى السماوات والأرض ، فكيف يكون محيطاً بكل شيء وموجوداً مع كلّ شيء؟! (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (3) فإذا كان هذا معنى التنزيه فسلام الله على التجسيم ، ولعلّ شاعر المعرة تمنّى الموت أمام هذه الأقوال والآراء وقال :

يا موت زر إنّ الحياة ذميمة

ويا نفس جدي إنّ دهرك هازل

أقول : إنّ الذي تستهدفه رسالات السماء كان يتلخّص في توحيده سبحانه وأنّه واحد لا نظير له ولا مثيل أوّلاً ، وتنزيهه سبحانه عن مشابهة الممكنات

ص : 221


1- رؤية الله تعالى : 61 ، نشر معهد البحوث العلمية في مكة المكرمة.
2- الإلهيات : 1 / 330 - 340.
3- الحديد : 4.

والموجودات ثانياً.

لكنّ لفيفاً من أصحاب الحديث بعد رحيل الرسول توغّلوا في وحل الشرك والتجسيم وأبطلوا كلتا النتيجتين ؛ فقالوا بحماس بقدم القرآن وعدم حدوثه ، فأثبتوا بذلك مِثْلاً لله في الأزلية وكونه قديماً كقدمه سبحانه.

وأثبتوا لله سبحانه العلو والجهة اغتراراً ببعض الظواهر والأحاديث المستوردة ، فأبطلوا بذلك تنزيهه سبحانه وتعاليه عن مشابهة المخلوقات.

فخالفوا رسالات السماء في موردين أصليّين :

1. التوحيد ، بالقول بقدم القرآن. (1)

2. التنزيه بإثبات الجهة والرؤية.

(كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً). (2)

ص : 222


1- القول بقدم القرآن غير القول بقدم علمه سبحانه ،. فلا يختلط عليك الأمر.
2- النحل : 92.

4- موقف الذِّكر الحكيم من أمر الرؤية إجمالاً

إنّ الذكر الحكيم يصف الله سبحانه بصفات تهدف جميعها إلى أنّه منزّه عن الجسم والجسمانية ، وأنّه ليس له مثل ولا نظير ، ولا ندّ ولا كفو ، وأنّه محيط بكل شيء ، ولا يحيطه شيء ، إلى غير ذلك من الصفات المنزّهة التي يقف عليها الباحث عند جمع الآيات الواردة في هذا المجال ، وبدورنا نشير إلى بعض منها :

قال سبحانه :

1. (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). (1)

2. (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ). (2)

3. (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). (3)

4. (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ

ص : 223


1- الشورى : 11.
2- الإخلاص : 1 - 4.
3- الحديد : 3.

يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). (1)

5. (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ). (2)

6. (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). (3)

7. (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). (4)

8. (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ). (5)

9. (اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ). (6)

10. (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ). (7)

وحصيلة هذه الآيات أنّه لا يوجد في صفحة الوجود له مثل ، وهو أحد لا كفو له ، لم يلد ولم يولد بل هو أزليّ ، فبما أنّه أزليّ الوجود ، فوجوده قبل كل شيء أي

ص : 224


1- الحديد : 4.
2- الحشر : 23.
3- الحشر : 24.
4- المجادلة : 7.
5- فصلت : 54.
6- البقرة : 255.
7- الأنعام : 103.

لا وجود قبله ، وبما أنّه أبديّ الوجود فهو آخر كل شيء إذ لا وجود بعده ، وبما أنّه خالق السماوات والأرض فالكون قائم بوجوده فهو باطن كل شيء ، كما أنّ النظام البديع دليل على وجوده فهو ظاهر كل شيء.

لا يحويه مكان لأنّه خالق السماوات والأرض وخالق الكون والمكان ، فكانَ قبل أن يكون أيّ مكان ، وبما أنّ العالم دقيقه وجليله ، فقير محتاج إليه قائم به ، فهو مع الأشياء معيّة قيومية لا معيّة مكانية ، ومع الإنسان أينما كان. فلا يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم ولا خمسة إلاّ هو سادسهم ، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلاّ هو معهم أينما كانوا وذلك مقتضى كونه قيّوماً وما سواه قائماً به ، ولا يمكن للقيوم الغيبوبة عمّا قام به ، وفي النهاية هو محيط بكل شيء لا يحيطه شيء ، فقد أحاط كرسيّه السماوات والأرض ، فالجميع محاط وهو محيط ، ومن كان بهذه المنزلة لا تدركه الأبصار الصغيرة الضعيفة ولا يقع في أُفقها ولكنّه لكونه محيطاً ، يدرك الأبصار.

هذه صفاته سبحانه في القرآن ذكرناها على وجه الإيجاز وأوردناها بلا تفسير. وقد ثبت في محله أنّ من سمات العقيدة الإسلامية كونها عقيدة سهلة لا إبهام فيها ولا لغز فلو وجدنا شيئاً في السنّة أو غيرها يصطدم بهذه الصفات فيحكم عليه بالتأويل إن صحّ السند ، أو بالضرب عرض الجدار إن لم يصح ، فمن تلا هذه الآيات وتدبّر فيها ، يحكم بأنّه سبحانه فوق أن يقع في وهم الإنسان وفكره ومجال بصره وعينه ؛ وعند ذلك لو قيل له : إنّه جاء في الأثر أنّكم سترون ربّكم يوم القيامة كما ترون هذا (البدر) لا تضامون في رؤيته (1) ، يتلقّاه أمراً مناقضاً لما تلا من الآيات

ص : 225


1- البخاري : الصحيح : 4 / 200.

أو استمع إليها ، ويحدث في نفسه ويقول : الخالق البارئ الذي هو ليس بجسم ولا جسماني ، لا يحويه مكان ، محيط بالسماوات والأرض كيف يُرى يوم القيامة كالبدر في جهة خاصة وناحية عالية مع أنّه كان ولا علو ولا جهة ، بل هو خالقهما؟! وأين هذه الرؤية من وصفه سبحانه بأنّه لا يحويه مكان ولا يقع في جهة وهو محيط بكل شيء؟!

ولا يكون التناقض بين الوصفين بأقل من التناقض الموجود في العقيدة النصرانية من أنّه سبحانه واحد وفي الوقت نفسه ثلاثة ، وكلّما حاول القائل بالرؤية الجمع بين العقيدتين ، لا يستطيع أن يرفع التعارض والاصطدام بين المعرفتين في أنظار المخاطبين بهذه الآيات والرواية ، ومن جرّد نفسه عن المجادلات الكلامية والمحاولات الفكرية للجمع بين المعرفتين يرى التعريفين متصادمين ، فأين القول بأنّه سبحانه بعيد عن الحسّ والمحسوسات ، منزّه عن الجهة والمكان ، محيط بعوالم الوجود ، وفي نفس الوقت تنزّله سبحانه منزلة الحسّ والمحسوسات ، واقعاً بمرأى ومنظر من الإنسان يراه ويبصره كما يبصر البدر ، يشاهده في أُفق عال؟! وقد تعرّفت على أنّ السهولة في العقيدة وخلوّها من الألغاز هو من سمات العقيدة الإسلامية ، فالجمع بين المعرفتين كجمع النصارى بين كونه سبحانه واحداً وثلاثاً.

هذا من جانب ، ومن جانب آخر نرى أنّه سبحانه كلّما طرح مسألة الرؤية في القرآن الكريم فإنّما طرحها باستعظام من أن ينالها الإنسان ويتلقّى سؤالها وتمنّيها من الإنسان أمراً فظيعاً وقبيحاً وتطلّعاً إلى ما هو دونه.

1. قال سبحانه : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ

ص : 226

تَشْكُرُونَ). (1)

2. وقال سبحانه : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً). (2)

3. وقال سبحانه : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ). (3)

4. وقال سبحانه : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ). (4)

فالمتدبّر في هذه الآيات يقضي بأنّ القرآن الكريم يستعظم الرؤية ويستفظع سؤالها ويقبّحه ويعدّ الإنسان قاصراً عن أن ينالها على وجه ينزل العذاب غبَّ سؤالها. فلو كانت الرؤية أمراً ممكناً ولو في وقت آخر لكان عليه سبحانه أن يتلطّف عليهم بأنّكم سترونه في الحياة الآخرة لا في الحياة الدنيا ، ولكنّا نرى أنّه سبحانه يقابلهم بنزول الصاعقة فيقتلهم ثم يحييهم بدعاء موسى ، كما أنّ موسى لمّا طلب الرؤية وأُجيب بالمنع ، تاب إلى الله سبحانه وقال : (أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) بأنّك

ص : 227


1- البقرة : 55 - 56.
2- النساء : 153.
3- الأعراف : 143.
4- الأعراف : 155.

لا تُرى. فإذا كانت الرؤية نعمة عظمى كما يدّعيها القوم ، فلا وجه لنزول العذاب عند طلبها ، غاية الأمر يجاب السائل بعدم الإمكان في الدنيا.

فالإمعان بما ورد فيها من عتاب وتنديد ، بل وإماتة وإنزال عذاب يدلّ بوضوح على أنّ الرؤية فوق قابلية الإنسان ، وطلبه إليها أشبه بالتطلّع إلى أمر محال.

فعند ذلك لو قيل للمتدبّر بالآيات : إنّه روى قيس بن أبي حازم أنّه حدّثه جرير وقال : خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ليلة البدر فقال : «إنّكم سترون ربّكم يوم القيامة كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته» (1) ؛ يجد الحديث مناقضاً لما ورد في هذه الآيات ، ويحدِّث نفسه أنّه كيف صار الأمر الممتنع أمراً ممكناً ، والإنسان غير المؤهّل للرؤية مؤهّلاً لها؟!

ص : 228


1- البخاري : الصحيح : 4 / 200.

5- الرؤية في الذكر الحكيم تفصيلاً

الآية الأُولى : عدم قدرة الأبصار على إدراكه

اشارة

قد عرفت تعبير الكتاب عن الرؤية إجمالاً ، وانّه يعد طلب الرؤية وسؤالها أمراً فظيعاً قبيحاً موجباً لنزول الصاعقة والعذاب ، فالآيات السابقة وضّحت موقف الكتاب من هذه المسألة لكن على وجه الإجمال ، غير أنّا إذا استنطقنا ما سبق من الآيات ، نقف على قضاء الكتاب في أمر الرؤية على وجه التفصيل. وقد عقدنا هذا الفصل لدراسة بعض ما سبق حتّى نتأكد ممّا فهمنا من الكتاب العزيز ، وإليك البيان :

قال سبحانه : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ).

(لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ). (1)

تقرير الاستدلال يتم في مرحلتين :

ص : 229


1- الأنعام : 102 - 103.
المرحلة الأُولى : في بيان مفهوم الدرك

الدرك في اللغة : اللحوق والوصول وليس بمعنى الرؤية ، ولو أريد منه الرؤية فإنّما هو باعتبار قرينية المتعلّق.

قال ابن فارس : الدرك له أصل واحد (أي معنى واحد) وهو لحوق الشيء بالشيء ووصوله إليه ، يقال : أدرك الغلام والجارية إذا بلغا ، وتدارك القوم : لحق آخرهم أوّلهم. (1)

وذكر ابن منظور نحو ما ذكره ابن فارس وأضاف : ففي الحديث أعوذ بك من درك الشقاء أي لحوقه ، يقال : مشيت حتّى أدركته ، وعشت حتّى أدركته ، وأدركته ببصري أي رأيته. (2)

ومنه قوله سبحانه : (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ). (3) أي حتّى إذا لحقهم الغرق فأظهروا الإيمان ولات حين مناص.

إذا كان الدرك بمعنى اللحوق والوصول فدرك كلّ شيء ووصوله بحسبه ، فالإدراك بالبصر ، التحاق من الرائي بالمرئي بالبصر ، والإدراك بالمشي كما في قول ابن منظور مشيت حتى أدركت ، التحاق الماشي المتأخر بالمتقدّم بالمشي ، وهكذا.

فإذا قال سبحانه : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) يتعيّن ذلك المعنى الكلّي ، أي اللحوق والوصول بالرؤية ، ويكون المعنى انّ الأبصار لا تلحق بالله بالرؤية ، فإنّ لحوق البصر يتحقّق عن طريق الرؤية ، وهذا الوصف ممّا تفرّد به سبحانه.

ص : 230


1- مقاييس اللغة : 2 / 366.
2- لسان العرب : 10 / 419 ، نفس المادة.
3- يونس : 90.
الثانية : في مفهوم الآيتين

إنّه سبحانه لما قال : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) ربّما يتبادر إلى بعض الأذهان انّه إذا صار وكيلاً على كلّ شيء ، يكون جسماً قائماً بتدبير الأُمور الجسمانية ، فدفعه بأنّه سبحانه مع كونه وكيلاً لكلّ شيء (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ).

ولما يتبادر من ذلك الوصف إلى بعض الأذهان انّه إذا تعالى عن تعلّق الابصار فقد خرج عن حيطة الأشياء الخارجية وبطل الربط الوجودي الذي هو مناط علمه بمخلوقاته ، دفعه بقوله : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) مشيراً إلى وجود الربط الذي هو مناط علمه بهم.

ثمّ علّله بقوله : (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) و «اللطيف» هو الرقيق النافذ في الشيء ، و «الخبير» من له الخبرة الكاملة ، فإذا كان تعالى محيطاً بكلّ شيء لرقته ونفوذه في الأشياء كان شاهداً على كلّ شيء لا يفقده ظاهر كلّ شيء وباطنه ، ومع ذلك فهو عالم بظواهر الأشياء وبواطنها من غير أن يشغله شيء عن شيء أو يحتجب عنه شيء بشيء.

وبعبارة أُخرى : انّ الأشياء في مقام التصوّر على أصناف :

1. ما يَرى ويُرى ، كالإنسان.

2. ما لا يَرى ولا يُرى ، كالأعراض النسبية كالأُبوّة والبنوة.

3. ما يُرى ولا يَرى كالجمادات.

4. ما يَرى ولا يُرى ، وهذا القسم تفرّد به خالق جميع الموجودات بأنّه يَرى ولا يُرى ، والآية بصدد مدحه وثنائه ، بأنّه جمع بين الأمرين يَرى ولا يُرى إلاّ بالشقّ

ص : 231

الأوّل وحده نظير قوله سبحانه : (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ). (1) ودلالة الآية على انّه سبحانه لا يُرى بالأبصار بمكان من الوضوح.

الآية الثانية : الرؤية إحاطة علمية بالله سبحانه

قال سبحانه : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً * يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً). (2)

إنّ الآية تتركب من جزءين :

الأوّل : قوله : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ).

الثاني : قوله : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً).

والضمير المجرور في قوله : «به» يعود إلى الله سبحانه.

ومعنى الآية : الله يحيط بهم لأنّه : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) ويكون معادلاً لقوله : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) ولكنّهم (لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) ويساوي قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ).

وأمّا كيفية الاستدلال فبيانها انّ الرؤية سواء أوقعت على جميع الذات أم على جزء منه ، نوع إحاطة علمية من البشر به سبحانه ، وقد قال : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً).

ص : 232


1- الأنعام : 14.
2- طه : 110109.

الآية الثالثة : ردّ السؤال بنفي الرؤية مؤبّداً

اشارة

قال سبحانه : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ). (1)

لا شكّ إنّنا إذا عرضنا الآية على عربي صميم لم يتأثّر ذهنه بالمناقشات الكلامية الدائرة بين النفاة والمثبتين وطلبنا منه أن يبيّن الإطار العام للآية ومفادها ومنحاها وانّها بصدد بيان امتناع الرؤية أو جوازها ، يجيب بصفاء ذهنه بأنّ الإطار العام لها هو تعاليه سبحانه عن الرؤية وانّ سؤاله أمر عظيم فظيع لا يمحى أثره إلاّ بالتوبة ، ففهم ذلك العربي حجة علينا لا يجوز لنا العدول عنها ، والقرآن نزل بلسان عربي مبين ولم ينزل بلسان المتكلّمين أو المجادلين.

كما أنّا إذا أردنا أن نفسر مفاد الآية تفسيراً صناعياً ، فلا شكّ أنّه يدلّ أيضاً على تعاليه عنها وذلك بوجوه :

1. الإجابة بالنفي المؤبّد

لمّا سأل موسى رؤية الله تبارك وتعالى أُجيب ب (لَنْ تَرانِي) والمتبادر من هذه الجملة أي قوله (لَنْ تَرانِي) هو النفي الأبدي الدالّ على عدم تحقّقها أبداً.

ص : 233


1- الأعراف : 143.

والدليل على ذلك هو تتبّع موارد استعمال كلمة «لن» في الذكر الحكيم ، فلا تراها متخلّفة عن ذلك حتّى في مورد واحد.

1. قال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ). (1)

2. (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ). (2)

3. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ). (3)

4. (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ). (4)

5. (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ). (5)

6. (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا). (6)

إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في أنّ «لن» تفيد التأبيد.

2. تعليق الرؤية على أمر غير واقع

علّق سبحانه الرؤية على استقرار الجبل وبقائه على الحالة التي هو عليها عند التجلّي ، وعدم تحوّله إلى ذرات ترابية صغار بعده ، والمفروض انّه لم يبق على حالته السابقة وبطلت هويته وصار تراباً مدكوكاً ، فإذا انتفى المعلّق عليه ينتفي

ص : 234


1- الحج : 73.
2- التوبة : 80.
3- محمد : 34.
4- المنافقون : 6.
5- البقرة : 120.
6- التوبة : 83.

المعلّق ، وهذا النوع من الكلام طريقة معروفة حيث يعلّقون وجود الشيء بما يعلم أنّه لا يكون والله سبحانه بما أنّه يعلم أنّ الجبل لا يستقرّ في مكانه - بعد التجلّي - فيعلّق الرؤية على استقراره ، حتّى يستدلّ بانتفائه على انتفائه ، قال سبحانه : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ). (1)

3. تنزيهه سبحانه - بعد الافاقة - عن الرؤية

تذكر الآية بأنّ موسى لما أفاق فأوّل ما تكلّم به هو تسبيحه سبحانه وتنزيهه وقال : (سُبْحانَكَ) ، وذلك لأنّ الرؤية لا تنفك عن الجهة والجسمية وغيرهما من النقائص ، فنزّه سبحانه عنها ، فطلبها نوع تصديق لها.

4. توبته لأجل طلب الرؤية
اشارة

إنّه - عليه السلام - بعد ما أفاق ، أخذ بالتنزيه أوّلاً ، والتوبة والإنابة إلى ربّه ثانياً ، وظاهر الآية انّه تاب من سؤاله كما أنّ الظاهر من قوله : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) أنّه أوّل المصدّقين بأنّه لا يُرى بتاتاً.

إجابة عن سؤال

إنّ سؤال الرؤية من الكليم دليل على إمكانها ، فلو كان أمراً محالاً لما سألها.

والجواب عن الشبهة واضح ، فإنّ الاستدلال بطلب موسى إنّما يصحّ إذا طلبها الكليم باختيار ومن دون ضغط من قومه ، فعندئذ يصلح للتمسّك به ظاهراً ، لكن القرائن تشهد على أنّه سأل الرؤية على لسان قومه حين كانوا مصرّين على ذلك.

ص : 235


1- الأعراف : 40.

ويدلّ عليه قوله سبحانه : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ). (1)

وبعد ما عادوا إلى الحياة بدعاء موسى طلبوا منه أن يسأل الرؤية لنفسه لا لهم حتّى تحلّ رؤيته لله مكان رؤيتهم كما حلّ سماعه للوحي سبحانه محلّ سماعهم لكلامه تعالى حتّى يؤمنوا به.

فعند ذاك لم يكن لموسى محيص إلاّ الإقدام على السؤال وقال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) فأجيب بقوله : (لَنْ تَرانِي).

وعلى ذلك ما كان طلب الرؤية إلاّ ليكبت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضُلاّلاً وتبرّأ من فعلهم ، وذلك أنّهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخطأ ونبّههم على الحقّ فلجّوا وتمادوا في لجاجهم ، وقالوا لا بدّ ولن نؤمن حتّى نرى الله جهرة ، فأراد أن يسمعوا النص من عند الله باستحالة ذلك وهو قوله : (لَنْ تَرانِي) ليتيقّنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة ، فلذلك قال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ). (2)

إلى هنا تمت دراسة الآيات الصريحة في امتناع رؤية الله تبارك وتعالى بطرق مختلفة ، ومن أمعن فيها وتجرد عن العقيدة التي تربّى عليها منذ نعومة أظفاره لرأى انّ الذكر الحكيم صريح في تعاليه سبحانه عن أن يقع في إطار الرؤية وأنّ طلب الرؤية تمنّي باطل.

ص : 236


1- النساء : 153.
2- الزمخشري : الكشاف : 1 / 573 - 574.

6- الرؤية في كلمات أئمّة أهل البيت عليهم السلام

إنّ المراجع إلى خطب الإمام علي - عليه السلام - في التوحيد وما أُثر عن أئمّة العترة الطاهرة في مجال الرؤية ، يقف على أنّ مذهبهم هو امتناعها وانّه سبحانه لا تدركه أوهام القلوب ، فكيف بأبصار العيون؟ وإليك نزراً يسيراً ممّا ورد في هذا الباب.

1. قال الإمام علي - عليه السلام - في خطبة الأشباح : «الأوّل الذي لم يكن له قبل فيكون شيء قبله ، والآخر الذي ليس له بعد فيكون شيء بعده ، والرادع أناسي الأبصار عن أن تناله أو تدركه». (1)

2. وقد سأله ذعلب اليماني ، فقال : هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟ فقال - عليه السلام - : «أفأعبد ما لا أرى؟» فقال : وكيف تراه؟ فقال : «لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان ، قريب من الأشياء غير ملابس ، بعيد منها غير مباين». (2)

3. وقال - عليه السلام - : «الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد ، ولا تحويه المشاهد ، ولا تراه النواظر ، ولا تحجبه السواتر». (3)

ص : 237


1- نهج البلاغة ، الخطبة 87.
2- نهج البلاغة ، الخطبة 174.
3- نهج البلاغة ، الخطبة 180.

إلى غير ذلك من خطبه - عليه السلام - الطافحة بتقديسه وتنزيهه عن إحاطة القلوب والأبصار به. (1)

وأمّا المروي عن سائر أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - فحدث عنه ولا حرج.

1. روى الصدوق عن عبد الله بن سنان ، عن أبيه قال : حضرت أبا جعفر (محمد الباقر) - عليه السلام - فدخل عليه رجل من الخوارج فقال له : يا أبا جعفر أيّ شيء تَعبد؟ قال : «الله» ، قال : رأيته؟ قال : «لم تره العيون بمشاهدة العيان ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ، لا يُعرف بالقياس ولا يُدرك بالحواس ، ولا يُشبه بالناس ، موصوف بالآيات ، معروف بالعلامات ، لا يجور في حكمه ، ذلك الله لا إله إلاّ هو» قال : فخرج الرجل وهو يقول : الله أعلم حيث يجعل رسالته. (2)

2. روى الصدوق عن أبي الحسن الموصلي ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : «جاء حبر إلى أمير المؤمنين - عليه السلام - فقال : يا أمير المؤمنين هل رأيت ربّك حين عبدته؟ فقال : ويلك ما كنت أعبد ربّاً لم أره ، وقال : كيف رأيته؟ قال : ويلك لا تُدرِكه العيون بمشاهدة الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان». (3)

3. ما روي عن الإمام علي بن موسى الرضا - عليه السلام - في مناظرته مع أحد المحدّثين باسم أبي قرة ، ذكر أبو قرة الحديث الموروث عن الحبر الماكر كعب الأحبار من أنّه سبحانه قسم الرؤية والكلام بين نبيّين فقسّم لموسى - عليه السلام - الكلام ولمحمّد - صلى الله عليه وآله وسلم - الرؤية.

فقال أبو الحسن - عليه السلام - : «فمن المبلّغ عن الله إلى الثقلين الجن والإنس إنّه (لا

ص : 238


1- لاحظ الخطبتين 48 و 81.
2- التوحيد : 108 ، باب ما جاء في الرؤية الحديث 5 ، والسائل كان من الخوارج.
3- التوحيد : 109 ، الحديث 6. والسائل أحد أحبار اليهود.

تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ، (لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أليس محمّد - صلى الله عليه وآله وسلم -؟» قال : بلى.

قال أبو الحسن - عليه السلام - : «فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم انّه جاء من عند الله ، وانّه يدعوهم إلى الله بأمر الله ، ويقول إنّه : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ، (لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ثمّ يقول : أنا رأيته بعيني وأحطت به علماً وهو على صورة البشر ، أما تستحيون؟! أما قدرت الزنادقة ان ترميه بهذا ، أن يكون أتى عن الله بأمر ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر». (1)

ص : 239


1- الاحتجاج : 2 / 375.

7- شبهات القائلين بالرؤية

إنّ للقائلين بالرؤية في الآخرة شبهات ربّما يغتر بها من ليس له إلمام بالكتاب والسنّة فيتصوّر المغالطة دليلاً ، نذكر منها ما هو المهم ، وهو :

قوله سبحانه : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ)

استدلّوا على تحقّق الرؤية في الآخرة بهذا المقطع الوارد في الآيات التالية :

(كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ). (1)

يقول المستدل : إنّ النظر إذا كان بمعنى الانتظار يستعمل بغير صلة ، ويقال : انتظرته ، وإذا كان بمعنى التفكّر يستعمل بلفظة «في» ، وإذا كان بمعنى الرأفة يستعمل بلفظة «اللام» ، وإذا كان بمعنى الرؤية استعمل بلفظة «إلى» فيحمل على الرؤية. (2)

أقول : سواء أقلنا إنّ النظر في الآية بمعنى الانتظار أو قلنا بمعنى الرؤية ،

ص : 240


1- القيامة : 2520.
2- شرح التجريد للقوشجي : 334.

فالآية لا تدلّ على جواز الرؤية يوم القيامة بتاتاً ، وذلك لوجوه :

الأوّل : انّه سبحانه نسب النظر إلى الوجوه لا إلى العيون ، فلم يقل عيون يومئذ ناظرة إلى ربّها ناضرة ، بل قال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) ، فلو كان المراد الجدي هو الرؤية الحسّية لكان المتعيّن استخدام العيون بدل الوجوه ، وأنت لا تجد في الأدب العربي قديمه وحديثه مورداً نسب فيه النظر إلى الوجوه وأُريدت به الرؤية الحسية بالعيون والأبصار ، بل كلّما أُريد منه الرؤية نسب إلى العيون أو الأبصار.

يقول سبحانه : (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ). (1)

وقال سبحانه : (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها). (2)

وقال سبحانه : (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ). (3)

فأداة الرؤية في القرآن الكريم هي العين والبصر لا الوجه ، يقول سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ). (4)

الثاني : نحن نوافق المستدلّ بأنّ النظر إذا استعمل مع إلى يكون بمعنى الرؤية ، لكن ربّما تكون الرؤية كناية عن معنى آخر ، فعندئذ يكون المقصود الحقيقي هو المكنّى عنه لا المكنّى به.

مثلاً إذا أردنا وصف زيد بالجود يقال : «زيد كثير الرماد» ، فالمعنى اللغوي ذم حيث يحكي عن كثرة النفايات في الدار ، ولكن المعنى المكنّى عنه الذي هو المتبادر العرفي هو مدح يحكي عن جوده وسخائه ، فالعبرة في تفسير الآية هو المراد الجدي لا المراد الاستعمالي.

ص : 241


1- آل عمران : 13.
2- الأعراف : 179.
3- النور : 31.
4- المؤمنون : 87.

والآية الكريمة - أعني قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) - من هذا القبيل فهو حسب الإرادة الاستعمالية بمعنى وجوه ناظرة إلى الله سبحانه أي رائية له ، ولكنّه كناية عن انتظار الرحمة أو العذاب مثلاً : يقول الشاعر :

وجوه ناظرات يوم بدر *** إلى الرحمن يأتي بالفلاح

فلا يشكّ الإنسان انّ قوله : «وجوه ناظرات» بمعنى رائيات ، ولكنّه كُنّي به عن انتظار النصر والفتح.

ومنه الشعر التالي :

أني إليك لما وعدت لناظر *** نظر الفقير إلى الغني الموسر

لا شكّ انّ المراد من النظر في كلا الموردين هو الرؤية ، استعمالاً ، ولكنّه كناية عن انتظار إنجاز الوعد ووصول العطاء.

والحاصل : انّ النظر إذا أُسند إلى العيون يكون المعنى الاستعمالي والجدي هو الرؤية ، ولكن إذا أُسند إلى الشخص أو الوجه تكون بمعنى الرؤية استعمالاً ويكون كناية عن الانتظار جداً ، مثلاً يقال : أنا إلى فلان ناظر ما يصنع به ، يريد معنى التوقع والرجاء.

ينقل الزمخشري انّه سمع سروية مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم ، تقول : «عيينتي نويظرة إلى الله وإليكم» تقصد راجية ومتوقعة لإحسانهم إليها كما هو معنى قولهم : «أنا أنظر إلى الله ثمّ إليك» أتوقع فضل الله ثمّ فضلك. (1)

ص : 242


1- الكشاف : 3 / 294.

الثالث : كان على من يستدلّ بالآية أن يرفع إبهامها بمقابلها ، فإنّ الآيات تتألف من ثلاث مقاطع متقابلة ، بالنحو التالي :

1. (كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) يقابلها (وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ).

2. (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) يقابلها (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ).

3. (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) يقابلها (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ).

فقوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) كما ترى يقابلها قوله : (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) ، فبما انّ الجملة المقابلة صريحة في أنّ أصحاب الوجوه الباسرة ينتظرون العذاب الكاسر لظهرهم ويظنون نزوله ومثل هذا الظن لا ينفك عن الانتظار ، فتكون قرينة على أنّ أصحاب الوجوه المشرقة ينظرون إلى ربّهم ، أي يرجون رحمته ، حتّى تكون الجملة متقابلة لمقابلها.

وإلاّ فلو حمل قوله سبحانه : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) إلى رؤية الله خرجت الجملة عن التقابل ويعود كلاماً عارياً عن البلاغة ويكون مفاد المتقابلين كالشكل التالي :

أصحاب الوجوه الناضرة ...... ينظرون إلى الله ويرونه سبحانه.

أصحاب الوجوه الباسرة ...... ينتظرون نزول العذاب والنقمة.

وهو كما ترى لا يليق أن ينسب إلى الوحي.

على أنّك تجد هذا التقابل والانسجام في آيات أُخرى وكأنّ الجميع سبيكة واحدة.

1. (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) (ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ).

2. (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ) (تَرْهَقُها قَتَرَةٌ). (1)

ص : 243


1- عبس : 4138.

فإنّ قوله : (ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) قائم مقام قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) فيرفع إبهام الثاني بالأوّل.

3. (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ * تَصْلى ناراً حامِيَةً). (1)

4. (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) (لِسَعْيِها راضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ). (2)

انظر إلى الانسجام البديع ، والتقابل الواضح بينها ، والاستهداف الواحد ، والجميع بصدد تصنيف الوجوه يوم القيامة ، إلى ناضرة ومسفرة ، وناعمة وإلى باسرة ، وسوداء (غبرة) وخاشعة.

أفبعد هذا البيان يبقى الشكّ في أنّ المراد من (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) هو انتظار الرحمة ، والقائل بالرؤية يتمسّك بهذه الآية ويغض النظر عمّا حولها من الآيات ، ومن المعلوم أنّ هذا من قبيل محاولة إثبات المدّعى بالآية ، لا محاولة الوقوف على مفادها.

وفي الختام أرى من الجدير بالذكر أن أنقل الحوار القصير الذي دار بيني وبين أحد المثقّفين في تركيا ، وكان يُجيد اللغتين التركية والعربية والثانية كانت لغته الأُمّ ، لأنّه كان من الإسكندرونة المحتلّة - حسب زعم السوريين - ، وقد كان يرافقني عند ما حللت ضيفاً على تركيا لإلقاء محاضرة في المؤتمر الذي انعقد لبيان أحكام السفر ، وقد استرسلنا في الحوار إلى أن سألني عن رؤية الله تبارك وتعالى في الآخرة؟

فأجبته بالنفي.

قال : لما ذا؟

ص : 244


1- الغاشية 42.
2- الغاشية : 108.

قلت له : هل يُرى سبحانه كلّه أو بعضه.

فعلى الأوّل يكون الرائي محيطاً والله سبحانه محاطاً مع أنّه تعالى محيط بكلّ شيء.

وعلى الثاني يكون مركباً ذا أجزاء تكون بعض أجزائه غائبة من البعض الآخر والحاجة آية الإمكان وهو آية الفقر والحاجة الذي هو على طرف النقيض من الله الغني.

فتحيّر السائل من جوابي هذا ولم يجب بشيء.

ص : 245

8- رؤيته تعالى في الأحاديث النبوية

اشارة

قد تعرّفت على موقف الكتاب من رؤيته سبحانه وأنّه كلّما يذكر الرؤية وسؤالها وطلبها ، يستعظمه ويستفظعه إجمالاً ، وعند ما يطرحها تفصيلاً ، يعدّها أمراً محالاً ، كما عرفت أنّ ما تمسك به القائلون بجواز الرؤية من الآيات لا يدلّ على ما يدّعون.

بقي الكلام في الروايات الواردة حول الرؤية في الصحاح والمسانيد ، ودلالتها على المطلوب واضحة كما ستوافيك ، لكن الكلام في حجية الروايات التي تضاد الذكر الحكيم ، وتباينه ، فإذا كان الكتاب العزيز مهيمناً على سائر الكتب فلما ذا لا يكون مهيمناً على السنن المروية عن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - التي دوّنت بعد مضي 143 سنة من رحيله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولم تَصُن عن دسّ الأحبار والرهبان؟! قال سبحانه : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ) (1) وقال تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (2) ولا يعني ذلك ، حذف السنّة من الشريعة ورفع شعار : حسبنا كتاب الله ، بل يعني التأكد من

ص : 246


1- المائدة : 48.
2- النمل : 76.

الصحّة ثم تطبيق العمل عليها.

وإليك ما ورد في الصحاح حول الرؤية :

روى البخاري في باب «الصراط جسر جهنم» بسنده عن أبي هريرة قال : قال أُناس : يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ فقال : «هل تضارّون في الشمس ليس دونها سحاب؟» قالوا : لا يا رسول الله ، قال : «هل تضارّون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟» قالوا : لا يا رسول الله ، قال : «فإنّكم ترونه يوم القيامة ، كذلك يجمع الله الناس فيقول : من كان يعبد شيئاً فليتبعه ، فيتبع من كان يعبد الشمسَ ، ويتبع من كان يعبد القمر ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت ، وتبقى هذه الأُمّة فيها منافقوها ، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربّنا فإذا أتانا ربّنا عرفناه فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : أنت ربّنا فيتبعونه ويضرب جسر جهنم ... - إلى أن يقول : - ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار فيقول : يا ربّ قد قشبني ريحها ، وأحرقني ذكاؤها ، فاصرف وجهي عن النار ، فلا يزال يدعو الله فيقول : لعلّك إن أعطيتك أن تسألني غيره.

فيقول : لا وعزتك لا أسألك غيره ، فيصرف وجهه عن النار ، ثم يقول بعد ذلك : يا رب قرّبني إلى باب الجنة ، فيقول : أليس قد زعمت أن لا تسألني غيره؟ ويلك ابن آدم ما أغدرك ، فلا يزال يدعو فيقول : لعلّي إن أعطيتك ذلك تسألني غيره ، فيقول : لا وعزتك لا أسألك غيره ، فيعطي الله من عهود ومواثيق أن لا يسأله غيره ، فيقرّبه إلى باب الجنّة فإذا رأى ما فيها ، سكت ما شاء الله أن يسكت ، ثم يقول : ربي أدخلني الجنّة ، ثم يقول : أو ليس قد زعمت أن لا تسألني غيره ، ويلك يا ابن آدم ما أغدرك ، فيقول : يا رب لا تجعلني أشقى خلقك ، فلا يزال يدعو حتى

ص : 247

يضحك (الله) فإذا ضحك منه أذن له بالدخول فيها ... الحديث. (1)

ورواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة مع اختلاف يسير (2).

ورواه أيضاً عن أبي سعيد الخدري باختلاف غير يسير في المتن وفيه : حتى إذا لم يبق إلاّ من كان يعبد الله تعالى من برّ وفاجر أتاهم ربّ العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها ، قال : فما تنتظر تتبع كل أُمّة ما كانت تعبد ، قالوا : يا ربّنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنّا إليهم ولم نصاحبهم ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك ، لا نشرك بالله شيئاً ، مرتين أو ثلاثاً حتى أنّ بعضهم ليكاد أن ينقلب ، فيقول : هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ فيقولون : نعم ، فيكشف عن ساق ، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه ، إلاّ أذن الله له بالسجود ، ولا يبقى من كان يسجد اتقاءً ورياءً إلاّ جعل الله ظهره طبقة واحدة ، كلما أراد أن يسجد خرّ على قفاه ... الحديث. (3)

وقد نقل الحديث في مواضع من الصحيحين بتلخيص ، ورواه أحمد في مسنده (4)

تحليل الحديث

إنّ هذا الحديث مهما كثرت رواته ، وتعددت نقلته لا يصح الركون إليه في منطق الشرع والعقل بوجوه :

1. إنّه خبر واحد لا يفيد شيئاً في باب الأُصول والعقائد ، وإن كان مفيداً في

ص : 248


1- البخاري : الصحيح : 8 / 117 باب الصراط جسر جهنم.
2- مسلم : الصحيح : 1 / 113 ، باب معرفة طريق الرؤية.
3- مسلم : الصحيح : 1 / 115 ، باب معرفة طريق الرؤية.
4- أحمد بن حنبل : المسند : 2 / 368.

باب الفروع والأحكام ، إذ المطلوب في الفروع هو الفعل والعمل ، وهو أمر ميسور سواء أذعن العامل بكونه مطابقاً للواقع أو لا ، بل يكفي قيام الحجّة على لزوم تطبيق العمل عليه ، ولكن المطلوب في العقائد هو الإذعان وعقد القلب ونفي الريب والشك عن وجه الشيء ، وهو لا يحصل من خبر الواحد ولا من خبر الاثنين ، إلاّ إذا بلغ إلى حدّ يُورِث العلم والإذعان ، وهو غير حاصل بنقل شخص أو شخصين.

2. إنّ الحديث مخالف للقرآن ، حيث يثبت لله صفات الجسم ولوازم الجسمانية كما سيوافيك بيانه عن السيد الجليل شرف الدين - رحمه الله -.

3. ما ذا يريد الراوي في قوله : «فيأتي الله في غير الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربكم»؟! فكأنَّ لله سبحانه صوراً متعددة يعرفون بعضها ، وينكرون البعض الآخر ، وما ندري متى عرفوا التي عرفوها ، فهل كان ذلك منهم في الدنيا ، أو كان في البرزخ أم في الآخرة؟!

4. ما ذا يريد الراوي من قوله : «فيقولون : نعم ، فيكشف عن ساق ، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه ...»؟ فإنّ معناه أنّ المؤمنين والمنافقين يعرفونه سبحانه بساقه ، فكانت هي الآية الدالّة عليه.

5. كفى في ضعف الحديث ما علّق عليه العلاّمة السيد شرف الدين - رحمه الله - حيث قال : إنّ الحديث ظاهر في أنّ لله تعالى جسماً ذا صورة مركّبة تعرض عليها الحوادث من التحوّل والتغيّر ، وأنّه سبحانه ذو حركة وانتقال ، يأتي هذه الأُمّة يوم حشرها ، وفيها مؤمنوها ومنافقوها ، فيرونه بأجمعهم ماثلاً لهم في صورة غير الصورة التي كانوا يعرفونها من ذي قبل. فيقول لهم : أنا ربكم ، فينكرونه متعوذين بالله منه ، ثم يأتيهم مرّة ثانية في الصورة التي يعرفون. فيقول لهم : أنا ربكم ، فيقول

ص : 249

المؤمنون والمنافقون جميعاً : نعم ، أنت ربّنا. وإنّما عرفوه بالساق ، إذ كشف لهم عنها ، فكانت هي آيته الدالة عليه ، فيتسنّى حينئذ السجود للمؤمنين منهم ، دون المنافقين ، وحين يرفعون رءوسهم يرون الله ماثلاً فوقهم بصورته التي يعرفون لا يمارونَ فيه ، كما كانوا في الدنيا لا يُمارون في الشمس والقمر ، ماثلين فوقهم بجرميهما النيرين ليس دونهما سحاب ، وإذا به ، بعد هذا يضحك ويعجب من غير معجب ، كما هو يأتي ويذهب إلى آخر ما اشتمل عليه الحديثان ممّا لا يجوز على الله تعالى ، ولا على رسوله ، بإجماع أهل التنزيه من أشاعرة وغيرهم ، فلا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم. (1)

2. روى البخاري في كتاب الصلاة ، باب مواقيت الصلاة ، وفضيلتها عن قيس (بن أبي حازم) عن جرير قال : كنّا عند النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فنظر إلى القمر ليلة - يعني البدر - فقال : إنّكم ترون ربّكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثمّ قرأ : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) (2).

وحديث قيس بن أبي حازم مع كونه مضاداً للكتاب ضعيف من جانب السند وإن رواه الشيخان ، ويكفي فيه وقوع قيس بن أبي حازم في سنده ، ترجمه ابن عبد البر وقال : قيس بن أبي حازم الأحمسي جاهلي إسلامي لم ير النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في عهده وصدق إلى مصدِّقه ، وهو من كبار التابعين ، مات سنة ثمان أو سبع وتسعين وكان

ص : 250


1- كلمة حول الرؤية : 65 ، وهي رسالة قيّمة في تلك المسألة وقد مشينا على ضوئها - رحم الله مؤلفها رحمة واسعة -.
2- البخاري : الصحيح : 1 / 111 - 115 ، الباب 26 و 35 من أبواب المواقيت الصلاة ، طبع مصر ، ورواه مسلم في صحيحه لاحظ : صحيح مسلم بشرح النووي : 5 / 136 وغيرهما.

عثمانياً. (1)

وقال الذهبي : قيس بن أبي حازم عن أبي بكر وعمر ، ثقة حجة كاد أن يكون صحابياً ، وثّقه ابن معين والناس ، وقال علي بن عبد الله عن يحيى بن سعيد : منكر الحديث ، ثم سمّى له أحاديث استنكرها ، وقال يعقوب الدوسي : تكلّم فيه أصحابنا ، فمنهم من حمل عليه ، وقال : له مناكير ، فالذين أطروه عدّوها غرائب وقيل : كان يحمل على عليّ - رضي الله عنه - إلى أن قال : والمشهور أنّه كان يقدم عثمان ، وقال إسماعيل : كان ثبتاً قال : وقد كبر حتى جاوز المائة وخرف. (2)

وقد تقدم أنّ العدل والتنزيه علويان ، كما أنّ الجبر والتشبيه أمويان ، وهل يصح في ميزان النصفة الأخذ برواية رجل عثماني الهوى ، معرضاً عن الإمام علي - عليه السلام - ، وعاش حتى خرف؟! أو أنّ الواجب ضربها عرض الحائط؟

نرجو من الله سبحانه أن تكون هذه البحوث مصباحاً منيراً للشباب المتطلّعين إلى الحقيقة الذين استهدفوا من قبل أعداء الإسلام بغية سلب هويتهم وأصالتهم الإسلامية.

ص : 251


1- الاستيعاب : 3 برقم 2126.
2- ميزان الاعتدال : 3 برقم 6908.

ص : 252

الفصل السادس: عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

اشارة

ص : 253

ص : 254

1- العصمة في اللغة والاصطلاح

اشارة

العصمة في اللغة بمعنى الإمساك والمنع ، قال ابن فارس : عصم له أصل واحد يدلّ على إمساك ومنع ، من ذلك العصمة ، أن يعصم الله تعالى عبده من سوء يقع فيه.

وأمّا اصطلاحاً ، فالعصمة هي المصونية عن الخطأ والعصيان وبهذا المعنى وصف سبحانه الملائكة الموكلين على الحجيم بقوله (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (1) ولا يجد الإنسان كلمة أوضح من قوله سبحانه : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) في تحديد حقيقة العصمة وواقعها في مجال الامتثال فالآية تنص على عصمة الملائكة في مجال التكليف ، وأمّا العصمة في مجال غير التكليف فالله سبحانه يصف الذكر الحكيم بقوله : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (2) فالآية تنص على مصونية القرآن من طروء الباطل عليه والخطأ من أقسام الباطل.

ص : 255


1- التحريم : 6.
2- فصلت : 42

مبدأ ظهور فكرة العصمة بين المسلمين

وبالامعان في هذه الآيات يظهر انّ العصمة بمفهومها البسيط (العصمة من العصيان والخطأ) مع قطع النظر عن موصوفها ، قد طرحها القرآن وألفتَ نظر المسلمين إليها من دون أن يحتاج علماؤهم إلى أخذ هذه الفكرة من الأحبار والرهبان.

وبذلك يعلم انّ مبدأ ظهور فكرة العصمة في الأُمة الإسلامية هي القرآن الكريم لا غير.

نعم انّ الموصوف في هذه الآيات وإن كانت هي الملائكة أو القرآن الكريم والمطروح عند علماء الكلام هو عصمة الأنبياء والأئمة ، لكن الاختلاف في الموصوف لا يضرّ بكون القرآن مبدأً لهذه الفكرة ، لانّ المطلوب هو الوقوف على منشأ تكوّن هذه الفكرة ، ثمّ تطورها عند المتكلّمين ويكفي في ذلك كون القرآن قد طرح هذه المسألة في حقّ الملائكة والقرآن.

على أنّ القرآن الكريم طرح عصمة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في غير واحد من آياته كما سيوافيك ، ويكفيك في المقام قوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى). (1)

فنرى الآيتين تشيران بوضوح إلى انّ النبي لا ينطق عن ميول نفسانية وان ما ينطق به ، وحي ألْقى في روعه وأُوحِي إلى قلبه ، ومن لا يتكلّم عن الميول النفسانية ويعتمد في منطقه على الوحي يكون مصوناً من الزلل في المرحلتين : مرحلة الأخذ والتبليع ، إذ قال سبحانه : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) ... (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى). (2)

ص : 256


1- النمل : 43.
2- النجم : 111. 17

وقد نرى جذور عصمة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في كلام الإمام علي حيث يصف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الخطبة القاصعة بقوله :

«ولقد قَرَن الله به مِنْ لدن أن كانَ فطيماً أعظمَ ملك من ملائكته ، يسلك به طريقَ المكارم ، ومحاسنَ أخلاق العالم ليله ونهاره». (1)

ودلالة هذه الجمل من هذه الخطبة على عصمة النبي في القول والعمل عن الخطأ والزلل واضحة فانّ من ربّاه أعظم ملك من ملائكة الله سبحانه من لدن أن كان فطيماً ، إلى أُخريات حياته الشريفة ، لا تنفك عن المصونية من العصيان والخطأ ، كيف وهذا الملك يسلك به طريق المكارم ، ويربّيه على محاسن أخلاق العالم ، ليلَه ونهارَه ، لا يعصي ولا ينحرف عن الجادة الوسطى وليست المعصية إلاّ سلوك طريق المآثم ومساوى الأخلاق ومن يسلك الطريق الأوّل يكون متجنباً عن سلوك الطريق الثاني.

هذه جذور المسألة في الكتاب العزيز وفي كلمات الإمام أمير المؤمنين ، ثمّ إنّ المتكلّمين هم الذين اهتموا بمسألة العصمة خصوصاً الإمامية والمعتزلة.

نعم لا يمكن أن ينكر انّ المناظرات التي دارت بين الإمام علي بن موسى الرضا وأهل المقالات من الفرق الإسلامية قد اعطت للمسألة مكانة خاصة ، فقد أبطل الإمام الرضا - عليه السلام - كثيراً من حجج المخالفين في مجال نفي العصمة عن الأنبياء عامة والنبي الأعظم خاصة ، ولو لا خوف الإطالة لأتينا ببعض هذه المناظرات التي دارت بين الإمام - عليه السلام - وأهل المقالات من الفرق الإسلامية.

هذا هو مفهوم العصمة لغة واصطلاحاً ومبدأ ظهوره وسيره في التاريخ.

نعم نجد المستشرق «رونالدوسن» ينسب فكرة ظهور العصمة في الإسلام

ص : 257


1- نهج البلاغة ، الخطبة 187.

إلى تطور علم الكلام عند الشيعة وانّهم أوّل من تطرق إلى بحث هذه العقيدة ووصف بها أئمّتهم. (1)

انّ هذا التحليل لا يبتني على أساس رصين وإنّما هو من الأوهام والأساطير التي اخترعتها نفسية الرجل وعداؤه للإسلام والمسلمين أوّلاً ، والشيعةُ أئمّتهم ثانياً.

وكم لهذا الرجل عثرات وأوهام في كتابه الذي أسماه «عقيدة الشيعة» وليس فيه من عقيدة الشيعة إلاّ شيئاً لا يذكر.

ص : 258


1- عقيدة الشيعة : 328.

2- تعريف العصمة وحقيقتها

اشارة

لا شكّ انّ الإنسان بالذات غير مصون عن الخطأ والنسيان ، والانحراف والعصيان ولذلك يصفه سبحانه بقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) (1) فلو بلغ الإنسان إلى مرحلة لا يعصي ولا يُخطِئ ولا يَنْسى فهو لأجل عامل خارجي عن ذاته يبلغ به إلى تلك الدرجة التي يعبّر عنها بالعصمة ، ولذلك عاد المحقّقون إلى تعريف العصمة بتعاريف يؤيد بعضها بعضاً.

فالعصمة عبارة عن لطف يفعله الله في المكلّف بحيث لا يكون له مع ذلك داع إلى ترك الطاعة ولا إلى فعل المعصية مع قدرته على ذلك ، ويحصل انتظام ذلك اللطف بأن يحصل له ملكة مانعة من الفجور والاقدام على المعاصي مضافاً إلى العلم بما في الطاعة من الثواب ، والعصمة من العقاب ، مع خوف المؤاخذة على ترك الأُولى ، وفعل المنهيّ. (2)

وربما تعرف بانّها قوّة تمنع الإنسان عن اقتراف المعصية والوقوع في الخطأ. (3)

ص : 259


1- العصر : 1.
2- إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين : 301 - 302.
3- الميزان : 2 / 142.

ثمّ إنّ العامل الذي يصدّ الإنسان عن اقتراف المعاصي بل عن ارتكاب الخطأ والنسيان أحد الأُمور الثلاثة التالية على وجه منع الخلو وليست بمانعة عن الجمع.

1. العصمة ، الدرجة القصوى من التقوى

العصمة ترجع إلى التقوى بل هي درجة عليا منها فما تُعرَّف به التقوى تُعرَّف به العصمة.

لا شك أنّ التقوى حالة نفسانية تعصم الإنسان عن اقتراف كثير من القبائح والمعاصي ، فإذا بلغت تلك الحالة إلى نهايتها تعصم الإنسان عن اقتراف جميع قبائح الأعمال ، وذميم الفعال على وجه الإطلاق ، بل تعصم الإنسان حتى عن التفكير في المعصية ، فالمعصوم ليس خصوص من لا يرتكب المعاصي ويقترفها بل هو من لا يحوم حولها بفكره.

إنّ العصمة ملكة نفسانية راسخة في النفس لها آثار خاصة كسائر الملكات النفسانية من الشجاعة والعفة والسخاء ، فإذا كان الإنسان شجاعاً وجسوراً ، سخياً وباذلاً ، وعفيفاً ونزيهاً ، يطلب في حياته معالي الأُمور ، ويتجنب عن سفاسفها فيطرد ما يخالفه من الآثار ، كالخوف والجبن والبخل والإمساك ، والقبح والسوء ، ولا يرى في حياته أثراً منها.

ومثله العصمة ، فإذا بلغ الإنسان درجة قصوى من التقوى ، وصارت تلك الحالة راسخة في نفسه ، يصل الإنسان إلى حد لا يُرى في حياته أثر من العصيان والطغيان ، والتمرّد والتجرّي ، وتصير ساحته نقية عن المعصية.

وأمّا أنّ الإنسان كيف يصل إلى هذا المقام؟ وما هو العامل الذي يُمكِّنُه من

ص : 260

هذه الحالة؟ فهو بحث آخر سنرجع إليه في مستقبل الأبحاث.

فإذا كانت العصمة من سنخ التقوى والدرجة العليا منها ، يسهل لك تقسيمها إلى العصمة المطلقة والعصمة النسبية.

فإنّ العصمة المطلقة وإن كانت تختص بطبقة خاصة من الناس لكن العصمة النسبيّة تعم كثيراً من الناس من غير فرق بين أولياء الله وغيرهم ، لأنّ الإنسان الشريف الذي لا يقل وجوده في أوساطنا ، وإن كان يقترف بعض المعاصي لكنه يجتنب عن بعضها اجتناباً تاماً بحيث يتجنب عن التفكير فيها فضلاً عن الإتيان بها.

مثلاً الإنسان الشريف لا يتجوّل عارياً في الشوارع والطرقات مهما بلغ تحريض الآخرين له على ذلك الفعل ، حتّى أنّ كثيراً من اللصوص لا يقومون بالسرقة في منتصف الليل متسلحين لانتهاب شيء رخيص ، كما أنّ كثيراً من الناس لا يقومون بقتل الأبرياء ولا بقتل أنفسهم وان عرضت عليهم مكافآت مادية كبيرة ، فإنّ الحوافز الداعية إلى هذه الأفاعيل المنكرة غير موجودة في نفوسهم ، أو أنّها محكومة ومردودة بالتقوى التي تحلّوا بها ، ولأجل ذلك صاروا بمعزل عن تلك الأفعال القبيحة حتى أنّهم لا يفكّرون فيها ولا يحدّثون بها أنفسهم أبداً.

والعصمة النسبية التي تعرفت عليها ، تقرّب حقيقة العصمة المطلقة في أذهاننا ، فلو بلغت تلك الحالة النفسانية الرادعة في الإنسان مبلغاً كبيراً ومرحلة شديدة بحيث تمنعه من اقتراف جميع القبائح ، يصير معصوماً مطلقاً ، كما أنّ الإنسان في القسم الأوّل يصير معصوماً نسبياً.

وعلى الجملة : إذا كانت حوافز الطغيان والعصيان والبواعث على المخالفة

ص : 261

محكومة عند الإنسان ، منفورة لديه لأجل الحالة الراسخة ، يصير الإنسان معصوماً تاماً منزهاً عن كل عيب وشين.

2. العصمة : نتيجة العلم القطعي بعواقب المعاصي

العلم القطعي بعواقب المعاصي والآثام ، يصدّ الإنسان عن اقترافها وارتكابها ، والمراد من هذا العلم ، هو بلوغ الإنسان من حيث الكمال درجة يلمس في هذه النشأة لوازم الأعمال وآثارها في النشأة الأُخرى وتبعاتها فيها ، وهذا النوع من العلم القطعي يزيل الحجب بين الإنسان وآثار العمل ، وكأنّه سبحانه يريد أمثال هذا العلم من قوله : (كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ). (1)

فمن رأى درجات أهل الجنّة ودركات أهل النار يكون مصوناً من الخلاف والعصيان ، وأصحاب هذا العلم هم الدين يصفهم الإمام علي - عليه السلام - بقوله : «فهم والجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون ، وهم والنار كمن قد رآها وهم فيها معذّبون». (2)

فإذا ملك الإنسان هذا النوع من العلم وانكشف له الواقع كشفاً قطعياً ، فهو لا يحوم حول المعاصي بل لا يفكر حوله.

ولأجل تقريب الذهن إلى أنّ العلم بأثر العمل السيئ يصدّ الإنسان عن اقترانه واقترافه نأتي بمثال :

«إنّ الإنسان إذا وقف على أنّ في الأسلاك الكهربائية طاقة ، من شأنها قتل الإنسان إذا مسّها من دون حاجز أو عائق بحيث يكون المسّ والموت مقترنين ، أحجمت نفسه عن مس تلك الاسلاك والاقتراف منها دون عائق.

ص : 262


1- التكاثر : 56.
2- نهج البلاغة ، 2 ، الخطبة 188 ، طبعة عبده.

هذا نظير الطبيب العارف بعواقب الأمراض وآثار الجراثيم ، فإنّه إذا وقف على ماء اغتسل فيه مصاب بالجذام أو البرص أو السلّ ، لم يقدم على شربه والاغتسال منه ومباشرته مهما اشتدّت حاجته إلى ذلك لعلمه بما يجرّ عليه الشربُ والاغتسالُ بذلك الماء الموبوء ، فإذا وقف الإنسان الكامل على ما وراء هذه النشأة من نتائج الأعمال وعواقب الفعال ورأى بالعيون البرزخية تبدل الكنوز المكتنزة من الذهب والفضة إلى النار المحماة التي تكوى بها جباه الكانزين وجنوبهم وظهورهم ، امتنع عن حبس الأموال والإحجام عن إنفاقها في سبيل الله.

قال سبحانه : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ). (1)

إنّ ظاهر قوله سبحانه : (هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) هو انّ النار التي تكوى بها جباه الكانزين وجنوبهم وظهورهم ، ليست إلاّ نفس الذهب والفضة ، لكن بوجودهما الأُخرويّين ، وأنّ للذهب والفضة وجودين أو ظهورين في النشأتين فهذه الأجسام الفلزية ، تتجلّى في النشأة الدنيوية في صورة الذهب والفضة ، وفي النشأة الأُخروية بصورة النيران المحماة.

فالإنسان العادي اللامس لهذه الفلزات المكنوزة وان كان لا يحس فيها الحرارة ولا يرى فيها النار ولا لهيبها ، إلاّ أنّ ذلك لأجل أنّه يفقد حين المس ، الحسَّ المناسب لدرك نيران النشأة الآخرة وحرارتها ، فلو فرض إنسان كامل يمتلك هذا الحس إلى جانب بقية حواسه العادية المتعارفة ويدرك بنحو خاص الوجه الآخر لهذه الفلزات ، وهو نيرانها وحرارتها ، يجتنبها ، كاجتنابه النيران الدنيوية ، ولا يُقدم

ص : 263


1- التوبة : 34 - 35.

على كنزها ، وتكديسها.

وهذا البيان يفيد انّ للعلم مرحلة قويّة راسخة تصد الإنسان عن الوقوع في المعاصي والآثام ولا يكون مغلوباً للشهوات والغرائز.

3. الاستشعار بعظمة الربّ وكماله وجماله

إنّ استشعار العبد بعظمة الخالق وتفانيه في حبّه ، يصدّه عن سلوك ما يخالف رضاه ، فانّ حبّه لجماله وكماله من العوامل الصادّة للعبد عن مخالفته.

إذا عرف الإنسان خالقه كمال المعرفة الميسورة ، وتعرَّف على معدن الكمال المطلق وجماله وجلاله ، وجد في نفسه انجذاباً نحو الحق ، وتعلّقاً خاصاً به بحيث لا يستبدل برضاه شيئاً ، فهذا الكمال المطلق هو الذي إذا تعرّف عليه الإنسان العارف ، يؤجج في نفسه نيران الشوق والمحبّة ، ويدفعه إلى أن لا يبغي سواه ، ولا يطلب سوى إطاعة أمره وامتثال نهيه. ويصبح كلّ ما يخالف أمره ورضاه منفوراً لديه ، مقبوحاً في نظره ، أشدّ القبح وعندئذ يصبح الإنسان مصوناً عن المخالفة ، بعيداً عن المعصية بحيث لا يؤثر على رضاه شيئاً وإلى ذلك يشير الإمام علي بن أبي طالب - عليه السلام - بقوله : «ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك إنّما وجدتك أهلاً للعبادة». (1)

هذه النظريات الثلاث أو النظرية الواحدة المختلفة في البيان والتقرير تعرب عن أنّ العصمة قوّة في النفس تعصم الإنسان عن الوقوع في مخالفة الرب سبحانه وتعالى ، وليست العصمة أمراً خارجاً عن ذات الإنسان الكامل وهوية الخارجية.

ص : 264


1- نقله في البحار : 41 / 14 من دون ذكر مصدره كما نقله في 68 / 186 عن بعض المحقّقين.

3- هل العصمة موهبة إلهية أو أمر اكتسابي

اشارة

قد وقفت على حقيقة «العصمة» والعوامل التي توجب صيانة الإنسان عن الوقوع في حبال المعصية ، ومهالك التمرّد والطغيان ، غير انّ هاهنا سؤالاً هاماً يجب الإجابة عنه وهو : أنّ العصمة سواء أفسّرت بكونها هي الدرجة العليا من التقوى ، أو بكونها العلم القطعي بعواقب المآثم والمعاصي ، أم فسّرت بالاستشعار بعظمة الرب وجماله وجلاله ، وعلى أيّ تقدير فهو كمال نفساني له أثره الخاص ، وعندئذ يُسأل عن أنّ هذا الكمال هل هو موهوب من الله لعباده المخلصين ، أو أمر حاصل للشخص بالاكتساب؟ فالظاهر من كلمات المتكلّمين انّها موهبة من مواهب الله سبحانه يتفضل بها على من يشاء من عباده بعد وجود أرضيات صالحة وقابليات مصحّحة لإفاضتها عليهم.

قال الشيخ المفيد : «العصمة تفضل من الله على من علم أنّه يتمسك بعصمته». (1)

ص : 265


1- شرح عقائد الصدوق ، 61.

وقال المرتضى : العصمة لطف الله الذي يفعله تعالى فيختار العبد عنده الامتناع عن فعل قبيح. (1)

فإذا كانت العصمة أمراً إلهياً وموهبة من مواهبه سبحانه ، فعندئذ هاهنا سؤال :

1. لو كانت العصمة موهبة من الله مفاضة منه سبحانه إلى رسله وأوصيائهم لم تعد عندئذ كمالاً ومفخرة للمعصوم حتّى يستحق بها التحميد ، فإنّ الكمال الخارج عن الاختيار كصفاء اللؤلؤ لا يستحق التحميد ، فإنّ الحمد إنّما يصحّ مقابل الفعل الاختياري وإليك الاجابة.

إفاضة العصمة بعد توفر أرضية صالحة

إنّ العصمة الإلهية لا تفاض للأفراد إلاّ بعد وجود قابليّات صالحة في نفس المعصوم تقتضي إفاضة تلك الموهبة إلى صاحبها ، تلك القابليات على قسمين : قسم خارج عن اختيار المعصوم ، وقسم واقع في إرادته واختياره ، امّا القسم الأوّل فيتلخص في عامل الوراثة والتربية.

أمّا الوراثة فهي القابليات التي ينتقل إلى المعصوم من آبائه وأجداده عن طريق الوراثة فإنّ الأولاد كما يرثون أموال الآباء وثرواتهم ، هكذا يرثون أوصافهم الظاهرية والباطنية ، فترى أنّ الولد يُشبه الأب أو العمّ ، أو الأُمّ أو الخال ، وقد جاء في المثل : الوالد الحلال يُشبه العمَّ أو الخالَ.

وعلى ذلك فالروحيات الصالحة أو السيئة تنتقل عن طريق الوراثة إلى الأولاد فنرى ولد الشجاع شجاعاً ، وولد الجبان جباناً إلى غير ذلك من الأوصاف

ص : 266


1- أمالي المرتضى : 2 / 347 ، ط مصر ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.

الجسمانية والروحانية.

إنّ الأنبياء كما يحدِّثنا التاريخ كانوا ربيبو البيوتات الصالحة العريقة بالفضائل والكمالات ، وما زالت تنتقل تلك الكمالات والفضائل الروحية من جيل إلى جيل وتتكامل إلى أن تتجسد في نفس النبي ويتولد هو بروح طيبة وقابلية كبيرة لإفاضة المواهب الإلهية علية.

وأمّا عامل التربية فإنّ الكمالات والفضائل الموجودة في بيتهم تنتقل عن طريق التربية إليهم ، ففي ظلّ ذينك العاملين (الوراثة والتربية) نرى كثيراً من أهل تلك البيوتات ذوي ايمان وأمانة ، وذكاء ودراية ، فهذه الكمالات الروحية توجد أرضية صالحة لإفاضة العصمة إلى أصحابها.

نعم هناك عامل ثالث لهذه الإفاضة ، وهو داخل في إطار الاختيار وحرّية الإنسان بخلاف العاملين السابقين وهو :

إنّ حياة الأنبياء من لدن ولادتهم إلى زمان بعثتهم ، مشحونة بالمجاهدات الفردية ، والاجتماعية ، فقد كانوا يجاهدون النفس

الأمارة أشدّ الجهاد ، ويمارسون تهذيب أنفسهم بل ومجتمعهم ، فهذا هو يوسف الصدّيق - عليه السلام - جاهد نفسه الأمارة وألجمها بأشد الوجوه عند ما راودته من هو في بيتها (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) فأجاب بالرد والنفي بقوله : (مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ). (1)

وهذا موسى كليم الله وجد في مدين امرأتين تذودان واقفتين على بعد من البئر ، فقدم إليهما قائلاً : ما خطبكما فقالتا : انا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير ، وعند ذلك لم يتفكر في شيء إلاّ في رفع حاجتهما ، ولأجل ذلك سقى لهما

ص : 267


1- يوسف : 23.

ثم تولّى إلى الظل قائلاً : (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (1). (2)

وكم هناك من شواهد تاريخية على جهاد الأنبياء وقيامهم بواجبهم إبّان شبابهم إلى زمان بعثتهم التي تصدت لذكرها الكتب السماوية وقصص الأنبياء وتواريخ البشر.

فهذه العوامل ، الداخل بعضها في إطار الاختيار والخارج بعضها عن إطاره ، أوجدت قابليات وأرضيات صالحة لإفاضة وصف العصمة عليهم وانتخابهم لذلك الفيض العظيم ، فعندئذ تكون العصمة مفخرة للنبي صالحة للتحسين والتبجيل والتكريم.

وإن شئت قلت : إنّ الله سبحانه وقف على ضمائرهم ونيّاتهم ومستقبل أمرهم ، ومصير حالهم وعلم أنّهم ذوات مقدسة ، لو أُفيضت إليهم تلك الموهبة ، لاستعانوا بها في طريق الطاعة وترك المعصية بحرية واختيار ، وهذا العلم كاف لتصحيح إفاضة تلك الموهبة عليهم بخلاف من يُعلَم من حاله خلافُ ذلك.

إنّ للسيد الشريف المرتضى كلاماً يؤيد ما ذكرناه ، يقول : كلّ من علم الله تعالى أن له لطفاً يختار عنده الامتناع من القبائح فإنّه لا بدّ أن يفعل به وإن لم يكن نبيّاً ، ولا إماماً ، لأنّ التكليف يقتضي فعل اللطف على ما دل عليه في مواضع كثيرة غير انّه لا يمتنع أن يكون في المكلفين من ليس في المعلوم أنّ شيئاً متى فعل ، اختار عنده الامتناع من القبيح ، فيكون هذا المكلف لا عصمة له في المعلوم ولا لطف ، وتكليف من لا لطف له يحسن ولا يقبح وانّما القبيح منع اللطف في من له

ص : 268


1- القصص : 23 - 24.
2- لاحظ قصة موسى في دفعه القبطي المعتدي على إسرائيلي في سورة القصص الآيات : 15 - 20 وفي ذلك يقول : (رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) القصص : 17.

لطف مع ثبوت التكليف. (1)

وحاصل ما أفاده هو : انّ الملاك في إفاضة هذا الفيض هو علمه سبحانه بحال الأفراد في المستقبل فكل من علم سبحانه أنّه لو أُفيض عليه وصف العصمة لاختار عنده الامتناع من القبائح ، فعندئذ تفاض عليه العصمة ، وان لم يكن نبياً ولا إماماً ، وأمّا من علم انّه متى أُفيضت إليه تلك الموهبة لما اختار عندها الامتناع من القبيح لما أُفيضت عليه العصمة لأنّه لا يستحق الإفاضة.

وعلى ذلك فوصف العصمة موهبة إلهية تفاض لمن يعلم من حاله انّه ينتفع منها في ترك القبائح عن حرية واختيار.

ولأجل ذلك يعد مفخرة قابلة للتحسين والتكريم ولا يلزم أن يكون المعصوم نبياً أو إماماً ، بل كل من ينتفع منها في طريق كسب رضاه سبحانه تفاض عليه.

ص : 269


1- أمالي المرتضى : 2 / 347 - 348 ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.

4- العصمة وسلب الاختيار

انّ من أبرز الشبهات الطارئة حول العصمة هي انّ العصمة تسلب الاختيار عن صاحبها ، فلا يقدر معها على ارتكاب المعصية ، ومعه لا تصبح العصمة مكرمة وفضيلة.

وهذه الشبهة هي التي أشار إليها السيد الشريف المرتضى وقال :

ما حقيقة العصمة التي يُعتقد وجوبُها للأنبياء والأئمّة - عليهم السلام -؟ وهل هي معنى يضطر إلى الطاعة ويمنع من المعصية ، أو معنى يضام الاختيار؟ فإن كان معنى يضطر إلى الطاعة ويمنع من المعصية ، فكيف يجوز الحمد والذم لفاعلها؟ وإن كان معنى يضام الاختيار فاذكروه ، ودُلّوا على صحّة مطابقته له. (1)

والجواب : انّ العصمة لا تسلب الاختيار عن الإنسان بأي معنى فسرت ، سواء أقلنا بأنّها الدرجة العليا من التقوى ، أو أنّها نتيجة العلم القطعي بعواقب المآثم والمعاصي ، أو أنّها أثر الاستشعار بعظمة الرب والمحبة لله سبحانه (2) ، وعلى كل تقدير فالإنسان المعصوم مختار في فعله ، قادر على كلا طرفي القضية من الفعل

ص : 270


1- أمالي المرتضى : 2 / 347.
2- إشارة إلى التعابير الثلاثة في شرح حقيقة العصمة.

والترك ، وتوضيح ذلك بالمثال الآتي :

إنّ الإنسان العاقل الواقف على وجود الطاقة الكهربائية في الأسلاك المنزوعة من جلدها ، لا يمسّها كذلك ، كما انّ الطبيب لا يأكل سؤر المجذومين والمسلولين لعلمهما بعواقب فعلهما ، وفي الوقت نفسه يرى كل واحد منهما نفسه قادراً على ذلك الفعل ، بحيث لو أغمض العين عن حياته وهيّأ نفسه للمخاطرة بها ، لَفَعَلَ ما يتجنبه ، غير انّهما لا يقومان به لكونهما يحبّان حياتهما وسلامتهما.

فإن شئت قلت : إنّ العمل المزبور ممكن الصدور بالذات من العاقل والطبيب ، غير انّه ممتنع الصدور بالعرض والعادة ، وليس صدوره محالاً ذاتياً وعقلياً ، وكم فرق بين المحالين ، ففي المحال العادي يكون صدور الفعل من الفاعل ممكناً بالذات ، غير انّه يرجح أحد الطرفين على الآخر بنوع من الترجيح بخلاف الثاني (المحال الذاتي) فإنّ الفعل فيه يكون ممتنعاً بالذات ، فلا يصدر لعدم إمكانه الذاتي.

وإن شئت فلاحظ صدور القبيح منه سبحانه أمر ممكن بالذات ، داخل في إطار قدرته فهو يستطيع أن يدخل المطيع في نار الجحيم ، والعاصي في نعيم الجنة ، غير انّه لا يصدر منه ذلك الفعل لكونه مخالفاً للحكمة ومبايناً لما وعد به وأوعد عليه ، وعلى ذلك فامتناع صدور الفعل عن الإنسان معا لتحفظ على الأغراض والغايات ، لا يكون دليلاً على سلب الاختيار والقدرة.

فالنبي المعصوم قادر على اقتراف المعاصي وارتكاب الخطايا ، حسب ما أُعطي من القدرة والحرية ، غير أنّه لأجل حصوله على الدرجة العليا من التقوى ، واكتساب العلم القطعي بآثار المآثم والمعاصي ، واستشعاره بعظمة الخالق ، يتجنب عن اقترافها واكتسابها ولا يكون مصدراً لها مع قدرته واقتداره عليها.

ص : 271

ومثلهم في ذلك المورد كمثل الوالد العطوف الذي لا يقدم على قتل ولده ، ولو أُعطيت له الكنوز المكنوزة والمناصب المرموقة ومع ذلك فهو قادر على قتله ، بحمل السكين والهجوم عليه وقطع أوردته ، وفي هذا الصدد يقول العلامة الطباطبائي :

إنّ هذا العلم أعني ملكة العصمة لا يغيِّر الطبيعة الإنسانية المختارة في أفعالها الإرادية ، ولا يخرجها إلى ساحة الإجبار والاضطرار كيف؟ والعلم من مبادئ الاختيار ، ومجرد قوة العلم لا يوجب إلاّ قوة الإرادة كطالب السلامة إذا أيقن بكون مائع ما ، سمّاً قاتلاً من حينه فإنّه يمتنع باختياره من شربه قطعاً ، وإنّما يضطر الفاعل ويجبر إذا أخرج المجبر أحد طرفي الفعل والترك من الإمكان إلى الامتناع.

ويشهد على ذلك قوله : (وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (1) تفيد الآية انّهم في إمكانهم أن يشركوا بالله وإن كان الاجتباء أو الهدى الإلهي مانعاً من ذلك ، وقوله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) (2) ، إلى غير ذلك من الآيات.

فالإنسان المعصوم إنّما ينصرف عن المعصية بنفسه وعن اختياره وإرادته ، ونسبة الصرف إلى عصمته تعالى كنسبة انصراف غير المعصوم عن المعصية إلى توفيقه تعالى.

ولا ينافي ذلك أيضاً ما يشير إليه كلامه تعالى وتصرح به الأخبار من أنّ

ص : 272


1- الأنعام : 87 - 88.
2- المائدة : 67.

ذلك من الأنبياء والأئمّة بتسديد من روح القدس ، فإنّ النسبة إلى روح القدس ، كنسبة تسديد المؤمن إلى روح الإيمان ، ونسبة الضلال والغواية إلى الشيطان وتسويله ، فإنّ شيئاً من ذلك لا يخرج الفعل عن كونه فعلاً صادراً عن فاعله مستنداً إلى اختياره وإرادته فافهم ذلك. (1)

5 - مراحل العصمة وأدلّتها

اشارة

وقد وقفت على حقيقة العصمة وما يرجع إليها من المباحث الاستطرادية ، فيجب الآن الوقوف على مراحلها التالية :

1. العصمة في تلقي الوحي ، والحفاظ عليه ، وإبلاغه إلى الناس وبعبارة أُخرى العصمة في تبليغ الرسالة.

2. العصمة في العصيان وارتكاب الذنب المصطلح.

3. العصمة من الخطأ في الأُمور الفردية والاجتماعية.

هذه هي مراحل العصمة وإليك دراستها على ضوء الكتاب والسنة والعقل.

ص : 273


1- الميزان : 11 / 179 - 180.

المرحلة الأُولى

5- العصمة في تبليغ الرسالة

اشارة

ذهب جمهور المسلمين من السنة والشيعة إلى عصمة الأنبياء من تبليغ الرسالة ، واستدلوا عليه بالعقل والنقل ، أمّا العقل فبوجوه أهمّها ما ذكره المحقّق الطوسي في تجريد الاعتقاد ، «وهو حصول الوثوق بأفعاله وأقواله».

توضيحه انّ الهدف الاسمي والغاية القصوى من بعث الأنبياء وهداية الناس إلى التعاليم الإلهية والشرائع المقدّسة ولا تحصل تلك الغاية إلاّ بإيمانهم بصدق المبعوثين ، وإذعانهم بكونهم مرسلين من جانبه سبحانه ، وانّ كلامهم وأقوالهم كلامه وقوله سبحانه ، وهذا الإيمان والاذعان لا يحصل إلاّ بإذعان آخر وهو الإذعان بمصونيتهم من الخطأ في مجال تبليغ الرسالة ، أعني المصونية في مقام أخذ الوحي أوّلاً ، والمصونية في مقام التحفظ عليه ثانياً ، والمصونية في مقام الابلاغ والتبيين ثالثاً ومثل هذا لا يحصل إلاّ بمصونية النبي عن الزلل والخطأ عمده وسهوه في تحمل رسالات الله وابلاغها لعباده.

انّ الآيات القرآنية تؤكّد على عصمة الأنبياء في أخذ الوحي وحفظه وإبلاغه ، نقتصر منها بآيتين :

ص : 274

الآية الأُولى

يقول سبحانه : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). (1)

انّ الآية تصرّح بانّ الهدف من بعث الأنبياء هو القضاء بين الناس في ما اختلفوا فيه ، وليس المراد من القضاء إلاّ القضاء بالحقّ ، وهو فرع وصول الحقّ إلى القاضي بلا تغيير وتحريف.

ثم إنّ نتيجة القضاء هي هداية من آمن من الناس إلى الحق بإذنه كما هو صريح قوله : (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ).

والهادي وإن كان هو الله سبحانه في الحقيقة لكن الهداية تتحقق عبر بيان النبي ، وبواسطته ، وتحقق الهداية منه فرع كونه واقفاً على الحق ، بلا تحريف.

وكل ذلك يستلزم عصمة النبي في تلقي الوحي والحفاظ عليه ، وإبلاغه إلى الناس.

وبالجملة فالآية تدل على أنّ النبي يقضي بالحق بين الناس ويهدي المؤمنين إليه ، وكل ذلك (أي القضاء بالحق أوّلاً ، وهداية المؤمنين إليه ثانياً) يستلزم كونه واقفاً على الحق على ما هو عليه وليس المراد من الحق إلاّ ما يوحى إليه.

ص : 275


1- البقرة : 213.

الآية الثانية

قوله سبحانه : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى). (1)

فالآية تصرح بأنّ النبي لا ينطق عن الهوى ، أي لا يتكلم بداعي الهوى. فالمراد إمّا جميع ما يصدر عنه من القول في مجال الحياة كما هو مقتضى إطلاقه أو خصوص ما يحكيه من الله سبحانه ، فعلى كل تقدير فهو يدل على صيانته وعصمته في المراحل الثلاث (2) المتقدم ذكرها في مجال إبلاغ الرسالة.

وبما أنّ عصمة الأنبياء في تلك المرحلة ممّا اصفقت عليها المحقّقون من أصحاب المذاهب والملل ، فلنعطف عنان البحث إلى ما تضاربت فيه آراء المتكلمين ، وإن كان للشيعة فيه قول واحد ، وهو عصمتهم عن العصيان والمخالفة لأوامره ونواهيه قبل البعثة وبعدها.

ص : 276


1- النجم : 43.
2- أخذ الوحي وحفظه وبلاغه.

المرحلة الثانية

6- عصمة الأنبياء عن المعصية

اشارة

لقد تعرفت على دلائل عصمة الأنبياء في تلقى الوحي وحفظه في نفسه وأدائه إلى الناس ، وحان الحين للبحث عن عصمتهم عن المعصية.

وفي هذا المجال وإن كان ربما يوجد نقول شاذة في عصمة الأنبياء بالنسبة إلى المعاصي الصغيرة ، أو عصمتهم قبل البعثة ، لكن نضرب عنها صفحاً ونستنطق الفعل والقرآن في هذا المجال.

العقل وعصمة الأنبياء عن المعصية

إنّ القرآن الكريم يصرح بأنّ الهدف من بعث الأنبياء هو تزكية نفوس الناس وتصفيتهم من الرذائل وغرس الفضائل فيها قال سبحانه حاكياً عن لسان إبراهيم : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (1) وقال سبحانه : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ

ص : 277


1- البقرة : 129.

الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ). (1)

والمراد من التزكية هو تطهير القلوب من الرذائل وإنماء الفضائل ، وهذا هو ما يسمى في علم الأخلاق ب - «التربية».

ولا شك أنّ تأثير التربية في النفوس يتوقف على إذعان من تراد تربيته بصدق المربي وإيمانه بتعاليمه ، وهذا يعرف من خلال عمل المربّي بما يقوله ويعلمه وإلاّ فلو كان هناك انفكاك بين القول والعمل ، لزال الوثوق بصدق قوله وبالتالي تفقد التربية أثرها ، ولا تتحقق حينئذ الغاية من البعث.

وإن شئت قلت : إنّ التطابق بين مرحلتي القول والفعل ، هو العامل الوحيد لكسب ثقة الآخرين بتعاليم المصلح والمربي ، ولو كان هناك انفكاك بينهما لانفضّ الناس من حوله قائلين بأنّه لو كان مذعناً بصحة دعوته لما خالف قولَه في مقام العمل.

سؤال وجواب

نعم يمكن أن يقال : يكفي في الاعتماد على النبي مصونيته عن معصية واحدة وهي الكذب فالبرهان المذكور على تماميته لا يثبت إلاّ مصونيته عن خصوص الكذب لا مطلقاً.

أقول : الإجابة عن هذا السؤال سهلة ، لأنّ التفكيك بين المعاصي فرضية محضة لا يصح أن تقع أساساً للتربية العامة لما فيها من الإشكالات.

أمّا أوّلاً : فانّ المصونية عن المعاصي نتيجة إحدى العوامل التي أوعزنا إليها

ص : 278


1- آل عمران : 164.

عند البحث عن حقيقة العصمة فإن تم وجودها أو وجود بعضها تحصل المصونية المطلقة للإنسان ، وإلاّ فلا يمكن التفكيك بين الكذب وسائر المعاصي بأن يجتنب الإنسان عن الكذب طيلة عمره ويرتكب سائر المعاصي ، فإنّ العوامل التي تسوق الإنسان إلى ارتكابها تسوقه أيضاً إلى اقتراف الكذب واجتياح التهمة.

وأمّا ثانياً : فلو صح التفكيك بينهما في عالم الثبوت لا يمكن إثباته (الداعي لا يكذب أبداً وان كان يركب سائر المعاصي) في حق الداعي ومدعي النبوة ، إذ كيف يمكن الإنسان أن يقف على أنّ مدّعي النبوة مع ركوبه المعاصي واقترافه للمآثم ، لا يكذب أصلاً عند ما اضطر إليه حتى ولو صرح الداعي إلى الإصلاح بنفس هذا التفكيك ، لسرى الريب إلى نفس هذا الكلام أيضاً.

وعلى الجملة : انّ الهدف من بعث الرسل وإنزال الكتب هو دعوة الناس إلى الهداية الإلهية التي يقوم بأعبائها الأنبياء والرسل ، ولا يتحقق ذلك الهدف إلاّ بعد اعتماد الناس على حامل الدعوة والقائم بالهداية ، فاقتراف المعاصي ومخالفة ما يدعو إليه من القيم والخلق ، يزيل من النفوس الثقة به والاعتماد عليه.

وبهذا البيان تظهر الإجابة عن سؤال لا يقصر في الضالّة عن السؤال الماضي. وهو ما ربما يقال : إنّ أقصى ما يثبته هذا البرهان هو لزوم نزاهة النبي عن اقتراف المعاصي في المجتمع ، وهذا لا يخالف أن يكون عاصياً ومقترفاً للذنوب في الخلوات ، وهذا القدر من النزاهة كاف في جلب الثقة.

والجواب عن هذا السؤال واضح تمام الوضوح ، فإنّ مثل هذا التصور عن النبي والقول بأنّه يرتكب المعاصي في السر دون العلن يهدم الثقة به ، إذ ما الذي يمنعه - عندئذ - من أن يكذب ويتستر على كذبه ، وبذلك تزول الثقة بكل ما يقول

ص : 279

ويعمل.

أضف إلى ذلك أنّه يمكن خداع الناس بتزيين الظاهر مدة قليلة لا مدة طويلة ولا ينقضي زمان إلاّ وقد تظهر البواطن ويرتفع الستار عن حقيقته فتكشف سوأته ، ويظهر عيبه.

إلى هنا ظهر أنّ ثقة الناس بالأنبياء إنّما هي في ضوء الاعتقاد بصحة مقالهم وسلامة أفعالهم ، وهو فرع كونهم مصونين عن الخلاف والعصيان في الملأ والخلأ والسر والعلن من غير فرق بين معصية دون أُخرى.

القرآن وعصمة الأنبياء من المعصية

إنّه سبحانه يطرح في كتابه العزيز عصمة الأنبياء ويصفهم بهذا الوصف ، ويشهد بذلك لفيف من الآيات :

الآية الأُولى

قال سبحانه : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ * وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). (1)

ثم إنّه يصف هذه الصفوة من عباده بقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ

ص : 280


1- الأنعام : 84 - 87.

فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ). (1)

والآية الأخيرة تصف الأنبياء بأنّهم مهديون بهداية الله سبحانه على وجه يجعلهم القدوة والاسوة.

هذا من جانب ومن جانب آخر نرى أنّه سبحانه يصرح بأنّ من شملته الهداية الإلهية لا مضلَّ له ويقول : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ). (2)

وفي آية ثالثة يصرح بأنّ حقيقة العصيان هي الانحراف عن الجادة الوسطى بل هي الضلالة ويقول : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ* وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ). (3)

وبملاحظة هذه الطوائف الثلاث من الآيات تظهر عصمة الأنبياء بوضوح وتوضيح ذلك :

انّه سبحانه يصف الأنبياء في اللفيف الأوّل من الآيات بأنّهم القدوة الاسوة والمهديون من الأُمّة كما يصرح في اللفيف الثاني بأنّ من شملته الهداية الإلهية لا ضلالة ولا مضل له.

كما هو يصرح في اللفيف الثالث بأنّ العصيان نفس الضلالة أو مقارنه وملازمه حيث يقول : (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ) وما كانت ضلالتهم إلاّ لأجل عصيانهم ومخالفتهم لأوامره ونواهيه.

ص : 281


1- الأنعام : 90.
2- الزمر : 36 - 37.
3- يس : 6260.

فإذا كان الأنبياء مهديين بهداية الله سبحانه ، ومن جانب آخر لا يتطرق الضلال إلى من هداه الله ، ومن جانب ثالث كانت كل معصية ضلالاً يستنتج أنّ من لا تتطرق إليه الضلالة لا يتطرق إليه العصيان.

وإن أردت أن تفرغ ما تفيده هذه الآيات في قالب الأشكال المنطقية فقل :

النبي : من هداه الله.

وكل من هداه الله فما له من مضل.

ينتج : النبي ما له من مضل.

الآية الثانية

انّه سبحانه يعد المطيعين لله والرسول بأنّهم من الذين يحشرون مع النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين الذين أنعم الله عليهم إذ يقول :

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً). (1)

وعلى مفاد هذه الآية فالأنبياء من الذين أنعم الله عليهم بلا شك ولا ريب ، وهو سبحانه يصف تلك الطائفة أعني : (من أنعم عليهم) بقوله : بأنّهم : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ). (2)

فإذا انضمت الآية الأُولى الواصفة للأنبياء بالإنعام عليهم ، إلى هذه الآية الواصفة بأنّهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، يستنتج عصمة الأنبياء بوضوح ، لأنّ العاصي من يشمله غضب الله سبحانه ويكون ضالاً بقدر عصيانه

ص : 282


1- النساء : 69.
2- الفاتحة : 7.

ومخالفته.

وعلى الجملة : من كان غير المغضوب عليه ولا الضال فهو لا يخالف ربه ولا يعصي أمره فإنّ العاصي يجلب غضب الرب ، ويضل عن الصراط المستقيم قدر عصيانه.

الآية الثالثة

انّه سبحانه يصف جملة من الأنبياء ويقول في حق إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون وإسماعيل وإدريس : (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا). (1)

فهذه الآية تصف تلك الصفوة من الأنبياء بأوصاف أربعة :

1. أنعم الله عليهم.

2. وممن هدينا.

3. واجتبينا.

4. خرّوا سجّداً وبُكيّا.

ثم إنّه سبحانه يصف في الآية التالية ذرية هؤلاء وأولادهم بأوصاف تقابل الصفات الماضية ، ويقول : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا). (2)

نرى أنّه سبحانه يصف خلفهم بأوصاف ثلاثة تضاد أوصاف آبائهم وهي

ص : 283


1- مريم : 58.
2- مريم : 59.

عبارة عن أُمور ثلاثة :

1. أضاعوا الصلاة.

2. واتبعوا الشهوات.

3. يلقون غيّاً.

وبحكم المقابلة بين الصفات يكون الأنبياء ممن لم يضيّعوا الصلاة ولم يتّبعوا الشهوات ، وبالنتيجة لا يلقون غيّاً ، وكل من كان كذلك فهو مصون من الخلاف ومعصوم من اقتراف المعاصي ، لأنّ العاصي لا يعصي إلاّ لاتباع الشهوات وسوف يلقى أثر غيه وضلالته.

الآية الرابعة

إنّ القرآن الكريم يدعو المسلمين إلى الاقتفاء بأثر النبي بمختلف التعابير والعبارات يقول سبحانه : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ). (1)

ويقول أيضاً : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ). (2)

ويقول في آية ثالثة : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ). (3)

كما أنّه سبحانه يندد بمن يتصور انّ على النبي أن يقتفي الرأي

ص : 284


1- آل عمران : 31 - 32.
2- النساء : 80.
3- النور : 52.

العام ويقول : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ). (1)

وعصارة القول : إنّ هذه الآيات تدعو إلى إطاعة النبي والاقتداء به بلا قيد وشرط ، ومن وجبت طاعته على وجه الإطلاق أي بلا قيد وشرط يجب أن يكون معصوماً من العصيان ومصوناً عن الخطأ والزلل.

توضيحه : انّ دعوة النبي تتحقّق بأحد الأمرين : اللفظ أو العمل. والدعوة بالكتابة ترجع إلى أحدهما ، وعند ذلك فلو كان كل ما يدعو إليه النبي بلسانه وفمه وقلمه ويراعه ، صادقاً مطابقاً للواقع غير مخالف له قدر شعرة ، لصح الأمر بالاقتداء به وإنّ طاعته طاعة الله سبحانه كما قال : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ). (2)

وأمّا لو كان بعض ما يدعو به باللفظ والعمل والقول والكتابة على خلاف الواقع وعلى خلاف ما يرضى به سبحانه يجب تقييد الدعوة إلى طاعة النبي بقيد يخرج هذه الصورة.

فالحكم باتّباعه على وجه الإطلاق يكشف عن أنّ دعواته وأوامره قولاً وفعلاً حليفة الواقع ، وقرينة الحقيقة لا تتخلف عنه قدر شعرة ، من غير فرق بين الدعوة اللفظية أو العملية.

فإنّ الدعوة عن طريق العمل والفعل من أقوى العوامل تأثيراً في مجال التربية والتعليم وأرسخها وكل عمل يصدر من الرسل فالناس يتلقونه دعوة عملية إلى اقتفاء أثره في ذاك المجال.

ص : 285


1- الحجرات : 7.
2- النساء : 80.

فلو كان ما يصدر من النبي طيلة الحياة مطابقاً لرضاه وموافقاً لحكمه صح الأمر بالاقتفاء في القول والفعل ، ولو كانت أفعالهم تخالف الواقع في بعض الأحايين وتتسم بالعصيان والخطأ ، لما صح الأمر بطاعته والاقتداء به على وجه الإطلاق.

كيف وقد وصف الرسول بأنّه الأُسوة الحسنة في قوله سبحانه : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً). (1)

فكونه أُسوة حسنة في جميع المجالات لا يتفق إلاّ مع عصمته المطلقة ، بخلاف من يكون أُسوة في مجال دون مجال ، وعلى ذلك فهو مصون من الخلاف والعصيان والخطأ والزلل.

وإن شئت قلت : لو صدر عن النبي عصيان وخلاف فمن جانب يجب علينا طاعته واقتفاؤه واتباعه ، وبما انّ الصادر منه أمر منكر يحرم الاقتداء به واتباعه وتجب المخالفة ، فعندئذ يلزم الأمر بالمتناقضين ، والقول بأنّه يجب اتّباعه في خصوص ما ثبت كونه موافقاً للشرع أو لم تعلم مخالفته له ، خلاف إطلاق الآيات الآمرة بالاتّباع على وجه الإطلاق من غير فرق بين فعل دون فعل ، ووقت دون وقت.

إلى هنا تمّت دراسة ما يدلّ بوضوح على عصمة النبي في المرحلتين التاليتين :

ص : 286


1- الأحزاب : 21.

1. عصمته في أخذ الوحي وحفظه ، وابلاغه إلى الناس.

2. عصمته عن اقتراف المعاصي والضلالة في الفكر والعمل.

بقي الكلام في المرحلة الثالثة أعني عصمته عن الخطأ في حياته الدينية أو المادية وهذا هو الذي نستعرضه في الفصل التالي.

ص : 287

المرحلة الثالثة

7- عصمة النبي عن الخطأ

اشارة

انّ صيانة النبي عن الخطأ وا لاشتباه سواء أكان في مجال تطبيق الشريعة ، أم في مجال الأُمور العادية الفردية المرتبطة بحياته ، ممّا طرح في علم الكلام وطال البحث فيه بين متكلمي الإسلام.

غير انّ تحقق الغاية من البعثة رهن صيانته عن الخطأ في كلا المجالين ، وإلاّ فلا تتحقق الغاية المتوخاة من بعثته ، وهذا هو الدليل العقلي الذي اعتمدت عليه العدلية ، بعد ما اتفق الكل على لزوم صيانته عن الخطأ وا لاشتباه في مجال تلقي الوحي وحفظه ، وأدائه إلى الناس ، ولم يختلف في ذلك اثنان.

منطق العقل في عصمة النبي عن الخطأ

وإليك توضيح هذا الدليل العقلي : إنّ الخطأ في غير أمر الدين وتلقّي الوحي يتصوّر على وجهين :

أ. الخطأ في تطبيق الشريعة كالسهو في الصلاة أو في إجراء الحدود.

ب. الاشتباه في الأُمور العادية المعدة للحياة كما إذا استقرض ألف دينار ،

ص : 288

وظن أنّه استقرض مائة دينار.

والحقّ انّه مصون من الاشتباه والسهو في كلا الموردين ، وذلك لأنّ الغاية المتوخاة من بعث الأنبياء هي هدايتهم إلى طريق السعادة ، ولا تحصل تلك الغاية إلاّ بكسب اعتماد الناس على صحة ما يقوله النبي وما يحكيه عن جانب الوحي ، وهذا هو الأساس لحصول الغاية ، ومن المعلوم أنّه لو سها النبي واشتبه عليه الأمر في المجالين الأوّلين ربّما تسرب الشك إلى أذهان الناس ، وانّه هل يسهو أيضاً في ما يحكيه من الأمر والنهي الإلهي أم لا؟

فبأي دليل أنّه لا يخطأ في هذا الجانب مع أنّه يسهو في المجالين الآخرين؟! وهذا الشعور إذا تغلغل في أذهان الناس سوف يسلب اعتماد الناس على النبي ، وبالتالي تنتفي النتيجة المطلوبة من بعثه.

نعم ، التفكيك بين صيانته في مجال الوحي وصيانته في سائر الأُمور وإن كان أمراً ممكناً عقلاً ، ولكنه ممكن بالنسبة إلى عقول الناضجين في الأبحاث الكلامية ونحوها ، وأمّا العامّة ورعايا الناس الذين يشكّلون أغلبية المجتمع ، فهم غير قادرين على التفكيك بين تينك المرحلتين ، بل يجعلون السهو في إحداهما دليلاً على إمكان تسرّب السهو إلى المرحلة الأُخرى.

ولأجل سدّ هذا الباب ، المنافي للغاية المطلوبة من إرسال الرسل ، ينبغي أن يكون النبي مصوناً في عامّة المراحل ، سواء أكانت في حقل الوحي أو في تطبيق الشريعة أو في الأُمور العاديّة ، ولهذا يقول الذكر الحكيم في حقّ المسيح (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) (1) والإمام الصادق - عليه السلام - : «جعل مع النبي روح القدس وهي لا تنام ولا تغفل ولا تلهو ولا تسهو». (2)

ص : 289


1- البقرة : 253.
2- بصائر الدرجات : 454.

وعلى ذلك فبما أنّه ينبغي أن يكون النبي اسوة في الحياة في عامة المجالات يجب أن يكون نزيهاً عن العصيان أو لا الخلاف والسهو والخطأ ثانياً.

منطق القرآن في عصمة النبي عن الخطأ

قد عرفت منطق العقل في لزوم عصمة النبي من الخطأ في مجال تطبيق الشريعة ، ومجال الأُمور العادية المعدّة للحياة ، وهذا الحكم لا يختص بمنطقه ، بل الذكر الحكيم يدعمه بأحسن وجه ، وإليك ما يدل على ذلك :

1. قال سبحانه : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) (1) ، وقال أيضاً : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً). (2)

وقد نقل المفسرون حول نزول الآيات وما بينهما من الآيات روايات رووها بطرق مختلفة نذكر ما ذكره ابن جرير الطبري عن ابن زيد قال : كان رجل سرق درعاً من حديد في زمان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وطرحه على يهودي ، فقال اليهودي : والله ما سرقتها يا أبا القاسم ، ولكن طرحت عليّ وكان للرجل الذي سرق ، جيران يبرءونه ويطرحونه على اليهودي ، ويقولون : يا رسولَ الله إنّ هذا اليهودي الخبيث يكفر بالله وبما جئت به ، قال : حتى مال عليه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ببعض القول فعاتبه الله عزّ وجلّ في ذلك فقال : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا

ص : 290


1- النساء : 105.
2- النساء : 113.

تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً). (1)

أقول : سواء أصحت هذه الرواية أم لا ، فمجموع ما ورد حول الآيات من أسباب النزول متفق على أنّ الآيات نزلت حول شكوى رفعت إلى النبي ، وكان كل من المتخاصمين يسعى ليبرئ نفسه ويتهم الآخر ، وكان في جانب واحد منهما رجل طليق اللسان يريد أن يخدع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ببعض تسويلاته ويثير عواطفه على المتهم البريء حتى يقضي على خلاف الحق ، وعند ذلك نزلت الآية ورفعت النقاب عن وجه الحقيقة فعُرِف المحقُّ من المبطل.

والدقة في فقرات الآية الثانية يوقفنا على سعة عصمة النبي من الخطأ وصيانته من السهو ، لأنّها مؤلفة من فقرات أربع ، كل يشير إلى أمر خاص :

1. (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ).

2. (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ).

3. (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ).

4. (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً).

فالأُولى منها : تدل على أنّ نفس النبيّ بمجردها لا تصونه من الضلال (أي من القضاء على خلاف الحق) وإنّما يصونه سبحانه عنه ، ولو لا فضل الله ورحمته لهمّت طائفة أن يرضوه بالدفاع عن الخائن والجدال عنه ، غير أنّ فضله العظيم على النبي هو الذي صدّه عن مثل هذا الضلال وأبطل أمرهم المؤدي إلى إضلاله ، وبما أنّ رعاية الله سبحانه وفضله الجسيم على النبي ليست مقصورة على حال دون

ص : 291


1- تفسير الطبري : 5 / 172.

حال ، أو بوقت دون وقت آخر ، بل هو واقع تحت رعايته وصيانته منذ أن بعث إلى أن يلاقي ربَّه ، فلا يتعدى إضلال هؤلاء أنفسهم ولا يتجاوز إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فهم الضالون بما هموا به كما قال : (وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ).

والفقرة الثانية : تشير إلى مصادر حكمه ومنابع قضائه ، وأنّه لا يصدر في ذلك المجال إلاّ عن الوحي والتعليم الإلهي ، كما قال سبحانه : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) والمراد المعارف الكلية العامة من الكتاب والسنة.

ولما كان هذا النوع من العلم الكلي أحد ركني القضاء وهو بوحده لا يفي بتشخيص الموضوعات وتمييز الصغريات ، فلا بد من الركن الآخر وهو تشخيص المحق من المبطل ، والخائن من الأمين ، والزاني من العفيف ، أتى بالفقرة الثالثة وقال : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) ومقتضى العطف ، مغايرة المعطوف ، مع المعطوف عليه ، فلو كان المعطوف عليه ناظراً إلى تعرّفه على الركن الأوّل وهو العلم بالأُصول والقواعد الكلية الواردة في الكتاب والسنّة ، يكون المعطوف ناظراً إلى تعرّفه على الموضوعات والجزئيات التي تعد ركناً ثانياً للقضاء الصحيح ، فالعلم بالحكم الكلي الشرعي أوّلاً وتشخيص الصغريات وتمييز الموضوعات ثانياً جناحان للقاضي يحلّق بهما في سماء القضاء بالحق من دون أن يجنح إلى جانب الباطل ، أو يسقط في هوّة الضلال.

قال العلاّمة الطباطبائي : إنّ المراد من قوله سبحانه : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) ليس علمه بالكتاب والحكمة ، فإنّ مورد الآية ، قضاء النبي في الحوادث الواقعة ، والدعاوى المرفوعة إليه ، برأيه الخاص ، وليس ذلك من الكتاب والحكمة بشيء ، وإن كان متوقفاً عليهما ، بل المراد رأيه ونظره الخاص. (1) ولما كان هنا موضع

ص : 292


1- الميزان : 5 / 81.

توهم وهو أنّ رعاية الله لنبيّه تختص بمورد دون مورد ، دفع ذلك التوهم بالفقرة الرابعة فقال سبحانه : (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) حتى لا يتوهم اختصاص فضله عليه بواقعة دون أُخرى ، بل مقتضى عظمة الفضل ، سعة شموله لكل الوقائع والحوادث ، سواء أكانت من باب المرافعات والمخاصمات ، أم الأُمور العادية ، فتدل الفقرة الأخيرة على تعرّفه على الموضوعات ومصونيته عن السهو والخطاء في مورد تطبيق الشريعة ، أو غيره ، ولا كلام أعلى وأغزر من قوله سبحانه في حق حبيبه : (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً).

2. قال سبحانه : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (1) إنّ الشهادة المذكورة في الآية حقيقة من الحقائق القرآنية تكرر ذكرها في كلامه سبحانه ، قال تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (2) ، وقال تعالى : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (3) ، وقال تعالى : (وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) (4) ، والشهادة فيها مطلقة ، وظاهر الجميع هو الشهادة على أعمال الأُمم وعلى تبليغ الرسل كما يومي إليه قوله تعالى : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) (5) ، وهذه الشهادة وإن كانت في الآخرة ويوم القيامة لكن يتحملها الشهود في الدنيا على ما يدل عليه قوله سبحانه حكاية عن عيسى : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (6) ، وقال

ص : 293


1- البقرة : 143.
2- النساء : 41.
3- النحل : 84.
4- الزمر : 69.
5- الأعراف : 6.
6- المائدة : 117.

سبحانه : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) (1) ، ومن الواضح أنّ الشهادة فرع العلم ، وعدم الخطأ في تشخيص المشهود به ، فلو كان النبي من الشهداء يجب ألاّ يكون خاطئاً في شهادته ، فالآية تدلّ على صيانته وعصمته من الخطأ في مجال الشهادة كما تدلّ على سعة علمه ، لأنّ الحواس لا ترشدنا إلاّ إلى صور الأعمال والأفعال ، والشهادة عليها غير كافية عند القضاء ، وإنّما تكون مفيدة إذا شهد على حقائقها من الكفر والإيمان ، والرياء والإخلاص ، وبالجملة على كل خفيّ عن الحس ومستبطن عند الإنسان ، أعني ما تكسبه القلوب وعليه يدور حساب رب العالمين ، قال تعالى : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) (2) ، ولا شك أنّ الشهادة على حقائق أعمال الأُمّة خارج عن وسع الإنسان العادي إلاّ إذا تمسّك بحبل العصمة وولي أمر الله بإذنه.

وأمّا الأحاديث الحاكية عن سهو النبي في صلاته فهي أخبار آحاد ، لا تفيد علماً حتّى يحتجّ بها في حقل العقيدة.

أضف إلى ذلك انّها بظاهرها يخالف الذكر الحكيم - كما عرفت - ولذا ضربنا عنها صفحاً ولم نستعرض للبحث والدراسة.

ص : 294


1- النساء : 159.
2- البقرة : 225.

8- حجة المخالفين لعصمة الأنبياء

اشارة

قد تعرفت على الآيات الدالة على عصمة الأنبياء في المجالات التالية : «تلقّي الوحي ، والتحفّظ عليه ، وإبلاغه إلى الناس ، والعمل به» غير انّ هناك آيات ربما توهم في بادئ النظر خلاف ما دلت عليه صراحة الآيات السابقة ، وقد تذرعت بها بعض الفرق الإسلامية التي جوزت المعصية على الأنبياء بمختلف صورها.

وهذه الآيات على طوائف :

الأُولى : ما يمس ظاهرها عصمة جميع الأنبياء بصورة كليّة.

الثانية : ما يمس عصمة عدة منهم كآدم ويونس بصورة جزئيّة.

الثالثة : ما يتراءى منه عدم عصمة النبي الأكرم.

وبما انّ الهدف من هذا الفصل هو وضع خطوط عامة لعصمة الأنبياء نقتصر بدراسة آيات الطائفة الأُولى ، ونحيل البحث في الطائفتين الأخيرتين إلى موسوعتنا «مفاهيم القرآن».(1)

ص : 295


1- مفاهيم القرآن : 5 / 23097.

الطائفة الأُولى : ما يمس ظاهرها عصمة جميع الأنبياء

الآية الأُولى

اشارة

قوله سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ). (1)

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ). (2)

استدل القائل بعدم عصمة الأنبياء بظاهر الآية قائلاً بأنّ الضمائر الثلاثة في قوله : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) ترجع إلى الرسل ، ومفاد الآية انّ رسل الله سبحانه وأنبياءه كانوا يُنذرون قومهم ، وكان القوم يخالفونهم أشدَّ المخالفة ، وكان الرسلَ يعدون المؤمنين بالنصر عن الله والغلبة ويُوعدون الكفّار بالهلاك والإبادة ، لكن لما تأخّر النصرُ الموعود وعقاب الكافرين «ظن الرسل أنّهم قد كذبوا» فيما وعدوا به من جانب الله من نصر المؤمنين وإهلاك الكافرين ، ومن المعلوم انّ هذا الظن سواء أكان بصورة الإذعان واليقين أم بصورة الزعم والميل إلى ذاك الجانب ، اعتقاد باطل لا يجتمع مع العصمة.

وإن شئت تفسير الآية فعليك بإظهار مراجع الضمائر بأن تقول : لما أخّرنا العقاب عن الأُمم السالفة ظن الرسل انّ الرسل قد كُذِبَ الرسل في ما وُعدوا به من النصر للمؤمنين والهلاك للكافرين.

ص : 296


1- يوسف : 109.
2- يوسف : 110.

وعلى هذا فكل جواب من القائلين بعصمة الرسل على خلاف هذا الظاهر يكون غير متين ، بل يجب أن يكون الجواب منطبقاً على هذا الظاهر.

وإليك الأجوبة المذكورة في التفاسير :

الأوّل : انّ الضمائر الثلاثة ترجع إلى الرسل غير انّ الوعد الذي تصور الرسل أنّهم قد كذبوا (أي قيل لهم قولاً كاذباً) هو تظاهر عدة من المؤمنين بالإيمان وادّعاؤهم الإخلاص لهم ، فتصور الرسل انّ تظاهر هؤلاء بالإيمان كان كذباً وباطلاً ، وكأنّهم تصوروا انّ الذين وعدوهم بالإيمان من قومهم أخلفوهم أو كذبوا فيما أظهروه من الإيمان. (1)

وفيه : انّ هذا الجواب وان كان أظهر الأجوبة إذ ليس فيه تفكيك بين الضمائر كما في سائر الأجوبة الآتية لكن الذي يرده هو بعده عن ظاهر الآية ، إذ ليس فيها عن إيمان تلك الثلة القليلة أثر حتى يقع متعلّق الكذب في قوله سبحانه : (قَدْ كُذِبُوا).

وإن شئت قلت : ليس في مقدم الآية ولا في نفسها ما يشير إلى أنّه قد آمن بالرسل عدّة قليلة وتظاهروا بالإيمان غير انّه صدر عنهم ما جعل الأنبياء يظنون بكذبهم في ما أظهروه من الإيمان حتى يصح أن يقال انّ متعلق الكذب هو هذا ، وانّما المذكور في مقدمها ونفسها هو مخالفة الزمرة الطاغية من أقوام الأنبياء وعنادهم ولجاجهم مع رسل الله وأنبيائه حيث يقول : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ). (2)

ص : 297


1- مجمع البيان : 5 - 6 / 415 ، ط دار المعرفة ، بيروت.
2- يوسف : 109.

ومجرد قوله : (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) لا يكفي في جعل إيمانهم متعلّقاً للكذب ، إذ عندئذ يجب أن تتعرض الآية إلى إيمان تلك الشرذمة وصدور ما يوجب ظنّ الرسل بخلاف ما تظاهروا به حتى يصح أن يقال إنّ الرسل ظنوا انّ المتظاهرين بالإيمان قد كذبوا في ادّعاء الإيمان بالرسل.

أضف إلى ذلك : إنّ هذه الإجابة لا تصحّح العصمة المطلقة للأنبياء ، إذ على هذا الجواب يكون ظن الرسل بعدم إيمان تلك الشرذمة القليلة خطأً ، وكان ادّعاؤهم للإيمان صادقاً ، وهذا يمس كرامتهم من جانب آخر ، لأنّهم تخيّلوا غير الواقع واقعاً ، والمؤمن كافراً.

على أنّ ذلك الجواب لا يناسب ذيل الجملة فانّه سبحانه يقول بعد تلك الجملة : (جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ) مع أنّ المناسب على هذه الإجابة أن يقول : «بل تبين للرسل صدق ادّعاء المؤمنين فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين».

الثاني : انّ معنى الآية : ظن الأُمم أنّ الرسل كذبوا في ما أخبروا به من نصر الله إيّاهم وإهلاك أعدائهم وهذا الوجه هو المروي عن سعيد بن جبير واختاره العلاّمة الطباطبائي ، فالآية تهدف إلى أنّه إذا استيئس الرسل من إيمان أُولئك الناس ، هذا من جانب ومن جانب آخر ظنّ الناس - لأجل تأخر العذاب - انّ الرسل قد كذبوا ، أي أخبروا بنصر المؤمنين وعذاب الكافرين كذباً ، جاءهم نصرنا ، فننجّي بذلك من نشاء وهم المؤمنون ، ولا يرد بأسنا أي شدتنا عن القوم المجرمين.

وقد دلّت الآيات على أنّ الأُمم السالفة كانوا ينسبون الأنبياء إلى الكذب ،

ص : 298

قال سبحانه في قصة نوح حاكياً عن قول قومه : (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) (1) ، وكذا في قصة هود وصالح.

وقال سبحانه في قصة موسى : (فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) (2). (3)

يلاحظ عليه بأنّ الظاهر هو انّ مرجع الضمير المتصل في «ظنّوا» هو الرسل المقدم عليه ، وإرجاعه إلى الناس على خلاف الظاهر ، وعلى خلاف البلاغة وليس في نفس الآية حديث عن هذا اللفظ (الناس) حتى يكون مرجعاً للضمير في «ظنّوا».

أضف إلى ذلك انّ ما استشهد به مما ورد في قصة نوح لا يرتبط بما ادّعاه فإنّ معنى (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) انّ الناس صوّروا نفس الرسل كاذبين وانّهم قد تعمّدوا التقوّل على خلاف الواقع ، والمذكور في الآية المبحوث عنها ليس كون الرسل كاذبين بل كونهم مكذوبين ، أي وعدوا كذباً وقيل لهم قولاً غير صادق وإن تصوّروا أنفسهم صادقين في ما يخبرون به ، وبين المعنيين بون بعيد.

الثالث : ما روي عن ابن عباس من أنّ الرسل لمّا ضعفوا وغُلبوا ظنّوا أنّهم قد أُخْلِفُوا ما وعدهم الله من النصر، وقال كانوا بشراً ، وتلا قوله : (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ). (4)

وقال صاحب الكشاف في حق هذا القول : إنّه إن صح هذا عن ابن عباس ، فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية ، وأمّا الظن الذي هو ترجح أحد الجائزين

ص : 299


1- هود : 27.
2- الإسراء : 101.
3- الميزان : 11 / 279.
4- البقرة : 214.

على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين فما بال رسل الله الذين هم أعرف الناس بربهم ، وانّه متعال عن خلف الميعاد منزه عن كل قبيح. (1)

وهذا التفسير مع التوجيه الذي ذكره الزمخشري وإن كان أوقع التفاسير في القلوب غير انّه أيضاً لا يناسب ساحة الأنبياء الذين تسدِّدهم روح القدس وتحفظهم عن الزلل والخطأ في الفكر والعمل ، وتلك الهاجسة وان كانت بصورة حديث النفس وشبه الوسوسة ، لكنها لا تلائم العصمة المطلقة المترقبة من الأنبياء.

الرابع (وهو المختار)

إنّ المستدل زعم أنّ الظن المذكور في الآية أمر قلبي اعترى قلوب الرسل ، وأدركوه بمشاعرهم وعقولهم مثل سائر الظنون التي تحدق بالقلوب البشرية وتنقدح فيها.

مع أنّ المراد غير ذلك ، بل المراد انّ الظروف التي حاقت بالرسل بلغت من الشدة والقسوة الى حد صارت تحكي بلسانها التكويني عن أنّ النصر الموعود كأنّه نصر غير صادق ، لا أنّ هذا الظن كان يراود قلوب الرسل ، وأفئدتهم ، وكم فرق بين كونهم ظانّين بكون الوعد الإلهي بالنصر وعداً مكذوباً ، وبين كون الظروف والشرائط المحيطة بهم من المحنة والشدة كانت كأنّها تشهد في بادئ النظر على أنّه ليس لوعده سبحانه خبر ولا أثر وأنّهم وعدوا به كذباً.

فحكاية وضعهم والملابسات التي كانت تحدق بهم عن كون الوعد كذباً ، أمر ، وكون الأنبياء قد وقعوا فريسة ذلك الظن غير الصالح أمر آخر ، والمخالف

ص : 300


1- الكشاف : 2 / 157.

للعصمة هو الثاني لا الأوّل ، ولذلك نظائر في الذكر الحكيم.

منها قوله سبحانه : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (1) ، فإنّ يونس النبي بن متى كان مبعوثاً إلى أهل نينوى ، فدعاهم فلم يؤمنوا ، فسأل الله أن يعذّبهم ، فلمّا أشرف عليهم العذاب تابوا وآمنوا ، فكشفه الله عنهم وفارقهم يونس قبل نزول العذاب مغاضباً لقومه ظانّاً بأنّه سبحانه لن يضيق عليه ولا يؤدبه ، لأجل مفارقته قومه وتركهم مع إمكان رجوعهم إلى الله سبحانه وإيمانهم به وتوبتهم عن أعمالهم.

فما هذا الظن الذي ينسبه سبحانه إلى يونس ، هل كان ظناً قائماً بمشاعره ، فنحن نجلّه ونجلّ ساحة جميع الأنبياء عن هذا الظن الذي لا يتردد في ذهن غيرهم ، فكيف الأنبياء؟! بل المراد انّ عمله هذا (أي ذهابه ومفارقة قومه) كان يُمثِّل هذا الظنّ وأنّ مولاه لا يقدر عليه وهو يفوته بالابتعاد عنه فلا يقوى على سياسته ، فكم فرق بين ورود هذا الظن على مشاعر يونس ، وبين كون عمله مجسماً وممثلاً لهذا الظن في كل من رآه وشاهده؟ فما يخالف العصمة هو الأوّل لا الثاني.

ومنها : قوله سبحانه في سورة الحشر حاكياً عن بني النضير إحدى الفرق اليهودية الثلاث التي كانت تعيش في المدينة ، وتعاقدوا مع النبي على أن لا يخونوا ويتعاونوا في المصالح العامة ، ولما خدعوا المسلمين وقتلوا بعض المؤمنين في مرأى من الناس ومسمع منهم ، ضيّق عليهم النبي ، فلجئوا إلى حصونهم ، وفي ذلك يقول سبحانه : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ

ص : 301


1- الأنبياء : 87.

الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا). (1)

فما هذا الظن الذي ينسبه سبحانه إلى تلك الفرقة؟ هل كانوا يظنون بقلوبهم أنّ حصونهم مانعتهم من الله؟ فإنّ ذلك بعيد جداً ، فانّهم كانوا موحّدين ومعترفين بقدرته سبحانه غير انّ علمهم بصدق النبيّ أوّلاً والتجاءهم إلى حصونهم في مقابل النبي الذي تبيّن لهم صدق نبوته ثانياً ، كان يحكي عن أنّهم مصدر هذا الظن وصاحبه.

ولذلك نظائر في المحاورات العرفية فإنّا نصف المتهالكين في الدنيا والغارقين في زخارفها ، والبانين للقصور المشيدة والأبراج العاجية بأنّهم يعتقدون بخلود العيش ودوام الحياة ، وانّ الموت كأنّه كتب على غيرهم ، ولا شك أنّ هذه النسبة نسبة صادقة لكن بالمعنى الذي عرفت أي أنّ عملهم مبدأ انتزاع هذا الظن ، ومصدر هذه النسبة.

وعلى ذلك فالآية تهدف إلى أنّ البلايا والشدائد كانت تحدق بالأنبياء طيلة حياتهم وتشتد عليهم الأزمة والمحنة من جانب المخالفين ، فكانوا يعيشون بين أقوام كأنّهم أعداء ألداء ، وكان المؤمنون بهم في قلّة ، فصارت حياتهم المشحونة بالبلايا والنوازل ، والبأساء والضراء ، مظنّة لأن يتخيّل كل من وقف عليها من نبي وغيره ، انّ ما وعدوا به وعد غير صادق ، ولكن لم يبرح الوضع على هذا المنوال حتى يفاجئهم نصره سبحانه ، للمؤمنين ، وإهلاكه وإبادته للمخالفين كما يقول : (فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ). (2)

ص : 302


1- الحشر : 2.
2- يوسف : 110.

ويشعر بما ذكرناه قوله سبحانه : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ). (1)

فالمراد من الرسول هو غير النبي الأكرم من الرسل السابقين ، فعند ما كانت البأساء والضراء تحدق بالمؤمنين ونفس الرسول ، وكانت المحن تزلزل المؤمنين حتى أنّها كانت تحبس الأنفاس ، فعند ذلك كانت تكاد تلك الأنفاس المحبوسة والآلام المكنونة تتفجر في شكل ضراعة إلى الله ، فيقول الرسول والذين آمنوا معه (مَتى نَصْرُ اللهِ)؟ فإنّ كلمة (مَتى نَصْرُ اللهِ) مقرونة بالضراعة والالتماس ، تقع مظنة تصور استيلاء اليأس والقنوط عليهم لا بمعنى وجودهما في أرواحهم وقلوبهم ، بل بالمعنى الذي عرفت من كونه ظاهراً من أحوالهم لا من أقوالهم.

وما برح الوضع على هذا إلى أن كان النصر ينزل عليهم وتنقشع عنهم سحب اليأس والقنوط المنتزع من تلك الحالة.

هذا ما وصلنا إليه في تفسير الآية ، ولعلّ القارئ يجد تفسيراً أوقع في النفس مما ذكرناه.

الآية الثانية

اشارة

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). (2)

ص : 303


1- البقرة : 214.
2- الحج : 52.

(لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ). (1)

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). (2)

وهذه الآية أو الآيات من أوثق الأدلة في نظر القائل بعدم عصمة الأنبياء ، وقد استغلها المستشرقون في مجال التشكيك في الوحي النازل على النبي على وجه سيوافيك بيانه.

وكأنّ المستدل بهذه الآية يفسر إلقاء الشيطان في أُمنية الرسول أو النبي بالتدخل في الوحي النازل عليه فيغيّره إلى غير ما نزل به.

ثم إنّه سبحانه يمحو ما يلقي الشيطان ويصحّح ما أُنزل على رسوله من الآيات ، فلو كان هذا مفاد الآية ، فهو دليل على عدم عصمة الأنبياء في مجال التحفّظ على الوحي أو إبلاغه الذي اتفقت كلمة المتكلمين على المصونية في هذا المجال.

وربما يؤيد هذا التفسير بما رواه الطبري وغيره في سبب نزول هذه الآية ، وسيوافيك نصه وما فيه من الإشكال.

فالأولى تناول الآية بالبحث والتفسير حتى يتبيّن انّها تهدف إلى غير ما فسّره المستدل فنقول :

يجب توضيح نقاط في الآيات.

الأُولى : ما معنى أُمنية الرسول أو النبي؟ وإلامَ يهدف قوله سبحانه : (إِذا

ص : 304


1- الحج : 53.
2- الح ج : 54.

تَمَنَّى)؟

الثانية : ما معنى مداخلة الشيطان في أُمنية النبي الذي يفيده قول الله سبحانه : (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ)؟

الثالثة : ما معنى نسخ الله سبحانه ما يلقيه الشيطان؟

الرابعة : ما ذا يريد سبحانه من قوله : (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) وهل المراد منه الآيات القرآنية؟

الخامسة : كيف يكون ما يلقيه الشيطان فتنة لمرضى القلوب وقاسيتها؟ وكيف يكون سبباً لإيمان المؤمنين ، وإخبات قلوبهم له؟

وبتفسير هذه النقاط الخمس يرتفع الإبهام الذي نسجته الأوهام حول الآية ومفادها فنقول :

1. ما معنى أُمنية الرسول أو النبي؟

أمّا الأُمنية قال ابن فارس : فهي من المنى ، بمعنى تقدير شيء ونفاذ القضاء به ، منه قولهم : مني له الماني أي قدر المقدر قال الهذلي :

لا تأمنن وان أمسيت في حرم

حتى تلاقي ما يمني لك الماني

والمنا : القدر ، وماء الإنسان : منيّ ، أي يُقدّر منه خلقته. والمنيّة : الموت ، لأنّها مقدّرة على كل أحد ، وتمنّى الإنسان : أمل يقدِّره ، ومنى مكة : قال قوم : سمِّي به لما قُدِّر أن يُذبح فيه ، من قولك مناه الله. (1)

وعلى ذلك فيجب علينا أن نقف على أُمنية الرسل والأنبياء من طريق

ص : 305


1- المقاييس : 5 / 276.

الكتاب العزيز ، ولا يشك من سبر الذكر الحكيم انّه لم يكن للرسل والأنبياء ، أُمنية سوى نشر الهداية الإلهية بين أقوامهم وإرشادهم إلى طريق الخير والسعادة ، وكانوا يدأبون في تنفيذ هذا المقصد السامي ، والهدف الرفيع ولا يألون في ذلك جهداً ، وكانوا يخططون لهذا الأمر ، ويفكّرون في الخطة بعد الخطة ، ويمهدون له قدر مستطاعهم ، ويدل على ذلك جمع من الآيات نكتفي بذكر بعضها :

يقول سبحانه في حق النبي الأكرم : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ). (1)

ويقول أيضاً : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ). (2)

ويقول أيضاً : (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ). (3)

ويقول سبحانه : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ). (4)

ويقول سبحانه : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ). (5)

هذا كلّه في حق النبي الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم -.

ويقول سبحانه حاكياً عن استقامة نوح في طريق دعوته : (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا

ص : 306


1- يوسف : 103.
2- فاطر : 8.
3- النحل : 37.
4- القصص : 56.
5- الغاشية : 21 - 22.

وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً* ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً* ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً). (1)

ويقول سبحانه بعد عدة من الآيات : (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً* وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً* وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً* وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً). (2)

فهذه الآيات ونظائرها تنبئ بوضوح عن أنّ أُمنية الأنبياء الوحيدة في حياتهم وسبيل دعوتهم هو هداية الناس إلى الله ، وتوسيع رقعة الدعوة إلى أبعد حد ممكن ، وان منعتهم من تحقيق هذا الهدف عراقيل وموانع ، فهم يسعون إلى ذلك بعزيمة راسخة ورجاء واثق.

إلى هنا تبيّن الجواب عن السؤال الأوّل ، وهلم معي الآن لنقف على جواب السؤال الثاني ، أعني :

2. ما معنى إلقاء الشيطان في أُمنية الرسل؟

وهذا السؤال هو النقطة الحاسمة في استدلال المخالف ، وبالإجابة عليها يظهر وهن الاستدلال بوضوح فنقول : إنّ إلقاء الشيطان في أُمنيتهم يتحقّق بإحدى صورتين :

1. أن يوسوس في قلوب الأنبياء ويوهن عزائمهم الراسخة ، ويقنعهم بعدم جدوى دعوتهم وإرشادهم ، وانّ هذه الأُمّة ، أُمّة غير قابلة للهداية ، فتظهر بسبب

ص : 307


1- نوح : 7 - 9.
2- نوح : 21 - 24.

ذلك سحائب اليأس في قلوبهم ويكفّوا عن دعوة الناس وينصرفوا عن هدايتهم.

ولا شك أنّ هذا المعنى لا يناسب ساحة الأنبياء بنص القرآن الكريم ، لأنّه يستلزم أن يكون للشيطان سلطان على قلوب الأنبياء وضمائرهم ، حتى يوهن عزائمهم في طريق الدعوة والإرشاد ، والقرآن الكريم ينفي تسلل الشيطان إلى ضمائر المخلصين الذين هم الأنبياء ومن دونهم ، ويقول سبحانه : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ). (1)

ويقول أيضاً ناقلاً عن نفس الشيطان : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ). (2)

وليس إيجاد الوهن في عزائم الأنبياء من جانب الشيطان إلاّ إغواءهم المنفي بنص الآيات.

2. أن يكون المراد من إلقاء الشيطان في أُمنية النبي هو إغراء الناس ودعوتهم إلى مخالفة الأنبياء - عليهم السلام - والصمود في وجوههم حتى تصبح جهودهم ومخططاتهم عقيمة غير مفيدة.

وهذا المعنى هو الظاهر من القرآن الكريم حيث يحكي في غير مورد أنّ الشيطان كان يحض أقوام الأنبياء - عليهم السلام - على المخالفة ويعدهم بالأماني ، حتى يخالفوهم.

قال سبحانه : (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً). (3)

ص : 308


1- الحجر : 42 ، الإسراء : 65.
2- ص : 82 - 83.
3- النساء : 120.

وقال سبحانه : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ). (1)

وهذه الآيات ونظائرها تشهد بوضوح على أنّ الشيطان وجنوده كانوا يسعون بشدة وحماس في حضّ الناس على مخالفة الأنبياء والرسل ، وكانوا يخدعونهم بالعدة والأماني ، وعند ذلك يتضح مفاد الآية ، قال سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى) (أي إذا فكّر في هداية أُمّته وخطّط لذلك الخطط ، وهيّأ لذلك المقدمات) (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) (بحضِّ الناس على المخالفة والمعاكسة وإفشال خطط الأنبياء حتى تصبح المقدمات عقيمة غير منتجة).

3. ما معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان؟

إذا عرفت هذا المقطع من الآية يجب أن نقف على مفاد المقطع الآخر منها وهو قوله سبحانه : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) وما معنى هذا النسخ؟

والمراد من ذاك النسخ ما وعد الله سبحانه رسله بالنصر ، والعون والإنجاح ، قال سبحانه : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (2) ، وقال سبحانه : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (3) ، وقال سبحانه : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ). (4)

وقال سبحانه : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ

ص : 309


1- إبراهيم : 22.
2- غافر : 51.
3- المجادلة : 21.
4- الأنبياء : 18.

الْمَنْصُورُونَ* وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ). (1)

وقال في حق النبي الأعظم - صلى الله عليه وآله وسلم - : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ). (2)

وقال سبحانه : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ). (3)

إلى غير ذلك من الآيات الساطعة التي تحكي عن انتصار الحق الممثَّل في الرسالات الإلهية في صراعها مع الباطل وأتباعه.

4. ما معنى إحكامه سبحانه آياته؟

إذا تبين معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان ، يتبين المراد من قوله سبحانه : (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ).

فالمراد من الآيات هي الدلائل الناصعة الهادية إلى الله سبحانه وإلى مرضاته وشرائعه.

وإن شئت قلت : إذا نسخ ما يلقيه الشيطان ، يخلفه ما يلقيه سبحانه إلى أنبيائه من الآيات الهادية إلى رضاه أوّلاً ، وسعادة الناس ثانياً.

ومن أسخف القول : إنّ المراد من الآيات ، الآيات القرآنية التي نزلت على النبي الأكرم ، وذلك لأنّ موضوع البحث فيها ليس خصوص النبي الأكرم ، بل الرسل والأنبياء على وجه الإطلاق ، أضف إليه انّه ليس كل نبي ذا كتاب وآيات ،

ص : 310


1- الصافات : 171 - 173.
2- التوبة : 33.
3- الأنبياء : 105.

فكيف يمكن أن يكون ذا قرآن مثله؟

ويعود مفاد الجملة إلى أنّ الله سبحانه يحكم دينه وشرائعه وما أنزله الله إلى أنبيائه وسفرائه من الكتاب والحكمة.

والحاصل : انّ في مجال الصراع بين أنصار الحق وجنود الباطل يكون الانتصار والظفر للأوّل ، والاندحار والهزيمة للثاني فتضمحل الخطط الشيطانية وتنهزم أذنابه ، بإرادة الله سبحانه ، فتخلفها البرامج الحيوية الإلهية وآياته الناصعة ، فيصبح الحق قائماً وثابتاً ، والباطل داثراً وزاهقاً ، قال سبحانه : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً). (1)

5. ما هي النتيجة من هذا الصراع؟
اشارة

قد عرفت أنّ الآية تعلِّل الهدف من هذا الصراع بأنّ ما يلقيه الشيطان يكون فتنة لطوائف ثلاث :

1. الذين في قلوبهم مرض.

2. ذات القلوب القاسية.

3. الذين أوتوا العلم.

إنّ نتيجة هذا الصراع تعود إلى اختبار الناس وامتحانهم حتى يظهروا ما في مكامن نفوسهم وضمائر قلوبهم من الكفر والنفاق أو من الإخلاص والإيمان.

فالنفوس المريضة التي لم تنلها التزكية والتربية الإلهية ، والقلوب القاسية التي

ص : 311


1- الإسراء : 81.

أسّرتها الشهوات ، وأعمتها زبارج الحياة الدنيا ، تتسابق إلى دعوة الشيطان وتتبعه فيظهر ما في مكامنها من الكفر والقسوة ، فيثبت نفاقها ويظهر كفرها.

وأمّا النفوس المؤمنة الواقفة على أنّ ما جاء به الرسل حق من جانب الله سبحانه ، فلا يزيدها ذلك إلاّ إيماناً وثباتاً وهداية وصمودا.

وهذه النتيجة حاكمة في عامة اختبارات الله سبحانه لعباده ، فإنّ اختباراته سبحانه ليس لأجل العلم بواقع النفوس ومكامنها ، فإنّه يعلم بها قبل اختبارها (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (1) ، وانّما الهدف من الاختبار هو إخراج تلك القوى والقابليات الكامنة في النفوس والقلوب ، إلى عالم التحقّق والفعلية وبالتالي تمكين الاستعدادات من الظهور والوجود.

وفي ذلك يقول الإمام أمير المؤمنين علي - عليه السلام - في معنى الاختبار بالأموال والأولاد الوارد في قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) (2) : «ليتبيّن الساخط لرزقه ، والراضي بقسمه ، وان كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب». (3)

وقد وقفت بعد ما حررت هذا على كلام لفقيد العلم والتفسير الشيخ محمد جواد البلاغي - قدس الله سره - وهو قريب مما ذكرناه : قال : المراد من الأُمنية هو الشيء المتمنّى كما هو الاستعمال الشائع في الشعر والنثر ، كما أنّ الظاهر من التمنّي المنسوب إلى الرسول والنبي ويشهد به سوق الآيات ، هو أن يكون ما يناسب وظيفتهما ، وهو تمنّي ظهور الهدى في الناس وانطماس الغواية والهوى ، وتأييد

ص : 312


1- الملك : 14.
2- الأنفال : 28.
3- نهج البلاغة : قسم الحكم الرقم : 93.

شريعة الحق ، ونحو ذلك ، فيلقي الشيطان بغوايته بين الناس في هذا المتمنّى الصالح ما يشوشه ، ويكون فتنة للذين في قلوبهم مرض ، كما ألقى بين أُمّة موسى من الضلال والغواية ما ألقى ، وألقى بين أتباع المسيح ما أوجب ارتداد كثير منهم ، وشك خواصهم فيه واضطرابهم في التعاليم ، وأحكام الشريعة بعده ، وألقى بين قوم رسول الله ما أهاجهم على تكذيبه وحربه وبين أُمّته ما أوجب الخلاف وظهور البدع ، فينسخ الله بنور الهدى غياهب الضلال وغواية الشيطان ، فيسفر للعقول السليمة صبح الحق ، ثم يحكم الله آياته ويؤيد حججه بإرسال الرسل ، أو تسديد جامعة الدين القيم. (1)

وما ذكره - قدس سره - كلام لا غبار عليه ، وقد شيدنا أساسه فيما سبق.

إلى هنا تبيّن مفاد جميع مقاطع الآية بوضوح وبقي الكلام في التفسير السخيف الذي تمسك به بعض القساوسة الطاعنين في الإسلام ، ومن حذا حذوهم من البسطاء.

التفسير الباطل للآية

ثمّ إنّ بعض القساوسة الذين أرادوا الطعن في الإسلام والتنقيص من شأن القرآن ، تمسّكوا بهذه الآية وقالوا : بأنّ المراد من الآية هو انّ «ما من رسول ولا نبي إلاّ إذا تمنّى وتلا الآيات النازلة عليه ، تدخل الشيطان في قراءته فأدخل فيها ما ليس منها» واستشهدوا لذلك التفسير بما رواه الطبري عن محمد بن كعب القرضي ، ومحمد بن قيس قالا : جلس رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في ناد من أندية قريش كثير أهله فتمنّى يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه ، فأنزل الله عليه (وَالنَّجْمِ إِذا

ص : 313


1- الهدى إلى دين المصطفى : 1 / 134.

هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) (1) فقرأها - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى إذا بلغ : (أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى* وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (2) ألقى عليه الشيطان كلمتين : «تلك الغرانقة العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى» فتكلم بها ثم مضى فقرأ السورة كلّها ، فسجد في آخر السورة وسجد القوم جميعاً معه ، ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود ، فرضوا بما تكلّم به وقالوا قد عرفنا : إنّ الله يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق ، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده إذ جعلت لها نصيباً فنحن معك ، قالا : فلمّا أمسى أتاه جبرائيل - عليه السلام - فعرض عليه السورة ، فلمّا بلغ الكلمتين اللّتين ألقى الشيطان عليه ، قال ما جئتك بهاتين ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : افتريتُ على الله وقلتُ على الله ما لم يقل فأوحى الله إليه : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) إلى قوله : (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) (3) ، فما زال مغموماً مهموماً حتى نزلت عليه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) قال فسمع من كان من المهاجرين بأرض الحبشة انّ أهل مكة قد أسلموا كلهم فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا : هم أحب إلينا فوجدوا قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان. (4)

ولا يخفى ما في هذا التفسير وشأن النزول من الإشكالات التي تسقطه عن صحة الاستناد إليه.

ص : 314


1- النجم : 1 - 2.
2- النجم : 19 - 20.
3- الإسراء : 73 ، 75.
4- تفسير الطبري : 17 / 131 ، ونقله السيوطي في الدر المنثور في تفسير الآية.

أمّا أوّلاً : فلأنّه مبني على أنّ قوله «تمنّى» بمعنى تلا ، وانّ لفظة «أُمنيته» بمعنى تلاوته ، وهذا الاستعمال ليس مأنوساً في لغة القرآن والحديث ولو صح فإنّما هو استعمال شاذ يجب تنزيه القرآن عنه.

نعم استدل بعضهم بقول حسان على ذاك الاستعمال :

تمنى كتاب الله أوّل ليلة *** وآخره لاقى حمام المقادر

وقول الآخر :

تمنّى كتاب الله آخر ليلة *** تمنّيَ داود الزبور على رسل

وهذان البيتان لو صح اسنادهما إلى عربي صميم كحسان لا يحسن حمل القرآن على لغة شاذة.

أضف إلى ذلك انّ البيت غير موجود في ديوان حسان ، وانّما نقله عنه المفسرون في تفاسيرهم ، وقد نقله أبو حيان في تفسيره (ج 6 ص 382) واستشهد به صاحب المقاييس (ج 5 ص 277).

ولو صح الاستدلال به فرضاً فإنّما يتم في اللفظ الأوّل دون الأُمنية لعدم ورودها فيه.

وثانياً : أنّ الرواية لا يمكن أن يحتج بها لجهات كثيرة أقلّها أنّ سندها ينتهي إلى ابن عباس مع أنّه لم يكن مولوداً في الوقت المجعول للقصة.

أضف إلى ذلك ، الاضطراب الموجود في متنها فقد نقل بصور مختلفة يبلغ عدد الاختلاف إلى أربع وعشرين صورة وقد جمع تلك الصور المختلفة العلاّمة البلاغي في أثره النفيس ، فلاحظ. (1)

ص : 315


1- الهدى إلى دين المصطفى : 1 / 130.

وثالثاً : أنّ القصة تكذّب نفسها ، لأنّها تتضمن أنّ النبي بعد ما أدخل الجملتين الزائدتين في ثنايا الآيات ، استرسل في تلاوة بقية السورة إلى آخرها وسجد النبي والمشركون الحاضرون معه ، فرحاً بما جاء في تينك الجملتين من الثناء على آلهتهم.

ولكن الآيات التي وقعت بعدهما ، واسترسل النبي في تلاوتها عبارة عن قوله سبحانه : (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى * إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) (1) إلى آخر الآيات.

وعندئذ يطرح هذا السؤال ، وهو انّه كيف رضي متكلّم العرب ومنطقيهم وحكيمهم وشاعرهم : الوليد بن المغيرة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بهذا الثناء القصير ، وغفل عن الآيات اللاحقة التي تندد بآلهتهم بشدة وعنف ، ويعدّها معبودات خرافية لا تملك من الألوهية إلاّ الاسم والعنوان؟!

أو ليس ذلك دليلاً على أنّ جاعل القصة من الوضّاعين الكذّابين الذي افتعل القصة في موضع غفل عن أنّه ليس محلاً لها ، وقد قيل : لا ذاكرة لكذوب.

ورابعاً : أنّ الله سبحانه يصف في صدر السورة نبيه الأكرم بقوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى) (2) ، وعندئذ كيف يصح له سبحانه أن يصف نبيه في أوّل السورة بهذا الوصف ، ثم يبدر من نبيه ما ينافي هذا التوصيف أشد المنافاة وفي وسعه سبحانه صون نبيه عن الانزلاق إلى مثل هذا المنزلق الخطير؟!

وخامساً : أنّ الجملتين الزائدتين اللّتين أُلصقتا بالآيات ، تكذبهما سائر

ص : 316


1- النجم : 22 - 23.
2- النجم : 3 - 4.

الآيات الدالة على صيانة النبي الأكرم في مقام تلقّي الوحي والتحفظ عليه وإبلاغه كما مرّ في تفسير قوله سبحانه : (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً). (1)

وقوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ). (2)

وسادساً : أنّ علماء الإسلام ، وأهل العلم والدراية من المسلمين قد واجهوا هذه الحكاية بالرد ، فوصفها المرتضى بالخرافة التي وضعوها. (3)

وقال النسفي : إنّ القول بها غير مرضيّ. وقال الخازن في تفسيره : إنّ العلماء وهّنوا أصل القصة ولم يروها أحد من أهل الصحة ، ولا أسندها ثقة بسند صحيح ، أو سليم متصل ، وإنّما رواها المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب ، الملفقون من الصحف كل صحيح وسقيم ، والذي يدل على ضعف هذه القصة اضطراب رواتها ، وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها. (4)

هذه هي أهم الإشكالات التي ترد على القصة وتجعلها في موضع من البطلان قد ذكرها المحقّقون في الرد على هذه القصة وقد ذكرنا قسماً منها في كتابنا «سيّد المرسلين» (5) ، ولا نطيل المقام بذكرها.

ص : 317


1- الجن : 27.
2- الحاقة : 44 - 46.
3- تنزيه الأنبياء : 109.
4- الهدى إلى دين المصطفى : 1 / 130.
5- كتاب أُلّف في بيان سيرة النبي الأكرم من ولادته إلى وفاته - صلى الله عليه وآله وسلم - وقد طبع في جزءين.

ص : 318

الفصل السابع: المتكلّم والصفات الخبرية

اشارة

ص : 319

ص : 320

المتكلّم

أجمع المسلمون تبعاً للكتاب والسنّة على كونه سبحانه متكلّماً ، ويبدو أنّ البحث في هذا الوصف هو أوّل مسألة في تاريخ علم الكلام طرحت على طاولة البحث ، وقد شغلت المسألة بال المُفكرين والمتكلّمين في أعصار مختلفة ، وقد تناولوها بالبحث من زاويتين :

1. ما معنى كونه سبحانه متكلّماً؟ وهل هو من صفات الذات كالعلم والقدرة ، أو من صفات الفعل كالخلق والرزق؟

2. هل كلامه سبحانه حادث أو قديم؟

وقد سبّب البحث في كون كلامه حادثاً أو قديماً صدامات سجّلها التاريخ في طياته وعُرِفتْ بمحنة خلق القرآن ، وها نحن نتناول كلاً من الموضوعين بالبحث :

معنى كونه سبحانه متكلّماً

اشارة

اختلفت كلمتهم في تفسير كونه سبحانه متكلّماً بعد اتّفاقهم على أصل الوصف ، وقد تضافرت النصوص عليه ، وإليك ما ورد في الذكر الحكيم :

1. (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ). (1)

ص : 321


1- البقرة : 253.

2. (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً). (1)

3. (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ). (2)

4. (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ). (3)

وقد بيّن سبحانه في الآية الأخيرة انّ تكليمه الأنبياء لا يعدو الأقسام التالية :

أ. (إِلاَّ وَحْياً).

ب. (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ).

ج. (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً).

وإليك تفسير الأقسام الثلاثة :

1. (إِلاَّ وَحْياً) إشارة إلى الكلام الملقى في روع الأنبياء بسرعة وخفاء.

2. (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) إشارة إلى الكلام الذي سمعه موسى - عليه السلام - في البقعة المباركة ، أعني قوله سبحانه : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ). (4)

3. (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) إشارة إلى الإلقاء بتوسيط ملك الوحي وأمينه ، قال سبحانه : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ). (5)

ص : 322


1- النساء : 164.
2- الأعراف : 143.
3- الشورى : 51.
4- القصص : 30.
5- الشعراء : 192 - 194.

وحصيلة الآيات : انّ الله سبحانه يوحي إلى أنبيائه ورسله بصور مختلفة.

تارة بلا واسطة بالإلقاء في الروع.

وأُخرى بالتكلّم من وراء حجاب بحيث يسمع الصوت ولا يُرى المتكلّم.

وثالثة بواسطة الرسول : أمين الوحي.

إذا عرفت نصوص الآيات حول تكلمه سبحانه ومفاهيمها ، فلنذكر الآراء المختلفة حول تكلّمه تعالى.

ص : 323

1- نظرية المعتزلة

ذهبت المعتزلة إلى أنّ كلامه أصوات وحروف ليست قائمة بذاته تعالى ، بل يخلقها في غيره كاللوح المحفوظ أو جبرئيل أو النبي ، وقد صرّح بذلك القاضي عبد الجبار رئيس المعتزلة في القرن الخامس فقال : حقيقة الكلام ، الحروف المنظومة ، والأصوات المقطعة ، وهذا كما يكون منعماً بنعمة توجد في غيره ، ورازقاً برزق يوجد في غيره ، فهكذا يكون متكلّماً بإيجاد الكلام في غيره ، وليس من شرط الفاعل أن يحل عليه الفعل. (1)

والظاهر انّ كونه سبحانه متكلّماً بهذا المعنى لا خلاف فيه ، إنّما الكلام في حصر تكلّمه في هذا المعنى ، قال السيّد الشريف عميد الأشاعرة في القرن التاسع في شرح المواقف : «هذا الذي قالته المعتزلة لا ننكره ، بل نحن نقوله ونسمّيه كلاماً لفظياً ونعترف بحدوثه وعدم قيامه بذاته تعالى ، ولكن نثبت أمراً وراء ذلك. (2)

ولكن يرد على هذه النظرية أنّها تفسر الكلام الذي يخاطب به سبحانه شخصاً من أوليائه ، وأمّا إذا لم يكن هناك مخاطب خاص فلا بدّ أن يكون لكلامه معنى آخر ، إذ لا معنى للخطاب بالأصوات والألفاظ دون أن يكون هناك مخاطب إلاّ أن يكون كلامه سبحانه محصوراً في هذا القسم ، وسيوافيك عدم صحّته.

ص : 324


1- شرح الأُصول للقاضي عبد الجبار : 528 ؛ شرح المواقف للسيد الشريف : 495.
2- شرح المواقف : 1 / 77.

2- نظرية الحكماء

وهناك نظرية ثانية تفسر معنى كونه متكلّماً خصوصاً فيما إذا لم يكن هناك مخاطب خاص ، وحاصل هذه النظرية هو ما يلي :

إنّ الكلام في أنظار عامة الناس هو الحروف والأصوات الصادرة من المتكلم ، القائمة به ، وهو يحصل من تموج الهواء واهتزازه بحيث إذا زالت الأمواج زال الكلام معه. ولكن الإنسان الاجتماعي يتوسع في إطلاقه ، فيطلق الكلام على الخطبة المنقولة أو الشعر المرويّ عن شخص ، ويقول : هذا كلام النبي أو خطبة الإمام علي - عليه السلام - ، مع أنّ كلامهما قد زال بزوال الموجات والاهتزازات ، وما هذا إلاّ من باب التوسع في الإطلاق ومشاهدة ترتّب الأثر على المروي والمنقول.

وعلى هذا فكلّ فعل من المتكلّم أفاد نفس الأثر الذي يفيده كلامه من إبراز ما يكتنفه الفاعل في باطنه من المعاني والحقائق ، تصحّ تسميته كلاماً من باب التوسع والتطوير.

والذي يقرب ذلك انّ المصباح وضع حينما وضع على مصداق بسيط لا يعدو الغصن المشتعل ، ولكن لمّا كان أثره - وهو الإنارة - موجوداً في الجهاز الزيتي والغازي والكهربائي أُطلق على الجميع ؛ فإذا صحت تلك التسمية وجاز ذلك التوسع في لفظ «المصباح» ، يجوز في لفظ «الكلام» ، فهو وإن وضع يوم وضع للأصوات والحروف المتتابعة الكاشفة عمّا يقوم في ضمير المتكلّم من المعاني ، إلاّ

ص : 325

أنّه لو وجد هناك شيء يفيد ما تفيده الأصوات والحروف المتتابعة بنحو أعلى وأتم ، لصحّت تسميته كلاماً أو كلمة. وهذا الشيء الذي يمكن أن يقوم مقام الكلام اللفظي هو فعل الفاعل الذي يليق أن يسمّى بالكلام الفعلي ، ففعل كلّ فاعل ، يكشف عن مدى ما يكتنفه الفاعل من العلم والقدرة والعظمة والكمال. غير أنّ دلالة الألفاظ على السرائر والضمائر اعتبارية ، ودلالة الأفعال والآثار على ما عليه الفاعل والمؤثر من العظمة تكوينية.

ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يصف عيسى بن مريم بانّه كلمة الله التي ألقاها إلى مريم العذراء ويقول : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ) (1) ، كما يصف يحيى بها ويقول : (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ). (2)

بل يَعُدّ سبحانه كلّ ما في الكون من كلماته ويقول : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً). (3)

ويقول سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ). (4)

قال أمير المؤمنين وسيّد الموحدين - عليه السلام - في «نهج البلاغة» :

«يُخْبِرُ لا بلسان وَلَهَوات ، وَيَسْمَعُ لا بخُروق وأدوات ، يقول ولا يَلفِظُ ، ويَحْفَظُ وَلا يَتَحَفَّظُ ، ويُريد ولا يُضمِر ، يُحِبّ ويرضى من غير رِقّة ، ويُبْغِضُ ويغضب من غير مشقّة ، يقول لمن أراد كونه : كن. فيكون ، لا

ص : 326


1- النساء : 171.
2- آل عمران : 39.
3- الكهف : 109.
4- لقمان : 27.

بصوت يَقْرَع ، ولا بِنداء يُسْمَع ، وإنّما كلامه سبحانه فِعْلٌ منه أنشأه ومثَّلَهُ ، لم يكن من قبل ذلك كائناً ، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً». (1)

وقد نقل عنه - عليه السلام - أنّه قال مبيّناً عظمة خلقة الإنسان :

أتزعم أنّك جرمٌ صغير *** وفيكَ انطوى العالمُ الأكبرُ

وأنت الكتابُ المبين الذي *** بأحرُفِهِ يَظْهَرُ المُضْمَرُ

فكلّ ما في صحيفة الكون من الموجودات الإمكانية كلماته ، وتخبر عمّا في المبدأ من كمال وجمال وعلم وقدرة.

ص : 327


1- نهج البلاغة : 2 / 122 ، الخطبة 179 ، ط عبده.

3- نظرية الأشاعرة

إنّ وصف التكلّم في النظريتين الماضيتين عدّ من صفات الفعل ، فهو إمّا بخلق الأصوات والألفاظ يوصف بالتكلّم ، أو بخلق العالم من جواهره وأعراضه يوصف به ، لأنّ فعله يعرب عن كماله الذاتي كما يعرب الكلام اللفظي عمّا يقوم في ذهن المتكلّم من المعاني.

غير أنّ الأشاعرة ذهبت إلى أنّ وصف التكلّم من صفات ذاته كالعلم والقدرة وفسروا معنى كونه متكلّماً بالكلام النفسي ، وقالوا :

إنّ الكلام النفسي غير علمه سبحانه في الإخبار ، وغير إرادته وكراهته في الإنشاء مثلاً ، فإذا قال سبحانه مخبراً :

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ). (1)

فانّ هناك علماً ، وكلاماً نفسيّاً ، والثاني غير الأوّل.

وإذا قال سبحانه منشئاً حكماً شرعياً إيجابياً : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى). (2) فهناك إرادة وكلام نفسي.

وإذا قال منشئاً نهياً تحريمياً : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ

ص : 328


1- التوبة : 111.
2- البقرة : 238.

الْمُؤْمِنِينَ). (1)

فهناك كراهة ، وكلام نفسي.

فالأشاعرة ذهبوا إلى أنّ في الجمل الإخبارية - وراء العلم - وفي الإنشائية كالأمر والنهي - وراء الإرادة والكراهة - شيء في ذهن كلّ متكلّم سواء أكان واجباً أم ممكناً هو المسمّى بالكلام النفسي وهو الكلام حقيقة.

وأمّا الكلام اللفظي فهو تعبير عن الكلام الواقعي.

وهذا الكلام النفسي في الإنسان حادث يتبع حدوث ذاته ، وفيه سبحانه قديم يتبع قدم ذاته ، وها نحن نأتي بكلمة من أقطاب الأشاعرة في المقام الذي يوضح معنى الكلام النفسي.

قال الفضل بن روزبهان في كتاب نهج الحق : إنّ الكلام عندهم لفظ مشترك يطلقونه على المؤلَّف من الحروف المسموعة ، وتارة يطلقونه على المعنى القائم بالنفس الذي يعبر عنه بالألفاظ ويقولون هو الكلام حقيقة ، وهو قديم قائم بذاته ، ولا بدّ من إثبات هذا الكلام ، فانّ العرف لا يفهمون من الكلام إلاّ المؤلف من الحروف والأصوات ، فنقول :

ليرجع الشخص إلى نفسه انّه إذا أراد التكلّم بالكلام ، فهل يفهم من ذاته انّه يزوِّر ويرتِّب معاني فيعزم على التكلم بها؟ كما أنّ من أراد الدخول على السلطان أو العالم فانّه يرتّب في نفسه معاني وأشياء ويقول في نفسه سأتكلم بهذا ، فالمصنف يجد من نفسه هذا البتة ، فها هو الكلام النفسي.

ثمّ نقول على طريقة الدليل : إنّ الألفاظ التي نتكلم بها لها مدلولات قائمة

ص : 329


1- آل عمران : 28.

بالنفس فنقول هذه المدلولات هي الكلام النفسي. (1)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره صحيح ولكنه ليس شيئاً وراء العلم في الجمل الخبرية ولا غير الإرادة والكراهة في الجمل الإنشائية ، وذلك :

إنّ المعاني التي تدور في خلد المتكلم في الجمل الخبرية ليست إلاّ تصور المعاني المفردة أو المركبة أو الإذعان بالنسبة فيرجع الكلام النفسي إلى التصورات والتصديقات فأي شيء هنا وراء العلم حتّى نسمّيه بالكلام النفسي.

كما أنّه عند ما يرتّب المعاني الإنشائية فلا يرتّب إلاّ إرادته وكراهته أو ما يكون مقدّمة له ، كتصور الشيء والتصديق بفائدته ، فيرجع الكلام النفسي في الإنشاء إلى الإرادة والكراهة بضميمة تصور أُمور يعدّ من مقدماتهما ، فأي شيء هنا غير الإرادة والكراهة وغير التصور والتصديق حتّى نسمّيه بالكلام النفسي.

وعلى ضوء ذلك لا يكون التكلّم وصفاً وراء العلم في الاخبار ووراء الإرادة والكراهة في الإنشاء مع أنّ الأشاعرة يصرّون على إثبات وصف ذاتي لكلّ متكلّم واجباً كان أو ممكناً وراء العلم والإرادة والكراهة ، ولذلك يقولون : كونه متكلّماً بالذات غير كونه عالماً ومريداً بالذات.

وحصيلة الكلام : انّ الأشاعرة زعموا انّ في ذهن المتكلّم في الجملة الخبرية والإنشائية وراء التصوّرات والتصديقات في الأُولى ، ووراء الإرادة في الثانية شيئاً يسمّونه الكلام النفسي ، وربّما سمّوا الكلام النفسي في القسم الإنشائي بالطلب مشعرين بتغايره مع الإرادة ، وبذلك صحّحوا كونه سبحانه متكلّماً ، ككونه عالماً وقادراً ، وانّ الكلّ من الصفات الذاتية.

ص : 330


1- نهج الحق ، المطبوع في ضمن دلائل الصدق : 146.

ولكن البحث والتحليل أوقفنا على خلاف ما ذهبوا إليه ، لما عرفت من أنّه ليس وراء العلم في الجمل الخبرية ، ولا وراء الإرادة والكراهة في الجمل الإنشائية شيء نسمّيه كلاماً نفسياً ، ولو أرادوا بالكلام النفسي معنى الكلام اللفظي أو صورته العلمية التي ينطبق على لفظه ، يرجع لبه إلى العلم ولا يزيد عليه وإن أرادوا به معنى وراء ذلك فلسنا نعرفه في نفوسنا إذا راجعناه.

أدلّة الأشاعرة على الكلام النفسي

ثمّ إنّ الأشاعرة استدلّوا على وجود الكلام النفسي في كلّ متكلّم بوجوه لا تسع الرسالة لذكرها. ونقتصر بذكر دليلين :

الأوّل : العصاة والكفّار مكلَّفون بما كلّف به أهل الطاعة والإيمان بنص القرآن الكريم ، والتكليف عليهم لا يكون ناشئاً من إرادة الله سبحانه وإلاّ لزم تفكيك إرادته عن مراده ، ولا بدّ أن يكون هناك منشأ آخر للتكليف ، وهو الذي نسمّيه بالكلام النفسي تارة ، والطلب أُخرى ، فيستنتج من ذلك انّه يوجد في الإنشاء شيء غير الإرادة.

ويجاب عنه بوجهين :

1. إرادته سبحانه لو تعلّقت بفعل نفسه فلا تنفك عن المراد ، وأمّا إذا تعلّقت بفعل الغير فبما انّها تعلّقت بالفعل الصادر عن العبد عن حرية واختيار ، فلا محالة يكون الفعل مسبوقاً باختيار العبد ، فإن أراد واختار العبد يتحقّق الفعل ، وإن لم يرد فلا يتحقّق.

وبعبارة أُخرى : لم تتعلّق مشيئته سبحانه بصدور الفعل من العبد على كلّ تقدير ، أي سواء أراده أم لم يرده ، وإنّما تعلّقت بصدوره منه بشرط سبق الإرادة ، فإن

ص : 331

سبقت يتحقّق الفعل وإلاّ فلا.

2. انّ إرادته سبحانه لا تتخلّف عن مراده مطلقاً من غير فرق بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية.

أمّا الأُولى ، فلو تعلّقت إرادته بإيجاد الشيء مباشرة أو من طريق الأسباب يتحقّق لا محالة ، قال سبحانه : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). (1)

وأمّا الثانية ، فلا بد من إمعان النظر في متعلّق الإرادة ، فانّ متعلّقها في الإرادة التشريعية هو الإنشاء والبعث أو الزجر والتنفير وهو متحقّق في جميع عوامله ونواهيه ، سواء امتثل العبد أم خالف.

وأمّا فعل العبد أو انتهاؤه فليسا متعلّقين بالإرادة التشريعية في أوامره ونواهيه ، فتخلّفها لا يعدّ نقضاً للقاعدة ، لأنّ فعل الغير لا يكون متعلّقا لإرادة أحد ، لعدم كون فعل الغير في اختيار المريد ، ولأجل ذلك ذهب المحقّقون إلى أنّ الإرادة التشريعية إنّما تتعلّق بفعل النفس ، أي إنشاء البعث والزجر لا فعل الغير.

الثاني : انّ كلّ عاقل يعلم أنّ المتكلّم من قامت به صفة التكلّم ، ولو كان معنى كونه سبحانه متكلماً هو خلق الكلام ، فلا يكون ذلك الوصف قائماً به فلا يقال لخالق الكلام متكلم.

يلاحظ عليه : أنّ قيام المبدأ بالفاعل ليس منحصراً بالقيام الحلولي ، بل له أقسام :

1. القيام الصدوري ، كالقتل والضرب في القاتل والضارب.

2. القيام الحلولي ، كالعلم والقدرة في العالم والقادر.

ص : 332


1- يس : 82.

3. القيام الانتسابي ، كما في اللابن والتامر.

إلى غير ذلك من أنواع القيام ، فالتكلّم كالضرب ليس من المبادئ الحلولية في الفاعل ، بل من المبادئ الصدورية ، فلأجل انّه سبحانه موجد الكلام يطلق عليه انّه متكلّم وزان إطلاق الرازق والخالق والمميت والمحيي.

إلى هنا خرجنا بالنتيجة التالية : انّ تفسير وصفه سبحانه بكونه متكلماً إنّما يصحّ بكلا الوجهين الأوّلين :

1. كونه خالقاً للكلام في الخارج بنحو من الأنحاء.

2. كون فعله مطلقاً كلام له.

وأمّا تفسير كلامه بالكلام النفسي فغير صحيح.

إلى هنا تمّ الكلام في المقام الأوّل ، وحان البحث في المقام الثاني ، أي في حدوثه وقدمه الذي شغل بال المحدّثين والمتكلّمين عبر القرون.

ص : 333

2- في حدوث كلامه سبحانه أو قدمه

اشارة

وقبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً :

1. مبدأ فكرة قدم القرآن

الفتوحات الإسلامية أوجبت اختلاط المسلمين بغيرهم وصارت مبدأ لاحتكاك الثقافتين الإسلامية والأجنبية ، وفي ذلك الخضمّ المشحون بتضارب الأفكار طُرِحت مسألة تكلّمه سبحانه في الأوساط الإسلامية. هذا من جانب.

ومن جانب آخر ، كان الخلفاء يروّجون الخوض في المسائل العقائدية حتّى تنصرف الطبقة الفاضلة عن نقد أفعالهم وانحرافاتهم.

فالمهم في المقام التنبيه على مصدر هذه الفكرة (قدم القرآن أو حدوثه) فنقول : إنّ البحث في كونه مخلوقاً أو غير مخلوق ، حادثاً أو قديماً ممّا أثاره النصارى الذين كانوا في بلاط البيت الأُموي ، وعلى رأسهم يوحنا الدمشقي (المتوفّى 112 ه) الذي كان يشكّك المسلمين في دينهم ، فبما انّ القرآن عدّ عيسى بن مريم (كلمة الله) حيث قال : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ) صار ذلك وسيلة لئن يبثّ هذا الرجل بين المسلمين قدم «المسيح» عن طريق خاص ، وهو أنّه كان يسألهم : أكلمة الله قديمة أو لا؟

ص : 334

فإن قالوا : قديمة.

قال : ثبت دعوى النصارى بأنّ عيسى قديم ، لأنّه كلمة الله حسب تعبير كتابكم.

وإن قالوا : لا.

قال : زعمتم انّ كلامه مخلوق (أي مختلق).

فهو يجعل المسلمين على مفترق طريقين :

1. القرآن إمّا قديم ، فعندئذ يثبت نظرية النصارى في المسيح ، لأنّه كلمة الله حسب تنصيص القرآن ، والكلام والكلمة قديم ، فثبت انّ عيسى المسيح قديم.

2. أو مخلوق ، أي مختلق مكذوب على الله.

وبهذه القضية المنفصلة هيمن على السُّذّج من الناس وجرّ المحدِّثين إلى القول بأنّ القرآن قديم حذراً من كونه مختلقاً.

وقد غاب عنهم أوّلاً : انّ نقيض قولهم : القرآن قديم ، هو كونه حادثاً ، والقول بالحدوث لا يترتب عليه أي فساد.

وثانياً : انّ قولهم مخلوق ليس بمعنى «مختلق» ، أعني : ما يومي إليه قول القائل الذي حكاه سبحانه في كتابه (إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ) (1) ، بل بمعنى انّه مخلوق لله سبحانه أنزله بعلمه على قلب سيّد المرسلين ، فلا فرق بين القرآن وسائر الموجودات في أنّ الجميع مخلوق له سبحانه.

وممّا يؤيد انّ فكرة قدم القرآن تعود إلى أهل الكتاب ما رواه ابن النديم في

ص : 335


1- المدثر : 25.

فهرسته قال : قال أبو العباس البغوي : دخلنا على «فثيون» النصراني وكان دار الروم بالجانب الغربي ، فجرى الحديث إلى أن سألته عن ابن كلاب (الذي كان يقول بأنّ كلام الله هو الله).

فقال : «رحم الله عبد الله كان يجيء فيجلس إلى تلك الزاوية وأشار إلى ناحية من البيعة وعنّي أخذ هذا القول (كلام الله هو الله) ولو عاش لنصّرنا المسلمين».

قال البغوي : وسأله محمد بن إسحاق الطالقاني ، فقال : ما تقول في المسيح؟ قال : ما يقوله أهل السنّة من المسلمين في القرآن. (1)

وعلى ذلك فالمسألة مستوردة وليست ناجمة من صميم الدين وأُصوله وقد طرحت في أوائل القرن الثاني في عصر المأمون وامتدت إلى عصر المتوكّل وما بعده.

2. واجب أهل الحديث ، السكوت في هذه المسائل

إنّ مسلك أهل الحديث في اتّخاذ العقيدة في مسائل الدين هو اقتفاء كتاب الله وسنّة رسوله ، فما جاء فيها يؤخذ به وما لم يجئ فيها يُسكت عنه ولا يبحث فيه ، ولأجل ذلك كان أهل الحديث يحرّمون علم الكلام ويمنعون البحث عن كلّ ما ليس وارداً في الكتاب والسنّة.

وعلى هذا كان اللازم على أهل الحديث السكوت وعدم النبس ببنت شفة في هذه المسألة ، لأنّ البحث فيها حرام على أُصولهم ، سواء أكان الموقف هو قدم القرآن أو حدوثه ، لأنّه لم يرد فيه نصّ عن رسول الله ولا عن أصحابه ، ومع الأسف

ص : 336


1- فهرست ابن النديم : 23 ، الفن الثالث من المقالة الخامسة.

كان موقفهم وفي مقدمهم أحمد بن حنبل موقف الإيجاب وتكفير المخالف.

3. طرح المسألة في ظروف عصيبة

إنّ تاريخ البحث عن حدوث القرآن وقدمه يعرب عن أمرين :

أ. انّ المسألة طرحت في جو غير هادئ ، ولم يكن البحث لغاية كشف الحقيقة وابتداعها ، بل كلّ يصرّ على إثبات مدّعاه.

ب. لم يكن موضوع البحث منقَّحاً حتّى يتوارد عليه النفي والإثبات ، وانّهم لما ذا يفرّون من القول بحدوث القرآن؟ ولما ذا يكفّرون القائل به؟ أهم يريدون من قدم القرآن ، قدم الآيات التي يتلوها القارئ أو النبي أو أمين الوحي؟ أم يريدون قدم معانيه والمفاهيم الواردة فيه؟ أو يريدون قدم علمه سبحانه إلى غير ذلك من الاحتمالات التي سيوافيك مع أنّهم لم يركّزوا البحث على واحد منها.

إذا علمت هذه الأُمور فلنرجع إلى تحليل القول بحدوث القرآن وقدمه ، فنقول :

تحليل مسألة القول بقدم القرآن

إنّ محط النزاع لم يُحدد بشكل واضح يقدر الإنسان معه على القضاء فيه ، فهاهنا احتمالات يمكن أن تكون محطّ النظر لأهل الحديث والأشاعرة نطرحها على بساط البحث ونطلب حكمها من العقل الحصيف والقرآن الكريم :

1. الألفاظ والجمل الفصيحة البليغة التي عجز الإنسان في جميع القرون عن الإتيان بمثلها ، وقد جاء بها أمين الوحي إلى النبي الأكرم ، وقرأها الرسول فتلقّتها الأسماع وحرّرتها الأقلام على الصحف المطهرة. فهي ليست بمخلوقة على الإطلاق لا لله سبحانه ولا لغيره.

ص : 337

2. المعاني السامية والمفاهيم الرفيعة في مجالات التكوين والتشريع والحوادث والأخلاق والآداب وغيرها الواردة في القرآن.

3. ذاته سبحانه وصفاته من العلم والقدرة والحياة التي بحث عنها القرآن وأشار إليها بألفاظه وجُمَلِه.

4. علمه سبحانه بكلّ ما ورد في القرآن الكريم.

5. الكلام النفسي القائم بذاته.

6. القرآن ليس مخلوقاً للبشر وإن كان مخلوقاً لله.

وهذه المحتملات لا تختص بالقرآن الكريم ، بل تطّرد في جميع الصحف السماوية النازلة إلى أنبيائه ورسله.

وإليك بيان حكمها من حيث الحدوث والقدم.

أمّا الأوّل : فلا أظن أنّ إنساناً يملك شيئاً من الدَّرْك والعقل يعتقد بكونها غير مخلوقة أو كونها قديمة ، كيف وهي شيء من الأشياء ، وموجود من الموجودات ، ممكن غير واجب. فإذا كانت غير مخلوقة وجب أن تكون واجبة بالذات وهو نفس الشرك بالله سبحانه وحتّى لو فُرض أنّه سبحانه يتكلّم بهذه الألفاظ والجمل ، فلا يخرج تكلُّمه عن كونه فعله ، فهل يمكن أن يقال إنّ فعله غير مخلوق أو قديم؟!

وأمّا الثاني : فهو قريب من الأوّل في البداهة ، فإنّ القرآن - وكذا سائر الصحف - يشتمل على الحوادث المحقَّقة في زمن النبي من مُحاجّة أهل الكتاب والمشركين وما جرى في غزواته وحروبه من الحوادث المؤلمة أو المُسرّة ، فهل يمكن أن نقول بأنّ الحادثة التي يحكيها قوله سبحانه : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ

ص : 338

فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ). (1) قديمة؟

وقد أخبر الله تبارك وتعالى في القرآن والصحف السماوية عمّا جرى على أنبيائه من الحوادث وما جرى على سائر الأُمم من ألوان العذاب ، كما أخبر عمّا جرى في التكوين من الخلق والتدبير ، فهذه الحقائق الواردة في القرآن الكريم ، حادثة بلا شكّ ، لا قديمة.

وأمّا الثالث : فلا شكّ أنّ ذاته وصفاته من العلم والقدرة والحياة وكلّ ما يرجع إليها كشهادته أنّه لا إله إلاّ هو ، قديم بلا إشكال وليس بمخلوق بالبداهة ، ولكنّه لا يختصّ بالقرآن ، بل كلّ ما يتكلّم به البشر ويشير به إلى هذه الحقائق ، فالمشار إليها بالألفاظ والأصوات قديمة ، وفي الوقت نفسه ما يشار به من الكلام والجمل حادث.

وأمّا الرابع : أي علمه سبحانه بما جاء في هذه الكتب وما ليس فيها ، فلا شكّ أنّه قديم نفس ذاته. ولم يقل أحد من المتكلّمين الإلهيين - إلاّ من شذّ من الكرّامية - بحدوث علمه.

وأمّا الخامس : أعني كونه سبحانه متكلّماً بكلام قديم أزلي نفساني ليس بحروف الأصوات ، مغاير للعلم والإرادة ، فقد عرفت أنّ ما سمّاه الأشاعرة كلاماً نفسيّاً لا يخرج عن إطار العلم والإرادة ، ولا شكّ أنّ علمه وإرادته البسيطة قديمان.

وأمّا السادس : وهو أنّ الهدف من نفي كونه غير مخلوق ، كون القرآن غير مخلوق للبشر ، وفي الوقت نفسه هو مخلوق لله سبحانه ، فهذا أمر لا ينكره مسلم. فإنّ القرآن مخلوق لله سبحانه والناس بأجمعهم لا يقدرون على مثله.

ص : 339


1- المجادلة : 1.

قال سبحانه : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً). (1)

وهذا التحليل يُعرِبُ عن أنّ المسألة كانت مطروحة في أجواء مُشَوّشة وقد اختلط فيها الحابُل بالنابِل ، ولم يكن محط البحث محرّراً على وجه الوضوح حتّى يعرف المُثْبَت عن المَنْفي ، ويُمخض الحق من الباطل.

موقف أهل البيت - عليهم السلام - في هذه المسألة

إنّ تاريخ البحث وما جرى على الفريقين من المحن ، يشهد بأنّ التشدّد فيه لم يكن لإحقاق الحقّ وإزاحة الشكوك ، بل استغلت كلّ طائفة تلك المسألة للتنكيل بخصومها. فلأجل ذلك نرى أنّ أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - منعوا أصحابهم من الخوض في تلك المسألة ، فقد سأل الرّيّان بن الصَّلْت الإمام الرضا - عليه السلام - وقال له : ما تقول في القرآن؟

فقال - عليه السلام - : «كلامُ الله لا تَتَجاوَزُوهُ وَلا تَطْلبوا الهُدى في غَيرِه ، فَتَضِلّوا». (2)

وروى علي بن سالم عن أبيه قال : سألت الصادق جعفر بن محمد - عليه السلام - فقلت له : يا ابن رسول الله ما تقول في القرآن؟

فقال : «هو كلامُ الله ، وقولُ الله ، وكتابُ الله ، ووحيُ الله ، وتنزيلُه. وهو الكتاب العزيز لا يأتيه الباطل من بين يَدَيْه ولا من خلفه ، تنزيلٌ من حكيم حميد». (3)

ص : 340


1- الإسراء : 88.
2- التوحيد للصدوق ، باب القرآن ما هو ، الحديث 2 ، ص 223.
3- التوحيد ، للصدوق ، باب القرآن ، الحديث 3 ، ص 224.

وحدّث سليمان بن جعفر الجعفري قال : قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر - عليه السلام - : يا ابن رسول الله ، ما تقول في القرآن؟ فقد اختلف فيه مَن قبْلَنا ، فقال قوم إنّه مخلوق ، وقال قوم إنّه غير مخلوق؟

فقال - عليه السلام - : «أما إنّي لا أقول في ذلك ما يقولون ، ولكنّي أقول : إنّه كلام الله». (1)

فإنّا نرى أنّ الإمام - عليه السلام - يبتعد عن الخوض في هذه المسألة لما رأى من أنّ الخوض فيها ليس لصالح الإسلام ، وأنّ الاكتفاء بأنّه كلام الله أحسم لمادة الخلاف. ولكنّهم - عليهم السلام - عند ما أحسوا بسلامة الموقف ، أدلوا برأيهم في الموضوع ، وصرّحوا بأنّ الخالق هو الله وغيره مخلوق والقرآن ليس نفسه سبحانه ، وإلاّ يلزم اتحاد المُنْزَل والمُنْزِل ، فهو غيره ، فيكون لا محالة مخلوقاً.

فقد روى محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني أنّه كتب علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا - عليه السلام - إلى بعض شيعته ببغداد : «بسم الله الرّحمن الرّحيم ، عَصَمَنا اللهُ وإيّاك من الفِتْنَةِ ، فإنْ يَفْعَل فقد أعظَمَ بِها نِعمة ، وإن لا يَفْعَل فهي الهَلَكة. نحن نرى أنّ الجِدالَ في القرآن بِدْعَةٌ ، اشترك فيها السائل والمُجيب ، فيتعاطى السائل ما ليس له ، ويتكلّف المُجيب ما ليس عليه ، وليس الخالقُ إلاّ الله عزّ وجلّ ، وما سواهُ مخلوقٌ ، والقرآنُ كلامُ الله ، لا تَجْعَل لَه اسماً مِنْ عندِك فتكون من الضّالّين ، جعَلَنا الله ، وإياك من الّذين يَخْشَوْنَ ربّهم بالغيب وهم من السّاعة مُشفقون». (2)

وفي الرواية المروية إشارة إلى المحنة التي نقلها المؤرخون ، حيث كتب المأمون

ص : 341


1- المصدر السابق ، الحديث 5 ، ص 224.
2- المصدر السابق ، الحديث 4.

إلى الولاة في العواصم الإسلامية أن يختبروا الفقهاء والمحدّثين في مسألة خلق القرآن ، وفرض عليهم أن يعاقبوا كلّ من لا يرى رأي حدوث القرآن في هذه المسألة. وجاء المعتصم والواثق فطبّقا سيرته وسياسته مع خصوم المعتزلة وبلغت المحنة أشدها على المحدّثين ، وبقى أحمد بن حنبل ثمانية وعشرين شهراً تحت العذاب فلم يتراجع عن رأيه. (1)

ولما جاء المتوكل العباسي ، نصر مذهب الحنابلة وأقصى خصومهم ، فعند ذلك أحسّ المحدثون بالفرج وأحاطت المحنة بأُولئك الذين كانوا بالأمس القريب يفرضون آراءهم بقوة السلطان.

فهل يمكن عدّ مثل هذا الجدال جدالاً إسلامياً ، وقرآنياً ، لمعرفة الحقيقة وتبيّنها ، أو أنّه كان وراءه شيء آخر؟ الله العالم بالحقائق وضمائر القلوب.

ص : 342


1- لاحظ سير أعلام النبلاء للذهبي ، ج 11 ، ص 252.

الصفات الخبرية

اشارة

قسّم الباحثون صفاتهِ سبحانه إلى : صفات ذاتية وصفات خبرية. فالعِلْم والقدرة والحياة والسمع والبصر وكلّ ما تطلق عليه صفة الكمال يعدّ من الصفات الذاتية ، وأمّا ما دلّت عليه ظواهر الآيات والأحاديث كالعلوّ والوجه واليدين والاستواء والرجل إلى غير ذلك ممّا ورد في المصدرين فتعدّ من الصفات الخبريّة.

ثمّ إنّ لأهل الحديث والكلام آراءً في تفسير الصفات الخبرية قد أوضحنا حالها في بحوثنا الكلامية (1) ، ونحن نقتصر في المقام بنقل ما عليه سلف أهل السنّة وهم على طائفتين :

نعبر عنها ب :

مبتدعة السلفية.

ومعطِّلة السلفية.

والطائفة الأُولى مغترون بظواهر بعض الآيات والأحاديث من دون إمعان وفكر في مفاهيمها ومقاصدها وهم المجسِّمة والمشبِّهة.

والطائفة الثانية يتبرّءون من التجسيم ولكنّهم لا يخوضون في فهم الآيات ولا يمعنون في معانيها ، وبذلك عدّوا من المُعطِّلة ، لأنّهم عطّلوا العقول في الإمعان في صفاته. فكلا الطائفتين حُرمتا من الاستضاءة بنور القرآن.

ص : 343


1- لاحظ بحوث في الملل والنحل : 2 / 95 - 114 ؛ مفاهيم القرآن : قسم المقدمة : 3215.

وإليك دراسة كلتا النظريتين :

1. مبتدعة السلفية

إنّ غالبية السلف اغترّوا بكل حديث وقعت أعينهم عليه ، فجمعوا في حقائبهم كلّ ما سمعوه ، وبالتالي أخذوا بالظواهر وتركوا الاستعانة بالقرائن ، ووصفوا كلّ بحث حول المعارف القرآنية تأويلاً للقرآن وخروجاً عن الدين ، وكبحوا جماح العقل بتهمة الزندقة ، فوصفوا الكمال المطلق بالحلول والنزول والصعود والاستواء على السرير ، ترى كثيراً من هذه الأحاديث في مرويات حمّاد بن سلمة ، ونعيم بن حماد ، ومقاتل بن سليمان ، ومن لفّ لفّهم ، ففي مرويّاتهم تلك الآثار المشينة ، وقد قلّدهم كثير من البسطاء في القرون المتأخرة فحسبوها حقائق راهنة وألفوا فيها الكتب.

وعلى هذا الأساس ألّف كتاب «التوحيد» لمحمد بن إسحاق بن خزيمة (المتوفّى 321 ه) وكتاب «السنّة» لعبد الله بن أحمد بن حنبل ، وكتاب «النقض» لعثمان بن سعيد الدارمي السجزي المجسّم فانّه أوّل من اجترأ من المجسمة بالقول بأنّ الله لو شاء لاستقرّ على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته فكيف على عرش بعيد؟!!

هذا هو الشهرستاني يحكي عقيدة مبتدعة السلف الذين يجرون الصفات الخبرية على الله بمعانيها الحرفية من دون تدبر فيما هو المراد الواقعي من خلال هذه الصفات ، ويقول

وأمّا ما ورد في التنزيل من الاستواء والوجه واليدين والجنب والمجيء والإتيان والفوقية وغير ذلك ، فأجروها على ظاهرها ، أعني : ما يفهم عند إطلاق

ص : 344

هذه الألفاظ على الأجسام ، وكذلك ما ورد في الأخبار من الصورة وغيرها في قوله عليه الصلاة والسلام : «خُلق آدم على صورة الرحمن» ، وقوله : «حتّى يضع الجبار قدمه في النار» ، وقوله : «قلب المؤمن بين اصبعين من أصابع الرحمن» ، وقوله : «خمّر طينة آدم بيده أربعين صباحاً» ، وقوله : «وضع يده أو كفّه على كتفي» ، وقوله : «حتّى وجدت برد أنامله على كتفي» إلى غير ذلك ، أجروها على ما يتعارف في صفات الأجسام ، وزادوا في الأخبار أكاذيب وضعوها ونسبوها إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأكثرها مقتبسة من اليهود ، فانّ التشبيه فيهم طباع ، حتّى قالوا : اشتكت عيناه (الله) فعادته الملائكة ، وبكى على طوفان نوح حتّى رمدت عيناه ، وإنّ العرش لتئط من تحته أطيط الرحل الجديد ، وأنّه ليفضل من كلّ جانب أربع أصابع ، وروى المشبهة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لقيني ربي فصافحني وكافحني ووضع يده بين كتفي حتّى وجدت برد أنامله». (1)

هذه عقيدة مبتدعة السلف ، وإليك شيئاً من نصوص هؤلاء :

1. قيل لعبد الله بن مبارك : كيف يعرف ربنا؟ قال : بأنّه فوق السماء السابعة على العرش بائن من خلقه. (2)

2. وقال الأوزاعي : إنّ الله على عرشه ، ونؤمن بما وردت به السنّة من صفاته. (3)

3. وقال الدارمي في مقدّمة كتابه «الرد على الجهمية» : استوى على عرشه ، فبان من خلقه ، لا تخفى عليه منهم خافية ، علمه بهم محيط ، وبصره فيهم نافذ. (4)

ص : 345


1- الملل والنحل : 1 / 105 - 107. 2 ، 3 ، 4 راجع في الوقوف على مصادر هذه النصوص كتاب «علاقة الإثبات والتفويض» : ص 48 ، 41 ، 68.

4. وقال المقدسي في كتابه «أقاويل الثقات في الصفات» : ولم ينقل عن النبي أنّه كان يحذِّر الناس من الإيمان بما يظهر في كلامه في صفة ربّه من الفوقية واليدين ونحو ذلك ، ولا نقل لهذه الصفات معاني أُخر ، باطنها غير ما يظهر من مدلولها ، وكان يحضر في مجلسه العالم والجاهل والذكي والبليد والأعرابي الجافي ، ثمّ لا تجد شيئاً يعقب تلك النصوص بما يصرفها عن حقائقها ، لا نصاً ولا ظاهراً ، ولما قال للجارية : أين الله؟ فقالت : في السماء ، لم ينكر عليها بحضرة أصحابه كي لا يتوهموا أنّ الأمر على خلاف ما هي عليه ، بل أقرّها وقال : أعتقها فإنّها مؤمنة. (1)

5. وقال القرطبي في تفسيره عند تفسير آية 54 من سورة الأعراف (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ):

وقد كان السلف الأوّل - رضي الله عنهم - لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك ، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله ، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنّه استوى على عرشه حقيقة ، وخص العرش بذلك لأنّه أعظم مخلوقاته ، وإنّما جهلوا كيفية الاستواء فإنّها لا تعلم حقيقته. (2)

إلى غير ذلك من الكلمات التي يتبادر منها أنّ القائل بها يريد إجلاسه سبحانه على العرش إجلاساً حقيقياً حسّياً ، وأنّ تلك هي العقيدة الإسلامية التي يشترك فيها العالم والأعرابي الجافي.

ولكن العجب انّ هذه البدع بعد إخمادها ، أخذت تنتعش في أوائل القرن الثامن بيد أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفّى عام 728 ه) فجدد ما

ص : 346


1- «علاقة الإثبات والتفويض» ، ص 115.
2- الملل والنحل : 1 / 15.

اندرس من آثار تلك الطائفة المشبّهة ، وقد وصفه السبكي في «السيف الصقيل» : «بأنّه رجل جسور يقول بقيام الحوادث بذات الرب» ، ولكنّه يقول بأنكر من ذلك ، وقد أتى بنفس ما ذكره الدارمي المجسم في كتابه «غوث العباد» المطبوع بمصر عام 1351 ه - في مطبعة الحلبي.

وعلى ذلك فابن تيمية أذن إمام المدافعين عن بيضة أهل التشبيه وشيخ إسلام أهل التجسيم ممّن سبقه من الكرامية وجهلة المحدّثين ، الذين اهتموا بالحفظ المجرد ، وغفلوا عن الفهم والتفكير ، ولأجل ذلك نرى أنّ الشيخ الحراني يرمي المفكّرين من المسلمين كإمام الحرمين والغزالي في كتابيه (منهاج السنة والموافقة المطبوع على هامش الأوّل) ، بأنّهما أشدّ كفراً من اليهود والنصارى مع أنّه (أي ابن تيمية) يعتنق عقائد يخالف فيها جمهرة المسلمين وأئمّة أهل البيت - عليهم السلام -.

2. معطلة السلفية

اشارة

لمّا كانت هذه الفكرة تُخبر عن التجسيم والجهة وغير ذلك من المضاعفات حاول الإمام الأشعري (324260 ه) بإصلاح عقيدة أهل الحديث بشق طريق متوسط بين الأخذ بالصفات الخبرية بحرفيتها وبين تأويلها الذي كان عليه المعتزلة فصارت عقيدة الأشعري عقيدة معدّلة.

وحاصل تلك النظرية : انّ الصفات الخبرية تُحمل على الله تعالى بنفس معانيها ولكن مقيدة بعدم الكيف ، فله سبحانه يد بلا كيف ، وعين بلا كيف ، ورجل بلا كيف ، واستواء بلا كيف ، ومعنى كونه بلا كيف انّه لا يعرف كنه الصفة ولسنا مكلّفين بمعرفة تفسير هذه الآيات.

وهذه الطائفة وإن خرجت عن مغبّة التشبيه والتجسيم غير انّهم تورّطوا في أشراك التعطيل وحبائله ، فعطّلوا العقول عن التفكّر في المعارف والأُصول كما

ص : 347

عطّلوها عن التدبر في الآيات والأحاديث ، فكأنّ القرآن ألغاز نزلت إلى البشر ، وليس كتاباً للتعليم والإرشاد ، قال تعالى (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (1) فإذا كان القرآن مبيناً لكلّ شيء فكيف لا يكون مبيناً لنفسه؟ وكيف يكون المطلوب منه نفس الاعتقاد من دون فهم معناه؟

ولكن التتبع في سير المسائل الكلامية يثبت بأنّ هذا النوع من العقيدة حول الصفات الخبرية كانت له جذور في كلام أئمّة أهل السنّة ، ولعلّ الإمام الأشعري أخذ النظرية عنهم. وإليك نصين أحدهما من أبي حنيفة والآخر من الشافعي.

قال أبو حنيفة : وما ذكر الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس ، فهو له صفات بلا كيف ولا يقال انّ يده قدرته ونعمته ، لأنّ فيه إبطال الصفة ، وهذا قول أهل القدر والاعتزال ولكن يده صفته بلا كيف ، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف.

وقال الشافعي : لله أسماء وصفات لا يسع أحداً ردّها ، ومن خالف بعد ثبوت الحجّة عليه كفر ، وأمّا قبل قيام الحجّة ، فانّه يعذر بالجهل ، ونثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه فقال ب (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (2). (3)

إثبات الأشعري بين التشبيه والتعقيد

إنّ نظرية الإمام الأشعري - بل نظرية الإمامين : أبي حنيفة والشافعي - وان تميّزت عن سابقتها بنفي التجسيم والتشبيه لكنّها انتهت إلى سقوطها في ورطة

ص : 348


1- النحل : 89.
2- الشورى : 11.
3- فتح الباري : 13 / 343.

الألغاز والتعقيد ، وذلك من خلال البيان التالي :

إنّ العقيدة الإسلامية المستقاة من الكتاب والسنّة والعقل الحصيف تتسم بسمتين :

1. تنزيهها عن التشبيه والتجسيم المأثورين عن اليهود والنصارى.

2. ابتعادها عن التعقيد والالغاز التي لا تجتمع مع موقف الاسلام والقرآن في عرض العقائد بأسلوب واضح على المجتمع الإسلامي.

فكما أنّه يجب على الباحث التحرز عن سمة التجسيم والتشبيه ، يجب التحرز عن جعل صفاته سبحانه ألفاظاً جوفاء أو معاني معقدة لا يفهم منها شيء.

وللأسف انّ أكثر السلف ابتلوا بأحد هاتين الوصمتين : إمّا التشبيه والتجسيم كما مرّ ، وإمّا التعقيد واللغز. وذلك لأنّ إثبات الصفات الخبرية لله سبحانه وإمرارها عليه عند السلف «مبتدعة ومعطّلة» لا يخرج عن أحد هذين الإطارين ، فالكلّ إمّا يتكلّمون عنها في إطار التشبيه والتكييف ، ويسترسلون في هذا المضمار ، كما عليه مبتدعة السلف ، أو يفسرونها في إطار من التعقيد والغموض ، والكلّ مردود ، مرفوض.

وها نحن نأتي ببعض نصوص القوم في هذا المجال ، حتى نرى كيف أنّ العناية بالإثبات في مقابل «نفاة الصفات» أفضى بالقوم إلى حدّ التعقيد ومهزلة الغموض ، وكأنّ الصفات الواردة في الذكر الحكيم لم ترد للتدبر فيها ، فإليك نزراً من كلماتهم :

1. قال سفيان بن عيينة : كلّ شيء وصف الله به نفسه في القرآن فقراءته

ص : 349

تفسيره ، لا كيف ولا مثيل. (1)

2. قال ابن خزيمة : إنّما نثبت لله ما أثبته لنفسه ، نقر بذلك بألسنتنا ونصدق بذلك في قلوبنا من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين. (2)

3. قال الخطيب : إنّما وجب إثباتها ، لأنّ التوقيف ورد بها ، ووجب نفي التشبيه عنها بقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). (3)

4. قال ابن قدامة المقدسي : وعلى هذا درج السلف والخلف متفقون على الإمرار والإثبات لما ورد من الصفات في كتاب الله وسنّة رسوله من غير تعرض لتأويله. (4)

إنّ أصحاب هذه العقيدة وإن كانوا يتظاهرون بإثبات معاني الصفات الخبرية عليه سبحانه ولكنّهم يصفون الصفات بلفظة «بلا كيف» وهذا يجعلهم بين مفترق طريقين :

إمّا التشبيه وإمّا التعقيد.

وهذا ما نوضحه بالبيان التالي :

إنّ اليد والوجه والرجل موضوعة للأعضاء الخاصة في الإنسان ، ولا يتبادر منها إلاّ ما يتبادر عند أهل اللغة ، وحينئذ فإن أُريد منها المعنى الحقيقي يلزم التشبيه ، وإن أُريد غيره فذلك الغير إمّا معنى مجازي أُريد منه بحسب القرينة فيلزم التأويل ، وهم يفرّون منه فرار المزكوم من المسك.

وإمّا شيء لا هذا ولا ذاك ، فما هو ذلك الغير؟ بيّنوه لنا حتّى تتسم العقيدة

ص : 350


1- علاقة الإثبات والتفويض : 44.
2- علاقة الإثبات والتفويض : 58 ، 59 ، 59.
3- علاقة الإثبات والتفويض : 58 ، 59 ، 59.
4- علاقة الإثبات والتفويض : 59. وهذا الكتاب مشحون بهذا النوع من الأقوال.

بالوضوح والسهولة ، ونبتعد عن التعقيد والإبهام ، وإلاّ فالقول بأنّ له وجهاً لا كالوجوه ، ويداً لا كالأيدي ألفاظ جوفاء وشعارات خدّاعة لا يستفاد منها شيء سوى تخدير الأفكار وتضليلها عن جادة الصواب.

وباختصار : انّ المعنى الصحيح لا يخرج عن المعنى الحقيقي والمجازي ، وإرادة أمر ثالث خارج عن إطار هذين المعنيين يعد غلطاً وباطلاً ، وعلى هذا الأساس لو أُريد المعنى الحقيقي لزم التشبيه بلا إشكال ، ولو أُريد المعنى المجازي لزم التأويل ، والكلّ ممنوع عندهم ، فما هو المراد من هذه الصفات الواردة في الكتاب والسنّة؟

إنّ ما يلهجون به ويكررونه من أنّ هذه الصفات تجري على الله سبحانه بنفس معانيها الحقيقية ولكن الكيفية مجهولة ، أشبه بالمهزلة ، إذ لو كان إمرارها على الله بنفس معانيها الحقيقية لوجب أن تكون الكيفية محفوظة حتّى يكون الاستعمال حقيقياً ، لأنّ الواضع إنّما وضع هذه الألفاظ على تلك المعاني التي يكون قوامها بنفس كيفيتها ، ويكون عمادها وسنادها بنفس هويتها الخارجية ، فاستعمالها في المعاني حقيقة بلا كيفية أشبه بالأسد بلا ذنب ولا مخلب ولا ولا ... فقولهم : «المراد هو أنّ لله يداً حقيقة لكن لا كالأيدي» أشبه بالكلام الذي يناقض ذيله صدره.

أضف إلى ذلك : انّه ليس في النصوص من الكتاب والسنّة من هذه «البلكفة» أثر ولا عين وإنّما هو شيء اخترعه الفكر ، للتدرع به في مقام الرد على الخصم والنقض عليه ، بأنّ لازم إمرارها على الله بنفس معانيها ، هو التجسيم والتشبيه.

وأمّا ما هو الصحيح في تفسير الصفات الخبرية ، على نحو لا يلزم منه

ص : 351

تعطيل العقول عن الإمعان في مفاهيمها ، ولا التأويل أي حمل ظاهر الآية على خلافها؟ فهذا ما سنبيّنه تالياً.

بين التعطيل والتأويل

إنّ تفسير الصفات الخبرية على النحو الصحيح يقوم على دعامتين :

الأُولى : أن لا ينتهي التفسير إلى التجسيم والتشبيه والجهة وما لا يصحّ وصفه سبحانه به على ما دلّت عليه الآيات القرآنية والأدلة العقلية.

الثانية : أن يكون نزيهاً عن التأويل بمعنى صرف الآية عن ظاهرها إلى غير ظاهرها ، وذلك لأنّ الآيات القرآنية حجّة بظاهرها ولا يصحّ لنا ترك ظاهر الآية إلى غيرها ، لأنّ ذلك عمل اليهود والنصارى حيث يؤوّلون ظواهر التوراة والإنجيل لكونها مخالفة للأحكام العقلية الواضحة والعلوم القطعية التي أثبتتها التجارب العلمية.

والمحقّقون من الإسلاميّين عن بكرة أبيهم يأخذون بظواهر الآيات ولا يؤوّلونها قيد شعرة ، غير أنّ الذي يجب التركيز عليه هو تشخيص ظاهر الآية ، فبعد ثبوته لا يمكن رفع اليد عنه إلاّ بدليل قرآني خاص يكون ناسخاً أو مخصصاً أو مقيّداً. ومن المعلوم أنّ مجاري النسخ والتخصيص والتقييد هو آيات الأحكام ، لا العقائد والمعارف. وأمّا ما وراء ذلك فيجب علينا الأخذ بالظواهر دون التنازل عنه قيد شعرة.

الظاهر الإفرادي غير الظاهر الجملي أو التصديقي

إنّ الظاهر الإفرادي لا يؤخذ به في منهج العقلاء وإنّما يؤخذ بالظاهر

ص : 352

الجمْلي والتصديقي.

1. رأيت أسداً في الحمام ، فلفظة «أسد» ظاهرة في الحيوان المفترس ، ولكنّه ظاهر أفرادي لا يؤخذ به ولا تدور عليه رحى المحاورة ، وإنّما يؤخذ بالظاهر الجمْلي أو التصديقي وهو الرجل الشجاع بقرينة قوله : في الحمام.

2. يتكرر في مصطلحاتنا ومحاضراتنا وصف الرجل ببسط اليد وقبضه ، فله ظهور أفرادي وهو انّ يده مبسوطة لا تقبض أو مقبوضة لا تبسط ، ولكنّه لا يحتج به وله ظهور جملي وتصديقي ، وإنّما يحتج بالظهور الثاني وهو كونه كريماً وسخياً ، أو لئيماً وبخيلاً.

3. إذا قلنا زيد كثير الرماد فالظهور البدوي انّ بيت زيد غير نظيف ، ولكنّه ظهور بدوي ، فإذا لوحظ انّ الكلام ورد في مقام المدح يكون قرينة على أنّ المراد لازم المعنى وهو الجود ، والذي يجب الأخذ به هو الظهور الجملي لا الحرفي والظهور المستقر لا البدوي.

تفسير نماذج من الصفات الخبرية

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الآيات الحاكية عن الصفات الخبرية إذا لوحظت مع القرائن المحتفة بالكلام يتبيّن الظهور التصوري عن التصديقي ، والظهور الابتدائي عن الاستقراري ويتبيّن انّ هذه الآيات غنية عن التأويل بمعنى حمل ظاهر الآية على خلافه.

ولأجل توضيح تلك الفكرة التي عليها العدلية نفسر بعض الآيات على هذا الأساس ليكون مقياساً لسائر الآيات التي ربما يكون ظاهرها البدوي على خلاف التنزيه.

ص : 353

1. يقول سبحانه (قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ). (1)

فنقول : إنّ «اليد» في الآية استعمل في العضو المخصوص ولكن كُنِّي بها عن الاهتمام بخلقة آدم حتى يتسنّى بذلك ذم إبليس على ترك السجود لآدم ، فقوله سبحانه : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) كناية عن أنّ آدم لم يكن مخلوقاً لغيري حتى يصحّ لك يا شيطان التجنّب عن السجود له ، بحجة أنّه لا صلة له بي ، مع أنّه موجود خلقتُه بنفسي ، ونفخت فيه من روحي ، فهو مخلوقي الذي قمت بخلقه ، فمع ذلك تمرّدت عن السجود له.

فأُطلقت الخلقةُ باليد وكُنّي بها عن قيامه سبحانه بخلقه ، وعنايته بإيجاده ، وتعليمه إيّاه أسماءه ، لأنّ الغالب في عمل الإنسان هو القيام به باستعمال اليد ، يقول : هذا ما بنيته بيدي ، أو ما صنعته بيدي ، أو ربّيته بيدي ، ويراد من الكل هو القيام المباشري بالعمل بكلّ الوجود ، لا خصوص اليد ، وكأنّه سبحانه يندد بالشيطان بأنّك تركتَ السجود لموجود اهتممت بخلقه وصنعه.

2. (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ) (2) فالمجسّمة المتعبّدة بظواهر النصوص البدوية تستدلّ بالآية على أنّ لله سبحانه أيدي يقوم بها بالأعمال الكبيرة ، ولكن المساكين اغترّوا بالظهور التصوريّ ولم يتدبّروا في الظهور التصديقي ، أخذوا بالظهور الجزئي دون الجملي ، فلو كانوا ممعنين في مضمون الآية وما احتفّ بها من القرائن ، لميّزوا الظهور التصديقي الذي هو الملاك عن غيره ، فإنّ الأيدي في الآية كناية عن تفرّده تعالى

ص : 354


1- ص : 75.
2- يس : 71.

بخلق الأنعام وانّه لم يشاركه أحد فيها ، فهي مصنوعة لله تعالى والناس ينتفعون بها ، فبدل أن يشكروا ، يكفرون بنعمته ، وأنت إذا قارنت بين الآيتين تقف على أنّ المقصود هو المعنى الكنائي ، والمدار في الموافقة والمخالفة هو الظهور التصديقي لا التصوري.

قال الشريف المرتضى : قوله تعالى : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) جار مجرى قوله : «لما خلقت أنا» وذلك مشهور في لغة العرب. يقول أحدهم : هذا ما كسبتْ يداك ، وما جرت عليك يداك. وإذا أرادوا نفي الفعل عن الفاعل استعملوا فيه هذا الضرب من الكلام فيقولون : فلان لا تمشي قدمه ، ولا ينطق لسانه ، ولا تكتب يده ، وكذلك في الإثبات ، ولا يكون للفعل رجوع إلى الجوارح في الحقيقة بل الفائدة فيه النفي عن الفاعل. (1)

3. قال سبحانه : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (2) فاليد وإن كانت ظاهرة في العضو الخاص لكنّها في الآية كناية عن القوة والإحكام ، وذلك لأنّ «اليد» من مظاهر القدرة والقوة بقرينة قوله : (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) ، وكأنّه سبحانه يقول : والسماء بنيناها بقدرة لا يوصف قدرها وإنّا لذو سعة في القدرة لا يعجزها شيء ، أو بنيناها بقدرة عظيمة ونوسعها في الخلقة. (3)

4. قال سبحانه : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (4) انّ العرش في اللغة هو السرير والاستواء عليه هو الجلوس ، غير أنّ هذا حكم مفرداتها ، وأمّا معنى الجملة فيتفرع الاستظهار منها ، على القرائن الحافة بها ، فالعرب الأقحاح لا يفهمون منها سوى السلطة والاستيلاء ، وحملها على غير ذلك يعدّ تصرّفاً في الظاهر ، وتأويلاً لها ،

ص : 355


1- أمالي المرتضى : 1 / 565.
2- الذاريات : 47.
3- الكشاف : 3 / 21.
4- طه : 5.

فإذا سمع العرب قول القائل :

قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق

أو سمع قول الشاعر :

ولما علونا واستوينا عليهم *** تركناهم مرعى لنسر وكاسر

فلا يتبادر إلى أذهانهم سوى الاستيلاء والسيطرة والسلطة ، لا العلو المكاني الذي لا يعد - حتّى - كمالاً للجسم ، وأين هو من العلو المعنوي الذي هو كمال الذات.

وقد جاء استعمال لفظ الاستواء على العرش في سبع آيات مقترناً بذكر فعل من أفعاله ، وهو رفع السماوات بغير عمد ، أو خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، فكان ذاك قرينة على أنّ المراد منه ليس هو الاستواء المكاني بل الاستيلاء والسيطرة على العالم كله ، فكما لا شريك له في الخلق والإيجاد لا شريك له أيضاً في الملك والسلطة ، ولأجل ذلك يقول في بعض هذه الآيات - بعد الإخبار عن استوائه على العرش - : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ). (1)

فالتأويل بلا قيد وشرط ، إذا كان ضلالاً - كما سيوافيك بيانه - فكذلك الجمود على ظهور المفردات ، وترك التفكّر والتعمّق أيضاً ابتداع مفض إلى صريح الكفر ، فلو حمل القارئ قوله سبحانه : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (2) على أنّ لله مثلاً ، وليس لهذا المثل مثل ... إذن يقع في مغبّة الشرك وحبائله ، وقد نقل الرازي في تفسيره لهذه الآية كلاماً عن ابن خزيمة نأتي بنصّه حيث قال : «واعلم أنّ محمد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية في الكتاب الذي سمّاه

ص : 356


1- الأعراف : 54.
2- الشورى : 11

بالتوحيد ، وهو في الحقيقة كتاب الشرك ، واعترض عليها ، وأنّا أذكر حاصل كلامه بعد حذف التطويلات ، لأنّه كان رجلاً مضطرب الكلام ، قليل الفهم ، ناقص العقل». (1)

هذه نماذج قدمناها إلى القارئ الكريم لكي تسلط ضوءاً على تفسير ما لم نذكره.

فخرجنا بالنتيجة التالية :

إنّ الصفات الخبرية كالوجه واليد ، والعين وغيرها ، لها حكم عند الافراد ولها حكم آخر إذا جاءت في ضمن الجمل فعند الافراد يؤخذ بمعانيها اللغوية ، وعند ما تأتي في ضمن الجمل ، تتبع القرائن الموجودة في الكلام من غير فرق بين ما وقع وصفاً لله سبحانه ، أو جاء وصفاً لغيره.

فإذا قال سبحانه (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (2) تحمل اليد والعنق على ما هو المتبادر من هذه الجمل ، وهو الإسراف والتقتير ، فبسط اليد أُريد به الإنفاق بلا شرط ؛ كما أنّ جعل اليد مغلولة ، أُريد به التقتير.

هذا - مع العلم - بأنّ بسط اليد عند الإفراد بمعنى مدها وغلّ اليد إلى العنق بمعنى شدّها.

وممّا ذكرنا يظهر لك مقاصد الآيات التي وردت فيها الصفات الخبرية ، نظير :

1. العين ، كقوله سبحانه : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي). (3)

ص : 357


1- التفسير الكبير : 14 / 150.
2- الإسراء : 29
3- طه : 39.

2. اليمين ، كقوله سبحانه : (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ). (1)

3. الاستواء ، كقوله سبحانه : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى). (2)

4. النفس ، كقوله سبحانه : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ). (3)

5. الوجه ، كقوله سبحانه : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ). (4)

6. الساق ، كقوله سبحانه : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ). (5)

7. الجنب ، كقوله سبحانه : (عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ). (6)

8. القرب ، كقوله سبحانه : (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ). (7)

9. المجيء ، كقوله سبحانه : (وَجاءَ رَبُّكَ). (8)

10. الإتيان ، كما قال سبحانه : (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ). (9)

11. الغضب ، كما في قوله : (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ). (10)

12. الرضا ، كما في قوله : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ). (11)

إلى غير ذلك من الصفات الخبرية التي وردت في القرآن الكريم وأخبر عنها الوحي ، فللجميع ظواهر غير مستقرة لا تلائم الأُصول الواردة في محكمات الآيات ، ولكن بالإمعان والدقة يصل الإنسان إلى مآلها ومرجعها وواقعها ، وهذا

ص : 358


1- الزمر : 67.
2- طه : 5.
3- المائدة : 116.
4- البقرة : 115.
5- القلم : 42.
6- الزمر : 56.
7- البقرة : 186.
8- الفجر : 22.
9- الأنعام : 158.
10- . الفتح : 6.
11- . المائدة : 119.

لا يعني حمل الظاهر على خلافه ، بل التتبع في القرائن الموجودة في نفس الآية لغاية العثور على الظاهر ، إذ ليس للمتشابه ظاهر ظهور مستقرّ في بدء الأمر حتّى نتبعه.

بقي هنا سؤال وهو انّ تفسير الصفات الخبرية في ضوء القرائن الموجودة في الآية ينتهي بنا إلى القول بالتأويل ، فأيّ فرق بين هذا والقول بالتأويل؟

والإجابة عنه واضحة ، وذلك لأنّه إن أُريد من التأويل هو حمل الكلام على ظهوره التصديقي ، سواء أكان المعنى حقيقياً أم مجازياً فهذا أمر مقبول ، سواء أسمي بالأخذ بالظاهر أو سمي بالتأويل.

وإن أُريد من التأويل هو صرف ظاهر الآية إلى خلافه فهو أمر مرفوض فانّ ظاهر القرآن حجّة قطعية لا يعدل عنها ، إنّما اللازم هو تشخيص الظاهر فانّ من يسمّي هذا النوع من التفسير تأويلاً فإنّما يأخذ بحرفية ظاهر الكلمة وظهورها الافرادي ، وقد عرفت أنّ الميزان هو الظهور التصديقي والظهور الجملي.

نعم هناك بحثان آخران ربما نفردهما بالتعريف :

1. تأويل المتشابه الذي ورد في قوله سبحانه : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ). (1)

2. تأويل كلّ القرآن الذي ورد في قوله سبحانه : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ). (2)

وبما انّ البحث في هذين الموضوعين طويل الذيل نحيل القارئ الكريم في هذا الصدد إلى كتاب «المناهج التفسيرية في علوم القرآن». (3)

ص : 359


1- آل عمران : 7.
2- الأعراف : 53.
3- المناهج التفسيرية : 159 - 181.
كلمة شيخ الأزهر الشيخ سليم البشري حول الصفات الخبريّة

كلمة شيخ الأزهر الشيخ سليم البشري (1) حول الصفات الخبريّة

ونحن نختم هذا البحث بذكر كلمة شيخ الأزهر الشيخ سليم البشري كتبه حول سؤال رفعه إليه الشيخ أحمد علي بدر شيخ معهد «بلصفورة» وإليك خلاصة السؤال :

ما قولكم - دام فضلكم - في رجل من أهل العلم يتظاهر باعتقاد ثبوت جهة الفوقية لله سبحانه وتعالى ويدّعي انّ ذلك مذهب السلف ، وتبعه على ذلك بعض الناس وجمهور أهل العلم ينكرون ذلك ، والسبب في تظاهره بهذا المعتقد عثوره على كتاب لبعض علماء الهند نقل فيه صاحبه كلاماً كثيراً عن ابن تيمية في إثبات الجهة للباري سبحانه وتعالى ويخطئ أبا البركات - رضي الله عنه - في قوله : في خريدته :

منزه عن الحلول والجهة *** والاتصال الانفصال والسفه

ص : 360


1- تولّى مشيخة الأزهر مرّة بعد أُخرى ، توفّي عام 1335 ه. ق.

يخطئه في موضعين من البيت قوله : والجهة وقوله : والانفصال.

والشيخ اللقاني في قوله :

ويستحيل ضدّ ذي الصفات *** في حقّه كالكون في الجهات

وبالجملة هو مخطئ لكلّ من يقول بنفي الجهة مهما كان قدره.

ولا يخفى على فضيلتكم أنّ الكلام في مسألة الجهة شهير ، إلاّ أنّه من المعلوم أنّ قول فضيلتكم سيما في مثل هذا الأمر هو الفصل ، وأرجو أن يكون عليه إمضاؤكم بخطكم والختم ولا مؤاخذة ، لا زلتم محفوظين ولمذهب أهل السنّة والجماعة ناصرين آمين.

نصّ الجواب

وقد كتب إليه شيخ الأزهر جواباً لسؤاله وهذا نصّه :

إلى حضرة الفاضل العلاّمة الشيخ أحمد علي بدر خادم العلم الشريف ببلصفورة :

قد أرسلتم بتاريخ 22 محرم سنة 1325 ه - مكتوباً مصحوباً بسؤال عن حكم من يعتقد ثبوت الجهة له تعالى ، فحررنا لكم الجواب الآتي وفيه الكفاية لمن اتّبع الحق وأنصف ، جزاكم الله عن المسلمين خيراً.

«اعلم أيدك الله بتوفيقه وسلك بنا وبك سواء طريقه ، أنّ مذهب الفرقة الناجية وما عليه أجمع السنّيون أنّ الله تعالى منزّه عن مشابهة الحوادث ، مخالف لها في جميع سمات الحدوث ، ومن ذلك تنزهه عن الجهة والمكان كما دلّت على ذلك البراهين القطعية ، فانّ كونه في جهة يستلزم قدم الجهة أو المكان وهما من العالم ،

ص : 361

وهو ما سوى الله تعالى ، وقد قام البرهان القاطع على حدوث كلّ ما سوى الله تعالى بإجماع من أثبت الجهة ومن نفاها ، ولأنّ المتمكن يستحيل وجود ذاته بدون المكان مع أنّ المكان يمكن وجوده بدون المتمكن لجواز الخلاء ، فيلزم إمكان الواجب ووجوب الممكن ، وكلاهما باطل ، ولأنّه لو تحيز لمكان جوهراً لاستحالة كونه عرضاً ، ولو كان جوهراً فامّا أن ينقسم وإمّا أن لا ينقسم ، وكلاهما باطل ، فانّ غير المنقسم هو الجزء الذي لا يتجزأ وهو أحقر الأشياء ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

والمنقسم جسم وهو مركّب والتركيب ينافي الوجوب الذاتي ، فيكون المركّب ممكناً يحتاج إلى علّة مؤثرة ، وقد ثبت بالبرهان القاطع أنّه تعالى واجب الوجود لذاته ، غنيّ عن كلّ ما سواه ، مفتقر إليه كلّ ما عداه ، سبحانه ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير ....

هذا وقد خذل الله أقواماً أغواهم الشيطان وأزلّهم ، اتّبعوا أهواءهم وتمسّكوا بما لا يجدي فاعتقدوا ثبوت الجهة تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

واتّفقوا على أنّها جهة فوق إلاّ أنّهم افترقوا ؛ فمنهم من اعتقد أنّه جسم مماس للسطح الأعلى من العرش ، وبه قال الكرامية واليهود ، وهؤلاء لا نزاع في كفرهم.

ومنهم من أثبت الجهة مع التنزيه ، وأنّ كونه فيها ليس ككون الأجسام ، وهؤلاء ضلاّل فسّاق في عقيدتهم ، وإطلاقهم على الله ما لم يأذن به الشارع ، ولا مرية أنّ فاسق العقيدة أقبح وأشنع من فاسق الجارحة بكثير سيما من كان داعية أو مقتدى به. وممّن نسب إليه القول بالجهة من المتأخّرين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي من علماء القرن الثامن ، في ضمن

ص : 362

أُمور نسبت إليه خالف الإجماع فيها عملاً برأيه وشنع عليه معاصروه بل البعض منهم كفروه ، ولقى من الذل والهوان ما لقى ، وقد انتدب بعض تلامذته للذب عنه وتبرئته ممّا نسب إليه وساق له عبارات أوضح معناها ، وأبان غلط الناس في فهم مراده.

واستشهد بعبارات له أُخرى صريحة في دفع التهمة عنه ، وأنّه لم يخرج عمّا عليه الإجماع ، وذلك هو المظنون بالرجل لجلالة قدره ورسوخ قدمه ، وما تمسّك به المخالفون القائلون بالجهة أُمور واهية وهمية ، لا تصلح أدلّة عقلية ولا نقلية ، قد أبطلها العلماء بما لا مزيد عليه ، وما تمسكوا به ظواهر آيات وأحاديث موهمة :

كقوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) وقوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) وقوله : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) وقوله : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) وقوله : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ).

وكحديث : «إنّه تعالى ينزل إلى سماء الدنيا كلّ ليلة».

وفي رواية «في كلّ ليلة جمعة فيقول هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟».

وكقوله للجارية الخرساء : «أين الله فأشارت إلى السماء» حيث سأل بأين التي للمكان ولم ينكر عليها الإشارة إلى السماء ، بل قال إنّها مؤمنة.

ومثل هذه يجاب عنها بأنّها ظواهر ظنيّة لا تعارض الأدلّة القطعية اليقينيّة الدالّة على انتفاء المكان والجهة ، فيجب تأويلها وحملها على محامل صحيحة لا تأباها الدلائل والنصوص الشرعية ، إمّا تأويلاً إجمالياً بلا تعيين للمراد منها كما هو مذهب السلف ، وإمّا تأويلاً تفصيلياً بتعيين محاملها وما يراد منها كما هو رأي الخلف ، كقولهم : إنّ الاستواء بمعنى الاستيلاء كما في قول القائل :

ص : 363

قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مُهراق

وصعود الكلم الطيب إليه قبوله إياه ورضاه به ، لأنّ الكلم عرض يستحيل صعوده ، وقوله : من في السماء : أي أمره وسلطانه أو ملك من ملائكته موكّل بالعذاب.

وعروج الملائكة والروح إليه صعودهم إلى مكان يتقرب إليه فيه. وقوله : فوق عباده أي بالقدرة والغلبة ، فإنّ كلّ من قهر غيره وغلبه فهو فوقه أي عال عليه بالقهر والغلبة ، كما يقال : أمر فلان فوق أمر فلان ، أي أنّه أقدر منه وأغلب.

ونزوله إلى السماء محمول على لطفه ورحمته وعدم المعاملة بما يستدعيه علوّ رتبته وعظم شأنه على سبيل التمثيل ، وخصّ الليل لأنّه مظنّة الخلوة والخضوع وحضور القلب.

وسؤاله للجارية ب «أين» استكشاف لما يظن بها اعتقاده من أينية المعبود كما يعتقده الوثنيون ، فلمّا أشارت إلى السماء فهم أنّها أرادت خالق السماء ، فاستبان أنّها ليست وثنية ، وحكم بإيمانها. وقد بسط العلماء في مطولاتهم تأويل كلّ ما ورد من أمثال ذلك ، عملاً بالقطعي وحملاً للظني عليه ، فجزاهم الله عن الدين وأهله خير الجزاء.

ومن العجيب أن يدع مسلم قول جماعة المسلمين وأئمّتهم ويتمشدق بتُرهات المبتدعين وضلالتهم. أما سمعوا قول الله تعالى : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) فليتب إلى الله تعالى من تلطخ بشيء من هذه القاذورات ولا يتبع خطوات الشيطان فانّه يأمر بالفحشاء والمنكر ، ولا يحملنه العناد على التمادي والإصرار عليه فانّ الرجوع إلى الصواب

ص : 364

عين الصواب والتمادي على الباطل يفضي إلى أشدّ العذاب (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) نسأل الله تعالى أن يهدينا جميعاً سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل ، وصلّى الله تعالى وسلّم على سيّدنا محمّد وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أملاه الفقير إليه سبحانه (سليم البشري) خادم العلم والسادة المالكية بالأزهر عفى عنه آمين آمين. (1)

اقتراح

وفي الختام نوصي رؤساء الطوائف الإسلامية بالابتعاد عن العصبية وعن الآراء التي ورثوها عن أُناس غير معصومين ، وإجراء الحوار الهادئ فيم اختلف فيه كلمة المحقّقين من العلماء حتّى يرتفع كثير من الخلافات النابعة من تقديم الهوى على الحقّ.

قال أمير المؤمنين علي - عليه السلام - : «إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان : اتّباع الهوى وطول الأمل ؛ فأمّا اتباع الهوى فيصدّ عن الحقّ ، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة». (2)

ص : 365


1- فرقان القرآن : 74 - 76.
2- نهج البلاغة : الخطبة 42 ، طبعة عبده.

ص : 366

الفصل الثامن: البداء في الكتاب والسنّة

اشارة

ص : 367

ص : 368

البداء في حديث الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم

تمهيد

البداء في اللغة هو ظهورُ ما خفي. يقول سبحانه : (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (1) ، أي ظهر لهم آثار ما عملوا من السيّئات وأحاط بهم ما كانوا به يستهزءون.

وقال عزّ من قائل : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) (2) ، أي ظهر لهم بعد ما رأوا الآيات الدالّة على براءة يوسف أن يسجنوه إلى حين ينقطع فيه كلام النّاس ، وإلى غيرهما من الآيات التي تدلّ على أنّ البداء عبارة عن ظهور ما خفي.

وعلى ذلك فالبداء بهذا المعنى من خصائص من كان جاهلاً بعواقب الأُمور ثمّ يبدو له ما خفي عليه ، ولأجل ذلك نسب البداء في القرآن إلى غيره سبحانه.

كما نرى أنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يستعمل كلمة البداء وينسبها إلى الله سبحانه ، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة :

ص : 369


1- الجاثية : 33.
2- يوسف : 35.

إنّه سمع من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أنّ ثلاثة في بني إسرائيل : أبرص وأقرع وأعمى «بدا لله» أن يبتليهم ، فبعث إليهم ملكاً فأتى الأبرصَ ، فقال : أي شيء أحب إليك؟ قال : لون حسن ، وجلد حسن ، قد قذّرني الناس ، قال فمسحه فذهب عنه فأُعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً ، فقال : أي المال أحب إليك؟ قال : الإبل أو قال : البقر - هو شك في ذلك أنّ الأبرص والأقرع ، قال أحدهما : الإبل ، وقال الآخر : البقر - فأُعطي ناقة عشراء ، فقال : يبارك الله لك فيها.

وأتى الأقرع ، فقال : أي شيء أحبّ إليك؟ قال : شعر حسن ويذهب عنّي هذا قد قذرني الناس قال : فمسحه ، فذهب ، وأُعطي شعراً حسناً ، قال : فأي المال أحب إليك؟ قال : البقر. قال : فأعطاه بقرة حاملاً ، وقال : يبارك لك فيها.

وأتى الأعمى فقال : أي شيء أحب إليك؟ قال : يرد الله إليّ بصري ، فأبصر به الناس ، قال : فمسحه فردّ الله إليه بصره. قال : فأي المال أحب إليك؟ قال : الغنم ، فأعطاه شاة والداً. فأُنتج هذان وولّد هذا ، فكان لهذا واد من إبل ، ولهذا واد من بقر ، ولهذا واد من الغنم.

ثمّ إنّه أتى الأبرص في صورته وهيئته ، فقال : رجل مسكين تقطّعت بي الحبال في سفري ، فلابلاغ اليوم إلاّ بالله ثمّ بك ، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال ، بعيراً أتبلّغ عليه في سفري ؛ فقال له : إنّ الحقوق كثيرة. فقال له : كأنّي أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس ، فقيراً فأعطاك الله؟ فقال : لقد ورثت لكابر عن كابر؟ فقال : إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كنت.

وأتى الأقرع في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا فرد عليه مثلما رد عليه هذا ، فقال : إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كنت.

وأتى الأعمى في صورته فقال : رجل مسكين وابن سبيل وتقطّعت بي

ص : 370

الحبال في سفري ، فلابلاغ اليوم إلاّ بالله ، ثمّ بك ، أسألك بالذي رد عليك بصرك ، شاة أتبلّغ بها في سفري ؛ فقال : قد كنت أعمى فرد الله بصري ، وفقيراً فقد أغناني ، فخذ ما شئت ، فو الله لا أجحدك اليوم بشيء أخذته لله ، فقال : أمسك مالك فإنّما ابتليتم فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك. (1)

هذا هو كلام الرسول الأعظم - صلى الله عليه وآله وسلم - وقد استعمل لفظ البداء في حقّه سبحانه ، ومن الطبيعي انّ النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يستعمل هذا اللفظ في معناه اللغوي لاستلزامه - والعياذ بالله - الجهل على الله سبحانه ، بل استعمله في معنى آخر لمناسبة بينه وبين المعنى اللغوي.

وكم له من نظير في الكتاب والسنّة ، وقد اشتهر انّ كلام البلغاء مشحون بالمجاز.

إنّ البراهين العقلية الرصينة والآيات الباهرة القرآنية قد أسفرت عن إحاطة علمه سبحانه بكلّ شيء في الأرض والسماء وما مضى وما يأتي على نحو لا يتصوّر في مثله الظهور بعد الخفاء ، ولنتبرك بذكر بعض الآيات وترك ذكر البراهين العقلية إلى محلها. قال عزّ من قائل :

(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ). (2)

(وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ). (3)

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ). (4)

ص : 371


1- البخاري : الصحيح 4 / 172 ، كتاب الأنبياء ، باب حديث أبرص وأعمى وأقرع في بني إسرائيل.
2- آل عمران : 5.
3- إبراهيم : 38.
4- الحديد : 22.

كيف يمكن طروء الخفاء عليه سبحانه مع أنّه محيط بالعالم صغيره وكبيره ، مادّيه ومجرّده ، والأشياء كلّها قائمة به قياماً قيّومياً كقيام المعنى الحرفي بالاسمي؟! وغيبوبة المعنى الحرفي عن المعنى الاسمي تساوي فناءه.

كلّ ذلك يقودنا إلى التفتيش عن تفسير آخر للبداء ينسجم مع ما جاء في الحديث المنقول عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وإلاّ فالرسول وخلفاؤه وقاطبة علماء المسلمين أجل من أن ينسبوا إلى الله سبحانه البداء بالمعنى اللغوي الآنف الذكر.

وهذه الرسالة الماثلة بين يديك عزيزي القارئ الكريم أخذت على عاتقها بيان التفسير الصحيح للبداء والمنسجم مع حديث الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -.

ويأتي كلّ ذلك ضمن أُمور :

ص : 372

1- تغيير المصير بالأعمال الصالحة والطالحة

اشارة

ذهبت اليهود إلى استحالة تعلّق مشيئة الله بغير ما جرى عليه قلم القضاء والقدر ، فيمتنع تغيير ما قُدِّر إلى خلافه ، وقد تبلورت تلك العقيدة في كلامهم بأنّ يد الله مغلولة ، قال سبحانه حاكياً عنهم : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً). (1)

وعلى هذا الأساس قالوا يد الله مغلولة عن القبض والبسط والأخذ والعطاء ، وانّه إذا جرى قلمه وتقديره على شيء لا يبدّل ولا يغيّر فيخرج عن إطار قدرته.

واستنتجوا من هذا الأصل ، امتناع نسخ الأحكام الشرعية أيضاً.

ثمّ إنّه سبحانه يردّ على تلك العقيدة في غير واحدة من الآيات ويقول :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ... (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (2)

ص : 373


1- المائدة : 64.
2- فاطر : 1.

(وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ). (1)

فالله سبحانه كما هو المقدِّر للمصير الأوّل ، هو المقدّر أيضاً للمصير الثاني ، فهو في كلّ يوم في شأن ، وانّه جلّ وعلى يبدئ ويعيد ، ويحيي ويميت ، يزيد في الرزق والعمر ويُنقص ، كلّ ذلك حسب مشيئته الحكمية والمصالح الكامنة. فكما هو عالم بالتقدير الأوّل ، عالم - في نفس ذلك الوقت - بأنّه سوف يزول ويخلفه تقدير آخر ، لكن لا بمعنى وجود الفوضى في التقدير ، بل بتبعية كلّ تقدير لملاكه وسببه.

إذا كان في هذه الآيات إلماع إلى إخلاف تقدير مكان تقدير ، ففي الآيات التالية تصريحات بأنّ الإنسان هو الذي يستطيع أن يغيّر مصيره بصالح أعماله وطالحها ، وأنّ التقدير الأوّل الذي نجم عن سبب في حياة العبد ليس تقديراً قطعياً لا يغيّر ، بل هو تقدير معلّق سيتغيّر إذا تغيّر سببه.

يقول سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (2) وليست هذه الآية ، آية فريدة ، بل هناك آيات كثيرة تُبيّن بأنّ للإنسان مقدرة واسعة على إخلاف تقدير مكان تقدير وقضاء مكان قضاء ، كلّ ذلك بمشيئته سبحانه وإرادته حيث زوّد العبدَ بحرية ومشيئة على أن يُخلف تقديراً مكان تقدير آخر ، وها نحن نقتصر على نزر قليل منها حتّى يتّضح الحال.

1. (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً* وَ

ص : 374


1- فاطر : 11.
2- الأعراف : 96.

يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً). (1)

2. (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ). (2)

3. (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ). (3)

4. (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ). (4)

5. (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ). (5)

6. (وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ). (6)

7. (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ* فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ). (7)

8. (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ* وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ). (8)

إنّ هذه الآيات تعرب عن أنّ الأعمال الصالحة مؤثّرة في مصير الإنسان وانّه يقدر بعمله الصالح على تغيير التقدير وتبديل القضاء - غير المبرم - ، لأنّه ليس في أفعال الإنسان الاختيارية مقدَّر محتوم حتّى يكون العبد في مقابله مكتوف الأيدي والأرجل.

ص : 375


1- نوح : 1210.
2- الرعد : 11.
3- الأنفال : 53.
4- الطلاق : 32.
5- إبراهيم : 7.
6- الأنبياء : 76.
7- الأنبياء : 8483.
8- الصافات : 143 - 146.

تغيير المصير بالأعمال في الروايات

دلّ غير واحد من الروايات على أنّ الأعمال الصالحة أو غيرها تُغيّر التقدير ، كما ورد عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - انّ الصدقة والاستغفار والدعاء وصلة الرحم وما أشبه ذلك يغير التقدير.

وما هذا إلاّ لأنّ التقدير لم يكن تقديراً قطعياً ، بل تقديراً معلّقاً على عدم الإتيان بصالح الأعمال أو بطالحها ، فإذا وجد المعلّق عليه يتبدّل التقدير بتقدير آخر ، كلّ ذلك بعلم ومشيئة منه سبحانه ، فهو عند ما يقدر عالم ببقاء التقدير أو بتبدّله - في المستقبل - إلى تقدير آخر ، فلو كان هناك جهل فإنّما هو في جانب العباد لا في ساحة المقدِّر ، فانّه عالم بعامة الأشياء والتقديرات ثابتها ومتغيّرها.

سنّة الله الحكيمة في عباده

إنّه سبحانه حسب حكمته الحكيمة جعل تقدير العباد على قسمين نذكرهما بالتفصيل التالي :

1. تقدير قطعي لا يقبل المحو والتغيير ، وذلك كسنّته سبحانه في موت الإنسان وفنائه ، فقوله سبحانه : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (1) من السنن القطعية التي لا تتغيّر ولا تتبدّل ، وكم له من نظير كقوله سبحانه : (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ). (2)

2. تقدير معلق غير قطعي مشروط بشرط خاص ، فلو قدّر الصلاح فهو مشروط بعدم ارتكاب ما يخرجه من الصلاح ، وإذا قدّر الضلال فهو أيضاً

ص : 376


1- الزمر : 30.
2- الأنبياء : 105.

مشروط بعدم تعاطيه ما يدخله مدخل الهدى ، كلّ ذلك لحكمة.

إنّ تلك السنّة - الّتي تُمكّن الإنسان من تغيير مصيره - بصيص أمل للمذنبين ، لئلاّ يقنطوا ، ولئلاّ ينقطع رجاؤهم من رحمته سبحانه ، بل تبقى اضبارة أعمالهم مفتوحة حتّى السنين الأخيرة من أعمارهم ، كما هي إنذار للصالحين بأن لا يغتروا بأعمالهم الصالحة ، وذلك لأنّ العبرة بخواتيم الأعمال ، فلو صدر منهم في فترة أُخرى من حياتهم ما يغضب الرب فسوف يتغيّر تقديره سبحانه من صلاح إلى طلاح.

وبما انّ لهذه السنة أثراً تربوياً في الأُمّة ، نرى أنّ الروايات كالآيات تركّز على تمكّن الإنسان من تغيير مصيره من خير إلى شر ومن شر إلى خير ، وقد تضافرت الروايات عن النبيّ الأعظم - صلى الله عليه وآله وسلم - وأئمّة أهل البيت - عليهم السلام - في هذا المقام نذكر فيما يلي نماذج منها.

أثر الدعاء في تغيير المصير

أخرج الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنه قال : لا ينفع الحذر عن القدر ولكن الله يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر. (1)

وأخرج ابن أبي شيبة في «المصنّف» وابن أبي الدنيا في الدعاء عن ابن مسعود رضي الله عنه : قال : ما دعا عبد بهذه الدعوات إلاّ وسّع الله له في معيشته :

«يا ذا المن ولا يُمنّ عليه ، يا ذا الجلال والإكرام يا ذا الطول ، لا إله إلاّ أنت ظهر اللاجين وجار المستجيرين ، ومأمن الخائفين إن كنت كتبتني

ص : 377


1- الدر المنثور : 4 / 661.

عندك في أُمّ الكتاب شقياً فامح عني اسم الشقاء واثبتني عندك سعيداً ، وإن كنت كتبتني عندك في أُمّ الكتاب محروماً مقتراً على رزقي ، فامح حرماني ويسّر رزقي وأثبتني عندك سعيداً موفقاً للخير ، فإنّك تقول في كتابك الذي أنزلت (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ). (1)

روى الكليني بسنده عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : سمعته يقول : «إنّ الدعاء يرد القضاء ينقضه كما يُنقض السلك وقد أُبرم إبراماً». (2)

وروى الكليني بسند عن أبي الحسن موسى - عليه السلام - : «عليكم بالدعاء ، فانّ الدعاء لله والطلب إلى الله يردّ البلاء وقد قدّر وقضى ولم يبق إلاّ إمضاؤه ، فإذا دعي الله عز وجلّ وسئل صرف البلاء صرفة». (3)

أثر الصدقة في تغيير المصير

روى السيوطي في «الدر المنثور» عن علي - عليه السلام - : انّه سأل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن هذه الآية (يَمْحُوا اللهُ)؟ فقال له : «لأقرّنّ عينيك بتفسيرها ولأقرّنّ عين أُمّتي بعدي بتفسيرها : الصدقة على وجهها ، وبرّ الوالدين ، واصطناع المعروف يحوّل الشقاء سعادة ، ويزيد في العمر ، ويقي مصارع السوء». (4)

وكما أنّ للأعمال الصالحة أثراً في المصير وحسن العاقبة ، وشمول الرحمة وزيادة العمر وسعة الرزق ، كذلك الأعمال الطالحة والسيئات في الأفعال فانّ لها تأثيراً ضد أثر الأعمال الحسنة.

ويدلّ على ذلك من الآيات قوله سبحانه :

ص : 378


1- الدر المنثور : 4 / 661.
2- الكافي : 2 / 169 ، باب انّ الدعاء يردّ البلاء والقضاء ، الحديث 1.
3- الكافي : 2 / 470 ، باب انّ الدعاء يرد البلاء ، الحديث 8.
4- الدر المنثور : 4 / 661.

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ). (1)

وقال سبحانه : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ). (2)

ص : 379


1- النحل : 112.
2- الأعراف : 130.

2- البداء في الكتاب العزيز

لقد عرفت أنّه ليس للإنسان مصير واحد لا يُردّ ولا يبدّل ، بل ما كتب وقدّر يتغيّر بصالح الأعمال وطالحها ، فليس الإنسان في مقابل التقدير مسيّراً ، ولكنّه بعدُ مخيّر في أن يغيّر التقدير بصالح أفعاله أو بسيّئاتها.

ومن حسن الحظ انّ الكتاب يركّز على ذلك ويعرب عن أنّ لله سبحانه لوحين :

1. لوح المحو والإثبات.

2. أُمّ الكتاب.

فما في اللوح الأوّل خاضع للتغيير والتبديل ، فليس ما كتب فيه أمراً قطعياً لا يغيّر ولا يتبدّل ، قال سبحانه : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ* يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ). (1)

وهذه الآية هي الأصل في البداء في الشريعة الإسلامية ، وها نحن ننقل

ص : 380


1- الرعد : 38 - 39.

بعض كلمات المحقّقين من المفسّرين حتّى يقف القارئ على المعنى الصحيح للبداء ويعلم أنّه ممّا أصفقت عليه الأُمّة ولا يوجد بينهم أيُّ خلاف في ذلك.

1. روى الطبري (المتوفّى 310 ه) في تفسير الآية عن لفيف من الصحابة والتابعين أنّهم كانوا يدعون الله سبحانه بتغيير المصير وإخراجهم من الشقاء - إن كتب عليهم - إلى السعادة مثلاً : كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول وهو يطوف بالكعبة : اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها ، وإن كنت كتبتني على الذنب [الشقاوة] فامحني وأثبتني في أهل السعادة ، فإنّك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أُمّ الكتاب.

وروى نظير هذا الكلام عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وشقيق وأبي وائل. (1)

وروى عن ابن زيد أنّه قال في قوله سبحانه : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) بما يُنزِّلُ على الأنبياء ، ويُثبت ما يشاء مما ينزله إلى الأنبياء وقال وعنده أُمّ الكتاب لا يُغيّر ولا يُبدَّل. (2)

2. قال الزمخشرى (المتوفّى 528 ه) : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) ينسخ ما يستصوب نسخه ويثبت بدله ما يرى المصلحة في إثباته أو ينزله غير منسوخ. (3)

3. ذكر الطبرسي (548470 ه) : لتفسير الآية وجوهاً متقاربة وقال : «الرابع : أنّه عامٌّ في كل شيء فيمحو من الرزق ويزيد فيه ، ومن الأجل ، ويمحو السعادة والشقاوة ويثبتهما. (روي ذلك) عن عمر بن الخطاب ، وابن مسعود وأبي وائل ، وقتادة. وأُمّ الكتاب أصل الكتاب الذي أُثبتت فيه الحادثات والكائنات.

ص : 381


1- الطبري : التفسير (جامع البيان) : 13 / 114112.
2- الطبري : التفسير (جامع البيان) : 13 / 114112.
3- الكشاف : 2 / 169.

وروى أبو قلابَة عن ابن مسعود أنّه كان يقول : اللهمّ إن كنت كتبتني في الأشقياء فامحنى من الأشقياء ...». (1)

4. قال الرازي (المتوفّى 608 ه) : إنّ في هذه الآية قولين :

القول الأوّل : إنّها عامّة في كل شيء كما يقتضيه ظاهر اللفظ ، قالوا : إنّ الله يمحو من الرزق ويزيد فيه ، وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر ، وهو مذهب عمر وابن مسعود ، والقائلون بهذا القول كانوا يدعون ويتضرّعون إلى الله تعالى في أن يجعلهم سعداء لا أشقياء. وهذا التأويل رواه جابر عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -.

والقول الثاني : إنّ هذه الآية خاصّة في بعض الأشقياء دون البعض.

ثم قال : فإن قال قائل : ألستم تزعمون إنّ المقادير سابقة قد جفَّ بها القلم وليس الأمر بأنف ، فكيف يستقيم مع هذا المعنى ، المحو والإثبات؟

قلنا : ذلك المحو والإثبات أيضاً مما جفّ به القلم ، فلأنّه لا يمحو إلا ما سبق في علمه وقضائه محوه. (2)

5. وقال القرطبي (المتوفّى 671 ه) - بعد نقل القولين وإن المحو والإثبات هل يعمّان جميع الأشياء أو يختصان ببعضها - : مثل هذا لا يدرك بالرأي والاجتهاد ، وإنّما يؤخذ توقيفاً فإن صحَّ فالقول به يجب أن يوقف عنده ، وإلاّ فتكون الآية عامّة في جميع الأشياء ، وهو الأظهر - ثم نقل دعاء عمر بن الخطاب في حال الطواف ودعاء عبد الله بن مسعود ثم قال : روى في الصحيحين عن أبي

ص : 382


1- مجمع البيان : 6 / 398.
2- تفسير الرازي : 10 / 6564.

هريرة قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول : «مَن سرّه أن يبسط له في رزقهِ ويُنسَأ له في أثره (أجله) فليصل رحمه». (1)

6. قال ابن كثير (المتوفّى 774 ه) بعد نقل قسم من الروايات : ومعنى هذه الروايات أنّ الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها ويثبت منها ما يشاء ، وقد يُستأنس لهذا القول بما رواه الإمام أحمد عن ثوبان قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «إن الرجل ليُحْرَمُ الرزقَ بالذنب يصيبه ولا يرد القَدَرُ إلاّ بالدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر». ثم نقل عن ابن عباس : الكتاب كتابان : فكتاب يمحو الله منه ما يشاء ويثبت عنده ما يشاء ، وعنده أُمّ الكتاب. (2)

7. روى السيوطي (المتوفّى 911 ه) عن ابن عباس في تفسير الآية : هو الرجل يعمل الزمان بطاعة الله ، ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلالة فهو الذي يمحو ، والذي يثبت : الرجل يعمل بمعصية الله تعالى وقد سبق له خير حتى يموت وهو في طاعة الله سبحانه وتعالى. ثم نقل ما نقلناه من الدعاء عن لفيف من الصحابة والتابعين. (3)

8. ذكر الألوسي (المتوفّى 1270 ه) عند تفسير الآية قسماً من الآثار الواردة حولها وقال : أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن عليّ - كرم الله وجهه - أنّه سأل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ ...) الآية فقال له عليه الصلاة والسلام : «لأقرَّنَّ عينك بتفسيرها ، ولأُقرَّنَّ عين أُمّتي بعدي بتفسيرها : الصدقة على وجهها ، وبر الوالدين واصطناع المعروف ، محوِّل الشقاء سعادة ، ويزيد في العمر ،

ص : 383


1- الجامع لأحكام القرآن : 5 / 329.
2- ابن كثير : التفسير 2 / 520.
3- الدر المنثور 4 / 660. لاحظ ما نقله في المقام من المأثورات كلّها تحكي عن تغيير التقدير بالأعمال والأفعال.

ويقي مصارع السوء». ثم قال : دفع الإشكال عن استلزام ذلك ، بتغير علم الله سبحانه ، ومن شاء فليرجع. (1)

9. وقال صديق حسن خان (المتوفّى 1307 ه) في تفسير الآية : وظاهر النظم القرآني العموم في كل شيء ممّا في الكتاب ، فيمحو ما يشاء محوه من شقاوة أو سعادة أو رزق أو عمر أو خير أو شرّ ، ويبدل هذا بهذا ، ويجعل هذا مكان هذا. لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس وأبو وائل وقتادة والضحاك وابن جريج وغيرهم ... (2)

10. وقال القاسمي (المتوفّى 1332 ه) : تمسك جماعة بظاهر قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) فقالوا : إنّها عامَّة في كل شيء كما - يقتضيه ظاهر اللفظ - قالوا : يمحو الله من الرزق ويزيد فيه ، وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر. (3)

11. وقال المراغي (المتوفّى 1371 ه) في تفسير الآية : وقد أُثر عن أئمة السلف أقوال لا تناقض فيها ، بل هي داخلة فيما سلف. ثم نقل الأقوال بإجمال. (4)

وهذه الجمل والكلم الدرّية المضيئة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، والمفسرين تعرب عن الرأي العام بين المسلمين في مجال إمكان تغيير المصير بالأعمال الصالحة والطالحة ومنها الدعاء والسؤال ، وأنّه ليس كل تقدير حتمياً

ص : 384


1- روح المعاني 13 / 111.
2- فتح البيان 5 / 171.
3- محاسن التأويل : 9 / 372.
4- تفسير المراغي : 5 / 155.

لا يُغيّر ولا يبدّل ، وإنّ لله سبحانه لوحين : لوح المحو والإثبات ، ولوح «أُمّ الكتاب». والذي لا يتطرق التغيير إليه هو الثاني دون الأوّل ، وإنّ القول بسيادة القدر على اختيار الإنسان في مجال الطاعة والمعصية ، قول بالجبر ، الباطل بالعقل والضرورة ، ومحكمات الكتاب. ومن جنح إليه لزمه القول بلغوية إرسال الرسل وإنزال الكتب (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ). (1)

ص : 385


1- ص : 27.

3- النزاع في البداء لفظي

اشارة

لم يزل النزاع بين الشيعة والسنّة في وصف الله سبحانه بالبداء قائماً على قدم وساق ، فالشيعة الإمامية تعتبر البداء من صميم الدين بحجّة انّه بمعنى تغيّر المصير بصالح الأعمال وطالحها ، وتنكره بمعنى الظهور بعد الخفاء كما سيوافيك ؛ والسنّة ترفض البداء بالمعنى المحال وهو ظهور الشيء بعد الخفاء ، وتكفّر القائل به لاستلزامه نسبة الجهل إلى الله سبحانه وتنسبه إلى الشيعة.

ومن الواضح انّ المقبول لدى الشيعة يغاير موضوعاً ومحمولاً مع ما هو المرفوض لدى السنّة ، فلا يرد مثل ذلك الإيجاب والسلب على مورد واحد ، حيث لا نجد بين الأُمّة الإسلامية من ينكر علم الله سبحانه وإحاطته بما في الأرض والسماء ، كما لا نجد فيهم من ينكر تغير المصير بصالح الأعمال.

فالفريقان يتنازعان ولكنّهما يتفقان في المعنى الإيجابي ، كما أنّهما يتّفقان في المعنى السلبي.

وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ المسألة لم تطرح في جوّ هادئ حتّى تقف كلّ طائفة على ما لدى الطائفة الأُخرى من المعنى لهذا الأصل. ونحن ندعو إلى عقد مؤتمر علمي لدراسة هذه المسألة بدقة لإزالة الشكّ والالتباس فيها وفي غيرها من المسائل المختلف فيها.

ص : 386

نصوص علماء الإمامية في البداء

1. قال الصدوق (381306 ه) في «باب الاعتقاد بالبداء» : إنّ اليهود قالوا : إنّ الله تبارك وتعالى قد فرغ من الأمر ، قلنا : بل هو تعالى «كلّ يوم هو في شأن» لا يشغله شأن عن شأن ، يحيي ويميت ، ويخلق ويرزق ويفعل ما يشاء ، وقلنا : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (1). (2)

2. قال الشيخ المفيد (413336 ه) : معنى البداء ما يقوله المسلمون بأجمعهم في النسخ وأمثاله من : الإفقار بعد الإغناء ، والإمراض بعد الإعفاء ، والإماتة بعد الإحياء ، وما يذهب إليه أهل العدل خاصة ، من الزيادة في الآجال والأرزاق والنقصان منها بالأعمال. (3)

3. قال السيد المرتضى (355 - 436 ه) : البداء في لغة العرب هو الظهور من قوله : «بدا الشيء : إذا ظهر وبان ، والمتكلّمون تعرّفوا فيما بينهم أن يسمّوا ما يقتضي هذا البداء باسمه ، فقالوا : إذا أمر الله تعالى بالشيء في وقت مخصوص على وجه معيّن ومكلّف واحد ، ثمّ نهى عنه ، فهو بداء ، والبداء على ما حدّدناه لا يجوز على الله تعالى لأنّه علم بنفسه ، ولا يجوز له أن يتجدّد كونه عالماً ، ولا أن يظهر له من المعلومات ما لم يكن ظاهراً.

وقد وردت أخبار آحاد لا توجب علماً ، ولا تقتضي قطعاً بإضافة البداء إلى الله ، وحملها محقّقو أصحابنا على أنّ المراد بلفظة البداء فيها النسخ للشرائع ولا

ص : 387


1- الرعد : 39.
2- عقائد الإمامية ، المطبوع في ذيل شرح الباب الحادي عشر : 73.
3- أوائل المقالات : 53 ، باب القول في البداء والمشيئة.

خلاف بين العلماء في جواز النسخ للشرائع. (1)

ترى أنّ السيد الشريف يتبرّأ من البداء بمعنى ظهور الشيء بعد خفائه ، ويفسّر الروايات بمعنى النسخ وهو صحيح ، لكن يجب أن يضاف إليه بأنّ النسخ يستعمل في التشريع والبداء في التكوين.

4. وقال الشيخ الطوسي (385 - 460 ه) : البداء حقيقة في الظهور ، ولذلك يقال : بدا لنا سور المدينة ، وبدا لنا وجه الرأي وقال الله تعالى : (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) (2) و (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا). (3)

فأمّا إذا أُضيفت هذه اللفظة إلى الله تعالى ، فمنه ما يجوز إطلاقه عليه ومنه ما لا يجوز ؛ فأمّا ما يجوز من ذلك ، فهو ما إذا أفاد النسخ بعينه ، ويكون إطلاق ذلك عليه ضرباً من التوسّع ، وعلى هذا الوجه يحمل جميع ما ورد عن الصادقين - عليهما السلام - من الأخبار المتضمّنة لإضافة البداء إلى الله ، دون ما لا يجوز عليه من حصول العلم بعد أن لم يكن.

ووجه إطلاق ذلك فيه تعالى ، هو أنّه إذا كان منه ما يدلّ على النسخ ، يظهر به للمكلّفين ما لم يكن ظاهراً ، ويحصل لهم العلم به بعد أن لم يكن حاصلاً لهم ، أطلق على ذلك لفظ البداء. (4)

ترى أنّ شيخ الطائفة أيضاً يفسّر البداء بالنسخ ، ولكن نضيف إلى ما ذكره أنّ النسخ يستعمل في نسخ الحكم والبداء في نسخ التكوين ، أعني : تغيير المصير

ص : 388


1- رسائل الشريف المرتضى ، مسألة 5 ، ص 117 ، المسألة الرازيّة. وقد نقل العلاّمة المجلسي خلاصة نظرية السيد في بحار الأنوار : 4 / 129 ، ومرآة العقول : 2 / 131 حيث قال : الرابع ما ذكره السيد المرتضى.
2- الجاثية : 33.
3- الزمر : 4847.
4- عدة الأُصول : 2 / 29. ولاحظ كتاب الغيبة للشيخ الطوسي ، ص 263.

بصالح الأعمال وطالحها.

5. وقال الشيخ أيضاً في كتاب «الغيبة» : إنّه لا يمتنع أن يكون الله تعالى قد وقّت هذا الأمر (الحادثة المعيّنة) في الأوقات التي ذكرت ، فلما تجدّد ما تجدّد ، تغيّرت المصلحة واقتضت تأخيره إلى وقت آخر - إلى أن قال : - وعلى هذا يُتأوّل ما روي في تأخير الأعمار عن أوقاتها والزيادة فيها عند الدعاء وصلة الأرحام ، وما روي في تنقيص الأعمار عن أوقاتها إلى ما قبله عند فعل الظلم وقطع الرحم ، وغير ذلك ، وهو تعالى وإن كان عالماً بالأمرين ، فلا يمتنع أن يكون أحدهما معلوماً بشرط ، والآخر بلا شرط ، وهذه الجملة لا خلاف فيها بين أهل العدل ، وعلى هذا يتأوّل أيضاً ما روي من أخبارنا المتضمّنة للفظ البداء ويبيّن أنّ معناها النسخ على ما يريده جميع أهل العدل ، فيما يجوز فيه النسخ أو تغيّر شروطها ، إن كان طريقها الخبر عن الكائنات. (1)

6. وقال السيّد المحقّق الداماد (... 1041 ه) : البداء منزلته في التكوين منزلة النسخ في التشريع ، فما في الأمر التشريعي والأحكام التكليفية فهو نسخ وفي الأمر التكويني والمكوّنات الزمانية بداء ، فالنسخ كأنّه بداء تشريعي ، والبداء كأنّه نسخ تكويني ، ولا بداء في القضاء ولا بالنسبة إلى جناب القدّوس الحق.

- إلى أن قال : - وكما حقيقة النسخ عند التحقيق انتهاء الحكم التشريعي وانقطاع استمراره ، لا رفعه وارتفاعه عن وعاء الواقع ، فكذلك حقيقة البداء انبتات (2) استمرار الأمر التكويني وانتهاء اتصال الإفاضة. (3)

ص : 389


1- الغيبة للشيخ الطوسي ، ص 262 - 264 ، طبعة النجف.
2- انقطاع.
3- نبراس الضياء ، ص 56.

7. قال العلاّمة المجلسي (11101037 ه) : إنّ أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - بالغوا في البداء ردّاً على اليهود الذين يقولون : إنّ الله قد فرغ من الأمر ، وردّاً على النظّام وبعض المعتزلة الذين يقولون : إنّ الله خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه وإنّما التقدّم يقع في ظهورها لا في حدوثها ووجودها ، فنفت أئمّة أهل البيت ذلك المعنى وأثبتوا انّه تعالى كلّ يوم في شأن ، في إعدام شيء وإحداث آخر ، وإماتة شخص وإحياء آخر ، إلى غير ذلك ، لئلاّ يترك العباد التضرّع إلى الله ومسألته وطاعته والتقرّب إليه ما يصلح أُمور دنياهم وعقباهم ، وليرجوا عند التصدّق على الفقراء وصلة الأرحام وبر الوالدين والمعروف والإحسان ما وُعدوا عليها من طول العمر وزيادة الرزق وغير ذلك. (1)

8. وقال السيد عبد الله شبّر (... - 1241 ه) : للبداء معان ، بعضها يجوز عليه ، وبعضها يمتنع ، وهو بالفتح والمدّ أكثر ما يطلق في اللغة على ظهور الشيء بعد خفائه ، وحصول العلم به بعد الجهل ، واتّفقت الأُمّة على امتناع ذلك على الله سبحانه إلاّ من لا يعتدّ به ، ومن نسب إلى الإماميّة فقد افترى عليهم كذباً ، والإمامية براء منه ، وقد يطلق على النسخ ، وعلى القضاء المجدّد ، وعلى مطلق الظهور ، وعلى غير ذلك من المعاني.

ثمّ استشهد على هذا بما ورد من أنّ الصدقة والدعاء يغيّران القضاء ، إلى غير ذلك ممّا روي في هذا المضمار. (2)

هذا هو قول علماء الشيعة وأكابرهم ، ترى أنّ الجميع يفسّر البداء بما

ص : 390


1- بحار الأنوار : 4 / 130.
2- مصابيح الأنوار : 1 / 33.

يقارب النسخ الذي اتّفق المسلمون على جوازه ، غير أنّ مجال النسخ هو التشريع ومجاله هو التكوين.

كلام الإمام شرف الدين في البداء

وهناك كلامٌ للإمام شرف الدين (1290 - 1377 ه) قد كشف اللثام عن حقيقة البداء بوجه يقنع كلّ باحث يرتاد الحقيقة ، وبما أنّ كلامه فصل حاسم نأتي به تفصيلاً ليقف القارئ على مدى اضطهاد الشيعة ، قال : إنّ الله قد ينقص من الرزق وقد يزيد فيه ، وكذا الأجل والصحّة والمرض والسعادة والشقاء ، والمحن والمصائب والإيمان والكفر وسائر الأشياء كما يقتضيه قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ).

وهذا مذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود وأبي وائل وقتادة ، وقد رواه جابر عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وكان كثير من السلف الصالح يدعون ويتضرّعون إلى الله تعالى أن يجعلهم سعداء لا أشقياء ، وقد تواتر ذلك عن أئمّتنا في أدعيتهم المأثورة وورد في السنن الكثيرة ، أنّ الصدقة على وجهها ، وبرّ الوالدين ، واصطناع المعروف يحوّل الشقاء ، سعادة ويزيد في العمر ، وصحّ عن ابن عباس انّه قال : لا ينفع الحذر من القدر ولكنّ الله يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر.

هذا هو البداء الذي تقول به الشيعة ، تجوّزوا في إطلاق البداء عليه بعلاقة المشابهة ، لأنّ الله عزّ وجلّ أجرى كثيراً من الأشياء التي ذكرناها على خلاف ما كان يظنّه الناس فأوقعها مخالفة لما تقتضيه الأمارات والدلائل ، وكان مآل الأُمور فيها مناقضاً لأوائلها ، والله عز وجلّ هو العالم بمصيرها ومصير الأشياء كلّها ، وعلمه بهذا كلّه قديم أزليّ ، لكن لمّا كان تقديره لمصير الأُمور يخالف تقديره لأوائلها. كان

ص : 391

تقدير المصير أمراً يشبه «البداء» فاستعار له بعض سلفنا الصالح هذا اللّفظ مجازاً ، أو كأنّ الحكمة قد اقتضت يومئذ هذا التجوّز.

وبهذا ردّ بعض أئمّتنا قول اليهود : إنّ الله قدّر في الأزل مقتضيات الأشياء ، وفرغ الله من كلّ عمل إذا جرت الأشياء على مقتضياته ، قال - عليه السلام - : بأنّ لله عزّ وجلّ في كلّ يوم قضاءً مجدّداً بحسب مصالح العباد لم يكن ظاهراً لهم ، وما بدا لله في شيء إلاّ كان في علمه الأزلي ، فالنزاع في هذه بيننا وبين أهل السنّة لفظيّ لأنّ ما ينكرونه من البداء الذي لا يجوز على الله عزّ وجلّ تبرّأ الشيعة منه ، وممّن يقول به ، براءتها من الشرك بالله ومن المشركين.

وما يقوله الشيعة من البداء بالمعنى الذي ذكرناه يقول به عامّة المسلمين ، وهو مذهب عمر بن الخطّاب وغيره كما سمعت ، وبه جاء التنزيل (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (1) ، و (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (2) ، أي كلّ وقت وحين يُحدث أُموراً ويجدّد أحوالاً من إهلاك وإنجاء وحرمان وإعطاء ، وغير ذلك كما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وقد قيل له : ما ذلك الشأن؟ فقال : من شأنه سبحانه وتعالى أن يغفر ذنباً ويفرّج كرباً ويرفع قوماً ، ويضع آخرين.

هذا هو الذي تقول به الشيعة وتسمّيه بداءً ، وغير الشيعة يقولون به ، لكنّهم لا يسمّونه بداءً ، فالنزاع في الحقيقة إنّما هو في تسميته بهذا الاسم وعدم تسميته به ، ولو عرف غير الشيعة أنّ الشيعة إنّما تُطلِق عليه هذا الاسم مجازاً لا حقيقة ، لتبيّن - حينئذ - لهم أنّه لا نزاع بيننا وبينهم حتّى في اللفظ ، لأنّ باب المجاز واسع عند العرب إلى الغاية ، ومع هذا كلّه فان أصرّ غيرنا على هذا النزاع اللفظي وأبى

ص : 392


1- الرعد : 39.
2- الرحمن : 29.

التجوّز بإطلاق البداء على ما قلناه ، فنحن نازلون على حكمه فليبدل لفظ البداء بما يشاء «وليتّق الله ربّه» في أخيه المؤمن «ولا يبخس منه شيئاً» (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ* بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (1). (2)

كلام المصلح الكبير كاشف الغطاء في البداء

وممّن صرّح بأنّ النزاع بين الشيعة والسنة نزاع لفظي ، وأنّ الإيجاب والسلب من الطرفين لا يتوجهان على موضوع واحد ، هو العلاّمة المصلح الكبير الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء حيث يقول في كتاب «الدين والإسلام» :

يحسب عامّة المسلمين (جمع الله كلمتهم) أنّ هذه الكلمة (البداء) ممّا انفردت به الإمامية واعتدُّوها شناعة عليهم ، ولو تمحّصت الحقائق واستوضحت المقاصد وزالت أغشيةُ الأوهام التي تحول بين الحقيقة والأفهام لانكسرت السورة وانكبحت الشرّة ، ولعرف الجميع أنّهم متّفقون على مقالة واحدة وأنّ النزاع بينهم لم يكن إلاّ لفظياً.

وهكذا أكثر الخلافيات التي تضارب فيها المسلمون ، التضارب الذي جرّ عليهم الويلات وآل بجمعهم إلى الشتات وصيّرهم بالحالة التي تراها وتسمع بها اليوم ، وكلّ تلك المنازعات إلاّ الطفيف قد عملت فيها عوامل الشدّة ونظر الشنآن والحدّة وعدم التروّي والأناة في تبلُّغ المقاصد وتفهُّم المرامي والغايات ، حتّى بلغ الأمر إلى أوخم عاقبة وأسود مغبّة ، وإلى الله المشتكى والرغبةُ في إدالة هذه الحال والنزوع عن تلك الضرائب فإنّه الحريّ بالإجابة إن شاء الله. (3)

ص : 393


1- هود : 85 - 86.
2- أجوبة مسائل جار الله : 101 - 103.
3- الدين والإسلام : 1 / 169168.

فذلكة البحث

هذه بعض نصوص علماء الإمامية (1) قديماً وحديثاً أتينا بها ليقف القارئ على أنّ البداء عقيدة مشتركة بين المسلمين ، وإنّما يستوحش منه من يستوحش لأجل عدم وقوفه على معناه ، ولتصوّره أنّ المراد هو ظهور الأمر لله بعد الخفاء عليه. وقد عرفت اتّفاق علمائنا تبعاً للقرآن والسنّة على امتناع إطلاقه على الله سبحانه ، وإنّما المراد تغيير ما قدِّر بالدعاء والعمل ، وهناك كلمات لسائر مشايخنا لم نذكرها وإنّما نشير إلى أسمائهم فمن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى مؤلفاتهم نظراء :

1. ميرزا رفيع النائيني في شرح الكافي ، وقد نقله العلاّمة المجلسي في البحار : 4 / 129.

2. المحدّث الكبير محمد محسن الفيض الكاشاني في علم اليقين : 1 / 177 ، والوافي : 1 / 507 ، الباب الخامس.

3. شيخنا المجيز الشيخ آقا بزرگ الطهراني في الذريعة إلى تصانيف الشيعة : 3 / 5351.

4. المحقّق العلاّمة الشيخ فضل الله الزنجاني في تعليقاته على كتاب «أوائل المقالات» ، ص 94.

5. السيد حسين مكي في كتابه «عقيدة الشيعة في الإمام الصادق وسائر الأئمّة». (2)

إلى غير ذلك من المحقّقين العظام.

ص : 394


1- وقد تركنا ذكر كثير من النصوص في هذا المجال لخوف الاطالة.
2- الإمام الصادق عليه السلام - : 4847 ، ط دار الأندلس ، بيروت.

4- التفسير الخاطئ للبداء عند مشايخ السنّة

اشارة

قد تعرّفت في صدر البحث على أنّ للبداء معنى إيجابياً وقد اتّفق عليه الفريقان ، ومعنى سلبيّاً ، قد نفاه الفريقان بحماس ، فكان المتوقّع عدم وجود النقاش والجدال في تلك المسألة كسائر المسائل التي اتّفق الفريقان عليها ، ولكن يا للأسف كان في حياة المسلمين عوامل خاصّة تزرع بذور الخلاف بين الفريقين ، وبالتالي لا تحصد الأُمّة منها إلاّ التناحر والدماء ، ومن هذه المسائل ، مسألة البداء ، فنذكر كلمات بعضهم لترى أنّهم يتّبعون ظاهر حرفية «بدا لله» ثمّ يشنّعون على الشيعة ويرمونهم بالأباطيل التي لا أساس لها بزعم انّ مرادهم منه هذا المعنى ، منهم :

1. البلخي (المتوفّى 317 ه)

إنّ الشيخ البلخي فسّر البداء من قبل نفسه وافترى على الشيعة ثمّ ردّ عليه ، وقد حكى كلامه شيخنا الأكبر شيخ الطائفة الطوسي في تبيانه إذ قال : قال قوم - ليس ممّن يعتبرون ولكنّهم من الأُمة على حال - انّ الأئمّة المنصوص عليهم - بزعمهم - مفوض إليهم نسخ القرآن وتدبيره ، وتجاوز بعضهم حتّى خرج من

ص : 395

الدين بقوله : إنّ النسخ قد يجوز على وجه البداء ، وهو أن يأمر الله عز وجلّ عندهم بالشيء ولا يبدو له ، ثمّ يبدو له فيغيّره ، ولا يريد في وقت أمره به أن يغيّره هو ويبدله وينسخه ، لأنّه عندهم لا يعلم الشيء حتّى يكون ، إلاّ ما يقدره فيعلمه علم تقدير ، وتعجرفوا فزعموا انّ ما نزل بالمدينة ناسخ لما نزل بمكة. (1)

هذا كلام البلخي الذي هو من أئمّة المعتزلة.

وكلامه يعرب عن أنّه تبع ظاهر حرفية البداء ولم يرجع فيه إلى تأليف شيعي أو رواية مرويّة عن أئمّتهم ، ولذلك قال الشيخ الطوسي بعد كلامه :

وأظن انّه عنى بهذا أصحابنا الإمامية ، لأنّه ليس في الأُمّة من يقول بالنصّ على الأئمّة - عليهم السلام - سواهم. فإن كان عناهم فجميع ما حكاه عنهم باطل وكذب عليهم ، لأنّهم لا يجيزون النسخ على أحد من الأئمّة - عليهم السلام - ، ولا أحد منهم يقول بحدوث العلم. (2)

2. أبو الحسن الأشعري (260 - 324 ه)

إنّ الشيخ أبا الحسن الأشعري تربّى في أحضان الاعتزال طيلة أربعة عقود ، ولكنّه عدل عن الاعتزال والتحق عام 305 ه - بركب إمام الحنابلة أحمد بن حنبل في تفكيره وعقيدته وألّف كتاباً باسم «مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين» وقد ذكر فيه عقائد الشيعة وقال : وكلّ الروافض إلاّ شرذمة قليلة يزعمون انّه يريد الشيء ثمّ يبدو له.

وتبعه محقّق الكتاب وفسّر كلامه وقال : أي يظهر له وجه المصلحة بعد

ص : 396


1- التبيان : 1 / 13 - 14 ، ط النجف عام 1376.
2- التبيان : 1 / 1413.

خفائه عليه فيتغيّر رأيه.

ثمّ ذكر الإمام الأشعري بعد صفحتين قوله : افترقت الرافضة هل الباري يجوز أن يبدو له إذا أراد شيئاً أم لا؟ على ثلاث مقالات ثمّ فسرها. (1)

إنّ الإمام الأشعري كان يعيش في البصرة وبغداد ويتردد بينهما ، والبصرة مرفأ الكلام والمقالات ، ولو رجع إلى علماء الشيعة فيها وفي بغداد لكشفوا له عن حقيقة البداء.

والعجب انّه ينسب البداء بالمعنى الباطل إلى كلّ الشيعة ثمّ يأتي بخلافه بعد صفحتين ويقول :

والفرقة الثانية منهم يزعمون أنّه لا يجوز وقوع النسخ في الأخبار ، وأن يخبر الله سبحانه انّ شيئاً يكون ثمّ لا يكون ، لأنّ ذلك يوجب التكذيب في أحد الخبرين.

إنّ المتوقّع من شيخ الأشاعرة هو نزاهة القلم ورعاية الأدب ، فكان اللائق أن لا يعبّر عن الشيعة بالرافضة ، فانّه من أوضح مصاديق قوله سبحانه : (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ). (2)

وأسوأ من ذلك ما ارتكبه المعلّق في تعاليقه من لعن الرافضة وتقبيحهم.

غفر الله ذنوب الجميع.

إنّ الشيعة ليسوا إلاّ نفس المسلمين في صدر الإسلام ، ويمتازون عمّن سواهم بأنّهم بقوا على وصية الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - في حقّ أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - أحد الثقلين وعدل القرآن الكريم كما جاء على لسان الصادق الأمين - صلى الله عليه وآله وسلم - في حديث الثقلين

ص : 397


1- لاحظ مقالات الإسلاميين : 107 ، 109 ، 119.
2- الحجرات : 11.

الذي رواه أصحاب الصحاح والسنن (1) ، وتبعهم التابعون منهم إلى يومنا هذا ، فلا وجه لتفريقهم عن المسلمين بهذه الكلمات اللاذعة.

3. فخر الدين الرازي (المتوفّى 606 ه)

إنّ الإمام الرازي كأسلافه تبع ظاهر حرفية لفظ «البداء» ونسبه إلى الشيعة ثمّ ناقشه ، بل ردّ عليه بعنف ، مع أنّه كان رازي المولد وكان موطنه معقل الشيعة ، ومن مقاربي عصره المفسّر الكبير أبو الفتوح الرازي مؤلف «روض الجنان في تفسير القرآن» في عشرة أجزاء (المتوفّى حوالي سنة 550 ه) ، ومن معاصريه الشيخ محمود الحمصي المتكلّم الكبير الذي يذكر اسمه في تفسيره عند تفسير قوله سبحانه : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ). (2)

ومع ذلك فقد وضع من عنده للبداء تفسيراً خاطئاً جعله أساساً للردّ على الشيعة وأتى في خاتمة المحصل بما يحكى عن سليمان بن جرير الزيدي أنّه قال : إنّ أئمّة الرافضة وضعوا مقالتين لشيعتهم ، لا يظفر معهما أحد عليهم ، الأوّل : القول بالبداء ، فإذا قالوا : إنّه سيكون لهم قوّة وشوكة ثمّ لا يكون الأمر على ما أخبروه قالوا : بدا الله تعالى فيه. (3)

إنّ المترقّب من فخر الدين الرازي أن لا يصدر إلاّ عن دليل ، وهذا التفسير الذي وضعه للبداء ممّا اخترعه خصوم الشيعة ، ولا يحتجّ به وقد علمت نصوص

ص : 398


1- راجع صحيح الترمذي : 5 / 328 ح 3874 ؛ مسند أحمد : 5 / 182 و 189 ؛ المستدرك على الصحيحين للحاكم : 3 / 148 ، وغيرها كثير.
2- مفاتيح الغيب : 10 / 145. والآية 59 من سورة النساء.
3- تلخيص المحصّل : 421.

علمائهم.

وأعجب من ذلك تعبيره اللاذع بأنّ أئمّة الشيعة وضعوا مقالتين لشيعتهم ، فهل يريد بذلك أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - من الباقر والصادق والكاظم والرضا - عليهم السلام - الذين هم أتقى الناس وأعلاهم شأناً ، وأبرأ الناس من الكذب والحيلة والخدعة ، وقد أثنى فخر الدين نفسه على أئمّة الشيعة في كتابه عند تفسير سورة الكوثر حيث قال :

الكوثر أولاده ، لأنّ هذه السورة إمّا نزلت ردّاً على من عابه - عليه السلام - بعدم الأولاد ، فالمعنى أنّه يعطيه نسلاً يبقون على مرّ الزمان ، فانظر كم قتل من أهل البيت ثمّ العالم ممتلئ منهم ، ولم يبق من بني أُميّة في الدنيا أحد يعبأ به ، ثمّ انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا - عليهم السلام - والنفس الزكية وأمثالهم. (1) وبذلك يصدق المثل السائر : «لا ذاكرة لكذوب»!!

4. أبو زهرة وهفوته في تفسير البداء

اشارة

ولعلّ خطأ البلخي والأشعري والرازي في تفسير البداء ليس بخطير ، لأنّ ظروفهم كانت تحكم ضد الشيعة وتعكس عقائدهم حسب ميول الحكام والخلفاء ، ولكن بعد ما انكشفت الحقائق وارتفعت الحواجز وسهل الاطّلاع على عقائد الآخرين لا تُغتفر أيّة زلّة في تفسير عقائد الآخرين.

وهذا هو العلاّمة المفضال الشيخ أبو زهرة المصري خريج الأزهر والباحث الكبير في القرن الماضي (المتوفّى 1396 ه) فقد خدم المكتبة العربية ببيانه وقلمه وكتبه ، وخدماته مشكورة ، غير أنّ له ردّاً هادئاً بالنسبة إلى البداء في

ص : 399


1- مفاتيح الغيب : 31 / 124.

عقيدة الشيعة حيث إنّه نقل نظريّتهم عن تعليقة المحقّق الزنجاني على كتاب «أوائل المقالات في المذاهب المختارات» (1) ، وعلّق عليه بما نذكره بنصّه :

إنّ البداء بمعنى أن ينزل بالناس ما لم يحتسبوا ويقدّروا كالغنى بعد الفقر ، والمرض بعد العافية ، فهذا موضع اتّفاق بين الشيعة والسنّة ولكنّهم يقولون : من البداء الزيادة في الآجال ، والأرزاق والنقصان منها بالأعمال ، ولا شكّ أنّ الزيادة في الآجال إن أُريد بالزيادة ما قدّره الله تعالى في علمه الأزلي ، والزيادة عمّا قدّر ، فذلك يقتضي تغيير علم الله ، وإن أُريد بالزيادة عمّا يتوقّعه الناس فذلك ممّا ينطبق عليه قول الله تعالى : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ). (2)

وعلى ذلك نقول : إن كان البداء في ما يحتسبه الناس ويقدّرونه فيجيء الأمر على خلاف ما توقّعوا فانّ ذلك موضع إجماع ، وإن كان البداء هو التغيير في المقدور فذلك ما لم يقله أحد من أهل السنّة ، لأنّه تغيير لعلمه وذلك لا يجوز. (3)

يلاحظ على ما ذكره : من أنّ ما يدّعيه الشيعة الإمامية من زيادة الآجال والأرزاق والنقصان بالأعمال ممّا لا يتفردون به ، فقد عرفت أنّ أهل السنّة قالوا به كما يظهر من الروايات التي رواها أئمّة أهل الحديث ومن كلمات المفسّرين ، وقد مرّ قول بعضهم من أنّ قوله سبحانه : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) عام وليس بخاص هذا أوّلاً.

وثانياً : أنّ الزيادة في الآجال والأرزاق تغيّر التقدير ولكن لا تحدث التغيّر في علم الله ، ومنشأ الخلط هو جعل تقديره سبحانه نفس علمه تعالى ، وتوهّم انّ التغيير في الأوّل يوجب التغيير في الثاني ، مع أنّ مركز التغيير هو لوح المحو

ص : 400


1- لاحظ ص 94 ترى فيها نصّه.
2- الزمر : 47.
3- الإمام الصادق - عليه السلام - : 238 - 239.

والإثبات وهو لوح مخلوق لله لا نعلم كنهه ، وأمّا علمه سبحانه فهو قائم بذاته بل عين ذاته ، لا يتغيّر ولا يتبدّل وهو سبحانه حينما يقدّر التقدير الأوّل في كتاب المحو والإثبات يعلم عن مصير ذلك التقدير وانّه هل يثبت ولا يمحى لتمادي العبد على ما كان عليه ، أو انّه يتغيّر بحسب حياة العبد وطروء التغير إلى أفعاله.

ولأجل إيضاح الحقّ نأتي بما ألقيناه في سالف الزمان في ذلك المجال ونقتبس منه ما يلي :

إنّ العبد الفارغ من الدعاء والعمل الصالح التارك لهما ، قُدّر له قصر العمر ، وقلّة الرزق ؛ كما أنّ العبد المقبل على الدعاء والعمل الصالح كتب عليه طول العمر وسعة الرزق ، وكلا التقديرين تقدير من الله سبحانه.

فلو كان الرجل في إبّان شبابه غير متفرّغ للدعاء والعمل الصالح فهو داخل تحت التقدير الأوّل ، فقد قدر في حقّه قصر العمر ونقصان الأرزاق بشرط البقاء على تلك الحالة.

ولكنّه إذا تحول إلى حالة أُخرى في أُخريات حياته وأقبل على الدعاء والعمل الصالح ، انقلب التقدير الأوّل إلى خلافه وضده ، فيكتب في حقّه الزيادة في الأجل والرزق وغيرهما.

نعم هو سبحانه يعلم من الأزل أنّ أيَّ عبد يختار أيَّ واحد من التقديرين طول حياته ، أو انّ أيّ عبد ينتقل من تقدير إلى تقدير آخر ، فليس هاهنا تقدير واحد ، وقضاء فارد ، لا ينفك عنه الإنسان ولا مناص له منه ، وإن كان هناك علم واحد أزلي غير متغيّر.

ص : 401

لا تخصيص في القاعدة العقلية

والعجب من أبي زهرة ، حيث يتفاعل مع الشيعة في معنى البداء في موضع دون موضع آخر ، فقال : إنّ البداء بمعنى أن ينزل بالناس ما لم يحتسبوا ويقدروا كالغنى بعد الفقر والمرض بعد العافية ، فهذا موضع اتّفاق بين الشيعة والسنة.

فنسأله أيّ فرق بين تغيير الفقر إلى الغنى والمرض إلى العافية وبين الزيادة في الآجال والأرزاق والنقصان منها بالأعمال ، حيث جوّز الأوّل دون الثاني ، مع أنّ الجميع في تغيير ما قُدِّر سيّان ، حيث كان المقدّر هو الفقر والمرض ، فتغيّرا إلى ضدهما ، ولو كان التغير في المقدَّر مستلزماً للتغيّر في علمه سبحانه فما هو الفرق بين الموردين ، ولما ذا تمسّك بالقاعدة العقلية في مورد دون مورد؟

وزان التقديرين وزان الأجلين

وهذا مثل قوله سبحانه : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ). (1)

والمراد من الأجل الأوّل ، هو القابليّة الطبيعيّة لأفراد النوع الإنساني ، والعمر الطبيعي لنوع الإنسان.

وأمّا الأجل المسمّى ، فهو الأجل القطعي الذي لا يتجاوزه الفرد ، وإليه يشير سبحانه بقوله : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ). (2)

نعم الأجل المسمّى كثيراً ما ينقص عن الأجل المطلق ، فلو جعلنا مقدار

ص : 402


1- الأنعام : 2.
2- النحل : 61.

الأجل المطلق لطبيعة الإنسان مائة وعشرين سنة ، فقلّما يتّفق أن يبلغ الإنسان إلى ذلك الحدّ من العمر ، فإنّ هناك موانع وعراقيل تمنعه - في العادة - من الوصول إليه.

نعم قلّما يزيد هذا الأجل على الأجل المطلق إذا توفّرت لذلك مقتضيات وقابليّات خارجة عن المتعارف تؤثّر في طول العمر وامتداده.

وعلى كلّ ، فكما أنّ وجود الأجلين لا يوجب تغييراً في علم الله سبحانه ، فهكذا وجود التقديرين.

وتغيير التقدير الأوّل بالتقدير الثاني مثل تغيير الأجل المطلق بالأجل المسمّى في ناحيتي الزيادة والنقصان ، بل لا معنى للأجلين إلاّ التقديرين.

ثمّ إنّ المراد من تغيير المقدّر هو تغيير المكتوب في لوحي المحو والإثبات ، فإنّ لله سبحانه لوحين :

الأوّل : اللوح المحفوظ الذي لا يتطرّق إليه التغيير ، وقد أشار إليه سبحانه بقوله : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ). (1)

الثاني : لوح المحو والإثبات ، فيكتب فيه التقدير الأوّل ، وهو وإن كان بظاهره مطلقاً وظاهراً في الاستمرار ، إلاّ أنّه مشروط بشروط ، فإذا تغيّرت الشروط انتهى أمر التقدير الأوّل ، وحان وقت التقدير الثاني ، وإلى هذا اللوح أشار سبحانه بقوله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ). (2)

ص : 403


1- الحديد : 22.
2- الرعد : 39.

ومثل هذا التغيّر في التقدير لا يمسّ كرامة العلم الإلهي الأزلي أبداً.

أحد أعلام السنّة يصحر بالحقيقة

انّ الشيخ عبد العزيز البلوشي من أعضاء مجلس الخبراء لكتابة الدستور للجمهورية الإسلامية الإيرانية ، اجتمع بي وسألني عن حقيقة البداء ، وقد شرحت له مغزى المسألة ، واستمع لما نقوله بهدوء وتفهم ، فقال : لو كان البداء بهذا المعنى فهو ممّا يعتقده أهل السنّة أجمع غير أنّكم لا تريدون من البداء هذا ، وإنّما تريدون معنى آخر يلازم جهله سبحانه وظهور الحقيقة بعد الخفاء.

ثمّ قال : لو أتيت بكتاب من قدماء الشيعة يتبنّى هذه العقيدة كما شرحتها لصدّقت كلامك وآمنت بالبداء ، فنزلت عند رغبته ، وآتيت له كتاب «أوائل المقالات» و «شرح عقائد الصدوق» للعلاّمة الشيخ المفيد ، فأخذ الكتاب وطالعه بدقّة وقلّبه ظهراً لبطن ، وجاء بعد أيّام قائلاً : لو كان البداء بنفس المعنى الذي فسّره معلم الشيعة الشيخ المفيد ، فأهل السنّة قاطبة معه في هذه العقيدة من لدن ضرب الإسلام بجرانه في الأرض.

ص : 404

5- الأثر التربوي للإيمان بالبداء

إذا كان البداء هو تمكّن العبد من تغيير المصير بنواياه الصادقة وأعماله الطاهرة ، فهو يبعث الرجاء في نفس العبد ويكون نظيرَ تشريع قبول التوبة والشفاعة وتكفير الصغائر بالاجتناب عن الكبائر ، فتشريع الكلّ لأجل بعث الرجاء وإيقاد نوره في قلوب المكلّفين حتّى لا ييأسوا من روح الله ، ولا يتنكّبُوا عن الصراط المستقيم ، بتصوّر انّهم بأعمالهم السابقة صاروا من الأشقياء وكتبت عليهم النار تقديراً حتمياً لا تبديل فيه.

فلو علم الإنسان أنّه سبحانه لم يجفّ قلمُه في لوح المحو والإثبات ، وله أن يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء ، يُسعِد من يشاء ويُشقي من يشاء ، لسعى في إسعاده وإخراجه من ديوان الأشقياء ، وتسجيله في قائمة السعداء ، إذ ليست مشيئته جزافية غير تابعة لضابطة خاصّة ، بل إذا تاب وعمل بالفرائض وتمسّك بالعروة الوثقى يخرج من سلك الأشقياء ويدخل في صنف السعداء وبالعكس ، وهكذا كلّ ما قدر في حقّه من الأجل والمرض والفقر والشقاء ، يمكن تغييره بالدعاء والصدقة وصلة الرحم وإكرام الوالدين وغير ذلك ، فالكلّ لأجل بثّ الأمل في قلب الإنسان ، وعلى هذا فالاعتقاد بذلك من ضروريات

ص : 405

الكتاب وصريح آياته وأخبار الأئمّة الهداة.

وبهذا يظهر أنّ البداء من المعارف العليا التي اتّفقت عليه كلمة المسلمين وإن غفل عن معناه الجمهور (ولو عرفوه لأذعنوا له).

وأمّا اليهود - خذلهم الله - فقالوا باستحالة تعلّق المشيئة بغير ما جرى عليه القلم ، ولأجل ذلك قالوا : يد الله مغلولة عن القبض والبسط ، والأخذ والإعطاء.

وبعبارة أُخرى : أنّ للإنسان عندهم مصيراً واحداً لا يمكن تغييره ولا تبديله ، وأنّه ينال ما قُدِّر له من الخير والشر بلا استثناء.

ولو صحّ ذلك لبطل الدعاء والتضرّع ، ولبطل القول بأنّ للأعمال الصالحة وغير الصالحة ممّا عددناه تأثيراً كبيراً في تغيير مصير الإنسان.

وعلى ضوء هذا البيان نتمكّن من فهم ما جاء في فضيلة البداء وأهميته في الروايات عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - ، مثل ما روى زرارة عن أحدهما (الباقر أو الصادق - عليهما السلام -) : «ما عُبد الله عز وجلّ بشيء مثل البداء». (1)

ولقد أدرك قوم يونس إمكان تغيير التقدير بالتوبة والعمل الصالح ، فلمّا نزل بهم العذاب مشوا إلى رجل من علمائهم ، فقالوا : علّمنا دعاءً ندعُو به لعلّ اللهَ يكشفُ عنّا العذابَ ، فقال : قولوا : يا حيّ ، حينَ لا حيَّ ، يا حيّ محيي الموتى ، يا حي لا إله إلاّ أنت ، قال : فكشف عنهم العذاب. (2)

ويظهر ممّا رواه السيوطي أنّهم وقفوا بين يدي الله سبحانه بحالة تستنزل الرحمة وتدفع النقمة ، قال : أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنه قال :

ص : 406


1- البحار : 4 / 107 ، باب البداء ، الحديث 19.
2- تفسير ابن كثير : 3 / 530.

لما دعا يونس على قومه أوحى الله إليه انّ العذاب مُصْبحهم. فقالوا : ما كذب يونس وليُصبحنا العذاب ، فتعالوا حتّى نُخرج سخالَ كلّ شيء فنجعلها مع أولادنا فلعلّ الله أن يرحمهم. فأخرجوا النساء معهن الولدان ، وأخرجوا الإبل معها فَصلانها ، وأخرجوا البقر معها عجاجيلها ، وأخرجوا الغنم معها سخالها فجعلوه أمامهم ، وأقبل العذاب فلما أن رأوه جأروا إلى الله ودعوا ، وبكت النساء والولدان ، ورغت الإبل وفصلانها ، وخارت البقر وعجاجيلها ، وثغت الغنم وسخالها ، فرحمهم الله ، فصرف عنهم العذاب. (1)

ص : 407


1- الدر المنثور : 4 / 393.

6- الحوادث التي بدا لله تبارك وتعالى فيها

اشارة

تفسير البداء بتغيير المصير بالأعمال الصالحة والطالحة تفسير له في مقام الثبوت. وهناك مصطلح آخر للبداء نعبّر عنه بالبداء في مقام الإثبات وهو انّه ربّما يلهم النبي أو يوحى إليه وقوع شيء ولكنّه لا يقع ، وهذا ما يعبّر عنه بأنّه بدا لله في تلك الحادثة.

أمّا استعمال كلمة «بدا لله» فسيوافيك انّه مجاز. وقد تبع المسلمون في هذا النوع من الاستعمال سنّةَ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في أبرص وأقرع وأعمى كما مرّ. (1)

إنّما الكلام في كيفية الإلهام أو الوحي إلى النبي وأخباره للناس وعدم وقوعه ، فبيانه :

انّه ربما تقتضي المصلحةُ اطّلاعَ النبي على المقتضي للشيء دون العلّة التامة لوقوعه ، فيخبر استناداً إلى المقتضي مع عدم الوقوف على العلّة التامة التي من أجزائها عدم المانع من تأثير المقتضي.

فإخباره يستند إلى وجود المقتضي للشيء ، وأمّا عدم وقوعه فلاستناده إلى وجود المانع من تأثير المقتضي ، وها نحن نذكر شيئاً من هذه الإخبارات الواردة في الكتاب والسنّة والتي بدا لله فيها :

ص : 408


1- راجع ص 370 من هذا الكتاب.

1. حادثة رفع العذاب عن قوم يونس

أخبر يونسُ قومَه بنزول العذاب ثمّ ترك القوم وكان في وعده صادقاً معتمداً على مقتضي العذاب الذي اطّلع عليه ، لكن نزول العذاب كان مشروطاً بعدم المانع ، أعني : التوبة والتضرّع ، إذ مع المانع لا تجتمع العلة التامة للعذاب ، قال سبحانه : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ). (1)

أخرج عبد الرزاق عن طاوس في قوله : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (2) قال : قيل ليونس - عليه السلام - : إنّ قومك يأتيهم العذاب يوم كذا وكذا ... فلمّا كان يومئذ ، خرج يونس - عليه السلام - ففقده قومه ، فخرجوا بالصغير والكبير والدواب وكلّ شيء ، ثمّ عزلوا الوالدة عن ولدها ، والشاة عن ولدها ، والناقة والبقرة عن ولدها ، فسمعت لهم عجيجاً فأتاهم العذاب حتّى نظروا إليه ثمّ صرف عنهم فلما لم يصبهم العذاب ، ذهب يونس - عليه السلام - مغاضباً فركب في البحر في سفينة مع أناس ... الخ. (3)

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : لمّا بعث الله يونس - عليه السلام - إلى أهل قريته ، فردوا عليه ما جاءهم به ، فامتنعوا منه ، فلمّا فعلوا ذلك أوحى الله إليه إنّي مرسل عليهم العذاب في يوم كذا وكذا ، فأخرج من بين أظهرهم ، فأعلم قومه الذي وعد الله من عذابه إيّاهم ، فقالوا : ارمقوه فإن هو خرج من بين أظهركم فهو والله كائن ما وعدكم ، فلمّا كانت الليلة التي وُعِدُوا

ص : 409


1- يونس : 98.
2- الصافات : 139 - 140.
3- الدر المنثور : 7 / 121.

العذاب في صبيحتها ، أدلج فرآه القوم ، فحذروا فخرجوا من القرية إلى براز من أرضهم وفرقوا بين كلّ دابة وولدها ، ثمّ عجّوا إلى الله وأنابوا واستقالوا فأقالهم ، وانتظر يونس عليه خبر القرية وأهلها ، حتّى مرّ مارّ فقال : ما فعل أهل القرية؟ قال : فعلوا أنّ نبيهم لمّا خرج من بين أظهرهم عرفوا أنّه قد صدقهم ما وعدهم من العذاب ، فخرجوا من قريتهم إلى براز من الأرض ، ثمّ فرقوا بين كلّ ذات ولد وولدها ، ثمّ عجُّوا إلى الله ، وتابوا إليه فقُبِل منهم وأخّر عنهم العذاب. (1)

2. حادثة الإعراض عن ذبح إسماعيل

قد تضافر في الآثار انّ رؤية الأنبياء رؤيا صادقة وربّما يكون وحياً. (2) وقد رأى إبراهيم في منامه انّه يذبح إسماعيل ، وأعلم ابنه بذلك ، ليكون أهون عليه ، وليختبر صبره وجلده وعزمه على طاعة الله وطاعة أبيه ، يقول سبحانه : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ* فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ). (3)

فقوله : (أَنِّي أَذْبَحُكَ) يحكي عن حقيقة ثابتة وواقعية مسلّمة ، وهو أمر الله لإبراهيم بذبح ولده أوّلاً ، وتحقّق ذلك في عالم الوجود ثانياً ، وكأنّ قوله سبحانه : (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) يكشف عن أمرين :

1. الأمر بذبح الولد وهو أمر تشريعي.

2. الكناية عن تحقّق ذلك في الواقع الخارجي.

ص : 410


1- الدر المنثور : 7 / 122.
2- الدر المنثور : 5 / 280.
3- الصافات : 101 - 102.

فقد أخبر إبراهيم - عليه السلام - بذلك ، بطريق من طرق الوحي ، وأخبر هو ولده بذلك ، ومع ذلك كلّه لم يتحقّق ونُسخ نسخاً تشريعياً ، كما لم يتحقّق ذبح إبراهيم إسماعيل في الخارج فكان نسخاً تكوينياً.

ويحكي عن كلا الأمرين قوله سبحانه : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ). (1)

وسيوافيك انّ اخبار الأنبياء عن حوادث مستقبلية مع عدم وقوعها لا يستلزم كذبهم ولا يمسّ كرامتهم بشيء ، وذلك لدلالة القرائن على وجود المقتضي للحوادث وإنّما لم يقع لأجل موانع حالت بين المقتضي وتأثيره.

ثمّ إنّه سبحانه يحكي لنا عزمَ إبراهيم لذبح ولده ، وانّ الوالد والولد سلّما ما أُمرا به ، ووضع إبراهيم وجهه للأرض (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) فلمّا أخذ الشفرة وأراد أن يذبحه ، نودي مِن خلفه أن يا إبراهيمُ قد صدّقتَ الرؤيا وخرجتَ من الاختبار مرفوع الرأس ، قال سبحانه :

(فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ* وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ* وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ* وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ* كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ). (2)

3. حادثة إكمال ميقات موسى - عليه السلام -

اشارة

ذكر المفسّرون انّه سبحانه واعد موسى ثلاثين ليلة ، فصامها موسى - عليه السلام - وطواها ، فلمّا تمّ الميقات استاك بلحاء شجرة فأمره الله تعالى أن يُكْمل بعشر ، يقول

ص : 411


1- الصافات : 107.
2- الصافات : 111103.

سبحانه : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ). (1)

إنّه سبحانه لمّا واعد موسى ثلاثين ليلة ، كلّم بما وعده الله سبحانه قومه الذين صحبوه إلى الميقات ، فلمّا طوى موسى - عليه السلام - ثلاثين ليلة أمر بإكمال بأربعين ليلة.

أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في تفسير الآية : انّ موسى قال لقومه : انّ ربّي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه وأخلف هارون فيكم ، فلمّا فصل موسى إلى ربّه زاده الله عشراً ، فكانت فتنتهم في العشر التي زاده الله. (2)

فكان هناك إخباران :

الأوّل بأنّه يمكث في الميقات ثلاثين ليلة ، ثمّ نسخه خبر آخر بأنّه يمكث أربعين ليلة ، وكان موسى صادقاً في كلا الأخبارين ، حيث كان الخبر الأوّل مستنداً إلى جهات يقتضي إقامة ثلاثين ليلة ، لو لا طروء ملاك آخر يقتضي أن يكون الوقوف أزيد من ثلاثين.

هذه جملة الحوادث التي تنبّأ أنبياء الله بوقوعها في الذكر الحكيم إلاّ أنّها لم تقع ، وهذا ما يعبّر عنه بأنّه بدا لله فيها.

وسيوافيك وجه استعمال لفظة «بدا» في المقام وكيفية نسبته إلى الله.

ص : 412


1- الأعراف : 142.
2- الدر المنثور : 3 / 335.
حوادث بدا لله تعالى فيها في الأحاديث

المتتبع في الآثار والروايات يجد نظائر هذه الحوادث فيها ، ونذكر نزراً قليلاً منها :

1. مر يهوديّ بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال : السام عليك ، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - له : «وعليك» ، فقال أصحابه : انما سلّم عليك بالموت ، فقال : الموت عليك؟ فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : «وكذلك رددت» ، ثمّ قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لأصحابه : «إنّ هذا اليهودي يعضّه أسود في قفاه فيقتله». قال : فذهب اليهودي فاحتطب حطباً كثيراً فاحتمله ، ثمّ لم يلبث أن انصرف.

فقال له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - «ضعه» ، فوضع الحطب فإذا أسود في جوف الحطب عاض على عود ، فقال - صلى الله عليه وآله وسلم - : «يا يهوديّ ما عملت اليوم؟» قال : ما عملت عملاً إلاّ حطبي هذا حملته فجئت به ، وكان معي كعكتان فأكلت واحدة وتصدّقت بواحدة على مسكين ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «بها دفع الله عنه» ، وقال : «إنّ الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإنسان». (1)

2. انّ المسيح مرّ بقوم مجلبين ، فقال : ما لهؤلاء؟ قيل : يا روح الله فلانة بنت فلانة تُهدى إلى فلان في ليلته هذه ، فقال : يُجلَبُون اليوم ويَبكوُن غداً ، فقال قائل منهم : ولم يا رسول الله؟ قال : لأنّ صاحبتهم ميتة في ليلتها هذه ، فلما أصبحوا وجدوها على حالها ، ليس بها شيء ، فقالوا : يا روح الله إنّ التي اخبرتَنا أمس انّها ميتة لم تمت ، فدخل المسيح دارها فقال : ما صنعت ليلتك هذه؟ قالت : لم أصنع شيئاً إلاّ وكنت أصنعه فيما مضى ، انّه كان يعترينا سائل في كلّ ليلة جمعة فننيله ما

ص : 413


1- بحار الأنوار : 4 / 121.

يقوته إلى مثلها. فقال المسيح : تنحّ عن مجلسك فإذا تحت ثيابها أفعى مثل جذعة ، عاضّ على ذنبه ، فقال - عليه السلام - : بما صنعت ، صرف عنك هذا. (1)

أقول : إنّ الأخبارات الصادرة من الأنبياء لأجل اتّصالهم باللوح الثاني الذي في معرض التغيّر والتبدّل كثيرة مبثوثة في الكتب ، فيخبرون لمصالح حسب ما يقتضي المقتضي مع احتمال تغيّرها حسب توفّر الشروط وعدمها أو الموانع وعدمها.

وفي هذا المجال يقول العلاّمة المجلسي في عالم الإثبات :

اعلم أنّ الآيات والأخبار تدلّ على أنّ الله خلق لوحين أثبت فيها ما يحدث في الكائنات :

أحدهما : اللوح المحفوظ الذي لا تغيّر فيه أصلاً وهو مطابق لعلمه تعالى.

والآخر : لوح المحو والإثبات ، فيثبت فيه شيئاً ثمّ يمحوه ، لحكم كثيرة لا تخفى على أُولي الألباب.

ص : 414


1- بحار الأنوار : 4 / 94.

7- شبهات وحلول

اشارة

تثار حول البداء شبهات عديدة تطلب لنفسها الإجابة ، ونحن بدورنا نذكر المهم منها :

الأُولى : استحالة إطلاق البداء على الله سبحانه

إنّ البداء في اللغة هو الظهور بعد الخفاء ، وهو يلازم العلم بعد الجهل ، والله سبحانه عالم بكلّ شيء قبل الخلقة ومعها وبعدها فكيف يقال بدا لله في هذه الحادثة؟

والجواب : انّ هذه الشبهة صارت ذريعة لإنكار البداء حتّى بالمعنى الصحيح ، غير انّا نُلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ النزاع ليس في إطلاق لفظ «البداء» على الله ، وإنّما النزاع في المسمّى ، فسواء أصحت تسميته بالبداء أم لم تصحّ ، فالبداء عبارة عن تغيير المصير بالعمل الصالح والطالح ، فلو كان إطلاق البداء عليه غير صحيح عند شخص فليسمّه بلفظ آخر ، على أنّ إطلاقه على الله صحيح لإحدى الجهات التالية أو جميعها :

1. انّ الشيعة الإمامية اقتفوا أثر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في إطلاق البداء على الله سبحانه

ص : 415

حيث جاء في حديث الأقرع والأبرص والأعمى قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : (بدا لله عزّ وجلّ أن يبتليهم) (1) وقد قال سبحانه : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً). (2)

2. انّ وصفه سبحانه بهذا الوصف من باب المشاكلة ، وهو باب واسع في كلام العرب ، فانّه سبحانه في مجالات خاصة يعبّر عن فعل نفسه بما يعبّر به الناس عن فعل أنفسهم ، وما ذلك إلاّ لأجل المشاكلة الظاهرية ، وقد صرّح بها القرآن الكريم في مواضع عديدة ، نذكر منها :

يقول سبحانه : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ). (3)

ويقول تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ). (4)

وقال عزّ من قائل : (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ). (5)

وقال عزّ اسمه : (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا). (6)

وقال عزّ وجلّ : (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا). (7)

إذ لا شكّ انّه سبحانه لا يخدع ولا يمكر ولا ينسى ، لأنّها من صفات الإنسان الضعيف ، ولكنّه سبحانه وصف أفعاله بما وصف به أفعال الإنسان من باب المشاكلة ، والجميع كناية عن إبطال خدعتهم ومكرهم وحرمانهم من مغفرة الله سبحانه وبالتالي عن جنّته ونعيمها.

وعلى ضوء ذلك فلا غرو في أن نعبّر عن فعله بما نعبّر عن أفعالنا ، إذا كان

ص : 416


1- تقدم تخريجه : انظر ص 370 - 371 من هذا الكتاب.
2- الأحزاب : 21.
3- النساء : 142.
4- آل عمران : 54.
5- الأنفال : 30.
6- الجاثية : 34.
7- الأعراف : 51.

التعبير مقروناً بالقرينة الدالّة على المراد ، فإذا ظهر الشيء بعد الخفاء ، فبما انّه بداء بالنسبة إلينا نوصف فعله سبحانه به أيضاً وفقاً للمشاكلة ، وإلاّ فهو - في الحقيقة - بداء من الله للناس ، ولكنّه يتوسّع كما يتوسّع في غيره من الألفاظ ، ويقال بدا لله تمشّياً مع ما في حسبان الناس وأذهانهم وقياس أمره سبحانه بأمرهم ، ولا غرو في ذلك إذا كانت هناك قرينة على المجاز والمشاكلة.

3. انّ اللام هنا بمعنى «من» فقوله : «بدا لله» أي بدا من الله للناس ، يقول العرب : قد بدا لفلان عمل صحيح أو بدا له كلام فصيح ، كما يقولون بدا من فلان كذا ، فيجعلون اللام مقام «من» ، فقولهم : بدا لله أي بدا من الله سبحانه. (1)

فعلى ضوء هذه الجهات يصحّ إطلاق البداء على الله سبحانه ووصفه به ، حتّى لو قلنا بتوقيفية الأسماء والصفات وما ينسب إليه تعالى من الأفعال ، لوروده في الحديث النبوي الآنف الذكر.

الثانية : استلزام البداء في مقام الإثبات الكذب

قد عرفت أنّ للبداء مجالين : مقام الثبوت ومقام الإثبات ، والمراد من الثاني كما تقدّم هو إخبار النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - عن حادثة وعدم وقوعها لانتفاء شرطها ، فحينئذ تطرح الشبهة التالية بأنّه إذا أخبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولم يتحقّق ما أخبر به يلزم حينها كذبه وزوال الاعتماد على قوله.

والجواب : إنّ مصدر خبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إمّا الوحي كما هو الحال في الإخبار عن أمره سبحانه بذبح إسماعيل أو نزول العذاب على قوم يونس ، أو اتّصال النبي بلوح المحو والإثبات ، أو الألواح التي يكتب فيها الحوادث الثابتة والمتغيّرة ، فربّما

ص : 417


1- أوائل المقالات : 53.

يكتب فيها الموت بالنظر إلى مقتضياته فيتّصل به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فيطلع على موته مع أنّه كان مشروطاً بشرط لم يتحقّق.

غير أنّ هذا النوع من الإخبار لا يستلزم كذب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وذلك لدلالة القرائن على صدق النبي ، وهو وجود المقتضي للحادثة وانّها لم تقع لأجل فقدان الشرط ، مثلاً :

إنّه سبحانه - بعد ما نسخ ذبح إسماعيل - أمر إبراهيم بالفداء عنه بذبح عظيم وقال : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (1) ، ففي هذه الفدية دليل على صدق ما أخبر به النبي من الرؤيا ، وقد كانت هناك مصلحة للأمر بالذبح ، غير أنّه نسخ لمصلحة فيه.

ونظير هذا قصة يونس حيث أخبر عن العذاب وقد تقدّم أنّ القوم رأوا طلائعه ، فقال لهم عالمهم : افزعوا إلى الله فلعلّ الله يرحمكم ، ويرد العذاب عنكم ، فاخرجوا إلى المفازة ، وفرّقوا بين النساء والأولاد وبين سائر الحيوان وأولادها ثمّ ابكوا وادعوا ، ففعلوا فصرف عنهم العذاب. (2)

وقد مضى في قصة المسيح انّه أخبر بهلاك العروس ولم يقع ، لكنّه برهن على صحّة إخباره بقوله لها : «تنحّي عن مجلسك» فإذا تحت ثيابها أفعى مثل جذعة عاض على ذنبه ، فقال - عليه السلام - : «بما صنعت صرف عنك هذا». (3)

كما أنّ في إخبار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بهلاك اليهودي كان مقروناً بمشاهدة الأسود في جوف الحطب عاض على عود.

ص : 418


1- الصافات : 107.
2- مجمع البيان : 3 / 153.
3- تقدم تخريجه.

وبالجملة : إنّ تنبّؤات الأنبياء والأولياء بوقوع حوادث مستقبلية تتحقّق غالباً ، وعند ما تتخلّف يكون الإخبار مقروناً بأمارات دالّة على صدقه كما تقدّم.

الثالثة : استلزام البداء للتشكيك في مطلق ما أخبر

اشارة

إذا كان إخبار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خاضعاً للبداء فلا يبقى أيُّ اعتماد بتنبّؤات الأنبياء والأولياء ، فإذا أخبر المسيح بمجيء نبي بعده اسمه أحمد ، أو أخبر النبي عن كونه خاتم الأنبياء ، أو عن ظهور المهدي في آخر الزمان ، وكان الجميع خاضعاً للبداء والتغيير فلا يبقى وثوق بما أخبر.

والجواب : انّ البداء إنّما يتعلّق بموارد جزئية وحوادث خاصّة ، كما عرفت من ذبح إسماعيل ونزول البلاء على قوم يونس وموت العروس واليهودي بالأسود ، فهذا القسم من التنبؤات تقتضي المصلحة وقوع البداء فيها ، وهي أُمور نادرة بالنسبة إلى ما جاء به الأنبياء من السنن والقضايا والسياسات ، فلا يورث البداء في مورد أو موارد لا تتعدى عن عدد الأصابع ، شكاً وترديداً فيما أخبر به الأنبياء أو جاءوا به من الأحكام ، وإن شئت التفصيل فنذكر بعض ما لا يتطرّق إليه البداء فنقول :

1. السنن الكونية لا تخضع للبداء

إنّ لله سبحانه تبارك وتعالى سنناً كونية غير محددة بزمان ومكان ، وهي ثابتة لا تخضع للبداء ، لأنّها سنة ، والسنّة بطبعها تقتضي الشمول والعموم وتأبى التخصيص والتبعيض ، قال الله سبحانه : (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) (1)

ص : 419


1- الأحزاب : 62.

وإليك نزراً من هذه السنن.

1. يقول سبحانه حاكياً عن شيخ الأنبياء نوح (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً). (1)

فهل يتصوّر طروء البداء إلى هذه السنن الكونية التي لا تقصر عن السنن الطبيعية؟ كلا ولا.

2. يقول سبحانه : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ). (2)

فالآية تتكفّل ببيان سنّتين إلهيّتين : ايجابية وسلبية.

فلا يتطرق إليهما البداء ولا النسخ.

3. يقول سبحانه : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ). (3)

4. ويقول عزّ وجلّ : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ). (4)

فهذه السنن قد أخذ الله على ذمته أن تكون ثابتة في عامّة الأجيال والأزمان لا تخضع للتغيّر لمنافاته للسنّة الإلهية.

2. التنبّؤ بالنبوّة والإمامة لا يخضع للبداء

قد تقتضي المصلحة تنبّؤ النبي بنبيّ لاحق بعده كما تنبّأ عيسى - عليه السلام - بظهور

ص : 420


1- نوح : 1210.
2- إبراهيم : 7.
3- الطلاق : 32.
4- الأنبياء : 105.

نبيّ بعده اسمه أحمد ، يقول سبحانه حاكياً عن المسيح : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ). (1)

فهذا النوع من التنبّؤ لا يخضع للبداء ، لأنّه على طرف النقيض من مصالح النبوّة ، إذ معنى ذلك إيجاد الفوضى عند ظهور النبيّ اللاحق. وقس على هذين المورد ، ما ورد عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - حول المهدي وظهوره وبسطه العدل والقسط.

وبذلك يعلم أنّ ما يخضع للبداء في مقام الإثبات أُمور نادرة تتعلّق بأُمور خارجة عن النظام التشريعي والعقائدي ونسبتها إلى غيرها كنسبة الواحد إلى الأُلوف ، فلا يُورِث البداء في مثل تلك الأُمور أيّ شك وترديد في تنبّؤات الأنبياء.

أضف إلى ذلك انّه يشترط في صحّة البداء وقوعه في حياة المخبر ، كما هو الحال في قصة الخليل ويونس والمسيح والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وعلى ذلك فما أخبر به النبي والوصي يحدد احتمال ظهور الخلاف بحياتهم ، فإذا انقضت آجالهم فلا يبقى أيّ موضوع للبداء.

فنخرج بالحصيلة التالية : انّ كلّ ما ورد في القرآن والسنّة والآثار بعد رحيل النبيّ من الأخبار أُمور محتومة لا يتطرّق إليها البداء.

الرابعة : البداء ومسألة جفّ القلم

إذا كان البداء بمعنى تغيير المصير بالأعمال الصالحة والطالحة فهو لا يجتمع مع ما روي عن النبي من أنّه قال لأبي هريرة : «جفّ القلم بما

ص : 421


1- الصف : 6.

أنت لاق» (1) ، فانّ الحديث يعرب عن تماميّة الأُمور والفراغ عن الأمر دون أي تجديد في المصير بالعمل وغيره.

أقول : إذا كان الميزان في صحّة العقيدة هو تطابقها مع كتاب الله العزيز والسنّة النبويّة المتضافرة أو المتواترة فيجب أن نعتمد عليهما لا على أخبار الآحاد وإنْ رواها الإمام البخاري في صحيحه ، وقد عرفت دلالة الكتاب العزيز على انّه سبحانه (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ). (2) وقال سبحانه : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ). (3)

إلى غير ذلك من الآيات الصحيحة في تمكّن الإنسان من تغيير ما قدّر.

وأمّا ما رواه أبو هريرة فلو أخذنا بحديثه فيُحمل على ما قدر في أُمّ الكتاب وفي علمه الذاتي سبحانه لا ما قُدِّر في لوح المحو والإثبات وفي مقام علمه الفعلي.

ويؤيّد ما ذكرنا ما رواه البخاري في باب أسماه «العمل بالخواتيم» ، وقد ورد في أحاديث الباب قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : وإنّما الأعمال بالخواتيم. (4)

فإذا كانت العبرة بخواتيم الأعمال ، فمعنى ذلك انّ المصير يتغيّر ، ولو كان ما قدر ثابتاً كانت العبرة بالأوائل لا بالخواتيم.

إنّ القول بجفاف القلم وانّ الله سبحانه فرغ من الأمر عقيدة مستوردة ، انتحلتها اليهود كما أشار إليها سبحانه في القرآن الكريم بقوله : (قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) (5) ، والآية وإن وردت في مورد الإنفاق ، ولكن العبرة بعموم اللفظ (يَدُ اللهِ

ص : 422


1- صحيح البخاري : 4 / 230 ، كتاب القدر ، الحديث 6596.
2- الرحمن : 29.
3- الرعد : 39.
4- نفس المصدر : برقم 6607.
5- المائدة : 64.

مَغْلُولَةٌ) دون خصوص المورد ، كما هو الحال في عامّة الآيات الواردة في سبب خاص.

يقول العلاّمة محمد هادي معرفة : إنّ ذكر الإنفاق كيف يشاء في ذيل الآية جاء بياناً لأحد مصاديق بسط يده تعالى وشمول قدرته ، وليس ناظراً إلى الانحصار فيه ، ولعلّ ذكر ذلك كان بسبب ما واجه المسلمين في إبّان أمرهم من الضيق وعدم التوفّر في تهيئة التجهيز الكافي والحصول على الإمكانات اللازمة ، فأخذت اليهود في الطعن عليهم بأنّ ذلك هو المقدّر لهم ، وليس بوسعه تعالى أن يفسح لهم المجال أو يوسع عليهم في المعاش. (1)

وفي رواية أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - تصريح بأنّ الفراغ من الأمر عقيدة اليهود ، قال الإمام علي بن موسى الرضا - عليه السلام - لسليمان بن حفص المروزي ، متكلّم خراسان وقد استعظم مسألة البداء في التكوين : «أحسبك ضاهيت اليهود في هذا الباب» قال : أعوذ بالله من ذلك ، وما قالت اليهود؟ قال : «قالت اليهود : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) يعنون انّ الله قد فرغ من الأمر فليس يحدث شيئاً». (2)

وروى الصدوق باسناده إلى إسحاق بن عمّار ، عمّن سمعه ، عن الصادق - عليه السلام - انّه قال في الآية الشريفة : لم يعنوا انّه هكذا (أي مكتوف اليد) لكنّهم قالوا : قد فرغ من الأمر فلا يزيد ولا ينقص. فقال الله جلّ جلاله تكذيباً لقولهم : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) ألم تسمع الله عزّ وجلّ يقول : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ). (3)

ص : 423


1- شبهات وردود : 361.
2- عيون أخبار الرضا : 1 / 145 ، باب 13 ، رقم 1.
3- توحيد الصدوق : 167 ، باب 25 ، رقم 1.

وممّن صرّح بما ذكرنا الراغب الاصفهاني في مفرداته ، قال : قيل : إنّهم لمّا سمعوا انّ الله قد قضى كلّ شيء قالوا : إذاً يد الله مغلولة ، أي في حكم المقيد لكونها فارغة. (1)

إنّ يهود عصر الرسالة استنكروا تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة ، وما هذا إلاّ لاعتقادهم بالفراغ عن التكوين والتشريع.

وبهذا فسّره الجبائي قوله سبحانه : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ). (2)

وبهذا الشأن نزل قوله سبحانه : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (3)

وممّا يشهد على أنّ القول بالفراغ عن الأمر وجفاف القلم من العقائد المستوردة هو ما عليه اليهود في عامّة القرون من أنّه سبحانه بعد ما فرغ من خلق السماوات والأرض خلال الستة أيام ، استراح في اليوم السابع وهو يوم السبت جاء في سفر التكوين : فأكملت السماوات والأرض وكلّ جندها ، وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمله فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل. (4)

يقول سبحانه ردّاً على تلك العقيدة : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ). (5)

ص : 424


1- المفردات : 363.
2- البقرة : 115 ، لاحظ مجمع البيان : 1 / 191.
3- البقرة : 106.
4- سفر التكوين : الاصحاح : 2 / 1.
5- ق : 38.

واللغب في اللغة بمعنى التعب والإعياء وما يقرب منه.

أخي العزيز

هذا هو البداء ، وهذا هو معناه في الكتاب والسنّة ، وتلك هي آثاره البنّاءة في شخصية الإنسان.

وهو من صميم الدين ، ولا يلازمه نسبة الجهل إلى الله تعالى.

ولو قدحت في ذهنك شبهة ، فأعد القراءة بوعي وإمعان حتّى تزول الشبهة ، وتقف على الجواب في ثنايا ما ذكرناه ، بفضل من الله.

ص : 425

ص : 426

الفصل التاسع: نظام الحكم في الإسلام بعد رحلة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

اشارة

ص : 427

ص : 428

الأمر الأوّل: الحكومة حاجة ملحَّة

اشارة

إنّ وجود الدولة في الحياة البشرية ليس أمراً تقتضيه الحياة المعاصرة التي اشتدت فيها الحاجة إلى الحكومة ، بل هي حاجة طبيعية ضرورية للإنسان الاجتماعي عبر القرون.

فإذا الدولة حاجة طبيعية تقتضيها الفطرة الإنسانية بحيث يُعدّ الخارج على الدولة ونظامها وتدبيرها : إمّا متوحشاً ساقطاً ، أو موجوداً يفوق الموجود الإنساني.

انّ استعراض ما قام به الباحثون والمفكّرون من تبيين ضرورة الحكومة في المجتمع الإنساني ، وانّه لولاها لانهارت الحياة وانفصمت عقد الاجتماع وعادت الفوضى إلى المجتمع الإنساني ، ممّا لا تسعه هذه الرسالة ولنتركها لمحلها.

ولكن المهم لنا هو تبيين سيرة الرسول في تأسيس الحكومة الإسلامية بعد ما استتب له الأمر ، وهو يعرب عن أنّ الحكومة تعد بنى تحتيّة لإجراء عامّة الأحكام الإسلامية ، وانّه لولاها لتعطلت الأحكام ، وتوقّف إجراء الحدود والتعزيرات ، وبالتالي سادت الفوضى على الحياة ، فلذلك نقتصر في المقام على بيان سيرة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد نزوله المدينة المنورة فنقول :

من تتبع سيرة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقف على أنّه قام بتأسيس الدولة بكلّ ما لهذه

ص : 429

الكلمة من معنى ، فقد مارس ما هو شأن الحاكم السياسي من تشكيل جيش منظم ، وعقد معاهدات ومواثيق مع الطوائف الأُخرى ، وتنظيم الشئون الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية ممّا يتطلّبه أي مجتمع منظم ذو طابع قانوني ، وصفة رسمية ، وصيغة سياسية ، واتخاذ مركز للقضاء وإدارة الأُمور وهو المسجد ، وتعيين مسئوليات إدارية ، وتوجيه رسائل إلى الملوك والأُمراء في الجزيرة العربية وخارجها ، وتسيير الجيوش والسرايا وبذلك يكون الرسول الأعظم - صلى الله عليه وآله وسلم - أوّل مؤسس للدولة الإسلامية التي استمرت من بعده ، واتسعت وتطورت وتبلورت ، واتخذت صوراً أكثر تكاملاً في التشكيلات والمؤسسات وإن كانت الأُسس متكاملة في زمن المؤسس الأوّل - صلى الله عليه وآله وسلم -.

ومن ملامح تأسيس حكومته قيامه بأُمور تعد من صميم العمل السياسي والنشاط الإداري الحكومي ، نذكر من باب المثال لا الحصر :

1. انّه - صلى الله عليه وآله وسلم - عقد بين أصحابه وبين الطوائف والقبائل الأُخرى المتواجدة في المدينة كاليهود وغيرهم اتفاقية وميثاقاً يعتبر في الحقيقة أوّل دستور للحكومة الإسلامية.

2. انّه - صلى الله عليه وآله وسلم - جهز الجيوش وبعث السرايا إلى مختلف المناطق في الجزيرة ، وقاتل المشركين وغزاهم ، وقاتل الروم ، وقام بمناورات عسكرية لارهاب الخصوم ، وقد ذكر المؤرخون أنّه - صلى الله عليه وآله وسلم - خاض أو قاد خلال 10 أعوام من حياته المدنية 85 حرباً بين غزوة وسريّة.

3. بعد ان استتبّ له الأمر في المدينة وما حولها وأمن جانب مكة وطرد اليهود لتآمرهم ضد الإسلام والمسلمين من المدينة وما حولها وقلع جذورهم ، توجه باهتمام خاص إلى خارج الجزيرة ، وإلى المناطق التي لم تصل إليها دعوته ودولته

ص : 430

من مناطق الجزيرة ، فراح يراسل الملوك والأُمراء ويدعوهم إلى الانضواء تحت راية الإسلام والدخول تحت ظل دولته والقبول بحكومته الإلهية.

4. انّه - صلى الله عليه وآله وسلم - بعث السفراء والمندوبين السياسيين إلى الملوك والزعماء وكان عملاً بديعاً من أعمال الدبلوماسية ، وهذه الدبلوماسية الفطنة التي لجأ إليها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في مخاطبة الملوك في عصره لم تذهب كلّها سدى.

5. انّه - صلى الله عليه وآله وسلم - نصب القضاة وعيّن الولاة ، وأعطاهم برامج للإدارة والسياسة ، فأوصاهم فيما أوصاهم بتعليم أحكام الإسلام ونشر الأخلاق والآداب التي جاء بها الإسلام ، وتعليم القرآن الكريم ، وجباية الضرائب الإسلامية كالزكاة وإنفاقها على الفقراء والمعوزين ، وما شابه ذلك من المصالح العامة ، وفصل الخصومات بين الناس ، وحلّ مشاكلهم) والقضاء على الظلم والطغيان ، وغير ذلك من المهام والصلاحيات والمسئوليات الإدارية والاجتماعية.

6. انّ من قرأ سورة الأنفال والتوبة ومحمّد - صلى الله عليه وآله وسلم - يلاحظ كيف يرسم القرآن فيها الخطوط العريضة لسياسة الحكومة الإسلامية وبرامجها ووظائفها. فهي تشير إلى مقومات الحكومة الإسلامية المالية ، وأُسس التعامل مع الجماعات غير الإسلامية ، ومبادئ الجهاد والدفاع وبرامجها ، وتعاليم في الوحدة الإسلامية التي تعتبر أقوى دعامة للحكومة الإسلامية ، وكذا غيرها من السور والآيات القرآنية فهي مشحونة بالتعاليم والبرامج اللازمة للحكومة والدولة.

وهذا يكشف عن أنّ النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - كان أوّل مؤسس للحكومة الإسلامية في المدينة المنورة بعد أن مهّد لها في مكة.

إنّ من سبر الأحكام الإسلامية من العبادات إلى المعاملات إلى الإيقاعات والسياسات ، يقف على أنّها بطبعها تقتضي إقامة حكومة عادلة واعية لإجراء كلّ

ص : 431

ما جاء به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وانّه لولاها لأصبحت تلك القوانين حبراً على ورق من دون أن تظهر في المجتمع آثارها ، فانّ الإسلام ليس مجرّد أدعية خاوية أو طقوس ومراسيم فردية يقوم بها كلّ فرد في بيئته ومعبده ، بل هو نظام سياسي ومالي وحقوقي واجتماعي واقتصادي واسع وشامل ، وما ورد في هذه المجالات من قوانين أو أحكام ، تدلّ بصميم ذاتها على أنّ مشرّعها افترضَ وجودَ حاكم يقوم بتنفيذها ورعايتها ، لأنّه ليس من المعقول سنّ مثل هذه القوانين دون وجود قوة مجرية وسلطة تنفيذية تتعهد بإجرائها وتتولّى تطبيقها مع العلم بأنّ سنّ القوانين وحده لا يكفي في تنظيم المجتمعات ، وإلى هذا الدليل يشير السيد المرتضى بقوله :

إنّه سبحانه وتعالى يأمرنا بالاستجابة لله وللرسول إذا دعا لما فيه حياتنا ، يقول سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ). (1)

وفسّرت الآية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإذا كان الأمر والنهي كما تُوحي هذه الآيات مبدأ للحياة وجب أن يكون للناس إمام يقوم بأمرهم ونهيهم ويقيم فيهم الحدود ، ويجاهد فيهم العدو ، ويقسم الغنائم ، ويفرض الفرائض ويحذِّرهم عمّا فيه مضارهم ، ولهذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب بقاء الخلق فوجبا ، وإلاّ سقطت الرغبة والرهبة ولم يرتدع أحد ، ولفسد التدبير ، أو كان ذلك سبباً لهلاك العباد. (2)

نظام الإمامة والخلافة في الإسلام

قد عرفت أنّ الحكومة ضرورة ملحة ولا تحتاج إلى إقامة برهان وقد وردت

ص : 432


1- الأنفال : 24.
2- المحكم والمتشابه ، للسيد المرتضى : 50.

على لسان الرسول وأئمّة أهل البيت - عليهم السلام - إلماعات إلى ذلك نذكر منها ما يلي :

1. قال النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - : «صنفان من أُمّتي إذا صلحا صلحت أُمّتي ، وإذا فسدا فسدت أُمّتي».

قيل : يا رسول الله ومن هم؟

قال : «الفقهاء والأُمراء». (1)

فالحديث يعرب عن ضرورة وجود الفقيه والأمير في المجتمع الإسلامي ، غير أنّ سعادته رهن كونهما مصلحين لا مفسدين.

2. قال الإمام أمير المؤمنين - عليه السلام - لمّا سمع قول الخوارج : لا حكم إلاّ لله ، قال : «كلمة حقّ يراد بها باطل ؛ نعم انّه لا حكم إلاّ لله ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلاّ لله ، وإنّه لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ، ويبلّغ الله فيه الآجل ، ويُجمع به الفيء ويُقاتل به العدو وتأمَنُ به السبل ، ويُؤخذ به للضعيف من القوي ، حتّى يستريح برّ ، ويُستراحَ من فاجر». (2)

3. وقال الإمام علي بن موسى الرضا - عليه السلام - في حديث طويل حول ضرورة وجود الحكومة في الحياة البشرية : «إنّا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملّة من الملل بقُوا وعاشوا إلاّ بقيّم ورئيس لما لا بدّ لهم منه في أمر الدين والدنيا ، فلم يجز في حكمه الحكيم أن يترك الخلقَ لما يعلم أنّه لا بدّ لهم منه ، ولا قوام لهم إلاّ به ، فيقاتِلونَ به عدوّهم ، ويقسّمون به فيئهم ، ويقيمون به جمعتهم وجماعتهم ، ويمنعُ ظالمهم من مظلومهم». (3)

ص : 433


1- تحف العقول : 42.
2- نهج البلاغة ، الخطبة 40.
3- علل الشرائع : 253.

ولأجل هذه الأهمية التي تحظى بها الحكومة الإسلامية يتعيّن على علماء الإسلام أن يبذلوا غاية الجهد في توضيح معالمها ومناهجها وخطوطها وخصائصها في جميع العصور والعهود.

ص : 434

الأمر الثاني: ملامح الحكومة الإسلامية في الكتاب والسنّة

اشارة

إنّ الحاكم الإسلامي - في منطق القرآن وحسب تشريعه - ليس مجرّد من يأخذ بزمام الجماعة كيفما كان ، ويأمر وينهى بما تشتهيه نفسه ، ويحكم على الناس لمجرّد السلطة وشهوة الحكم ، بل هو ذو مسئولية كبيرة وثقيلة.

وبما انّ هذه الرسالة لا تتسع لبيان أكثر ملامح الحكومة الإسلامية نقتصر على بعض ما ورد في الذكر الحكيم من ملامح مقروناً ببعض الروايات ، ونحيل التفصيل إلى محاضراتنا. (1)

قال سبحانه : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ). (2)

فالمسئوليات الملقاة على عاتق الحاكم في الإسلام عبارة عن :

1. إقامة الصلاة وتوثيق عرى المجتمع الإسلامي بربّه الذي فيه كلّ الخير.

ص : 435


1- انظر كتاب معالم الحكومة الإسلامية : 34 - 47.
2- الحج : 41.

2. إيتاء الزكاة الذي فيه تنظيم اقتصاده ومعاشه.

3. الأمر بالمعروف وإشاعة الخير والصلاح في المجتمع.

4. النهي عن المنكر ومكافحة كلّ ألوان الفساد والانحراف والظلم والزور.

ومن المعلوم أنّ حكومة كهذه توفر للائقين والصالحين وذوي القابليات والمواهب فرصاً مناسبة لإبراز مواهبهم ، وتهيّئ الظروف المساعدة لتنمية استعداداتهم العلمية والفكرية في جميع المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، وتدفعها في طريق التقدّم والازدهار.

وقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لا تصلح الإمامة إلاّ لرجل فيه ثلاث خصال :

وَرَع يحجزه عن معاصي الله

وحِلْم يملك به غضبه

وحسن الولاية على من يلي حتّى يكون لهم كالوالد الرحيم». (1)

وقال - صلى الله عليه وآله وسلم - - في ردّ من قال : بئس الشيء الأمارة - : «نعم الشيء الأمارة لمن أخذها بحلها وحقّها ، وبئس الشيء الأمارة لمن أخذها بغير حقّها وحلها تكون عليه يوم القيامة حسرة وندامة». (2)

مسئولية الحاكم في النصوص الشرعية

1. إنّ الرسول الأعظم - صلى الله عليه وآله وسلم - يتحدث عن مسئوليته تجاه الأُمّة الإسلامية الّتي يأخذ بزمام حكمها ، فيقول : «كلّكم راع وكلّكم مسئول عن رعيته».

فالأمير الذي على الناس ، راع عليهم ، وهو مسئول عنهم.

ص : 436


1- الكافي : 1 / 407.
2- كتاب الأموال : 10.

والرجل راع على أهل بيته ، وهو مسئول عنهم.

وامرأة الرجل ، راعية على بيت زوجها وولدها ، وهي مسئولة عنهم.

«ألا فكلّكم راع وكلّكم مسئول عن رعيّته». (1)

2. ويمكن لنا أن نستجلي ملامح الحكومة الإسلامية وصفات الحاكم الإسلامي من كلام الإمام علي - عليه السلام - الذي يرسم لنا ما على الحاكم الإسلامي الأعلى تجاه الشعب وما على الشعب تجاه الحاكم ، إذ يقول في وضوح كامل :

«وأعظم ما افترض الله من تلك الحقوق ؛ حقُّ الوالي على الرّعيّة وحقُّ الرّعيّة على الوالي ، فريضةً فرض الله سبحانه ، لكلّ على كلّ ، فجعلها نظاماً لأُلفتهم ، وعزّا لدينهم ، فليست تصلح الرّعيّة إلا بصلاح الولاة ، ولا يصلح الولاة إلا باستقامة الرّعيّة.

فإذا أدّت الرّعيّة إلى الوالي حقّه وأدّى الوالي إليها حقّها ، عزّ الحقُّ بينهم ، وقامت مناهج الدّين ، واعتدلت معالم العدل وجرت على أذلالها السُّنن ، فصلح بذلك الزّمان ، وطمع في بقاء الدّولة ويئست مطامع الأعداء ، وإذا غلبت الرّعيّة واليها أو أجحف الوالي برعيّته ، اختلفت هنالك الكلمة ، وظهرت معالم الجور ، وكثر الإدغال في الدّين ، وتركت محاجُّ السُّنن ، فعمل بالهوى ، وعطّلت الأحكام ، وكثرت علل النفوس ، فلا يستوحش لعظيم حقّ عطّل ، ولا لعظيم باطل فعل ، فهنالك تذلُّ الأبرار ، وتعزُّ الأشرار ، وتعظّم تبعات الله عند العباد». (2)

ثمّ إنّ الإمام عليّاً - عليه السلام - يصرّح في هذه الخطبة ذاتها بالحقوق المشتركة والمسئوليات المتقابلة ، إذ يقول : «أمّا بعد ، فقد جعل الله لي عليكم حقّاً بولاية

ص : 437


1- كتاب الأموال للحافظ أبي عبيد سلاّم بن القاسم المتوفى 225 ه ، ص 10.
2- نهج البلاغة : الخطبة 216 ، طبعة عبده.

أمركم ، ولكم عليّ من الحقّ مثل الذي لي عليكم».

ثم يشير الإمام - عليه السلام - في هذه الخطبة إلى واحدة من أنصع القوانين الإسلاميّة ؛ وهو قانون التسوية بين جميع أفراد الأُمّة الإسلاميّة حكّاماً ومحكومين ، رؤساء ومرءوسين ، وزراء ومستوزرين ، وبذلك ينسف فكرة : أنا القانون ، أو أنا فوق القانون ، فيقول - عليه السلام - : «... الحقُّ لا يجري لأحد إلاّ جرى عليه ، ولا يجري عليه إلاّ جرى له»

وعلى هذا ؛ فلا تمييز ولا تفرقة بين الحاكم والمحكوم بل الجميع أمام القوانين الإسلاميّة المدنيّة والجزائيّة وغيرها سواء ، وعلى الحاكم والرئيس أن يؤدّي حقوق الناس كأيّ فرد من أفراد الأُمّة العاديّين ، وبذلك يدعم الإمام ما روي عن الرسول الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - إذ يقول : «النّاس أمام الحقّ سواء».

3. كما يمكن أن نعرف طبيعة الحكومة الإسلامية من خطبة الإمام الحسين الشهيد - عليه السلام - بعد نزوله بأرض كربلاء ، فقال :

«اللهم إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان ، ولا التماساً من فضول الحطام ، ولكن لنري المعالم من دينك ، ونظهر الإصلاح في بلادك ، ويأمن المظلومون من عبادك ، ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك». (1)

إنّ من أهمّ الوثائق التي ترسم لنا بوضوح معالم الحكومة الإسلامية ؛ الوثيقة التي كتبها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ليهود يثرب بعد ما نزل المدينة المنوّرة ، وقد رواه : ابن هشام في سيرته (2) ، وأبو عبيد في كتاب «الأموال» (3) ، وابن كثير في البداية والنهاية. (4) وهي

ص : 438


1- بحار الأنوار : 100 / 80 - 81 ، الحديث 37.
2- سيرة ابن هشام : 1 / 501.
3- الأموال ، ص 517 ، ط مصر.
4- البداية والنهاية : 2 / 224.

وثيقة تاريخية مفصّلة ، فمن أراد فليرجع إلى محالّه.

فالحاكم الإسلامي في الحقيقة هو الحافظ لمصالح الشعب ، وهو كالأب الحنون لعامّة المواطنين حتّى اليهود والنصارى إذا عملوا بشرائط الذمّة ، فهو يسمح للمسلمين بأن يعاملوا غيرهم من الطوائف غير المسلمة بالعدل والرفق والشفقة ما داموا لا يتآمرون على المسلمين ولا يسيئون إلى أمنهم ، ولا يقاتلونهم ، فالإسلام لا يمنع عن البرّ والقسط إليهم ، وإنّما يمنع عن الذين ظاهروا على المسلمين وتآمروا ضدهم ، ترى كلّ ذلك في الآيتين التاليتين :

يقول سبحانه : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). (1)

ويقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ). (2)

ولعلّ النظرة الواحدة إلى تاريخ الحكومات الإسلامية يكشف لنا عفوهم وسماحتهم لكثير من الذمّيين من النصارى واليهود ، وقد كانت الأقلّيات بين المسلمين يرجّحون الحياة تحت ظلّ الإسلام على العيش مع الدول الكافرة ، نذكر هاهنا وثيقة تاريخية ذكرها البلاذري في هذا المجال. قال :

لمّا جمع هرقل للمسلمين الجموع ، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة

ص : 439


1- الممتحنة : 8 - 9.
2- آل عمران : 118.

اليرموك ، ردّوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج ، وقالوا : قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم ، فقال أهل حمص [وكانوا مسيحيّين] : لولايتكم وعدلكم أحبّ إلينا ممّا كنّا فيه من الظلم والغشم ، ولندفعنّ جند هرقل عن المدينة مع عاملكم ، ونهض اليهود فقالوا : والتوراة [أي قسماً بالتوراة] لا يدخل هرقل مدينة حمص إلاّ أن نغلب ونجهد ، فأغلقوا الأبواب وحرسوها ، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود وقالوا : إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنّا عليه [من الظلم والحرمان] ، وإلاّ فانّا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد.

فلمّا هزم الله الكفرة وأظهر المسلمين ، فتحوا مدنهم ، وأخرجوا المقلّسين (1) فلعبوا وأدّوا الخراج». (2)

إنّ الحاكم الإسلامي ، من يشارك شعبه في إفراحه وإتراحه ، وفي آلامه وآماله لا أن يعيش في بروج عاجيّة ، متنعماً في أحضان اللذة رافلاً في أنواع الشهوات ، غير عارف بأحوال من يسوسهم.

يقول الإمام وهو يرسم ملامح الحاكم الإسلامي.

«أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر ، أو أكون أُسوة لهم في جشوبة العيش ، فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها ، أو المرسلة ، شغلها تقممها». (3)

ص : 440


1- التقليس : استقبال الولاة عند قدومهم بضرب الدّف والغناء وأصناف اللهو ، راجع المنجد في اللغة.
2- البلاذري (م 279 ه) ، فتوح البلدان ، ص 143.
3- نهج البلاغة ، الرسالة رقم 45.

الأمر الثالث: أنظمة الحكم في المجتمعات البشريّة

إنّ لنظم الحكم في العالم ألواناً وأنواعاً نذكر عناوينها باختصار :

1. النظام الملكي.

2. الحكومة الأشرافية.

3. حكومة الأغنياء.

4. النظام الجمهوري.

إلى غير ذلك من الأنظمة المعروفة لدى السياسيّين ، غير أنّ المهم لنا في المقام كيفيّة نظام الحكم في الإسلام بعد رحيل الرسول الأكرم ، أمّا في زمانه فلا شكّ أنّه الحاكم المبعوث من الله سبحانه وليس للناس اختيار في ردّه وقبوله. يقول سبحانه : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ). (1)

إنّ البحث عن صيغة الحكومة الإسلامية من أهمّ المباحث لكنّها - للأسف - قلّت العناية بترسيم شكلها ومعالمها وما يرجع إليها من المباحث.

ص : 441


1- الأحزاب : 36.

أمّا الشيعة فبما أنّهم كانوا يمثّلون طول العصور جبهة الرفض والمعارضة للحكومات الجائرة لم تسنح لهم الظروف أن يتحدّثوا عن صيغة الحكومة الإسلامية ، وأمّا السنّة فقد تبعوا في ترسيمها الوضع السائد على الحكومات بعد رحيله - صلى الله عليه وآله وسلم - وزعمت أنّها حكومات إسلامية شرعية من دون أن ترفع النقاب عن واقع الحكومة الإسلامية ، ولأجل ذلك غابت الصورة الحقيقية للحكومة الإسلامية عن أذهان أكثر المسلمين ، ومن حاول أن يستجلي كيفية النظام الإسلامي يجب عليه رعاية الأُمور الثلاثة :

أوّلاً : العودة إلى المصادر الأساسية للإسلام ، ونعني بها الكتاب والسنّة المطهرة.

ثانياً : أن لا يخلطوا بين ما وقع وجرى على الساحة الإسلامية في مجال الحكم ، وبين ما هو مرسوم لنظام الحكم في أصل الشريعة المقدّسة.

ثالثاً : أن لا يخلطوا بين تاريخ المسلمين ونظام الدين ، لأنّ ذلك التاريخ لا يكون ممثّلاً واقعياً لكلّ تعاليم الدين ، ولا مبرزاً لجميع حقائقه.

إنّ التتبع في الكتاب والسنّة يقضي بأنّ الحكومة في الإسلام تقوم بأحد أمرين ، لكلّ واحد ظرفه الخاصّ :

1. التنصيص الإلهي على الحاكم الأعلى باسمه وشخصه. وهذا فيما لو كان هناك نصّ أو نصوص على حاكمية شخص معيّن على الأُمّة كما في النبيّ الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - باتّفاق المسلمين ، أو الأئمّة المعصومين حسب ما تذهب إليه الشيعة.

ومن المعلوم ، أنّه لو كان نصّ لما جاز العدول عنه إلى الطريق الآخر الذي سنشير إليه.

2. التنصيص الإلهي على صفات الحاكم الأعلى ، وشروطه ، ومواصفاته

ص : 442

الكليّة فيما إذا لم يكن هناك تنصيص على الشخص ، أو كان لكن الظروف تحول دون الوصول إليه والانتفاع بقيادته.

وبما انّ البحث في الرسالة مركّز على بيان صيغة الحكومة بعد رحيل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا مطلقاً حتّى يشمل البحث الأحوال الحاضرة ، فتتحدد الدراسة ببيان نظام الحكم بعد وفاة الرسول الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - فقط وأمّا ما هي صيغة الحكم في الأحوال الحاضرة فهو رهن كتاب مفرد قمنا ببيانها في محاضراتنا. (1)

ص : 443


1- لاحظ مفاهيم القرآن ، الجزء الثاني تجد فيه بغيتك.

الأمر الرابع: التنصيص الإلهي على الحاكم باسمه وشخصه

اشارة

لا شكّ أنّ النبيّ الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - كان حاكماً منصوباً من جانبه سبحانه ولم يختلف فيه أحد من المسلمين إنّما الاختلاف في صيغة الحكومة الإسلامية ، بعد رحيله ، فهل هي كانت على غرار حكومة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأنّ الله سبحانه نصب شخصاً أو أشخاصاً معيّنين للحكومة على لسان نبيّه ، أو أنّ الحكومة بعده - صلى الله عليه وآله وسلم - على غرار الطريق الثاني ، أعني : التنصيص على الصفات والشروط الكليّة اللازمة للحاكم ، وحث الأُمّة على تعيين الحاكم من عند أنفسهم حسب تلك الصفات والشروط وعلى ضوء تلكم المواصفات؟

فهناك قولان ، ذهبت إلى كلّ واحد طائفة من المسلمين.

إنّ طائفة كبيرة من المسلمين ذهبت إلى أنّ صيغة الحكومة بعد الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - كانت حكومة تنصيصية إلهية على غرار حكومة النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - والله سبحانه نصّ على أسماء من يجب أن يخلفوا نبيّه على لسان نبيّه ، وأوجب طاعتهم وحرّم مخالفتهم.

ويمكن استجلاء الحقيقة بالطرق الثلاثة التالية :

1. هل المصالح كانت تقتضي التنصيص على الاسم ، أو كانت تقتضي

ص : 444

التنصيص على الوصف وترك الاختيار للأُمّة؟

2. إنّ الفراغ الذي يحدث برحيل النبيّ الأكرم هل يسدّ بانتخاب الأُمّة ، أو لا يسدّ إلاّ بالتنصيص على فرد معيّن؟

3. ما هو المرتكز في أذهان المسلمين في حياة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وبعد رحيله؟

وها نحن نأخذ كلّ واحد من هذه الطرق بالبحث والتحليل.

ص : 445

1- المصالح العالية تقتضي التنصيص على الاسم

اشارة

كانت المصالح بعد رحيل النبي مقتضية لأن ينصب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - شخصاً مكانه ، وكان في ترك الأمر إلى رأي الأُمّة مفسدة ، ويعلم ذلك من خلال دراسة أمرين

أ: الأُمّة الإسلامية والخطر الثلاثي

كانت الأُمّة الإسلامية قُبيل وفاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - محصورة بأكبر امبراطوريتين عرفهما تاريخ تلك الفترة. امبراطوريتان كانتا على جانب كبير من القوّة والبأس والقدرة العسكرية المتفوّقة ممّا لم يتوصّل المسلمون إلى أقلّ درجة منها ... وتلك الامبراطوريتان هما : الروم وإيران. هذا من الخارج.

وأمّا من الداخل ، فقد كان الإسلام والمسلمون يُعانون من جماعة المنافقين الذين كانوا يشكّلون العدوّ الداخلي المبطّن (أو ما يسمى بالطابور الخامس).

كان المنافقون يتربصون بالنبي الدوائر ، حتّى أنّهم كادوا له ذات مرّة ، وأرادوا أن يجفلوا به بعيره في العقبة عند عودته من حجّة الوداع ، وربّما اتّفقوا مع

ص : 446

اليهود والمشركين لتوجيه الضربات إلى الكيان الإسلامي من الداخل تخلّصاً من هذا الدين الذي هدّد مصالحهم ، ولقد كان المنافقون ولا يزالون أشدّ خطراً من أيّ شيء آخر على الإسلام ، وذلك لأنّهم كانوا يوجّهون ضرباتهم بصورة ماكرة وخفيّة ، وبنحو يخفى على العاديين من الناس.

لقد تصدى الذكر الحكيم لفضح المنافقين والتشهير بجماعتهم وخططهم في أكثر السور القرآنية ، مثل البقرة ، آل عمران ، المائدة ، الأنفال ، التوبة ، العنكبوت ، الأحزاب ، محمّد ، الفتح ، المجادلة ، الحديد ، والحشر.

كما نزلت في حقّهم سورة خاصة باسم المنافقين ، ولا يسعنا نقل معشار ما تآمروا به في الفترة المدنية ، ويكفي في ذلك قوله سبحانه في حقّهم : (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ). (1)

ويشير أيضاً إلى تآمرهم ليلاً ونهاراً حيث كانوا يبيّتون خلاف ما يظهرونه ويبدونه أمام النبيّ كما يقول : (وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ). (2)

وكان من المحتمل جدّاً أن يتفق هذا الخطر الثلاثي - الناقم على الإسلام - على محو الدين وهدم كلّ ما بناه الرسول طوال ثلاثة وعشرين عاماً من الجهود والمتاعب ، وتضييع كلّ ما قدّمه المسلمون من تضحيات في سبيل إقامته.

إنّ احتمال قيام المؤامرات واتّحاد قوى الشرك مع الطابور الخامس لم يكن يوم ذاك غائباً عن ذهنية المشرِف على الأوضاع السياسية فضلاً عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ومثل هذا يفرض على القائد العليم أن يدحض جميع تلك المخططات والمؤامرات

ص : 447


1- التوبة : 48.
2- النساء : 81.

بتنصيب خليفة من بعده عارفاً بالكتاب والسنّة ، شُجاعاً مِقْداماً ، واعياً بالأوضاع السياسية ، حازماً ، يمسك بزمام الأُمور ويقود المجتمع الإسلامي إلى ساحل الأمان وهذا بخلاف ما لو ارتحل دون أن يفكر بمستقبل الحكومة الإسلامية والمؤامرات والفتن التي تحدق بها ، ويدلي بالأمر إلى الأُمّة كي تنتخب لها قائداً من بعده ، فانّ اتخاذ مثل هذا الموقف كان على خلاف مصالح الأُمّة ، وبعيداً عن ذهنية من كان محيطاً بالأوضاع الداخلية لأُمّته والنزاعات الطائفية التي كانت قائمة على قدم وساق والتي ربما كانت تنتهي إلى حروب داخلية تجعل الأُمّة عرضة لأطماع الأعداء التوسعية التي يحكي عنها قوله سبحانه : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ). (1)

ب : النظام القبلي يمنع من الاتفاق على قائد

لقد كان من أبرز ما يتميز به المجتمع العربي قبل الإسلام ، هو النظام القبلي ، والتقسيمات العشائرية التي كانت تحتلّ - في ذلك المجتمع - مكانة كبرى ، وتتمتّع بأهميّة عظيمة.

فلقد كان شعب الجزيرة العربية ، غارقاً في هذا النظام الذي كان سائداً في كلّ أنحائها.

ولقد كان للقبيلة أكبر الدور في الحياة العربية - قبل الإسلام - وعلى أساسها كانت تدور المفاخرات وتنشد القصائد ، وتُبنى الأمجاد ، كما كانت هي منشأ أكثر الحروب وأغلب المنازعات التي ربما كانت تستمرّ قرناً أو أزيد ، كما حدث بين الأوس والخزرج ، أكبر قبيلتين عربيّتين في يثرب (المدينة) كلّفهم مئات القتلى قبل

ص : 448


1- الطور : 30.

دخول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - المدينة.

ورغم ما أوجد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في ضوء التعاليم الإسلامية من تحولات عظيمة في حياة العرب إلاّ أنّ أكثرها كانت تتعلّق بقضايا عقائدية ومسائل أخلاقية ، لا بالحياة القبلية ، ولم يكن من الممكن أن ينقلب النظام القبلي العربي في خلال ثلاث وعشرين عاماً ويتبدل كلّيّاً. بل كان التعصب للقبيلة ولشيخها هو المظهر الأتم للحياة القبلية.

وعلى ضوء ذلك فهل يجوز في منطق العقل أن يترك القائد - كالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - - أُمّته المفطورة على التعصبات القبلية والاختلافات العرفيّة دون أن يعين مصير الخلافة بتنصيب خليفة من بعده ، وفي تعيينه قطع لدابر الاختلاف والفرقة ، وسدّ لأفواه الطامعين بالخلافة؟!

وأوضح دليل على التعصبات القبلية في الشئون الاجتماعية ولا سيما في الخلافة العامة ، هو الخلاف والتشاجر الذي ظهر في السقيفة حيث سارعت كلّ قبيلة إلى ترشيح زعيمها للخلافة متجاهلة كلّ المبادئ والتعاليم الإسلامية ، فهذا هو الناطق بلسان الأنصار يرفع عقيرته في السقيفة ويقول :

نحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منّا وقد دفّت دافّة من قومكم (1) إذ هم يريدون أن يجتازون (2) ويغصبونا الأمر.

وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على رسوخ التعصبات القبلية في نفوسهم.

أفيصحّ لقائد محنك كالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يترك الأمر لقوم هذا مبلغ تفكيرهم وتغلغلهم في العصبية القبلية متجاهلة كل المعايير الإسلاميّة في الحاكم

ص : 449


1- جاء جماعة ببطء.
2- أي يدفعوننا من أصلنا.

الإسلامي.

وهذا هو أحد المهاجرين الحاضرين في السقيفة يتعصّب لقريش ويقول :

«... لن تعرف العرب هذا الأمر (أي الزعامة) إلاّ لهذا الحيّ من قريش ، هم أوسط العرب نسباً وداراً ...».

ومن قرأ تاريخ السقيفة والمناقشات الدائرة بين الحاضرين (الأوس والخزرج وجمع من المهاجرين) يلاحظ كيف تأجّجت نار العصبية بين هؤلاء بحيث أخذ كلّ يتعصّب لقبيلته دون أن ينظر إلى مصالح الإسلام والمسلمين.

إلى هنا تبين انّ المصلحة كانت تكمن في التنصيب للخلافة دون الإدلاء بها إلى الأُمّة ، وقد أوضحنا حالها من خلال دراسة أمرين :

1. الخطر الثلاثي المُحدِق بالإسلام والمسلمين.

2. التعصبات القبلية التي تحول دون الاتّفاق على شيء وتؤجّج نار الطائفية بين المسلمين.

ونبحث الآن في العامل الثاني الذي يدعم نظرية التنصيب من جانب النبيّ بوحي من الله.

ص : 450

2- الفراغات الهائلة لا تسدّ إلاّ بالتنصيص

اشارة

إنّ النبيّ الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - ، كان يملأ فراغاً كبيراً وعظيماً في حياة الأُمّة الإسلامية ، ولم تكن مسئولياته وأعماله مقتصرة على تلقّي الوحي الإلهي ، وتبليغه إلى الناس فحسب ، بل كان يقوم بالأُمور التالية :

1. يُفسِّر الكتاب العزيز ، ويشرح مقاصده وأهدافه ، ويكشف رموزه وأسراره.

2. يُبيِّن أحكام الموضوعات التي كانت تَحْدُثُ في زمن دعوته.

3. يَرُدّ على الحملات التشكيكية ، والتساؤلات العويصة المريبة التي كان يثيرها أعداء الإسلام من يهود ونصارى.

4. يصون الدين من التحريف والدسّ ، ويراقب ما أخذه عنه المسلمون من أُصول وفروع ، حتّى لا تَزِلّ فيه أقدامهم.

وهذه الأُمور الأربعة كان النبي يمارسها ويملأ بشخصيته الرسالية ثغراتها. ولأجل جلاء الموقف نوضح كلّ واحد من هذه الأُمور.

ص : 451

أمّا الأمر الأوّل : فيكفي فيه قوله سبحانه : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (1) فقد وصف النبي في هذه الآية بأنّه مبيّن لما في الكتاب ، لا مجرّد تال له فقط.

وقوله سبحانه : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) (2) فكان النبي يتولى بيان مُجْمَلِهِ ومُطْلَقِهِ ومُقَيَّده ، بقدر ما تتطلبه ظروفه.

والقرآن الكريم ليس كتاباً عادياً ، على نسق واحد ، حتّى يستغني عن بيان النبي ، بل فيه المُحكَم والمتشابه ، والعام والخاص ، والمطلَق والمقيَّد ، والمنسوخ والناسخ ، يقول الإمام علي - عليه السلام - : «وخلّف (النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -) فيكم ما خلّفت الأنبياء في أُممها : كتاب ربّكم فيكم ، مبيّناً حلالَه وحرامه ، وفرائضه وفضائله ، وناسخه ومنسوخه ، ورُخَصَه وعزائمه ، وخاصّه وعامّه ، وعِبره وأمثاله ، ومُرسله ومَحْدُدَهُ ، ومحكمه ومتشابهه ، مفسّراً مجمله ، ومبيِّناً غوامضه». (3)

وأمّا الأمر الثاني : فهو غني عن التوضيح ، فإنّ الأحكام الشرعية وصلت إلى الأُمّة عن طريق النبي ، سواء أكانت من جانب الكتاب أو من طريق السنّة.

وأمّا الأمر الثالث : فبيانه أنّ الإسلام قد تعرض ، منذ ظهوره ، لأعنف الحملات التشكيكية ، وكانت تتناول توحيده ورسالته وإمكان المعاد ، وحشر الإنسان ، وغير ذلك. وهذا هو النبي الأكرم ، عند ما قدم عليه جماعة من كبار النصارى لمناظرته ، استدلّوا لاعتقادهم بنبوة المسيح ، بتولده من غير أب ، فأجاب

ص : 452


1- النحل : 44.
2- القيامة : 1916.
3- نهج البلاغة ، الخطبة 1.

النبي بوحي من الله سبحانه ، بأنّ أمر المسيح ليس أغرب من أمر آدم حيث ولد من غير أب ولا أُمّ قال سبحانه : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). (1)

وأنت إذا سبرت تفاسير القرآن الكريم ، تقف على أنّ قسماً من الآيات نزلت في الإجابة عن التشكيكات المتوجهة إلى الإسلام من جانب أعدائه من مشركين ويهود ونصارى وقد وردت حول المعاد جملة كثيرة من الشبهات التي كانوا يعترضون بها على عقيدة المعاد ، وأجاب القرآن عنها.

وأمّا الأمر الرابع : فواضح لمن لاحظ سيرة النبي الأكرم ، فقد كان هو القول الفصل وفصل الخطاب ، إليه يفيء الغالي ، ويلحق التالي ، فلم يُرَ إبّان حياته مذهب في الأُصول والعقائد ، ولا في التفسير والأحكام. وكان - بقيادته الحكيمة - يرفع الخصومات والاختلافات ، سواء فيما يرجع إلى السياسة أو غيرها. (2)

هذه هي الأُمور التي مارسها النبي الأكرم أيّام حياته ، ومن المعلوم أنّ رحلته وغيابه صلوات الله عليه ، يخلّف فراغاً هائلاً ومفزعاً في هذه المجالات الأربعة ،فيكون التشريع الإسلامي حينئذ أمام أُمور ثلاثة :

الأوّل : أن لا يبدي الشارع اهتماماً بسدّ هذه الفراغات الهائلة التي ستحدث بعد الرسول ، ورأى تركَ الأُمور لتجري على عَواهنها.

ص : 453


1- آل عمران : 59. ولاحظ سورة الزخرف : 6157.
2- يكفي في ذلك ملاحظة غزوة الحديبية ، وكيف تغلّب بقيادته الحكيمة على الاختلاف الناجم ، من عقد الصلح مع المشركين وما نجم في غزوة بني المصطلق من تمزيق وحدة الكلمة ، أو ما ورد في حجّة الوداع ، حيث أمر من لم يَسُق هدياً. بالإحلال ، ونجم الخلاف من بعض أصحابه ، فحسمه بفصله القاطع.

الثاني : أن تكون الأُمّة ، قد بلغت بفضل جهود صاحب الدعوة في إعدادها ، حدّاً تقدر معه بنفسها على سدّ ذلك الفراغ.

الثالث : أن يستودع صاحب الدعوة ، كلّ ما تلقاه من المعارف والأحكام بالوحي ، وكلّ ما ستحتاج إليه الأُمّة بعده ، يستودعه شخصية مثالية ، لها كفاءة تَقَبُّلِ هذه المعارف والأحكام وتحمُّلها ، فتقوم هي بسد هذا الفراغ بعد رحلته صلوات الله عليه.

أمّا الاحتمال الأوّل : فساقط جداً ، لا يحتاج إلى البحث ، فإنّه لا ينسجم مع غرض البعثة ، فإنّ في ترك سدّ هذه الفراغات ضياعاً للدين والشريعة ، وبالتالي قطع الطريق أمام رُقيّ الأُمّة وتكاملها فيبقى أمامنا احتمالان ندرسهما تالياً.

دراسة الاحتمال الثاني

أن تكون الأُمّة قد بلغت بفضل جهود صاحب الدعوة في إعدادها حدّاً تقدر معه بنفسها على سدِّ ذلك الفراغ. غير أنّ التاريخ والمحاسبات الاجتماعية يبطلان هذا الاحتمال ويثبتان انّه لم يقدّر للأُمّة بلوغ تلك الذروة لتقوم بسدّ هذه الثغرات التي خلّفها غياب النبيّ الأكرم ، لا في جانب التفسير ولا في جانب الأحكام ، ولا في جانب ردّ التشكيكات ودفع الشبهات ، ولا في جانب صيانة الدين عن الانحراف.

أمّا في جانب التفسير ، فيكفي وجود الاختلاف الفاحش في تفسير آيات الذكر الحكيم حتى فيما يرجع إلى أعمال المسلمين اليومية كما هو الحال في تفسير آية الوضوء.

ص : 454

وأمّا في مجال الأحكام ، فيكفي في ذلك الوقوف على أنّ بيان الأحكام الدينيّة حصل تدريجاً على ما تقتضيه الحوادث والحاجات الاجتماعية في عهد الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ومن المعلوم انّ هذا النمط كان مستمرّاً بعد الرسول ، غير انّ ما ورثه المسلمون منه - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يكن كافياً للإجابة عن ذلك ، أمّا الآيات القرآنية في مجال الأحكام فهي لا تتجاوز ثلاثمائة آية ، وأمّا الأحاديث في هذا المجال ، فالذي ورثته الأُمّة لا يتجاوز خمسمائة حديث ، وهذا القدر لا يفي بالإجابة عن جميع الموضوعات المستجدّة.

ولا نعني من ذلك انّ الشريعة الإسلامية ناقصة في إيفاء أغراضها التشريعية وشمول المواضيع المستجدّة ، بل المقصود انّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يراعي في إبلاغ الحكم حاجة الناس ومقتضيات الظروف الزمنية ، فلا بدّ في إيفاء غرض التشريع على وجه يشمل المواضيع المستجدة والمسائل المستحدثة أن يستودع أحكام الشريعة من يخلفه ويقوم مقامه.

وأمّا في مجال ردّ الشبهات والتشكيكات وإجابة التساؤلات ، فقد حصل فراغ هائل بعد رحلة النبيّ من هذه الناحية ، فجاءت اليهود والنصارى تترى ، يطرحون الأسئلة ، حول أُصول الإسلام وفروعه ، ولم يكن في وسع الخلفاء آنذاك الإجابة الصحيحة عنها ، كما يشهد بذلك التاريخ الموجود بأيدينا.

وأمّا في جانب صيانة المسلمين عن التفرقة ، والدّين عن الانحراف ، فقد كانت الأُمّة الإسلامية في أشدّ الحاجة إلى من يصون دينها عن التحريف وأبناءها عن الاختلاف ، فإنّ التاريخ يشهد على دخول جماعات عديدة من أحبار اليهود ورهبان النصارى ومؤبدي المجوس بين المسلمين ، فراحوا يدسّون الأحاديث الإسرائيلية والأساطير النصرانية والخرافات المجوسية بينهم ، ويكفي في ذلك أن

ص : 455

يذكر الإنسان ما كابده البخاري من مشاقّ وأسفار في مختلف أقطار الدولة الإسلامية ، وما رواه بعد ذلك ، فإنّه ألفى الأحاديث المتداولة بين المحدثين في الأقطار الإسلامية ، تربو على ستمائة ألف حديث ، لم يصحّ لديه منها أكثر من أربعة آلاف ، وكذلك كان شأن سائر الذين جمعوا الأحاديث وكثير من هذه الأحاديث التي صحّت عندهم كانت موضع نقد وتمحيص عند غيرهم. (1)

فهذه المجعولات على لسان الوحي ، تقلع الشريعة من رأس ، وتقلب الأُصول ، وتتلاعب بالأحكام ، وتشوّش التاريخ ، أو ليس هذا دليلاً على عدم وفاء الأُمّة بصيانة دينها عن الانحراف والتشويش؟!

هذا البحث الضافي يثبت حقيقة ناصعة ، وهي عدم تمكّن الأُمّة ، مع ما لها من الفضل ، من القيام بسدِّ الفراغات الهائلة التي خلّفتها رحلة النبيّ الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - ويبطل بذلك الاحتمال الثاني تجاه التشريع الإسلامي بعد عصر الرسالة. فيتعين الاحتمال الثالث الذي ندرسه تالياً.

دراسة الاحتمال الثالث

أن يستودع صاحب الدعوة ، كلّ ما تلقّاه من المعارف والأحكام بالوحي ، وكلّ ما ستحتاج إليه الأُمّة بعده ، شخصيّة مثالية ، لها كفاءة تقبُّل هذه المعارف والأحكام وتحمّلها ، فتقوم هي بسدِّ هذا الفراغ بعد رحلته - صلى الله عليه وآله وسلم - وبعد بطلان الاحتمالين الأوّلين لا مناص من تعيُّن هذا الاحتمال ، فإنّ وجود إنسان مثالي كالنبيّ في المؤهّلات ، عارف بالشريعة ومعارف الدين ، ضمان لتكامل المجتمع ، وخطوة ضرورية في سبيل ارتقائه الروحي والمعنوي ، فهل يسوغ لله سبحانه أن

ص : 456


1- لاحظ حياة محمد ، لمحمّد حسين هيكل ، الطبعة الثالثة عشرة : 5049.

يهمل هذا الأمر الضروري في حياة الإنسان الدينية؟

إنّ الله سبحانه جهَّز الإنسان بأجهزة ضرورية فيما يحتاج إليها في حياته الدنيوية المادية ، ومع ذلك كيف يعقل إهمال هذا العنصر الرئيسي في حياته المعنوية والدينية؟!

يقول المفكّر الإسلامي الكبير ابن سينا :

إنّه تعالى قد زوّده بإنبات الشعر على أشفار عينيه وحاجبيه وتقعير الأخمص من القدمين لكي تكون حياته لذيذة غير متعبة ، فهل تكون حاجته إلى هذه الأُمور أشد من حاجته إلى الإمام المنصوب من الله الذي يضمن كماله بعلمه وتقواه ، وقيادته الحكيمة. (1)

ومن الواضح انّ التعرف على هذا الشخص الذي توفرت فيه مؤهلات غيبية لا يحصل إلاّ عن طريق تنصيبه من قبل النبي بأمر من الله سبحانه ، وهذا ما يدعم نظرية التنصيب مكان انتخاب الأُمّة.

ص : 457


1- كتاب النجاة ، ص 304.

3- ما هو مرتكز الصحابة في صيغة الحكومة؟

اشارة

لقد دلّت المحاسبات العقلية والاجتماعية السابقة على لزوم تنصيب الإمام من جانب الله تعالى ، وأثبتت أن إدلاء الأمر إلى نظر الأُمّة وانتخابها وتعيينها خطأ فاضح ، يأباه العقل وترفضه المصالح العامة وتعارضه المحاسبات الاجتماعية.

وهناك جانب آخر يسلط الضوء على نظرية الإمامة وهو تصور النبي وأصحابه للإمامة والخلافة.

أمّا الأوّل فالقرائن والشواهد تؤكد على أنّ مسألة الإمامة كانت عندهم تنصيبية وفيما ننقل من الشاهدين تصريح بذلك :

1. لما عرض الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - نفسه على بني عامر الذين جاءوا إلى مكة في موسم الحجّ ودعاهم إلى الإسلام ، قال له كبيرهم؟ أرأيت إن بايعناك على أمرك ثمّ أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟

فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : «الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء». (1)

ص : 458


1- السيرة النبوية لابن هشام : 2 / 424 - 425.

2. لما بعث النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - سليط بن عمرو العامري إلى ملك اليمامة الذي كان نصرانياً ، يدعوه إلى الإسلام وقد كتب معه كتاباً ، فقدم على هوذة ، فأنزله وحباه وكتب إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول فيه : ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله ، وأنا شاعر قومي وخطيبهم ، والعرب تهاب مكاني فاجعل لي بعض الأمر أتّبعك.

فقدم سليط على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأخبره بما قال هوذة ، وقرأ كتابه ، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لو سألني سيابة من الأرض ما فعلت. باد وباد ما في يده». (1)

إنّ هذين النموذجين التاريخيين للّذين لم تمسّهما أيدي التحريف والتغيير يدلاّن خصوصاً الأوّل بوضوح كامل على تصور النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن مسألة الخلافة والقيادة من بعده ، فهما يدلاّن على أنّ هذه المسألة كانت إذا طرحت على النبي ، وسئل عمّن سيخلفه في أمر قيادة الأُمّة كان يتجنب إرجاعها إلى نفسه أو إلى نظر الأُمّة ، بل يرجع أمرها إلى الله تعالى ، أو يتوقّف في إبداء النظر فيه على الأقل.

وأمّا تصوّر الصحابة لمسألة الخلافة والمرتكز في أذهانهم فقد كان يدور حول التنصيب ، أي سدّ الفراغ بتنصيب إمام سابق على إمامة إمام لاحق ، وما كان يدور في خلدهم ، انتخاب الشعب ، أو أهل الحلّ والعقد من الأُمّة ، وإليك شواهد على ذلك.

ما هو المرتكز في أذهان الصحابة؟

إنّ المتتبع في تاريخ الصحابة والخلفاء والذين تعاقبوا على مسند الخلافة بعد النبي ، يرى بوضوح انّ الطريقة التي اتّبعها أُولئك الصحابة ، والخلفاء كانت هي الطريقة الانتصابية - وإن كان الانتصاب من جانب شخص لا من الله

ص : 459


1- طبقات ابن سعد الكبرى : 1 / 262.

سبحانه - لا الانتخابية الشعبية.

فالخليفة السابق كان يعين الخليفة اللاحق ، إمّا مباشرة أو بتعيين أشخاص يتولون تعيين الخليفة والاتفاق عليه ، ولم يترك أحد أُولئك أمر القيادة إلى نظر الأُمّة وإرادتها واختيارها ، أو يتكل على آراء المهاجرين والأنصار ، أو أهل الحلّ والعقد ليختاروا مَن يشاءون للخلافة والامرة.

فمن يلاحظ تاريخ الصدر الأوّل يرى انّ خلافة عمر ابن الخطاب تمت بتعيين من أبي بكر.

1. روى ابن الأثير في كامله أنّ أبا بكر أملى على عثمان عهده ، ولكنّه غشي عليه أثناء الإملاء ، فأكمله عثمان وكتب فيه استخلاف عمر من عند نفسه ، ثمّ إنّه لما أفاق أبو بكر من غشيته ، وافق على ما كتبه عثمان ، وإليك نصّ ما كتبه ابن الأثير :

إنّ أبا بكر أحضر عثمان بن عفان ليكتب عهده إلى عمر فقال له : اكتب بسم الله الرّحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين ، أمّا بعد ... ثمّ أُغمي عليه ... فكتب عثمان أمّا بعد : فانّي قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم ألكم خيراً.

ثمّ أفاق أبو بكر فقال : اقرأ عليّ ، فقرأ عليه ، فكبّر أبو بكر ، وقال : أراك خفت أن يختلف الناس ان متُّ في غشيتي.

قال عثمان : نعم.

قال : جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله.

فلما كتب العهد أمر به أن يقرأ على الناس فجمعهم ، وأرسل الكتاب مع مولى له ومعه عمر ، وكان عمر يقول للناس : انصتوا واسمعوا لخليفة رسول الله

ص : 460

انّه لم يألكم نصحاً.

فسكت الناس فلما قرأ عليهم الكتاب سمعوا له وأطاعوا. (1)

وأمّا استخلاف عثمان فقد ذكره المؤرخون ونقتصر على نصّ ابن الأثير في كامله ، قال :

2. انّ عمر بن الخطاب لما طعن قيل له : يا أمير المؤمنين لو استخلفت؟ فقال : مَنْ استخلف؟ لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته ، ولو كان سالم مولى حذيفة حياً لاستخلفته.

فقال رجل : أدلك عليه عبد الله بن عمر ، فقال عمر : قاتلك الله كيف استخلف من عجز عن طلاق امرأته ... إلى أن قال :

عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - انّهم من أهل الجنة ، وهم : علي وعثمان وعبد الرحمن وسعد والزبير بن العوام وطلحة بن عبد الله. فلما أصبح عمر دعا علياً وعثمان وسعداً وعبد الرحمن والزبير ، فقال لهم :

إنّي نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم ، ولا يكون هذا الأمر إلاّ فيكم ، وقد قبض رسول الله وهو عنكم راض ، وانّي لا أخاف الناس عليكم إن استقمتم ، ولكنّي أخافكم فيما بينكم فيختلف الناس ، فانهضوا إلى حجرة عائشة بإذنها فتشاوروا فيها ، واختاروا رجلاً منكم ، فإذا مت فتشاوروا ثلاثة أيّام ، وليصلّ بالناس صهيب ، ولا يأتي اليوم الرابع إلاّ وعليكم أمير.

فاجتمع هؤلاء الرهط في بيت حتّى يختاروا رجلاً منهم.

قال لصهيب : صلّ بالناس ثلاثة أيام وأدخل هؤلاء الرهط بيتاً وقم على

ص : 461


1- الكامل في التاريخ : 2 / 292 ؛ طبقات ابن سعد الكبرى : 3 / 200.

رءوسهم ، فإن اجتمع خمسة وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف ، وإن اتّفق أربعة وأبى اثنان فاضرب رءوسهما ، وإن رضي ثلاثة رجلاً وثلاثة رجلاً ، فحكّموا عبد الله بن عمر ؛ فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر ، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع فيه الناس. (1)

وعلى هذه السيرة جرى أصحاب السياسة بعد حياة الرسول ولم يكن عندهم أيّ رؤى في تعيين الخليفة لا بالشورى ولا ببيعة أهل الحل والعقد ، بل كان التنصيص عندهم هو الطريق الوحيد ، لكن لا من الله سبحانه بل من جانب الخليفة الذي كان يلفظ أنفاسه الأخيرة.

3. روى المؤرخون انّه لما اغتيل عمر بن الخطاب وأحسّ بالموت ، أرسل ابنه عبد الله إلى عائشة واستأذن منها أن يدفن في بيتها مع رسول الله ومع أبي بكر ، فأتاها عبد الله ، فأعلمها ، فقالت : نعم وكرامة ، ثمّ قالت : يا بُني ، أبلغ عمر سلامي وقل له ، لا تدع أُمّة محمد بلا راع ، استخلف عليهم ، ولا تدعهم بعدك هملا ، فانّي أخشى عليهم الفتنة ، فأتاه فأعلمه. (2)

4. انّ عبد الله بن عمر دخل على أبيه قبيل وفاته فقال : إنّي سمعت الناس يقولون مقالة ، فآليت أن أقولها لك ، وزعموا انّك غير مستخلف وانّه لو كان لك راعي إبل أو غنم ثمّ جاءك وتركها لرأيت ان قد ضيّع فرعاية الناس أشد. (3)

5. قدم معاوية المدينة لأخذ البيعة من أهلها لابنه يزيد ، فاجتمع مع عدّة من الصحابة ، وأرسل إلى عبد الله بن عمر فأتاه وخلا به ، وكلمه بكلام ، وقال : انّي كرهت أن أدع أُمّة محمد بعدي كالضأن لا راعي لها. (4)

ص : 462


1- الكامل في التاريخ : 3 / 35.
2- الإمامة والسياسة : 1 / 32.
3- حلية الأولياء : 1 / 44.
4- الإمامة والسياسة : 1 / 168.
الآن حصحص الحق

إنّ هذا البحث الضافي المقرون بالشواهد والدلائل التاريخية يثبت بوضوح انّ نظام الحكم بعد رحيل النبي كان قائماً على التنصيب من الله سبحانه كتنصيبه للنبي ، وتشهد على ذلك الأُمور المتقدّمة التي نأتي بخلاصتها ليستنتج منها النتيجة المبتغاة ، وإليك إعادة الدلائل إجمالاً :

1. انّ الدولة الإسلامية الفتية كانت محاطة بعد وفاة النبي بأعداء في الداخل والخارج ، فمقتضى المصلحة العامة في تلك الظروف الحرجة تعيين الإمام لئلاّ تُترك الدولة بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - عرضة للاختلاف وبالتالي تمكن أعداءها منها.

2. انّ حياة العرب في عاصمة الإسلام وخارجها كانت حياة قبلية والتعصبات العشائرية لا تزال راسخة في نفوسهم ، وترك أمر الخلافة إلى مجتمع هذا حاله يؤدّي إلى التشاغل والاختلاف وبالتالي إلى القتل والدمار.

3. انّ الفراغات الهائلة الطارئة بعد رحيل النبي على ما تقدم لا يسد إلاّ بتنصيب من يكون له مؤهلات علمية ونفسية يقوم بوظائف النبي في تلك المجالات دون أن يكون نبياً أو رسولاً والذي يتمتع بهذه المؤهلات يجب أن يكون خاضعاً لرعاية إلهية ولا يعرّف إلاّ من جانبه.

4. انّ تصور النبي للخلافة الإسلامية هو إيكالها إلى الله سبحانه.

5. كما أنّ تصور الصحابة وسيرتهم في الخلافة هي سيرة التنصيب وكانوا يحتجون بأنّ في تركه تعريضاً للأُمّة للهلاك والدمار وفريسة للذئاب والأعداء.

وهل يمكن أن يلتفت الخلفاء وأُمّ المؤمنين إلى ضرورة التنصيب صيانة للأُمّة

ص : 463

عن وقوعها فريسة للأعداء ولا يلتفت إليه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي أُوتي من العلم ما أُوتي ، ويقول سبحانه في حقّه : (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً). (1)

كلّ ذلك يعرب عن أنّ القائد الحكيم بأمر من الله سبحانه سلك مسلكاً ونهج منهجاً يطابق هذه الأُصول والمقدمات وما خالفها وعيّن القائد بعده في حياته وأعلنه للأُمّة في موسم أو مواسم.

هذا ما أوصلنا إليه السبر والتقسيم والمحاسبة في الأُمور الاجتماعية والسياسية فيجب علينا عندئذ الرجوع إلى الكتاب والسنّة لنقف ونتعرف على ذلك القائد المنصوب ، ونذعن بأنّ عمل النبيّ كان مرافقاً لهذه الأُصول العقلائية التي تقدّمت. وهذا ما سيوافيك بعد دراسة نظرية مبدئية الشورى للحكم.

ص : 464


1- النساء : 113.

الأمر الخامس: هل الشورى أساس الحكم والخلافة؟

اشارة

ربما يتصوّر بعض الكتاب الجدد انّ نظام الحكم في الإسلام هو الشورى ، وقد حاول غير واحد من المعاصرين صبّ صيغة الحكومة الإسلامية على أساس المشورة بجعله بمنزلة الاستفتاء الشعبي بملاحظة انّه لم يكن من الممكن بعد وفاة النبي مراجعة كلّ الأفكار لقلّة وسائل المواصلات فاكتفوا بالشورى ، واستدلّوا عليه بآيتين كريمتين :

1. (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ). (1)

2. (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ). (2)

هذه النظرية وإن كانت لها روعة خاصة خصوصاً وانّها تتجاوب مع روح العصر لكن الواقع على خلافها لما عرفت من أنّ عمر بن الخطاب أخذ بزمام الحكم بتعيين الخليفة الأوّل ، وانّ الثالث استتب له الأمر بشورى سداسية عيّنها نفس الخليفة ، حتّى أنّ الخليفة الأوّل أخذ زمام الحكم ببيعة نفرات قليلة ، وهم :

ص : 465


1- آل عمران : 159.
2- الشورى : 38.

عمر بن الخطاب وأبو عبيدة ، من المهاجرين وبشر بن سعد ، من الخزرج ، وأسيد بن حضير من الأنصار ، وأمّا الباقون من رجال الأوس لم يبايعوا أبا بكر إلاّ تبعاً لرئيسهم «سعد بن حضير» ، كما أنّ الخزرجيين رغم حضورهم في السقيفة ، امتنعوا من البيعة لأبي بكر. (1)

وقد غاب عن المجلس كبار الصحابة كالإمام علي - عليه السلام - والمقداد ، وأبي ذر ، وحذيفة بن اليمان ، وأبي بن كعب ، وطلحة ، والزبير وعشرات آخرين من الصحابة. دون أن يكون هناك شورى وإنّما وقعت الأُمّة أمام عمل مفروغ عنه.

وأحسن كلمة تعبر عن خلافة أبي بكر ما ذكره عمر ابن الخطاب بقوله : ... إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت ، ألا وانّها قد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها ، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر ، من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه ، تغرّة ان يقتلا. (2)

نقد كون الشورى مبدأ الحكم

إنّ هنا أُموراً تثبت بوضوح على أنّ الشورى لم يكن مبدأً لنظام الحكم بعد رحيل الرسول ، وإليك الإشارة إليها.

1. لو كان أساس الحكم هو الشورى ، لوجب على الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - التصريح به أوّلاً ، وبيان حدوده وخصوصياته ثانياً ، بأن يبين من هم الذين يشاركون في الشورى ، هل هم القراء وحدهم ، أو السياسيون أو القادة العسكريون أو الجميع؟ وما هي شرائط المنتخب؟ وأنّه لو حصل هناك اختلاف في الشورى فما هو

ص : 466


1- راجع تاريخ الطبري : 2 / 445.
2- صحيح البخاري : 8 / 169 ، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت.

المرجح؟ هل هو كمية الآراء وكثرتها ، أو الرجحان بالكيفية ، وخصوصيات المرشحين وملكاتهم النفسية والمعنوية؟

فهل يصحّ سكوت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على الاجابة عن هذه الأسئلة التي تتصل بجوهر مسألة الشورى ، وقد جعل الشورى طريقاً إلى تعيين الحاكم؟

2. انّ القوم يعبّرون عن أعضاء الشورى بأهل الحل والعقد ، ولا يفسرونه بما يرفع إبهامه ، فمن هم أهل الحل والعقد؟ وما ذا يحلون وما ذا يعقدون؟ أهم أصحاب الفقه والرأي الذين يرجع إليهم الناس في أحكام دينهم؟ وهل يشترط حينئذ درجة معينة من الفقه والعلم؟ وما هي تلك الدرجة؟ وبأي ميزان توزن؟ ومن إليه يرجع الأمر في تقديرها؟ أم غيرهم ، فمن هم؟

وربما تجد من يبدل كلمة أهل الحلّ والعقد ب «الأفراد المسئولين» وما هو إلاّ وضع كلمة مجملة مكان كلمة مثلها.

3. وعلى فرض كون الشورى أساس الحكم ، فهل يكون انتخاب أعضاء الشورى ملزماً للأُمّة ، ليس لهم التخلّف عنه؟ أو يكون بمنزلة الترشيح حتّى تعطي الأُمّة رأيها فيه؟ وما هو دليل كلّ منهما؟

هذه الأسئلة كلّها ، لا تجد لها جواباً في الكتاب والسنّة ولا في كتب المتكلّمين ، ولو كانت مبدأً للحكم لما كان السكوت عنها سائغاً ، بل لكان على عاتق التشريع الإسلامي الإجابة عنها وإضاءة طرقها.

4. انّ الحكومة الإسلامية دعامة الدين وأساس نشر العدل والقسط في المجتمع ودعوة الناس من الأديان كافة إلى الإسلام إلى ما لها من الفوائد العظيمة التي لا تدرك ولا توصف بالبيان.

فلو كانت صيغة الحكومة هي التنصيب فقد أدى التشريع الإسلامي

ص : 467

وظيفته وجاز له السكوت عن البحث حول الحكومة وصيغتها وسائر الأُمور الراجعة إليها ، وأمّا لو كانت صيغة الحكومة من الشورى أو البيعة فلما ذا لم يرد في الكتاب والسنّة التصريح بذلك الأمر وبيان شرائط الشورى من المنتخِب والمنتخَب.

انّا نرى أنّه روي عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حول القدر نحو 250 رواية ، وحول آداب التخلي ما لا يحصى ، وهكذا في أكثر الأُمور العادية النازلة مرتبة ومكانة ، فهل من المعقول سكوت التشريع الإسلامي عن أمر بالغ الأهمية والخطورة وإسهاب الكلام في أُمور عادية؟!

وأمّا الاستدلال بالآيتين الكريمتين فلا يصحّ تماماً في المقام.

أمّا الآية الأُولى أوّلاً : قوله سبحانه : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) (1) فالخطاب فيها متوجه إلى الحاكم الذي استقرت حكومته ، فيأمره سبحانه أن ينتفع من آراء رعيته فأقصى ما يمكن التجاوز به عن الآية ، هو انّ من وظائف كلّ الحكام التشاور مع الأُمّة ، وأمّا انّ الخلافة بنفس الشورى ، فلا يمكن الاستدلال عليه بهذه الآية.

وثانياً : انّ المتبادر من الآية هو أنّ التشاور لا يوجب حكماً للحاكم ، ولا يلزمه بشيء ، بل هو يقلب وجوه الرأي ويستعرض الأفكار المختلفة ، ثمّ يأخذ بما هو المفيد في نظره ، وذلك لقوله سبحانه في نفس الآية : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ، المعرب عن أنّ العزم والتصميم والاستنتاج من الآراء والأخذ بما هو الأصلح راجع إلى نفس المشير ، وهذا يتحقّق في ظرف يكون هناك مسئول تام الاختيار في استحصال الأفكار والعمل بالنافع منها ، حتّى يخاطب بقوله : (فَإِذا عَزَمْتَ) ،

ص : 468


1- آل عمران : 159.

وأمّا إذا لم يكن ثمة رئيس ، فلا تنطبق عليه الآية ، إذ ليس في انتخاب الخليفة بين المشيرين من يقوم بدعوة الأفراد للمشورة ، لغاية استعراض آرائهم ، ثمّ تمحيص أفكارهم ، والأخذ بالنافع منها ، ثمّ العزم القاطع عليه.

وكلّ ذلك يعرب عن أنّ الآية ترجع إلى غير مسألة الحكومة وما شابهها. ولأجل ذلك لم نر أحداً من الحاضرين في السقيفة احتجّ بهذه الآية.

وأمّا الآية الثانية فهي : قوله سبحانه : (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ). (1)

فيقرر كيفية دلالتها على كون الشورى مبدأً للحكم بالبيان التالي :

أنّ المصدر (أمْر) أضيف إلى الضمير (هُمْ) ، وهو يفيد العموم والشمول لكلّ أمر ، ومنه الخلافة ، فيعود معنى الآية أنّ شأن المؤمنين في كلّ مورد ، شورى بينهم.

يلاحظ عليه : أنّ الآية تأمر بالمشورة في الأُمور المضافة إلى المؤمنين ، وأمّا أنّ تعيين الخليفة من الأُمور المضافة إليهم ، فهو أوّل الكلام ، والتمسّك بالآية في هذا المجال ، تمسّك بالحكم في إثبات موضوعه.

وبعبارة أُخرى : إنّ الآية حثّت على الشورى فيما يمتّ إلى شئون المؤمنين بصلة ، لا فيما هو خارج عن حوزة أُمورهم ، أمّا كون تعيين الإمام داخلاً في أُمورهم ، فهو أوّل الكلام ، إذ لا ندري هل هو من شئونهم أو من شئون الله سبحانه ، ولا ندري ، هل هي إمرة وولاية إلهية تتم بنصبه سبحانه وتعيينه ، أو إمرة وولاية شعبية ، ويجوز للناس التدخّل فيها. ومع هذا الترديد لا يصحّ التمسّك بالآية.

ص : 469


1- الشورى : 38.

الأمر السادس: النصوص الدينية وتنصيب عليّ - عليه السلام - للإمامة

اشارة

قد تبيّن بما قدّمناه من الأبحاث على ضوء الكتاب والسنّة ومن خلال مطالعة تاريخ الإسلام والمحاسبة في الأُمور الاجتماعية والسياسيّة ، وفي ظلّ هداية العقل الصريح ، انّ خليفة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وإمام المسلمين يجب أن يكون منصوباً من جانب الرسول بإذن من الله سبحانه ، وعندئذ يلزمنا الرجوع إلى الكتاب والسنّة لنقف على ذلك القائد المنصوب فنقول :

إنّ من أحاط بسيرة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يجد علي بن أبي طالب وزير رسول الله في أمره وولي عهده وصاحب الأمر من بعده ، ومن وقف على أقوال النبي وأفعاله في حلّه وترحاله ، يجد نصوصه في ذلك متواترة ، كما أنّ هناك آيات من الكتاب العزيز تهدينا إلى ذلك ، ونحن نكتفي في هذا المجال بذكر آية الولاية من الكتاب ونتبعها بحديثي المنزلة والغدير :

1. آية الولاية

قال سبحانه :

ص : 470

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ). (1)

وقبل الاستدلال بالآية نذكر شأن نزولها ، روى المفسرون عن أنس بن مالك وغيره انّ سائلاً أتى المسجد وهو يقول : من يقرض المليء الوفيّ ، وعليّ راكع يشير بيده للسائل : اخلع الخاتم من يدي ، فما خرج أحد من المسجد حتى نزل جبرئيل ب :

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ). (2)

وإليك توضيح الاستدلال :

إنّ المستفاد من الآية انّ هناك أولياء ثلاثة وهم : الله تعالى ، ورسوله ، والمؤمنون الموصوفون بالأوصاف الثلاثة ، وانّ غير هؤلاء من المؤمنين هم مولّى عليهم ، ولا يتحقّق ذلك إلاّ بتفسير الولي بالزعيم والمتصرّف في شئون المولّى عليه ، إذ هذه الولاية تحتاج إلى دليل خاص ، ولا يكفي الإيمان في ثبوتها ، بخلاف ولاية المحبّة والنصرة ، إذ هما من فروع الإيمان ، فكلّ مؤمن محبّ لأخيه المؤمن وناصر له.

ص : 471


1- المائدة : 55.
2- رواه الطبري في تفسيره : 6 / 186 ؛ والجصاص في أحكام القرآن : 2 / 446 ؛ والسيوطي في الدر المنثور : 2 / 293 ؛ وغيرهم. وأنشأ حسّان بن ثابت في ذلك أبياته المعروفة ، وهي : أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي *** وكلّ بطيء في الهدى ومسارع أيذهب مدحي والمحبين ضائعاً *** وما المدح في ذات الإله بضائع فأنت الذي أعطيت إذ أنت راكع *** فدتك نفوس القوم يا خير راكع بخاتمك الميمون يا خير سيد *** ويا خير شار ثم يا خير بائع فأنزل فيك الله خير ولاية *** وبيَّنها في محكمات الشرائع

هذا مضافاً إلى الاختصاص المستفاد من كلمة إنّما وأحاديث شأن النزول الواردة في الإمام علي - عليه السلام - ، فهذه الوجوه الثلاثة تجعل الآية كالنصّ في الدلالة على ما يرتئيه الإمامية في مسألة الإمامة.

فإن قلت : إذا كان المراد من قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا) هو الإمام علي بن أبي طالب - عليه السلام - فلما ذا جيء بلفظ الجماعة؟

قلت : جيء بذلك ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه ، ولينبِّه على أنّ سجيَّة المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ والإحسان وتفقّد الفقراء حتى إن لزمهم أمر لا يقبل التأخير وهم في الصلاة ، لم يؤخّروه إلى الفراغ منها. (1)

وهناك وجه آخر أشار إليه الشيخ الطبرسي ، وهو أنّ النكتة في إطلاق لفظ الجمع على أمير المؤمنين ، تفخيمه وتعظيمه ، وذلك انّ أهل اللغة يعبّرون بلفظ الجمع عن الواحد على سبيل التعظيم ، وذلك أشهر في كلامهم من أن يحتاج إلى الاستدلال عليه. (2)

ربما يقال إنّ المراد من الوليّ في الآية ليس هو المتصرف ، بل المراد الناصر والمحبّ بشهادة ما قبلها وما بعدها ، حيث نهى الله المؤمنين أن يتّخذوا اليهود والنصارى أولياء ، وليس المراد منه إلاّ النصرة والمحبة ، فلو فُسّرت في الآية بالمتصرّف يلزم التفكيك. (3)

والجواب عنه : أنّ السّياق إنّما يكون حجّة لو لم يقم دليل على خلافه ، وذلك

ص : 472


1- الكشاف : 1 / 649 ، دار الكتاب العربي ، بيروت.
2- مجمع البيان : 43 / 211.
3- الإشكال للرازي في : مفاتيح الغيب : 12 / 28.

لعدم الوثوق حينئذ بنزول الآية في ذلك السياق ، إذ لم يكن ترتيب الكتاب العزيز في الجمع موافقاً لترتيبه في النزول بإجماع الأُمّة ، وفي التنزيل كثير من الآيات الواردة على خلاف ما يعطيه السياق كآية التطهير المنتظمة في سياق النساء مع ثبوت النص على اختصاصها بالخمسة أهل الكساء. (1)

2. حديث «المنزلة»

روى أهل السير والتاريخ انّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - خلّف عليّ بن أبي طالب - عليه السلام - على أهله في المدينة عند توجّهه إلى تبوك ، فأرجف به المنافقون ، وقالوا ما خلّفه إلاّ استثقالاً له وتخوّفاً منه ، فضاق صدره بذلك ، فأخذ سلاحه وأتى النبيّ وأبلغه مقالتهم ، فقال - صلى الله عليه وآله وسلم - :

«كذبوا ، ولكنّي خلّفتك لما تركت ورائي ، فارجع واخلف في أهلي وأهلك ، أفلا ترضى يا عليّ أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي؟». (2)

إضافة كلمة «منزلة» - وهي اسم جنس - إلى هارون يقتضي العموم ، فالرواية تدلّ على أنّ كلّ مقام ومنصب كان ثابتاً لهارون فهو ثابت لعليّ ، إلاّ ما استثني وهو النبوّة ، بل الاستثناء أيضاً قرينة على العموم ولولاه لما كان وجه للاستثناء ، وكون المورد هو الاستخلاف على الأهل لا يدلّ على الاختصاص ، فإنّ المورد لا يكون

ص : 473


1- المراجعات : 167 ، الرقم 44.
2- السيرة النبوية لابن هشام : 2 / 519 - 520. وقد نقله من أصحاب الصحاح ، البخاري في غزوة تبوك : 6 / 3 ، ط 1314 ؛ ومسلم في فضائل علي : 7 / 120 ؛ وابن ماجة في فضائل أصحاب النبي : 1 / 55 ؛ والإمام أحمد في غير مورد من مسنده ، لاحظ : 1 / 173 ، 175 ، 177 ، 179 ، 182 ، 185 ، 230 ؛ وغيرهم من الأثبات الحفاظ.

مخصِّصاً ، كما لو رأيت الجنب يمسّ آية الكرسي مثلاً فقلت له لا يمسَّن آيات القرآن محدث ، يكون دليلاً على حرمة مسّ القرآن على الجنب مطلقاً.

وأمّا منزلة هارون من موسى فيكفي في بيانها قوله سبحانه حكاية عن موسى :

(وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي). (1)

وقد أُوتي موسى جميع ذلك كما يقول سبحانه :

(قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى). (2)

وقد استخلف موسى أخيه هارون عند ذهابه إلى ميقات ربّه مع جماعة من قومه ، قال سبحانه :

(وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ). (3)

وهذا الاستخلاف وإن كان في قضية خاصّة ووقت خاص ، لكن اللفظ مطلق والمورد لا يكون مخصّصاً. ومن هنا لو فرض غيبة أُخرى لموسى من قومه مع عدم تنصيصه على استخلاف هارون كان خليفة له بلا إشكال. وهارون وإن كان شريكاً لموسى في النبوّة إلاّ أنّ الرئاسة كانت مخصوصة لموسى ، فموسى كان وليّاً على هارون وعلى غيره ، وهذا دليل على أنّ منزلة الإمامة منفصلة من النبوة ، وإنّما

ص : 474


1- طه : 3229.
2- طه : 36.
3- الأعراف : 142.

اجتمع الأمران لأنبياء مخصوصين ، لأنّ هارون لو كان له القيام بأمر الأُمّة من حيث كان نبياً لما احتاج فيه إلى استخلاف موسى إيّاه وإقامته مقامه. (1)

3. حديث «الغدير»

حديث الغدير ، ممّا تواترت به السنّة النبويّة وتواصلت حلقات أسانيده منذ عهد الصحابة والتابعين إلى يومنا الحاضر ، رواه من الصحابة (110) صحابياً ومن التابعين (84) تابعياً ، وقد رواه العلماء والمحدّثون في القرون المتلاحقة ، وقد أغنانا المؤلّفون في الغدير عن إراءة مصادره ومراجعه ، وكفاك في ذلك كتب لمّة كبيرة من أعلام الطائفة ، منهم : العلاّمة السيد هاشم البحراني (المتوفّى 1107 ه) مؤلّف «غاية المرام» ، والسيد مير حامد حسين الهندي (المتوفّى 1306 ه) مؤلّف «العبقات» ، والعلاّمة الأميني (المتوفّى 1390 ه) مؤلف «الغدير» ، والسيد شرف الدين العاملي (المتوفّى 1381 ه) مؤلّف «المراجعات».

ومجمل الحديث هو انّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أذَّن في الناس بالخروج إلى الحجّ في السنة العاشرة من الهجرة ، وأقلّ ما قيل انّه خرج معه تسعون ألفاً ، فلمّا قضى مناسكه وانصرف راجعاً إلى المدينة ووصل إلى غدير «خم» ، وذلك يوم الخميس ، الثامن عشر من ذي الحجّة ، نزل جبرئيل الأمين عن الله تعالى بقوله :

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ). (2)

فأمر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يردّ من تقدّم ، ويحبس من تأخّر حتى إذا أخذ القوم منازلهم نودي بالصلاة ، صلاة الظهر ، فصلّى بالناس ، ثمّ قام خطيباً وسط القوم

ص : 475


1- مجمع البيان : 43 / 473.
2- المائدة : 67.

على أقتاب الإبل ، فقال : «الحمد لله ونستعينه ونؤمن ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا. الذي لا هادي لمن أضلّ ولا مضلّ لمن هدى ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله.

أمّا بعد ؛ أيّها الناس قد نبّأني اللطيف الخبير : أنّه لم يعمّر نبيّ إلاّ مثل نصف عمر الذي قبله ، وإنّي أُوشك أن ادعى فأُجيب ، وإنّي مسئول ، وأنتم مسئولون ، فما ذا أنتم قائلون؟».

قالوا : نشهد إنّك قد بلّغت ونصحت وجهدت فجزاك الله خيراً.

قال : «ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله ، وأنّ جنّته حق ، وناره حق ، وأنّ الموت حق ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث من في القبور؟».

قالوا : بلى نشهد بذلك. قال : «اللهمّ اشهد - ثمّ قال : - أيّها الناس ألا تسمعون؟» قالوا : نعم.

قال : «فإنّي فرط على الحوض ، وأنتم واردون على الحوض ، وإنّ عرضه ما بين صنعاء وبصرى ، فيه أقداح عدد النجوم من فضة ، فانظروا كيف تخلّفوني في الثقلين».

فنادى مناد : وما الثقلان يا رسول الله؟

قال : «الثقل الأكبر : كتاب الله ، طرف بيد الله عزّ وجلّ وطرف بأيديكم ، فتمسّكوا به لا تضلّوا ؛ والآخر الأصغر : عترتي ، وإنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فسألت ذلك لهما ربّي ، فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا».

ص : 476

ثمّ أخذ بيد علي فرفعها حتّى رئي بياض آباطهما وعرفه القوم أجمعون ، فقال : «أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟» قالوا : الله ورسوله أعلم.

قال : «إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فعليّ مولاه - يقولها ثلاث مرّات ، وفي لفظ أحمد إمام الحنابلة : أربع مرّات ، ثمّ قال : - اللهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وأحبّ من أحبّه ، وأبغض من أبغضه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحق معه حيث دار ، ألا فليبلّغ الشاهد الغائب». ثمّ لم يتفرّقوا حتى نزل أمين وحي الله بقوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) الآية. فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «الله أكبر على إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضا الربّ برسالتي ، والولاية لعليّ من بعدي».

ثمّ طفق القوم يهنّئون أمير المؤمنين - صلوات الله عليه - وممّن هنّأه - في مقدّم الصحابة - الشيخان : أبو بكر وعمر ، كلّ يقول : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة. قال ابن عبّاس : وجبت - والله - في أعناق القوم.

فقال حسّان : ائذن لي يا رسول الله أن أقول في عليّ أبياتاً تسمعهنّ ، فقال : «قل على بركة الله» فقام حسّان ، فقال : يا معشر مشيخة قريش أتبعها قولي بشهادة من رسول الله في الولاية ماضية ، ثمّ قال :

يناديهم يوم الغدير نبيّهم *** بخمّ واسمع بالرسول منادياً

ص : 477

وقد جاءه جبريل عن أمر ربّه *** بانّك معصوم فلا تك وانيا

وبلّغهم ما أنزل الله ربّهم *** إليك ولا تخش هناك الأعاديا

فقام به إذ ذاك رافع كفّه *** بكفّ عليّ معلن الصوت عاليا

فقال فمن مولاكم ووليّكم *** فقالوا ولم يبدوا هناك تعاميا

إلهك مولانا وأنت وليّنا *** ولن تجدن فينا لك اليوم عاصياً

فقال له قم يا عليّ فإنّني *** رضيتك من بعدي إماماً وهادياً

فمن كنت مولاه فهذا وليّه *** فكونوا له أنصار صدق موالياً

هناك دعا اللهم وال وليّه *** وكن للذي عادى عليّاً معادياً

فيا ربّ انصر ناصريه لنصرهم *** إمام هدى كالبدر يجلو الدياجيا(1)

ص : 478


1- الغدير : 1 / 34 - 36 وج 2 ، ص 73. وقد جاءت مصادر الخطبة في ثنايا الكتاب ، بما لا يسعنا ذكرها في المقام

دلالة الحديث

اشارة

إنّ دلالة الحديث على إمامة مولانا أمير المؤمنين - عليه السلام - دلالة واضحة ، لم يشكّ فيها أيّ عربي صميم عصر نزول الحديث وبعده إلى قرون ، ولم يفهموا من لفظة المولى إلاّ الإمامة.

إنّ هناك قرائن حالية ومقالية تجعل الحديث كالنّصّ في أنّ المراد من المولى هو الأولى بالتصرّف في شئون المؤمنين على غرار ما كان للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من الولاية.

أمّا القرينة الحالية (المقامية) فيكفينا في بيانها ما ذكره التفتازاني بقوله :

«المولى قد يراد به المعتِق والمعتَق والحليف ، والجار ، وابن العمّ ، والناصر ، والأولى بالتصرّف ، وينبغي أن يكون المراد به في الحديث هو هذا المعنى ، ليطابق صدر الحديث ، ولأنّه لا وجه للخمسة الأُول وهو ظاهر ، ولا للسادس لظهوره ، وعدم احتياجه إلى البيان وجمع الناس لأجله».

ثمّ قال :

«لا خفاء في أنّ الولاية بالناس ، والتولّي والمالكية لتدبير أمرهم والتصرّف فيهم بمنزلة النبي ، وهو معنى الإمامة». (1)

وأمّا القرائن المقالية فكثيرة نشير إلى بعضها :

القرينة الأُولى : صدر الحديث وهو قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - :

«ألست أولى بكم من أنفسكم».

ص : 479


1- شرح المقاصد : 5 / 274273. ولكنّه رمى الحديث بعدم التواتر فلم يأخذ به في المقام حيث إنّ مسألة الإمامة ليست من الفروع عند الإماميّة. أقول : لكنّها من مسائل الفروع عندهم ، فعلى فرض صحّة الرواية تكون حجّة وإن لم تكن متواترة عنده.

أو ما يؤدّي مؤدّاه من ألفاظ متقاربة ، ثمّ فرَّع على ذلك قوله :

«فمن كنت مولاه فعليّ مولاه» وقد روى هذا الصدر من حفّاظ أهل السنّة ما يربو على أربعة وستين عالماً. (1)

القرينة الثانية : نعي النبيّ نفسه إلى الناس حيث إنّه يعرب عن أنّه سوف يرحل من بين أظهرهم فيحصل بعده فراغ هائل ، وانّه يُسدّ بتنصيب علي - عليه السلام - في مقام الولاية. (2)

القرينة الثالثة : قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «يا أيّها الناس بم تشهدون؟» قالوا : نشهد أن لا إله إلاّ الله ، قال : «ثمّ مه؟» قالوا : وأنّ محمّداً عبده ورسوله. قال : «فمن وليكم؟» قالوا : الله ورسوله مولانا.

ثمّ ضرب بيده إلى عضد علي ، فأقامه ، فقال : «من يكن الله ورسوله مولاه فانّ هذا مولاه ...».

هذا لفظ جرير ، وقريب منه لفظ أمير المؤمنين - عليه السلام - ولفظ زيد بن أرقم وعامر بن ليلى ، وفي لفظ حذيفة بن أسيد بسند صحيح :

«ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله؟ ... - إلى أن قال

قالوا : بلى نشهد بذلك.

قال : «اللهم اشهد» - ثمّ قال : - يا أيّها الناس إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فهذا مولاه ، يعني

ص : 480


1- لاحظ نقولهم في كتاب الغدير ، ج 1 ، موزَّعين حسب قرونهم.
2- المصدر السابق : 370.

علياً». (1)

القرينة الرابعة : قوله - عليه السلام - عقيب لفظ الحديث : «الله أكبر على إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضا الربّ برسالتي ، والولاية لعلي بن أبي طالب».

وفي لفظ شيخ الإسلام الحمّوئي (2) : «الله أكبر ، تمام نبوتي وتمام دين الله ولاية عليّ بعدي».

فأي معنى تراه يكمل به الدين ، ويتمّ النعمة ، ويُرضي الربَّ في عداد الرسالة غير الإمامة التي بها تمام أمرها وكمال نشرها وتوطيد دعائمها؟! إذن فالناهض بذلك العبء المقدّس أولى الناس منهم بأنفسهم.

القرينة الخامسة : قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - قبل بيان الولاية : «كأنّي دُعيتُ فأجبتُ» ، أو : «أنّه يوشك أن أُدعى فأُجيب» ، أو «ألا وإنّي أُوشك أن أُفارقكم» ، أو : «يوشك أن يأتي رسول ربّي فأُجيب».

وهو يُعطينا علماً بأنّه - صلى الله عليه وآله وسلم - كان قد بقي من تبليغه مهمّة يُحاذر أن يدركه الأجل قبل الإشادة بها ، ولو لا الهتاف بها بقي ما بلّغه مُخدَجاً ، ولم يذكر - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد هذا الاهتمام إلاّ ولاية أمير المؤمنين وولاية عترته الطاهرة الذين يَقْدمهم هو - صلوات الله عليه - كما في نقل مسلم (3) ، فهل من الجائز أن تكون تلك المهمّة المنطبقة على هذه الولاية إلاّ معنى الإمامة المصرّح بها في غير واحد من الصحاح؟ وهل صاحبها إلاّ أولى الناس بأنفسهم؟ ....

ص : 481


1- الغدير ، ج 1 ، ص 656.
2- فرائد السمطين : 1 / 315 ، باب 58 ، ح 250.
3- صحيح مسلم : 5 / 25 ، ح 36 ، كتاب فضائل الصحابة.

القرينة السادسة : قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد بيان الولاية : «فليبلّغ الشاهد الغائب» ، أوَتحسب أنّه - صلى الله عليه وآله وسلم - يؤكّد هذا التأكيد في تبليغ الغائبين أمراً علمه كلُّ فرد منهم بالكتاب والسنّة من الموالاة والمحبّة والنصرة بين أفراد المسلمين مشفوعاً بذلك الاهتمام والحرص على بيانه؟ لا أحسب أنّ ضئولة الرأي يُسفُّ بك إلى هذه الخطّة ، لكنّك ولا شك تقول : إنّه - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يُرد إلاّ مهمّة لم تُتَح الفرص لتبليغها ولا عرفته الجماهير ممّن لم يشهدوا ذلك المجتمع ، وما هي إلاّ مهمّة الإمامة التي بها كمال الدين ، وتمام النعمة ، ورضا الربّ ، وما فهم الملأ الحضور من لفظه - صلى الله عليه وآله وسلم - إلاّ تلك ، ولم يؤثر له - صلى الله عليه وآله وسلم - لفظ آخر في ذلك المشهد يليق أن يكون أمره بالتبليغ له ، وتلك المهمّة لا تساوق إلاّ معنى الأولى من معاني المولى. (1)

الغدير في الكتاب الكريم

شاء سبحانه أن يبقى حديث الغدير غضّاً طرياً لا يبليه الحدثان ، فأنزل حوله آيات ناصعة البيان ، نقتصر على ذكر آيتين منها :

1. آية البلاغ

قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ). (2)

صرّح غير واحد من الحفاظ والمحدّثين بنزول الآية يوم الثامن عشر من ذي الحجة سنة حجة الوداع لمّا بلغ النبي الأعظم غدير خُمّ فأتاه جبرئيل فقال : يا

ص : 482


1- الغدير : 1 / 656 - 658.
2- المائدة : 67.

محمد إنّ الله يقرئك السلام ويقول : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

1. قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري : أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال : نزلت هذه الآية (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم غدير خم ، في علي بن أبي طالب - عليه السلام -. (1)

2. أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : كنّا نقرأ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أنّ علياً مولى المؤمنين (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ). (2)

3. أخرج أبو إسحاق الثعلبي النيسابوريّ بسنده عن ابن عباس : في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ...). الآية ، قال : نزلت في عليّ ، أُمر النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يُبلّغ فيه ، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بيد علي ، فقال : «من كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، اللهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه». (3)

4. روى أبو الحسن الواحديّ النيسابوري بسنده عن أبي سعيد الخُدريّ قال : نزلت هذه الآية يوم غدير خُمّ في عليّ بن أبي طالب - عليه السلام -. (4)

5. روى الحافظ الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل وقواعد التفضيل والتأويل «بإسناده عن الكلبي ، عن أبي صالح عن ابن عباس وجابر الأنصاري قالا : أمر الله تعالى محمّداً - صلى الله عليه وآله وسلم - أن ينصب عليّاً للناس ، فيخبرهم بولايته فتخوّف النبي

ص : 483


1- الدر المنثور : 3 / 117.
2- الدر المنثور : 3 / 117.
3- الكشف والبيان : 4 / 92 ، تفسير سورة المائدة ، آية 67.
4- أسباب النزول : 135.

أن يقولوا : حابى ابن عمّه ، وأن يطعنوا في ذلك عليه ، فأوحى الله (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ...) الآية ، فقام رسول الله بولايته يوم غدير خُمّ. (1)

6. قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره عند ذكر الوجوه حول الآية : العاشر : نزلت الآية في فضل عليّ ولمّا نزلت هذه الآية أخذ بيده وقال : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه». فلقيه عمر فقال : هنيئاً لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة.

وهو قول ابن عبّاس ، والبراء بن عازب ، ومحمد بن عليّ. (2)

إلى غير ذلك من الحفّاظ والمحدثين والمفسرين الذين نقلوا أنّ سبب نزول الآية كان حول حديث الغدير.

2. آية إكمال الدين

قال سبحانه : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً). (3)

قد نقل غير واحد من علماء التفسير وأئمّة الحديث نزول الآية يوم الغدير.

يؤيد ذلك ما نقله الرازي وقال : قال أصحاب الآثار لمّا نزلت هذه الآية على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يعمّر بعد نزولها إلاّ أحداً وثمانين يوماً أو اثنين وثمانين يوماً ، ولم يحصل في الشريعة زيادة ولا نسخ ولا تبديل ، وكان ذلك جارياً مجرى إخبار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن قرب وفاته. (4)

ص : 484


1- مجمع البيان : 3 / 344.
2- التفسير الكبير : 12 / 49.
3- المائدة : 3.
4- التفسير الكبير : 11 / 136.

هذا من جانب ومن جانب آخر ذكر المؤرِّخون من أهل السنّة ، كالبخاري في صحيحه (1) أنّ وفاته - صلى الله عليه وآله وسلم - في الثاني عشر من ربيع الأوّل.

فمن يوم الغدير الذي كان في الثامن عشر من شهر ذي الحجة الحرام إلى الثاني عشر من ربيع الأوّل يكون بضعاً وثمانين يوماً.

وأمّا المحدّثون فقد نقلوا أنّ سبب نزول الآية في غير واحد من كتبهم ، نظراء :

1. أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال : لمّا نصب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عليّاً يوم غدير خم فنادى له بالولاية ، هبط جبريل عليه بهذه الآية : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ).

2. أخرج ابن مردويه والخطيب وابن عساكر عن أبي هريرة قال : لمّا كان يوم غدير خم وهو يوم ثماني عشر من ذي الحجة ، قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : «من كنت مولاه فعليٌّ مولاه» فأنزل الله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ). (2)

3. وأخرج أيضاً الحميدي وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن حبان البيهقي في سننه عن طارق بن شهاب قال : «قالت اليهود لعمر : إنّكم تقرءون آية في كتابكم ، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتّخذنا ذلك اليوم عيداً قال : وأي آية؟ قالوا : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) قال عمر : والله إنّي لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فيه والساعة التي نزلت فيها. نزلت على رسول الله عشية عرفة في يوم الجمعة. (3)

ص : 485


1- البخاري : 4 ، رقم الحديث 4145.
2- الدر المنثور : 6 / 19.
3- نفس المصدر ، ص 17.

ما نسب إلى الخليفة أنّها نزلت في عشية عرفة يخالف ما نقله الرازي عن أصحاب الآثار أنّه لمّا نزلت هذه الآية على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يعمّر بعد نزولها إلاّ أحداً وثمانين يوماً أو اثنين وثمانين يوماً.

وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : مكث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد ما نزلت هذه الآية إحدى وثمانين ليلة. (1)

ووجه المخالفة أنّ النبي حسب ما اتّفق عليه الجمهور توفّي في الثاني عشر من شهر ربيع الأوّل ، فإذا افترضنا انّ الآية تنزلت يوم عرفة يبقى هناك عشرين يوماً ، فإذا أُضيف إليه - أعني : محرم الحرام وصفر المظفر واثنا عشر يوماً من شهر ربيع الأوّل - يكون الحد الفاصل بين نزول الآية ويوم وفاة النبي 92 يوماً ونوضحه كالتالي :

من شهر ذي الحجة الحرام - 20 يوماً

من شهري محرم وصفر - 60 يوماً

من شهر ربيع الأوّل - 12 يوماً

المجموع - 92 يوماً

فلو افترضنا كون الشهرين 29 يوماً يكون الحدّ الفاصل 90 يوماً مع أنّ المذكور عن أصحاب الآثار انّ الرسول لم يعمّر إلاّ 81 ليلة. بخلاف ما إذا اخترنا الروايات الدالة على أنّها نزلت في الثامن عشر من شهر ذي الحجة حيث يكون الحدّ الفاصل نحو إحدى وثمانين أو قريباً منه.

ص : 486


1- الدر المنثور : 6 / 20.

لما ذا أعرض الصحابة عن مدلول حديث الغدير؟

أقوى مستمسك لمن يريد التخلّص من الأخذ بالنصّ المتواتر الجليّ في المقام ، هو انّه لو كان الأمر كذلك فلما ذا لم تأخذه الصحابة مقياساً بعد النبي؟ وليس من الصحيح إجماع الصحابة وجمهور الأُمّة على ردّ ما بلَّغه النبيّ في ذلك المحتشد العظيم.

والجواب عنه انّ من رجع إلى تاريخ الصحابة يرى لهذه الأُمور نظائر كثيرة في حياتهم السياسية ، وليكن ترك العمل بحديث الغدير من هذا القبيل ، منها «رزيّة يوم الخميس» رواها الشيخان وغيرهما (1) ، ومنها سريّة أُسامة (2) ، ومنها صلح الحديبية واعتراض لفيف من الصحابة (3) ، ولسنا بصدد استقصاء مخالفات القوم لنصوص النبي وتعليماته ، فإنّ المخالفة لا تقتصر على ما ذكر ، بل تربو على نيّف وسبعين مورداً ، استقصاها بعض الأعلام. (4)

وعلى ضوء ذلك لا يكون ترك العمل بحديث الغدير ، من أكثريّة الصحابة دليلاً على عدم تواتره ، أو عدم تماميّة دلالته.

ص : 487


1- أخرجه البخاري في غير مورد لاحظ ج 1 ، باب كتابة العلم ، الحديث 3 ، وج 4 / 70 وج 6 / 10 من النسخة المطبوعة سنة 1314 ه ؛ والإمام أحمد في مسنده : 1 / 355.
2- طبقات ابن سعد : 2 / 192189 ؛ الملل والنحل للشهرستاني : 1 / 23.
3- صحيح البخاري : 2 / 81 ، كتاب الشروط ؛ صحيح مسلم : 5 / 175 ، باب صلح الحديبية ؛ والطبقات الكبرى لابن سعد : 2 / 114.
4- لاحظ كتاب النص والاجتهاد للسيد الإمام شرف الدين.

الأمر السابع: السنّة النبويّة والأئمّة الاثنا عشر

إنّ النبيّ الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يكتف بتنصيب علي - عليه السلام - منصب الإمامة والخلافة ، كما لم يكتف بإرجاع الأُمّة الإسلامية إلى أهل بيته وعترته الطاهرة ، ولم يقتصر على تشبيههم بسفينة نوح ، بل قام ببيان عدد الأئمّة الّذين يتولّون الخلافة بعده ، واحداً بعد واحد ، حتّى لا يبقى لمرتاب ريب ، فقد روي في الصحاح والمسانيد بطرق مختلفة عن جابر بن سمرة انّ الخلفاء بعد النبيّ اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش ، وإليك ما ورد في توصيفهم من الخصوصيات :

1. لا يزال الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة.

2. لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة.

3. لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة ، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة.

4. لا يزال الدين ظاهراً على من ناوأه حتى يمضي من أُمّتي اثنا عشر خليفة.

5. لا يزال هذا الأمر صالحاً حتى يكون اثنا عشر أميراً.

ص : 488

6. لا يزال الناس بخير إلى اثني عشر خليفة. (1)

وقد اختلفت كلمة شرّاح الحديث في تعيين هؤلاء الأئمّة ، ولا تجد بينها كلمة تشفي العليل ، وتروي الغليل ، إلاّ ما نقله الشيخ سليمان البلخي القندوزي الحنفيّ في ينابيعه عن بعض المحقّقين ، قال :

«إنّ الأحاديث الدالّة على كون الخلفاء بعده اثني عشر شخصاً ، قد اشتهرت من طرق كثيرة ، ولا يمكن أن يحمل هذا الحديث على الخلفاء بعده من الصحابة ، لقلّتهم عن اثني عشر ، ولا يمكن أن يحمل على الملوك الأُمويّين لزيادتهم على الاثني عشر ولظلمهم الفاحش إلاّ عمر بن عبد العزيز ... ولا يمكن أن يحمل على الملوك العباسيين لزيادتهم على العدد المذكور ولقلّة رعايتهم قوله سبحانه :

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى). (2)

فلا بد من أن يحمل على الأئمة الاثني عشر من أهل بيته وعترته ، لأنّهم كانوا أعلم أهل زمانهم ، وأجلّهم ، وأورعهم ، وأتقاهم ، وأعلاهم نسباً ، وأفضلهم حسباً ، وأكرمهم عند الله ، وكانت علومهم عن آبائهم متصلة بجدّهم - صلى الله عليه وآله وسلم - وبالوراثة اللّدنية ، كذا عرّفهم أهل العلم والتحقيق ، وأهل الكشف والتوفيق.

ويؤيّد هذا المعنى ويرجّحه حديث الثقلين والأحاديث المتكثّرة المذكورة في هذا الكتاب وغيرها». (3)

ص : 489


1- راجع صحيح البخاري : 9 / 81 ، باب الاستخلاف ؛ صحيح مسلم : 6 / 3 ، كتاب الأمارة ، باب الناس تبع لقريش ؛ مسند أحمد : 5 / 10886 ؛ مستدرك الحاكم : 3 / 618.
2- الشورى : 23.
3- ينابيع المودَّة : 446 ، ط استنبول ، عام 1302.

أقول : الإنسان الحرّ الفارغ عن كلّ رأي مسبق ، لو أمعن النظر في هذه الأحاديث وأمعن في تاريخ الأئمّة الاثني عشر من ولد الرسول ، يقف على أنّ هذه الأحاديث لا تروم غيرهم ، فإنّ بعضها يدلّ على أنّ الإسلام لا ينقرض ولا ينقضي حتّى يمضي في المسلمين اثنا عشر خليفة ، كلّهم من قريش ؛ وبعضها يدلّ على أنّ عزَّة الإسلام إنّما تكون إلى اثني عشر خليفة ؛ وبعضها يدلّ على أنّ الدين قائم إلى قيام السّاعة وإلى ظهور اثني عشر خليفة ، وغير ذلك من العناوين.

وهذه الخصوصيات لا توجد في الأُمّة الإسلامية إلاّ في الأئمّة الاثني عشر المعروفين عند الفريقين (1) ، خصوصاً ما يدلّ على أنّ وجود الأئمّة مستمرّ إلى آخر الدهر ومن المعلوم انّ آخر الأئمّة هو المهدي المنتظر الذي يعدّ ظهوره من أشراط الساعة.

ثمّ إنّه قد تضافرت النصوص في تنصيص الإمام السابق على الإمام اللاحق ، فمن أراد الوقوف على هذه النصوص ، فليرجع إلى الكتب المؤلّفة في هذا الموضوع. (2)

ص : 490


1- وهم : علي بن أبي طالب ، وابناه الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة ، وعلي بن الحسين السجاد ، ومحمّد بن علي الباقر ، وجعفر بن محمّد الصادق ، وموسى بن جعفر الكاظم ، وعلي بن موسى الرضا ، ومحمّد بن علي التقي ، وعلي بن محمّد النقي ، والحسن بن علي العسكري ، وحجّة العصر المهدي المنتظر - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين -.
2- لاحظ الكافي : ج 1 ، كتاب الحجّة ؛ كفاية الأثر ، لعلي بن محمد بن الحسن الخزاز القمي من علماء القرن الرابع ؛ إثبات الهداة للشيخ الحرّ العاملي ، وهو أجمع كتاب في هذا الموضوع.

الفصل العاشر: عدالة الصحابة بين العاطفة والبرهان

اشارة

ص : 491

ص : 492

اتجاهان حول الصحبة والصحابة

لقد احتدم النزاع منذ عصر مبكّر حول الصحبة والصحابة ، أعني : الذين التفّوا حول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وخاضوا معه المعارك والمغازي ، ورفعوا رايةَ الإسلام خفّاقة في أحلك الظروف ، وأشد المواقف ، وجاهدوا بين يديه بأنفسهم ونفيسهم حتّى نشروا الإسلام في ربوع الأرض.

ولا شكّ في أنّ هذا يثير مشاعر كلّ مسلم واع يعتزّ بدينه وشريعته ورسوله وقرآنه ، ويشدّه. إلى حبّهم وودّهم حتّى صار حب الصحابة من مظاهر حب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وقد اشتهر بأنّ من أحب شيئاً أحبّ آثاره ولوازمه ، فمن أحب الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فقد أحب المتعلّمين على يديه والمجاهدين دونه.

هذا ممّا لا سترة ولا خلاف فيه ، إنّما الكلام في أنّ مجرّد صحبة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سواء أكانت قصيرة الأمد أم طويلته ، هل تجعل الصحابي إنساناً مثالياً بعيداً عن المعاصي ، صغيرها وكبيرها ، جليلها وحقيرها طول عمره؟!

أو انّ صحبة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - تؤثر في سلوك الصحابي وأخلاقياته ، وأنّ كلّ من صحبه يستضيء بنوره وبيانه حسب قابلياته واستعداداته؟!

ولأجل ذلك ظهر هنا اتجاهان :

ص : 493

أحدهما : عدالة الصحابة برُمّتهم استغراقاً في حبهم ونزولاً عند حكم العاطفة لصاحب الشريعة وأنصاره ، وهو خيرة جمهور أهل السنّة.

ثانيهما : انّ صحبة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - تؤثر في سلوك الصحابي وأخلاقياته حسب قابلياته ، فمنهم من بلغ قمة الكمال حتّى أصبح يُستدرّ به الغمام ، ومنهم من لم يبلغ هذا الشأو ولكن استضاء بنور النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وحسنت صحبته وسلمت سريرته ، ومنهم من لم ينل إلاّ حظاً قليلاً ، وما هذا إلاّ لتفريطه وتقصيره.

والنظرية الثانية هي خيرة الشيعة الإمامية ولفيف من غيرهم.

فالغاية من تأليف هذه الرسالة هو القضاء بين هذين الاتجاهين على ضوء القرآن الكريم والسنّة الشريفة والتاريخ الصحيح والعقل الحصيف بأسلوب موضوعي بعيد عن التعصّب والعاطفة.

ويأتي ما هو المقصود ضمن أُمور :

ص : 494

1- من هو الصحابي

اختلفت كلمة جمهور أهل السنّة في تعريف الصحابي مع اتّفاقهم على عدالته ، فاتّفقوا على حكم (عدالة الصحابي) لم يُحدَّد موضوعه سعة وضيقاً عندهم. وإليك نصوصهم في هذا الشأن :

1. قال سعيد بن المسيب : الصحابي ، ولا نعدّه إلاّ من أقام مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - سنة أو سنتين وغزا معه غزوة أو غزوتين.

2. قال الواقدي : رأينا أهل العلم يقولون : كلّ من رأى رسول الله وقد أدرك فأسلم وعقل أمر الدين ورضيه فهو عندنا ممّن صحب رسول الله ، ولو ساعة من نهار ، ولكن أصحابه على طبقاتهم وتقدّمهم في الإسلام.

3. قال أحمد بن حنبل : أصحاب رسول الله كلّ من صحبه شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه.

4. قال البخاري : من صحب رسول الله أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه.

5. وقال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب : لا خلاف بين أهل اللغة في أنّ الصحابي مشتق من الصحبة ، قليلاً كان أو كثيراً ، ثمّ قال : ومع هذا فقد تقرر للأُمّة عرف ، فإنّهم لا يستعملون هذه التسمية إلاّ فيمن كثرت صحبته ، ولا

ص : 495

يجيزون ذلك إلاّ فيمن كثرت صحبته لا على من لقيه ساعة أو مشى معه خطى ، أو سمع منه حديثاً ، فوجب ذلك أن لا يجري هذا الاسم على من هذه حاله ، ومع هذا فإنّ خبر الثقة الأمين عنه مقبول ومعمول به وإن لم تطل صحبته ولا سمع عنه إلاّ حديثاً واحداً.

6. وقال صاحب الغوالي : لا يطلق اسم الصحبة إلاّ على من صحبه ثمّ يكفي في الاسم من حيث الوضع ، الصحبةُ ولو ساعة ولكن العرف يخصّصه بمن كثرت صحبته.

قال الجزري بعد ذكر هذه النقول ، قلت : وأصحاب رسول الله على ما شرطوه كثيرون ، فإنّ رسول الله شهد حنيناً ومعه اثنا عشر ألف سوى الأتباع والنساء ، وجاء إليه «هوازن» مسلمين فاستنقذوا حريمهم وأولادهم ، وترك مكة مملوءة ناساً وكذلك المدينة أيضاً ، وكلّ من اجتاز به من قبائل العرب كانوا مسلمين فهؤلاء كلّهم لهم صحبة ، وقد شهد معه تبوك من الخلق الكثير ما لا يحصيهم ديوان ، وكذلك حجة الوداع ، وكلّهم له صحبة. (1)

إنّ التوسع في مفهوم الصحابي على الوجه الذي عرفته في كلماتهم ممّا لا تساعد عليه اللغة والعرف العام ، فإنّ صحابة الرجل عبارة عن جماعة تكون لهم خلطة ومعاشرة معه مدّة مديدة ، فلا تصدق على من ليس له حظ إلاّ الرؤية من بعيد ، أو سماع الكلام أو المكالمة أو المحادثة فترة يسيرة ، أو الإقامة معه زمناً قليلاً.

وأعجب منه كما تقدّم انّهم اتّفقوا على عدالة كل صحابي مع أنّهم اختلفوا في مفهوم الصحابي اختلافاً واسعاً ، ومن الواضح انّ اتّفاقهم على العدالة رهن اتّفاقهم على تعريف محدد وجامع للمفهوم الصحابي.

ص : 496


1- أُسد الغابة : 1 / 1211 ، طبع مصر.

2- الصحبة وملاكات الاختلاف

لا شكّ انّ للصحبة تأثيراً في النفوس من غير فرق بين كون المصاحَب مصاحَب سوء أو غيره ، فلذلك نرى أنّ المجرم يوم القيامة يتمنّى عدم اتخاذ فلان صديقاً ، يقول سبحانه حاكياً عنه : (يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) (1) ، ويقول أيضاً حاكياً عن الخلّة والصحبة : (الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ) (2) ، فإذا كان لصحبة السوء تأثير في تكوين شخصية الإنسان ، فلصحبة الأخيار تأثير في النفوس القابلة المستعدة ، فربما ترفعه إلى منزلة عالية ، وهذا شيء يلمسه كلّ إنسان في واقعه العملي.

لا شكّ انّ لصحبة الأخيار أثراً تربوياً ، ولكن مدى تأثيرها يختلف حسب اختلاف عناصر ثلاثة ، هي :

1. السن.

2. الاستعداد.

ص : 497


1- الفرقان : 28.
2- الزخرف : 67.

3. مقدار الصحبة.

أمّا الأوّل فلا شكّ انّ الإنسان الواقع في إطار التربية إذا كان إنساناً يافعاً أو شاباً في عنفوان السن يكون قلبه وروحه كالأرض الخالية تنبت ما أُلقي فيها ، فربما تُكوّن الصحبةُ شخصية كاملة تعدّ مثلاً للفضل والفضيلة ، وهذا بخلاف ما إذا كان طاعناً في السن ، واكتملت شخصيّته الروحية والفكرية ، فانّ النفوذ في النفوس المكتملة الشخصية والتأثير عليها والثورة على أفكارها وروحياتها واتجاهاتها أمر صعب ، فيكون تأثير الصحبة أقل بمراتب من الطائفة الأُولى.

وأمّا الثاني - أعني : الاختلاف في الاستعداد - فهو أمر لا يحتاج إلى البيان ، فكما أنّ البشر يختلفون في تقبّل العلم ، فهكذا هم يختلفون في مقدار قبول الهداية الإلهية ، ولهذا نرى أنّ من تخرّجوا عن مدرسة الرسول يختلفون إيماناً وإيثاراً وأخلاقاً وسلوكاً.

وأمّا الثالث أي مقدار الصحبة فقد كانوا مختلفين فيه ، فبعضهم صحب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من بدء البعثة إلى لحظة الرحلة ، وبعضهم أسلم بعد البعثة وقبل الهجرة ، وكثير منهم أسلموا بعد الهجرة وربما أدركوا من الصحبة سنة أو شهراً أو أيّاماً أو ساعة فهل يصحّ أن نقول : انّ صحبة ما ، قلعت ما في نفوسهم جميعاً من جذور غير صالحة وملكات ردية ، وكوّنت منهم شخصيات ممتازة أعلى وأجل من أن يقعوا في إطار التعديل والجرح.

وهذه العوامل تؤيد الاتجاه الثاني القائل بأنّ تأثير الصحبة في صحابة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يكن على نحو يجعل الجميع على حدّ سواء من الإيمان والفضل والتقوى والإيثار والزهد والخير ، وما دامت هذه الاختلافات سائدة عليهم فمن البعيد أن نجعلهم على غرار واحد ونزن الكل بصاع معيّن ، ونحكم على الكلّ

ص : 498

بصفاء النفس ، والتجافي عن زخارف الدنيا.

إنّ صحبة الصحابة لم تكن أشدّ ولا أقوى ولا أطول من صحبة امرأة نوح وامرأة لوط ، فقد صحبتا زوجيهما الكريمين ، ولبثتا معهما ليلاً ونهاراً ولكن هذه الصحبة - للأسف - ما أغنت عنهما من الله شيئاً ، قال سبحانه : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ). (1)

إنّ التشرّف بصحبة النبي لم يكن أكثر امتيازاً وتأثيراً من التشرّف بزوجية النبي ، وقد قال سبحانه في شأنها : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً). (2)

وأنت ترى الكتاب العزيز يندّد بنساء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لأجل كشف سره ويعاتبهنّ في ذلك.

يقول سبحانه : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ* إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ* عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً). (3)

فأي عتاب أشدّ من قوله سبحانه : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) أي مالت قلوبكما عن الحقّ ، كما أنّ قوله : (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) يعرب عن وجود

ص : 499


1- التحريم : 10.
2- الأحزاب 30.
3- التحريم : 53.

أرضية فيهن للتظاهر ضدّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وخلافه ، وهو سبحانه أخبر عن إحقاق أُمنيتهنّ ، لأنّ الله ناصر النبي وجبرئيل وصالح المؤمنين والملائكة.

كلّ ذلك ينبئ عن أنّ الصحبة ليست علّة تامة لتحويل المصاحب إلى إنسان عادل صالح خائف من الله ، ناء عن اقتراف السيّئات حقيرة كانت أو كبيرة ، بل هي مقتضية لصلاح الإنسان إذا كان فيه قابلية للاستضاءة ، وعزم للاستفاضة.

ومعنى هذا انّ للصحبة تأثيراً متفاوتاً وليست على وتيرة واحدة.

ص : 500

3- الصحبة ونفي البعد الإعجازي لها

إنّ دعوة الأنبياء - لا سيّما دعوة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - - ابتنيت على أُسس رائجة في ميادين الدعوة ، فكانوا يدعون بالقول والعمل والتبشير والتنذير ، ومثل هذا النوع من الدعوة يؤثر في طائفة دون طائفة ، كما أنّه عند التأثير يختلف تأثيره عند من يلبّي دعوته ، ولم تكن دعوته دعوة إعجازية خارجة عن قوانين الطبيعة ، فالرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يقم بتربية الناس وتعليمهم عن طريق الإعجاز ، بل قام بإرشاد الناس ودعوتهم إلى الحق مستعيناً بالأساليب التربوية المتاحة والإمكانيات المتوفرة ، والدعوة القائمة على هذا الأساس يختلف أثرها في النفوس حسب اختلاف استعدادها وقابلياتها ، ولم يكن تأثير الصحبة في تكوين الشخصية الإسلامية كمادة كيمياوية تستعمل في تحويل عنصر كالنحاس إلى عنصر آخر كالذهب حتّى تصنع الصحبةُ الجيلَ الكبير الذي يناهز مائة ألف ، أُمّة عادلة مثالية تكون قدوة وأُسوة للأجيال المستقبلة ، فانّ هذا ممّا لا يقبله العقل السليم.

فبالنظر إلى ما ذكرنا نخرج بالنتيجة التالية :

ص : 501

إنّ الأُصول التربوية تقضي بأنّ بعض الصحابة يمكن أن يصل في قوة الإيمان ورسوخ العقيدة إلى درجات عالية ، كما يمكن أن يصل بعضهم في الكمال والفضيلة إلى درجات متوسطة ، ومن الممكن أن لا يتأثر بعضهم بالصحبة وسائر العوامل المؤثرة إلاّ شيئاً طفيفاً لا يجعله في صفوف العدول وزمرة الصالحين.

ويقول بعض المعاصرين تحت عنوان : «هل للصحابي خصوصية مسألة العدالة» :

وأرى أنّ أوّل الخلل يكون عند ما نتعامل مع الصحابة وكأنّهم جنس آخر غير البشر ، والقرآن الكريم والسنّة المطهرة لا يوجد فيها أبداً هذا التفريق بين الصحابة وغيرهم إلاّ ميزة الفضل للمهاجرين والأنصار الذين كانت لهم ميزة الجهاد والإنفاق أيّام ضعف الإسلام وذلّة أهله ، أمّا بقية الأُمور كطروء النسيان والوهم والخطأ وارتكاب بعض الكبائر ، فهذه وجدت وحصل من بعض السابقين ومن كثير من اللاحقين.

ولم أجد دليلاً مقنعاً صحيحاً صريحاً يفرق بين شروط العدالة بين جيل وآخر ، لا استثني من ذلك صحابة ولا تابعين. (1)

وما ذكرناه هو نتيجة التحليل على ضوء الأُصول النفسية والتربوية غير أنّ البحث لا يكتمل ولا يصحّ القضاء الباتّ إلاّ بالرجوع إلى القرآن الكريم حتّى نقف على نظره فيهم ، كما تجب علينا النظرة العابرة إلى كلمات الرسول في حقّهم ثمّ ملاحظة سلوكهم في زمنه - صلى الله عليه وآله وسلم - وبعده. وسيوافيك بيانه في الفصول المستقبلة.

ص : 502


1- الصحبة والصحابة : 217 - 218.

4- الصحابة أبصر بحالهم من غيرهم

إنّ من سبر تاريخ الصحابة بعد رحيل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، يجد فيه صفحات مليئة بألوان الصراع والنزاع بينهم ، حافلة بتبادل التّهم والشتائم ، بل تجاوز الأمر بهم إلى التقاتل وسفك الدماء ، فكم من بدري وأُحدي انتُهكت حرمته ، وصُبّ عليه العذاب صبّاً ، أو أُريق دمه بيد صحابي آخر.

وهذا ممّا لا يختلف فيه اثنان ، بيد أنّ الذي ينبغي التنبيه عليه ، هو أنّ كلاً من المتصارعين ، كان يعتقد أنّ خصمه متنكّبٌ عن جادة الصواب ، وأنّه مستحقّ للعقاب أو القتل ، وهذا الاعتقاد ، حتّى وإن كان نابعاً عن اجتهاد ، فإنّه يكشف عن أنّ كلاً من الفئتين المختلفتين لم تكن تعتقد بعدالة الفئة الأُخرى.

فإذا كان الصحابي يعتقد أنّ خصمه عادل عن الحق ومجانب لشريعة الله ورسوله ، وهو على أساس ذلك يبيح سلّ السيف عليه وقتله ، فكيف يجوز لنا نحن أن نحكم بعدالتهم ونزاهتهم جميعاً ، وأن نضفي عليهم ثوب القدسيّة على حدّ سواء؟! ونُبرّأهم من كل زيغ وانحراف؟

أو ليس الإنسان أعرف بحاله وأبصر بروحيّاته؟

أو ليس الصحابة أعرف منّا بنوازع أنفسهم ، وبنفسيات أبناء جيلهم؟

ص : 503

هذا وراء ما دار بينهم كلمات تكشف عن اعتقاد بعضهم في حق بعض ، فالاتّهام بالكذب والنفاق والشتم والسب كان من أيسر الأُمور المتداولة بينهم ، فهذا هو سعد بن عبادة سيّد الخزرج ، يخاطب سعد بن معاذ ، وهو سيد الأوس وينسبه إلى الكذب كما حكاه البخاري في صحيحه.

قالت عائشة : فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخرج فقال لسعد [بن معاذ] كذبت لعمر الله ... فقام أُسيد ابن حضير وهو ابن عم سعد [بن معاذ] فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنّه فإنّك منافق تجادل عن المنافقين ، فتثاور الحيّان حتّى همّوا أن يقتتلوا ورسول الله قائم على المنبر ، فلم يزل رسول الله يخفِّضهم حتّى سكتوا وسكت. (1)

وليست هذه القضية فريدة في بابها فلها عشرات النظائر في الصحاح والمسانيد وفي غضون التاريخ. وإنّما ذكرته ليكون كنموذج لما لم أذكر ، وسيوافيك في الفصول التالية نماذج من أفعالهم وأقوالهم التي يكشف عن اعتقادهم في حقّ مخالفيهم.

أو ليس من العجب العجاب ، انّ الصحابي يصف صحابياً آخر - في محضر النبي - بالكذب ، والآخر يصف خصمه بالنفاق ، وكلا الرجلين من جبهة الأنصار وسنامهم؟! ولكن الذين جاءوا بعدهم يصفونهم بالعدل والتقوى ، والزهد والتجافي عن الدنيا ، وهل سمعت ظئراً أرحم بالطفل من أُمّه. (2)

ص : 504


1- صحيح البخاري : 3 / 245 ، كتاب التفسير ، رقم الحديث 4750.
2- مثل يضرب.

5- ما هي الغاية من نقد آراء الصحابة وأفعالهم؟

قد أثبتت البحوث السابقة انّ الصحابة من جنس البشر وليسوا من جنس الملائكة المعصومين الذين (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (1) فهم كالتابعين وتابعي التابعين في كلّ ما يجوز وما لا يجوز ، فتحريم البحث عن حياتهم ونقد آرائهم وأفعالهم ، تخصيص بلا جهة.

وقد تذرّعوا في تحريم نقدهم «بأنّ الصحابة هم المصدر لأخذ الدين والمسلمون متطفّلون على موائدهم حيث أخذوا عنهم دينهم ، فنقد آرائهم وأفعالهم ينتهي إلى تقويض دعائم الدين» ولكن هذا التذرّع لا يثبت أمام الآيات الصريحة والأحاديث النبوية والتاريخ الصحيح الواردة في نقد آراء الصحابة وأفعالهم.

أضف إلى ذلك : انّ المسلمين كما أخذوا دينهم عن الصحابة أخذوا عن التابعين أيضاً ، فلو ثبت ما تذرّعوا به لسرى التحريم إلى التابعين أيضاً ، وقد اتّفق

ص : 505


1- التحريم : 6.

المسلمون على خلافه في مورد التابعين.

إنّ البحث حول الصحابة لا يؤول إلى انهيار الدين وتصدّع الشريعة ، ما دام يعيش بين ظهرانيهم علماء ربّانيّون هم أُسوة في الحياة ، أُمناء على الدين والدنيا ، فلا يضرّ جرح طائفة أو فئة خاصة بثبات الدين وقوامه.

ومع ذلك كلّه ، نرى أنّ علماء الرجال وأصحاب الجرح والتعديل يحذرون من نقد حياة الصحابة أشدَّ الحذر ويعدّون ذلك من عمل المبتدعة ، يقول الحافظ ابن حجر في الفصل الثالث من «الإصابة» :

اتّفق أهل السنّة على أنّ الجميع عدول ، ولم يخالف في ذلك إلاّ شذوذ من المبتدعة ، وقد ذكر الخطيب في الكفاية فصلاً نفيساً في ذلك ، فقال : عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم ، ثمّ نقل عدّة آيات حاول بها إثبات عدالتهم وطهارتهم جميعاً ، إلى أن قال : روى الخطيب بسنده إلى أبي زرعة الرازي قال : إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله فاعلم أنّه زنديق ، وذلك انّ الرسول حقّ والقرآن حق ، وما جاء به حقّ ، وإنّما أدّى إلينا ذلك كلّه الصحابة ، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنّة ، والجرح بهم أولى وهم زنادقة. (1)

أقول : إنّ نقد الصحابي عقيدة وفعلاً ليس لغاية إبطال الكتاب والسنّة ، ولا لإبطال شهود المسلمين ، وإنّما الغاية من البحث في عدالتهم هي الغاية ذاتها من البحث في عدالة غيرهم ، فالغاية في الجميع هي التعرف على الصالحين والطالحين ، حتّى يتسنّى لنا أخذ الدين عن الصلحاء واجتناب أخذه عن غيرهم ، فلو قام الرجل بهذا العمل وتحمّل العبء الثقيل ، لما كان عليه لوم ، فلو قال أبو

ص : 506


1- الإصابة : 1 / 17.

زرعة مكان هذا القول : «إذا رأيت الرجل يتفحّص عن أحد من أصحاب الرسول لغاية العلم بصدقه أو كذبه ، أو خيره أو شرّه ، حتّى يأخذ دينه عن الخيرة الصادقين ويتحرز عن الآخرين ، فاعلم أنّه من جملة المحقّقين في الدين والمتحيرين للحقيقة» ، لكان أحسن وأولى ، بل هو الحق والمتعيّن.

ومن غير الصحيح أن يتهم العالم أحداً ، يريد التثبّت في أُمور الدين ، والتحقيق في مطالب الشريعة ، بالزندقة وانّه يريد جرح شهود المسلمين لإبطال الكتاب والسنّة ، وما شهود المسلمين إلاّ الآلاف المؤلّفة من أصحابه - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فلا يضرّ بالكتاب والسنّة جرح لفيف منهم وتعديل قسم منهم ، وليس الدين القيم قائماً بهذا الصنف من المجروحين «ما هكذا تورد يا سعد الإبل».

ص : 507

6- هل الصحابة الكرام فوق الأنبياء؟

إنّ من سبر كتب الحديث والتفسير يجد انّ السلف الصالح ينسبون إلى الأنبياء قصصاً خرافية ويلهجون بأكاذيب شنيعة بلا اكتراث ولا تكذيب ، ولكنّهم يتورّعون عن دراسة حياة الصحابي ونقد أفعاله وآرائه وأقواله ، وربما يتّهمون الناقل بالزندقة وإبطال شهود المسلمين ، فما هذا التبعيض؟! فهل يحظى الصحابة بالتكريم أكثر ممّا يحظى به الأنبياء؟! وهل هم فوق رجال السماء في النزاهة وكرامة النفس؟! وإليك بعض الأكاذيب الشنيعة التي ملئت بها كتب التفاسير.

1. أُكذوبة الغرانيق

قال ابن كثير في تفسير قوله سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ* لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ* وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ

ص : 508

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). (1)

قد ذكر كثير من المفسّرين هاهنا قصة الغرانيق ، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة ظناً منهم انّ مشركي قريش قد أسلموا ، ولكنّها من طرق كلّها مرسلة ، ولم أرها مسندة من وجه صحيح.

قال ابن أبي حاتم : حدّثنا يونس بن حبيب ، حدّثنا أبو داود ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، قال :

قرأ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بمكة النجم ، فلمّا بلغ هذا الموضع : (أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى* وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ، قال : فألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلى وانّ شفاعتهن ترتجى ، قالوا : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم ، فسجد وسجدوا ، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). (2)

لا يشكّ أي مسلم عارف بحقّ النبي الخاتم في أنّ القصة مكذوبة ، والأدلّة على نزاهة النبي عن هذه ، كثيرة ، ويكفيك انّ سورة الحجّ مدنية أمر فيها بالأذان بالحجّ وأذن فيها بالقتال وأمر فيها بالجهاد ولم يكن هذا الأمر وهذا الإذن إلاّ بعد الهجرة بأعوام. وانّ الذي بين ذلك ، وبين الوقت الذي يجعلونه لخرافة الغرانيق أكثر من عشرة أعوام. ولو أغمضنا عن ذلك ، إذ لا مانع من كون السورة مكية وبعض آياتها مدنية ، لكفى في إبطالها ما أقمنا عليه في

ص : 509


1- الحج : 52 - 54.
2- تفسير ابن كثير : 4 / 655 ؛ ولاحظ تفسير الطبري : 17 في تفسير نفس الآية ، ص 131 ، وغيرهما.

محاضراتنا. (1)

والغرض الأسنى من ذكر هذه الأُكذوبة انّ القوم ينقلون هذه الأكاذيب الشنيعة المنسوبة إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولكنّهم يتورّعون عن دراسة حال الصحابي ونقد رأيه وفعله ، فكأنّ الصحابة عندهم أرفع وأنزه من الأنبياء المعصومين بنص الكتاب!!

وهذه القصة التي وردت في كتب التفسير لأهل السنّة صارت أساساً لكتاب «الآيات الشيطانية» لسلمان رشدي المرتدّ حيث نشر كتابه هذا في الملأ العام وأضاف إلى هذه القصة أضعافاً كثيرة ممّا أوحى إليه شيطانه. وقد حكم الإمام الخميني - رحمه الله - بارتداده ووجوب قتله.

2. اتّهام داود - عليه السلام - بقتل زوج أوريا وتزوّجها

إنّ نبي الله داود - عليه السلام - أحد الأنبياء العظام الذي وصفه سبحانه بقوله : (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) (2) وقد بلغ من الكمال حدّاً ، أن كانت الجبال تتجاوب معه في التسبيح ، يقول سبحانه : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ). (3)

كما سخّر له الله سبحانه الجبال والطير ، فقال : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ* وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ). (4)

ص : 510


1- سيرة سيّد المرسلين : 1 / 488 - 497.
2- البقرة : 251.
3- سبأ : 10.
4- ص : 1918.

أفهل يتصوّر في حق نبي بلغ من الكمال ما بلغ أن يعشق امرأة محصنة وهي أوريا ، ثمّ يمهد الطريق لقتل زوجها لغاية التزوّج بها؟ ومع ذلك ملئت بهذه الخرافة ، التفاسير.

يروي المفسرون في تفسير قوله سبحانه : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ* إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ* إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ* قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ). (1)

... جاءه الشيطان قد تمثل في صورة حمامة حتّى وقع عند رجليه ، وهو قائم يصلّي ، فمدّ يده ليأخذه فتنحى ، فتبعه فتباعد حتّى وقع في كوّة ، فذهب ليأخذها ، فطار من الكوّة ، فنظر أين يقع ، فذهب في أثره ، فأبصر امرأة تغتسل على سطح لها ، فرأى امرأة من أجمل الناس خلقاً ، فحانت منها التفاتة فأبصرته ، فالتَفّت بشعرها فاستترت به ، فزاده ذلك فيها رغبة ، فسأل عنها ، فأُخبر أنّ لها زوجاً غائباً بمسلحة كذا وكذا. فبعث إلى صاحب المسلحة يأمره أن يبعث إلى عدوّ كذا وكذا ... فبعثه ففتح له أيضاً ، فكتب إلى داود - عليه السلام - بذلك ، فكتب إليه أن ابعثه إلى عدوّ كذا وكذا ... فبعثه فقتل في المرة الثالثة ، وتزوّج امرأته.

فلمّا دخلت عليه لم يلبث إلاّ يسيراً حتّى بعث الله له ملكين في صورة أُنسيّين ، فطلبا أن يدخلا عليه ، فتسوّرا عليه المحراب ، فما شعر وهو يصلّي إذ هما

ص : 511


1- ص : 21 - 24.

بين يديه جالسين ، ففزع منهما فقالا : (لا تَخَفْ) إنّما نحن (خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ) يقول : لا تخف (وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) إلى عدل القضاء فقال : قُصّا عليَّ قصتكما ، فقال أحدهما (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ) قال الآخر : وأنا أُريد أن آخذها فأكمل بها نعاجي مائة ، قال : وهو كاره ، قال : إذاً لا ندعك وذاك ، قال : يا أخي أنت على ذلك بقادر ، قال : فإن ذهبت تروم ذلك ضربنا منك هذا وهذا. يعني طرف الأنف والجبهة.

قال : يا داود أنت أحقّ أن يضرب منك هذا وهذا. حيث لك تسع وتسعون امرأة ، ولم يكن لأُوريا إلاّ امرأة واحدة ، فلم تزل تعرضه للقتل حتّى قتلته. وتزوّجت امرأته ، فنظر فلم ير شيئاً ، فعرف ما قد وقع فيه ، وما قد ابتلى به. (1)

ومعنى ذلك انّه كان لداود 99 زوجة وأراد أن يتمّها بامرأة غيره وبذلك ظلم أخاه ، فبعث الله ملكين يطرحان عمله بصورة أُخرى وانّ هناك أخوين لأحدهما 99 نعجة وللآخر نعجة واحدة فأراد صاحب النعاج الكثيرة أن يتملّك النعجة الوحيدة.

وهذه القصة الخرافية وأمثالها تُنسب إلى الأنبياء بلا اكتراث ومع ذلك لا يرضون لأحد أن ينقد حياة صحابي حتى يأخذ دينه من عين صافية ومن رجال صلحاء ، أعني : الذين خامر الدين والإيمان أنفسهم وأرواحهم

ما هكذا تورد يا سعدُ الابل.

ص : 512


1- الدر المنثور : 7 / 160 ، تفسير سورة ص ؛ تفسير الطبري : 23 / 93 ، وغيرهما.

7- مظاهر الغلو في الصحابة

اشارة

الغلو هو تجاوز الحدّ ، ومنه غلا السعر : إذا تجاوز حدّه ، قال سبحانه : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ). (1)

فالغلو في الدين في الآية ، كناية عن الغلو في رسوله ، أعني : المسيح عيسى بن مريم.

فذكر سبحانه أوّلاً واقعَ المسيح وانّه كان بشراً رسولاً ، لا يختلف عمّن تقدّم من الرسل ، وهو كلمة الله التي حملتها مريم وولدتها.

ثمّ أشار ثانياً إلى أنواع غلوهم فحلّت الآلهة الثلاثة مكان الإله الواحد ، وُعّد المسيح أحد الآلهة تارة ، وابن الإله أُخرى ، فهذا كلّه غلو وإفراط ، قال : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً). (2)

فكما أنّ الإفراط غلو وتجاوز للحد فهكذا التفريط والتقصير ، والداعي إلى

ص : 513


1- النساء : 171.
2- النساء : 171.

الأخير إمّا عجز الإنسان وعيّه عن أداء الحقّ ، أو حسده وحقده.

وللإمام أمير المؤمنين حول الإفراط والتفريط كلمتان نأتي بهما :

1. قال : الثناء بأكثر من الاستحقاق ملق ، والتقصير عن الاستحقاق عيّ أو حسد. (1)

2. وقال : إنّ دين الله بين المقصر والغالي ، فعليكم بالنمرقة الوسطى ، فيها يلحق المقصر ، ويلحق إليها الغالي. (2)

فالمسلم الحرّ ، لا يعدل عن النمرقة الوسطى ، وهو يخضع للحق مكان خضوعه للملق والعاطفة ، أو للبغض والحسد.

إنّ كثيراً من أهل السنّة ، غالوا في حقّ الصحابة وتجاوزوا الحد ، خضوعاً للعاطفة ، وإغماضاً عمّا ورد في حقّهم في الكتاب العزيز والسنّة النبوية والتاريخ الصحيح ، فألبسوهم جميعاً لباس العدالة - بل العصمة من غير وعي - فصاروا مصادر للدين ، أُصوله وفروعه ، دون أن يقعوا في إطار الجرح والتعديل ، من غير فرق بين من آمن قبل بيعة الرضوان وبعدها ، ومن آمن قبل الفتح أو بعده ، ومن غير فرق بين الطلقاء وأبنائهم والأعراب ، مع تفريق الكتاب العزيز بينهم في الإيمان والإخلاص ، فالكلّ في نظرهم من أوّلهم إلى آخرهم عدول ، لا يخطئون ولا يسهون ، ولا يعصون.

وليس هذا إلاّ نوعا من الغلو لم يعهد في أُمّة عبر التاريخ.

مظاهر الغلو

اشارة

وهنا - وراء القول بعدالتهم بل عصمتهم - مظاهر للغلو ، نشير إليها :

ص : 514


1- نهج البلاغة : قصار الكلمات ، 347.
2- ربيع الأبرار للزمخشري : 2 / 63.
1. سنّة الصحابة

يرى غير واحد من الباحثين انّ للصحابة سنّة ، تُعتبر حجة يعمل بها ، وإن لم تكن في الكتاب الكريم ولا في المأثور عن النبي ، قال مؤلّف كتاب «السنّة قبل التدوين». (1)

«وتطلق السنّة أحياناً عند المحدّثين وعلماء أُصول الفقه على ما عمل به أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، سواء أكان في الكتاب الكريم أم في المأثور عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أم لا. ويحتج لذلك بقوله عليه الصلاة والسلام : «عليكم بسُنّتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسّكوا بها وعضّوا عليها بالنّواجذ». وقوله أيضاً : «تفترق أُمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النار إلاّ واحدة» ، قالوا : ومَن هم يا رسول الله؟ قال : «ما أنا عليه وأصحابي».

ومن أبرز ما ثبت في السنّة بهذا المعنى (سنّة الصحابة) حد الخمر ، وتضمين الصناع ، وجمع المصاحف في عهد أبي بكر برأي الفاروق ، وحمل الناس على القراءة بحرف واحد من الحروف السبعة ، وتدوين الدواوين ... وما أشبه ذلك ممّا اقتضاه النظر المصلحي الذي أقرّه الصحابة رضي الله عنهم.

ثمّ قال :

وممّا يدلّ على أنّ السنّة هي العمل المتبع في الصدر الأوّل قول علي بن أبي طالب - عليه السلام - لعبد الله بن جعفر عند ما جلد شارب الخمر أربعين جلدة : «كفّ. جلد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أربعين ، وأبو بكر أربعين ، وكمّلها عمر ثمانين وكلّ سنّة». (2)

روى السيوطي : قال حاجب بن خليفة شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب

ص : 515


1- الدكتور محمد عجاج الخطيب ، أُستاذ الحديث وعلومه في كلية الشريعة بدمشق.
2- تدوين السنة : 20 ، ط دار الفكر.

وهو خليفة فقال في خطبته : ألا إنّ ما سنَّ رسول الله وصاحباه فهو دين نأخذ به ، وننتهي إليه وما سنّ سواهما فإنّما نرجئه. (1)

هذا وقد احتلّت فتوى الصحابة منزلة الآثار النبوية يأخذ بها فقهاء السنّة ، يقول الشيخ أبو زهرة : ولقد وجدناهم (الفقهاء) يأخذون جميعاً بفتوى الصحابي ولكن يختلفون في طريق الأخذ ، فالشافعي كما يصرح في «الرسالة» يأخذ بفتواهم على أنّها اجتهاد منهم واجتهادهم أولى من اجتهاده ، ووجدنا مالكاً - رضي الله عنه - يأخذ بفتواهم على انّها من السنّة. الخ

وهذا يعرب عن أنّ للصحابة حق التشريع وجعل الأحكام في ضوء المصالح العامة ، مع أنّ الكتاب العزيز دلّ بوضوح على أنّ حق التشريع خاص بالله فقط ، ولا يحق لأحد أن يفرض رأيه على الآخرين.

فدفعُ زمام التشريع إلى غيره سبحانه أشبه بعمل أهل الكتاب حيث اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله. فلم يعبدوهم ، بل خضعوا لهم في التحريم والتحليل فصاروا أرباباً في مجال التقنين والتشريع.

روى الثعلبي باسناده عن عدي بن حاتم قال : أتيت رسول الله وفي عنقي صليب من ذهب ، فقال لي : «يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك» قال : فطرحته ، ثم انتصب إليه وهو يقرأ هذه الآية : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً) (2) حتى فرغ منها ، فقلت : إنّا لسنا نعبدهم ، فقال : «أليس يحرّمون ما أحله الله فتحرّمونه ، ويحلّون ما حرّم الله فتتحلّونه؟» قال : فقلت : بلى ، قال : «فتلك عبادة» (3).

وأين هذا ممّا عليه أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - روى جابر بن عبد الله عن أبي جعفر

ص : 516


1- تاريخ الخلفاء : 16.
2- التوبة : 31.
3- تفسير الثعلبي : 5 / 314.

الباقر - عليه السلام - قال : «يا جابر إنّا لو كنّا نحدّثكم برأينا وهوانا ، لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نحدّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله». (1)

وممّن وقف على خطورة الموقف ، الشوكاني قال : والحق إنّ قول الصحابي ليس بحجّة ، فانّ الله سبحانه وتعالى لم يبعث إلى هذه الأُمّة إلاّ نبيّنا محمّداً ، وليس لنا إلاّ رسول واحد ، والصحابة ومن بعدهم مكلّفون على السواء باتّباع شرعه والكتاب والسنّة ، فمن قال : إنّه تقوم الحجّة في دين الله بغيرهما فقد قال في دين الله بما لا يثبت وأثبت شرعاً لم يأمر الله به. (2)

وممّن بالغ في حجّية قول الصحابي - غير المسند إلى الرسول - ابن قيّم الجوزية في كتابه «اعلام الموقعين» وقد أوضحنا حال أدلّته البالغة إلى ستة وأربعين دليلاً ، في تقديمنا لكتاب طبقات الفقهاء ، القسم الأوّل ، فلاحظ. (3)

والعجب انّ الصحابة لم يدّعوا لأنفسهم هذا المقام ولم يغالوا في حقّهم ولم يتجاوزوا الحد ، وهذا هو عمر بن الخطاب يقول : وإنّي لعلي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم ، وآمركم بأشياء لا تصلح لكم. (4)

وقد شاع وذاع عن الخلفاء قولهم : أقول فيها برأيي فإن أصبتُ فمن الله ، وإن أخطأت فمنّي أو من الشيطان» فكيف يمكن أن يكون الرأي المردد بين الله وغيره حكماً شرعياً لازم الاتّباع إلى يوم البعث.

إن هذا إلاّ الغلو الواضح النابع من القول بعصمتهم من غير وعي.

ص : 517


1- جامع أحاديث الشيعة : 1 / 17.
2- إرشاد الفحول : 214.
3- الفقه الإسلامي منابعه وأدواره : 289 - 303.
4- تاريخ بغداد : 14 / 81.
2. العزوف عن نقد الصحابة

من مظاهر الغلو في الصحابة هو العزوف عن نقد الصحابة ، والمنع عن التكلم حول ما دار بينهم من النزاع والنقاش ، يقول إمام الحنابلة :

وخير هذه الأُمّة بعد نبيّها - صلى الله عليه وآله وسلم - أبو بكر ، وخيرهم بعد أبي بكر عمر ، وخيرهم بعد عمر ، عثمان ، وخيرهم بعد عثمان علي - رضوان الله عليهم - خلفاء راشدون مهديّون ، ثمّ أصحاب محمّد بعد هؤلاء الأربعة لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساويهم ولا يطعن على أحد منهم ، فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته ، ليس له أن يعفو عنه ، بل يعاقبه ثمّ يستتيبه ، فإن تاب قبل منه ، وإن لم يتب أعاد عليه العقوبة ، وجلده في المجلس حتّى يتوب ويراجع. (1)

وقال الإمام الأشعري : ونشهد بالجنة للعشرة الذين شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بها ونتولّى بها ونتولّى سائر أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ونكفّ عمّا شجر بينهم ... (2)

وقال أبو الحسين محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الملطي (المتوفّى 377 ه) عند ما ذكر عقائد أهل السنّة ومنها : الكفّ عن أصحاب محمد. (3)

وعند ما يقف الباحث على مصادر جمة وتظهر أمامه أفانين من اقتراف المعاصي وسفك الدماء الطاهرة ، وهتك الحرمات ، ويجابههم بهذه الحقائق ، فإنّهم يلتجئون إلى ما يُروى عن عمر بن عبد العزيز وأحياناً عن الإمام أحمد بن حنبل من لزوم الإمساك عمّا شجر بين الصحابة من الاختلاف ، وكثيراً ما يقولون حول الدماء التي أُريقت بيد الصحابة - حيث قتل بعضهم بعضاً - تلك دماء طهّر الله

ص : 518


1- كتاب السنة لأحمد بن حنبل : 50.
2- الإبانة : 40 ، ط دار النفائس ، ومقالات الإسلاميين : 294.
3- التنبيه والردّ : 15.

منها أيدينا فلا نلوّث بها ألسنتنا.

غير أنّ هذه الكلمة - من أيّ شخص صدرت - تخالف القرآن الكريم والسنّة النبوية والعقل الصريح.

أمّا القرآن الكريم فقد وصف طوائف من الصحابة بالأوصاف التي سوف تقف عليها عند تصنيف الصحابة والتي منها الفسق وقال فيما قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ). (1)

وأمّا السنّة النبوية فهي تصف قتلة عمار بالفئة الباغية حيث قال - صلى الله عليه وآله وسلم - : «تقتلك الفئة الباغية ، تدعوهم إلى الجنّة ويدعونك إلى النار». (2) وكان معاوية ، وعمرو بن العاص يقودان الفئة الباغية.

ويقول - صلى الله عليه وآله وسلم - في حقّ الخوارج : «تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق». (3)

وهذه الأحاديث وأمثالها كثيرة مبثوثة في الصحاح والمسانيد ، فإذا كان الإمساك أمراً واجباً والإطلاق أمراً محرماً ، فلما ذا أطلق الوحي الإلهي والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لسانهما بوصف هؤلاء بالأوصاف الماضية؟!

وأمّا العقل فلا يجوّز لنا أن نلبس الحق بالباطل ونكتم الحقّ ونكيل للظالم والعادل بمكيال واحد ، أمّا ما روي عن الإمام أحمد فلعلّه يريد به الإمساك عن الكلام فيهم بالباطل والهوى ، وأمّا الكلام فيهم بما اشتهر اشتهار الشمس في رائعة النهار ونقله المحدّثون والمؤرخون في كتبهم وأُشير إليه في الذكر الحكيم فلا معنى

ص : 519


1- الحجرات : 6.
2- الجمع بين الصحيحين : 2 / 461 ، رقم 1794.
3- السنّة لابن حنبل ، رقم 41.

للزوم الإمساك عنه.

ثمّ إنّه يُستشفّ من هذا الكلام أنّ الدماء التي أُريقت في وقائع الجمل وصفين والنهروان ، كانت قد سُفكت بغير حق ، وهذا - وأيم الحق - عين النصب ، وقضاء بالباطل ، وإلاّ فأي ضمير حرّ يحكم بأنّ قتال الناكثين والقاسطين والمارقين ، كان قتالاً بغير حقّ؟! وكلّنا يعلم أنّ أمير المؤمنين - عليه السلام - كان على بيّنة من ربّه وبصيرة من دينه ، يدور معه الحقّ حيثما دار ، وهو الذي يقول : «والله لو أُعطيتُ الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصيَ اللهَ في نملة أسلبُها جِلْبَ شعيرة ما فعلتُ».

ما هذا التجنّي أمام الحقائق الواضحة؟!

أو ليس العزوف عن نقد الصحابة تكريساً للأخطاء ، وإيغالاً في التقديس؟!

أو ليس تنزيه الصحابة جميعاً تنكّراً للطبيعة البشرية.

إنّ النقد الموضوعي تعزيز لجبهة الحق ، وتمييز الخبيث من الطيّب ، والمبطل عن المحق قال سبحانه : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ). (1)

ولو كان الكفّ عمّا اقترفوا أمراً واجباً فلما ذا خرق النبي هذا الستر وأخبر عن رجوعهم عن الطريق المهيع.

وهذا هو الإمام البخاري يروي روايات كثيرة حول ارتداد بعض الصحابة بعد رحيل النبي ، نكتفي بواحدة منها.

إنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : بينما أنا قائم على الحوض إذا زمرة حتّى إذا

ص : 520


1- آل عمران : 179.

عرفتهُم خرج رجل بيني وبينهم فقال : هلم! فقلت : أين؟ فقال : إلى النار والله ، فقلت : ما شأنهم؟ قال : إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى ، ثمّ إذا زمرة أُخرى ، حتّى إذا عرفتهم خرج رجل بيني وبينهم فقال لهم : هلم ، فقلت : إلى أين؟ قال : إلى النار والله ، قلت : ما شأنهم؟ قال : إنّهم ارتدوا على أدبارهم ، فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل هِمْل النعم». (1)

وظاهر الحديث : «حتّى إذا عرفتهم» وقوله : «ارتدوا على أدبارهم القهقرى» أنّ الذين أدركوا عصره وكانوا معه ، هم الذين يرتدون بعده.

إذا راجعنا الصحاح والمسانيد نجد أنّ أصحابهم أفردوا باباً بشأن فضائل الصحابة إلاّ أنّهم لم يفردوا باباً في مثالبهم ، بل أقحموا ما يرجع إلى هذه الناحية في أبواب أُخر ، ستراً لمثالبهم وقد ذكرها البخاري في الجزء التاسع من صحاحه في باب الفتن ، وأدرجها ابن الأثير في جامعه في أبواب القيامة عند البحث عن الحوض ، والوضع الطبيعي لجمع الأحاديث وترتيبها ، كان يقتضي عقد باب مستقل للمثالب في جنب الفضائل حتّى يطلع القارئ على قضاء السنة حول صحابة النبي الأكرم.

3. السنّة قاضية على القرآن

القرآن الكريم هو المرجع الأوّل للمسلمين في الشريعة والعقيدة ، وقد وصفه سبحانه بأنّ فيه تبياناً لكلّ شيء ، قال : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ). (2)

ص : 521


1- جامع الأُصول لابن الأثير : 11 / 120 ، كتاب الحوض في ورود الناس عليه ، رقم الحديث 7972. و «الفرط» : المتقدم قومه إلى الماء ، ويستوي فيه الواحد والجمع ، يقال : رجل فرط وقوم فرط.
2- النحل : 89.

والمراد من الشيء في الآية إمّا المعنى العام ، أو المعنى الخاص ، أي العقيدة والشريعة ، والمعنى الثاني هو القدر المتيقّن ، فيجب أن يكون ميزاناً للحقّ والباطل فيما تحكيه الروايات في مجالي العقيدة والشريعة.

كما أنّه سبحانه عرّفه في مكان آخر بأنّه المهيمن على جميع الكتب السماوية (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ). (1)

فإذا كان القرآن مهيمناً على جميع الكتب السماوية وميزاناً للحقّ والباطل الواردين فيها ، فأولى أن يكون مهيمناً على ما يُنسب إلى صاحب الشريعة المحمّدية من صحيح وسقيم.

ومقتضى ذلك أن يكون القرآن حاكماً على السنّة ومعياراً لصحّتها وسقمها ؛ ولكن الغلوّ في رواة السنّة وعلى رأسهم الصحابة ، انتهى إلى خلاف ذلك ، فصارت السنّة قاضية على القرآن ، حاكمة عليه ، وهذا أحد مظاهر الغلوّ في الصحابة ومن تتلمذ على أيديهم حيث قدّموا رواياتهم على كتاب ربّ العزّة ، وإن كنت في ريب ممّا ذكرنا فاقرأ ما نتلوه عليك :

روى الحافظ الكبير أبو محمد عبد الرحمن الدارمي في سننه في باب «السنّة قاضية على كتاب الله» بسنده عن يحيى بن أبي كثير قال : السنّة قاضية على القرآن وليس القرآن بقاض على السنّة. (2)

قال الإمام الأشعري واختلفوا في القرآن هل ينسخ إلاّ بقرآن ، وفي السنّة هل ينسخها القرآن؟ فقال : المختلفون في ذلك ثلاثة أقاويل ، منها :

السنّة تنسخ القرآنَ وتقضي عليه ، والقرآن لا ينسخ السنّة ولا يقضي

ص : 522


1- المائدة : 48.
2- سنن الدارمي : 1 / 144.

عليها. (1)

لا شكّ انّ السنّة المحكية الّتي تصدر عن لسان النبيّ هي كالقرآن الكريم ، تخصِّص عموم القرآن وتقيّد مطلقه ، ولا يكون بينهما أيّ خلاف حتّى يكون أحدهما قاضياً على الآخر ، إنّما الكلام في هذه السنن الحاكية المبثوثة في الصحاح والسنن والمسانيد ، فهل يمكن أن تكون تلك السنّة قاضية على كتاب الله ولا يكون الكتاب قاضياً عليها؟!

(تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى).

4. حجّية رواياتهم بلا استثناء

من مظاهر الغلو في حقّ الصحابة ، حجّية رواياتهم بلا استثناء ، مع أنّ الصحابة كانوا على أصناف يعرفهم كلّ من قرأ الكتاب العزيز وتدبّر في آياته.

كانت في الصحابة طائفة من المؤمنين المخلصين بدرجات مختلفة ، وفيهم المسلمون الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم ، وفيهم المنافقون وهم عدد غير قليل ، وفيهم المؤلّفة قلوبهم ، وفيهم من نزل القرآن بفسقه ، وفيهم من أُقيم عليه الحدّ الشرعي في زمن النبيّ ، وفيهم من ارتدّ عن دينه إلى غير ذلك من الأصناف الّتي لا يحتجّ بأقوالها ورواياتها.

ومع ذلك احتج بروايات الصحابي مطلقاً ، ومن دون استثناء.

إنّ الرسول الأعظم - صلى الله عليه وآله وسلم - حذّر أصحابه من الكذب عليه في حياته ، وهذا يعرب عن وجود من كان يكذب عليه في حياته فكيف بعد مماته.

روى البخاري ، عن رِبْعي بن حراش يقول : سمعت عليّاً يقول : قال

ص : 523


1- مقالات الإسلاميين : 608.

النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : لا تكذبوا عليّ فانّه مَنْ كذب عليّ فليلج النار». (1)

وروى أيضاً عن عبد الله بن الزبير قال : قلت للزبير : إنّي لا أسمعك تحدّث عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كما يحدّث فلان وفلان؟ قال : إنّي لم أُفارقه ، ولكن سمعته يقول : «من كذب عليّ فليتبوّأ مقعده من النّار».

إلى غير ذلك من الأحاديث الّتي رواها الإمام البخاري في هذه المضمار.

وقد عقد ابن ماجة في سننه باب التغليظ على تعمّد الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وروى فيه ثماني روايات حول نهي النبي عن الكذب عليه.

وعن أبي قتادة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول على هذا المنبر : إيّاكم وكثرة الحديث عنّي ، فمن قال ، عليّ فليقل عدلاً أو صدقاً ، ومن تقوّل عليّ ما لم أقل فليتبوّأ مقعده من النار. (2)

ما ذا يريد رسول الله من خطابه : «إيّاكم وكثرة الحديث عنّي» ألا يدلّ هذا على أنّه كان بين الصحابة من يتقوّل عليه وينقل عنه ما لم يقل؟ نعم هذا لا يستلزم اختصاص الحكم بالصحابة ، بل يحرم التقوّل على غير الصحابي ، أيضاً بملاك الاشتراك في التكليف ، ولكن الخطاب متوجه إلى الصحابة يخصّهم بالذكر وإن كان الحكم واسعاً.

ثمّ إنّ ابن ماجة عقد باباً آخر ، تحت عنوان «من حدّث عن رسول الله حديثاً وهو يُرى أنّه كذب» روى فيه أربع روايات كلّها بمضمون الحديث التالي : من حدّث عنّي حديثاً وهو يرى أنّه كذب فهو أحد الكاذبين. (3)

ص : 524


1- صحيح البخاري : 1 ، باب إثم من كذب على النبيّ ، الحديث 106 - 107.
2- سنن ابن ماجة : 1 / 14 ، رقم 35.
3- سنن ابن ماجة : 1 / 14 ، قسم المقدمة ، برقم 38.

وهذا يكشف عن وجود أرضية سيّئة بين نقلة الحديث في عصر الرسول ، أفيمكن بعد هذه الروايات أن نكيل عامة الصحابة بكيل واحد ونصفهم بالعدل والزهد والتقى؟! مع أنّ منهم - بعد ما ظهر كذبه في الحديث - من يعتذر بأنّه من كيسه.

أخرج البخاري عن أبي صالح ، قال : حدّثني أبو هريرة ، قال : قال النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - : أفضل الصدقة ما ترك غنىً ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول ، تقول المرأة : إمّا أن تطعمني وإمّا أن تطلقني.

ويقول العبد : اطعمني واستعملني.

ويقول الابن : أطعمني إلى من تدعني؟

فقالوا : يا أبا هريرة ، سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟!

قال : لا ، من كيس أبي هريرة.

ورواه الإمام أحمد في مسنده باختلاف طفيف في اللفظ.

انظر إلى الرجل ينسب في صدر الحديث الرواية إلى النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - بضرس قاطع ، ولكنّه عند ما سُئل عن سماع الحديث من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عدل عمّا ذكره أوّلاً ، وصرح بأنّه من كيسه الخاص أي من موضوعاته. (1)

5. القول بعدالتهم جميعاً

إنّ من مظاهر الغلو في الصحابة ، القول بعدالتهم جميعاً ، كأنّ الرؤية أو الصحبة جعلتهم ملائكة يسيرون في الأرض بصورة الإنس ، لا يعصون الله ما

ص : 525


1- البخاري ، كتاب النفقات ، رقم الحديث 5355 ؛ مسند أحمد : 2 / 252.

أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

والقوم وإن كانوا يصفونهم بالعدل ، ولكن يتعاملون معهم بنحو كأنّهم معصومون ، فوق أن يكونوا عدولاً ، ولذلك يتحاشون عن نسبة أيّ ذنب أو خطيئة إليهم ، إلى حدّ ذهب الإمام أحمد إلى وجوب الإمساك عن التعرض للصحابة وحمل أعمالهم على الصحة ، قال : لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساوئهم ، ولا يطعن على أحد منهم بعيب أو نقص ، فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه عقوبته ليس له أن يعفو عنه ، بل يعاقبه ثمّ يستتيبه فإن تاب قبل منه ، وإن لم يتب أعاد عليه العقوبة وجلده في المجلس حتّى يتوب ويراجع. (1)

وقال ابن حجر : ويجب الاعتقاد بنزاهتهم لأنّه قد ثبت أنّ الجميع من أهل الجنّة وأنّه لا يدخل أحد منهم النار. (2)

ليت ابن حجر يشير إلى آية أو رواية صحيحة تدلّ على أنّ جميع الصحابة من أهل الجنّة ، وأنّه لا يدخل أحد منهم النار ، وسيوافيك من الصحابة مَن وصفه الله سبحانه بأنّه فاسق. (3) كما وصف لفيفاً منهم بأنّهم يريدون الدنيا ولفيفاً يريدون الآخرة وقال : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ). (4)

كيف تحرم النار على مَن ترك رسول الله وهو يلقي عليهم خطبة الجمعة وذهب للهو والتجارة ، قال سبحانه : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً ...) (5) ، إلى غير ذلك من الآيات الذامة لفئة منهم ، وستوافيك تلك الآيات في مكانها.

ص : 526


1- السنّة وعقيدة أهل السنّة : 50.
2- الإصابة : 1 / 1.
3- الحجرات : 6.
4- آل عمران : 152.
5- الجمعة : 11.

وقال الذهبي : وأمّا الصحابة فبساطهم مطوي ، وإن جرى ما جرى ، وإن غلطوا كما غلط غيرهم من الثقات!! فما يكاد يسلم أحد من الغلط ولكنّه غلط نادر لا يضر أبداً ، إذ على عدالتهم ، وقبول ما نقلوا - العمل وبه ندين الله تعالى. وأمّا التابعون فيكاد فيهم - من يكذب عمداً ، ولكن لهم غلط وأوهام ... وأمّا أصحاب التابعين كمالك والأوزاعي ، وهذا الضرب ، فعلى المراتب المذكورة ووجد في عصرهم من يتعمد الكذب أو من كثر غلطه ، فترك حديثه هذا مالك وهو النجم الهادي بين الأُمّة ، وما سلم من الكلام فيه ، وكذا الأوزاعي ثقة حجة ، وربما انفرد ووهم ، وحديثه عن الزهري فيه شيء .... (1)

وقال الطحاوي : ونحبّ أصحاب رسول الله ولا نفرّط في حب أحد منهم ، ولا نتبرّأ من أحد منهم ، ونبغض من يبغضهم ، وبغير الخير يذكرهم ، ولا نذكرهم إلاّ بخير ، وحبّهم دين وإيمان وإحسان وبغضهم كفر ونفاق وطغيان. (2)

ولمّا كان القول بعدالة الصحابة جميعاً أمراً غريباً ، إذ كيف يتصوّر أنّ جماعة كثيرة ربما تناهز مائة ألف قد صاروا عدولاً بمجرّد الرؤية أو بإضافة الصحبة مع أنّ قسماً منهم كانوا يفقدون حسن السابقة في عهد الجاهلية وارتكبوا جنايات يندى لها الجبين ، فهل يمكن أن تكون رؤية الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أو صحبته إكسيراً يقلب العنصر الخبيث إلى العنصر الطيب كقلب النحاس إلى الذهب؟

كلاّ لا يمكن ، ولا العقل يصدقه ، ولا العلم ولا التجربة الاجتماعية.

ولذلك نرى أنّ بعض المنصفين من أهل السنة توقّفوا في الحكم بعدالة جميع

ص : 527


1- الرواة الثقات : 21.
2- شرح العقيدة الطحاوية : 396.

الصحابة فلم يؤيّدوا عدالتهم بقول مطلق ولم ينفوها كذلك ولم يبدوا رأيهم في المسألة وإنّما حكوا الآراء فيها وإليك نقل بعض كلماتهم :

قال الآمدي : اتّفق الجمهور على عدالة الصحابة ، وقال قوم : إن حكمهم في العدالة حكم من بعدهم في لزوم البحث عن عدالتهم في الرواية ، ومنهم من قال : إنّهم لم يزالوا عدولاً إلى حين ما وقع الاختلاف والفتن فيما بينهم ، وبعد ذلك فلا بدّ من البحث في العدالة عن الراوي أو الشاهد منهم إذا لم يكن ظاهر العدالة ، ومنهم من قال : إنّ كلّ من قاتل عليّاً عالماً منهم فهو فاسق مردود الرواية والشهادة على الإمام الحقّ ، ومنهم من قال بردّ رواية الكلّ وشهادتهم ، لأنّ أحد الفريقين فاسق وهو غير معلوم ولا معيّن. (1)

قال الغزالي : وزعم قوم إنّ حالهم - أي الصحابة - كحال غيرهم في لزوم البحث ، وقال قوم : حالهم العدالة في بداية الأمر إلى ظهور الحرب والخصومات ، ثمّ تغيرت الحال وسفكت الدماء فلا بدّ من البحث. (2)

وسيوافيك انّ القول بعدالة الصحابة أو التوقّف فيها مرفوض بتصريح القرآن على خلافه وشهادة السنّة على ضدّه.

ص : 528


1- الاحكام : 2 / 128.
2- المستصفى : 1 / 308.

8- الاعتقاد بعدالة الصحابة كخلافة الخلفاء ليس من صميم الدين

اشارة

من يراجع الرسائل والكتب العقائدية يقف فيها على مسألتين تعتبران منذ عصر الإمام أحمد (المتوفّى 241 ه) من صميم الدين وممّا يجب الإيمان به ، وهما :

1. خلافة الخلفاء الأربعة.

2. عدالة الصحابة جميعاً.

يقول إمام الحنابلة في رسالة عقائدية : وخير هذه الأُمّة بعد نبيّها - صلى الله عليه وآله وسلم - أبو بكر ، وخيرهم بعد أبي بكر ، عمر ، وخيرهم بعد عمر ، عثمان ، وخيرهم بعد عثمان ، علي - رضوان الله عليهم - خلفاء راشدون مهديّون ، ثمّ أصحاب محمد بعد هؤلاء الأربعة. (1)

وقال الإمام الأشعري في رسالة ألّفها لبيان عقيدة أهل الحديث :

إنّ الإمام الفاضل بعد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أبو بكر الصدّيق ، ثمّ عمر بن الخطاب ، ثمّ عثمان بن عفان ، ثمّ علي بن أبي طالب - عليه السلام -.

ص : 529


1- السنّة : 50.

فهؤلاء الأئمّة بعد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وخلافتهم خلافة النبوّة. (1)

وقال أبو جعفر الطحاوي في العقيدة الطحاوية المسمّاة ب «بيان السنّة والجماعة» :

وتثبيت لأبي بكر الصديق تفضيلاً وتقديماً على جميع الأُمّة ثمّ لعمر بن الخطاب ، ثمّ لعثمان ، ثمّ لعلي». (2)

هذه النصوص المذكورة وما لم نذكره تعرب عن أنّ خلافة الخلفاء - عند القوم - عقيدة إسلامية يجب على كلّ مسلم الاعتقاد بها كالاعتقاد بسائر الأُصول من توحيده سبحانه ونبوّة نبيّه ومعاد الإنسان ، وقد ذكرها الإمامان : أحمد والأشعري في عداد عقائد أهل السنة والجماعة.

هذا هو المفهوم من هذه الكلمات وربما يتصوّر القائل أنّ الاعتقاد بخلافة الخلفاء أصل من أُصول الإسلام وقد جاء به النبيّ الخاتم وأمر الناس بالاعتقاد به.

الاعتقاد بخلافة الخلفاء ليس من صميم الدين

كيف يتصوّر ذلك مع أنّ النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يقبل إسلام من ذكر الشهادتين دون أن يسأله عن خلافة الخلفاء؟

والذي يدلّ على أنّ خلافة الخلفاء ليست أصلاً دينيّاً وإنّما هي مرحلة زمنية مرّ بها المسلمون في فترة من تاريخهم كما مرّوا بخلافة سائر الخلفاء ، هو أنّ أصل الخلافة والإمامة من الفروع عند متكلّمي أهل السنّة ، فكيف تكون خلافة

ص : 530


1- الإبانة في أُصول الديانة : 21 - 22 ، باب إبانة قول أهل الحقّ والسنّة.
2- شرح العقيدة الطحاوية ، للشيخ عبد الغني الميداني الحنفي الدمشقي : 479. ولاحظ الفرق بين الفرق : 350 ، للبغدادي وغيره.

الخلفاء من الأُصول؟

قال الغزالي : واعلم أنّ النظر في الإمامة أيضاً ليست من المهمّات ، وليس أيضاً من فن المعقولات ، بل من الفقهيّات. (1)

وقال الآمدي : اعلم أنّ الكلام في الإمامة ليس من أُصول الديانات ، ولا من الأُمور اللابدّيّات بحيث لا يسع المكلّف الإعراض عنها والجهل بها. (2)

وقال السيد الشريف : وليست الإمامة من أُصول الديانات والعقائد ، بل هي من الفروع المتعلّقة بأفعال المكلّفين ، إذ نصب الإمام عندنا واجب على الأُمّة سمعاً. (3)

فإذا كانت الكبرى حكماً فرعياً من فروع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد قام المسلمون بعد رحيل الرسول بتطبيقها على الخلفاء الأربعة ثم توالى الخلفاء بعدهم ، أفهل يكون ذلك دليلاً على أنّ الاعتقاد بخلافتهم أصل من الأُصول؟

إذ طالما قام المسلمون بواجبهم في أكثر بقاع العالم فبايعوا شخصاً بالخلافة فلم تُصبح خلافته أصلاً من أُصول الإسلام ، هذا من غير فرق بين أن نقول بصحّة خلافتهم وكونها جامعة شرائط الخلافة أم لم نقل ، إنّما الكلام في أنّ الاعتقاد بها ليس أصلاً من أُصول الإسلام.

ومن سبر التاريخ يقف على أنّ يد السياسة أوجدت تلك الفكرة ، وجعلت خلافة الخلفاء الثلاث أصلاً من أُصول الإيمان ليكون ذريعة إلى سائر المسائل السياسية.

ص : 531


1- الاقتصاد في الاعتقاد ، ص 234.
2- غاية المرام في علم الكلام ، ص 362.
3- شرح المواقف ، ج 8 ، ص 344.

ذكر المسعودي : اجتمع عمرو بن العاص مع أبي موسى الأشعري في دومة الجندل ، فجرى بينهما مناظرات ، وقد أحضر عمرو غلامه لكتابة ما يتّفقان عليه ، فقال عمرو بن العاص بعد الشهادة بتوحيده سبحانه ونبوّة نبيّه - صلى الله عليه وآله وسلم - ونشهد أنّ أبا بكر خليفة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عمل بكتاب الله وسنّة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى قبضه الله إليه ، وقد أدّى الحق الذي عليه.

قال أبو موسى : اكتب ، ثمّ قال في عمر مثل ذلك ، فقال أبو موسى : اكتب. ثمّ قال عمرو : اكتب انّ عثمان ولي هذا الأمر بعد عمر على إجماع من المسلمين وشورى من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ورضا منهم وأنّه كان مؤمناً ، فقال أبو موسى الأشعري : ليس هذا ممّا قعدنا له ، قال : والله لا بدّ من أن يكون مؤمناً أو كافراً ، فقال أبو موسى : كان مؤمناً. قال عمرو : فمره يكتب ، قال أبو موسى : اكتب. قال عمرو : فظالماً قتل عثمان أو مظلوماً؟ قال أبو موسى : بل قتل مظلوماً ، قال عمرو : أو ليس قد جعل الله لوليّ المظلوم سلطاناً يطلب بدمه؟ قال أبو موسى : نعم. قال عمرو : فهل تعلم لعثمان ولياً أولى من معاوية؟ قال أبو موسى : لا ، قال عمرو : أفليس لمعاوية أن يطلب قاتله حيثما كان حتّى يقتله أو يعجز عنه؟ قال أبو موسى : بلى ، قال عمرو للكاتب : اكتب وأمره أبو موسى فكتب ، قال عمرو : فإنّا نقيم البيّنة على أنّ علياً قتل عثمان .... (1)

ومن يقرأ قصة التحكيم في حرب صفّين يجد أنّ إقحام الاعتقاد بخلافة الشيخين ، كان تمهيداً لانتزاع الإقرار بخلافة الثالث ، ولم يكن الإقرار بخلافة الثالث مقصوداً بالذات ، بل كان ذريعة لانتزاع اعترافات أُخرى من أنّه قتل مظلوماً ، وأنّه ليس له وليّ يطلب بدمه أولى من معاوية وأنّ علياً هو الذي قتله.

ص : 532


1- مروج الذهب للمسعودي : 2 / 396 - 397.

وقد استفحلت أهميّة الإيمان بخلافة الخلفاء ولا سيما الثالث في عهد معاوية للإطاحة بعليّ وأهل بيته وإقصائهم عن الساحة السياسية ، حتّى يخلو الجوّ لمعاوية وأبناء بيته ، وقد أمر الخطباء والوعّاظ بنشر مناقب الخلفاء أوّلاً ، وسائر الصحابة ثانياً ، والمنع عن نشر أيّة فضيلة من فضائل أمير المؤمنين علي - عليه السلام -.

إنّ الرسائل العقائدية الّتي أشرنا إليها اشتملت على ما يربو على خمسين أصلاً ، يتراءى لنا أنّها من أُصول الإسلام ، وأنّها ممّا قد أجمع عليها المسلمون بعد رحيل الرسول ، ولكن الواقع غير ذلك فأكثر الأُصول ردود على الفرق الكلامية الّتي ظهرت في الساحة ، فصارت العقائد الإسلامية كأنّها ردود على الفرق الناجمة في عصر التيارات الكلامية ولا أصالة لها. ولو لا تلك الفرق الضالة! لم يكن لهذه الأُصول عين ولا أثر ، حتّى أنّ مسألة تربيع الخلفاء تمّ الاتّفاق عليها في عصر الإمام أحمد ، وكان أكثر المحدّثين على التثليث.

قد ذكر ابن أبي يعلى بالاسناد إلى وديزة الحمصي قال : دخلت على أبي عبد الله أحمد بن حنبل حين أظهر التربيع بعلي - رضي الله عنه - فقلت له : يا أبا عبد الله إنّ هذا لطعن على طلحة والزبير ، فقال : بئس ما قلت وما نحن وحرب القوم وذكرها ، فقلت : أصلحك الله إنّما ذكرناها حين ربّعت بعلي وأوجبت له الخلافة وما يجب للأئمّة قبله ، فقال لي : وما يمنعني من ذلك؟ قال : قلت : حديث ابن عمر. فقال لي : عمر خير من ابنه فقد رضي علياً للخلافة على المسلمين وأدخله في الشورى ، وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قد سمّى نفسه أمير المؤمنين ، فأقول : أنا ليس للمؤمنين بأمير ، فانصرفتُ عنه. (1)

والحقّ أنّ الأُصول التي تبنّاها الإمام أحمد وبعده الإمام الأشعري أو جاءت

ص : 533


1- طبقات الحنابلة : 1 / 393.

في العقيدة الطحاوية هي أُصول استنبطها الإمام من الآيات والروايات فجعلها عقائد إسلامية يجب الإيمان بها ، وهي أولى بأن تسمّى : عقائد الإمام أحمد بدل أن تسمّى عقائد إسلاميّة.

الاعتقاد بعدالة الصحابة ليس من صميم الدين

هذا هو حال الخلافة التي جعلوها من الأُصول ولا تمّت إليها بصلة ، ولنبحث الآن مسألة عدالة الصحابة ، أي عدالة مائة ألف إنسان رأى النبيّ وشاهده أو عدالة خمسة عشر ألف صحابي سُجّلت أسماؤهم في المعاجم فقد هتفت الكتب الرجالية بعدالتهم على الإطلاق ، وحُرّم أيّ نقد علمي أو تاريخي في حقّهم ، بل عُدّ الناقد لهم خارجاً عن الإسلام مبطلاً لأدلة المسلمين على ما مرّ. (1)

إنّ الدارس لتاريخ حياة الصحابة يقف بوضوح على أنّ هذه الحالة القدسية التي يضفيها جمهور السنّة على الصحابة ليست إلاّ وليدة عصر متأخر عنهم ، ولم تزل هذه الحالة تزداد وتتّسع ، حتّى أصبحنا في عصر لا يمكن فيه لأحد أن يبحث في ممارسات الصحابة وسلوكيّاتهم ، ولا أن يشير إلى مواضع الألم في تاريخ تلك الحقبة ، حتّى ولو اعتمد القائل في قضائه على الآيات والروايات والتاريخ الصحيح ، بل يتّهم بأنّه زنديق ، وأنّ الجارح أولى بالجرح.

لقد تكوّنت هذه النظرية ونشأت عن العاطفة الدينية التي حملها المسلمون تجاه الرسول الأكرم وجرّتهم إلى تبنّي تلك الفكرة واستغلّتها السلطة الأموية لإبعاد الناس عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - أحد الثقلين الذين تركهما الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد رحيله لهداية الناس.

ص : 534


1- لاحظ ص 518 من هذا الكتاب.

والشاهد على أنّ هذه القداسة طارئة على فكر المجتمع الإسلامي ، هو تضافر الآيات على تصنيف الصحابة إلى أصناف مختلفة يجمعها من حسنت صحبته ومن لم تحسن ، كما تضافرت الروايات على ذمّ لفيف منهم ، وقد احتفل التاريخ بنزاعهم وقتالهم وقتلهم الأبرياء ، ومع ذلك كلّه فعدالة الصحابة من أوّلهم إلى آخرهم صارت كعقيدة راسخة في فكر المجتمع الإسلامي ، لا يجترئ أحد على التشكيك فيها إلاّ من تجرّد عن العقائد المسبقة وقدّم تبنّي الحقيقة على المناصب الدنيوية وزخارفها وابتاع لنفسه أنواع التهم والذموم.

وها نحن نذكر شيئاً من الآيات الصريحة في ذمّ لفيف منهم على نحو لا يبقى معه شكّ لمشكّك ولا ريب لمرتاب.

وهذا ما سيوافيك في الفصل التالي :

ص : 535

9- القرآن الكريم وعدالة الصحابة

اشارة

إنّ القرآن الكريم في مختلف سوره وآياته ينقد أقوال الصحابة وأفعالهم بوضوح كما أنّه في بعض آياته يثني على طائفة منهم ، فمن الخطأ أن نركّز على طائفة دون طائفة ، فها نحن ندرس في هذا الفصل بعض الآيات التي تنقد أفعالهم وآراءهم كما ندرس في الفصول القادمة الآيات المادحة.

1. تنبّؤ القرآن بارتداد لفيف من الصحابة

القرآن يتنبّأ بإمكان ارتداد بعض الصحابة بعد رحيل الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -. وذلك لمّا انهزم من انهزم من المسلمين يوم أُحد وقتل من قتل منهم. يقول ابن كثير : نادى الشيطان على أنّ محمّداً - صلى الله عليه وآله وسلم - قد قتل. فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس واعتقدوا أنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قد قتل وجوّزوا عليه ذلك ، فحصل ضعف ووهن وتأخّر عن القتال ، روى ابن نجيح عن أبيه إنّ رجلاً من المهاجرين مرّ على رجل من الأنصار وهو يتشحّط في دمه ، فقال له : يا فلان أشعرت أنّ محمّداً - صلى الله عليه وآله وسلم - قتل؟ فقال الأنصاري : إن كان محمّد قد قتل فقد بلّغ ، فقاتلوا عن دينكم. فأنزل الله

ص : 536

سبحانه قوله : (وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ). (1)

قال ابن قيّم الجوزية : كانت وقعة أُحد مقدّمة وإرهاصاً بين يدي محمّد - صلى الله عليه وآله وسلم - ونبّأهم ووبّخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله أو قتل. (2)

والظاهر من الارتداد هو الأعمّ من الارتداد عن الدين الذي جاهر به بعض المنافقين والارتداد عن العمل كالجهاد ومكافحة الأعداء وتأييد الحقّ إنساء ما أوصى به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -.

وهذه الآية تخبر عن إمكانية الانقلاب على الأعقاب بعد رحيل الرسول ، فهل يمكن أن يوصف بالعدالة التامّة الّتي هي أُخت العصمة من كان يُحتمل فيه تلك الإمكانية؟ ولذلك ترى أنّهم لا يرضون بنقد آراء الصحابة وأقوالهم.

2. ترك الرسول قائماً وهو يخطب

بينا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يخطب الجمعة قدمت عير المدينة فابتدرها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حتّى لم يبق معه إلاّ اثنا عشر رجلاً. فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : والذي نفسي بيده ، لو تتابعتم حتّى لا يبقى منكم أحد سال لكم الوادي ناراً ، فنزلت هذه الآية : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).

قال ابن كثير : يعاتب تبارك وتعالى على ما كان وقع ، من الانصراف عن

ص : 537


1- تفسير ابن كثير : 1 / 409 والآية 144 من سورة آل عمران.
2- زاد المعاد : 253.

الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة التي قدمت المدينة يومئذ ، فقال تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً) أي على المنبر تخطب ، هكذا ذكره غير واحد من التابعين منهم أبو العالية والحسن وزيد بن أسلم وقتادة وزعم بن حبّان أنّ التجارة كانت لدحية بن خليفة قبل أن يسلم وكان معها طبل ، فانصرفوا إليها وتركوا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قائماً على المنبر إلاّ القليل منهم ، وقد صحّ بذلك الخبر ، فقال الإمام أحمد : حدّثنا ابن إدريس ، عن حصين بن سالم بن أبي الجعد ، عن جابر ، قال : قدمت غير مرّة المدينة ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يخطب فخرج الناس وبقي اثنا عشر رجلاً فنزلت (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) أخرجاه في الصحيحين. (1)

أفمن يقدّم اللهو والتجارة على ذكر الله ويستخف بالنبيّ ، يكون ذا ملكة نفسانية تحجزه عن اقتراف المعاصي واجتراح الكبائر ، ما لكم كيف تحكمون؟

3. الخيانة بالنكاح سرّاً

شرّع الله سبحانه صوم شهر رمضان وحرّم على الصائم إذا نام ليلاً مجامعة النساء ، فكان جماعة من المسلمين ينكحون سرّاً وهو محرّم عليهم.

قال ابن كثير : كان الأمر في ابتداء الإسلام ، هو إذا أفطر أحدهم إنّما يحلّ له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو نام قبل ذلك فمتى نام أو صلّى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القادمة ، ثمّ إنّ أُناساً من المسلمين أصابوا من النساء والطعام في شهر رمضان بعد العشاء ، منهم عمر بن الخطاب ، فشكوا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فأنزل الله قوله : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ

ص : 538


1- تفسير ابن كثير : 4 / 378 ؛ صحيح البخاري : 1 / 316 ، كتاب الجمعة ، باب الساعة التي في يوم الجمعة ؛ صحيح مسلم : 2 / 590 كتاب الجمعة ، باب في قوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً ...).

الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ...). (1)

فهل يصحّ لنا أن نصف من خانوا أنفسهم بارتكاب الحرام بأنّهم عدول ذوي ملكة رادعة عن اقتراف الكبائر والإصرار على الصغائر؟! أو أنّ أكثرهم لم يكونوا حائزين تلك الملكة ، وإنّما كانوا على درجة متوسطة من الإيمان والتقوى وقد يغلب عليهم حبّ الدنيا ولذّاتها.

4. خيانة بعض البدريّين

يقول سبحانه : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ). (2)

قال ابن كثير : نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر ، فقال بعض الناس : لعلّ رسول الله أخذها فأكثروا في ذلك ، فأنزل الله : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وهذا تنزيه له - صلوات الله وسلامه عليه - من جميع وجوه الخيانة في أداء الأمانة وقسم الغنيمة ، ثمّ تبيّن أنّه قد غلّ بعض أصحابه. (3)

والآية تعرب عن مدى حسن ظنّهم واعتقادهم برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حتّى اتّهموه بالخيانة في الأمانة وتقسيم الأموال ، ثمّ تبين أنّه قد غلّه بعض أصحابه ، فهؤلاء الجاهلون بمكانة النبي ، أو من مارس الخيانة في أموال المسلمين لا يوصفون بالعدالة.

ص : 539


1- تفسير ابن كثير : 1 / 219 ؛ صحيح البخاري : 4 / 1639 ، كتاب التفسير ، وغيرهما ، والآية 187 من سورة البقرة.
2- آل عمران : 161.
3- تفسير ابن كثير : 1 / 421 ؛ تفسير الطبري : 4 / 155 في تفسير الآية ، إلى غير ذلك من المصادر.

وهذا حال البدريين ، لا الأعراب ولا الطلقاء ولا أبنائهم ولا المنافقين ، فكيف حال من أتى بعدهم؟ ولعمري أنّ من يقرأ هذه الآيات البيّنات وما ورد حولها من الأحاديث والكلمات ثمّ يصرّ على عدالة الصحابة جميعاً دون تحقيق فقد ظلم نفسه وظلم أُمّته.

5. فاسق يغرّ النبيّ وأصحابه

يقول سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ). (1)

أمر الله سبحانه بالتثبت في خبر الفاسق ليحتاط له لئلاّ يحكم بقوله فيكون في نفس الأمر كاذباً أو مخطئاً ، قال ابن كثير : قد ذكر كثير من المفسّرين أنّ الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على صدقات بني المصطلق إلى حارث بن ضرار وهو رئيسهم ليقبض ما كان عنده ممّا جمع من الزكاة ، فلمّا أن سار الوليد حتّى بلغ بعض الطريق فرق - أي خاف - فرجع حتّى أتى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال : يا رسول الله إنّ الحارث قد منعني الزكاة وأراد قتلي ، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وبعث البعث إلى الحارث - رضي الله عنه - وأقبل الحارث بأصحابه حتّى إذا استقبل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث ، فقالوا : هذا الحارث. فلمّا غشيهم قال لهم : إلى من بعثتم؟ قالوا : إليك. قال : ولم؟ قالوا : إنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنّك منعته الزكاة وأردت قتله ، قال رضي الله عنه : لا والذي بعث محمّداً - صلى الله عليه وآله وسلم - بالحقّ ما رأيته بتة ولا أتاني ، فلمّا دخل الحارث على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : منعتَ الزكاة وأردتَ قتل رسولي؟ قال : لا ،

ص : 540


1- الحجرات : 6.

والذي بعثك بالحقّ ما رأيته ولا أتاني ، وما أقبلت إلاّ حين احتبس عليّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - خشيت أن تكون سخطة من الله تعالى ورسوله ، قال : فنزلت الحجرات : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) إلى قوله : (حَكِيمٌ). (1)

6. تنازعهم في الغنائم إلى حدّ التخاصم

إنّ صحابة النبي بعد انتصارهم على المشركين في غزوة بدر ، استولوا على أموالهم وتنازعوا فيها إلى حدّ التخاصم ، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب.

وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم أحقّ بها منّا ونحن منعنا عنه العدوّ وهزمناهم.

وقال الذين أحدقوا برسول الله : لستم بأحقّ بها منّا نحن أحدقنا برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وخفنا أن يصيب العدوّ منه غرّة واشتغلنا به فنزل : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). (2)

قال ابن كثير : سأل أبو أمامة عبادة عن الأنفال؟ قال فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا ، فانتزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول الله ، فقسّمه رسول الله بين المسلمين عن سواء. (3)

وفي الآية إلماعات إلى سوء أخلاقهم حيث يعظ سبحانه هؤلاء السائلين ويأمرهم بأُمور ثلاثة بقوله :

ص : 541


1- تفسير ابن كثير : 4 / 209.
2- الأنفال : 1.
3- تفسير ابن كثير : 2 / 283.

1. (فَاتَّقُوا اللهَ) في أُموركم وأصلحوا فيما بينكم ولا تظالموا ولا تخاصموا ولا تشاجروا ، فما آتاكم الله من الهدى والعلم خير ممّا تختصمون بسببه.

2. (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) : أي لا تسبّوا.

3. (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) : أي لا تخالفوه ولا تشاجروا. (1)

فالإمعان في الآيات النازلة حول هؤلاء المتنازعين والروايات الواردة في تفسير الآية ، لا تدع مجالاً للشكّ في أنّ لفيفاً من الحاضرين في غزوة بدر لم يبلغوا مرحلة عالية تميزهم عن غيرهم ، بل كانوا كسائر الناس الذين يتنازعون على حطام الدنيا وزبرجها دون أن يستشيروا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في أمرها ، ويسألونه عن حكمها ، أفهؤلاء الذين كانوا يتنازعون على حطام الدنيا ، يصبحون مُثُلاً للفضيلة وكرامة النفس والطهارة؟!

7. استحقاقهم مسَّ عذاب عظيم

كانت السنّة الجارية في الأنبياء الماضين انّهم إذا حاربوا أعداءهم وظفروا بهم ينكّلون بهم بالقتل ليعتبر به من وراءهم حتّى يكفّوا عن عدائهم لله ورسوله ، وكانوا لا يأخذون أسرى حتّى يثخنوا في الأرض ويستقر دينهم بين الناس ، فعند ذلك لم يكن مانع من الأسر ، ثمّ يعقبه المنّ أو الفداء.

يقول سبحانه في آية أُخرى : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) (2) فأجاز أخذ الأسر ، لكن بعد الإثخان في الأرض واستتباب الأمر.

ص : 542


1- تفسير ابن كثير : 2 / 285.
2- محمد : 4.

غير أنّ لفيفاً من الصحابة كانوا يصرون على النبي بالعفو عنهم وقبول الفداء منهم (قبل الإثخان في الأرض) فأخذوا الأسرى ، فنزلت الآية في ذم هؤلاء وعرّفهم بأنّهم استحقوا مسَّ عذاب عظيم لو لا ما سبق كتاب من الله ، يقول سبحانه : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ). (1)

والمستفاد من الآيتين أمران :

الأوّل : انّ الحافز لأكثرهم أو لفئة منهم هو الاستيلاء على عرض الدنيا دون الآخرة كما يشير إليه سبحانه بقوله : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ). (2)

الثاني : لقد بلغ عملهم من الشناعة درجة ، بحيث استحقُّوا مسَّ عذاب عظيم ، غير أنّه سبحانه دفع عنهم العذاب لما سبق منه في الكتاب ، قال سبحانه : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ) أخذ الأسرى (عَذابٌ عَظِيمٌ).

فقوله : (عَذابٌ عَظِيمٌ) يعرب عن عظم المعصية التي اقترفوها حتّى استحقوا بها العذاب العظيم.

أفيمكن وصف من أراد عرض الدنيا مكان الآخرة واستحقّ مس عذاب عظيم بأنّه ذو ملكة نفسانية تصده عن اقتراف الكبائر والإصرار على الصغائر ، كلاّ ، ولا.

ص : 543


1- الأنفال : 67 - 69.
2- الأنفال : 67.

8. الفرار من الزحف

لقد دارت الدوائر على المسلمين يوم أُحد ، لأنّهم عصوا أمر الرسول وتركوا مواقعهم على الجبل طمعاً في الغنائم فأصابهم ما أصابهم من الهزيمة التي ذكرتها كتب السيرة والتاريخ على وجه مبسوط. وبالتالي تركوا النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - في ساحة الحرب وليس معه إلاّ عدد قليل من الصحابة ، ولم تنفع معهم دعواته - صلى الله عليه وآله وسلم - بالعودة إلى ساحة القتال ونصرته ، فقد خذلوه في تلك الساعات الرهيبة ، وأخذوا يلتجئون إلى الجبال حذراً من العدو ، ويتحدّث سبحانه تبارك وتعالى عن تلك الهزيمة النكراء بقوله : (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ). (1)

فالخطاب موجّه للذين انهزموا يوم أُحد ، وهو يصف خوفهم من المشركين وفرارهم يوم الزحف ، غير ملتفتين إلى أحد ، ولا مستجيبين لدعوة الرسول ، حين كان يناديهم من ورائهم ويقول : هلم إليَّ عباد الله أنا رسول الله ... ومع ذلك لم يُجبه أحد من المولّين.

والآية تصف تفرقهم وتولّيهم على طوائف أُولاهم بعيدة عنه ، وأُخراهم قريبة ، والرسول يدعوهم ولا يجيبه أحد لا أوّلهم ولا آخرهم ، فتركوا النبيّ بين جموع المشركين غير مكترثين بما يصيبه من القتل أو الأسر أو من الجراح.

نعم كان هذا وصف طوائف منهم وكانت هناك طائفة أُخرى ، التفت حول النبي ودفعت عنه شرّ الأعداء ، وهم الذين أُشير إليهم بقوله سبحانه :

ص : 544


1- آل عمران : 153.

(وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ). (1)

ثمّ إنّه سبحانه يصرح بتولّيهم وفرارهم عن الجهاد وينسب زلّتهم إلى الشيطان ويقول : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ). (2) وليس هؤلاء من أصحاب النفاق (لأنّ المنافق لا يُغفر له ولا يعفى عنه) بل من الصحابة العدول!

9. نسبة الغرور إلى الله ورسوله

إنّ غزوة الأحزاب من المغازي المعروفة في الإسلام ، حيث اتحد المشركون واليهود للانقضاض على الإسلام ، فحاصروا المدينة وهم عشرة آلاف مدجّجين بالسلاح ، وحفر المسلمون خندقاً حول المدينة لمنع العدو من اقتحامها وقد طال الحصار نحو شهر.

وفي هذه الغزوة امتحِن أصحابُ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وزلزلوا زلزالاً عظيماً ، وتبيّن الثابت من المستزلّ ، وانقسم أصحابه إلى قسمين :

1. المؤمنون وشعارهم (هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً). (3)

2. المنافقون والذين في قلوبهم مرض وشعارهم : (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً). (4)

فضعفاء الإيمان من المؤمنين كانوا يظنون بالله انّه وعدهم وعداً غروراً ، فهل

ص : 545


1- آل عمران : 144.
2- آل عمران : 155.
3- الأحزاب : 22.
4- الأحزاب : 12.

يصحّ وصف هؤلاء بالعدالة والتزكية؟! وهم - طبعاً - غير المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ، ويدلّ على ذلك ، عطف (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) على المنافقين ، قال سبحانه : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ).

ومن يمعن النظر في الآيات الواردة حول غزوة الأحزاب يعرف مدى صمود كثير من الصحابة أمام ذلك السيل الجارف ، فإنّ كثيراً منهم كانوا يستأذنون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - للرجوع إلى المدينة بحجة انّ بيوتهم عورة ويقول سبحانه : (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً). (1)

10. المنافقون المندسّون بين الصحابة

لقد شاع النفاق بين الصحابة منذ نزول النبي ، بالمدينة ، وقد ركّز القرآن على عصبة المنافقين وصفاتهم ، وفضح نواياهم ، وندّد بهم في السور التالية : البقرة ، آل عمران ، المائدة ، التوبة ، العنكبوت ، الأحزاب ، محمد ، الفتح ، الحديد ، المجادلة ، الحشر ، والمنافقون.

وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ المنافقين كانوا جماعة هائلة في المجتمع الإسلامي ، بين معروف عرف بسمة النفاق ووصمة الكذب ، وغير معروف بذلك ، ولأنّه مقنّع بقناع الإيمان والحب للنبي ، فلو كان المنافقون جماعة قليلة غير مؤثرة لما رأيت هذه العناية البالغة في القرآن الكريم.

وهناك ثلة من المحقّقين ألّفوا كتباً ورسائل حول النفاق والمنافقين ، وقد قام بعضهم بإحصاء ما يرجع إليهم فبلغ مقداراً يقرب من عشر القرآن الكريم.

ص : 546


1- الأحزاب : 13.

ومع ذلك فهل يمكن عد جميع من صحب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عدولاً؟!

نعم المنافقون ليسوا من الصحابة ولكنّهم كانوا مندسّين فيهم ، وعند ذلك فكثيراً ما يشتبه الصحابي الصادق بالمنافق ، ولا يتميّز المنافق عن المؤمن ، حتّى أنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ربما كان لا يعرفهم ، يقول سبحانه : (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ). (1)

فهذا يجر الباحث - الذي يريد الإفتاء على ضوء ما قاله الصحابة - التفتيش عن حال الصحابي حتّى يعرف المنافق عن غيره ، فلو اشتبه الحال فلا يكون قوله ولا روايته حجّة.

هذا بعض قضاء القرآن في حق الصحابة ، ولسنا بصدد الاستقصاء بأنّ أصناف الصحابة المجانبين للعدالة ، أكثر (2) ممّا ذكرنا لكن التفصيل لا يناسب وضع الكتاب.

ص : 547


1- التوبة : 101.
2- كالسّماعين (التوبة : 4745 ،) خالطوا العمل الصالح بغيره (التوبة : 102) ، المسلمون غير المؤمنين (الحجرات : 14) ، المؤلفة قلوبهم (التوبة : 60).

10- السنّة النبوية وعدالة الصحابة

اشارة

درسنا عدالة الصحابة في ضوء القرآن الكريم وخرجنا بالنتيجة التالية : انّ حال الصحابة كحال التابعين ، ففيهم عادل وفاسق ، وصالح وطالح ، منهم من يُستدرّ به الغمام ومنهم من دون ذلك.

ومن حسن الحظ انّ السنّة النبوية تدعم ذلك الموقف ، فلنذكر منها نزراً قليلاً حسب ما يقتضيه وضع الرسالة.

1. زعيم الفئة الباغية

روى مسلم عن أبي سعيد قال : أخبرني من هو خير منّي - أبو قتادة - انّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال لعمّار حين جعل يحفر الخندق وجعل يمسح رأسه ويقول : بُؤسَ ابنُ سمية تقتلك فئة باغية. (1)

وروى البخاري عن أبي سعيد انّه قال : كنّا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين ، فرآه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فجعل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ينفض التراب عنه ويقول : ويح عمار

ص : 548


1- جامع الأُصول : 9 / 42 برقم 6580.

يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار.

قال الحميدي في هذا الحديث زيادة مشهورة لم يذكرها البخاري أصلاً من طريق هذا الحديث ، ولعلّها لم تقع إليه فيها ، أو وقعت فحذفها لغرض قصده في ذلك ، وأخرجها أبو بكر البرقاني ، وأبو بكر الإسماعيلي قبله ، وفي هذا الحديث عندهما انّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : ويح عمّار ، تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ، ويدعونه إلى النار. (1)

وقد كشف الحميدي عن نوايا البخاري انّه ربما يتلاعب بالحديث فيحذف بعض أجزائه لغرض معيّن ، وهو إنّما حذف هذه الجملة المشهورة ، أعني : «تقتله الفئة الباغية» بقصد تبرئة معاوية ، وتبرير أعماله.

ونحن نسأل القائلين بعدالة الصحابة من هي الفئة الباغية التي قتلت عماراً؟! وهل كان فيها من صحابة النبي من يؤيّد موقف الفئة الباغية؟! لا شكّ انّ معاوية كان يترأس الفئة الباغية وكان عمرو بن العاص وزيره في الحرب ، وكان انتصار معاوية في حرب صفين رهن مكيدة عمرو بن العاص ، وكان بين الفئة الباغية من الصحابة النعمان بن بشير الأنصاري ، وعُقْبة بن عامر الجهني ، وأبو الغادية يسار بن سبع الجهني وغيرهم.

2. عصيان أمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بإحضار القلم والدواة

قد روى أصحاب الصحاح انّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أمر بإحضار القلم والدواة ليكتب كتاباً لا يضلّوا بعده أبداً ، وقد حال بعض الحاضرين بينه وبين ما يروم إليه ، وقد أخرجه البخاري في غير مورد من صحيحه.

ص : 549


1- جامع الأُصول : 9 / 44 برقم 6583.

ففي كتاب العلم أخرج عن ابن عباس انّه قال : لما اشتدّ بالنبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وجعه ، قال : «ائتوني بكتاب اكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده» ، قال عمر : إنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - غلبه الوجع ، وعندنا كتاب الله حسبنا ، فاختلفوا وكثر اللغط ، قال : «قوموا عنّي ولا ينبغي عندي التنازع» فخرج ابن عباس يقول : إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وبين كتابه. (1)

وأخرج أيضاً عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنّه قال : يوم الخميس وما يوم الخميس ، ثمّ بكى حتّى خَضَبَ دمعُه الحصباءَ ، فقال : اشتدّ برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وجعه يوم الخميس ، فقال : «ائتوني بكتاب اكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً». فتنازعوا ، ولا ينبغي عند نبي تنازع ، فقالوا : هجر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ قال : «دعوني فالذي أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه». (2)

وهنا نكتة لا بدّ من إلفات القارئ إليها وهي : انّ فعل النبي (طلب الكتاب) ، نسب في الصورة الأُولى إلى غلبة الوجع وعند ذاك سمّي القائل به وهو عمر ، وفي الصورة الثانية نسب إلى الهجر والهذيان ، ولم يذكر اسم القائل ، وجاء مكان «عمر» لفظة : «قالوا».

ولما كانت الصورة الأُولى أخف وطأة من الثانية ، جاء فيها ذكر القائل دون الثانية.

والقائل في الجميع واحد.

ويذكره أيضاً بشكل آخر في موضع ثالث ، يقول :

اشتدّ برسول الله وجعه فقال : «ائتوني بكتف اكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده

ص : 550


1- صحيح البخاري : 1 / 38 ، برقم 114.
2- صحيح البخاري : 2 / 287 ، برقم 3053.

أبداً» فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع ، فقالوا : ماله أهجر؟ استفهموه ، فقال : «ذروني فالذي أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه». (1)

وفي صورة رابعة قال بعضهم : إنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قد غلبه الوجع وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله ، فاختلف أهل البيت واختصموا ، فمنهم من يقول : قرّبوا يكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده ، ومنهم من يقول غير ذلك ، فلمّا أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : قوموا. (2)

أُنشدك بالله انّ من يخالف أمر النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي تدلّ القرائن على كونه إلزامياً ، ثمّ يصف أمره بأنّه نتيجة غلبة الوجع أو الهجر والهذيان هل يوصف هذا بأنّه صاحب ملكة رادعة عن اقتراف المحرمات؟!

وما أبعد ما بين وصف هؤلاء وبين وصفه سبحانه لنبيّه الكريم بقوله : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى).

كيف يقول ذلك الصحابي حسبنا كتاب الله؟! فلو كان هذا صحيحاً فلما ذا ألف المسلمون الصحاح والسنن والمسانيد؟!

3. الانقلاب على الأعقاب بعد رحيل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -

اشارة

1. أخرج البخاري وعن أبي حازم قال : سمعت سهل بن سعد يقول : سمعت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول : أنا فَرَطُكُم على الحوض من ورده شرب منه ، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبداً ، ليرد عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ثمّ يحال بيني وبينهم.

ص : 551


1- صحيح البخاري : 2 / 321 ، برقم 3168
2- صحيح البخاري : 3 / 132 برقم 4432 ، ولاحظ أيضاً : 4 / 10 برقم 5669 ورقم 7366.

قال أبو حازم : فَسَمِعَني النعمان بن أبي عيّاش وأنا أُحدِّثهم هذا ، فقال : هكذا سمعتَ سهلاً؟ فقلت : نعم ، قال : وأنا أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعتُه يزيد فيه قال : إنّهم منّي ، فيقال : إنّك لا تدري ما بدّلوا بعدك ، فأقول : سُحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي. (1)

2. أخرج البخاري عن المغيرة ، قال سمعت أبا وائل ، عن عبد الله رضي الله عنه ، عن النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : أنا فَرَطُكم على الحوض ، وليرفعنّ رجال منكم ثمّ ليُختلجُنَّ دوني ، فأقول : يا ربّ أصحابي ، فقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك. (2)

3. أخرج البخاري عن أنس ، عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : ليردَنَّ عليّ ناس من أصحابي الحوض حتّى إذا عرفتهم ، اختُلِجُوا دوني فأقول : أصحابي؟! فيقول : لا تدري ما أحدثوا بعدك. (3)

4. أخرج البخاري عن سهل بن سعد قال ، قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : إنّي فَرَطُكم على الحوض من مرّ عليّ شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً ، ليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ثمّ يحال بيني وبينهم. (4)

5. أخرج البخاري عن أبي هريرة انّه كان يحدث انّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيحلّئون عن الحوض ، فأقول : يا رب أصحابي ، فيقول : إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، انّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى. (5)

6. أخرج البخاري عن أبي المسيب انّه كان يحدِّث عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -

ص : 552


1- صحيح البخاري : 4 / 355 ، برقم 7050 و 7051.
2- صحيح البخاري : 4 / 227 ، برقم 6576.
3- صحيح البخاري : 4 / 228 ، برقم 6582 ، 6583 ، 6585.
4- صحيح البخاري : 4 / 228 ، برقم 6582 ، 6583 ، 6585.
5- صحيح البخاري : 4 / 228 ، برقم 6582 ، 6583 ، 6585.

انّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : يرد عليّ الحوض رجال من أصحابي فيحلّئون عنه ، فأقول : يا ربّ أصحابي ، فيقول : إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى. (1)

7. أخرج البخاري عن ابن عباس في حديث : ... ثمّ يؤخذ برجال من أصحابي ذات اليمين وذات الشمال ، فأقول : أصحابي ، فيقال : إنّهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم ، فأقول كما قال العبد الصالح عيسى ابن مريم : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) - إلى قوله : - (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (2). (3)

8. أخرج البخاري عن العلاء بن المسيب قال : لقيت البراء بن عازب فقلت : طوبى لك صحبت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وبايعته تحت الشجرة ، فقال : يا ابن أخي انّك لا تدري ما أحدثنا بعده. (4)

9. أخرج ابن أبي شيبة عن أبي بكرة انّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : ليردنّ على الحوض رجال ممّن صحبني ورآنى حتّى إذا رفعوا إليّ اختلجوا دوني فلأقولنّ : ربّي أصحابي! فليُقالَنّ إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك. (5)

10. أخرج مسلم عن أسماء بنت أبي بكر ، قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : إنّي على الحوض حتّى أنظر من يرد عليّ منكم ، وسيؤخذ أُناس دوني ، فأقول : يا ربّ منّي ومن أُمّتي ، فيقال : أما شعرت ما عملوا بعدك ، والله ما برحوا بعدك يرجعون

ص : 553


1- صحيح البخاري : 4 / 227 - 228 ، برقم 6586.
2- المائدة : 117 - 118.
3- صحيح البخاري : 2 / 402 ، كتاب أحاديث الأنبياء ، برقم 3447.
4- صحيح البخاري : 3 / 64 ، كتاب المغازي برقم 4170.
5- مصنّف ابن أبي شيبة : كتاب الفضائل برقم 35 ؛ مسند أحمد : 5 / 48.

أعقابهم.

قال : فكان ابن أبي مليكة يقول : اللهم إنّا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا وأن نفتن عن ديننا. (1)

وتنتهي أسانيد هذه الروايات إلى شخصيات نظراء ، سهل بن سعد ، أبي وائل عن عبد الله ، أنس بن مالك ، أبي هريرة ، ابن المسيب ، واقتصرنا بما رواه البخاري وتركنا ما نقله غيره ، وما ظنّك بحديث يرويه الإمام البخاري وقد نقل شيئاً منه في الفتن ، وقسماً أكثر في باب الحوض.

ولا بدّ من الكلام في مقامين :

الأوّل : من هم الذين أخبر النبي عن ارتدادهم بعد رحيله؟

الثاني : ما هو المراد من ارتدادهم؟

أمّا الأوّل : فالقرائن القطعية تدلّ على انّ المراد ، بعض أصحابه الذين عاشوا معه وكان يعرفهم وهم يعرفونه واجتمعوا معه في فترة زمنية ، وليس هؤلاء إلاّ لفيف من أصحابه ، والدليل على ذلك ما جاء في متونها من الكلمات التالية :

1. ليردنّ علي أقوام أعرفهم ويعرفونني كما في رقم 1 ، 4.

2. حتّى إذا عرفتهم اختلجوا دوني (رقم 3).

3. أنا فرطكم على الحوض وليرفعن رجال منكم (رقم 2).

4. فأقول : يا ربّ أصحابي (رقم 3 ، 5 ، 6).

إذا كان من علائم هؤلاء :

1. انّ الرسول يعرفهم وهم يعرفونه ، وانّهم من رجال عصر الرسول (رجال

ص : 554


1- شرح صحيح مسلم للنووي : 15 / 61 برقم 2293.

منكم) لا من الأجيال المستقبلة ، فهؤلاء أصحابه الذين عاشوا معه في عصر الرسالة ، حتّى استحقوا بأن يصفهم النبي عند الاستغاثة بقوله : «يا رب أصحابي».

فلا أظن من يدرس هذه الروايات الواردة الصحيحين وغيرهما بتجرّد وموضوعية أن يدور في خلده ، انّ المراد من الذين ارتدوا على أدبارهم ، أُمّته الذين أتوا بعده وعاشوا في أحقاب بعيدة عن عصر الرسول ، ولم يكن فيها من وجود الرسول عين ولا أثر ، إذ لو كان هذا هو المراد ، فمتى عاش معهم النبي ، حتّى عرفهم وعرفوه؟ ومتى كانوا معه حتّى صحّ وصفهم بقوله : «رجال منكم» ومتى صحبوه (فترة قصيرة أو طويلة) وصاروا أصحابه؟

ومن التجنّي على الحقيقة القول : «بأنّ جميع الأُمّة أصحاب النبي ، كما أنّ جميع من يقلّدون الشافعي مثلاً أصحابه» فانّ هذا التفسير في المقيس عليه ممنوع فكيف المقيس؟ فأصحاب الشافعي هم الذي تربّوا على يديه والتفُّوا حوله وانتفعوا بعلمه ، وأمّا الذين جاءوا بعده ولم يشاهدوه فهم أتباعه ، لا أصحابه ، فلو صح إطلاق الأصحاب عليهم ، فإنّما هو إطلاق مجازي لا حقيقي.

وأمّا المقيس فالحال فيه واضحة.

فالصحابة ، في الروايات والآثار ، هم الذين أقاموا مع رسول الله فترة من الزمن ، أو رأوا رسول الله وأدركوه وأسلموا ، إلى غير ذلك من التعاريف التي ذكرها الجزري في «أُسد الغابة». (1)

وليس هذا المورد إلاّ كسائر الموارد التي وردت فيها كلمة الصحابة ، مثلاً رووا عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنّه قال : «لا تسبُّوا أصحابي» كما رووا عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنّه قال : مثل

ص : 555


1- أُسد الغابة : 1 / 1211.

أصحابي كالنجوم ، إلى غير ذلك من الموارد ، فالمراد من الجميع هو المعنى المصطلح.

وقد ألّف غير واحد من الرجاليين كتباً في حياة الصحابة ، كالاستيعاب لابن عبد البرّ ، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر ، وإلى غير ذلك من الموارد التي أُطلقت فيها كلمة الصحابة وأُريد بها ، من كانوا وعاشوا معه.

إنّ المتبادر من قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك» ، أو «إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك» أو «إنّهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى» ، هو انّهم كانوا معك ولكن اقترفوا هذه الجريمة بعد رحيل الرسول ، دون فاصل زماني طويل ، وقد كان المترقب من هؤلاء الذين رأوا شمس الرسالة واستضاءوا بها ، أن يتّبعوا دينه وشريعته ولا يعدلوا عنه قيد شعرة ، ولكنّهم - للأسف - ارتدوا على أدبارهم القهقرى.

هذا كلّه حول الأمر الأوّل ، أعني : رفع الستر عن هؤلاء الذين ارتدوا وبدلوا.

وأمّا الأمر الثاني ، فهل المراد من الارتداد هو الخروج عن الدين ، أو المراد من الارتداد هو الأعم من الرجوع عن العقيدة ، أو السلوك على غير ما أوصى به النبي في غير واحد من الأُمور؟ ، ولعل المراد هو الثاني حيث إنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أوصى بالثقلين وأهل بيته ، فخالفوا وصية الرسول ، كما أنّهم خالفوا في كثير من الأحكام ، المذكورة في محلّها ، فقدّموا الاجتهاد على النصّ ، والمصلحة المزعومة على أمره ، وبذلك أحدثوا في دينه بدعاً ، ليس لها في الكتاب والسنّة أصل.

موقف النبي ممّن لم تحسن صحبته
اشارة

ما مرّ من الروايات لا تهدف شخصاً معيّناً بالذكر ، وهناك روايات تخص

ص : 556

بعض الصحابة بالذكر من الذين لم تحسن صحبتهم ويخبر عن سوء مصيرهم ويندد بسوء عملهم ، وهي كثيرة ، ونذكر منها النزر اليسير :

1. كلّهم مغفور له إلاّ

أخرج مسلم عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : من يصعد ، الثنيّة ، ثنيّة المُرار فانّه يحطّ عنه ، ما حطّ عن بني إسرائيل قال : فكان أوّل من صعدها ، خيَلنا خيلَ بني الخزرج ثمّ تتامّ الناس ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «وكلّهم مغفور له إلاّ صاحب الجمل الأحمر» فأتيناه فقلنا له : تعال يستغفر لك رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فقال : والله لأن أجد ضالّتي أحبّ إليّ من أن يستغفر لي صاحبكم ، وكان رجل ينشد ضالّة له. (1)

إنّ مسلماً وان ذكره في كتاب صفات المنافقين ، لكنّه لا دليل على أنّه كان منهم ، بل كان من ضعفاء الإيمان ، أو مرضى القلوب ، أو السمّاعين ، إلى غير ذلك من الأصناف المتوفرة في صحابة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وقد ذكر الشراح انّه كان الجدّ بن قيس الأنصاري.

وروى مسلم بعد هذا الحديث عن أنس بن مالك قال : كان منّا رجل من بني النجّار قد قرأ البقرة وآل عمران ، وكان يكتُب لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فانطلق هارباً حتّى لحق بأهل الكتاب قال فرفعوه ، قالوا : هذا كان يكتب لمحمد ، فأُعجبوا به ....

2. اللهم إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد

أخرج البخاري عن سالم ، عن أبيه قال : بعث النبي خالد بن الوليد إلى بني

ص : 557


1- صحيح مسلم : 8 / 223 ، صفات المنافقين وأحكامهم.

جذيمة ، فدعاهم إلى الإسلام فلم يُحسِنُوا أن يقولوا أسلمنا ، فجعلوا يقولون : صبأنا صبانا ، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر ، ودفع إلى كلّ رجل منّا أسيره ، حتّى إذا كان يوم ، أمر خالد أن يقتل كلّ رجل منّا أسيره ، فقلت : والله لا أقتل أسيري ، ولا يَقْتُل رجل من أصحابي أسيره حتّى قدمنا على النبي فذكرناه ، فرفع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يده فقال : «اللهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد» مرّتين. (1)

هذا هو سيف الإسلام ، وبطله يقتل الأبرياء واحداً بعد الآخر ، ويتبرأ النبي الأعظم من جريمته ولكنّه يُصبح بعد رحيل الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - رجلاً بارّاً وسيفاً مسلولاً سلّه رسول الله ولا يُغمد ، وإن زنى بزوجة مالك بن نويرة وقتله ، فما حال غيره!

3. تنبّؤه بمصير ذي الخويصرة

أخرج البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بينما نحن عند رسول الله وهو يقسم قسماً ، أتاه ذو الخويصرة ، وهو رجلٌ من بني تميم ، فقال : يا رسول الله اعدل ، فقال : «ويلك ، ومن يعدل إذا لم أعدل ، قد خِبتُ وخسرتُ إن لم أكن أعدِلُ». فقال عمر : يا رسول الله ، ائذَن لي فيه فأضرِبَ عُنقَهُ؟ فقال : «دَعْهُ ، فإنّ له أصحاباً يحقِّرُ أحدكم صلاتَه مع صلاتهم ، وصيامَه مع صيامهم ، يقرءون القرآن لا يُجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدِّين كما يمرقُ السَّهم من الرّمية».

4. انّ فيك شعبة من الكفر

قد سبّ أبو هريرة رجلاً بأُمّ له في الجاهلية فاستعدى رسول الله على أبي

ص : 558


1- صحيح البخاري ، كتاب المغازي ، باب بعث النبي خالد بن الوليد ، الحديث 4339.

هريرة ، فقال له رسول الله : «إنّ فيك شعبة من الكفر» فحلف أبو هريرة أن لا بسب بعده مسلماً. (1)

5. امتناع الرسول من الصلاة على أحد أصحابه

أخرج الحاكم في مستدركه عن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - انّ رجلاً من أصحاب رسول الله توفّي يوم حنين أو خيبر ، فامتنع - صلى الله عليه وآله وسلم - من الصلاة عليه ، لأنّه غلّ في سبيل الله ففتّشوا متاعه فوجدوا خِرزاً من خرز اليهود لا يساوي درهمين. (2)

6. تنبّؤ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالمصير الأسود لبعض أصحابه

أخرج البخاري عن أبي هريرة قال شهدنا خيبر ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لرجل ممّن معه يدّعي الإسلام : «هذا من أهل النّار». فلمّا حضر القتال قاتل الرجل أشدّ القتال حتّى كثُرت به الجِراحَة ، فكادَ بعض الناس يرتاب ، فوجد الرّجل ألمَ الجِراحَة ، فأهوى بيده إلى كنانته ، فاستخرج منها أسهماً فنَحَر بها نفسه ، فاشتدّ رجال من المسلمين فقالوا : يا رسول الله ، صدّق الله حديثك ، انتحَر فلانٌ فقتل نفسه ، فقال : «قم يا فلانُ ، فأذِّن أنّه لا يدخلُ الجنّة إلاّ مؤمنٌ ، إنّ الله يُؤيِّد الدّين بالرَّجلِ الفاجر». (3)

7. صحابي يخلو بامرأة

روى ابن كثير في تفسير قوله سبحانه : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ)

ص : 559


1- مجمع الزوائد : 8 / 86 ، كتاب الأدب ، باب في من يُعيّر بالنسب أو غيره.
2- مستدرك الحاكم : 2 / 127 ، كتاب الجهاد ؛ مسند أحمد : 4 / 114.
3- صحيح البخاري : 3 / 73 ، برقم 4203.

قال : روى الإمام أبو جعفر بسنده عن أبي اليسر كعب بن عمرو الأنصاري قال : أتتني امرأة تبتاع منّي بدرهم تمراً ، فقلت : إنّ في البيت تمراً أجود من هذا ، فدخلت فأهويت إليها فقبّلتها ، فأتيت عمر فسألته فقال : اتّق الله واستر على نفسك ولا تخبرن أحداً ، فلم أصبر حتّى أتيت أبا بكر فسألته فقال : اتّق الله واستر على نفسك ولا تخبرن أحداً ، قال : فلم أصبر حتّى أتيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فأخبرته فقال : «أخلفت رجلاً غازياً في سبيل الله في أهله بمثل هذا؟» حتّى ظننت انّي من أهل النار حتّى تمنيتُ انّي أسلمت ساعتئذ ، فأطرق رسول الله ساعة فنزل جبريل ، فقال أبو اليسر : فجئت فقرأ عليّ رسول الله : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) فقال إنسان : يا رسول الله له خاصة أم للناس عامة؟ قال : «للناس عامة». (1)

8. صحابي يجلس بين رجلي امرأة

أخرج عبد الرزاق عن يحيى بن جعدة انّ رجلاً من أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - ذكر امرأة وهو جالس مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فاستأذنه لحاجة ، فأذن له ، فذهب يطلبها فلم يجدها ، فأقبل الرجل يريد أن يبشر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالمطر ، فوجد المرأة جالسة على غدير فدفع في صدرها وجلس بين رجليها فصار ذكره مثل الهدبة ، فقام نادماً حتّى أتى النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فأخبره بما صنع فقال له «استغفر ربّك وصلّ أربع ركعات» قال : وتلا عليه : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) الآية. (2)

ص : 560


1- تفسير ابن كثير : 2 / 463 والآية 113 من سورة هود.
2- تفسير ابن كثير : 2 / 463.
9. صحابي يُقتص منه

وهذا حارث بن سويد بن الصامت شهد بدراً لكنّه قتل المِجذَر بن زياد يوم أُحد لثأر جاهلي فقُتِل بأمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. يقول ابن الأثير : «لا خلاف بين أهل الأثر انّ هذا قتله النبي بالمجذر بن زياد ، لأنّه قتل المجذر يوم أُحد غيلة. (1)

10. دعاء النبي على مُحلم بن جثامة

خرج هو ومعه نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة حتّى إذا كانوا ببطن «اضم» مرّ بهم عامر بن الاضبط الأشجعي على بعير له ، وسلم عليهم بتحية الإسلام ، وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله لشيء كان بينه وبينه وأخذ بعيره ومتاعه ، فلمّا قدموا على رسول الله وأخبروه الخبر ، فنزل فيهم قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) الآية. (2)

وفي تفسير ابن كثير قال له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : لا غفر الله لك. (3)

هذه نماذج من أصحاب النبي الذين اقترفوا المعاصي في حياة النبي وتنبّأ النبي بسوء مصيرهم ، أو ندد بعملهم ، وإلاّ فالمجروحون من أصحابه كثير. وكفى في نقض الموجبة الكلية (الصحابة كلّهم عدول) القضية الجزئية.

ص : 561


1- أُسد الغابة : 1 / 332.
2- أُسد الغابة : 4 / 309 ؛ النساء : 94.
3- تفسير ابن كثير : 1 / 539.

11- عدالة الصحابة والتاريخ الصحيح

اشارة

لقد أوقفك الامعان في آيات الذكر الحكيم والسنّة النبوية على أنّ الصحابة لم يكونوا على وتيرة واحدة ، فكان فيهم الصالح والطالح ، والعادل والفاسق ، ومن حسنتْ صحبتُه ، ومن ساءتْ ، وبذلك انثلمتِ القاعدةُ العامّة المدّعاة في حقّ الصحابة وهي : «انّ الصحابة كلّهم عدول» ، وقد بُرْهن في المنطق على أنّ نقيض الموجبة الكلية هو السالبة الجزئية ، وما ذكرناه من النماذج ليس إلاّ سوالب جزئية بالنسبة إلى الضابطة الكلية.

فهلمّ معي نسلّط الأضواء على ملامح من حياة الصحابة بعد رحيل الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فهي مشرقة من جانب ، إذ حملوا لواء الإسلام بأيديهم ، ونشروه في ربوع الأرض وقاتلوا وقتلوا ، وهذا ممّا لا يُنكر ، ومُظلمة من جانب آخر فانّ بعض من صحب النبي وعاشره اقترف جرائم لا تُغتفر ، سوّد بها صحيفة حياته حتّى عدّ عاراً على الصحابة أنفسِهم.

ص : 562

وها نحن نذكر في المقام نبذة موجزة عن بعض الصحابة الذين عدلوا عن الطريق المهيع لتكون نموذجاً لما لم نذكر ، فانّ استقصاء ذلك الجانب من حياة الصحابة رهن كتاب مفرد.

1. صحابيّ يقتل صحابيّاً ويزني بزوجته

إنّ مالك بن نويرة بن حمزة اليربوعي يعرّفه الطبري بقوله : بعث النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - مالك بن نويرة على صدقة بني يربوع وكان قد أسلم هو وأخوه متمم بن نويرة الشاعر. (1) ولما ارتحل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - شاع الارتداد في القبائل ، وبعث أبو بكر خالد بن الوليد ليطفئ هذه الفتنة ، ولكنّ خالداً ، تجاوز الحدّ فقتل الصحابي : مالك بن نويرة ، ولم يقتصر على قتله فحسب ، بل زنى بزوجته أيضاً.

فلمّا قدم خالد المدينة بالسبي ومعه سبعة عشر من وفد بني حنيفة ، دخل المسجد وعليه قباء عليه صدأ الحديد ، متقلداً السيف ، وفي عمامته أسهُم ، فمرّ بعمر فلم يكلّمه ودخل على أبي بكر ، فرأى منه كلّ ما يُحب ، وإنّما وجد عليه عمر لقتله مالك بن نويرة وتزوّجه بامرأته. (2)

وكانت شناعة الأمر بمكان ، بحيث انّ عمر بن الخطاب لمّا ولي الأمر عزله وكتب إلى أبي عبيدة : انّي قد استعملتك وعزلت خالداً. (3)

ص : 563


1- الاستيعاب : 3 برقم 2303.
2- مختصر تاريخ دمشق : 8 / 19 ؛ سير إعلام النبلاء : 3 / 235 في ترجمة خالد برقم 83 ولاحظ تاريخ الطبري : 2 / 272 وأُسد الغابة : 2 / 95 والإصابة : 5 / 755 في ترجمة مالك بن نويرة.
3- سير اعلام النبلاء : 3 / 236.

2. سمرة بن جندب يبيع الخمر

تولّى سمرة بن جندب (أحد الصحابة) إمارة البصرة في عهد معاوية ، وقد سفك من الدماء الكثير ، ومن شنائع ما اقترفه ، بيعه الخمر في عهد عمر.

أخرج مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال : بلغ عمر انّ سمرة باع خمراً ، فقال : قاتل الله سمرة ، ألم يعلم أنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها. (1)

ولم تقتصر القبائح التي ارتكبها سمرة بن جندب على ذلك ، بل تعداه إلى سفك الدماء والإسراف في قتل النفوس البريئة.

روى الطبري في حوادث سنة 50 ، قال : عن محمد بن سليم ، قال : سألتُ أنس بن سيرين هل كان سمرة قتل أحداً؟ قال : وهل يحصى من قتله سمرة بن جندب ، استخلفه زياد على البصرة ، وأتى الكوفة فجاء وقد قتل ثمانية آلاف من الناس ، فقال له : هل تخاف أن تكون قد قتلت أحداً بريئاً؟ قال : لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت.

وروى أيضاً عن أبي سوار العدوي قال : قتل سمرة بن جندب من قومي في غداة سبعة وأربعين رجلاً قد جمع القرآن. (2)

3. قدامة بن مظعون بدري يشرب الخمر

قدامة بن مظعون بن حبيب القريشي ، وهو خال عبد الله وحفصة ابني عمر بن الخطاب ، وقد استعمله عمر بن الخطاب على البحرين ، فقدم الجارود سيد عبد

ص : 564


1- صحيح مسلم : 5 / 41 باب تحريم الخمر والميتة.
2- تاريخ الطبري : 3 / 176.

القيس على عمر بن الخطاب من البحرين ، فقال : يا أمير المؤمنين انّ قدامة شرب المسكر ، فقال عمر : من يشهد معك ، فقال : أبو هريرة ، فدعي أبو هريرة ، فقال : بم تشهد ، فقال : لم أره يشرب ، ولكنّي رأيته سكران يقي. فقال عمر : لقد تنطعت في الشهادة ، ثمّ كتب إلى قدامة أن يقدم عليه من البحرين ، فقدم ، فقال الجارود لعمر : أقم على هذا كتاب الله الخ. (1)

قال عبد الرزاق في «المصنّف» : سمعت أيوب بن أبي يقول : لم يحدّ في الخمر أحد من أهل بدر إلاّ قدامة بن مظعون. (2)

4. أبو جندل يُحدّ حدّ الخمر

أبو جندل بن سهيل بن عمرو القرشي العامري ، وكان أبوه سهيل كاتب قريش في صلح الحديبية ، وهو ممّن فرّ من مشركي مكة والتحق بالمسلمين في صلح الحديبية.

ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال : أخبرت انّ أبا عبيدة بالشام وجد أبا جندل بن سهيل بن عمرو ، وضرار بن الخطاب وأبا الأزور ، وهم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد شربوا الخمر.

فقال أبو جندل : «ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طمعوا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات» ، فكتب أبو عبيدة إلى عمر : انّ أبا جندل خصمني بهذه الآية. فكتب عمر : انّ الذي زيّن لأبي جندل الخطيئة زيّن له الخصومة ، فاحددهم ، فقال أبو الأزور : أتحدّوننا؟ قال أبو عبيدة : نعم ، قال :

ص : 565


1- الاستيعاب : 3 / 1276 ، باب قدامة.
2- مصنف بن عبد الرزاق : 9 / 240 برقم 17075.

فدعونا نلقى العدو غداً فإن قُتلنا فذاك ، وإن رجعنا إليكم فحدُّونا ، فلقى أبو جندل وضرار وأبو الأزور العدوَّ فاستشهد أبو الأزور وحّد الآخران. فقال أبو جندل : هلكتُ. فكتب بذلك أبو عبيدة إلى عمر ، فكتب عمر إلى أبي جندل وترك أبا عبيدة : انّ الذي زين لك الخطيئة حظر عليك التوبة. (1)

5. أبو محجن الثقفي يُحد ثمانِ مرات

أبو محجن مالك بن حبيب الثقفي ، سمع من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وروى عنه ، وحدث عنه أبو سعد البقال ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول : أخوف ما أخاف عليكم على أُمّتي من بعدي ثلاث : إيمان بالنجوم ، وتكذيب بالقدر ، وحيف الأئمة.

ففي الاستيعاب : كان شاعراً مطبوعاً كريماً إلاّ أنّه منهمكاً في الشراب لا يكاد يُقلع عنه ، ولا يردعه حدّ ولا لوم لائم ، وجلده عمر بن الخطاب في الخمر مراراً ونفاه إلى جزيرة في البحر ، وبعث معه رجلاً فهرب منه ولحق بسعد بن أبي وقاص بالقادسية وهو محارب للفرس ، وكان قد همّ بقتل الرجل الذي بعثه معه عمر ، فأحس الرجل بذلك ، فخرج فارّاً فلحق بعمر فأخبره خبره ، فكتب عمر إلى سعد بن أبي وقاص بحبس ابن محجن ، فحبسه.

وروى عن ابن جريج قال : بلغني انّ عمر بن الخطاب حدّ أبا محجن الثقفي في الخمر سبع مرات ، وقال قبيصة بن ذويب : ضرب عمر بن الخطاب أبا محجن الثقفي في الخمر ثماني مرات ، ومن رواية أهل الاخبار انّ ابناً لأبي محجن الثقفي دخل على معاوية ، فقال له معاوية : أبوك الذي يقول :

ص : 566


1- الاستيعاب : 4 / 1623.

إذا متُّ فادفنّي إلى جنب كرمة

تروّي عظامي بعد موتي عروقها

ولا تدفنني بالفلاة فإنّني

أخاف إذا ما متّ أن لا أذوقها(1)

وقد عقد الحافظ الكبير عبد الرزاق باباً أسماه «باب من حدّ من أصحاب النبي وذكره فيه».

6. مسلم بن عقبة يشن الغارة على أهل المدينة

مسلم بن عقبة الأشجعي من صحابة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ذكره ابن حجر في «الإصابة» برقم 7977 ، وكفى في حقّه ما ذكره الطبري في حوادث سنة 64 ه ، قال : ولمّا فرغ مسلم بن عقبة من قتال أهل المدينة وإنهاب جنده أموالهم ثلاثاً ، شخص بمن معه من الجند متوجهاً إلى مكة ، فلما وصل إلى قفا المشلل نزل به الموت ، وذلك في آخر محرم من سنة 64 ه. (2)

7. بسر بن أرطاة يذبح ولدي عبيد الله بن العباس

بسر بن أرطاة من أصحاب الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - شهد فتح مصر واحتفظ بها ، وكان من شيعة معاوية ، وكان معاوية وجّهه إلى اليمن والحجاز في أوّل سنة أربعين وأمره أن ينظر من كان في طاعة عليّ - عليه السلام - فيوقع بهم ، ففعل ذلك.

وقد ارتكب جرائم كثيرة ذكرها التاريخ ، ولمّا كانت تمس عدالة الصحابة

ص : 567


1- الاستيعاب : 4 / 1749. ولاحظ مصنف عبد الرزاق : 9 / 243 برقم 17077.
2- تاريخ الطبري : 4 / 381 ، حوادث سنة 64.

وكرامتهم أعرض ابن حجر عن استعراضها مكتفياً بالقول : وله أخبار شهيرة في الفتن لا ينبغي التشاغل بها!!

ومن جرائمه التي لا تستقال ولا تغتفر ذبحه ولدي عبيد الله بن العباس.

قال الطبري : أرسل معاوية بن أبي سفيان بعد تحكيم الحكمين بسر بن أبي أرطاة ، فساروا من الشام حتّى قدموا المدينة وعامل علي - عليه السلام - على المدينة يومئذ أبو أيوب الأنصاري ، ففر منهم أبو أيوب. ثمّ صعد بسر على المنبر ونادى : يا أهل المدينة والله لو لا ما عهد إليّ معاوية ما تركت بها محتلماً إلاّ قتلته - إلى أن قال - : ثمّ مضى بسر إلى اليمن وكان عليها عبيد الله بن العباس ، فلمّا بلغه مسيره فرّ إلى الكوفة واستخلف عبد الله بن عبد المدان الحارثي على اليمن ، فأتاه بسر فقتله وقتل ابنه ، ولقي بسر ثَقَل عبيد الله بن عباس وفيه ابنان له ، فذبحهما. (1)

8. أُمّ المؤمنين وتزعّمها لجيش جرار

اشارة

أمر الله تبارك وتعالى أُمّهات المؤمنين بملازمة بيوتهن بقوله : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ). (2)

وقد خالفت أُمّ المؤمنين عائشة أمر الكتاب العزيز حينما خرجت مع طلحة والزبير في جيش جرّار لمحاربة الإمام أمير المؤمنين علي - عليه السلام - الذي بايعه جمهور الصحابة من المهاجرين والأنصار.

وكان لها موقف عدائي واضح من الإمام أمير المؤمنين - عليه السلام - ، ولمّا بلغها قتل

ص : 568


1- تاريخ الطبري : 4 / 107 ؛ وسير اعلام النبلاء : 3 / 409 برقم 65.
2- الأحزاب : 33.

الإمام - عليه السلام - أنشدت قائلة :

فألقت عصاها واستقرّ بها النوى *** كما قرّ عيناً بالإياب المسافر(1)

فهذه الصحابية مع ما لها من منزلة رفيعة بين المسلمين قادت جيشاً كبيراً لمحاربة الإمام - عليه السلام - ، ودارت بينهما معركة شرسة ، قُتل فيها من المسلمين ما يربو على عشرة آلاف حسب ما ذكره الطبري. (2)

وربما يقال : انّ القتلى يفوق هذا العدد.

هذه نماذج ممّا يطالعه القارئ في مرآة التاريخ ، ولو حاولنا الاستقصاء لفاق هذا العدد بكثير.

ومن سبر التاريخ بروح موضوعية وتجرد ، يجد انّ فئة من الصحابة سوّدت وجه التاريخ بنحو يثير أسف الخلف على هذا السلف.

ادّعاء العدالة لعامة الصحابة تنكّر للطبيعة البشرية

إنّ الصحابة الكرام لهم غرائز جامحة كسائر الناس ، فمن الغريب استثناء هذا الجيل عن سائر الأجيال ، وإضفاء هالة من القداسة عليهم بلا استثناء. ولم يكن للصحبة ، البعد الإعجازي حتّى يقلب فطرتهم رأساً على عقب ، ويحوّلهم إلى أشخاص مثاليّين ، بل هم بشر - كسائر البشر - لهم ميول وغرائز ، قد ينفلت زمامها ، فتُلقي بهم في وديان الهوى والظلم والعصيان.

وما ذكرناه هو الذي يدعمه الذكر الحكيم والسنّة النبوية وتاريخ

ص : 569


1- تاريخ الطبري : 4 / 115.
2- تاريخ الطبري : 3 / 540.

الصحابة ، فمن حاول الإصرار على موقفه من عدالة الصحابة كلّهم ، فقد خالف صريح القرآن الكريم والسنّة الشريفة وما أطبق عليه التاريخ الصحيح.

وعلى الرغم من ذلك فإنّ القائلين بعدالة الصحابة استدلّوا بوجوه :

الأوّل : الإجماع.

الثاني : ثناء الكتاب على الصحابة.

الثالث : ثناء السنّة عليهم.

وسنعقد بحثاً في الفصول الآتية نتناول فيه هذه الوجوه نقداً وتمحيصاً.

ص : 570

12. أدلّة القائلين بعدالة الصحابة

1- الإجماع على عدالة الصحابة

اشارة

استدلّ القائلون بعدالة الصحابة وهم جمهور السنّة بوجوه :

الأوّل : الإجماع على عدالتهم وقد مرّ آنفاً كلمة إمام الحنابلة وغيره ، يقول ابن حزم :

انّا نقطع على غيب قلوبهم انّهم كلّهم مؤمنون صالحون ماتوا كلّهم على الإيمان والهدى والبر ، كلّهم من أهل الجنّة لا يلج أحد منهم النار. (1)

يلاحظ عليه : بأنّه كيف يدّعي الإجماع على خلاف ما نطق به الكتاب العزيز والسنّة النبوية والتاريخ الصحيح ، أو ليس هذا الإجماع ، إجماعاً على خلاف الحجج القطعية؟! ثمّ كيف يدّعي الإجماع مع أنّ في عدالة الصحابة أقوالاً مختلفة نذكر منها ما يلي :

يقول الخطيب في كتابه : «السنّة قبل التدوين».

إنّ للصحبة شرفاً عظيماً يمنح صاحبها ميزة خاصة ، وهي انّ جميع الصحابة

ص : 571


1- ابن حزم حياته وعصره لأبي زهرة : 259.

عند من يعتدّ به من أهل السنّة عدول ، سواء من لابس منهم الفتن ومن لم يلابس ، وهو قول الجمهور.

وقال قوم : إنّ حكمهم في العدالة حكم من بعدهم في لزوم البحث عن عدالتهم عند الرواية.

ومنهم من قال : إنّهم لم يزالوا عدولاً إلى أن وقع الاختلاف والفتن بينهم ، فبعد ذلك لا بدّ من البحث في عدالتهم.

ومنهم من قال - وهم المعتزلة - : إنّ كلّ من قاتل عليّاً عالماً فهو فاسق مردود الرواية والشهادة ، لخروجهم على الإمام الحقّ.

ومنهم من قال برد رواية الكلّ وشهادتهم ، لأنّ أحد الفريقين فاسق وهو غير معلوم ولا معيّن.

ومنهم من قال : بقبول رواية كلّ واحد منهم وشهادته إذا انفرد ، لأنّ الأصل فيه العدالة ، وقد شككنا في فسقه ، ولا يقبل ذلك منه مع مخالفه ، لتحقّق فسق أحدهما من غير تعيين. (1)

وقد مرّ انّ عمر بن عبد العزيز ، وأحمد بن حنبل وغيرهما قالوا بلزوم الإمساك عمّا شجر بين الصحابة في الخلاف ، وما روي عنهم من اقتراف المعاصي ، ومعنى ذلك انّهم وقفوا على واقع الأمر وأرادوا التغطية على الواقع الملموس ، حفظاً لعقائد المسلمين!!

كلام التفتازاني في حقّ الصحابة

وهناك كلام للشيخ التفتازاني في شرح مقاصده مع أنّه استولت عليه

ص : 572


1- السنّة قبل التدوين : 258.

العصبية بدعوته إلى ترك الكلام في حقّ البغاة والجائرين من الصحابة ، ولكنّه أصحر بالحقيقة ، قائلاً :

ما وقع بين الصحابة من المحاربات والمشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ والمذكور على ألسنة الثقات يدلّ بظاهره على أنّ بعضهم قد حاد عن طريق الحقّ ، وبلغ حدّ الظلم والفسق وكان الباعث له الحقد والعناد والحسد واللداد ، وطلب الملك والرئاسة ، والميل إلى اللذات والشهوات ، إذ ليس كلّ صحابي معصوماً ولا كلّ من لقي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالخير موسوماً إلاّ أنّ العلماء لحسن ظنهم بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ذكروا لها محامل وتأويلات بها تليق ، وذهبوا إلى أنّهم محفوظون عمّا يوجب التضليل والتفسيق ، صوناً لعقائد المسلمين عن الزيغ والضلالة في حقّ كبار الصحابة لا سيما المهاجرين منهم ، والأنصار ، والمبشرين بالثواب في دار القرار.

وأمّا ما جرى بعدهم من الظلم على أهل بيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فمن الظهور بحيث لا مجال للإخفاء ، ومن الشناعة بحيث لا اشتباه على الآراء ، إذ تكاد تشهد به الجماد والعجماء ، ويبكي له من في الأرض والسماء ، وتنهد منه الجبال وتنشق الصخور ، ويبقى سوء عمله على كرّ الشهور ، ومرّ الدهور فلعنة الله على من باشر أو رضي أو سعى ولعذاب الآخرة أشدّ وأبقى. (1)

ص : 573


1- شرح المقاصد : 5 / 310 - 311 ؛ وراجع كتاب الأربعين لمحمد طاهر القمي الشيرازي : 633 ، بحار الأنوار : 28 / 364.

2- ثناء القرآن على الصحابة

اشارة

استدلّ غير واحد من القائلين بعدالة الصحابة كلّهم ، بآيات ورد فيها الثناء على طوائف منهم ، وليس على كلّ الصحابة ، لكن حب المستدلين للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه ، حال بينهم وبين ما تهدف إليها آيات الثناء ، فزعموا انّها تُثني على الصحابة بأجمعهم وانّه سبحانه شمل الجميع بثنائه وأشاد بفضلهم وفضيلتهم من دون استثناء وإليك هذه الآيات.

الآية الأُولى
اشارة

يقول سبحانه : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). (1)

أثنى سبحانه في هذه الآية المباركة على طوائف ثلاثة عبّر عن كلّ منها بلفظ خاص.

ص : 574


1- التوبة : 100.
1. السابقون الأوّلون من المهاجرين

أثنى سبحانه على السابقين من المهاجرين وحذف متعلّق السبق ، وبما أنّهم من المهاجرين ، يُعلم أنّ متعلّقه هو الهجرة أي الذين هاجروا أيّام هجرة النبي أو بعدها بقليل ، وبما انّ لفظة «من» في قوله «من المهاجرين» للتبعيض ، فهو يخرج المتأخرين في الهجرة فلا يعمّ المهاجرين غير السابقين ، وعلى هذا فالآية تنطبق على من آمن بالنبي قبل الهجرة ثمّ هاجر قبل وقعة بدر التي منها ابتدأ ظهور الإسلام على الكفر.

وأمّا المهاجرون بعد وقعة أُحد ، فلا يمكن الاستدلال بالآية عليهم لعدم وجود الموضوع أي السبق في الهجرة والنصرة.

2. السابقون الأوّلون من الأنصار
اشارة

أثنى سبحانه فيها على السابقين الأوّلين من الأنصار ، وذلك لأنّ قوله : «والانصار» عطف على قوله : «المهاجرين» فيكون تقدير الآية : السابقون الأوّلون من الأنصار ، ومتعلّق السبق وإن كان محذوفاً ، ولكن كونهم من الأنصار ، قرينة على أنّ المراد ، السبق في النصرة بالإنفاق والإيواء فلا يدخل فيهم مطلق الأنصار ولا أبناؤهم ، وحلفاؤهم ، فالآية تثني على السابقين الأوّلين من الأنصار وهم الذين آمنوا بالنبي وآووه وتهيّئوا لنصرته عند ما هاجر إلى المدينة ، ولا تُثني على عامة الأنصار ، وما ذكرناه هو الظاهر من المفسرين. قال الرازي : إنّ الآية تتناول الذين سبقوا في الهجرة والنصرة ، فهو لا يتناول إلاّ قدماء الصحابة ، لأنّ كلمة «من» تفيد التبعيض. (1)

ص : 575


1- التفسير الكبير : 16 / 171.
دفع وهم

وربما يتوهم انّ الآية بصدد الثناء على عامة المهاجرين والأنصار ، وهذا هو الظاهر من خطباء القوم ومؤلّفيهم وهو الذي ذكره الرازي قولاً ثانياً وقال : منهم من قال تتناول الآية جميع الصحابة ، لأنّ جملة الصحابة موصوفون بكونهم سابقين أوّلين بالنسبة إلى سائر المسلمين ، وكلمة «من» في قوله (مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) ليست للتبعيض ، بل للتبيين ، أي والسابقون الأوّلون الموصوفون بوصف كونهم مهاجرين وأنصاراً ، كما في قوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) وكثير من الناس ذهبوا إلى هذا القول. (1)

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ المتّبع في تفسير الآية ، هو المتبادر عند أهل اللسان من ظاهر الآية ، فإذا كان الصحابة حسب شهادة بعض الآيات منقسمين إلى قسمين سابق في الهجرة والنصرة ولاحق فيهما ، يكون السبق واللحوق قائمين بنفس الصحابة ، فمنهم سابق ومنهم لاحق لا أنّ كلّهم سابقون ، ومن آمن بعدهم لاحقون. يقول سبحانه (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا). (2)

وثانياً : لو كانت الآية بصدد الثناء على عامة المهاجرين والأنصار ، بل مطلق الصحابة وإن لم يكونوا منهما ، تلزم لغوية قوله : (السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) ، بل يكفي أن يقال : (المهاجرون والأنصار و...) ، لأنّ سبب الرضا والثناء هو هجرتهم ونصرتهم لا سبقهم على سائر الاجيال ، لأنّ سبقهم على سائر المسلمين في الأجيال اللاحقة لم يكن أمراً اختيارياً لهم ، وهذا بخلاف ما لو بان الثناء على

ص : 576


1- التفسير الكبير : 16 / 171.
2- الحديد : 10.

صنف من الصحابة دون صنف ، لأنّ سبق الأوّل في الهجرة والنصرة على سائر الصحابة إنّما كان بملاك الاختيار.

وثالثاً : إذا كان المراد من الآية عامّة الصحابة الذين أدركوا النبي وأسلموا ، يكون المراد من الطائفة الثالثة في (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) سائر المسلمين في الأجيال المتلاحقة.

فكان اللازم عندئذ أن يقول : «والذين يتّبعونهم بإحسان ، بصيغة المضارع لا الماضي ، كما أتى به سبحانه في سورة الجمعة وقال : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ* وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). (1)

فأراد من الآية الأُولى عامة الصحابة ، ومن الآية الثانية (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) كلّ من يأتي بعد الصحابة إلى يوم القيامة ، قال الله سبحانه بعث النبي إليهم فإنّ شريعته خاتمة الشرائع.

إلى هنا تمّ تفسير الطائفتين ، وإليك بيان الطائفة الثالثة الواردة في الآية.

3. والذين اتّبعُوهم بإحسان

ما هو المراد من الموصول؟! وما هو المراد من القيد بإحسان؟

أمّا الأوّل فالمراد هم الذين تحقق اتباعهم في عصر نزول الآية ، لا من يتحقّق في الأجيال الآتية ، وبما انّ مبدأ ظهور السابقين ، هو ظهور الإسلام في الفترة المكية ومنتهاهم هو انتصار الإسلام على مظاهر الشرك في المنطقة ، أعني :

ص : 577


1- الجمعة : 32.

غزوة بدر ، يكون نهاية هؤلاء مبدأ لظهور الطائفة الثالثة وتتحدد نهايتهم ببيعة الرضوان أو فتح مكة لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لا هجرة بعد الفتح».

وأمّا الثاني ، فالآية لا تثني على كلّ من اتبع السابقين بالهجرة والنصرة ولكن تقيّد الاتّباع بقوله : «بإحسان» أي يكون الاتّباع مقروناً ومصحوباً بالإحسان في القول والعمل ، فتقييد الرضا بحسن سلوكهم وسيرتهم يخرج من هاجر ونصر ، من دون اتّباع مصحوب بإحسان ، بأن ساءت سيرته ، ولم يحسن سلوكه.

والله سبحانه يعلن رضاه عن هذه الطائفة مثل السابقين ويقول : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ). (1)

فلو وجدنا صحابياً آمن وهاجر أو نصر النبي ولكن شككنا في حسن سلوكه وسيرته ، لا تكون الآية دليلاً على رضاه سبحانه

عنه ، للشكّ في شمول الآية له فضلاً عمّن ثبت سوء سيرته.

هذا ما هو المتبادر والمفهوم من الآية ، وهي دليل قاطع على أنّه سبحانه رضي عن طوائف ثلاث من الصحابة ، لا عن كلّهم ، والاستدلال به على الموجبة الكلية «عدالة كلّ صحابي» كما ترى.

الآية الثانية

استدلّوا على عدالة الصحابة بآية ثانية ، نظيرة الآية المتقدّمة في تصنيف الصحابة إلى أصناف ثلاثة.

وهذه الطوائف الثلاث التي أشارت إليها الآية عبارة عن :

1. الفقراء المهاجرين.

ص : 578


1- المجادلة : 22.

2. الذين تبوّءُوا الدار والإيمان (الأنصار).

3. والذين جاءوا من بعدهم.

ولكلّ من الأصناف سمات وميزات ، مذكورة فيها ويتميزون بها عن سائر الصحابة قال سبحانه : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ* وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ). (1)

فهذه الآيات الثلاث نظير ما تقدّم من الآيتين ، لا تُثني على عامّة الصحابة ، بل على فريق منهم.

أمّا المهاجرون فتثني على من تمتّع منهم بالصفات التالية :

أ. (أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ).

ب. (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً).

ج. (يَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ).

فمن تمتّع بهذه الصفات الثلاث من المهاجرين فقد أثنى القرآن عليه ، وبما انّ من أبرز صفاتهم ، كونهم مشرّدين من ديارهم وأموالهم ، فيكون المقصود هم الذين هاجروا قبل وقعة «بدر». فينطبق على السابقين الأوّلين من المهاجرين في

ص : 579


1- الحشر : 108

الآية السابقة.

وأمّا الأنصار فإنّما تثني على من تمتّع منهم بالصفات التالية :

أ. (تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي آمنوا بالله ورسوله ، فخرج بذلك من اتّهم بالنّفاق وكان في الواقع منافقاً.

ب. (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا).

ج. (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ).

وبما انّ من أبرز صفاتهم ، هو إيواء المهاجرين والأنصار وإيثارهم على الأنفس ، فيكون المراد من آمنوا بالنبيّ وآووه وآووا المهاجرين ، فينطبق على من آمن وآوى قبل غزوة بدر لانتفاء الإيواء بعدها خصوصاً بعد إجلاء «بني قينقاع» غبَّ معركة «بدر» حيث خرجوا من قلاعهم وأموالهم وأسلحتهم ، تاركين جميع ذلك للمسلمين. فينطبق على السابقين الأوّلين من الأنصار في الآية السابقة.

وأمّا التابعون لهم ، أعني : الذين جاءوا من بعدهم فإنّما أثنى على من تمتع منهم بالصفات التالية :

أ. (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ).

ب. (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا).

فالعلائم المذكورة للطائفة الثالثة ، كناية عن الاتّباع بإحسان الذي ورد في الآية الأُولى ، فتنطبق على التابعين فيها.

فظهر انّ الآيات الواردة في سورة الحشر ، تتّحد مضموناً مع ما ورد في سورة التوبة ولا تختلف عنها قيد شعرة.

فالاستدلال بهذه الآيات وما تقدّمها على أنّ القرآن أثنى على الصحابة جميعهم من أوّلهم إلى آخرهم - الذين ربّما جاوز عددهم المائة ألف - غفلة عن

ص : 580

مفاد الآيات ؛ فأين الدعاء والثناء على لفيف من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم المتمتّعين بخصوصيات معيّنة ، من الثناء على الطلقاء والأعراب وأبناء الطلقاء والمتّهمين بالنفاق؟!

وأين هذه الآيات من مدح خمسة عشر ألف صحابي سُجّلت أسماؤهم في المعاجم ، أو مائة ألف صحابي صحبوا النبي في مواقف مختلفة ورأوه وعاشروه؟!

الآية الثالثة

استدلّوا بآية ثالثة نزلت في مورد بيعة الرضوان وأبدى سبحانه رضاه عن المبايعين ، وقال :

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً). (1)

فالآية تثني على مَن صحبوا النبي في الحديبية وبايعوه تحت الشجرة ، وكان ذلك في السنّة السادسة من الهجرة ، وقد رافقه حوالي ألف وأربعمائة أو ألف وستمائة أو ألف وثمانمائة. (2)

والثناء على هذا العدد القليل لا يكون دليلاً على الثناء على جميع الصحابة من أوّلهم إلى آخرهم!!

كما أنّ الرضا محدّد بزمان البيعة حيث قال : (إِذْ يُبايِعُونَكَ) ولا يشمل الفترات المتأخرة عنها.

ص : 581


1- الفتح : 18.
2- السيرة النبوية : 2 / 309 ؛ مجمع البيان : 2 / 288.
الآية الرابعة
اشارة

استدلّوا على عدالتهم بآية رابعة تذكر سمات أصحاب النبي وصفاتهم ، يقول سبحانه :

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً). (1)

فهذه الآية بظاهرها أوسع دلالة ممّا سبق ، لأنّها تثني على النبي ومن معه ، ولكن مدلول الآية - في الحقيقة - ليس بأوسع ممّا سبق ، وذلك للقرائن التالية :

الأُولى : الصفات التالية لم تكن متوفرة في عامّة الصحابة ، أعني بها :

أ. (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ).

ب. (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ).

ج. (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً).

د. (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً).

ه. (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ).

فهل الذين أراقوا دم عثمان وقتلوه في عقر داره كانوا من غير الصحابة؟!

وهل الذين خضّبوا الأرض بدم الصحابة في ميادين القتال كانوا من الأجانب؟! فما لكم كيف تحكمون.

ص : 582


1- الفتح : 29.

فإذا كانت أعمالهم الإجرامية من مصاديق التراحم فكيف يكون تباغضهم ومشاجراتهم؟!

وهل كان في وجوه الأعراب والطلقاء وأبنائهم والذين آمنوا بعد الفتح أثر للسجود؟!

الثانية : انّ ذيل الآية يشهد بأنّ الثناء على قسم منهم ، يقول تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) فانّ لفظة «من» في قوله : «منهم» للتبعيض ، وما يقال من أنّ «من» بيانية غير صحيح ، لأنّها لا تدخل على الضمير مطلقاً في كلامهم وإنّما تدخل على الاسم الظاهر ، كما في قولك : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) (1). (2)

الثالثة : انّ الآية نزلت قبل فتح مكة وبعد الحديبية ، والمراد من قوله سبحانه في هذه الآية : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) هو الفتح في صلح الحديبية ، وفيه إخبار عن فتح مكة في المستقبل بقوله : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً). (3)

فالآية تتضمن الإخبار عن فتحين آخرين :

1. عمرة القضاء وأشار إليه بقوله : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ).

ص : 583


1- الحج : 30.
2- وربما يستشهد على دخول من البيانية على الضمير بقوله تعالى : (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ). والاستدلال مبني على عود الضمير في تزيلوا إلى المؤمنين ، والضمير في «منهم» إلى الذين كفروا ، ولكنّه غير صحيح ، بل الضميران جميعاً يرجعان إلى مجموع المؤمنين والكافرين من أهل مكة فتكون «من» تبعيضية لا بيانية.
3- الفتح : 27.

2. فتح مكة وأشار إليه بقوله : (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً).

فإذا كانت الآية ممّا نزلت في السنّة السادسة وحواليها ، فلا تكون أوسع دلالة من الآيات النازلة بعدها في السنّة التاسعة كما نقلناه ، فالثناء المطلق في الآية على مَن كان مع النبي (وَالَّذِينَ مَعَهُ) يحمل ويخصص بما خصصه القرآن في آيات أُخرى كالآيات المتقدّمة.

وعلى ضوء ما تقدّم ، نصل إلى النتيجة التالية : انّ ما اشتهر على الألسن من ثناء القرآن على صحابة الرسول قاطبة وتعديله إياهم ممّا لا أساس له ، وإنّما وقع الثناء - بعد ضمّ بعضها إلى بعض - على لفيف منهم وطائفة خاصّة.

ص : 584

إنّما الأعمال بالخواتيم

هذا العنوان كلمة قدسية قالها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فيما رواه البخاري عنه ، وذكر في الباب روايتين تدلاّن على أنّ الملاك للنجاة هو خواتيم الأعمال نذكر واحدة منها.

أخرج البخاري عن سهل : أنّ رجلاً من أعظم المسلمين غناءً عن المسلمين ، في غزوة غزاها مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فنظر النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال : «من أحبّ أن ينظر إلى الرّجل من أهل النار فلينظر إلى هذا ، فاتبعه رجل من القوم وهو على تلك الحال من أشدّ الناس على المشركين حتّى جرح ، فاستعجل الموت ، فجعل ذبابة سيفه بين ثَدييه حتّى خرج من بين كتفيه ، فأقبل الرّجل إلى النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - مسرعاً ، فقال : أشهد أنّك رسول الله ، فقال : «وما ذاك؟». قال : قلت لفلان : «من أحبّ أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إليه». وكان من أعظمنا غناء عن المسلمين ، فعرفتُ أنّه لا يموت على ذلك ، فلمّا جرح استعجل الموت فقتل نفسه ، فقال النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - عند ذلك : «إنّ العبد لَيعملُ عَمَل أهل النّار وانّه من أهل الجنّة ، ويعمل عمل أهل الجنّة وإنّه من أهل النار ، وإنّما الأعمال بالخواتيم». (1)

وكم من إنسان حسنتْ حياته في أوائل عمره ، ثمّ تبدلت وساءت سيرته وسلوكه ، وحبطت أعماله الصالحة أتى بها في أوائل عمره أو أواسطه يقول سبحانه :

ص : 585


1- صحيح البخاري : 4 / 233 ، كتاب القدر ، الباب 5 ، الحديث 6607 ؛ سنن الترمذي : 4 ، كتاب القدر ، الباب 5 ، الحديث 2137. والحديث الوارد في السنن غيره في صحيح البخاري.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ). (1)

والقرآن يحدث عمّن أُوتي آيات الله في مقتبل عمره ، لكنّه ساءت سيرته في الفترة الأخيرة من عمره فصار من الغاوين ، ويقول : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ). (2)

وهذا هو قارون بني إسرائيل كان يقرأ التوراة بصوت حسن ، ولكنّه ساء سلوكه فخسف سبحانه به وبداره وكنزه. (3)

وعلى ضوء ذلك فما مرّ من الآيات التي تُثني على فئات من الصحابة لا يحتج بها على صلاحهم إذا ثبت بالأدلّة القطعية انحرافهم عن الطريق المهيع ، واقترافهم المعاصي ومحاربتهم الحق والحقيقة.

وممّا لا شكّ فيه وقوع التشاجر بين الصحابة ، كما دارت بينهم معارك دامية ، قُتل على أثرها لفيف من البدريين والأُحديين وغيرهم من المسلمين الأبرياء وعندئذ يقال : إنّما العبرة بخواتيم الأعمال ، وثناء القرآن عليهم إنّما كان بحسب ملابساتهم وأحوالهم يوم ذاك. فكانوا من الصلحاء وليس من المستحيل أن ينسلخوا من تلك الأحوال كما انسلخ غيرهم.

ص : 586


1- الحجرات : 2.
2- الأعراف : 175.
3- القصص : 81.

3- ثناء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على الصحابة

اشارة

استُدلّ على عدالة الصحابة بثناء النبي عليهم ، ونحن نذكر منه ما هو المهم :

1. حديث انّ الله اطّلع على أهل بدر ...

أخرج البخاري عن علي رضي الله عنه قال : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأبا مرثد والزبير ، وكلُّنا فارس ، قال : انطلقوا حتّى تأتوا روضة خاخ ، فانّ بها امرأة من المشركين ، معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين ، فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فقلنا : الكتاب ، فقالت : ما منّا كتاب ، فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتاباً ، فقلنا : ما كذب رسول الله ، لتُخرجنّ الكتاب أو لنجرّدنّك ، فلمّا رأت الجدّ أهوت إلى حُجْزتها وهي محتجزة بكساء فأخرجته ، فانطلقنا بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فقال عمر : يا رسول الله ، قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، فدعني لاضرب عنقَه ، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : ما حملك على ما صنعت؟ قال حاطب : والله ما بي أن لا أكونَ مؤمناً بالله ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - أردت أن يكون لي

ص : 587

عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي ، وليس أحد من أصحابك إلاّ له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله. فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : صدق ، ولا تقولوا له إلاّ خيراً.

فقال عمر : إنّه قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، فدعْني فلأضرب عنقه ، فقال : أليس من أهل بدر؟ فقال : لعلّ الله اطّلع على أهل بدر ، فقال : اعمَلوا ما شئتم ، فقد وجبت لكم الجنة ، أو قد غفرتُ لكم ، فدمعت عينا عمر ، وقال : الله ورسوله أعلم. (1)

هذا الحديث وإن أخرجه البخاري وأسنده إلى علي - عليه السلام - ولكنّنا نجلّ الإمام أمير المؤمنين عليّاً - عليه السلام - عن رواية هذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فانّ مضمونه يشهد على كذبه ، إذ كيف يمكن للنبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يُعطي الضوء الأخضر لجماعة من الصحابة يناهز عددهم الثلاثمائة ، ويسمح لهم أن يفعلوا ما يشاءُون ، وإن اقترفوا الكبائر وارتكبوا المعاصي وإن سفكوا الدماء وخضّبوا بها وجه الأرض.

إنّه سبحانه يخاطب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بقوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ). (2) فهل يُعقل أن يسمح للبدريين أن يفعلوا ما شاءوا وأن يُبشرهم بالجنة؟! وقد تقدّم آنفاً انّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - اقتصّ من الحارث بن سويد بن الصامت البدريّ لقتله المجذر بن زياد.

وهذا هو حاطب بن أبي بلتعة يُصبح عينَ المشركين بالمدينة ، ولكنّه بالرغم من ذلك يدخل الجنة!! مع أنّ الجاسوس إذا كان مسلماً ، يتجسّس لصالح الكفّار يقتل ، أو يوجع ويعزّر على اختلاف في المذاهب. (3)

ص : 588


1- صحيح البخاري : 3 / 11 ، برقم 3983.
2- الزمر : 65.
3- الموسوعة الفقهية : 10 / 163 - 165.
2. حديث «مثل أصحابي كالنجوم»
اشارة

أخرج ابن حميد عن نافع عن ابن عمر ، انّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : مثل أصحابي مثل النجوم يهتدى به ، فأيّهم أخذتم بقوله اهتديتم. (1)

يلاحظ عليه : أنّ متن الحديث يكذِّب صدوره ، إذ ليس كلّ نجم هادياً في البرّ والبحر ، بل هناك نجوم خاصة للاهتداء ، ولأجل ذلك قال سبحانه : (وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ). (2)

وأمّا قوله سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (3) فاللام في النجوم للعهد أي النجوم المعهودة التي كانت العرب يوم ذاك يهتدون بها في البر والبحر وليست للاستغراق.

ولا يتمشّى ذلك الحمل في الحديث بأن يحمل على فئة من الصحابة ، لأنّ الغاية فيها التبسيط والتعميم لكلّ صحابي كما هو صريح قوله : «فأيّهم أخذتم بقوله اهتديتم» فلا محيص من حمل «كالنجوم» على الاستغراق ، والحال انّه ليس كلّ نجم هادياً.

ولو افترضنا الاهتداء بكلّ نجم في السماء ، أفهل يمكن أن يكون كلّ صحابي نجماً لامعاً هادياً للأُمّة؟ فهذا قدامة بن مظعون ، صحابي بدري يعد من السابقين الأوّلين ومن المهاجرين الهجرتين ، قد شرب الخمر وأقام عليه عمر الحدّ ،

ص : 589


1- المسند الجامع : 10 / 782 برقم 8219 نقله عن مسند عبد بن حُميْد.
2- النحل : 16.
3- الأنعام : 97.

كما أنّ المشهور انّ عبد الرحمن الأصغر بن عمر بن الخطاب قد شرب الخمر. (1)

كما أنّ بعض الصحابة أراق دماءً طاهرة فمن استقصى تاريخ حياة بسر بن أرطاة يجد انّه اقترف جرائم كثيرة ، حتّى أنّه قتل طفلين لعبيد الله بن عباس!! وكم بين الصحابة من رجال قد احتفل التاريخ بضبط مساويهم ، أفبعد هذه البيّنات يصحّ لأحد أن يتقوّل بأنّهم جميعاً وبلا استثناء كالنجوم يهتدى بهم؟!

يقول أبو جعفر النقيب : إنّ هذا الحديث من موضوعات متعصبة الأموية فانّ منهم من ينصرهم بلسانه وبوضعه الأحاديث إذا عجز عن نصرهم بالسيف. (2)

ولعل القارئ الكريم يتصوّر انّ أبا جعفر النقيب ممن ينفرد في شأن هذه الرواية وليس الأمر كذلك ، بل حكم بوضعها كثير من محقّقي السنّة يقول ابن حزم في رسالة إبطال الرأي والقياس والاستحسان والتعليل والتقليد : وهذا - أي حديث النجوم - خبر مكذوب موضوع باطل لم يصحّ قط. (3)

وقال الحافظ الكبير الذهبي في ترجمة جعفر بن عبد الواحد الهاشمي القاضي : ومن بلاياه عن وهب بن جرير ، عن أبيه ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : أصحابي كالنجوم من اقتدى بشيء منها اهتدى. (4)

وقال أيضاً في ترجمة زيد بن الحواري العَمِّي.

ص : 590


1- أُسد الغابة : 3 / 312.
2- شرح ابن أبي الحديد : 20 / 12.
3- البحر المحيط : 5 / 528.
4- ميزان الاعتدال : 1 / 413 برقم 1511.

روى نعيم بن حماد ، حدّثنا عبد الرحيم بن زيد العَمِّي ، عن أبيه ، عن سعيد بن المسيب ، عن عمر مرفوعاً : سألت ربي بين ما اختلف فيه أصحابي من بعدي ، فأوحى الله إليّ : يا محمد إنّ أصحابك عندنا بمنزلة النجوم بعضهم أضوأ من بعض ، فمن أخذ بشيء ممّا هم عليه من اختلافهم فهو عندي على هدى. فهذا باطل ، وعبد الرحيم تركوه ، ونعيم صاحب مناكير. (1) إلى غير ذلك من الكلمات حول الحديث.

ثمّ إنّ الحديث قد روي بصور مختلفة :

أ. أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم

رواه ابن عبد البر في جامع العلم (2 / 91) ، وابن حزم في الأحكام (6 / 82) من طريقة سلام بن سليم ، قال : حدثنا الحارث بن غصين ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر مرفوعاً به. وقال ابن عبد البر : هذا إسناد لا تقوم به حجّة ، لأنّ الحارث بن غصين مجهول.

وقال ابن حزم : هذه رواية ساقطة ، أبو سفيان ضعيف ، والحارث بن غصين هذا هو أبو وهب الثقفي ، وسلام بن سليمان يروى الأحاديث الموضوعة ، وهذا منها بلا شك». (2)

ب. مهما أُوتيتم من كتاب الله فالعمل به ، لا عذر لأحدكم في تركه ، فإن لم يكن في كتاب الله ، فسنّة منّي ماضية ، فإن لم يكن سنة منّي ماضية ، فما قال أصحابي ، إنّ أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيّها أخذتم به اهتديتم ، واختلاف

ص : 591


1- ميزان الاعتدال : 2 / 102 برقم 3003.
2- سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة : 1 / 144.

أصحابي لكم رحمة.

أخرجه الخطيب في الكفاية في علم الدراية ، ص 48 ، وكذا أبو العباس الأصم وابن عساكر (7 / 315 / 2) من طريق سليمان بن أبي كريمة ، عن جويبر ، عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعاً.

وهذا اسناد ضعيف جداً ، سليمان بن أبي كريمة ، قال ابن أبي حاتم (2 / 1 / 138) عن أبيه : «ضعيف الحديث».

وجويبر هو ابن سعيد الأزدي متروك ، كما قال الدارقطني والنسائي وغيرهما ، والضحاك هو ابن مزاحم الهلالي لم يلق ابن عباس. (1)

ج. سألت ربّي فيما اختلف فيه أصحابي من بعدي فأوحى الله إليّ ، يا محمد : انّ أصحابك عندي بمنزلة النجوم بعضها أضوأ من بعض ، فمن أخذ بشيء ممّا هم عليه فهو عندي على هدى.

رواه ابن بطّة في الإبانة (4 / 11 / 2) ، والخطيب أيضاً ، نظام الملك في الأمالي (13 / 2) ، والديلمي في مسنده (2 / 190) ، والضياء في المنتقى من مسموعاته بمرو (116 / 2) ، وكذا ابن عساكر (6 / 303 / 1) من طريق نعيم بن حمّاد ، حدّثنا عبد الرحيم بن زيد العمّي ، عن أبيه ، عن سعيد بن المسيب ، عن عمر بن الخطاب مرفوعاً.

وهذا السند موضوع ، نعيم بن حماد ضعيف ، قال الحافظ : يخطئ كثيراً. وعبد الرحيم بن زيد العَمّي كذاب فهو آفته. (2)

هذا قليل من كثير ممّا ذكره الشيخ الألباني المعاصر في كتابه ، ومن أراد

ص : 592


1- سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة : 1 / 146.
2- سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة : 1 / 148.

التفصيل فليرجع إلى نفس الكتاب.

وقد أضاف في آخر تحقيقه ، وقال : لو صحّ هذا الخبر يكون المراد إنّ ما قالوه برأيهم يجب العمل به ، وهذا دليل آخر على أنّ الحديث موضوع ، وليس من كلامه - صلى الله عليه وآله وسلم - ، إذ كيف يسوغ لنا أن نتصوّر أنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يبرّر لنا أن نقتدي بكل رجل من الصحابة مع أنّ فيهم العالم والمتوسط في العلم ، ومن هو دون ذلك وكان فيهم مثلاً من يرى أنّ البرد لا يفطر الصائم بأكله. (1)

3. خير القرون قرني

أخرج البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن عمران بن حصين يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : خير أُمّتي قرني ، ثمّ الذين يلونهم ، ثمّ الذين يلونهم ، قال عمران : فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثاً ، ثمّ إنّ بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون ، ويخونون ولا يؤتمنون ، وينذرون ولا يفون ، ويظهر فيهم السمن. (2)

وأخرجه مسلم في صحيحه عن عمران بن حصين. (3)

وأخرجه أحمد في مسنده عن بريدة الأسلمي. (4)

إنّ هذا الحديث مهما صح سنده ونقله أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن ، يكذبه التاريخ الصحيح الذي سجّل أحوال أهل القرون التي أُطلق عليهم هذا الاسم ، وذلك بالبيان التالي :

ص : 593


1- سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة : 1 / 147 - 148 ، وحديث البرد أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار ، لاحظ 2 / 340 وهو حديث غريب يضاد القرآن والسنة وإجماع المسلمين.
2- صحيح البخاري : 2 / 249 ، برقم 3650.
3- صحيح مسلم : 7 / 185 - 186 ، باب فضل الصحابة ثمّ الذين يلونهم.
4- مسند أحمد : 5 / 357.

القرن في اللغة عبارة عن الفترة من الزمان وإطلاقه على مائة سنة ، إطلاق حادث لا تحمل عليه الرواية. وعلى ضوء ذلك فالقرن الذي بعث فيه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خير القرون من الأزمنة باعتبار نفس النبي فقط ، فكان - صلى الله عليه وآله وسلم - نوراً انبعث في الظلمة حيث تقوضت به دعائم الشرك والوثنية ، وأُشيدت دعائم التوحيد والحنفية.

هذا يرجع إلى نفس النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وأمّا غيره فالظاهر من الرواية انّها تصنِّف الناس حسب التفضيل بالنحو التالي :

الصحابة (القرن الذي بعثتُ فيه).

التابعون (ثمّ الذين يلونهم).

تابعو التابعين (ثمّ الذين يلونهم) وهكذا.

فكلّ من قرب زمنه من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فهو أفضل ممّن بعد منه.

هذا ما تفيده الرواية ، وللأسف الشديد أنّ الواقع الملموس يثبت خلاف ذلك لا سيّما من تصفّح التاريخ والحديث.

فهذا هو الإمام البخاري يروي في حقّ الصحابة ما مرّ من ارتدادهم ، كما مرّ في ص 27.

ثمّ إنّ قوله : هم الذين يلونهم : يهدف إلى التابعين وفيهم الأمويون ، فهل يمكن أن نعدَّ عصر الأمويين خير القرون وقد لوّنوا وجه الأرض بدماء الأبرياء ، وقتلوا سبط النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في كربلاء عطشاناً وذبحوا أولاده وأصحابه ، وهتكوا حرمة الكعبة.

وهذا هو الحجاج صنيعة أيديهم اقترف من الجرائم البشعة ما يندى لها جبين الإنسانية ، ولا أُطيل الكلام في ذلك والتاريخ خير شاهد على كذب هذه الرواية ووضعها من قبل سماسرة الحديث لتطهير الجهاز الحاكم الأموي ممّا

ص : 594

ارتكبه.

ويكفي في ذلك ما علّقه أبو المعالي الجويني على هذا الحديث ، قائلاً :

وما يدلّ على بطلانه أنّ القرن الذي جاء بعده بخمسين سنة ، شرّ قرون الدنيا وهو أحد القرون التي ذكرها في النصّ ، وكان ذلك القرن هو القرن الذي قُتل فيه الحسين ، وأُوقع بالمدينة ، وحوصرت مكة ، ونقضت الكعبة ، وشربت خلفاؤه والقائمون مقامه المنتصبون في منصب النبوة ، الخمورَ وارتكبوا الفجور ، كما جرى ليزيد بن معاوية ولزيد بن عاتكة وللوليد بن يزيد ، وأُريقت الدماء الحرام ، وقتل المسلمون وسبي الحريم ، واستعبد أبناء المهاجرين والأنصار ونُقش على أيديهم كما ينقش على أيدي الروم ، وذلك في خلافة عبد الملك ، وإمرة الحجاج ، وإذا تأمّلت كتب التواريخ وجدت الخمسين الثانية ، شراً كلها ، لا خير فيها ولا في رؤسائها وأمرائها ، والناس برؤسائهم وأُمرائهم أشبه ، والقرن خمسون سنة فكيف يصحّ هذا الخبر؟ (1)

ص : 595


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 20 / 29 والرسالة مبسوطة جديرة بالمطالعة.

13- موعظة شافية

اشارة

أُريد أن أذكر في خاتمة المطاف كلمة فيها صلاح الإسلام والمسلمين ، وهي موعظة شافية لكلّ من ألقى السمع وهو شهيد ، وهي :

1. إذا كان السبُّ هو النيل من كرامة الشخص بكلمات مبتذلة ولسان بذيء ، لغاية التشفّي وهدم كرامة المسبوب ، فالمسلمون بعامة طوائفهم إلاّ النواصب منزّهون عن تلك الوصمة ، وقد ملئت أسماعهم بقول الرسول : «وسباب المسلم فسق ، وقتاله كفر».

وأمّا الرائج بين المحقّقين فليس من مقولة السبّ إنّما هو دراسة أحوال الصحابة من زاوية الحديث والتاريخ ، وهذا ليس سبّاً ، بل نقداً لحياة الشخص ، وأين هو من السبِّ؟

يقول الشيخ عبد الله الهروي الشافعي المعروف بالحبشي : ليس من سب الصحابة القول إنّ مقاتلي علي منهم بغاة ، لأنّ هذا ممّا صرّح به الحديث بالنسبة لبعضهم وهم أهل صفين ، وقد روى البيهقي في كتابه الاعتقاد باسناده المتصل إلى محمد بن إسحاق وهو ابن خزيمة قال : «وكلّ من نازع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في إمارته فهو باغ» وعلى هذا عهدتُ مشايخنا ، وبه قال ابن إدريس يعني

ص : 596

الشافعي ، فلا يُعدُّ ذكر ما جاء في حديث البخاري سبّاً للصحابة إلاّ من بعد عن التحقيق العلمي فليتفطن لذلك. (1)

وقال أيضاً : وهذا الحسن البصري (2) الذي قيل فيه انّه سيد التابعين (وإن كنّا نقول إنّ سيد التابعين أُويس القرني أخذاً بحديث مسلم) ، فانّه قال : لمّا مات عمرو بن العاص وهو يردّد لا إله إلاّ الله : وكيف إذا جاء بلا إله إلاّ الله وقد قتل أهلَ لا إله إلاّ الله. (3)

2. انّ النقد لا يعدّ سبّاً إذا كان لغرض شرعي صحيح ، بل يكون بنّاءً ، ويشهد لذلك حديث مسلم وأبي داود انّ رجلاً خطب عند رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال في خطبته من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فقد غوى ، فقال له رسول الله : بئس الخطيب أنت. (4)

وقد كان البحث حول محاربي عليّ في الجمل وصفين والنهروان قائماً على قدم وساق ، وقد كثر الكلام حول من نكث البيعة وحارب علياً في صفين وغيرها.

هذا هو أبو منصور البغدادي يقول في كتابه «الفرق بين الفرق» ما نصّه :

وقالوا - أي أهل السنّة - بإمامة علي في وقته ، وقالوا بتصويب علي في حروبه بالبصرة وبصفين وبالنهروان ، وقالوا بأنّ طلحة والزبير تابا ورجعا عن قتال علي ، لكن الزبير قتله عمرو بن جرموز بوادي السباع بعد منصرفه من الحرب ، وطلحة لما همّ بالانصراف رماه مروان بن الحكم وكان مع أصحاب الجمل بسهم فقتله ،

ص : 597


1- المقالات السنية : 360.
2- اتحاف السادة المتقين 10 / 333.
3- المقالات السنية : 360.
4- صحيح مسلم : 3 / 12 - 13 ، كتاب الجمعة ، باب تحقيق الصلاة والخطبة ؛ سنن أبي داود : 1 / 288 ، كتاب الحجّة ، باب الرجل يخطب على قوس ، رقم الحديث 1099.

وقالوا : إنّ عائشة قصدت الإصلاح بين الفريقين ، فغلبها بنو ضبّة والأزد على رأيها ، وقاتلوا علياً دون إذنها حتّى كان من الأمر ما كان. (1)

وقال في كتاب أُصول الدين : أجمع أصحابنا على أنّ علياً رضي الله عنه كان مصيباً في قتال أصحاب الجمل وفي قتال أصحاب معاوية بصفين ، وقالوا في الذين قاتلوه بالبصرة : انّهم كانوا على الخطأ ، وقالوا في عائشة وفي طلحة والزبير : انّهم أخطئوا ولم يفسقوا ، لأنّ عائشة قصدت الإصلاح بين الفريقين فغلبها بنو ضبة وبنو الأزد على رأيها ، فقاتلوا علياً فهم الذين فسقوا دونها ، وأمّا الزبير فانّه لما كلمه عليّ يوم الجمل عرف أنّه على الحقّ فترك قتاله وهرب من المعركة راجعاً إلى مكة ، فأدركه عمرو بن جرموز بوادي السباع فقتله وحمل رأسه إلى علي فبشره علي بالنار ، وأمّا طلحة فانّه لمّا رأى القتال بين الفريقين همّ بالرجوع إلى مكة ، فرماه مروان بن الحكم بسهم فقتله ، فهؤلاء الثلاثة بريئون من الفسق والباقون من أتباعهم الذين قاتلوا علياً فسقة ، وأمّا أصحاب معاوية فانّهم بغوا ، وسمّاهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بغاة في قوله لعمار : «تقتلك الفئة الباغية» ولم يكفروا بهذا البغي. (2)

نحن وإن لم نكن نوافق بعض ما جاء في بنود هذا النص ، وإنّما نستشهد به على أنّ دراسة أحوال الصحابة إذا كانت دراسة نزيهة لا تعدّ من السب بشيء.

وقال الحافظ الذهبي في «سير اعلام النبلاء» : لا ريب انّ عائشة ندمت ندامة كلية على مسيرها إلى البصرة وحضورها يوم الجمل ، وما ظنّت انّ الأمر يبلغ ما بلغ ، فعن عمارة بن عمير عمّن سمع عائشة إذا قرأت : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ)

ص : 598


1- الفرق بين الفرق : 350 - 351 ، باب بيان الأُصول التي اجتمع عليها أهل السنّة.
2- أُصول الدين : 289 - 290.

بكت حتّى تبل خمارها. (1)

وذكر مثل ذلك القرطبي وأبو حيان في تفسيره ، قال : وكانت عائشة إذا قرأت هذه الآية يعني آية (يا نِساءَ النَّبِيِ) بكت حتّى تبلّ خمارها ، تتذكر خروجها أيام الجمل تطلب بدم عثمان. (2)

وفي كتاب دلائل النبوة للبيهقي ما نصه : «عن أُمّ سلمة ، قالت : ذكر النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - خروج بعض نسائه أُمّهات المؤمنين ، فضحكت عائشة ، فقال : انظري يا حميراء ، أن لا تكوني أنت.

ثمّ التفت إلى عليّ فقال : يا علي إن ولِّيت من أمرها شيئاً فارفق بها. (3)

ونحن أيضاً لا نوافق بعض ما جاء في هذه الكلمات ، لكن الاستشهاد بها مثل ما سبق.

هذا وقد تضافر انّ الحافظ النسائي قال : لمّا دخلت دمشق وجدت أهلها منحرفين عن علي بن أبي طالب ، ولمّا علموا انّي عملتُ خصائص عليّ - عليه السلام - طلبوا أن أعمل خصائص معاوية ، فقلت : ما ذا أخرج له ، أخرج له لا أشبع الله بطنه. (4)

فصاروا يضربونه في خصيته فحمل من دمشق إلى الرملة فتوفي بها.

وهذا هو علي أفضل الصحابة وأوّل من آمن بالنبي ينقد صاحبي رسول الله كما ذكره الحافظ ابن حجر في المطالب العالية ، قال : إنّ صاحبي علي رضي الله عنه

ص : 599


1- سير اعلام النبلاء : 2 / 177.
2- الجامع لأحكام القرآن : 14 / 180.
3- دلائل النبوة : 6 / 411.
4- أخرجه مسلم في صحيحه : كتاب السير والصلة والآداب ، باب من لعنه النبي أو سبّه أو دعا عليه.

عبد الله بن الكواء وابن عباد سألاه عن طلحة والزبير قالا : فأخبرنا عن ملك هذين الرجلين (يعنيان طلحة والزبير) صاحباك في الهجرة وصاحباك في بيعة الرضوان وصاحباك في المشورة ، فقال : بايعاني بالمدينة وخالفاني بالبصرة ، وعزاه لإسحاق بن راهويه ، قال الحافظ البوصيري : رواه إسحاق بسند صحيح. (1)

ونحن لا نطيل الكلام بذكر نظائرها في غير من قاتل علياً ، فقد جرت السيرة على عدم الإمساك عمّا شجر بين الصحابة وما صدر عنهم ، وإن صدر الأمر بالإمساك عن عمر بن عبد العزيز وغيره.

روى الحافظ الذهبي في كتاب «سير اعلام النبلاء» ما هذا حاصله : اتّهم المغيرة بن شعبة بالزنا وهو أمير الكوفة في عصر الخليفة عمر بن الخطاب وشهد عليه شهود أربعة ، منهم أبو بكرة ونافع وشبل فشهدوا على أنّهم رأوه يولجه ويخرجه ويلج ولج المِروَد في المكحلة ، فلمّا حاول رابع الشهود وهو زياد بن أبيه ، حاول الخليفة أن يدرأ عنه الحد للشبهة ، فخاطبه بقوله : إنّي لأرى رجلاً لم يخز الله على لسانه رجلاً من المهاجرين ، فقال له الخليفة : أرأيتَه يُدخله كالميل في المكحلة؟ فقال : لا ولكنّي رأيت مجلساً قبيحاً وسمعت نفساً عالياً ورأيته تبطنها. (2)

فلو كانت الصحابة عدولاً ، لما استمع الخليفة إلى الشهادات ، ولرفضها ابتداءً!! ولو كانت دراسة سيرة الصحابي ، سبّاً له ، لعزّر الخليفة الشهود بالسبّ ، دون أن يسأل واحداً واحداً منهم عن صحّة الواقعة.

ص : 600


1- المطالب العالية ، باب قتال أهل البغي : 4 / 296.
2- سير اعلام النبلاء : 3 / 28 برقم 7 ؛ الأغاني : 14 / 146 ؛ تاريخ الطبري : 4 / 207 ؛ الكامل : 2 / 228.

3. لا شكّ انّ الآيات قد أثنت على جمع من الصحابة وقد أوضحنا مقاصدها ، ومع ذلك كلّه فالثناء ثناء جمعي لا يتعلّق بآحادهم ، نظير الثناء على قوم بني إسرائيل في قوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ). (1)

وقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ). (2)

وقد أدرك بعض المحقّقين من أهل السنّة انّ وصف الصحابة بالعدالة كلّهم يخالف ما روي في حقّهم ، ولذلك عاد إلى تفسير هذا الكلام وقال : إنّه ليس معنى «الصحابة كلّهم عدول» انّ كلاً منهم سالم من الكبيرة ، فانّه بعيد من الصواب ، لأنّ منهم من سمع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو يقول : «لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» ثمّ قاتل مع معاوية فكان قاتل عمار بن ياسر ، ثمّ كان يتبجّح بذلك ويقول لمّا يأتي إلى أبواب بني أُمية : «قاتلُ عمار بالباب» ، فهل يحكم لهذا بانّه عدل بمعنى انّه سالم من الكبائر؟! إنّما معنى قول أُولئك المحدِّثين انّهم لا يتّهمون بالكذب على الرسول فيما يروونه من الأحاديث عنه ، أليس قتل عمار من أفسق الفسق؟! فقد خالف قول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي سمعه منه وهذا الغادر هو أبو الغادية الجهني. (3)

قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» عند شرح الحديث الذي فيه قصة حاطب بن أبي بلتعة ما نصّه : وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدّم انّ المؤمن

ص : 601


1- البقرة : 47.
2- الجاثية : 16.
3- المقالات السنية : 365.

ولو بلغ بالصلاح أن يقطع له بالجنة ، لا يعصم من الوقوع في الذنب. (1)

4. انّ الاعتقاد المُسْبق بعدالة الصحابة آل - في كثير من الأحيان - بمحقّقي أهل السنّة إلى عدم التدبّر العميق في التاريخ ونقده ، ممّا أدّى إلى وقوعهم في مأزق كبير حفاظاً على ذلك المعتقد ، وهو إسدال الستار على كثير من حقائق التاريخ التي حدثت بعد رحيل الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ودامت حوالي قرن واحد ، فتراهم يؤولون ما صدر عن الصحابة من التكفير والتفسيق والنهب والقتل بالاتّكاء على النظرية القائلة : بأنّهم كانوا مجتهدين مخطئين ، ومثابين في الوقت نفسه!! حتّى أنّ من كثر خطأه زاد ثوابه وأجره ، وهذا من غرائب الأُمور.

أوَما آن للمحقّقين من أهل السنّة أن يخوضوا عباب التاريخ نقداً وتمحيصاً ، ويرفعوا ربقة التقليد للسلف والجري وراءهم ، لكي يفهموا التاريخ على ما هو عليه ويرفعوا اليد عن الاعتقاد بعدالة كلّ صحابي بلا استثناء.

إنّ الدعاية الأموية لغاية ترسيخ ملكهم وإبعاد الناس عن أئمة أهل البيت - عليهم السلام - حاكت حول الصحابة حالة قدسية وهمية على نحو لم ترخص فيه لأحد الخروج عن هذا الإطار والتدبّر فيما شجر بين الصحابة من مشاجرات.

إنّ الدعاية الأموية نشرت بين الناس أكاذيب وتهماً حول الشيعة للمساس بهم ، من سبّ الصحابة وبغضهم وتفسيقهم وكفرهم ، وهذا - شهيدي الله - كذب بلا مرية ، وفرية يتحمل أوزارها آل أُمية وآل مروان.

فكيف يمكن للشيعة أن تبغض الصحابة مع أنّ رواد التشيع كانوا منهم وقد حفل التاريخ بأسمائهم وتشيعهم؟!

ص : 602


1- فتح الباري : 12 / 310.

وليس عند الشيعة في هذا المجال إلاّ مسألة «عدالة الصحابة بأجمعهم» ، فإنّهم لا يعتقدون بعدالة الكلّ ، ويقولون : إنّ مثلهم بين المسلمين كمثل التابعين ، وهذا أمر يوافقه الكتاب العزيز والسنّة النبوية والتاريخ الصحيح.

5. وممّا يدلّ على إكبار الشيعة لصحابة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وتبجيلهم لهم ، انّ الكتب الرجالية للشيعة لم تزل إلى يومنا هذا تحتفل بذكر أسماء الصحابة كلّ حسب وسع المؤلّفين وطاقتهم.

هذا هو رجال البرقي من الأُصول الرجالية ، وقد أدرج في رجاله أسماء صحابة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قبل صحابة سائر الأئمة.

وهذا هو الشيخ الطوسي في كتابه المعروف ب - «رجال الطوسي» أدرج في كتاب في باب من روى عن النبي أسماء 430 شخصاً من الصحابة ، كما أنّه أدرج من الصحابيات أسماء 38 امرأة ، فاشتمل الكتاب على ترجمة 468 شخصاً. (1)

وقد تبعه غير واحد من أصحاب المعاجم فذكروا أسماء جمع غفير من الصحابة الذين لهم رواية عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ممّا يدلّ على أنّ للصحابة مقاماً ومكرمة لدى الشيعة ، إلاّ ما قامت البيّنة على إعراضهم عن الطريق المهيع.

6. روّاد التشيّع من الصحابة

إنّ التشيع ليس إلاّ نفس الإسلام الذي اتّفق عليه الفريقان ، ويختلف عن سائر الفرق في مسألة التنصيص على الخلافة ، فالشيعة الأوائل هم الذين اتّبعوا قول الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - في حقّ علي - عليه السلام - وكانوا مع علي - عليه السلام - في حياة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وبعد

ص : 603


1- رجال الشيخ ، باب من روى عن النبي من الصحابة ، ص 24 - 53.

رحيله.

فها نحن نضع أمام القارئ الكريم قائمة بأسماء ثلّة من الصحابة الذين شهدت أعمالهم على أوصافهم ، وأفعالهم على نيّاتهم ، وأثنى أصحاب الرجال والتراجم عليهم أو على الأقل سكت عنهم التاريخ ، ولنكتف بذكر القليل منهم عن الكثير ، وهم :

جندب بن جنادة (أبو ذر الغفاري) ، عمار بن ياسر ، سلمان الفارسي ، المقداد بن عمرو بن ثعلبة الكندي ، حذيفة بن اليمان صاحب سرّ النبيّ ، خزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين ، الخباب بن الأرت التميمي ، سعد بن مالك أبو سعيد الخدري ، أبو الهيثم بن التيهان الأنصاري ، قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ، أنس بن الحرث بن منبه أحد شهداء كربلاء ، أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد الذي استضاف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عند دخوله المدينة ، جابر بن عبد الله الأنصاري أحد أصحاب بيعة العقبة ، هاشم بن عتبة بن أبي وقاص المرقال فاتح جلولاء ، مالك بن الحارث الأشتر النخعي ، مالك بن نويرة ردف الملوك الذي قتله خالد بن الوليد ، البراء بن عازب الأنصاري ، أُبيّ بن كعب سيد القرّاء ، عبادة بن الصامت الأنصاري ، عبد الله بن مسعود صاحب وضوء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ومن سادات القرّاء ، أبو الأسود الدؤلي ظالم بن عمير واضع أُسس النحو بأمر الإمام عليّ ، خالد بن سعيد بن أبي عامر بن أُمية بن عبد شمس خامس من أسلم ، أُسيد بن ثعلبة الأنصاري من أهل بدر ، الأسود بن عيسى بن وهب من أهل بدر ، بشير بن مسعود الأنصاري من أهل بدر ومن القتلى بواقعة الحرة بالمدينة ، ثابت أبو فضالة الأنصاري من أهل بدر ، الحارث بن النعمان بن أُمية الأنصاري من أهل بدر ، رافع بن خديج

ص : 604

الأنصاري ممّن شهد أُحداً ولم يبلغ وأجازه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، كعب بن عمير بن عبادة الأنصاري من أهل بدر ، سماك بن خرشة أبو دجانة الأنصاري من أهل بدر ، سهيل بن عمرو الأنصاري من أهل بدر ، عتيك بن التيهان من أهل بدر ، ثابت بن عبيد الأنصاري من أهل بدر ، ثابت بن حطيم بن عدي الأنصاري من أهل بدر ، سهل بن حنيف الأنصاري من أهل بدر ، أبو مسعود عقبة بن عمرو من أهل بدر ، أبو رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي شهد مشاهده كلّها مع مشاهد عليّ - عليه السلام - وممّن بايع البيعتين : العقبة والرضوان وهاجر الهجرتين : للحبشة مع جعفر وللمدينة مع المسلمين ، أبو بردة بن دينار الأنصاري من أهل بدر ، أبو عمر الأنصاري من أهل بدر ، أبو قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري من أهل بدر ، عقبة بن عمر بن ثعلبة الأنصاري من أهل بدر ، قرظة بن كعب الأنصاري ، بشير بن عبد المنذر الأنصاري أحد النقباء ببيعة العقبة ، يزيد بن نويرة بن الحارث الأنصاري ممّن شهد له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالجنة ، ثابت بن عبد الله الأنصاري ، جبلة بن ثعلبة الأنصاري ، جبلة بن عمير بن أوس الأنصاري ، حبيب بن بديل بن ورقاء الخزاعي ، زيد بن أرقم الأنصاري شهد مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بضعة عشر وقعة ، أعين بن ضبيعة بن ناجية التميمي ، يزيد الأسلمي من أهل بيعة الرضوان ، تميم بن خزام ، جندب بن زهير الأزدي ، جعدة بن هبيرة المخزومي ، جارية بن قدامة التميمي السعدي ، جبير بن الحباب الأنصاري ، حبيب بن مظاهر الأسدي ، حكيم بن جبلة العبدي ، خالد بن أبي دجانة الأنصاري ، خالد بن الوليد الأنصاري ، زيد بن صوحان العبدي ، الحجاج بن عمرو بن غزية الأنصاري ، زيد بن شرحبيل الأنصاري ، زيد بن جبلة التميمي ، بديل بن ورقاء الخزاعي ، أبو عثمان الأنصاري ، مسعود بن مالك

ص : 605

الأسدي ، ثعلبة أبو عمرة الأنصاري ، أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي ، عبد الله بن حزام الأنصاري شهيد أُحد ، سعد بن منصور الثقفي ، سعد بن الحارث بن الصمد الأنصاري ، الحارث بن عمر الأنصاري ، سليمان بن صرد الخزاعي ، شرحبيل بن مرّة الهمداني ، شبيب بن رت النميري ، سهل بن عمر صاحب المربد ، سهيل بن عمر أخو سهل المار ذكره ، عبد الرحمن الخزاعي ، عبد الله بن خراش ، عبد الله بن سهيل الأنصاري ، عبيد الله بن العازر ، عدي بن حاتم الطائي ، عروة بن مالك الأسلمي ، عقبة بن عامر السلمي ، عمر بن هلال الأنصاري ، عمر بن أنس بن عون الأنصاري من أهل بدر ، هند بن أبي هالة الأسدي ، وهب بن عبد الله بن مسلم بن جنادة ، هاني بن عروة المذحجي ، هبيرة بن النعمان الجعفي ، يزيد بن قيس بن عبد الله ، يزيد بن حوثرة الأنصاري ، يعلى بن عمير النهدي ، أنس بن مدرك الخثعمي ، عمرو العبدي الليثي ، عميرة الليثي ، عليم بن سلمة الفهمي ، عمير بن حارث السلمي ، علباء بن الهيثم بن جرير وأبوه الهيثم من قواد الحملة في قتال الفرس بواقعة ذي قار ، عون بن عبد الله الأزدي ، علاء بن عمر الأنصاري ، نهشل بن ضمرة الحنظلي ، المهاجر بن خالد المخزومي ، مخنف بن سليم الأزدي ، محمد بن عمير التميمي ، حازم بن أبي حازم البجلي ، عبيد بن التيهان الأنصاري وهو أوّل المبايعين للنبي ليلة العقبة ، أبو فضالة الأنصاري ، أويس القرني الأنصاري ، زياد بن النضر الحارثي ، عوض بن علاط السلمي ، معاذ بن عفراء الأنصاري ، علاء بن عروة الأزدي ، الحارث بن حسان الذهلي صاحب راية بكر بن وائل ، بجير بن دلجة ، يزيد بن حجية التميمي ، عامر بن قيس الطائي ، رافع الغطفاني الأشجعي ، وأبان بن سعيد بن العاص بن أُمية بن عبد شمس من أُمراء السرايا أيّام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ومن خلّص أصحاب الإمام علي - عليه السلام - وأمثالهم من

ص : 606

الصحابة الكرام.

فهؤلاء هم طليعة الصحابة وسنام العرب من المهاجرين والأنصار ، قد استضاءوا بنور النبوّة والوحي واستقامت أُمورهم وكانوا على الصراط المستقيم في حياتهم ، وكم لهم من نظائر في صحابة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أعرضنا عن ذكرهم مخافة الإطناب.

7. انّ أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - كانوا باستمرار يدعون للصحابة ويترضّون عليهم ، ومن المعلوم أنّهم - عليهم السلام - يدعون للصالحين وما أكثر الصالحين فيهم يقول الإمام أمير المؤمنين - عليه السلام - في بعض خطبه مادحاً أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - :

لقد رأيت أصحاب محمّد - صلى الله عليه وآله وسلم - فما أرى أحداً منكم يشبههم ، لقد كانوا يصبحون شُعثاً غبراً ، وقد باتوا سجّداً وقياماً ، يراوحون بين جباههم وخدودهم ، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم ، كأنّ بين أعينهم رُكَبَ المعزى من طول سجودهم ، إذا ذُكر الله هملت أعينهم حتّى تَبُلَّ جيوبهم ، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف ، خوفاً من العقاب ورجاءً للثواب». (1)

وقال أيضاً مادحاً أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : أين القوم الذين دُعوا إلى الإسلام فقبلوه ، وقرءوا القرآن فأحكموه ، وهيجُوا إلى القتال فولهوا وله اللقاح إلى أولادها ، وسلبوا السيوف أغمادها ، وأخذوا بأطراف الأرض زحفاً زحفاً ، وَصَفّاً صفّاً ، بعضٌ هلك ، وبعض نجا ، لا يُبَشّرون بالأحياء ، ولا يُعَزَّونَ عن الموتى ، مُرْهُ العيون من البكاء ، خمصُ البطون من الصيام ، ذُبَّل الشفاه من الدعاء ، صُفرُ الألوان من السَّهَر ، على وجوههم غبرة الخاشعين ، أُولئك إخواني الذاهبون ، فحقّ

ص : 607


1- نهج البلاغة : الخطبة 93 ، شرح محمد عبده ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 7 / 77.

لنا أن نظمأ إليهم ، ونعضَّ الأيدي على فراقهم». (1)

وللأئمّة المعصومين كلمات أُخرى حول الصحابة غير ما ذكرناه ، منقولة في كتب الشيعة ، وهذا هو الإمام زين العابدين - عليه السلام - يقول في دعائه : «اللهمّ وأصحاب محمّد - صلى الله عليه وآله وسلم - خاصة الذين أحسنوا الصحبة والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره ، وكاتفوه وأسرعوا إلى وفادته ، وسابقوا إلى دعوته ...». (2)

هذا ونختم الفصل بذكر حوار دار بين الحسن البصري وعالم من علماء الزيدية ، وبما أنّ «الحقيقة بنت البحث» (3) يكون لنشر هذا الحوار أهمية لا تخفى على القارئ الكريم.

ص : 608


1- نهج البلاغة : الخطبة 117 ، شرح محمد عبده ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 7 / 291.
2- الصحيفة السجادية : الدعاء الرابع.
3- مثل سائر.

خاتمة المطاف

14- مناظرة بين الحسن البصري وعالم زيدي

اشارة

الحسن البصري أحد التابعين ، وقد توفّي 110 ه ، وكانت له حلقات تدريس ووعظ في البصرة ، وهو ممّن كان يتبنّى عدالة الصحابة ونزاهتهم عن كلّ رين وشين.

ولما كانت تلك العقيدة بعيدة عن الكتاب والسنّة ومخالفةً لما جاء من الآيات الكريمة والأحاديث الشريطة ، دعا أحد علماء الزيدية إلى نقد كلامه ، وقد نقل تلك المناظرة السيد المدنيّ في كتابه.

ونحن سنذكر نصّ كلام البصري والزيدي ونترك القضاء إلى القارئ الكريم.

نظرية الحسن البصري في صحابة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -

قال : حينما ذكرت عنده حرب الجمل وصفين : «تلك دماء طهر الله منها أسيافنا ، فلا نلطخ فيها ألسنتنا ، ثمّ إنّ تلك الأحوال قد غابت عنّا ، وبعُدت

ص : 609

أخبارها على حقائقها فلا يليق بنا أن نخوض فيها ، ولو كان واحد من هؤلاء قد أخطأ لوجب أن يحفظ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فيه ، فمن المروءة أن يحفظ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في عائشة زوجته ، وفي الزبير ابن عمته ، وفي طلحة الّذي وقاه بيده ، ثمّ ما الّذي ألزمنا وأوجب علينا أن نلعن أحداً من المسلمين أو نبرأ منه ، وأي ثواب في اللعنة والبراءة ، إنّ الله تعالى لا يقول يوم القيامة للمكلّف لِمَ لَمْ تَلعن؟ بل يقول له : لِمَ لعنت؟ ولو انّ إنساناً عاش عمره كلّه لم يلعن إبليس لم يكن عاصياً ولا آثماً ، ولو جعل الإنسان عوض اللعنة استغفر الله كان خيراً له ؛ ثمّ كيف يجوز للعامة أن تدخل نفسها في أُمور الخاصة؟ وأُولئك قوم كانوا أُمراء هذه الأُمّة وقادتها ، ونحن اليوم في طبقة سافلة جدّاً عنهم ، فكيف يحسن بنا التعرض لذكرهم؟ أليس بقبيح من الرعية أن تخوض في دقائق أُمور الملك وأحواله ، وشئونه التي ترى بينه وبين أهله وبني عمه ونسائه ومراديه؟ وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - صهراً لمعاوية ، وأُخته أُمّ حبيبة تحته ، فالأدب أن تحفظ أُمّ حبيبة وهي أُمّ المؤمنين في أخيها ، وكيف يجوز أن يلعن من جعل بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مودة ، أليس المفسّرون كلّهم قالوا : هذه الآية نزلت في أبي سفيان وهي قوله تعالى : (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) (1) ، وكان ذلك مصاهرة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أبا سفيان وتزوجه ابنته ... على أنّ جميع ما تنقله الشيعة من الاختلاف بينهم والمشاجرة لم يثبت ، ولم يكن القوم إلاّ كبني أُمّ واحدة ، ولم يتكدر باطن أحد منهم على صاحبه قط ، ولا وقع بينهم اختلاف ولا نزاع ...». انتهى كلام البصري.

ص : 610


1- الممتحنة : 7.

نقد العالم الزيدي رأي الحسن

قال : ما هذا نصّه : «لو لا انّ الله تعالى أوجب معاداة أعدائه ، كما أوجب موالاة أوليائه ، وضيّق على المسلمين تركها ، إذ دلّ العقل عليها ، وأوضح الخبر عنها ، يقول سبحانه : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) (1) وقوله تعالى : (لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) (2) ، وقوله تعالى : (وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ). (3)

ولإجماع المسلمين على أنّ الله تعالى فرض عداوة أعدائه ، وولاية أوليائه وانّ البغض في الله واجب ، والحبّ في الله واجب ... لما تعرضنا لمعاداة أحد من الناس في الدين ، ولا البراءة منه ، ولكانت عداوتنا للقوم تكلّفاً ، ولو قلنا : إنّ الله عزّ وجلّ يعذرنا إذا قلنا : يا رب غاب أمرهم عنّا فلم يكن لخوضنا في أمر قد غاب عنّا معنى ، لاعتمدنا على هذا العذر وواليناهم ولكنا نخاف أن يقول سبحانه لنا : إن كان أمرهم قد غاب عن أبصاركم فلم يغب عن قلوبكم وأسماعكم ، قد أتتكم به الأخبار الصحيحة التي بمثلها ألزمتم أنفسكم الإقرار بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وموالاة من صدقه ، ومعاداة من عصاه وجحده ، وأمرتم بتدبّر القرآن ، وما جاء به الرسول ، فهلا حذرتم من أن تكونوا من أهل هذه الآية القائلين غداً : (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا). (4)

ص : 611


1- المجادلة : 22.
2- الممتحنة : 13.
3- المائدة : 81.
4- الأحزاب : 67.

فأمّا لفظة اللعن فقد أمر الله بها وأوجبها ألا ترى قوله تعالى : (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ) (1) فهو إخبار معناه الأمر ، كقوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (2) ، وقد لعن الله تعالى الغاصبين بقوله : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ) (3) ، وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) (4) ، وقوله : (مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً). (5) وقال الله لإبليس : (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ) (6) وقال : (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً). (7)

فأمّا قول من يقول : أي ثواب في اللعن؟ وانّ الله تعالى لا يقول للمكلف : لِمَ لَمْ تلعن؟ بل قد يقول له : لِمَ لعنت؟ وانّه لو جعل مكان لعن الله فلاناً اللهمّ اغفر لي لكان خيراً له ، ولو انّ إنساناً عاش عمره كله ولم يلعن إبليس لم يؤاخذ بذلك ... فكلام جاهل لا يدري ما يقول ، اللعن طاعة لله ، ويستحقّ عليها الثواب إذا فعلت على وجهها ، وهو أن يلعن مستحق اللعنة لله وفي الله ، لا في المعصية والهوى ، لأنّ الشرع قد ورد بها في نفي الولد ، ونطق بها القرآن ، وهو أن يقول الزوج في الخامسة «انّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين» فلو لم يكن الله تعالى يريد أن يتلفظ عباده بهذه اللفظة ، لما جعلها من معالم الشرع ولما كررها في كثير من كتابه العزيز.

ص : 612


1- البقرة : 159.
2- البقرة : 228.
3- المائدة : 78.
4- الأحزاب : 57.
5- الأحزاب : 61.
6- ص : 78.
7- الأحزاب : 64.

لعن بعضهم بعضاً

ودعم كلامه بكثير من الحجج القاطعة ، وأضاف بعد ذلك يقول : «وقد كان كثير من الصحابة يلعن عثمان وهو خليفة ، منهم : عائشة كانت تقول : اقتلوا نعثلاً». (1) لعن الله نعثلة ، ومنهم : عبد الله بن مسعود ، وقد لعن معاوية علي بن أبي طالب ، وابنيه حسناً وحسيناً وهم أحياء يرزقون في العراق ، وهو يلعنهم في الشام على المنابر ، ويقنت عليهم في الصلوات ، وقد لعن أبو بكر وعمر سعد بن عبادة وهو حي ، وبرئا منه ، وأخرجاه من المدينة إلى الشام ، ولعن عمر خالد بن الوليد لماّ قتل مالك بن نويرة ، وما زال اللعن ماشياً في المسلمين إذا عرفوا من الإنسان معصية تقتضي اللعن والبراءة.

ولو كان حفظ شخص معتبراً من أجل أبيه لوجب أن يحفظ الصحابة في أولادهم فلا يلعنوا ، فيجب أن لا يلعن عمر بن سعد قاتل الحسين من أجل أبيه - سعد - ولا يلعن يزيد من أجل أبيه معاوية ، ويزيد هو صاحب واقعة الحرة ، وقاتل الحسين ، وأن يحفظ عمر بن الخطاب في عبيد الله ابنه قاتل الهرمزان ، والمحارب علياً في صفين.

ولو كان الإمساك عن عداوة من عادى الله من أصحاب محمّد رسول الله من حفظ رسول الله في أصحابه ، ورعاية عهده وعقده لم نعادهم ولو ضربت رقابنا بالسيوف ، ولكن محبة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لأصحابه ليست كمحبة الجهال الذين يضع أحدهم حجته لصاحبه مع المعصية ، وإنّما أوجب رسول الله محبة أصحابه لطاعة

ص : 613


1- تاريخ الطبري : 4 / 459 ؛ الكامل : 3 / 206 ؛ النهاية لابن الأثير : 5 / 80 ؛ تذكرة الخواص : 64 و 66 ؛ الفتوح : 2 / 249 - 255.

الله فإذا عصوا الله وتركوا ما أوجب محبتهم ، فليس عند رسول الله محاباة في ترك لزوم ما كان عليه في محبتهم.

سيرة رسول الله في الأعداء والأولياء

لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يحب أن يعادي أعداء الله ولو كانوا عترته كما يحب أن يوالي أولياء الله ولو كانوا أبعد الخلق نسباً منه ، والشاهد على ذلك إجماع الأُمّة على أنّ الله تعالى أوجب عداوة من ارتد بعد الإسلام ، وعداوة من نافق وإن كان من أصحاب رسول الله ، وانّ رسول الله هو الذي أمر بذلك ودعا إليه ، فقد أوجب قطع يد السارق ، وضرب القاذف ، وجلد البكر إذا زنت ، وإن كان من المهاجرين والأنصار.

ألا ترى أنّه قال : لو سرقت فاطمة لقطعت يدها وهي ابنته الجارية مجرى نفسه لم يحابها في دين الله ولا راقبها في حدود الله ، وجلد أصحاب الإفك وفيهم سطح بن اثاثة وكان من أهل بدر ، فلو كان محل أصحاب رسول الله - عليه السلام - أن لا يعادون إذا عصوا الله ولا يذكرون بالقبيح لأجل اسم الصحبة لكان كذلك صاحب موسى المسطور ثناؤه في القرآن لمّا اتّبع هواه فانسلخ عمّا أُوتي من الآيات ، قال سبحانه : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) (1) ، ولكان ينبغي محل عبدة العجل من أصحاب موسى - عليه السلام - هذا المحل ، لأنّ هؤلاء كلهم قد صحبوا موسى رسولاً جليلاً من رسل الله تعالى ، ولو كانت الصحابة تعرف هذه المنزلة لالتزمت به مع أنّ الأمر على خلاف ذلك ، فهذا علي وعمار وأبو الهيثم بن التيهان ، وخزيمة بن ثابت ، وجميع من كان مع علي

ص : 614


1- الأعراف : 175.

من المهاجرين والأنصار لم يروا ذلك ، فلم يتغافلوا عن طلحة والزبير حتّى فعلوا بهما وبمن معهما ما يفعل بالشراة في عصرنا ، وهذا طلحة والزبير وعائشة ومن كان معهم وفي جانبهم لم يروا أن يمسكوا عن علي حتّى قصدوا له وحاربوه ، وهذا معاوية وعمرو لم يريا علياً بالعين التي يرى بها العامي صديقه أو جاره ولم يقصرا دون ضرب وجهه بالسيف ، ولعنه ولعن أولاده ، وكلّ من كان حياً من أهله ، وقتل أصحابه ، وقد لعنهما هو أيضاً في الصلاة المفروضة ولعن معهما أبا الأعور السلمي وأبا موسى الأشعري ، وكلاهما من الصحابة ، وهذا سعد بن أبي وقاص ومحمد بن سلمة وأُسامة بن زيد وسعد بن عمرو بن نفيل وعبد الله بن عمر وحسان بن ثابت وأنس بن مالك لم يروا أن يقلدوا علياً في حرب طلحة ، ولا طلحة في حرب علي ، وطلحة والزبير بإجماع المسلمين أفضل من هؤلاء المعدودين ، لأنّهم زعموا أنّهم قد خافوا أن يكون علي قد غلط وزل في حربهما ، وخافا أن يكونا قد زلا وغلطا في حرب علي ، وهذا عثمان قد نفى أبا ذر إلى الربذة كما يفعل بأهل الخنا والريب ، وهذا عمار وابن مسعود تلقيا عثمان بما تلقياه به لما ظهر لهما بزعمهما منه ما وعظاه لأجله ، ثمّ فعل عثمان ما تناهى إليكم ، ثمّ فعل القوم بعثمان ما قد علمتم وعلم الناس كلهم ، وهذا عمر يقول : في قصة الزبير بن العوام لما استأذنه في الغزو إنّي ممسك بباب هذا الشعب أن يتفرق أصحاب محمد في الناس فيضلوهم ... ولا أنكر الناس على عمر هذا القول ، ولا أنكروا على عثمان دوس بطن عمار ، ولا كسر ضلع أبي مسعود ، ولا على عمار وابن مسعود ما تلقيا به عثمان كإنكار العامة اليوم الخوض في حديث الصحابة ، ولا اعتقدت الصحابة في أنفسها ما تعتقده العامة فيها ، اللهمّ إلاّ أن يزعموا أنّهم أعرف بحق القوم منهم ، وهذا علي والعباس ما زالا على كلمة واحدة يكذبان الرواية «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» ويقولان : انّها

ص : 615

مختلقة ، قالا : وكيف كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يعرّف هذا الحكم غيرنا ويكتمه عنا ونحن الورثة ، ونحن أولى الناس بأن يؤدى هذا الحكم إلينا.

وهذا عمر بن الخطاب يشهد لأهل الشورى أنّهم النفر الذين توفّي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو عنهم راض ، ثمّ يأمر بضرب أعناقهم إن أخّروا فصل حال الإمامة بعد أن ثلبهم ، وقال في حقهم ما لو سمعه اليوم من قائل لوضعت ثوبه في عنقه سحبا إلى السلطان ، ثمّ شهدت عليه بالرفض واستحلت دمه ، فإن كان الطعن على بعض الصحابة رفضاً فعمر بن الخطاب أرفض الناس ، وإمام الروافض كلّهم ، وقد شاع واشتهر قول عمر : «كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرّها فمن عاد لمثلها فاقتلوه» ، وهذا طعن في العقد وقدح في البيعة الأصلية ، ثمّ ما نقل عنه في ذكر أبي بكر في خلواته قوله عن عبد الرحمن ابنه : إنّه دويبة سوء ، وهو خير من أبيه ، ثمّ عمر القائل في سعد بن عبادة رئيس الأنصار وسيدها : اقتلوا سعداً قتل الله سعداً اقتلوه فانّه منافق ، وقد شتم أبا هريرة وطعن في روايته ، وشتم خالد بن الوليد ، وطعن في دينه ، وحكم بفسقه ، وبوجوب قتله ، وخون عمرو بن العاص ، ومعاوية بن أبي سفيان ، ونسبهما إلى سرقة مال الفيء واقتطاعه ، وكان سريعاً إلى المساءة ، كثير الجبة والشتم والسب لكلّ أحد ، وقلّ أن يكون في الصحابة من سلم من معرة لسانه ويده ولذلك أبغضوه ، وملوا أيامه مع كثرة الفتوح فيها ، فهلا احترم عمر الصحابة كما تحترمهم العامة ، إمّا أن يكون عمر مخطئاً ، وإمّا أن تكون العامة على خطأ.

الصحابة كسائر الناس

إنّ غرضنا الذي يجري بكلامنا أن نوضح أنّ الصحابة قوم من الناس لهم ما

ص : 616

للناس ، وعليهم ما عليهم ، من أساء منهم ذممناه ، ومن أحسن منهم حمدناه وليس لهم على غيرهم من المسلمين كثير فضل إلاّ بمشاهدة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ومعاصرته لا غير ، بل ربما كانت ذنوبهم أفحش من ذنوب غيرهم ، لأنّهم شاهدوا الاعلام والمعجزات ، وقد قرب اعتقادهم من الضرورة ، ونحن لم نشاهد ذلك فكانت عقائدنا محض النظر والفكر ، وهي معرضة للشكوك والشبه ، فمعاصينا أخف لأنّنا أعذر.

ثمّ نعود إلى ما كنّا فيه ، فنقول : هذه عائشة أُمّ المؤمنين خرجت بقميص رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهي تقول : هذا قميص رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يبل وعثمان قد أبلى سنّته. اقتلوا نعثلاً قتل الله نعثلاً ، ثمّ لم ترض بذلك حتى قالت : أشهد أنّ عثمان جيفة على الصراط غداً ... فمن الناس من يقول : روت بذلك خبراً ، ومن الناس من يقول : موقوف عليها ، وبدون هذا لو قاله إنسان اليوم يكون عند العامة زنديقاً ، ثمّ قد حصر عثمان ، حصره أعيان الصحابة فما كان أحد ينكر ذلك ولا يعظمه ، ولا يسعى في إزالته ، وإنّما أنكر على المحاصرين رجل كما علمتم من وجوه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ثمّ من أشرافهم ، ثمّ أقرب إليه من أبي بكر وعمر ، وهو مع ذلك إمام المسلمين ، والمختار منهم للخلافة وهو الإمام علي.

فإن كان القوم قد أصابوا فإذن ليست الصحابة في الموضع الذي وضعتهم به العامة ، وإن كان ما أصابوا فهذا هو الذي نقول : من أنّ الخطأ جائز على آحاد الصحابة كما يجوز على آحادنا ، ولسنا نقدح في الإجماع ولسنا ندعي إجماعاً حقيقياً على قتل عثمان ، وإنّما نقول : إنّ كثيراً من المسلمين فعلوا ذلك ، والخصم يسلم أنّ ذلك كان خطأ ومعصية ، فقد سلم أنّ الصحابي يجوز أن يخطئ ويعصي وهو المطلوب.

ص : 617

من أُنكِرَ عليهم من الصحابة

وهذا المغيرة بن شعبة ، وهو من الصحابة ادّعي عليه الزنا وشهد عليه قوم بذلك ، فلم ينكر ذلك عمر ، ولا قال : هذا محال وباطل ، لأنّ هذا صحابي من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا يجوز عليه الزنا ، وهلا أنكر عمر على الشهود ، وقال لهم : ويحكم هلا تغافلتم عنه ، فإنّ الله قد أوجب الإمساك عن مساوئ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأوجب الستر عليهم ، وهلا تركتموه لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في قوله : «دعوا إليّ أصحابي» ما رأينا عمر إلاّ قد أنصت لسماع الدعوى ، وإقامة الشهادة وأقبل يقول : يا مغيرة ذهب ربعك ، ذهب نصفك ، يا مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك حتّى اضطرب الرابع فجلد الثلاثة ، وهلا قال المغيرة لعمر : كيف تسمع قول هؤلاء ، وليسوا من الصحابة ، وأنا من الصحابة ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قد قال : «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» ما رأيناه قال ذلك ، بلى استسلم لحكم الله تعالى.

وهاهنا من هو أمثل من المغيرة وأفضل قدامة بن مضعون لما شرب الخمر في أيّام عمر فأقام عليه الحدّ ، وهو رجل من علية الصحابة ومن أهل بدر المشهود لهم بالجنة ، فلم يرد عمر الشهادة ، ولا درأ عنه الحدّ لعلمه أنّه بدري ، ولا قال : نهى رسول الله عن ذكر مساوئ أصحابه.

وقد ضرب عمر أيضاً ابنه الحدّ فمات ، وكان ممّن عاصر رسول الله ، ولم تمنعه معاصرته له من إقامة الحدّ عليه ... وهذا علي - عليه السلام - قال : ما حدثني أحد بحديث عن رسول الله إلاّ استحلفته عليه ، أليس هذا اتهاماً لهم بالكذب وما استثنى أحداً من المسلمين إلاّ أبا بكر - على ما ورد في الخبر - وقد صرح غير مرّة بتكذيب أبي هريرة ، وقال : لا أحد أكذب من هذا الدوسي على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وقال أبو بكر في

ص : 618

مرضه الذي توفي فيه : «وددت أنّي لم أكشف بيت فاطمة ولو كان أغلق على حرب» ، فندم والندم لا يكون إلاّ عن ذنب ، ثمّ ينبغي للعاقل أن يفكر في تأخر علي عن بيعة أبي بكر ستة أشهر إلى أن ماتت فاطمة سلام الله عليها ، فإن كان مصيباً فأبو بكر على الخطأ في انتصابه للخلافة ، وإن كان مصيباً فعلي على الخطأ في تأخره عن البيعة وحضور المسجد.

وقال أبو بكر في مرضه للصحابة : فلما استخلفت عليكم خيركم في نفسي - يعني عمر - فكلكم ورم أنفه ، يريد أن يكون الأمر له ، لما رأيتم الدنيا قد جاءت ، أما والله لتتخذن ستائر الديباج ونضائد الحرير ... أليس هذا طعناً في الصحابة وتصريحاً بنسبتهم إلى الحسد لعمر لمّا نص عليه بالعهد؟! وقال له طلحة لمّا ذكر عمر للأمر : ما ذا تقول : لربك إذا سألك عن عباده وقد وليت عليهم فظاً غليظاً ، فقال أبو بكر : اجلسوني أبالله تخوفني إذا سألني قلت وليت عليهم خير أهلي ، ثم شتمه ، فهل قول طلحة إلاّ طعن في عمر؟! وهل قول أبي بكر إلاّ طعن في طلحة؟!

وسيتعرض العالم الزيدي إلى تأييد ما ذهب إليه بكثير من الأحداث التاريخية التي عرضت لطعن بعض الصحابة لبعضهم الأمر الذي يدلّ بوضوح على ضحالة ما قيل من عدالة الصحابة أجمعين اكتعين ، وأضاف الزيدي قائلاً :

حديث أصحابي كالنجوم وضعه الأمويّون

«وكيف يصحّ أن يقول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم». ولا شبهة انّ هذا يوجب أنّ أهل الشام وصفين على هدى ، وأن يكون أهل العراق أيضاً على هدى ، وأن يكون قاتل عمار بن ياسر مهتدياً ، وقد صحّ

ص : 619

الخبر الصحيح أنّه - صلى الله عليه وآله وسلم - قال له : تقتلك الفئة الباغية ، وقال الله في القرآن : (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) (1) ومن يفارق أمر الله تعالى لا يكون مهتدياً ، وكان يجب أن يكون بسر بن أرطاة الذي ذبح ولدي عبيد الله بن العباس الصغيرين مهتدياً لأنّ بسراً من الصحابة ، وكان يجب أن يكون عمرو بن العاص ومعاوية اللذين كانا يلعنان عليّاً في أدبار الصلاة وولديه مهتديين ، وقد شذ بعض الصحابة فشرب الخمر وزنا كابن محجن الثقفي ، فمن اقتدى به يكون مهتدياً ولا شبهة انّ هذا الحديث موضوع من موضوعات العصابة الأموية التي نصرت الأمويين بوضعها للأحاديث.

وذكر الزيدي بعض الأحاديث الموضوعة ثمّ قال :

فأمّا ما ورد في القرآن من قوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) (2) وقوله سبحانه : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ...) (3) ، وقول النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - : «إنّ الله اطّلع على أهل بدر» ، إن كان الخبر صحيحاً فانّه مشروط بسلامة العاقبة ، ولا يجوز أن يخبر الحكيم مكلفاً غير معصوم بأن لا عقاب له فليفعل ما شاء.

ومن أنصف وتأمّل أحوال الصحابة وجدهم مثلنا يجوز عليهم ما يجوز علينا ، ولا فرق بيننا وبينهم إلاّ الصحبة لا غير فإنّ لها منزلة وشرفاً ولكن لا إلى حد يمتنع على كلّ من رأى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وصحبه يوماً أو شهراً أو أكثر من ذلك أن لا يخطئ ويزل ، وأضاف الزيدي قائلاً :

ص : 620


1- الحجرات : 9.
2- الفتح : 18.
3- الفتح : 29.

ومن الذي يجترئ على القول بأنّ أصحاب محمّد - صلى الله عليه وآله وسلم - لا تجوز البراءة من أحدهم وإن أساء وعصى بعد قول الله تعالى لنبيه : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (1) ، وبعد قوله سبحانه : (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (2) ، وبعد قوله عزّ وجلّ : (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) (3). (4)

حصيلة البحث : أنّ الصحابة كبقية المسلمين يصيبون ويخطئون ، وفيهم العدول والمجروحون ، وأنّ الحكم بعدالتهم أجمعين حكم لا تساعد عليه الأدلة العلمية ، والوثائق التاريخية.

والحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات

ص : 621


1- الزمر : 65.
2- الأنعام : 15.
3- ص : 26.
4- الدرجات الرفيعة للسيد علي المدني ، صاحب سلافة العصر في أعيان أهل العصر (المتوفّى عام 1118) : 11 - 32.

ص : 622

فهرس محتويات الكتاب

مقدمة..... 5

الفصل الأوّل

التحسين والتقبيح العقليان

تمهيد... 9

دور القاعدة في العلوم الإنسانية... 11

1

ملاكات التحسين والتقبيح العقليين، وفيه وجوه 13

1. التحسين والتقبيح الذاتيان.... 12

2. التحسين والتقبيح في إطار المصالح والمفاسد العقلائية..... 13

3. موافقة العادات والتقاليد والأعراف... 14

ص : 623

2

تقسيم الحكمة إلى نظرية وعملية 16

تبييين الحكمة النظرية والحكمة العملية... 15

تفسير العقل النظري والعقل العملي... 15

3

تقسيم القضايا إلى ضرورية وغير ضرورية 16

تقسيم الحكمة النظرية إلى ضرورية وغير ضرورية.... 16

تقسيم الحكمة العملية أيضاً إلى القسمين بملاك واحد..... 16

4

أدلّة المثبتين للتحسين والتقبيح العقليين 18

1. قضاء العقل بذلك بداهة..... 18

2. لو لم يثبتا عقلاً، لما ثبتا شرعاً..... 19

3. إنكارهما يلازم امتناع إثبات الشرائع السماوية... 20

4. الحسن والقبح في الذكر الحكيم... 21

5

دراسة أدلّة المنكرين لهما 25

1. لو كانا بديهيّين لما اختلف فيهما اثنان، ونقده..... 26

2. الكذب النافع ليس بقبيح، ونقده.... 28

ص : 624

3. التحسين والتقبيح العقليان فرض تكليف على اللّه، ونقده.... 28

ما هو الدافع لانكار التحسين والتقبيح العقليين.... 30

4. جواز التكليف بمالا يطاق، ونقده.... 31

6

النتائج المترتبة على

التحسين والتقبيح العقليين 34

1. وجوب معرفة اللّه عقلاً.... 34

2. دليل وصفه سبحانه بالعدل والحكمة.... 35

3. لزوم اللطف على اللّه... 36

4. لزوم بعثة الأنبياء.... 37

5. حسن التكليف..... 38

6. لزوم تزويد الأنبياء بالبيّنات والمعاجز..... 38

7. لزوم النظر في برهان مدعي النبوة..... 38

8. تأثير القاعدة في العلم بصدق دعوى الأنبياء.... 39

9. الخاتمية واستمرار الأحكام..... 39

10 .. اللّه عادل لا يجور..... 39

11. ثبات الأخلاق والقِيَم.... 40

ما هو الملاك للثابت في القيم والمتغير منها؟..... 41

ص : 625

الفصل الثاني

الإنسان بين الجبر والتفويض 45

تمهيد..... 47

1

الجبر على مسرح التاريخ الإسلامي 49

سيادة فكرة الجبر على المشركين... 49

سيادة الفكرة على الخلفاء بعد رحيل الرسول.... 50

استغلال الأمويين للقدر السالب للاختيار... 51

التقدير المساوي للجبر، عقيدة مستوردة..... 53

حديث الفراغ من الأمر، بدعة يهودية... 54

2

أحاديث لا تفارق الجبر قيد شعرة 57

سبق الكتاب على مشيئة الإنسان.... 58

الشقاء والسعادة مكتوبان منذ انعقاد نطفته..... 59

3

مضاعفات القول بالجبر 60

1. انتفاء الغرض من بعثة الأنبياء..... 60

2. انتفاء فائدة المناهج التربوية.... 60

ص : 626

3. تكذيب الكتاب العزيز فكرةَ الجبر.... 61

4. الجبري في ساحة الحياة، مُدْعِم للاختيار..... 62

5. الجبر، واجهة لنيل المزيد من الحرية.... 63

4

شبهات وحلول 64

الشبهة الأُولى: مثلّث الشخصية..... 64

تأثير العوامل المكوّنة للشخصية، في حدّ الاقتضاء لا العلة التامة..... 66

الشبهة الثانية: أفعال الإنسان في إطار القضاء والقدر..... 68

القول بتعلّق التقدير بفعل الإنسان يؤكد الاختيار... 71

المعنى الأوّل للقضاء والقدر: السنن الكونية..... 73

المعنى الثاني للقضاء والقدر: علم اللّه الأزلي سبحانه.... 78

كلمة للشيخ الغزالي حول استنتاج الجبر من العلم الأزلي.... 80

الشبهة الثالثة: الهداية والضلالة بيد اللّه سبحانه.... 83

أقسام الهداية والضلالة..... 84

1. الهداية التكوينية العامة..... 84

2. الهداية التشريعية العامة..... 85

3. الهداية الخاصة... 85

ص : 627

5

هل الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان؟ 89

الإيمان بالقدر من الأُصول والمعارف القرآنية وليس بركن من الإيمان... 90

أركان الإيمان هي التوحيد والنبوة والمعاد... 91

6

التفويض ومضاعفاته 92

القول بالتفويض ردّ فعل للقول بالجبر.... 92

اتّهام معبد الجهمي وغيلان الدمشقي بنفي القضاء والقدر..... 92

القول بالتفويض يلازم الشرك..... 93

الإنسان في دوّامة التجدد، حدوثاً وبقاءً..... 93

تمثيل لبيان موقف الوجود الإمكاني بالنسبة إلى اللّه سبحانه... 94

7

الأمر بين الأمرين 95

تبيين الأمر بين الأمرين.... 96

1. نسبة الفعل إلى اللّه بالتسبيب وإلى العبد بالمباشرة..... 98

تمثيل لبيان الأمر بين الأمرين... 10.0

2. الأمر بين الأمرين في الكتاب العزيز... 10.1

ص : 628

3. الأمر بين الأمرين في الروايات..... 10.2

الفصل الثالث

في نظرية الكسب 103

نظرية انّ اللّه خالق والعبد كاسب في الميزان..... 10.5

1

التوحيد في الخالقية عند أهل الحديث 106

نقل كلمات أعلام الأشاعرة حول التوحيد في الخالقية..... 10.7

اللّه سبحانه هو الخالق لكلّ ظاهرة في صحيفة الوجود بالمباشرة.... 10.9

2

التوحيد في الخالقية عند الإمامية 110

حصر الخالقية المستقلة في اللّه سبحانه، لا الخالقية التبعية... 111

الأسباب والعلل، جنود اللّه سبحانه في الكون.... 113

3

مضاعفات حصر الخالقية في اللّه على ضوء التفسير الأشعري 115

1. تصريح القرآن بتأثير العلل الطبيعية.... 115

2. انتفاء الغاية من إيجاد القدرة في الإنسان... 118

ص : 629

3. كلّ فاعل مسؤول عن فعله..... 120

4

نظرية الكسب بين التفسير والتكامل والإبطال 123

المرحلة الأُولى: مرحلة التبيين والتفسير..... 125

نقد نظرية الكسب على ضوء تفسير الغزالي... 126

نقد نظرية الكسب على ضوء تفسير التفتازاني.... 129

المرحلة الثانية: مرحلة التطوير والتكامل.... 131

نظرية الكسب، أحد الألغاز الثلاثة.... 132

أبوبكر الباقلاني وتطوير النظرية..... 133

كمال الدين بن همام وتطوير النظرية.... 135

ابن الخطيب وتطوير النظرية..... 137

المرحلة الثالثة: مرحلة الإنكار والإبطال.... 140

إمام الحرمين الجويني والاعتراف بتأثير قدرة العبد... 140

اعتراف ابن تيمية بالعلل الطبيعية... 143

الشعراني وثبوت تأثير قدرة العبد بالكشف لا بالبرهان... 144

دعم الشيخ محمد عبده لموقف إمام الحرمين... 146

الزرقاني والجمع بين دليلي القولين... 149

الشيخ شلتوت: العبد فاعل بإرادته وقدرته..... 151

ص : 630

القضاء والقدر لا يستلزمان الجبر..... 52

5

خاتمة المطاف

فيها أُمور

1. نسبة فعل العبد إلى اللّه فوق التسبيب.... 155

تمثيل رائع لصدر المتألهين في بيان كيفية النسبة.... 156

2. تطور العلم في ظل القول بنظام العلل والمعاليل.... 159

3. نظرية «مالبرانس» نفس نظرية الأشعري... 160

4. التفسير الخاطئ في قسم من الأُصول والمعارف.... 162

5. الاختلاف في عنوان المسألة في الكتب الكلامية..... 163

6. التعريف بالفرق الثلاث: الجهمية والنجارية والضرارية.... 164

الفصل الرابع

الإرادة الإلهية التكوينية والتشريعية

1. في تقسيم صفاته..... 167

2. في حقيقة الإرادة الإنسانية..... 171

1. نظرية المعتزلة... 171

2. نظرية الأشاعرة.... 172

3. النظرية المعروفة : الشوق النفساني..... 172

ص : 631

4. الإرادة : القصد والعزم... 173

3. الإرادة الإلهية من صفات الذات.... 175

الإرادة هو العلم بالأصلح.... 175

إرادته سبحانه هو ابتهاجه بذاته.... 178

4. الإرادة الإلهية من صفات الفعل.... 181

الإرادة صفة منتزعة من حضور العلّة التامّة للفعل..... 182

الإرادة إعمال القدرة..... 185

الإرادة الإلهية في روايات أئمّة أهل البيت - عليهم السَّلام -... 186

أ. إرادته غير علمه وقدرته... 187

ب. عموم قدرته لكلّ ظاهرة كونية.... 188

ج. الإرادة من صفات الفعل... 89

تحليل الروايات الماضية.... 190

نقد وتحليل.... 191

5. ما هو المختار في الإرادة الإلهية؟.... 193

6. الإرادة التكوينيةوالتشريعية... 196

نظرية المحقّق الخراساني.... 196

نظرية المحقّق الإصفهاني... 197

نظرية العلاّمة الطباطبائي.... 200

ص : 632

الفصل الخامس

رؤية اللّه سبحانه

تمهيد... 205

1. الرؤية فكرة يهودية مستوردة.... 206

2. الرؤية في العهد القديم... 213

3. الرؤية في منطق العلم والعقل.... 217

المحاولة اليائسة في تجويز الرؤية... 218

أ. الرؤية بلا كيف... 218

ب. اختلاف الأحكام باختلاف الظروف.... 219

ج. عدم المبالاة بإثبات الجهة.... 220

4. موقف الذكر الحكيم من أمر الرؤية إجمالاً.... 223

5. الرؤية في الذكر الحكيم تفصيلاً.... 229

الآية الأُولى: عدم قدرة الأبصار على إدراكه... 229

الآية الثانية: الرؤية إحاطة علمية باللّه سبحانه.... 232

الآية الثالثة: ردّ السؤال بنفي الرؤية مؤبّداً..... 233

6. الرؤية في كلمات أئمّة أهل البيت - عليهم السَّلام -..... 237

7. شبهات القائلين بالرؤية..... 240

قوله سبحانه: (إِلى ربّها ناظِرة) وتفسيره.... 242

ص : 633

8. رؤيته تعالى في الأحاديث النبوية.... 246

الفصل السادس

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

1. العصمة في اللغة والاصطلاح... 255

مبدأ ظهور فكرة العصمة بين المسلمين.... 256

2. تعريف العصمة وحقيقتها.... 259

العصمة: الدرجة القصوى من التقوى... 260

العصمة نتيجة العلم القطعي بعواقب المعاصي..... 262

العصمة: الاستشعار بعظمة الرب وكماله وجماله..... 264

3. هل العصمة موهبة إلهية أو أمر اكتسابي؟.... 265

إفاضة العصمة بعد توفر أرضية صالحة..... 266

كلام للسيد الشريف المرتضى في المقام..... 268

4. العصمة وسلبالاختيار... 270

مراحل العصمة وأدلّتها... 273

5. المرحلة الأُولى: العصمة في تبليغ الرسالة... 274

6. المرحلة الثانية: عصمة الأنبياء عن المعصية.... 277

العقل وعصمة الأنبياء عن المعصية..... 277

سؤالوجواب.... 278

ص : 634

القرآن وعصمة الأنبياء عن المعصية والاستدلال بآيات أربع..... 280

7. المرحلة الثالثة: عصمة النبي عن الخطأ..... 288

منطق العقل في عصمة النبي عن الخطأ..... 288

منطق القرآن في عصمة النبي عن الخطأ.... 290

8. حجة المخالفين لعصمة الأنبياء.... 295

الاستدلال بقوله سبحانه (حتّى إذا استيأس الرسل ...) الخ.... 296

الاستدلال بقوله: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي).... 303

ما معنى أمنية الرسول أو النبي؟..... 305

ما معنى القاء الشيطان في أمنية الرسل؟.... 307

ما معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان؟.... 309

ما معنى إحكامه سبحانه آياته؟.... 310.

ما هي النتيجة من هذا الصراع؟.... 311

التفسير الباطل للآية..... 313

الفصل السابع

المتكلّم والصفات الخبرية

التكلّم من صفاته سبحانه... 321

معنى كونه متكلّماً في الكتاب... 321

ص : 635

1. نظرية المعتزلة في تكلّمه سبحانه..... 324

2. نظرية الحكماء.... 325

3. نظرية الأشاعرة.... 328

تفسير الكلام النفسي للشيخ الأشعري.... 330

أدلة الأشاعرة على الكلام النفسي ونقده..... 331

في حدوث كلامه سبحانه أو قدمه.... 334

مبدأ فكرة قدم القرآن.... 334

واجب أهل الحديث السكوت أمام هذه المسائل..... 336

طرح المسألة في ظروف عصيبة..... 337

تحليل مسألة القول بقدم القرآن.... 337

موقف أهل البيت في هذه المسألة..... 340

الصفات الخبرية 343

الصفات الخبرية ومبتدعة السلفية... 344

الصفات الخبرية ومعطِّلة السلفية.... 347

إثبات الأشعري بين التشبيه والتعقيد... 348

الصفات الخبرية بين التعطيل والتأويل... 352

الظاهر الإفرادي غير الظاهر الجُملي... 352

نماذج من الصفات الخبرية... 353

تفسير قوله:(لما خلقتُ بيديّ)..... 355

ص : 636

تفسير قوله: (الرّحمنُ عَلَى العرشِ اسْتَوى).... 355

الإلماع إلى سائر الصفات الخبرية.... 357

كلمة شيخ الأزهر: سليم البشري حول الصفات الخبرية.... 360

اقتراح... 365

الفصل الثامن

البداء في الكتاب والسنّة

البداء في اللغة.... 369

البداء في حديث الرسول - صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم -... 370

1. تغيير المصير بالأعمال الصالحة والطالحة... 373

تغيير المصير بالأعمال في الروايات... 376

سنّة اللّه الحكيمة في عباده... 376

أثر الدعاء في تغيير المصير... 377

أثر الصدقة في تغيير المصير..... 378

2. البداء في الكتاب العزيز..... 380

كلمات المفسّرين حول البداء.... 381

3. النزاع في البداء لفظي.... 386

نصوص علماء الإمامية في البداء.... 387

ص : 637

كلام الإمام شرف الدين في البداء..... 391

كلام المصلح الكبير كاشف الغطاء.... 393

فذلكة البحث.... 394

4. التفسير الخاطئ للبداء عند مشايخ السنّة..... 395

البلخي وتفسير البداء.... 395

أبوالحسن الأشعري وتفسير البداء... 396

فخر الدين الرازي وتفسير البداء.... 398

أبو زهرة وهفوته في تفسير البداء.... 399

القاعدة العقلية لا تُخصَّص... 402

وزان التقديرين، وزان الأجلين.... 402

أحد أعلام السنّة يُصحر بالحقيقة... 404

5. الأثر التربوي للإيمان بالبداء.... 405

6. الحوادث التي بدا للّه تبارك وتعالى فيها وجاء ذكرها في الكتاب..... 408

1. حادثة رفع العذاب عن قوم يونس..... 409

2. حادثة الإعراض عن ذبح إسماعيل.... 410.

3. حادثة إكمال الميقات لموسى - عليه السَّلام -... 411

حوادث بدا للّه تعالى فيها في الأحاديث... 413

شبهات وحلول.... 415

1. استحالة إطلاق البداء على اللّه سبحانه... 415

ص : 638

2. استلزام البداء في مقام الإثبات، الكذب... 417

3. استلزام البداء التشكيك في مطلق ما أخبر.... 419

السنن الكونية لا تخضع للبداء..... 419

التنبّؤ بالنبوة والإمامة لا يخضع للبداء... 420

4. البداء ومسألة جفّ القلم... 421

الفصل التاسع

نظام الحكم في الإسلام بعد رحلة الرسول

الأمر الأوّل: الحكومة حاجة ملحّة..... 429

نظام الإمامة والخلافة في الإسلام.... 432

الأمر الثاني: ملامح الحكومة الإسلامية في الكتاب والسنّة..... 435

مسؤولية الحاكم في النصوص الشرعية..... 436

الأمر الثالث: أنظمة الحكم في المجتمعات البشرية.... 441

الأمر الرابع: التنصيص الإلهي على الحاكم باسمه وشخصه..... 444

1. المصالح العالية تقتضي التنصيص على الاسم، وفيه أمران:... 446

أ. الأُمّة الإسلامية والخطر الثلاثي... 446

ب. النظام القبلي يمنع من الاتفاق على قائد..... 448

2. الفراغات الهائلة لا تُسدّ إلاّ بالتنصيص.... 451

ص : 639

دراسة الاحتمال الثاني.... 454

3. ما هو مرتكز الصحابة في صيغة الحكومة؟.... 458

الأمر الخامس: هل الشورى أساس الحكم والخلافة؟..... 465

نقد كون الشورى مبدأ الحكم... 466

الأمر السادس: النصوص الدينية وتنصيب علي - عليه السَّلام - للإمامة... 470

1. آية الولاية..... 470

2. حديث المنزلة..... 473

3. حديث الغدير.... 475

دلالة الحديث..... 479

القرائن الست تبين مفاد الحديث... 480

الغدير في الكتاب الكريم.... 482

1. آية البلاغ..... 482

2. آية إكمال الدين..... 484

لماذا أعرض الصحابة عن مدلول حديث الغدير؟.... 487

الأمر السابع: السنّة النبوية والأئمّة الاثنا عشر... 488

الفصل العاشر

عدالة الصحابة بين العاطفة والبرهان

اتجاهان حول الصحبة والصحابة... 493

ص : 640

1. من هو الصحابي؟!... 495

2. الصحبة وملاكات الاختلاف..... 497

3. الصحبة ونفي البعد الإعجازي لها..... 501

4. الصحابة أبصر بحالهم من غيرهم... 503

5. ما هي الغاية من نقد آراء الصحابة وأفعالهم؟.... 505

6. هل الصحابة الكرام فوق الأنبياء؟..... 508

بعض الأكاذيب الشنيعة في حقّ الأنبياء... 508

أُكذوبة الغرانيق... 508

اتّهام داود - عليه السَّلام - بقتل زوج أوريا وتزوّجها.... 510.

7. مظاهر الغلو في الصحابة.... 513

1. سنّة النبيّ - صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم - وسنّة الصحابة... 515

2. العزوف عن نقد الصحابة... 518

3. السنّة قاضية على القرآن دون العكس..... 521

4. القول بحجّية رواياتهم بلا استثناء.... 523

5. القول بعدالتهم جميعاً.... 525

8. عدالة الصحابة وخلافة الخلفاء..... 529

الاعتقاد بخلافة الخلفاء ليس من صميم الدين..... 530

الاعتقاد بعدالة الصحابة ليس من صميم الدين... 534

9. القرآن الكريم وعدالة الصحابة..... 536

ص : 641

1. تنبّؤ القرآن بارتداد لفيف من الصحابة.... 536

2. ترك الرسول قائماً وهو يخطب... 537

3. الخيانة بالنكاح س-رّاً... 538

4. خيانة بعض البدريين..... 539

5. فاسق يغرُّ النبي وأصحابه.... 540

6. تنازعهم في الغنائم إلى حد التخاصم... 541

7. استحقاقهم مسَّ عذاب عظيم..... 542

8. الفرار من الزحف..... 544

9. نسبة الغرور إلى اللّه ورسوله..... 545

10 .. المنافقون المندسّون بين الصحابة.... 546

10 .. السنّة النبوية وعدالة الصحابة..... 548

1. زعيم الفئة الباغية.... 548

2. عصيان أمر النبي صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم بإحضار القلم الدواة... 549

3. الانقلاب على الأعقاب بعد رحيل النبي صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم.... 551

موقف النبي - صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم - ممّن لم تحسن صحبته..... 556

1. كلّهم مغفور له إلاّ صاحب الجمل الأحمر.... 557

2. اللّهم انّي أبرأ إليك مما صنع خالد... 557

3. تنبّؤه بمصير ذي الخويصرة.... 558

4. انّ فيك يا أبا هريرة شعبة من الكفر... 558

ص : 642

5. امتناع الرسول من الصلاة على أحد أصحابه..... 559

6. تنبّؤ النبي صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم بالمصير الأسود لبعض أصحابه... 559

7. صحابي يخلو بامرأة... 559

8. صحابي يجلس بين رجلي امرأة... 560

9. صحابي يُقتص منه... 561

10 .. دعاء النبي - صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم - على محلم بن جثامة... 561

11. عدالة الصحابة والتاريخ الصحيح.... 562

نماذج من حياة الصحابة..... 562

1. صحابي يقتل صحابياً ويزني بزوجته..... 563

2. سمرة بن جندب يبيع خمراً.... 564

3. قدامة بن مظعون بدريّ يشرب الخمر... 564

4. أبو جندل يُحد حدّ الخمر.... 565

5. أبو محجن الثقفي يحدّ ثمان مرّات... 566

6. مسلم بن عقبة يشن الغارة على أهل المدينة... 567

7. بسر بن أرطأة يذبح ولدي عبيد اللّه بن العباس..... 567

8. أُمّ المؤمنين وتزعّمها لجيش جرّار..... 568

ادّعاء العدالة لعامة الصحابة تنكر للطبيعة البشرية... 569

12. أدلّة القائلين بعدالة الصحابة.... 571

الدليل الأوّل: الإجماع على عدالة الصحابة... 571

ص : 643

كلام التفتازاني في حقّ الصحابة.... 572

الدليل الثاني: ثناء القرآن على الصحابة... 574

الآية الأُولى.... 574

1. السابقون الأوّلون من المهاجرين..... 575

2. السابقون الأوّلون من الأنصار..... 575

3. والّذين اتّبعوهم بإحسان..... 577

الآية الثانية.... 578

الآية الثالثة.... 581

الآية الرابعة.... 582

إنّما الأعمال بالخواتيم.... 585

الدليل الثالث: ثناء النبي - صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم - على الصحابة..... 587

1. حديث: انّ اللّه اطّلع على أهل بدر ... 587

2. حديث: مثل أصحابي كالنجوم.... 589

3. خير القرون قرني..... 593

13. موعظة شافية... 596

1. ضرورة دراسة أحوال الصحابة للتأكّد من صحّة الحديث.... 596

2. النقد لا يعد سبّاً..... 597

3. الثناء جمعي لا يتعلّق بآحادهم..... 601

ص : 644

4. الاعتقاد المسبق بعدالة الصحابة.... 602

5. إكبار الشيعة لصحابة النبي - صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم -.... 603

6. روّاد التشيع من الصحابة.... 603

7. دعاء أئمّة أهل البيت - عليهم السَّلام - للصحابة.... 607

14. خاتمة المطاف : مناظرة بين الحسن البصريّ وعالم زيدي..... 609

نظرية الحسن البصري في صحابة الرسول... 609

نقد العالم الزيدي رأي الحسن... 611

سيرة رسول اللّه - صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم - في الأعداء والأولياء... 614

الصحابة كسائر الناس... 616

من أُنكر عليهم من الصحابة.... 618

حديث أصحابي كالنجوم وضعه الأمويون.... 619

فهرس محتويات الكتاب..... 623

ص : 645

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.